تقريب تهذيب الاصول المجلد 8

هوية الکتاب

تَقْرِيبُ

تَهْذِيبِ الأصول

الجزء الثامن

تأليف: آية الله السيد علي الموسوي السبزواري.

منشورات مكتبة السيد السبزواري قدس سره .

الطبعة: الأولى (1000 نسخة).

التاريخ: 1442 ه-.ق / 2021 م

ص: 1

****

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف خلقه محمد واله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.

وبعد فإنه قد طلب مني بعض طلاب الحوزة العلمية في حاضرة العلم النجف الاشرف صانها الله تعالى من الحوادث والآفات ببركة مولانا أمير المؤمنين باب علم الرسول صلی الله علیه و آله و سلم ولكني اعرضت عن ذلك لظروف خاصة , وأخيراً كثر إلحاحُهم علّي لحسن ظنهم فيّ ورأيت أنه ليس من الأدب ردهم فنزلت على طلبهم رجاء أن يحقق الله تعالى سؤلي وسؤلهم ويجعلني عند حسن ظنهم فشرعت في تدريس خارج علم الاصول على منهاج كتاب تهذيب الاصول للسيد الوالد رحمه الله وكان الشروع يوم الاربعاء السادس عشر من شهر المُحَرَمِ الحَرام من شهور سنة الف واربعمائة وسبعٍ وعشرين من الهجرة النبوية الشريفة على مهاجرها الاف التحية والثناء ، وأسأله تعالى ان يسهل أمورنا ويفرج عنا ويحسن عواقب أمورنا بجاه محمد وآله سادة الأولين والآخرين.

[ رب يسر ولا تعسر آمين ]

تمهيد وفيه بحوث جرت عادة علماء الأصول بذكرها قبل الشروع:-

اولاً: تعريف علم الأصول:

اختلف العلماء في تعريف علم الأصول اختلافا كبيرا فذكروا له تعاريف عديدة بلغت ما يقارب العشرين- تعريفا فهو وان دل على أهمية هذا العلم واهتمام العلماء به لكنه يفضي الى خفاء الحقيقة فلا يمكن استفادة التعريف الحقيقي له بحيث يكون جامعا مانعا كما هو المطلوب عندهم .

مع انه يمكن لنا ان نتساءل أن هذه التعاريف إن كانت لبيان الحد الحقيقي لهذا العلم فهو محل نظر:

1- إنّ هذا العلم من العلوم الاعتبارية التي يكون منشأ اعتبارها العقل والعقلاء وشأن العلماء فيها جمع المتفرقات وطرح المختلفات ليتميز كل علم عما عداه فيكفي في التمييز

ص: 1

والتعيين ما يعتبرونه في هذا المجال وإن كان اعتباريا وإن لم يكن المائز حقيقيا لأنّ نفس العلم من الاعتبار.

2- ان الوصول الى الحقيقة لا يتحقق الا عن طريق ادراكات الانسان التي تنال الظواهر وهي لا توصلنا الى الحقيقة اما لاجل قصورها او لخفاء الحقيقة ببعد تناولها, ومن هنا انكر بعض الفلاسفة الحد الحقيقي واعتبروا كل التعاريف شروحاً لفظية لتقريب المعنى الى الذهن, بل ان بعض العلماء العرفاء انكر الوصول الى حقيقة تجمع افراد الانسان واعتبروا ان لكل فرد من افراد الانسان حقيقة تختص به تختلف عن الاخرين وتتعين حقيقته بسعي نفس الفرد مع القضاء والقدر الالهيين، والتعريف المدرسي المعروف للإنسان بأنه حيوان ناطق هو أقرب الى الشرح من بيان الحد الحقيقي.

فلابد ان تكون التعاريف المذكورة لعلم الأصول شروحا له والغرض منها تقريب المعنى الى الذهن, فلا وجه لذكرها واستطراد المناقشات وردودها التي لا توصلنا الى الواقع فإنه لا ثمرة عملية فيها, مع ان المقصود من التعريف هو إعطاء صورة عن المعرَّف متميزة عن سائر العلوم التي تشترك في الغاية, ويمكن لنا الحصول على ذلك بذكر الجوانب المهمة في علم الأصول كضابط الفرق بين المسألة الأصولية والمسألة الفقهية فيتبين لنا المائز بينه وبين سائر العلوم المرتبطة به.

ولئلا نخرج عن الطريقة المألوفة التي دأب العلماء على اتباعها نذكر بعض التعريفات التي ذكرها بعض الاساطين.

وقبل ان نذكرها نقول انه لا اشكال في ان علم الأصول له من الارتباط الوثيق بعلم الفقه ما لا يمكن انفكاكه ، حتى عدّه العلماء من العلوم الالية كعلم المنطق فتكون مرتبته اسبق من مرتبة علم الفقه فهو بداية الاجتهاد ونهاية العلوم الداخلة في الاستنباط, لان تقدمه على الفقه لأجل سعة مسائله وشموليتها لعموم مسائل الفقه وقد بلغ مبلغا من التحقيق والدقة ما جعله مطلوبا لنفسه. ويرجع الوجه في ذلك الى ان عملية استنباط الحكم الشرعي التي هي اساس علم الفقه تعتمد على عناصر تعتبر مبادئ علم الفقه وركائزه فلا بد من توفرها جميعا ليتمكن الفقيه من استنباط الحكم الشرعي وهذه العناصر تختلف في مصادرها فإنَّ بعضها يُطلب من علم اللغة او علم النحو او علم البلاغة وبعضها من علم الحديث وبعضها من علم الرجال بل بعضها يطلب من علم الفقه نفسه واهم تلك المصادر علم الأصول, لما عرفت من ان فيه عناصر هي أشملها وأوسعها انتشاراً.

وهذه العناصر التي يبحث عنها في علم الأصول التي يعبر عنها بالمسائل لابد أن يكون بينها جامع يميزها عما سواها من العلوم الأخرى التي لها دخل في عملية الاستنباط.

وقد وقع البحث حول هذا الجامع الرابط لموضوعات المسائل في انه لابد ان يكون موضوعياً حقيقياً لمسائل علم الأصول أو يكفي أن يكون اعتباريا أو انتزاعيا يجمع تلك العناصر ليتحقق مقدار من التمييز ينطبق على المسائل المبحوثة في هذا العلم ولا نحتاج الى اكثر من ذلك. فالتعاريف المذكورة كلها تدور حول هذا الامر ، فإن بعض

الأصوليين اراد تحقيق الرابط الموضوعي وغيرهم اكتفى بالرابط الاعتباري او الانتزاعي وإن كانوا على خلاف في تعيين كل واحد من الامرين. ولنا حينئذ ان نكتشف المدارس

ص: 2

الأصولية المتعددة التي ظهرت في علم الأصول من حين نشأتها وأدوارها التاريخية فإن بعضها عقلية صرفة وبعضها عقلانية واخرى عرفية.

ونحن نذكر بعض تلك التعاريف للايضاح فقط:

الأول: التعريف المدرسي المشهور وهو (العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الحكم الشرعي)((1)).

واورد عليه بوجوه ثلاثة:

الوجه الاول: انه لا يشمل المسائل الأصولية التي لا يُستنبط منها حكم شرعيّ, كمسائل الأصول العملية لأنها وظائف عملية للشاك لا يستفيد منها الا المنجزية او المعذرية فلا يكون التعريف جامعا.

الوجه الثاني: انه ينطبق على بعض القواعد الفقهية التي يستنبط منها الحكم في مواردها, كقاعدة ما يضمن وما لا يضمن, وقاعدتي الضرر والحرج وبعض القواعد الفقهية في الموضوعات, كقاعدتي الفراغ والتجاوز. فلا يكون التعريف مانعا.

الوجه الثالث: وهو يرجع الى الصيغة الفنية للتعريف فإنه لا يميز بين المواضيع التي يبحث عنها علم الأصول عن غيرها التي تدرسها بعض العلوم الاخرى كمسائل علم الرجال وبعض المسائل اللغوية, فإن وثاقة الراوي وظهور كلمة الصعيد في معنى معين لها ايضاً نصيب من هذا التعريف اذ يرتبط بمدلول تلك الكلمة ووثاقة الراوي الحكم الشرعي.

واجيب عن الاعتراض الاول بوجوه اهمها:

1- ما ذكره المحقق الخراساني رحمه الله حيث تنبه الى الاشكال ودفعه بإضافة قيد الى التعريف فقال (او الانتهاء الى وظيفة عملية)((2))وبه

استوعب التعريف جميع مسائل الأصول.

واشكل عليه بانه غير وجيه فإن هذا القيد لا يستفاد منه الا تنويع مسائل الأصول وحينئذ يمكن ان يقال في تعريف الأصول هو علم مباحث الألفاظ والملازمات العقلية والأصول العملية وغيرها, فلا يشتمل على المائز الحقيقي الجامع بين مسائل العلم وإنما هو مجرد عطف للمسائل التي لم يشملها التعريف((3)).

ويمكن الجواب عنه بان المحقق الاخوند رحمه الله إنما يكتفي بالتمايز بالعرض والاعتبار وهو يكفي في درج القيد الذي ذكره ليشمل جميع مسائل هذا العلم مع انه لا يضر زيادة قيد بالعطف اذا كان يوجب استيعاب مسائل العلم, وقد وقع مثل ذلك في بعض تعريفات العلوم الاخرى او بعض الموضوعات فيقال في تعريف الحكم هو خطاب الله تعالى المتعلق بافعال المكلفين على سبيل الاقتضاء او التخيير.

ص: 3


1- - محمد تقي الأصفهاني - هداية المسترشدين - ج1 / ص94 - مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين.
2- - محمد كاظم الخراساني - كفاية الأصول - ص9 - مؤسسة ال البيت لاحياء التراث.
3- - حسن عبد الساتر - تمهيد في مباحث الدليل اللفظي ج1 / ص22 الدار الاسلامية بيروت.

2- ما ذكره المحقق النائيني رحمه الله في جوابه عن الإشكال بوجه آخر وهو ارادة المعنى العام من الحكم الوارد في التعريف ليشمل الحكم الواقعي والظاهري فتدخل مباحث الأصول العملية في الثاني((1)).

واشكل عليه بعض تلامذته:

أولاً: بأنّ الحكم الظاهري المحفوظ في مورد الأصول العملية يمثل نفس القاعدة الأصولية وليس مستنبطا منها كما هو المطلوب في التعريف.((2))

وفيه: بأنّ الاستنباط يصدق عليها ولو كان عن طريق مبادئها فإنّ تعيين مجاري الأصول العملية وبعض خصوصياتها لا يكون الا عن طريق الاستنباط وهذا المقدار يكفي في صدق استنباط الحكم الظاهري.

وثانياً: انه في بعض الأصول العملية التي يبحث عنها في علم الأصول لاتتضمن الحكم الشرعي حتى الظاهري وإنما هي مجرد وظيفة عملية يقررها العقل حين يعجز عن الانتهاء الى حكم الشرعي بشان الواقعة المشتبهة.((3))

ويمكن الإشكال عليه: بأنّ الوظيفة العقلية اذا قررها الشارع ترجع الى الحكم الظاهري والحجة الشرعية كما هو معلوم وسوف يأتي التصريح به منه رحمه الله .

3- ما افاده السيد الخوئي رحمه الله من ان المراد بكلمة الاستنباط في التعريف هو التوصل الى الحجة على الحكم اي اثباته ولو تنجيزا او تعذيرا ولا إشكال ان الأصول العملية بجميع انواعها تثبت التنجيز او التعذير تجاه الحكم الوقعي الشرعي.((4))

ويرد عليه انه مصادرة على المطلوب فإنه لو كان المراد بالحجة الحكم الظاهري فيرد عليه ما اورده على استاذه المحقق النائيني رحمه الله فهو الاشكال بعينه ، مضافا الى ان التصرف في معنى الاستنباط يحتاج الى دليل. فالحق ما ذكرناه من ان التعريف ليس في مقام بيان المائز الحقيقي فيمكن التوسعة في مفرداته لتشمل مسائل علم الأصول, فما صنعه المحقق النائيني هو الأوجه, مضافا الى ان هذا الإشكال مبني على ان يكون المراد من وقوع تلك القواعد في طريق الاستنباط كونها امارة او حجة على اثبات الاحكام الواقعية واما لو كان وقوعها كبريات في قياس الاستنباط ليستنتج منها الحكم الكلي الالهي فلا ينبغي هذا الإشكال سواء كان حكما تكليفيا ام وضعيا ظاهريا ام واقعيا شرعيا ام عقليا.

واجيب عن الاعتراض الثاني بما سياتي الكلام فيه مفصلا عند البحث عن الفارق بين المسألة الفقهية والمسألة الأصولية.

واما الجواب عن الاعتراض الثالث فقد اختلفوا فيه فنذكر الأهم منه:

4- منها ما ذكره المحقق النائيني رحمه الله في اخذ قيد الكبروية بالتعريف فقال: إنّ علم الأصول هو العلم بالكبريات التي لو انضمت اليها صغرياتها استنتج منها حكم فرعي كلي فكل مسألة احتيج فيها الى توسيط الكبرى لاستنتاج الحكم الفقهي تكون اصولية, وإن

ص: 4


1- - أبو القاسم الخوئي - اجود التقريرات - ج1 / ص3 مؤسسة صاحب الامر.
2- - محمود الشاهرودي - مباحث الدليل اللفظي - ص21 مؤسسة دار المعارف للفقه الاسلامي.
3- - مصدر سابق.
4- - الفياض - محمد اسحاق - محاضرات في اصول الفقه ج1 / ص9 مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم.

احتيج الى الكبرى على نحو التطبيق فهي ليست اصولية فإنه بناء عليه يتحقق المائز بين المواضيع التي تبحث في علم الأصول وغيرها مما يبحث في علوم اخرى مما يحتاج اليها الفقيه في استنباط الحكم الشرعي كوثاقة الراوي فإنها لا تقع كبرى قياس الاستنباط((1)).

الا انه لا يخلو من إشكال لاستلزامه خروج جملة من مباحث الأصول كمباحث الأصول المرتبطة بتشخيص المداليل اللغوية او العرفية فانها لا تقع إلاّ صغرى لكبرى حجية الظهور في قياس الاستنباط الفقهي فهو من التطبيق لا التوسيط, وكذلك جملة من المسائل الأصولية العقلية كمسألة اجتماع الأمر والنهي ومسألة اقتضاء الامر للنهي عن الضد فان الثمرة الفقهية المطلوبة منها تتوقف على تطبيق الكبرى على صغرياتها كما سيأتيإن شاء الله تعالى .

2- ومنها ما ذكره السيد الخوئي رحمه الله مستشكلاً به على المحقق النائيني رحمه الله بانه لا حاجة الى هذا القيد في التعريف إذ قال: ان علم الأصول هو العلم بالقواعد التي تقع بنفسها في استنباط الاحكام الشرعية الالهية من دون احتياج ضميمة كبرى او صغرى اصولية اخرى اليها((2)).

وقد اورد بعض النقوض على تعريفه واجاب عنها ويمكن ارجاعها الى نقضين كما ذكره بعض الاعلام:

الأول: النقض ببحوث الدلالات بأَجمعها فإنها جميعا من تطبيق كبرى حجية الظهور على الصغرى.

واجاب عنه بان حجية الظهور من المُسَلَّمات المفروغ عن صحتها عند العقلاء فلا تكون مسألة اصولية.

وفيه:ان هذا لم يكن فارقاً أبداً فإن كَوْنَ المسألة واضحة او من المسلمات لا تختلف عن غيرها وانما تؤدي الى الاختلاف عنها في مقام الإثبات والاستدلال.

الثاني: النقض بمسألة الضد وان اقتضاء الامر بالشيء النهي عن ضده لا يترتب عليها الا حرمة الضد غيرياً وهي ليست نتيجة فقهية لعدم منجزيه الحكم الغيري واما النتيجة الفقهية, فهي فساد الضد اذا كان عبادة وهو يتوقف على تطبيق كبرى اصولية عليها وهي اقتضاء حرمة العبادة بخلاف فسادها((3)).

واجاب عنه بكفاية ترتب النتيجة الفقهية على احد تقديري البحث الأصولي وفي المقام تترتب الصحة على تقدير عدم الاقتضاء وهو كاف في صيروة مسألة الضد بحثا اصوليا.

واشكلوا على هذه المحاولة بعدة اشكالات منها:

استلزامها الدور فانه بناء عليها تكون معرفة المسألة الأصولية متوقفة على عدم حاجتها الى مسألة اصولية اخرى وحينئذ لابد من معرفة المسألة الأصولية في المرتبة السابقة.

ص: 5


1- - النائيني محمد حسين - فوائد الاصول ج1 / ص18 مؤسسة النشر الاسلامي جماعة المدرسين بقم.
2- - محاضرات في اصول الفقه - مصدر سابق ج1 / ص12.
3- - محاضرات في اصول الفقه مصدر سابق ج1 / ص17-18.

واجيب عنه بأن المقصود أنّ المسألة الأصولية هي التي لم تكن تحتاج في مقام استنباط الحكم منها الى غير صغراها المنقحة لموضوعها فهي مسألة اصولية.

واشكل عليه السيد الصدر رحمه الله بوجهين((1)) لا يرجعان الى محصل واما مسألة الضد فسيأتي الكلام عنها في انها مبنية على دخولها في مسالة الترتب او عدم دخولها.

6- ومنها ما حاوله المحقق العراقي رحمه الله من ان جعل القاعدة الأصولية التي تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي ان تكون ناظرة الى إثبات الحكم بنفسه او بكيفية تعلقه بموضوعه والمراد به تشخيص الموضوع من حيث السعة والضيق وعليه يكون الفرق بين ظهور صيغة الامر في الوجوب وظهور حكم الصعيد او وثاقة الراوي في ان الاول دال على الحكم بنفسه دون الراوي وقال: إنّ مباحث العامَّ والخاصَّ والمطلق والمقيد والمفهوم والمنطوق ناظرة الى كيفية تعلق الحكم بالموضوع فهي داخلة في علم الأصول بخلاف مبحث المشتق والبحث في مدلول كلمة الصعيد ونظائرها مما هو راجع الى تشخيص الموضوع لا الى اثبات الحكم بنفسه ولا الى كيفية تعلق الحكم بموضوعه - الذي يرجع الى تشخيص الموضوع من حيث السعة والضيق - وهو من صغريات قياس الاستنتاج بحيث لو انضم اليها كبرى اصالة الظهور نستنتج منها الحكم الشرعي الكلي((2)).

واشكل عليه المحقق الصدر رحمه الله بان هذه المحاولة تؤدي الى خروج مسألة الضد عن صيغته المطروحة في علم الأصول لانها لم تثبت الامر الترتبي او صحة الضد او بطلانه((3)).

ولكنه ليس بشيء لما سيأتي بيانه في مسألة الضد في انه يمكن إدخالها في تشخيص الموضوع بالمعنى الاعم ليشمل مسألة الضد في انها داخلة في الامر الترتبي او لا.

وعلى ضوء ما تقدم من مناقشات وردود واعتراضات ظهرت جملة من التعاريف التي تقدم بها بعض المحققين من الأصوليين منهم المحقق النائيني والسيد الخوئي والمحقق العراقي قدس الله أسرارهم وهي غير سالمة من الاعتراضات كما عرفت.

ومن التعاريف ايضاً ما ذكره السيد الصدر رحمه الله حيث قال: إنّ الأصول هو العلم بالعناصر المشتركة في الاستدلال الفقهي خاصة التي يستعملها الفقيه كدليل على الجعل الشرعي الكلي((4)).

وقد اطال الكلام في بيانه, وهو وإن وُفق في دَرء الاعتراضات الواردة على التعاريف المتقدمة فلم يستعمل لفظ الاستنباط حتى يختص بالقياس التوسيطي ولم يذكر الحكم في تعريفه حتى لا يعترض عليه كما اعترض على التعريف المشهور كما تقدم. كما انه قد حصل من هذا التعريف التمييز بين المواضيع التي يبحث عنها في علم الأصول عما يبحث في العلوم الاخرى الداخلة في استنباط الحكم الشرعي.

الا انه يمكن الإشكال عليه بما يلي:

ص: 6


1- - مباحث الدلي اللفظي مصدر سابق ج1 / ص28.
2- - ضياء الدين العراقي - مقالات الاصول ج1 / ص54 مجمع الفكر الاسلامي.
3- - مباحث الدليل اللفظي مصدر سابق ج1 / ص30.
4- - مباحث الدليل اللفظي مصدر سابق ج1 / ص31.

1- بأنّ التعريف هذا اقرب الى تعيين عمل الأصولي من تعريف علم الأصول حيث ذكر انه لابد ان يكون عمله بالعناصر المشتركة في الفقه فقط دون غيره وجعلها دليلاً على الجعل الشرعي الذي يريد ان يعمل به مضافا الى اشتماله على امور لا ترتبط بالأصول.

2- انه لم يعهد من احد من العلماء جعل المائز بين علم الأصول وعلم الفقه ان تكون عناصر الاول سيالة في جميع أبواب الفقه بل صرح بعضهم بالعدم, فانه ربما تكون مسألة اصولية تختص بباب في الفقه دون الأبواب الأخرى.

ومن هنا ذهب بعض الأصوليين الى اعتبار أصالة الطهارة من المسائل الأصولية وان كانت تجري في باب مُعَيَّن من الفقه.

وكلامه متين جدا في جعل علم الفقه منشأ نزاع علم الأصول لشدة الارتباط بينهما فقد كانا مختلطين في كثير من الموارد ولكن توسع الممارسات الفقهية الاستدلالية وتطورها تدريجيا اقتضى فصل هذه العناصر المشتركة حتى اصبح علم مستقل له خصائصه المتميزة ومنهجه الخاص.

3- ان جعل المائز بين تلك العناصر المشتركة في كونها مرتبطة بطبيعة الاستدلال الفقهي فقط لتكون أصوليةً دون مطلق الاستدلال لأنها تكون منطقية فانه مستدرك إذ إنّ طبيعة تلك العناصر التي يُبحث عنها في علم الأصول ان تكون دليلا على الجعل الشرعي الكلي فهو يدل على كونها مرتبطة بالفقه والاستدلال الفقهي فلا حاجة الى هذا القيد.

ثم انه رحمه الله ذكر اقسام الادلة التي يعتمد عليها الفقيه في استدلاله الفقهي وهي التي تدخل في نطاق علم الأصول وهو صحيح الا في القسم الثالث وهو الدليل العقلي الاستقرائي الذي يقوم على حساب الاحتمالات فإنّه موضع نقاش كما سيأتي الكلام فيه.

1- ومنها ما ذكره السيد الوالد رحمه الله من أنَّ علم الأصول هو ما يُبحث فيه عن كيفية وظيفة الانسان من حيث الشريعة فهو عبارة عن قواعد معتبرة تستعمل في استفادة الاحكام الالهية((1)).

والمراد بالاحكام الالهية الوظائف الشرعية سواء أكان حكماً واقعياً او ظاهرياً تكليفياً او وضعياً شرعية او عقلية واستعمل لفظ الاستفادة ليشمل مطلق ما يمكن الوصول الى الوظيفة العملية سواء كان على نحو التوسيط او التطبيق او غير ذلك ولعله لم يذكر (الاستنباط) حتى لا يقع في الإشكالات المتقدمة.

والتعريف لا يشمل القواعد الفقهية ، لأنها أحكام شرعية تنطبق على مصاديقها انطباق الطبيعي على افراده وليس من مقام الاستفادة والتشخيص, لكنه لم يسلم من بعض الاعتراضات فانه يشمل بعض ماله دخل في استفادة الحكم الالهي مما عرفت سابقا فلا يكون مانعاً.

فالحق ان يقال انه لم يسلم تعريف من اعتراض أو أكثر يورد عليه ولأجله صح ما ذكرناه من أنها تعاريف لفظية شارحة تذكر لتقريب المعنى فإذا أردنا أن نعرفه بتعريف أقرب للنفس:

ص: 7


1- - السبزواري السيد عبد الأعلى - تهذيب الاصول ج1 / ص7.

نقول ان الأصول هو العلم الذي يتضمن القواعد التي تقع في طريق تشخيص وظيفة الإنسان من حيث الشريعة. والتعريف هذا أقرب الى طبيعة علم الفقه ويشمل جميع المباحث المطروحة في هذا العلم وجميع الأدلة التي يستدل بها لتعيين الوظيفة وتخرج به القواعد الفقهية وسائر المواضيع التي يكون لها دخل في الوصول إلى الحكم الإلهي.

ثانياً - في موضوع العلم:

ذكرنا أنَّ كلَّ علمٍ يتألف من مجموعة من مسائل مختلفة من حيث الموضوع والمحمول فلا يمكن باجتماعهما أن تسمى عِلماً إلا أن يكون هناك جامع بين المسائل ينطبق عليه عنوان ذلك العلم ويعرف بأن المسألة المعينة منه دون غيره من العلوم, ولمعرفة ذلك الجامع طرق ثلاثة.

الأول: أن يكون هناك موضوعاً كلياً واحداً ينطبق على موضوعات مسائله حتى تكون المحمولات من العوارض الذاتية لموضوع ذلك العلم, وهذا هو المعروف بين العلماء وقد اعتبروه من المسلمات التي لا نزاع فيها وإن أنكره جمع من العلماء في كل علم فضلا عن علم الأصول باعتبار انه ليس هناك جامعاً موضوعياً كلياً واحداً ينطبق على موضوعات مسائله, او انه لو كان له موضوع كذلك فهو كلي مجهول العنوان كما ذهب اليه المحقق الخراساني((1)).

الثاني: تعيين تعريف عام شامل ينطبق على تلك المسائل وكل مسألة شملها التعريف فهي من مسائل ذلك العلم وإلا فلا, وهو المراد من التعريف الجامع المانع او المُطَّرد والمنعكس المذكور في باب التعريفات فلا بد ان يكون التعريف حقيقيا لا نقص فيه وهذا هو الذي اردنا اثباته في البحث السابق وقد عرفت انه لا يمكن إلا بأخذ الغاية منها فيبعد ان يكون تعريفا حقيقيا فيدخل في الطريق الثالث.

الثالث: ترتب الغاية على المسائل وهي إما غاية بسيطة او لها جهات تترتب كل جهة على مسالة كما هو الحال في أغلب العلوم فإنّ علم النحو مثلا إنما هو لأجل درأ الخطأ في اللسان, وهو يختلف باختلاف مسائله فقد يكون في مسائل المرفوعات حفظ اللسان من الخطأ وفي غيرها شيء آخر وهكذا الحال في غيرها. وقالوا في تدوين علم الأصول إنَّ الغرض منه تحصيل القياس الاستنباطي لتحصيل الحكم الشرعي الفرعي كما صرح به جمع من الأصوليين فتكون المسائل الأصولية مبادئ تصديقية للمسائل الفقهية، لأنَّ المبدأ التصديقي لكل نتيجة من كل قياس هو كبرى ذلك القياس. ولذلك عرف بعض الأصوليين علم الأصول بانه العلم بالمبادئ التصديقية للمسائل الفقهية وسياتي الكلام في هذا الطريق.

اما الطريق الاول: فهو المعروف وقد استدلوا على ضرورة وجود الموضوع العام لكل علم بوجهين هما:

الوجه الاول: أنَّ لِكل علم غرضاً يختص به فلابد ان يكون مترتبا على عنوان واحد, والمسائل المتعددة التي لا جامع بينها لا يمكن ان يترتب عليها غرض واحد نوعيّ، لأنّ الواحد لا يصدر إلا من واحد بناء على شموله للواحد بالنوع فلابد ان يكون ذلك الجامع

ص: 8


1- - كفاية الأصول - ص8 - مصدر سابق.

قضية واحدة كلية موضوعها جامع بين موضوعات المسائل ومحمولها جامع بين محمولاتها وهذه القضية هي العلة في ترتب الغرض عليها ولا ريب ان هذا الغرض اما تدويني وهو الذي يطلب من تدوين ذلك العلم او تعليمه للآخرين ، او غرض ذاتي يترتب على كل علم من نفس الامر والواقع مع قطع النظر عن تدوينه وتعليمه, ومثل هذا الغرض يكون بمنزلة المعلول للعلم ويكون ترتبه على مسائل العلم من سنخ ترتب المعلول على علته, ولأجله اعتبروا ان يكون لكل علم غرض واحد فعلم النحو يترتب عليه صيانة المقال عن الخطأ, وعلم المنطق الصيانة من الخطأ في الفكر وهكذا بقية العلوم الاخرى.

وأُشكل عليه بوجوه تدل على إنكار ترتب الغرض على المسائل في ذاتها وواقعها

منها : انه لو كان كذلك لزم ان لا يقع في الخارج خطأ في المقال والفكر لأنَّ الغاية كما هو المعروف انها علة للشيء بماهيتها اي بوجودها الذهني ومعلولة له بوجودها الخارجي, فلو كان الحفظ الفعلي هو الغرض لما تخلف عن المسائل والمفروض خلافه لفرض ثبوت المسائل النحوية والمنطقية في الواقع ونفس الامر.

وقد أجاب المحقّق العراقيّ رحمه الله بان دخل المسائل في الغرض ليس من قبيل المؤثر والمتأثر والغرض وذي الغرض بأن يكون المراد هو الغرض الفعلي الذي لا ينفك عن المسائل ويترتب عليها من دون قيد او شرط فلا يكون الحفظ الفعلي عن الوقوع في الخطأ غاية التمكن والقدرة على تلك الأمور ويدل على ذلك ما ورد في تعريف علم المنطق من كَونِه آلة قانونية تعصم مراعاتها الفكر عن الوقوع في الخطأ فجعلوا الغاية مترتبة على المراعاة لا ان تكون العصمة عن الوقوع في الخطأ هي الغاية.((1))

ومنها : ما ذكره السيد الخوئي رحمه الله من انكار ترتب الغرض على ذات المسائل بدليل عدم تحققه في حق الجاهلين, فلو اريد تطبيق الواحد لزم افتراض وجود حدّهِ بين العلوم المتعلقة بالمسائل لا بين موضوعات المسائل.

واجيب عنه بانه يمكن تصوير الغرض المترتب على المسائل كما ذكرنا.

ومنها : عنه رحمه الله ايضا ان مقتضى البرهان المذكور وجود جامع بين النسب الخاصة التي ترتبط بين محمولات المسائل وموضوعاتها لان الغرض يكون نتيجة ثبوت تلك النسب.((2))

واجيب عنه بان نسب الاضافات ليست امورا مستقلة لكي يعقل في حقها الجامع والفرد والوحدة والتعدد بقطع النظر عن افرادها بل وحدتها وجامعيتها تكون بتبع وحدة طرفها دائما فافتراض وحدتها يعني افتراض وجود قضية واحدة عامة جامعة موضوعا ومحمولا لموضوعات المسائل ومحمولاتها تكون هي المؤثر في ايجاد الغرض الواحد.((3))

والحق في الجواب ان البرهان المذكور مردود كبرى وصغرى فانه لا يجري في العلوم ابدا فهو ناظر الى العلة الفاعلية والمباديء المؤثرة في الوجود ولا يستفاد منه الا لزوم

ص: 9


1- - مقالات الاصول ج1 / ص33 - مصدر سابق.
2- - محاضرات في اصول الفقه ج1 / ص 19 - مصدر سابق.
3- - بحوث في علم الاصول ج1 / ص40 - مصدر سابق.

السنخية بين العلة والمعلول والتطابق بينهما من هذه الجهة, ومسائل العلوم وموضوعاتها ليست علة فاعلية لوقوع الغرض أبدا ، هذا اذا كان المراد من الغرض الحقيقي منه. أما إذا أريد الغرض الاضافي فألامر أوضح لأن النسبة والاضافة تابعة في الوحدة والتعدد لأطرافها وليست أمرا مستقلا في ذاتها.((1))

الوجه الثاني: ذهب البعض الى ان تمايز العلوم بتمايز الموضوعات فلابد ان يكون لكل علم موضوع واحد والا تداخلت العلوم فيما بينها, ونوقش هذا الدليل بوجوه:

منها انه اشبه بالمصادرة كما ذكره السيد الصدر رحمه الله لأنّ معرفة تمايز العلوم بالموضوعات فرع معرفة وجود موضوع واحد لكل علم يتميز عن موضوع غيره((2)).

ويرد عليه بانه خلط بين الوقوع الخارجي والوجود الواقعي او العلمي, فان المدعى هو اننا نلاحظ في الخارج ان العلوم تتمايز بالموضوعات فلابد من فرض الموضوع واقعا مسبقا حتى يتحقق التمايز في الخارج.

ولعله لاجل ذلك كان السيد الوالد رحمه الله موفقا حيث عبر ان الموضوع - إنما هو - بوجوده الواقعي او العلمي فلا ترد شبهة المصادرة.

ومنها ما ذكره صاحب الكفاية من التمايز اذا كان بالموضوعات استلزم ان تكون كل مسألة علما مستقلا عن سائر المسائل لاختلاف موضوعاتها وهو واضح الفساد((3))

وعليه فقد رأى ان التمايز انما يكون بالأغراض.

وفيه : انه لا ريب في اختلاف موضوعات المسائل الا ان المدعى عند هذا المستدل ان يكون هناك موضوع عام ذاتي يجمع بين موضوعات المسائل التي لا تندرج تحت عنوان اخر والا كان هو موضوع العلم فاذا كان موضوع العلم هو الجامع بين موضوعات المسائل والابواب ينطبق عليها انطباق الكلي على افراده فلا تصل النوبة الى اعتبار كل مسألة علما مستقلا.

والحق أن يقال ان كان المراد من الموضوع هو الجامع الماهوي الذاتي بحيث لو انتفى لانتفى ذلك العلم فهو مردود لانه:

1- لا دليل عليه كما سيأتي.

2- بان الموضوع كذلك لا دخل له في عملية العلم لا بوجوده العلمي ولا بوجوده الواقعي كما ذكره السيد الوالد رحمه الله . بل ان الجامع الواقعي بين موضوعات مسائل العلم موجود سواء علم به او لا فهو امر تكويني كتحقق الجنس في انواعه ولكنه لا ربط له بالموضوع المصطلح.

3- ان بعض العلوم موضوعات مسائلها متباينة فان بعضها من مقولة الجواهر وبعضها من مقولة الاعراض او من بعض افعال المكلفين كما في الفقه ولا جامع ذاتي بين الجوهر والعرض كما هو واضح إلا أن يقال ان الجامع هو العرضي او من قبيل المفاهيم العامة كمفهوم الشيء وما يشابهه ولكن فساده واضح فانه يستلزم ان يكون الموضوع في جميع

ص: 10


1- ولنا كلام في اصل ثبوت هذه القاعدة ليس هذا محل بحثها.
2- - بحوث في علم الاصول ج1 / ص40 - مصدر سابق.
3- - كفاية الاصول ج1 / ص5 - مصدر سابق.

العلوم واحدا وهو هدم لما يريدونه مضافا الى انه بناء عليه لا تكون المحمولات من العوارض الذاتية لذلك المفهوم العام العرضي الخارج المحمول ، وهو لا يجتمع مع ما يصرحون به من ان موضوع كل علم ما يبحث عن عوارضه الذاتية.

وذكر بعض الأصوليين في مقام رده على ضرورة وجود موضوع واحد في كل علم بالنقض في بعض العلوم التي لا موضوع لها كعلم الفقه اما لكون موضوعات مسائله قضايا جعلية اعتبارية فلا يعقل في حقها جامع حقيقي او لأن موضوعاتها من مقولات متباينة - فلا يصدق معه جامع ذاتي((1))

كما عرفت.

- وناقشه السيد الصدر- بأن الأحكام الشرعية وان كانت قضايا اعتبارية بلحاظ المعتبر والمنشئ الا انها حقيقية بلحاظ نفس الاعتبار ومبادئ الحكم لكونها من مقولة الكيف النفساني((2)).

ولكن يرد عليه بان حقيقة الامور الاعتبارية تختلف عما يريدونه من الموضوع الحقيقي الجامع بين موضوعات مسائل كل علم بانه الجامع الذاتي الماهوي والتقوم الحقيقي, وهذا المعنى مفقود في الامور الاعتبارية التي يكون مدارها اعتبار العقل او العقلاء وان كانت من الامور الحقيقية كغيرها مما لها حظ في الوجود الاعتباري إلا أن يريد الجامع الواقعي الذي هو امر تكويني كتحقق الجنس في انواعه لكنه لا ربط له بالموضوع المبحوث عنه كما عرفت.

ومن جميع ذلك يظهر انه لا حاجة الى التمييز بالموضوع وان كان اصل التمييز بين العلوم من الامور الارتكازية التي لا تحتاج الى دليل وبرهان فهو مقبول بأدنى تأمل، خلافا لما صرح به جمع حيث جعلوا التمايز بالموضوعات من الامور الارتكازية بل الضرورية, منهم السيد الصدر رحمه الله حيث قال ان انكار ذلك نشأ من التباس حاصل في البين نتيجة امرين, وملخص ماذكره:

اولاً: التخيل بان الموضوع ماجعل موضوعا للمسائل في مرحلة تدوينها مع ان المقصود بالموضوع ما يكون محورا لبحوث العلم بحسب الواقع وما تقتضيه طبيعة تلك البحوث.

ثانياً: تفسير القوم للعرض الذاتي بما يعرض للشيء بعد الفراغ من ثبوته مما ادى الى صعوبة تطبيق القاعدة على كثير من البحوث في العلوم. واطال الكلام في ذلك والظاهر انه لا يمكن المساعدة عليه((3)).

أما تفسير العرض الذاتي فسيأتي الكلام فيه ان شاء الله تعالى، واما التفرقة بين الموضوع في مرحلة التدوين والموضوع بحسب الواقع فهو خلاف الواقع العملي فإنّ العلماء في كل علم انما ينتزعون الموضوع من المسائل المبحوثة في العلم فيكون له وجود واقعي او وجود علمي ثم يدونون المسائل على وفق ذلك المحور الجامع ولذا ترى ان الأصوليين يتنازعون في دخول بعض البحوث من علم الأصول فلو لم يكن للموضوع وجود واقعي او علمي لما كان وجه لهذا النزاع فهو يدل على ان التدوين مطابق للواقع. نعم قد

ص: 11


1- - محاضرات في اصول الفقه ج1 / ص21 - مصدر سابق.
2- - بحوث في علم الاصول ج1 / ص41 - مصدر سابق.
3- - بحوث في علم الاصول ج1 / ص42 - مصدر سابق.

يتطرقون في التدوين الى امور خارجة عن ذلك العلم وهم يصرحون به الا ان يكون مراده رحمه الله من التدوين مقابل المائز الموضوعي كما ذهب اليه بعض الأصوليين حيث اعتبروا ان ما يذكر في تدوين علم معين يختلف عن تدوين علم اخر كاف في التمييز فلا يحتاج الى التمايز بالموضوع ولا بالاغراض ولا بالتعريف.

ثم انه قد يتحد الموضوع في بعض العلوم كعلم النحو وعلم الصرف فإنّ موضوعهما الكلمة وعلم الكيمياء وعلم الفيزياء فان موضوعهما المادة, كما ان بعضها تتحد في الغرض - كما اشكل به المحقق الخراساني -فقالوا في دفعه بالتمايز بالحيثيات فيكون تمايز العلوم بتمايز الموضوعات وتمايز الموضوعات بتمايز الحيثيات- فيورد عليه بما اوردناه على اصل اعتبار الموضوع في التمايز بين العلوم, فان كان من احدى طرق التمييز كان له وجه وان كان نظرهم الى الانحصار فهو مردود لإمكان التمايز بوجه اخر.

وكيف كان فقد اتضح من جميع ذلك انه لا حاجة الى التمايز بالموضوع اذا كان بالامكان التمايز بوجه اخر ولو كان بالعرض والاعتبار, وانما جاء التمييز الموضوعي من علم الفلسفة ودخل في علم الأصول فاعتبروه من المُسَلّمات التي لا يَصحّ النقاش فيها, وكثير من المباحث الأصولية من هذا القبيل وقد وقع الخَلط والاشتراك بين المباحث الأصولية والمباحث الفلسفية فتداخلتا مع انهما مختلفتان في كثير من الامور كما سياتي التنبيه عليه.

المبحث الثالث : تعريف الموضوع

بعدما عرفت ان جمعاً كبيرا قالوا بان تمايز العلوم انما يكون بتمايز الموضوعات واختلفوا في تعريف الموضوع الجامع لموضوعات مسائل العلوم بحيث تكون تلك المسائل من عوارض موضوع العلم على وجوه.

التعريف الأول: (وهو المشهور) حيث ذكروا أنّ موضوع كلّ علم ما يُبحث فيه عن عوارضه الذاتية، وقالوا بان المراد بالعرض الذاتي ماينتزع من ذات الشيء او ما لا يعرض عليه بواسطة امر اخص او اعم ، وهذا التعريف المدرسي مأخوذ من علم الفلسفة شأنه شأن كثير مما دخل في هذا العلم وعليه لابد في كل علم ان يبحث فيه عن العوارض الذاتية لموضوع العلم بمعنى ان تكون مسائل العلم ومحمولاتها عبارة عن أعراض ذاتية لما هو موضوع العلم ، وبعبارة أخرى ان الحيثية أخذت قيدا للموضوع وصار الموضوع عين الخصوصيات التي تخصصت بها موضوعات المسائل فهو وان كان صحيحا لكنه خارجٌ عن موضوع البحث من فرض الموضوع كليا جامعا لان كل خصوصية مباينة للاخرى, يبقى الكلام في انها جهة تعليلية او تقييدية وسياتي الحديث عنه لاحقا.

توضيح ذلك ان ما يعرض على الشيء اما ان يكون بلا واسطة او بواسطة جزئه المساوي او الاعم او يكون بواسطة امر خارج مُساوٍ او مباين او اعم او اخص, والأول والثاني من العرض الذاتي واختلفوا في الثالث والرابع واتفقوا على ان الثلاثة الأخيرة من العرض الغريب.

وقد أورد على التعريف المزبور بما يأتي:

ص: 12

أولاً: ما ذكره جملة من المحققين منهم المحقق الاصفهاني من ان محمولات المسائل لا تنتزع من ذات موضوع العلم غالبا لأن مسائل العلوم تشتمل على البحث عما لا يكون عرضا ذاتيا لموضوع العلم لدخالته في الغرض المطلوب من بحوث ذلك العلم بل ذكر السيد الخوئي رحمه الله أن بعض العلوم لا تشتمل على ما يكون عرضا ذاتيا كالفقه فإنّ محمولات مسائله عبارة عن احكام شرعية وهي اعراض غير حقيقية فضلا عن ان تكون ذاتية للموضوع((1)).

ثانياً: بأن جل مباحث علم الأصول ما يعرض الموضوع لأمر أعم بناء على ان موضوعه الأدلة الأربعة، فان الامر ظاهر في الوجوب مثلا لايختص بما ورد في الكتاب والسنة, بل ان محمولات المسائل في كل علم تعرض على موضوع العلم بواسطة موضوعاتها وهي في الغالب اخص من موضوع العلم فتكون من العارض بواسطة امر اخص وهو عرض غريب.

التعريف الثاني: ماذكره جمع من المحققين عدولا منهم عن ذلك التعريف وقالوا ان المراد بالعرض الذاتي مالا يصح سلبه عن الموضوع وان كان العروض بواسطة بل بوسائط، أي الوصف بحال الذات، وما يصح سلبه عنه يكون عرضا غريبا وان لم تكن هناك واسطة في البين، أي ماكان الوصف بحال المتعلق، ولاريب ان محمولات المسائل لايصح سلبها عن موضوع العلم فتكون من الاعراض الذاتيه.

توضيح ذلك ما افاده المحقق العراقي رحمه الله ....

ان الاعراض التي تحمل على الموضوعات والاوصاف المنتسبة الى شيء على انحاء:

الأول: ان يكون العرض منتزعا عن ذات الشيء باعتباره جزء منه ووصفا داخليا وهذا هو الذاتي المبحوث في كتاب الكليات الخمسة.

الثاني: ان يكون منتزعا عن الشيء من دون جهة خارجية بحيث يكفي تصور الشيء في عروضه عليه كالزوجية للاربعة والحرارة للنار وهذا هو الذاتي المبحوث عنه في كتاب البرهان في علم المنطق أيضا.

الثالث: ان يكون عارضا بواسطة امر خارج عن ذات الشيء وتكون الواسطة تعليلية أي تقتضي ثبوت العرض لنفس الشيء فيكون هو المعروض لا الواسطة وتسمى بالواسطة الثبوتية كالمجاورة التي تكون واسطة في عروض الحراة على الماء ولا يفرق في هذه الواسطة الخارجية ان تكون اعم أو اخص أو مساوية أو مباينة لانها ليست معروضة للوصف.

الرابع: ان يكون عارضا بواسطة امر خارجي وتكون حيثية تقييدية أي تكون الواسطة هي المعروض للوصف حقيقة وتسمى الواسطة في العروض ومثاله ما يعرض على الجنس بواسطة النوع ولكن يشترط في هذا القسم ان يكون ذو الواسطة جزءاً تحليلياً من الواسطة فان الجنس - ذا الواسطة - جزءٌ تحليليٌّ للنوع الواحد.

ص: 13


1- - محاضرات في أصول الفقه ج1 / ص21 - مصدر سابق.

الخامس: ان يكون عرضا بواسطة تقييدية مع افتراض كون الواسطة جزءٌ تحليليٌ من ذي الواسطة عكس السابق مثاله ما يعرض على النوع بواسطة الجنس فلا يكون ذو الواسطة معروضا للوصف كما كان في القسم السابق لا ضمنا ولا استقلالاً.

السادس: ان يكون عارضا بواسطة تقييدية مباينة عن ذيها ذاتا وبحسب التحليل لاوجودا كما في عوارض الجنس بواسطة الفصل من مثل قولنا بعض الحيوان مدرك للكليات.

السابع: ان يكون عارضا بواسطة تقييدية مباينة مع ذي الواسطة ذاتاً ووجوداً، مثل ما ينسب الى الجسم من البطء والسرعة مع كونها عرض لحركة الجسم المباينة معه في الوجود((1)).

ولكن قبل مناقشة ماذكره المحقق العراقي لابد من بيان أمر...

وهو ان أساس الخلاف بين الأصوليين في ذاتية العرض وغرابته يرجع الى المناط الذي اعتبروه في تفسيرهما وهم بذلك خالفوا الحكماء الذين هم الأصل في هذا البحث ، بيان ذلك:

ان النسبة بين الشيء وما يعرض عليه تارة تكون باعتبار نسبة محلية يعني ان الشيء محلاً وموضوعاً لما يعرض عليه، وأخرى تكون باعتبار نسبة المنشئية أي يكون الشيء منشأ وسببا لوجود العرض وهاتان النسبتان قد تتطابقان في الخارج وقد لا تتطابقان فان النار منشأ للحرارة وسبب لها وهي محل لها أيضا واما نسبتُها الى الماء فلا تكون إلا محلية والى المجاورة مع النار بالمنشئية والأصوليين ومنهم المحقق العراقي رحمه الله نظروا الى المناط الأول وفسروا ذاتية العروض بكون المعروض محلا للعرض حقيقة فوقعوا في حيرة في كيفية تطبيق ذلك على العارض بواسطة امر مساو كما جاء في تعريف الحكماء للعرض الذاتي لان الواسطة اذا كانت تقييدية تمنع عنكون ذي الواسطة محلا للعروض حقيقة واذا كانت تعليلية فهو المعروض حقيقة وعليه لافرق في الواسطة بين ان يكون لأمر مساو أو اعم أو مباين.

واما الحكماء فقد اختاروا المناط الثاني في تفسير ذاتية العروض وغرابته فكل عرض كان ثبوته لموضوع بذاته أو لأمر يرجع الى ذاته من دون ان تكون الواسطة خارجة عن حريم الموضوع فهو عرض ذاتي وكلما كان ثبوته لموضوع بأمر خارج عن ذات الموضوع فهو عرض غريب فجعلوا العرض الذاتي في قسمين وهما ما يعرض بلا واسطة أو مع واسطة أمر مُساوٍ وما دونهما عرض غريب.

وقد ذكر السيد الصدر رحمه الله ان ذلك لاينسجم الا اذا كان المراد بالعروض المنشئية والاستتباع لان العرض اذا لم يكن مع الواسطة وتمام المنشأ والعلة لاستتباع العرض واذا كان يعرض بواسطة أمر مُساوٍ فالواسطة انما تكون عارضة على الموضوع اما بلا واسطة فيكون الموضوع هو تمام المنشأ في استتباعها واستتباع العرض أو بواسطة امر مساو ايضا - لاستحالة عروضها بواسطة امر اعم أو اخص والا كانت هي اعم أو اخص - فيكون كالواسطة الأولى المساوية لها من حيث منشئية الموضوع لاستتباعه من دون فرق في ذلك بين كون الواسطة داخلية أو خارجية واما اذا كان العروض بواسطة امر

ص: 14


1- - مقالات الاصول ج1 / ص39 - مصدر سابق.

اخص فلا يكون العرض ذاتيا اذا كانت الواسطة خارجية أي امرا عرضيا لان المنشأ حينئذ انما هو الواسطة فلا يكون الموضوع منشأ لاستتباع العرض واما اذا كانت الواسطة داخلية كعوارض الجنس بسبب الفصل فالعرض ذاتي والوجه في ذلك مع ان الجنس قد ينفك عن الفصل لكن الحصة الخاصة من الجنس متحدة مع الفصل في الوجود ولم يتحقق أمر غريب يحول بينهما في الوجود كانت المنشئية الحقيقية بين الجنس والفصل وعوارضه ثابتةً ، وهذا بخلاف العارض بواسطة أخص خارجي أو بواسطة أعم داخلي كان أو خارجي اذ لا يبقى وجه لاعتبارهما ذاتيين بعد عدم استتباع الموضوع لهما.

واما العارض بواسطة أمر مباين بحسب ما هو المناط عند الأصوليين من انهم فسروا العرض بالمحلية الحقيقية واما اذا كان العروض بحسب المنشئية لا المحلية فيكون المرادٌّ بالمساواة والأعمية والأخصية ما يكون كذلك بحسب المورد خارجا سواء كان متحدا في الوجود مع الموضوع أو لا، وحينئذ لايفرق في الاستتباع والمنشئية بين كون المنشأ متحدا في وجوده مع الناشيء أو مباينا معه.

والخلاصة: ان العرض الذاتي هو ما يكون بينه وبين موضوعه المنشئية الحقيقية سواء كانت بينهما نسبة المحلية ايضا ام لا والمراد من المنشئية مطلق الاستتباع والاستلزام بحيث يكون فرض وجود الموضوع مساوقا مع وجود العرض لا خصوص العلة الفاعلية فتشملٌّ العلة المادية اذا كانت كذلك((1)).

ويرد عليه:

أولاً: ان كلمات الحكماء في التمييز بين الذات والغريب والمناط فيه متفاوت جدا فقد استفاد المحقق العراقي رحمه الله منها ان يكون الاتصاف والعروض من الحقيقيين المستقلين واستفاد السيد الصدر رحمه الله المنشئية والاستتباع فراجع كلماتهم.

ثانياً: انه لاينحصر المناط المائز بين الذاتي والغريب فيما ذكروه فان هناك مناطا اخر يوافق الذوق العلمي والعرف كما يصرح به في ضمن كلامه وهو ملاحظة العرض الى موضوعه في عالم الوجود لابلحاظ عالم التحليل فقد يكون عرضاً اذا لوحظ الى موضوعه في عالم الوجود ويكون محمولا عليه حقيقة فيكون عارضا عليه كذلك أيضا، فنستكشف من الحمل في عالم الوجود انه عارض عليه حقيقة لان الوجود الخارجي في المعروض واحد على كل حال وان كان ذا أجزاء بحسب عالم التحليل وعليه تكون جميع الأقسام من العرض الذاتي ما عدا القسم الأخير على كل الموازين التي ذكرناها من الحمل والإسناد الحقيقيين أو الاتصاف والعروض الحقيقي على ما ذكره المحقق العراقي رحمه الله ، أو المحلية أو المنشئية والاستتباع فان صحة الحمل الخارجي يستدعي صحة العروض حقيقة بخلاف ما اذا كان المائز بلحاظ عالم التحليل فما لايكون عارضا على الشيء حقيقة فلا يصح حمله عليه فأعراض الجنس لا تكون أعراضاً للفصل حقيقة ولا تكون محمولة عليه لان الجنس والفصل بحسب التحليل متباينان لا ينسب احدهما أو ماله من أعراض الى الآخر وحينئذ لابد من الرجوع الى ما ذكروه من المميزات المختلفة التي ذكروها وحينئذ لابد من الرجوع الى التفصيل الذي ذكره المحقق العراقي رحمه الله على أساس الحمل

ص: 15


1- - بحوث في علم الأصول ج1 / ص43 - مصدر سابق.

والعروض ، أو ما ذكره السيد الصدر رحمه الله على أساس المنشئية الحقيقية ولا محصل له إلا على هذا الاعتبار، واما اذا كان بلحاظ عالم الوجود فالاقسام الستة من العرض الذاتي بل يمكن ادراج القسم الأخير فيه أيضا ولعل هذا هو مراد السيد الوالد رحمه الله وجمع من المحققين (قدس الله اسرارهم) من ان نسبة موضوع العلم الى موضوعات المسائل نسبة الكلي الى افراده والطبيعي الى مشخصاته فيكون الحمل الخارجي كاف في صحة العروض وذاتيته.

ثالثاً: انه رحمه الله يصرح في مقام رده على الإشكال المعروف على تعريف الموضوع من ان نظر الحكماء من هذه الكلمات والتحديدات الى ما يصطلحون عليه بالعلم البرهاني في الحكمة العالية والحكمة الطبيعية والحكمة التعليمية والعلم البرهاني لديهم هو اليقين بثبوت المحمول للموضوع على أساس الضرورة واستحالة الانفكاك كما في علم الرياضيات ونحوه واما سائر العلوم فهي من الفنون والصناعات التي يفقد فيها هذا الميزان ولا سيما علم الأصول وعلم الفقه فانهما خارجان عن هذه القاعدة فلا حاجة الى التفاصيل المذكورة التي تدور حول تلك القاعدة الحكمية.

ولقد اجاد فيما افاد فلا وجه في ايراد كلمات الفلاسفة في علم الأصول بعد الفرق الكبير بينهما.

ومن جميع ذلك يظهر ان الميزان في الذاتي والغريب في علمي الأصول والفقه يختلف عما هو المذكور في علم الحكمة المتعالية فان المراد من الذاتي فيه هو ما انتزع من نفس الشيء أو ما يرجع اليه بواسطة مساويه وغيرهما عرض غريب, واما الذاتي في علمي الأصول والفقه فيكتفى فيه الحمل على الموضوع خارجا الذي يوجبصحة العروض والاتصاف فالحمل الخارجي يستدعي صحة العروض كذلك وهذا هو الصحيح بعدما عرفت انه مفاد قولهم من ان انطباق موضوع العلم على موضوعات المسائل كانطباق الكلي على افراده والطبيعي على مشخصاته ومما ذكر يتبين الجواب عما ذكروه من المناقشات على التعريف المشهور ومحاولاتهم في الجواب عنها.

البحث الرابع: موضوع علم الأصول

اختلف العلماء في تعيين موضوع علم الأصول الجامع لموضوعات مسائله, فقيل: إنّه الأدلة الأربعة كما ذهب اليه صاحب القوانين.

وأورد عليه بأنّه يستلزم خروج مباحث الحجج عن علم الأصول فان البحث عن اصل حجية الخبر الواحد أو الاجماع أو الشهرة أو العقل وظاهر الكتاب لكونها بحثا عن ذات الموضوع فتدخل في المبادئ.

وأُجيب عنه بوجوهٍ أحسنُها ما ذكره السيد الوالد رحمه الله من ان الموضوع هو الأدلّة بوصف الحجية الواقعية والمبحوث عن حجية المذكورات بحث عن مقدار الحجية وكيفيتها ورد الشبهات عنها فتكون من المسائل.

وقيل : إنّه الأدلة الأربعة بوصف الحجية وقد ذهب اليه صاحب الفصول وهو وان سلم عن الإشكال المزبور الا انه يستلزم خروج مباحث حجية الخبر الواحد والشهرة

ص: 16

والاستصحاب والتعارض واحكامه من المسائل لعدم كونها بحثا عن السنة بل هي بحث الحاكي لها فيكون من العرض الغريب.

وأجاب الشيخ الانصاري رحمه الله بدخول مبحث الخبر الواحد في ذلك بتغيير العنوان بقوله- هل السنة تثبت بالخبر الواحد- واشكل عليه الشيخ النائيني رحمه الله بانه يفيد في الخبر الواحد ولا يشمل الشهرة والاستصحاب وغيرها. ويمكن الجواب عنه انه هل السنة تثبت بالشهرة والاستصحاب والتعارض في حال تعارضت الاخبار.

والجواب الصحيح ما ذكره السيد الوالد رحمه الله من اتحاد الحاكي والمحكي عنه عند الرواة والعلماء وعرف المتشرّعة مما يعد عوارض احدهما عين عوارض الاخر فيكون بحث خبر الواحد والتعارض واحكامه من عوارض السنة.

وقال صاحب الكفاية ان موضوع علم الأصول هو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله. وفيه: انه اقرب الى الإشارة الى الموضوع من كونه نفس الموضوع.

وقيل: انه ليس الا موضوعات مسائله وهو اقرب الى ما ذكره صاحب الكفاية رحمه الله . ولكنهما يسلمان عن النقض والابرام في دخول بعض المسائل وخروجها عن موضوع العلم.

وقيل موضوعه الأصول المشتركة في الاستدلال الفقهي، فيكون البحث في مسائل علم الأصول عن دليليتها وجواز الاستناد اليها في مقام الاستنباط، واما البحث عن اصل ثبوت بعض القواعد الأصولية وعدم ثبوتها كالبحث عن ثبوت الملازمة بينوجوب شيء ووجوب مقدمته أو حرمة ضده يرجع الى البحث عن دليليتها كما عرفت انفا.

والحق ان يقال: ان الموضوع في علم الأصول يكفي فيه ان يكون إشارة الى ما تتضمنه المسائل من الموضوعات كما يستفاد من تعريف الاخوند وغيره رحمهم الله, والى هذا يرجع ما قيل بان موضوعه ما يستنبط منه الاحكام الشرعية.

ثم انهم ذكروا أن الأدلة أربعة ، ولكنها اكثر فتشمل العرف وبناء العقلاء والسيرة ونحو ذلك مما يستدل به في الفقه, ولعله يرجع إما الى ذكر الأهم من الأدلة أو لأنه لم تكن الأدلة عندهم محددة ومصنفة الا في حدود تلك الأدلة الأربعة وان يكون المراد ما يستنبط منه الاحكام أو الأصول المشتركة فالكتاب والسنة يعبران عن الدليل اللفظي والشرعي والاجماع كاشف عن السنة أو الدليل العقلي الاستقرائي كما ذكره بعضهم, والعقل يعبر عن الكلي البرهاني والعملي.

وذكر السيد الوالد رحمه الله ان المراد الكتاب المشروح بالسنة والسنة الشارحة للكتاب فيمكن ادراج الأدلة الأربعة في دليل واحد لان السنّة شارحة للكتاب والاجماع لا موضوعية فيه بل لابد فيه من الكشف عن السنة كما ان العقل لابد من عدم ثبوت الردع عنه فيكون الموضوع ما يقع نتائج بحثه في طريق معرفة الوظيفة الشرعية ، وارجع رحمه الله السيرة العقلائية وبناء العقلاء الى دليل العقل الذي لم يردع عنه الشارع ، وكذا السيرة العرفية ومرتكزات العرف اليه أيضا فيكون الفرق بين السيرتين بحسب المتعلق لا بحسب الذات((1)).

ص: 17


1- - تهذيب الأصول - ج1 / ص12 - مصدر سابق.

المبحث الخامس: الضابط في المسألة الأصولية والفرق بينها وبين المسالة الفقهية:-

8- والكلام فيه يقع في مقامين:-

المقام الأول: في تعيين الضابط في المسألة الأصولية وقد اختلف الأصوليون فيهِ تبعاًًًً لمنهجهم في تعريف علم الأصول نذكر جملة منها:-

الأول: ما حُكي عن المشهور من أن المسائل الأصولية هي القواعد الممهدة لاستنباط الحكم الشرعي .

وأُشكل عليه بوجوده ذكرناها سابقاً فراجع((1)).

الثاني: ما ذهب إليه صاحب الكفاية رحمه الله من انها القواعد الممهدة لاستنباط الحكم الشرعي أو ما ينتهي إليه في مقام العمل, فإن الغرض على الأول تعيين الحكم الواقعي بالاستنباط وعلى الثاني هو المعذرية والمنجزية أي مقام المرجعية في مقام العمل.

وأشكل عليه أيضاً بما عرفت سابقا, ونزيد هنا ماذكره المحقق الأصفهاني رحمه الله , فقد أُورد عليه بإيرادين:-الأول: انه لابد من فرض جامع بين الغرضين المذكورين الاستنباط والمرجعية في مقام العمل, إذ مع عدم وجود الجامع بينهما يستلزم تعدد فن الأصول بتعدد الغرض الذي ذهب إليه صاحب الكفاية رحمه الله من أن التمايز بين العلوم بالتمايز بين الأغراض, والجامع مفقود لتباين الغرضين.

الثاني: ان الانتهاء في مقام العمل إما مقيّد بأنه بعد اليأس عن الظفر بالدليل على الحكم أو يكون مطلقا فلا يكون مقيدا بذلك, وعلى الأول لم تدخل الأمارات فيه, لأن حجّيتها لم تتوقف على ذلك فالرجوع إليها ليس بعد اليأس, فإنه شرطٌ في صحة الرجوع الى الأصول العمليّة فقط, كما هو معلوم, وإن لم يكن مقيداً لزم دخول جميع القواعد الفقهية العامة في التعريف لأنها أيضا مما ينتهي إليه المجتهد في مقام العمل والتطبيق((2)).

وأُجيب عن الإشكالين المزبورين.

أما الثاني فإنه نلتزم بالقيد, وخروج الأمارات عن ما ذكره رحمه الله ليس بمحذور لأن المراد من الإستنباط تحصيل الحجة على الواقع فمسائل الأمارات تدخل في الأصول بصدر التعريف وإن خرجت عن الذيل وهو لا محذور فيه, فتكون من مسائل علم الأصول, والمحذور يحصل لو كان المراد من الاستنباط إحراز الحكم الشرعي واستخراجه بحيث لا يشمل الحجة عليه فتخرج الأمارات عن صدر التعريف أيضاً, لأن المجعول فيها إما المنجزية أو المعذرية أو الحكم المماثل وهي بكلا الوجهين لايقع في طريق استنباط الأحكام فيلزم منه خروج الأمارات عن علم الأصول.

أما الأول فهو يرتفع بتصوير غرض خارجي جامع بين الغرضين وهو خفيف المؤنة, كما عرفت.

الثالث: انها القواعد الممهدة لتحصيل الحجة على الحكم الشرعي وقد ذهب إليه المحقق الأصفهاني وتبعهُ غيرهُ, كما في بعض تقريراته, ولا يخفى انه وإن كان بظاهره التزاماً

ص: 18


1- - ص4 وما بعدها.
2- - الدراية - نهاية ج1 / ص19 - احياء الكتب الاسلامية.

بوجهة نظر استاذه صاحب الكفاية إلا أنه في الحقيقة إشكال عليه, لأنه اقتصر في الإشكال على بعض الموارد مع انه سارٍ إلى جُلّ المسائل ولا يمكن التخلص منه الا بالتصرف في لفظ الاستنباط بأن يكون المراد به تحصيل الحجة على الحكم الشرعي بلا توقف على احراز الحكم, وعليه تكون الأمارات بأي معنى كانت لها الدخل في إقامة الحجة على العمل.

وقد عرفت الإشكال عليه أيضاً فيما سبق, مضافاً الى ان التوسّع في لفظ الاستنباط لا يدفع الإشكال فإن بعض المسائل الأصولية ما لاتكون نتيجتهُ حصول الحجة على الحكم الواقعي لا نفياً ولا إثباتاً, كما عرفت.

الرابع: ما ذهب إليه المحقق النائيني رحمه الله بعد جعل ضابط المسألة الأصولية ما يقع كبرى في قياس الاستنباط للحكم, وأضاف إليه قيدين: الأول أن تكون النتيجة حكماً كليّاً, والثاني أن لا تصلح المسألة إلقائها الى العامّي, ولعل إضافته لهذين القيدين يرجع الى ان الضابط لو كان على ما يقع كبرى في قياس الاستنباط فقط يسلزم منه دخول أكثرالمسائل الفقهية كوجوب الصلاة ونحوها مما يستنتج منه أحكاماً جزئية في الموارد الجزئية, ولكن بالقيد الأول نخرجها عن الضابط فتكون أجنبية عن علم الأصول.

ولكنه لايُجدي في خروج جميع مسائل الفقه منه لوجود بعض المسائل الفقهية التي تكون نتيجتها حكماً كلياً, كقاعدة نفي الضمان بالعقد الفاسد إذا كان صحيحهُ لا ضمان فيه وشبهها.

الا انه بالقيد الثاني نخرج جميع المسائل الفقهية, فإنها صالحة لإلقائها الى العامّي بحيث يتولى التطبيق بنفسه بخلاف المسائل الأصولية, فإن معرفة العامّي حجية الخبر الواحد أو الملازمة بين وجوب الشيء و وجوب مقدمته أو حرمة ضده لا تفيدهُ شيئاً, فلا تصلح القائها إليه.

ويمكن الإشكال عليه بأنه أيضاً غيرُ مانع فإن بعض المسائل الفقهية لا يمكن إلقاؤها الى العامّي.

فلابد أن تكون من المسائل الأصولية لانطباق هذا الضابط عليها.

ومثال ذلك مسألة بطلان الشرط المخالف للكتاب والسنّة فإن العامي بمعرفته لهذه المسألة لا يستطيع أن يتوصل الى الموارد الجزئية أو الكلية التي ينطبق عليها.

ومسألة التسامح في أدلة السنن بناءً على عنوانها الفقهي وهو ثبوت استحباب العمل الذي قام عليه خبرٌ ضعيف أو عدم ثبوته, فهل اخبار - من بلغ- تدل على الاستحباب أو لا تدل؟ ونتيجته هو الحكم الشرعي إثباتاً أو نفياً, ومثل هذه المسألة بهذا العنوان لا يمكن إلقاؤها الى العامي إذ لا يمكنه استفادة ذلك وهو جاهل بجهة الضعف في الخبر المتوقّف على معرفة أحوال الرجال.

الخامس: ماذهب إليه بعض الأجلّة((1)) من أن الضابط هو ارتفاع التردد والتحيّر الحاصل للمكلف من إحتمال الحكم الشرعي سواء كانت نتيجة المسائل الأصولية الاستنباطية أو لم تكن كذلك, وعرّفَ علم الأصول بأنه القواعد التي يرتفع بها التحيّر الحاصل للمكلف,

ص: 19


1- - عبد الصاحب الحكيم - منتقى الأصول - تقرير بحث السيد محمد الروحاني - ج1 /ص27/ ط2.

وأجاب بذلك عن إشكال المحقق الأصفهاني على صاحب الكفاية قدس سره بأن الجامع بين الغرضين هو ارتفاع التردد والحيرة ، وذكر انه يمكن أن يكون مراد صاحب الكفاية من زيادة القيد على تعريف مشهور ذاك والأمر في ذلك سهلٌ.

وقد فرّق بين المسألة الأصولية والمسألة الفقهية في إنَ الأولى ناظرة الى رفع التحيّر والتردد فقط دون النظر الى الحكم من ناحية الثبوت, فهنا مقاماتٌ ثلاثة: مقام التردّد والحَيرة, ومقام الاحتمال الموجب للتردد, ومقام واقع الحكم المحتمل من ثبوت ونحوه, فالمسائل الأصولية وقواعدها ما ترفع التردد والحيرة أو الاحتمال الموجب للتردد دون أن تكون ناظرة الى نفس الحكم المحتمل بتعيين أحد طرفيه من ثبوته وعدمه, فهي إما ترفع التردد والحيرة, بلا ارتباط بكيفية الواقع وهذا هو مفاد الأصول العلميّة والامارات بناءً على جعل المنجزيّة والمعذريّة أو الحكم المماثل ونحوها من المسائل مما تقدّم, أو تكون نتيجتها رفع أساس التردد وهو الاحتمال إما تكويناً كالملازمات العقلية لأنها توجب العلم بالحكم فيرتفع التردّد والاحتمال بارتفاع منشئه ولانظر لهاالى نفس المحتمل, إذ لا تُعيّن أحد طرفي الاحتمال ثبوتاً بل تكون واسطة في الإثبات باستلزامها العلم بالحكم.

وأما تعبداً كالامارات بناءً على جعل الطريقية وتتميم الكشف فإنه بها يتحقق العلم تعبداً بالحكم بلا نظر الى نفس الحكم وثبوته واقعاً.

وبالجملة فإن الجامع في مسائل علم الأصول هو رفع التردد والحيرة بها أما ابتداءً أو بواسطة رفع منشأ التحيّر من دون أن تكون ناظرة الى ثبوت الحكم المحتمل بأحد طرفيه. وبهذا يندفع النقض بجملة من القواعد الفقهية العامة, كقاعدة ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده, وقاعدة الطهارة, وقاعدة نفي الضرر, وقاعدة نفي الحرج والعسر ونحوها. بدعوى انه قد يستفاد من هذه القواعد حكم كلي فتدخل في الأصول لأنها مما يستنبط بها حكمٌ كليٌ.

والجواب عنه: يظهر من الملاك والضابط في القاعدة الأصولية فإن رفعٌ للحيرة من دون أن يكون نظرهُ الى الحكم المحتمل ولا كون الملاك في المسألة الأصولية هو الوصول الى حكم كلي.

ثم انه بناءً على هذا الوجه لا فرق بين أن تكون النتيجة أحكاماً كليةً أو جزئيةً, فالاستصحاب في الشبهات الموضوعية من المسائل الأصولية لوجود الملاك فيه أيضاً وهو رفع الحيرة كما أنه بناءً عليه لا موجب لتقييد المسألة الأصولية بما كان المتوصل بها الى الحكم هو المجتهد وما كان اجراؤها بيده دون المقلِّد, فإن الملزم لأخذ هذين القيدين إنما هو لأجل التحرّز من دخول المسائل الفقهية في علم الأصول كما عرفت سابقاً, فأخذوا قيد التوصل الى الحكم الكلي لأجل ذلك, كما أن الملزم لأخذ القيد غير موجود على الملاك الذي ذكره.

لكن مايمكن أن يشكل على هذا التعريف وهو ما يرتفع به التحيّر والتردد, وتعريف المشهور وهو ما يقع في طريق الاستنباط. إنَّ ما يرتفع به التحيّر والتردد أو يقع في طريق الاستنباط أما أن يكون مطلقاً ولو كان بالواسطة بمعنى أن يتخلل بينه وبين الاستنباط مسائل أُخرى أو تكون مباشرة وبدون واسطة بحيث يترتب عليها الحكم الشرعي رأساً, وعلى كلا التقديرين يستلزم محذوراً, اما التقدير الأول فلأنه يستلزم

ص: 20

دخول كثير من القواعد اللغوية والمنطقية والفلسفية في علم الأصول لوقوعها في طريق تنقيح بعض القواعد الفقهية الأصولية فيترتب عليها الاستنباط ويرتفع بها التحير بالواسطة.

وأما التقدير الثاني فلأنه يستلزم خروج كثير من المسائل المحررة في كتب الأصول عن علم الأصول كمسائل الصحيح والأعم والمشتق واجتماع الأمر والنهي ومسألة أن الأمر ظاهر في وجوب أولاً ومسألة العام والخاص في بعض الحالات ومسائل المفاهيم.

فإن في مسألة الصحيح والأعم إنما هو ثبوت الوضع واللفظ الشرعي الى المعاني الشرعية وعدمه وهو بحث لغوي لا يترتب عليه الحكم الشرعي مباشرة, وإنما تترتب عليه مسألة أُصولية وهي جواز التمسك بالإطلاق على القول بالأعم وعدم جوازه على القول بالصحيح, كما سيأتي البحث عنه, وهذا لا يترتب عليه حكم شرعي, بل يترتبعليه المسألة الأصولية وهي جواز التمسك بالإطلاق وعدم جوازه, وكذلك مسألة المشتق فلأن البحث فيها بحث لغوي عن تحقيق الموضوع له في المشتق ولا يترتب عليه الحكم الشرعي مباشرة. أما مسألة اجتماع الأمر والنهي فلأن التنقيح فيها ينتهي الى تحقيق موضوع المسألة الأصولية لا معرفة حكم شرعي أو رفع التردد, وذلك لأنه إن قيل بامتناع اجتماع الأمر والنهي لعدم كفاية تعدد العنوان في تصحيحه فيكون المقام مقام التعارض لتعارض دليلي الحرمة والوجوب, وإن قلنا بجواز الاجتماع لكنه لابد من ارتفاع أحدهما لعدم مقدرة المكلف على امتثالها معاً فيدخل في مسألة التزاحم ، وهي كمسألة التعارض من المسائل الأصولية. وأما بقية المسائل كمسألة ظهور الأمر في الوجوب, أو ظهور الجملة الشرطية أو الوصفية في انتقاء الحكم بانتقاء الحكم بانتقاء الشرط أو الوصف, أو ظهور العام في الباقي بعد التخصيص فيكون حجة فيه, أو ظهوره في العموم الاستغراقي أو المجموعي وغيرها من المسائل المشابهة فإيصالها الى الحكم الشرعي أو ارتفاع التردد بها انما يكون بضميمةٍ كبرى أُصولية, وهي حجية الظاهر إذ بدونها لا يتوصل الى المطلوب, فإن ظهور الأمر في الوجوب لا يكفي في الحكم إلا بضميمته إن الظاهر حجة فيثبت الوجوب فإذا كان المناط في المسألة الأصولية هو رفع الحيرة والتردد, او استنباط الحكم بلا واسطة, فإنه يستلزم خروج هذه المسائل, وهذا مما لا يلتزم به أحد, كما إنَّ الغاء هذا الشرط يستلزم دخول غير المسائل الأصولية في الأصول وهذا ما يدفعه الاعلام, كما عرفت.

وأُجيب عن الإشكال: بأنه نلتزم بالشرط ونقول بأن المناط هو ترتب الأثر على المسائل مباشرة بدون واسطة ولا بأس بخروج بعض المسائل عن علم الأصول كمسألتي الصحيح والأعم ومسألة المشتق ولا محذور في ذلك وإنما تعرضوا لها في علم الأصول لعدم استيفاء البحث عنهما في علم آخر. وإنما المسائل اللفظية فهي داخلة في علم الأصول وإن كان الأثر يترتب على الواسطة لأنها من الوضوح والجلاء والتسليم بمرتبةٍ بحيث يكفي من تنقيح موضوعها أن يترتب عليها, إذ الواسطة المعتبر عدمها هي الواسطة النظرية لا الواسطة الارتكازية التي لا تلاحظ لوضوحها في ترتب الحكم على الصغرى.

وأمّا مسألة اجتماع الأمر والنهي فلأن الأقوال ثلاثة: الجواز مطلقاً, الامتناع من جهة اجتماع الضدّين, الامتناع من جهة التزاحم, ويكفي دخول المسألة في علم الأصول أن

ص: 21

يكون أحد أطرافها حكماً شرعياً وهو الأول من المقام لأنه يترتب عليه صحة العمل ولأجل ذلك لا موجب للالتزام بخروج هذه المسألة من علم الأصول كما ذهب إليه المحقق النائيني رحمه الله .

ومن جميع ذلك يظهر:- ان الفرق بين هذا المناط وغيره في أمور:

الأول: انه لايشترط فيه أن تكون النتيجة في المسألة الأصولية حكماً كلياً بل يجري حتى إّذا كان الحكم جزئياً كما في جريان الامارات والاستصحاب في الشبهات الموضوعية.

الثاني: انه يشمل مسألة أصل الاباحة بناءً على كون المجعول فيها الحليّة الظاهرية بلا نظر الى الواقع لا المعذرية, ولا الحكم المماثل لعدم تحصيل الحجة على الواقع,وكذا مسألة الظن الانسدادي بناءً على الحكومة لأنها لا تنتهي الى تحصيل الحجة على الحكم الشرعي أيضاً, فأنه على الضابط المذكور إنه بهما يرتفع التحيّر والتردد, وأما من جعل الضابط تحصيل الحجة كما ذهب إليه المحقق الأصفهاني وغيره فإنه لا يشملها التعريف المذكور لعدم وجود الحجة فيها.

الثالث: إنه بناءً عليه لا يفرق بين أن تكون المسألة مما يصلح أن يلقى الى المجتهد أو القاؤها الى العامّي ما دام يرفع التحيّر والتردد, وهذا لا يجري في تعاريف القوم.

لاسيما تعريف المحقق النائيني رحمه الله هذا ما أردنا إثباته وهو إن كان لا يخلو مِنْ وجه صحيح في الآثار المترتبة عليه من الأمور الثلاثة.

لكن ما يمكن مناقشته بأن أخذ رفع التردد والتحيّر لا يكفي في جعله ضابطاً في المسألة الأصولية فإنه لا تخلوا المسائل الفقهية وقواعدها من هذا الأثر كما هو واضح لمن يرجع إليها بل ان في كلامه شاهدٌ على ذلك فانه جعل الواسطة الارتكازية داخلة في علم الأصول لعدم الخلاف فيها مع انه لا تردد ولا حيرة فيها يضاف الى ذلك أن الملاك الذي ذكره انما هو من الغايات فلا يكون من الذاتيات, مع انه قد جعل الفرق بين المسألة الأصولية والمسألة الفقهية بسببه من الفرق الذاتي, وهو غريب, فلا بُد أن يكون الملاك شيئاً آخر.

وهو ما ذهب إليه السيد الوالد((1)) رحمه الله من أن المناط في المسألة الأصولية هو الوقوع في طريق تعيين الوظيفة للمكلف بلا فرق بين الامارات أو الأصول العلمية, فإنه يشمل جميع مباحث علم الأصول, ولا يضر بمسألة من مسائله أن يبحث في علم آخر وهو كثير في العلوم لاختلاف العناوين فأنه يبحث موضوع في علم بعنوان وفي علم بعنوان آخر, ولا ريب ان تعيين الوظيفة يوجب رفع الحيرة والتردد, فإنه بمجرد البحث في المسألة الأصولية والنظر فيها لايرفع التحير ما لم يكن هناك حكماً اذ الشك والتردد إنما نشأ منه, فما ذكره بعض الأجلة (رحمهم الله تعالى) إنما هو مترتب على الحكم الأصولي, وهو ما يهون الأمر فيه لتداخل الآثار في هذا الموضوع.

المقام الثاني:-

ص: 22


1- - تهذيب الأصول ج1 / ص9 - مصدر سابق.

في الفرق بين المسألة الأصولية والمسألة الفقهية:

قد عرفت مما سبق الفرق بين المسألتين من جهات عديدة:

الأولى: إن المسألة الأصولية تختص بالعالم ولا يصلح القاؤها الى العامي في الجملة.

الثانية: إن المسألة الأصولية احكامها كليّة بخلاف غيرها.

الثالثة: إن المسألة الأصولية تقع كبرى قياس الاستنباط.

الرابعة: إن المسألة الأصولية ترفع التردد والحيرة, وأما المسألة الفقهية فإن مفادها نفس الحكم المحتمل, ونفس الحكم لا يرفع التردد وإنما دليله يرفعه.الخامسة: إن المسألة الأصولية تسري في جميع أبواب الفقه أو جُلّها بخلاف المسألة الفقهية كما ذهب إليه الآخوند رحمه الله .

السادسة: إن المسألة الأصولية نظرية, وهي مورد النزاع والكلام لا أن تكون واضحة لا خلاف فيها.

وهذه الفروق قد تقع موضع النقض والإبرام كما عرفت لكن من مجموعها يمكن تحصيل التمييز بين المسألتين في الجملة بعد إن لم يمكن التفريق بينهما بالذاتيات كما سبق.

ثم ان المعروف ان القاعدة هي تطبيق الكبريات على الصغريات انطباق الطبيعي على أفراده, فإذا تشكل قياس منهما انما يكون قياسا تطبيقيا صرفاً بخلاف القاعدة الأصولية فإنها توجب الوصول الى الحكم فيكون قياساً استنباطياً كما تقدّم بيانه.

وأما الفرق بين القاعدة والمسألة ان الأولى نتيجة المسألة بمقدماتها بخلاف المسألة فإنها تختص بالمقدمات, فإذا قيل مثلاً لايجوز الوضوء الضرري على المكلّف فإن هذه مسألةٌ, واذا اضيف اليه دليله وهو الضرر المنفي يكون ذلك قاعدة, وهذا وان كان أمراً اعتبارياً لكن ربما يطلق أحدهما على الآخر فيكون الفرق بينهما بالاصطلاح.

وأما الفرق بين القاعدة الفقهية والمسألة الأصولية, فقد ذكر السيد الوالد رحمه الله .

الفرق بينهما من جهات خمس:-

الأولى: ان القواعد الفقهية يشترك فيها العالم وغيره كسائر الأحكام الإلهية بخلاف المسائل الأصولية فإنها تختص بالعلماء.

الثانية: القاعدة الفقهية يمكن أن تختص بباب دون باب وهي كثيرة بخلاف المسائل الأصولية كما عرفت.

الثالثة: إن القاعدة الفقهية شمولها لمصاديقها من قبيل تطبيق الطبيعي لإفراده, بخلاف المسألة الأصولية فإن نتائجها تقع على طريق إثبات الوظيفة أو تكون كبرى قياس الاستنباط.

الرابعة: القاعدة الفقهية غالبها من المسلّمات بين العلماء بخلاف المسائل الأصولية فهي نظرية وفيها اختلاف كثير.

الخامسة: إنَّ غالب القواعد الفقهية نفس المضمون الذي صدر عن المعصوم علیه السلام ويصح اطلاق الأصل على القاعدة أيضاً اذ لامشاحة في الاصطلاح((1)).

ص: 23


1- - تهذيب الأصول ج1 / ص10 - مصدر سابق.

ثم انه يظهر من جميع ذلك ان الأصول لهُ اعتبارات عديدة فقد تكون نفس القواعد المزبورة بواقعياتها فتكون أصولاً, ومن جهة الوجودات العلمية صح تعريفه بالعلم بهذه القواعد, ومن جهة وجوداتها الكتبيّة يطلق على تلك الصور المنقوشة بالفنون, وإذا لوحظ شغل الأصولي في استخراج قواعدها من مادياتها يناسب تعريفه بصناعة مخصوصة.

المبحث السادس:- تقسيم علم الأصول.

اشارة

وهذا البحث ذكره السيّد الوالد رحمه الله في التمهيد((1)), وقد اختلفوا أيضاً في تقسيم أبحاثه وإن كان الموجود في الخارج والواقع في الكتب الأصولية تقسيمه الى قسمين.

الأول: مباحث الألفاظ, ويشمل جميع المباحث التي ترتبط بالوضع وملحقاته كبحث المشتق والصحيح والأعم, وبحوث الأوامر والنواهي والمفاهيم والعام والخاص والمطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن ونحوها, ولما كان أساس الفقه مبنيا على الكتاب والسنة وهما بمعزل عن الملازمات العقلية جعلوا بحوثهما من مباحث الألفاظ.

الثاني: مباحث الحج والأمارات والأصول العملية, وهو يشمل مباحث القطع والظن والأصول العملية الأربعة, البراءة والاشتغال والتخيير والاستصحاب.

ثم ذكروا خاتمة بحثوا فيها مباحث التعارض والمعروف بمباحث التعادل والتراجيح.

وعلى هذا المنهاج جرى المؤلفون في أغلب الكتب الأصولية, كالقوانين والفصول والكفاية وفرائد الشيخ الأعظم رحمه الله وغيرها. الا انَّ هذا المنهاج لا يخلو من مناقشات معروفة للمتتبع ولأجلها عدل بعض الأصوليين عنه نذكر بعضاً منها:

الأول: ما نُقل عن المحقق الأصفهاني رحمه الله الذي ذكره في آخر دورات درسه في الأصول كما حكاه السيد الوالد رحمه الله فقد نقل رحمه الله عن استاذه انه كان نادماً على تطويل بحوثه الأصولية والأسلوب الخاص به وعزم على تنقيحها وتغيير أسلوبه فيها وإن يجعل لها منهجاً معيناً لكن لم يفِ عمره الشريف فلبى نداء ربه ولم يحقق طموحه إلا أن بعض تلامذته قاموا بالمهمة من بعده خير قيام فكتب الشيخ المظفر رحمه الله اصوله على منهجه, كما ألّفَ السيد الوالد كتابه عليه مع بعض التغيير وباسلوبه المتميز العرفي المقبول في تهذيب الأصول، وهو وإن كان يبدو منه الرضا عن تقسيم استاذه إلا انه خالفه في أمور كثيرة فقد أخرج مبحث المشتق عن مباحث الألفاظ لعدم وجود ثمرة عملية فيه كما أدرج مبحث تعارض الأدلة في مباحث الألفاظ, لأن التعارض إنما يكون في الدلالة لا في جهة أُخرى, والدلالة من مباحث الألفاظ, فيكون البحث فيه عن كيفية رفع التعارض بين الدلالتين والجمع بينهما, إن أمكن وإلا فيرجع الى المرجحات, والاصوليون لاحظوا المرجحّات فرأوا ان بعضها خارج عن الدلالة كالمرجحات السنديّة ومخالفة العامة ونحوها, ولم يمكنهم ادراجها في احد المباحث فجعلوه في الخاتمة.

وكيف كان فقد قسم المحقق الأصفهاني رحمه الله مباحث الأصول الى أربعة أقسام:

ص: 24


1- - ج1 / ص5 - نفس المصدر.

الأول: مباحث الألفاظ: وهي تبحث عن مداليل الألفاظ وظهورها من العموم فيدخل بحث الأوامر وبحث النواهي والمفاهيم والصحيح والأعم والمشتق والعام والخاص والمطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن.

الثاني: المباحث العقلية: وهي التي تبحث عن لوازم الأحكام في أنفسها ولو لم تكن مدلولة اللفظ وهو على قسمين المستقلة, كالبحث عن الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع, وغير المستقلة كالبحث عن استلزام وجوب شيء وجوب مقدّمته المعروف باسم البحث عن مقدمة الواجب, أو استلزام وجوب شيء حرمة ضدهِ المعروفبمسألة الضد, ومسألة الإجزاء, ومسألة النهي في العبادة, والبحث عن اجتماع الأمر والنهي المعروف بمسألة اجتماع الأمر والنهي.

الثالث: مباحث الحجة: وهو التي تبحث عن الحجية والدليلية, كالبحث عن حجية القطع وحجية الظن, وحجية الخبر الواحد, وحجية الظواهر, وحجية ظواهر الكتاب وحجية السنة, والإجماع والعقل.

الرابع: مباحث الأصول العلمية: وهي تبحث عما يرجح إليه المجتهد عند فقد الدليل الاجتهادي, كالبحث عن أصالة البراءة والاشتغال, والاحتياط, والاستصحاب ونحوها, وتسمّى بالأدلّة الفقهاتيّة.

وأخيراً مبحث تعارض الأدلة المعروف بمبحث التعادل والتراجيح وجعلهُ في الخاتمة كما عليه المشهور وعلى هذا التقسيم دخل مبحث المشتق في مباحث الألفاظ بعد أن كان من المقدمات وخرج منها بحوث المقدمة والضد والإجزاء ودخلت في المباحث العقلية.

التقسيم الثاني: ما ذكره السيّد الوالد رحمه الله في تهذيب الأصول((1)):

وهو وإن كان يوافق ما ذكره شيخه في أصل التقسيم إلا أنه خالفه في أمور كثيرة فقد أخرج مبحث المشتق من مباحث الألفاظ, كما أدرج مبحث تعارض الأدلّة في مباحث الألفاظ, لأن التعارض إنما يكون في الدلالة وهي من مباحث الألفاظ فيبحث فيه عن كيفية رفع التعارض بين الدلالتين والجمع بينهما مهما أمكن وإلا يكون المرجع هي المرجحات, والاصوليون لاحظوا هذه المرجحات فرأوا بعضها خارج عن بحوث الدلالة كالمرجحات السنديّة ومخالفة العامة ونحوهما حيث لم يمكنهم ادراجها في أحد المباحث المتقدمة فجعلوه في الخاتمة كما دمج القسمين الثالث والرابع في قسم واحد وعقد لهما باباً واحداً وهو المقصد الثالث أي ما يصلح الاعتذار به فقسم علم الأصول الى مقدمة ومقاصد ثلاثة:

المقدمة وذكر فيها بحوث الوضع, والصحيح, والأعم, والمشتق.

المقصد الأول: وذكر فيه مباحث الألفاظ كبحث الأوامر والنواهي, وأقسام الواجب أو اجتماع الأمر والنهي, والمفاهيم, والعام, والخاص, والمطلق, والمقيد, والمجمل, والمبيّن, ومبحث التعارض.

المقصد الثاني: في الملازمات العقلية بقسميها المستقلة وغير المستقلة وذكر فيه حجية العقل وقاعدة الملازمة بين حكم العقل والشرع, وبناء العقلاء, ومبحث الإجزاء, ومبحث المقدمة, ومسألة الضد ومسألة اقتضاء النهي للفساد.

ص: 25


1- - ج1 / ص5 - المصدر.

المقصد الثالث: وذكر فيه ما يصح الاعتذار به للمكلف, فاشتمل على مباحث القطع, والظن, وحجية خبر الواحد, والاجتهاد والتقليد, والأصول العلمية, لأن جميع تلك البحوث تقع في طريق تعيين وظيفة الإنسان ويصح الاعتذار بها عند المولى.

التقسيم الثالث: ما ذكره السيد الخوئي ((1)) رحمه الله : فقال إن القواعد العامة التي يتكون منها علم الأصول على أقسام.الأول: ما يوصل الى معرفة الحكم الشرعي بعلم وجداني وعلى نحو البّتْ والجزم, وهو مباحث الاستلزامات العقلية, كمبحث مقدمة الواجب, ومبحث الضد, ومبحث اجتماع الأمر والنهي, ومبحث النهي يستلزم الفساد, لأن في هذه الموارد إذ عُلم بالحكم وعُلم بثبوت الملازمة يحصل العلم بالنتيجة.

الثاني: ما يوصل الى الحكم الشرعي التكليفي أو الوضعي بعلم جعلي تعبُّدي وهو مباحث الحجج والأمارات وهو على قسمين:

أولاً: ما يكون البحث فيه عن الصغرى بعد إحراز الكبرى وهو مباحث الألفاظ بأجمعها, ويدخل فيه مباحث الأوامر, والنواهي, والمفاهيم, ومباحث العموم والخصوص, والمطلق والمقيّد.

ثانياً: ما يبحث فيه عن الكبرى بعد فراغ الصغرى, كمبحث حجية الخبر الواحد, والإجماع والشهرة, وظواهر الكتاب, ومبحث الظن الإنسدادي بناءً على الكشف ومبحث التعادل والتراجيح.

الثالث: ما يبحث فيه عن الوظيفة العملية الشرعية حال العجز عن معرفة الحكم الواقعي واليأس عن الظفر بأي دليل اجتهادي وهو مباحث الأصول العملية الشرعية, كالبراءة, والاشتغال, والاحتياط, والاستصحاب.

الرابع: ما يُبحث فيه عن الوظيفة العملية العقلية في مرحلة الامتثال بعد فقد الدليل الاجتهادي أو أصل عملي شرعي, وهو مباحث الأصول العملية العقلية كالبراءة أو الاحتياط العقليين ويدخل فيه مبحث الظن الانسدادي بناءً على الحكومة. وهذا التقسيم وإن كان وافياً لمباحث علم الأصول وقواعده, إلا انه تفصيل لا وجه له بعد إمكان إدخال بعض تلك الأقسام في بعضها الآخر, ومما يهون الأمر انه رحمه الله لم يلتزم بما اقترحه من التقسيم في الدرس والتدوين وإنما تبع طريقة المشهور.

التقسيم الرابع: ما ذهب إليه السيد الصدر((2))

رحمه الله وأطال الكلام فيه وحاصله أن الأدلة التي يعتمد عليها الفقيه في استدلاله الفقهي على أقسام:

الأول: الدليل اللفظي ويراد به كل دليل تكون دلالته على أساس الوضع اللغوي أو العرفي العام, فيشمل مباحث الألفاظ والدلالات, فالبحث فيها عن الدليلية اللفظية وتحديد مدلول ألفاظ عامة تعتبر عناصر مشتركة لإستنباط الحكم الشرعي في الأبواب الفقهية المتنوعة.

الثاني: الدليل العقلي البرهاني وهو الدليل الذي تكون دلالته على أساس علاقات وملازمات واقعية تثبت بحكم العقل البديهي أو بواسطة برهان, ويشمل بحوث الملازمات

ص: 26


1- - محاضرات في أصول الفقه - ج1 / ص8 - مصدر سابق.
2- - بحوث في علم الأصول - ج1 / ص 55 - مصدر سابق.

العقلية الثابتة بين الأحكام, أو بينها وبين متعلقاتها, كبحث المقدمة, واقتضاء الأمر بشيء النهي عن ضده, واجتماع الأمر والنهي, واقتضاء النهي للفساد, وبحوث اشتراط القدرة في متعلق التكليف, وإمكان أخذ القيود المختلفة في موضوع التكليف أو متعلقه وغير ذلك من المسائل العقلية الصرفة.الثالث: الدليل العقلي الاستقرائي وهو الدليل الذي تقوم دلالته على أساس حساب الاحتمالات الذي هو الأساس العام في الأدلة الاستقرائية, فيشمل مسألة حجية الإجماع والسيرة, والتواتر, فإن دليليتها تكون استقرائيّة لا برهانية.

الرابع: الدليل الشرعي, وهو ما جعله الشارع دليلاً لتشخص الوظيفة العملية تجاه الحكم الشرعي المشتبه فيشمل بحوث الحجج والقواعد المقررة لاثبات الوظيفة العملية وهو على قسمين:

1- الأمارات التي تكون دليليتها على أساس الكشف والطريقية الى الواقع والتي تعني ترجح قوة الاحتمال في التزاحم بين الأحكام في مرحلة حفظ الملاكات.

2- الأصول العملية وتكون دليليتها على أساس ترجيح المحتمل في التزاحم المذكور.

الخامس: الدليل العقلي, وهو الدليل العقلي العملي, وهو كل كبرى عقلية تشخص الوظيفة تجاه الواقع المشكوك تعذيراً أو تنجيزاً, فيشمل قاعدة البراءة العقلية, والاحتياط العقلي, والتخيير العقلي, ثم ختم بحوث الأدلة بخاتمة في التعارض الواقع بين الأدلة المذكورة وأقسام التعارض المذكورة, وجميع هذه الأقسام تدخل في علم الأصول لأنها عناصر مشتركة من قبل الفقه باعتبارها أدلة على الجعل الشرعي الكلي ولكن مع ضم مقدمة لهذا العلم يبحث فيها عن أمرين: أحدهما حجية القطع إذ بدونه لا أثر للبحث في أي مسألة. والثاني البحث عن الحكم وحقيقته وأقسامه .

وأشكل السيد الصدر رحمه الله على تقسيم استاذه بوجوه, وخلاصة ما ذكره انه إن كان على أساس ملاحظته نكتة فنيّة تقتضي الترتيب بين المسائل الأصولية في عملية الاستنباط, وهي عدم الانتهاء الى اللاحق إلا بعد فقد السابق, فإنه يرد عليه:

أولا: عدم الطولية بين القسمين الأولين وهما ما يوصل الى معرفة الحكم بعلم وجداني, وما يوصل إليه بعلم تعبُّدي شرعي.

وثانيا: ثبوت الطويلة بين المجموعة الثانية والثالثة, فإن الحجج والأمارات وكذلك الأصول العملية ليست كلها من مرتبة واحدة بل بعضها مقدّم على بعض في عملية الاستنباط, كما هو واضح.

وثالثا: ان تأخر مرتبة المجموعة الرابعة على الثالثة لا يكون صحيحاً على جميع المباني الأصولية في قاعدة الاشتغال العقلية فإن العقل يحكم بالاشتغال وهو حاكم على إطلاق دليل البراءة الشرعية. وإن كان المراد بالطولية بين الأقسام من حيث مراتب الإثبات ودرجاته فيكون تارة بالعلم الوجداني وأُخرى بالعلم التعبُّدي وثالثة بالأصل الشرعي ورابعة بالوظيفة العقلية, وهذا صحيح, ولكنه مبني على رأي المحقق النائيني في تفسير الأمارات والأصول وإرجاع الفرق بينهما الى سنخ المجعول, فمتى كان المجعول هو العلمية والكاشفية كانت الأمارة, وإن كان المجعول غيره فهو الأصل ، وإن كان الفرق على ما ذكره من الأمارات هو أهميّة الاحتمال عند التزاحم بين الأحكام في مرحلة حفظ

ص: 27

الملاكات, والأصول هو قوة المحتمل في المرحلة المذكورة, فلا يصح التصنيف المذكور.

مع انه يمكن أن يكون المقياس في التصنيف ربطه بسنخ المجعول ولسانه فيكون الأصل المحرز كالاستصحاب أصلاً برأسه بين الأمارات والأصول غير المحرزة.ويمكن الإشكال عليه بأن قصد المؤلفين في تقسيم العلوم هو جمع الشتات والموضوعات المختلفة تحت عناوين معينة يكون بينهما الترابط المنطقي ليحصل التمييز بينهما ويرتفع الخلط بينهما فيكون كل موضوع من موضوعات علم الأصول -مثلاً- تحت عنوان معين من عناوينهِ المختلفة ويكون بينهما ترتيباً منطقياً مقبولاً فيبحث عن كل موضوع في موضعه فتذكر الخلافات فيه والمناقشات التي قد تورد عليه وبيان دفعها, فلعل جملة المؤلفين في علم الأصول كان قصدهم ذلك وتساهلوا في هذا الأمر فلم يعقدوا له عنواناً معيناً يسمى تقسيم الأصول الا عند المعاصرين.

وبناءً على ذلك يمكن أن نقول بثبوت الترتّب والطولية بين القسمين فإن الرجوع الى العلم الوجداني قبل العلم التعبدي الشرعي أمر منطقي يقبلهُ العقل السليم

والمنطق المستقيم وإن كان في مرحلة الإثبات لكل واحد منها شرط معين, كما تثبت الطولية بين المجموعتين الثانية والثالثة, فإن تقدم بعضها على بعض إنما هو من جهة ما يرشد إليه العقل السليم والمنطق المستقيم, وإذا خرج فردٌ منها أو لم تثبت الطولية لأجل دليل خاص فإنه لا يضر بأصل التقسيم فإن لكل باب شواذ ينبّه عليها, كما هو واضح , ولعلهُ من أجل ذلك عدَلَ أخيراً وحكم بالصحة وثبوت الطولية في مرتبة الإثبات, وإن كانت المباني مختلفة في الأمارات والأصول فلو أردنا التقسيم بحسب اختلاف المباني لما تحقق سُلَّم التقسيم لعلم من العلوم وهذا ما فعله في المدخل حيث ذكر فيه قضايا متفرقة, جمع بينهما بوجه من الوجوه, ولأجل ذلك كله نقول انه مهما كان التقسيم محصوراً وكلياً جامعاً للموضوعات المتفاوتة كان أقرب الى القبول وعليه يكون تقسيم السيد الوالد رحمه الله أقرب الى الواقع فإنه جامع للعناوين المختلفة بصورة أشمل وأتم وأخصر بعيد عن التقسيمات العقلية التي دخلت في هذا العلم المبني على أدلة عرفية مقبولة, وعليه تكون مباحثنا الأصولية وإن كنا لم نوافقه في بعض الأمور كما سيتبيّن لاحقاً ان شاء الله تعالى. وبذلك ننهي الكلام في الأمور التمهيدية وإن خرجنا عن بعض ما ذكره في التهذيب كما هو واضح.

ص: 28

المدخل وفيه بعض الأمور العامّة

اشارة

تمهيد:

ص: 29

استعرض جملة من الأعلام رحمه الله في علم الأصول بعض الأمور التي لها الارتباط الوثيق بالألفاظ واعتبروها من أهم مباحث علم الأصول التي عليها الاعتماد في عملية استنباط الحكم الشرعي, وهذه الأمور إما أن تتعلق بعملية الوضع وإما أن تتعلقبالمتكلم من حيث استعمال الألفاظ الدالة على المعنى, وأمّا أن تتعلق بالسامع الذي يستفيد المعنى ويفهم المراد, وينقل ذهنه من اللفظ الى المعنى, وغير ذلك من البحوث الى لها ارتباط وثيق بالألفاظ على العموم, فيقع الكلام في ضمن بحوث:-

البحث الأول: في الوضع

والكلام فيه من جهات:-

الجهة الأولى: في حقيقة الوضع.

لا ريب إن نظام التفهيم والتفهّم يقوم على الوضع الذي هو عبارة عن نوع علاقة لغوية بين (اللفظ والمعنى) وهذه العلاقة هي التي تحدد دلالة اللفظ على المعنى ويحصل به فهم المعاني من الألفاظ بشكل عام, الا ان ذلك يتم في المعنى الحقيقي بعلاقة قائمة بين اللفظ والمعنى مباشرة بخلاف المعنى المجازي الذي يتم بواسطة المناسبات ولذا يكون المعنى المجازي مسبوقاً بمعنى حقيقي دائماً, وسيأتي توضيح ذلك.

وعلى أيّة حال فإن دلالة اللفظ على المعنى انما ترجع الى نحو من السببية والاستتباع بمعنى انه اذا اطلق اللفظ يستتبع انسباق الذهن الى المعنى, وبعبارة أُخرى إن الوجود الذهني للفظ يستتبع الوجود الذهني للمعنى, ولا ريب إن ذلك لم يحصل اعتباطاً بدون برهان, وقد ذكر العلماء من اللغويين والاصوليين وجهين لهذه السببية:-

الأول: العلقة الذاتية النابعة من طبيعة اللفظ والمعنى, فتكون مناسبة تكوينية بين اللفظ والمعنى, كالعلاقة الموجودة بين النار والحرارة بحيث يكون اللفظ علّة تامة للانتقال الى المعنى.

ص: 30

الثاني: العلاقة الخارجية الحاصلة من جعل جاعل لا أن تكون ذاتية.ولا سبيل الى الأول -كما قيل- وجداناً وخارجاً وآثاراً قبل العلم والتعلم, كما فصّل الكلام بعض الأعلام في بطلان هذا الوجه بما لا مزيد عليه, وإن كان كلامه لا يخلو من الإشكالات تظهر لمن راجعها بإمعان وإن كان الصحيح أن يقال بأنه اذا كان المراد بالذاتية ما هو المعروف في العلوم العقلية, فلا إشكال في عدم تحققها في مثل هذه الأمور الاجتماعية فإنها بمعزل عن مثل تلك الأمور العقلية, وإن كان المراد من الذاتية ما كان حاصلاً بعد الجعل ومعروفية المناسبة الاعتبارية بين اللفظ والمعنى عند الواضح والعالمين بالوضع فله وجه صحيح مقبول, وكم لعلماء الأصول خلطٌ بين الأمور العقلية والأمور الاجتماعية العرفية في علم الأصول.

وعلى ذلك يمكن ارجاع هذا الوجه الى الوجه الثاني فبعد تحقق العلاقة بين اللفظ والمعنى أمّا من أجل أمر راجع الى اللفظ وعلاقته بالمعنى أو من أجل أمر خارج عن ذلك ويتحدد الوضع على ضوء ذلك فتحدث علاقة ذاتية اجتماعية بين اللفظ والمعنى بحيث اذا اطلق اللفظ على ما وضع له انسبق المعنى إليه, وبذلك يمكن حل كثير من الإشكالات التي يأتي ذكر بعضاً منها.

ثم انهم اختلفوا في حقيقة الوضع, وقبل سرد الأقوال لابد من بيان أُمور:-

الأول: الوضع بأي معنى أعتبر يختلف عن الاستعمال وان اشتركا في أصل إظهار المعنى باللفظ وإبرازه به, ولكن الوضع إظهار المعنى باللفظ حدوثاً, والاستعمال إنما يتحقق بعد الوضع, كما ان الوضع يكون بداعٍ واحد وهو كون اللفظ علامة على المعنى مثلاً, بخلاف سائر الاستعمالات فإنها تكون بدواعٍ أُخرى معروفةٍ لكل متكلم وسامع.

الثاني: الوضع تارةً يُراد بهِ المعنى المصدري, وأُخرى يراد به معنى الاسم المصدري الذي هو الأثر الحاصل من ذلك الفعل كالوضوء والتوضئ فإن الأول هو الأثر الحاصل من أفعال الوضوء أي الطهارة المعنوية, والثاني هو نفس أفعال الوضوء, وفي مقام الارتباط الحاصل بين اللفظ والمعنى الناشئ من التخصيص أو التخصص, ومدار الكلام على الأول هو الوضع بالمعنى المصدري.

الثالث: ان البحث في الوضع لا يتم الا اذا ضممنا الى أقوال الأصوليين بحوث علماء اللغة الذين هم الأصل في هذا الموضوع فالكلام يقع في مقامين: الأول في الجانب الاصولي ونقل كلمات الأصوليين وأقوالهم. والثاني بيان ما ذكرهُ علماء اللغة.

المقام الأول: اختلف الأصوليون في حقيقة الوضع بعد الاتفاق على نفي العلاقة الذاتية بين اللفظ والمعنى, بيد أن هذه العلاقة الذاتية إن كان المراد بها العُلقة التكوينية فهو مرفوضٌ في الوضع الذي هو من الأمور الاعتبارية العرفية الاجتماعية, وإن كان المراد بها العلاقة الذاتية الاجتماعية التي تحدث بين الأمور الاجتماعية فهو أمر معقول بحد نفسه وتدل عليه البراهين اثباتاً, كما ستعرف, وكيف كان فالأقوال في الوضع كثيرة ويمكن ادراجها في اتجاهين رئيسين, كما صنعه بعض الأعلام.

الأول: الجعل الواقعي للسببية أي ان الواضع بجعل السببية مباشرة بين الطبيعي اللفظ والمعنى تحصل الملازمة بينهما ولهذه الملازمة واقعية مثل واقعية الملازمات والسببيات في الواقع ولكن تحققها إنما يكون بفعل الوضع.

ص: 31

الثاني: جعل السببية من قبل الواضع بأن يحدث بين اللفظ والمعنى صفةً خاصة وبعد اكتساب اللفظ لهذه الصفة يكون اللفظ سبباً لإخطار المعنى ، والخلاف إنما في علاج هذه العملية التمهيدية الحاصلة من الواضع, فمنهم من يؤمن بالاعتبار, ومنهم من يؤمن بالتعهد, ومنهم من يقول بغير ذلك ونحن نذكر الأقوال على سبيل الاختصار:

الأول: إن الوضع من الأمور الواقعية الحقيقة لا من سنخ الجواهر التي هي محصورة في الخمسة المعروفة: العقل الهيولى ، النفس, الصورة, المادة, ولا من الأعراض المعروفة المُنحصرة في المقولات التسع, بل الوضع من سنخ الملازمات العقلية غير القابلة للانفكاك, وهي من الأمور الواقعية ولكنها أما أن لا تنتهي الى جعل جاعل, فتكون موجودة في الأزل والأبد, كالملازمات التكوينية, وإمّا أن تنتهي الى جعل جاعل فليست أبدية ولا أزلية ولكن مع ذلك فهي من الأمور الواقعية, والوضع من هذا القسم دون الأول , فقد تصّور الواضع المعنى من دون اللفظ وتصّور اللفظ مجرداً عن المعنى وليس بينهما ملازمة حسب الفرض ثم بعد ذلك جعل ما تصوره من اللفظ على المعنى المتصور فأوجد عقلهُ علاقة سببية, بحيث كلما أُطلق اللفظ في مورد يلزم منه الانتقال الى المعنى الموضوع له, فالسببية والعُلقة جعليةٌ ولكنها من الأمور الواقعية على حد واقعية الملازمات والسببيات الثابتة في لوح الواقع, وقد أُشكل عليه..

أولاً: بأنه أُريد من الملازمة المدعى ثبوتها بين اللفظ والمعنى التي تستوجب الانتقال ثبوتها مطلقاً من دون اختصاص بالعالمين بالوضع فهو باطل بالبداهة, لأنه بناءً عليه يكون سماع اللفظ علّة تامة لانتقال الذهن الى المعنى, ولازمه استحالة الجهل باللغات مع ان الجاهلين على كثرتهم لا يمكنهم الانتقال لمجرد سماع اللفظ فلو كانت الملازمة ثابتة مطلقاً لما أمكن الانفكاك, وإن كان المراد ثبوتها للعالمين بالوضع فقط دون غيرهم فهو وإن كان أمراً معقولاً في نفسه, ولكنه خلاف الفرض, إذ الملازمة عين الوضع الذي تترتب عليه الملازمة بين تصور اللفظ والانتقال الى معناه وبناءً عليه تكون الملازمة متأخرة عن الوضع أي تكون مشروطة بالوضع والعلم به, فلا يعقل أن تكون هي الوضع والا يلزم تأخر الشيء عن نفسه.

وأُجيب عنه بأنه لا محذور في ذلك بعد الاعتراف بأصل إمكان جعل السببية الواقعية في اختصاصه بالعالمين فإن الشرط من ضمن نفس المجعول أي ان الجعل تعلق بنفس الملازمة المشروطة بالوضع فيكون العلم قيداً للمجعول لا قيداً للجعل حتى يُقال بأن أخذ العلم بالشيء في موضع نفسه محال وهذا ممكن, وسيأتي في بحث التعبدي والتوصيلي انه بالإمكان أن يتعلق القطع بجعل حكم كبروي قيداً في موضوع الحكم المجعول بذلك الجعل, وعليه فاختصاص تحقق الملازمة المزبورة ممن يعلم بالوضع والجعل إنما هو لتقييد المجعول به, وسيأتي انه منشأ الملازمة الواقعية فتقييده يستلزم تقييدها.

ثانياً: انه لا يصلح جعل السببية الواقعية بين شيئين, فإن السببية الواقعية صفة للسبب الحقيقي ويتعلق بها الجعل التكويني فقط, وفي غير السبب الحقيقي لا يتعلق به الجعل التكويني فضلاً عن التشريعي والاعتباري.

ويمكن الإيراد عليه : بأن الاعتبارية التي يذهب إليها المحقق العراقي في الوضع تختلف عن سائر الاعتباريات فإنه يقول بإمكان أن يتعلق الاعتبار بالسببيّة وتكون أمراً واقعياً,

ص: 32

فما ذكره السيد الصدر رحمه الله في المقام لم يرده المحقق العراقي فإنه قد جعل الوضع أمراً اعتبارياً له واقع و تقررٌ له ثبوتٌ واقعي فهو يختلف عن الأمور الواقعية من جهة انه جعل العُلقة واعتبارها ويختلف عن الأمور الاعتبارية بأن ما يتعلق به الاعتبار لا ينحصر وجوده بعالم الاعتبار بل يثبت له واقع في الخارج, والخلاصة انه يذهب الى أن الوضع أمر اعتباري وهو جعل الملازمة بين اللفظ والمعنى, وينشأ من هذه الملازمة الاعتبارية ملازمة حقيقية وبذلك يختلف عن سائر الاعتباريات, وان ا لمجعول مقيداً بصورة العلم بالجعل.

إلاّ إن الصحيح في الاعتراض على هذا القول بأنه لا دليل عليه لاسيما ان الكلام في الوضع ليس مقتصراً على الوضع عند الإنسان الذي عرف الحضارات ووصل ذهنه الى أمور لم يصل إليها الانسان البدائي ، وإنما البحث في الوضع عند الأخير بينما هذا المذهب يكشف عن الفكر الراقي لدى الواضع, ويقرب هذا القول ما ذكره بعض من ان الوضع عبارة عن جعل الملازمة بينهما بحسب الاعتبار لا بحسب الواقع, فالواقع يمارس عملية اعتبارية إنشائية يتولد على أساسها العلاقة اللغوية بين اللفظ والمعنى.

ويرد عليه ما أورد على سابقه من انه خلاف الوجدان, مضافاً الى ان هذه العملية إنما تصدر عمن وصل فكره الى تكامل دون الانسان البدائي.

القول الثاني: ان الواضع يجعل اللفظ علامة على المعنى وقد ذهب إليه جملة من الاعلام ويظهر من السيد الوالد رحمه الله اختياره حيث عرّف الوضع: هو إظهار المعنى باللفظ بداعي كون اللفظ علامة للمعنى وجهاً من وجوهه((1)).

وعليه تكون الألفاظ كسائر النُصب والاشارات إلاّ إنّ الفرق بينهما في ان الثاني حقيقي بحيث توضع نُصبٌ في الطرق والشوارع مثلاً لمعرفة المسافة أو تعيين البلدة وبعض خصوصياتها أو جعل إشارة لمعرفة الخطر أو انسداد الطريق, وفي الأول أمر اعتباري بأن يوضع لفظاً ليدل به على معنى, والوضع بهذا المعنى قد استعمل بالمعنى اللغوي لكن مصداقه اعتباري لا أن يكون فرداً خارجياً. وأورد عليه:

أولاً: ان الوضع بهذا المعنى أمر دقيق يحتاج الى عناية خاصة, مع ان الوضع ليس كذلك بل يصدر حتى من الصبيان. وفيه: ان الوضع المبحوث فيه غير الوضع عند الصبيان على كل حال وإنما الموجود في الصبيان تلك الحالات التي مر بها الإنسان في حياته الدنيوية فالطفل صورة مصغرة عنها, لا أن الوضع في الصبيان كالوضع عند الانسان الكامل ويترتب عليه مايترتب على الآخر. وسيأتي مزيدُ بيانٍ إن شاء الله تعالى.

ثانياً: إنَّ الوضع الخارجي (في الألفاظ ليس من الوضع الحقيقي) الذي يتقوم بأمور ثلاثة, الموضوع وهي الإشارة, والموضوع عليه وهو المحل, والموضوع له وهوالدلالة على الخطر ونحوه مثلاً, وأما الوضع في عالم الألفاظ فله ركنان موضوع وموضوع له, ولا وجود للموضوع عليه في هذا النوع فالأركان فيه ناقصة, ويرد عليه: إنَّ ذلك أشبه بالمؤاخذة على التعبير وليس إشكالاً حقيقياً فإنه:

ص: 33


1- - تهذيب الأصول - ج1 / ص13 - مصدر سابق.

أولاً: يمكن تصوير الموضوع عليه في وضع الألفاظ بأن يكون المعنى هو الموضوع عليه, فيكون ردّه من المصادرة على المطلوب.

ثانياً: إن وجود تعدد الموضوع له والموضوع عليه في الوضع الحقيقي دون الوضع الاعتباري في الألفاظ ان كان لأجل التباين بينهما وجوداً, فهو غير سديد فإن الموضوع -أي الخطر- له نفس الموضوع عليه أي المحل, فإن الموضوع له غالباً صفة قائمة بالموضوع عليه, وإن كان المراد التعدد المعنوي المحفوظ في الصفة والموصوف, وهذا يمكن تصويره في الوضع الاعتباري أيضاً فبالإمكان أن نقول إنَّ الواضع تصور المعنى الماء و وضع اللفظ عليه فتكون الصورة الذهنية الموضوع عليه, والموضوع له الدلالة على انها صورة الماء, وهذا المعنى محفوظ في الاستعمال الذي يعتبر عنده وضعاً وبهذا يكون التغاير محفوظاً في الموضوع عليه والموضوع له دائماً.

وثالثاً: ان الفرق بين الوضع الاعتباري والوضع الحقيقي ليس فقط من جهة الاعتبار الادعائي في الأولى والحقيقي الخارجي في الثاني بل الفرق بينهما جوهري من نوع العلاقة المتولدة فيها ففي الأول العلاقة تصوّريّة, وفي الثاني تصديقية بين وجود العلاقة و وجود ذيها خارجاً, فلا يصح التوحيد بينهما في المناشئ والآثار.

وفيه: إن من قال بالتوحيد لم يقل إنه من تمام الجهات فقد ذكروا الوضع الحقيقي لأجل بيان التشبيه بينهما من جهة والافتراق من جهة أُخرى لأنها متحدان في جميع الآثار.

ورابعاً: إن مجرد جعل شيء على شيء حقيقةً أو اعتباراً لا يعطيه صفة السببية إلاّ مع التعهّد والالتزام وهو مفقود في الوضع الاعتباري فإذا كان فهو يعطي السببية لا الوضع الاعتباري.

وفيه إنَّ التعهد والإلتزام على فرض اعتباره حاصل من نفس الوضع بهذا المعنى فلا نحتاج الى نكتةٌ أخرى.

والحق في الجواب أن يُقال إنَّ جعل الوضع بهذا المعنى يحتاج الى عناية فائقة وهي مفقودة عند الواضعين البدائيين كما هو واضح.

القول الثالث: الوضع عبارة عن جعل اللفظ منزلة المعنى فيكون وجود اللفظ وجوداً للمعنى تنزيلاً بوجوده الخارجي ومتحداً معه فتسري إليه آثاره التي منها تصوره عند الإحساس به ومنها الحُسن والقُبْح, ويستحق اللفظ من التعظيم أو الإهانة بما يستحق المعنى منهما.

وأورد عليه السيد الخوئي رحمه الله .

أولاً: بأنه وإن كان معقولاً في حد نفسه ولكنه أمر دقيق يحتاج الى نظر وفكر وهما مفقودان في وضع الأطفال, أو وضع من بعض الحيوانات((1)).وفيه: انه وإن أصاب في ان مثل هذا التفسير للوضع أمر دقيق يحتاج الى فكر وإمعان وهو لم يكن عند الواضعين البدائيين, أما وضع الأطفال فقد عرفت الجواب عنه آنفاً, ولكن لا ينقضي العجب من إثبات الوضع لبعض الحيوانات وإن كانت على سبيل الموجبة الجزئيّة فإن ما يصدر من الحيوانات انما هي أصوات وانفعالات طبيعية عندها كما هي

ص: 34


1- - في أُصول الفقه - ج1 / ص47 - مصدر سابق.

الحال عند الإنسان في بعض الحالات ومن المفارقات انه رحمه الله أنكر أشدْ الإنكار على الشيخ الآخوند عندما أثبت الاستصحاب عند الحيوانات ولكنه يثبت الوضع عندها مع انه أعلى رتبة من الاستصحاب.

ثانياً: إن الغرض من الوضع الدلالة على الشيء وهو يقتضي الاثنينية بين الدال والمدلول فجعله وجوداً واحداً جعل من غير ملزم.

وفيه: انه مصادرة على المطلوب فإن الذي يذهب إلى هذا المعنى في الوضع يرى ان الدلالية في الوضع إنما هي من آثاره مع انه على فرض التنزل يمكن تصوير الدلالة بدون الاثنينية كما في اتحاد العقل والمعقول فيكفي التعدد الاعتباري.

ثالثاً: من ان السببية والاستتباع بين اللفظ والمعنى لا تحدث من مجرد الاعتبار والجعل, وإلا لأمكن جعل كل شيء سبباً لشيء آخر بمجرد الاعتبار.

وفيه: ان جعل السببية والاستتباع لم يكن اعتباطياً حتى يمكن جعل كل شيء سبباً لشيء آخر بل لابد أن يكون مع غرض خاص وصفة معينة لا مجرداً عنها مع انه كم من السببية والاستتباع حصل من الاعتبار والجعل؟!!!

رابعاً: إن تنزيل اللفظ منزلة الوجود الخارجي للمعنى لا يجعل منه بالاعتبار سوى مصداق عنائي للمعنى, ومن الواضح إن تصور المصداق الحقيقي ليس سبباً بذاته للانتقال الى تصور الطبيعي فكيف بالمصداق العنائي الاعتباري.

وفيه: إنه مصادر على المطلوب أيضاً فإن من يدعي التنزيل يقول بأنه يحصل من تصور الطرفين علاقة ملحة بينهما وبالتنزيل يثبت الانتقال وهذا المقدار يكفي في الاعتبار ولا نحتاج الى ادعاء العينية كما ان الاتحاد بين المصداق والطبيعي يكفي في الانتقال.

فالحق أَنْ يُقال: إن هذا القول كسوابقه في انه بعيد عن حقيقة الوضع عند الإنسان البدائي كما ستعرف.

ومنه يظهر الجواب عن ما قيل بأن الوضع اعتبار اللفظ أداة لتفهيم المعنى.

القول الرابع: الوضع هو التعهد من الواضع بأن يكون التلفظ بالكلمة إنما هو إرادة إفهام الغير المعنى الخاص الذي يرتبط بها وهو اختيار السيّد الخوئي ((1)) رحمه الله فقال إنَّ الوضع عبارة عن القرار والالتزام والتباني على النفس بأنه متى تكلم بلفظ خاصّ أراد منه معنى مخصوصاً, وهذا القرار المذكور يتأتى لدى كل فرد من أفراد المجتمع. وبهذا التعهد يتحقق التلازم بين اللفظ والمعنى بالشرط المذكور من قبل الواضع ولا ريب انه ينصرف الغرض في هذه النظرية الى خصوص التفهيم وينفي وجود أي غرض آخر.كما ان الدلالة على أساس هذه النظرية تكون دلالة تصديقية لا تصورية فحسب كما هو واضحٌ.

مضافاً الى أنه بناءً عليه ينقلب كل مستعمل الى واضع حقيقة لأنه متعهد ضمناً بأن لا ينطبق باللفظ الا عند إرادة إفهام معناه ولا فرق بينه وبين الواضع إلا أنهُ هو المتعهد الأول والأسبق زماناً.

ص: 35


1- - محاضرات في أصول الفقه - ج1 / ص48 - مصدر سابق.

ويرد عليه أولاً: ما أورده على بقية الأقوال من أنه أمر دقيق بعيد عن الوضع في مراحله الابتدائية التي يكون الوضع أقرب الى العفوية مضافاً الى انه لا يصدق على وضع الأطفال الذي يدعيه فإنه لا تعهد ولا التزام ولا تباني منهم أصلاً.

ثانياً: إنَّ ما ذكره رحمه الله يختص بمرحلة التصوّر والثبوت دون الوقوع في الخارج فإننا جميعاً نضع الأسماء لأبنائنا ولم يتطرق في أذهاننا انه يكون الوضع فيها مع التعهد والالتزام بل ربما يضع اسماً لإبنهِ لا لغرض استعماله فيه بل لأجل التبرُّك أو لأجل دفع مفسدة أو جلب منفعة وغير ذلك, ومع ذلك يُعد عند العرف وضعاً. فيكون ما ىذكره رحمه الله من مجرد الفرض فقط.

ثالثاً: إن هذه النظرية لا يمكن تصويرها, لأن التعهد والالتزام والبناء إما أنْ يتعلق بذكر اللفظ عند تصور المعنى والانتقال إليه. وهو باطلٌ بديهية, لأن الانسان اذا تصور معنىً من المعاني ولم يرد ذكر اللفظ لأجل غرض خاص من خوف أو قبح واستهجان وغير ذلك لم يعد مخالفاً للتعهّد والبناء عند العرف إذْ لم يكن ملزماً لذكر اللفظ أبداً.

وإما أن يتعلق بذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى وهو باطل أيضاً فإنه بناءً عليه يكون مدلول اللفظ هو الإرادة وليس خصوص المعنى, وبعبارة أُخرى يكون مدلول اللفظ هو الإرادة المتعلقة بالمعنى الخاص بذلك اللفظ وبناءً عليه يكون المعنى من قيود الموضوع له لا نفسه وهو مخالف لما هو معروفٌ في باب الأوضاع من انه وضع اللفظ للمعنى, كما انه لا يلتزم به أحد من العلماء حتى القائل بهذه النظرية, يضاف الى ذلك ان الوضع إنما هو من الأمور التي تكون متعلقه في الذهن, لأنه يتعلق بالمفهوم, والمقصود هو انتقال الذهن الى المعنى من إطلاق اللفظ, فالانتقال إنما هو الوجود الذهني وعليه لا يمكن أن يكون الموضوع له إرادة المتكلم التفهيم لأنها من الأمور الخارجية الواقعية لا المفاهيم فلا تقبل الوجود الذهني وهو الانتقال.

وأما أنْ يَتَعلّق التعهّد والبناء على تفهيم المعنى باللفظ عند إرادة تفهيمه, فيكون متعلق التعهد هو نفس التفهيم لا ذكر اللفظ.

ويرد عليه بأن هذا النوع من التعهد والبناء إنّما يصحّ فيما إذا لم ينحصر فيه المفهم للمعنى باللفظ الخاص بأن يكون هناك دلالات أُخرى لتفهيم المعنى فحينئذٍ يكون هذا التعهد والبناء معنى معقول, كما هو واضح. وإمّا إذا انحصر المفهم للمعنى باللفظ الخاص فلا فائدة لهذا التعهد والبناء لأنه لم يكن مُفَهِّم آخر غير هذا اللفظ الذي قد يتعلق التعهد بمفهميّتهِ فهو غير معقول, لأنه يشترط في التعهد أن يكون متعلقه معقولاً في ظرفه بحيث يصح أن يتعلق به التعهّد والبناء. أما مع الإنحصار فلا يَصحّ التعهُّد كما في المقام لأن المتعهّد به اما أن يكون اللفظ وقد عرفت انه غير صحيح, واما أنيرجع الى مفهميّتهِ للفظ وهي غير اختيارية, وما أن يرجع الى نفس التفهيم مطلقاً وهو لا معنى له إذ لا معنى لأن ينال التعهّد عند إرادة التفهيم بالتفهيم, فينحصر أن يُراد بالتعهّد باللفظ الخاص ومع انحصاره به لا مجال لهذا التعهّد فإنه لا فائدة فيه أبداً, إذ التفهم به قهري.

وبعبارة أخرى إنّ التعهّد في مثل ذلك مما يستلزم وجوده عدمه فإن بحدوث التعهد كان اللفظ مفهماً للمعنى ولما كان المفهم له منحصراً باللفظ كان التعهّد به بقاءً لغواً فيرتفع التعهد قبل الاستعمال فيلزم من وجوده عدمه, وهو محال.

ص: 36

رابعاً: انه يستلزم من هذا النحو من التعهد والبناء الدَّور ، وتقريبه ان التعهد يتوقف على مقدورية متعلقهِ وهو التفهيم -إذ مع عدم القدرة يستحيل التعهّد- والقدرة على التفهيم بهذا اللفظ لم تكن قبل التعهد - اذ المفروض ان الدلالة إنما تحصل بالوضع وهو التعهّد على هذا القول, إذن القدرة على التفهيم متوقفة على التعهد, وهو يتوقف على القدرة فيلزم الدور. وأُشكل عليه: بأن ذلك إنما يستلزم فيما اذا علمنا بأن أخذ القدرة على التفهم إنما يكون في ظرف العمل شرط الصحة.

التعهّد من باب رفع اللغوية, إذ من المعلوم انه مع عدم القدرة يلزم لغوية التعهّد. وأما إذا كان الملاك في أخذ القدرة شيئاً آخر كأن يرجع الى نفس التعهّد بمعنى ان قوام التعهد بذلك فيكون القدرة على التفهيم في ظرف الاستعمال من قبيل الشرط المتأخر فلا يصح الدور اذ القدرة وإن كانت متأخرة زماناً عن التعهّد لكنه بمقتضى شرطيتها المتأخرة من أجزاء علة حصول التعهد فيستحيل أن تكون ناشئة عن التعهّد حتى يستلزم الدور وستأتي تتمة الكلام في الشرط المتأخر. وقد وجه الدور بتقريب آخر وأورد عليه ولا نحتاج الى ذكره بعدما عرفناه, ومما ذكرناه يظهر بطلان القول بأن الوضع هو التعهّد والالتزام.

القول الخامس: ما ذهب إليه السيد الصدر رحمه الله من ان الوضع هو الاقتران الحاصل بين اللفظ والمعنى والواضع إنما يمارس عليه عملية الاقتران بين اللفظ والمعنى بشكل بالغ وأكيد, وذكر في توجيه ذلك بأن الله تعالى قد جعل في الإنسان أموراً طبيعية إرتكازية تكوينية وهي الاستجابات الذهنية منها ان الإحساس بالشيء يكون سبباً في انتقال الذهن الى صورته وتسمّى بالاستجابة الذهنية الطبيعية للإحساس, وقد توسّع هذا الأمر التكويني بأمرين تكوينيين آخرين هما قانون انتقال صورة الشيء الى الذهن عن طريق إدراك مشابهه, وقانون انتقال صورة الشيء الى الذهن عن طريق إدراك الذهن لما وجده مقترناً ومشروطاً بذلك الشيء على نحو أكيد بليغ بحيث يكون هذا القرين في حكم قرينه من حيث الاستجابة الذهنية وإيجاد الأثر, وهذا ما يسمى بالاستجابة الشرطية أو المنبّه الشرطي. فتحدث هذه الاستجابات الذهنية عند الإنسان وهو قد حاول الاستفادة من الأمرين التكوينيين الثانويين في مقام التعبير عن مقصوده ونقله الى أذهان المخاطبين فاستفاد من إدراك المتشابه باستخدام الإشارات التعبيرية التصويرية التي تنقل المعاني الى الذهن, واتسع في استفادته من الاقتران الخارجي بين الأصوات وأسبابها ومناشئها في مجال تفهيم الآخرين عن طريق جعل لفظ أو صوت مخصوص مقترناً ومشروطاً بمعنى مخصوص اقتراناً أكيداً ناشئاً من التكرارأو نتيجة عامل كيفي معيّن وبذلك نشأت العلقة الوضعية أي السببية والاستتباع بين ذلك الصوت المخصوص والمعنى المخصوص, وبذلك تولدت ظاهرة اللغة في حياة الإنسان وبدأت تتكامل وتتوسع من صيغ بدائية محدودة الى صيغ متكاملة شمولاً واستيعاباً للألفاظ والمعاني((1)).

ثم ذَكِرَ مميزات لهذه النظرية التي اختارها من أهمها:

1- ان الوضع ليس من ا لمجعولات الانشائية والاعتبارية بل هو أمر تكويني يشتمل في اشتراط مخصوص بين اللفظ والمعنى الذي يتحقق فيه قانون الاستجابة الشرطية.

ص: 37


1- - بحوث في أصول الفقه - ج1 / ص81 - مصدر سابق.

2- ان الدلالة التي تتحقق بهذا الوضع تكون دلالة تصويرية دائماً, ولهذا لا فرق في انتقال السامع الى المعنى بين أن يسمعه من ذي شعور أو من جهة غير شاعرة لإنَّ الاقتران الأكيد الذي هو ملاك الدلالة الوضعية ثابتٌ في الحالتين.

3- إن فعلية الدلالة الوضعية تتوقف على العلم بالوضع لتتحقق الدلالة الوضعية بالاقتران والاشتراط فلا بد أن تكون ذهنية الشخص حاضنة لذلك الاشتراط والاقتران.

ولكن يرد عليه :

أولاً: إنه خلط بين المبادئ للوضع وحقيقته فإن ما ذكره رحمه الله من الاقتران والاشتراط إنما هو من آثار الوضع وما ذكره من القوانين الثلاثة هي مبادئ لعملية الوضع, كما سيأتي مزيد بيانه, فالوضع لابد أن يكون غيرها.

ثانياً: إنَّ هذه القوانين الثلاثة يشترك فيها الانسان والحيوان فإن الأخير لهُ استجابات طبيعية وشرطية فلا بد ان نقول بأن الأصوات التي يستعملها الحيوان في ظروف معينة لبيان مايجول في خاطره أيضاً له دلالة وضعية فيكون واضعاً كالإنسان.

ثالثاً: إنه بناءً على هذه النظرية تثبت العُلقة الوضعية بين الصوت المخصوص والمعنى المخصوص أي السببية والاستتباع الكوني فتكون العلقة حقيقة واقعية وهذا هو الذي أراده المحقق العراقي رحمه الله من اثبات ان الوضع هو من الحقائق الاعتبارية الذي أورد عليه باستحالته كما تقدّم. فما ذكره رحمه الله لا يمكن المساعدة عليه, نعم ما ذكروه من القوانين الثلاثة التكوينية صحيحٌ لا إشكال فيه كما ستعرف .

وقد ذكر بعض العلماء آراء أخرى في الوضع وهي أيضاً لا تخلو من إشكال لاسيما ذلك الذي يقول بأن الوضع ارتباط حاصل بين اللفظ والمعنى فإنه أثر الوضع لا نفسهُ, ولعله لأجل ذلك كله ذكر صاحب الكفاية عبارة مجملة لا يستفاد منها أحد الأقوال المعروفة فراجع عبارته, وبذلك ينتهي الكلام في المقام الأول وهو حقيقة الوضع عند الأصوليين.

المقام الثاني في بيان حقيقة الوضع عند علماء اللغة والاجتماع:-

قبل بيان المقصود لابد من التنبيه على أمرٍ مهم يتعلق بموضوعنا وهو البحث عن نشأة اللغة عند الإنسان؛ فقد ذكر العلماء بأنّ للغةِ نشأتين: نشأة حينما أخذ الانسانيلفظ أصواتاً مركبة ذات مقاطع وكلمات متميزة للتعبير عمّا يجول في ذهنه وخاطره من معان وما يحسه من مدركات, ونشأة أُخرى حينما يشرع الطفل يقلد أبويه والمحيطين به فيما يلفظونه من مفردات وعبارات فتنتقل إليه لغتهم عن هذا الطريق وما يرتبط بموضوعنا هو البحث عن النشأة الأولى: وأمّا الثانية فإنه لا يعتبر وضعاً, كما يراه جميع الأعلام, بل هو في الواقع عملية انتقال لغة الآباء الى الأبناء وقد ذكروا ان مظاهر التعبير في الطفولة ترجع الى سبعة أقسام ليس المهم ذكرها, وإنما ذكرنا ذلك لأجل التنبيه على ان هذه العملية لم تكن وضعاً بل هي انتقال. وكيف كان فإن اللغة عند الانسان هي نوع من التعبير الإنساني الذي له طرق متعددة يرجع أهمها الى قسمين رئيسين.

القسم الأول: التعبير الطبيعي عن الانفعالات, ويشمل جميع الأمور الفطرية غير المقصودة التي تصحب مختلف الانفعالات السارَّة والأليمة, كالصراخ والضحك والبكاء, وانبساط الأسارير وانقباضها, واتساع الحدقة, وإغماض العينين, واحمرار الوجه

ص: 38

واصفراره, و وقوف شعر الرأس وارتعاد الجسم, وما الى ذلك من الظواهر الغريزية التي تبدو بشكل غير ارادي في حالا الفرح والحزن والألم والخوف والخجل والاشمئزاز وما إليها, والتي تعبر عن قيام حالة وجدانية خاصة بالشخص الصادر عنه, وتنقسم هذه التعبيرات من حيث الحاسة التي يدركها الانسان عن طريقها الى نوعين:

الأول: تعبيرات بصرية, أي تصل عن طريق حاسة البصر, كالحُمرة والصفرة ونحوها.

الثاني: تعبيرات سمعيّة, أي تصل عن طريق حاسة السمع, كالضحك والصراخ والبكاء ونحوها التي تصحب حالات الفرح والألم والحزن والسرور.

ويتألّف هذا النوع في الغالب من أصوات مبهمة تشبه أصوات الحيوانات, وأصوات لين (حروف مد) مختلطة أحياناً ببعض أصوات ذات مقاطع أي (حروف ساكنة).

القسم الثاني: التعبير الوضعي الارادي, ويشمل جميع الوسائل الإرادية التي يلجأ إليها الإنسان للتعبير عن المعاني التي يودّ إلقاءها الى الغير ووقوفه عليها, وهي أيضاً على نوعين: التعبيرات الإرادية البصرية فهي تصل عن طريق حاسة البصر وتشمل جميع الإشارات الحسية التي يستخدم بقصد الدلالة.

وهي على ضربين:

أحدهما: إشارات مساعدة ونائبة أي تساعد لغة الكلام وتنوب عنها في بعض الحالات أو لضرورةٍ ما, ومن هذا النوع الإشارات المستعملة بين البَحّارِين, ومنها إشارات الصّيادين حيث لم يستعملوا الألفاظ والكلمات خوفاً على فرار صيدهم. ومنها الحركات اليدوية والجسمية التي يستخدمها الصم والبكم للتعبير عنا يجول بخواطرهم. ومنها الإشارات التي يستعملها المصلي في الصلاة لإفهام الآخرين, أو يستعمله الذين يصومون عن التكلم, وقد أشار إليه القرآن الكريم. ومنها إشارات بعض الحيوانات كما أثبتها العلم الحديث. ومنها الإشارات التي نستعملها في حياتنا اليومية للتوكيد ونحوهفالإيماء بالرأس دلالة على القبول وتحريك السبابة أو اليد الى الأعلى للتعبير عن النفي والرفض ونحو ذلك مما هو كثير.

ثانيهما: إشارات رئيسة أصلية عامة وهي التي تتكون منها لغة كاملة مستقلة تستخدم وحدها في جميع الشؤون والظروف, وقد استخدم هذا النوع من اللغات بعض الجماعات الإنسانية ولا تزال تستخدم في بعض القبائل وتسمى لغة الإشارات أو الاشارت التحليلية وقد عني بدراساتها عدد كبير من العلماء لاسيما علماء الاجتماع. ومن صفات هذه اللغة أن لها قواعد اشارية وإنها مشتركة عند جميع الشعوب فهي من هذه الناحية أشبه شيء باللغة دولية ويمكن أحياناً ان تعبّر عن حقائق دقيقة كالوعظ وضرب الأمثال وقص حكايات, هي تشبه في جملتها ومعظم تفاصيلها بلغة الصّمّ والبُكم, وهي قابلة للإصلاح والتهذيب ولو كانت مستخدمة لسارت في سبيل الارتقاء كغيرها من مطالب الحياة الاجتماعية تبعاً لاتساع حاجات الإنسان وأعمال المخترعين والعلماء.

غير انها لا تخلو من مثالب أهمها انها تستأثر باليد فتتحول دون القيام بأي عملٍ آخر أثناء التعبير, كما يتوقف إدراكها على النظر فلا يمكن التعبير عنها في الظلام, والبعد, وهي قائمة على تقليد الأشياء المحسوسة فلا تقدر ان تعبّر عن المعاني الكلية أو وصف

ص: 39

المشاعر والوجدان, هذا الى انها خالية من الدقّة في كثير من مظاهرها وإنها تقتضي إسرافاً في الوقت والجهود.

الضرب الثاني: التعبيرات الإرادية السمعية وهي الأصوات المركبة ذات المقاطع التي تتألف منها الكلمات وهذا النوع هو الذي تنصرف إليه كلمة (اللغة) إذا اطلقت وهو الذي يهم البحث عنه, وإنما تطرّقنا الى الأنواع الأخرى لاستيفاء مظاهر التعبير والاستفادة منها في بيان نشأة اللغة.

ويمتاز هذا النوع بأربع خصائص هي:-

· أنّهُ مكتسب غير فطري.

· و إرادي غير آلي.

· يتمثل في أصوات مركبة ذات مقاطع تتألف منها كلمات وجمل لا أن تكون أصوات مبهمة.

· يُعبِّر عن معانٍ تجول في الذهن لا انفعالات تتلبس بها النفس أو يتلبس بها الجسم.

ومما ذكرناه يظهر ان الانسان يشترك مع معظم فصائل الحيوان في القسم الأول من التعبير الطبيعي الانفعالي سواء كان في التعبير الطبيعي البصري أو الطبيعي السمعي. كما انه تشترك بعض فصائل الحيوان مع الإنسان في التعبير الإرادي البصري وهو التعبير بالإشارة, وقد أثبتت العلوم الحديثة ان بعض أنواع الحيوان إنما تستخدم بعض الإشارات الجسمية كالصوت والرائحة والإشارات الحركية للتعبير عن بعض شؤونها وما تقصده, بل قد لا يكون أيّة إشارة, ولكن الحيوانات تلتفت وتتفاهم بين أفرادها, وقد ورد في اخبارنا ان بعض الحيوانات ترى ما لايراه الإنسان وقد ذكرها صاحب البحار في كتاب السماء والعالم في أحوال الحيوانات, وقد فسّره بعضالعلماء الى انه ليس ضرباً من الحواس اللطيفة حيث بلغ لطفها مبلغاً يعجز عن إدراكه حواس الإنسان وان أنكر جميع ذلك بعض العلماء.

وأما النوع الأخير من أنواع التعبير الإرادي الذي سميناه في اللغة العربية بالمعنى الكامل أي الأصوات المركبة ذات المقاطع التي تتألف منها الكلمات فهو يختص بالإنسان عن سائر الفصائل الحيوانية, نعم بعض طوائف الحيوان تصدر عنه أصوات شبيهة في ظاهرها بهذا النوع من التعبير, ولكن بالتأمل يتبين أنها عارية عن خصائص اللغة في صورتها الصحيحة المعروفة فهي إما أصوات فطرية مبهمة أو أصوات متنوعة تلفظها للتعبير عن الانفعال, أو مجرد محاكاة, أو تصدر بغير إرادة بل تصدر بشكل آلي فالصادر من الببغاء عند تكرار كلمة عليه فيربط صورتها بصورة مدلولها وكيف كان فإنها ترجع الى فصيلة أُخرى من فصائل الأصوات, كما هو مفصّل في كتب اللغة.

ومن جميع ذلك يعرف بأن الإنسان انفرد باللغة الصوتية, كما امتاز عن غيره من فصائل الحيوانات بوجود مراكز في المخ تشرف على مختلف مظاهر هذه اللغة, مثل مركز إصدار الألفاظ, ومركز حفظ الكلمات المسموعة وغيرها. وحينئذٍ يتطلب البحث عن نشأة اللغة عند الإنسان دراسة موضوعين اثنين أحدهما نشأة اللغة في الفصيلة الإنسانية. وثانيهما: نشأة مراكز اللغة في المخ الإنساني ولا يهمنا البحث عن الثاني, وإن كان مهماً.

ص: 40

وأما الأول فلا ريب في ان الاجتماع هو السبب في وجود اللغة ونشأتها في الانسان لأنها السبيل المتميّز عن غيرها في التعبير ونقل ما يجول في الخواطر في معانٍ ومدركات إلى الآخرين فلولا الاجتماع وحاجة الأفراد الى التعاون والتفاهم وتبادل الأفكار لما وجدت لغة ولا تعبير إرادي ولا شك كذلك في ان اللغة ظاهرة اجتماعية تنشأ كما تنشأ غيرها من الظواهر الاجتماعية فيكون الاجتماع هو الذي يخلقها فليست المشكلة في البحث عن الأسباب التي دعت الى نشأة اللغة ولا البحث عن انشائها, وإنما المشكلة في البحث عن الأسلوب الذي سار عليه الانسان في مبدأ الأمر في وضع أصوات معينة لمسميات خاصة, وهناك نظريات قيلت في نشأة اللغة وهي وان كانت متعددة ولكننا نرفض كل نظرية لا تتفق مع الحقائق التي ذكرناها أو تغفل المشكلة التي نحاول حلها.

النظرية الأولى: ان يكون الواضع هو الله تعالى بإلهام منه الإنسان فعلّمه النطق وأسماء الأشياء وقد ذهب إليها جملة من العلماء, ولكنه لم يقم دليل عقلي يُعتمدُ به على هذه النظرية والدليل النقلي قابل للتأويل وليس صريحاً في المطلوب.

النظرية الثانية: ان اللغة ابتدعت واستحدثت بالتواضع والاتفاق وارتجال ألفاظها ارتجالاً, وقد ذهب إليها جمعٌ من العلماء, وفي أغلب الظن إنَّ علماء الأصول إنما اختاروا هذه النظرية و وقعوا في نقاش في تفسيرها, ويرد عليها.

أولاً: انه لم يقم عليها أي سندٍ عقلي أو نقلي أو تاريخي.ثانياً: انه يتعارض مع القواعد والنواميس العامة التي تسير عليها النظم الاجتماعية فإن المعهود فيها انها لم ترتجل ارتجالاً ولا تُخلَق خَلْقاً بل تتكون بالتدريج من تلقاء نفسها وقد تكون لبعض الحوادث والشخصيات المهمة تأثير في بعض خصوصياتها.

ثالثاً: ان القول بالتواضع يتوقف في كثير من مظاهره على لغة صوتية يتفاهموا بها المتواضعون, فما يجعله أصحاب هذه النظرية منشأة اللغة يتوقف هو نفسه على وجودها من قبل.

ورابعاً: إنَّ هذه النظرية تغفل المشكلة الرئيسة التي ذكرناها آنفاً والتي يهم البحث عنها وحدها, فلم تكن هذه النظرية إلا فرضاً خيالياً وتخمين يحمل في طيه آية بطلانه.

النظرية الثالثة: التي تقرر أن الفضل يرجع الى غريزة خاصة زُوِّدَ بها في الأصل جميع أفراد النوع الإنساني. وهذه الغريزة كانت تحمل على التعبير عن كل مدرك حسي أو معنوي بكلمة خاصة به وتسمى بالغريزة الكلامية. كما ان غريزة التعبير الطبيعي عن الانفعالات تحمل الإنسان على القيام بحركات وأصوات خاصة (كالضحك) أو البكاء, وانقباض السريرة وانبساطها, و وقوف شعر الرأس, كلما قامت به حالات انفعالية معينة (كالغصب, والخوف, والحزن, والسرور) وكانت هذه الغريزة عامة عند جميع أفراد الإنسان ومتحدة عندهم في طبيعتها ووظائفها وما يصدر عنها وبفضل ذلك اتحدت المفردات وتشابهت طرق التعبير عند الجماعات الإنسانية الأولى فاستطاعوا التفاهم فيما بينهم, وبعد نشأة اللغة الإنسانية الأولى لم يستخدم الإنسان هذه الغريزة فأخذت تنقرض شيئاً فشيئاً حتى تلاشت, كما انقرض لهذا السبب كثير من الغرائز الإنسانية القديمة, وذهب الى هذا الرأي جمع من العلماء, وقد أيّد بعضهم هذه النظرية بأدلة مستمدة من البحث في أصول الكلمات في اللغات الهندية والأوروبيّة, وقد ظهر ان مفردات هذه

ص: 41

اللغات جميعها ترجع الى خمسمائة أصل مشترك تمثل اللغة الأولى ومنها انشعبت هذه الفصيلة وغيرها.

وقد تميّزت تلك الأصول بأنها تدل على معانٍ كليّة, وانه لا تشابه بين أصواتها وما تدل عليه من فعلٍ أو حالة.

فالأول: أي دلالتها على مَعانٍ كليّة يكون برهاناً قاطعاً على ان اللغة الإنسانية الأولى لم تكن نتيجة تواضع واتفاق كما ذهب إليه أصحاب النظرية الثانية المتقدمة, لأن التواضع يتوقف هو نفسه على وسيلةٍ يتفاهم بها المتواضعون وهذه الوسيلة لا يعقل ان تكون اللغة الصوتية فإنه خلاف الفرض, كما لا يعقل أن تكون إشارة لأننا بصدد ألفاظ تدلُ على معانٍ كلية أي أُمور معنوية يتعذّر استخدام الإشارة فيها, هذا فضلاً عن تعارضها مع النظم الاجتماعية كما عرفت آنفاً.

والثاني: وهو عدم وجود تشابه بين أصواتها وما تدل عليه ويدل عليه البرهان القاطع على إن اللغة الإنسانية لم تنشأ من محاكاة الإنسان لأصوات الطبيعة (أصوات التعبير الطبيعي للانفعالات) وأصوات الحيوانات والأشياء, كما يذهب إليه أصحاب النظرية الرابعة التي يأتي البحث عنها.

فإذا بطل انَّ اللغة الإنسانية كانت نتيجة تواضع, كما بطل أنها نشأت لأصوات الإنسان الطبيعية وأصوات الحيوانات والأشياء, ولم يبق إذن وجه معقول لتفسير هذه الظاهرةسوى هذا التفسير الذي ذكرناه, وهو أن الفضل يرجع الى غريزةٍ زوّدَ بها الإنسان في الأصل للتعبير عن مدركاته بأصوات مركبة ذات مقاطع, كما زُوّد بها باستعدادٍ فطري للتعبير عن انفعالاته كما عرفت.

وهذه النظرية على دقّتها وطرافتها وعمقها فاسدة من وجوه متعددة نذكر المهم منها.

1- انها لا تحل المشكلة التي نحن بصددها بل تكتفي بأن تضع مشكلة أخرى مكانها أكثر منها غموضاً وهي مشكلة الغريزة الكلامية فيكون بالأحرى تفسير الشيء بنفسه, فنقول إنَّ الإنسان متلفّظ بالكلمات للدلالة على مقصودة لأجل ان فيه غريزة كلامية, وهذا هو تقرير للمشكلة بصيغة أخرى.

2- لا يشك أحد في ان الإنسان قادر على وضع الألفاظ لأنه مزود بأعضاء نطق تسمح له أن يتلفّظ هذا النوع من الأصوات, كما زوِّد الحيوان بتلك أيضاً, إنما المهم هو الوقوف على أول مظهر لاستغلال هذه القدرة والأسلوب الذي سار عليه في مبدأ الأمر في وضع الألفاظ لمسميات معينة, أو الكشف عن العوامل التي وجَّهته الى هذا الأسلوب دون غيره.

3- إنَّ إثبات الأصول الخمسمائة السابق ذكرها والتي تميّزت بأنها تدل على معانٍ كليّة, لا ريب ان درك المعاني الكلية يتوقف على درجة عقلية راقية والانسان البدائي بعيد عنها, فلا بد أن نقول إما بالهام الهي أو بالتواضع وقد عرفت الجواب عنها, ولذلك ذهب المحدثون من علماء اللغة ان الأصول الخمسمائة ان وجدت كما نادى بعضهم لا تمثل اللغة الإنسانية الأولى بل هي بقايا لغة حديثة قطعت شوطاً في سبيل الرقي والكمال. وإلاّ فهي مجرّد افتراض, وأُصول نظرية ولم تكن موضوع لغة إنسانية كما ذهب إليه بعض المحققين مِنْ عُلماءِ اللُغة.

ص: 42

النظرية الرابعة: وهي تقرر ان اللغة الانسانية نشأت من مصادر متعددة كالأصوات الطبيعية التي تعبر عن الانفعالات, وأصوات الحيوان, وأصوات مظاهر الطبيعية وأصوات الأشياء حتى ارتقت بتأثير الحضارات وارتقاء الأُمم وتنوّع حاجاتها الاجتماعيةِ ... وما الى ذلك, وقد ذهب الى هذا الرأي معظم علماء اللغة وعلماء الاجتماع من العرب وغيرهم, وبحسب هذه النظرية يكون الانسان قد افتتح هذا السبيل بمحاكاة الأصوات الطبيعية, ومحاكاة أصوات الحيوان ومظاهر الطبيعة والأشياء, وكان القصد هو التعبير عما في ذهنيته مستخدماً بما زود به من قدرات كاملة من لفظ الأصوات وتنظيمها في ضمن أصوات مركبة ذات مقاطع, وكانت لغته في بداية أمراها محدودة الألفاظ قليلة التنوع قريبة الشبه بالأصوات الطبيعية التي أخذ عنها, وأحياناً تكون قاصرة الدلالة على المقصود فلا بد من مصاحبتها بما يتممها من اشارات يدوية وحركات جسمية ثم توسعت واكتسبت سعة وشمولا بحكم علاقات المحاورة والمشابهة التي تعتور الدلالات, وبذلك يمكن أن تفسر المشكلة التي نحن بصددها وهي الاسلوب الذي سار عليه الانسان في مبدأ أمره, وعليه لا يتصور عليه هناك وضع بالمعنى الاصولي وانما يكون اتخاذ الأصوات والألفاظ تدريجياً عفوياً, واستدلّوا عليه بجملة من الأمور:الأول: التجربة فقالوا بأن ارتقاء اللغة وتدرجها في المراحل التي ذكرناها تتفق في كثير من وجوهها مع مراحل الارتقاء اللغوي في الطفل, وهذه المراحل التي يختارها الطفل تمثل المراحل التي اجتازها النوع الانساني في هذا المظهر.

الثاني: الاستقراء, فإن العلماء وجدوا ان خصائص اللغة الانسانية في بداية مراحلها تتفق مع الخصائص الموجودة في لغات الأُمم البدائية الموجودة في عصرنا الحاضر التي هي بعيدة عن الحضارات فإن فيها تكثر المفردات التي تشبه الأصوات أو لنقصها يستعين المتكلمون بها ببعض الاشارات وهذه النظرية وإن لم يقم دليل عقلي على صحتها أو سقمها ولكنها أقرب الى الواقع لكن ليست بصورتها التي طرحها علماء اللغة والاجتماع بل لابد أن يكون هناك من أضفى الى اللغة البدائية بعض السمات الخاصة لتتميز عن سائر مايصدر عن الحيوانات فإن الانسان خلق كاملاً مزوداً بقدرات هائلة امتاز بها عن سائر الحيوانات لا سيما ان من بدأ به آدم علیه السلام وهو خليفة الله في أرضه ونبي من أنبيائه وقد علمه الله عز وجل الأسماء كلها والأنبياء هم الأفذاذ من أفراد البشر وقد ازداد الانسان بهم رُقيّاً فليس في هذه النظرية وضع حتى نبحث عن خصوصياته وهذا هو المختار الذي يوافقه الاعتبار ولو كان هناك وضع من شخص معين لأشارت إليه النصوص القرآنية وغيرها. ومن هنا يتبين انه ليس هناك واضع معين حتى نبحث في تعيينه وما ذكروه ليس الا من باب التخمين الذي لم يقم عليه دليل. نعم ان الوضع قد تغير بعد نشأة اللغة فكان له سماته وخصوصياته فيمكن أن يقال جعل اللفظ للمعنى مما يحصل بعده ارتباط ودلالة وعلاقة له ، ومع ذلك فقد اختار المحقق النائيني رحمه الله أن يكون الواضع هو الله تعالى واستدل عليه بأمرين كلاهما موضع نقاش:

الأول: ان اللغة تشتمل على دقائق فنية إما أن ترجع الى اللغة أو ترجع الى المعنى, وهي تفوق عادةً قدرة جمع من البشر على تنظيمها وابداعها فضلاً عن شخص واحد.

ص: 43

الثاني: انه لو كان الواضع شخصاً معيناً لنقل التاريخ لنا ذلك وخلد ذكره, وهو مفقود في أي لغة من اللغات. وقد ناقش العلماء (قدس الله أسرارهم) كلا الأمرين بما لا نزيد عليه ولا نحتاج الى ذكره لاسيما بعدما عرفت ان الواضع لم يكن شخصاً معيناً حتى يبحث عنه, والانسان انما وصل الى تلك الدقائق الفنية في اللغات في مسيرته الثقافية الحضارية بما ألهمه الله تعالى من القدرات الكافية, وقد بدأ من الأمور البسيطة كحياته البدائية البسيطة الى ماوصل إليه من الرقي والكمال تدريجياً وهو مستمر فيها الى ما يعلمه الله تعالى فاشتركت الأجيال المتعاقبة في صنع اللغة المتكاملة وليست من صنع شخص معين حتى يستبعد نقل التأريخ لإسمه ورسمه.

ثم انه ذكر السيد الصدر رحمه الله بعض المبعدات لاتجاه بشرية الوضع لا تخلو عن النقاش منها: انه لا يمكن بمقدور الانسان أن يعرف امكانية الاستفادة من الألفاظ ووضعها بإزاء المعاني لولا الهام من الله تعالى وتدخل منه عز وجل في هذا الشأن, وهو صحيح في الجملة كما عرفت, فإن الانسان في جميع اموره لا يمكن الوصول الى مقاصده ومنها الوضع الذي نبحث فيه الا بإلهام منه عز وجل وتزويده بقدرات كافية. ولكن ذلك لا ينافي بشرية الوضع.ومنها: ان ظاهرة اللغة في ضوء المسالك المعروفة في تفسير الوضع تتطلب درجة بالغة من النضج الفكري والتطور الاجتماعي تؤهل الانسان البدائي لفهم معاني التعهد والالتزام أو الجعل والاعتبار ونحو ذلك, وهذا النضج الفكري انما حصل للانسان في مراحل متأخرة.

وفيه ان الإنسان خلق متكاملاً, وعنده من المؤهلات ما يمكنه الإستفادة منها في فهم الموضوعات, ولكن عرفت إن نشأة اللغة لم تحصل عند الإنسان البدائي بهذا الشكل المتكامل الموجود عند الإنسان الكامل من حيث النضج الفكري والتطور الاجتماعي وإن كان يمكن تصوير ذلك لأنه قادر على ابداع تلك المعاني.

ومنها: انه لو سلم إدراك الإنسان تلك المعاني الدقيقة لكنه كيف قدّر له ان يُفهِم الآخرين ويتفاهم معهم في تلك الأفكار فهي ليست من القضايا الساذجة المحسوسة حتى يمكن التفاهم عليها بالرموز والاشارات. وقد عرفت فساد ذلك بأن اللغة عند الإنسان البدائي لم تكن تقبل بتلك المعاني أبداً وانها حدثت بعد التطور وبلوغ الإنسان مرحلة من النضج الفكري.

ومنها: انه كيف نفسّر اتفاق مجموعة من الناس على لغةٍ معيّنةٍ فهل كان من باب الصدفة التي هي بعيدة عن حساب الاحتمالات أو جعل من عند احدهم وتبعه الآخرون.

ولكن يرد عليه بما عرفت من أن نشأة اللغة غير الذي يذهب إليه الأُصوليون.

والحاصل إن نشأة اللغة قد مرّت بمراحل متعددة, وكان الأنبياء والحكماء لهم الدور الكبير في تهذيب اللغة وتنقيحها مضافاً الى ما وهب الله تعالى الإنسان من القدرة والذكاء والمواهب الخلاّقة.

ومن ذلك يتبيّن ان ما ذكرهُ السيد الوالد رحمه الله كما يظهر أيضاً من كلام السيد الصدر رحمه الله في الجمع بين من يقول بالهية الوضع وببشريته هو الأقرب الى الصواب .

ص: 44

وفي ختام البحث نورد كلام الامام الصادق (عليه السلام ) الذي نقله المفضل الجعفي في توحيده ، فإنه يدل على ما ذكرناه ، قال ( صلوات الله عليه) : " وكذلك الكلام انما هو شيء يصطلح عليه الناس فيجري بينهم ، ولهذا صار يختلف في الامم المختلفة بألسن مختلفة ، كذلك الكتابة ككتابة العربي ، والسرياني ، والعبراني ، والرومي وغيرها من سائر الكتابة التي هي متفرقة في الامم إنما اصطلحوا عليها كما اصطلحوا على الكلام " ((1))

والمستفاد منه :

1- أن واضع اللغات والكتابات هم البشر . ولكن ذلك لا ينافي أن يكون الوضع بتعليم الله تعالى مباشرة كما بالنسبة الى آدم (عليه السلام) حيث علّمه أسماء الأشياء فيكون أصل الوضع إلهي وسائر خصوصياته اصطلاحي كما هو واضح .1- 2- دلالة الحديث على كون الأوضاع تعيينية أو تعينية .

2- 3- الاشارة الى أن اللغات اصطلاحات واعتبارات اضطر إليها البشر. فراجع.

البحث الثاني - أقسام الوضع:

اشارة

ينقسم الوضع بتقسيمات متعددة، فإنه تارةً يكون بلحاظ أقسام المعنى الموضوع له اللفظ، وأخرى بلحاظ أقسام اللفظ للموضوع، وثالثة بلحاظ أنحاء نشوء العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى.

1- التقسيم الأول: الوضع باعتبار كونه حكماً وحملاً وربطاً لابد من تصوره، وباعتبار كونه نسبة بين منتسبين هما الموضوع له والموضوع - فلابد للواضع ملاحظة المعنى الموضوع له كلياً أو جزئياً ومن أجل ذلك انقسم إلى أربعة باعتبار المعنى الموضوع له، ويكون الحصر فيه عقلياً، لأن الملحوظ إما عام أو خاص ، وعلى كل منهما ، فاللفظ إما أن يوضع على عام أو خاص.

واختلف الأصوليون في إمكانها ووقوعها. وقد ذهب جمع منهم إلى أنها في مقام التصور والإمكان أربعة كما ذهب إليه صاحب بدائع الأفكار، ولكن عند صاحب الكفاية أنها في مقام التصور أربعة وفي مقام الإمكان ثلاثة وفي مقام الوقوع اثنان وهو المشهور بينهم.

1 - الوضع العام والموضوع له العام.

2 - الوضع الخاص والموضوع له الخاص.

3 - الوضع العام والموضوع له الخاص.

4 - الوضع الخاص والموضوع له العام.

ص: 45


1- - البحار ج 3 ص282

أمّا القسم الأول: فقد مثّل المشهور له بأسماء الأجناس ولا إشكال فيه، وذكر السيد الوالد((1)) رحمه الله أنه يتصور على نحوين فتارة يتصور الواضع المعنى الكلي ويضع اللفظ بإزائه، وأخرى يتصور العام من حيث الإضافة إلى الحصص مع قطع النظر عن المضاف إليه ويضع اللفظ بإزاء مثل هذا العام المتخصص، وقال السيد الوالد رحمه الله إنّ هناك صورة أخرى يأتي التنبيه عليها.

وأمّا القسم الثاني: فقد مثَّلوا له بأسماء الأعلام فإنّ الواضع فيها يلحظ معنىً خاصاً ويضع اللفظ لذلك المعنى الخاص. وذكر السيد الوالد رحمه الله أنه بالإمكان أن نرجع أسماء الأعلام إلى القسم الثالث وهو الوضع العام والموضوع له الخاص بأن يلحظ معنىً عاماً لمطلق الذكور، ثم يضع لفظ (الحسن) لذلك المصداق الخاص وهو المولود الجديد أو يلحظ مطلق الإناث ثم يضع لفظ (فاطمة) للمصداق المخصوص، وكيف كان فلا إشكال في إمكان القسمين ثبوتاً ووقوعهما في الخارج.أمّا القسم الثالث: وإنّ الواضع فيه قد تصور المعنى العام باعتباره حاكياً عن الأفراد والمصاديق وقد وضع اللفظ باعتبار تلك الخصوصيات، فيصير من قبيل ما هو متحد اللفظ ومتكثّر المعنى كالمشترك اللفظي، وقد وقع الخلاف فيه.

فقيل: بأنه ممكن واستدلوا عليه بأنّ الكلي يصلح أن يكون حاكياً عن الأفراد والمصاديق على حقيقتها بحيث لا يحتاج إلى إصدار حكم عليها إلى استحضار تلك الجزئيات في الذهن، ولا يعتبر في الوضع أو أي حكم من الأحكام الالتفات تفصيلاً إلى الجزئيات المحكوم عليها فيكون الحكم عليها بواسطة ذلك العنوان العام وهو العنوان الكلي للحكم على الأفراد من خلاله، من دون التفات إلى المصاديق والأفراد فيلحظ ذلك العام طريقاً إلى أفراده ويوضع له اللفظ من طريقه وبتوسيطه، وبعبارة أخرى إنَّ العام يصلح أن يكون وجهاً للأفراد فيكون تصوره تصوراً لها بوجه، نعم قد يغاير ذلك العنوان الكلي مع الجزئيات ذاتاً في بعض الأحيان كما إذا كان المفهوم الكلي معنىً اسمياً، والجزئيات معانٍ حرفية لكن هذا التغاير إنما يكون بالحمل الشائع في الخارج وأمّا في الذهن يكون الحمل من قبيل الحمل الأولى ومن اتحاد المعنى الكلي مع المصاديق والمعاني الجزئية ومن هذه الجهة صح أن يحكم عليها من خلال ذلك المفهوم العام، لأنه يكفي في مقام إصدار الحكم على موضوع فرض استحضاره في الذهن ولو بالحمل الأولي ولا يشترط إحضاره بالحمل الشائع. نعم يشترط ذلك في مرحلة جريان الحكم على الموضوع في الخارج، كما هو معلوم((2)). وقيل: بأنه غير ممكن واستدلوا عليه بوجوه:

الأول: ما ذكره المحقق العراقي((3)) رحمه الله بأن العام باعتبار انتزاعه عما به الاشتراك بين الأفراد لا يصلح أن يكون وجهاً لأفراده بخصوصياتها، ولا يكون تصوره تصوراً للخاص بوجه لتقوم الأفراد بالخصوصيات، والمفروض إغفالها وتجريد الأفراد عنها في انتزاع المفهوم العام الذي لا يمكن إلا عن القدر المشترك والجامع فقط ، وعليه فإنه عند

ص: 46


1- - تهذيب الاصول - ج1 / ص15 - مصدر سابق.
2- - بحوث في علم الاصول - ج1 / ص88 - مصدر سابق.
3- - مقالات الأصول - ج1 / ص19 - مصدر سابق.

إرادة الوضع إن استحضر الواضع ذلك المفهوم الكلي الجامع ووضع اللفظ بإزائه يكون من الوضع العام والموضوع له كذلك، وهو خلاف المقصود. وإن استحضر الأفراد ونفس المفاهيم الجزئية ووضع اللفظ إزائها كان من الوضع الخاص والموضوع له كذلك، وهو خلف وإذا وضع اللفظ للمفهوم الكلي باعتبار كونه فانٍ في الأفراد وحاكياً عن الخارج بحيث يكون المقصود قيام العلاقة الوضعية بالمحكي والمفنّي فيه فهو غير معقول، فإنّ المفهوم لايكون فانياً في المفاهيم الجزئية بل في الواقع الخارجي المحكى بالمفهومين الكلي والجزئي بلحاظين، فيؤدي ذلك إلى إقامة العلاقة الوضعية بين اللفظ والخارج ابتداءً وهو باطل، لأن العلاقة الوضعية إنما تكون بين المفهومين. وإن كان الوضع للمفهوم الكلي باعتبار كونه فانياً في المفاهيم الجزئية ويوضع اللفظ بهذا اللحاظ صح ما ذكر من الوضع العام والموضوع له الخاص ولكنهغير صحيح لأن المفهوم الكلي والمفهوم الجزئي متباينان فلا يتحقق بينهما الفنا والحكاية وإن كانا متّحدين في الخارج.

وقد أجاب المحقق نفسه عن الإيراد المزبور بأن المفاهيم على قسمين: قسم منها لا يحكى عن الأفراد، لكونها منتزعة من الخارج والخصوصيات المشتركة بين الأفراد سواء كانت ذاتية كمفاهيم الجواهر أو أعراضاً، وقسم منها: ما تكون منتزعة عن المفاهيم باعتبارها من المعقولات الثانوية كمفهوم الفرد والمصداق والشخص فالقسم الأول لا يكون صالحاً للحكاية عن الأفراد ولو إجمالاً، كما عرفت. والقسم الثاني يصلح للحكاية الإجمالية وهو يكفي في الوضع، وبعبارة أخرى إن انتزاع المفهوم العام الذي يتصوره الواضع ليس في الخارج حتى يرد عليه ما ذُكر، بل إنما يكون من نفس المفاهيم الجزئية التي هي من قبيل المعقولات الثانوية، كمفهوم الفرد والشخص والجزئي ونحو ذلك، فإنه مفهوم ينتزع من زيد وعمر وخالد وهكذا وبذلك يصدُق الوضع العام والموضوع له الخاص لأن ذلك المفهوم حاكٍ عن الأفراد ويوضع اللفظ له بهذا اللحاظ.

وبعبارة المفهوم الانتزاعي عن الخصوصيات المنطبقة.

الثاني: ما ذكره السيد الخوئي((1))

رحمه الله قريب مما ذكره المحقق العراقي لكنه بتغيير في الألفاظ، فقال: إن المفهوم في مرحلة المفهومية لا يحكي إلا عن نفسه فيستحيل أن يكون المفهوم حاكياً عن مفهوم آخر جزئياً كان أو كلياً من كليهما.

فكما لا يعقل أن يحكي المفهوم الخاص بما هو خاص عن مفهوم آخر خاص أو عام كذلك لا يحكي المفهوم العام بما هو كذلك عن مفهوم آخر خاص أو عام، بداهة إنَّ كل مفهوم يحكي عن نفسه وإرائته تكون عن شخصه لا عن شيء آخر، فكيف يكون معرفاً بغيره بوجه. وأجاب أيضاً عن ذلك بما يشبه ما ذكره المحقق العراقي رحمه الله ، فقال: بأنّ بعض العناوين الكلية التي تنتزع عن الأفراد والخصوصيات الخارجية كمفهوم الشخص والفرد والمصداق ونحو ذلك فهي تحكي عن الأفراد والمصاديق بوجه ولو على سبيل الإجمال فيكون تصورها بنفسها تصوير للأفراد بوجه وعنوان وتكشف كشفاً ذاتياً ولو إجمالاً،

ص: 47


1- - محاضرات في أصول الفقه - ج1 / ص55 - مصدر سابق.

وهذا يكفي في عملية الوضع، ومن ثم جاز الحكم عليها في القضية الحقيقية، وإلا استحال الحكم عليها مطلقاً وهو واضح البطلان.

وأجاب أيضاً السيد الصدر((1))

رحمه الله بتعبير فلسفي كما هو دأبه بأنّ الجامع تارة يكون حيثيته ثابتةً في أفراده ضمناً، فلا يعقل حكايته عن الأفراد بخصوصياتها لأن مرجعه إلى حكاية الجزء عن الكل، وهذا ما يكون دائماً في الجامع مع أفراده بالذات، وأخرى تكون حيثية الجامع قائمة بأفراده قياماً عرضياً على نحو تكون قائمة بهذا الفرد بخصوصه وبذاك بخصوصه وفي مثل ذلك يمكن أن يكون الجامع مرآة للأفراد، وفانياً فيها في مقام إصدار الحكم عليها، فأشكل على المحقق العراقي من عدم كفاية العنوان الانتزاعي الاختراعي، فإن منشأ العنوان الانتزاعي هو الذي ذكره السيدالصدر رحمه الله وأشكل عليها بعض الأعلام بأنّ المفاهيم المنتزعة عن الخصوصيات المنطبقة أو بتعبير آخر المفاهيم المنتزعة الكاشفة عن الخصوصيات كشفاً ذاتياً، مفاهيم عامة وضع بإزائها بعض الألفاظ الدالة عليها كلفظ الفرد والشخص ونحو ذلك، ومن الواضح أن الوضع كذلك يكون من الوضع العام والموضوع له العام لعموم الملحوظ والموضوع له، إذ الوضع دائماً يكون بإزاء الكلي والمفهوم العام لا نفس الأفراد، ولا معيِّن للوضع للأفراد كي يصرف الوضع عن المفهوم إليها سوى الإشارة الذهنية أو المفروض انتفاؤها، ومجرد صلاحية المفهوم للانطباق والكشف عن أفراده لا تكفي في صرف الوضع للأفراد ما لم يكن صارف يعين الأفراد موضوعاً له، فلابد من صرف الوضع للأفراد وكونه بإزائها من الاستعانة بالإشارة إلى المفاهيم الجزئية ومن هنا تكون القضايا الحقيقية أيضاً كذلك فلابد من الإشارة الذهنية بتصحيح الحكم فيها.

ويمكن الإشكال عليه أولاً: بأن عالم الذهن والتصور أوسع مما ذكروه فإنه قد يكون الشيء مستحيلاً في الخارج لكن في الذهن والتصور لا يكون كذلك ومن هنا قيل فرض المستحيل ليس بمحال، فقد يتصور الإنسان في ذهنه أمراً يختلف من الحيثيات والجهات.

مثال ذلك: نفس لفظ الكلي ومفهومه فإنه قد يتصور من جهة كونه منطبقاً على أفراده فيكون كلياً طبيعياً، ومن جهة تعريفه يكون منطقياً ومن جهة كونه مفهوماً من المفاهيم يكون صناعياً، وهو في جميع ذلك واحد ولكنه اختلف هذا الموجود الذهني باختلاف الحيثيات والجهات، فاختلف الحكم عليه فلا ضير في أن يكون المفهوم الذي يوضع عليه اللفظ من حيثية يكون مفهوماً كلياً، ومن جهة انطباقه على الأفراد وأنه وجه من وجوهها فإذا تحقق الوضع من هذه الجهة يكون من الموضوع له الخاص والوضع عاماً.

وثانياً: إنّ الإشارة الذهنية التي يدعيها إن كانت إشارة إلى الكليات الموجودة في الذهن عاد الإشكال الذي ذكره ولم تفد الإشارة الذهنية في رفعه فإنها لا تعين الأفراد ويكون الوضع بالنسبة إلى ذلك المشار إليه العام أيضاً من الوضع العام والموضوع له العام، وإن كانت إشارة إلى الأفراد فإنه يكفي المعقول الثانوي أو المفاهيم المنتزعة من الخصوصيات المنطبقة أو الكاشفة عنها كشفاً ذاتياً في رفع المحذور فإن فيها من الإشارة ما يكفي لذلك فما ذكره ليس إلا إعادة للإشكال.

ص: 48


1- - بحوث في علم الأصول - ج1 / ص89 - مصدر سابق.

وثالثاً: ما ذكره في مطاوي بحثه من أنّ الوضع حكم لا يحتاج إلى شيء سواءً تعيين الموضوع له وتشخيصه وهو يتحقق إما بواسطة إحضار نفس المعنى والحكم مباشرة عليه أو يكون بواسطة الإشارة إليه بمشير ما.

مردود: بأن الوضع اعتبار خاص يختلف منشأ اعتباره كما عرفت في بحث حقيقة الوضع، وكل ما ذكره الأصوليون في المقام وغيره مبني على ما إذا كان الوضع حكماً أو جعلاً وغير ذلك مما ذكروه، وعلى فرضه فلابد أن يكون تجريد أو تفريد وكلاهما يكون في الذهن.الثالث: إنّ الخصوصية المأخوذة في الموضوع له إما خارجية أو ذهنية، وعلى الأول يلزم أن يكون استعمالها بنحو الكلية مجازاً، كقولهم (من) للابتداء. وعلى الثاني يلزم عدم الصدق على الخارجيات وكلاهما خلاف المحاورات.

وقد أجاب السيد الوالد((1)) رحمه الله عنه بما يرجع إلى ما ذكرناه من أنَّ الوضع اعتبار خاص والاعتباريات خفيفة المؤونة أما الأول فلأن الكلية فيها تبعية، والكلية التبعية من جهةٍ لا تنافي الخصوصية من جهة أخرى.

وأما الثاني فلأنّ الخصوصية الذهنية أخذت مرآة إلى الخارج فيَصحّ الصّدق على الخارجيات قهراً نعم لو قيّدت بما في الذهن لا تصدق على الخارجيات، ولكنه باطل لا يقول به أحد.

والحق أن يقال إنّ جميع ما ذكر في هذا المقام مبنيٌ على التصورات المعروفة في الوضع وأنه حكم وتشريع خارجي، وأما على ما ذكرناه فإنه ليس إلا اعتبار خاص وأنّ الوضع إنما هو قرن لفظ بمعنى سواء كان بالمحاكاة كما تقدم، أو بالاقتران بينهما، ففي الأول يكون الأمر بسيطاً فإنه لا تكون عملية حتى نحتاج إلى حكم وتشريع، وغالباً ما يكون في هذه المرحلة الاختصاص بين الجزئيات. وفي الثاني يكون استحضاراً في الذهن وهو فسيح جداً له القابلية في تصوير الوضع عاماً أو خاصاً، والموضوع له كذلك بأي نحو أمكنه ولا يلزم منه ما ذكروه في المقام وغيره.

ومن جميع ذلك يظهر أن هذا القسم أيضاً مثل سابقيه ممكن، وأمّا تطبيقه فالمشهور أنه على المعاني الحرفية والهيئات باعتبار أنّ معانيها ليست من سنخ المعاني المعروفة التي يمكن أن ينالها العقل مستقلاً، ولا يكون اللفظ موضوعاً بإزاء مصاديق تلك المعاني غير المستقلة فيكون الواضع في إيجاد العلقة الوضعية بينهما متبعاً طريقة الوضع العام والموضوع له الخاص وهو موضع نقاش وقد أفردَ الأصوليون بحثاً خاصاً في المعاني الحرفية.

القسم الرابع: وهو الوضع الخاص والموضوع له العام والمشهور المعروف أنه غير ممكن فضلاً عن وقوعه، ودليلهم يظهر مما سبق وهو أن الخاص لا يمكن أن يكون وجهاً للعام بخلاف العكس قال في الكفاية: إنّ العامَّ يصلح لأن يكون آلة للحاظ أفراده ومصاديقه بما هو كذلك فإنه من وجوهها ومعرفة وجه الشيء معرفته بوجه بخلاف الخاص فإنه

ص: 49


1- - تهذيب الأصول - ج1 / ص16 - مصدر سابق.

بما هو خاص لا يكون وجهاً للعام ولا لسائر أفراده فلا تكون معرفته وتصوره معرفة له ولا لها أصلاً ولو بوجه.

ويمكن إرجاع كلمات المحققين كالاصفهاني والعراقي وغيرهما (قدست أسرارهم) إلى ما ذكره المحقق الخراساني وإن كانت عباراتهم متفاوتة ولكنها في الواقع واحدة.

وفيه: إنه تحديد للذهن وتصوراته فإنه يمكن أن يتصور الذهن الإنساني فرداً يكون مظهراً للعام ووجهاً له، ولا أظنُ أن ذهن الواضع يختلف عن ذهن الشاعر الذي يتصور وجوهاً خيالية بعيدة صحيحة تعتبر من أروع الصور الفنية للشعر، فيمثلالشخص عنواناً للجامع، كما تصور المعري السيد المرتضى وبيته وزمانه عنواناً للإنسان الكلي والزمان والمكان المطلقين.

وفي القرآن الكريم والسنة المطهرة ما يرشد إلى ذلك، ولا أخالف الواقع لو قلت بأنّ أكثر الوضع عند الإنسان البدائي القديم كان من هذا القسم فكان يأخذ جزئياً ويتصوره بحكم بساطته ويجعله عنواناً للجامع والكلي كما هي العادة في مجتمعنا فيحكمون على الصنف بحكم إيجابي أو سلبي من فرد معين وإن من خصوصيات الذهن عملية التفريد والتجريد والتعميم ونحو ذلك وأنه بهذه العمليات الكلية الراقية امتاز الإنسان عن غيره من سائر أفراد الحيوانات وقد نقل السيد الوالد رحمه الله في درسه عن بعض أساتذة المحققين بأنه يمكن أن يتصور الواضع الخبز لعنوان المأكول ويضع لفظ الأكل له فيكون الوضع خاصاً والموضوع له عاماً.

وإلى القول بمعقولية هذا القسم ذهب جمع من المحققين منهم المحقق الرشتي والمحقق اليزدي والسيد الوالد وشبَّه الأول منهم بالحكم لمنصوص العلة فإن الموضوع للحكم فيه شخصي، ومع ذلك يسري إلى كل ما فيه العلة.

والإشكال عليه: بأنّ الحكم في منصوص العلة أن العرف يرى أنّ الحكم معلّق على الكلي دون الخاص غير سديد فإنّ فهم العرف إنما كان بعد وضع الحكم وتشريعه فالحكم والواضع هما يختاران كيفية الوضع والحكم.

نعم ذكرَ بعض الأعلام أنّ إمكان هذا القسم يبتني على ما ذكره الأعلام في القسم الثالث من أن العام إذا كان وجهاً من وجوه الخاص صح أن يقال بأنّ الخاص أيضاً وجه من وجوه العام الإجمالي ولا فرق بينهما، والإشكالات المذكورة عليه غير سديدة لكنه اشترط في القسم الثالث بأنّ ذلك غير كافٍ فإنه يحتاج إلى الإشارة الذهنية فإذا صحَّت فيه، فلا تصح الإشارة في هذا القسم أبداً، لأن الإشارة تحتاج إلى رابطة تربطها بالمتصور والملحوظ حال الوضع فلابد من رابط يربطها فيما نحن فيه بالخاص، ولا يخفى أنّ الرابط لا يكون إلا مفهوماً عاماً وبناءً عليه يكون الوضع دائماً فيه كالموضوع له عامّاً وهو خلاف الفرض.

ويمكن أن يجاب عنه بأنّ الإشارة الذهنية على فرض اعتبارها يكفي فيها الترابط بين الخاص الذي يكون وجهاً للعام باعترافه فيكون الملحوظ حال الوضع ذلك الخاص، والوضع باعتبار العام ولا نحتاج إلى أكثر من ذلك.

ثم أنه ذكرنا أن بعض الأصوليين مثّلوا للوضع العام والموضوع له الخاص بوضع الحروف وتوابعها من الهيئات وأسماء المبهمات فلابد من صرف عنان الكلام إليه وهم

ص: 50

وإن أطالوا في البحث أيضاً إلا أننا نذكر المعروف ونترك غيره الذي ثبت عند العلماء بطلانه فمن أراد سعة الاطلاع فليرجع إلى الكتب المفصلة وهي كثيرة ولابد من تمهيد نذكر فيه أموراً:

الأول: لا ريب في وجود المعاني الأسمية والمعاني الحرفية في الكلام الدائر بيننا وإذا رجعنا إلى كتب اللغة نرى أنّ اللغويين يذكرون مقابل كل حرف معنى، فمثلاً يقولون أنّ (من) للابتداء وأنّ (على) للاستعلاء، وأنّ (هل) للاستفهام ونحو ذلك.كما يضعون للأسماء والأفعال معاني، وقد لاحظ العلماء ومنهم الأصوليون أنّ هناك فرقاً بين معاني الأسماء والأفعال، كأنْ يُقال: البلبل هو الطائر المغرِّد، أو يُقال: جلسَ بمعنى قعدَ، وبين المعاني التي يذكرونها للحروف.

فإنّ في الأول يكون وحدة بين الكلمة المشروحة والكلمة الشارحة أو ترادفاً بينهما بحيث يصحُّ استبدال أحدهما مكان الآخر في مقام الاستعمال من دون أن يختل المقصود من العبارة.

بينما في الحروف لا يتأتى ذلك بحالٍ من الأحوال، فلا يصحُّ استعمال الابتداء بدلاً عن (من) ولا الظرفية بدلاً عن (في) وهذه الظاهرة هي التي استأثر بها اهتمام علماء الأصول فدفعتهم إلى البحث عن المعاني الحرفية ومدلولات الحروف ليصلوا إلى الفرق بين المعاني الاسمية والمعاني الحرفية، وهم لا يشكون في معانيها ولا مدلولاتها،وكما لم يقع خلاف في مواضع استعمالاتها فإن جميع ذلك مما لا خلاف فيه عندهم، ولو فرض وجود غموض في شيء منها إنما يرجع إلى كتب اللغة في رفعه أو الرجوع إلى الوسائل في تشخيص ذلك مما سيأتي ذكرها.

فالبحث المعقود في الأصول ينصب في تعيين الفرق بين المعنى الاسمي الحرفي بعد عدم إمكان استعمال أحدهما مكان الآخر رغم كونه شرحاً له وتحديداً لمعناه.

الثاني: إنّ ما يمكن أن يدخل في نطاق معاني الألفاظ أربعة: ذات (كزيد) وفعل (كقرأ)، زمان أو مكان قد يستقل، كما إذا قيل قرأ زيد يوم الجمعة، وقد لا يستقل، كما يقال: قراءة زيد، وضرب زيد، وربط زماني أو مكاني أو غيرهما بينهما مثل من البصرة، وفي السبت أو مررتُ بزيد ، ونحو ذلك.

والمعروف في العلوم العقلية أنّ الموجودات على أقسام أربعة إمّا موجود لنفسه في نفسه بنفسه، وهو منحصر في واجب الوجود، أو موجود لنفسه في نفسه بغيره كالجواهر، أو موجود لنفسه في غيره بغيره كالأعراض، أو لغيره في غيره بغيره كالوجود الرابط، فهل المعاني الموضوعة أيضاً كذلك؟ ذهب إليه جمع من المحققين منهم السيد الوالد رحمه الله فقالوا إنّ المعاني إما للغير وفي الغير وبالغير كالمعاني الحرفية وإمّا لنفسه بغيره كالمعاني الاسمية الجوهرية، وإمّا لنفسه بغيره في غيره، كالأعراض أسماءً كانت أو أفعالاً، وإمّا لنفسه بنفسه في نفسه وهو منحصر في الله تعالى.

وكيف كان فمن قال بأن المعنى الحرفي من المعاني للغير وفي الغير وبالغير فلا يكون له وجود حتى يكون له وضع مستقل بل هو مع النسب والإضافات تكون في الغير من تمام الجهات مفهوماً وذاتاً ووجوداً لا في الأخير فقط حتى تكون كالأعراض، بل مفهومها

ص: 51

وذاتها ووجودها فانٍ في الغير فناءً تاماً ولا نفسية لها بوجه نظير الربط المحض الذي لا نفسية له أبداً، وما هو كذلك يكون وضعها تبعياً وغيرياً أيضاً.

فهي مع أسماء الأجناس يكون الوضع كالموضوع له عاماً، ومع الأعلام يكونان خاصين لأجل تبعيتها المحضة والفناء المطلق فيكون وضعها نوعياً تبعياً لمتعلقاتها إن عامّاً فعام، وإن خاصاً فكذلك، ويكون الربط حينئذٍ منافياً للتشخص، فما ذكره الحكيمالسبزواري وغيره من: أنّ الوجود رابط ورابطي غير سديد فإنّ الوجود مساوق للتشخص ولا تشخص في الربط المحض إلا أن يراد به التبعي. وسيأتي تمام الكلام.

الثالث: المراد من المعنى الحرفي في اصطلاح الأصوليين كل ما لا يستقل بالذات أو ما لا تحصّل له إلا في الغير وبالغير فيشمل جميع النسب والإضافات والهيئات التي لا استقلال لها بوجه ومورد البحث فيه ما يلحظ من حيث الفناء في المتعلق والقيام به وأما إذا لوحظ في نفسه وبنفسه فيخرج عن موضوع البحث قهراً لصيرورتها بذلك من المعاني المستقلة الملحوظة بنحو العنوان المشير إلى المعاني الحرفية لا أن تكون عينها لاستحالة ذلك، ومن ذلك يظهر أن المعنى الحرفي يعرض عليه ما يعرض على المعنى الاسمي فإنه قد يكون حقيقياً أو خارجياً أو ذهنياً كلياً أو جزئياً، مستقلاً وغير مستقل، وقد يوضع له الاسم والفعل والحرف.

كما إذا قال: الدار ملك زيد، أو الدار يملكها زيد، أو الدار لزيد، فإن ملك ويملك واللام كلها للربط، إذ في الخارج زيد والدار وربط بينهما وهو مفاد اللام التي هي الأصل وقد يكون له اسم أو فعل كما تقدم، وقد يكون له اسم وحرف مثل زيد فوق الدار، أو زيد على الدار، وقد يكون له اسم فقط من دون أن يكون له حرف مثل زيد تحت الدار.

الرابع: قد وردت روايات عديدة ربما يستفاد منها في تعيين بعض الأقوال لا بأس بذكرها فقد روى أبو الأسود الدؤلي عن أمير المؤمنين علیه السلام قال: الاسم ما أنبأ عن المسمّى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أوجد المعنى في غيره، وهي مشهورة بين الخاصة والعامة فقد استدلَّ بها المحقق النائيني رحمه الله على أن المعاني الحرفية هي إيجادية وليست إخطارية حيث أنّ الإمام علیه السلام عدل عن الإنباء في الاسم والفعل إلى الإيجاد بالنسبة إلى الحرف فقال إنّ المعنى الحرفي لا تقرر له في أي وعاء غير وعاء الاستعمال حتى يدل عليه الحرف، ويحكي عنه كما يحكي الاسم والفعل عن معانيهما، فالحرف آلة لإيجاد معناه فقط.

وقد ذكر السيد الوالد((1)) رحمه الله في شرحها بأن المراد من الجملة الأولى الدلالة على المسمى، وهو صحيح بالنسبة إلى جميع الأجناس والأعلام، والمراد بالثانية الدلالة على أفعال الممكنات حيث أن غالبها متقومة بالحركة ولو كانت الحركة إرادية، والمراد بالأخيرة إيجاد النسب والإضافات في استعمالات المعاني الاسمية والفعلية.

وفي رواية أخرى: (الاسم ما أنبأ عن المسمّى، والفعل ما أنبأ به، والحرف ما جاء لمعنى).

وفي رواية ثالثة: (الاسم ما دلّ على المسمّى، والفعل ما دلّ على حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل).

ص: 52


1- - تهذيب الأصول - ج1 / ص17 - مصدر سابق.

وغير ذلك مما رواه العالم الكبير السيد حسن الصدر، في كتابه تأسيس الشيعة، وهي متواترة من جهة الصدور إلا أنّ الاختلاف في المتن يوهن الاستدلال بها لإثبات أحد الأقوال.فلا وجه لاستدلال المحقق النائيني((1))

رحمه الله بالرواية الأولى مع معارضتها بما تدل على الإخطارية لما في الروايتين الثانية والثالثة.

وفي رواية عن مولانا الرضا علیه السلام : (واعلم أن الإبداع، والمشيئة، والإرادة معناها واحد وأسماؤها ثلاثة : وكان أول إبداعه وإرادته ومشيئته الحروف التي جعلها أصلاً لكل شيء ودليلاً على كل مدرك وفاصلاً لكل مشكل... الرواية((2))).

ولكنها تدل على أصل خلقة الحروف التي يتكون منها النطق ولا ربط لها بالمعنى الحرفي المبحوث عنه وإن كانت الرواية تشتمل على مباحث نفيسة ليس المقام محل التعرض لها.

ثم إنّ الأقوال في المعاني الحرفية بين الإفراط والتفريط وقد عدَّها بعضهم إلى ثمانية ويمكن تصنيفها ضمن اتجاهات ثلاثة.

الأول: علامية الحروف فليس لها وضع أبداً سوى كونها علامة كعلامات الإعراب.

الثاني: آلية المعنى الحرفي.

الثالث: نسبية المعنى الحرفي، واختلفوا في تفسيرها على أقوال نذكر المهم منها تباعاً.

الاتجاه الأول: ما نسبه بعضهم إلى نجم الأئمة الشيخ الرضي وبعضٌ آخر إلى التفتازاني فقالوا: إنّ الحروف لم توضع بإزاء معنى بل هي علامات على حالات خاصة فيكون حالها كحال الإعراب، فكما أن الرفع يدلّ على فاعلية الفاعل، والنصب على مفعولية المفعول في قولهم قرأ زيد الكتاب وكذا تدلُّ (من) على الابتداء و(إلى ) على الانتهاء.

وفيه من الفساد ما لا يخفى، فإنه إن أُريد أنها فارغة عن الدلالة والتأثير فهو باطل بضرورة الوجدان اللغوي والعرفي، وإن أريد ان الحرف ليس له مدلول في عرض مدلول الاسم والفعل اللذان يشاركانه في تكوين الجملة والكلام، فيكون مدلوله لتشخيص المراد من الاسم والفعل، ومن أجل ذلك يشبه الحركات الإعرابية.

فيرد عليه: أنه إن أُريد بذلك أن الحرف يشخّص المراد الاستعمالي للاسم أو الفعل فهو غير صحيح، لأن الاسم قد وضع للطبيعة فاستعماله في المعنى الخاص بخصوصية خاصة التي أوجدتها، فالحرف يكون مجازياً، وإن أريد أن الحرف يعين القصد الجدّي فهو واضح البطلان، فإن الحرف يساهم في تكميل الجملة في مرحلة الاستعمال.

وإن أُريد به أن الحرف ليس له دلالة مستقلة كما هو الحال في الاسم والفعل فهو صحيح كما سيأتي وتقدم ما يدل على ذلك.

الاتجاه الثاني: إنّ المعنى الحرفي آلة وحالة في غيره بخلاف المعنى الاسمي فإن له استقلالية، وقد ذهب إليه صاحب الكفاية ونسبه إلى المحقق الرضي ) رحمه الله (3)) وعبارته في

ص: 53


1- - فوائد الأصول - ج1 / ص53 - مصدر سابق.
2- - عيون أخبار الرضا علیه السلام - ج1 / ص154 / ط 1984م - الأعلمي للمطبوعات.
3- - راجع - شرح كافية ابن الحاجب للرضي ج1 / ص28 - الناشر دار المجتبى ط1 / 2010 أيضا كفاية الأصول - مصدر سابق / ص41.

الكفاية غامضة كما هو دأبه رحمه الله وقد فسرها العلماء بتفاسير متعددة، وأقرب ما يقال في توجيهها هو أنّ المعاني الحرفية لا تختلف عن المعاني الاسمية ذاتاً، فهما متفقان في الموضوع له والمستعمل فيه، وهما في المعنيين عامان، وعليه يكون المعنى الحرفي نفس المعنى الذي يعبّر عن ذلك المعنى بالحرف كالابتداء المعبّر به عن معنى (من) و(الابتداء) كلاهما موضوعان لمعنى واحد.

وإنما الفرق بين المعنيين: إنما هو اختصاص كل واحد منهما بوضع معين ففي المعنى الاسمي قد وضع الاسم ليُراد معناه بما هو هو وفي نفسه، ووضع الحرف ليُراد معناه لا كذلك بل حالّة في غير، وآلة لغيره، وهذا الاختلاف في الوضع هو الذي أوجب عدم جواز استعمال أحدهما في الآخر، وإن اتفقا فيما ذكرناه، فيكون الاختلاف بينهما بلحاظ أمر عرضي خارج عن ذات المعنى، وهو كيفية لحاظ الذهن للمعنى حين الاستعمال من الآلية والاستقلالية.

فلم تكن الآلية والاستقلالية من قيود الموضوع له ولا المستعمل فيه بل في الوضع نفسه.

واستدلَّ على ذلك بأنّ اشتمال معاني الحروف على تلك الخصوصية لا توجب جزئية الموضوع له فيها لأن الجزئية إمّا أن تكون خارجية أو ذهنية وفي اللحاظ.

أمّا الأول: فهو منفي لأن الحروف كثيراً ما تستعمل في المعنى الكلي الذي له مصاديق كثيرة ولو بالعموم البدلي، كما إذا أمر المولى بالسير من البصرة إلى الكوفة، فإنه من الواضح تحقق الامتثال من أية نقطة من نقاط البصرة والانتهاء إلى أي نقطة من نقاط الكوفة، كما هو واضح في تحققه في السير بأي نحو كان مع عدم القرينة على التعيين، وهذا ظاهر في عموم الموضوع له في الحروف وإلا فإن الامتثال متوقفاً على ابتداء خاص وهو الذي قصده المولى ولم يقل به أحد.

وأمّا الثاني: فإن فساده أوضح واستدلّ عليه بوجوهٍ أهمها إن اللحاظ لو كان قيداً للمعنى ومقوِّماً له لَزِمَ عدم صدقه على الخارجيات إلا بالتجريد، لأن المقيد بالوجود الذهني لا وجود له إلا في الذهن وبدون التجريد يمتنع الامتثال الخارجي وهو يستلزم أن يكون الاستعمال في الخارج مجازياً، وهو خلاف الضرورة.

وقد أورد عليه جمعٌ من المحققين (قدس الله أسرارهم).

الأول: ما ذكره المحقق النائيني (1) رحمه الله بعد إرجاع التقييد باللحاظ الأولي والاستقلالي إلى اشتراط الواضع ذلك في الاستعمال، فشرط الواضع أن لا يستعمل لفظ الابتداء إلا مع لحاظه استقلالاً، وأن لا يستعمل لفظ (من) في الابتداء إلا مع لحاظه آلة.

فأورد عليه:

أولاً: بأنّ الشرط ليس ملزماً ولو كان الواضع هو الله تعالى إلا إذا كان ضمن تشريع فيحرم ولكن لا يترتب عليه عدم صحة الاستعمال للفظ في المعنى الموضوع له.

ص: 54


1- - فوائد الأصول - ص56 - مصدر سابق.

ثانياً: على فرضه يكون غير صحيح في قانون الوضع لا عدم صحته مطلقاً ولو بالاستعمال المجازي، مع أن استعمال الحرف في مورد الاسم وبالعكس غير صحيح مطلقاً.

وأجيب عنه بأنّ تقييد الواضع لا يرجع إلى شرط فقهي حتى يترتب عليه حكم شرعي هو حرمة مخالفته، بل هو تقييد العلقة الوضعية بحالةٍ خاصة، ومعه لا وضع للحرف غير التوأم مع اللحاظ الآلي فاستعماله في غيره يكون باطلا لانتفاء قيده.

ومنه يظهر الجواب عن الثاني لأن الحرف في حالة عدم اللحاظ الآلي يكون مهملاً لعدم الوضع له في هذه الحالة ومن المعلوم أنّ المهمل لا يصح استعماله في معنى لا حقيقة ولا مجازاً.

أمّا الأول فهو خلف الإهمال والثاني فرع ثبوت الحقيقة فإذا لم تكن فلا يكون مجازاً، كما هو واضح(1).

الثاني: ما ذكره المحقق الاصفهاني رحمه الله من أنّ المعنى الحرفي والمعنى الاسمي لو كانا متحدين في المعنى الموضوع له وكان الفرق بينهما في اللحاظ الآلي والاستقلالي، لكان طبيعي المعنى الوجداني قابلاً لأن يوجد في الخارج على نحوين كما يوجد في الذهن على طورين للأصل المعروف في العلوم العقلية من تطابق عالم الخارج مع الذهن فإذا صحَّ وقوع المعنى الواحد في الذهن بطورين لَزِمَ أن يوجد في الخارج كذلك، مع أنّ المعنى الحرفي لا يوجد في الخارج إلا في غيره(2).

ويرد عليه: أنه لا أصل لهذا الأصل في محله فضلاً في أمثال الوضع من الاعتباريات.

وأمّا الجواب: بأنه قد لا يتطابق ما في الخارج مع ما في الذهن، كالعرض فإنه يمكن أن يكون باللحاظ الذهني مستقلاً عن موضوعه مع أنه في الخارج لا يوجد إلا في موضوعه فهو غير سديد، فإنّ الأمور الذهنية إنّ كان منشؤها ما في الخارج فلابد أن يكونا متطابقين، وكلامه رحمه الله في هذا القسم: وأما تصويره مجرداً عن ما في الخارج فلا يشترط فيه التطابق كالمثال الذي ذكره فافهم.

الثالث: ما ذكره السيد الخوئي رحمه الله ناقضاً به مقالة المحقق الآخوند رحمه الله وخلاصته أنه لو كان المناط في المعنى الحرفي كون المعنى فيه آلة وحالة لغيره لزم منه:

1- أن يكون كل معنى اسمي يؤخذ معرفاً لغيره في الكلام وآلة للغير كالعناوين الكلية المأخوذة في القضايا معرفات للموضوعات الواقعية معنىً حرفياً.

2- أن تكون المصادر معاني حرفية لكونها مأخوذات أوصافاً لمعروضاتها بخلاف أسماء المصادر فإنّ الملحوظ فيها الحدث بما أنه شيء في نفسه مع قطع النظر عن كونه وصفاً لغيره.

3- إنّ المعنى الحرفي قد يُلاحظ في نفسه ويكون مقصوداً بالإفادة، وذلك كما إذا كان الموضوع والمحمول معلومين عند شخص ولكنه كان جاهلاً بخصوصيتهما فسأل عنها

ص: 55


1- - بحوث في الأصول - ص235 - مصدر سابق.
2- - نهاية الدراية - ص26 - مصدر سابق.

فيكون الجواب عنها، فالسائل والمجيب إنما ينظران إلى هذه الخصوصية نظرة استقلالية(1).

ويمكن الجواب عنه:

أولاً: بأنَّ المراد بالآلية في نظر المحقق الخراساني هو فناء مفهوم في مفهوم آخر لا فناء العنوان في المصداق الخارجي الذي هو خارج عن ذلك، فإنّ ملاحظة مفهوم العنوان ليرى به المعنون إنما هو بالحمل الأولي، ولذلك يحكم عليه بأحكام المعنون وإن كان بالحمل الشايع مغايراً مع المعنون.

ثانياً: إنَّ المصادر لها مادة وهيأة فهي بمادتها تدلُ على ذات الحدث كأسماء المصادر وأمّا هيئاتها فهي كالحروف وسائر الهيئات، كما سيأتي التفصيل في محله.

ثالثاً: إنَّ ملاحظة المعنى الحرفي في نفسه وقصده مستقلاً بالإفادة لا يضرّ في حقيقته فإنّ معاني الحروف في مرحلة تقررها الماهوي لا يعقل وجودها لا ذهناً ولا خارجاً إلا بما هي عليه من الآلية والفناء، وهذا هو مبنى المشهور ومنهم السيد الخوئي (قدس الله أسرارهم) يضاف إلى ذلك فإنه قد يكون ذلك من باب انتزاع المستعمل معنىً اسمياً يشير به إلى واقع المعنى الحرفي الخاص، كما إذا قال: ما هي الكيفية التي سافر بها زيد؟ أو يكون متعلق اللحاظ الاستقلالي المعنى الاسمي المتخصص به فيكون لحاظ التخصص تبعياً.

الرابع: ما أورده السيد الصدر رحمه الله أنه لو أُريدَ بعدم استقلالية معاني الحروف كونها تلحظ حالة لمعاني الأسماء ومندكَّة فيها فيكون الفرق بينهما ذاتاً وسنخاً وليست مجرد حالة طارئة على المعنى.

وإن أريدَ به أن المعنى الحرفي آلة ومرآةً كملاحظة المصاديق الخارجية الخاصة فهو والمفاهيم التي اعتبرت مرآةً للمصاديق الخارجية على حدٍ سواء، وحينئذٍ يرجع إلى كيفية ما أُخذ من المصاديق منها، فإن كانت مفهوماً كلياً كان مرآةً عن الهيئة المشتركة بين الأفراد فلا تكون مرآةً عن الخصوصيات قهراً، وإن كان جزئياً وخاصاً كان حاكياً عن الخاص الخارجي وحينئذٍ لا يصلح أن يكون ذلك تمييزاً بين المعاني الحرفية والاسمية(2).

والصحيح أن يقال أن هذا القول مبني على تحقق الوضع في المعنى الحرفي وكأنه أمرٌ مسلَّم عندهم، ولذا انصبَّ اهتمام المحقق الخراساني إلى كيفية تصوير الوضع الآلي والوضع الاستقلالي، وسيأتي أن ذلك موضع تردد ونقاش فإن الوضع إنما تحقق بالنسبة إلى الأسماء والأفعال وأمّا الحروف والهيئات والنسب والإضافات فليست لها أوضاع مستقلة مقابل أوضاع الأسماء حتى تصل النوبة إلى الافتراق بينهما بحسب اللحاظ، مضافاً إلى أنَّ لحاظ الواضع كون معاني الحروف آلية ومعاني الأسماء استقلالية لا يغيّر الواقع إذا كان المعنى والموضوع له فيهما واحداً فإنّ لحاظ الواضع بأن يكون معنى الحرف آلياً حين الاستعمال لا يكون إلا من قبيل الشرط المتأخر نظيرالانشاءات التعليقية

ص: 56


1- - هامش اجود التقريرات ج1 / ص15.
2- - بحوث في الأصول - ج1 / ص237 - مصدر سابق.

الشرعية كالوصية التمليكية فإنّ الواضع قد وضع لفظ الحروف على معنى لكن معلقاً على آراء المستعملين.

وسيأتي التفصيل، ولعله لأجل تلك المناقشات اعتبر السيد الوالد رحمه الله أن هذا القول خلاف الوجدان المحاوري ولكنه قال يمكن توجيهه بوجه(1).

الاتجاه الثالث: هو نسبية المعنى الحرفي ويرجع ذلك إلى التغاير والتمايز الذاتي بين معاني الحروف والأسماء مع قطع النظر عن الخصوصيات العرضية كطروّ اللحاظ الآلي والاستقلالي عليها في مرحلة الاستعمال ونحو ذلك وللعلماء فيه أقوال، وقبل بيانها لابد من بيان أمر يتعلق بكيفية استحضار المعاني الاسمية والمعاني الحرفية في الذهن فنقول:

إنّ الذهن الإنساني إذا عرضت عليه قضية خارجية مركبة من موضوع ومحمول وربط بينهما، فهو ابتداءً يدرك الموضوع لأجل الحكم عليه لا أن يكون إدراكه لترتيب الآثار الخارجية على الموجود الذهني كما هو واضح لكل مدرك فيستحضر الذهن الشيء لأجل الحكم عليه ويكون الحمل بينهما أولياً وهو بعينه يكون مرآةً لمصاديقه الخارجية ومنطبقاً عليها بالحمل الشائع.

وفي نفس الوقت يستحضر مفهوماً منتزعاً بين الموضوع والمحمول ملازماً بينهما في الخارج وهو مفهوم الربط والنسبة بينهما واستحضاره له لا لأجل الحكم عليه كما في الاستحضار السابق بل لأجل الصاق المحمول بالموضوع وايجاد الربط بينهما، وهذا النوع من المفهوم لم يكن إلا لبيان المصداق الخارجي، فإن حقيقة هذا النوع من المفاهيم في الذهن عين التعلق والربط الخارجي بين الموضوع والمحمول غاية الفرق انّ الربط في الخارج يكون بين موجودين خارجيين، وفي الذهن بين مفهومين، ولكن الربط حقيقة واحدة في الموردين.

وبعبارة أخرى إنّ المعنى الاسمي سنخ معنى يكون الغرض من إحضاره في الذهن بالنظر التصوري الأولي والمعنى الحرفي المتمثل في الربط مثلاً لا يكون الغرض منه إلا بأن يكون غير حقيقته بالنظر التصديقي.

وبذلك يظهر الفرق بين المعنى الحرفي والاسمي. وذلك لأن المفهوم الحرفي ليس له تقرر ذاتي في مرحلة سابقة على الوجود بخلاف المفهوم الاسمي لأنّ شخص النسبة متقوم ذاتاً بطرفيها فما لم يكونا موجودين لا توجد النسبة ومن جميع ذلك يظهر أنّ المعاني الحرفية هي سنخ دلالات تكون من لوازم المعاني الاسمية التي هي كثيرة فإذا لم توجد لا تتحقق لوازمها فلا يمكن أن تتحقق بدونها فكيف يمكن للواضع أن يتصورها حتى يضع لها أسماء.

وقد اختلف الأصوليون في تحديد المعنى الحرفي على أقوال:

ص: 57


1- - تهذيب الأصول - ج / 1ص17 - مصدر سابق.

القول الأول: ما اختاره المحقق النائيني رحمه الله فقال بأن مدلول الحرف هو الربط الكلامي ولأجله يكون إيجادياً بخلاف المعاني الاسمية فإنها مفاهيم لها استقلال في الوجود بحد ذاتها ونفسها، ولأجله كان المعنى الاسمي إخطارياً(1).توضيح ذلك: إن المعاني الموضوعة بإزائها الحروف سنخ معانٍ لا يمكن إحضارها في الذهن مستقلاً لعدم ثبوت تقرر ذاتي لها بقطع النظر عن مرحلة وجودها ضمن أشخاص أطرافها فليس للمعنى الحرفي تقرر في الخارج فإنّ وجوده إنما يكون بوجود الطرفين المنتسبين خارجاً.

فهو ربط بين الموجودات الخارجية، ولا ماهية للربط الخارجي يعرض عليها الوجود بل هو من سنخ الوجود وكما أنه لا مفهوم للنسبة الذهنية والربط الذهني يتعلق به التصور بل هو سنخ من التصور، ففي جميع مواطن التقرر لهما يكون للربط والنسبة سنخ وجود مقارن مع وجود الطرفين ولا يمكن أن يكون لها وجود مستقل مقابل وجود المنتسبين خارجاً كذلك الوجود الذهني فإن وجوده بوجود المفهومين الذهنيين فتكون النسبة بينهما أمراً ذهنياً لكن لا وجود لها مقابل وجودهما بل هو سنخ وجود تصوري، ولأجل ذلك كان المعنى الحرفي إيجادياً أي لا يكون له وجود خاص بل له تقرر خاص في وعاء الخارج أو الذهن بخلاف المعنى الاسمي فإن له تقرر ذاتي يتصوره الذهن ويخطره ومن ذلك يظهر إن المعنى الحرفي يبتني على دعائم ثلاثة:

الأولى: إنّ المعنى الحرفي إيجادي بمعنى عين حقيقتها عنواناً ووجوداً بالنظرين التصديقي والتصوري بخلاف المعنى الاسمي فإنه إخطاري بالتقريب المتقدم أي يتحقق الغرض من إحضارها عين حقيقتها في مرحلة التصور واللحاظ.

الثانية: إنّ المفاهيم الحرفية تقررها الماهوي والذاتي في طول عالم الوجود ذهناً أو خارجاً بخلاف التقرر الذاتي للمفاهيم الاسمية فإنه محفوظ في المرتبة السابقة على الوجود الذهني والاستعمالي.

إنّ المعنى الحرفي ليس له واقع بما هي معاني حرفية في غير التراكيب الكلامية بمعنى أنه لا مفهوم لها متقرر في وعائه يتعلق به الوجود الذهني وأنّ ذلك من لوازم إيجادية الحروف ومن سنخ الوجود فإنه لا واضع لها حينئذٍ غير واقع الوجود بخلاف المعاني الاسمية فإنّ لها واقع ولذا لا تنعدم بانعدام التصور واللحاظ لأن معنى الأسماء له تقرر في عالم المفهومية.

الثالثة: إنّ المعنى الحرفي مغفول عنه وغير ملتفت إليه بخلاف المعنى الاسمي وذلك لأنّ المعنى الحرفي من سنخ اللحاظ والتصور ولم يكن من المفاهيم المتقررة فهو غير قابل لتعلق اللحاظ الاستقلالي به والالتفات إليه وإنما اللحاظ والالتفات إنما يكون لنفس الملحوظ، وما يكون من سنخ اللحاظ والتصور كالنسبة والربط لم يكن قابلاً للالتفات كما هو ظاهر.

ونوقش هذا الرأي من عدة وجوه:

الأول: ما ذكره بعض المعاصرين رحمه الله معترضا عليه بوجوه ثلاثة:

ص: 58


1- - راجع - محاضرات في أصول الفقه - ج1 / ص57 - مصدر سابق.

أحدها: إنّ القول بإيجادية الحروف للربط بين الكلمات التي تتألف منها الجملة، فلا يحصل الربط بدون الحرف فتكون سبباً لحدوثه، ولذا لم يكن للحرف واقع إلا في ضمن التراكيب الكلامية لأنه الربط بين أجزاء الكلام، فإنّه مما لا إشكال فيه إلا أنّذلك باعتبار دلالة الحرف على معنى به يكون الحرف موجداً للربط الذي لا واقع له إلا من ضمن التراكيب الكلامية وهو مسبب عن معنى الحرف لا أنه هو معنى الحرف ونحن في مقام تشخيص ذلك المعنى والكشف عن حقيقته.

الثاني: إنّ المعنى الحرفي سنخ مفهوم لكنه غير مستقل فهو يخطر في الذهن تبعاً لغيره، وهذا وإن لم يوجب كونه إخطارياً باعتبار أنّ الإخطاري ما كان يخطر في الذهن استقلالاً وبنفسها، لكنه ليس إيجادياً لأنّ له تقرر في وعائه قبل ذكر الحرف فهو لم يكن موجداً له، فلا وجه لفرض كونه ايجادياً باعتبار أنه لو لم يكن كذلك لكان اخطارياً، لإمكان تصوير الواسطة وأن لا يكون إخطارياً ولا إيجادياً لإمكان أن يكون المعنى غير مستقل في نفسه ومع ذلك لا يكون إيجادياً، فما ذكره المحقق النائيني رحمه الله من أنّ المعنى الحرفي لا واقع له في غير التراكيب الكلامية غير سديد بل لأجل دلالة الحروف على معانيها التي وضعت بإزائها لا من جهة إيجادها المعاني الربطية في مرحلة الاستعمال والتركيب الكلامي.

الثالث: أن يكون المعنى الحرفي مغفولاً عنه خلاف الوجدان لأن كثيراً ما تكون المعاني الحرفية يتعلق بها القصد الاستقلالي بإفادتها ويكون ذكر الاسم مقدمة تلك الخصوصية وذلك التخصص.

وأجيب عن الأول: بأنّ ما ذكره رحمه الله تصرف في كلام المحقق النائيني رحمه الله فإنّ مراده أنّ معنى الحرف هو الربط والنسبة بين المفهومين، ولما كان هذا من سنخ الوجود كان المعنى الحرفي إيجادياً لا يقبل الخطور أصلاً، فلم يكن له تقرر في وعاءٍ ما ليتعلق به التصور بل هو موجود بوجود المفهومين، ولذا يقال عنه بأنه لا واقع له في غير التراكيب الكلامية بلحاظ المحكى بالكلام وهو المفهوم لا بلحاظ نفس الكلام كما توهمه السيد الخوئي(1)، لأن واقع النسبة والربط في وجود المفاهيم لأنه كيفية وجودها لا بلحاظ نفس الكلام واللفظ، ولعلّ التعبير بالتراكيب الكلامية إصطلاح خاص من المحقق رحمه الله .

وفيه شيء من الغموض مما أوقع تلميذه في الوهم.

ومنه يظهر الجواب عن الايراد الثاني.

فإنَّ الإيجادية في مرحلة التصور والذهن لمدلول الكلام في مقابل أن يكون للمعنى الحرفي تقرر في مرتبة ذاته وبقطع النظر عن الوجود الذهني لا أن يكون المراد من الإيجادية من نفس مرحلة الكلام في مقابل تقرر المعنى الحرفي بقطع النظر عن المرحلة الكلامية كما توهّمه السيد الخوئي.

وأمّا الإيراد الثالث: فقد عرفت الجواب عنه فيما سبق عند إشكاله على رأي المحقق الخراساني من أن يكون المعنى الحرفي عند الجميع ومنهم السيد الخوئي غير استقلالي

ص: 59


1- - راجع - محاضرات في أصول الفقه - ج1 / ص64 وما بعدها.

في مرحلة تقرره الماهوي فلا يعقل وجوده لا ذهناً ولا خارجاً إلا بما هو عليه من الآلية والفناء كما هو واضح، فراجع.

الثاني: ما أورده المحقق العراقي رحمه الله فقد ذكره في ضمن مناقشات نذكر المهم منها:فقال: بأنّ المعاني التي تتصورها النفس إمّا أن تكون مرتبطة بعضها ببعض، أو غير مرتبطة، فما كان مرتبطاً فلا يعقل إحداث الربط بين أجزائها، لأنه تحصيل للحاصل، وما كان غير مرتبطاً لا يعقل إحداث الربط فيه لأنّ الموجود لا ينقلب عما هو عليه إلا إذا كان يفني ويحدث في أثره وجود آخر بخصوصية أخرى، فلو أراد المتكلم إفادة السامع مثلاً (زيد في الدار) فإنه حينما يتلفظ ب-(زيد) يتصور السامع مفهومه مستقلاً لعدم علمه بمفاد الجملة وبالربط إلا إذا قال (في الدار) فلا يخلو مدعي إيجادية الحرف من أن يلتزم بأحد أمرين:

الاول: إمّا إحداث الربط في الموجود غير المرتبط وهو ممتنع كما عرفت لأن الموجود لا ينقلب كما هو عليه أو إحداث موجود آخر مرتبط غير المتصور الأول وهو خلاف الوجدان(1).

وفيه: إنه لا يراد من إيجادية المعنى الحرفي أنه يوجد التقييد في معاني الأسماء بعد وجودها مهملة في الذهن بل المقصود هو الإيجادية بالخصائص الثلاث المتقدمة فيكون الربط من خصوصيات نفس اللحاظ والتصور، فإنه ليس بإحداث موجود مرتبط جديد، ولا إيجاداً للربط في الموجود غير المرتبط، لأنّ الربط من خصوصيات الوجود لا الموجود، فهو نظير حدوث الأوصاف على الوجود الخارجي فإنها ليست إحداثاً لموجود غير الأول، كما أنها ليست إحداثاً لربط في غير المرتبط، كما هو واضح.

الثاني: إنّ الهيئات الدالة على معنىً لابد وأن يكون مدلولها معنىً حرفياً وعلى فرض كون المعنى الحرفي إيجادياً يلزم أن يكون معنى الهيئة متقدماً في حال كونه متأخراً وهو خلف، لأن الهيئة التي تطرأ على المادة متأخرة بالطبع عن المادة المتأخرة عن مدلولها وهو المعنى الاسمي، فلو كانت الهيئة موجدة لمعناها في المعنى الاسمي لكان معناها متأخراً عن المادة وبالتالي يتأخر عن مدلول المادة بثلاث رتب، وبما أنه مقوّم لموضوعه وهو المعنى الاسمي يلزم أن يكون في رتبته فيكون في نفس الوقت متأخر ومتقدم(2).

ويرد عليه: إنّ المعنى الحرفي ليس مقوّماً لموضوعه حتى يكون في رتبته، بل هو من خصوصيات وجود المعنى الاسمي الذهني وطوارئه، وعليه فلابد من فرض وجود معنى اسمي يتعلق به اللحاظ الخاص فهو متأخر رتبةً عن المعنى الاسمي لا محالة فلا يلزم تقدمه أو تأخره بثلاث رتب.

القول الثاني: ما نسب إلى المحقق الاصفهاني رحمه الله حيث ذهب إلى أن وضع الحرف للوجود الرابط فيكون المعنى الاسمي والمعنى الحرفي عنده رحمه الله متفاوتان ومختلفان بحسب الذات والحقيقة، والفرق بينهما كالفرق بين الوجود في نفسه والوجود لا في نفسه أعني الوجود الرابط في قبال الوجود المحمولي.

ص: 60


1- - منهاج الأصول - محمد إبراهيم الكرباسي تقريرا لابحاث العراقي - ج1 / ص43 دار البلاغة.
2- - راجع - بدائع الأفكار - ج1 / ص43 - مصدر سابق.

وقد عرفت سابقاً أقسام الوجود والفرق بينهما في أحد التنبيهات فراجع.وإن من الأقسام هو الوجود في نفسه ولكن لغيره وهو وجود الأعراض، فإنّ العرض غير قائم بذاته بل متقوّم بموضوع في الخارج فلا يُعقل وجود عرض بدون الموضوع المتحقق في الخارج، ويعبّر عن هذا القسم بالوجود الرابطي أيضاً كما إنّ من الأقسام هو الوجود في غيره بغيره ولغيره وهو المعبّر عنه بالوجود الرابط مقابل الوجود الرابطي الذي تقدم ذكره، وهو وجود النسبة والربط، فإنّ حقيقة الربط لا توجد في الخارج إلا بوجود الطرفين المرتبطين بلا استقلال له أبداً، ولذلك يكون بذاته متقوماً بوجوده، بخلاف العرض فإنه بذاته غير متقوّم بموضوعه ولكنه - أي التقوّم - من لوازم وجود الموضوع وضرورياته.

والمستفاد من كلام المحقق الاصفهاني رحمه الله أنه التزم بأنّ المعنى الحرفي كالوجود الرابط في كونه متقوماً بالطرفين، فلا وجود ولا تحقق له إلا في ضمن طرفين ولا وجود له منحازاً عن وجوديهما.

إلا أنّ نقطة الاختلاف بينهما هو أنّ المعنى الحرفي موطنه الذهن والوجود الرابط موطنه الخارج بل إنّ المعنى الحرفي قسم من الوجود الرابط وهو الرابط الذهني القائم بمفهومين الذي يعبّر عنه في كلامه بالنسبة والربط بين المفاهيم دون الوجود الرابط في الخارج المعبِّر عنه بالنسبة الخارجية، فيكون الفرق بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي كالفرق بين الوجود الرابط والوجود المحمولي لا الفرق بين الجوهر والعرض.

هذا ما ذكره بعضهم في بيان مراده (1) رحمه الله .

ولكن المستفاد من كلام السيد الوالد رحمه الله في بيان هذا الرأي أنّ المعنى الحرفي هو الوجود في غيره وبغيره ولغيره فهو في الغير مفهوماً وذاتاً ووجوداً، فإن فيه فناءً تاماً ولا نفسية له بوجه فيكون ربطاً محضاً لا نفسية له أبداً(2) وبعبارة أخرى إنّ وضع الحروف يكون لماهية النسبة التي هي غير الاستهلاك والاندكاك أو التي يكون تقررها الماهوي في طول صقع الوجود الذهني أو الخارجي ولا للوجود الرابط الخارجي فكون النسبة توجده في الخارج أو في الذهن غير مأخوذ في مدلول الحرف، وإنما المدلول نفس ماهية النسبة لا بمعنى كون هذه الماهية جامعاً ذاتياً بين الربط الذهني والوجود الرابط الخارجي الموازي له،لعدم تعقُّل الجامع بينهما لاختلاف ماهيتهما، لأن كل ربط متقوِّم ذاتاً بشخص وجود طرفيه.

نعم إنّ النسبة المتقوّمة بالطرفين في عالم الذهن وافية بالمعنى الحرفي عند المحقق الاصفهاني رحمه الله فالمعنى الحرفي بالنسبة إلى المعنى الاسمي في عالم المفاهيم في الذهن كالوجود الرابط بالنسبة إلى الوجود المحمولي في الخارج لا أن يكون المعنى الحرفي هو الوجود الرابط، واستدلَّ المحقق الاصفهاني على تحقق الوجود الرابط خارجاً بأنّا قد نتيقن بوجود الجوهر ونتيقن بوجود العرض ولكن نشك في ثبوت هذا العرض المقطوع وجوده للموضوع المقطوع وجوده أيضاً ومن البديهي تغاير متعلق الشك واليقين لأنهما

ص: 61


1- - راجع - بحوث في علم الأصول - ج1 / ص247 - مصدر سابق.
2- - تهذيب الأصول - ج1 / ص16 - مصدر سابق.

ضدان لا يجتمعان في متعلقٍ واحد فلابد أن يكون متعلق الشك هو الربط فله وجود غير وجود الطرفين.

وقد أشكل بعض المعاصرين عليه بوجوه ثلاثة:

الأول: إنّ الوجود الذهني أو الخارجي ليس مأخوذاً في الموضوع له مطلقاً بل اللفظ يوضع بإزاء ذات المعنى لأن الوضع إنما هو لأجل الانتقال الذهني إلى مدلوله وما يعقل انتقاله هو ذات المعنى لا الوجود سواءً كان خارجياً أو ذهنياً.

الثاني: إنّ الوجود الرابط كثيراً ما لا يكون موجوداً في موارد الاستعمال، كما في موارد استعمال اللام في قولنا: (الوجود لله واجب) إذ لا يعقل الوجود الرابط بين الله تعالى ووجوده، كما هو واضح.

الثالث: إنّ الوجود الرابط الخارجي لا موجب للالتزام به، لعدم البرهان على وجود أمر ثالث في الخارج زائداً على العرض والذات سوى ما ذكره المحقق الاصفهاني في دليله، وهو مدفوع بأنّ العلم والشك متقوِّمان بالصور الذهنية لا بالخارج ابتداءً فلا يتحقق فرض العلم والشك إلا فرض صورتين ذهنيتين وهو لا ينافي كون مطابقهما واحداً في الخارج.(1)

ويمكن الجواب عنه:

أمّا الأول: فكما عرفت من أنّ الوجود الخارجي لم يؤخذ في مدلول الكلمة ليقال أنه لا يقبل الانتقال إلى الذهن لأن الحرف قد وضعَ لذات ماهية النسبة مع قطع النظر عن نحوي وجودها لا أن يوضع للوجود الرابط الخارجي أو الذهني.

نعم إنّ النسبة متقوّمة دائماً بشخص وجود طرفيها، فيكون وجودها في صقع الذهن تبعاً لطرفيها بالنحو المناسب لها من الوجود.

أمّا الثاني: فهو مبني على كون الحرف قد وضع للربط الخارجي، وقد عرفت بطلانه.

وأمّا الثالث: فلأن إنكاره للوجود الرابط الخارجي إن كان المراد منه عدم وجود ثالث خارجاً زائداً على وجود المنتسبين فهو أمرٌ مسلَّم عند الجميع، لكنه ليس المراد بالوجود الرابط.

وإن كان المراد منه إنكار ثبوت واقعية ثالثة وراء واقعية المنتسبين فهو غير صحيح لوضوح أن هناك أمراً واقعياً ثالثاً في لوح الواقع الذي هو أوسع من لوح الوجود، فلو لم يكن ذاك لما انسجمت الجمل، وهذه الواقعية هي منشأ في الملكية أو الظرفية ونحو ذلك، هذا إذا قلنا بأنها من الأمور الواقعية وأمّا إذا قلنا بأنها من الأمور الاعتبارية فالأمر أوضح،يضاف إلى ذلك أنّ إنكار الوجود الرابط الخارجي لا يضرّ بالمدعى كما هو واضح.

القول الثالث: ما نُسب إلى المحقق العراقي رحمه الله على ما أفاده بعض مقرريه وإن لم يكن مطابقاً مع ما وردَ في كتابه المقالات على ما قيل((2)

وحاصل ما أفاده رحمه الله بعد أن أثبت التغاير الذاتي بين المعنى الحرفي والمعنى الاسمي وأنكر على الرأي القائل باتحادهما

ص: 62


1- - بحوث في علم الأصول - ج1 / ص247 وما بعدها - مصدر سابق.
2- - راجع - بحوث في علم الأصول - ج1 / ص252 - مصدر سابق.

في الذات والحقيقة وإنّ التغاير بينهما في مرحلة الاستعمال من جهة اللحاظ الآلي واللحاظ الاستقلالي.

قال رحمه الله : إنّ الموجودات في العين إمّا أن تكون جواهر أو تكون من الأعراض بأقسامها التسعة المعبَّر عنها بالوجود الرابطي أو تكون ربط الأعراض بموضوعاتها أي الوجود الرابط، والعرض قد يتقوّم بموضوع واحد كمقولة الكيف، وقد يحتاج في تحققه إلى موضوعين كمقولة الأين والإضافة وقد قامت السيرة العقلائية على جعل دوالْ على كل واحد منها، ولم يهمل العقلاء معنى من المعاني التي تدور عليها الإفادة والاستفادة، والمعاني الحرفية من أهم المعاني التي يحتاج الإنسان إلى الدلالة عليها في هذا المقام فقد جعلوا الأسماء دالة على الجواهر وجملة من الأعراض، والهيئات دالة على الربط وأنحاءه والحروف دالة على الأعراض النسبية الإضافية المتقوّمة في وجودها إلى طرفين - كالأبوة والبنوة - فقد وُضِعَ لفظ (في) مثلاً - للظرفية المتقومة بالظرف والمظروف، و(من) موضوعة للابتداء المتقوم بالمبتدأ والمبتدأ منه.

وأفادَ بأنّ الهيئة التركيبية موضوعة إلى نفس الربط والنسبة، والحروف موضوعة إلى المعنى النسبي المعبَّر عنه بالوجود الرابطي وبعد ذلك فإن الجملة المشتملة على الحرف والهيئة معاً يدور الأمر بين دلالة الحرف على العرض النسبي والهيئة على الرابط المخصوص وبين عكسه، والثاني باطل لأن الهيئة لا تدل على العرض وجداناً فيتعين الأول.

وبذلك يندفع ما قد يورد من أنّ المعاني الإفرادية تحتاج في إفادة المعنى التركيبي الجملي إلى رابط يربط بعضها مع بعض فإذا كان معنى الحرف نفس العرض النسبي احتاج الكلام إلى رابط يربط بين أجزائه لعدم صلاحية الحرف للربط إذا كان معناه نفس العرض، إذن يكون الرابط هو الهيئة بلا فرق بين هيئات المركبات وهيئات المشتقات فإنها تدل على ربط العرض بموضوعه، فمثلاً يدل لفظ (في) على العرض الأيني النسبي العارض على زيد في قولنا (زيد في الدار) وهيئة عالم وأبيض ومضروب تدل على ربط العرض بموضوعٍ ما، وكذلك بقية الحروف التي تدل على إضافة مخصوصة وربط خاص بين المفاهيم الاسمية.

والحاصل أنّ الهيئات موضوعة للربط والنسبة بين العرض ومحله، والحروف موضوعة للأعراض الإضافية النسبية.

وهو رحمه الله يتفق مع المحققين النائيني والاصفهاني في وضع الهيئات، ويختلف معهما في وضع الحروف.

ويرد عليه أولاً: إنّ المعنى الحرفي إذا كان هو العرض النسبي فهو لا يفترق عن المعنى الاسمي أيضاً فإنّ الموضوع له لفظ (في) ولفظ الظرفية واحد وهو العرض النسبي فلا يظهر هناك فرق ذاتي بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي فإن الابتداء الذي هو من الأعراض النسبية قد وضع له لفظ الابتداء ولفظ (من).

فما ذكره في تصوير المعنى الحرفي مناقض لما أفاده من الفرق الذاتي بينهما ومخالف للوجدان الحاكم بثبوت الفرق بينهما.

ص: 63

ثانياً: إنه ليس بالضرورة أن تتطابق الألفاظ مع المقولات الحقيقية والموجودات الخارجية العينية بمراتبها، فإنه قد يكون معنى اللفظ أمراً اعتبارياً أو انتزاعياً أو عدماً محضاً وليس من المقولات بوجه سواء كان في الأسماء كلفظ العدم أو في الحروف، فربما لا يكون المعنى الحرفي معبّراً عن وجود خارجي لا رابطياً ولا ربطياً.

وثالثاً: أنه قد يكون استعمال الحرف في موارد يستحيل تحقق العرض النسبي فيه كالواجب تعالى، كقوله سبحانه: ﴿الرحمن على العرش استوى﴾ أو (الله عالم بكذا) فإنّ اتصاف الذات المقدسة بالعرض النسبي ممتنع، فلو قلنا بأنّ الحرف موضوع للعرض النسبي يدور الحال في مثل هذه الاستعمالات بين القول بعدم صحتها أو الالتزام بالمسامحة والاستعمال المجازي، وكلاهما خلاف الضرورة وانّ العرف يرى صحة تلك الاستعمالات في الواجب والممكن والممتنع وأنها على نسقٍ واحد من دون عناية ومسامحة وذلك يكشف أنّ الموضوع له في الحرف معنى آخر غير ما ذكره وإلا لاختلف الاستعمال،ولكن هذا الايراد غير سديد فإنه يرد على غيره أيضاً، وإنّ امتناعه إنما هو من جهة انتفاء الاثنينية في صفات الله تعالى والنسبة والربط إنما يكون بين طرفين يضاف إلى ذلك أنّ ما يطلق في أكثر الموارد المذكورة هو الهيئة التي ترد على الصفات دون الحروف ولا يقول أحد من العلماء بأن الهيئات موضوعة للعرض النسبي.

القول الرابع: ما اختاره السيد الخوئي رحمه الله وهو كون الحروف موضوعة لتضييقات المعاني الاسمية وتقييداتها بقيود خارجة عن حقيقتها، ولا نظر لها إلى النسب الخارجية بل التضيّق إنما هو في عالم المفهومية وفي نفس المعاني كان لها وجود في الخارج أو لم يكن، فمفاهيم الحروف في حدِّ ذاتها متعلقات بغيرها بخلاف مفاهيم الأسماء التي هي مستقلات في أنفسها.((1))

توضيح ذلك: إنّ كل مفهوم اسمي له من السعة والإطلاق بالنسبة إلى الحصص التي تحته الحصص الكثيرة، سواءً كانت تلك الحصص نوعية أو شخصية أو بالنسبة إلى حالات شخص واحد، ولا ريب أنه كما يتعلق الغرض بالإطلاق والسعة كذلك يتعلق بالحصة، والمفهوم الاسمي لا يفي بذلك فلابد من تفهيمها بنحو تعدد الدال والمدلول بأن يكون الاسم دالاً على ذات المعنى والحرف دالاً على تحصصه وتضييق دائرة قابلية الانطباق فيه، ومن الحكمة أن يضع الواضع ما يوجب تحصيص المعنى وتقييده بعد ما كانت له أفراداً غير متناهية، ولا يقوم بهذا الأمر إلا الحروف والهيئات الدالة على النسب الناقصة كهيئات المشتقات وهيئة الإضافة، أو التوصيف ونحو ذلك فمثلاً إنّ كلمة (في) في قولنا (الصلاة في المسجد) لا تدل إلا على أنّ المراد من الصلاة ليس الطبيعة السارية بل خصوص حصة منها سواء كانت تلك الحصة موجودة في الخارج أو معدومة، ممكنة كانت أو ممتنعة، ومن هنا كان استعمال الحروف في الواجب والممكن والممتنع على حدٍ سواء ونسقٍ واحد فإنه مثلاً نقول: ثبوت القيام لزيد ممكن، وثبوت العلم لله تعالى ضروري، وثبوت الجهل له عز وجل مستحيل،فإنّ كلمة اللام في جميع ذلك يتوجب تحصيص مدخولها فيحكم عليه بالإمكان تارةً والضرورة أخرى والاستحالة ثالثة.

ص: 64


1- - محاضرات في أصول الفقه - ص80 وما بعدها - مصدر سابق.

وعليه يكون استعمال الحروف ليس إلا تضييق المعنى الاسمي من دون لحاظ نسبة خارجية حتى في الموارد الممكنة فضلاً عما يستحيل فيه تحقق نسبته، كما في الممتنعات وفي أوصاف الواجب تعالى ونحوها.

وقد استدلَّ على مختاره بأمور أربعة كما ذكرها بعض مقرريه.

الأول: بطلان سائر الأقوال.

الثاني: إنّ المعنى المختار تشترك فيه جميع الموارد لاستعمال الحرف من الواجب والممكن والممتنع على نمط واحد، وليس في المعاني الأخرى ما يكون كذلك.

الثالث: إنه نتيجة لما اختاره في حقيقة الوضع أنه التعهد والالتزام، فإن المتكلم إذا قصد تفهيم حصة خاصة فإنه منحصر بواسطة الحروف ونحوها.

الرابع: إنه موافق للوجدان والارتكاز العرفي، فإن الناس تستعمل الحروف في إفادة حصص المعاني وتضييقاتها في عالم المعنى مع غفلتهم عن وجود تلك المعاني في الخارج أو عدم وجودها، وعن إمكان تحقق النسبة بينها، وعدم إمكانها والظاهر أنّ اختياره ليس أمراً جديداً فإنه بالنهاية يرجع إلى ما اختاره المحققان النائيني والاصفهاني فلا يكون إلا تغييراً في نمط العبارة والنظر إلى حيثية خاصة من الحيثيات المتعددة المرتبة على الحروف والهيئات المدرجة في الكلام.

وذلك لأن الوجوه المتصورة في كلامه هي:

الأول: أن يكون المقصود من المعنى الحرفي المزعوم هو وضع الحرف للحصة الخاصة كما ورد بهذا التعبير في بعض تقريراته.

فهو موهون جداً ولم يكن مراده رحمه الله قطعاً، لأن الحصة لا تخرج بالتحصص عن المفهوم الاسمي، كما هو واضح.

الثاني: أن يكون المراد بالوضع للتضييق والتحصيص ونحوهما مما هو خارج عن ذات الحصة، كما هو صريح كلامه في تعليقته.

وفيه: إنّ التضييق والتحصيص من المسببات التوليدية المتعلقة بأسبابها بلا توسيط الإرادة والاختيار في تحققها، فإنّ الإرادة تتعلق بالأسباب كما في الوضوء والطهارة والإحراق والإلقاء في النار فيكون التضييق والتحصيص مسبباً عن الربط والنسبة بين المفهومين الحاصلين بلا اختيار، فلا يمكن أن يحصل تضييق بدون نسبة وربط مفهوم اسمي ومفهوم اسمي آخر مسبقاً فلابد من افتراض نسبة بينهما، فما لم تحصل النسبة بين زيد والدار لا يتضيق مفهوم زيد مثلاً.

فيكون وضع الحرف للملاك والسبب للتحصيص أي النسب والإضافات وعليه فإن كان مراده رحمه الله من وضع الحروف للتحصيص هذا المعنى فهذا نفس المدعى السابق للمحققين النائيني والاصفهاني وليس شيئاً في قباله.

الثالث: أن يكون مراده وضع الحروف للمسبب وهو التحصيص والتضييق.

فيرد عليه، أولاً: بما أورده على المحقق النائيني رحمه الله من أن إيجادية المعنى الحرفي في النسبة الكلامية يقتضي أن يكون للحرف معنى حتى يتحقق به النسبة الكلامية وكلامنافي ذلك المعنى الموضوع له تشخيصه، وفي المقام أيضاً كذلك فإن التحصيص والتضييق في طول النسبة بين المفهومين ويستتبعه المعنى الحرفي لا أنه بنفسه المعنى الحرفي

ص: 65

وفي طوله لذلك نجد أن بعض الحروف لايدل على التضييق والتحصيص كحروف العطف والاستثناء والتفسير والإضراب، وهو شاهد على عدم وضع الحروف للتحصيص ابتداءً.

ثانياً: إنّ التحصيص والتضييق إنما هما في طول أخذ نسبة بين المفهومين، فلابد من دال على تلك النسبة وإلا كان المدلول ناقصاً، ولا يفي بذلك إلا الحرف فيكون دالاً عليها ومعه يكتمل مدلول الكلام فلا معنى لأخذ الضيق والتحصيص في مدلول الحرف حينئذٍ.

الثالث: إنّ وضع الحرف إن كان لمفهوم التضييق والتحصيص فهو باطل لوجود التباين بين ما يفهم من الحرف ومفهوم التضيّق وجداناً وعُرفاً، وإن كان وضع الحروف لمصداق التضييق والتحصيص لزم منه الترادف بين الحرف وبين الألفاظ الاسمية الدالة على مصداق التحصيص والتضييق، فيكون لفظ (في) مرادفاً للفظ (مصداق التضيق) وهو باطل وجداناً لاختلاف المفهومين، بل يكون خلاف حكمة الوضع من أنّ المقصود منه التفهيم والانتقال وهو لا يتحقق إلا بتفهيم ذات الحصة دون عنوان تحصيصها وتضييقها.

ومما ذكرنا يظهر فساد ما رتبه رحمه الله على دعواه من صحة عموم استعمال الحروف حتى في الموارد غير القابلة للنسبة والربط كصفات الباري، لأن الحروف موضوعة للتضيّق وهو يتعلق بالمفاهيم لا بالموجودات كي يتوقف - كالنسبة - على تعدد الوجود وثبوت الطرفين الممتنع في الواجب تعالى، فإنه إن كان مراده وضع الحرف للسبب والربط فالأمر واضح وقد تقدم الكلام فيه، وإن كان وضع الحرف للمسبب وهو التضيق فلا ريب أنه لم يكن الوضع لكلي التضييق ومفهومه العام الشامل لجميع الأفراد، فتكون جميع الحروف مترادفة، بل الموضوع له في كل حرف تضييق من جهة خاصة للمفهوم فمثلاً وضع حرف (في) لتضييق من جهة الظرفية، و(من) للتضيق من جهة الابتداء وهكذا وحينئذٍ لابد في التضييق الخاص من ثبوت ارتباط بين المفهومين الاسميين سابقاً بحيث ينشأ منه التضييق الخاص ليصح استعمال الحرف فيه فإنه لا يحصل تضييق مثلاً في قولنا: (زيد في الدار) إلا إذا تحققت نسبة وربط خاص بين زيد والدار.

وعليه فاستعمال الحروف في صفات الله تعالى يتوقف على ثبوت النسبة والارتباط بين الصفة والذات كي يتحقق التضييق المعبّر عنه بالحرف، فيعود الإشكال كما هو ولابد من حلِّه من وجه آخر يرتفع الإشكال على جميع الأحوال.

ثم إنه بناءً على كون الموضوع له في الحروف هو التضييق فإنه يكون معنى الحرف من المعاني الايجادية لأن الحرف إمّا قد وضع للنسبة والربط أو واقع التضييق، والأول واضح فإن النسبة إنما تكون بين المفاهيم في الذهن والتضييق أيضاً يكون بين المفاهيم فهو من كيفيات وجود المفاهيم وهو رجوع منه رحمه الله إلى ما فرَّ منه ووقع في الإشكال الذي أورده على مختار المحقق النائيني رحمه الله فإنه التزم بأنّ المعاني الحرفية منالمفاهيم غير المستقلة فكان الفرق بين المعاني الاسمية والمعاني الحرفية هو الاستقلال وعدمه ومن نتيجة ذلك عدم التمسك بالإطلاق في غير مورد العلم بتعلق اللحاظ استقلالاً، كما هو الغالب في الحروف حيث لا يعلم تعلق اللحاظ الاستقلالي بمعناها.

وأمّا الأدلة التي استدلَّ بها فهي موهونة جداً، مما يُغني عن ذكر الوجوه سوى أنه لا ارتباط بين التعهد والالتزام في الوضع وبين القول بالتضييق في وضع الحروف، فإن

ص: 66

البحث الثاني يأتي في المرتبة المتأخرة عن الأول، فإنّ الالتزام بمعنى خاص في حقيقة الوضع لا يقتضي وضع الحرف إلى معنى معين بحيث يكون تعيين حقيقة الوضع نتيجته هو الوضع المذكور.

فالوضع للتضييق على تقدير تماميته يصلح على جميع تقادير معنى الوضع كما هو واضح.

وأمّا دعواه الوجدان فهي مجازفة إذ بعد معرفة الإشكال عليها كيف يكون ارتكازياً.

والحاصل أن قوله رحمه الله يرجع إلى ما ذهب إليه المحقق النائيني والمحقق الاصفهاني وغيرهما وأنّ الأقوال يمكن أن تكون مجرد تعبيرات مختلفة عن مدعىً واحد.

وذهب السيد الصدر إلى تعديل وتصحيح ما ذهب إليه السيد الخوئي((1))

فقال بتلخيص منا:

إنّ الماهيات على قسمين:

أحدهما : ماهيات لها تقرر واستقلال ماهوي وهي التي يعبّر عنها بالمفاهيم الاسمية، وهذا القسم له وجودات: الوجود الحقيقي الخارجي، والوجود الذهني، والماهية محفوظة في كلا الوجودين وهي الجامع الذاتي بين كلا النحوين من الوجودين على ما هو المفصل في العلوم العقلية في إثبات الوجود الذهني، كما هي الجامع بين الوجودات الحقيقية الخارجية.

القسم الثاني : الماهيات التي هي ناقصة ذاتاً فإنها لأجل نقصانها يستحيل أن يكون لها وجود ذهني أي الوجود اللحاظي التصوري لأن معنى ذلك انحفاظ ماهيتها في ضمن الوجودين وهو يساوق افتراض الجامع الذاتي لفردين من النسبة، كما في المفاهيم المستقلة، وهو مستحيل لأن النسبة إمّا ذهنية وهي غير موجودة لما عرفت من أنه يستحيل أن يكون للنسبة وجود ذهني مقابل الوجود الذهني لطرفي النسبته إذ لم يكن وجودات ثلاثة ذهنية وإلا استحال الربط كما لم يكن للنسبة والربط وجود خارجي مقابل وجود الطرفين في الخارج، لكن تكون لها نسبة واقعية أي الأعم من الوجود الذهني والخارجي وهذا يختص بالخارج، وأمّا الذهن فليس فيه تلك النسبة فإنه ليس فيه طرفين متغايرين من الوجود الذهني ينشأ بينهما نسبة موازية للنسبة الواقعية الخارجية، وإنما يتحقق وجود واحد وهو مركب تحليلي أحد أجزائه النسبة، كما هو الشأن في المركبات التحليلية في الخارج المركب من الجنس والفصل ولعلّ مراد السيد الخوئي هذه النسبة التحليلية لا النسبة الواقعية عيناً أو ذهناً فهو لم يكن يرىوجداناً إلا وجوداً ذهنياً واحداً مما اضطره إلى أن يدّعي وضع الحروف للتحصيص بمعنى أنّ الذهن البشري يقضي أن يتضيق الوجودان الخارجيان ويندكان في وجود ذهني واحد يمكن تحليله إلى أركان ثلاثة.

ومن ذلك يظهر استحالة الوجود الذهني للماهية النسبية ولابد أن يعرف أنّ المراد من الوجود الذهني هو الوجود اللحاظي التصوري، لا مطلق الوجود في عالم النفس المعبر عنه تارةً بالنفس الآمري أو الواقعي إذ ربما يكون للشيء وجوداً نفسياً وليس له وجود ذهني كما بالنسبة إلى الإرادة النفسية فإنها كيف نفساني.

ص: 67


1- - راجع - بحوث في أصول الفقه - ج1 / ص249 - مصدر سابق.

ومن ذلك يظهر أنّ النسبة إذا كان موطنها الأصلي خارج عالم النفس فلا يمكن أن توجد في الذهن مطلقاً حقيقة، لا بوجود حقيقي ولا بوجود لحاظي تصوري أمّا الأول فلأنه خلف ما فرضناه من أن موطنها الأصلي خارج عالم النفس.

وأمّا الثاني: فلما عرفت من استحالة الوجود الذهني للنسبة.

وحينئذٍ يكون اقتناص الذهن لها إنما تكون تحليلية ومرجعه إلى الحصة الخاصة التي لها وجودان خارجي وذهني، والأخير إنما يكون دائماً لمفهوم اسمي بمطلقه أو بحصة خاصة منه ثم قال إنه بهذا يمكن أن يتحقق التصالح بين الاتجاهين الاخطاري والايجادي من المعاني الحرفية، فمن يقول بالاخطارية يقصد اخطارية الحصة الخاصة المستنبطة للنسبة تحليلاً فإنها اخطارية كاخطارية المعنى الاسمي المطلق، وأمّا إذا كان الموطن الأصلي للنسبة عالم النفس، فهي يمكن أن توجد في عالم النفسي بوجودها الحقيقي. لا بوجود لحاظي تحليلي فقط، ويترتب على ذلك أن النحو الأول من النسبة تكون نسبته ناقصة وهي النسب الأولية الخارجية التي هي موضوعة بإزاء نسب تحليلية والنحو الثاني تكون نسبته تامة، وهي النسبة الواقعية الثانوية.

والحق أن يقال: إنّ ما ذكره رحمه الله إنما هو إعادة لما ذكره الأعلام من أنّ النسبة لا وجود لها ذهناً ولا خارجاً وأنّ لها سنخ مفهوم، وهذا هو المراد بالنسبة التحليلية التي ذكرها فإن الجميع يتفقون على عدم تحقق النسبة مطلقاً لا عيناً ولا ذهناً، فلابد أن تكون النسبة هي من آثار الوجود الذهني للطرفين والمفهومين الاسميين لهما سنخ وجود ذهني ومفهوم كذلك وهذا هو المراد من التحليل العقلي للنسبة فما يورد على الأعلام السابقين يورد عليه أيضاً، وأمّا تحليله للنسبة إلى قسمين نسبة واقعية أولية وأخرى واقعية ثانوية والأولى تكون ناقصة لأنها نسبٌ تحليلية والثانية تكون تامة فهو صحيح لكنه يرجع إلى كيفيات المعاني الاسمية لا أن تكون النسبة هي بنفسها ناقصة أو تامة فإنه غير معقول فإنها ربط لحظي لا وجه لنقصانه وتمامه، نعم يتفق المدلول الحرفي فيها تبعاً لمتعلقاتها فلابد أن يقال أن المعاني الاسمية لها من اللوازم والملزومات والكيفيات لابد أن تكون ملحوظة للواضع حين وضع الأسماء ولكونها ملازمات واقعية بحيث يكفي أن يكون الملزوم مورد اللحاظ في لحاظ لوازمه.

وبناءً على ما ذكرنا في حقيقة الوضع يظهر أن الواضعين الأولين البدائيين وضعوا الألفاظ للمعاني الاسمية ابتداءً لكنها لم تكن بعيدة عن لوازمها وكيفياتها الواردة عليها من الزمان والمكان والإضافات والنسب ونحو ذلك من المعاني الحرفية، فهي فانية في تلك المعاني الاسمية المستقلة فناءً تاماً ومندكة فيها اندكاكاً تاماً يستحيل وجودها مطلقاًبدونها فيكون وضع الأسماء وضع لها بالتبع فلا نحتاج إلى التماس الوضع الخاص للمعاني الحرفية وهذا هو مختار السيد الوالد وهو الأقرب إلى الوضع وكيفيته كما عرفت سابقاً.(1)

ولا ريب في أنه يترتب على الحروف والهيئات والنسب والاضافات آثاراً خاصة وهي كثيرة:

منها كونها آلية ولم تكن استقلالية، لما عرفت من الفناء التام.

ص: 68


1- - راجع - تهذيب الأصول - ج1 / ص18 - مصدر سابق.

ومنها كونها: ايجادية لأنها توجد المعنى الاسمي في قيود وحصص.

ومنها: كونها ربطية.

ومنها: كونها تستدعي التحصيص والتضييق للمعاني الاسمية.

ويرجع ذلك إلى أنها فانية في الغير فناءً تاماً فيكون وضعها تبع وضع الاسم إنْ عام فعام وإن كان خاصاً فهي خاص أيضاً.

ومن جميع ذلك يظهر أن الأقوال في وضع الحروف ثلاثة:

1- الموضوع له العام وهو مختار صاحب الكفاية ومن تبعه.

2- الموضوع له الخاص.

3- يتبع الاسم فخاص إن كان خاصاً وعام إنْ كان عاماً.

ومن ذلك كله يظهر:

أن المعاني الحرفية تتصف أيضاً بالايجادية والاخطارية والكلية والجزئية، والاطلاق والتقييد تبعاً لمتعلقاتها لغرض فنائها فيها، وعدم التحصل لها في ذاتها بوجه من الوجوه، ويمكن فرض اتصافها بها ولو لم يتصف المتعلق بها على نحو عدم لحاظ المتعلق والغفلة عنه لا على نحو لحاظ العدم، وهذا صحيح في الانحلالات الذهنية وتمحلاته كما سيأتي تفصيل ذلك .

ثم إنه من مداليل الحرف النسب والاضافات وهما تعمّان جميع الموجودات ففي المبدأ تبارك وتعالى -كالخالقية والرازقية- ونحوهما من صفات الفعل، فإنّ كونه عز وجل خالقاً ورازقاً إنما هو لأجل اضافتها إلى المخلوق المرزوق وأما الممكنات فقد حُفَّت بالإضافات الكثيرة العديدة بل أنّ حقيقة الممكن لم تكن إلا النسبية، فلا حقيقة مطلقة إلا الله تعالى، كما هو الثابت في العلوم العقلية فمن الإضافات الإضافة إلى الفاعل التي هي أول النسبة العارضة لها ثم الزمان والمكان وغيرهما مما لا تحصى، وقد اصطلح العلماء في الأخيرين على المستقر تارةً واللغو أخرى.

والأول ما كان نفس الظرف محمولاً، ك-(زيد في يوم الجمعة)، أو (في الدار)، والثاني ما كان من متممات المحمول، ك-(زيد يقوم في الجمعة)، أو (يصلي في الدار).

ثمرة البحث:

قد ذكر العلماء لهذا البحث التحليلي في مداليل الحروف وما يلحق بها كالهيئات والإضافات والنسب ثمرات عملية حصرها بعض الأعلام في موارد ثلاثة. وأما السيدالوالد رحمه الله فلم يذكر إلا مورداً واحداً ونحن نذكرها وحق البحث هذا أن يذكر بعد البحوث الآتية من الهيئات والإنشاء والمبهمات لكنه رحمه الله ذكرها هنا:

الأول: وهو الذي ذكره السيد الوالد رحمه الله هو إمكان تقييد الهيئة وعدمه وذلك في الواجب المشروط عند دوران الأمر في القيد بين رجوعه إلى الهيئة أو رجوعه إلى المادة، كما في قولنا (إن استطعت فحج)، فبالإمكان أن يكون القيد - وهو الاستطاعة - قيداً للحكم والوجوب، وأن يكون القيد للواجب أي الحج.((1))

ص: 69


1- - تهذيب الأصول - ج1 / ص18 - مصدر سابق.

الثاني: ثبوت مفهوم الشرط وعدمه والاستدلال على ثبوت المفهوم بإطلاق أداة الشرط، أو أنه لا يكون قابلاً للاطلاق والتقييد فلا يمكن التمسك بالإطلاق لإثبات المفهوم.

الثالث: التمسك بإطلاق الموضوع في الجملة التي تكون النسبية فيها تامة دون الناقصة وذلك إذا وقع معنى سواء كان اسمياً أم حرفياً طرفاً لنسبة فإنه تارةً تكون النسبة تامة، وأخرى تكون ناقصة، فإذا كانت تامة، وشك في طرف النسبة الذي يحكم عليه بطرفها الآخر هل هو المطلق أم المقيد أمكن التمسك بالإطلاق وإثبات كونه هو المطلق، كما إذا قلنا: (البيع حلال) وشككنا في أنّ موضوع التعليق هو مطلق البيع أو الحصة الخاصة منه، أمكن التمسك بالإطلاق ونثبت الأول، ويتفرع عليه دلالة الجملة المذكورة على انتفاء سنخ الحكم بانتفاء البيع وأمّا إذا وقع معنى طرفاً لنسبة ناقصة كالنسبة الوصفية، وشككنا في أن الموصوف بالوصف هو المطلق أو المقيد فلا يمكن التمسك بالإطلاق لإثبات كون الموصوف هو المطلق.

ولابد من توجيه البحث في كل واحد من هذه الموارد الثلاثة:

أمّا الأول: فقد استدلوا على عدم رجوع القيد إلى الهيئة بأمرين:

أحدهما : أنّ الموضوع له في الحرف والهيئة إن كان عاماً كما ذهب إليه صاحب الكفاية جاز تقييد الهيئة فيرجع القيد إلى الوجوب في المثال المذكور بخلاف ما إذا كان الموضوع له فيها خاصاً فلا يمكن إرجاع القيد إليها فلابد من إرجاعه إلى المادة لأنه يكون مدلول الحرف جزئياً والجزئي لا يقبل التقيد، لأنه إنما يطرأ على ما كان قابلاً للسعة.

والأمر الثاني: إنّ معنى الحرف آلي لا أن يكون استقلالياً والإطلاق والتقييد حكمان على الطبيعة فلابد أنْ يلحظ المحكوم عليه استقلالاً وهو خلاف طبيعة المعنى الحرفي فلا يصح الإطلاق في الآلي.

ويمكن مناقشة الأمر الأول:

أولاً: بأن خصوصية الموضوع له لا تنفي صحة التقييد، كما في تقييد الأعلام لأن كون الموضوع له في الحروف والهيئات خاصاً لا يدل على كونه جزئياً لا يقبل الصدق على كثيرين فإن مردَّه إلى الجزئية الطرفية بمعنى أنه متقوم بأطرافه.

ثانياً: إنه إذا انتفى العموم والإطلاق الإفرادي في الخاص لا ينتفي العموم الأحوالي منه، فيمكن الإطلاق والتقييد بلحاظ الأحوال.والإشكال عليه: بأن الجزئي لا يقبل الإطلاق من جهة الأحوال حتى يقبل التقييد لأن الجزئي لابد أن يكون متحدداً من وجوهٍ بأحوال خاصة لا يقبل الإطلاق غير صحيح عُرفاً فإنه يرى أن الجزئي يقبل الإطلاق من حيث الأحوال فيقبل التقييد.

ثالثاً: أن المعاني الحرفية وملحقاتها تقبل الإطلاق والتقييد تبعاً لمتعلقاتها التي تقبل كل شيء كما عرفت آنفاً وهذا أحسن الوجوه. وأجيب أيضاً بوجوه أخرى لا تخلو من مناقشة فراجع.

كما أنه يمكن مناقشة الأمر الثاني :

أولاً: بأنه يمكن أن يكون فرض اللحاظ الاستقلالي لمدلول الحروف، ويكون أثراً للحكم نفسه كما إذا تحقق لحاظ المعنى في نفسه أولاً مقيّداً بقيد ثم لحاظ المقيّد آلياً في مقام الاستعمال فيرتفع المانع حينئذٍ.

ص: 70

وأشكل عليه بعض الأعلام بأنّ ذلك إنما يتم فيما إذا كانت النسبة ناقصة فإنه بالإمكان التقييد وملاحظة الحصة الخاصة باللحاظ الآلي على نحو تعدد الدال والمدلول، وأمّا إذا كانت النسبة تامة فلا يتم ما ذكر لأنه لابد من حفظ النسبة التامة في مرحلة اللحاظ الاستعمالي، وانحفاضها في هذه المرحلة مساوق للنظر إلى طرفيها بما هما متغايران، مع أنه لو كان طرفاها ملحوظين في هذه المرحلة تبعاً، فكيف يمكن إيقاع النسبة بينه وبين الطرف الآخر.

وثانياً: أنه ليس المعنى الحرفي آلي والمعنى الإسمي استقلالي بل أنّ الاختلاف بينهما ذاتي لا لحاظي، كما عرفت.

وثالثاً: من أنه لما كانت التبعية التامة بين مدلول الحرف والمتعلق فإنّ أثر كل واحد منهما ينتقل إلى الآخر، وحينئذٍ لا فرق بين النسبة التامة والنسبة الناقصة كما ذكره بعض الأعلام كما لا فرق بين أن يكون المعنى الحرفي نسبياً أو آلياً من حيث اللحاظ ونحو ذلك مما عرفت سابقاً.

أما المورد الثاني، فإنه إن قلنا بثبوت الإطلاق لمدلول الهيئة، فتارةً يتمسك بالإطلاق لإثبات أنّ الوجوب المجعول في طرف المنطوق ليس مقيداً بقيد فالوجوب ليس مشروطاً فينفى بالإطلاق الوجوب الغيري والكفائي والتخييري، فإنها خصوصيات ترجع إلى الوجوب المشروط، وهو بحث خاص يأتي في مباحث الأوامر إن شاء الله تعالى.

وأخرى يتمسك بإطلاقه إذا وقع المدلول الحرفي طرفاً للتعليق في الجملة الشرطية لإثبات أنّ المعلّق سنخ الحكم لا شخصه لكي ينتفي سنخ الحكم بانتفاء الشرط، كما هو مقتضى مفهوم الشرط - وقد وقع الإشكال أيضاً باعتبار أن المعنى الحرفي جزئي والجزئي لا يقبل الإطلاق الذي هو من شؤون المفاهيم الكلية، أو باعتبار كونه آلياً كما عرفت سابقاً، وكل ما لا يقبل التقييد لا يقبل الإطلاق.

وقد عرفت الجواب عن كل واحدٍ منهما، وقلنا أنّ المعنى الحرفي يمكن تقييده فيصح التمسك بإطلاقه.

أما المورد الثالث: فقد فصل بعض الأعلام بين النسبة التامة وبين النسبة الناقصة فإن كانت من قبيل الأولى فيمكن التمسك بالإطلاق لإثبات بأن طرف النسبة هو المطلقتمسكاً بمقدمات الحكمة، ويتفرع عليه انتفاء سنخ الحكم بانتفاء الطرف، كما في قولنا: (البيع حلال) وأمّا إذا كانت النسبة ناقصة كالنسبة الوصفية، وشككنا في أنّ الموصوف مأخوذ على نحو الإطلاق أو التقييد فلا يمكن التمسك بالإطلاق لإثبات أن الموصوف هو المطلق، كما عرفت سابقاً من الفرق بين النسبة التامة والنسبة الناقصة في أنّ الأخيرة تحليلية، وأنه في صقع الذهن لا توجد نسبة وإثبات شيء لشيء بل هو موجود خاص واحد فلا موضوع حتى يجري فيه الإطلاق، بل هو مفهوم إفرادي واحد.

ولكن عرفت الإشكال في ما ذهب إليه وأنّ النسبة على كلا القسمين هي من سنخ الوجود الذهني والمفهوم الذهني لا يكون من حقيقتها حتى يرد ما توهمه وسيأتي في بحث المفاهيم تتمة الكلام إن شاء الله تعالى.

ص: 71

فالحق أن يقال: أنه لا ثمرة عملية تترتب على هذا البحث الطويل فإنه يمكن إثبات الإطلاق لمدلول الحروف ومعانيها فيصح التمسك به لنفي القيود في جميع الموارد الثلاثة.

ثم انّ الحروف على قسمين الحروف الداخلة على المفردات، والحروف الداخلة على الجمل كحروف التمني والترجي والاستفهام وغيرها.أما والأول هو مورد البحث عن المعنى الحرفي، والثاني فقد اتفق الجميع على أنّ معانيها إنشائية إيجادية ويقول بها حتى من ينكر إيجادية معنى الحروف الإفرادية.

والوجه واضح فإنّ الجملة بدخول تلك الحروف عليها تكون إنشائية ولا ريب في أنّ الجملة إذا دخل عليها حرفٌ أو كلمة يصبح لها تركيبٌ خاصٌ تشتمل على خصوصيات، ويسمى ذلك بالهيئة وحينئذٍ لابد أن يقع البحث عن الهيئات مطلقاً فإنها أمّا أن تكون هيئات الجمل ويبحث فيها عن الجمل الخبرية بقسميها الناقصة والتامة، وعن الجمل الانشائية.

وإمّا أن تكون من الهيئات الإفرادية، ويبحث فيها هيئة الفعل وهيئة المصدر، وهيئة المشتقات.

القسم الأول - هيئات الجُمل:

أي الهيئة القائمة بمجموع كلمتين أو أكثر على نحو يكون للمجموع مدلولاً خاصاً لم يكن ثابتاً لتلك المفردات في حال تفرقها، وهذه الجُمل إمّا ناقصة أو تامة، خبرية أو إنشائية تامة فهنا أصناف ثلاثة: وقبل بيانها لابد من التنبيه على أمور:

الأول: الجملة تارة إخبارية محضة، كزيد قائم، وأخرى إنشائية كذلك ك-(اضرب) وثالثة: تستعمل فيهما ك-(بعت) مثلاً، والجامع في الجميع إبراز المعنى بأسلوب وتركيب معين، والفرق في الأوليين من جهة المحاورات، وفي الأخيرة من جهة القرائن التي منها الداعي الذي يفهم بالقرائن الظاهرة سواءً كانت مقالية أو حالية.

الثاني: كل جملة تتركب من مادة وهيئة كقولنا: (حفظ زيد المتاع) ونحو ذلك فإن مادته الحفظ وهيئته فعل الماضي، لا ريب في أن وضع مواد الجمل إنما يكون شخصياً، كما أنه لا ريب في أن وضع هيئاتها الخاصة التي تفيد معاني مخصوصةإنما يكون نوعياً. وأما ملاحظة المادة والهيئة مجموعاً ثم وضع المركب منهما ثالثاً، فهو من اللغو الباطل ولا يرتكبه العاقل.

الثالث: أنّ الخبر حكاية والانشاء إيجاد والأخير قد يكون ايجاد طلب، كالأمر والاستفهام والدعاء، وقد يكون إيجاد شيء له اعتبار، كالعتق والطلاق والبيع وبذلك يظهر الفرق بين قولنا: (طلَّق)، وبين (طالق)، و(طلِّق).

والإخبارية والإيجادية من الأمور القصدية، وهل يتصف كلام واحد بهما؟

فيه خلاف ذهب جمع منهم السيد الوالد رحمه الله الى صحته من جهتين مختلفتين، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

وقبل الدخول في بيان مفاد الجمل الانشائية و الخبرية لابد من ذكر معنى الإنشاء الذي اختلف فيه الأعلام على أقوال أربعة:

الأول: إنّ الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ في نفس الأمر.

الثاني: إنه إيجاد المعنى باللفظ بالعرض، فلا يخرج عن حقيقة الاستعمال وهو مختار المحقق الاصفهاني رحمه الله .

ص: 72

الثالث: إنه ايجاد المعنى باللفظ في وعائه المناسب له، وهو المشهور.

الرابع: إنه إبراز الصفات النفسانية، وهو الذي اختاره السيد الخوئي رحمه الله .

أمّا القول الأول: وهو مختار صاحب الكفاية فقد ذكر في بيانه بتلخيص أنّ الانشاء ايجاد المعنى في نفس الأمر لا الحكاية عن ثبوته وتحققه في موطنه من ذهن أو خارج الذي هو معنى الخبر، والمراد من وجوده في نفس الأمر هو ما لا يكون بمجرد فرض فارض ولا ما يكون بحذائه شيء في الخارج فملكية المشتري للمبيع لم يكن لها ثبوت قبل إنشاء التمليك ولو قيل بثبوتها حينئذٍ إنما يكون من مجرد الفرض كفرضية جمادية الإنسان، وإنسانية الجماد، وأمّا بعد انشائها حصل لها ثبوت وخرجت عن مجرد الفرض وإن لم يكن لها ما بإزاء في الخارج، فيكون المعنى الانشائي موجود بوجود انشائي ويحصل له تقرر في عالم الانشاء بمعنى وجود المعنى باللفظ بنحو وجود يُعبّر عنه بالوجود الانشائي فيكون من سنخ الاعتبارات، ولا يختص بالمعاني الاعتبارية كالملكية ونحوها بل يعم المعاني الحقيقة الواقعية كالتمني والترجي والاستفهام، فيمكن إنشاء الصفات النفسانية الواقعية، كما يمكن إنشاء المعاني الاعتبارية.

ولم يعتبر في حقيقة الانشاء إيجاد نفس المعنى في عالمه حتى يقال بأنه لا يمكن إنشاء مثل التمني الذي هو من الأمور الواقعية لتبعية وجودها للأسباب التكوينية دون الإنشاء بل هو يتحقق ولو لم يكن للصفة الحقيقية وجود في الخارج أصلاً ويترتب عليه آثارهُ لو كانت, ومن خصائصهِ أنه يعتبر في الوجود الإنشائي ترتب أثر شرعي أو عرفي عليه، فلو أنشأ المعنى الواحد بلفظ واحد مكرراً لا يخرج كل منها عن الإنشاء، وإن لم يترتب على غير الأول سوى التأكيد إذا كان المورد قابلاً للتأكيد، ولا يكون من قبيل ايجاد الموجود حتى ينفي كونه إنشاءً كما تخيّله الشهيد رحمه الله في القواعد((1))ونفى كون العقد المكرر إنشاءً لعدم حصول الايجادية نظير صدوره ممن لا يترتب على قوله أثرٌ شرعاً وعرفاً كالمجنون إذا تأتى منه القصد، فإنه لا يخرج عن الإنشاء وإن كان لغواً.

والحاصل أن الإنشاء عبارة عن ايجاد المعنى باللفظ بوجود إنشائي اعتباري غير إيجاده في عالمه المناسب له من اعتبار أو واقع، ولذلك كان خفيف المؤنة ولا يتوقف على ترتب أثر عقلائي عليه، كما أنه يصلح أن يجري في الصفات الحقيقية الواقعية، وإن لم تتوقف صحته على ثبوت تلك الصفات في الواقع ونفس الأمر.

وقد ذكر رحمه الله أن الفرق بين الإنشاء والأخبار من جهتين:

الأولى: إنّ مفاد الإنشاء مفاد كان التامة لأنه بمعنى ايجاد الشيء ومفاد الخبر مفاد كان الناقصة لأنه بمعنى ثبوت شيء لشيء.

الثانية: إن مفاد الإنشاء ايجاد وحدوث بعد إنْ لم يكن، ومفاد الخبر انه يحكى به بعد ان كان أو يكون.

القول الثاني: وهو مختار المحقق الاصفهاني رحمه الله وخلاصة ما ذكره في حاشيته على كفاية استاذه: إن أقسام الوجود المعروفة هي الوجود العينيي، والوجود الذهني، والوجود اللفظي، والوجود الكتبي، وإنّ الوجود المنسوب للماهيات بالذات ينحصر في الحقيقي

ص: 73


1- - الشهيد الأول محمد بن مكي - القواعد والفوائد 1 / 112 - قاعدة 86 - الطبعة الأولى.

والذهني، والحقيقي لا يكون إلا إذا كان له بإزاء في الخارج أو له منشأ انتزاع ما بإزاء مطابق له، وهو غير متحقق فيما نحن فيه.

والذهني إنما علَّته التصور، وأمّا الوجود باللفظ وبالكتابة إنما وجودهما بالذات للفظ والكتابة وبالجعل والمواضعة وبالعرض للمعنى وبعد معرفة ذلك يقال أنّ المراد بوجود المعنى باللفظ.

إمّا أن يُراد ثبوته بعين ثبوت اللفظ بحيث ينسب الثبوت إلى اللفظ بالذات وإلى المعنى بالعرض.

وإما أن يراد ثبوته منفصلاً عن اللفظ بآلية اللفظ بحيث ينسب إلى كل واحدٍ منهما بالذات.

لا سبيل إلى الثاني لما عرفت من أنّ الوجود المنسوب للماهيات بالذات منحصر في العيني والذهني دون غيرهما ومن الواضح أن آلية وجود اللفظ وعليّته لوجود المعنى بالذات لابد أن يكون في أحد الموطنين من الذهني والعيني، وقد عرفت أنّ وجود المعنى بالذات في الخارج يتوقف على حصول مطابقهِ في الخارج أو مطابقاً لمنشأ انتزاعه فإذا أُعدما فنسبة الوجود إلى المعنى يكون غير معقول، ووجوده في الذهن يكون بتصوره بعليّة اللفظ للوجود الذهني، نعم الانتقال الحاصل من اللفظ إلى المعاني إنما هو لأجل الملازمة الجعلية بين اللفظ والمعنى، وهذا هو موجود في كل لفظ ولا يختص بالإنشاء الذي كلامنا فيه فقط.

فيكون المعقول من ثبوت المعنى باللفظ هو الوجه الأول أي نسبة وجود واحد إلى اللفظ والمعنى بالذات في الأول وبالعرض في الثاني وهذا هو المراد من قولهم: إنّ الإنشاء قولٌ قُصِدَ به ثبوت المعنى في نفس الأمر وإنّما قُيِّد بنفس الأمر مع أنّ وجود اللفظ في الخارج وجود للمعنى فيه أيضاً بالعرض إنما هو لأجل التنبيه على أنّ اللفظهو وجود المعنى تنزيلاً في جميع النشآت بواسطة العلقة الوضعية بينهما، فكأن المعنى ثابت في مرتبة ذات اللفظ بحيث لا ينفك عنه في أي مرحلة من مراحل الوجود فيكون المراد بنفس الأمر حد ذات الشيء وإنّ اللفظ وجود للمعنى في جميع النشآت.

ثم ذكر رحمه الله إن مراد صاحب الكفاية من قوله المتقدّم من أن الانشاء إيجاد المعنى باللفظ في نفس الأمر أي وجود المعنى وثبوته بعين ثبوت اللفظ بحيث ينسب الثبوت إلى اللفظ بالذات والى المعنى بالعرض فيكون وجود المعنى في حدِّ ذاته وجود لللفظ في جميع النشآت.

وبعبارة أخرى يكون الإنشاء هو ثبوت المعنى خارجاً ثبوتاً لفظياً .

ثم قال: إن قلت: إنّ هذا المطلب جارٍ في جميع الألفاظ بالنسبة إلى معانيها من دون اختصاص بالإنشاءات. قلت: الفرق بينهما أن المتكلم قد يتعلق غرضه بالحكاية عن النسبة الواقعة في موطنها باللفظ المنزل منزلتها، وقد يتعلق غرضه بإيجاد نفس هذه النسبة بإيجاد اللفظ المنزل منزلتها، مثلاً: لفظ (بعت) المشترك بين الإخبار والإنشاء فإنّ مفاده فيهما واحد وهي النسبة المتعلقة بالملكية، وأنّ هيئة (بعت) وجود تنزيلي لهذه النسبة الايجادية القائمة بالمتكلم والمتعلقة بالملكية، وهو قد يقصد وجود تلك النسبة خارجاً بوجودها التنزيلي الجعلي اللفظي فليس وراء قصد الايجاد بالعرض وبالذات أمرٌ آخر وهذا هو الإنشاء.

ص: 74

وقد يقصد زيادة على ثبوت المعنى تنزيلاً الحكاية عن ثبوته في موطنه أيضاً وهذا هو الإخبار وكذلك في صيغة (افعل) وأشباهها، فإنه يقصد بقوله: (إقرأ) ثبوت البعث الملحوظ بين المتكلم والمخاطب، والمادة، فيوجد البعث في الخارج بوجوده الجعلي التنزيلي اللفظي فيترتب عليه ما يترتب على البعث الحقيقي الخارجي مثلاً، إذا كان المخاطب من أهله وفي محله وهذا هو الفرق بلحاظ المقابلة بين المعاني الخبرية والانشائية، فلا ينتقض باستعمال الألفاظ المفردة في معانيها فنقول مثلاً: العلم هو انطباع الصورة في الذهن والنهوض هو القيام أو الجلوس هو القعود ونحو ذلك فإن ذلك كالإنشاء من حيث عدم النظر فيها إلا ثبوتها خارجاً ثبوتاً لفظياً، كما عرفت آنفاً غاية الأمر أنها لا يصح السكوت عليها بخلاف المعاني الإنشائية للمعاني الخبرية.

والجواب عن هذا النقض بما عرفت من الفرق بين المعاني الإنشائية والمعاني الخبرية فإنّ استعمال الألفاظ المفردة في معانيها من قبيل الاخبار تقريراً.

ثم ذكر أنّ هذا أحسن ما يتصور في شرح حقيقة الإنشاء وعليه يحمل ما أفاده أستاذه العلامة، لا على أنه نحو وجود آخر في قبال جميع الأنحاء المتقدمة فإنه غير متصور.

وقال مما ذكرنا في تحقيق حقيقة الإنشاء تعلم أن تقابل الإنشاء والاخبار ليس تقابل مفاد كان التامة ومفاد كان الناقصة نظراً إلى أنّ الإنشاء إثبات المعنى في نفس الأمر والإخبار ثبوت شيء لشيء تقريراً وحكاية.وذلك لأن طبع الإنشاء -كما عرفت- لا يزيد على وجود المعنى تنزيلاً بوجوده اللفظي وهو قدر جامع بين جميع موارد الاستعمال، فإنّ الخبر أيضاً يكون كذلك، والحكاية غير متقوّمة بالمستعمل فيه بل خارجة عنه فهي من شؤون الاستعمال.

بل الفرق أنهما متقابلان بتقابل العدم والمَلكة تارة وبتقابل السلب والايجاب أخرى.

وذلك ففي الجمل المشتركة بين الإنشاء والإخبار كلفظ (بعت) يتقابلان تقابل العدم والملكة لأنّ المعنى الذي بوجوده التنزيلي اللفظي قابل لأن يحكى به عن ثبوت في موطنه، فعدم الحكاية والتمحض فيما يقتضيه طبع الاستعمال عدم ملكة، ومثل (افعل) وأشباهه المختصة بالإنشاء عرفاً يتقابلان تقابل الايجاب والسلب هذا ما أردنا إثباته من كلامه الشريف((1)).

ويمكن الإشكال عليه بوجوه:

أولاً: أنّ ما أورده خلاف ما أراده المحقق الآخوند (قدس سرهما) فإنه فسّر نفس الأمر الوارد في كلام أستاذه بأنه أراده حد ذات الشيء وأنّ اللفظ وجود للمعنى في جميع النشآت.

وهو خلاف صريح كلامه المحقق حيث أنه فسّره بأن لا يكون فرضياً.

كما أن المراد من الوجود هو الوجود الاعتباري بحيث يكون الإنشاء من سنخ الاعتبار فيكون نسبة إرادة الوجود بالعرض الساري في الخبر والإنشاء إلى صاحب الكفاية لا وجه له.

ص: 75


1- - راجع - نهاية الدراية - ج1 / ص190 - مصدر سابق.

ثانياً: إنّ الوجه الذي ذكره في حمل كلام صاحب الكفاية لا يفي بذلك لأن الأخير لم يدعِ أن المعنى يوجد بالذات بالإنشاء بوجود حقيقي مقولي كي يورد عليه بما ذكر.

بل أنه يريد وجود حاصل للمعنى بالإنشاء نحو وجود اعتباري، وهذا النحو من الاعتبار خفيف المؤونة كما عرفت، ولا أظن أن أحداً ينكر مثل هذا الوجود الاعتباري.

ثالثاً: إنّ ما ذكره في أصل معنى الإنشاء غير صحيح لأنه إذا كان الإنشاء هو ايجاد المعنى باللفظ بلحاظ أن وجود اللفظ وجود للمعنى بالعرض مقيَّداً بأن لا يكون القصد هو الحكاية عن الخارج أو الذهن، بل يكون الغرض كون هو نفس الوجود العرضي للمعنى. فإنه يلزم أن تكون الجملة الخبرية غير المستعملة بقصد الحكاية بل بداعي ارتكاز مدلولها في ذهن المخاطب بتكرارها وعدم شرودها من ذهنه من الجملة الإنشائية على هذا القول مع أنها لا تُعد عند العُرف من الجُمل الإنشائية.

رابعاً: ما ذكره بعض الأعلام من أنه إذا كان الإنشاء هو ايجاد المعنى عرضاً بوجود اللفظ يبتني على ثبوت كون الوضع هو تنزيل اللفظ منزلة المعنى ليكون اللفظ وجوداً تنزيلياً للمعنى ولذلك كان وجود المعنى بالعرض.

ولكن إثبات كون الوضع كذلك يحتاج إلى دليل بل هو موضع نقاش ولم يرتض به المحقق الاصفهاني رحمه الله .ويمكن الايراد عليه بأنه لم يقل أحد بأنّ الوضع هو تنزيل اللفظ منزلة المعنى وهو وجود عرضي للفظ بل أن ذلك من لوازم الوضع فإنه بعد تحقق الوضع والربط بين اللفظ والمعنى يتحقق نوع من التنزيل بينهما عرفاً ولعل المحقق الاصفهاني ينظر إلى هذا التنزيل العرفي فيقول بهذا النحو من إيجاد المعنى ولكنه غير سديد من جهات أخرى كما عرفت.

القول الثالث: وهو ايجاد المعنى باللفظ في وعائه المناسب، وقد ذهب إليه المشهور توضيح ذلك:

إن الموجودات تارةً تكون حقيقية وأخرى ذهنية وثالثة تكون اعتبارية ومنشأها اعتبار العقلاء لها فيكون لها وجودٌ اعتباريٌ كالملكية والزوجية ونحو ذلك فإنه ليس لها تحقق خارجيٌ بحيث يكون لها مطابق في الخارج أو منشأ انتزاع لها، وليس هي من الموجودات الذهنية وتصوراتها فيكون لها تحقق في عالم الاعتبار فالإنشاء هو ايجاد المعنى باللفظ في عالم الاعتبار، بمعنى أن المعنى الاعتباري في نفسه قد وجِدَ له فرد حقيقي بواسطة اللفظ، فيكون اللفظ سبب لتحقق اعتبار العقلاء للمعنى وبعبارة أخرى يكون الإنشاء هو التسبيب باللفظ إلى الاعتبار العقلائي للمعنى.

وهذا القول يتفق مع قول صاحب الكفاية في أنّ الانشاء ايجاد للمعنى باللفظ بنحو وجود هو غير عالم اللفظ والذهن والخارج ولكنه يختلف عنه بأنه على قول المشهور يكون ايجاد المعنى في عالم الاعتبار بسبب اللفظ، وأمّا على مقالة صاحب الكفاية، فإنه وجودُ اعتبار من سنخ الاعتباريات بحيث يختلف عن سائر الاعتباريات.

فمثلاً: الملكية إذا تحقق إنشائها بلفظ (ملكت) فإنها توجد على رأي المحقق الخراساني بوجود إنشائي اعتباري غير وجودها الاعتباري في نفسها وفي وعاء الاعتبار المفروض لها، وأمّا على القول المشهور فهي توجد بوجودها الاعتباري والثمرة الفقهية تظهر في

ص: 76

الفرع المعروف من اعتبار التنجز في العقد فلا يصح إذا كان معلَّقاً إلا إذا كان التعليق قهرياً كأن يكون التعليق على مقتضيات العقد كما إذا كان التعليق على رضاء المالك في بيع الفضولي فإنه في هذه الصورة لا يضر التعليق لأنّ الإنشاء في نظر العقلاء لا ينفّذ إلا على تقدير الرضا، والأثر يترتب على العقد مع رضاء المالك.

فإنه بناءً على قول المشهور يتصور التعليق القهري كما لو كان الاعتبار العقلائي متوقفاً على أمر، كما في المثال السابق فإن العقلاء اعتبروا في نفوذ الإنشاء وأن يكون برضاء المالك.

وأمّا بناءً على قول المحقق الخراساني رحمه الله من أنه استعمال اللفظ بقصد إيجاد المعنى بوجود إنشائي فهو مرتبط بنفس المنشئ الذي أنشأ العقد، بمعنى أن هذا الوجود الإنشائي وإن كان عقلائياً إلا أنه بقصد الإنشاء وارتباطه بالمنشئ لا بالعقلاء، فلا يتصور فيه قهرية بعض الشروط من حيث اعتبار العقلاء لها، لأن ما يقصده ايجاده للمعنى بوجود إنشائي غير وجوده في وعائه المقرر له من اعتبار وغيره وذلك لا يتوقف على شيء من رضاء المالك ونحوه كما لا يخفى.والحاصل إنه بناءً على ما التزمه المشهور يمكن تحقق مصداق لصورة التعليق القهري بخلاف ما لو التزمنا بمختار صاحب الكفاية فإما أن يلتزم ببطلان العقد مع التعليق مطلقاً أو على التفصيل كما هو محرر في الفقه.

ويشكل على قول المشهور بوجهين:

الأول: أنه يختص بالأمور الاعتبارية وما يكون وعاؤه الاعتبار كالعقود والايقاعات لمعقولية التسبيب لإيجادها واعتبارها عند العقلاء فلا تشمل الأمور الحقيقية الواقعية التكوينية التي لها ما بإزاء في الخارج كبعض الصفات النفسانية مثل التمني والترجي والطلب والاستفهام لأنّ وجودها في وعائها تابع لتحقق أسبابها التكوينية سواءً تحقق اعتبارها أو لم يتحقق، فهي ليست من الاعتباريات التي تدور مدار الاعتبار وجوداً وعدماً مع أن كونها من الإنشائيات مما لا خلاف فيه.

الثاني: أن معرفة تحقق الاعتبار العقلائي تكون بترتيب الأثر عليه من العقلاء ومع عدم ترتب الأثر عليه يعلم بعدم الاعتبار فيكون لغواً مع عدم ترتب الأثر عليه.

وعليه يلزم عدم تحقق الإنشاء في الموارد التي يعلم بعدم ترتب الأثر على الإنشاء لعدم تحقق قصد التسبيب من المنشئ كما هو واضح، والمفروض تقوم الإنشاء بقصد التسبيب للاعتبار العقلائي، وذلك يستلزم خروج موارد كثيرة عن الإنشاء مع أن العرف يراها منه بدون نزاع.

منها: الإنشاء المتكرر فإنه بأول إنشاء يوجد المعنى في عالم الاعتبار، فلا يتحقق بالإنشاء في الثاني والثالث، إذ لا يوجد المعنى الاعتباري العقلائي مرةً ثانيةً مع فرض ثبوته للغوية الاعتبار ثانياً.

ومنها: بيع الغاصب فإنه يعلم بعدم ترتُب الأثر على إنشائه.

ومنها: بيع الفضولي مع علمه بعدم رضاء المالك وعدم لحوق الإجازة فإن العقلاء لا يرتبون الملكية على إنشائه.

ومنها: بيع غير المقدور تسليمه.

ص: 77

ومنها: المعاملة الغررية وغير ذلك من الموارد التي لا يرتب العقلاء الأثر على الإنشاء مع صدقه عرفاً.

وغير ذلك من الموارد مما لا يترتب عليها الأثر العقلائي على الإنشاء مع صدقه عرفاً، ولذلك يقال: لا يصح إنشاء الغاصب أو المجنون أو الصبي ونحو ذلك.

وهذان الوجهان لا يردان على مختار صاحب الكفاية إذ الإنشاء عنده هو ايجاد المعنى باللفظ بوجود إنشائي لا في وعائه المقرر له من اعتبار وغيره.

فيمكن أن يتحقق هذا الايجاد وقصده من دون توقفه على تحققه في عالم الاعتبار العقلائي فلا ينتفي إذا لم يتحقق فيه الاعتبار المزبور، كما يستفاد من تعريف المشهور، كذلك يمكن أن تتصف الصفات الحقيقية بالوجود الإنشائي غير وجودها الحقيقي وفي وعائها المقرر لها.

فما يقال: من أن تحقق هذه الصفات كما في وعائها تابع للأسباب التكوينية ولا يرتبط باللفظ والاعتبار فاسد لأن المقصود تحققها بتحقق إنشائي اعتباري في غير وعائها، كما عرفت عند بيان مختاره سابقاً.كما أنه تعرّض إلى الإنشاء المتكرر فراجع.

وقد أجيب عن هذين الوجهين:

أولاً: بأنه ليس معنى الإنشاء هو استعمال اللفظ في المعنى بقصد إيجاده في عالم الاعتبار بل هو استعمال اللفظ لا بقصد الحكاية سواء قصد به الايجاد أو لا، فالمأخوذ في معنى الإنشاء هو عدم قصد الحكاية لا قصد الايجاد فيشمل حينئذٍ الصفات الحقيقية ولا يختص بالاعتباريات كما أُشكل عليه.

ثانياً: بأنه يمكن الجواب عن كل الموارد التي أدعي خروجها عن الإنشاء.

أمّا الصيغ المتكررة فقد ذكر صاحب الكفاية بأن الصيغ تارةً لا يستفاد منها شيء سوى الإنشاء المتحقق في المرة الأولى فتكون بقية الصيغ لغواً وبلا تأثير، وأخرى تقبل التأكيد والشدِّة والضعف كالطلب ونحوه.

فإن كل واحد من الإنشائين دالٌ على مزية ما من الإرادة والطلب فيتأكد فلا يكون لغواً.

وأمّا بيع الغاصب فقد ذكر الشيخ الأنصاري رحمه الله في المكاسب أنّ الغاصب وإن عَلِمَ بعدم ترتب الأثر العقلائي على تمليكه لعدم كونه مالك المال إلا أنه حيث يكون في مقام الإنشاء ويدّعي لنفسه الملكية ويعتبر نفسه هو المالك وله حق التصرف من باب الحقيقة الادعائية، وعليه فيترتب عليه ما ترتب على المالكِ من إمكان قصد الايجاد ولو لم يكن حقيقياً.

وهذا الجواب لا يتأتى في بيع الفضولي لأنه لا يدّعي لنفسه الملكية كالغاصب فالإشكال باقٍ على حاله فيه وفي الموارد الأخرى.

والحق أن يقال: إنّ ذلك نزاع صغروي يمكن رفعه إما بترتيب الأثر ادعاءً كما ذهب إليه الشيخ في بيع الغاصب، أو تحقق الأثر حقيقة إذا كان المورد قابلاً للشدة والضعف والتأكيد كما ذهب إليه المحقق الخراساني أو أن المنشئ العاقل إنما يُنشئ بقصد تحقق المعنى في عالم الاعتبار لو لم يكن الانشاء الأول كافياً في الإنشاء المتكرر أو معلقاً على رضاء المالك في بيع الغاصب والفضولي فيتحقق القصد ويكون المنشئ فيها في مقام الإنشاء.

ص: 78

وبالجملة إنه اعتبار عقلائي خفيف المؤونة فكل ما يمكن أن يصححه العقلاء بوجه من الوجوه تحقق الإنشاء وترتب عليه الأثر، ولا يضرّ به إذا كان الإنشاء في مورد لغواً لا يترتب عليه الأثر عند العقلاء.

والعرف إن اعتبره إنشاء فهو يكون على نحو المسامحة كما هو رأيهم في كثير من الموارد.

كما أنه لا يضر بالتعريف إذا كان مختصاً بالمعاني الجعلية الاعتبارية ولا يشمل الواقعية التكوينية كالتمني وغيره إذ لا معنى لجعلها واعتبارها بل وجودها يتبع أسبابها التكوينية اعتبرها معتبر أو لا، إذ سيأتي تحقيق الحال فيها ومن ذلك يظهر أنه لم يرد إشكال على تعريف المشهور، وإذا دار الأمر بينه وبين تعريف المحقق الخراساني رحمه الله فالمشهور أولى بالقبول إذ لا دليل على مختاره بل هو على خلافه فإنّ الظاهر أن المنشئ بحسب ارتكازه إنما يريد من الإنشاء ايجاد المعنى باللفظ في وعاءالاعتبار، فهو ينشأ نفس المعنى قاصداً ايجاده في وعائه المناسب له بحيث يرى نفسه موجداً لأثر تكويني تنزيلاً لا أنه ينشأه لايجاده في عالم غير عالمه ثم يرتب عليه وجوده في عالمه الخاص.

القول الرابع: وهو إبراز ما في النفس من الصفات من اعتبار وغيره باللفظ وقد التزم به السيد الخوئي((1)) رحمه الله بعد أن نفى ما ذهب إليه المشهور بدعوى أنّ الاعتبار إمّا أن يكون شخصياً فهو بيد المعتبر نفسه فلا يُناط باللفظ وإما أن يكون عقلائياً وهو يتوقف على استعمال اللفظ في المعنى فلابد من تشخيص المعنى ثم يستعمل اللفظ فيه.

مع أن بعض الأمور الإنشائية ما لا يقبل الاعتبار كالتمني والترجي ونحوهما من الصفات الحقيقية وبهذا المقدار اختار ما ذكره ولم يتعرض لما اختاره صاحب الكفاية من نقد ويعتبر هذا نقصاً في التحقيق العلمي.

ويمكن الإشكال عليه بوجوه:

الأول: أن كون الاعتبار الشخصي بيد المعتبر نفسه فلا يُناط باللفظ .. مخالفٌ للوجدان والضرورة, فإن الشخص قبل التلفظ بالعقد لا يبني على أن الطرف الآخر مالكٌ ليترتب عليه آثار الملكية على المتاع عند نفسه ولا ينظر إليه باعتبار كونه مالكاً، بل هو مجرد قصد التمليك بالعقد بحيث يبني على كونه مالكاً بعد إجراء العقد لا قبله.

بخلاف اعتبار العقلاء فإنهم إنما يعتبرون الملكية بعد تحقق الإنشاء باللفظ وتوفر شروطه.

الثاني: إنّ الاعتبار الشخصي وإن التزم به بعض الأكابر إلا أنه لا دليل عليه بعد ما عرفت من تصحيح كلام المشهور وإمكان التوصل للاعتبار العقلائي باللفظ مباشرة.

نعم لو لم نلتزم بذلك أمكن القول بالاعتبار الشخصي لأنه لا طريق آخر غيره فيكون موضوع الاعتبار العقلائي.

الثالث: إن توقف الاعتبار العقلائي على استعمال اللفظ في معنى لا يلازم فرض الانشاء كما ذكره لأنه يمكن أن يفرض أنّ معنى الهيئة هو قصد الايجاد وتستعمل الهيئة الانشائية

ص: 79


1- - راجع - محاضرات في أصول الفقه - ج1 / ص95 - مصدر سابق.

في قصد الايجاد فيترتب عليه الاعتبار العقلائي فلا يلزم فرض الانشاء أنه عبارة عن ابراز الاعتبار النفساني.

والحق أن يقال: أنه بعد اعتبار كون الانشاء ايجاداً، والخبر حكاية عن نسبة متحققة أو سوف تتحقق كما عرفت وحينئذٍ ليس لمدلول لفظ الإنشاء قبل النطق به واقعٌ خارجي يطابقه أو لا يطابقه وبناءً عليه يمكن تعريف الإنشاء بأنه الكلام الذي ليس لنسبته خارج يطابقه أو لا يطابقه، وإذا أردنا توسعة دائرة الإنشاء ليشمل كل النقوض السابقة نقول بأن الإنشاء هو ما لم يُقصد به الحكاية كما أشار إليه بعض الأعلام فتشمل جميع الموارد ويسلم عن ما ذكروه من النقوض على تلك التعريفات السابقة.

ولعلّ اقتصار الأصوليين على قولهم بأنه ايجاد المعنى باللفظ إنما هو لأجل اهتمامهم على إنشاء الأمور الاعتبارية مثل العقود والايقاعات والطلب التي لها المساحة الواسعة في الفقه، ولذا اقتصر تعريف المشهور عليها.ولأجل تعميمه لجميع الأقسام:-

نقول: إنّ الإنشاء على قسمين فأما أن يكون طلبياً وهو ما يستدعي مطلوباً غير حاصل وقت الطلب وهو خمسة أنواع:

الأمر، والنهي، والاستفهام، والتمني، والنداء.

وإما أن يكون الإنشاء غير طلبي وهو ما لا يستدعي مطلوباً، وله أساليب متعددة ويمكن حصرها أيضاً في خمسة أنواع:

صيغ المدح, والذم، التعجب، القسم، الرجاء، وصيغ العقود والايقاعات، ولا يهم الأصوليين منها إلا الأمر والنهي من القسم الأول. والنوع الأخير من القسم الثاني، كما أنّ البلاغيين لا يهمهم إلا الانشائي الطلبي فقط.

فاختلف علم الأصول عن علم البلاغة في وجه الاهتمام.

ولعل لذلك اختلفت التعاريف في العلمين، وإن اشتركوا في أصل التمييز بين الإنشاء والخبر. كما عرفت.

ولعله لأجل ما تقدم لم يذكر السيد الوالد رحمه الله تعريفاً للإنشاء، وإنما اقتصر على منشأ الفرق بينهما وهو كاشف في تحديد معناه وبعد وضوح معنى الإنشاء والخبر ندخل في الفرق بين الجمل.

ذكرنا أنّ الجمل على أصناف ثلاثة فهي إما أن تكون خبرية تامة أو ناقصة أو تكون إنشائية تامة والمقصود بالبحث هو هيئات الجُمل والمراد بها كما عرفت هي الهيئة القائمة بالجملة على نحو يكون لهما مدلولاً لم يكن ثابتاً قبل التئام مفردات تلك الجملة.

الأول: (الجملة الخبرية الناقصة): وهي الجملة التي لا يصح السكوت عليها، كجملة الوصف والموصوف، والمضاف والمضاف إليه. والأقوال فيها ثلاثة:

الأول - المعروف المشهور: انّ وضع الجملة الناقصة بإزاء النسبة الناقصة.

الثاني: ما ذهب إليه السيد الخوئي رحمه الله من أنّ وضع هيئات الجمل الناقصة للتحصيص. وقد عرفت الإشكال عليه بما لا مزيد عليه.

الثالث: ما اختاره بعض الأعلام من أنّ الجُمل الناقصة مثل (ضرب زيد) موضوعة للنسبة التحليلية بمعنى أن ما بإزاءها وجود ذهني واحد، والنسبة جزء تحليلي للمركب

ص: 80

التحليلي الموجود بذلك الوجود ويستحيل فرض نسبة واقعية في هذا المجال، لما عرفت من أنها تستدعي فرض صورتين متغايرتين إحداهما صورة زيد، والأخرى صورة الضرب ومع فرض ذلك يتعذر الربط بينهما بنحو يمكن الحكاية عن ضرب زيد الخارجي كما عرفت آنفاً((1))

وسيأتي في الجمل التامة أنّ هناك نسبة واقعية تصادقية، والفرق بينها وبين الجُمل التامة تمام الكلام في هذا القول.

الثاني: (الجمل التامة الخبرية): والمشهور أنها موضوعة للنسبة التامة أي أن الموضوع له الجملة الخبرية ثبوت النسبة أو لا ثبوتها في الخارج، فالثبوت مدلول الجملة الايجابية وعدم الثبوت لمدلول الجملة السلبية، وعلى كل حال فإن مدلول الجملة الخبرية ثبوت النسبة في الخارج أو لا ثبوتها مطلقاً إلا أنّ النسبة تارةً تكونناقصة كما في الجمل الخبرية الناقصة وأخرى تكون تامة كما في الجُمل الخبرية التامة فالجملتان من باب واحد.

وخالف ذلك السيد الخوئي وقال بأنّ الجملة الخبرية موضوعة لإبراز أمر نفساني كقصد الحكاية في الجملة التامة الخبرية وقصد الإنشاء في الجملة الإنشائية وأورد على قول المشهور باعتراضات عديدة أهمها:

الأول: أنّ مقتضى كون مدلول الجملة الخبرية ثبوت النسبة أو لا ثبوتها حصول العلم بثبوتها أو عدمه بمجرد إطلاق الجملة الخبرية مع أنّ الوجدان قاضٍ بعدم ذلك، وأنه لولا القرائن الخارجية أو الإطمئنان بصدق المخبر لا يحصل العلم من الجملة لو خُليت ونفسها بل لا يحصل الظن.

وأجيب عنه: بأنّ وضع الجملة لثبوت النسبة أو لا ثبوتها لا يقتضي سوى تصوره وانتقال الذهن إليه عند الاطلاق كوضع المفردات إذ العلم الذي يقتضيه الوضع إنما هو التصوري دون التصديقي وحصول تصور ثبوت النسبة وعدمه عند إطلاق الجملة لا يكاد يُنكر.

ويمكن ردَّه بالفرق بين وضع المفردات ووضع هيئات الجمل، فإن دلالة الألفاظ على معانيها تصورية ودلالة الجملة تصديقية، والتصديق يعتبر فيه العلم والإذعان وبناء عليه لابد من حصول العلم التصديقي بثبوت النسبة في الخارج عند إطلاق الجملة وقد عرفت عدم حصوله.

الثاني: إنّ الوضع كما عرفت تحقيقه عبارة عن التعهد بشيء عند ذكر اللفظ وغير خفي أنّ التعهد لابد أن يتعلق بأمر اختياري يمكن فعله للمتعهد وبما أن النسبة ليست من الأمور الاختيارية فلا يتعلق بها التعهد فيمتنع الوضع لثبوت النسبة لأنّ مقتضاه تعهد الواضع بثبوت النسبة في الخارج عند ذكر الجملة وهو غير اختياري وإنَّ ما هو اختياريٌ هو قصد الحكاية أو الإنشاء لا ثبوت النسبة أو عدم ثبوتها.

الثالث: النقض بموارد لا يعقل فيها وجود النسبة خارجاً بين الموضوع والمحمول، كقولنا العنقاء ممكن وشريك الباري ممتنع لأن ثبوت النسبة فرع ثبوت المنتسبين خارجاً فمع عدمها لا يعقل ثبوتها، فلابد أن يكون معنى الجملة الخبرية سنخ معنى محفوظ حتى في هذه الموارد وليس هو إلا قصد الحكاية وغير ذلك من الاعتراضات.

ص: 81


1- - بحوث في علم الأصول, ج1 / ص264 - مصدر سابق.

ولأجلها عدل عن اختيار المشهور إلى أنّ الموضوع له الجملة الخبرية هو قصد الاخبار عن ثبوت النسبة والحكاية عنها وهو أمر اختياري يمكن تعلق التعهد به، كما أن الدلالة تكون تصديقية لأن بإلقاء الكلام يعلم بأنّ المتكلم قد قصد الحكاية والإخبار، كما أنه معنى محفوظ في الموارد التي يمتنع تحقق المنتسبين ومن ذلك يظهر أن الجملة الخبرية والجملة الإنشائية تتفقان في كون الموضوع له فيهما إبراز شيء ما، ففي الإنشائية إبراز الصفات النفسانية كالتمني والترجي والطلب واعتبار شيء، وفي الجملة الخبرية إبراز الحكاية عن النسبة بعد قصدها، ومن هنا تكون الدلالة فيهما تصديقية، إلا أن الاختلاف بين الجملتين هو أن الإبراز في الخبرية أمر يحتمل فيه التحقق وعدمه فيحتمل فيه الصدق والكذب وهذا هو معنى القول المشهور الجملةالخبرية تحتمل الصدق والكذب، وإلا فنقل مدلول الجملة غير قابل للصدق والكذب بخلاف الجملة الإنشائية، فإنه لا يحتمل فيها ذلك.

وبعد بيان ذلك يظهر الفرق بين اختيار المشهور وما اختاره رحمه الله وهو من وجهين:

الأول: أنّ الموضوع له فيما التزمه هو قصد الحكاية عن ثبوت النسبة أو عدمه.

وأما الموضوع له على التزام المشهور هو نفس النسبة أو ثبوتها المحكي عنه.

الثاني: أنّ قصد الحكاية على التزام المشهور يكون ثانوياً وبمنزلة داعي الداعي للاستعمال، فإن الداعي الأول للاستعمال هو تفهيم النسبة وإيجاد مورد النسبة في الذهن وهذا التفهيم تارة يكون بداعي الحكاية عنه وأخرى يكون بداعي آخر كالاستهزاء مثلاً فداعي التفهيم يكون داعياً إلى الحكاية الذي هو داعٍ للاستعمال.

وأمّا على التزامه رحمه الله فالحكاية هي الداعي الأول للاستعمال والتكلُّم، فإنه موضع الكلام لأمر آخر غيره والكلام فيما اختاره يقع في مقامين:

الأول: في تمامية ما ساقه من الاعتراضات على مبنى المشهور.

الثاني: في صحة ما اختاره وتماميته.

أمّا المقام الأول: فإن ما ذكره من الاعتراضات غير تام.

أما الوجه الأول فلأنه ليس المراد من كون دلالة الجملة الخبرية تصديقية أنه بإلقائها يوجب الاذعان بالنسبة، بل أنّ مدلولها هو أنّه أمر لو تعلّق به العلم لكان تصديقياً بخلاف مدلول المفردات فإنه لا يتعلق به الإذعان أصلاً.

ويدل عليه أنه بناءً على أن المراد من الوضع تفهيم النسبة لمكان الجملة الخبرية والجملة الإنشائية على حدٍ سواء في الدلالة التصديقية، مع أنّ العلماء بما فيهم السيد الخوئي لا يرون بتصديقية الدلالة في الجملة الإنشائية، وهذا يكشف عن أنّ المراد بالدلالة التصديقية غير ما ذكر.

وبعبارة أخرى أنّ الدلالة الوضعية دائماً تكون تصورية إذا كان المراد من الوضع غير التعهد، وأمّا الدلالة التصديقية فهي مبنية على قصد الحكاية فليست وضعية بل هي تابعة إلى الظهورات الدلالية الحالية والسياقية, وأمّا بناءً على كون الوضع هو التعهد فالدلالة الوضعية تكون تصديقية حتى في المفردات فإنها تدل دلالة تصديقية على اخطار المعنى فالجملة التامة الخبرية مثل (زيد عالم) تكون دلالتها الوضعية تصديقية على المسلكين لكن الفرق بينهما أنه على المشهور هو قصد اخطار النسبة وعلى مختاره رحمه الله أنه قصد الحكاية ويأتي تتمة الكلام في بحث تبعية الدلالة للإرادة.

ص: 82

وأمّا الوجه الثاني, فيرد عليه:

أولاً: أنّ التعهد على فرض اعتباره يكون المعنى الموضوع له حقيقة أمر نفساني حتى في المفردات والحروف وهو قصد اخطار المعنى تصوراً في ذهن السامع كقصد إخطار التحصيص من لفظ (من) بناءً على نظرية وضع التحصيص في الحروف وقصد إخطار صورة الجسم البارد وهو معنى كلمة (الثلج) وبناءً عليه لا فرق بين المسلكين في وضع الجملة الخبرية التامة بعد الفراغ عن كونها موضوعة لأمر نفساني ولكن هل هو قصد إخطار النسبة تصوراً أو قصد الحكاية عنها والأول مسلكالمشهور والثاني اختيار السيد الخوئي، وعليه فإن كون الوضع للتعهد لا يعيِّن أحد القولين في المقام.

وثانياً: انه منقوض بوضع المفردات فإن وضع الجملة للنسبة لا يكون إلا كوضع المفردات، فإنّ (من) مثلاً موضوع للتحصص، و(الثلج) موضوع للجسم البارد فإن الذوات والطبائع التي توضع بإزائها المفردات غير اختيارية، فلا معنى للتعهد للتحصص والجسم البارد، كما لا معنى للتعهد للنسبة لاستلزامه تعلق التعهد بأمر اختياري وهو ممتنع كما يدَّعيه.

وثالثاً: إنّ متعلق التعهد إن كان نفس الموضوع له فلابد أن يكون اختيارياً وحينئذٍ انتقض ذلك بالوضع للمفردات من الذوات والطبائع.

وإن كان متعلقه قصد تفهُّم المعنى فهو يكون نفس الموضوع له، كما هو المفروض، فليكن في الجملة الخبرية أيضاً كذلك، فيكون المتعهد به قصد الإخبار عن ثبوت النسبة والموضوع له نفس ثبوت النسبة، كما كان المتعهد به في لفظ (زيد) لذاته يقصُدُ به تفهُّم الذات والموضوع له نفس الذات.

وأمّا الوجه الثالث فهو مبني على افتراض أخذ النسبة الخارجية في مفاد الجملة الخبرية، ولكن نظر المشهور إلى النسبة الذهنية بين المفهومين وهي محفوظة في كل مورد يفترض وجود مفهومين في الذهن وإن استحال وجودهما في الخارج.

فإن كان إيراده رحمه الله على المشهور هذا النوع من النسبة فهو غير صحيح وإن كان إيراده عليهم النوع الأول أي النسبة الخارجية فهو غير مراد المشهور جزماً فالحق أن جملة ما اعترضه رحمه الله على المشهور لم تكن إلا من المغالطة بين الأمور الخارجية وما يُراد من الوضع فإنه أمر اعتباري يفيد أمراً نفسانياً سواءً كان ثبوت النسبة وعدمها أو قصد الحكاية عنها كما عرفت.

نعم يبقى اعتراض آخر اعتبره بعض الأعلام من أوجه الاعتراضات((1))، وهو أنه لو لم تكن الجملة التامة موضوعة لقصد الحكاية عن وقوع تلك النسبة ليكون مطلباً تصديقياً يصح السكوت عليه لما كان فرق بين الجملة الناقصة والتامة فإن النسبة التي وضعت الجملتان لها ليست من الأمور القابلة للتمامية والنقصان أو القلة والكثرة، فلابد أن الموضوع ما ذكره ليصح السكوت عليه.

وأورد عليه بأنّ الفرق بين الجُمل التامة والجمل الناقصة إنما هو بلحاظ مدلوليهما التصوريين، ولا يكفي إدخال المدلول التصديقي في مفاد الجملة التامة.

ص: 83


1- - بحوث في علم الأصول - ج1 / ص268 - مصدر سابق.

والحق أن ما ذكره من عدم اتصاف النسبة بالتمامية والنقصان أو القلة والكثرة صحيح فإنها ربط محض ولا يعقل أن توصف بذلك. نعم التمامية والنقصان وغيرهما فإنما تكون من ناحية المتعلق فإنه قد تكون الجملة التي يتصورها ويريد القائها إلى المخاطب عارية عن بعض الأمور التي لا ينبغي السكوت عليها تكون ناقصة وإلا فهي تامة كما صرَّح به الأعلام.وأما ما ذكره بعض الأعلام من أنّ الفرق بين الجملة التامة والجملة الناقصة إنما هو من ناحية النسبة فإنها إذا كانت تحليلية في صقع الذهن كانت ناقصة وأما إذا كانت واقعية كذلك كانت تامة وأطال الكلام هنا وفي غير المقام.

ويمكن أن يشكل عليه:

بأنّ النسبة بما هي نسبة لا وجود لها لا خارجاً ولا ذهناً وقد اتفقوا على ذلك وإنما الوجود لطرفيها إمّا وجودٌ ذهنيٌ أو خارجيٌ وحينئذٍ إن كان لهما واقع كانت النسبة والجملة صادقة وإلا فهي كاذبة فالنسبة في جميع الأحوال لا تتصف بالتمامية والنقصان ولا بغيرهما وإنما هي ربط محض وفناءٌ في الطرفين المنتسبين وإنما تتصف بهما لمتعلقها، فإن كان مستوفياً للغرض الذي يريد المتكلم بيانه للمخاطب في مرحلة التصور بحيث يصح السكوت عليه كانت الجملة تامة، تتصف والنسبة التي هي من أجزائها بالتمامية تبعاً، وإن لم تكن كذلك فتكون الجملة ناقصة، وتتصف النسبة فيها أيضاً بالنقصان.

ثم إنه كان الموجود الذهني ما يطابقه في الخارج يكون حقيقياً واقعياً تترتب عليه الآثار الخارجية وإلا فهو من مجرد الفرض والتصور أو يترتب عليه الأثر الخاص به في عالمه، هذه هي حقيقة النسبة في أي عالم لوحظت، فهي الفناء والربط المحض وإنما تتصف بالأوصاف التي ذكروها مثل الاخطارية والتمام والنقصان تبعاً لمتعلقاتها.

وأمّا تقسيمها إلى التحليلية والواقعية باعتبار أنّ الأولى هي كل نسبة يكون موطنها الأصلي هو الخارج أي نسبة خارجية فهي نسبة تحليلية في الذهن لأنه لا يوجد في الذهن إلا مفهوماً إفرادياً ينتظر في حقه أن يقع طرفاً للارتباط بحكم معين فلا يصح السكوت عليه.

وأمّا إذا كان موطنها الأصلي الذهن فهي نسبة ذهنية واقعية لأنّ معناه احتواء الذهن كلاً من النسبة والمنتسبين فلا حالة منتظرة فتكون تامة.

فالحق أنه ليس إلا من التغيير في التعبير لأنّ النسبة متقوِّمة بالأطراف سواءً كانت ذهنية أو خارجية فلابد من الإتيان بأطراف النسبة المفادة لكي يتحقق المعنى في الذهن فإن كانت مستوفية لما له دخل في الغرض في أطرافها صح السكوت عليها وكانت النسبة تامة وإلا كانت ناقصة.

فالنسبة على كل حال إنما تتحقق أولاً في الذهن وموطنها عالم الذهن ومنشأ انتزاعها تارةً تكون خارجية أو ذهنية وقد اعترف رحمه الله بذلك في ضمن كلماته فليس للنسبة معنى إلا ذلك فإن كان لها معنى آخر وهو ما إذا كان موطنها الأصلي الخارج ولكن يستحيل تصور الذهن لها إلا عن طريق مفهوم ذهني واحد هو مركب تحليلي فإنما هو تمحل عقلي صرف ولا استحالة في تصور الذهن لتلك النسبة مهما اختلفت.

ص: 84

ومن ذلك يظهر الوجه في ما بناه على مسلكه من الفرق بين الجملة الاسمية الخبرية أو الجملة الفعلية الخبرية أو المزدوجة مركبة من جملة اسمية وفعلية باعتبار أنّ النسبة في الأولى موضوعة للنسبة التصادقية، وهي الربط بين المفهومين الموضوع والمحمول بنحوٍ يرى أحدهما الآخر ويصدق عليه في الخارج فتكون النسبة التصادقوالارائة لمعنون واحد ولكنها نسبة تحليلية لأنّ موطنها الأصلي الخارج يستحيل تصور الذهن إلا عن طريق مفهوم ذهني واحد مركب تحليل كما أنّ في الجملة الفعلية الخبرية النسبة فيها تصادقية أيضاً إلا أن الفرق أنّ التصادق في الأولى يرجع إلى انطباقهما على واقع واحد، وفي الثاني انطباقهما على مركز واحد مركب من العرض ومحله ولكن ذلك لا يغير من واقع النسبة التي عرفت حقيقتها فإنّ صقع الذهن مرآة لما في الخارج فإذا اعتبر العرف أن في الجملة نسبة ما ولو كانت تصادقية تصورها والقاها إلى المخاطبين سواء كانت تحليلية أو واقعية، ولا ضير في الاصطلاح أن أحب ذلك نعم لا ريب أن تصادقها مع الطرفين تارةً تكون على نحو الحلول وأخرى على نحو الاتحاد أو الوقوع ، كما ستعرف.

وأمّا القسم الثالث: من الجمل المركبة من الجملة الاسمية والفعلية كما في قولنا (الناس ذهبوا) وتسمى بالجمل الكبرى في مصطلح النحاة فيما إذا كانت مركبة من مبتدأ وجملة فعلية أو جملة فعلية تقدم فيها الفاعل على الفعل كما في قولنا (البدر طلع) وكيف كان فإنه يقع الكلام في هذا القسم تارة في تعيين مثل هذه الجمل المركبة ولا ريب أنه يرجع فيها إلى عرف علماء النحو الذين هم أهل الخبرة في مثل هذه القضايا والوجدان اللغوي ولعلهم يحكمون بأنها جملة مركبة من جملة فعلية صغرى وجملة اسمية كبرى وأخرى في تطبيق النسبة التصادقية فإنها إن صدقت في الجملة الاسمية الحملية ولكنه لا يمكن تطبيقه في حمل الفعل على المبتدأ فإنه بما هو فعل لا يمكن تطبيقه وصدقه على المبتدأ كما لا يتعقل حمل جملة (أبوه عالم) على زيد لأنه ليس هو عين (أبوه عالم).

وقد دُفِع هذا الإشكال بوجهين:

الأول: كون المحمول على الموضوع في الجمل الكبرى ليس هو الفعل أو الجملة الكبرى بل هو المعنى المتحصل من الجملة الصغرى بحيث ينتزع منها معنى إفراديٌ يكون هو المحمول ف-(زيد أبوه عالم) يعني زيد ذو أب عالم.

وأورد عليه بأنّ تحويل الجملة الصغرى التي لها مفهوم تركيبي إلى مفهوم إفرادي منتزع منها خلاف طبع هذه الجمل ولكن يمكن الجواب عنه: بأنه يصح إذا اقتضاه الذوق البلاغي فإنه من موردٍ كان خلاف الطبع ولكن ارتضاه الذوق وعليه تدور المحاورات.

الثاني: إن الحمل لا يراد به اتحاد مفهومين في مصداق واحد خارجاً فحسب حتى يقال بأنه مستحيل، بل المراد صدق المحمول على الموضوع وكونه واقعاً فيه عند النظر إليه ففي مثل (زيد أبوه عالم) أو (زيد أبوه اجتهد) صادق في حق زيد بناءً على ما ذكرناه من الحمل فيتكون معنى نسبة التصادق هو أنه إن لوحظ الموضوع وجد المحمول صادقاً في حقه تصوراً.

وهذا الوجه يمكن ارجاعه إلى الأول بوجه من الوجوه فإنه لو لم يكن هناك تأويل لما كانت النسبة التصادقية بمعنى صدق المحمول على الموضوع بعدما كانت بمعنى اتحاد مفهومين في مصداق واحد.

ص: 85

هذا كله ما يتعلق بالأعتراضات التي ذكرها السيد الخوئي رحمه الله على مختار المشهور وعرفت أنها غير تامة.

وأمّا الكلام في المقام الثاني وهو صحة ما اختاره رحمه الله فقد أشكل عليه بوجوه:

الأول: أنه مبني على القول بالتعهد في الوضع، وافتراض أن الدلالة الوضعية دلالة تصديقية لا أن تكون تصورية، وقد عرفت في بحث الوضع فساده.

الثاني: إنّ ما اختاره من معنى الجملة الخبرية بأنها قصد الحكاية عن ثبوت النسبة، وأنها موضوعة لإبراز هذا القصد دالة عليه يتخلف في بعض الصيغ الخبرية غير المستعملة في قصد الحكاية عن مدلولها فلا تدل إلا على النسبة منها جملة (ان زيداً قائم) في جواب قول القائل: (سمعتُ أنّ زيداً قائم) فإنّ الجملة الأخيرة إن كانت إخباراً عن سماع قيام زيد، ولكن الجملة الأولى لم يقصد بها الحكاية عن ثبوت النسبة بين زيد وقائم بل هي دالة على ثبوت النسبة فقط وهي بهذا اللحاظ كانت متعلقاً للسماع.

ومنها: قولنا: (أخبرني علي بأنّ محمداً قائم)، وهو يعلم بكون القائم جعفر مثلاً، فهو ليس بصدد الإخبار عن قيام محمد قطعاً مع أنّ الجملة الثانية (محمد قائم) مستعملة في معناها.

ومنها: الاستعمالات الكنائية، فإنّ المقصود الحكاية عن اللازم دون الملزوم، مع أنّ الجملة تدل على الملزوم، وإلا فإن لم تدل على الملزوم وهو ثبوت النسبة التي تلازم نسبة أخرى التي هي المقصودة في الحكاية عنها لما صحت الكناية فإنّ في جميع هذه الجمل الخبرية ليس القصد منها إلا ثبوت النسبة دون قصد الحكاية مع أنّ مقتضى ما ألزمه رحمه الله عدم كونها من الجمل الخبرية.

منها: موارد دخول أداة الاستفهام على الجملة الخبرية، كما في قولنا: (هل زيد قائم) إذ لا ريب أنّ المستفهَم ثبوت النسبة بين القيام وزيد لا قصد الحكاية عنها.

وقد حاول رحمه الله التخلص من هذا الإشكال بافتراض أنّ أداة الاستفهام، أو هي الجملة الاستفهامية موضوعة بوضع واحد وهو إبراز قصد الإنشاء والاستفهام فليس استفادة الاستفهام من الجملة الاستفهامية من باب تعدد الدال والمدلول بأن يكون الاستفهام مفاد دلالة الآلة، والنسبة التامة بالجملة الخبرية التامة المدخول عليها الأداة حتى يكون نقضاً عليه.

ولكن محاولته هذه غير تامة فإنها لو صحت في الجملة الاستفهامية لا تصح في الجمل الأخرى السابقة التي لا يكون الإخبار فيها إلا عن النسبة.

مع أنه لو لم تكن الجملة الاستفهامية من باب تعدد الدال والمدلول وكانت جملة إنشائية لما صح الجواب عنها بنعم أو لا إذ الجمل الإنشائية لا توصف كذلك وهي غير قابلة للتصديق أو النفي بل النسبة هي القابلة لذلك.

إلا أن يقول نعم أو لا بمنزلة تكرار الجملة التامة واستعمالها في معنى غير الذي استعمل في الاستفهام ولكنه تكلُّف وفاسد.

الثالث: إنّ ما التزمه من أن معنى الجملة هو قصد الحكاية خلاف الوجدان فإنه قاضٍ بأن مدلول الجملة الخبرية هو ثبوت النسبة لا قصد الحكاية والإخبار بها فإنّ المستفاد من الوضع للمعنى هو حكاية اللفظ عنه وتفهيمه به وإبرازه به ودلالته عليه . لا قصدالحكاية

ص: 86

فالحق ما ذهب إليه المشهور من دلالة الجملة التامة الخبرية على ثبوت النسبة وعدمه يبقى أن نذكر ختاماً لهذا المبحث أموراً:

الأول: اتضح مما ذكرنا من معنى النسبة، ومفاد الجملة الخبرية التامة اسمية كانت أو فعلية والبحث يقع في أنه هل لمفاد النسبة مدلول خاص بها ؟

قيل: إنّ في بعض اللغات غير العربية الأمر كذلك ففي اللغة الفارسية مثلاً قد وضع للنسبة كلمة (أست) أو (استين) ولا معنى لهما أبداً إلا لبيان الربط بين مفردات الجملة، ولا يستعملان منفرداً ولا معنى لهما غير مفاد الربط.

وأمّا في اللغة العربية فالمشهور أنّ مفاد النسبة هو مدلول نفس هيئة الجملة فإنّ لكل جملة خبرية هيئة مختصة بها وهي مدلول لمفاد النسبة. فيكون المدلول عاماً جارياً في جميع الجمل الاسمية والفعلية الخبرية.

وقيل: أنه مدلول لجزء من الجملة، في الجملة الاسمية أو في الجملة الفعلية. ففي الاسمية يكون ضمير مقدَّر يفيد الربط المحمول والموضوع في الجملة، فإنّ جملة (زيدٌ عالمٌ) يرجع إلى (زيد هو عالم).

ويمكن الإشكال عليه: بأنّ الضمائر لها مفهوم اسمي استقلالي فلا يعقل أن يكون الضمير دالاً على معنى حرفي نسبي وهو الربط بين الموضوع والمحمول، وعلى فرضه لا يصلح أن يقع جزءً من الكلام وموضوعاً في الجملة سواءً كان الضمير (هو) أو غيره إذ الضمير في سائر الموارد واحد.

وأمّا في الجملة الفعلية فاحتمل بعضهم أن تكون النسبة مدلول الهيئة القائمة بالجملة الطارئة على هيئة الفعل واحتمل آخرون أنه مدلول هيئة الفعل ولو مع قيد.

فإن بُني على الأول لزم أن يكون لهيئة الفعل مدلول نسبي يدخل في أحد طرفي النسبة التصادقية التامة وحينئذٍ تكون النسبة ناقصة.

وإن بُني على الثاني فلا تكون ناقصة إذ لا موجب لافتراض دلالة هيئة الفعل على النسبة الناقصة وسيأتي البحث عن ذلك عند الكلام حول الهيئات الافرادية.

الثاني: تقدم أنّ النسبة إمّا أن تكون تامة أو ناقصة وعرفت المائز بينهما والنسب الناقصة لها أنحاء متعددة منها النسب الناقصة المستنبطة في المشتقات، ومنها الهيئات الافرادية، ويأتي الكلام فيها إن شاء الله.

ومنها: النسبة التوصيفية.

ومنها: نسبة الإضافة.

ومنها: مفاد حروف الجر.

أمّا النسبة التوصيفية: فالمعروف أنها موضوعة للتحصيص وربط مفهوم بمفهوم آخر بنحو التقييد فإذا قيل (الرجلُ عالم)، فإنما يفيد تقييد (العلم بالرجل).

واعتبر بعض الأعلام أنّ التحصيص في النسبة الوصفية إنما هو بلحاظ مفاد النسبة التامة الخبرية لا بلحاظ الخارج ابتداء خلافاً لنسبة الإضافة التي هي أيضاً تدل على التحصيص لكنها في نسبة ناقصة موطنها الخارج فتكون النسبة تحليلية كما عرفت مفصلاً.

ص: 87

وذلك لأن نسبة الجملة الوصفية كقولنا: (الرجل العالم) نسبة تصادقية لا نسبة خارجية لعدم وجود نسبة في الخارج بين الرجل والعالم لاتحادهما في وعاء الخارج، ومع اتحاد الطرفين يستحيل قيام النسبة بينهما وإنما تقوم بينهما في وعاء المغايرة وهو الذهن .

هذا ويمكن الإشكال عليه بأنه إذا صح التحليل العقلي في الذهن أمكن التفكيك في الخارج اعتباراً أيضاً فإن التصادق فيه لا يقتضي عدم وجود المغايرة بينهما بحسب الاعتبار فإنه لو لم يكن رجلٌ وعالم لما تحقق التصادق بينهما وإنما أوجبته النسبة فإنه بعد الحمل يتحقق التصادق فهو مرحلة متأخرة عن التغاير الاعتباري وإلا لما صح الحمل أبداً.

والتغاير الذهني منشأه التغاير الاعتباري الخارجي ويكفي هذا التغاير الاعتباري الخارجي في تحقق الطرفين وثبوت النسبة بينهما، وإن تصادقا في الخارج، فلا فرق بين النسبتين الوصفية والإضافة من حيث المعنى.

ومن ذلك يظهر أنّ النسبة في الإضافة أيضاً للتحصيص والتقييد بين مفهوم ومفهوم آخر كقولنا: علم الرجل وأنّ النسبة فيها تحليلية أيضاً كما قيل وكل واحد منهما موطنها الخارج وإن اختلفا في أنّ الوصفية تصادقية، والإضافية ليست كذلك أو الاختلاف يقع من جهات أخرى ولكنهما في أصل النسبة متَّحدتان. فما ذكره لا يمكن المساعدة عليه.

وأمّا مفاد حروف الجر فقد وقع الخلاف بين العلماء فذهب بعضهم إلى إرجاع مفادها إلى مدلول الإضافة، فقالوا: إنّ حرف الجر يقوم بدور الوسيط لتسهيل الإضافة حيث لا يمكن الإضافة المباشرة ففي قولنا: (سرت من البصرة)، تكون البصرة مضافاً إليه لكن حيث أن (سافرت) ببنائها مما لا يضاف أبداً فاستُعين ب-(من) لتحقيق الإضافة، واحتمل أن يكون حرف الجر قد استعمل في البداية كأسماء وأفعال دالة على معان مستقلة ثم أُفرغت من معناها وتحولت إلى مجرد رموز.

وأشكل عليه بعض الأعلام بأنّ إرجاع حروف الجر إلى الإضافة بالنحو المذكور خلاف الوجدان اللغوي وخلاف الواقع وقد ذكر جملة من نقاط يصح استعمال حروف الجر، ولا تفيد الإضافة، وفي بعضها بالعكس، فيكون بينهما فوارق واضحة بحيث لا يقبل الحسّ اللغوي اعتبارهما من واد واحد. و يمكن الإشكال عليه:

أولاً: أنّ احتمال كون حرف الجر في البداية استعمل كأسماء وأفعال دالة على معانٍ مستقلة ثم أُفرغت من معناها، صحيح قريب إلى ما اخترناه في حقيقة الوضع والمراحل الكثيرة المتعددة منه فراجع ما ذكرناه.

وأما كون حرف الجر قائماً بدور الوسيط لتسهيل الإضافة حيث لا يمكن الإضافة المباشرة فهو صحيح في بعض الحروف أو في بعض مراحل الوضع اللغوي، وأمّا بعد استقراره وتأسيس القواعد وفي المراحل المتأخرة من الاستعمال فلم يكن الأمر كذلك ولذا يُعد في بعض موارد الاستعمال من الأغلاط لو استعملنا الحرف مقام الإضافة أو بالعكس ولعلّ الاشتباه حصل بين بدايات الوضع والمراحل المتقدمة منه دون المراحل الأخيرة وبعد استقرار القواعد والضوابط.

وكيف كان فإنه صحيح في الجملة لكنه لا يفيدنا في تأسيس قاعدة كلية.

ص: 88

وذهب آخرون إلى أنّ حروف الجر تختص للدلالة على تقييد المعاني الحدثيّة، بخلاف الإضافة فإنها قد تقيّد المعاني الجامدة كما في (غلام زيد) وقد تقيّد المعاني الحدثية كما في (ضارب زيد).

ويدل على ذلك التزام النحاة بضرورة أن يكون لحروف الجر بل مطلق الظرف متعلَّق - فعلاً كان أو مشتقاً مذكوراً أو مقدّراً .

وهذا المعنى وإن كان صحيحاً في الجملة إلا أن اختصاص حروف الجر بوظيفة التحصيص في المعاني الحدثية فحسب دون الإضافة يحتاج إلى نكتة فنّية وإلا كان من مجرد التعبد ولعله يرجع إلى أن المعاني الذاتية لها تشخص بذاتها لأن الذوات باعتبار استقلالها في الوجود تكون مستقلة في التشخص لأن الوجود مساوق للتشخص وأما الحدث فليس له تشخص بذاته كما في المعاني الذاتية، وإنما تشخصه يأتي من قبل أطرافه وعلاقته بها، فتشخّص ضربَ زيد عن ضرب عمرو إنما بلحاظ صدور هذا من زيد وذاك عن عمرو، أو وقوعه على زيد أو على عمرو، أو كونه بالعصا أو باليد وهكذا.

فإن الحروف وكذلك الهيئات الاشتقاقية - موضوعة لإفادة هذه التشخصات في المعاني الحرفية فتكون الحروف لتشخيص المعنى لا مجرد تحصيص المعاني الحدثية وإن كانت تستلزم ذلك فإنه لا يتشخّص المعنى إلا بمثل ذاك فتدل الحروف على الخصوصيات التفصيلية الزائدة على أصل الربط والنسبة وذلك لا يتحقق في المعاني الذاتية فإنّ الذوات متشخصة بقطع النظر عن علاقتها بأطرافها بخلاف الإضافة فإنها لتحصيص المعاني الحديثيّة فإذا أُريد من ذلك فلابد إما من تحويل اسم الذات إلى معنى حدثي كما في قولنا هذا غلام لزيد، فإنه يؤول إلى غلام مملوك لزيد أو تقدير المعنى الحدثي كما في هذا غلام كائن لزيد.

وبذلك يتضح الفرق بين (هذا ضارب زيد)، و(هذا ضارب لزيد) فإن الأول لا يدل على خصوصية مشخّصة للضارب فإنه مشخّص في ضربه ولا لضربه لأن المضاف هو الضارب لا ضربه، وإنما يدل على التحصيص وتطبيقه في حصة خاصة منه وأما الثاني فهو يدل على خصوصية في الضرب الصادر من الضارب وتشخصه من ناحية المفعول ومن يكون عليه الضرب.

وقد ذكروا وجوهاً أخرى لا تخلو عن مناقشات أعرضنا عن ذكرها خوفاً من التطويل.

ولكن الحق أن يقال أنّ الجمل الثلاثة الناقصة وهي التوصيف والإضافة وحروف الجر إنما تدلُّ على النسبة التحصيصية والتقييد إلا أنّ الآثار والأغراض المترتبة على العبارات تختلف.

ففي التوصيف يستبطن الأخبار ، وفي الإضافة لبيان خصوصية في المضاف، وفي حروف الجر للدلالة على تشخيص المعنى الحدثي ونحو ذلك مما يحدده الوجدان اللغوي والذوق البلاغي فهي تختلف بحسب الآثار المترتبة على كل واحد منها وإن كانت مشتركة في أصل التحصيص والتقييد كما عرفت.الثالث: اتضح مما سبق: الفرق بين الجملة الناقصة والجملة التامة، وعرفت الأصل في التمييز بينهما ، ومشهور الأصوليين لم يذكروا شيئاً محدداً بشأن التمييز بينهما ولعلهم أحالوه إلى الوجدان وحكمه بما ذكرناه.

ص: 89

نعم ذكره المحقق العراقي رحمه الله الذي توسع في بيانه وخلاصة ما ذكره أنّ هيئة الجملة الناقصة تختلف عن هيئة الجملة التامة في مفادها من وجوه ثلاثة:

1- إن الهيئة في الأولى تحكي عن النسبة الثابتة بينما الثانية تحكي عن إيقاع النسبة.

2- إنّ المحكي عنه في التامة هو النسبة بلحاظ وجودها، فإذا قال زيد قائم حكى عن النسبة الموجودة بين زيد والقيام، وأمّا الناقصة فإنّ محكيها هي النسبة بلحاظ نفسها مع قطع النظر عن وجودها وعدمها في الخارج ولذا يصح الحكم عليها بالنفي.

3- إنّ القيود المأخوذة في موضوع الحكم الشرعي على نهج النسبة التامة فمقتضاه كونه لوحظ قيداً ووصفاً للموضوع بما هو متحقق في الخارج، وكلما أُخذ القيد على نهج النسبة الناقصة فهو قيد للموضوع بحد ذاته بقطع النظر عن الوجود والعدم.

ومثال الأول: (إذا كان الماء كُراً اعتصم) ومثال الثاني: (الماء الكُر معتصم) وقد فرع على ذلك صحة استصحاب العدم الأزلي((1))

وما ذكره يمكن إرجاعه إلى أمر واحد كما أنه من آثار المتعلق وأنها تتحدّد حسب وضع الكلام وخصوصيات العبارات, وللمناقشة فيما ذكره مجال واسع كما هو واضح.

الثالث: (الجملة الإنشائية): والكلام فيها أيضاً موضوع بحث عند أعلام الأصوليين والبحث فيها يقع من جهات ثلاث:

الأولى: دلالتها على معنى معين وهي الايجادية بمعنى كونها مُوجدة لمعناها باللفظ خلافاً لدلالة الجملة الخبرية على المعنى في أنها إخطارية.

الثانية: مقارنة الجملة الإنشائية مع الجملة الخبرية والتمييز بينهما في ذات المعنى.

الثالثة: اتحاد معنى الجملة الإنشائية مع المعنى في الجملة الخبرية.

أمّا الجهة الأولى: فالمعروف أنّ الجملة الإنشائية موجدة لمعانيها باللفظ تبعاً للتمييز بين الخبر والإنشاء فقالوا بانّ الخبر حال، والإنشاء موجد لمعناه وقد عرفت التفصيل في البحث عن الإنشاء والخبر فلا حاجة إلى إعادته.

أمّا الجهة الثانية: ففيها أقوال : الأول اتفاق الجملتين في المدلول فيما تُفيدان، إلا إنّ الإخطار قد يكون من علاقة اللفظ بالمعنى بحيث يوجب الإخطار المباشر وايجاد المعنى تصوراً في ذهن السامع بسبب اللفظ، كما هو الحال في الجمل الخبرية والكلمات الإفرادية وما يلحق بها فإنها تؤثر في معانيها بإخطار تلك المعاني.

وقد يكون حاصلاً من علاقة اللفظ بالمعنى وتأثيره فيه بنحو الايجاد والتوليد أي إن اللفظ يوجد المعنى في الخارج ويكون وجوده هذا سبباً في خطوره في ذهن السامع فتكون الخطورة في ذهن السامع ليس بسبب اللفظ مباشرة بل بسبب مواجهة المعنى بوجوده الخارجي الذي هو بسبب اللفظ، ويمكن إرجاع ما ذكره المشهور في الجملة الإنشائية من أنها تدل على الايجاد إلى أنه بمعنى التوليد فهي توجد المعنى وفي طولذلك يتم الإخطار، فإذا قيل (صلِّ) يوجِد بهذه الجملة طلب في الخارج وفي طول ذلك ينتقل ذهن السامع إلى مفهوم الطلب فإنه ينتزعه من مصداقه الخارجي.

ص: 90


1- - مقالات الأصول - ج1 / ص109 - مصدر سابق.

ولعلَّ السبب في اختيار هذا يرجع إلى أن الجملة موضوعة للمفاهيم الإنشائية المتعارفة من الطلب والتمني والاستفهام والنداء ونحو ذلك، ولا ريب أنه يوجد فرق بين هذه الجمل والأسماء الإفرادية الدالة على هذه المعاني لنقصان هذه الأسماء وتمامية تلك الجمل، فعولج هذا الفرق بالقول بأنّ جملة (إفعل) تختلف عن اسم الطلب في كونه جملة تامة مع أنها موضوعة لنفس المعنى وقالوا بأنّ هذا الاختلاف من سنخ تأثيرها في مدلولها حيث أنها توجد الطلب باللفظ فكانت جملة تامة يصح السكوت عليها لافادتها معنى تصديقي بخلاف كلمة الطلب إذا اطلقت.

وأشكل عليه: بأن هذه الموجدية إن ادعى ثبوتها للجملة الإنشائية بقطع النظر عن وضعها لمعناها فهو واضح البطلان لعدم العلاقة الذاتية بين اللفظ والمعنى.

وإن ادعى ثبوتها بسبب الوضع فهو باطل أيضاً لما عرفنا من حقيقة الوضع من أنه مجرد اعتبار وايجاد العلاقة والانتقال الذهني لا السببية في الوجود الخارجي والتلازم الخارجي مع أنّ الوجود الخارجي لمعاني الجمل الإنشائية كثيراً ما يكون محفوظاً في المرتبة السابقة على الكلام فكيف يُعقل دعوى حصوله بالإنشاء كما في موارد التمني والترجي والاستفهام لقيام مصاديق هذه المعاني بالنفس في المرتبة السابقة فإن أُريد بالموجدية هي الموجدية لهذه المصاديق فهو واضح البطلان وإن أريد بالموجدية نحو آخر من الوجود رجع إلى الوجود الذهني وكان من باب الإخطار إلا أن يُراد من الوجود في الإنشاء وجود ثالث وهو الوجود الإنشائي ولكنه فاسد أيضاً إذ الوجود الثالث هو الاعتبار ولكنه متقوِّم بالاعتبار دون اللفظ.

والحق إنّ الاخطارية الحاصلة في الإنشاء إنما هي بعد مرحلة الوضع فتحصل بعد استعمال اللفظ في المعنى والقاء الجملة وأما وضعها إنما يكون ايجاداً ولا اشكال في حصوله وإنما الكلام في وضع الجملة الإنشائية.

القول الثاني: أن تكون الايجادية في الجملة الإنشائية في عرض الاخطار فإنها تخطر معناها في ذهن السامع على حدِّ ما يقع في سائر الجمل والكلمات ولكن الجملة الإنشائية تختلف عن الجملة الخبرية من ناحية المتكلم في أنه يقصد من الجملة الإنشائية تحقيق وجود تنزيلي للمعنى باللفظ فإذا قال (بعت) إنشاءً يقصُد ايجاد النسبة تنزيلاً باللفظ، باعتبار أنّ اللفظ تنزيلٌ للمعنى، وهذا لا ينافي أن يقصد اخطار المعنى تصوراً في ذهن السامع، واللفظ يوجب هذا الاخطار، ولكنه ليس قاصداً للحكاية عن وقوع النسبة خارجاً.

وأمّا في الجملة الخبرية فإنّ المتكلم يقصد الحكاية مضافاً إلى ما ذكره من قصد اخطار المعنى تصوراً في ذهن السامع، فترجع النسبة بين محتوى الجملة الإنشائية ومحتوى الجملة الخبرية نسبة الأقل إلى الأكثر على ما أفاده المحقق الاصفهاني رحمه الله ففي الأولى يكون قصد الايجاد التنزيلي وفي الثانية يتحقق قصد آخر وهو قصد الحكاية.

ويمكن الإشكال عليه: بأنّ الجملة الإنشائية تارةً تُقارن بالجملة الخبرية في مرحلة المدلول الجدّي والتصديقي وأخرى تقارن بها في مرحلة المراد الاستعمالي والمدلول الوضعي.

الظاهر أنّ الكلام عن المدلول الجدي في الجملتين أجنبي عن محل الكلام لأن المقصود هو التمايز بينهما في مرحلة المدلول الوضعي والمراد الاستعمالي وعلى فرض التنزل فإنه لا شك في عدم التفاوت بين الجملتين في مرحلة المدلول الجدي التصديقي فكما أن

ص: 91

في الجملة الخبرية يزيد قصد الحكاية الذي هو المدلول الجدي لها على قصد الايجاد التنزيلي للنسبة باللفظ، كذلك تزيد الجملة الإنشائية على القصد المذكور بما هو مدلول جدي لها من التمني النفساني والإرادة أو طلب الفهم ونحو ذلك من المداليل التصديقية للجملة الإنشائية وأمّا في المدلول الاستعمالي فإن قصد الحكاية أجنبي عن هذا المدلول في الجملة الخبرية، فإنّ مدلولها ليس إلا اخطار النسبة تصوراً كما تقدم من أنّ الدلالة الوضعية تصورية لا أن تكون تصديقية، وهذا الاخطار محفوظ أيضاً في الجملة الانشائية فإنّ المنشئ يقصد بقوله (بعت) اخطار معنى في ذهن المشتري، فلم يتحدد فرق بين الجملتين من هذه الناحية.

القول الثالث: أن يُراد من ايجادية الجملة الإنشائية في طول الاخطار بل في طول مدلولها التصديقي وذلك بالقول بأنّ صيغة (إفعل) مثلاً تدلُّ تصوراً على النسبة البعثية وتدل تصديقاً على الحالة النفسية المناسبة لهذا المدلول التصوري وهي إرادة تحرك نحو المادة وتلك الحالة كاشفة عن هذه الإرادة ويكون الداعي عن هذا الكشف هو التوصل إلى المراد ولأجله ينطبق عليها عنوان الطلب، وتكون مصداقاً حقيقياً للطلب الذي هو بمعنى السعي نحو المقصود، وهكذا تكون الجملة الإنشائية موجدة لمعناها في طول دلالتها التصورية والتصديقية.

وهذا النحو من الايجادية صحيح إلا أنه ليس من شؤون الجملة ولوازمها بما هي جملة انشائية بل هو من الأمور الاتفاقية، فلا يصح أن يكون فارقاً بين الجملتين الإنشائية والخبرية، ولذلك فإنهما تتمايزان في المدلول الاستعمالي حتى مع هزلية الجملتين من دون أن يكون قصداً جدياً في البين.

وقد استشكل المحقق العراقي رحمه الله على هذا النحو من الايجادية تارة بعدم المعقولية لعدم إمكان إحضار الوجود الخارجي في الذهن، وأخرى بأنّ هذا الوجود في طول الاستعمال والمستعمل فيه متقدم بالطبع على الاستعمال فلو كان هو المستعمل يلزم التقدم والتأخر رتبة وهو خلفٌ.

ويمكن الجواب عنهما: بأن ليس للجملة الإنشائية إخطارية بناءً على هذا الرأي فهي ايجادية إخطارية في رتبة واحدة وهي رتبة انتزاع مفهوم من هذا الوجود، فاللفظ يخطر ذات المعنى في الذهن ويوجد له مصداقاً في الخارج من دون أن يكون الوجود الخارجي دخيلاً في المستعمل فيه.

القول الرابع: القول بايجادية الجملة الإنشائية بحسب التصور أي ايجادية تصورية ويتضح ذلك بوضوح في الجملة المشتركة بين الإخبار والإنشاء كلفظ (بعت) و(يعيد) فإن الجملة تدل على النسبة التي تقيدها على نحو واحد فهي في مورد الإخبار تلحظفانية في الواقع بالنظر التصوري مفروغاً عنه، وفي مورد الإنشاء تلحظ فانية في واقع يُرى بالنظر التصوري ثبوته في نفس الكلام ولأجله توصف الجملة الإنشائية بالموجدية وهي محفوظة في موارد الهزل لأنها موجدية بحسب النظر التصوري سواءً ترتب عليها مصداق خارجي للمعنى أو لم يترتب كما في موارد الهزل.

وهذا هو المعنى الصحيح للموجدية ويمكن التمييز به بين الجملة الإنشائية والجملة الخبرية وقد أشكل عليه:

ص: 92

أولاً: إنّ هذه الموجدية معنى صحيح معقول إلا أنه يمكن التمييز به في الموارد التي يترتب فيها للإنشاء موجدية لمصداق معناه، وهو غير متصور في الموارد التي لا يترتب للإنشاء موجدية كذلك، كما في جمل التمني والترجي فإنّ النسبة التي تُعبر عنهما هي بالمعنى الحرفي إنما تتعين إذا كان لها مصداق ثابت في النفس ولا وجه لافتراض مصداق لها بنفس الكلام.

وبعبارة أخرى أنّ التمني والترجي الإنشائي إنما يسبقهما تمني وترجي في واقع النفس.

ويرد عليه: بأن التمني الإنشائي إنما هو عبارة أخرى عن استعمال الجملة الإنشائية في مقام التمني أو الترجي وهو ليس مصداقاً للتمني لينظر إلى المدلول التصوري بما هو فانٍ في المصداق.

وثانياً: إنّ تعقل الموجدية في الإنشاء والحكاية في الإخبار إذا كان على نحو يرجعان إلى خصوصيتين في المدلول الجدي للكلام فلا إشكال في خروجهما عن المعنى الموضوع له والمستعمل فيه لأن المدلول الوضعي تصوري، وإن تعقلناهما على نحو يرجعان إلى خصوصيتين في المدلول التصوري الاستعمالي كما تقدم في الوجه السابق فحينئذٍ يقع الكلام في أخذ هاتين الخصوصيتين في المعنى الموضوع له الجملة الإنشائية والخبرية وعدم أخذهما وكونهما من شؤون الاستعمال محضاً ولأجل ذلك ذهب المحقق الآخوند رحمه الله إلى أنّ الإخبارية والإنشائية غير داخلتين في المعنى الموضوع له والمستعمل فيه، وأكده جمعٌ من الأعلام منهم المحقق الاصفهاني والمحقق العراقي (قدس سرهما) فاعتبراه من خصوصيات الاستعمال فلا يمكن أخذه في المعنى المستعمل فيه إن وقع ذلك في اللحاظ الآلي والاستقلالي في الأسماء والحروف كما بيّنا سابقاً.

والحق في الجواب أن يقال: إنّ ذلك خلط بين الاستعمال وخصوصياته والوضع ومقارناته فإنه لا شك في أن الوضع إنما يُحدث مقارنة بين اللفظ والمعنى وعلاقته بينهما فيتحقق الانتقال الذهني، فإن الموجدية والحكائية أو الآلية والاستقلالية لم تؤخذ في مرحلة الاستعمال والموضوع له بالعرض كما هو واضح فإنه يستلزم التهافت وتعدد الصور الذهنية.

ولكنها مأخوذة في التصور عند إثبات الوضع والموضوع له بالذات فإنها قيود وشروط ذهنية تحدد طرف الملازمة في الذهن فتكون الصورة الذهنية ذات خصوصيات معينة فيقرن اللفظ بها ولا يلزم منه أي محذور من التهافت وغيره وهكذا الكلام في المستعمل فيه.بقي الكلام فيما ذكره السيد الخوئي رحمه الله من أن معنى الجملة الإنشائية الموضوع له فيها هو إبراز الصفات النفسانية الحاصلة في النفس من تمنٍ وترجٍ واستفهام واعتبار فهي موضوعة لواقع هذه الصفات لا لمفهومها.

بمعنى أنّ الواضع تعهد بأنه متى ما كان في نفسه إحدى هذه الصفات ذكر الهيئة الخاصة بها فتكون الدلالة تصديقية لأن الإتيان بالجملة الإنشائية يوجب العلم بحصول هذه الصفة في نفس المتكلم ويترتب عليه آثارها وليس موجباً للتصور فإنه من شأن المفاهيم لا الوجودات.

ويرد عليه..

ص: 93

أولاً: أنه منقوض بما لم تكن المادة موضوعة لصفة نفسانية كلفظ (ملكت) فإن الهيئة تدل على الاعتبار القائم في النفس، والمادة تدل على الملكية وهو غير مفهوم الصفة النفسانية أعني الاعتبار فالجملة المركبة من الهيئة والمادة تدل على اعتبار الملكية.

ثانياً: إنه يلزم منه أن لا يكون للجملة الإنشائية مدلول تام جُملي في عالم التصور والمفهومية بل لا يكون هناك إلا مفهوم المادة الإفرادي وذلك لأن الصيغة إذا كانت موضوعة لواقع الصفة النفسانية وهي الاعتبار القائم بالنفس مثلاً فإن وجود الصيغة كاشفاً عن ذلك الواقع وموجباً للعلم به بلا خطور في الذهن لفرض كونه موجوداً وهو لا يقبل التحقق في الذهن.

وعليه لا يكون في الجملة الإنشائية ما يتعلق به التصور والانتقال سوى مفهوم المادة وهو ما تعلق به الاعتبار مثال ذلك إذا قال المولى لعبده (أكتب) فإنه يكشف بهيئته عن اعتبار الكتابة في عهدة العبد المكلف ويوجب العلم به، والمادة توجب الانتقال إلى مفهوم الكتابة وتصوره هذا إذا كان للجملة الإنشائية مفهوم جُملي، وأما إذا لم يكن كذلك بل كان لها مفهوم إفرادي خرج عن باب استعمال الألفاظ الموجب لخطور المعنى في الذهن والانتقال إليه وصار كالكاشف التكويني عن الصفة كرفع اليد عند اعتبار شيء فإنّ رفع اليد وذكر اسم الشيء لا يكون من باب الاستعمال في الصفة النفسانية فهو أجنبي عنه بالمرة.

والحق أن يقال أنّ الموضوع له في الجملة والهيئة التركيبية مطلقاً كانت خبرية أو إنشائية ليس إلا النسبة بين الموضوع والمحمول التي تثبت الاتحاد بينها وتعرض عليها الثبوت وعدمه والإيجاب والسلب والإخبار والإنشاء تبعاً للقصد وأمورٌ أخرى فإنّ قصد الحكاية عن ثبوت النسبة وعدمه في الواقع المقرر له كانت خبرية وإنّ قصد ايجاد معناها في وعائه المناسب له كانت إنشائية فيكون مدلول الجملة والمستعمل فيه في كلا الحالين واحد كما عرفت فيكون الإخبار والإنشاء في الجملة الخبرية والإنشائية خارجان عن الموضوع له والمستعمل فيه بل هما من أطوار الاستعمال وأنحائه وهذا الرأي يوافق الوجدان اللغوي والذوق الاستعمالي ويدل عليه التبادر أيضاً ويسلم عن جميع الاعتراضات والمناقشات التي أوردت على الوجوه السابقة. والحاصل أنه لا فرق بين الجملة الخبرية والإنشائية بالنسبة إلى الدلالة الوضعية ويترتب على ذلك:1- أنه لا تتصف نفس الجملة الخبرية بالصدق والكذب كما لا تتصف الجملة الإنشائية بهما حتى لو علم المخاطب بكذب المتكلم في إخباره وإنما المتصف بهما مدلول الجملة.

نعم الفرق بينهما من ناحية كون الجملة الخبرية لها واقع في الخارج مفروغاً عنه فإن طابقته تكون صادقة وإلا تكون كاذبة، وأما الجملة الإنشائية فأمرها غير مرتبط بالخارج بل تلحظ النسبة فيها في واقع يرى بالنظر التصوري ثبوته في نفس الكلام فيكون الصدق والكذب في الجملة الخبرية بحسب المدلول لا نفس الجملة فيكون اتصافها بهما تبعياً.

2- إنّ الجملة الخبرية تتفق مع الجملة الإنشائية في كونها مبرزة لشيء ما فالخبرية مبرزة للحكاية والإخبار عن الواقع والإنشائية مبرزة لصفة نفسانية كالتمني والترجي والطلب واعتبار من الاعتبارات كالملكية لا أنها موجدة لها كما ذهب إليه جمع من الاعلام.

ص: 94

3- إنّ كيفية النسبة التي هي الموضوع له في الجملتين يستفاد من الخارج أما قصد الحكاية أو الايجاد فهما خارجان عن الموضوع له، وقد عرفت أن الايجاد باللفظ ليس معنى الإنشاء وإلا لزم أن تكون الألفاظ سبباً وحينئذٍ يقع الكلام في أنه سبب تكويني أو اعتباري وكلاهما غير تام وإن كان ذلك محل نقاش كما عرفت.

4- إنّ الفرق بين الجملتين الخبرية والإنشائية يتحقق في أطوار الاستعمال وأنحائه لا في المدلول والمستعمل فيه كما إذا كان المتكلم في مقام الإخبار وعدمه، وقصده عن ثبوت النسبة في الواقع وغير ذلك.

5- يظهر أن جميع الجُمل الإنشائية تتحد في موضوع واحد بلا فرق بين الجمل المتحققة في الإنشاء والجملة الاستفهامية وجملة التمني وجملة الترجي والجملة الطلبية لصيغة (إفعل) ونحوها وما تكون مشتركة كالجملة الفعلية التي تستعمل في مقام الطلب أو في مقام الإنشاء المعاملي كقولنا (يعيد) و(بعت) فإنّ الموضوع فيها هي النسبة وأنّ الجملة مبرزة لأمر نفساني من صفة أو اعتبار، وأما كيفية النسبة فتستفاد من الخارج من أطوار الاستعمال وأنحائه.

وقد اختلف العلماء في كلا النوعين من الجمل الإنشائية ولعل منشأ الاختلاف يرجع إلى أن الجمل الإنشائية التي تبتدأ بحروف خاصة كحرف التمني والترجي وأداة الاستفهام ونحو ذلك فإنه لا ريب أن لتلك الحروف معنى وللجملة المدخول عليها الحرف معنى ولا شك في وجود الربط بين معنى (ليت) مثلاً ومعنى الجملة التي دخل عليها الحرف والمفروض أنّ معنى الجملة وهي النسبة معنى حرفي آلي لا يقبل التقييد والإطلاق فلا يصح ربطه بشيء فوقع الكلام في تصحيح هذا الارتباط وقد ذكروا وجوهاً في التصحيح نذكرها على سبيل الايجاز.

الوجه الأول: أنّ الجملة الإنشائية موضوعة للطلب والتمني والترجي والاستفهام وبه تتميز عن الجملة الخبرية التي لا دخل لهذه المعاني في مدلولها حتى في الجملة الخبرية التي تُستعمل في الإخبار عن الطلب والتمني كما في قولك (أطلب منك).فإن الطلب فيه مدلول الكلمة الإفرادية لا من هيئة الجملة الخبرية التي لها مدلول واحد في جميع الموارد.

وفيه أنه مبني على كون الجملة الإنشائية ايجادية وقد عرفت الإشكال فيه.

مع أنه لو قلنا بأن الجملة الإنشائية تبرز واقع هذه الصفات فالجملة الإنشائية كاشفة عنها يستلزم القول بأنّ الدلالة الوضعية تصديقية وقد تقدم أنه باطل وإن اختاره السيد الخوئي.

الوجه الثاني: ما أفاده المحقق العراقي رحمه الله من أنّ الجمل الإنشائية تدل على نسبة الحروف إلى تلك الصفة النفسية كالاستفهام والتمني ونحوهما إلى المادة فقال بدلالة أداة الاستفهام أو هيئة الجملة الاستفهامية مثلاً على نسبة الاستفهام إلى مدخولها، فأحد طرفي هذه النسبة هو مفهوم الاستفهام والطرف الآخر النسبة التامة المدخول عليها الأداة باعتبار أنّ النسبة تستلزم وجود طرفين لها على الأقل عقلاً، تدلُ الأداة تبعاً على طرف النسبة الاستفهامية وهو مفهوم الاستفهام، وهكذا بالنسبة إلى سائر الجمل الانشائية فالجملة الطلبية تدل على نسبة الطلب أو البعث إلى المادة وهكذا.

ص: 95

الوجه الثالث: ما ذكره المحقق الاصفهاني رحمه الله من أنّ المتكلم بعد أن يصبح في حالة الاستفهام عن موضوع يتحقق ربط وعلاقة بينه وبين ذلك الموضوع المستفهم عنه لم يكن موجوداً قبل ذلك، فكما ينتزع عن حالة الاستفهام مفهوم اسمي وهو الاستفهام كذلك ينتزع من هذا الربط مفهوم حرفي هو معنى أداة الاستفهام أو هيئة الجملة الاستفهامية فيكون مفادها النسبة القائمة بين المستفهم والمستفهم عنه وهذا خلاف الوجه السابق حيث كان طرف الاستفهامية نفس مفهوم الاستفهام بينما في هذا الوجه المستفهم ولذا كان مفهوم الاستفهام خارجاً عن مدلول أداة الاستفهام بينما كان مدلولاً عليه الأداة في السابق.

وهكذا في سائر الجمل الإنشائية بأن تكون موضوعة للنسب الموازية للمفهوم الاسمي للاستفهام والطلب والتمني والترجي والنداء.

ويرد عليه أنّ هذه النسبة الحاصلة من الأداة أو الهيئة هي نسبة تصورية محضة تنشأ عند استباق المعنى إلى ذهن المتكلم فينشأ الكلام على ما في الذهن ويبرز ما في النفس إلى الخارج في ضمن جملة كما عرفت وما ذكره العَلمان إنما هو من أطوار الاستعمال وأنحائه.

والصحيح أن يُقال: أن الجملة إنما تدل على النسبة كما عرفت آنفاً وأمّا الحروف الداخلة على الجمل الإنشائية كحروف التمني والترجي والاستفهام، فإنها موضوعة للنسبة بين التمني والترجي والاستفهام وبين متعلقاتها كالموضوع المستفهم عنه والمتمني والمرتجي إذ من المعلوم أن تعلق التمني بشيء لازمه تحقق نسبة بين التمني ومتعلقِّه، فاللفظ موضوع لهذه النسبة، ويدل عليه الارتكاز العرفي مضافاً إلى كونه أقرب إلى المعنى الحرفي الذي تقدَّم الكلام فيه لاسيما بعد توفر جهات المعنى الحرفي فيه من الآلية والايجادية ونحو ذلك مما قيل، ومنه يظهر بطلان ما ذهب إليه المحقق الخراساني من وضعها لمفهوم التمني كلفظ (التمني) وبطلان ما ذهب إليهالسيد الخوئي رحمه الله من وضعها إلى نفس الصفة النفسانية أو إبرازها وغيرهما مما ذكره الأعلام فتكون النسبة الحرفية متممة للنسبة التصورية ومتصادقة في الخارج.

ولا ريب أنّ الإنشاء يصدق على هذه الجمل على كل النظريات التي قيلت في حقيقة الإنشاء فإنه بناءً على ما التزم به صاحب الكفاية من معنى الإنشاء لقابلية كل شيء اعتبارياً كان أو تكوينياً لوجود إنشائي.

وكذلك بناءً على ما التزم به بعضٌ من أنّ الإنشاء استعمال اللفظ لا بقصد الحكاية وإن لم يكن بقصد الايجاد لوضوح عدم تأتي قصد الحكاية في تلك الجمل.

نعم قد يستشكل في صدقه عليها بناءً على مختار المشهور لأن التمني من الأمور الواقعية التابع وجودها لأسبابها التكوينية سواء تحقق اعتبارها أو لم يتحقق، فلا دخل للاستعمال في وجودها حتى يقصد به ايجادها في عالمها وحينئذٍ فلابد من صدق الإنشاء عليها تصور وجود اعتباري لها غير وجودها الحقيقي التكويني.

فذكر بعض الأعلام في توجيه صدق الإنشاء عليها بأن الملاحظ عرفاً عدم صدق التمني إلا بعد صدور الكلام فلا يقال للمتمني إلا بعد صدور الجملة، وكذا بالنسبة إلى الاستفهام وهذا يدل على أنّ للتمني ونحوه عند العرف وجود اعتباري كما أن الفعل المشتق من التمني إنما يُسند عرفاً إلى الفاعل نسبة صدورية والمعنى المناسب لهذا الاسناد هو

ص: 96

الوجود الاعتباري بخلاف الصفة النفسانية الأخرى فإنها حلولية مثل العلم ونحوه كما أنّ بطلان لفظ التمني على نفس الكلام الصادر يدل على أنّ لها وجود اعتباري عقلائي باللفظ، فيصدق لفظ التمني على الجملة من باب صدق لفظ المسبب على السبب وهو أمر متعارف.

والحق أنّ ما ذكره يرجع إلى ما قلناه من أنّ لهذه الصفات النفسانية وإن كان لها وجود حقيقي في النفس تكون سبباً لمنشأ اعتباري ذهني للطرفين في الجملة يثبت لها وجوداً اعتبارياً في مرحلة التصور للتحقق في العالم المناسب لها.

ففي الخبرية عالم التحقق والثبوت وفي التمني عالمه، وفي الترجي عالمه فيكون الكلام الخارجي كاشف عنها ويتصادقان في الواقع المناسب له والجملة الإنشائية كالجملة الخبرية لها في أنّ لكل واحد وجود اعتباري ذهني وفي القائها إلى المخاطبين يتم التصادق بين الموجود في الذهن والخارج أو على نحو علاقة السبب والمسبب أو الكاشف والمنكشف فيكون صدق الإنشاء على كل واحدة من تلك الجمل باعتبار وجودها الاعتباري الحاصل في الذهن والتصادق الحاصل له ما في الذهن وما في الخارج ومن ذلك يظهر أنه يمكن إرجاع كلام المحقق العراقي والاصفهاني المزبور إلى ما ذكرناه.

هذا ما يتعلق بحروف التمني والترجي والاستفهام والجملة الطلبية.

وأمّا حروف النداء مثل (يا) فإن كانت من مجرد التصويت أي يكون منبهاً بقصد جلب توجه المخاطب، فبمجرد حصوله يتحقق النداء باعتبار كونه صوتاً أعني في مقام جلب انتباه المخاطب وتوجهه فلا نحتاج إلى التماس وضع ونحوه ولا فائدة فيه.

وأما أن يكون لها معنى وهو جلب توجه المخاطب فحينئذٍ يصح البحث عن الموضوع له لفظ النداء والحق أن تلك الحروف أيضاً موضوعة - كسائر الحروف - للنسبةالحاصلة بين جلب التوجه والمنادى والربط القائم بينهما إذ أنّ المتكلم إذا كان في مقام جلب توجه الغير وقاصداً تحقيق هذا الأمر إنما يحصل ربط بين هذا المعنى وبين المنادى عُرفاً ستكون النسبة ندائية.

يبقى شيء وهو أنّ إلقاء الكلام المشتمل على حرف النداء أو الاستفهام أو التمني ونحوها لا يوجد في ذهن المخاطب نسبة مماثلة للنسبة الحاصلة في ذهن المتكلم لغرض تقوم النسبة المزبورة بالمتكلم تبعاً لحدوث أسباب تلك الصفات الواقعية في نفسه فهو أحد طرفيها بخلاف النسب بين المفاهيم التي هي مدلول الحروف الأخرى.

والحاصل أنّ الحروف بأسرها موضوعة لانحاء النسب والربط المختلفة في عناوينها، واتصافها بالايجادية والآلية ونحو ذلك إنما بتبع متعلقاتها.

3- مفاد الجملة الشرطية: لا تختلف الجملة الشرطية عن مثيلاتها من الجملة الاسمية والفعلية، الخبرية والإنشائية في أنّ مفادها هو ثبوت النسبة بين الطرفين أو المتعلقين إلا أن الربط فيها يكون بين جملتين لهما نسبتين تامتين، ولذلك لا يصح تأليف جملة شرطية فيها ربط بين جملتين ناقصتين أو بين تامة وناقصة وقد اعتبر بعض الأعلام ذلك من الشواهد على مختاره من أنّ اختلاف الجملة التامة عن الناقصة في المدلول التصوري بلحاظ سنخ النسبة لا أن يكون بلحاظ دلالة الأولى على قصد الحكاية مثلاً دون الثانية كما عليه السيد الخوئي رحمه الله ليرجع مرحلة الاختلاف بينهما في مرحلة المدلول التصديقي.

ص: 97

وقد عرفت الجواب عن ذلك مكرراً من أنّ النسبة ربط محض وفناء بين الطرفين والمتعلقين وأنّ التمامية والنقصان إنّما تطرآن عليها بحسب المتعلق وعليه يكون المدلول التصديقي في الجملة الشرطية كسائر الجمل وهو تعليق جملة على جملة أخرى.

ولذا لا يصح تعليق جملتين ناقصتين أو احداهما فإن جملة (إذا جاء زيد فأكرمه) لا يريد بها الحكاية عن مجيء زيد فقط تامة والأخرى ناقصة لعدم تحقق النسبة التعليقية بينهما التي هي مفاد هيئة الجملة الشرطية.

وبالجملة: إنّ الكلام في الجملة الشرطية تارة في هيئتها وهي مثل سائر هيئات الجمل التي تدل على النسبة وأخرى في أداة الشرط ومفادها النسبة التعليقية بين الجملتين جملة الشرط وجملة الجزاء وهما جملتان تامتان يصح السكوت على كل واحدة منهما وأما إذا لم يصح السكوت على إحداهما إنما هو من أجل عدم استيفاء النسبة التعليقية التي تدل عليها أداة الشرط وشأنها شأن سائر الحروف والأدوات الداخلة على الجمل ولا تخرج عما يستفاد من سائر الحروف الداخلة على الجمل فإن النسبة الحاصلة من الجملة تتصادق مع النسبة التعليقية المستفادة من الأداة سواء في مرحلة التصور أو في الخارج وإن قلنا بأن التوقف والتعليق والإناطة أمر واقعي له واقعيته حتى في حال عدم ثبوت الطرفين بوجه فإنّ ما في الذهن مرآة لما في الخارج فتكون النسبة التصورية مرآة للنسبة في الخارج وهذا هو المراد بالنسبة التصادقية التي ينادي بها بعض الأعلام وحينئذٍ إذا تمت الجملة واستوفت أركانها من أداة الشرط وجملته وجملة الجزاء صح السكوت عليها وأفادت الجملة النسبة التعليقية بين الجملتين التي تكونمفادها انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط وإن لم تستوف أركانها كما إذا تحققت جملة الشرط من دون جملة الجزاء فإنّ نفس جملة الشرط لم تكن ناقصة بل هي تامة يصح السكوت عليها ولكن النقصان إنما حصل من جهة عدم استيفاء هذه الجملة النسبة التعليقية التي لا تتقوم إلا بطرفين وسيأتي الكلام مفصلاً في بحث المفاهيم إن شاء الله تعالى.

وفي ختام البحث في الجمل مطلقاً يقع الكلام في الأسماء الملحقة بالحروف كأسماء الإشارة والضمائر كضمائر المخاطبين والغائبين والموصول المعبر عنها في العلوم الأدبية بالمبهمات وفي علم النحو بالمبنيّات. وتعيين الموضوع له فيها من حيث العموم أو الخصوص.

فقيل: بأنّ الموضوع له فيها عام كالحروف لا أن يكون خاصاً بدعوى أنّ الموضوع له فيها إنما هو المعنى الكلي الذي تتعلق به الإشارة والتخاطب مثلاً. والتشخيص إنما يحصل من طور الاستعمال لأن نفس الإشارة أو التخاطب يستدعي كل منهما الشخص وهو لم يكن مأخوذاً في الموضوع له.

ولذا قيل: (هذا) لمفرد مذكر أشر ، والمستعمل فيه أيضاً كذلك، والتشخص حصل بالاستعمال فهو من شؤونه لا المستعمل فيه.

وبعبارة أخرى أنّ أسماء الإشارة وضمائر الخطاب والغائب إنما هي موضوعة لمعاني يشار إليها بها، أو للتخاطب وللغائب من دون أخذ الإشارة والتشخص الخارجي في الموضوع له.

كما لم يؤخذ اللحاظ الآلي والاستقلالي في معنى الحرف والاسم.

ص: 98

وقد التزم بذلك المحقق الخراساني رحمه الله ومن تبعه.

والجواب عن ذلك يظهر مما ذكرنا في بيان حقيقة الوضع مضافاً أنه لو قلنا بأنّ هذه الأسماء الملحقة بالحروف إذا كانت موضوعة للطبيعي يستلزم أن يكون استعماله في الأفراد شيوع المجاز في المحاورات لأنّ الفرد من اللفظ لم يكن موضوعاً له وهذا خلاف الوجدان.

لا يقال: بأنّ الكلي الطبيعي عين الإفراد لأننا نقول بأن الموضوع له فرضاً فيها الكلي بما هو كلي وللخروج عن هذا الإشكال التزم بعض بأنّ المستعمل فيه في مثل هذه الموارد ليس هو الفرد بل هو الكلي بلحاظ انطباقه على هذا الفرد أو تطبيقه على الشخص المعني.

فيكون ذكر اللفظ الموضوع للمعني الكلي وإرادة الفرد منه يكون من باب الإطلاق لا من باب الاستعمال في الفرد فلا يكون الاستعمال مجازياً.

كما أنه استشكل المحقق الاصفهاني على مختار استاذه بوجهٍ آخر فقال رحمه الله : إنّ الأسماء والضمائر موضوعة لنفس المعنى عند تعلق الإشارة به خارجاً أو ذهناً بنحوٍ من الأنحاء، فقولك: هذا لا يصدق على زيد مثلاً إلا إذا صار مشاراً إليه -باليد أو بالعين مثلاً- فالفرق بين مفهوم المشار إليه، ولفظ هذا، هو الفرق بين العنوان والحقيقة نظير الفرق بين لفظ الربط والنسبة، ولفظ (من وفي) وغيرهما، وحينئذٍ فعموم الموضوع له لا وجه له أصلاً، بل الوضع حينئذٍ عام والموضوع له خاص، كما عرفت فيالحروف(1) واختاره بعض الأعلام إلا أنه خصَّ الموضوع له بما تعلقت به الإشارة الخارجية، واستدل عليه بأنّ مقارنة استعمال اسم الإشارة باليد أو العين أمر ارتكازي في الاستعمالات ولا ينفك عن الاستعمال فيكشف ذلك أن كون الموضوع له هو المعنى حال مقارنته للإشارة الخارجية.

ويمكن الإشكال عليه..

أولاً: ذكرنا سابقاً ما يتعلق بالوضع وحقيقته وقلنا بأنه أمر بسيط لم يكن فيه هذا التعقيد ربما كانت بعض الحروف رموزاً وربما كانت أسماء ثم هجرت ونقلت إلى المعاني الحرفية وغير ذلك فما ذكره رحمه الله بعيد عن حقيقة الوضع مع أن إثبات القيد في الوضع يحتاج إلى دليل وهو مفقود.

وثانياً: إنه خلاف الدلالة الوضعية التصورية فإنّ الوضع يكون حينئذٍ إلى الموجود بما أنه موجود لا المفهوم لأن الإشارة لا تتعلق إلا بالموجود فإذا كان الموضوع له هو المعنى المقارن للإشارة إليه كان معنى اسم الإشارة هو الموجود لا المفهوم و قد عرفت مراراً أنّ الدلالة الوضعية تصورية.

وثالثاً: أنّ ما ذكره بعض الأعلام من اختصاص المعنى المقارن للإشارة الخارجية يستلزم امتناع استعمال اسم الإشارة في الكليات والأمور الذهنية والأمور العينية لامتناع تحقق الإشارة الخارجية إليها مع أنّ الإشارة إلى الكليات والأمور الذهنية شائع جداً.

ورابعاً: إن ما ذكر في الدليل على مختار المحقق الاصفهاني ومن تبعه فهو غير صحيح لأن اقتران اللفظ بما يرادف معناه من الأفعال الخارجية من الاستعمالات كثير، لا يكاد يخفى كما في رفع الرأس إلى الأعلى، أو الأسفل للدلالة على النفي أو الايجاب أو الفوق

ص: 99


1- - نهاية الدراية - ج1 / ص34 مصدر سابق.

والتحت تأكيداً للمعنى أمر صحيح مقبول لكنه لا يدل على الوضع على المعنى بقيد المقارنة للفعل الخارجي.

فالحق أن يقال: إن الوضع في الأسماء التي تشبه الحروف المعبر عنها بالمبنيات في العلوم الأدبية والمبهمات أيضاً كالضمائر والموصولات والإشارات استقلالي وأنّ الموضوع له فيها الذات المبهمة من كل حيثية وجهة القابل للانطباق على الجزئي والكلي والحسي وغيره نظير ما يأتي في معنى الاطلاق إن شاء الله تعالى.

نعم ربما يكون وضعاً مستقلاً يخالف سائر أقسام الوضع هذا ولكن ذكر السيد الوالد رحمه الله أنه لعلَّ المراد بالوضع العام والموضوع له العام((1)) ما يعم هذا القسم أيضاً حتى لا يلزم زيادة في أقسام الوضع المشهورة.

ولعلَّ من ذكر من الأعلام بأن الموضوع له في اسم الإشارة هو نفس الإشارة الذهنية يرجع إلى ما قلناه.

وإلا فليس له معنى معقول إذ الإشارة لا معنى لها إلا إذا كان شيء يُشار إليه كما اعترف به في ضمن كلامه فلو كان الموضوع له نفس الإشارة فلابد أن يكون المرادالمعنى المشار إليه وهذا معنى صحيح لكنه يرجع إلى ما قلنا أو مفهوم الإشارة وهذا هو الذي ذكره المحقق الاصفهاني رحمه الله وقد عرفت الجواب عنه.

هذا وقد انتهينا عن وضع هيئات الجمل والحروف وما يتبعها من أسماء المبهمات كالضمائر وأسماء الموصول وأسماء الإشارة.

بقي الكلام في الهيئات الإفرادية التي لها أنواع ثلاثة، هيئة الفعل، وهيئة المصدر، وهيئة المشتقات.

وقبل الكلام فيها ينبغي تقديم أمر تمهيدي:

تمهيد: إنّ المفردات اللغوية إذا قطعنا النظر عن جانب الهيئة فيها إمّا أن تكون اسماً أو حرفاً وذلك لأن المفردة تارة لا تلاحظ فيها الهيئة وأخرى تعرض عليها الهيئة فتكون مركباً من الهيئة والمادة فالأول هو الاسم والثاني إمّا أن يكون فعلاً أو مصدراً، واسم فاعل أو اسم مفعول تبعاً لاختلاف نوع الهيئة الطارئة على المادة.

أما الاسم فإن من مميزاته المعروفة التي لا نزاع فيها أنه يصح أن يقع محكوماً به أو محكوماً عليه في الجملة التامة وأما المركب من الهيئة والمادة فإنه يختلف حاله عن الاسم فقد لا يكون صالحاً لأن يحكم به وعليه ولكنه ليس فاقداً لصلاحية كلا الأمرين معاً كما في الحرف، بل هو وسط بينهما فتكون حالاته مختلفة نظراً لتركبه فتارةً يصلح لأن يُحكم به ولا يصلح لأن يحكم عليه ولا أن يحمل على الذات وهو الفعل.

وأخرى يصلح لكل منها كالمصدر فإنه باكتسابه الهيئة المعينة لا يخرج عن صلاحية الأهلية لأن يحكم به وعليه ولكنه لا يصح أن يحمل على الذات فلا يقال (زيد علم) ولكن يصح أن يقال: (الفقه علم، العلم مفيد).

وثالثة: يصلح لكل منهما أيضاً فيحكم عليه كما يصح أن يحمل على الذات وهي المشتقات فيقال: (زيد عالم) .

ص: 100


1- - تهذيب الاصول - ج1 / ص18 - مصدر سابق.

وأمّا الحرف فلا يصلح لأن يحكم به أو يحكم عليه، وأما ما يتوهم وقوعه محكوماً به، كما إذا كان الخبر مكوناً من جار ومجرور كقولنا: (الرجل في الدار) فلابد أن يكون تقدير فيها كما اتفق عليه النحاة.

فقالوا أن الجملة المذكورة تعود إلى قولنا (الرجل كائن في الدار).

وقد ذكر بعض من الأعلام بأن السر فيه يرجع إلى أن المحكوم به طرف للنسبة التامة، وطرف النسبة التامة يجب أن ينظر إليه مستقلاً عن طرفها الآخر لأن النسبة تحتاج إلى طرفين متغايرين والحرف مثل (في) في الجملة المزبورة تدل على نسبة ناقصة ومقتضاها الاندماج أو ستندمج مع كلي طرفيها في وجود ذهني واحد.

ولكن الحق أن ذلك مبني على اختيار النسبة التحليلية وأما على المختار فإن الذهن يتصورهما بطرفيها ويلقيها إلى الخارج فتكون نسبة واحدة بين زيد وفي الدار، كما عرفت مفصلاً فيكون الجار والمجرور محكوماً به.

نعم الحرف مستقلٌ عن المدخول لا يصلح أن يكون محكوماً به أو محكوماً عليه.

1- هيئة الفعل:

عرفت أن الفعل يصح أن يقع محكوماً به ولا يصلح أن يقع محكوماً عليه ولا يحمل على مصداق مدلول مادة الفعل خلافاً للمصدر الذي يصح أن يحكم عليه وأن يحملعلى مصداق مدلول المادة فيه والفعل الواقع في جملة تامة تتحقق فيها هيئتان إحداهما هيئة الفعل والثانية هيئة الجملة الفعلية، وتقدم الكلام في الثانية مفصلاً وذكرنا بأنّ هيئة الجملة تدل على النسبة التامة التصادقية بين النسبة الذهنية على الخارجية سواء كانت العلاقة بين النسبتين السببية والمسببية أو الكاشفية والمنكشفية فإنه لا يضر في أصل المطلوب.

وأما هيئة الفعل فقد وقع الكلام في أنها تدل على نسبة ناقصة أو تامة.

فاختار المحقق النائيني رحمه الله كون النسبة تامة وهي نسبة الحدث إلى فاعله على نحو التحقق((1)) فهي تدل على النسبة الصدورية وبه امتاز الفعل عن المصدر الذي يدل على النسبة الناقصة.

وأشكل عليه بأن هذا القيد (أي على نحو التحقق) الذي يدل على تمامية النسبة في الفعل إمّا أن يريد مفهوم التحقق أو التحقق الخارجي أو ملاحظة النسبة فانية في الواقع الخارجي، والكل لا يصلح لما يريده.

أمّا الأول فلأنه مفهوم اسمي، ولا يمكن أن يكون سبباً في انقلاب النسبة من النقصان إلى التمام بمجرد أن يكون لها طرف اسمي آخر كما هو واضح.

وأمّا الثاني: فلأن الوجود الخارجي لا دخل له في المدلول وأمّا الثالث: فهو صحيح ولكنه يقع في المفهوم الإفرادي ولا يصيره بذلك جملة. وعليه فلا يصح أن تكون النسبة الصدورية بين الحدث وفاعله تامة.

وذهب السيد الخوئي رحمه الله : أن مفاد هيئة الفعل هو قصد الحكاية، ولكن عرفت مكرراً أن ذلك يرجع إلى المدلول التصديقي مع أن الكلام في المدلول الوضعي وهو تصوري

ص: 101


1- - فوائد الأصول - ج1 / ص40 - مصدر سابق.

وذهب بعض الأعلام إلى أن النسبة التي تدل عليها هيئة الفعل هي نسبة تحليلية ويستحيل أن تكون مثل هذه النسبة تامة.

ولابد أن يكون منشأ النزاع في هيئة الفعل هو أنه إذا قلنا بأن النسبة في هيئة الفعل ناقصة فلا يكون لها طرفان مع أن النسبة تحتاج إلى طرفين ولا يمكن كذلك في الفعل لأن النسبة التي تدل عليها هيئة الفعل هي نسبة ناقصة، فالمادة تدل على أحد طرفيها ولا يوجد ما يدل على الطرف الآخر.

والفاعل إنما هو طرف النسبة التامة لا الناقصة.

وأمّا إذا قلنا بأن النسبة التي تدل عليها هيئة الفعل تامة فلا يرد عليه هذا الإشكال لتوفر الدالين على الطرفين فيها.

أحدهما مادة الفعل والآخر تحققها من شخص ما ولذا كانت النسبة صدورية.

والالتزام بأن تكون النسبة ناقصة في هيئة الفعل ولها طرف واحد غريب ، مع أنّ لازمه إنفهام ذات مبهمة من الفعل وهو خلاف الوجدان، وهذا الإشكال يجري أيضاً فيما لو قلنا بوضع هيئة المصدر للنسبة الناقصة.

واختار بعض الأعلام في حل هذه المشكلة أن يكون المراد من النسبة التي تدل عليه هيئة الفعل هي خصوصية في الفعل الملحوظ مدلولاً للمادة، فإن الضرب مثلاً تارةيلحظ بما هو حال وهو المنسوب إلى المفعول، وأخرى يلحظ بما هو صادر، وهو المنسوب إلى الفاعل فالهيئة تدل على كونه بالنحو الثاني من دون أن يؤخذ نفس مفهوم الصدور أو الحلول فإنهما مفهومان اسميان بل أخذ منشأ انتزاعهما الذي هو الحالة المخصوصة في كيفية لحاظ الضرب مثلاً، وهذه الحالة قائمة به بنحو قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ومنه يظهر أنه ليست النسبة في هيئة الفعل قائمة بين معنيين لتحتاج إلى طرفين، وبهذا يجاب أيضاً عن المشكلة التي تطرأ على هيئة المصدر ثم فصل الكلام في ذلك بذكر نظائر له.

والحق أنّ الكلام لا يستحق الإطالة فإنّ النسبة التي تدل عليها هيئة الفعل إنما يتصورها الذهن بعد تحليل الفعل هيئة ومادة والحالة الخاصة بها ويلاحظ كون النسبة فيها حلولية أو صدورية ثم يُحكم عليها، وقد ذكرنا مكرراً أنّ الذهن أوسع مما يتصوره الأصوليون وله تمحلات في ذلك فتكون النسبة المأخوذة في الذهن من الخصوصية الحالة في المادة، ولا نحتاج إلى أن نقول بأنّ هذه الحالة هي منشأ الانتزاع ولعل هذا هو مراد المحقق النائيني رحمه الله إلا أن يكون مفهوم التحقق الذي هو معنى اسمي نعم التحقق الخارجي يكون من موارد صدق ذلك المفهوم الذهني وليس له دخل في المدلول.

فما ذكره رحمه الله إن رجع إلى ما ذكرناه وإلا فإن الإشكال عليه وارد.

وأمّا نقصان هذه النسبة المدلولة للهيئة فإنه راجع إلى عدم استيفاء الكلام لكل ما له دخل في المراد ليصح السكوت عليه لا أن يكون سببه عدم وجود الطرف الآخر في هيئة الفعل فإن الذهن قد يتصور لها طرفاً آخر فتكون النسبة تامة.

ثم أنه قد ذكر رحمه الله وجهاً آخر لتصحيح دلالة هيئة الفعل على النسبة فقال:

بأنّ هيئة الفعل موضوعة لنسبة تامة تصادقية، وهيئة الجملة إنما تدل على تعيين طرفها في الفاعل فلا تدل على النسبة التامة، وأمّا النسبة الصدورية فهي مأخوذة في نفس مدلول

ص: 102

المادة إما افتراضاً أو برهاناً بناءً على أن الهيئة موضوعة بالوضع النوعي بلحاظ اختلاف المواد فإنه في بعضها تكون النسبة الملائمة فيها هي الصدورية وفي بعضها الآخر تكون الحلولية وفي بعضها غير ذلك، فلا يمكن أخذ هذه الأنحاء من النسب من طرف الهيئة إلا بأن يكون وضعها شخصياً، وفي ضمن كل مادة بشخصها وعليه يتعين بناءً على الوضع النوعي للهيئة أن تكون هذه النسب مأخوذة في مدلول المادة, ومن هنا يكون الفرق بين الفعل الماضي والمضارع بعد اتفاقهما في دلالة الهيئة فيهما مع النسبة التصادقية في لحاظ النسبة المأخوذة في مدلول المادة فيهما وكذلك في فعل الأمر فإنّ هيئته موضوعة لنسبة تامة تصادقية أيضاً بين نفس المدلول الأصلي للمادة والفاعل ولكن تكون بلحاظ وعاء الطلب لا بلحاظ وعاء التحقق أو تكون نسبة تصادقية بين الإرسال نحو المادة والفاعل بأن يلحظ مدلول المادة في (إضرب) لا بما هو حدث الضرب بل بما هو إرسال نحو الضرب فيكون الإرسال مقصوداً في مدلول المادة بدلاً عن أخذه في مدلول الهيئة، كما هو الحال في الفرضية الأولى.وفيه: إنّ ما ذُكر مجرد افتراض لم يقم عليه دليل مع إمكان توجيه وضع هيئة الفعل بوجه آخر مقبول ، مضافاً إلى أن مدلول المادة مع قطع النظر عن الهيئة العارضة لا يكون إلا الحدث في نفسه، وأما أنحاء النسب إنما تكون من ناحية الهيئة العارضة عليها فإنه سواء قلنا بأنّ الهيئة موضوعة بالوضع النوعي أو الوضع الشخصي فإنّ ملاحظة الهيئة الطارئة على المادة تدل تارة على النسبة الصدورية أو الحلول أو غير ذلك تبعاً لملائمتها مع المادة.

ومما ذكرنا يظهر أن النسبة التي تدل عليها الهيئة في الأفعال هي نسبة تامة وقد تصور الذهن طرفيها إمّا نفس التحقق والمادة أو الخصوصية في الفعل الملحوظ مدلولاً للمادة، أو الانبعاث والإرسال إلى المادة وأما وعاء هذه النسبة فإنه قد يكون التحقق أو وعاء الطلب كما في الأمر.

تنبيهات:

الأول: يظهر من المحقق النائيني رحمه الله الاستغناء بهيئة الفعل ووضعها لمعناها عن وضع هيئة الجملة الفعلية للنسبة لأنّ الهيئة الإفرادية للفعل تكفي لإفادة الربط والنسبة بين الفعل والفاعل فلا حاجة لوضع هيئة الجملة الفعلية خلافاً للجملة الاسمية فإنه لا توجد فيها هيئة إفرادية تغني عن وضع هيئة الجملة لإفادة النسبة.

وأشكل عليه المحقق العراقي رحمه الله : بإيرادين ..

الإيراد الأول: النقض ببعض الجمل الاسمية كقولنا (زيد ضرب) فإنها تشتمل على هيئة الفعل ومع ذلك لم تغنِ عن وضع الهيئة التركيبية.

الإيراد الثاني: الحل بأنّ مفاد الهيئة الإفرادية للفعل، نسبة الفعل إلى فاعل ما ولتعيينه لابد من وضع الهيئة التركيبية لإفادة تعيين طرف النسبة في فاعل مخصوص وهو زيد في (ضرب زيد) مثلاً ((1)).

ص: 103


1- - مقالات الاصول - ج1 / ص110 - مصدر سابق.

وأجيب عن الأول بأنه مبنائي فإنْ قلنا بأنّ جملة (زيد ضرب) ترجع بالتحليل إلى جملتين كبيرة وصغيرة كما هو المعروف فتكون الجملة حينئذٍ مشتملة على نسبتين أحدهما نسبة الفعل إلى الضمير المستتر المقدّر في الجملة الفعلية وأخرى نسبة المبتدأ إلى الجملة الفعلية بما هي خبر والمدعى وفاء هيئة الفعل في النسبة الأولى دون الثانية فلابد من وضع هيئة الجملة الاسمية لإفادة النسبة الثانية.

وإن قلنا بأنها جملة واحدة مكونة من فعل وفاعل غاية الأمر يكون الفاعل مقدماً كجملة (ضرب زيد) فلا موضوع للنقض.

وعن الثاني بأن نسبة الفعل إلى فاعله لا يعقل كفايتها عن نسبة الجملة التي تكون تامة ، و النسبة في الهيئة تحليلية ناقصة فلا تغني عن وضع الهيئة التركيبية.

والحق في الجواب أن يقال بأن مراد المحقق النائيني رحمه الله : إنّ النسبتين تتصادقان وتتحدان فتغني إحداهما عن الأخرى فلا حاجة إلى التماس نسبة الجملة فتغني الهيئة الإفرادية للفعل التي تكفي للربط والنسبة.وما ذكره المجيب إنما هو بلحاظ مفاد النسبتين بنظره وأما نظر المحقق النائيني إلى حصول الربط والنسبة فقط فكلامه معقول لا بأس به.

الثاني: ذكر بعض النحّاة المحدثين أن الأفعال تنقسم إلى قسمين ماضٍ ومضارع وأمّا فعل الأمر فليس قسيماً لهما لأنّ الفعل يتميز بشيئين أحدهما متفرع على الآخر:

1- إن الفعل يحمل على المسند إليه ويبني عليه.

2- إنه مقترن بالدلالة على الزمان.

وبناء (إفعل) يخلو عن هاتين الميزتين لأنه لا يشير إلى تلبس الفاعل بالفعل في حال بل يدل على طلب الفعل من المخاطب المأمور، ولا دلالة له على الزمان أيضاً إذ ليس هناك من فعل لكي يكون تلبس الفاعل به واقعاً في أحد الأزمنة.

والظاهر أنّ ذلك حاصل من الخلط بين الواقع الخارجي وعالم اللحاظ والتصور فإنه ليس المقصود من دلالة الفعل على تلبس فاعله به هو وقوع ذلك خارجاً بل المقصود ملاحظة نسبته إلى شخص ما وهذا المعنى محفوظ في فعل الأمر لأنه يدل على أن المطلوب صدور الفعل من المأمور، فقد لوحظت نسبة الحدث إلى الفاعل أيضاً لكن الفرق أن الملحوظ في فعل الأمر هو وعاء الطلب والإرسال بخلاف الماضي والمضارع فقد لوحظ في وعاء التحقق والإخبار.

الثالث: ذكر بعض الأعلام أن النسب على ثلاثة أقسام وادعى التتبع والاستقراء عليه وهي حدوثية وحملية وإضافية والأخيرة ما كانت بواسطة الحروف الجارة وتختلف باختلاف مفاد هذه الحروف: فقولنا (زيد في الدار) تكون النسبة ظرفية، وقولنا (المال لزيد) تكون اختصاصية أو ابتدائية أو بيانية ونحو ذلك.

وامّا النسبة الحملية ويعبّر عنها بالاتحادية وهي تتصور فيما إذا كان أحد الطرفين قائماً مقام الآخر كقولنا (زيد قائم) فإنه بإمكانك بعد ذلك تقول (رأيت القائم) أو تقول (رأيتُ زيداً) وأما النسبة الحدوثية فهي فيما إذا كان أحد الطرفين فيها حادثاً عن الطرف الآخر كما في (ضرب) ويضرب فإنهما يفيدان حدوث الضرب من ضارب ويشترط في هذا القسم أن يكون أحد الطرفين قابلاً لحدوثه من الآخر، ولأجله كان المبدأ في الأفعال من

ص: 104

الأحداث فلا يكون غيره مبدأ للأفعال كالحجر ونحوه ولو ورد مثله كان تنزيلياً لا حقيقياً نحو بالَ وحاضت ونحو ذلك.

وإذا تبين أن النسبة في الفعل حدوثية فإنه باعتبار هذه النسبة الحدوثية تقع الحركة بالنسبة إلى المسمى فإذا قلت (ضرب زيد) فهذه حركة من زيد ولكنها ليست حسية بل نسبتها إليه باعتبار ظهورها وحدوثها فيه ولأجله كان فعل (سكن، وعدم، وسكت) أفعالاً باعتبار ظهورها وحدوثها عنه ومن ذلك يظهر أنّ ما ورد عن أمير المؤمنين علیه السلام في تعريف الفعل: (إنه ما أنبأ عن حركة المسمى) إنه أجمع التعاريف ومنه يظهر أنه لا نحتاج إلى الزمان لوجود هذه الحركة فيخرج عنصر الزمان في تعريف الفعل كما صنعه العلماء في علم النحو والأدب.

2- هيئة المصدر: قد عرفت أنّ المصدر يقع محكوماً به ومحكوماً عليه لعدم خروجه عن أصله، ولكنه لا يصح حملهُ على الذات فلا يقال (زيد علم) إلا على نحو التنزيل لا أن يكون حقيقياً كما هو المعروف.وقد اختلفوا في النسبة التي تدل عليها هيئة المصدر فقيل أنها نسبة ناقصة بين الحدث وذات مبهمة. وأورد عليه بعدة إيرادات نذكر بعضها:

1- لا إشكال في صحة نسبة المصدر إلى ذات مثل قولنا (ضرب زيد) وهذا ينافي أن يكون المأخوذ في هيئته معنى نسبي لاستلزامه قيام نسبتين ناقصتين في عرض واحد بين مادة واحدة وطرفين، أحدهما الذات المبهمة والآخر زيد وهو مستحيل لأن عرضية النسبتين تستدعي تعددهما وهو يقتضي وجود مفهومين مستقلين في الذهن ينحل كل منهما إلى طرفين ونسبة، ووحدة المادة المنتسبة تقتضي عدم وجود أكثر من مفهوم واحد وهو خلفٌ.

ولكن هذا الإشكال ينتفي لو قلنا بأنّ المصدر لا يدل على أكثر من المبدأ المنتسب مع تعيين المنسب إليه بما يضاف إليه المصدر فتخرج الذات عن مدلول المصدر.

ويشكل عليه بتعدد الدال على النسبة بتعدد هيئة المصدر وهيئة الإضافة وقيل أنه ليس بمحذور ثبوتي.

2- إنّ الإشكال المتقدم إنما يأتي فيما إذا أخذت الذات في مدلول المصدر، وأما إذا لم تأخذ فيستلزم تعدد الدال على النسبة، وهو خلاف الذوق العُرفي ولا فائدة فيه فإنه في موارد استعمال المصدر مستقلاً لا نسبة حتى يوضع لها بحسب الفرض، وفي موارد الإضافة والتقييد يوجد دال آخر عليها فيكون وضعه لها لغواً.

وقيل: بأن هيئة المصدر وضعت للتمييز بين اسم المعنى المصدري والمعنى المصدري حيث ان اسم المصدر موضوع للدلالة على الحدث بلحاظ عدم الأنتساب ذات، وهيئة المصدر موضوعة لنفي ذلك اللحاظ وإلغاء عدم الانتساب.

وقيل: إنّ هيئة المصدر وضعت للدلالة على خصوصية في مدلول المادة القائمة به قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي من دون أن تكون هذه الخصوصية نسبةٌ بالمعنى الذي يحتاج إلى طرفين ولا تكون الذات على هذا مأخوذة في مدلول الهيئة أصلاً.

والحق أنّ كل واحد من هذه المعاني التي ذكرت في هيئة المصدر ينظر إلى جهة معيّنة منه وإلى حيثيته ، فمن جهة أن المصدر عند النحاة له هيئات معروفة لاحظ التعريف

ص: 105

الأول هذه الجهة فعبّر عنها بالنسبة الناقصة، ومن جهة أنّ المصدر يدل على الحدث مجرداً عن بعض الخصوصيات نظر التعريف الثاني إلى هذه الجهة، وأمّا الثالث فقد لاحظ الخصوصية التي تدل عليها هيئة المصدر التي تكون خارجة عن النسبة بالمعنى المعروف إذ لا تكون الذات مأخوذة في مدلول الهيئة فلا تكون طرفاً فيعود النزاع لفظياً فلا نحتاج إلى ايراد المناقشات وردودها إذ لا فائدة في ذكرها.

فتكون هيئة المصدر دالة على أمر مركب من الحدث ملحوظاً فيه خصوصية ما واسم المصدر تدل على أمر بسيط هو مجرّد الحدث.

وهذا هو أهم الفروق بين اسم المصدر والمصدر وبذلك يظهر أنّ اسم المصدر أسبق رتبة من المصدر الذي يعتبر المادة السارية بكل صيغها، لتقدم البسيط على المركب رتبة في جميع مراحلها ولأجله كان المصدر أسبق رتبة على الفعل.

كما أنهم ذكروا فروقاً أخرى بين اسم المصدر والمصدر لا تخلو عن نقاش في أغلبها وهي مذكورة في العلوم الأدبية.3 - هيئة المشتق وقد وقع الخلاف في دلالتها ولكنهم عقدوا بحثاً مستقلاً له يأتي إن شاء الله تعالى فلا حاجة إلى ذكر مدلولها في المقام.

تتمة: تقدم الكلام في وضع المفردات ووضع الهيئات، كما عرفت وضع الجمل وربما يتصور الغُموض من ناحية تعدد الوضع واتحاده في وضع المركب من المادة والهيئة فإنه لا ريب في وضع المواد شخصياً فإن المفردات موضوعة لمعانيها كلية أو جزئية.

كما لا ريب في تحقق وضع الهيئات أي هيئات الجمل الخاصة التي تفيد معاني مخصوصة نوعياً كما عرفت وأمّا إثبات وضع ثالث لمجموع المادة مع الهيئة الخاصة، فهو من اللغو الباطل ولا يرتكبه العاقل.

وبذلك ننهي الكلام عن المعنى الحرفي والهيئات وقد عرفت سابقاً أنه لا ثمرة في هذا البحث الطويل إلا أن تكون علمية فقط.

البحث الثالث: في الحقيقة والمجاز

لا ريب في وقوع الحقيقة والمجاز في المحاورات وقد عرّف الأول بأنه استعمال اللفظ في معناه الموضوع له والثاني استعماله فيما يناسبه والاحتمالات المذكورة في المعاني المجازية خمسة وهي:

الأول: عدم الوضع للمجاز أصلاً بل الاستعمالات فيه طبعية لا أن تكون وضعية.

الثاني: أن تكون الاستعمالات المجازية وضعية بالوضع النوعي.

الثالث: أن يكون نفس الوضع للمعنى الحقيقي وضعاً للمعنى المجازي أيضاً لكن بالتبع لأنه من شؤون المعنى الحقيقي وأطواره وخصوصياته.

الرابع: أن يكون بإذن من الواضع.

الخامس: أن يكون الاستعمال في المجاز تنزيلياً أي تنزيل المعاني المجازية منزلة المعاني الحقيقية.

والكلام في هذه الاحتمالات تارة يقع في أصل وقوع المجاز وأخرى في كيفية وضعه.

أمّا الأول: فالمعروف بين العلماء أنّ المجاز في المحاورات مدلول لفظي مباشر لأنه من استعمال اللفظ في ذلك المعنى اعتماداً على قرينة دالة عليه خلافاً لما ذهب عليه

ص: 106

السكاكي من إنكار أن يكون المجاز استعمالاً للفظ في غير ما وضع له من المعنى بحسب القانون اللغوي العام.

فاعتبر أنّ المجاز هو استعمال للمعنى الحقيقي على غير واقعه ادعاءً فيكون المدلول المجازي عنده مدلولاً عقلياً إدعائياً وعليه تبطل جملة من الاحتمالات السابقة ولا تصل النوبة إلى التماس الوضع حتى تحتاج إلى إذن الواضع أو يكون تبعياً ونحو ذلك.

والحق أنّ ما ذكره السكاكي لا يمكن المساعدة عليه لوجوه:

الأول: إن كان مراد السكاكي في تفسر المعنى المجازي هو أن المفهوم الذي لم يوضع له اللفظ (أي المعنى المجازي) هو نفس المفهوم الذي وضع له اللفظ (أي المعنى الحقيقي) بالحمل الأولي فيكون مفهوم الرجل الشجاع هو نفس مفهوم الحيوان المفترس مثلاً، ويكون استعمال اللفظ فيه على هذا الادعاء من العينية.فإنه يُرد عليه ..

أولاً: بأنه خلاف مقصود السكاكي الذي يرى بأن التجوز تصرف عقلي صرف لا في اللفظ، فإن هذه العينية المدعاة إنما تكون في مرحلة الاستعمال يعني استعمال اللفظ في غير ما وضع له ادعاءً أنه نفس الموضوع له.

ثانياً: إنّ هذه العناية لا دخل لها في صحة الاستعمال وتكوين الدلالة على المعنى المجازي لأنّ المعنى المدعى بالعناية أنه الموضوع له إن كانت له علاقة مع المعنى الحقيقي كفى ذلك في تصحيح الاستعمال وتكوين المعنى المجازي فلا حاجة إلى العناية المذكورة وإن لم يكن بينهما علاقة فلا تحصل الدلالة ولا يصلح الاستعمال بمجرد الادعاء المذكور إلا أن يُقال أن الادعاء المذكور يوجب توسعة العلقة الوضعية حكماً، كما في سائر ألسنة الادعاء والتنزيل.

لكنه إن رجع هذا الادعاء إلى وضع جديد فهو خلف وإلا فلا يكفي الادعاء المزبور في إثبات أحكام الوضع من الدلالة وصحة الاستعمال إلا مع دليل وهو مفقود.

الثاني: إن كان مراده أن ما لم يوضع له اللفظ يكون مصداقاً لما وضع له اللفظ على نحو يحمل عليه المعنى الموضوع له بالحمل الشائع، فيستعمل اللفظ في المعنى الموضوع له ولكنه يطبق على فرد عنائي ادعائي أيضاً وهذا المعنى وإن كان يقرب من قصد السكاكي لكنه تصرف في مرحلة تطبيق المراد على المصداق لا في مرحلة الاستعمال كما في السابق فهو عناية في تطبيق المراد الاستعمالي على المراد الجدي فإذا قلت (جئني بأسد) فإن المراد الاستعمالي المطالبة بحيوان مفترس، ولكن المراد الجدي هو الرجل الشجاع والعناية هي كون الرجل الشجاع حيواناً مفترساً بالحمل الشائع هي التي تربط المراد الاستعمالي بالمراد الجدي مع العلم بتغايرهما.

ولكن يرد عليه: بأنّ التجوز لا يقتصر على المراد الجدي بل يشمل موارد الهزل أيضاً فإن كان المجاز مراداً هنا في مرحلة المدلول الاستعمالي فهو خلف المدعى وإن كان مراداً في المدلول الجدي فهو خلف هزلية الكلام مع أن جعل الفرد المجازي من أفراد المعنى الحقيقي يستلزم أن يكون الأخير كلياً له مصاديق كثيرة منها الفرد المجازي ولكن ذلك لا يكون دائماً بل قد يكون المعنى الحقيقي جزئياً فلا يمكن فرض الفرد الادعائي ليكون مصداقاً لذلك المعنى الجزئي ولكن الجواب عن ذلك بأنه يمكن تصوير المعنى

ص: 107

الجزئي مرآة لمصاديق أخرى مشابهة ادعاءً كما افترضنا ذلك في أقسام الوضع، إذ المسألة ليست مبنية على الدقة العقلية بل راجعة إلى تصورات ذوقية.

الثالث: إنّ الوجدان قد يكون على خلاف المقصود من الفرد الادعائي إذ أنّ إضفاء صفات المعنى الحقيقي ادعاءً على شيء يكون على خلاف الذوق فمثلاً أن إسباغ صفات المعنى الحقيقي للكلب على الرجل الوفي قد يستهجنه العرف والذوق.

ولكن يُجاب عنه بأنّ السكاكي إنما يقصد بالفرد الادعائي هو ما يقبله الذوق ولا يريد من العناية جعل الفرد غير الموضوع له المعنى بمنزلة المعنى الحقيقي في جميع الصفات ولا أظنه يريد بذلك ويرشد إليه كلامه الذي ذكره في كتابه مفتاح العلوم فإنه يقصر هذا الادعاء والعناية في الكناية فقط لا في كل مجاز.فاتضح أنّ ما ذكره السكاكي يقتصر على ما ذكره في المعنى الكنائي بخصوصيةٍ خاصة فيه دون كل مجاز.

وأمّا فيه فالمشهور أنّ الأصل في التجوّز كونه راجعاً إلى المدلول الاستعمالي ومرحلة اللفظ لا أن يكون عقلياً ادعائياً.

المقام الثاني: في بيان كيفية مدلول المجاز فانه لابد من التماس وجه لتصحيح المدلول المجازي وفيه تفسيرات متعددة كما ذكرناها في الاحتمالات السابقة والكلام فيه (تارة) يقع مع فرض عدم الوضع للمعنى المجازي فلابد أن يكون منشأ دلالة اللفظ على المعنى المجازي في فرض العلم بأن الدلالة اللفظية ليست طبعية وذاتية وعلى هذا الفرض فربما يقال بأن الدلالة نشأت من القرينة على المجاز، وهو غير صحيح لأن الكلام فيما يناظر الدلالة الوضعية أي الدلالة التصورية للفظ على المعنى المجازي وهي بوجودها الشأني ليست مستندة إلى القرينة.

أو يقال: بأنّ اللفظ بحد ذاته فيه الصلاحية لإخطار المعنى المجازي وإن كان أضعف من اقتضائه لإخطار المعنى الحقيقي ولولا ذلك لما صحَّ استعمال اللفظ المجازي بلا قرينة.

أو يقال: إنّ القرينة غالباً لا تصلح لإخطار المعنى المجازي وإنما تُصلح لصرف الذهن عن المعنى الحقيقي، فليس في القرينة دلالة تصورية على المعنى المجازي ولو على نحو الالتزام .

وأخرى: يكون في منشأ دلالة اللفظ على المعنى المجازي في فرض وجود وضع له كما في المعنى الحقيقي وقد ذكروا له وجوهاً.

الأول: القول بأنّ الوضع للمعنى الحقيقي يكفي في الاستعمال المجازي لأنّه من لوازم الوضع الحقيقي ولا نحتاج إلى وضع جديد مستقل.

فإن العرف يرى بأنه من توابعه وشؤونه وأطواره وهذا المقدار من النظر العرفي يكفي في إثبات الدلالة اللفظية التصورية للمعنى المجازي كالدلالة التصورية اللفظية للمعنى الحقيقي فلو فرضنا أنّ هناك وضعاً جديداً للمعنى المجازي كان لغواً لأنه من تحصيل الحاصل.

وذكر بعض الأعلام في توجيه هذا الوجه بوجه عقلي إن رجع إلى ما ذكرناه فلا بأس به وإلا فلا ملزم لما ذكرناه وبناءً على هذا يصح أن يقال بأن المعنى المجازي في طول المعنى الحقيقي إذا تعذّر الأخير.

ص: 108

الثاني: القول بوضع آخر للمعنى المجازي مقابل الوضع للمعنى الحقيقي فلكل واحد منهما وضع مستقل أحدهما في طول الآخر مع أولوية المعنى الحقيقي.

وقد اختلف في تصويره على وجوه:

الأول: بأنّ اللفظ موضوع للمعنى المجازي بوضع نوعي، بأن يقال أن لفظ الأسد موضوع لما يشابه معناه الموضوع له.

وردَّ بأنه لا دليل عليه بل الأصل ينفيه كما لا يكفي الوضع النوعي وأخذ المشابهة عنواناً مشيراً إلى المعاني المجازية في تفسير الطولية.الثاني: بأن الوضع للمعنى المجازي مقيّد بفرض وجود القرينة بأن يكون قيداً في الوضع أو اللفظ الموضوع، فمع عدم القرينة يقدم المعنى الحقيقي إذ لا وضع للمعنى المجازي حينئذٍ ..

ويرد عليه: أنه بناءً على تقييد الوضع للمعنى المجازي بوجود القرينة يستلزم عدم صحة الاستعمال المجازي في موارد عدم نصب القرينة لعدم الدلالة، وانتفاء العلاقة في هذه الحالة بحسب الفرض، مع أنه صحيح بلا إشكال، وهو يدل على أنّ المصحح للاستعمال ليس الوضع المقيّد.

الثالث: مثل السابق بأن يكون الوضع مقيداً للمعنى المجازي غير أنّ القيد هو مجرد نصب القرينة الصادقة.

ويرد عليه نفس المحذور السابق.

الرابع: أن يكون الوضع للمعنى المجازي مقيّد بعدم إرادة المعنى الحقيقي فتثبت العلقة الوضعية المجعولة بهذه الحالة ولازمه عدم الحمل على المعنى المجازي إلا في حالة عدم إرادة المعنى الحقيقي فثبتت الطولية بين الوضعين.

وفيه: إنه بناءً عليه لا يمكن حمل اللفظ على المعنى الحقيقي واقوائيته لو لم يكن الشخص مريداً لمعنى أصلاً مع أن الأمر على خلاف ذلك لانسباق الذهن إلى المعنى الحقيقي فلابد من تفسير الدلالتين معاً على أساس وضع واحد وهو وضع اللفظ للمعنى الحقيقي وإن كان المعنى الحقيقي أحق بهذا الوضع من المعنى المجازي فكان نصيبه من الدلالة أكبر وأقوى.

فالحق أن يقال إنّ أصح الوجوه المذكورة والأقرب إلى العُرف هو القول الأول وهو أنّ دلالة اللفظ على المعنى المجازي على أساس الوضع الأول.

وأنه من أطواره وشؤونه وخصوصياته فيكون وضعه تبعياً.

وذكر بعض الأعلام في تفسيره بأن اعتبار أن كل لفظ يوضع للمعنى الحقيقي يصلح للدلالة على كل معنى مقترن بالمعنى الحقيقي اقتراناً خاصاً مقبولاً للذوق العرفي ولكنها بدرجة أضعف لأنها تقوم على أساس مجموع اقترانين فإذا استعمل مع القرينة الصادقة كانت الدلالة فعلية، فالدلالة اللفظية التصورية على المعنى المجازي كالدلالة التصورية على المعنى الحقيقي لكن على اختلاف في الشدة والضعف.

ولكنه تفسير اعتباري صرف ليس عليه دليل فإنّ أهل المحاورة يرون في بعض حالات الاستعمال المجازي أن دلالة اللفظ فيه أشد من الدلالة اللفظية التصورية على المعنى

ص: 109

الحقيقي فالأمر يرجع إلى الذوق العرفي واقتران المعنى المجازي بقرينة خاصة مقبولة عند أهل المحاورة من غير ملاحظة الأشدية والأضعفية بينهما.

وعليه فلا وجه لملاحظة إذن الواضع في حينه وأمّا مع استنكار أهل المحاورة فلا يصح الاستعمال وإن أذِنَ الواضع.

وهذا الاستنكار والمقبولية يختلفان بحسب الأعصار والأمصار والعادات غاية الاختلاف.فالمجاز والاستعارة والكناية من مجرد الاصطلاح والمدار كله على صحة الاستعمال بحسب الذوق السليم والطبع المستقيم مضافاً إلى أنّ الإفادة والاستفادة يدوران مدار الظهور فمعه يصح الاستعمال وإن كان المعنى مجازياً.

ومع عدمه لا وجه له وإن كان حقيقياً.

ثم إنه قد وقعت بعض الاستعمالات في المحاورات مثل استعمال اللفظ في نفسه أو مثله أو نوعه واختلف في دخولها في أحد الاستعمالين المعروفين وهما الحقيقة والمجاز وقد عرفت أن دلالة اللفظ على المعنى المجازي هي من توابع دلالة اللفظ على المعنى الحقيقي من دون حاجة إلى وضع آخر مستقل فإنّ الأصل عدم الوضع للمجازات ولو نوعاً.

فإن كان المناط في دلالة اللفظ على المعنى المجازي كون دلالته على كل معنى لا يكون موضوعاً له فتشمل الدلالة المجازية هذه الدلالات القائمة على أساس التناسب الطبعي.

وإن كان المراد بها دلالة اللفظ على معنى له علاقة بالمعنى الموضوع له خرجت الدلالات المذكورة عن كونها مجازية فتكون أقساماً أخرى مستقلة برأسها.

والحق أن الدلالة والاستعمال لا تنحصر في الحقيقة والمجاز بل يصح كل ما قبلته الأذهان المستقيمة من أهل المحاورة سميّ هذا الاستعمال بالحقيقة والمجاز أو لا فيكون استعمال اللفظ في شخصه ونفسه كما إذا قيل (زيد لفظ) وأريد نفسه أو قيل زيد في (زيد قائم) مبتدأ وأريد مثله أو قيل ذلك وأريد نوعه فإن كل ذلك صحيح في المحاورات الصحيحة فإنّ الذهن ينتقل من الشخص إلى النوع لوجود التناسب الطبيعي بين الصورتين عند العرف.

وقد يستشكل في دلالة اللفظ على نوعه بأنه إن أريد كون اللفظ بخصوصيته دالاً على الطبيعي وموجباً للانتقال إليه. فيرد عليه أن خصوصية الفرد مباينة للطبيعي ولا يمكن الانتقال من المباين إلى المباين, وإن أريد كون اللفظ بجامعه دالاً على الطبيعي فيكون الطبيعي دالاً على الطبيعي وهو غير معقول لاستلزامه وحدة الدال والمدلول ويجب أن يكون الدال غير المدلول.

وأجيب عنه: أمّا الأول فلأنّ الخصوصية لم تؤخذ في الصورة الذهنية وإنما كانت مثيرة للصورة الذهنية للجامع المحفوظ في ضمنها.

وأمّا الثاني: فيندفع بتعدد الحيثية والجهة فإن الذهن ينتقل من الصورة الذهنية الجزئية من حيث كونها مرآة إلى الجامع والطبيعي مع أنه لا محذور فيه فقد ورد في الدعاء عن علي علیه السلام : «يا من دلَّ على ذاته بذاته». وهو من محاسن كلماتهم المباركة وفيه بحث نفيس وسيأتي تتمة الكلام في هذا النوع من الاستعمالات.

البحث الرابع:

ص: 110

تقدم أن الحقيقة عبارة عن كون اللفظ مرآة لذات المعنى بلا واسطة, والمجاز عبارة عن كونه مرآة لما يناسبه لقرينة حالية أو مقالية.

ولا ريب أن العلائق المجازية تدور مدار الأذواق السليمة التي تختلف بحسب العادات والأعصار والأمصار، فلا تضبطها ضابطة كلية، وما ذُكر في العلوم الأدبية إنما هوبحسب الغالب لا الحصر والاستقصاء، فما ذكره العلماء في هذا النوع من العلائق تطويل بلا طائل تحته وليست فيها ثمرة علمية ولا عملية

وأما الحقيقة فقد ذكر العلماء لها علامات يمكن تشخيص المعنى الموضوع له اللفظ بها، والبحث فيها يقع في أمور ثلاثة:

الأمر الأول: في أعدادها والمعروف أنها ثلاثة: التبادر، صحة الحمل، الاِطّراد، وهذه العلامات انطباقية قهرية لا أن تكون جعلية فضلاً عن كونها تعبّدية.

الأول - التبادر: ومعناه انسباق المعنى من اللفظ حال إطلاقه بلا قرينة فيكون دليلاً على الوضع لذلك المعنى.

وهذا الانسباق ناشئ من الأنس الذهني في الجملة ولو كان جاهلاً بالوضع تفصيلاً أو عند العالمين به تفصيلاً.

فإنه على كل حال علامة للوضع عند الجاهل به، ودليله واضح لأنّ انسباق المعنى إلى الذهن من اللفظ إمّا من الوضع أو من القرينة ومع عدم الأخير يكشف الانسباق كشفاً إنيّاً على الوضع.

وقد اعتُرض عليه بالدور لأنّ التبادر يتوقف على العلم بالوضع وإلا فلا يُتبادر لشيء أصلاً، والمفروض أنّ العلم بالوضع يتوقف عليه فيستلزم الدور الصريح.

ولابد أن يعلم أن إشكال الدور في أي مورد كان إنما يرتفع إمّا بإثبات تغاير الموقوف والموقوف عليه أو بإثبات تعدد الحيثية أو الجهة بأي وجه كان ، ولأجل ذلك فالإشكال على العلماء في رفعه غير سديد.

وأجيب عنه بوجوه:

الوجه الأول: ما ذكره السيد الوالد رحمه الله بأنّ التبادر متوقف على أنّ اللفظ ليس بمهمل بل له معنى إجمالاً مردداً بين شيئين أو أشياء، والعلم بالوضع متوقف على تبادر معنى خاص عن اللفظ تفصيلاً. وبذلك تختلف جهة التوقف فلا دور((1)).

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق الخراساني((2))

رحمه الله وهو يرجع إلى الوجه السابق من توقف التبادر على العلم الإجمالي الارتكازي وتوقف العلم التفصيلي على التبادر، وليس المراد بالعلم الإجمالي هو المعنى الأصولي للعلم الإجمالي، وإنما المراد العلم التفصيلي الارتكازي وهو العلم المخزون في النفس بلا التفات إليه فعلاً أي العلم البسيط، كما أنّ المراد بالعلم التفصيلي الذي ينشأ من التبادر العلم التفصيلي بالوضع والالتفات إليه أي العلم المركب وهو العلم بالعلم بالوضع وبناءً على هذا يكون العلم التفصيلي الفعلي الالتفاتي في طول التبادر، والتبادر في طول العلم الارتكازي البسيط.

ص: 111


1- - تهذيب الاصول - ج1/ ص22 - مصدر سابق.
2- - كفاية الاصول - ج1 / ص25 - مصدر سابق.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقق العراقي رحمه الله من أنه يكفي في ارتفاع الدور تغاير الموقوف والموقوف عليه بالشخص لا بالنوع بمعنى أنه يفرض علمان تفصيليان متماثلان أحدهما يتوقف على التبادر، والآخر يتوقف عليه التبادر((1)).وأشكل عليه باستحالة حصول علمين تصديقيين تفصيليين بأمر واحد وإن تعددت الصورة التفصيلية لأنه إنما تكون هي المعروض بالذات للتصديق بما هي فانية في الخارج وهو أمر واحد فلا يعقل تعدد التصديق.

ويمكن الجواب عنه بأنّ التغاير الاعتباري كافٍ في تعددهما .

الوجه الرابع: ما نقله المحقق الاصفهاني رحمه الله عن صاحب الحجة من أنّ التبادر ليس معلولاً للعلم بالوضع بل لنفس الوضع ومن مقتضياته ولذا يكشف عنه إنّاً، والعلم بالوضع إنما هو شرط في تأثير الاقتضاء الثابت للوضع في التبادر((2)).

وأشكل عليه بأنه لا يرفع الدور بل يقع في ناحية الشرط، فيكون توقف التبادر على العلم بالوضع باعتباره شرطاً وتوقف العلم على التبادر باعتباره علامة.

والجواب عنه يظهر مما ذكرناه من أنّ الاختلاف الاعتباري بين الموقوف والموقوف عليه كاف في رفع الدور.

الوجه الخامس: ما ذكره بعض الأعلام من أنّ علامية التبادر للمستعلم غير معقولة بناءً على التصور المشهور للوضع من أنه جعل اعتباري قائم بالواضع فإنه إن كان المقصود جعل التبادر برهاناً إنّياً على نفس الوضع بما هو جعل قائم بالواضع فهو مردود بأنّ الوضع بجعله الواقعي القائم بالواضع ليس علّة للتبادر، بل أنّ العلم بالوضع هو العلة التامة للتبادر، سواءً كان هناك وضع في الواقع أو لا.

وإن كان المقصود جعل التبادر برهاناً إنيّاً لدى المستعلم على علمه بالوضع فهو غير معقول لأنّ العالم بمجرد استعلامه عن علم نفسه يحصل له اليقين المباشر بعلمه إذا كان عالماً ((3)).

والجواب عنه: بأنّ الوضع على فرض كونه جعل اعتباري قائم بالواضع إلا أن هذا الجعل أوجدَ علقة بين اللفظ والمعنى الموضوع له، فالتبادر إنما هو لتشخيص هذه العلقة فصار الوضع بجعله الواقعي القائم بالواضع علّة لتبادر هذه العلقة الحاصلة الدالة على كون اللفظ حقيقة.

كما يجاب عن الفرض الثاني باختلاف العلمين كما ذكره الأعلام، فلا إشكال حتى على فرض كون الوضع جعل اعتباري قائم بالواضع.

هذا كله في علامية التبادر لدى المستعلم.

وأمّا تبادر العالم بالوضع فعلاميته للمستعلم لا محذور فيها على كل حال, وعلى جميع المسالك في حقيقة الوضع لأنّ الموقوف عليه التبادر هو العلم الحاصل لدى أهل اللغة، والعلم الموقوف على التبادر هو علم المتعلم وتغايرهما لا يحتاج إلى بيان.

ص: 112


1- - مقالات الاصول - ج1 / ص39 - مصدر سابق.
2- - نهاية الدراية - ج1 / ص39 - مصدر سابق.
3- - بحوث في علم الاصول - ج1 / ص165 - مصدر سابق.

تنبيهان:

الأول: إنّ كون التبادر علامة برهانية على الوضع إنما هو التبادر لدى العرف العام من اللفظ مجرداً عن القرينة الخاصة.وأمّا التبادر لدى الفرد فإن احتمل نشوؤه من قرينة خاصة فلا سبيل إلى نفي هذا الاحتمال إلا الفحص والبحث والتأكد.

وإن احتمل نشوؤه من ظروف خاصة بالفرد أوجبت له فهماً خاصاً، فهذا الاحتمال مادام موجوداً لا يتحقق الكشف الوجداني البرهاني عن الوضع.

إلا بالرجوع إلى الأصل العقلائي لنفي هذا الاحتمال وهو أصالة التطابق الظهور الشخصي والظهور النوعي وهو يكفي في تشخيص المدلول النوعي العام الذي هو موضوع حجية الظهور وسيأتي البحث عنه.

الثاني: إنّ التبادر إنما يكون برهاناً على الوضع إذا علم استناده إلى ذات اللفظ وأمّا إذا شك في ذلك بأصالة عدم القرينة لا يمكن إثبات الحقيقة لأنها من الأصول العقلائية التي تجري في استفادة المراد فقط لا في تشخيص أنه حقيقة أو مجاز.

الثالث: إنّ الكلام في التبادر الذي يكون علامة نوعية, وأمّا التبادر الشخصي الذي يستكشف به الفرد لنفسه فلا إشكال فيه من أحد ولم يرد الإشكالات المزبورة.

الثاني: من علامات الحقيقة صحة الحمل وقد يعبّر عنها بعدم صحة السلب وقالوا بأنّ عدم صحة الحمل علامة للمجاز ويعبر عنها بصحة السلب والمراد به صحة حمل اللفظ على معنى معيّن علامة على كونه نفس المعنى الموضوع له، ولا ريب أنّ هذا المقدار من التفسير غير كافٍ في علامية صحة الحمل لأنّ الغرض معرفة وضع اللفظ لمعنى وكونه حقيقة أو مجازاً ولا شأن للمحمول والموضوع في هذا الأمر.

فلابد من بيان ذلك بما يرفع الغموض وهو: إنّ اللفظ المشكوك وضعه لمعنى معين أو بالعكس أي المعنى المشكوك وضع اللفظ له إذا عُلم أنّ له معنى ارتكازي فيحمل اللفظ بما له من المعنى على المعنى المشكوك وضعه له، فإن صح الحمل كان دليلاً على الحقيقة وإلا كان علامة على عدم وضع اللفظ له, وحينئذٍ يكون المأخوذ محمولاً أو موضوعاً هو اللفظ بما له من معنى لا اللفظ بما أنه لفظ حتى يقال أنه لا معنى للحمل وعلى هذا تكون صحة حمل اللفظ على معنى معين بالحمل الأولي الذاتي علامة كونه نفس المعنى الموضوع له وصحة حمله عليه بالحمل الشائع علامة كونه من مصاديق المعنى الحقيقي لما هو المعروف من الفرق بين الحمل الأولي الذاتي الذي ملاكه الاتحاد بين الموضوع والمحمول مفهوماً والشائع الصناعي الذي ملاكه الاتحاد بينهما وجوداً.

وذلك أنه لو شك في لفظ (الإنسان) في كونه موضوع لمعنى (الحيوان الناطق) فإذا حمل الإنسان بما له من المعنى على الحيوان الناطق أو بالعكس وقيل الإنسان حيوان ناطق أو الحيوان الناطق إنسان بالحمل الأولى الذاتي وصح الحمل كان مقتضاه اتحاد معنى الإنسان الارتكازي مع الحيوان الناطق وأنه عينه فيستكشف بذلك وضع لفظ الإنسان لهذا المعنى فيكون ملاك صحة الحمل هو اتحاد المعنى الارتكازي مع نفس المعنى الذي شك في وضع اللفظ له وهذا دليل الوضع.

ص: 113

وأما في الحمل الشائع الصناعي فإنّ الملاك فيه الاتحاد في الوجود فإذا حمل اللفظ بما له من المعنى على الفرد بما أنه وجود لذلك المعنى المعين فصحته تعني أن الفرد بماأنه وجود للمعنى المعين وجود للمعنى المرتكز للفظ فإذا حصل الاتحاد بين المعنيين المرتكز والمعلوم يكشف عن وضع اللفظ للمعنى المعين.

وإلا لما كان الفرد بما أنه وجود لأحدهما وجوداً للآخر.

ومن ذلك يظهر اختصاص دلالة الحمل الشائع على الوضع في موارد حمل النوع على فرده، والجنس على النوع، والفصل على النوع وأمّا موارد حمل أحد الكليين المتساويين في الصدق على الآخر كما في الضاحك ناطق وموارد أعم الكليين على أخصهما صدقاً من دون أن يكون الموضوع فرداً حقيقياً من المحمول كما في الضاحك حيوان.

فإن صحة حمل أحدهما على الآخر لا تكشف عن الوضع، وذلك لما عرفت من أنّ أساس الكشف يبتني على أنّ الموضوع لوحظ فيه كونه وجوداً للمعنى الذي يشك في وضع اللفظ له إلا أنّ يبتني على مجرد دلالة الحمل على الاتحاد في الوجود إذ قد يكون فرد واحد فرداً لكليين متغايرين من جهتين لكنه بما هو فرد لأحدهما ليس فرداً للآخر وعليه ففي أحد الكليين المتساويين أو أحد العامّين من وجه على الآخر لم يفرض إلا بيان اتحاد الموضوع والمحمول وجوداً لا غير لا أن يكون الموضوع بما أنه كذلك وجود للمحمول بما هو محمول، وهذا المقدار من الاتحاد في تلك الموارد لا يكفي في الكشف عن الموضوع.

وهذا لا يضرّ بأصل المطلوب، كما سيظهر ذلك.

وأشكلوا على هذه العلامة بوجوه:

الأول: الدور الذي تقدّم بيانه في التبادر فإنّ صحة الحمل تتوقف على العلم بمعنى اللفظ وإلا فلا يعلم صحة الحمل من عدمها وكون العلم بالوضع متوقف على صحة الحمل يستلزم الدور.

والجواب عنه: كما تقدّم إمّا بالفرق بين الإجمال والتفصيل أو باختلاف الجهة والحيثية أو بالفرق بين العالم والمستعلم، فراجع.

الثاني: إنّ الحمل الذاتي تتوقف صحته على نحو من الاتحاد ونحو من التغاير بين المحمول والموضوع وعليه كيف يمكن أن يستكشف حمل اللفظ المراد استعلام معناه على معنى عن كونه نفس المعنى الموضوع له مع لزوم المغايرة.

وهذا الإشكال غير وارد مع التقريب الذي ذكرناه في علامة صحة الحمل من أنّ الاتحاد الذاتي بين المعنى المشكوك والمعنى الارتكازي وأنه عينه يكشف عن كونه موضوعاً له وهذا المقدار كافٍ في الكشف.

وبعبارة أخرى أن التغاير يرجع إمّا إلى لفظ الموضوع ولفظ المحمول وهو لا ينافي العينية أو يرجع التغاير بينهما بلحاظ الإجمال والتفصيل، كما في الحد والمحدود.

وهو لا ينافي العينية الذاتية وفي كليهما العينية تكفي لإثبات كون المحمول نفس المعنى الموضوع له ذاتاً بيد أن هذا تبعيد للمسافة والخروج عن المنظور العرفي إلى الدقة العقلية.

ص: 114

الثالث: ما ذكره السيد الخوئي رحمه الله من عدم دلالة صحة الحمل بنوعيه الأولي والصناعي على الوضع والحقيقة وذلك لأنّ الحمل مطلقاً لا يكشف إلا عن اتحادالموضوع والمحمول ذاتاً أو وجوداً ولا نظر في ذلك إلى حال الاستعمال وأنه حقيقي أو مجازي إذ قد يكون المعنى المراد باللفظ مجازياً.

ومن المعلوم أن الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز.

وبعبارة أخرى أنّ صحة الحمل وعدم صحته يرجعان إلى عالم المعنى والمدلول فمع اتحاد المفهومين ذاتاً أو وجوداً يصح الحمل وإلا فلا، وأمّا الحقيقة والمجاز فهما يرجعان إلى عالم اللفظ والدال وبينهما فرق واضح، وتبعه عليه بعض الأعلام.

وقد عرفت الجواب عن ذلك فإن المفروض أنّ المحمول هو اللفظ بما له من معنى إرتكازي وبلا قرينة وهذا يستدعي أن يكون حمل اللفظ بمعناه الموضوع له المرتكز في النفس لا الأعم من الحقيقي والمجازي.

والحق أن يقال: أنّ الإشكال المزبور نشأ من تصور معنى الحمل بالمعنى المنطقي الذي يحتاج إلى اتحاد من جهة ومغايرة من جهة أخرى ولكنه ليس المراد به في وضع الألفاظ بل المراد به المعنى العُرفي وهو جعل نفس الحمل والسلب علامة للحقيقة والمجاز فيما كان النظر إلى صحة الحمل وعدمها عند العرف لا جعل صحة الحمل وصحة السلب علامة للحقيقة والمجاز، لأنّ العلم بصحة الحمل يحتاج إلى سبب آخر من تنصيص أهل اللسان أو التبادر فيخرج عن كونه علامة ابتدائية مستقلة بخلاف نفس الحمل والسلب فإنه بنفسه علامة الاتحاد والمغايرة من دون توقف على أمرٍ آخر.

وهذا هو الذي نصَّ عليه المحقق الاصفهاني(1)

ولعل عدم تفصيل السيد الوالد رحمه الله الكلام في هذه العلامة نظره إلى ذلك وهو الصحيح(2).

وكذلك الأمر في عدم صحة السلب الذي هو علامة الحقيقة، وصحة السلب التي هي علامة المجاز فإنّ حالهما حال صحة الحمل وعدمها.

الثالث من علامات الحقيقة: الإطراد.. والمراد به أنه كلما أُطلق لفظ باعتبار معنى خاص على مورد صح إطلاقه في كل مورد تحقق ذلك المعنى بعينه كإطلاق لفظ الرجل على زيد باعتبار الرجولية فإنه يصح باعتبار هذا المعنى في كل مورد تحقق فيه الرجولية فيكون الإطراد علامة ودليلاً على كون اللفظ موضوعاً لذلك المعنى.

وأشكل عليه بالنقض بالمجاز فإنّ الإطراد حاصل في المجاز أيضاً باعتبار القرينة الخاصة ويطرد في جميع موارد وجود العلاقة الصحيحة نظير استعمال الأسد في زيد بلحاظ الشجاعة فإنه يصح استعمال لفظ أسد في غير زيد من سائر أفراد الإنسان بلحاظ الشجاعة.

نعم لا إطّراد في المجاز مع قطع النظر عن العلاقة الشخصية.

ص: 115


1- - نهاية الدراسة - ج1 / ص42 - مصدر سابق.
2- - راجع تهذيب الاصول - ج1 / ص22 - مصدر سابق.

وقد يدفع ذلك كما احتمله المحقق الخراساني بأنه ربما يكون الملحوظ في الاستعمال المجازي نوع العلاقة لا شخصها وبملاحظتها لا يطرد الاستعمال فيكون الملحوظ في استعمال أسد في زيد مطلق علاقة المشابهة لا خصوص المشابهة بالشجاعة ((1)).ولكن ما ذكره غير سديد فإنّ الاستعمال المجازي يختص بالعلاقة المصححة الخاصة لا نوعها فلا يستعمل لفظ أسد فيما إذا شابهه في فروة الرأس أو بخر الفم مثلاً وإلا كان مطرداً إذا كان المراد بالمشابهة كليها بل المشابهة في إبرز الصفات ولأجل ذلك زاد بعضهم قيد على وجه الحقيقة أو بلا قرينة.

ولكن هذه الزيادة وإن رفعت إشكال الانتقاض بالمجاز ولكنه وقع في محذور الدور حيث أخذ المعرَّف في المعرِّف فتتوقف معرفة كل منهما على الآخر ولا يأتي الجواب الذي ذكروه في التبادر من الإجمال والتفصيل هنا كما هو معلوم لأنه لابد من معرفة المعرِّف تفصيلاً والمفروض إن من أجزائه قيد على وجه الحقيقة ونحوه التي هي عبارة أخرى عن الحقيقة.

والحق أن يقال: إنّ الإطراد تارةً يراد به اطّراد التبادر بأن يطلق اللفظ مراراً وفي حالات مختلفة يتبادر منه في جميعها معنى واحد وهذا صحيح ولكنه مشخص لصغرى التبادر الذي هو العلامة ولا تكون علامة مستقلة حينئذٍ إلا بالعناية.

وأخرى يراد به إطّراد الاستعمال ويراد به صحة استعمال اللفظ في معنى معين في موارد مختلفة مع إلغاء جميع ما يحتمل كونه قرينة، وهذا المعنى المعروف للإطراد عند الأصوليين، واعتبره المحقق الخوئي رحمه الله هو الطريقة المتّبعة غالباً لمعرفة الوضع والحقيقة ((2)).

ويشكل عليه: بما ذكرنا من أنّ اطراد الاستعمال كذلك لا يتوقف على أن يكون المعنى المستعمل منه اللفظ في تلك الموارد حقيقياً، بل قد يكون مجازياً بدون قرينة لأنّ الاستعمال المجازي بلا قرينة صحيح أيضاً، ولعل هناك خلط بين اطّراد الاستعمال واطّراد التبادر الذي علامته الحقيقة ولكن سيأتي أن استعمال المجاز بدون قرينة غير نافع.

وثالثة: الاطّراد في التطبيق بلحاظ الحيثية التي أطلق من أجلها اللفظ كما إذا أطلق (الأسد) على حيوان باعتبار كونه مفترساً وكان مطرداً في تمام موارد وجود حيثية الافتراس في الحيوان فيكون علامة كونه حقيقة في تلك الحيثية.

والإشكال المزبور يأتي هنا أيضاً.

ورابعة: اطراد الاستعمال من دون قرينة لا بمعنى الاستدلال بصحة الاستعمال مطّرداً بدون قرينة على نفي المجازية ليرجع إلى التقريب الثاني فيرد عليه ما أورد عليه، فالمراد به شيوع الاستعمال في معنى بلا قرينة على أنه المعنى الحقيقي فإن الأمر يدور حينئذٍ بين أن تكون جميع الاستعمالات مجازاً من دون قرينة أو تكون حقيقة والأول وإن كان

ص: 116


1- - كفاية الأصول - ج1 / ص29 - مصدر سابق.
2- - محاضرات في اصول الفقه - ج1 / ص132 - مصدر سابق.

صحيحاً كما عرفت لكنه غير شائع فهو ليس مطّرداً واتجاهاً نوعياً في الاستعمالات فيتعين الثاني فيكون الاطّراد المذكور نافياً لاحتمال المجازية.فلابد من التمييز بين معاني الاطّراد والأقرب إلى الواقع من تلك المعاني للاطراد في الخارج هذا الأخير وإن أمكن إرجاع بعضها إلى بعض كما هو واضح فإنّ التطبيق يرجع إلى شيوع الاستعمال أيضاً كما أنّ الوجه الأول أيضاً يرجع إلى الأخير.

الأمر الثاني:

ظهر مما سبق إن العلامة التي لا خلاف فيها ويمكن الاعتماد عليها في تعيين الوضع هي التبادر وشيوع الاستعمال والاطّراد فيه وقد ذهب بعض المحققين إلى أنه لا أثر لهذا المبحث ككثير من مباحث الألفاظ في مجال العمل لأنّ المناط في معرفة المراد من الكلام هو الظهور اللفظي في المعنى سواءً كان حقيقياً أو مجازياً فإنّ الظاهر حجة بلا كلام ومجرد كون المعنى حقيقياً لا يفيد في الحكم بكونه مراداً من اللفظ ما لم يكن للفظ فيه ظهور، وبعبارة أخرى إنّ العلامات المذكورة إنما تبرهن على الوضع وهو بحد نفسه لم يكن موضوعاً للحجية وإنما موضوعها الظهور فإذا ثبت الظهور فعلاً فلا حاجة إلى إثبات الوضع بعلاماته لأنّ الظهور حجة استند إلى الوضع أو لا وفي مورد لا يثبت الظهور فعلياً لأجل احتفافه بما يمنع من فعليته لا أثر في تعيين الوضع لعدم كفايته في ترتب الحجية إلا أنه يمكن أن يقال بثبوت الفائدة بأحد وجهين:

الأول: الالتزام بأصالة الحقيقة تعبداً فإنه يلتزم بكون المراد هو المعنى الحقيقي ولو لم يكن اللفظ ظاهراً فيه فلابد من تعيين المعنى الحقيقي بإحدى العلامات المذكورة فيكون لها أثر عملي على هذا البناء.

وفيه أنّ القول يكون أصالة الحقيقة تعبداً لم يثبت عليه دليل ، بل الأصل عدمه، فالثابت عند العقلاء هو ظهور الكلام وهو لا يرتبط بتعيين الحقيقة فإذا كان اللفظ ظاهراً في المراد تعيّن العمل به وإلا فلا يكون مراداً وإن كان معنىً حقيقياً.

الثاني: الرجوع إلى التمييز بين الظهور الشخصي والظهور النوعي, فإنّ الأخير وإن كان هو موضوع الحجية ابتداءً لكن الظهور الشخصي إنما يكون كاشفاً عقلائياً عن الظهور النوعي فتكون العلاقة الوضعية عبارة عن الاقتران المؤكد المستتبع لانسباق ذهن العرف الذي يبتني على ذلك الوضع إلى المعنى من اللفظ وعليه يتبين الأثر العملي بعلامة الحقيقة، فإنّ المستعلم يستدل بالتبادر مثلاً أي بالظهور الشخصي على العلاقة الوضعية المساوقة للظهور النوعي إذا لم يكن ما يوجب الاجمال وبذلك ينقّح موضوع الحجية.

وفيه: إن إثبات كون الظهور الشخصي الحاصل من العلاقة الوضعية كاشفٌ عن الظهور النوعي على نحو الإطلاق يحتاج إلى دليل وهو مفقود.

نعم هو صحيح في الجملة في مواضع لا يكون فيه ما يمنع عن هذا الكشف فالحق أنه لا ثمرة عملية لهذا البحث إلا على نحو الموجبة الجزئية.

الأمر الثالث في أحوال اللفظ:

المعروف أنّ للفظ أحوالاً متعددة ناشئة من النقل والاشتراك والتجوّز والاضمار والتقييد والتخصيص والاستخدام وغير ذلك وإن كان المعروف هي الخمسة الأولى كما ذكرها

ص: 117

صاحب الكفاية رحمه الله ولا كلام في أنّ اللفظ إذا كان ظاهراً في أحدها ولو بمعونة القرائن فهو حجة لحجية الظاهر ويترتب عليه أثره.وأمّا إذا تعارضت فالكلام فيها تارةً يقع في الدوران بين كل واحد منها كما إذا دار بين أن يكون اللفظ مستعملاً في هذا المعنى بنحو المجاز أو الاشتراك أو دار الأمر بين المجاز والنقل وهكذا.

وأخرى في الدوران بين الحقيقة التي هي الحالة الأصلية وبين كل واحد منها كما إذا دار الأمر بين الحقيقة والمجاز أو الحقيقة والاشتراك ونحو ذلك.

أمّا المورد الأول فقد ذكروا لترجيح بعضها على بعض مرجحات لكنها استحسانات محضة لم تثبت تعبُّداً بل الأصل عدم الاعتداد بها إلا إذا أوجب المرجح الظهور في أحد الوجهين المتعارضين فيتبع لا محالة لأصالة الظهور.

وأمّا المورد الثاني فقد التزم المحقق الخراساني بحمل اللفظ على المعنى الحقيقي لأصالة الحقيقة وهذا في الجملة صحيح فيما إذا دار الأمر بين الحقيقة والمجاز وأمّا إذا دار الأمر بين الحقيقة وسائر الأحوال فالظاهر أنه لا دليل على ما ذكره.

بل لا يتصور له معنى لأنّ معنى المشترك أيضاً حقيقي، وكذلك معنى المنقول إليه فإنه معنى حقيقي وهكذا عند الدوران بين المعنى الحقيقي والتخصيص والتقييد فإنّ التخصيص لا يوجب المجازية على ما يقتضيه التحقيق فلا يُعد قسماً مقابلاً للمعنى الحقيقي في جميع هذه الموارد.

نعم يتجه على القول بالمجازية وقد وجّه بعض الأعلام مراده بأنّ المراد من المعنى الحقيقي المعنى الأصلي والذي جعل اللفظ بإزائه ابتداءً لا أن يكون المراد به المعنى المصطلح المقابل للمجاز، ففي تعدد الحقيقة كما في النقل والاشتراك والتخصيص يكون الدوران بين المعنى الحقيقي الأصلي الأوَّلي وبين المعنى الحقيقي الثانوي أي المعنى المنقول إليه اللفظ أو الموضوع له اللفظ ثانياً أو المعنى الخاص فيقدم الأولي على الثانوي.

لكن يورد عليه بأنه لا دليل على ذلك ولم يثبت حمل الكلام على المعنى الحقيقي الأولي مطلقاً إلا بمعونة الأصول العقلائية.

فالحق أن يُقال كما ذكره السيد الوالد رحمه الله : إنه عند التعارض بينها إذا لم يمكن معرفة حال اللفظ ولو بمعونة القرائن تصل النوبة إلى الأصول العقلائية المتداولة بينهم في المحاورات كأصالة عدم القرينة فيحكم بالحقيقة، فيما إذا دار الأمر بينها وبين المجاز وأصالة الإطلاق والعموم التي ترجع إلى عدم القرينة أيضاً عند الدوران بين الإطلاق والتقييد أو العموم والتخصيص وأصالة عدم النقل عند الدوران بينه وبين الحقيقة أو المجاز والنقل وأصالة عدم الوضع عند الدوران بين الاقتران وغيره فيحكم بعدم الاشتراك ومع عدم جريان هذه الأصول يحكم على اللفظ بالإجمال سواء جرى الأصل وسقط بالتعارض أم لم يجر لاختلال أركانه ((1)).

وقد أطالَ السيد الصدر رحمه الله الكلام في المقام وهو لا يستحق هذه الإطالة وخلاصة ما قاله: إنّ هذه الحالات ليس لها مركز واحد فقد صنّفها إلى ثلاثة مراكز:

ص: 118


1- - تهذيب الاصول - ج1 / ص23 - مصدر سابق.

الأول: الدلالة التصورية للفظ التابعة للوضع فيرجع الدوران بين النقل وعدمه والاشتراك وعدمه إلى التبدل أو التعدد في الدلالة التصورية للفظ في العرف العام وينشأ بسبب ذلك الشك في المراد في مقام الاستعمال فيحل هذا الدوران في النقل بنفيه فيتعين الظهور الشخصي وهو يكشف عن الظهور النوعي عقلائياً لأن الأصل التطابق بين ذهن الفرد وذهن العرف الذي يعيش الفرد في ضمنه وأمّا في الاشتراك فإنه أيضاً ينفيه لأنّ معنى الاشتراك تعدد الدلالة التصورية النوعية أو تعدد الظهور النوعي.

ويرد عليه: بأنه وإن كان مقتضى الأصل نفي النقل ونفي الاشتراك إلا أن إثبات أصل التطابق بين الظهور الشخصي والظهور النوعي يحتاج إلى دليل و الأصل عدمه وأنّ المتّبع هو إثبات الظهور الشخصي بإثبات الظهور النوعي فإن تطابق الأول مع الأخير اعتمد عليه وإلا فلا دليل على أن الظهور الشخصي هو دائماً يتطابق مع الظهور النوعي وإن كان الفرد يعيش في العرف فكم من ظهور شخصي لا اعتبار به إذا لم يتطابق مع الظهور النوعي.

كما أنه ليس المرجع في دوران الأمر بين النقل والاشتراك إلى الدلالة التصورية فإنه يرجع أيضاً إلى الظهور في المراد الاستعمالي أيضاً...

الثاني: الدلالة التصديقية في مرحلة المراد الاستعمالي وإلى ذلك يرجع الدوران بين المجاز وعدمه والإضمار وعدمه وبين الاستخدام وعدمه فإن ذلك كله في هذه المرحلة يرجع إلى أصالة الحقيقة لنفي احتمال الحالات الطارئة.

وأمّا إذا دار الأمر بينهما فإنه يرجع إلى تعارض الظهورين فإن كانت قرينة ترجح أحدهما فهي وإلا يكون الكلام مجملاً.

نعم إن كان التعارض أيضاً بين الظهورين في كلامين وحينئذٍ يرجع الحكم إلى التعارض المستقر أو غير المستقر الذي سيأتي في بحث التعارض.

ويرد عليه: إنه يكن إرجاع الدوران بينهما إلى الوضع أيضاً فيقال أنّ الأمر يدور بين الحقيقة والمجاز في مرحلة الدلالة التصورية للوضع.

الثالث: الدلالة التصديقية في مرحلة الإرادة الجدية وإلى ذلك يرجع الدوران بين الإطلاق والتقييد فإنه يرجع إلى أصالة الإطلاق أو أصالة العموم ((1)).

والحق أن يقال: أنه تطويل بلا ثمرة فإن الأصول اللفظية العقلائية التي هي مورد الإجماع وعليها الاعتماد في المحاورات وتعيين المراد منها وهي أصالة الحقيقة وأصالة عدم النقل وأصالة عدم الاشتراك وأصالة الإطلاق وأصالة العموم وهي أصول خمسة معروفة يتمسك بها العقلاء في محاوراتهم لرفع الشبهة والالتباس وتعيين المراد فحينئذٍ لا حاجة إلى التفصيل المذكور ولا فائدة في تعيين المرجع في تعارض تلك الأحوال كما هو واضح وهو تبعيد للمسافة.

ص: 119


1- - بجوث في علم الاصول - ج1 / ص172 - مصدر سابق.

البحث الخامس: ذكر السيد الوالد رحمه الله في الأمر العاشر((1))

أنواع الدلالات وتبعيتها للإرادة وكان الأجدر حسب التصوير الفني أن يذكر في مباحث الوضع والدلالةاللفظية لأنها من توابعها وكيف كان فالبحث يقع في تبعية الدلالة للإرادة والكلام فيه يقع في أمور ثلاثة:

الأول: إنّ الدلالة اللفظية تصورية أو تصديقية.

الثاني: إنّ الدلالة اللفظية تتوقف على وجود الإرادة فإذا وجدت الإرادة الفعلية تحققت الدلالة وإلا فلا.

الثالث: في تحديد المدلول وأنه ذات المعنى أو أنه المقيد بالإرادة وبعبارة أخرى كما ورد في الكفاية - أنّ اللفظ موضوع للمعنى بما هو أو بما هو مراد.

وقبل الدخول في البحث نقول أنّ الدلالة التي هي بمعنى الإرشاد والهداية لغة، وفي الاصطلاح: الانتقال من شيء إلى آخر لثبوت الملازمة بينهما ويختلف محلها فإن كان بين موجودين كانت تصديقية وإن كانت بين تصورين كان الانتقال تصورياً فاللفظ دال والمعنى مدلول عليه, وهي في المحاورات على نوعين ..

النوع الأول: الدلالة التصديقية وهي عبارة عن دلالة الكلام على أنّ المتكلم معترف بكلامه وجازم به وهي معتبرة عند العقلاء مطلقاً في المحاورات والاحتجاجات وغيرها ومعنى اعتبارها ترتب الأثر عليها، ولا ريب في أنها تتوقف على إرادة المتكلم وإلا فلا اعتبارها بها إذ لا أثر لما لا إرادة فيه وهي على نوعين أيضاً:

1- الدلالة التصديقية الاستعمالية التفهيمية والدلالة التصديقية الجديّة ومن أهم الآثار المترتبة على هذه الدلالة أن كل كلام يصدر من أي متكلم يدل على أنه معترف بمفاد كلامه، ما لم يقم دليل على خلافه.

النوع الثاني: الدلالة التصورية وهي عبارة عن خطور المعنى في ذهن السامع عند سماع الكلام وهو لا يتوقف على شيء سوى العلم بالوضع, فكل من علم بالوضع ينتقل المعنى إلى ذهنه حين سماع اللفظ سواء كان المعنى مراداً للمتكلم أم لا, فتكون هذه الدلالة من الأمور القهرية الخارجة عن الاختيار وبناءً على ما ذكرنا يقع الكلام في الأمور الثلاثة المزبورة.

الأول: هل أنّ الألفاظ موضوعة لذوات المعاني بما هي هي - أو أنها موضوعة لها بما هي مرادة؟ وبعبارة أخرى: إنّ الدلالة اللفظية الناشئة من الوضع هي دلالة تصورية بمعنى كون اللفظ سبباً لاخطار المعنى في الذهن أو تصديقية بمعنى كونه كاشفاً عن وجود الإرادة في نفس المتكلم، والظاهر أنه لا شك في أنّ الدلالة اللفظية تصورية ويمكن الاستدلال عليه.

أولاً: إن الوضع بالمعنى الذي ذكرناه لا يستدعي أن تكون الدلالة تصديقية فيه أبداً كما عرفت من أنّ الوضع لم يكن الزاماً ولا تعهداً، ولا اقتراناً, فلا معنى أن تكون الدلالة فيها تصديقية فهو مجرد إثارة لانتقال الذهن إلى المطلوب وهو واضح وكذلك بناءً على أن يكون الوضع عبارة عن القرن بين اللفظ والمعنى فإنه يوجد الملازمة بين صورتين:

ص: 120


1- - تهذيب الاصول - ج1 / ص24 - مصدر سابق.

قرن الواضع إحداهما بالأخرى وهذا لا يوجِد إلا التلازم الذهني بينهما فيكون الانتقال تصورياً وهذا هو معنى الدلالة تصورية.وأمّا بناءً على مسلك التعهد في الوضع أو الالتزام من الواضع فتكون الدلالة تصديقية وقد عرفت ضعف المبنى بما لا مزيد عليه.

ولو سلم لا يثبت المدعى، فإن التعهد إنما يثبت كون قصد التفهيم سبباً لذكر اللفظ وهو لا ينافي أن يكون لذكره سبب آخر غير قصد التفهيم، فإذا تعدد السبب فلا يكون ذكره كاشفاً عن خصوص أحدهما وهو التفهيم, وعليه فإذا ذكر اللفظ ولم يكن قاصداً للتفهيم لا يعد أنه مخالفٌ لتعهدهِ، والمخالفة إنما تتحقق فيما لو قصد للتفهيم ولم يذكر اللفظ فلابد من ثبوت المدعى بكون قصد التفهيم علّة منحصرة لذكر اللفظ، وهو مخالف للوجدان لوضوح أنه كثيراً ما يذكر اللفظ مع عدم التفهيم كموارد الحفظ وموارد التلقين ونحوها.

ثانياً: من المحتمل أن يكون الواضع قد أخذ الإرادة قيداً في المعنى الموضوع له، بأنّ وضع اللفظ للمعنى المراد فقط فتكون الدلالة تصديقية، وقد صوّره المحقق العراقي رحمه الله ذلك بأنحاء منها: أن تكون مأخوذة في الموضوع له بنحو التقييد على أن يكون التقييد داخلاً والقيد خارجاً.

وأورد عليه بأنه يستلزم أن يكون اللفظ موضوعاً للمركب من المعنى الاسمي وهو ذات المعنى والمعنى الحرفي وهو التقيّد وهو ينافي سيرة الوضع بحسب الاستقراء والتتبع وهو لا يريد بذلك لإستحالة وضع للمركب من معنى اسمي وحرفي بالاستقراء بل دعواه ترجع إلى استكشاف عدم الوضع لمثل ذلك.

وأورد عليه بعض مقرري بحث السيد الخوئي رحمه الله بإيرادات ((1))

موهونة ولوضوحها لا تحتاج إلى ذكرها.

والحق أن يقال إن أريد أخذ مفهوم الإرادة مطلقاً سواء كانت نوعية أو شخصية فهو لا يغيّر من جوهر الدلالة اللفظية فإنه كما وضع اللفظ بالدلالة التصورية على المعنى كذلك يُجعل دالاً بالدلالة التصورية على تصور الإرادة فكما أن وضع اللفظ على مفهوم الخبز لا يكشف عن وجوده كذلك لا يكشف عن وجود مفهوم الإرادة.

وإن أريد من ذلك أخذ واقع الإرادة ووجودها في الخارج القائم في نفس المتكلم قيداً في المعنى، فهو غير معقول لاستحالة قيام الملازمة بين الوجود الخارجي للإرادة وتصور اللفظ ذهناً لما عرفت من أن الملازمة إما بين وجودين أو بين تصورين، ولا يعقل أن تكون بين وجود الإرادة خارجاً وبين تصور اللفظ فما ذُكر غير صحيح.

فالحق أن يقال ان الدلالة الوضعية بين اللفظ والمعنى تكون تصورية وليست تصديقية.

وإنما تكون الدلالة التصديقية سياقية لا وضعية قائمة على إمارة نوعية وهي ان الغالب في المتكلم العاقل الملتفت أن يكون كلامه صادراً عن إرادة للمعاني التي يعوّل عليها كلامه لا أن تكون مجرد لقلقة لسان ونحوها، وهذه القرينة الحالية المقترنة بالكلام هي التي توجب ظهوراً تصديقياً للكلام على طبعها.

ص: 121


1- - راجع محاضرات في اصول الفقه - ج1 / ص120 - مصدر سابق.

الأمر الثاني: وهو توقف الدلالة على الإرادة حيث ذهب جمع إليه فقالوا إنّ الدلالة تتوقف على وجود الإرادة وقصد التفهيم.وهو مختار السيد الخوئي بناءً على مسلكه في الوضع وأنه تعهد لا مجرد التزام ونحوه واستدلّ على ذلك بأمرين:

الأول: إنّ ذلك لازم حتمي للقول بكون الوضع بمعنى التعهد ضرورة أنه لا معنى للالتزام بكون اللفظ دالاً على معناه ولو صدر عن لافظ بلا شعور واختيار فإنه لا يعقل أن يكون طرفاً للتعهد والالتزام فلا مناص من الالتزام بتخصيص العلقة الوضعية بصورة قصد تفهيم المعنى من اللفظ وإرادته سواء كانت الإرادة تفهيمية محضة أو جدية فإنه أمر اختياري فيكون للالتزام والتعهد.

الثاني: إنّ الغرض الباعث للواضع على الوضع قصد تفهيم المعنى من اللفظ وجعله آلة لإحضار معناه في الذهن عند إرادة تفهيمه فلا وجه لجعل العلقة الوضعية واعتبارها على الإطلاق حتى في اللفظ الصادر عن غير شعور واختيار كالنائم والمجنون ونحوهما والغرض مختص بالتفهيم.

بتعبير آخر لابد من تطابق غرض الواضع مع الوضع سعة وضيقاً فلا يكون الوضع أوسع من الغرض فإنه أمر جعلي بيد الواضع(1).

ويرد عليهما:

أمّا الأول: فلما عرفت من فساد المبنى أولاً والبناء أيضاً بما قد ذكرناه آنفاً.

وثانياً: وما ذكره بعض الأعلام من أنه غير معقول((2)).

وثالثاً: لأنّ الدلالة الوضعية على هذا المسلك هي الدلالة التصديقية الحاصلة من تعهد المتكلم بأن يقصد المعنى حين يأتي باللفظ، وهذا التعهد الذي هو ملاك تلك الدلالة لا يعقل أن يكون مشروطاً بإرادة المعنى إذ لا معنى للتعهد بأنه عند الإتيان باللفظ يكون قاصداً للمعنى بشرط أن يكون قاصداً للمعنى، فإن قصد المعنى بنفسه متعلق للتعهد فلا يمكن أخذه شرطاً له فإذا استحال تقييد التعهد بذلك استحال تقيّد الدلالة التصديقية المتحصلة من التعهد بذلك فتكون دلالة اللفظ بنفسها كاشفة عن الإرادة لا أنها متوقفة على وجودها وإحرازها في الخارج.

وأمّا الثاني: فيرد عليه ..

أولاً: بخروج اللفظ عن دوره فلا يكون بمقتضى الوضع دالاً على الإرادة فيكون مقتضى الالتزام بما ذكروه هو تبعية الدلالة للإرادة بحيث لا تتحقق الدلالة إلا بعد إحراز الإرادة لأن إحراز المشروط يتوقف على إحراز شرطه.

نعم ذكر بعض مقرري بحث السيد الخوئي رحمه الله التزامه بذلك قال: فبأنّ اللفظ بمقتضى الوضع دال على الإرادة وكاشف عنها ولكن عهدة إثباته على مدّعيه إذ لا يعرف أي وجه للملازمة بينهما أصلاً.

ص: 122


1- - محاضرات في اصول الفقه - ج1 / ص117 - 118 , مصدر سابق.
2- - بحوث في علم الاصول - ج1 / 107 - مصدر سابق.

ثانياً: إنّ الإرادة التي يدعي كونها قيداً إمّا أن تكون قيداً في الوضع أو في المعنى الموضوع له، أو في اللفظ الموضوع.أمّا الأول فهو غير معقول بناءً على كون الوضع من قبيل الإثارة والانتقال أو بناءً على القرن وهو معقول إذا قلنا بأنّ الوضع من الأمور الاعتبارية الجعلية كالملكية والزوجية والوجوب والتحريم ونحو ذلك فإن هذه المجعولات تقبل التقييد كذلك الوضع ولكنه باطل كما عرفت في بحث الوضع فإن الواضع شأنه إيجاد الإثارة والانتقال أو القرن بين اللفظ والمعنى فإن ممارسته لذلك يكون من المقدمات الإعدادية فيكون ذلك منه عمل تكويني، ويكون المعلول أيضاً تكوينياً وهو الملازمة بين تصور اللفظ وتصور المعنى وكلاهما لا يقبل التغيير لأنّ أحد الطرفين فعل خارجي والثاني منشأ حتمي للملازمة ولا يعقل للواضع بعد إيجاده تقييده.

وأما الثاني: وهو أخذ الإرادة في المعنى الموضوع له فلما ذكرناه سابقاً من انه إن أريد بأخذ الإرادة مفهومها فلا يقتضي ذلك توقف الدلالة على وجود الإرادة لكون دلالة اللفظ على معناه تصورية، وإن أُريد به أخذ واقع الإرادة ووجودها الخارجي قيداً في المعنى الموضوع له فهو غير معقول كما عرفت سابقاً.

مع أنه يستلزم أن يكون تصور اللفظ منشأ للتصديق بوجود الإرادة فيكون إحراز وجود الإرادة بالدلالة الوضعية وتابعاً لها وهذا خلاف المطلوب من أن الدلالة تابعة للإرادة ووجودها.

وأما الثالث: وهو أخذ الإرادة في اللفظ الموضوع فقد يُقال بصحة تبعية الدلالة للإرادة لأن الموضوع إذا كان حصة خاصة من اللفظ وهي المقرونة بالإرادة فحيث لا إرادة لا يكون اللفظ مشمولاً للوضع بل يكون مهملاً فلا تكون دلالة.

ولكن يرد عليه:

بأنه غير معقول أيضاً لأنه يستلزم أخذ الإرادة الخارجية قيداً في اللفظ الموضوع.

نعم يمكن تقييد أحد طرفي الوضع وهو اللفظ أو المعنى في مرحلة التصور وهو بمكان من الإمكان أمّا تقييد صورة اللفظ بالقيد الخارجي وهو إرادة المعنى بالإرادة الخارجية فهو غير معقول وقد تقدم بيانه فراجع.

الأمر الثالث: وهو تحديد المدلول الوضعي بمعنى أنّ اللفظ موضوع للمعنى بما هو أو كما هو مراد كما ذكره صاحب الكفاية.

فالحق أن يقال: إنّ تقييد المعنى بما هو مراد ممكن ولا محذور ثبوتي فيه إذا كان المراد بأخذ مفهوم الإرادة سواء كان بالنحو الكلي أو الجزئي ولكنه خلاف الوجدان اللغوي وأمّا إذا كان المراد الإرادة بوجودها الحقيقي قيداً في المعنى الموضوع له فهو على مسلك التعهد صحيح كما عرفت سابقاً لأن الالتزام به يستدعي كون الدلالة الوضعية تصديقية فالموضوع له إرادة التفهيم فيكون المدلول التصديقي هو تمام الموضوع له وهو ليس إلا الإرادة لا أن تكون الإرادة قيداً ولكن عرفت ما في هذا المسلك.

وأمّا بناء على غيره لاسيما المشهور الذي يكون الوضع عندهم هو الجعل فهو مستحيل كما عرفت أن الوضع بناء عليه تصوري ولا يعقل أخذ الإرادة الواقعية قيداً في مفهوم

ص: 123

تصوري لأن الانتقال إمّا بين وجودين أو بين تصورين ولا يعقل أن يكون أحد الطرفين تصورياً والآخر وجودياً.وقد اختار جمع عدم إمكان أخذ الإرادة قيداً في المعنى الموضوع واستدلّ عليه بوجوه:

الأول: بأن لازم أخذ الإرادة في المعنى الموضوع له عدم انطباق المعنى على الخارج باعتبار تقيّده بأمر لا يوجد إلا في وعاء الذهن.

الثاني: إنّ الإرادة من مقوّمات الاستعمال ومتأخرة عنه طبعاً كتأخر الإرادة عن المراد فلا يمكن أخذها في المستعمل فيه إمّا للزوم الدور على التقريب المشهور أو الخلف كما قرّ به المحقق الاصفهاني في أمثال المقام لاستلزامه أخذ الإرادة في المراد وقد أجيب عنهما:

أما الأول: فلأنّ الإرادة لها مراد بالذات وهو نفس الوجود الإرادي للمراد فإن الإرادة نحو وجود للمراد ، ومراد بالعرض وهو ذات المفهوم، كما في المعلوم بالذات والمعلوم بالعرض وحينئذٍ فإنه بحسب هذين اللحاظين تكون هناك نسبة وتحصيص تنتزع بلحاظ المراد بالذات ونسبة تنتزع بلحاظ المراد بالعرض وتقييد المعنى الموضوع له بالإرادة لا ينحصر بأخذ النسبة الأولى بل يمكن تصويره بأخذ النسبة الثانية فيوضع اللفظ لذات مفهوم الإرادة مع أخذ نسبة بينه وبين الإرادة في المعنى الموضوع له فمن المعقول تقييد المفهوم بهذه النسبة فلا يخرج بذلك عن الانطباق على الخارجيات.

وأمّا الاعتراض الثاني فيمكن الجواب عنه:

بأنّ الإرادة التفهيمية لشيء في طول ذلك الشيء وليس المراد في المقام هو أخذ الإرادة التفهيمية لشيء في نفس ذلك بل أخذها جزءاً آخر للمعنى المركب من ذلك الشيء ومن إرادته التفهيمية وبعبارة أخرى أنّ الإرادة التفهيمية لجزء المعنى قد أخذت بنفسها الجزء الآخر للمعنى فلا يلزم من ذلك أخذ الإرادة في المراد.

مع أنه لو صح هذا الاعتراض لكان فيما إذا أخذ الإرادة في مرتبة موضوع شخص تلك الإرادة وهو مستحيل وأمّا إذا أخذت في مرتبة موضوع إرادة من سنخ آخر فلا بأس به فإن الإرادة لا تنحصر في واحدة بل هي الإرادة الاستعمالية والإرادة التفهيمية والإرادة الجدية فلا محذور من دور أو خلف في أخذ الإرادة الجدية في الإرادة التفهيمية أو الاستعمالية...

الثالث: بأنه يلزم من ذلك تقيّد المدلول التصوري بأمر تصديقي وقد عرفت استحالته.

وأجيب عنه بالالتزام بالوضع لذات الحصة التوأمة مع الإرادة على نحو يكون القيد والتقيد خارجان معاً.

وذكر في اندفاعه أولاً: بأنّ الحصة التوأم إنما يعقل في الأفراد الخارجية ولا يجري في الحصص المفهومية لأنّ صيرورة الحصة حصة في عالم المفهوم إنما هو بالتقييد فإذا جُرِّدت عن التقييد في مقام تعليق شيء عليها كان معلقاً على الجامع لا محالة وسيأتي في الموضع المناسب الكلام عن الحصة التوأمة.

وثانياً: بأنّ تعلق الإرادة الاستعمالية بذات تلك الحصة فرع افتراض القيد في المرتبة السابقة لأنه إنما يراد استعمال اللفظ في الموضوع له وهو الحصة وحيث أن القيد نفس الإرادة فافتراضه في المرتبة السابقة خلف هذا ما ذكره القوم في هذا الموضوع الذي

ص: 124

يعتبر من شؤون الوضع وقد أدرج في مباحث الألفاظ وقد أخرجوه عن بساطته كما أخرجوا نفس الوضع باحتمالاتهم الكثيرة فيه وإدراج المباحث العقلية فيه ولأجل ذلك حاول السيد الوالد رحمه الله إبقائه على بساطته العرفية فجمع بين القولين المزبورين فقال بأنّ من قال بالتبعية أي التبعية للإرادة الاستعمالية لأن الدلالة معلولة للاستعمال وهو معلول للإرادة.

ومن قال بعدمها أي الإرادة الحاصلة من جزم نفس المتكلم أو تجزّمه بما تكلم، إذ الإرادة الاستعمالية ليست تابعة لتلك الإرادة لصحة كون الاستعمال لدواعٍ أخر غير جزم النفس بما يقوله.

ثم أشكل على نفسه وأجاب عنه فراجع((1)).

والظاهر أن هذا الموضوع لا يحتاج إلى هذا الإطناب فإنه من توابع الوضع الذي هو بعيد عن تلك الآراء.

وقد عرفت أن الوضع قد مرّ بمراحل عديدة لا يمكن أن نتصور بأنه تابع للإرادة في بعضها فإنه مجرد إثارة وانتقال ونحوه ولا دخل للإرادة فيها فلا يُعقل أن يقال بأن الدلالة الوضعية تابعة للإرادة في جميع الموارد الثلاثة، وأمّا إرادة المعنى الموضوع له فهي في مرحلة متأخرة عن الوضع والدلالة كما أنّ دلالة الكلام على الإرادة تتحقق بالقرينة السياقية العامة التي يعترف بها العقلاء من أن كل متكلم عاقل ملتفت إنما يقصد من كلامه ما يترتب عليه من الآثار وبذلك يتم قانون المخاطبات والاحتجاجات وعليه تكون الإفادة والاستفادة.

البحث السادس في الحقيقة الشرعية:

اشارة

وقد ذكر السيد الوالد رحمه الله البحث عنها في الأمر الحادي عشر((2)) وقيل الدخول في استعراض الأول ينبغي التنبيه على أمور:

الأول: تعيين موقع هذا المبحث بعدما اتضح حقيقة الوضع والدلالة بصورة عامة وحينئذٍ يقع البحث عن التطبيقات لهما التي وقع الخلاف في موارد أهمها:

1- وقوع الخلاف في المدلول اللغوي أو العرفي لبعض المفردات في بعض المسائل الفقهية، نظير البحث عن تشخيص مدلول كلمة (صعيد) أو كلمة (البكاء) أو كلمة (الغناء) ونحو ذلك وهذا بحث لغوي يرجع فيه إلى علوم اللغة والعربية.

2- وقوع الخلاف في مدلول تشترك جملة من الأبواب الفقهية المتنوعة كالبحث عن مدلول صيغة الأمر أو هيئة المشتق، أو الهيئات التركبية والحروف وهو يدرج تحت المسائل الأصولية.

3- ما يقع البحث فيه عن تحديد المدلول الشرعي الخاص لبعض المفردات ومنشأه إنما يرجع إلى احتمال طرو تغيير على مدلول اللفظ في عرف الشارع وهو وإن كان بحثاً عن مفردات خاصة لم تدخل في عنصر من عناصر عملية الاستنباط ولمّا كان البحث

ص: 125


1- - تهذيب الاصول - ج1 / ص24 - مصدر سابق.
2- - تهذيب الاصول - ج1 / ص25 - مصدر سابق.

عن معانيها الشرعية لم يدرج ذلك في البحوث اللغوية البحتة.ويشمل هذا النوع من التطبيقات في أسماء العبادات والمعاملات فالكلام يقع في موردين:

الأول: في تحديد معناها الشرعي الحقيقي وهو الذي يصطلح عليه بالبحث عن الحقيقة الشرعية.

الثاني: في تحديد معناها من حيث اختصاصه بالصحيح من أفرادها أو مجموعها ليشمل الفاسد منها وهذا ما يصطلح عليه بالبحث عن الصحيح والأعم فيكون الكلام في هذين من شؤون تطبيقات الوضع والدلالة.

ولابد من التنبيه على أن هذا البحث لا ثمرة عملية تترتب عليه كما سيتضح ذلك كغيره من المباحث المتقدمة كما عرفت.

الأمر الثاني: في موضوع البحث انه ولا إشكال في وجود معاني شرعية مستحدثة استعمل الشارع فيها ألفاظاً كانت موضوعة لغة لمعانٍ معيّنة فيقع الكلام في أن الشارع نقل تلك الألفاظ من معانيها اللغوية إلى معانيها الشرعية ووضعها لها فثبتت الحقيقة الشرعية أو لم ينقلها بل استعملها في المعاني الشرعية على نحو المجاز فلا تثبت الحقيقة الشرعية كلفظ الصلاة فإنه موضوع لغة إلى الدعاء كما قيل, وقد استعمل في لسان الشارع في الفعل المعهود المشتمل على أجزاء وشروط وتروك.

وغير خفي أن المعاني إمّا أن تكون من التكوينات جوهراً كانت أو عرضاً أو من الاعتباريات العقلائية كالبيع والإجارة والصلح ونحوها، أو من المخترعات كالصلاة والصوم والحج ونحوها ولا ريب في أنّ غير الأخيرة من الحقائق اللغوية فلا يجري نزاع الحقيقة الشرعية فيها إلا أن الشارع تصرف فيها بزيادة قيد أو شرط كالكر والسفر والبيع والإجارة وغير ذلك فيقع البحث في القسم الأخير فقط.

الأمر الثالث: إنّ المتصور في ثبوت العلاقة الوضعية بين اللفظ والمعنى الشرعي إمّا أن تكون بالوضع التعيّني الناشئ من كثرة الاستعمال أو يكون بالوضع التعييني بالإنشاء والالتزام أو يكون بالاستعمال بمعنى أن الشارع استعمل هذه الألفاظ في معانيها ويقصد من هذا الفعل - أعني الاستعمال - تحقق الوضع له من دون أن يكون سبق وضع قولي أنشأه الشارع بأن يقول: وضعت هذا اللفظ لهذا المعنى بل يكون الاستعمال من الدوال الالتزامية لتحقق الوضع فينشأ الوضع بهذه الواسطة، نعم لابد من نصب قرينة في هذا الاستعمال لتدل على تحقق الوضع به لا على ما تدل عليه قرينة المجاز ولأجله اختلفتا .

إذا عرفت ذلك فقد اختلف الأصوليون في ثبوت الحقيقة الشرعية بأحد تلك الطرق الثلاثة ولابد من بيانها:

الأول: ثبوت الحقيقة الشرعية بالوضع التعيني الناشئ من كثرة استعمال الشارع للألفاظ في هذه المعاني، وهذا النوع يبتني على أمرين إذا التزمنا بهما يتحقق الوضع التعيني وإلا فلا يتحقق هذا النوع من الوضع وهما:

أولاً: الالتزام بعدم ثبوت وضع لهذه الألفاظ لتلك المعاني لغة أو عُرفاً قبل استعمال الشارع لها وإلا كانت حقائق لغوية أو عُرفية.

ثانياً: الالتزام بعدم وضع تعييني شرعي قبل ذلك وإلا كانت حقائق شرعية تعيينية لا تعيّنية وهذا الشرط يأتي الكلام فيه عند البحث عن الوضع التعييني لهذه الألفاظ.

ص: 126

فإذا تحقق هذان الشرطين يكون كثرة استعمال الشارع لهذه الألفاظ في هذه المعاني بحيث يبلغ درجة تجعل الذهن ينسبق إلى المعنى الشرعي من اللفظ بلا قرينة.

وقد نوقش ذلك من وجوه:

الأول: إنّ وقوع استعمالات كثيرة من الشارع بدرجة يتحقق الوضع التعيني هو محل إشكال لم يثبت ذلك بل المتحقق هو استعمال الألفاظ من الشارع والمتشرعة معاً وهذا لا يكفي في إثبات الحقيقة الشرعية كما هو واضح.

ويمكن الجواب عنه بأنه إن أريد من الوضع هو الالتزام والإنشاء من قبل الواضع فيكون قيام العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى بسبب صادر من النبي صلی الله علیه و آله و سلم خاصة بحيث يصدق عليه أنه الواضع فهذه الكثرة غير وافية لما ذكر من اشتراك الشارع والمتشرعة في إحداث هذه العلقة إلا أن يُراد من حدوث العلقة الوضعية بأي وجه حصل بحيث يكون المناط هو الحمل على المعنى الشرعي في عرف ذلك العصر لا خصوص ثبوتها بفعل النبي صلی الله علیه و آله و سلم خاصة ومثل ذلك يحصل من الإثارة المتكررة أو القرن بين اللفظ والمعنى فحينئذٍ يتحقق الوضع التعييني بلا ريب كما عرفت في حقيقة الوضع.

الثاني: إن تلك الاستعمالات الغالب منها إن لم نقل كلها كانت على سبيل المجاز والقرينة الخاصة أو العامة فلا تجدي في إيجاد الوضع والحقيقة.

وأجيب بأن قرينة المجاز تختلف عن هذه القرينة بأن الأولى إنما تكون واحدة في جميع موارد استعمال اللفظ بينما هذه القرينة تختلف من مقام إلى مقام ومع ذلك لا يختلف المعنى الشرعي المستعمل فيه اللفظ في جميع تلك الموارد، وهذه هي كافية في إحداث العلقة الوضعية فيما بينهما فتكون القرينة في هذا الاستعمال دالة على الوضع بالالتزام لا أن تكون دالة على دلالة للفظ على المعنى واستعماله فيه.

الثالث: التشكيك في أصل ثبوت استعمال من قبل الشارع الأقدس لهذه الأسماء في المعاني الشرعية ولو على سبيل المجاز لاحتمال استعمالها في المعاني اللغوية مع طريقة تعدد الدال والمدلول في مجال إفهام الخصوصيات.

وأجيب عنه: أنه لو سلّم وفاء طريقة تعدد الدال والمدلول عُرفاً بإفادة الخصوصيات وكل التفاصيل المطلوبة شرعاً فإنّ ذلك لا ينافي كفاية ما يحصل من الاقتران المستمر من خلال مجموع الاستعمالات بين اللفظ والمعنى الشرعي لتحقيق العلقة الوضعية وبالتالي ثبوت الحقيقة الشرعية.

وفيه: إن احتمال ثبوت المعاني اللغوية مسبقاً واستعمال الشارع لتلك الألفاظ على طريقة تعدد الدال والمدلول لبيان الخصوصيات يكفي في دفع ثبوت علاقة لغوية مرة أخرى بين اللفظ والمعنى من جهة الاقتران المستمر فالإشكال وجيه من هذه الناحية وسيأتي توضيح الحال فيه وأمّا نفس ثبوت العلاقة الوضعية عن طريق الاستعمال لإثبات الحقيقة الشرعية فهو مردود بما يأتي.الطريق الثاني : ثبوت الحقيقة الشرعية بالوضع التعييني الصريح بأن يقوم الشارع بنفسه بعملية الوضع فيضع الألفاظ لهذه المعاني الشرعية.

ولكن إثبات هذا الطريق أمر بعيد جداً لأن الوضع بهذه الطريقة يحتاج إلى إعلام من الشارع باعتبار أنه واضع يتصدى لعملية الوضع ومثل هذا لم يحصل أبداً ولو صدر

ص: 127

لكان بمرأى ومسمع من الناس ولنقل لنا ذلك التاريخ فإنه أمر مهم وكلاهما لم يحصل فلا دليل على إثبات هذا الوضع التعييني مضافاً إلى أن الأصل ينفيه أيضاً.

الطريق الثالث: ثبوت الحقيقة الشرعية بالوضع التعييني الحاصل بنفس الاستعمال حيث أن سيرة العقلاء جارية على تعيين أسماء بإزاء ما يخترعونها من صناعات ومخترعات إمّا بتصريح وضعي أو بالاستعمال، اعتماداً على أن المخترع هو المسؤول عن وضع لفظ على مخترعه لأجل اختراعه والشارع الأقدس لا يتعدى هذه الطريقة العقلائية في مخترعاته الشرعية.

وأمّا تصوير المخترعات الشرعية هو جعل التأليف الاعتباري بين أجزائه بحسب نظره واعتباره لا إلى اعتبار آخر خاصاً كان أو عاماً فإن كل عبادة لها وحدة ثابتة ناشئة من نفسها كما هو الشأن في سائر المخترعات المركبة الاعتبارية ولأجل هذه الوحدة الاعتبارية توضع الألفاظ ليكون الاستعمال فيه واحداً فيكون استحداث الشارع للمعنى الشرعي تأسيس لهذه الوحدة.

هذا بخلاف ما ذكره المحقق الاصفهاني من أن الوحدة الاعتبارية للمخترع الشرعي كالصلاة ناشئ من وحدة الطلب المتعلق به فليس لتلك المعاني نحو استحداث وجعل مع قطع النظر عن جعلها في حيز الطلب أصلاً ((1))

وهو توجيه سديد مع قطع النظر عن هذه الوحدة الاعتبارية للمخترع فإنه أمر عُرفي يشهد له طريقة العقلاء الذين ينشؤون مخترعاً خاصاً ويضعون لفظاً خاصاً به فإنه يرجع إلى تلك الوحدة الاعتبارية له كما عرفت.

هذا بالنسبة إلى هذا الطريق في إحداث العلاقة الوضعية التعينية الناشئة من الاستعمال لتعيين الحقيقة الشرعية, ولكنه غير تام أيضاً.

أولاً: بأنه مجرد احتمال في اتباع الشارع طريقة العقلاء والأصل ينفيه إلا أن يقال بأن مركوزية هذه الطريقة العقلائية توجب انعقاد ظهور عُرفي في أول استعمال شرعي في تعيين الشارع ذلك اللفظ بإزاء المعنى الذي استعمل فيه ولكنه مبني على إثبات مخترعات شرعية وهو بعيد.

وثانياً: إنه لم يثبت اختراع للشارع لمعاني هذه الأسماء على نحو تكون مسبوقة بالعدم قبل شرع الإسلام فتكون من مختصاته نظير اختصاص المخترعات الطبيعية والصناعية بأصحابها فإن الحق الحقيق بالقبول أن تلك المعاني كانت مستعملة في معانٍ لغوية وإنما استعملها الشارع فيما أراد على نحو استعمال الكلي في الفرد فمثلاً أن معنى الصلاة هو الدعاء والميل والعطف والزكاة هو التطهير والحج هو القصد وحيث أن الصلاة المتعارفة من مصاديق الدعاء والزكاة من مصاديق طهارة المال و الحج من مصاديق القصد استعملها الشارع فيها لا أن يكون هناك وضع حادث في الإسلام تخصيصاً أو تخصصاً فاستعمال الشارع لهذه الألفاظ معلوم نطقاً ووضعه لها مشكوك فيطرح بالأصل.

ونظير ذلك لفظ (الميزان) واستعماله في الموازين الحادثة بعد وضع لفظ الميزان كميزان الحرارة والكهرباء وعلم المثلثات ميزاناً لمعرفة البراهين، وعلم العروض ميزاناً لمعرفة قوافي الشعر وأن علياً علیه السلام ميزان الأعمال ومثل هذه الألفاظ كثيرةٌ لا تحصى.

ص: 128


1- - نهاية الدراية - ج1/ ص46 - مصدر سابق.

وثالثاً: يمكن القول بأن هذه المعاني كانت موجودة ومعروفة عند الناس قبل شرع الإسلام وأن الألفاظ قد وضع لها, فالصلاة الإسلامية كانت موجودة سابقاً وإن كان على نحو من الاختلاف في الخصوصيات التي لا توجب تعدد المعنى كما عرفت وكذا الحج والزكاة وغيرهما ومن المستبعد اختلاف الصلاة والزكاة العيسوية التي أمره بها عن الصلاة الإسلامية بحيث تكونان متباينتين بل هما تجتمعان في جامع, وأن الاختلاف بينهما صنفي كالاختلاف في صلاة الحاضر وصلاة المسافر في شرعنا، ودليلنا الآيات الشريفة التي استعمل فيها لفظ الصلاة والزكاة في الشرائع السابقة من دون اختلاف في فهم المراد منها في شرعنا وكذلك استعمال تلك الألفاظ في الشرائع القديمة بنفس المعاني في الشرع الإسلامي وقد ورد لفظ (صلوت) و(زكوت) في اللغة العبرية وقد استعملا في نفس العبادة المعهودة وقد عربّا وبقى اللفظ محافظاً على الواو في الخط تأثيراً بأصله.

وهناك إشكالات ذكرها بعض الأعلام وهي واهية نذكرها تباعاً.

الأول: ما ذكره المحقق الخراساني رحمه الله من أنّ الالتزام بكون الوضع التعييني ينشأ بالاستعمال يستلزم اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي في شيء واحد ((1)). وقد قرب ذلك بوجهين:

أحدهما ما ذكره المحقق الاصفهاني رحمه الله من أن الحكاية والدلالة ملحوظة في الوضع استقلالاً باعتبار أن الوضع هو جعل اللفظ بحيث يحكي عن المعنى شأناً لا فعلاً بخلافها في الاستعمال فإن الحكاية ملحوظة ومقصودة على الوجه الآلي دون الاستقلالي لأن النظر الاستقلالي فيه متعلق بالمعنى وأما اللفظ وهو ما به الحكاية ونفس الحكاية فهما متعلقان للحاظ الآلي فيكون إنشاء الوضع بالاستعمال يلزم اجتماع اللحاظين الآلي والاستقلالي في لحاظ واحد ((2)).

ويظهر الجواب عن هذا الإشكال على هذا التقريب بأن الوضع كما عرفت في بيان حقيقته خارج عن الدلالة والحكاية ولم تؤخذ حيثية الدلالة في معنى الوضع بأي وجه من الوجوه.وعلى فرض التنزل فهو غير تام أيضاً باعتبار أنّ متعلق اللحاظ والقصد في الوضع هو مفهوم الدلالة لا مصداقها إذ لا تلحظ الدلالة الفعلية فإن متعلق الوضع هو طبيعي اللفظ للمعنى، وأمّا الدلالة في الاستعمال هي الدلالة الفعلية أي مصداق الدلالة.

وعلى ذلك فلا يلزم من إنشاء الوضع بالاستعمال تعلق اللحاظين بشيء واحد فإن متعلق اللحاظ الاستقلالي هو مفهوم الدلالة ، والآلي مصداقها وهما متغايران.

التقريب الثاني: ما ذكره المحقق العراقي رحمه الله من أن الوضع هو جعل الارتباط بين اللفظ والمعنى كان اللفظ متعلقاً للحاظ الاستقلالي لأنه طرف الحكم والاعتبار وأمّا في الاستعمال يكون جعل اللفظ حاكياً عن المعنى وفانياً فيه فيكون اللفظ في حال الاستعمالي ملحوظاً آلة نظير المرآة فيكون النظر الاستقلالي يتعلق بالمحكي دون الحاكي.

فيستلزم من إنشاء الوضع بالاستعمال اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي في اللفظ في زمان واحد وهو محال.

ص: 129


1- - كفاية الأصول - ص21 - مصدر سابق.
2- - نهاية الدراية - ج1/ ص31- مدر سابق.

وقد دفع المحقق العراقي رحمه الله ذلك باختلاف المتعلقين في اللحاظين فإن متعلق اللحاظ الاستقلالي في حال الوضع هو طبيعي اللفظ، فإن الوضع جعل العلقة بين طبيعي اللفظ لا مصداقه الخاص، ومتعلق اللحاظ الآلي في حال الاستعمال هو مصداق اللفظ إذ به تكون الحكاية، فلا يلزم في إنشاء الوضع بالاستعمال اجتماع لحاظين في شيء واحد لاختلاف متعلق كل واحد منهما عن الآخر ((1)).

وذكر السيد الخوئي أنه يندفع من تأخر الاستعمال رتبة عن الوضع ((2))

وفيه ما لا يخفى فإن التأخر الرتبي لا ينفي اجتماع اللحاظين في شيء واحد كما في الضدين فإن تأخر أحدهما عن الآخر رتبة لا يسوغ اجتماعها في شيء واحد.

الإشكال الثاني: إن هذا النوع من العلاقة الوضعية يبتني على أن يكون هناك اختراع من الشارع وهو غير ثابت بنحو يكون من مختصاته لقوة احتمال وجودها أو بعضها في الشرايع السابقة وكانت شائعة بين الناس ومعروفة عندهم وتدل عليه الأدلة النقلية والتأريخية كما عرفت ويأتي.

الثالث: إن تلك الأدلة وإن أثبتت وجود المعاني لهذه الألفاظ سابقاً ولكن لم يثبت كونها نفس المعاني الإسلامية لاحتمال اختلافهما بحيث لا يكون بينهما جامعٌ فلا يكون المعنيان السابق والإسلامي صنفين لمركب واحد وبناءً عليه يمكن أن يكون إطلاق الألفاظ على المعاني الإسلامية على نحو المجاز ولا ينفي هذا الاحتمال إلا بعد إثبات الوضع الشرعي لتعيين حمل تلك الألفاظ على المعاني الشرعية بمقتضى أصالة الحقيقة.

وهذا لا يتحقق إلاّ بالوضع المباشر من الشارع أو بوضع سابق وهذا الأخير لا سبيل إليه فيتعيّن الأول وهو المطلوب.وقد نُفي هذا الاحتمال أيضاً بالآيات التي تدل على ثبوت هذه المعاني في الشرائع السابقة كقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ فإنه ظاهر في اتحاد الصوم بين الفريقين وأنّ المراد به هو معناه الشرعي وإلا لزم الاستخدام في ضمير (كتب).

ويمكن الإشكال عليه: بأنه من الممكن إرادة المعنى اللغوي من الصوم وهو مطلق الإمساك الجامع بين الصومين فلا يستلزم الاستخدام ولا يكون دليلاً على سبق المعنى الشرعي عندنا في الشرائيع السابقة.

ولكن الحق: إن تلك مجرد تشكيكات واحتمالات واهية يردها الواقع التاريخي والأدلة النقلية الدالة على إرادة المعنى الشرعي وتبادره إلى الذهن عند إطلاق اللفظ.

الإشكال الرابع: أنه بعد ثبوت المعنى الشرعي سابقاً لا يستلزم كونه مسمىً في السابق بنفس هذا اللفظ الذي استعمل فيه الإسلام ليلزم كونه حقيقة لغوية فيه كما أفاده صاحب الكفاية بل قيل أنه من ولده الشيخ محمد وتبعه المحقق الاصفهاني والسيد الخوئي رحمه الله وإن أضاف الأخير بأنه لو سلم الاستلزام المطلوب لم يضرّ بالمقصود إذ لم يتعلق غرض

ص: 130


1- - بدائع الأفكار - ج1 / ص33 - مصدر سابق.
2- - محاضرات في اصول الفقه - ج1 / ص128 - مصدر سابق.

الأصولي بخصوص الوضع الصادر عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم بل المقصود كون اللفظ حقيقة في المعنى الشرعي ليحمل عليه من دون قرينة وهذا يحصل مع ثبوت الحقيقة اللغوية أيضاً.

ولكن هذا الاعتراض غير سديد خلاف مراد المحقق الخراساني لأن ثمرة الحقيقة الشرعية عنده هي الحمل على المعنى الشرعي لا التوقف بينه وبين المعنى اللغوي وهو إنما يحصل إذا ثبت وضع من الشارع المؤسس للمخترع كما هو سيرة العقلاء في الاختراعات ولكن عرفت كون المعاني الشرعية قديمة مع نفس هذه الأسماء قبل الإسلام فإن الإنسان في عصر نزول القرآن كان يفهم هذه الألفاظ ويعرف معانيها من حين بدأ الدعوة الإيمانية ونزول القرآن والنبي صلی الله علیه و آله و سلم والمؤمنون به مستضعفين ليس لهم قدرة ظاهرية في إيجاد عرف لغوي جديد والقرآن الكريم يعرض بمشركي قريش وكفار الجاهلية وبعبادتهم وينكر عليهم الصلاة التي كانوا يؤدونهما في قوله تعالى: ﴿وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً﴾ ولم ينكر منهم استعمال الصلاة.

والحاصل أن الحال التي يفترض عليها وضع الألفاظ لهذه المعاني الشرعية هي أحد وجوه ثلاثة إمّا أن تكون مخترعة من قبل الشارع ولم تكن ثابتة قبل الإسلام فتثبت الحقيقة الشرعية بالوضع التعييني بنفس الاستعمال على ما عرفت.

وإمّا أن تكون المعاني الشرعية ثابتة بأساميها قبل الإسلام بأي نحو كان وإن لم نعلم خصوصياتها فلم يصدر من الشارع إلا تغييرها بزيادة جزء أو شرط ونحو ذلك غير المقوّمة فتكون المعاني الشرعية الجامعة بين ما جاء به الإسلام وما كانت قبل الشرائع السابقة مع ما بينهما من الاختلاف في التفاصيل ثابتة كحقائق لغوية لهذه الأسماء.

وإمّا أن يدعى أن المعاني وإن كانت ثابتة في الجملة قبل الإسلام لكن استعمال الألفاظ فيها على نحو تكون حقيقة لغوية فيها غير ثابت إلا بعد استعمال الشارع إياها في تلك المعاني لتثبت الحقيقة الشرعية التعينية.ولا سبيل إلى الاحتمال الأخير لأن كون هذه الأسماء حقيقة في المعاني الشرعية قبل الإسلام ولم يبلغ استعمالها إلى الرتبة الحقيقية التعيّنية بعد الإسلام أمر بعيد جداً بل مخالف للوجدان، والاحتمال الأول عرفت بطلانه فالحق هو الفرض الثاني وعلى فرض التنزل فدعوى الوضع التعيّني في الاستعمال سديدة.

ثمرة البحث:

اشارة

ذكروا لهذا المبحث ثمرتين:

الأولى: إذا قلنا بالحقيقة الشرعية وثبوت الوضع الشرعي لهذه الأسماء فلابد من حمل النصوص التي ورد فيها استعمال تلك الأسماء على إرادة المعنى الشرعي بمقتضى أصالة الحقيقة، بخلاف ما إذا لم يثبت الوضع الشرعي فإنه تحمل على المعنى اللغوي العام ولو فرض الشك في الوضع الشرعي يكون الاستعمال مجملاً ويجب الرجوع إلى القرينة.

وقد اعترض عليه المحقق النائيني رحمه الله بأن جميع الاستعمالات في النصوص الشرعية الواردة عن الأئمة الهداة علیهم السلام قد عُلم المراد منها ببيان الأئمة علیهم السلام فقد أريد منها المعاني الشرعية ولم يكن هناك مورد يُشك في مراده.

ص: 131

نعم قد يحصل النزاع فيما صدر في عصر النبي صلی الله علیه و آله و سلم من الأحاديث النبوية الشريفة مما لم يثبت في طرقنا عن أئمة أهل البيت علیهم السلام الذي عرفت تعيُّن حملها على المعنى الشرعي وحينئذٍ تكون الكبرى ثابتة وإن لم تثبت الصغرى لعدم الشك في مورد من الموارد فيكون مبحث الحقيقة الشرعية علمية صرفة ولا يترتب عليه ثمرة عملية ((1)).

وأشكل بعض الأعلام بأنه لو سلّمنا ذلك في الأحاديث النبوية المروية من طرق أهل البيت علیهم السلام فما هو الحال في النصوص القرآنية التي يكثر استعمال أسماء العبادات والمعاملات أو تلك الأحاديث النبوية التي نقلت عن طرقنا حرفياً تبركاً وتيمناً بكلامه الشريف, فإن قلنا بالعلم بالمراد في كل ذلك وهي دعوى لا تقل عن دعوى العلم بالمراد في تمام موارد استعمال هذه الأسماء ابتداءً فلا يبقى مجالاً لهذه الثمرة ((2)).

والحق أنه اعتراض غير وارد فإن النصوص القرآنية المفسَّرة من قبل الأئمة المعصومين علیهم السلام والأحاديث المنقولة عن طرقهم داخلتان تحت ما قرره المحقق المزبور فلا يبقى مورد للشك وبيانهم علیهم السلام كافٍ في العلم بالمراد وهي دعوى مبنية على دليل وبرهان بخلاف دعوى حصول العلم بالمراد ابتداءً فإنها بغير دليل.

ثم أطال الكلام فيما لو فُرض الشك في المراد من اللفظ الصادر من الشارع وتنتهي النوبة إلى الرجوع إلى المباني في هذه المسألة المتقدمة ولكن ما ذكره مجرد فروض لا فائدة في نقلها.الثانية: ما ذكره صاحب الكفاية من أن الثمرة المزبورة إنما تتم في مورد العلم بتاريخ الوضع وتأخر الاستعمال عنه وأمّا مع الجهل بتاريخهما فلا ثمرة، فإن غاية ما يمكن أن يذكر في إثبات تأخر الاستعمال أمران:

إما أصالة تأخر الاستعمال عن الوضع وهو مردود بالمعارضة بأصالة تأخر الوضع وكونها من الأصول المثبتة لكون هذا الأصل يرجع إلى استصحاب عدم الاستعمال إلى حين الوضع وهو يلازم تأخر الاستعمال عن الوضع وثبوته بعده وهو مثبت ((3)).

الثاني: وهو أصالة عدم النقل أي استصحاب عدم النقل إلى ما قبل الاستعمال وهو الاستصحاب القهقري ويثبت به تأخر الاستعمال عن الوضع فيكون قبل الاستعمال وإن كان ذلك بالملازمة ولكنه لا يضر لحجية الأصول العقلائية في لوازم مفادها.

ويرد أيضاً: بأن الثابت من بناء العقلاء وهو عدم النقل إن كان الشك في أصله وأمّا إذا كان الشك في تقدمه وتأخره مع العلم به فلم يثبت لهم بناء على استصحاب عدم النقل إلى زمان ما فلا دليل على حجية هذا الأصل فيما نحن فيه.

والحاصل أنه لا ثمرة عملية لهذا المبحث بل ولا علمية أيضاً كما ذكر السيد الوالد رحمه الله بعد العلم بمراد الشارع ببيان أوصيائه علیهم السلام سواءً ثبتت الحقيقة الشرعية أم لم تثبت وقد عرفت

ص: 132


1- - راجع محاضرات في اصول الفقه - ج1 / ص133 - مصدر سابق.
2- - بحوث في اصول الفقه - ج1 / ص185 - مصدر سابق.
3- - كفاية الأصول - ص22 - مصدر سابق.

سابقاً أن الظهور المرادي حجة متبعة سواء استند إلى الحقيقة أم غيرها وما كان مجملاً فلا اعتبار به وإن كان حقيقة ((1)).

تتمة: عرفت ما يتعلق بالحقيقة الشرعية وأمّا الحقيقة المتشرعية المصطلحة فإنه يمكن القول باعتبارها بناءً على أن استعمال الشارع لهذه الأسامي في المعاني المستحدثة كان على نحو المجاز فصار حقيقة متشرعية بكثرة الاستعمال في المعاني الحديثة، لكن المبنى والبناء كلاهما باطلان.

المورد الثاني:

وقع الكلام في استعمال أسماء العبادات والمعاملات في الصحيح أو الأعم منه ومن الفاسد وهو البحث المعروف بالصحيح والأعم وقد عرفت في بداية البحث السابق بأن هذين البحثين يرجعان إلى تحديد التطبيق بعد العلم بالوضع والدلالة.

وقد ذكر السيد الوالد رحمه الله هذا البحث في الأمر الثاني عشر من الأمور التمهيدية التي أوردها واختلف العلماء في أن المسمى في ألفاظ العبادات والمعاملات التي وردت في لسان الشارع وتابعيه خصوص الصحيح أو الأعم منه والفاسد وقد فصلوا الكلام فيه وهو أيضاً لا يحتاج إلى ذلك والبحث يقع في مقامين أحدهما في ألفاظ العبادات والآخر في ألفاظ المعاملات وإن كانا يشتركان في جملة من الأمور كما ستعرف.

المقام الأول:

في أسماء العبادات والكلام يقع فيه من جوانب متعددة:

الأول: في أن النزاع يختص بخصوص الألفاظ في المخترعات الشرعية كما هو المقرر عند الأصوليين حيث أنهم يعنونون البحث في كتبهم بها أو لا يختص فيشملالنزاع في الألفاظ مطلقاً وأنها موضوعة للمعاني الصحيحة أو للأعم منها ومن الفاسدة.

والظاهر هو الأخير فإنه يجري في كل لفظ وضع لمركب من أجزاء وشروط فلا يختص بما ذكره الأصوليون فلابد أن يكون البحث عاماً يشمل جميع الألفاظ الموضوعة وهذا الذي ذهب إليه السيد الوالد ((2))

رحمه الله .

الثاني: في تعيين العلاقة بين هذا البحث وبحث الحقيقة الشرعية المتقدمة فإنه قد يتراءى بأن هذا البحث يتوقف على ثبوت الحقيقة الشرعية فإذا ثبت المدلول الشرعي لهذه الأسماء يقع البحث في اختصاصه بالصحيح أو للأعم منه ومن الفاسد وعلى هذا يكون الأمر واضحاً فيكون من فروع البحث السابق, وأمّا على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية فقد صار محل خلاف إذ لا وضع حتى يقال بأن الموضوع له هو الصحيح أو الأعم ولعله لأجل ذلك ذهب المحقق الخراساني بأن تصوير البحث عن هذا الموضوع على نحو الاستقلال في غاية الإشكال ((3)).

والحق أن يقال بجريان البحث سواء قلنا بالحقيقة الشرعية أو العُرفية أو المجاز أما بناءً على ثبوت الحقيقة الشرعية فالأمر واضح كما عرفت وأمّا بناء على القول بالحقيقة

ص: 133


1- - تهذيب الاصول - ج1 / ص26 - مصدر سابق.
2- - تهذيب الاصول - ج1 / ص27 - مصدر سابق.
3- - كفاية الاصول - ص23 - مصدر سابق.

العُرفية فإنه يقع النزاع في أنّ الألفاظ الحقيقية عند العُرف التي استخدمت في المعنى الشرعي هل هو الصحيح أو الأعم؟

وأمّا على القول بالمجاز فقد صوِّر النزاع على وجوهٍ:

الأول: ما ذكره المحقق الخراساني من أن النزاع يرجع على القول بالمجاز إلى تحديد المجاز الأقرب الذي لابد ان يحمل اللفظ عليه عند وجود القرينة على عدم ارادة المعنى الحقيقي فهل هو الصحيح أو الأعم منه .

وقد اُعترض عليه بأن الأصل في اللفظ إذا أطلق بلا قرينة يحمل على المعنى الحقيقي وإلا فلابد من إثبات المعنى المجازي إذا تعدد من قرينة ففي المقام تعيينه في المعنى الصحيح أو الأعم يحتاج إلى قرينة، وإن كانت قرينة شخصية عامة في لسان الشارع ولا يمكن إثبات كلا الأمرين في باب الظهورات ، ولذا يمكن أن يعتبر هذا النزاع علمياً.

وأشكل عليه بأن أولوية أحد المعنيين المجازيين سببه الظهور الثابت لأحدهما ولا إشكال في ثبوت الظهور لأحدهما ولو كان مجازياً وبضميمة عدم ثبوت الحقيقة الشرعية يعلم بأن المعنى الظاهري مجاز فيحمل عليه، كما هو الأمر في المجاز المشهور والمجاز الراجح.

لكن يمكن أن يمنع ذلك لأن العلاقة المصححة للمجاز محفوظة في المعاني المجازية المتعددة بدرجة واحدة مضافاً إلى أنه لا يصح جعل المعنى الصحيح في طول المعنى الأعم، كما ستعرف.الثاني: ما ذكره المحقق الاصفهاني رحمه الله بناءً على ما ذكره أستاذه من أن النزاع حينئذٍ يكون في أن اللفظ قد استعمل في الصحيح عند القائل به لعلاقة بينه وبين المعنى اللغوي فقط ولا علاقة بين الفاسد والمعنى الأصلي الحقيقي كما لا مشاكلة بينه وبين المعنى الصحيح إلا بتصرف عقلي وهو تنزيل المعدم من الأجزاء والشروط منزلة الموجود لئلا يلزم سبك مجاز في مجاز فلا مجاز أصلاً إلا في استعمال اللفظ في الصحيح وحيث أن الاستعمال دائماً في الصحيح مفهوماً ومعنىً فمع عدم القرينة على التصرف العقلي المزبور يحمل على الصحيح ويترتب عليه ما يترتب على الوضع للصحيح من الفائدة.

وأمّا الأعم فهو يقول بأن اللفظ دائماً مستعمل في الأعم وإفادة خصوصية الصحيح والفاسد يكون بدال آخر ومع عدم وجوده يحمل اللفظ على ظاهره ويتمسك بإطلاقه ((1)).

ولكن ما ذكره ينافي الطرق المتعارفة في المحاورات فإنه إمّا أن كلا المعنيين المجازيين عرفياً فلا إشكال في استعمال اللفظ فيهما من دون أن يحصل سبك مجاز في مجاز، وفي المقام فإنه لا إشكال في كون الاستعمال في الأعم عُرفياً كما في مورد تقسيم العمل إلى الصحيح والفاسد الذي يتعين استعماله في الجامع.

وكذلك ما ذكره في حق الأعمّي فإنّ إفادة المعنى بتعدد الدال والمدلول طريقة عرفية ولا إشكال فيها ولكنه يتخذ في موارد مخصوصة فيما إذا اريد به التحفظ على الحقيقة وأمّا في الاستعمال المجازي فلم يعهد من العرف استعمال هذه الطريقة زيادة على ارتكاب المجاز.

ص: 134


1- - نهاية الدراية - ج1 / ص55 - مصدر سابق.

الثالث: وهو أن يكون النزاع في تحديد القرينة العامة التي استخدمها الشارع في استعمالاته المجازية فإن الصحيحي يدعي أن مفادها الصحيح، والأعمي يقول بأن مفادها الأعم.

وهو وإن سلم من الإشكالات المزبورة إلا أنه يرد عليه بتعسر مفاد القرينة العامة لعدم كونها على حد القرائن الحسية الخاصة ودفعه بإمكان تحديد ذلك عن طريق التبادر والمنسبق من الاستعمالات الشرعية إلى الذهن غير سديد إذ التبادر الحاصل من بعد الاستعمال غير مفيد.

الرابع: ما ذكره المحقق النائيني رحمه الله من أنه يمكن إثبات العلاقة بين أحد المعنيين المجازيين والمعنى اللغوي باستعمال المتشرعة وثبوت الحقيقة لديهم لتبادر هذه المعاني من الألفاظ عندنا فيلحظ ما هو المتبادر عندنا من المتشرعة هل هو الصحيح أو الأعم فينزل كلام الشارع عليه ويبنى على أن الأصل استعماله فيه كما عرفت من أن التبادر والوضع التعيني عندنا إنما حصل بتبع استعمال الشارع والمتشرعة يتبعه فيكشف عن أن الأصل في استعمالات الشارع هو المجاز ((1))

وأورد عليه بعدة ايرادات أوجهها من أنه لا وجه لاستكشاف الأصل في استعمالات الشارع بما هوالمتبادر عندنا لأن التبادر حصل من كثرة الاستعمال الناشئ من كثرة الحاجة إلى تفهيم المعنى فربما يكون الشارع استعملها في الصحيح ولكن الحاجة عند المتشرعة اقتضت استعمالها في الأعم.

والحق أن يقال: أنه بناء على تعميم البحث إلى الوضع اللغوي العام في أن الألفاظ موضوعة للصحيحة من المعاني والمدلولات أو الأعم منها فلا ينبغي الإشكال في إمكان تصوير النزاع بالوجه العلمي الصحيح وعلى الاختصاص والقول بالأسماء المستعملة في لسان الشارع فيقال في أن المسمى في هذه الألفاظ في لسان الشارع وتابعيه خصوص الصحيحة أو الأعم منها فيشمل النزاع ما إذا لم نقل بالحقيقة الشرعية أيضاً ولا نحتاج إلى لفظ الوضع والمجاز والحقيقة حتى ترد الاشكالات المزبورة فيطال فيه الكلام.

الثالث: في معنى الصحة: والكلام في الصحة والفساد يقع من جهات:

الأولى في معنى الصحة ، فقد ذكروا لها معان متعددة:

منها: موافقة الأمر وهو مصطلح الأصوليين.

ومنها: سقوط القضاء والإعادة وهو مصطلح الفقهاء.

ومنها: موافقة الشريعة وتحصيل الغرض المطلوب وهذا مصطلح المتكلمين والفساد ما يقابلها.

ومنها: التمامية الذي اتفق الجميع عليه والفاسد هو الناقص.

ثم وقع النزاع في أن المعاني الثلاثة الأولى هي من مقومات التمامية أو من لوازمها وآثارها فقد ذهب المحقق الخراساني رحمه الله إلى الثاني فقال بأنّ تلك هي من لوازم التمامية ومن آثارها ((2)).

ص: 135


1- - أجود التقريرات - ج1 / ص34 - مصدر سابق.
2- - كفاية الاصول - ص24 - مصدر سابق.

فيكون تفسير الأصولي للصحة والفقهاء والمتكلمين لهما أيضاً هو تفسير لها بلوازمها وآثارها التي هي محط النظر لهم وبناءً على ذلك فلا تكون للصحة معنى آخر غير التمامية.

وقد ذكر ذلك أيضاً في مبحث دلالة النهي على الفساد فقال أن إتصاف العمل بالتمامية إنما هو بلحاظ آثارها.

وذهب المحقق الاصفهاني رحمه الله إلى الأول وقال: بأن موافقة الأمر وسقوط الإعادة والقضاء عن مقوّمات التمامية فلا واقع لها إلا تلك، فالتمامية متقومة بهذه الحيثية المضافة إلى الأثر واعتبرها من لوازم الماهية وفرّق بين لوازم الماهية ولوازم الوجود ((1))

كما هو عادته في إدراج المسائل العقلية الفلسفية في علم الأصول.

وأشكل عليه بأنه لا يمكن أن يكون أثر الشيء ولازمه مقوماً له لأن نسبة اللازم إلى الملزوم والأثر إلى المؤثر هما من نسبة المعلول إلى علته وهو خلاف فرض كونه مقوّماً للشيء.وعلّق عليه السيد الخوئي رحمه الله بأن التمامية لها واقع مع قطع النظر عن هذه الآثار التي هي لوازم شرعية قد تترتب على معنى الصحة وليس شيء منها معناها بالدقة وإنما الصحة تعني تمامية الشيء من حيث الاجزاء والشرائط والفساد يعني نقصانه من حيث أحدهما ولذا كانت الصحة والفساد خاصّين للمركبات دون البسائط وادعى بأن ما ذكره المحقق الاصفهاني إمّا خلط بين تمامية الشيء في نفسه والمراد بها جامعيته للأجزاء والشرائط أو تماميته بلحاظ مرحلة الامتثال والأجزاء التي هي لوازم شرعية فلا واقع لهذه التمامية مع قطع النظر عن هذه الآثار واللوازم.

أو خلط بين واقع التمامية وعنوانها الذي هو عنوان انتزاعي ينتزع عن الشيء بلحاظ أثره وأن حيثية ترتب الآثار من متممات حقيقة هذا العنوان ولكنه خارج عن محل الكلام فمثلاً أن لفظ الصلاة لم يوضع بإزاء ذلك العنوان بل وضعت بإزاء واقعهِ ومعنونهِ وهي الأجزاء والشرائط ((2)).

وأشكل عليه بوجوه أهمها:

أولاً: أن الجزئية والشرطية والمركب هي من العناوين الانتزاعية للشيء ليس لها واقع إلا بلحاظ دخله في شيء لوحظ فيه الأمور المتكثرة واحداً بالإضافة إليه فينتزع لها عنوان المركب كما هو الحال في العناوين الانتزاعية الأخرى كسقوط الإعادة والقضاء وحصول الأثر التكويني وسقوط الأمر فمثلاً أن الركوع بحد نفسه وبلحاظ ذاته لا يعدُّ جزءً بل هو فعل خاص تام مستقل وإنما يعد جزء بلحاظ دخله في حصول المأمور به ومتعلق الأمر فيكون جزء المأمور به، فتكون حيثية تعلق الأمر الواحد بالأمور الكثيرة دفعة واحدة ملحوظة في انتزاع الجزئية ولولاها لما كان جزءاً وإذاً يثبت أن الجزئية والشرطية من الأمور الانتزاعية تنتزع عن الشيء بلحاظ دخلها في حصول الوحدة التي لوحظت بالإضافة إليه، فلم تكن للتمامية من حيث استجماع الأجزاء والشرائط تحقق في عرض

ص: 136


1- - نهاية الدراية - ج1 / ص73 - مصدر سلبق.
2- - محاضرات في اصول الفقه - ج1 / ص135 - مصدر سابق.

التمامية بلحاظ ترتب الأثر وموافقة الأمر وسقوط الإعادة والقضاء ونحو ذلك لأن انتزاع الأجزاء والشرائط إنما يكون بلحاظ هذه الآثار فتكون التمامية بلحاظ الأجزاء والشرائط في طول التمامية بلحاظ الآثار فلا وجه لجعلها في عرضها ((1)).

ويورد عليه: إنّ ما ذكره السيد الخوئي إنما هو بلحاظ الواقع العرفي الذي يرى بأن الأجزاء والشرائط إنما هي الشيء ومنه يوصف بالتمام ولعلَّ الإمعان في كلامه يظهر ما ذكرناه فصار للتمامية واقع عرفي وعنوان شرعي ولكن سيأتي أنه إذا رجعنا إلى العرف في تعيين معنى التمامية فما ذكره (قده) غير سديد كما ستعرف.

الثاني: ما ذكره بعض الأعلام من أنّ معنى الصحة والفساد لا يساوق التمامية والنقصان عُرفاً إذ قد يوصف شيء بسيط لا جزء له ولا شرط بالصحة والفساد فيقال هذه الفكرة صحيحة أو فاسدة بمعنى مطابقتها للواقع أم لا أو مؤدية للمصلحة أم لا ولا تختص بالمركبات كما ادعاه السيد الخوئي رحمه الله وقال لعل مراد المحقق الاصفهاني أنالصحة والفساد إنما تتقوّمان بلحاظ تلك اللوازم التي ذكرناها فينتزع وصف الصحة أو الفساد للعمل بلحاظ ذلك، وإلا فكل شيء بلحاظ ذاته كان تاماً وواجداً لاجزاء ذاته ((2)).

والصحيح ما ذكره السيد الوالد رحمه الله أن النزاع بين الأعلام لفظي أكثر من كونه حقيقياً فإنّ الصحة والفساد بما لهما من المعنى العرفي الواقعي يكون مورد البحث في المقام، فتكون الصحة والفساد الشرعي من مصاديق كلي الصحة والفساد العرفي فيكون موافقة الأمر وعدمها وسقوط الإعادة وعدمه وموافقة الشريعة وعدمها ليس مغايراً للمعنى العُرفي العام ويكون كل معنى ملازم لمعنى التمامية ((3)) وربما يرى العرف لشدة اللصوق والأنس بينهما أنه من مقومات التمامية ومن راجع كلمات الأعلام يرى أنهم يحكّمون العرف في بعض الأحيان وإن شابت عباراتهم ببعض الأمور الفلسفية، ومما ذكرنا يظهر وجه الإشكال في مقالاتهم وإن ما ذكره المحققان الاصفهاني والخوئي خلاف ما هو عند العرف.

والحاصل إن التمامية ووجدان العمل للحيثية المطلوبة والنقصان أمران نسبيان لابد من ملاحظتهما بالإضافة إلى جهة ومعنى كسقوط الأمر وموافقته ونحو ذلك ليمكن انتزاع وصف الصحة أو الفساد للعمل والعجب من بعض الأعلام أنه اعتبر الصحة والفساد أمران انتزاعيان كالتمامية والنقصان ومع ذلك يعتبرهما من المقومات.

الجهة الثانية: في تشخيص ما هو المأخوذ من أفراد التمامية في معنى الصحة فهل التمامية من حيث موافقة الأمر أو التمامية من حيث إسقاط الإعادة والقضاء أو التمامية من حيث ترتب الأثر، وبعبارة أخرى أن المقصود في معنى الصحة عند الصحيحي هل هو الصحيح بالحمل الشائع من أفراد المعنى الشرعي في مدلول الاسم أو أن القصد أخذ مفهوم الصحيح فيه.

أمّا الأول فسيأتي البحث عنه عند بيان كيفية تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة.

ص: 137


1- - منتقى الاصول - ج1 / ص203 - مصدر سابق.
2- - بحوث في علم الاصول - ج1 / ص189 - مصدر سابق.
3- - تهذيب الاصول - ج1 / ص28 - مصدر سابق.

وأمّا الثاني فإنه إن كان من مجرد التسمية فلا كلام فيه وإن كان لتعيين المسمى.

فقيل بعدم إمكان إرادة الصحة بمعنى التمامية من حيث موافقة الأمر، أو من حيث إسقاط الإعادة والقضاء، وقالوا في وجه ذلك بأن الشيء لا يتصف بموافقة الأمر أو إسقاط الإعادة والقضاء إلا بعد تعلّق الأمر ويمتنع أخذ الشيء بما هو موافق للأمر في موضوع الأمر فهو خلف كما هو واضح فلابد أن يفرض المسمى مما يمكن أخذه في حيّز الأمر ومما يمكن فرضه في مرتبة متقدمة عليه، وهو غير الصحيح من إحدى الحيثيتين المزبورتين.

وعليه فيتعين أن يكون عنوان محصّل الغرض أي الصحيح بمعنى التمام من حيث ترتب الأثر فيكون الموضوع له هو الصحيح بهذا المعنى.

ومن توهم بأنه يلزم أخذ ما هو خارج عن الذات فيها لأن الأثر خارج عن ذات الشيء لأنه بمنزلة المعلول لها وخروج المعلول عن العلة ظاهر.ويمكن الجواب عنه بأن خروج الأثر عن حقيقة المؤثر وتأخره رتبة عن وجود المؤثر لا يمكن أخذه في المسمى واعتباره في التسمية بأن يوضع اللفظ للفعل القائم به الأثر أي أن الخروج عن الذات والتأخر الرتبي عن المؤثر إنما هو في مقام الوجود وهو أجنبي عن مقام التسمية فعنوان محصل الغرض ليس عنواناً طولياً ثبوتاً بل إثباتاً فلا مانع من أخذه في المعنى.

وأشكل عليه بأن ذلك غير محتمل في نفسه لعدم تبادر مفهوم الصحة من أسماء العبادات وإنما المعقول دعوى تبادر واقع الصحيح من أفرادها.

والصحيح ما ذكرناه من أنّ الصحة والفساد بما لهما من المعنى العرفي هو المبحوث عنه في المقام فتكون الصحة والفساد الشرعي من مصاديق كلي الصحة والفساد العرفي وما ذكره العلماء في معنى الصحة والفساد ليس مغايراً للمعنى العُرفي فما يقال في وضع اللفظ للمدلول الصحيح يقال في المدلول الشرعي عند الصحيحي مضافاً إلى أن العبادات المتقدمة المنسوبة إلى العلماء باختلاف علومهم ترجع إلى شيء واحد وإن اختلف التعبير.

ثم أنهم ذكروا أنه بناءً على كون الصحيح بمعنى ترتب الأثر فإنه تارة يراد بالصحيح ما هو المؤثر وأخرى يراد به وصوله إلى حد يترتب عليه الأثر ففي الأول يكون الأثر مقوّماً لصدق الصحة بخلافه في الثاني فإن الأثر من لوازم الصحة لأنها منتزعة عن ذات المؤثر لا عن ترتب الأثر عليه فعلاً.

فإنه تطويل بلا طائل تحته إذ أنّ المراد من الصحة هي الشأنية لا الصحة الفعلية بمعنى أن اللفظ عند الصحيحي موضوع لما يترتب عليه الأثر لو وجد لا أنه موضوع لما يترتب عليه الأثر فعلاً وذلك لأن الصحة والفساد من الأمور الاعتبارية الإضافية التي لهما أفراد طولية وعرضية ولكل واحد منهما مراتب متفاوتة لا يمكن حصرها.

الجهة الثالثة: لا ريب أن العبادة مركبة من الأجزاء والشرائط وقصد القربة والقيود اللبية مثل عدم النهي وعدم المزاحم.

فقد وقع الكلام في أن الصحة بمعنى التمامية هل المأخوذ فيها جميع الجهات وبقول مطلق فلا نحتاج في ترتبه عليه فعلاً سوى وجوده خارجاً أو أنه التام من حيث ترتب الأثر من

ص: 138

بعض الجهات فيكون الموضوع له عند الصحيحي هو ما يترتب عليه الأثر لو انظم إليه سائر الجهات والوجود.

لا إشكال في اعتبار الصحة من حيث الأجزاء على القول بالصحيح وتخصيص اللفظ لواجدها بالخصوص.

وأمّا الشروط فقد وقع النزاع فيها فإن المنسوب إلى الشيخ الأنصاري رحمه الله نقلاً عن السيد الخوئي رحمه الله دعوى عدم إمكان ذلك لأن الشرط في رتبة متأخرة عن الأجزاء لأنها بمنزلة المقتضي للتأثير والشرط متأخر رتبة عن المقتضي فإذا أخذ الشرط في المسمى مع الأجزاء يلزم فرض كونها في رتبة واحدة وبعبارة أخرى إن الشرط فيطول المشروط فيكون في طول أجزاء المشروط فيستحيل أن يؤخذ معها في عرض واحد ((1)).

وأجيب بأن الترتيب المذكور بين الشرط والجزء إنما بلحاظ عالم الوجود لا المفهوم فلا مانع من ملاحظتهما معاً في مقام التسمية نظير الحكم على العلة والمعلول بحكم واحد فإنه لا يتنافى مع تأخر المعلول عن العلة رتبة وعليه فلا مانع من دخول الشرط في محل النزاع.

والصحيح أن يقال أن هذا النزاع في غير محله فإن الطولية المدعاة بين الأجزاء والشرائط إنما هي في مقام التأثير فإنّ تأثير الشرط متأخر رتبة عن تأثير المقتضي لأن الشرط مصحح لفاعلية الفاعل أو قابلية القابل فيكون متأخراً في مقام التأثير عن اقتضاء المقتضي وحيثية التأثير غير مأخوذة في اللفظ عند الصحيحي في المأمور به.

وأمّا عدم النهي وعدم المزاحم فقد ذهب المحقق النائيني رحمه الله إلى خروجهما عن مورد البحث لعدم إمكان أخذهما في المسمى لأنهما فرع المسمى فيفرض أولاً حتى يتعلق النهي به ووجود المزاحم له فينتفي أمره فلابد من فرض المسمى في رتبة سابقة على تعلق النهي وعدمه ووجود المزاحم وعدمه فيمتنع أخذ عدم النهي وعدم المزاحم في المسمى ((2)).

ويرد بأنّ عدم النهي وعدم المزاحم يمكن فرضهما بأن يتعلقا بذوات الأجزاء والشرائط بلا لحاظ تسميتها بلفظ ما فلا يكون عدم النهي في نفسه في رتبة متأخرة عن المسمى ولا ملزم لأن يفرض متعلقه المسمى كي يكون متفرعاً عليه.

فإن ذوات الأجزاء والشرائط لم يفرض بعد كونها هي المسمى وهكذا الحال في سائر القيود.

وبعبارة أوجز أن عدم النهي وعدم المزاحم إن لوحظا مضافين إلى المسمى بما هو مسمى كانا في طول المسمى ولزم ما ذكر آنفاً.

وإن لوحظا مضافين إلى ذات المسمى صحّ ذلك من ناحيتهما.

وأمّا قصد القربة والوجه فاعتباره في الصحة مبتن على إمكان أخذ قصد القربة ونحوه من القيود في متعلق الأمر ولو كان على نحوٍ متمم الجعل فالأمر واضح ولا إشكال في

ص: 139


1- - محاضرات في اصول الفقه - ج1 / ص145 - مصدر سابق.
2- - اجود التقريرات - ج1 / ص35 - مصدر سابق.

إمكان أخذه إذ لم يأخذ واقع قصد القربة والذي يراد أخذه في المسمى هو مفهوم قصد القربة وهو لا يتفرع على الأمر.

وأمّا إذا لم يمكن أخذه في متعلق الأمر فإن غرض الصحيحي تصوير معنى لأسامي العبادات يصلح أن تقع متعلقة للأحكام في الخطاب الشرعي.

فما لا يمكن أخذه متعلقاً للأمر الشرعي فهو لا يدعى أخذه في المسمى وإن كان معتبراً في الصحة شرعاً وعقلاً .

ويمكن الجواب عن جميع ذلك بما ذكره السيد الوالد من أن المأخوذ عند الصحيحي بل غيره هو الذات من حيث التقييد بالشرائط لغرض دخالة كل من الأجزاء والشرائطفيها بحسب التشريع ولا دخل للمشخصات فإنها خارجة عن الحقيقة وداخلة في المأمور به(1).

الثالث: في تصوير الجامع وقبل بيان ذلك لابد من التنبيه على أمور:

الأول: إن الوضع في ألفاظ العبادات كغيرها من أسماء الأجناس عام والموضوع له كذلك أيضاً فهي من متحد المعنى وليست من المشترك اللفظي.

ويدل عليه أولاً اطلاقاتها في لسان الشارع والمتشرعة.

وثانياً: الإجماع كما ادعاه السيد الوالد عليه فلابد من تصوير الجامع، ليكون هو الموضوع له سواء قلنا بأن الوضع فيها للصحيح، أو قلنا بأنه الأعم من الصحيح والفاسد فإنه على كلا القولين لابد من فرض جامع يشترك فيه جميع الأفراد الصحيحة أو الأعم عن الصحيحة والفاسدة.

الثاني: أنه لا ريب في أن الصحة والفساد من الأمور الاعتبارية الإضافية لهما أفراد عرضية وطولية فرب صحيح بالنسبة إلى شخص هو فاسد بالنسبة إلى شخص آخر وبالعكس بل بالنسبة إلى حالات شخص واحد أيضاً فرب صحيح بالنسبة إلى حالة فاسد بالنسبة إلى أخرى، ولكل من تلك الأفراد مراتب متفاوتة جداً وحينئذٍ يقع النزاع في إمكان تصوير الجامع على كلا القولين لتدخل تحته جميع تلك الأفراد المتفاوتة فمثلاً إن الصحة التي هي بمعنى التمامية من حيث ترتب الأثر يختلف عند الأنظار فيكون الأثر المترقب بنظر شيئاً خاصاً، وبنظر آخر غيره فترتب أحدهما دون الآخر موجب لاتصافه بالصحة بالإضافة إلى أحد النظرين وبالفساد بالإضافة إلى النظر الآخر وهكذا بحسب الحالات وحينئذٍ لابد من رفع الإشكال في تصوير الجامع حينئذٍ.

الثالث: قد استشكل في إمكان تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة جملة من أعلام الأصوليين ومنشأه شدة تباين الأفراد الصحيحة واختلافها لاسيما في مثل الصلاة من العبادات، وقد صيغ الإشكال بوجوه أحسنها ما ذكره الشيخ الأنصاري على ما نقله المحقق الآخوند رحمه الله في الكفاية.

فقال: بأنّ هذا الجامع إمّا أن يكون مركباً أو بسيطاً وكلاهما لا يصح أمّا الجامع المركب فلأنه لو أخذت جميع القيود لم ينطبق على الفاقد لبعضها وهو من الصحيح في حال العذر ولو أخذ ما يعتبر في جميع الحالات انطبق على الفاقد حال الاختيار وهو من الفاسد.

ص: 140


1- - تهذيب الاصول - ج1 / ص28 - مصدر سابق.

وأمّا الجامع البسيط فإما أن يكون الجامع الذاتي في باب الكليات فهو غير معقول لاستحالة وجود جامع كذلك بين قيود متباينة سنخاً.

وإمّا أن يكون الجامع الذاتي في باب البرهان أي ما يكون من لوازم الماهية فهو كذلك غير معقول لأن لازم الماهية بمنزلة المعلول للماهية ويستحيل وجود لازم واحد لأمور متباينة سنخاً.

ولو أريد مطلق الجامع البسيط ولو كان انتزاعياً بلحاظ جهة عرضية كالناهي عن الفحشاء والمنكر وأمثاله فهو وإن أمكن ثبوتاً ولكنه غير محتمل إثباتاً لاستلزامه عدمصدق الاسم إلا بعد ملاحظة الجهة العرضية المصححة لانتزاع هذا الجامع العرضي مضافاً إلى أن الارتكاز الشرعي والمتشرعي هو الصدق من دون ملاحظة هذه الجهات العرضية الإضافية فلا يمكن تصوير الجامع بأي وجه كان ((1)).

وقد أجيب عن هذا الإشكال بوجوه عديدة:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق النائيني رحمه الله من تصوير الجامع للأفراد الصحيحة وإمكان الالتزام بوضع لفظ العبادة كالصلاة للمرتبة العليا من مراتبها بالخصوص وهي المرتبة الواجدة لتمام الأجزاء والشرائط، وكون الاستعمال في غيرها من المراتب الصحيحة على قول الصحيحي، أو الأعم منها من باب الادعاء والتنزيل فيكون الموضوع على كلا القولين هو المرتبة العليا وأمّا باقي المراتب الصحيحة أو الأعم إمّا أن يستعمل اللفظ فيها من باب الادعاء وتنزيل الفاقد منزلة الواجد كما في بعض الاستعمالات أو من باب اكتفاء الشارع به والمشاركة في الأثر، كما في صلاة الغريق إذ لا يصح استعمال اللفظ فيها من باب التنزيل لفقدان جلّ الأجزاء والشرائط لو لم يكن كلها والوجه في ذلك هو إذا كان الصحيح فرداً للطبيعة من جهة الأجزاء يصح تنزيل الفاقد منزلته من هذه الجهة أيضاً ولا يكون من سبك مجاز في مجاز كما لا يخفى.

نعم هذا الكلام لا يجري بالنسبة إلى القصر والتمام لأنهما بالقياس إلى المرتبة العليا في عرض واحد فلا يكون أحدهما تنزيلاً للآخر باعتبار عدم التمكن من الآخر بل كل منهما تام الأجزاء والشرائط ولكن الأمر فيهما سهل فإنه يمكن تصوير الجامع بينهما فقط((2))وبناءً على ما ذكره رحمه الله يبطل نزاع الأعمي والصحيحي رأساً، كما سيأتي في بيان ثمرة النزاع بين الصحيحي والأعمي فإنه بناءً على القول بالأعم يصح التمسك بالإطلاق عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته لو تمت مقدمات الحكمة لصدق المسمى على الفاقد، وعدم صحته على القول بالصحيح لإجمال الخطاب وعدم صدق المسمى على الفاقد وهذا الكلام لا يتأتى على ما ذكره رحمه الله لأنه يلتزم بأن الصلاة مثلاً موضوعة للفرد الصحيح تام الأجزاء والشرائط الذي هو المرتبة العليا، فيكون إطلاقها على غيرها من المراتب من باب المسامحة والتنزيل لا الحقيقة، فيكون اللفظ مستعملاً في المرتبة العليا دائماً وإرادة غيرها تكون بواسطة الادعاء والتنزيل وملاحظتهما ولا طريق لنا لإحراز تحقق التنزيل وإرادة الأعم بهذه الواسطة وعليه لا يمكن التمسك بالإطلاق في نفي اعتبار

ص: 141


1- - كفاية الاصول - ص27 - مصدر سابق.
2- - اجود التقريرات - ج1 / ص36 - مصدر سابق.

جزئية شيء أو شرطيته لأن اللفظ المطلق مستعمل في المرتبة العليا ولم يثبت إرادة الأعم ادعاءً كي يتمسك بإطلاقه فيكون مجملاً لفرض دخل الجزء أو الشرط في المرتبة العليا لو كان دخيلاً في المأمور به.

واستشهد رحمه الله على إفادة بالوجدان العُرفي ونفي البعد عنه باعتبار أنه أمر عُرفي ليس في مقام فهم المفاهيم أمر أوضح منه فاختياره لهذا المذهب ليس لمجرد إمكانه ثبوتاً بل لقيام الوجدان عليه إثباتاً بل إن الطريقة العرفية جارية على الوضع لأقصى مايتصوره المخترع والجامع لجميع الأجزاء والشروط بكاملها ثم يستعمل اللفظ في غيرها من المراتب مسامحة وادعاءً.

ويرد عليه: بأنه من لزوم ما لا يلزم لأن أفراد المرتبة العليا كثيرة وإن منها ما ذكره في القصر والتمام كما نبّه عليه رحمه الله فإن صلاة الصبح والظهر والمغرب والصلاة اليومية، وصلاة الآيات وصلاة العيدين كلها صلاة وهي في عرض واحد بالقياس إلى المرتبة العليا وإن الأمر بكل منها في عرض الآخر لا أن يكون تنزيلياً كصلاة الغريق بالنسبة إلى صلاة غيره وعليه فلابد من فرض الجامع لهذه الأفراد يكون اللفظ موضوعاً بإزائه كما ذكره في خصوص القصر والتمام بأن الجامع بينهما سهل وممكن وما أفاده رحمه الله بأن مرحلة تصوير الجامع إنما تكون بعد نفي مرحلة التنزيل غير سديد.

الوجه الثاني: محاولة المحقق الخراساني رحمه الله في تصوير الجامع بين أفراد الصحيحة وذلك بإثبات وجود جامع حقيقي مقولي بسيط للأفراد الصحيحة لا يتم معرفته بالرجوع إلى ما يترتب على العبادة من الآثار، فقد ورد في المأثور أثر يترتب على الأفراد الصحيحة خاصة وهو الانتهاء عن الفحشاء والمنكر ولو كان اقتضاءً.

ومن المعروف أن وحدة الأثر تكشف عن وحدة المؤثر بمقتضى قانون السنخية، وحينئذٍ يثبت جامع واحد بين الأفراد الصحيحة خاصة هو وحده يكون علة في ايجاد الأثر المشترك وإلا يستلزم صدور واحد عن متعدد((1)).

واعترض عليه بعدة وجوه من المحقق الاصفهاني وغيره وعمدتها:

الأول: إن الصحة والفساد والجامع الذي يفرضه وهو النهي عن الفحشاء والمنكر إمّا أن يكون من الأمور الاعتبارية فلا دخل للأمور الفلسفية فيها أو يكون الجامع أمراً انتزاعياً ينتزع عن حقائق مختلفة نظير عنوان الطويل والقصير ونحوهما يتوقف على إثبات نسبة هذا النوع من الأعراض إلى موضوعاتها نسبة العرض إلى منشأ انتزاعه لا نسبة اللازم إلى علّته، وهذا الوجه يتوقف على اثبات أثر ذاتي مشترك بين الأفراد الصحيحة ولا يمكن إثبات ذلك كما عرفت آنفاً.

الثاني: ما أفاده السيد الخوئي رحمه الله من استلزامه خروج المشخصات الفردية للصحيح في كل مورد عن المسمى مع أنه لا إشكال في دخولها في العبادة ((2)).

وفيه: إن أريد دخالتها في تحقق الجامع وانتزاعه فهو مسلّم لكنه لا يلزم دخولها في المسمّى بل المسمّى ذات الجامع كما عرفت.

ص: 142


1- - كفاية الاصول - ص25 - مصدر سابق.
2- - محاضرات في اصول الفقه - ج1 / ص154 - مصدر سابق.

وإن أُريد دخالتها في التأثير وإيجاد الأثر المشترك فهو ممنوع كما عرفت من قانون الواحد لا يصدر إلا من واحد.

الثالث: استحالة وجود جامع بسيط مشترك بين الأفراد الصحيحة كما عرفت سابقاً. لأن وجود الجامع الذاتي إمّا بمعنى الذاتي من باب الكليات فهو خلف لتكثر الأفرادوتباينها في الحقيقة أو بمعنى الذاتي في كتاب البرهان فهو معلول للذات فلا يعقل أن يكون جامعاً لمقولات متباينة وأمّا الجامع العرضي فهو لا يرضى به ولا يمكن إثباته.

الرابع: النقض بالقيود الثانوية، كقصد القربة، فإنه لو أخذت في المسمى لم يكن وقوعها متعلقاً للخطاب الشرعي وإن لم تؤخذ فيه لم يترتب الأثر المشترك عليه لكي يكشف عن الجامع.

وأجيب عنه: بأن لو فرض استحالة أخذ القيود الثانوية في متعلق الأمر فإنه يمكن جعل الجامع تعليقياً وهو عنوان الناهي عن الفحشاء والمنكر لو انظم إليه قصد الأمر، ولا ضير في أن يكون الجامع تعليقياً، لأنه لا يتوقف على ملاحظة أمر غريب خارج عن ذات المؤثر.

وأحسن ما قيل في الرد على هذا الوجه ما ذكره المحقق النائيني رحمه الله والسيد الوالد رحمه الله في جملة من مباحثه الأصولية من أنّ الغرض إنما هو تصوير جامع للأفراد الصحيحة يدركه العرف ويتوصل إليه لفرض كونه هو المسمى والمأمور به فلابد أن يكون المسمّى أمراً عُرفياً وجدانياً يتوصل إليه أذهان العُرف لا أن يكون طريق إثباته قاعدة فلسفية لا يدركها أذهان العامة فلا يجدي تصوير الجامع بالطريق المزبور وسيأتي الفرق أيضا .

الوجه الثالث: ما قرره المحقق الاصفهاني رحمه الله في حاشيته على الكفاية من فرض جامع مبهم من جميع الجهات وذلك لأنّ الشيء إذا كان مؤتلفاً من مقولات متباينة وأمور عديدة تزيد وتنقص كمّاً وكيفاً فإن الوضع حينئذٍ يقتضي أن يكون عنواناً مبهماً في غاية الإبهام بحيث يجمع جميع تلك الأفراد المتفرقة والموارد المختلفة ولكن بمعرفية بعض العناوين كعنوان الناهي عن الفحشاء والمنكر فيوضع اللفظ له وقال أنه ليس له عديم النظير في العرفيات كلفظ الخمر الموضوع لمائع مبهم من حيث مرتبة السكر ومن حيث كونه متخذاً من العنب أو التمر أو الشعير أو غيرها ومن حيث كونه ذا طعم خاص أو لون مخصوص أو غير ذلك من الجهات((1)).

وأورد عليه بإيرادات متعددة منها ما ذكره السيد الخوئي على ما نقل عنه بعض مقرريه من إنكار الإبهام في الماهيات الاعتبارية فإنّ للصلاة مثلاً حقيقة معينة لدى مخترعها وإن كان الإبهام بلحاظ الطوارئ الخارجية فالعمل المبهم لا يمكن أن يكون جامعاً ذاتياً لعدم معقوليته ولا عنوانياً لأنه ينفيه وبعبارة أخرى إن أريد أن المسمّى مبهم ثبوتاً فهو غير معقول فإن المبهمات كأسماء الأجناس فضلاً عن أسامي العبادات والمعاملات لا إبهام فيها من حيث المعنى والمفهوم والموضوع له اللفظ نعم المبهمات إنما يكون إبهامها من حيث الانطباق في الخارج.

ص: 143


1- - نهاية الدراية - ج1 / ص55 - مصدر سابق.

ويورد عليه بأنه ليس الأمر منحصراً بين الجامع المقولي الحقيقي والجامع العنواني كما سيأتي تصويره في الجامع الأعمي وهو رحمه الله يرتضيه.

كما يورد عليه بأنّ الجامع إن أريد به تعيين المسمى وكونه معنى عرضياً يشار به إلى واقع تلك المركبات فيكون مبهماً لعدم تعين المركب المشار إليه به كعنوان الجامعلما أمر به الشرع فهو خلاف الوجدان العُرفي والمتشرعي القاضي بأنّ أسامي العبادات والمعاملات كأسماء الأجناس تحكي عن عناوين تفصيلية حقيقية ومن ذلك يظهر أن الخمر موضوع عُرفاً لمعنى مبين ولكنه ملحوظ لا بشرط من تلك الجهات المذكورة((1)).

والظاهر أن ذلك خلاف ما يريده المحقق الاصفهاني رحمه الله فإنه أراد العمل المبهم بزيادة قيد الناهي عن الفحشاء والمنكر ليكون معرفاً إلى ذلك المبهم وينطبق على الأفراد كانطباق الكلي على الفرد، وقد ذكر البعض بأنه نظير الشبح إذ ليست هي صورة عنوانية ولا مقولية لعدم تميز الشبح كي يخترع له صورة كذلك فهذا لم يكن قيداً تركيباً حتى يشكل عليه بأنه يقول بعدم معقولية الجامع التركيبي للأفراد الصحيحة وهو الجامع المبهم وهو ينطبق على الأفراد انطباق الكلي على الفرد.

الرابع: ما ذكره المحقق العراقي رحمه الله مع اعترافه بأنه بعيد عُرفاً من انتزاع جامع وجودي لا ذاتي بين الأفراد الصحيحة باعتبار اشتراكها جميعاً ولو كانت متفاوتة سنخاً وذاتاً في الحيثية الوجودية الموجبة لانتزاع عنوان الوجود منها فيكون الوجود الاعتباري للصلاة مطلقاً في مقابل الوجود الاعتباري للزكاة وكذلك الصوم والحج((2)).

وأشكل عليه السيد الخوئي رحمه الله بعد حمل كلامه على إرادة الوضع للوجود الخارجي فأورد عليه بأنّ الوجود غير مأخوذ في معاني الألفاظ إطلاقاً، بل الموضوع له ذات المعنى والمفهوم الصالح للوجود خارجاً أو ذهناً ((3))

ولكنه حمل بما لا يرتضيه المحقق العراقي فإنه أراد الوضع بإزاء المفهوم المنتزع من الوجود الجامع.

وأشكل عليه بعض الأعلام بأن الحيثية الوجودية من دون انتزاع مفهوم منها لا يصح وضع اللفظ لها لعدم إمكان وضع اللفظ للوجود الخارجي ابتداءً، كما أشار إليه السيد الخوئي رحمه الله فلابد إذن من انتزاع مفهوم منها, فإن كان هذا المفهوم المنتزع عنواناً أولياً ماهوياً عاد المحذور السابق لتعذر تصوير جامع ماهوي مقولي واحد لعناصر الصلاة المتباينة مقولياً وإن كان المفهوم عنواناً عرضياً في طول العناوين العرضية الأخرى كالقيام والسجود والقراءة فهو أمر معقول ولكنه جامع انتزاعي يرد عليه ما أورد سابقاً في تصوير الإشكال((4)). والحق أن ما ذكروه لا يتماشى مع ما يقصده المحقق العراقي رحمه الله فإنه يريد بالجامع الوجودي هو الوجود الاعتباري الذي جعله الشارع للصلاة مقابل الوجود الاعتباري للزكاة وغيرها وكل هذه الوجوه بناء على جعل الجامع بسيطاً سواءً كان ماهوياً حقيقياً أو اعتبارياً.

ص: 144


1- - محاضرات في اصول الفقه - ج1/ ص154 - مصدر سابق.
2- - مقالات الاصول - ج1 / ص40 - مصدر سابق.
3- - محاضرات في اصول الفقه - ج1 / ص160 - مصدر سابق.
4- - بحوث في علم الاصول - ج1 / ص197 - مصدر سابق.

الخامس: وهو يتوقف على أنه لا موجب لافتراض أخذ كل الأجزاء والشرائط المعتبرة في الأفراد الصحيحة جميعاً في الجامع التركيبي ليستحيل صدقه على الفاقد لبعضها، بل يمكن تصويره بأحدِ وجوهٍ:إمّا: بأخذ القيود المعتبرة في صحة الفعل مطلقاً وفي جميع الحالات كقصد القربة فتؤخذ في الجامع التركيبي تعييناً أو بأخذ القيود المعتبرة في الفعل بنفسها أو ببدلها العرضي التخييري كالفاتحة والتسبيحات الأربع في الأخيرتين فيؤخذ في الجامع التركيبي الجامع بينها وبين بدلها العرضي.

أو بأخذ القيود المعتبرة في الفعل بنفسها أو ببدلها العرضي التعييني كالوضوء من الحدث الأصغر والغُسل من الحدث الأكبر، وكالأخيرتين في الرباعية من الحاضر وتركهما من المسافر فيؤخذ الجامع بينها وبين بدلها مع تقييد كل منهما بموضوعه فيصدق في الحالتين معاً.

أو القيود المعتبرة ولها بدل طولي كالجلوس بدلاً عن القيام أو التيمم بدلاً عن الوضوء والغُسل في حالة الاضطرار فيؤخذ الجامع بين البدلين مع التقييد بحالتي الاختيار والاضطرار كالسابق أو تؤخذ القيود المعتبرة في حال الاختيار ونحوه فقط من دون بدل عنها في غير تلك الحال كما في ترك البسملة تقيّة.

وأشكل على الأخير بأن أخذ الجامع بهذه الكيفية لا يكون يسيراً كما في الوجوه السابقة فإنه لا جامع بين أمرين كي يمكن أن يؤخذ في المركب مع تقييد كل منهما بموضوعه.

وأجيب عنه إمّا بتضييق دائرة صدق الجامع التركيبي من دون أخذ ذلك القيد فيه فيُقيد بما لا يكون فاقداً للبسملة من دون تقيّة، نعم لا يجري هذا في جميع الأجزاء المهمة للصلاة نعم هو معقول في مثل البسملة من الأجزاء أو يؤخذ الجامع بين ذلك الجزء وتقييد الأجزاء الأخرى بحال التقيّة ونحوها.

وربما يستشكل بأن الجامع المفروض إمّا مركب أو بسيط، والأول يحتاج إلى جامع آخر لأن المركب قابل للتمامية والنقصان والثاني يوجب عدم صحة الرجوع إلى البراءة في موارد الشك في الجزئية والشرطية لكونه من الشك في المحصل، ويجاب عنه بأنه يمكن أن يكون مركباً ولا محذور فيه لأنه ملحوظ بنحو الإهمال لا التعين والإشكال يلزم على الثاني دون الأول وسيأتي الجواب عن الثاني في محله.

هذا ما ذكر في الجامع التركيبي البسيط والحق الجدير بالقبول أن يقال: بأن الصحة إمّا أن يُراد بها الصحة الفعلية من كل حيثية وجهة أو يكون المراد بها الصحة الشأنية الاقتضائية وعلى كل إمّا أن تكون الصحة قيداً للموضوع له أو يكون الوضع في حال الصحة لا وجه لاحتمال القيدية مطلقاً في الوضع لأنه خلاف الأصل والوجدان - كما لا وجه لاحتمال الوضع في حال الصحة الفعلية لأن للصحة مراتب متفاوتة جداً كما عرفت لاسيما وأنّ نظام التكوين على التغير والتبدل، فلا يعلم أن يكون الموضوع له أي مرتبة منها.

فيتعين أن تكون الألفاظ موضوعة للمعاني في حال الصحة الاقتضائية الجامعة لجميع المراتب وهذه الصحة الاقتضائية الشأنية تجتمع مع جميع ما ذكر في الجامع البسيط

ص: 145

سواء كان عنوانياً أو ذاتياً لأن الموضوع له هي ذوات الأجزاء بنحو الشأنية كما يجتمع مع الجامع على الأعم.والإشكال عليه بأنه ربما لا يكون الجامع معلوماً لدى العُرف بهذه العنايات والعُرف لا يساعد على افتراض الجامع المعقد الهوية مدلولاً للألفاظ التي معانيها أبسط من ذلك في نظره.

والجواب عنه بأنه لا ملزم أن يكون معلوماً من جميع الجهات بل يكفي لحاظه بنحو الإهمال والإجمال بالعنوان المشير إلى الماهية المبهمة القابلة للانطباق على الصحيحة والفاسدة كما عرفت سابقاً كانطباق الكلي على أفراده.

والعجب أن العلماء يجهدون أنفسهم في تعيين الجامع بالعنايات المذكورة مع أنه يمكن إرجاعها إلى نظر العُرف وفهمه البسيط وبعد الجهد في الرد والإبرام يرجعون إلى العُرف وليس بالضرورة عند العُرف استحضار الصورة التفصيلية لكافة شرائط الصلاة وتفاصيلها لكنه في أغلب الأحيان يدرك إجمالاً أن المسمّى له خصوصيات معيّنة يرجع فيها إلى الشارع المخترع لها نظير أسامي كثير من المعاجين والمركبات التي قد لا يعرف العُرف أجزائها تفصيلاً.

2- تصوير الجامع الأعم وقد صوّره الأصوليون بوجوه ذكرها في الكفاية:

الوجه الأول: ما نُسب إلى المحقق القمي من كونه خصوص الأركان وأمّا بقية الأجزاء والشرائط فهي دخيلة في المأمور به لا في المسمى فيكون المسمى خصوص الأركان((1)).

وقد استشكل المحقق الخراساني رحمه الله في إمكانه وأن صوره على القول بالصحيح فقال أنه لا سبيل إلى الجامع الأعم البسيط لعدم اشتراك الأفراد الفاسدة مع الصحيحة في الأثر والجامع التركيبي غير معقول إذ لو أخذت الأركان مثلاً بشرط شيء من ناحية سائر القيود والأجزاء لزم عدم الصدق على الفاقد لها فلا تدور التسمية مدارها وإن أخذت لا بشرط من ناحيتها لزم أن يكون إطلاق الاسم على الواجد لها بخصوصه مجازاً لأن اللفظ موضوع للأركان فقط فيكون استعماله في الكل من المجاز إطلاق لفظ الجزء على الكل((2)).

ويمكن الجواب عنه:

أولاً: بما ذكره السيد الخوئي بتوضيح منا بأن اللاشرطية تارةً يراد بها المطلق المقابل للتقييد وهو يعني رفض القيد وهو يلازم خروجه وجوداً وعدماً كما هو المعروف في محله، وأخرى يراد بها عدم الضرر بفقدان القيد مع كون وجوده داخلاً في المسمّى، وقد مثّل له بالكلمة العربية المأخوذة لا بشرط من حيث الزيادة على حرفٍ أو حرفين مع دخول الزائد في مسمّى الكلمة على تقدير وجوده((3)).

ص: 146


1- - قوانين الاصول - ميرزا ابو القاسم القمي - ج1 / ص44 - ط1.
2- - كفاية الاصول - ص25 - مصدر سابق.
3- - راجع محاضرات في اصول الفقه - ج1 / ص169 - مصدر سابق.

ويورد عليه بأنّ اللاشرطية ليس لها إلا معنى واحد وهو الإطلاق المقابل للتقييد الذي يعني رفض القيد وجوداً وعدماً, إلا أن يراد بالإطلاق هو جمع القيود أمكن أن يكون القيد في حال وجوده مقوّماً وفي حال عدمه غير مقوّم ولكنه فاسد كما حقق في محله.ولكن يصح الجواب عن هذا الإيراد بأنّ اللاشرطية المذكورة في المقام غير الذي يذكر في العلوم العقلية فإنّه في المقام يُراد إثبات لفظ لموضوع معين ولابد أن يكون المراد هذا المعنى فإنه لم يكن البحث عن تبيان حقيقة من الحقائق، بل الأمر عرفي أكثر من كونه عقلياً وسيأتي مزيد بيان .

وثانياً: ما ذكره السيد الوالد رحمه الله من أن الإشكال تام إن كان الموضوع له الأركان بحد خاص ومرتبة معيّنة, وأمّا إذا كان على نحو الاقتضاء من حيث المرتبة ومن حيث لحوق سائر الأجزاء والشرائط بالنسبة إليها فلا إشكال فيه أصلاً حينئذٍ ولا مجاز في استعمال اللفظ في الكل حينئذٍ .

وثالثاً: ما ذكره بعض الأعلام وهو يرجع إلى سابقه فقال بأنّ الجامع المركب على هذا الرأي يتضمن الأركان بعناوينها التفصيلية فالإشكال منجز سواء لوحظت هذه الأركان مع سائر الأجزاء والشرائط لا بشرط أو بشرط شيء.

ولكن إذا أُريد به جامع انتزاعي منتزع من الأركان وحدها تارة ومن التجمع المشتمل عليها وعلى سائر الأجزاء والشرائط تارةً أخرى فلا إشكال فيه.

وبه يتحقق الجامع عند الأعمّي((1))

ويورد عليه بأن الجامع الانتزاعي إن رجع إلى ما ذكره السيد الوالد رحمه الله من الأركان بنحو الاقتضاء فهو وإلا فسيأتي ما فيه.

كما استشكل المحقق النائيني على ما ذكره المحقق القمي في تصويره للجامع الأعمي بأنّ دعواه تنحل إلى دعويين:

أحدهما: الوضع للأركان، والثانية عدم دخول سائر الأجزاء والشرائط في الموضوع له.

أمّا الدعوى الأولى: فإنه إن كان المراد بالأركان جميع مراتبها بحسب اختلاف الموارد من القادر والعاجز والغريق ونحوهم فلابد أن يتصور جامع للأركان يجمع تلك المراتب ليكون هو الموضوع له فيعود الإشكال.

وأمّا الدعوى الثانية: فيردها بأنه إمّا أن نلتزم بخروج الأجزاء والشرائط مطلقاً ودائماً وإمّا أن نلتزم بخروجها عند عدمها والأول ينافي الوضع للأعم وكون المسمى ما يصدق على الصحيح والفاسد إذ لازمه عدم صدق اللفظ على الصحيح.

والثاني يلزم أن يكون شيء واحد داخلاً في الماهية عنده وجوده وخارجاً عنها عند عدمه وهو محال((2)).

ويمكن الجواب عنه بأننا نلتزم بالدعوى الأولى ونقول بأنّ الموضوع له الأركان على نحو الاقتضاء الذي يجتمع مع بقية المراتب وسائر الأجزاء فلا إشكال فيه.

ص: 147


1- - بحوث في علم الاصول - ص199 - 200 - مصدر سابق.
2- - اجود التقريرات - ج1 / ص41 - مصدر سابق.

الوجه الثاني: ما نسب إلى المشهور من كون الجامع والموضوع له هو معظم الاجزاء الدائر مدارها التسمية واشكل عليه:أولاً: بمثل ما ذكره المحقق الخراساني من أنه يستلزم المجازية في استعمال اللفظ في الكل((1)) ويظهر الجواب عنه مما سبق.

وثانياً: بأنه يستلزم كون شيء واحد داخلاً في المسمى مرة وخارجاً عنه مرةً أخرى بل يلزم التردد في تعيين الداخل والخارج عند اجتماع جميع الأجزاء والشرائط إذ لا معين لدخول أحدهما دون الآخر فكل جزء يصلح أن يكون دخيلاً في المعظم.

وفيه بأنه صحيح لو كان معظم الأجزاء ملحوظةً على التعيين لا على نحو الإهمال المنطبق على جميع المتبادلات.

الوجه الثالث: الالتزام بأنّ وضعها كوضع الاعلام الشخصية فكما لا يضر التبدلات الخارجية بأصل المسمى فكذا المقام فلا يضر في صدق أسماء العبادات اختلاف الأحوال وزيادة الأجزاء ونقصانها.

وأشكل عليه جمعٌ من الأعلام منهم المحقق الخراساني من أنّ الموضوع في باب الأعلام محفوظ في جميع الحالات فلا تضرّه التبدلات بخلاف المقام الذي لا تعين له فيه بوجوهه((2)).

ويمكن مناقشته بأنّ التعين أعم من التعين الخارجي كما في الأعلام والتعين الاعتباري الفرضي كما في المقام فمثلاً يعتبر ما ثلثه ركوع وثلثه سجود وثلثه طهور بالمعنى الأعم مما يجزئ شرعاً بحسب الحالات المختلفة.

وأغرب ما قيل في الجواب ما ذكره المحقق الاصفهاني رحمه الله من أنّ الموضوع في الأعلام هو النفس المتعلقة بالبدن ويكون تشخص البدن ووحدته بوحدة النفس وتشخصها إذ المعتبر مع النفس مطلق البدن وقد أطال الكلام في ذلك بعبارات فلسفية صرّح بأنّ ذلك مما لم تدركه أفهام الأعلام(3).

فإذا كان الأمر كذلك فكيف يلتفت إليه العوام الذين عليهم المدار في وضع الأعلام فلابد أن يلتزم بكون الوضع فيها لمعنى مبهم ممتاز عن سائر المعاني وهو التشخص الخاص كما قرره المحقق المذكور في الجامع الصحيحي.

الوجه الرابع: أن يكون حالها حال أسماء المقادير والأوزان فإنها حقيقة في الزائد والناقص في الجملة إمّا بوضع الواضع أو بكثرة الاستعمال في الأعم.

وفيه: إنّ العبادات تختلف عن الاوزان والمقادير فإنّ الصحيح في العبادات يختلف زيادة ونقصاناً وليس الأمر كذلك في باب الأوزان والمقادير وما ذكر في المقادير والأوزان هو أول الكلام.

الوجه الخامس: بأنّ الموضوع له الصحيح المستجمع لجميع الأجزاء والشرائط من كل جهة ثم يطلق على سائر الأفراد تنزيلاً وفيه ما ذكرناه سابقاً عند تقرير ما ذكره المحقق

ص: 148


1- - كفاية الاصول - ص26 - مصدر سابق.
2- - كفاية الاصول - ص26 - مصدر سابق
3- - نهاية الدراية - ج1 / ص48 - مصدر سابق.

النائيني بانه إنما يُصار إليه مع عدم إمكان فرض الجامع وإمكان الإطلاق الحقيقي لا تصل النوبة إلى الإطلاق التنزيلي.ثم أن السيد الخوئي رحمه الله اختار أخذ الأركان جامعاً وان تكون هي الموضوع له بعد كلام طويل له والموضوع لا يحتاج الى الإطالة ، فقال بعد نقل كلمات كلاً من المحقق القمي وصاحب الكفاية والمحقق النائيني (قدس) والصحيح ما أفاده المحقق القمي ولا يرد عليه شيء من هذه الايرادات التي تقدم ذكرها.

وأجاب عن ايراد المحقق النائيني بأن ما ذكره خلط بين المركبات الحقيقية والمركبات الاعتبارية فإن المركبات الحقيقية التي تتركب من جنس وفصل ومادة وصورة وكل واحد من الجزئين جهة افتقار بالإضافة إلى الأخرى لا يعقل فيها تبدل الأجزاء بغيرها ولا الاختلاف فيها كمّاً وكيفاً فإنّ ما ذكره المحقق النائيني تام من المركبات الحقيقية وأمّا المركبات الاعتبارية التي تتركب من أمرين أو أمور مختلفة لا تكون بينها جهة اتحاد حقيقة ولا افتقار ولا ارتباط بل أن كل واحد منها موجود مستقل على حياله ومباين للآخر في التحصل والفعلية والوحدة الارضة عليهما اعتبارية لاستحالة التركب الحقيقي بين أمرين أو أمور متحصلة بالفعل فلا يتم فيها ما أفاده رحمه الله ولا مانع من كون شيء واحد داخلاً فيها عند وجوده وخارجاً عنها عند عدمه، وقد مثّل لذلك بالدار والكلمة والحلوى التي لاحظ الواضع في مقام التسمية معنىً مركباً من أجزاء معينة خاصة تعتبر أركانها ولكن لم يلحظ فيها موادٌ معينة وشكلٌ خاصٌ وأن النسبة إلى الزائد عنها فهي مأخوذة لا شرط بمعنى أن الزائد على تقدير وجوده داخل في المسمى وعلى تقدير عدمه خارج عنه فإن هذه المركبات الاعتبارية تارة تلاحظ فيها كثرة معينة من جانب القلة والكثرة وله حد خاص من الطرفين كالأعداد فإن الخمسة - مثلاً - مركبة من أعداد معينة بحيث لو زاد عليها واحد أو نقص بطل الصدق لا محالة وتارةً أخرى تلاحظ فيها أجزاء معينة من جانب القلة وله حد خاص من هذا الطرف وأمّا من جانب الكثرة ودخول الزائد فقد أخذ لا بشرط وذلك مثل الكلمة والكلام والدار وأمثال ذلك، فإن فيها ما أخذ مقوّماً للمركب فيها وما أخذ المركب بالإضافة إليه لا بشرط، واللابشرطية كما يمكن أن تكون باعتبار الصدق الخارجي كذلك يمكن أن يكون باعتبار دخول الزائد في المركب فإن الصلاة من الأمور الاعتبارية وهي مركبة من مقولات متعددة كمقولة الوضع ومقولة الكيف ونحوهما وهي أجناس عالية ومتباينة بالذات فلا تندرج تحت مقولة واحدة لاستحالة تحقق الاتحاد الحقيقي بين مقولتين فلا مانع من الالتزام بكونها موضوعة للأركان فصاعداً.

وذكر في وجه ذلك بأنّ كل مركب اعتباري لابد أن يعرف من قبل مخترعه سواء كان هو الشارع أو غيره فقد استفدنا من النصوص الكثيرة أن حقيقة الصلاة التي يدور صدق عنوان الصلاة مدارها وجوداً وعدماً عبارة عن التكبير والركوع والسجود والطهور وأمّا بقية الأجزاء والشرائط فهي عند وجودها داخلة في المسمّى وعند عدمها خارجة عنه وغير مضر بصدقه وهذا هو معنى كون الأركان مأخوذة لا بشرط بالقياس إلى الزائد، وقد عرفت أنه لا مانع من الالتزام بذلك في الماهيات الاعتبارية.

كما أجاب عن ايراد المحقق النائيني من الإحتياج إلى جامع الأركان بخصوصها بأن لفظ الصلاة موضوع لمعنى وسيع جامع لجميع مراتب الأركان على اختلافها كمّاً وكيفاً وله

ص: 149

عرض عريض باعتباره يصدق على الناقص والتام والقليل والكثير علىنحوٍ واحد، فلا نحتاج إلى تصوير جامع بين الأركان ليعود الإشكال، فإن لفظ الصلاة موضوع بإزاء الأركان على سبيل البدل، ولا مانع من أن يكون مقوم المركب الاعتباري أحد الأمور على سبيل البدل.

وقال إنّ ما ذكرناه أمر على طبق المرتكزات العرفية في أكثر المركبات الاعتبارية. والصحيح إن ما ذكره من الايرادات إنما هو خلط بين الأمور الحقيقية والأمور الاعتبارية، وأن الأمر يرجع إلى العُرف لا القواعد الفلسفية كلام متين جداً((1)).

ولكن يرد عليه:

أولاً: بما ذكرناه آنفاً من أنّ اللابشرطية الذي يريده المحقق الخراساني هو المعنى المعروف أي الإطلاق المقابل للتقييد بمعنى رفض القيد وجوداً وعدماً، وأمّا تفسيره بأنه عدم الضرر بخروج القيد فإن كان موجوداً فهو داخل وإلا فلا يدخل فهو أمر يختص به.

نعم بناءً على الالتزام بالأمر العُرفي في أصل تصوير الجامع فلا بأس لأنه هو المراد عندهم.

ثانياً: على فرض التنزيل وكون المراد به بعض الأجزاء دخيلاً في المسمى عند وجوده وغير دخيل حال عدمه فهو يقتضي أن يكون الوضع إنما يتحقق لسائر الأجزاء وأمّا العلقة بينها وبين اللفظ إنما تحدث بعد وجودها لأنها تكون جزء المسمى والموضوع له بعد وجودها، ولا يلتزم أحد بذلك.

لأن العلقة بين اللفظ وطبيعي المعنى سواء وجد أم لم يوجد بلا فرق بين المركبات الاعتبارية وغيرها هذا مع أنه خلاف ما صرّح به رحمه الله فيما تقدم نقله عنه من عدم الوضع للموجود بما هو موجود بل للمفهوم والطبيعي.

ثالثاً: أن ما ذكره في مقام رده على المحقق النائيني من عدم لزوم فرض جامع بين الأركان لجواز كون مقوم الأمر الاعتباري أحد الأمور على سبيل البدل غير صحيح لأنه لا وجود للفرد على البدل لا مصداقاً ولا تقرراً في الذهن حتى يكون مقوّماً للمركب وموضوعاً له اللفظ.

مضافاً إلى أن هذا المعنى من البدلية غير مراد للمحقق المذكور إلا أن يريد من أحد الأمور على سبيل البدل الماهية المبهمة كما ذهب إليه المحقق الاصفهاني أو الأركان على سبيل الاقتضاء والشأنية الجامع للأجزاء عند وجودها كما اختاره السيد الوالد رحمه الله بحيث يشمل الأركان وسائر الأجزاء بحيث يصدق على الأفراد المتبادلة بنحو التبدّل إلا أنه أحد هذه الأفراد على البدل، وهو وجيه ولكنه لا يصلح أن يكون ايراداً على المحقق النائيني لتوافقهما في المدعى مع أنه لابد عليه أن يلتزم بمثله في الأفراد الصحيح من الجامع المبهم ليجمع الأفراد الصحيحة ولم يلتزم به ومن ذلك يظهر أن الأمثلة التي أوردها في ضمن كلامه يجري فيها ما يجري في المركبات الاعتبارية والنقاش في الجميع واحد.

ص: 150


1- - راجع - محاضرات في اصول الفقه - ج1 / ص181 - مصدر سابق.

ثم أنه أورد بعض الأعلام على ما استدلّ به السيد الخوئي رحمه الله بإيرادات ولكنها ليست بشيء وذكرها تطويل بلا طائل تحته.

الجانب الرابع في أدلة الطرفين.

1- أدلة القول الصحيح. وقد استدلّ عليه بوجوه:

الأول: تبادر خصوص الصحيح من اللفظة وانسباقه إلى الذهن عند اطلاق الاسم مثل قولنا (فلان صلّى أو صام) حيث ينصرف إلى الذهن الصلاة الصحيحة لا الفاسدة.

الثاني: عدم صحة سلب اللفظ عن الصحيح مما يكشف عن وضعه للصحيح كما أن صحة سلب اللفظ عن الفاسد يكشف عن عدم كونه من أفراد الموضوع له وعدم الوضع له.

ويرد عليهما أنه قد استدل بهما للأعم أيضاً مضافاً إلى أن مأخذ التبادر ليس هو اللفظ بل القرينة العامة وهي معهودية التزام كل مكلف أن يؤدي عباداته على نحو الصحيح الذي يراد منه, فلا يكون التبادر مستند إلى حاق اللفظ. الثالث : سيرة العقلاء في أوضاعهم فإن طريقتهم تقتضي وضع الاسم للفرد الصحيح لمخترعاتهم ولم يعهد أن للشارع طريقة خاصة به في مخترعاته.

وفيه : أنه قد تقدم أن مقتضى الوضع عندهم هو الوضع للصحيح الاقتضائي لا الفعلي من كل جهة، مضافاً إلى أن مجرد وجود طريقة عقلائية لا يكشف عن اتباع الشارع تلك الطريقة إلا على سبيل الظن وهو لا يغنى شيئاً نعم لو بلغ مبلغاً من الظهور لكان حجة وأنى لنا اثبات ذلك.

الرابع: التمسك بالنصوص الشرعية وهي على طائفتين:

الطائفة الأولى: ما يدل على اثبات الآثار للمسببات وهي لا تترتب إلا على الصحيح كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ وقوله صلی الله علیه و آله و سلم : (الصلاة عمود الدين) فإنه بعد العلم باختصاص تلك اللوازم والآثار بالصحيحة يكشف بأن الفاسدة ليست بصلاة قطعاً. وفيه: أن المنساق منها إنما هو بالنسبة إلى المأمور به لا الموضوع له ولا يصح التمسك بالأصل اللفظي العقلائي حينئذٍ لأنه من التمسك به عند الشك في الاستناد حيث نعلم بخروج الفاسد لكن لا يعرف أن خروجه بالتخصيص أو من جهة وضع الاسم بغيرها فلا يتم التمسك بالأصول اللفظية العقلائية حينئذٍ ومنه يعرف وجه الإشكال في كلام بعض الأعلام من أن الأثر ترتب على اللفظ بما له من المعنى الاجمالي وإذا علمنا بأنه يترتب على الصحيح دون الأعم ولم يحدث بذلك أي تغيير في المنتقل له من لفظ الصلاة فإن المعنى الإجمالي إن كان هو الجامع بين الصحيح والفاسد فيكون الوضع للأعم، وإلا يكون هو الصحيح فيعود الإشكال.

الطائفة الثانية: ما يكون مفادها نفي الطبيعة والماهية بانتفاء جزء أو شرط نظير قولهم: (لا صلاة إلا بطهور) و(لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب).

ويرد عليه: مضافاً إلى ما ذكرناه آنفاً أن لسانها يدل على قيود الواجب بأسلوب بليغ أكد ويدل عليه بأنّ الصلاة قد تتحقق بدون فاتحة الكتاب فلا يراد بها نفي الحقيقة مع أنها معارضة بمثل ما يتمسك به الأعمي من الاطلاقات التي تشهد على العكس.

2 - أدلة القول بالوضع للأعم: فقد ذكروا لإثباته وجوهاً عديدة أيضاً:

ص: 151

منها: تبادر المعنى الأعم وعدم صحة السلب عن الفاسد وفيه مضافاً إلى معارضته بتبادر المعنى الصحيح وصحة السلب عن الفاسد كما عرفت، أنه لو سلّمنا بهما لا يمكن إثبات الوضع في زمن الشارع إذ لعله كان للصحيح فقط ولكن المتشرعة استعمل الألفاظ في الأعم توسعاً في الإطلاقات عندهم وهو أمر عادي وأصالة عدم النقل العقلائية لا تفيد ولا تؤثر فيما إذا كان النقل مؤكداً وأشكل عليه المحقق الخراساني رحمه الله بعدم إمكان تصوير الجامع للأعم((1))

وهو مردود بإمكانه كما عرفت سابقاً.

ومنها: صحة تقسيم الأسماء بما لها من المعنى الشرعي إلى الصحيح والفاسد.

وفيه: إنه لا يدل على أكثر من صحة استعمالها في الأعم وهو أعم من الحقيقة. وأشكل عليه السيد الوالد رحمه الله بأن وجود المقسم في الأقسام لابد أن يكون واقعاً وحقيقة، لأن الأقسام من أفراد ذات المقسم ويصدق عليها صدق الطبيعي على أفراده فلا وجه لاحتمال كونه أعم من الحقيقة إلا أن يكون أصل التقسيم مجازياً وهو خلاف المفروض(2) فما ذكره بعضهم في مقام الرد بأن التقسيم بالعناية غير سديد والحق أن ما ذكره إنما هو في الأمور الحقيقية لا الأمور الاعتبارية التي لها أفراد متفاوتة جداً متباينة إلا أن يراد به الظهور العرفي في ذلك.

ومنها: الأخبار الظاهرة في صدق الصلاة على الفاسدة كقوله علیه السلام : (دعي الصلاة أيام أقرائك) ونحوها مما يكون ظاهراً في الصدق على الفاسد.

فإن صلاة الحائض فاسدة، فيكون نهيهُ عنها دليل الوضع للأعم من الفاسد.

وأورد عليه تارةً بأنّ الاستعمال أعم من الحقيقة.

وأجيب عنه: بأن الاستدلال بالظهور العرفي وهو حجة معتبرة فإن أصل الاستعمال لم يكن على نحو الحقيقة حتى يستشكل عليه بأن الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز وأخرى ما ذكره بعض الأعلام من أنّ مثل هذه النواهي إرشاد إلى الفساد فيكون مفادها الإخبار عن عدم القدرة على الصلاة لكونها مشروطة بالطهور وإلا يلزم أن يكون اتبان الصلاة الباطلة محرماً عليها.

وأشكل عليه :

أولاً: بأنه لا ينافي الاستعمال في الفاسد.

ثانياً: أنّ ظاهر هذه النواهي هو عدم إرادة الحرمة الذاتية لقرينة عامة وكون المستعمل فيه الجملة الإنشائية هو النهي عن صلاتها وخاصة مثل ظهور الإجماع على عدم حرمة الصلاة عليها كذلك كما ادعاه السيد الوالد رحمه الله .

كما اعترض عليه المحقق الخراساني رحمه الله أيضاً بأنّ القول بالأعم لا يرفع الإشكال نهائياً لأن النهي ليس مولوياً وإلا لزم منه ما لا يلتزم به أحد وهو حرمة الإتيان بصورة الصلاة بلا قصد القربة ذاتاً لتعلق النهي بالأعم كما يلزم منه حرمة إتيان الحائضبالصلاة الفاسدة من غير ناحية الحيض فلابد من تقييدها بما يكون صحيحاً من غير ناحية الحيض ومعه لا يكون دليلاً على مقالة الأعمي أيضاً.

ص: 152


1- - كفاية الاصول - ص30 - مصدر سابق.
2- - تهذيب الاصول - ج1 / ص32 - مصدر سابق.

وأجيب عنه: بأنه يمكن استفادة التقييد المذكور بنحو تعدد الدال والمدلول من قرينة خاصة مثل كون النظر إلى الإتيان بما هو وظيفتها الشرعية لولا الحيض وأمّا الاسم فهو مستعمل في الأعم.

ومن ذلك يظهر الجواب عما استدل به ببعض الأخبار على الأعم فقد ورد في الأخبار المستفيضة (بني الإسلام على خمس: الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية ، ولم يناد أحد بشيء كما نودي بالولاية فأخذ الناس بالأربع وتركوا هذه فلو أنّ أحداً صام نهاره وقام ليله ومات بغير ولاية لم يقبل له صوم ولا صلاة) فإن قوله علیه السلام : (بالأربع) يدل على أن المراد الأعم وليس الصحيح فقط إذ لا صحة بدون الولاية وإلا كان يلزم أن يقال لم يأخذ الناس بشيء منها.

وكذا قوله علیه السلام : (فلو أن أحداً صام نهاره) لأن المفروض بطلان الصوم بغير ولاية فيكشف عن إرادة الأعم من اللفظ لا خصوص الصحيح.

فإنه مما لا ينكر أن اللفظ قد استعمل في الأعم بلا عناية ومسامحة في البين فإن ظهوره العرفي يدل على ذلك وهو كافٍ.

وما ذكره المحقق الخراساني خلاف هذا الظهور العرفي فراجع.

ومنها ما أفاده المحقق الاصفهاني رحمه الله من شهادة سيرة العقلاء المخترعين للمعاجين ونحوها على الوضع للأعم بلحاظ شروط التأثير دون الأجزاء((1)).

وأشكل عليه بعض الأعلام بأنه خلط بين شروط التأثير والاستعمال وبين شروط المركب نفسه التي هي محل البحث((2))

مع أنه عرفت آنفاً أنه لم نسلّم متابعة الشرع لطريقة العقلاء دائماً مع أننا لا نسلّم أيضاً سيرة العقلاء، فإنه قد عرفت أنها سيرتهم على الوضع للصحيح كما تقدم سابقاً.

والحق أن ما ذكره المحقق الاصفهاني رحمه الله صحيح ويدل عليه العرف فإنه لا يرى اختصاص المركبات عندهم بالصحيح فقط بل يصدق عليه وعلى الفاسد وأن ذلك مما لا يقبل الإنكار والأمثلة عليه كثيرة فيكون حال أسامي العبادات حال أسامي المركبات الأخرى عند العرف فليس عند العرف منهجاً آخر من الصدق والعُرف مما يكشف قطعاً عن أن الشارع لم يخرج عن طريقة العُرف في الوضع والاستعمال فما ذكره من عدم المتابعة صحيح إن لم يكن ظهور عُرفي على الاشتراك وسيرة العقلاء قائمة لا يمكن إنكارها ولم يحدث خلط بين شروط التأثير وشروط المركب.

ومنها ما ذكره السيد الخوئي رحمه الله من أنّ الصلاة موضوعة للأعم من الصحيحة والفاسدة بلحاظ الأجزاء والشرائط غير الأركان الأربعة التي هي التكبير والركوع والسجود والطهور فإنها مقوّمة للمسمّى، كما عرفت سابقاً.وقد حاول استظهار ذلك من الأخبار البيانية التي وردت في شأن الأجزاء والشروط وتحديدها فإنّ التكبير قد ورد في شأنه بأنه افتتاح الصلاة فبدونه لا صلاة.

ص: 153


1- - نهاية الدراية - ج1 / ص 171 - مصدر سابق.
2- - بحوث في علم الاصول - ج1 / ص 206 - مصدر سابق.

وقال لعلّه لذلك لم يذكر في لا تعاد الصلاة بالإخلال به فكأن أحاديث لا تعاد ناظرة إلى الإخلال بصلاة منعقدة حدوثاً.

وأمّا الركوع والسجود والطهور فلما ورد من أن الصلاة ثلثها الركوع وثلثها السجود وثلثها الطهور ولا ضير في أن تكون الأثلاث الثلاثة كلها مستوفاة بحيث لا يبقى محل لغيرها فإنّ هذا مجرد إطلاق قابل للتقييد بما دل على ركنية جزء آخر وهو التكبير أو يحمل أنها أثلاث للصلاة بعد فرض الدخول فيها بالتكبير.

وأمّا الأجزاء الأخرى فلا تكون مقوّمة للمسمى ولا ركناً فيها ولذا لا تجب الإعادة بسبب الإخلال بها نسياناً.

والبحث تارةً يكون في أخذ الأركان الأربعة في المسمى وأخرى في عدم أخذ غيرها فيه وقد تصدى رحمه الله لإثبات الأول بالنصوص والروايات وأمّا الباقي فيمكن الاستدلال عليه بوجوه:

منها: أن الأجزاء غير الركنية لو كانت مأخوذة في المسمى لما صحّت الصلاة بالإخلال بها ولو نسياناً وهو خلاف المقرر في الفقه.

وفيه: أنه خلط بين أجزاء المأمور به وأحكامها وأجزاء المسمى مضافاً إلى ما عرفت في البحث السابق إنه يمكن انتزاع الجامع الصحيحي عما يكون مطابقاً للمأمور به بمقدار دخالته فيه.

ومنها: استكشاف ذلك من الأخبار البيانية حيث اقتصرت في بيان الأركان على الأربعة المتقدمة ولم تذكر سائر الأجزاء((1)).

ويرد عليه: إنه يتوقف على إحراز ورود الأخبار لبيان المسمّى أيضاً ولا يمكن ذلك.

ومنها: التمسك بمفهوم ما دلّ على أن الصلاة ثلاثة أثلاث: ثلث طهور وثلث ركوع وثلث سجود.

فإن ظاهرها بيان حقيقة الصلاة وتكوينها ولا موجب لرفع اليد عن هذا الظهور إلا في تكبيرة الإحرام التي دلّت نصوص أخرى على أن الصلاة إنما تفتتح بها.

ويرد عليه: ما ذكرناه آنفاً من أنها في مقام بيان حقيقة المأمور به لا المسمى مضافاً إلى أنها ليست في مقام بيان المسمى إلا بعد إحراز ورودها في هذا المقام ولا دليل على إثبات ذلك بل إن سياقها إنما هو لبيان أهميتها أو دخل هذه الثلاثة في إحراز الثواب وله نظائر فقد ورد في سورة الإخلاص أنها ثلث القرآن وفي سورة الكافرون أنها ربع القرآن ونحو ذلك.

أمّا البحث عما ذكره في الأركان الأربعة فقد استدلّ على الثلاثة برواية التثليث المعروفة من أنّ الصلاة ثلث ركوع وثلث سجود وثلث طهور بضميمة ما دلّ على أنّ التكبير مفتاح الصلاة وأنها لا تفتتح إلا بها.

ويرد عليه: أولاً أنّ هذه الروايات لا تدل إلا على أهمية هذه الأربعة أو ركنيتها بحسب الغرض الشرعي فلا يثبت المطلوب كما عرفت مع أنه لو أخذنا بظاهر ما ورد فيها من التعبيرات لكان علينا أن نأخذ بما ورد مماثلاً لها أيضاً من الأجزاء والشرائط ونقول

ص: 154


1- - محاضرات في اصول الفقه - ج1 / ص 175 - مصدر سابق.

بركنيتها كما ورد أنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وما ورد أنه لا صلاة لمن لم يقم صلبه وأمثال ذلك.

وثانياً: إن الأخبار المتعرضة لركنية تكبيرة الإحرام مع غض النظر عن أسانيد بعضها ونحن وإن لم يكن منهجنا تضعيف الأخبار لأن لنا طرقاً خاصة تخالف ما عليه سيدنا الاستاذ لكن نلزمه بما التزم به في هذا السبيل فلا يمكن الاستناد عليها أو لا دلالة فيها على المطلوب فهي إمّا أن تدل على دخل تكبيرة الإحرام في الاجتزاء وأداء المطلوب الشرعي أو أنها تدل على حرمة منافيات الصلاة بعد الدخول في الصلاة فإن تحريمها تكبيرة الإحرام وأحسن ما يمكن الاستدلال به من تلك الأخبار ما ورد في رواية عمار قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن رجل سها خلف الإمام فلم يفتتح الصلاة قال علیه السلام : يعيد الصلاة ولا صلاة بغير افتتاح.

ولكنه أيضاً لا يتم لأن قوله علیه السلام : (يعيد صلاته) قرينة على أن النظر إلى مقام الامتثال والأجزاء دون المسمى، ولا أقل من الاحتمال وهو يوجب سقوط الاستدلال كما هو المعروف مع أن نفي عنوان الصلاة عن الفاقدة للتكبيرة لا يختص بها بل هو وارد في كثير من الأجزاء يظهر بمراجعة الأخبار ومن جميع ذلك يظهر أنه لا دلالة في روايات تكبيرة الإحرام على أخذها في المسمى، كما لم يتم ما ذكره رحمه الله .

وقد ذكرنا سابقاً عند تصوير الجامع على القول بالصحيح ما يمكن إيراده على مختاره ولعل الاشكالات ترتفع إذا كان الموضوع له الأركان على نحو الاقتضاء من حيث المرتبة ومن حيث لحوق باقي الأجزاء والشرائط بالنسبة إليها.

والصحيح أن يقال أنه إذا قلنا بأن بحث الصحيح والأعم لا يختص بالمخترعات الشرعية بل يعم الألفاظ مطلقاً فلا معنى لتوهم الوضع بإزاء الصحيح خاصة بل أنها موضوعة لمعنى عام صالح للانطباق على جميع مصاديقه فالمخترعات الشرعية قد وضع لها أسماء بما يصلح أن ينطبق على جميع الأجزاء والشروط وقد عرفت بأنّ الصحة لما كانت لها مراتب متعددة متباينة فلا يمكن أن يكون المراد بها الصحة الفعلية فيتعين أن يكون المراد بها الصحة الاقتضائية الجامعة لجميع المراتب وهي عبارة أخرى عن الأعم فيكون النزاع لفظياً إذ لا فرق بين الأعم والصحة الاقتضائية.

وقد حاول السيد الوالد رحمه الله أن يجمع بين القولين بذلك ولكنه بعيد عن الكلمات كما اعترف به فراجع((1)).

ولا تصل النوبة إلى ربط الموضوع بالمسألة السابقة من القول بالحقيقة الشرعية.

ثم أنه قد يستشكل في تعيين المقدار الذي يتقوّم به معنى الصلاة بناءً على القول بأن الوضع للأعم لوضوح وجود بعض الموارد من الفاسد لا يصدق عليه اللفظ أصلاً كالإتيان بالتكبير والقراءة فقط واختلفوا في مقدار ما يتقوّم به الصدق ومعنى الصلاةفذهب بعضهم إلى أنه معظم الأجزاء كما ذهب جمع إلى أنه أجزاء معيّنة خاصة وقد التزم السيد الخوئي وقال بأن الأركان الأربعة هي التي يتقوّم بها معنى الصلاة على الأعم.

ص: 155


1- - تهذيب الاصول - ج1 / ص31 - مصدر سابق.

وقد عرفت فيما سبق مناقشة ما استدل به وعمدة ما ذكرناه أن الروايات التي استدلّ بها إنما تدل على هذه الأربعة أو الخمسة بزيادة التسليم قوام المأمور به لا المسمى ويؤيد ذلك أن مقام الشارع المقدس وما يتناسب معه إنما هو بيان حقيقة المأمور به وبيان أهمية الأجزاء دون تحديد المسمى وبيانه.

وأمّا الالتزام بأن المقوّم للمسمى هو معظم الأجزاء بلا تعيين جزء خاص وهو أيضاً أمر مبهم فإن صلاة الغريق لم يتوفر فيها سوى بعض الأجزاء فيعود الإشكال.

فالحق في الجواب أن نقول بأن الموضوع هي الصحة الاقتضائية التي تنطبق على الجزء أو الجزئين ونحوهما مما يعتبره الشارع دخيلاً في تحقق المأمور به.

الجانب الخامس: في ثمرة النزاع في أسماء العبادات

قد ذكر الأصوليون عدة ثمرات لهذا البحث نذكر بعضاً منها لوضوح ضعف غيرها كما أطالوا الكلام في ذلك بما لا يستحق الإطالة.

الأولى: إمكان التمسك بالإطلاق على القول بالأعم وعدم إمكانه على القول بالصحيح وبيان ذلك أن معنى التمسك بالإطلاق هو الأخذ بنفس الطبيعة التي ورد الحكم عليها وإلغاء كل خصوصية وقيد يحتمل أن تكون مقيدة ومخصصة بها في مقام تعلق الحكم فيكون الإطلاق في متعلقات الأحكام الثابت بمقدمات الحكمة هو تساوي أفراد متعلق الحكم بالنسبة إلى جميع الخصوصيات الواردة والحالات الطارئة عليه بشرط انحفاظ نفس المتعلق وتعلق الشك بما هو خارج عن قوام ذات المتعلق، وأمّا إذا كان الشك بما له دخل في قوام ذاته فلا يمكن رفعه بالإطلاق لأنه يشترط بالأخذ بالإطلاق هو انحفاظ الذات وإرساله من حيث الخصوصيات وأمّا مع الشك في مدخلية شيء في أصل الذات فلا تكون منحفظة وبناءً على هذا لو قلنا بالصحيح فالشك في الجزئية والشرطية والمانعية يرجع إلى أصل انحفاظ الذات فلا يمكن التمسك بالإطلاق وأمّا بناءً على الأعم فيكون الشك في المذكورات راجعاً إلى الخصوصيات بعد انحفاظ الذات فيما لم يكن للمشكوك فيه مدخلية في المسمى، ولا شك في صحة التمسك بالإطلاق فتكون من ثمرات المسائل الأصولية التي منها يستنتج الحكم الكلي الإلهي الذي هو عدم كون الشيء المشكوك شرطاً أو جزء أو مانعاً للصلاة لأنه بناءً على الصحيح يكون الشك في اعتبار جزء أو شرط من الشك في المحصل فيجب الاحتياط، ومن الشك في التكليف الزائد بناءً على الأعم فتجري البراءة.

فهاهنا أمران أحدهما : صحة التمسك بالإطلاق بناءً على الأعم لأن اللفظ صادق على الأعم بدون ذلك المشكوك بخلافه على الصحيح حيث يشك في صدق اللفظ عند الشك في جزء أو شرط .

والأمر الثاني الرجوع إلى البراءة عند الأعمي فما ثبت كونه جزءً يجب الإتيان به وما شك فيه يكون المرجع البراءة بخلاف الصحيحي فإنه يجب عنده تحصيل العنوان فيلزم عليه إتيان كل مشكوك.واستشكل عليه:

أولاً: إنها مبنية على فرض كون الجامع في الصحيح بسيطاً وفي الأعم مركباً لعدم إمكان استكشاف جامع بسيط بين الصحيحة والفاسدة، وأن المركب قابل للزيادة والنقصان وقد

ص: 156

عرفت مما تقدم بطلان المبنى وأنه يمكن أن يفرض أن يكون الجامع بسيطاً ولا محذور فيه لأنه ملحوظ على نحو الإهمال لا التعيين فراجع.

وثانياً: ما ذكره السيد الوالد رحمه الله من أنه على فرض كون الجامع بسيطاً فإنه لا يلازم عدم جريان البراءة في الشك في الجزئية والشرطية لأن ثبوتهما إنما هو بحسب الأدلة البيانية لا مجرد الوضع وبعد الرجوع إلى الأدلة وعدم الظفر بجزء أو شرط سوى ما ورد فيها فإنه حينئذٍ يصح الرجوع إلى البراءة عقلاً وشرعاً في المشكوك فلا فرق بين كون الموضوع له بسيطاً أو مركباً((1)).

وثالثاً: ما ذكره في الكفاية من أن الجامع البسيط قد يفترض متحداً مع الأجزاء والشروط في الوجود وما ذكره (قده) إن رجع إلى ما ذكرناه فهو صحيح وإلا فيحتاج إلى توضيح كما ذكره بعض الأعلام فقال :بأن الجامع تارة يفرض كونه بسيطاً له مراتب، ويأتي بيانه .

ورابعاً: إن الأدلة على قسمين إمّا يصح التمسك بإطلاقها على كل حال وإمّا لا يصح به كالخطابات الواردة في الكتاب والسنة فإنها في مقام أصل التشريع ولم تكن في مقام بيان أجزاء الصلاة وشرائطها كقوله تعالى: ﴿أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ﴾ وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ﴾ ونحو ذلك من الآيات والروايات فلا يصح التمسك بها لنفي جزء أو شرط أو مانع وأمّا القسم الأول وهي كالأخبار البيانية التي وردت في مقام ما يعتبر في المركب العبادي - كصحيح حماد الوارد في بيان أجزاء الصلاة وشروطها - فيصح التمسك بإطلاقها المقامي على كلا القولين الصحيح والأعم، فلا ثمرة في البين.

توضيح ذلك: إنّ ماهية العبادات مجهولة عند أهل العرف والمحاورة ولا سبيل إلى فهم أجزائها وشروطها قبل بيان الشارع لها فلا معنى للتمسك بإطلاقها لإجمالها من حيث المعنى يضاف إلى ذلك أن الأدلة العامة كلها وردت في مقام أصل التشريع لها فلا يصح التمسك بإطلاق الألفاظ الموضوعة لهذه الماهيات المخترعة وأمّا بعد ورود بيان الشارع بخصوصياتها يصح التمسك بالإطلاق المقامي لتلك الأدلة المبيّنة للأجزاء والشرائط على كلا القولين ولا نحتاج إلى إطلاق تلك الألفاظ أصلاً إن فرض لها إطلاق, وهذا هو مراد السيد الوالد رحمه الله .

ويمكن الإشكال عليه: بأنّ قضية عدم ورود الإطلاقات كلها في جميع ألفاظ العبادات في مقام البيان دعوى بلا برهان.

نعم دعوى إجمالها وعدم فهم شيء منها قبل صدور البيان من قبل الشارع فهي وإن كانت صحيحة ولكن زال إجمالها بعد ورود البيان من الشارع بحيث يصدق لفظ الصلاة على مجموعها.وحينئذٍ بناءً على الأعم إن كان هناك إطلاق مقامي الذي هو من دلالة الحال ومقام السكوت بشرط إحراز كونه في مقام البيان في الأدلة البيانية يصح التمسك به في نفي جزئية شيء مشكوك أو شرطيته، وإن لم يكن له إطلاق مقامي نرجع إلى إطلاق الأدلة العامة في الألفاظ الموضوعة للماهية المخترعة وإن لم يكن مثل هذا الإطلاق اللفظي

ص: 157


1- - تهذيب الاصول - ج1 / ص31 - مصدر سابق.

فإنه نرجع إلى البراءة حينئذٍ في نفي الجزء المشكوك والشرط كذلك والصحيحي أيضاً يقول بذلك فإنه يرجع إلى الإطلاق إن كان وإلا فإلى الأصل العملي في نفي الجزء المشكوك فلا ثمرة في البين.

مع أن الرجوع إلى البراءة بناءً على القول بالأعم إن لم يكن إطلاق في البين والرجوع إلى الاشتغال بناءً على القول بالصحيح لأن الشك فيه يرجع إلى المحصل.

فقد أشكل الشيخ الأنصاري رحمه الله على الفرق بين القولين بأن إجرائهما في مورد عدم وجود الإطلاق فرع انحلال العلم الإجمالي وعدمه من غير فرق بين الصحيح والأعم، ولذا يجري الصحيحي البراءة، وتبعه المحقق الخراساني رحمه الله فلا ثمرة على القولين.

وأورد عليه المحقق النائيني رحمه الله بأنّ العلم الإجمالي لا ينحل بناءً على الصحيح لأن الشك في المحصل بخلاف الأعمي حيث أن شكّه في الأقل والأكثر ونسب إجراء الصحيحي البراءة إلى الغفلة أو التوهم.

ويمكن الإشكال عليه بأنه بناءً على الصحيح إذا كان الجامع البسيط عين الأجزاء كالخضوع في الصلاة أو كان البسيط له مراتب صح إجراء البراءة للانحلال فلا يختص إجراء البراءة بالأعمي.

توضيح ذلك: بأنّ الجامع البسيط إمّا أن يكون خارجياً أو اعتبارياً والأول يمكن فرضه على وجوه.

الأول: أن تكون له مراتب تشكيكية تصدق على الضعيف والشديد بحيث تؤدي سعة المركب وضيقه من حيث الأجزاء والشرائط إلى شدة ذلك الجامع وضيقه فتجري البراءة عند الشك في القيد لرجوعه إلى الشك في وجوب المرتبة الشديدة وهو الشك في التكليف.

الثاني: أن لا يكون له مراتب تشكيكية بل بسيط في وجوده كما هو بسيط في مفهومه لكن كان له وجود مباين مع المركب مسبب عنه كان الشك في المركب من الشك في المحصل الذي هو مجرى قاعدة الاشتغال.

الثالث: نفس الصورة السابقة لكن كان وجوده متحد مع المركب وكان منتزعاً منه بلحاظ جهة عرضية داخلة في عهدة المكلف نظير عنوان المؤلم المنتزع من الضرب بلحاظ حيثية الألم القائمة بالمضروب فيكون الشك حينئذٍ بما هو داخل في العهدة فيكون من الشك في المحصل.

وإن كان منتزعاً بلحاظ قيود ذات المركب فيكون الشك دائراً بين الأقل والأكثر فيلزم الاحتياط أيضاً على خلاف في ذلك في الأقل والأكثر الارتباطيين.

الرابع: أن يكون الجامع متحداً مع المركب وجوداً وذاتاً بأن كان منتزعاً بلحاظ ذات المركب فيكون الشك حينئذٍ في أصل التكليف فيرجع إلى البراءة لأن ما هو داخل فيعهدة المكلف هو الجامع الذاتي الذي هو متحد مع المركب ذاتاً ووجوداً، فيكون الشك في المركب من الشك في حدود وقيود ما هو داخل في عهدة المكلف فتجري البراءة.

هذا كله بناءً على كون الجامع بسيطاً خارجياً.

وأمّا إذا كان اعتبارياً سواء كان شرعياً كالطهور أو عقلياً كعنوان أحدهما فتجري البراءة عند الشك في المركب سواء كانت نسبة الجامع الاعتباري إلى المركب نسبة المسبب إلى السبب أم لا، لأنّ نظر العرف في هذه المسببات هي الطريقية والمشيرية والعنوان إلى

ص: 158

المعنون الخارجي الذي تعلق به التكليف، وليس الجامع هو المطلوب على سبيل الاستقلال فيكون الشك في مثل ذلك يرجع إلى الشك في التكليف الزائد.

ومن ذلك كله يعرف ما في كلام المحقق الخراساني من الإجمال وغيره من الأعلام رحمه الله .

الثانية: قالوا تظهر الثمرة في نذر الصلاة في مكان مكروه أو لباس كذلك فإنه بناءً على الأعم يكون صحيحاً ويتحقق الحنث بالمخالفة وأمّا بناءً على الصحيح فلا يتحقق الحنث فيما لو أتى الصلاة كذلك لكونها باطلة من جهة تحقق النهي الحاصل من مخالفة النذر بها، والنهي في العبادة يوجب البطلان بل يكون إتيان الصلاة غير مقدور عليه.

والجواب عنه واضح:

أولاً: بأن الكلام في المسائل الأصولية التي تقع في طريق استفادة حكم كلي، والنذر إنما يكون في حكم جزئي خاص وقد اختلف الفقهاء فيه إلى قولين.

وثانياً: أنه تابع للقصد لا الاستعمال، فإن قصد الناذر الصلاة الصحيحة فلا يحنث سواء كان الوضع والاستعمال للصحيح أم للأعم. وإن قصد الأعم يحنث سواء كان الوضع والاستعمال للصحيح أو الأعم.

وثالثاً: أنه يمكن أن يكون المراد الصحيح الاقتضائي لولا النذر فحينئذٍ يصح النذر والصلاة ويتحقق الحنث أيضاً هذا كله في أسماء العبادات.

المقام الثاني في أسماء المعاملات: والكلام فيه يقع في جهات وقبل بيانها لابد من تقديم أمور:

الأول: المراد من المعاملة المعنى الأعم الشامل للبيع والإجارة والصلح والقرض والرهن والنكاح والطلاق والوقف وأمثال ذلك حيث أن لكل واحد منها اعتبار وأثر، والأخير إمّا واقعي يكوّنه الاعتبار في الواقع أو اعتباري محض، والمشهور بين العلماء هو الثاني، نعم على الأول يكون الشارع قد كشف عن علته وإذا خالفه العرف كان من خطأه.

الثاني: إن في كل معاملة يحصل أمران أحدهما السبب وهو الإنشاء الذي يلتزم المتعاقدان بمضمونه قاصدين به التسبيب أي المقصود ايجاد المعنى في وعائه المناسب له فلو لم يكن قاصداً لذلك لا تتحقق المعاملة كبيع الهازل والنائم.

ثانيهما: الأثر والنتيجة المترتبة على إنشاء المعاملة وهو المعنى المقصود إيجاده كالملكية الحاصلة بعقد البيع أو التمليك مثلاً وقد اصطلح على الأول بالسبب لأنه به يتسبب إلى حصول المعنى وبدونه لا يحصل كما يصطلح على الثاني بالمسبب لأنهيحصل من العقد فهو مسبب عنه ويترتب عليه، كما يترتب المسبب على السبب في الواقعيات، كالملكية والتمليك ونحوها. والمسببات أمور بسيطة.

الثالث: إن المعاملات كلها أمور عرفية كانت موجودة عند العرف والعقلاء فإن عليها يدور نظام اجتماعهم وقد أمضاها الشارع بما لها من المعاني العرفية ويكفي في صحتها عدم ثبوت الردع من الشارع. نعم ربما ينهي عن بعض أصنافها تخطئة أو تخصيصاً .

إذا عرفت ذلك يقع الكلام فيه في جهات:

الأولى: في تحرير محل النزاع: إن المعاملات لها تصحيح شرعي فربما يكون النزاع في وضعها للصحيح أو الأعم بنظر الشرع ولها ثبوت عرفي يمكن أن يجعل النزاع في وضعها كذلك بنظر العرف والعقلاء وإن لم يكن صحيحاً عند الشرع فإنه قد يكون نظر

ص: 159

العقلاء يختلف عن نظر الشرع فيكون الوضع عند الشارع أخص من الوضع عند العقلاء فلابد من تحديد ذلك في أن محل النزاع الصحة عند العقلاء أو عند الشرع.

ذهب السيد الخوئي رحمه الله إلى أن المبحوث عنه هو الوضع للصحيح أو الأعم بنظر العقلاء فقط إذ دعوى الوضع بإزاء الصحيح الشرعي يستوجب أن يكون مفاد أدلة الإمضاء مثل قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ﴾ البيع الصحيح صحيح وهو لغو((1)).

وأورد عليه بعض الأعلام بأنّ ذلك يستلزم فيما إذا أريد من الوضع للصحيح عنوان الصحيح لا واقع الصحيح وهو المركب المشتمل على الأجزاء والشروط الذي يستوجب الأثر، وهذا غير متحقق في العبادات فضلاً عن المعاملات فكأن المعنى: أحل الله البيع المشتمل على الإنشاء والعوض المقرون بالرضا ونحو ذلك من الشروط ولا لغوية في ذلك.

وعلى فرض التنزل وقلنا بأنه يستلزم المحذور فلابد أن يحمل الدليل الامضائي المذكور على الأعم ولو مجازاً بقرينة ورودها في مقام الإمضاء.

وقال بأنّ الصحيح يمكن تحرير النزاع على الوجهين أي بجعل النزاع في الصحيح عند العقلاء، أو الوضع للصحيح عند الشارع ولكن مما يهون الخطب أن المراد الصحيح عند العقلاء والشارع هو الصحيح الاقتضائي فيتحدان من هذه الجهة((2))

كما سيتضح إن شاء الله.

الجهة الثانية: المشهور بين الأصوليين أن النزاع مبني على أن تكون أسامي المعاملات موضوعة للأسباب لأنها هي التي تشتمل على الأجزاء والشرائط ويترتب عليه الأثر فيتصور فيه الصحة والفساد, وأمّا المعاملة بمعنى المسبب كالملكية فلا يجري فيه النزاع أصلاً لأنه بسيط يدور أمره بين الوجود والعدم ولا تتصف بالصحة و الفساد كما عرفت.

وقد استشكل عليه بعض المحققين بأنّ المسبب له معنيان:

1- الأثر الشرعي أو العقلائي الحاصل بالمعاملة كالملكية مثلاً.

2- الأثر المنشأ من قبل المتعاقدين أنفسهما وهو اعتبار شخصي قائم بالمتعاملين يكون موضوعاً للاعتبار العقلائي والشرعي.

والذي لا يعقل فيه الصحة والفساد هو المعنى الأول للمسبب دون الثاني فإنه قابل للاتصاف بهما لاستتباعه ترتب الأثر وعدمه.

واستدل على ذلك بأنّ المعنى الأول للمسبب لا مجال لأن يتوهم كونه الموضوع له لأنه ليس فعلاً للمتعاملين بل هو إما فعل الشارع أو العقلاء وأسماء المعاملات تنسب إلى المتعاملين أنفسهما حيث يقال: باع واشترى وصالح ولا يقال: باع الشارع أو باع العقلاء((3)).

ولكن التمعن فيما ذكره يظهر أنّ فيه مغالطة واضحة فإنه لا ريب أن ترتب الأثر على أمر يكون تحت اختيار الإنسان حتى ينسب إليه الأثر والمسبب فإذا تحقق العقد من فرد

ص: 160


1- - محاضرات في اصول الفقه - ج1 / ص304 - مصدر سابق.
2- - بحوث في علم الاصول - ج1 / ص211 - مصدر سابق.
3- - محاضرات في اصول الفقه - ج1 / ص304 - مصدر سابق.

يترتب عليه عنوان خاص يتقوم بالطرفين فيقال له البائع والمشتري، كما يترتب عليه أثر وهي الملكية وكلاهما ينتسبان إلى المتعاملين بالتسبيب وإلى العقلاء والشارع بالأمضاء والنظر العرفي العقلائي أو الشرعي إلى الأثر والمسبب أكثر من العنوان المترتب على أنفسهما إلا إذا كان اعتبار شخصي خاص من قبلهما ولكنه مع ذلك إنما هو طريق إلى تحصيل النتيجة وهي من فعل المتعاقدين ينسب إليهما بالتسبيب ولا ريب أن أمرهما يدور بين الوجود والعدم لا الصحة والعدم.

فالحق ما ذهب إليه المشهور من أنّ النزاع بينهم مبني على وضع أسماء المعاملات للمسببات والدليل عليه هو الاعتبار العرفي العقلائي الذي أمضاه الشارع بما هو موجود عند العرف.

الجهة الثالثة: المشهور بين الأصوليين أن أسماء المعاملات موضوعة للمسببات دون الأسباب ولابد أن يتبين أولاً: في هل بين هذين العنوانين المعاملة بمعنى السبب والمعاملة بمعنى المسبب تقابل أو أنهما فردين من مفهوم واحد؟ والظاهر أن ما ذهب إليه المشهور من وضع أسماء المعاملات للأسباب دون المسببات لأن الأخيرة بسائط لا تتصف إلا بالوجود أو العدم.

يرجع إلى جعل التقابل بينهما والقول بأنّ الشارع لم يعتبر إلا وجود المسبب كاملاً أو عدمه فقالوا لا مجال للنزاع في المسبب.

والصحيح أن يقال أن شأن المقولات الاعتبارية في عالمها شأن المقولات الحقيقية في عالمها فكما أن للأخيرة صورة ومظهر ومادة وأثر كذلك للأولى، وكما أنّ للثانية صحيح وفاسد في كليهما إلى السبب والمسبب كذلك في الأولى، فالصيغة الملحونة - مثلاً - فاسدةُ السبب والفصيحة صحيحة، كما أن بعض الأثر فاسد المسبب إو كامل المسبب وصحيحه كاملة صحيحة.وإذا رجعنا إلى العرف نرى أنهم يستعملون الصحيح والفاسد في كليهما بل نظرهم إلى المسبب أكثر من السبب كما ذكرنا آنفاً، فالفاسد في المسبب معقول بل يمكن تصويره بل هو واقع بين الناس على مر العصور.

كما أن الحق أنه لا تقابل بين المعاملة بمعنى السبب والمعاملة بمعنى المسبب بل هما فردان من مفهوم واحد فإن البيع - مثلاً - اسم للتمليك بعوَض، وأن البايع في إنشائه قد أوجد التمليك خارجاً حقيقة بنفس إنشائه واعتباره، والجميع من اعتباره وما تسبب إليه فرد من الملكية إلا أن أحدهما التزام شخصي مباشر والآخر التزام قانوني أو شرعي تسبيبي ويدل على ذلك صحة إطلاق الاسم عُرفاً على كل منهما بلا عناية وسيأتي في كتاب البيع أنه شيء واحد اعتباري يتحقق في الخارج بسبب الإنشاء إلا أن الحيثيات والإضافات أوجب الاختلاف ولأجلها اختلفت تعاريفهم للبيع.

والعرف الذي هو الأصل في مثل هذه الأمور - كما عرفت آنفاً - يرى أنه لا يوجد فيها إلا شيئٌ واحدٌ وهو ما يوجده المتعاملان من التمليك بعوَض. نعم ربما يتعدد بالنظر الدقي العقلي إلى إنشاء معاملي ونتيجة قانونية منشأة به، نظير تحليل الموجود الخارجي إلى إيجاد و وجود.

ص: 161

فإذا ثبت صحة إطلاق أسماء المعاملات على المعاملة بكلا المعنيين كان النزاع حول وضعها بخصوص الصحيح منها أو الأعم فيهما أيضاً كذلك .

إلا إذا كان هناك عرف شرعي أو تطابق في الرأي على اختصاص إطلاق الاسم على خصوص السبب دون المسبب وهو يحتاج إلى دليل ومما ذكرنا يظهر الإشكال فيما ذكره الشهيد رحمه الله من أنّ أسامي المعاملات حقيقة في الصحيح ومجاز في الفاسد.

الجهة الرابعة في وضع أسماء المعاملات: الحق أنها موضوعة للأعم وقد عرفت أنه الصحيح الاقتضائي فكلما صدقت عليه عناوينها الخاصة عُرفاً ولم يثبت الردع عنها شرعاً يصح التمسك بإطلاقها وعمومها لنفي مشكوك القيدية مطلقاً ومع الشك في الصدق العرفي لا يصح التمسك بها كذلك لأنه من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه فيرجع إلى الأصول الموضوعية ومع عدمها نرجع إلى الأصول الحكمية.

توضيح ذلك أنه لا ينبغي الشك في عدم وضعها لخصوص المعاملة الصحيحة بنظر الشرع لأنها كما عرفت كانت دارجة عند العرف قبل مجيء الشريعة ومخالفة الشرع مع العرف في بعض القيود والشروط لا يوجب المخالفة في مدلول الاسم لما قد عرفت في بحث الحقيقة الشرعية أن الشارع يستعمل تلك الألفاظ في نفس المعاني المعهودة عند الناس وهو سائر على طريقتهم في محاوراتهم.

وكذلك الصحة بنظر العقلاء لعدم أخذها في مدلول الأسماء لا مفهوم الصحة كما هو واضح ولا واقع الصحيح لعدم إمكان أخذ كل ما يعتبر في الصحة لاختلافه بحسب الأعصار والأمصار فلابد أن يكون الوضع للأعم وهو الصحيح الاقتضائي الذي يتحقق من أصل الإنشاء والمعنى المنشأ به.

الجهة الخامسة في ثمرة النزاع: فقد قالوا بانعقاد الإطلاق بناءً على الوضع الأعم وعدم انعقاده على الوضع للصحيح كما هو الحال في أسماء العبادات إلا أنه على القول بالوضع للصحيح الشرعي لا ينعقد إطلاق لفظي أصلاً وكذا على القول بأنهاموضوعة للصحيح وكان الشك في اعتبار شيء عند العقلاء فإنه لا يصح التمسك بالإطلاق.

والحق أن يقال بإمكان التمسك بالإطلاق اللفظي في أسماء العبادات فضلاً عن المعاملات التي هي إمضائية، كما عرفت سابقاً وعلى فرض عدم التمكن بالتمسك بالإطلاق اللفظي فإنه يمكن التمسك بالإطلاق بوجهين آخرين:

الأول: الإطلاق المقامي باعتبار ظهور حال الشارع عند تصدّيه لإمضاء معاملة عرفية الإحالة إلى العرف العقلائي بالنسبة إلى ما سكت.

وبعبارة أخرى أنّ الشارع حكم بصحة كل ما هو بيع عرفاً من أي سبب حصل عنده، وهذا ملازم لإمضاء سببية كل ما هو سبب عند العرف، وإلا يلزم تخصيص عموم (أحلَّ الله البيع) بخروج ذلك الفرد المشكوك.

نعم لو كان الشك في مدخلية شيء عند العرف لا يمكن التمسك بهذا العموم لرفع المدخلية عندهم لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، لأنّ الحكم لا يثبت موضوعه.

وقيل أنه يشترط في التمسك بالإطلاق المقامي إحراز تصدي المولى لبيان تمام مرامه بشخص ذلك الخطاب لا مجموع خطاباته كما هو طريقته في الردع والظاهر أنه من

ص: 162

لزوم ما لا يلزم فإن المدار على إطلاق الإمضاء الحاصل من عدم الردع ولو كان من خطابات عدة.

نعم يكون استكشاف الإمضاء الشرعي من عدم وصول الرادع مع الحاجة إليه إنما هو اعتماد على دليل لبّي ولا يضر ذلك وإن لم يكن بمنزلة الدليل اللفظي الذي فيه امتيازات خاصة.

الثاني: التمسك بالإطلاق بملاك صون الكلام عن اللغوية أي بدلالة الاقتضاء في إمضاء المعاملة بمعنى أنه لو لم يكن الإمضاء مطلقاً لزم لغوية الخطاب عُرفاً.

وأشكل عليه: بأن هذا الإطلاق موقوف على عدم وجود متيقن لمفاد الدليل، كما هو كذلك بالنسبة إلى المعاملة الواجدة لتمام ما يحتمل دخله في صحتها شرعاً.

ولكن يمكن الجواب عنه بأن المفروض أن الشارع أحال الموضوع إلى العرف فما اعتبره العرف صحيحاً شرعاً فإنّ إطلاق الإمضاء كافٍ في الصحة.

ومن ذلك يظهر صحة التمسك بإطلاق المعاملات سواء قلنا بإمضائه الأسباب أو المسببات أو الاعتبارات الصادرة من المتعاملين، فإن إطلاق الإمضاء يكفي في التمسك به لدى الشك وأشكل على ذلك بوجوه:

الأول: أنه إن قام الدليل على إمضاء المسببات فلا دليل على إمضاء الأسباب العرفية, وردّ عليه المحقق الأنصاري رحمه الله بأن العرف يرى أن إمضاء المسبب بسبب معين عندهم يستلزم إمضاء السبب أيضاً وهذا وإن كان صحيحاً إلا أنه لا حاجة إليه بعد وجود إطلاق في البين واتحاد الأسباب والمسببات في الوجود عرفاً كما تقدّم.

الثاني: ما ذكره المحقق النائيني رحمه الله من أنه بناءً على وضع الاسم المعاملة للمسبب لا يمكن التمسك بالإطلاق اللفظي على كل حال لأنّ إمضاء المسبب لا يقتضي إمضاء كافة ما جعل سبباً له بل يكفي إمضاء سبب من أسبابه.وأجاب رحمه الله عن ذلك بأنّ العقود والايقاعات ليست من قبيل الأسباب بالنسبة إلى هذه العناوين حتى يكون لهما وجودان متلازمان بل هي آلات لإيجاد هذه العناوين عند العرف فيكون إمضاء الشارع تصور العموم لهذه العناوين التي توجد بهذه الآلات كافٍ لرفع الشك عن صحة بيع عند احتمال مدخلية شيء آخر في آلية تلك الآلة عند الشرع.

ولكن الإشكال عليه واضح كما قررناه من أنه لا تعدد وجودي في الأسباب والمسببات في المعاملات سواء كانت بمعنى الآلة وذيها أم غيرها وعلى فرض التنزل فلا فرق بين السبب والآلة فإن التغاير الوجودي محفوظ في كل واحد منهما والإشكال في الآلة نفس الإشكال في السبب والجواب عن أصل الإشكال يظهر من أن عموم الحكم وإطلاقه في البيع مثلاً بنفوده يستلزم إمضاء سببية أسبابه بأي معنى كان.

وأورد عليه السيد الخوئي رحمه الله بأنّ المسبب كالسبب منحل خارجاً بتعدد الأسباب سواء أريد به الحكم العقلائي أو الاعتبار الشخصي أو المنشأ للمتعاملين لوضوح انحلال الأحكام العقلائي بعدد الأسباب وأن المتعاملين في كل معاملة وإنشاء لهم اعتبار ومنشأ غير ما

ص: 163

لهم في الإنشاء الآخر، فليس هناك مسبب خارجي واحد له أسباب عديدة كي يقال بعدم دلالة إمضائه على إمضاء كافة أسبابه((1)).

ويرد عليه ما ذكرناه آنفاً من أنه لا تعدد وجودي في باب المعاملات وعلى فرض التنزيل أن إمضاء أي واحد منهما إمضاء للآخر والإطلاق شمولي في الإمضاء عرفاً لأنه كما هو المرجع في المفاهيم فهو المرجع في التطبيق والحاصل أنه لا ثمرة عملية يترتب على هذا البحث فإنه لو لم يكن إطلاق لفظي يرجع إلى الإطلاق المقامي على كلا القولين الوضع للصحيح أو الوضع للأعم.

وإن كان في الأخير الإطلاق اللفظي محكم في نفي شيء احتمل دخله في المعاملة إلا إذا احتمل دخله فيها عرفا فإنه لا يصح التمسك بالإطلاق اللفظي لأنه من التمسك به في الشبهة المصداقية، هذا تفصيل ما أوجزه السيد الوالد رحمه الله وايجاز ما فصّله القوم.

بحث في أنواع علاقة اللفظ بالمعنى:

ذكر السيد الوالد رحمه الله في الأمر الثالث عشر أنواع العلاقة بين اللفظ والمعنى والحق أن يذكر هذا البحث في بحوث الدلالة اللفظية التي تقدمت لكنه تبع صاحب الكفاية وغيره في ذلك((2))

وكيف كان فإن العلاقة الوضعية بين لفظ ومعنى على أنواع:

الأول: أن تكون علاقة واحدة بين لفظ واحد ومعنى واحد بأن يكون اللفظ موضوعاً للفظ وموضوعاً لمعنى كذلك ويعبّر عنه بمتحد المعنى وهذا لا كلام فيه.

الثاني: أن يكون اللفظ والمعنى متعددين وتكون العلاقة الوضعية بينهما متباينة لفظاً ومعنىً ويعبر عنه بالمتباين وهذا لا كلام فيه أيضا.الثالث: أن تكونا مشتركتين في لفظ واحد بأن يكون لفظ واحد موضوعاً لأكثر من معنى ويعبّر عنه بالاشتراك.

الرابع: أن يكون أكثر من لفظ موضوعاً لمعنى واحد ويعبّر عنه بالمترادف.

قال السيد الوالد رحمه الله لا ريب في وقوع الجميع في المحاورات الصحيحة، وتفصيل الكلام في ذلك: أمّا بالنسبة إلى الأول والثاني فلا كلام فيهما من حيث الإمكان والوقوع وتدل عليهما المحاورات الصحيحة((3))

كما هو واضح وأمّا الاشتراك فهو إمّا اشتراك معنوي ولا إشكال فيه وعليه تدور الاستعمالات الفصيحة وتبتني استفادة المعاني الكلية كما هو معلوم وإمّا الاشتراك اللفظي ففيه أقوال خمسة:

الأول: الإمكان والوقوع وهو المشهور ويدل عليه النقل والتبادر بلا فرق بين أنحاء حقيقة الوضع على ما عرفت وإن كان الأمر أوضح على ما هو المختار في حقيقة الوضع فإنه لا إشكال فيه لأنه لم تحصل العلاقة الوضعية بين اللفظ والمعنى دفعة واحدة وفي زمان خاص بل مرت بمراحل متعددة، وقد تحصل علاقات متعددة بين لفظ واحد ومعانٍ متعددة إمّا لأجل محدودية الألفاظ وكثرة المعاني فاستعمل لفظ واحد في معانٍ وكانت هناك

ص: 164


1- - محاضرات في أصول الفقه - ج1 / ص199 ومابعدها - مصدر سابق.
2- - راجع تهذيب الاصول - ج1 / ص34 - مصدر سابق.
3- - تهذيب الاصول - ج1 / ص34 - مصدر سابق.

اقترانات مقالية أو حالية تميّز بين الأوضاع لرفع الإجمال والالتباس، وقد حذفت بمرور الزمن أو لأجل تعدد الواضعين للألفاظ المشتركة حسب تعدد القبائل أو المجاميع اللغوية البدائية أو حصول التبادل بين اللغات وانتقال ألفاظ متشابهة واستعمال كل اجتماع هذا اللفظ في معنى عندهم وقد أثبت المؤرخون بعض الخصوصيات في اكتشافاتهم التأريخية اللغوية فراجع كتب اللغة الحديثة.

الثاني: ضرورة الاشتراك ووجوب الوقوع واستدلّ عليه بالبرهان المعروف وهو كثرة المعاني بل وعدم تناهيها مع كون الألفاظ محدودة ومتناهية لكونها مركبة من الحروف المتناهية.

فلو لم يكن اشتراك لزم منه إمّا الإخلال بالحكمة أو يلزم من عدمه تطابق المتناهي مع اللامتناهي وهو محال ويرد عليه:

أولاً: أنه بناءً على ما ذكر يستلزم أن لا يكون لفظاً مهملاً في اللغة مع أنها كثيرة فلا يمكن أن يكون سبب الاشتراك زيادة المعاني على الألفاظ لاسيما أنّ جُلَّ الكلمات اللغوية في سائر اللغات تعتبر مهملة في اللغة العربية فلا يصح تفسير الاشتراك فيها على أساس الضرورة المذكورة.

وثانياً: إنّ المعاني متناهية أيضاً في كل دور من الأدوار وما هو مورد الاحتياج متناهٍ قطعاً فلا حاجة إلى معانٍ أخرى حتى نحتاج إلى الاشتراك.

وأشكل عليه بأنه لو أدخلنا في الحساب المعاني الاعتبارية فلا برهان على تناهي المعاني الكلية بل هو على الخلاف.

فإنّ المعاني إمّا أن تكون بسيطة كمفهوم الوجود والعدم أو مركبة تركيباً حقيقياً كمفهوم الإنسان أو تكون مركبة تركيباً اعتبارياً كمفهوم الدار فلو فرض تناهي القسمين الأولين فالقسم الثالث لا تناهي فيه.لكونه منتزعاً من ملاحظة مجموع أمرين أو أكثر بعدد دخولها تحت وحدة اعتبارية، وهذا الانتزاع أمر غير قابل للتناهي.

ويمكن الجواب عنه بأنه إن كنا وحساب الاحتمالات فالأمر كما ذكر ولكن الكلام في تلك المعاني التي تكون مورد حاجة الإنسان التي تقع مورد استعماله، فالأمر كما ذكره المجيب فإنّ مورد الاحتياج متناهٍ قطعاً لأنّ الوضع والاستعمال فرع تصور الإنسان للمعنى فما لا يتصور فعلاً لا يحتاج إلى استعمال اللفظ فيه فالأوضاع لا يمكن أن تزيد عن المجموع الكلي للمعاني التي تصورها في حياته وحيث أن هذا المجموع محدود ومتناهٍ فلا يتطلب إلا أوضاع متناهية، ولعل ما ورد في الآية الكريمة ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّها﴾ إشارة إلى هذا التناهي.

وثالثاً: وعلى فرض التنزل فإنه لا ينحصر الأمر بالاشتراك أي تعدد الوضع بعدد الدلالات الوضعية، فإنه يحصل بالوضع العام والموضوع له الخاص.

وأمّا الرد عليه بالتعويض عن الاشتراك بالاستعمال المجازي فإنه لا يحل الإشكال فإنه ننقل الكلام في المعاني المجازية فهي أيضاً غير متناهية بعد فرض كون المعاني الحقيقة متناهية فإنه يفترض أن تكون علاقات غير متناهية بين المعاني المجازية وبين المعاني الحقيقية ويعود المحذور ومن ذلك يظهر أن الاشتراك وإن كان قد وقع في الخارج

ص: 165

خصوصاً في الأعلام الشخصية لكنه لا يدل على وجوب وقوعه فإن الوقوع أعم من الوجوب كما هو واضح.

القول الثالث - الاستحالة: ذهب إليه جمع منهم السيد الخوئي رحمه الله بناءً على ما اختاره في معنى الوضع من أنه تعهد تفهم المعنى عند ذكر اللفظ.

واستدل على الاستحالة بأن اللفظ وجه للمعنى وفانٍ فيه واندكاك الواحد في اثنين تناقض وقد ذكر ذلك بأسلوب آخر بأنّ اللفظ أداة الانتقال، وانتقالان دفعة واحدة غير معقول وطولاً ترجيح بغير مرجح((1)).

ويرد عليه: أمّا بالنسبة إلى ما ذهب إليه السيد الخوئي فقد عرفت ضعف المبنى والبناء مضافاً إلى أنه يمكن تصحيح الاشتراك حتى على ما اختاره بالحيثيات والقيود.

وأمّا مقولة فناء اللفظ في المعنى فهي دعوى لا أساس لها لأن اللفظ له نحو من التعيين والمعنى كذلك ولا يعقل فناء أحد المتعينين في الآخر نعم لا ريب أنّ اللفظ عنوان مشير إلى المعنى، ويصح أن يكون شيء واحد مشيراً إلى شيئين.

القول الرابع: الإمكان وعدم الوقوع لاستلزامه اللغوية إذ الحكمة والغرض من الأوضاع اللغوية إفهام المعنى الموضوع بإزائه اللفظ بذلك اللفظ، وهو يستلزم أن يكون الموضوع له متعيناً لا مردداً بين معان متعددة، كما في المشترك.

وأجيب عنه بأنّ الحكمة كما تقتضي التطويل فإنها تقتضي أيضاً الإجمال فيؤتى بالقرينة لإيضاح المعنى ولا يعتبر ذلك تطويلاً.

القول الخامس: عدم الوقوع في القران واستدلّ عليه بمثل الدليل السابق، والجواب عين الجواب.والحاصل أن إمكان الاشتراك ووقوعه من الأمور الواضحة بل كاد أن يكون من الأمور البديهية، وهو يغني عن بسط الكلام وربما ينقدح في الذهن أنّ أصل النزاع في الاشتراك نشأ بين التصور والواقع الذي عليه المحاورات والتفهيم والتفهم فإنّ الألفاظ إنما وضعت لغرض تفهيم المعنى والاشتراك يضر ذلك وعلى خلافه.

نعم يبقى أن نقول بأنّ هذا الغرض ربما ينقلب إلى الإجمال والإبهام في مرحلة التخاطب، فلا ينافي الغرض الأصلي للوضع وإنما يذكره الأصوليون تمهيداً لبحثٍ أهم وهو استعمال اللفظ في أكثر من معنى، وإن لم يكن مبتنياً عليه. يعتبر هذا المبحث من المباحث الأصولية المهمة لما يترتب عليه من الثمرات المتعددة والآثار الفقهية الكثيرة المذكورة في الفقه، كما ستعرف.

وقد وقع النزاع في جوازه وإمكانه فذهب جملة من المحققين إلى امتناعه أمّا محاورة كما ذهب إليه المحقق القمي أو عقلاً كما اختاره الخراساني والنائيني كما أنّ من ذهب إلى إمكانه مع مخالفته للقواعد العربية اختلفوا فيه فقالوا بالجواز في غير المفرد أو في غير الإثبات أو مساوقته إما للمجاز مطلقاً أو في خصوص المفرد دون غيره.

وقد ذكر السيد الوالد رحمه الله هذا البحث في ضمن بحث المشترك مما أوجب الإيهام ، وعلى أية حال ينبغي تقديم أمور:

ص: 166


1- - محاضرات في اصول الفقه - ج1 / ص207 - مصدر سابق.

الأول: لا فرق في المعنى المستعمل فيه اللفظ بين المعنيين الحقيقيين أو المجازيين أو المختلفين وأمثلة كل واحد منهما واضحة.

الثاني: أنه لا إشكال في صحة استعمال اللفظ في أكثر من معنى إذا كان على نحو تعدد الدال والمدلول نظير الكنايات التي يستفاد من مدلولها المطابقي شيء ومن مدلولها الالتزامي شيء آخر وهو خارج عن مورد النزاع.

الثالث: لا يجري هذا النزاع في المشترك المعنوي كما لا يجري في العام على سبيل البدل كالنكرة أو كان الاستعمال في المجموع فينحصر في خصوص ما إذا كان الاستعمال على سبيل الاستقلال فكأن اللفظ لم يستعمل إلا فيه كما ستعرف. إذا عرفت ذلك فإن تفصيل القول فيه يقع من جهات عديدة.

الجهة الأولى في تحرير محل النزاع بين الأعلام: أنه لا إشكال كما عرفت في أنّ محل النزاع ما كان كل واحد من المعنيين مستقلاً في مقام تعلق الإرادة الاستعمالية به بأن يكون اللفظ كاشفاً عن كل منهما مستقلاً فيكون بمنزلة أن يستعمل فيهما مرتين وعلى حدة فيكون هناك كشفان ،والاستقلال المقصود هو الاستقلال الاستعمالي لا الحكمي وهذا المعنى هو الذي وقع مورد البحث. وقيل: إنه واضح الاستحالة كما ستعرف وأمّا إذا أريد باستعمال اللفظ في أكثر من معنى استعماله في معانٍ متعددة مستقلة غير مرتبطة إلا أنه بكشف واحد نظير العام الاستغراقي الذي يراد به كل فرد بلا ارتباط له بغيره من الأفراد ويجعل اللفظ العام كاشفاً عن الجميع، فهذا المعنى واضح الإمكان لبداهة صحة استعمال العام على نحو الاستغراق والشمول ولا محذور فيه كما أنه لم يتوقف فيه أحد.

تفصيل ذلك: أنّ استحالة التقريب الأول يبتني على لحاظ كون اللفظ فانياً في المعنى بجعله وجهاً ومرآة له بحيث يكون المعنى كأنه هو الملقى رأساً وعليه يكون الاستعمالفي المتعدد ممتنعاً لأنّ استعمال اللفظ حينئذٍ في معنى يستلزم افناءه مرتين وهو يقتضي أن يلحظ بلحاظين آليين وهو ممتنع لاستحالة اجتماع المثلين في شيء واحد في آن واحد وسيأتي تحقيقه وأمّا بناءً على نظرية العلامية التي تقدم ذكرها وكون اللفظ علامة للمعنى كان الاستعمال في أكثر من معنى ممكنا إذ لا مانع من أن يكون الشيء الواحد علامة لأكثر من معنى وكاشفاً عن أمرين مع كونه ملحوظاً بلحاظ واحد، كما هو شأن العلامة فمثلاً أن العلامة المنصوبة في الطرق ربما تكون بياناً لأمورٍ متعددة من تعيين المسافة وأرض بني فلان ونحو ذلك.

وقد أشكل على ذلك بأن المقصود من جعل اللفظ علامة للمعنى أنه سبب لحصول العلم والانتقال إلى المعنى فهو سبب للأعلام والتفهيم الذي معناه ايجاد العلم والفهم، وحينئذٍ يمتنع أن يكون اللفظ محققاً لإعلامين وتفهيمين لامتناع أن يكون الوجود الواحد ايجادين لاتحاد الوجود والايجاد حقيقة وإن تغايرا اعتباراً، وسيأتي تحقيق ذلك.

إلا أنه أورد المحقق الاصفهاني رحمه الله على دعوى امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى بالنقض بموارد:

الأول: العموم الاستغراقي فإنه يلحظ كل فرد من أفراد العام مستقلاً وعلى الانفراد ويحكم على كل فرد بحكم واحد، كذلك يصح استعمال اللفظ الواحد في كل معنى على انفراده

ص: 167

فاعتبر أن يكون الاستقلال الاستعمالي بمنزلة الاستقلال الحكمي الذي هو صحيح فيصح الأول أيضاً.

الثاني: أن أفراد العام ربما تكون غير متناهية فلا يمكن لحاظ كل منها بنحو الاستقلال والحكم عليها فيحكم عليها بتوسط عنوان يكون كاشفاً عنها فيكون لحاظه لحاظاً لها، وعليه فكما يكون المفهوم الواحد فانياً في أفراده المتعددة كذلك يمكن أن يكون اللفظ الواحد فانياً في المعاني المتعددة عند الاستعمال والحاصل أن ما يريده المحقق المذكور كما ذكره بعض الأعلام هو التلازم بين الاستقلال الاستعمالي وبين الاستقلال الحكمي فإذا صح في الأخير صح الأول أيضاً((1)).

وأجيب عن هذه الشبهة بوجهين:

الأول: بأن النقض بالحكم في الأول غير تام لأن الحكم يختلف عن الاستعمال فإن اللفظ يكون فانياً في المستعمل فيه، وليس كذلك الحكم فإنه لا يفنى في موضوعه، وإن توقف على تصوره بأي نحو كان ولا محذور فيه وأمّا النقض الثاني بأن ألفاظ العموم غير فانية وحاكية عن كل فرد مستقلاً فليس في العمومات ما يكون عنواناً لكل فرد بانفراده كي يكون فانياً فيه.

وفيه:

أولاً: إنّ قضية فناء اللفظ في المعنى موضوع بحث كما سيأتي فهو بنائي.

وثانياً: إنّ الاستدلال بالموردين في النقض إنما هو لأجل بيان إمكان تصوير استعمال اللفظ في أكثر من معنى عند العرف والموضوع عرفي أكثر من كونه دقياً عقلياً.وثالثاً: إنّ النزاع في ألفاظ العموم كونها فانية أو لا نزاع صغروي، فلو دلّ لفظ على ما ذكره رحمه الله يصح النقض به على ما نحن فيه، وسيأتي.

إنّ النكرة إنما تفيد العموم على سبيل البدل.

الثاني: ما ذكره بعض الأعلام من أن منشأ توهم النقض هو الخلط بين ما هو المقصود في المقام الاستعمال أي إرادة المعنى استقلالاً لا ضمناً وهو إرادة المطلق مقابل المقيد مع أنّ المقصود في مقام الحكم إرادة تفهيم الجامع بين المطلق والمقيد بنفسه.

وفيه: أنه خلاف الفرض فإنّ المقصود في الحكم إنما الحكم على الأفراد بلحاظ العنوان الذي يكون كاشفاً عنها وتكون ملحوظة باللحاظ المستقل وعلى انفراد.

المورد الثالث: النقض بالوضع العام والموضوع له الخاص، فإنه كما يمكن وضع اللفظ إلى كل واحد من الأفراد بتوسط عام، وفي باب الاستعمال أيضاً كذلك فيستعمل اللفظ في كل واحد من المعاني بتوسط عنوان عام.

وأجيب عنه: بأنه فرق بين مقام الاستعمال ومقام الوضع، فإنّ اللفظ فانٍ في باب الاستعمال في المعنى وليس كذلك في باب الوضع فإنه ملحوظ بالاستقلال، وأمّا نفس الوضع فهو كالحكم لا يحتاج إلا إلى لحاظ الموضوع له.

ص: 168


1- - نهاية الدراية - ج1 / ص64 - مصدر سابق.

والحاصل: أنه يمكن أن يكون مقام الاستعمال نظير مقام الحكم في استعمال اللفظ في أكثر من معنى استقلالاً وما ذكر إنما هو خلط بين الأمور العرفية التي يبتني عليها الوضع والاستعمال والحكم وسيأتي مزيد بيان.

الجهة الثانية في إمكان استعمال اللفظ المفرد في أكثر من معنى وامتناعه:

وقد ادعى الامتناع واستدلّ عليه بوجوه وهي إما ترجع إلى الاستحالة العقلية وهي تختلف من حيث المنشأ والسبب إما النفس أو اللفظ أو السامع أو ترجع إلى الامتناع المحاوري وهذه الأدلة مختلفة من حيث السبب فإن بعضها يرجع إلى النفس أو اللفظ أو السامع.

الأول: ما نسب إلى المحقق الآخوند رحمه الله انّ الاستعمال عبارة عن إفناء اللفظ في معناه لأن اللفظ ملحوظ باللحاظ الآلي ومرآة للمعنى ولا يعقل فناء الواحد في اثنين لأنه مع فناء اللفظ في أحد المعنيين فأي وجود يبقى له لكي يفرض فناؤه في المعنى الآخر ومن هنا قالوا أن الفناء يستدعي العينية في التصور واللحاظ وهو خلاف التعدد((1)).

وفيه: ما عرفت مكرراً من أن هذه القضية لا أصل لها في عالم الألفاظ والمعاني فإن للفظ نحو تعيين كما أن للمعنى نحواً من التعيين ولا يعقل الفناء في مثل ذلك.

نعم لا ريب في أن اللفظ عنوان مشير إلى المعنى ويصح أن يكون شيء واحد عنواناً ومشيراً إلى شيئين على أن هناك بحث طويل في إمكان الفناء واستحالته في الواحد.يضاف إلى ذلك أن الآلية بالمعنى المذكور غير معقول في مقام الاستعمال لأن الاستعمال ليس إفناء بل هو إيجاد اللفظ بقصد الانتقال إلى المعنى وهذا يلائم استعمال اللفظ الواحد في معنيين.

الثاني: ما أشار إليه المحقق العراقي رحمه الله في مقالاته من أنه بناءً على أن اللفظ في مقام الاستعمال يلحظ لحاظاً آلياً يلزم منه في حالة استعمال اللفظ في أكثر من معنى اجتماع لحاظين على ملحوظ واحد وهو اللفظ لأن المفروض أن الوصول إلى المعنى لا يكون إلا عن طريق اللفظ وهو يعني مرور لحاظين من اللفظ إلى المعنيين في وقت واحد وهذا هو معنى لزوم اجتماع لحاظين آليين على اللفظ في استعمال واحد وهو غير معقول((2)) وفيه:

أولاً: أنّ اعتبار الآلية للفظ في مقام الاستعمال فاسد بل الصحيح ما ذكرناه من أنّ الاستعمال إيجاد اللفظ بقصد تنبيه ذهن السامع للانتقال إلى معناه بالمواضعة وفي مثل ذلك يصح استعمال منبه إلى معين.

وثانياً: وعلى فرض التنزل لكن اللحاظ الآلي للفظ في مقام الاستعمال لا يعني أن لحاظاً واحداً يعبر من اللفظ إلى المعنى ليلزم منه محذور عبور لحاظين عن اللفظ إلى المعنى.

ص: 169


1- - كفاية الاصول - ص35 - مصدر سابق.
2- - مقالات الاصول - ج1 / ص162 - مصدر سابق.

بل المراد منه أن اللفظ بالوجود الذهني ليس ملحوظاً من قبل النفس استقلالاً، بل الوجود الذهني أعم من التوجه والالتفات، فلا يلزم من استعمال اللفظ استعمالاً أدائياً لتفهيم معنيين اجتماع لحاظين آليين عليه.

ثالث: ما نسب إلى المحقق النائيني رحمه الله من أن النفس باعتبار بساطتها يمتنع في حقها أن تلحظ معنيين مستقلين في آن واحد، والاستعمال في أكثر من معنى يستدعي ذلك وإلا يفقد الاستعمال أهم مقوماته وهو اللحاظ((1)).

وأورد عليه بعض المحققين من أن النفس على بساطتها لها القدرة على تصورات وانتقالات متعددة في آن واحد ويدل على ذلك تصور النفس أجزاء القضية عند اجتماعها في زمان ايقاع النسبة والحكم وأن اللفظ والمعنى متزامنان دائماً وهما وجودان ذهنيان بل للنفس قدرات خلّاقة كثيرة متعددة الجوانب فإنّ لها القدرة على تصور اجتماع النقضين ثم الحكم عليه بالامتناع وغير ذلك((2)).

الرابع: ما أشار إليه المحقق العراقي رحمه الله أيضاً من أنّ استعمال اللفظ في معنيين يستلزم منه أن يكون اللفظ علّة لحضور معنيين في ذهن السامع وهو مستحيل لامتناع صدور الكثير عن الواحد.

وبعبارة أخرى أن اللفظ عند استعماله في معنيين يقتضي إيجاد مفهومين في ذهن السامع وهو غير ممكن لأنه من توارد المعلولين على علة واحدة.ويرد عليه: أن الدلالة واسطة كما عرفت لا مقتضٍ ولا مصدر حتى يلزم منه ما ذكر مضافاً إلى أن اللفظ بلحاظ كل واحد من الوضعين قد اكتسب حيثية معينة وقرناً خاصاً بكل واحد من الوضعين مغاير للحيثية التي يكتسبها بتوسط الوضع الآخر وعلى فرض التنزل يستلزم منه استحالة اجتماع ترتب انفهامين في ذهن السامع على اللفظ لا استحالة استعمال اللفظ في أكثر من معنى لأن الاستعمال لا يتقوم بفعلية الانفهام بل بشأنيته في نفسه ولذا ربما يكون المستعمل في مقام الإجمال ومن جميع ذلك يظهر أنه لا استحالة من جهة النفس أو اللفظ أو السامع وهذه الأدلة كانت في مقام بيان الاستحالة العقلية.

السادس: ما ذهب إليه بعض من أنّ استعمال اللفظ في أكثر من معنى يستلزم تكثر الواحد لأن تعدد الدلالة المطابقية مع الاستقلال في كل واحد منهما -كما هو المفروض- يستلزم تعدد الدال قهراً مع أنه واحد في الاستعمال الواحد.

وفيه: إن تكثر الواحد بتعدد الاعتبار واختلاف الجهات والحيثيات لا بأس به وقد عرفت آنفاً من أنّ كل واحد من الوضعين قد اكتسب قرناً معيناً يختلف عن الآخر.

الخامس: ما ذكره المحقق الاصفهاني رحمه الله وإن اختلفت عباراته في بيانه فقال في وجهه بأنّ الاستعمال عبارة عن صيرورة اللفظ وجوداً تنزيلياً للمعنى فلا يمكن أن يكون لفظ واحد تنزيلاً لمعنيين وهو مستحيل لأن الوجود الحقيقي واحد, فليس هناك أمران حقيقيان لينزل كل منهما منزلة معنى، وفي وجه آخر قال: بأن الاستعمال في مفروض الكلام وهو استعمال اللفظ في أكثر من معنى إيجاد المعنى باللفظ بوجود تنزيلي وبما أن الإيجاد

ص: 170


1- - أجود التقريرات - ج1 / ص76 - مصدر سابق.
2- - محاضرات في اصول الفقه - ج1 - ص235 - مصدر سابق.

متحد مع الوجود حقيقة وذاتاً وإن اختلفا اعتباراً امتنع استعمال اللفظ في معنيين فإنه من المستحيل أن يكون الوجود الواحد إيجاداً لكل واحد من المعنيين بحيث يكون ايجادين للمعنيين لأنه إذا كان إيجاداً لأحد المعنيين امتنع أن يكون في نفس الوقت إيجاداً آخر للمعنى الآخر((1)).

ويرد عليه:

أولاً: إن مقولة أن الوجود متحد مع الإيجاد وأنه يستحيل أن يكون وجوداً واحداً إيجاداً لمعنيين إنما تتم في الوجود الحقيقي لا الوجود الاعتباري التنزيلي فإن التنزيل مما يكتسب سعته وضيقة من المنزل للمعتبر فإذا أمكن تنزيل اللفظ منزلة المعنيين كان التنزيل تابعاً له.

وثانياً: أن الإيجاد التنزيلي لا يقتضي الاستقلال في الوجود الحقيقي وإن اقتضى الاستقلال في الوجود التنزيلي فإن استقلال وجود ما استقلالٌ في عالم ثبوته وموطن تحققه.

وثالثاً: أن تعدد المنزّل عليه لا يستدعى تعدد المنزّل إذ يمكن أن يكون الوجود الواحد منزلاً منزلة أمور متعددة بتنزيلات متعددة فلا نحتاج إلى وجود حقيقي آخر لينزل منزلة المعنى الآخر، نظير وضع اللفظ للمعنيين.ورابعاً: إن التنزيل إذا كان المراد منه مجرد اعتبار أن اللفظ عين المعنى، كما ورد في أن الطواف بالبيت صلاة فليس هذا حقيقة الاستعمال وإن كان المراد كونه مرآة اللفظ للمعنى وكونه وجهاً له في مقام الاستعمال وأنه يستلزم منه فناؤه في اثنين أو اجتماع اللحاظين، رجع إلى الوجهين السابقين ويرد عليه ما أورد عليهما.

والحق أن جميع ما ذكر من الأدلة في وجه الاستحالة لا تستقيم مع حقيقة الاستعمال والوضع اللذين هما من الأمور الاعتبارية التي تتبع منشأ الاعتبار وأن جميع تلك الوجوه والمناقشات تدور حول الأمور العقلية كما مر سابقاً.

ثم أن السيد الخوئي رحمه الله بنى الحكم في هذا الموضوع على ما اختاره في حقيقة الوضع من أنه التعهد، فيكون الاستعمال علامة للمعنى لأنه ليس إلا فعلية ذلك التعهد وجعل اللفظ علامة لإبراز ما قصد المتكلم تفهيمه فلا مانع من أن يكون علامة لإرادة المعنيين المستقلين.

ويظهر الإشكال فيه مما ذكرنا سابقاً فالحق أنه يمكن استعمال اللفظ في أكثر من معنى مستقلاً وأن الاستقلالية أيضاً من الأمور الاعتبارية ويمكن اعتبارها من جهتين ولا محذور فيه.

نعم ربما يكون بدون القرينة خلاف المحاورات الصحيحة والارادات الاستعمالية ولعل هذا هو سبب الإشكال وإن عبّر بصورة عقلية بحتة ،كما عرفت ، وسيأتي بحثه.

ولكن الخلاف في بقائه على الحقيقة أو ينقلب إلى المجاز وهذا ما يقع البحث عنه في الجهة التالية.

ص: 171


1- - نهاية الدراية - ج1 / ص64 - مصدر سابق.

الجهة الثالثة: عرفت أن الحق عدم امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى معين على وجه الاستقلال وعدم المحذور فيه عقلاً إلا أنه وقع الكلام في صحة ذلك فقيل بعدم الصحة واستدل عليه بوجهين:

الأول: أن اللفظ موضوع للمعنى بقيد وحدة المعنى والاستعمال كذلك خلافه.

ويمكن الجواب عنه أولاً: أن الموضوع له ذات المعنى مع قطع النظر عن الجهات الخارجية من الوحدة وغيرها ويدل عليه الوجدان اللغوي، والتبادر عند العرف في عملية الوضع فإن الإنسان في حال الوضع لا يلحظ سوى نفس الذات ويضع اللفظ له.

ثانياً: لو سلّم كون الموضوع له هو المعنى بقيد الوحدة كما قيل ، فإنه لا يستلزم منع استعمال اللفظ في أكثر من معنى، إذ يكون حينئذٍ الاستعمال مجازياً محافظة على ذات الموضوع ولا مانع منه إلا إذا استلزم عمومية المجاز المستنكر.

وفيه: أن المستدل يريد أن يكون الاستعمال حقيقياً.

وثالثاً: إن الوحدة المدعى أخذها في المعنى الموضوع له على حالات فإنها إن كانت بمعنى الوحدة الذاتية المساوقة لشيئية الشيء في مقابل كون الشيء اثنين.

فمن الواضح أنها محفوظة في موارد استعمال اللفظ في أكثر من معنى وإن كانت بمعنى الوحدة اللحاظية الاستغراقية أي كون ملحوظاً باللحاظ الاستقلالي لا الضمني في مقام الاستعمال، - فهو على فرض إمكانه - ملحوظ في المقام إذ الفرض ملاحظة كل واحد من المعنيين بلحاظ استقلالي في مقام الاستعمال لا ملاحظة المجموع شيئاً واحداً مركباً وإلا كان استعمال اللفظ في المعنى الواحد.وإن كانت بمعنى نفي ثبوت لحاظ للمعنى الآخر في مقام الاستعمال فهو غير معقول أخذه قيداً في المعنى الموضوع له لأن المراد به نفي واقع اللحاظ الآخر لا مفهومه وهو ممتنع لما عرفت مكرراً من أن طرفي العلقة الوضعية هما مفهومان تصوريان لا أن يكون أحدهما مفهوماً والآخر وجودياً، لأن الانتقال الوضعي تصوري البتة.

والحق أن جميع تلك الحالات خارجة عن موضوع البحث فإن المراد بالوحدة الاعتبارية كأصل الوضع والاستعمال فهو بمكان ولكنه مردود بالوجه الأول.

الوجه الثاني: وهو أنّ الوضع كان في حال الوحدة أو ما قيل: بأن قيد الوحدة له دخل في غرض الواضع إذ لم يؤخذ قيداً في الموضوع له لاستحالة تقيده به فحينئذٍ يمتنع إطلاق المعنى الموضوع له فيلزم التقييد به في مقام الاستعمال الجاري على طبق الوضع.

وفيه:

أولاً: أن الوضع وإن صح ثبوتاً في حال الوحدة لكن حالات الموضوع له عند الوضع وأغراض الواضع غير دخيلة في الوضع والموضوع له بالوجدان اللغوي كما عرفت آنفاً مع أنه لو كان كذلك لا يستلزم تعميم المجاز لأكثر الألفاظ لولا كلها.

وثانياً: أن ضيق غرض الواضع لا يستلزم ضيق نفس العلقة الوضعية، كما هو واضح.

هذا كله بحسب الوضع وقواعد اللغة فلا مانع من ذلك ولكن هل هو خلاف الظهور العرفي في المحاورات؟

ص: 172

قيل: نعم لأن ظهور حال المتكلم التطابق وإيجاد علاقة واحدة بين عالم اللفظ والإثبات وعالم المقصود والمراد، فإن مقتضى التطابق أن يكون بإزاء كل جزء من الكلام جزء من المعنى لا جزءان . والحق أن يقال أن ذلك وإن كان هو الأعم الأغلب بل التعدد خلاف الأصل والوجدان عند وضعنا للأعلام الشخصية لكن قد يتعلق غرض المتكلم خلاف ذلك فيستعمل لفظاً واحداً في أكثر من معنى لغرض صحيح محاوري وهو كثير في المحاورات ولذلك نحكم بالتطابق لو لم يكن ظهور آخر يدل على هذا النوع من الاستعمال فيكون اللفظ مجملاً إذا لم تكن قرينة على التعيين هذا كله بالنسبة إلى المفرد وأمّا الكلام في المثنى والجمع فقد وقع النقاش فيهما.

الجهة الثالثة في استعمال اللفظ في أكثر من معنى في التثنية والجمع:

وتحقيق الكلام فيه يقع: تارةً في استعمال المثنى والجمع في أكثر من معنى وأخرى في أصل دلالتهما.

أمّا الأولى: فقد ذهب جمع منهم صاحب المعالم إلى جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى بنحو المجاز في المفرد وبنحو الحقيقة في التثنية والجمع، وعلّله في المعالم بأنّ اللفظ موضوع للمعنى بقيد الوحدة فاستعماله في أكثر من معنى فيه إلغاء للقيد المذكور فيكون استعمالاً مجازياً بعلاقة الجزء والكل كما عرفت سابقاً، ولا يجيء هذا البيان في المثنى والجمع لأنهما في قوة تكرار اللفظ فيكون لهما حكم التكرار، فكما يصحإرادة معنى معين من لفظ (عين) وغيره من لفظ (عين) آخر كذلك يصح إرادة المعنيين معاً من لفظ (عينين) بلا تجوّز لأنهما في قوة (عين وعين).

وذكر المحقق العراقي رحمه الله في تحريره النزاع في التثنية والجمع بنحو آخر وهو الامتناع في المفرد والجواز في المثنى والجمع وأمّا القول بالجواز في المفرد على نحو المجاز وفي المثنى والجمع((1))

على نحو الحقيقة.

وغير خفي أن تحريره النزاع على الأول لا يتناسب مع البحث العلمي إذ بعد الامتناع بالدليل العقلي في المفرد لا يصح القول بالجواز في التثنية والجمع لأنهما من عوارض المفرد فيسري المحذور فيهما.

والحق أن يقال: أنّ التثنية والجمع يتبعان المفرد في الجواز والمنع لأنهما من عوارضه مع أنه لو كانت الدلالة في التثنية والجمع بنحو تعدد الدال والمدلول فهو خارج تخصصاً عن مورد البحث، لأنّ مورده ما إذا كان الدال واحداً صورة، واللفظ مع علامتي التثنية والجمع يكون من تعدد الدال، كما هو واضح.

وما ذكره صاحب المعالم وغيره مردود.

أولاً: بأنه خروج عن مورد البحث إذا فرض أن المثنى دال على مفاده بنحو تعدد الدال والمدلول مادة وهيئة بمعنى أنّ المادة تدل على الطبيعة التي وضع لها اللفظ وهيئة المثنى تدل على المتعدد منه.

وثانياً: أن الأمر في التثنية والجمع ليس كذلك فإنهما بمنزلة تكرار اللفظ المفرد أي (المادة) فإذا كان المفرد مستعملاً في معنى واحد فالتثنية والجمع في قوة تكراره فلا

ص: 173


1- - بدائع الأفكار - ج1 / ص152 - مصدر سابق.

يستفاد من التثنية والجمع معنى آخر، وإن كان المفرد (أي المادة) مستعملة في معنيين لزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى، وكان التكثير مستفاداً من نفس اللفظ المفرد (أي المادة) وحينئذٍ تكون التثنية أيضاً مستعملاً في المتكرر من كل من المعنيين وبذلك يلزم استعمال اللفظ في اكثر من معنى في اللفظ (أي المادة) والتثنية (أي الهيئة) معاً لكنه يلزم منه إلغاء قيد الوحدة التي اتخذها صاحب المعالم في الوضع.

وربما يتوهم بأنّ محذور استعمال اللفظ في أكثر من معنى في هذا الفرض إنما يلزم في المادة (أي اللفظ المفرد) لا في الهيئة لأنها لم تستعمل إلا في معناها وهو إفادة المتعدد من مدخولها غاية الأمر أن مدخولها أصبح ذا معنيين فهو من قبيل تثنية ما يكون متعدداً بنفسه كالعشرة فإن دلالة عشرتين على عشرين ليس من استعمال هيئة المثنى في أكثر من معنى.

ويمكن الجواب عنه بأن التثنية والجمع من عوارض المفرد بما له من الخصوصية والحيثية فإن كان مدلول المفرد متعدداً يستلزم أن تكون هيئة المثنى كذلك.

نعم لو استعملت المادة في مجموع المعنيين على نحو كان المجموع مدلولاً واحداً لم يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى على مستوى المادة ولكنه خلف الفرض الذي هو استعمال المادة في أكثر من معنى على سبيل الاستقلال، فيكون للفظ المادةمدلولان مستقلان والهيئة تفيد المتعدد من مدلول المادة ومسألة العشرة وتثنيتها خارجة عن ذلك إذ لم تستعمل المادة فيها إلا في مدلول واحد.

الجهة الثانية: في أصل التثنية والجمع فقد قيل بأنّ الأصل الموضوعي يقتضي أن تكون إفادة المثنى والجمع لمعناهما على نحو تعدد الدال والمدلول.

ولكن يورد عليه بأنه لا يتم في تثنية الأعلام الشخصية إذ ليس المعنى الموضوع له لفظ المادة كلياً قابلاً للتكثير بهيئة المثنى أو هيئة الجمع وكذلك الحال في تثنية اسم الإشارة فلا بد من تعيين طريقة لإفادة المثنى والجمع وقد ذكروا في ذلك وجوهاً.

الأول: التأويل وتصوير جهة جامعة بين كل واحد من التثنية والجمع وبين المفرد بعد أن كان معناهما لغة وعُرفاً فردان أو أفراد من شيء واحد، وأن تلك الجهة الجامعة إمّا أن تكون في النوع المشترك بين الأفراد أو الجنس البعيد كما يقال: الماء والنار جسمان أو هما والتراب أجسام وقد يكون مطلق الشيئية كما يقال: الواجب والممكن شيئان وقد تكون مجرد الاشتراك في التسمية كالتثنية والجمع بالنسبة إلى الأعلام الشخصية.

وأورد عليه بأنه صحيح في غير الأخير لأن فيه لازم حمل المادة على المسمى تنكير اللفظ وإخراجه عن العلمية فيكون (زيدان) في قوة قولنا (اثنان ممن يسمى بزيد) وهو خلاف ما عليه في الأعلام.

وفيه: أن المراد من أخذ لفظ المسمى هو العنوان المشير إلى المعنون على نحو المرآتية دون أخذه مستقلاً عنه وكذلك الحال في تثنية اسم الإشارة فإنه أخذ لكلي المشار إليه المنطبق على الأفراد ليكون مرآة لها ولعل ذلك هو مراد المحقق العراقي رحمه الله بأنه اشارة إلى المعنى الكلي لمادتها وهو كلّي المفرد المذكور بالنسبة إلى كلمة هذا مثلاً في الرتبة السابقة على تعيّنه بطرو الإشارة عليه.

ص: 174

الثاني: أن تكون إفادة المثنى والجمع على نحو تعدد الدال والمدلول بأن يكون كما ذكره السيد الخوئي للمثنى والجمع وضعين أحدهما للمادة والآخر للهيئة وهي الألف والنون أو الواو والنون.

فتكون الهيئة موضوعة للدلالة على إرادة المتعدد من مدخولها وأمّا المادة فهي موضوعة للطبيعة المهملة العارية عن جميع الخصوصيات حتى الخصوصية اللابشرطية وحينئذٍ أصبح للمثنى قابلية الدلالة على كل من المعنيين كما في المشترك((1))

والفرق بين هذا الوجه عن سابقه بأن في هذا لا يحتاج إلى التأويل أو مفهوم المسمى الذي قد يقال بأنه معنى مجازي بخلافه في الوجه الأول كما لا يرد على هذا الوجه ما أشكل على الوجه الأول من خروج أسماء الأعلام بناءً على التأويل عن العلمية.

الثالث: أن تكون المادة في المثنى والجمع غير مستعملة في شيء وأن الهيئة هي التي تستعمل في إفادة تكرار لفظ المادة، فبدلاً أن يقال: عين وعين نقول عينين ويريد بذلك إخطار تصور عين وعين قاصداً بهما إفهام العينين.وهو وإن سلم عن الإشكالات السابقة وينطبق على الأعلام وأسماء الإشارة من دون محذور وعلى أسماء الأجناس لكن تجريد المادة عن أصل المعنى خلاف الوضع والاستعمال والأصل.

نعم يمكن أن نتصور هذا الوجه بطريق أمثل كما يستفاد من كلمات علماء اللغة وبعض المحققين وهو أنّ المادة تستعمل في طبيعي اللفظ من باب استعمال اللفظ في نوع اللفظ المتضمن للمعنى وهيئة المثنى والجمع إنما تدلان على إرادة فردين من طبيعي لفظ المفرد بما أنهما دالان على معنييهما فتكون المادة مستعملة في شيء والهيئة مستعملة في تعدد ما أريد من المادة وهذا الوجه وإن كان لا يخلو عن إشكال لأنّ استعمال المادة حينئذٍ يكون إمّا في مفهوم الطبيعي أو يراد تقييد الطبيعي بواقع الدلالة على المعنى وكلاهما باطلان كما هو واضح.

فالحق أن يقال أن استعمال المثنى والجمع وسائر الطوارئ التي تطرأ على المادة إنما حصل لأجل الاقترانات التي كانت متواجدة عند الوضع التي أفادت تلك الدلالات الطارئة والهيئات اشارات لها والوجوه السابقة إن رجعت إلى ما ذكرنا فهو وإلا فهي تمحلات لا تخلو عن نقاش.

الجهة الرابعة في الثمرات المترتبة على هذا الأمر: وهي كثيرة مما جعلته من المباحث المهمة الأصولية ونحن نذكر بعضاً منها:

الأولى: إذا ورد أمرٌ شرعيٌ وتعلق بأمرين في كلام واحد كالأذان والإقامة معاً، فإن ظاهر الأمر يدل على الوجوب وكون الطلب الزامياً، ثم جاء دليل منفصل يدل على عدم وجوب أحدهما كالأذان فإن مقتضى الجمع العرفي تقديم الدليل المنفصل وحمل الأمر المتعلق بالأذان على الاستحباب لا الوجوب بتصرف في ظاهره فإذا قلنا بجواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى نقول ببقاء الأمر على ظاهره في الوجوب في الإقامة لعدم الموجب لرفع اليد عنه بخلافه في الأذان فإنه يحمل على الاستحباب لأجل القرينة وأمّا

ص: 175


1- - محاضرات في اصول الفقه - ج1 / ص211 - مصدر سابق.

إذا قلنا بالامتناع كان الدليل المنفصل قرينة على التصرف في ظاهر الأمر إمّا بحمله على الاستحباب مطلقاً في الموردين أو يحمل على الطلب الجامع بين الوجوب والاستحباب بالنسبة إلى الإقامة والأذان ومثل ذلك كثير في الأخبار.

الثانية: تجب القراءة في الصلاة كما هو معلوم، وعرّفوا القراءة بأنها استعمال اللفظ في اللفظ فإذا قصد بالآية التي استعملت فيه كان ذلك من استعمال اللفظ في أكثر من معنى فإذا قلنا بالامتناع لم تتحقق القراءة، وحينئذٍ إن استعمل اللفظ في المعنى امتنع استعماله في اللفظ فلا تتحقق القراءة مع أن المنقول استحباب ذلك وأنه من كمال الصلاة قصد معاني الآيات والالتفات إليها بل الحث على ذلك.

وقد أجيب عن ذلك بوجوه:

منها: أن قصد المعنى من اللفظ لا يكون في عرض القراءة بل في طولها، فإنّ القارئ يقصد الحكاية عن اللفظ باللفظ وفي نفس الوقت بقصد المعنى باللفظ المحكي دون الحاكي فلم يستعمل اللفظ في معنيين فيرتفع المحذور، إذ أن كل لفظ قد استعمل في معنى.

ولعل هذا الجواب هو المعروف بينهم.ونوقش بعدة مناقشات أهمها أنه يستلزم اجتماع اللحاظ الآلي واللحاظ الاستقلالي في مورد واحد وذلك لأن اللفظ المحكي باللفظ بما أنه محكي ومستعمل فيه يكون ملحوظاً بالاستقلال، وبما أنه حاكٍ عن المعنى وفانٍ فيه يكون ملحوظاً آلة فيجتمع اللحاظان في آن واحد.

ومنها: أن يكون قصد المعنى مقارناً للقراءة لا قصده بها، فمثلاً نطلب الهداية مقارناً لقراءة ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ لا الطلب بها.

وأشكل عليه بأنه في الحقيقة التزام بالمحذور المذكور ولكنه مردود.

ومنها: أنه ليس من القصد أبداً بل هو من الحالات المقارنة للمتكلم بالآية لا من المستعمل فيه.

والحق أن يقال أن القراءة ليست هي حكاية الألفاظ بالألفاظ واستعمالها فيها حتى يستلزم الإشكال المزبور، بل القراءة هي ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل ولا يقال ذلك لكل جمع فلا يقال: قرأت القوم إذا جمعتهم، ويدل على ذلك أنه لا يقال للحرف الواحد إذا تفوّه به قراءة.

وعلى ذلك إذا كان الشخص في مقام الترتيل وتلفظ الكلمات المترابطة المنظّمة يتحقق عنوان القراءة فالذي تتحقق به القراءة أن تكون الكلمات منظّمة وأن يكون في مقام الترتيل فيكون انطباق القراءة قهرياً فلا نحتاج إلى قصد حكاية الألفاظ بالألفاظ.

وحينئذٍ يمكن أن يقصد معاني الكلمات في نفس الوقت لاسيما إذا كان المتكلم في حالة من الحالات الطارئة كحالة الدعاء والمسألة بل لو لم يكن هذا القصد ربما يسلب عنوان القراءة فلا يكون استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

ولعل ما ذكره السيد الوالد رحمه الله من أن ذلك من الحالات المقارنة للمتكلم لا من المستعمل فيه((1)) هو الأقرب إلى ما ذكرنا.

ص: 176


1- - تهذيب الاصول - ج1 / ص36 - مصدر سابق.

ومما ذكرناه يظهر الوجه في ما ذكره المحقق الاصفهاني رحمه الله في حاشيته على الكفاية بأنّ المراد من القراءة ذكر ما يماثل كلام الغير من حيث أنه يماثله في قبال ذكره من تلقاء نفسه.

أو ما ذكره بعض الأعلام من أن المراد بالقراءة إيجاد طبيعي المقروء بفرده مع قصد ذلك.

فإنه خلاف المعنى المعروف للقراءة كما ذكرنا وإن أمكن تأويلهما بما يرجع إلى المعنى اللغوي للقراءة.

الثالثة: ورد في بعض الأخبار (أن للقرآن سبعة بطون أو سبعون بطناً) وربما يكون المراد من العددين مثالاً للكثرة كما هو عادة العرب في التمثيل للكثرة بالسبعة أو السبعين وقد توهم بعضهم منافاة ذلك لما تقرر من امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى لأن ظاهر تلك الأخبار بأن المعاني المقصودة من الألفاظ القرآنية بهذا العدد.

وقد دفع المحقق الخراساني رحمه الله ذلك بأن الحديث لا دلالة له عن قصد هذه المعاني من باب قصد المعنى من اللفظ واحتمل فيه أحدِ وجهين:الأول: أن يكون المراد منه إرادة هذه المعاني في أنفسها حال الاستعمال في المعنى الواحد لا أنها مرادة من اللفظ.

الثاني: أن يكون من البطون لوازم المعنى المستعمل فيه اللفظ وإن كانت تلك اللوازم خفية بحيث لا تصل إليها أذهاننا لقصورها((1)).

ورجّح السيد الخوئي الوجه الثاني ونفى الأول لأن إرادة المعاني في أنفسها لا يوجب عظمة القرآن وعلّو منزلته إذ يمكن أن يتحقق في غير الاستعمالات القرآنية من الاستعمالات العرفية بل يمكن أن يحصل في الألفاظ المهملة إذ يمكن أن ترد على الذهن في حال التكلم بها معاني كثيرة كما أن ذلك لا يعتبر من بطون القرآن((2)).

والحق أنّ ما ذكره رحمه الله خلاف الظاهر من الحديث المذكور الذي ورد لبيان فضل القرآن وعلّو منزلته واختلافه عن سائر الكتب والمقالات في ألفاظه ومعانيه وأنه يمكن لنا الرجوع إلى روايات أخرى في بيان معناه مما ورد في فضل القرآن بأنّ له ظاهر يفهمه العرف وباطن لا يفهمه إلا الراسخون وله تنزيل في المورد الذي نزل فيه وتأويل ينطبق على غير مورد النزول.

فمن جميع ذلك نستفيد أن القرآن كتاب إلهي تضمّن من العلوم والمعارف ما يستفيد منه الناس بقدر استعداداتهم فالعامي يفهمه حسب ما أعطي من الفهم وغيره يستفيد حسب ما عنده من العلم والمعرفة فإنّ البشر قد خلقوا متفاوتين بحسب الإدراكات والاستعدادات وهذا من مميزات هذا الكتاب الإلهي مما جعلته معجزة خالدة فمن يقول بأنّ البطون السبعة أو السبعين هي إشارات ورموز كما ذكره السيد الوالد((3))

رحمه الله إن أراد ما ذكرناه فهو وإلا فيحتاج إلى تأويل.

ص: 177


1- - كفاية الاصول - ص38 - مصدر سابق.
2- - محاضرات في اصول الفقه - ج1 / ص213- مصدر سابق.
3- - تهذيب الاصول - ج1 / ص36 - مصدر سابق.

بحث المشتق

اشارة

ص: 178

ذكر السيد الوالد رحمه الله هذا البحث في الأمر الرابع عشر((1)) من الأمور العامة فهو آخرها وأطال الكلام فيه مع كونه خلاف عادته وهذا البحث من البحوث اللغوية أيضاً ولكنه يختلف عن البحوث السابقة التي كانت في تعيين مفاد الحروف والهيئات والجُمل فكان البحث فيها لغوياً تفسيرياً يبين الدلالات العرفية للألفاظ، وفي المقام يرجع البحث إلى تعيين المداليل للألفاظ واكتشاف مدلول اللفظ عند الأصولي عند الشك فيه فلابد من الرجوع إلى الوسائل الخاصة التي ترفع الشك والغموض وهي ثلاثة:

1- الرجوع إلى علوم اللغة.

2- التبادر.

3- البرهان العلمي.وبهذه الوسائل نرفع الشك في تحديد المفاد اللغوي أو العُرفي لألفاظ ودلالات عامة والتي يكون لها التأثير في عملية الاستنباط فيدخل تحت هذا العنوان بحث المشتق وبحوث الأوامر والنواهي والمفاهيم وغيرها مما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وبعد معرفة تحديد موقع هذا البحث ضمن البحوث الأصولية لابد من تمهيد نذكر فيه أمور:

الأول: وقع المشتق مورد البحث في العلوم الأدبية وعلم الأصول فقد بحث في علم الصرف عن هيئات المشتق، وفي علم النحو عن عمل المشتقات ومواقعها من حيث الإعراب وفي علم الأصول وقع الخلاف في وضع المشتق للمتلبّس بالمبدأ خاصة أو للأعم ليشمل المتلبس ومن انقضى عنه المبدأ على السواء.

بعد الاتفاق على أنه مجاز في الأخير وحقيقة في الأول والمراد بالمشتق في المقام كل مفهوم يحمل على الذات فيختص بالأسماء دون الحروف والأفعال وإن كان الأخير من المشتق في اصطلاح آخر. والأسماء إمّا أن تكون من الجوامد أو تكون من المشتقات، والمشتق منها ما يكون وصفاً كأسماء المفاعيل، ومنها ما لا يكون كذلك كأسماء المصادر فيكون ذكر المشتق في عنوان البحث من باب الغالب لا التخصيص إذ المراد به كل محمول يحمل على الموضوع مشتقاً كان أو غيره وتفصيل ذلك:

إن المحمول الذي يحمل على الموضوع إما أن يكون متحداً مع الموضوع ماهيةً كالإنسان إنسان أو حيوان ناطق أي يكون وصفاً عارضاً على الذات كالجنس والفصل والحد التام وهذا النوع خارج عن البحث لأن بانعدام الوصف العارض تنعدم الذات فلا يبقى موضوع في البين فلا تصل النوبة إلى النزاع إلى أن استعمال المشتق فيه حقيقة أو مجاز لعدم تخلف الذاتي واختلافه وبه يتميز العرضي عن الذاتي.

أو يكون منتزعاً من مقام ذات الموضوع من دون ضم ضميمة كالزوجية في مثل قولنا الأربعة زوج وهذا أيضاً خارج عن هذا البحث لأنه لا يتصور الانقضاء في مثل هذا المحمول فهو من لوازم الذات ولا ينفك عنه.

ص: 179


1- - تهذيب الاصول - ج1 / ص37 - مصدر سابق.

أو يكون خارجاً عن الذات مطلقاً ولكن لا يتصور فيه حال الانقضاء بل جميع حالات الموضوع تكون من حال التلبس مثل الإنسان ممكن بالإمكان الذاتي وهذا أيضاً خارج عن مورد البحث لعدم تصور الانقضاء فيه.

أو يكون خارجاً عن الذات ويتصور فيه حال الانقضاء ويكون الوصف العارض عنواناً للذات بملاحظة اتصافها بمبدأ اشتقاقه أو بواسطة ضم ضميمة إلى الذات ولو كانت الضميمة من الأمور الاعتبارية وهذا القسم هو الذي يختص به البحث ويتصور فيه حالات. فتارة: لم يتلبس الموضوع بالمحمول بعد. وأخرى: يكون متلبساً به فعلاً. وثالثة: تلبّس به ثم انقضى عنه التلبس فالقسمان الأوليان ليس فيهما إلا حالة واحدة وهي إما عدم التلبس أو التلبس به فعلاً من كل جهة فيكون الإطلاق في الأول مجازياً وفي الثاني حقيقياً بلا خلاف فيهما وإنما الخلاف في الثالث فالمعروف أنه مجاز وعن جمع أنه على الحقيقة.

ومن جميع ذلك يعلم أنه يشترط في المشتق الذي وقع مورد البحث أمور:الأول: أن يصلح حمله على الذات فإن البحث عن صحة إطلاق المشتق على المنقضى عنه المبدأ فرع أن يحمل على الذات ومما يجري عليها وبذلك تخرج المصادر عن هذا البحث.

الثاني: أن لا تكون حيثية المبدأ التي بها حمل الاسم على الذات ذاتية لها بحيث يستحيل انفكاكها عنها، كما في أسماء الماهيات كالأجناس والأنواع لعدم انحفاظ الموضوع بعد انقضاء المبدأ عنه كما عرفت.

الثالث: أن لا يكون الوصف العارض الذي هو خارج عن الذات مما لا يتصور فيه الانقضاء كالواجب والممكن وقد اعترض على هذا الشرط جمع من الأصوليين بأنه يستلزم منه خروج ما تكون حيثية المبدأ فيه عرضية ولكنها لازمة كالزوج ونحوه من الأسماء.

والتحقيق في الجواب: أن يقال بأن اللزوم وعدم الانقضاء تارة عقلي كما في الذاتيات وهذا خارج عن مورد البحث كما عرفت. وأخرى: خارجي وإن لم يكن عقلياً فهذا داخل في البحث فإنه يمكن فرض الذات فارغة عن المبدأ وإن لم يكن واقعاً خارجاً بل ربما يكون مستحيلاً ولعله لأجل هذا يدخل في النزاع الصاهل والناطق فإنه وإن عبّر عنها بالفصول مسامحة لكنها ليست ذاتية كالإنسان والحيوان فإنّ تلك الأسماء قد دخلت فيها معانٍ حديثة، وعلى ذلك تخرج الجوامد عن النزاع إذا كانت منتزعاً عن الذات كالحجر والإنسان والشجر ولا يتصور فيه الانقضاء ويدخل فيه غير ذلك.

ولو كان ينتزع عن الذات بملاحظة لازم لها يستحيل انفكاكه عقلاً كالزوج والسيف والمنشار ونحوها وعلى هذا المناط تنزل تلك الشروط المتقدمة.

ومن جميع ذلك يعرف أنّ التعبير بالمشتق قد يوهم الاختصاص به مع أن الموضوع أعم منه، فالأولى أن يقال: كل محمول يحمل على الموضوع مشتقاً كان أو غيره، فيدخل في البحث مجموعة كبيرة من الأسماء والأوصاف وإن ناقش في دخول قسم منها بعض الأصوليين ومما ذكرنا يظهر أن إقحام الأمور العقلية الفلسفية في هذا البحث مما يزيده تعقيداً بعد إمكان الرجوع إلى الفهم العرفي الذي يعتمد على الفطرة (فربما يتطابق مع ما ذكره المناطقة) وربما يختلف مع ما ذكروه فيما إذا اعتبر العرف الوصف مما لا ينفك

ص: 180

عن الذات عكس المناطقة أو مما ينفك عنها وإن كان على خلاف ما اصطلح عليه بين أهل المعقول فإن البحث في المقام في الدلالة اللغوية التي تبتني على الفهم العرفي دون الفهم الدقي العقلي البرهاني الذي هو المدار في البحوث الفلسفية وعليه يمكن تحرير النزاع في كثير من الموارد التي منع الأصوليون دخولها في المقام.

منها: أسماء الأنواع فيما إذا لم يكن تغيرها بنحو الاستحالة العرفية.

ومنها: أسماء المشتقات سوى المصادر كما سيأتي الكلام فيها، ويدل عليه الشرط الأول الذي تقدم ذكره.

ومنها: الأوصاف الاشتقاقية مما تحمل على الذات وتجري عليها بملاحظة اتصافها بمبدأ ما ولكن استثنى جمع من المحققين (قدس سرهم) بعض الأسماء منها وإن كانت أوصافاً وهي:الأول: قد استثنى المحقق النائيني أسماء الآلة كالمفتاح((1))

فإنه وإن كان وصفاً اشتقاقياً إلا أنه يصدق على كل ما يقبل الفتح ولو لم يكن متلبساً بالفعل.

والحق أن المبدأ قد لوحظ فيه بنحو الشأنية والقابلية فحينئذٍ يصدق عليه ولو لم يكن متلبساً به فعلاً إلا إذا سقط عن القابلية وانقضت عنه الشأنية فيجري فيه النزاع أيضاً.

وبعبارة أخرى في اسم الآلة إن لوحظ المبدأ المأخوذ فيه بنحو العقلية فلا يصدق في مورد الانقضاء ويدخل في النزاع وأمّا إذا لوحظ فيه بنحو الشأنية فهو يصدق عليه ولو لم يكن متلبساً بالفعل الا إذا سقط عن الشأنية فيدخل أيضاً في محل النزاع.

2- كما استثنى المحقق المذكور رحمه الله اسم المفعول لأن الهيئة إنما وضعت للدلالة على وقوع المبدأ على الذات وهو مما لا يعقل فيه الانقضاء لأن ما وقع لا ينقلب عما وقع عليه.

وأشكل عليه بأن نسبة الفعل إلى المفعول كنسبته إلى الفاعل فإنهما متقابلان فمن البعيد أن يلحظ معنى مفعولي في اسم المفعول دون أن يلحظ ما يقابله من المعنى الفاعلي في اسم الفاعل بحسب الفهم العرفي فلا فرق بينهما من هذه الجهة ولعلّ في بعض المواد خصوصية لا توجد في غيرها كما في المضروب دون الضارب حيث يرى العرف في المضروب ظرف وجود التلبس كافياً في الصدق مطلقاً.وكذا بعض الحرف والصناعات والملكات.

3- كما استثنى المحقق الخراساني رحمه الله أسماء الزمان كالمقتل لعدم انحفاظ الذات التي هي نفس الزمان فيها بعد انقضاء المبدأ فالموضوع لم يكن باقياً في حالتي التلبس والانقضاء لأنّ الزمان ينقضي ويتصرم ولا استقرار له فلا يتصور فيه وجود ذات انقضى عنها التلبس فما هو في حال التلبس شيء وما هو في حال الانقضاء شيء آخر فلا يكون شيئاً واحداً محفوظاً في الحالتين((2)).

وقد أجيب عنه بوجوه عديدة:

ص: 181


1- - اجود التقريرات - ج1 / ص123 - مصدر سابق.
2- - كفاية الاصول - ص40 - مصدر سابق.

الأول: أن العرف يرى أنه يكفي فيه بقاء شيء واحد فيهما كطبيعي الزمان أو لاحظوا الوحدة الاعتبارية أو وجود الزمان من حيث هو وجود إلى غير ذلك من الجامع سواء كان مفهومياً أو وجودياً أو اعتبارياً على نحو ما مرّ في جامع الصحيح والأعم.

الثاني: أن الاسم في الزمان وضع للأعم من الفرد المنقضي كما في نظائره التي هي كثيرة كلفظ الواجب مثلاً فإنه موضوع للأعم مع انحصاره في ذات الباري جلّ اسمه.

الثالث: أن النزاع في مفهوم المشتق لا يرتبط بتحقق المصداق فإن صحة الاستعمال أو الوضع لا يتوقف على إمكان وقوعه خارجاً بل يتوقف على إمكان تصوره بلا استحالة إلا أن يقال بثبوتها عرفاً كما ذكره بعض الأعلام ولكنه بعيد كما عرفت.

الرابع: ما ذكره المحقق الاصفهاني رحمه الله وتبعه السيد الخوئي رحمه الله من أن الموضوع له في أسماء الزمان والمكان هو الأعم من الظرف الزماني والمكاني وليست مختصةبالزمان فيكون بقاء ذات الظرف بهذا المعنى العام أمراً معقولاً ولو بلحاظ ظروف المكان لا الزمان((1)).

وأشكل عليه بأنه إن كان المراد الوضع لمفهوم الظرف فهو واضح البطلان فإنّ مفهوم الظرف كمفهوم الفاعل والمفعول معان اسمية منتزعة عن المعنى الحرفي النسبي الذي هو مدلول الهيئات كما هو المفروض وإن كان المراد الوضع لواقع النسبة الظرفية المتقومة بالظرف والمظروف فهو وإن كان صحيحاً ولكن النسبة الظرفية في ظروف الزمان تختلف سنخاً عن النسبة الظرفية في المكان حقيقة وعرفاً ولذلك كانت إحداهما مقومة لمقولة (الأين) والأخرى مقومة لمقولة (المتى) ولا جامع حقيقي بين المقولتين.

ويرد عليه بأنه خروج عما اختاره في حقيقة الوضع الذي هو أمر عرفي كما عرفت وإدراج لما هو مذكور في العلوم العقلية في المقام فإن كون المكان من مقولة الأين والزمان من مقولة المتى خلاف ما التزم به إذ ربما يكون في هذه العلوم مختلفان حقيقة ولكنهما عند العرف يعتبران من أفراد مطلق الظرف فما ذكره من اختلافهما عرفاً أول الكلام كما ستعرف.

اللهم إلا أن يكون الاختلاف في المعنى الملحوظ في الزمان والملحوظ في المكان عند العرف فإن خصوصية كون الظرفية زمانية أو مكانية يفهمها العرف من تلك الأسماء نفسها لا من دال آخر.

ولكنه مردود بأنّ استفادة العرف الخصوصية في كل واحدة منهما لا يضر بأصل المطلوب من الرجوع اليه في تشخيص المعنى الموضوع له، وهو الحكم في الخصوصيات أيضاً.

نعم يمكن القول بأنّ المعنى الموضوع في الظرف مطلقاً ليس هو الأعم من الظرف المكاني والزماني فإن العرف يفرّق بينهما فيرى في المكان الحلول وفي الزمان الاستيعاب ونحوه ولكنه لا يضر بأصل المطلب كما هو واضح.

والحق أن يقال أنه إذا رجعنا إلى العرف الذي هو الفيصل في هذا الموضوع فإنه يرى أن الظرف الزماني نفس الزمان من حيث هو أو الوحدة الاعتبارية أو الجامع الانتزاعي

ص: 182


1- - محاضرات في اصول الفقه - ج1 / ص261 - مصدر سابق.

كالظرفية وأنهم ينظرون في الزمان انخفاض الذات بعد انقضاء المبدأ فيه فإن الاتصال الوجودي بين اللحظات الزمانية يجعلها أمراً واحداً محفوظاً بشخصه بين المبدأ والمنتهى ولا يورد عليه كما ذكره المحقق الاصفهاني بأنّ اتصال الهويات المتغايرة لا يصحح بقاء تلك الهوية التي وقع فيها الحدث حقيقة بل مجازاً ومن باب نسبة ما يوصف به الجزء إلى الكل لأن ذلك مبني على أن يكون التغاير بين الهويات عقلية صرفة وأمّا إذا حكم العرف بالاتحاد فلا يجري ذلك، اللهم إلا أن يكون العرف قد حكم بالتغاير وهو حاصل في التقطيعات الزمانية أي دهر وسنة وشهور وأسابيع وأيام وساعات حيث يرى أن كل قطعة منها لها وجود مستقل وأنّ الذات الزمنية فيهاتزول بانتهاء تلك القطعة فمثلاً لا يحكم بأن المقتل للدهر كله وإلى ذلك يمكن إرجاع ما ذكروه في الجواب عن إشكال دخول الزمانيات في النزاع.

ولعلّ ما ذكره المحقق الاصفهاني((1))

رحمه الله يرجع إلى ما ذكرناه وإلا فالإشكال فيه واضح كما عرفت.

4- القضايا الأزلية التي تستعمل في صفات الباري عز وجل الجمالية والجلالية، فإنها خارجة عن المقام لتنزه ساحته العليا عن التلبس والانقضاء نعم في صفات الفعل يتصور ذلك باعتبار المتعلق.

5- ذكر بعضهم بخروج المشتقات الدالة على الحرفة والملكة كالصياغة والشعر لوضوح صدق الصائغ على من له حرفة الصياغة ولو لم يكن متلبساً بها فعلاً ويختص النزاع بما إذا كان المبدأ فعلياً.

وفيه: إنّ اختلاف المبادئ لا يوجب اختصاص النزاع بمورد دون آخر فإنّ التلبس يختلف بحسب الموارد ففي بعضها تعتبر الفعلية والمباشرة ، وفي فرضٍ آخر الاحتراف فإذا كان المناط هو فعلية التلبس فإنه إذا انقضى يجري فيه النزاع وإن كان الاحتراف فهو متلبس مادام محترفاً وينقضي إذا انقطع عن الاحتراف.

6- الجوامد: إذا كان الجامد منتزعاً من نفس الذات كالإنسان والحجر والشجر ونحو ذلك فإنه ينتزع عن مرحلة تحصّل الأجناس بفصولها وهي مرحلة الذات والتقرر، أو ما إذا كان ملازماً للذات بحيث لا ينفك عنه عرفاً كما عرفت مفصلاً وأمّا إذا لم تكن كذلك فهي تدخل في موضوع النزاع كالزوج والزوجة ونحوهما.

والحاصل أن المشتق المبحوث عنه في الأصول أعم من المشتق المبحوث عنه في العلوم الأدبية فيشمل النزاع جميع تلك الموارد التي ذكرناها لوجود الملاك الشامل لجميع الأقسام واستشهد بعضهم للتعميم بالمسألة المعروفة في كتاب النكاح التي ذكرها فخر المحققين في الايضاح والشهيد في المسالك وغيرهما وهي ابتناء حرمة الزوجة الكبيرة الثانية التي أرضعت الصغيرة على مسألة المشتق فيما لو كان له زوجتان كبيرتان وزوجة صغيرة فأرضعت إحدى الكبيرتين الصغيرة فإنه بذلك تحرم الكبيرة والصغيرة لصيرورة الكبيرة بالإرضاع أم الزوجة والصغيرة بنت الزوجة فلو أرضعت الثانية الصغيرة فإن حرمتها

ص: 183


1- - نهاية الدراية - ج1 / ص117 - مصدر سابق.

تبتني على أن يكون المشتق حقيقة في المنقضي إذ يصدق على الكبيرة الثانية أنها أم الزوجة فعلاً.

وعدم كونه حقيقة في المنقضي لا تحرم الكبيرة لعدم صدق أم الزوجة عليها فعلاً((1)).

والمسألة فقهية أكثر من كونها أصولية ولها أدلتها الفقهية لكن ذكروها في المقام لبيان جريان النزاع في الجوامد أيضاً إذ أن عنوان الزوج والزوجة منها.

نعم ذكر المحقق الاصفهاني رحمه الله في المقام بياناً حيث عكس الأمر فقال: بأنّ حرمة الكبيرة الأولى مبنية على مسألة المشتق بخلاف حرمة الثانية فإنها لا تبتني عليه، فقال: إن من تحرم هي أم الزوجة وبنتها، وأمومة المرضعة وبنتية المرتضعة منالمتضايفين فلا يصدق إحداهما بدون الأخرى كما أن بنتية المرتضعة للزوجة وزوجيتها متضادتان شرعاً ولا يمكن اجتماعهما وعليه ففي مرتبة أمومة المرضعة تحصل بنتية المرتضعة للتضايف وفي تلك المرتبة تزول الزوجية عنها للتضاد بينهما وعلى هذا لا يصدق على المرضعة عنوان الزوجة فعلاً لزوال الزوجية في مرتبة حصول الأمومة فتبتنى الحرمة على تحقق أن المشتق حقيقة في المنقضي عنه التلبس فيصدق على الكبيرة أنها أم الزوجة وإلا فلا يصدق عليها ذلك العنوان فلا تحرم((2)).

ولكن ما ذكره أشبه بالمصادرة على المطلوب لأنه أخذ تحريم بنت الزوجة أمر مفروغاً عنه وسكت عن تحريم أمها ولم يبين وجه التحريم وأمّا ما قيل بأنه التزم بوحدة الرتبة بين البنتية وعدم الزوجية مع أن الأخير حكم لبنت الزوجة فهو متأخر عنه (غير سديد) فإن عدم الزوجية ليس بحد نفسه حكماً شرعياً بل أن حرمتها على الزوج قد تحقق بانتفاء الزوجية عنها مع صدق بنت الزوجة عليها.

وكيف كان فإن ما ذكره المحقق رحمه الله خلاف ما ورد من الأدلة الشرعية التي تبتنى على أمور غير ما ذكر من الوجه العقلي فأن الحرمة مبتنية على تلك العناوين التي وردت في الشرع فإذا انطبق عليها أحدها حرمت وإلا فلا ولأجل ذلك حكم بحليّة الكبيرة الثانية جمع من الفقهاء فراجع كتاب الجواهر وغيره.

الأمر الثاني: خروج المصادر والأفعال عن محل النزاع:

فإنه لا ريب في خروجها عن مورد النزاع وذلك لما ذكرناه في الشرط الأول الذي تقدم من أنّ المراد بالمشتق ذلك الوصف الجاري على الذات والذي يصح حمله عليها فيخرج ما لا يصح الحمل، والمصدر والفعل من هذا القبيل فإن الأول سواء كان مجرداً أو مزيداً لا يدل إلا على نفس الحدث والمبدأ مع نسبته إلى ذات ما وهذا مراد من قال: بأنّ المصدر يدل على الحدث من حيث هو مع قطع النظر عن إضافته إلى فاعل أي إلى فاعل معين واعتبروه إحدى جهات الفرق بينه وبين اسم المصدر إذ أنه يدل على مجرد الحدث بلا جهة الانتساب أصلاً كالغَسل والغُسل فإن الأول يدل على الحدث مع نسبة ما بخلاف الثاني فإنه اسم لمجرد الحدث بلا دخول النسبة في معناه.

ص: 184


1- - مسالك الافهام - ج1 / ص379.
2- - نهاية الدراية - ج1 / ص70 - مصدر سابق.

وعليه فلا يصح حمل المصدر على الذات لتغاير وجود الذات والمبدأ فمع تغايرهما مفهوماً فلا يصح أن يقال: زيد ضرب أو أكل ونحو ذلك إلا على نحو المجاز.

وأمّا الفعل فإنه يدل على الحدث المضاف إلى جهات متعددة منها الإضافة إلى الفاعل فهي ملحوظة في معنى الفعل فلا يدل الفعل إلا على نسبة المبدأ إلى الذات وقيامه بها ولأجل ذلك حصل الفرق بين الفعل والمصدر وعليه لا يصح حمله على الذات وجريها عليها أيضاً للتغاير بين وجود الذات والنسبة وعدم الاتحاد بينهما بوجه ما ، فلا يصح أن يقال زيد ضرب، أو أكل من باب الحمل بمعنى أن زيد هو ضرب ، وإن صح ذلك من باب الإسناد والنسبة بمعنى نسبة الضرب إلى زيد.ثم إنه ذكر المحقق الخراساني في المقام( وتبعه جمع) الفروق بين المصدر والفعل، ومعناه واشتقاقه لأجل استيفاء الكلام في معاني الأقسام الثلاثة: الحرف وقد تقدم ، والاسم الذي عقد بحث المشتق لأجله ، والفعل.

وما ذكروه فيه يقع في نقاط:

الأولى: اشتهر عند النحويين دلالة الفعل بأقسامه على الزمان وضعاً بأن أخذت الدلالة عليه في مفهومه بخلاف المصدر فالماضي يدل على وقوع الفعل في الزمن الماضي والمضارع على وقوعه في الحال أو المستقبل والأمر يدل على الطلب مطلقاً.

وأشكل عليه بوجوه:

الأول: ما ذكره السيد الوالد رحمه الله أن الفعل مركب من المادة والهيئة وكل واحدة منهما لا تصلح أن تكون دالة على الزمان فإنه إمّا أن تكون المادة ففيه أنه لو كان كذلك لكانت المصادر تدل عليه أيضاً لوجود المادة فيها.

وإمّا أن تكون الهيئة أو كلاهما فإنه يرد عليه بوجوه:

أولاً: بأنّ الهيئة من المعاني الحرفية والزمان من المعاني الاسمية الاستقلالية ويلزم أن يكون لها معنيان حرفي وهو النسبة واسمي وهو الزمان ولا ريب في بطلانه إلا أن يقال بأنّ الموضوع له مجرد النسبة الزمانية وهو من المعاني الحرفية لكن الكلام في إثبات هذا الوضع المشكوك مع أن الأصل ينفيه.

وثانياً: أنه لغوٌ وأن الزمان يستفاد من إطلاق الفعل على الزمانيات فلا تصل النوبة إلى دلالة الهيئة مجردة أو مع المادة ومع الشك فالأصل ينفي مثل هذا الوضع.

وثالثاً: أنه لايجري في الأفعال الإنشائية فإنها لا تدل على الزمان مطلقاً فإن مادتها تدل على الفعل والهيئة تدل على إنشاء الطلب وإن وضعت في زمان الحال لأنه فعل صادر من زمان فيقع قهراً في الزمان وهو أعم من الوضع للزمان.

ورابعاً: أنه يصح استعمال الماضي في المضارع أو بالعكس في الاستعمالات الصحيحة ولا وجه للمجاز في ذلك كله.

وخامساً: إن الأفعال تطلق بالنسبة إليه تعالى وهو خالق الزمان ومحيط عليه ولا يتصور الحال والماضي والمستقبل بالنسبة إليه عز وجل، إلا أن يقال بأن الإطلاق بالنسبة إليه تعالى بأحد وجهين إمّا هو بحسب حال المخاطبين والزمانيات لا بحسب ذاته عز وجل

ص: 185

أو باعتبار معية القيومية مع الممكنات فإنه عز وجل مع السابق سابق، ومع اللاحق لاحق((1)).

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق الخراساني رحمه الله من أنّ الماضي والمضارع قد يسندان إلى ما لا يقع في الزمان كنفس الزمان فيقال: مضى الزمان ويأتي والمجردات عن الزمان كالذات المقدسة فلو دلّ الفعل على الزمان لم يصح إسناده إلى مثل الزمان والمجردات إلا بالتصرف فيه وهو بعيد عرفاً ولأجل ذلك ذهب جمع من المحققين إلى عدم دلالة الفعل على الزمان ، وهو الصحيح فإن الزمان والمكان وغيرهما إنما هي من المقارنات للألفاظ وليس دلالتها عليها وضعياً لا من ناحية مادتها ولا هيئتها فيكوندلالة الفعل منحصراً في نسبة المبدأ إلى الذات ووقوع الفعل وتحركه من العدم إلى الوجود كما قال رحمه الله : (والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى) وليس الفرق بين الفعل الماضي والمضارع من ناحية الزمان الذي لا دلالة لهما عليه كما عرفت إلا أنّ لكل واحد من الفعلين خصوصية ليست موجودة في الآخر هي التي أوجبت الفرق بينهما.

وقد وقع الكلام في حقيقتها والكشف عنها: فقيل بأنّ تحقق الفعل من الفاعل الزماني يستلزم أن يكون الفعل إمّا في الزمان الماضي بتحققه فيه أو ترقب صدوره منه فعلاً أو بعد حين في الزمان المستقبل .

وأشكل عليه((2)):

بأن استعمال المضارع أو الماضي في مورد لا يكون مشتملاً على هذه الخصوصية من دون عناية ينفي هذا الاحتمال، كما في قولنا يجيء زيد بعد أسبوع وقد كتب رسالة قبله بيوم، أو جاء زيد قبل سنة وهو يكتب رسالة بعده بيومين. وقيل: بأنها هي النسبة التحققية في الماضي شأناً لا فعلاً والنسبة القابلة لورود الترقب في المضارع لا أن تكون هي التحقق في الماضي والترقب في المضارع كما في السابق.

وأشكل عليه: بأنه مصادرة على المطلوب فإن المطلوب بيان الجهة الواقعية التي بها أصبحت النسبة في الماضي كذلك دون الفعل المضارع.

وقيل: أن الخصوصية التي يدل عليها الفعل الماضي الملازمة للزمان في الزمانيات هي السبق فهو يدل على سبق تحقق النسبة والخصوصية التي يدل عليها الفعل المضارع هي اللحوق، فهو يدل على لحوق تحقق النسبة باعتبار أن السبق واللحوق لا يتقومان بالزمان بل هما أمران انتزاعيان ينتزعان عن وجود الشيء في فرض عدم الآخر وذلك يلازم الزمان الماضي والمستقيل في الفاعل الزماني الذي يحتاج في فعله إلى الزمان فالشيء الموجود فعلاً يكون سابقاً والذي يوجد بعد إن لم يكن في فرض وجود الآخر يكون لاحقاً فالسيق واللحوق عنوانان انتزاعيان لا يتقومان بالزمان بمعنى أنهما يصدقان في المورد غير القابل للزمان كالزمان نفسه فيقال: الزمان السابق واللاحق.

نعم هما يلازمان الزمان في الزماني الذي يحتاج في وجوده إلى زمان.

ص: 186


1- - تهذيب الاصول - ج1 / ص39 - 40 - مصدر سابق.
2- - كفاية الاصول - ص 40 - مصدر سابق.

وهذا القول هو الذي قرّره المحقق الخراساني والمحقق الاصفهاني (قدس سرهما) إلا أنه يمكن الفرق بينهما بأنّ مرجع دعوى الكفاية إلى اختلاف مدلول الماضي عن المضارع سنخاً وحقيقة فإن مدلول الماضي أمر بسيط يختلف سنخاً عن المضارع وهو التحقق والترقب ومرجع المشهور الذي اختاره المحقق الاصفهاني رحمه الله إلى الاختلاف بينهما في القيد بعد اتفاق الماضي والمضارع في ذات المقيّد وهي النسبة الصدورية أو التلبس، لكنه مقيد بالسابق في الماضي وباللحوق في المضارع فيكون السبق واللحوق مدلولاً ضمنياً للفعل بخلاف الأول فإنه مدلول التزامي.والحق أن يقال: أن الفعل مطلقاً لا يدل إلا على الحدث الذي هو الجامع بين الماضي والمضارع بمعنى تحرك الفعل من العدم إلى الوجود والزمان والمكان وغيرهما إنما هي من المقارنات للحدث المدلول عليه بمادة الفعل كما عرفت سابقاً.

فإن كان الحدث منسوباً إلى من حقّقه يكون فعلاً ماضياً وإن كان منسوباً إلى من يترتب منه يكون حدثاً مترقباً فيكون فعلاً مضارعاً وذلك لأجل كون الحدث من الزمانيات وهذه الدلالة كافية في تحقق هذه الخصوصية المبحوث عنها.

نعم استعمال أحد الفعلين في موضع الآخر إنما يرجع إلى أمور خارجة عن الدلالة وإنما تتبع الأمور الذوقية البلاغية, وما ذكره الأصوليون في هذا المقام إن رجع إلى ما ذكرناه فلا بأس به وإلا فإن المناقشة فيه ظاهرة.

يبقى شيء وهو بيان الوجه في كون المضارع للحال والاستقبال فالمشهور كونه لهما مع امتناع الاشتراك اللفظي والمعنوي وقد اختلف العلماء في دلالته عليهما فقيل: بأنه ليس المراد بالحال الدقي منه بل أنه غير متصور كما قيل فيكون المراد به هو الحال العرفي وهو مستقبل دقة، فلا يكون للفعل المضارع إلا زمان الاستقبال.

وقال صاحب الكفاية: إنّ في المضارع خصوصية موجبة للدلالة على وقوع النسبة في الحال أو الاستقبال لاشتراكه بينهما.

وفيه: لا اشتراك في المضارع كما عرفت حتى تحتاج إلى تعيين أحدهما إلى قرينة. وقال المحقق النائيني بأن المضارع يحكي عن منشأية الموضوع للحدث فلابد في دلالته على الاستقبال من إلحاق كلمة سين أو سوف((1)).

وفيه: بأنّ المضارع معناه الترقب لا المبدأية.

وقال بعض الأعلام: بأن هيئة المضارع قد وضعت للصدور الاستقبالي لكنها استعملت في بعض الموارد في الحال حتى صارت حقيقة فيه كيعلم ويحب ويشتهي ويريد ونحو ذلك.

وفيه: أنه يلزم إما الاشتراك في الأمثلة المذكورة أو كونها في المستقبل مجازاً وهما خلاف الأصل.

ص: 187


1- - اجود التقريرات - ج1 / ص62 - مصدر سابق.

وقال المحقق الاصفهاني رحمه الله أن المعقول من مفاد الفعل هو الحدث والربط وكونه في زمان كذا وأمّا وجود خصوصية أخرى ناسب الخارج عن أفق الزمان والواقع فيه فلا طريق لنا إلى تصديقه وهذا الكلام منه رحمه الله يجري في مطلق دلالة الفعل على الزمان((1)).

ويرد عليه:

أن التحقق والترقب يلازمان زمانهما وهما الخصوصية المتبادرة من اللفظين كما عرفت.

والحق ما ذكرناه من أن الفعل إنما يدل على الحدث مستقلاً عن الذات إمّا منتسباً بالنسبة التحققية الانقضائية أو التحققية التلبسية الأعم من التلبس الفعلي وغيره مما لميتحقق بعد ذلك. والزمان ليس من لوازم مدلول هيئة الفعل والأقرب إلى الذهن هو الأول من تلك الوجوه فالمراد منه الحال العرفي وهو لا ينافي الاستقبال حقيقة.

النقطة الثانية: في المبادئ للمشتقات وقد وقع الخلاف بين العلماء في أن الأصل في المشتقات هل هو المصدر أو اسم المصدر أو الفعل أو ليس شيء منها بل كل واحد من هذه المذكورات أصل برأسه له مادة وهيئة في قبال سائر الصيغ؟

والمعروف عند النحويين والصرفيين أن المصدر هو الأصل لسائر المشتقات فقالوا بأن الماضي مشتق من المصدر والمضارع من الماضي واسم الفاعل والمفعول من المضارع والتثنية والجمع من المفرد وعلى هذا ألّفوا أغلب كتب الصرف والنحو ولابد أن يكون المراد به كون معنى المصدر الدال عليه بأسماء المصادر هو الأصل لكونه عبارة عن نفس المبدأ وأمّا ألفاظ المصادر فتشتمل على هيئات خاصة لم يلحظ فيها معنىً زائداً على المبدأ.

والحق إنه لا دليل على تلك الأقوال مما يصح الاعتماد عليه فإن كان ما ذكره المعروف لأجل التسهيل على المبتدئين فلا بأس به وإلا فهو موهون جداً لأن المراد من الأصل هي المادة المهملة السارية بلفظها ومعناها في جميع الصيغ وما ذكروه ليس كذلك فإنّ لكل واحدة منها هيئة خاصة بها فكيف يمكن أن يكون أصلاً لسائرها لأن ما كانت له هيئة خاصة لا تصلح أن تقع مادة لشيء آخر له هيئة مخصوصة إلا إذا زالت الهيئة المختصة به للتضاد بين الهيئات فلابد أن يكون الأصل مادة مهملة من كل جهة فإن مثل ضرب، ويضرب، وضارب، ومضروب وغيرهما من المتفرعات مشتقة من (ض ر ب) المعراة من الهيئة في عرض واحد بلا ترتب بينها شأنها شأن المواد بالنسبة إلى الصور المختلفة التي تعرض عليها كالحديد والخشب بالنسبة إلى الأشياء والتي تصنع منهما كالسيف والسكين والباب والسرير فلابد وأن تكون المادة معراة عن تلك الخصوصيات المذكورة. وعلى ضوء ذلك يظهر أن كل واحدة مما ذكر من الصيغ واعتبروها أصلاً ليست هي لا بشرط لا من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى أمّا الأول فلما عرفت، وأمّا الثاني فلأن الحدث والفعل يمكن لحاظه من جهات متعددة.

أحداها: لحاظه من حيث وجوده في نفسه وكونه موجوداً من الموجودات مع قطع النظر عن الحدثية مقابل سائر الأشياء والذوات والأفعال والأحداث وإن كانت وجوداتها في أنفسها عين وجوداتها لموضوعاتها ، ولكن لم تلاحظ هذه الجهة وبهذا الاعتبار يكون

ص: 188


1- - نهاية الدراية - ج1 / ص116 - مصدر سابق.

مفاد اسم المصدر الذي هو ذات ما يصدر من الفاعل من دون ملاحظة جهة إصداره وانتسابه إلى فاعل ما ولأجل ذلك قال بعضهم بأنّ البيع إذا تعلق به النهي بالمعنى الاسم المصدري فهو يدل على فساد المعاملة فإنه بهذا المعنى يكون عبارة عن نفس النقل والانتقال الصادر عن البائع من دون ملاحظة جهة إصداره وإذا كان ذات النقل والانتقال مبغوضاً من قبل الشارع فلا يتعلق به الإمضاء بخلاف ما إذا تعلق به بالمعنى المصدري وسيأتي إن شاء الله.

ثانيتها: لحاظها من حيث كونه حدثاً وانتسابه إلى فاعل ما، وبهذا الاعتبار يكون مفاد المصدر فإن مفاده ملاحظة الحدث والفعل باعتبار صدوره عن فاعل ما وإليه يشيرالقول المعروف بأن اسم المصدر هو الحاصل عن المصدر وأثره ونتيجته كالغسل والاغتسال.

ثالثتها: ملاحظته منتسبا إلى الذات بالنسبة التحققية الانقضائية وبهذا الاعتبار يكون مفاد هيئة الفعل الماضي.

رابعتها: ملاحظته منتسبا إلى الذات بالنسبة التحققية التلبسية الترقبية وبهذا الاعتبار يكون مفاد هيئة الفعل المضارع، وتقدم سابقاً ما يتعلق بدلالة الفعلين.

خامستها: ملاحظته منتسبا إلى الذات بالنسبة الطلبية أي طلب إصدار المادة وإيجادها عن الذات وبهذا الاعتبار تكون مفاد هيئته الأمر.

سادستها: ملاحظته منتسبا إلى الذات بالنسبة التلبسية الاتحادية كما هو مفاد هيئات الأسماء المشتقة على اختلاف أنحاء التلبسات الاتحادية من الصدورية والوقوعية والحلولية والظرفية الزمانية والمكانية وسائر أنحاء التلبسات.

ومن اختلاف الجهات والملاحظات لا يمكن أن تكون واحدة منها أصلاً لسائر المشتقات فلابد أن تكون المادة مجردة عن كل نسبة ولا بشرط عنها فترجع إلى المادة المبهمة المهملة.

وهذه الملاحظة تارة تكون من حيث تقديم الضاد على الراء وبعده الباء فتكون مادة المشتقات المعروفة وأخرى تكون من حيث الإبهام من هذه الجهة أيضاً فتكون هذه الألفاظ المبهمة مادة لمشتقات كثيرة مختلفة في النوع كالانشقاق الكبير وعلى كل حال فالاشتقاقات والتفرعات تكون عرضية لا أن تكون طولية كما عرفت.

النقطة الثالثة: في بيان الفرق بين المصدر واسمه:

عرفت فيما سبق أن لحاظ المصدر من حيث كونه حدثاً منتسباً إلى ذات ما يخالف لحاظ اسم المصدر باعتبار كونه حدثاً موجوداً من الموجودات وقد تقدم انه اشتهر في كلمات النحاة أن المصدر هو الأصل في الاشتقاقات ولابد أن يكون المراد به كون معناه المدلول عليه بأسماء المصادر أصلاً لكونه عبارة عن نفس المبدأ وأمّا ألفاظها فتشتمل على هيئات خاصة لا ترد في سائر الاشتقاقات ولم تلحظ لهذه الهيئات معنىً زائداً على المبدأ وإلا لم يكن المصدر أصلاً.

وقد حاول بعض الأعلام المتأخرين إثبات معنىً زائدا وضعت بإزائه هيئات المصادر وأرادوا بها تعيين المصدر عن اسم المصدر وسائر المشتقات وهي:

الوجه الأول: أنّ هيئات المصادر موضوعة بإزاء نسبة ناقصة بين الحدث وذات مبهمة وأشكل عليها بوجوه:

ص: 189

منها: ما أفاده المحقق النائيني رحمه الله من استلزامه مشابهتها للحروف في معانيها النسبية فتكون مبنية، مع كونها معربة بلا كلام((1)).

وفيه: بأنّ الذي يوجب كون الاسم مبنياً مشابهته للحروف بمادته لا بهيئته، كما في أسماء الإشارة والضمائر وإلا انتقضت هذه القاعدة بالأوصاف الاشتقاقية بناءً على ما ذكره بعض من دلالة هيئاتها على معان نسبية.كما أشكل عليه أيضاً: بأنّ صحة نسبة المصدر إلى ذات في مثل قولنا: ضرب زيد تنافي أخذ معنى نسبي في هيئة لاستلزامه قيام نسبتين ناقصتين في عرض واحد بين مادة واحدة وطرفين أحدهما الذات المبهمة، والآخر زيد وهو مستحيل كما تقدم في بحث معاني الحروف.

إلا إذا فرضت الطولية بين النسبتين الناقصتين كما في قولنا: ماء ورد زيد أمكن قيامهما بمفهوم واحد لرجوعه إلى مزيد تحصيص في مفهوم واحد، إلا أن الطولية في المقام غير معقولة لأن الذات المبهمة المنتسب إليها المبدأ نفس زيد فلا يعقل تحصصها به.

ويمكن دفعه بخروج الذات عن مدلول المصدر لأنه يدل على أكثر من المبدأ المنتسب مع تعيين المنتسب إليه بما يضاف إليه المصدر، ولا محذور في ذلك إلا تعدد الدال على النسبة يتعدد هيئة المصدر وهيئة الإضافة.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني رحمه الله من أن هيئة المصدر وضعت للتمييز بين اسم المعنى المصدري والمعنى المصدري، حيث إن اسم المصدر موضوع للدلالة على الحدث ملحوظاً غير منتسب إلى ذات وهيئة المصدر موضوعة لنفي ذلك اللحاظ وإلغاء عدم الانتساب((2)).

ويمكن الرد عليه: بأنه ليس مدلول اسم المصدر هو عدم انتساب الحدث إلى ذات أبداً حتى لا يصح إضافة اسم المصدر إلى ذات كقولنا: غسل زيد للزوم التهافت بين مدلوله ومدلول هيئة الإضافة بل يكفي أن لا يكون المصدر موضوعاً للتقييد المذكور لا أن يكون موضوعاً لهيئتها لإلغائه مع أنه لو أراد رحمه الله من كلامه دلالة اسم المصدر على عدم الانتساب فيقابله أن هيئة المصدر موضوعه للدلالة على الانتساب وهو رجوع إلى المحاولة الأولى التي أشكل رحمه الله عليها.

الوجه الثالث: ما أفاده السيد الوالد رحمه الله وهو وضع هيئة المصدر للدلالة على خصوصية في مدلول المادة قائمة به قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي من دون أن تكون هذه الخصوصية نسبة بالمعنى الذي يحتاج إلى طرفين، ولا تكون الذات على هذا مأخوذاً في مدلول الهيئة أصلاً وقال بأنه تندفع بذلك الإشكالات السابقة وبه يتميز المصدر عن اسم المصدر باعتبار وضع هيئة المصدر كما ذكر وعدم وضع هيئة اسم المصدر لشيء وتمحضه في مدلول المادة.

ويمكن الإشكال عليه بأنّ هذا المعنى للهيئة أشبه بالعلامة كحركات الإعراب من دون أن يكون مدلولاً للهيئة التي تدل على وضعها لهذه الخصوصية المفروضة ثم كيف يمكن أن

ص: 190


1- - أجود التقريرات - ج1 / ص63 - مصدر سابق.
2- - أجود التقريرات - ج1 / ص72 - مصدر سابق.

يتصور خصوصيته لا وجود للمنتسبين فيها ولم تلاحظ الذات في مدلول الهيئة وإن لوحظ المنتسبان والنسبة عاد الإشكال السابق ولعله لما ذكرنا عقّب في آخر كلامه عليه بأنّ ذلك في مرحلة المدلول التصوري (ولم يكن ما يعين هذا المعنى الإضافي مدلولاً لهيئة المصدر).نعم يمكن تصحيح ذلك بأنه لا ملزم أن تكون الهيئة مما تدل على نسبة حتى نحتاج إلى تصوير تلك النسبة وتحديد مدلولها.

بل يكفي أن تكون لإثبات غرض معين وهو كون اسم المصدر لوحظ فيه مجرد الحدث، والمصدر لوحظ فيه جهة انتساب الحدث إلى ذات وإن كان هذا اللحاظ في مرحلة التصور وهو حاصل كما عرفت ولعل ما ذكره المحقق النائيني وغيره أرادوا ذلك وإن كانت عباراتهم مجملة وقاصرة.

ومن ذلك يظهر أنّ ما ذكر من الفروق بين المصدر واسم المصدر لبيان أن الهيئة موضوعة لمعنى معين في المصدر إن رجع إلى ذلك فهو لا بأس به كما قيل بأن هيئته موضوعة لغرض انتساب المادة لذات ما وهيئة اسم المصدر موضوعة لغرض الدلالة على مطلق الحدث وكونه موجودا من الموجودات من دون انتساب إلى الذات.

كما ذكر أيضاً: بأنّ المصدر موضوع للفعل واسم المصدر للنتيجة المتولدة منه أو أنه موضوع للأثر بخلاف المصدر وهذا صحيح فيما إذا كان الفعل توليدياً وإلا فلا يجري ذلك فيه ، فلا يكون فرقاً عاماً لجميع المصادر وأسماء المصادر.

وذكر أيضاً: بأنّ المصدر موضوع للفعل واسم المصدر موضوع للانفعال ولكنه يتجه فيما إذا كان فرق بين الفعل والانفعال مع أنه يمكن إرجاعه إلى سابقه إن اعتبرنا الانفعال هو الأثر عرفاً والإشكال عليه بأن الفعل والانفعال كلاهما من المصادر موهون بأن كان المراد من الانفعال هو الأثر المترتب على الفعل عرفاً فيرجع إلى سابقه وإلا فليست الهيئة موضوعة لنفس الفعل والانفعال بل المراد بهما العنوان لما هو المتحقق في الخارج.

الرابع: إن العقل والعرف يحلّل الفعل في عالم المفهوم والتصور إلى فعل بما هو حدث يصدر من فاعل وفعل بما هو موجود خارجي وهذا واضح في مثل الخلق والمخلوق والإيجاد والموجود وإن كان خفياً في كثير من المصادر ولكنه صحيح وتام وهذا هو الذي أردنا إثباته من التقريب في دلالة هيئة المصدر أما غير ذلك مما قيل في هذا الموضوع فإنه تطويل لا طائل تحته.

ثم إنه قد عرفت فيما سبق من أنّ المشتقات بجميع أنواعها إنما ترجع إلى المادة المبهمة السارية وكانت الهيئات المتبادلة عليها تفيد تلك المعاني المتصورة التي تتوارد عليها وحينئذٍ تكون الاشتقاقات في عرض واحد لا أن تكون طولية بينها خلافاً لما ذهب إليه جمع من العلماء ومنهم بعض الأصوليين كالسيد الصدر رحمه الله حيث إنه بعدما اختار ما ذهب من كون الهيئة في المصدر قد وضعت للدلالة على خصوصية في مدلول المادة قائمة به قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي واعتبره أمراً معقولاً ثبوتاً ويساعد الوجدان عليه إثباتاً قال: إن ذلك لم يتعين أن يكون قد وضع له هيئة المصدر لاحتمال أن يكون ذلك مأخوذاً في نفس مدلول المادة بمعنى وضعها للحدث الملحوظ على ذلك الوجه ويترتب

ص: 191

عليه أن هذه النكتة محفوظة في ضمن هيئة أخرى كهيئة الفعل من دون أن تكون نفس الهيئة موضوعة للدلالة عليها بل مأخوذة في نفس مدلول المادة السارية فيكون الفرق بين المصدر واسم المصدر محفوظاً في مادة الاشتقاق السارية وعليه يكون اسم المصدر أسبق مرتبة من مادة الاشتقاق بكل صيغها بما فيهاالمصدر أسبقية البسيط على المركب والمصدر أسبق رتبة من الفعل بنفس النكتة، وأنّ الفعل وكل جملة تامة أسبق رتبة من الجملة الناقصة وأمّا المشتق فهو في رتبة الجملة الناقصة بناءً على التركيب في مفاده بالنحو الذي سيأتي((1)).

ويرد عليه:

أولاً: ما ذكرناه آنفاً بأن هذا المعنى للهيئة أشبه بكونها علامة كسائر علامات الإعراب وليس راجعاً إلى الوضع المعروف إلا ما ذكرنا من أنّ وضع الهيئات لم يكن بالضرورة أن تكون للنسبة حتى نحتاج إلى ذات ومنتسبين بل يوضع لمعنى ولو كان ذلك في مرحلة التصور.

وثانياً: إن جعل المادة هي التي قد أخذت في دلالتها تلك النكتة دون الهيئة فإن كان المراد من المادة هي المهملة السارية المعراة عن الهيئات فلا ريب في عدم دلالتها على تلك النكتة وإن كان المراد تحققها في ضمن هيئته ليتحقق بواسطة الجمع بينهما تلك النكتة فيرجع إلى نفس الدعوى كما عرفت.

وثالثاً: إنّ جعل التقدم الرتبي في تلك المواد مع قطع النظر عن الهيئات الطارئة عليها لتكون مادة معراة عنها غير صحيح كما هو واضح، وإن كانت مع الهيئات فهو يحتاج إلى دليل وهو الذي أردنا إثباته كما عرفت.

فالحق أن الهيئة في تلك المواد إنما وضعت للدلالة على معنى خاص يترتب مع تلبسها بها ولو في مرحلة التصور واللحاظ والاشتقاق إنما يكون من المادة المبهمة المعراة عن كل هيئة فلا تقدم ولا تأخر في المشتقات كما عرفت.

النقطة الرابعة: المعروف أن الفرق بين مفاد هيئات الأفعال ومفادها في الأسماء المشتقة أن الأولى للربط الانتسابي إلى الفاعل في الجملة والثانية للربط الاتحادي بينها وبين موضوعاتها التي تحمل عليها تلك الأسماء وكذا هيئة الجملة التركيبية من موضوع ومحمول من دون أن يكون المحمول مشتقاً كقولنا الجبل حجر وقيل أن النسبة في الأفعال من النسب التصديقية وفي الأسماء المحمولة من النسبة التصورية ولكن عرفت مفصلاً عند البحث عن مفاد الهيئات أن ذلك لا كلية فيه فهو تابع للقرائن وإلا كل واحد منهما يحتمل الأمرين فراجع.

الأمر الثالث من الأمور التمهيدية:

اشارة

وقع الكلام في المراد بالحال المأخوذ في عنوان البحث الذي عنونه بعض الأصوليين كالمحقق الخراساني وغيره من أن المشتق وضع للمتلبس بالمبدأ في الحال أو للأعم منه ونحن في غنى عن هذا البحث إذ كان عنوانه أن المشتق حقيقة في المتلبس بالمبدأ عند فعلية التلبس أو الأعم منه وكيف كان فإنّ الحال له إطلاقات ثلاثة:

ص: 192


1- - بحوث في علم الاصول - ج1 / ص317 - مصدر سابق.

الأول: حال النطق: وهو زمان الحال المقابل للماضي والمستقبل وهو الذي يوهمه اللفظ في العنوان أي زمان الحال المتلبس.

الثاني: حال التلبس: أي فعلية اتصاف الذات بالمبدأ وصدق المحمول على الموضوع أي حال انضمام ذلك المبدأ إلى الذات.الثالث: حال الجري والنسبة: أي انتساب المحمول إلى الموضوع والتمييز بين الثلاثة يظهر في قولنا: زيد راكب أمس، وقد فرضنا أنه كان راكباً قبله. فإن حال التلبُّس يكون هو اليوم قبل أمس. وحال الجري والانتساب هو أمس وحال النطق وهو زمان التكلم بهذا الكلام. إذا عرفت ذلك نقول إنه لا شك في عدم إرادة المعنى الأول ولم يقل به أحد والدليل عليه أن المشتق لم يؤخذ في معناه الزمان لا مادة ولا هيئة اجماعاً وإن كان زمانياً يقع في أحد أقسام الزمان، ولكن لا يكون داخلاً في وضع المشتقات فهو يستعمل في الأزمة الثلاثة فإذا خصص بزمان الحال يكون خلاف حكمة الوضع أيضاً فلم يعتبر في صدق المشتق حقيقة تلبس الذات بالمبدأ حال النطق.

وأشكل عليه بأنّ النحويين قد اشترطوا في عمل اسم الفاعل بكونه بمعنى الحال أو الاستقبال وهو يدل على دخول الزمان في المشتق.

وأجيب عنه: بأن مرادهم دلالة القرينة على ذلك فلا ينافي الإجماع المذكور ويدل عليه اتفاق النحويين على مجازية اسم الفاعل في الاستقبال.

والحق أن ما ذكره النحويون إنما هو شرط لعمل اسم الفاعل لا لبيان أنه دال عليهما كيف وقد اتفقوا على عدم دلالة الاسم مطلقاً على الزمان.

ومما ذكرنا يظهر أن قولهم أن الجملة الاسمية ظاهرة في ثبوت المحمول للموضوع في زمان النطق فيما إذا كان المحمول مشتقاً من المشتقات فالمراد به الظهور الإطلاقي بمعنى أنه لو كان ثبوت المحمول للموضوع وتلبسه به في غير زمان النطق كان عليه البيان، وهذا الظهور الاطلاقي لم يستند إلى التخصيص الوضعي وقد عرفت بأن الظهور هو المتّبع ولو لم يستند إلى الوضع والحاصل أن الزمان خارج عن موضوع البحث.

وأمّا المعنى الثاني فقد ذهب إليه جملة من الأعلام منهم المحقق الخراساني رحمه الله أي فعلية التلبس وحال قيام المبدأ بالذات وانضمامه إليها فإنه في هذا الحال يكون المشتق متحداً مع الذات نحو اتحاد على اختلاف أنحاء المبادئ الذي هو المناط في الحمل بالحمل الشائع أو المواطأة.

وقالوا: بأنه لا يمكن القول بعدم كون هذا الجري حقيقة، وأنه حقيقة في غير هذا الحال مع أنه يمكن أن يكون في حال النطق والتكلم في حال الانقضاء وعدم قيام المبدأ بالذات وعدم تلبسها به بعد.

وبالجملة المراد بالحال هو حال فعلية تلبس الموضوع بالمحمول وصدقه عليه ويمكن الاستدلال عليه بأمرين:

الأول: بأنه هو الظاهر في موضوعات الأحكام نظير العالم يجوز تقليده - والعادل يجوز الائتمام به والفقير يجوز إعطاء الزكاة له. وغير ذلك فإنه لا إشكال في عدم إرادة خصوص المتلبس به حال النطق ولا تجوز في البين.

ص: 193

الثاني: إن عنوان المشتق عنوان ينتزع عن الذات بملاحظة قيام أحد الأعراض أو الأمر الاعتباري بالذات وهو لا يصح إلا في حال التلبس، وفعلية الانضمام ولا ريب أنها من الحوادث الزمانية فلابد من وقوعها في زمان بالظهور الانصرافي ولكنه ليس جزء من مفهوم الأفعال فضلاً عن الأسماء.وأمّا المعنى الثالث: فالمراد به حال الجري أي حال النسبة التي توقعها بين الذات والمشتق والظاهر أنه ليس المقصود به نفسه فإن الظهور الانصرافي يدل على أن المقصود هو زمان التلبس في زمان الجري والنسبة في الاتحاد والعينية بين الموضوع والمحمول.

وربما يورد على حال التلبس والجري بأنه لا يعقل في المعدوم والممتنع للزوم انقلاب المعدوم إلى الوجود والامتناع إلى الإمكان.

وأجيب عنه بوجوه منها: المراد من التلبس الكون الرابطي مثل: زيد أعمى مع أنه لا تحقق للأعمى - وفيه: أن الكون الرابط لا يعقل بين الإعدام.

ومنها: أن المشتق ليس معناه شيئٌ ثبت له كذا. فليس المراد بالمعدوم والممتنع أن لهما معنىً تصديقياً أي شيئاً ثبت له العدم والامتناع.

وفيه: أنه لم يعالج الإشكال فهو مصادرة على المطلوب.

ومنها: ما ذكره المحقق الاصفهاني رحمه الله تبعاً لبعض الأساطين كالطوسي والمولى الصدر بأنّ العقل يتحمل بفرض فرد هو (محض الملاك) فيحملهما على ذلك الفرد بما هو مرآة له فالتلبس حاصل والجري صحيح.

الأمر الرابع: النزاع في المشتق لغوي أو عقلي.

بعدما عرفت معنى المشتق وبعض ما يتعلق به يقع الكلام في جهة البحث الأصولي عنه وفيه آراء:

الأول: أنه لغوي وهو مرحلة وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدأ أو لمفهوم أعم يشمل المتلبس ومن انقضى عنه المبدأ وهو ظاهر البحث في كتب القوم لأن الحقيقة والمجاز من شؤون الوضع والاستعمال فيكون البحث عن المشتق من ناحية تحديد مفاده ومدلوله اللغوي أو العرفي وهي حيثية أصولية ينطبق عليها ميزان المسألة الأصولية كما تقدم.

الرأي الثاني: أن البحث عقلي وأنه من مرحلة الحمل ذهب إليه المحقق الشيخ هادي الطهراني رحمه الله باعتبار أن حمل شيء على شيء إنما هو لكون الموضوع واجداً لمبدأ يصح بسببه الحمل وإلا لجاز حمل كل شيء على كل شيء فيكون البحث في مرحلة الصدق والانطباق وهو أمر تكويني مع غض النظر عن مفهومه بأنه واسع أو ضيّق.

وأنكر رحمه الله على الأصوليين بحثهم من ناحية المفهوم ، لأنه خفاء فيه بحسب المتفاهم العرفي لأن المشتق عنوان منتزع عن الذات بملاحظة اتصافها بمبدأ الاشتقاق.

وهذا المعنى لا خفاء في أصله ولا في سعته وضيقه فيكون الكلام في مقام صدقه وحمله على الذات فهل يحمل على الذات المتلبسة بالمبدأ في حال الجري فقط؟

وترجع محاولته إلى أن وجه النزاع في الحمل مع عدم الاختلاف في المفهوم هو أن الذي يقول بعدم صحة الإطلاق على من انقضى عنه المبدأ يرى أن سنخ الحمل في المشتقات كسنخه في الجوامد فلا يصح إطلاق لفظ المشتق على من زال عنه المبدأ فإنّ حاله حال

ص: 194

إطلاق الماء على الهواء بعد زوال الصورة المائية عنه، إذ لا منشأ للانتزاع بعد انقضاء المبدأ عنه فلا يصدق عليه المشتق ومن يقول بصحة الإطلاق يرى باختلاف الحملين فإن الحمل في الجوامد حمل هو هو فلا يصح أن يقال للهواءأنه ماء وحمل المشتقات إنما يكون حمل ذي هو أي حمل انتساب فيكون فيه مجرد الانتساب. ولو في آن ما، فيصح إطلاق المشتق على المنقضي بهذا اللحاظ.

فالنزاع في مسألة المشتق في مرحلة الصدق مع غض النظر عن المفهوم حقيقته.

وقد أشكل عليه المحقق الاصفهاني رحمه الله بأن ما ذكره من كون حمل الجوامد من حمل هو هو، وحمل المشتقات من حمل ذو هو خلاف الاصطلاح. فإنّ حمل مبدأ الاشتقاق حمل ذو هو، إذ لا يصح حمل البياض على الجسم حمل مواطاة أي حمل هو هو بل يحمل عليه، بواسطة (ذي) فيقال: الجسم ذو بياض بخلاف حمل المشتق فإنه حمل المواطاة، فيقال: الجسم أبيض ولا يحتاج في حمله إلى واسطة فلا يقال: الجسم ذو أبيض.

الرأي الثالث: أنّ النزاع في كلا الأمرين فيقال هل يصح عقلاً وبعد الجواز والصحة يقع الكلام في وضع اللفظ.

وردَّ المحقق الاصفهاني رحمه الله عليه بأنّ البحث ليس على مصطلح أهل المعقول فالمراد ب- (ذو هو) الانتساب فيكون الحمل في المشتق حمل المواطاة.

ولكن يمكن الإشكال عليه بأنّ تغيير مصطلح المعقول بعد أن أقام المحقق الطهراني رأيه عليه خلاف ما يريده مع أنه من التطويل بلا طائل تحته.

الرأي الرابع: أنه يرجع النزاع إلى فرض الادعاء كما ذهب إليه السكاكي في باب الاستعارة باعتبار أن الذات التي انقضى عنها المبدأ من مصاديق مفهوم المشتق ادعاءً وتنزيلاً مع عدم كونها من مصاديقه حقيقة فإن قلنا بوجود الادعاء عند أهل المحاورة في استعمالاتهم فيكون الاستعمال حقيقياً في المنقضي وإلا فيكون إطلاقه عليه على نحو المجاز.

ولا يخفى بطلانه فإنّ الثمرة المترتبة على هذا البحث هو إثبات الحكم الشرعي وهو لا يثبت في فرض الادعاء فإنّ حرمة أم الزوجة أو كراهة البول تحت الشجرة المثمرة إنما تثبتان في ما إذا قلنا بأن وضع المشتق للأعم فتكون أمُّ من كانت زوجة بعدما فارقها الزوج إما بطلاق أو رضاع أو موت وللشجرة التي كانت مثمرة ولو لم تكن كذلك الآن وأمّا كونها أم الزوجة أو مثمرة ادعاءً فلا أثر له أصلاً ولا ثمرة تترتب عليه إلا إذا كان الادعاء من قبل الشارع كما في قوله صلی الله علیه و آله و سلم : (الطواف بالبيت صلاة) وإلا فلا اعتبار بالادعاء العرفي أو العقلي ما لم يتحقق له ظهور.

فالحق أن تحرير النزاع في المشتق عند الأصوليين يرجع إلى دلالته من حيث الوضع وسعة المفهوم وضيقه فإن ذلك هو الذي يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي الذي هو الميزان في المسألة الأصولية وأمّا الصدق والانطباق فليس إلا كون الشيء فرداً لمفهوم من المفاهيم، فالانطباق أمرٌ تكويني منوط بتحقق فرديته للمفهوم فإن تحقق ينطبق المفهوم قهراً وإلا فلا ينطبق ولا يمكن تحصيل الفردية إلا بعد معرفة المفهوم وتعيين سعته أو ضيقه.

الأمر الخامس: في أنّ النزاع هل هو كبروي أو صغروي

ص: 195

بعدما عرفت تحرير الكلام في هذا الموضوع وخصوصياته يقع البحث في النزاع بين الجانبين كبروي بمعنى أن الحيثية آناً ما كافية في صدق المفهوم على المصداق صدقاً دائماً كما يقوله الأعمّي أو ليست كافية كما يقوله الأخصي.

أو النزاع صغروي باعتبار أن كليهما قائل بعدم كفاية آناماً إلا أن الأخصّي يقول بأنّ الحيثية ليست آناما بل إن مبدأ المشتق إذا وجد في موضوع يكون سبباً في تحقق حيثية انتزاعية في هذا الموضوع باقية في جميع الأزمنة وإن زال نفس المبدأ، والأعمّي ينفي ذلك ويقول بأنّ الحيثية آناً ما كافية في الصدق.

وهما احتمالان وقد رجح بعض الأعلام كون النزاع صغروياً، لأن صدق المفهوم على موجود يتوقف على وجود حيثية في هذا الموجود يصدق بها عليه وإلا لزم صدق كل عنوان على كل شيء أو الترجيح من غير مرجح. إذا صدق على بعض دون بعض من غير جهة تفارقه.

وظواهر كلماتهم تدل على أن النزاع كبروي ولا فائدة مهمة تترتب على ذلك فلا وجه لإطالة الكلام فيه.

الأمر السادس: في تأسيس الأصل في المقام.

وهذا الأمر حقه أن يذكر بعد إيراد الأدلة على كلا القولين كما أن الحق أن يذكر بحث بساطة المشتق وتركّبه هنا إلا أن السيد الوالد رحمه الله تبع الأعلام في ذلك فذكر ما حقه التأخير وأخّر ما حقه التقديم.

وكيف كان فإنه مع عدم قيام الدليل على أحد القولين وحصل الشك فيما هو المعنى الموضوع له في المشتق، فما هو مقتضى الأصل العملي؟ والحديث عنه تارةً يقع بلحاظ المسألة الأصولية أي في مقام الوضع والموضوع له وأخرى بلحاظ المسألة الفقهية أي في مقام ثبوت الحكم للمشتق مع عدم تعيين الموضوع له.

أمّا الأصل في المسألة الأصولية فالمعروف أنه لا أصل يثبت به الوضع للأعم أو للمتلبس لجريان الأصل في كلا الطرفين فيسقطان بالمعارضة والوجه في ذلك يرجع إلى أن الوضع للأخص يقتضي ملاحظة الخصوصية فتنتفي بالأصل، كذلك الوضع للأعم يقتضي لحاظ العموم للزوم ملاحظة الموضوع له في الوضع ولا يكتفي في لحاظه عدم لحاظ الخاص لأن المطلق والمقيد متباينان في المفهوم فلابد من لحاظهما عند الوضع وعدم لحاظ أحدهما لا يكون لحاظاً للآخر فتنتفي ملاحظة العموم بالأصل أيضاً فيسقطان بالمعارضة.

مع أن الأصل المذكور إن كان أصلاً عقلائياً والحق عدم ثبوته إذ المحتمل جداً نفي ملاحظة الخصوصية مع الشك فيها وإن كان المقصود منه استصحاب عدم ملاحظة خصوصية التلبس قيداً في مقام الوضع زائداً على الجامع فينتفي الوضع للمتلبس. (ففيه) :

أولاً: إن الاستصحاب المعتبر إنما يشترط فيه أن يكون ذا أثر شرعي إن لم يكن المستصحب حكماً شرعياً والمقام من هذا القبيل فإنه ليس لعدم ملاحظة الخصوصية أثر شرعي.

ص: 196

وثانياً: إن غاية ما يثبته الاستصحاب هو ملاحظة الواضع حين الوضع المعنى الأعم ولكن الموضوع في الحكم الشرعي بالحجة إنما هو الظهور المسبب من الوضع ولا يمكن تعيينه بالاستصحاب المذكور إلا بالأصل المثبت.

وثالثاً: إنه يبتني على كون المعنى الأعم أو الأخص من باب المطلق والمقيد الذي يكون الجامع متيقناً في مقام لحاظه والشك في الخصوصية ، ولكنه فاسد فإنهما وإن كان المعنيان متحدين في الصدق الخارجي إلا أنهما بحسب المفهوم متباينان عرفاً ووجداناً فلا يرجع الشك حين الوضع دائراً بين الأقل والأكثر لينفي الزائد بالأصل.

ومن ذلك يظهر فساد من يدعي بأنه من ترجيح الاشتراك المعنوي اللازم للأعم ، واستدل عليه بالغلبة فيكون الوضع للأعم بالاشتراك بخلاف الوضع للأخص فإنه يكون بالحقيقة والمجاز وعند الدوران بين الاشتراك المعنوي وبين الحقيقة والمجاز يكون الأول مقدماً على الأخير.

مع أنه يورد عليه بأنه لا دليل على الترجيح بالغلبة لو سلّم ثبوتها.

فهو مردود كبرى وصغرى كما أن تقديم الاشتراك المعنوي على الحقيقة والمجاز عند الدوران بينهما نحو استحسان ويمكن أن يكون الاستحسان على العكس فإن الفصاحة والبلاغة تدور مدار ذلك كما هو واضح.

وأمّا الأصل العملي في المسألة الفقهية: وهي إما موضوعية أو حكمية وتختلف باختلاف الموارد.

أما الأول: فهو استصحاب بقاء صدق المشتق بعد الانقضاء لترتيب أثره الشرعي كما إذا ورد: أكرم كل عالم، وكان زيد عالماً وقد انقضى عنه العلم فإنه يستصحب كونه عالماً بعد أن كان كذلك للشك فيه.

وأورد عليه أن استصحاب الموضوع يرجع في الواقع إلى الشبهة المفهومية كاستصحاب النهار لتردده بين سقوط القرص وذهاب الحمرة فإن المستصحب إمّا أن يكون ذات الموضوع، أو الموضوع بوصف كونه موضوعاً للحكم، فإن كان الأول، فهو لا يثبت موضوعية الموجود إلا بنحو الأصل المثبت وإن كان الثاني فهو كاستصحاب الحكم لأن الموضوعية إنما تنتزع عن مقام ثبوت الحكم لموضوعه فهي عارضة على الذات فلا يمكن استصحابها للشك في بقاء معروضها ومع الشك فيه تكون الشبهة مصداقية فلا يتمسك فيها بالاستصحاب للشك في صدق النقض والإبقاء فلا يمكن التمسك فيها بعموم دليل الاستصحاب.

قال بعض الأعلام: بأنه يمكن رفع الإشكال ولا يكون ما ذكر مانعاً من جريان الاستصحاب فيما نحن فيه بأن يكون الأصل هو استصحاب انطباق المفهوم على الموجود الخارجي وهو المقصود في المقام بأن نستصحب عالمية هذا الشخص فإنها كانت ثابتة له قبل الانقضاء ومع الشك فيها بعده نستصحب هذا العنوان.

وأشكل عليه بأنه غير تام من جهة أخرى وهي أنه لو كانت خصوصية التلبس مأخوذة في الموضوع له فإنها تكون مقوّمة للصدق والانطباق ودخيلة في الموضوع بحيث إذا انتفت انتفى الصدق والانطباق لانتفاء موضوعه، فمع الشك في دخالة هذه الخصوصية في الموضوع له لفظ المشتق يحصل الشك عند انتفائها في بقاء معروضالانطباق فلا

ص: 197

يصح الاستصحاب لعدم العلم ببقاء موضوعه، فلا يحرز أنه إبقاء للحالة السابقة ولعله يكون من إسراء المستصحب من موضوع إلى آخر.

والحق أن يقال: كما سيأتي تحقيقه في بحث الاستصحاب أن بقاء الموضوع ومعروض الانطباق في الاستصحاب إنما يرجع في فعليته إلى العرف فإذا حكم ببقائه يتم الاستصحاب وإن كان بالنظر الدقي أو عند العقل خلاف ذلك باختلاف الموضوع في حالتي اليقين والشك وهذا يختلف عند العرف في كثير من المشتقات فليست لنا قاعدة كلية في الموضوعات ويأتي مزيد بيان.

هذا كله في الأصل الموضوعي.

وأمّا الأصل الحكمي وهو استصحاب بقاء الحكم المترتب على المشتق فإنه يقع الكلام فيه بناء على القول بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية كما عليه أهل التحقيق ومعظم الأصحاب وأمّا من ذهب إلى عدم جريانه فيها كما عليه السيد الخوئي((1))

رحمه الله فلا كلام حينئذٍ ولكن سيأتي فساد ذلك.

وقد أشكل جريان الاستصحاب في الحكم بأنه من الشك في بقاء موضوعه، وهو العالم في قولنا: أكرم كل عالم.

فيكون من موارد الشبهة المصداقية فلا يشمله عموم أدلة الاستصحاب، كما عرفت آنفاً.

ولكن الحق أنّ إطلاق ما ذكر ممنوع فإنه يختلف باختلاف الموارد، فإن الحكم المترتب على المشتق تارةً يرى العرف تقوم الموضوع ومعروض الحكم بالعنوان بحيث يكون العنوان من الجهات التقييدية له، نظير جواز تقليد المجتهد، فإنه في هذا القسم يمنع جريان الاستصحاب للشك في بقاء معروض الحكم.

وأخرى يرى العرف بأن الحكم ثابت للذات وتكون بنفسها معروض الحكم وأنّ العنوان من قبيل الجهة التعليلية للحكم نظير وجوب إكرام العلماء فإن الإكرام في نظر العرف قد عرض على نفس الذات، فإنه حينئذٍ يصح إجراء الاستصحاب لإحراز بقاء الموضوع فالمفروض أن المراد به معروض الحكم لا كل ما كان دخيلاً في ثبوت الحكم وإلى ذلك ترجع كلمات الأصحاب وإن اختلفت عباراتهم.

نعم ذهب السيد الصدر إلى تقسيم الحكم إلى الإطلاق البدلي المترتب على صرف وجود المشتق فإنه يثبت الحكم على المنقضي عنه المبدأ ويكتفي به في مقام الامتثال بإكرام من كان عالماً سابقاً لأن الشك فيه يكون في متعلق الحكم لا موضوعه، فيكون الدوران فيه بين التعيين والتخيير.

والمعروف جريان البراءة في التعيين وإلى الحكم المترتب على المشتق بنحو صرف وجوده كما في قولنا: أكرم كل عالم. وذكر كلام المحقق الخراساني رحمه الله وأشكل عليه((2)).

والصحيح أن ما ذكره إن رجع إلى ما ذكرناه من الرجوع إلى العرف في التمييز بين موضوعات الأحكام ومتعلقاتها، فهو المتبع وإلا فإنه من التطويل بلا طائل تحته.

تصوير الجامع في المشتق:

ص: 198


1- - محاضرات في اصول الفقه - ج1 / ص207 - مصدر سابق.
2- - بحوث في علم الاصول - ج1 / 379 - مصدر سابق.

بعدما اتضح الفرق بين المشتق والجوامد يتبين أن الأسماء المشتقة تكون من متحد المعنى بمعنى أنها تدل على معنى عام فإذا قيل ضارب مثلاً يعني أنه موضوع لمن حمل عليه مبدأ الضرب وصدق عليه وهذا لا إشكال فيه ولولا ذلك لما وقعت موضوعاً للإطلاق والعموم نظير أسماء الأجناس ولأجل ذلك أصبح من الضرورة البحث عن معنى جامع على كلا القولين وإلا فإن لم يمكن تصوير المعنى الجامع على أحد القولين يكون بنفسه دليلاً على بطلان ذلك القول وهذا واضح وعلى ذلك يقع البحث.

أمّا على القول بالوضع للمتلبس فإنه لا إشكال في ثبوت المعنى الجامع له وهو المتلبس بالمبدأ وهذا ينطبق على كل ما فيه التلبس مطلقاً قلنا ببساطته أو قلنا بتركّبه وقد يتوهم بأنه على القول بالتركيب يتضمن معنىً نسبياً حرفياً فلا يكون عاماً لأن المشتق حينئذٍ مركب من الشيء والمبدأ والنسبة بينهما ولكن عرفت سابقاً أن نسبية المعنى الحرفي لا يقتضي جزئيته بلحاظ المصاديق الخارجية فإنه يطرأ على المعنى الحرفي من الكلية والجزئية ما يطرأ على المعنى الاسمي نعم تتغير تبعاً لتغيّر أطراف تلك المصاديق.

أمّا على القول بالأعم فلا إشكال في أنّ القائل بالأعم لا يقول بالوضع لخصوص المنقضي لأنه خلفٌ، ولا يقول أيضاً بالوضع للأعم بالاشتراك اللفظي بمعنى أنه وضع تارة بخصوص المتلبس وأخرى لخصوص المنقضي لأنه مقطوع العدم بل يقول بالوضع بنحو الاشتراك المعنوي كما عرفت وحينئذٍ نحتاج إلى جامع فقيل انه لا ريب في عدم معقولية الجامع الأعم بناءً على بساطة المشتق لأنه حينئذٍ لا فرق بين المبدأ وبين الذات إلا بالحمل، ولا يعقل فرض الوضع للأعم بالنسبة إلى المبدأ لعدم صدق المبدأ على الفاقد له ولو لوحظ المبدأ لا بشرط من حيث الحمل بداهة ركنية المبدأ في صدقه حينئذٍ.

وأمّا بناء على تركب المشتق فقد ذكروا في تصوير الجامع الأعم وجوهاً:

الأول: أن الجامع أمر انتزاعي يجمع بين الفرد الذي انقضى عنه المبدأ والفرد المتلبس وهو عنوان أحدهما وهو كافٍ في مقام الوضع فلا يتوقف على وجود الجامع الحقيقي لأن المطلوب وهو تصور الموضوع له بنحو ما وهذا يحصل بالجامع العنواني الانتزاعي.

وفيه: أن مجرد معقولية الجامع الانتزاعي المزبور لا يكفي فإنه سهل يمكن انتزاعه من النقيضين أيضاً مع أنه لو وضع لهذا العنوان فإنه يقتضي الترادف بينهما وهو باطل قطعاً لأنه معنى اسمي والهيئة من الحروف مع أنه يلزم عدم تعقّل الشمولية فيه، لأن عنوان أحدهما بدلي لا شمولي فيستلزم تعدد الموضوع له وهو خلفٌ. مضافاً إلى أنه لا وجود خارجاً لو أريد واحد منهما لا كليهما.

الثاني: إن الجامع هو اتصاف الذات بالمبدأ في الجملة أعم من أن يكون فعلياً أو قد انقضى في مقابل الذات التي لم تتصف بالمبدأ أصلاً.ويرد عليه: إن أريد منه أخذ مفهوم الاتصاف فإنه لم يوضع له اللفظ قطعاً وإن أريد أخذ واقعه وهو النسبة فهو باطل جزماً إذ لا جمع بين النسبتين.

الثالث: إن الجامع هو من وجدت فيه الصفة والمبدأ، فعالم يعني من علم وقائم يعني من قام. ويرد عليه أنه يلزم عدم صحة (زيد ضارب الآن) لعدم صدق الماضي في حقه مع أنه لم يؤخذ مفاد الفعل الماضي في جميع المشتقات كما هو واضح في أسماء الآلة أو

ص: 199

المكان والزمان وغيرها من المشتقات مضافاً إلى أن الفعل الماضي يدل على حركة المبدأ وصدوره من ذات، وهذا المعنى غير مأخوذ في المشتقات فإنها تحكي عن الذات المتصفة بالمبدأ، وليس فيها حيثية حركة المبدأ والصدور منه.

الرابع: أن يكون الجامع هو الذات التي لها التلبس بالمبدأ في أحد الزمانين الماضي أو الحاضر.

وفيه: إنه يستلزم دخول الزمان في المشتق وقد عرفت عدم أخذه في مدلوله.

الخامس: ما ذكره السيد الوالد رحمه الله من أنه إن لوحظ الجامع بناءً على تركُّب النسبة فهي إما أن تلحظ مهملة فتكون لازمه الصدق الحقيقي بحسب الاستقبال أيضاً مع اتفاقهم على أنه مجاز فيه. وإما أن تلحظ بالنسبة إلى حال التلبس فهو عين الوضع للمتلبس - وإما أن تلحظ بالنسبة إلى الأعم منه وممن انقضى وهو خلاف مفهوم النسبة ومعناها الذي هو الخروج من العدم إلى الوجود وهو ليس إلا حال التلبس فقط.

وعلى ضوء ذلك قالوا بأنه لا وجه معقول للوضع للأعم بعد عدم إمكان تصوير الجامع الأعم فهو باطل ثبوتاً فلا تصل النوبة لأن يستدل عليه إثباتاً((1)).

ولكن الحق أن يقال بأنه يمكن تصوير الجامع وهو حصول التلبس بمبدأ للذات وصدقه عليها سواءً كان باقياً إلى زمان الجري والانتساب أو كان منقضياً عنها ولا ريب أن هذا المعنى يلازم الزمان لأن التلبس والصدق أمر زماني كسائر الحوادث الزمانية ولكن ذلك لا يلزم دخول الزمان في مفهوم الاسم ومدلوله فلابد من الرجوع إلى الأدلة التي أقيمت على الوضع للأعم وترى مدى دلالتها على صحته والأقوال في هذا الموضوع ثلاثة:

الأول: الوضع للمتلبس فيكون المشتق حقيقة فيه ومجازٌ فيمن انقضى عنه التلبس.

الثاني: الوضع للأعم من المتلبس ومن انقضى عنه المبدأ.

الثالث: التفصيل واختلفوا في ذلك على أقوال ولعلّ أهمها ما ذكره الشهيد الثاني رحمه الله من أنه لو طرأ الضد الوجودي لم يصدق المشتق على المنقضي وإلا لزم إطلاق النائم على اليقضان، والكافر على أكابر الصحابة.

ومنها: ما ذكره صاحب الفصول من الفرق بين المتعدي فيصدق مثل الضارب وغيره فلا يصدق مثل حسن.

ومنها: ما ذكره الغزالي حيث اختار الأعم في المحكوم عليه، لآية الزنا والسرقة، والتلبّس في المحكوم به.

أمّا القول الأول فهو المشهور بين العلماء واستدلوا عليه:أولاً: التبادر أي تبادر خصوص المتلبس وقرّبه بعضهم بأن الصدق إن كان لوجود المبدأ آناً ما، فلا صدق بعد فقده وإن كان لأجل أن آناً ما يوجد حيثية اعتبارية باقية والحال أن التبادر قيام المبدأ لا قيام الحيثية.

وثانياً: صحة السلب عما انقضى، فإنّ سلب الكافر عن أبي ذر كسلب مثل المؤمن عمن سيؤمن بعد فإن كلاهما دليل على أن حملهما عليهما مجاز.

وثالثاً: مرتكزات العقلاء

ص: 200


1- - تهذيب الاصول - ج1 / ص44 - مصدر سابق.

ورابعاً: الخلف، وهو صدق ما يضاد حالة التلبس على حالة الانقضاء فلو كان شخص متحركاً فسكن يصدق السكون عليه بعد انقضاء التحرك عنه فإن صدق التحرك عليه أيضاً فهو من اجتماع الضدين.

ولا يتوهمه عاقل إلا مع اختلاف الجهة وهو خلاف الفرض.

وخامساً: بأنّ الجري لابد له من خصوصية وإلا لجرى كل شيء على كل شيء وهي ليست إلا التلبس بالمبدأ فإذا انقضى التلبس فلا جرى، إذ لا يمكن إنكار الخصوصية أو بقائها بعد الانقضاء.

وسادساً: إن العناوين التي تؤخذ من الموجودات إنما هي بملاحظة بعض الخصوصيات فلا تطلق تلك العناوين على تلك الموجودات إلا مع تلك الخصوصيات سواء كانت تلك من ذاتيات الشيء كالإنسان والحجر إذا صارا تراباً، أو من العوارض، هذا إذا لم يلاحظ شيء آخر زائداً على تلك الخصوصيات وإلا اتبع الصدق ذلك الشيء.

وسابعاً: ما ذكره المحقق النائيني رحمه الله كما نقله مقرره السيد الخوئي((1)) رحمه الله وخلاصة ما ذكره بعد إرجاع النزاع في موضع المشتق إلى بساطة مفهومه أو تركيبه فقال: بأن المشتق إن كان مركباً لكان من ذات انتسب لها المبدأ فالركن الركين حينئذٍ يكون هو الذات وأمّا انتساب المبدأ إليها وإن أخذ في مفهوم المشتق لكنه بنحو الجهة التعليلية لصدق المشتق على الذات ولم يؤخذ في النسبة التقييدية الزمان فيكفي في صدق المشتق تحقق التلبس والانتساب في الجملة مع بقاء الذات فيكون صادقاً على المنقضي بحسب ذات المعنى في نفسه.

لكن ذلك لا يكفي فإن من يقول بالتركب يدّعي تركبه من الذات والمبدأ لا على نحو الإطلاق بحيث يشمل المنقضي عنه المبدأ بل الذات متضمنة بمعنى حرفي وهو نسبة المبدأ إلى الذات فيكون وضع المشتق للأعم متوقفاً على أخذ عنوان جامع.

وهو إمّا أن يكون الجامع بين المتلبس والمنقضي عنه وحينئذٍ لا جامع غيره وقد عرفت أن المشتقات عارية عن الزمان أو التماس وجه جامع آخر.

وقد عرفت فساد الوجوه التي ذكرت في بيان الجامع فحينئذٍ يدور الأمر بين وضع المشتق لخصوص المنقضي أو للمتلبس بوضع آخر على سبيل الاشتراك أو للمتلبس فقط.والأولان لا يقول بهما أحد، كما عرفت فيتعين الأخير. هذا بناءً على تركيب مفهوم المشتق وأمّا بناءً على القول بالبساطة، أي اتحاد الذات والمبدأ ذاتاً واختلافهما اعتباراً إذ أنّ الذات قد أخذت في المشتقات لا بشرط الحمل والمبادئ قد أخذت بشرط لا وعليه لا يعقل الوضع للأعم فإنّ المبدأ هو الركن الركين ولا ريب أنه لا يصدق بعد فقده ولو لوحظ المبدأ لا بشرط من حيث الحمل فيكون المشتق أشبه بالجوامد من هذه الجهة.

وقد أورد على تلك الوجوه: أمّا التبادر باحتمال استناده إلى الانصراف الحاصل عن كثرة الاستعمال في المتلبس .

ص: 201


1- - اجود التقريرات - ج1 / ص74 - مصدر سابق.

وأجيب عنه بأن استعمال المشتق في موارد الانقضاء أكثر منه في موارد التلبس حتى صار استعمال المشتقات فيما لا يكون التلبس بالمبدأ فيها فعلياً حين الاستعمال بل منقضياً فلابد من توجيه ذلك.

فإن قيل: بأن الوضع للمتلبس خاصة تعيّن حمله على أنّ الإسناد بلحاظ حال المتلبس دفعاً للمجاز الأكثر الذي ينافي حكمة الوضع. وإن قيل بالوضع للأعم كان الإطلاق بلحاظ الاستعمال والنطق حتى لا يستلزم المجاز، وبه يندفع دعوى كثرة الاستعمال في المتلبس بناءً على القول الأعم.

والحق أن يقال: إن استناد التبادر إلى الانصراف الحاصل من غلبة الاستعمال وكثرته في التلبّس لا يضر فإن تعيّن اللفظ فيه تدريجاً بسبب الكثرة والغلبة يكشف عن تعيّن اللفظ في المتلبس عرفاً فهو على حدّ الوضع التعييني وهو يفي بغرض الفقيه.

وأمّا ما أجاب به السيد الصدر رحمه الله عن الاعتراض((1))

فإنه لا يرجع إلى محصل حيث قسم الجمل إلى التطبيقية وغير التطبيقية والأولى إلى حملية واسنادية فإنه إن رجع إلى تمييز العرف بينها فيتبع كما سيأتي وإلا فلا فائدة تترتب على ذلك.

وأشكل على الثاني بأنه إن أريد السلب المطلق أي سلب المبدأ مطلقاً حتى بالنسبة إلى حالة التلبس فهو كذب، وإن أريد به سلب من له المبدأ فعلاً أي باعتبار حال الانقضاء فهو وإن كان صحيحاً لكنه لا يفيد لأن سلب الأخص لا يستلزم سلب الأعم الذي هو المطلوب في نفي المجاز.

وأجيب عنه بوجوه منها: أنه باعتبار حال الانقضاء ويكون التقييد بالفعلية في ناحية الموضوع والسلب لا المسلوب ومثله لا يضر بالاستدلال فإنه يقال للرجل الذي كان عادلاً، والآن هو فاسق أنه الآن ليس بعادل بحيث يكون (الآن) قيداً للموضوع أو للسلب لا المسلوب.

ومنها: أن التقييد بالفعلية يرجع إلى الوصف الاشتقاقي وجري المشتق نفسه لا تقييد مبدأ الاشتقاق فإنه يضر بمقالة الخصم.

والحق ما ذكره السيد الوالد رحمه الله أن السلب بلحاظ حالة الانقضاء فقط وليس المقام من الإطلاق والتقييد بل من المتباينين لأن حالة الانقضاء مباينة مع حالة التلبس عرفاً بل دقة أيضاً مع أنه على فرض التنزل وكان من الإطلاق والتقييد الاصطلاحي تكونصحة السلب بلحاظ حال القيد -وهو الانقضاء- علامة للمجاز وجداناً وهو المطلوب وليس المراد إثبات المجازية حتى بالنسبة إلى حالة التلبس حتى يلزم الكذب.

والقول بأن علامة المجاز صحة السلب بقول مطلق مما لا دليل عليه بل العلامة صحة السلب بنحو تكون معتبرة عند أهل المحاورة أعم من أن يكون من المطلق وغيره فكلما صدق صحة السلب تصدق المجازية أيضاً وليست هذه الأمارة حاكمة على الوجدان مطلقاً.

وما ذكروه إن رجع إلى ما ذكره فهو المتبع وإلا فلا اعتبار بها فإن البحث لغوي وليس بعقلي.

ص: 202


1- - بحوث في علم الاصول - ج1 / ص374 - مصدر سابق.

وأشكل على الرابع بأنه لا تضاد لاختلاف الاعتبار فهو متحرك باعتبار الماضي وساكن باعتبار الحال.

وفيه إنه خلاف الفرض ، وأورد على الخامس والسادس بأن البحث وضعي يبحث عن وضع المشتق، والجري متأخر عنه. وأمّا ما اختاره المحقق النائيني فإنه يرد عليه بأن البحث لغوي وليس بعقلي.

وهذه الوجوه وإن أمكن المناقشة فيها بوجه إلا أنه بالإمكان الاستفادة من مجموعها وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدأ مطلقاً مما تركن النفس إليه لاسيما بعد موافقته لمرتكزات العقلاء.

إلا أن يتم دليل من يقول بالأعم الذي استدل على ذلك بالتبادر وبعدم صحة السلب وبكثرة الاستعمال في موارد الانقضاء فلو كان مجازاً لزم كثرته وهي تنافي حكمة الوضع.

ويرد عليه: أمّا الأول بأنه من المجاز في المادة فيما إذا أخذ المبدأ واسعاً بحيث يشمل حال الانقضاء مثل المقتول ونحوه وإلا فلا يتبادر إلا المتلبس كالعالم والجاهل والحسن والمؤمن والكافر ولعل الوجه في توسعة بعض المبادئ دون بعض يرجع إلى ملاحظة الأثر الحاصل من حين التلبس وتعميمه إلى سائر الأوقات ومنه يظهر وجه الخدشة في الثاني فإنه من التوسعة في المبدأ وإلا فلو كان المبدأ مأخوذاً على نحو الحقيقة وكان الجري بلحاظ الفعلية لا بلحاظ حال التلبس لصح السلب.

ومما ذكرنا يظهر فساد الوجه الثالث فإنّ كثرة المجاز إنما تحصل فيما إذا كان الوضع لخصوص المتلبس لو كان بلحاظ حال الانقضاء أمّا لو كان بلحاظ حال التلبس فلا يلزم منه محذور مع أنه منقوض بأكثرية الاستعمال في المتلبس كما عرفت سابقاً كما أن من الحكمة أيضاً التوسعة والإطالة مع القرينة.

4- الاستدلال عليه بقوله تعالى: ﴿ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾((1))

حيث استدل الإمام علیه السلام به على عدم لياقتهم لمنصب الإمامة لكونهم مشركين قبل اسلامهم ولا يصح هذا الاستدلال إلا مع القول يكون المشتق حقيقة في الأعم.وفيه : إنه إن أريد من الظلم في الآية مطلق المعصية أعم من الشرك فلا يتوقف الاستدلال بالآية على دعوى كون المشتق حقيقة في الأعم لأن القوم كانوا ظالمين بهذا المعنى حين تقمص الخلافة، كما هو واضح لمن راجع سيرتهم وأحوالهم.

وإن أريد من الظلم خصوص الشرك فإن الخلافة من المراتب الشريفة التي لا ينالها من كان مشركاً ولو انقضى عنه الشرك وآمن بعد ذلك للأدلة الدالة على اعتبار العصمة من المعاصي مطلقاً في الخلافة الإلهية فضلاً عن الشرك الذي يكون التلبس به آناً ما يخرجه عن الأهلية مطلقاً فيكون إطلاق الظالم عليهم على كلا الاحتمالين إطلاقاً حقيقياً ويتم به الاستدلال.

ص: 203


1- - البقرة / 124.

وكذلك الحال في استدلالهم بقوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ﴾((1))

وقوله تعالى: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ﴾((2))

إشكالاً وجواباً فإن الموضوع للحد هو حدوث الزنا والسرقة في زمانٍ من الأزمنة لا بقاؤهما إلى زمان إجراء الحد.

وبالجملة إن استعمال المشتق في جميع هذه الموارد بلحاظ حال التلبس، ومعلوم أن مثل هذا الاستعمال حقيقي حتى على القول بالوضع لخصوص المتلبس .

مع أنه ذكر جمع من المحققين ومنهم السيد الوالد رحمه الله أنّ تصوير الوضع للأعم ثبوتاً مشكل وذلك لا لعدم الدليل على إثباته أو الدليل على ضده أعني الوضع لخصوص المتلبس، أمّا بناءً على بساطة المشتق فلا فرق بينه وبين المبدأ إلا بالحمل ولا يعقل الوضع للأعم بعد انقضاء المبدأ فإنه لا يصدق بعد فقده.

وأمّا بناء على التركب فلابد من تصوير الجامع بين المتلبس والمنقضي وقد عرفت الكلام فيه مفصلاً وتقدم إمكان تصوير الجامع فمن هذه الجهة لا إشكال فيه إلا أنه لا يمكن إقامة الدليل على الأعم.

أمّا القول بالتفصيل بين المحكوم عليه والمحكوم به كما ذهب إليه الغزالي فاختار الأعم في الأول لآية الزنا والسرقة والتلبس في المحكوم به.

ففيه ما عرفت من أنّ المراد من الآيتين هو لحاظ حال التلبس والإشارة إلى مستحق الحد بقرينة إثبات الأمرين بعد ارتكابهما غالباً مع أنّ اختلاف الوضع بسبب اختلاف وقوع الشيء محكوماً عليه ومحكوماً به أمر غريب جداً.

وأمّا التفصيل بين أسماء الحرف والصناعات والملكات وأسماء الآلة ونحوها فهي للأعم وبين سائر المشتقات.

فقد ذكر بعض الأعلام بأنه يستحق شيئاً من العناية واستدل له بأنه لا إشكال في صدق هذه الأسماء حتى مع عدم تلبس الذات بالحدث المأخوذة في مباديها فيقال لزيد مثلاً (انه صائغ) ولو كان نائماً في بيته وهو يرجع أمّا إلى التوسعة في مدلول الهيئة بدعوى وضعها للأعم أو التصرف في غيره من الجهات وهي وجوه أربعة:

1 - التوسعة في مدلول المادة، كمادة (صائغ) لحرفة الصياغة مطلقاً.وفيه: أنه خلاف الوضع النوعي في المواد الاشتقاقية مطلقاً.

2 - التوسعة في مدلول الهيئة بحملها على التلبس الشأني لا الفعلي ولا الأعم.

وفيه ما ذكرنا آنفاً من أنه خلاف الوضع النوعي في الهيئات الاشتقاقية مع عدم دلالة هيئة (قائم) على شأنية التلبس.

3 - التصرف في الجملة التي استعملت فيها هذه المشتقات كقولنا: زيد صائغ فإنه وإن اقتضت فعلية تلبس زيد بالصياغة بحسب اللغة إلا أن معهودية كون الصياغة حرفة قرينة عرفاً على استفادة شأنية التلبس بهاه.

ص: 204


1- - المائدة / 38.
2- - النور / 2.

وفيه: أنه من لزوم ما لا يلزم وأن التوسعة مفهومة من نفس المشتقات ولو لم ترد في الجملة.

4 - الادعاء العرفي القاضي بإلغاء الفواصل الزمنية المتخللة بين فترات صدور المبدأ من الذات في هذه المشتقات وذلك لتكرر صدور المبادئ فيها فكأن الذات بهذا الاعتبار متلبسة بها دائماً.

وأشكل عليه بأنه لو كان الأمر كذلك لصح استعمال وصف اشتقاقي آخر مكانها كأن يقال: زيد متلبس بالصياغة أو الكتابة في حال نومه لأن الفترات الزمنية ملغاة بحسب الفرض وهو خلاف الفهم العرفي الذي يخص هذه النكتة بهذه المشتقات بالذات.

وبعد بطلان هذه الوجوه لا يبقى وجهٌ للتفصيل كما أن بطلان الأدلة التي أقاموها على الأعم يتعين القول بالوضع للمتلبس إلا أنّ العرف يلحق به ما إذا كان موضع نظره حال التلبس في إطلاق المشتق كما في أسماء الحرف والصناعات والملكات وأسماء الآلة توسعة.

وقد عرفت إن مثل هذا الاستعمال حقيقي على القول بالوضع للمتلبس ولأجل ذلك اختلف الوضع والاستعمال وإن كانا على نحو الحقيقة ، ومن جميع ذلك تبين الحق الجدير بالقبول وقد عرفت سابقاً ما يقتضيه الأصل العملي في المقام عند الشك في الوضع. فراجع

ختام فيه أمور:

الأول: في بيان بساطة مفهوم المشتق أو تركيبه.

قد عرفت أن المشتق هو كل عنوان يحمل على الذات التي يقوم بها المبدأ بنحو من أنحاء القيام كإسم الفاعل والمفعول والآلة وغيرها من الأوصاف الاشتقاقية ولا ريب أن هيئة هذه المشتقات موضوعة لمعنى إضافي زائداً على مدلول المادة.

كما أنه لا شك في عدم وضعها لنسبة تامة.

كما عرفت الفرق بينها وبين المصادر في أنها تحمل على الذات بلا عناية في حين يحمل المصدر عليها مع العناية أو التقدير، وعلى ضوء هذه الأمور المسلّمة وقع البحث في تعيين مدلول المشتق ومن خلال ذلك نشأ البحث عن بساطة مفهوم المشتق وتركبه.

وقبل الخوض في المطلب ينبغي البحث في المراد منهما وتحرير محل النزاع فيهما. فقد ذكر الأصوليون أن البساطة تارة تطلق ويراد بها البساطة في الواقع والحقيقة والمركب كذلك كما في عالم مثلاً فإنه ينحل بالدقة العقلية إلى معروض وعرض.وأخرى يراد بها بحسب اللحاظ والتصوير بمعنى أن الذهن عند التعبير عن شيء لا يتصور إلا صورة واحدة لا أكثر ولكنه في الواقع والحقيقة قد يكون كذلك كالبياض فإنه في ذاته بسيط كما هو كذلك صورة ولحاظاً وقد يكون مركباً في الواقع بالتركيب الحقيقي كالإنسان وإن كان في الصورة واللحاظ واحد أو بالتركيب الاعتباري كالدار فإنها ذات أجزاء بحسب الاعتبار ولكن صورتها الذهنية واحدة.

وثالثة يراد بالبساطة أنه بانضمام مدلول الهيئة إلى مدلول المادة هل يتحصل معنى واحداً إدراكاً وتحليلاً أو يتحصل معنى واحداً إدراكاً ولكنه بالتحليل مركب من حدث وغيره على نحو تركب مفاد الجمل الناقصة؟

لا ريب في عدم إرادة المعنى الأول إذ ليس الكلام في واقع المشتق وحقيقته.

ص: 205

وقد صرّح به جمع من المحققين وإن ذكر بعض الأعلام انه موضع النزاع أيضاً كما تشعر به عباراتهم ولكنه بعيد.

أمّا المعنى الثاني فقد ذهب المحقق الخراساني إلى أن المراد بالبساطة والتركب بهذا اللحاظ(1) وأشكل عليه جمع من الأصوليين منهم المحقق الاصفهاني رحمه الله أنه لا كلام في بساطة المشتق بحسب التصور واللحاظ لأن الموضوع له إذا كان معنى واحداً لحاظاً كان المتصور عند إطلاق اللفظ ذلك المعنى الواحد وإن كان مركباً حقيقة أو اعتباراً إذ الموجود في الذهن صورة واحدة لا صورتان فيكون شأن المشتقات شأن المركبات الاعتبارية من حيث كونها بسيطة إدراكاً((2)).

وبعبارة أخرى انّ النسبة في المشتق هي نسبة ناقصة لوضوح عدم تكفل المشتق لمعنى تام على نحوٍ يصح السكوت عليه والنسبة الناقصة مع طرفيها تشكل مفهوماً وحدانياً بسيطاً في مرحلة الإدراك والتصور إلا أن يقال بأن مفاد المشتق نسبة تامة ولا يقول به أحد فلا بديل لهذه البساطة ولا كلام فيه من هذه الجهة.

فالمتعين هو المعنى الثالث وهو أنه بعد انضمام المدلولين مدلول الهيئة ومدلول المادة هل يتبادر معنى واحداً تحليلاً وإدراكاً أو أنه بحسب التحليل مركب من حدث وغيره وإن كان إدراكاً واحداً ؟.

وكيف كان فالأقوال في بساطة المشتق وتركبه أربعة.

1- إنّ المشتق بسيط موضوع بمادته للحدث وبهيئته للدلالة على أنه ملحوظ لا بشرط الحمل على الذات بخلاف المصدر الملحوظ بشرط لا عن الحمل. وهو مختار المحقق الدواني((3)) والنائيني((4))

(قدس سرهما).

2- إنّ المشتق يدل على معنى بسيط منتزع عن الذات بلحاظ تلبسها بالمبدأ بحيث تكون نسبته إليها نسبة العنوان الانتزاعي إلى منشأه، ونسبته إلى المبدأ نسبة العنوانالمنتزع إلى مصحح الانتزاع وهو مختار المحقق الخراساني((5))

رحمه الله وفاقاً للسيد الشريف.

3- إن المشتق يدل بمادته على الحدث وبهيئته على نسبته إلى الذات فيكون مدلول (قائم) مثلاً قيام صادر من ذات وهو مختار المحقق العراقي((6))

رحمه الله .

4- إنّ المشتق يدل على الذات المنتسب إليها المبدأ فيكون مدلول قائم مثلاً ذات لها قيام وهو مختار المحقق الاصفهاني((7))

وتبعه السيد الخوئي (قدس سرهما) والبحث عن ذلك مجرد بحث علمي ولا ثمرة عملية تترتب عليه في الفقه والأصول ولأجل ذلك نذكره على سبيل الايجاز.

ص: 206


1- - كفاية الاصول - ص54 - مصدر سابق.
2- - نهاية الدراية - ج1 / ص91 - مصدر سابق.
3- - شرح المطالع - ص11.
4- - أجود التقريرات - ج1 / ص97 - مصدر سابق.
5- - كفاية الاصول - ص54 - مصدر سابق.
6- - راجع مقالات الاصول - ج1 / ص188- مصدر سابق..
7- - نهاية الدراية - ج1 / ص92

أما القول الأول فقد استدل عليه بأمور:

منها: ما ذكره المحقق الدواني صحة إطلاق المشتق - كالأبيض مثلاً - على البياض الذي هو المبدأ من دون النظر إلى وجود ذات وراء ذلك بل يصح إطلاقه على ما ثبت بالبرهان عدم وجود ذات له كالعالم الذي يطلق عليه تبارك وتعالى الذي أوصافه عين ذاته.

ويرد عليه: إنّ صحة ذلك إنما يرجع إلى أن العرف يرى بأن المشتق يدل على وجدان الذات للمبدأ سواء كان تلبسها به في مرحلة الذات أو في مرحلة لاحقة في الوجود الخارجي، فلا يستلزم الاثنينية بينهما في الوجود مع أنها فرض غير صحيح كما سيأتي.

ومنها: ما ذكره المحقق النائيني رحمه الله من أنّ التركب في المشتق ودلالته على النسبة يستلزم مشابهة المشتق للحروف في المعنى فلابد أن يكون مبنياً مع أنه معرب بلا كلام.

وفيه: أنّ مجرد مشابهة الاسم للحرف في الهيئة لا يستلزم بنائه وإنما يتحقق ذلك فيما إذا تضمّن بمادته لمعنى حرفي مع أن مطلق مشابهة الاسم لمعنى حرفي لا يصيّره مبنياً إلا إذا دلّ على معنى نسبي كالحروف حيث يحتاج إلى طرف ليدل على تمام معناه وأمّا إذا دلّ على معنى نسبي في ضمن اطرافه بحيث لم يكن محتاجاً في تصور معناه الإفرادي إلى دال آخر كما هو الحال في المشتق فلا يصيره مبنياً.

ومنها ما ذكره بعض مقرري المحقق النائيني من أن المشتق إن دلّ على النسبة مع طرفها وهو الذات فإنه يأتي المحذور الذي يذكره المحقق الشريف رحمه الله كما ستعرف وإلا تتقوم النسبة بطرف واحد وهو مستحيل.

وفيه: إنّ عدم أخذ طرف النسبة في مدلول المشتق لا يستلزم تقومها بطرف واحد حتى يستلزم الاستحالة لأنها متقومة بطرفين بل يمكن القول بأنّ المشتق لا يدل عليهما معاً بل بدالٍ آخر، وعلى فرض عدمه نقول كما سيأتي إنّ المشتق متقوّم بالذات علىكلا التقديرين فإن النسبة التي يدل عليها المشتق متقوّمة بطرفها وهو الذات وسيأتي مزيد بيان عند رفع إشكالات المحقق الشريف.

وأمّا ما ذكر في أصل الدعوى من أن الهيئة تدل على اللاشرطية من ناحية الحمل بخلاف المصدر الذي لوحظ فيه الشرط لائية فقد قيل في تفسيرها وجوه:

الأول: اعتبار المبدأ بشرط لا عن الحمل، والمشتق لا بشرط عنه وهو الظاهر من عنوان لا بشرط الحمل وبشرط لائية.

وفيه: انّ مجرد اعتبار اللا بشرط لا يصحح الحمل فإنه يعتبر فيه الاتحاد والعينية بين المحمول والمحمول عليه.

فلو كان المبدأ متحداً مع الذات صحّ حمله عليه ولو اعتبرناه لا بشرط.

وأشكل عليه: بانّ عدم صحة الحمل في المصدر ربما يكون لأجل أخذ مفهوم عدم الحمل قيداً تصورياً في المدلول بأنّ يوضع القيام غير المحمول على ذات فلا يمكن حمله حينئذٍ لأن حمله على حدث يكون محمولاً على الذات ومتحداً معه ليس مصداقاً له وحمله على حدث غير محمول تهافت، إذ كيف يكون الحدث غير المحمول محمولاً، وعليه يفسّر دعوى اعتبار هيئة المصدر لغة للمنع عن الحمل.

ص: 207

وفيه : إنه مبني على اتحاد المبدأ والذات وجوداً وهو ممنوع كما أنه موقوف على دلالة هيئة المصدر على معنى زائد دون هيئة المشتق لأنه يكفي عدم وضعها بإزاء المنع عن الحمل في صحة الحمل وهو غير محتمل عندهم.

الثاني: ما يظهر من كلمات المحقق النائيني رحمه الله من أنّ اللابشرطية والبشرط لائية لم تلحظ بالنسبة إلى الحمل ابتداءً بل لخصوصية أخرى في مدلول اللفظ نتيجة صحة الحمل في المشتق وعدمها في المصدر وتلك الخصوصية هي أن الأعراض مظاهر للموجود الخارجي وأطواره وهي تارة تلحظ بما هي طور من أطوار الموجود فيكون وجودها في نفسها عين وجودها لموضوعها، وبهذا الاعتبار يكون العرض متحداً مع الموضوع.

وأخرى تلحظ بما هي فيكون لكل واحدة منها وجود مستقل مغاير مع موضوعها ومن هنا يكون للمبدأ لحاظان يكون في أحدهما متحداً مع الذات وفي الآخر يكون مغايراً لها وحينئذٍ تكون هيئة المشتق موضوعة للدلالة على اللحاظ الأول، ولذلك صح حملها على الموضوع والمصادر موضوعة للدلالة على اللحاظ الثاني ولذلك لا يصح حملها.

واعترض عليه: بأنّ مجرد الاختلاف في كيفية لحاظ المفهوم لا يمنع من حمله على مفهوم آخر إذا كان متحداً معه واقعاً كما أنه لا يصح حمله إذا كان متغايراً.

وأشكل عليه، أولاً: بالنقض في المصادر الجعلية كالشيئية والإنسانية والحيوانية فإنه لا إشكال في عدم صحة حملها على الذات، فلا يقال زيد إنسانية أو شيئية وإن صح أنه إنسان أو شيء والظاهر إنه لا يمكن تفسير صحة الحمل وعدمها باختلاف المفهوم لاسيما في مثل الشيء والشيئية إذ لا يوجد مفهوم أوضح من مفهوم الشيء يمكن أخذه فيه بنحو التركب.

وثانياً: بالحل بأنه لا ريب في أن صحة الحمل تدور على الاتحاد من ناحية، والاختلاف من ناحية أخرى أي اتحاد لمفهومين وتغايرهما بحسب اللحاظ ، وعليه إنكان اللحاظ يرى باتحادهما في الوجود صح الحمل لأنه من شؤون عالم اللحاظ الذهني لا الواقع الخارجي فإنه عالم الاتحاد والعينية، وأمّا إذا كان اللحاظ يرى اختلاف المفهومين في الوجود فلا يصح حمل أحدهما على الآخر، وهذا التحليل صحيح عند الذهن بتعمله وتحليله كما عليه أهل التحقيق فإن يمكن أن يحلل الموجود الخارجي إلى ذات وعرض ولو لم يكونا في الواقع كذلك، فينتزع عنوان الإنسانية مثلاً بما هو عرض لذات الإنسان وبهذا اللحاظ يرى الذهن حينئذٍ وجودين لا يمكن حمل أحدهما على الآخر فيكون المصدر موضوعاً للمبدأ بهذا اللحاظ وهذه العناية، ولأجل ذلك ذهب المحقق النائيني إلى أنّ المصدر يحتاج إلى عناية بخلاف المشتق الذي وضع للموضوع الخارجي بلحاظ طبعه وحقيقته.

وهناك إشكالات أخرى على هذا التفسير(اللابشرطية والبشرط لائيته) كالنقض بالاعراض الانتزاعية والاعتبارية التي لا وجود لها في الخارج مع أنه يمكن أن ينظر إليها تارةً بما هي موجودة في أنفسها وأخرى بما هي موجودة لغيرها.

والنقض بأسماء الزمان والمكان، فإن (مقتل) مثلاً ليس موضوعاً للقتل ملحوظاً لا بشرط عن حمله على الزمان والمكان إذ ليس القتل طوراً من أطوار وجود المكان والزمان كي يصح حملهما بهذا الاعتبار فيلزم التفصيل بين المشتقات كسابقه.

ص: 208

والجواب عنها واضح.

فإن الأول يستلزم أخذ مفهوم الذات أو الشيء في المشتق ليصح الحمل بلحاظه مع أنه من المفاهيم الانتزاعية التي لا وجود خارجي لها، فإن سلّم بنحو اتحاد بينها وبين مناشئها ليصح الحمل على الخارج فإن بنفسه مصحح للحمل عند المحقق النائيني رحمه الله .

والثاني: يمكن التخلّص عنه بافتراض بأن المبدأ في أسماء الزمان والمكان ليس هو الحدث بل المحلية والمعرضية للحدث التي تكون نسبتها إلى الزمان أو المكان نسبة العرض إلى موضوعه.

وقيل: في مناقشة هذا التفسير للابشرطية بأنه إما أن نفترض تعدد الوجود في العرض وموضوعه فقد يضاف الوجود إلى العرض بنفسه كما يضاف إليه بما هو لموضوعه ولكون هذا لا يكفي في صحة الحمل بعد تغايرهما في الوجود حقيقة ولحاظاً فإذا أضيف إلى العرض بما هو لموضوعه إنما هو من قبيل إضافة وجود المعلول لعلته، فيقال إنه موجود لعلته فإنه باعتبار التسبيب لا التقييد فكما لا يصح حمل المعلول على علته لمجرد إضافته إليها بعناية الواجدية كذلك العرض وموضوعه.

وإن افترضنا اتحاد الوجود وأنكرنا تعدده، فليس في الخارج لا موجود واحد هو الموضوع والعرض حدوده ومن شؤونه، كما يقال في العاقل والمعقول والنفس وما يعرض عليها من الصور العلمية فإنها وجود واحد والصور العارضة من حدود ذلك الوجود وهذا المطلب دقيق صحيح ولا دليل على بطلانه، وإن قيل بأن العرض وموضوعه متباينان لأن الأخير جوهر وله وجود جوهري والعرض وجود رابطي، ولكنه غير صحيح في حد نفسه وقد بنى ملا صدرا مذهبه في وحدة الوجود على هذا الأمر الدقيق لكن ذلك لا يعدو عن النظرة العقلية الصرفة، والمشتق والمصدر إنماهما بمعزل عنها ومرجعها الأوضاع اللغوية والعرفية التي تحكم بالتغاير بين العرض وموضوعه مفهوماً ووجوداً ومعه لا يمكن حمل ما وضع بإزاء أحدهما على الآخر.

الثالث: أن يكون تباين بين اللابشرطية والبشرط لائية ذاتاً فالمصدر موضوع للحدث وهو مغاير للذات مفهوماً ووجوداً وعليه يكون بشرط لا عن الحمل، والمشتق هو المبدأ الذي لا يمنع فيه الحمل سواء كان سببه أنه عنوان موضوع لعنوان بسيط ينتزع عن الذات في حال تلبسها بالمبدأ والعناوين الانتزاعية متحدة مع مناشئها كان المشتق لا بشرط من الحمل أو غير ذلك فإنه من اللوازم غير المنفكة.

وأشكل عليه بما ذكره المحقق الشريف على التركب من المبدأ والذات وأنه بناءً على هذا التفسير يرجع إلى القول الثاني وسيأتي الكلام فيه لكن الحق ان هذا الوجه والإيراد المذكور غير صحيح كما ستعرف.

ثم إنه ينبغي توضيح أمر وهو: أن الفرق المذكور إنما هو بين المبدأ الحقيقي وبين المشتق لا بين ما هو مفاد المصدر وبين المشتق كما عرفت سابقاً من أنّ مفاد المصدر هو المادة المنتسبة إلى الذات بالانتساب الصدوري ولكن بالنسبة التقييدية الناقصة وهذا معنى قولهم إنّ المصدر يدل على الحدث الصادر عن فاعل ما فيكون مرادهم بالمشتق صرف المبدأ اللابشرط ولم تؤخذ النسبة في مفهومه أصلاً فلا فرق بينه وبين المبدأ إلا بصرف اعتبار اللابشرطية أو البشرط اللائية وحينئذٍ لابد أن يكون مرادهم من المبدأ هو

ص: 209

المبدأ الحقيقي أعني ذات العرض مقابل العرضي أي ذات السواد والبياض والعلم مقابل الأسود والأبيض والعالم وبعبارة أخرى إن مرادهم بالمبدأ العرضي في حد نفسه بوجوده المحمولي من دون النظر إلى وجوده النعتي سواء كان ذلك العرض معنىً حدثياً وفعلاً من الأفعال أو كان ذاتاً من الذوات العرفية أي كان من إحدى المقولات التسع المعروفة ، والحاصل إن المشتق عبارة عن صرف المبدأ اللابشرط غير ملحوظ فيه لا ذات ولا نسبة أصلاً سواء كان من الأعراض المحمولة بالضميمة أو من الأمور الاعتبارية كالزوجية والملكية غاية الأمر المبدأ الخارجي شأن خارجي لموضوعه والمبدأ الاعتباري شأن له في عالم الاعتبار.

القول الثاني: وهو الذي اختاره المحقق الخراساني من أنّ المشتق عبارة عن عنوان بسيط منتزع عن الذات بلحاظ تلبسها بالمبدأ بمعنى أنه يتبادر إلى الذهن من لفظ المشتق عنوان بسيط وصورة وجدانية وهو الذات المتلبسة بمبدأ الاشتقاق فتكون الصورة في الذهن صوره مبهمة متلبسة بالمبدأ.

وقد أشكل عليه بوجوه ثلاثة:

الأول: إن الانتزاع إنْ كان بمعنى الإدراك كما هو المراد في جميع الأمور الانتزاعية التي لها واقعية وتقرر في لوح الواقع بقطع النظر عن الذهن كالزوجية والإمكان ويكون نظر الذهن طريقاً إليها فالظاهر إنه لا يوجد شيئٌ زائدٌ على الذات والمبدأ والنسبة ليكون هو مدلول المشتق.

وإن أريد الانتزاع ما يفيد الجعل من قبل الذهن وإنشاء مفهوم ذهني ينطبق على الذات المتلبسة فيكون مدلول عالم وقائم وغيرهما من المنشآت الذهنية المنطبقة على الخارج بتحمل الذهن وهذا خلاف الوجدان.الثاني: إنّ هذا القول إنما هو رد على محاذير المحقق الشريف، ولكنه غير ضائر لها ولا يدفعها بعد افتراض تقوّم المشتق بأمر انتزاعي غير ذاتي.

الثالث: إن كون المشتق أمراً انتزاعياً لا يكفي لإثبات بساطته كما أنه لا يكفي لإثبات الفرق بينه وبين معنى المصدر في ضمن الحمل على الذات لوجود مصادر انتزاعية كالزوجية والإمكان ولا يصح حملها على الذات مع صحة حمل الممكن والزوج عليها.

ولكن الظاهر أنّ هذه الإشكالات إنما هي بنائية ادعائية فإن من يقول بأنّ المشتق عنوان بسيط انتزاعي يريد به أن له تحقق وتقرر في وعاء الاعتبار الذي لا يقل عن وعاء الواقع عند العقلاء فإنهم يرتبون الأثر على الانتزاعيات كما يرتبونه على الواقعيات فيمكن إثبات بساطته ولا نحتاج إلى إنشاء مفهوم ذهني.

نعم لا يفي هذا القول في رد إشكالات المحقق الشريف لأنها تبتني على الأمور الذاتية كما ستعرف وأمّا مسألة الحمل فهو لا يبتني على الانتزاع أو الذاتي فإنّ له شروطه وأحكامه سواء كان المحمول والمحمول عليه من الأمور الانتزاعية أو الأمور الذاتية ولذا صح حمل الزوج والممكن على الذات ولا يصح في الزوجية والإمكان.

القول الثالث: وهو الذي اختاره المحقق العراقي رحمه الله من أنّ مفاد المشتق المبدأ المنتسب إلى الذات فإنّ مدلول (زيد قائم) مثلاً قيام صادر من ذات فتكون نفس الذات خارجة عن

ص: 210

مفهوم المشتق وإن كانت من لوازم معناه، لأن المبدأ المنتسب إلى الذات ملازم للذات وعليه يكون معنى المشتق بسيطاً وليس مركباً من المبدأ والذات.

واستدل عليه تارةً باستقراء وضع الهيئات في اللغة فإنها جميعاً موضوعة بإزاء معانٍ حرفية نسبية فلا تخرج هيئة المشتق عنها.

وأخرى بأنه قد تحقق بأنّ المادة قد وضعت لنفس الحدث وهيئة المشتق لانتساب تلك المادة إلى الذات بالنسبة التلبيسية، فلو قلنا بخروج النسبة عن مدلوله لزم أن تكون الهيئة لغواً غير موضوعة لمعنى ، وبذلك ردَّ على من زعم دخول الذات في مفهوم المشتق فإن المادة موضوعة للحدث والهيئة للانتساب في هذا القول فليس للذات محلاٌ, ونوقش:

أولاً: بأنّ مفهوم المشتق لو كان هو المبدأ المنتسب إلى الذات ومعلوم أنّ المشتق بما له من المفهوم ينسب إلى الذات في مقام تشكيل القضية فيصير معناه أن المبدأ المنتسب إلى الذات ينسب إلى الذات وهو غريب.

لكنه غير سديد، فإن المقصود من معنى المشتق على هذا القول هو الانتساب إلى الذات المبهمة التي تنطبق على الذات المعينة في القضية.

وثانياً: إن المعنى النسبي بحاجة إلى طرف آخر غير المبدأ وبدونه في المشتق لا يصح الحمل وتصويره لا يخلو من أحد وجهين .

فإمّا أن يقال بأن المشتق يدل على الذات بالالتزام كما عرفت آنفاً.

وردّ: بأنّ الظاهر من حمل المشتق على ذات أو مشتق آخر، كما في الناطق ضاحك هو الربط بين المدلولين المطابقين لهما دون المدلول الالتزامي.مع أن هذه الدلالة لا تعني أخذ الذات طرفاً للنسبة بنحو المقيد أي ذات لها المبدأ الذي يفيد في صحة حمل المشتق لا أن يكون بنحو القيد أعني مبدأ لذات.

ولكن يمكن الإشكال عليهما بأن المدلول الالتزامي ربما يصل إلى حدّ المدلول المطابقي إذا كان له من الظهور العرفي البيّن كما في المقام فيصير بنحو المقيد.

وإمّا أن يقال بأن هيئة المشتق موضوعة للنسبة الاتحادية بين الذات والمبدأ فلا مغايرة بين الطرفين كي لا يصح الحمل.

وردّ : بأنه غير مفهوم فإنه ليس البحث عن الدال على النسبة الاتحادية أو الحملية، وإنما الإشكال في التغاير بين المشتق وما يحمل عليه إذا لم تؤخذ الذات فيه.

وفيه: ما عرفت من أنّ المدلول الالتزامي له من الظهور العرفي في المشتق بحيث يبلغ إلى الاتحاد بين الذات والمبدأ، فليس البحث عن الدال.

وثالثاً: بأنه على هذا القول يستلزم تقوم النسبة بطرف واحد في مقام التصور، فيؤدي إلى نقصان المشتق من حيث المفهوم فيحتاج إلى متمم تصوري كالحروف. ومجرد الدلالة الالتزامية التصورية لا تكفي لإنها فرع تصور الملزوم مسبقاً ومن دون تصور طرفي النسبة لا تصور للنسبة.

ويرد عليه: بما ذكرنا من أنّ المدلول الالتزامي في المقام له من الظهور التام بحيث لا يحتاج إلى متمم تصوري فكأنما هو متحد مع المبدأ.

ص: 211

القول الرابع: الذي اختاره المحقق الاصفهاني وتبعه السيد الخوئي من أنّ معنى المشتق هو الذات المنتسب لها المبدأ فيكون مدلول قولنا: (زيد قائم) ذات لها القيام فيكون معنى المشتق هو الذات المتلبسة بمبدأ الاشتقاق.

واستدلوا عليه بأنّ المشتق لابد وأن يكون مغايراً مع المصدر مفهوماً لأن المشتق يحمل على الذات بخلاف المصدر فإنه لا يحمل عليها كما عرفت مكرراً، وهو كافٍ في تغاير المفهومين، إذ المفهوم الواحد لا يعقل أن يكون متحداً مع الذات ومبايناً لها وغير معقول أن يكون التغاير بينهما إلا على أساس أخذ مفهوم الذات المبهمة في المشتق بنحو المقيد لا القيد إذ لا يصح الحمل من دون ذلك.

وأورد عليه بأن ذلك إن رجع إلى الدقة الفلسفية فهي لا تدل على تركب الموجود الخارجي من موضوع وعرض بخلاف ما عليه الذوق العرفي والفهم الساذج البسيط الذي يدلّان على التركب.

ثم قسَّم المحمولات إلى أقسام ثلاثة:

1- ما يكون ذاتياً للموضوع بالمعنى المعروف في باب الكليات الخمس، كما في (زيد إنسان).

2- ما يكون ذاتياً للموضوع بالمعنى المعروف في باب البرهان، كما في (زيد شيء) أو (الأربعة زوج).

3- ما يكون عرضاً خارجياً، كما في (الإنسان عالم).

فإن رجعنا إلى عالم التصور والإدراك فإنه تارةً يلحظ تلك المحمولات بنحو وحداني بسيط كما هو طبع وجوده الخارجي، وأخرى بنحو التحليل والتجزئة إلى ذات وإنسانية أو شيئية أو بياض ولكن إن رجعنا إلى الفهم العرفي الساذج فإنه يفرق بينالقسمين والقسم الأخير، فإنّ في الأولين يحكم بأنّ المحمولات فيهما ليست وجودات زائدة على موضوعاتها، ولذلك احتاج في مرحلة انتزاع مصادر جعلية منها إلى التجريد والعناية العقلية التحليلية، وهذا بخلاف القسم الأخير فإنه يحكم الفهم العرفي إلى أن المحمول فيه له وجود مستقل طار على الذات ولذلك لم يصح حمله عليها فلا يقال زيد بياض أو علم وإذا أريد حمله على الموضوع فلابد من تركيب معنى يمكن أن ينطبق عليه بأخذ عنوان الذات، أو واقع الذات في المعنى وقد وضعت المشتقات بحسب النوع بإزاء هذا المعنى التركيبي.

والصحيح أنّ ما ذكره رحمه الله غير تام فإنّ العقل والتصور كما يمكن أن يلحظ بنحو وحداني كذلك يمكن أن يلحظ على نحو التركيب مطلقاً مع أنّ ايراده مبني على تقريب هذا القول على التركيب وهو غير تام فإنّ من يقول بأنّ المشتق هو الذات المتلبسة بالمبدأ يحكم بأنه صورة وحدانية بمعنى أن الصورة المنطبعة في الذهن هي صورة مبهمة متلبسة بالمبدأ التي تحكي عن الذات التي هي من عناوين الذات بواسطة تلبسها بالمبدأ وأنه يتبادر إلى الذهن من لفظ المشتق عنوان بسيط وصورة وحدانية.

مع أنّ ما ذكره من أن الذوق العرفي والفهم الساذج البسيط يدلان على التركب غير صحيح فإن التبادر العرفي أيضاً كالتصور العقلي قد يدلّ على البساطة أو التركب.

ص: 212

فالحق : إن المشتق في مقام التبادر اللفظي بسيط وإن انحلّ بالدقة العقلية إلى معروض وعرض فإنّ المتبادر من الضارب والعالم ونحوهما شيء واحد وربما ينحل بالدقة العقلية إلى ذلك أيضاً ولكن لا ربط للدقيات العقلية بالتبادرات اللفظية نظير المركبات الاعتبارية فإنّ المتبادر من الدار والكتاب شيء واحد عرفاً مع أنهما مركبان في الواقع من الأجزاء ولا يضرّ الانحلال العقلي الواقعي بالبساطة التبادرية فالعرف هو الحكم الفيصل في هذا الموضوع وفيه غنى وكفاية ولعل القائلين بالبساطة يريدون هذا المعنى وإن قصرت عباراتهم فبعضهم لاحظ المبدأ والحدث والآخر لاحظ الذات، وثالث لاحظ المعنى المنتزع والجميع اتفقوا على وجود نسبة في المشتق لئلا يصير كالجوامد وإن اختلفوا في كيفية دلالتها ومتعلقها.

ولو أوكلوا الأمر إلى الفهم العرفي لما احتاج إلى تفصيل الأقوال فإنّ المشتق من الموضوعات اللغوية ولا حاجة إلى الرجوع إلى الدقيات العقلية وتعقيد الأمر فيه.

هذا كله ما يتعلق ببساطة المشتق وأمّا البشرط لائيته واللابشرطية فإنهما على فرض جريانهما في الموضوعات اللغوية التي تتبع الوضع والذوق العرفي وهو الذي يحكم بحمل المشتق على الذات دون المصدر، لأن موردهما خصوص المبدأ الحقيقي أي مادة (ضرب) والمشتق أي الضارب ولا يجريان في المصدر أي الضرب لأنه كما عرفت مفاده المادة المنتسبة إلى فاعل ما بالنسبة الصدورية والمشتق والمبدأ بعيد عن ذلك.

أمّا القول: يتركب المشتق من الشيء والمبدأ والنسبة فقد اعترض عليه بعدة اعتراضات:الأول: إنه إمّا أن يؤخذ مفهوم الذات في المشتق ويلزم منه تكرار الموصوف وهو خلاف الوجدان لأنه لا ينسبق إلى الذهن من مثل (زيد عالم) أو (الشيء أبيض) ونحو ذلك مفهوم زيد أو الشيء إلا مرة واحدة.

وإمّا أن يؤخذ مصداق الذات في المشتق فإنه يلزم فيه كون الوضع عاماً والموضوع له خاصاً في جميع المشتقات باعتبار أحد جزئي معانيها، لأنّ مصاديق الذات في كل مشتق كثيرة بل غير محصورة.

وردّ : بأنه نأخذ مفهوم الذات لا مصداقها فحينئذٍ يبطل الإشكال الثاني لأنه مبني على أخذ المصداق لا المفهوم.

أمّا الأول: فلأن الغالب في القضايا كون الموضوع فيها مصداق الذات غالباً وأمّا المحمول أي المشتق فهو المفهوم على الفرض فلا تكرار ولا ضير في حمل مفهوم الذات متصفة بصفة على مصداقها.

الثاني: إنه إن كان المأخوذ مفهوم الشيء لزم دخول العرض العام وهو الشيء في الفصل في جميع القضايا التي تكون محمولاتها ذاتيةً للموضوع كالإنسان ناطق لكون الشيء عرضاً عاماً لجميع الأنواع كما ذكره المحقق الشريف رحمه الله .

أو كما قال المحقق النائيني إنه يلزم دخول الجنس في الفصل لأنّ الشيء جنس الأجناس وليس عرضاً عاماً، وكيف كان فإنه مستحيل على كلا الفرضين . أمّا إذا كان مصداق الشيء مأخوذاً لزم انقلاب القضية الممكنة إلى الضرورية في جميع القضايا الممكنة التي تكون محمولاتها من عوارض الموضوع كزيد كاتب لأن نفس الموضوع مأخوذ في المحمول فيلزم انقلاب جميع القضايا الممكنة إلى الضرورية لأن ثبوت الشيء لنفسه

ص: 213

ضروري وكذا إن أخذ المحمول في الموضوع وإن اقتصرت عبارات المنطقيين في الضرورية على الأخير فقط.

وأمّا ما ذكره المحقق النائيني رحمه الله فلأنّ مفهوم الشيء لو كان من الجنس الأعلى لزم تركب كل مقولة منه ومن فصل يميزه عن المقولات الأخرى والمفروض أنّ الفصل شيء فإن كان تمام حقيقته الشيئية لزم اتحاد الجنس والفصل وإن كانت جزئه لزم تركبه من جزئين فننقل الكلام إلى جزئه الثاني الذي هو الشيء وهو يستلزم التسلسل دون أن نصل إلى ما يميز المقولات أو لابد من الرجوع إلى الشيئية في النهاية وكلاهما باطلان.

وأمّا ردّه: بأنه بناءً على ما ذكره المحقق النائيني رحمه الله يستلزم عدم كون المقولات العشر أجناساً عالية وهو خلاف ما ثبت في محله.

فهو مردود بأنه لم يقم في البحوث العقلية برهان على استحالة وجود جنس أعلى للمقولات العشر، كما اعترف به صاحب الأسفار وأنّ الذي قام البرهان عليه أنّ مفهوم العرض ليس من الجنس الأعلى للمقولات العرضية وكذلك مفهوم الوجود. وأمّا ما ذكره المحقق الشريف فقد أجيب عنه بوجود أهمها ما ذكره صاحب الفصول.

أمّا الشق الأول فيرد عليه:

أولاً: أن جميع تلك المحمولات في تلك القضايا من الخواص الكاشفة عن الذاتيات وليست ذاتية بنفسها وهو يلزم دخول العرض العام في الخاصة وهذا لا إشكال فيه.وأشكل عليه: بأنه يستلزم منه إنكار وجود الحد، وعدم إمكان تحصيله في باب التعاريف فتنحصر في الرسم إمّا التام منه أو الناقص، وهذا مما لا يمكن الالتزام به. ولكنه غير سديد لأنّ إنكار الحد لا يستلزم منه شيء كما عرفت في أول بحث الأصول.

وثانياً: فلأن الشيء ينطبق قهراً على الحصص المختلفة التي تكون مع الذاتي ذاتياً ومع غيره عرضياً فيرجع الإشكال إلى الشق الثاني الذي يأتي الجواب عنه.

وثالثاً: إنّ ما ذكره المحقق الشريف لا يرتبط بالمقام أبداً لأنه ذكره رداً على مقالة شارح المطالع في دفع شبهة وردت على تعريف الفكر والإدراك من أنه ترتيب أمور معلومة يتوصل به إلى أمر مجهول من لزوم خروج التعريف بالحد الناقص الذي هو تعريف بالفصل فقط، فأجاب عنها بأن الفصل أيضاً مركب من أمور وليس بسيطاً، فالناطق مثلاً هو شيء له النطق، فعلّق عليه المحقق الشريف بلزوم دخول العرض في الذاتي، وهذا الذي ذكره في الفصل الحقيقي والتعريف به، وهو غير الموضوع المبحوث فيه فإنه يرجع إلى الدلالات اللغوية كما عرفت مكرراً فلا يأتي شيء مما ذكره في البحث اللغوي كما هو واضح.

وأمّا الشق الآخر: فإنه أورد عليه بوجوه أيضاً:

أولاً: إنّ الذات أخذت في طرف المحمول مرآة للتعريف بالموضوع وبمنزلة الرابط وليست مستقلةً حتى يكون هو المحمول فلا يلزم المحذور فكأنه في (زيد كاتب) مثلاً زيد يظهر بهذا الوصف، أو أنّ هذه الصفة من مظاهر زيد، ولو لوحظ على نحوٍ مستقل، نظير ما لو وقف شخص أمام المرآة فإنه لا تحصل إلا صورة واحدة فكذلك تكون مرآة النفس، وعليه تكون التبادرات المحاورية التي لا تكون إلا صورة واحدة ، وبعبارة أخرى أنّ المحمول ليس هو مصداق الموضوع فقط حتى يلزم الانقلاب بل هو مقيد بكونها

ص: 214

متصفة بالمبدأ فإذا لم يكن ثبوت ذلك القيد لها ضرورياً فثبوت المجموع أيضاً ليس ضرورياً، وإلا يلزم الخلف فليس الضروري ثبوت مطلق الإنسانية للإنسان بل المقيدة بقيد إمكاني فإن ثبوته إمكاني أيضاً.

وثانياً: إنّ القضايا التي يستعملها العرف، والجارية في المحاورات ليست مبنية على هذه الدقائق العقلية، وقد ذكرنا سابقاً أنه رُبَّ شيء لا يصح بالدقة العقلية مع أنه يصح في المحاورات، وقد يكون بالعكس.

وثالثاً: أنه بناءً على أخذ واقع الشيء في المشتق يستلزم انحلال القضية الواحدة الممكنة إلى قضيتين إحداهما: ضرورية وهي الإنسان إنسان والأخرى ممكنة، وهي الإنسان له الكتابة، في قولنا: الإنسان كاتب مع أنها ليست إلا قضية واحدة عقلاً وعرفاً.

ويرد عليه: بأنّ المركب من أمرين إمّا أن يكون كل جزء منه خبراً مستقلاً للمبتدأ المتقدم كقولنا: (زيد شاعر كاتب). وإمّا أن يكون المجموع خبراً واحداً من دون تقييد أحدهما بالآخر كقولنا: (هذا الرمان حلو حامض).

وإمّا أن يكون المجموع كذلك لكن بتقييد أحدهما بالآخر كقولك: (الحديد جسم صلب) أو (هذه رقبة مؤمنة).وما ذكر من الإشكال إنما يتم في القسم الأول من الأقسام الثلاثة حيث تتحقق فيه قضيتان إحداهما الجزء الأول خبر، وفي الأخرى خبر آخر وأمّا في القسمين الآخرين فلا تحصل إلا قضية واحدة إذ المفروض أن المجموع خبر واحد وما نحن فيه من قبيل القسم الثالث لأن المحمول مصداق الذات مقيداً بكونه كذا فلا ينحلّ إلى قضيتين كما توهم.

الثالث: مما استدلّ به على التركب: بأنّ العرض متقوم بالموضوع فيحصل التركب لا محالة.

وفيه: إنّ التقوّم إنما هو في الوجود الخارجي لا في المفهوم والكلام في الثاني دون الأول.

الرابع: بأن المشتق متضمن للنسبة ولابد من طرفين منتسبين فيتحقق التركب لا محالة.

وفيه: إنه كذلك في تحليل من العقل والكلام في المحاورات العرفية كما عرفت سابقاً.

ومن جميع ذلك يظهر عدم وضع المشتق للمركب، وعلى فرضه فإن الحق وعدم أخذ مصداق الشيء فيه فإنه إن كان المراد به جعل ما هو الموضوع للقضية هو المصداق، فمن الواضح ليست المشتقات دائماً تكون محمولات كما في مثل (أكرم العالم) وإن كان المراد الطبيعة التي من شأنها الاتصاف بالمبدأ كالإنسان فهو ينافي استعماله في غير الإنسان ولو كان الاستعمال كافياً.

فيتعين أن يكون التركب من مفهوم الشيء والمبدأ والنسبة وقد عرفت الجواب عنه سابقاً، هذا كله في الأوصاف الاشتقاقية، أمّا في غيرها مثل السيف والصارم والسرير ونحوها مما هو جامد في اصطلاح النحاة فقيل بأنّ المأخوذ فيها مصداق الشيء وواقعه بمعنى الطبيعي الذي يكون معروضاً لمباديها ولذلك لا يصدق على غيره.

ولكنه يمكن القول بأنه صحيح في الموجود الخارجي لا بحسب المفهوم الذي هو محل الكلام كما عرفت فلا فرق بينها وبين الأوصاف الاشتقاقية.

وقد حاول السيد الوالد رحمه الله الجمع بين القولين ورفع النزاع بينهم وإرجاعه إلى النزاع اللفظي وذلك إمّا بإرجاع قول البساطة إلى عدم أخذ شيء متعين في مفهوم المشتق

ص: 215

وإرجاع التركب إلى أخذ شيء مبهم من كل جهة حتى من الإبهام والشيئية فيكون من الشبح المحض مثل الظل وذي الظل واعتبره أنه مطابق للوجدان في الجملة أو يكون مراد من يثبت التركب أي بلحاظ الحمل، ومن البساطة أي مع قطع النظر عنه.

والحق أن ما ذكره رحمه الله لا يتفق مع كلمات القوم من الطرفين إلا على نحو المجاز وهو غير مراد لهم. نعم لا بأس به بعد فرض كون البحث في المشتق من جهة الدلالة اللغوية والمفهوم العرفي ولذا لو قلنا بالتركيب فيه يكون تركيباً إجمالياً مع قطع النظر عن الدقة العقلية ولو قلنا بالبساطة فإنما تكون الذات فيه من مظاهر المبدأ ويكون مفهوم المشتق عبارة عن الذات المتلونة فيرجع النزاع إلى اللفظي منه.

الثاني من الأمور الختامية: في ملاك الحمل

المعروف عند الجميع أن الحمل عبارة عن الهوهوية بين شيئين وهو يحتاج إلى جهتي الوحدة والتغاير في الجملة وقالوا بأنه لولا التغاير لم ينفع الحمل بل يمتنع لتقومه بين شيئين ومع الاتحاد من جميع الجهات لا تعدد أصلاً فلا محمول وموضوع.

ولولا الاتحاد لم يصح فرض كون المحمول هو الموضوع والاتحاد والمغايرة على أقسام ثلاثة:

الأول: أن يكون التغاير اعتبارياً والاتحاد مفهومياً كقول الإنسان إنسان.

الثاني: أن يكون التغاير حقيقياً والاتحاد وجودياً كقول: (زيد كاتب) ويسمى بالحمل الأولي الذاتي ويسمى بالحمل الشائع الصناعي.

الثالث: أن يكون التغاير حقيقياً والاتحاد اعتبارياً كقول: (زيد أسد).

ولا إشكال في صحتها إلا أن الكلام في انحصار الملاك فيما ذكر أو يعم كل ما يصح التغاير والاتحاد بأي وجه معتبر في المحاورات العرفية التي تختلف باختلاف الأذواق الصحيحة من دون اختصاص بعصر أو مكان معين أو جهة خاصة.

والحق هو الأخير إذ لا دليل على الانحصار مضافاً إلى أن الشرط هو تحقق الملاك بوجه معتبر.

ومن ذلك يظهر ما في كلام الفصول حيث فصل بين ما إذا كان التغاير اعتبارياً والوحدة حقيقية فلا كلام وما إذا كان التغاير حقيقياً والاتحاد اعتبارياً كالأعراض لموضوعاتها فقال بلزوم ملاحظة المجموع من حيث المجموع شيئاً واحداً وحمل أحدهما على الآخر((1)).

وأورد عليه المحقق الخراساني : رحمه الله

أولاً: بأنّ هذا اللحاظ يوجب عدم صحة الحمل فإنّ الكل والجزء متغايران فإذا لوحظ المجموع أمراً واحداً كان كلاً فحمل أحدهما عليه يكون من حمل الجزء على الكل وهو ممتنع للمغايرة بينهما.

ص: 216


1- - الفصول الغروية - محمد حسين الحائري - ص62.

وثانياً: أنّ الملاحظ في الموضوع والمحمول ذاتهما ومعناهما بلا لحاظ شيء آخر معه في موارد الحمل وجميع القضايا((1)).

وثالثاً: ما ذكره المحقق الاصفهاني رحمه الله بأن ملاحظة وحدتهما تكون الوحدة وصف اللحاظ والاعتبار فلا يصح أن يقال أنّ هذا ذاك إلا في اللحاظ مع أنّ الحمل هو اتحاد الموضوع والمحمول في الوجود((2)).

والحق أن شيئاً منها لا يرد على ما ذكره صاحب الفصول لأنه إن قلنا بأنّ الحمل من الأعراض (الحمل ذو كذا) تحققت الوحدة الحقيقية بين الأعراض وموضوعاتها.

وأمّا إذا لم نقل بذلك فنقول أن صحة الحمل تابعة لتحقق ملاكه وهو الاتحاد في الجملة وهو تابع لظرف ملاكه فإن كان الاتحاد خارجياً صح الحمل في الخارج وإن كان لحاظياً لا خارجياً كان ظرف الحمل في اللحاظ والذهن لا الخارج لعدم الوحدة فيهفملاحظة المجموع واحداً لا يصحح الحمل في الخارج مع وجود المغايرة ولكنه صحيح في ظرف الوحدة الذهنية وفي ظرف اللحاظ . فالحق أن ذلك تطويل بلا طائل تحته، فإن المناط في صحة الحمل تحقق ملاك الاتحاد والتغاير بأي وجه معتبر يوافق الذوق العرفي.

الثالث: من الأمور الختامية في حمل صفات الباري وصدقها على ذاته المقدسة:

اشارة

لا ريب في صحة إطلاق الصفات الكمالية عليه تبارك وتعالى كالقادر والعالم والحي، كما ورد في القرآن الكريم والسنة الصحيحة والدعوات الشريفة ، كما لا ريب في أن إطلاقها عليه سبحانه بالتمام والكمال.

وإن اختلفوا في وجه الإطلاق فقال المحققون من الإمامية أن صفات الجمال عين ذاته المقدسة وعليه تكون إحداهما عين الأخرى وذلك لعدم تعقل تعدد القدماء وبذلك أبطل الإمامية قول الأشاعرة بزيادة الصفات على الذات كما حكم المسلمون بكفر النصارى لاعتقادهم بالأقانيم الثلاثة وإن عدّوا أنفسهم من الموحدين.

وأمّا المعتزلة فقد أبطلوا العينية في صفاته سبحانه كما أبطلوا التعطيل ولكنهم قالوا بالنيابة وأنه تعالى قبل حدوث الصفات له عزَّ وجلَّ لم يكن موصوفاً بها ولكن ذاته المقدسة نائب عنها، فكانت الأشياء منكشفة لديه مثلاً من دون أن يتصف بالعلم كل ذلك مذكور في الكتب الفلسفية والكلامية وعليه يقع الكلام في الصفات العليا المقدسة من جهتين:

الأولى: إنه في الحمل الذي لابد من التغاير بين المحمول والموضوع والمفروض أنّ صفاته عزّ اسمه عين ذاته فلا تغاير بينهما.

الثانية: أنّ المشتق يعتبر في صدقه تلبس الذات بالمبدأ وانتسابه إليها بوجه من الوجوه وهذه النسبة تقتضي الاثنينية وهي مفقودة في صفات الباري وذاته المقدسة لكونها عين ذاته كما عرفت .

ولابد من بيان أمر وهو أن ذلك إنما يجري فيما إذا قلنا بأن الصفات الإلهية تطلق على الذات المقدسة وغيره تعالى على نحو الاشتراك المعنوي إلا أن الفرق بين الموردين

ص: 217


1- - كفاية الاصول - ص56 - مصدر سابق.
2- - نهاية الدراية - ج1 / ص99 - مصدر سابق.

بحسب الوجوب والإمكان والتمام والنقصان كما ذكره جمع من الحكماء في الفلسفة الإلهية واستدلوا عليه بأدلة مذكورة في محلها.

وأمّا إذا قلنا بأنّ الإطلاق عليه تبارك وتعالى بمعنى نفي الضد، فقولنا: أنه تعالى عالم أي لا يجهل شيئاً وقادر أي لا يعجزه شيء وسميع أي لا تخفى عليه المسموعات وبصير لا تخفى عليه المبصرات إلى غير ذلك من أنحاء الصفات واختاره جمع من الحكماء المتألهين واستدلوا عليه تارةً بجملة من الروايات التي تدل على ذلك وأخرى بأنه أشد نزاهة من الأول، وثالثة بأن عدم العلم بكنه ذاته المقدسة يستدعي عدم العلم بكنه صفاته أيضاً.

ورابعة بأنّ إثبات معيَّن لها بما يرجع إلى المعنى الذي يطلق على غيره تقول عليه تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.

وأورد عليه بأنه بناءً عليه يستلزم الاشتراك اللفظي وهو خلاف الظاهر.ويمكن الجواب عنه بأنّ تلك الصفات لم تخرج عن معانيها الأصلية الموضوعة لها فإن العالم مثلاً موضوع لمعنى واحد مطلقاً وهو ما يصح أن يعبّر عنه بالعالم سواء كان ذلك لإثبات العلم أم لنفي الحمل وكذا باقي الصفات.

وقد ذهب بعض أعاظم الحكماء إلى إرجاع الصفات إلى نفي الأضداد في غيره تعالى أيضاً. وتفصيل الكلام في محله.

وكيف كان فإنه بناءً على هذا الرأي فلا يجري ما ذكروه من الايرادين السابقين لأن الصفات التي تطلق عليه عزّ اسمه ترجع إلى نفي الأضداد عنه سبحانه.

وقد أجابوا عن الايراد الأول بوجوه:

الأول: ما ذكره صاحب الفصول بالنقل والتجوّز في المشتق عند اطلاقه عليه تعالى((1)).

وأشكل عليه بأن لازم ذلك ثبوت الاشتراك اللفظي فيكون المعنى الذي يطلق عليه تعالى غير المعنى الذي يطلق على غيره وهو خلاف الوجدان وبأنّ العلم والجهل مثلاً ضدان لا ثالث لهما فإذا لم يفهم من العالم فيه ما يفهم في غيره لزم فهم مقابله وهو باطل ضرورة .

وفيه: يمكن أن يكون النقل عند صاحب الفصول إمّا بما ذكرناه آنفاً من أنّ الإطلاق عليه تعالى يرجع إلى نفي الأضداد فلا اختلاف بين المعنيين أو يكون النقل فيه تعالى إلى أن الصفة هناك عين الذات لا مغايرة لها كما في المخلوق فلا يلزم ما ذكروه عليه رحمه الله .

الثاني: الاكتفاء بالمغايرة بينهما إمّا أن نقول بما ذكره المحقق الخراساني رحمه الله من المغايرة المفهومية فإنّ مفهوم العلم يغاير مفهوم الذات وهو كافٍ في صحة الحمل كما عرفت آنفاً من الاكتفاء بالتغاير الاعتباري.

أو بما يقوله المحقق النائيني رحمه الله بالمغايرة في لحاظ المبدأ والذات بشرط لا واللحاظ لا ينافي العينية خارجاً.

وأورد عليهما بأنّ المغايرة المفهومية واللحاظية لا ترفع الإشكال الناشئ من أن وضع العالم لمن علمه زائد على ذاته والله تعالى ليس كذلك.

ص: 218


1- - الفصول الغروية - ص 61- مصدر سابق.

وفيه: إنه لم يعهد في الأوضاع اللغوية أن تكون ألفاظ المشتق موضوعة لمعنى زائد على الذات فإنه يحتاج إلى دليل.

الثالث: ما ذكره المحقق العراقي من أنّ العينية فيه سبحانه دقة فلسفية والناس غافلون عنها فإنهم يفهمون من العالم المنكشف له وهو حاصل في الموردين وهو لا بأس به إن رجع إلى عدم وضع جديد فيه تعالى ولكنه لا يرفع الإشكال العلمي.

والحق أن يقال أنه يكفي في صحة الحمل المغايرة الاعتبارية بين المحمول والموضوع ومن المعلوم أن مفهوم المشتق يختلف عن مفهوم الذات حتى فيما كان مبدؤه متحداً مع الذات مفهوماً نظير الوجود موجود.أمّا الجهة الثانية: فقد قيل إنه يكفي في دفعها أنه لا نحتاج في صدق المشتق إلا قيام المبدأ بالذات بنحو من القيام من دون أن يستلزم الاثنينية.

كما ذكره المحقق الخراساني وإن كان هذا القيام يختلف بسبب اختلاف المواد والهيئات أو الذوات وأطوارها فإنّ القيام تارةً يكون صدورياً وأخرى حلولياً وثالثة بنحو الوقوع عليه ورابعة بنحو الوقوع فيه، وخامسة بنحو الانتزاع، وسادسة بنحو الاتحاد خارجاً الذي هو المناط في صفات الباري عزَّ وجلَّ وعدم اطلاع العرف على مثل هذا التلبس لا يضرّ بصدقها عليه سبحانه مع وجود مفهوم صالح للصدق عليه حقيقة ولو بالدقة العقلية فإن العرف مرجع في تشخيص المفاهيم دون المصاديق وما ينطبق عليه المفهوم ولكن عرفت آنفاً في الجواب عن ايراد المحقق العراقي بأن ذلك لا يرفع الإشكال بعد فرض وجود القيام والتلبس فإنه يحتاج إلى منتسب ومنتسب إليه.

وذهب جمع من المحققين منهم المحقق الاصفهاني رحمه الله بأنّ ذلك يرجع إلى واجدية الشيء لنفسه وهو من أعلى مراتب القيام، وذلك لأن اتصاف الموضوع بالعرض بواسطة أمر خارج عن ذاته يوجب أولوية اتصاف العرض بنفسه لأن وجدان الشيء لنفسه ضروري ومن هذا الباب صدق صفات الجمال والكمال والجلال على ذات الباري عز اسمه فإن مباديها عين ذاته وهو نحو من القيام بل أعلى مراتبه((1)) .

والحق أن ما ذكره رحمه الله إنما هو توضيح لعبارة صاحب الكفاية وليس وجهاً جديداً لرفع الإشكال وإن كان مرادهما (قدس سرهما) عدم اعتبار التلبس في المشتق بل يكفي الواجدية وأورد عليه بأنّ ذلك إن رجع إلى أنه في صحة الحمل والمشتق لا يعتبر النسبة والتلبس بل يكفي واجدية الذات للمبدأ فهو مخالف للفهم العرفي الذي يرى أن الحمل والمشتق إضافة خاصة وإذا نظر العرف إلى أن الواجدية هي إضافة أيضاً وإن كانت من أعلى المراتب ولا ريب أنّ الإضافة تقتضي الاثنينية، فلا وجه لما يقال من أنّ الواجدية تكفي في صحة الحمل والمشتق .

وذكر السيد الخوئي رحمه الله في تقريب فكرة الواجدية: بأنه لا يعتبر في صحة الحمل التلبس بمعنى قيام العرض بمعروضه ضرورة صحة المشتقات الاعتبارية وصدقها مع عدم كونها من الأعراض وليست قائمة بالذات قيام العرض بمعروضه فلابد أن تكون

ص: 219


1- - نهاية الدراية - ج1 / ص100 - مصدر سابق.

المصحح للصدق واجدية الذات للمبدأ حتى تشمل المبادئ الاعتبارية ولا ريب أن واجدية الذات للمبدأ ضرورية((1)),

فإذا أطلق التلبس يراد به ذلك.

واورد على ما ذكره السيد الخوئي : بأن الأمر لا ينحصر فيه فربما يراد من التلبس الربط والنسبة فتصح المشتقات الاعتبارية ، وبعبارة اخرى : إن التلبس والوجدانية ليسا من الضدين الذين لا ثالث لهما حتى اذا نفي احدهما يتحقق الآخر لا محالة . فإن التلبس بمعنى الربط بين المبدأ والذات هو الأوفق فيشمل المشتقات الاعتبارية ، ولكنه لا يتم فيما اذا كانت المباديء عين الذات فيعود الإشكال .ثم أنه اورد بعض الأعلام على نظرية الواجدية – أولاً: بأن مقتضاها صحة حمل المشتق على ما يدل على المبدأ في جميع الموارد ، فيصح أن يقال : القيام قائم ، والعلم عالم ، والضرب ضارب ونحو ذلك مع انها غير صحيحة .

وثانياً : بأن المدار في تشخيص مفاهيم الالفاظ هو الفهم العرفي ، والعرف يفهم من الواجدية طرفين تتقوم بهما وليس ذلك من الرجوع الى تشخيص المصداق حتى يورد عليه بأن الرجوع الى العرف في تشخيص المفاهيم دون المصاديق .

ثم اختار ما ذهب اليه صاحب الفصول من ان الاستعمال في ذلك المقام على نحو المجاز أو النقل .

ولكن الذي ينبغي أن تعلمه بأن صاحب الفصول يذهب الى مجازية المشتق بعد كونه مجازاً في الاسناد ، لأن القائم بالواسطة مجازاً كالشدة والسرعة القائمتين بالجسم بواسطة الحركة واللون .

وردّه صاحب الكفاية يأنه مجاز في الاسناد فقط لا في الكلمة ، فإن المشتق بما هو مشتق استعمل في معناه الحقيقي وإن كان مبدأه مسنداً بالإسناد المجازي .

والصحيح ما ذكرناه من الإشكال على مختار صاحب الفصول ، فراجع .

والحق أن يقال : إن جميع ذلك انما هو مبنى على كون المشتقات التي تطلق عليه تبارك وتعالى وعلى غيره على نحو الاشتراك المعنوي . وأما اذا قلنا بأنه على نحو نفي الاضداد فإنه لا يجري ، ولعل ما ذكره صاحب الفصول من النقل يرجع الى ذلك، وعلى فرض عدمه فإنه يكفي في صحة الحمل المغايرة الاعتبارية التي هي مقبولة عند العرف ، وهذه المغايرة الاعتبارية يفرض العرف فيها طرفين وإن كانا اعتباريين أيضاً عندهم حتى لو كان في الواقع من الواجدية ولكنها لا تضرّ الفهم العرفي . ومن ذلك يظهر الجواب كما ذكره بعض الأعلام من الاشكال على نظرية الواجدية ، فإن عدم اطلاق المشتق على المبدأ لمخالفته الفهم العرفي والدقة العقلية ، فإنه لا ذات في الامثلة المذكورة . وأما الفهم العرفي فلما ذكرنا من تحقق المغايرة الاعتبارية عندهم . ولعل ذلك هو الوجه المقبول الذي يمكن جمع الأقوال فيه . وبذلك ننهي الكلام في بحث المشتق الذي عرفت انه لا ثمرة عملية فيه ؛ كما أنه ننهي الكلام في البحوث التمهيدية .

ص: 220


1- - محاضرات في اصول الفقه - ج1/ ص292 - مصدر سابق.
الكلام في مباحث الالفاظ

تمهيد :-

لا بد من العلم بأن جميع ما يذكر في هذه المباحث إنما هو تشخيص مصاديق أصالة حجية الظهور التي هي من الاصول النظامية العقلائية ، فلا بد في تعيين تلك الصغريات من الرجوع الى فهم العرفلأنه المرجع في مثل ذلك .

المبحث الأول : في الأوامر

وفيه جهات من البحث :

ص: 221

الجهة الأولى : في مادة الأمر ، أي كلمة الأمر . وقد ذكر اللغويون لها معانٍ عديدة ربما تبلغ أربعة عشر معنىً ، نذكر بعضاً منها :-

1- الطلب

2- الشيء

3- الحادثة

4- الشأن

5- الشيء العجيب ، الى غير ذلك . وقبل بيان الحق لا بد من ذكر أمور:الأول : الظاهر إن بعض تلك المعاني إنما يستفاد من القرائن التي تحيط بموارد استعمالاتها، كقولنا جئتك لأمر كذا حيث استفيد من اللام الغرض أو الحاجة. أو هي من لوازم تلك المعاني فاعتبرت من معانيها ، فيكون من اشتباه المفهوم بالمصداق ، كالفعل العجيب والحادثة .

الثاني : الثاني : اختلف علماء اللغة في كيفية معالجة المشترك اللفظي ، فقال بعضهم بأن اكثر ما يعرف انه من المشترك في لغة العرب ما يمكن أن ينتزع له جامعاً ، ولذا دأب بعض اللغويين ارجاع المعاني المتعددة التي تذكر في المشتركات الى المعنى واحد يكون جامعاً لها ، فتكون من المشترك المعنوي ، وقد اختار هذا المنهج الراغب الاصفهاني في مفرداته ، وابن فارس ، والسيد الوالد ( قدس سره) في تفسيره وغيرهم ، وهو موافق للأصل الذي يدلّ على عدم تعدد الوضع إلاّ فيما إذا لم يمكن ارجاعه الى جامع قريب يقبله الذوق العرفي . ولكنه يحتاج الى خبرة تامة ومعرفة كاملة بمواضع الاستعمال وخصوصياته ، ومنابع الاوضاع اللغوية .

الثالث : إن الاشتقاقات التي تذكر لكلمة معينة قد تكون موافقة للقواعد التي تذكر في اللغة ، وقد لا تكون كذلك ، كما هو الدائر في عصرنا الحاضر لكن بشرط الاستيناس عند العرف ، ومن الأخير كلمة العولمة ، والخصخصة ، والمروحة ونحو ذلك مما هو كثير ، ويمكن أن تكون كلمة الأمر من هذا القبيل ، فإنها تجمع على أوامر ، كما تجمع على أمور ، فإن اختلاف الجمع يدل على تعدد المعاني إلا إذا أمكن ارجاعهما الى معنى واحد ، كما يأتي بيانه .

الرابع : قد ذكر من معاني مادة (أمر) الطلب وهو نارة يراد به السعي وهو إما أن يكون نحو تحصيل شيء سواء من الطالب نفسه أم بدفع غيره إليه . وإما أن يراد به المفهوم الإسمي المنتزع من تحريك الغير ودفعه بصيغة الأمر أو غيرها نحو تحقيق شيء . والمراد به في المقام هو الثاني دون الأول .

الخامس : قد ذكروا من معاني الأمر الطلب والشيء فقيل بأنهما من المختلفين اللذين لا يمكن جمعهما تحت عنوان واحد لأنه قد يستعمل الطلب في مورد لا يصح استعمال الأمر فيه ، كقولك : يا طالب الدنيا ، وقولك : طلبت شيئاً فما وجدته ، كما أنه يصح

ص: 222

استعمال الشيء بالنسبة الى الأعيان الخارجية ، ولا يصح استعمال الأمر بالنسبة إليها ، ولكن عرفت أن المراد من الطلب بعض مفهومه دون جميعه ومن أجل ذلك لم يصح استعمال الأمر في جميع مواضع استعمال الطلب . وكذا في الاعيان فإن كلمة المر لا تطلق على الاعلام الشخصية بالذات وغيرها ، ولعله من أجل ذلك قال السيد الوالد ( قدس سره) : ( ألاّ أن يكون مرادهم المعنى في الجملة لا بنحو الكلية وهو صحيح ) .السادس : تمسك بعضهم لإثبات الاشتراك اللفظي في المقام بوجهين :

الأول : اختلاف صيغة الجمع فإن الأمر بمعنى الطلب يجمع على أوامر ، وبمعنى غيره على أمور ، وهو دليل على الاختلاف .

الثاني : إن الأمر بمعنى الطلب يشتق منه الآمر والمأمور ، بينما الأمر بمعنى غيره جامد لا يشتق منه غيره ، واختلاف المصاديق غير معهود في اللغة في كلا الأمرين ، إذا عرفت ذلك فقد اختلف الاصوليون في معالجة الاشتراك المزعوم في كلمة الأمر وهناك عدة محاولات أهمها :

المحاولة الأولى : ارجاع معاني غير الطلب الى معنى واحد فيكون مشتركاً لفظياً بين معنيين هما الطلب والجامع بين غيره من المعاني المذكورة فيكون بالنسبة الى غير الطلب مشتركاً معنوياً ، وبالنسبة الى غيره وإليه مشتركاً لفظياً.

المحاولة الثانية : هي ارجاع جميع تلك المعاني بما فيها الطلب الى معنى واحد.

أمّا المحاولة الأولى ففيها أقوال:

الأول: إرجاع سائر المعاني إلى مفهوم واحد وهو الشيء، وهو الذي اختاره المحقق الخراساني رحمه الله فيكون مشتركاً بين الطلب والشيء واستدلّ عليه بالتبادر((1)).

وأشكل عليه بأن مفهوم الشيء بعرضه العريض لا يناسب أن يكون مدلول الأمر فإنّ الشيء يطلق على الأعيان الخارجية والجوامد فيقال: (زيد شيء) ولا يقال: أمر.

الثاني: إرجاع سائر المعاني إلى الواقعة والحادثة أو الواقعة والحادثة الخطيرة المهمة وذهب إليه المحقق النائيني رحمه الله واستدل عليه باختلاف صيغة الجمع بين أوامر وأمور((2)).

وأورد عليه بأنه يصح استعمال الأمر بهذا المعنى في كلام لا يحصل التناقض والمحال كأن يقال: فلان تكلم بأمرٍ غير مهم ، أو يقال: اجتماع النقيضين وشريك الباري أمر محال من دون عناية فيه ولا مجاز ، أو يقال: عدم رؤية زيد أمرٌ عجيب، ولا محال في البين أبداً ، كما أنه تستعمل كلمة الأمر في الجوامد كما إذا كانت من قبيل أسماء الأجناس،

ص: 223


1- - كفاية الاصول - ص 61 - مصدر سابق.
2- - أجود التقريرات - ج1 - 86 - مصدر سابق.

فيقال النار أمر ضروري للإنسان وليست من الحادثة أو الواقعة وإن لم تطلق على العلم. بالذات أو بالإشارة فلا يقال عليّ أمر ، أو هذا - مشيراً إلى علم - أمر.

الثالث: إرجاع سائر المعاني إلى الفعل والحدث فيطلق الأمر على خصوص الأفعال في قبال الصفات والأعيان واختاره المحقق الاصفهاني.ويورد عليه بما ذكرناه آنفاً ، مع إنه يمكن أن يقال بأنه ربما يكون إطلاق الأمر على الأفعال باعتبار الشيء كما يطلق على الأعيان والصفات بهذا الاعتبار.

وأمّا المحاولة الثانية: وهي توحيد المعاني جميعها في معنى واحد جامع، وهي على أنحاء أيضاً:

الأول: إرجاع المعنى غير الطلبي إلى الطلب بعد إرجاعه إلى الفعل مقابل الصفات والأعيان وذلك باعتبار موردية الأفعال لتعلق الإرادة بها بخلاف الأعيان والصفات ، كما يعبر عنه بمطلب ولو لم يتعلق به طلب بالفعل، كما يعبّر عنه بأمر بنكتة الشأنية والمعرضية لأن يتعلق به.

وفيه: ما عرفت من أن استعمال الأمر بغير المعنى الطلبي ليس مخصوصاً بما يكون فعلاً، بل قد يطلق على ما لا يمكن أن يطلب كشريك الباري أمر مستحيل، مضافاً إلى أن إطلاقه عليه إذا كان بلحاظ قبول المحل وهو يصدق على غير الفعل أيضاً.

الثاني: إرجاع المعنى الطلبي إلى غير الطلب، وقد استقربهُ المحقق النائيني رحمه الله حيث قال: يمكن أن يكون الطلب ليس معنى برأسه في قبال الواقعة والحادثة بل من جهة أنه مصداق من مصاديقها.

وفيه: أنه بناءً عليه لا فرق بين الطلب التكويني والتشريعي فإنه يطلق عليها الواقعة مع أنه لا يصح إطلاق الأمر على الطلب التكويني إنه أمر، فإذا طلب زيد المال لا يقال أنه أمر به ، مع أن الأمر يتعدى إلى متعلق الطلب كالطلب نفسه فيقال أمر بالصلاة وهو يدل على مساوقته مع الطلب دون أن يكون منتزعاً منه كواقعة أو حادثة.

الثالث: إنّ الأمر موضوع للجامع بين الطلب والواقعة.

ويرد عليه ما أوردناه سابقاً من أنه لا جامع بينهما لاختلاف الآثار واللوازم،ثم إنه ما المراد من الجامع هل هو الشيء وهو مردود بأنه كلمة الأمر ليست أوسع نطاقاً من كلا الأمرين وإن كان جامعاً مساوياً لمجموعهما وهو بالآخرة يرجع إلى الواقعة فرجع إلى النحو الثاني.

الرابع: إنّ جميع الأشياء باعتبار صدورها من فاعلها فعل وأمر وباعتبار وجودها في أنفسها لا فعل ولا أمر بل هو شيء وموجود وشخص ونحو ذلك، وبعبارة أخرى أن الفعل والأمر باعتبار معناه المصدري فهو يشمل جميع ما تعلقت به إرادة الخالق عزَّ وجلَّ، وبهذا الاعتبار تدخل الأحكام الشرعية أيضاً لأنها مما تعلقت بها الإرادة التشريعية فهي فعل ومجعول لكن في عالم الاعتبار والتشريع فالطلب الذي هو إبراز الإرادة التكوينية والتشريعية هو أحد معاني الأمر بهذا الاعتبار لأنه فعل ومن مصاديقه بهذا المعنى فيكون عدم إطلاق الأمر على الذوات والأعيان باعتبار وجوداتها في أنفسها ولأجل ذلك صار منه معنى جزئياً فصح الاشتقاق كما يدفع به إشكال اختلاف الجمع نظراً إلى أنّ الملاحظ في الأوامر المعنى الحدثي وهو الفعل وفي الأمور إلى كونه من

ص: 224

الجوامد ، مع أنه يمكن أن يكون الاختلاف في الجمع راجع إلى التفنن واستساغة العرب أن يكون الجمع في غير الطلب إلى الأمور.وإن كان الجميع يرجع إلى معنى واحد وبذلك نثبت الاشتراك المعنوي.هذا كله بحسب المعنى اللغوي، أما بحسب المعنى العرفي الذي منه الاصطلاح الأصولي إذ الاصطلاح جديد لهم في الأمر ، وإن قال بعضهم بذلك ولكن الدليل على خلافه ، فالأمر عبارة عن البعث بلفظ (افعل) أو ما يقوم مقامه وبهذا الاعتبار تصح الاشتقاقات منه باعتبار تضمّنه معنى البعث الذي هو معنى حدثي قابل للاشتقاق والتفريع وليس المراد أنّ لفظ الأمر موضوعٌ للقول المخصوص مثل وضع لفظ الاسم لكلمة مخصوصة حتى لا يصح الاشتقاق منه لأنه ليس فيه معنى حدثي، كما ذكره المحقق الخراساني رحمه الله . هذا مع الظهور فيه، وأمّا مع الإجمال فالمرجع هو الأصل العملي الذي ينفي التكليف.

الجهة الثانية: اختلف العلماء في اعتبار العلو أو الاستعلاء في صدق الأمر والاحتمالات المذكورة في كتب القوم هي:

الأول: اعتبار كلا الأمرين.

الثاني: اعتبار أحدهما.

الثالث: اعتبار الاستعلاء.

الرابع: عدم اعتبارهما معاً.

والكلام تارةً يقع بحسب الأصل الذي يقتضي عدم اعتبارهما معاً، وأخرى بحسب حكم العقل الذي يتبع من الارتكازات والوجدان وهو يدل على اعتبار العلو الحقيقي في معنى الأمر بلا فرق بين أن يكون الأمر صادراً عن لسان الاستعلاء أو بغيره كقوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾((1)).

وثالثة بحسب اللغة فإن التبادر من الأمر الصادر من شخص هو العلو.

ورابعة بحسب العرف فإنه يشهد على أن الطلب الصادر من العالي إنما هو أمر سواء كان مستعلياً أو خافضاً لجناحه، وعدم صدقه على طلب السافل المستعلي أو المساوي إلا على سبيل العناية بل ربما يوجب التقبيح والتوبيخ إن كان على النحو المعهود ولم يكن من السؤال والالتماس ومن ذلك يظهر أن الطلب الصادر من أحد الوالدين إنما هو أمر باعتبار علوّه الحقيقي لا لأجل استعلائهما والموضوع لا يحتاج إلى أكثر مما ذكرناه إذ لا ربط له بالبحث الفقهي والأصولي لأن الأمر الذي نبحث فيه ما كان صادراً من المولى سبحانه وتعالى، أو من نصبه مشرعاً وهو مستجمع للعلو والاستعلاء.

نعم لابد أن يعرف بأنه ليس كل طلب صادر من العالي يكون أمراً بل خصوص الصادر عن مقام مولويته أو علوّه دون ما يصدر بغير هذا اللحاظ كالصادر من الملوك لأمثالهم فإنها لا تكون أوامر بل هي التماسات ونحوها.

الجهة الثالثة:

في دلالة الأمر على الوجوب ذهب جمع من المحققين إلى ذلك ، واستدلوا عليه بالتبادر، وبناء العرف والعقلاء على كون الطلب الصادر من المولى بمادة الأمر هو الوجوب،

ص: 225


1- - الحديد / 11.

قال السيد الوالد رحمه الله إن مادة الأمر في أية هيئة استعملت ظاهرة في الوجوبإلا مع القرينة على الخلاف, لانسباق الوجوب منها في المحاورات((1)

وقريبة منه عبارة الكفاية وغيرها.

أمّا الاستدلال عليه بجملة من الآيات والروايات كقوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾((2))

ورواية: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك) وغير ذلك فغير تام إمّا لوجود القرائن في الكلام مما تدل على استفاد الوجوب منها أو أنه من الاستعمال الذي هو أعم من الحقيقة. ولعله لأجل ذلك جعلها المحقق الخراساني من المؤيدات وهذا لا كلام فيه ومفروغ عنه فلا نحتاج إلى ذكر الأدلة من المثبتين والنافين ومناقشتها من دون اختصاص لذلك بمادة الأمر بل هي واردة في صيغة الأمر لأن دلالتها على الوجوب كدلالة مادة الأمر من حيث الدليل والملاك.

ولكن البحث في تفسير هذه الدلالة وتحديد منشئها وقد اختلف العلماء على أقوال ثلاثة:

الأول: أن تكون بحسب الوضع. ذهب إليه المشهور واستدلوا عليه بالتبادر، كما عرفت آنفاً مع المناقشة في سائر المناشئ.

الثاني: أن تكون بحكم العقل. ذهب إليه المحقق النائيني((3))

رحمه الله ومن تبعه.

الثالث: أن تكون بالإطلاق ومقدمات الحكمة وهو مختار المحقق العراقي((4))

رحمه الله .

أما القول الثاني: فقد ذكر المحقق النائيني في اثباته بأنّ الوجوب الذي هو الطلب التام غير المحدود ليس مدلولاً للدليل اللفظي الذي يدل على مطلق الطلب فحسب بل العقل يحكم بأنّ الطلب الصادر من العالي إذا لم يقترن بالترخيص في المخالفة يدل على الوجوب بخلاف الاستحباب الذي هو الطلب الناقص المحدود المستفاد من اقترانه بالترخيص في المخالفة فإنه لا يلزم العقل بموافقته لأنه يحتاج إلى مؤونة زائدة إذ هو مركب من الطلب والحد بخلاف الوجوب الذي هو بسيط لا تركب فيه لأنه الطلب غير المحدود كما عرفت.

وعليه يكون كل من الوجوب والاستحباب من شؤون حكم العقل المترتب على طلب المولى لا من شؤون اللفظ، ولعل ما ذكره رحمه الله مقتبس مما ذكروه في حقيقة الوجود حيث أن مرتبة منه بسيط وغير محدود وهو وجود الواجب جلّ وعلا الذي هو في غاية التمام والكمال فلا نقص فيه ولا حدّ، وبقية المراتب منه كلها ناقصة ومحدودة ومركبة من الوجود والماهية التي هي حد الوجود ولذا قالوا كل ممكن زوج تركيبي له وجود وماهية ، وكيف كان فقد أورد عليه:

أولاً: بأنّ حكم العقل بلزوم الامتثال لا يكفي فيه مجرد صدور الطلب من المولى مع عدم اقترانه بالترخيص فإنه لو علم العبد بأن الطلب الذي صدر من المولى لا يكون ملزماً

ص: 226


1- - تهذيب الاصول - ج1 / ص53 - مصدر سابق.
2- - النور / 63.
3- - أجود التقريرات - ج1 / ص95 - مصدر سابق.
4- - مقالات الاصول - ج1 / ص65- مصدر سابق.

حتى مع عدم اقترانه بالترخيص لوجود الملاك غير اللزومي فيه فلا يحكم العقل حينئذٍ بلزوم الامتثال لمجرد صدور الطلب مع عدم الترخيص.

وهذا يعني أن حكم العقل بالوجوب فرع مرتبة معينة من الطلب، وهذه المرتبة لا يكشف عنها إلا الدليل اللفظي فإذا دلّ عليها اللفظ تكون موضوع الوجوب العقلي وهذا هو معنى كون الدلالة لفظية.

ويمكن الإشكال عليه بأن ما ذكره المحقق النائيني رحمه الله إنما هو في فرض عدم وجود قرينة خاصة على الترخيص سواء كان لفظياً أو غيره كما في مفروض المثال، فإنّ العبد إذا أطلع على أن الطلب الصادر من المولى لا يكون ملزماً لعدم وجود ملاك اللزوم فيه فهو يكفي أن يكون دليلاً للترخيص ، مع أنه سيأتي إن الطلب لا يتصف بالنقص والتمام إلا إذا رجع إلى المحكي بهذا العنوان وهي الإرادة التي هي قائمة بالنفس إلا أن يراد مما ذكر بأن حكم العقل تارة يكون مطلقاً لا يرتبط بلفظ كحكمه بلزوم الطاعة وشكر المنعم ، وأخرى يتبع المدلول اللفظي كما في المقام فإن دل الدليل اللفظي على أن المقصود من الطلب مرتبة معينة من الإرادة التامة الملزمة كما في الوجوب فإنه يحكم العقل بوجوب الامتثال وإن لم يدل على ذلك فلا وجوب عقلي للامتثال فحكمه تابع للفظ ومدلوله.

وثانياً: قيل بأنّ الالتزام بهذا المبنى يترتب عليه بعض الآثار الفقهية التي لا يلتزم الفقهاء بها وهي عديدة:

منها: إنه يلزم عليه رفع اليد عن دلالة الأمر على الوجوب فيما إذا اقترن بأمر عام يدل على الترخيص والإباحة.

كما إذا ورد أكرم الفقيه ولا بأس بعدم إكرام العالم، مع أن القاعدة التي يلتزم بها الفقهاء رفع التعارض بينهما بالتخصيص فيكون تعارضاً غير مستقر وفي مثل ذلك يخصص العام فيجب إكرام الفقيه بينما بناءً على مسلك المحقق النائيني لا تعارض بين القولين فيرفع اليد عن وجوب الإكرام لوجود الترخيص في الترك فيكون العام رافعاً لحكم العقل بالوجوب لأنه معلق على عدم ورود الترخيص كما عرفت.

ولكن يمكن الجواب عنه بأن لا حكم للعقل في مثل هذه الموارد التي يجتمع العام مع الخاص إلا بعد معالجة الحكمين بالرجوع إلى العرف في تشخيص الدلالة ثم الحكم عليه وهو يحكم بتخصيص العام فيبقى الوجوب بحكم العقل بعد المعالجة بين الكلامين فلا نقض على هذا المسلك.

ومنها أنه لو صدر أمر ولم يقترن بترخيص متصل ولكن احتملنا وجود ترخيص منفصل فإن بناء العقلاء وعليه عمل الفقهاء على دلالة الأثر على الوجوب حتى يثبت خلافه وهذا لا يمكن اثباته على هذا المسلك لأنه قد فرض فيه أنّ حكم العقل بالوجوب معلق على عدم ورود الترخيص من الشارع وفيه محتملات ثلاثة:

الأول: أن يكون معلقاً على عدم اتصال الترخيص بالأمر وهو يستلزم كون الترخيص المنفصل غير منافٍ لحكم العقل بالوجوب وهو باطل لكثرة القرائن المنفصلة على عدم الوجوب.

ص: 227

الثاني: أن يكون معلقاً على عدم صدور الترخيص من المولى واقعاً ولو كان بصورة منفصلة وهو يستلزم عدم إمكان إحراز الوجوب عند الشك في الترخيص المنفصل مع القطع بعدم وروده متصلاً لأنه مع الشك فيه يشك في الوجوب لا محالة.

الثالث: أن يكون معلقاً على عدم إحراز الترخيص والعلم به، وهو خروج عن محل الكلام لأنّ البحث في الوجوب الواقعي الذي يشترك فيه الجاهل والعالم لا في المنجزية.

ويمكن الجواب عنه بأن حكم العقل بالوجوب ليس معلقاً على احتمال الترخيص بل لابد من ثبوته بلفظ أو قرينة معتبرة، فتبطل الاحتمالات الثلاثة إلا الثاني الذي يكون التعليق على عدم صدور الترخيص من المولى واقعاً وثبوته ظاهراً فعند الشك فيه يرجع إلى أصالة العدم فيثبت حكم العقل حينئذٍ.

القول الثالث: وهو كون الوجوب مدلول الاطلاق وهو يتحد مع المسلك الأول في أنّ الوجوب هو مفاد الدلالة اللفظية وإن كان الأول يرجع إلى حاق اللفظ بخلاف الثاني الذي يرجع إلى الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة وقد قيل في تقريبه وجوه ثلاثة:

الأول: أنّ مادة الأمر وصيغته تدلان على مطلق الطلب وإرادة المولى له وهي إما شديدة كما في الواجبات أو ضعيفة كما في المستحبات ولا ريب أن شدة الإرادة من نفسها وسنخها لا من شيء آخر وأما ضعفها إنما تعني عدم الإرادة الشديدة وإذا دار الأمر بينهما يتعين بالإطلاق الإرادة الشديدة لأنها لا تزيد على الإرادة بشيء، كما عرفت فهي من هذه الناحية بسيطة لا حدّ فيها فلا يحتاج إلى بيان الحد بخلاف الإرادة الضعيفة فإنها تزيد بحدها على حقيقة الإرادة فلو أرادها المولى فلابد من أن ينصب القرينة على حدها لأن الأمر لا يدل إلا على ذات الإرادة.

وفيه: إنّ هذا البيان يشبه ما ذكر في القول السابق في مرتبة الوجود التامة الكاملة التي لا حد لها بخلاف سائر مراتبه المحدودة وهو أمر عقلي بعيد عن المدلولات اللغوية لاسيما في باب الإطلاق ومقدمات الحكمة ، لأنها ظهور حالي عرفي يقضي بأنه إذا كان أمر المتكلم بين أن يكون كلامه يفي بمرامه من دون مؤونة زائدة أو يكون محتاجاً إلى مؤونة زائدة كل ذلك بنظر العرف فهو الحكم في التمييز بين الأمرين لا الأمر العقلي الذي هو من الدقة بمكان في مقابل الأمر العرفي الذي يدركه العرف لبساطته فلا تؤثر مقدمات الحكمة في إثبات الإطلاق إذا كان الملاك هو الأمر العقلي بل لا يمكن أن تؤثر هذه المقدمات العقلية في إثبات الأمر العرفي الذي لا يلتفت إليها.

الوجه الثاني: أنّ الوجوب ليس عبارة عن مجرد الطلب لأنه ثابت في المستحبات أيضاً، فلابد من انضمام أمر زائد على أصل الطلب وهو إنما يكون عدم الترخيص في الترك دون ما ذكره القدماء من انضمام النهي أو المنع من الترك لأنه موجود في المكروهات فيكون الوجوب هو طلب قد تميز بقيد عدمي كما أنّ الاستحباب طلب متميز بقيد وجودي وهو الترخيص في الترك.

وحينئذٍ إذا كان هناك كلام يدل على أمر مشترك وتردد أمره بين حقيقتين إحداهما تميّز أمر عدمي، والأخرى بأمرٍ وجودي تعيّن بالإطلاق الحمل على الأول لأن الأمر العدمي خفيف المؤونة بحسب النظر العرفي، إلا إذا كان المقصود هو الأمر الوجودي فلابد من

ص: 228

ذكره وإلا يكون خرقاً عرفياً لظهور حال المتكلم بخلاف ما إذا كان المقصود هو الأمر العدمي فإنّ في عدم ذكره لا يكون خرقٌ عرفيٌ لأنه لا يزيد على الحيثية المشتركة عرفاً.

ويورد عليه: بأنه ليس كل أمر عدمي لا يلحظ كأمرٍ زائدٍ بل يلحظ عرفاً في كثير من الموارد إذا كان له دخل في تعيين المراد كما في المقام فإن فيه يدور الأمر بين أمرين متباينين، أحدهما الوجوب والآخر الاستحباب ، ولعله لأجل ذلك لا يرى العرف انهما من قبيل الأقل والأكثر نعم يتسامح العرف في غير المقام كما في الإطلاق اللحاظي مثلما يذهب المشهور في أسماء الأجناس التي قالوا باستحالة أن يكون موضوع الحكم فيها هي الطبيعة المحفوظة في المطلق والمقيد بل لابد من أخذ خصوصية زائدة في اللحاظ إذ كان الكلام دالاً على ذات الطبيعة فإن العرف يرى المسامحة.

فإنه إذا كان مرام المتكلم مطلقٌ من دون ذكر المميز فإنه ليس خرقاً في الظهور الحالي بخلاف ما إذا كان مرامه المقيد.

الثالث: أنّ الوجوب والاستحباب يشتركان في أن كل واحد منهما فيه مؤونة زائدة ومميز له بحسب النظر العرفي على ذات الطلب وبحاجة إلى البيان إلا أن هذه الزيادة على ذات الطلب مرددة بين زيادة أخف التي هي الأمر العدمي وبين أشد كما في الأمر الوجودي وسكوت المتكلم عرفاً عن بيان الزيادة الأشد يكون قرينة على إرادة الأخف فيتعين الوجوب لا محالة.

ويرد عليه بأن هذا التقريب وإن كان أقرب الوجوه ولكن لا كلية فيه إذ أنه يختص بما إذا أحرز البيان من قبل المولى وإن سكت عنه، وهي عناية لا تحصل دائماً مع أن البناء الفقهي والعرفي على فهم الوجوب في سائر الموارد من دون ملاحظة تلك.

الرابع: أنّ صيغة الأمر تدل على الإرسال والدفع بنحو المعنى الحرفي وهو يقتضي سد أبواب العدم للاندفاع والتحرك أو بمقتضى أصالة التطابق بين المدلول التصوري والمدلول التصديقي. إن الطلب المبرز سنخ حكم يشتمل على سد أبواب العدم وهو يعني عدم الترخيص في الترك والمخالفة.

وقد نفى بعض الأعلام البأس عن هذا الوجه واعتبره الجاري في تمام موارد استعمالات صيغة الأمر.

ولكن الحق أن رأيّ هذا الوجه يرجع إلى الدلالة اللغوية وليس شيئاً زائداً عنها لأنّ الإرسال والدفع إنما هو يرجع إلى ما يفهمه العرف من صيغة الأمر ومادته وهو معنى الوجوب بهذه الخصوصية وهي عدم الترخيص في الترك.

وهناك فوارق بين هذه المسالك الثلاثة قد اشار إليها بعض الأعلام((1))

لابد من ذكرها ونذكر ما يتعلق بها وهي:

منها: إنه بناءً على مسلك الوضع والإطلاق تجري قواعد الجمع الدلالي والعرفي فيما إذا تعارض ما يدل على الوجوب وما يدل على الترخيص فإن القاعدة تقتضي الجمع بين دليل الوجوب ودليل الترخيص بالحمل على الاستحباب.

ص: 229


1- - بحوث في علم الأصول - ج2 / ص24 - مصدر سابق.

وأمّا بناء على مسلك حكم العقل فإن الوجوب لما لم يكن مدلولاً للفظ الأمر حتى يجمع بين الدليلين فلابد أن يكون دليل الترخيص وارداً على حكم العقل بالوجوب ورافعاً لموضوعه.

وفيه: ما ذكرناه آنفاً من أن حكم العقل بالوجوب لا يتحقق إلا بعد ملاحظة ما يرتبط بدليل الوجوب من حيث الملاك والمعارضة فهو حكم معلق على ذلك فلا يحكم بالوجوب إذا كان هناك ما يدل على الترخيص فيرجع إلى الجمع المذكور في مسلك الوضع والإطلاق.

فلا فرق بين ما لو قلنا بورود الترخيص على دليل الوجوب أو أنه مقتضى الجمع العرفي الدلالي، ولا ثمرة عملية تترتب على ذلك.

ومنها: إنه بناءً على مسلك الوضع والإطلاق تثبت لوازم الوجوب أي ما يترتب على الملاك والشوق الأكيد والشديد من اللوازم فلو علمنا - مثلاً - بأن الدعاء عند رؤية الهلال والدعاء عند آخر الشهر متساويان في الملاك والمحبوبية وورد أمر بأحدهما نثبت وجوبه بالمطابقة، ووجوب الآخر بالملازمة، بينما لا يمكن ذلك بناءً على مسلك حكم العقل لأن الوجوب ليس مرتبة دلالية ثبوتية ولا ربط له بالمبادئ والملاكات حتى يكشف عنها وعن ملازماتها، بل هو حكم عقلي ينتزع من طلب الشيء وعدم الترخيص في تركه.

وفيه: أن الملازمة ربما تكون من الظهور ما يحكم بها العقل كما في سائر الملازمات البينة فإذا حكم العقل بالوجوب في الأول يحكم بالوجوب في الثاني لشدة الملازمة بينهما كما هو مفروض الكلام في التساوي بين الدعائين فلا اختلاف بين المسالك من هذه الجهة أيضاً.

ومنها: ثبوت دلالة السياق على مسلك الوضع وسقوطها على مسلك الإطلاق وحكم العقل وذلك أن الفقهاء قالوا بأنه إذا وردت أوامر عديدة في سياق واحد وعرفنا من الخارج استحباب بعضها اختلّ ظهور الباقي في الوجوب على القول بالوضع إذ يلزم من إرادة الوجوب تغاير مدلولات تلك الأوامر مع ظهور وحدة السياق في إرادة المعنى الواحد من الجميع، وأمّا بناءً على مسلك حكم العقل فجميع الأوامر مستعملة في معنى واحد وهو الطلب والوجوب حكم عقلي خارج عن مدلول اللفظ فإذا دلّ دليل على الترخيص في بعض تلك الأوامر لا يختل السياق في الباقي وكذلك الحال بناء على مسلك الإطلاق لأن المعنى المستعمل فيه واحد على كل حال لكن أريد في بعضها المقيد بدال آخر كما هو المحقق في بحوث المطلق والمقيّد.

وفيه: أنّ عادة الفقهاء جارية على تقطيع الروايات في العمل إذا كان هناك ما يدل عليه من دون الاخلال بالسياق، فإذا ورد دليل يتضمن أوامر متعددة في سياق واحد وعلمنا من الخارج استحباب بعضها يخرج هذا بمقتضى الدليل عن تلك الأوامر من دون الإخلال بسياق الكلام إذا حكم به العرف ومثل هذا كثير في الروايات يجدها من يرجع إليها.

هذا إذا لم يحكم العرف بالإخلال. وأمّا إذا حكم العرف بالإخلال بالسياق فلا يبقى ظهور حتى على المسلكين الآخرين.

ومنها: أنه إذا ورد أمر واحد بشيئين وعلم من الخارج باستحباب أحدهما فعلى مسلك الوضع لا يمكن إثبات الوجوب للآخر بهذا الأمر لأنه يشبه استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو غير صحيح.

ص: 230

وأمّا على مسلك حكم العقل فالأمر مستعمل في معنى واحد وهو الطلب والوجوب ينشأ من حكم العقل فيما إذا لم يرد فيه الترخيص فيثبت الوجوب في الذي لم يرد فيه الاستحباب فقط وكذلك الحال على مسلك الإطلاق فإنّ الأمر ينحل إلى حصتين تقيد إطلاق إحداهما بدليل خاص، وهو لا يستوجب تقييد الحصة الثانية لأن التقييد ضرورة ولابد من أن تتقدر بقدرها.

وفيه: إنّ عدم استفادة الوجوب في مثل هذا الأمر إنما هو لعدم ثبوت الظهور فيه فإذا اختلّ الظهور فلا تبقى استفادة الوجوب على المسلكين الآخرين فإنهما مبنيان على ظهور اللفظ أيضاً نظير ما لو تكلم بكلام مجمل فإنه لم يقل أحد بثبوت الوجوب على جميع المسالك.

ومنها: ما إذا أورد أمر بطبيعي فعل كما إذا ورد أكرم العالم وعلمنا من الخارج بأن إكرام غير الفقيه لا يجب فهل يمكن إثبات استحباب إكرام غير الفقيه من العلماء أم لا يثبت؟ فإنه على مسلك الوضع لا يمكن إثبات الاستحباب لأن بعد حمله على الوجوب بمقتضى الوضع لابد من تخصيص غير الفقيه وإخراجه عن العام بدليل آخر يدل على الاستحباب وهذا بخلاف مسلك حكم العقل الذي يحكم بالوجوب لأن الأمر مستعمل في الطلب على كل حال غاية الأمر ثبت الترخيص في حصة ولم تثبت في أخرى فيثبت الاستحباب لا محالة في الأولى والوجوب في الثانية، وكذلك الحال على مسلك الإطلاق إذ لا وجه لرفع اليد عن أصل الطلب في غير الفقهاء.

وفيه: ما ذكرناه آنفاً من أنّ اللفظ ظاهر في الوجوب إذا لم تقم قرينة على التخصيص وإلا فيستفاد من مجموع الدليلين ما يقتضيه الكلام فيحكم في مثل المقام بالوجوب في الفقيه والاستحباب في غير الفقيه بمقتضى الدليل المخصص فلا اختلاف في المسالك من هذه الجهة.

ومنها: ما إذا كان هناك أمران وورد ترخيص لأحدهما وشك في أنه ترخيص لهذا أو ذاك فإنه بناءً على أن الوجوب بحكم العقل يجب الاحتياط إذ لا تعارض بين الأمرين بلحاظ مدلوليهما، وإنما العقل يحكم بالوجوب فيما لم يرد ترخيص والمفروض أن أحد الأمرين لم يرد فيه ترخيص، فيحصل علم إجمالي منجز، وهذا بخلافه على المسلكين الآخرين حيث يفضي إلى التعارض بين مدلوليهما ثم الإجمال والتساقط.

وفيه: إنّ حكم العقل بالاحتياط بناء على مسلكه مبني على بقاء على ظهور اللفظ عرفاً وإلا فالإجمال والتساقط كما في المسلكين الآخرين، وليس حكم العقل بالاحتياط على الإطلاق حتى لو لم يثبت الظهور.

ومنها: إنه على مسلك الإطلاق على تقريب المحقق العراقي من أن الأثر ظاهر بإطلاقه في الطلب الشديد وعليه يمكن إثبات أعلى مراتب الوجوب فلو وقع تزاحم بين واجبين أحدهما قد ثبت بالأمر والآخر بدال آخر غير الأمر قدم ما ثبت بالدليل اللفظي لأنّ دليله يدل بالإطلاق على كونه في أعلى مراتب الملاك والوجوب.

وفيه: ان توصيف الطلب بالشديد والضعيف غير صحيح وإنما الموصوف بهما هي الإرادة وهي أمر نفساني لا ربط للدليل بها فهو يدل على الطلب فعند التعارض بين دليل

ص: 231

لفظي وغيره مما يدلان على الوجوب فهما على حد سواء إذ الوجوب نشأ من طلب واحد ولكن منشأه إرادة نفسانية مؤكدة دون الاستحباب كما عرفت.

ومما ذكرنا يظهر إنه لم تترتب ثمرة عملية مهمة على اختلاف المسالك فهي بالنسبة إليها على حدّ سواء.

نعم ان استفيد من القرائن ما يترتب على أحدها دون الآخر فهو بمقتضى الدليل الخاص فيقتصر عليه ، وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

الجهة الرابعة: في الطلب والإرادة، والأول هو المفاد بالأمر وغيره والثانية حالة في النفس لها التأثير في صدور الفعل ، وقد عبر عنها بالكيف النفساني وهي إما تكوينية أو تشريعية.

والمشهور بين الإمامية اتحاد الطلب والإرادة خلافاً للأشاعرة وبعض الإمامية الذين ذهبوا إلى اختلافهما.

والكلام تارةً يقع من ناحية المفهوم وأخرى من ناحية المصداق.

أما الأولى: فلا ريب في اختلاف الطلب والإرادة مفهوماً فإنه يفهم من لفظ الإرادة تلك الكيفية النفسانية التي يعبر عنها بالشوق المؤكد وأمّا الطلب فإنّ المفهوم منه هو السعي في تحصيل شيء.

ويدل على ذلك استعمال الإرادة فيما لا يصح استعمال الطلب فيه كقوله تعالى: ﴿يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ﴾((1))

وقوله تعالى: ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا﴾((2))

وقولك: (أردت الصلاة فصليت) وغير ذلك من الاستعمالات الصحيحة واستعمال الطلب فيما يشكل استعمال الإرادة فيه، كقولك: (طلبت حقي من زيد فأنكره).

أمّا الثانية: فهما وإن كانا تتصادقان في الجملة ولا يمكن إنكار ذلك إلا أنّ الأشاعرة ذهبوا إلى التغاير بينهما في المصداق وهو وإن كان بحثاً كلامياً لكن أدرجوه في الأصول لمناسبة ما.

وقد ذهبت الأشاعرة إلى التغاير في المصداق أيضاً، واستدلوا عليه بأمور.

الأول: انّ الإرادة التشريعية لا تتعلق بشيء غير مقدور وأن الأفعال مخلوقة لله سبحانه وتعالى وخارجة عن قدرة العبد مع أن الطلب قد تعلق بها شرعاً، فلابد أن يكون الطلب غير الإرادة وبهذه المناسبة وقع البحث في الجبر والتفويض والاختبار وسيأتي الكلام فيه.

الثاني: ان الطلب عبارة عما هو مدلول للكلام اللفظي الانشائي وهو من الصفات القائمة بالنفس غير الإرادة وغير الصفات المشهورة كالعلم ونحوه وسمّوا هذه الصفة بالكلام النفسي الذي هو من صفات النفس أيضاً وبهذه المناسبة بحث الأصوليون عن الكلام النفسي في المقام ومن ثم تطرقوا إلى بحث قِدَم القرآن لأنه حاكٍ عن الكلامالنفسي وهو من صفاته عزَّ وجلَّ أو حدوثه لأنه مركب من الحروف والكلمات المتصرمة.

ص: 232


1- - الكهف / 77.
2- - الكهف / 82.

الثالث: إنه في الأوامر الامتحانية لم تتعلق إرادة بالفعل وإلا يلزم أن تكون أوامر جدية لا أن تكون اختبارية امتحانية، مع أنّ الطلب موجود قطعاً، ونفي الاثنين يساوق إنكار الأمر في البين.

الرابع: ان أمر الكفار بالإسلام والإيمان والأوامر المتوجهة إلى الجميع بالنسبة إلى الفروع والأحكام الشرعية بما فيهم من الكفار والعصاة، فإن كانت الإرادة تتعلق بمتعلقاتها لزم تخلف الإرادة عن المراد فلابد أن يكون مجرد الطلب وهو موجود ، ونفي الأمر من الطلب والإرادة مساوق لإنكار الأمر وهو خلفٌ.

وقد اختلف المتأخرون من أصحابنا في ذلك فالمحقق الخراساني رحمه الله ذهب إلى الاتحاد بينهما مفهوماً وإنشاءً وخارجاً، فهما متحدان في الإنشاء فهناك طلب إنشائي وإرادة إنشائية كما أنهما متحدان في الحقيقة فالطلب الحقيقي متحد مع الإرادة الحقيقية والمقصود من الطلب الإنشائي عنده هو ايجاد مفهوم الطلب في عالم الاعتبار بمادة الأمر وصيغة افعل فليس هناك صفة قائمة بالنفس تسمى بالإرادة أو الطلب.

نعم قد يكون الداعي إلى إنشاء هذا المفهوم وايجاده في عالم الاعتبار تلك الصفة النفسانية.

وعلى هذا الرأي يجاب عن اشكال الأوامر الامتحانية بأن الموجود فيها الطلب الانشائي والإرادة الإنشائية معاً وهما متحدان لا أن تكون إرادة وطلب حقيقيين حتى يلزم المحذور فإنه لا مانع من أن ينشئ الشارع مفهوم الطلب والإرادة في عالم الإنشاء والاعتبار بمادة الأمر وصيغة افعل بداعي الامتحان((1)).

كما يجاب به عن الأوامر المتوجه إلى الكفار والعصاة من أنه لا مانع من تخلف المراد عن الإرادة التشريعية بخلاف الإرادة التكوينية التي هي مفقودة في تلك الأوامر .

وذهب المشهور والمعتزلة إلى الاتحاد واستدلوا عليه بالوجدان والتحقيق كما عليه أهله تغاير الطلب والارادة بالدقة العقلية وفي المحاورات ، كما أن العرف يرى التغاير بينهما ايضاً ، فإن احراز الطلب عندهم يكفي في اتمام الحجة وصحة المؤاخذة على ترك المطلوب من حيث إنه احراز للطلب بخلاف الارادة فإن احرازها كإحراز للملاك لا يكفي في اتمام الحجة إلا بعد قيام الدليل عليها من سيرة ونحوها ، وهذا المقدار يكفي في اثبات التغاير بينهما ، وما ذكره المحقق الخراساني من اتحادهما إنشاءً غير صحيح ، لأن مفاد الأمر ليس انشاء الطلب بل مفاده البعث والتحريك نحو المتعلق فإنه كما يحصل البعث بغير الطلب كالترغيب الى المصلحة أو الزجر عن الترك كذلك يحصل بالأمر وصيغة افعل ايضاً ، فلا موضوع لإنشاء الطلب حتى تصل النوبة الى اتحاده مع الارادة الانشائية ، ويأتي مزيد بيان في صيغة افعل . ومن أجل ذلك ذهب المحقق النائيني إلى الاختلاف والتغاير بين الإرادة والطلب مستشكلاًعلى القول بالاتحاد بأنه إن أريد منه في المفهوم ففيه إن الإرادة كيف نفساني والطلب تصدي وسعي في الخارج فلا يقال طلب الضالة إلا لمن تصدى لتحصيلها في الخارج وسعى له فلا يطلق على مجرد الاشتياق وانّ الطلب في التشريعات عبارة عن البعث وايجاده بالصيغة، وفي التكوينيات عبارة عن تحريك النفس للعضلات.

ص: 233


1- - كفاية الاصول - ص64 - مصدر سابق.

وإن أريد منه في المصداق ففيه ان الإرادة كيف نفساني والطلب من مقولة الفعل ويستحيل صدق المقولتين على أمر واحد لتباينهما وإن أريد منه في النفس والواقع بأن لا يكون هناك إلا ثلاثة وهي التصور والتصديق بالفائدة والشوق المؤكد المعبر عنه غالباً بالإرادة ولا رابع هناك ليكون شيئاً آخر يسمى بالطلب الذي هو نفس الاختيار وتحريك النفس للعضلات.

ففيه: ان كانت الثلاثة غير اختيارية يلزم منه أن تكون حركة العضلات غير اختيارية وانقيادها للنفس فلا يجوز العقاب ، وأن يكون سبحانه مقهوراً، لأن إرادته عين ذاته وهي غير اختيارية له تعالى ولا ريب في فسادهما.

ويمكن رفع النزاع كما أشار إليه بعض الأعلام بأن يراد من الاتحاد في الجملة بأن يكون الطلب مظهراً للإرادة وكاشفاً عنها ومن يقول بالتغاير والاختلاف في الجملة أيضاً، فإنه لا ريب في تصادقهما في الجملة فيكون نسبة الطلب إلى الإرادة كنسبة اللفظ إلى المعنى والكاشف إلى المكشوف مفهوماً وحقيقة واستعمالاً لأن الطلب مبرز للإرادة والقول بالتغاير يقتضيه البرهان كما عرفت لا لأجل رفع شبهة تخلف الإرادة عن المراد.

ثم إنه قد عرفت أن الإرادة بحسب المتعلق تنقسم إلى تكوينية وتشريعية وإن كانتا بحسب الحقيقة شيئاً واحداً وهو الشوق المؤكد والكيف النفساني وذكروا في الفرق بينهما وجوهاً.

أولاً: انّ الإرادة التشريعية تتعلق بفعل الغير الصادر عنه بالاختيار لا بالقهر والإجبار فإذا صدر الفعل عنه كذلك يكون خلفاً وتخلفاً للإرادة عن المراد ومن المعلوم أن مثل هذه الإرادة ليست ملازمة لإتيان متعلقها، ولو كان المريد قادراً مطلقاً لا يخرج عن قدرته شيئاً.

وأمّا الإرادة التكوينية فتتعلق إمّا بفعل المريد أو بفعل الغير مطلقاً طوعاً وكرهاً سواء كان الفاعل من ذوي الشعور أو لا، وذلك لمصلحة في ذلك الفعل مطلقاً من دون تقييده بكونه قادراً بالاختيار وحينئذٍ إذا كانت مثل هذه الإرادة صادرة عن القادر المطلق الذي إذا أراد شيئاً يقول له كن فيكون فلا محالة يقع ذلك الفعل كما في قوله تعالى للسماء والأرض: ﴿ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ﴾((1)).

وثانياً: وهو يترتب على سابقه. ان الإرادة التكوينية لا يمكن تخلّف المراد عنها بخلاف الإرادة التشريعية التي يمكن التخلف بينهما وبذلك أجاب المحقق الخراساني عن الإشكال الرابع للأشاعرة:

وثالثاً: ما ذكره بعض المحققين من أنّ الإرادة التشريعية لا تتعلق بفعل القادر المختار إلا إذا كان ذلك الفعل الذي يصدر منه ذا فائدة عائدة إلى المريد، ولما لم تكن من فعل العبد فائدة عائدة إلى الله تعالى فلا يمكن تعلق إرادته سبحانه بفعل العبد، بل تتعلق بإيصال النفع إلى العبد ببعثه وتحريكه نحو الفعل وايصال النفع كذلك من فعله سبحانه لا من فعل العبد أو زجره عن السيئات.

ص: 234


1- - فصّلت / 11.

وفيه إنّ إيصال النفع أيضاً ليس فيه فائدة تعود إليه عزَّ وجلَّ لأنه سبحانه لا نقص فيه حتى يستكمل بمثل هذه الفوائد وعليه فلا تتعلق إرادته المقدسة مطلقاً بفعل من الأفعال سواء كان لنفسه أو لغيره لعدم الحاجة والنقص فيه عزَّ وجلَّ((1)).

والصحيح أن الإرادة مطلقاً سواء من الله عزَّ وجلَّ أو من الخلق تابعة لما يرى المريد من المصلحة في متعلقها إذا كان عاقلاً حكيماً بلا فرق بين أن تكون المصلحة نوعية راجعة إلى النوع والنظام أو المجتمع أو شخصية ترجع إلى شخص المريد أو شخص المراد منه الفعل بسبب لطف المريد بالنسبة إليه، ولأجل ذلك لابد أن يكون جميع ما له دخل في المصلحة تحت الإرادة كما يخرج عنها كل ما لم يكن له دخل فيها.

فإذا علم الله عزَّ وجلَّ بعلمه الأزلي أنّ في الفعل المعين مصلحة راجعة إلى نفس الفاعل أو إلى النوع وكان صدوره بإرادته واختياره لا أن يكون صادراً عنه بالقهر والإجبار، فإذا تحقق مثل ذلك لا محالة تتعلق إرادته عزَّ وجلَّ بذلك الفعل بما عليه من الشروط من دون تفاوت بين متعلق الإرادة وبين ما قامت به المصلحة ولا شك أن مثل هذه الإرادة يمكن تخلّفها عن فعل الغير الذي تعلقت به إذا اختار الترك والعصيان وإلا يكون مجبوراً وهو خلف.

نعم ربما يتوهم من أنّ الإرادة الأزلية إذا تعلقت بفعل العبد بهذه الشروط من كونه فاعلاً بالاختيار لا بالإجبار فإنه يجب صدور ذلك الفعل غاية الأمر بالاختيار غير أنه مجبور بالواسطة.

ويمكن الجواب عنه بأنه إن أريد من ذلك أن الفعل يصير بواسطة تعلق الإرادة الأزلية ضروري الوجود يخرج عن اختيار العبد ويصبح فاعلاً بالاضطرار فهو خلف لأن المفروض قيام المصلحة بالفعل الاختياري لا الاضطراري والإرادة تابعة لهذه المصلحة سعة وضيقاً.

وإن أريد أنه مع بقاء الاختيار في الفاعل وعدم انقلابه إلى فاعل بالاضطرار ومع ذلك يكون الفعل ضروري الوجود من ناحية تلك الإرادة الأزلية فهو كلام غير وجيه.

إذا عرفت ذلك يقع الكلام في المسائل الثلاثة وهي مسألة الجبر والاختيار ومسألة تخلّف المراد عن الإرادة ومسألة الكلام النفسي وجميعها خارجة عن بحث الأصول لكن ذكروها فيه استطراداً وتبعاً للمحقق الخراساني رحمه الله .

أما مسألة الجبر والاختيار فتفصيل القول فيها تارة يقع عن الفاعل في أفعال الإنسان وحينئذٍ تكون المسألة كلامية وأخرى يقع عن الفعل مطلقاً أياً كان فاعله هل يصدر منفاعله بالاختيار أو بالإجبار، والمسألة حينئذٍ فلسفية. وإن كان الأصوليون وغيرهم أدرجوهما في مسألة واحدة.

أمّا البحث في الجانب الأول فإن عمدة الاحتمالات في أعمال العباد خمسة يستلزم من بعضها الجبر ومن بعضها الآخر التفويض ومن بعضها الأمر بين الأمرين كما ستعرف وتفصيل الكلام فيها حسب ما يقتضيه المقام.

ص: 235


1- - بحوث في علم الاصول - ج2 / ص39 - مصدر سابق.

الأول: أن يكون الفاعل هو الله تعالى والإنسان محل قابل لذلك الفعل فلا إرادة ولا اختيار للعبد كسائر المواد تحت يد الصنّاع فإن الحديد - مثلاً - ليس فاعلاً للفعل وإنما هو قابل له والفاعل إنما هو الحداد، وعلى هذا الرأي ليس لمبادئ إرادة الإنسان دخل في تحقق الفعل فتكون نسبته إلى الإنسان إنما هو بالمجاز لاقترانه به بخلاف نسبته إلى الله تعالى فهو على نحو الحقيقة، وهذا هو مذهب الأشاعرة، فقد قالوا أنّ العبد بالنسبة إليه عزَّ وجلَّ كالقلم في يد الكاتب، والسيف في يد القاتل، واستدلوا عليه بظواهر بعض الآيات كقوله تعالى: ﴿وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ﴾((1)) وقوله تعالى: ﴿وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى﴾((2)) وغير ذلك من الآيات الكثيرة.

واعتبروا هذا من شؤون التوحيد الخالص وهو يتحقق في نفي الإرادة والاختيار عما سوى الله تعالى ومن هنا فلا يختص بالأفعال الاختيارية بل يجري في عالم الكون والفساد المبتني على الأسباب والمسببات كالإحراق فإنه من صنع الله عزَّ وجلَّ ولو اقترن في هذا العالم بالنار.

ولكن من أوضح ما يرد به على هذا الرأي أنه مخالف للوجدان في أفعال الإنسان إذ هناك فرق بين حركة المرتعش وحركة غير المرتعش وفي غيرها مما يجري في عالم الأسباب والمسببات وأمّا الآيات التي استدلّ بها فهي معارضة بآيات أخرى أقوى في الدلالة تدل على نسبة الفعل إلى العبد، قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾((3))

وغيره.

وأجيب عن تلك الآيات بأن نسبة خلق عمل العبد إليه سبحانه وتعالى إنما هو بالتسبيب مع اقتران الإنسان بفعله، وكونه مسؤولاً عنه، كما أنّ نفي الرمي عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم إنما هو بالنسبة إلى الأثر الخارق للعادة لا بالنسبة إلى الفعل المباشري الصادر منه صلی الله علیه و آله و سلم .

الثاني: أن يكون الفاعل هو الإنسان، ولا نصيب لخالقه في الفاعلية، وهو مذهب التفويض المنسوب إلى المعتزلة حيث قالوا بأنّ الأفعال منسوبة إلى العباد على نحو الحقيقة وإلى الله تعالى بالمجاز، فلا تكون أفعال العباد مورد إرادته سبحانه وتعالى أصلاً وهم إنما ذهبوا إلى هذا الرأي إمّا لأنّ نسبة أفعال العباد إذا كانت من القبائح والسيئات غير صحيحة ولا يمكن أن تكون مورد إرادته عزَّ وجلَّ أو لأن نسبتها إليه تعالى يستلزم الجبر وهو منفي عندهم.

بل يمكن إرجاع هذا القول إلى البحث المعروف من أن المعلول بعد احتياجه الى العلة في الحدوث فهل هو يحتاج إليها في البقاء؟ والقول بعدم الاحتياج يستلزم التفويض وحيث ثبت بطلان هذا المبنى كما حقق في موضعه، فالمعلول محتاج في وجوده البقائي ومنه أفعال العباد وغيرها من سلسلة المعلولات في عالم الأسباب والمسببات إلى الله تعالى يثبت بطلان التفويض. وأمّا ما ذكروه من الأدلة فهي باطلة عقلاً ونقلاً والأول ما سيأتي

ص: 236


1- - الصافات / 96.
2- - الأنفال / 17.
3- - الزلزلة / 7 - 8.

بيانه في الأمر بين الأمرين وأمّا الثاني فلقوله تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾((1))

وقوله تعالى: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾((2)) وما ورد عن المعصومين علیهم السلام من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله وغير ذلك من الأدلة المأثورة والجميع ظاهر ظهوراً عرفياً في صحة إضافة أعمال العباد إلى الله تعالى إمّا بنحو القضاء والرضا معاً كما في الحسنات أو على نحو القضاء فقط كما في السيئات، ولا ريب أن قضاؤه ليس من العلة التامة المنحصرة في شيء أبداً.

الثالث: أن يكون لكل من الله تعالى والإنسان نصيب في الفاعلية بمعنى كونهما فاعلين طوليين فالإنسان هو الفاعل المباشر للفعل بما أعطى له الله تعالى من الإرادة وأسباب القوة والله تعالى غير المباشر لأنه سبحانه هو الخالق للإنسان ولتلك القوى فيكون فاعل الفاعل وهذا هو أحد الوجوه التي فُسِّرَت بها نظرية الأمر بين الأمرين.

الرابع: أن يكون الفاعل المباشر هو الله تعالى لكن إرادة العبد مقدمة إعدادية لقابلية المحل لإفاضة الفعل فيكون من اجتماع فاعليين عرضيين وهو أيضاً أحد الوجوه في تفسير الأمر بين الأمرين، كما سيأتي بيانه.

الخامس: اجتماع فاعلين وهما الله والعبد على الفعلين لا الطوليين كما في الثالث ولا عرضيين كما في الرابع، بل على نحو وحدة الفاعلية فإنّ الحقيقة تقتضي أن تكون نسبة العبد إلى الله تعالى هي نسبة الربط والفناء والمعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي، فإذا لحظنا إلى الفناء والاندكاك كان الفاعل هو الله تعالى وإن لاحظنا العبد بغير نظر الفناء والاندكاك كان هو الفاعل.

وهذه الاحتمالات الخمسة عرفت بطلان الأول والثاني منها بالوجدان والبرهان والخامس مبني على نظرية عرفانية صوفية اختلفوا في حقيقتها أصحابها فيكون الأمر دائراً بين الثالث والرابع اللذين هما من وجوه تفسير نظرية الأمر بين الأمرين التي أسسها الأئمة الهداة علیهم السلام وسيأتي في البحث الآتي ما يبين وجه صحتهما.

البحث الثاني في جبرية الأفعال ونفي الاختيار للإنسان فإنّ مجرد نسبة الفعل إلى الإنسان مطلقاً لا تثبت الجبر إلا إذا كان على وجه لا ينفي الجبر ، كما هو كذلك على مسلك الاشعري فإنه يثبت الجبر لا محالة ، وكيف كان فإن شبهة الجبر قديمة في الإنسان وقد وقعت مورداً للبحث في جميع الأديان السماوية منها والوضعية بل أن كثيراً من المذاهب الفلسفية المعاصرة وغيرها تدخل الجبرية والحتمية فيها بوجه منالوجوه وإن كانت بصورةٍ خفية ولابد من بيان المسالك فيهما ثم تحرير الجواب عن أصل الشبهة فيقع الكلام من جهتين:

الجهة الأولى في بيان المذاهب المعروفة في الجبر وهي:

الأول: ما نسب إلى الأشعري من أن أفعال الإنسان صادرة من الله تعالى وليس للإنسان دخل فيها أصلاً، وعرفت أنه يكفي في بطلانه إنه ينافي الوجدان وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

ص: 237


1- - النساء / 78.
2- - الفاتحة / 5.

الثاني: ما ذهب إليه جمع من القول بوحدة الوجود بل الوحدة المطلقة، فلا اثنينية في البين بين الخالق ومخلوقه فلا إرادة غير إرادة الله تعالى، لأن ثبوتها للعبد مثلاً يتوقف على تعدد الوجود، والمفروض وحدته فلا اثنينية بين الخالق ومخلوقاته.

وفيه: إنه قد ثبت بطلان وحدة الوجود فضلاً عن الوحدة المطلقة، كما أنّ الاعتقاد بهذا الرأي يستلزم الكفر كما ثبت في الفقه، ويأتي مزيد بيان.

الثالث: ما ذكره بعض الفلاسفة من أن علم الله تعالى علة تامة لحصول معلوماته وفعل العبد معلوم له تعالى فلابد أن يقع، ولا أثر لإرادة العبد واختياره في فعله أصلاً وقد أشار عمر الخيام في بعض أشعاره إلى أن هذا القول من ان شربي الخمر كان الله يعلمه من الأزل فلو لم أشربها ينقلب علمه عزَّ وجلَّ إلى الجهل.

وفيه: ان الوجدان على خلاف ذلك فإنه لم يكن العلم علة تامة لحصول المعلوم، بل الأدلة العقلية والنقلية تدل على بطلانه ، وفي جملة الأخبار الواردة في باب أسباب الفعل التي هي المشيئة والإرادة والقدر والقضاء والإمضاء تدل على أنها من المقتضيات وليست من العلة التامة في شيء.

وهذه الأسباب تارة التفاتية تفصيلية وأخرى على نحو الإجمال والارتكاز وهذا هو الغالب، والفرق بين المشيئة والإرادة بالكلية والجزيئية كما هو مفصل في محله.

والحاصل أن الله عزَّ وجلَّ يعلم أن العباد يفعلون أعمالهم لكن بإرادتهم واختيارهم بحيث لهم أن يفعلوا أو يتركوا، فقد تعلق علمه تعالى بأفعالهم من حيث أنها مختارة لا أن يتعلق بأحد طرفي الاختيار فقط.

الرابع: الحتمية في الحوادث الكونية وهذه وإن اختلفت تفسيراتهم فيها حتى بلغ الأمر بهم أن قالوا أنه ليس من اليسير أن نقرر دعوى الحتمية على وجه الدقة وإن قرروا في بيانها أنّ لكل حادثة سبب وأن الطبيعة مطردة أو رتبوا عليه أنه إذا كانت لدينا معرفة بحالة الكون في وقت معين ففي إمكاننا من حيث المبدأ أن نتنبأ بكل ما يتلو ذلك الوقت من تأريخ الكون، ومن هذا المنطلق يرى بعضهم بأن الإرادة ليست حرة وإننا خاضعون للحتمية في طرائق سلوكنا وبطلان هذا القول واضح بعد التجارب الحديثة والبراهين العقلية والشرعية ، كما إنه مخالف للوجدان ولعله لأجل ذلك وغيره عدل بعضهم ممن يسلّم بالحتمية إلى حرية الإرادة.

هذه هي أهم المسالك في الجبرية، ونفي حرية الإرادة عند الإنسان وإن كانت هناك مذاهب أخرى وهي إما محدودة في بعض الأمور أو لا أثر لها لعدم شهرتها ولكن يمكن الجواب عن أصل الشبهة بوجه عام كما سنبيّنه إن شاء الله تعالى.الجهة الثانية: بيان المسالك في الجواب عنها وقبل ذكرها لابد من ذكر مقدمة وهي أنّ منشأ هذه الشبهات يرجع إلى أن جميع الممكنات بما فيها الفعل الصادر من الإنسان مسبوقة بالضرورة فإنها تحتاج إلى وجودها إلى علة لأن الممكن - كما هو المعروف- ما لم يجب بالغير لم يوجد فلابد أن يكون وجودها بالضرورة فيكون صدور الفعل من الإنسان بالضرورة لأنه ممكن من الممكنات ولا ريب أن الضرورة تنافي الاختيار لأنها تساوق الاضطرار المقابل للاختيار كالحركة القسرية التي هي ضرورية المقابلة للحركة الاختيارية ولأجل ذلك اختلف العلماء في رد الشبهة وتعددت المسالك في إبطالها وهي:

ص: 238

الأول: وهو المشهور بين الفلاسفة حيث قالوا بأنّ فعل الإنسان وإن كان مسبوقاً بالضرورة إلا أنّ الضرورة لا تنافي الاختيار لأنه بمعنى إن شاء فعل وإن شاء ترك وهي قضية شرطية والمعروف أنّ القضية الشرطية لا تتكفل حال شرطها من حيث ضرورة وجودها أو ضرورة عدمها، فإن صدقت تلك القضية الشرطية فقد صدق الاختيار وحينئذٍ لو كان الشرط هو نفس الإرادة ضرورياً فيكون الجزاء ضرورياً بالغير، وإن كان الشرط ممتنعاً يكون الجزاء ممتنعاً بالغير بلا فرق بين وجوب الشرط وامتناعه بالغير كما في الإنسان أو يكون بالذات كما في الباري عزَّ وجلَّ لأنّ صفاته واجبة بالذات لأنها عين ذاته، وضرورة الفعل الناشئة من الإرادة لا تنافي الاختيار بل تؤكده لأن الاختيارية تكون بصدق القضية الشرطية فإن أراد الفاعل تحقق الفعل وأصبح ضرورية عند الإرادة وهذا هو تأكيد للملازمة، بل يدل على صدق القضية الشرطية وبدون هذه الضرورة تكذب القضية الشرطية.

والحاصل إن الاختيار يصدق إذا صدقت هذه القضية الشرطية كما في حركة يد السليم، وغير صادق إذا لم تصدق القضية الشرطية كما في حركة يد المرتعش وهذا لا ينافي ضرورة الفعل بالإرادة ولا ضرورة الإرادة نفسها وهو الذي أشار إليه المحقق الخراساني من أنّ الفعل الاختياري ما يكون صادراً عن الإرادة بمبادئها لا ما يكون صادراً عن إرادة صادرة عن الاختيار.

وأورد عليه بعض الأعلام بأنّ تفسير الإرادة بذلك إمّا أن يكون مجرد اصطلاح فلسفي فلا مشاحةَ معهم من أجل جعل الغطاء على تلك المسألة.

وأمّا لكونه معنىً لغوياً فلابد من الرجوع إلى اللغة لتعيين وضع الكلمة ودلالتها عليه ولا كلام حينئذٍ معهم أيضاً وأمّا لكونه يرجع إلى مسألة التكليف والحساب والجزاء من الثواب والعقاب، وتوضيح الفرق بين الحركة القسرية والحركة الإرادية حيث أنّ هناك حساب وجزاء على الثانية دون الأولى.

فقال إنه بناءً على الاحتمال الأخير بعد الاعراض عن الأولين تارة يقع الكلام بناءً على التسليم بالحسن والقبح العقليين كما هو الحق، وأخرى نتكلم بناء على إنكارها كما هو مذهب الأشاعرة صريحاً وغيرهم على نحو الإشارة كما عليه بعض الفلاسفة.

أمّا بناءً على الأول فلا مخلص لهم عن الشبهة بتلك الكلمات، فلأن ما يصدر بالضرورة ينتهي بالضرورة الى عللها وهكذا حتى ينتهي إلى الواجب بالذات، فتكون حركة اليد كحركة الأمعاء الناشئة بالضرورة من عامل الخوف الناشئ بالضرورة منعوامل مؤثرة في النفس التي تنشأ من عللها وهكذا حتى ينتهي إلى الواجب بالذات فكما يقبح المحاسبة على الثانية يقبح على الأولى وإن سمّي اختيارياً.

وأمّا بناءً على إنكار الحسن والقبح العقليين فالأمر واضح إذ لا مشكلة من ناحية قبح المحاسبة والعقاب حتى نحتاج إلى حلّها.

نعم تبقى مشكلة التكليف والخطاب فإنه بناءً على عدم الاختيار يستلزم لغويته، وقال في الجواب عنها بما ذكروه فإنّ الحركة الناشئة من الإرادة وإن كانت ضرورية كحركة الأمعاء لكنها سنخ فعل يمكن تدخّل التشريع فيه على خلاف سائر الأمور الضرورية التي تفتقد فيها الإرادة، فيصح التكليف والتخويف بالعقاب.

ص: 239

ويرد عليه:

أولاً: إنّ كون الاختيار بمعنى إن شاء فعل و إن شاء ترك مما لا يمكن إنكاره لأنه وجداني لكل فاعل بالاختيار فلا حاجة إلى بيان كونه من مجرد الاصطلاح أو بحسب اللغة ترتبت عليه مسألة التكليف أو لم تترتب.

وثانياً: نّ جعل الميزة بين الضرورتين في الحركتين الاختيارية والقسرية بأنّ في الأولى سنخ فعل حاصل من إرادة يصح لأجلها تعلق التشريع بها بالتكليف والتخويف بالعقاب وهذه الميزة تكفي عند العقل في تعلق الحسن والقبح العقليين بها مع أنّ قاعدة الملازمة التي تدل على أن كل ما حكم به الشرع حكم به العقل تقضي بصحتها.

المسلك الثاني: ما ذهب إليه بعض الفلاسفة المتأخرين وهو يرجع إلى إنكار قوانين العلية في الممكنات بأن يخرج الممكن من عالم الإمكان إلى عالم الوجود بلا حاجة إلى توسيط الضرورة واعتبروا أن هذا يساوق الاختيار والحرية إذ يبقى الفعل ممكناً حتى حين صدوره.

وأشكل عليه بأنّ جعل الإمكان ونفي الضرورة، ونفي مبادئ العلية مساوقاً للاختيار غير صحيح لأنّ مجرد كون الفعل ليس ضرورياً لا يكفي في كونه اختيارياً للفاعل، كما أنّ إنكار مبادئ العلية معناه الاعتراف بالصدفة وهي غير الاختيار بلا إشكال.

وفيه: إنّ الأمر بالنسبة إلى أفعال الإنسان وحرية إرادته يدور بين أن تكون أفعاله مسبوقة بالضرورة فتكون ضرورية بلا دخل للإرادة فيها كما عرفت، وبني نفي الضرورة والقول بأنّ الفعل الممكن هو ما يخرج من الإمكان إلى عالم الوجود بإرادة من الفاعل فيصير اختيارياً له، وتتصف إرادته بالحرية وإنكار مبادئ العلية لأجل نفي الضرورة لا لإثبات الصدفة التي هي الحادث من دون سبب معلوم ولا أظن أن القائل بذلك يريده فإنه لا ينطبق على إخراج شيء من عالم الإمكان إلى عالم الوجود مع الاعتراف بوجود سبب لهذا الانقلاب اللهم إلا أن ينكر قانون السببية بالكلية كما هو رأي بعض الفلاسفة فيكون لنا معه كلام آخر وسيأتي مزيد بيان.

المسلك الثالث: وهو ما ذهب إليه المحقق النائيني رحمه الله من أنّ قوانين العلية لا تشمل الأفعال الاختيارية للإنسان لأنه حينما يلتفت إلى عمل وتحققت عنده أسباب الفعل وانقدحت في نفسه الإرادة الجدية التامة فإنه لا يحصل وجوب ولا يتصف الفعل بالضرورة بحيث يخرج عن قدرة الإنسان فإنّ النفس حتى بعد الإرادة تبقى على اختيارها وإمكانها في أن تتحرك نحو الفعل أو لا تتحرك فما يصدر من النفس بعدماتتم عندها الإرادة فعل خارجي - كالصلاة - وفعل نفساني قائم في النفس وهو أسبق رتبة من الفعل الخارجي وهو تأثير النفس على الأعضاء وحملها وأعمالها للقدرة والتحرك نحو الفعل وهذا التأثير والتحرك ليس من قبيل العرض إلى محله بل هو من نسبة الفعل إلى الفاعل وهذا الفعل النفساني وسط بين الإرادة والفعل الخارجي وليس معلولاً للإرادة حتى تتبع قوانين العلية بل النفس بعد الإرادة تبقى على اختيارها فبإمكانها التحرك نحو الفعل أو لا تتحرك.

وهذان الفعلان -الخارجي والنفس- طوليان كما عرفت ولكنهما اختياريان فإن الفعل النفساني وهو توجه النفس وتأثيرها فهو أمر اختياري ولا حتمية فيها ولا يصبح وجودها ضرورياً بالإرادة، وأمّا الفعل الخارجي - كالصلاة - فهو وإن أصبح ضرورياً بعد

ص: 240

الاختيار لكن هذه الضرورة لا تنافي الاختيار لأنها نشأت من الاختيار فقد نشأ من الفعل الأول الذي هو عين اختيار النفس وأعمالها لقدرتها فالضرورة في طول الاختيار فلا تنافي الاختيار((1))

واعترض عليه بعض الأعلام بوجوه:

الأول: إنّ ما جعله فعلاً نفسياً وراء الفعل الخارجي ليس هو في الحقيقة كذلك فإن الإعمال والتحرك ونحو ذلك مما جعله من الفعل النفسي هو عين العلم والتأثير عين الأثر، وهي عناوين انتزاعية تنتزع من نفس العمل والأثر فإن الايجاد والوجود والتأثير والأثر، والإعمال والعمل مفاهيم مختلفة بالاعتبار لكنها متحدة خارجاً، فمثلاً الإحراق تارةً يلحظ منسوباً إلى الفاعل فيسمى إحراقاً وايجاداً للاحتراق، وأخرى يلحظ منسوباً إلى المحل فيسمى وجوداً واحتراقاً((2)).

وفيه: انّ هذا الإشكال حصل من تسمية أسباب الفعل بالفعل النفسي، ولكن لا ريب أنها غير الفعل الخارجي، فإنّ المشيئة والإرادة والقضاء والقدر والإمضاء التي هي أسباب الفعل إنما تكون في النفس وبعد تحققها وانسجامها توعز للنفس بالتحرك وإعمال القدرة في إيجاد الفعل خارجاً وهي غير المفاهيم الانتزاعية التي ذكرها لأنها تنتزع بعد تحقق الفعل خارجاً والكلام في أسباب الفعل التي موطنها النفس.

الثاني: إنّ فرض وجود عمل نفساني وسطاً بين الإرادة والفعل لا دخل له في حلّ الشبهة، فإنه بالإمكان الالتزام في الفعل الخارجي بما التزم به المحقق النائيني رحمه الله في الفعل النفسي من خروجه عن قانون ان الشيء ما لم يجب لم يوجد، فإن كان هذا التخصيص لذلك القانون كافياً لرفع الشبهة فيمكن أن يطبّق ابتداءً على الفعل الخارجي وإن لم يكن كافياً لذلك فلا فائدة في افتراض فعل آخر يتوسط بين الإرادة والفعل لدفع الشبهة.

وفيه: إنّ الكلام في الفعل الصادر عن الإنسان بإرادته واختيار منه ولا ريب أن الفعل له أسباب نفسية تسمى بالمبادئ أو يعبّر عنها بأسباب الفعل وبدونها لا يمكن أن يتحقق فعل من الإنسان فإن نفي القانون المزبور في الفعل النفسي كما يدّعيه المحقق النائيني لأجل نفي ضرورية الفعل الإنساني وتحقيق اختياريته، فإذا طبقنا ذلك على الفعلالخارجي فلابد أن يكون بهذا المناط وإلا فمع قطع النظر عن الإرادة فهو موجود من الموجودات يحتاج إلى علّة فيدخل في القانون المزبور كما سنبيّنه في كلامه الآتي.

الثالث: إنّ الفعل الخارجي الصادر من الإنسان حاله حال الموجودات في عالم الطبيعة فلابد أن ينطبق عليه القانون المعروف الشيء ما لم يجب لم يوجد، وأمّا الفعل النفساني فقد افترض المحقق النائيني رحمه الله أنه خارج عن القانون المزبور وعلى كل حال سواء قلنا بأن الفعل الخارجي -كما هو رأي المشهور عند الفلاسفة- خارج عن القانون أو أن الفعل النفساني كما هو رأي المحقق النائيني.

ننقل الكلام إلى هذا القانون الذي هو قانون عقلي لا أن يكون قانوناً تعبدياً حتى يقبل التخصيص فلابد من التعميم وحينئذٍ يأتي السؤال ما هو المصحح لوجود الفعل بعد فرض عدم وجوبه الذاتي والفروض العقلية المحتملة هي:

ص: 241


1- - أجود التقريرات - ج1 / ص90 - مصدر سابق.
2- - بحوث في علم الاصول - ج2 / ص35 - مصدر سابق.

1- أن يكون المصحح لوجوده هو الوجوب بالغير والضرورة المكتسبة من العلّة وهذا خلف الخروج من قاعدة أن الشيء ما لم يجب لم يوجد.

2- أن يكون المصحح له مجرد الإمكان الذاتي بمعنى أن مجرد إمكان صدوره عن الفاعل يكفي في صدوره ، وهذا أيضاً غير صحيح لأن الإمكان الذاتي مرجحٌ لجانب الوجود كما هو واضح بالوجدان بعدما كان معنى الإمكان هو التساوي بين الوجود والعدم في الشيء الممكن ، مع أنه بناءً على ذلك لا فرق بين الإمكان في الفعل والإمكان في غيره من سائر الموجودات فإنه لم يقل أحد بكفايته في سائر المجالات للوجود.

3- إنّ الفعل الخارجي الصادر عن هجوم النفس كما عبَّر به المحقق النائيني وهذا الهجوم صادر عن هجوم آخر وهكذا. وهذا أيضاً باطل للزوم التسلسل.

ويرد عليه: إنّ هذه الفروض إنما تصح في الفعل بما هو موجود خارجي وأمّا إذا لوحظ الفعل من حيث أنه يرتبط بإرادة الفاعل واختيار منه وأن الفعل النفسي هو الوسيط بينه وبين الإرادة، وهذا الفعل النفسي لا يخرج عن أصل الاختيار وما يصدر منه أيضاً لا يخرج عن الاختيار وإن كان ضروري الوجود.

فالحق أن يقال: إنّ ما ذكره المحقق النائيني رحمه الله وإن كان لا بأس به في رفع اليد عن قانون العلية وقاعدة أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد في الأفعال الاختيارية وتثبت به حرية الإرادة في الإنسان إلا أنه لا يخلو من غموض من جهات:

الأولى: إنّ فرض وجود فعل نفساني غير أسباب الفعل يحتاج إلى دليل فإن المتحصل من الأدلة أنه ليس في صقع النفس سوى تلك الأسباب التي شرحتها جملة من الأخبار كما تقدمت الإشارة إليها فلا يوجد فيها ما يسمى بالفعل النفساني الذي يتوسط بين الإرادة والفعل إلا أن يسمى بعض الأسباب بالفعل النفسي وهذا اصطلاح منه.

الثانية: إنّ هذا الفعل النفساني إن رجع إلى الصفة النفسية التي يعبر عنها بالكلام النفسي المدلول للكلام اللفظي وفيه إن الاختيار ليس كلاماً نفسياً لأنه لا دلالة للفظ عليه أبداً بل هو مربوط بالفعل الخارجي لا بالكلام.

الثالثة: إنّ ما ذكره رحمه الله إن صح في فعل الإنسان الخارجي لكنه يحتاج إلى تأمل شديد في الانشائيات فإن الاختيار فيها يتعلق بفعل الغير لأن الفعل في التكليف والأمر إنمافعل المأمور به وبه يتعلق اختياره ولم يكن فعل الآمر كي يتعلق به اختياره فلا يتصور حصول صفة الاختيار في مورد التكليف.

اللهم إلا أن يقال بأنّ الكلام في مطلق الفعل الاختياري الشامل لفعل الآمر وهو توجيه التكليف وفعل المأمور باعتبار امتثال الأمر والتكليف.

المسلك الرابع: ما ذهب إليه بعض الأعلام وهو نفي مفهوم الوجوب ونفي مفهوم الإمكان في أفعال الإنسان وإثبات مفهوم السلطنة وبه يبطل البرهان على الجبر الذي كان منشأهُ مفهوم الوجوب.

وخلاصة ما ذكره أن قاعدة إن الشيء ما لم يجب لم يوجد من القواعد الفطرية التي يدركها العقل وليست قاعدة عقلية حتى لا تقبل التخصيص والتقييد كما هو شأن القواعد العقلية وإن كان الفلاسفة يستدلّون عليها بالبرهان العقلي باعتبار أن الحادثة بدونها لو وجدت تكون بلا علة ولا ترجيح، وأنه يلزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر بغير

ص: 242

مرجح وهو محال ولكن ذلك من مجرد الاصطلاح وتشويش الألفاظ وهذه القاعدة الفطرية الوجدانية تحكم بأنّ مجرد الإمكان الذاتي لا يكفي في الوجود والتحقق إلا بأحد وجهين إذا وجد أحدهما يحكم العقل بكفايته.

أحدهما: الوجوب بالغير الذي يكفي للخروج عن تساوي الطرفين ويصحح الوجود:

الثاني: السلطنة فإنه إذا وجدت ذات في العالم تملك السلطنة، والعقل بفطرته السليمة يحكم بكفاية هذه السلطنة للوجود، وهذه السلطنة تشترك مع الإمكان والوجوب من جهة وتخالفهما من جهة أخرى.

أمّا في الإمكان فهي تشترك معه في أن نسبتها إلى الوجود والعدم متساوية لكن تختلف عن الإمكان في أنه لا يكفي لتحقق أحد الطرفين بل يحتاج تحققه إلى مؤونة زائدة وأمّا السلطنة فيستحيل فرض الحاجة معها إلى ضمّ شيء آخر إليها لأجل تحقق أحد الطرفين إذ بذلك تخرج السلطنة عن كونها سلطنة وهو خلف ولكن في الإمكان لا يلزم من الحاجة إلى ضم ضميمة خلف مفهوم الإمكان، إذن فالسلطنة لو وجدت فلابد من الالتزام بكفايتها.

أمّا في الوجوب فإنها تشترك معه في الكفاية لوجوب شيء بلا حاجة إلى ضم ضميمة، وتمتاز عنه بأنّ صدور الفعل من الوجوب ضروري، ولكن صدوره عن السلطنة ليس كذلك إذ لو كان ضرورياً لكان خلاف السلطنة فإن هناك فرق بين (له أن يفعل) وبين (عليه أن يفعل) والأول مصداقه السلطنة، ومنها ينتزع العقل -لأجل هذه النكات- مفهوم الاختيار لا من الوجوب وغيره فلو كانت هناك سلطنة فإنها مساوقة للاختيار وهي تكفي في صدور الفعل.

ويمكن إقامة البرهان على إثباتها في الإنسان بالشرع أو بالوجدان بأننا ندرك مباشرة هذه السلطنة فينا بالوجدان فإنه عند ما يتم الشوق الأكيد في أنفسنا نحو عمل فإنه لا نقدم عليه قهراً ولم يدفعنا إليه أحد بل نقدم عليه بالسلطنة ويمكن دعوى العلم الحضوري عليه كما هو متحقق في حالة الجوع والعطش أو حالة الحب والبغض كما أن الجائع الذي يقدم أحد الرغيفين، والهارب أحد الطريقين إنما هو بناء على قاعدة السلطنة فإنه يرجح أحدهما وإن كان في بدو النظر بغير مرجح ولكن الحكماءيفرضونه أمّا بوجوده في علم المولى أو عند الملائكة المدبرات للأمور فإن حكم أحد بعدم المرجح دائماً وجداناً فهو قد تمسك بالوجدان أيضاً((1)).

ولكن هذا القول أيضاً يجري عليه ما ذكرناه في المسالك السابقة أمّا:

أولاً: فلأن السلطنة المدعاة من الممكنات لابد لها من علة فتحتاج إلى علة أخرى حتى تنتهي إلى الواجب بالذات ومجرد عدم حاجتها إلى ميزة في تحقق أحد طرفي الممكن لا ينفي ذلك فإنه إن كان صحيحاً في الفعل الخارجي لكنه غير تام في نفس السلطنة الثابتة في النفس فهي من الممكنات يجري فيها ما ذكروه في نفس الإرادة.

وثانياً: إن السلطنة إن كانت من أسباب الفعل التي هي ثابتة في النفس وجداناً فإنها لا تحل الإشكال ، وإن كانت غيرها فهو خلاف الوجدان الذي لا يثبت إلا الاختيار والإرادة في النفس وليس الاختلاف إلا بالاصطلاح.

ص: 243


1- - بحوث في علم الاصول - ج2 / ص36 - مصدر سابق.

وثالثاً: إن السلطنة المزعومة لا تختلف عن الفعل النفساني الذي أثبته المحقق النائيني إلا في اللفظ والتعبير ويجري عليها ما ذكرناه آنفاً.

والحق أن يقال أن جميع ذلك من تكثير الاصطلاحات والألفاظ إذ لابد من الإذعان بأنّ أفعال الإنسان لها من الخصوصية ما تجعلها خارجة عن ذلك القانون الجاري في الموجودات الإمكانية من أن الشيء ما لم يجب بالغير لم يوجد ، ولا ريب أن هذه الميزة أتت من ناحية خلق الإنسان الذي يختلف عن سائر المخلوقات الدراكة فقد تميز خلقه عنها من حيث كونه كائناً عاقلاً أخلاقياً مدركاً للحسن والقبح في الأشياء مسؤولاً عن أعماله ولأجل ذلك صار مدار التشريعات ومحور الكمالات والعنصر الاساس في عالم الدنيا والآخرة وعليه تدور قوانين الحساب والجزاء، فلابد أن يكون مختلفاً عن غيره في حرية إرادته وإلا كان خلاف الغرض من خلقه أو تبطل جميع القوانين التي شرّعها العقل والشرع في جميع مجالات حياته ومن يرجع إلى وجدانه يدرك ذلك بوضوح من دون لبس واشتباه ولعلّ جميع تلك المسالك التي ذكرناها وغيرها ممن يقول بالحتمية في الكون ولكنه في الإنسان يذعن بحرية إرادته، يرجع إلى ما ذكرناه ولكنهم أرادوا صياغة عباراتهم بصورة فلسفية لأنهم أدرجوا المسألة في علم الفلسفة وربطوها بالبراهين المعقدة ، ويدل على ما ذكرناه أن القرآن الحكيم بحث عن جميع خصوصيات الإنسان ولم يهمل جانباً من جوانب حياته, ولم يرد فيه ما يبحث عن هذا الموضوع بهذه الدقة التي يذكرها العلماء فقد أوكله إلى الوجدان وأوضحه بأدنى بيان وكذلك ما وصل إلينا عن الأئمة الهداة علیهم السلام وعلى هذا الأساس ذكروا نظريتهم المشهورة في أفعال الإنسان وهي الأمر بين الأمرين التي جعلت الإنسان واسطة بين خالقه العظيم وبين ما يصدر منه فصارت له منزلة بين منزلتين منزلة الصانع العظيم ومنزلة المصنوع الذي منه مستمد قانون الحساب والجزاء مشروعيته.

وإن كان العلماء قد اختلفوا في تفسير هذه النظرية ومن أهم ما ذكروه في المقام وجوهاً:الأول: ما ذكرناه سابقاً من أنّ المراد منها أن يكون كل واحد من الخالق والعبد نصيب في الفاعلية بمعنى كونهما فاعلين طوليين فالعبد هو الفاعل المباشر للفعل بما أعطى الله تعالى له من القدرة وأسباب القوى والإرادة والله تعالى غير المباشر لأنه خالق الإنسان وما أعطاه من القوى، فيكون فاعل الفاعل وهو يرجع إلى الثالث.

الثاني: أن يكون الفاعل المباشر هو الله تعالى لكن إرادة العبد مقدمة إعدادية لقابلية المحل لإفاضة الفعل فيكون من اجتماع فاعلين عرضيين.

وأورد عليه بعض الأعلام بأنه بناءً على تفسير الاختيار بالسلطنة يبطل هذا الوجه لاستلزامه الجبر لأنّ جعل مبادئ الإرادة مجرد مقدمات إعدادية موجبة لقابلية المحل فيكون الفاعل هو الله تعالى إذا فرضنا أن الإرادة حالة نفسانية نسبتها إلى النفس نسبة العرض من المحل وحينئذٍ لم يبق اختيار للإنسان لحصول الإرادة قهراً فيكون الفعل قد أوجده الله تعالى.

وإن فرضنا أن الإرادة فعل من أفعال النفس ثم يأتي بعدها الفعل الخارجي فيكون مفاد هذا الوجه أنّ الفعل يكون من الله تعالى فإنه بناءً على هذا الوجه لا يختص الفعل دون فعل فلا يبقى اختيار للإنسان إلا إذا ثبتت السلطنة وهو مما يبطل هذا الوجه.

ص: 244

وفيه إن هذا الإشكال لا يختص بإثبات السلطنة بل يجري على قول المحقق النائيني أيضاً وعلى فرضه فإنه لا يصح الإشكال لأن هذا الوجه إنما يصح وجهاً لتفسير النظرية المزبورة إذا أثبتنا للإرادة نحواً من الاستقلالية في الإنسان ولها دخل في تحقق الفعل الخارجي وإلا لما كان شرحاً للمنزلة بين المنزلتين لا أن تكون من مجرد المقدمات الإعدادية التي تعين قابلية المحل بلا فرق بين أن نثبت السلطنة أو لا.

الثالث: أن أفعال العباد إما أن تكون من الحسنات والمباحات أو من السيئات أما في الحسنات والمباحات فإنه يتعدد جهة الانتساب إلى الله تعالى من رضائه وقضائه والأذن والترغيب وخلق الذات القادرة المختارة وتنتسب إلى العباد انتساباً يحكم بصحته العقلاء كما يصح الانتساب إليه عزَّ وجلَّ فيها انتساباً اقتضائياً لا يبلغ حدّ الإلجاء والاضطرار.

وأمّا في السيئات فإنّ الله تعالى خلق النفس الأمارة في الإنسان والشيطان فتكون نسبتها إليه عزَّ وجلَّ لكونه خالقاً لمنشئها، كما في القسمين الأولين - فإنّ خلق ذواتنا خلق لأفعالنا بالعرض. كما تنسب إليه عزَّ وجلَّ على نحو الاقتضاء مع النهي والتوعيد وإتمام الحجة على الترك من كل جهة. وكل ذلك موافق لقانون العقل والعدل.

إن قيل: إنّ نسبة السيئة إليه عزَّ وجلَّ غير صحيح فإنه تعالى منزّه عنها مطلقاً.

فإنه يقال: إنه لا وجه للانتساب إليه سبحانه على نحو الرضا والترغيب قولاً واحداً عند الجميع بل هو لغو - لكنه عزَّ وجلَّ خالق للذات المختارة القادرة على السيئة مع نهيه عنها. وإظهار سخطه وتوعيده عليها، وقد فعلها العبد بسوء اختياره، فمنشأ النسبة هو خلقه عزَّ وجلَّ للذات مع ابلاغ النهي والوعيد، وقضاؤه لها على نحوالاقتضاء لا القضاء الحتم ولا منقصة في هذا القسم من النسبة، ولعل الآية الكريمة ترشد إلى هذا الوجه ﴿قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً﴾((1)).

الرابع: ان لكل فعل أسباب خفية لا تدركها العقول وأسباب ظاهرة تدركها والأولى يصح أن تكون من الله تعالى والثانية من العبد.

الخامس: أن يكون المراد أن إرادة الصرف عن مراد العبد من الله تعالى كما هو محسوس لكل أحد فكم مريد لشيء يصرف عن إرادته، وكم غير مريد يصادفه ما يشتهيه ويرشد إليه ما ورد في بعض الأحاديث عن أمير المؤمنين علیه السلام : (عرفت الله بفسخ العزائم ونقض الهمم)((2)).

ثم تطرق السيد الوالد((3)) رحمه الله في المقام إلى الحديث المعروف من أنّ السعيد من سعد في بطن أمه((4))، وما ورد في بعض الأخبار من أن الإنسان مركب من طينة العليين وطينة السجين((5)) ومصير الأولى إلى الجنة والثانية إلى النار وبناءً على ذلك لا أثر للاختيار ولا فائدة لما ذكرناه من البحوث في تصحيح حرية الإرادة في الإنسان.

ص: 245


1- - النساء / 78.
2- - بحار الأنوار - ج5 / ص197 - ح10.
3- - تهذيب الأصول - ج1 / ص58 - مصدر سابق.
4- - بحار الأنوار - ج47 / ص115.
5- - الكافي - باب الكفر والإيمان - ج2 / ص2.

ولكن يمكن الجواب أولاً بأن تقدير السعادة والشقاوة المنسوبة إلى جعله تعالى اقتضائي لا على نحو العلة التامة الذاتية وإلا استلزم منها ما لا يرتضيه العقل والنقل، وتبطل جملة من القوانين والقواعد المجعولة، وأهمها بطلان الدعاء وعدم جدوى ما ورد في بعض الدعوات المعتبرة (اللهم إن كنت شقياً فامحني من الأشقياء واكتبني من السعداء).

وثانياً: انه يصح توجيه ذلك بأحد وجوه مقبولة لا تنافي تلك القواعد والقوانين.

منها: ما ورد في بعض الأخبار أنه يكتب في جبينه -وهو في بطن أمه- ما سيؤول إليه أمره من الشقاوة أو السعادة، ففي بعض الأخبار (السعيد من ختم الله له بالسعادة، والشقي من ختم له بالشقاوة).

ومنها: ما ورد في مرسل ابن أبي عمير: (سألت أبا الحسن موسى علیه السلام عن معنى قول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : الشقي من شقي في بطنه أمه والسعيد من سعد في بطن أمه، فقال علیه السلام : الشقي من علم الله في بطنه أمه أنه سيعمل عمل الأشقياء، والسعيد من علم الله في بطن أمه أنه سيعمل عمل السعداء)((1)).

ومنها: أن يكون المراد بالسعادة الحظوظ الدنيوية، وبالشقاوة الحرمان عنها لأسباب خفية قصرت العقول عن الإحاطة بها. وهناك وجوه أخرى مقبولة مذكورة في الكتب المعدّة لها فراجع.وأما ما ورد في الطينة فلا تدل أيضاً على العلية التامة المنحصرة، بل غايتها إثبات الاقتضاء لها في الجملة بل أن نفس الخلط يكون دليلاً على ذلك فيصبح الاقتضاء ضعيفاً.

وأمّا الحكمة في ذلك فإنها ترجع إلى مصالح شتى منها إنّ الله تعالى خلق في الإنسان مقتضى الخيرات، ومقتضى الشرور ثم خلق فيه العقل والاختيار ثم بعث الرسل وأنزل الكتب وبشّر بالثواب على الخيرات، وأنذر بالعقاب على الشرور وخلق الجنة والنار كل ذلك للدلالة على نفي الجبر والتفويض في أفعال العباد، مما دلّت عليه الأدلة العقلية والنقلية كما فُصِّل في محله وعرفت سابقاً هذا كله في أفعال العباد وأمّا غيرها من الأمور التكوينية فقد وقع النزاع أيضاً فيها ولكن مقتضى الأدلة المزبورة عدم الاختصاص بها بل يعم جميع المعلولات الحاصلة من العلل التكوينية، فإنّ نظرية الأمر بين الأمرين تشملها فإن النبات الذي ينبت ينسب إلى المقتضيات التكوينية، كما ينسب إلى إرادة الله تعالى وكذا خلق الإنسان والحيوان وجميع مواد الحياة في هذا النظام الكوني. فلا جبر ولا تفويض فيها أيضاً.

المسألة الثانية: وهي شبهة تخلف المراد عن الإرادة وقد ذكروا في بيانها أنّ الله تبارك وتعالى إمّا أن يكون قد أراد الإيمان والطاعة من العباد أو لم يردهما، فعلى الأول يلزم أن لا يتحقق كافر ولا فاسق لامتناع تخلّف مراده تعالى عن إرادته، وعلى الثاني يلزم أن يكون بعث الأنبياء وإرسال الرسل وإنزال الكتب لغواً باطلاً.

وأجيب عن ذلك بوجوه: منها ما ذكره المحقق الخراساني رحمه الله من القول بتغاير الطلب والإرادة وأنّ الإيمان والطاعة هما من مورد الطلب دون الإرادة، وتخلّف الطلب عن المطلوب ممكن دون تخلّف المراد عن الإرادة.

ص: 246


1- - بحار الأنوار - ج5 / ص157 - ج10 _ أيضاً أخرجهُ الطبراني في الأوسط - ح 2631.

وفيه ما عرفت سابقاً إنه من مجرد دعوى بل إن نفي الإرادة في مورد إيمان العباد خلاف جملة من الآيات والروايات.

ومنها: إن الإرادة إنما هي الفعل والإحداث، فهي من صفات الفعل سواء كانت في الله تعالى أم في العبد، ولا تخلّف لمراده تعالى عن إرادته لأن فعله عزَّ وجلَّ في الإيمان إنما هو الدعوة إليه والبعث على الطاعة والتحريض على الخيرات والزجر عن الشرور، وقد فعله عزَّ وجلَّ بإنزال الكتب وبعث الرسل على النحو الأتم الأكمل فلا وجه لتخلّف المراد عن الإرادة.

ومنها: إن الإرادة علّة تامة لحصول المراد إن لم يكن اختيار الغير فاصلاً بين الإرادة والمراد وإلا فلا وجه لكونها علة تامة لاستلزامه الجبر حينئذٍ مع إن الوجدان قاضٍ على اختيارية الإيمان والطاعة بل الفسق والعصيان وقد عرفت سابقاً إثبات حرية الإرادة وبطلان الجبر وتقدم التفصيل فراجع.

ثم إنّ المعروف أن الإرادة مطلقاً سواء كانت من الله تعالى أم من العبد تحصل إذا كانت هناك مصلحة أو مفسدة في متعلقها وهو الفعل بلا فرق بين أن يكون متعلقها الأفعال الجوارحية كالصلاة والصيام ونحو ذلك أو الأفعال الجوانحية كعقد القلب والإنشاء وغير ذلك وهذا واضح لا إشكال فيه.كذلك في مبادئ الأفعال الاختيارية كالحب والبغض والشوق والكراهة فإنها أيضاً لا تخرج عن هذا الضابط نظراً لحصول الاعتقاد بالمصلحة في المحبوب أو الاعتقاد بالمفسدة في المكروه وبهذا المناط تكون هذه المبادئ داخلة تحت الاختيار، وصح تعلق التكليف بها أيضاً كالأمر بحب النبي صلی الله علیه و آله و سلم وآل بيته الأطهار علیهم السلام وبغض أعدائهم، إن لم نقل بأن الحب والبغض حينئذٍ يعتبران من الأفعال الجوانحية لا من مبادئ الأفعال وإلا فالأمر أوضح.

ولكن وقع الكلام في نشوء المصلحة في نفس الإرادة والشوق المؤكد كما إذا كانت مصلحة في إرادة زيارة الإمام علیه السلام مثلاً لا في نفس الزيادة، فلو جعل المولى جزاءً معنياً على إرادتها سواء حصلت الزيارة في الخارج أم لم تحصل فينقدح في النفس الإرادة والشوق نحو الزيارة فعن جمع من العلماء إمكان نشوء الإرادة والشوق في مصلحة في نفسها وقد طبق ذلك على بعض الفروع الفقهية منها ما لو قصد إقامة عشرة أيام من أجل أن يصلي تماماً أو يصوم من دون غرض له في نفس البقاء عشرة أيام فيكون متقوماً بنفس القصد والإرادة.

واعترض عليه المحقق العراقي رحمه الله بأنه إذا كان الفعل والترك سيان في نظر الإنسان فكيف تتعلق إرادته بأحدهما من دون ترجيح وليس هو إلا من الترجيح بلا مرجح.

والكلام يقع تارةً في امكان نشوء الإرادة عن مصلحة في نفسها وأخرى في التخريج الفقهي للفرع المزبور وغيره وإن كان خارجاً عن البحث الأصولي.

أمّا الأول: فقيل إن الحب والشوق والبغض والكره من الصفات الحقيقية ذات الإضافة لا تحصل إلا على أساس ما في متعلقاتها من الملاكات من المصالح والمفاسد ويدل عليه الوجدان الذي هو المرجع في تشخيص صغرى السببية والعلية، فالحب والشوق والبغض

ص: 247

والكراهة لا تتحقق إلا إذا كان هناك سبب لها وهو تلك الملاكات من المصالح والمفاسد في المتعلقات.

وأمّا ما ذكره المحقق العراقي رحمه الله فإنه قد يجاب عنه بأن الترجيح إنما يحصل لوجود المصلحة في نفس الإرادة، ولكن يمكن ترجيح الصحة بأنّ الإرادة تارةً تلحظ على نحو المرآتية والطريقية إلى تحقق متعلقها فتكون من الصفات ذات الإضافة وأخرى تلحظ على نحو الموضوعية وأنها من الصفات النفسية التي يتعلق التكليف بها كما في الحب والبغض فتنشأ المصلحة في نفسها فلم تخرج عن الضابطة المذكورة، فيكون الإشكال قد نشأ من الخلط بين المفهوم والمصداق كما هو الشائع في النزاعات ولا دليل من عقل على استحالته كما يدّعيه البعض ولم يخالف الوجدان لاسيما بعد أن ورد في جملة من الأخبار أن من نوى الخير يؤجر على النية والإرادة فقط وإن لم يتحقق منه في الخارج، وهو يكشف عن أن الإرادة بنفسها تقع مورد الحكم والثواب ولابد أن يكون عن مصلحة، ولعلّ العلة في نفس الإرادة هي أن ينفي كل مظاهر الشر عن الإنسان حتى قصده وإن لم يتحقق منه في الخارج فلا يكون هذا البحث قليل الجدوى بعد أن وردت الأخبار المستفيضة على أن الخلود في الجنة أو في النار إنما يكون على نفس الإرادة في المؤمن أو في الكافر وتوجيه تلك الأخبار خلاف ظاهرها.ومن ذلك يظهر الوجه في التخريج الفقهي للفرع الفقهي المزبور وغيره فإن الشرط في صحة الصوم والتمام إنما هو قصد الإقامة من دون اشترط تحققها خارجاً نعم اشتراط الفقهاء فيه بعض الشروط المذكورة في الفقه وقد أطال بعض الأعلام في توجيه ذلك بناءً على استحالة أخذ المصلحة في نفس الإرادة والقصد((1))

وما ذكره تطويل لا طائل تحته مع ظهور المناقشة فيه وقد ذكر وجوهاً.

الأول: أن تكون المصلحة في المتعلق إلا أن المتعلق ليس هو الإقامة مطلقاً بل الحصة الخاصة منها وهي الإقامة القصدية التي دعت المكلف أن يقصد الإقامة، ذهب إليه المحقق العراقي.

وقد أورد عليه إنه إن أراد من الإقامة القصدية المقيد والتقييد بنحو التركيب الضمني، فهو غير صحيح فإنّ الثابت في الفقه عدم اشتراط نفس الإقامة في صحة الصوم والتمام ولو ضمناً فلو نوى الإقامة وصلى ثم عدل كان عليه التمام والصيام بلا إشكال.

الثاني: إذا كان الشرط هو نفس إرادة الإقامة لا غير يستلزم من الإشكال ما لا يمكن حلّه مثل ما إذا تعلّق غرض المسافر بصوم أقل من عشرة أيام فسوف تكون صحة صومه غير متوقفة على وقوع الإقامة منه أصلاً لأنه يعلم إنه لو عدل بعد الصوم عن الإقامة فإن صومه صحيح بلا إشكال ويحصل به غرضه فيكون تصحيح صومه أقل من عشرة أيام إنما هو من نشوء الإرادة عن مصلحة في نفسها.

وفيه: إنه لا بأس به إذا صح تحقق الإرادة لمصلحة في نفسها مع أنّ صحة صومه ربما تكون لأجل الدليل الخاص أو نما سيأتي كما هو مفصل في الفقه.

ص: 248


1- - بحوث في علم الاصول - ج2 / ص39 ومابعدها- مصدر سابق.

كما يلزم منه أنه إذا تعلّق غرضه بالصوم عشرة أيام فصاعداً وهو من الناحية الفقهية يتوقف على الجامع بين أن يصلي صلاة رباعية أو يبقى عشرة أيام حقيقة مع قصد الإقامة إلا أنّ العادة جرت أن يتحقق الفرد الأول من هذا الجامع قبل الفرد الثاني فلا يبقى أثرٌ للفرد الثاني، فقصد الإقامة لابد أن ينشأ من القصد نفسه مع صلاة رباعية لا الإقامة عشرة أيام لعدم تعلق غرض له فيها وهو محال.

وفيه: أنّ الدليل دلّ على إنه ليس قصد الإقامة في الفرض المزبور كافياً إلا إذا انضم إليه صلاة رباعية وهو كافٍ في الخروج عن المحالية المزبورة.

الثالث: أن يكون المراد من قصد الإقامة الذي هو شرط لصحة الصوم فرضاً هو البناء النفسي والالتزام بالإقامة ولو لم يكن له شوق نحوها فحينئذٍ يرتفع الإشكال السابق لأنه مسلط على نفسه وأفعالها كتسلطه على أفعال جوارحه.

ولكن يرد عليه بأنّ داعيه إلى هذا البناء إنما هو تصحيح الصوم وهو يعلم أن هذا الداعي سوف ينتفي ويزول في ظرف العمل بعد تحقق البناء منه حدوثاً فلا يتمشى منه بناء جدّي حقيقي على البقاء عشرة أيام.وفيه: إنه مصادرة مع إنه يصح أن يكون الشارع قد اكتفى بالبناء الحدوثي في تركيب الأثر ما لم يتحقق منه ما يخالفه وله نظائر في الفقه فلا نحتاج إلى البناء الاستقبالي، وهو كافٍ في تحقق القصد الجدي.

الرابع: أن يراد بقصد الإقامة العلم أو الاطمئنان بالمكث عشرة أيام، وهذا هو الذي قرره الفقهاء وبه يمكن التخلص من إشكال نشوء الإرادة عن مصلحة في نفسها وإن لم يمكن التخلص عن الإشكال على التقدير المتقدم من أن هذا العلم والبقاء عشرة أيام لا يحصل إلا إذا كان هناك بناء نفسي جدي على ذلك. ويمكن الجواب عنه من أنه مع عدم العلم أو الاطمئنان لا تحصل إرادة حتى تصل النوبة إلى نشوئها عن مصلحة في نفسها لعدم اعتبارها شرعاً، وإن حصل العلم والاطمئنان تحققت الإرادة ولو كانت عن مصلحة في نفسها وإن لم تتحقق الإقامة منه بعد ذلك.

فالحق أن يقال لا مانع عقلاً وشرعاً في نشوء الإرادة عن مصلحة في نفسها ومما ذكرنا يظهر حال بقية الفروع الفقهية التي ذكروها في المقام.

المسألة الثالثة في الكلام النفسي الذي ذهبت إليه الأشاعرة:

واستدلّوا على ذلك بأنه لا ريب في صدق المتكلم عليه تعالى كما قال عزَّ من قائل: ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً﴾((1)).

فإنه إذا كان المراد بالكلام فيه عزَّ وجلَّ نفس هذه الأصوات والحروف والهيئات التي هي حادثة قطعاً لزم منه كونه عزَّ وجلَّ محلاً للحوادث وهو منزه عنها.

فلابد أن يكون المراد به غير ذلك لكون الكلام وصف فيه عزَّ وجلَّ قديم قائم بذاته كسائر أوصافه المقدسة وهو غير العلم والإرادة وسائر الصفات والكلام اللفظي المركب من الحروف والأصوات والهيئات مخلوقة كاشفة عنه لا أن تكون عينه حتى يلزم كونه تعالى محلاً للحوادث، ويسمى هذا الوصف بالكلام النفسي كما أن في الإنسان الصفات قائمة

ص: 249


1- - النساء - 164.

بالنفس كذلك بالنسبة إليه تعالى فإنّ الصفات قائمة بالنفس كذلك بالنسبة إليه تعالى فإنّ الصفات قائمة بذاته المقدسة.

وأنكر الإمامية والمعتزلة الكلام النفسي بالمعنى المذكور وقالوا بأنه لا وجود له أصلاً وأنّ التكلم عبارة عن ايجاد الحروف والأصوات والهيئات الخاصة سواء كانت بالآلات الخاصة كما في تكلمنا أم بالإبداع كما في تكلّمهِ تعالى فإنه عبارة عن خلق تلك الأصوات والحروف والهيئات كما أن ايجاده عزَّ وجلَّ لسائر الممكنات عبارة عن خلقها، فلا ملزم للكلام النفسي لا فيه تعالى ولا في غيره.

إلا أن يكون مرادهم بالكلام النفسي تقدير الكلام والقضاء به قبل خلقه فلا بأس به إذا ما من شيء إلا وله قضاء وقدر مطلقاً سواء كان من فعله أم من فعل غيره.

أو يكون المراد به النسبة الكلامية القائمة بالطرفين فلا مشاحة في الاصطلاح. أو يكون المراد به الأحاديث النفسانية في الإنسان كما يدل عليه الوجدان فإن أرادوا بالكلام النفسي ذلك فلا إشكال فيه.فالموجود في النفس إمّا في الأخبار فإنه ليس إلا الصور العلمية التصورية أو التصديقية وتسمى تلك بالقضايا المعقولة التي هي مدلولات للقضايا اللفظية وليس شيء عدا ذلك حتى يسمى بالكلام النفسي. وإمّا في الانشائيات فهو الطلب الذي هو عين الإرادة وليس شيء وراءها حتى يكون هو الكلام النفسي.

ثم أنهم ذكروا من فروع الكلام النفسي مسألة خلق القرآن وقِدَمه، مع أنه لا وجه للقدم فيه إلا علمه تعالى الأزلي بما لا نعرف كيفية تعلقه به، وغير ذلك لا يتصور معنى للقدم فيه.

إلا أن الله تعالى عالم بما ينزله من القرآن، والقدم بهذا المعنى لا يختص بالقرآن بل يعم جميع ما سواه عزَّ وجلَّ مما يعمّه علمه سبحانه وأمّا كلماته وحروفه والكتابة فإنها من المحدثات وجداناً.

المبحث الثاني: صيغة الأمر

اشارة

والكلام فيها يقع من جهات:

ينبغي تقديم أمور: الأولى في صيغة الأمر

الأول: أن صيغة الأمر مركب من مادة وهيئة أما المادة فهي موضوعة بالوضع الشخصي لحدث معين سواء كانت متهيئة في هيئة الماضي أو المضارع أو الأمر.

ص: 250

وأمّا الهيئة فلا إشكال في أنها من المعاني الحرفية وقد تقدم في وضع الحروف أنها موضوعة للنسب والارتباطات لتحكي الهيئة عنها في عالم البيان وإظهار المراد عند المحاورة وقد تقدم الكلام في هيئة الاسم وهيئة الماضي والمضارع وبقي الكلام في هيئة الأمر ك- (افعل) و(صل) و(صم) و(اشرب) ونحوها وفي المقام يقع البحث عنها.

الثاني: أن أهل المحاورة يحكمون بأنّ في صيغة الأمر جهتان من النسبة نسبة إلى الآمر ونسبة أخرى إلى المأمور والأولى نسبة الباعثية والإرسالية والثانية نسبة المبعوثية. والهيئة إما أن تكون موضوعة لكلتا النسبتين أو تكون موضوعة لخصوص نسبة المبعوثية أي مبعوثية المأمور إلى ايجاد المادة.

الثالث : قد ذكر العلماء لصيغة الأمر معان كثيرة كالطلب والتهديد والتعجيز والاستهزاء والإهانة والترجي والتمني والاستفهام ونحوها.وقد اختلفوا فيها أيضاً فقيل إنه على سبيل الاشتراك اللفظي في الجميع أو المعنوي كذلك أو اللفظي في بعضها والمعنوي في الآخر أو الحقيقة في واحد والمجاز في غيره.

والمعروف بين المحققين المتأخرين أن الاختلاف في مورد هذه المعاني إنما هو في دواعي الاستعمال لا المعنى المستعمل فيه الأمر وهو البعث نحو المطلوب والتحريك إليه وايجاد الداعي له وبعبارة أخرى النسبة الإرسالية فإن الأمر قد يكون الداعي من وراءهُ اخطار هذا المعنى والنسبة في ذهن السامع إظهار عجزه أو الاستهزاء به، أو اختباره أو الطلب منه كما عرفت.

واستدلوا على ذلك بالأصل الذي يقتضي عدم تعدد الوضع، كما يقضي عدم تعدد المستعمل فيه أيضاً وأن المتيقن إنما هو الاستعمال في البعث نحو المطلوب.

وما ذكره العلماء من معاني هيئة الأمر إنما هي من قبيل الدواعي لإيجاد هذه النسبة، فلم تستعمل الصيغة في واحد منها فضلاً عن أن يكون هو الموضوع له. إذا عرفت ذلك نقول ذهب المحقق الخراساني إلى أن صيغة الأمر موجدةٌ لمعناها في نفس الأمر ، لأنه ذهب إلى أن الصيغ الإنشائية تتكفل ايجاد المعنى بوجود إنشائي((1)).

وقد تقدم ما يتعلق بكلامه مع أن ما ذكره في المقام ليس بياناً لمعنى الصيغة، إذ لم يعلم معناها الذي يوجده إنشاءً وكلامنا في تعيين معناها إلا أن يريد من ذلك إنه بعد التعيين تكون الهيئة موجدة له.

كما صرّح به في موضع آخر من أنّ صيغة افعل تستعمل في إنشاء الطلب وإنْ اختلفت دواعي إنشائه من طلب وتهديد وتعجيز ونحوها.

وناقش بعض الأعلام ما ذكره من وضع الصيغة لإنشاء الطلب لأنّ الإنشاء غير قابل للإنشاء والإيجاد مرة أخرى، وعليه فلا تصلح الصيغة لإنشاء معناها.

فإن الطلب الإنشائي معناه هو الطلب الموجود بوجود إنشائي فلا يقبل الإنشاء ثانياً لامتناع إيجاد الموجود، فلا تصلح الصيغة لإيجاد معناها لأنه غير قابل للإيجاد ولكنه حاول توجيه عبارته بأن الموضوع له والمستعمل فيه الطلب، مع قيد الوضع بأن تستعمل في مقام الإنشاء والإيجاد فإنّ الطلب تارة يقصد الإخبار عنه وأخرى يقصد إيجاده وإنشاؤه،

ص: 251


1- - كفاية الاصول - ص69 - مصدر سابق.

فصيغة (افعل) وضعت لنفس الطلب لكن بقيد استعمالها في مقام الإنشاء بحيث لا يجوز استعمالها في الإخبار عن الطلب، فيكون مراده أنها موضوعة للطلب من أجل إنشائه بتقييد الوضع بذلك ولكن لا يخلو هذا التوجيه من التعسف كما هو ظاهر.

والحق أن يقال: أنّ ما ذكره المحقق الخراساني يصح على مبناه في المعنى الحرفي من أنه لا فرق بينه وبين المعنى الاسمي وأنّ كلاً منهما موضوع لمعنى واحد، والفرق بينهما في اللحاظ فإن الاسم اختص باللحاظ الاستقلالي، والحرف باللحاظ الآلي. ولكن عرفت بطلانه فلا يصح أن توضع الهيئة إلى مفهوم الطلب كلفظ الطلب لأن الهيئة من المعنى الحرفي.وذهب السيد الخوئي إلى أنّ الصيغة موضوعة لإبراز الاعتبار النفساني وهو المدلول التصديقي وهو متباين في هذه الموارد فلا محالة يكون لصيغة الأمر معانٍ عديدة بعددها((1)).

وقد عرفت سابقاً في بحث الوضع خطأ مبناه مع أنه يستلزم على مبناه رحمه الله أن لا يكون ارتباطه بين مفاد الهيئة والمادة وأن التعجيز والاستهزاء الانشائيين لا الاخباريين لا يتعلقان بمفاد المادة وهو الطيران مثلاً، إذ لو كان هناك طيران لما كان عجز ولا استهزاء فلا يبقى أي ارتباط بين مفاد الهيئة الإنشائي والمادة.

بخلاف مسلك المشهور من دلالة الصيغة في تمام الموارد على النسبة الإرسالية فإنه يتضح الارتباط بينهما حيث أن الأمر بالطيران - مثلاً - يدل في موارد التعجيز أو الاستهزاء على إرساله نحو مفاد المادة وهو الطيران بقصد إظهار عجزه أو الاستهزاء به حيث أنه لا يستطيع الطيران فيظهر بذلك عجزه وهو المدلول التصديقي.

وقيل:أنّ مفاد الهيئة هو الجعل بأن يكون متعلقه هو كون الفعل في عهدة المكلف كما ذهب إليه السيد الخوئي رحمه الله فيرجع إلى اشتغال ذمة المكلف بالفعل، أو جعل البعث والمحرك نحو الفعل واعتباره تشبيها بالبعث التكويني كما عليه المحقق الاصفهاني رحمه الله .

ولكن الالتزام بذلك غير صحيح لأنه بناءً على الأول وهو اشتغال الذمة بالتكليف فإنه لا يعتبر فيه القدرة على الفعل لعدم توقف التكليف عليه بل هو كالدين في الذمة مع عدم القدرة على الأداء بخلاف الثاني وهو جعل الباعثية والمحركية فإنهما تتوقفان على القدرة لتوقف الانبعاث عليه.

كما أنه بناءً على الأول لا يعتبر في تنجز العلم الإجمالي كون جميع أطرافه مورد الابتلاء لعدم اعتبار كون الشيء موضع الابتلاء في صحة التكليف به بخلاف الثاني فإنه يشترط كون الشيء موضع الابتلاء في تحقق الباعثية فيعتبر في منجزية العلم الإجمالي كون جميع الأطراف محل الابتلاء.

والحق إن مفاد الهيئة هو الإرسال نحو مفاد المادة والبعث نحو المطلوب والتحريك إليه وإيجاد الداعي غاية الأمر قد يكون الداعي اخطار هذا المعنى في ذهن المخاطب وقد يكون الداعي إظهار عجزه أو الاستهزاء به أو نحو ذلك والدليل عليه مضافاً إلى أصالة عدم تعدد الوضع وعدم تعدد المعنى المستعمل فيه، إن ذلك هو المتيقن من دلالة الهيئة

ص: 252


1- - محاضرات في اصول الفقه - ج2 / ص130- مصدر سابق.

عند العرف ومن أجل ذلك كان ظاهر صيغة الأمر هو الإرسال والبعث وأن الداعي في نفس المتكلم إنما هو الطلب لا الاستهزاء والتعجيز أو غير ذلك من الدواعي فإنه لابد من أن تثبت بقرينة لأن فيها مؤونة زائدة على أصل الطلب والإرادة فتنفي بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

وأمّا ما ذكره المحقق الخراساني من أن داعي الطلب قد أخذ قيداً في الوضع لا في المعنى الموضوع له فقد عرفت بطلان هذا المسلك في بحث الوضع.وأمّا ما ذكره بعض الأعلام من أن النكتة في ذلك من أن المدلول التصوري لصيغة الأمر أولاً هو النسبة الإرسالية وفي طولها الإرادة فلو كان المدلول التصديقي هو الإرادة أيضاً لتطابق المدلول الصديقي مع المدلولين التصوريين وإلا فلا((1)).

والحق أن ذلك يتم فيما إذا كان هناك مدلولان وليس الأمر كذلك فإنه ليس فيه إلا مدلول واحد وهو النسبة الإرسالية وما ذكروه. وأنّ الإرادة قد حصلت في ضمن المدلول التصوري بالملازمة وليست بينهما طولية.

ومن جميع ذلك يظهر أن دلالة صيغة الأمر لا إشكال فيها، وإنما الاختلاف في كيفية استفادة الطلب منها لأنها من الهيئات فلا يمكن أن تكون موضوعة لمفهوم الطلب الاسمي كلفظ الطلب، فلابد من أن تكون موضوعة بإزاء معنى نسبي يساوق المعنى الاسمي.

فما ذكره السيد الخوئي رحمه الله في المقام من أنه إبراز اعتبار نفساني وهو اعتبار الفعل في ذمة المكلف غير سديد لأنه مبني على مسلكه وهو نظرية التعهد وقد عرفت فسادها.

كما أنّ ما ذهب إليه المحقق الخراساني رحمه الله في الصيغ الإنشائية من أنها موجدة لمعانيها في نفس الأمر وأن صيغة افعل تستعمل في إنشاء الطلب أيضاً غير تام كما تقدم آنفاً.

فلابد أن يكون استعمال الصيغة في المعنى الحقيقي بداعي البعث والتحريك فهي موضوعة للنسبة الإرسالية والبعث والتحريك ولكل واحد منها فرد حقيقي تكويني وهو ما إذا دفع شخص شخصاً في الخارج نحو شيء خارجي وفرد عنائي تنزيلي وهذا المعنى مسلّم عند الكل ومقتضى الإطلاق أن يكون الداعي إليه هو البعث الحقيقي إلا أن تكون قرينة على الخلاف.

وهذا المقدار هو الذي يفهمه العرف من الصيغة بمجرد إطلاقها ، والذي يفيد الفقيه والأصولي تحقيق ظاهر الكلام المنسبق منه عند إطلاقها سواء كان بالوضع أو بغيره ومن ذلك يظهر أنه لا وجه للتكلف في التماس وجوه أخرى فإنه تطويل بلا طائل تحته.

ويُعلم من ذلك أن التمني والترجي والاستفهام الواردة في كلامه تعالى مستعملةٌ في معانيها الإنشائية بدواعٍ شتى منها التكلم مع الناس بما يُليق بهم في كيفية المحاورة بينهم والمستحيل إنما هو استعمالها في معانيها الحقيقية بالنسبة إليه تعالى إما استلزام جهله عزَّ وجلَّ من الاستفهام الحقيقي أو العجز في التمني والترجي تعالى عن ذلك علواً كبيراً فلابد أن يكون الاستعمال في المعاني الإنشائية بدواعٍ أخرى فلا استحالة فيه أبداً، فلا حاجة

ص: 253


1- - بحوث في علم الاصول - ج2 / ص51 - مصدر سابق.

إلى القول بالمجاز كما ذكره المحقق الأنصاري((1)) رحمه الله في تفسير آية النفر في كلمة (لعل)((2)).

الجهة الثانية في كيفية دلالة الصيغة على الوجوب:

بعد الفراغ عن دلالة الصيغة على الوجوب يقع الكلام في كيفية دلالتها.

فقد اختلفوا في أنها ظاهرة في مطلق الطلب أو في الوجوب وهو الطلب الإلزامي أو في الندب أي الطلب غير الإلزامي والاحتمالات التي ذكرنا في كيفية دلالة مادة الأمر على الوجوب تجري في الصيغة أيضاً:

الأول: مسلك حكم العقل وانتزاعه للوجوب من مجرد طلب المولى عند عدم ترخيصه في الترك.

الثاني: مسلك الإطلاق وأن مقتضى مقدمات الحكمة تعيين الطلب الشديد الذي هو الوجوب.

الثالث: مسلك الوضع لخصوص الطلب الشديد الذي لا يرضى بتركه.

وذهب السيد الوالد رحمه الله إلى أنّ هذا البحث لا فائدة فيه بعدما عرفت من أنّ مفادها البعث نحو المبعوث إليه ومقتضى الإطلاق كونه بداعي الطلب الحقيقي فيحكم العقل حينئذٍ بلزوم الامتثال ما لم تكن قرينة على الترخيص فالوجوب حكم عقلي بعد تمامية الحجة والبيان، وأنّ الندب يستفاد من القرائن الخارجية لا من نفس الصيغة من حيث هي وإن صح إضافة كل منها إليها بالعناية وبذلك اختلفت الصيغة عن مادة الأمر التي ذكرنا جريان المسالك الثلاثة فيها((3)).

وقد نوقش ذلك بوجوه:

الأول: إن الحاكم بالإلزام لابد أن يكون من بيده الجزاء والعقل بمعزل عن ذلك.

وفيه: إن للجزاء مرتبتين الاستحقاق على المخالفة ومرتبة الفعلية، والأولى حكم العقل ومرتبة على الزامه والثانية وظيفة الشارع وتكون تحت اختياره.

الثاني: لا دلالة للإطلاق على الوجوب لأنّ مفاد الهيئة النسبة الإرسالية والإرسال والدفع ليس كالطلب ينقسم إلى شديد وضعيف كي نعيّن مرتبته الشديدة بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

ويرد عليه بأنّ الإرسال قد ينقسم بلحاظ منشأه إلى المرتبتين كما أن الإطلاق كما يجري في المدلول التصديقي وهو الإرادة لإثبات المرتبة الشديدة، يجري في المدلول التصوري بالملازمة أي أن صيغة الأمر تدل بالملازمة على الإرادة والطلب تصوراً فيمكن إجراء مقدمات الحكمة بلحاظها.

الثالث: إنه لا يمكن استفادة الوجوب بالوضع لأن النسبة الإرسالية لا تتحصص إلى حصتين وجوبية واستحبابية ليقال بأن الصيغة موضوعة بإزاء إحداهما فقط.

ص: 254


1- - فرائد الاصول - ص78.
2- - التوبة / 122.
3- - تهذيب الاصول - ج1/ ص63 - مصدر سابق.

وفيه: إن الإرسال وإن لم يكن كذلك لكنه ينقسم إلى الحصتين بلحاظ منشأهُ من الإرادة الشديدة أو الإرادة الضعيفة فيكون من المعقول وضع الصيغة لخصوص الإرادة الشديدة.

ومن ذلك يظهر وجه المناقشة في جملة مما ذكروه في المقام كما أن البحث في معنى الوجوب والندب لا وجه له بعد كون الوجوب ناشئاً من إرادة شديدة والندب من إرادةضعيفة وتقسيم الإرادة إلى هاتين المرتبتين صحيح وهو محسوس عندنا وجداناً وقد قيل: في الفرق بين الوجوب والندب وجوهٌ:

الأول: إن الوجوب مركب من الطلب والمنع من الترك، والندب مركب من الطلب والترخيص في الترك ، وقد أورد عليه بأنّ الوجوب والندب أمران بسيطان وليس فيهما تركُّب.

الثاني: ما ذكره في الكفاية من أنّ الوجوب هو الطلب الشديد أو القوي والندب هو الطلب الضعيف، وفيه: إنّ الطلب هو التصدي نحو المقصود ولا معنى للشدة والضعف فيه وإن الطلب هو المنتزع عن الصيغة فيكون متأخراً عن الوجوب وعن استعمال الصيغة.

الثالث: ما ذكره المحقق النائيني رحمه الله من ان الفرق بين الوجوب والندب إنما يكون من حيث الملاك والمصلحة الملزمة وغير الملزمة((1)).

وفيه: أن الوجوب والندب ثابتان حتى على رأي من ينكر تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد كالأشعرية ويجريان في التكاليف العرفية الناشئة من غير مصلحة.

الرابع: ما ذهب إليه السيد الخوئي رحمه الله من أنّ الصيغة موضوعة لإبراز اعتبار اللابدية على ذمة المكلف كالدَين فإذا أبرز ذلك الاعتبار النفساني مع ترخيص المولى في تركه فيكون ندباً وإلا يكون واجباً.كل ذلك فعل المولى((2)).

وفيه ما ذكرناه سابقاً من فساد المبنى والبناء.

الخامس: إن الوجوب هو الشوق الأكيد والندب هو الشوق الضعيف، وفيه: إن الوجوب والندب من الأحكام ومن الأمور المجعولة التي تحت اختيار جاعلها كغيرها من الأفعال الاختيارية وليست من الصفات النفسانية الخارجة عن الاختيار كالشوق.

الجهة الثالثة: في مدلول الجملة الفعلية الخبرية الواردة في مقام الطلب.

لا ريب في صحة استعمال الجمل الخبرية في مقام إنشاء الطلب فيما إذا قامت قرينة على ذلك سواء كانت حالية أو مقالية وقد ورد مثل هذه الجمل في النصوص نظير (يعيد) و(يتوضأ) وإنما الكلام في كيفية دلالتها على الوجوب أو الندب أو غيرها.

وقد اختلف الأصوليون في تفسير دلالتها على الطلب إلى مسلكين:

الأول: ما هو المشهور بين المتأخرين أمثال المحقق الخراساني((3))

رحمه الله وغيره من أن الجملة الخبرية مستعملة في هذه الموارد في معناها الحقيقي وهو النسبة الصدورية فإذا قيل:

ص: 255


1- - اجود التقريرات - ج1 / ص94 - مصدر سابق.
2- - محاضرات في أصول الفقه - ج2 / 129- مصدر سابق.
3- -[3] كفاية الأصول - ص70 - مصدر سابق.

المصلي إذا نسي الركوع يعيد صلاته فهو مستعمل في نسبة الإعادة إلى المصلي في الخارج إلا انهُ يستفاد منها الطلب بأحد وجوه:

الأول: أن الجملة الخبرية في مقام الإنشاء فيها إخبار عن وقوع الفعل حقيقة في الخارج لكن لا مطلقاً ليكون كذباً بل في حق الإنسان الذي يكون في مقام الامتثالوتطبيق عمله مع الشريعة فيكون ملازماً مع كون الفعل -كالإعادة - مطلوباً للشارع فتكون الجملة الخبرية مستعملة في النسبة الخبرية تصوراً أو تصديقاً.

ولكنه يدل بالالتزام على الطلب وتكون القرينة في الواقع تدل على التضييق والتقييد في الإخبار.

الثاني: أن يكون على أساس الكناية بأن يخير عن اللازم ويريد الملزوم، فإنّ الوجوب ملزوم، ووقوع الفعل لازم فيكون اللفظ مستعملاً في اللازم ويدل على الملزوم بالدلالة الالتزامية، فظهور الجملة الخبرية الواقعة في مقام الإنشاء وفي الوجوب بنحو الإلتزام لملازمة الوقوع عن الإرادة الحتمية وفي هذه الصورة قد استعملت الجملة في النسبة الخبرية تصوراً أو تصديقاً وتكون القرينة حينئذٍ قرينة على الكناية.

الثالث: حصول دلالة التزامية بين النسبة الصدورية الخبرية والنسبة الإرسالية الإنشائية لأجل قيام القرينة على هذه النكتة فيكون المدلول الجدي هو النسبة الإرسالية الملازمة لا المدلول التصوري المطابقي وهو النسبة الصدورية.

الرابع: الادعاء بأن النسبة الصدورية كما يمكن تعلق الإخبار بها يعقل تعلق الإرادة والطلب بها أيضاً، وإنما نستفيد الإخبار في سائر الموارد بحسب الطبع للجملة والإرادة والطلب شيء زائد على نفس النسبة الصدورية بحاجة إلى نصب قرينة ومؤونة زائدة فيكون المدلول التصوري للجملة الخبرية محفوظاً دون المدلول التصديقي.

والظاهر أن الوجه الأول أقرب الوجوه المتقدمة بعد عدم خروج الجمل الإخبارية عن معانيها الحقيقية وهي النسبة الاخبارية الصدورية لكن بداعي البعث والتحريك لا بداعي مجرد الاخبار وكيف ما كان فإنّ الظاهر كفاية مثل هذه الجملة في إتمام الحجة فيحكم العقل بلزوم الامتثال مع عدم ورود الترخيص.

أو من فروع قاعدة دفع الضرر المحتمل فكيف بالمقطوع فيصح العقاب على الترك حينئذٍ عقلاً وشرعاً.

هذا إذا أحرزت أنها في مقام البعث والإنشاء، وأمّا إذا شك في ذلك فلا وجه لاستفادة الوجوب منها بل مقتضى الأصل عدمه.

المسلك الثاني: ما ذهب إليه السيد الخوئي من أن الجملة الخبرية في مقام الطلب والإنشاء يختلف معناها المستعمل فيه لاختلاف معاني الأخبار والإنشاء سنخاً، فإنّ الهيئة في الجمل الخبرية موضوعة لقصد الحكاية وفي الإنشائية لقصد إبراز الأمر النفساني فلابد من الامتثال فيما نحن فيه إمّا بالاشتراك اللفظي أو بالحقيقة والمجاز والأول هو الأظهر وقد استشهد على تعدد المعنى في الجملة الخبرية وعدم انحفاظ معناها الخبري في موارد الإنشاء بأنه لو كان كذلك لصح استعمال أية جملة خبرية في مقام الإنشاء حتى الاسمية والفعل الماضي مطلقاً لا خصوص ما إذا كان جزاء لجملة شرطية كما في مثال (إذا

ص: 256

نسي الركوع أعاد صلاته) وأمّا الفعل المضارع فإنه يستعمل غالباً في مقام الإنشاء فيقال يعيد أو يسجد سجدتي السهو ونحو ذلك((1)).وفيه: فساد المبنى كما تقدم مفصلاً وأمّا الشاهد الذي استند إليه فالظاهر أنه غير صحيح لاستعمال فعل الماضي في الطلب من دون سياق الشرط، كما في (غفر الله لك أو رحمك الله أو عافاك الله) وإن لم يكن مطرداً في مقام الطلب فلا يقال: صليت أو صمت بل لابد أن يقال: تصلي وتصوم. ولعل السر في ذلك يرجع إلى أن الطلب الحقيقي لا يناسب فعل الماضي الذي يدل على الفراغ عن تحقق الفعل ومضيّه بخلاف الدعاء.

لكن إذا ما قُلب الماضي إلى المضارع بايقاعه في سياق الشرط أصبح مناسباً مع مقام الطلب الحقيقي وكذلك الجملة الاسمية فإنها مثل الماضي من هذه الجهة التي أشرنا إليها.

ثم إنه بعدما تبين دلالة الجملة الفعلية الواردة في مقام الإنشاء وإبراز إرادة المولى وطلبه فهي تدل على النسبة الإرسالية وبداعي البعث والتحريك لا بداعي مجرد الاخبار وهذا المقدار كافٍ في إتمام الحجة فيحكم العقل بلزوم الامتثال مع عدم ورود الترخيص في الترك.

وأنه من فروع قاعدة دفع الضرر المحتمل فكيف بالمقطوع فيصح العقاب على الترك حينئذٍ عقلاً وشرعاً.

ولكن بعض الأصوليين لم يكتفوا بذلك فالتمس لدلالتها على الوجوب أو الجامع بينه وبين الاستحباب وجهاً آخر أو نكتة زائدة.

فقال رحمه الله إن دلالة الجملة الخبرية على الوجوب ترتبط بالنكتة التي على أساسها تستظهر دلالتها على الطلب فإن كانت الدلالة على أساس إحدى النكات الثلاث الأولى كانت تلك العناية مناسبة مع الطلب الوجوبي كما هو ظاهر وأمّا إذا كانت العناية هي النكتة الرابطة وهي تعلق الطلب والإرادة ابتداءً بمدلول الجملة الخبرية فهو كما يناسب الوجوب كذلك يناسب الاستحباب، وأمّا على مسلك السيد الخوئي فإنّ دلالتها على الوجوب واضحة فإنّ وضع الفعل في عهدة المكلف يدل على الوجوب لا محالة إمّا بحكم العقل أو من باب الاعتبار العرفي والعقلائي وهو وعاء الضمان واللزوم المناسب مع الوجوب.

والحق إنّ ذلك تطويل لا طائل تحته فإنّ دلالة الجملة الفعلية على الوجوب أوضح من دلالة صيغة افعل عليه، لأن إبراز وقوع الفعل خارجاً من المنقاد يلازم عرفاً الطلب الحتمي والوجوب فإن الطلب غير الحتمي لا يستلزم وقوع الفعل خارجاً من المنقاد ولعله إلى ذلك يشير المحقق الخراساني رحمه الله أن ظهور الجملة الخبرية من البعث آكد من ظهور الصيغة وما ذكره السيد الوالد بكفايته في إتمام الحجة وكل ما قيل سابقاً من النكات وما ذكره السيد الخوئي رحمه الله فيما تقدم إنما يؤشر إلى هذا الظهور بلا فرق بينها.

ومن جميع ذلك يظهر ضعف القول بعدم ظهورها في الوجوب باعتبار أنها غير مستعملة في معناها الحقيقي وهو الاخبار بثبوت النسبة والمعاني المجازية متعددة ولا مرجح للوجوب.

ص: 257


1- - محاضرات في اصول الفقه - ج2 / ص133- مصدر سابق.

ثم إن الجملة الخبرية قد تكون ظاهرة في الطلب لوجود القرينة الحالية أو المقالية كما عرفت آنفاً وقد تكون نصاً في الطلب والإرسال فيما إذا دخل لام الأمر على الفعلالمضارع نظير (ليصل) فإنه حينئذٍ تنقلب النسبة الخبرية إلى النسبة الإرسالية فتدل على الوجوب بالوجوه التي ذكرناها في صيغة افعل وقد يشكل في كونها في مقام الإنشاء والإرسال فلا وجه لاستفادة الطلب والوجوب منها بل مقتضى الأصل عدمه.

كما أن الجملة الفعلية التي تستعمل في مقام إبراز إرادة المولى وطلبه تنقسم إلى ثلاث أقسام من ناحية دلالتها على الوجوب.

الأول: ما يكون دالاً على الدفع والإرسال إما بالمعنى الحرفي كما في صيغة الأمر أو الفعل المضارع الذي دخل عليه لام الأمر أو بالمعنى الاسمي كما في قولك: (آمرك أو أحركك نحو هذا الفعل) ولا إشكال في استفادة الوجوب منها بالوجه الذي ذكرناه آنفاً من الإطلاق وحكم العقل بالوجوب وغيرها.

الثاني: ما يستفاد منه وضع الفعل في عهدة المكلفين نظير قوله تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾((1))

وقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ﴾((2)) وهذا أيضاً يدل على الوجوب لحكم العرف والعقلاء بأن ما يجعل في العهدة والذمة بمنزلة الضمان فيكون مناسباً مع الوجوب.

الثالث: ما يستفاد منه رغبة المولى إلى الفعل كقوله: أحب أن تصنع كذا، أو ينبغي لك كذا أو أنه مطلوب منك، ومثل ذلك لا دليل على إفادته للوجوب ما لم تكن قرينة خاصة تقتضيه.

المبحث الثالث: في دلالة الأمر على المرة أو التكرار

ينبغي تقديم أمور:

الأول: إن الفرق بين هذا البحث بناءً على أنّ المراد من المرة الفرد والإفراد من التكرار ومسألة تعلق الأمر بالطبيعة أو الفرد أن البحث في تلك المسألة إنما هو عن دخل الخصوصيات الفردية ومشخصاتها في متعلق الأمر وعدمه، وفي المقام يكون البحث عن متعلق الأمر هل هو وجود واحد أو وجودات؟

الثاني: إن الفرق بين القول بالتكرار والقول بالانحلال أيضاً واضح لأن معنى الانحلال أن يكون الحكم الواحد لفظاً منحلاً بعدد إفراد موضوعه إما بالظهور اللفظي كما في موارد العموميات نظير (أكرم كل عالم) أو بالقرينة كما في قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ﴾((3)) بناء على عدم ثبوت العموم له لعدم اشتماله على أداته لكن لا معنى لحليّة البيع إلا إذا كان موضوعه كل فرد من أفراده.

وعلى أية حال التكرار من موارد الانحلال إنما يكون في نفس الحكم بينما التكرار في المقام يكون من متعلق الحكم.

ص: 258


1- -[1] آل عمران / 97.
2- - البقرة / 183.
3- - البقرة / 275.

الثالث: قد يراد من المرة الفرد ومن التكرار الافراد وقد يراد منهما الدفعة والدفعات وبينهما عموم مطلق لصدقهما فيما إذا أتى بذات المأمور به أو إذا لم يكن للواجب افراد عرضية كالصلاة فإنه لا يمكن ايجاد افراد منها دفعة واحدة، فالتكرار فيها منحيث الافراد لابد أن يكون بالتكرار بحسب الدفعات وصدق الثاني دون الأول فيما إذا أتى بافراد منه دفعة.

وهل انّ مرادهم بها الفرد أو الافراد كما عليه جمع من الأصوليين؟ لأن ظاهر بحثهم يدور حول ذلك وإن التكليف إنما يكون أحدهما أو المراد الدفعة والدفعات كما عليه صاحب الفصول لأنّ ظاهر اللفظين عليهما ؟

ولأنه لو كان المراد الفرد والافراد لكان البحث من متممات البحث الآتي من أنّ الأمر يتعلق بالطبيعة أو الفرد ولكن عرفت اختلاف البحثين ملاكاً وعرفاً.

أو المراد كلاهما كما في الكفاية والظاهر سقوط هذا النزاع بعد الاتفاق بعدم دلالة الأمر على كل واحد من المعنيين.

هذا كله فيما إذا أمكن التعدد في متعلق الأمر وإلا فالبحث ساقط من أصله.

الرابع: ذكر بعض الأعلام أنه لا ثمرة في هذا البحث لا علمياً ولا عملياً((1)

إلا في موردين تعرض لهما صاحب الكفاية بمناسبة البحث المذكور((2))، أحدهما وهو البحث عن جواز تبديل الامتثال بفرد آخر غير المأتي به ابتداءً والبحث فيه وإن كان مقامه في مبحث الأجزاء إلا أن جمعاً من الأصوليين ذكروه في المقام.

الثاني: الفرق بين الأمر والنهي، فإنّ النهي يقتضي التكرار والدوام دون الأمر حيث يكتفي بامتثاله بالمرة((3))

وسيأتي تحقيقه في مبحث النواهي.

إذا عرفت ذلك، وقع النزاع عند الأعلام في دلالة الأمر على المرة أوالتكرار، أو مشترك بينهما لفظاً أو معنىً أو لا دلالة له عليهما والاكتفاء بالمرة لحصول الطبيعة والمعروف المشهور الذي عليه التحقيق عدم دلالته عليهما مطلقاً.

أما الهيئة فلا تدل إلا على الطلب والبعث نحو المطلوب والتحريك إليه وإتمام الحجة والنسبة الإرسالية كل ذلك على نحو اللا بشرط عن كل قيد حتى اللابشرطية.

وكذلك لا تدل المادة إلا على طبيعة الحدث، وأمّا النسبة فإنما تدل على الارتباط وليس هناك وضع آخر غيرها. فلا ريب ولا إشكال في عدم دلالة الأمر على المرة ولا على التكرار وضعاً لا من ناحية الهيئة ولا من ناحية المادة.

ويدل عليه أصالة الإطلاق الذي تدل على الاكتفاء بمجرد إتيان ذات المأمور به لتحقق الامتثال به عرفاً كما أن ما يقتضيه الأصل العملي هو البراءة أيضاً لأن الشك من الزائد عليه إنما شك في أصل التكليف ومع عدم البيان بالنسبة إليه يرجع إلى البراءة ويؤيد ذلك أمران:

أحدهما: إنه إذا ورد قيد يدل على المرة أو على التكرار لا يستلزم منه المجاز مطلقاً.

ص: 259


1- - منتقى الاصول - ج1 / ص515 - مصدر سابق.
2- - كفاية الاصول - ص79 - مصدر سابق.
3- - كفاية الأصول - ص149 - مصدر سابق.

الثاني: إنه لو أخذت المرة أو التكرار في مدلول هيئة الأمر كان لازمه أخذ طرف النسبة وهو الحدث مرة أو مكرراً معها في مدلول الهيئة، وهو غريب. وإن أُخذ ذلك في المادة المشتركة في كافة الاشتقاقات لزم استفادة المرة أو التكرار منها وهو أمر لميقل به أحد، بلا فرق بين أن يكون المراد بالمرة والتكرار الفرد والافراد والدفعة والدفعات فإنّ الدليل فيها واحد.

وربما يستشكل على التمسك بالإطلاق المقامي باعتبار أنه ليس له ضابط نوعي بل يختلف استفادة انحلال الحكم إلى أحكام عديدة بعدد افراد الطبيعة أو عدم انحلاله حسب اختلاف الموارد.

ولكن الصحيح إنّ له ضابطاً نوعياً وقيل في توجيه ذلك وجوهٌ:

الأول: إن الإطلاق بلحاظ المتعلق بدلي وبلحاظ الموضوع شمولي. وأورد عليه بأنه لا فرق بينهما بعد تمامية مقدمات الحكمة وكونها في كافة الموارد بمعنى واحد وذات وظيفة واحدة وهي إثبات كون ذات الطبيعة هي تمام ما أخذ في الجعل من دون أخذ قيد زائد معها.

الثاني: إنّ الإطلاق وإن اختلف في المتعلق عن الموضوع فالأول بدلي وفي الثاني شمولي وذلك باعتبار أن الذهن يلحظ الموضوع مفروض الوجود في المرتبة السابقة على الحكم وحيث أنّ له تطبيقات متكثرة فلا محالة يتعدد الحكم ويتكثر وينحل بعدد تلك التطبيقات وأمّا المتعلق فهو ليس كذلك بل يطلب ايجاده أو إعدامه فلا يلاحظ مفروض الوجود والثبوت في المرتبة السابقة على الحكم والأمر فلا معنى للانحلال بلحاظه.

وفيه إن الذهن كما يتصور الموضوع يتصور المتعلق أيضاً ثم يحكم عليهما وأمّا فرض تصور الموضوع متقدماً إنما هو بلحاظ الحكم وكذلك المتعلق بالنسبة إليه أيضاً فهما على حدٍ سواء من هذه الجهة والذهن يتصور القضية من حيث المجموع فإذا تمت مقدمات الحكمة فلابد أن يكون على نسقٍ واحد وهو إثبات كون ذات الطبيعة مضافاً إلى أنه إذا تعدد الموضوع وانحل فينحل الحكم والمتعلق بسببه للتلازم بينها.

الثالث: إنّ الإطلاق المقامي يدل على أخذ الطبيعة في كل من المتعلق والموضوع وأمّا استفادة الشمولية والبدلية فلابد أن تكون بدلالات أخرى سيأتي بيانها في موضع آخر فيكون مقتضى الإطلاق الأولي الاكتفاء بالمرة والدفعة ما لم ترد قرينة حاكمة على ذلك وهذا أمر بيّن عرفاً ولغة ولا نحتاج إلى مزيد عناية كما يظهر من كلام بعض الأعلام.

ويترتب على ذلك أمور:

1- إنّ الإطلاق بحسب الطبع الأولي في كل من المتعلق في الجملة الإنشائية والمحمول في الجملة الخبرية لا يكون شمولياً بل يكون في كل من الموضوع والمتعلق بنحو صرف الوجود.

2- إنه لا فرق بناء على ما ذكرناه بين الأوامر والنواهي، فمقتضى الطبع الأولي في النواهي أيضاً هو صرف وجود الطبيعة إلا أنّ الفرق إنما هو من ناحية الامتثال فإن المطلوب في الأمر هو صرف الوجود وإيجاد الطبيعة، وفي النهي إعدامها، وإيجاد الطبيعة يتحقق بفرد ولكن لا تنعدم الطبيعة إلا بانعدام تمام أفرادها فلا يتحقق الامتثال في النهي إلا باجتناب تمام أفرادها فالفرق بين الأمر والنهي ليس راجعاً إلى تعددالحكم في

ص: 260

النهي واتحاده في الأمر، بل هو واحدٌ في كلٍ منهما ومتعلقٌ بالطبيعة بنحو صرف الوجود.وإنما الفرق في مقام الامتثال وإيجاد الطبيعة وإعدامها.

فلو قال مثلاً: أكرم العالم كان كل عالم يجب إكرامه بوجوب واحد غير منحل إلى وجوبات متعددة بعدد انحاء الإكرام المتعددة، وإذا قال: لا تكرم فاسقاً كان مقتضى الطبع الأولي أنه يحرم إكرام كل فاسق حرمة واحدة غير منحلّة إلا أن الوجوب الواحد يتحقق امتثاله بإكرام واحد وأمّا الحرمة الواحدة لا يمكن امتثالها إلا بترك كل إكرام، وهذا الفرق ثابت في الجملة الخبرية الموجبة والنافية ايضا كما هو معلوم.

وقد أورد بعض المتأخرين على هذه المقالة بأنها تتم بناءً على أن الطبيعة في الخارج نسبتها إلى الأفراد نسبة الأب إلى الأبناء فيكون وجودها بوجود فرد واحد وعدمها لا يكون إلا بانعدام كل الأفراد، وهذه هي فكرة الكلي الطبيعي المعروف في الفلسفة وأمّا بناء على ما هو الصحيح من أن نسبة الطبيعة في الخارج إلى الافراد نسبة الآباء إلى الأبناء فالطبيعة في كل فرد لها وجود مستقل.

ولكن ذلك خلط بين المفهوم والخارج فإن المفاهيم مرآة للخارج فلا يكون الكلي فيها إلا مفهوم واحد نسبته إلى الخارج نسبة الأب إلى الأبناء.

3- ذكر بعض الأعلام((1))

إن الانحلال إلى الشمول في طرف الموضوع وعدمه في طرف المحمول ، والمتعلق إنما هو من شؤون عالم التطبيق والفعلية ولا ربط له بعالم الجعل ولذا فهو ليس من المداليل الوضعية أو الاطلاقية لأن اللفظ يكشف عن عالم الجعل دون عالم التطبيق والفعلية والجعل هنا واحد بخلاف الشمولية والبدلية في العموميات الوضعية فإنه قد تُفرض فيها أداة العموم من قبيل كلمة (كل) في (أكرم كل عالم) فإنه يستفاد منه العموم الشمولي ، وأن كلمة (أيّ) وضعت للعموم البدلي ، كما ستعرف من أن المولى في باب العموم ينظر إلى الأفراد بنحو إجمالي ولا يقتصر نظره على ذات الطبيعة فتارة يلحظها شمولياً وأخرى يلحظها بدلياً بخلاف باب المطلقات فإنها تدل من ناحية الموضوع والمتعلق على ذات الطبيعة من دون لحاظ الشمولية والبدلية في كل واحد منهما ولكنهما من شؤون التطبيق والفعلية.

ولكن يمكن القول بأن المقامين أي مقام الجعل ومقام التطبيق والفعلية إنما يتبعان اللحاظ فإذا لاحظ المتكلم الانحلال وعدمه في الشمولية أو البدلية فيهما فلا فرق في ذلك من باب المطلقات أو باب العموم للتلازم بين الحاكم وموضوعه ومتعلقه إلا أن الإطلاق المقامي في باب المطلقات يدل على أن المطلوب في الأمر والنهي إنما هو صرف الوجود، كما عرفت ويدل على ما ذكرناه ما يذكر في الأمر الرابع.

4- ثم إن ما ذكرناه بحسب الطبع الأولي في كل من ناحية التطبيق والفعلية وناحية الجعل لا ينافي أن يوجد ما يحكم على خلاف الطبع الأولي فيوجب عدم الانحلال في الموضوع أو الانحلال في المتعلق وقد مثلوا ما يوجب عدم الانحلال في ناحية الموضوع بالتنوين كما إذا قال: (أكرم عالماً)، فإن التنوين يدل على تقييد الطبيعة بقيدالوحدة وهو ينافي الانحلال فيثبت الحكم على فرد واحد من الماهية دون الافراد المتكثرة.

ص: 261


1- - بحوث في علم الأصول - ج2 / ص125- مصدر سابق.

كما مثّلوا لما يوجب الانحلال في المتعلق بالنكتة النوعية الموجودة في باب النواهي بأنها وإن كانت مثل الأوامر في عدم الانحلال وتعلقهما بالطبيعة. فإذا قال لا تأكل إنما يحرم الأكل حرمة واحدة بلا انحلال فلو أكل مرة واحدة حصل العصيان وسقطت الحرمة، لكن الغالب في النهي والحرمة قيام مبادئهما بكل فرد فرد بنحو التعدد لا بالمجموع ولا بالجامع وذلك لوضوح أن النهي إما أن ينشأ من مفسدة في الفعل فالغالب أنها في كل فرد مستقلاً أو ينشأ عن مصلحة في الترك والغالب أيضاً أنها توجد في ترك كل فرد مستقلاً ولأجل ذلك أصبح للنهي ظهور في إرادة تحريم الطبيعة بتمام أفرادها بلا فرق في ذلك بين الافراد الطولية أو العرضية ومثل ذلك لا يجري في الأمر، فإن المصلحة أو المفسدة في الترك لم يكن قيامهما بفعل تمام الافراد، فلا ينعقد للأمر ظهور خلاف الطبع الأولي.

والمستفاد من مجموع ما ذكرناه أن الوضع واللحاظ قد يقتضيان عدم الانحلال أو يقتضيان الانحلال على سبيل الشمولية أو البدلية ولكن ذلك يتبع الدلائل والقرائن والفهم العرفي.

5- المراد بالموضوع الذي ذكرنا إن مقتضى طبع الحكم انحلاله بلحاظه هو نا يكون بحسب الفهم العرفي مقدر الوجود كما في قولنا: (أكرم العالم) وأمّا ما لم يكن كذلك بأن لم يكن مقدر الوجود بحسب الفهم العرفي فلا ينحل الحكم بلحاظه كما في قولنا: (يجب الخمس في أرباح مالك)، فإنه بحسب التفاهم العرفي لم يؤخذ ربح المال مقدر الوجود لينحل الحكم ولولا الدليل الخارجي لكنا نفهم منه لزوم ايجاد الربح.

وكذلك الحال في مثال: تيمّم بالتراب وتوضأ بالماء والحاصل من جميع ذلك أن الانحلال وعدمه في جانب الوضع أو الموضوع والمتعلق يتبع الفهم العرفي والقرائن ومن جميع ذلك يظهر فساد ما حكى عن الفصول من أنّ بحث المرة والتكرار إنما هو بالنسبة إلى الهيئة فقط لاتفاق الأدباء على أن المصدر المجرد عن اللام والتنوين إنما يدل على الماهية المطلقة والطبيعة الصرفة، وبما أنّ المصدر أصل المشتقات ومادة لها فلا مورد للنزاع بالنسبة إلى المادة.

فإنه مضافاً إلى ما تقدم في بحث المشتق من أنه لا دليل على كون المصدر أصلاً للمشتقات، كما عرفت ، من أن له هيئة وما له هيئة لا يقع مادة لغيره. نعم يصح أن يقع لحاظه منشأ لوضع الصيغ ونظمها ولكنه ليس من المادة في شيء.

وعلى فرض التنزل فإن المادة المجردة لها حكم والمادة المتهيئة بهيئة خاصة لها حكم آخر ، مع أن عوارض إحداهما تنسب إلى الأخرى لمكان الاتحاد بينهما، وما عرفت من أنّ النزاع أعم مما ذكره.

ثم إنّ بعض الأصوليين ذكر في خاتمة هذا البحث، بحث تعدد الامتثال أو تبديله. وإن كان موضعه في بحث الإجزاء ونحن تبعاً لهم نذكره في المقام على نحو الايجاز والتفصيل يأتي في موضعه الذي ذكرناه فيقع الكلام في موردين:

الأول: في تعدد الامتثال قد اتضح مما تقدم ذكره أنه لا فرق بين الافراد العرضية والافراد الطولية فيما ذكر من الانحلال بلحاظ الفهم العرفي في جانب الموضوع أو المتعلق ولكن الامتثال بفردين عرضين ممكن ولا إشكال فيه لأنّ المأمور به إذا كان هو الطبيعة من

ص: 262

غير تقييد بالوحدة أو الكثرة فإنّ التخيير العقلي بين الفردين أو أكثر ثابت ويعد الجميع امتثالاً واحداً.

وأمّا الامتثال بفردين طوليين في عمود الزمان فلا يمكن أن يتحقق بها لأن نسبة الطبيعة إلى الافراد كذلك وإنْ كانت واحدة كالافراد العرضية إلا أنه بعد تحقق الفرد في عمود الزمان يسقط به الوجوب قهراً فلا يبقى موضوع للامتثال الثاني ولا يأتي التخيير العقلي هنا لوجود الضيق في الواجب بما هو واجب ولكن إذا تم البحث الآتي فإنه يتم تعدد الامتثال وقد يتصور التخيير الشرعي كما ذهب إليه المحقق الخراساني رحمه الله في الأقل والأكثر فيما إذا كانا متباينين كالتسبيحة الواحدة بشرط لا عن الزائد والثلاث تسبيحات، إلا أنه يحتاج إلى تأمل ومؤونة زائدة ولا يثبت بالإطلاق.

الثاني: في التكرار وتبديل الامتثال من فرد إلى فرد آخر لا إشكال في وجوب تبديل الامتثال أو التكرار إذا كان مستفاداً من القرائن ولكن إذا دلّ الدليل على المرة أو دلّ الإطلاق عليها فهل يجوز التكرار حينئذٍ؟ ذهب جمع إلى الجواز منهم المحقق الخراساني رحمه الله واستدلَّ عليه ببقاء الغرض الأقصى وإمكان الامتثال عقيب الامتثال من هذه الجهة إذ لم تكن نسبة المتعلق إلى الغرض نسبة المعلول إلى العلة، بل نسبة المقتضي إلى المقتضى ففي هذه الحالة يبقى الأمر على حاله ببقاء الغرض الذي دعا إلى الأمر((1)).

وأشكل عليه بأنّ الغرض غير معلوم فربما يختلط بين الغرض الأدنى الذي يترتب على فعل المأمور به والغرض الأقصى مضافاً إلى أنّ الإنسان ليس مكلفاً بتحصيل الغرض، وإنما اللازم هو الخروج عن عهدة تكليف المولى وتحصيل المصلحة المترتبة على المأمور به.

وناقش بعض الأعلام كلاً من الأصل والإشكال كما سيأتي ذكره في موضعه.

والحق أن يقال بالتفصيل بين ما إذا كان المأتي به علة تامة لسقوط الأمر من جميع الجهات خطاباً وملاكاً وقبولاً، فلا يعقل التكرار لفرض سقوط الأمر بجميع جهاته وعدم إمكان قصده حينئذٍ، وأمّا إذا لم يكن كذلك فلا بأس بالتكرار وتعدد الامتثال لفرض إمكان قصد الأمر لاحتمال بقائه، وتعيين كل واحد من الفرضيين إنما بالرجوع إلى الأدلة الخاصة أو القرائن التي تحتف بنفس الأمر الذي يراد امتثاله.

وعلى ذلك يمكن حل الفرع الفقهي المعروف في جواز أو استحباب إعادة الصلاة جماعة لمن صلاها فرادى والظاهر عدم سقوط الأمر من جميع جهاته كما تدل عليه جميع الروايات الواردة في هذا الفرع لاسيما قوله علیه السلام : (إنّ الله يختار أحبٌّهما إليه) ولكن ذكر بعض الأعلام في المقام بأن الروايات الواردة في هذا الفرع تنقسم إلى ثلاث طوائف:الأولى: ما ورد فيها عنوان الأمر بالإعادة فقط، وذكر أنها لا تدل على كون ذلك من باب تبديل الامتثال، إذ لعله يرجع إلى كونه أمراً استحبابياً جديداً له امتثال جديد.

وفيه: أنه خلاف الظاهر منها فإن الأمر بالإعادة فيها إنما يرجع إلى تلك الصلاة التي صلاها فرادى، ولا وجه لصرفه إلى كونه أمراً جديداً.

ص: 263


1- - كفاية الاصول - ج1 / ص70 - مصدر سابق.

الثانية: ما جاء فيها جملة (ويجعلها الفريضة) كما ورد في معتبرة هشام بن سالم عن الصادق((1)) علیه السلام ونوقش في دلالتها مع تبديل الامتثال والتكرار بوجوه:

أحدها أن المقصود أنه يصلي فرضاً مقابل التطوع والنافلة لبطلان الجماعة في صلاة التطوّع.

وردّ بأنه خلاف الظاهر لأن اللام في كلمة الفريضة إشارة إلى نفس الفرض السابق كما أن كلمة إن شاء تدل على تعلق المشيئة بتلك الفريضة.

الثاني: ان لفظ الفريضة أخذ معرفاً إلى ذات الصلاة كالظهر مثلاً بقطع النظر عن كونها واجبة أو مستحبة فيكون مفادها مفاد الطائفة الأولى من الأمر بالإعادة.

وردّ: بأنه المفهوم من جملة (ويجعلها الفريضة) هو العهد أي اجعل صلاتك المعادة جماعة هي الفريضة.

الثالث: انها واردة فيمن هو مشغول بالصلاة ويجد الجماعة قبل فراغه عن صلاته، واستشهد عليه بالتعبير بصيغة المضارع (في الرجل يصلي).

وفيه: إنه خلاف الظاهر فإن ظاهر كلام الإمام علیه السلام بيان الوظيفة لهذا الشخص لما بيده من الصلاة المعادة.

والحق إن هذه الرواية تدل بوضوح على جواز التبديل وجعل الصلاة المبدّلة هي الفريضة، وما ذكره بعض الأعلام من الإشكال بأنه يستفاد منها هدم الامتثال وذلك بأن يقال أن الواجب كان مشروطاً من أول الأمر بشرط متأخر أي أن لا يأتي بعد ذلك بفرد آخر أفضل منه بنية جعلها هي الفريضة، فلو أتى بذلك يكون هدماً للامتثال الأول.

غير سديد وبعيد عن ظاهر الصحيحة، مع أن فرضية الشرط المتأخر إنما تكون فيما إذا لم يمكن تصحيح الكلام بوجه، والمفروض إنه لا استحالة من التبديل كما عرفت ويأتي:

الطائفة الثالثة: ما ورد بلسان أن الله يختار أحبهما إليه، وهو ظاهر في إمكان تبديل الامتثال بوضوح ولو على سبيل تحصيل الثواب الأكمل.

وأشكل عليه بأنه من قبيل الشرط المتأخر. وقد عرفت الكلام في أصل امكان فرض الشرط المتأخر في المقام مع أنه خلاف الظاهر.

والحق أن يقال: أن هذه الطوائف الثلاث تشترك في بيان أمر واحد وهو عدم سقوط الأمر من جميع جهاته فيصح التبديل والإعادة من دون إشكال ويكفي فيه قصد الأمر في الجملة ولا ينافي ذلك صحة ما ذكره جمع من الأعلام من أنّ المطلوب في بابالتكاليف هو الخروج عن عهدتها وتحصيل المصلحة المترتبة على المأمور به فإن الخروج عن العهدة يحصل بأحدهما إن تم الدليل على الإعادة والتبديل.

ثم إنه لو وصلت النوبة إلى الأصل العملي فإنه يدل على عدم كون الأمر بشرط لا عن الزيادة وعدم كونه بشرط شيء بالإضافة إلى التكرار، فيجوز الاقتصار على المرة كما يجوز الإتيان بأكثر من مرة وعدم اضراره بالامتثال.

هذا ما يتعلق بدلالة الأمر على المرة والتكرار وما يتعلق به من البحوث وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى في بحث الإجزاء.

ص: 264


1- - جامع أحاديث الشيعة - ب 54 - من أبواب صلاة الجماعة - ج1 ص455.

المبحث الرابع في الفور أو التراخي:

اختلف العلماء في دلالة الأمر على أحدهما مثل المبحث السابق فهل يدل على الفور أو التراخي أو هما مشتركان معنوياً أو لفظياً أو لا دلالة له على أحدهما؟

والحق هو الأخير لما عرفت في البحث السابق من أن الأمر لا يدل إلا على الطبيعة المجردة والهيئة إنما تدل على الطلب والبعث والاسترسال ولا تدل بشيء من الدلالات على الفور أو التراخي والمادة على مجرد الحدث والمتعلق والنسبة للربط إلا إذا دل دليل خاص على أحدهما.

فما هو المناط في البحث السابق يجري في هذا البحث أيضاً من دون تفاوت وليس هو من القياس كما ادعاه البعض.

وقيل: بأنه للتراخي لأن الفور محال فلا اشتراك لعدم إمكانه بعد عدم تعقل الفور. (وفيه) إن البحث في الفور الممكن لا المحال.

وقال بعض المحققين: بأنه للفور واستدل عليه تارةً بالعقل لأنّ المقولات الاعتبارية ومنها الأوامر الشرعية كالمقولات الحقيقية فإنه كما يستحيل تخلّف المعلول عن علته تكوينياً كذلك يكون في التشريع لأن الأمر بمنزلة العلة. وأخرى بالعرف حيث أن الفور من وظائف العبودية عرفاً. وثالثة بالشرع كآيتي الاستباق والمسارعة.

(وفيه)أمّا الأول: فلأن الأحكام معلولات حقيقة لكونها تابعة لمصالح ومفاسد واقعية إلا أن تلك الأحكام مرتبطة بالعلل لا بالأوامر فهي ليست عللهُا، وعلى فرض التنزُّل فإن الكلية ممنوعة لان المقولات الاعتبارية ليست كالمقولات الحقيقية مطلقاً.

وأمّا الثاني: فلأن وظيفة العبودية اتباع كيفية الأمر والمفروض اختلافها في المقام وما ذكره من صغريات نظرية حق الطاعة وسيأتي في الموضع المناسب بيانها.

وأمّا الثالث: فيمكن الإشكال عليه بوجوه:

الأول: ان الاستباق إلى الخيرات ليس بواجب مطلقاً إذ قد يجب السبق كما في الواجب الفوري دون المستحب والمتراخي فإنه لا يجب السبق فيهما.

وأما المسارعة فلأنه وإن كان يجب العمل بأسباب المغفرة لأن في تركه يترتب الضرر العظيم، ولكن دخول الجنة قرينة الأعم من المغفرة اللازمة وغيرها.

الثاني: انه لو كانت الآيتان وغيرهما للوجوب فإنه يستلزم تخصيص الأكثر وهو مستهجن.الثالث: ما ذكره المحقق العراقي رحمه الله من أن الاستدلال بالآيتين يلزم من وجوده عدمه لأن السبق إلى أحد الخيرات يستلزم عدم خيرية الأخريات، إذ لا خير فيما يعارض الخير فيسقط الخير المسبوق إليه عن كونه خيراً فلا استباق.

وفيه: ان ملاك الخير يبقى في المتزاحمات وإن لم يكن على الفعلية فيها مع أنّ الخطاب في الآية إلى الجماعة والمتعلق متعدد فلا يتصور تعارض الخيرات.

الرابع: ما ذكره المحقق الخراساني رحمه الله من أنه لا يستفاد من الآيتين الوجوب إذ لو كان الأمر فيهما الزامياً لكان الأنسب بيان ذلك بذكر لازم الوجوب من ترتب العقوبة على المخالفة رأساً.

ص: 265

وأشكل عليه بأن ما ذكره يجري في جميع الأوامر الالزامية، فإنّ المقصود فيها بيان لزوم الفعل فاللازم على ما ذكره بيان الوجوب ببيان لازمه وهو أمر لا يقول به أحد إذ لا فرق بين المقام وغيره.

والحق أن يقال أنّ حسن المسارعة إلى الامتثال من المرتكزات في أذهان العرف كما أن حسن المسارعة إلى المغفرة والاستباق إلى الخيرات من الأمور المحبوبة في النفوس والمرتكز في الأذهان.

فلا تكون الآيتان لو تمت دلالتهما إلا إرشاداً إليها فلا يستفاد منها حكم الزامي مولوي إلا أن تقوم قرينة خاصة عليه وهذا هو مراد المحقق الخراساني رحمه الله وقوله بأنّ الآيتين تدلان على الإرشاد لاستقلال العقل بحسن ذلك كالأمر بالطاعة والحاصل إن حسن الفورية مقتضى المرتكزات ، والتراخي مقتضى سهولة الشريعة ولا يتعين أحدهما إلا بدليل معتبر.

ثم إنه لو ترك الفورية فهل يلزم إتيانه فوراً ففوراً أو يسقط الأمر، أو يبقى لا فوراً ، ذكر بعض الأصوليين أنّ النزاع مبني على دلالة الصيغة على أخذ الفورية - لو قلنا به - على نحو وحدة المطلوب أو تعدده بحيث يتعلق طلب بذات العمل وطلب آخر بالإتيان به فوراً فيجب إتيان العمل على الثاني ولا يجب على الأول لأن المقيد يزول بزوال قيده بخلاف تعدد المطلوب فإنّ عصيان أحد الخطابين لا يستدعي سقوط الخطاب الآخر.

وبعد إثبات وجوب الإتيان يأتي الكلام في كونه فوراً ففوراً.

والحق إنه لا يمكن إثبات أحد الوجهين من نفس الأمر، ولم يقم دليل خارج على أحدهما أيضاً فالمرجع ما ذكرناه من أنّ المرتكز في الأذهان والنفوس حسن المسارعة إلى الامتثال والمسارعة والاستباق إلى الخيرات فلو ترك الفورية لا يرتفع حسنه بل يبقى الحسن فوراً ففوراً حتى يأتي المأمور به ويسقط التكليف ومن جميع ذلك تظهر المناقشة فيما ذكره السيد الخوئي وبعض الأعلام في المقام فراجع.

ولو وصلت النوبة إلى الأصل العملي فإنه يقتضي استصحاب أصل الطلب لا فوره إن كان الزمان ظرفاً له، وأمّا إذا كان مفرّداً أو لم يعلم كيفيته فالأصل البراءة.

المبحث الخامس في الواجب التعبدي والتوصلي:

ولا ريب في وقوعها في الشرع الحنيف وإنما الكلام في أن مفاد الأمر في الواجبات هل هو التوصلية أو التعبدية ؟ وبيان ذلك يتم في ضمن أمور:الأول: في بيان المراد من التعبدي والتوصلي وقد ذكروا لهما معانٍ متعددة والمعروف منها أربعة:

الأول: التوصلي ما يسقط ولو بفعل الغير ويقابله التعبدي أي ما لا يسقط إلا بفعل الإنسان نفسه مباشرة.

الثاني: التوصلي ما يسقط ولو كان صادراً عن المكلف اضطراراً وإلجاءً ويقابله التعبدي وهو ما لا يسقط إلا بإتيان المكلف له طوعاً واختياراً.

الثالث: التوصلي ما يسقط ولو بإتيانه في ضمن فرد محرم ويقابله التعبدي الذي لا يسقط إلا بإتيانه في ضمن فرد لا ينطبق عليه عنوان محرم.

ص: 266

الرابع: التوصلي بمعنى عدم إحتياجه إلى قصد القربة وسقوطه ولو بدون داع القربة وأمّا التعبدي فهو ما يحتاج إلى قصد القربة وأمثلة كل واحد منها واضحة وكثيرة ويترتب عليها ثمرات فقهية وأصولية.

وقد جعل السيد الخوئي رحمه الله بين المعنى الرابع والمعاني الثلاثة الأولى من وجوه النسب نسبة العموم من وجه وقد ذكر أمثلة في بيان مادة الافتراق بين الطرفين بما لا يخلو عن إشكال فراجع.

وقد ذكروا أيضاً معانٍ أخرى للتعبدي والتوصلي إلا أن المناقشة فيها ظاهرة ولذا أعرضنا عن ذكرها ، والمهم بيان الأصل عند الشك في كون الواجب تعبدياً أو توصلياً فهل هو التعبدية أو التوصلية في كل واحد من تلك المعاني ، والمناسب لمباحث الألفاظ أن يكون الأصل المبحوث عنه هو الأصل اللفظي دون الأصل العملي ولكن الأعلام ذكروه في المقام بالمناسبة.

وغير خفي من أنه إذا ثبت الأصل اللفظي سواء كان الإطلاق أو غيره لا تصل النوبة للأصل العملي وبعد فقد الأول وعدم إمكان إثباته يبحث عن أن الأصل العملي هل هو التعبدية أو التوصلية فيقع الكلام في أصالة التعبدية والتوصلية بكل واحد من المعاني الأربعة ضمن مسائل:

الأولى: إذا شك في سقوط الواجب بفعل الغير فهل يقتضي الأصل هو سقوطه فلا يحتاج إلى مباشرة المكلف نفسه بإتيانه، أو لا يقتضي ذلك فلا يسقط إلا بإتيانه بنفسه فتارة نبحث عن مقتضى الأصل اللفظي وأخرى عن الأصل العملي.

أمّا الأصل اللفظي فقد ذكر جمع من الأصوليين من أن مقتضى القاعدة هو التعبدية وعدم سقوط الواجب بإتيان غير المكلف نفسه لأنّ الشك فيه يرجع إلى الشك في إطلاق الهيئة أي في سعة دائرة الوجوب وضيقه لا في إطلاق المادة أي سعة الواجب وضيقه لأنّ فعل الغير باعتباره خارجاً عن اختيار المكلف وقدرته فلا يكون مشمولاً لإطلاق المادة، فالشك في إطلاق المادة لا منشأ له إلا احتمال تقييد الوجوب -أي الهيئة- بما إذا لم يفعله الغير ومع الشك فيه يكون مقتضى إطلاق الهيئة عدم السقوط.

وأشكل عليه بعض الأعلام:

أولاً: بأن فعل الغير قد ينسب إلى المكلف فيكون مقدوراً له كما إذا أمر عبده أو ابنه أو استأجر شخصاً لتنظيف المسجد مثلاً، ففي كل مورد يمكن للمكلف الجاء الغير أو إيجاد الداعي في نفسه للفعل يمكن أمره بذلك أو إطلاق الأمر له.ثانياً: وعلى فرض عدم كون فعل الغير مقدوراً له كما في غير موارد التسبب، إلا أنه لا يوجب عدم الإطلاق في مادة الأمر ومتعلقه إذ يمكن تعقل تعلق الأمر والتكليف بالجامع بين فعل المكلف وفعل الغير فتتسع دائرة الواجب ليشمل الفعل مطلقاً أو التسببي فقط، فمن ناحية القدرة لا يمكن أن تكون مانعة عن إطلاق متعلق الأمر.

والصحيح أنّ كلا الايرادين خارجان عن الغرض الذي شرعت لأجله التكاليف مطلقاً لاسيما الشرعية منها فإنّ المرتكز العرفي أنها شرعت لغرض تكميل النفوس وتهذيبها ولا يحصل ذلك إلا بمباشرة المكلف لامتثالها فقد أخذت النسبة الفعلية في صدور الأمر والنسبة الإرسالية الإنشائية إنما حصلت وفق هذه الفعلية الصدورية، ومن المعلوم إنه

ص: 267

مع تحقق الفعل من الغير لا يتحقق ذلك الغرض ولا تصدق تلك النسبة الصدورية الفعلية المأخوذة في متعلق الأمر، فيكون مقتضى القاعدة عدم سقوط التكليف بأداء غير المكلف، فيكون مقتضى الأصل التعبدية بالمعنى الأول.

إلا أنه قد يعارض هذا الأصل الأولى ما يدل على عدم اعتبار المباشرة فيما إذا دلّ الدليل على أنّ المراد من التكليف صدور الفعل مطلقاً من المكلف أو من الغير سواء كان مستنداً أو متسبباً إلى المكلف أو لا فيكون الأصل في مثل ذلك التوصلية هذا كله بحسب الأصل اللفظي.

أما الأصل العملي فقيل بل هو المعروف بين المحققين إنه الاحتياط وقالوا في تقريبه:

أولاً: بأنه من الشك في السقوط بعد اليقين باشتغال الذمة المستدعي لليقين بالفراغ.

ثانياً: بالتمسك باستصحاب بقاء الوجوب وعدم سقوطه بفعل الغير.

وأشكل عليه بعض الأعلام بأن الشك في المقام إمّا أن يكون في الشك في الواجب باعتبار أنّ منشأ الشك في السقوط بفعل الغير لاحتمال كونه مصداقاً للواجب باعتبار معقولية تعلق التكليف بالجامع بين فعله وفعل غيره فيكون مرجع الشك في المقام إلى الشك في سعة وضيق دائرة الواجب ومتعلق الوجوب في أنه الحصة المباشرة أو الأعم منها ومن فعل الغير . وإمّا أن يكون الشك في الوجوب باعتبار أنّ منشأه الشك في تقييد الوجوب الذي هو مفاد الهيئة بما إذا لم يأت به الغير مع العلم بأنّ الواجب الذي هو مفاد المادة خصوص الفعل المباشري.

ففي الفرض الأول يكون مقتضى الأصل هو البراءة لأن الشك في المورد يرجع إلى الدوران بين الأقل والأكثر لأنّ أصل الفعل الجامع معلوم وإنما الشك في خصوصية المباشرة فيجري فيه أصل البراءة عن وجوبها فلا مجال للاشتغال أو الاستصحاب.

وفيه:

أولاً: أن القائل بالاحتياط لا يرى وجهاً لتعلق الأمر بالجامع ويحكم بعدم معقوليته في المقام.

وثانياً: إنه محكوم بالمرتكز العرفي فإن مقتضى الأصل الأولي هو تعلق التكليف بالمكلف نفسه واعتبار النسبة الصدورية الفعلية وهو يقتضي الاشتغال ما لم يخرج عن العهدة ومع الشك في الخروج من العهدة فالمرجع الاحتياط فلا يبقى مجال للبراءة والدوران بين الأقل والأكثر.وأمّا في الفرض الثاني من الشك فقال: فإن كان منشأه من جهة احتمال اشتراط الوجوب بعدم فعل الغير بحيث يكون فعله رافعاً من أول الأمر بنحو الشرط المتأخر فإنّ مقتضى الأصل العملي هو البراءة لا الاشتغال ولا الاستصحاب لكون الشك في ارتفاع الوجوب من أول الأمر.

وفيه: إنه مخالف للمرتكز العرفي - كما عرفت - الذي يدل على اشتراط المباشرة وعليه تدور النسبة الصدورية الفعلية فلا وجه لاحتمال اشتراط الوجوب بعدم فعل الغير وإن كان على نحو الشرط المتأخر.

وإن كان على نحو الشرط المقارن فيكون فعل الغير رافعاً للوجوب من أول الأمر .

ص: 268

فقد أشكل عليه بأن سقوط الوجوب بفعل الغير بقاءً إنما يكون من جهة احتمال زوال المحبوبية وارتفاعها بفعل الغير أو من جهة أن فعل الغير سبب قوات الملاك بنحو لا يمكن تحصيله بعد ذلك، ومقتضى الأصل فيها هو الاستصحاب لتمامية أركانه دون الاشتغال لأن الشك في أصل المحبوبية هو من الشك في أصل التكليف كما أنّ الشك في فوات الملاك بفعل الغير فلأن الأمر يدور فيه بين إذن الشارع فيه وبين عدم فوات الملاك بفعل الغير وهو يرجع إلى الشك في أصل الإذن ومورده البراءة.

وفيه: إنه تفصيل مخالف للمرتكز العرفي فالمرجع في الشك فيه هو عدم فوات الملاك والمرجع فيه الاستصحاب.

ولعله لذلك عقّب بأنه لو فرضنا الالتزام بمفوتية فعل الغير وجوب البدار جرت أصالة الاشتغال.

والحاصل أنه بناء على المرتكز العرفي يشك في سقوط التكليف عن المكلف لو أتى به الغير فالمرجع قاعدة الاشتغال ولا ترفع اليد عنها إلا أن يدل دليل على رضا الشارع وإذنه بفعل الغير وسقوط الغرض أو الملاك والمحبوبية، نعم قد يكون الالتزام الفقهي في كثير من الموارد سقوط كل واحد مما ذكر لما يستفاد من الأدلة الواردة في خصوص ذلك المورد فيكون المرجع حينئذٍ البراءة لا الاشتغال.

المسألة الثانية: في الشك في سقوط الواجب بالحصة غير الاختيارية من فعل المكلف والبحث فيه تارة يكون بحسب الأدلة اللفظية من الإطلاق والأصل اللفظي ، وأخرى بحسب الأصل العملي.

أمّا الأولى: فإن ثبت إطلاق للمادة فهو يقتضي التوصلية فلابد أن يسقط الواجب ولو كان في ضمن الحصة غير الاختيارية وتتحقق الإجزاء لأن ما وقع يكون مصداقاً له لا محالة فلا يبقى أثر للتمسك بإطلاق الهيئة حينئذٍ وإن لم يثبت الإطلاق للمادة بل ثبتت الحصة الخاصة الاختيارية من الفعل بالقرينة أمكن الرجوع إلى إطلاق الهيئة في إثبات التعبدية فيبقى الوجوب لو وقعت الحصة في ضمن الفرد غير الاختياري فالبحث يقع في اثبات إطلاق المادة وعدمه فإن أمكن يثبت السقوط وإلا فالمرجع إطلاق الهيئة فلا يسقط.

فقد قيل: إن الظاهر أن مقتضى الإطلاق اللفظي للمادة هو التوصلية والاجتزاء بالحصة غير الاختيارية من الفعل ولكن قد منع عنه بوجوه:الأول: ما ذكره المحقق النائيني رحمه الله من أنّ ظاهر الأمر هو المحركية وإيجاد الداعي في نفس المكلف وحيث أنه يستحيل التحريك نحو غير المقدور فيكون هذا الظهور الحالي مقيداً لبياً متصلاً بالخطاب يقيد متعلقه بالحصة المقدورة بالخصوص، فتكون وظيفة الأمر تقتضي تعلقه بالفعل الإرادي دون غيره((1)).

وأورد عليه بأنّ متعلق الأمر هو الجامع بين الفعل الاختياري والفعل غير الاختياري وهو مقدور واختياري، وتعلق الأمر بالجامع لا ينافي داعي التحريك والباعثية كما هو غير خفي.

ص: 269


1- - أجود التقريرات - ج1 / ص153 - مصدر سابق.

وفيه: أنه لا يرفع الإشكال فإن تعلق الأمر بالجامع وإن كان لا ينافي كون الأمر بداعي التحريك والباعثية لكنه يختص بالفعل الإرادي إذ لا يمكن إحداث الداعي إلى الفعل مع الغفلة وبدون الإرادة فلابد من أن يكون ما يصدق عليه أنه مأمور هو الفعل الخاص وهو التوأم مع الإرادة لا الفعل مطلقاً.

وأمّا الردُّ عليه بأن الأمر ليس جعل الداعي والتحريك وإنما هو جعل الفعل في عهدة المكلف فيكون نظير اشتغال الذمة فلا مانع من تعلقه بغير الاختياري من الأفعال وغير المقدور نظير اشتغال الذمة بهما، فهو غير وجيه لعدم صحة البناء والمبنى كما عرفت مكرراً.

الثاني: ما ذكره المحقق المذكور رحمه الله : ما دلّ على اعتبار الإرادة والقدرة على متعلق التكليف في صحة التكليف وتوجهه فلا يتعلق التكليف بالفعل غير الاختياري بحكم العقل . وردّ عليه بعدم اعتبار الاختيارية والقدرة في صحة التكليف.

وفيه: إنه إيراد مبنائي، فإنّ مبنى المحقق النائيني هو اعتبار المركبة من الأمر وجعل الداعي واعتبار القدرة في متعلق الأمر في صحة التكليف.

الثالث: ما ذكره السيد الخوئي رحمه الله من أنه على مبنى كون التقابل بين الإطلاق والتقييد هو العدم والملكة فإذا استحال التقييد استحال الإطلاق، فلا يتم إطلاق المادة للحصة غير الاختيارية لأنه يستحيل تقييدها بذلك فيستحيل إطلاقها لها أيضاً((1)).

وفيه: إن تقييد المادة بالحصة الاختيارية ممكن كما هو واضح، فلابد أن يكون إطلاقها المستلزم للانطباق على الحصة غير الاختيارية ممكناً.

الرابع: لزوم اللغوية إذا ثبت الإطلاق للمادة ليشمل الحصة غير الاختيارية لعدم إمكان الانبعاث نحوها.

ويرد عليه: أن الفائدة لا تنحصر بذلك بل يعقل أن تكون الفائدة على الإطلاق إنه إذا وقع الفعل غير الاختياري أمكن الاجتزاء به.

والحق أن يقال إن الأفعال لا بموادها ولا بهيئاتها لا تدل على أخذ الإرادة والاختيار فيهما لا الاختيار مقابل الكراهة ولا الاختيار مقابل الاضطرار.

فإن مادة الأكل والشرب لا تدل إلا على صدق الأكل والشرب سواء كان عن إرادة أو عن اضطرار وإكراه، وهكذا بالنسبة إلى هيئة أكل وشرب، ويأكل ويشرب بلا فرقبين أنواع الهيئات الماضي والمضارع وغيرها فيمكن التمسك بإطلاق المادة لإثبات التوصلية بهذا المعنى إلا إذا ثبت ظهور على خلافه كما سيأتي.

وذكر بعض الأصوليين إنه يمكن إثبات التوصلية ولو لم يكن إطلاق للمادة للوجوه المتقدمة بأحد وجهين:

الأول: إنه بعد سقوط الأمر خطاباً عند المزاحمة لا يمكن إثبات الملاك إلا بأحد طريقين إمّا بإطلاق المادة وإما التمسك بالدلالة الالتزامية لأن الدلالة المطابقية لدليل الحكم تتكفل ثبوت الحكم للمتعلق، وبالدلالة الالتزامية تتكفل ثبوت الملاك في المتعلق لملازمة ثبوت الحكم لثبوت الملاك لأنه معلول للملاك، فإذا انتفت الدلالة المطابقية من إجل الدليل على

ص: 270


1- - محاضرات في اصول الفقه - ج2 / ص150- مصدر سابق.

سقوطها عن الحجية، لكن ذلك لا يستلزم نفي الدلالة الالتزامية عنها لأنها تابعة للدلالة المطابقية في الوجود لا في الحجية، كما هو المعروف بين المحققين.

ويمكن الإشكال عليه بوجوه وفيه الرد على السيد الخوئي في اعتراضه على أستاذه أيضاً.

الأول: وهو عدم ثبوت الإطلاق للمادة بلحاظ الملاك لأن المقيد لإطلاق المادة بلحاظ الخطاب في المقام هو الظهور الحالي في الجعل بداعي المحركية والباعثية وقد عرفت أنه متصل بالمادة فيمنع عن أصل انعقاد الإطلاق في المادة بلحاظ الخطاب ومعه لا ينعقد إطلاقها بلحاظ الملاك وهذا بخلاف باب التزاحم بناءً على استحالة الترتب وسقوط الإطلاق في مادة أمر المهم فإنّ السقوط إنما هو بلحاظ المعارضة مع الأمر الآخر المقدم عليه بالأهمية فاختلف البابان في جهة السقوط.

وأمّا الثاني: فلأن عدم سقوط الدلالة الالتزامية عن الحجية إذا سقطت الدلالة المطابقية عنها إنما هو فيما كان ارتفاع الحكم بدليل منفصل بحيث لا يتصرف في ظهور الكلام بل يقتضي نفي حجيته فقط أما إذا كان الدليل متصلاً أو كالمتصل كما في المقام بحيث أوجب التصرف في ظهور الكلام ورفع أصل الدلالة المطابقية لا خصوص حجيتها. ولابد أن تنفي الدلالة الالتزامية لتبعيتها لها في الوجود، كما لا يخفى والمقام من قبيل الثاني.

الثاني: ان الإطلاق للمادة بلحاظ الملاك بعد سقوط إطلاقها بلحاظ الخطاب يتعارض مع إطلاق الهيئة المقتضي لعدم تحقق الامتثال إلا بالحصة الاختيارية التي هي متعلق الوجوب بحسب الفرض وهذا بخلاف موارد التزاحم الذي يكون فيه الأمر المهم ساقطاً على كل حال.

الثاني من الوجهين: ما يستفاد من كلمات المحقق العراقي رحمه الله أنّ هنا إطلاقان أحدهما إطلاق المادة والآخر إطلاق الهيئة والأصل. إنّ الأصل اللفظي وإن لم يكن مقتضياً للإجزاء والسقوط لو أتى بالفعل بغير إرادة واختيار لكنه لا يقتضي أيضاً عدم السقوط، ومنشأ الشك هو إطلاق الهيئة الذي بمنزلة القرينة المتصلة بالمادة فيكون إطلاق المادة مانعاً من انعقاده ورافعاً له، فإن كان المقيد لإطلاق المادة متصلاً بها كما ذكره المحقق النائيني رحمه الله في البرهان العقلي انهدم بذلك الظهور الإطلاقي في المادة فلم يبق مانع عن انعقاد الظهور الاطلاقي في الهيئة.وأمّا إذا كان المقيد برهاناً نظرياً ومقيداً منفصلاً فقد انعقد إطلاق للمادة ويكون هادماً لإطلاق الهيئة من أول الأمر، فإذا سقطت حجية إطلاق المادة بعد ذلك بمقيد منفصل فلا يوجب هذا انعقاد إطلاق الهيئة بعد سقوطه من جديد.

فحينئذٍ يؤخذ بإطلاق المادة للاجتزاء بالحصة غير الاختيارية إلا إذا دلَّ دليل على عدم الاجتزاء وقد عرفت عدم تماميتها.

وفيه:أولاً: إن الدليل والبرهان الذي أوجب انهدام الظهور الإطلاقي في المادة عند من أثبتها كالمحقق النائيني هو من المقيّد المتصل اللبي كما عرفت فالاحتمال الثاني غير تام.

وثانياً: النقض بسائر موارد التقييد كما إذا أمر بالغسل - مثلاً - وورد في دليل منفصل اشتراط كون الماء مباحاً ونحوه من الشروط التي لا دخل لها في المسمى فإنه لا يوجب

ص: 271

الاجتزاء بما إذا جاء المكلف بالواجب الفاقد للقيد لعدم التمسك بإطلاق الهيئة لإثبات الوجوب.

وثالثاً: إذا ثبت ظهور عرفي يدل على اعتبار الإرادة والاختيار في متعلق الأمر فلابد أن تكون النسبة الإرسالية في الهيئة على طبق ذلك الظهور وحينئذٍ لا يدع مجالاً للتفصيل المزبور، وهذا هو الحق الذي يعتمد عليه في اعتبار الحصة الاختيارية فلا يجتزئ بغيرها ولا يسقط الواجب إلا إذا دلّ دليل على الاجتزاء كما في سائر التوصليات، وعليه تحمل الأمر على التعبدية بهذا المعنى ولو وصلت النوبة إلى الأصل العملي فهو يقتضي الاشتغال كما عرفت سابقاً.

نعم قد يرجع في كثير من الفروع الفقهية إلى البراءة ولعلّ الوجه في الرجوع إلى البراءة يرجع إلى إمكان إثبات إطلاق المادة ليشمل الحصة الاختيارية وغير الاختيارية بلحاظ الملاك والمصلحة حتى في فرض عدم التمكن من التمسك بإطلاق المادة بلحاظ الخطاب كما ذكرناه آنفاً وإثبات ذلك يكون إمّا لأجل حصول القطع بأن إرادة المكلف لا دخل لها في الملاك والمصلحة لأنه لو كان لها دخل لكانت تؤخذ في متعلق الأمر، أو من أجل أن التضييق الحاصل من أخذ القدرة في متعلق الأمر من ناحية الأمر باعتبار أنه لا يمكن تعلقه بغير المقدور، لا أنه قبيح ، وإن شرط حسن الخطاب أن يكون المأمور به مقدوراً، فإنه لا يمكن أن يكون دخيلاً في المصلحة لأن وجود الأمر معلول للمصلحة فلا يمكن أن يكون معلوله علة للمصلحة.

فلو فرض سقوط الخطاب وقصور الأمر عن شموله للحصة غير الاختيارية فلا قصور للملاك والمصلحة نظير ما قيل في باب التزاحم من إمكان إثبات الاجتزاء بالضد المهم المزاحم بالأهم بناءً على استحالة الترتب وذلك بالتمسك بإطلاق المادة بلحاظ الملاك وإن سقط إطلاقها بلحاظ الخطاب بسبب المزاحمة بالأهم، ولذا جعل السيد الخوئي ذلك نقضاً على المحقق النائيني رحمه الله الذي صحح التمسك بإطلاق المادة بلحاظ الملاك في بحث الترتب ومنعه في المقام.

المسألة الثالثة: في الشك في سقوط الوجوب بالحصة المحرمة من مصاديق الواجب فهل الأصل يقتضي التعبدية فلا يسقط بالحصة المحرمة أو التوصلية بمعنى السقوط ولو كان الواجب في ضمن الفرد المحرم ؟فيقع الكلام أيضاً تارة من حيث الأصل اللفظي وأخرى من حيث الأصل العملي والظاهر عدم تعلق الوجوب بالفرد المحرم لدلالة المرتكز العرفي عليه فلا يكون الفرد المحرم من أفراد الواجب إلا إذا ثبت خلافه بدليل آخر يدل على الاجتزاء ولو في ضمن الحصة المحرمة وإذا حصل الشك في إسقاطها للوجوب فإنه يرجع إلى الشك في إسقاط غير الواجب للوجوب وحينئذٍ يصح التمسك بالإطلاق في بقاء الوجوب ، وهذا هو مقتضى قاعدة الاشتغال أيضاً إذا لم يمكننا التمسك بالأصل اللفظي.

وهذا المقدار يكفي في إثبات الحكم ويغنينا من الرجوع إلى التفصيلات المذكورة في المقام ولم يذكر السيد الوالد رحمه الله هذا القسم في المقام لما سيأتي بحثه في مسألة الاجتماع.

ثم إنهم ذكروا وجوهاً:

ص: 272

الأول: ما ذكره بعض المحققين من أنه إمّا أن تكون نسبته دليل الحرمة إلى دليل الوجوب نسبة العموم والخصوص المطلق وإمّا أن تكون النسبة العموم من وجه.

فإن كان من قبيل الأول بأن كانت الحرمة متعلقة بالمقيد من العنوان الواجب كما إذا ورد وجوب الغسل بالعنوان المطلق وورد تحريم الغسل بعنوانه المقيد أي بماء المسخّن مثلاً.

فإطلاق المادة لا يشمل الحصة المحرمة حتى لو قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي إذ من يقول بجواز الاجتماع إنما يقول به فيما إذا كانا بعنوانين متباينين مفهوماً كالغصب والصلاة.

وأمّا إذا كانت الحرمة بعنوان آخر وكانت النسبة بينها وبين دليل الوجوب العموم من وجه فإنه بناءً عليه يدخل في مسألة الاجتماع فإن قيل بالامتناع لم يشمل إطلاق المادة للحصة المحرمة فيتمسك بإطلاق الهيئة لإثبات عدم الاجتزاء وإن قيل بالجواز أمكن التمسك بإطلاق المادة فيثبت الاجتزاء.

الثاني: ما ذكره المحقق النائيني رحمه الله من ابتناء المسألة على أشتراط الحسن الفاعلي في الواجب مضافاً إلى حسنه الفعلي فإنه بناءً على ذلك لا يحصل الاجتزاء لأن الفصل وإن كان مصداقاً للواجب والحرام بناءً على الجواز إلا أنهما موجودان بإيجاد واحد وفاعلية واحدة فليس له حسن فاعلي، وأمّا إذا قلنا بعدم اشتراط الحسن الفاعلي فلا بأس بإطلاق المادة والحكم بالاجتزاء((1)).

ولكن الصحيح أنه لا حاجة إلى كل واحد من التفصيلين بعدما عرفت من أن الشك في الاجتزاء بالفرد المحرم يرجع إلى الشك في إسقاط غير الواجب للوجوب فيرجع فيه إلى إطلاق الهيئة في بقاء الوجوب ، مع أن الوجه الثاني غير صحيح في نفسه وعلى فرض اشتراط الحسن الفاعلي فإنه يصح التمسك بإطلاق المادة بناءً على جواز الاجتماع.فإن من يقول بالجواز إمّا ان يقول بتعدد الوجود فما يكون متعدداً وجوداً يكون متعدداً إيجاداً وفاعلية فيكون الحسن الفاعلي محفوظاً وإمّا أن يقول بالوجود الواحد لكنه فيه جهتا اجتماع حسن وقبح وحرمة ووجوب فيمكن أن يفرض أن تكون الفاعلية الواحدة مجمعاً للحسن والقبح في وقت واحد من جهتين أيضاً.

وأمّا البحث عن الأصل العملي فقد عرفت أن قاعدة الاشتغال تقتضي عدم الاجتزاء بالفرد المحرم ، وقيل: إنه من الشك في الأقل والأكثر سواء قيل بامتناع الاجتماع أو بالجواز، أمّا على الجواز فلأنه يعلم بتعلق الوجوب بالجامع بين الحصتين ويشك في التقييد بخصوصيته المحللة فتجري البراءة وأمّا على الامتناع فإن الشك فيه من الشك في المسقط لأن تعلق الوجوب بالجامع مستحيل حسب الفرض غاية الأمر يشك في تقييد الوجوب بعدم الإتيان بالحصة المحرّمة وعدمه.

فيكون شكاً في المسقط فيجري فيه ما مضى في الشك في المسقط.

والحق أن الشك في المقام مرجعه إلى الشك في المسقط للوجوب وسببه إسقاط غير الواجب للوجوب فالقاعدة تقتضي الاشتغال أو الاستصحاب كما عرفت.

ص: 273


1- - أجود التقريرات - ج 1 / ص 102 مصدر سابق.

هذا هو تفصيل ما أجمله السيد الوالد رحمه الله في الأول من الأمور الختامية لهذا المبحث((1)).

المسألة الرابعة: في التعبدي والتوصلي بالمعنى الرابع من المعاني المتقدمة الذي هو المشهور في العبادات بمعنى عدم سقوطها إلا مع قصد القربة، والتوصلي ما لا يعتبر فيه ذلك. وقبل الخوض في بيان مقتضى الأصل لابد من تقديم أمور:

الأول: في المراد من قصد القربة: فقيل هو عبارة عن قصد الأمر فقط، وذهب إليه جمع من الفقهاء منهم صاحب الجواهر رحمه الله وعلى هذا الأساس أنكر الشيخ البهائي رحمه الله الثمرة في بحث الضد باعتبار أن العبادة تتوقف على قصد الأمر ولا أمر بالضد الأهم ولو لم نقل باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاص.

وقيل: ان قصد القربة عبارة عن قصد المصلحة والملاك التي هي السبب في الأمر، ذهب إليه الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله وفيه: أن قصد المصلحة والملاك التي هي العلة للأمر يرجع إلى قصد الأمر، وهكذا قصد كل ما هو واقع في سلسلة معاليل الأمر فإن قصدها بما هي معاليل للأمر يرجع إلى قصده.

وقيل: انه عبارة عن كل ما يكون موجباً لمرضاة الله تعالى والتقرب إليه من الوجوه التي ذكروها في الفقه وأنهاها الشهيد الثاني في الروضة إلى العشرة.

والظاهر هو الأخير لأنّ الأدلة اللفظية من الكتاب والسنة لا تدل على أكثر من أنّ العبادة يلزم أن يكون إتيانها ابتغاء مرضاة الله تعالى والتقرب لدى جنابه، فيكون قصد كل واحد من تلك الوجوه المذكورة في الفقه يكفي في تحقق العبادة وصدق الامتثال.

الثاني: بيان ما يتحقق به التقرب وما به قوام العبادة:

ذكر جمع من العلماء أن ما يتحقق به التقرب إلى الله تعالى هو إتيان الفعل لمجرد ابتغاء مرضاته عزَّ وجلَّ وهو يتحقق بإتيان الفعل بالدواعي القربية المعروفة كداعي أهلية المولى أو الشكر والتخضع والمصلحة أو تحصيل الثواب أو الفرار من العقابلأن المستفاد من الأدلة اللفظية هو كون العبادة لابتغاء مرضاة الله عزَّ وجلَّ، كما عرفت آنفاً.

وذهب المحقق الاصفهاني رحمه الله إلى أن التقرب لا يتحقق إلا بإتيان الفعل بداعي الأمر لأن به يتعنون الفعل بعنوان حسن وهو موجب لاستحقاق الثواب وذلك لأنّ استحقاق المدح والثواب عقلاً على شيء يتوقف على أمرين:

الأول: أن ينطبق عنوان حسن بالذات أو بالعرض على ذلك الشيء وإلا فإن مجرد المشي إلى السوق مثلاً لا يمدحه العقلاء ما لم يتعنون بعنوان حسن حتى لو جيء به بداعي الأمر لأنه لا يوجب المدح ما لم يوجب تعنون الفعل بعنوان حسن.

الثاني: أن يؤتى به مضافاً إلى من بيده ومن يستحق من قبله الثواب والمدح فإن الفعل بدون ارتباطه بالمولى تكون نسبته إليه وإلى غيره على حدّ سواء، فلابد أن يكون مرتبطاً بالمولى وهو إمّا أن يتحقق بنفس الفعل كتعظيم المولى أو بواسطة الأمر كالصلاة فإنها بنفسها لا يمكن ربطها بالمولى لأنها ليست من الأفعال المضافة إلى الغير كالتعظيم، وعليه فالإتيان بالفعل بداعي الأمر يكون موجباً لاستحقاق المدح لأنه بذلك يتعنون لما هو حسن في نفسه وهو الانقياد والإحسان مع ارتباطه بالمولى بقصد أمره أمّا الإتيان به

ص: 274


1- - تهذيب الاصول - ج1 / ص69 - مصدر سابق.

بالدواعي القريبة الأخرى التي ذكرناها فلا يوجب مدحاً ولا ثواباً ثم ذكر تفصيل ذلك فراجع كتابه نهاية الدراية((1)).

والحق أن يقال: إن الاستحقاق تارة يتحقق من ثبوت حق للمستحق على من عليه الحق كما في الدين والمعاملات المعاوضية كالبيع والإجارة ونحوهما وأخرى يتحقق من أجل قابلية المستحق لما استحقه ولياقته بحيث لا يكون المدح ارتجالياً، بمعنى أنه لو أعطي ذلك كان في محله لا أن يكون له حقاً لازماً في عهدة غيره.

والمراد بالاستحقاق في المقام هو الثاني لا الأول، وبه يمكن الجمع بين القول بأن الثواب على العمل من باب الاستحقاق والقول بأنه تفضُّل من المولى ولا ريب أن هذه اللياقة في العبد إنما تحصل من مقتضيات من جملتها كون الفعل الذي يأتي به ذا وجه حسن عند العقلاء بحيث إذا مدحوه عليه صار لائقاً لنيل الثواب والشارع الأقدس سيد العقلاء وخالقهم فلا يحتاج العبد حينئذٍ أن يأتي بالفعل مرتبطاً إلى المولى كما ذكره المحقق الاصفهاني وإن كانت إضافته إلى المولى مما يوجب مزيد الحسن لا أن يكون منحصراً فيه.

ومن ذلك يظهر أن النزاع لفظي إذ لم يوجد مورد من الأفعال التي تعلّق بها الأوامر هي خالية من الحسن وإن كان إدراكه يحتاج إلى تأمل لكن عدم دركه ليس دليلاً على نفيه عنها.

الرابع: المعروف أن كل ما هو متأخر عن الأمر لا يمكن أن يكون متعلقاً للأمر، واستدلوا على ذلك بوجوه:

الأول: أن نسبة المتعلق إلى الأمر نسبة المعروض إلى عرضه كما هو الأمر في نسبة الموضوع إلى الحكم، أي المكلف مع التكليف وشروطه، وبعبارة متعلق التكليف - أيفعل المكلف - ومتعلق المتعلق أي الموضوعات التي يتعلق بها فعل المكلف، وموضوع التكليف أي المكلف مع شرائط التكليف ككونه عاقلاً وحراً وبالغاً وغيرها مما أخذها الشارع في بعض موضوعات التكاليف فإن كل واحد من هذه الثلاثة في رتبةٍ متقدمة من الحكم فتكون نسبة الحكم إليها نسبة العرض إلى معروضه فلا يمكن أن يكون الحكم متقدماً على أحد هذه الأمور فكل ما هو متأخر عن الحكم لا يمكن أن يؤخذ في متعلق الحكم أو في متعلق المتعلق أو موضوعه لا جزءً ولا قيداً.ولكن هذا الكلام يصح في الانقسامات الأولية.

وذلك أن متعلق الحكم له انقسامات قبل عروض الحكم عليه وهي التي تحصل بطرو الحالات والخصوصيات من غير ناحية ورود الحكم عليه، ففي قولنا: (أكرم زيداً)، إن الإكرام تارةً يكون بالتواضع وأخرى بالاستقبال إذا قدم من السفر وثالثة بالإطعام ورابعة بمساعدته وإعانته وغير ذلك من الانقسامات الواردة على نفس الإكرام مع غض النظر عن الحكم، ولا فرق في مثل هذه الانقسامات بين متعلق الحكم أو متعلق المتعلق أو موضوع التكليف وقد اصطلح العلماء عليها بالانقسامات الأولية ويقابلها الانقسامات

ص: 275


1- - ج1 / ص129 - مصدر سابق.

الثانوية الحاصلة من ورود الحكم عليها باعتبار أنها لم ترد على تلك الأمور أولاً وبالذات بل ثانياً وبالعرض فقد ورد عليها من ناحية الحكم.

فالضابط الكلي فيها أن الحكم يشمل جميع الانقسامات الأولية في مقام الثبوت لو كان الملاك والمصلحة مطلقة بخلاف الانقسامات الثانوية - كقصد القربة التي ترد على المتعلق، أو العلم بالحكم أو الجهل به الواردين على الموضوع فلا يمكن شمول الحكم لها بإرادة واحدة وجعل واحد.

وقد ذكروا في وجه ذلك بأن متعلق المتعلق كالموضوع للتكليف لابد أن يفرض وجودهما على نحو القضايا الحقيقية في مقام جعل الأحكام الشرعية وانشائها، فإذا أمر الشارع الإنسان العاقل البالغ الحر المستطيع أن يقف في عرفات أو المشعر في زمان معين أو الطواف حول البيت الشريف وغيرهما من سائر أفعال الحج مما لها مساسٌ بفعل خارجي، ففي مثل ذلك لابد أن يفرض وجود الموضوع والمكلف بجميع شروطه كالعقل والبلوغ والاستطاعة والحرية فرضاً واقعياً ويكون مفروض الوجود خارجاً في الرتبة السابقة على الحكم فيرد عليه الجعل والإنشاء فلابد لكل حاكم وآمر أن يلاحظ موضوع حكمه في الرتبة السابقة على الحكم، ويتضح ذلك في القضايا الشخصية عند كل شخص.

ومن ذلك يظهر أنه إذا كان قصد الأمر بنفسه مأموراً به فيكون القصد المزبور متعلقاً للتكليف والأمر متعلق المتعلق، كحال عرفات والبيت الشريف فلابد أن يفرض وجود الأمر في الخارج في الرتبة السابقة على الأمر المتعلق بقصد الأمر حتى يأمر به، والمفروض أن الأمر الذي هو متعلق المتعلق ليس إلا هذا الأمر الذي هو الحكم المتعلق بقصد الأمر جزءً وشرطاً فيلزم أن يفرض وجود الأمر قبل وجوده فرضاً حقيقياً واقعياً وهو محال.

هذا في مرحلة الجعل والإنشاء.

وكذلك الأمر في فعلية الحكم فإنّ فعلية الحكم تبع لفعلية موضوعه ومتعلق متعلقه، فلا يصير وجوب إكرام العالم مثلاً فعلياً إلا بعد فعلية وجود العالم في الرتبة السابقة، وعليه فلا يمكن أن يصير الأمر المتعلق بقصد الأمر فعلياً إلا أن يكون وجود الأمر الذي هو متعلق المتعلق فعلياً في الرتبة السابقة، ولازم ذلك أن يكون فعلية الأمر منوطة بفعليته أي وجوده منوطاً بوجوده في الرتبة السابقة وهذا محال.

وهكذا في مقام الامتثال لأن معنى الامتثال هو أن يأتي بتمام المأمور به بقصد امتثال أمره المتعلق بمجموع المأمور به والمفروض أن قصد الأمر الذي هو قصد الامتثال جزء للمأمور به فيلزم منه أن يأتي قصد الأمر بقصد الأمر فيكون الداعي والمدعو إليه شيئاً واحداً وهذا محال أيضاً ومنشأ هذه المحالات الثلاثة هو أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر الذي يستلزم منه تقدم الشيء على نفسه في المقامات الثلاثة أي مقام الجعل والإنشاء ومقام الفعلية ومقام الامتثال فلا يمكن أن يؤخذ قصد الأمر شرعاً.

الثاني: مما ذكر في وجه امتناع قصد الأمر في متعلقه أيضاً بأنه يستلزم منه أن يكون قصد الأمر داعياً ومحركاً لمحركية نفسه وداعويته، وهو مساوق لعلية الشيء لعلية نفسه لأن المفروض أن قصد الأمر داع ومحرك إلى ايجاد متعلقه كما ذكرنا فلو كان جزء من المتعلق هو محركية الأمر نحو المتعلق فإنه يستلزم أن تكون محركيته نحو إيجاد هذا

ص: 276

الجزء أي محركية الأمر نحو المتعلق علة لإيجاده فتكون محركية الأمر بما هو جزء للمتعلق صار معلولاً لمحركية الأمر بما هو علة لإيجاد المتعلق، ومن المعلوم أنه لا معنى لمحركية الأمر إلا عليته فصارت عليته سبباً لعليته.

الثالث: من تلك الوجوه أن الأمر إنما تعلق بمجموع الصلاة مثلاً المأتي بها بقصد الأمر والمفروض أن الأمر قد تعلّق بمجموع القيد والمقيّد اللذين لهما وجود واحد إذ ليس لذات الصلاة أمر، ولقيدها وهو إتيانها بداعي أمرها وجود آخر حتى نقول بالانحلال، فلا يمكن إتيان المجموع بقصد الأمر المتعلق بالمجموع ، لما تقدم من أنه يرجع إلى إتيان قصد ذلك الأمر الشخصي بقصد ذلك الأمر الشخصي فيكون الداعي والمدعو إليه شيئاً واحداً.

الرابع: استلزامه الدور وذلك لأنّ الأمر يتوقف على متعلقه وقصد الأمر يتوقف على ثبوت الأمر فأخذه في متعلق الأمر يستلزم فرض توقف الأمر عليه فيلزم الدور.

ولأجل ذلك اعتبر جمع من الأصوليين أن اعتبار قصد الأمر في متعلق العبادة جزءً أو شرطاً إنما يكون عقلياً ويمنع أن يكون شرعياً لاستحالته وإن تصدى بعضهم الجواب عنها مما يفتح الباب لجعل قصد الأمر في العبادة أمراً شرعياً كما ستعرف إن شاء الله تعالى.

الأمر الخامس: ذكروا أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد اللحاظيين في المقام تقابل العدم والملكة وذلك أنه تارة يكون لحاظه هو الإطلاق بمعنى أن لا يقيد متعلق أمره بقيد وخصوصية مع إمكان ذلك التقييد فيستكشف من ذلك أن نظره تعلق بالطبيعة المرسلة من دون مدخلية قيد وخصوصية في مقصده ومراده لتساوي غرضه بالنسبة إلى جميع الخصوصيات.وأخرى إذا تعلّق نظره بايجاد الطبيعة مقيدة بقيد أو خصوصية لها دخل في غرضه ، وهذا لا يخلو إمّا أن يكون التقييد في مقام البعث ممكناً فإنه لابد من تقييدها بتلك الخصوصية وإمّا أن لا يكون التقييد بذلك ممكناً فلابد أن يتوسل إلى تحصيل غرضه بجعل آخر يكون متمماً للجعل الأول وهو وإن لم يكن تقييداً لحاظياً ولكنه ينتج نتيجة التقييد.

ومن ذلك يظهر أن استكشاف الإطلاق من إرسال الأمر بالطبيعة وعدم تقييدها إنما هو فيما إذا أمكن التقييد وأمّا إذا لم يمكن التقييد فلا يمكن استكشاف الإطلاق من عدم التقييد إذ من المحتمل أن يكون عدمه لعدم إمكانه لا لإرادة الإطلاق بل تكون محالية الإطلاق لأجل محالية إرادة التقييد فيكون في الإطلاق اللحاظي لحاظ كلا طرفي وجود القيد وعدمه، والمفروض أن لحاظ وجوده في المتعلق محال لأجل تلك المحاذير التي ذكرناها في التقييد فهي تأتي في الإطلاق أيضاً.

والحاصل أن الشيء بالنسبة إلى الواقع الذي فيه الملاك والمصلحة مما يتعلق به الغرض لا يمكن أن يكون مهملاً بل إمّا مطلق أو مقيد وفي عالم البعث والتحريك فإنه يمكن أن يكون مهملاً ولا يكون مطلقاً أو مقيداً لأجل عدم إمكان كونه مقيداً فلابد أن لا يكون مطلقاً لامتناعه بامتناع التقييد فإذا كان الملاك مطلقاً ولا يمكن الإطلاق اللحاظي فلابد أن يتوسل إلى تحصيله بجعل آخر متمم للجعل الأول حتى ينتج نتيجة الإطلاق وقد خالف جمع

ص: 277

أيضاً في هذا الأمر لأنهم أبطلوا المحاذير السابقة فأمكن التقييد فصح الإطلاق فخرج التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة.

وبعد بيان تلك الأمور لابد أن نعرف الكلام في مناقشة تلك المحاذير، أمّا محذور الدور فقد قيل في دفعه وجوهٌ ترجع إلى رفع التهافت وإيجاد الاختلاف بين المتوقف والمتوقف عليه في الحيثية والجهة وهي:

الأول: ما ذكره المحقق العراقي رحمه الله من أنه يثبت في المورد وأمثاله مما يرد فيه محذور التهافت والدور كما في حجية الخبر مع الواسطة كما سيأتي في محله بالدليل حكمان طوليان بإنشاء واحد بحيث يكون أحدهما المتقدم منهما موضوعاً ومتعلقاً للمتأخر منهما فينشأ المولى وجوبين طوليين بإنشاء واحد كلي ينحلّ إلى وجوبين أحدهما أمر ضمني بذات الصلاة وهذا لم يؤخذ في موضوعه أمرٌ آخر، وأمر ضمني آخر بقصد الأمر، يكون الأمر الضمني الأول محققاً لموضوع الأمر الثاني فلا يلزم شيء من المحذورات المتقدمة((1)).

وأورد عليه:

أولاً: إنه إن أريد تصويرَ أخذ قصد الأمر في موضوع شخصه بنحو لا يكون هناك أكثر من أمر واحد فالأمر الضمني بالصلاة مع الأمر الضمني بقصد الأمر كلاهما ضمنيان بلحاظ عالم الجعل والمجعول معاً فلا يعقل أن يكون أحدهما مأخوذاً في موضوع الآخر لأنه خلف الضمنية.فإن الأوامر الضمنية يكون موضوعها جميعاً واحداً فلا يعقل أن يكون موضوع أحدهما غير موضوع الآخر أو في طوله.

وإن أريد تصوير أمرين طوليين استقلاليين لكنهما مجعولان بجعل واحد وذلك عن طريق تصوير جامع ويشير المولى به مثلاً إلى مجموعة الاجزاء والشرائط بما فيها قصد الأمر ويأمر بكل ما هو مقدور منها فتجب سائر الأجزاء والشرائط بالقدرة التكوينية، ويجب قصد الأمر في طول وجوب تلك الأجزاء والشرائط، ولكنه مجرد فرض خلاف ما هو الواقع في الأوامر العبادية.

وثانياً: أنه إن تم في مسألة حجية الخبر مع الواسطة باعتبار أن الحكم فيها وإن كان واحداً بلحاظ عالم الجعل لكنه منحل بلحاظ عالم الفعلية والمجعول إلى أحكام عديدة مستقلة فيعقل أن يحقق أحدهما موضوع الآخر.

وأمّا في المقام فلا يتم فإن الأمر الضمني بالصلاة مع الأمر الضمني بقصد الأمر كلاهما ضمنيان بلحاظ الجعل والمجعول معاً كما عرفت فلا يقاس المقام على تلك المسألة.

فالحق أن يقال إنه يمكن أن يكون مراد القائل بذلك مجعولان في عالم التصور واللحاظ لدفع الشبهات المذكورة في إمكان أخذ قصد القربة في الأمر وإن لم يكن في الخارج إلا أمراً واحداً عالم الجعل والمجعول.

ص: 278


1- - مقالات الاصول - ج1 / ص77 - مصدر سابق.

فلا يضر التمسك بأصالة التوصلية أو التعبدية في مدلول الأوامر المتعلقة بفعل من الأفعال ولا يرد عليه ما ذكر ، أو يكون مقصوده أمران نفسيان لا ضمنيان كما سيأتي وإن كان بعيداً عن ظاهر كلامه رحمه الله .

الثاني: اختلاف المتأخر والمتقدم بالحيثية والجهة فإن وجود قصد امتثال الأمر في الخارج يتوقف على الأمر، والأمر يتوقف على الوجود الذهني والعنواني لقصد الأمر في ذهن الحاكم.

فيكون المتقدم إنما هو لحاظ الأمر بما هو طريق إلى الخارج وما هو المتأخر نفس الأمر الخارجي الصادر من الآمر. فلا دور ولا تهافت حينئذٍ.

الثالث: ان الدور في مقام الامتثال أيضاً مرفوع باختلاف الحيثية والجهة أيضاً فما هو قيد للعمل إنما هو قصد الأمر من حيث الإضافة إلى جعل الآمر وما هو المتأخر إنما هو قصد الأمر من حيث الإضافة إلى الممتثل.

وأمّا محذور تقدم وجود الأمر على إنشائه في المقامات الثلاثة مقام الجعل والفعلية والامتثال.

فقد ذكر السيد الخوئي في رفعه بأنه لا برهان على لزوم أخذ متعلقات المتعلق موضوعاً للحكم ومفروغاً عنه في رتبة سابقة على الحكم إلا بملاكين أحدهما ثبوتي والآخر إثباتي.

أمّا الملاك الإثباتي: فإنه يتحقق فيما إذا كان لسان الدليل ظاهراً ولو كان عرفاً في أخذ متعلق المتعلق بنحو مفروغ عنه كما في قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِاسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا﴾((1))

أو من قبيل ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾((2)) الذي يستظهر منه العرف كون العقد مفروغاً عنه ليكون من مقدمات الوجوب لا من مقدمات الواجب وإلا لوجب إيجاد عقد للوفاء به، وفي غير ذلك لا دليل على كونه مفروغاً عنه.

وأمّا الملاك الثبوتي: فهو فيما إذا كان متعلق المتعلق خارجاً عن اختيار المكلف من قبيل الوقت والقبلة فإنه إذا لم يفرض مفروغاً عنه وقيداً للحكم لزم من إطلاق الأمر لزوم تحصيله وهو تكليف بغير مقدور فإذا قال المولى (صلِّ عند الزوال) فإنه إن لم يؤخذ الزوال قيداً لوجوب الصلاة كان معناه وجوب الصلاة في الزوال حتى قبل تحقق الزوال وهو غير مقدور للمكلف فلابد أن يؤخذ ذلك قيداً للحكم.

وأمّا إذا لم يؤخذ شيء من الملاكين فلا موجب لأخذ متعلق المتعلق مفروض الوجود بل يكون التكليف مطلقاً من ناحيته.

وفي المقام- وهو قصد الأمر - لم يقع متعلقاً للمتعلق من هذا القبيل ولم يوجد شيء من الملاكين من التقييد، أمّا الاثباتي فهو واضح وأمّا الثبوتي فلأنّ الأمر وإن كان غير اختياري للمكلف ولكنه يوجد بنفس خطاب الأمر فلا موجب لتقييد الخطاب به وإلا كان غير مقدور.

ص: 279


1- - آل عمران / 97.
2- - المائدة / 1.

وأشكل عليه بأنه إن كان الإشكال عليه من ناحية مقام الثبوت فإن المحقق النائيني((1)) رحمه الله يفرض الكلام في ضرورة وجود متعلق المتعلق المستفادة من إدراك العقل والبحث الثبوتي لا يلاحظ فيه الدليل الخارجي وما يستفاد منه ، لأن البحث في مقام الثبوت عن الضرورة والإمكان بحسب ما يدركه العقل ولا ريب أنه مع الغفلة عن الدليل الخارجي.

وإن كان الإشكال عليه في مقام الإثبات أي أن معرفة كون الشيء مفروض الوجود والكشف عنه لابد أن يكون بدليل العقل أو بالدليل الشرعي وهو وإن كان صحيحاً ووجيهاً إلا أن ما ذكره السيد الخوئي رحمه الله من البرهان العقلي في الأمور غير الاختيارية لا يفي بإثبات فرض الوجود فيها لأن محصل دليله يرجع إلى أنّ التكليف بها يكون من التكليف لغير المقدور كما هو واضح فلابد أن يكون الحكم مترتباً على وجوده وتحققه أي يكون مفروض الوجود ، ولكن يرد عليه بأنّ المعروف بين الأصوليين ومنهم السيد الخوئي اعتبار القدرة على المكلف به من الشرائط العامة المأخوذة في موضوع الحكم.

فالحكم لا يصير فعلياً بدون القدرة على امتثاله، وحينئذٍ لا وجه ولا ملزم لأخذ الأمور غير الاختيارية في موضوع الحكم بملاك لزوم التكليف بما لا يطاق بدونه بعد كون القدرة عند السيد الخوئي رحمه الله من الشرائط العامة المأخوذة من موضوع الحكم فتكون هذه الأمور محصلاً للقدرة فاشتراطها يغني عن اشتراط تلك الأمور وتحقيقها ، وذكربعض الأعلام بعض الوجوه تأييداً لما ذكره المحقق النائيني رحمه الله وغيره مما ذكر في استحالة أخذ قصد الأمر في متعلق نفسه وهي لا تخلو مناقشة.

الأول: ان وجود الأمر وحده غير كافٍ في القدرة على قصد الأمر بل لابد من وصوله ولو بأدنى مراتبه وهو الاحتمال إذ لولاه لا يأتّى من المكلف قصد الأمر إلا على نحو التشريع المحرم ، ووصول الأمر غير اختياري ولا يكون مجرد ثبوت الأمر متكفلاً لحصوله لاسيما بعد كون الخطابات الشرعية المجعولة من قبيل القضايا الحقيقية فلابد من أخذ وصوله قيداً في الأمر وشرطاً مفروغاً عنه، وهذا هو الملاك الثبوتي الذي اعترف به السيد الخوئي وبعد انضمام ما سيأتي في بحث القطع من استحالة أخذ وصول الحكم في موضوع شخصه، فيتم ما ذكر من استحالة أخذ قصد الأمر في متعلق نفسه على أساس لزوم التهافت والدور الذي ذكره المحقق النائيني رحمه الله وإن كان الفرق بين ما يذكره من أنه يقرر ذلك بلحاظ أخذ الأمر في موضوع نفسه وهذا التقرير يكون بلحاظ أخذ وصول الأمر في موضوع نفسه.

وفيه: أن التكليف بما هو اعتبار كالملاك له من الإطلاق ما يشمل موارد وصول التكليف وعدم وصوله لأن الغرض من التكاليف ليس وصولها إلى المكلفين كما يدّعى بل المقصود منها ليس إلا الداعوية والمحركية كما ذهب إليه المحقق النائيني رحمه الله ولذا كان قصد الأمر ليس إلا لأجل الداعوية والمحركية فإطلاق التكاليف يشمل موارد الجهل المركب وعدم تقييدها بوصولها ولا يلزم منه محذور إلا فعلية التكليف في مورد لا يمكن أن يكون باعثاً ومحركاً ولكنه مختص بما إذا كان عدم المحركية تكوينية ولا يشمل ما إذا كان من ناحية الجهل الذي ذهب الجميع إلى صحة التكليف في موارد الجهل. فلا وجه

ص: 280


1- - راجع أجود التقريرات - ج1 / ص106 - 108 - مصدر سابق.

لدعوى قصور إطلاق التكليف، مع أنك عرفت في البحوث السابقة أن الغرض لا ينحصر فيما ذكره المحقق النائيني رحمه الله فلا يشترط في التكاليف وصوله إلى المكلف.

الثاني: انّ الأمر وإن كان في مرحلة التصور وأفق الذهن معروضاً في الحقيقة على عنوان قصد الأمر لا واقعه ومعنونه الذي هو في طول الأمر وبهذا أجبنا عن شبهة الدور، كما عرفت سابقاً لكن الآمر إنما يأمر بالعنوان باعتبار أنه فانٍ في المعنون وحاكٍ في الخارج، فهو يرى من خلال العنوان المعنون والخارج، وبذلك يقع التهافت في نظره.

وفيه: ان التفكيك بين العنوان والمعنون وأن الأول موطنه الذهن والآخر الخارج يقتضي التفكيك لا محالة وهو كافٍ في رفع التهافت . وأمّا كون أحدهما مرآة للآخر فهو مقتضى العنوانية وهذا في مرحلة أخرى وإلا إذا تحقق الاتحاد بينهما فقد خرج عن مفروض الكلام.

الثالث: ان قصد امتثال الأمر عبارة أخرى عن محركية الأمر لإيجاد الداعي والإرادة لإتيان الفعل في نفس المكلف.وان التكليف عبارة عن الخطاب والاعتبار الذي يجعل بداعي المحركية والباعثية نحو متعلقه، ولهذا لم يكن شاملاً للعاجز إذ لا يعقل المحركية والباعثية فيه، وعليه لابد أن يكون الأمر صالحاً للمحركية وبناء على ذلك يقال بأن الأمر الضمني بقصد امتثال الأمر لا يعقل أن يكون محركاً وباعثاً نحو ماتعلق به لأن الأمر بذات الفعل إن كان كافياً للتحريك وانقداح الإرادة في نفس المكلف فهو عبارة أخرى عن قصد الامتثال ومعه لا يبقى مجال لتعلق الأمر الضمني الثاني للداعوية والمحركية لا تأسيساً ولا تأكيداً، وإن لم يكن الأمر الضمني بذات الفعل كافياً لتحرك المكلف فلا فائدة في الأمر الضمني بقصد الأمر لأنهما أمر واحد بحسب الفرض.

وفيه: ما عرفت من أنه ليس الغرض من التكاليف منحصراً في إيجاد الداعوية والمحركية في نفس المكلف بل الغرض تحصيل ملاك الأمر المحبوب والمصلحة، وقصد الأمر إنما هو طريق لحفظ ذلك الملاك، فلو حصل ولو من داعي الأمر حصل المطلوب والغرض وربما الغرض يكون الأمر الثاني الضمني لبيان هذه الجهة.

الرابع: ما ذكر في تفسير عبارة المحقق الاصفهاني رحمه الله الذي قال بأنّ أخذ قصد الامتثال في الأمر يستلزم داعويته ومحركيته نحو محركية نفسه((1)).

وذكر وجوهاً ثلاثة في تصوير ذلك وقال بأنها مستحيلة وكلامه رحمه الله لا يخلو من إغلاق وهي مبنية على تسليم كون الغرض من الأوامر هو المحركية وانقداح الإرادة في نفس المكلف.

وقد ذكرنا فساده فإنه ليس الغرض منحصراً في ذلك وعلى فرضه فإنه تام في الأوامر الاستقلالية دون الأوامر الضمنية فإن الأمر الضمني المتعلق بقصد القربة ليس لأجل المحركية بل لأجل التحفظ على الملاك المحبوب.

والحاصل أن شيئاً مما ذكر في مناقشة ما ورد في استحالة أخذ قصد امتثال شخص الأمر في متعلقه غير تام ، ولا ريب أن تلك الأدلة التي استدل بها على وجه الاستحالة وردودها هي من الأمور العقلية والمباحث الفلسفية الدخيلة في علم الأصول الذي يبتني جُلّ مباحثه على التصورات الحاصلة من المرتكزات والمباني العقلائية والفهم العرفي من النصوص

ص: 281


1- - نهاية الدراية - ج1 / ص134 - مصدر سابق.

الإسلامية التي تتصف بالعقلانية والبساطة وابتعادها عن التعقيدات المذكورة في غيره من سائر العلوم العقلية.

ولقد فقدت تلك البساطة والعقلائية في علم الأصول عند دخول تلك المباحث الفلسفية واقحام الأمور العقلية الصرفة فيه، ومما زاد الأمر تعقيداً جعل الأحكام الشرعية التكليفية والوضعية من الأمور الحقيقية والعقلية وترتيب آثارها عليها مع أنها ليست إلا اعتبارات يعتبرها المولى كالحجية وغيرها من الأحكام الوضعية ففي الموضوع المبحوث عنه فإنّ المعتبر المولى الحكيم يعتبر الأوامر التعبدية أن يكون بقصد الأمر لأن الغرض المترتب على مثل هذه الأوامر لا يمكن أن يتحقق إلا بهذه الصيغة، وربما يكون ذلك بتصوير أمرين ضمنيين أحدهما تعلق بذات الفعل والآخر لأجل حفظ الملاك تعلق بقصد القربة ولعل ما ذكروه في رفع الاستحالة المزعومة إنما ينبع من هذا المرتكز العرفي عندهم ولكنهم أخطأوا الطريق حيث أدرجوه في مباحث عقلية بحته.

هذا كله في أخذ قصد القربة بمعنى قصد امتثال شخص الأمر في متعلقه.

وأمّا في غير هذا المعنى فقد قالوا في تصويره وجوهاً:الأول: أن يؤخذ في متعلق الأمر قصد طبيعي الأمر لا شخصه، والطبيعي قابل للانطباق على شخص ذلك الأمر، وهو وإن سلم من بعض وجوه الاستحالة المتقدمة ولكن الإشكال لا يرتفع فإن الأمر بقصد امتثال طبيعي الأمر كالأمر بقصد امتثال شخصه في الاستحالة من حيث الوجوه التي ذكرها السيد الصدر رحمه الله وقد عرفت الجواب عنها.

الثاني: ما نقله المحقق النائيني رحمه الله عن أستاذه المجدد الشيرازي، فإنه قال: إذا استحال أخذ قصد الامتثال لكن يؤخذ عنوان ملازم لقصد الامتثال((1)).

وأورد عليه بأنه ليس هناك ملازم لقصد الأمر دائماً بل هو خلاف الواقع ولو فرض التسليم فالمتلازمان وإن استحال التفكيك بينهما في الخارج إلا أنه لا استحالة في فرض التفكيك بينهما، فيلزم إطلاق الأمر العبادي المجعول على نهج القضايا الحقيقية لمثل هذا الفرض وهو خلف غرض المولى.

وقد ردّ كلا الاعتراضان أمّا الأول فلأنه يمكن فرض عنوان ملازم لقصد الامتثال دائماً وهو العنوان السلبي أي عدم صدور الفعل بداعٍ دنيوي أو نفساني فإنه يلازم خارجاً عند تحقيق المكلف للفعل عند الامتثال لأن الفعل لا يصدر من الإنسان بلا داع.

والحق أن يقال أن العنوان الملازم له يمكن تصويره فإنه أمر سهل من دون تعقيد ولا تصل النوبة إلى جعله أمراً سلبياً.

وأمّا الثاني: فلأن شمول الأمر لفرض التفكيك بين المتلازمين إن تحقق الغرض فيه فلا استحالة فيه وإن لم يكن فيه الغرض فلا يشمله، مع أنه يستحيل فرض التفكيك لعدم الانفكاك عن العنوان الملازم دائماً ولو كان أمراً سلبياً.

فلا إشكال فيما ذكره السيد رحمه الله من هذه الناحية ولكن أورد عليه ببعض الوجوه المتقدمة التي عرفت عدم تماميتها.

ص: 282


1- - فوائد الاصول - ج1 / ص152 - مصدر سابق.

الثالث: ما ذكره المحقق العراقي رحمه الله في مقام الجواب عن محذور أخذ قصد الأمر في متعلقه من جعل الأمر متعلقاً بالحصة التوأمة مع قصد الأمر بحيث يكون القيد والمقيد خارجين عن متعلق الأمر، وهو لا يمكن أن يكون محركاً نحو ما تعلق به محركية زائدة على محركية الأمر بذات الفعل وهذا هو ذات الحصة التوأم مع القيد، ويكون التقييد مشيراً إلى ذات المقيد((1)).

وقد أشكل عليه بأنّ ذلك لا يحل الإشكال لأنّ إتيان المكلف بالحصة التوأم مع قصد الامتثال يتوقف على قصد الأمر المتوقف على وصول الأمر فلابد من أخذه في موضوعه.

وقد عرفت سابقاً بأنه خروج عن محل البحث وهو أخذ قصد القربة في متعلق الأمر بأمر واحد.الرابع: انه لا ملزم بأن يؤخذ قصد القربة بعد عدم إمكانه، فيؤخذ في متعلق الأمر العبادي أحد القصود الأخرى غير قصد القربة، وهي قصد المحبوبية والإرادة وقصد المصلحة والملاك وقصد كونه حسناً ذاتاً وقصد كونه سبحانه وتعالى أهلاً للعبادة.

وقد نوقش هذا الوجه بعدة وجوه أهمها((2)):

1- ان الوجه الثالث والرابع لابد من إرجاعهما إلى الوجهين الأوليين لأنهما متوقفان على أن يكون الفعل عبادة وحسناً في المرتبة السابقة حتى يمكن أن يؤتى به بأحد هذين الداعيين فلا يمكن أن تنشأ عباديته منهما.

وفيه: ان عبادية فعل إنما تأتي من حسن إضافته إلى الله تعالى وهو يتحقق بأحد الوجهين المزبورين وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

2- عدم إمكان أخذ قصد المحبوبية أو المصلحة والملاك من الناحية الفقهية باعتبار أنه لو أخذا وكانا موجبين لتحرك المكلف من مجرد المصلحة أو المحبوبية فلازم ذلك أن من يكون تحركه من الأمر لا تكون مجزية لأنه يجب أن يكون تحركه من مجرد المحبوبية أو الملاك إلا إذا أخذ الجامع بينه وبين قصد الأمر.

3 - انّ قصد المصلحة والملاك بالخصوص إن كانت راجعة إلى العبد لا إلى المولى لا يكون قصدها مضافاً إلى المولى ولا من أجله لكي يكون مقرباً إلا إذا جيء بها باعتبار اهتمام المولى وإرادته لها من العبد فيرجع إلى الإرادة والمحبوبية.

وأمّا قصد الجامع بين قصد ذلك وقصد الأمر، الذي هو المتعين فقهياً على تقدير إمكانه أصولياً فهو وإن سلم من بعض الإشكالات المتقدمة ولكنه إن تعلق به أمر آخر مع الأمر بذات الفعل.

ويرد عليه: أنه إذا كان الأمر محركاً كان الجامع حاصلاً ، وإن لم يكن محركاً فلا يفيد الأمر الضمني بأحد القصود القريبة للتحريك، فيلزم محذور عدم محركية زائدة في الأمر الضمني بقصد القربة أو كونه تحصيلاً للحاصل.

ص: 283


1- - مقالات الاصول - ج1 / ص80 - مصدر سابق.
2- - راجع بحوث في علم الاصول - ج2 / ص86 ومابعدها -مصدر سابق.

وفيه: ما عرفت سابقاً من الجواب عن هذا الإشكال من أنّ الأمر الضمني لأجل حفظ المحبوبية والملاك لا لغرض المحركية حتى يستلزم ما ذكر.

فالحق أنه لا مانع من أخذ قصد القربة بأحد القصود المذكورة وتكفي في عبادية الفعل حسن إضافته إلى الله تعالى ، وأن الملاك والمصلحة وإن كانت راجعة إلى العبد إلا أن الله تعالى وفق العباد بتحريكهم نحو ادراكها ويكفي ذلك في انتساب الفعل إليه عزَّ وجلَّ بقصدها فيكون مقرّباً إليه عزَّ وجلَّ فلا نحتاج إلى إرجاع هذا القصد إلى الأول والثاني من القصود المتقدمة.

3- ما ذكره المحقق النائيني رحمه الله من استحالة قصد الملاك لأنه يلزم منه أن تكون المصلحة قائمة بالفعل المأتي به بداعي المصلحة وهو دور لأن الإتيان بداعي المصلحة فرع قيام المصلحة به الذي هو فرع أن يؤتى به بداعي المصلحة((1)).وفيه: إنه مضافاً الى أنه لا داعي لجعل المصلحة في الفعل بل تكون في نفس الأمر، أن الإتيان بداعي المصلحة لا يتوقف على قيامها بذات الفعل بأن تكون ذات الفعل تمام ما يحصِّلُ المصلحة بل يتوقف على أن يكون للفعل دخل في إيجادها فهو يأتي بالفعل، وكان ذلك بنفسه عبارة عن قصد المصلحة.

الخامس: أن المراد بعبادية الأمر تعدده أحدهما يتعلق بذات الفعل والآخر بالإتيان به بقصد الأمر الأول وذلك بالانحلال إلى أمرين وربما بجعلين بخلاف الواجب التوصلي حيث لا يوجد فيه إلا أمر واحد تعلق بذات الفعل.

وبذلك يمكن التخلص عن بعض الاشكالات المتقدمة كشبهة الدور والتهافت وإن ذكر السيد الصدر رحمه الله إنه لا يرفع بعض المحذورات، كما ستعرف وكيف كان فإن هذا التفسير قد ورد في كلمات بعض المحققين وقد اختلفوا في صياغته.

الأولى: ما ورد في كلمات المحقق الخراساني رحمه الله في الكفاية من أنّ الأمر الأول يتعلق بذات الفعل مطلقاً، والأمر الثاني يتعلق بالقصد وهو قصد الأمر مستقلاً عن الأمر الأول جعلاً ومجعولاً.

الثانية: ما ذهب إليه المحقق النائيني رحمه الله من أن الأمر الأول يتعلق بالطبيعة المهملة أي اللابشرطية المقسمية كما عرفت من أنه إذا استحال التقييد بقصد الأمر استحال الإطلاق بلحاظه أيضاً لأنّ بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة فيكون الأمر الأول مهملاً ولابد من رفع إهماله بالأمر الثاني الذي هو مستقل عن الأمر الأول جعلاً ومجعولاً ولكنه متمم للجعل الأول حيث لا يعقل الإهمال الثبوتي واقعاً فلابد من رفعه بالأمر الثاني يبين فيه الإطلاق أو التقييد في تمام موارد القيود الثانوية التي لا يمكن أخذها في متعلق الأمر الأول.

الثالثة: ما اختاره المحقق العراقي رحمه الله من أنّ الأمر الثاني وإن كان مستقلاً في مرحلة المجعول والفعلية ولكنه متحد مع الأمر الأول في مرحلة الجعل والإنشاء، نظير جعل الحجية للخبر المباشر وخبر الواسطة بجعل واحد مع انحلاله إلى مجعولين مستقلين

ص: 284


1- - أجود التقريرات - ج1 / ص108 - مصدر سابق.

فالأمر الأول تعلق بذات الأجزاء والشرائط والآخر تعلق بالإتيان بها مع قصد الأمر فتكون فعليته في طول الأمر الأول، نظير حجية خبر الواسطة((1)).

وأشكلوا على كل واحدة منها بوجوه نذكر المهم منها:

الأولى: فقد أورد عليها أولاً: بأن المكلف إذا امتثل الأمر الأول بإتيان الفعل لا بقصد الامتثال فإن سقط الأمر الأول لزم منه سقوط الأمر الثاني ولو عصياناً فلا تجب الإعادة وهو خلف، وإن لم يسقط الأمر الأول برغم تحقق متعلقه خارجاً وهو ذات الفعل، لزم منه أن يكون من طلب الحاصل إذ لا معنى لبقاء الأمر والطلب مع تحقق ما تعلق به.

وقد أجيب عن هذا الإيراد بالالتزام بسقوط الأمر الأول بشخصه ولكن يتولد منه أمرٌ آخر مثله لبقاء غرضه وسيأتي الكلام في تصوير هذا الأمر المتولد.وثانياً: أنه لا فائدة لجعل الأمر الثاني ولا محركية زائدة له طالما كان الأمر باقياً ومتجدداً بنوعه ما لم يأت المكلف بقصد الأمر.

وفيه ما عرفت سابقاً أن الغرض لا ينحصر في المحركية بل ربما يكون لأجل غرض آخر كحفظ الملاك في الأمر الثاني.

أما الصياغة الثانية فقد أورد عليها بوجوه:

الأول: ما ذكره السيد الخوئي من بطلان المبنى فإن التقابل بين الإطلاق والتقييد ليس من العدم والملكة بل من تقابل الضدين فإذا استحال التقييد فإنه يجب الإطلاق . (وفيه): انه نقاشٌ مبنائي سيأتي الكلام فيه أيضاً.

الثاني: ما ذهب إليه أيضاً من أنه لا يعقل الإهمال في الأمر الأول حتى يرفع بالأمر الثاني وذلك إمّا لاستحالة الإهمال لأن الحكم له حظ من الوجود في أفق الذهن وعالم الاعتبار وكل ما له حظ من الوجود لابد أن يكون متعيناً في صقع وجوده، ويستحيل التردد فيه حينئذٍ.

أو لأجل أن الأمر من مجعولات الأمر الذي ينشئها من خلال الصور الذهنية والعلمية فلا يعقل أن يكون الجاعل متردداً أو جاهلاً بما جعله حين الجعل((2)).

وقيل في الرد عليه بأن الوجهين يرجعان إلى أنّ المراد من الإهمال في كلام المحقق النائيني رحمه الله هو الإهمال في الوجود والفرد المردد أي المردد بين المطلق والمقيد ولكن مراده هو الإهمال المفهومي لأن متعلق الأمر الأول مدلول اسم الجنس أي ذات الطبيعة المهملة الجامعة بين المطلقة والمقيدة بعد استحالة لحاظ الإطلاق ولحاظ التقييد في متعلق الجعل الأول لأن الإطلاق والتقييد حيثيتان لحاظيتان زائدتان على ذات الطبيعة المهملة فإذا استحال كل من اللحاظين الإطلاقي والتقييدي في متعلق الجعل اضطر المولى أن يجعل أمره على ذات الطبيعة المهملة ويتصدى لرفع الإهمال بأمر ثانٍ يكون متمماً للجعل يرفع به الإهمال إلى الإطلاق أو التقييد.

ص: 285


1- - مقالات الاصول - ج1 / ص77 - مصدر سابق.
2- - هامش أجود التقريرات - ج1 - ص103 - مصدر سابق.

وفيه: إن المستشكل إنما يلاحظ الحكم والأمر وهما من الاعتبار الخاص الذي له حظ من الوجود لا أن يكون نظره إلى المتعلق الذي يكون مهملاً من حيث الفرد وإن جاء ذلك من ناحية الإطلاق والتقييد فهما السبب في الإهمال في الفرد كما هو واضح.

فلابد في مرحلة الجعل أن لا يكون مهملاً بل تعلق بطبيعة معلومة في عالم التصور واللحاظ فما ذكره في إيراده على المحقق النائيني صحيح .

الثالث: ما ذكره السيد الصدر أن الطبيعة المهملة التي تعلق بها الأمر إذا كانت في قوة المقيدة - كما هو المشهور بين الأصوليين كما سيأتي في مباحث المطلق والمقيد - نظراً إلى غرض المولى فإنه يلزم على ذلك الاستغناء عن الأمر الثاني لأن المولى في موارد تعلق غرضه بالمقيد يستطيع تحقيق تمام غرضه بالأمر الأول المهمل فلا حاجة إلى ما يرفع إهماله إلى التقييد لأن المهمل- بحسب الفرض في معنى المقيد نعم لو كان غرضه المطلق احتاج إلى رفعه بالأمر الثاني المطلق.وإن كانت المهملة في قوة الإطلاق الذاتي للطبيعة لا الإطلاق اللحاظي، كما ذهب إليه بعض المحققين فحينئذٍ رجعت هذه الصياغة إلى ما ذكره صاحب الكفاية من حيث كون متعلق الأمر الأول مطلقاً غاية الأمر بالإطلاق الذاتي كما عرفت.

وفيه: ان كون المهملة في قوة المقيدة ربما لا تكفي في تحقيق جميع غرض المولى فلابد من الأمر الثاني لإتمامه كما عرفت مكرراً. مضافاً إلى أن كون المهملة في قوة الإطلاق الذاتي سيأتي تحقيقه في محله إن شاء الله تعالى.

الرابع: وما ذكره السيد الصدر أيضاً أنّ تعلق الأمر بالطبيعة المهملة إذا كانت المهملة في قوة الجزئية والمقيدة، كما هو مبنى المشهور يتجه عليه إشكال الدور لأنّ امتثال هذا الأمر كامتثال الأمر بالمقيد يتوقف على الأمر فيلزم أخذ الأمر في موضوع الجعل الأول وهو محال، وعليه يستحيل الإهمال، كما يستحيل التقييد والإطلاق وهو يعني استحالة الأمر بفعل من الأفعال لا مطلقاً ولا مقيداً ولا مهملاً من ناحية قصد القربة، وهذا معناه بعد فرض ثبوت أصل الأمر بالفعل ارتفاع النقيضين وهو من أوضح المحالات مما يكشف عن خلل في إحدى المقدمات((1)).

ويرد عليه: ان المفروض بناءً على هذا الوجه في تفسير الأمر التعبدي أن قصد امتثال الأمر الأول لم يؤخذ في جعله وإنما أخذ في جعل الأمر الثاني، فإنه لو لم يكن هذا الجعل الثاني لكان الأمر الأول توصلياً يسقط بمجرد ايجاد متعلقه، وما ذكره المستشكل إنما هو رجوع منه إلى أصل الإشكال لا النظر إلى دفعه بالأمر الثاني الذي يكون موضوعه قصد القربة في الأمر الأول.

وأمّا الصياغة الثالثة التي ذكرها المحقق العراقي لتعدد الأمر بأن يكون هناك جعل واحد ينحل إلى مجعولين أحدهما على ذات الأجزاء والشرائط، والآخر على الإتيان بها مع قصد الأمر ويكون فعليته في طول الأمر الأول وإنما عدل من تعدد الجعل إلى وحدته لأنه الأمر العرفي في الواجبات التعبدية، فقد عرفت الإشكال فيه فيما سبق ، ولا يرفع بعض الإشكالات المتقدمة ويأتي مزيد بيان.

ص: 286


1- - راجع بحوث في علم الاصول - ج2 / ص92 - مصدر سابق.

والحق أن هذا الوجه بالصياغات الثلاثة لا ملزم له إذا أمكننا رفع وجوه الاستحالة بوجه مقبول حيث أنّ تعدد الأمر في الواجبات التعبدية خلاف الظاهر.

الوجه السادس: ما يظهر من المحقق الخراساني رحمه الله أيضاً في تفسير العبادية بعد عدم الفرق بينها وبين التوصليات في أنّ الأمر في كلتيهما متعلق بذات الفعل فلا فرق بينهما من ناحية الأمر ومتعلق الوجوب وإنما الفرق هو أن الأمر التوصلي يسقط بمجرد الإتيان بمتعلقه وهو ذات الفعل لتحقق الغرض منه ولكن الأمر التعبدي لا يسقط إلا بإتيان متعلقه مع قصد القربة إذ الغرض لا يحصل إلا بذلك وسقوط الأمر يتبع سقوط الغرض لا بمجرد الإتيان بمتعلقه.

وأورد عليه: بأنّ عدم سقوط الأمر بعد تحقق متعلقه خارجاً مستحيل فإنه من طلب الحاصل، فإذا تعلق الأمر بذات الطبيعة وقد حقق المكلف فرداً منها كان بقاء شخصذلك الطلب المتعلق بالجامع بين الفرد الواقع وغيره مستحيلاً لحصول متعلقه فلابد من سقوطه.

وأمّا بقاء طلب فرد آخر من الطبيعة غير ما وقع فهو معقول ولكنه أمر آخر لا محالة((1)).

ويمكن الإشكال عليه: بأن الغرض إذا كان من قبيل الحيثية التقييدية بالنسبة إلى الأمر فما ذكره المستشكل صحيح فإنه بد تحقق متعلقه واستيفاء الغرض منه يكون عدم سقوط الأمر من تحصيل الحاصل وهو مستحيل.

وأمّا إذا كان من قبيل الحيثية التعليلية بالنسبة إلى الأمر، وهو الغالب في الأوامر فالأمر ليس كذلك فإنه قد يحصل متعلق الأمر ولكن لا يسقط الغرض به لحكم ومصالح فلا استحالة لو أتى المكلف بالمتعلق لأجل درك الغرض.

الوجه السابع: ما ذكره بعض المحققين في تفسير الواجب التعبدي مع اتفاقه مع الواجب التوصلي في أنّ الأمر فيهما يكون متعلقاً بذات الفعل إلا أنه لو أتى المكلف بالفعل من دون قصد الأمر سقط شخص ذلك الأمر - كما عرفت آنفاً من استحالة بقائه بعد حصول متعلقه- وتولد أمرٌ جديد متعلق بفرد آخر من ذات الفعل لأن الغرض لا يزال باقياً.

وهذا بخلاف الأمر التوصلي، فالفرق بين الواجب التوصلي والواجب التعبدي من ناحية تجدد أمر آخر كلما لم يأتِ المكلف بالفعل بقصد القربة الذي له الدخل في تحقيق غرض المولى. فيكون الفرق بناءً على هذا التفسير بين الأمر التعبدي والتوصلي ليس بالتقييد والإطلاق من ناحية قصد القربة بل بالتجدد وتولد أمر آخر كلما لم يأتِ المكلف بقصد القربة. كما عرفت لأن له الدخل في غرض المولى.

وهذا التفسير يشترك مع التفسير السابق في أن الأمر التعبدي والتوصلي لا يختلفان في المتعلق ولا في ما يحقق غرض المولى من كل منهما.

ويختلف عنه في أنّ التفسير السابق إنما يفترض فيه بقاء شخص الأمر المتعلق بذات الفعل. وأمّا في هذا التفسير فالأمر يسقط بشخصه لكنه يبقى بنوعه ضمن شخص آخر من الأمر يتعلق بغير الفرد المأتي به.

ص: 287


1- - كفاية الاصول - ص72 - 74- مصدر سابق.

كما أنه يشترك مع التفسير الذي يذهب إلى تعدد الأمر في التعبدي ووحدته في التوصلي، فإن هذا التفسير إلى تعدد الأمر وتجدده كلما لم يأت المكلف بالفعل مع قصد الأمر ولكنه يختلف عنه في أن الأمر الثاني يتجدد بعد سقوط الأمر الأول، ويتعلق بذات الفعل كالأول لا بقصد الأمر((1)).

وأشكل عليه: بأنه لا يعقل تعلق الأمر المتجدد بذات الفعل لأن المفروض عدم وفائه بتحقيق الغرض لأن ذات الفعل ليس هو المحبوب، والأمر لابد أن يتعلق بما هو المحبوب.وأجيب عنه تارة بأن المحبوب هو المحركية نحوه فإنّ ذلك يكفي في جعل الفعل محبوباً في فرض محركيته نحو المتعلق فإذا حصل هذا في المقام وكان هذا الأمر كافياً في محركية المكلف نحو ما تعلق به يكون الجزء الآخر للغرض والمحبوب متحققاً أيضاً إذ ليس المراد بقصد القربة إلا محركية الأمر.

وفيه: ما عرفت من أن الغرض إذا كان في الأمر الأول هو المحركية لكنه في الأمر الجديد ليس كذلك لأنه متولد من الأمر النوعي فهو ليس إلا لتحقيق الغرض الخاص فإذا كان متعلقاً بذات الفعل فإنه ليس بمجرده محبوباً كما تقدم.

وأخرى : أنه يكفي عقلاً وعقلائياً في تعلق الأمر بشيء أن يكون المتعلق هو غاية ما يمكن سدّ باب عدم الغرض من ناحيته ولو كانت هناك أبواب أخرى للعدم أيضاً لابد أن يسد ولكن لم يؤمر بها لعدم إمكان الأمر بها ولهذا صح الأمر بما يحتمل كونه مصادفاً للمحبوب.

وهذا هو الصحيح الجدير بالقبول في المراد بالغرض الذي يناط به صحة الأحكام مطلقاً والذي نبّهنا عليه مكرراً المناط فلا نحتاج إلى تعيين خصوصياته وأفراده لاسيما أنه لا يمكن العلم بالأغراض الإلهية ولا سبيل لنا إلى كشفها إلا ما يبيّنه الشارع، فيكون تعيين بعضها بلا برهان، وبذلك تنحل جملة من الاعتراضات التي ذكرها الأصوليون التي تبتني على تعيين الغرض في فرد مخصوص فينشأ منه الإشكال.

وكيف كان فإنه بناءً على هذا التفسير للأمر التعبدي وإنه من الأوامر المجعولة على نحو القضية الخارجية فإنه يكون عن طريق تجديد الأمر الموجّه إلى الشخص وأمّا في الأوامر الكلية المجعولة بنحو القضايا الحقيقية فيكون عن طريق نصب قرينة عامة على أن هذا الأمر له توجهات عديدة تتجدد متى ما أتى المكلف بالفعل لا بقصد القربة ولو كان بيان هذه القرينة العامة بلسان تقييد متعلق الأمر، كما إذا قال المولى صل بقصد القربة فهو تقييد في مقام الإثبات لكنه كاشف عن تجدد الأمر بحسب مقام الثبوت ومن ثم يعطي هذا التفسير نفس نتيجة ما لو كان الأمر متعلقاً بالفعل المقيد وتنحل جميع تلك المحاذير التي توجهت على تقييد الأمر بقصد القربة.

والصحيح أن يقال أن هذا التفسير لا يخرج عن تلك التجشمات التي صنعتها أفكار الأصوليين عند تصوير الشبهات والمحاذير على أساس الأفكار الفلسفية والأمور العقلية المعقدة مضافاً إلى أن القول بانحلال الأمر وتجدده إلى التوجهات العديدة كلما لم يأت

ص: 288


1- - بحوث في علم الاصول - ج2 / ص94 - مصدر سابق.

المكلف بقصد القربة يحتاج إلى دليل بل لم يتصوره ولم يلحظه صاحب الحكم ومن قرر الأمر.

وأمّا القرينة العامة التي يدّعيها القائل بها فإنها ليست هي القرينة بل هو بيان للغرض الذي يتوقف على قصد الأمر كما هو واضح.

فالحق الذي هو جدير بالقبول هو صحة تقييد الأمر بقصد القربة وأنّ شيئاً من تلك المحاذير غير واقعة ولابد من بيان أمور:

الأول: أن الحكم هو اعتبار محض وكيفية اعتباره بيد المعتبر فله أن يعتبره مطلقاً أو يجعله مقيداً كان القيد من الانقسامات الأولية أو الانقسامات الثانوية من دون أنيستلزم إشكال وأغلب تلك المحاذير إنما تترتب فيما إذا اعتبرنا الأحكام من الأعراض ومنشئها الأمور العقلية المحضة.

الثاني: الأغراض التي يذكرها الأصوليون بالنسبة إلى الحكم لم يقم عليها دليل وقد ترتب على ذكرها إشكالات كثيرة كانوا في غنىً عنها، والذي يصحح إنشاء الحكم وإخراجه من عنوان العبث هو أن يكون المتعلق غاية ما يمكن سدّ باب عدم الغرض من ناحيته وهذا المقدار يكفي أن يكون مناطاً في صحة إنشاء الأحكام مطلقاً فلا نحتاج إلى ذكر الأفراد والتماس الوجوه في بعض العناوين كعنوان المحركية أو المحبوبية ونحو ذلك وهي متحققة وتترتب عليها قهراً بعد إنشاء الحكم وصحته مع أن العلم بالأغراض الإلهية دعوى لم يقم عليها برهان فإنها متعددة لا يمكن حصرها ولا سبيل إلى كشفها إلا ما يعينه الشارع ، يضاف إلى ذلك أن التماس الغرض في الأحكام ينافي حق الطاعة المفروض على العبد عقلاً.

وبذلك تنحل جملة من الإشكالات الحاصلة من تعيين الغرض في فرد خاص. فإذا كان الحكم اعتباراً ينشأ من غرض خاص يكفي في معرفته هو أن المتعلق غاية ما يمكن أن يسدّ به عدم الغرض والخروج عن الحكم العبثي.

الثالث: انه إذا كان أحد الموالي العرفيين أو أحد المقننين ساذجاً في الذهن بريئاً عن تلك الاعتراضات والشبهات فإذا أمر عبده بفعل مقيد بقصد الأمر فإنه لا يخطر في ذهنه شيء من تلك الشبهات، والشارع المقدس مع علمه بالجزئيات لم يخرج عن الطريق العرفي في إنشاء الأحكام وابلاغها إلى الأنام فليس له طريقة تختص به في هذين المجالين.

الرابع: ان العلماء على اختلاف اتجاهاتهم في المقام إنما يريدون التخلص من تلك المحاذير بالحلول المطروحة منهم إذ لم يسعهم إنكار الواجب التعبدي وهو يكشف عن أنهم هم السبب في وقوعهم في المأزق فلو كانوا قد تركوا الموضوع إلى المرتكز العرفي لما وجدوا فيه إشكالاً.

إذا عرفت تلك يظهر أنه يمكن أخذ قصد الأمر في نفس الحكم الشخصي فضلاً عن غيره من دون محذور وما ذكر إنما هي شبهات انقدحت في أذهان الأصوليين عند قياس المقام على الأمور العقلية والحقائق الواقعية وقد عرفت فساد ذلك.

وبناءً عليه إذا لم يمتنع التقييد فلا يمتنع الإطلاق ولا تصل النوبة إلى الإهمال وبذلك ننهي الكلام في معنى التعبدي والتوصلي وبعض خصوصياته.

ص: 289

ثم انه يقع الكلام تارة في بيان مقتضى الأصل اللفظي وأخرى الأصل العملي في الأوامر في إثبات التوصلية أو التعبدية فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأول: في بيان مقتضى الأصل اللفظي وقد عرفت سابقاً أن المراد من الأصل اللفظي هو الإطلاق وهو إمّا أن يكون لفظياً أو يكون مقامياً فالكلام يقع في كل منهما.

أمّا الإطلاق اللفظي فلا ريب في ثبوته فإذا لم يمتنع أخذ قصد القربة قيداً في متعلق الأمر بنفس الأمر فضلاً عما إذا كان بأمرين فيكون شأنه شأن سائر القيود والأجزاء يتمسك بالإطلاق عند الشك في أخذها في الواجب. وأمّا بناء على الوجوه الأخرى التيقيلت في الخروج عن تلك المحاذير مما عرفت سابقاً مافيها فقد اختلفوا في كيفية الاستفادة وتطبيقه وموجز الكلام فيه.

الأول: ما قيل في تفسير التعبدي بأنه أمر بذات الفعل ولكنه يتجدد كلما لم يأتِ المكلف بقصد الأمر، فإنه يمكن التمسك بالإطلاق اللفظي بأحد وجهين:

أولهما أنه بنظر العرف يكون قصد الأمر من القيود الداخلة في الأمر فإذا قام دليل على التقييد اثباتاً أخذ به، وإلا كشف من ذلك عدم أخذه ثبوتاً. كما عرفت سابقاً.

وفيه: انّ نظر العرف إلى كون قصد الأمر من القيود يكفي في دفع المحاذير السابقة وحينئذٍ يصح التمسك بالإطلاق إن لم يدل دليل على التقييد فلا نحتاج إلى التفسير الذي ذكر في معنى التعبدي وغيره فإنه من لزوم ما لا يلزم، يضاف إلى ذلك ما عرفت من عدم الدليل على صحة هذا التفسير فراجع.

ومنه يظهر الإشكال في الوجه الثاني الذي ذكر في تصحيح التمسك بالإطلاق لنفي الأمر التجددي لأن الإطلاق يقتضي مطابقة المرام مع ما بين اثباتاً.

ويرد عليه: بأن الأمر التجددي هو حقيقة الأمر التعبدي بناءً على هذا التفسير فيكون التمسك بالإطلاق لنفي الأمر التجددي يوجب الإهمال.

الثاني: ما قيل من أنّ الفرق بين التعبدي والتوصلي من ناحية الغرض فقط فحينئذٍ وقع الإشكال في التمسك بالإطلاق لنفي التعبدية فاعترض عليه بعدة اعتراضات أهمها:

الاعتراض الأول: انه لا يمكن التمسك بالإطلاق اثباتاً للكشف عن الإطلاق ثبوتاً إذ كلما استحال الإطلاق ، ولكن ينبغي تفسير هذه المقالة المجملة فقيل في توجيهها: بأن استحالة الإطلاق عند استحالة التقييد تارة يراد به استحالة شمول الخطاب للمقيد الذي يستحيل تقييد الحكم به وأخرى يراد به استحالة التقييد فيستحيل بالتالي شمول الخطاب لصورة فقدان القيد كما هو مقصود المحقق النائيني رحمه الله الذي هو صاحب هذه المقالة.

فإن كان المراد من المقالة المعنى الأول كما هو ظاهر بعض منهم السيد الخوئي رحمه الله فإنه لابد من ملاحظة ملاك الاستحالة في تقييد حكم بقيد من القيود.

فإنه إمّا أن يكون الملاك قائماً في نفس ثبوت الحكم على المقيد أي عدم صلاحية المقيد بذاته لثبوت الحكم فيه نظير استحالة تقييد الحكم بالعاجزين فهذا يوجب استحالة الإطلاق أي استحالة شمول الحكم له بالإطلاق أيضاً وليس المقام من هذا القبيل.

وإمّا أن يكون الملاك قائماً في عملية التقييد نفسه إمّا من أجل كون نتيجة التقييد لزوم المحال أو الاستهجان كما في تقييد الخطابات بالكفار فحسب أو من أجل تقدم الأمر على نفسه فيستحيل نفس عملية التقييد أو من أجل التهافت.

ص: 290

فإنه بناءً عليه لا يلزم من استحالة التقييد استحالة الإطلاق بمعنى شمول الحكم للمقيد بالإطلاق لأن المحذور كان من نتيجة التقييد فيكون محدوداً على المقيد فقط وهو غير موجود في الإطلاق أو في نفس عملية التقييد فهو يرتفع بالإطلاق أيضاً وعلى هذا التفسير فإن تطبيق الكبرى المتقدمة من استحالة الإطلاق لاستحالة التقييد يكون عقيماً وبلا فائدة لأنه يثبت استحالة الإطلاق بمعنى عدم شمول الحكم للحصة التعبدية وهو غير مقصود بل المقصود نفي التعبدية أي نفي شمول الحكم للحصة المأتي بها بلا قصد الأمر.اللهم إلا أن يقال بأن التلازم الموجود بين استحالة التقييد واستحالة شمول الحكم بالنظر العقلي السطحي وإن لم يكن بالدقة لذلك هي كافية في تطبيق الكبرى فإذا استحال التقييد استحال الإطلاق فيرجع إلى ما ذكرناه سابقاً من المحاذير، وقد عرفت الجواب عنها.

وأمّا المعنى الثاني أي استحالة التقييد بقصد القربة فيستحيل إثبات الإطلاق أي التوصلية وقد استدلّ عليه بوجوه:

1 - أن يكون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة، لأن الإطلاق عدم التقييد في موضع قابل للتقييد، فإذا استحال في مورد فلا يكون مورداً للإطلاق أيضاً.

2 - أن يكون التقييد والإطلاق كلاهما فرع قابلية الطبيعة للتقسيم بين واجد القيد وفاقده، فإذا لم تكن لها القابلية ولم يكن مقسماً استحال أخذ القيد واستحال رفضه وقد ذكرنا سابقاً من استحالة قبول الطبيعة للانقسام إلى ما يؤتى بها بقصد الأمر، وما يؤتى بها لا بقصد الأمر إلا من طول الأمر ففي المرتبة السابقة على الأمر التي هي مرتبة تعلق الأمر بالطبيعة لا تكون مقسماً لها كما هو الأمر في جميع التقسيمات الثانوية المتأخرة عن الأمر.

3 - أن يكون الإطلاق عبارة عن الجمع بين القيود في عالم التصور واللحاظ باعتبار أن الإطلاق هو اسراء الحكم إلى تمام الحالات في عالم اللحاظ فإذا فرض المحذور في أخذ قصد القربة في متعلق الأمر - وهو محذور التهافت مثلاً في اللحاظ - لزمه منه استحالة الإطلاق بنفس ملاك استحالة التقييد.

ويمكن الإشكال على جميع تلك الوجوه.

أمّا الوجه الأول: فهو مبنائي فمن ينكر أن يكون التقابل بين الإطلاق التقييد من العدم والملكة كما سيأتي في بحث الإطلاق من أن سريان الطبيعة إلى تمام الأفراد إمّا أن يكون على سبيل الإطلاق الذاتي أو على سبيل الإطلاق اللحاظي ولا ثالث لها فعلى الأول يكون السريان ذاتياً لا يمكن سلخه عن الطبيعة فيكفي في حصول الإطلاق عدم المانع أي عدم لحاظ القيد الذي هو نقيض لحاظ القيد فيكون التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب وهذا هو المشهور بين الأصوليين.

وعلى الثاني يكون التقابل بينهما تقابل التضاد لأنّ كلاً من الإطلاق والتقييد بحاجة إلى لحاظ زائد على الطبيعة فيكونان معاً أمرين وجوديين فيكون التقابل بينهما تقابل الضدين، وليس هنا نكتة أخرى غير ذلك حتى يكون ملاكاً لأن يكون التقابل بينه وبين التقييد من تقابل العدم والملكة.

وأورد السيد الصدر رحمه الله النقض على ذلك أيضاً ولكنه غير تام لمن أمعن النظر فيه وسيأتي تتمة الكلام في موضعه.

ص: 291

وأمّا الوجه الثاني: فلأن المناط في المقسمية هو مصداقية الحصتين للطبيعة مفهوماً لا إمكان الوجود خارجاً فيكون المراد من قابلية انقسام الطبيعة إنما هو بلحاظ المفهوم أي مصداقية كل من الحصتين للطبيعة لا بمعنى وجودها خارجاً فهذا ثابت قبل الأمر لأن هذه المصداقية ذاتية وليست في طول الأمر.وأمّا الوجه الثالث: فلأن الإطلاق ليس جمعاً للقيود بل هو رفضها، فيقتصر النظر على ذات الطبيعة بخلاف العموم هذا كله ما يتعلق بالاعتراض الأول.

الاعتراض الثاني: انه بعد استحالة التقييد إمّا أن يتحقق الإهمال وهو غير معقول ثبوتاً كما عرفت سابقاً أو يثبت الإطلاق بالضرورة ولكن هذا الإطلاق لا ينفع لنفي التعبدية وإثبات توصلية الواجب لأن المفروض أن الفرق بينهما ليس في الواجب بل في الغرض وإطلاق الواجب لا يمكن أن يكشف عن الإطلاق في الغرض إذ الإطلاق ضروري فلا يمكنه التقييد حتى إذا كان الغرض مقيداً.

وأورد عليه بعض الأعلام بأنّ هذا الاعتراض إنما يصح بناءً على ثبوت الإطلاق الذاتي في الطبيعة المهملة وأمّا إذا قلنا بإمكان إهمال الطبيعة إهمالاً لحاظياً وتكون في قوة الجزئية لا المطلقة فإنه بعد استحالة التقييد نقول إمّا أن يفرض الإهمال أو يفرض الإطلاق ولا سبيل إلى الإهمال لأن استحالة التقييد إمّا لأجل برهان الدور فهو كما يثبت استحالة التقييد يثبت استحالة الإهمال أيضاً كما عرفت من أن المهملة في قوة المقيدة فلابد من تقييد الأمر بها بالأمر فالاعتراض على هذا الاحتمال تام بعد أن كان الإطلاق ضرورياً على هذا المسلك.

وأمّا إذا كانت استحالة التقييد غير برهان الدور من الوجوه المتقدمة التي عرفت أنها تختص بفرض التقييد، فلا يكون الإطلاق ضرورياً لعدم تعيّنه مقابل الإهمال الذي هو في قوة الجزئية، فحينئذٍ إذا كان غرض المولى في المقيد أمكنه جعل الأمر على الطبيعة المهملة التي هي في قوة الجزئية فمع إطلاق الجعل نستكشف إطلاق الغرض وهو معنى التوصلية.

ولكن يمكن الإشكال عليه بأنه حتى على فرض الإطلاق اللحاظي فإنّ من مقدمات الحكمة عدم بيان ما يمكن أن يكون بصدد بيانه فلابد من نصب قرينة على إرادة الإهمال اهمالاً لحاظياً والمفروض أنها بيان ، ولما كان المفروض عدم إمكان بيان التقييد وإن أمكن الإطلاق ثبوتاً فلا يصح التمسك بإطلاق الكلام لنفي القيد لعدم تمامية إحدى مقدماته فعدم البيان لا يكون دليل الإطلاق لعدم إمكان البيان.

والإيراد عليه بأنّ الامتناع ثبوتي لا إثباتي فلا يهم حينئذٍ في تحقيق إمكان بيان القيد وعدم إمكانه غير صحيح كما عرفت من أنه ليس كل المحذورات التي ذكرناها مما توجب الاستحالة ثبوتاً لاسيما ما هو مفروض الكلام وهو التخلف في الغرض ويأتي مزيد بيان.

الاعتراض الثالث: ان الإطلاق ثبوتاً لا هو مستحيل ولا هو ضروري إذ الإطلاق الثبوتي لا يمكن إحرازه بمقدمات الحكمة إثباتاً كما عرفت آنفاً من عدم إمكان إبراز التقييد إثباتاً فلا يكون عدم ذكر القيد إثباتاً كاشفاً عن الإطلاق ثبوتاً وهذا هو معنى أن الإطلاق الحكمي الإثباتي أخذ فيه قابلية التقييد وعليه يتم ما ذكره المحقق النائيني رحمه الله من أنه إذا استحال التقييد استحال الإطلاق، إذا كان نظره إلى مرحلة الإثبات والدلالة العرفية.

ص: 292

وأورد عليه بأنه يتم فيما إذا فرض أن الدال على الإطلاق إثباتاً مجرد عدم بيان التقييد وأمّا إذا كان الدال عليه عدم بيان ما يخالف الإطلاق ولو كان هو الإهمال الذي هو فيقوة التقييد فالكاشف عن الإطلاق موجود لأنه وإن لم يكن يمكنه التقييد إلا أنه كان يمكنه نصب قرينة على الإهمال الذي هو في قوة التقييد.

والصحيح أن ذلك ما لم يرجع إلى الدلالة في الكلام لا اعتبار به لأنه من مجرد فرض. فإذا نصب قرينة وفهم منها العرف الإهمال وكان بمنزلة التقييد كان بياناً في مرحلة الإثبات ومن ثم عاد الإشكال في هذا البيان.

والحاصل أن إثبات الإطلاق اللفظي بناءً على هذا المسلك وهو مسلك صاحب الكفاية مشكل جداً كما عرفت من النقوض والاعتراضات والإشكال عليها.

الثالث: من الوجوه التي ذكرت في إثبات الأصل اللفظي لإثبات التوصلية وهو مسلك تعدد الأمر في الواجب التعبدي والظاهر إمكان إثبات الإطلاق به ولا مانع فيه وذلك لأن الأمر إذا لم يأخذ قصد القربة ولو بجعل آخر أمكن التمسك بالإطلاق اللفظي عرفاً لنفي القيد عند الشك فيه فتثبت التوصلية لا محالة.

ولكن أشكل على ذلك أولاً: انه بناءً على تفسير المحقق النائيني رحمه الله لتعدد الجعل لا يتم الإطلاق اللفظي لإثبات التوصلية لأن إطلاق الجعل الأول لا يعني عدم التقييد بقصد القربة بالجعل الثاني.

وفيه: ان الآمر إذا كان في مقام البيان فلم يأخذ القيد وهو قصد القربة بجعل آخر الذي بإمكانه فعل ذلك فإنّ العرف يحكم بأن الإطلاق يقتضي التوصلية والمفروض تعلق الأمر الثاني بموضوع الجعل الأول.

وثانياً: انه بناءً على ما ذكره المحقق العراقي رحمه الله في بيان تعدد الأمر من وحدة الجعل وتعدد المجعول((1))

لابد من تصوير الجامع بين الواجبين والموضوعين فإن كان العنوان المأخوذ في لسان الدليل هو الجامع بين الفعل وقصد القربة فإنه تثبت التعددية دون التوصلية وإن كان العنوان المأخوذ في الدليل هو الفعل فقط أي ذات الصلاة فهو تثبت التوصلية دون التعبدية لكن لا بالإطلاق بل بأصالة التطابق بين العنوان المأخوذ في عالم الإثبات والعنوان المأخوذ في عالم الثبوت.

ويرد عليه: بأنه لا حاجة إلى تصوير الجامع فإن متعلق الأمر هو نفس الفعل كما يصرح به نفسه رحمه الله وأن العرف يحكم بإطلاق الجعل من دون نصب قرينة على التقييد وكونه بين الفعل وقصد القربة خلاف المفروض.

والحق إمكان التمسك بالإطلاق لإثبات التوصلية عند الشك في أمر أنه تعبدي أو توصلي وما ذكر إنما هو مجرد تصورات لا تحقق لها في الخارج وهي قابلة للنقاش كما عرفت.

أمّا الإطلاق المقامي فقد تمسك به جمع من الأعلام لاسيما ممن رفض الإطلاق اللفظي وقد ذكروا له تقريبين:

ص: 293


1- - راجع مقالات الاصول - ج1 / ص237 - مصدر سابق.

الأول: إثبات الإطلاق ببرهان نقض الغرض فإنه لو كان قصد القربة دخيلاً في الغرض لكان على المولى بيانه ولو بجملة خبرية وإلا لزم نقض الغرض، والمفروض عدم ورود دليل عليه في فرض الشك فإنه يستكشف منه عدم دخله في الأمر.إلا أن المحقق العراقي رحمه الله ذكر في توجيه ذلك أن لزوم نقض الغرض يتوقف على تمامية أحد أمرين فإمّا أن يقال بأن الأصل العملي في دخل قصد القربة في الغرض هو البراءة لا الاحتياط، أو يقال بأن قصد القربة من القيود التي يغفل عنها العرف ولا يحتمل وجوبه بل لا يلتفت إلى أصله وإلا فلو كان ملتفتاً إلى احتمال دخله فيكون هذا الاحتمال مجرى لأصالة الاشتغال، فلا يلزم حينئذٍ من عدم بيان دخل قصد القربة في الغرض نقض للغرض.

وأشكل السيد الصدر رحمه الله على التمسك بالإطلاق المقامي حتى لو تم الأمرين اللذين ذكرهما المحقق العراقي بوجهين:

الأول: انّ برهان نقض الغرض إنما يتم فيما إذا أحرز بعدم بيان المولى لدخالة قصد القربة في الغرض على الإطلاق وإلا فلو احتملنا ذكره في غير الخطاب الشخصي من خطابات وبيانات أخرى فلا يتم هذا البرهان ومثل ذلك لا يمكن إحرازه من مجرد سكوت المولى في شخص خطاب الأمر كما لا يخفى.((1))

وفيه أنه خلاف الفرض إذ المفروض إحراز عدم دخالته في الغرض على الإطلاق وسيأتي كفاية ظاهر الحال نفيه إذا لم يبين.

الثاني: ان كشف الإطلاق بنكتة ان قيد القربة مما يغفل عنه عادة مما يبرهن على أنّ قصد القربة ليس شرطاً واقعياً أي ليس له الدخل في الغرض على الإطلاق وأمّا كونه شرطاً ذكرياً أي يكون شرطاً عند التذكر والالتفات إلى قصد القربة أو احتمال دخله في الغرض فلا يمكن نفيه بالإطلاق المقامي لأن من لا يلتفت إليه لا غرض في قصده للقربة، ومن يلتفت إليه من دون بيان المولى لا حاجة إلى البيان بالنسبة إليه لأصالة الاشتغال فلا يلزم نقض الغرض.

وفيه: ان مراد المحقق العراقي رحمه الله من ذلك أنّ برهان نقض الغرض إنما يتم فيما إذا لم يكن قصد القربة مما يلتفت إليه العرف وإلا فإنه بمجرد إلتفاته يحكم بالاشتغال فلا حاجة إلى بيان المولى.

وما ذكره السيد الصدر رحمه الله إنما يصح فيما إذا تم أخذ قصد القربة في الغرض بأي وجه كان وحينئذٍ يجري الكلام في أنه هل كان ذلك على نحو الشرط الواقعي أو الشرط الذكري.

التقريب الثاني: دليل ظاهر الحال فإنّ ظاهر حال المولى عند الأمر بالشيء أنه بصدد بيان تمام ما له دخل في تحقيق غرضه، فلو كان الآمر قاصراً عن بيان تمام غرضه لعدم إمكان أداء تمامه بذلك الأمر ولكنه بإمكانه تكميل ذلك بيان آخر كالجملة الخبرية فإن لم يضع ذلك انعقد في كلامه إطلاق مقامي لنفي دخل قصد القربة في الغرض بلحاظ هذا الظهور الحالي.

ص: 294


1- - بحوث في علم الاصول - ج2 / 103 - مصدر سابق.

والظاهر أن هذا التقريب هو المناط في التقريب الأول أيضاً ويرجعان إلى أمر واحد.

وكيف كان فإنّ الإطلاق المقامي صحيح وهو يعضد الإطلاق اللفظي.ثم أنه قد تمسك بعض الأصوليين ببعض الوجوه لإثبات التعبدية مقابل الإطلاق الذي عرفت أنه يقتضي التوصلية ولكن ظهور فسادها يغنينا عن التعرض لها فمن أراد التوسعة فليرجع إلى كتب القوم. وبذلك ننهي الكلام في المقام الأول وهو الأصل اللفظي.

المقام الثاني: في الأصل العملي فيما لو فرض عدم إمكان التمسك بالإطلاق لنفي التعبدية وهو يدور بين الاحتياط والاستصحاب والبراءة أمّا الأول فقد قيل في تقريبه وجوهٌ أربعة اختلف الأصوليون في بيانها:

الأول: وجود علم إجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر فيكون الشك في المحصل فيجب الاحتياط بالإتيان مع قصد القربة.

الثاني: ان الإتيان بالأقل أي بدون قصد القربة لا يمكن إحراز مصداقيته للواجب المعلوم اشتغال الذمة به فيجب الفراغ اليقيني.

الثالث: انه لا يحرز سقوط التكليف المعلوم ثبوته وفعليّته.

الرابع: انه لابد من الجزم بتحصيل غرض المولى وهو لا يحصل إلا بالأكثر وهو الإتيان مع قصد القربة وبعبارة أخرى أن الشك في حصول الغرض يوجب الاحتياط ولكن الظاهر أنّ شيئاً مما ذكر لا يتم توجيهه في الاحتياط به بعد إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر نفسه أو بأمر آخر.

فإن الشك حينئذٍ يكون في الشرط والقيد فالمرجع هو البراءة النقلية والعقلية.

وحينئذٍ يظهر الإشكال في الوجوه المتقدمة.

أمّا الأول: فلأنه لا يجري بعد أن كان الشك في أصل القيد والشرط والمرجع فيه البراءة لا الاحتياط.

وكذا الثاني: لأنه بعد إتيان الأقل يكون الشك في الزائد وأن بإتيان ذات الفعل يحصل القطع بمصداقيته للأمر.

وأمّا الثالث: فإن مع إتيان أصل الفعل يحصل الشك في اشتغال الذمة بالشرط والمرجع فيه البراءة.

وأمّا الرابع: فإن الغرض الذي يجب تحصيله إنما هو الغرض المعلوم بحدوده وقيوده وأقام الشارع الحجة عليه، وأمّا إذا شك في حد الغرض ثبوتاً مع عدم دليل عليه إثباتاً وإن كان لأجل امتناعه فلا دليل من عقل أو نقل على وجوب الاحتياط في تحصيله.

وبعبارة أخرى أن الغرض الذي علم ثبوته واقعاً بحده وجب تحصيله ولو بالاحتياط كما في أطراف العلم الاجمالي والشبهات البدوية قبل الفحص، وأمّا إذا شك في أصل ثبوته فلا يحكم العقل بوجوب الاحتياط فيه. هذا مع أنه سيأتي في محله أنه لا إحتياط في الأقل والأكثر الارتباطيين بل المرجع هو البراءة.

ثم إنهم قد استدلوا على القول بالاحتياط بوجوه:

منها: عدم الجزم بالسقوط من دون قصد القربة والشغل يقيني يستدعي الفراغ اليقيني، وهذا الوجه وإن لم يتم في الأقل والأكثر فإن الشك في الأكثر مرجعه البراءة إلا أنّ في

ص: 295

المقام خصوصية لم تكن في ذلك لأن الشك في السقوط مسبب عن الشك في دخالة قصد القربة في الغرض فيجب الاحتياط تحصيلاً للغرض.وقد عرفت الجواب عنه آنفاً مع أنه سيأتي في موضعه أنّ هناك فرقاً بين الاشتغال والبراءة بعد التأمين عن الشك في السقوط المناط في الاشتغال. أنّ الشك إذا كان منشأه احتمال أمر يرجع إلى المولى كتحصيل الغرض فإن عليه بيانه سواء بصيغة الأمر أو بصيغة الاخبار فإذا لم يأت بيان من ناحيته فإنه يكون مجرى البراءة، وكل شك ينشأ من ناحية العبد وأن من وظيفته إحرازه كاحتمال عدم الإتيان بالواجب يكون مجرى الاشتغال.

ومنها: أن الاحتياط في المقام إنما هو من جهة اشتغال الذمة بالغرض المولوي المعلوم فلابد من تحصيله جزماً بخلاف موارد الأقل والأكثر وذلك لأن الغرض المولوي إذا كان المولى في مقام بيانه ولا يتصدى إليه إلا بمقدار بيانه فإنّ الشك في الأقل والأكثر إنما يتحقق في القدر المتيقن الذي هو الأقل دون الأكثر فتجري البراءة فيه، ولكن لا تجري البراءة فيما إذا علمنا بالغرض ولكن لم يتمكن المولى من بيانه.

ويرد عليه: انّ تحصيل الغرض إنما يجب إذا كان المولى في مقام بيانه بحدوده.

وهو وإن لم يتمكن – فرضاً - من بيانه بنفس الأمر لكن يمكنه أن يبيّنه ببيان آخر، فإذا لم يبيّنه فلا يجب تحصيله.

ومنها: انّ البراءة العقلية لا تجري في المقام لما عرفت من الوجهين الأخيرين في تقريب الاحتياط وأمّا البراءة الشرعية فلا تجري أيضاً بدعوى أنّ أدلة البراءة الشرعية ناظرة إلى التكاليف الشرعية التي تكون رفعها ووضعها تحت إرادة المولى الشارع ومن الواضح أنه في المقام لا يحتمل دخل قصد القربة في التكليف الشرعي، كما عرفت فيما سبق فلا يطبق عليه دليل البراءة الشرعية، وإنما يحتمل دخل قصد القربة في تحصيل الغرض وهو أمر تكويني وليس تكليفاً شرعياً حتى يطبق عليه حديث الرفع لأنه يرفع ما يكون قابلاً للجعل والوضع وهو الحكم لا الغرض.

وفيه:إنه ممنوع صغرى وكبرى فإنه لا يختص حديث الرفع ودليل البراءة بالأحكام الإنشائية التكليفية بل تشمل كل جهة ترجع إلى المولى ويمكن فيه تحميل المسؤولية على المكلف ولو كان غرض المولى فإنّ الرفع إنما هو رفع المسؤولية والتبعية دون رفع الواقع.

مع أن الغرض يمكن أن يناله لسان الدليل بأي وجه كان فيفيد الإلزام والكلفة عرفاً يضاف إلى ذلك أنه قد عرفت إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر فيكون قابلاً للموضع والرفع ومن جميع ذلك يظهر بطلان التمسك بالاشتغال.

وأمّا الاستصحاب فقد تمسك به جمع فيجب قصد الأمر باستصحاب أصل الوجوب إذا شك في سقوطه بعد إتيان ذات الفعل المأمور به.

فيرد عليه: بأنه إن أريد منه دخل قصد الأمر في المتعلق فهو مثبت.

وإن أريد وجوب قصد الامتثال من غير دخله في المتعلق (ففيه) أنه ليس أثراً لنفس المتيقن المستصحب الذي هو ذات الوجوب من حيث هو وقصد الامتثال غير ذات الوجوب كذلك.

وسيأتي في بحث الاستصحاب إنه يعتبر فيه أن يكون المشكوك عين المتيقن شرعاً.

ص: 296

وإن أريد به حكم العقل بوجوب الاحتياط فهو باطل لأنه مع العلم بأصل الوجوب لا يحكم العقل بوجوب الاحتياط وتحصيل الغرض المشكوك ثبوته فضلاً عن إثبات ذلك بالاستصحاب فلا يجري الاستصحاب.

والصحيح هو الرجوع إلى البراءة عند الشك في كون الأمر تعبدياً أو توصلياً لدوران الأمر فيه بين الأقل والأكثر والتحقيق فيه جريان البراءة عن الأكثر، كما سيأتي وهذا يجري أيضاً فيما إذا قلنا بتعدد الأمر أحدهما يتعلق بذات الفعل والآخر يتعلق بقصد القربة الذي اصطلح عليه بمتمم الجعل كما تقدم بيانه لأن الشك حاصل في وجود أمر بعد العلم بالأمر الأول فيكون مجرى البراءة أيضاً ومن جميع ما تقدم في قصد القربة يظهر الكلام في قصد الوجه والتمييز من القيود الثانوية فلا حاجة إلى إعادة الكلام فيها.

ثم انه ذكر السيد الوالد رحمه الله في آخر هذا المبحث ختاماً تعرض لبعض الأمور وهي ترجع إلى دلالات صيغة الأمر وقد تعرض في الأمر الأول الى اعتبار المباشرة وأن لا يكون المأتي به من الفرد الحرام في العبادات وقد تقدم الكلام في ذلك فراجع((1)).

الأمر الثاني: هل إطلاق دليل الوجوب يقتضي أن يكون عينياً نفسياً تعيينياً مقابل الكفائية والغيرية والتخييرية؟ وقد وقع البحث عند الأصوليين لما يقتضيه الأمر لكل واحد من هذه العناوين الثلاثة ومنشأ الإشكال هو أنه إذا كانت كل واحدة من العينية والنفسية والتعيينية خصوصية في الوجوب كخصوصية التخيير والغيري والكفائي منه؟ فكيف يكون مقتضى الإطلاق إيراده هذه الخصوصية دون تلك، فإن كل واحد من هذه الافراد يقابل الفرد الآخر والمفروض انه ليس مقتضى طبيعة الوجوب النفسية والعينية والتعيينية حتى تطرأ عليها الغيرية والتخييرية والكفائية ورفع هذا الإشكال يستدعي البحث في كل واحد من هذه العناوين الثلاثة فالكلام يقع من جهات ثلاثة:

الأولى: في أنّ إطلاق الأمر يقتضي النفسية أو الغيرية والمعروف أنه يقتضي النفسية ويمكن الاستدلال عليه بأنواع من الإطلاق:

الأول: الإطلاق الأحوالي لصيغة الأمر لحال عدم وجوب واجب آخر وعدم تحقق شرط وجوبه كالزوالِ بالنسبة إلى الصلاة فيثبت بالالتزام الوجوب النفسي من دون أن يكون غيرياً.

وأشكل عليه: بأنه إنما يتم إذا لم يكن الواجب المشكوك كونه نفسياً أو غيرياً مشروطاً بما يكون ملازماً دائماً مع ثبوت وجوب الواجب الآخر فإنه لا يمكن إثبات كونه واجباً نفسياً.

ويرد عليه: بأن المفروض انتفاء ذلك مع أن وجوده لا يضر إذ المدار على الواجب المعني الذي نشك في أن وجوبه نفسي أو غيري وأمّا الواجب الآخر الملازم له إذا لم نستفيد من دليله الشرطية فإن مجرد الملازمة بينهما لا تثبت الغيرية. كما هو واضح.الثاني: التمسك بإطلاق المادة في دليل الواجب الذي يحتمل فيه أن يكون مقدمة لواجب آخر فيثبت بالالتزام أن الوجوب فيه نفسي لا غيري وهذا التقريب يتوقف على أمور:

1- أن يكون دليل ذلك الواجب النفسي لفظياً قد تمت مقدمات الحكمة والإطلاق في مادته.

ص: 297


1- - تهذيب الاصول - ج1 / ص69 - مصدر سابق.

2- أن لا يكون دليل الأمر بالواجب المردد بين النفسي والغيري متصلاً بدليل الواجب النفسي وإلا فسوف يسري الإجمال والتردد إلى ذلك الدليل أيضاً فيما إذا لم يكن الاقتران بين الدليلين صالحاً لتقييد المادة وإلا فلا يلزم الإجمال بل كان الأمر بالعكس وكان إطلاق المادة قرينة على استقلالية الأمرين.

3- أن يكون الوجوب الغيري المحتمل الذي يراد نفيه هو الوجوب الغيري بملاك التقييد الشرعي لا بملاك التوقف التكويني.

الثالث: التمسك بإطلاق المادة في الأمر بشيء كالوضوء بالنسبة للحصة غير الموصلة منه وإثبات أنه مصداق للواجب، فيثبت بالالتزام أن هذا الواجب نفسي لا غيريٌ.

ولكن هذا يختص بما إذا قلنا بأنّ الوجوب الغيري مخصوص بالحصة الموصلة فقط فينفى الحصة غير الموصلة بإطلاق المادة كونه واجباً نفسياً بعد إثبات كونه مصداقاً للواجب وسيأتي الكلام فيه.

الرابع: التمسك بإطلاق الأمر في إثبات النفسية بالمدلول المطابقي لا بالالتزام وذلك بدعوى أنه كلما دار الأمر بين قيدين أحدهما وجودي والآخر عدمي كان مقتضى الإطلاق والسكوت في مقام الإثبات إرادة الخصوصية العدمية ثبوتاً، فإن خصوصية الغيرية وجودية لأنها عبارة عن الوجوب الناشئ من وجوب آخر بخلاف النفسية التي هي الوجوب الذي لم ينشأ من وجوب آخر فتكون متعينة بالإطلاق. ويرد عليه:

أولاً: أن النفسية أيضاً أمر وجودي، وهو خصوصية كون الوجوب ناشئاً عن ملاك في نفسه.

وثانياً: انّ الإطلاق المزعوم في المقام هو الإطلاق اللحاظي لم يفرق فيه القيد الوجودي أو القيد العدمي، فإنه عبارة عن لحاظ رفض القيود مطلقاً.

الخامس: انّ الكفائية والغيرية والتخييرية هي خصوصيات تحتاج إلى دليل خاص وقرينة مخصوصة ومع العدم يكون المرجع هو حكم العقل بالنفي كما كان استفادة أصل الوجوب بحكمه أيضاً فيكون مقتضى إطلاق دليل الوجوب النفسية والعينية والتعيينية.

ولعل هذا هو مراد من قال بأصالة التطابق بين مقامي الثبوت والإثبات وهو تعيّن الخصوصية المناسبة مع عالم الإثبات فإن الوجوب الغيري تبعي ومن أجل واجب آخر بخلاف الواجب النفسي، والأمر بشيء إثباتاً يناسب أن ذلك الشيء مأمور به أصالة ولنفسه لا أن يكون ايجابه لأجل شيء آخر.

وهذا يتم بالحكم العقلي الذي ينفي الخصوصية الغيرية وإلا فإن بمجرد التطابق بين عالمي الثبوت والإثبات لا يمكن إثبات الوجوب النفسي به .الجهة الثانية: في أن إطلاق الأمر هل يقتضي التعيينية أو التخييرية؟ والحق أن أصالة الإطلاق أيضاً يقتضي التعيينية دون التخييرية لأن استفادة جنس الوجوب من حيث هو لا وجه له لأنّ أدلة الأحكام تدل على الأنواع لا الجنس من حيث هو واستفادة التخيير بين الأنواع منفي بالإطلاق اللفظي.

بلا فرق في ذلك بين أن يكون معنى التخيير إيجاب كل منهما مشروطاً بترك الآخر، أو قلنا بأنه إيجاب الجامع بين الفعلين، أو كان الواجب التخييري كالواجب التعييني إلا أن الاختلاف بينهما في الشدة والضعف فإن الوجوب في التخييري مشوب بجواز الترك إلى

ص: 298

البدل فهو مرتبة بين الوجوب التعييني الذي لا يرخص تركه مطلقاً والاستحباب الذي يرخص تركه مطلقاً، فإنه لا اختلاف على هذه المسالك في تفسير التخيير فإن الإطلاق يقتضي التعيينية.

الجهة الثالثة: في أن إطلاق الأمر يقتضي العينية دون الكفائية بنفس الأسلوب المذكور، هذا كله بحسب الأصل اللفظي، أما إذا اقتضى الأمر الرجوع إلى الأصل العملي فإنه يمكن الرجوع إلى أصالة عدم السقوط بفعل الغير، أو في ضمن فرد آخر فهو يقتضي العينية والتعيينية، وأصالة عدم اشتراطه بواجب آخر فيدل على النفسية.

نعم إذا شك في الوجوب الغيري ولم يكن وجوب ذي المقدمة فعلياً يكون حينئذٍ من الشك في أصل الوجوب والمرجع البراءة بخلاف ما إذا كان فعلياً فإنه يجب الإتيان به لا محالة.

الأمر الثالث: وقوع الأمر بعد الحظر ومفاده، وهو كثير في الروايات وقد عالج الفقهاء هذا الموضوع بإثبات قاعدة عامة في الفقه . وكيف كان إذا ورد الأمر عقيب الخطر، كقوله تعالى: ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾((1))

وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾((2))

أو قوله تعالى: ﴿وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا﴾((3)) أو توهمه كما إذا سأل عن جواز الشيء فأجيب بالأمر به.

والظاهر أنه قد اتفق الأصوليون على عدم الوجوب وذلك لعدم دلالة الصيغة على الوجوب حينئذٍ سواء قلنا بأن الوجوب بحكم العقل أو بالإطلاق ومقدمات الحكمة أو بالوضع لإكتناف الخطاب بما يحتمل قرينيته وهو مورد توهم الخطر وهو كافٍ في رفع الظهور في الوجوب كما في سائر الموارد إذا اكتنف الكلام بالقرينة الصارفة ولكنهم اختلفوا في ظهوره.

فقيل: انه ظاهر في الإباحة، وقيل: انه ظاهر في الحكم السابق على التحريم من وجوب أو إباحة أو غيرهما. وقيل: بعدم ظهوره في شيء منهما.

أمّا الإباحة: فقد ذكروا في توجيهها بأنّ وقوع الأمر بعد الخطر أو توهمه من القرينة الدالة على رفع التحريم والإباحة والترخيص في العمل مطلقاً.وردّ بأنه ليس ذلك من القرائن العامة التي تدل على الإباحة مطلقاً عرفاً، بل اللفظ معه يصير مجملاً، فلابد من اتباع القرائن الخاصة التي قد تدل على الإباحة في مورد، أو تدل على الوجوب في مورد آخر.

وهذا هو مختار جمع من الأصوليين منهم المحقق الخراساني والسيد الوالد((4))

رحمه الله الذي ذكر أنه مع فقد هذه القرينة فالمرجع أصالة البراءة عن الوجوب.

وذهب بعض الأعلام في توجيه الإجمال إلى أن الأمر له مدلول تصوري وهو البعث والنسبة الإرسالية ومدلول تصديقي وهو وجود إرادة طلبية في نفس المولى، والأمر في مورد توهم الخطر يستعمل في نفس مدلوله التصوري، ولهذا لا يشعر بعناية المجاز

ص: 299


1- - البقرة / 217.
2- - التوبة / 5.
3- - المائدة / 2.
4- - تهذيب الاصول - ج1 / ص70 - مصدر سابق.

غاية الأمر أن المدلول التصديقي كما يناسب الطلب في هذا المورد، كذلك يناسب رفع الخطر وكسر التحرج وبهذا أثبت أنه لا يدل الأمر على الوجوب فيكون وروده مورد توهم الخطر يوجب الإجمال ،بل قد حاول بعض المحققين إلى تأسيس قاعدة عامة في المقام إمّا لإثبات الإجمال بقرينة نوعية وهي احتمال وجود ارتكاز نوعي متشرعي على عدم الوجوب في ذهن الراوي فيكون من احتمال وجود القرينة المتصلة الموجبة للإجمال.

أو للرجوع إلى أصالة البراءة عن الوجوب وتكون نتيجتها الجواز كما تقدم آنفاً ومن أجل ذلك لم يذهب الفقهاء إلى الوجوب في الأوامر الكثيرة الواردة في الفقه في موارد متفرقة من أبواب العبادات، كالأمر بصلاة الجمعة وصلاة الليل ونحو ذلك فإن عدم حمل الأمر على عدم الوجوب ليس لأجل شيء آخر كالإجماع حتى يستشكل عليه بأنه غير حاصل((1)).

الأمر الرابع: لا ريب في أن إيجاب شيء على المكلف مع انتفاء شرطه قبيح عند العقلاء كافة وكل قبيح عقلي ممتنع بالنسبة إليه تبارك وتعالى فيكون من التكليف المحال وبالمحال.

نعم إذا كانت مصلحة خاصة تقتضي ذلك فلا اشكال فيه لأن وجود المصلحة يرفع قبحه، بل قد يكون تركه قبيحاً.

وليس من ذلك إنشاء التكليف في ظرف عدم الشرط ولكن يتمكن منه حين فعلية التكليف، فإنه لا إشكال فيه بل هو شايع ، وتفصيل ما ذكره رحمه الله أنه تارةً يكون انتفاء شرط المجعول ضرورياً قهرياً، وأخرى يكون اختيارياً.

وفي الفرض الأول فإمّا أن يكون الانتفاء الضروري للشرط لامتناعه في نفسه كما إذا قال ان اجتمع الضدان وجبت الصدقة، وإمّا أن يكون بسبب الجعل نفسه كما إذا قال: لو لم يُجعل عليك الصلاة فصل، فإنه يستحيل فعلية هذا المجعول لأنه ينتفي موضوع المجعول بنفس هذا الجعل.وعلى كلا الفرضين يكون الجعل مستهجناً عقلائياً. ولكن عند وجود الغرض في نفس الجعل يصح كما عرفت ، والقول بأنّ هذا ليس غرضاً عقلائياً من الجعل غير سديد لأنه من المناقشة في الصغرى.

وعلى الثاني وهو ما إذا كان الانتفاء اختيارياً وهو إمّا أن يكون الانتفاء الاختياري بسبب الجعل ومنشأيته له كما إذا كان جعل كفارة الجمع للإفطار العمدي بالحرام مستلزماً لانتفائه خارجاً، لا إشكال في صحة الجعل بل هو المقصود من الجعل كثيراً.

وإمّا أن يكون الانتفاء الاختياري بدافع طبعي ثابت بقطع النظر عن الجعل، كما إذا جعل الكفارة على تقدير تناول القاذورات مثلاً، فإنّ الشرط فيه منتفٍ خارجاً بحسب طبعه.

فالجعل وإن كان معقولاً وجائزاً في نفسه إلا أنه ليس كسائر الأوامر التي تقع في طريق امتثال المكلف خارجاً فلابد أن يكون الجعل في المقام مراداً للمولى لغرض خاص مترتب عليه، ولأجله صلح الجعل.

ص: 300


1- - بحوث في علم الاصول - ج2 / ص118- مصدر سابق.

الأمر الخامس: في الأمر بالأمر وهو الشايع المتعارف، وعليه جرى بناء الشارع أيضاً فإذا أمر المولى شخصاً بأن يأمر آخر بشيء، فقد وقع البحث في دلالة الأمر بالأمر على وجوب الفعل على المأمور الثاني وعدمه ويترتب عليه ثمرات كثيرة في الفقه منها الأمر بأمر الصبيان بالصلاة، كقوله علیه السلام : (مروا صبيانكم بالصلاة)((1))

فإنه بناء على الوجوب تثبت مشروعية عبادة الصبي وتعلق الغرض بها فتكون مجزية عن الواجب لو صلّاها وبلغ في أثناء الوقت. وتفصيل الكلام فيه يقتضي ذكر الاحتمالات التي يمكن تصويرها في المقام.

لا ريب فيما إذا علمنا من القرائن أنّ الأمر بالأمر أن كلاهما مأمورين ، وهذا خارج عن مورد الكلام .

الأول: أن يكون مطلوب المولى هو صدور الفعل عن المأمور الثاني، فيكون أمره للمأمور الأول ليس إلا لمجرد ايصال أمره إلى المأمور الثاني فيكون المجعول التشريعي بالأمر الأول إنما هو طلب الفعل من المأمور الثاني.

الثاني: أن يكون المجعول في الأمر بالأمر هو إيجاب أن يأمر المأمور الأول المأمور الثاني لا إيجاب الفعل على المأمور الثاني. فهو أمر طريقي ولكنه يدل بالالتزام عرفاً على طلب الفعل من المأمور الثاني وهذا الوجه يرجع إلى الأول أيضاً فلا يختلفان في كون المقصود منهما صدور الفعل من المأمور الثاني وأنه بنفس الطلب الأول, إلا في الدلالة المطابقية في الأول والالتزامية في الثاني ووساطة الإبلاغ والإرسال عند الأنبياء والمرسلين تنطبق على كل واحد من هذين الوجهين.

الثالث: نفس الاحتمال الثاني إلا أن للأمر الثاني موضوعية خاصة فيكون المأمور الأول هو المطلوب، وأمّا صدور الفعل من الثاني فلا يطلبه المولى لولا أمر المأمور الأول وعليه لا يثبت وجوب الفعل على المأمور الثاني إلا إذا ثبت أن المولى أعطى مقام الولاية والآمرية للمأمور الأول على المأمور الثاني فيجب عليه حينئذٍ لا باعتبارهأمراً من المولى الحقيقي ابتداءً بل باعتباره أمراً من المأمور الأول المجعول له الولاية فلا يثبت الوجوب على الثاني إلا بعد صدوره من الأول.

الرابع: أن يكون غرض المولى هو مجموع أمر المأمور الأول وفعل المأمور الثاني وعليه فلا يجب الفعل على المأمور الثاني قبل أمر الأول، بلا فرق بين أن يكون هناك غرض واحد تعلق بمجموع الأمرين أو كان لكل واحد منهما غرض معين.

والمنساق من هذه الاحتمالات الأربعة عرفاً هو الأولين، فيكون الأمر بالأمر ظاهراً في إيجاب الفعل على المأمور الثاني ابتداءً ولو فرض الشك في صدور الأمر بالأمر للإيجاب على المأمور الثاني أو لغرض آخر فهو من الشك في أصل الوجوب والأصل يقتضي البراءة.

وإن كان الظاهر هو ما ذكرناه، فلا شك حينئذٍ.

الأمر السادس: الأمر بعد الأمر - إذا ورد أمر بشيء ثم ورد أمر به- .

وله حالتان الأولى فيما إذا كان قبل امتثاله ، والثانية بعد امتثاله.

ص: 301


1- - وسائل الشيعة - باب 3 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ح5.

أمّا الحالة الأولى فقد وقع البحث في أنه هل يحمل على التأكيد فلا يلزم التكرار أو على التأسيس فيلزم تكرار الفعل ، وهو كثير في النصوص الشرعية. فإنّ مقتضى المحاورات أن الثاني تأكيد للأول ، وموضوع البحث فيما إذا كان المتعلق طبيعة واحدة ولم يذكر لأحدهما أو كليهما سبب وإلا فالظاهر التكرار، وقد وجّه بعض المحققين ذلك بأنّ إطلاق المادة يقتضي التأكيد إذ الطلب لا يتعلق بطبيعة واحدة مرتين من دون تقييد فيكون متعلق الأول عين متعلق الثاني كما أن انصراف الهيئة يقتضي التأسيس فإن الظاهر منها هو الطلب التأسيسي ومقتضى القاعدة وإن كان تقديم الثاني على الأول، لأنّ ظهور الأول تعليقي والثاني تنجيزي فيرفع موضوع الأول لكن ذلك يتم فيما إذا لم يكن ظهور انصرافي في التأسيس وإلا فإن الظاهر في مثله التأكيد لا التأسيس، كما عرفت بل الحق أنه لا ظهور انصرافي للهيئة في التأسيس كما هو واضح.

وأمّا الحالة الثانية فلا إشكال في أنه إيجاب آخر لا ربط له بالأول وإن كان مثله إلا مع القرينة على الخلاف.

وإذا وصلت النوبة إلى الشك في أنه أيهما تكون الشبهة من الأقل والأكثر فيجزي امتثال واحد وتجري البراءة عن الأكثر.

الأمر السابع: في نسخ الوجوب إذا وجب شيء ثم نسخ وجوبه بدليل، فهل يدل دليل المنسوخ أو الناسخ على بقاء الجواز أو لا ؟ وتفصيل الكلام فيه يقتضى البحث تارة من حيث دلالة الدليل أمّا الناسخ أو المنسوخ ، وأخرى في إثبات ذلك بالأصل العملي.

أمّا الجهة الأولى: فإنه يختلف ذلك باختلاف مبانيهم في إثبات الوجوب أو الجواز فربما يثبت الجواز على بعض تلك المباني ولكن المشهور المعروف بينهم عدم إمكان إثبات الجواز مطلقاً لا بدليل الناسخ ولا بدليل المنسوخ وتفصيل الكلام فيه.

الأول: عدم ثبوت الجواز مطلقاً لا من دليل الناسخ لأنه لا يقتضي سوى رفع الحكم الثابت وهو الوجوب من دون تعرض له إلى الجواز فعدم دلالته عليه واضح جداً. ولا من الدليل المنسوخ الذي دلّ على الوجوب، فإذا التزمنا بأنّ الوجوب أمر بسيط لاتركب في حقيقته فلا يدل أيضاً على الجواز كما هو واضح لأن ما كان يدل عليه وهو الوجوب قد ارتفع حسب الفرض، فلا دلالة له على غيره أبداً وهذا هو المشهور بين المحققين.

الثاني: إثبات الجواز بالمدلول الالتزامي للدليل المنسوخ، فإنه كما يدل على الوجوب بالمطابقة، يدل على نفي الحرمة بالالتزام، وبعد ورود دليل الناسخ فإن المدلول المطابقي يسقط عن الحجية ويبقى المدلول الالتزامي على حجيته في نفي الحرمة وبذلك يثبت الجواز بالمعنى الأخص.

وأشكل عليه: بأن الدليل المنسوخ له أربع دلالات التزامية لا واحدة وهي الدلالة على نفي الكراهة، والدلالة على نفي الاستحباب، والدلالة على نفي الإباحة فإنّ ثبوت الوجوب يستلزم انتفاء الأحكام الأخرى طُراً فإذا ورد دليل الناسخ وانتفى الوجوب به يقع التعارض بين الدلالات الالتزامية الأربع فتسقط بالمعارضة بعد عدم إمكان صدقها جميعاً.

وقيل: ان الإباحة بالمعنى الأخص ليست منفية بدليل الوجوب المنسوخ التزامياً بل منفية به بالمطابقة لأنّ الإباحة كذلك تثبت بانتفاء الأحكام الأربعة الأخرى وأن دليل المنسوخ يدل على انتفاء الاستحباب والكراهة والحرمة بالالتزام ولا يدل على نفي الإباحة إلا

ص: 302

بنفس إثبات الوجوب، فإذا نفى دليل الناسخ الوجوب الذي هو المدلول المطابقي، فيكون هذا النفي منضّماً إلى نفي الدلالات الالتزامية الأخرى في الدليل المنسوخ فينتج الإباحة بالمعنى الأخص لا محالة.

وفيه: أن الإباحة بالمعنى الأخص كغيرها من الأحكام الأخرى تنتفي بدليل الوجوب في عرض واحد بالدلالة الالتزامية فإذا ورد دليل الناسخ ورفع الوجوب لا تعود تلك الأحكام المنفية إلا بدليل والمفروض عدم ثبوته لا في دليل الناسخ ولا في غيره.

الثالث: إثبات الجواز بالدلالة التضمنية بعد سقوط المطابقية وذلك لوجوه ثلاثة: إما بناءً على أن الوجوب مركب من طلب الفعل والمنع من الترك، فإن دليل المنسوخ يدل بالمطابقة على المنع من الترك. وتبقى الدلالة التضمنية على حالها على أصل الطلب وهو الجواز بالمعنى الأعم، لعدم تبعية الدلالة التضمنية للدلالة المطابقية في الحجية, وفيه:

أولاً: إنكار التركب في الوجوب فإنه أمر بسيط، والتعبير بالمضمون المركب في بعض العبارات إنما هو تعبير بالملازمة.

وثانياً: إنكار عدم تبعية الدلالة التضمنية للدلالة المطابقية في الحجية، كما سيأتي في بحوث العام والخاص والتعارض.

وخلاصة ما سيأتي أن عدم التبعية بينهما في الحجية إنما يكون في المركبات الاعتبارية التي يكون لكل جزء منها وجود مستقل عن وجود الآخر نظير الدار دون المركبات الحقيقية التحليلية التي ليس لها إلا وجود واحد بسيط.

وذلك لأنّ انتفاء وجود المركب الاعتباري لا يساوق انتفاء وجود أجزائه لفرض استقلالية وجودها فيمكن أن يقال ببقاء دلالة الدليل على وجود الجزء بالتضمن، أمّا المركب التحليلي الحقيقي الذي يكون له وجود واحد فإنّ انتفائه يساوق انتفاء وجودأجزائه لفرض أن الوجود واحد فقط ، لأن الدلالة التضمنية فيها تكشف عن ثبوت الجزء ووجوده تبعاً لوجود الكل وكشفه عنه، والمفروض أنه لا وجود للجزء بنفسه حتى يكون مدلولاً للكلام. نعم هناك دلالة تصورية على مفهوم الجزء في كلا المقامين ولكنه لا ينفع فإنّ المقصود ثبوت الجزء ووجوده وقد عرفت عدم دلالة تضمنية عليه في المركب الحقيقي التحليلي لعدم وجود الجزء مستقلاً.

والمقام من هذا القبيل إذ لا يقول أحد بأنّ الوجوب مركب من أمرين مستقلين وإنشائين متعددين بحيث يكون لكل واحد منهما وجود مستقل.

وأمّا بناءً على أن الوجوب عبارة عن الإرادة الشديدة ، ودليل الناسخ يرفع المرتبة الشديدة ويبقى أصل الطلب ولو بمرتبة ضعيفة فيثبت بالدليل المنسوخ وهو الجواز بالمعنى الأعم والحق عدم ثبوت هذا البناء كما حقق في محله.

وأمّا بناءً على أن الوجوب ليس مدلولاً للفظ وإنما هو يحكم العقل المنتزع من طلب العقل وعدم الترخيص في الترك كما اختاره المحقق النائيني رحمه الله فإنه بناءً عليه يتعين إثبات الجواز بالمعنى الأعم لأنّ دليل الناسخ لا ينفي الطلب الذي هو مدلول الدليل المنسوخ ولكن عرفت تفصيل الكلام في هذا المسلك فيما تقدم من بحوث دلالة الأمر على الوجوب فراجع.

ص: 303

وعلى فرضه فإن الوجوب أمر بسيط وليس مركباً سواء كان بحكم العقل أو من مدلول اللفظ اللهم إلا أن يكون المراد إثبات الوجوب بالتبع وإن لم يكن مجعولاً شرعياً بمعنى انتزاع العقل له من مجموع الأمرين طلب الفعل وعدم ورود الترخيص في الترك فيرجع حينئذٍ إلى أحد الوجوه السابقة ، والحاصل لا دليل على ثبوت الجواز مطلقاً فلابد في إثباته من عناية زائدة في دليل الناسخ لإثبات الجواز مطلقاً بالمعنى الأعم أو الأخص وإلا فلا يمكن إثبات ذلك كما عرفت في أول البحث.

وقد يربط المقام بالمسألة الفلسفية المعروفة من أنّ النوع إذا انتفى بانتفاء فصله فهل يبقى الجنس الذي تضمنه الفصل ولو كان في ضمن نوع آخر أو لا؟ فعلى الأول يبقى الجواز الذي هو بمنزلة الجنس للوجوب فيما إذا ارتفع ما يكون بمنزلة الفصل وهو المنع من الترك.

وقد أشكل عليه من أنه لا ربط بين البحثين المذكورين وذلك لأنّ الأحكام من الأمور الاعتبارية وهي بسائط وليست مركبة من مادة وصورة فضلاً عن الجنس والفصل كما أنه لا يتم إذا قلنا بأنّ الوجوب إنما يثبت بحكم العقل لا بالدلالة اللفظية مضافاً إلى أنّ البحث المذكور ثبوتي من إمكان بقاء الجنس بعد انتفاء الفصل وزواله وعدمه بينما البحث في المقام إثباتي في أن الدليل المنسوخ هل يدل على بقاء الجواز أم لا.

والحق يقال أن ظاهرهم هو الرجوع الى المدلول التضمني للدليل المنسوخ في إثبات الجواز لكن بعوان بقاء الجنس ولو في ضمن نوع آخر عند انتفاء فصله ، وقد عرفت الجواب عنه بأنه لا يبقى الدلالة التضمنية ، مع أنه قد ثبت في محله بأنه لا وجه لبقاء الجنس خارجاً مع زوال فصله .

وإن ارتباط البحثين يصح بنا على ما ذكرنا من أنّ الاستدلال بما ذكره المشهور في المقام بتلك المسألة الفلسفية لأجل إدراجها في الدلالة التضمنية وقد تقدم الكلام فيها.كما أنه يمكن إدراجه أيضاً في الدلالة العرفية والتمسك بالعرف إن تحقق ذلك باعتبار أن الجنس والفصل بنظرهم يرجع إلى المدلول التضمني والمطابقي فيكون البحث اثباتياً في كلا البحثين كما هو واضح، هذا كله ما يتعلق بالجهة الأولى.

الجهة الثانية في مقتضى الأصل العملي: بعد ان لم يثبت الدليل على بقاء الجواز فقد يتمسك بالأصل الحكمي في إثبات الإباحة بأصالتها والظاهر أنه لا مانع من جريانها بعد رفع الوجوب والشك في ثبوت حكم آخر مقامه.

وأمّا الأصل الموضوعي وهو استصحاب أصل الجواز لليقين به سابقاً والشك به لاحقاً بعد العلم بارتفاع الوجوب.

فقد ناقش فيه جمع من الأصوليين أولاً: إنه من استصحاب القسم الثالث من استصحاب الكلي الذي ضابطه الشك في بقاء الكلي الموجود في ضمن فرد وسببه الشك في حدوث فرداً آخر مقارن لارتفاع الفرد السابق وسيأتي بطلانه وعدم جريانه وإن استثنوا منه ما إذا كان الفرد المشكوك حدوثه لم يكن مغايراً للفرد الأول بنظر العرف بحيث يعد عندهم من تغيّر الحالات لا من تعدد الافراد كما في الشك في بقاء كلي السواد الموجود سابقاً من ضمن مرتبة قوية منه للشك في بقاء ذلك الفرد في ضمن مرتبة ضعيفة فإنه لا مانع من جريان الاستصحاب هنا .

ص: 304

وفي المقام الجواز بالمعنى الأعم المعلوم ثبوته سابقاً كان في ضمن الوجوب، والذي يحتمل بقاءه بعد نسخ الوجوب وارتفاعه هو الجواز في ضمن فرد آخر وهو إمّا الإباحة أو الاستحباب أو الكراهة.

وأشكل عليه بعض الأعلام وقال: إذا كان المراد بالجواز بالمعنى الأعم عدم الحرمة يجري فيه الاستصحاب الشخصي لأنّ عدم الحرمة كان معلوماً سابقاً ويحتمل بقائه فيستصحب.

نعم هو مقترن مع الوجوب سابقاً ولكنه لا يجعله متغيراً بل هو شخص ذلك العدم، والأعدام لا تتعدد باختلاف مقارناتها ويترتب عليه الأثر وهو التأمين من العقاب.

وإذا كان المراد من الجواز بالمعنى الأعم غير ذلك المعنى بحيث يفترض جامعاً بين الأحكام الأربعة غير الحرمة فهو أمر لم يتعقل ولا يترتب عليه أثر عملي((1)).

ويمكن الإيراد عليه بأن اقتران عدم الحرمة الذي هو الجواز بالمعنى الأعم بالوجوب يجعله مختلفاً عن غيره عقلاً وعُرفاً، وليس هو شخص ذلك العدم فإن الوجوب عنوان ثبوتي اقترن به عدم الحرمة بحيث يُعد عند العرف هي واحداً وبعد النسخ ارتفع الوجوب المقترن معه عدم الحرمة ونشك بعد ذلك في ثبوت الجواز بالمعنى الأعم الكلي في فرد آخر فيعود الإشكال من جديد.

وأمّا الجواز بالمعنى الأعم الآخر فهو أمر معقول وهو معروف عند العلماء ولكن جريان الاستصحاب فيه مبني على كون الوجوب والاستحباب فردان من أصل الجواز الجامع الكلي ولا يختلفان إلا في المرتبة فإذا شك في بقاء الجواز في الاستحباب بعد ارتفاع الوجوب صح استصحاب الكلي.وقد أشكل عليه المحقق الخراساني رحمه الله بأنّ الاختلاف بين الوجوب والاستحباب وإن كانا من حيث المرتبة إلا أن العرف يرى بأنهما فردان متغايران والحكم في باب الاستصحاب هو نظر العرف لا النظر الدقي.

والحق أن يقال بأنّ الوجوب والاستحباب أمران اعتباريان مجعولان من قبل الشارع فهما متباينان وليس الاختلاف بينهما في الشدة والضعف، اللهم إلا أن يراد بهما الإرادة التشريعية المتعلقة بهما فإنّ الاختلاف بينهما حينئذٍ يكون من حيث الشدة والضعف ولا تغاير بينهما في نظر العرف ولكن ذلك لا يعني جريان الاستصحاب لأنّ الإرادة ليست من المجعولات الشرعية كما أنها ليست موضوعاً لحكم شرعي فلا يجري الاستصحاب منها ولا يترتب عليه أثر شرعي وسيأتي توضيح ذلك.

وثانياً: انه من الاستصحاب في الشبهة الحكمية وهو غير جارٍ.

وفيه: انه غير صحيح فإن الاستصحاب كما يجري في الشبهات الموضوعية يجري أيضاً في الشبهات الحكمية وسيأتي إثبات ذلك.

مع أنه لو فرض التنزل فإنّ الذي لا يجري هو استصحاب الحكم الإلزامي لا استصحاب عدم الحكم وهو الترخيص والجواز.

وقد يتمسك لإثبات الإباحة باستصحاب أصل الطلب.

ص: 305


1- - بحوث في علم الاصول - ج1 / ص289- مصدر سابق.

ويرد عليه أولاً: بأنّ الوجوب أمر بسيط لا تركب فيه كما تقدم سابقاً.

وثانياً: ان وجود الطلب في ضمن الوجوب إنما هو على سبيل التضمن والوجود التحليلي فيكون جريان الاستصحاب فيه من القسم الثالث من الكلي إلا على مسلك المحقق النائيني من أنّ الوجوب بحكم العقل استصحاب الطلب فيه من استصحاب الشخص فإذا ارتفع الوجوب بدليل الناسخ فإنه يمكن القول ببقاء شخص ذلك الطلب فيصح استصحابه، ولكن عرفت ما فيه.

والحاصل إنه لا يمكن إثبات الجواز بالأصل الموضوعي وهو استصحاب الإباحة والجواز وإن أمكن إثباتها بالأصل الحكمي والرجوع إلى أصالة الإباحة.

الأمر الثامن: من الأمور الختامية وهو يرجع إلى كيفيات تعلق الأمر وهو بحث تعلق الحكم بالطبيعة أو الافراد وقد اختلفوا في صياغته لأن هذا البحث قد أوقع الأصوليين في إشكالات ولذا اختلفت تفسيراتهم ونحن نذكر بعض الوجوه التي ذكروها.

منها: ما ذكره بعض الأعاظم من أن الواجبات الشرعية إنما يجب فيها فرد على سبيل البدل وبنحو التخيير فإذا قلنا بأن الأوامر تتعلق بالطبائع يكون التخيير عقلياً إذ لا يكون كل فرد من الأفراد مأموراً بها بعنوانه، فإنّ هناك حكماً واحداً يتعلق بالطبيعة التي تكون نسبتها إلى الأفراد على حدٍّ واحد والترديد فيما بينها عقلي، وهذا هو المراد بالتخيير العقلي في باب الأحكام.

وأمّا إذا قلنا بتعلق الأوامر بالأفراد فإنه بناءً عليه ينحل الحكم إلى أحكام عديدة بتعدد الأفراد ولكن على سبيل البدل وهذا هو التخيير الشرعي في المقام فمن يقول بتعلق الحكم بالأفراد ينفي به التخيير العقلي في المقام.واستبعد المحقق النائيني رحمه الله أن يكون التخيير الشرعي هو مقصود الأصوليين القدماء، إذ التخيير العقلي لا محذور فيه وهو مسلّم عند الجميع((1)) وذلك لأنّ الحكم إذا قلنا بأنه يتعلق بالأفراد والحصص على سبيل البدل فإنّ العنوان المأخوذ في الحكم لا يمكن أن يتعلق بالأفراد الخارجية لأنه من تحصيل الحاصل فلابد أن يكون متعلق الأمر مفهوماً كلياً لا عنواناً مشيراً إلى الواقع الخارجي الذي هو مفروغ عنه فيتعين أن يكون المتعلق مفهوماً كلياً مهما ورد عليه من القيود والحدود فإنه لم يتشخص ما لم يفرغ عن وجوده.

يضاف إليه أن القول بالتخيير الشرعي يستلزم تقدير كلمة (أو) بالنسبة إلى كل فرد، والمفروض أن أفراد الطبيعة لا نهاية لها فيمتنع التقدير.

ومنها: ربط هذا البحث بالمسألة الفلسفية المعروفة في أنّ لمعروض الوجود والإيجاد الخارجي هو الماهية الشخصية، أو ذات الماهية والطبيعية، والتشخص إنما يكون بالوجود نفسه. فإن قلنا بالأولى يلزم أن يكون الحكم متعلقاً بالفرد لا الطبيعة، لأنّ الإرادة التكوينية دائماً تتعلق بإيجاد الماهية الشخصية، والإرادة التشريعية مثلها من هذه الجهة.

وإن قلنا بالثاني فإنّ الإرادة التكوينية متعلقة بها لا محالة فلابد أن تكون متعلق الإرادة التشريعية الطبيعية.

ص: 306


1- - راجع أجود التقريرات - ج1 / ص210- مصدر سابق.

ذهب إليه المحقق النائيني رحمه الله وادعى الوجدان على ذلك وأن متعلق الإرادة في أفق النفس ليس إلا ذات الطبيعة والإرادة التشريعية على حد الإرادة التكوينية فيكون متعلقها الطبيعة وفرّع عليه ثمرة عملية مهمة وهي أنه بناءً على القول بتعلق الأمر بالطبائع يصح اجتماع الأمر والنهي ويكون من الواضحات فإن متعلق الأمر طبيعة ومتعلق النهي طبيعة أخرى وإن تصادق في واحد فيكون نسبة كل واحد من الكليين في مورد الاجتماع إلى الآخر من قبيل المشخص وهو خارج عن دائرة الحكم بخلاف ما إذا قلنا بتعلق الحكم بالماهية المشخصة فلا يمكن اجتماع الأمر والنهي، فإنهما وإن كانا عنوانين متغايرين مفهوماً غير أن كل واحد منهما من مشخصات الأمر، فيتحقق اتحاد متعلقهما وهو مستحيل.

وسيظهر ما فيه من الإشكال وأنه لا ربط بين المقام والمسألة الفلسفية ولا ضرورة لمن يقول بأنّ الوجود يعرض على الماهية المشخصة أن يقول بلزوم تعلق الإرادة التشريعية بالماهية المشخصة فإن المبرر في تعلق الأمر بالطبيعة أو عدم تعلقها هو قدرة المكلف وعدمها بحيث يكون تكليفاً بغير المقدور.

ومنها: ما ذكره المحقق الاصفهاني رحمه الله من أنّ البحث المذكور يرتبط بالمسألة الفلسفية المعروفة لوجود الطبيعي في الخارج وعدم وجوده، فعلى القول بوجوده يكون تعلق الحكم به أيضاً معقولاً ، وعلى القول بعدم وجوده في الخارج إذ الموجود في الخارج الفرد لا يمكن تعلق الحكم به لأنه تكليف بغير المقدور فإنه من تحصيل الحاصل.وهذا الوجه مشترك مع ما أفاده المحقق النائيني رحمه الله في ربط المسألة بالمسألة الفلسفية وإن اختلفا في توجيه تأثير تلك المسألة في المقام ووجه استلزام القولين هنا للقولين هناك.

ويرد عليه بأنّ النزاع حول وجود الطبيعي في الخارج وعدم وجوده إنما هو في الوجود بالذات لا في مطلق الوجود ولو بالعرض والطبيعي له هذا النوع من الوجود بالعرض، ولذا يصح حمل الطبيعي على الوجود الخارجي بالحمل الشايع فيقال: (زيد إنسان) ولولا الاتحاد لما صح الحمل فهو يكشف عن اتحاد الكلي مع الفرد الخارجي وهو يكفي لتعلق الأمر والإرادة التشريعية ويطلب إيجادها ولا يلزم منه التكليف بغير المقدور.

ومنها: أنه لا ريب أن متعلق الإلزام فعلاً أو تركاً لابد أن يكون مرآة إلى الخارج لأنّ التحقق الخارجي هو المراد والمطلوب لكل أحد، والشارع لا يخالف طريقة العقلاء وهذا هو أحسن الوجوه وأقربها إلى الذوق العرفي ويمكن إرجاع غيره إليه ويكون مورد الاتفاق.

نعم الاختلاف في أنه مع قطع النظر عن الخصوصيات والمشخصات التي يعبّر عنها بالطبيعة، أو مع اعتبارها مرآة إلى الخصوصية الخارجية ويعبّر عنه بالفرد.

والحق أن يقال أنّ الطبيعة من حيث هي لا يمكن أن يكون مورد الطلب ولا يتعلق بها غرض عند العقلاء، بل هي فرض يختص بالعلوم العقلية كالمنطق والحكمة، كما أنه ليس المراد بالفرد ما هو المتحقق خارجاً بعد تحققه لكونه مسقطاً للطلب فيكون طلبه من تحصيل الحاصل ولا يصح أن يقع مورد الطلب بل التحقق الخارجي يكون طريقاً ومرآة لتعلق الطلب بالطبيعة ولعلّ السر في هذا البحث الذي يتضح الأمر فيه يرجع إلى متعلق الإلزام لابد أن يكون فيه السعة واللزوم على كل الاحتمالات فإن قلنا بأنّ متعلقه الأفراد يكون التوسع والسريان إمّا في دائرة يرجع إلى أن القول بتعلق الإلزام بالافراد يرجع

ص: 307

إلى السريان والتوسع إمّا في دائرة التطبيق بلحاظ الضمائم الكثيرة مثل اللون والطول والعرض والكون في مكان معين أو زمان معين وغير ذلك التي تقترن مع الطبيعة عند تطبيقها في عالم الوجود أو متعلق التوسعة السريان بحسب عالم الجعل أو بحسب عالم الحب الذي هو روح الأمر والتكليف فيسري الحب والجعل إلى جمع تلك الضمائم مما تحتاجُ إليها الصلاة مثلاً كأن تكون في مكان ما أو زمان ما فإذا لم يكن تعقل السريان بحسب التكليف لكن ذلك ممكن بحسب الحب وروح التكليف والأثر المترتب على ذلك أنّ جميع تلك الضمائم والعوارض تكون مورد الحب ويقابل ذلك القول هو تعلق الأمر بالطبيعة بمعنى عدم سريان الأمر إلى الضمائم لا بحسب التطبيق ولا بحسب الجعل روحه أي الحب.

أمّا بحسب الجعل فإنّ الجعل تابع للملاك وهو يتعلق بالطبيعة من حيث هي مع قطع النظر عن الضمائم وقد ذكرنا أنه مجرد فرض ولا يتعلق به غرض العقلاء فلابد أن تلاحظ على سبيل المرآتية إلى الأفراد وأمّا الحب فلا يسري إليهما إلا على سبيل الملازمة وهي لا تكفي إلا إذا كانت وحدة بين المتلازمين في الحكم.وأمّا بحسب التطبيق فلأن ما تنطبق عليه الماهية هي الحصة، وأمّا العوارض فإنّ كل واحد منها مطبق لماهية أخرى فلا معنى للسريان فيها لكنه يمكن القول بها على سبيل المرآتية.

والأثر العملي الذي يترتب على القولين أنه لا بأس باجتماع الأمر والنهي بناءً على القول بالطبيعة لأن الكون في المكان المغصوب مثلاً من العوارض لماهية الصلاة ولا يلزم من ذلك اجتماع الضدين في مورد واحد، بخلاف القول بأنّ الأمر يتعلق بالأفراد فإن الكون في المكان صار مصداقاً للواجب أو للمحبوب فيلزم الاجتماع. ولكن عرفت أن القول بالطبيعة يلزمه القول بأنها الطبيعة التي هي مرآة للأفراد، والقول بالتعلق بالأفراد فليس المراد منه الأفراد ليست بعد تحققها بل هي بما أنها مرآة وطريق لتعلق الطلب بالطبيعة.

وأمّا الثمرة فسيأتي الكلام فيها في مبحث اجتماع الأمر والنهي وهذا البحث من البحوث التي لا ثمرة عملية أو علمية فيها ولله الحمد أولاً وآخراً.

انتهى في الساعة التاسعة وسبعة وأربعين دقيقة من

ليلة الأربعاء 12/شوال/1428ه-

ص: 308

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.