التفکر في القرآن (سورة البقرة) المجلد 2

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، جعفر، 1338-1387.

عنوان واسم المؤلف: التفکر في القرآن (سورة البقرة) المجلد 2 / تأليف جعفر الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم: دارالعلم، 1443ق = 1400ش.

مواصفات المظهر: 410ص.

فروست: التفكر في القرآن؛8.

شابك: 7-628-204-964-978

حالة الاستماع: فيپا

لسان: العربية

محتويات: ببليوغرافيا مع ترجمة.

موضوع: تفاسير (سوره اعراف)

موضوع: تفاسير شيعه -- قرن 14

موضوع: Qur'an -- Shiite hermeneutics -- 20th century

ترتيب الكونجرس: BP102/26

تصنيف ديوي: 297/ 18

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 8441086

النجف الأشرف: مكتبة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) للطلب 07826265250

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي (عليه السلام) ، مكتبة الإمام الحسين (عليه السلام) التخصصية

مشهد المقدسة: مدرسة الإمام الرضا (عليه السلام) ، جهارراه شهدا، شارع بهجت، فرع 5

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردين، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أوّل فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 1

اشارة

ص: 2

التفكر في القرآن

الجزء الثاني

السيد جعفر الحسيني الشيرازي

دار العلوم

ص: 3

ص: 4

«وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»

النحل: 44.

ص: 5

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين .

ص: 7

ص: 8

البقرة

فصل الإسلام امتداد لإبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ

ص: 9

ص: 10

فصل

الإسلام امتداد الإبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ

هذا الفصل يتكون من (الآیات 126 - 191) من سورة البقرة، وهي تتحدث عن نبي الله إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

وهو يصب في الاتجاه العام لهذه السورة، ببيان أن الإسلام هو الامتداد الواقعي لإبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، حيث إن أسس الإسلام منه، وإن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم هو استجابة الله تعالى لدعائه، وإن المسجد الحرام هو بناؤه، وإن العرب - الذين جعل الله النبوة في أحدهم - إنما هم ذرية إبراهيم علي ، وإن الإسلام هو ملة إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وإن اليهودية والنصرانية كانت بعده، وإن الأنبياء كلهم من الله تعالى فيلزم التصديق بهم جميعاً .

والحاصل أن الإسلام هو دين الله وملة إبراهيم ووصية الأنبياء عَلَيْهِم السَّلاَمُ.

وإن الإمامة حين انصرفت عن اليهود فإنما كان لظلمهم.

ص: 11

ثم إن هنا نقاطاً :

1- إن البحث وإن انتقل إلى قسم آخر، ولّكن فيه مراعاة للترتيب بشكل لطيف، ففي الآيات السابقة ذكر الله تعالى: التوحيد، والنبوة ، وهنا يذكر الإمامة.

2 - إن من أساليب الإقناع هو التكلم في الأمور المعاصرة ثم الانتقال إلى ذكر الأمور التاريخية، وخاصة الاستشهاد بمقاطع يتفق عليها المتجادلون.

3 - إن الترتيب التاريخي هو آدم ثم إبراهيم ثم بنو إسرائيل، ولكن تأخر ذكر إبراهيم، لعله لترغيب اليهود والنصارى في الإيمان بالنبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وبيان أن المسلمين و بني إسرائيل يلتقيان في إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، إذ إن آیات بني إسرائيل مليئة بتقريعهم وبيان سلبياتهم، فكان التذكير بأصولهم - التي يشتركون فيها مع المسلمين - نوع من تطييب خواطرهم وتحبيب الإسلام إليهم.

ثم إن هذا الفصل يتكون من أقسام أربعة :

1- أركان الأمة - وهي أربعة: الإمامة، الكعبة، الأتباع، العمل الخالص -.

2. استمرارية الأمة.

3- الوصية ومخالفتها .

4 - دحض حججهم .

ص: 12

القسم الأول أركان الأمة

وفيه أربعة أركان:

الركن الأول: الإمامة

الآية 124

اشارة

«وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ».

124 - (وَ) اذكر يا رسول الله (وَإِذِ ابْتَلَى) أي اختبر (إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ) فالله الذي ربّي إبراهيم قد امتحنه (بِكَلِمَاتٍ) بتكاليف شاق، کالأمر بذبح إسماعيل لتظهر حقيقة إبراهيم، (فَأَتَمَّهُنَّ) فلما نجح إبراهيم (قَالَ) الله له (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) يقتدون بك، (قَاَل) إبراهيم سروراً بها: (وَ) هل تجعل (مِنْ ذُرِّيَّتِي) أئمة؟ لأن إسماعيل أيضاً اجتاز الامتحان فقد قال (يا أبتِ افعل ما تُؤمَر) (1) وكذلك آخرون من الذرية (قَالَ) الله : (لَا يَنَالُ) أي لا يصل

ص: 13


1- سورة الصافات، الآية: 102.

(عَهْدِي) أي الإمامة فهي عهد من الله (الظَّالِمِينَ) فلا يستحقها من ارتكب ظلم لنفسه أو للناس، وأعظم أنواع الظلم هو الشرك فلا ينالها مشرك، ولا من سجد لصنم ولو لفترة من حياته، كما أن اليهود المعاصرين للرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم لم ينالوها لظلمهم، ونالت الإمامة الرسول وأهل بيته لعصمتهم من الظلم.

----------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى (وَإِذِ ابْتَلَى) .

مادة «بلو» تشتمل على معنى الظهور، قال تعالى: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) (1)، يقال: الثوب البالي، أي قديم خَلِق، كأنه لقدمه وتمزق بعض أماكنه يظهر منه جسم الإنسان - مثلاً -، أو لظهور حقیقته ونوعيته لما یُبلی.

وإنما سمي الاختبار بلاءَ لظهور حقيقة الإنسان به، ويكون - عادة - في التكليف الشاق والنازلة المريرة، قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (2)، وقد يكون البلاء بالنعم كقوله تعالى : (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ) (3) لأن بعض الناس يصبر على المشاكل ولكنه قد يبطر عند النعم.

والاختبار من الله تعالى لا يكون بمعناه الحقيقي، لأن ذلك مستلزم

ص: 14


1- سورة الطارق، الآية: 9.
2- سورة البقرة، الآية: 155.
3- سورة الأعراف، الآية: 168.

اللجهل، وهو يستحيل على الله سبحانه وتعالى، فيكون اختباره إنما هو بتمكين العبد من اختيار أحد الأمرين: إمّا ما يريده الله تعالى، أو ما يشتهيه العبد، وبهذا تبطل شبهة الجبر .

والاختبار لطف من الله تعالى، لمحو الذنوب، أو لرفع الدرجات، أو للرجوع عن المعاصي والتوبة منها، ولذا كان بلاء حسنا كما قال تعالى:(وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا) (1)، فقد قال سبحانه (لَعَلَّهُمْ یَرجِعُونَ) (2)، وقال سبحانه «إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ »«وَلَا يَسْتَثْنُونَ »«فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ »«فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ » إلي قوله تعالی «فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ »إلي قوله «قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ» (3).

وقد يكون البلاء نتيجة إرادة الله تعالى الانتقام من الفاسقين لتتم الحجة، قال تعالى عن أصحاب السبت (كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (4)

والامتحان يكون في الأعمال دون الأقوال - لسهولة الكذب في الأقوال دون الأعمال ..

بل في أحيان كثيرة يكون الامتحان لأجل إظهار صدق أو كذب الأقوال، قال تعالى (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (5).

ص: 15


1- سورة الأنفال، الآية: 17.
2- سورة الأعراف، الآية: 198.
3- سورة القلم، الآيات: 17 - 29.
4- سورة الأعراف، الآية: 193.
5- سورة العنكبوت، الآية: 2.

الثاني : قوله تعالى (إِبراهيمَ رَبُهُ).

لعل تقديم إبراهيم لأجل مراعاة رجوع الضمير ، ولأجل أنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ محور الكلام في هذا القسم، وفي العادة يقدم المحور على غيره، فلذا في الإسناد يلاحظ غرض المتكلم، مثلاً المبتدأ هو محور الكلام دون الخبر - عادة -.

ولعلّ اختیار کلمة «الرب» دون سائر أسماء الله تعالى لأجل الدلالة على التربية وأن الامتحان لأجل تربيته ونموه.

وقد مّر سابقاً أن مادة الرب وإن كانت تختلف عن مادة التربية فالأولى: (رب ب) والثانية : (رب ي) إلِّا أن المعنى واحد - كما عن الراغب في مفرداته- (1).

الثالث : قوله تعالى (بِكَلِمَاتٍ).

الكلمة» هي الشيء الملقي، فقد تكون لفظة لأن المتكلم يلقي بالألفاظ، وقد يكون إيجاداً للشيء كالمسيح عَلَيْهِ السَّلاَمُ حيث أوجده الله تعالى، قال سبحانه ( إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)(2).

وجذر الكلمة - على ما قيل - هو بمعنى الأثر الظاهر فقد يكون ظاهراً للسمع کالأ لفاظ، وقد يكون ظاهراً للعين كالجرح الذي يسمى كلماً .

والكلمات التي امتحن بها إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ هي أوامر شاقة كلف بها، وأكبرها أمره بذبح ابنه إسماعيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وقد قال الله تعالی عنه (إِنَّ هَذَا).

ص: 16


1- راجع المفردات: ص 339.
2- سورة آل عمران، الآية: 45.

لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ) (1)، وتشمل الكلمات، إلقاءه في النار، والهجرة ، والاعتراف بالخمسة الطيبة - أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ (2)، وغيرها.

ثم إنه يلزم تطابق النتيجة والسبب، فكلما كان الاختبار أصعب كان الجزاء أهم، وقد يحتاج إلى عدة اختبارات لعدم كفاية الاختبار الواحد، ولعله لذلك قال تعالى (بِكَلِمَاتٍ)، ولعل آخرها كان أهمها - وهو الأمر بالذبح - ولذا عبر عنه بالبلاء المبين.

وقد جمع الصدوق رضوان الله عليه - في الخصال - الامتحانات والمراحل التي مر بها إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ فبلغت أكثر من عشرين أمرا مستدلاً في كل واحد منها بالآيات والأخبار، منها: اليقين، المعرفة، الشجاعة ، الحلم، السخاء، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، دفع السيئة بالحسنة، التوكل، الحلم، الانتماء إلى الصالحين، المحنة في النفس وفي الأهل وفي الولد، الصبر، استقصار النفس في الطاعة، جمع أشراط الطاعة، الوصية بالدين لمن بعده ، ... وغير ذلك مما ذكره رضوان الله عليه (3).

الرابع : قوله تعالى (فَأَتَمَّهُنَّ) .

أي أدّاهن بغير تفريط، كما قال تعالى (وَ إِبراهيمَ أَلَّذِي وَ) (4)، بمعنى أنه قام بمقتضى العبودية وأطاع ما أمر به إطاعة كاملة غير منقوصة . .

ص: 17


1- سورة الصافات، الآية: 106.
2- كما روي عن الإمام الصادق علية في الخمسة الطيبة، البرهان ج 1، ص 533 عن الخصال للصدوق.
3- البرهان ج 1، ص 534 عن الخصال
4- سورة النجم، الآية: 37.

قال تعالى: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (1).

ويمكن أن يكون فاعل «أتمهن» هو الله تعالى، أي الله أتم الكلمات، كما قال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً) (2)، أي بلغت الغاية في الأحكام والأحكام، فيكون المعنى: إن الله أتم تلك الكلمات على إبراهيم. وفي الخصال عن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : «هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه، وهو أنه قال : يا رب، أسألك بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا ثبت علي، فتاب الله عليه إنه هو التواب الرحيم.

فقلت له : يابن رسول الله فما يعني عزَّ وجلَّ بقوله 0فَأَتَمَّهُنَّ) قال : يعني فأتمهن إلى القائم عَلَيْهِ السَّلاَمُ اثني عشر إماماً» (3).

الخامس : قوله تعالى : (إنّي جَاعِلُكَ للنَّاسِ إمَاماً)

«الجعل» قد يكون تكوينياً كقوله تعالى («هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضيآءً وَ القَمَرَ نُوراً) (4) ، وقد يكون تشريعية كقوله تعالى (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْها) (5) ، وقد يكونان معاً كقوله تعالى ﴿وَجَعَلْنَهُمْ أَئِمَةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) (6) ومن ذلك هذه الآية فقد جعله الله إماماً تكوينيّاً، كما أمر الناس بالاقتداء به فهو إمام تشريعيّاً أيضاً .

ص: 18


1- سورة الصافات، الآيات: 103 - 105 .
2- سورة الأنعام، الآية: 115.
3- البرهان ،ج 1، ص 523 ، عن الخصال ص 304.
4- سورة يونس الآية: 67.
5- سورة البقرة، الآية: 143
6- سورة الأنبياء، الآية: 73

وقوله تعالى (لِلنَّاسِ) دليل على أن إمامته كانت عامة للجميع - سواء من كانوا في عصره أم من في العصور اللاحقة - لأن الناس كالجمع المحلى باللام يفيد العموم.

و«الإمام»: هو من يقتدي به الناس، وهو على وزن الآلة كإزار لما يؤتزر به فالإمام من يُؤتم به .

السادس : قوله تعالى: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِی ).

أي اجعل من ذريتي وهذا دعاء من إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ لذريته، وفيه تضمين معنى الاستفهام فهو دعاء على طريقة الاستفهام وهو من أعلى مراتب الأدب في السؤال . كقولك : هل تتفضل علينا بكذا .

والذرية بمعنى النسل، سواء كان من الأبناء أم من البنات، ولذا كان عيسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ من ذرية إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ كما قال تعالى ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِ، دَاوُرد

وَسُلَيْمَنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَرُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا ويحيى وَعِيسَى وَإِلْیَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحينَ ) (1) .

ثم إن طلب إبراهيم الإمامة لذريته :

1 - قد يكون لجهة أن الإنسان يرغب في أن تكون ذريته مؤمنة بل فيها العظماء تُكمّل المسيرة التي بدأها .

ولذا أكثر إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ من الدعاء ،لذريته، قال (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَكَ) (2) ، وقال (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَوةِ وَمِن ذُرِّيَّتِی) (3)، كما أن المؤمنين أيضاً يدعون لذريتهم، قال تعالى ﴿هُنَالِكَ .

ص: 19


1- سورة الأنعام، الآيتان: 84 - 85.
2- سورة البقرة، الآية: 128
3- سورة إبراهيم، الآية: 40.

دَعَا زَكَرِيَّا رَبِّةٌ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً ) (1) ، ﴿وَإنِّي أُعِيذُهَا بِك وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمٍ) (2)، (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتی)

(3)

وللصدوق رضوان الله علیه کلام ،لطیف حاصله أنه كما دعا إبراهيم لذريته بأن يجعل الله الإمامة فيهم، كذلك رسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم - واتباعاً لملة إبراهيم وعدم الرغبة عنها - دعا الله ليجعل الإمامة في ذريته، فجعلها الله في الأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ (4) .

السابع : قوله تعالى (لَا يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ).

«العهد» هو الميثاق والمعاهدة، وفيه دلالة على أن الإمامة عهد من الله تعالى. والنيل الوصول، أي لا يصل هذا العهد إلى الظالمين. والظلم قد يكون للنفس كقوله تعالى ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) (5) ، وقد يكون ظلم الغير - ويقال له الجور أيضاً - كقوله تعالى ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يظْلِمُونَ النَّاسَ) (6) .

ومن أجلى مصاديق الظلم هو الشرك، كقوله (إِنَّ الشَّرْكَ لَظُلَمٌ عَظِیمٌ) (7).

وفي الآية تعريض على اليهود بأنهم ظالمون لذا نزع الله الإمامة منهم وجعلها في بني إسماعيل، كما فيها حث على عدم الظلم . .

ص: 20


1- سورة آل عمران الآية: 38
2- سورة آل عمران الآية: 36 .
3- سورة الأحقاف، الآية: 15
4- البرهان ،ج 1 ، ص 539 عن الخصال.
5- سورة فاطر، الآية: 32
6- سورة الشورى، الآية: 42 .
7- سورة لقمان الآية: 13.

وفيها دلالة على بطلان إمامة أئمة الجور وعدم جواز إطاعتهم .

الثامن : في هذه الآية بحوث مختلفة حول مسألة الإمامة وقد تضافرت الأخبار في مداليلها والاستشهاد بها، نوجزها في عدة أمور :

الأمر الأول

1 - زعم البعض أن قوله (إماماً) يراد به النبوة، وهو زعم باطل يخالف سياق هذه الآية وسائر آيات القرآن فإن نبوة إبراهيم كانت قبل أن يرزقه الله ذرية، حتى بلغ الكبر وهو يائس من الذرية كما قال تعالی «وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)»«إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)»«قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)»«قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)» (1).

فإذا كان معنى قوله (إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) هو النبوة لم يكن معنى لطلبه جعل الإمامة في ذريته حيث كان يائساً عن حصول ذرية له .

كما لا معنى للقول بأن (جَاعِلُكَ) إخبار عن الماضي، وذلك لأن الجعل كان بعد اجتياز إبراهيم الابتلاء بالكلمات، وكلها كانت بعد نبوته، وخاصة ذبح إسماعيل، مضافاً إلى أن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يصح عمله ولفظ جاعلك عمل في إماماً»، مما يدل على أن (جاعل) في الحال أو المستقبل .

إذا كان الله تعالى قد جعل إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ نبياً قبل أن يجعله إماماً، وذلك يدل على أن الإمامة أهم من النبوة.

ص: 21


1- سورة الحجر، الآيات: 51 - 54 . 21

قال الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ (قد كان إبراهيم نبياً وليس بإمام، حتى قال الله له (إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتي) ، فقال الله : (لَا يَنَالُ عَهْدِى الظَّلِمِينَ﴾ ، من عبد صنماً أو وثناً لا يكون إماماً ) (1) .

وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ (إن الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ عبداً قبل أن يتخذه نبيّاً، وإن الله اتخذه نبيّاً قبل أن يتخذه رسولاً، وإن الله اتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً، وإن الله اتخذه خليلاً قبل أن يتخذه

إماماً ، فلما جمع له الأشياء قال (إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) ، قال : فمن عظمها في عين إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ (قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِى الظَّلِمِينَ) قال : لا يكون السفيه إمام التقى) .

الأمر الثاني

الإمامة تعيين من الله تعالى ولا شأن للناس فيها، ولذا عبر الله تعالى عنها ب-«عهدي»، وكل عهد من الله يلزم على الناس اتباعه وليس لهم فيه الخيرة، كما قال تعالى ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَختَارُ مَا كَانَ لَهُمُ

الْخِيَرَةُ) (2).

ومن آيات العهد قوله تعالى ﴿أَلَمْ أَعْهَد إِلَيْكُمْ يَابَنِى ءَادَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ﴾ (3) . وقوله سبحانه (لَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً ) (4) . وقال تعالى ﴿وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا) (5) . وكلها تدل على عدم الخيرة للناس في عهود الله تعالى .

ص: 22


1- البرهان ج 1 ، ص 539 عن الكافي ج 1، ص 133.
2- سورة القصص، الآية: 68.
3- سورة يس الآية: 60.
4- سورة النحل، الآية 95
5- سورة الأحزاب الآية 15

والملفت في الأمر أن الضمير في عهدي ضمير المتكلم وحده وفي ذلك دلالة على أن عهد الإمامة هو بشكل مباشر من الله تعالى.

والأمور المرتبطة بالله تعالى قد يريدها بواسطة كإنزال القرآن بواسطة جبرئيل، وقد يريدها من غير واسطة كخلق آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ فقال تعالى (لِمَا خَلَقَتُ بِيَديَّ) (1).

والأمور المرتبطة بالله مباشرة وإن صح فيها استعمال ضمير المتكلم الغير تعظيماً وتفخيماً، إلا أن استعمال ضمير المتكلم وحده يكشف عن زيادة خصوصية وعناية كقوله تعالى ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ (2) فقد تكرر ضمير المتكلم وحده سبع مرات لبيان زيادة خصوصية في الدعاء.

وهنا قال تعالى (عَهْدِى) ولم يقل عهدنا، مما يكشف عن أن الإمامة عهد مرتبط بالله تعالى مباشرة من غير واسطة أصلاً، ولذا قال الله تعالى عن يوم الغدير (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ (3) ولم يقل أكملنا وأتممنا ورضينا !!

وفي الآية إشعار بأن تعيين الأئمة كان سابقاً، لذا عبر عنه «عهدي»، كما أن العهد - عادة - يكون بين طرفين : إملاء من طرف وقبول من الطرف الآخر، كما قال تعالى ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِى ءَادَمَ أَن لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ) (4) ، فلعل قوله عهدي إشارة إلى أخذ الميثاق من الناس في .

ص: 23


1- سورة ص، الآية: 75
2- سورة البقرة، الآية: 186.
3- سورة المائدة، الآية: 3.
4- سورة يس الآية: 60.

عالم الذر بالإقرار بالأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ كما يظهر من مستفيض الروايات، فعن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ « وأخذ الميثاق على أولي العزم أنني ربكم، ومحمداً رسولي ، وعليا أمير المؤمنين وأوصياءه من بعده ولاة أمري» الحديث (1).

الأمر الثالث

وفي هذه الآية دلالة على لزوم عصمة الإمام وذلك من جهات :

1 - إنها منصب فوق النبوة - كما مرّ - فالإمام أولى بالعصمة .

2 - إن غير المعصوم يمكن أن يرتكب المعاصي فيكون إما ظالماً لنفسه أو ظالماً لغيره، فلا يصلح للإمامة.

3 - إن سياق الآية يدل على أن الإمامة مهمة جدّاً بحيث احتاج إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ الاجتياز امتحانات صعبة لينالها، لذا فإن هذا المنصب لا يناسب الظالم ولو تاب عن ظلمه، فمن عبد الصنم حيناً من الدهر وارتكب الفواحش الأخرى حتى إذا آمن فإنه لا يكون جديراً بهذا المنصب الخطير الهام .

قال المحقق الخراساني : فإن الآية الشريفة في مقام بيان جلالة قدر الإمامة والخلافة وعظم خطرها ورفعة محلها ، وإن لها خصوصية من بين المناصب الإلهية، ومن المعلوم أن المناسب لذلك هو أن لا يكون المتقمص بها متلبساً بالظلم أصلاً) (2).

سؤال : عابد الوثن إن تاب وآمن فلا يكون ظالماً حينئذ فيصح أن يناله العهد؟

ص: 24


1- البرهان ج 4 ، ص 219 ، عن الكافي ج 2، ص 6 .
2- كفاية الأصول ص 69 ، ط 1 ، عام 1412ه- مؤسسة النشر الإسلامي. 24

والجواب هو أنه في حال ظلمه يصح الإخبار عنه بأنه لا ينال الإمامة، والآية مطلقة أي لم تقيد بأنه لا ينالها في حال ظلمه بل دلت على أنه لا ينالها بشكل مطلق وفي الأوقات كلها (1) .

وبعبارة أخرى هذا إخبار بشكل عام وليس بإنشاء، فتأمل.

الأمر الرابع

لا يشترط في الإمامة التصدي الظاهري للحكم والسلطة، فقد يكون إماماً منصوباً من قبل الله تعالى ولكن يُسلب حقه فلا يتمكن من الحكم بين الناس، كما أن إبراهيم لم يعهد منه أنه تسلط على الناس

وحكمهم.

ص: 25


1- هذا الجواب ذكره في مجمع البيان بعبارات أخرى ج1، ص512 فراجع. 25

الركن الثاني: الكعبة

الآية 125

اشارة

(وَإذ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهْرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) ).

125 - وكما جعلنا إبراهيم إماماً ، كذلك جعلنا ما بناه مرجعاً للناس ، (وَ) اذكر ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ) الكعبة (مَثَابَةً لِلنَّاسِ) أي محلاً الرجوعهم للحج (وَأَمْنَا) أي موضع أمان وملجأ ومعاذاً للإنسان والحيوانات والنباتات فلا يجوز إيذاء أحد فيه ولا يُصاد فيه ولا يقلع نباته (وَ) قلنا (وَاتَّخِذُوا) أيها الحجاج (مِن) حول (مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلَّى) أي موضع للصلاة فإنه من أهم أعمال الحج وفيه تذكير بباني البيت، (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ) أي أمرناهما فالعهد هنا بمعنى الأمر (أن طَهِّرَا) طهارة معنوية بمنع الشرك، ونظافة بمنع الأقذار (بَيْتيَ) إضافة تشريفية (لِلطَّائِفِينَ) الذين يدورون حول الكعبة وَالْعَاكِفِينَ المعتكفين أي الذين يقومون بعبادة الاعتكاف (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) جمع راكع وساجد بمعنى المصلين.

-------------------------------

ص: 26

بحوث

الأول : قوله تعالى ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ)

كما يحتاج الناس إلى القدوة والأسوة ليقتدوا به، كذلك هم بحاجة إلى أماكن خاصة ترتبط بدينهم تكون مجمعاً لهم، وأفعال خاصة تكون عبادة لهم .

1 - وقد جعل الله تعالى القدوات قال سبحانه (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أَسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) (1) وقال تعالى ﴿وَلَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أَسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (2) . وقال عز من قائل ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِةٌ ) (3).

2 - كما أنه جعل المشاعر، قال سبحانه ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ) . وقال سبحانه (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ) (4) ، وكما جعل مشاعر مركزية تجمع الكل، كذلك جعل أماكن العبادة في مختلف

الأماكن.

3 - كذلك جعل مناسك وعبادات خاصة، قال سبحانه ﴿وَلِكُلِ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكا) (5).

وذلك لأن التفاف الناس حول دين واستمرارهم فيه يتوقف على هذه الأمور الثلاثة، وفي هذه الآيات بين الله تعالى أنه جعل إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ إماماً .

ص: 27


1- سورة الممتحنة، الآية: 4.
2- سورة الأحزاب الآية: 21
3- سورة الأنعام، الآية: 90
4- سورة البقرة، الآية: 158.
5- سورة الحج، الآية: 34 .

وجعل الكعبة مثاباً ومرجعاً وجعل الصلاة والطواف ونحوها عبادة، وبيّن أن الإسلام هو امتداد لإبراهيم وملته وحافظ لآثاره ولذكره.

ثم إن ذلك كله يكون كالمقدمة لجعل الكعبة قبلة كما سيأتي في قوله تعالى ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَهِمُ ) (1) ... الآيات، فإن ما كان مثاباً وأمناً وطاهراً وفيه أثر إبراهيم . . . أحق بأن يجعل قبلة.

الثاني : قوله تعالى (اَلْبَيْتَ).

و«البيت» هو اسم للمكان الذي يأوي إليه الإنسان ويبيت فيه، ولكن غلب إطلاقه على الكعبة، قال تعالى (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ﴾ (2) وقال (رَبَّنَآ إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْنِكَ الْمُحَرَّمِ ﴾ (3) ، وقد يطلق البيت على المسجد الحرام لاشتماله على الكعبة والألف واللام في (البيت) عوض عن المضاف إليه أي «بيتي».

وإضافة البيت إلى الله تعالى إضافة تشريفية، أي المكان الذي شرّفه بانتسابه إليه، مثل قوله تعالى ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) (4) . وإلا فجميع الأرض ملك الله ومخلوق له .

ومن تشريفه للبيت أن جعل فيه حجرين من الجنة، أي الحجر الأسود وحجر الركن - كما وردت بذلك الأخبار (5) 8

ص: 28


1- سورة البقرة، الآية: 142
2- سورة المائدة، الآية: 97
3- سورة إبراهيم، الآية: 37 .
4- سورة ص، الآية: 72
5- تفسير العياشي: ج 1، ص 64 . 28

ثم خص البيت بأحكام تشريعية وهي أيضاً من تشريفه له كالمثابة والأمن ونحوهما .

الثالث : قوله تعالى (مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنَا).

(المثابة): بمعنى الرجوع والمراد المحل الذي يرجع إليه الناس، ولعله ضُمّن معنى الملجأ والمعاذ.

والرجوع هو بلحاظ المجموع لا بلحاظ كل فرد فرد، فمن حيث المجموع الناس يرجعون إليه .

وجعل البيت مرجعاً ، قد يكون جعلاً تشريعيّاً وذلك بوجوب الحج ، واستحباب العمرة وزيارة المسجد الحرام والصلاة فيه وغيرها من العبادات، وقد يكون جعلاً تكوينيّاً باشتياق الناس الرجوع إلى مكة حتى وإن كانوا قد أدوا مناسكهم كما قال تعالى (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِى إلَيْهِمْ ) (1).

وقوله تعالى (وَأَمَنَا).

أي جعلنا البيت موضع أمن، وذلك بأحكام تشريعية، فلا يحل القتال فيه إلَّا ،دفاعاً، قال تعالى ﴿وَلَا نُقَتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَتِلُوكُمْ فِیهِ) (2) ، ومن التجأ إليه لا يجري عليه الحد حتى يخرج منه، ولا يحل صيده، ولا يجوز اقتلاع شجره .

فالكل من البشر والصيد والنبات آمن فيه .

ص: 29


1- سورة إبراهيم، الآية: 37.
2- سورة البقرة، الآية: 191

وسيأتي بعد قليل الفرق بين قوله (وَأَمْنا) في هذه الآية، وقوله (ءَامناً) في الآية اللاحقة .

الخامس : قوله تعالى ﴿وَاتَّخِذُوا مِن مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى ).

«المقام)) اسم مكان ومقام إبراهيم هو الحجر الذي كان يقف عليه حين بناء الكعبة وفيه أثر قدمي إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ .

وفي اتخاذ مقام إبراهيم مصلى أمور :

1 - تذكير بإبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ باني البيت، وتخليد لذكراه، كما دأب الناس في كتابة اسم باني الأمكنة المهمة عرفاناً منهم بالجميل .

2 - وليتخذه الناس أسوة .

3 - وفيه دحض للشبهات الواهية بأن آثار الصالحين فيها شرك وإبعاد للناس عن الله !! ، وقد أزال الوهابيون الكثير من آثار الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم بهذا الزعم !

مع أن آثار الصالحين تقرب الناس إلى الله تعالى وتذكرهم بتضحيات أُولئك في سبيل الله، فأن تصلي خلف حجر فيه أثر رجل نبي ليس من الشرك بل من التوحيد وأن تلمس حجراً أسود وتقبله ليس من الشرك بل هو محض التوحيد، وإذا كان أثر رجل إبراهيم له هذه المكانة وهذه القداسة، فإن آثار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أهم وأقدس .

4 - ولعل في المقام فيوضات خاصة لا توجد في سائر بقاع المسجد .

ص: 30

ه - ثم إن فيه فرزاً بين الطائفين والمصلين، حتى لا تعيق صلاتهم طواف أُولئك، وذلك من حسن النظم.

ثم إن تخصيص ذكر الصلاة من بين سائر مناسك الحج، إنما هو لأجل أهمية الصلاة حيث إنها تجمع في أفعالها وشرائطها وموانعها جميع العبادات، وتجمع أركان الإسلام، أو لأن سائر المناسك يؤتى بها خارج المسجد الحرام سوى الصلاة والطواف، وصلاة الطواف إنما تكون بعد الطواف فإقامة صلاة الطواف تستلزم الطواف قبل إقامتها فتأمل .

السادس : قوله تعالى ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِیمَ وَإِسْمَعِيلَ ).

حيث إن الله تعالى الأمر ، وإبراهيم المأمور، وإسماعيل منفذ الأمر، فلذلك صح نسبة التطهير إلى الله وإلى إبراهيم وإلى إسماعيل، ولذا قال تعالى ﴿وَإِذْ بَوَأَنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بيْتِيَ لِلطَّابِفِينَ وَالْقَابِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود) (1)

كما تنسب الوفاة تارة إلى الله (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ) (2) وتارة إلى ملك الموت (قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ) (3) وأخرى إلى الرسل (تَوَفَّتَهُ رُسُلُنَا) (4) ، لأن الله الأمر، وملك الموت المأمور، والرسل أعوان

الملك.

السابع: قوله تعالى (أن طَهْرَا بَيْتي) . .

ص: 31


1- سورة الحج، الآية: 26 .
2- سورة الزمر، الآية: 42 .
3- سورة السجدة، الآية: 11
4- سورة الأنعام الآية: 61.

(أن) ،مفسرة، توضّح العهد، أو بتقدير حرف الجر أي عهدنا إليهما بأن طهرا.

والتطهير قد يكون معنويّاً، وذلك بعدم نصب الأصنام لأنها أرجاس قال تعالى (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) (1) ، وكذلك بإبعاد المشركين قال تعالى ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) (2) ، ، وكذلك عدم دخول الجنب والحائض ونحوهما فيه .

وقد يكون التطهير ماديّاً، وذلك بتنظيف المسجد الحرام من الأوساخ والقذارات .

وقد يكون تطهيراً أخلاقياً، بمعنى منع الأعمال غير اللائقة فيه كالتصفيق والصفير ، قال تعالى ﴿وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةٌ) (3).

وعدم إدخال الأوساخ إلى البيت يلازم تطهيره، ولذا روي عن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنه قال (فينبغي للعبد أن لا يدخل مكة إلا وهو طاهر قد غسل عرقه والأذى، وتطهر ) (4) .

وإذا عهد الله إلى إبراهيم ذلك، فهو عهد إلى رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم والمسلمين أجمع قال تعالى (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) (5) ، وقال سبحانه (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) (6) .

ص: 32


1- سورة الحج، الآية: 30.
2- سورة التوبة، الآية: 28.
3- سورة الأنفال، الآية: 35
4- البرهان ج 1 ، ص 548 عن الكافي والتهذيب وعلل الشرائع وتفسير العياشي.
5- سورة النحل، الآية: 123
6- سورة آل عمران الآية: 95

الثامن : قوله تعالى (لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) .

المراد أن البيت جعل للعبادة، ولذا إذا تزاحمت أُمور أخرى مع العبادة قدمت العبادة وأفتى بعض الفقهاء بجواز نزع ملكية الناس - مع تعويضهم - لو ضاق المسجد الحرام وأرادوا توسعته .

وروي أيضاً أن الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه يوسع البيت إلى الحد الذي جعله إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ (1).

كما قال الفقهاء بأنه إذا حصل تزاحم في عموم المسجد بين الصلاة وغيرها من العبادات ،والأعمال فإن الصلاة تقدّم، وأما في المسجد الحرام فالطواف والصلاة كلاهما مقدّم على سائر العبادات.

والمشاهد المشرفة لأنها جعلت للزيارة فتقدم الزيارة على سائر أعمال البر كالدرس والخطابة ونحوها - إن حصل تزاحم بينها ..

ثم إن الظاهر - بمناسبة الحكم والموضوع - أن معنى الطائفين هو الدائرون حول الكعبة، ومعنى العاكفين هو المعتكفون فيها، ومن البعيد تفسيرهما بالزائرين والمقيمين - حتى وإن صح ذلك لغة واستعمالاً.

وأهم العبادات التي تؤتى في المسجد الحرام: الطواف والاعتكاف والصلاة لذا خصها الله تعالى بالذكر .

ص: 33


1- بحار الأنوار: ج 52 ، ص 332 .

الركن الثالث: الاتباع

الآية 126

اشارة

﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِیمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا ءَامَنَا وَارْزُقٌ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعَهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) .

126 - وبما أن المكان لا يَعمُر إلَّا بأناس يسكنوه، لذا دعا إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ لهم ،(وَ) اذكر (إذْ قَالَ إِبْرَاهِیم) داعياً : يا ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا) المكان (بَلَداً) فقد كان المكان وادياً غير ذي زرع ولا أهل (ءَامِنَا) أي آمناً أهله ، (وَارْزُقٌ أَهْلَهُ) ، سكانه، فإن الذي يجعل الناس يسكنون مكاناً هو الأمن والرزق (مِنَ الثَّمَرَاتِ) كلها ، فواكه وغيرها من نتاج الأرض، بل ومحبة الناس، وقوله : (مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم) بدل أهله، أي ارزق المؤمنين من أهله (بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ اَلْآخَرِ) والإيمان بالأنبياء يدخل في الإيمان بالآخرة، إذ لا طريق للإيمان بالآخرة إلَّا بتصديق الأنبياء، (قَالَ) الله مستجيباً دعاء إبراهيم وزيادة: ﴿وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا) أى أمتعه متاعاً أو زماناً قليلاً، فارزقه أيضاً لكن بما أن لكم الحياة الدنيا سريعة الزوال فهو تمتع قليل (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ) أي ادفعه من غير أن يتمكن من الامتناع (إِلَى عَذَابِ النَّارِ) أي عذاب ينشأ من

ص: 34

النار، (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي بئس المآل والمرجع ذلك العذاب، فليس رزقه وتمتعه إلا لكرامة البيت.

-------------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى ؛ (اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا ءَامِنَا).

دعاء إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ هنا ليجعل الله تعالى ذلك الوادي الذي لم يكن فيه زرع بلداً آمناً ، يختلف عن ما قاله تعالى في الآية السابقة ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) ، فإن ذاك كان حول الكعبة وهذا حول مكة، فالبيت أمن بجعله تعالى ابتداءً، والبلد آمن باستجابته دعاء إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

أو أن ذاك كان استجابة لهذا، أي قوله (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنَا) كان استجابة لدعاء إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا ءَامِنَا)، وإنما تقدم ذاك لمراعاة الترتيب أي الإمامة ثم البيت ثم أهل البلد.

ثم لما صارت مكة بلداً بنزول قبيلة جرهم فيه - كما يظهر من الروايات (1) - دعا إبراهيم مرة أخرى فقال : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ ءَامِناً) (2).

- وإن كان يمكن اتحاد الدعاءين، لأن البلد هو البقعة من الأرض عامرة أم ميتة .

ثم إن الله تعالى أراد بيان كثرة بركة إبراهيم وعظيم فضله على أهل مكة وغيرهم وذلك لترغيبهم في اتباع ملة إبراهيم . .

ص: 35


1- البرهان ج 1 ، ص 553، عن تفسير القمي.
2- سورة إبراهيم، الآية: 35.

فإن الإنسان مجبول على حب من أحسن إليه وعلى اتباع طريقة سلفه المحسن إليه، فلذا نقل القرآن الكريم جملة من أدعية إبرا أدعية إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ بحق ذريته، وبحق مكان سكنهم مكة المكرمة .

ثم إن هذه الأدعية كلها مستجابة، إذ إن مجرد نقلها في القرآن من غير رد هو دليل على القبول والاستجابة.

وهكذا كل قول أو فعل نقله القرآن ولم يرفضه، فإن مجرد النقل دليل مشروعية وصحة ذلك القول أو العمل، لأن نقل ما لم يصح مع عدم ردّه لغو بل إغراء بالجهل، وقد تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً .

الثاني : ﴿وَارْزُقُ أَهْلَهُ).

«الرزق» إن كان من الله كان حلالاً ،قطعاً لأنه خير الرازقين ولا معنى لأن يرزق شيئاً وقد حرمه، وإن كان من الإنسان كان فيه الحلال أو الحرام قال تعالى ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِبُونَ) (1)، وقد يحوّل الإنسان

رزق الله إلى كفر كما قال تعالى ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كَفْرًا﴾ (2) .

الثالث : قوله تعالى (الثَّمَرَاتِ).

«الثمرة» تطلق على الفاكهة - عادة ، ثم أطلقت على كل ما تنتجه الأرض، بل على كل نتيجة إذا كانت إيجابية قال تعالى ﴿وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ) (3) ، وقال سبحانه (ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ (4) والنحل عادة تأكل من الورود لا الفواكه . .

ص: 36


1- سورة الواقعة، الآية: 82
2- سورة إبراهيم، الآية: 28.
3- سورة النحل، الآية: 67.
4- سورة النحل، الآية: 69.

والمراد من الدعاء هو توفر كل شيء من حاجاتهم، فإن مكة كانت جرداء من كل شيء، فبهذا الدعاء جلب الله إليها كل الثمرات، قال سبحانه (أَوَلَمْ نُمَكِّن لَهُمْ حَرَمًا ءَامِنَا يُجبیٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيءٍ و رِزْقًا مِّن لَدُنَا) (1) .

وعن الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ (أنه قال إنما هي ثمرات القلوب أي حببهم إلى الناس ليثوبوا إليهم ) (2) وهذا من تأويل الآية.

ثم إن رزق أهل مكة من كل الثمرات لا ينافي رزق أهالي بعض البلدان الأخرى من الثمرات أيضاً، لأن دعاء إبراهيم لم يكن بحصر الثمرات بمكة بل لما كانت مكة ليس فيها مقومات بلد يجبى إليه الثمرات، لأنها في وسط واد غير ذي زرع، ولا ماء فيها إلَّا زمزم وهو مالح ولا سائر مقومات البلدان الأخرى، فلذا كان دعاؤه لها، وقد استجاب الله دعاءه .

ولعلّ استمرار رزق أهلها من الثمرات من ذلك اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها خاص بمكة .

الرابع: (مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرُ).

الظاهر أن دعاء إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ كان عاماً للكل كما يظهر من قوله تعالى (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْنِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلوةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُفَهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (3) فقوله (مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم). . . - وهو بدل بعض من الكل - لبيان أن الغرض من الدعاء هم المؤمنون . .

ص: 37


1- سورة القصص، الآية: 57 .
2- مجمع البيان ج 1 ، ص 524 عن تفسير القمي.
3- سورة إبراهيم، الآية: 37 .

وقيل: (وقد عمّم إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ودعاءه لرزق أهل هذا البلد لبيان أن الرزق العام الربوبي لا يختص بالمؤمنين وإنما خصهم تعظيماً لشأن المؤمنين، فكأنهم المقصودون المستقلون لرزق الثمرات، فجمع عَلَيْهِ السَّلاَمُ بين

غاية رزق الثمرات و [بين] ما يدور عليه النظام في ارتزاق الجميع) (1).

وأما على ما يراه كثير من المفسرين بأن دعاءه كان خاصاً بالمؤمنين وأن قوله (مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم) . هو بدل بعض من كل لبيان اختصاص الدعاء بالمؤمنين فلعلّ هذا التخصيص إما لأن إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ تبرأ من الكفار حتى من قريبه آذر قال تعالى ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ: أَنَّهُ، عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَراَ مِنْهُ) (2) فلم يكن إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ يدعو لمن تبرأ منهم.

وإما لأنه لما علم أن بعض ذريته ظالم حيث (قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِی قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ﴾ ، دعا للمؤمنين منهم تأدباً أو خشية من أن لا يستجيب الله دعاءه في غير المؤمنين ولكن الله تعالى بين له الفرق بين الإمامة ،والرزق، فإن الإمامة استرعاء يختص بمن ينصح للمرعي وأبعد الناس عن النصيحة الظالم، بخلاف الرزق فإنه قد يكون استدراجاً للمرزوق وإلزاماً للحجة (3).

ثم إنه مع التخصيص، فإن تقديم (أهله) ثم إتيان بدل البعض من الكل، لأجل أن المحور في هذه الآية هم أهل مكة، والغرض هو بيان المحور الثالث من الأسس الثلاثة - الإمامة والبيت والأهل - فكان ذكر الأهل هو الأساس وأن الدعاء لبعضهم هو أمر ضمني. فتأمل . .

ص: 38


1- مواهب الرحمن ج 2، ص 34 .
2- سورة التوبة، الآية: 114.
3- راجع الكشاف: ج 1 ، ص 186 .

الخامس : قوله تعالى ﴿وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً).

شرط وجزاء أي إذا كفر أحد فأمتعه أو مبتدأ وخبر أي سأرزق المؤمن والذي كفر أمتعه أو الفاء عاطفة فالمعنى أرزق من كفر فأمتعه بذلك الرزق .

والتذاذ الكافر واستمتاعه بالحياة الدنيا إنما هو أيام قلائل قال تعالى ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ) (1) ، كما أن كل ما يتمتع به من الدنيا قليل إذا قيست بنعم الآخرة التي يُحرم منها وإذا قورنت بعذاب النار الذي يلقى فيه ، قال تعالى ﴿فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) (2).

السادس : قوله تعالى (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ) .

في هذا بيان أنّ إمتاع الكافر ليس لأجل كرامته على الله بل لأجل كرامة البلد أو بمعنى أن استجابة الدعاء في رزق المؤمنين من الثمرات يستلزم رزق الكافر منها أيضاً لأنه جرت سنة الله تعالى في تعميم الرزق على الجميع وذلك ليتم الامتحان حيث إنه لو منع الكافر من الرزق لأمن الجميع بلا استثناء ولبطل الامتحان.

وقوله (أَضْطَرُّهُ) من «الاضطرار» وهو عدم التمكن من الامتناع مما لا رغبة فيه مع كون نوع ذلك العمل مقدوراً ، أي مع إمكان الامتناع في غير صورة الاضطرار، فلا يقال لمن لونه أسود إنه مضطر إلى السواد، أما من كان في مخمصة - مثلاً - ولم يجد بداً من أكل الميتة يقال إنه اضطر .

ص: 39


1- سورة يونس الآية: 45.
2- سورة التوبة، الآية: 38.

كما قال تعالى (فَمَنِ اضْطُرَ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِاثْمٍ) (1) فإنه وإن لم يتمكن من الامتناع في حال المخمصة، لكن أصل أكل لحم الميتة مقدور له في الحالات الطبيعية، ولذا كان حراماً .

وفي الآية إشارة إلى أن دخول الكافر إلى النار إنما هو بسوء ولا ختياره الكفر، وإلا فقد كان يتمكن من دفع ذلك العذاب عن نفسه، أما وقد مات كافراً فإنه يلقى في النار كالمضطر الذي لا يملك الامتناع

مما اضطر إليه . .

ص: 40


1- سورة المائدة، الآية: 3 .

الركن الرابع العمل الخالص

الآيات 127-129

وإذ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «127» رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ«128» رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «129»).

127 - (وَ) اذكر يا رسول الله (وَإِذْ يَرْفَعُ) - وهو حكاية حال ماضية - (إِبْرَاهِمُ الْقَوَاعِدَ) جمع قاعدة وهي الأساسات (مِنَ الْبَيْتِ) الكعبة، فقد كانت تلك القواعد موجودة وإبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ بنى الكعبة عليها ، (و) كان يعاونه ﴿وَإِسْمَاعِيلُ) بإعطائه الأحجار، وكانا حين البناء يقولان : (رَبَّنَا نَقَبَّلْ مِنَّا) أي جازنا رضاك وثوابك، فلم تقصر نيتنا ولا عملنا (إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ) لدعائنا (العَلِيمُ) بنياتنا الخالصة لوجهك الكريم .

128 - (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا) في المستقبل كما جعلتنا في الماضي وذلك باستمرار توفيقك وألطافك (مُسْلِمَيْنِ) أي خاضعين مذعنين

ص: 41

(لَكَ) ، (وَ) إجعل ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِنَا) ، بعضهم (أُمَّةً) مجموعة (مُسْلِمَةً لَكَ)، (وَأَرِنَا) علمنا عياناً ومشاهدة (مَنَاسِكَنَا) أي أماكن عبادتنا كعرفات والمشعر ومنى (وَتُبْ) أي اعطف باللطف والرحمة (عَلَيْنَا) ف (إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ) أي كثير العطف بقبول التوبة (الرَّحِيمُ) بعبادك فتستجيب أدعيتهم .

129 - ﴿رَبَّنَا وَابْعَث) أرسل (فِيهِم) في الذرية (رَسُولًا مِنْهُمْ) لا من غيرهم لينالهم الشرف وليكون أكثر تأثيراً ، ولم يكن في ذرية إسماعيل رسول إلا محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم فلذا لم يقل رُسُل، (يَتْلُوا) هذا الرسول (عَلَيْهِمْ ءَايَتِكَ) أي الدلائل والبراهين الدالة على الله تعالى (وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ) أي القرآن (وَ) يعلمهم ﴿وَالْحِكْمَةَ) أي التشريعات والآداب ونحوها وكل ذلك موجود في السنة المطهرة، (وَيُزَكِّيهِمْ﴾ أي يطهرهم من المفاسد في القلب والعمل ف(إنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ) أي القادر على استجابة الدعاء (الحَكِيمُ) فتستجيب بحكمة، فلا بد للاهتداء من الإصغاء إلى البراهين وتعلّم الكتاب والسنة، ولا يكفي العلم بل لا بد من أن تكون النفس طاهرة، وكذا العمل .

-------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِیمُ الْقَوَاعِدَ).

يستفاد من الروايات (1) أن أساسات البيت كانت موجودة قبل .

ص: 42


1- مجمع البيان: ج 1 ، ص 526 .

إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ بنتها الملائكة أو آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، والمعنى يبنى حائط على القواعد، فبارتفاع الحائط كأنّ القواعد ارتفعت، وهو من لطيف المجاز.

أما احتمال أن معنى القواعد هو كل صف من الأحجار حيث إنها أساس لما يعلوها في الصفوف الأخرى، فخلاف للظاهر.

وقوله (الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) رفع لشأن تلك القواعد حيث أبهمها أولاً ثم بينها ب- (من البيانية) .

الثاني : قوله تعالى ﴿وَإِسْمَاعِيلُ).

تأخير ذكر إسماعيل عن (الْقَوَاعِدَ) للدلالة على أن باني البيت كان إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وأما إسماعيل فدوره كان في الإعانة فقط وذلك بإعطاء الأحجار - كما يظهر من الروايات (1) - وأما في قوله (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِیمَ وَإِسْمَاعِيلَ) فاقترن ذكرهما معاً لأن تلك المهمة أنيطت إليهما معاً ،أما في بناء البيت فقد كانت المهمة مهمة إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

وذكر إسماعيل هنا كالمقدمة لبيان أن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم من ذريته لا من ذرية إسحاق .

الثالث : قوله تعالى ﴿رَبَّنَا تَقَبَّل مِنا) .

أي يبنيان البيت حال كونهما قائلين (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنّا ) .

ونادى إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ (الرب) في جميع أدعيته، دون سائر أسامي الله تعالى، وذلك لأن الرب يتضمن معنى التربية، وهذه الأدعية إنما هي دعاء لإفاضة كمالات على المُنْعَم عليه فكان الأنسب تصديرها بالرب، كما .

ص: 43


1- بحار الأنوار: ج 12، ص 99.

أن غالب الأسامي لا يمكن أو لا يحسن إضافتها إلى المتكلم الداعي خلافاً للرب حيث يحسن فيه ربي» و«ربنا»، ولا يخفى لطف هذه الإضافة في مقام الدعاء .

الرابع : قوله تعالى (تَقَبَّلْ مِنَا) .

القبول بمعنى الجزاء بالرضا والثواب فقد يكون العمل صحيحاً غير مقبول كصلاة غير المتقي فإنها صحيحة بمعنى أداء التكليف وعدم العقوبة على الترك، ولكنها غير مقبولة لقوله تعالى (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ

الْمُتَّقِينَ) (1).

وفي هذا الدعاء إشارة إلى أن الإنسان لا بد أن يعترف بقصوره، فمهما عمل فإن عمله لا قيمة له إذا لم يتقبله الله تعالى.

ولم يذكرا متعلق القبول - وهو رفع القواعد - إما لوضوحه وعدم الحاجة إلى ذكره أو لتصغير ذلك العمل أمام عظمة الله تعالى - كذا قيل-.

وفي هذا الدعاء دلالة على أن رفع قواعد البيت كان لاتخاذه مسجداً لا مسكناً، كما يدل على استحباب الدعاء عقيب العبادة ولذا كثرت الأدعية المأثورة التي يدعى بها تعقيباً للعبادات وخاصة الصلاة، ولعلّه لأجل إحاطة العبادة بهالة من القدسية أو لكي لا ينقطع العبد عنها فجأة.

الخامس : قوله تعالى (السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

(السَّمِيعُ) بمعنى العالم بالمسموعات والمراد أنك تعلم بدعائنا ، 7

ص: 44


1- سورة المائدة الآية: 27

و (ألْعَلیمُ) أي تعلم عملنا في رفع القواعد كما تعلم نيتنا وأنها خالصة لوجهك الكريم.

وقوله (إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) كالعلة للقبول، حيث إن الله وعد الثواب للذين عملوا الصالحات ،مخلصين، فلأنك تسمع دعاءنا وتعلم بعملنا ونياتنا فلذا نطمع في قبولك منا .

السادس : قوله تعالى ﴿وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) .

هذا إما دعاء للثبات على الإسلام، فالمعنى اجعلنا مسلمين في المستقبل كما جعلتنا كذلك في الماضي، نظير قوله تعالى ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (1) ، وإما دعاء للزيادة في الإسلام.

والجعل هنا تكويني، ويكون ذلك بالتوفيق والألطاف من الله إلى العبد، ولا يكون هذا الجعل اعتباطاً، بل لأجل إيجاد العبد القابلية لنفسه لينال هذه الفيوضات، وقد مرّ بعض البحث حول الهداية والضلال وكيفية

كونهما من الله تعالى .

وقوله (مُسْلِمَيْنِ لَكَ) من الإسلام بمعنى الخضوع والإذعان والانقياد كقوله تعالى ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) (2).

ولا يمكن ذلك إلَّا بالإخلاص وتسليم الأمور إلى الله تعالى في الاعتقاد والقول والعمل .

كما أن له مراتب فأعلى درجاته الرضا المطلق بما يقدّره الله تعالى، وأدنى درجاته تشهد الشهادتين وبينهما درجات كثيرة .

ص: 45


1- سورة الحمد، الآية: 6.
2- سورة البقرة الآية: 112

السابع : قوله تعالى ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَكَ) .

إنما دعا إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ لذريته لأن أبناء الأنبياء إذا صلحوا صلح غيرهم، أو لأنهم أحق بالإصلاح وأحق بالشفاعة، قال تعالى (وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ) (1) وقال تعالى: ﴿ قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾(2).

ثم إن ((من)) في قوله (وَمِن ذُرِّيَّتِنَا ) للتبعيض، وإنما دعا لبعضهم لا لجميعهم لأنه علم أن بعضهم ظالم حينما قال له الله تعالى ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ) (3).

وفي بعض الروايات أن المراد بهذه الأدعية أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ في قوله (مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (4)(5) وقوله (وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَكَ﴾ (6) . ولعله تفسير بأبرز المصاديق، لأن محمداً وآله (عليه وعليهم الصلاة والسلام) أفضل أهل البلد وخير ذرية إبراهيم وإسماعيل علیها السلام ، ولعل إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ لما ابتلاه الله ،بكلمات وكانت تلك الكلمات الخمسة الطيبة - كما مرّ - رغب أن يكونوا في ذريته لذا قال (وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَكَ) وكما ذكرنا فإن تسليم الوجه الله تعالى له مراتب وتسليم أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ أعلاها، والمناسب في مقام الدعاء هو طلب الأفضل. .

ص: 46


1- سورة الأنفال، الآية 75.
2- سورة التحريم، الآية: 6.
3- سورة البقرة، الآية: 126
4- عن الإمام السجاد : إيانا عنى بذلك وأولياءه وشيعة وصيه البرهان ج 1 ، ص 556 عن تفسير العياشي ج 1، ص 59 .
5- سورة البقرة، الآية: 126
6- عن الإمام الصادق : أمة محمد بنو هاشم (خاصة ثم استدل بهذه الآية وغيرها ،البرهان ج 1 ، ص 557 عن تفسير العياشي ج 1 ، ص 60.

ثم إن اختصاص هذا الدعاء بأهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ لا ينافي وجود مسلمين من غيرهم، كما أن اختصاص الدعاء بالذرية لا ينافي وجود مسلمين من غير الذرية .

وأما قوله تعالى (أُمَّةً) فلا ينافي كونهم مجموعة قليلة، لأن الأمة) الجماعة وإنما سُميت أمة لأنها تُقصد ، ومن «أمّ» إذا قصد، فلذا تطلق على الجماعة القليلة كقوله ﴿وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ) (1) فالذين كانوا في السفينة لم يتعدوا الثمانين ومع ذلك صاروا أمماً، وكذلك صح إطلاقها على الواحد إذا أتى بأمر عظيم كأنه عمل مجموعة كقوله تعالى إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً (2).

الثامن: قوله تعالى ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا).

(رأى) بمعنى الإبصار بالعين وبمعنى العلم والآية تضمنت المعنيين أي عرفنا وبصرنا بمناسكنا، وقد دلّت روايات كثيرة على أن جبرئيل كان مع إبراهيم في جميع في جميع أعماله وأطواره (3).

ثم إن الرؤية لم تستعمل في عبادة سوى الحج، ولعل ذلك لأن تحديد الأماكن يصعب من غير رؤية عكس سائر العبادات، حيث يمكن إتقانها بالسماع أو القراءة .

و«المناسك جمع منسك بمعنى العبادة أو مكانها أو الشريعة، قال تعالى ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ) (4)، ولعل أصل الكلمة .

ص: 47


1- سورة هود، الآية: 48 .
2- سورة النحل، الآية: 120
3- مواهب الرحمن: ج 2، ص 47 .
4- سورة الحج، الآية: 67.

بمعنى تقديم ذبيحة قرباناً لله تعالى، ولذا يقال للهدي النسيكة، وجمعها نُسُك ، قال تعالى ﴿فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكِ) (1) ، وتقديم القرابين شرعت من لدن آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال تعالى ﴿وَإِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِلَ مِنْ أَحَدِهِمَا) (2) . . . وكان في كل الشرائع، وإنما سمي الحج بالمناسك لتضمنه الذبح أو النحر .

وقد شاع استعمال الكلمة في الحج حتى أنه تنصرف الكلمة إليه إن لم تقترن بقرينة صارفة .

التاسع : قوله تعالى ﴿وَتُبْ عَلَينا).

التوبة بمعنى الرجوع، ولذا صح نسبتها إلى الله تعالى وإلى العبد فالعبد يرجع إلى الله بالطاعة، قال تعالى ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارُ لِمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَلِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) (3) فيتعدى ب- «إلى» كقوله (فَتُوبُوا إِلَى بَارِيكُمْ) (4) ،كما أن الله يرجع إلى العبد باللطف والرحمة ويتعدى ب- «علی»، كقوله تعالى (تُم تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ).

ثم إن التوبة :

1 - قد تكون من ذنب كقوله (فَمَن تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْه) (5) .

2 - وقد تكون من ذنب الأتباع من غير أن يكون التائب مذنباً، كما 9

ص: 48


1- سورة البقرة، الآية: 196.
2- سورة المائدة، الآية: 27
3- سورة طه، الآية: 82
4- سورة البقرة الآية: 54
5- سورة المائدة، الآية: 39

تعارف اعتذار قادة الدول من فعل أسلافهم تجاه الأمم الأخرى، وكما يعتذر الأب من خطايا ابنه، وقال تعالى (فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَنَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (1) حيث إن طلب رؤية الله كان ذنباً من قوم موسى ، وإنما موسى نقل طلبهم إليه تعالى فتوبته عن ذنب قومه ثم شفاعته لهم بإقالة ذنبهم وإحيائهم مرة أخرى.

3 - وقد تكون عن ترك الأولى، كالالتفات إلى غيره تعالى فإنه مباح ولكن الأفضل تركه فيكون قبول هذه التوبة هو ارتقاء للدرجات كقوله تعالى ﴿فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَةٍ فَتَابَ عَلَيْهِ) (2) ، وقد مرّ أن الأنبياء معصومون من الذنوب وكان أكل آدم من الشجرة تركاً للأولى.

4 - وقد تكون عن الخطأ من غير أن يكون خطيئة ، كقوله (فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةٌ مِنَ الله) (3) وذلك في قتل الخطأ.

5 - وقد تكون لزيادة الرحمة واللطف وترقية للدرجات من غير أن يكون ذنب أو خطأ أو ترك للأولى كقوله تعالى ﴿لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَة﴾ (4).

6 - وقد يكون لشعور الإنسان بعدم التمكن من أداء حق الله تعالى كمريض يعتذر ممن عادوه لعدم تمكنه من القيام بوظائف الضيافة أو الاحترام اللائق .

ص: 49


1- سورة الأعراف الآية: 143.
2- سورة البقرة، الآية: 37.
3- سورة النساء، الآية: 92
4- سورة التوبة، الآية: 117

7 - وقد تكون للتعليم، وذلك في كثير من أدعية المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ لكي يخاطب الناس الله تعالى بتلك الأدعية .

ودعاء إبراهيم وإسماعيل علیها السلام (وتُبْ عَلَيْنا) بمعنى الرجوع باللطف والرحمة، أو المراد الذرية أي على ذريتنا أو قالاه للاقتداء والتعليم أو لغير ذلك .

العاشر : قوله تعالى ﴿إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) .

«التواب» صيغة مبالغة، وصيغ المبالغة أو الأفعال الدالة على التكثير، قد تدل على كثرة الفعل، وقد تدل على شناعة الفعل ولو لم يكن كثيراً ، قال تعالى ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (1) بمعنى ليس بظالم وإنما

جيء بصيغة المبالغة للدلالة على شناعة الظلم .

فالتواب بمعنى كثير القبول للتوبة، وبمعنى القابل للتوبة من عظائم الأمور.

ثم إن تكميل الآية بقوله (الرَّحِيمُ) للدلالة على أن هذا الرجوع إنما هو رجوع للرحمة لا للعذاب فهو تأكيد للمفهوم المتضمن في معنى التوبة .

الثاني عشر : قوله تعالى ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ).

في الآية تصريح بأن محمداً صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم رسول من الله تعالى وهو دعاء إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ لذا روي عنه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم أنه قال (أنا دعوة إبراهيم) (2) لأنه لم يكن في ذرية إسماعيل نبي غير محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم..

ص: 50


1- سورة فصلت الآية: 29
2- البرهان ج 1 ، ص 557 عن تفسير القمي.

وفي هذا تحريض اليهود والنصارى والمشركين للإيمان برسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم .

والدعاء ليكون الرسول منهم - أي من نفس الذرية لا من غيرها - لينالهم الشرف، ولأن التأثير أكبر إذا كان النبي من نفس القوم أو لعلمهم بأنهم سوف لن يؤمنوا برسول من غيرهم كما قال تعالى ﴿وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ «198» فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) (1).

ثم إن من الفضائل أن يرغب الإنسان في الخيرات لذريته، قال تعالى (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَجِنَا وَذُرِّيَّدِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) (2) وقال سبحانه ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ (3).

الثالث عشر : قوله تعالى ﴿يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ).

سعادة الإنسان تتوقف على طهارة نفسه وعمله، وذلك يتوقف على علمه بالله وبالأحكام والآداب وبوضع الأشياء في مواضعها، وقد جمعت هذه الآية كل ذلك .

1 - فقوله (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَتِكَ) أي الدلائل والبراهين التي ترشد إلى الله تعالى، والإيمان بالله هو مقدمة للسعادات .

2 - وقوله (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ) أي القرآن، فإن القرآن فيه حياة .

ص: 51


1- سورة الشعراء، الآية: 198.
2- سورة الفرقان الآية: 74.
3- سورة آل عمران الآية: 36.

الإنسان والمجتمع قال سبحانه ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنان) (1) .

3 - وقوله (وَالحِكْمَةَ) أي وضع الأشياء في مواضعها فإن مجرد العلم بالأشياء لا يكفي إذا لم يضعها الإنسان في مواضعها الصحيحة، وتعليم الحكمة أقوال الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وأفعاله كلها، ولذا فسروا «الحكمة» بالسنة المطهرة، مع العلم بأن السنة الصحيحة لا توجد إلا عند أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ ولذا جعلهم الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم عللاً للقرآن في حديث الثقلين المتواتر عند الفريقين، ولم يجعل السنة عدلاً - وإن حاول بعض الوضاعين تبديل لفظ «وعترتي» إلى «وسنتي» -، لما ذكرناه من أن السنة الصحيحة لا توجد إلا عند أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ.

4 - وقوله (وَيُزَكِّيهِمْ) أي يطهر قلوبهم، فإن العلم بالبراهين وبالكتاب والحكمة لا يكفي إذا لم يعمل الإنسان بعلمه، بل قد ينسلخ الإنسان منها ، كما قال تعالى ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي وَءَتَيْنَهُ وَايَنَيْنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) (2) ، بل يحتاج إلى طهارة في الباطن بقلب سليم حتى يعمل بعلمه .

ثم إن من طرق التزكية : قلع جذور المفاسد الاجتماعية والرذائل الخلقية .

الرابع عشر : قوله تعالى (إنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .

من آداب الدعاء الثناء على الله تعالى وبيان الحاجة إليه وإظهار 5

ص: 52


1- سورة الإسراء، الآية: 82
2- سورة الأعراف الآية: 175

العجز، ومن البلاغة اختيار الصفات التي تناسب موضوع الدعاء، وهكذا في سائر الأمور يلزم اختيار الصفة المناسبة، ولذا قيل إن رجلاً قرأ على أعرابي آية السرقة وتممها بقوله : والله غفور رحيم، فقال الأعرابي أخطأت وذلك لأن ذكر الرحمة والغفران لا يناسب الحكم الشديد بقطع يد السارق، ولذا لم تبدأ سورة البراءة بالبسملة لتضمّنها (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴾ وذلك لأن السورة تبدأ بقوله (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ .

الآيات .

وفي هذه الآية فإن استجابة الدعاء هو لقدرة الله تعالى ولحكمته فلذا أتم الدعاء بقوله (إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، فهو تعالى قادر على إرسال من شاء من الرسل وهو حكيم في جعل ذلك الرسول في ذرية من شاء، ثم إن (العزة) لا تكون إلا بقلة الشيء وكثرة الاحتياج إليه، والله واحد وهو الغني عن الكل، والكل محتاج إليه، فكان هو (العزيز) المطلق، وكل عزة ترجع إليه قال تعالى (أيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) (1) ، وقال سبحانه ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ (2).8

ص: 53


1- سورة النساء، الآية: 139
2- سورة المنافقون، الآية: 8

الآيتان 130-131

اشارة

(ومَن يَرْغَبُ عَن مِلَةِ إِبْرَاهِیمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّلِحِينَ «130» إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمُ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) .

130 - وإذا كان هذا شأن إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وهذا شأن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وهو دعوة إبراهيم، فلا بد من اتباعهما، ولا يخالفهما إلّا السفيه، (وَمَن) - استفهام إنكاري - أي لا (يَرْغَبُ) يميل وينحرف (عَن مِلَّةِ) طريقة (إِبْرَاهِیمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ) أي أذل نفسه بقلة عقله، (وَلَقَدْ) أي والحال أنه يجب اتباع ملة إبراهيم لأنه جمع خير الدارين، حيث (أصْطَفَيْنَاهُ) أي اخترناه (فِي الدُّنْيَا) ولم يكن اختياراً عبثاً بل لخلوصه من الشوائب أجمع ، (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أَي يصلح للجنة والمقامات العالية، أو يكون مع الصالحين.

131 - وعلّة اصطفائه أنه أطاع الله (إذْ) أي الاصطفاء في الوقت الذي (قَالَ لَهُ رَبُّهُ) بأن ألقى في روعه تكويناً ثم أمره تشريعاً : (أَسْلِم) أي اخضع وانقاد، (قَالَ) إبراهيم فوراً (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)

------------------------

ص: 54

بحوث

الأول : قوله تعالى ﴿وَمَن يَرْغَبُ).

مادة «الرغبة» بمعنى الميل، فإن تعدت ب-«في» أو «إلى» كانت بمعنى الميل إلى الشيء بالحب والارتباط به.

و«رغب فيه» يستعمل في الأفعال أو الأشياء، ورغب إليه» في الأفراد كقوله تعالى ﴿إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ) (1).

وإن تعدت ب- (عن) كانت بمعنى الإعراض عن الشيء أو الانحراف عنه.

وإنما كانت الرغبة من الألفاظ الأضداد وتمييزها بحرف الجر، لأنها تتضمن كلا الطرفين المرغوب فيه و المرغوب عنه أحدهما تصريحاً والآخر تلويحاً، كقوله تعالى عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رغبُونَ (2)، وقال سبحانه قَالَ أَرَاغِبُ أَنتَ عَنْ وَالِهَتِي يَإِبْرَاهِيمُ (3) أي راغبون إلى الله عن غيره، وراغب عن الآلهة إلى الله الواحد .

الثاني : ﴿إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَه .

«السفه قلة العقل والعقل هو القوة الباطنية التي يدرك بها الإنسان الأمور فيدفع الأضرار عن نفسه ويجلب إليها المنافع، فمن يترك العقيدة الحقة والعمل الصالح، فإنه يخسر الدنيا والآخرة فيكشف ذلك عن قلة عقله .

ص: 55


1- سورة التوبة، الآية: 59
2- سورة القلم، الآية: 32.
3- سورة مريم، الآية: 46

وفي الحديث العقل ما عبد به الرحمن واكتسب به (الجنان) (1) .

و«السفه من السجايا، لذا كان من الأفعال اللازمة، فتعديته هنا لتضمينه معنى التفعيل أي سفّه نفسه بأن جعلها سفيهة، أو لتضمينه معنى الإضلال والإذلال والاستخفاف والامتهان والإهلاك، وكلها بسبب

السفه.

وقيل سفُه - بضم الفاء - من أفعال السجايا فهو لازم، وسفه - بكسرها - بمعنى التفعيل أي جعلها سفيهة، وقيل غير ذلك .

الثالث : قوله تعالى ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا) .

هذا كالدليل على لزوم اتباع ملة إبراهيم، ويدل أيضاً على سفاهة الراغب عنها، لأن الله لا يصطفي أحداً إلا إذا جمع بين طهارة الباطن وحسن العمل، فيكون جديراً بالاتباع لا المخالفة، والرغبة عن الطريق الصحيح إلى غيره هو من قلة العقل .

و«الاصطفاء» من «الصفو» وهو عدم وجود كدر وشوب في شيء، أي لم يختلط به شيء، واستعمل في صفاء الباطن بمعنى خلوصه عما لا يليق.

وبما أن الله تعالى لا يختار للرسالة وللإمامة إلا من خلص باطنه من جمیع العلائق الأخرى فلذا سمى هذا الاختيار بالاصطفاء.

كما أن الدين هو اختيار الله تعالى فلذا كل ما يرتبط به ليس فيه شائبة .

ص: 56


1- أُصول الكافي، كتاب العقل والجهل: ح3.

بل هو الحق الصراح، قال تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ) (1) أي اختاره لأنه الحق، وسيأتي الكلام حول هذه الآية قريباً .

ثم إن اصطفاء الله تعالى تكويني، أي الله تعالى خلق ذاتهم أسمى وأرفع من بقية الذوات .

وذلك لأن الله تعالى خلق مختلف أصناف المخلوقات، وفضل بعضها على بعض ولولا التفضيل لفقد الخلق معناه وللزم خلق كل الأشياء بشكل واحد وهو خلاف الحكمة، فالنبات مفضل على الجماد والحيوان مفضل على النبات والإنسان مفضل على الحيوان بل في كل نوع البعض منه أفضل من البعض الآخر. وقد مرّ الكلام في التفضيل في الآية 90 فراجع.

ثم لا يحق لأحد الاعتراض على الله تعالى بأنه لماذا لم يخلقني من طينة الأنبياء ولم يفضلني كما فضلهم، وقد أجاب الله تعالى عن هذه الشبهة حيث قال (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (2) وقال ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَختارُ مَا كَانَ هُمُ الْخيَرَةُ) (3).

وحاصل الجواب أن لا مخلوق له حق على الله تعالى بل الله تفضّل عليه ورحمه ،بخلقه فأصل خلقه فضل من الله ، ثم غمره بالنعم وهذا فضل آخر من الله فلا حق له لكي يعترض على تفضيل بعضهم عليه ، أن الله لم يفضل اعتباطاً وإنما لحكمة فلا يعترض التراب بأنه لماذا لم8.

ص: 57


1- سورة البقرة، الآية: 132
2- سورة الأنعام، الآية: 124.
3- سورة القصص الآية: 68.

أخلق ذهباً - مثلاً - ولا يعترض عامة الناس لماذا لم نخلق معصومين أنبياء أو أئمة ، هذا في الجانب التكويني.

ثم إن الله يختبر من اصطفاهم ليظهر صفاء طينتهم للناس عامة وأيضاً لرفع درجاتهم ومقاماتهم، فإن ذاتهم وإن كانت أرفع لكن بالاختبار تزداد ،رفعة كالذهب وهو في المعدن ثم يوضع في بوتقة الصائغ وتمسه النار فيظهر صفاؤه ويزداد جمالاً وقيمة.

الرابع : قوله تعالى ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) .

تكرر هذا المقطع في ثلاث آيات هنا وفي سورة النحل : 122

وفي سورة العنكبوت : 27.

وإنما خص ذلك بالآخرة مع أن إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ من الصالحين في الدنيا أيضاً لأن المعنى هو :

1 - أنه يصلح للمقامات العالية، كقوله تعالى ﴿سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) (1) أي يصلح حالهم في الآخرة، فلئن وقعوا في مشاكل كثيرة لكن حالهم يكون على أحسن حال في الآخرة، وإبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ابتلي بمشاكل كبيرة في حياته ومرّ بمراحل صعبة من الاختبار مما نغصت عليه عيشه فلذا استحق أن يكون في الآخرة ذا حال حسنة .

2 - أو بمعنى إصلاح عمله، وذلك بقبوله ، كقوله تعالى (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَلَكُمْ) (2).

3 - أو بمعنى الإظهار بمظهر الصلاح، كقوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ 1

ص: 58


1- سورة محمد، الآية 5.
2- سورة الأحزاب الآية: 71

عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ (1) أي لا يظهرها بمظهر الصلاح حتى وإن حاولوا ذلك، وإبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ رفضه قومه فاضطر إلى الهجرة عنهم حيث اعتبروه ظالماً قال تعالى (قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِتَالِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (2) فظهوره بمظهر الصلاح الكامل لا يكون في الدنيا وإنما في الآخرة.

4 - وقيل إن المعنى أنه في الآخرة مع الصالحين كما في قوله رَبِّ هَبْ لِي حُكَمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾(3) .

ومعنى ذلك أن الصالحين هنا يراد بهم مجموعة خاصة فدعا إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ أن يلحق بهم في الآخرة، وإلا فهو كان يعلم بأنه من الصالحين - بمعناه العام ، بل كان يعلم بأنه إمام للصالحين بهذا المعنى وفوقهم بدرجات فلا يكون هذا الدعاء في قوله تعالى ﴿وَالْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (4) إِلَّا دعاءً للالتحاق بمجموعة خاصة من الصالحين ، واستجاب الله له ذلك في الآخرة لا في الدنيا، ولعل أولئك هم محمد وآل محمد (عليه وعليهم الصلاة والسلام) لأنه علم بفضلهم كما مرّ في تفسير قوله تعالى ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِیم رَبُّهُ بِكَلِمَات) (5) وإحدى معاني «الكلمات» هم الخمسة الطبية.

والحاصل أن إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ كان خيرة الله وصفوته في الدنيا ومشهود له الصلاح في الآخرة، فهو حري بالاتباع ولا أحد أولى منه بالرغبة فيه، فالرغبة عنه سفه وجهل .

ص: 59


1- سورة يونس الآية: 81
2- سورة الأنبياء، الآية: 59
3- سورة الشعراء، الآية: 83
4- سورة يوسف، الآية: 101.
5- سورة البقرة، الآية: 124

الخامس : قوله تعالى ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ).

قوله «إذ» تتعلق بقوله (أَصْطَفَيْنَاهُ) أي اخترناه حينما قلنا له أسلم .

وقد مرّ أن معنى الإسلام هو الإذعان والانقياد وهذا القول تكويني وتشريعي :

أما التكويني فهو ما ذكرناه في الاصطفاء ومعناه أن الله خلقه من طينة أرفع فجعل التسليم في ذاته كما في قوله تعالى ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَآ أَتَيْنَا طَابِعِينَ) (1) . فالقول كان بالتكوين وإطاعتهما بمعنى خضوعهما تكويناً لإرادة الله تعالى.

وأما التشريعي فهو أمر إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالإسلام وأخذ الميثاق منه بتبليغه، كما قال تعالى ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثاقًا غَلِيظًا) (2)، كما أمر الله رسوله محمداً صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم بالإسلام قال تعالى (وَأُمِرْتُ أَنْ أَسْلِمَ لِرَبِّ الْعَلَمِينَ ) (3).

ويحتمل أن يكون قوله (إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِم) إشارة إلى انقياده وإطاعته أمر الله بذبح إسماعيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ كما قال تعالى ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَهُ لِلْجَبينِ«103» وَنَدَيْنٰهُ أَن يَاإبرَاهِيمُ«104» قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءیَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (4) فلعل الاصطفاء هو الجزاء الذي حصل عليه لتسليمه بأمر الله تعالى . .

ص: 60


1- سورة فصلت الآية: 11
2- سورة الأحزاب الآية: 7.
3- سورة غافر، الآية: 66.
4- سورة الصافات، الآيات، 103 - 105.

السادس : روي عن السجاد والباقر والصادق والعسكري عَلَيْهِم السَّلاَمُ أنهم قالوا (ما أحد على ملة إبراهيم إلا نحن وشيعتنا وسائر الناس منها براء)(1).

وهذا معنى حديث الثقلين حيث قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم (إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي) (2) فعدم اتباع أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ ضلال، وهذا هو معنى قولهم «وسائر الناس منها براء»، والقرآن وأهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ لن يتفرقا كما قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ( علي مع القرآن والقرآن مع علي وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض ) (3). فالتمسك بأحدهما تمسك بالآخر، فاتباع أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ اتباع لملة إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وهذا معنى قولهم «ما أحد على ملة إبراهيم إلَّا نحن وشيعتنا». .

ص: 61


1- الجوهر الثمين ج 1 ، ص 147 .
2- البحار ج 23، ص 7 ، ورواه من العامة مسلم : ج 4 ، ص 1873 ، وأحمد بن حنبل في مسنده ج 4 ، ص 366 .
3- الاحتجاج : ج 1، ص 216 و 297 ، وواه من العامة الحاكم في مستدركه : ج 3، ص 124 .

القسم الثاني: استمرارية الأمة

الآيتان 132-133

(وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)»

«أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)».

132 - ثم إن إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ اهتم بأمر الدين وأراد استمراره (وَوَصَّى بِهَا) بالملة التي منها الإسلام لرب العالمين (إِبْرَاهِیم بَنِيهِ) أبناءه، قيل كانوا أربعة أو أكثر (وَ) كذلك وصى بها (وَيَعْقُوبُ) بنيه الاثني عشر فلا يصح زعم أنهما أوصيا باليهودية، وكانت الوصية حال كون إبراهيم ويعقوب قائلين : ﴿يَا بَنِيَّ ) أبنائي ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ) أي اختاركم لحمله حيث أرسل فيكم الرسل وجعل بعضكم أنبياء، ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) أي استمروا على الإسلام حتى إذا جاءكم الموت مُتُّم مسلمين، فإن الإنسان لا يعلم

متى يموت فعليه بالإسلام حتى إذا جاءه الموت بغتة مات مسلماً .

133 - (أَمْ كُنتُمْ) بمعنى بل كنتم (شُهَدَاءَ) حاضرين، فقد حضرتم وشهدتم حيث إن أسلافكم كانوا حاضرين وقد نقلت الوصية

ص: 62

في كتبكم فنسب فعل الأسلاف إليكم لعلمكم به، ﴿إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) أي اقترب أجله في ساعة الاحتضار (إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِى) استفهام تقريري بغرض الإرشاد والتثبيت وجعلها كلمة باقية في عقبه (قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ) فإن إسماعيل كان عمّ يعقوب، ويطلق الأب على العمل ﴿وَإِسْحَاقَ) هذا في الاعتقاد، وأما في العمل (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) منقادون خاضعون .

-------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى (وَوَصَّی بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ).

في الآية رد على زعم اليهود بأن إبراهيم أو يعقوب أوصيا باليهودية كما سيأتي في قوله تعالى (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَرَى) (1) ، وقال سبحانه (يَأَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) إلى قوله (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِماً) (2).

ثم إن تخصيص الأبناء بالذكر مع أن الدعوة عامة، لأجل أن الوصية تكون عادة للأقرباء، فكان تبليغ إبراهيم عاماً لكن وصيته كانت خاصة، .

ص: 63


1- سورة البقرة، الآية: 140.
2- سورة آل عمران الآيات: 65 - 67.

وذلك لكي يهتموا بها أكثر، ولذا اعتاد الناس إيصاء أهم الأمور إلى أقربائهم .

2 - أو لأن الإشفاق عليهم أكثر، وقبولهم للوصية أقرب، وحملهم لها أجدر .

و(بَنِیهِ) بمعنى أبنائه والمعروف منهم إسماعيل وإسحاق علیهما السلام ،

فهل كان لإبراهيم أبناء آخرون؟

قيل إن أبناءه أربعة أو أكثر.

ويمكن أن يكون المراد ذريته، فالوصية لهم جميعاً - أبناءً وأحفاداً - كما في قوله تعالى ﴿وَرَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ ءَامِنَا وَأَجْنُبْنِي وَبَنِى أَن نَعْبُدَ الأَصْنَامَ) (1) وقال تعالى ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا) (2) ولم يكونا إِلَّا الحسن والحسين علیهما السلام وهما حفيدان لرسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم.

والأبناء يشمل البنات أيضاً، وأطلق عليهن ذلك تغليباً .

الثاني : قوله تعالى ﴿وَيَعْقُوبُ)

لعل تخصيص يعقوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالذكر مع أن إسماعيل وإسحاق عَلَيْهِم السَّلاَمُ أوصيا بذلك أيضاً، لجهة أن يعقوب هو إسرائيل الذي ينتسب إليه اليهود وأبناؤه الاثنا عشر هم الأسباط، وكل طائفة من بني إسرائيل تنتسب إلى أحدهم، فكان ذكر يعقوب أوقع في نفوسهم وأتمّ للحجة . .

ص: 64


1- سورة إبراهيم، الآية: 35
2- سورة آل عمران الآية: 61 .

ثم إن تأخير يعقوب لجهة أن أصل الوصية كانت من إبراهيم، وكان يعقوب استمراراً لها .

الثالث : قوله تعالى (إنَّ اللَّهَ اصْطَفٰى لَكُمُ الذِينَ).

بما أن الدين هو عام لكل البشرية، فاصطفاء الدين لأبناء إبراهيم ويعقوب :

1 - إما من باب أن الصفو صفة الدين، ويصح تضمين صفة المفعول في الفعل الذي ينسب إلى الفاعل . مثلاً يقال : يستحب تدوير الوجه في الوضوء ومعنى تدوير الوجه هو غسلها ، ولكن بما أن غسل الوجه يتضمن إمرار اليد على الوجه وهو كالدائرة، فلذا استعمل التدوير بدلاً عن الغسل، وهذا من البلاغة في الكلام .

فمعنى (اصْطَفٰى لَكُمُ الذِينَ) هو أعطاكم الدين الذي هو صفو لا شائبة فيه .

2 - أو بمعنى اختاركم لحمله ففيكم الأنبياء والأوصياء والأئمة وغيرهم .

3 - أو بمعنى أنه أرسل فيكم رسلاً خلافاً للقبائل الأخرى التي لم يرسل فيها رسولاً بل أمرهم باتباع رسل من غيرهم.

الرابع : قوله تعالى ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) .

في الآية إشارة إلى قبول توبة غير المسلم، فليس المهم ماضيه في الشرك ،والعصيان فإن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، بل المهم حسن العاقبة

ص: 65

بالموت على الإسلام، كما أن فيها إشارة إلى لزوم الاستمرار على الإسلام لأن الإنسان لا يعلم متى يأتيه الموت.

والنهي في الحقيقة يرجع إلى كونهم على غير الإسلام، ولكن أدخل النهي على الموت - مع أنه غير اختياري ولا يصح النهي إلا عن المقدور - للدلالة على أن موت غير المسلم لا خير فيه، فكما أن النهي يتعلق بما لا خير فيه كذلك الموت على غير الإسلام لا خير فيه .

الخامس : قوله تعالى (أَمْ أَكُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) .

قيل : «أم» منقطعة تتضمن معنى (بل) مع همزة الاستفهام الإنكاري فيكون المعنى لم تكونوا حضوراً حين الوصية، فلا تدعوا على يعقوب باطلاً وأنه أوصى باليهودية .

والأقرب أن (أم) للإضراب المجرد عن الاستفهام كقوله تعالى (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ) (1) أي بل جعلوا له فيكون معنى الآية أن هؤلاء اليهود كانوا شهوداً حين الوصية، وذلك لصحة نسبة فعل أسلافهم إليهم كقوله تعالى ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ ) (2). ومن هذا القبيل مجموعة من الآيات التي مرت في أوائل سورة البقرة، ولما كان اليهود المعاصرون للنبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم يعلمون بهذه الوصية لكنهم كانوا يخفونها صحت نسبة الحضور حين الوصية إليهم، كما سيأتي في قوله تعالى ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كتَمَ شَهادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ) (3)..

ص: 66


1- سورة الرعد، الآية: 16 .
2- سورة البقرة، الآية: 91
3- سورة البقرة، الآية: 140.

وقيل إن وصية يعقوب كانت في التوراة ولا زال بعض مقاطعها موجود في التوراة الحالي.

السادس: قوله تعالى ﴿إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِى).

استفهام تقريري والغرض منه الإرشاد وأخذ الإقرار فإن هذه الطريقة أبلغ في الحجة، فتارة يكون مجرد إنشاء وأمر يمكن للشخص التملص منها، وتارة يكون بطريقة أخذ الميثاق، فلا تبقى له حجة .

و(من) تستعمل لذوي العقول وما لغيرهم، - عادة - وقد تستعمل إحداهما مكان الأخرى - قليلاً -.

وإذا أريد السؤال عمَّا يحتمل الأمرين استعملت : «ما»، وحيث إن الكثير يعبدون الأوثان ونحوها فإن السؤال عن المعبود جيء بلفظ «ما» ، فهل تعبدون الله أم تعبدون الجمادات؟

السابع : قوله تعالى ﴿وَإِلٰهَ ءَابَاءِكَ إبْرَاهِیمَ وَإِسْمَعِيلَ وَإِسْحَاقَ) .

الأب يطلق على العم أيضاً، وإسماعيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ لم يكن أباهم بل كان ذلك قالوا (ءَابَآئِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ)

... حيث إن العم - وكذلك الجد - بمنزلة الأب، قال تعالى ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَازَرَ) (1) أي لعمه .

ثم إن تقديم إسماعيل على إسحاق لأنه الأكبر، قيل: ولأنه الأفضل.

ويمكن إطلاق (ءَابَائِكَ) عليهم من باب التغليب، حيث لا يشترط .

ص: 67


1- سورة الأنعام، الآية: 74.

في التغليب الأكثرية أو الأفضلية، بل يرتبط بخصوصيات الاستعمال أو عادات الناس أو ما يرتبط بالكلام والأوزان ونحوها، وقد يكون للأكثرية أو الأفضلية دخل في التغليب أحياناً لا دائماً .

الثامن : قوله تعالى ﴿إِلَهَا وَاحِدًا).

الواحد في الله بمعنى ما لا ثاني له كما أن الأحد بمعنى ما لا جزء له .

فليس الواحد في صفات الله بمعنى الواحد العددي، لأن الواحد العددي يمكن أن يكون له ثان وثالث ،وهكذا، كما أنه لا جزء له لأن المركب يحتاج إلى أجزائه، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في شرح أصول

الكافي.

وإنما قالوا (إِلٰهَا وَاحِداً) لبيان اعتقادهم بالتوحيد - وهو أهم دعوة الأنبياء كما فيه دفع إيهام تعدد الآلهة لأنهم قالوا قبل ذلك (نَعْبُدُ إلَهَكَ وَإِلَهَ ءَابَآئِكَ) ... وهذا وإن كان واضحاً لكن لارتباطه بأصل العقيدة

حسن بيانه تأكيداً .

ص: 68

الآية 134

اشارة

(تِلْكَ أُمَةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم وَلَا تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ «134»)

134 - إن صلاح هؤلاء الآباء - إبراهيم وبنيه - كان مفيداً لهم، ولا يفيد غيرهم إلا باتباعهم ، ف (تِلْكَ أُمَّةٌ) جماعة (قَدْ خَلَتْ) مضت (لَهَا مَا كَسَبَتْ) من الأعمال الصالحة، فلا يعطى ثوابها لغيرها، (وَلَكُم مَا كَسَبْتُمْ) من الأعمال، (وَلَا تُسْئَلُونَ﴾ أي لا تحاسبون (عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ، إذاً فلا يكفي الاعتماد في النجاة على صلاح الآباء ومنزلتهم عند الله تعالى .

---------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) .

هذه الآية كالنتيجة للآيات السابقة وبيان أن المناط على الإيمان والعمل، فلا يكفي الاعتماد على صلاح الآباء حتى وإن كانوا من

ص: 69

الأنبياء، فهذا ابن نوح أهلكه الله وأخرجه من أهل أبيه لأنه لم يكن ذا عمل صالح قال تعالى ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلُ غَيْرُ صَالِحٍ) (1) .

والأنبياء لا يغنون أقرباءهم الكفار شيئاً ، فهذه امرأة نوح وامرأة لوط كما قال تعالى (كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (2)، ولعل تخصيص سورة المسد لأبي لهب وامرأته للدلالة على أن النسب لا يفيد مع الكفر .

بلى إذا آمن الإنسان وعمل عملاً صالحاً، فلعله يحتاج إلى الشفاعة لقصور أو تقصير صدر منه، وقد مرّ البحث في الشفاعة.

و(الأمة) بمعنى الجماعة، وأصله بمعنى القصد لأن الجماعة تُقصد، كما مرّ .

وخلت من الخلو وأصله بمعنى الانفراد، لأن الأموات انفردوا عن الحاضر أو انفردوا عن سائر الناس في قبورهم.

الثاني : قوله تعالى ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم )

«الكسب» هو العمل الذي يقصد فاعله جلب نفع أو دفع ضرر عن نفسه فهو يرتبط بالجوارح ، وقد ينسب إلى القلب باعتبار العمل الذي القصد كقوله تعالى ﴿وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) (3). وذلك ينشأ من لأن الحلف كان عن قصد ثم خالفوا الحلف في العمل .

ثم إن العمل قد يكون ضاراً في الواقع ولكن يتوهم الفاعل أنه نافع كقوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ) (4)..

ص: 70


1- سورة هود، الآية: 46 .
2- سورة التحريم الآية: 10.
3- سورة البقرة الآية 225
4- سورة الأنعام، الآية: 120.

ثم إن النفع إن كان حقيقيّاً يتعدى الكسب باللام وإن كان مضرّاً واقعاً يتعدى ب-«على» قال تعالى ﴿وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ)، وقال سبحانه (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (1) .

وحيث إن المقام هنا، مقام الدعوة والإرشاد، وبيان صلاح الآباء والتحريض على اتباعهم، كان الأنسب هو بيان ثواب الإيمان ونفعه .

ولذا قال تعالى (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَا كَسَبْتُمْ) أي أعمالهم الصالحة لهم وأعمالكم الصالحة لكم .

الثالث : قوله تعالى ﴿وَلَا تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

أي لا تحاسبون على فعلهم بل لا يُوَجّه إليكم مجرد السؤال عن أفعالهم، لأنهم لم يكونوا ضمن تكليفكم ومهمتكم .

ثم إنه لم يقل : ولا يُسألون عن فعلكم، لوضوح أن الأنبياء لا يحاسبون على أفعال أممهم كقوله تعالى (قُل لَّا تُسْئَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (2).

بلى يُسألون عن تأدية الرسالة إتماماً للحجة أو لتبرئتهم عن جرائم أممهم ، قال تعالى ﴿فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَ الْمُرْسَلِينَ) (3) أي سؤالهم عن فعلهم وهو تأدية الرسالة، وقال تعالى ﴿وَإِذْ قَالَ اللهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْیَم ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِيَ إِلٰهَيْنِ مِن دُونِ الله) (4) فهنا سؤال عن فعل يرتبط به وأنه هل قال هذا القول أم لم يقله، والغرض هو تبرئته من ذلك..

ص: 71


1- سورة البقرة، الآية: 286 .
2- سورة سبأ، الآية: 25.
3- سورة الأعراف الآية: 6.
4- سورة المائدة، الآية: 116 .

القسم الثالث الوصية ومخالفتها

الآيتان 135-136

«وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136).

135 - ﴿وَ) لكن الكثير خالف الوصية ف- (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى) إذ قالت اليهود كونوا يهوداً، وقالت النصارى كونوا نصارى (تَهْتَدُوا) إلى الحق، (قُل بَل) نتبع (مِلَّةَ إِبْرَاهیمَ) التي هي التوحيد، فإنه كان (حَنِيفًا) مائلاً من الباطل إلى الحق، (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بخلاف اليهود والنصارى حيث أشركوا .

136 - ثم إن رفضنا لليهودية والنصرانية إنما هو لانحراف لحقها، وإلا فموسى وعيسى عَلَيْهِم السَّلاَمُ وسائر الأنبياء كلهم كانوا على طريقة واحدة، فلذا (قُولُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ) موحدين، (وَ) آمنا ب- (وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا) وهو القرآن ﴿وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ) وهم ذرية يعقوب وكان فيهم الأنبياء، والذي أُنزل إلى هؤلاء هو صحف إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وأصول الدين وفروعه والأخلاق

ص: 72

ونحوها، فإنها نزلت على إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وأُمِر هو وأبناؤه وأحفاده بالعمل بها وتبليغها، (وَ) قولوا أيضاً آمنا ب- (مَا أُوتِىَ مُوسَى) التوراة ﴿وَعِيسَى) الإنجيل، خصصا بالذكر لأن المقام هو في محاجة أهل الكتاب ، (وَ) آمنا ب- ﴿وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّون) أجمع ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُم) فكلهم من قبل الله تعالى وكلهم بلغوا ما أمرهم الله تعالى ،به (وَنَحْنُ لَهُ) اللهُ (مُسْلِمُونَ) ،منقادون، فلا نرفض نبيّاً لعداوة من ينتحل دينه أو ينتسب إليه .

--------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا).

المعنى قل بل نتبع ملة إبراهيم أو بل أهل ،ملته أو بل نكون أهل ملة.

وفي الآية نفي كون الاهتداء في اتباع اليهودية أو النصرانية، وذلك لما لحقهما من التحريف، وإلا فشريعة موسى وعيسى عَلَيْهِم السَّلاَمُ إنما هي إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وأمر الله الناس في وقتهما ،باتباعهما، كما مرّ في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصٰرَىٰ وَالطابِئينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ (1).

وقال سبحانه (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَات فِيهَا هُدَى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا)(2)..

ص: 73


1- سورة البقرة، الآية: 62.
2- سورة المائدة الآية: 44 .

والحنيف من (الحنف) وهو الميل من الباطل إلى الحق، وعكسه

(الجنف) كما قال تعالى ﴿فَمَنْ خَافَ مِن مُوصٍ جَنَفَا) (1).

وفي كلمة (حنيف) إشعار بأن الطبع البشري هو في اتجاه الباطل لقوة الشهوات والأهواء، ولذا كان الإيمان هو ميل منه إلى الحق، كما قال تعالى ﴿وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ) (2) .

أو لأنه كان من قوم كفار فانحاز إلى الحق رغم مخالفتهم إياه أجمع وما لاقاه من المشاكل، فاستقام على الحق.

ثم إن نسبة الملة إلى إبراهيم مع أن الأنبياء الذين تقدموه كانوا على نفس الطريقة من آدم إلى نوح عليهما السلام لأجل :

1 - اعتراف كل من اليهود والنصارى والمشركين بإبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ فكانت نسبة الملة إليه أوقع في النفوس وأكثر تأثيراً وأتمّ للحجة .

2 - أو لانقراض أُمم الأنبياء السابقين وعدم ثبوت تاريخ أنبيائهم، فكان إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ مؤسساً مجدداً لطريقة التوحيد وما لازمها .

3 - أو لأن طريقة إبراهيم كانت أول شريعة متكاملة في العقيدة والأحكام والأخلاق نظراً للتطور البشري وتدريجية نزول الدين

وكل الشرائع التي جاءت بعد إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ اشتركت في أصول ما جاء به إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وإنما اختلفت في بعض التفاصيل نظراً للتدريجية ولتغير الظروف، إلى أن أكمل الله دينه من كل الجهات ببعثة خاتم الأنبياء

ص: 74


1- سورة البقرة، الآية: 182
2- سورة الأحزاب الآية: 72.

محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم فأنزل (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيناً) (1).

كما أن في الآية دلالة على أن الاهتداء هو في اتباع ملة إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وأن اليهود والنصارى ليسوا مهتدين، وأنهم ليسوا على ملة إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وأنهم قد اختلط الشرك بعقيدتهم خلافاً لإبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

الثاني : قوله تعالى ﴿قُولُوا ءَامَنَا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا).

كان الأمر متوجّهاً إلى الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) ثم توجه الأمر إلى جميع المؤمنين (قُولُوا ءَامَنَا) .... ، لأن الآية السابقة كانت في احتجاج بين الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وبين بعض أهل الكتاب، فكان ذاك جواب الرسول إليهم (2) ، ثم أمر الله جميع المؤمنين بإظهار عقيدتهم في الله والأنبياء.

أو لأن الرسول مبلّغ فلذا خاطبه الله (قُل بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِیمَ)، والمؤمنين مكلفون فلذا أمرهم ب- ﴿ قُولُوا ءَامَنَّا)...

أو إفراد الضمير في (قُل) حتى لا يتوهم أن الأمر توجّه إلى اليهود والنصارى المذكورين في أول الآية ﴿وَقَالُوا كُونُوا)...

أو تبديل الخطاب من المفرد في ﴿قُلْ) إلى الجمع في (قُلُواْ) هو نوع بلاغة وتفنن في الكلام.

ثم إن المقام لما كان مقام الاحتجاج، تضمن جواب المؤمنين: ما يعتقدون به كاملاً مع الإشارة إلى الدليل والحجة..

ص: 75


1- سورة المائدة، الآية: 3 .
2- في مجمع البيان ج 1، ص 549 ؛ قيل إن ابن صوريا قال لرسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم : ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتد، وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله هذه الآية.

فما دمنا آمنا بالله تعالى فاللازم أن نؤمن بكل ما جاء من عنده ،سبحانه وليست اليهودية ولا النصرانية المحرّفتان مما نزل من عند الله ، ولا هما يتطابقان مع الفطرة، ولا إبراهيم وأبناؤه وأحفاده كانوا على اليهودية والنصرانية المحرّفتين، وهذا مما يعلمه كبار أهل الكتاب لكنهم يكتمونه، هذا حاصل الاحتجاج الذي يُبيّن في الآيات : (136 - 140). الثالث: قوله تعالى ﴿وَمَآ أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِیمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ).

هؤلاء لم يكن لهم شريعة وكتاب غير شريعة وكتاب إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وإنما كانوا مبلغين ومطبقين لتلك الشريعة فلذا جعلوا مع إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ في مقطع واحد، وإنما ذكروا مع إبراهيم لأجل تفنيد ادعاءات اليهود والنصارى بالنسبة إليهم .

أما موسى وعيسى علیهما السلام و رسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم فقد كان لكل واحد منهم كتاب لذا ذكروا في ﴿وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا)، (وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى).

والذي أنزل على إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ هو الصحف كما قال تعالى ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى «18» صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) (1).

و«الأسباط» جمع (سبط) يُراد بهم أولاد يعقوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ الاثنا عشر ونسلهم، والأسباط في ذرية إسحاق كالقبائل في ذرية إسماعيل، قال تعالى ﴿وَقَطَعْنَهُمُ اثْنَى عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمَّاً) (2) فكل قبيلة من بني إسرائيل سبط لانتهاء نسبها إلى أحد أولاد يعقوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

وأصل معنى السبط هو الحفيد لأنهم كانوا أحفاد إسحاق عَلَيْهِ السَّلاَمُ.0

ص: 76


1- سورة الأعلى، الآيتان: 18 - 19.
2- سورة الأعراف الآية: 160

ولم يكونوا كلهم أنبياء لأن أولاد يعقوب العشرة ارتكبوا ذنباً فظيعاً بما فعلوه بيوسف عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، والأنبياء معصومون من الذنوب - صغيرها وكبيرها - في كل حياتهم، وقد مر بعض الكلام في العصمة في قصة آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

والكتب السماوية أنزلت إلى الأمم أي لأجلهم ولهدايتهم، فلا دلالة فيه على نبوة أبناء يعقوب كلهم، وأما قوله تعالى ﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ) (1) ، فالمراد بالأسباط أنبياء بني إسرائيل الذين كانوا من ذرية يعقوب عَلَيْهِ السَّلاَمُ وليس المراد أولاد يعقوب الاثني عشر بالذات .

الرابع: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

بما أن المرسل واحد وهو الله، فكل الأنبياء على طريقة واحدة فإنكار أحدهم إنما هو إنكار على الله تعالى - وقد مرّ بعض الكلام فيه _.

وفي التقريب : فإن دين الأنبياء عَلَيْهِم السَّلاَمُ كلهم يتلخص في أصول وفروع وأخلاق .

فالأصول: التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد، فإن كل نبي يُصدِّق من سبقه، سبقه، ويُبشِّر بمن يلحقه كما أن الإمامة بمعنى الوصاية، فإن كل نبي كان له أوصياء.

والفروع الصلاة والصوم والزكاة وما أشبه من العبادات، وأحكام : المعاملات - بالمعنى الأعم ، وكل الأديان كانت مشتركة فيها مع .

ص: 77


1- سورة النساء، الآية: 163.

تفاوت يسير حسب اقتضاء الزمان والأمة، فمثلاً كان صوم الصمت في بعض الأمم وليس في الإسلام، وهكذا.

والأخلاق: الصدق والأمانة والوفاء والحياء وما أشبه وكلها فطريات نفسية كانت الأنبياء تأمر بها وتنهى عن أضدادها (1) . .

ص: 78


1- تقريب القرآن إلى الأذهان ج 1 ، ص 185.

الآيتان 137-138

اشارة

«فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)»«صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)».

137 - هذا هو الاهتداء، ﴿فَإِنْ آمَنُوا) اليهود والنصارى (بِمِثْلِ مَا ءَامَنتُم بِهِ﴾ أي بمثل إيمانكم بالله وما أنزل على النبيين أجمع وانقادوا (فَقَدِ أهْتَدَوا) إلى الحق ، فليست الهداية مجرد انتحال اليهودية والنصرانية، ﴿وَإِن تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن مثل إيمانكم (فَإنّما هُمْ فِي شِقَاقٍ) أي مخالفة ومعاندة للحق وذلك كفر وليس اهتداء، ولا تحزن من شقاقهم فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ) أي سيكون الله كافياً لك منهم بمعنى يمنعك أذاهم ويسدّ حاجتك ويوصلك لغايتك .

(وَ) إنما يكفيك لأنه (هُوَ السَّمِيعُ) يسمع ما تدعو ويسم ، ويسمع ما ينطقون (العَلِيمُ) بنيتك الخالصة ويعلم ما يضمرون من الحسد والغِلّ ونحوهما .

138 - قولوا أيها المؤمنون: (صِبْغَةَ اللَّهِ) ، وهذا دليل على أن إيمان المسلمين هو الهداية لأنه الحالة التي يريدها الله، والمعنى قولوا لقد صبغنا الله بصبغة ،الإيمان، (وَمَن) - استفهام إنكاري - أي

ص: 79

هل يوجد (أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) ؟! هذا الإيمان من حيث الاعتقاد وأمّا من حيث العمل فقولوا : ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَبدُونَ) فالباطن مصبوغ بصبغة الله فظهر على العمل وهو عبادته تعالى .

--------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى ﴿فَإِنْ ءَامَنُواْ بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِ) .

1 - «ما» في قوله (مَآ ءَامَنتُم بِهِ) مصدرية، فالمعنى إن آمنوا بمثل إيمانكم، أي وآمنوا كما تؤمنون أنتم فماثل فعلهم فعلكم .

2 - ويمكن جعل ((ما)) موصولة، فالمعنى فإن آمنوا بمثل الذي آمنتم به، فتكون مثل هنا للتبكيت، أي إن وجدتم إيماناً آخر مثل هذا الإيمان الذي نحن عليه فآمنوا به، وإلا فاعلموا أنكم في ضلال، إذ لا مثل لما آمن به المسلمون ولا دين كالإسلام.

والغرض من هذا الأسلوب هو إلزام الخصم وسد باب الاحتجاج عليه، إذ فيه استدلال على عدم وجود مثل لهذا الإيمان، كما يقال: «هذا الرأي هو الصواب فإن وجدتم أصوب منه فاعملوا به، يُراد أنه لا يوجد مثل هذا الرأي (1) .

3 - ويمكن جعل مثل بمعنى الذات والنفس، أي فإن آمنوا بذات .

ص: 80


1- مضمون ما ورد في الكشاف ج 1، ص 195.

ما آمنتم به ونفسه كما في قوله تعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ ) (1) ، أي ليس كذاته تعالى شيء.

الثاني : قوله تعالى ﴿فَقَدِ اهْتَدَوا) .

هذا رد لقولهم (كُونُوا هُودًا أَوْ نَصٰرَىٰ تَهْتَدُوا ) (2) ، فإن الهداية ليست بمجرد ادعاء اتباع دين ،مُحرّف، بل الهداية في اتباع الحق الذي بيّنه الله تعالى، ولذا كان أتباع موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ وأتباع عيسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ مهتدین، لأنهم آمنوا بالله وآمنوا بجميع ما أنزله تعالى، وصدقوا بالأنبياء أجمع، وآمنوا بمحمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم لمّا بشّر الأنبياء به، قال تعالى ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحَمدُ) (3).

وفي الآية دلالة على انحراف اليهود والنصارى المعاصرين للنبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم عن الحق ، لعدم اتباعهم الإيمان الذي جاء به أنبياؤهم.

وأما بنو إسرائيل في زمن موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ وأنصار عيسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ في زمنه، من آمن منهم بهذا الإيمان الصحيح فقد كانوا مهتدين، وقد مرّ البحث في في قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصٰرَىٰ وَالصَاّبِئِينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (4).

الثالث : قوله تعالى ﴿وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ)..

ص: 81


1- سورة الشورى، الآية : 11 .
2- سورة البقرة الآية: 135
3- سورة الصف، الآية: 6.
4- سورة البقرة، الآية: 62.

فإن إعراضهم عن هذا الإيمان لا يكون إلا عن لجاج وعناد حيث تمت الحجة.

فقد تبين لزوم اتباع ملة إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وهم يعترفون بها ، ويعترفون أنه لم يكن مشركاً ، إذا فشركهم بالله بقولهم عزير ابن الله أو المسيح ابن الله أو اتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله ، لا يمت إلى إبراهيم وملته بصلة .

وصورة البرهان - كما عن بعض -:

1 - الإيمان بالأنبياء سبب الهداية.

2 - واليهود إن آمنوا بهم فقد اهتدوا

3 - لكنهم لم يؤمنوا بهم .

4 - فالنتيجة : أنهم لم يهتدوا .

وفي هذه الآيات تدرج في الاستدلال.

فأولاً : ذكر ما يقرّ به الخصم - وهو ملة إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ _.

وثانياً : بيان أنهم يخالفون لوازم كلامهم فيخالفون ملة إبراهيم ويشركون .

وثالثاً : بيان الحق وهو الإيمان بالله وبكل ما جاء من الله تعالى .

ورابعاً : بيان عنادهم وشقاقهم .

وخامساً : ذكر نتيجة عملهم وأن الله سيكفي رسوله من شرهم ويعاقبهم .

و«الشقاق» من الشق لأن كلّاً من المتخالفين في جانب يخالف

ص: 82

جانب الآخر، ومعنى الشقاق مخالفة الحق ومعاندته ومناوأته، وعن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ (إنه الكفر) (1) لأن عدم الإيمان بما أنزل على الأنبياء هو كفر.

الله

الرابع : قوله تعالى (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ).

«الكفاية» هي بلوغ الغاية ويلازم المعنى : سدّ الحاجة ومنع الأذى، فإن الإنسان إذا وصل إلى ما يريد ولم يتمكن الآخرون من أذاه فقد وصل إلى غايته، قال تعالى ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونّهِ) (2)، وقال تعالى ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِينَ) (3)، وقال (وَكَفَى بِاللَّهِ وكيلاً ) (4) ، وقال (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) (5) ، وقال (وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا) (6) .

وفي هذه الآية تسكين لرسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ، ووعد بالحفظ وبالنصر، فإن قوة اليهود والنصارى المادية والعسكرية والدول التي كانت وراء النصارى كانت مرعبة للكثيرين، لكن الله يحق الحق بكلماته وينصر رسله، وعلى هذا جرت سنة الله تعالى .

ثم إن هذه الكفاية تكوينية وتشريعية .

أما التكوينية : فبردّ كيدهم وإجلائهم واغتنام أملاكهم، والنصر .

ص: 83


1- أصول الكافي: ج 4، ص 126 .
2- سورة الزمر، الآية: 36
3- سورة الحجر، الآية: 95
4- سورة الأحزاب الآية: 46.
5- سورة الفرقان الآية: 31
6- سورة النساء، الآية: 45 ، وغيرها من الآيات.

عليهم في الغزوات وهذه الآية من دلائل نبوة الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم حيث تحقق ما أخبر به .

والجدير بالذكر أن هذه الكفاية مستمرة إلى يومنا هذا، فكلّما أرادوا النيل من رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ردّ الله كيدهم إلى نحرهم .

وأما التشريعية : فبتشريع أحكام قتالهم وأحكام أهل الذمة - مذكور في الفقه _.

الخامس : قوله تعالى ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) .

في هذا المقطع وعد للرسول وللمؤمنين، ووعيد لليهود والنصارى .

فيا رسول الله إن الله يسمع ما تدعو إليه ويعلم بنيتك من إرادة إظهار الحق وتبليغ رسالات ،الله ، فلذا لا يتركك وشأنك، بل قوله (وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) كالعلة لقوله (فَسَيَكْفِيكَهُمُ).

كما أنه يسمع كلام أهل الكتاب ومحاججتهم ويعلم نيتهم في الشقاق وما يضمرون من الحسد والغل .

السادس : قوله تعالى (صِبْغَةَ اللَّهّ).

1 - «الصبغة»: الكيفية والحالة التي تكون للصبغ، مثل «جلس جلسة العبد» أي جلس بتلك الكيفية.

وهو مفعول مطلق لبيان النوع، والمعنى «قُولُوا اصطبغنا صبغة الله» و هو عطف على قوله تعالى (قُولُوا ءَامَنَا بِاللَّهِ)... وكالعلة له ، وكالعلة له أي إيماننا بالله وما أنزل إلى الأنبياء وإسلامنا له تعالى لأجل أننا اصطبغنا بصبغة الله تعالى وعبدناه.

ص: 84

2 - النصارى يُعمِّدون أبناءهم ومن يريد الدخول في دينهم بالماء، ويقولون إنهم بالتعميد تكتمل نصرانيتهم، فكأنهم صبغوا بهذا الماء، وقيل : كان بعضهم يعمدون بالماء الأصفر .

فالآية جاءت للمشاكلة والمعنى لا خير في هذا الاصطباغ بل الخير كل الخير - في الاصطباغ بصبغة الله تعالى، فليس المهم الصبغ الظاهري بل المهم الاصطباغ المعنوي :

وبعبارة أُخرى : كما للأجسام صبغ ظاهر للعين، كذلك للبواطن صبغ ظاهر لأهل البصائر والمشاكلة هي استعمال لفظ يرتبط بأحد الشيئين للشيء الآخر حين مقابلتهما ، كقوله (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) (1).

3 - «صبغة الله» هي الفطرة أو العقل أو الهداية أو التطهير.

وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ «الصبغة هي الإسلام» (2) وعنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ «صبغ المؤمنين بالولاية في الميثاق» (3).

وكلها تفسير بالمصداق أو باللازم، فإن الصبغة هي ما أودعه الله تعالى في كل إنسان ومنها العقل والفطرة، وميثاق عالم الذر ، ولازمها الهداية والتطهير من الأدناس وقبول الإسلام، ولما كانت النتيجة المرجوّة من الصبغة هي الإيمان كان الإسلام والولاية ذروة الصبغة وجامعين المصاديقها ومقدماتها ولوازمها . .

ص: 85


1- سورة المائدة، الآية: 116.
2- البرهان ،ج 2، ص 7 - 8 عن الكافي ومعاني الأخبار.
3- البرهان ج 2، ص 7 عن الكافي.

السابع : قوله تعالى ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابدُونَ) .

هذا آخر مراحل الإيمان فإن الآيات تضمنت مراحل الإيمان الثلاث :

1 - الاعتقاد في قوله (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

2 - القول في قوله (قُولُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ) ... وإنما قدم في الذكر لأنه كان في مقام الاحتجاج والمحاججة ردّاً لزعمهم الاهتداء في اليهودية والنصرانية ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصٰرَىٰ تَهْتَدُوا)(1).

3 - العمل في قوله (وَنَحْنُ لَهُ عَابدُونَ).

وعن الإمام الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ (الإيمان) اعتقاد بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان)(2).

ويمكن أن يكون (وَنَحْنُ لَهُ عَابدُونَ) علة لقوله (صِبْغَةَ اللَّهِ) أي أننا ﴾ اصطبغنا بصبغة الله لأنا نعبده فنطيعه فيما يقول، أو هو نتيجة له أي من يصطبغ فقد أطاع وعبد .

والحاصل: أنا عبدناه فاصطبغنا ،بصبغته، ولكنكم لم تعبدوه فلذا اصطبغتم بصبغة أخرى، فلذا ضللتم لأنه لا توجد صبغة أحسن من صبغته تعالى.

ص: 86


1- سورة البقرة الآية: 135.
2- عيون أخبار الرضا 1226:1.

القسم الرابع دحض حججهم

الآيات 139-141

اشارة

«قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141).

139 - (قُلْ) لليهود والنصارى الذين احتجوا بالله أوّلاً وبأنبيائه ثانياً. أما الأولى : (أَتُحَآجُّونَنَا) تجادلوننا (فِي اللَّهِ) بأنكم أبناء الله وأودّاؤه فتزعمون أن النبوة يجب أن تكون فيكم لا في ولد إسماعيل !! ﴿وَ) لكن هذه الحجة داحضة لأن اللَّه (هُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُم) فنشترك جميعاً في أنّا عباده فيصيب برحمته من يشاء منا أو منكم (وَ) كلنا سيجازى بعمله ف- (لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) فلا فرق بيننا وبينكم فمن أين زعمتم أنكم أبناء الله وأحباؤه؟

﴿وَ) إنما المِلاك في القرب إلى الله تعالى هو الإخلاص، وهذا ما تفتقدونه ، ولكن (نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) في العقيدة والعمل .

140 - (أَمْ) تحتجون علينا ثانياً بأنبياء الله ف- (تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِیمَ)

ص: 87

وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصٰرَىٰ) فأنتم على طريقة الأنبياء !!

(قُلْ) في دحض حجتهم الثانية: ﴿ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ) بدين إبراهيم وأبنائه وأحفاده (أَمِ اللَّهُ) حيث بين الله بأنه كان حنيفاً، (وَ) أنتم تعلمون ذلك لكنكم تخفونه ف- (مَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ) أخفى (شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ) أي شهادة ناشئة من الله ، لأنه تعالى بين ذلك في كتبه السماوية وأنتم تعلمون بها (وَ) سيجازيكم على كتمانكم وكفركم إذ (مَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) من الأعمال السيئة .

141 - ولنفرض أن هؤلاء الأنبياء كانوا يهوداً أم نصارى فليس لكم حجة إذ الله ينسخ ما يشاء ويأتي بغيرها ف- (تِلْكَ) إبراهيم وأبناؤه وأحفاده (أُمَةٌ) جماعة (قَدْ خَلَتْ) مضت (لَهَا مَا كَسَبَتْ) من الأعمال الصالحة حيث كانوا على دين الحق في زمانهم (وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ) من الأعمال إن اتبعتم الحق فلكم أجركم وإلا فلا (وَ لَا تُسْتَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ).

-----------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى : (أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ).

«المحاججة» إقامة الحجة في الجدال - سواء كان صواباً أم لا - قال تعالى ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَهَا إِبْرَاهِيمَ) (1) ، وقال سبحانه ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ .

ص: 88


1- سورة الأنعام، الآية: 83.

في اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَنَّهُمْ دَاحِضَةُ عِندَ رَبِّهِمْ) (1) ، أي يحاجون في دينه وتوحيده بعد أن استجاب الناس له ودخلوا في الدين حجتهم داحضة أي باطلة.

فقد قالت اليهود لو أنزل الله على أحد لأنزل علينا، لأنا أولى من ولد اسماعيل، فنحن أبناء الله وأحباؤه وديننا أقدم، وكتبنا أسبق، فلو كان محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم منا لآمنا به، لكنه ليس بنبي لأنه ليس منا !!

والهمزة في (أَتُحَاجُّونَنَا) للإنكار عليهم .

وقوله (فِي اللَّهِ) إما بمعنى المحاجة في ذات الله بأن اعتبروا أن الله لهم دون غيرهم حيث إنهم أبناء الله وأحباؤه وسائر الناس بهائم !! ، وإما بمعنى المحاجة في تفضيل الله لهم على غيرهم، وإما بمعنى المحاجة في دين الله بأنه لماذا نسخت اليهودية أو النصرانية، وأنه لماذا اختار الله النبي من العرب وأمثال هذه الحجج الداحضة.

الثاني : قوله تعالى ﴿وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ)

وهو جواب عن حجتهم، وهو أن الله أعلم بتدبير خلقه. قال تعالى (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (2) وقال سبحانه ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (3) ، وأننا جميعاً نشترك في أننا عباده فيصيب برحمته من يشاء منا أو منكم، فكما فضل بني إسرائيل على غيرهم فقال (وَأَنِي فَضَلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) (4) وقال (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ.

ص: 89


1- سورة الشورى، الآية: 16.
2- سورة الأنعام، الآية: 124
3- سورة القصص، الآية: 68.
4- سورة البقرة، الآية: 47 .

جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا) (1) ، فبعد عبوديتهم لفرعون وآله جعلهم ) الله ملوكاً أي أحراراً يملكون أمر نفسهم كما جعل بعضهم أنبياء، فكما لم يحق لأحد الاعتراض على تفضيل بني إسرائيل في ذلك الزمان، كذلك لا يحق لأحد الاعتراض على اختيار نبي من ولد إسماعيل من العرب، لأنه تعالى رب الجميع ويحكم حسب ما يشاء طبقاً للمصالح التي يعلمها.

الثالث : قوله تعالى ﴿وَلَنَآ أَعْمَلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ).

أي كلنا سنجازى على أعمالنا فلا نسب بين الله وبين الناس فكلهم عبيده ، ولا يحب الله تعالى أحداً إلَّا إذا عمل صالحاً، ولا يبغض أحداً إلَّا إذا ساء عمله، إذاً فلا فرق بيننا وبينكم لا من جهة المبدأ ولا من جهة المعاد، فيكون اختيار النبي منا أو منكم لمصالح يعلمها الله .

الرابع: قوله تعالى ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ).

فيه ردّ على زعمهم بأنهم أحق بأن تكون النبوّة فيهم، حيث قالوا نحن أهل كتاب والعرب عبدة ،أوثان وفيه تعريض بأنهم مشركون إذ إن سبب الكرامة هو الإخلاص لله تعالى والمسلمون أخلصوا الله تعالى فلذا كرّمهم، وأنتم إن لم تخلصوا الله فلا يفيدكم كون أسلافكم صلحاء وأنكم أهل كتاب .

وأيضاً المهم هو عمل كل شخص لا عمل الآخرين، فلئن كان العرب عبدة ،أوثان، فهذا لا يضر من آمن منهم، كما لا يضر المؤمنين من أهل الكتاب كون بعض أسلافهم عبدة العجل، فكل إنسان يجازي بعمله، وهذا ما سيؤكده قوله تعالى (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) .... الآية . .

ص: 90


1- سورة المائدة، الآية: 20.

ثم إن في بعض التفاسير تقرير طريقة الاستدلال بطرق متعددة منها :

1 - استدلال على أن الرسالة ليست خاصة بهم والجميع لأن الرب للجميع، يجازى بعمله، والأولوية لنا لأنا أخلصنا وأنتم أشركتم .

- استدلالهم إما بأفضلية إلههم، ولا يصح، لأن الرب واحد وإما لأن لهم مزية اختصاص، وأيضاً لا يصح، لأن المزية بالعمل لا بشيء آخر، وإما بإخلاص العمل، وهذا ما يفتقدونه ويوجد في المسلمين.

الخامس : قوله تعالى (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِم) ... الآية

بيان لدحض استدلالهم الآخر، وهو محاججتهم في أنبياء الله وأنهم كانوا على طريقتهم .

وبطلان استدلالهم واضح قال تعالى «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)»

«هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) (1).

والحاصل أن الثابت لدى الجميع أن إبراهيم كان سابقاً على اليهودية والنصرانية، وكذلك إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا سابقين عليهما ، فلا يمكنهم نسبة هؤلاء الأنبياء ،إليهما، واليهود والنصارى لا يعلمون دين إبراهيم فكيف يحاججون به بل الله تعالى بيّن أنه كان على الحنيفية .

ص: 91


1- سورة آل عمران، الآيات: 65 - 68.

وفي قوله تعالى (ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) وقوله (فَلِمَ تُحَآجُونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) دلالة على أن أهل الكتاب لم يكونوا يعرفون دين إبراهيم ، وإنما الله تعالى في القرآن بيّن أنه كان موحداً ولم يكن من المشركين وعبّر عن ذلك بأنّه كان حنيفاً، وصدق هذا المدعى من جهتين :

1 - أنه إخبار من الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم مع ثبوت صدقه بإظهار المعجزة على يديه .

2 - أن الحنيفية هي مطابقة للعقل والفطرة، وبعد ثبوت نبوة إبراهيم بإقرار اليهود والنصارى وتصديق الإسلام، فإنه لا يعقل كون إبراهيم إلاّ حنيفاً مسلماً غير مشرك، حيث إن طريقة الأنبياء هي متطابقة مع العقل والفطرة.

السادس : قوله تعالى ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِن اللَّهِ) «عنده» و «من اللَّه» متعلقان بالشهادة، أي كتم الشهادة التي عنده تلك الشهادة، ومنشأ الشهادة هو الله تعالى.

والمعنى: أن الله بشر برسوله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم في التوراة والإنجيل كما قال (الَّذِي يَجِدُونَهُ، مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنِجيلِ) (1) ، فاليهود والنصارى كانوا يعلمون بأنه الحق، ومع ذلك كانوا يغالطون ويحاججون ويكتمون الشهادة التي تحملوها كما قال تعالى ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (2)..

ص: 92


1- سورة الأعراف الآية: 157
2- سورة آل عمران الآية: 187.

وقد مرّ معنى «أظلم في توضيح الآية 114 من هذه السورة في قوله ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَنَعَ مَسَجِدَ اللهِ) ... الآية، وقد ذكرنا أنها ترجع إلى التعدي على حقوق الله تعالى، أو أنها نسبيّة.

السابع : قوله تعالى (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) ... الآية .

هذا تكميل لدحض حجتهم بأن إبراهيم وأبناءه وأحفاده كانوا هوداً أو نصارى، وحاصل هذا الدحض هو أنه لنفرض أنهم كانوا كما تزعمون، فليس لكم فيه حجة، لأنه تنسخ الشرائع من غير أن يكون نقصاً في الأنبياء السابقين فيقال للنصارى ألا تعتقدون أن شريعة عيسى نسخت شريعة موسى؟ فما المانع في نسخ شريعة عيسى بالإسلام، وهكذا يقال لليهود، فلو فرض أن إبراهيم وأبناءه وأحفاده كانوا على اليهودية أو النصرانية ، فلا يفيدكم ذلك شيئاً، كما لا يفيدكم يهودية أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ لأن طريقتكم تختلف مع شريعة موسى وعيسى علیها السلام .

ويمكن أن يقال (1) : إن تكرار هذه الآية هنا وفي الآية 134 هو :

1 - لأجل التأكيد للزجر عن الاتكال على فضل الآباء والفخر بهم

2 - أو الخطاب فيما سبق لهم، وهنا لنا .

3 - أو الأمة في الآية الأولى هم الأنبياء، وهنا أسلاف أهل الكتاب . .

ص: 93


1- هكذا ذكر في الجوهر الثمين - بتصرف - ج 1، ص 153.

ص: 94

فصل مقومات الأمة الإسلامية

ص: 95

ص: 96

فصل مقومات الأمة الإسلامية

هذا القسم من سورة البقرة الآيات 142 - 177 تتحدث عن مقومات الأمة الإسلامية، بعد أن بدأت السورة بتصنيف الناس ثم بيان أصل الخليقة ثم ذكر بني إسرائيل كنموذج للحضارة الإنسانية - بنقاط ضعفها وقوتها - ثم ذكر إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وأنه مؤسس الإسلام، هنا يبدأ الكلام حول المقومات التي يجب أن تكون عليه الأمة ومن الإسلامية، وهي القبلة والأعمال الصالحة، والتوحيد، ومعوقاته من الشيطان واتباع الآباء المشركين والحلال والحرام، ثم خاتمة تتضمن بأن القرآن وأحكامه حق وإن كتم أهل الكتاب ذلك.

ثم إن هذا الفصل يبدأ بطريقة ترتبط بالآيات السابقة فيكون كالمكمل لها .

ص: 97

ص: 98

المقوّم الأول: القبلة

إن القبلة لها أهمية قصوى وهي التي تشكل المقوم الأول للأمة الإسلامية، ولذلك ربط الإسلام بها بعض أهم الأحكام التي ترتبط بحياة الإنسان يوميّاً :

فمن الواجبات الصلاة والطواف والذبح والاحتضار، والدفن . . . .

ومن المحرمات : التخلي باتجاهها ...

وهناك مستحبات ومكروهات مذكورة في الكتب الفقهية .

ولأجل ذلك ضمّن الله تعالى في الآيات السابقة أهمية الكعبة، وأنها مثابة للناس وأمناً وأنها بناء إبراهيم ، وأن الله أمره بتطهيرها، (راجع الآيات 125 - 127، كل ذلك كالمقدمة لتشريع التوجّه إلى الكعبة واتخاذها قبلة.

وفي دون غيرها - قبلة، ولأجل هذه العلل كانت القبلة هي المقوم الأول هذه الآيات المباركات يبيّن الله تعالى علل اختيار الكعبة من مقومات الأمة الإسلامية المذكورة في هذه الآيات.

وتسلسل الآيات (142 - 151) هو :

ص: 99

أولاً:

1 - بيان أن أصل الحكم بيد الله فلا اعتراض عليه في حكمه (قُل لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) .

2 - وأن حكم القبلة ليس حكماً منفصلاً عن سائر الأحكام، بل هو ضمن مجموعة أحكام يكمل بعضها بعضاً (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)، وذلك للوصول إلى المقصود النهائي لهذا الدين الجديد (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)....

3 - ثم بيان علة اختيار القبلة السابقة أولاً، وعدم تشريع حكم التوجّه إلى الكعبة منذ البداية (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا ...).

4 - بيان حرص الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم على المؤمنين وعلى دين الله وأن الله تعالى يريد رضا الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم كما أن الرسول ينطلق من رضاه سبحانه وتعالى كل ذلك لبيان عظيم حقه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم على المسلمين (فَلَنُوَلِيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا).

5 - حكم القبلة في الحضر (فَوَلِّ وَجْهَكَ....)

6 - إن أهل الكتاب يعلمون أنه الحق ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَب ...).

7 - حكم القبلة في السفر (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ ...)

وثانياً :

بيان حكمة تشريع التوجه إلى الكعبة .

1 - العلة الأولى: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةُ).

2 - العلة الثانية: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ).

3 - العلة الثالثة : (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

ص: 100

الآيتان 142-143

«سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)».

142 - (سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ) قليلو العقل (مِنَ النَّاسِ) اليهود والمنافقين والمشركين، والإشكال منشؤه سفاهتهم، وليس لأجل خلل في الحكم ، (مَا وَلَاهُمْ) صرفهم (عَن قِبْلَهِمُ) في الصلاة (الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) وهي بيت المقدس. حيث كانت قبلة للمسلمين في مكة وعِدّة أشهر في المدينة، ولم يظهر ذلك في مكة لأن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم كان يصلي إلى بيت المقدس وكان يجعل الكعبة أمامه، لكن ظهر في المدينة لأن الكعبة في الجنوب وبيت المقدس في شمالها ، (قُلْ) يا رسول الله في جوابهم : (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) فكل الأرض وجهاتها ملك الله فلا فرق بين بقعة وأُخرى إلا إذا شرفها الله، فله تعالى اختيار جهة القبلة، فإنه (يَهْدِى مَن يَشَآءُ) هداية تشريعية للجهة

ص: 101

التي يتوجه إليها (إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم) فأمره ليس اعتباطاً وإنما لأن المأمور به هو طريقة حسب المصلحة ولا انحراف فيها .

143 - ﴿وَ) كما أنعمنا عليكم بالهداية إلى صراط مستقيم (كَذَلِكَ جَعَلْتَكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) معتدلين فلا إفراط ولا تفريط، أو واسطة بين الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وبين سائر الناس، والأمة الوسط يجب أن يكون لها قبلة مستقلة حتى لا تتهم بالذيلية (لِنَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ) تشهدون على صحة أو سقم أعمالهم، لأن المعتدل أو الواسطة بين الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وبين الناس يكون ميزاناً فيتمكن من الشهادة على المنحرف (وَ) ل- (يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) لأنه أعدل الجميع، فهو يشهد عليكم وأنتم تشهدون على سائر الناس، وهناك علة أخرى لتحويل القبلة وهي : ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا) بيت المقدس (إلَّا لِنَعْلَمَ) ليتحقق ما علمناه أزلاً - ليحصل التمييز وتتم الحجة - (مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) يرتد أو يبقى على كفره، فإن العرب ما كانوا يريدون قبلة غير الكعبة فامتحنهم الله بجعلها مؤقتاً على طرف بيت المقدس، وكذا التغيير إلى الكعبة ما كان يروق لليهود وللمنافقين ونحوهم ، (وَإن) - مخففة من إنَّ - (كَانَت) القبلة التي كنت عليها (لَكَبِيرَةً) ثقيلة وصعبة (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) أَي انتفعوا بهداية الله ، (وَ) أما الصلوات التي صليتموها باتجاه بيت المقدس ف- (مَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) فإنها مقبولة وكذلك اعتقادكم بأنها قبلة فإن ذلك كان طبقاً لإرادته تعالى، وهكذا كل حكم منسوخ

ص: 102

(إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ) والرأفة - شدة الرحمة - (رَحِيمٌ) والمؤمنون أولى من غيرهم بالرأفة والرحمة فكيف يضيع إيمانهم؟

----------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ) .

أخبر الله تعالى قبل تغيير القبلة عن إشكالهم على هذا التحويل، ولعل ذلك الجهات منها :

1 - إن العلم بالإشكال قبل وقوعه يكون لتهيؤ المؤمنين وتوطيناً لنفوسهم واستعداداً للرد فيكون أبعد عن مفاجئتهم واضطرابهم، وهكذا توقع كل مشكلة تساهم في التهيؤ لها ومن ثم لا يكون وقعها شديداً .

2 - وكذلك يكون أقطع لحجة الخصم ، وعادة يحاول الخصوم إرباك الآخر بعرض إشكال غير متوقع له حتى لا يجد مجالاً للجواب، مضافاً إلى أنّه لو علم بأن الآخر يعلم بإشكاله ومتهيأ للجواب عنه لفقد دافعه للإشكال بعد يأسه عن التأثير، ولذا من الوسائل الهامة لكسر الغزو الثقافي والفكري هو فضح خطط المستكبرين ودفع شبهاتهم سلفاً.

والسفه قلة العقل، وكل من لا يتبع الشرع فإنه لا عقل له كما مرّ في قوله تعالى ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ) (1) ، وفي الحديث (العقل ما عبد به الرحمن واكتسب به (الجنان) (2) . .

ص: 103


1- سورة البقرة، الآية: 130.
2- أصول الكافي، كتاب العقل والجهل: ح3.

وقوله (مِنَ النَّاسِ) للتعميم، فإن الإشكال لم يكن منحصراً في اليهود وإلّا كان يقال: من أهل الكتاب بل اليهود والمنافقون والكفار ، فإن هؤلاء كانوا يفتشون عن أية نقطة ضد الإسلام، مضافاً إلى أن اليهود كانوا يرون أن المسلمين انصرفوا عن قبلة أهل الكتاب - بيت المقدس فقدوا أمراً كانوا يحتجون ويتبجحون به.

وعن الإمام العسكرية عَلَيْهِ السَّلاَمُ جاء قوم من اليهود إلى رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ، فقالوا : يا محمد هذه القبلة - بيت المقدس - قد صليت إليها أربع عشرة سنة ثم تركتها الآن أفحقاً كان ما كنت عليه فقد تركته إلى باطل فإن ما يخالف الحق فهو باطل، أو كان باطلاً فقد كنت عليه طول هذه المدة ! فما يأمَنّا أن يكون الآن على باطل؟

فقال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم : بل ذلك كان حقاً، وهذا حق، يقول الله تعالى: ﴿قُل لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ إذا عرف صلاحكم - يا أيها العباد - في استقبال المشرق أمركم به، وإذا عرف صلاحكم في استقبال المغرب أمركم به، وإن عرف صلاحكم في غيرهما أمركم به، ، فلا تنكروا تدبير الله في عباده وقصده إلى مصالحكم ...(1) الحديث.

الثاني : قوله تعالى (مَا وَلَاهُمْ مَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا)

«ولَّاه» إن تعدى ب- «عن» أو «من» كان بمعنى الانصراف عن الشيء كقوله (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا) (2) ، وإن تعدى بنفسه أو ب-«إلى» كان بمعنى 8.

ص: 104


1- البرهان ،ج 2، ص 10 - 11 عن التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري
2- سورة الكهف، الآية: 18.

التوجّه إلى الشيء كقوله تعالى ﴿فَوَلِ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) (1) وكقوله تعالى ﴿فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُنذِرِينَ) (2)، وقد يستغنى عن حرف الجر لوجود ما يدل على المعنى كقوله تعالى (ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدبِرين) (3).

وقد كانت القبلة - والرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم في مكة - باتجاه بيت المقدس ولكنه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم كان يجعل الكعبة بينهما ، فعن الإمام العسكري عَلَيْهِ السَّلاَمُ إن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم و لما كان بمكة أمره أن يتوجّه نحو بيت المقدس في صلاته، ويجعل الكعبة بينه وبينها إذا أمكن، وإذا لم يكن استقبال بيت المقدس كيف كان فكان رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم يفعل ذلك طوال مقامه بها ثلاث عشرة سنة . . . » (4) .

ويبدو أن المشركين ما كانوا يعلمون أن قبلته إلى بيت المقدس، أو ما كان يصعب عليهم ذلك ما دام قد وسط الكعبة .

ومنشأ الاعتراض، إمّا من إرادة الإشكال على المسلمين بأية كيفية كانت وأحسن الأوقات بزعمهم هو حين نزول حكم جديد أو حين نسخ حكم سابق، وهذا من العصبية والجهل، وإما لأجل زعم اليهود أن لبيت المقدس خصوصية ذاتية لا توجد في سائر البقاع وهذا الزعم باطل وقد ردّه الله تعالى بقوله (قُل لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِب).

الثالث : قوله تعالى (قُل لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِب ).ي

ص: 105


1- سورة البقرة، الآية: 150.
2- سورة الأحقاف، الآية: 29
3- سورة التوبة، الآية: 25
4- البرهان ج 2، ص 10 عن التفسير المنسوب للإمام العسكري

شروع في جواب الشبهة وهو في بيان أن التشريع بيد الله فلا اعتراض عليه .

وحاصله أنّ الأماكن كلها الله تعالى فيمكنه أن يأمر بالتوجه إلى أي طرف أراد، فعلمه بأن صلاحكم في استقبال جهة يستلزم أن يأمركم بالتوجّه إليها وعلمه بتغير المصلحة يوجب نسخ الحكم السابق، فكان الحكم الذي فيه المصلحة الواقعية هو التوجّه إلى بيت المقدس، لذا أمركم به، ثم تغيرت المصلحة فصار الحكم التوجه إلى المسجد الحرام.

ولعل في الآية إشعاراً بأن التوجّه إلى بيت المقدس ليس فيه مصلحة ذاتية، إذ لو كان كذلك لأمر الله بالتوجّه إليه دائماً من غير اهتمام بالأقاويل، فإن الله يأمر بما فيه المصلحة دائماً وأبداً، ولكن بما أن مصلحة التوجّه إليه كانت ،جعليّة، فلذا تتغير تلك المصلحة حسب تغير الظروف والاعتبارات .

الرابع : قوله تعالى ﴿يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) .

الهداية هنا بمعنى «الهداية التشريعية» وهو بيان الحكم الذي فيه الهدى للناس.

والهداية في القرآن قد تكون بمعناها التشريعي، وقد تستعمل بالمعنى التكويني بسبب الإنسان نفسه أو بإرادة مباشرة من الله .

فمن الأول: قوله تعالى ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الهُدیٰ) (1)، وكقوله سبحانه ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (2). .

ص: 106


1- سورة فصلت الآية: 17
2- سورة الشورى، الآية: 52 .

ومن الثاني : قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَناً) (1) وكقوله سبحانه (وَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ (2).

و من الثالث : قوله تعالى (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (3) ، ومن وكقوله سبحانه (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ) (4) لأن الأنبياء خلقوا مهديين ومن طينة أعلى - كما مرّت الإشارة إليه ..

و (الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) : الطريقة التي فيها الحكمة، وقد تتغير المصالح فيكون من الحكمة نسخ الحكم السابق .

لا يقال : ذلك يستلزم تغيّر الصراط المستقيم .

فإنّه يقال : (الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) لا تغير فيه لأنه الطريق الذي فيه الحكمة، وإنما التغير في المتعلّق مثلاً يُنهى المريض عن شيء ثم بعد شفائه يؤمر به ففي كلا الحالين كان هذا الإنسان على الأسلوب الصحيح المستقيم، ولكن الحالات تغيرت وعن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم: یا عباد الله أنتم كالمرضى والله رب العالمين كالطبيب، فصلاح المرضى فيما يعلمه الطبيب ويدبره ،به لا فيما يشتهيه المريض ويقترحه ألا فسلّموا الله أمره تكونوا من الفائزين (5).

الخامس : قوله تعالى ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَكُمْ أُمَّةً وَسَطَاءَ) . .

ص: 107


1- سورة العنكبوت: 69.
2- سورة التغابن الآية: 11
3- سورة الأنعام، الآية: 161.
4- سورة الأنعام، الآية: 84.
5- البرهان ج 2، ص 10 عن تفسير الإمام العسكري .

هذا بيان بأن القبلة إنما هي ضمن مجموعة متكاملة من الأحكام حيث إن المسلمين لهم دور القيادة فينبغي أن تتوفر فيهم جميع شروطها، ومن تلك الشروط الاستقلالية في التشريعات، حتى لا يتهموا باتباع الآخرين، فيشعر الناس بالاستغناء عنهم بالرجوع إلى الدين الذي منشأ هو التشريع، فإن الرجوع إلى الأصل خير من الرجوع إلى الفرع .

نعم هناك أحكام مشتركة بين كل الشرائع أو أمور مرتبطة بالحياة الشخصية أو بالنظم الاجتماعية من غير أن تكون سمة لشريعة، فقد يشترك فيها المسلمون مع غيرهم لأن تلك التشريعات كانت حسب المصلحة المستمرة ..

ولكن في القبلة ونحوها مما هو علامة بارزة للإسلام - من غير مصلحة ذاتية في جهة معينة - فإنه لا يمكن أن يكون تابعاً لشريعة أخرى أصلاً، وبما أن بيت المقدس كان مركزاً لأنبياء بني إسرائيل وقبلة لليهود فكان يمكنهم ادعاء اتباع الإسلام لهم في ذلك، فكان ذلك من أسباب تغيير القبلة.

وقوله (كَذلِكَ) أي كما هداكم إلى الصراط المستقيم كذلك جعل لكم القيادة بجعلكم أمة وسطاً ، أو كما أن الشرق والغرب بيد الله كذلك اختياركم للوسطية، فيكون إشارة إلى أن التشريع بيد الله كما أن الكون ،بيده أو عطف على مقدّر أي كما أن مكة هي وسط الأرض كذلك المسلمون الأمة الوسط بين الأمم .

وقوله (أمَةً وَسَطًا)، الأمة - كما مر - الجماعة من الناس، أي جعلناكم جماعة متوسطة، فلا إفراط في شريعتكم ولا تفريط، فكل

ص: 108

الأمور مبتنية على الموازين الصحيحة، فللروح نصيبها وللجسد نصيبه، وللدنيا حصتها وللآخرة حصتها .

وفي الأحاديث - كما سيأتي - بيان أن الأمة الوسط هم الأئمة عَلَيْهِ السَّلاَمُ فإنهم الواسطة بين الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وبين سائر الناس - وهذا ما يستشعر من حديث الثقلين أيضاً ..

وهذا إما من باب تأويل الآية الكريمة وإمّا لبيان أبرز المصاديق وتفسير الآيات بالمصاديق البارزة له نظائر كثيرة في الأحاديث الشريفة، وإما لجهة أن شهادتهم متكاملة من كل الجهات - لعرض الأعمال عليهم أما غيرهم فشهادته بالظاهر أو من بعض الجهات - كما سيأتي بعد قليل -.

ثم إن هنالك آيتين تفسران معنى الوسطية فقد قال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)(1).

فالعبادة وفعل الخير وسهولة الدين وحمل رايته - بالتبليغ والجهاد ، والامتداد التاريخي كلها سببت كون الأمة الإسلامية أُمة وسطاً وصار لها القابلية لتكون شاهدة على سائر الناس.

السادس : قوله تعالى (لِتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ) .

1 - الشهادة هي الحضور، كقوله تعالى ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ 8

ص: 109


1- سورة الحج، الآيتان: 77 - 78

فَلْيَصُمّهُ) (1) ، والشاهد لحضوره الواقعة ورؤيته أو سماعه لما حدث فإنه يعلم بما جرى فيتحمل الشهادة ثم يتمكن من أدائها في المحكمة أو في غيرها.

2 - والشهيد هو الشاهد ولم يستعمل في القرآن إلَّا بهذا المعنى، ثم إن هذه اللفظة كثر استعمالها في المقتول في سبيل الله حتى صارت حقيقة شرعية أو متشرعية بحيث إذا أطلقت انصرفت إلى المقتول في سبيل الله ، ولا يبعد أن يكون استعمالها في الروايات بهذا المعنى إلا إذا كانت هناك قرائن دالة على إرادة المعنى الأصلي.

3 - ثم إن الشهادة قد تكون شهادة تحمّل - أي حضور الواقعة والعلم بها - وقد تكون شهادة أداء بمعنى بيان ما علمه الإنسان في محكمة أو نحوها .

فمن الأول : ما حكاه الله تعالى عن عيسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَآ أَمَرْتَنِي بِدِه أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبِّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدُ) (2) .

ومن الثاني: قوله تعالى ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَدُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (3).

4 - ثم إن الشهادة التامة لا تمكن إلا مع الاطلاع على الأعمال وعلى القلوب، إذ كيف يمكن الشهادة على رجل بأنه صلّى في بيته أم لم .

ص: 110


1- سورة البقرة، الآية: 185
2- سورة المائدة، الآية: 117.
3- سورة هود، الآية: 18.

يصلَّ، وإن صلاته كانت خالصة أم شابها شرك أو رياء !! مثلاً ، ففي الآية دلالة على أن الله تعالى يطلع بعض عباده على كل هذه التفاصيل، وتكون الروايات الدالة على عرض الأعمال على الأئمة عَلَيْهِ السَّلاَمُ وأن الله يخبرهم عن السرائر والنوايا متوافقة مع هذه الآية الكريمة، وهذا العرض والاطلاع يكون في الدنيا كما قال تعالى ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ، وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (1) ، وأداء الشهادة سيكون في الآخرة، قال سبحانه (وَجاءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِ) (2).

فعن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنه قال : نحن الأمة الوسط، ونحن شهداء الله تبارك وتعالى على خلقه، وحُججه في أرضه» (3) وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : نحن الشهداء على الناس بما عندنا من الحلال والحرام وبما ضيعوا منه» (4) .

5 - وعن الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ فإن ظننت أن الله عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحدين أفترى أن من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع تمر يطلب الله شهادته يوم القيامة ويقبلها بحضرة جميع الأمم الماضية!! كلّا ، لم يَعْنِ الله مثل هذا من خلقه، يعني يعني الأمة التي وجبت لها دعوة إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) وهم الأمة الوسطى، وهم خير أمة أخرجت للناس (5) . .

ص: 111


1- سورة التوبة، الآية: 105.
2- سورة الزمر، الآية: 69.
3- البرهان ،ج 2، ص 13 - 14 عن الكافي وقريب منه عن بصائر الدرجات وتفسير العياشي وعن الصادق أيضاً.
4- البرهان ج 2، ص 14 عن بصائر الدرجات والعياشي.
5- البرهان ج 2، ص 15 عن تفسير العياشي.

وبهذا يكون الجواب عن التساؤل بأن الله ذم الكثير من الأمة مع رؤيتنا عياناً فسق البعض وعدم قبول شهادته حتى في حزمة بقل!! فكيف يشهدون على سائر الأمم؟

وحاصل الجواب أن المراد من كان مستجمعاً لصفات الشهادة والتي أشارت إليه الآيتان 77 - 78 في سورة الحج ، ولا يخلو كل عصر من هؤلاء أو أحدهم، وأبرزهم المتمكنون من الشهادة الكاملة التامة وهم الأئمة عَلَيْهِ السَّلاَمُ .

فالشهادة تكون في الأمة الإسلامية من غير لزوم أن يتصف الكل بها، كما في تفضيل بني إسرائيل على العالمين في زمانهم، حيث إن المعنى ليس هو تفضيل كل واحد واحد مع العلم بوجود مثل قارون والسامري فيهم، بل إن المراد أن التفضيل فيهم من غير أن يكون الكل أفضل .

6 - ثم إنه ورد في مستفيض الروايات بأن حساب الخلق إلى الأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ في يوم القيامة وحساب الأئمة إلى الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم . وقد ذكر المجلسي الأول رضوان الله علیه احتمالات متعددة في شرح هذه الروايات، ومنها أن الله يحاسب الخلق بحضورهم عَلَيْهِم السَّلاَمُ ، ولعله استفاد هذا الاحتمال من قوله تعالى (لِنَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)، وإن كان الأصح هو أنهم عَلَيْهِم السَّلاَمُ هم الذين يحاسبون بإذن الله تعالى

السابع : قوله تعالى ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)

الشهادة قد تكون بصالح المشهود له وقد تكون بضرره، وتوجد في القيامة كلا الشهادتين - كما يظهر من الأخبار - ولكن في الاستعمالات

ص: 112

القرآنية تعدّت الشهادة ب- «على» دون اللام، ولعل ذلك لترغيب الناس إلى الطاعات وإلى اجتناب المعاصي وعدم توهم إمكان التملص عن مسؤولية

الأعمال، فالأعضاء تشهد والملائكة يشهدون والرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم والأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ يشهدون، والله يشهد وكفى بالله شهيداً ، أو لأجل أن الشهيد كالرقيب والمهيمن على المشهود عليه ولذا جيء بكلمة الاستعلاء كما في قوله تعالى ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدُ) (1) ، وقوله (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ) (2) - كذا في الكشاف (3) -.

و كما أن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم و شه يدل على الأمة كذلك لكل أمة شهيد كما قال تعالى ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّتِة بِشَهِيدٍ وَجِتْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا)(4) ، فسائر الأمم يشهد عليهم شهداء منهم مضافاً إلى شهادة الأمة المسلمة.

الثامن: قوله تعالى ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) الآية .

1 - علم الله تعالى عين ذاته، فهو أزلي أبدي لا تغير فيه ولا تبديل فهو يعلم أزلاً المؤمن من الفاسق والشقي من السعيد وأهل الجنة من أهل النار ، ولكن من الظلم العقاب من غير صدور مخالفة، فلذا كان الاختبار.

2 - ثم إن العلم ليس سبباً للفعل مثلاً إنّا نعلم بطلوع الشمس يوم غد - علماً قطعيّاً لا تغير فيه - وعلمنا هذا ليس سبباً لطلوعها، وهكذا كثير من معلوماتنا، وعلم الله تعالى بالمطيع والعاصي ليس سبباً لإطاعتهم أو عصيانهم بل أفعالهم باختيارهم. .

ص: 113


1- سورة البروج، الآية: 9.
2- سورة المائدة، الآية: 7.
3- الكشاف، ج 1، ص728 .
4- سورة النساء، الآية: 41.

3 - وبما أنّ علم الله تعالى من صفات الذات، أي الصفات التي ذاته، فلا يتغيّر هذا العلم باختلاف المعلوم وتغيّره، لأن طرق التغيّر على ذات الله تعالى محال بل علمه قبل الإيجاد نفس علمه بعد الإيجاد، بخلاف علمنا بالمقطوعات فإنّا نعلم بطلوع الشمس غداً، وبعد طلوعها نعلم بأنها طلعت فتغير علمنا حيث كان بأنها ستطلع ثم صار بأنها طلعت ولكن الله تعالى خارج عن الزمان بل هو خالقه، فلذا لا تغيّر في علمه قبل وجود الشيء وبعد وجوده ، وإن كانت الكيفية مجهولة لنا، كما أن كيفية علمه أيضاً غير معلومة لنا، وقد مرّ الإشكال على قولهم بأن علمه ،حضوري، وقد ذكرنا بحوثاً حول علمه تعالى في شرح أصول الكافي فراجع .

ثمّ إن قوله تعالى (لِنَعْلَمَ) يراد به ليتحقق ما علمناه أزلاً، وبعبارة أُخرى ليقع ما علمناه أو يكون المراد لنميز بين تابعي الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وبين المنقلبين على الأعقاب، وإنما جيء بلفظ العلم بدلاً عن التمييز، لأن التمييز يكون بالعلم فلذا جاء بدله ، أو المراد ليعلم أولياؤنا .

التاسع : قوله تعالى (مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) .

«العقب» هو آخر القدم والإنسان المتقهقر يضع عقبه على الأرض حين رجوعه، ولذا شُبّه به المرتد فإنه رجوع إلى الوراء بعد التقدم بالإيمان وكذا الباقي على الكفر فإنه يرجع عن فطرته الأصلية كما قال تعالى (قَدْ كَانَتْ ءَايَاتی تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُم تَنكِصُونَ ) (1) .

وسبب الانقلاب على الأعقاب هو ضعف الإيمان أو إضمار الكفر ، ويظهر في مواقع عدة : .

ص: 114


1- سورة المؤمنون، الآية: 66.

منها في الشبهات الفكرية كما في هذه الآية حيث تغيرت القبلة .

ومنها : في الهزائم العسكرية كغزوة أحد قال تعالى ﴿وَمَا مُحَمَّدُ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْمُ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ) (1) .

ومنها في الأزمات قال تعالى ﴿يَأَايُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ) (2) . حيث قالوا للمؤمنين ارجعوا إلى دينكم السابق تنجوا من المشاكل.

وضرر الانقلاب على الأعقاب يرجع إلى المنقلب، قال تعالى ﴿وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِى الله الشَّكِرِينَ (3)، وقال سبحانه لا تَحْزَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِنَّا لَا تُنصَرُونَ قَدْ كَانَتْ عَايَتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَبِكُمْ تَنكِصُونَ ) (3) .

العاشر : قوله تعالى ﴿إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ).

الله سبحانه وتعالى هدى الجميع بالهداية العامة، وذلك بالفطرة وبإرسال الرسل والتمهيد للإيمان قال تعالى ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (4) ، وقال سبحانه ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) (5) ، وهذه هي الهداية العامة، ومن استجاب لهذه الهداية العامة يهديه الله تعالى بهداية خاصة، قال تعالى ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا)(6) ، ومن رفض .

ص: 115


1- سورة آل عمران الآية: 144.
2- سورة آل عمران الآية: 149. (3) سورة آل عمران الآية: 144.
3- سورة المؤمنون، الآيتين: 65 - 66 .
4- سورة البلد، الآية: 10.
5- سورة فصلت الآية: 17
6- سورة العنكبوت الآية: 69.

الهداية العامة منع الله عنه الهداية الخاصة، قال تعالى ﴿وَاللهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (1) ، وقال سبحانه (وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)(2).

والمهتدي بالهداية الخاصة يكون مسلماً أمره إلى الله تعالى وموطناً نفسه على قبول كل ما صدر عنه تعالى فلذا لا يكون أي حكم ثقيلاً عليه، ولذا قال تعالى ﴿وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ» و«إن» مخففة من الثقلية واللام في «لكبيرة» فارقة للتمييز بين المخففة والنافية .

الحادي عشر : قوله تعالى ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَکُم)

جواب على التساؤل حول الصلوات الماضية التي صليت باتجاه بيت المقدس، وكذلك حال من مضى من الأموات حيث لم يصلوا باتجاه الكعبة، فإن تلك الصلوات كانت بأمر من الله تعالى فلا تذهب سدى بل ثوابها باق.

وقوله (إيمَانَكُمْ) أي صلواتكم الماضية، فسمى الصلاة إيماناً - كما في الرواية(3) - لأن الصلاة عمود الدين ولا يتم الإيمان إلا بها، وكذا لا يضيع الإيمان بالقبلة المنسوخة قبل نسخها، حيث إن الاعتقاد بأوامر الله تعالى فيه الثواب، كما أن الثبات على الإيمان بقبول الناسخ والمنسوخ كله يُثاب عليه الإنسان، وفي الآية تقدير لهم لثباتهم على الإيمان ووعد لهم في الجزاء على إيمانهم الكامل كما فيها إشعار بأن بقاءكم على القبلة السابقة مضيعة للإيمان.

ص: 116


1- سورة البقرة، الآية: 258
2- سورة المائدة، الآية: 108
3- البرهان، ج 2، ص 17.

الثاني عشر : قوله تعالى (إنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمُ).

«الرأفة» هي شدة الرحمة وتستعمل عادة فيما كان سببها العطف والشفقة في حين أن الرحمة قد لا يكون منشؤها ذلك، فقد يرحم الإنسان قاتل أبيه ويعفو عنه مع امتلاء قلبه غيظاً عليه، كما أن «الرأفة)) تستعمل كثيراً في إيصال النفع، والرحمة» في دفع الضرر، كذا تستعمل «الرأفة في المبتلى خاصة والرحمة في الأعم من المبتلى وغيره.

ص: 117

الآيتان 144-145

«قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ »

144

144 - (قَد) للتحقيق ﴿نَرَى تَقَلُّبَ) تردّد (وَجْهِكَ فِي) جهة (السَّمَاءِ) تطلعاً للوحي، حيث كان يعلم رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم بأن القبلة ستتغير فكان منتظراً (فَلَنُوَلِيَنَّكَ) أي نأمرك بأن تتوجه إلى الكعبة، (قِبْلَةً تَرْضَاهَا) تحبّها وتتشوق إليها لوجود المصلحة فيها ، (فَوَلِّ) وَجّه (وَجْهَكَ شَطْرَ) أي باتجاه وتلقاء (الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) حيث توجد فيه الكعبة التي هي القبلة، فالمسجد لكونه محيطاً بالكعبة يتوجّه العبيد إليه، لأن التوجّه إليه توجّهاً إليها ، (وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ) في أي مكان من بقاع الأرض ﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَةٌ) فالقبلة ليست خاصة بالرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم أو بأهل المدينة، ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) علماء اليهود والنصارى (لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ) أي التوجه إلى المسجد

ص: 118

الحرام (الحَقُّ مِن رَّبِهِمْ) لعلمهم بنبوة محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ورأوا في كتبهم ذو قبلتين ولكنهم يكتمون ذلك، (وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) کاعتراضهم على القبلة الجديدة، فيجازيهم على أعمالهم .

145 - ﴿وَ) حيث إنهم يعلمون أنه الحق ولكنهم ينكرونه فهم معاندون ف(لئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) المعاندين منهم (بِکُلِ ءَايَةٍ) حجة ودليل على صدقك وأن القبلة الجديدة بأمر من الله (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) لأن المعاند لا يفيد معه أي دليل، ﴿وَمَا أَنتَ بِتَابع قِبْلَتَهُمْ) لأن الله أمرك بالقبلة الجديدة وهذا لقطع أطماعهم بالرجوع إلى قبلتهم وبيان أن التوجّه إلى الكعبة لا نسخ فيه (وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعِ قِبْلَةَ بَعْضٍ) فاليهود قبلتهم الصخرة في بيت المقدس والنصارى قبلتهم المشرق، وذلك لأن كل طائفة ترى بطلان الأخرى، فهم بباطلهم متمسكون، فأنتم أيها المسلمون أحق بالتمسك بحقكم ولأجل أن ييأس أهل الكتاب من رجوع المسلمين عن الكعبة قال تعالى: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم) في الرجوع إلى القبلة السابقة (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) بالوحي بالتوجه إلى الكعبة (إِنَّكَ إِذَا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) وفي هذا تعظيم للحق، وتحريض على اقتفائه، وتحذير من متابعة أهل الكتاب وهواهم.

---------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى (قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) .

قد هنا إما بمعنى التحقيق كقوله تعالى ﴿قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ

ص: 119

عَلَيْهِ (1) ، وإما بمعنى التكثير أي ربّما نرى، وذلك تكثير للرؤية (2) ، و«التقلب» التردّد والتوجّه إلى الشيء، وسُمّي القلب قلباً لكثرة تحركه أو لكثرة تغيّر الرأي فيه واستعمل التقلب هنا حيث أكثر الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم النظر

إلى السماء حيث إنها مكان نزول الوحي عليه .

وفي تفسير القمي عن الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال : تحولت القبلة إلى الكعبة بعدما صلّى النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم بمكة ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدس، وبعد مهاجرته إلى المدينة صلّى إلى بيت المقدس سبعة أشهر، ثم وجهه الله إلى الكعبة، وذلك أن اليهود كانوا يعيّرون على رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ، يقولون له : أنت تابع لنا، تصلّي إلى قبلتنا فاغتم رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم من ذلك غمّاً شديداً، وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء، ينتظر من الله في ذلك أمراً ، ولما أصبح وحضر وقت صلاة الظهر، كان في مسجد بني سالم قد صلى من الظهر ركعتين، فنزل عليه جبرئيل، وأخذ بعضده وحوّله إلى الكعبة، وأنزل عليه (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) وكان قد صلى ركعتين إلى بيت المقدس وركعيتن إلى الكعبة، فقالت اليهود والسفهاء ﴿مَا وَلَاهُمْ عَن قِبْلَتِهم التي كَانُوا عَلَيْهَا).

وفي بعض الأخبار أن صلاته إليه في المدينة كانت ستة عشر شهراً وفي بعضها سبعة عشر شهراً .

وقيل إن ذلك كان في رجب وقيل في النصف من شعبان.

قوله تعالى (تَقَلُّبَ وَجْهِكَ ﴾ . التقلب هو التردد، حيث كان .

ص: 120


1- سورة النور، الآية: 64 .
2- للتفصيل في معنى (قد)، راجع مغني اللبيب ج 1، ص231.

رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ينظر إلى أقطار السماء وذلك تطلعاً للوحي وانتظاراً لتغيير القبلة، ولعل ذلك لأنه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم كان يعلم أن القبلة ستتغير إلى اتجاه الكعبة (1) ، فكان منتظراً زمان تشريع التغيير وكان في كتب أهل الكتاب ، أنه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم يصلي إلى القبلتين (2) ، ولكنه لم يتكلّم بشيء وذلك تأدباً أمام الله تعالى وانتظاراً لأمره، لأنه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم لم يكن يقترح شيئاً على الله تعالى، بل كان مُسلّماً أمره إليه سبحانه في كل صغيرة وكبيرة، فعن الإمام زين العابدين أنه قال : إن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم لا يقترح على ربّه عزّ وجل ولا يراجعه في شيء يأمره به (3).

وروي أن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ في يوم النهروان كان ينظر إلى السماء تارة وإلى الأرض أخرى كأنّه ينتظر أمراً ، وكان يقول: «ما كذبت ولا كُذبت حيث إنه أخبر أصحابه بأن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم أخبره بمقتل ذي الثدية فكان ينتظر تحقق ما أُخبر به (4).

ولعل هذا التقلب كان دعاءً من الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم بلسان الحال فإن ذلك أقرب إلى أدب العبودية - كما قيل _.

قوله تعالى (في السَّمَاءِ) تقلب وجهه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم في السماء - مع أن الله -تعالى محيط بالمكان وليس في المكان - لأجل أن الوحي كان ينزل من السماء، حيث إن جبرئيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ يتلقى الأمر وهو في السماء ثم ينزل به إلى رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم في الأرض.

الثاني : قوله تعالى (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةٌ تَرْضَهَا). .

ص: 121


1- مجمع البيان، ج 1، ص 577 .
2- الجوهر الثمين ج 1 ، ص 157 .
3- وسائل الشيعة، ج 4، ص 16 - 17 .
4- بحار الأنوار: ج 33، ص 404 .

ليس في الآية دلالة على أن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم كان ساخطاً على القبلة السابقة ، لأنه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم كان راض بكل أمر نزل من الله سبحانه وتعالى، بل المعنى هو زيادة الرضا، كقوله تعالى ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرَضَى﴾ (1) فإن الرضا - ككل الصفات النفسية - له درجات .

وأيضاً فقد كان الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم يحب أن ينتشر دين الله تعالى وأن لا تكون حجة على هذا الدين ولا يريد تعيير اليهود لدين الله، وكان يعلم بأن الله سبحانه وتعالى يريد ذلك ويحبه فلما علم أن رضا الله في ذلك فلذلك كان يرضى بالقبلة الجديدة لأنها من رضاه سبحانه، وقيل: لأنها قبلة أبيه، وأدعى لاتباع العرب إياه وأبعد لشبهات اليهود ولمخالفتهم والحاصل أن رضا الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم لم يكن بسبب الهوى بل لأجل مصلحة دین الله مع علمه برضاه تعالى بذلك.

قوله تعالى (فَلَنُوَلْيَنَّكَ). أي نأمرك بأن تتوجه إليها، وفي المفردات (توّلى» إذا عُدّي بنفسه اقتضى معنى الولاية وحصوله في أقرب المواضع منه ، يقال : وليت سمعي كذا، وولّيت عيني كذا، ووليت وجهي كذا : أقبلت عليه ... وإذا عُدّي ب- (عن) لفظاً أو تقديراً اقتضى معنى الإعراض وترك قربه (2) .

الثالث : قوله تعالى ﴿فَوَلِ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ).

في البداية تمّ أمر الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم و بأن يتوجه إلى القبلة ثم أمر الجميع بذلك، وتخصيصه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم بالذكر أولاً ، تشريف له وبيان أن الله تعالى استجاب دعاء الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ..

ص: 122


1- سورة الضحى، الآية: 5.
2- مفردات الراغب ص 886.

فإنّه سبحانه قد يريد أمراً ولكنه يجعل أحد أوليائه طريقاً إلى أمره لبيان منزلته، وليجعل له حقاً على سائر الناس، كما جعل الإمامة في ذرية إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ استجابة لدعائه عَلَيْهِ السَّلاَمُ حيث قال (وَمِن ذُرِّيَّتِي).

قوله تعالى (وَجْهَكَ). المراد به مقاديم البدن، وإنما ذكر الوجه لأنه أشرف المقاديم وبه يتوجّه الإنسان إلى الآخرين، ولعل فيه إشعاراً بلزوم حضور القلب والتأدب في العبادة بعدم الالتفات يميناً وشمالاً.

قوله تعالى (شَطْرَ) للشطر معنيان: أحدهما: الجزء من الشيء، والآخر : قصد الشيء وجهته عن بُعد، وكلا المعنيين ممكن في الآية، لأن القبلة هي الكعبة وهي جزء من المسجد الحرام، وكذا البعيد عن يتوجّه إلى جهة المسجد الحرام، لأنه إذا توجّه إلى المسجد فقد توجّه إلى الكعبة، حيث إن المسجد محيط بها .

ولعل الآية تضمنت علة ترجيح الكعبة على بيت المقدس :

1 - حيث إنها في المسجد والقبلة السابقة إما بيت المقدس وهي مدينة أو أن القبلة كانت الصخرة وهي خارج المسجد والكعبة هي داخل المسجد فكانت أشرف، مضافاً إلى أن الكعبة بناء إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ والصخرة هي تل طبيعي كسائر الصخور لا خصوصية لها .

2 - وإن المسجد شرفه الله بأن جعله (حراماً)، يحرم القتال فيه ويحرم صيده وقلع نباته ولا يُتعرّض لمن التجأ إليه حتى وإن كان ظالماً ، ولا توجد هذه الخصوصية في بيت المقدس، فكانت الكعبة أولى.

الرابع: قوله تعالى ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِم).

ص: 123

علمهم بأنه حق من جهات :

1 - لوجوده في كتبهم وأنه يصلّي إلى القبلتين (1) ، فكان تغيير القبلة آية اخرى على صدق الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم حيث انطبقت عليه هذه البشارة أيضاً ، ولذلك قال تعالى ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ)... مع أن المشركين أيضاً كانوا يعلمون بذلك، لكن تخصيص أهل الكتاب بالذكر لأجل وجوده في كتبهم ولأنهم كانوا المعيرين والمحتجين .

2 - لعلمهم بصدق رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم لما وجدوه مكتوباً في كتبهم ولمشاهدتهم الآيات المعجزات، ولكنهم لم يؤمنوا به وحسداً ورغبة في حطام الدنيا . ويؤيد هذا قوله تعالى في الآية (الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) (2) فكانوا يعلمون أنه رسول من الله تعالى، فلا محالة يكون تحويله للقبلة ليس من قبل نفسه وإنما بأمر من الله تعالى.

3 - ولعلهم كانوا يعلمون تاريخ الكعبة وبأن إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ بانيها ولم يكن بناؤها في صحراء جرداء خالية عن السكان اعتباطاً بل بأمر من الله تعالى، ولغرض صحيح - وليس إلَّا لتكون قبلة -

ولا يخفى أن هذا الأسلوب من الكلام فيه تبكيت(3) للخصم وتقوية للحجة، حيث يقال للمنكر المعاند : (إنك تعلم بصحة ما نقول) - مثلاً -، وهو أسلوب نفسي مؤثر، إذ يجعل الخصم يتلجلج في احتجاجه - حتى وإن كان معانداً - فيظهر ذلك لسائر الناس، ويقوى احتجاج المحق ولزيادة تبكيتهم قال تعالى (الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ) ولم يقل (ربك) أو (ربي) أو .

ص: 124


1- الجوهر الثمين ص 157 .
2- سورة البقرة، الآية: 146
3- التبكيت هو الغلبة بالحجة.

(الرب)، فالرب الذي آتاهم الكتاب هو الذي أمر رسوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم بالتوجه إلى الكعبة .

الخامس : قوله تعالى ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) .

الغفلة : هو ترك الشيء إما للجهل به وإما تركه عمداً لعدم الاعتناء ،به والمقصود أن الله تعالى لا يجهل أعمالكم وأنه لا يترككم من غير جزاء، بل هو عالم بأفعالكم وسيجازيكم عليها .

وهذا وعيد لهم حيث عارضوا الحق مع علمهم به كي لا يتصوروا أنهم محفوظون عن عذابه سبحانه وتعالى، وفي هذا تسكين لخاطر الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم والمؤمنين، بأن هؤلاء اليهود سيجازون بمعارضته للرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم .

السادس : قوله تعالى (بِكُلِّ ءَايَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ).

الآية - كما مرّ - هي البرهان الواضح سواء كان حجة بالقول أم بالمعاجز الأخرى والمراد أهل العناد من أهل الكتاب، فإن المعاند هو الذي يعلم الحق ولكن يجحده ويأبى أن يقبله، فهذا لا تنفع معه أية حجة، لأن الحجة إنما يؤتى بها لإقناع الجاهل وإراءة الحق له، فإذا كان مستيقنا في نفسه فلا فائدة للاحتجاج معه - اللهم إلا إذا كان لإتمام الحجة بمعنى عدم فسح مجال له لادّعاء الجهل مستقبلاً - قال تعالى (الْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَارٍ عَيْدٍ) (1) ، وقال (كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لايَاتِنَا عَنيداً) (2) .

ومنشأ العناد هو بعض الرذائل النفسية كالكبر والحسد وحب .

ص: 125


1- سورة ق الآية: 24 .
2- سورة المدثر الآية: 16 .

الحطام الدنيوي مع خوف زواله لو ترك العناد وفي الآية بيان أن تغيير القبلة لم يكن سبباً لمخالفتهم للإسلام، فحتى لو بقيت القبلة باتجاه بيت المقدس ما كانوا ليؤمنوا بل كان ذلك يزيدهم عتوّاً عبر طعنهم بالإسلام وتعييرهم ،المسلمين فالسبب لمخالفتهم هو أمر آخر وهو عنادهم واستكبارهم عن آيات الله تعالى .

وفي هذا بيان للمسلمين بأن لا يهتموا بمعارضة أهل الكتاب لتشريعات الإسلام، وأن لا يحابوهم كسباً لرضاهم، فإنهم لا يرضون بأقل من اتباع ملتهم كما قال (وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَتَهُمْ) (1) ، وفي الآية أيضاً قطع لأطماع أهل الكتاب بمداهنة المسلمين لهم، قيل : إنهم قالوا : لو ثبت على ديننا رجونا أن يكون صاحبنا الذي ننتظره، غرضهم خداع الرسول والمسلمين ليرجعوا إلى القبلة الأولى. ولذا قال تعالى ﴿وَمَا أَنتَ بِتَابِع قِبْلَتَهُمْ) ، فلا نسخ لحكم التوجه إلى الكعبة، والمبطل إذا كان طامعاً فى المؤمن فإنه يكثف محاولاته من مختلف الاتجاهات مما قد يتسبب في إزعاج المؤمنين أو يؤثر في بعض ضعاف النفوس، ولكنه إذا يأس من تأثيره في المؤمنين فقد يترك محاولاته فيرتاح المؤمن من وساوسه ومؤامراته قال تعالى ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ﴾ (2) فقد فرّع الله تعالى عدم الخشية من الكفار على يأسهم .

وقوله (قِبلَتَكَ) و (قِبلَتِهُم) تأكيد على تمايز القبلتين فالكعبة لیست قبلتهم بل قبلتك يا رسول الله وبيت المقدس ليست قبلتك من الآن بل قبلتهم فقط . .

ص: 126


1- سورة البقرة الآية: 120
2- سورة المائدة، الآية: 3.

السابع : قوله تعالى ﴿وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) .

جيء بهذه الجملة المعترضة لبيان أنه لا يمكن كسب رضا أهل الكتاب أصلاً حتى لو بقيت القبلة باتجاه بيت المقدس.

وذلك للتناقض بين أهل الكتاب أنفسهم، فالنصارى لا يقبلون قبلة اليهود بل يتوجّهون إلى المشرق واليهود يرفضون قبلة النصارى ويتوجّهون إلى بيت المقدس، فكيف يمكن إرضاء جميع أهل الكتاب - على تناقضهم ؟

كما أن في الآية إشعاراً بإمكان جعل الكعبة قبلة، حيث لا توجد قبلة موحدة، فإن أهل الكتاب قبلتهم متعددة، فلا إشكال في جعل قبلة أخرى للمسلمين .

وأيضاً تقوية لنفسية المسلمين حيث يقال إن أهل الكتاب - على باطلهم - كل فرقة منهم متمسكة بقبلتها ولا تتبع قبلة الطائفة الأخرى، فأنتم أيها المسلمون أجدر بالتمسك بقبلتكم وهي الحق من ربكم.

الثامن: قوله تعالى ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم ...).

الجملة الشرطية صادقة حتى مع عدم تحقق الشرط والجزاء، كقوله ال (إِن كَانَ لِلرَّحْمٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ (1) فهذه جملة شرطية صادقة مع أن الشرط لم يتحقق حيث لا ولد للرحمن تعالى وكذا الجزاء لم يتحقق حيث إن الرسول لم يعبد غير الله تعالى وذلك لأن الجملة الشرطية هي لصرف ارتباط الشرط والجزاء، ففي هذه الآية الجملة حق مع أن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم و لم يتبع أهواءهم، ولم يكن من الظالمين.

ص: 127


1- سورة الزخرف، الآية: 81

والغرض من هكذا جملة شرطية أمور منها :

1 - تحذير للمسلمين لكي لا يتبعوا أهواء أهل الكتاب، فإن القرآن نزل على طريقة (إياك أعني واسمعي يا جارة) كما في الأحاديث (1) ، أي يوجه الخطاب للرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم مع أن المقصود غيره، والقصد هو بيان شناعة الأمر، ولكي لا يتصور أحد أنه مستثنى فإن جميع المسلمين يقرون بأن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم أفضل منهم ومع ذلك لم يستثن فلا مجال لتوهم استثناء بعض الأشخاص.

2 - لأجل أن ييأس أهل الكتاب عن رجوع المسلمين عن الكعبة كما ذكرنا قبل قليل ..

3- بيان أن الاستمرار على الحكم المنسوخ إنما هو من الأهواء، فقبلتهم بالهوى لا بالحق بعد نسخها، وأن القبلة الجديدة إنما هي بوحي من الله تعالى لا بالهوى، لذا قال (مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ).

4 - وللدلالة على أن اتباع أهوائهم من الظلم والتابع يكون من الظالمين، فليس ذلك من المداراة في شيء بل هو مداهنة بالباطل ، قيل : هذا تأكيد للوعيد، وتعظيم للحق، وتحريض على اقتفائه، وتحذير من متابعة الهوى واستعظام لصدور الذنب من الأنبياء. .

ص: 128


1- أصول الكافي: ج 2، ص 631 ، والبحار ج 89، ص 382.

الآيات 146-148

«الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)».

146 - كما يعرف أهل الكتاب أن التوجّه إلى الكعبة حق من الله ، كذلك (الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) علماء اليهود والنصارى (يَعْرِفُونَهُ) أي يعرفون محمداً صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وأنه رسول من الله (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ) ، لأن أوصافه المذكورة في كتبهم كانت دقيقة توجب اليقين بانطباقها عليه ، ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ) الحق المبين في الكتب السابقة، وفريق آخر عوام أميون لا يعرفون الكتاب إلّا أماني وفريق ثالث - وهم أقل القليل - آمنوا به ولم يكتموا الحق، وأما الكاتمون فليس كتمانهم عن جهل بل يكتمون (وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنه الحق، وما ذلك إلا لعنادهم حسداً وتكبراً، فليس عذر هؤلاء الجهل حتى يرجى زواله .

147 - ولكن لا تهتم بكتمانهم الحق إذ (الْحَقُّ) الذي يكتمونه ومِن رَّبِّكَ وهؤلاء الكاتمون لا يتمكنون من فعل شيء أمام إرادة الله

ص: 129

تعالى بل يضرون أنفسهم ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي الذين يكثرون الجدال مع هؤلاء، إذ ليس عذرهم الجهل حتى يرجى زواله بالجدال، بل هم معاندون فلا علاج لهم .

148 - (وَ) لا ضير في كون الكعبة قبلة إذ (لِكُلِّ) من المسلمين وأهل الكتاب وغيرهم وجَهَهُ أي ما يُتوجه إليه - وهو القبلة - (هُوَ) أي الله تعالى (مُولِّیها) أي أمرهم بالتوجه إليها، ولكن حين نسخ أية قبلة يلزم على الجميع التوجّه إلى القبلة الجديدة فوراً (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) بأن تبادروا إلى القبلة الجديدة فإنها «السَّبَق» أي الجائزة التي يأخذها السابق ولا يتوهم أحد بأنه لا يُجازى إذا خالف أو أطاع أمر الله في القبلة الجديدة، فإنه (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعًاً) في يوم القيامة حيث الجزاء الأوفى، وكذا في الدنيا لمن استبق الخيرات، ولا تتعجبوا من الإتيان بكم جميعاً إذ (إنَّ اللَّهَ عَلَى کُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يعجز عن جمعكم.

---------------------------

بحوث

الأول: قوله تعالى (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُم).

المعرفة - كما مرّ - هو العلم بالشيء عبر أوصافه، فإذا رأى الشيء علم بأنه نفس الموصوف حينما يرى تتطابقه مع الوصف، ولذا كانت معرفة الله عن طريق العلم بصفاته، وكلما كان هذا العلم أكثر كانت المعرفة أقوى، وكذا معرفة الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم والأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ.

ص: 130

وأهل الكتاب كانوا قد قرؤوا تفصيل أوصافه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم في كتبهم كما قال تعالى (الَّذِى يَجِدُونَهُ، مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنِجيلِ) (1) .

وهذه الآية بيان لدليل آخر على صحة تحويل القبلة ففي الآية (144) ذكر علم الذين أوتوا الكتاب بأن القبلة الجديدة حق لذكرها في كتبهم _كما مرّ_ ، وفي هذه الآية ذكر دليل آخر، وهو أنهم يعرفون رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم معرفة قطعية وأنه رسول من الله فلذا يكون كل تشريع أتى به إنما أتى من الله تعالى فهو الحق .

وقيل يَعْرِفُونَهُ أي هذا الحكم أو القرآن أو العلم - الذي هو الوحي من السماء المذكور في الآية السابقة ، لكن كل ذلك خلاف الظاهر وخلاف سياق الآيات المباركة .

ثم إن قوله (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) للدلالة على عدم خطئهم في أمر الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ، فكما لا يشتبه الأب في أبنائه كذلك هؤلاء كانوا يعلمون علم اليقين بصحة نبوة محمد رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم .

الثاني : قوله تعالى (الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ) .

بعد أن بيّن الله تعالى كتمان الذين أوتوا الكتاب أراد أن يقوي قلوب المؤمنين، وأن كتمان أولئك لا يضر بهم ولا بدينهم، وذلك لأن ما عليه المسلمون هو الحق الذي نزل من عند الله تعالى وهل يضر الحق كتمان الكاتمين؟ وهل يتمكن الكاتمون من غلبة إرادة الله تعالى؟ كلا، فما دام الأمر من الله وأنه الحق فيلزم على المؤمنين إبعاد الشك والريب عن قلوبهم وعدم المراء والمجادلة بالباطل.

ص: 131


1- سورة الأعراف الآية: 157

قوله (الْحَقُّ) يراد به نوع الحق، أي كل حق إنما هو من الله تعالى، لأنه تعالى هو الحق المطلق كما قال ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ) (1).

وكل حق فإنما هو يرجع إليه تعالى سواء كان في التكوين كما قال (خَلَقَ السَمَاواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) (2) ، أم في التشريع كما قال (إِنَّا أَنزَلْنَا ، الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ) (3).

وكلّ ما للناس من حق فهو منه تعالى فيكون النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم والقرآن والقبلة من مصاديق الحق الذي هو من جانب الله تعالى وقد مرّ أن كل كمال فهو الله تعالى ومن الله سبحانه قال (أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (4).

الثالث قوله تعالى ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) .

مادة (م ري) تكون بمعنى التردد ولذا كانت (المرية) بم الشك، والمراء) المحاجة والجدال فيما فيه مرية.

وذلك لأن كثرة الشبهات والتهجمات وكذلك الجدال بالباطل، قد توجب الشك في النفس، قال تعالى ﴿وَلَوْلَا أَن ثَبِّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا) (5) ، وفي التبيين (6) (وَإِن) مخففة من الثقيلة (كَاُدواْ) قارب الكفار (ليفتِنُونَكَ) يضلوك (عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) من الشرائع والعقائد - وهذا كناية عن شدة كيدهم - (لِتَفْتَرَى عَلَيْنَا غَيْرَهُ) غير الذي .

ص: 132


1- سورة الحج، الآية: 62 .
2- سورة الزمر، الآية: 5.
3- سورة الزمر، الآية: 41 .
4- سورة فاطر، الآية: 15 .
5- سورة الإسراء، الآية: 75
6- تبيين القرآن: ص 301.

أوحينا إليك، ﴿وَإِذَا) لو اتبعت مرادهم (لا تَخَذُوكَ خَيلاً) وليّاً لهم، ﴿وَلَوْلَآ أَن ثَبَّتْنَاكَ) على الحق بالعصمة (لَقَدْ كِدتَّ) قربت ﴿تَرْكَنُ) تميل (إِلَيهِمْ) إلى الكفار (شَيْئًا) ركوناً (قَلِيلاً)، لكن العصمة منعت عن ذلك .

قيل : (الْمُمْتَرِينَ﴾ أي الشاكين في أن الحق من ربك، وقيل: الشاكين في كتمانهم الحق ، وقيل : تحقيق الأمر بحيث لا يشك فيه أي أن الحق من الوضوح بحيث لا يشك فيه أي عاقل .

وهذا إرشاد للأمة بلسان الخطاب إلى الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم، باعتباره رسولاً إلى هذه الأمة، كما يخاطب كبير قوم بأمر يراد به قومه، وقد مرّ أن هذه الخطابات من قبيل إياك أعني واسمعي يا جارة).

الرابع: قوله تعالى ﴿وَلكُلِ وِجْهَةُ هُوَ مُولياً) .

في معنى هذه الآية وجوه :

1 - لكل قوم قبلة، كما أن لكل قوم شريعة، فلا مشكلة في أن تكون للمسلمين قبلة خاصة بهم، كما قال تعالى ، كما قال تعالى (لِكُلِّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَآءَ اللَّهَ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلٰكِن ليَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءَاتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (1)، وكما يشاهد فإن هناك تطابقاً بين الآيتين.

2 - لكل طائفة من المسلمين - في شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها - جهة يتوجهون إليها، وكلّها تنتهي إلى الكعبة المشّرفة.

3 - ولعله إشارة إلى الهداية ،والضلال فإن الله هدى فريقاً فقبلوا

ص: 133


1- سورة المائدة، الآية : 48 .

الحق - ومنه التوجّه إلى الكعبة ، وأضلّ فريقاً آخر فجحدوا الحق واستمروا في التوجّه إلى القبلة المنسوخة، فوجه الله كل فرقة إلى جهة وقد مرّ أن كون الهداية والإضلال من الله تعالى لا ينافي الاختيار، فقد هدى مَن كان قابلاً للهداية بحسن اختياره وأضلَّ مَن لم يكن قابلاً لها لسوء اختياره.

ولعلّ الغرض من هذه الآية - كما قيل - هو أن يكف المسلمون من المجادلة مع أهل الكتاب المعاندين في أمر القبلة، بل يتوجهوا إلى العمل، فإن الجدال المعاند هدر للوقت وللطاقات وبالعمل يدحض الإنسان المبطل وحججه فالجدال إنما هو لإحقاق الحق، لا للمراء، ولذا كان قوله (وَلِكُلِّ وِجْهَهٌ هُوَ مُوَلِیهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) بعد قوله تعالى ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ).

و (الوجهة) هي ما يتوجّه إليه، فتكون القبلة من مصاديق الوجهة .

و (هُوَ مُوَلِیهَا) الأظهر أن ضمير «هو» يرجع إلى الله تعالى، وقيل: الضمير يرجع إلى (لِکُلٍّ) أي لكل شخص جهةٌ، ذلك الشخص يولّي نفسه تجاهها.

الخامس : قوله تعالى (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)

(الاستباق) هو المبادرة إلى الشيء لأخذ (السَّبَق) وهو الجائزة التي تعطى للسابق .

و(الْخَيْرَاتِ) كل حسن ذاتاً أو عرضاً ويجمعه : كل أمر فيه رضا الله تعالى، فمن مصاديقه التوجّه إلى الكعبة في الصلاة - وهو مورد هذه الآيات ، ومن مصاديقه الولاية كما عن الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ (1) ، ومن المصاديق .

ص: 134


1- البرهان ج 2، ص 22 عن الكافي ج 8، ص 313 - 487 .

الطاعات، ومنها الثواب - دنيويّاً كان أم أخرويّاً - لأن هذه الأمور كلها من الخيرات وهي السَبَق والجائزة التي يأخذها العبد المطيع بمبادرته .

وحاصل معنى الآية: هو دعوة المسلمين إلى عدم الانصياع إلى تشكيكات أهل الكتاب، وأن يبادروا إلى قبول أمر الله تعالى ويتركوا الحكم المنسوخ.

السادس : قوله تعالى (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً).

هذا كالجزاء للاستباق إلى الخيرات كما أنه وعيد لأهل الكتاب على مخالفتهم أمر الله تعالى فيقول إنكم إن استبقتم إلى الخيرات وأطعتم الله تعالى فإنه لا تذهب أعمالكم سدى، بل هناك يوم تجازون فيه على عمالكم، فيجمعكم الله تعالى في يوم القيامة ولا تتمكنون من الفرار من ،عدله فإن الله على كل شيء قدير، ومن قدرته هو جمعكم للجزاء.

ثم إن هذا الجزاء قد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة:

أما في الدنيا : فقد استفاضت الروايات في أن الآية في أصحاب الإمام المهدي عَلَيْهِ السَّلاَمُ حيث يجمعهم الله تعالى في ليلة واحدة في مكة مع تفرقهم في الأمصار (1) ، منها ما عن الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال : (يعني أصحاب القائم عَلَيْهِ السَّلاَمُ مائة والبضعة عشر رجلاً قال هم والله الأمة المعدودة، قال : يجتمعون والله في ساعة واحدة قزَعاً كقزع الخريف) - يعني قطعاً كقطع السحاب المتفرقة - وهذا تفسير بالمصداق أو تأويل للآية الكريمة، ولعلها تشمل من يُحييه الله تعالى في الرجعة . .

ص: 135


1- راجع الروايات في تفسير البرهان ج2، ص 20 - 31.

وأما في الآخرة فالجمع في المحشر ليجازي المطيع بحسن عمله والعاصي بسوء عمله .

وقيل : المعنى: أينما تكونوا من الجهات المختلفة يأت بكم الله جميعاً يجمعكم ويجعل صلواتكم كأنها إلى جهة واحدة وكأنكم تصلون حاضري المسجد الحرام (1) ، وهذا خلاف الظاهر . .

ص: 136


1- الكشاف ج 1، ص 157 .

الآيتان 149-150

اشارة

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150))

149 - (وَمِنْ حَيْثُ) من أي بلد (خَرَجْتَ) للسفر ﴿فَوَلِ وَجْهَكَ )توجّه بها (شَطْرَ) جهة (الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) في الصلاة، (وَإِنَّهُ) أي اعلم أنّ هذا التشريع (للْحَقُ) الثابت الذي لا ينسخ (مِن رَّبِّكَ) فأطيعوه لأنه عالم بكم وسيجازيكم على أعمالكم (وَمَا اللهُ بِغَفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

150 - وبعد ذكر حكم الحضر والسفر أراد الله تعالى بيان علة هذا التشريع فذكر الحكم مرة أخرى ثم بيّن العلة ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ) في برّ أو بحر أو جوّ، في سفر أو حضر (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) شطر المسجد الحرام، وعلة هذا التشريع :

أ - (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ) أي المشركين أو الأعم منهم ومن أهل

ص: 137

الكتاب (عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) فيقول المشركون كيف يدعي ملة إبراهيم وهو يخالف قبلته، فبتغيير القبلة تدحض حججهم (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) فإنهم ،معاندون والمعاند لا ينصاع إلى الحق أبداً ويستمر في لجاجه وعناده وتشكيكه، ولكنكم أيها المسلمون لا تهتموا (فَلَا تَخْشَوْهُمْ) أي لا تخافوهم فإن عنادهم لا ينطلي على الناس فحجتهم داحضة (وَاخْشَوْنِي) باتباع أوامري فإن الخشية إنما هي من الحكيم القادر لا من المبطل العاجز .

ب - (وَلأُتِمَّ) أكمل (نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) فإن كل حكم من أحكام الله نعمة على العباد وفي طريقهم إلى الكمال، والقبلة - وهي من أهم التشريعات - هي في طريق إكمال النعمة.

ج_(وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) لأن تشريف الإنسان بشيء يقربه إلى ذلك الشيء ويحببه إليه فيكون من أسباب هدايته.

---------------------------------

بحوث

الأول : ذكر حكم التوجه إلى الكعبة ثلاث مرات في قوله (قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) ، وقوله ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَاءِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ

ص: 138

شَطْرَهُ)، وليس ذلك من التكرار وإنما الغرض يختلف في كل آية عن الأخرى، ف:

1 - الأولى : لأصل تشريع الحكم في الحضر، والثانية : بيان الحكم في السفر والثالثة جامعة بين الآيتين لبيان علة هذا التشريع.

2 - الأولى : في مقابل أهل الكتاب وأنهم يعلمون أنه الحق، وأنهم إذا أنكروا وكتموا فليس الله بغافل عنهم وسيجازيهم، والثانية: بيان للمسلمين وأنه الحق وأن الله سيجازيهم لو أطاعوا، والثالثة في مقابل المشركين وأنهم لا حجة لهم وإذا أرادوا المؤمرات بعد دحض حجتهم فلا خشية منهم .

3 - الأولى : لتعظيم الرسول وبيان أهمية مرضاته، فإذا كان الله يطلب رضاه فعلى الناس كسب رضاه والثانية : لبيان سنة الله في أن يولي أهل كل ملة وجهة يتميزون بها والثالثة لدفع حجج المخالفين.

وهذا نظير تكرار المبتدأ لتعدد الخبر كما يقال زيد عادل زيد عالم زيد مجتهد، وكتكرار الأمر لتعدد علته كما يقال : أطع الرسول لأنها إطاعة الله، وأطع الرسول لأنه لا يقول إلا الحق ، وأطع الرسول لعظيم حقه عليك . . . . وهكذا .

4 - ولأهمية أمر القبلة وصعوبة قبول النفوس تغييرها فكان من الجدير ،التأكيد، ففي البداية يُؤمر الرسول بأن يتوجّه إلى الكعبة ثم يعمم الحكم للجميع ، وذلك يُسهل الأمر على الأتباع ، ثم تخصيص كل طائفة بمقطع.

فلأهل الكتاب المقطع الأول (قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ

ص: 139

فَلَنُوَلِيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ» مع بيان أنهم يعلمون أنه الحق .

وللرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وللمسلمين مقطع (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ، ولذا قال تعالى ﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ، فاستعمل ضمير المخاطب في ﴿رَبِكَ) في حين استعمل في الآية الأولى ضميراً يرجع إلى أهل الكتاب ﴿رَبِّهِمْ).

ومقطع ثالث للناس - بما يشمل المشركين والمنافقين - ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَاءِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتمَّ نِعْمَتي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

الثاني : قوله تعالى (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةُ).

الناس هنا عام يشمل حتى المشركين والمنافقين، وقيل:

1 - المشركون يقولون : بأن محمداً كيف يدعي ملة إبراهيم وهو يخالف قبلته؟

2 - اليهود يقولون : النبي الموصوف في التوراة قبلته الكعبة، ومحمد قبلته بيت المقدس فليس هو ذاك ! !

3 - والمنصفون منهم يقولون ما له لا يتحوّل إلى قبلة أبيه إبراهيم كما هو مذكور في التوراة، كما أن فيها أنه ذو قبلتين!!

وحيث وصل الأمر إلى احتجاج هؤلاء، انتهت مصلحة الحكم بالتوجّه إلى بيت المقدس، لأن أهم قوة للإسلام هو حجته، ولن يجعل

ص: 140

الله للكافرين على المسلمين سبيلاً في حجة ولا في تشريع، فلذا اقتضت المصلحة نسخ القبلة السابقة وتشريع التوجّه إلى الكعبة المشرفة، قال تعالى (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) (1).

الثالث : قوله تعالى (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ).

أي المعاندون، فإن المعاند لا يجادل لأجل قبول الحق، بل جداله للتعنت ولإطفاء نور الحق فهو يجادل على كل حال، فاليهود لما كانت القبلة باتجاه بيت المقدس كانوا يحتجون على المسلمين بأنهم ذيليين ويعيرونهم بذلك، فلما تغيرت إلى الكعبة قالوا : ما تحوّل إلى الكعبة إلَّا ميلاً إلى دين قومه وحبّاً لبلده.

والمشركون كانوا يحتجون بأنه يخالف قبلة إبراهيم ويدعي ملته ، ثم قالوا . رجع إلى قبلة آبائه، ويوشك أن يرجع إلى دينهم (2).

والمعاند يجادل بالباطل دائماً كما قال سبحانه ﴿وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقِّ وَاتَّخَذُوا ءَايَتِي وَمَا أُنذِرُوا هُرُواً) (3).

والاستثناء فى (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) :

1 - وإما متصل، إذا كان معنى (الحجة) الجدال، فالمعنى لئلا يجادلكم الناس إلَّا الظالمين فإنهم يجادلونكم على كل حال .

2 - وإما متصل والاستثناء للمبالغة في نفي حجة إذ لا حجة للظالم (4)..

ص: 141


1- سورة الأنعام، الآية: 149
2- الجوهر الثمين ج 1 ، ص 161 .
3- سورة الكهف، الآية: 56.
4- الجوهر الثمين، ج 1، ص 161 .

قال في مجمع البيان: إن كان على المؤمنين حجة فللظالم في احتجاجه وليس للظالم حجة، فإذاً ليس عليهم حجة (1) .

3 - وفي تفسير القمي: يعني : ولا الذين ظلموا منهم، و(إلا) في موضع (ولا) ، وليست هي استثناء(2) .

وفي مغني اللبيب في معاني (إلا) : أن تكون عاطفة بمنزلة الواو، في التشريك في اللفظ والمعنى، ذكره الأخفش والفراء وأبو عبيدة وجعلوا منه قوله تعالى (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ (3).

الرابع : قوله تعالى ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَأَخْشَوْنِي) .

(الخشية) هي الخوف المقترن بالتعظيم وفي المفردات: الخشية خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يُخشى منه (4) .

والمقصود بيان لزوم عدم الخوف من الظالمين الذين يجادلون بالباطل وذلك لأنهم ضعاف في الحجة وضعاف أمام الله تعالى، فإنهم لا يكذبونكم بل يكذبون الله تعالى في أحكامه وسيجازيهم على فعلتهم قال

تعالى ﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْخِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) (5).

ومنشأ الخشية منهم :

1 - الخوف من حجتهم، ولكن بعد وضوح بطلانها لا سبب للخوف منهم.2

ص: 142


1- مجمع البيان ج 1 ، ص 589.
2- البرهان ج 2، ص 31 .
3- المغني ج 1، ص 101 .
4- المفردات، ص 283.
5- سورة غافر، الآية 5. 142

2 - الخوف من طعنهم واستهزائهم، ولكن بعد قوة حجة المسلمين لا خوف من الاستهزاء والطعن، بل هو علامة ضعفهم ودحض حجتهم.

3 - الخوف من مؤامراتهم العسكرية، فإنه يخشى ممن تدحض حجته وهو معاند حيث سيعوض عن هزيمته الفكرية بالمؤمرات ونحو ذلك، فتأمل.

ولكن الإنسان إذا علم أن الله أراد منه شيئاً فعليه أن يُعظم الله تعالى ويخاف مغبة مخالفته فلا يحاول المداهنة لكسب رضا المبطلين قال تعالى ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (1).

الخامس : قوله تعالى ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ).

(التمام): انتهاء الشيء وكماله بحيث لا يحتاج إلى شيء خارج عنه .

و(النعمة) : الحالة الحسنة - في الإنسان فقط ..

والتشريعات الإلهية جاءت بالتدريج، فكان كل تشريع خطوة نحو إكمال الدين - الذي هو أعظم النعم على الإنسان ، فكانت القبلة من أهم الخطوات نحو هذا الهدف.

فإن نعم الله تعالى كثيرة لا تحصى، فرزق الله الناس نعماً مادية لكي يتخذوها طريقاً إلى كمالهم المعنوي، قال تعالى ﴿وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلالاً وجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانَاً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بأسَكُم كَذَالِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ 1

ص: 143


1- سورة الأنعام، الآية: 121

تُسْلِمُونَ ﴾ (1) ، فالنعم المادية تامة على الإنسان من غير نقص، وإنما أتمها الله ليفكر الإنسان فيسلم، فينال السعادة الأبدية.

ثم في التشريع جاءت الأحكام - وهي من أعظم نعم الله - تدريجاً وكل حكم طريق إلى إكمال النعمة، ومن جملتها أحكام الطهارة - من الوضوء والغسل والتيمم - فقال تعالى ﴿وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ, عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ (2) ، فأيضاً كان الغرض من تشريع الطهارات هو إتمام النعمة، وأكمل التشريعات أجمع وتوجها بنصب الإمام علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ يوم الغدير على رؤوس الأشهاد، فقال تعالى ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا ) (3) ، ولم يقل لأتمّ النعمة، وذلك لأن الغرض تحقق وقد تمت النعمة يومئذ، وإن رفض الناس ذلك فهذا من شقائهم كما قال تعالى ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كَفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ «28» جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ) (4).

إذن فقوله (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) بيان لأن نعم الله تعالى المادية والمعنوية استمرت على المسلمين، وكان من أهمها : تشريع الكعبة قبلة وهذا التشريع هو نعمة كبرى كما استلزم نعماً أخرى كقطع تعيير أهل الكتاب والمشركين والمنافقين، وكإرجاع المسلمين إلى بناء جدهم - وهو من النعم على المسلمين حيث إن من النعم على الإنسان إحياء ذكرى سلفه ، وكتمييز المسلمين عن أهل الكتاب وكتضعيف أعداء الإسلام بإضافة حجة جديدة في ،قبالهم وغير ذلك .

ص: 144


1- سورة النحل، الآية: 81
2- سورة المائدة، الآية: 6.
3- سورة المائدة، الآية: 3.
4- سورة إبراهيم، الآيتان: 28 - 29

السادس: قوله تعالى ( وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

قد مرّ أن (لعل) من الله لا يقصد منها الترجي الحقيقي، لأن منشأه الجهل بالمستقبل، وهذا يستحيل على الله تعالى، بل المقصود بیان محبوبية الهداية وأن تغيير القبلة هو من أسبابها، وذلك لأن الإنسان يحب من يُشرفه ويميل قليلاً إليه، فإن كان سيّده أطاعه في أوامره لحبه له ولميله إليه وكذا المسلمون حينما يعلمون بتشريف الله لهم وأنه خصهم بقبلة - هي بناء جدهم - ودافع عنهم بقطع حجج خصومهم ودفع تعييرهم، فإن ذلك قد يوجب تقربهم إلى الهداية بإطاعته تعالى فيما يأمر وينهى.

ص: 145

المقوّم الثاني من مقومات الأمة الإسلامية الرسالة - القيادة -

بعد الانتهاء من المقوم الأول - وهو القبلة - يبدأ الحديث عن مقوم آخر من مقومات الأمة الإسلامية - وهو نعمة الرسالة وقيادة النبي محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم لهذه الأمة ، فإنه لا يمكن تكوّن أمة إلَّا ولها رمز يكوّنها فتتقوّم الأمة به وتتأسى به، ويكون المحور لانطلاقها وحركتها، ولذا كلّما حاول أعداء الإسلام النيل منه أثاروا الشبهات حول شخصية الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ، فالمشركون كانوا يتهمونه بالجنون والشعر والكهانة وتلفيق أساطير الأولين ... إلخ، وكذلك في العصر الحاضر يكثر المستشرقون من محاولة إيجاد ثغرة في شخصية الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم، وقد وجدوا الإسرائيليات التي أدخلت في بعض الكتب، وكذلك الأكاذيب التي لفقها الأمويون والمنافقون فرصةً للنيل من شخصه المبارك، ولكن محاولاتهم تبوء بالفشل، وذلك لأن القرآن الكريم لم يترك شبهة إلَّا أجاب عنها، كما تصطدم تلك الروايات المكذوبة بالقرآن وبالمقطوع من سيرة الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم، وقد بيّن الأئمة من أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ والعلماء من أتباعهم الصحيح من سيرته، كما أن القرآن شاهد صدق على علوّه وارتفاعه.

ص: 146

ثم إن تأخر ذكر هذا المقوّم - مع أنه أهم من القبلة - لاقتضاء سياق الكلام ذلك، ولأنه بعد الاحتجاج في الفرع - وهو القبلة - يثبت الأصل وهو الرسول الذي جاء بهذه القبلة بأمر من الله تعالى .

ص: 147

الآيتان 151-152

اشارة

«كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)».

151 - وقد مننا عليكم بالقبلة الجديدة (كَمَا) مننا عليكم قبل ذلك إذ (أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً) هو محمد بن عبد الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم (مِنکُم) لامن اليهود أو غيرهم، ولهذا الرسول صفات :

أ - (يَتْلُوا) أي يقرأ (عَلَيْكُمْ ءَاياتِنَا) النازلة في القرآن .

ب - (وَيُزَكِيكُمْ) أي يطهركم من أرجاس الجاهلية، طهارة في العقيدة، وفي الأخلاق وفي العمل، وعن القذارات المادية .

ج- ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ9 أي القرآن والتعليم نعمة أخرى غير القراءة، بل بمعنى الفهم والتركيز والتثبيت .

د - (وَ) يعلمكم (الحِكْمَةَ) أي وضع الأشياء في مواضعها ،ومن مصاديقها الشريعة .

ه_-(وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) مما ليس بمذكور في ظاهر الكتاب والحكمة، وذلك كقصص الأنبياء وأحوال الأمم السابقة

ص: 148

وأخبار السماء والأرض والمعاد ونحو ذلك، كل ذلك في طريق هدايتكم ولإزالة جهلكم، وكذلك فنون السياسة والاقتصاد والجهاد ونحو ذلك.

152 - وحيث ذكرتكم بهذه النعم (فَاذْكُرُونِی) أي لا تغفلوا عني بأن أكون في ذكركم دائماً مما ينتج الخشية والطاعة (أَذكُركُم) أي أزيدكم نعماً في الدنيا والآخرة ، (وَاشْكُرُوا لي) أي أقروا بإحساني إليكم ، (وَلَا تَكْفُرُونِ) وكفراً اعتقادياً أو كفراً بالعصيان وجحد النعم .

-------------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى (أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ).

الرسالة عامة لجميع الناس في جميع الأقطار، كما قال تعالى ﴿قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) (1) ، ولكن شرف الله العرب بأن جعل هذا الرسول منهم وفي منطقتهم ولم يجعله من قوم آخرين، ولا جعله في بني إسرائيل - مع كثرة الأنبياء والرسل فيهم ، وهذا شرف عظيم إن راعوا حقه وشكروا الله لأجله، فالقبلة في بلدكم والرسول منكم فاذكروا الله واشكروه ولا تكفروا به.

ولم يكن هذا الاختيار اعتباطياً بل لحكمة ومصلحة، ولعل منها : استجابة لدعاء إبراهيم وتعويض عمّا لاقاه من الظلمة مما اضطره إلى .

ص: 149


1- سورة الأعراف الآية: 158.

الهجرة وإسكان ذريته في أقسى المناطق من حيث الحرارة والماء والكلأ ، والله سبحانه شكور ، شكر لإبراهيم جهده فجعل خاتم الأنبياء من ذريته .

ومنها : أن العرب في ذلك الوقت كانوا خير جماعة لحمل راية هذا الدين، حيث كانوا بعيدين عن الحضارات الكبرى، فكان تغيير نفوسهم وتعليمهم الدين الجديد أسهل مما لو كان في منطقة فيها حضارة عريقة، مضافاً إلى أن هذا الدين كان بحاجة إلى الدفاع عنه أمام القوى الكبرى في العالم وكان العرب - لصعوبة مناطقهم وكثرة الغارات بينهم - كلهم يجيدون القتال وفنونه وقد تطبعت نفوسهم على الصعوبات وقساوة الصحراء والحذر الدائم، فكانوا خير جماعة يمكنها الدفاع عن هذا الدين الوليد ونشره، مضافاً إلى صعوبة غزو مناطقهم من قبل القوى الكبرى - لقلة الماء والكلأ والثروات ..

ومنها : ثراء لغتهم وقوتها، فكانت أنسب لغة لنزول خاتم الكتب السماوية بها، وخاصة إذا لاحظنا أن أحد أهم جوانب إعجاز القرآن هو فصاحته وبلاغته، مع قصور سائر اللغات عن ذلك، والله العالم.

وقوله (مِنكُم) إنما هو تحريض لهم للإيمان به حيث إنه منهم وسبب لشرفكم كما قال ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (1) وقال (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ(198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ)(2).

الثاني : قوله تعالى (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ءَايَاتِنَا).

أول مرحلة من مراحل التربية هو السماع، فلذا أهم معجزة 6

ص: 150


1- سورة الزخرف، الآية: 44.
2- سورة الشعراء، الآية: 96

للرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم هو القرآن الكريم، والسماع هو مقدمة للفهم والعمل، ولذا قال تعالى (وَإِذَا قُرِىءً الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (1) .

المرحلة الثانية : صفاء النفس لتكون محلاً قابلاً للعلم والمعرفة وهي التزكية - التي يراد بها نمو النفس وتربيتها تربية تجعلها لا ترفض العلم الذي تتلقاه .

المرحلة الثالثة : التعلّم المستند إلى الأصول الصحيحة - المستقاة

من الوحي - فإن العلم إذا دخل في قلب سليم، أثر أثره، واستتبع العمل كما قال تعالى ﴿إِنَّمَا يَخشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَوُا)(2).

المرحلة الرابعة : إشراق المعرفة الإلهية على القلب، فإن العلم ليس بكثرة التعليم، وإنما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد أن يهديه - كما في الحديث الشريف (3).

وقد تكفلت هذه الآية لبيان هذه المراحل الأربع: ﴿يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَاتِنَا)، (وَیُزَكيكُمْ)، (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) ، وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ).

ثم إن تلاوة الآيات إذا لم تستتبع صفاء النفس، فذلك من شقاء الإنسان بسوء اختياره لعناده، قال تعالى ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَیَتَخِذَهَا هُرُواً أَوَلَائِكَ لَهَمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ«6» وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايْاتُنَا وَلَى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعَهَا كَانَ فِي أُذُنَيهِ وَقْراً بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (4)..

ص: 151


1- سورة الأعراف الآية: 204.
2- سورة فاطر، الآية: 28.
3- بحار الأنوار: ج 67 ، ص 140 .
4- سورة لقمان الآيتان 6 - 7 .

وفي المقابل غير المعاند الذي وطن نفسه على قبول الحق قال تعالى ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ ،زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) (1).

والحاصل هنا فريقان كما قال وَأَنْ أَتْلُوا الْقُرْءَانَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَآ مِنَ الْمُنذِرِينَ) (2).

الثالث : قوله تعالى ﴿وَيُزَكِّيهِمْ) .

(التزكية) من مادة (زك ي) بمعنى الطهارة - وأصل المادة من النموّ ، ويراد منها تربية النفس لأنها توجب كمال الإنسان وارتفاعه إلى الدرجات العليا في الدنيا والآخرة.

ثم إن التزكية تكون :

1 - للنفس وذلك بتطهيرها من الرذائل الخُلقية، وأعظمها الاستكبار على الله تعالى الذي يكون مانعاً عن قبول الهداية.

2 - وتكون للعقيدة بتطهيرها من أدران المعتقدات الفاسدة التي هي المعوّق الأساس لنمو الإنسان وتكامله .

3 - وتكون للأعمال بتطهيرها من الموبقات والفحشاء والمنكر .

4 - وتكون للبدن بتشريع الوضوء والغسل والنظافة ونحو ذلك .

الرابع : قوله تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ).

(الكتاب): القرآن، و(الحكمة)، وضع الأشياء في مواضعها، ومنها الشريعة، وقد مرّ الكلام حولهما في الآية 129.

ص: 152


1- سورة الأنفال، الآية: 2.
2- سورة النمل الآية: 92

والتعليم غير التلاوة، وإنما التلاوة هي مقدمة للتعليم، ولعل المراد هو بيان معاني الآيات وتفسيرها وتأويلها وحقائقها كما قال تعالى ﴿وَأَنزَلْنَآ إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِلَ إِلَيْهِمْ) (1) ، فإن الله تعالى كما أنزل القرآن على النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم كذلك أنزل عليه بيانه - من التفسير والتأويل . . . - قال تعالى ﴿فَإِذَا قَرَأْنَهُ فَاتَّبِعْ قُرْوَانَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) (2).

ولذا قد يعبّر عن التفسير الذي بينه الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم بالتنزيل، كما وردت روايات متعددة بهذا التعبير، وما ذلك إلا لأن بيان القرآن نزل على الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم كما نزلت عليه ألفاظه .

ثم إن التزكية تقدمت على التلاوة في هذه الآية، والعكس في الآية 129 حيث قال (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) ، ولعل ذلك لأجل أن التزكية لها مراتب فبمرتبة منها تستعد النفس للتعلّم، وبالعلم تزداد التزكية، نظير من يكون متواضعاً فيقبل التعلّم ثم يزداد تواضعاً بما تعلّمه .

وقيل : قدّمه على التعليم باعتبار القصد، وأخره في دعوة إبراهيم باعتبار الفعل(3).

ولعل المراد أن النفس الزكية تقبل التعلّم فإذا تعلمت ظهرت الآثار على الجوارح فزكت الأعمال.

الخامس : قوله تعالى ﴿وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) .

ص: 153


1- سورة النحل، الآية: 44.
2- سورة القيامة، الآيتان: 18 - 19.
3- الجوهر الثمين ج 1، ص 162 .

يظهر من تكرار ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ) أن (تعليم الكتاب والحكمة) يختلف عن (تعليم ما لم تكونوا تعلمون)، ولعل :

1 - العلم الأول هو الاطلاع على المعلومات - بمعنى حضور صورها في الذهن والثاني هو إشراق نور المعرفة، فكم من عالم غير عامل بعلمه وذلك لأن علمه جمع معلومات لا معرفة حقيقية، كما قال عالى (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أسْفَاراً) (1) .

2 - أو هو تأكيد لأهمية ،العلم ولبيان أن ما في الكتاب والحكمة لم یكن الناس يعلمونه فقد فتح الوحي باب هذه العلوم على البشرية ولولاه لاستمروا في ضلالهم المبين .

3 - أو المقصود أمور أخرى ليست في ظاهر الكتاب ولا هي من الشريعة، كالقصص المفيدة من أحوال الأنبياء والأمم السالفة، وتفاصيل المعاد، والملائكة وأمور الاقتصاد والسياسة ونحو ذلك مما يفيد الناس

في دينهم ودنياهم .

4 - أو هو ذكر العام بعد الخاص حتى لا يتوهم حصر تعليم الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم إياهم في الكتاب والحكمة فقط .

السادس: قوله تعالى (فَاذكُرُونِي أذكُركُمْ).

(الذكر ) هو الحفظ والحضور، ويضاده النسيان والمعنى تذكر الله تعالى دائماً في القلب وعدم الغفلة عنه تعالى، أي يكون لله حضور مستمر في قلوبكم ثم إن هذا الحضور يظهر على اللسان فيلهج الإنسان .

ص: 154


1- سورة الجمعة، الآية: 5 .

بذكره تعالى، وعلى الأعمال فيطيعه فيما أمره وينتهي عما نهاه، قال تعالى ﴿وَاذكُر رَبِّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ)(1).

وكم هناك فرق بين المسلمين حيث يأمرهم الله بأن يذكروه تعالى، وبين بني إسرائيل حيث يأمرهم بذكر نعمه تعالى ﴿يَابَنِي إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَى الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ (2)، ولعل ذلك لأجل وجود مجموعة - ولو قليلة - في المسلمين ممن يمكن أن يتذكروا الله دائماً في كل أحوالهم .

ومن مصاديق الذكر باللسان تسبيح فاطمة الزهراء علیها السلام - كما ورد في بعض الروايات (3) - ، ومن الواضح أن ما في الرواية تفسير بالمصداق .

ولا يخفى أن هناك تأثيراً وتأثراً بين النفس وبين الأعمال، فكم من عمل يوجب سمو النفس أو سقوطها، ورب نفس دعت صاحبها إلى الفلاح أو عدمه، ولذا كثرت الآيات والروايات التي تأمر الناس بالدعاء والأذكار والأوراد، فإنها من مصاديق الذكر كما توجب حضوراً الله تعالى في قلب الناس .

وللحديث عن الذكر موطن آخر يطلب من مظانه.

والحاصل أن كل ما حصل من المعرفة والتذكر والتوجّه إليه تعالى، فهو ذكر الله سبحانه فإن الذكر هو المعرفة ثم تذكرها عند طرو الغفلة - كذا قيل -. .

ص: 155


1- سورة الأعراف الآية: 205.
2- سورة البقرة، الآية: 40.
3- البرهان ج 2، ص 32 .

وقوله تعالى (أَذْكُرْكُمْ) ، معناه ذكرتكم سابقاً فغمرتكم بالنعمة - ومنها إرسال الرسول منكم ، (فَاذكُرُونِي) لحاجتكم إلى ذكري لكي ترتقوا إلى الدرجات العليا، (أَذْكُرْكُمْ) بزيادة النعمة عليكم، كما قال (لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) ، وفي الحديث : «من كان يحب أن يعلم منزلته عند الله، فلينظر كيف منزلة الله عنده فإن الله تعالى ينزل العبد حيث أنزل العبد الله نفسه» (1).

السابع : قوله تعالى ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) .

(الشكر): هو الإقرار بالإحسان، سواء كان باللفظ أم بالعمل - كما مر ، والمعنى اشكروا لي هذه النعم، فحذف المفعول، وقد يقال (اشكروني) من دون حرف جر وذلك لإقامة المنعم مقام النعمة والأفصح مع حرف الجر.

والشكر هو نتيجة الذكر، ولذا جاء متأخراً عنه، فإن الإنسان إذا كان متذكراً لله تعالى دائماً ، فإنه يكون متذكراً لنعمه التي لا تحصى، فيقر بها باللسان وبالعمل فيظهر تلك النعم ويحمد الله عليها .

وقوله (وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ . لمّا بيّن الله تعالى الشكر - وهو الجانب الإيجابي - نهى عن الكفران - وهو الجانب السلبي - لأن كفران النعمة بجحدها أو كتمانها أو عدم الاكتراث بها من أرذل الرذائل النفسية التي يدركها العقل والكفر في الاعتقاد من أسوأ أنواع كفران النعمة وذلك بجحد أو إنكار منعمها . .

ص: 156


1- عدة الداعي : ج 1، ص 162.

المقوم الثالث من مقومات الأمة الإسلامية الجهاد - تحمل المشاق -

أن تكون الأمة وسطاً وشاهدة على سائر الأمم، وأن يكون لها قيادة خاصة وجامع خاص، سيعرضها وبلا شك إلى صعوبات جمة، منها رفض بعض القوى لها، ومحاربتها - فكرياً وعملياً - وذلك حسداً أو تكبراً أو لجهات أخرى، ولذا كُذَّب جميع الرسل واستهزئ بهم، ولم يتمكنوا من القيام بمهامهم إلا بجهد كبير، قال تعالى ﴿يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (1) ، وقال (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِکَ)(2)، وقال (وَكَأَیِن مِن نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِيُّونَ كَثِيرُ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ في سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اَسْتَكَانُواْ )(3).

هذا مضافاً إلى جهات أخرى كالابتلاء، وصقل شخصية الأمة، وبروز القيادات الصالحة - الذين تظهر جواهرهم في الصعوبات - ليتميزوا عن النفعيين ونحوهم .

كما أن هناك أحكاماً شاقة - نفسيّاً أو جسدياً - كالسعي، وعليهم

ص: 157


1- سورة يس الآية: 30.
2- سورة الأنعام، الآية: 34
3- سورة آل عمران الآية: 146.

إطاعة الله في تلك الأحكام وامتثالها، فقال تعالى ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ)(1).

وفي المقابل سيواجهون بمن يحاول كتمان الحقائق، وهذا مما يزيد في صعوبة عمل المؤمنين، ويرهقهم نفسيّاً في محاولة إظهار تلك الحقائق، فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَأَهْدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيِّنَاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ) (2).

وكذلك سيواجهون بكفار لا يرتضون دينهم (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعَنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ) (3) ثم يبشر الله المؤمنين بأن هؤلاء - الكاتمين والكفار - ملعونون مطرودون من رحمة الله فلا يحزن المسلمون من أعمال هؤلاء لأن مصيرهم العذاب. .

ص: 158


1- سورة البقرة، الآية: 158
2- سورة البقرة، الآية 159
3- سورة البقرة، الآيتان: 161 - 162 .

الآيات153-157

اشارة

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)»

153 - ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا) حيث علمتم بالصعوبات في إرسال رسول منكم وفي تحويل القبلة ، ف(اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) في كل الأمور - ومن مصاديقه الصوم - فإنه يقوي عزيمتكم (وَالصَّلَوةِ) فإنه إيواء إلى ركن شديد والقدرة المطلقة التي لا غالب لها ف(إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَاّبِرِينَ) معيّة نصرة وتأييد وتوفيق .

154 - ﴿وَ) إن القيادة والإرشاد فيه صعوبات يلزم تحملها للوصول إلى الهدف، فإذا بلغت المشاق ذروتها وفقدتم بعض مصالحكم فلا تتوهموا عدم التعويض بل الله يعوّض أحسن الجزاء، وأهم أمر يحتاج إلى صبر والتجاء إلى الله هو فقدان الأعزة ف(لاَ تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي الطريق الذي يوصل إليه تعالى : (أَمْوَاتٌ بَلْ) هم (أحْيَآءٌ) حياة واقعية أفضل من حياة الدنيا، فإنهم

ص: 159

عند ربهم يرزقون فرحين (وَلٰكِن لَّا تَشْعُرُون) بحياتهم تلك، لأن الإنسان محبوس في هذا العالم فلا يشعر بالعوالم التي هي أرقى من ،عالمه، فإذا مات رأى حقائق العالم الآخر .

154 - ثم اعلموا أن بعض المصائب هي اختبار لكم من الله ، فإضافة إلى صعوبات القيادة يلزم مرور الناس باختبارات إلهية لتسموا أرواحهم وليميز الخبيث من الطيب، (وَلَنَبْلُوَنَّكُم) : من الامتحان (بِشَيءٍ) قليل، وإنما كان قليلاً لكونه يسيراً ولا يبلغ أشده (مِنَ الْخَوْفِ) وهو اختبار نفسي، (وَالْجُوعِ) وهو اختبار جسمي، (وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ) وهو اختبار مادي، (وَالْأَنفُسِ) وهو اختبار اجتماعي، (وَالثَّمَرَاتِ) وهو اختبار في الخيرات الطبيعية التي تفيد الإنسان (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) بشارة بكل خير، ومن أهم مصاديقها البشارة بالجنة والمغفرة .

155 - والصابرون هم (الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ) ، وهي كل ما يؤذي المؤمن (قَالُوا) باللسان انطلاقاً من قلب مطمئن : ﴿إِنَّا لِلَّهِ) فما دامه قدّر هذه المصيبة ففيها رضانا لأنه مالكنا، (وَإِنَّا إِلَيْهِ) إلى ثوابه وقربه (رَاجِعُون) له فهو يجبر المصيبة .

156 - (أَوَلٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ) أي عطف وتوجه لهم بالبركة والإحسان (وَرَحْمَةٌ) بغفران ذنوبهم وهدايتهم، وهم يقبلون هذه الهداية، ولذا قال تعالى ﴿وَأَوَلٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ حيث أصابوا طريق الحق الذي أراهم الله تعالى.

-------------------------------

ص: 160

بحوث

الأول : قوله تعالى (أَسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ).

مرّ هذا المقطع في الآية 45 ، وكان ذلك أمراً لبني إسرائيل، وهذه الآية أمر للمسلمين، وكان مصب تلك الآية في مدح الصلاة فقال تعالى (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوٰةُ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (1) وهذه الآية في سياق مدح الصبر والصابرين، لأن المقام هنا حول ملاقاة الأهوال والجهاد والمشاكل فكان التركيز على الصبر.

وإنما خص هاتين الصفتين - الصبر والصلاة - بالذكر، لأنهما أهم مقومين لمن يريد حمل الرسالة والتبليغ والإرشاد حيث يواجه الصعوبات الجمة، لا يمكنه التغلب عليها إلا بهاتين.

فالصبر : هو عدم الانهيار أمام الصعوبات والمغريات، ولذا قيل: إن كل فضيلة لا بد أن يكون الصبر جزءاً منها أو من مقدماتها، كما أن كل رذيلة لا بد أن يكون عدم الصبر من مقوماتها أو مقدماتها، لأن الفضائل هي

الحد الوسط بين الإفراط والتفريط . فالشجاعة يقابلها الإفراط وهو التهوّر، والتفريط وهو الجبن والبقاء على الحد الوسط صعب جداً لميل النفس غالباً إلى أحد طرفي النقيض منها .

كما أن الله خلق العالم بالتدريج وأجرى الأمور بالتدريج، فلا يمكن الوصول إلى المعالي دفعة وبالطفرة، بل لا بد من المرور بمقدمات كثيرة، وكلّما كان الأمر أجل كانت المقدمات أكثر وأصعب، فلكي تصبح عالماً أو طبيباً أو خبيراً لا بد لك من سنوات طوال من الدراسة .

ص: 161


1- سورة البقرة، الآية: 45.

وترك الرغبات في النوم واللهو ونحو ذلك، ولكي تصنع أمة قادرة على حمل مشعل الهداية لا بد من تحمل تهذيب النفس وترك كثير من الملذات ودفع المؤامرات، ولذا نشاهد الأنبياء - وهم عباد الله المصطفون - وأتباعهم تحملوا أشد المشاق لتبليغ دين الله تعالى قال سبحانه (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَتهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاهُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قريب) (1) ، ورسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم كم تحمل من كم تحمل من المشاق في سبيل نشر الإسلام حتى خاطبه الله تعالى ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ) (2).

كما أن مقادير الله تعالى تجري سواء صبر الإنسان أم جزع، لكنه إن صبر كان مرتاح البال غير منهار حافظاً قواه النفسية والبدنية ليقوم بالمهام، مضافاً إلى تأييد الله تعالى وثوابه، وإن جزع كان قلقاً نفسياً، مشتّت ،البال منهار القوى غير سليم الفكر والعمل، مما يخرجه عن القابلية لحمل المهام الصعبة .

وفي الحديث عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ : على أنك إن صبرت جرى عليك القضاء وأنت محمود، وإن جزعت جرى عليك القضاء وأنت مذموم (3).

ثم إنه ورد في بعض الأحاديث تفسير الصبر بالصوم (4) ، وهو تفسير بالمصداق حيث إنه صبر عن الملذات وفيه ترويض النفس عليه، وليس يخصص عموم الآية - كما مرّ نظيره مراراً .. .

ص: 162


1- سورة البقرة، الآية: 214.
2- سورة هود، الآية: 112
3- البرهان ج 2 ص 38 ، عن الكافي ج 3، ص 261 .
4- البرهان ج 2، ص 34 ، عن تفسير العياشي.

الثاني : قوله تعالى (وَالصَّلَوٰةِ) الصلاة هي أبرز مظاهر العبودية لله تعالى وهي تمثل الجانب الإيجابي في الإنسان، كما أن الصبر - وهو كف النفس وحبسها - يمثل الجانب السلبي، ولذا قدم الصبر على الصلاة إذ لا أثر للصلاة من غير صبر كما قال تعالى ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَوٰةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ) (1).

كما أن الصبر في واقعه أمر نفسي والصلاة أمر عملي - وإن كان روحها الإخلاص ..

والإنسان إذا ارتبطت روحه بالقدرة اللامتناهية والذي كل الأمور بيده فإنه يشعر باطمئنان فلا يتزعزع عند المدلهمات، كما أن الله ينصره بإراءته طريق الصواب ويهيّئ له أسباب النصر والغلبة كما يجازيه بأفضل الجزاء، والإنسان إذا علم بأن جهوده لا تذهب سدى بل سيعوض أفضل الجزاء ينشط في العمل ويقوم بالمهمة الموكلة إليه بأحسن قيام.

الثالث : قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَاّبِرِينَ).

(مع): بمعنى مصاحبة شيئين سواء كانت مصاحبة مكانية كقولنا معي ،زيد أم مصاحبة تقديرية - يراد بها القيام بالشيء - مثل : (معي وهي في كل استعمالتها بهذا المعنى وأما الأمور الأخرى فإنها تستفاد

من القرائن المكتنفة بالكلام.

وكون الله تعالى مع شيء يراد به قيمومته على ذلك الشيء وهذا الاستعمال على نحوين:

1 - القيمومة بمعنى الإحاطة علماً وقدرة كقوله تعالى ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ .

ص: 163


1- سورة النساء، الآية: 142.

النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحيطاً) (1) ، وقال (مَا يَكُونُ مِن نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا ومَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) (2).

2 - القيمومة بمعنى النصر والمعونة والتوفيق كقوله ﴿قَالَ لَا تَخَافَاً إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىٰ) (3) .

وقد حاول العامة الاستدلال ب- ( معنا) في آية الغار، مع أن الآية تدل على اختصاص الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم بالسكينة والتأييد، في حين أن السكينة تنزل على المؤمنين، وكلّما نزلت على الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم و فإنها نزلت على المؤمنين أيضاً كقوله (ثُمَّ أَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ (4) ، باستثناء آية الغار حيث نزلت على الرسول وحده وسيأتي - إن شاء الله تعالى - تفصيل ذلك .

وفي هذه الآية قال تعالى ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) وقرينة السياق تدل على أنها معية النصرة والتأييد للصابرين.

الرابع : (أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاةٌ) .

شأن نزول الآية وإن كان شهداء بدر - على ما قيل (5)، ولكن لا تخصص الآيات بمورد نزولها، فأكثر الآيات لها شأن نزول، وذلك لحكمة تدريجية نزول القرآن نجوماً، ولكي يكون أوقع في النفوس .

ص: 164


1- سورة النساء، الآية: 108.
2- سورة المجادلة، الآية: 7.
3- سورة طه، الآية: 46.
4- سورة التوبة، الآية: 26 .
5- مجمع البيان ج 1 ، ص 599 .

لا ستعدادها للقبول في الحالات التي يتلمسون فيها حاجتهم لذلك الحكم أو تلك القضية المذكورة في الآية، ولتثبيت قلب الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم كما قال تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَلْنٰهُ تَرتيلاً) (1) وفي التبيين: أي إنما أنزلناه شيئاً بعد شيء للإرشاد في مختلف المناسبات مثلاً آيات بدر إنما نزلت في تلك الغزوة، وآيات حنين إنما نزلت في تلك الحرب، وآيات الصيام في وقت تشريعه وهكذا (2).

ولكنها آيات تشير إلى مفاهيم عامة - على الأغلب ، كما هو شأن قصص القرآن كما قال تعالى (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ) (3) ، وقال وَكُلًّا نَقُصُ عَلَيْكَ مِنْ أَنبآءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِتُ بِهِ فُؤَادَكَ ) (وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ) (4) وقال (فَأَقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (5) .

والميت : هو الذي لا تأثير له في الحياة ولا امتداد، وهؤلاء الشهداء ليسوا كذلك بل هم أحياء بحياة واقعية برزخية، وهم في قرب الله تعالى قرباً معنوياً - لا مكانيّاً إذ هو تعالى خالق المكان وليس في شيء من المكان إذ لا يعقل إحاطة المكان المخلوق بالخالق جلّ وعلا.

كما أن هؤلاء أحياء في الدنيا بتأثيراتهم - ولو المستقبلية - نظير ما .

ص: 165


1- سورة الفرقان الآية: 32
2- تبيين القرآن، ص 374.
3- سورة يوسف، الآية: 111.
4- سورة هود، الآية: 120
5- سورة الأعراف الآية: 176.

قاله أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ : هلك خزان الأموال - وهم أحياء ، والعلماء : - باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة (1) .

كذلك لهؤلاء الذكر الجميل ونظيره قوله (وَاجْعَل لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ) (2).

والحياة في هذه الآية مطلقة فتشمل كل ما ذكر، وأما قوله تعالى (بَلْ أَحيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (3) فالظرف (عِندَ رَبِّهِمْ) متعلق ب- (يُرْزَقُونَ) أي رزقهم عند ربهم وليس المقصود حياتهم عند ربهم كي يشكل على الحياة بمعني الامتداد أو بمعنى الذكر الجميل.

حول برزخ

ثم اعلم أن هذه الآية، وكذلك آيات أخرى، دلت على نوع حياة للإنسان بعد موته وقبل النشور في يوم القيامة، يعبّر عنها بالحياة البرزخية، لأنهم في برزخ بين الدنيا والآخرة كما قال تعالى ﴿وَمِن وَرَائِهِم برْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (4) .

وهناك ناس متنعمون في البرزخ كما في هؤلاء الشهداء، وناس معذبون كما قال تعالى ﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُواً وَعَشِيَّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (5) ، وقسم ثالث لا يسألون في القبر بل يتركون ويلهى عنهم، كما ورد في بعض الروايات، ففي الكافي بأسناد معتبرة عن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : «لا يسأل

ص: 166


1- نهج البلاغة، الحكمة رقم 147 .
2- سورة الشعراء، الآية: 84
3- سورة آل عمران الآية: 169.
4- سورة المؤمنون، الآية: 100.
5- سورة غافر، الآيتان: 45 - 46

في القبر إلَّا من محض الإيمان محضاً أو محض الكفر محضاً، والآخرون يلهون عنهم (1) . وقال العلامة المجلسي في بيان معناها : إنه لا يسأل عن المستضعفين المتوسطين بين الإيمان والكفر (2).

قال الشيخ المفيد - رحمه الله - في أجوبة المسائل السروية (3) سئل : ما قوله أدام الله تأييده في عذاب القبر وكيفيته؟ وهل ترد الأرواح إلى الأجساد عند التعذيب أم لا ؟ وهل يكون العذاب في القبر أم يكون بين النفختين؟

الجواب : الكلام في عذاب القبر طريقه السمع دون العقل، وقد ورد أئمة الهدی عَلَيْهِم السَّلاَمُ أنهم قالوا : ليس يعذب في القبر كل ميت، وإنما يعذب من جملتهم من محض الكفر محضاً، ولا ينعم كل ماض لسبيله، وإنما ينعم منهم من محض الإيمان محضاً ، فأما سوى هذين الصنفين فإنه يلهى عنهم، وكذلك روى أنه لا يسأل في قبره إلّا هذان الصنفان خاصة، فعلى ما جاء به الأثر من ذلك يكون الحكم ما ذكرناه .

فأما عذاب الكافر في قبره ونعيم المؤمن فيه، فإن الخبر أيضاً قد ورد بأن الله تعالى يجعل روح المؤمن في قالب مثل قالبه في الدنيا في جنة من جناته ينعمه فيها إلى يوم الساعة، فإذا نفخ في الصور أنشأ جسده الذي بلي في التراب وتمزّق ، ثم أعاده إليه وحشره إلى الموقف، وأمر به إلى جنة الخلد فلا يزال منعماً ببقاء الله عزّ وجل، غير أن جسده الذي يعاد فيه لا يكون على تركيبه في الدنيا، بل تعدّل طباعه، وتحسن صورته، فلا يهرم مع تعديل ،الطباع ولا يمسه نصب في الجنة ولا لغوب، والكافر ،

ص: 167


1- البحار ج 6 ، ص 260 عن الكافي ج 3، ص 64.
2- المصدر نفسه.
3- عنه في البحار ج 6 ، ص 272 . 6،

يجعل في قالب كقالبه في الدنيا، في محل عذاب يعاقب بها حتى الساعة، ثم ينشىء جسده الذي فارقه في القبر ويعاد إليه، ثم يعذب به في الآخرة عذاب الأبد، ويركب أيضاً جسده تركيباً لا يفنى معه . . . . انتهى .

وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : المؤمن إذا قبضه الله تعالى صير روحه عليك في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا » (1).

الخامس : قوله تعالى ﴿وَلٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ) .

(الشعور) هو ابتداء العلم بالشيء من جهة المشاعر - وهي الحواس ، ولذا لا ينسب الشعور إلى الله تعالى لأنّه سبحانه منزه عن الحواس، بل هو العالم بكل شيء بذاته بلا حاجة إلى آلة العلم .

والمعنى لا تدركون هذه الحياة بحواسكم لأنها حياة في عالم أرفع من عالمكم فتعجز حواسكم عن إدراكه كيف وقد تعجز حواسكم عن إدراك بعض المحسوسات - التي قد يحسها بعض الحيوانات - كما ثبت في العلم الحديث قصور سمع الإنسان عن سماع الأمواج الصوتية - وهي ذبذبات مقياسها يسمى «سيبل» - إذا زادت أو نقصت عن مقدار معين، وكذا سائر الحواس، فكيف يمكن لهذه الحواس إدراك العالم الآخر الذي هو أرفع وأشرف من هذا العالم بلى إذا انتقل الإنسان إلى ذلك العالم شاهد وسمع ما لا يمكنه مشاهدته وسمعه في هذا العالم قال تعالى (فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)(2) أي قوي حاد . .

ص: 168


1- مجمع البيان ج 1 ، ص 601 عن التهذيب ج 1، ص 466 .
2- سورة ق الآية: 22 .

وخاطب رسول الله قتلى المشركين في بدر فاعترض بعض أصحابه فقال كيف تُكلّمهم وهم أموات، فقال صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم : (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) (1) . هذا مضافاً إلى بطلان الامتحان لو أحس الإنسان على تلك الحياة الأخرى، فما من أحد إلا ويؤمن لو شاهدها، كما قال تعالى عن فرعون (حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُ لآ إِلَهَ إِلَّا الَّذِى ءَآمَنَتْ بِهِ بَنُواْ إسْرَاءِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (2).

السادس: قوله تعالى ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابرينَ).

أخبرهم قبل وقوعه ليوظنوا أنفسهم به ويأخذوا حذرهم .

وقد مرّ بعض الكلام حول بلاء الله تعالى لخلقه، وقلنا إن الابتلاء هو الاختبار، لتظهر حقيقة الأشخاص، ولصقل شخصية المؤمن لترتقي إلى الدرجات العليا، ولرفع الدرجات، أو لحبط السيئات، ولأن عقاب العصاة من غير ذنب اقترفوه ،ظلم فالمعنی نختبركم ليظهر ما علمناه أزلاً، ولنرفع درجات المؤمن لما يصبر في الاختبار، ولكي يكون عقاب الكافر عن استحقاق.

وهذا الامتحان وإن كان صعباً إلا أن الله تعالى خلق الإنسان قادراً على تحمله وتجاوزه بسلام - إن هو أعمل عقله - ولم يجعل لقوى الشر والعصيان سلطة على الناس بل جعل كيدهم ضعيفاً، كما قال سبحانه (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) (3) ، وقال سبحانه ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ

ص: 169


1- رواه من العامة البخاري - في الصحيح عندهم - باب قتل أبي جهل، ج 5 ص 97.
2- سورة يونس الآية: 90
3- سورة النساء، الآية: 76.

الأمْرُ إنَ اللَّهَ وعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدَتُكُمْ فَأَخْلَفتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ) (1) ، بلى من أطاع الشيطان فإنه يستولى عليه، قال سبحانه (َإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ«99» إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ) (2).

ثم جمعت هذه الآية مختلف أنواع الابتلاءات، فالخوف في النفس، والجوع في البدن، ونقص الأموال في الاقتصاد والأنفس في الاجتماع والثمرات في الخيرات الطبيعية.

والترتيب باعتبار الأهمية، لأن أهم شيء عند الإنسان هي نفسه يخاف عليها، ثم ما يرتبط بها، ومن أهمها تلبية حاجاته الجسدية - التي أهم مظاهرها الجوع والشبع ، ثم ما يملكه وهو أمواله، ثم تناسله واستمراره عبر الذرية كما قال (وَتَكَاثُرُ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾ (3) ، وقال (الهٰكُمُ التَّكَاثُرُ) (4) وأخيراً سائر خيرات الأرض.

والحاصل في المرتبة الأولى بقاء الإنسان وتلبية حاجاته لذا كان البلاء بالخوف والجوع ، ثم اختباره في أمواله، ثم في نقصان ذريته، ثم اختباره في نقصان خيرات الأرض.

ولم يذكر العطش : لتوفر الماء غالباً، وقلة فقدانه المستمر إذ إما يجد الماء بعد قليل أو يموت عطشاً بلا فاصلة مضافاً إلى أن المقصود هو .

ص: 170


1- سورة إبراهيم، الآية: 22
2- سورة النحل، الآيتان: 99 - 100 .
3- سورة الحديد، الآية: 20
4- سورة التكاثر الآية: 1.

ذكر مثال للحاجة الجسمية، وقد ذكر الجوع فلا حاجة لضرب مثال آخر فتأمل.

وقوله (بِشَىءِ ...) ، ظاهر الكلمة أنه قليل، أي بشيء قليل من الجوع ... إلخ، وذلك لأنه لا يمتد بل فترته ليست طويلة، أو لأنه لا يبلغ أقصى درجاته، أو لكونه قليلاً بالنسبة إلى الأكثر منه، أو لأنه ليس شيئاً يذكر في مقابل الجزاء الذي يناله المؤمن الصابر .

وقوله (وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ) ، مطلق يشمل النقص كل خسارة للأموال سواء كانت في الحرب، أم نهب الأعداء، أم مطلق الضيق الاقتصادي الناشيء عن حبس الأمطار وجفاف الآبار ونحو ذلك.

وقوله (وَالثَّمَرَاتِ) ، أيضاً مطلق فيشمل كل أنواع الثمرات، ولا بد بتقييدها بغير الأموال حتى لا يكون تكراراً لقوله (وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ)، والأظهر أن المراد بها خيرات الأرض العامة، وقيل : المراد بها ثمرات الأشجار - وهي أفضل ما تحمله الشجرة ، وقيل : الحصاد في غير أوانه - خشية استفادة الأعداء الغازين منه كما في غزوة الخندق ، وقيل : لأجل انشغالهم عن الزراعة بالحرب ومقدماتها .

ثم إن الآية لها عموم تشمل كل زمان ومن مصاديقها ما قبل ظهور

الإمام القائم - عجل الله تعالى فرجه الشريف - كما في الأحاديث (1).

السابع: قوله تعالى ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ).

لما ذكر الله تعالى الابتلاءات التي سيواجهونها، أراد أن يُعلّمهم كيفية مواجهتها ويُقوّي قلوبهم. .

ص: 171


1- راجعها في تفسير البرهان ج 2، ص 35 - 37 .

فأولاً: يبشرهم بالثواب ولكن لم يحدد نوعية هذا الثواب لأن له مراتب كثيرة - دنيوية وأخروية ، ومن أهمها البشارة بالمغفرة والجنة ورضوان منه تعالى .

ولم يقل (بشّرهم) لبيان أن البشارة للصابرين فقط دون غيرهم الذين ينزل عليهم البلاء وهم غير محمودين ولما فيه من تكرار لفظ الصابرين والأولى في الآية 153 - تفخيماً لأمرهم وأيضاً لرعاية فاصل الآيات أو لغير ذلك .

وثانياً : يعلمهم كيفية الصبر الجميل، وذلك عن طريق الالتجاء إلى الله تعالى والإذعان بأنّ كل شيء منه - وهو لا يريد الشر لعباده - وأنه سيجازي على الأعمال.

وثالثاً : بيان سبب الصبر - وهو كون الجميع الله وقد استرجع ملكه - .

ورابعاً : بيان الجزاء العام (أولٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأٌوْلٰئِك هُمُ الْمُهْتَدُونَ) .

الثامن: قوله تعالى (أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةُ).

(المصيبة): هي المشقة الداخلة على النفس لما يلحقها من مضرة -كما في المجمع (1)-، وروي: كل شيء يؤذي المؤمن فهو مصيبة (2).

وهذه المصيبة قد تكون من الله، وقد تكون من الناس.

فإن كانت منه تعالى - كتقديره الموت - فإنه تعالى يجبرها بفضله .

ص: 172


1- مجمع البيان ج 1 ، ص 605 .
2- الجوهر الثمين ج 1، ص 165 .

وكرمه، بل لم يقدّرها إلا لمصلحة الإنسان نفسه، لأن الله خير محض ولا يفعل إلَّا الخير، وأما الشر فمنشؤه سوء اختيار الإنسان نفسه أو هو نتيجة عمله، وبعض المصائب وإن كانت تؤذي الإنسان إلَّا أنها خير

ولمصلحته .

وإن كانت المصيبة من الناس بالظلم، فإن الله سينصف من الظالم .

التاسع : قوله تعالى ﴿قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) .

في المصائب الكبيرة يكشف قول الإنسان عن قلبه وعمّا يدور في خلده فالذي يصاب بها إن كان مؤمناً فاه بما فيه الله رضا، وإن جزع يفوه بما لا يُرضي الله من القول، فليس المراد من هذه الآية مجرد ترديد هذه الكلمة على اللسان بل المراد أن يكون هذا القول مظهراً عن ضمير مطمئن بقضاء الله وراضياً عنه.

قال أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ : (إنَّا لِلَّهِ) : إقرار على أنفسنا بالملك، (وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ : إقرار على أنفسنا بالهلاك (1).

وإذا علم الإنسان - علم اليقين - بأنّه ملك الله ، وأقر له بالعبودية مع علمه بكمال حكمة الرب وعدله ورحمته فإنه سيرضى بكل قضاء ء مُرّ ولذا ورد في الحديث : الرضا بمكروه القضاء من أرفع درجات اليقين (2).

وكذا إذا علم بأنه سيرجع إلى حساب الله وأن الله وعد بالجزاء والتعويض والانتصاف من الظالمين فإنه لا محالة ستهون عليه المصائب، وقد قال الإمام الحسين عَلَيْهِ السَّلاَمُ في يوم عاشوراء: «هوّن ما نزل .

ص: 173


1- البرهان ج 2، ص 38 عن خصائص الأئمة، وكذا في نهج البلاغة.
2- بحار الأنوار: ج 75 ، ص 135.

بي أنه بعين الله» (1). فاتضح أن الرجوع إلى الله بمعنى الرجوع إلى حسابه وثوابه ونحو ذلك، لا السفسطة التي زعمها بعض أتباع وحدة الوجود من بطلان الكثرات وزوال الحدود واندكاك كل شيء في ذاته، وكان أحدهم يقول : ليس في جبتي سوى الله !! تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً .

العاشر: قوله تعالى (أُولَيكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولٰئِك هُمُ الْمُهْتَدُونَ).

(الصلاة) هي العطف والالتفات إلى الشيء، وهي من الله بمعنى التوجّه بالبركة والإحسان، وذلك لطف منه تعالى لعبيده، وإنما جاء بلفظ الجمع (صلوات) لأنها أنواع كثيرة، وهذا العطف ليس لحاجته تعالى فإنه الغني المطلق، بل لحاجتهم ولكي يرحمهم ، كما أنه خلقهم ليرحمهم كما قال ﴿إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (2) ، وقال ﴿يَأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (3) ولأن لطفه مقدمة لرحمته لهم لذا قدّم (صلوات) على (رحمة).

ويمكن أن نقول إن (صلوات) هو نفعهم و (رحمة) هو دفع الضرر عنهم، كما مرّ من الفرق بين الرحمة والرأفة حيث إن الرأفة بإيصال نفع والرحمة بدفع ضرر . فتأمل.

أو نقول هذه الصلوات أيضاً من رحمته، فيكون الفرق بتعدد الرحمة فرحمة أوجبت رحمة أُخرى، ولذا روي عن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ في قوله .

ص: 174


1- بحار الأنوار، ج 45، ص 46 .
2- سورة هود، الآية: 119
3- سورة فاطر، الآية: 15.

تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (1) ، إنه قال : الصلاة من الله عزّ وجلَّ رحمة، ومن الملائكة تزكية، ومن الناس دعاء (2).

ولما كانت الصلوات والرحمة هي هداية من الله تعالى، وقبول هذه الهداية هو الاهتداء، لذا فصل قوله (وَأَوْلٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) عن صلوات ورحمة فتحصل أن الله يهدي هؤلاء بصلواته ورحمته، وهؤلاء هم محل قابل للهداية لذلك يقبلونها فيهتدون، وبعبارة أخرى الاهتداء هو نتيجة العطف والرحمة ولذا فصله في الكلام - كذا قيل - .

ص: 175


1- سورة الأحزاب الآية 56.
2- معاني الأخبار ص 368.

الآية158

(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ «158»)

158 - وكما ستواجهون بصعوبات مادية ونفسية ولكم جزاء بالصبر عليها، كذلك ستواجهون بتشريعات إلهية قد تكون فيها صعوبة، فإن صبرتم عليها وامتثلتموها فلكم جزاء عظيم، ومنها فريضة السعي في الحج والعمرة ف- (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ) جبلان في طرف المسجد الحرام (مِن شَعَائِرِ) أي علائم (اللَّهِ) تدلان عليه تعالى ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) أي قصد البيت للحج أو العمرة (فَلَا جُنَاحَ) لا حرج ولا إثم (عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) أي يسعى بينهما ، (وَ) إن الله سيجازيه على سعيه فإن (مَن تَطَوَّعَ) أي أتى بالطاعة - ومنها السعي - (فَإِنَّ اللَّهَ) يجازيه، لأنه تعالى (شَاكِرٌ) أي يجازي على الطاعة (عَلِيمٌ) بمن فعله لا تخفى عليه خافية فكيف تخفى عليه طاعة من قصد رضاه؟

--------------------------------

بحوث

الأول : إن ارتباط هذه الآية بما قبلها وما بعدها هو:

ص: 176

1 - إن الله ذكر في الآيات السابقة لزوم تحمل الصعاب والمشقات النفسية والجسمية والمالية ونحوها مما يصيب الإنسان فينال بصبره صلوات الله ورحمته ويكون مهتدياً ، فناسب ذكر بعض الصعوبات التي تنشأ من التشريعات الإلهية وأن هذه يلزم الصبر عليها أيضاً .

فهناك صعوبات تكوينية، وصعوبات أخرى تشريعية وذكر تعالى السعي كمثال لأنه تشريع يجتمع فيه المشقة الجسمية والنفسية - كما سيأتي توضيحه بعد قليل .

2 - إن الله تعالى ذكر الطواف وصلاة الطواف في آية سابقة (هي الآية (125 فكان ذكر السعي أنسب لتكملة بيان فرائض الحج، ولكي لا يكون تكراراً - كذا قيل ..

3 - إن في هذا المثال - أي السعي - دحض لتوهمات الكفار كما كان في آيات القبلة دحض لحججهم، فناسب السياق .

4 - لما بین الله نعمته على المؤمنين - بالصلوات والرحمة والاهتداء وهي نعم معنوية أراد بيان نعمة من نعمه في المشاعر حيث أنعم الله على المؤمنين بأن جعل الجبلين من شعائره ليتقرب الناس إليه تعالى بالسعي بينهما، ومع أن الكون كله له لكنه خصص بعض الأماكن لتكون شعيرة له - ليعبده الناس فيها ، ولما كان المشركون حولوا هذه الشعيرة إلى كفران لنعمه بالشرك ونصب الأصنام، أراد تعالى بيان أن شعيرته لا تفقد قيمتها بفعل المبطلين، كما لم تفقد الكعبة أهميتها بنصب الأصنام فيها، بل على المؤمنين عبادته فيها لتزول آثار الشرك وكفران النعمة .

وكان من قصة الجبلين - الصفا والمروة (1): .

ص: 177


1- راجع تفسير البرهان ج2، ص 43.

بین

إن قريشاً كانت وضعت أصنامها بین الصفا والمروة، وكانوا يتمسحون بها إذا سعوا ، فلما كان من أمر رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ما كان في غزوة الحديبية، وصدّوه عن البيت وشرطوا له أن يُخلوا له البيت في عام قابل حتى يقضي عمرته ثلاثة أيام، ثم يخرج عنها، فلما كانت عمرة القضاء في سنة سبع من الهجرة، دخل مكة، وقال لقريش ارفعوا أصنامكم من الصفا والمروة حتى أسعى فرفعوها فسعى رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم بين الصفا والمروة ورفعت الأصنام، وبقي رجل من المسلمين من أصحاب رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم لم يطف، فلما فرغ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم من الطواف رَدَّت قريش الأصنام بين الصفا والمروة، فجاء الرجل الذي لم يسع إلى رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم فقال : قد ردّت قريش الأصنام ولم أسع؟ فأنزل الله تعالى ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمُ ) الآية .

الثاني: قوله تعالى : (مِن شَعَائِرِ اللَّهِ) .

الشعائر جمع شعيرة، وأصلها من الشّعار - وهو الثوب الملتصق بشعر البدن - ثم استعمل في كل شيء يرتبط ارتباطاً وثيقاً بشيء ويدل عليه، ويكون علامة له .

وكون شيء من شعائر الله تعالى يحتاج إلى تشريع من الله سبحانه إما بتشريع خاص أو بتشريع عام، وإذا لم يكن تشريع من الله فنُسِب إليه تعالى كان من الافتراء عليه تعالى (قُلْ ءَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أم عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) (1) .

والشعائر على أقسام : .

ص: 178


1- سورة يونس، الآية: 59.

1 - ما يتعبد فيه لله، فالصفا والمروة ومشاعر الحج والمساجد ونحوها كلها من شعائر الله تعالى لأنها أماكن يعبد الله فيها بإذنه، قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ) (1).

2 - ما يتعبد به الله - أي العبادات - فالصلاة والصوم والحج ونحوها كلها شعائر الله لأنها عبادة له تعالى بأمره.

3 - ما تقع العبادة عليه كالبعير الذي يساق للنحر في الحج قال

تعالى ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْناهَا لَكُم مِّن شَعَائِرَ اللَّهِ) (2)

ثم بيان أن الصفا والمروة من شعائر الله، مع أن كل معالم الحج هي من شعائره تعالى لأجل أن المسلمين ما كانوا يعلمون أنها من أعمال الحج، بل كانوا يتصورون أنه شيء يعمله المشركون تعظيماً للأصنام (3)، كما أن المشركين ما كانوا يعلمون أنه من نسك إبراهيم ، فلذا جاء هذا البيان تأكيداً على أن تحريف المشركين لا يضر بأصل الشعيرة الإلهية، بل يلزم تطهير تلك الشعائر من أعمالهم وأصنامهم، وكذا كل عبادة أو نسك أو أمر ،خير أمر الله تعالى به ثم حوّله المبطلون إلى ما يريدونه من باطل يلزم إرجاعه إلى نصابه الذي أمر الله به لا تركه .

،

الثالث : قوله تعالى ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ) .

(الجناح) بمعنى الإثم والحرج من مادة (ج ن ح) التي تعني في جذرها اللغوي الميل والعدوان (4) ، وكلمة لا جناح تعطي معنى الجواز -

شَعَائِرَ اللَّهِ9

ص: 179


1- سورة المائدة، الآية: 2 .
2- سورة الحج، الآية: 36.
3- عن الإمام الصادق : إن المسلمين كانوا يظنون أن السعي بين الصفا والمروة شيء صنعه المشركون الجوهر الثمين: ج 1 ، ص 166 .
4- مقاييس اللغة 209

بالمعنى الأعم ، وإنما استعملت هذه الكلمة في السعي - مع أنه واجب ويبطل الحج بتركه عمداً - لأجل دفع توهم الحظر، حيث إن المسلمين كانوا يتصورون أنه من عمل المشركين وأنه تعظيم للأصنام - كما مرّ - فرفع الجناح بعد توهم الحرمة يدل على الجواز - بمعناه الأعم مما يشمل الوجوب أيضاً - ولا يدل على خصوص الإباحة بمعنى جواز الترك أو الفعل، نظير قول الطبيب لمن شُفي من مرضه : لا بأس عليك في الصيام، فقوله هذا لرفع المنع لا لإثبات جواز الترك.

فأصل جواز السعي دل عليه القرآن وخصوص الوجوب دلت عليه الضرورة والسنة المتواترة والإجماع .

كما أن الآية دلت على كون السعي من أجزاء الحج، لأن العبادات توقيفية من الشريعة لا يجوز الزيادة ولا النقيصة فيها ، فإذا جاز فعل شيء في العبادة - أي في ذاتها لا فيما كان خارجاً عنها - دل ذلك على كونه جزءاً منها .

وأما حكمة تشريع السعي - إضافة إلى العلة العامة في أصل الحج ومناسكه - أنه مذلة للجبارين، فعن الإمام الصادق أنه قال : «ما من بقعة أحب إلى الله عز وجل من المسعى لأنه يذل فيها كل جبار » (1) .

الرابع : قوله تعالى ﴿وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا).

التطوّع هو فعل الطاعة ولا دلالة للكلمة على الاستحباب نعم تعارف عند المتشرعة أن تطلق كلمة (التطوع) على فعل النافلة، ولا تحمل ألفاظ القرآن على الاصطلاحات المتأخرة، قال في المفردات : .

ص: 180


1- وسائل الشيعة ج 13، ص 467.

والتطوع - في الأصل - تكلّف الطاعة وهو في التعارف : التبرع بما لا يلزم كالتنفل (1).

وفي هذا المقطع دلالة على أن السعي خير - لا كما توهموه من أنه من فعل المشركين ، وأنه طاعة الله تعالى وأن إطاعة الله تعالى أفضل لهم من اتباعهم لأوهامهم.

وقد استعملت كلمة (تطوع) هنا، وفي الصوم (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَن كان مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (2) ، وهو من باب (التفعّل)، ومن معانيه التكلّف مثل تش- وتحلّم أي أظهر من نفسه الشجاعة والحلم بكلفة(3)، ولعل استعمال هذه تشجع أما الكلمة بدل أطاع) - مثلاً - فيه دلالة على صعوبة الأمرين عليهم، السعي ففيه المشقة والهرولة ومذلة الجبارين، مضافاً إلى توهم مجاراة المشركين، والمشقة في الصوم واضحة.

الخامس : قوله تعالى ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ)

أي يثيب على الطاعة، وليس لأحد فضل على الله تعالى لكي يستحق شكراً منه منه، وإنما هو تفضل آخر منه تعالى حيث تفضل بالنعم وأمر بالشكر، فلمّا شُكر تفضل مرة أخرى بأن جازى بأحسن الجزاء، وفي مجمع البيان: وإنما ذكر لفظ الشاكر تلطفاً بعباده، ومظاهرة في الإحسان والإنعام إليهم، كما قال ومَن ذَا الَّذِى يُقرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَعِفَهُ لَهُم .

ص: 181


1- المفردات ص 530.
2- سورة البقرة، الآية: 184.
3- راجع شرح النظام ص 149 في معاني باب (التفعّل).

أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْضُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (1)، والله سبحانه لا يستقرض عن عوز ولكنه ذكر هذا اللفظ على طريق التلطف أي يعامل عباده معاملة المستقرض - من حيث إن العبد ينفق في حال غناه، فيأخذ أضعاف ذلك في حال فقره وحاجته ، وكذلك لما كان يعامل عباده معاملة الشاكرين - من حيث إنه يوجب الثناء له والثواب - سمى نفسه شاكراً (2).

ثم إنه تعالى أضاف لفظ (عَلِيمٌ) للدلالة على أنه لا تخفى عليه خافية فيجازي جميع من تطوع خيراً، وليس كالناس حيث يخفى عليهم أحياناً إنعام الغير فلا يشكرونه - جهلاً به أو بإنعامه - . .

ص: 182


1- سورة البقرة، الآية: 245
2- مجمع البيان ج 1، ص 612 .

الآيات 159-162

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ «162»)

159 - كما يُواجه المسلمون بالمشركين الذين يحاربونهم عسكرياً ويقتلون منهم ، كذلك يُواجهون بمن يحاربهم فكرياً، وأول طرق الحرب الفكري هو كتمان الحقائق ولذا يُسلّي الله المؤمنين بما ينتظر أولئك الكاتمين من العذاب (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ) أي العلائم الواضحة كالأدلة الدالة على كون الإسلام ورسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم حق (وَ) يكتمون ما أنزلنا من (الْهُدَىٰ) أي ما يهدي إلى الحق كأحكام الشرع، فالبينات في الأصول والهدى في الفروع (مِن بَعْدِ مَا بَيْنَاهُ لِلنَّاسِ) أي أنزلناه بالوحي لينتشر عن طرقه الطبيعية في الناس ومن وسائل وصوله للناس هم هؤلاء العلماء، لكن كتمانهم يسبب عدم وصوله إلى بعض الناس (أُولَئِكَ) الكاتمون (يَلْعَنُهُمُ اللهُ ) يطردهم من رحمته (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ والرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم

ص: 183

والأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ من اللاعنين، وهذا لعن في الدنيا، وسيكون لهم لعن عام في الآخرة إذا لم يتوبوا .

160 - ﴿إِلَّا الَّذِينَ) رجعوا عن غيّهم فإن الله سيرجعهم إلى رحمته ولكن بشروط ثلاثة :

أ - أن يكونوا قد (تَابُوا) أي ندموا على كتمانهم.

ب - (وَأَصْلَحُوا) أعمالهم بعد التوبة، فالتزموا بالشرع في أعمالهم القادمة .

ج_-(وَبَيَّنُواْ) للناس الحق حتى يزول أثر كتمانهم السابق على التوبة فيصل الحق إلى الناس فالإصلاح لما يأتي والبيان لما سبق.

وحينئذ فيتفضل الله عليهم بقبول توبتهم (فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) وذلك بإرجاع الرحمة واللطف عليهم (وَأَنَا التَّوَّابُ) كثير القبول للتوبة فلا أرُدّ تائباً، ولكن ذلك لا بسبب استحقاقهم بل بفضل من الله لأنه هو (الرَّحِيمُ)

161 - أما إذا لم يتب هؤلاء الكاتمون - وكذا سائر الكفار المعاندين فإن لهم أشد العقوبة، ف- (إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بعناد، ومنهم الكاتمون، ولم يتوبوا ﴿وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارُ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعَنَةُ اللَّهِ) بابعادهم عن رحمته إلى نقمته ، (وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) وهذه لعنة في الآخرة

162 - (خَالِدِينَ فِيهَا) في اللعنة، ومن كان خالداً في اللعنة فلا

ص: 184

يستحق الرحمة لذا (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ﴾ أي لا يمهلون للتوبة فإنها تنقطع عند الموت، أو بمعنى لا ينظر الله إليهم بنظرة رحيمة .

-----------------------------

بحوث

الأول قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَأَهُدَىٰ مِنْ بَعْدِ مَا بَيْنَاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ اللَّاعِنُونَ).

(الكتمان) هو إخفاء الأمر الذي يحتاج إلى البيان، وإلا فالسكوت عن الأمر الواضح للجميع لا يُسمى كتماناً - إلّا بعناية -، وأسوأ أنواع الكتمان أن يحمّل الإنسان أمراً لكنه يستره عمن حُمّل إليه، ولذا كان تكليف العلماء بالتبليغ أشد من تكليف غيرهم، قال تعالى ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ، فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (1).

وهذا الكتمان تجنّ على عامة الناس لأنه سبب حرمان الكثير من الحق، إذ هذا الكتمان هو من أهم أسباب الاختلاف عن الحق، كما قال تعالى ﴿وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيَا بَيْنَهُم) (2) وحيث كان الكتمان جناية عامة لذا استوجب الكاتم لعن الناس أجمعين، لأنه من 3

ص: 185


1- سورة آل عمران الآية: 187
2- سورة البقرة، الآية: 213

أسباب ضلال الضالين ومن أسباب وقوع المهتدين في مختلف الصعوبات .

نعم إذا كان الكتمان لا يوجب ضرراً على الدين وكان لحفظ النفس - مثلاً - كان جائزاً ، كما قال تعالى ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ) (1) ، فكتمانه إيمانه لم يتسبب في كتمان أمر الله تعالى إذ كان مبيّناً لآل فرعون عن طريق موسى وهارون علیهما السلام ، بل كان لحفظ نفسه مع تحين الفرص للدفاع عن الدين و عن موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، ولذا لو كان أصل الدين في خطر لم يكن مجال للتقية أبداً .

الثاني : قوله تعالى (مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ).

الأظهر أن (البينات) هي دلائل التوحيد والنبوة وسائر أُصول الدين و (الهدى) هي أحكام الشرع في فروع الدين ولذا كانت معاجز الأنبياء بينات لأنها تدل على نبوتهم وصدقهم فيما يقولون .

وقيل : البينات علوم الشرع والهدى أدلة العقل، وقيل: البينات العلائم الدالة على محمد رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ، والهدى الأمر باتباعه، إذ قد يكون نبي ولا يجب اتباعه بل يجب اتباع غيره من الرسل، وقيل: البينات العلائم عليه والهدى أحكامه .

ثم إن أبرز المصاديق رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم والأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ، ولذا وردت روايات في تفسيرها في علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ والأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ (2)، وهو تفسير بالمصداق - كما مر نظيره مراراً -. .

ص: 186


1- سورة غافر، الآية: 28.
2- راجع تفسير البرهان ج2، ص 45 .

الثالث : قوله (مِنْ بَعْدِ مَا بَيْنَاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ) .

أي بعد إنزاله بالوحي على الأنبياء وبعد تشريعه، وأما قبل التشريع فلا مشكلة في السكوت عنه ، كمن كان يعلم بأنه ستشرع أحكام مستقبلاً ولكنه ينتظر زمان تشريعها .

كما دلت الآية على أن البيان لعامة الناس إنما يكون عن الطرق المعهودة وهي اصطفاء رسول ليبلغ ما أنزل إليه ثم يبلغ الحاضر الغائب، والعالمُ الجاهلَ، ليصل إلى جميع الناس، فإذا لم يُبلِّغ الحاضرُ وكتم العالم فإنه سوف لا يعلم كثير من الناس بذلك الحق ويبقوا في ضلالهم، وهذه جريمة عظيمة بحق البشرية جمعاء.

و(الكِتابِ) هو نوع الكتب السماوية، فاللام للجنس، ومن مصاديقه التوراة والإنجيل المذكور فيهما أوصاف النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم، قال تعالى (الَّذِى يَجدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنِجيلِ) (1) .

ومن مصاديق الكتاب القرآن والكتمان فيه يكون عن طريق صرف معانيه التي أرادها الله تعالى إلى غيرها كالتفسير بالرأي أو كتمان المراد من بعض آياته، ويكثر هذا النوع من الكتمان في الآيات النازلة في أهل البيت ، ولذا ورد عن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ في تفسير (مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَأَهْدَىٰ﴾ الآية: (يعني بذلك نحن والله المستعان وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى في علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ (2)، وكما مرّ فإنه تفسير بالمصداق . .

ص: 187


1- سورة الأعراف الآية: 157.
2- راجع تفسير البرهان ج 2، ص 45 عن تفسير العياشي.

الرابع : قوله تعالى (أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).

قد مرّ في الآية 88 من سورة البقرة شيء من البحث في اللعن، وقد تكرّر اللّعن هنا ،مرتين مرّة لعنهم في الدنيا وهو ما تشير إليه هذه الآية، ولذا قال (يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) وهم طائفة من الناس، وفي بعض الروايات ) إنهم الأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ (1) ، ومرّة أخرى لعنهم في الآخرة وهو ما تشير إليه الآية 161 و 162 وهو لعن عام (لَعَنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) لأن الكل - حتى أتباعهم - سيلعنونهم في القيامة .

ولعنهم في الدنيا : هو بالتضييق عليهم، وإضلالهم، وعدم هدايتهم، والإملاء لهم ليزدادوا إثماً، ويجمعه سلب التوفيق عنهم، ولعنهم في الآخرة هو أشد العذاب الذي يصلونه وبئس المهاد.

ثم إن اللعن من الله هو الطرد من الرحمة واللعن من الناس والملائكة هو الدعاء عليهم ليطردهم الله من رحمته .

ولا يخفى كفاية لعن الله لهم، ولكن الله تعالى أراد إثابة اللاعنين بلعن هؤلاء الكاتمين كما أراد بيان شناعة جريمة الكاتمين وأيضاً إيجاد حصانة نفسية ضد الملعونين إذا كان اللاعنون من عامة الناس وأيضاً بيان عدم غفرانهم، لأن الله قد يرحم المذنب فيغفر له، ولكنه لا يغفر لمن يلعنه الملائكة والأنبياء والأئمة والمؤمنين، لأن استجابة دعائهم أولى وقد وعد تعالى باستجابة الدعاء، فيكون هذا كالبيان لسبب عدم غفرانهم إذا لم يتوبوا .

الخامس : قوله تعالى ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُوا)..

ص: 188


1- البرهان ،ج 2، ص 46 عن تفسير العياشي.

لعظم الجرم لا بد في غفرانه من مراحل ثلاث تكفلت الآية الكريمة

ببيانها، ويمكن تفسير الآية بنحوين :

النحو الأول : إن المراحل الثلاث هي:

الندم على الفعل، فقال (الَّذِينَ تَابُوا).

2 - إصلاح الضمير ، فقال (وَأَصْلَحُوا) وذلك ليكون الندم لأجل مخالفته أمر الله لا لأجل أمر دنيوي كتزلزل المكانة الاجتماعية أو سوء السمعة أو الخوف من سلطان قاهر ونحو ذلك، فالندم لأجل هذه الأمور لا قيمة له، بل يجب أن يكون ندماً على ما فرّط في جنب الله تعالى .

3 - البيان للناس فقال: ﴿وَبَيَّنُوا) ، لكي يرجع إلى الحق من ضل بسبب هذا الكتمان وكذلك ليهتدي سائر الناس، ولتقوى شوكة المؤمنين وعبرت الآية عن الأمر الأول - وهو الندم - بالتوبة، لأنها بمعنى الرجوع إليه تعالى، ولا رجوع إلَّا بالندم على التفريط، وعن الأمر الثاني بإصلاح ما فسد من عقائدهم ونياتهم وضمائرهم، وعن الأمر الثالث بالبيان فإنهم ببيان توبتهم وإظهارها أو ببيان الحق للعامة يكونون قد أرجعوا من ضلّ وهدوا آخرين إلى الحق.

النحو الثاني: أن تكون المراحل الثلاث :

1 - (الَذَّينَ تَابُوا) أي الندم المقرون بالاعتراف بالتقصير الَّذِينَ والاعتذار منه فلا توبة مع عدم الندم ولا مع عدم الاعتراف ولا مع عدم الاعتذار فمن ندم على جرمه واعترف به لكنه لم يعتذر فلا توبة له، ولذا جعل الاستغفار من مراحل ،التوبة فلا توبة من غير استغفار وهذا هو المتبادر من كلمة التوبة لدى المتشرعة.

ص: 189

2 - ﴿وَأَصْلَحُوا) أي أصلحوا في أعمالهم القادمة، أي بعد التوبة التزموا بجادة الشرع واستمروا عليها .

3 - ﴿وَبَيَّنُوا) يرتبط بأعمالهم الماضية، أي أزالوا أثر تلك الأعمال الفاسدة ببيان الحق وهداية من أضلوهم.

قوله تعالى ﴿وَبَيَّنُوا) أي بينوا الآيات والأدلة الدالة على حقيّة الشرع، وكذا بينوا أحكام الشرع، وفي الحديث : إذا ظهرت البدع في أمّتي فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة اللَّه» (1).

السادس : قوله تعالى ﴿فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

التوبة من الله هي إرجاعه ألطافه إليهم بعد قطع رحمته عنهم .

ولا يخفى أن المجرم الذي يعلم الله تعالى بأنه يتوب ويموت على الإيمان فإن الله لا يبغضه أبداً - لعلمه بصلاح مآله - وإنما يبغض عمله حين ارتكابه المعاصي وكذا المؤمن الذي يعلم الله تعالى بارتداده وموته على الكفر فإن الله لا يحبه أبداً - لعلمه بماله ، وإنما يحب الصالح، وفي الحديث عن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : «إن الله خلق السعادة والشقاء قبل أن يخلق خلقه، فمن خلقه سعيداً لم يبغض عمله، وإن عمل شرّاً أبغض عمله ولم يبغضه وإن كان شقيّاً لم يحبّه أبداً، وإن عمل صالحاً أحب عمله، وأبغضه لما يصير إليه فإذا أحب الله شيئاً لم يبغضه أبداً، وإذا أبغض شيئاً لم يحبه أبداً (2) . والمراد علم الله بشقائه أو سعادته، فراجع شرح أصول الكافي. .

ص: 190


1- أصول الكافي ج 1، 71 .
2- أصول الكافي ج 1 ، ص 173 .

ثم إن قبول التوبة لطف من الله تعالى على عباده، مع عدم المحذور من معاقبته حتى لو ندم ولذا نرى العقلاء لا يتركون عقاب المجرمين بمجرد ندمهم واعترافهم واعتذارهم، بل حتى في أحكام الشرع قد لا تسقط العقوبة بالتوبة سواء العقوبة الدنيوية كالمحارب إذا تاب بعد ، المقدرة عليه، أما قبل المقدرة عليه فتسقط قال تعالى ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) (1) ، أم العقوبة الأخروية كالذي يتوب عند معاينة الموت، قال تعالى ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّى تُبْتُ الئٰنَ) (2).

و (تَوَّابٌ) صيغة مبالغة بمعنى أنه لا يردّ تائباً - أيّاً كان جرمه - ثم إنّ هذه اللعنة العامة من الناس أجمعين إنّما هي في الآخرة، لوضوح أن الأكثر لا يلعن في الدنيا، ولكي لا يكون تكراراً في الآيتين فهي نظير قوله تعالى ﴿وَأَتبعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَة) (3).

في الآخرة الكل يلعن الكافرين حتى أتباعهم ويلعن بعضهم بعضاً، قال تعالى (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أَخْتَهَا ) (4) ، وقال (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بعضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا) (5).

وأما الخلود في النار فقد مرّ الكلام في أسبابه في الآية (81) فراجع.

ثم إن هنا أموراً ثلاثة اللعن عدم تخفيف العذاب عدم الإنظار ،وكل واحدة منها تشير إلى جانب من عقوبة هؤلاء.

ص: 191


1- سورة المائدة، الآية: 34.
2- سورة النساء الآية: 18.
3- سورة هود، الآية: 60.
4- سورة الأعراف الآية: 38.
5- سورة العنكبوت الآية 25.

1 - فاللعن : بمعنى الطرد عن الرحمة وإلى الأبد.

2 - وعدم تخفيف العذاب : بمعنى كونه شديداً على وتيرة واحدة من غير تقليله لا كمّاً ولا كيفاً، كما قال (وَنَادَوْا يَامَلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ) (1) ، وقال ﴿وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفَ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ) (2).

3 - وعدم الإنظار : بمعنى عدم أمهالهم لكي يعتذروا أو ليتوبوا ، كما قال تعالى ﴿وَلَا يُؤذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (3) وقال (بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ) (4) ، وعدم إمهالهم إنما هو لكذبهم في اعتذارهم قال تعالى ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) (5).

ويجوز أن يكون (يُنظَرُونَ﴾ من الثلاثي المجرد المبني للمجهول فالمعنى لا ينظرهم الله برحمته وكذلك المؤمنون، قال تعالى ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقَاتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ اَرْجِعُوا وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نوراً) (6).7

ص: 192


1- سورة الزخرف، الآية: 77
2- سورة غافر، الآية: 49
3- سورة المرسلات الآية: 36 .
4- سورة الأنبياء، الآية: 40.
5- سورة الأنعام، الآيتان: 27 - 28 .
6- سورة الحديد، الآية: 57

الآيتان 163-164

«وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)«إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)

لما كان الكلام حول ابتلاء المؤمنين بالكفار الكاتمين ما أنزله الله، ثم بيان عقوبة هؤلاء في الآخرة، ناسب التأكيد على التوحيد وقدرة الله تعالى وآياته فقال تعالى :

163 - وَإِلَهُكُمْ الذي يستحق العبادة يا أيها الناس (إِلَهٌ وَاحِدٌ) وأما الهوى والشيطان والأصنام ونحوها فليست إلهاً حقيقياً بل آلهة باطلة، والله (لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) وهذا كالدليل على استحقاقه للعبادة، فإنه برحمته خلقكم وأنعم عليكم فلذا عليكم عبادته .

164 - (إِنَّ) الله آيات كثيرة، فعليكم إعمال عقولكم للاعتبار بها، ومنها :

ص: 193

أ - آياته الدالة على قدرته (في خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) والخلق دال على وجود خالق قادر كما أن وجودكم متقوّم بهما .

ب - و آياته الدالة على تدبيره في (اخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ) أَي تعاقبهما، وهذا يكشف عن كونه تعالى مدبراً لأن أمور المخلوقات متوقفة على هذا التعاقب.

ج - (وَ) آياته الدالة على رحمته في (الْفُلْكِ) أي السفن (الَّتِي تَجْرِى فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ) من التجارات والسفر، وهذا يدل على رحمته تعالى حيث جعل قوانين في الطبيعة تخدمكم .

ه- (وَ) آياته الدالة على حكمته في (مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ) «من» بيانية حيث لم ينزل دفعة فيهلك كل شيء، بل نزل بالتدريج وأفاد بالتدريج (فَأَحْيَا بِهِ) بماء المطر (الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) موتها بالقفر وحياتها بالنبات والعمران ﴿وَبَثَّ) أي نشر وفرّق بسبب هذا الماء (مِن كُلِّ دَآبَّةٍ) ما يتحرك على وجه الأرض من الحيوانات والإنسان فإن حياته بالماء.

و - ﴿وَ) آياته الدالة على إحاطة علمه بكل مكان مثل آياته في (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) أي تحريكها بصرفها من مكان إلى آخر (وَ) تصريفها سبب لتصريف (السَّحَابِ الْمُسَخَّرِ) سخره الله ليمطر حيث شاء تعالى والسحاب (بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) فلا هو منخفض بحيث لا يذهب إلى أماكن أخرى ولا هو يرتفع بحيث يضيع في الجو.

وهذه كلها كما تدل على وجوده فإنها تدل على كل صفاته، فإن فيها (لآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي يستعملون عقولهم بالتدبر.

------------------------------

ص: 194

بحوث

الأول : دأب القرآن الكريم هو التأكيد على التوحيد وعلى صفاته تعالى كلّما ذكر ما يناسبهما، ثم الرجوع إلى أصل الموضوع، وذلك لأهمية أمر التوحيد وابتناء كل الدين عليه كذلك هنالك تأكيد كبير على المعاد، فلا تخلو صفحة من القرآن الكريم عن ذكر المعاد إجمالاً أو تفصيلاً، وحيث كان سياق الكلام في الآيات السابقة (159 - 162) حول مصير الكاتمين والكفار كان من المناسب التأكيد على ما يذكر بالله تعالى وبصفاته الآيتان) 163 - 164) ، كما أن فيها التعليل لكثير مما ورد في الآيات السابقة، كالإمامة وبناء البيت والقبلة واللعن والتوبة .. إلخ - كذا قيل ، ثم بعد ذلك يتم الرجوع إلى أصل الموضوع أي ما يرتبط بالمعاد في الآيات التالية (165 - 167) وبها ينتهي فصل مقومات الأمة الإسلامية .

وبعبارة موجزة : لما ذكر الله تعالى الكفر وما يرتبط به، أتبعه بذكر التوحيد وما يذكّر به، ثم ذكر مصير تاركي التوحيد إلى الشرك واتباع المبطلين .

الثاني: قوله تعالى (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ).

الإله - كما مرّ - مشتق من (أَلَهَ) بمعنى (عَبَد) - كما في الروايات - وهناك أقوال أنهاها العلامة المجلسي في مرآة العقول إلى تسعة أقوال(1)، وقد نقلناها في (شرح أصول الكافي)، لكن المعتمد ما في الأحاديث،.

ص: 195


1- مرآة العقول، ج 1، ص 304.

فالمعنى ومعبودكم معبود ،واحد ثم في الآية جهات من التأكيد على وحدانيته تعالى .

1 - قوله إِلَهُكُم) بإضافة الإله إلى ضمير جمع المخاطب - أي إله جميع الناس ، للدلالة على أنه تعالى هو الإله الحقيقي، أما ما اتخذتموه من آلهة فهي باطلة ليست لها ألوهية إلا في زعمكم الباطل.

2 - قوله (إِلَهُ) قيل : وكرر لفظ (الإله) لإفادة أن استحقاق العبادة والمعبودية إنما هو في : الوحدة في الألوهية، فاستحقاق العبادة متقوم بها ، فلو قال إلهكم (واحد لما أفاد هذا المعنى، فتأمل.

3 - قوله (لَا إلَهَ إِلَّا هُوَ) وهذا لتأكيد الوحدانية، ودفع لتوهم أن في الوجود إلهاً آخر لغيرنا، كما زعمت الثنوية بإلهين - إله للخير وإله للشر - ، فإلههم يفترق عن إله الشرور، أو من يعبد صنماً واحداً يعتبره إلهه، ويعتبر إله الآخرين أصناماً أخرى - مثلاً ، فجاء قوله تعالى (لَا إِلَهَ إِلَّا هُو) لنفي هذه المزاعم وأشباهها .

4 - قوله (الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) وذكره لجهات .

منها : لحصر الإله الواحد في الله تعالى، لأنّ الآلهة المزعومة حتى إذا كانت واحداً فإنها إما عاجز لا يصدر منه شيء كالأصنام، أو هو منشأ الشر كالشيطان والهوى وفرعون والعجل ونحوها ، قال (وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ، ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا) (1) .

ومنها : أن (الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) كالتعليل لحصر العبادة في الله تعالى فهو الذي أنعم على عباده بايجادهم ثم غمرهم بنعمه التي إن عدوها لم .

ص: 196


1- سورة طه، الآية: 97 .

يتمكنوا من إحصائها، وفي الجوهر الثمين هو المولى لجميع النعم أصولها وفروعها - وما سواه إما نِعَم أو منعم عليه، فلا مستحق للعبادة غيره

الثالث : قوله تعالى ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) الآية .

الآية الكريمة أمرت بإعمال العقل الذي يشاهد بالبداهة آيات الله العظيمة في الكون بما فيها من الحكمة والتدبير والرحمة والعلم وغيرها، مما يدلّ على وحدانية الخالق، إذ هذه الأمور العظام لا يمكن صدورها الآلهة العاجزة كالأصنام والآلهة البشرية، كما أن تناسق هذه الآيات بعضها مع بعض في ظل نظام موحد وبديع يدل على وحدة الخالق، إذ لو كان متعدداً لكان لكل واحد شأن مما يؤدي إلى اضطراب الأمر والاختلاف، قال تعالى ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (1) . وقال (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَه إِذا لَذَهَبَ كُل إِلَهِ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (2) ، وسيأتي - بإذن الله تعالى - التفصيل في هذا الدليل .

فهذه الآية تدل على نظم كامل تام و تلاؤم بين السماء والأرض وقوانين ،الطبيعة مع عدم خلل ولا خطأ في أي قانون منها، ولذا قيل : إن الكون معصوم بمجمله - بمعنى عدم الخطأ فيه - فكل قوانينه تعالى تشريعية أو تكوينية حق ثابت لا مرية فيه .

وقد ذكر الله تعالى هنا خمساً من آياته التي يشاهدها كل عاقل ،1

ص: 197


1- سورة الأنبياء، الآية: 22.
2- سورة المؤمنون، الآية: 91

ولكن يأمر الله في الاعتبار بها لكي يستعمل عقله في دلالتها على خالق مستجمع لصفات الكمال .

ولا يخفى أن وجود الله تعالى أمر بديهي أودع الاعتقاد به في فطرة كل إنسان، ولذا لم يذكر القرآن الكريم الأدلة على وجوده سوى الإلفات إلى الفطرة، قال تعالى (أفِي اللَّهِ شَكٌ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) (1) ، والأدلة المذكورة في القرآن - ومنها برهان النظم - إنما هي أدلة على وحدانيته وتوحده في الربوبية - واحد في ذاته وواحد في تدبيره -.

وكذلك هذه الآية الكريمة فيها التذكير بآيات تدل على وحدته وصفاته العليا فهي للدلالة على تلاؤم هذه العلامات مما يدلّ على خالق واحد.

فقوله (خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ) للدلالة على قدرته التامة حيث أوجد أعظم المخلوقات.

وقوله (وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ) للدلالة على تدبيره تعالى لأمر الكون بأحسن وجه ونظام.

وقوله (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِى فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ) للدلالة على رحمته فإن الله تعالى أودع في هذا الكون قوانين لم تجعل إلَّا لنفع الناس، ومن أوضح أمثلتها السفن، فإن ميعان البحر وطوفان الخشب عليه - وكذا الحديد إذا صنع بقوانين هندسية خاصة ، كل تلك قوانين طبيعية جعلها الله لخدمة الإنسان، وكلّما اكتشف العلم قانوناً زادنا بصيرة بهذا الأمر، وليس دور الإنسان إلَّا اكتشاف تلك القوانين وتطبيق الحياة عليها لتتسع دائرة الانتفاع بالطبيعة . .

ص: 198


1- سورة إبراهيم، الآية: 10.

ثم قوله ﴿وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَآءِ) للدلالة على حكمته تعالى وأن تلك القوانين جعلت بطريقة يكون بها استمرار حياة الإنسان، فالرياح والسحاب والمطر كلها السبب الرئيس لحياة الإنسان والحيوان إذ لولاها لكانت جميع الأرض جرداء قاحلة غير صالحة للحياة - إذ قوام الحياة الحيوانية والنباتية بالماء الصالح للشرب والزراعة وعامة تلك المياه إنما هي مياه الأمطار، وحتى المياه الجوفية فإنها نتيجة تسرب مياه الأمطار إلى أعماق الأرض.

ثم إن الترتيب في هذه الآيات لوحظ فيه مناسبة الآية السابقة بالآية اللاحقة، فذكر أولاً خلق السماء والأرض لأن سائر الآيات متفرعة عليها ، ثم تعاقب الليل والنهار لأنها كانت بعد خلق السماء والأرض مباشرة ولتقوم الحياة بهذا التعاقب، ثم ذكر البحر لأن أكثر الأرض بحر، يقول اعتبروا بالبَرِّ والبحر، وحيث إنه لا يمكن مشاهدة آيات الله في البحر إلَّا بركوب السفن والدخول إلى لججه ، لذا ذكر (الفلك) بالخصوص - مع أنه من صنع الإنسان ، ثم لما كان المطر ماء - كما أن البحر ماء - جاء ذكر المطر بعد البحر مباشرة مراعاة للبلاغة في الكلام، وتأخر ذكر السحاب مع متقدم زماناً على المطر، وجاء ذكر فوائد المطر - وهي حياة الأرض بالنبات والحيوان - للتذكير بعظم نعمة إنزال الماء من السماء، وبعد ذلك تم ذكر الرياح والسحاب التي يكون المطر في كل مكان بسببهما ، فالرياح تسوق السحاب إلى البلد الميت فيحييه الله تعالى بالأمطار .

الرابع: ذكر بعض المفسرين أن قوله (فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) هو استدلال على وجوده تعالى، وقد ذكرنا أن الآية في صدد بيان الآيات الدالة على وحدانيته وصفاته لا لإثبات أصل وجوده ، ولكن لا بأس بذكر

دليل من أدلة وجوده تعالى - وللتفصيل راجع شرح أصول الكافي- :

ص: 199

إنه ما من شك في وجود شيء قديم لا خالق له ولا بدء له بضرورة العقل، فإن القول بوجود العالم بالصدفة هو تسخيف للعقل الحاكم باستحالة وجود شيء كان معدوماً بالصدفة ومن غير علة.

وهذا القديم إما الله تعالى - كما هو الحق وجهرت به الرسل - وهذا هو المطلوب.

وإما المادة حيث يزعم الماديون الجدد أن المادة قديمة لا أول لها وذلك لأن هؤلاء لما علموا بسخافة القول بحدوثها (صدفة)، اضطروا إلى القول بقدمها-

فيقال لهم إن الانتظام في أمر هذا العالم والدقة غير المتناهية في كل شيء يكشف عن مدبر عالم ،قدير لبداهة العقول باستحالة صدور هذه الأمور الدقيقة من المادة العادمة للحياة وللعلم والقدرة هذا مضافاً إلى التغيّر ينا في القدم - فراجع شرح أصول الكافي -

ثم إن هذه الآيات تذكّر بوجوده وصفاته، لا أنها تعرّفه إذ هو الغنيّ عن تعريف ،مخلوقاته بل ذاته تدل على ذاته، وفي الدعاء (يا من دلّ ذاته على ذاته وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته) (1) ، وكما يقال : لا بد أن يكون المعرِّف أجلى من المعرَّف)، وأي شيء أظهر من وجوده تعالى؟ نعم هناك حُجب من أنفسنا كالأعمى الذي لا يبصر نور الشمس لا لنقص في نورها بل لكون العمى حجاباً للأعمى - لا للشمس ، وهذه الحجب يمكن إزالتها عبر التدبر والتفكر في آياته تعالى - كما في الأحاديث الشريفة (2). .

ص: 200


1- بحار الأنوار، ج 95 ، ص 379 .
2- الأمالي، ص 148 .

الآيات 165-167

اشارة

«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)»

165 - في الآية السابقة ذكرت آيات لقوم يعقلون ومع ذلك فهناك معاندون لا يستعملون عقولهم (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ) أَي يجعل لنفسه (أَندَادًا) أمثالاً - في العبادة والطاعة - (مِن دُونِ اللَّهِ) فلا يطيع الله بل يطيع هؤلاء (يُحِبُّونَهُمْ) أي يحبون أولئك الأنداد کَحُبَّ اللَّهِ) أي كما يحبون الله ، ولكن كلا الحُبين زائف لأن منطلقه المصالح الشخصية، أو بمعنى يحبونهم بدلاً عن حب الله، (وَ) لكن (وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) حيث إن منطلق حبهم هو المتعالية لا شيء آخر . ﴿وَلَوْ) «لو» للتمني أي ليت (يَرَى) رؤية في هذه الدنيا ، أي يعلم - علم اليقين - (الَّذِينَ ظَلَمُوا) باتخاذ الأنداد وحبهم لهم ، (إِذْ) بمعنى الوقت - و«إذ» مفعول يرى - والمعنى

ص: 201

ليت هؤلاء يرون القيامة التي هي الوقت الذي (يَرَوْنَ الْعَذَابَ) ، فيرون (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)، فلا قوة للأنداد، وأن القوة . . . » بدل عن «العذاب» ﴿وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ).

166 - ونتيجة رؤيتهم للعذاب (إذْ تَبَرَّأَ) في ذلك اليوم (الَّذِينَ أتَّبِعُوا) وهم الأنداد المتبوعون (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ) وهم التابعون ﴿وَرَأَوْا) جميعهم - تابعاً ومتبوعاً - (العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) فلا سبب ينقذهم من العذاب، كما لا تنفعهم الأسباب الدنيوية من الرئاسة والمال والقرابة وأشباهها .

167 - (وَ) لما يشاهد التابعون كيف أضلّهم رؤساؤهم المتبوعون ثم في وقت الشدة تبرؤوا منهم، حينئذٍ (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ) - للتمني - (أَنَّ لَنَا كَرَّةً) رجعة إلى الدنيا (فَنَتَبَراً مِنْهُم) في الدنيا ،(كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا) في الآخرة، (كَذٰلِكَ) أي كما يتبرأ بعضهم من بعض ﴿يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ﴾ وهي الاتباع في الأفعال وسائر أعمالهم حال كونها (حَسَرَاتٍ) الحسرة: شدة الندامة، وذلك لأن الأتباع لم ينتفعوا بأعمالهم ولم يساعدهم المتبوعون (وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ)

-------------------------------

بحوث

الأول: (الند) هو الذي يُناد في الأمر أي يأتي برأي غير رأي صاحبه - كما في المقاييس (1) . ولذا فسّره بعضهم بالشريك المضاد، إذ .

ص: 202


1- معجم مقاييس اللغة، لابن فارس ص 962 .

لا مضادة إلَّا في اختلاف الرأي، وهذه قرينة على أن المراد بالأنداد في الآية الرؤساء المضلّون، كما يستفاد ذلك من الآية التالية حيث يقول تعالى (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتَّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) الآية .

ومن هنا يظهر أن اتخاذهم أنداداً ليس بمعنى عبادتهم، بل بمعنى طاعتهم، فالمعنى أن بعض الناس يتخذون لأنفسهم رؤساء يختلف رأيهم عن حكم الله فيتبعونهم ويطيعونهم .

وقوله (مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا) في هذه الآية، وقوله في آيات أخرى (لِلَّهِ أَندَادًا)، إنما هو لأجل أن الفعل هو لأجل أن الفعل هو «الاتخاذ والاتخاذ ليس الله بل لأنفسهم فكانت هذه الآية ﴿يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا) أي يتخذ لنفسه، وأما في تلك الآيات فالفعل هو «الجعل» وجعلهم إنما هو الله وليس لأنفسهم قال تعالى ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (1) ، وقال (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لَيُضِلُّوا عَن سَبِيلِهِ) (2).

الثاني: قوله تعالى (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ).

(الحب) : حالة نفسانية خاصة توجب انشداد المحب إلى المحبوب وهي حالة تغاير سائر الحالات النفسانية، وتفسيره بالإرادة غير صحيح، فإن الإرادة حالة نفسانية أخرى .

وهؤلاء يحبون الله بفطرتهم، ولكنهم يحبون الأنداد المصالحهم وشهواتهم، والنتيجة هو أنهم يعظمون هؤلاء الأنداد كما يعظمون الله

ص: 203


1- سورة البقرة، الآية: 22.
2- سورة إبراهيم، الآية: 30.

تعالى، وحيث إنهم مع مصالحهم فيدورون ما دارت، فلذا في الدنيا - حيث المصالح - يحبونهم فيتبعوننهم، وفي الآخرة - حيث العذاب - يبغضونهم فيتبرؤون منهم، وفي ذلك دلالة على أن منطلق ذلك دلالة على أن منطلق حبهم للأنداد لم يكن الواقع وإنما المصلحة، وهذا الحب يتبدل بتبدل النفع إلى الضرر.

ويمكن أن يكون المعنى يحبونهم كالحب الواجب الله - بإطاعته - فيكون المراد يطيعونهم بدلاً عن إطاعة الله - كذا قيل ..

ومنشأ الحب أحد أمور ثلاثة :

1 - الشهوات - وهي حوائج الجسم ، قال تعالى ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِن النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِن الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَتَابِ﴾ (1) ، فالإنسان يحتاج إلى هذه الأشياء فيحبها، وإذا استفاد منها بالمقدار المشروع فلا بأس به لأنه متاع الحياة حيث تقوم بها، والدين ينظم هذه الشهوات بطريقة سليمة تناسب جسم الإنسان ولا تضر بروحه .

2 - القوة العاقلة - وهي حوائج النفس - كالحب الفطري للمظلوم واليتيم والمضطهد فإن منطلق الحب ليست حاجة الجسم، بل المنطلق هو الخير وإرشاد العقل إليه، قال تعالى (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُو الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ )(2).

ص: 204


1- سورة آل عمران الآية: 14.
2- سورة الحشر، الآية: 9.

3 - المعرفة والعلم، وذلك مثل حب المؤمنين الله تعالى ومنطلقه معرفتهم بالله تعالى، وكحبهم لأولياء الله تعالى، وذلك لمعرفتهم بارتباطهم به عزّ وجلَّ وأمره بحبهم، قال تعالى (فَسَوْفَ يَأتِي اللَّهُ بِقَوْمِ یُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)(1).

ثم إن المحبة من الله ليست بمعناها في الناس، لأن الحب انفعال نفساني والله تعالى منزّه عن ذلك، بل الحب منه بمعنى ترتيب أثر الحب من التوفيق والهداية والعزة والثواب ونحوها فهي من صفات الفعل لا من صفات الذات.

ثم إن محبة أولياء الله تعالى متصلة بحبه سبحانه، لأنها بأمره فمن أحب شخصاً امتثالاً لأمر الله بحبّه، فقد أحب الله تعالى فلا يكون حبّاً من دون الله، بل هو حب بإذن الله سبحانه وتعالى، بل لا يمكن حب الله إلا عبر إطاعة أوليائه، قال تعالى (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله) (2).

الثالث : قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ).

إنما جيء بهذه الجملة في وسط الآية التي تتكلم عن أحوال الكفار لأجل الدلالة على أن منطلق حب الكفار الله ليس الواقع الذي تقتضيه فطرتهم بل حب مصلحي، عكس المؤمنين الذين يحبونه تعالى لمعرفتهم بعظمته ونعمته فيطيعونه إطاعة ،تامة كما قال أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ قوم عبدوا الله عزّ وجلّ خوفاً فتلك عبادة العبيد وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى

ص: 205


1- سورة المائدة الآية: 54 .
2- سورة آل عمران الآية: 31.

طلب الثواب، فتلك عبادة الأجراء، وقوم عبدوا الله عز وجلّ حبّاً له، فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة (1) ، وقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ : ما عبدتك خوفاً من نارك ، ولا طمعاً في جنتك، لكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك (2).

ثم إنّ أشدّية حب الذين آمنوا الله من وجوه :

1 - لأن منطلقه العلم والمعرفة - لكماله ولإنعامه شكراً له ، ومنطلق أولئك في محبة الأنداد هو المصلحة والجهل.

2 - لأن حبهم ثابت - في الدنيا والآخرة - لأنه عن إخلاص، أما محبة الأنداد فهي تدور مدار المصلحة وفي الدنيا فقط.

3 - لأن حبهم في كل الظروف - في الشدة والرخاء ، أما أولئك فالمحبة في ظرف الرخاء وأما في الشدة فيتبرأ بعضهم من بعض .

4 - إنهم يطيعونه في السر والعلن وأولئك يطيعون الأنداد في العلن فقط .

والحاصل - كما قيل : حب المؤمنين لله المعرفة والكمال لذا كان ثابتاً، وحب الأنداد حب مادي لأمر مادي، لذا

كان عرضيّاً زائلاً .

الرابع: قوله (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) الآية .

(لَوْ) هنا للتمني، أي ليت يرى هؤلاء - بعيون قلوبهم - رؤية في

ص: 206


1- أصول الكافي، ج 2، ص 127.
2- بحار الأنوار، ج 67 ، ص 186 .

هذه الدنيا كما في قوله (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ «5» لَتَرَوُنَ الْجَحِيمَ﴾ (1) أي سترون بعيون قلوبكم الجحيم المعدة لمن ألهته دنياه.

ولا يمكن جعل (لو) هنا بمعنى الشرط المطلق وجعل (ترون) بمعنى الرؤية في يوم القيامة، إذ (لو) حرف امتناع لامتناع ورؤية العذاب في الآخرة واقع لا محالة فليس ممتنعاً .

ومفعول (يرى) هو (إذ) لأنها اسم ظرف بمعنى الوقت، أي ولو يرى الظالمون وقت العذاب - وهو القيامة - وقوله (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ) بدل عن (إذ) ، فتكون في مرتبة مفعول ( يرى).

فحاصل المعنى : ليت الظالمين يعلمون - علم اليقين - بالعذاب الأخروي وبأن القوة لله جميعاً لا لأندادهم وبأن الله شديد العذاب .

ولا يخفى أن (لو) التي بمعنى التمني، هي أيضاً حرف شرط يحتاج إلى الجزاء، والجزاء هنا محذوف لدلالة سياق الكلام عليه - وهو الآية التالية -، فالجزاء هو التَبرّؤوا من الأنداد في هذه الدنيا لا أن يقولوا في الآخرة: (ليتنا كنا نتبرأ من الأنداد في الدنيا حتى لا نبتلى بهذا العذاب الشديد).

وقوله (شَدِيدُ الْعَذَابِ) ليس تكراراً لقوله (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ) ، بل المعنى أنهم وقت العذاب يشاهدون أن القوة منحصرة في الله وأن عذابه شديد فالأول للزمان - أي زمان العذاب ، والثاني للفعل - أي نزول العذاب الشديد عليهم -.

الخامس : قوله تعالى إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتَّبِعُوا) الآية . .

ص: 207


1- التكاثر، الآيتان: 5 - 6.

هؤلاء كانوا يحبون الأنداد لكن كيف سيجازيهم هؤلاء؟ لا يجاوزون حبهم إلا بالتبرؤ منهم، كما أن الله سيجازيهم بالعذاب، وهذا الترتيب من بلاغة القرآن ودقة ترتيبه فسبحان الذي أنزل الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وقدم التبرؤ على العذاب - في اللفظ - لأنهم كانوا يتوقعون النفع من أندادهم فيكون تبرؤهم منهم أشد وقعاً على قلوبهم، أو لأن التبرؤ يسبق العذاب .

وتخاصم الأتباع من المتبوعين يستمر وهم في القيامة وهم في النار، قال تعالى (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفٰوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ) (1) وقال ﴿وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُالضُّعَفٰوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ) (2) ، وقال تعالى ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (3).

وقوله (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) ، أي السبب الذي ينجون به من العذاب غير موجود في الآخرة، فإن الأسباب من الرئاسة والمال والقرابة والقوة كلها تزول في الآخرة، ولا سبب إلَّا طاعة الله تعالى، فتلك الأسباب كانت في الدنيا لكنها انقطعت في الآخرة.

وقوله (وَتَقَطَّعَتْ) - باب التفعل - للدلالة على المبالغة في القطع فلا أمل في بقاء شيء منها، أو المعنى أسباب المودة بين التابع والمتبوع - وهي المصلحة - تنقطع، فتتحول إلى عداوة.

السادس : قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ) الآية . .

ص: 208


1- سورة إبراهيم، الآية: 21
2- سورة غافر، الآية: 47 .
3- سورة ص، الآية: 64.

يتمنون الرجوع إلى الدنيا ليتبرؤوا من أندادهم، إذ لا فائدة للتبرؤ في الآخرة بل هو مزيد عذاب عليهم فيتألمون نفسيّاً من ذلك كما يتألمون جسديّاً بأنواع العذاب، وإنما المفيد هو التبرؤ في الدنيا واتباع الحق .

ثم إن الغرض من هذا الإخبار المستقبلي هذا الإخبار المستقبلي، هو تحذير الناس من اتباع الأنداد، وتنبيهم بأن اتباعهم إن كان لأجل المنفعة، فإنهم لا يغنون من عذاب الله، بل حتى إنهم غير مستعدين لتحمل المسؤولية في الإضلال ولا يعتذرون ممن أضلوهم، فلا منفعة في متابعتهم أصلاً فليحذروا الآن كي لا يندموا حين لا ينفع الندم.

السابع : قوله تعالى ﴿يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ) .

لعل الآية تدل على تجسم الأعمال، فأعمالهم تحضر فيشاهدونها وهم يتحسرون لماذا أضاعوا الفرصة، فإن هذا العمل كان يمكن أن يكون في طاعة الله ليكون رضواناً وجناناً.

أو هذه الإراءة لمزيد عذابهم، حيث يضاف إلى عذابهم الجسمي عذاب نفسي ،بحسرات ولعل الجمع للدلالة على أن كل عمل يستتبع ،حسرة، فكلما رأى عملاً تحسّر، ثم العذاب الجسدي الخالد ﴿وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ).

فصارت مراحل العذاب ثلاثاً - عذابان نفسيان، وآخر بدني - 1 - تمني التبرؤ، 2 - الحسرات، 3 - الخلود في النار .

الثامن في جملة من الأحاديث الشريفة، بيان لمصاديق مما ذكر في الآية (1) : .

ص: 209


1- راجع الروايات في تفسير البرهان ج2، ص 49 - 52 .

منها : الأنداد، فعن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ في قوله تعالى ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِ اللَّهِ) ، قال : هم أولياء فلان وفلان اتخذوهم أئمة دون الإمام الذي جعله الله للناس إماماً .

ومنها: في قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) ، عن الإمام الصادق والإمام الباقر عَلَيْهِم السَّلاَمُ قالا : هم آل محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم.

ومنها في قوله تعالى (كَذٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ) عن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة الله بخلاً، ثم يموت فيدعه لمن يعمل فيه بطاعة الله، أو في معصية الله فإن عمل به في طاعة الله رآه في ميزان غيره، فزاده حسرة وقد كان المال ،له وإن كان عمل به في معصية الله قوّاه بذلك المال حتى عمل به في معصية الله .

ومنها : في قوله (وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) عن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ :

أعداء علي هم المخلّدون في النار أبد الآبدين ودهر الداهرين.

ص: 210

المقوم الرابع من مقومات الأمة الإسلامية الأحكام - الحلال الحرام -

بعد أن ذكرت ثلاثة من مقومات الأمة - القبلة، القيادة، تحمل المشاق ، يأتي الدور لذكر المقوم الرابع وهو الأحكام - من حلال وحرام ، فإنه لا تقوم قائمة أمة إلا بوجود قوانين تنظم حياتها وتشكل هويتها وثقافتها، وتتطرق الآيات (168) - (177) إلى أهم تلك الأحكام - واجبة أم محرمة ، وابتدأ الكلام بما يتعلق بالأكل، لأنّه أول حاجة للإنسان يريد تلبيتها وهي حاجة مستمرة منذ البداية إلى الوفاة وفي جميع الظروف، فيبين الحلال عن الحرام في المأكولات، مع بيان مصارف إنفاق المال والتذكير بجملة من الواجبات كالصلاة والزكاة والعهد والصبر ونحو ذلك . كما يبين جملة المحرمات كالسوء والفحشاء والافتراء وكتمان الحق، وترجيح المصالح المادية، كما تبين الآيات أن سبب الانحراف في الحياة إما اتباع الشيطان أو تقليد الآباء - من غير إعمال للعقل ولا هداية من الله - وأن اتباع الشيطان إما في العمل أو في العقيدة، كما تذكر ضمن هذه الآيات بعض مسائل التوحيد والمعاد - كدأب القرآن في التذكير بهما مستمراً -.

ص: 211

18

الآيتان 168-171

اشارة

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)».

168 - إن الذي أوجب اتخاذ الأنداد هو انحراف الحياة، فلذا يلزم بيان الحياة الصحيحة والمخاطر التي تحيق بها، فخاطب الله تعالى الناس جميعاً - حيث إن رحمته عامة - بقوله : ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ) «من» للتبعيض لأن القابل للأكل بعض ما في الأرض (حَلَالًا) لا منع فيه (طَيّبًا) لا خبث فيه، وخلاف ذلك إما من الشيطان أو من التقليد الأعمى : ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) التي يسلكها أو المؤدية إليه (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) يظهر العداوة جهراً .

169 - وإنما ننهاكم عن اتباع خطواته لأنه ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُم) أي يدعوكم إلى أمرين، ففي جانب العمل : (بِالسُّوءِ) العمل السيئ الذي يدرك العقل سوءه ،كالظلم، (وَالْفَحْشَآءِ) العمل المتجاوز لحد

ص: 212

الشرع كشرب الخمر، (وَ) في جانب العقيدة والكلام يأمركم (أَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).

170 - وأما التقليد الأعمى الذي يصد عن الأكل الحلال الطيب فقال تعالى عنه (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ) للكفار الذين يأكلون الحرام أو يحرمون الحلال : (اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ) من الأحكام (قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا) أي وجدنا - في العقيدة والعمل - (عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا أَوَلَوْ) الهمزة للاستفهام الإنكاري، أي يتبعون آباءهم حتى لو (كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لَا يعْقِلُونَ شَيْئًا) لا يستعملون عقولهم فخالفوا أوامر العقل (وَلَاَ يَهْتَدُونَ) لأحكام الشرع عبر اتباع الأنبياء.

171 - ﴿وَ) لكن هؤلاء الكفار - التابعين لخطوات الشيطان والمقلدين لآبائهم الذين كانوا لا يعقلون ولا يهتدون - لا ينفعهم الإرشاد، ف- (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) المعاندين منهم، مثلهم مع من يريد هدايتهم (كَمَثَلِ) البهائم مع رعاتها، حيث إن الراعي (الَّذِى يَنْعِقُ) يصبح (بِمَآ) أي بالحيوان الذي (لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءَ) من قريب (وَنِدَاءً) من بعيد، فكما لا يفهم الحيوان معنى كلام الراعي كذلك هؤلاء لا يفهمون الوعظ والإرشاد، فهم ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمىٌ) الجمع أصم وأبكم وأعمى، أي منافذ بصيرتهم مغلقة ﴿فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ).

-----------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ) .

إنما عمَّم الخطاب في هذه الآية لبيان عموم رحمته تعالى للجميع،

ص: 213

كما أن فيه دعوة للإيمان، وهي دعوة عامة، ثم في الآية 172 يخصص الخطاب للمؤمنين بقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) الآية، لأنهم المنتفعون من هذا الخطاب، حيث إن الآية التي سبقتها بينت أن الكفار صم بكم عمي، ولأنه مقدمة لبيان المحرمات من الميتة والدم .... التي لا يلتزم بتركها إلا المؤمنون .

الثاني : قوله تعالى (كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيْبًا)

إن أول محرّك للإنسان لكي يكد ويعمل ويبحث هو حاجته إلى سدّ الجوع، بل حياة الإنسان متوقفة على الطعام - منذ الولادة وحتى الوفاة ، ولذا حين إرادة التكلم عن تنظيم حياة الناس العملية لا بد من الابتداء بهذا الأمر وبموارده، وحيث إن نظم الآيات اقتضى الانتقال إلى التكلم في الحلال والحرام ابتدأ بأحكام الطعام.

قوله (مِمَّا فِي الْأَرْضِ) أي بعض ما فيها، حيث إن بعض ما في الأرض غير صالح للأكل بل جُعِل لغرض آخر ، ومما في الأرض يشمل : النبات والحيوان وبعض المعادن - كالملح ، بل يشمل الماء أيضاً فيكون إدخاله في المأكولات من باب التغليب.

و(الحلال) هو المباح الذي لا منع فيه، وقوله حَلَلا حال من (ما) في مِمَّا فِي الْأَرْضِ ) أي كلوا مما في الأرض حال كونه حلالاً ، لا منع فيه، وهذا يدل على أصالة الإباحة الشرعية، فقد أحل الشارع الأكل مما في الأرض من غير تقييد إلا بما حرمه - وهو أقل القليل - ونظيره قوله تعالى (أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأنعام إلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) (1) . .

ص: 214


1- سورة المائدة، الآية: 1.

و (الطيب) هو الذي لا خبث فيه وأصل الكلمة ) ي ب تدل على الملاءمة للطبع ، بمعنى الخالص من الشوائب التي تنغص الطعام، وكل ما كان ملائماً للطبع فهو مستلذ عكس الخبيث، وحيث إن الناس لا يدركون إلا ظاهر الأشياء ولا يعرفون حقائقها فقد يختلط الأمر عليهم فيستطيبون الخبيث كالخمرة، أو العكس فقد يستخبثون الطيب، نظير الطعام المسموم فإن الجائع الذي لا يعلم بأنه مسموم يستلذ من أكله، ومن يعلم فإنه يستخبثه ولا يستلذ منه أصلاً مهما تضوّر من الجوع، بل ينفر طبعه منه بحيث لو أطمعه كرهاً لرفضته نفسه وتقيأ لإخراجه.

وحيث إن الله تعالى هو العالم بحقائق الأشياء فقد أحلّ الطيبات الواقعية - حتى وإن استخبثها الناس ، وحرّم الخبائث الواقعية وإن استطابها الناس، قال تعالى ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبائِثَ) (1).

فليس الملاك في الطيب والخبيث ذوق عامة الناس، ولذا فإن عامتهم - إلَّا من عصم الله - يأكلون الخنزير ويشربون الخمر مستلذين بهما مع أنهما أم الخبائث، ويستقذرون بول الإبل - مثلاً - وهو من المحللات.

ثم إن منشأ الخبث الواقعي هو تسبيب ذلك الأكل الانحراف في العقل أو الخُلُق أو الصحة، فالخمر تزيل العقل - الذي هو سبب تفضيل الإنسان على الحيوان ، ولحم الخنزير يزيل الغيرة على العِرض - والغيرة من أهم صفات الإنسان ، مضافاً إلى أضرارهما على الجسم والروح . .

ص: 215


1- سورة الأعراف الآية: 157.

ثم إن الجمع بين الوصفين (حَلَالًا طَيِّباً) للدلالة على أن كل حلال يكون طيباً، وكل طيب فهو حلال .

الثالث: قوله تعالى ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَان).

هذا هو السبب الأول للضلال والابتعاد عن أحكام الله تعالى و (خطوات جمع خطوة - وهي الفاصلة بين القدمين حين المشي ، واستعملت (خطوات) في القرآن للشيطان فقط، لكثرتها وكثرة طرقها، عكس الصراط المستقيم الذي هو واحد .

قيل : لعل ذلك لعدم الثبوت في مسالك الشيطان كالخطوات التي تزول خطوة وتأتي خطوة أخرى عكس أحكام الله تعالى التي هي الحق الثابت الذي لا تغيير فيه ولا تبديل .

واتباع خطوات الشيطان إما باتباعه في أفعاله كالاستكبار على الله تعالى، أو بسلوك الطريق الموصلة إليه كالزنا ويجمعهما الابتعاد عن الصراط المستقيم الذي هو واحد واتباع طرق الشيطان - التي هي لا تعدّ ولا تُحصى - قال تعالى ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطى مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) (1).

وقوله تعالى ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) ، عداوة الشيطان للإنسان واضحة، حيث إنه أخرج آدم وحواء من الجنة بوسوسته، ثم أقسم أن يحتنك ذريتهما هذا من جهة إخبار الشرع، كما أن الإنسان يشاهد بوجدانه أنه إن اتبع الوساوس التي تعرض قلبه فإنه سيتضرر كثيراً، وسبب .

ص: 216


1- سورة الأنعام، الآية: 153.

هذه الوساوس - أيّاً كان - عدوّ له إذ الصديق لا يُغري صديقه إلى ما يضره .

الرابع: قوله تعالى ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) .

بيان لجهة عداوته وكالعلة للنهي عن اتباع خطواته، فإن خطوات الشيطان يجمعها أمران :

1 - المخالفة العملية وهي السوء والفحشاء.

و(السوء) هو العمل القبيح الذي يوجب الهمّ والغَمّ كما يقال : ساءه أمر: أي أغمّه.

و(الفحشاء) من الفحش، وهو تجاوز الحد، وإرداف الفحشاء بالسوء لأجل أن السوء فيما يدل العقل على قبحه والفحشاء فيما يدل الشرع على قبحه، أو هو ذكر الخاص بعد العام لأن كل فحشاء سوء، وليس كل سوء فحشاء.

وإنما يدعو الشيطان للسوء والفحشاء لأنه لا يريد خير الإنسان ويريد أن يغوي بني آدم كما غوى هو وأمره بهما بمعنى دعوته إليهما وتزيين المعصية إلى بني آدم فإن الدعوة المجردة إلى القبيح لا أثر لها لأن كل إنسان بفطرته يبتعد عنه، ولكن إذا زُيّن له سوء عمله فرآه حسناً فإنه حينئذ يمكن أن يرتكب ذلك العمل.

ومن مهام المبلغين هو بيان قبح المعاصي، وهذا دأب القرآن الكريم حيث يرجع الإنسان إلى عقله وفطرته ليزول أثر تزيين الشيطان، كما یتم بيان ما يجهله الإنسان من القبائح ليرتدع عنها بعد علمه بقبحها .

ص: 217

2 - المخالفة الاعتقادية وهي نسبة الباطل إلى الله تعالى ليجد الإنسان مبرراً لما يعتقد من أباطيل ويعمل من سيئات، ولذا كان الأمر الثاني للشيطان (وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ ، وهذا المقطع عام يشمل التقوّل على الله في التشريعات، وكذا في الاعتقادات كاتخاذ الأنداد قال تعالى ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءَابآءَنَا وَالله أَمَرَنَا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (1).

وفي التقريب (2) : (مَا لَا تَعْلَمُونَ) من العقائد والأحكام وعدم العلم هنا أعمّ من العلم بالعدم، كما قال سبحانه أَمْ تُنَبِئُونَهُ بِمَا لا یَعْلَمُ) (3) .

والمعنى أن الإنسان قد يعلم ببطلان النسبة ولكنه مع ذلك يتقوّل، فعلمه لم ينفعه فهو كالجاهل الذي لا يعلم فلذا كان (مَا لَا تَعْلَمُونَ) يشمل الجاهل والعالم المتقوّل .

ودلت الآية على تحريم التشريع - ومنه البدعة : وهو إدخال شيء مما لم يشرعه الله تعالى في الدين وقد ذكرت في الروايات نماذج من التشريع المحرّم (4) كالنذر في المعصية مثل قتل الأبناء أو قطيعة الرحم، أو كالتعليق في العقود الإيقاعات مثل الحلف بالطلاق والعتاق ونحو ذلك، فهذه وأمثالها مصاديق من خطوات الشيطان، وقد مرّ بعض الكلام حول البدعة . .

ص: 218


1- سورة الأعراف الآية: 28
2- تقريب القرآن ج 1، ص 207.
3- سورة الرعد، الآية: 34.
4- راجع الروايات في تفسير البرهان ج2، ص 53.

ثم إن التقوّل على الله هو بنسبة شيء إلى الله باطلاً، أما مجرد الامتناع عن بعض المحللات - من غير نسبة الامتناع إلى الله - فليس من التقول عليه تعالى كمن لا يأكل بعض الأطعمة المحلّلة أو يترك أمراً محللاً لسبب خاص به نظیر قوله تعالى «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ» (1) ، وكقوله (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلَّاً لِبَنِي إِسْرَآءِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرَاءِيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ (2).

الخامس : قوله تعالى ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ) الآية .

هذا هو السبب الثاني للضلال والابتعاد عن أحكام الله تعالى وهو التقليد الأعمى، وقد مرّ الكلام حول التقليد وأنواعه في تفسير الآية 78 فراجع .

قيل : إنه عدل عن خطابهم إلى بيان ضلالتهم، كأنه التفت إلى العقلاء، وقال انظروا إلى هؤلاء ماذا يقولون، تحذيراً للعقلاء عن اتباع طريقتهم ، لأنهم جعلوا آباءهم أمام الله تعالى وعدلاً له، بل رجحوهم عليه سبحانه وتعالى فكان ذمهم إنما هو من جهة اتباع الآباء على كل حال حتى لو كانوا على باطل، ولذا قال : أَوَلَوْ أي حتى لو كان الآباء في ضلال.

ثم إن الغرض لما كان الهداية فإن الله لم يقل بشكل مباشر إن أولئك الآباء لم يكونوا يعقلون ولا يهتدون بل بينه بشكل غير مباشر لإبطال تقليدهم لا لمذمة الآباء الأموات، إذ لا فائدة من مذمتهم المباشرة سوى 3.

ص: 219


1- سورة التحريم، الآية 1.
2- سورة آل عمران الآية: 93.

إبعاد الأبناء عن الاهتداء، والطريقة غير المباشرة هو بيان أن فعل الآباء ليس مقياساً للحق لأنهم قد يفعلون ما يخالف العقل والهداية، بل لا بد من جعل المقياس اتباع ما أنزل الله الذي هو الهداية المطلقة .

وبعبارة أخرى - كما في مجمع البيان - : إذا ظهر أنهم لم يعلموا شيئاً مما لزمهم معرفته، فهل كنتم تتبعونهم أم لا ؟ ومن الواضح عدم لزوم اتباعهم فتبيّن أن الواجب اتباع الدليل دون هؤلاء (1).

والحاصل أنه لا يصح اتباع أحد إلا مع العلم بعقله وباتباعه الشرع، ولذا لزم اتباع رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ إذ يأمر باتباعه العقل والشرع، كما قال تعالى ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحببكُمُ اللهُ) (2) ، وكذا لزوم اتباع من يهدي إلى الحق كما قال تعالى (أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَن لَا يَهدَى إِلا أَن یُهْدَى) (3) .

السادس: قوله تعالى ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إلا دُعَآهً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمّىٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ) .

(والمَثَل) هو تشبيه شيء - يراد بيانه - بأمر مأنوس للمخاطبين، وذلك لتقريب ذلك الشيء إلى الذهن .

والكل يعرف أن (البهائم إذا زجرها صاحبها فإنها تسمع الصوت ولا تدري ما يريد، وكذلك الكفار إذا قرأت عليهم القرآن وعرضت عليهم الإيمان لا يعلمون مثل البهائم) - كما قاله القمي في تفسيره (4) ، فهؤلاء .

ص: 220


1- مجمع البيان، ج 1، ص 648 - بتصرف ..
2- سورة آل عمران الآية: 31
3- سورة يونس الآية: 35.
4- راجع البرهان ج2، ص 55 .

الكفار قد أغلقت منافذ العقل عندهم، لأن طريق التعقل هو السمع والبصر والسؤال، وحيث هؤلاء لا يستفيدون من سمعهم ولا بصرهم ولا لسانهم فقد أغلقوا أبواب الفهم على أنفسهم فهم لا يعقلون) . وهذا المثل يتضمن (المُمَثَل) : وهو الرسول مع الكفار ، والمُمَثَل به) : وهو الراعي مع البهائم، فتم تشبيه الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بالراعي، والكفار بالبهائم، وحيث إن الغرض هو بيان حال هؤلاء وأنهم كالبهائم وأنهم صم بكم عمي وأنهم لا يعقلون - لا حال الرسول - لذا ذكر في (المُمَثَّل ) الكفار فقط دون ذكر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فقال ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي مثلهم مع رسولهم أو مع دعوته .

ويمكن تفسير الآية بشكل آخر - كما ذكرناه في شرح أصول الكافي - وهو تشبيه الكفار في دعائهم الأصنام بالراعي الذي يصيح على دوابه فهي لا تفهم شيئاً من كلامه سوى أنها أنها تسمع نعيقاً، والكفار الذين يدعون

الأصنام أسوأ منه لأنهم يدعون ما لا يسمعهم حتى بمقدار النعيق فتأمّل.

ص: 221

الآیتان 172-173

اشارة

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) «إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)»

بعد بيان عموم حلية أكل الطيبات خصّ الله تعالى المؤمنين بخطاب ،الحليّة، انصرافاً ممن لا يصغي إلى النصح إلى من يمتثل، حيث إن المؤمنين هم المنتفعون بهذا الخطاب وجعله كالمقدمة لبيان المحرمات فقال تعالى :

172 - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ لأنّكم الغرض من خلقها، وأمّا الكفار فيستفيدون منها عَرَضاً، (وَأَشْكُرُوا لِلَّهِ) نعمةَ الرزق ونعمة التحليل (إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) لأن المقتضي للعبادة هو سبب للشكر أيضاً .

173 - وإذا حرم الله عليكم شيئاً فإنّما حرّمه لأنه خبيث ، (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) تحريماً بالأكل (الْمَيْتَةَ وهي ما لم تُذكَّ بالطريقة الشرعية سواء ماتت حتف أنفها أو بطريقة أُخرى ، (وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ) - الإهلال رفع الصوت أول الذبح - (بِهِ لِغَيْرِ

ص: 222

الله) والمراد ذكر الأصنام عند الذبح ، (فَمَنِ اضْطُرَّ) إلى أكل هذه المحرمات، ولم يكن اضطراره بسوء ،فعله بل كان (غَيْرَ بَاغٍ) من البغي وهو الظلم المتجاوز للحد كالخارج على الإمام العدل أو طالب صيد اللهو، أو المسافر لأجل ظلم الغير (وَلَا عَادٍ) من التعدي، كقاطع الطريق والسارق والغاصب، فهؤلاء اضطرارهم بسوء اختيارهم فلا يحلّ لهم أكل هذه المحرمات إذا اضطروا إليها ، أما إذا لم يكن باغياً ولا عادياً (فَلَا إثمَ) لا حرج (عَلَيْهِ)، وكان یمكن بقاء الحرمة حتى في صورة الاضطرار، لكن الله أجاز، حيث (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

-----------------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾.

كما مرّ ليس هذا تكراراً للآية ،168 ، فإن ذاك كان خطاباً عاماً للجميع لبيان عموم رحمته تعالى وللتحذير عن اتباع خطوات الشيطان وأما هذه الآية فالغرض :

1 - بيان أن المنتفع من الخطاب إنّما هم المؤمنون فقط، فتَم تشريفهم بتخصيص خطاب ثانٍ .

2 - وأيضاً هذه الآية كالمقدمة لبيان المحرمات، فتم ذكر من الله

ص: 223

على المؤمنين إذ أحلّ لهم الطيبات، فتكون المحرمات من الخبائث - التي لا بد من اجتنابها ، ففي تعريفها للمؤمنين منة أخرى عليهم.

3 - وأيضاً لأمرهم بالشكر ، وتذكيرهم أن العبادة لا تتمّ إلَّا به.

ثم إن الكفار مكلفون بفروع الشرع كتكليفهم بالأصول، فكما أمرهم الله بالتوحيد كذلك يأمرهم بالصلاة والصوم والزكاة وسائر فروع الدين وعدم صحة هذه الأعمال منهم في حال الكفر لا ينافي وجوبها عليهم،لأنهم قادرون على الإتيان بها صحيحة بدخولهم في الإسلام، وإذا كان السبب مقدوراً فالمسبب مقدور أيضاً، وكما يقال : الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، وقد ذكرنا شطراً من الكلام حول هذا الموضوع في شرح أصول الكافي فراجع.

الثاني : قوله تعالى ﴿وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)

بيان أن سبب الشكر هو سبب للعبادة، فكما أنكم تعبدونه لأنه المنعم عليكم بإيجادكم، كذلك يلزمكم شكره لأنه أنعم عليكم بنعم أخرى استوجبت استمرار حياتكم ، ومن أهمها أنه رزقكم الطيبات التي بها قوام وجودكم.

ويستفاد من الشرط : أن من لم يشكر الله تعالى على نعمه فإنه لا يعبده في الحقيقة، لأن قوام العبادة بالشكر، فإنها أرفع درجات شكر المنعم - عقلاً ، أو أن الشكر أهم مقدمة للعبادة فلا تتم عبادة إلا عبر الشكر، وقد مرّ أن العبادة هي أقصى درجات الخضوع وبقصد التأليه ومن المعلوم أن عرفان الجميل بالقلب وإجراءه على اللسان والعمل طبقاً

ص: 224

لإرادة الإله - وهي الشكر في القلب واللسان والجوارح - كل ذلك ملازم للعبادة .

الثالث : قوله تعالى ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ) الآية .

المراد تحريم الأكل لا سائر الانتفاعات فإن التحريم للأفعال، فإذا تعلق بالأعيان الخارجية فيكون المراد تحريم الفعل المقصود من تلك الذات، مثلاً قوله تعالى ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَتُكُمْ) (1) أراد تحريم نكاحهن ، وقال (وَأَحَلَ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبوا) (2) أي حرّم إجراء معاملة الربا، وقال (مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) (3) أي من حرم التزين بها أو لبسها .

وحيث إن الانتفاع المقصود من الميتة والدم ... هو الأكل، فالتحريم يتعلق به لا بسائر الانتفاعات، وتحريمها يحتاج إلى دليل آخر كعدم جواز لبس جلد الميتة في الصلاة ونحو ذلك .

و(الْمَيِّتَةَ) في اللغة كل حيوان خرجت روحه، وفي اصطلاح المتشرعة هو كل حيوان مات بغير تذكية شرعيّة، فلو لم تستوف الذبيحة شروط التحليل - كإسلام الذابح والقبلة والتسمية . . . إلخ - كانت من الميتة، وذكاة كل شيء بحسبه مما بَيْنَهُ الشرع، فذكاة الإبل النحر، وذكاة السمك أخذه من الماء حيّاً، وذكاة الشاة فري الأوداج الأربعة وهكذا .

(وَالدَّمَ) يراد به الدم المسفوح قال تعالى ﴿إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ.

ص: 225


1- سورة النساء، الآية: 23.
2- سورة البقرة الآية: 275
3- سورة الأعراف الآية: 32.

دَمًا مَّسْفُوحًا) (1) ، وذلك لدلالة السنة الشريفة على أن الدم المتبقي في الذبيحة ليس بحرام، وكذلك لا يخلو لحم عن اختلاط شيء من الدم فيه، فتحليل اللحم يستلزم تحليل ما يتخلله من الدم أيضاً .

وقوله (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) : الإهلال هو أول الشيء، وأصله من ظهور القمر في أول الشهر، ويقال أهل بالحج حيث يرفع صوته في أول أعمال الحج وهو الإحرام واستهل الصبي أي صرخ عند الولادة، وكان المشركون يرفعون صوتهم بأسماء آلهتهم عند الذبح فصار ابتداء أمر الذبح أسماء الأصنام، وهذا مما حرّمه الله تعالى، فحرّم أكل لحم هذه الذبيحة .

وخصص (لحم الخنزير) بالذكر مع أن المحرّم هو كل أجزائه، لأن المقصود بالأكل عادة هو اللحم .

وقوله ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ) يفيد الحصر، وهذا الحصر:

1 - إما حقيقي بمعنى أن المحرمات حين نزول الآية كانت منحصرة هذه المذكورات وهذا لا ينافي تحريم أشياء أخرى بعد ذلك.

2 - أو هو حصر إضافي بالنسبة إلى ما حرموه على أنفسهم، قال تعالى «ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)»

«وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي .

ص: 226


1- سورة الأنعام، الآية: 145.

الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)»«قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)» (1) .

وكانوا يتبعون آباءهم حتى في التحليل والتحريم للحيوانات فجاء قوله (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) مقابل قولهم، فيكون حصراً إضافياً .

3 - أو ﴿إِنَّمَا) ليست لحصر الحرام في هذه المذكورات - بمعنى أن الحرام فقط هذه المذكورات ، بل لحصرها في الحرام أي إنما الميتة حرام فقط وليس لها حكم آخر وكذا الدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله لا حكم لها سوى الحرمة، فيكون من باب القلب - أي تبديل مكان (المحصور) و(المحصور فيه).

الرابع : قوله (فَمَنِ اضْطُرَّ).

(الاضطرار) هو الحاجة الماسة بحيث لو ترك لأصابه ضرر، والمضطر مختار في فعله يمكنه الفعل أو الترك لكن الله سبحانه - رأفة ورحمة - رفع بعض الأحكام في حالات الاضطرار.

فتبيّن الفرق بين (الاضطرار) و(الإكراه ) و (الإلجاء)، إذ الإكراه هو أن يتوعد الغير بإلحاق ضرر إن لم يفعل والإلجاء هو سلب الاختيار، فلو بقي في صحراء لم يجد طعاماً إلَّا الميتة بحيث يموت لو لم يأكل منها ، فإنه مضطر إليه مع تمكنه من عدم الأكل حتى الموت، أما لو هدده 5

ص: 227


1- سورة الأنعام، الآيات: 143 - 145

ظالم بأنه إن لم يأكل منها فإنه سيقتله، فهذا مُكرَه - مع تمكنه من الامتناع حتى القتل ، ولكن لو شُدّت يداه ورجلاه وفتح فمه قسراً وزج بالميتة في فمه فهذا إلجاء حيث لم يقدر على الامتناع أصلاً .

وأكل هذه المحرمات كما يجوز للمضطر كذلك يجوز للمكرَه والمُلجَأ، ولكن بما أن الإكراه والإلجاء مصاديق نادرة جداً، عكس الاضطرار حيث تكثر مصاديقه، لذا خُصص في الآية بالذكر، ويمكن تعميم معنى الاضطرار للمكره والمُلجأ أيضاً .

وللاضطرار صور متعددة وإن كان أجلى المصاديق الجائع في المخمصة.

الخامس : قوله (غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ).

هذا قيد للاضطرار، أي اضطراراً من غير بغي ولا عدوان، فالتحليل إنما هو إذا لم يكن اضطراره بسبب فعل الحرام، أما لو فعل حراماً أوجب اضطراره فإن حرمة الأكل باقية ويستحق العقاب على أكله، إذ رفع الحرمة عن المضطر إنما هي مِنّة من الله على العباد والباغي أو العادي لا يستحق هذه الرحمة بسوء اختياره ببغيه وعدوانه فيبقى حكم الحرمة والعقاب عليه .

سؤال : المضطر غير مختار فكيف يحرم الأكل عليه ويعاقب عليه . الجواب : أولاً : إن الاضطرار لا يرفع الاختيار بل هو يتمكن من الامتناع حتى الموت.

وثانياً : لو فرض أنه غير مختار في حال الاختيار، لكن اضطراره کان بسوء اختياره وما بالاختيار لا ينافي الاختيار، كمن يلقي بنفسه من

ص: 228

شاهق، فإنه في حال السقوط لا يتمكن من منع ارتطام جسمه بالأرض فهو سيرتطم بها قهراً ومن غير اختيار ، لكن مقدمة العمل وهو الإلقاء من الشاهق كان بسوء ،اختياره وحيث إن المقدمة كانت اختيارية فارتطامه بالأرض أيضاً اختياري

و(الباغي) من البغي وهو الظلم المتجاوز عن الحد، و(العادي) من العدوان وهو ظلم الغير في حقه، أي التعدي على الغير.

وفي الروايات بيان لبعض أبرز مصاديق الباغي والعادي :(1).

فمن البغي الخروج على الإمام المفترض الطاعة، والظالم الخارج لظلم الناس، فهؤلاء إن وقعوا في مخمصة في طريق بغيهم فلا ترخيص لهم في أكل هذه المحرمات إذ لا يستحقون الرحمة أصلاً لعظيم جرمهم .

ومن الباغي : طالب الصيد للهو، فإنه من المحرمات، ولعله بسبب قتل مخلوقات من حاجة، نعم من يشتغل بالصيد لأجل الاسترزاق بها بأكلها أو بيعها فلا جناح عليه.

ومن العادي : قاطع الطريق حيث يتعدى على المسافرين والقوافل، وكذا السارق والغاصب.

ويمكن جعل (غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ) قيداً للأكل، فيكون معنى الباغي : أن لا يكون طالباً للذة في أكله بل يأكل لسد جوعه ومعنى العادي : أن لا يتجاوز الحد في الأكل فيمتلىء من الحرام، بل يأكل بمقدار دفع الاضطرار وهو ما يسد رمقه..

ص: 229


1- راجع الروايات في تفسير البرهان ج2، ص 56 - 57 .

السابع : قوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

الغفران إنما يكون عن ذنب، فهذا تعليل لأصل تحليل الأكل للمضطر، فإن الله تعالى لغفرانه ورحمته قد أباح ذلك مع أن مناط التحريم موجود حتى في صورة الاضطرار، كما أن الله يقدر على تشديد الأحكام على الناس لكثرة ظلمهم ،وجورهم، كما حدث في الأمم السابقة قال تعالى (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهَمْ﴾ (1) ، وقال تعالى ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ) (2) .

وقيل : إن المعنى إن الله غفور للعاصي فكيف بالمضطر !!

وقيل : إن بعض الناس يتجاوز الحد المسموح به في حال الاضطرار فاحتاجوا إلى الغفران.

وقيل : المقصود هو نتيجة الغفران - أي عدم المؤاخذة ، فالمعنى كما لا يؤاخذ العصاة بسبب ستره لذنوبهم، كذلك لا يؤاخذ المضطر بسبب رخصته له . .

ص: 230


1- سورة النساء، الآية: 160 .
2- سورة النحل، الآية: 61.

الآيات 174-176

اشارة

«إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)»«أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)»«ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)»

174 - وحيث تبين الحلال عن الحرام واتضح أن التقوّل على الله إنما هو من خطوات الشيطان، ف- (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾ يخفون (مَا أَنزَلَ اللّهُ) من أحكام الحلال والحرام وكذا في المعتقدات، وإنما يكتمون لئلا يفتضحوا في تحليلهم وتحريمهم بهواهم، و(مِنَ الْكِتَابِ) «من» للتبعيض، فإنهم يكتمون من الكتاب ما يتعارض مع مصالحهم، (وَيَشْتَرُونَ بِهِ) أي يستبدلون بالكتاب (ثَمَنًا قَلِيلًا) من حطام الدنيا الزائلة، لكن هذا الحطام يكون وبالاً عليهم ف(أولَائِكَ) الكاتمون (مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ﴾ أي لا يجرون إليها (إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ) كلاماً حسناً، بل يوبخهم ثم يتركهم في العذاب (وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ أي لا يطهرهم من الذنوب بالغفران، أو لا يُثني عليهم (وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ يؤلمهم .

ص: 231

175 -(أُولَئِكَ ) الكاتمون (الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) في الدنيا، (وَ) اشتروا (الْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ) في الآخرة ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) تعجب أو إنكار ، أي كيف يعملون عملاً يوجب دخولهم في النار، حيث لا مفرّ منه فلا بد لهم من الصبر عليه . 176 - (ذَلِكَ) العذاب والنار (بِأَنَّ) أي بسبب أن (اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) لكن هؤلاء رفضوه ومنعوا وصول نوره إلى كثير من الناس بتكذيبهم له، ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ) فكتموا بعضه وأظهروا ،بعضه، كما أنهم اختلفوا في القرآن بين قائل بأنه سحر أو كهانة أو أساطير ونحو ذلك، فهؤلاء (فِي شِقَاقِ) أي الحق في شق وجهة وهؤلاء في شق وجهة تقابله (بَعِیدٍ) عن الحق بعداً شاسعاً .

----------------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ...) الآية.

لمّا بین الله تعالى أنه أحلّ الطيبات وحرّم الخبائث، وأن الشيطان له خطوات حدّر تعالى عن اتباعها، بعد ذلك بيّن أن هناك ناساً هم شياطين الإنس يتبعون الشيطان، بل هم من أوليائه وأدواته، وبين أن من أخبث خطوات الشيطان هو كتمان الحق، لأنه يمنع وصول نور الحق إلى أكثر الناس فيحرمهم من فضل الله تعالى ورحمته فلذا لزم التحذير من هؤلاء وبيان حقيقة الكتمان والمصير السيئ الذي ينتظر الكاتمين، فهم يحلّون الحرام ويحرمون الحلال ثم ينسبونه إلى الله - زوراً وافتراء - مع إخفائهم الحلال والحرام ،الحقيقيين كيلا يفتضحوا ولتحفظ مصالحهم من حطام

ص: 232

الدنيا، قال تعالى «كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)»«فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)» (1).

وإن أهم وسيلة للطغاة ولطالبي حطام الدنيا هو كتمان العلم وعدم إظهاره، بل اختلاق أكاذيب بدلاً عنه وهذا ما قامت عليه الدول الظالمة والمذاهب الزائفة، فهم يضطهدون أهل العلم ويستخفون بهم، ويقربون وعاظ السلاطين ويحتفون بهم.

وقوله (مَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ) سياق الآيات في الحلال والحرام من الأطعمة ولكن الآية عامة، فإن خصوصية المورد لا تخصص الوارد، ولذا فسرها بعضهم بالبشارة بنبوة رسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في التوراة حيث كتمها الأحبار، كما أن (الكتاب) يشمل جمیع الکتب السماوية سواء التوراة أم القرآن فإن الكتب التي نزلت على الرسل إنما هي من عند الله الواحد الأحد لا فرق بينها إلّا في المرحلة، فالقرآن مهيمن على سائر الكتب لأنه مكمل لها وخاتمها، وأما تلك الكتب فكانت في سبيل الهداية لأزمنه خاصة، كما في كتب المدرسة الابتدائية والثانوية والجامعة.

وقوله (وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا)، أي بدلاً من العمل بالكتاب وإظهاره ليعمل به الناس عمدوا إلى كتمانه ليحافظوا على مصالحهم من أموال تُغدق عليهم ورئاسة على عوامهم، وهذا ثمن قليل جداً مقابل تركهم الهداية واكتسابهم للعذاب الأبدي. .

ص: 233


1- سورة آل عمران الآيتان: 93 - 94 .

الثانى: ﴿أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ).

أي لا يجرّون إلى أنفسهم إلَّا العذاب، والمصالح التي يريدها هؤلاء كلها مصالح دنيوية - من رئاسة وادّخار الذهب والفضة ومساكن مجلّلة وأطعمة فاخرة ونحوها - وحيث إنّ مظهر الماديات هو الأكل ولذا قال تعالى ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ).

وأكلهم للنار في الحال وفي المآل :

أما في الحال: فإن حقيقة هذا المال الحرام هو نار ولكن لا يشعرون بها لوجود الحجب كالمشلول الذي لا يشعر باحتراق يده وهي في النار ويستمر في أعماله الطبيعية، قال تعالى ﴿وَإِنَ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) (1) ، وقال (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (2) وسياق الآية يؤيد كون أكل النار إنما هو في الدنيا وذلك لقوله بعد ذلك ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ، ومن الواضح أن العذاب الأليم إنما هو في الآخرة، فلو كان أكل النار في البطن في الآخرة أيضاً لكان تكراراً .

وأما في المآل : فإن عملهم هذا يحضر يوم القيامة ويتحوّل إلى نار يغلي في بطونهم، قال تعالى ﴿وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُوا حَاضِراً) (3) ، وقال (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيداً ) (4) . .

ص: 234


1- سورة التوبة، الآية: 49.
2- سورة النساء، الآية: 10.
3- سورة الكهف، الآية: 49
4- سورة آل عمران الآية: 30.

وهذا ما يع- يعبر عنه بتجسم الأعمال، ومعناه هو تحوّل ذلك العمل نفسه إلى عذاب كاستحالة الخشب رماداً، والنطفة إنساناً، والعنب خمراً .

قال الشيخ البهائي العاملي رحمه الله : فالأعمال الصالحة والاعتقادات الصحيحة تظهر صوراً نورانية مستحسنة موجبة لصاحبها كمال السرور والابتهاج والأعمال السيئة والاعتقادات الباطلة تظهر صوراً ظلمانية مستقبحة توجب غاية الحزن والتألم كما قاله جماعة من المفسرين عند قوله تعالى ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيداً) (1) ، ويرشد إليه قوله تعالى ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْنَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ«6» فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ«7» وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ (2) .

وقوله تعالى (في بُطُونِهِمْ) ، في التقريب : ولعل ذكر (فِي بُطُونِهِمْ) للاحتراز عن الأكل في بطن الغير، فإن العرب تقول شبع فلان في بطنه : إذا أكله بنفسه، وتقول شبع فلان في بطن غيره : إذا أكله مَن يتعلق به (3) ، فالمعنى أنهم يعذبون بعملهم لا ،غيرهم كما قال تعالى ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا ، تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا) (4) ، أو للدلالة على الاستمرار ، وقيل : للدلالة على الامتلاء كقوله (فَإِنَّهُمْ لَاكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِمُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (5) ، فتأمل. .

ص: 235


1- سورة آل عمران الآية: 30.
2- سورة الزلزال الآيات: 6 - 8. نقله عنه في بحار الأنوار ج 71 ص 292 ، وراجع مناهج البيان ج 2، ص82 - 83.
3- تقريب القرآن ج 1، ص210.
4- سورة البقرة، الآية: 48 .
5- سورة الصافات، الآية: 66.

ولعله لبيان خسة عملهم حيث لم يكن عن قلب سليم وعقل كامل بل كان لأجل البطن - وهي بيت كل داء - فكان جزاؤهم امتلاء بطنهم من النار، كما قال تعالى، أو للدلالة على أن عذاب الآخرة ليس خارجياً فقط يصيب الجلود بل يضاف إليه عذاب داخلي كما قال تعالى (يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ( (1).

الثالث : قوله تعالى ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

معنى (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ) هو عدم اللطف بهم ونسيانهم ليذوقوا » وبال ،أمرهم، قال تعالى ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) (2) ، وقال ﴿وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنَسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَاهُ (3) ، أو المعنى : لا يكلمهم كلاماً حسناً بل كلام بإهانة وإذلال كقوله ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ (4) ، وكقوله (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآءِى الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ (5) وغيرها .

وقوله (وَلَا يُزَكِّيهِمْ) بمعنى لا يمدحهم كما يمدح المؤمنين في الآخرة فهو من التزكية بمعنى الثناء .

أو بمعنى لا يطهرهم من الذنوب أي لا يغفرها لهم.

أو بمعنى لا يقبل أعمالهم، لأن العمل المقبول إنما هو من المتقين كما قال تعالى ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (6) ، أما هؤلاء فحتى أعمالهم 7.

ص: 236


1- سورة الحج، الآية: 20.
2- سورة التوبة، الآية: 67.
3- سورة الجاثية، الآية: 34.
4- سورة الأنعام، الآية: 30.
5- سورة القصص الآية: 62.
6- سورة المائدة، الآية: 27.

الحسنة تكون هباءً منثوراً، قال تعالى ﴿فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُم)(1) ، وقال وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءٌ مَّنثُورًا (2)

امتلأ

أو بمعنى أن الله لا يهديهم إلى الحق فلا يوفقهم إليه، لأنَّ البطن إذا

من الحرام فإنه يقسو فلا يتزكى صاحبه .

فعذابهم في الآخرة مضاعف فأولاً : لا يكلمهم الله برحمته، وثانياً : لا يغفر لهم ذنوبهم فيبقون على رجسهم من غير تزكية وثالثاً يخلدون في أنواع من العذاب .

الرابع : قوله تعالى ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ).

صيغة تعجب، و(مَا) استفهامية، ومن الواضع استحالة التعجب على الله تعالى لأن التعجب يكون من الشيء الذي لا يُعرف سببه ، ولذا قالوا إذا عرف السبب بطل العجب فمنشأ التعجب هو الجهل، وهذا مستحيل على الله تعالى فالمراد بيان أن هذا العمل مما يتعجب منه العقلاء، أو طلب تعجب الناس من فعل هؤلاء الحمقى بفعلهم الذي يوجب لهم سبب خلودهم في النار ، ممّا يضطرون إلى المكوث فيها أبد الآبدين ولا طريق لهم إلَّا الصبر على العذاب فإن الجزع غير مفيد لهم، قال تعالى (قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ) (3) فمعنى (ما أصبرهم) هو اضطرارهم إلى أن يبقوا في العذاب كالصابر الذي تجري عليه المصيبة من غير تمكنه من دفعها .

وهناك عدة روايات تفسر ﴿فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) ومرجعها إلى 1

ص: 237


1- سورة الكهف، الآية 105
2- سورة الفرقان الآية: 23
3- سورة إبراهيم، الآية: 21

معنى واحد ففي بعضها إقامة السبب مقام المسبب وفي بعضها ذكر اللازم، ففي الجوهر الثمين :

1 - أي ما أجرأهم على عمل يوجب عليهم عذاب النار .

2 - أو ما أصبرهم على فعل يعلمون أنه يصيرهم إلى النار .

3- أو ما أجرأهم على النار .

4 - أو ما أعملهم بأعمال أهل النار ، والكل مروي (1).

فقد ذكر الصبر على النار وأريد ،سببه أي تعجبوا من أعمالهم التي تكون سبباً لدخولهم إلى النار مع عدم تمكنهم من دفعه واضطرارهم إلى الصبر عليه .

وفي المناهج : التعبير عن السبب بذكر المسبب - مع تصريح المقام بذكر السبب أيضاً ، واشتمال الكلام على توبيخ المرتكب وإظهار التعجب من حماقته، من أجمل الكلام وأبلغه ، ومآل الروايات ومفادها إلى أمر واحد (2).

الخامس : قوله تعالى ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) الآية .

هذه الآية لبيان سبب هذا العذاب الشديد على أولئك الكاتمين حيث إن الله مَنْ على الناس بإرسال الرسل وإنزال الكتب، ومع ذلك بقي أكثر الناس على الضلال، وسبب ذلك هؤلاء الذين يريدون منع رحمة الله تعالى على الناس، ولولا الكاتمون لاهتدى أكثر الناس إلى الحق والصواب ففازوا بسعادة الدارين . .

ص: 238


1- الجوهر الثمين ج 1، ص 177 وراجع الروايات في البرهان ،ج 2، ص 58 عن الكافي وتفسير العياشي ومجمع البيان.
2- مناهج البيان ج 2، ص 85.

وقوله (َنَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ) ولم يقل «اختلفوا فيه»، يدل على فرق الكتابين فالأول هو التوراة الذي فيها بشارة بالنبي محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ولكن هؤلاء حرفوها فكتموا البشارة عن الناس والثاني هو القرآن الذي فيه بيان الحلال والحرام مع بيان العقائد السليمة، فهؤلاء بكتمانهم ما في التوراة أوجبوا الاختلاف في القرآن .

أو المراد جنس الكتاب وإنما كرر لفظه لتفخيمه وتعظيم شأنه.

وقوله (اَخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ) . قيل : الاختلاف في التوراة بكتمان بعضها مما يتعارض مع مصالحهم وإظهار بعضها مما لا يتعارض معها، أو اختلافهم في القرآن في أنه سحر أو كهانة أو أساطير أو شعر ونحو ذلك، أو بيان أن كتمان اليهود إنما هو بسبب اختلاف المشركين في القرآن، ولولا اختلافهم لما تجرّأ الأحبار على الكتمان.

والأظهر حمل الآية على العموم، أي أن ذلك العذاب بسبب أنهم كتموا الحق مع وضوحه ووضوح أنه نازل من قبل الله تعالى ووضوح أنه الحق ، فلذا الذين أعرضوا عن الكتاب هم في ضلال كبير، فهم في جهة بعيدة كل البعد عن الجهة التي فيها المؤمنون .

ص: 239

الآية 177

اشارة

«لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)»

177 - لمّا بيّن الله تعالى لزوم متابعة أحكامه، وحذر من اتباع خطوات الشيطان ونهى عن كتمان الحقائق، بعد ذلك بيّن أن البِرّ في العقيدة السليمة، والأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة، فقال تعالى:(لَيْسَ الْبِرَّ) أي التوسع من الخير والإحسان، هو (أَن تُوَلُّوا) توجّهوا (وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) كأن تتبعوا قبلة اليهود والنصارى، فلا خير في ذلك، ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ) كل البرّ في أُمور ثلاثة ، وهي ليست أموراً نظرية غير قابلة للتطبيق، بل هي تتمثل في أشخاص، ف- :

أولاً : في العقيدة (مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ) المبدأ الخالق المفيض لكل الخيرات، (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) المعاد للجزاء، (وَالْمَلَائِكَةِ) وسائط

ص: 240

الوحي والتدبير، (وَالْكِتَابِ) ما أنزله الله ليكون دستوراً للناس، (وَالنَّبِیِّينَ) الذين يبلغونكم ما أنزله الله ويبينونه لكم .

ثانياً: في الأعمال : ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) أي حب الله ، فيتصدق ابتغاء وجهه تعالى ﴿ذَوِي الْقُرْبَى) أقرباءه لأن الأقربين أولى بالمعروف،(وَالْیَتَامَى) المحتاجين منهم، واليتيم الصغير الذي مات أبوه، (وَالْمَسَاكِينَ) أي من لا يجد نفقة لنفسه وأهله، (وَابْنَ السَّبِيلِ) أي الذي نفذت نفقته في السفر، (وَالسَّآئِلِينَ) أي من ألجأهم الفقر لطلب الصدقة أو الطعام، (وَفِي الرِقَابِ) العبيد لأجل عتقهم، ومن المصاديق إعانة المكاتب ﴿وَإِقَامَ الصَّلَاةَ) شيّدها - بأن صلّى وأمر غيره بها - (وَءَاتَى الزَّكَاةَ).

ثالثاً: في الأخلاق : ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِم) العقود والمواعيد (إذَا عَاهَدُوا) الناس عليها ، (وَالصَّابِرِينَ) - النصب على المدح أي أعني أو أمدح الصابرين - وصبرهم في المواطن كلها مثل : (الْبَأْسَآءِ) وهي شدة الفقر، (والضَّرَّآء) وهي الأضرار التي تصيبهم

كالمرض والموت ، (وَحِينَ الْبَأْسِ) أي الحرب، فإذا صبر فإذا صبر الإنسان في هذه المواطن فيكون في غيرها أصبر ، (وَأُولَئِكَ) الذين جمعوا بين الأمور الثلاثة بتفاصيلها : الإيمان والعمل والأخلاق، فهؤلاء هم الَّذِينَ صَدَقُوا في اتباع الحق وطلب البر، (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ اتقوا النار بفعل البرّ وأجلى مصاديق من اجتمعت فيه هذه الصفات هم الأنبياء والأئمة علیهم السلام.

------------------------------------

ص: 241

بحوث

الأول: قوله تعالى (لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِب) الآية.

الظاهر أن الآية الكريمة في مقام بيان الفرق بين المؤمنين وبين الكفار المنافقين الذين اتخذوا من تحويل القبلة وسيلة للتشكيك في رسول الله محمد ، فتبيّن الآية أن هؤلاء الكفار أو المنافقين لا خير فيهم أينما توجّهوا - إلى مشرق أم مغرب - بل لو صلّى المنافق باتجاه الكعبة فإن صلاته غير مقبولة ولا خير فيها، وتخصيص المشرق والمغرب) بالذكر إنما هو من باب المثال، ولأن فيه ردّاً على مزاعم ال-ي-ه-ود والنصارى من أن التوجّه إلى قبلتهم هي البرّ، فأكثروا اللغط في أمر تحويل قبلة المسلمين إلى الكعبة المشرقة فهؤلاء ليسوا من البِرّ في شيء، وإنما البِرِّ - كل البرِّ - في المؤمن المتصف بالصفات المذكورة. كما أن في الآية إشارة إلى لزوم الاهتمام بالأمور الهامة وترك المجادلة مع المعاندين في الأمور الفرعية، إذ لو ثبت الأصل لثبت الفرع تبعاً، ومع عدم ثبوت الأصل لا فائدة مرجوة من المجادلة في الفروع، كما أن الآية تبين حال المنافقين والكفار حيث يتركون المهام ويجادلون في الفروع عصبية وعناداً .

و (البر) هو التوسع في الخير، ومن مصاديقه العطف والإحسان، ولا

شك أن كل برّ يكون مرضياً - إن جيء به بشروطه -.

الثاني : قوله تعالى ﴿وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ) الآية.

هذا المقطع إلى نهاية الآية، دعوة إلى الأمور التي يكون بها الإنسان باراً مرضياً لله تعالى، ومن الواضح أن هذه الأعمال يمكن تحقيقها في

ص: 242

الخارج فليست أموراً مثالية غير قابلة للتطبيق، ولا الدعوة إليها من الطوبائية غير العملية، فلذا لم يقابل العمل بالعمل - أي التولي بالإيمان . . . - بل قابل العمل بالعامل وهو المؤمن المستجمع للصفات المذكورة، مما يدل على واقعية هذه الصفات وإمكان تحققها في الخارج.

فلا حاجة إلى تقدير «ذو)) أي ( ولكن ذو البر من آمن ...)، أو تقدير (عمل) أي (ولكن البر عمل من آمن ...) ، ولا إلى تفسير البرّ ب- (البار) كي يكون للمبالغة كقولهم زيد (عدل) أي عادل، بل المعنى إن البرّ متحدّ

مع المؤمن ومتقوّم به ، فهذا المؤمن هو مثال للبِرّ.

ثم إن الآية بيّنت ما يتقوم به البرّ الحقيقي وهو ثلاثة أمور فأولاً :

الإيمان - وهو ما يرتبط بالمعتقد - ولا بد من الإيمان بخمسة أمور حيث إنها متلازمة لا انفكاك بينها، ذكرت في الآية مترتبة حسب ترتيبها في الوجود:

1 - الإيمان بالله، فهو أصل كل شيء.

2 - الإيمان باليوم الآخر ، إذ لولا اليوم الآخر لم يمكن الأمر باتباع الرسل، إذ الجميع يكون سواء بل المتعدي على الحقوق يكون الرابح ولكن مع الإيمان باليوم الآخر يعرف الجميع بأن الجزاء ينتظرهم فلذا يمكن دعوتهم إلى اتباع ما فيه سعادتهم والاجتناب عما فيه شقاؤهم .

3 - الإيمان بالملائكة، لأن الله أنزل الوحي والكتاب عن طريق الملائكة، كما أنه تعالى جعل منهم من يدبر أمر العالم - بإذنه تعالى - كما قال (فَالْمُدَبِرَاتِ أَمْرَاً) (1)..

ص: 243


1- سورة النازعات الآية: 5.

4 - الإيمان بالكتاب، لأنه الدستور الإلهي الذي تنزل به الملائكة، وهو الذي يوجب قيام الناس بالحق والقسط .

5 - الإيمان بالأنبياء، لأنهم الواسطة بين الله وبين الناس، وخاتمهم رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم محمد حيث عرفناهم عن طريقه كما لا يمكن معرفة الحقائق التي بينوها إلا عن طريقه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وذلك للتحريف في كتبهم وإلصاق الخرافات بهم والأباطيل من قبل المبطلين .

قال تعالى «وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» (1).

وقد مرّ الكلام في تفصيل ذلك في الآية 136 فراجع.

وقوله تعالى ﴿وَالْكِتَابِ) يراد به القرآن أو نوع الكتاب، أي جميع الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء، قيل : إنما أتى به مفرداً للدلالة على عدم الفرق بين الكتب السماوية فكلها تدعو إلى شيء واحد، والاختلاف إنما هو في نسخ بعض الأحكام.

الثالث : قوله تعالى ﴿وَءَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ الآية .

هذا المقطع يبين المقوم الثاني للبرّ، وهو الأعمال الصالحة وذُكر في هذه الآية أهمها وهي العبادة والإنفاق، لأن العمل الصالح إما أن يكون بين العبد وربه - فهو العبادة ، وإما أن يكون بين الناس - فهو الإنفاق ..

وقد ذكر الإنفاق مرتين، ﴿وَءَاتَى الْمَالَ ...) و(وَءَاتَى الزَّكَوةَ ...) ولعله لأن الأول في المستحب والثاني في الواجب، ومن المعلوم أن الإنفاق..

ص: 244


1- سورة البقرة، الآية: 285.

المستحب أصعب على النفس من الإنفاق الواجب، فإن المؤمنين يعملون بالواجبات حتى وإن كانت صعبة خوفاً من النار، لكن أكثرهم يتركون المستحبات الصعبة حتى وإن عظم ثوابها، لأن الخوف أقوى تحفيزاً من الرجاء، وقد يتركون المستحبات لبعض الدواعي النفسانية لكنهم لا يتركون الواجبات لتلك الدواعي .

وقيل : ﴿وَءَاتَی الْمَالَ ...) لأجل بيان مصرف الإنفاق، أي يصرفون المال في المصارف الصحيحة لا الباطلة و(وَءَاتَى الزَّكَاةَ) لأجل بيان أصل التزامهم بحكم الشرع، وخاصة أن الزكاة تدفع جملة واحدة إلى الحاكم الشرعي - عادة - ليوزعها على مستحقيها فلا ارتباط بين الدافع وبين المستحقين عكس الصدقة المستحبة التي يدفعها صاحب المال مباشرة إلى المستحقين فكان اللازم بيان مصرفها لهم.

وقوله (عَلَى حُبّهِ) الظاهر أن الضمير في (حُبِّهِ) يرجع إلى الله ،تعالى أي إنفاقه إنما هو لوجه الله تعالى لا حبّاً للجاه ولا طلباً للرئاسة على المغدق عليهم ولا غير ذلك من الدواعي النفسانية كما قال تعالى (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِينَاً وَيَتِيماً وَأَسِيرًا «8» إنّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلَا شُكُورًا) (1).

وقيل : على حب المال أي رغم حاجته إلى المال لكنه يؤثر هؤلاء على نفسه قربة إلى الله، أو حب الإيتاء أي آتى المال رغبة في التصدق به قربة إلى الله لا كرهاً .

وهذان وإن كانا من درجات الإيمان أيضاً، لكن الإيتاء لأجل حب 9

ص: 245


1- سورة الإنسان الآية: 9

الله من أعلى درجات الإيمان فهو الأنسب لهذه الآية التي تبيّن الفرد المؤمن الكامل في الإيمان .

ثم إن المذكورين - ذوي القربى، واليتامى . . . - إنما هم من باب بيان أظهر مصاديق المحتاجين، وحيث إن إيتاء المال إنما كان لأجل حب الله تعالى فيعمّ كل شدة ترد على المؤمنين، فتشمل إيتاء المال لغير المذكورين من سائر المحتاجين، وكذا المشاريع الخيرية التي يحتاج إليها المؤمنون فإنها من الإنفاق في سبيل الله ولأجل حبّه تعالى .

وقوله (ذَوِي الْقُرْبَى) أي ،أقرباء المنفق، فإن الأقربون أولى بالمعروف وفي الحديث لا صدقة وذو رحم محتاج»(1)، قال تعالى «يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ»(2) ، بل من المحبّذ الوصية للأقرباء ليصل من خيره إليهم قال سبحانه «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ» (3).

وروى أن ذوي القربى هم قرابة النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم (4) وهذا من باب بيان أحد المصاديق للآية .

وقوله (وَالْمَسَاكِينِ)، المسكين هو من أسكنه الفقر، فقد يُسكنه عن الناس حياة وعفة عن السؤال، وقد يُسكنه إلى الناس لحاجته إليهم، والمسكين أسوأ حالاً من الفقير لأن الفقير من يجد شيئاً لكنه غير كافٍ .

ص: 246


1- بحار الأنوار: ج 93 ، ص 147 .
2- سورة البقرة، الآية: 215
3- سورة البقرة، الآية: 180.
4- البرهان ج 2، ص 59 .

له والمسكين من لا يجد ما ينفقه على نفسه وأهله، قالوا : إن لفظ المسكين والفقير إذا اجتمعا افتقرا وإذا افترقا اجتمعا)، أي إذا ذُكرا معاً فلكل واحد منهما معنى وأما إذا ذكر أحدهما دون الآخر فقد أريد الصنفان معاً.

وقوله (وَ السَّآئِلِينَ﴾ أي من الجأهم الفقر للسؤال فهم الطالبون للصدقة أو المستطعمون. ويمكن تعميم لفظ السائلين ليشمل الطالبين للدين أو النسيئة وكذا الطالبين لمشاريع الخير - لكنه خلاف الظاهر .

وقوله (وَابْنَ السَّبِيلِ) وهو المسافر الذي نفذت نفقته حتى وإن كان في بلده، لكنه لا طريق له إلى أمواله، وإنما سمي ابن السبيل لعدم معرفة أبيه ، وعشيرته، كما يقال لقاطع الطريق (ابن الطريق).

وقوله (وَ فِي الرِّقَابِ) : الرقبة أصل العنق واستعملت في العبيد لأن زمام أمرهم بيد الموالي كأنه طوق عنقهم سلسلة بيد مواليهم، والمراد شراء العبيد وعتقهم فإنه من أفضل القربات ومن مصاديقه معاونة المكاتبين - كما في بعض الأخبار (1)

الرابع : قوله تعالى ﴿وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) الآية .

هذا المقطع يبيّن المقوّم الثالث للبرّ، وهو الأخلاق الفاضلة ولا يمكن التحلي بالأخلاق الفاضلة إلَّا بملازمة أمرين هما أصل لجميع الفضائل :

1 - حسن التعامل مع الناس ومن أظهر مصاديقه الوفاء بالعهود المبرمة معهم سواء في معاملة أو في وعد إذ المجتمع الإنساني يتوقف .

ص: 247


1- البرهان ،ج 2، ص 59. عن التهذيب.

على العهود المبرمة ومراعاتها، ولولا مراعاتها لانفرط عقد المجتمع ولكثرت المشاكل فيه

2 - الصبر، فإن النفس تجرّ الإنسان - غالباً - إلى أحد طرفي الإفراط والتفريط، فلزوم الطريقة الوسطى من أصعب الأمور وخاصة في أوقات الشدة كالفقر والمرض والحرب .

والأخلاق هي الصورة الباطنية للإنسان، فإن كانت هذه الصورة من الفضائل فالأخلاق حسنة، وإلا كانت سيئة.

ومكوّنات هذه الصورة ثلاثة أمور:

1 - القوة الشهوية - وهي التي تريد جر النفع إلى الإنسان ..

2 - القوة الغضبية - ومهمتها دفع الأضرار عنه -.

3 - القوة المدبّرة - ومن مهامها إدارة القوتين مع إدارة الروح والبدن - وقد يقال لها القوة العاقلة .

والحد الوسط في هذه القوى يشكل الأخلاق الفاضلة، مثلاً حب من القوة الشهوية، فالإفراط فيها تعدي حدود الشرع، والتفريط هو الرهبانية المذمومة، والاعتدال هو الاستنان بالسُّنة بالزواج.

النساء

وكذا الدفاع عن النفس قد يكون بلا حكمة فهو التهور، وقد يكون أقل من اللازم أو لا يكون فهو الجبن، وقد يكون مع الحكمة فهو الشجاعة.

وعدم الإفراط والتفريط بحاجة إلى صبر كبير خاصة في الأزمات.

وقوله (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَهَدُوا) ، قيل : يشمل الوفاء بالعهود مع الله تعالى، لكن الظاهر بقرينة (إِذَا عَاهَدُوا) هو العهود الاجتماعية

ص: 248

كالعقود والوعود ونحوها، وأما العهود مع الله تعالى فهي أوامره التي يجازي عليها وقد ذكرت في صدر الآية في قوله (مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر .....)

وقوله (وَالصَّابِرِينَ) إنما نُصب على المدح أي امدح الصابرين، وفي الكشاف واخرج والصابرين منصوباً على الاختصاص والمدح وإظهاراً لفضل الصبر في الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال (1).

وفي التقريب : والصابرين» عطف على من آمن على طريق القطع ، بتقدير المدح، كما قال ابن مالك :

واقطع أو اتبع إن يكن معيّنا *** بدونها أو بعضها أقطع معلنا

وارفع أو انصب إن قطعت مضمرا *** مبتدأ أو ناصباً لن يظهرا

فإن عادة العربي أن يتفنن بالقطع - رفعاً ونصباً - إذا طالت الصفات، تقليلاً للكلل، وتنشيطاً للذهن بالتلوّن في الكلام (2) .

وقوله (الْبَأْسَآءِ) : أي البؤس - وهو الشدة - والمراد به الفقر .

وقوله (وَالضَّرَّآءِ) : أي ما يضرّ كالخوف والجوع والعطش والمرض والموت.

وقوله (الْبَأسِ) أي الحرب .

الخامس : قوله تعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) .

أي الذين استجمعوا الصفات المذكورة هؤلاء صدقوا في طلب البر، .

ص: 249


1- الكشاف ج 1 ، ص 168 .
2- تقريب القرآن ج 1، ص213.

لا المنافقون والكافرون الذين يتوهمون أنّ البرّ في التولي قبل المشرق والمغرب انطلاقاً من سوء سريرتهم وطلباً للتشكيك.

كما أن المستجمعين للصفات المذكورة هم الذين يتجنبون الأباطيل فيتقون الكفر والعصيان لا أولئك المشككون .

ومن الواضح أن من حسن إيمانه وحسن من حسن إيمانه وحسن عمله وحسنت أخلاقه فإنه يكون باطنه حسناً، فيطابق قوله ،فعله وسرّه علانيته، لعدم وجود نقص فيه ليتخالف ظاهره مع باطنه .

وهذا المقطع ضم الجانب الإيجابي - بالصدق ، والجانب السلبي - بالاتقاء من الكفر والرذائل والأباطيل ..

وروي أن هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين ، لأن هذه الصفات لا توجد إلا فيه وفي ذريته الطيبين قال في مجمع البيان واستدل أصحابنا على أن المعني بها أمير المؤمنين ، لأنه لا خلاف بين الأمة أنه كان جامعاً لهذه الخصال، فهو مراد بها قطعاً، ولا قطع على كون غیره جامعاً لها، ولهذا قال الزجاج والفراء : إنها مخصوصة بالأنبياء المعصومين، لأن هذه الأشياء لا يؤديها بكليتها على حق الواجب فيها إلا الأنبياء (1)..

ص: 250


1- مجمع البيان، ج 1، ص 673.

فصل في أحكام الموت

ص: 251

ص: 252

فصل في أحكام الموت

بعد بیان مقومات الأمة الإسلامية يبدأ قسم آخر في السورة المباركة بذكر مجموعة من فروع الدين مع مراعاة التسلسل في الآيات الكريمة، فحيث إنه تعالى حيث ذكر البِرّ عقبه ببعض الأحكام التي يجب على أهل البر الالتزام بها .

وبعبارة أخرى : لا يمكن البرّ إلَّا بالإيمان وبالتمسك بالشرائع، ثم بيّن بعض أهم تلك الشرائع، وحيث تعرضت الآيات السابقة لمقوّم الحياة الجسدية - من أكل الطيبات واجتناب الخبائث - بدأ هذا الفصل بذكر الحياة الاجتماعية، وذلك عن طريق تشريع القصاص، ثم عقبه بذكر الوصية التي فيها حياة للموصي أيضاً !

ص: 253

ص: 254

الآيتان 178-179

اشارة

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)»«وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)».

178 - (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خاطبهم لأنهم المنتفعون بهذا الخطاب، ولعدم تشريعه على أهل الذمة، (كُتِبَ) أي شُرّع - لأن الشرائع تكتب - (عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ) وهو أخذ الجاني بجنايته في جسمه مع مراعاة المماثلة بين الجناية والعقوبة (فِي الْقَتْلَى) عمداً مع لزوم التكافؤ بين القاتل والمقتول ف- (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) أي بدلاً منه (وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى).

(فَمَنْ) أي القاتل الذي (عُفِى لَهُ) أي تُرك قصاصه واستبدل بالدية (مِنْ أَخِيهِ) وهو ولي المقتول، سمي أخاً للقاتل استعطافاً (شَیءٌ) أي حقٌّ - أيّاً كان - و «شيء» نائب فاعل في «له» (فَاتبَاعُ) أي فعلى العافي اتباع القاتل (بِالْمَعْرُوفِ) أي يطالب بالدية أو ما تبقى منها بالمعروف، فلا يشدد على القاتل بل ينتظر ميسوره إن كان عاجزاً (وَ) على الجاني المعفو عنه (وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ) إلى أخيه وهو ولي

ص: 255

المقتول (بِإِحْسَانِ) من غير مماطلة إن كان قادراً ، فيحسن كما أحسن إليه ولي الدم بالعفو عنه .

(ذَلِكَ) جميع ما تقدم - التماثل في العقوبة، والتكافؤ بين الجاني والمجني عليه والقصاص والعفو، والاتباع بمعروف والأداء بإحسان - (تَخفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ) حيث كان يمكنه تشريع حكم أصعب، أو هو تخفيف عما كان عليه المشركون وغيرهم من البطش ونحوه .

(فَمَنِ) عفا فقد سقط حقه في القصاص، وإن (أعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ) العفو على الجاني بأن قتله أو مثل به ﴿فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ يقتص منه في الدنيا ويعذب في الآخرة.

179 - وتشريع حكم القصاص إنما هو لمصلحتكم (وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) عظيمة، لأنه من أسس قيام مجتمع سليم، كما أن تشريعه رادع قوي عن ارتكاب القتل (يَأُولِي الْأَلْبَاب) أصحاب العقول الذين يبتعدون عن سيطرة القوى الغضبية وعن الأوهام الباطلة (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ الله حينما تعرفون حكمته، أو تتقون إراقة الدماء حرصاً على الحياة وخوفاً من القصاص.

-----------------------------------

بحوث

الأول : 1 - هذه الآية الكريمة في صدد بيان أن القصاص إنما هو مع

ص: 256

تماثل الجاني والمجني عليه، فهي لبيان حدود المقتص منه، وفي سورة المائدة آية أخرى تتكفل لبيان حدود نفس القصاص قال تعالى ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْن بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بالأَنفَ والأَذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِ وَالْجُرُوحَ قِصَاصُ) (1) ، فكل من الآيتين لبيان أمر مرتبط بالقصاص اقتضى السياق ذكره، فحيث إن السياق في هذه الآية اقتضى ذكر الموت وما يتعلق به تَمّ ذكر القصاص في القتلى دون القصاص في الأعضاء والجروح، وفي تلك الآية كان السياق في عدم حكم اليهود بأحكام التوراة وإخفائها ، فلذا تم بيان أصل الحكم .

وما ورد من نسخ هذه الآية لتلك الآية(2) يراد به النسخ بمعناه اللغوي - أي التخصيص ، فإن (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) عام وقد خُصص بقوله (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى) .

2 - و(الْقِصَاصُ) من (ق ص ص) بمعنى اقتفاء الأثر، فهذه العقوبة تتلو الجناية وتتبعها فيفعل بالقاتل مثل ما فعل بالمقتول، أما البطش من غير حق بالإسراف في القتل فهو من البغي وليس قصاصاً إذ لم يكن متابعة للجناية بل الزيادة والإسراف عليها .

ومن ذلك يظهر أن تفسيرهم للقصاص بالمساواة إنما هو تفسير باللازم .

3 - ومن المعلوم أن هذه الآية تتطرق إلى حكم قتل العمد وأما قتل الخطأ فلا قصاص فيه، إذ القصاص للعقوبة، ولا معنى للعقوبة في .

ص: 257


1- سورة المائدة الآية: 45 .
2- الوسائل ج 30 ، ص 86 عن تفسير النعماني.

الخطأ، نعم يلزم التعويض فلذا وجبت الدية، ولذا لا يعاقب القانون من أخطأ عن قصور ولكن يلزمه بالضمانات - لأنّها أحكام وضعية . فالعقوبة إنما هي في الأعمال القصدية العمدية، أما الضمانات فهي تعويض فلذا تلزم على كل حال، قال تعالى ﴿وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَا فَتَحْرِيرُ رقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَن يَصَدَّقُوا) (1) .

الثاني: الآية تدل على لزوم التماثل بين القاتل والمقتول (الحُرُّ بِالحُرِّ) (وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) (وَالأُنثَى بِالأُنثَى) ، وهذه الثلاثة الأمثلة لبيان الإطار العام لهذا الحكم، وهنا صورتان أخريان:

1 - كون المقتول أعلى من القاتل، كما لو قتل عبد حرّاً عمداً، فهنا مفهوم الأولوية يدل على لزوم القصاص فإذاً يقتل المماثل بالمماثل، فقتل الأدون بالأعلى بطريق أولى.

2 - كون القاتل أعلى من المقتول، وهذه الآية ساكتة عن حكمه فلا بد من مراجعة سائر الأدلة، وهي أيضاً تدل على ما دلت عليه هذه الآية من لزوم التماثل، فإن أمكن ولو بدفع مال ثبت حكم القصاص وإلّا كانت عقوبة أخرى.

فلو قتلت امرأة رجلاً ، فالتماثل هو أن يُدفع لذوي القاتل نصف ديته ثمّ يقتصون منه، فتحقق التماثل بين المرأة ونصف الدية) وبين (الرجل)، وهكذا لو قتل اثنان رجلاً واحداً فهنا التماثل بأن يدفع لذوي كل واحد من القاتلين نصف الدية ويقتص منهما فهنا التماثل بين رجلين) وبين رجل مع دية).

ص: 258


1- سورة النساء، الآية: 92

أما لو قتل حرّ عبداً أو مسلم ذميّاً، فلا تماثل أصلاً، فلا يجري القصاص بل تكون سائر العقوبات المذكورة مفصلة في الكتب الفقهية .

ثم إن مرادنا من (الأعلى) ليس الأعلى في الإنسانية، بل الجميع من الحر والعبد والرجل والأنثى متساوون في الإنسانية، وإنما أكرمهم عند الله أتقاهم «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» (1) ، بل هذا الحكم لاعتبارات لوحظت لذوي المقتول - ولا يرتبط بالمقتول أصلاً لعدم استفادته لا من القصاص ولا من الدية ولا من العفو - فهو ليس بدلاً عن المقتول حتى يستشكل في تساوي المقتولين مع القاتلين في الإنسانية، بل القصاص أو الدية تعويض لذوي المقتول تعويضاً نفسياً أو ماديّاً فلوحظ فيه اعتبارات اجتماعية واقتصادية، ولعلنا سنتعرض لذكرها لاحقاً - إن شاء الله تعالى -.

الثالث : قوله تعالى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ).

الكتابة هنا بمعنى الحكم من الله تعالى فإذا كان في التكوين فمعناها القضاء الحتم كقوله تعالى ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةُ) (2) ، وقال (كَتَبَ اللَّهُ لَأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (3).

وإن كان في أفعال الناس فمعناه تشريع هذا الحكم فيشمل الحكم التكليفي والوضعي، كما يشمل الواجب ،وغيره فمن الواجب قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) (4) وقوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ.

ص: 259


1- سورة الحجرات، الآية: 13
2- سورة الأنعام، الآية: 54
3- سورة المجادلة، الآية: 21
4- سورة البقرة، الآية: 183.

لَكُمْ)(1) ، ومن غير الواجب قوله (وَرَهْبَانِيَةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾ (2) ، ومن الحكم الوضعي قوله ، (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) ، حيث لا يجب القصاص بل يجوز أخذ الدية أو العفو لكنه حكم شرعه الله تعالى نتيجة للقتل.

والحاصل أن الكتابة في الأحكام إنما هو بمعنى التشريع، وأما الوجوب في بعض الموارد فإنما هو يستفاد من سياق الكلام أو غيره.

الرابع : قوله تعالى ﴿فَمَنْ عُفِى لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيءٌ) الآية .

بعد أن شرع الله تعالى القصاص بيّن أن هذا الحكم إنما هو جعل حق لولي المقتول فيمكنه التنازل عن حقه والانتقال إلى الدية فيجوز أن يأخذ الدية أو قسماً منها .

وذلك لأن الحكمة اقتضت تشريع حكم القصاص لكن لا بنحو الإلزام بل بنحو الجواز بحيث يجوز لولي المقتول الاقتصاص من القاتل ولكن في الوقت نفسه لوحظت جوانب أخرى يجوز معها لولي المقتول أخذ الدية.

منها : فسح المجال أمام المجتمع للتراحم والتعاطف.

ومنها : إيجاد بدل اقتصادي لذوي المقتول عمّا فقدوه من عمل المقتول وخاصة إذا كانوا فقراء وكان موردهم الاقتصادي منحصراً فيه .

وجذر «العفو) من (ع) ف (و) بمعنى الترك، كما يقال عفت الدار أي تركت حتى درست والعفو عن المعصية هو ترك العقاب عليها ومحوها .

ص: 260


1- سورة البقرة، الآية: 216.
2- سورة الحديد، الآية: 27

(وشَيْءٌ) بمعنى بعض من الحق فولي المقتول يترك بعض حقه كالقصاص أو يترك شيئاً من الدية فالمعنى فالقاتل الذي عُفي له شيء، فلم يقتص منه أو لم يؤخذ منه بعض من الدية . . . إلخ .

وقوله (مِنْ أَخِيهِ) يعني ولي المقتول، ولعل هذا التعبير لأجل أن يعطف ولي الدم على القاتل بالعفو، وللدلالة على أن القاتل لا يخرج بالقتل عن الملّة، بل ارتكب ذنباً من أعظم الذنوب وعسى الله أن يتوب عليه قال تعالى (إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ) (1) .

وقوله (فَاتِبَاعُ بِالْمَعْرُوفِ) أي فيجب على ولي الدم طلب الدية بالمعروف، و(المعروف) هو التصرف الذي لا ينكره الناس بل يعرفونه بالحسن - شرط أن لا يتعارض مع الشرع ، والمعروف في طلب الدية أن لا يشدّد عليه بالتضييق وكما قال تعالى ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) (2).

قوله (وَأَدَاءِ إِلَيْهِ بِإِحْسَانِ) أي ويجب على القاتل أن يؤدي الدية إلى ولي المقتول بإحسان من غير مماطلة، فكما أحسن الولي إليه بعدم الاقتصاص منه كذا عليه أن يقابل الإحسان بأن لا يرهق الولي بالمماطلة والتأخير .

الخامس : قوله تعالى ﴿ذَلِكَ تَخفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ) .

أي الأحكام المذكور كلها تخفيف من الله حيث كان يمكن التشديد عليكم، كما تمّ التشديد على الأمم السابقة كما قال: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ)0.

ص: 261


1- سورة النساء، الآية: 48 .
2- سورة البقرة، الآية: 280.

هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُم) (1) ، وقد مرّ بعض الكلام في آيات ذبح البقرة.

كما أن المشركين وأهل الكتاب كانوا في شدة من عاداتهم وأحكامهم حيث كان يقتل بالواحد الكثير ، أو لم يكن في تشريعاتهم العفو أو الدية، فكان تشديداً عليهم فرفع الله تعالى تلك الأغلال التي كانت عليهم بتشريع حكم فيه تخفيف عليهم .

ففي مجمع البيان: نزلت هذه الآية في حيين من العرب لأحدهما طول على الآخر، وكانوا يتزوجون نساءهم بغير مهور، وأقسموا لنقتلنّ بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم، وبالرجل منا الرجلين منهم، وجعلوا جراحاتهم على الضعف من جراح أولئك (2).

وكان نظير ذلك بين اليهود، ففي تفسير القمي : وكتبوا بينهم كتاباً : على أنه أي رجل من اليهود من النضير» قتل رجلاً من بني قريظة» أن يُحتَّى ويُحمم - والتحنية أن يقعد الرجل على جمل ويولي وجهه إلى ذنب الجمل ويلطخ وجهه بالحمأة - ويدفع نصف الدية، وأيما رجل من بني قريظة قتل رجلاً من بني النضير أن يدفع إليه دية كاملة ويقتل به(3).

وقوله (وَرَحْمَةً) كالعلة للتخفيف أي هذا التشريع - وكذا سائر التشريعات - إنما هو رحمة من الله بكم، وإلا فهو الغني عنكم، قال سبحانه (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) (4) ، وقال سبحانه (يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ.

ص: 262


1- سورة النساء، الآية: 160 .
2- مجمع البيان ج 1 ، ص 675 - التبيان ج 2، ص 02
3- تفسير القمي ص 9.
4- سورة الأنعام، الآية: 133.

عَنکُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا) (1) فإن الإنسان حيث إنه ضعيف ولا يتحمل الأحكام الشاقة لذا شرع الله الأحكام السهلة له .

السادس : قوله تعالى ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.

(بَعْدِ ذَلِكَ) أي بعد العفو بأن يعفو ولي الدم ثم يقتل القاتل أو يُمثل به، إذ بعد العفو سقط حقه في القصاص ولا رجعة فيه، فإن قتله فقد ظلم فيجوز لأوليائه الاقتصاص منه، كما يستحق عذاب النار لتعديه حكم الشرع، أو المعنى أن يتجرأ القاتل فيقتل مرة أخرى، أو بعد ذلك أي بعد تشريع هذا الحكم إن قتل ولي المقتول غير القاتل، بأن أسرف في القتل وقتل مجموعة أو لم يراع المثلية ونحو ذلك، قال تعالى ﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ، سُلْطَاناً فَلَا يُسْرِف فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا) (2) وفي التبيين : فلا يسرف الولي في القتل بأن يجاوز الحد بالمثلية أو قتل غير القاتل - ممن يُسمى مؤامراً - أو نحو ذلك إنه - أي الولي - كان منصوراً من الله بإعطائه حق القصاص )(3) . وعن الإمام الصادق : وأي نصرة أعظم من أن يدفع القاتل إلى ولي المقتول فيقتله، ولا تبعة تلزمه من قتله في دين ولا دنيا (4).

السابع: قوله تعالى ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) .

دلت الآية أن تشريع حكم القصاص ليس لشفاء قلوب أولياء .

ص: 263


1- سورة النساء، الآية: 28.
2- سورة الإسراء، الآية: 33
3- التبيين ص 297.
4- الكافي، الفروع، ج 7، ص 371.

المقتول فحسب بل فيه مراعاة للحق العام إذ القتل هو هتك لحرمة المجتمع أيضاً، ولذا قال تعالى ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (1) ، فكان القصاص حياة للجميع ، ولذا قال تعالى ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ والمعنى أن في تشريع حكم القصاص حياة عظيمة لكم، وهذا لا ينافي تشريع حكم العفو أيضاً، لأن وجود هذا القانون هو سبب لانتظام الحياة - سواء اقتص الولي بعد ذلك أم عفا - فإن بعض القوانين نفس تشريعها سبب لكي يراعي الكثيرون حرمتها أو يخافوا منها فيرتدعون عن ارتكاب الجريمة، نظير العقوبات المشدّدة في الزنى من الرجم أو الجلد، فإن نفس هذا التشريع - مع صعوبة تحقق شروطه من شهادة أربعة عدول ورؤيتهم كالميل في المكحلة ونحو ذلك - رادع للكثيرين عن الإقتراب من الزنى وكذا قاصد القتل إن علم أنه يمكن أن يقتل قصاصاً فإنه كثيراً ما يرتدع عن الجريمة.

وفي الجوهر الثمين (حياة) قيل هو إيجاز حوى الفصاحة والبلاغة :

1 - بجعل القصاص - وهو ضد الحياة - ظرفاً لها .

2 - وتعريفه وتنكيرها، لإفادة أن في هذا الجنس من الحكم حياة عظيمة، إذ العلم بالاقتصاص يردع القاتل عن القتل، فيكون سبب حياة نفسه .

3 - ولأنهم كانوا يقتلون غير القاتل والجماعة بالواحد، فتثور الفتن بسببهم ، فإذا اقتص من القاتل يسلم الباقون فيصير سبباً لحياتهم (2)..

ص: 264


1- سورة المائدة، الآية: 32.
2- الجوهر الثمين ج 1، ص 182 .

وقوله تعالى (يَاأُولِي الْأَلْبَابِ) . (اللب) هو العقل الخالص، أي من خلص عقله من الشوائب - سواء تسويلات الشيطان أو الشبهات أو الهوى ونحو ذلك - يدرك أهمية القصاص وأن في تشريعه حياة عظيمة للمجتمع البشري.

وقوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). أي حينما تدركون حكمة هذا الحكم تلتفتون إلى عظمة الخالق الذي شرّع لكم هذه التشريعات العظيمة، فتتقونه في كل أموركم ولا تخالفون له أمراً أو نهياً، إذ كلها في مصلحتكم وفي سبيل سعادتكم، أو بمعنى لعلكم تتقون إراقة الدماء، أي تجتنبونها، حرصاً على الحياة .

ص: 265

الآيات 180-182

اشارة

«كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)».

وكما في القصاص حياة، كذلك في الوصية حياة للميت بالذكر الجميل وبالثواب .

180 - ف- (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) شُرع تشريعاً - بنحو الاستحباب - ﴿إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) قرب منه بمرض أو هرم (إِن تَرَكَ خَيْرًا) مالاً (الْوَصِيَّةُ) نائب فاعل كتب ، أي شُرّع أن توصوا (لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) زيادة على مقدار الإرث فهم أولى الناس بالوصية، ويجوز الوصية للغرباء، (بِالْمَعْروفِ) بما لا يوجب الشحناء بين الورثة، ولا يكون زائداً عن الثَّلث، ولا يضر بالوارث ولا يفضّل الغني على الفقير ونحو ذلك، (حَقًّا) أي هذه الكتابة أو هذه الوصية هي حق (عَلَى الْمُتَّقِينَ) لأنهم هم المتوقع منهم العمل لكسب مرضاة الله ومن القربات الوصية بالمعروف.

181 - ثم إن كانت هذه الوصية على حق (فَمَنْ بَدَّلَهُ) بدل

ص: 266

الإيصاء - سواء كان وصيّاً أم وليّاً أم شاهداً أم وارثاً أم غيرهم - (بَعْدَمَا سَمِعَهُ) أي علم بالوصية ﴿فَإِنَّمَآ إِثْمُهُ) إثم التبديل (عَلَى الَّذِينَ يُبَدِلُونَهُ) لا على الموصي، ولا على الذي يأكل المال جهلاً (إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ) للوصية (عَلِيمٌ) بما يفعله الوصي، فلذا يكتب الإثم على المبدل دون غيره .

182 - وإن كانت الوصية على باطل فلا إثم في إرجاعها إلى الحق (فَمَنْ خَافَ) أي علم (مِن مُوصٍ جَنَفاً أي ميلاً من الحق إلى الباطل كأن يجعل المال كله إلى بعض الورثة أو يُخطئ في الحق (أو إِثْماً) كأن يوصي إلى الحرام ويتعمد إلى الباطل (فَأَصْلَحَ بَينَهُمْ) أي بين الورثة أو الموصى لهم، وذلك بإجرائهم على منهج الشرع (فَلَآ إِثْمَ عَلَيْهِ) حيث إن عمله رجوع من الباطل إلى الحق إنَّ الله غَفُورُ للموصي الذي أوصى خلاف الحق (رَحِيمٌ) بعبادة حيث أمر بالإصلاح بينهم .

--------------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) .

الكتابة بمعنى التشريع والتشريع قد يكون بنحو الوجوب وقد يكون بنحو الجواز، كما مرّ في آية القصاص (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي القَتْلَى) فإنه شرع تخييراً بينه وبين العفو .

ص: 267

والوصية في الأموال مندوبة بالأصالة، وقد تجب بالعارض كما لو كان مديوناً وخاف تضييع حق الدائن.

وقيل : إن الوصية كانت واجبة ثم نسخت بآية المواريث.

وفيه تأمل، إذ النسخ إنما يكون مع عدم إمكان الجمع بين حكمي الآيتين كوجوب الصدقة وعدم وجوبها عند النجوى، وأما إذا لم يكن منافاة بينهما فلا معنى للنسخ ، بل آية المواريث دلت على أن الإرث يكون بعد الوصية، فتلك الآية أكدّت ما في هذه الآية. قال تعالى «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» إلی قوله تعالی «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ»(1)، و قال سبحانه «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ»(2)

وأما ما روي من أنها منسوخة نسختها آية الفرائض (3) فالمراد النسخ اللغوي، لا الاصطلاحي - الذي هو تبديل حكم بآخر - فالمراد أن آية الإرث أثبتت لزوم تقسيم المال بين الورثة حتى لو لم تكن هناك وصية لهم، فالحاصل أنه لم يكن تشريع للإرث بل كان عن طريق الوصية فقط، ثم شرع الإرث - بآية المواريث - وذلك بتقسيم المال بين الورثة طبقاً لنصيب كل واحد منهم حتى لو لم تكن وصية، فتأمل .

ويمكن أن يقال إن الوصية - في البداية - كانت واجبة للأبوين وللاقرباء لتقسم التركة بينهم حسب الوصية، ثم جاءت آية الإرث، فنسخت الوجوب في الوصية، وعينت نصيب كل وارث فرضاً من الله .

ص: 268


1- سورة النساء، الآية: 11.
2- سورة النساء، الآية: 12.
3- البرهان ج 2، ص 66 ، عن تفسير العياشي.

تعالى يجري سواء كانت وصية أم لم تكن بل الوصية ترجع إلى الثلث والباقي للورثة حسب الأنصباء.

وقوله (حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي أشرف على الموت - فهو مجاز بالمشارفة ، وحضوره بأن تلوح أماراته كالمرض الشديد أو الهرم أو الطوارىء كالحرب ونحوه .

الثاني: قوله تعالى (إن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) .

«الخير» هو كل ما فيه النفع، سواء كان مالاً أم غيره، وحيث إن الوصية عادة تكون بالأموال والترك لا يناسب إلا المال، فلذا تفسير الخير» بالمال .

نعم قد تكون وصايا أخلاقية فهي وعظ وإرشاد في الحقيقة كالوصية بتقوى الله أو الرفق بالأيتام - مثلاً -، وقد تكون وصايا فيما لا يملك كالوصية بأن يقرأ أبناؤه القرآن على قبره مثلاً فهو في الحقيقة رجاء لإيصال الثواب إليه .

نعم قد تكون وصية غير مالية وواجبة التنفيذ إذا كان في حق من حقوق الميت كالوصية بالدفن في مكان معين أو بأن يصلي عليه شخص خاص - يعينه ، والتفصيل موكول إلى الفقه.

وقوله (لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) أي وصية زيادة على الإرث وعلى القول بالنسخ فالمعنى يجب الوصية لهؤلاء، ثم جاءت آية الإرث لتعطيهم الحق في الميراث حتى لو لم يكن وصية .

الثالث : قوله تعالى (بِالْمَعْرُوفِ).

ص: 269

مرّ أن المعروف هو ما لا ينكره العقلاء، وكان مطابقاً للشرع بأن لا يكون فيه جور أو حيف، ومن تطبيقات المعروف :

1 - أن لا يوجب الشحناء الشحناء بين الورثة أو بينهم وبين الموصى لهم، بل بما يوجب الألفة بينهم مع عدم شعور أي منهم بالغَبَن .

2 - أن لا يكون زائداً على الثلث - كما دلت عليه الروايات - وما زاد على الثلث ردّ إلى الورثة إلا أن يتنازلوا عن حقهم

3 - أن لا يكون فيه تفضيل للغني على الفقير .

4 - أن لا يضرّ الوارث، كما لو كانت التركة قليلة وقد روي أن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ نهى مولّى له عن الوصية وكان ماله قليلاً بمقدار سبعمائة درهم، ولعله كان له وارث محتاج (1) .

5 - أن لا تكون الوصية قليلة جداً من وارث ثري، كأن يوصي بإعطاء قرص خبز لفقير مع كونه مالكاً لثروة هائلة، فالمعروف يقتضي أن يوصي بأكثر من ذلك .

6 - أن يكون الموصى له ممن يحسن الوصية له.

7 - أن لا تكون الوصية في أمور تافهة.

والحاصل أن المعروف هو مراعاة الموصى له والموصى به ،والوارث ونحو ذلك، وتشخيص المعروف موكول إلى عرف المتشرعة .

الرابع: قوله (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ).

أي كتب عليكم الوصية حال كونها حقاً على المتقين، أو مفعول .

ص: 270


1- راجع الجوهر الثمين ج 1، ص 182.

مطلق لفعل محذوف أي أحق حقاً بمعنى أن هذا التشريع هو حق، وعلى المتقين مراعاته .

وقوله (عَلَى الْمُتَّقِينَ) - مع أن الوصية محبذة من كل أحد - لأن المتقين هم المتوقع منهم أن يفعلوا الخير وأن يطلبوا مرضاة الله فهم في حياتهم يعملون بما يرضي الله، وحين وفاتهم يوصون أيضاً بالمعروف الذي فيه رضا الله تعالى .

أو بمعنى أن مراعاة الوصية حق على المتقين، أي يجب عليهم مراعاتها ثم يفرّع عليه (فَمَنُ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَآ إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ، حيث إنّ الوصية غير واجبة على الموصي لكن مراعاتها واجبة على الجميع سواء الوصي أم الورثة أم غيرهم .

أو لأن المتقين حيث كانوا أهل الوفاء فلذا شرفهم الله تعالى بأن جعلها حقاً عليهم - كذا قيل -.

الخامس قوله تعالى ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ یُبَدِلُونَهُ) .

وحيث تكثر الخيانة في الوصية - لموت الموصي ولعدم اطلاع الموصى له ولاستيلاء الورثة على التركة عادة ولغير ذلك - لذا احتاج الأمر إلى التحذير من التغيير في الوصية بعدم تنفيذها أو التصرف فيها زيادة ونقيصة أو صرفها عن الوجهة التي وصى بها الموصي ونحو ذلك .

وفي التقريب : إن كثيراً من الناس لا يوصون، خوفاً من أن يلحقهم إثم التبديل من بعدهم، لأنهم بوصيتهم أعانوا من بدل، ومهدوا الطريق له، كما رأيت ذلك متعارفاً في كلام كثير من الناس، حيث يقولون: من أوصى ألقى ورثته في المعصية، فيكف بعضهم عن الوصية، فأشار

ص: 271

سبحانه إلى كون هذا الحكم غلطاً ، فإن الموصي فعل خيراً، وإنما المغيّر هو الذي يتحمل الإثم (1).

وإنما قال (عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) ولم يقل (عليه) لجهات :

1 - للتعميم، حتى يشمل كل من يعلم بالتبديل ولو في المستقبل فإن الإثم ليس خاصاً بالمبدل الأول، بل استمرار التبديل فيه إثم التبديل أيضاً .

2 - وللدلالة على أنه لا إثم على الذي يأكل المال جهلاً - بالإرث أو بالشراء ونحوهما - إذ الغالب أن يبدل الجيل الأول، فتتصرف سائر الأجيال بلا علم .

3- ولا إثم على الموصي، فإنه نال ثواب الوصية، ولا يتحمل وزر المبدّل.

السادس : قوله تعالى ﴿فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمَاً) الآية .

لما ذكر الله تعالى حكم التبديل من الحق إلى الباطل وأن المبدّل عليه الإثم بيّن في هذه الآية أنه لا إثم لو كان تبديلاً من باطل إلى حق، لأن الوصية إنما شرعت لأنها حق كما قال (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) ، أما إذا كانت باطلاً فلا تشريع لها بل يجب ردّها إلى الحق، لأن اللازم الدوران حول الحق، لا حول الباطل.

وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : إذا أوصى الرجل بوصية، فلا يحلّ للوصي أن يغيّر وصية يوصاها، بل يمضيها على ما أوصي، إلَّا أن يوصي .

ص: 272


1- تقريب القرآن ج 1 ، ص 216 .

بغير ما أمر الله، فيعصي في الوصية ويظلم، فالموصى إليه جائز له أن يرده إلى الحق (1)

وقوله (خَافَ مِن مُوصٍ)، قد يكون الخوف منه في حال حياته، بأن اطلع الوصي أو الوارث أو غيرهما على الوصية فرأى فيها ظلماً وحيفاً، فهنا يحاول أن يصلح بين الموصي وبين الورثة أو الموصى لهم ، كما نشاهد كثيراً من اختلاف الأبناء مع آبائهم - وهم أحياء - في الوصايا التي يكتبونها، وحينئذٍ درءاً للاختلاف لا بأس بمحاولة الصلح بينهم بإقناع الموصي بتغيير وصيته .

وقد يكون الخوف بعد موت الموصي، فهنا لا بد من حمل (الخوف) على معنى الاطمئنان أي إذا اطمأنَّ الوصي ببطلان الوصية فحينئذ عليه أن يصلح بين الورثة أو بينهم وبين الموصى لهم، وذلك عن طريق إرجاع كل منهم إلى الشرع وعن طريق إقناع بعضهم بالتنازل للبعض الآخر . ويكون سبب التعبير بالخوف باعتبار الاختلاف، أي خاف من حدوث اختلاف بس- بسبب هذه الوصية فنسب الفعل المتعلق بالمسبب - وهو الاختلاف - ، إلى السبب - وهو الوصية ..

قوله (جَنَفًا) الجَنَف هو الميل من الحق إلى الباطل، وأما الحنف فهو العكس ولذا كان إبراهيم حنيفاً ، وجذر الكلمتين هو أن الجنف - بالمعجمة - هو ميلان القدم إلى الخارج، والحنف - بالمهملة - هو

ميلانها إلى الداخل فشُبّه بهما الداخل في الدين والخارج عنه .

والفرق بين الجنف والإثم : .

ص: 273


1- البرهان ،ج 2، ص 71 عن تفسير القمي.

هو أن الجنف) هو الخطأ غير المقصود و (الإثم) هو على جهة العمد، وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : والجنف هو الميل إلى بعض ورثته دون بعض والإثم أن يأمر بعمارة بيوت النيران واتخاذ المسكر» (1) ولعله من التفسير بالمصداق، فمنشأ الميلان إلى بعض الورثة دون بعض هو في التشخيص - غالباً - وعلى كل حال يرد إلى الثلث فقط .

وعن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ : الجنف أن يكون على جهة الخطأ من حيث لا يدري أنه يجوز (2).

وعن الإمام الصادق في قوله جَنَا أَوْ إِثْمَام : أنه بمعنى إذا اعتدى في الوصية وزاد على الثلث (3)..

ص: 274


1- البرهان ج 2، ص 71 عن تفسير القمي.
2- مجمع البيان ج 1 ، ص 686 .
3- المصدر ص 687.

فصل في أحكام الصوم

ص: 275

ص: 276

الآيتان 183-184

اشارة

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» .

بعد الانتهاء من بيان أحكام الموت - من القصاص والوصية - يبدأ هذا الفصل ببيان تشريع آخر من أهم التشريعات وهو الصوم - حيث كف النفس عن بعض الملذات والحاجات ، وإنما أردفها بأحكام الموت، لأن الموت فقدان لأصل الحياة والصوم منع النفس موقتاً عن بعض أهم مقومات الحياة، فقال تعالى :

183 -(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب عام لجميع من أظهر الإسلام، والصوم واجب على الجميع، ولكن خص الخطاب بالمؤمنين لأنهم المنتفعون بهذا الخطاب، كما لا يصح إلا منهم (كُتِبَ) أي شُرّع (عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) وهو إمساك عن الأكل والشرب و الجماع ونحوها بكيفية مخصوصة، (كَمَا كُتِبَ) أصل

ص: 277

وجوبه وإن اختلفت في الكيفية (عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) في الشرائع السابقة وعلى الأنبياء الماضين (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي تحصل لكم التقوى بترك المعاصي، أو تحافظون على أنفسكم من النار .

184 - يجب الصوم (أَيَامًا مَّعْدُودَاتٍ) أي في أيام قليلة قابلة للعد - وهي شهر رمضان كما سيُبيّن في الآية اللاحقة - ثم إن الناس على أصناف ثلاثة :

الصنف الأول: الحاضر القادر فهو الذي كتب عليه الصوم في الأيام المعدودة من شهر رمضان.

الصنف الثاني : المريض والمسافر (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا) بمرض يضره الصوم أو يوجب عسره (أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ) أي يجب عليه أن يصوم بعدد تلك الأيام (مَنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) بعد شهر رمضان .

الصنف الثالث: العاجز - كالهرم، وذو العطاش - (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) أي الصوم فيه مشقة عظيمة عليهم لأنه منتهى طاقتهم ﴿فَدِيَةٌ) أي بدل عن الصوم، وهي (طَعَامُ مِسْكِينٍ) واحد عن كل يوم .

(فَمَن) أي أيُّ شخص من هؤلاء (تَطَوَّعَ خَيْرًا) أي أتى بالطاعة المفروضة عليه - من صيام أو قضاء أو فدية - ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) لأن نفع طاعة الله إلى المطيع، أما الله فهو الغني عن عباده، ﴿وَأَن تَصُومُوا) أي وصيامكم (خَيْرٌ لَكُمْ) لما فيه من الفوائد الكثيرة (إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أما الجاهل فيرى الجانب السلبي فقط - من - من منعه عن

ص: 278

ملذاته - أما العالم فيرى فوائده، وإن لم يكتشفها فإنه على يقين بأن تشريعها ليس لغواً وعبثاً ولا هو يقصد الإضرار، بل فيه المنافع الدنيوية والأخروية .

-----------------------------------

بحوث

الأول: إن الصوم - لما فيه من المنع عن الحاجات والملذات - فهو خلاف ما تريد النفس، لذا احتاج إلى تخفيف وقع الصدمة على النفوس بالتمهيد له وتحبيبه إلى القلوب، فبعد بيان أصل الوجوب بشكل مجمل، مهدت عدة مقدمات :

فأولاً : تمَّ بيان أنه كان مفروضاً على الذين من قبلكم، فإذا ليس هو تشريع جديد بل استمرار لتشريعات سابقة، وإن تمكن أولئك من أداء هذا التكليف، فأنتم أيضاً قادرون عليه، فقال سبحانه (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ).

وثانياً : بيان فائدته قبل بيان تفاصيله في قوله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

وثالثاً : بيان سهولته وقلة مدته فقال (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) .

ورابعاً : بيان الرخصة في تركه في مواطن صعوبته وهي السفر والمرض، وبيان سقوطه إلى بدله على العاجز فقال (فَمَن كَانَ مِنكُم مَرِيضًا...) الآية.

وإضافة قيد (منكم) تأكيد على أن نفس من وجب عليهم هم نفسهم من يسقط عنهم في هذه الحالات، فليس فيه صعوبة بل فيه يسر وسهولة.

بعد ذلك كله تمَّ بيان تفاصيل الوجوب، مع بيان مزايا الصوم ومزايا

ص: 279

شهر الصوم وتأكيد أنه غير واجب على المريض والمسافر، وأنه لا عسر في هذا التشريع بل فيه يسر - لما فيه من الفوائد ..

ثم إن الآيتين تضمنتا ثلاث فوائد للصوم متدرجة :

1 - (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) تزداد فيكم ملكة التقوى، أو تحافظون على أنفسكم من النار .

2 - (فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ) أي أن إطاعة الله تعالى خير لكم الانسياق وراء ملذات الأكل والشرب ونحوها

3 - ﴿وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُم) لما فيه من الفوائد الكثيرة وسيأتي قريباً شرح هذه المقاطع الثلاثة .

الثاني : قوله تعالى (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ).

أصل الصوم كان مفروضاً على الأنبياء صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وعلى بعض الأمم ، لكن تفاصيله كانت تختلف عن تفاصيل الصوم في هذه الأمة - كما أن الصلاة والزكاة كانتا مفروضتين لكن بشكل آخر ، وهذا من الطبيعي، حيث اختلاف الشرائع في تفاصيل بعض الأحكام مع اتفاقها على الأصول.

ويستفاد من الروايات عدة أمور :

1 - شأن التشريع : فعن الإمام الحسن عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنه قال : جاء نفر من اليهود إلى رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم فسأله أعلمهم عن مسائل - فكان فيما سأله أنه قال له - لأي شيء فرض الله الصوم على أمتك بالنهار ثلاثين يوماً وفرض الله على الأمم أكثر من ذلك ؟ فقال النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم : إن آدم لما أكل من

ص: 280

الشجرة بقي في بطنه ثلاثين يوماً، ففرض الله على ذريته ثلاثين يوماً الجوع والعطش (1).

2 - إن صوم شهر رمضان لم يكن في الأمم السابقة، وإنما كان فريضة على الأنبياء صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وعلى هذه الأمة المرحومة، فعن الإمام الصادق : إنما فرض الله عزّ وجل صيام شهر رمضان على الأنبياء دون الأمم، ففضّل الله به هذه الأمة، وجعل صيامه فرضاً على رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وعلى أمته .

3 - كيفية الصوم وما يجب الإمساك عنه ومدته تختلف فيه الأمم وما عليه المسلمون اتباعاً للقرآن والرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع وبعض الأمور الأخرى من طلوع الفجر إلى الليل .

وأما ما عليه الأمم الأخرى بصوم الوصال - صوم يوم وليلة أو صوم يومين متتابعين مع الليلة المتوسطة ، أو الإمساك عن بعض المآكل والمشارب دون بعض، أو الإمساك عن الأكل والشرب في كل الليالي (2) ، كل ذلك لا يعرف له أصل من الأنبياء بل هي بدع ابتدعوها، ولو فرض أن بعضها كانت من الأنبياء فهي منسوخة بعد الإسلام.

وكذا نسخ الإسلام صوم الصمت - أو الصمت حين الصوم - الذي كان في بعض الشرائع السابقة قال تعالى ﴿فَقُولِی إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْمًا فَلَن أُكَلِمَ الْيَوْمَ إِنسِيَّاً) (3)..

ص: 281


1- الوسائل ج 10، ص 241 ، وراجع البرهان ج2، ص72.
2- ذكر في مواهب الرحمن ج 3، ص 23 - 26 بعض تفاصيل صيامهم.
3- سورة مريم، الآية: 26.

الثالث : قوله تعالى ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ .

مرّ سابقاً أن الترجي الحقيقي يستحيل على الله تعالى، لأن الرجاء إنما هو مع الجهل بما يؤول إليه الأمر ، فلذا لا بد من تأويله مثل :

1 - أن الغرض هو بيان أن الله يحب التقوى فعليكم الاتقاء لتنالوا رضاه.

2 - أو رجاء المكلَّف، فإنه يرجو أن ينال التقوى بالصوم.

3 - أو سلخ (لعل) عن معنى الترجي بدلالتها على التلازم الواقعي، فإن الصوم الصحيح المقبول علة للتقوى، فيكون الإتيان بلعلّ للدلالة على أن التقوى أمر اختياري يمكن تركها، ويمكن الوصول إليها عبر الطاعات كالصوم .

وقوله (تَتَّقُونَ﴾ إما بالمعنى المطلق للتقوى، أي الصوم يوجب ملكة التقوى في النفوس، إذ حينما يشعر الصائم بالجوع والعطش والضعف يتذكر الله تعالى فتصفو روحه وتبتعد عن الشرور، أو بمعنى لعلكم تتقون النار لأن الصوم جنة من النار) (1) كما في الحديث الشريف، فهو كفارة للذنوب - كما سيأتي -.

أو بمعنى أن الصائم حيث يكف نفسه عن أقوى الشهوات - في الطعام والشراب والمباشرة - فإنه أردع لنفسه عن سائر المحرمات.

ومرجع هذه الثلاثة إلى أمر واحد وهو تقوية الإيمان مما يوجب ترك المحرمات والالتزام بالطاعات مما يتسبب في الوقاية من النار . .

ص: 282


1- بحار الأنوار، ج 96 ، ص 256 .

الرابع: قوله تعالى (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ).

في هذا التعبير تسلية للصائم، وبيان أن الصوم لأيام قليلة، وحتى لو تضايق الصائم فإنها أيام تنقضي بسرعة.

وقوله (أَيَّامًا) ظرف ل- (الصيام) أي الصيام في أيام معدودة، أو مفعول لفعل مقدر ، أي صوموا أياماً معدودة.

وقوله (مَعْدُودَاتٍ) بمعنى قليلة، لأن القليل يُحسب، وأما الكثير فهو غير قابل للعد - عادة ..

وتلك الأيام تسعة وعشرون يوماً أو ثلاثون يوماً، وأما ما روي من أن شهر رمضان لا ينقص عن ثلاثين يوماً أبداً فهو مُعرض عنه ومعارض بما هو أقوى منه سنداً وأشهر رواية (1) . وقد ألف الشيخ المفيد رضوان الله عليه رسالته العددية وذكر فيها أسماء نيف وأربعين فقيهاً من أصحاب الأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ رووا أن شهر رمضان كسائر الشهور يكون تسعة وعشرين يوماً تارة وثلاثين يوماً أخرى، وقال عنهم هم فقهاء أصحاب أبي جعفر محمد بن علي وأبي عبد الله جعفر بن محمد، وأبي الحسن موسى بن جعفر، وأبي الحسن علي بن موسى، وأبي جعفر محمد بن علي، وأبي الحسن علي بن محمد، وأبي محمد الحسن بن علي، صلوات الله عليهم، والأعلام الرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام والفتيا والأحكام الذين لا يطعن عليهم، ولا طريق إلى ذم واحد منهم، وهم أصحاب الأصول المعروفة، والمصنفات المشهورة، وكلهم قد أجمعوا .

ص: 283


1- راجع الروايات في الوسائل ج 10، ص 262 - 274 .

نقلاً وعملاً على أن شهر رمضان يكون تسعة وعشرين يوماً، نقلوا ذلك عن أئمة الهدى عَلَيْهِم السَّلاَمُ، وعرّفوه في عقيدتهم ، واعتمدوه في ديانتهم (1).

والحاصل أن الأخبار الدالة على أن شهر رمضان كسائر الشهور - قد يكون ثلاثين يوماً وقد يكون تسعة وعشرين - أخبار متواترة قد عمل بها الأصحاب، وهي مع ذلك متوافقة مع ظاهر القرآن الكريم - الدال على أن العمل بالأهلة لا بالعدد .

الخامس : قوله تعالى (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرِ ).

هذا بيان للقسم الثاني، وهم من طرأ عليهم مانع المرض أو السفر،فإنه يجوز لهم الإفطار والقضاء بعد شهر رمضان.

والمانع أمران :

1 - المرض، ومن الواضح أن أهل اللسان - الذين نزل القرآن بلغتهم - يفهمون من هذه الكلمة في هذا السياق : المرض المانع عن الصوم أي الذي يكون معه الصوم مضرّاً أو عسراً، لا كل المرض، وقد نقلوا أن البعض أفطر لوجع الإصبع !! وهذا إما من سوء الفهم أو من قلة الورع.

عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله قال سألت أبا عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن حدّ المرض الذي يجب على صاحبه فيه الإفطار كما يجب عليه في السفر في قوله (وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ) ؟ قال : هو مؤتمن عليه، مفوّض إليه، فإن وجد ضعفاً فليفطر، وإن وجد قوة فليصم ، كان المرض على ما كان (2) . .

ص: 284


1- مصنفات الشيخ المفيد 9: 25.
2- البرهان ج 2، ص 75 وراجع الروايات الأخرى في الوسائل ج 10 ص 174 فما بعد.

2 - السفر - بشروطه المذكورة في الفقه - ، والإفطار عزيمة، أي لا يجوز صوم المسافر وإن صام بطل صومه وعليه القضاء، وذلك لقوله تعالى ﴿فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرً) أي القضاء واجب مطلقاً من غير تقييده فسواء صام في السفر أم لم يصم فعليه عدة من أيام أخر، مضافاً إلى تواتر الأخبار عن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم والأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ من النهي عن الصوم في السفر وتسمية الصائمين فيه بالعصاة (1) .

ثم إن الإفطار في السفر هدية من الله تعالى إلى الأمة، وهو من التيسير عليهم، حيث يشق الصوم في السفر عادة لما يصيب المسافر من العطش والتعب ونحوهما .

وفروع المسألة كثيرة، تطلب من الكتب الفقهية .

السادس : قوله تعالى ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ).

هذا بيان للقسم الثالث من الناس وهم من يعجزون عن الصوم لهرم أو عُطاش ونحوهما، فقد رُفع عنهم الصوم إلى بدله وهو إطعام مسكين عن كل يوم .

وقوله (يُطِيقُونَهُ) أي يتمكنون منه بمشقة شديدة، وهذا من منة الله على هذه الأمة حيث رفع حكم الوجوب عمّن يشق عليه مشقة شديدة، مع أنه كان يجوز عقلاً إلزامهم بهذا التكليف، وذلك لقدرتهم عليه إذ القدرة قد تكون عقلية وهذه شرط في التكليف، فيقبح تكليف العاجز - الذي لا يتمكن .. وقد تكون قدرة عرفية - بمعنى عدم المشقة الشديدة - فهذه ليست شرطاً عقليّاً للتكليف فلا قبح في تكليفه، لكن الله تعالى ومنة على .

ص: 285


1- البرهان ج 2، ص 74.

المسلمين شرّع القدرة العرفية كشرط للتكاليف، فكان يمكن أمر الشيخ الهرم بالصيام - حتى وإن أدّى إلى موته - إذ هو قادر عقلاً على الإمساك، لكن أسقط الله الصيام عنه منة ورحمة، وقد لا يُرفع التكليف لمصلحة أهم كما في الجهاد حيث يجب - على من استجمع شروطه - حتى وإن كان فيه مشقة وحرج عظيمان وأدى إلى قتله، ففي الجهاد لم تشترط القدرة العرفية بل يكفي في وجوبه القدرة العقلية والحاصل أنّ (يُطِيقُونَهُ) بمعنى صرف تمام الطاقة في التكليف مما يلازم المشقة الشديدة.

وقوله (فِدْيَةٌ) من (ف د ي) بمعنى البدل والعوض، فبدلاً الصوم شُرّع عليهم إطعام مسكين عن كل يوم، وفي الروايات تحديد هذا الطعام ب- (مد) وهو ما يعادل (750) غراماً، من أي شيء يكون طعاماً، كالحنطة فإنها من أوسط الطعام.

و(المسكين) يراد به مطلق ،الفقير وقد مرّ أن لفظي (الفقير والمسكين) إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا .

السابع : قوله تعالى (فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) .

الظاهر أن هذا بيان لعلة ثانية لتشريع الصوم، بعد قوله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ - الذي كان علة أولى، وحاصله أن إطاعة الله تعالى هي خير

لكم ، إذ الطاعة هي طريق إلى الرُّقي والكمال والفلاح ، قال تعالى (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) (1) ، وقال (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (2) ، وقال (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ 1.

ص: 286


1- سورة النور، الآية: 52 .
2- سورة الأحزاب الآية: 71.

تُرْحَمُونَ ) (1) ، وغيرها ويمكن أن يرجع التطوع إلى الأمرين - الصوم والفدية - بأن يراد من (خَيْرًا) كلاهما .

وقد مرّ أن (تَطَوَّعَ) هو فعل الطاعة ولا دلالة للكلمة على الاستحباب فراجع الآية 158.

وقالت العامة التطوع هو الصوم في السفر - مخيراً بينه وبين الإفطار - لكن ذلك خلاف السياق للفاصل بين هذه الجملة وبين (عَلَى سَفَرٍ)، ولتخصيصه بالمسافر دون المريض مع أنهما في جملة واحدة هذا مضافاً إلى تعارضه مع المتواتر من روايات أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ، مع تعارض روايات العامة واضطرابها في صوم المسافر كروايتهم ليس من البر الصوم في السفر) (2) و (الصائم في السفر كالمفطر في الحضر) (3) وأن رسول الله بلغه أن أُناساً صاموا في السفر فقال (أولئك العصاة)(4).

الثامن : قوله تعالى ﴿وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ).

وهذا بيان للعلة الثالثة لتشريع الصوم، وهو أن فيه فوائد جمة للصائم دينية واجتماعية ونفسية وجسمية وغيرها ، فعن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم : ما من مؤمن يصوم شهر رمضان احتساباً، إلَّا أوجب الله له سبع خصال، أولها :

يذوب الحرام في جسده، والثانية : يقرب من رحمة الله والثالثة يكون قد كفر خطيئة أبيه آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، والرابعة : يُهوّن عليه سكرات الموت .

ص: 287


1- سورة آل عمران الآية: 132.
2- رواه البخاري، ج 7، ص 256.
3- رواه ابن ماجه ، ج 5 ص 348 ، والنسائي، ج 7، ص 470 .
4- رواه مسلم، ج 5 ، ص 436 .

والخامسة : أمان من الجوع والعطش يوم القيامة، والسادسة : يعطيه الله براءة من النار ، والسابعة : يطعمه الله من ثمرات الجنة (1) .

وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : إنما فرض الله الصيام ليستوي به الغني والفقير، وذلك أن الغني لم يكن ليجد مس الجوع فيرحم الفقير، لأن كلّما أراد شيئاً قدر عليه فأراد الله أن يسوي بين خلقه، وأن يذيق الغني مس الجوع والألم، ليرقّ على الضعيف ويرحم الجائع (2).

وعن الإمام الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ إنما أمروا بالصوم لكي يعرفوا ألم الجوع والعطش، فيستدلوا على فقر الآخرة، وليكون الصائم خاشعاً ذليلاً مستكيناً مأجوراً محتسباً عارفاً صابراً على ما أصابه من الجوع والعطش، فيستوجب الثواب، مع ما فيه من الإمساك عن الشهوات وليكون ذلك واعظاً لهم في العاجل، ورايضاً لهم على أداء ما كلّفهم، ودليلاً لهم في الآجل، وليعرفوا شدة مبلغ ذلك على أهل الفقر والمسكنة في الدنيا فيؤدوا إليهم ما افترض الله لهم في أموالهم (3)..

ص: 288


1- أمالي الصدوق ج 1، ص 161 وعنه في البرهان ج 2، ص 72 .
2- الوسائل ج 10، ص8.
3- وسائل الشيعة ج 10 ص 9 عن علل الشرائع وعيون الأخبار.

الآية 185

اشارة

«شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)».

185 - الأيام المعدودة هي (شَهْرُ رَمَضَانَ) وهو شهر عظيم يستوجب شكر الله فيه بالصوم فهو الشهر (اَلَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ) فأي نعمة أعظم من الهداية فلا بد من شكرها حال كون القرآن (هُدًى لِلنَّاسِ) أنزل لهدايتهم أجمع ، (وَ) ليس غامضاً بل حال كونه (بَيِّنَاتِ) دلائل واضحة (مِنَ الْهُدَى) كدلائل التوحيد، (وَالْفُرْقَانِ) الفارق بين الحق والباطل كالحلال والحرام، (فَمَن شَهِدَ) أي حضر ولم يكن مسافراً (مِنكُمُ الشَّهْرَ) أي في الشهر (فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ) بعدد ما أفطر يقضي (مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَّ) وإنما شُرّع الإفطار للمريض والمسافر إذ (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) السهولة ﴿وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) الصعوبة، (وَ) إنما فرض القضاء (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) شهراً كاملاً

ص: 289

(وَ)حيث قد تبيّن أن القرآن نزل في شهر رمضان فالصوم فيه (لِتُكَبِرُوا اللَّهَ) وتعظموه بالصوم (عَلَى مَا هَدَائُكُمْ) ومن مصاديق التكبير هو التكبيرات في ليلة العيد ويومه، (وَلَعَلَكُمْ) بصومكم (تَشْكُرُون) الله على نعمة الهداية.

--------------------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ).

(رمضان) من الرمض، وهو شدة وقوع الشمس على الرمل وغيره، قيل إن العرب لما أرادوا تسمية الشهور سمّوها بالأزمنة التي وقعت فيها فوافقت رمضان أيام رمض الحر (1).

ثم أقرّ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم هذه التسمية ولم يغيّرها - مع أنه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم كثيراً من الأسماء ، إذ تطابقت التسمية مع واقع هذا الشهر، فعن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم : سُمي بذلك لأنه يرمض الذنوب (2) ، ولأن رمضان من أسماء الله تعالى - على ما روي (3) - فيكون معنى شهر رمضان شهر الله تعالى ،كما ورد هذا في أحاديث كثيرة ومنها ما رُوي عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم أنه قال : شعبان ،شهري، وشهر رمضان شهر الله عزّ وجل(4).

وقوله (شَهْرُ رَمَضانَ) - بالرفع - إما خبر لمبتدأ محذوف يستفاد من

ص: 290


1- راجع مجمع البيان ج 2، ص 17.
2- البحار ج 55 ، ص 341 عن مجمع البيان.
3- راجع البحار ج 93 ص 376 - 377 ، والبرهان ج 2، ص 79 عن الكافي.
4- البحار، ج 93، ص 356 .

الكلام، أي الأيام المعدودات شهر رمضان، أو مبتدأ وخبره (الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ) ، أو مبتدأ و(الَّذِى)... صفة والخبر ﴿فَمَن شَهِدَ مِنْكُمْ...) ، وقيل غير ذلك .

ثم اعلم أنه وردت روايات متعددة على أن أول السنة هو شهر ،رمضان فعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : ورأس السنة شهر رمضان (1) . وعنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ : فغرة الشهور شهر الله عز وجل وهو شهر رمضان (2).

وعنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ : ليلة القدر هي أول السنة وهي آخرها (3).

قال العلامة المجلسي رضوان الله عليه: «غرّه الشهور» أي أولها، قال في النهاية غرّة كل شيء ،أوله، وقد ورد في الأخبار أن أول السنة شهر رمضان؛ أو المراد بها أفضلها وأكملها، كما قال في النهاية كل شيء ترفع قيمته فهو غُرّة ... والأول أظهر .

والمشهور بين العرب أن أول سنتهم المحرّم، وهذه الأمور تختلف بالاعتبارات، فيمكن أن يكون أول السنة الشرعية شهر رمضان - ولهذا ابتدأ الشيخ به في المصباحين ، وأول السنة العرفية المحرّم، وأول سنة التقديرات ليلة القدر وأول سنة جواز الأكل والشرب شهر شوال، كما روى الصدوق في العلل بإسناده إلى الفضل بن شاذان في علة صلاة العيد، لأنه أول يوم من السنة يحلّ فيه الأكل والشرب، لأن أول شهور السنة عند أهل الحق شهر رمضان وقال في علة اختصاص شهر رمضان بالصوم وفيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وفيها يفرق كل أمر .

ص: 291


1- التهذيب ج 1، ص 446 .
2- راجع البحار ج 55 ، ص 376 عن الكافي والتهذيب.
3- الكافي ج 4، ص 160.

حكيم وهو رأس السنة، ويقدّر فيها ما يكون في السنة من خير أو شر، أو مضرة أو منفعة، أو رزق أو أجل ، ولذلك سميت ليلة القدر (1).

ونقل في البحار عن السيد ابن طاوس كلاماً محصله : إن الروايات مختلفة في أن أول السنة المحرّم أو شهر رمضان، ولعل شهر الصيام أول العام في عبادات الإسلام والمحرّم أول السنة في غير ذلك من التواريخ ومهام الأنام . .. الخ (2)

.

الثاني : قوله تعالى ( الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْانُ) .

الغرض هو بيان عظمة هذا الشهر، حيث نزل القرآن وهو لهداية البشرية فيه فلا بد من شكر هذه النعمة العظيمة وذلك بالصوم.

وقد مرّ في الآية (90) أن (أنزل ) و (نزّل) و (نزل به بمعنى واحد وقول بعضهم إن الإنزال) هو النزول دفعة واحدة، و(التنزيل) هو بالتدريج لا شاهد عليه لا ، من اللغة ولا من الاستعمال القرآني، بل استعمل كلا البابين لكلا المعنيين فعن لسان العرب) وتنزّله، وأنزله ونزّله بمعنى قال سيبويه : وكان أبو عمرو يفرّق بين نزّلت وأنزلت ولم يذكر وجه الفرق ... إلخ (3) وكذا في القرآن استعمل كلا البابين في كلا المعنيين في موارد كثيرة جداً فراجع المعجم المفهرس مادة (نزل).

ومن أمثلته في النزول الدفعي : قال تعالى «قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)» (4) وقال : (وَلَوْ أَنزَلْنَا 5

ص: 292


1- بحار الأنوار ج 55 ، ص 376 - 377 .
2- راجع تفصيل كلامه في الإقبال ص 4 ، وعنه في البحار ج 55 ، ص 377 - 378.
3- لسان العرب ج 11، ص 656 ، عنه مناهج البيان ج 2، ص 119 .
4- سورة الإسراء، الآية: 95

مَلَكًا لَّقُضِيَ الْأَمْرُ) (1) فإن نزول الملك ليس تدريجياً ولكنه دفعي ومع ذلك استعمل فيه التنزيل في الآية الأولى، والإنزال في الآية الثانية .

وفي النزول التدريجي : قال تعالى: ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ (2) ، وقال : ﴿وَنَزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ، جَنَّاتِ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) (3).

نعم دلت الروايات على أن للقرآن نزولين، تدريجي وبالجملة.

أما نزوله جملة واحدة فهو نزوله إلى البيت المعمور أولاً، فعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور، ثم نزل في طول عشرين سنة ... وأنزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان (4).

وأما الإشكال بأنَّه ما هي الحكمة في نزوله إلى البيت المعمور ؟!! ، فهو إشكال ،ضعيف، فإنَّا نجهل حكمة أكثر أفعال الله تعالى، وجهلنا لا يكون مبرراً لرد الروايات، بل لعل من الحكمة هو تعظيم أمر القرآن وتفخيم شأنه أو لغير ذلك ثم نزوله جملة واحدة على قلب النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم في ليلة القدر، فعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : أعطاه الله القرآن في شهر رمضان، وكان لا يبلغه إلَّا في وقت استحقاق الخطاب، ولا يؤديه إلا في وقت أمر أو نهي ، فهبط جبرئيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالوحي فبلغ ما يؤمر به، وقوله (لاَ تُحَرِّك بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) (5)..

ص: 293


1- سورة الأنعام، الآية: 8.
2- سورة البقرة، الآية: 22.
3- سورة ق الآية: 9.
4- البرهان ج 2، ص 78 .
5- البحار ج 89، ص38 . والآية في سورة القيامة، الآية: 18.

وأما الإشكال في فائدة نزوله على قلب الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم مع عدم كونه مأموراً بتبليغه في بداية البعثة ، فهو أضعف من الإشكال السابق، إذ عدم معرفتنا بالفائدة غير ضائر كما أنه لعل الحكمة من ذلك هو كمال الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم بالعلم والمعرفة بالإلهية.

وقيل معنى (الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ) هو ابتداء نزول القرآن فيه، فيكون المبعث في شهر رمضان.

ولا يصح هذا لاتفاق الإمامية على أن البعثة كانت في السابع والعشرين من شهر رجب و به وردت روایات مستفيضة، منها ما عن الإمام الصادق : لا تدع صيام يوم سبعة وعشرين من رجب، فإنه اليوم الذي نزلت فيه النبوة على محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم (1).

فتحصل أن أول البعثة كانت في شهر رجب ونزلت فيه آيات من القرآن، ثم في شهر رمضان في ليلة القدر نزل القرآن كله على قلب رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم، وكان قبل ذلك قد نزل كله إلى البيت المعمور ، ثم نزل نجوماً وبالمناسبات مرّة أخرى ليبلغه الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم إلى الناس، قال تعالى «وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)» (2). ، وقال سبحانه وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا

لَوْلَا نُزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةَ وَاحِدَةُ كَذَلِكَ لِنُثَبِتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرتيلاً ) (3).

الثالث : قوله تعالى ﴿هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ).

ليس في الآية تكرار للهدى، بل المراد أمران : 2

ص: 294


1- البحار ج 18، ص 189 عن الكافي.
2- سورة الإسراء، الآية: 106.
3- سورة الفرقان الآية: 32

1 - إن الغرض من إنزال القرآن هو هداية الناس، فلذا قال تعالى (هُدًى لِلنَّاسِ).

2 - إن هذا القرآن ليس أمراً غامضاً بل هدايته واضحة، وهو فارق بين الحق والباطل بوضوح فإن من شأنه أن يهدي من يحتاج إلى الهداية، وفارق إذا التبس الحق بالباطل، ولذا قال تعالى ﴿وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) ، وهذا نظير قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ يَسَرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ (1) ، وذلك لأن القرآن شامخ علي قال تعالى ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌ حَكِيمُ) (2) ولكن الله تعالى يسره بأن جعل ظاهره قابلاً للفهم لأهل ،اللسان، وهذا أيضاً من معاجز ،القرآن قال أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ : ظاهره أنيق وباطنه عميق (3) وقال تعالى ﴿وَقُرْءَانِ مُّبِينٍ) (4) وقال تعالى (إِنَّا أَنزَلْناهُ قُرآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (5) ، وقال (قُرءَاناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (6) .

وقيل : (هُدًى لِلنَّاسِ) من الضلالة، و(وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى) بيان الحلال والحرام وقيل : الأول العلم بالتكليف، والثاني إخبار الأنبياء ونحوه (7). وفي الجوهر الثمين : أنزل وهو هداية للناس بإعجازه، وآيات واضحة مما يهدي إلى الحق ويفرّق بينه وبين الباطل (8).

وقوله (بَيِّنَاتِ) البيّنة : الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة - .

ص: 295


1- سورة القمر، الآية: 17 .
2- سورة الزخرف، الآية: 4.
3- شرح نهج البلاغة، ج 1، ص288.
4- سورة الحجر، الآية: 1.
5- سورة يوسف، الآية: 2.
6- سورة الزمر، الآية: 28
7- نقله مجمع البيان ج 2، ص 21 - بتصرف .
8- الجوهر الثمين ج1، ص187.

كما في المفردات (1) - ، ولذا قيل هي الدلالة الواضحة الكافية عقلاً لإتمام الحجة.

وقوله (وَالْفُرْقَانِ) مادة (ف ر ق) تدل على تمييز بين شيئين، وسُمي

القرآن فرقاناً :

1 - لأنه فَرَقَ به بين الحق والباطل.

2 - كما أنه فرق بين الحلال والحرام ببيان كلّ منهما .

3- كما أنه نزل متفرقاً وبالتدريج.

وهذه المعاني الثلاثة كلها ترجع إلى معنى واحد، إذ القرآن كله فرقان وكلمة الفصل بين الحق والباطل، ولكن حيث اشتمل على آيات متشابهة كما قال تعالى: ﴿وَأُخَرُ مُتَشَبِهَاتٌ) (2) فقد يخفى الأمر على غير الراسخين في العلم ، فلهؤلاء يكون الفرقان الآيات المحكمة، ولذا روي عن الإمام الصادق القرآن جملة الكتاب والفرقان : هو المحكم الواجب العمل به (3)، وفي الصحيفة السجادية : وفرقاناً فرقت به بين حلالك وحرامك (4) ، وسئل رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم : لم سمي الفرقان فرقاناً ؟

فقال صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم : لأنه متفرق الآيات والسور في غير الألواح وغيره من الصحف والتوراة والإنجيل والزبور نزلت كلّها في الألواح والورق (5) .

وهذه الثلاثة - المحكم والفرق بين الحلال والحرام، ونزوله نجوماً كلها ترجع إلى أنه الفارق بين الحق والباطل، وذلك عبر الآيات .

ص: 296


1- المفردات ص 157 .
2- سورة آل عمران الآية: 7.
3- البرهان ،ج 2، ص 79 عن الكافي.
4- الصحيفة السجادية الدعاء الثاني والأربعون
5- العلل ص 470 وعنه من مناهج البيان ج 2، ص 115 .

المحكمات عن طريق بيان الحلال والحرام، وتدريجية نزوله لتثبيت الفؤاد وتيسير قبوله وفهمه والعمل به.

الرابع: قوله تعالى (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهَرَ فَلْيَصُمْدُ).

أي من كان حاضراً ولم يكن مسافراً ، إذ المسافر غائب وليس بحاضر ، و(الشَّهْرَ) ظرف ، فالمعنى فمن حضر في الشهر - سواء حضر كله أم بعضه ، وقوله (فَلْيَصُمّةُ) أي يجب عليه صوم الشهر، وهذا مجاز كقولهم (صائم ليله، قائم نهاره، لأن الصيام والقيام يكونان في الليل والنهار فلذا نسب الفعل إليهما، وكذا الصوم يكون في الشهر لذا كان الشهر مفعولاً به وقيل : الضمير منصوب بالظرف توسعاً أي (ليصم فيه).

وحيث إن الآية في صدد بيان حكم الحاضر وحكم المسافر، فليس لها دلالة على حرمة السفر في الشهر، نعم يكره السفر لغرض غير عقلاني، أما لغرض عقلاني كالحج والعمرة وإعانة المؤمن أو حفظ مال ونحو ذلك فلا بأس به، ويحرم إذا كان بغرض المعصية فلا إفطار ولا تقصير فيه عقوبة، فعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : فليس للرجل إذا دخل شهر رمضان أن يخرج إلا في حج أو عمرة أو مال يخاف تلفه أو أخ يخاف هلاكه، وليس له أن يخرج في إتلاف مال أخيه، فإذا مضت ليلة ثلاث وعشرين فليخرج حيث يشاء (1) . وفي حديث آخر عنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ : يقيم أفضل، إلَّا أن يكون له حاجة لا بد له من الخروج فيها أو يتخوف على ماله (2) .

ولعل ذلك لأن لشهر رمضان فضيلة لا تدرك في غيره، فلا يعادل ثواب القضاء ثواب صيامه، كما أن الصيام فيه تمهيد لإدراك ليلة القدر .

ص: 297


1- وسائل الشيعة ج 10، ص 183.
2- الوسائل ج 10، ص181.

فيكون قد أمضى ثلاثة وعشرين يوماً في طاعة الله وبذلك يستحق تقديراً حسناً يتفضل الله به عليه في ليلة القدر فإذا انقضت ليلة القدر وقد قدّر الله فيها ما قدر يمكنه السفر والإفطار. فتأمل.

الخامس : قوله تعالى ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَامٍ أُخَرَ) .

هذا ليس تكراراً لما في الآية السابقة، وذلك لاختلاف الغرض في الآيتين:

ففي الآية السابقة كان الغرض هو بيان حكم أقسام الناس - من المريض والمسافر وغيرهما ، وفي هذه الآية الغرض هو بيان علة رفع الصوم عن المريض والمسافر .

وقيل : الأول : للإخبار عن التشريع تمهيداً لقبول النفوس له، والثاني إنشاؤه . وهذا خلاف الظاهر، بل الأول للإنشاء أيضاً، ولكن الإنشاءين بغرضين مختلفين ، وقد مرّ بحث عدم التكرار في القرآن في الآية 92 فراجع.

السادس قوله تعالى ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).

هذا علة تشريع الإفطار للمسافر والمريض، وهو أمر عام وترخيص الإفطار لهما من المصاديق، فإن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم قال : بعثت بالشريعة السهلة السمحة - كما في الرواية (1) - وقال تعالى ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ .

ص: 298


1- فروع الكافي، ج 5 ، ص 494 .

وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (1) ، وقال سبحانه (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (2)، وإرادة الله اليُسر تكويني وتشريعي.

أما التكويني فهو أنه تعالى وفّر للإنسان كل مستلزمات الحياة المطمئنة - من المواد الأولية والألفة الاجتماعية وغيرهما - قال تعالى (هُوَ الَذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (3) فالأرض مذلّلة ومسخرة لمنافع الناس، وقال تعالى ﴿وَجَعَلَ بيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) (4).

وأما اليُسر التشريعي، فكل أحكام الإسلام جعلت لمصلحة الناس ليعيشوا أحسن حياة، ملاحظة الحالات الطارئة الفردية فلذا شرعت الأحكام الثانوية الرافعة للتكاليف الأولية كقانون (لا ضرر ولا حرج ونحوهما ، فكل حكم أوجب ضرراً شخصياً يرفع، كما مر في إباحة أكل الميتة ونحوها للمضطر .

فالحاصل أن أصل التشريع يراعى فيه الحالة العامة النوعية، مع إعطاء مجال للحالات الطارئة الفردية برفع تلك الأحكام.

وللمسألة تفصيل تطلب من كتب الأصول والفقه .

وقد أطلق اليسر والعسر على سببهما ، فما كان سبباً لليسر يُسر، وما كان سبباً للعسر عُسر، ولذا أُوّل اليسر في بعض الروايات بالإمام علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ، والعسر بأعدائه (5) لأنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ القرآن الناطق المطبق للإسلام ففي .

ص: 299


1- سورة الأعراف الآية: 157
2- سورة الحج، الآية: 78.
3- سورة الملك الآية: 15.
4- سورة الروم، الآية: 21
5- البرهان ج 2 ، ص 84 عن مناقب ابن شهر آشوب، وتفسير العياشي.

اتباعه اليُسر ، عکس ،أعدائه، وهذا من التأويل، أو بيان للمصداق ببيان سبب اليسر أو العسر.

ثم إن قوله (وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) تأكيد لقوله (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ) لأنه إذا أراد اليسر فهو لا يريد العسر قطعاً وإنما اقتضى التأكيد.

السابع : قوله تعالى ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ).

هذا علّة لتشريع القضاء، أي إنما يلزم عدة من أيام أخر، لأن اللازم على كل مسلم صيام شهر كامل في كل سنة، إذ للصوم فوائد لا يدركها إلَّا من أكمل ،العدة فإن لم يتمكن في الشهر ففي غيره .

ولعلّ البعض تسوّل له نفسه بإمراضها أو الإفطار في مرض لا يضر به الصوم، أو يسافر فراراً من الصوم، فإن تشريع القضاء يمنع من ذلك كلّه ، فيعلم أن عليه أن يصوم على كل حال في شهر رمضان أو في غيره، فيكون هذا أدعى له للالتزام بصيامه، لأن الصيام في شهر رمضان - حيث الجو العام الإمساك - أسهل من الصيام في غيره، لما في الجو العام من التأثير إيجاباً وسلباً .

الثامن: قوله تعالى: ﴿وَلِتُكَبِرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ).

هذا علة لأصل تشريع الصوم، أي حيث نزل القرآن في شهر رمضان لهدايتكم وتضمن الهدى والفرقان فإن الصوم فيه تعظيم الله تعالى في نفوسكم، لأن الإنسان يعايش الجوع والعطش ونحوهما وسائر الأجواء الرمضانية لمدة شهر كامل امتثالاً لأمر الله تعالى، فهذا مما يعظم الله في نفسه حيث إنه ممتثل لأمر الله طيلة شهر كامل عكس سائر العبادات التي هي لأوقات محدودة، فالصلاة يعايشها الإنسان لدقائق ثم ينصرف إلى

ص: 300

أعماله ويغفل عنها ، وفائدة الصلاة وإن كانت أعظم من فائدة الصوم، إلاّ أن مدة تعظيم الله في الصوم أطول فتأمل.

وفي عدة من الروايات تأويل التكبير بتكبيرات ليلة العيد ويومه ، فعن سعيد النقاش قال : قال لي أبو عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ : أما إن في ليلة الفطر تكبيراً، ولكنه ،مسنون :قال قلت وأين هو ؟ قال في ليلة الفطر : في المغرب والعشاء الآخرة، وفي صلاة الفجر، وفي صلاة العيد، ثم يقطع . قال : قلت : كيف أقول؟ قال : تقول: «الله أكبر، الله أكبر ، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد الله أكبر على ما هدانا ، وهو قول الله عزّ وجل (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) يعني الصيام (وَلِتُكَبِرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) (1) .

ولعل ذلك بيان لأحد مصاديق تكبير الله تعالى، فالصوم هو تعظيم الله تعالى ولا بد أن ينتهي بإظهار تكبيره باللسان في ليلة العيد ويومه، فتأمل.

وفي المحاسن: «التكبير التعظيم والهداية الولاية» (2) . ولعل ذلك لأن طريق الهداية منحصر في الولاية فمن لا ولاية له لا هداية له، بل من علائم النفاق بغض الإمام أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وقد مرّ بعض الكلام .

التاسع : قوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)

عِلة أخرى لوجوب الصوم فإنه سبب لأن يشكر الإنسان خالقه على هدايته بإنزال الكتاب، فالصوم نعمة من الله تستحق الشكر لما في الصوم من صلاح الدين والدنيا، فهو يذكر الإنسان بعظيم نعمه، فإذا شعر .

ص: 301


1- البرهان ،ج 2، ص 84 - 85 عن الكافي ج 4، ص 166 .
2- المصدر عن المحاسن ص 142 .

بالجوع والعطش ومنعه عن جميع ملذاته تذكر الله الواهب للنعم التي تلبي حوائجه، وقد يغفل الإنسان في الحالات العادية عن النعم فلا يؤدي حقها بالشكر، وفي الحديث : الصحة والأمان نعمتان مجهولتان لا يعرفهما إلّا من فقدهما (1). فلا يعرف قيمة الأمان إلَّا الخائف غير الآمن، ولا يعرف قيمة الصحة إلا المريض، ولا يعرف نعمة الطعام والشراب إلَّا الجائع العطشان، وكذا سائر النعم، فهذا الإمساك الموقت - المعبر عنه بالصوم - سبب لشكر أنعم الله تعالى.

ثم إن قوله (لِتُكَبِرُوا اللَّهَ) بدون لعل، وقوله (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) مع لعلّ، لأجل أن نفس الصوم بحد ذاته تعظيم الله تعالى، فالتكبير متحقق بالصوم فلا معنى ل- ( لعلّ)، بخلاف الشكر، فإن الصوم سبب للشكر، فقد لا يتحقق وقد يتحقق، فلذا قال تعالى ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .

:وقيل (لِتُكَبِرُواْ) علة لتعليم كيفية القضاء - أي لتعظموه بالثناء عليه على هدايتكم إلى العلم بكيفية العمل أو على الذي هداكم إليه و(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) علة اليسر وإسقاط الصوم، ففيه لف ونشر، أو الكل معطوف على علة مقدرة ، مثل : ليسهل عليكم ولتكملوا ...(2)..

ص: 302


1- مسند الرضا، ص 120 .
2- راجع الجوهر الثمين ج 1، ص188.

الآية -186

اشارة

(وَ إذا سأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ).

186 - وحيث علمتم أن الله يريد هدايتكم فادعوه، ولذا قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ) يا رسول اللّه (عِبَادِي) المؤمنين (عَنّيِ)

فقالوا: هل قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ (ف_) قل لهم : إنّي قَرِيبٌ﴾ منهم أحيط به- علماً وقدرة، فلذا (أُجِيبُ دَعْوَةَ) أي دعاء (الدَّاعِ) الذي يدعوني (إذَا دَعَانِ) و«إذا» ظرف أي أجيبه في نفس وقت الدعاء بلا فاصل وحيث علموا شدة لطف الله بهم (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) أي فليجيبوني إذا دعوتهم للطاعة والعبادة كما أجيبهم حين دعائهم، (وَلْيُؤْمِنُواْ بِى) لأنهم بفطرتهم يعلمون أن لا غير الله، وكذا عليهم أن يصدقوا بقدرته على الإجابة (لَعَلَّهُمْ) بدعائهم واستجابتهم وإيمانهم (يَرْشُدُونَ ) أي يهتدون إلى طريق الرشد - وهو العمل عن اعتقاد صحیح -.

---------------------------------

بحوث

الأول : لما ذكر الله تعالى أحكام شهر رمضان، وبيّن أنه شهر أُنزل

ص: 303

فيه القرآن لهداية الناس - بما تضمنه من بينات من الهدى والفرقان ، وبيّن أنه تعالى يريد اليسر بعباده لا العسر وأنه يريد شكرهم، بعد كل ذلك خص هذه الآية بالدعاء لأنه من أقوى وسائل الهداية، إذ كل هداية منه تعالى كما قال (إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ) (1) فلا ينفع من أضلّه الله - لا شهر رمضان ولا القرآن - قال سبحانه ﴿وَنُنَزِلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) (2) ، إذاً لا بدّ في الانتفاع بهما من أن يهدي الله تعالى الإنسان، وهو تعالى لا يهدي إلا من كان محلّاً قابلاً للهداية - كما مرّ تفصيل ذلك - وهذا يتطلب جهداً من الإنسان نفسه، ومن أقوى وسائله الدعاء الذي هو مخ العبادة، حيث إن حقيقة الدعاء هي الخضوع الله تعالى مع الانقطاع عما سواه.

وفي التقريب : إن من عادة القرآن الحكيم أن يُخلل الأحكام نفحة موجهة نحو الله تعالى ليرتبط الحكم بالخالق وليشع في النفس النشاط والعزيمة، أتت آية استجابة الدعاء هنا، بعد طول من بيان الأحكام، ثم يأتي بعدة آيات تربط بالأحكام ثانية بالإضافة إلى أن استجابة الدعاء تناسب شهر رمضان فإنه شهر دعاء وضرا اعة (3).

وروي أنهم سألوا رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم : أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزلت الآية .

كما أن الآية أخبرت عن الإجابة، مع بيان سببها، إذ :

1 - الداعي هو من عباد الله - بالمعنى الذي سنذكره ، وهذا موجب لقربه إليه تعالى . .

ص: 304


1- سورة القصص، الآية: 56 .
2- سورة الإسراء، الآية: 82
3- تقريب القرآن ج 1، ص220.

2 - إن قرب الله - بمعنى إحاطته علماً وقدرة - هي سبب الإجابة بشكل تام وكامل بحيث إنه عالم بدعائهم قادر على إجابتهم فلذا يستجيب لهم (1).

الثاني: قوله تعالى ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ).

هذه الآية هي الآية الوحيدة في القرآن مصدّرة بقوله ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ). بصيغة الإنشاء مع كون الفعل ماضياً، عكس سائر آيات السؤال التي هي إخبار عن سؤالهم مع بيان جواب الاستفهام كقوله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ﴾ (2) ، ولعل ذلك لأن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم واسطة الفيض الإلهي، قال تعالى ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَر لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) (3) وقال (قَالُوا يَأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئينَ ) (4) .

كما تتضمن الآية بيان لزوم أن تكون معرفة الله تعالى عن طريق الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ، فهم يسألون الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم عن الله - ذاته أو صفاته - والرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم يجيبهم بما بما علمه الله تعالى فمن أخذ علوم الدين عن غير طريق الوحي - في العقائد والأحكام - فقد ضل وأضلّ، وفي الحديث : كل ما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل (5) .

الثالث : قوله تعالى (عِبَادِى).

لكلمة (العبد) جموع كثيرة منها «العباد» و «العبيد»، ويستعمل العباد - .

ص: 305


1- راجع الميزان ج 2، ص 33.
2- سورة البقرة، الآية: 189
3- سورة النساء، الآية: 64.
4- سورة يوسف، الآية: 97
5- بصائر الدرجات، ح 21 .

غالباً - في المطيعين وفي غيرهم قليلاً، عكس العبيد حيث يستعمل في العصاة - غالباً - ، قال تعالى ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) (1)، و قال (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)(2).

و ذلك لأن (العبد) يطلق على أنواع (3) :

1 - العبد بالذات والمالك بالذات هو الله تعالى لأنه أوجد الخلق ،قال تعالى (إن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّآ ءَاتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا)(4).

2 - الرقيق، هو الذي يباع ويشترى قال تعالى (عَبْدًا مَمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ) (5) .

3 - المطيع لسيده وهو المطيع الله تعالى المخلص له قال تعالى (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِرُونَهَا تَفْجِيراً)(6).

4 - التابع للدنيا وأعراضها فهو عبد لها متخذاً هواه إلهه .

والسياق في هذه الآية يدل على أن المراد بقوله (عبادي) هم المطيعون الله سبحانه، فهؤلاء إذا سألوك عني فقل لهم إني قريب إليهم أجيب دعوتهم .

الرابع : قوله تعالى ﴿عَنٍّي)..

ص: 306


1- سورة الفرقان الآية: 63.
2- سورة الحج، الآية: 10.
3- راجع مفردات الراغب ص 542.
4- سورة مريم، الآية: 93
5- سورة النحل، الآية 75
6- سورة الإنسان الآية: 6.

مطلق، يدل على أن السؤال قد يكون عن الله نفسه - بمعنى أنهم يريدون معرفته ، وقد يكون سؤالاً عن النسبة بينهم وبينه تعالى .

فإن كان السؤال عن الله ، فالجواب أنه سبحانه قريب إلى عباده فيعرفونه بفطرتهم وبعقلهم .

وإن كان السؤال عن النسبة ، فالجواب أنها هيمنته عليهم وإحاطته بهم بعلمه وقدرته ولذا يجيب الداعي إذا دعاه.

ثم إن الآية تضمنت ضمير المتكلم (لوحده) سبع مرات (عبادي) (عني) (فإني) ( أُجيب) (دعان) (لي) (بي)، وفي ذلك زيادة لطف منه تعالى لعباده، حيث تحبب إليهم بأقصى درجة، ووصف نفسه بالقرب إليهم ، وأنه يقضي حاجتهم فوراً، وأن ذلك طريق إلى رشدهم مما فيه مصلحتهم.

الخامس : قوله تعالى ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ)

من الواضح أن القرب هنا ليس بمعنى القرب المكاني، إذ هو تعالى خالق المكان فيستحيل إحاطة المكان به كما أنه الغني فلا يحتاج إلى المكان.

بل المراد: إحاطة - علماً وقدرةً - بهم ، قال تعالى ﴿وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمَا) (1) ، وقال سبحانه (وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِم مُحِيطٌ) (2) ، كما أنه قريب بعباده هؤلاء قرباً معنوياً، بمعنى أنه يرحمهم ويلطف بهم - الرحمة

الخاصة واللطف المخصوص _. .

ص: 307


1- سورة الطلاق، الآية: 12
2- سورة البروج، الآية: 20.

وقيل : هو تمثيل لحاله في سرعة الإجابة لمن دعاه بحال من قرب مكانه (1) ، فكما أن القريب مكاناً يغيث من استغاث به فوراً، كذلك الله تعالى فإنه يجيب دعوة الداعي فور دعائه .

السادس: قوله تعالى (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ).

الإجابة من (ج و ب) بمعنى مراجعة الكلام (2). والمقصود هو التوجّه إلى الداعي وعدم إهماله، وهذا تقرير للقرب، أي قربه بحيث إنه يجيب الداعي فوراً، كما أن فيه وعداً للداعي بالإجابة - عاجلاً أو آجلاً - إما بما سأل وإما بما هو خير منه له بحسب المصلحة (3).

ثم إن التوجّه إلى الداعي وعدم إهمال كلامه :

1 - قد يكون عن طريق قضاء حاجته بإيصاله إلى المطلوب، وذلك فيما إذا اجتمعت شروط الاستجابة، وكان فيها المصلحة للعبد .

2 - وقد يكون عن طريق إعطائه أفضل مما طلب كفقير يطلب درهماً فيعطى بيتاً، وذلك فيما إذا لم يكن في قضاء الحاجة مصلحة للعبد - في دنياه أو آخرته - بحيث لو انكشفت له الحقيقة ما كان يدعو بذلك الدعاء، وكثيراً ما نرغب في شيء ثم يتبيّن لنا ضرره الكبير بحيث نتمنى أننا لو لم نکن قد حصلنا عليه أو نشكر الله على عدم تحقق رغبتنا ، فرحمته تعالى على عباده تقتضي أن يبدلهم خيراً مما طلبوا، قال أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ : وربما سألت الشيء فلا تؤتاه وأوتيت خيراً منه - عاجلاً أو آجلاً ، أو .

ص: 308


1- الجوامع ج 1 ، ص 185.
2- مقاييس اللغة ص 212
3- راجع الجوهر الثمين ج 1، ص188 - 189.

صرف عنك ما هو خير لك، فلرُبّ أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته (1).

وعن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ما من مسلم دعا الله سبحانه بدعوة ليس فيها قطيعة ،رحم ولا إثم، إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث : إما أن يعجّل له دعوته، وإما أن يؤخر له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثله (2).

ثم إن استجابة الدعاء بمعنى تقدير قضاء الحاجة أو الأفضل منها، وهذا يكون فور الدعاء، ولكن التأخير قد يكون في المقدَّر لا في التقدير، نظير من يسأل مالاً فيعطى فوراً صكّاً بتاريخ لاحق، فإنه قد استجاب فوراً ولكن التنفيذ متأخر، قال تعالى ﴿«وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)»«قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)»(3)، وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : كان بين قول الله عز وجل (قَدْ أُجِيبَت دَعْوَتُكُمَا) وبين أخذ فرعون أربعون عاماً (4) فكان استجابة الدعاء فوراً بتقدير أخذهم، وكان المقدّر بعد أربعين عاماً ، فانتبه .

ثم إن للدعاء شروط وآداب مذكورة في الآيات والروايات بالتفصيل)(5) ، ونلخصها في عبارات موجزة : .

ص: 309


1- نهج البلاغة.
2- مجمع البيان ج 2، ص 27 .
3- سورة يونس الآية: 88 - 89
4- البرهان ج 5 ، ص 60 - 61 عن الكافي والاختصاص وتفسير العياشي.
5- راجع الروايات في البحار ج 90 من الصفحة 304 إلى نهاية الجزء، وكذا بداية الجزء 91.

من شرائط الدعاء

1 - الإخلاص في الدعاء ، قال تعالى (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (1).

فمن تعلق قلبه بغيره تعالى فلا يتوقع الاستجابة، وهذا لا ينافي التمسك بالأسباب، بل لو تمسك بها مع علمه بأنها أمور جعلها الله تعالى بحكمته وأن الأمر كله بيد الله فقد أخلص له تعالى وعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ : الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر (2).

والإخلاص يستلزم حسن الظن بالله تعالى بأن يعلم بأنه قادر على الإستجابة فعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : فأقبل بقلبك، وظنّ حاجتك بالباب (3) ، فإن القنوط من رحمته معصية كبيرة ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (4) وقال تعالى ﴿قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّآلُّونَ) (5).

ومن الإخلاص له تعالى: دعاؤه تعالى في الرخاء والشدة، لا في الشدة فقط والصبر إن استبطأ الإجابة والإلحاح على الله تعالى واليقين بأن تأخير الإجابة إنما هي لمصلحة سأل البزنطي الإمام الرضاء عَلَيْهِ السَّلاَمُ : جعلت فداك إني قد سألت الله حاجة منذ كذا كذا سنة، وقد دخل قلبي من إبطائها شيء !! فقال : يا أحمد إياك والشيطان أن يكون له عليك سبيل حتى يُقَنِّطك، إن أبا جعفر صلوات الله عليه كان يقول: «إن المؤمن يسأل الله عز وجل حاجة ، فيُؤخّر عنه تعجيل إجابتها حبّاً لصوته

ص: 310


1- سورة غافر، الآية: 14.
2- نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 337
3- البحار ج 90 ص 305 عن عدة الداعي.
4- سورة يوسف، الآية: 87.
5- سورة الحجر، الآية: 56 .

واستماع ،نحيبه، ثم قال : والله ما أخر الله عزّ وجل عن المؤمنين ما يطلبون من هذه الدنيا ، خير لهم مما عُجّل لهم فيها، وأي شيء الدنيا !! إن أبا جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ كان يقول : ينبغي للمؤمن أن يكون دعاؤه في الرخاء نحواً من دعائه في الشدة، ليس إذا أعطي فتر، فلا تَمِل من الدعاء، فإنه من الله عزّ وجل بمكان وعليك بالصبر ... إن صاحب النعمة في الدنيا إذا سأل فأعطي، سأل غير الذي سأل، وصغُرت النعمة في عينه، فلا يشبع من شيء، وإن كثرت النعم كان المسلم من ذلك على خطر للحقوق التي تجب عليه، وما يخاف من الفتنة فيها . . . الحديث (1).

والدعاء سرّاً - حيث إنه أقرب إلى الإخلاص وأبعد عن الرياء - محبوب، فعن الإمام الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ دعوة العبد سراً، دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة علانية (2) .

2 - إطاعة الله فيما أمره وترك معاصيه وفي دعاء كميل : اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء (3) ، ومن ذلك أداء حقوق الناس، وطيب المكسب، والعمل الصالح، وصلة الرحم ... إلخ، روي : أن الله أوحى إلى عيسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ : قل لظلمة بني إسرائيل : لا تدعوني والسحت تحت أقدامكم ، والأصنام في بيوتكم ، فإني آليت أن أجيب من دعاني، وإن إجابتي إيّاهم لعناً عليهم حتى يتفرقوا (4) ، وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : من أطاع الله فيما أمره، ثم دعاه من جهة الدعاء، أجابه(5). .

ص: 311


1- البرهان ج 2، ص 86 - 87 عن الكافي ج 2، ص 354 .
2- أصول الكامي، ج 2، ص 656 .
3- مفاتيح الجنان، دعاء كميل.
4- عدة الداعي ص؟؟؟
5- البرهان ج 2، ص 87 - 88 عن تفسير العياشي.

3 - أن يطلب أمراً مرغوباً فيه أو مباحاً - واقعاً ، فإذا دعا في . معصية كقطع رحم ، أو طلب محالاً، أو ما لا مصلحة للدين فيه، فلا يتوقعنّ الإجابة .

،بلی، قد يعوضه الله تعالى إذا كان بحسن نية من غير التفات بأنه طلب معصية أو مضرة - كما مرّ .

من آداب الدعاء

ثم إن للدعاء آداباً - وهي جهة الدعاء كما في الخبر - وتجمع هذه الآداب :

1 - تعظيم الله وتوقيره والإقرار بالعبودية له، والتذلّل إليه .

ومن ذلك الدعاء بعد الوضوء والصلاة - متما ركوعها وسجودها ،، وبعد الثناء على الله تعالى كما هو أهله، فعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : من توضأ فأحسن وضوءه، ثم صلى ركعتين فأتمّ ركوعهما وسجودهما ، ثم سلّم وأثنى على الله عزّ وجل وعلى رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ، ثم سأل حاجته فقد طلب الخير من مظانه ، ، ومن طلب الخير من مظانه لم يخب(1).

وبعد ذكر أسمائه الحسنى التي أمر بالدعاء بها، قال سبحانه ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنٰى فَادْعُوهُ بِهَا) (2) ، وأفضل ذلك الدعاء بالمأثور عن الأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ -فإنه أفضل الدعاء حيث يجمع بين صحة المعنى ورقة اللفظ وبالكيفية التي يحبها الله تعالى .

وبعد الانقطاع إليه تعالى - حيث انكسر القلب وجرت الدمعة - فعن

ص: 312


1- البحار ج 90 ص 314 - 315 عن مكارم الأخلاق.
2- سورة الأعراف الآية: 180

الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : إذا اقشعر جلدك ودمعت عينك فدونك دونك، فقد قصد قصدك (1) ، وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : إنَّ الله عزّ وجلّ لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه (2).

وبعد ذكر نعم الله تعالى وشكره سبحانه عليها، وكذا بعد الإقرار بالذنوب والاستعاذة منها والاستغفار منها، فعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : تبدأ فتحمد الله وتذكر نعمه عندك ، ثم تشكره ، ثم تصلي على النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ثم تذكر ذنوبك فتُقِرّ بها ، ثم تستعيذ منها ، فهذا جهة الدعاء (3).

لأن هذه كلها - وغيرها مما هو مذكور في الروايات - مزيد تذلل العبد المؤمن إلى الله تعالى فيكون مزيداً في درجاته وقربه إليه تعالى ولذا ورد استحباب رفع اليد عند الدعاء - كالسائل المتكفف - فإنه مزيد تذلل إليه تعالى فعن محمد بن مسلم قال سألت أبا جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن قول الله عزّ وجل (فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَنَضَرَّعُونَ﴾ (4) قال : الاستكانة: هي الخضوع والتضرع رفع اليدين والتضرع بهما (5).

فإن الدعاء من أعظم العبادة، فهو مطلوب بذاته - مع قطع النظر عن إجابته أو احتمالها ، فالدعاء لبيان حالة الافتقار والتذلل إلى الله تعالى وعن الإمام الصادق : ادع ولا تقل إن الأمر قد فرغ منه، إن عند الله منزلة لا تنال إلَّا بمسألة (6)..

ص: 313


1- الخصال، ص 90.
2- أصول الكافي، ج 2، ص 342 .
3- البرهان، ج 2، ص 88 عن الكافي.
4- سورة المؤمنون، الآية: 76.
5- أصول الكافي، ج 2، ص 661 .
6- تفسير نور الثقلين، ج 2، ص29.

وهذا ما يُفسر كثرة دعاء الأنبياء والأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ ، ولذا قد يتأخر وقت استجابة الدعاء لأن الله يحب استمرار عبده في عبادته بالدعاء وعن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ : إنّ المؤمن يسأل الله عزّ وجل حاجة، فيؤخر عنه تعجيل إجابتها، حبّاً لصوته واستماع نحيبه (1) وإنما يحبها الله لحبه لعبده حيث إن العبادة كمال للعبد .

2 - الصلاة على النبي وآله :

فعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : لا يزال الدعاء محجوباً عن السماء حتى يصلى على محمد و آل محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم (2) ، وعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ : إذا كانت لك إلى الله سبحانه حاجة فابدأ بمسألة الصلاة على النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم، ثم سل حاجتك، فإن الله أكرم من أن يُسأل حاجتين يقضي إحداهما ويمنع عن الأخرى (3) .

ولعل السر في ذلك هو أن رسول الله محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم هو واسطة الفيض التي جعلها الله تعالى بين الناس وبينه ولعظيم حقه عليهم حيث أنقذهم من الجهالة والضلالة، فلا بد من أداء حقه وتوسيطه لقضاء الحوائج - بإذن الله تعالى - قال تعالى ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ﴾ (4).

3 - زيادة الدعاء في الأوقات المخصوصة والأماكن المعينة، فإن الله .

ص: 314


1- البرهان ،ج 2، ص 86 عن الكافي.
2- البحار ج 90 ، ص 312 عن دعوات الراوندي.
3- نهج البلاغة ، قصار الحكمة، رقم 361
4- سورة التوبة، الآية: 59.

تعالى خص أزماناً بخصوصية كشهر رمضان وليلة القدر، وليلة الجمعة ووقت السحر ونحوها، كما أنه خص أماكن يحب أن يدعى فيها كالمساجد والمزارات ونحوها، وأفضلها المسجد الحرام ومسجد النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وعند قبور الأئمة خاصة عند قبر الإمام الحسين عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وفي الحديث الشريف : وإجابة الدعاء تحت قبته (1) . وفي حديث آخر : إن الله بقاعاً يحب أن يدعى فيها (2).

4 - النظافة والتزين عند الدعاء، قال تعالى (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (3) ، وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : ما رفعت كفّ إلى الله أحب من كفّ فيها عقيق (4)، وذلك لأن الله وذلك لأن الله يحب طهارة المؤمنين ونظافتهم وزينتهم قال تعالى (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (5) ، ولما في ذلك من تأثير نفسي على الإنسان نفسه وعلى سائر المؤمنين.

5 - دفع صدقة ، لما للصدقة من تأثيرات في تغيير القضاء وكذلك هي استعطاف الله تعالى، فإن تصدق العبد لمحتاج مثله فالله أولى بأن يتصدق على عبده ويقضي حاجته وفي الحديث الصدقة تدفع البلاء المبرم فداووا مرضاكم بالصدقة (6) ، وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ كان أبي إذا طلب حاجة، طلبها عند الزوال، فإذا أراد ذلك قدّم شيئاً فتصدق به وشم من طيب، وراح إلى المسجد، ودعا في حاجته بما شاء الله (7)..

ص: 315


1- وسائل الشيعة، ج 14، ص 537 .
2- مستدرك الوسائل، ج 10، ص 347.
3- سورة البقرة، الآية: 222
4- وسائل الشيعة : ج 5 ، ص 87.
5- سورة الأعراف الآية: 31
6- بحار الأنوار، ج 109 ، ص 184 .
7- أصول الكافي، ج 2، ص 658 .

السابع : قوله تعالى ﴿إِذَا دَعَانِ).

في تقريب القرآن ولعل في هذا القيد إفادة أن الإجابة وقت الدعوة مباشرة، فإن (إذا) ظرف، ويفيد تكرار كلمة (دعا) لتتركز في الذهن تركيزاً (1) . وأيضاً للدلالة على أن إجابة الدعوة إنما هي إذا كان داعياً الله تعالى لا لغيره فإذا دعا الداعي غيره سبحانه فلا وعد للإجابة وكذا للدلالة على أنه لو كان الداعي داعياً بحسب الحقيقة والواقع، بأن ينطلق الدعاء من قلبه مخلصاً له تعالى متوجّهاً ومنقطعاً إليه، أما إذا كان مجرد لقلقة لسان فليس من الدعاء في الحقيقة.

الثامن: قوله تعالى (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) .

أي من يجيب الدعاء هو الذي يستحق أن يستجيب الإنسان له إذا دعاه للطاعة ،والعبادة لا الأصنام والآلهة المتفرقة التي لا يتمكنون من الاستجابة بشيء، قال تعالى ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ) (2) ، بل سيخذلونهم في أحلك الظروف عند عذاب الله تعالى قال (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ﴾ (3) بل هنالك بدلاً من الاستجابة سيتبرّؤون منهم ، قال سبحانه (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ«13» إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لكُم وَيَوْمَ الْقِيِّامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) (4)..

ص: 316


1- تقريب القرآن ج 1، ص 220.
2- سورة الأحقاف الآية 5
3- سورة القصص الآية: 64.
4- سورة فاطر، الآيتان: 13 - 14 .

التاسع : قوله تعالى ﴿وَلْيُؤْمِنُوا بِي).

أي حيث علموا قدرته واستجابته فليؤمنوا بالله تعالى - بذاته وصفاته - والمؤمنون ليثبتوا على الإيمان به وبصفاته، التي منها التصديق بقدرته على الإجابة فما عن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ في معناها : وليتحققوا أني قادر على إعطائهم ما سألوه (1) ، هو بيان لمصداق الإيمان به تعالى - وهو المصداق المناسب لهذه الآية لذا تمّ ذكره بالخصوص -

العاشر : قوله تعالى (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) .

(الرشد) هو علم عن اعتقاد صحيح - فيلازمه إصابة الحق والإهتداء به ، عكس (الغي) الذي هو جهل عن اعتقاد فاسد (2) ، ويطلق الرشد على الكمال في العقل، وقد يطلق على استواء الجسم.

والمعنى أن من استجاب الله بالطاعة والعبادة، وآمن بالله بذاته وصفاته ومنها قدرته تعالى على استجابة الدعاء، فهذا الشخص قد اهتدى، وأصاب طريق الحق - بما فيه رشده وصلاحه ..

نسأل الله أن يهدينا لدعائه ويوفقنا للإخلاص فيه، وأن يستجيب دعاءنا بحق محمد وآله الطاهرين. .

ص: 317


1- التبيان ،ج 2، ص 131 ، البرهان ج 2، ص88.
2- مفردات الراغب، ص 620.

الآية 187

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

بعد أن بيّنت الآيات السابقة وجوب الصوم، وزمانه، وأصناف الناس بالنسبة إليه، وارتباطه بالدعاء تبين هذه الآية بعض أهم أحكام الصوم، فقال تعالى :

187 - (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ) الليلة التي تصومون في غدها (الرَّفَثُ) كناية عن الجماع (إلَى نِسَآئِكُمْ) ، وإنما أبيح ذلك لصعوبة الصبر عليهن ف- ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ) باختلاطكم بهن (وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ) ، وقبل هذا التشريع كان الرفث محرماً طيلة الشهر .. فلذا كان يعصي بعضهم ، فقد (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ) وباستمرار (تَختَانُونَ) - من الخيانة - (أَنفُسَكُمْ) ، لأن العاصي غير مؤد للأمانة، فهو يخون نفسه بإنقاصها حظها من الآخرة، (فَتَابَ) الله (عَلَيْكُمْ) بغفران هذا

ص: 318

الذنب (وَعَفَا عَنكُمْ) أي عفا عن هذا الحكم بنسخه، (فَالْآنَ) بعد هذا التحليل (باشِرُوهُنَّ) - جوازاً - إن لم تكونوا معتكفين، (وَابْتَغُواْ) بهذه المباشرة (مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أي ما قدره من الذرية (وَكُلُواْ وَاشْرَبُوا) طوال الليل، حيث كان الحكم السابق عدم جوازهما بعد النوم ليلاً ، (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ) وهو نور النهار - لأن الفجر الصادق أول ما يظهر يكون ممتداً فى أفق الشرق كالخيط الأبيض- (مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدٍ) وهو الظلام الملاصق للنور، وهذا الخيط الأبيض إنما هو (مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ) (وَ) أما إذا كنتم معتكفين ف- (لَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ) الأحكام المذكورة كلها (حُدُودَ اللَّهِ) أي الحد الذي عينه ومنع من تعديه (فَلَا تَقْرَبُوها) بالمخالفة، أي لا تخترقوها، (كَذَلِكَ) مثل هذا البيان الواضح في أحكام الصوم (يُبَیِنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ) فإن هذه الأحكام دلائل عليه تعالى وعلى حكمته وعلمه (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) المعاصي، حيث يرون آياته فتخشع قلوبهم.

-------------------------------

بحوث

الأول من ملاحظة مجمل الروايات يظهر أن الصوم في بداية تشريعه كان الإمساك عن الجماع طيلة الشهر، وعن الأكل والشرب طيلة النهار وفي الليل بعد النوم ، فمعنى قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ، وقوله و فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْةٌ ) هو هذا بما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى الصوم - في الآيتين -.

319

ص: 319

فلا يتوهم «أن الإمساك عن المباشرة طيلة الشهر وعن الأكل ليلاً بعد النوم ليس بدلالة القرآن وإنما هو بدلالة السنة» وذلك لأنهما مدلول الصوم، ولكن البيان كان من رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ، فكلامه كان بياناً للآية ،وليس تشريعاً منفصلاً عنها - كي يلحق بسنة النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم.

ثم إن هذين الحكمين نُسخا بهذه الآية الشريفة، حيث أباح الله تعالى المباشرة في ليالي الشهر لغير العاكفين وأباح الأكل والشرب طوال الليل - للنائم ولغيره - .

ولعل الحكمة في التشريع أولاً ثم نسخه هو تمهيد النفوس لقبوله لأن الإنسان لو علم بتسهيل ما كان صعباً كان أدعى له للامتثال والإطاعة كما أنه بيان لفضل الله تعالى، وأيضاً بيان عملي لسهولة الشريعة وسماحها، وأيضاً بيان لخيانة البعض وضعف نفوسهم ليكون سبباً لتهذيبهم للنفس ولعلهم يتقون .

ففي تفسير القمي عن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : وكان قوم من الشباب ينكحون بالليل سرّاً في شهر رمضان فأنزل الله عزّ وجل (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ) الآية ، فأحل الله تبارك وتعالى النكاح بالليل في شهر رمضان(1).

وفي الكافي عن الإمام الباقر أو الإمام الصادق عَلَيْهِم السَّلاَمُ : نزلت في خوات بن جبير الأنصاري، وكان مع النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم في الخندق وهو صائم، فأمسى وهو على تلك الحال، وكانوا قبل أن تنزل هذه الآية إذا نام أحدهم حُرّم عليه الطعام والشراب، فجاء خوّات إلى أهله حين أمسوا، فقال : هل عندكم طعام؟، فقالوا : لا ، لا تَنم حتى تصلح لك طعاماً ،فاتکأ فنام، فقالوا له: قد فعلت؟ قال نعم، فبات على تلك الحال،.

ص: 320


1- البرهان ج 2، ص92.

فأصبح ، ثم غدا إلى الخندق، فجعل يُغشى عليه، فمر به رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ، فلمّا رأى الذي ،به أخبره كيف كان أمره فأنزل الله عزّ وجل فيه الآية (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (1).

الثاني: قوله تعالى (الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ) .

(الرَّفَثُ) هو القول الفاحش الذي يكون من لوازم الجماع عادة ويكون بصوت خفي، ولذا كُني به عن الجماع، ففي لسان العرب: الرفث : كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة (2) ، وفي المقاييس : كل كلام يُستحيا من إظهاره (3).

ولا يخفى أنّه من أدب القرآن الكريم عدم ذكر الألفاظ الصريحة الموضوعة لما يستقبح ذكره ، بل يُكني عنها بلوازمها، فالرفث والمباشرة كما في هذه الآية، والملامسة (أَو لَامَستُمُ النِّسَاءَ) (4) والمس (مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ)(5) ، والاقتراب ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ) (6) ، والإتيان ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئتُم)(7) ،و التغشي ﴿فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ) (8) ، والإفضاء (وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ) (9) ، كلها كنايات، وكذا السوأة والعورة والفرج والغائط ونحوها، وهذا من أرقى أسلوب مراعاة الأدب مع إفهام .

ص: 321


1- البرهان ،ج 2، ص 90 عن الكافي.
2- لسان العرب ج 2، ص 153.
3- مقاييس اللغة ص 394 .
4- سورة النساء، الآية: 43 .
5- سورة البقرة، الآية: 237
6- سورة البقرة الآية: 222
7- سورة البقرة الآية: 223
8- سورة الأعراف الآية: 189
9- سورة النساء، الآية: 21.

المقصود كاملاً ، مع استعمال كل كناية فيما يناسبه سياق الكلام فالرفث -وهو الفحش من القول حين المباشرة وقبلها - استعمل هنا لتقبيح ما ارتكبوه ولذا سماه تعالى اختيانا - من الخيانة - فناسب اللفظ المعنى، كذلك في الحج تقبح المباشرة جداً كما قال (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَج) (1).

الثالث : قوله تعالى ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ) .

أصل (اللبس) من الاختلاط (2) ، وهذا كالتعليل لإباحة حلية الرفث إليهن في الليل، لأن اختلاط الزوجين شديد والمخدع ،واحد فلذا يقل صبرهم وصبرهن عن المباشرة بالإمساك طيلة شهر كامل فلذا أباحه تعالى في الليل رحمة وفضلاً وذلك تسهيلاً على الأمة وخاصة الشبان .

هذا مضافاً إلى جمال التشبيه باللباس لأن :

1 - اللباس يستر السوأة وكذا عيوب الجسم، كذلك الزوجان يستر كل واحد منهما الآخر، ويمنعه عن الفجور - لقضاء الوطر بالحلال ، كما يغطي على عيوبه فلا يبرزها، كذلك التقوى تستر العيوب النفسية والخُلقية والعملية، ولذا شبهت باللباس قال تعالى ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) (3).

2 - إن اللباس جمال للإنسان، كما أنه محرم عليه فيلاصق سوأته، كذا الزوجين كل منهما جمال للآخر ومحرم عليه .

3 - عدم استغناء الإنسان عن اللباس في الغالب، كذلك الزواج. وفي هذا التعبير دلالة على أن كلّاً من الزوجين مكمل للآخر وأن .

ص: 322


1- سورة البقرة، الآية: 197.
2- راجع مقاييس اللغة مادة لبس ص 912.
3- سورة الأعراف الآية: 26.

(1)

الزواج ليست مجرد معاملة بتبديل البضع بالمهر، وليس مجرد التذاذ وقضاء الوطر ، بل الزواج في القرآن يعتبر من أرقى العلاقات الإنسانية، قال تعالى ﴿وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) (2) وقال (خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ (3) وقال ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (4) ، وقال وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (5) وفي هذه الآية ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) وقال (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) (6) .

فالزواج:

أ - سَكَن، أي سكون النفس واطمئنانها .

ب - ومودة ورحمة، لا ظلم وقهر وغلبة .

ج- - وأن المرأة من نفس الرجل ومكملة له والتكميل يوجب الاستقرار.

د - وأن العلاقة يلزم أن تكون معاشرة بالمعروف مع حفظ حقوقهن، وغير ذلك .

بلى، لما كان كل جمع يحتاج إلى مدير وإلا دبّت الفوضى وكثر النزاع جعل الله الرجال قوامين على النساء، وذلك لإدارة شؤون الحياة الأسرية، ومع ذلك أمرهم بمراعاة حقوقهن ومعاشرتهن بالمعروف ولعلنا سنتعرض لموضوع الزواج في الإسلام، فيما بعد. .

ص: 323


1- سورة الزمر، الآية: 6.
2- سورة الروم، الآية: 21.
3- سورة الزمر الآية: 6.
4- سورة النساء الآية: 19
5- سورة البقرة، الآية: 228
6- سورة الفرقان الآية: 74 .

الرابع : قوله تعالى (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ).

(الاختيان) من الخيانة - كالاكتساب من الكسب ، وهي في الأصل بمعنى منع الحق(1) ، ويقابلها أداء الأمانة، وحيث إن النفس أمانة بيد صاحبها ، فعليه عدم بخسها حقها وعدم إنقاصها حظها، ومن المعلوم أن المعاصي تبعد الإنسان عن قربه تعالى وتوجب خسارته، فكانت من أعظم الخيانات، والإنسان يلزم أن يكون ناصحاً لنفسه مريداً لخيرها مبعداً لها عن الشر.

ويحتمل أن يكو المراد من (أَنفُسَكُمْ) زوجاتكم، فالمعنى علم الله أنكم كنتم تخونون زوجاتكم بدعائهن إلى المباشرة أو إكراههن عليها، مع أن وظيفتكم هو إصلاحهن قال تعالى (قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) (2) لأن من معاني باب الافتعال : المعاناة في تأثير الشيء والمبالغة والاحتيال فيه نحو اكتسب (3)، وكذا قوله تعالى ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ) (4) ، حيث سرقا من مسلم شيئاً، فمعنى (أَنفُسَهُم) مسلمين مثلهم، فتأمل.

الخامس : قوله تعالى ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ).

(تاب) أي غفر عصيانكم بمباشرتهن ليلاً، و (عفا) أي رخص لكم وأزال التشديد عنكم ، أو (تاب) بمعنى غفرانه، و(عفا) بمعنى محو أثر الذنب، وذلك بعدم لزوم القضاء - مثلاً - ، أو هما يشيران إلى معنى واحد، وقد ذكرا معاً تأكيداً وبياناً لقبح معصيتهم. .

ص: 324


1- انظر مجمع البيان ،ج 2، ص 29 ، ومقاييس اللغة ص222.
2- سورة التحريم، الآية: 6.
3- راجع شرح النظام ص 151 منشورات دار الحجة للثقافة 1428ه-.
4- سورة النساء، الآية: 107.

لطفه

وقد مرّ أن التوبة بمعنى الرجوع ، ، فتوبة الله على عبده بمعنى إرجاعه ورحمته عليه، وهذا المعنى يلازم العفو الذي هو بمعنى محو الأثر، فلازم رجوع الله على عبده هو عدم مؤاخذته على ذنبه فالتوبة والعفو وإن كانا متلازمين لكن يختلف معناهما ولذا ذكرا معاً .

ثم لا يخفى أن القوم كانوا حديثي عهد بالشرك، والكثير منهم كانوا قد تعودوا على القبائح، والإيمان لم يكن مستمكناً في نفوسهم، ولذا اقتضت الحكمة التدريج في الأحكام مع بعض التسهيل للمخالفين، ولذا كان الله تعالى إذا خالفوا - في بداية الأمر - يعفو عنهم جميعاً ، تحبيباً للإسلام في قلوبهم وتربية لهم، وبياناً لفضل الله ورحمته عليهم.

فعفا عنهم تركهم لمواقعهم في جبل الرماة في يوم أحد فقال تعالى (وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (1).

وعفا عنهم فرارهم من الزحف فقال سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ) (2).

وعفا عنهم الصيد حال الإحرام فقال (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) (3).

وعفا عنهم خيانتهم أنفسهم في الرفث في هذه الآية .

السادس: قوله تعالى: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ).5

ص: 325


1- سورة آل عمران الآية: 152.
2- سورة آل عمران الآية: 155.
3- سورة المائدة، الآية: 95

(الآن) بعد نسخ الحكم السابق، يجوز لكم مباشرة أزواجكم ليلة الصیام، والأمر بعد المنع يدل على الجواز كقوله تعالى ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَأصْطَادُوأ) (1).

ثم لعل الغرض من قوله ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) مع أن مدلوله نفس مدلول قوله (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ)، هو :

1 - إن التحليل ليس مجرد تشريع حكم فقط ، بل هو نسخ لما مضى .

2 - إن ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) جعل مقدمة لقوله (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ﴾ ، ف(أُحِلَّ) لبيان أصل الحلية، و(باشِرُوهُنَّ) لبيان علة هذا

التشريع، وهو طلب الولد .

فإن اللذائد المباحة لم تجعل لمجرد الالتذاذ، بل الغرض منها شيء آخر، وجعلت اللذة طريقاً إليه، فالوطء جُعل للنسل وجعلت الشهوة فيه طريقاً ، إذ لولا اللذة لعزف أكثر الناس عن الزواج لكثرة المسؤوليات والالتزامات في الزواج، وعزوفهم يسبب انقطاع النسل قال تعالى (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (2) والأظهر أن المزين هو الله تعالى وذلك لحكمة بقاء النسل وتطور الحياة، إذ لولا حب النساء لما تناسلوا، ولولا حب المال ما عملوا، ولولا حب الأنعام ما اهتموا بتربيتها، ولولا حب الزراعة لم يتقوتوا، نعم الله يريد منا أن لا نغفل عن الآخرة، فنتخذ متاع الحياة الدنيا وسيلة للتعالي والرقي..

ص: 326


1- سورة المائدة، الآية: 2 ، أي يجوز لكم الصيد.
2- سورة آل عمران الآية: 14.

السابع : قوله تعالى ﴿كَتَبَ اللهُ لَكُمْ).

أي قدره إليكم، كقوله (قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) (1) فإن الله شاء أن يكون خلقه للناس عن طريق الآباء والأمهات مع

إعطائهم القدرة وعدم جبرهم .

وقد مرّ أن الكتابة من الله قد تكون في التكوين وقد تكون في التشريع وقد تكون فيهما ، وطلب الولد عن طريق المباشرة كتابة تشريعية بجواز الوطء نكاحاً، وكتابة تكوينية بخلق الولد منها قال تعالى ﴿«أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ «58» أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ «59»﴾ (2).

وفي التبيين: هذا إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الجماع لأجل الولد لا لأجل الشهوة فقط (3) ، وقيل : يدل على مرجوحية العزل والوطء من غير موضع الولادة وقيل : اطلبوا ما كتب الله لكم من الحلال الذي بيّنه ، في كتابه فإنه يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه (4).

والأظهر أن الحكم عام أي اطلبوا ما كتب الله لكم سواء باللذة المحللة أو بطلب الولد .

الثامن: قوله تعالى (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ اَلْفَجْرِ).

أي يجوز لكم الأكل والشرب طوال الليل، خلافاً للحكم المنسوخ - حيث حُرِّما بعد النوم ليلاً .. .

ص: 327


1- سورة التوبة، الآية: 51
2- سورة الواقعة، الآيتان: 58 - 59 .
3- تبيين القرآن ج 1 ، ص 40 .
4- مجمع البيان ج 2، ص 33.

وفي هذا المقطع بيان لوقت شروع الصوم وهو الفجر الصادق، إذ عندما يعمّ الظلام في السحر ينفلق ضوء كذنب الذئب طولياً ثم يزول بسرعة، ولذا سُمّي كاذباً إذ لا دلالة له على النهار ثم بعد ذلك ينبلج نور في الأفق كالخيط الممتد في كل الأفق الشرقي، وهو علامة النهار فكان صادقاً، ويستمر النور في الارتفاع حتى يزيل الظلمة كاملاً ، وهذا النور في بداية أمره يُرى كالخيط، لذا شبه به، ويقاربه الظلام فوقه وتحته .

وإنما سمي الظلام خيطاً - مع أنه منتشر، إما للمقابلة، فكما سُمّي النور خيطاً كذلك سمي الظلام - للمقابلة بينهما الظلام - للمقابلة بينهما ، أو لأن الرائي لما يرى خيطاً أبيض يتوهم خيطاً أسود، أو لأن السواد كله حالك شديد سوى السواد الملاصق للخيط الأبيض فيتراءى خيط أبيض وخيط أسود - قليل السواد ، والباقي سواد حالك، فتأمل.

وفي الآية دلالة على عدم لزوم انتشار البياض بل يكفي خيط منه كما تدل على لزوم تبيّن هذا الخيط الأبيض، فلا يكفي رؤيته بالناظور أو التلسكوب ونحوهما.

وقوله (مِنَ الْفَجْرِ) بيانية، أي الخيط الأبيض لا يراد به معناه الحقيقي بل استعارة يراد بها الفجر، كي لا يتوهم أن المراد التمييز بين الأشياء كمن يضع خيطاً أسود وآخر أبيض لا يميز بينهما في ظلام الليل إلا حين ينبلج الصبح وينتشر ضياؤه، ولا يكون ذلك إلا بعد الفجر بمدة.

سؤال : لماذا لم يكتف بقوله (كلوا واشربوا حتى الفجر؟).

الجواب: الفجر فجران صادق ،وكاذب، فأراد بقوله (الخَيطُ الْأَبْيَضُ) . . . . بيان الفجر الصادق، كما أنه قد يتوهم لزوم انتشار الفجر فجاء قوله (الْخَيْطُ) للدلالة على كفاية انبلاجه - في أول ظهوره -.

ص: 328

ويستفاد من الآية أن بين الطلوعين - طلوع الفجر والشمس - إنما هو من النهار لا من الليل .

التاسع : قوله تعالى (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِيَامَ إلىَ الَّيلِ).

هذا تحديد لآخر الصوم فإن الصوم يستمر في كل النهار ، ولذا كان الإمساك في آخره إتماماً للصوم فإن التمام) هو تحقق الجزء الأخير، عكس الكمال حيث هو اجتماع الأبعاض، ففي معجم فروق اللغة : (كمال) : اسم لاجتماع أبعاض الموصوف به ... التمام اسم للجزء والبعض الذي يتم به الموصوف بأنه تام، ولهذا قال أصحاب النظم : القافية تمام البيت ولا يقال كمال البيت ويقولون : البيت بكماله أي باجتماعه، والبيت بتمامه أي بقافيته ويقال : هذا تمام حقك للبعض الذي يتم به الحق ولا يقال : كمال حقك (1).

وقال تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) (2)، لأن أجزاء الدين اجتمعت كلها في ذلك اليوم، وأما النعم فكانت متدرجة إلى أن أتمها الله تعالى بالولاية.

ثم إن الليل هو زوال الحمرة المشرقية وهو ما دلت عليه جملة من الروايات (3) وعليه مشهور الإمامية فإن مجرد استتار القرص مع بقاء شعاعه، و ومع بقاء الحمرة المشرقية لا يسمى ليلاً في العرف بل يلحقونه بالنهار، وأما الروايات الدالة على كفاية استتار القرص محمولة على التقية - على المشهور -. .

ص: 329


1- معجم فروق اللغة ص 458 .
2- سورة المائدة، الآية: 3 .
3- راجعها في الوسائل ج 4، ص 172 - 183.

العاشر : قوله تعالى ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ).

الاعتكاف في اللغة: ملازمة الشيء تعظيماً له (1) ، وكثر استعماله في اللبث بقصد العبادة، قال تعالى (قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ) (2).

وفي الاستعمال الشرعي هو لبث في المساجد للعبادة بكيفية ،مخصوصة وهي أن يبقى ثلاثة أيام - على أقل تقدير - في المسجد ولا يخرج منه ليلاً أو نهاراً إلا لضرورة، ويكون صائماً نهاراً .

وكان رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم يعتكف في العشر الأواخر من شهر رمضان في المسجد، وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : كانت بدر في شهر رمضان، فلم يعتكف رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ، فلما أن كان من ،قابل اعتكف رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم عشرين: عشراً لعامه ،وعشراً قضاءً لما فاته (3) ، وعن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم :

اعتكاف عشر من شهر رمضان تعدل حجتين وعمرتين (4).

وللاعتكاف شروط وأحكام مذكورة في الكتب الفقهية.

ولعل تحريم الرفث في ليالي الاعتكاف لأجل تعظيم العبادة إذ الاعتكاف إنما هو في الأيام بلياليها، فيلزم أن تكون الليالي أيضاً خالصة الله بعيدة عن الشهوات مع أن المعتكف يقضي ليله في المسجد فلا أهله ليعسر عليه ترك المباشرة، مضافاً إلى أن شرط الاعتكاف اللبث في المسجد فلا تمكن المباشرة إلَّا بالخروج منه وهذا اختلاط بينه وبين نقض للعكوف . .

ص: 330


1- انظر مفردات الراغب ص 579 .
2- سورة الشعراء، الآية: 71.
3- الوسائل ج 10، ص 533 .
4- الوسائل ج 10 ، ص 534 .

الحادي عشر : قوله تعالى ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ ءَايَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

(الحد) في الأصل المنع ، وحدود الدار مانعة عن دخول الغير فيها، فشبهت أحكام الله تعالى بالحدود، لأن من عمل بها دخل في حيطة المؤمنين ومن تعداها خرج عن ربقتهم، ولذا فسروا حدوده تعالى بحرماته ومناهيه .

وقوله (فَلَا تَقْرَبُوهَا) مبالغة في النهي عن الاقتحام، كقوله تعالى (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ) (1) وقوله (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا) (2) وذلك لأن من يقترب إلى شيء لعله يقتحمه أو تزل قدمه فيسقط فيه، والزبية - وهي حفيرة تحفر للذئب والأسد فيصادان فيها - لها حمى، فكل من اقترب لعله تزل قدمه فيفترس وفي الحديث من حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه(3) ، وروي أنه قضى أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ في أربعة اطلعوا في زبية الأسد، فخَرّ أحدهم فاستمسك بالثاني واستمسك الثاني بالثالث واستمسك الثالث بالرابع، حتى أسقط بعضهم بعضاً على الأسد، فقتلهم الأسد . . . . ) الحديث (4).

وقوله (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ قد مرّ الكلام في أشباه هذه الجملة، فإما يراد اتقاء المعاصي بتركها ، أو يراد التقوى بشكل عام، فراجع.

وفي مجمع البيان وفي هذا دلالة على أن الله تعالى أراد التقوى من.

ص: 331


1- سورة الأنعام، الآية: 153.
2- سورة الإسراء، الآية: 32
3- الوسائل ج29، ص 237 .
4- الوسائل ج 29، ص237 .

جميع الناس (1) ،والمجبرة لما خلطوا بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية توهموا أن من مات على كفر لم يرد الله تقواه أصلاً، مع أن الصحيح أنه تعالى أرادها منه تشريعاً ولم يجبره عليها تكويناً، وقد مرّ بعض الكلام في ذلك، وللتفصيل راجع شرحنا على أصول الكافي. .

ص: 332


1- مجمع البيان ج 2، ص 35 .

الآية 188

(وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

وحيث أباح الله للصائم الأكل والشرب ليلاً، بيّن أن هذا الأكل يلزم أن يكون بحق لا باطل، فذكر القاعدة العامة فقال تعالى : 188 - ﴿وَلَا تَأْكُلُوا) كناية عن مطلق التصرف (أَمْوَالَكُم﴾ أي لا يأكل بعضكم أموال بعض (بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) أي بالوجه الذي لا يَحلّ كالغصب والقمار وعدم تسديد الدين والاستدانة مع العلم بعدم التمكن من الأداء.

(وَتُدْلُوا) أي ولا تُدلوا (بِهَآ) بالأموال، أي لا ترفعوا القضية الباطلة أو لا تدفعوا الرشوة (إلَى الحُكَّامِ) القضاة، وغرضكم من رفع القضية أو الرشوة (لِتَأْكُلُوا) بهذا التحاكم (فَرِيقًا) قسماً (مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ) أي بالفعل الموجب للإثم، فتأكلوا قسماً من

بِالْإِثْمِ الأموال وترشون القضاة بقسم آخر (وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) بأنكم مبطلون .

----------------------------------

بحوث

الأول : لمّا بين الله تعالى جملة من أحكام الصوم - وكان فيها إعطاء

ص: 333

الفدية، والإمساك عن الأكل نهاراً ، وجوازه ليلاً، أراد الله تعالى بيان شرط الأكل، وأنه يلزم أن لا يكون باطلاً .

وبعبارة أخرى بين زمان حلية الأكل وحرمته، ثم بين نوع الأكل من حيث الحل والحرمة فيلزم أن لا يكون الأكل بالباطل.

فهنا ثلاثة أمور :

1 - نوع المأكول، وهو أن يكون طيباً لا خبيثاً وقد مر ذكر بعضه في الآيات 168 ، 172 ، 173 .

2 - زمان الأكل، وهو جميع الأوقات سوى النهار للصائم.

3 - كيفية الأكل، وهو الأكل بالحق لا بالباطل.

والقاعدة العامة هي أن لا يكون أكلاً بالباطل، وهذا ما يدركه كل عاقل بفطرته، وجاءت هذه الآية وغيرها لتأكيد هذا الأمر الفطري ولبيان حدود الحق والباطل ولبيان بعض المصاديق .

ففي هذه الآية تم بيان أحد المصاديق وهو أكل أموال الناس بالإثم، وبيان أن من طرقه الإدلاء إلى الحكام.

وفي قوله تعالى (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّآ أَن تَكُون تجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِنكُمْ) (1) يتم بيان أن الأكل بالحق يكون عن طريق التجارة التي فيها تراض بين الطرفين وقال (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (2) ، وقال (إلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً.

ص: 334


1- سورة النساء، الآية: 29
2- سورة البقرة: 275.

(حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) (1) ، فهذه الآيات تدل على القاعدة العامة في الأكل بحق عن الأكل بباطل وهي حلية كل بيع وكل تجارة إذا كان فيها تراض بين المتعاملين مع بيان مصداق من مصاديق الأكل بالباطل وهو الربا - لكثرة ابتلاء المجتمع به ، مع إيجاد ضمانات لعدم وقوع التنازع عبر الكتابة أو الاستشهاد بشهود والنهي عن أحد أبرز مُضيعات الحقوق وهو الارتشاء من الحكّام .

الثاني: قوله تعالى ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم).

(الأَكل) كناية عن مطلق الحيازة والتصرف، وذلك لأن غريزة الأكل هي أول الدواعي للإنسان لكي يحوز على الأموال، ثم بعد ذلك تبرز فيه الدواعي الأخرى كالمأوى والمنكح والتفاخر ونحو ذلك، ولذا كُني عن الحيازة بالأكل في اللغة العربية وغيرها من اللغات، قال تعالى ﴿لَا تَأْكُلُوا الرِّبَوٰاْ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) (2) وقال (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمَّاً) (3) ، وقال (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً) (4).

وقوله (أَمْوَالَكُم) إضافة الأموال إلى ضمير جمع المخاطب، للدلالة على أن هذه الأموال إنما جعلت لمنفعة الجميع، ولكن الحكمة اقتضت أن تكون بحيازة المالك ليتصرف بها حسب المصلحة، ولولا التملك للزم الفوضى وكذلك فساد الأموال، وعدم الرغبة في التجارة والربح ونحو ذلك . .

ص: 335


1- سورة البقرة، الآية: 282
2- سورة آل عمران الآية: 130.
3- سورة الفجر الآية .19
4- سورة النساء، الآية: 10.

فلذا أقر الإسلام الملكية الفردية مع جعل ضوابط لكي لا تفسد الأموال وليعم نفعها للجميع، وذلك عن طريق :

1 - تحليل البيع والتجارة، فكل تجارة عقلانية قد أمضاها الشارع - إلا فيما ضيّق أو وسّع لمصلحة يعلمها ويغفل عنها الناس أو يتغافلون عنها -

2 - تحريم ما فيه فساد الأموال مثل :

أ - الربا لأنه استغلال لحاجة الناس وتكديس للثروات من غير وجه حق، قال تعالى (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَوٰا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسَ) إلى قوله (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِبَوٰاْ وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) (1) ، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان المضار الشديدة للربا على المجتمع.

ب - الإسراف والتبذير، لما فيهما من هدر الثروات والطاقات من غير وجه حق، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (2) ، وقال ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا «26» إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) (3).

ج- - الارتشاء، لما فيه من ضرر كبير ومفسدة عظيمة بإظهار الحق باطلاً والعكس، قال تعالى ﴿وَتُدْلُوا بِهَآ إِلَى الْحُكَامِ) .

د - الغصب كأكل مال اليتيم لقصوره عن الدفاع عن ماله وكعضل النساء لأكل مهورهن لضعفهن عن الدفاع عن حقهن وسهولة ظلمهن، قال تعالى ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ) (4)..

ص: 336


1- سورة البقرة، الآيتان: 275 - 276 .
2- سورة الفرقان الآية: 67 .
3- سورة الإسراء، الآيتان: 26 - 27 .
4- سورة النساء، الآية: 19.

ه_ - فرض الضرائب الباطلة، سواء من منشأ ديني قال تعالى ﴿«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ (1) ، أم بسبب دنيوي كفرض ضرائب سوى ما شرعه الله تعالى من الزكاة والخمس والجزية والخراج .

و - المقامرة، لأنها استيلاء على أموال الغير من غير جهد وتعب وتعويض ، بل عن طريق اللهو واللعب أو الخداع وغير ذلك.

3 - تشريع الإنفاق بطريقة تفيد الفقير ولا تضر بالغني سواء الإنفاق الواجب أم المستحب، قال تعالى (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهُمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ«24» لِلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ) (2) ، وقال تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِرُهُمْ وَتُزَكّيهِم بِها) (3)، وقال (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) (4) ، وقال وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) (5).

ولا يخفى أن المقدار الواجب من الإنفاق لا يتعدى العُشر في الزكاة - وفي بعض الصور أقل بكثير ، ولا يتعدى الخُمس في أرباح المكاسب ونحوها من الغنيمة، والتفصيل في الكتب الفقهية، وأما المقدار المستحب فينبغي أن يكون ضمن الضوابط العقلانية بلا إفراط وتفريط حفظاً للمال وإعانة للمحتاجين قال تعالى ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (6) . .

ص: 337


1- سورة التوبة، الآية: 34.
2- سورة المعارج، الآيتان: 24 - 25 .
3- سورة التوبة، الآية: 103
4- سورة الأنفال، الآية: 41
5- سورة الأنعام، الآية: 141
6- سورة الفرقان الآية: 67 .

4 - المنع عمّا يكدّس الأموال، وذلك عبر تشريعات اقتصادية تمنع عن الطبقية، قال تعالى (كَیْ لَا يَكُونَ دُولَةَ بَيْنَ الْأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ) (1).

كمنع الاحتكار والغش والتدليس والربا، مع إطلاق حرية التجارة، واستخراج المعادن وحيازة المباحات وإحياء الموات - مع

تنظيمها بحيث لا يكون تعدّ على حق الآخرين ولا استنزاف لها ،

فلا رأسمالية مطلقة - كما في الغرب ، ولا اشتراكية - كما في الشيوعية - وللتفصيل راجع كتاب الفقه الاقتصاد للوالد رضوان الله عليه.

،

وقوله (يَتْنَكُمْ) ،ظرف، إذ الأكلون للحرام يتآمرون بينهم في الخفاء حتى يبرروا أكلهم - كذا في التقريب (2).

الثالث : قوله تعالى (بِالْبَاطِلِ) .

(الباطل) ما لا ثبوت ولا واقع ،له ويضاده الحق وهو الثابت وقيل : الباطل ما تعلق بالشيء خلاف ما هو عليه خبراً كان أو اعتقاداً أو ظناً أو تخيلاً (3).

والأكل بالباطل، بمعنى الأكل بالوجه الذي لا يحلّ، بأن يكون الله قد حرّمه، أما إذا كان حلالاً فليس أكلاً بالباطل بل هو أكل بحق .

وقد ذكرت الروايات عدة مصاديق للأكل بالباطل، من غير تحديد المفهوم الآية في هذه المصاديق، وقد مرّ أنه قد يُوضّح المفهوم بذكر .

ص: 338


1- سورة الحشر، الآية: 7 .
2- تقريب القرآن، ج 1، ص223.
3- مجمع البيان، ج 2، ص 35.

مصداق كمن يسأل عن معنى العالم فنشير إلى زيد حيث يتضح للسائل المعنى مع إمعان النظر في المصداق.

ومن مصاديق الأكل بالباطل - المذكورة في الروايات :

أ - القمار، فعن الإمام الصادق - في تفسير الآية : كانت قريش تقامر الرجلَ بأهله وماله فنهاهم الله عزّ وجل عن

ذلك (1) .

ب - عدم تسديد الدين، فعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ - في تفسير الآية لا خير في لا من يحب جمع المال من حلال يكفّ به وجهه ويقضي به دینه ويصل به رحمه (2).

ج_ - الاستقراض مع نية عدم الوفاء أو مع العلم بعد التمكن من الأداء فعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : ولا يأكل أموال الناس إلَّا وعنده ما يؤدي إليهم حقوقهم، إن الله عز وجل يقول (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِنكُمْ)، ولا يستقرض على ظهره إلا وعنده الوفاء - ولو طاف على أبواب الناس فردوه باللقمة واللقمتين والتمرة والتمرتين - إلّا أن يكون له ولي يقضي عنه (3).

ولذا أشكل الفقهاء في صحة غسل من اغتسل في حمام بالأجرة مع نيته عدم إعطاء أجرة الحمامي (4).

ثم إن الأكل بالباطل، لا فرق فيه بين كون نفس الأكل باطلاً أو كون الطريق إلى الأكل باطلاً ، فمن الثاني : .

ص: 339


1- البرهان ،ج 2، ص 94 - 95 عن الكافي وتفسير العياشي.
2- الكافي ج 5 ص 107 .
3- البرهان ج 2، ص 96 عن الكافي.
4- راجع العروة الوثقى كتاب الطهارة، فصل في كيفية الغسل وأحكامه، المسألة 16، راجع الفقه ج 10، ص188 .

1 - الحلف زوراً وكذباً ، فعن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ : إنه يعني بالباطل : اليمين الكاذبة، تقطع بها الأموال (1).

2 - الترافع إلى حكام الجور، فإنهم الطاغوت، وقد نهى الله تعالى عن التحاكم إليه، قال تعالى ﴿«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) (2)، وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، إنه لو كان لك على رجل : حق، فدعوته إلى حكام أهل العدل، فأبى عليك إلَّا أن يرافعك إلى حكام أهل الجور، ليقضوا ،له لكان ممن حاكم إلى الطاغوت.

ثم إنه لو انحصر استنقاذ الحقوق في الترافع إلى حكام الجور، أو رفع أحد المتخاصمين الدعوى إليهم، وكان الثاني صاحب الحق فاستدعي إلى المحكمة، فإنه يجوز استنقاذ الحق المعلوم عن طريقهم وذلك للاضطرار إلى ذلك، أما لو حكموا بصالحه وهو لا يعلم بأن الحق معه فلا يجوز له التصرف فيه إلَّا بعد مراجعة حاكم الشرع، وقد ذكرنا شطراً من الكلام حول هذا الموضوع في شرح أصول الكافي ذيل مقبولة عمر بن حنظلة فراجع.

الرابع : قوله تعالى (وَتُدْلُوا بِهَآ إلَى الحُكَّامِ).

(وَتُدْلُوا) من الإدلاء بمعنى الإلقاء والإفضاء، والمراد الترافع إليهم، وأصله من إلقاء الدلو في البئر .

و(الْحُكَامِ) هم القضاة، وهم على قسمين : .

ص: 340


1- مجمع البيان ج 2، ص 37 ، وعنه في البرهان ج2، ص 97.
2- سورة النساء، الآية: 60.

1 - حكام الجور، فيكون الإدلاء إليهم عبر الترافع إليهم ليحكموا بالباطل، أو بدفع رشوة إليهم ليحكموا بصالح المبطل، وهؤلاء لا يجوز الترافع إليهم ، لأنهم طاغوت نهى الله عن التحاكم إليه - كما مرّ في المبحث السابق ..

2 - حكام العدل، وهؤلاء يجوز للمُحِقِّ الترافع إليهم، وأما المبطل - الذي يعلم ببطلان دعواه - فلا يجوز له الترافع .

وحيث إن حكام العدل يحكمون حسب الظواهر - بالإيمان والبينات - فقد لا تكون الظواهر بصالح المُحق، كأن لا يكون ذي اليد، أو لا يكون له ،شهود، وقد تكون الظواهر بصالح المبطل ، كأن يكون له شهود زور - لا يعلم القاضي بكذبهم - أو تكون له يد أو قاعدة كالاستصحاب، ونحو ذلك، فهنا حاكم العدل مكلف بالعمل بالظواهر، ولكن المبطل الذي صار الحكم بصالحه وهو يعلم بأنه لا حق له، لا يجوز له التصرف، ويجب عليه إرجاع الحق إلى صاحبه، فحكم الحاكم من باب الطريقية لا الموضوعية، فلا يوجب حلّية الحرام - على من يعلم أنه حرام -.

وظاهر سياق الآية أن المراد من (الحُكَّامِ) هنا هم حكام الجور، وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ - في تفسيرها - : إن الله عزّ وجل قد علم أن في الأمة حكاماً يجورون، أما إنه لم يعن حكّام أهل العدل، ولكنه عنى حكام أهل الجور (1).

الخامس : قوله تعالى (لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ) . .

ص: 341


1- البرهان ج 2، ص 94 - 95 عن الكافي وتفسير العياشي، وأما ما ورد من أن الحكام القضاة فهو محمول على أنه قضية خارجية، إذ القضاة كانوا أهل جور على الأعم الأغلب.

(لِتَأكُلُواْ) علة للإدلاء، أي الترافع أو إعطاء الرشوة يُقصد بهما أكل أموال الناس.

و(فَرِيقًا) أي قِسماً من الأموال تأكلوها بالإثم، والقسم الآخر تدفعونها رشوة، كدأب أهل الباطل حيث يشاركون الحكام في الأكل بالباطل، ليحكموا بصالحهم، فإن حكّام الجور إنما يخالفون الحق لأجل مصالحهم وأهوائهم، فإذا لم يكن مصلحة ولا هوى في باطل أعرضوا عنه بل قد يحكمون بالعدل حينئذٍ بمقتضى فطرتهم، ولذا يحاول المبطلون إيجاد مصلحة لهؤلاء الحكام ليعرضوا عن الحق إلى الباطل، وغالباً تكون تلك المصلحة مادية بإعطاء رشوة، وقد تكون المصلحة أمراً آخر، كبقاء المنصب أو ترقيته - له أو لمن يحبه - ولذا يحكمون حسب رغبة السلاطين عادة أو انتصاراً لمذهب ،باطل كأن يكون أحد الخصمين على مذهب القاضي أو انسياق وراء شهوة كأن يكون أحد المترافعين امرأة جميلة فيميل إليها لجمالها ، أو ترجيح لقرابة كما لو كان أحدهما قريباً أو صديقاً للقاضي، ونحو ذلك .

وقوله (بِألْإِثْمِ) أي بالفعل الموجب للإثم والعصيان، كالحلف كاذباً أو بشهادة الزور، لأن قضاة الجور يحفظون ظواهر المحكمة، فحتى مع استلامهم للرشوة وإرادتهم للحكم بالباطل يهيئون الأجواء الظاهرية، فيطلبون من المبطل الشهود - وهم شهود زور - أو الحلف كاذباً فيما احتاج إلى اليمين.

والإثم بمعنى العصيان ، وأصله التأخير والبطء، لأن ذا الإثم بطيء عن الخير متأخر عنه (1) ، ويتعارف استعماله في الذنب العظيم. .

ص: 342


1- مقاييس اللغة ص 45 .

السادس: قوله تعالى ﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) .

أي تعلمون بأنكم مبطلون، أو أن أكلكم وإرشاءكم باطل وإثم، فإن ارتكاب الذنب مع العلم به أقبح وعقوبته أشد، فالجاهل المقصر غير معذور ويستحق العقاب ويقال له: أفلا تعلّمت(1)، ولكن ذنب العالم العاصي أقبح عقلاً واستحقاقه للعقاب أكثر ، وفي الحديث: يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد (2) .

وعن الإمام الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ - في تفسير الآية : هو أن يعلم الرجل أنه - ،ظالم، فيحكم له القاضي فهو غير معذور في أخذه - ذلك الذي يُحكَمَ له به - إذ قد علم أنه ظالم (3)..

ص: 343


1- بحار الأنوار، ج 2، ص29.
2- أصول الكافي، ج 1، ص 37.
3- البرهان ج 2، ص 95 عن التهذيب، وقريب منه ما عن تفسير العياشي.

الآية 189

«يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)».

وحيث كان الصوم في شهر ،رمضان فلا بد من طريق لإحرازه، فجعل الله تعالى الهلال علامة للشهر - سواء شهر رمضان أو غيره ، فقال تعالى :

189 - (يَسْئَلُونَكَ) يا رسول الله (عَنِ الْأَهِلَّةِ) جمع هلال، وسؤالهم عن فائدة الهلال أو عن سبب اختلاف حالاته - بالزيادة والنقصان - ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ) جمع ميقات من الوقت (لِلنَّاسِ) في شؤونهم كمواعيدهم في المعاملات والديون، كما (وَ) أنها مواقيت للأمور الدينية ك-(الحَجِّ) والصوم والفطر والعِدّة ونحوها .

(وَ) هذه الأوقات المجعولة للأحكام الشرعية لا يجوز التعدي عنها بإتيانها في غير أوقاتها - كالنسيء الذي كان من فعل الجاهلية ، فعليكم بإتيانها في أوقاتها إذ (لَّيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا) أي من غير جهتها المقررة - فإن ذلك بدعة - (وَلٰكِنَّ الْبِرَّ) أولاً : بالابتعاد عن المحرمات، فهو (مَنِ اتَّقَىٰ) ما حرّم اللَّه. وثانياً : اتباعكم للشرع

ص: 344

﴿وَأتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) وذلك عن طريق أخذ الأحكام عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وأوصيائه وَاتَّقُوا الله باتباع شرعه وعدم البدعة في دينه

لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( تظفرون بالهداية وبالنعيم الأبدي.

--------------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَن الأَهِلَّةِ).

(الْأَهِلَةِ) جمع هلال، وقد مرّ الكلام حول أصل الكلمة في الآية 173.

وسؤالهم إما عن الحكمة في ظهور القمر في بداية كل شهر ثم اختفائه في آخره ليظهر من جديد، ولذا كان السؤال عن (الْأَهِلَّةِ) وهو جمع، فيكون سؤالاً عن الفائدة في ظهور الهلال كل شهر .

وإما سؤال عن سبب اختلاف أحوال الهلال - بالزيادة والنقصان - فيكون سؤالاً فلكيّاً .

فعلى الأول يكون الجواب مطابقاً للسؤال ببيان الحكمة والفائدة وعلى الثاني، يكون الجواب إعراضاً عن السؤال ببيان الفائدة، أي كان سؤالهم عن الأحوال الفلكية مع قصور فهمهم عن إدراك أمور الفلك مضافاً إلى أن مهمة القرآن هي الهداية لا بيان العلوم الطبيعية، فإن القرآن حت على اكتشاف حقائق الكون وترك التفاصيل إلى الناس ليكتشفوا القوانين الطبيعية وأسبابها ويستفيدوا منها لأمورهم المعاشية، وما ذكر من الأمور الطبيعية في القرآن فإنما ذكر لغرض الهداية بإلفات الناس إلى

ص: 345

الحكمة

آيات عظمة الله تعالى، فلذا أعرض القرآن عن إجابتهم فلكيّاً وبيّن لهم من الأهلة، ليتبين لهم رحمة الله تعالى بهم، وأيضاً لتشريع اعتبار الهلال في إثبات الشهور مع بيان ربط أمور الناس الدينية والدنيوية بحركة القمر، قال تعالى ﴿«هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ) (1) وقال سبحانه (وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَايَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ ءَايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَضَلْتَهُ تَفْصِيلاً) (2).

وقيل : السؤال من تلقين اليهود الذين كانوا في مقام تعجيز المسلمين فقدموا هذا السؤال الفلكي (3)، فجاء الجواب بما تقتضيه الحكمة - من كون الجواب مفهوماً ومفيداً ، نظير ما ورد من سؤال أحد الخوارج عن عدد شعره لما قال أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ: «سلوني قبل أن تفقدوني»، فأعرض عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن الجواب - لعدم الفائدة فيه بل للضرر فيه لإمكان التشكيك فيه مع إثارة اللغط - بأن قال له : إن على كل من شعر رأسك ملكاً يلعنك» (4) .

الثاني : قوله تعالى ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَج) .

(المواقيت) جمع ميقات وهو يطلق على الزمان المعين، وقد يطلق على المكان المعين كمواقيت الحج - توسعاً لتلازم هذه الأماكن المعينة مع الأوقات المخصوصة -..

ص: 346


1- سورة يونس الآية 5.
2- سورة الإسراء، الآية: 12
3- راجع مواهب الرحمن ج 3، ص 116.
4- بحار الأنوار، ج 40، ص 192.

وحاصل الجواب أن الأهلة جعلت لحفظ مصالح الناس - في دينهم ودنياهم .

فمن أمورهم الدنيوية : مواعيد معاملاتهم وديونهم، ومختلف برامجهم، إذ أفعال الإنسان كلها ،زمانيات فلذا احتاجوا إلى تحديد تلك الأفعال درءاً للفوضى والاختلاف .

وكذا الأمور الدينية ربطها الله تعالى بحركة القمر دون الشمس، فإن حركة القمر أوضح من حركة الشمس، فالزمان القمري واضح للكل - حتی أجهل الناس - وذلك لاختلاف سماكة القمر في كل ليلة عكس الزمان الشمسي الذي لا يظهر إلَّا ببطء وفي فصول السنة فقط.

كما أن الزمان القمري غير قابل للاختلاف - إلا لليلة واحدة وقد يعبّر عنها بالفلتة - عكس الزمان الشمسي الذي يكون بالاعتبارات، ولذا اختلفت النصارى في ميلاد المسيح بل في عامة الأشهر لما يقارب العشرين يوماً (1) ، مضافاً إلى عدم معلومية ضابطة حركة الشمس، بل خفيت على علماء الفلك لفترة طويلة، وحتى الآن لا يتمكن الناس من ضبط التقويم الشمسي إلا عبر التقاويم والإعلام، بل حتى جسم الإنسان يرتبط بالأشهر القمرية دون الشمسية كما قالوا في أيام عادة النساء. ر.

ص: 347


1- وذلك لأن السنة الشمسية فيها كسر - لتنطبق السنة على الشهور، لذا احتاجوا إلى ضم هذه الكسور وإضافة يوم إلى السنة كل أربع سنوات، ثم تبيّن أن هناك كسراً آخر بحاجة إلى إضافة يوم كل مائة سنة، ولذا أضاف النصارى الغربيون عام 1582م. أكثر من 15 يوماً إلى تقويمهم، ثم أضافوا يوماً كل مائة سنة، ولكن بقي النصارى الشرقيون على تقويمهم السابق، ولو كان الإسلام يربط العبادات بالأشهر الشمسية لكان الاختلاف بين المسلمين أكثر بكثير، لعله كان يبلغ شهوراً، وذلك لكثرة أهواء الحكام الظلمة مع استخدامهم لوعاظ السلاطين، فالاختلاف في يوم واحد أهون بكثير من الاختلاف في أشهر.

ثم إن الإسلام ربط عامة عباداته بالأمور الكونية، وذلك ربطاً لحياة الناس بالدين، فأوقات الصلاة مرتبطة بالليل والنهار في أوقات واضحة، والصوم والحج يرتبطان بحركة القمر، بل حتى الأمور الكونية التي ليست لها أوقات معينة كالزلزلة أو لها أوقات متباعدة يجهلها أكثر الناس كالكسوف والخسوف، صارت وقتاً لعبادة مخصوصة - وهي صلاة الآيات - وذلك لربط الناس بالدين في كل أحوالهم.

نعم أجاز بعض الفقهاء اعتبار السنة الشمسية في الزكاة لارتباط الزراعة وإنجاب الأنعام بالفصول الشمسية دون الأشهر القمرية(1).

ثم إن تخصيص الحج بالذكر، دون سائر شعائر الإسلام المرتبطة بالهلال كالصوم والعيدين - مع أن سياق الآيات إنما هو حول الصوم - لأجل ذكر شهر رمضان وهو شهر الصوم في الآيات السابقة، فلم يكن داع للتكرار، وأما العيدان فالفطر يرتبط بالصوم وبنهاية شهر رمضان، والأضحى يرتبط بالحج، وأيضاً لعله ليكون مقدمة للآيات اللاحقة التي تشرّع أحكام الحج ، ولكي لا يحتاج إلى ذكر الهلال مرة أخرى فيها، فتكون هذه الآية قد بيّنت هلال شهر رمضان - ابتداءه وانتهاءه - وهلال الحج مضافاً إلى التوقيت لعامة الأمور، وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ في قوله عزّ وجل (قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) قال: لصومهم وفطرهم و حجهم (2)، وسُئل الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن الأهلة؟ فقال : هي الشهور، فإذا رأيت الهلال فَصُم ، وإذا رأيته فأفطر (3) . .

ص: 348


1- راجع الفقه كتاب الزكاة ج 30، ص 207.
2- البرهان ،ج 2، ص 97 عن التهذيب.
3- المصدر عن تفسير العياشي.

وأما سائر الأحكام المرتبطة بالشهور فهي أمور خاصة أو في حالات معينة، كعِدة الطلاق والوفاة، والقتال في الأشهر الحرم، وأيام الحيض والطهر ، فتدخل في عموم قوله (هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ) ، مع بيانها في آيات أخر .

الثالث : قوله تعالى ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا).

الأظهر أن هذا المقطع هو لبيان حكم عام يرتبط بصدر الآية، فعن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ - في تفسير الآية - قال : يعني أن يأتي الأمور عن وجهها في أي الأمور كان (1) .

فإن الله تعالى عين أوقاتاً للعبادات وسائر الأمور الدينية، فيلزم على الناس عبادة الله تعالى في الوقت الذي عيّنه، فتغيير تلك الأوقات إلى غيرها هو تعد على أحكام الشرع وبدعة في الدين، كما كان يفعله الجاهليون حيث كانوا يغيّرون الأشهر الحرم ليتطابق الحج مع الربيع وليكون الكفّ عن القتال في أوقات التجارة والزراعة، وقد قال الله عنه (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا) (2) ، ولما كان ذلك بالأهواء، نهاهم الله تعالى عنه، الله تعالى عنه ، وأمرهم بعدم التغيير في الأوقات التي يعينها وفي كل أحكامه، فإن ذلك تشريعاً محرماً وبدعة .

وقد مرّ أن البدعة إدخال ما ليس من الدين في الدين وحيث إن العبادات توقيفية فكل تغيير فيها بدعة، ومن ذلك تغيير أوقاتها، وأما لو أمر الشارع بشيء بطريقة عامة، فإن تطبيق ذلك الكلي على الجزئيات - ولو المستجدّة منها - جائز وليس من البدعة بل امتثال لأمره تعالى .

ص: 349


1- البرهان ج 2، ص 104 عن تفسير العياشي، وقريب منه في المحاسن
2- سورة التوبة، الآية: 37

وقد روي في شأن نزولها أن أهل الجاهلية إذا أحرموا لم يكونوا يدخلون بيوتهم من الأبواب بل كانوا ينقبون الأرض ويدخلون من النقب وكانوا يتدينون بذلك - أي يعتبرونه من الدين (1) ، ومن الواضح أن هذا من مصاديق الآية مع بقاء الآية على عمومها.

وفي ارتباط شأن النزول بصدر الآية وجوه - مرجعها إلى واحد -.

1 - إن أفعال الله كلّها على الحكمة فلا عبث في فعله - ومنها تقدير الأهلة ، وأما أفعالكم فانظروا عدم الحكمة في كثير منها كالتنقيب ودخول البيوت من ظهورها وقت الإحرام فإنه عمل لغو، فلا هو من العقل ولا من الشرع (2) ، فاعلموا أن أفعال الله كلها بحكمة سواء علمتم بوجه الحكمة أم جهلتموه، قال تعالى (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ) (3) وقال : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْناكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) (4) .

2 - تلميح بأن السؤال عما لا يهمكم من الأهلة، مثل إتيان البيوت من ظهورها، وكالأكل من القفا (5) ، إذ لا بد من كون السؤال عما فيه الفائدة دينية أم دنيوية - من غير ضرر في السؤال أو عبث - فإذا كان في الجواب الضرر أو العبث فلا يحسن السؤال، قال تعالى ﴿يَآأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ (6) ، فسؤالهم عن مكان آبائهم المشركين .

ص: 350


1- راجع الرواية في التبيان ج 2، ص 142 ، وفي البرهان ج 2، ص 104.
2- راجع الكشاف ج 2، ص 180 .
3- سورة آل عمران الآية: 191.
4- سورة المؤمنون، الآية: 115.
5- تقريب القرآن ج 1، ص 225.
6- سورة المائدة، الآية: 101.

كان مضراً بهم، إذ الجواب هو أنهم في جهنم ، وهذا كان يسوؤهم، ولذا قد يبدل الجواب بأمر مفيد لهم وإن لم يكن متطابقاً مع السؤال، كقوله «يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبیلِ) (1) فليس المهم نوعية ما يُنفق، بل المهم أن يكون خيراً في مصرف صحيح وهو الوالدان والأقربون . . . إلخ .

3 - إن أموركم مقدرة بأوقات فلتكن أفعالكم جارية على الاستقامة باتباع ما أمر الله به، والانتهاء عما نهى عنه، لأن اتباع ما أمر به خير من اتباع ما لم يؤمر به (2) .

4 - عليكم السؤال عن أحكامه لتعملوا بها لا عن قضايا لا ترتبط بكم ولا نفع لكم من السؤال عنها، فإن السؤال مظنة الشك(3)، أي السؤال قد يكون تعنتاً وليس لمعرفة الحق، أما لو كان لمعرفة الحق فإن التفكر في الكون - ومنه الأهلة - ومعرفة أسراره وحقائقه أمر مرغوب فيه، قال تعالى ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً) (4) ، وفي نهج البلاغة : اسأل تفقهاً ولا تسأل تعنتاً .

قيل : إن سكان الحرم كانوا يُسمَّون بالحُمس - جمع أحمس من الحماسة بمعنى الشدة - وذلك لتشددهم في دينهم، والأحمس هو الذي يهب نفسه أو يهبه أهله للآلهة، فينصرف لشؤونها وخدمتها، وهو نوع من الرهبنة (5). .

ص: 351


1- سورة البقرة، الآية: 215
2- راجع مجمع البيان ج2، ص 42 .
3- راجع مجمع البيان ج2، ص 42 .
4- سورة آل عمران الآية: 191.
5- راجع مجمع البيان ،ج 2، ص 41 ، مواهب الرحمن ج 3، ص 124 .

وقيل : وكانت للحُمس صفات خاصة وطقوس معيّنة، فيمتنعون عن أكل الطعام الذي يحملونه معهم إلى الحرم ، ولو كانوا حُرماً لا يدخلون بيتاً من شعر، ولا يستظلون إلا في بيوت من جلد، وكانوا يتحرّجون من المرور في ظلّ أو الوقوف تحت سقف وهم حُرُم ، ولذلك صاروا يدخلون البيوت من أظهرها - لئلا يُظلّهم ظلّها ، أو يقفون تحتها، وقد حرم الإسلام هذه العادة، فنزلت فيهم الآية المباركة ، وكانوا يطوفون حول البيت وهم عراة، ويصفقون حين ،الطواف، كما ورد في الآية الشريفة ﴿وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ البَيْتِ إِلَّا مُكآءَ وَتَصْدِيَةً) (1).

الرابع : قوله تعالى ﴿وَلٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى).

(مَنِ اتَّقَىٰ) اسم ذات، وحمله على (البَرِ) وهو مصدر للدلالة على المبالغة، كقولهم (زيد عَدلٌ) ، وقد مرّ البحث حوله في الآية 177 ، والآية تدل على أن البر يحتاج إلى أمرين :

1 - اتقاء المحرمات - بتركها ، وهذا ما بيّن في ﴿وَلٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ أتَّقَىٰ).

2 - العمل بالواجبات على الوجه الذي أراده الله، وهذا ما تكفّله المقطع اللاحق (وَأَتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا).

ففي البداية يلزم تطهير القلب والعمل، ثم العمل بالطاعات، قال تعالی (فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَیٰ) (2)؛ فقدم النفي على الإثبات إذ لا يمكن الإيمان بالله إلَّا بعد.

ص: 352


1- مواهب الرحمن ج 3، ص 125 ، والآية في سورة الأنفال: الآية: 35.
2- سورة البقرة، الآية: 256.

الكفر بالأنداد ولا يمكن الالتزام بالطاعات إلَّا بعد التقوى، فلا يقبل عمل إلا من المتقي، قال (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ (1).

الخامس : قوله تعالى (وَأتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا).

دلت الآية أن إتيان البيوت من ظهورها ليس من البر بل يلزم إتيانها من الأبواب.

وزعم بعض أن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم كان قد أقرّ الإتيان من الظهور حال الإحرام، حتى نسخها قوله (وَأتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ، وهذا واضح البطلان، إذ الأحكام المنسوخة هي من البر وهي من آيات الله، لكن تم تبديلها بخير منها أو مثلها، كما قال سبحانه (مَا نَنسَحْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَا) (2) ، فالأحكام المنسوخة لا قبح عقلي فيها، وحاش لله أن يشرع حكماً قبيحاً ثم ينسخه، فلذا لم يكن تشريع أصلاً للشرك ولا للقتل لا للفحشاء ولا سائر المنكرات العقلية، وقد مرّ أن تدريجية الأحكام ليست بمعنى تشريع القبائح العقلية، بل بمعنى السكوت عن بعض الأحكام لمصلحة التدرج في بيانها .

فتحصل أن الإتيان من الظهور ليس من البر أصلاً فلا يمكن تشريعه أو إقراره ثم نسخه، لأن المنسوخات من أعمال البر، لكن لمصلحة تبدّل الحكم إلى أفضل منه أو مثله .

ثم إن قوله (وَأتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) حكم عام، وقد مرّ قول الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ : «أن يأتي بالأمر من وجهه - أي الأمور كان -،» وحيث .

ص: 353


1- سورة المائدة، الآية: 27
2- سورة البقرة، الآية: 106.

إن الطريق الصحيح إلى الله تعالى إنما يكون عن طريق الأنبياء وأوصيائهم ، فهم عَلَيْهِم السَّلاَمُ الباب إلى الله تعالى والطريق إليه، فعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : الأوصياء هم أبواب الله عزّ وجلّ التي يُؤتى منها ، ولولاهم ما عُرف الله عزّ وجل، وبهم احتج الله تبارك وتعالى على خلقه (1)، وعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ : نحن البيوت التي أمر الله نحن البيوت التي أمر الله بها أن تؤتى من أبوابها نحن باب الله وبيوته التي يؤتى منها، فمن بايعنا وأقر بولايتنا فقد أتى البيوت من أبوابها، ومن خالفنا وفضّل علينا غيرنا فقد أتى البيوت من ظهورها (2) .

السادس: قوله (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .

الفرق بين قوله (وَلٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ) ، وقوله (وَاتَّقُوا اللَّهَ) هو أن (مَنِ اتَّقَى) يراد منه من اتقى ال-م-ح-رمات كما عن الإمام

الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ (3)، و((اتَّقُوا اللّهَ) هو اتقاء غضب الله تعالى وعذابه، فاختلف الغرض من الاتقاءين، فلا تكرار، نظير أن يقال لا ترتكبوا المعاصي وخافوا الله تعالى.

وقوله (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ وعد بالفلاح - وهو الظفر بالمقصود من الهداية والجنة - لمن اتقى الله وأتى البيوت من أبوابها واتقى المعاصي. .

ص: 354


1- البرهان ،ج 2، ص 103، عن الكافي.
2- المصدر عن الاحتجاج.
3- الجوهر الثمين ج1، ص193.

فصل في أحكام الجهاد

ص: 355

ص: 356

فصل في أحكام الجهاد

بعد أن أنهى الله تعالى ذكر أحكام الصوم، ابتدأ بأحكام الجهاد، لأن الصوم جهاد مع النفس بمنعها مشتهياتها وملاذها وهو الجهاد الأكبر، وأما جهاد الأعداء فهو الجهاد الأصغر.

ويتم في هذا الفصل بيان أن الجهاد إنما هو للدفاع عن النفس، وأن المجاهدين ينبغي أن لا يعتدوا في قتالهم بل يلتزموا بالشرع في حدود القتال وأنّه قد يكون بديل للقتل وهو الإخراج، مع بيان الحكمة في تشريع الجهاد - وهو درء الفتنة ، وبيان حرمة المسجد الحرام وحرمة الشهر الحرام فلا قتال فيهما إلا إذا كان لرد اعتداء الكفار، وأن القتال - وإن استوجب صرف نفقات - لكنه أفضل من التقاعس عن المعتدين فإن فيه الهلاك، ومن المعلوم أنه يلزم حفظ النفس ولو بصرف الأموال.

ص: 357

ص: 358

الآيات 190-192

«وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)».

190 - (وَقاتَلُوا) جهاداً (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) لا للسيطرة والانتقام بل لإعلاء كلمة الله تعالى ﴿الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) وهم الذين تعدوا عليكم بالقتال فدافعوا عن أنفسكم، ﴿وَلَا تَعْتَدُواْ) إذ قتالكم للدفاع فلا تتجاوزوا الحدود المشروعة (إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) لا يريد الخير إليهم والاعتداء إما بتجاوز الحد في القتل كقتل الأطفال والنساء، أو في كيفية القتل كالمثلة، أو بغير القتل كإحراق الدور وقطع الأشجار.

191 - وحيث شُرعت المقاتلة بينت تفاصيلها فأولاً : قتلهم (وَاقْتُلُوهُمْ) أي اقتلوا الذين يقاتلونكم (حَيْثُ) في أي مكان

(ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ أي وجدتموهم وتغلبتم عليهم، وثانياً (وَأَخْرِجُوهُم) بالإبعاد (مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) أي من مكة، مقابلة بالمثل لأنهم طردوكم منها، ولأنها دار توحيد فلا يقربها المشركون، وهذا الجزاء لهم

ص: 359

لأنهم فعلوا ما هو أشد، إذ (وَالْفِتْنَةُ) التي أثاروها ضد الإسلام - كإيذاء المسلمين وإلقاء الشبهات وتجريد السلاح للقضاء على

الدين، ونحو ذلك - (أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أي من قتلكم إياهم.

(وَ) هناك حدود للمقاتلة - مكانية وزمانية ، أما المكان ف- (لَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أي الحرم وهو (بريد في بريد)، ومكة في طرف الحرم، وذلك لحرمة الحرم وجعل الله إياه حرماً آمناً ، فلا تقاتلوهم فيه (حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ أي عند المسجد الحرام، وحيث لم يحفظوا حرمة الحرم وابتدؤوكم بالقتال جاز لكم مقاتلتهم وقتلهم، عقاباً لهم على هتكهم حرمة الحرم (فَإن قَاتَلُوكُمْ) في الحرم (فَاقْتُلُوهُمْ كَذٰلِكَ) أي تشريع مقاتلتهم عند المسجد الحرام (جَزَآءُ الكَافِرِينَ)

192 - ﴿فَإِنِ انتَهَوَا) أي تركوا مقاتلتكم عند المسجد الحرام (فَ)- لا تقاتلوهم، حيث (إنَ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) فلم يشرع قتلهم

حينئذٍ.

--------------------------------------

بحوث

الأول : سياق هذه الآيات (190 - 192) واحد، فلا ناسخ ومنسوخ فيها، وفيها تشريع للجهاد مع بيان حدوده:

1 - بيان أصل التشريع بجواز القتال في سبيل الله لا في سبيل السيطرة والنهب ... إلخ ، وحيث كان في سبيل الله فلا بد من تحديده بالحدود التي جعلها الله سبحانه وتعالى، (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾.

ص: 360

2 - إذا كان دفاعاً عن النفس والدين (الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم)، أما إذا لم يقاتلوا فلم يُشرع قتالهم كأهل الكتاب إذا دفعوا الجزية، والمعاهدين الذين التزموا بالعهود، أما الجهاد الابتدائي فسيأتي الكلام عنه.

3- عدم تجاوز الحد المقرر شرعاً ، فلا يجوز قتل الأطفال والنساء والشيوخ، ولا المثلة بالقتلى ﴿وَلَا تَعْتَدُواْ).

4 - مكان القتال غير محدد بل في أي مكان كان يمكن مقاتلتهم (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ).

ولكن في الحرم المكي لا يجوز القتال احتراماً له ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) إِلَّا إذا ابتدؤوا بالقتال فيه .

5 - زمان القتال يكون في غير الأشهر الحرم - رجب، ذي القعدة، ذي الحجة، المحرّم - إلَّا إذا بدؤوا بالقتال فيها فيجوز مقاتلتهم ردّاً لكيدهم («الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (1).

6 - النفقات الحربية يجب تكفّلها بالتي هي أحسن ﴿وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (2).

الثاني : قوله تعالى ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) .

(سَبِيلِ اللَّهِ) طريقه ودينه أي القتال يجب أن يكون بغرض إعلاء كلمة الله تعالى ودفاعاً عن دينه، وحتى الدفاع عن النفس إذا كان بأمر الله تعالى فهو في سبيل الله، أما إذا كان من غير أمره فهو حرام، ولذا لم .

ص: 361


1- سورة البقرة، الآية: 194.
2- سورة البقرة الآية: 195.

يشرع للمسلمين في مكة بل أمروا بالكف عن المشركين وإن استوجب ذلك قتلهم - كياسر وسمية - قال تعالى ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا الزَّكَوٰةَ) (1) ، أي قيل لهم في مكة لا تقاتلوا، حتى أذن الله لهم في بدر قال سبحانه (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقْاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرُ﴾ (2) ، وبعد تشريع الجهاد فإن له شروطاً، مع ملاحظة الأهم

والمهم، ولذا صالح رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم المشركين في الحديبية ولم يقاتلهم مع أن هذا الصلح كان بمعنى بقاء مكة بأيديهم وبقاء الأصنام في مقر التوحيد مكة وفي الكعبة ، بل كان من بنود الصلح هو السماح للمسلمين بالعمرة في العام القادم بأن يخلي المشركون مكة ثلاثة أيام للمسلمين فجاء رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم إلى مكة في عمرة القضاء، وطاف بالبيت مع وجود الأصنام فيه إلَّا أنه سعى بعد أن أزاحوا الأصنام عن الصفا والمروة وبعد ذلك أرجعوها عليها ورسول الله لما يغادر مكة (3) .

كل ذلك لأن مصلحة الإسلام كانت تقتضي التريث وعدم الجهاد وذلك لفتح مكة بطريقة أسهل لتسمح بانتشار الإسلام وتحفظ حرمة المسجد الحرام والحرم بتقليل القتلى وصوناً لدماء مسلمي مكة المختلطين بالكفار مع تمكن المسلمين في الحديبية من الغلبة على المشركين وفتح مكة لكن بثمن باهظ قال تعالى ﴿«وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ .

ص: 362


1- سورة النساء، الآية: 77
2- سورة الحج، الآية: 39
3- راجع البرهان ج 2، ص 42 - 43 عن الكافي وتفسير القمي والعياشي.

مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا» (1) ، وفي التبيين: (وإنما أمر الله بالصلح معهم، لأنه تعالى أراد فتحها بدون إراقة دم ،وبدون جهد، . . . إنه إنه خرج جمع من الكفار المحاربة النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم فأرسل النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم جماعة من أصحابه فهزموهم ، وعلموا أنه لا طاقة لهم بالمسلمين» (2).

وهذا ما يفسّر هدنة الإمام الحسن عَلَيْهِ السَّلاَمُ مع معاوية، وكذا عدم قيام أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالسيف يوم السقيفة وبعدها قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ : وطفقت أرتئي بین أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء . . . فرأيت أن الصبر على هاتين أحجى (3).

الثالث : قوله تعالى (الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ).

هذا القيد لبيان موضوع القتال، وأنه خاص بمن يقاتلكم وأما من ألقى سلاحه وسكن إلى محله فلا داعي إلى قتله.

ثم إن القتال غير القتل فإن القتال هو المبارزة واصطفاف الطرفين فقد يكون معه قتل، وقد لا يكون فيه قتل أصلاً، كما أن القتل قد يكون قتال وقد لا يكون فبينهما عموم من وجه، وهذه الآية كما تشمل القتال فيما لو هجم الكفار على المسلمين، كذلك تشمل الجهاد.

ص: 363


1- سورة الفتح، الآيات: 22 - 25 .
2- تبيين القرآن ص 526 - 527 .
3- نهج البلاغة: الخطبة 3.

الابتدائي، لأن المسلمين إذا دخلوا أرضاً للدعوة فلم يقاتلهم الكفار فلا سبيل عليهم فتدخل البلاد إلى الإسلام من غير قتال، كإسلام أهل اليمن والبحرين حيث دخلوا في الإسلام طوعاً، وأما إذا صدّهم الكفار فحينئذٍ يكون الكفار مقاتلين فتنطبق عليهم (الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ).

فليست هذه الآية منسوخة بقوله (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَآفَةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَةً) (1) ، بل الآيتان متطابقتان من حيث المفهوم، فإن

المشركين جميعهم يقاتلون المسلمين لذا جاز للمسلمين قتالهم .

ثم إن قتالهم ليس بمعنى إكراههم على قبول الإسلام، لقوله تعالى ﴿لَاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (2) ، بل لتكون الدعوة إلى الإسلام من غير محذور وليتمكن من يريد الإسلام من إظهاره بلا صدّ قال تعالى ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ

نصيرا) (3) .

ثم إن الكفار على أقسام :

1 - الكافر الحربي، وهو الذي يقاتل المسلمين، فيجب قتاله.

2 - الكافر الذمي، وهم أهل الكتاب الواقعون في سيطرة المسلمين ويدفعون ضريبة مالية مقابل حمايتهم - وهي الجزية ..

وأما غير أهل الكتاب من سائر الكفار الواقعين تحت سيطرة .

ص: 364


1- سورة التوبة، الآية: 36 .
2- سورة البقرة، الآية: 256.
3- سورة النساء الآية: 75.

المسلمين، كالصابئة والهندوس فحكمهم كحكم أهل الكتاب في احترام دمائهم وأعراضهم وأموالهم، وذلك لسيرة أمير المؤمنين مع الصابئة والمجوس حيث لم يقاتلهم ولم يجبرهم على قبول الإسلام، وكذلك سيرة المسلمين في احترام دمائهم وأعراضهم وأموالهم ومن المقطوع به اتصال هذه السيرة بزمان المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ مع عدم ردعهم عن ذلك، وأما قوله تعالى ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (1) ، فليس حصراً للجزية في أهل الكتاب، إذ لا مفهوم للقب (2) فتأمل .

3 - الكافر المعاهد وهم الكفار الخارجون عن سيطرة المسلمين مع توقيع معاهدة بينهم وبين المسلمين، وهؤلاء يجب احترام المعاهدة معهم والالتزام بها وببنودها ما داموا ملتزمين بها .

4 - سائر الكفار، وهم من لا ذمة ولا معاهدة معهم مع عدم وجود قتال بينهم وبين المسلمين والأصح أن هؤلاء قسم آخر من أقسام الكفار ولا يلحقون بالكافر الحربي، بل تشملهم الأدلة العامة، فدماؤهم محقونة وأعراضهم مصونة، وأموالهم محترمة.

الرابع : قوله تعالى ﴿وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).

العدوان: هو مجاوزة الحدّ ، فإن الإسلام وإن شرّع القتل والمقاتلة لمصلحة حفظ الدين والنظام والدفاع، لكن جعل ضوابط صارمة، لكي ب

ص: 365


1- سورة التوبة، الآية: 29
2- المشهور هو إلحاقهم بالكافر الحربي وتخييرهم بين الإسلام والقتل فقط، وما ذكرناه هو الأقرب

لا يخرج الجهاد عن حالته الإنسانية، فإن غالب الناس حينما تسيطر عليهم قوتها الغضبية يتصرفون تصرفاً حيوانيّاً جنونيّاً، وخاصة في القتال حيث يتضررون من الطرف المقاتل حيث قتل منهم أو جرحهم أو تجاوز الحدود المعقولة في ممارسته، وجاء الإسلام لإيجاد الاعتدال في تصرف الإنسان، وفي حالة الجهاد عدم الاعتداء وتجاوز الحد هو المطلوب، إما في أصل القتل أو في كيفيته أو بغير القتل.

ومن مصاديق الاعتداء قتل العجزة وإهلاك الحرث، والمثلة بالقتلى وبالأحياء كما يتعارف في الظالمين حيث ينكلون بالمهزومين بقطع أطرافهم وسمل عيونهم ونحو ذلك، وكذا قتال من نهي عن قتاله كالمعاهد.

وقيل : منه المفاجأة في القتال بدون الدعوة إلى الإسلام، ومنه إحراق الدور وقطع الأشجار وتسميم المياه ونحو ذلك .

ثم بيّن الله تعالى علة عدم جواز الاعتداء بقوله (إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) وذلك لأن الجهاد شرّع في سبيل الله، والاعتداء ظلم والله لا ﴾ يأمر بالظلم، فمن كان في طريق الدعوة إلى الله - وهو تعالى يأمر بالعدل ، فاعتداؤه أقبح .

و (عدم الحب) منه تعالى بمعنى الأثر، أي لا يريد الخير لهم، أو لا يجازيهم كما يجازي من يلتزمون بأحكامه، إذ إن الله سبحانه ليس محلّاً للانفعالات الجسمانية والنفسية، فحبه وبغضه بمعنى ترتيب أثرهما.

الخامس : قوله تعالى ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ).

مرّ أن القتال غير القتل فالآية السابقة كانت لتشريع الجهاد، وهذه

ص: 366

الآية تبتدئ بجواز قتلهم، ثم بيان أن قتلهم ليس له مكان محدد، فأينما وجدتموهم فاقتلوهم، وذلك لأن هؤلاء لهم جمع يلتحقون به، فإذا تركتموهم ليهربوا التحقوا بجمعهم وكرّوا مرّة أخرى لقتالكم، أما لو كانت هزيمتهم نهائية ولا مادة لهم ليجتمعوا إليها فلا يتعقب من فرّ منهم، ولذا أمر أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ بعدم التجهيز على جرحى وقعة الجمل وعدم تعقب المهزومين منهم، كما قال تعالى (فَإِنِ انتَهَواْ فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) .

و(الثقف) الظفر بالشيء، والحذق في إدراك الشيء ودفعه والغلبة فیه (1). ولعلّه لأن المقاتل يحاول الاستتار والخديعة والحيلة للهرب فالظفر به بحاجة إلى حذاقة .

السادس: قوله تعالى ﴿وَأَخْرِجُوهُم مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ).

أي أخرجوهم من مكة مكة، وفي الآية بيان لعلة إخراجهم، فهو مقابلة لهم بالمثل، هذا مضافاً إلى أن الله وضع البيت للتوحيد فلا مجال لبقاء المشركين فيه، قال سبحانه ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَةَ مُبَارَكاً﴾ (2) و قال (إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هٰذَا) (3)، وهذا هو السبب الواقعي لإخراجهم من مكة، ولعله لما كانت المقابلة بالمثل أقرب إلى فهم الناس وأعذر عندهم للمسلمين، لذا علل بها فقال (مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ).

السابع : قوله تعالى ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ)..

ص: 367


1- راجع مقاييس اللغة ص 169 ومفردات الراغب 173 والكشاف ج 1، ص 181.
2- سورة آل عمران الآية: 96
3- سورة التوبة، الآية: 28.

هذا كالتعليل لجواز قتلهم، أي هم فعلوا ما هو أشد، فيكون جزاؤهم بالقتل متناسب مع فعلهم ، حيث إنهم أثاروا الفتنة ضد المسلمين ،بإيذاهم وإلقاء الشبهات في دينهم، ثم إخراجهم من بلدهم وصدهم عن ، المسجد الحرام، ثم بشن الحروب عليهم، كما قال تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ (1) أي بلوا المؤمنين بالأذى عليهم، كل ذلك أعمال سيئة استوجبت تشريع قتلهم، مع أن قتلهم أخف من هذا الجرائم التي ارتكبوها، ولذا سيكون لهم عذاب أخروي متناسب مع فعالهم قال تعالى (جَزَاءً وِفَاقًا) (2) ، وذلك لقصور الجزاء الدنيوي عن أفعالهم .

وفي التقريب : ﴿أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) إذ القتل يوجب ذهاب الدنيا، والفتنة ذهاب للدين (3).

نعم إذا كان الجزاء الدنيوي متساوياً مع الجريمة فلا عقاب في الآخرة وذلك في المؤمن الذي فعل ما يستوجب الحد فأجري عليه الحد. وفي الحديث : الله أكرم من أن يثني عليه عقاباً في الآخرة (4) .

ونظير هذه الآية قوله تعالى(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) (5) .

و (الفتنة) الاختبار، وأصله من وضع الذهب في النار ليعلم جودته، 7

ص: 368


1- سورة البروج، الآية: 10.
2- سورة النبأ، الآية: 26
3- تقريب القرآن ج 1، ص 226 .
4- بحار الأنوار: ج 16 ص 176 .
5- سورة البقرة، الآية: 217

ويطلق على ما يلازم الاختبار أيضاً، ولذا نسبت الفتنة تارة إلى الله تعالى كقوله (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِى مَن تَشَاءُ) (1)، وتارة بأمره تعالى كما قال (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَآ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ) (2) ، وتارة من الناس بغية الإضلال، كقوله (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) (3).

ثم إن أداة الاختبار قد تكون نعم الله تعالى ، كما قال ﴿إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوَلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) (4) ، وقد تكون المعاجز كقوله (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) (5) ، وقد تكون أوامره وإخباراته قال تعالى ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُءّيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْءَانِ) (6)، وقد يكون إيذاء المضلّين كقوله (فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ (7) ، وغير ذلك.

والسبب أن الناس مختلفون ونقاط ضعفهم مختلفة فاحتاجوا إلى الاختبار بمختلف الأمور، لكي تظهر حقائقهم، ولترميم نقاط ضعفهم وصقل نفوسهم لتخرج الشوائب كالذهب الذي يوضع في النار فيخلص من الشوائب، فكان الامتحان نعمة من الله تعالى على الناس، ولكن ككل نعمة يحولها المبطلون إلى خسارة لهم بسوء اختيارهم .

وعلى الإنسان أن يلتجيء إلى الله سبحانه بالطاعات والدعاء في كل .

ص: 369


1- سورة الأعراف الآية: 155.
2- سورة البقرة، الآية: 102
3- سورة آل عمران الآية: 7.
4- سورة التغابن الآية: 15
5- سورة القمر، الآية: 27
6- سورة الإسراء، الآية: 60.
7- سورة العنكبوت الآية: 10.

أحواله حتى إذا جاء الامتحان أخذ الله بيده، وأما من ابتعد عن فإنه سبحانه يتركه في وقت الامتحان فلا ينصره مما يؤدي إلى سقوطه في الفتنة .

والفتنة في هذه الآية لها معنى عام وما ذكره بعض المفسرين إنما هو بيان لبعض مصاديقها، فقيل هي الشرك أي شركهم بالله في الحرم أعظم من قتلكم إياهم، أو هي إيذاء المؤمنين أو هي إلقاء الشبهات أو هي عذاب الآخرة .

والحاصل أن مصيرهم في الدنيا ،القتل وعذابهم في الآخرة أشد من قتلهم في الدنيا كما قال تعالى (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ«12» يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ «13» ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِى كُنتُم بِهِ، تَسْتَعْجِلُونَ﴾ (1).

الثامن: قوله تعالى ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) .

المراد الحرم المكي وهو بريد في بريد - والبريد أربعة فراسخ أي حدود 24 كيلومتراً، ومكة المشرفة تقع في طرف الحرم، وبعض نقاط الحل أقرب إلى الكعبة من بعض نقاطها الأخرى.

وإنما قال (عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) لأجل بيان أن حرمة الحرم إنما هو لأجل هذا المسجد، وهذا الحرم إنما وضع حريماً للمسجد وللكعبة.

وهذا التشريع لبيان احترام المسجد الحرام، فلذا لم يسوّغ القتال فيه، ولا قتل صيده ولا قلع نباته .

قال تعالى ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا) (2) ، ولعل الغرض هو التفاتهم الدائم لفضل الله عليهم ليحافظوا على قدسية بيته، وليتوجّهوا إلى عبادته .

ص: 370


1- سورة الذاريات، الآيات: 12 - 14 .
2- سورة آل عمران الآية: 97 .

،تعالى كما قال سبحانه (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هٰذَا الْبَيْتِ «3» الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مِّنْ خَوْفِ) (1) وقال (أَولَمْ يروا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءَامِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) (2).

التاسع : قوله تعالى (فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذٰلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ) .

أي إذا انتهكوا حرمة الحرم وقاتلوكم فيه فيشرع لكم قتالهم ومن ثم قتلهم، وذلك صوناً لحرمة الحرم، ولأن جريمتهم بهتكه عظيمة تستوجب عقاباً فوريّاً، المعنى فإن قاتلوكم فقاتلوهم فاقتلوهم، لكن تم الإيجاز للدلالة على الفور.

وهكذا كل من فعل جريمة في الحرم فيعاقب، لكن إذا ارتكبها خارج الحرم ثم التجأ إليه فلا يُحدّ فيه صوناً للحرمة حيث لم ينتهك هو الحرمة بل راعاها لذا التجأ إلى الحرم، بل يضيق عليه في المأكل والمشرب ونحوهما حتى يخرج من الحرم فيجرى عليه الحد. كما في الحديث (3).

وقوله (كَذٰلِكَ) أي قتلهم في الحرم جزاؤهم لانتهاكهم حرمة الحرم .

العاشر : قوله تعالى فَإنِ انتَهَوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

الظاهر أن الانتهاء هنا بمعنى الكف عن القتال في الحرم ، وقوله في الآية التالية (فَإنِ انتَهَوا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) بمعنى الانتهاء عن الشرك، لدلالة السياق، فلا تكرار في الآيتين . .

ص: 371


1- سورة قريش، الآيتان: 3 - 4 .
2- سورة العنكبوت الآية: 67 .
3- الكافي ج 4 ، ص 227 ، عنه البرهان ج2، ص 107.

فقوله ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ كالعلة للكف عن قتلهم في الحرم فإن رحمته سبقت غضبه ورحمته وسعت كل شيء، فلذا شملت هؤلاء ، المشركين بعدم تشريع قتلهم عند الحرم .

وقيل : إنه وضع السبب مكان المسبب أي إن انتهوا فلا تقتلوهم لأن الله غفور رحيم فلم يشرع قتلهم (1) ، فليس معنى (غَفُورٌ رَّحِيمٌ) أنه يغفر للمشريكن ويرحمهم، بل المعنى لاتصاف الله بهاتين الصفتين فإنه لم يشرع قتلهم حينئذ .

أو المعنى فإن الله غفور لكم أيها المسلمون رحيم بكم، فلذا لا محذور في الكف عنهم .

أو بمعنى إن ترك قتلهم لعله يوجب اهتداءهم وذلك سبب لغفرانهم ورحمهم.-

ص: 372


1- الميزان ج 2، ص 63 - بتصرف -

الآيات 193-195

وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

193 - ثم بيّن الله سبب تشريع قتالهم فقال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي افتتان كالشرك ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ) أي الطريقة في الحياة (لِلَّهِ) خالصاً (فَإنِ انتَهَوْا) عن شركهم بأن آمنوا (فَلَا عُدْوَانَ) عليهم، فلا عقاب على عدوانهم السابق لأن الإسلام يَجُبّ ما قبله، بل لا عقاب (إلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) الذين لم ينتهوا عن تركهم وتعدّيهم .

194 - ومن مصاديق الظالمين : الذين ينتهكون حرمة الأشهر الحرم فهؤلاء جزاؤهم : (الشَّهْرُ الحَرَّامُ) يُقاتلون فيه (بِالشَّهْرِ الْحرَامِ) أي مقابل انتهاكهم لحرمة الشهر الحرام وإنما شرع مقاتلتهم إذ (وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ) أي يجري فيها القصاص - وهي أن يصنع بهم ما صنعوا بالمسلمين ، وحيث تبين أن في الحرمات قصاص (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) أي عاقبوه على اعتدائه (بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ

ص: 373

عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ) فلا تتجاوزوا العقوبة المفروضة بل التزموا بحد الشرع (وَاعْلَمُوا) أنكم منصورون إذ (أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) فهو قادر على ردّ اعتداء المعتدين وإزالة أثر اعتدائهم، فالتزامكم بالشريعة وعدم تعدي الحدود يوجب نصرة الله لكم في مقابل المعتدين.

195 - ﴿وَ) كما يجب الجهاد بالنفس كذلك يجب الجهاد بالمال، ف- (أَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي وجوه البر ومن أعظمها الجهاد، ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَهْلُكَةِ) بترك الإنفاق، إذ يوجب سيطرة الأعداء عليكم فيسلبونكم قوتكم ومالكم وأنفسكم، (وَأَحْسَنُوا) أي لتكن أفعالكم على الوجه الحسن، ومن أعظم مصاديقه الإنفاق في حال الحرب مع القصد في صرف الأموال ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) المقتصدين في أموالهم .

---------------------------------

بحوث

الأول : قوله تعالى ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) .

بعد أن بيّن الله في الآية 190 أصل وجوب الجهاد، يبين في هذه الآية عِلّة هذا التشريع، وهو أمران:

1 - لإنهاء الفتنة، فإن دينين متصادمين لا يجتمعان في مكان(1) و من أبرز مصاديق الفتنة الشرك، كما في الرواية (2) . .

ص: 374


1- انظر التبيين ص 41 .
2- البرهان ج 1 ، ص 105 .

2 - لتكون الطريقة الصحيحة في الحياة هي وهي دين الله الحاكمة، وهي تعالى، نعم لو خضع أهل الذمة لهذه الطريقة وقبلوا بأن يكونوا محكومين بلا إثارة قلاقل مع مراعاة سائر شروط الذمة فإنه يسمح لهم في البقاء على دينهم، قال تعالى (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (1).

سؤال: كيف نجمع بين حرية المعتقد والذي أقره الإسلام في قوله تعالى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (2) وبين القتال ليكون الدين الله وحده خالصاً؟

والجواب : أولاً : لا يكره أحد على تغيير معتقده، ولكن قد تكون بعض المبادىء هدّامة تنخر قوى المجتمع وتثير الاضطرابات مع تحين الفرصة للاستيلاء على السلطة، فالعقل يحكم بلزوم محاربتها وكسر شوكتها ومنع التبشير بها ولذا منع الفكر النازي والفاشي في دول الغرب واعتبرت هذه الأحزاب محظورة مع أنها أحزاب فكرية في الأساس.

وثانياً : كون (الدِّينُ لِلَّهِ) بمعنى سيطرة الطريقة الإلٰهية على مجاري الأمور وحينئذٍ فيعيش الكل تحت كنفها بحرية كاملة، ولو ترك الأمر للأديان الآخرى لتسيطر فإنها حيث لم تكن تعمل بطريقة سليمة فإنها تضطهد الناس وتجبرهم على تغيير معتقداتهم وخاصة عداء المشركين للمسلمين، فتركهم ليسيطروا أو ليحوكوا المؤامرات للوصول إلى السلطة

ص: 375


1- سورة التوبة، الآية: 29
2- سورة البقرة، الآية: 256

أمر مخالف للعقل بداهة، فلا بد من معالجة الأمر بإخضاع الجميع تحت سلطة دین الله مع اعطاء الحرية لأهل الذمة في برنامجهم، ومعتقداتهم - ضمن ضوابط الذمة ..

والتاريخ خير شاهد على عيش أهل الذمة بأمان في كنف المسلمين، بل كان اليهود يفرون من مناطق النصارى ويلتجئون إلى بلاد الإسلام، مع اضطهاد الأديان الأخرى للمسلمين أي اضطهاد إلى حد إجبارهم في تغيير دينهم كما حدث لمسلمي الأندلس .

نعم كان هنالك في التاريخ حكام من المسلمين تعاملوا مع المذاهب الإسلامية الأخرى بقسوة إلى حد الإبادة ولكن هذا لا يرتبط بالإسلام بل تصرف أولئك الظلمة كان انتهاكاً لأحكام الإسلام.

الثاني : قوله تعالى ﴿فَإِنِ انتَهَوا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ).

أي فإن انتهوا عن شركهم بأن آمنوا فلا تجوز معاقبتهم على أفعالهم السابقة إذ الإسلام يَجُبُّ ما قبله قال تعالى ﴿قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَتُ الْأَوَّلِينَ﴾ (1)، بلى من استمر في اعتدائه فهو ظالم فيجب أن يعاقب .

وهذا الظالم قد يكون ممن أسلم ولكنه انتهك حرمة الحرم كأن قتل أحداً فيه أو ارتكب ما يوجب الحدّ ، وهذا يلزم معاقبته - كما مرّ - فالاستثناء متصل، وقد يكون من الكفار الذين استمروا في قتالهم في الحرم، فالاستثناء منقطع .

ص: 376


1- سورة الأنفال، الآية: 38

وفي التأويل : إن الظالمين هم ذرية قتلة الإمام الحسين عَلَيْهِ السَّلاَمُ الراضين بفعل آبائهم فهؤلاء يقتلون بسيف القائم عجل الله فرجه الشريف(1)

ولعل المراد من (الذرية والنسل) : هو الامتداد الفكري لأولئك. وقتلهم إنما هو لأن الرضا بقتل الإمام الحسين عَلَيْهِ السَّلاَمُ من أكبر الموبقات التي تظهر على الأعمال والأفعال بإثارة القلاقل والفتن والمحاربة، كما نشاهد هذا الأمر في خوارج هذا العصر، حيث يظهر نصبهم لأهل البيت بالتفجير والتفخيخ وقتل النساء والأطفال وتربية القتلة فكرياً ومعونتهم مالياً وسياسياً ... إلخ .

الثالث : قوله تعالى (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ).

الآية في صدد تطبيق حكم كلي على هذا المورد، وهو تشريع مقابلة الاعتداء بمثله، فلذا شُرّع القصاص في الحرمات، ومنها القصاص في الشهر الحرام.

والمعنى أنه لا يجوز قتالهم في الأشهر الحرم، لأن الله جعل لهذه الأشهر - رجب ذي القعدة ذي الحجة المحرم - حرمة منذ اليوم الذي خلق فيه السماوات والأرض، ولكن قد يريد الكفار استغلال التزام المسلمين بهذا التشريع فيميلون عليهم ميلة واحدة، ولذا شرع الله جواز ردّ اعتدائهم بالمثل، إذ تشريع حرمة هذه الأشهر إنما هو لمصلحة الدين ولا مصلحة في تحمّل الظلم وعدم رد المعتدي .

هذا مضافاً إلى أن حرمة هذه الأشهر تحفظ بمعاقبة المتعدي فيها ، .

ص: 377


1- راجع الروايات في البرهان ج 2، ص 105 - 106 عن كامل الزيارات وتفسير العياشي وعلل الشرائع.

فإن في عقابه صوناً لهذه الحرمة وفي تركه إغراء لسائر الجهال بهتكه وهو نقض للغرض -.

ومعنى (الشَّهْرُ الحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ) أي شهركم مقابل شهرهم، فإن صانوا حرمة شهركم فصونوا حرمة شهرهم، وإن انتهكوا فردوا اعتداءهم .

وقوله (وَالحُرُمَاتُ قِصَاصٌ) علة لمقابلة شهركم بشهرهم، أي كل حرمة يجري فيها القصاص، وهذا نظير قوله تعالى ﴿وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) (1).

وحيث إن العلة عامة لكل حرمة، لذا جمعها في قوله (وَالحُرُمَاتُ)، قيل هي حرمة الشهر وحرمة الحرم، وحرمة الإحرام، بل كل حرمة يجري فيها العقاب لو انتهكت.

و (الحرمة) هي ما يجب حفظها ويحرم هتكها.

و (القصاص) هو اتباع أثر الجناية - كما مرّ - فيكون العقاب كالجناية لا أقل ولا أكثر.

الرابع: قوله تعالى ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ).

هذا العلة العامة لتشريع القصاص وتقابل الحرمات.

وقوله (فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ) أي جازوه بمثل فعله، وهو في الحقيقة ليس اعتداءً بل الجزاء يختلف في ذاته عن الجناية، إذ هي ظلم، وهو عدل ولكن لما كانت المجازاة مثل الجناية في الشكل والظاهر لذا أطلق عليها الاعتداء، وهذا من أساليب البلاغة في الكلام، ويسمى (المجانسة) .

ص: 378


1- سورة المائدة، الآية: 45 .

و(المشاكلة). نظير قوله تعالى (وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (1) مع أن الجزاء حسنة لكن أطلق عليه السيئة لتماثله مع الجناية ظاهراً .

ويمكن أن يقال إن الفعل له اقتضاء القبح، لكن يتغيّر قبحه لما يطرأ عليه عنوان الجزاء، فلذا أطلق الاسم باعتبار الاقتضاء، فلهتك الحرمات والقتل ونحوها اقتضاء القبح، لكن يمنع هذا المقتضي عنوان الجزاء بل يحوله إلى عنوان حسن ، فتأمل.

الخامس: قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).

لما كان القتال مظنة لسيطرة القوى الغضبية على الإنسان لذا احتاج إلى التأكيد على لزوم مراعاة الله تعالى وأحكامه، فلا يتجاوز عن الحد حين رد الاعتداء .

مع وعد من الله بأنه ينصر من نصره فلا يتأسف المؤمن من عدم تمکنه من الانتقام زيادة على الحد المشروع، ولا يتوهم أن الالتزام بالشرع يفوّت عليه مصالحه، بل على العكس من ذلك، فإن الله ينصر المتقين، وهل يتمكن المعتدون من فعل شيء أمام إرادة الله تعالى .

وقد مرّ أن (مَعَ) بمعنى المصاحبة المطلقة، وهي من الله تعالى بمعنى العلم والقدرة، وأما المدح أو الذم فلا بد من استفادته من القرائن، وهنا يراد المعية بالنصرة والتأييد - لسياق الآيات ..

السادس: قوله تعالى ﴿وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ).

هذا حكم عام بحسن الإنفاق وحيث إن الجهاد من أبرز مصاديق الإنفاق، أكمل الله آيات الجهاد بالحث على الإنفاق، وذلك لتلازم الجهاد بالنفس مع الجهاد بالمال غالباً، إذ لا تمكن المقاتلة من غير .

ص: 379


1- سورة الشورى، الآية: 40 .

عتاد، ولذا قدّم الجهاد بالمال على الجهاد في النفس - كلّما ذكر الجهادان معاً - قال تعالى ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوَلٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ (1).

والإنفاق) هو إخراج المال عن الملك - بنقله إلى الغير أو إتلافه بالأكل ونحوه - سواء كان بغرض صحيح أم لا، ولذا قيده تعالى بأن يكون إنفاقاً في سبيل الله تعالى.

السابع : قوله تعالى ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُم إلَى التَّهلُكَةِ).

هذا أيضاً قاعدة عامة والجهاد بالمال من مصاديقها .

أي لا تلقوا أنفسكم بأفعالكم إلى التهلكة فالأيدي بمعنى الأفعال عبر عنها بذلك لأن غالب أفعال الناس بأيديهم، أو (أيدي) بمعنى الأنفس، والباء للتأكيد أي لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة، أو أيدي) بمعنى قدراتكم أي لا تبطلوا قوتكم بترك الإنفاق أو بالإسراف في الإنفاق، فإن البخل تعطيل للقوة المالية وتجميدها، والإسراف تبديد لهذه القوة، قال تعالى ﴿وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذٰلِكَ قَوَاماً) (2).

وتطبيق الآية على الجهاد هو أن ترك الإنفاق للجهاد يسبب ضعف المسلمين بضعف عتادهم أو قلة محاربيهم، وهذا مما يوجب غلبة الأعداء وسيطرتهم ، وهم يتعاملون مع المسلمين بالقهر والغلبة والقتل، فترككم للإنفاق موجب لهلاككم، بل واغتنام الكفار لأموالكم.

و (التهلكة) بمعنى الهلاك، وهو كما يكون في الدنيا بالقتل وسلب .

ص: 380


1- سورة الحجرات، الآية: 15
2- سورة الفرقان الآية: 67 .

الأموال والتشرد، كذلك يكون في الآخرة بعذاب الله تعالى لمخالفة أوامره، قال تعالى ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى«124» قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنيَ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا «125» قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ ءَايَتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنَسَىٰ) (1) ، وقال سبحانه ﴿فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) (2) ، وقال ﴿وَإِن يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ (3)

الثامن: قوله تعالى ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) .

هذا أيضاً ،قاعدة عامة، ومن المصاديق الإحسان في الإنفاق، بل الإحسان في حالة الحرب مع المقاتلين، كعدم قطع الماء عنهم كما فعل أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ في صفين ومع الأسرى عبر إطعامهم وإروائهم ونحو ذلك .

و(الإحسان) قد يكون بإيصال النفع إلى الغير، وقد يكون بإحسان الأعمال كصرف الأموال بالقصد بلا إسراف ولا تقتير، فقتل المعتدين ليس إحساناً إليهم ولكنه إحسان للبشرية كما أنه عمل حسن لما فيه من دفع الظلم .

ثم إن آيات الجهاد بدأت بعدم الاعتداء وأن الله لا يحبهم (وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) ، وانتهت بالإحسان وأن الله

يحبهم (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) . .

ص: 381


1- سورة طه، الآيات: 124 - 126
2- سورة الأحقاف الآية 35
3- سورة الأنعام، الآية: 26.

ص: 382

فصل في أحكام الحج

ص: 383

ص: 384

فصل في أحكام الحج

وحيث بينت أحكام الجهاد، وذُكر فيها حرمة المسجد الحرام، كما أن شأن نزولها كان في صد المسلمين عن المسجد الحرام في الحديبية، كما أن من الإحسان صرف المال في الحج، ناسب الانتقال إلى أحكام الحج ، ويبدأ بحكم الصد عن الحج، لمناسبة سياق الآيات السابقة، ثم بيان أحكام الحج من التمتع والهدي وبدله ، وزمان الحج، وبعض محرمات الإحرام، وبعض أهم أعمال الحج من الوقوف في عرفات والمشعر والمبيت بمنى وتضمنت الأحكام الحث على التقوى والذكر والاستغفار والدعاء ونحو ذلك.

ص: 385

ص: 386

الآية 196

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).

196 - ﴿وَأَتِمُّوا الحَجَ وَالْعُمْرَةَ) أي الإتيان بهما بشرائطهما وأجزائهما (لِلَّهِ) أي بقصد القربة إليه تعالى، وهذا تشريع لأصل الحج، (فَإِنْ أَحْصِرْتُمْ) بعد الإحرام بمرض يمنعكم عن أدائهما (ف) عليكم (مَا استَيْسَرَ) أي ما سهل عليكم (مِنَ الهَدْيِ) الأنعام - وهي الإبل والبقر والغنم - وسُمي هدياً لأنه يُهدى إلى الحرم، ترسلون هذا الهدي إلى مكة أو منى، ثم بين الله تعالى أن الإحلال من الحج والعمرة يكون بعد النحر فقال: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُم) للإحلال من الإحرام (حَتَّى يَبْلُغَ الهَدىُ مَحِلَّهُ) مكانه المعين - وهو منى يوم النحر في الحج، ومكة في العمرة ، (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا) يحتاج إلى الحلق للمداواة (أَوْ بِهِ أَذىً مِّن رَّأْسِهِ) تؤذيه هوام الرأس كالقمل، واحتاج إلى الحلق قبل بلوغ الهدي محله (ف) يجوز له الحلق، ولكن عليه (فِدْيَةٌ) أي بدل حلقه

ص: 387

(مِن) - بيانية - (صِيَامٍ) ثلاثة أيام، (أَوْ صَدَقَةٍ) بإطعام ستة مساكين، (أوْ نُسُكٍ) ذبيحة مخيراً بينها ، (فَإِذَآ أَمِنتُمْ) وكنتم في حال سعة وأمن ، بأن لم يصدّكم عدو - كما صدوا الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم في الحديبية - (فَمَنَ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةٍ) أي بسبب إتيانه بالعمرة حيث يباح عليه محرمات الإحرام (إِلَى الْحَجِّ) أي إلى حين إحرامه بالحج فتحرم تلك المحرمات مرّة أخرى (فَ) يجب على هذا المتمتع (مَا اسْتَيْسَرَ) وسهل عليه (مِنَ الْهُدَى فَمَن لَّمْ يَجِدْ) الهدي لفقره (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) متوالية واجبة عليه، (في) أيام (الحَج) في شهر ذي الحجة والأفضل السابع إلى التاسع من ذي الحجة فإن فاته فبعد أيام التشريق إلى نهاية ذي الحجة (وَسَبْعَةٍ) متوالية

(إِذَا رَجَعْتُمْ) ، إلى أهلكم (تِلْكَ) الأيام التي يصومها بدل الهدي (عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) من جهة الفضيلة أي تعادل الأضحية ثواباً وفضيلة .

(ذلِكَ) أي حج التمتع واجب (لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) وذلك بغيابهم عنه وبعدهم منه، وأما من وأما من كان من أهل مكة وأطرافها فلم يشرع له التمتع بل عليه الإفراد أو القِران.

(وَ) حيث إن تشريع التمتع كان صعباً عليهم جدّاً لعدم إلفهم به في الجاهلية لذا حدّرهم الله من مخالفته فقال : (اتَّقُوا اللَّهَ) بالحفاظ على أوامره (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) لمن خالف.

-----------------------------

بحوث

الأول : هذه الآية الشريفة تبيّن عدة أحكام تتعلق بالحج والعمرة :

1 - فرض الحج والعمرة ولزوم أدائهما ،تامين، وذلك عن طريق إتيان

ص: 388

جميع الواجبات والأركان وترك المحرمات والالتزام بالشروط فقال (وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ).

2 - بيان حكم المحصور - أي المريض الذي لم يتمكن من مواصلة السير إلى الحج بعد إحرامه - فقال (فَإِنْ أَحْصِرْتُم).

3 - بيان حكم الإحلال من الإحرام فقال ﴿وَلَا تَحلِقُوا...)، وقد يكون في الآية إشارة إلى حج القران .

4 - بيان حكم من يضطر إلى ارتكاب بعض محرمات الإحرام فقال (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا ...)

5 - بيان حكم المصدود - وهو الذي منعه العدو - وهذا يستفاد من مفهوم قوله (فَإِذَآ أَمِنتُم).

وقيل : (فَإن أُحْصِرْتُمْ) كما يشمل المحصور المريض كذلك يشمل المصدود بالعدو.

6 - تشريع حج التمتع لمن لم يكن من أهل مكة وأطرافها، قال (فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ ....).

7 - حكم أهل مكة وأطرافها - ويستفاد من المفهوم - وهو عدم جواز التمتع والقِران بل عليهم حج الإفراد.

الثاني : قوله تعالى (وأَتِمُّواْ اَلْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ).

قد مرّ أن التمام هو الإتيان بالجزء الأخير من المركب، وأما الكمال فهو مجموع الأجزاء، فمعنى الآية أدوا الحج والعمرة بكل الأجزاء والشروط وترك المحرمات، إذ لا إتمام لو خالف فيها . وفي الحديث عن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : يعني بتمامهما أدائهما، واتقاء ما يتقي المحرم

ص: 389

فيهما (1) فقوله (أدائهما) : يعني الإتيان بالأجزاء والشرائط وقوله (واتقاء ...) هو ترك محرمات الإحرام.

ومن أهم شروط العبادات - ومنها الحج - أن تكون بطريقة صحيحة مشروعة، فلا بد من تعلمها عن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم وأوصيائه الذين يُبينون كلام رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم .

كما أن قبول العمل بل وصحته متوقف على ولايتهم ولذا ورد في الأحاديث أن تمام الحج زيارتهم، فعن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ : إذا حج أحدكم فليختم بزيارتنا فإن ذلك من تمام الحج (2) وعنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ : تمام الحج لقاء الإمام (3) ، وعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ وعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ : ألموا برسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم إذا خرجتم إلى بيت الله الحرام، فإن تركه جفاء، وبذلك أمرتم، وألموا بالقبور التي ألزمكم الله حقها وزيارتها واطلبوا الرزق عندها .

وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ : تمامهما : اجتناب الرفث والفسوق والجدال في الحج ، وفي خبر آخر : من تمام الحج والعمرة : أن يحفظ المرء لسانه إلا من خير (4).

وفي قوله تعالى (لِلَّهِ) ردّ على المشركين الذين كانوا يحجون مشركين أصنامهم مع الله، فأمر الله سبحانه أن يكون الحج والعمرة خالصاً لله تعالى بل ولا برياء أو سمعة أو بغرض آخر كأن يكون حجه للتجارة أو السياحة ونحو ذلك .

والآية تدل على جملة من الأحكام : .

ص: 390


1- البرهان ،ج 2، ص 110 عن الكافي ج 4 ، ص 264 .
2- الوسائل ج 14 ، ص 324 عن العلل والعيون
3- الوسائل ج 14 ، ص 324 و 325 عن الكافي والعلل والعيون.
4- الجوهر الثمين ج 1، ص198.

منها : أن العمرة واجبة كالحج، فإن أتى بالتمتع فقد أدّى التكليفين وإلا وجبت عليه عمرة مفردة مستقلة وكذا من لا يتمكن من الحج ويتمكن من العمرة فيجب عليه شد الرحال إليها وذلك لقوله (أَتِمُّواْ) وهو أمر دال على الوجوب، وقد مرّ أن الإتمام هو الأداء.

ومنها : عدم جواز قطع الحج والعمرة، حتى إذا كانا مندوبين، فمن أحرم ندباً وجب عليه الإكمال.

وفي تقديم لفظ الحج على العمرة دلالة على أهمية الحج، مع دخول عمرة التمتع في الحج فكانت جزءاً منه .

ثم اعلم أن الحج على ثلاثة أقسام أشارت إليها الآية، نذكرها مختصراً :

1 - حج التمتع ، وهو أن يُحرم من الميقات بنية العمرة، ويأتي بعمرة التمتع ، ثم يقصر ويُحِلّ وتحل له محرمات الإحرام إلى الحج، فيحرم بالحج من مكة ويؤدي المناسك ومنها الهدي وهذا وظيفة البعيد عن مكة .

2 - حج القران، وهو أن يصطحب معه الأضاحي ويجعل عليها علامة - كشق سنامها أو تعليق شيء في رقبتها - وهذا يبقى على إحرامه إلى أن يؤدي مناسك الحج، وينحر الهدي الذي اصطحبه معه.

3 - حج الإفراد وهو أن يُحرم بقصد الحج لا عمرة التمتع، من غير اصطحاب للهدي، وهذا وظيفة أهل مكة ،وأطرافها، وكذا يجوز للبعيد في غير حجة الإسلام.

ويجب على من أتى بحج الإفراد أن يأتي بعمرة مفردة أيضاً، لأنها واجبة بالاستقلال.

ص: 391

والتفصيل يطلب من الكتب الفقهية .

فقوله (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ ...) لعلّه إشارة إلى حج القرآن وقوله (فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ ...) بيان لحج التمتع ومفهوم قوله (ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُن أَهْلُه ....) لعله إشارة إلى حج الإفراد.

الثالث : قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَحْصِرْتُمْ) .

(الحصر) لغة هو الحبس والمنع ويلازمهما : التضييق وقد يستعمل فيما كان بس- بسبب داخلي كالمرض ونظيره قوله تعالى (أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ (1) ، أو خارجي كالعدو، كقوله ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ) (2) وقيل بالفرق بين الحصر والإحصار (3).

وسياق الآية وكذا الروايات تدل على أن المراد بقوله (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) هو الإحصار بالمرض لا بالعدو، وذلك لأن الممنوع بالعدو ينحر ساقه من هدي في مكان الصد كما فعل رسول الله حين صُدّ حيث نحر في الحديبية (4) وهذه الآية تدل على وجوب إرسال الهدي إلى محله - وهو مكة أو منى - والانتظار إلى وصوله إلى المحل ثم الإحلال.

وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ :المحصور غير المصدود، وقال: المحصور هو المريض، والمصدود هو الذي يرده المشركون، كما ردّوا رسول الله وإنه ليس من مرض (5)..

ص: 392


1- سورة النساء، الآية: 90.
2- سورة التوبة، الآية 5.
3- للتفصيل انظر مفردات الراغب ص 238 ، ومقاييس اللغة ص 249.
4- راجع مجمع البيان، ج 2، ص 58 .
5- البرهان ،ج 2، ص 112 عن التهذيب.

نعم روي في تفسير (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) : فإن منعكم خوف أو عدو أو مرض أو هلاك بوجه من الوجوه، فامتنعتم لذلك(1) .

الرابع: قوله (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أي تقربوا بما استيسر، أو فعليكم ما ،استيسر أو فاهدوا ما استيسر .

و(اسْتَيْسَرَ) من اليُسر وهو بمعنى السهولة ضد العسر، قيل يَسُر واستيسر وتيسر بمعنى واحد وقيل بالفرق بينهما لأن زيادة المباني تدل على زيادة المعاني فالمجرد بمعنى صار سهلاً و(استيسر) بمعنى طلب الأسهل، و (تيسر) بمعنى ما أمكن فلا يطلق على الأقل مع التمكن من الأكثر.

وكأنه نظر إلى أن من معاني باب التفعّل : التكلّف، وهو لا يصح إلَّا في الأصعب، وأن باب الاستفعال بمعنى طلب الشيء مطلقاً فيصح في الأسهل فتأمل.

و(الْهَدْيِ) حددته الروايات في الإبل والبقر والغنم ويلحق بها الجاموس والمعز، فلا يجوز غيرها .

و(الْهَدْىِ) للجمع مفرده هَدْيَة، كتمر وتمرة، وسُمّى هدياً لأنه يُهدى إلى الحرم أو لأنه يساق إلى الحرم، من الهَدِيّة أو الهداية.

الخامس : قوله تعالى ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدَىُ مَحِلَّهُ).

حلق الرأس كناية عن الإحلال فالمعنى لا يجوز لكم الإحلال عن الإحرام حتى يصل الهدي إلى مكانه المقرر له . .

ص: 393


1- التبيان ج 2، ص 155 ومجمع البيان ج2، ص 57 .

وهذا المقطع هو حكم عام للمحصور وغيره - كما دلت عليه الروايات - أما المحصور بمرض فإن كان حاجّاً فيجب عليه الانتظار إلى يوم النحر حيث تنحر الأضاحي بمنى، وإن كان معتمراً، فيضرب موعداً بينه وبين من يرسل الهدي معهم ثم يُحل في ذلك اليوم، ولا بأس عليه إن اختلفوا في الميعاد.

وأما غير المحصور فهو القارن أي الذي ساق معه الأضاحي حين الإحرام، فهذا يلزمه البقاء على الإحرام إلى يوم العيد، ويُحل عن الإحرام بعد نحر الأضاحي.

وفي الحديث أن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم أهل بالحج وساق مائة بَدَنة(1) .... ولم يكن يستطيع أن يُحِلّ من أجل الهدي الذي كان معه، إن الله عزّ وجل يقول: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهُدَىُ مَحِلَّهُ) ، ... فأقبل عليٌّ: عَلَيْهِ السَّلاَمُ من اليمن حتى وافى الحج. . . فقال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم : يا علي بأي شيء أهللت؟ فقال : أهللت بما أهل به النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم ، فقال : لا تُحل أنت فأشركه في الهدي وجعل له سبعاً وثلاثين، ونحر رسول الله ثلاثاً وستين ... الحديث (2).

كما أن الآية دلت على أن للهدي مكاناً خاصاً، فلا يجوز نحره في غيره، ودلت السنة على أن محلّه للحاج منى، وللمعتمر مكة.

وأما المصدود - الذي صدّه العدو - فمحل الهدي هو مكان الصد ،والتفصيل يطلب من الكتب الفقهية . .

ص: 394


1- أي بعير.
2- البرهان ،ج 2، ص 113 - 114 عن الكافي ج 4 ، ص 248 .

السادس : قوله تعالى (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذَى....).

هذا أيضاً حكم عام لكل محرم، وهو ما إذا اضطر إلى ارتكاب أحد محرمات الإحرام، فقد أجيز له مع دفع بدل، وفي الآية ذكر حكم خصوص الحلق، ولعله لأنه شعار الإحلال عن الإحرام، وهو ظاهر لعامة الناس، وأما سائر محرماته فهي أمور غير بينة للعموم بين ما لا يطلع عليها أحد كالرفث وبين ما يطلع عليه القليل كالجدال، وأما فدية سائر محرمات الإحرام فقد بينتها السنة المطهرة .

وقوله (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا) تفريع على قوله (وَأَتِمُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ومن الواضح أن المرض خاص بما كان يحتاج في مداواته إلى الحلق.

وقوله (أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ) أي بغير المرض كأن تؤذيه هوام الرأس كالقمل، وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال : مرّ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم على كعب بن عُجرة والقمل يتناثر من رأسه وهو محرم، فقال له : أتؤذيك هوامك؟ فقال : نعم فأنزل الله هذه الآية ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُکٍ)، فأمره رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم أن يحلق رأسه، وجعل الصيام ثلاثة أيام والصدقة على ستة مساكين مدان لكل ،مسکین ، والنسك : شاة (1).

وهذا أيضاً من تسهيل الشريعة على الناس، مع أن هذا النوع من المرض والأذى يمكن تحمّله ولكن الله تعالى سهل الأمر برفع الحكم إلى بدل ولم يحصر البدل في شيء واحد بل جعل المكلّف مخيّراً، وإحدى خصال التخيير هو الصوم الذي يمكن للفقراء أيضاً . .

ص: 395


1- البرهان ،ج 2، ص 117 - 118 عن تفسير العياشي.

السابع : قوله تعالى ﴿فَإِذَا أَمِنتُم فَمَن تَمَنَّعَ بِالعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) .

أي فإذا أمنتم من العدو والمرض بأن زال المانع وكنتم في حال سعة وأمن فتمتعوا .

وقوله (فَمَن تَمَتَّعَ...) إخبار يقصد به الإنشاء والجملة الخبرية أدلّ على الوجوب من صيغة الأمر - كما قرَّر في أصول الفقه والباء في (بِالْعُمْرَةِ) للسببية، أي تمتع بسبب إتيانه بالعمرة، فإن المُحرم إذا دخل مكة كان يبقى على إحرامه إلى أدائه مناسك الحج والحلق في منى ولكن شرع الله تعالى للآفاقي - البعيد عن مكة - أن يأتي بعمرة ثم يُحِلّ من إحرامه ويستمتع بالطيب والنساء وسائر محرمات الإحرام إلى أن يُحرِم مرة أخرى للحج.

فقوله (تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ) أي بسبب إتيانه بالعمرة يتمتع، (إِلَى الْحَجِّ) أي إلى حين إحرامه للحج، أما من دخل مكة بإحرام حج الإفراد أو القران فلا تمتع له بل يبقى على الإحرام إلى يوم النحر .

وهذا تسهيل من الله تعالى للآفاقي الذي يقطع مسافة طويلة وهو في حالة الإحرام ممتنعاً عن ،محرماته وخاصة أن أشهر الحج ثلاثة فقد يدخل مكة في أوائل شوال، فبقاؤه محرماً تصعيب عليه، فأراد تعالى التخفيف عنه بأن شرّع له العمرة أولاً ، فإذا أحلّ منها أباح له الاستمتاع بمحرمات الإحرام ليستريح من تعب السفر، بل ليكون حين إحرامه إلى الحج بحيث لا تتوق نفسه إلى الملذات وخاصة النساء - لقرب عهده بها ، فيتفرغ للعبادة والتوجه إلى الله تعالى من غير ضغط شهوة أو تشتت بال بل هو رحمة لضعاف الإيمان لكي لا يختانون أنفسهم في حال الإحرام عكس أهل مكة فإن وظيفتهم الإفراد أو القران ويتمكنون

ص: 396

من الإحرام للحج في يوم عرفة، فهم يستمتعون بما أباح الله لهم إلى يوم الحج .

هذا مضافاً إلى أن في إحلال المسافرين منفعة لأهل مكة حيث يسهل للحجاج البيع والشراء بلا تقييد لحركتهم بالإحرام ومحرماته.

والتمتع شُرّع في أواخر حياة الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَمحيث حج رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم بأصحابه وكان قد ساق معه مائة بَدنَة لينحرها في منى وجعل سبعاً وثلاثين منها للإمام علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ (1).

-ولعل سوقه هذا العدد ليطعم بها أهل مكة ولتحبيب قلوبهم أو لتعظيم أمر الحج أو لأنها من شعائر الله فأراد الرسول إظهار هذه الشعيرة، وخاصة أن البدن يجعل عليها علامة - لتُعرف .. فلما نزلت آية التمتع بالعمرة إلى الحج أمر رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم الناس بالإحلال إلا من ساق الهدي فعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن آبائه عَلَيْهِم السَّلاَمُ قال : لما فرغ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم من سعيه بين الصفا والمروة، أتاه جبرئيل عَلَيْهِم السَّلاَمُ عند فراغه من السعي - وهو على المروة ، فقال : إن الله يأمرك أن تأمر الناس أن يُحلّوا إلا من ساق الهدي، فأقبل رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَم على الناس بوجهه، فقال: يا أيها الناس هذا جبرئيل - وأشار بيده إلى خلفه - يأمرني عن الله عزّ وجل أن آمر الناس أن يُحِلُّوا إلّا من ساق الهدي فأمرهم بما أمر الله به، فقام إليه رجل (2) وقال : يا رسول الله نخرج إلى منى ورؤوسنا تقطر من النساء؟

ص: 397


1- راجع الحديث مفصلاً في البرهان ج 2، ص 114 عن الكافي، وقد نقلنا بعض فقراته قريباً.
2- صرحت مصادر العامة بأن هذا الرجل كان عمر بن الخطاب، وقد منع عن عمرة التمتع في ،خلافته وقال متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما، متعة الحج ومتعة النساء.

وقال آخرون : يأمُرُ بالشيء ويصنع هو غيره !! فقال : يا أيها الناس، لو استقبلت من أمري ما استدبرت صنعت كما يصنع الناس، ولكني سقت الهدي، فلا يُحِلّ لمن ساق الهدي، حتى يبلغ الهدي محله، فقصر الناس وأحلّوا وجعلوها عُمرة . . . الحديث (1).

وقوله (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ) جزاء لقوله (فَمَن تَمَتَّعَ...) أي كل من أتى بحج التمتع فعليه الهدي عكس حج الإفراد الذي لا هدي فيه وذكر خصوص الهدي من مناسك حج التمتع إما لكونه تشريعاً جديداً لم يألفوه لتعودهم على حج الإفراد والقران فقط - فاحتاجوا إلى ذكره بالخصوص، وإما لبيان أن حكمة هذا التشريع هو مقابل السماح لهم بالتمتع بين الحج والعمرة، وإما لبيان أهمية الهدي في حج التمتع ، بل تسمية أعمال الحج (بالمناسك) لاشتماله على (النسيكة) وهي الذبيحة - كما مرّ -.

ولعل تشريع حج التمتع للبعيد عن مكة هو لاشتماله على الذبيحة أيضاً - مضافاً إلى التسهيل وقد مرّت الإشارة إليه - ، وذلك ليتبين عظمة الحج ولينتفع الناس نفعاً مباشراً من الحج بالأكل من لحوم الأضاحي، وخاصة أهل مكة الذين قد يتضايقون من الحجيج وليس لكلهم نفع مباشر من الحجاج إذ بعضهم فقراء، فلينتفعوا بالأضاحي، مضافاً إلى رمزية تقديم القربان على العبودية والطاعة.

الثامن: قوله تعالى ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ...).

عدم وجدان الهدي هو أن يكون فقيراً لا يملك ثمن الهدي، أما لو كان يملك ثمنه ولم يجد هدياً، ففي الحديث : يخلّف الثمن عند بعض .

ص: 398


1- البرهان ،ج 2، ص 119 - 120 عن التهذيب ج 5 ، ص 33 .

أهل مكة ويأمر من يشتري له ويذبح عنه وهو يجزي عنه، فإذا مضى ذو الحجة أخر ذلك إلى قابل من ذي الحجة (1).

ويجب الصوم في ذي الحجة فقط، وأفضل الأوقات يوم السابع والثامن والتاسع، وبعدها في الفضل يوم النفرة ويومان بعدها - أي الثالث عشر إلى الخامس عشر - وهي الأيام البيض، فإن نفر في اليوم الثاني عشر جاز له ابتداء الصوم منه ..

وقوله (وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) أي إلى أهلكم ، فإذا بدا له الإقامة في انتظر وصول أهل بلاده إليها، فإن ظن أنهم قد وصلوا فليصم السبعة أيام كما في الأحاديث (2) - ولعل بدليلة الصوم هو الشعارية الهدي بحيث احتاج إلى كون بدله أمراً ظاهراً ومتوالياً، فلذا شرع ثلاثة أيام منه في الحج لكي يشعر الحج بأهمية الهدي وكذا إشعار الجميع بالأهمية، فلذا شُرع سبعة أيام حين الرجوع إلى الأهل لاستمرار أثر الحج وحكمه حتى حين الرجوع .

التاسع : قوله تعالى (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَهٌ).

إنه لا يخفى على الكل أن ثلاثة وسبعة تساوي عشرة فذكره في القرآن - وهو أبلغ كلام وأبعده عن اللغو - يكون بغرض الإشارة إلى وفاء الأيام العشرة بفضل وثواب الهدي ف- ( الكاملة) ليست بمعنى (التامة).

وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ الكامل : كمالها كمال الأضحية، سواء أتيت بها أو أتيت بالأضحية تمامها كمال الأضحية (3)..

ص: 399


1- الوسائل ج 14 ، ص 176 . وللتفصيل راجع موسوعة الفقه ج 44 ، ص 304.
2- راجعها في الوسائل ج 14 ، ص 190.
3- البرهان ،ج 2، ص 124 عن التهذيب.

أي إذا أتممت العشرة أيام فقد نلت فضيلة الأضحية وثوابها، فهذه العشرة ليست ناقصة ثواباً ، بل هي كاملة ثواباً .

العاشر : قوله تعالى ﴿ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)، أي (ذَلِكَ) التمتع إنما هو تكليف البعيد عن المسجد الحرام. و(الحاضر) هنا بمعنى القريب كقوله (الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ) أي قريبة منه، فمعنى الآية أن حج التمتع وظيفة من لم يكن سكنه قريباً إلى المسجد الحرام.

وقد تم تحديد القُرب في الروايات بثمانية وأربعين ميلاً، فعن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ : يعني أهل مكة ليس عليهم ،متعة كل من كان أهله دون ثمانية وأربعين ميلاً - ذات عرق وعسفان - كما يدور حول مكة فهو ممن دخل في هذه الآية، وكل من كل أهله وراء ذلك فعليهم المتعة(1)، فهي تعادل ستة وتسعين كيلومتراً. ففي الفقه : حيث إن الكيلومتر نصف الميل، والميل ثُلث الفرسخ ، تكون ذات عرق على سبعة وأربعين ميلاً من مکة المكرمة (2) .

وعلى هذا عمل المشهور ورواياته أصح سنداً، فلا بد من حمل الروايات المعارضة على ما لا يتنافى مع هذا التحديد، والتفصيل يطلب من الفقه (3).

الحادي عشر : قوله تعالى ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) .

مر أن هذا تأكيد وشدة وعيد لعدم قبول نفوسهم لحج التمتع، وفي .

ص: 400


1- الوسائل ج 11، ص 259 .
2- موسوعة الفقه ج 41، ص 57
3- راجع موسوعة الفقه ج 41، ص 58 فما بعد.

قوله (أَعلَمُوا) قال في المواهب : لأنه مع العلم يكون الإنسان أشد احترازاً عن الوقوع فيما يوجب العقاب والعذاب، ولأن العالم لا يخالف أمر الله تعالى - لأن علمه يمنعه ، ويرجى مع العلم استصلاح الحال فيكون الإعلام بالعلم بشدة العقاب لطفاً في التقوى، للعالم به (1). .

ص: 401


1- مواهب الرحمن ج 3، ص198.

ص: 402

الفهرس

403

فصل: الإسلام امتداد لإبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ...9

القسم الأول: أركان الأمة... 13

الركن الأول الإمامة... 13

الآية 124... 13

الأمر الأول... 21

الأمر الثاني... 22

الأمر الثالث... 24

الأمر الرابع... 25

الركن الثاني: الكعبة... 26

الآية 125... 26

الركن الثالث: الاتباع... 34

الآية 126... 34

الركن الرابع: العمل الخالص... 41

الآيات 127 - 129... 41

ص: 403

الآيتان 130 - 131... 54

القسم الثاني: استمرارية الأمة ...62

الآيتان 132 - 133 ...61

الآية 134 ...69

القسم الثالث: الوصية ومخالفتها ...72

الآيتان 135 - 136 ...72

الآيتان 137 - 138 ...79

القسم الرابع: دحض حججهم..87

الآيات 139 - 141.. .87

فصل مقومات الأمة الإسلامية.95

المقوّم الأول: القبلة... 99

الآيتان 142 - 143... 101

الآيتان 144 - 145...118

الآيات 146 - 148 ...129

الآيتان 149 - 150... 137

المقوّم الثاني من مقومات الأمة الإسلامية الرسالة - القيادة -... 146

الآيتان 151 - 152 .148

المقوّم الثالث من مقومات الأمة الإسلامية الجهاد - تحمل المشاق -... 157

الآيات 152 - 156 ...159

حول البرزخ ...166

ص: 404

الآية 158 ...176

الآيات 159 - 162 ...183

الآيتان 163 - 164 ...193

الآيات 165 - 167 ...201

المقوم الرابع من مقومات الأمة الإسلامية الأحكام - الحلال الحرام - ...211

الآيات 168 - 171 ...212

الآيتان 172 - 173 ...222

الآيات 174 - 176 ...231

الآية 177 ...240

فصل في أحكام الموت ...251

الآيتان 178 - 179 ...255

الآيات 180 - 182 ...266

فصل في أحكام الصوم الآيتان 183 - 184 ...275

الآية 185 ...289

الآية 186 ... 303

من شرائط الدعاء ...310

من آداب الدعاء ...312

الآية 187 ... 318

الآية 188 ...333

ص: 405

الآية 189 ...344

فصل في أحكام الجهاد ...355

الآيات 190 - 192 ...359

الآيات 193 - 195 ...373

فصل في أحكام الحج...383

الآية 196 ...387

ص: 406

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.