مختارات من القطوف الدانية

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: الحسیني الشیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان واسم المؤلف: مختارات من القطوف الدانیة/ من محاضرات السیدمحمد الحسیني الشیرازي؛ [برای] موسسةالشجرةالطیبة.

تفاصيل المنشور: قم : دارالعلم، 1442 ق.= 1399.

مواصفات المظهر: 400 ص.

ISBN : 978-964-204566-2

حالة الاستماع: فیپا

لسان : العربية.

ملحوظة : هذا العام ، تلقى الكتاب الحالي FIPA كغلاف من نفس الناشر.

ملحوظة : ببليوغرافيا مع ترجمة.

موضوع : اسلام -- محتويات مختلفة

Islam -- Miscellanea

المعرف المضاف: موسسه شجره طیبه(قم)

ترتيب الكونجرس: BP11

تصنيف ديوي: 297/02

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 7386885

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فیپا

ص: 1

اشارة

مختارات من القطوف الدانية

------------------------------------------

آية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(رحمة الله)

الناشر: دار العلم

المطبعة: إحسان

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

كمية: 1000الطبعة الأولى - 1442ه ق

-----------------------------------------------------------------------------

شابك: 2-204566-964-978

-----------------------------------------------------------------------------

النجف الأشرف: شارع الرسول، سوق الحويش، قرب جامع الأنصاري، مكتبة الإمام الحسن المجتبى(علیه السلام)

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي(علیه السلام)، مكتبة الإمام الحسين(علیه السلام) التخصصية

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردین، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم

مشهد المقدسة: مدرسة الإمام الرضا(علیه السلام)، جهارراه شهدا، شارع بهجت، فرع 5.

قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أول فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

ص: 3

ص: 4

ولكم في رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أسوة

الرسول(صلی الله علیه و آله) ونزاهة الحرب

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: «إِن يَمسَسكُم قَرح فَقَد مَسَّ ٱلقَومَ قَرح مِّثلُهُۥۚ وَتِلكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَينَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُم شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ»(1).

وقال سبحانه: «لَّقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَة»(2).

بعث اللّه عزّ وجلّ النبي محمداً(صلی الله علیه و آله) رحمة للعالمين، فجاء بشيراً ونذيراً إلى الناس أجمعين فاهتدى العديد منهم ببركته(صلی الله علیه و آله) ولكن البعض أخذ يحارب النبي(صلی الله علیه و آله) والمسلمين، فأخذ المشركون يخططون لقتلالنبي(صلی الله علیه و آله) وقتل أصحابه، وفرضوا على رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عشرات الغزوات، وكلها كانت دفاعية من قبل الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله)، وكانت سياسته في الحرب مبتنية على الأخلاق الطيبة، والعفو عن المجرمين، ومداراة الأسرى، والسعي في هدايتهم إلى الصراط المستقيم بعيداً عن الغدر والخيانة، والعنف والإرهاب.

فكان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) خير أسوة للبشرية حتى في ميادين الحرب، كما قال تعالى: «لَّقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَة»(3)، فإن حذف المتعلق يفيد

ص: 5


1- سورة آل عمران، الآية: 140.
2- سورة الأحزاب، الآية: 21.
3- سورة الأحزاب، الآية: 21.

العموم، على ما ذكره العلماء في البلاغة والأصول.

قريش والحرب والانتقام

كانت بذور الانتقام والحقد والثأر من المسلمين، قد بُذرت في مكة من زمن بداية الدعوة الإسلامية، ثم أجج ذلك انهزام المشركين في معركة بدر وسرية محمّد بن مسلمة، واعتمدطواغيت قريش خطة التهييج العاطفي أيضاً وذلك بمنع ذوي القتلى من البكاء والنياحة على قتلى معركة بدر؛ وهذا مما ساعد على إذكاء روح الانتقام لدى قريش.

كما أن تعذر مرور قوافلها التجارية عبر طريق مكة - المدينة - الشام، واضطرارها إلى سلوك طرق أخرى كطريق العراق للسفر إلى الشام، أو طريق الساحل، زاد هو الآخر من سخطها وانزعاجها.

كما أجج مقتل (كعب بن الأشرف) أوار هذا الحقد وأوقد لهيبه في النفوس(1).

ومن هنا اقترح (صفوان بن أمية)..

و(عكرمة بن أبي جهل)..

على (أبي سفيان) بالحرب ضد الرسول(صلی الله علیه و آله) والمسلمين والاستعداد لها.

فقد قيل: لما أصيبت قريش يوم بدر، ورجع فلهم - أي منهزموهم- إلى مكة، مشى صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، في رجال من قريش، أصيب آباؤهم وإخوانهم ببدر، فكلموا أبا سفيان بن حرب، ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة. فقالوا: يا معشر قريش، إن محمداً قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال الذي أفلت على حربه، لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا، ففعلوا.

نعم، لقي هذا الاقتراح قبولاً من أبي سفيان، وتقرر الإعداد للحرب،

ص: 6


1- كعب بن الأشرف، من سادة يهود المدينة.

فاجتمعت قريش لحرب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) حتى فعل أبو سفيان ذلك.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الموضوع، كما ذكر كيف أن قريشاً لم تحصد من هذا الإنفاق إلّا الخيبة والخسران، حيث قال تعالى: «إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَموَٰلَهُم لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيهِم حَسرَة ثُمَّ يُغلَبُونَۗ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحشَرُونَ»(1).وحيث إن زعماء قريش كانوا على علم بقوة المسلمين، وقد رأوا ولمسوا عن كثب شجاعتهم، واستقامتهم وثباتهم في معركة بدر؛ قرروا أن يتألف جيشهم هذه المرة من صناديد أكثر القبائل، وشجعانها البارزين وأبطالها المعروفين. كما أنهم أشركوا في هذا المعركة طائفة من العبيد والرقيق، أغروهم ووعدوهم في العتق إن نصروا أسيادهم وقاتلوا بين أيديهم، كما حصل مع (وحشي)، وكان يقذف بحربة له قذف الحبشة وقلّما يخطئ بها. فقد قيل له: اخرج مع الناس، فإن نلت محمداً أو علياً أو حمزة فأنت عتيق.

استقبل المشركون كلام أبي سفيان وأصحابه بقبول كامل وتصميم عالٍ، فقالوا: نحن لا نرجع حتى نحقق أحد الأمور الثلاثة، وهي:

أولاً: قتل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وبقتله(صلی الله علیه و آله) ينتهي الدين الذي جاء به - على حد زعمهم - .

ثانياً: قتل علي بن أبي طالب(علیه السلام)، الذي يمثل بطولة الإسلام والمؤثر الكبير في نتائج الحروب، وهو الشخصية الثانية بعد رسولاللّه(صلی الله علیه و آله).

ثالثاً: دخول المدينة غيلة، وعلى حين غرة وغفلة من المسلمين، فيوقعوا القتل والسبي والنهب بأهلها.

ص: 7


1- سورة الأنفال، الآية: 36، وانظر تفسير مجمع البيان 4: 464.

عندها نزل الوحي على النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله)، وأخبره بما يضمر المشركون، وكان نزوله بشارة للمسلمين وبعثاً للاطمئنان في قلوبهم، وخصوصاً مع ما كان عليه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من الاستعداد والتأهب لمواجهة أخطار العدو.

استعداد المسلمين

كان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في قمة الحذر من الأعداء رعاية وحفظاً لأنفس المسلمين، فكان ينشر العيون على الحدود وأطراف المدينة، ليترصدوا أيّ خطر أو غارة يمكن أن يداهمهم بها الكفار والمنافقون، وكانت هذه العيون على شكل دوريات - حسب اصطلاح اليوم - وهي تتكون عادة من شخصين أو ثلاثة أو خمسة، وأحياناً تتكون الدورية من عشرة أشخاص، ليكونالنبي الأعظم(صلی الله علیه و آله) على إطلاع كامل بتحركات العدو من خلال هذه الدوريات إضافة إلى التسديد الإلهي، فيكون(صلی الله علیه و آله) قد أعدّ العدة الكافية للمواجهة من الناحية المادية والظاهرية.

أما من الناحية المعنوية، فبالإضافة إلى الإخلاص والإيمان باللّه سبحانه، الذي كان الوازع والدافع الرئيسي للمسلمين على الثبات والمقاومة، عزّزه اللّه سبحانه بنزول جبرئيل(علیه السلام) بالبشارة، وتشديد العزم وتقوية الإرادة.

وهكذا كان الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) يمتلك معرفة كبيرة بأوضاع العدو في جميع حروبه، حينما كان يرسل الدوريات وفرق الاستطلاع؛ ليعرف تحركات العدو، ومقدار القوة التي يمتلكها، ومواطن الضعف فيه، بالإضافة إلى إطلاعه الكامل على مجريات الأمور في الداخل.

معركة أحد

قال المفسر الكبير العلامة القمي في تفسيره: «ضُرِبَت عَلَيهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَينَ مَا ثُقِفُوٓاْ

ص: 8

إِلَّا بِحَبلٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبلٖ مِّنَٱلنَّاسِ»(1) يعني: بعهد من اللّه وعقد من رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)(2).

وفي تفسير فرات الكوفي: عن الإمام الباقر(علیه السلام) قال: «حبل من اللّه: كتابه، وحبل من الناس: علي بن أبي طالب(علیه السلام)»(3).

ثم ضرب للكفار من أنفق ماله في غير طاعة اللّه مثلاً، فقال: «مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ ٱلحَيَوٰةِ ٱلدُّنيَا كَمَثَلِ رِيحٖ فِيهَا صِرٌّ» أي: برد، «أَصَابَت حَرثَ قَومٖ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُم فَأَهلَكَتهُۚ» أي: زرعهم «وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَٰكِن» كانوا «أَنفُسَهُم يَظلِمُونَ»(4).

وقوله: «وَإِذ غَدَوتَ مِن أَهلِكَ تُبَوِّئُ ٱلمُؤمِنِينَ مَقَٰعِدَ لِلقِتَالِۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»(5).فقد روي عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه(علیه السلام) قال: «سبب نزول هذه الآية أن قريشاً خرجت من مكة تريد حرب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، فخرج يبغي موضعاً للقتال». وقوله: «إِذ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُم أَن تَفشَلَا»(6) نزلت في عبد اللّه بن أُبيّ، وقوم من أصحابه اتبعوا رأيه في ترك الخروج، والقعود عن نصرة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله).

قال: وكان سبب غزوة أحد أن قريشاً لما رجعت من بدر إلى مكة، وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والأسر؛ لأنه قتل منهم سبعون وأسر منهم سبعون، فلما رجعوا إلى مكة، قال أبو سفيان: يا معشر قريش، لا تدعوا النساء تبكي على

ص: 9


1- سورة آل عمران، الآية: 112.
2- تفسير القمي 1: 110.
3- تفسير فرات الكوفي: 92.
4- سورة آل عمران، الآية: 117.
5- سورة آل عمران، الآية: 121.
6- سورة آل عمران، الآية: 122.

قتلاكم؛ فإن البكاء والدمعة إذا خرجت أذهبت الحزن والحرقة والعداوة لمحمد، ويشمت بنا محمد وأصحابه.

فلما غزوا رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يوم أحد، أذنوا لنسائهم بعد ذلك في البكاء والنوح، فلما أرادوا أن يغزوا رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلى أحد،ساروا في حلفائهم من كنانة وغيرها، فجمعوا الجموع والسلاح، وخرجوا من مكة في ثلاثة آلاف فارس وألفي راجل، وأخرجوا معهم النساء يذكرنهم ويحثنهم على حرب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وأخرج أبو سفيان هند بنت عتبة، وخرجت معهم عمرة بنت علقمة الحارثية.

فلما بلغ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ذلك جمع أصحابه، وأخبرهم: إن اللّه قد أخبره، أن قريشاً قد تجمعت تريد المدينة، وحث أصحابه على الجهاد والخروج، فقال عبد اللّه بن أبيّ [سلول] وقومه: يا رسول اللّه، لا تخرج من المدينة حتى نقاتل في أزقتها، فيقاتل الرجل الضعيف والمرأة والعبد والأمة على أفواه السكك وعلى السطوح، فما أرادنا قوم قط فظفروا بنا ونحن في حصوننا ودورنا، وما خرجنا إلى أعدائنا قط إلّا كان الظفر لهم.

فقام سعد بن معاذ(رحمة الله) وغيره من الأوس، فقالوا: يا رسول اللّه، ما طمع فينا أحد من العرب ونحن مشركون نعبد الأصنام، فكيف يمطعون فينا وأنت فينا! لا، حتى نخرج إليهم فنقاتلهم فمن قتل مناكان شهيداً، ومن نجا منا كان قد جاهد في سبيل اللّه.

فقبل رسول اللّه قوله، وخرج مع نفر من أصحابه يبتغون موضع القتال، كما قال اللّه: «وَإِذ غَدَوتَ مِن أَهلِكَ تُبَوِّئُ ٱلمُؤمِنِينَ» إلى قوله «إِذ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُم أَن تَفشَلَا»(1) يعني: عبد اللّه بن أبي وأصحابه. فضرب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) معسكره

ص: 10


1- سورة آل عمران، الآية: 121-122.

مما يلي من طريق العراق، وقعد عبد اللّه بن أبي وقومه من الخزرج اتبعوا رأيه، ووافت قريش إلى أحد.

وكان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عدّ أصحابه وكانوا سبعمائة رجلاً، فوضع عبد اللّه بن جبير في خمسين من الرماة على باب الشعب، وأشفق أن يأتي كمينهم في ذلك المكان، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لعبد اللّه بن جبير وأصحابه: «إن رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكة فلا تخرجوا من هذا المكان، وإن رأيتموهم قد هزمونا حتى أدخلونا المدينة فلا تبرحوا والزموا مراكزكم».ووضع أبو سفيان خالد بن الوليد في مائتي فارس كميناً، وقال لهم: إذا رأيتمونا قد اختلطنا بهم فاخرجوا عليهم من هذا الشعب حتى تكونوا من ورائهم.

مقام أمير المؤمنين(علیه السلام) في أحد

فلما أقبلت الخيل واصطفوا، وعبأ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أصحابه، ودفع الراية إلى أمير المؤمنين(علیه السلام)، فحملت الأنصار على مشركي قريش فانهزموا هزيمة قبيحة، ووقع أصحاب رسول اللّه في سوادهم(1)، وانحط خالد بن الوليد في مائتي فارس، فلقي عبد اللّه بن جبير فاستقبلوهم بالسهام فرجعوا، ونظر أصحاب عبد اللّه بن جبير إلى أصحاب رسول اللّه ينهبون سواد القوم، قالوا لعبد اللّه بن جبير: تقيمنا هاهنا وقد غنم أصحابنا ونبقى نحن بلا غنيمة؟ فقال لهم عبد اللّه: اتقوا اللّه، فإن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) قد تقدم إلينا أن لا نبرح، فلم يقبلوامنه، وأقبل ينسل رجل فرجل حتى أخلوا من مركزهم، وبقي عبد اللّه بن جبير في اثني عشر رجلاً. وقد كانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العدوي من بني عبد الدار، فبرز

ص: 11


1- السواد: الشخص، وقيل: شخص كل شيء من متاع وغيره، والجمع أسودة، وأساود جمع الجمع، ويقال: رأيت سواد القوم أي: معظمهم، وسواد العسكر: ما يشتمل عليه من المضارب والآلات والدوابِّ وغيرها. لسان العرب: ج3 ص224 مادة (سود).

ونادى: يا محمد، تزعمون أنكم تجهزونا بأسيافكم إلى النار ونجهزكم بأسيافنا إلى الجنة، فمن شاء أن يلحق بجنته فليبرز إليَّ، فبرز إليه أمير المؤمنين(علیه السلام) يقول:

«يا طلح إن كنت كما تقول*** لنا خيول ولكم نصول

فاثبت لننظر أينا المقتول*** وأينا أولى بما تقول

فقد أتاك الأسد الصؤول*** بصارم ليس به فلول

بنصرة القاهر والرسول»

فقال طلحة: من أنت يا غلام؟قال: «أنا علي بن أبي طالب».

قال: قد علمت يا قضيم، أنه لا يجسر عليَّ أحد غيرك، فشد عليه طلحة فضربه فاتقاه أمير المؤمنين(علیه السلام) بالجحفة(1)، ثم ضربه أمير المؤمنين(علیه السلام) على فخذيه فقطعهما جميعاً فسقط على ظهره، وسقطت الراية. فذهب علي(علیه السلام) ليجهز عليه فحلفه بالرحم، فانصرف عنه فقال المسلمون: ألّا أجهزت عليه؟

قال: «قد ضربته ضربة لا يعيش منها أبداً». وأخذ الراية أبو سعيد بن أبي طلحة فقتله علي(علیه السلام) وسقطت الراية على الأرض، فأخذها شافع [مسافع] بن أبي طلحة فقتله علي(علیه السلام) فسقطت الراية إلى الأرض، فأخذها عثمان بن أبي طلحة فقتله علي(علیه السلام) فسقطت الراية إلى الأرض، فأخذها الحارث بن أبي طلحة فقتله علي(علیه السلام)، فسقطت الراية إلى الأرض، وأخذها أبو عذير بن عثمان فقتله علي(علیه السلام)، وسقطت الراية إلى الأرض، فأخذها عبد اللّه بن أبي جميلة بنزهير فقتله علي(علیه السلام)، وسقطت الراية إلى الأرض، فقتل أمير المؤمنين(علیه السلام) التاسع من

ص: 12


1- الجحفة: التُرس.

بني عبد الدار، وهو أرطاة بن شرحبيل مبارزة وسقطت الراية إلى الأرض، فأخذها مولاهم صواب فضربه أمير المؤمنين(علیه السلام) على يمينه فقطعها، وسقطت الراية إلى الأرض، فأخذها بشماله فضربه أمير المؤمنين(علیه السلام) على شماله فقطعها، وسقطت الراية إلى الأرض، فاحتضنها بيديه المقطوعتين، ثم قال: يا بني عبد الدار، هل أعذرت في ما بيني وبينكم، فضربه أمير المؤمنين(علیه السلام) على رأسه فقتله، وسقطت الراية إلى الأرض، فأخذتها عمرة بنت علقمة الحارثية فقبضتها.

وانحط خالد بن الوليد على عبد اللّه بن جبير، وقد فر أصحابه وبقي في نفر قليل، فقتلوهم على باب شعب، واستعقبوا المسلمين فوضعوا فيهم السيف، ونظرت قريش في هزيمتها إلى الراية قد رفعت فلاذوا بها، وأقبل خالد بن الوليد يقتل المسلمين، فانهزم أصحاب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) هزيمة قبيحة. وأقبلوا يصعدون في الجبال وفيكل وجه، فلما رأى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) الهزيمة كشف البيضة عن رأسه، وقال: «إني أنا رسول اللّه، إلى أين تفرون عن اللّه وعن رسوله؟».

وسُئل أبو عبد اللّه(علیه السلام) عن معنى قول طلحة بن أبي طلحة لما بارزه علي(علیه السلام): يا قضيم؟

قال: «إن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) كان بمكة لم يجسر عليه أحد لموضع أبي طالب، وأغروا به الصبيان، وكانوا إذا خرج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يرمونه بالحجارة والتراب، فشكا ذلك إلى علي(صلی الله علیه و آله) فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه، إذا خرجت فأخرجني معك، فخرج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ومعه أمير المؤمنين(علیه السلام)، فتعرض الصبيان لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) كعادتهم، فحمل عليهم أمير المؤمنين(علیه السلام)، وكان يقضمهم في وجوههم وآنافهم وآذانهم، فكانوا يرجعون باكين إلى آبائهم ويقولون: قضمنا علي، قضمنا علي، فسمي لذلك القضيم».

وروي عن أبي واثلة شقيق بن سلمة قال: كنت أماشي فلاناً، إذ سمعت منه

ص: 13

همهمة، فقلت له: مه، ما ذا يا فلان؟قال: ويحك، أما ترى الهزبر(1) القضم بن القضم، والضارب بالبهم، الشديد على من طغى وبغى، بالسيفين والراية، فالتفت فإذا هو علي بن أبي طالب، فقلت له: يا هذا، هو علي بن أبي طالب؟! فقال: ادن مني أحدثك عن شجاعته وبطولته، بايعنا النبي(صلی الله علیه و آله) يوم أحد على أن لا نفر، ومن فر منا فهو ضال، ومن قتل منا فهو شهيد والنبي(صلی الله علیه و آله) زعيمه، إذ حمل علينا مائة صنديد، تحت كل صنديد مائة رجل أو يزيدون، فأزعجونا عن طحونتنا(2)، فرأيت علياً كالليث يتقي الذر [الدر] وإذ قد حمل كفاً من حصى فرمى به في وجوهنا، ثم قال: «شاهت الوجوه، وقطت وبطت ولطت، إلى أين تفرون، إلى النار» فلم نرجع، ثم كر علينا الثانية وبيده صفيحة يقطر منها الموت، فقال: «بايعتم ثم نكثتم، فو اللّه لأنتم أولى بالقتل ممن قتل»، فنظرت إلى عينيه كأنهما سليطان يتوقدان ناراً، أو كالقدحينالمملوين دماً، فما ظننت إلّا ويأتي علينا كلنا، فبادرت أنا إليه من بين أصحابي، فقلت: يا أبا الحسن، اللّه اللّه، فإن العرب تكر وتفر، وإن الكرة تنفي الفرة، فكأنه(علیه السلام) استحيا فولى بوجهه عني، فما زلت أسكن روعة فؤادي، فو اللّه ما خرج ذلك الرعب من قلبي حتى الساعة. ولم يبق مع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلّا أبو دجانة الأنصاري، وسماك بن خرشة، وأمير المؤمنين(علیه السلام). فكلما حملت طائفة على رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) استقبلهم أمير المؤمنين(علیه السلام) فيدفعهم عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ويقتلهم حتى انقطع سيفه.

وبقيت مع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) نسيبة بنت كعب المازنية، وكانت تخرج مع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في غزواته تداوي الجرحى، وكان ابنها معها فأراد أن ينهزم ويتراجع،

ص: 14


1- الهِزْبَر: الأسد.
2- الطَّحون والطّحانة: الكتيبة العظيمة.

فحملت عليه فقالت: يا بني، إلى أين تفر عن اللّه وعن رسوله؟ فردته فحمل عليه رجل فقتله، فأخذت سيف ابنها فحملت على الرجل فضربته على فخذه فقتلته، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «بارك اللّه عليكِ يا نسيبة». وكانت تقي رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)بصدرها وثدييها ويديها حتى أصابتها جراحات كثيرة.

وحمل ابن قميتة [قمية] على رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقال: أروني محمداً لا نجوت إن نجا محمد. فضربه على حبل عاتقه، ونادى: قتلت محمداً واللات والعزى. ونظر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلى رجل من المهاجرين قد ألقى ترسه خلف ظهره وهو في الهزيمة، فناداه: «يا صاحب الترس، ألق ترسك ومر إلى النار» فرمى بترسه، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «يا نسيبة، خذي الترس» فأخذت الترس وكانت تقاتل المشركين، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «لمقام نسيبة أفضل من مقام فلان وفلان».

فلما انقطع سيف أمير المؤمنين(علیه السلام) جاء إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقال: «يا رسول اللّه، إن الرجل يقاتل بالسلاح وقد انقطع سيفي». فدفع إليه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) سيفه ذا الفقار، فقال: «قاتل بهذا»، ولم يكن يحمل على رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أحد إلّا يستقبله أمير المؤمنين(علیه السلام)، فإذا رأوه رجعوا، فانحاز رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلى ناحية أحد، فوقف وكان القتال من وجه واحد وقد انهزم أصحابه، فلم يزل أمير المؤمنين(علیه السلام) يقاتلهم حتىأصابه في وجهه ورأسه وصدره وبطنه ويديه ورجليه تسعون جراحة فتحاموه، وسمعوا منادياً ينادي من السماء: «لا سيف إلّا ذو الفقار، ولا فتى إلّا علي».

فنزل جبرئيل على رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقال: «هذه واللّه المواساة يا محمد»، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «لأني منه وهو مني»، وقال جبرئيل: «وأنا منكما»(1).

ص: 15


1- تفسير القمي 1: 112-116.

مقتل حمزة(علیه السلام)

وكانت هند بنت عتبة في وسط العسكر، فكلما انهزم رجل من قريش رفعت إليه ميلاً ومكحلة، وقالت: إنما أنت امرأة فاكتحل بهذا. وكان حمزة بن عبد المطلب يحمل على القوم، فإذا رأوه انهزموا ولم يثبت له واحد، وكانت هند بنت عتبة قد أعطت وحشياً عهداً: لئن قتلت محمداً أو علياً أو حمزة لأعطيتك رضاك، وكان وحشي عبداً لجبير بن مطعم حبشياً، فقال وحشي: أما محمدفلا أقدر عليه، وأما علي فرأيته رجلاً حذراً كثير الالتفات فلم أطمع فيه. قال: فكمنت لحمزة فرأيته يهد الناس هداً، فمر بي فوطئ على جرف نهر فسقط، فأخذت حربتي فهززتها، ورميته فوقعت في خاصرته وخرجت من مثانته مغمسة بالدم فسقط. فأتيته فشققت بطنه وأخذت كبده، وأتيت بها إلى هند فقلت لها: هذه كبد حمزة، فأخذتها في فيها فلاكتها، فجعلها اللّه في فيها مثل الداغصة(1)، فلفظتها ورمت بها، فبعث اللّه ملكاً فحملها وردها إلى موضعها، فقال أبو عبد اللّه(علیه السلام): «يأبى اللّه أن يدخل شيئاً من بدن حمزة النار، فجاءت إليه هند ... وقطعت أذنيه، وجعلتهما خرصين(2) وشدتهما في عنقها، وقطعت يديه ورجليه».

وتراجعت الناس فصارت قريش على الجبل، فقال أبو سفيانوهو على الجبل: أعلُ هُبَل، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لأمير المؤمنين(علیه السلام) قل له: «اللّه أعلى وأجل». فقال: يا علي، إنه قد أنعم علينا، فقال علي(علیه السلام): «بل اللّه أنعم علينا». ثم قال أبو سفيان: يا علي، أسألك باللات والعزى، هل قُتل محمد؟

فقال له أمير المؤمنين(علیه السلام): «لعنك اللّه ولعن اللّه اللات والعزى معك، واللّه

ص: 16


1- الداغِصةُ: عظم مدوَّر في الركبة.
2- الخُرصان - تثنية الخرص كفلس - حلقة الذهب أو الفضة، أو الخِرص ككفل: وهو الجِرَاب.

ما قُتل محمد(صلی الله علیه و آله) وهو يسمع كلامك». فقال: أنت أصدق، لعن اللّه ابن قميئة، زعم أنه قَتل محمداً(1).

وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر(علیه السلام) في قوله: «وَلَقَد كُنتُم تَمَنَّونَ ٱلمَوتَ مِن قَبلِ أَن تَلقَوهُ فَقَد رَأَيتُمُوهُ وَأَنتُم تَنظُرُونَ»(2)، «فإن المؤمنين لما أخبرهم اللّه بالذي فعل بشهدائهم يوم بدر ومنازلهم من الجنة، رغبوا في ذلك فقالوا: اللّهم أرنا القتال نستشهد فيه، فأراهم اللّه إياه في يوم أحد، فلميثبتوا إلّا من شاء اللّه منهم، فذلك قوله: «وَلَقَد كُنتُم تَمَنَّونَ ٱلمَوتَ مِن قَبلِ أَن تَلقَوهُ»».

وأما قوله: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُول قَد خَلَت مِن قَبلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَو قُتِلَ ٱنقَلَبتُم عَلَىٰٓ أَعقَٰبِكُمۚ»(3)، فإن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لما خرج يوم أحد وعهد العاهد به على تلك الحال، فجعل الرجل يقول لمن لقيه: إن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) قد قُتل، النجاء. فلما رجعوا إلى المدينة أنزل اللّه: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُول قَد خَلَت مِن قَبلِهِ ٱلرُّسُلُۚ» إلى قوله «ٱنقَلَبتُم عَلَىٰٓ أَعقَٰبِكُمۚ» يقول: إلى الكفر.

قال: وتراجع أصحاب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) المجروحون وغيرهم، فأقبلوا يعتذرون إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، فأحب اللّه أن يعرف رسوله من الصادق منهم ومن الكاذب، فأنزل اللّه عليهم النعاس في تلك الحالة حتى كانوا يسقطون إلى الأرض، وكان المنافقون الذينيكذبون لا يستقرون قد طارت عقولهم، وهم يتكلمون بكلام لا يفهم عنهم. فأنزل اللّه «نُّعَاسا يَغشَىٰ طَآئِفَة مِّنكُمۖ» يعني: المؤمنين، «وَطَآئِفَة قَد أَهَمَّتهُم أَنفُسُهُم يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيرَ ٱلحَقِّ ظَنَّ ٱلجَٰهِلِيَّةِۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمرِ مِن شَيءٖۗ»

ص: 17


1- تفسير القمي 1: 110.
2- سورة آل عمران، الآية: 143.
3- سورة آل عمران، الآية: 144.

قال اللّه لمحمد(صلی الله علیه و آله) «قُل إِنَّ ٱلأَمرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ يُخفُونَ فِيٓ أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبدُونَ لَكَۖ يَقُولُونَ لَو كَانَ لَنَا مِنَ ٱلأَمرِ شَيء مَّا قُتِلنَا هَٰهُنَاۗ» يقولون: لو كنا في بيوتنا ما أصابنا القتل، قال له: «لَّو كُنتُم فِي بُيُوتِكُم لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيهِمُ ٱلقَتلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمۖ وَلِيَبتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُم وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ»(1) فأخبر اللّه رسوله ما في قلوب القوم، ومن كان منهم مؤمناً، ومن كان منهم منافقاً كاذباً بالنعاس، فأنزل اللّه عليه «مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلمُؤمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنتُم عَلَيهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِۗ»(2) يعني: المنافق الكاذب من المؤمن الصادق بالنعاس الذي ميز بينهم. وقوله: «إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّواْ مِنكُم يَومَ ٱلتَقَى ٱلجَمعَانِ إِنَّمَا ٱستَزَلَّهُمُٱلشَّيطَٰنُ» أي: خدعهم حتى طلبوا الغنيمة «بِبَعضِ مَا كَسَبُواْۖ» قال: بذنوبهم «وَلَقَد عَفَا ٱللَّهُ عَنهُمۗ»(3)، ثم قال: «يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ» يعني: عبد اللّه بن أبي وأصحابه الذين قعدوا عن الحرب، «وَقَالُواْ لِإِخوَٰنِهِم إِذَا ضَرَبُواْ فِي ٱلأَرضِ أَو كَانُواْ غُزّى لَّو كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجعَلَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ حَسرَة فِي قُلُوبِهِمۗ وَٱللَّهُ يُحيِۦ وَيُمِيتُۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِير»(4)، ثم قال لنبيه: «فَبِمَا رَحمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۖ وَلَو كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلقَلبِ لَٱنفَضُّواْ مِن حَولِكَۖ» أي: انهزموا ولم يقيموا معك، ثم قال تأديباً لرسوله: «فَٱعفُ عَنهُم وَٱستَغفِر لَهُم وَشَاوِرهُم فِي ٱلأَمرِۖ فَإِذَا عَزَمتَ فَتَوَكَّل عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلمُتَوَكِّلِينَ * إِن يَنصُركُمُ ٱللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمۖ وَإِن يَخذُلكُم فَمَن ذَا ٱلَّذِي يَنصُرُكُم مِّنۢ بَعدِهِۦۗ وَعَلَى ٱللَّهِ فَليَتَوَكَّلِ ٱلمُؤمِنُونَ»(5).

ص: 18


1- سورة آل عمران، الآية: 154.
2- سورة آل عمران، الآية: 179.
3- سورة آل عمران، الآية: 155.
4- سورة آل عمران، الآية: 156.
5- سورة آل عمران، الآية: 159-160.

فلما سكن القتال قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «من له علم بسعد بنالربيع؟».

فقال رجل: أنا أطلبه، فأشار رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلى موضع فقال: «اطلبه هناك، فإني قد رأيته في ذلك الموضع قد شرعت حوله اثنا عشر رمحاً».

قال: فأتيت ذلك الموضع، فإذا هو صريع بين القتلى، فقلت: يا سعد، فلم يجبني ثم قلت: يا سعد، فلم يجبني، فقلت: يا سعد إن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) قد سأل عنك، فرفع رأسه، فانتعش كما ينتعش الفرخ، ثم قال: إن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لحي؟ قلت: إي واللّه، إنه لحي، وقد أخبرني أنه رأى حولك اثني عشر رمحاً. فقال: الحمد للّه صدق رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لقد طعنت اثنتي عشرة طعنة كلها قد جأفتني(1)، أبلغ قومي الأنصار السلام وقل لهم: واللّه، ما لكم عند اللّه عذر أن تشوك رسول اللّه شوكة وفيكم عين تطرف، ثم تنفس، فخرج منه مثل دم الجزور، وقد كان اختفى في جوفه، وقضى نحبه(رحمة الله).ثم جئت إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فأخبرته، فقال: «رحم اللّه سعداً، نصرنا حياً وأوصى بنا ميتاً».

ثم قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «من له علم بعمي حمزة؟».

فقال الحرث بن سمية: أنا أعرف موضعه. فجاء حتى وقف على حمزة، فكره أن يرجع إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فيخبره، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لأمير المؤمنين(علیه السلام): «يا علي، اطلب عمك». فجاء علي(علیه السلام) فوقف على حمزة، فكره أن يرجع إليه، فجاء رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) حتى وقف عليه، فلما رأى ما فُعل به بكى، ثم قال: «واللّه ما وقفت موقفاً قط أغيظ عليَّ من هذا المكان، لئن أمكنني اللّه من قريش لأمثلن بسبعين رجلاً منهم». فنزل عليه جبرئيل(علیه السلام) فقال: «وَإِن عَاقَبتُم فَعَاقِبُواْ بِمِثلِ مَا

ص: 19


1- جأفه: أي صرعه.

عُوقِبتُم بِهِۦۖ وَلَئِن صَبَرتُم لَهُوَ خَير لِّلصَّٰبِرِينَ»(1)، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «بل أصبر».

فألقى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) على حمزة بردة كانت عليه، فكانت إذا مدها على رأسه بدت رجلاه، وإذا مدها على رجليه بدا رأسه، فمدهاعلى رأسه وألقى على رجليه الحشيش. وأمر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بالقتلى فجمعوا، فصلى عليهم ودفنهم في مضاجعهم، وكبر على حمزة سبعين تكبيرة.

قال: وصاح إبليس لعنه اللّه بالمدينة: قُتل محمد، فلم يبق أحد من نساء المهاجرين والأنصار إلّا خرجن، وخرجت فاطمة بنت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) تعدو على قدميها، حتى وافت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وقعدت بين يديه، فكان إذا بكى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بكت لبكائه، وإذا انتحب انتحبت.

ونادى أبو سفيان: موعدنا وموعدكم في عام قابل، فتقبل؟

فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لأمير المؤمنين(صلی الله علیه و آله): «قل: نعم».

قال: وتآمرت قريش على أن يرجعوا على المدينة، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «من رجل يأتينا بخبر القوم؟». فلم يجبه أحد، فقال أمير المؤمنين(علیه السلام): «أنا آتيك بخبرهم»، قال: «اذهب، فإن كانوا ركبوا الخيل وجنبوا الإبل فهم يريدون المدينة، واللّه، لئن أرادوا المدينة لايأذن اللّه فيهم، وإن كانوا ركبوا الإبل وجنبوا الخيل فإنهم يريدون مكة».

فمضى أمير المؤمنين(علیه السلام) على ما به من الألم والجراحات حتى كان قريباً من القوم، فرآهم قد ركبوا الإبل وجنبوا الخيل، فرجع أمير المؤمنين إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فأخبره، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «أرادوا مكة».

فلما دخل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) المدينة نزل عليه جبرئيل(علیه السلام) فقال: «يا محمد، إن

ص: 20


1- سورة النحل، الآية: 126.

اللّه يأمرك أن تخرج في أثر القوم، ولا يخرج معك إلّا من به جراحة، فأمر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) منادياً ينادي: يا معشر المهاجرين والأنصار، من كانت به جراحة فليخرج، ومن لم يكن به جراحة فليقم. فأقبلوا يضمدون جراحاتهم ويداوونها، فأنزل اللّه على نبيه: «وَلَا تَهِنُواْ فِي ٱبتِغَآءِ ٱلقَومِۖ إِن تَكُونُواْ تَألَمُونَ فَإِنَّهُم يَألَمُونَ كَمَا تَألَمُونَۖ وَتَرجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا يَرجُونَۗ»(1).وقال عزّ وجلّ: «إِن يَمسَسكُم قَرح فَقَد مَسَّ ٱلقَومَ قَرح مِّثلُهُۥۚ وَتِلكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَينَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُم شُهَدَآءَۗ»(2)، فخرجوا على ما بهم من الألم والجراح، فلما بلغ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بحمراء الأسد، وقريش قد نزلت الروحاء، قال عكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام وعمرو بن عاص وخالد بن الوليد: نرجع فنغير على المدينة؛ فقد قتلنا سراتهم وكبشهم، يعني: حمزة. فوافاهم رجل خرج من المدينة فسألوه الخبر؟

فقال: تركت محمداً وأصحابه بحمراء الأسد يطلبونكم جد الطلب.

فقال أبو سفيان: هذا النكد والبغي، قد ظفرنا بالقوم وبغينا، واللّه ما أفلح قوم قط بغوا، فوافاهم نعيم بن مسعود الأشجعي، فقال أبو سفيان: أين تريد؟ قال: المدينة لأمتار لأهلي طعاماً. قال: هللك أن تمر بحمراء الأسد، وتلقى أصحاب محمد وتعلمهم: أن خلفاءنا وموالينا قد وافونا من الأحابيش، حتى يرجعوا عنا، ولك عندي عشرة قلائص أملؤها تمراً وزبيباً؟ قال: نعم. فوافى من غد ذلك اليوم حمراء الأسد، فقال لأصحاب محمد(صلی الله علیه و آله): أين تريدون؟ قالوا: قريش. قال: ارجعوا؛ فإن قريشاً قد أجنحت إليهم خلفاؤهم، ومن كان تخلف عنهم، وما أظن

ص: 21


1- سورة النساء، الآية: 104.
2- سورة آل عمران، الآية: 140.

إلّا وأوائل القوم قد طلعوا عليكم الساعة. فقالوا: «حَسبُنَا ٱللَّهُ وَنِعمَ ٱلوَكِيلُ»(1)، ونزل جبرئيل على رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقال: «ارجع يا محمد؛ فإن اللّه قد أرهب قريشاً، ومروا لا يلوون على شي ء».

ورجع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلى المدينة، وأنزل اللّه: «ٱلَّذِينَ ٱستَجَابُواْ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِنۢ بَعدِ مَآ أَصَابَهُمُ ٱلقَرحُۚ لِلَّذِينَ أَحسَنُواْ مِنهُم وَٱتَّقَواْ أَجرٌ عَظِيمٌ * ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ»(2) يعني: نعيم بن مسعود، فهذا اللفظ عامومعناه خاص «إِنَّ ٱلنَّاسَ قَد جَمَعُواْ لَكُم فَٱخشَوهُم فَزَادَهُم إِيمَٰنا وَقَالُواْ حَسبُنَا ٱللَّهُ وَنِعمَ ٱلوَكِيلُ * فَٱنقَلَبُواْ بِنِعمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضلٖ لَّم يَمسَسهُم سُوٓء وَٱتَّبَعُواْ رِضوَٰنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضلٍ عَظِيمٍ»(3)(4).

روى عكرمة قال: سمعت علياً(علیه السلام) يقول: «لما انهزم الناس يوم أحد عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، لحقني من الجزع عليه ما لم أملك نفسي، وكنت أمامه أضرب بسيفي بين يديه، فرجعت أطلبه فلم أره، فقلت: ما كان رسول اللّه ليفر، وما رأيته في القتلى، فأظنه رفع من بيننا، فكسرت جفن سيفي، وقلت في نفسي: لأقاتلن به عنه حتى أقتل، وحملت على القوم فأفرجوا، فإذا أنا برسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وقد وقع على الأرض مغشياً عليه، فقمت على رأسه فنظر إليَّ، فقال: ما صنع الناس يا علي؟

فقلت: كفروا يا رسول اللّه، وولوا وأسلموك.فنظر إلى كتيبة قد أقبلت فقال(صلی الله علیه و آله): رد يا علي عني هذه الكتيبة، فحملت عليها بسيفي أضربها يميناً وشمالاً حتى ولوا الأدبار. فقال لي النبي: أ ما تسمع مديحك في السماء إن ملكاً يقال له: رضوان، ينادي: لا سيف إلّا ذو الفقار ولا

ص: 22


1- سورة آل عمران، الآية: 173.
2- سورة آل عمران، الآية: 172.
3- سورة آل عمران، الآية: 173- 174.
4- تفسير القمي 1: 119.

فتى إلّا علي، فبكيت سروراً وحمدت اللّه على نعمه».

وتراجع المنهزمون من المسلمين إلى النبي(صلی الله علیه و آله)، وانصرف المشركون إلى مكة، وانصرف النبي(صلی الله علیه و آله) إلى المدينة، فاستقبلت فاطمة(علیها السلام) ومعها إناء فيه ماء فغسلت به وجهه، ولحقه أمير المؤمنين(علیه السلام) ومعه ذو الفقار، وقد خضب الدم يده إلى كتفه، فقال لفاطمة(علیها السلام): «خذي هذا السيف قد صدقني اليوم.

وقال:

أ فاطم هاك السيف غير ذميم *** فلست برعديد ولا بمليم

لعمري لقد أعذرت في نصر أحمد *** وطاعة رب بالعباد عليم»

لعمري لقد أعذرت في نصر أحمد*** وطاعة رب بالعباد عليم»

وقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «خذيه يا فاطمة فقد أدى بعلك ما عليه، وقد قتل اللّه بسيفه صناديد قريش»(1).

تراجع الكفار إلى مكة

نعم، إن جبرئيل(علیه السلام) - بعد معركة أحد - قد نزل يخبر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بأن أبا سفيان وأصحابه يريدون القيام بهجوم على المسلمين مرة ثانية للقضاء عليهم، فقام الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) بجمع المسلمين، وباغتهم بأن أظهر أنه يريد الهجوم عليهم وقتالهم؛ وقد سبب ذلك تراجع الكفار إلى مكة.

إن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) اتبع في تاريخ الحروب أسلوباً وتكتيكاً فريداً؛ فعلى الرغم من أن المسلمين كانوا لا يمتلكون القوة والمئونة الكافية من الماء والغذاء للاستعداد لمواجهة العدو في معركة ثانية، وهذا مما يبطئ المقاتل ويقعده عن مواجهة أعدائه،نرى الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) قد أمر من بقي من المسلمين، وفيهم الجرحى بالذهاب نحو العدو الذي كان يستعد للهجوم عليهم مرة ثانية، وكان

ص: 23


1- إعلام الورى: 193.

هدف الرسول(صلی الله علیه و آله) من هذا الإجراء إدخال الخوف والرعب في قلوب المشركين، والإشارة إليهم بأن لا تظنوا بأننا نخاف منكم بسبب الإصابات والجراحات التي نالت المسلمين، فنحن اليوم نرسل إليكم هؤلاء المجروحين، وهؤلاء سوف يوقعون بكم الهزيمة والانكسار وهم جرحى، فكيف بكم إن واجهكم الجيش الاحتياطي الذي لم ير تعباً ولا أذى؛ وهذه هي مسألة تكوين الخط الثاني للجيش، ومن فوائده إلقاء الرعب في قلوب المشركين والمنافقين.

ولما أمر الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) الخط الأول وهم الجرحى بالذهاب إلى القتال، ترددوا قليلاً في بادئ الأمر، وأخذ يسأل بعضه بعضاً: هل نملك الاستعداد الكافي لذلك، جراحنا لا زالت تؤلمنا؟ ولا ريب أن وسائل التضميد والمداواة كانت آنذاك بسيطة وقليلة؛ إذكانوا يحرقون جريد النخل ويضعون رماده على الجرح لأجل إبرائه(1).

فعندما ظهر التردد في المسلمين نزلت الآية الكريمة: «إِن يَمسَسكُم قَرح فَقَد مَسَّ ٱلقَومَ قَرح مِّثلُهُۥۚ»(2)، فإن كان عذركم أيها المسلمون هو إصابتكم بالجروح والأذى، فقد مس أعداءكم القرح الكثير أيضاً، بالإضافة إلى أنهم قطعوا مسافات طويلة تقارب ال- (500) كيلومتر بحساب اليوم، لكون هذه المعركة - معركة أحد - كانت بالقرب من المدينة المنورة، والمسافة بين مكة والمدينة ما يقارب (500) كيلومتر.

هذا، بغض النظر عمّا يرافق ذلك الطريق الشاق من حرارة الشمس القوية والجوع والعطش، كل ذلك قد عاناه الكفار من أجل الوصول إلى ساحة المعركة؛

ص: 24


1- انظر بحار الأنوار 20: 144.
2- سورة آل عمران، الآية: 140.

ولذا نرى أن الخطاب كانموجهاً إلى تلك الفئة من المسلمين، حيث يقول اللّه تعالى: «إِن يَمسَسكُم قَرح»(1) ولم يقل إن يصبكم، فهنا إشارة بلاغية رائعة؛ وهي أن المس لا يصيب إلّا الجسد، ومعناه: إن قلوبكم سالمة، وأن إيمانكم لا يزال في قوته وصلابته، فليس من المهم جداً إصابة الجسد ببعض الجروح، بل المهم هو بقاء المحتوى الروحي والإيماني سالماً لم يمسه شيء(2).

فأنتم أيها المجاهدون، قلوبكم صالحة وما تزال الروح الإيمانية تعيش في داخلها، وشخصياتكم ما تزال شامخة وصلبة، والسنة الإلهية هي أن يجعل اللّه قدرات الدنيا عند من هو أكثر عملاً وسعياً، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في آيات كثيرة، حيث قال تعالى: «وَأَن لَّيسَ لِلإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ»(3)، وقالسبحانه: «وَتِلكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَينَ ٱلنَّاسِ»(4)، وقال سبحانه: «كُلّا نُّمِدُّ هَٰٓؤُلَآءِ وَهَٰٓؤُلَآءِ مِن عَطَآءِ رَبِّكَۚ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحظُورًا»(5).

من هنا يلزم أن لا يتوقع الإنسان أن تكون قدرات الدنيا بيده، وهو لم يقدم عملاً لذلك، فكل من يسعى ويبذل الجهود فإن النصر والفلاح سوف يكون من نصيبه، وإن تقاعس عن الذهاب إلى الحرب وتخاذل في صد العدو فإن الهزيمة والانكسار سوف تكون من نصيبه والنصر لأعدائه.

من أعان ظالماً سلطه اللّه عليه

قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «من أعان ظالماً سلطه اللّه عليه»(6).

ص: 25


1- سورة آل عمران، الآية: 140.
2- أما التعبير بالنسبة إلى المشركين فهو من باب المماثلة والتشاكل الذي عبر به بالنسبة على المسلمين.
3- سورة النجم، الآية: 39.
4- سورة آل عمران، الآية: 140.
5- سورة الإسراء، الآية: 20.
6- الخرائج والجرائح 3: 1058.

ذكر في الإذاعات العالمية: إن الشاه المخلوع(1) ذهب إلى أنور السادات حاكم مصر، ظاناً بأنه سيرجع إلى عرشه ومنصبه،ولكنه واهم في ذلك؛ فكما أن الإنكليز قد قتلوا أباه من قبل فإنهم سيقتلونه أيضاً(2).

وقصة قتل أبيه رضا خان(3) معروفة، حيث إن الإنكليز في بداية الأمر عزلوه من السلطة لكونهم هم الذين جاءوا به إلى الحكم. وإني أتذكر يوم عزله حيث كان ذلك أثناء الحرب العالمية الثانية، فعزلوه عن منصبه وأرسلوه إلى جزيرة موريس(4)، وكان ذلك جزاءً منهم لخدماته الكثيرة لهم، والتي لا تعد ولا تحصى، ابتداءً من جعل ثروات إيران بين أيديهم، ومحاربة الإسلام وتخريب المساجد وتشجيعه النساء على خلع الحجاب، بل فرضه عليهن ذلك، وانتهاءً بمحاربة العلماء الأعلام وزجهم في السجون وممارسة أبشع أنواع التعذيب بحقهم، وإدخال الكثير منالعملاء والجواسيس الأجانب وتوطينهم في البلاد، بالإضافة إلى الخدمات الأخرى غير ذلك، ولكن كانت نتيجتها أن يموت شر ميتة وفي أسوأ مكان! حقاً إن: «من أعان ظالماً سلطه اللّه عليه».

وهذه سنة الحياة، فإذا رأيت مثلاً عقرباً يتوجه نحو إنسان، فلا بد أن تسعى لقتل ذلك العقرب، فإذا لم تتحرك لإنقاذ ذلك الإنسان وقتل العقرب، فسوف يأتي عقرب آخر ويقتلك.

يذكر أنه بسبب رداءة الهواء وتلوث المياه، تمرض رضا خان مرضاً شديداً، وطلب من أسياده الإنكليز أن يهيئوا له طبيباً لمعالجته، لكنهم لم يوافقوا على

ص: 26


1- محمد رضا بهلوي إمبراطور إيران السابق.
2- وهكذا كان حيث قتلوه تحت غطاء عملية جراحية، ولم يقدروا له ما قدم لهم من خدمات طيلة حكمه.
3- رضا بهلوي (1878-1944م) شاه إيران.
4- جزيرة تقع في المحيط الهندي شرقي مدغشقر.

طلبه بل تركوه منبوذاً مطروداً، حتى جاء أمر من رئيس وزراء بريطانيا (تشرشل)(1) إلى ممثله في الجزيرة بأن يرسلوا إليه طبيباً ليزرقه إبرة الموت، وذلك بعدما ترجى ولده من الحكومة البريطانية بأن يرفقوا بهويرسلوه إلى موسكو ليقضي آخر أيام حياته هناك، ولكن تشرشل لم يوافق على ذلك، بل أرسل له الطبيب لينهي حياته تلك الحياة التي جعلها في خدمة من قتله، وتناقلت الصحف العالمية ذلك الخبر.

وهذا العمل يفعلونه مع أي عميل لهم بعد أن تنفذ طاقته ويعد غير ذي فائدة لهم؛ لأن غايتهم النهب والاستغلال والتوسع.

ثم إن الحكومات الاستعمارية متشابهة في مكرها وفسادها، وظلمها وسلبها لحقوق الشعوب، مهما تبدلت الألوان والشخصيات والأسماء، بل هم حقيقة واحدة بشخصيات متعددة.

فلا تتصور أن كذب ومكر الأعداء يقل شيئاً بتبدّل الأشخاص والمناصب، فإن الكلام كثيراً ما يختلف عن واقع الأمر وحقيقته، والسياسة الاستعمارية الظالمة التي تنتهجها تلك الأنظمة الفاسدة هي المؤثرة في الواقع.

فترى م-ن أعمالهم الإجرامي-ة أنهم كان-وا يقتلون مناوئيهم ف-ي(بنما) - مثلاً - وذلك بأن يقولوا لطبيب ما: اذهب إلى هذا الشخص وأعطه الدواء الفلاني، حيث يتصور فيه علاجه، وإذا فيه هلاكه، ثم ينشر خبراً بأنه أصيب بمرض السرطان وتوفي بسببه.

دروس وعبر

اليوم، أمامنا عدو شرس الطباع، وعلينا أن نكون واعين حذرين، وأن نعرف

ص: 27


1- ونستون تشرشل (1874- 1965م) السير ونستون ليونارد سبنسر، سياسي ورجل دولة.

الأفضل للمواجهة، وفي مثل زماننا تكون المواجهة عبر الطرق السلمية وتثقيف الشعب وما أشبه.

إن العدو الذي نواجهه اليوم، هو الاستعمار.

إنها الدول الاستعمارية التي تريد أن تقضي على كل أثر للإسلام، بل تريد الوقوع بنا والنيل من كرامتنا وديننا، فعلينا أن نعرف عدونا بشكل كامل، وأن نقف أمام مؤامراته وحيله بكل قوة وصلابة بالطرق السلمية المشروعة؛ إذ أن لهؤلاء أياد خبيثة يرسلونها إلى كل المناطق لينشروا أفكارهم ومخططاتهم الخطيرة.

مما يلزم على جميع المسلمين أن يعرفوا ما يدور حولهم، وأنيكونوا عارفين بزمانهم، فإن الجاهل بزمانه تهجم عليه اللوابس على عكس العالم بزمانه كما في الحديث الشريف(1).

ومن الاستطراد: أن نقول: إنه يلزم على غير العرب من المسلمين تعلم اللغة العربية بإتقان، وعليهم أن يسعوا في ذلك عبر مناهج في المدارس وغيرها؛ لأن حولنا عشرات بل المئات من الإذاعات والصحف العربية وغيرها من وسائل الإعلام، فإن في هذه الصحف والإذاعات والمجلات الكثير من المطالب والمواضيع المهمة، التي يلزم على المسلم أن يعرفها ويطلع عليها، سواء عبر الإذاعة أو عن طريق الصحف والمجلات، فيلزم على غير العرب من المسلمين أن يهتموا بتعلم اللغة العربية، قراءةً وكتابةً وتلفظاً وبإتقان. وأن يجعلوا ذلك جزءاً من اهتماماتهم اليومية؛ فإنهم إذا تعلموا اللغة العربية فسوف يفهمون القرآن بسهولة، وهكذا (نهج البلاغة) للإمام أمير المؤمنين(علیه السلام)، وسائر الرواياتالشريفة.

وهكذا سوف يدركون ما يدور حولهم وهذا مما يوجب الوعي السياسي للإنسان.

ص: 28


1- انظر الكافي 1: 27. وفيه: «والعالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس».

بالإضافة إلى ذلك كله علينا أن نأخذ حذرنا من أعدائنا الذين يتسللون وينفذون إلى مجتمعاتنا في كل مجال من مجالات الحياة، فترى اليوم(1) في أفغانستان التي تخضع للقوات السوفيتية المحتلة، الكثير من الأفغانيين يُقتلون في المناطق المحررة من قبل أيادي الاحتلال، فيكف استطاع هؤلاء الروس أن يتسللوا أو يرسلوا عملاءهم إلى المناطق المحررة؟

وقبل مدة جاءني رجل من الاتحاد السوفيتي عبر الحدود مع إيران وبكل صعوبة، فقال: إن هناك الكثير من عملاء الروس يدخلون إيران عبر الحدود دون علم أحد، ويحملون معهم الأسلحة، ويأتون بالإعلانات والنشرات التبليغية أيضاً،ولكن في المقابل حدودهم مغلقة أمامنا، فلا نستطيع الذهاب إلى طرفهم؛ لكونهم قد وضعوا مراقبة مكثفة على الحدود مع إيران ومع كل من يجاورهم، عبر نصب الأسلاك الشائكة، وجدار حديدي وأبراج للمراقبة، وعدد كبير من رجال الحدود أيضاً. ولقد شيّد ستالين(2) هذا الجدار المذكور على طول الحدود السوفيتية مع البلدان الأخرى؛ لكي لا يدخل أحد في أراضيهم، ولا يستطيع آخر الهروب والفرار منهم، فإنه إذا دخل شخص في بلادهم وأراضيهم سوف لا يرى إلّا الجحيم والاختناق وهذا يوجب تشويه سمعتهم، وإذا خرج شخص منهم سوف يرى - ولو نسبياً - الحرية والنور والإنسانية والكرامة الموجودة للإنسان خارج بلاده، ويعلم بأنه في بلاده لم يمتلك حتى الرغيف ولا أبسط شيء من الحرية؛ ولذلك لو دخل شخص في بلادهم يجعلونه تحت المراقبة الأمنية المشددة، حتى أن البعض عندما ينزلفي فنادقهم فإنهم يراقبونه عبر الوسائل

ص: 29


1- يعود تاريخ كتابة هذه الأسطر إلى ما قبل سقوط الاتحاد السوفيتي.
2- جوزيف ستالين (1879- 1953م) سياسي روسي.

الخاصة لاستراق السمع وما أشبه في أموره كلها.

فنحن المسلمين يجب علينا أن نأخذ الحذر من أعدائنا، وأن نحفظ بلداننا الإسلامية من كيد الأعداء وتسللهم، ولا بد أن نضعهم تحت المراقبة كما هم يضعوننا تحت المراقبة الشديدة، إن الأعداء يحيطون بنا من كل جانب ومكان، فهذا الطاغية صدام وحزبه الكافر، وغيره من عملاء الإمبريالية العالمية قد سيطروا على الشعوب المسلمة بإسناد من الاستعمار.

وكما هو المعروف فإن عفلق، وبيغن رئيس الحكومة الإسرائيلية، كانا زميلين في صف دراسي واحد وذلك في فرنسا، وعفلق هو الذي أختار أحمد حسن البكر لرئاسة الحكومة، فأحمد حسن البكر وليد الإسرائيليين وأصله يهودي؛ اسم جده الحقيقي هو (ساسون حسقيل)، وأظهر الإسلام قبل سنين، ولما أسلم وضعوا له أسم (البكر). ولما جاءه ولد سماه حسن، وسميابن حسن (أحمد).

وبعده جاءوا بعميل آخر اسمه (صدام) الذي كان أبوه موظفاً في السفارة البريطانية ببغداد، وبعض البغداديين يعرفون ذلك، وربما لا يعرف عن نسبه وأصله شيء يذكر، ولكن المعروف ارتباط أبيه بالسفارة البريطانية.

لهذا اتفقت إنكلترا وإسرائيل على أن يأتوا بصدام على رأس الحكم، فالحكومة البعثية في العراق وليدة الغرب والصهيونية العالمية.

الاستعمار في بلاد الإسلام

اشارة

قال تعالى: «إِنَّمَا ٱلمُشرِكُونَ نَجَس»(1)، والنَجَس كما قال أهل اللغة: أشد من (النَّجِس) بالكسر، فإن (النَجِس) بالكسر هو: الخبثَ الذي قد يطرأ على الإنسان، ويمكن إزالته بالماء أو غيره.

ص: 30


1- سورة التوبة، الآية: 28.

بينما (النَجَس) بالفتح لا يمكن تطهيره إلّا بقلبه إلى حالة أخرى.

فإن النجاسة الموجودة في الكافر نجاسة ذاتية وليست عرضية، ولا يمكن تطهيرها إلّا بقلبه إلى الإيمان، وذلك كالغدة أو الميكروب السرطاني إذا دخل عضواً في جسد الإنسان، فإنه سوف يشل حركته كاملاً.

وكذلك هي الجراثيم الاستعمارية، فإنها تفسد جسداً كاملاً من المسلمين عندما تدخل فيهم، فنرى أن أحمد حسن البكر كيف ينشر الفساد والقتل في أمة كاملة، وهكذا صدام الطاغوت.

لقد جاؤوا بشعارات براقة مثل: (نحن حماة الفلاحين)، (نحن إلى جانب العمال والكادحين)، (جئنا لإنقاذ الفقراء)، وإلى غير ذلك من الشعارات الفارغة، ولكن الواقع العلمي هو تدمير الأمة بكاملها.

قصة من الواقع

وبالمناسبة نذكر قصة، تبيّن كذب تلك الشعارات والادعاءاتالتي يطلقها من يدّعون أنهم حماة الفلاحين والعمال:

كان أحد العلماء الفضلاء يأتي إلى كربلاء المقدسة من مدينة طهران، ويرتقي المنبر إذ كان خطيباً رائعاً إلى جانب تفوقه العلمي، وفي كربلاء كانت لقاءاتي به غير قليلة لما توطد بيننا من العلاقة المتينة والود المتبادل.

في أحد الأيام قال لي: كان ابن أخي شيوعياً يحب الماركسية والفكر الشرقي، فكان يأتي إلى بيتنا ويجلس معنا، فنتحاور طويلاً في الفكر الشيوعي، وكان يقول: الطريق الوحيد للنجاة من الاستعمار البريطاني الخبيث، هو التمسك بالفكر الشيوعي والسعي إلى تطبيقه.

فالعامل والفلاح والفقير هو كل شيء في الفكر الشيوعي، وكان ابن أخي طالباً جامعياً، وكانت مباحثاتنا تدوم طويلاً، حتى أننا في أحد الأيام كنا جالسين على

ص: 31

مائدة الطعام، وكان يصر على كلامه، وفجأة تأثر نفسياً وثارت أعصابه، فأخذ يشتمنا ويقول: أنتمطلبة رجعيون، ولا تفهمون شيئاً أبداً، ثم خرج من البيت.

ومن قبل كان يقول: إن عدد المسئولين لدينا ثلاثة، وكان يكثر من مدحهم، ناعتاً إياهم بأنهم هم الذين يفهمون الحياة جيداً، وأنهم أصحاب العلم والمعرفة، وأنهم تقدميون ومتحضرون. وعلى كل حال، كان كلامه ككلام سائر المغرورين المخدوعين من الشيوعية الذين يتلقون أفكار الشرق.

وفي أحد الأيام وبعد الظهر بالضبط، كنا نائمين وإذا بالباب يُطرق بشدة، أسرعت إلى الباب وقلت في نفسي: لعله شخص جاء للكيد بنا، ولكن ولدي فتح الباب، فإذا بابن أخي لدى الباب، وقد كان مضطرباً ومرهقاً جداً، ودقات قلبه تدق بسرعة، والاحمرار بادٍ في وجهه، وقد انتفخت أوداجه!

دخل في البيت وجلس في الغرفة، وكلما كنا نريد التحدث معه لم يقو على ذلك، إذ لم يستطع الكلام أبداً.

قلنا له: ما الخبر؟ هل ضربك أحد؟ هل أصبت برصاصة فيجسدك؟

ولكنه لم يرد جواباً على إحدى الأسئلة التي طرحناها.

وبعد استراحة دامت نصف ساعة، قال: يا عم، إني أعتذر إليك كثيراً، وأطلب منك أن تسامحني على الكلام السيئ الذي صدر مني؛ يا عم كلامك الذي كنت تقوله لي، والنصائح التي كنت تبديها كلها صحيحة.

فقلت له: وكيف!

قال: اليوم وعند الصباح كانت عندنا جلسة، وكان الحاضرون فيها هم النواة الأساسية للحزب الشيوعي في إيران، وكان الحديث في المصير النهائي لأفراد الحزب في إيران، بأنه إذا واجهتهم الحكومة بالقوة والسلاح، كيف يقفون أمامها، وفرزت الآراء من المجتمعين وكانت الآراء ما بين 10- 12 رأياً.

ص: 32

وقد قررت الهيئة المركزية للحزب أن نخرج إلى الشوارع، ونقاتل حتى آخر نفس؛ لأننا أصحاب مبادئ، ولا نتنازل عنعقيدتنا حتى الموت. ثم صار الكلام الأخير للمسئولين الأساسيين (القيادة المركزية للحزب) وكانوا ثلاثة أشخاص، أحدهم كان سكرتير الحزب الشيوعي، والآخر أمين الصندوق، والثالث كان المسئول الرئيسي للتنظيم، هؤلاء الثلاثة قالوا: إذا وصلت المرحلة إلى الشدة والخطورة على أفراد حزبنا، فعلينا في ذلك الوقت أن نلجأ إلى السفارة البريطانية، ونطلب منها حق اللجوء السياسي!

فقلت لهم: إن السفارة البريطانية عدوة لنا. فقال المسئول الأول: أبداً، ليس هناك عداوة بيننا وبين السفارة الإنجليزية، بل إن سياستها في هذه الحالة تقتضي مهادنتنا واحتضاننا.

فخرجنا من البيت الذي كنا مجتمعين فيه لنذهب إلى السفارة الإنجليزية، وفي الطريق عرفت بأن رئيس الحزب له ارتباطات وثيقة بالسفارة الإنجليزية، لا كما كنت أظن في السابق بأن المسئولين حماة الفلاحين والعمال والكادحين، وأدركت بأنخلاص شعبنا ليس بيد هؤلاء المرتبطين بالاستعمار الغربي، بل أن خلاصنا هو في الرجوع إلى الإسلام والتمسك به كاملاً. فانفصلت عنهم وتركتهم لشأنهم، وجئت مسرعاً إليكم معترفاً بخطئي والاعتذار منكم.

التوعية والأسوة

اشارة

إن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أسوة للبشرية في جميع مجالات الحياة، لا في ما يرتبط بالحرب ومواجهة الأعداء، بل حتى في صغريات الحياة الشخصية والأسرية والاجتماعية وغيرها.

قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «خمس لا أدعهن حتى الممات؛ الأكل على

ص: 33

الحضيض مع العبيد، وركوبي الحمار مؤكفاً(1)، وحلب العنز بيدي ولبس الصوف، والتسليم على الصبيان لتكون سنة من بعدي»(2).وكان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يرقّع ثوبه، ويخصف نعله، ويحلب شاته، ويأكل مع العبيد، ويجلس على الأرض، ويركب الحمار ويردف، ولا يمنعه الحياء أن يحمل حاجته من السوق إلى أهله، ويصافح الغني والفقير، ولا ينزع يده من يد أحد حتى ينزعها، ويسلم على من استقبله من كبير وصغير وغني وفقير، ولا يحقر ما دُعي إليه ولو إلى حشف التمرة، وكان خفيف المؤنة، كريم الطبيعة، جميل المعاشرة، طلق الوجه، بشاشاً من غير ضحك، محزوناً من غير عبوس، متواضعاً من غير مذلة، جواداً من غير سرف، رقيق القلب، رحيماً بكل مسلم، ولم يتجشأ من شبع قط، ولم يمد يده إلى طمع، وكفاه مدحاً قوله تعالى: «وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ»(3).

الشباب والتأسي

قال أمير المؤمنين(علیه السلام): «إنما قلب الحدث كالأرض الخالية، مهماألقي فيها من كل شيء قبلته»(4)، يلزم على الشباب أن يدرسوا تاريخ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بدقة فائقة ليتأسوا به، فإنه خير أسوة لهم، ولكن بعض الشباب المسلم اليوم على حالة من الغرور والانخداع، فهم لا يعرفون الحقيقة ولا يعلمون بالأسوة التي ينبغي التأسي بها أبداً، الأمر الذي يحملنا المسؤولية كاملة من أجل توضيح الحقائق لهم، وإزالة الشبهات التي أودت بحياة الكثيرين وحطمت شخصياتهم؛ فلذا

ص: 34


1- الأكاف والوكاف: البردعة، وهي كساء يلقى على ظهر الدابة.
2- الخصال 1: 271.
3- سورة القلم، الآية: 4.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 275.

علينا أن ننشر المعارف الإسلامية الصحيحة، المستلهمة من القرآن والسنة المطهرة، المتمثلة بتعاليم ونهج أهل البيت(علیهم السلام)، لغرض توعية أبناء الأمة، ونشر سيرة الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله)، وطريقة تعامله مع الناس، وكيف أرسى دعائم الإسلام، ونعرّفهم بمحاسن أخلاقه(صلی الله علیه و آله)، وتصرفاته السياسية والاجتماعية؛ ليكون هو أسوتنا وقائدنا الأول في مسيرة هذه الحياة، لا الاستعمار وعملاءهم، ولقد قال تعالى: «لَّقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَة لِّمَن كَانَ يَرجُواْ ٱللَّهَوَٱليَومَ ٱلأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرا»(1).

التأسي بالعترة الطاهرة

ومن بعد الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) علينا أن نتأسى بمشاعل الهداية، ومصابيح الدجى الأئمة المطهرين(علیهم السلام)؛ فقد ورد عن أبي جعفر(علیه السلام): «أما إنه ليس عند أحد علم، ولا حق، ولا فتيا، إلّا شيء أخذ عن علي بن أبي طالب(علیه السلام) وعنا أهل البيت(علیهم السلام)، وما من قضاء يقضى به بحق وصواب إلّا بدء ذلك ومفتاحه وسببه وعلمه من علي(علیه السلام) ومنا، فإذا اختلف عليهم أمرهم قاسوا وعملوا بالرأي، وكان الخطأ من قبلهم إذا قاسوا، وكان الصواب إذا اتبعوا الآثار من قبل علي(علیه السلام)»(2).

التنظيم

ويلزم علينا أن نوجد حالة التنظيم الواقعي والكامل في جميع شؤون الحياة، مستلهماً ذلك عن سيرة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وسياستهالناجحة، ومتأسياً به في ذلك.

وقد قال أمير المؤمنين(علیه السلام): «أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي، بتقوى اللّه ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم...»(3).

ص: 35


1- سورة الأحزاب، الآية: 21.
2- بحار الأنوار 2: 95.
3- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 47 من وصية له(علیه السلام) للحسن والحسين(علیهما السلام).

وهنا تقع المسؤولية على رجل الدين وطلبة العلم - بالدرجة الأولى - في أن يكون المحور الأساسي في إنارة الأفكار والرؤى للآخرين، وبعث الحياة في نفوس الشباب وتوجيههم نحو الوجهة الصحيحة، وأن تكون الحوزة العلمية مركز بعث النور والصلاح والإيمان والتأسي بالرسول(صلی الله علیه و آله) إلى كافة شعوب العالم.

وعلينا أن لا نغفل ولا نتكاسل، ولا نشعر بالتعب والأذى في طريق الحق؛ ونتجنب المنى والكسل، فقد ورد عن أبي عبد اللّه(علیه السلام) قال: «تجنبوا المنى؛ فإنها تذهب بهجة ما خولتم، وتستصغرونبها مواهب اللّه تعالى عندكم، وتعقبكم الحسرات في ما وهّمتم به أنفسكم»(1).

وعن أبي جعفر(علیه السلام) قال: «إني لأبغض الرجل - أو أبغض للرجل - أن يكون كسلاناً عن أمر دنياه، ومن كسل عن أمر دنياه فهو عن أمر آخرته أكسل»(2).

كما أن على الإنسان أن يكون صبوراً متحملاً للمشاكل، وأن لا يتصور أنه هو الوحيد الذي يُبتلى، فإن غيره أيضاً يبتلى سواء كان الغير من أهل الحق أو الباطل، يقول اللّه سبحانه وتعالى: «إِن يَمسَسكُم قَرح فَقَد مَسَّ ٱلقَومَ قَرح مِّثلُهُۥۚ وَتِلكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَينَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُم شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ»(3).

«الحمد للّه الّذي يفعل ما يشاء ولا يفعل ما يشاء غيره، الحمد للّهكما يحبّ اللّه أن يحمد، الحمد للّه كما هو أهله، اللّهمّ أدخلني في كلّ خيرٍ أدخلت فيه محمّداً وآل محمّدٍ، وأخرجني من كلّ سوءٍ أخرجت منه محمّداً وآل محمّدٍ،

ص: 36


1- الكافي 5: 85.
2- الكافي 5: 85.
3- سورة آل عمران، الآية: 140.

وصلّى اللّه على محمّدٍ وآل محمّدٍ»(1).

من هدي القرآن الحكيم

حسن الخلق

قال تعالى: «فَبِمَا رَحمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۖ وَلَو كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلقَلبِ لَٱنفَضُّواْ مِن حَولِكَۖ فَٱعفُ عَنهُم وَٱستَغفِر لَهُم وَشَاوِرهُم فِي ٱلأَمرِۖ»(2).

وقال سبحانه: «إِنِّي لَكُم رَسُولٌ أَمِين * فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسَٔلُكُم عَلَيهِ مِن أَجرٍۖ إِن أَجرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ ٱلعَٰلَمِينَ»(3).

وقال جلّ وعلا: «وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ»(4).

معاشرة الناس

قال تعالى: «وَٱعبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشرِكُواْ بِهِۦ شَئاۖ وَبِٱلوَٰلِدَينِ إِحسَٰنا وَبِذِي ٱلقُربَىٰ وَٱليَتَٰمَىٰ وَٱلمَسَٰكِينِ وَٱلجَارِ ذِي ٱلقُربَىٰ وَٱلجَارِ ٱلجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلجَنۢبِ وَٱبنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَت أَيمَٰنُكُمۗ»(5).

وقال سبحانه: «وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسنا»(6).

وقال عزّ وجلّ: «نَحنُ قَسَمنَا بَينَهُم مَّعِيشَتَهُم فِي ٱلحَيَوٰةِ ٱلدُّنيَاۚ وَرَفَعنَا بَعضَهُم فَوقَ بَعضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعضُهُم بَعضا سُخرِيّاۗ وَرَحمَتُ رَبِّكَ خَير مِّمَّا يَجمَعُونَ»(7).

ص: 37


1- الكافي 2: 529.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.
3- سورة الشعراء، الآية: 107- 109.
4- سورة القلم، الآية: 4.
5- سورة النساء، الآية: 36.
6- سورة البقرة، الآية: 83.
7- سورة الزخرف، الآية: 32.

وق-ال ج-لّ وعلا: «وَٱصبِر نَفسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدعُونَ رَبَّهُم بِٱلغَدَوٰةِ وَٱلعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجهَهُۥۖ وَلَا تَعدُ عَينَاكَ عَنهُم تُرِيدُ زِينَةَ ٱلحَيَوٰةِ ٱلدُّنيَاۖ وَلَا تُطِع مَن أَغفَلنَا قَلبَهُۥ عَن ذِكرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمرُهُۥ فُرُطا * وَقُلِ ٱلحَقُّ مِن رَّبِّكُمۖ فَمَن شَآءَ فَليُؤمِن وَمَن شَآءَ فَليَكفُرۚ إِنَّآ أَعتَدنَا لِلظَّٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِم سُرَادِقُهَاۚ وَإِن يَستَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٖ كَٱلمُهلِيَشوِي ٱلوُجُوهَۚ بِئسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَت مُرتَفَقًا»(1).

العطف على المساكين

قال عزّ وجلّ: «وَإِذَا حَضَرَ ٱلقِسمَةَ أُوْلُواْ ٱلقُربَىٰ وَٱليَتَٰمَىٰ وَٱلمَسَٰكِينُ فَٱرزُقُوهُم مِّنهُ وَقُولُواْ لَهُم قَولا مَّعرُوفا»(2).

وقال جلّ وعلا: «وَءَاتِ ذَا ٱلقُربَىٰ حَقَّهُۥ وَٱلمِسكِينَ وَٱبنَ ٱلسَّبِيلِ»(3).

وقال سبحانه: «وَإِذ أَخَذنَا مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسرَٰٓءِيلَ لَا تَعبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ وَبِٱلوَٰلِدَينِ إِحسَانا وَذِي ٱلقُربَىٰ وَٱليَتَٰمَىٰ وَٱلمَسَٰكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسنا»(4).

العدل بين الناس

قال عزّ وجلّ: «إِنَّ ٱللَّهَ يَأمُرُ بِٱلعَدلِ وَٱلإِحسَٰنِ»(5).وقال تعالى: «لَقَد أَرسَلنَا رُسُلَنَا بِٱلبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلنَا مَعَهُمُ ٱلكِتَٰبَ وَٱلمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلقِسطِۖ»(6).

وقال سبحانه: «وَأُمِرتُ لِأَعدِلَ بَينَكُمُۖ»(7).

ص: 38


1- سورة الكهف، الآية: 28-29.
2- سورة النساء، الآية: 8.
3- سورة الإسراء، الآية: 26.
4- سورة البقرة، الآية: 83.
5- سورة النحل، الآية: 90.
6- سورة الحديد، الآية: 25.
7- سورة الشورى، الآية: 15.

وقال جلّ وعلا: «وَإِذَا قُلتُم فَٱعدِلُواْ وَلَو كَانَ ذَا قُربَىٰۖ»(1).

من هدي السنّة المطهّرة

حسن الخلق

قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(2).

وقال(صلی الله علیه و آله): «إنما أنا عبد آكل بالأرض، وأعقل البعير، وألعق أصابعي، وأجيب دعوة المملوك، فمن يرغب عن سنتي فليس مني»(3).وقال أمير المؤمنين(علیه السلام): قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «أنا أديب اللّه وعلي(علیه السلام) أديبي، أمرني ربي بالسخاء والبر، ونهاني عن البخل والجفاء، وما شيء أبغض إلى اللّه عزّ وجلّ من البخل وسوء الخلق»(4).

معاشرة الناس

قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «رأس العقل بعد الإيمان باللّه التحبب إلى الناس»(5).

وقال(صلی الله علیه و آله):­ «أجيبوا الداعي، وعودوا المريض، وأقبلوا الهدية، ولا تظلموا المسلمين»(6).

وقال(صلی الله علیه و آله): «ثلاث يصفين ود المرء لأخيه المسلم: يلقاه بالبشر إذا لقيه، ويوسع له في المجلس إذا جلس إليه، ويدعوه بأحب الأسماء إليه»(7).وقال أمير المؤمنين(علیه السلام): «كان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أجود الناس كفاً، وأكرمهم

ص: 39


1- سورة الأنعام، الآية: 152.
2- بحار الأنوار 16: 210.
3- تنبية الخواطر ونزهة النواظر 1: 211.
4- مكارم الأخلاق: 17.
5- روضة الواعظين 1: 3.
6- الأمالي للشيخ الطوسي: 639.
7- الكافي 2: 643.

عشرة، من خالطه فعرفه أحبه»(1).

العطف على المساكين والفقراء

قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «نور الحكمة الجوع، والتباعد من اللّه الشبع، والقربة إلى اللّه حب المساكين والدنو منهم»(2).

وقال(صلی الله علیه و آله): «ألا ومن استخف بفقير مسلم فقد استخف بحق اللّه، واللّه يستخف به يوم القيامة إلّا أن يتوب»(3).

وقال(صلی الله علیه و آله): «من أكرم فقيراً مسلماً لقي اللّه يوم القيامة وهو عنه راض»(4).

ومن وصية رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لأبي ذر(رحمة الله): «عليك بحب المساكينومجالستهم»(5).

وقال(صلی الله علیه و آله): «صل قرابتك وإن قطعوك، وأحب المساكين وأكثر مجالستهم»(6).

وقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «من استذل مؤمناً أو حقره لفقره أو قلة ذات يده، شهره اللّه يوم القيامة ثم يفضحه»(7).

العدل بين الناس

قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «سيد الأعمال: إنصاف الناس من نفسك، ومواساة الأخ في اللّه، وذكر اللّه عزّ وجلّ على كل حال»(8).

ص: 40


1- مكارم الأخلاق: 17.
2- مكارم الأخلاق: 149.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 429.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 429.
5- معاني الأخبار: 335.
6- الأمالي للشيخ الطوسي: 541.
7- عيون أخبار الرضا(علیه السلام) 2: 33.
8- الكافي 2: 145.

وقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «ثلاث خصال من كن فيه استكمل الإيمان: إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل، وإذا غضب لميخرجه الغضب من الحق، وإذا قدر لم يتعاط ما ليس له»(1).

وقال(صلی الله علیه و آله): «عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة، قيام ليلها وصيام نهارها»(2).

وقال(صلی الله علیه و آله) في وصية له لأمير المؤمنين(علیه السلام): «يا علي، ما كرهته لنفسك فاكره لغيرك، وما أحببته لنفسك فأحببه لأخيك، تكن عادلاً في حكمك، مقسطاً في عدلك، محباً في أهل السماء، مودوداً في صدور أهل الأرض...»(3).

ص: 41


1- الكافي 2: 239.
2- مشكاة الأنوار: 316.
3- تحف العقول: 14.

البعثة النبوية الشريفة والدين الإسلامي

البعثة المباركة

مِن أكبر نعم اللّه تعالى علينا بل على البشرية جمعاء، أن بعث اللّه فينا رسوله محمد بن عبد اللّه(صلی الله علیه و آله)، ولولا هذه البعثة المباركة، لما بقي من الإنسانية شيء، ولا بقي من القيم والآداب والمُثُل شيء، وقد جاءت البعثة الشريفة في الوقت المناسب والمكان المناسب والشخص المناسب. حيث بعث اللّه عزّ وجلّ أفضل خلقه محمدا(صلی الله علیه و آله) رحمةً للناس أجمعين، وذلك في ليلة 27 من شهر رجب في مكة المكرمة بغار حراء.

قال عزّ وجلّ: «لَقَد مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلمُؤمِنِينَ إِذ بَعَثَ فِيهِم رَسُولا مِّن أَنفُسِهِم يَتلُواْ عَلَيهِم ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلكِتَٰبَ وَٱلحِكمَةَ وَإِن كَانُواْ مِنقَبلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ»(1).

وعن أبي عبد اللّه(علیه السلام) قال: إن بعض قريش قال لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله): بأي شي ء سبقت الأنبياء وفُضّلت عليهم وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟

قال: إني كنت أولّ من أقرّ بربي جلّ جلاله، وأول من أجاب حيث أخذ اللّه ميثاق النبيين وأشهدهم على أنفسهم ألستُ بربكم قالوا بلى، فكنتُ أول نبي قال بلى، فسبقتهم إلى الإقرار باللّه عزّ وجلّ»(2).

ص: 42


1- سورة آل عمران، الآية: 164.
2- علل الشرائع 1: 124.

أفضلية الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله)

اشارة

في الإختصاص: عن صفوان الجمال عن أبي عبد اللّه(علیه السلام) قال: قال لي: «يا صفوان هل تدري كم بعث اللّه من نبي؟»

قال: قلت: ما أدري.قال: «بعث اللّه مائة ألف نبي وأربعة وأربعين ألف نبي(1) ومثلهم أوصياء، بصدق الحديث وأداء الأمانة والزهد في الدنيا، وما بعث اللّه نبياً خيراً من محمد(صلی الله علیه و آله) ولا وصياً خيراً من وصيه»(2).

وفي وصية النبي(صلی الله علیه و آله) لعلي(علیه السلام): «يا علي إن اللّه عزّ وجلّ أشرف على أهل الدنيا فاختارني منها على رجال العالمين، ثم اطلع الثانية فاختارك على رجال العالمين، ثم اطلع الثالثة فاختار الأئمة من ولدك على رجال العالمين، ثم اطلع الرابعة فاختار فاطمة على نساء العالمين»(3).

وقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «أنا سيد من خَلَقَ اللّه عزّ وجلّ، وأنا خير من جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وحملة العرش وجميع ملائكة اللّه المقربين وأنبياء اللّه المرسلين، وأنا صاحب الشفاعة والحوضالشريف، وأنا وعليٌ أبوا هذه الأمة، من عرفنا فقد عرف اللّه عزّ وجلّ، ومن أنكرنا فقد أنكر اللّه عزّ وجلّ، ومن عليٍ سبطا أمتي وسيدا شباب أهل الجنة الحسن والحسين، ومن وُلد الحسين تسعة أئمة طاعتهم طاعتي ومعصيتهم معصيتي تاسعهم قائمهم ومهديهم»(4).

وعن الحسين بن عبد اللّه قال: قلت لأبي عبد اللّه(علیه السلام): كان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)

ص: 43


1- عدد الأنبياء(علیهم السلام) حسب المشهور بين العلماء: 124000 نبي.
2- الإختصاص: 263.
3- من لا يحضره الفقيه 4: 374.
4- كمال الدين 1: 261.

سيد ولد آدم؟ فقال: «كان والله سيد من خلق اللّه، وما برأ اللّه بريةً خيراً من محمد(صلی الله علیه و آله)»(1).

وقال أبو عبد اللّه(علیه السلام): «أتى يهودي النبي(صلی الله علیه و آله) فقام بين يديه يحد النظر إليه، فقال(صلی الله علیه و آله): يا يهودي ما حاجتك؟

قال: أنت أفضل أم موسى بن عمران النبي الذي كلمه اللّه وأنزل عليه التوراة والعصا وفلق له البحر وأظله بالغمام؟فقال له النبي(صلی الله علیه و آله): إنه يكره للعبد أن يزكي نفسه ولكني أقول: إن آدم(علیه السلام) لما أصاب الخطيئة كانت توبته أن قال: اللّهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما غفرت لي، فغفرها اللّه له.

وإن نوحاً(علیه السلام) لما ركب في السفينة وخاف الغرق قال: اللّهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما أنجيتني من الغرق، فنجاه اللّه عنه.

وإن إبراهيم(علیه السلام) لما ألقي في النار قال: اللّهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما أنجيتني منها، فجعلها اللّه عليه برداً وسلاماً.

وإن موسى(علیه السلام) لما ألقى عصاه وأوجس في نفسه خيفة قال: اللّهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما أمنتني، فقال اللّه جلّ جلاله: لا تَخَفْ إنك أنت الأعلى، يا يهودي إن موسى لو أدركني ثم لم يؤمن بي وبنبوتي ما نفعه إيمانه شيئاً ولا نفعته النبوة.

يا يهودي ومن ذريتي المهدي إذا خرج نزل عيسى بن مريم لنصرته فقدمه وصلى خلفه»(2).

ص: 44


1- الكافي 1: 440.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 218.

المؤمنون ونصرة النبي(صلی الله علیه و آله)

قال تعالى: «ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكتُوبًا عِندَهُم فِي ٱلتَّورَىٰةِ وَٱلإِنجِيلِ يَأمُرُهُم بِٱلمَعرُوفِ وَيَنهَىٰهُم عَنِ ٱلمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ ٱلخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنهُم إِصرَهُم وَٱلأَغلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَت عَلَيهِمۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلمُفلِحُونَ»(1).

تبين هذه الآية الشريفة وظيفة المؤمنين تجاه بعثة الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) وشخصه الكريم الذي أحل لهم الطيبات وكان سبباً لهدايتهم إلى نور الإسلام، فمن اللازم عليهم أن ينصروه ويؤازروه.

قال سبحانه: «لَقَد جَآءَكُم رَسُول مِّن أَنفُسِكُم عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتُّم حَرِيصٌ عَلَيكُم بِٱلمُؤمِنِينَ رَءُوف رَّحِيم * فَإِن تَوَلَّواْ فَقُل حَسبِيَ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ عَلَيهِ تَوَكَّلتُۖ وَهُوَ رَبُّ ٱلعَرشِ ٱلعَظِيمِ»(2).

إن الناس إذا تولوا عن الرسول(صلی الله علیه و آله) وأعرضوا عنه، فإنهم قد أضروابأنفسهم، وخسروا الدنيا والآخرة، ولم يضروا النبي(صلی الله علیه و آله) شيئاً.

«لَقَد جَآءَكُم» أيها البشر، أو أيها المؤمنون «رَسُول مِّن أَنفُسِكُم» أي من جنس نفوسكم، وهو محمد(صلی الله علیه و آله).

وهذا تحريض لإتباعه والأخذ بأمره، حيث أنه من أنفسهم «عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتُّم» أي: صعب عليه عنَتَكم(3)، وما يلحق بكم من الضرر والأذى..

«حَرِيصٌ عَلَيكُم» أي على حفظكم وتقدمكم وسعادتكم، فلستم بهيّنين

ص: 45


1- سورة الأعراف، الآية: 157.
2- سورة التوبة، الآية: 128-129.
3- العَنَتُ: دُخُولُ المَشَقَّة على الإنسان، ولقاءُ الشدَّة؛ يقال: أَعْنَتَ فلانٌ فلاناً إِعناتاً، إِذا أَدْخَل عليه عَنَتاً أَي مَشَقَّةً.

عليه حتى لا يهمّه أمركم، ويُلقي بكم في المهالك اعتباطاً، فإذا أمركم بأمر فإن فيه سعادتكم وخيركم؛ لأنه جاء من المُشفق الحريص على شؤونكم، فهو «بِٱلمُؤمِنِينَ رَءُوف» والرأفة شدة الرحمة، وهو«رَّحِيم» للتأكيد وتفهيم من لا يفهممعنى الرؤوف، فهو وصف توضيحي من قبيل (سعدانة نبت)(1).

قال الصحابي الجليل جابر بن عبد اللّه الأنصاري: قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله):

«أنا أشبه الناس بآدم(علیه السلام)، وإبراهيم(علیه السلام) أشبه الناس بي خَلْقُه وخُلُقُه، وسمّاني اللّه عزّ وجلّ من فوق عرشه عشرة أسماء، وبين اللّه وصفي، وبشر بي على لسان كل رسول بعثه إلى قومه، وسماني ونشر في التوراة اسمي، وبثَّ ذكري في أهل التوراة والإنجيل وعلمني كتابه، ورفعني في سمائه، وشق لي اسماً من أسمائه: فسمّاني محمداً وهو محمود، وأخرجني في خير قرن من أمتي، وجعل اسمي في التوراة أحيد، وهو من التوحيد، فبالتوحيد حرَّم أجساد أمتي على النار، وسمّاني في الإنجيل أحمد، فأنا محمود في أهل السماء، وجعل أمتي الحامدين، وجعل اسمي في الزبور ماح، محا اللّه عزّ وجلّ بي من الأرض عبادة الأوثان، وجعل اسمي في القرآنمحمداً، فأنا محمود في جميع القيامة في فصل القضاء لا يشفع أحد غيري(2)، وسمّاني في القيامة حاشراً، يحشر الناس على قدميّ، وسمّاني المُوقِف، أوقف الناس بين يدي اللّه جلّ جلاله، وسماني العاقب أنا عَقِبُ النبيين، ليس بعدي رسول، وجعلني رسول الرحمة، ورسول التوبة، ورسول الملاحم، والمقفّى قفيت النبيين جماعةً، وأنا القيم الكامل الجامع، ومنَّ عليَّ ربي وقال: يا محمد صلى اللّه عليك قد أرسلت كل رسول إلى أمته بلسانها، وأرسلتك إلى كل أحمر

ص: 46


1- تفسير تقريب القرآن 2: 487.
2- أي بالشفاعة الكبرى.

وأسود من خلقي، ونصرتك بالرعب الذي لم أنصر به أحداً، وأحللت لك الغنيمة ولم تحل لأحد قبلك، وأعطيت لك ولأمتك كنزاً من كنوز عرشي، (فاتحة الكتاب) وخاتمة سورة البقرة، وجعلت لك ولأمتك الأرض كلها مسجداً، وترابها طهوراً، وأعطيت لك ولأمتك التكبير، وقرنت ذكرك بذكري حتى لا يذكرني أحد من أمتك إلّا ذكرك مع ذكري،طوبى لك يا محمد ولأمتك»(1).

وهكذا بعث رسول اللّه محمد(صلی الله علیه و آله) خاتم النبيين، فلا نبي بعده، قال تبارك وتعالى: «مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُم وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّۧنَۗ»(2). أي: آخرهم، فقد ختمت به النبوة، ولذا يلزم عليه أن يُبطل كل ما يخالف الصلاح العام، ويقدم برنامجاً متكاملاً لسعادة الإنسان إلى يوم القيامة، فإنه(صلی الله علیه و آله) ليس كسائر الأنبياء الذين تقدموا، فإن رسالتهم كانت مؤقتة ولكن رسالة نبي الإسلام(صلی الله علیه و آله) خالدة إلى يوم يبعثون.

وفعلاً قد بلّغ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) كل ما كان عليه أن يبلّغه، وختم الدين والإسلام وأكمله بولاية أمير المؤمنين علي(علیه السلام) حتى نزلت الآية الكريمة: «ٱليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُمنِعمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسلَٰمَ دِيناۚ»(3).

عن أبي جعفر الباقر(علیه السلام) أنه قال:

«لما حضر النبي(صلی الله علیه و آله) الوفاة نزل جبرئيل(علیه السلام)، فقال له جبرئيل: يا رسول اللّه، هل لك في الرجوع؟

قال: لا، قد بلغت رسالات ربي.

ص: 47


1- الخصال 2: 425.
2- سورة الأحزاب، الآية: 40.
3- سورة المائدة، الآية: 3.

ثم قال له: يا رسول اللّه، أتريد الرجوع إلى الدنيا؟

قال: لا بل الرفيق الأعلى.

ثم قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) للمسلمين وهم مجتمعون حوله: أيها الناس، إنه لا نبي بعدي، ولا سنة بعد سنتي، فمن ادعى ذلك فدعواه وبدعته في النار، ومن ادعى ذلك فاقتلوه ومن اتبعه، فإنهم في النار. أيها الناس، أحيوا القصاص، وأحيوا الحق، ولا تفرقوا، وأسلموا وسلموا تسلموا، «كَتَبَ ٱللَّهُ لَأَغلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِيٓۚ إِنَّٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز»»(1)(2).

وبالاضافة إلى كل تلك المقامات والصفات التي اتسم(صلی الله علیه و آله) بها في الحسابات الإلهية، فإنه يُعدّ في الحسابات الإنسانية أيضاً الشخص الأول في هذا الوجود، ويحتل موقع الصدارة، وقد شهد بذلك لسان الماضي والحاضر، وكذلك سيشهد له لسان المستقبل، ولا فرق في ذلك بين الأعداء والأصدقاء، وهذه هي نظرة غير المسلمين إليه أيضاً (صلوات اللّه وسلامه عليه)، إذ كتب رجل مسيحي عن ذلك فقال: إن الدنيا ولدت مائة وجه مضيء على رأس تلكم المائة نبي الإسلام محمد(صلی الله علیه و آله).

سبب شهرة نبي الإسلام(صلی الله علیه و آله)

اشارة

لقد قام رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بأهم أربعة أعمال، كانت بأعلى مستويات الإنجاز، ولعلها كانت هي السبب وراء شهرته بين الأمم واحترامهمله، فإنه(صلی الله علیه و آله) - وبغض النظر عن كونه خاتم الأنبياء(علیهم السلام) وهادي السبيل، والنبي المعصوم، وأفضل أهل الأرض، فإنه يعد أقدس شخصية يكنّ لها العالم المسلم وغير المسلم - من

ص: 48


1- سورة المجادلة، الآية: 21.
2- الأمالي للشيخ المفيد: 53.

المنصفين - كامل الاحترام والتبجيل، وذلك بسبب ما قدمه للعالم من عطاء باعث على الإجلال والتعظيم. أما تلك الأعمال الأربعة فهي:

أولاً: الإسلام والقرآن الكريم والعترة

اشارة

قال تبارك وتعالى: «وَمَآ أَرسَلنَٰكَ إِلَّا كَآفَّة لِّلنَّاسِ بَشِيرا وَنَذِيرا وَلَٰكِنَّ أَكثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعلَمُونَ»(1)

إن الإسلام والقرآن والعترة الطاهرة أفضل هدية قدمها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) للبشرية جمعاء.

إن الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله) هو النبي الوحيد الذي استطاع أن يوصل رسالته السمحاء لكل العالم.

وفضل هذه الرسالة وأهميتها قد لا يدركه الكثير من المسلمينإذ حالهم في ذلك كمثل سمكة صغيرة جاءت إلى سمكة كبيرة تسألها، أين الماء؟ في حين أنها تعيش في الماء، لكنها لم تعرف قدر الماء إلّا بعدما وقعت في شبك الصياد وألقاها خارج الماء.

ونحن المسلمين كذلك؛ لأننا منذ الولادة عشنا في أحضان الإسلام الحبيب، وأحضان القرآن الكريم الذي أنزل على النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله) وفي مدرسة أهل البيت(علیهم السلام) وسنبقى على الإسلام والإيمان إن شاء اللّه، حتى الرمق الأخير. لذا فإن العديد منا لايعرف قيمة هذا الدين العظيم، ولاقيمة هذا القرآن المجيد، ولاقدر هذا المذهب الحق الذي هدانا اللّه إليه، حق قدره وحق معرفته؛ ولذا تجد بعض المسلمين يشرق ويغرب في أفكاره ومبادئه، وربما يترك تعاليم هذا الدين القويم، ويترك معارف القرآن العظيم، مع أنه الأساس في بناء الحضارة الإسلامية

ص: 49


1- سورة سبأ، الآية: 28.

والعالمية، والتي أنقذت العالم والإنسانية من الويلات، ودفعته إلى التقدم الهائل في جميع أبعاد الحياة المختلفة، وهذا باعتراف الكثير من غيرالمسلمين أيضاً.

روايات حول القرآن

وقد ورد في فضل القرآن الكريم عن الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) قوله: «إن هذا القرآن مأدبة اللّه، فتعلموا مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل اللّه وهو النور البين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه»(1).

وقال أمير المومنين(علیه السلام): «وتعلموا القرآن، فإنه أحسن الحديث، وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور، وأحسنوا تلاوته فإنه أنفع القصص، وإن العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله، بل الحجة عليه أعظم، والحسرة له ألزم، وهو عند اللّه ألوم»(2).

وقال الإمام الرضا(علیه السلام):«هو حبل اللّه المتين، وعروته الوثقى وطريقته المثلى، المؤدي إلى الجنة، والمنجي من النار، لا يخلق علىالأزمنة، ولا يغث على الألسنة، لأنه لم يجعل لزمان دون زمان، بل جعل دليل البرهان، والحجة على كل إنسان، «لَّا يَأتِيهِ ٱلبَٰطِلُ مِنۢ بَينِ يَدَيهِ وَلَا مِن خَلفِهِۦۖ تَنزِيل مِّن حَكِيمٍ حَمِيدٖ»»(3)(4).

روايات حول العترة(علیهم السلام)

قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق»(5).

ص: 50


1- وسائل الشيعة 6: 168.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم110 من خطبة له(علیه السلام) في أركان الدين.
3- سورة فصلت، الآية: 42.
4- عيون أخبار الرضا(علیه السلام) 2: 130.
5- المسترشد في إمامة علي بن أبي طالب(علیه السلام): 260.

وقال(صلی الله علیه و آله): «إني تارك فيكم خليفتين: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»(1).

سر النجاح

نعم، إن القرآن والإسلام والعترة، هي التي أوجدت في المسلمين الروح المعنوية العالية، والإيمان باللّه واليوم الآخر،والخوف من النار والرغبة بالجنة، والترغيب والحث على التحلي بالأخلاق الحميدة.

وهي أول مبعث لانطلاق المسلمين، تلك الانطلاقة المذهلة التي اعترف الغرب والشرق بأنها كانت وراء النهضة العلمية في الغرب، وبأن المسلمين هم أساس العلم الحديث.

ولكن - ومع الأسف - نحن المسلمين تركنا الإسلام، وتركنا القرآن وتركنا العترة الطاهرة، وسيأتي يوم نندم على ذلك ولكن الوقت قد فات - لا سامح اللّه - وأن كل شيء قد انتهى.

وهذه الحقيقة قد يلمسها الإنسان عندما يصل به العمر إلى آخر مرحلة من مراحل حياته في هذه الدنيا، وحينها لا يفيد الندم، على ما ضيع أيام قوته وشبابه، فعن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أنه قال لابن مسعود: «يا ابن مسعود: أكثر من الصالحات والبر، فإن المحسن والمسيء يندمان، يقول المحسن: يا ليتني ازددت من الحسنات، ويقول المسيء قصّرت، وتصديق ذلك قوله تعالى: «وَلَآ أُقسِمُبِٱلنَّفسِ ٱللَّوَّامَةِ»»(2)(3).

وعلى الإنسان أن يسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يجعله ممن لاتبطره نعمة، ولا تقصّر به عن طاعة ربّه غاية، ولا تحل به بعد الموت ندامة وكآبة.

ص: 51


1- كمال الدين 1: 240.
2- سورة القيامة، الآية: 2.
3- مكارم الأخلاق: 454.
حقيقة الإسلام

يقول اللّه تبارك وتعالى: «وَمَن يَبتَغِ غَيرَ ٱلإِسلَٰمِ دِينا فَلَن يُقبَلَ مِنهُ وَهُوَ فِي ٱلأٓخِرَةِ مِنَ ٱلخَٰسِرِينَ»(1).

وقال أمير المؤمنين(علیه السلام): «لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبه أحد قبلي ولا ينسبه أحد بعدي إلّا بمثل ذلك: إن الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو العمل، والعمل هو الأداء»(2).

وقال(علیه السلام): «إن اللّه تعالى خصّكم بالإسلام واستخلصكم له؛ وذلكلأنه اسم سلامة وجماع(3) كرامة، اصطفى اللّه تعالى منهجه وبيّن حججه، من ظاهر علم وباطن حكم، لا تفنى غرائبه ولاتنقضي عجائبه، فيه مرابيع(4) النعم ومصابيح الظلم، لا تفتح الخيرات إلّا بمفاتيحه، ولاتكشف الظلمات إلّا بمصابيحه، قد أحمى حماه وأرعى مرعاه، فيه شفاء المستشفي وكفاية المكتفي»(5).

لقد دلت الآيات الكريمة والروايات الشريفة على تأكيد حقيقة الإسلام وبيان كماله، فمن كلام لأمير المؤمنين(علیه السلام) قال: «لا شرف أعلى من الإسلام»(6).

وقال أمير المؤمنين(علیه السلام) في وصف النبي(صلی الله علیه و آله): «ابتعثه بالنور المضي ء والبرهان الجلي والمنهاج البادي والكتاب الهادي، أسرته خيرأسرة، وشجرته خير شجرة، أغصانها معتدلةٌ، وثمارها متهدِّلةٌ(7)، مولده بمكة، وهجرته بطيبة،

ص: 52


1- سورة آل عمران، الآية: 85.
2- الكافي 2: 45.
3- جماع الشيء: مجتمعه.
4- مرابيع: جمع مِرباع، المكان ينبت نبته في أول الربيع.
5- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 152 من خطبة له(علیه السلام).
6- الكافي 8: 19.
7- متهدِّلة: متدلّية، دانية للإقتطاف.

علا بها ذكره، وامتد منها صوته، أرسله بحجة كافية، وموعظة شافية، ودعوة متلافية(1)، أظهر به الشرائع المجهولة، وقمع به البدع المدخولة، وبيّن به الأحكام المفصولة(2)، فمن يبتغ غير الإسلام ديناً تتحقق شقوته، وتنفصم عروته، وتعظم كبوته(3)، ويكن مآبه(4) إلى الحزن الطويل والعذاب الوبيل...»(5).

وقالت الصديقة فاطمة(علیها السلام) في خطبتها: «أنتم عباد اللّه نصب أمرهونهيه، وحملة دينه ووحيه، وأمناء اللّه على أنفسكم، وبلغاءه إلى الأمم، زعيم حق له فيكم، وعهد قدمه إليكم، وبقية استخلفها عليكم، كتاب اللّه الناطق، والقرآن الصادق، والنور الساطع والضياء اللامع، بينة بصائره، منكشفة سرائره، منجلية ظواهره، مغتبطة به أشياعه، قائداً إلى الرضوان اتباعه، مؤد إلى النجاة استماعه، به تنال حجج اللّه المنورة، وعزائمه المفسرة، ومحارمه المحذرة، وبيناته الجالية، وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة، ورخصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة، فجعل اللّه الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق، والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحج تشييداً للدين، والعدل تنسيقاً للقلوب، وطاعتنا نظاماً للملة، وإمامتنا أماناً للفرقة، والجهاد عزاً للإسلام، والصبر معونة على استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة، وبر الوالدين وقاية من السخط، وصلة الأرحام

ص: 53


1- متلافية: من تلافاه: تداركه بالإصلاح قبل أن يهلكه الفساد، فدعوة النبي(صلی الله علیه و آله) تلافت أمور الناس قبل هلاكهم.
2- المفصولة: التي فصلها اللّه، أي قضى بها على عباده.
3- الكبوة: السقطة.
4- المآب: المرجع.
5- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 161 من خطبة له(علیه السلام) في صفة النبي(صلی الله علیه و آله) وأهل بيته(علیهم السلام) وأتباع دينه، وفيها يعظ بالتقوى.

منسأةً(1) في العمر ومنماةً للعدد، والقصاص حقناً للدماء، والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة، وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس، والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس، واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة، وترك السرقة إيجاباً للعفة، وحرم اللّه الشرك إخلاصاً له بالربوبية، فاتقوا اللّه حق تقاته ولا تموتن إلّا وأنتم مسلمون، وأطيعوا اللّه فيما أمركم به ونهاكم عنه، فإنه إنما يخشى اللّهَ من عباده العلماءُ...»(2).

وقال أمير المؤمنين(علیه السلام) في القرآن:

«كتاب ربكم فيكم، مبيناً حلاله وحرامه، وفرائضه وفضائله، وناسخه ومنسوخه، ورخصه وعزائمه، وخاصه وعامه، وعبره وأمثاله، ومرسله ومحدوده، ومحكمه ومتشابهه، مفسراً مجمله، ومبيناً غوامضه، بين مأخوذ ميثاق علمه، وموسع علىالعباد في جهله، وبين مثبت في الكتاب فرضه، ومعلوم في السنة نسخه، وواجب في السنة أخذه، ومرخص في الكتاب تركه، وبين واجب بوقته، وزائل في مستقبله، ومباين بين محارمه، من كبير أوعد عليه نيرانه، أو صغير أرصد له غفرانه، وبين مقبول في أدناه، موسع في أقصاه»(3).

ومن الواضح، أن الإسلام بهذه القيم والمعارف والعظمة، والتعاليم المنطقية والتي تتطابق مع فطرة البشر، يبعث على احترامه واحترام رسوله(صلی الله علیه و آله) وتبجيله، حتى عند غير المسلمين الذين يؤمنون بالمقاييس الإنسانية المجردة عن الاعتبارات السماوية. وهل يعرف العالم أسمى من الإسلام في الإنسانية!!

ص: 54


1- منسأة للعمر: مؤخرة.
2- الإحتجاج 1: 97.
3- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 1 من خطبة له(علیه السلام) يذكر فيها مبعث النبي(صلی الله علیه و آله) والقرآن والأحكام الشرعية.

ثانياً: الأحكام العادلة

الثاني مما أنجزه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): بيان الأحكام والشريعة العادلة،والملبية لجميع حاجات البشر، والتي لا تخالف فطرة الإنسان، مضافاً إلى كونها مستوعة لمختلف مجالات الحياة.

ق-ال تبارك وتعال-ى: «وَنَزَّلنَا عَلَيكَ ٱلكِتَٰبَ تِبيَٰنا لِّكُلِّ شَيءٖ وَهُدى وَرَحمَة وَبُشرَىٰ لِلمُسلِمِينَ»(1).

وقال أبو عبد اللّه(علیه السلام): «إني لأعلم ما في السماوات، وما في الأرض، وأعلم ما في الجنة، وأعلم ما في النار، وأعلم ما كان وما يكون»، قال: ثم مكث هنيئة، فرأى أن ذلك كبر على من سمعه منه، فقال: «علمت ذلك من كتاب اللّه عزّ وجلّ، إن اللّه عزّ وجلّ يقول: فيه تبيان كل شي ء»(2).

إن النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله) جاء بدين يحتوي على كل الأحكام التي تتطلبها الحياة، من الطهارة البدنية والروحية، وإلى آخر ما يحتاجه الإنسان في مسائله الشخصية والعائلية والاجتماعية من حدودوتعزيرات، وديات، واقتصاد، وسياسة، واجتماع... فأحكام الإسلام هي الوحيدة التي تعد كاملة ومستوعبة لكل جوانب الإنسان، وكل الأحكام الأخرى التي جاءت بها الديانة المسيحية والديانة اليهودية التي سبقته بزمن، كانت ناقصة لم تستوعب كل الحياة، فضلاً عن تحريفها وخلطها بالأباطيل، ومعلوم أن الأحكام الكاملة تشير إلى كمال صاحبها أيضاً، مما يدعو إلى تقديسه واحترامه. وهذا هو السبب الثاني للمكانة العالية لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بين جميع البشر.

ص: 55


1- سورة النحل، الآية: 89.
2- الكافي 1: 261.

ثالثاً: الأمة الواحدة

اشارة

العمل الثالث الذي تفرد به رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) هو أنه استطاع خلال (23سنة) فقط أن يخلق من المسلمين أمة واحدة موحدة، في الوقت الذي كانت الفرقة والتقاليد البالية والعصبيات الجاهلية هي الغالبة السائدة، مضافاً إلى أن المسلمين كانوا من مختلف القبائل والقوميات فوحدهم رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) تحت راية الإسلام.

الوصي(علیه السلام) يصف البعثة

وقد وصف أمير المؤمنين(علیه السلام) الحال قبل البعثة النبوية الشريفة، فقال(علیه السلام): «... إلى أن بعث اللّه سبحانه محمداً رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لإنجاز عدته، وإتمام نبوته، مأخوذاً على النبيين ميثاقه، مشهورةً سماته، كريماً ميلاده، وأهل الأرض يومئذ ملل متفرقة، وأهواء منتشرة، وطرائق متشتتة، بين مشبه لله بخلقه، أو ملحد(1) في اسمه، أو مشير إلى غيره، فهداهم به(صلی الله علیه و آله) من الضلالة، وأنقذهم بمكانه من الجهالة، ثم اختار سبحانه لمحمد(صلی الله علیه و آله) لقاءه، ورضي له ما عنده، وأكرمه عن دار الدنيا، ورغب به عن مقام البلوى، فقبضه إليه كريماً(صلی الله علیه و آله) وخلف فيكم ما خلفت الأنبياء في أممها؛ إذ لم يتركوهم هملاً بغير طريق واضح، ولا عَلَم قائم...»(2).

وقال(علیه السلام): «.. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالدين المشهور، والعلم المأثور، والكتاب المسطور، والنور الساطع،والضياء اللامع، والأمر الصادع؛ إزاحةً للشبهات، واحتجاجاً بالبينات، وتحذيراً بالآيات، وتخويفاً بالمَثُلاتُ(3)،

ص: 56


1- الملحد في اسم اللّه: الذي يميل به عن حقيقة مسماه.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 1 من خطبة له(علیه السلام) يذكر فيها مبعث النبي(صلی الله علیه و آله) والقرآن والأحكام الشرعية.
3- المَثُلات - جمع مثله - : العقوبات.

والناس في فتن انجذم(1) فيها حبل الدين، وتزعزعت سواري اليقين، واختلف النجر، وتشتت الأمر، وضاق المخرج، وعمي المصدر، فالهدى خامل، والعمى شامل، عصي الرحمن، ونصر الشيطان، وخذل الإيمان، فانهارت دعائمه، وتنكرت معالمه، ودرست سبله، وعفت شركه، أطاعوا الشيطان فسلكوا مسالكه، ووردوا مناهله، بهم سارت أعلامه، وقام لواؤه في فتن داستهم بأخفافها، ووطئتهم بأظلافها، وقامت على سنابكها، فهم فيها تائهون حائرون جاهلون مفتونون، في خير دار وشر جيران، نومهم سهودوكحلهم دموع، بأرض عالمها ملجم وجاهلها مكرم»(2).

وقال(علیه السلام) في خطبة أخرى: «إن اللّه بعث محمداً(صلی الله علیه و آله) نذيراً للعالمين وأميناً على التنزيل، وأنتم معشر العرب على شرّ دين، وفي شرّ دار، مُنيخون(3) بين حجارة خشن، وحيات صمٍّ(4)، تشربون الكدر، وتأكلون الجشب، وتسفكون دماءكم، وتقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة، والآثام بكم معصوبة»(5).

الصديقة(علیها السلام) تصف البعثة

وقالت السيدة فاطمة الزهراء(علیها السلام): «أيّها الناس، اعلموا أنّي فاطمةوأبي محمّد(صلی الله علیه و آله)... «وَكُنتُم عَلَىٰ شَفَا حُفرَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ»(6)، مذقة الشارب(7)، ونهزة

ص: 57


1- انجذم: انقطع، والسواري: جمع سارية وهو العمود والدعامة، النَّجرْ: الأصل.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 2 من خطبة له(علیه السلام) بعد انصرافه من صفين.
3- منيخون: مقيمون.
4- وصف(علیه السلام) الحيات بالصم لأنها أخبثها، إذ لا تنزجر بالأصوات كأنها لا تسمع، الجَشِبْ: الطعام الغليظ.
5- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 26 من خطبة له(علیه السلام) وفيها يصف العرب قبل البعثة.
6- سورة آل عمران، الآية: 103.
7- المُذْقَة: الجرعة، والنهزة: الفرصة، وقبسة العجلان: القبسة ما تقبضه بيدكْ وهو مَثَل في الإستعجال.

الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق(1)، وتقتاتون القِدّ، أذلّة خاسئين، «تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ»(2) من حولكم، فأنقذكم اللّه تبارك وتعالى بمحمّد(صلی الله علیه و آله) بعد اللتيا والّتي..»(3).

وقالت(علیها السلام) في بداية خطبتها: «الحمد لله على ما أنعم وله الشكر على ما ألهم.. ثم جعل الثواب على طاعته ووضع العقاب على معصيته،ذيادةً(4) لعباده من نقمته، وحياشة لهم إلى جنته، وأشهد أن أبي محمداً عبده ورسوله، اختاره قبل أن أرسله، وسماه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة، وبنهاية العدم مقرونة، علماً من اللّه تعالى بمآيل الأمور، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع الأمور، ابتعثه اللّه إتماماً لأمره، وعزيمةً على إمضاء حكمه، وإنفاذاً لمقادير رحمته، فرأى الأمم فرقاً في أديانها، عكفاً على نيرانها، عابدةً لأوثانها، منكرةً لله مع عرفانها، فأنار اللّه بأبي محمد(صلی الله علیه و آله) ظلمها، وكشف عن القلوب بُهَمَهَا(5)، وجلى عن الأبصار غُمَمَهَا، وقام في الناس بالهداية، فأنقذهم من الغواية، وبصرهم من العَمَاية،وهداهم إلى الدين القويم، ودعاهم إلى الطريق المستقيم، ثم قبضه اللّه إليه قبض رأفة واختيار ورغبة وإيثار...»(6).

ص: 58


1- الطَرق: ماء السماء الذي تبول به الإبل وتبعر، والقِدّ: سير يقد من جلد غير مدبوغ.
2- سورة الأنفال، الآية: 26.
3- الإحتجاج 1: 100.
4- الذِيادة: أي طرداً عنهم ومنعاً لهم عن المعاصي الجالبة للنقم، والحياشة: - مِن حاشَ الإبل - أي: جمعها وساقها.
5- بُهَمَهَا: أي: مبهماتها وهي المشكلات من الأمور، وغُمَمَها: - جمع غُمة - أي: المبهم والملتبس.
6- الإحتجاج 1: 98.
من بركات البعثة

البشرية كانت محرومة من العدالة والمساواة في الإنسانية والمساواة أمام القانون، وفي ذلك العالم المليئ بالظلم والطبقية، وفي ذلك المحيط الجاهلي أسس الرسول(صلی الله علیه و آله) مبدأ العدالة والمساواة، فلا فضل لعربي على أعجمي إلّا بالتقوى، وبهذه الوسيلة استطاع أن يجمع حوله مختلف أفراد المجتمع، ويوحدهم تحت لواء واحد، وعقيدة واحدة. ومن المعلوم أن توحيد الكلمة بين أناس متفرقين متشتتين من أعظم الأعمال التي يستحق صاحبها التعظيم.

التعامل الإنساني مع الكل

ومن بركات البعثة النبوية الشريفة: الحث على التعامل الإنساني مع الكل حتى مع غير المسلمين.ولقد كانت معاملة النبي(صلی الله علیه و آله) مع سائر الفئات غير المسلمة، من أفضل المعاملات الإنسانية، فقد كان يحترم الجميع ويعايشهم بحسن الجوار والتزاور وعيادة المرضى والمناظرة والمحاورة والعطف والمحبة والوفاء بالعهود وقضاء حوائجهم والدعاء لهم والذب عنهم...

ولم يكن ذلك مع المسلمين فقط، بل حتى مع غير المسلمين، حتى ورد عنه(صلی الله علیه و آله): «من أخذ شيئاً من أموال أهل الذمة ظلماً فقد خان اللّه ورسوله وجميع المؤمنين»(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «لا تدخلوا على نساء أهل الذمة إلّا بإذن»(2).

فمن الواضح، أن هذه الأعمال جعلت تلك الفئات تتشوق إلى الدخول في

ص: 59


1- الجعفريات: 81.
2- الجعفريات: 82.

الدين الحنيف الذي جاء به رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وبذلكاستطاع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من توسيع القاعدة الإسلامية وجمع عدد كبير من الناس حوله، ونشر الإسلام بين البشرية على أوسع نطاق وفي أقصر مدة.

وهذه بعض الشواهد، التي تعكس عظمة الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) وفضله العظيم على الإنسانية:

يهودي يحبس رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)!

روي عن أمير المؤمنين(علیه السلام): «إن يهودياً كان له على رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) دنانير، فتقاضاه، فقال(صلی الله علیه و آله) له: يا يهودي، ما عندي ما أعطيك!

فقال: فإني لا أفارقك يا محمد حتى تقضيني.

فقال(صلی الله علیه و آله): إذاً أجلسُ معك، فجلس معه، حتى صلى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة، وكان أصحاب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يتهددونه ويتواعدونه، فنظر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إليهم فقال: ما الذي تصنعون به؟

فقالوا: يا رسول اللّه يهودي يحبسك؟!فقال(صلی الله علیه و آله): لم يبعثني ربي عزّ وجلّ بأن أظلم معاهداً ولا غيره. فلمّا علا النهار قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وشطر مالي في سبيل اللّه. أما والله ما فعلت بك الذي فعلت، إلّا لأنظر إلى نعتك في التوراة، فإني قرأت في التوراة: محمد بن عبد اللّه مولده بمكة ومهاجره بطيبة وليس بفظٍّ ولا غليظ ولا سخابٍ ولا متزيّنٍ بالفحش، ولا قول الخفى، وأنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأنك رسول اللّه، وهذا مالي فاحكم فيه بما أنزل اللّه، وكان اليهودي كثير المال»(1).

ص: 60


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 465.
أخلاقيات البعثة

فبهذا السلوك العظيم والأخلاق الرفيعة استطاع الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) أن يخلق أمة واحدة عظيمة، بهرت التاريخ وحيّرت العقول، حتى أن اللّه سبحانه وتعالى وصفهم قبل الإسلام بالجاهلية، ثم عاد فوصفهم بعد الإسلام ب-(خير الأمم) حيث يقولالقرآن الكريم: «كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِٱلمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ ٱلمُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَو ءَامَنَ أَهلُ ٱلكِتَٰبِ لَكَانَ خَيرا لَّهُمۚ مِّنهُمُ ٱلمُؤمِنُونَ وَأَكثَرُهُمُ ٱلفَٰسِقُونَ»(1).

وقال الإمام الصادق(علیه السلام): «ما صافح رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) رجلاً قط فنزع يده حتى يكون هو الذي ينزع يده منه»(2).

وعن أنس بن مالك قال: كان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه، فإن كان غائباً دعا له، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده(3).

وعن أنس بن مالك قال: إن النبي(صلی الله علیه و آله) أدركه أعرابي فأخذ بردائه، فجبذه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عنق رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال له: يا محمد، مر ليمن مال اللّه الذي عندك، فالتفت إليه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فضحك، وأمر له بعطاء(4).

وعن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) حيياً لا يُسأل شيئاً إلّا أعطاه.

وعنه أيضاً قال: كان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أشد حياءً من العذراء في خدرها، وكان

ص: 61


1- سورة آل عمران، الآية: 110.
2- الكافي 2: 182.
3- مكارم الأخلاق: 19.
4- مكارم الأخلاق: 17.

إذا كره شيئاً عرفناه في وجهه(1).

وعن أبي ذر قال: كان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يجلس بين ظهراني أصحابه فيجي ء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى النبي(صلی الله علیه و آله) أن يجعل مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكاناً(2) من طين وكان يجلس عليه ونجلس بجانبيه(3).

وعن أنس بن مالك قال: صحبت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عشر سنين،وشممت العطر كله فلم أشم نكهة أطيب من نكهته(4).

وعن ابن عباس عن النبي(صلی الله علیه و آله) قال: «أنا أديب اللّه وعلي(علیه السلام) أديبي، أمرني ربي بالسخاء والبر، ونهاني عن البخل والجفاء، وما شي ء أبغض إلى اللّه عزّ وجلّ من البخل وسوء الخلق، وإنه ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل»(5).

وكان أمير المؤمنين(علیه السلام) إذا وصف رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) قال: «كان أجود الناس كفاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجةً، وأوفاهم ذمةً، وألينهم عريكةً، وأكرمهم عشرةً، من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه، لم أر مثله قبله ولا بعده مثله»(6).

وروي عن الصادق(علیه السلام): «إن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أقبل إلى الجعرانة(7) فقسم فيها الأموال وجعل الناس يسألونه ويعطيهم، حتى ألجئوه إلىشجرة، فاُخذت برده

ص: 62


1- مكارم الأخلاق: 17.
2- الدكان: مكان ممهد قليل الارتفاع عن الأرض يجلس عليه.
3- مكارم الأخلاق: 16.
4- بحار الأنوار 16: 230.
5- مكارم الأخلاق: 17.
6- مكارم الأخلاق: 18.
7- الجِعْرانة: وهي ماء بين الطائف ومكة وهي إلى مكة أقرب.

وخُدشت ظهره حتى رحلوه عنها، وهم يسألونه، فقال: أيها الناس، ردوا علي بردي، والله لو كان عندي عدد شجر تهامة نعماً لقسمته بينكم، ثم ما ألفيتموني جباناً ولا بخيلاً، ثم خرج من الجعرانة في ذي القعدة، قال: فما رأيت تلك الشجرة إلّا خضراء كأنما يُرشّ عليها الماء».(1)

وعن بحر السقاء قال: قال لي أبو عبد اللّه(علیه السلام): «يا بحر، حسن الخلق يُسر» ثم قال: «ألا أخبرك بحديث ما هو في يدي أحد من أهل المدينة؟».

قلت: بلى.

قال: «بينا رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ذات يوم جالس في المسجد إذ جاءت جارية لبعض الأنصار وهو قائم، فأخذت بطرف ثوبه، فقام لها النبي(صلی الله علیه و آله) فلم تقل شيئاً ولم يقل لها النبي(صلی الله علیه و آله) شيئاً، حتى فعلت ذلك ثلاث مرات، فقام لها النبي(صلی الله علیه و آله) في الرابعة، وهي خلفه فأخذتهدبةً(2) من ثوبه، ثم رجعت فقال لها الناس: فعل اللّه بك وفعل(3)، حبست رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ثلاث مرات لا تقولين له شيئاً، ولا هو يقول لك شيئاً، ما كانت حاجتك إليه؟

قالت: إن لنا مريضاً فأرسلني أهلي لآخذ هدبةً من ثوبه ليستشفي بها، فلما أردت أخذها رآني، فقام فاستحييت منه أن آخذها وهو يراني، وأكره أن أستأمره في أخذها فأخذتها».(4)

وهك-ذا ك-ان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) قمة في الأخلاق الطيبة حتى قبل بعثته الشريفة.

ص: 63


1- الخرائج والجرائح 1: 98.
2- هُدْب الثوب: طرف الثوب مما يلى طرته، خمل الثوب.
3- فعل اللّه بك وفعل: دعاء عليها.
4- الكافي 2: 102.

عن أبي الحميساء قال: تابعت النبي(صلی الله علیه و آله) قبل أن يبعث، فواعدته مكاناً فنسيته يومي والغد، فأتيته يوم الثالث فقال(صلی الله علیه و آله): «يا فتى، لقد شققت عليّ؛ أنا ها هنا منذ ثلاثة أيام»(1).

التأسي برسول اللّه(صلی الله علیه و آله)

وهكذا يلزم على المسلمين، أن يتأسوا برسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في حسن تعامله مع جميع الناس حتى مع الكفار، فتكون معاملتهم ومعاشرتهم في هذا العصر أيضا معاشرة مبتنية على أسس الحكمة والموعظة الحسنة، وإن كان الكفر قد فتح أفواهه من كل جانب لابتلاع الإسلام والمسلمين، وسحقهم وإبادتهم.

كما ينبغي أن تكون سياسة المسلمين اليوم، سياسة الاحتواء والجمع والاغضاء والتشجيع، حتى يعود المسلمون قوة قاهرة، تهدي الأمم للتي هي أقوم كما صنع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله).

أما إذا كانت السياسة سياسة إلغاء الآخرين، والتفرقة وعدم الإغضاء، فهي توجب ضعف المسلمين.

العفو عن القاتل

روى الشيخ الكليني(رحمة الله) في الكافي عن الإمام الباقر(علیه السلام) أنه قال: «إن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أُتي باليهودية التي سمّت الشاة للنبي(صلی الله علیه و آله)، فقال لها: ما حملك على ما صنعت؟فقالت: قلت: إن كان نبياً لم يضره، وإن كان ملكاً أرحت الناس منه! قال(علیه السلام): فعفا رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عنها»(2).

ص: 64


1- مكارم الأخلاق: 21.
2- الكافي 2: 108.

كما أن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عفا عن وحشي(1) قاتل عمه حمزة(علیه السلام)،وعن هبّار بن الأسود(2) قاتل ابنته زينب، إلى غير ذلك من أخبارعفوه(صلی الله علیه و آله).

ص: 65


1- وحشي بن حرب الحبشي مولى بني نوفل، قاتل حمزة عم النبي(صلی الله علیه و آله) في معركة أحد، قدم بعد ذلك على رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) مع وفد أهل الطائف وأسلم، عفى عنه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ولكن أمره أن يغيّب وجهه عنه، شارك مع عبد اللّه بن زيد الانصاري في قتل مسيلمة الكذاب، سكن الشام ومات فيها على الخمر. وفي إعلام الورى بأعلام الهدى: 83. في ذكر مغازي رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بنفسه وسراياه..: وكان وحشي يقول: قال لي جبير بن مطعم - وكنت عبداً له - : إن علياً قتل عمي يوم بدر، يعني طعيمة، فإن قتلت محمداً فأنت حر، وإن قتلت عم محمد فأنت حر، وإن قتلت ابن عم محمد فأنت حر، فخرجت بحربة لي مع قريش إلى أُحد أريد العتق لا أريد غيره، ولا أطمع في محمد - (صلی الله علیه و آله) - وقلت: لعلي أصيب من علي أو حمزة غرة فأزرقه، وكنت لا أخطئ في رمى الحراب تعلمته من الحبشة في أرضها، وكان حمزة يحمل حملاته ثم يرجع إلى موقفه. قال أبو عبد اللّه(علیه السلام): «وزرقه وحشي فوق الثدي، فسقط وشدوا عليه فقتلوه، فأخذ وحشي الكبد، فشد بها إلى هند بنت عتبة فأخذتها وطرحتها في فيها، فصارت مثل الداغصة، فلفظتها». قال: وكان الحليس بن علقمة نظر إلى أبي سفيان، وهو على فرس وبيده رمح يجاء به في شدق حمزة، فقال: يا معشر بني كنانة، انظروا إلى من يزعم أنه سيد قريش، ما يصنع بابن عمه الذي صار لحماً، وأبو سفيان يقول: ذق عقق، فقال أبو سفيان: صدقت إنما كانت مني زلة اكتمها علي...
2- روي عن عروة بن الزبير أن رجلا أقبل بزينب بنت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فلحقه رجلان من قريش فقاتلاه حتى غلباه عليها، فدفعاها فوقعت على صخرة فأسقطت وهريقت دما، فذهبوا بها إلى أبي سفيان، فجاءته نساء بنى هاشم فدفعها إليهن، ثم جاءت بعد ذلك مهاجرة فلم تزل وجعة حتى ماتت من ذلك الوجع، فكانوا يرون أنها شهيدة. وقيل: لما أرادت زينب بنت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) اللحاق بأبيها، قدم لها كنانة بن الربيع - شقيق زوجها العاص - بعيراً فركبته وأخذ قوسه وكنانته، وخرج بها نهاراً يقود بعيرها وهي في هودج لها، وتحدث بذلك الرجال من قريش والنساء وتلاومت في ذلك، وأشفقت أن تخرج ابنة محمد(صلی الله علیه و آله) من بينهم على تلك الحال، فخرجوا في طلبها سراعا حتى أدركوها بذي طوى، فكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد ونافع بن عبد القيس الفهري، فروَّعها هبار بالرمح وهي في الهودج، وكانت حاملاً، فلما رجعت طرحت ذا بطنها، وكانت من خوفها رأت دماً وهي في الهودج؛ فلذلك أباح رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يوم فتح مكة دم هبار بن الأسود. وروي أن هبار بن الأسود كان ممن عرض لزينب بنت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) حين حملت من مكة إلى المدينة، فكان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يأمر سراياه إن ظفروا به أن يقتلوه، فلم يظفروا به، حتى إذا كان يوم الفتح هرب هبار، ثم قدم على رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بالمدينة، ويقال: أتاه بالجعرانة حين فرغ من أمر حنين، فمثل بين يديه وهو يقول: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأنك رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، فقبل إسلامه وعفى عنه. راجع بحار الأنوار 19: 350.

ترى أي ملك، أو رئيس يعفو عن جرائم كهذه، وهل تجد لهذه القصص في غير الأنبياء والأولياء(علیهم السلام) مثيلاً؟

نعم، إنه الدين الحنيف، وإنه الارتباط الوثيق بالخالق، وإنه العفو الذي بلغ منتهاه، وبالتالي إنه الإسلام، وإنها أخلاق نبي الإسلام (صلوات اللّه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين)، فهو الجامع لكل الفضائل والمكرمات. وهو الذي نزل فيه قولهتعالى: «وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ»(1).

فأي عاقل يرى هذه المعاني السامية، متجسدة في شخصية كبيرة وعظيمة، كرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ولا يقدسه ويجلّه ويطيعه؟!

رابعاً: دولة الرسول(صلی الله علیه و آله)

اشارة

الإنجاز الرابع الذي جعل الرسول(صلی الله علیه و آله) خالداً في التاريخ، ومعظماً عند جميع البشر، دولته(صلی الله علیه و آله) المباركة.

إن الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) استطاع أن يؤسس دولة عالمية كبرى، خضعت لها أكثر بقاع الأرض، وقامت على أركان العدالة والفضيلة والتقوى، وهذا الأمر الذي لم يصنعه حتى أولي العزم من الأنبياء(علیهم السلام) الذين سبقوه كموسى

ص: 66


1- سورة القلم، الآية: 4.

وعيسى(علیهما السلام).

ثم إن الإسلام لا يفرق في الانتماء إليه بين أسود وأبيض، بل قال تبارك وتعالى: «يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلنَٰكُم شُعُوبا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّأَكرَمَكُم عِندَ ٱللَّهِ أَتقَىٰكُمۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير»(1).

إن رسالة الإسلام تشمل جميع الناس من كل أشكالهم وألوانهم وألسنتهم وأعراقهم، أما اليهودية مثلاً فإنهم لا يقبلون بانتماء أحد إلى دينهم. فإذا أراد إنسان أن يذهب إلى عالم اليهود (الحاخام)(2)

ويتهوّد لا يقبل منه، وسيقال له: إن اليهودي هو الشخص الذي ينحدر عن اليهود، من أصلابهم أو من أم يهودية، لأنهم وبحسباعتقادهم وادعائهم «أَبنَٰٓؤُاْ ٱللَّهِ»(3)، كما قالوا بأن عزيراً ابن اللّه(4)...

وفي سورة التوبة: «وَقَالَتِ ٱليَهُودُ عُزَيرٌ ٱبنُ ٱللَّهِ»(5).

ص: 67


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- الحاخام: هو رئيس الكهنة عند اليهود، وهو مقدس في كتاب التلمود ويعتبرونه معصوماً، حتى ورد: إذا جاءك الحاخام وقال لك: إن هذه اليد اليمنى هي يدك اليسرى فصدقه، وأن أقوالهم صادرة عن اللّه، وأن مخالفتهم هي مخالفة اللّه، ومن قولهم في ذلك: يلزم المؤمن أن يعتبر أقوال الحاخامات كالشريعة، لأن أقوالهم هي قول اللّه الحي. وقال بعض الحاخامات لما سأل عن أقوالهم المتناقضة: إنها كلام اللّه مهما وجد فيها من تناقض، فمن لم يؤمن بها لا إيمان له، ومن قال: إنها ليست أقوال اللّه، فقد أخطأ في حق اللّه. انظر: ابتلاء الأمم: 102.
3- سورة المائدة، الآية: 18.
4- جاء في كتاب الاحتجاج للطبرسي(رحمة الله): عن النبي(صلی الله علیه و آله) أنه طالبهم بالحجة فقالوا: أحيا - أي عُزير - لبني إسرائيل التوراة بعد ما ذهبت ولم يفعل بها هذا إلّا لأنه ابنه. فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «فكيف صار عُزير ابن اللّه دون موسى؟ وهو الذي جاء لهم بالتوراة ورئي منه من المعجزات ما قد علمتم، ولئن كان عزير ابن اللّه لما ظهر من إكرامه بإحياء التوراة، فلقد كان موسى بالنبوة أولى وأحق». الإحتجاج 1: 23.
5- سورة التوبة، الآية: 30.

وفي سورة المائدة: «وَقَالَتِ ٱليَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحنُ أَبنَٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰٓؤُهُۥۚ»(1).

أما غير أولئك فلا يحق لهم الدخول في اليهودية، فاليهود يعتقدون أن هذا الفضل مختص بهم، ولا يحظى به أي أحدغيرهم، ولا يحق لأحد أن يشاركهم فيه!!

بعكس دين الإسلام الذي يرى الناس سواسية، ويشجع على دخول كل الناس إليه، ويفسح المجال لكل البشر أن يرتبطوا بربهم في الدعاء والعبادة متى شاؤوا، وبهذا الانفتاح وهذه النظرة الشمولية ولسائر التعاليم العادلة دخل الناس في الإسلام أفواجاً، حتى قامت دولة الرسول(صلی الله علیه و آله) على أسس العدالة والخير والفضيلة.

قال اللّه تبارك وتعالى: «وَقَالَتِ ٱليَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحنُ أَبنَٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰٓؤُهُۥۚ قُل فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَل أَنتُم بَشَر مِّمَّن خَلَقَۚ يَغفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۚ وَلِلَّهِ مُلكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرضِ وَمَا بَينَهُمَاۖ وَإِلَيهِ ٱلمَصِيرُ * يَٰٓأَهلَ ٱلكِتَٰبِ قَد جَآءَكُم رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُم عَلَىٰ فَترَةٖ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ فَقَد جَآءَكُم بَشِير وَنَذِيرۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيءٖ قَدِير»(2).

فقوله تعالى: «وَقَالَتِ ٱليَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحنُ أَبنَٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰٓؤُهُۥۚ» فإن النبي(صلی الله علیه و آله) لما حذّرهم نقمة اللّه وعذابه، فقالوا:نحن أبناؤه، والابن الحبيب لا يخاف من نقمة الأب الودود «قُل» يا رسول اللّه لهؤلاء المفترين: «فَلِمَ يُعَذِّبُكُم» اللّه «بِذُنُوبِكُمۖ»؟ حيث تعترفون بما حكى القرآن عنهم في آية أخرى: «وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلَّآ أَيَّاما مَّعدُودَةۚ»(3)، فإن كنتم أبناءً أحباءً لم يكن

ص: 68


1- سورة المائدة، الآية: 18.
2- سورة المائدة، الآية: 18- 19.
3- سورة البقرة، الآية: 80.

معنىً للعذاب، ولعل المراد من (المستقبل): الماضي؛ أي لِمَ عذبكم سابقاً بذنوبكم، حيث جعل منكم القردة والخنازير وأشباه ذلك؟ «بَل أَنتُم» أيها اليهود والنصارى «بَشَر مِّمَّن خَلَقَۚ» تعالى إن أحسنتم جُوزيتم، وأن أسأتم جُوزيتم، كما يُجازى غيركم من الناس «يَغفِرُ لِمَن يَشَآءُ» من العاصين «وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۚ» منهم؛ لأنه لا بنوّة ولا عواطف خاصة بين اللّه وبينكم «وَلِلَّهِ مُلكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرضِ» فليس شيء من نفس اللّه حتى لا يملكه سبحانه - كما تدعون أنتم من كونكم أبناءه - «وَمَا بَينَهُمَاۖ» من سائرالمخلوقات، والمراد بالسماء هنا: الكواكب وما يُرى في ناحيتها - كما هو المنصرف - حتى يتصور ما بينهما، لا جهة العلو «وَإِلَيهِ» سبحانه «ٱلمَصِيرُ» المرجع والمآل، فليس هناك غيره يملك شيء أو يرجع إليه في أمر(1).

إن الدولة التي أقامها الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) قد تشيّدت في وسط مجتمع كان غارقاً في عبادة الأصنام والأوثان، والظلم والاستبداد، وبين دولتين عظيمتين هما الامبراطورية الساسانية والامبراطورية الرومانية، بحيث حوّل ذلك المجتمع الغارق في وحل الجهل والتخلف واللاقانون، إلى مجتمع نموذجي في العلم والرشد والانضباط، فتبوء المركز الأول في قيادة العالم، دون أن يعوقه اختلاف الناس وتباعدهم في القومية والعادات والثقافات، أو أن يفل من عزمه الامكانيات المتواضعة التي كانت متوفرة بين يديه.أو ليس من يجمع الناس المتفرقين، المحاطين بالأعداء من كل جانب تحت راية واحدة، ويكوّن منهم دولة قوية تتغلب على أعدائها يستحق التعظيم والإجلال؟!

ص: 69


1- راجع تفسير تقريب القرآن 1: 623.
مفتاح القوة والضعف

وهنا ربما يخطر هذا السؤال في الأذهان: لماذا آل وضع المسلمين إلى ما هم عليه الآن، من التأخر والتباعد والفرقة والبغضاء فيما بينهم؟!

الجواب: إن السبب يكمن في ضعف المسلمين وابتعادهم عن تعاليم الإسلام ودين النبي(صلی الله علیه و آله)؛ وإننا نستطيع بواسطة أفعالنا وأساليبنا ورجوعنا إلى الكتاب والعترة أن نبدّل ضعفنا إلى قوة تمكننا من النهوض في هذا العصر، لأن مفتاح القوة والضعف بأيدينا.

يقول أحد المسيحيين: لقد أصبحت المسيحية كالفاكهة البائرة في محلات البيع، ولكي يروجها البائع فقد وضعها في مكان بارز، وسلّط عليها الكثير من الأنوار، حتى صارت براقة تجذب نظر المشتري، بعكس الإسلام الذي هو أشبه بالفاكهة الطازجةالطرية إلّا أن صاحبه وضعه في محل مظلم، والناس لا يجتمعون دائماً إلّا حول الفاكهة البراقة المغرية، حتى وإن كان داخلها هو خلاف ظاهرها.

وهذا ما أكدته إحدى الصحف العربية حيث ذكر فيها ووفق بعض الإحصائيات أن عدد الذين يعتنقون المسيحية ستون ألف شخص يومياً في كل أنحاء العالم(1).

ص: 70


1- بمراجعة سريعة لبعض مواقع الإنترنت المهتمة بنشاط التنصير نجد نشاطات كبيرة جداً وأرقام مهولة، فعلى سبيل المثال لا الحصر: تحت ستار تقديم العون الغذائي والدوائي، يتم العمل الدؤوب لتنصير المسلمين في مناطق عدة من العالم، تطبيقاً لمخططات تم وضعها بعناية عبر توفير الامكانيات البشرية والمالية اللازمة، ومن خلال مؤتمرات عقدت لهذا الغرض، ويأتي في مقدمتها المؤتمر الذي عقد فى ولاية كلورادو الامريكية عام (1978م) والذي وضع خطة شاملة لتنصير المسلمين خلال خمسين عاماً، نظمته لجنة (تنصير لوزان) وكان نقطة الانطلاق المحورية والتاريخية قي العصر الحديث في ميدان التنصير، اجتمع هذا المؤتمر للمرة الأولى مائة وخمسون متخصصاً وفدوا من شتى أرجاء العالم، يمثلون مختلف الكنائس والهيئات والدوائر التنصيرية، ألقوا بتجاربهم وخبراتهم في مجال تنصير المسلمين على طاولات النقاش، وخرجوا بخطط هجومية لمحاولة هدم عقيدة ملايين المسلمين، وقرروا إنشاء معهد أبحاث ينسق الجهود نحو الخطط المرسومة، وحمل هذا المعهد اسم (صمويل زويمر) أشهر العاملين في مجال التنصير. وعقد مؤتمر آخر في مدينة امستردام الهولندية نظمته الطائفة البروتستانتية في شهر آب عام (2000م) واستمر تسعة أيام، حضره عشرة آلاف مندوب من أنحاء العالم، وتكلف المؤتمر (45 مليون دولار) تبرع بها المنصر الشهير بيلي جراهام، كما شهدت مدينة (انديانا بولس) الأمريكية مؤتمراً آخر شارك فيه (35 ألف) مندوب من أنحاء العالم، وأعلن فى هذا المؤتمر أن متوسط دخول الناس فى النصرانية من خلال الطائفة المنظمة للمؤتمر هو عشرة آلاف شخص يومياً. ورصد مؤتمر (يونايتد ميثوديستس) الذي عقد فى مدينة كليفلاند الأمريكية (545 مليون دولار) لأنشطة طائفتهم فى السنوات الأربع القادمة، وقد أسفرت تلك الجهود عن نتائج مؤسفة، ففي دولة إندونيسيا المسلمة، تم تنصير البعض، فحتى عام (1989م) تم تنصير ثلاثة ملايين، ولم يكتف الغرب بذلك بل نجح فى فصل (تيمور الشرقية) عن إندونيسيا بعد سنوات من الجهود المنظمة من جانب المنظمات التبشيرية بالتعاون مع أعوانهم فى البلدان الغربية. وفي اكتوبرعام (2000م) نقلت وسائل الإعلام نبأ إقامة الكنيسة الباكستانية حفلاً تنصيرياً كبيراً فى مدينة (لاهور) عاصمة اقليم بنجاب شارك فيه أكثر من عشرة آلاف نسمة (60%) منهم كانوا فى الأصل مسلمين وتحولوا عن دينهم! وهناك مشروع يطلق عليه اسم (اليسوع) تقوم بتمويله (71 منظمة) تنصيرية غربية تتولى جمع الأموال لدعم مشاريع التنصير وبناء الكنائس، التي بلغ عددها في دولة مثل بنجلاديش (170 كنيسة) خلال ثلاث سنوات، وقامت بالتعاون مع المنظمات الأخرى بمضاعفة عدد الكنائس في افريقيا خلال العقد الأخير لتصل إلى أكثر من (24 ألف) كنيسة. وكشفت التقارير التى تصدرها المنظمات التنصيرية أن حوالى (150 ألف) مغربي يتلقون عبر البريد من مركز التنصير الخاص بالعالم العربي دروساً في المسيحية، ولدى هذا المركز منصرين يعملون وسط المليوني مسلم القادمين من دول المغرب العربي والمقيمين في فرنسا، وتملك هذه المنظمات إلى جانب ذلك برامج إذاعية وتليفزيونية دولية لنشر الإنجيل، إضافة إلى (635 موقع) تنصيري على الإنترنت. وذكر في تقرير إحصائي لعمليات التنصير العالمية يعرض مخطط التنصير حتى عام (2025م) تم رصد (87 مليار) دولار، و(10 آلاف) محطة إذاعة وتلفزيون، و(7 ملايين) منصراً، و(250 دورية وكتاباً)، وتجاوز مجموع نسخ الإنجيل التي وزعت في أنحاء العالم (مليار) نسخة، وبلغ عدد الكتب التي تتحدث عن المسيح(علیه السلام) كمحور رئيسي في مكتبات العالم عشرات الآلاف. وذكر أنه في عام (1989م) بلغ مجموع التبرعات للأغراض الكنسية (151) مليار دولار، أي: ما يعادل ميزانية خمس عشرة دولة نامية، أما المجلات والنشرات الدورية الكنيسة التي توزع في كل أنحاء العالم فيبلغ عددها (22.700) مجلة ونشرة. وتستخدم المنظمات المسيحية حالياً في تخطيط برامجها أحدث التقنيات ابتداءً من الحاسوب وانتهاء بمحطات الإرسال الحديثة والأقمار الصناعية، حيث إنها تستغل حوالي (45 مليون) جهاز حاسوب في تخطيط برامجها. ودخل أفريقيا وحدها (112 ألف) منصّر حتى عام (1990م) ويشرف هؤلاء المنصّرون على (5 ملايين) طالب وطالبة، بالاضافة إلى إشرافهم على (500) مدرسة لاهوتية. كما أن في أفريقيا ما يزيد على (20) ألف معهد كنيسي. وفيها أيضاً (50) إذاعة تنصيرية تبث برامجها بمختلف اللغات واللهجات. كما أن هناك (8 آلاف) نسمة في إقليم السند بالهند تنصّروا في يوم واحد. وفي بنغلادش توجد (1500) منظمة تنصيرية، أما في ليبيريا فهناك (500) منظمة تنصيرية. وهناك (30) جمعية صليبية تتظاهر بمساعدة الأفغان!! أما الشرق الأوسط، فيوجد (1300) منصّر متفرغ بالشرق الأوسط يديرون مراكز طبية وثقافية وخدمية وما أشبه. وذكر أنه يبلغ مجموع المنصّرين العاملين في أنحاء العالم حوالي (17) مليون منصّر.

ص: 71

وهذا يعكس لنا حجم التحرك المسيحي...

وقد شاهدت بعض نشاطاتهم في بلادنا الإسلامية، فعندما كنا في الكويت كان عدد المسيحيين فيها مائة نسمة فقط، إلّا أنهم كانوا يملكون (26) كنيسة، في حين أن الشيعة الذين كانوا يشكلون ثلث نفوس الكويت لم يكونوا يمتلكون أكثر من (15) مسجداً!، ومن الواضح أن أولئك النفر القلائل كانوا يستخدمون

ص: 72

هذا العدد الضخم من الكنائس قياساً إلى عددهم لأغراض التبشير والدعوة إلى المسيحية، أما مساجد المسلمين فكان بعضها مهجوراً، لا يقام فيها أي نشاط.

فالحقيقة أن نور الإسلام لم يضعف إلّا أن الذين يوصلون هذا النور هم الذين ضعفوا.

سبب رقي الإسلام أيام الرسول(صلی الله علیه و آله)

بعد فتح مكة، وخضوع أبي سفيان للأمر الواقع، وحصوله علىالأمان وإعلان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أنه من دخل بيت اللّه فهو آمن، ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن، فإن أبا سفيان والذي كان في حرب طويلة الأمد مع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) دامت حوالي عشرين عاماً، جاء وأعلن إسلامه في الظاهر وأدى الشهادتين.

يقول الإمام الحسن العسكري(علیه السلام): «قال علي بن الحسين(علیهما السلام): لما بعث اللّه محمداً(صلی الله علیه و آله) بمكة وأظهر بها دعوته، ونشر بها كلمته، وعاب أديانهم في عبادتهم الأصنام، وأخذوه وأساءوا معاشرته، وسعوا في خراب المساجد المبنية، كانت لقوم من خيار أصحاب محمد(صلی الله علیه و آله) وشيعته وشيعة علي بن أبي طالب(علیه السلام)، كان بفناء الكعبة مساجد يحيون فيها ما أماته المبطلون، فسعى هؤلاء المشركون في خرابها، وأذى محمد(صلی الله علیه و آله) وسائر أصحابه، وألجئوه إلى الخروج من مكة إلى المدينة، التفت(صلی الله علیه و آله) خلفه إليها فقال: اللّه يعلم أني أحبك، ولولا أن أهلك أخرجوني عنك لما آثرت عليك بلداً، ولا ابتغيت عنك بدلاً، وإني لمغتم على مفارقتك. فأوحى اللّه تعالى إليه: يا محمد، إنالعلي الأعلى يقرأ عليك السلام، ويقول: سأردك إلى هذا البلد ظافراً غانماً سالماً، قادراً قاهراً، وذلك قوله تعالى: «إِنَّ ٱلَّذِي فَرَضَ عَلَيكَ ٱلقُرءَانَ لَرَآدُّكَ إِلَىٰ مَعَادٖۚ»(1) يعني إلى مكة ظافراً غانماً.

ص: 73


1- سورة القصص، الآية: 85.

وأخبر بذلك رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أصحابه، فاتصل بأهل مكة فسخروا منه. فقال اللّه تعالى لرسوله(صلی الله علیه و آله): سوف أظهرك بمكة، وأجري عليهم حكمي، وسوف أمنع عن دخولها المشركين حتى لا يدخلها منهم أحد إلّا خائفاً، أو دخلها مستخفياً من أنه إن عثر عليه قتل. فلما حتم قضاء اللّه بفتح مكة استوسقت(1) له أمَّر عليهم عتاب بن أسيد..»(2).

فهؤلاء جاءهم النبي(صلی الله علیه و آله) فاتحاً منتصراً عليهم، تُرى ما الذي كان سيفعله إنسان آخر غير النبي(صلی الله علیه و آله) في موقف كهذا؟ إنه بلا شك سينتقممنهم لما ارتكبوه في حقه وحق أصحابه من جرائم وانتهاكات، فالكفار الذين أصبحوا في قبضته الشريفة كانوا هم الظالمين الذين حاربوا المسلمين، وعلى رأسهم أبو سفيان وهند، وأضرابهما من الرجال والنساء القتلة.

ولكن عندما حمل الراية سعد بن عبادة زعيم الأنصار، وجعل يسير في طرقات مكة ويهزها منادياً: اليوم يوم الملحمة،اليوم تسبى الحرمة. أرجعه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) صاحب الأخلاق الرحمانية، وسجل نقطة مشرفة في تاريخ الإسلام والإنسانية، فأمر علياً(علیه السلام) أن يحمل الراية بدلاً عن سعد بن عبادة، وأن يغير نداء الوعيد والتهديد والتشديد إلى نداء العفو والوعد بالرحمة والأمن والسلام، حيث أمره أن ينادي في أهل مكة بلين بعكس ذلك النداء، فنادى علي(علیه السلام) في طرقات مكة: «اليوم يوم المرحمة، اليوم تحمى الحرمة»، وفي نص آخر «اليوم تصان الحرمة».

ثم جمع النبي(صلی الله علیه و آله) أهل مكة فنادى فيهم: «ما تقولون إني فاعل بكم؟».

ص: 74


1- استوسق: أي اجتمع وانقاد.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(علیه السلام): 554.

قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم.

فقال(صلی الله علیه و آله): «أقول لكم كما قال أخي يوسف: «لَا تَثرِيبَ عَلَيكُمُ»»(1).

ثم قال(صلی الله علیه و آله): «اذهبوا فأنتم الطلقاء»(2).

ثم قال: «من قال: لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وشهد أن محمداً رسول اللّه، وكف يده، فهو آمن، ومن جلس عند الكعبة ووضع سلاحه فهو آمن،... من دخل دار أبي سفيان فهو آمن..»(3).

وبعد ذلك حدثت واقعة حنين(4)، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لأبيسفيان: إنك كنت

ص: 75


1- سورة يوسف، الآية: 92.
2- انظر: الكافي 3: 513، 4: 225؛ والإرشاد 1: 60.
3- انظر: إعلام الورى 1: 221؛ بحار الأنوار 21: 129.
4- حُنين اسم موضع في طريق الطائف، وقيل: حنين اسم ماء بين مكة والطائف، حصلت فيه واقعة بين جيش رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وبني هوازن وهي قبيلة كبيرة من قبائل العرب، وذلك بعد فتح مكة سنة ثمان للهجرة. وكان سببها أن هوازن لما رأت فتح مكة، قالت:قد فرغ لنا محمد(صلی الله علیه و آله) وأصحابه، فلنقاتله قبل أن يقاتلنا، وظلوا يحشدون الجموع له من جهات عديدة، وجعلوا قائدهم مالك بن عوف النضري، وكان عدد جيشه ثلاثين ألفاً، وساقوا معهم أموالهم ونساءهم كي يثبتوا على القتال، فأمر مالك بالخيل فجعلت صفوفاً، ثم جعل الأبل والبقر والغنم وراء ذلك، فلما بلغ ذلك رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وعلم اجتماعهم اجمع على الخروج إليهم، فخرج بمن كان معه في فتح مكة وعددهم اثني عشر ألف مقاتل. قال علي بن إبراهيم القمي: فمضوا حتى كان من القوم على مسيرة بعض ليلة قال: وقال مالك بن عوف لقومه: ليصير كل رجل منكم أهله وماله خلف ظهره، واكسروا جفون سيوفكم، وأكمنوا في شعاب هذا الوادي، وفي الشجر، فإذا كان في غلس الصبح فاحملوا حملة رجل واحد، وهدوا القوم، فإن محمداً لم يلق أحداً يحسن الحرب. قال: فلما صلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) الغداة انحدر في وادي حنين، وهو واد له انحدار بعيد، وكانت بنو سليم على مقدمه، فخرجت عليها كتائب هوازن من كل ناحية، فانهزمت بنو سليم، وانهزم القوم من ورائهم، ولم يبق أحد إلا انهزم، وبقي أمير المؤمنين(علیه السلام) يقاتلهم في نفر قليل، ومر المنهزمون برسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لايلوون على شي ء، وكان العباس أخذ بلجام بغلة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عن يمينه، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب عن يساره، فأقبل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ينادي: «يا معشر الأنصار، إلى أين المفر، ألا أنا رسول اللّه» فلم يلو أحد عليه، وكانت نسيبة بنت كعب المازنية تحثو التراب في وجوه المنهزمين وتقول: أين تفرون عن اللّه وعن رسوله. ومر بها عمر فقالت له: ويلك ما هذا الذي صنعت؟ فقال لها: هذا أمر اللّه. فلما رأى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) الهزيمة ركض يحوم على بغلته قد شهر سيفه، فقال: «يا عباس، اصعد هذا الطرب وناد: يا أصحاب البقرة، ويا أصحاب الشجرة، إلى أين تفرون هذا رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)». ثم رفع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يده فقال: «اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان». فنزل جبرئيل(علیه السلام) عليه فقال له: «يا رسول اللّه، دعوت بما دعا به موسى حين فلق اللّه له البحر ونجاه من فرعون» ثم قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لأبي سفيان بن الحارث: «ناولني كفا من حصى» فناوله فرماه في وجوه المشركين ثم قال: «شاهت الوجوه» ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد» فلما سمعت الأنصار نداء العباس عطفوا وكسروا جفون سيوفهم وهم يقولون: لبيك، ومروا برسول اللّه(صلی الله علیه و آله) واستحيوا أن يرجعوا إليه ولحقوا بالراية. فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) للعباس «من هؤلاء يا أبا الفضل؟» فقال: يا رسول اللّه، هؤلاء الأنصار، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «الآن حمي الوطيس، ونزل النصر من السماء، وانهزمت هوازن» فكانوا يسمعون قعقعة السلاح في الجو، وانهزموا في كل وجه، وغنم اللّه رسوله أموالهم ونساءهم وذراريهم، وهو قول اللّه: «لَقَد نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَومَ حُنَينٍ». سورة التوبة، الآية: 25. تفسير القمي 1: 286.

قبل هذا قائداً لجيش الكفر، فهل أنت على استعداد لأن أعطيك منصب القيادة لبعض كتائب جيش المسلمين؟ فقبل أبو سفيان ذلك، وسار فعلاً، بكتيبة تعدادها ألف مقاتل من أهل مكة، ضمن جيش الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) إلى حنين(1).

ص: 76


1- ورد عن زرارة قال: سألت أبا جعفر(علیه السلام) في قوله: «وَٱلمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُم»؟ سورة التوبة، الآية: 60. قال: «هم قوم وحدوا اللّه وخلعوا عبادة من يعبد من دون اللّه تبارك وتعالى، وشهدوا أن لا إله إلّا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، وهم في ذلك شكاك من بعد ما جاء به محمد(صلی الله علیه و آله) فأمر اللّه نبيهم أن يتألفهم بالمال والعطاء لكي يحسن إسلامهم، ويثبتوا على دينهم الذين قد دخلوا فيه، وأقروا به، وإن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يوم حنين تألف رءوسهم من رءوس العرب من قريش وسائر مضر، منهم: أبو سفيان بن حرب وعيينة بن حصين الفزاري وأشباههم من الناس... تفسير العياشي 2: 91.

إن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أراد أن يبين هذه الحقيقة، وهي أن الهدف حين ما يكون هو إعلاء كلمة لا إله إلّا اللّه، فهو بحاجة إلى جمع الطاقات، وتوحيد الكلمة، وتوظيف قدرات كل الأفراد، على اختلاف خصوصياتهم، في سبيل ذلك الهدف، حتى ولو كان كأبي سفيان الذي حارب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عشرين عاماً. وإن الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) عندما يفعل ذلك فإنه يؤدي وظيفة إلهية، بغض النظر عن الجوانب الأخرى، من العقل والحكمة وحسن التدبير في إدارة البلاد والعباد ومعاملة الناس وحسن الأخلاق.

أما مصائر الناس، وعواقب أمورهم، ورشدهم وغيّهم، وحسابهم وكتابهم فهو على اللّه، وكل سيحاسب على نيته ودرجة إيمانه، ولم يكن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) مسؤولاً عن محاسبته في الدنيا، فإنما هو مذكر، وليس عليهم بمصيطر، قال تعالى: «فَذَكِّر إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّر * لَّستَ عَلَيهِم بِمُصَيطِرٍ»(1).

التعامل بحسب الظاهر

إن مما يلزم على الحاكم أن لا يحاسب على النوايا والخفايا، فلا يصح للقائد أن يتهم القائد شعبه وأصحابه بسوء النوايا والقصد، فإنه لا يمكنه أن يدخل إلى قلوب الناس.

القائد الناجح هو الذي يوحّد شعبه، ويدفع جميع أبنائه لنصرة الحق، أما حقيقة أعمالهم ونواياهم فهي عند اللّه سبحانه وتعالى؟

فإن السرائر لا يعرفها سوى اللّه سبحانه، أو من يخبره اللّه بذلك.

قال تعالى: «نَّحنُ أَعلَمُ بِمَا يَقُولُونَۖ وَمَآ أَنتَ عَلَيهِم بِجَبَّارٖۖ»(2).

ص: 77


1- سورة الغاشية، الآية: 21-22.
2- سورة ق، الآية: 45.

وعلى الرغم من أن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) كان يعلم حقيقة أبي سفيان ونواياه وحقيقة غيره من المنافقين، إلّا أنه(صلی الله علیه و آله) كان يتعامل مع الناس بحسب ظواهرهم لا بواطنهم، وذلك لمقتضى الحكمة الربانية، وأنه(صلی الله علیه و آله) لم يؤمر بمحاسبة بواطنهم.

لذا فإن المسلمين لو استطاعوا أن ينشروا أخلاق رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)لأقبل الناس إلى دين اللّه أفواجاً، ولهرعوا إلى اعتناق الإسلام في مختلف بقاع الأرض ومن شتى المذاهب الأخرى.

وقد جاء في بعض الروايات: إن كثيراً من اليهود الذين كانوا في أطراف المدينة دخلوا الإسلام، بسبب ما شاهدوه من علو أخلاق رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وعظيم تعاليمه.

وإن الحقيقة التي لا ريب فيها، هي أن الإسلام سوف يأخذ طريقه ليستقر في قلوب الناس وليشمل أكبر بقعة من العالم، إذا سار المسلمون على خط رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وأهل بيت النبوة ومعدن الرسالة(علیهم السلام)، وما ذلك على اللّه بعزيز.

أخلاق رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)

لقد جاءت روايات عديدة تصف أخلاق رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وأسلوبه في التعامل مع الناس، منها: ما ورد عن ربيب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ومن فتح عينيه عند الولادة في وجهه(صلی الله علیه و آله) ولم يفتحها في وجه أحد قبله، وهو الذي غمض النبي(صلی الله علیه و آله) عينيه في آخر لحظات حياته الكريمة فيحجره، ولم يغمضها في حجر أحد غيره، ألا وهو أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(علیه السلام) فهو الأعرف برسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وهو أخوه وربيبه ووصيه، فقد روي عنه(علیه السلام) أنه قال: «ما صافح رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أحداً قط فنزع يده من يده حتى يكون هو الذي ينزع يده. وما فاوضه أحد قط في حاجة أو حديث

ص: 78

فانصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف. وما نازعه الحديث فيسكت حتى يكون هو الذي يسكت، وما رُئي مقدماً رجله بين يدي جليس له قط»(1).

وروي عن أمير المؤمنين(علیه السلام) أنه كان إذا وصف رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يقول: «كان أجود الناس كفاً، وأجرأ الناس صدراً،وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، ومن رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، لم أر قبله ولا بعده مثله(صلی الله علیه و آله)»(2).وكان(صلی الله علیه و آله) يجالس الفقراء، ويؤاكل المساكين. فعن أبي عبد اللّه الصادق(علیه السلام) قال: «سمعت أبي يحدث عن أبيه عن جده(علیهم السلام) قال: قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): خمس لا أدعهن حتى الممات: الأكل على الحضيض(3) مع العبيد، وركوبي الحمار مؤكفاً(4)، وحلب العنز بيدي، ولبس الصوف، والتسليم على الصبيان؛ لتكون سنة من بعدي»(5).

فمن الضروري لأي داعية ومبلغ إلى الإسلام أن يتحلى بأقصى ما يمكن من مكارم الأخلاق، وسعة الصدر، والمعاملة العطوفة مع الناس، لكي يجلبهم إلى الإسلام، ويثبتهم على الإسلام راسخي القدم والعقيدة، فإن أفضل العوامل وأعمقها لزرع المحبة في القلوب، هي الأخلاق الفاضلة، والمعاملة الإنسانية العطوفة، فإن ذلك من أعظم مقومات مداراة الناس.قال الإمام الصادق(علیه السلام): «جاء جبرئيل(علیه السلام) إلى النبي(صلی الله علیه و آله) فقال: يا محمد،

ص: 79


1- مكارم الأخلاق: 23.
2- مكارم الأخلاق: 18.
3- الحضيض: الأرض.
4- الأكاف: برذعة الحمار، والبرذعة: كساء يلقى على ظهر الدابة.
5- الخصال 1: 271.

ربك يقرئك السلام، ويقول لك: دارِ خلقي»(1).

وقال(صلی الله علیه و آله): «أمرني ربي بمداراة الناس، كما أمرني بأداء الفرائض»(2).

وعن الإمام الصادق(علیه السلام): قال(صلی الله علیه و آله): ألا أخبركم بأشبهكم بي؟

قالوا: بلى يا رسول اللّه.

قال: أحسنكم خلقاً، وألينكم كنفاً، وأبركم بقرابته، وأشدكم حباً لإخوانه في دينه، وأصبركم على الحق، وأكظمكم للغيظ، وأحسنكم عفواً، وأشدكم من نفسه إنصافاً في الرضا والغضب»(3).

وقال أمير المؤمنين(علیه السلام): «اصطنعوا المعروف تكسبوا الحمد، واستشعروا الحمد يؤنس بكم العقلاء، ودعوا الفضول يجانبكمالسفهاء، وأكرموا الجليس تعمر ناديكم، وحاموا عن الخليط يرغب في جواركم، وأنصفوا الناس من أنفسكم يوثق بكم، وعليكم بمكارم الأخلاق فإنها رفعة، وإياكم والأخلاق الدنية فإنها تضع الشريف وتهدم المجد»(4).

اللهم إنّا نسألك المزيد من صلواتك وسلامك على مصدر الفضائل وينبوع الأخلاق، الذي ظل ماضياً على إنفاذ أمرك حتى أضاء الطريق للعالمين وهدى اللّه به القلوب، محمد وآله الطاهرين. اللّهم اجعلنا ممن يتخلق بأخلاقه في الدنيا، واجعله اللّهم شفيع ذنوبنا في الآخرة.

«اللهم صل على محمد وآله، واجعل صلواتك وصلوات ملائكتك وأنبيائك والمرسلين وعبادك الصالحين، وأهل السماوات والأرضين، ومن سبح لك يا رب

ص: 80


1- الكافي 2: 116.
2- الكافي 2: 117.
3- الكافي 2: 240.
4- تحف العقول: 215.

العالمين من الأولين والآخرين، على محمد عبدك ورسولك ونبيك وأمينكونجيبك وحبيبك وصفيك وصفوتك وخاصتك وخالصتك وخيرتك من خلقك، وأعطه الفضل والفضيلة والوسيلة والدرجة الرفيعة، وابعثه مقاماً محموداً يغبطه به الأولون والآخرون»(1).

من هدي القرآن الحكيم

بعثة الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله)

وقال سبحانه: «قُل يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيكُم جَمِيعًا ٱلَّذِي لَهُۥ مُلكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرضِۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُ-وَ يُحيِۦ وَيُمِيتُۖ فََٔامِنُواْ بِ--ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِيِّ ٱلأُمِّيِّ ٱلَّذِي يُؤمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَٰتِهِۦ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُم تَهتَدُونَ»(2).

وقال عزّ وجلّ: «وَمَآ أَرسَلنَٰكَ إِلَّا مُبَشِّرا وَنَذِيرا * قُل مَآ أَسَٔلُكُم عَلَيهِ مِن أَجرٍ إِلَّا مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ سَبِيلا»(3).وقال جلّ وعلا: «يَٰٓأَيُّهَا ٱلمُدَّثِّرُ * قُم فَأَنذِر * وَرَبَّكَ فَكَبِّر»(4).

وقال سبحانه: «وَمَآ أَرسَلنَٰكَ إِلَّا رَحمَة لِّلعَٰلَمِينَ»(5).

البعثة النبوية ومكارم الأخلاق

قال تعالى: «فَبِمَا رَحمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۖ وَلَو كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلقَلبِ لَٱنفَضُّواْ مِن حَولِكَۖ فَٱعفُ عَنهُم وَٱستَغفِر لَهُم وَشَاوِرهُم فِي ٱلأَمرِۖ فَإِذَا عَزَمتَ فَتَوَكَّل عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ

ص: 81


1- جمال الأسبوع: 29.
2- سورة الأعراف، الآية: 158.
3- سورة الفرقان، الآية: 56-57.
4- سورة المدثر، الآية: 1-3.
5- سورة الأنبياء، الآية: 107.

يُحِبُّ ٱلمُتَوَكِّلِينَ»(1).

وقال سبحانه: «خُذِ ٱلعَفوَ وَأمُر بِٱلعُرفِ وَأَعرِض عَنِ ٱلجَٰهِلِينَ»(2).

وقال عزّ وجلّ: «وَمِنهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤذُونَ ٱلنَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنۚ قُل أُذُنُ خَيرٖ لَّكُم يُؤمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤمِنُ لِلمُؤمِنِينَ وَرَحمَة لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۚوَٱلَّذِينَ يُؤذُونَ رَسُولَ ٱللَّهِ لَهُم عَذَابٌ أَلِيم»(3).

وقال جلّ وعلا: «وَأَنذِر عَشِيرَتَكَ ٱلأَقرَبِينَ * وَٱخفِض جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلمُؤمِنِينَ»(4).

البعثة النبوية والمسؤولية

قال تعالى: «لَقَد جَآءَكُم رَسُول مِّن أَنفُسِكُم عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتُّم حَرِيصٌ عَلَيكُم بِٱلمُؤمِنِينَ رَءُوف رَّحِيم»(5).

وقال سبحانه: «فَلَعَلَّكَ بَٰخِع نَّفسَكَ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم إِن لَّم يُؤمِنُواْ بِهَٰذَا ٱلحَدِيثِ أَسَفًا * إِنَّا جَعَلنَا مَا عَلَى ٱلأَرضِ زِينَة لَّهَا لِنَبلُوَهُم أَيُّهُم أَحسَنُ عَمَلا»(6).

وقال عزّ وجلّ: «طه * مَآ أَنزَلنَا عَلَيكَ ٱلقُرءَانَ لِتَشقَىٰٓ»(7).

بعثة الرسول(صلی الله علیه و آله) والأمة الواحدة

قال جلّ وعلا: «إِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُم أُمَّة وَٰحِدَة وَأَنَا۠ رَبُّكُم فَٱعبُدُونِ»(8).

ص: 82


1- سورة آل عمران، الآية: 159.
2- سورة الأعراف، الآية: 199.
3- سورة التوبة، الآية: 61.
4- سورة الشعراء، الآية: 214- 215.
5- سورة التوبة، الآية: 128.
6- سورة الكهف، الآية: 6-7.
7- سورة طه، الآية: 1-2.
8- سورة الأنبياء، الآية: 92.

وقال سبحانه: «وَٱعتَصِمُواْ بِحَبلِ ٱللَّهِ جَمِيعا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَٱذكُرُواْ نِعمَتَ ٱللَّهِ عَلَيكُم إِذ كُنتُم أَعدَآء فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِۦٓ إِخوَٰنا وَكُنتُم عَلَىٰ شَفَا حُفرَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُم ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُم تَهتَدُونَ * وَلتَكُن مِّنكُم أُمَّة يَدعُونَ إِلَى ٱلخَيرِ وَيَأمُرُونَ بِٱلمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ ٱلمُنكَرِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلمُفلِحُونَ»(1).

من هدي السنّة المطهّرة

بعثة الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله)

قال أبو عبد اللّه(علیه السلام): «اكتتم رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بمكة مستخفياً خائفاً خمس سنين ليس يظهر، وعلي(علیه السلام) معه وخديجة(علیها السلام)، ثم أمره اللّه تعالى أن يصدع بما يؤمر فظهر وأظهر أمره»(2).وقال أبو عبد اللّه(علیه السلام): «رنَّ(3) إبليس أربع رنات: أولهن يوم لعن، وحين أهبط إلى الأرض، وحين بُعث محمد(صلی الله علیه و آله) على حين فترة من الرسل، وحين أنزلت أم الكتاب، ونخر نخرتين: حين أكل آدم من الشجرة، وحين أهبط من الجنة»(4).

وقال أبو الحسن الأول(علیه السلام): «بعث اللّه عزّ وجلّ محمداً(صلی الله علیه و آله) رحمة للعالمين في سبع وعشرين من رجب، فمن صام ذلك اليوم كتب اللّه له صبام ستين شهراً...»(5).

وقال أمير المؤمنين(علیه السلام): «إن اللّه بعث محمداً(صلی الله علیه و آله) وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً، ولا يدّعي نبوة، فساق الناس حتى بوأهم مَحَلّتَهم(6)، وبلغهم

ص: 83


1- سورة آل عمران، الآية: 103-104.
2- الغيبة للشيخ الطوسي: 332.
3- رن رنيناً: رفع صوته بالبكاء.
4- الخصال 1: 263.
5- الكافي 4: 149.
6- بوأهم مَحَلّتهم: أنزلهم منزلتهم.

منجاتهم، فاستقامت قناتهم(1)، واطمأنتصفاتهم»(2).

بعثة الرسول(صلی الله علیه و آله) ومكارم الأخلاق

قال أبو عبد اللّه(علیه السلام): «إن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وعد رجلاً إلى صخرة فقال: أني لك ها هنا حتى تأتي، قال: فاشتدت الشمس عليه، فقال له أصحابه: يا رسول اللّه، لو أنك تحولت إلى الظل، قال: قد وعدته إلى ها هنا، وإن لم يجئ كان منه المحشر»(3).

وقال(علیه السلام): «كان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إذا دخل منزلاً قعد في أدنى المجلس إليه حين يدخل»(4).

وعن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) قال: «أتاني جاء إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ملك فقال: يا محمد، إن ربك يقرئك السلام، ويقول: إن شئت جعلت لكبطحاء مكة ذهباً، قال: فرفعت رأسي إلى السماء وقلت: يا رب أشبع يوماً فأحمدك، وأجوع يوماً فأسألك»(5).

المسؤولية وإقامة الدين

قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «لو وضعت الشمس في يميني، والقمر في شمالي، ما تركت هذا القول حتى أنفذه أو أقتل دونه...»(6).

ص: 84


1- القناة: العود والرمح، والمراد به القوة والغلبة والدولة، وفي قوله «استقامت قناتهم» تمثيل لاستقامة أحوالهم.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 33 من خطبة له(علیه السلام) عند خروجه لقتال أهل البصرة.
3- علل الشرائع 1: 78.
4- الكافي 2: 662.
5- الأمالي للشيخ المفيد: 124.
6- مناقب آل أبي طالب(علیهم السلام) 1: 58.

وعن عبد اللّه بن عباس قال: دخلت على أمير المؤمنين(علیه السلام) بذي قار - وهو يخصف نعله(1) - فقال لي: «ما قيمة هذا النعل؟» فقلت: لا قيمة لها. فقال(علیه السلام): «والله، لهي أحب إلي من إمرتكم، إلّا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً»(2).

وقال أمير المؤمنين(علیه السلام): «والله، لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحتأفلاكها، على أن أعصي اللّه في نملة أسلبها جلب شعيرة(3) ما فعلته، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها(4)، ما لعلي ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى...»(5).

حقيقة الإسلام

قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «الإسلام عريان، فلباسه الحياء وزينته الوقار، ومروءته العمل الصالح، وعماده الورع، ولكل شيء أساس وأساس الإسلام حبنا أهل البيت»(6).

وقال أمير المؤمنين(علیه السلام): «لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي، ولا ينسبه أحد بعدي إلّا بمثل ذلك، إن الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو العمل، والعمل هو الأداء...»(7).وقال الإمام الصادق(علیه السلام): «الإسلام يحقن به الدم، وتؤدى به الأمانة، وتستحل به الفروج، والثواب على الإيمان»(8).

ص: 85


1- يخصف نعله: يخرزها.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 33 من خطبة له(علیه السلام) عند خروجه لقتال أهل البصرة.
3- جُلب الشعيرة، بضم الجيم: قشرتها.
4- قَضِمَت الدابة الشعير: كسرته بأطراف أسنانها.
5- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 224 من كلام له(علیه السلام) يتبرأ من الظلم.
6- الكافي 2: 46.
7- الكافي 2: 45.
8- الكافي 2: 24.

وقال الإمام الرضا(علیه السلام): «إن الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعزّ المؤمنين، إن الإمامة أس الإسلام النامي وفرعه السامي...»(1).

التأسي بالرسول(صلی الله علیه و آله)

قال أمير المؤمنين(علیه السلام): «أحب العباد إلى اللّه تعالى المتأسي بنبيه(صلی الله علیه و آله) والمقتص لأثره»(2).

وقال(علیه السلام): «ارض بمحمد(صلی الله علیه و آله) رائداً وإلى النجاة قائداً»(3).

وقال(علیه السلام): «اقتدوا بهدي نبيكم(صلی الله علیه و آله) فإنه أفضل الهدى، واستنوابسنته فإنها أهدى السنن»(4).

وقال(علیه السلام): «إن ولي محمد(صلی الله علیه و آله) من أطاع اللّه وأن بعدت لُحْمته(5)، وإن عدو محمد(صلی الله علیه و آله) من عصى اللّه وإن قربت قرابته»(6).

ص: 86


1- الكافي 1: 200.
2- بحار الأنوار 16: 285.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 144.
4- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 110، ومن خطبة له(علیه السلام) في أركان الدين.
5- لُحْمته: أي نسبه.
6- نهج البلاغة، قصار الحكم: الرقم 96.

عيد الغدير أعظم الأعياد في الإسلام

العيد في الإسلام

اشارة

قال تبارك وتعالى: «ٱليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسلَٰمَ دِيناۚ»(1).

إنّ طبيعة الأعياد في الإسلام تختلف عن الأعياد في الأديان الأخرى، فالعيد في غير الإسلام هو غالباً للحصول على مكسب مادي بحت.

مثلاً، الشخص الذي يربح في تجارته ربحاً وفيراً يتخذ ذلك اليوم عيداً له، ومن يحقّق أمنية من أمانيه يعد ذلك اليوم عيداً له، وكذلك الشخص الذي يولد له مولود يتخذ هذا اليوم عيداً، وهكذاتوجد نماذج كثيرة لهذه الأعياد في نظرهم، وخصوصاً في بعض المجتمعات الغربية ومن سار على شاكلتهم.

وبتوضيح أكثر نقول: إنّ أغلب الأعياد في غير الإسلام ترتكز على الماديات المحضة فحسب، وعلى إشباع الرغبات الجسدية فقط.

أما العيد في الإسلام فإنه يختلف اختلافاً كبيراً عن هذه الأعياد - من حيث المعنى والدلالة - فالإسلام الذي يرى الإنسان جسماً وروحاً ومادة ومعنى، ويحاول التعادل بينهما والتكافؤ فيهما، ينسّق في أعياده بين الماديات والمعنويات، ويؤكد على أنه كما يستفيد الإنسان من مظاهر العيد المادية،

ص: 87


1- سورة المائدة، الآية: 3.

يستفيد كذلك من الأمور الروحية والمعنوية أيضاً.

إن العيد في نظر الإسلام هو اليوم الذي يتنازل فيه الإنسان عن بعض الماديات لصالح أموره الروحية والمعنوية، خُذ مثلاً عيد الفطر: هذا العيد الذي يأتي بعد مرور شهر كامل على تنازلالإنسان عن أهم الحاجات الجسدية، والرغبات الشهوانية والجسمانية، وهي حاجته للطعام والشراب وما إلى ذلك من الأشياء التي يمتنع عنها الصائم في صيامه، فهو عيد قوة الروح وسلامته، والسيطرة على الشهوات والرغبات، لكسب معنوي، وهو التعادل بين الروح والجسم، إضافة إلى الثواب الآخروي، وامتلاك الإرادة الصلبة في مجال الطاعة للّه عزّ وجلّ واكتساب فضائل روحية عديدة، مثل الإحساس بالفقراء ومواساتهم، والنزوع عن هوى النفس وشهواتها، وغير ذلك.

فقد قال أمير المؤمنين الإمام علي(علیه السلام): «إنما هو عيد لمن قبل اللّه صيامه وشكر قيامه، وكل يوم لا تعصي اللّه فيه فهو يوم عيد»(1).

ومن الواضح أنّ هذا العيد لا يخصّ إنساناً واحداً بعينه، وإنْ كان يعود عليه بالنفع والفائدة، بل إنّ هذا العيد يشمل كل المجتمع، فآثاره عندنا عامة لا خاصة فقط، واجتماعية لا شخصية فحسب.أما العيد في غير الإسلام، فإنه مجرد حصول الشخص على رغبة مادية بحتة، وإن كان فيها شيء من المعنويات فهو يتغاضى عنها ولا يعبأ بها، خذ مثلاً عيد ميلاد الأشخاص العاديين، ماذا يعني ذلك عندهم؟

إنه يعني مجرد الحصول على هذا الجسم متغافلين عن الروح الذي هو جوهر الجسم وبه حياته، فهل الاحتفال بشق الإنسان وهو الجسم الأقل أهمية، ونسيان

ص: 88


1- وسائل الشيعة 15: 308.

الشق الآخر وهو الروح الأكبر أهمية، يعدّ احتفالاً كاملاً وشاملاً، ومفيداً ونافعاً!

كلاّ، ليس هذا الاحتفال احتفالاً كاملاً وشاملاً، لأنه لا يعود على جوهر الإنسان وهو روحه ومعنوياته بخير أبداً، بل يزيد في تضخيم الجسم والماديات على حساب الروح والمعنويات، ولا يكون مفيداً ولا نافعاً؛ لأنه يؤدي إلى عدم التوازن بينهما، وعدم التوازن بينهما يعني: القلق والاضطراب، والبؤس والمرض.وربَّ سائل يسأل: لماذا يحتفل المسلمون وخصوصاً الشيعة بذكرى ولادة الأنبياء والأئمة والأولياء (عليهم الصلاة والسلام)؟

وللجواب نقول: إن احتفالنا بذكرى ولادة النبي(صلی الله علیه و آله) والأئمة(علیهم السلام) هو احتفالٌ كاملٌ وشاملٌ، لأنا إضافة إلى الاحتفاء بولادتهم الجسمانية، نهتم بفضائلهم الروحية والمعنوية، ونحتشد لإحياء ما قدموه للإنسانية من خدمات عظيمة تستحق الاحتفال والتذكر دوماً.

لذا فإن الاحتفال ب-(عيد الغدير) هو باعتبار عظمة الذكرى(1) أولاً، وباعتبار أنّ الإمام(علیه السلام) علّمنا في هذا اليوم كيف نصل إلى الأمن والسلام، والسعادة والهناء وكيف نستعمل الأمور المادية لخير الإنسانية، وكيف نستفيد من الحياة لصالح الآخرة ونعيمها، وأن لا نبيع آخرتنا الباقية لدنيانا الفانية، ولا العكس بأن نترك دنيانا ونتناساها بالمرة من أجل الآخرة، فقد قال الإمام الصادق(علیه السلام): «ليسمنا من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه»(2) وهذا هو الكسب الإنساني الصحيح؛ لأنّ في اتباع ذلك الفوز بحياة سعيدة في الدنيا، وبالجنة والنجاة من النار في الآخرة.

نعم، إن عيد الغدير هو إحياء للمعنويات إلى جانب الماديات، فهو يوم تعيين

ص: 89


1- عظمة نعمة الإمامة والولاية على البشرية التي صدع بها خاتم الرسل(صلی الله علیه و آله).
2- من لا يحضره الفقيه 3: 156.

الخلافة لعلي(علیه السلام) بعد الرسول(صلی الله علیه و آله) مضافاً إلى أنه أمر معنوي سماوي نزل به جبرئيل على رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، ولهذا يعتبر هذا العيد من أهم وأعظم الأعياد عند المسلمين. وفي ذلك قال أحد أصحاب الأئمة(علیهم السلام): سألت أبا عبد اللّه(علیه السلام) هل للمسلمين عيد غير يوم الجمعة والأضحى والفطر؟

قال(علیه السلام): «نعم، أعظمها حرمة».

قلت: وأي عيد هو جعلت فداك؟!

قال(علیه السلام): «اليوم الذي نصب فيه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أمير المؤمنين(علیه السلام)، وقال: من كُنت مولاه فعلي مولاه».قلت: وأي يوم هو؟

قال(علیه السلام): «وما تصنع باليوم؟ إنّ السنة تدور، ولكنه يوم ثمانية عشر من ذي الحجة».

فقلت: ما ينبغي لنا أن نفعل في ذلك اليوم؟

قال: «تذكرون اللّه عزّ ذكره فيه بالصيام والعبادة، والذكر لمحمد وآل محمد، فإن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أوصى أمير المؤمنين(علیه السلام) أن يُتخذ ذلك اليوم عيداً، وكذلك كانت الأنبياء تفعل، كانوا يوصون أوصياءهم بذلك فيتخذونه عيداً»(1).

فعلى المسلمين اليوم أن يجعلوا هذا اليوم حافزاً لهم لعمل الخير والصلاح، والاتجاه إلى اللّه في كل عمل من أعمالهم، والوقوف بوجه الظالمين وأعداء الدين، ليزدادوا قرباً من العلي القدير.

يوم البشرى

قال تعالى: «يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغ مَآ أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّم تَفعَل فَمَا بَلَّغتَ

ص: 90


1- الكافي 4: 149.

رِسَالَتَهُۥۚ وَٱللَّهُ يَعصِمُكَمِنَ ٱلنَّاسِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهدِي ٱلقَومَ ٱلكَٰفِرِينَ»(1).

نزلت هذه الآية الكريمة على النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله) تأمره أن يبلِّغ ما أمره اللّه سبحانه به.

وقد ذكر ثقاة المفسرين أنها نزلت على النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله) لكي يبلِّغ ولاية أمير المؤمنين(علیه السلام) إلى الناس، وقد ذكر المفسرون والمؤرخون والمحدثون جميعاً في تفسير هذه الآية: أنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) قرّر الذهاب إلى الحج في السنة الأخيرة من حياته، والذي عرف في ما بعد بحجة الوداع، فوجّه(صلی الله علیه و آله) نداءه إلى المسلمين كافة يدعوهم فيه إلى أداء فريضة الحج وتعلّم مناسكه منه، فانتشر نبأ سفره، وصدى ندائه في المسلمين جميعاً، وتوافد الناس إلى المدينة المنورة، وانضمّوا إلى موكب الرسول(صلی الله علیه و آله) حتى بلغ عدد الذين خرجوا معه (120) ألفاً على أغلب الروايات، وفي بعض مصادر العامة (180) ألفاً، والتحق بالنبي(صلی الله علیه و آله) ناس كثيرون من اليمن ومكةوغيرهما، ولمّا أدى الرسول(صلی الله علیه و آله) مناسك الحج انصرف راجعاً إلى المدينة، وخرجت المسيرة التي كانت تربو على (120) ألفاً من المسلمين، حتى وصلت إلى أرض تسمى خُم(2) وفيها غدير اجتمع فيه ماء المطر يدعى (غدير خم) وكان وصولهم إليه في اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة من عام حجة الوداع وفي سنة عشر من مهاجره(صلی الله علیه و آله).

وعندما وصلت المسيرة العظيمة إلى هذه المنطقة هبط الأمين جبرئيل من عند اللّه تعالى على رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) هاتفاً بالآية الكريمة: «يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغ مَآ أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَّبِّكَۖ»(3) أي: في علي(علیه السلام) فأبلغ جبرئيل الرسول(صلی الله علیه و آله) رسالة اللّه

ص: 91


1- سورة المائدة، الآية: 67.
2- هي المنطقة التي تتشعّب منها الطرق إلى المدينة والعراق ومصر واليمن.
3- سورة المائدة، الآية: 67.

إليه: بأن يقيم علي بن أبي طالب(علیه السلام) إماماً على الناس وخليفة من بعده ووصياً له فيهم، وأن يبلغهم ما نزل في علي(علیه السلام) من الولاية وفرض الطاعة علىكل أحد.

فتوقف النبي(صلی الله علیه و آله) عن المسير وأمر أن يلحق به من تأخر عنه ويرجع من تقدم عليه، وكان الجو حاراً جداً حتى كان الرجل منهم يتصبب عرقاً من شدة الحر وبعضهم كان يضع بعض ردائه على رأسه والبعض الآخر تحت قدميه لإتقاء جمرة الحر وشدته.

وأدركتهم صلاة الظهر فصلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بالناس ومدت له ظلال على شجرات ووضعت أحداج الإبل بعضها فوق بعض حتى صارت كالمنبر، فوقف الرسول(صلی الله علیه و آله) عليها لكي يشاهده جميع الحاضرين ورفع صوته من الأعماق ملقياً فيهم خطبة بليغة مسهبة، ما زالت تصكُّ سمع الدهر، افتتحها بالحمد والثناء على اللّه سبحانه، وركّز حديثه وكلامه حول شخصية خليفته الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام)، وذكر فضائله ومناقبه ومزاياه ومواقفه المشرّفة ومنزلته الرفيعة عند اللّه ورسوله، وأمر الناس بطاعته وطاعة أهل بيته الطاهرين، وأكّد أنهم حجج اللّه تعالى الكاملة، وأولياؤه المقرَّبون وأُمناؤهعلى دينه وشريعته، وأنّ طاعتهم طاعة اللّه تعالى ورسوله ومعصيتهم معصية للّه، وإنّ شيعتهم في الجنة ومخالفيهم في النار.

وكان مما قال(صلی الله علیه و آله) بعدما نزلت آية: «يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغ مَآ أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّم تَفعَل فَمَا بَلَّغتَ رِسَالَتَهُۥۚ وَٱللَّهُ يَعصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهدِي ٱلقَومَ ٱلكَٰفِرِينَ»(1): «يا أيها الناس، إنه لم يكن نبي من الأنبياء ممن كان قبلي إلّا وقد عمره اللّه ثم دعاه فأجابه، فأوشك أن أُدعى فأجيب، وأنا مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟» فقالوا: نشهد أنك قد بلَّغت ونصحت وجهدت، فجزاك اللّه خيراً.

ص: 92


1- سورة المائدة، الآية: 67.

فقال(صلی الله علیه و آله): «ألستم تشهدون أن لا إله إلّا اللّه وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأن جنته حقّ وناره حقّ، وأنّ الموت حقّ وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ اللّه يبعث من في القبور».

قالوا: بلى نشهد بذلك.

فقال(صلی الله علیه و آله): «اللّهم اشهد»، ثم قال: «أيها الناس ألّا تسمعون؟».قالوا: نعم.

فقال(صلی الله علیه و آله): «فإني فرط على الحوض، وأنتم واردون عليّ الحوض، وإنّ عرضه ما بين صنعاء وبُصرى(1) فيه أقداح عدد النجوم من فضة فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين».

فنادى منادٍ: وما الثقلان يا رسول اللّه؟

قال(صلی الله علیه و آله): «الثقل الأكبر: كتاب اللّه، طرف بيد اللّه عزّ وجلّ وطرف بأيديكم فتمسكوا به لا تضلوا، والآخر الأصغر عترتي، وإنّ اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فسألت ذلك لهما ربي فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا»! ثم أخذ النبي(صلی الله علیه و آله) بيد الإمام علي(علیه السلام) فرفعها حتى بان بياض إبطيهما وعرفه القوم أجمعون.

فقال(صلی الله علیه و آله): «أيها الناس مَن أولى الناس بالمؤمنين مِن أنفسهم؟».

فقالوا: اللّه ورسوله أعلم.فقال(صلی الله علیه و آله): «إن اللّه مولاي وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعلي مولاه - يقولها ثلاث مرات - ثم قال: اللّهم والِ من والاه وعادِ من عاداه، وأحب من أحبَّه، وابغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل

ص: 93


1- منطقة في بلاد الشام، قصبة كورة حوران من أعمال دمشق.

من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألّا فليبلِّغ الشاهد منكم الغائب»(1).

ثم تابع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) خطبته فقال:

«فاعلموا معاشر الناس ذلك، فإن اللّه قد نصبه لكم إماماً، وفرض طاعته على كل أحد، ماض حكمه جائز قوله، ملعون من خالفه، مرحوم من صدقه، اسمعوا وأطيعوا، فإن اللّه مولاكم وعلي إمامكم، ثم الإمامة في ولدي من صلبه إلى يوم القيامة، لا حلال إلّا ما حللّه اللّه وهم، ولا حرام إلّا ما حرمه اللّه وهم فصلوه، فما من علم إلّا وقد أحصاه اللّه في ونقلته إليه - في أمير المؤمنين(علیه السلام) - .

لا تضلوا عنه ولا تستنكفوا منه، فهو الذي يهدي إلى الحقويعمل به، لن يتوب اللّه على أحد أنكره، ولن يغفر له، حتم على اللّه أن يفعل ذلك، وأن يعذبه عذاباً نكراً أبد الآبدين، فهو أفضل الناس بعدي ما نزل الرزق وبقي الخلق، ملعون من خالفه.

قولي عن جبرائيل عن اللّه «وَلتَنظُر نَفس مَّا قَدَّمَت لِغَدٖۖ»(2) افهموا محكم القرآن ولا تتبعوا متشابهه، ولن يفسر لكم ذلك إلّا من أنا آخذ بيده شائل بعضده. ألّا وقد أديت، ألّا وقد بلغت، ألّا وقد أسمعت، ألّا وقد أوضحت.

إن اللّه قال وأنا قلت عنه: لا تحل إمرة المؤمنين بعدي لأحد غيره».

ثم رفعه إلى السماء حتى صارت رجله مع ركبته(صلی الله علیه و آله) وقال:

«معاشر الناس، هذا أخي ووصيي، وواعي علمي، وخليفتي على من آمن بي وعلى تفسير كتاب ربي، اللّهم إنك أنزلت عندتبيين ذلك في علي «ٱليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم»(3) بإمامته، فمن لم يأتم به وبمن كان من ولدي من صلبه

ص: 94


1- انظر بحار الأنوار 23: 141، 152 و 37: 108.
2- سورة الحشر، الآية: 18.
3- سورة المائدة، الآية: 3.

إلى القيامة ف-«أُوْلَٰٓئِكَ حَبِطَت أَعمَٰلُهُم وَفِي ٱلنَّارِ هُم خَٰلِدُونَ»(1)...»(2).

ثم تابع الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) خطبته وحثَّ الناس على إتباع علي أمير المؤمنين(علیه السلام) وأهل بيته، وانتهت الخطبة النبوية المسهبة والتي تناولت أموراً كثيرة وحيوية بتعيين الإمام علي بن أبي طالب(علیه السلام) أميراً على المؤمنين ووصياً وخليفة لرسول ربِّ العالمين.

وقبل أن يتفرق الناس هبط جبرئيل على رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بالآية الكريمة: «ٱليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسلَٰمَ دِيناۚ»(3) وقد جاء في التفاسير:بأنّ هذه الآية جاءت بعد أنّ نصب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وبأمر من اللّه تعالى علياً أمير المؤمنين(علیه السلام) إماماً على العالمين، وتسمى هذه الآية بآية الكمال أي كمال الدين، وهي - بحسب بعض الروايات - آخر فريضة أنزلها اللّه تعالى على رسوله الكريم(صلی الله علیه و آله)(4).

وعن أبي عبد اللّه(علیه السلام) قال: «لما نزل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عرفات يوم الجمعة أتاه جبرئيل، فقال له: يا محمد، إنّ اللّه يقرؤك السلام ويقول لك: قل لأمتك: «ٱليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم» بولاية علي بن أبي طالب «وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسلَٰمَ دِيناۚ»، ولست أنزل عليكم بعد هذا، قد أنزلت عليكم الصلاة والزكاة والصوم والحج وهي الخامسة(5)، ولست أقبل هذه الأربعة إلّا بها»(6).

ص: 95


1- سورة التوبة، الآية: 17.
2- أنظر الصراط المستقيم 1: 302.
3- سورة المائدة، الآية: 3.
4- انظر تفسير العياشي 1: 293 وانظر تفسير القمي 1: 162، وتفسير فرات الكوفي: 120.
5- أي: الولاية لأمير المؤمنين(علیه السلام).
6- بحار الأنوار 37: 138.

وقد رأينا هنا أن نورد الخطبة كاملة وكما ذكرها السيد ابن طاووس الحلي الحسني(1):

عن زيد بن أرقم قال: لما أقبل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من حجة الوداع جاء حتى نزل بغدير خم بالجحفة بين مكة والمدينة، ثم أمر بالدوحات بضم ما تحتهن من شوك، ثم نودي بالصلاة جامعة، فخرجنا إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في يوم شديد الحر، وإن منا من يضع رداءه تحت قدميه من شدة الحر والرمضاء، ومنا من يضعه فوق رأسه، فصلى بنا(صلی الله علیه و آله) ثم التفت إلينا فقال:

«الحمد للّه الذي علا في توحيده ودنا في تفرده وجلّ في سلطانه وعظم في أركانه وأحاط بكل شيء وهو في مكانه وقهر جميع الخلق بقدرته وبرهانه، حميداً لم يزل ومحموداً لا يزال ومجيداً لا يزول، ومبدياً ومعيداً وكل أمر إليه يعود، بارئ الممسوكات وداحي المدحوات، متفضل على جميع من برأه متطول على كلمن ذرأه، يلحظ كل نفس والعيون لا تراه، كريم حليم ذو أناة قد وسع كل شيء رحمته ومن عليهم بنعمته، لا يعجل بانتقامه ولا يبادر إليهم بما يستحقون من عذابه، قد فهم السرائر وعلم الضمائر ولم يخف عليه المكنونات ولا اشتبه عليه الخفيات، له الإحاطة بكل شيء والغلبة لكل شيء والقوة في كل شيء والقدرة على كل شيء، ليس كمثله شيء، وهو منشئ حي حين لا حي، ودائم حي وقائم بالقسط، لا إله إلّا هو العزيز الحكيم.

جل أن تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، لا يلحق وصفه أحد من معاينة، ولا يحده أحد كيف هو من سر وعلانية إلّا بما دل هو عزّ وجلّ على نفسه، أشهد له بأنه اللّه الذي ملأ الدهر قدسه والذي يغشى الأمد نوره

ص: 96


1- التحصين: 578.

وينفذ أمره بلا مشاورة ولا مع شريك في تقدير ولا يعاون في تدبيره، صور ما ابتدع على غير مثال، وخلق ما خلق بلا معونة من أحد ولا تكلف ولا اختبال، شاءها فكانت، وبرأها فبانت.فهو اللّه لا إله إلّا هو المتقن الصنعة والحسن الصنيعة، العدل الذي لا يجور، والأكرم الذي إليه مرجع الأمور، أشهد أنه اللّه الذي تواضع كل شيء لعظمته، وذل كل شيء لهيبته، مالك الأملاك ومسخر الشمس والقمر، كل يجري لأجل مسمى، يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل يطلبه حثيثاً، قاصم كل جبار عنيد وكل شيطان مريد، لم يكن له ضد ولم يكن معه ند، أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، إلهاً واحداً ماجداً، شاء فيمضي ويريد ويقضي ويعلم ويحصي ويميت ويحيي ويفقر ويغني ويضحك ويبكي ويدني ويقصي ويمنع ويعطي، له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير.

لا يولج لليل في نهار ولا مولج لنهار في ليل، إلّا هو مستجيب للدعاء، مجزل العطاء محصي الأنفاس رب الجنة والناس، الذي لا يشكل عليه لغة ولا يضجره مستصرخ لا يبرمه إلحاح الملحين، العاصمللصالحين والموفق للمفلحين مولى المؤمنين ورب العالمين، الذي استحق من كل خلق أن يشكره ويحمده على كل حال.

أحمده كثيراً وأشكره دائماً على السراء والضراء والشدة والرخاء، وأؤمن به وبملائكته وكتبه ورسله، أسمع لأمره وأطيع وأبادر إلى رضاه وأسلم لما قضاه، رغبة في طاعته وخوفاً من عقوبته؛ لأنه اللّه الذي لا يؤمن مكره ولا يخاف جوره، أقر له على نفسي بالعبودية وأشهد له بالربوبية وأؤدي أن لا إله إلّا هو، لأنه قد أعلمني أني إذا لم أبلغ ما أنزل إلي لما بلغت رسالته، وقد ضمن لي العصمة وهو اللّه الكافي الكريم. أوحى إلي: «بِسمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ * يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغ مَآ أُنزِلَ

ص: 97

إِلَيكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّم تَفعَل فَمَا بَلَّغتَ رِسَالَتَهُۥۚ وَٱللَّهُ يَعصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِۗ»(1) - إلى آخر الآية - .

معاشر الناس، وما قصرت في ما بلغت، ولا قعدت عن تبليغ ما أنزله، وأنا أبين لكم سبب هذه الآية: إن جبرئيل(علیه السلام) هبط إليمراراً ثلاثاً، فأمرني عن السلام رب السلام، أن أقوم في هذا المشهد وأعلم كل أبيض وأسود: أن علي بن أبي طالب أخي ووصيي وخليفتي والإمام من بعدي، الذي محله مني محل هارون من موسى إلّا أنه لا نبي بعدي، ووليكم بعد اللّه ورسوله نزل بذلك آية هي: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم رَٰكِعُونَ»(2). وعلي بن أبي طالب الذي أقام الصلاة وآتى الزكاة وهو راكع، يريد اللّه تعالى في كل حال.

فسألت جبرئيل(علیه السلام) أن يستعفي لي السلام من تبليغي ذلك إليكم أيها الناس؛ لعلمي بقلة المتقين وكثرة المنافقين ولأعذال الظالمين وأدغال الآثمين وحيلة المستشرين، الذين وصفهم اللّه تعالى في كتابه بأنهم: «يَقُولُونَ بِأَلسِنَتِهِم مَّا لَيسَ فِي قُلُوبِهِمۚ»(3) ويحسبونه «هَيِّنا وَهُوَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيم»(4)،وكثرة أذاهم لي مرة بعد أخرى، حتى سموني أذناً، وزعموا أني هو لكثرة ملازمته إياي وإقبالي عليه وهواه وقبوله مني، حتى أنزل اللّه تعالى في ذلك لا إله إلّا هو: «ٱلَّذِينَ يُؤذُونَ ٱلنَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنۚ قُل أُذُنُ خَيرٖ لَّكُم»(5) - إلى آخر الآية - ولو شئت أن أسمي القائلين

ص: 98


1- سورة المائدة، الآية: 67.
2- سورة المائدة، الآية: 55.
3- سورة الفتح، الآية: 11.
4- سورة النور، الآية: 15.
5- سورة التوبة، الآية: 61.

بأسمائهم لأسمينهم، وأن أومي إليهم بأعيانهم لأومأت، وأن أدل عليهم لدللت، ولكني واللّه بسترهم قد تكرمت.

وكل ذلك لا يرضى اللّه مني إلّا أن أبلغ ما أنزل إلي «بَلِّغ مَآ أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَّبِّكَۖ»(1) - إلى آخر الآية - واعلموا معاشر الناس ذلك وافهموه. واعلموا أن اللّه قد نصبه لكم ولياً وإماماً، فرض طاعته على المهاجرين والأنصار وعلى التابعين بإحسان، وعلىالبادي والحاضر، وعلى العجمي والعربي، وعلى الحر والمملوك، والصغير والكبير، وعلى الأبيض والأسود، وعلى كل موجود، ماض حكمه وجاز قوله ونافذ أمره، ملعون من خالفه ومرحوم من صدقه، قد غفر اللّه لمن سمع وأطاع له.

معاشر الناس، إنه آخر مقام أقومه في هذا المشهد، فاسمعوا وأطيعوا وانقادوا لأمر اللّه ربكم، فإن اللّه هو مولاكم وإلهكم، ثم من دونه رسوله ونبيه محمد القائم المخاطب لكم، ومن بعده علي وليكم وإمامكم، ثم الإمامة في ولدي الذين من صلبه إلى يوم القيامة ويوم يلقون اللّه ورسوله، لا حلال إلّا ما أحله اللّه، ولا حرام إلّا ما حرمه اللّه عليكم، وهو واللّه عرفني الحلال والحرام، وأنا وصيت بعلمه إليه.

معاشر الناس، فصلوه ما من علم إلّا وقد أحصاه اللّه في، وكل علم علمته فقد علمته علياً، وهو المبين لكم بعدي.

معاشر الناس، فلا تضلوا عنه ولا تفروا منه، ولا تستنكفواعن ولايته، فهو الذي يهدي إلى الحق ويعمل به، ويزهق الباطل وينهى عنه، لا تأخذه في اللّه لومة لائم، أول من آمن باللّه ورسوله، والذي فدى رسول اللّه بنفسه، والذي كان

ص: 99


1- سورة المائدة، الآية: 67.

مع رسول اللّه، ولا يعبد اللّه مع رسوله غيره.

معاشر الناس، فضلوه فقد فضله اللّه، واقبلوه فقد نصبه اللّه.

معاشر الناس، إنه إمام من اللّه، ولن يتوب اللّه على أحد أنكره، ولن يغفر اللّه له حتماً على اللّه أن يفعل ذلك، وأن يعذبه عذاباً نكراً أبد الأبد، ودهر الدهر، واحذروا أن تخالفوا فتصلوا بنار «وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلحِجَارَةُۖ أُعِدَّت لِلكَٰفِرِينَ»(1).

معاشر الناس، لي واللّه بشرى لأكون من النبيين والمرسلين والحجة على جميع المخلوقين من أهل السماوات والأرضين، فمن شك في ذلك فقد كفر كفر الجاهلية الأولى، ومن شك في شيء من قولي فقد شك في الكل منه، والشاك في ذلك في النار.معاشر الناس، حباني اللّه بهذه الفضيلة مناً منه عليّ وإحساناً منه إلي، لا إله إلّا هو، ألّا له الحمد مني أبد الأبد، ودهر الدهر على كل حال.

معاشر الناس، فضلوا علياً فهو أفضل الناس بعدي من ذكر وأنثى، مانزل الرزق وبقي الخلق، ملعون ملعون من خالفه مغضوب عليه، قولي عن جبرئيل، وقول جبرئيل عن اللّه عزّ وجلّ، فلتنظر نفس ما قدمت لغد، واتقوا اللّه أن يخالفوه إن اللّه خبير بما تعملون.

معاشر الناس، تدبروا القرآن وافهموا آياته ومحكماته، ولا تبتغوا متشابهه؛ فواللّه لن يبين لكم زواجره، ولن يوضح لكم تفسيره، إلّا الذي أنا آخذ بيده، ومصعده إلي، وشائل عضده ورافعها بيدي، ومعلمكم، من كنت مولاه فهو مولاه، وهو علي بن أبي طالب أخي ووصيي، أمر من اللّه نزله علي.

معاشر الناس، إن علياً والطيبين من ولدي من صلبه هم الثقلالأصغر والقرآن

ص: 100


1- سورة البقرة، الآية: 24.

الثقل الأكبر، وكل واحد منهما مبني على صاحبه، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، أمر من اللّه في خلقه وحكمه في أرضه. ألّا وقد أديت، ألّا وقد بلغت، ألّا وقد أسمعت، ألّا وقد نصحت، ألّا إن اللّه تعالى قال، وأنا قلت عن اللّه، ألّا وإنه لا أمير للمؤمنين غير أخي هذا، ألّا ولا يحل إمرة المؤمنين بعدي لأحد غيره».

ثم ضرب بيده إلى عضده فرفعه، وكان أمير المؤمنين(علیه السلام) منذ أول ما صعد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) منبره على درجة دون مقامه، متيامناً عن وجه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) كأنهما في مقام واحد، فرفعه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بيده وبسطها إلى السماء، وشال علياً(علیه السلام) حتى صارت رجله مع ركبة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ثم قال:

«معاشر الناس، هذا علي أخي ووصيي، وواعي علمي، وخليفتي على من آمن بي، وعلى تفسير كتاب ربي، والدعاء إليه، والعمل بما يرضاه، والمحاربة لأعدائه، والدال على طاعته،والناهي عن معصيته، خليفة رسول اللّه، وأمير المؤمنين، والإمام والهادي من اللّه، بأمر اللّه، يقول اللّه عزّ وجلّ: «مَا يُبَدَّلُ ٱلقَولُ لَدَيَّ»(1) بأمرك أقول: اللّهم، وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، والعن من أنكره، واغضب على من جحده، اللّهم، إنك أنزلت الآية في علي وليك عند تبين ذلك ونصبك إياه لهذا اليوم: «ٱليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسلَٰمَ دِيناۚ»(2)، «وَمَن يَبتَغِ غَيرَ ٱلإِسلَٰمِ دِينا فَلَن يُقبَلَ مِنهُ وَهُوَ فِي ٱلأٓخِرَةِ مِنَ ٱلخَٰسِرِينَ»(3)، اللّهم، إني أشهدك أني قد بلغت.

معاشر الناس، إنما أكمل اللّه لكم دينكم بإمامته، فمن لم يأتم به وبمن كان

ص: 101


1- سورة ق، الآية: 29.
2- سورة المائدة، الآية: 3.
3- سورة آل عمران، الآية: 85.

من ولدي من صلبه إلى يوم القيامةوالعرض على اللّه، ف-«أُوْلَٰٓئِكَ حَبِطَت أَعمَٰلُهُم وَفِي ٱلنَّارِ هُم خَٰلِدُونَ»(1) لا يخفف العذاب عنهم ولا هم ينظرون.

معاشر الناس، هذا أنصركم لي، وأحق الناس بي، واللّه عنه وأنا راضيان، وما أنزلت آية رضاً إلّا فيه، ولا خاطب اللّه الذين آمنوا إلّا بدأ به، وما أنزلت آية في مدح في القرآن إلّا فيه، ولا سأل اللّه بالجنة في «هَل أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَٰنِ»(2) إلّا له، ولا أنزلها في سواه، ولا مدح بها غيره.

معاشر الناس، هو يؤدي دين اللّه، والمجادل عن رسول اللّه، والتقي النقي الهادي المهدي نبيه، خير نبي، ووصيه خير وصي.

معاشر الناس، ذرية كل نبي من صلبه وذريتي من صلب أمير المؤمنين علي.

معاشر الناس، إن إبليس أخرج آدم من الجنة بالحسد فلاتحسدوه فتحبط أعمالكم وتزل أقدامكم، أهبط آدم بخطيئته وهو صفوة اللّه، فكيف أنتم؟ فإن أبيتم فأنتم أعداء اللّه. ما يبغض علياً إلّا شقي، ولا يوالي علياً إلّا تقي، ولا يؤمن به إلّا مؤمن مخلص، في علي واللّه نزل سورة والعصر «بِسمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ * وَٱلعَصرِ * إِنَّ ٱلإِنسَٰنَ لَفِي خُسرٍ»(3) إلّا علي، الذي آمن ورضي بالحق والصبر.

معاشر الناس، قد أشهدني اللّه وأبلغتكم، «وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلَّا ٱلبَلَٰغُ ٱلمُبِينُ»(4).

معاشر الناس، «ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسلِمُونَ»(5).

معاشر الناس، آمنوا باللّه ورسوله والنور الذي أنزلناه «مِّن قَبلِ أَن نَّطمِسَ

ص: 102


1- سورة التوبة 17.
2- سورة الإنسان، الآية: 1.
3- سورة العصر، الآية: 1-2.
4- سورة النور، الآية: 54.
5- سورة آل عمران، الآية: 102

وُجُوها فَنَرُدَّهَا عَلَىٰٓ أَدبَارِهَآ أَونَلعَنَهُم كَمَا لَعَنَّآ أَصحَٰبَ ٱلسَّبتِۚ»(1).

معاشر الناس، النور من اللّه تعالى فيّ، ثم مسلوك في علي، ثم في النسل منه إلى القائم المهدي، الذي يأخذ بحق، وبكل حق هو لنا، بقتل المقصرين والغادرين والمخالفين والخائنين والآثمين والظالمين من جميع العالمين.

معاشر الناس، إني أنذر لكم أني رسول اللّه، قد خلت من قبلي الرسل، فإن مت أو قتلت «ٱنقَلَبتُم عَلَىٰٓ أَعقَٰبِكُمۚ وَمَن يَنقَلِب عَلَىٰ عَقِبَيهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَئاۗ وَسَيَجزِي ٱللَّهُ ٱلشَّٰكِرِينَ»(2) ألّا إن علياً الموصوف بالصبر والشكر، ثم من بعده ولدي من صلبه.

معاشر الناس، على اللّه فينا ما لا يعطيكم اللّه ويسخط عليكم ويبتليكم بسوط عذاب، إن ربكم لبالمرصاد.

معاشر الناس، سيكون بعدي أئمة يدعون إلى النار، ويومالقيامة لا ينصرون.

معاشر الناس، إن اللّه تعالى وأنا بريئان منهم.

معاشر الناس، إنهم وأشياعهم وأنصارهم وأتباعهم «فِي ٱلدَّركِ ٱلأَسفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ»(3) و«فَبِئسَ مَثوَى ٱلمُتَكَبِّرِينَ»(4).

معاشر الناس، إني أدعها إمامة ووراثة، وقد بلغت ما بلغت، حجة على كل حاضر وغائب، وعلى كل أحد ممن ولد وشهد، ولم يولد ولم يشهد، يبلغ الحاضر الغائب، والوالد الولد إلى يوم القيامة، وسيجعلونها ملكاً واغتصاباً، فعندها يفرغ لكم أيها الثقلان من يفرغ و«يُرسَلُ عَلَيكُمَا شُوَاظ مِّن نَّارٖ وَنُحَاس فَلَا

ص: 103


1- سورة النساء، الآية: 47.
2- سورة آل عمران، الآية: 144.
3- سورة النساء، الآية: 145.
4- سورة الزمر، الآية: 72.

تَنتَصِرَانِ»(1).

معاشر الناس، إن اللّه تعالى لم يكن ليذركم على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب، وما كان اللّه ليطلعكم على الغيب.معاشر الناس، إنه ما من قرية إلّا واللّه مهلكها قبل يوم القيامة، ومملكها الإمام المهدي، واللّه مصدق وعده.

معاشر الناس، قد ضل قبلكم أكثر الأولين، واللّه فقد أهلك الأولين بمخالفة أنبيائهم، وهو مهلك الآخرين»، ثم تلا(صلی الله علیه و آله) الآية إلى آخرها.

ثم قال:

«معاشر الناس، إن اللّه أمرني ونهاني، وقد أمرت علياً ونهيته، وعلم الأمر والنهي لديه، فاسمعوا لأمره، وتنهوا لنهيه، ولا يفرق بكم السبل عن سبيله.

معاشر الناس، أنا صراط اللّه المستقيم الذي أمركم اللّه أن تسلكوا الهدى إليه، ثم علي من بعدي، ثم ولدي من صلبه أئمة الهدى، يهدون بالحق وبه يعدلون»، ثم قرأ(صلی الله علیه و آله) الحمد(2).

وقال: «في من ذكرت ذكرت فيهم، واللّه فيهم نزلت، ولهمواللّه شملت، وآباءهم خصت وعمّت، أولئك أولياء اللّه الذين «لَا خَوفٌ عَلَيهِم وَلَا هُم يَحزَنُونَ»(3) و«حِزبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلغَٰلِبُونَ»(4)، ألّا إن أعداءهم هم الشقاء والغاوون وإخوان الشياطين، الذين «يُوحِي بَعضُهُم إِلَىٰ بَعضٖ زُخرُفَ ٱلقَولِ غُرُوراۚ»(5)، ألّا إن

ص: 104


1- سورة الرحمن، الآية: 35.
2- أي سورة فاتحة الكتاب.
3- سورة البقرة، الآية: 62.
4- سورة المائدة، الآية: 56.
5- سورة الأنعام، الآية: 112.

أولياءهم الذين ذكر اللّه في كتابه، المؤمنين الذين وصف اللّه فقال: «لَّا تَجِدُ قَوما يُؤمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱليَومِ ٱلأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَن حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَو كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُم أَو أَبنَآءَهُم أَو إِخوَٰنَهُم أَو عَشِيرَتَهُمۚ أُوْلَٰٓئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَٰنَ»(1) - إلى آخر الآية - ، ألّا إن أولياءهم المؤمنون الذين وصفهم اللّه أنهم «لَم يَلبِسُوٓاْ إِيمَٰنَهُم بِظُلمٍ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلأَمنُ وَهُم مُّهتَدُونَ»(2) ألّا إن أولياءهم الذين آمنوا ولم يرتابوا، ألّا إنأولياءهم الذين يدخلون الجنة بسلام آمنين، وتتلقاهم الملائكة بالتسليم أن «طِبتُم فَٱدخُلُوهَا خَٰلِدِينَ»(3) ألّا إن أولياءهم لهم «ٱلجَنَّةَ يُرزَقُونَ فِيهَا بِغَيرِ حِسَابٖ»(4)، ألّا إن أعداءهم الذين «وَسَيَصلَونَ سَعِيرا»(5)، ألّا إن أعداءهم الذين يسمعون لجهنم شهيقاً، ويرون لها زفيراً «كُلَّمَا دَخَلَت أُمَّة لَّعَنَت أُختَهَاۖ»(6) - إلى آخر الآية - ، ألّا إن أعداء اللّه الذين قال اللّه: «كُلَّمَآ أُلقِيَ فِيهَا فَوج سَأَلَهُم خَزَنَتُهَآ أَلَم يَأتِكُم نَذِير»(7) - إلى آخر الآية - ، ألّا «فَسُحقا لِّأَصحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ»(8)، ألّا وإن أولياءهم «إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخشَونَ رَبَّهُم بِٱلغَيبِ لَهُممَّغفِرَة وَأَجر كَبِير»(9).

معاشر الناس، شتان ما بين السعير والأجر الكبير.

معاشر الناس عدونا كل من ذمه اللّه ولعنه وولينا كل من أحبه اللّه ومدحه.

ص: 105


1- سورة المجادلة، الآية: 22.
2- سورة الأنعام، الآية: 82.
3- سورة الزمر، الآية: 73.
4- سورة غافر، الآية: 40.
5- سورة النساء، الآية: 10.
6- سورة الأعراف، الآية: 38.
7- سورة الملك، الآية: 8.
8- سورة الملك، الآية: 11.
9- سورة الملك، الآية: 12.

معاشر الناس ألّا إني النذير وعلي البشير. معاشر الناس إني منذر وعلي هاد.

معاشر الناس ألّا إني نبي وعلي وصي. معاشر الناس ألّا إني رسول وعلي الإمام والأئمة من بعده ولده والأئمة منه ومن ولده ألّا وإني والدهم وهم يخرجون من صلبه.

ألّا وإني والدهم وخاتم الأئمة منا القائم المهدي الظاهر على الدين. ألّا إنه المنتقم من الظالمين. ألّا إنه فاتح الحصون وهادمها. ألّا إنه غالب كل قبيلة من الترك وهاديها. ألّا إنه المدرك لكل ثار لأولياء اللّه. ألّا إنه ناصر دين اللّه. ألّا إنه المصباح من البحر العميق الواسم لكل ذي فضل بفضله وكل ذي جهل بجهله. ألّا إنهخيرة اللّه ومختاره. ألّا إنه وارث كل علم والمحيط بكل فهم ألّا إنه المخبر عن ربه والمشيد لأمر آياته. ألّا إنه الرشيد السديد. ألّا إنه المفوض إليه. ألّا إنه قد بشر به كل نبي سلف بين يديه. ألّا إنه الباقي في أرضه وحكمه في خلقه وأمينه في علانيته وسره.

معاشر الناس، إني قد بينت لكم وأفهمتكم وهذا علي يفهمكم بعدي. ألّا وعند انقضاء خطبتي أدعوكم إلى مصافقتي على يدي ببيعته والإقرار له ثم مصافقته بعد يدي. ألّا إني قد بايعت اللّه وعلي قد بايع لي وأنا أمدكم بالبيعة له عن اللّه عزّ وجلّ: «فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفسِهِۦۖ»(1) - إلى آخر الآية - معاشر الناس، ألّا وإن الحج والعمرة من شعائر اللّه «فَمَن حَجَّ ٱلبَيتَ أَوِ ٱعتَمَرَ»(2) - إلى آخر الآية - معاشر الناس، حجوا البيت فما ورده أهل بيت إلّا تموا وأبشروا ولا تخلفوا عنه إلّا تُبرّوا(3)وافتقروا.

ص: 106


1- سورة الفتح، الآية: 10.
2- سورة البقرة، الآية: 158.
3- تُبّروا: أي أُهكلوا.

معاشر الناس، ما وقف بالموقف مؤمن إلّا غفر له ما سلف من ذنبه إلى وقته ذلك فإذا انقضت حجته استؤنف به معاشر الناس الحاج معانون ونفقاتهم مخلفة عليهم واللّه لا يضيع أجر المحسنين.

معاشر الناس، حجوا بكمال في الدين وتفقه ولا تنصرفوا عن المشاهد إلّا بتوبة إقلاع.

معاشر الناس أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة كما أمرتكم فإن طال عليكم الأمد فقصرتم أو نسيتم فَعَليٌّ وليكم الذي نصبه اللّه لكم ومن خلقه مني وأنا منه يخبركم بما تسألون ويبين لكم ما لا تعلمون. ألّا وإن الحلال والحرام أكثر من أن أحصيها وأعدها فآمر بالحلال وأنهى عن الحرام في مقام واحد، وأمرت فيه أن آخذ البيعة عليكم والصفقة لكم بقبول ما جئت به من اللّه عزّ وجلّ في علي أمير المؤمنين والأوصياء من بعده الذين هم مني ومنه إمامة فيهم قائمة خاتمها المهدي إلى يوم يلقى اللّه الذي يقدرويقضي.

ألّا معاشر الناس وكل حلال دللتكم عليه وحرام نهيتكم عنه فإني لم أرجع عن ذلك ولم أبدل. ألّا فادرسوا ذلك واحفظوه وتواصوا به ولا تبدلوه. ألّا وإني أجدد القول. ألّا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ومروا بالمعروف وانهوا عن المنكر. ألّا وإن رأس الأمر بالمعروف أن تنبهوا قولي إلى من يحضر ويأمروه بقبوله عني ونبهوه عن مخالفته فإنه أمر من اللّه تعالى».

فهذه هي البشرى، بشرى ولاية أمير المؤمنين(علیه السلام) فمن تمسّك بها فاز بدنيا سعيدة، وآخرة حميدة بأعلى الجنان، ومن لا يؤمن بها فقد ضل ضلالاً مُبيناً وخسر دنياه وآخرته.

نسأل اللّه تعالى أن يجعلنا من المتمسكين بولاية أمير المؤمنين(علیه السلام) والعاملين بها.

ص: 107

ولهذه المناسبة العظيمة نذكر قصيدة في مدح أمير المؤمنين الإمام علي(علیه السلام) أوردها الشيخ الكفعمي في مصباحه ذكرفيها من فضائله قليلاً من كثير مع الإشارة فيها إلى يسير من أسماء يوم الغدير(1):

هنيئاً هنيئاً ليوم الغدير*** ويوم النصوص ويوم السرور

ويوم الكمال لدين الإله*** وإتمام نعمة رب غفور

ويوم الدليل على المرتضى*** ويوم البيان لكشف الضمير

ويوم الرشاد وإبداء ما*** تجن به مضمرات الصدور

ويوم الأمان ويوم النجاة*** ويوم التعاطف ويوم الحبور

ويوم الصلاة ويوم الزكاة*** ويوم الصيام ويوم الفطور

يوم العقود ويوم الشهود*** ويوم العهود لصنو البشر

ويوم الطعام ويوم الشراب*** ويوم اللباس ويوم النحور

ويوم تواصل أرحامكم*** ويوم العطاء وبر الفقير

ويوم تفرج كرب الوصي*** بموت ابن عفان أهل الفجور

ويوم لشيث ويوم لهود*** ويوم لإدريس ما من نكير

ويوم نجاة النبي الخليل*** من النار ذات الوقود السعير

ويوم الظهور على الساحرين*** وإغراق فرعون ماء البحور

ويوم الظهور على الساحرين*** وإغراق فرعون ماء البحور

ويوم لموسى وعيسى معاً*** ويوم سليمان من غير ضير

ويوم الوصية للأنبياء*** على الأوصياء بكل الدهور

ويوم انكشاف المقام الصراح*** وإيضاح برهان سر الأمور

ص: 108


1- المصباح للكفعمي: 701.

ويوم الجزاء وحط الآثام*** ويوم الميارة للمستمير

ويوم البشارة يوم الدعاء*** وعيد الإله العلي الكبير

ويوم البياض ونزع السواد*** وموقف عزّ خلا من نظير

ويوم السباق ونفي الهموم*** وصفح الإله عن المستجير

ويوم السباق ونفي الهموم*** وصفح الإله عن المستجير

ويوم اشتمام أريج المسوك*** وعنبرها وأريج العبير

ويوم مصافحة المؤمنين*** ويوم التخلص من كل ضير

ويوم الدليل على الرائدين*** ومحنة عبد ويوم الطهور

ويوم انعتاق رقاب جنت*** من النار يا صاح ذات السعير

ويوم الشروط ونشر النزاع*** وترك الكبائر بعد الغرور

ويوم النبي ويوم الوصي*** ويوم الأئمة من غير زور

ويوم الخطابة من جبرئيل*** بمنبر عزّ على السرير

ويوم الخطابة من جبرئيل*** بمنبر عزّ على السرير

ويوم الفلاح ويوم النجاح*** ويوم الصلاح لكل الأمور

ويوم يكف يراع الإله*** من المؤمنين بنسخ الشرور

ويوم التهاني ويوم الرضا*** ويوم استزادة رب شكور

ويوم استراحة أهل الولاء*** ويوم تجارة أهل الأجور

ويوم الزيارة للمؤمنين*** ويوم ابتسام ثنايا الثغور

ويوم التودد للأولياء*** وإلباس إبليس ثوب الدحور

ويوم انشراح أهيل الصلاح*** وحزن قلوب أهيل الفجور

ويوم انشراح أهيل الصلاح*** وحزن قلوب أهيل الفجور

ويوم ارتغام أنوف العداء*** ويوم القبول وجبر الكسير

ويوم العبادة يوم الوصول*** إلى رحمات العلي القدير

ص: 109

ويوم السلام على المصطفى*** وعترته الأطهرين البدور

ويوم الإمارة للمرتضى*** أبي الحسنين الإمام الأمير

ويوم اشتراط ولاء الوصي*** على المؤمنين بيوم الغدير

ويوم الولاية في عرضها*** على كل خلق السميع البصير

ويوم الزيادة ما ينفقون*** بمائة ألف خلت من نظير

ويوم الزيادة ما ينفقون*** بمائة ألف خلت من نظير

ويوم المعارج في رفعها*** وأنباء فضل عظيم كبير

فهذا الإمام عديم النظير*** وأنى يكون له من نظير

وأين الصباب وأين السحاب*** وليس الكواكب مثل البدور

ومن يجعل الوجه مثل القفا*** ومن يجعل النور مثل[بدر] الدجور

ومن يجعل الأرض مثل السماء*** وليس الصحيح كمثل الكسير

وأين الثريا وأين الثرى*** وليس العناق كمثل النمير

ومن يجعل الضبع مثل الأسود*** ومن يجعل النهر مثل البحور

ومن يجعل الضبع مثل الأسود*** ومن يجعل النهر مثل البحور

وليس العصي شبيه السيوف*** ومن يجعل الصعو مثل الصقور

وأين المعلى وأين السفيح*** وليس الوفاة كمثل النشور

وأين المجلى وأين اللطيم*** وليس البصير كمثل الضرير

ومن يجعل الدر مثل الحصى*** ودرهم زيف كمثل النضير

علي الوصي وصي النبي*** وغوث الولي وحتف الكفور

إمام الأنام ونور الظلام*** وغيث الغمام الهطول الغزير

سفين النجاة وعين الحياة*** ومردي الكماة بسيف مبير

سفين النجاة وعين الحياة*** ومردي الكماة بسيف مبير

حمام الطغاة وهادي الهداة*** مبيد الشراة بأرض الثبور

ص: 110

غياث المحول وزوج البتول*** وصنو الرسول السراج المنير

فصيح المقال مليح الفعال*** عظيم الجلال وصي البشير

أمير الثبات عظيم البيات*** بحرب العداة وفك الأسير

ثبيت الأساس زكي الغراس*** جميل النحاس وبدر البدور

نقي الجيوب شجاع الحروب*** ونافي الكروب ببأس مرير

ذكي البخار عظيم الفخار*** ومجدي النضار إلى المستجير [المستمير]

ذكي البخار عظيم الفخار*** ومجدي النضار إلى المستجير [المستمير]

أمان البلاد وساقي العباد*** بيوم المعاد بعذب نمير

صلاح الزمان وغيث هتان*** قسيم الجنان قسيم السعير

همام الصفوف ومقري الضيوف*** وعند الزحوف كليث هصور

مزيل الشرور وصدر الصدور*** حياة الشكور وموت الكفور

علي العماد وواري الزناد*** دليل الرشاد إلى كل خير

أقام الصلاة وآتى الزكاة*** ومولى العفاة وجبر الكسير

هو الهاشمي هو الأبطحي*** هو الطالبي وبدر البدور

هو الهاشمي هو الأبطحي*** هو الطالبي وبدر البدور

مكلم ذئب الفلا جهرة*** وقالع صخر قليب النمير

و من قد هوى النجم في داره*** ومن قاتل الجن في قعر بير

مزك بخاتمه راكعاً*** ومجدي الإجارة للمستجير

و جاء الحديث من المصطفى*** علي مع الحق في كل دور

حديث المحبة لا يختفي*** يضاهي الذكاء إذا في الظهور

رتاج مدينة علم النبي*** ويعسوب دين الإله المنير

مقام علي من المصطفى*** كموسى وهارون ما من نكيرمقام

علي من المصطفى*** كموسى وهارون ما من نكير

ص: 111

فراش النبي علاه نيام*** بمكة يفديه من كل ضير

وسل عنه بدراً وأحداً ترى*** له سطوات شجاع جسور

وسل عنه عمراً وسل مرحباً*** وسل عنه صفين ليل الهرير

و كم نصر الطهر في معرك*** بسيف صقيل وعزم مرير

و في وقعة الجمل العائشي*** بنصف جمادى خلا من نظير

غزاة السلاسل لا تنسها*** وهضام أسكنه في القبور

و ست وعشرون حرب روي*** مع الهاشمي البشير النذير

و كم بذل النفس يوم النزال*** فيردي الكماة بقطع النحور

خفيف على صهوات الجياد*** ثقيل على سطوات الكفور

أمير السرايا بأمر النبي*** وما من عليه بها من أمير

إمام مكلم أهل الرقيم*** بعيد الممات قبيل النشور

و ثعبان مسجده جهرة*** أتاه وكلمه في الحضور

و سد النبي لأبوابهم*** سوى بابه فتحت للمرور

و في السطل والماء فخراً له*** بعثه الإله لأجل الطهور

همام قضى اللّه في عرشه*** ولادته في المكان الخطير

و ردت له الشمس في بابل*** وآثر بالقرص قبل الفطور

ترى ألف عبد له معتقاً*** ويختار في القوت قرص الشعير

و سار على الريح فوق البساط*** نقله المؤالف من غير مزور

إمام قد أنبأ بالغائبات*** بجمع عظيم وجم غفير

وغسل سلمان في ليلة*** وعاد إلى طيبة في الدجور

ص: 112

وداد أتاه من المؤمنين*** بسورة مريم ما من نكير

وفي سورة الرعد سماه هاد*** واسم النبي بمعنى النذير

وآية من يشتري نفسه*** ذكره الإله بطرس الزبوروآية

من يشتري نفسه*** ذكره الإله بطرس الزبور

وفي مدحه نزلت هل أتى*** وفي ولديه وبنت البشير

جزاهم بما صبروا جنة*** وملكاً كبيراً ولبس الحرير

و حلوا أساور من فضة*** ويسقيهم من شراب طهور

و كم آية نزلت فيهم*** بطرس الكتاب خلال السطور

كآي الولاية ثم التناجي*** وآي المودة ما من نكير

و آي التباهل دلت على*** مقام عظيم ومجد كبير

وآية «وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّٰدِقِينَ»(1)*** وقد شركوا بالكتاب المنير

من الرجس قد عصموا في الكتاب*** وأعطى الإمامة [الأمانة] من غير زور

إمامي علي لسان البليغ*** قد أضحى بوصفكم في حسور

و كيف نقول لمن قال فيه*** رسول الإله اللطيف الخبير

بعجز الملائك والعالمين*** عن إحصاء مفخره المستنير

ولو أنهم جهدوا جهدهم*** لما وصفوه بعشر العشير

مفاخر تحكي أواذي البحار*** ومن ذا يعد أواذي البحور

ومن ذا يعد رمال الورى*** وقطر السحاب القوي الغزير

وأولاده الغر سفن النجاة*** هداة الأنام إلى كل نور

ومن كتب اللّه في عرشه*** لأسمائهم قبل خلق الدهور

ص: 113


1- سورة التوبة، الآية: 119.

وفي كتب موسى وعيسى ترى*** ومن قبلها أثبتت في الزبور

هم الطيبون هم الطاهرون*** هم الأكرمون ورفد الفقير

هم الزاهدون هم العابدون*** هم الحامدون لرب شكور

هم التائبون هم الراكعون*** هم الساجدون لمولى قديرهم

العالمون هم العاملون*** هم الصائمون نهار الهجير

إلى آخر القصيدة التي اخترنا منها هذه الأبيات.

أهل البيت(علیهم السلام) سفن النجاة

اشارة

تطرّقنا في بداية بحثنا حول يوم الغدير، وإلى أنّ عيد الغدير هو أعظم أعياد المسلمين؛ وذلك لأنّ في هذا اليوم نصب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) الإمام علي بن أبي طالب(علیه السلام) خليفة له، وأميراً للمؤمنين من قبل اللّه تعالى.

وسوف نركّز في بحثنا الآتي على بعض خصائص هذا الإمام العظيم وصفاته الكريمة، لتكون لنا درساً نقتدي بها في العمل والتطبيق؛ فهم(علیهم السلام) سفن النجاة لهذه الأمة، فمن تمسك بهم نجا، ومن تخلف عنهم هلك، وقد قال الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) فيهم: «...إنما مَثَلُ أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنهاغرق، ومثل باب حطة من دخله نجا ومن لم يدخله هلك»(1).

قطعات من سفينة نوح

وهنا ننقل كرامة من كرامات أمير المؤمنين وأهل بيته الأطهار(علیهم السلام) الكثيرة، خصّهم اللّه تعالى بها فجعلهم آية للعالمين، حيث قال تعالى: «وَلَقَد تَّرَكنَٰهَآ ءَايَة فَهَل مِن مُّدَّكِرٖ»(2).

ص: 114


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 60.
2- سورة القمر، الآية: 15.

ففي تموز عام (1951م) حينما كان جماعة من العلماء السوفيت المختصين بالآثار القديمة ينقِّبون في إحدى المناطق، فعثروا على قطع متناثرة من أخشاب قديمة متسوسة وبالية، مما دعاهم إلى التنقيب والحفر أكثر وأعمق، فوقفوا على أخشاب أخرى متحجِّرة وكثيرة، كانت بعيدة في أعماق الأرض، ومن بين تلك الأخشاب التي توصلوا إليها خشبة على شكل مستطيل طولها (14) عقدة وعرضها (10) عقد سببت دهشتهم واستغرابهم، إذ أنها لم تتغير ولم تتسوَّس، ولم تتناثر كغيرها من الأخشاب الأخرى!وفي أواخر عام (1952م) أكمل التحقيق حول هذه الآثار، فظهر أنّ اللوحة المشار إليها كانت ضمن سفينة النبي نوح(علیه السلام)، وأنّ الأخشاب الأخرى هي حطام سفينة نوح، وشوهد أنّ هذه اللوحة قد نقشت عليها بعض الحروف التي تعود إلى أقدم لغة وبعد الانتهاء من الحفر عام (1953م)، شكلت الحكومة السوفيتية لجنة قوامها سبعة من علماء اللغات القديمة ومن أهم علماء الآثار، وبعد ثمانية أشهر من دراسة تلك اللوحة والحروف المنقوشة عليها اتفقوا على أنّ هذه اللوحة كانت مصنوعة من نفس الخشب الذي صنعت منه سفينة نوح(علیه السلام)، وأنّ النبي نوحاً(علیه السلام) كان قد وضع هذه اللوحة في سفينته للتبرك والحفظ.

وكانت حروف هذه اللوحة باللغة السامانية وقد ترجمها إلى اللغة الإنكليزية العالم البريطاني (آيف ماكس) أستاذ الألسن القديمة في جامعة مانشستر وهذا نص ترجمتها بالعربية: (يا إلهي ويا معيني، برحمتك وكرمك ساعدني، ولأجل هذه النفوس المقدّسةمحمّد، إيليا، شبر، شبير(1)، فاطمة، الذين هم جميعهم عظماء، ومكرّمون، العالم قائم لأجلهم، ساعدني لأجل أسمائهم، أنت فقط

ص: 115


1- هذه الأسماء (إيليا، شبر، شبير) باللغة السامانية ومعناها بالعربية: علي، الحسن، الحسين(علیهم السلام).

تستطيع أن توجه نحو الطريق المستقيم).

وبقي هؤلاء العلماء في دهشة وحيرة كبرى أمام عظمة هذه الأسماء الخمسة المقدسة ومنزلة أصحابها عند اللّه تعالى، حيث توسل بها نوح(علیه السلام).

واللغز الذي لم يستطع تفسيره أي واحد منهم هو عدم تفسخ هذه اللوحة بالذات رغم مرور آلاف السنين عليها.

أما نحن الشيعة فلا يخالطنا شك أو ريبة في ذلك، لأنّ أهل البيت(علیهم السلام)، هم الذين خلق اللّه تعالى العالم من أجلهم، ولأجلهم أنزل شرائعه وكتبه، ولأجلهم وبيان فضلهم بقيت هذه اللوحة رغم مرور آلاف السنوات سالمة حتى تكون آية للعالمين، ودلالةعلى فضل محمد وآله الطيبين الطاهرين (صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين)(1).

أقل الناس مؤونة وأكثرهم معونة

قال عروة بن الزبير: كنّا في مسجد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فتذاكرنا أعمال أهل بدر وبيعة الرضوان، فقال أبو الدرداء: يا قوم ألّا أخبركم بأقل القوم مالاً وأكثرهم ورعاً وأشدهم اجتهاداً في العبادة؟

قالوا: من؟

قال: علي بن أبي طالب(علیه السلام).

قال: فواللّه، إن كان في جماعة أهل المجلس إلّا معرض عنه بوجهه، ثم انتدب له رجل من الأنصار فقال له: يا عويمر، لقد تكلمت بكلمة ما وافقك عليها أحد منذ أتيت بها، فقال أبو الدرداء: يا قوم، إني قائل ما رأيت، وليقل كل قوم منكم ما رأوا، شهدت علي بن أبي طالب(علیه السلام) بشويحطات النجار وقداعتزل

ص: 116


1- اللوحة موجودة في متحف الآثار القديمة بموسكو.

عن مواليه واختفى ممن يليه واستتر بمغيلات النخل، فافتقدته وبعد علي مكانه، فقلت: لحق بمنزله، فإذا أنا بصوت حزين ونغمة شجي وهو يقول: «إلهي كم من موبقة حملت عني فقابلتها بنعمتك، وكم من جريرة تكرمت عن كشفها بكرمك، إلهي، إن طال في عصيانك عمري وعظم في الصحف ذنبي فما أنا مؤمل غير غفرانك، ولا أنا براج غير رضوانك».

فشغلني الصوت واقتفيت الأثر فإذا هو علي بن أبي طالب(علیه السلام) بعينه، فاستترت له فأخملت الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغابر، ثم فزع إلى الدعاء والبكاء والبث والشكوى، فكان مما به اللّه ناجى أن قال: «إلهي أفكر في عفوك فتهون علي خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك فتعظم علي بليتي». ثم قال: «آه إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها وأنت محصيها، فتقول: خذوه، فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته ولاتنفعه قبيلته، يرحمه الملأ إذا أذن فيه بالنداء - ثم قال: - آه من نار تنضج الأكبادوالكلى، آه من نار نزاعة للشوى، آه من غمرة من ملهبات لظى».

قال: ثم انغمر في البكاء فلم أسمع له حساً ولا حركة، فقلت: غلب عليه النوم لطول السهر، أوقظه لصلاة الفجر، قال أبو الدرداء: فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة! فحركته فلم يتحرك وزويته فلم ينزو! فقلت: إنا للّه وإنا إليه راجعون، مات واللّه علي بن أبي طالب(علیه السلام) قال: فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم فقالت فاطمة(علیها السلام): «يا أبا الدرداء، ما كان من شأنه ومن قصته؟» فأخبرتها الخبر فقالت: «هي واللّه يا أبا الدرداء الغشية التي تأخذه من خشية اللّه»، ثم أتوه بماء فنضحوه على وجهه فأفاق ونظر إلي وأنا أبكي فقال: «مما بكاؤك يا أبا الدرداء؟»

فقلت: مما أراه تنزله بنفسك.

فقال: «يا أبا الدرداء، ولو رأيتني ودعي بي إلى الحساب وأيقن أهل الجرائم

ص: 117

بالعذاب واحتوشتني ملائكة غلاظ وزبانيةفظاظ فوقفت بين يدي الملك الجبار، قد أسلمني الأحباء، ورحمني أهل الدنيا، لكنت أشد رحمة لي بين يدي من لا تخفى عليه خافية».

فقال أبو الدرداء: فواللّه، ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)(1).

نعم، إن أمير المؤمنين(علیه السلام)، هو العالم العابد، والتقي الزاهد، والأبي المجاهد في سبيل اللّه، وهو الضحّاك إذا اشتد الضراب، فتجده عندما يقبل على ساحة المعركة للجهاد في سبيل اللّه يقبل وهو مبتسم مبتهج، مشتاق إلى لقاء اللّه ورضوانه في حين كان الآخرون يرتجفون من دهشتها، ويهابون الموت ويكرهونه(2)، لأنه(علیه السلام) كان يعلم أنه قد أدّى ما عليه من واجبات وأنجز ما عليه من تكاليف، فهو لن يخشى الحرب وضراوتها، لأنه ما كان خائفاً من لقاء الموتبل يرى في الموت لذة وسعادة لأنه لقاء اللّه تبارك وتعالى(3).

فإن الإمام(علیه السلام) عندما ضربه أشقى الأشقياء قال: «فزت وربّ الكعبة»(4)؛ لأنه(علیه السلام) كان مطمئناً بأنه قد أدى الواجب الشرعيالذي كُلِّف به على أتم صورة،

ص: 118


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 77.
2- انظر الأمالي للشيخ الصدوق: 77.
3- قال الناشئ الصغير: علي الدر والذهب المصفى *** وباقي الناس كلهم تراب إذا لم تبر من أعدا علي *** فما لك في محبته ثواب إذا نادت صوارمه نفوساً *** فليس لها سوا نعم جواب فبين سنانه والدرع سلم *** وبين البيض والبيض اصطحاب هو البكاء في المحراب ليلاً *** هو الضحاك إن جدَّ الضراب ومن في خفه طرح الأعادي *** حباباً كي يلسبه الحباب الغدير 4: 26 الناشئ الصغير (271-365ه).
4- شرح الأخبار 2: 442.

وهذا ما نراه واضحاً من كلامه(علیه السلام) مع ابنته أم كلثوم، فانه(علیه السلام) لما رآها تبكيه عشية وفاته قال لها: «ما يبكيك يا بنية؟».

فقالت: «ذكرت يا أبة أنك تفارقنا الساعة فبكيت».

فقال لها: «يا بنية لا تبكين، فو اللّه لو ترين ما يرى أبوك ما بكيت»

قال حبيب(1): فقلت له: وما الذي ترى يا أمير المؤمنين؟

فقال: «يا حبيب، أرى ملائكة السماوات والنبيين بعضهم في أثر بعض وقوفاً إلى أن يتلقوني، وهذا أخي محمد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) جالس عندي، يقول: أقدم، فإن أمامك خير لك مما أنت فيه»(2).

وقد قال في مكان آخر: «واللّه، لابن أبي طالب آنس بالموتمن الطفل بثدي أمه»(3).

الشيعة وحُب أمير المؤمنين(علیه السلام)

إنّ المنقّب في التاريخ تنكشف له حقيقة ناصعة لا يمكن إخفاؤها، وهي: أنّ التاريخ يذكر العظماء في صفحة من نور، ويسجّل لهم فيها الإجلال والإكبار كلاً على قدر عظمته. ومهما حاول شخص أن يتلاعب في التاريخ ويشوّه الحقائق ويحرّفها، فإنّ مصيره الفشل عاجلاً أم آجلاً؛ لأنّ الزيف والتحريف يظهر من تضارب أقوال المزيفين وتناقضها.

ألّا ترى إلى معاوية بن أبي سفيان، الذي حاول أن يشوه الحقائق ويغسل أدمغة الناس، مما يعلمونه ويروونه في أمير المؤمنين(علیه السلام) من فضائل ومناقب

ص: 119


1- الرواية عن أبي حمزة الثمالي عن حبيب بن عمرو.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 319.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 5 من خطبة له(علیه السلام) لما قبض رسول اللّه.

كيف باءت بالفشل؟ حتى أنه جعل معاوية سبّ الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السلام) سُنَّة أموية يشيب عليها الصغير ويهرم فيها الكبير، واستمرتمحاولاته سنوات طويلة، وجنّد لهذه الفكرة الآلاف من عبيد الدنيا، وصرف أموالاً طائلة في سبيل ذلك، ولكن أين فكرته هذه الآن؟(1).

لقد بقى الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام) ورغم أنوف أعدائه علماً من أعلام الدين وركناً من أركان الهدى والتقى، ليس عند شيعته فقط بل وحتى عند الآخرين، إنه(علیه السلام) بقي على ما عرّفه اللّه ورسوله مفخرة للإسلام والإنسانية على مرّ العصور وكرّ الدهور.

أما إذا قرأنا في التاريخ عن معاوية فماذا نلاحظ؟ سوف نجد أنّ التاريخ دوّن عنه مواقف مخزية ضدّ الإسلام والإنسانية، وحتى محبوه يدركون ذلك في قرارة أنفسهم، ويعلمون بسيرته، ويظهرون موالاتهم له بسبب الطائفية والتعصب وربما كان ذلك جهلاً منهم.

أمّا شيعة أمير المؤمنين(علیه السلام) وموالوه، فإنهم لا ينسون إمامهم فيالليل والنهار، وهم كل ما ذكروه افتخروا بمواقفه الإنسانية المشرفة، والتي مدحه القرآن الكريم بها.

إن الشيعة يحبون جميع أولياء اللّه ويقدرون مواقفهم، إلّا أن حبّهم لأمير المؤمنين(علیه السلام) وولاءهم له يأتي بعد حبهم وولاءهم لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وذلك لأن حب أمير المؤمنين(علیه السلام) وولاءه هو نصر لكل الأمم وفخر لهم، والأفراد الذين يريدون أن يحصلوا على أعلى درجات الكمال الإنساني عليهم أن يتبعوه(علیه السلام) ويسيروا على نهجه؛ إذ في متابعته(علیه السلام) متابعة الحق، وفي هذا نذكر ما روي عن

ص: 120


1- انظر نهج الحق: 310 سب معاوية علياً(علیه السلام).

رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أنه قال: «علي مع الحق والحق مع علي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض يوم القيامة»(1).

وقال(صلی الله علیه و آله): «يا علي، من أطاعك فقد أطاعني، ومن أطاعني فقد أطاع اللّه، ومن عصاك فقد عصاني ومن عصاني فقد عصىاللّه»(2).

التاريخ يتحدث

اشارة

إن الذاهب إلى بلاد الشام ومدينة دمشق تحديداً، يُلاحظ قبرين مثيرين للعبرة والعظة:

أحدهما: قبر لمعاوية(3) بن أبي سفيان وابن هند آكلة الأكباد الذي حكم بلاد الشام طويلاً الذي يقع في بقعة مملوءة بالمزابل وأنواع الحشرات، وفي نفس الوقت ترى أصحابه ومحبيه يخفون قبره لكي لا يصل إليه أحد.

ثانيهما: قبر السيدة رقية، وهو قبر لطفلة صغيرة لا يتجاوز عمرها الثلاث سنوات، وهي بنت الإمام الحسين(علیه السلام) ويقع بالقرب من قبر معاوية، ولكنه في مقابل قبر معاوية، حيث إن الناس يذهبون لزيارتها ويتبركون بقبرها ويطلبون من اللّه قضاء حوائجهم ببركتها، كل هذا لأنّ هذه الطفلة وكذلك عمتها السيدة زينب(علیها السلام) التي يقعمرقدها في ريف دمشق منطقة راوية من الذرية الطاهرة الذين هم امتداد للحق الذي سار عليه أمير المؤمنين(علیه السلام) والأئمة(علیهم السلام) وهم جميعاً سادة أهل الدنيا والآخرة.

كما أنّ تعامل الناس مع السادة من ذرية الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) يُعبّر عن احترام وقدسية خاصة، واتباع لوصايا الرسول الاعظم(صلی الله علیه و آله) في أهل بيته(علیهم السلام) وذريته.

ص: 121


1- مناقب آل أبي طالب(علیهم السلام) 3: 62.
2- تقريب المعارف: 203.
3- الذي يقع في زقاق ضيق في منطقة القيمرية في دمشق القديمة.

التأييد الغيبي لأهل الحق

إنّ صاحب البصيرة النافذة إذا أعطيت له حرية الاختيار بين الحق والباطل، ورفعت عنه جميع العقبات والحواجز، فإنه - وبلا شك - سوف يختار طريق الحق؛ لأنّ اتباع الحق يؤدي به إلى السعادة في الدنيا، وإلى الجنة والنعيم الدائم في الآخرة.

وطبيعة الإنسان العاقل أن يختار طريق الأمان والسلام، الذي هو طريق الحق، على طريق الهلكة والهوان، الذي هو طريق الباطل.

بالإضافة إلى ذلك فإنّ اللّه عزّ وجلّ يحفظ الإنسان الذي يتبعالحق والحقيقة من النسيان والضمور، ويجعله في مأمن منها رغم تعاقب الأجيال، وتقلّبات الأيام، ويخلّد ذكره ليبقى قدوة للخير والفضيلة، والأمثلة على ذلك كثيرة. فهذا نبينا العظيم(صلی الله علیه و آله) ووصيه الكريم إمامنا أمير المؤمنين(علیه السلام) وكذلك الأنبياء والمرسلون وأوصياؤهم الكرام(علیهم السلام) من قبل ومن سار على نهجهم، تراهم جميعاً خالدين، فنبي اللّه نوح(علیه السلام) الذي مضى على نبوته آلاف السنين - حتى سمي شيخ المرسلين - بل آلاف القرون لقوله تعالى: «وَقُرُونَۢا بَينَ ذَٰلِكَ كَثِيرا»(1) قد ذكره اللّه في القرآن في مواطن عدّة، منها قوله تعالى: «إِنَّآ أَوحَينَآ إِلَيكَ كَمَآ أَوحَينَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّۧنَ مِنۢ بَعدِهِۦۚ وَأَوحَينَآ إِلَىٰٓ إِبرَٰهِيمَ وَإِسمَٰعِيلَ وَإِسحَٰقَ وَيَعقُوبَ وَٱلأَسبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيمَٰنَۚ وَءَاتَينَا دَاوُۥدَ زَبُورا»(2).

وقال عزّ وجلّ: «وَٱتلُ عَلَيهِم نَبَأَ نُوحٍ إِذ قَالَ لِقَومِهِۦ يَٰقَومِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيكُم مَّقَامِي وَتَذكِيرِيبَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلتُ فَأَجمِعُوٓاْ أَمرَكُم وَشُرَكَآءَكُم ثُمَّ لَا يَكُن أَمرُكُم عَلَيكُم غُمَّة ثُمَّ ٱقضُوٓاْ إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ»(3).

ص: 122


1- سورة الفرقان، الآية: 38.
2- سورة النساء، الآية: 163.
3- سورة يونس، الآية: 71.

وقال تعالى: «قِيلَ يَٰنُوحُ ٱهبِط بِسَلَٰمٖ مِّنَّا وَبَرَكَٰتٍ عَلَيكَ وَعَلَىٰٓ أُمَمٖ مِّمَّن مَّعَكَۚ وَأُمَم سَنُمَتِّعُهُم ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيم»(1).

وقال عزّ وجلّ: «وَإِذ أَخَذنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّۧنَ مِيثَٰقَهُم وَمِنكَ وَمِن نُّوحٖ وَإِبرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ٱبنِ مَريَمَۖ وَأَخَذنَا مِنهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظا»(2).

وقال تبارك وتعالى: «سَلَٰمٌ عَلَىٰ نُوحٖ فِي ٱلعَٰلَمِينَ»(3).

نعم، لقد حصل شيخ المرسلين نوح(علیه السلام) على هذا الذكر الطيّب والخالد لأنه(علیه السلام) كان يعمل في طريق الحق ومن أجل إعلاء كلمة الحق خالصاً مخلصاً.

فعلى الإنسان أن ينقطع إلى اللّه دائماً، وأن لا يأمل إلّا اللّه أبداً،وأن يعتمد على نصرته تعالى في أداء واجبه وتكليفه، وأن يطلب العون منه عزّ وجلّ لا من المخلوقين، فقد روي عن الحسين بن علوان قال: كنّا في مجلس نطلب فيه العلم وقد نفدت نفقتي في بعض الأسفار، فقال لي بعض أصحابنا: من تؤمل لما قد نزل بك؟ فقلت: فلاناً، فقال: واللّه، لا تسعف حاجتك، ولا يبلغك أملك، ولا تنجح طلبتك، قلت: وما علمك رحمك اللّه؟ قال: إن أبا عبد اللّه(علیه السلام) حدثني أنه قرأ في بعض الكتب: «أن اللّه تبارك وتعالى يقول:

وعزتي وجلالي ومجدي وارتفاعي على عرشي، لأقطعنّ أمل كل مؤمل غيري باليأس، ولأكسونه ثوب المذلة عند الناس، ولأنحينّه من قربي، ولأبعدنه من فضلي. أيؤمل غيري في الشدائد والشدائد بيدي! ويرجو غيري ويقرع بالفكر باب غيري وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقةٌ وبابي مفتوحٌ لمن دعاني، فمن ذا الذي أملني لنوائبه فقطعته دونها، ومن ذا الذيرجاني لعظيمةٍ فقطعت رجاءه مني.

ص: 123


1- سورة هود، الآية: 48.
2- سورة الأحزاب، الآية: 7.
3- سورة الصافات، الآية: 79.

جعلت آمال عبادي عندي محفوظةً فلم يرضوا بحفظي، وملأت سماواتي ممن لا يمل من تسبيحي، وأمرتهم أن لا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي، فلم يثقوا بقولي، ألم يعلم من طرقته نائبةٌ من نوائبي أنه لا يملك كشفها أحدٌ غيري إلّا من بعد إذني، فما لي أراه لاهياً عني! أعطيته بجودي ما لم يسألني، ثم انتزعته عنه فلم يسألني رده وسأل غيري، أ فيراني أبدأ بالعطاء قبل المسألة ثم أسأل فلا أجيب سائلي! أبخيلٌ أنا فيبخلني عبدي؟ أوليس الجود والكرم لي؟ أوليس العفو والرحمة بيدي؟ أوليس أنا محل الآمال فمن يقطعها دوني؟ أفلا يخشى المؤملون أن يؤملوا غيري؟ فلو أن أهل سماواتي وأهل أرضي أملوا جميعاً، ثم أعطيت كل واحدٍ منهم مثل ما أمل الجميع ما انتقص من ملكي مثل عضو ذرة، وكيف ينقص ملكٌ أنا قيمه؟! فيا بؤساً للقانطين من رحمتي، ويا بؤساً لمن عصاني ولم يراقبني»(1).نعم، إذا اعتمد الإنسان على اللّه وتوكل عليه فإنه يوصله إلى أعلى الدرجات في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: «وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجعَل لَّهُۥ مَخرَجا * وَيَرزُقهُ مِن حَيثُ لَا يَحتَسِبُۚ وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسبُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَٰلِغُ أَمرِهِۦۚ قَد جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيءٖ قَدرا»(2).

وقال تعالى: «ٱلَّذِينَ ٱستَجَابُواْ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِنۢ بَعدِ مَآ أَصَابَهُمُ ٱلقَرحُۚ لِلَّذِينَ أَحسَنُواْ مِنهُم وَٱتَّقَواْ أَجرٌ عَظِيمٌ * ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَد جَمَعُواْ لَكُم فَٱخشَوهُم فَزَادَهُم إِيمَٰنا وَقَالُواْ حَسبُنَا ٱللَّهُ وَنِعمَ ٱلوَكِيلُ * فَٱنقَلَبُواْ بِنِعمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضلٖ لَّم يَمسَسهُم سُوٓء وَٱتَّبَعُواْ رِضوَٰنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضلٍ عَظِيمٍ»(3).

ص: 124


1- الكافي 2: 66.
2- سورة الطلاق، الآية: 2-3.
3- سورة آل عمران، الآية: 172-174.

أمير المؤمنين(علیه السلام) على لسان

الصادق الأمين(صلی الله علیه و آله)

إن الفضائل والمناقب التي ذكرها خير خلق اللّه الرسول الحبيب(صلی الله علیه و آله) في حق وصيه الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام) كثيرة ومتعددة، نذكر منها الروايات التالية:قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «علي في السماء السابعة كالشمس بالنهار في الأرض، وفي السماء الدنيا كالقمر بالليل في الأرض، أعطى اللّه علياً من الفضل جُزءاً لو قُسِّم على أهل الأرض لوسعهم، وأعطاه اللّه من الفهم جُزءاً لو قسم على أهل الأرض لوسعهم، شُبّهت لينه بلين لوط، وخلقه بخلق يحيى، وزهده بزهد أيّوب، وسخاؤه بسخاء ابراهيم وبهجته ببهجة سليمان بن داود، وقوّته بقوّة داود. له اسم مكتوب على كلّ حجاب في الجنّة، بشّرني به ربي وكانت له البشارة عندي، عليٌّ محمود عند الحقّ، مزكّى عند الملائكة، وخاصتي وخالصتي، وظاهرتي ومصباحي، وجُنَّتي ورفيقي، آنسني به ربي فسألت ربّي أن لا يقبضه قبلي، وسألته أن يقبضه شهيداً بعدي. أُدخلت الجنة فرأيت حور علي أكثر من ورق الشجر، وقصور علي كعدد البشر. عليّ مني وأنا من علي، من تولى علياً فقد تولاّني، حبّ علي نعمة واتباعه فضيلة، دانت به الملائكة وحفت به الجنّ الصالحون، لم يمش على الأرض ماشٍ بعدي إلّاكان هو أكرم منه عزّاً وفخراً ومنهاجاً، لم يك فظّاً عجولاً، ولا مسترسلاً لفساد ولا متعنّداً، حملته الأرض فأكرمته، لم يخرج من بطن أنثى بعدي أحد كان أكرم خروجاً منه، ولم ينزل منزلاً إلّا كان ميموناً، أنزل اللّه عليه الحكمة، وردّاه بالفهم، تجالسه الملائكة ولا يراها. ولو أوحي إلى أحد بعدي لأوحي إليه، فزيّن اللّه به المحافل، وأكرم به العساكر، وأخصب به البلاد، وأعزّ به الأجناد. مثله كمثل بيت اللّه الحرام يزار ولا يزور، ومثله كمثل

ص: 125

القمر إذا طلع أضاء الظلمة، ومثله كمثل الشمس إذا طلعت أنارت الدنيا، وصفه اللّه في كتابه، ومدحه بآياته، ووصف فيه آثاره، وأجرى منازله، فهو الكريم حيّاً والشهيد ميتاً»(1).

وعن عبد الرحمان بن سمرة قال: قلت: يا رسول اللّه، أرشدني إلى النجاة، فقال(صلی الله علیه و آله): «يا ابن سمرة، إذا اختلفت الاهواء وتفرقت الآراء فعليك بعلي بن أبي طالب؛ فإنه إمام أمتي، وخليفتيعليهم من بعدي، وهو الفاروق الذي يميز بين الحق والباطل، من سأله أجابه، ومن استرشده أرشده، ومن طلب الحق من عنده وجده، ومن التمس الهدى لديه صادفه، ومن لجأ إليه أمنه، ومن استمسك به نجاه، ومن اقتدى به هداه.

يا ابن سمرة، سلم من سلم له ووالاه، وهلك من رد عليه وعاداه.

يا ابن سمرة، إن علياً مني، روحه من روحي، وطينته من طينتي، وهو أخي وأنا أخوه، وهو زوج ابنتي فاطمة سيدة نساء العالمين من الاولين والآخرين، وابنيه إماما أمتي، وسيدا شباب أهل الجنة: الحسن والحسين، وتسعة من ولد الحسين، تاسعهم قائم أمتي، يملا الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً»(2).

وعن أمير المؤمنين(علیه السلام) قال: «أنه جاء إليه رجل فقال له: يا أبا الحسن، إنك تدّعى أمير المؤمنين، فمن أمرك عليهم؟

قال(علیه السلام): اللّه جلّ جلاله أمرني عليهم.فجاء الرجل إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول اللّه، أ يصدق علي في ما يقول إن اللّه أمّره على خلقه؟

ص: 126


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 8.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 26.

فغضب النبي(صلی الله علیه و آله) ثم قال: إن علياً أمير المؤمنين بولاية من اللّه عزّ وجلّ، عقدها له فوق عرشه، وأشهد على ذلك ملائكته، إن علياً خليفة اللّه، وحجة اللّه، وإنه لإمام المسلمين، طاعته مقرونة بطاعة اللّه، ومعصيته مقرونة بمعصية اللّه، فمن جهله فقد جهلني، ومن عرفه فقد عرفني، ومن أنكر إمامته فقد أنكر نبوتي، ومن جحد إمرته فقد جحد رسالتي، ومن دفع فضله فقد تنقصني، ومن قاتله فقد قاتلني، ومن سبه فقد سبني؛ لأنه مني خلق من طينتي، وهو زوج فاطمة ابنتي، وأبو ولدي الحسن والحسين - ثم قال(صلی الله علیه و آله): - أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين حجج اللّه على خلقه، أعداؤنا أعداء اللّه، وأولياؤنا أولياء اللّه»(1).نعم، هذا هو أمير المؤمنين(علیه السلام) على لسان خير خلق اللّه تعالى الرسول الحبيب(صلی الله علیه و آله) الذي «وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلهَوَىٰٓ * إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحَىٰ»(2) كما قال اللّه عنه ذلك.

ولهذا يعتبر يوم الغدير هو اليوم الذي تمت به النعمة واكتمل به الدين، فهو يوم عظيم ذو أهمية خاصة وقدسية كبيرة عند المسلمين وخصوصاً الشيعة منهم، وذلك هو بمثابة إعلاناً رسمياً في تعيين الإمام علي(علیه السلام) في هذا اليوم أميراً للمؤمنين من قبل اللّه تعالى.

أهل البيت(علیهم السلام) وعيد الغدير

كان الأئمة من أهل بيت رسول اللّه (صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين) يوصون شيعتهم بالاحتفال بهذا العيد العظيم واظهاره بأجلى المظاهر، فهم(علیهم السلام)

ص: 127


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 131.
2- سورة النجم، الآية: 3-4.

كانوا يجعلونه يوماً فريداً ومشهوداً بين أهليهم وذويهم، فقد روي عن أحوالهم(علیهم السلام) من قال: أنه شهد أبا الحسن علي بن موسى الرضا(علیهما السلام) في يوم الغدير وبحضرتهجماعة من خاصته، قد احتبسهم للإفطار وقد قدم إلى منازلهم الطعام والبر والصلات والكسوة حتى الخواتيم والنعال، وقد غير أحوالهم وأحوال حاشيته، وجددت له الآلة غير الآلة التي جرى الرسم بابتذالها قبل يومه، وهو يذكر فضل اليوم وقدمه.

فكان من قوله(علیه السلام): «حدثني الهادي أبي قال: حدثني جدي الصادق قال: حدثني الباقر قال: حدثني سيد العابدين قال: حدثني أبي الحسين قال: اتفق في بعض سني أمير المؤمنين(علیه السلام) الجمعة والغدير، فصعد المنبر على خمس ساعات من نهار ذلك اليوم، فحمد اللّه حمداً لا نسمع [لم يسمع] بمثله، وأثنى عليه بما لا يتوجه إلى غيره، فكان ما حفظ من ذلك:

الحمد للّه الذي جعل الحمد من غير حاجة منه إلى حامديه، طريقاً من طرق الاعتراف بلاهوتيته وصمدانيته وفردانيته، وسبباً إلى المزيد من رحمته، ومحجة للطالب من فضله، وكمن في إبطان حقيقة الاعتراف له: بأنه المنعم على كل حمد باللفظ وإنعظم.

وأشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، شهادة نزعت عن إخلاص الطوى، ونطق اللسان بها عبارة عن صدق خفي أنه الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى، ليس كمثله شيء، إذ كان [إذا كان] الشيء من مشيته، وكان لا يشبهه مكونه.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، استخلصه في القدم على سائر الأمم، على علم منه بأنه انفرد عن التشاكل والتماثل من أبناء الجنس، وانتجبه آمراً وناهياً عنه، أقامه في سائر عالمه في الأداء مقامه، إذ كان لا تدركه الأبصار، ولا تحويه خواطر

ص: 128

الأفكار، ولا تمثله غوامض الظنون في الأسرار. لا إله إلّا هو الملك الجبار، قرن الاعتراف بنبوته بالاعتراف بلاهوتيته، واختصه من تكرِمته بما لم يلحقه فيه أحد من بريته، فهو أهل ذلك بخاصته وخلته، إذ لا يختص من يشوبه التغيير ولا يخالل من يلحقه التظنين. وأمر بالصلاة عليه مزيداً في تكرِمته، وطريقاًللداعي إلى إجابته، فصلى اللّه عليه وكرم وشرف وعظم مزيداً لا تلحقه التفنية، ولا ينقطع على التأبيد.

وأن اللّه تعالى اختص لنفسه بعد نبيه(صلی الله علیه و آله) بريته خاصة، علاهم بتعليته، وسمى [سار] بهم إلى رتبته، وجعلهم الدعاة بالحق إليه، والأدلاء بالإرشاد عليه، لقرن قرن، وزمن زمن، أنشأهم في القدم على [قبل] كل مذرو ومبرو، أنواراً أنطقها بتحميده، وألهمها على شكره وتمجيده، وجعلها الحجج على كل معترف له بملكوت الربوبية، وسلطان العبودية، واستنطق بها الخرسات بأنواع اللغات، بخوعاً له بأنه فاطر الأرضين والسماوات، واستشهدهم خلقه، وولاهم ما شاء من أمره، جعلهم تراجم مشيته، وألسن إرادته، عبيداً لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولا يشفعون إلّا لمن ارتضى، وهم من خشيته مشفقون، يحكمون بأحكامه، ويستنون بسنته، ويعتمدون حدوده، ويؤدون فرضه.ولم يدع الخلق في بهم صماً، ولا في عمى بكماً، بل جعل لهم عقولاً مازجت شواهدهم، وتفرقت في هياكلهم، حققها في نفوسهم، واستعد لها حواسهم. فقرر بها على أسماع ونواظر، وأفكار وخواطر، ألزمهم بها حجته، وأراهم بها محجته، وأنطقهم عمّا شهدته بألسن ذربة، بما قام فيها من قدرته وحكمته، وبيّن عندهم بها، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيي من حي عن بينة، وإن اللّه لسميع عليم بصير، شاهد خبير.

وإن اللّه تعالى جمع لكم معشر المؤمنين في هذا اليوم عيدين عظيمين

ص: 129

كبيرين، لا يقوم أحدهما إلّا بصاحبه؛ ليكمل لكم عندكم جميل صنعه، ويقفكم على طريق رشده، ويقفوا بكم آثار المستضيئين بنور هدايته، ويسلك بكم منهاج قصده، ويوفر عليكم هنيء رفده، فجعل الجمعة مجمعاً ندب إليه لتطهير ما كان قبله، وغسل ما أوقعته مكاسب السوء من مثله إلى مثله، وذكرى للمؤمنين وتبيان خشية المتقين، ووهب لأهل طاعته في الأيامقبله، وجعله لا يتم إلّا بالايتمار لما أمر به، والانتهاء عمّا نهى عنه، والبخوع بطاعته في ما حث عليه وندب إليه.

ولا يقبل توحيده إلّا بالاعتراف لنبيه(صلی الله علیه و آله) بنبوته، ولا يقبل دينا إلّا بولاية من أمر بولايته، ولا ينتظم أسباب طاعته إلّا بالتمسك بعصمه وعصم أهل ولايته. فأنزل على نبيه(صلی الله علیه و آله) في يوم الدَوح ما بيّن فيه عن إرادته في خلصائه وذوي اجتبائه، وأمره بالبلاغ، وترك الحفل بأهل الزيغ والنفاق، وضمن له عصمته منهم، وكشف عن [من] خبايا أهل الريب وضمائر أهل الارتداد ما رمز فيه، فعقله المؤمن والمنافق، فأعن معن(1)، وثبت على الحق ثابت، وازدادت جهالة المنافق، وحمية المارق، ووقع العض على النواجذ، والغمز على السواعد، ونطق ناطق ونعق ناعق ونشق(2)

ناشق، واستمر على مارقته مارق. ووقع الإذعان من طائفة باللسان دون حقائق الإيمان، ومن طائفة باللسان وصدق الإيمان، وأكمل اللّهدينه، وأقر عين نبيه، والمؤمنين والمتابعين.

وكان ما قد شهده بعضكم وبلغ بعضكم، وتمت كلمة اللّه الحسنى على الصابرين، ودمر اللّه ما صنع فرعون وهامان وقارون وجنوده وما كانوا يعرشون.

وتفتت [بقيت] حثالة من الضلال لا يألون الناس خبالاً، فيقصدهم اللّه في ديارهم، ويمحو آثارهم، ويبيد معالمهم، ويعقبهم عن قرب الحسرات، ويلحقهم

ص: 130


1- أمعن الرجل: هرب وتباعد، لسان العرب 13: 409، مادة (معن).
2- نشق: النشق صب سعوط في الأنف، لسان العرب 10: 353، مادة (نشق).

عن بسط أكفهم، ومد أعناقهم، ومكنهم من دين اللّه حتى بدّلوه، ومن حكمه حتى غيروه، وسيأتي نصر اللّه على عدوه لحينه، واللّه لطيف خبير.

وفي دون ما سمعتم كفاية وبلاغ، فتأملوا رحمكم اللّه ما ندبكم اللّه إليه وحثكم عليه، واقصدوا شرعه، واسلكوا نهجه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله.

هذا يوم عظيم الشأن، فيه وقع الفرج، ورفعت الدرج، وضحت الحجج، وهو يوم الإيضاح والإفصاح عن المقام الصراح، ويوم كمالالدين، ويوم العهد المعهود، ويوم الشاهد والمشهود، ويوم تبيان العقود عن النفاق والجحود، ويوم البيان عن حقائق الإيمان، ويوم دحر الشيطان، ويوم البرهان.

هذا يوم الفصل الذي كنتم به توعدون، هذا يوم الملإ الأعلى الذي أنتم عنه معرضون، هذا يوم الإرشاد ويوم محنة على العباد، ويوم الدليل على الرواد، هذا يوم إبداء خفايا الصدور، ومضمرات الأمور، هذا يوم النصوص على أهل الخصوص.

هذا يوم شيث، هذا يوم إدريس، هذا يوم يوشع، هذا يوم شمعون. هذا يوم الأمن المأمون، هذا يوم إظهار المصون من المكنون، هذا يوم إبلاء السرائر.

فلم يزل(علیه السلام) يقول هذا يوم هذا يوم، فراقبوا اللّه واتقوه، واسمعوا له وأطيعوه، واحذروا المكر ولا تخادعوه، فتّشوا ضمائركم ولا تواربوه، وتقربوا إلى اللّه بتوحيده وطاعة من أمركم أن تطيعوه، ولا تمسكوا بعصم الكوافر، ولا يجنح بكم الغي فتظلوا عن سبيلالرشاد باتباع أولئك الذين ضلوا وأضلوا، قال اللّه تعالى عزّ من قائل، في طائفة ذكرهم بالذم في كتابه: «إِنَّآ أَطَعنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلَا۠ * رَبَّنَآ ءَاتِهِم ضِعفَينِ مِنَ ٱلعَذَابِ وَٱلعَنهُم لَعنا كَبِيرا»(1).

ص: 131


1- سورة الأحزاب، الآية: 67- 68.

وقال اللّه تعالى: «وَإِذ يَتَحَآجُّونَ فِي ٱلنَّارِ فَيَقُولُ ٱلضُّعَفَٰٓؤُاْ لِلَّذِينَ ٱستَكبَرُوٓاْ إِنَّا كُنَّا لَكُم تَبَعا»(1).

وقال سبحانه: «فَهَل أَنتُم مُّغنُونَ عَنَّا مِن عَذَابِ ٱللَّهِ مِن شَيءٖۚ قَالُواْ لَو هَدَىٰنَا ٱللَّهُ لَهَدَينَٰكُمۖ»(2).

أفتدرون استكبار ما هو ترك الطاعة لمن أمر اللّه بطاعته والترفع عمّن ندبوا إلى متابعته؟ والقرآن ينطق من هذا عن كثير إن تدبره متدبر زجره ووعظه، واعلموا أيها المؤمنون إن اللّه عزّ وجلّ قال: «إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِۦ صَفّاكَأَنَّهُم بُنيَٰن مَّرصُوص»(3).

أتدرون ما سبيل اللّه؟ ومن سبيله؟ ومن صراط اللّه؟ ومن طريقه؟

أنا صراط اللّه الذي من لم [لا] يسلكه بطاعة اللّه فيه هوى به إلى النار، أنا سبيله الذي نصبني للاتباع بعد نبيه(صلی الله علیه و آله)، أنا قسيم النار، أنا حجة اللّه على الفجار، أنا نور الأنوار.

فانتبهوا من رقدة الغفلة، وبادروا بالعمل قبل حلول الأجل، وسابقوا إلى مغفرة من ربكم قبل أن يضرب بالسور بباطن الرحمة وظاهر العذاب، فتنادون فلا يسمع نداؤكم، وتضجون فلا يحفل بضجيجكم، وقبل أن تستغيثوا فلا تغاثوا.

سارعوا إلى الطاعات قبل فوات الأوقات، فكأن قد جاء هادم اللذات، فلا مناص نجاة ولا محيص تخليص.

عودوا رحمكم اللّه بعد انقضاء مجمعكم بالتوسعة على عيالكم،والبر بإخوانكم، والشكر للّه عزّ وجلّ على ما منحكم، وأجمعوا يجمع اللّه شملكم،

ص: 132


1- سورة غافر، الآية: 47.
2- سورة إبراهيم، الآية: 21.
3- سورة الصف، الآية: 4.

وتباروا يصل اللّه ألفتكم، وتهانوا نعمة اللّه كما هنأكم، بالصواب فيه على أضعاف الأعياد قبله وبعده إلّا في مثله، والبر فيه يثمر المال، ويزيد في العمر، والتعاطف فيه يقتضي رحمة اللّه وعطفه، وهبوا لإخوانكم وعيالكم عن فضله بالجهد من جودكم، وبما تناله القدرة من استطاعتكم، وأظهروا البشرى في ما بينكم، والسرور في ملاقاتكم، والحمد للّه [واحمدوا اللّه] على ما منحكم، وعودوا بالمزيد على أهل التأميل لكم، وساووا بكم ضعفاءكم ومن ملككم، وما تناله القدرة من استطاعتكم، وعلى حسب إمكانكم، فالدرهم فيه بمائتي ألف درهم، والمزيد من اللّه عزّ وجلّ.

وصوم هذا اليوم مما ندب اللّه إليه، وجعل العظيم كفالة عنه، حتى لو تعبد له عبد من العبيد في التشبيه من ابتداء الدنيا إلى تقضيها صائماً نهارها قائماً ليلها، إذ أخلص المخلص في صومه،لقصرت أيام الدنيا من [عن] كفاية [كفايته]، ومن أضعف فيه أخاه مبتدئاً وبره راغباً، فله كأجر من صام هذا اليوم وقام ليله، ومن فطر مؤمناً في ليلته، فكأنما فطر فئاماً وفئاماً، - يعدها بيده عشرة - .

فنهض ناهض فقال: يا أمير المؤمنين، وما الفئام؟

قال: مأتي ألف نبي وصديق وشهيد، فكيف بمن يكفل عدداً من المؤمنين والمؤمنات، فأنا ضمينه على اللّه تعالى الأمان من الكفر والفقر، وإن مات في ليلته أو يومه أو بعده إلى مثله من غير ارتكاب كبيرة فأجره على اللّه، ومن استدان لإخوانه وأعانهم فأنا الضامن على اللّه إن أبقاه، وإن قبضه حمله عنه.

وإذا تلاقيتم فتصافحوا بألسنتكم وتهانوا بالنعمة في هذا اليوم، وليبلغ الحاضر الغائب، والشاهد البائن، وليعد الغني على الفقير، والقوي على الضعيف.

أمرني رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بذلك.

ثم أخذ (صلوات اللّه عليه) في خطبته الجمعة، وجعل صلاتهجمعة صلاة

ص: 133

عيد. وانصرف بولده وشيعته إلى منزل أبي محمد الحسن بن علي(علیهما السلام) بما أعد له من طعامه، وانصرف غنيهم وفقيرهم برفده إلى عياله»(1).

نعم، فأمير المؤمنين(علیه السلام) الذي تشرفت الدنيا به يوم ولد في جوف الكعبة(2)، ويوم عاش في هذه الحياة، ومن خلال حياتهالزاخرة بالجهاد والتضحية في سبيل اللّه، سطّر للعالم النموذج الفريد بعد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في المكارم، والقدوة الحسنة في جميع الأعمال الحميدة، قد بكته السماء والأرض يوم وفاته(علیه السلام)، فمات شهيداً في سبيل اللّه تعالى، وختم حياته بأحسن ما يختم به الإنسان حياته.

فقد روي عن أبي حمزة الثمالي عن حبيب بن عمرو قال: دخلت على أمير المؤمنين(علیه السلام) في مرضه الذي قبض فيه فحل عن جراحته، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما جرحك هذا بشيء، وما بك من بأس! فقال لي: «يا حبيب، أنا واللّه مفارقكم الساعة».

قال: فبكيت عند ذلك، وبكت أم كلثوم وكانت قاعدةعنده، فقال لها: «ما

ص: 134


1- إقبال الأعمال 1: 461.
2- فقد روي عن يزيد بن قعنب أنه قال: كنت جالساً مع العباس بن عبد المطلب وفريق من عبد العزى بإزاء بيت اللّه الحرام، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين(علیه السلام) وكانت حاملة به لتسعة أشهر وقد أخذها الطلق، فقالت: «رب إني مؤمنة بك، وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإني مصدقة بكلام جدي إبراهيم الخليل وأنه بنى البيت العتيق، فبحق الذي بنى هذا البيت، وبحق المولود الذي في بطني، لما يسرت علي ولادتي». قال يزيد بن قعنب: فرأينا البيت وقد انفتح عن ظهره، ودخلت فاطمة فيه، وغابت عن أبصارنا والتزق الحائط، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا أن ذلك أمر من أمر اللّه عزّ وجلّ، ثم خرجت بعد الرابع، وبيدها أمير المؤمنين(علیه السلام) ثم قالت: «إني فضلت على من تقدمني من النساء؛ لأن آسية بنت مزاحم عبدت اللّه عزّ وجلّ سراً في موضع لا يحب أن يعبد اللّه فيه إلّا اضطراراً، وأن مريم بنت عمران هزت النخلة اليابسة بيدها حتى أكلت منها رطباً جنياً، وأني دخلت بيت اللّه الحرام فأكلت من ثمار الجنة وأوراقها، فلما أردت أن أخرج هتف بي هاتف: يا فاطمة، سميه علياً فهو علي، واللّه العلي الأعلى يقول: إني شققت اسمه من اسمي وأدبته بأدبي ووقفته على غامض علمي، وهو الذي يكسر الأصنام في بيتي، وهو الذي يؤذن فوق ظهر بيتي ويقدسني ويمجدني، فطوبى لمن أحبه وأطاعه، وويل لمن أبغضه وعصاه» الأمالي للشيخ الصدوق: 132.

يبكيك يا بنية؟».

فقالت: «ذكرت يا أبة أنك تفارقنا الساعة فبكيت».

فقال لها: «يا بنية لا تبكين، فو اللّه لو ترين ما يرى أبوك ما بكيت». قال حبيب: فقلت له: وما الذي ترى يا أمير المؤمنين؟

فقال: «يا حبيب، أرى ملائكة السماوات والنبيين [والأرضين] بعضهم في أثر بعض وقوفاً إلى أن يتلقوني، وهذا أخي محمد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) جالس عندي، يقول: أقدم، فإن أمامك خير لك مما أنت فيه».

قال: فما خرجت من عنده حتى توفي(علیه السلام).

فلما كان من الغد وأصبح الحسن(علیه السلام) قام خطيباً على المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس، في هذه الليلة نزل القرآن، وفي هذه الليلة رفع عيسى ابن مريم(علیه السلام)، وفي هذه الليلة قتل يوشع بن نون، وفي هذه الليلة مات أبي أمير المؤمنين(علیه السلام)، واللّه لا يسبق أبي أحد كان قبله من الأوصياء إلى الجنة، ولا من يكون بعده، وإنكان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ليبعثه في السرية فيقاتل جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، وما ترك صفراء ولا بيضاء إلّا سبعمائة درهم فضلت من عطائه كان يجمعها ليشتري بها خادما لأهله»(1).

من هدي القرآن الحكيم

ولاية أمير المؤمنين(علیه السلام)

قال تعالى: «يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغ مَآ أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّم تَفعَل فَمَا بَلَّغتَ رِسَالَتَهُۥۚ وَٱللَّهُ يَعصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهدِي ٱلقَومَ ٱلكَٰفِرِينَ»(2).

ص: 135


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 318.
2- سورة المائدة، الآية: 67.

وقال عزّ وجلّ: «ٱليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسلَٰمَ دِيناۚ»(1).

وقال سبحانه: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم رَٰكِعُونَ»(2).

صفات الإمام(علیه السلام)

قال سبحانه: «أَفَمَن يَهدِيٓ إِلَى ٱلحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّيٓ إِلَّآ أَن يُهدَىٰۖ»(3).

وقال تعالى: «وَإِذِ ٱبتَلَىٰٓ إِبرَٰهِۧمَ رَبُّهُۥ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِيۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهدِي ٱلظَّٰلِمِينَ»(4).

وقال جلّ وعلا: «وَجَعَلنَٰهُم أَئِمَّة يَهدُونَ بِأَمرِنَا وَأَوحَينَآ إِلَيهِم فِعلَ ٱلخَيرَٰتِ وَإِقَامَ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَوٰةِۖ وَكَانُواْ لَنَا عَٰبِدِينَ»(5).

وقال جلّ وعلا: «أَجَعَلتُم سِقَايَةَ ٱلحَآجِّ وَعِمَارَةَ ٱلمَسجِدِ ٱلحَرَامِ كَمَن ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱليَومِ ٱلأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ لَا يَستَوُۥنَ عِندَ ٱللَّهِۗ»(6).

ذكر أمير المؤمنين(علیه السلام) في القرآن

قال عزّ وجلّ: «عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلعَظِيمِ *ٱلَّذِي هُم فِيهِ مُختَلِفُونَ»(7).

وقال سبحانه: «وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشرِي نَفسَهُ ٱبتِغَآءَ مَرضَاتِ ٱللَّهِۚ»(8).

ص: 136


1- سورة المائدة، الآية: 3.
2- سورة المائدة، الآية: 55.
3- سورة يونس، الآية: 35.
4- سورة البقرة، الآية: 124.
5- سورة الأنبياء، الآية: 73.
6- سورة التوبة، الآية: 19.
7- سورة النبأ، الآية: 1-3.
8- سورة البقرة، الآية: 207.

وقال جلّ وعلا: «قُل لَّآ أَسَٔلُكُم عَلَيهِ أَجرًا إِلَّا ٱلمَوَدَّةَ فِي ٱلقُربَىٰۗ»(1).

وقال عزّ وجلّ: «إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰٓئِكَ هُم خَيرُ ٱلبَرِيَّةِ»(2).

متابعة أئمة الحق

وقال تعالى: «أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمرِ مِنكُمۖ»(3).

قال سبحانه: «وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُستَقِيما فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَاتَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُم وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ»(4).

من هدي السنّة المطهّرة

يوم الغدير

قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «يوم غدير خم أفضل أعياد أمتي، وهو اليوم الذي أمرني اللّه تعالى ذكره فيه بنصب أخي علي بن أبي طالب علماً لأمتي، يهتدون به من بعدي وهو اليوم الذي أكمل اللّه فيه الدين، وأتم على أمتي فيه النعمة ورضي لهم الإسلام ديناً - ثم قال(صلی الله علیه و آله) - معاشر الناس، إن علياً مني وأنا من علي خلق من طينتي وهو إمام الخلق بعدي، يبين لهم ما اختلفوا فيه من سنتي، وهو أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين ويعسوب المؤمنين وخير الوصيين وزوج سيدة نساء العالمين وأبو الأئمة المهديين.

معاشر الناس، من أحب علياً أحببته ومن أبغض علياً أبغضته، ومن وصل علياً وصلته ومن قطع علياً قطعته، ومن جفا علياً جفوته ومن والى علياً واليته، ومن عادى علياً عاديته.

ص: 137


1- سورة الشورى، الآية: 23.
2- سورة البينة، الآية: 7.
3- سورة النساء، الآية: 59.
4- سورة الأنعام، الآية: 153.

معاشر الناس، أنا مدينة الحكمة وعلي بن أبي طالب بابها ولن تؤتى المدينة إلّا من قبل الباب، وكذب من زعم أنه يحبني ويبغض علياً.

معاشر الناس، والذي بعثني بالنبوة واصطفاني على جميع البرية، ما نصبت علياً علماً لأمتي في الأرض حتى نوه اللّه باسمه في سماواته وأوجب ولايته على ملائكته»(1).

وقال(صلی الله علیه و آله) - في حديث - : «فأتاني جبرئيل فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام يقول لك: إن علي بن أبي طالب وصيك وخليفتك على أهلك وأمتك والذائد عن حوضك وهو صاحب لوائك يقدمك إلى الجنة...»(2).

صفات الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام)

عن أبي إسحاق عن أبيه قال: بينما رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) جالس في جماعة من أصحابه إذ أقبل علي بن أبي طالب(علیه السلام) نحوه فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله):«من أراد أن ينظر إلى آدم في خلقه، وإلى نوح في حكمته، وإلى إبراهيم في حلمه، فلينظر إلى علي بن أبي طالب»(3).

وقال(صلی الله علیه و آله): «أقضى أمتي وأعلم أمتي بعدي علي»(4).

وقال(صلی الله علیه و آله): «أوحي إليّ في عليّ ثلاث: أنه سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين»(5).

وقال الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام): «أنا قسيم اللّه بين الجنة والنار لا يدخلها

ص: 138


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 125.
2- الأمالي للشيخ المفيد: 168.
3- الأمالي للشيخ المفيد: 14.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 548.
5- اليقين: 476.

داخل إلّا على حدّ قسمي وأنا الفاروق الأكبر، وأنا الإمام لمن بعدي والمؤدي عمّن كان قبلي، لا يتقدمني أحد إلّا أحمد(صلی الله علیه و آله)، وإني وإياه لعلى سبيل واحد، إلّا أنه هو المدعو باسمه، ولقد أعطيت الست: علم المنايا والبلايا والوصايا وفصل الخطاب وإني لصاحب الكرات ودولة الدول، وإني لصاحب العصاوالميسم والدابة التي تكلم الناس»(1).

النبأ العظيم

قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «يا علي، أنت حجة اللّه، وأنت باب اللّه، وأنت الطريق إلى اللّه، وأنت النبأ العظيم، وأنت الصراط المستقيم وأنت المثل الأعلى.

يا علي، أنت إمام المسلمين وأمير المؤمنين وخير الوصيين وسيد الصديقين. يا علي، أنت الفاروق الأعظم وأنت الصديق الأكبر. يا علي، أنت خليفتي على أمتي وأنت قاضي ديني وأنت منجز عداتي. يا علي، أنت المظلوم بعدي. يا علي، أنت المفارق بعدي، يا علي، أنت المحجور بعدي. أشهد اللّه تعالى ومن حضر من أمتي، إن حزبك حزبي وحزبي حزب اللّه، وإن حزب أعدائك حزب الشيطان»(2).

وقال الإمام زين العابدين(علیه السلام): «أول من شرى نفسه للّه علي بنأبي طالب(علیه السلام)...»(3).

دخل أبان على الإمام الرضا(علیه السلام) فقال: سألته عن قول اللّه «يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمرِ مِنكُمۖ»(4)؟ فقال: «ذلك علي بن أبي

ص: 139


1- الكافي 1: 198.
2- عيون أخبار الرضا(علیه السلام) 2: 6.
3- مناقب آل أبي طالب(علیهم السلام) 2: 64.
4- سورة النساء، الآية: 59.

طالب(علیه السلام)...»(1).

وعن ابن عباس قال: لما نزلت «قُل لَّآ أَسَٔلُكُم عَلَيهِ أَجرًا إِلَّا ٱلمَوَدَّةَ فِي ٱلقُربَىٰۗ»(2) قالوا: يا رسول اللّه، من هؤلاء الذين يأمرنا اللّه بمودتهم؟ قال: «علي وفاطمة وأولادهما»(3).

من كلام للإمام أمير المؤمنين(علیه السلام) في التمسك بالأئمة ومتابعة أثرهم(علیهم السلام): «من أطاع إمامه فقد أطاع ربّه»(4).

وقال(علیه السلام) أيضاً: «لا تزلوا عن الحق وأهله، فإنّه من استبدل بنا أهلالبيت هلك وفاتته الدنيا والآخرة»(5).

وقال(علیه السلام): «عليكم بطاعة أئمتكم، فإنّهم الشهداء عليكم اليوم، والشفعاء لكم عند اللّه غداً»(6).

وقال(علیه السلام): «شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة...»(7).

وقال(علیه السلام): «أسعد الناس من عرف فضلنا وتقرب إلى اللّه بنا وأخلص حبنا وعمل بما إليه نَدَبنا وانتهى عمّا عنه نهينا، فذاك منا وهو في دار المقامة معنا»(8).

ص: 140


1- تفسير العياشي 1: 251.
2- سورة الشورى، الآية: 23.
3- بحار الأنوار 36: 166.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 632.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 764.
6- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 116.
7- عيون الحكم والمواعظ: 298.
8- عيون الحكم والمواعظ: 124.

الحسن والحسين(علیهما السلام) إمامان قاما أو قعدا

المقدمة

«الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»(1).

الحديث المتقدم مروي عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، ولا نريد البحث هنا عن جوانب هذا الحديث المتعددة، وإنما الإشارة إلى جانب واحد بشيء من الإيجاز.

وقبل أن ندخل في صلب الموضوع، لابد أن نقدم مقدمة وهي:

إن الإمام الحسن والإمام الحسين(علیهما السلام)، كان دورهما تخطيطاً من اللّه سبحانه وتعالى، ومن الرسول(صلی الله علیه و آله) تبعاً للّه، لإنقاذ الأجيال الصاعدةإلى يوم القيامة، لا من جهة أنهما إمامان وخليفتان، فإن هذا شيء محرز واضح، وإنما من جهة أنهما كانا عبرتين ودرسين ومثالين لكل الأشخاص الذين يريدون إنقاذ البلاد والعباد من جور الطغاة، في أي زمان كانوا وفي أي مكان.

فقد ورد في الحديث: أن اللّه سبحانه وتعالى بواسطة جبرائيل أرسل إلى الرسول(صلی الله علیه و آله) اثنى عشر ظرفاً، كل ظرف مختوم بختم من اللّه تعالى، لكي توزّع تلك الظروف على الأئمة الاثني عشر(علیهم السلام) وفي هذه الظروف مكتوب كل ما يجب على الإمام أن يقوم به من دور ويؤدي من مهمة، فإذا وصلت النوبة لكل إمام من الأئمة(علیهم السلام) فض ظرفه ونظر ما فيه وعمل بحسب ما يقرره محتوى هذا

ص: 141


1- علل الشرائع 1: 211.

الظرف(1).

هذا حديث صغير مشهور، لكنه عميق في المعنى، ويحتاج - على أقل تقدير - إلى أربعة عشر مجلساً مفصلاً كل مجلس يستوعبجوانب المعصوم(علیه السلام) وأبعاد الظرف الذي عاشه، وأنه كيف اقتضى هذا الظرف هذا الجانب، وكيف قام الإمام بهذا الجانب في هذا الظرف؟

ومن جملتهم: الإمامان الحسن والحسين(علیهما السلام)، إنّا نريد إيجازاً عن هذا المبحث أن نبيّن هذا التخطيط الإلهي كيف كان دقيقاً، بحيث لا ينقص شعرة ولا يزيد شعرة حتى بحسب أفهامنا، فضلاً عن كونهم معصومين(علیهم السلام)، وأننا نعتقد بهم اعتقاداً بالإمامة والخلافة عن اللّه عزّ وجلّ، لأن ذلك شيء واضح.

والذي نريد أن نتوصل إليه فهم بعض الأبعاد عن حال هذين الإمامين(علیهما السلام) بحسب هذا الحديث الشريف: «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا».

ذلك لأنهما(علیهما السلام) ليسا إمامين لزمانهما فحسب، وإنما إمامان للأجيال كلها إلى يوم القيامة.

وهنا ثلاثة مواضيع، لابد أن نتكلم عنها:الموضوع الأول: أن المجتمع كيف يفرز الطغاة؟

الموضوع الثاني: نفسية الطغاة.

الموضوع الثالث: كيف يجب أن يقابل الطغاة؟

ثم بيان أن الإمامين الحسن والحسين(علیهما السلام) قاما بهذا الدور بأفضل ما يمكن، وكان كل منهما يكمل دور الآخر، حتى أن الإمام الحسن(علیه السلام) إذا لم يكن، كان الدور ناقصاً، وكذلك الإمام الحسين(علیه السلام) إذا لم يكن، كان الدور ناقصاً أم لا؟

ص: 142


1- انظر الكافي 1: 279 و 280.

المجتمع يفرز الطغاة

المجتمعات التي ضعف فيها المصلحون وشرس فيها المفسدون تفرز الطغاة، فإن في المجتمع الذي خمل فيه المصلح، ونشط فيه المفسد، من الطبيعي أن يأتي الطاغي ويتحكم به، وحيث المفسدون كثيرون فمن الطبيعي أن يستولي هؤلاء على البلاد ويتحكمون على رقاب العباد، ولذا ورد في الحديث عن الرسول(صلی الله علیه و آله): «لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولياللّه أمركم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم»(1).

وهذا شيء عقلي ومنطقي، لأن المصلح إذا لم يصلح فذلك يعني أن المجتمع صار مجتمعاً فاسداً، بل بؤرة للفساد، وعندها من يأتي على الحكم؟ حتماً أحد الفاسدين، فإنه قد ورد: «كيف ما تكونوا يولى عليكم»(2).

فإذا جاء أحد الفاسدين وتحكم وحكم المجتمع، وأنت دعوت اللّه، هل تتغير تلك الموازين بهذا الدعاء المجرد؟

كلا، ففي هذا الحديث الشريف، وهو «لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولي اللّه أمركم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم» الرسول(صلی الله علیه و آله) بيّن قانونين كونيين، قانون مجيء الطغاة، وقانون أن الدعاء لا يرفع الطغاة، وكلاهما قانونان من سنن الحياة.وهذا لا يعني أن الرسول(صلی الله علیه و آله) كشف إلينا قاعدة شرعية، أو أن هذا موضوع غيبي، أو إخبار عن المغيبات، بل هو قانون تكويني، يعرفه كل إنسان حكيم وعاقل - والرسول(صلی الله علیه و آله) سيد الحكماء وسيد العقلاء - .

ص: 143


1- الكافي 7: 52.
2- انظر نهج الفصاحة: 616.

فالقاعدة الاجتماعية تقول: إن المجتمع الذي فيه المصلح قد خمل، والمفسد قد نشط، تلقائياً يأتي الطاغي إلى الحكم ويفرض تحكمه وسيطرته واستبداده على رؤوس الناس، وإذا جاء الطاغي إلى الحكم فإن عملية تغيير ذلك الوضع والواقع الفاسد لا تتم بالدعاء وحده، وإنما تتم بواسطة الدعاء والعمل معاً، لأن لكل واحد منهما مقامه وشأنه.

وللمثال على ما ذكر: إن المجتمع الروماني كان مجتمعاً فاسداً منحطاً، والمجتمع الإسلامي بعد ما غصبوا الخلافة فيه أصبح مجتمعاً هشاً بعيداً عن التعاليم الحقة الإسلامية والقيادة الربانية، فكان يزيد بن معاوية وليد هذا المجتمع.إن يزيد وُلد في بلاد الشام والروم، لا في مكة ولا في المدينة، ولا في الكوفة ولا في البصرة، وكان الرومان قبل الإسلام أناساً فاسدين متخلفين إلى أبعد الحدود، ولذا لما جاء الإسلام أزاحهم كهشيم محتضر، فإنه إذا كان المجتمع الروماني مجتمعاً متماسكاً قوياً متحضراً، كانوا يقابلون المسلمين بأشد أنواع المقابلة.

لا شكّ أن اللّه سبحانه وتعالى نصر الإسلام، لكن نصرة اللّه للإسلام كانت بأسباب غيبة ومادية، فالمجتمع الروماني قبل الإسلام كان مجتمعاً ضعيفاً غير مستقيم، ولذا لما اصطدم بالإسلام على قلة عدة المسلمين وعددهم، انهزم الكفر وانتصر الإسلام.

الشاعر يقول في شعر مشهور:

لم أدر أين رجال المسلمين مضوا *** وكيف صار يزيد بينهم ملكاً(1)

والجواب عن سؤال الشاعر واضح.

ص: 144


1- من قصيدة للسيد جعفر الحلي(رحمة الله).

فالمجتمع الروماني الفاسد من ناحية المفسدين، والمجتمع الإسلامي الهش المتفكك من ناحية المصلحين، لهذا الشيء ولد يزيد في المجتمع غير المستقيم.

وكان سبب هذا التفكك والهشاشة في المجتمع الإسلامي آنذاك هو أولاً مجتمع ناشئ، ومعلوم أن المجتمع الناشئ يحن بسرعة ويرجع إلى أنسابه وأحسابه وقبائله وأفكاره مع فقد القيادة الإلهية الربانية، ودور الإصلاح والتغيير في كثير من أفراده لم يتجاوز الصبغة والظاهر، «وَمَن أَحسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبغَةۖ»(1).

والنبي(صلی الله علیه و آله) صبغ ذلك المجتمع الوليد بالصبغة الإسلامية الرسالية الصحيحة كي تتعمق مستقبلاً وتصبح قيمة حقيقية تكمن في أعماق القلوب السليمة. ولكن غصبوا الخلافة من بعد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فجاء الخليفة الأوّل والثاني ومضيا، وجاء الخليفة الثالث وتفكك المجتمع الإسلامي تفككاً ذريعاً بسبب تصرفهوتصرف حواشيه.

وفي هذا المجتمع المتفكك، لم يتمكن المصلحون من تقويم المعوج، فقلّ المصلحون وكثر المفسدون، فتولد من ذلك حكم معاوية ويزيد.

هذا منشأ ولادة حكم هذين الرجلين في مجتمع ليس معروفاً بالصلاح ولا بالإسلام ولا بالسوابق الحسنة.

فقد جاء المسلمون وفتحوا البلاد، وتم تسليمها إلى معاوية، ورجع المسلمون إلى بلادهم، فكم مسلم بقي في المجتمع الروماني وفي بلاد الشام؟ أعداد قليلة من أصحاب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله).

ولذا خاف معاوية من أبي ذر وحده، لأن المجتمع ما كان يعرف الموازين

ص: 145


1- سورة البقرة، الآية: 138.

الإسلامية والقيم الإسلامية، فكان يخشى أن يقلب عليه الأوضاع.

فهو كما لو ذهبت إلى نيويورك، وبدلت نيويورك إلى صبغة إسلامية، ثم خرجت من نيويورك، فهل سيكون مجتمعنيويورك مجتمعاً مسلماً عميق الإيمان والإسلام؟

كلا، وإنما الصبغة والصورة فقط هي التي تغيرت، لا أكثر ولا أقل.

وكان الناس آنذاك في بلاد الشام لم يرو سيرة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ولا يعرفون تعاليم الإسلام الحقيقية، ولذا فإن أي إنسان حكمهم بالاستبداد وقال هذا هو طريق الفاتح، كانوا يخضعون له ويسلمون إليه، فمجتمع سوريا أو مجتمع الرومان، ولّد حكم معاوية ويزيد الطاغيين.

وهكذا يتولد الطغاة في المجتمعات، حيث إن العامل الأساس في تربية نماذج الطاغوت هو الجهل والحالة الاجتماعية الفاسدة القائمة في المجتمع، وأما المجتمع الذي يكثر فيه المصلحون ويتنعم بالعلم والمعرفة، فإنه يكون مرتعاً لتنامي الخير والإصلاح، بل ربما يستحيل أن يولد فيه الطغاة.

ومن هنا نستطيع أن نقول: إن أي طاغ رأيت نشأ في منطقة،سواء في العراق، أو في مصر، أو في أي بلد كان، اعرف أن له مقومات، والمقوم الأوّل هو الجهل والحالة الاجتماعية المنحرفة والفاسدة في ذلك المجتمع.

وطبعاً لا نقصد بالمصلح: مجرد من يخطب ويأمر المعروف وينهى عن المنكر في مجتمع متدين صغير أو أكبر، وإنما المصلح يعني الذي يغير ويبدل، الذي يقابل الطغاة ويغير المجتمع نحو الخير والفضيلة.

أما في المجتمع الذي قلّ فيه المصلحون وكثر فيه المفسدون، فإن ذلك يتولد فيه الطغاة، جمال عبد الناصر أين ولد، ولد في بيئة كثرت فيها الفاسقات

ص: 146

والفاجرات ومطربات الباشوات(1)، حيث كانوا يأتون إليها ويقبلون رجليها ويشربون الخمرة التي تصب في حذائها تبركاً بها، هذا المجتمع يولد جمال عبد الناصر وغيره من الدكتاتوريين.وهذا وفق ما تقدم أمر طبيعي، ومن سنن الحياة، فلا يقال: كيف يقع كل ذلك؟ وكيف ولد هؤلاء الطغاة في المجتمعات الإسلامية، لأن ذلك قانون جار في كل مجتمع فاسد ومنحرف، وبعيد عن التعاليم الإسلامية الحقة.

أحد أشباه العلماء في مصر يبرق إلى ملك فاسد يقول: أبرقت إلى أطهر مكان، وأي مكان، مكان هذا الملك، وهو المشهور بالفسق والفجور و... فيصبح مكانه أشرف بقاع الأرض وأطهرها،

راجعوا التاريخ وانظروا أن المجتمع الذي يولّد الطاغي، يكون المصلح فيه قليلاً والمفسد فيه كثيراً، ومن الطبيعي عندما يكون المفسد هو الأقوى فإنه يصل إلى قمة الحكم فيعمل ما يشاء، وقد ورد في الحديث الشريف: «كيف ما تكونوا يولّى عليكم»(2).

هذا موجز عن كيفية ولادة الطغاة في المجتمعات غير المستقيمة.

الطبيعة النفسية للطاغية

ونأتي إلى الموضوع الثاني، وهو أن نفسية الطغاة على قسمين عادةً، فالطاغي إما أن يكون طاغياً ماكراً، وإما أن يكون طاغياً بليداً.

وعلامة هذين الطاغيين: هي أن الطاغي الماكر مخادع في الحرب ودنيء في السلم، بينما الطاغي البليد شرس في الحرب ومستهتر في السلم، ولنمثل

ص: 147


1- الباشوات - جمع الباشا - : وهو المدير أو الرئيس.
2- انظر نهج الفصاحة: 616.

بمعاوية ويزيد:

القسم الأول: الماكر الدنيء، فمعاوية من النوع الطاغي الماكر، لأن طبيعة معاوية طبيعة الولد غير الحلال(1)، وفي بعض بحوث العلم الحديث والعلماء وعلم النفس أن ولد الزنا يخرج ماكراً في طبيعته، ولا يسمى ذكياً، لماذا؟

لأن الزنا يقع مع اضطراب النفس في المرتكبَين عادة، فالتيتزني مضطربة وتسعى أن لا يعرفها أحد، ولا يراها أحد، ولا يسمع حسيسها أحد، وهذه الطبيعة تنطبع في الولد، حتى علم النفس يقول: إنك إذا نظرت إلى صورة في دارك، الولد يخرج بهذه الصورة، عند المجامعة والوقاع، ولذا في الإسلام من المكروه أن يقارب الرجل زوجته وهو يفكر بامرأة أخرى، وهناك أحاديث مذكورة في كتاب النكاح تنهى عن هذا الشي(2).

فطبيعة معاوية هذه طبيعة ماكرة مخادعة، فهو منسوب إلى أبي سفيان وهند، وكلاهما زانيان، فكيف يخرج ولدهما؟ فهو بطبيعته ماكر.

وطبيعة المكر كما قلنا خداع في الحرب، ودناءة في السلم، وقد ظهر هذا المخادع على حقيقته في حروبه، في حربه ضد أمير المؤمنين عليّ(علیه السلام)، حيث مارس دور المخادعة، وكذلك في حربه ضد الإمام الحسن(علیه السلام) حيث قام بنفس العمل الخداعي، ففي كل حروبمعاوية كانت للخدعة دور كبير ومهم.

وهذه طبيعة المكر، وكذلك كان في سلمه دنيئاً، فالإمام الحسن(علیه السلام) صالحه وهادنه حقناً لدماء المسلمين ضمن شروط معينة، وبعده صعد معاوية المنبر

ص: 148


1- انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 336، حيث ينقل عن الزمخشري في ربيع الأبرار أن معاوية كان يعزى إلى أربعة أفراد.
2- انظر من لا يحضره الفقيه 3: 552.

قائلاً: وضعت كل شروط الإمام الحسن(علیه السلام) في الصلح تحت قدمي(1).

وهذه دناءة ذاتية متأصلة في النفس، حيث أعلن عن ذلك، وإلّا فبإمكان الرجل الماكر إذا أراد أن لا يفي بشروطه أن لا يعمل بها من دون أن يعلن عنه، فبأي داع يقول ذلك فوق المنبر وعلى رؤوس الأشهاد.

أو يقول: و القائل لمّا دخل الكوفة: إنّي واللّه ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا، ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، إنّكم لتفعلون ذلك، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم وقد أعطاني اللّه ذلك وأنتم لهكارهون(2).

وليست هذه كلمة صدرت خطأً لتسجل على شخص، لكن هذه طبيعة المكر وطبيعة الدناءة، فالماكر مخادع في الحرب دنيء في السلم.

ثم إنه كان يعلم بأن الإمام الحسن(علیه السلام) يبقى وفياً بالشروط، ولا يحاربه بعد ذلك، فهو أعرف بشخصية الإمام الحسن(علیه السلام) وخلقه ووفائه، ولكنه مع ذلك سمّ الإمام الحسن(علیه السلام)، لكن طبيعة الدناءة لا يمكن أن تصبر على ذلك.

هذا صنف من الطغاة، وهؤلاء ماكرون دنيئون.

القسم الثاني من الطغاة: الطاغي البليد

وذلك كيزيد بن معاوية، فهو طاغ بليد، والبليد شرس في الحرب، والكل يعلم قصة الإمام الحسين(علیه السلام) يوم عاشوراء وشراسة يزيد، وهكذا قصة مكة المكرمة وشراسة يزيد، وغيرذلك من المواقف التي اتخذها يزيد، فهذا دليل على أنه شرس في الحرب، لأن الطغاة لا يستجيبون للموازين والقوانين والأفكار والتعقل بل يطغون على جميع ذلك، ومن هنا يطلق طغيان النار مثلاً، يعني أنها

ص: 149


1- انظر الإرشاد 2: 14.
2- انظر مقاتل الطالبيين: 45؛ البداية والنهاية 8: 140.

لا تعرف الموازين والقوانين والاحترام والزيادة والنقيصة.

هذا الطاغي وهو يزيد، أو الطاغية، والتاء للمبالغة مثل تاء (علامة)، لأنه كما يقول السيوطي: التاء على أربعة عشر قسماً في اللغة العربية، منها تاء المبالغة، مثل تاء الطاغية(1).

إنه طاغ بليد، من طبيعته الشراسة في الحرب، كما أن من طبيعته الاستهتار بالدين والقيم والأخلاق والآداب، ولذا كان يقوم بمصاحبة القرد، وممارسة العهر، وشرب الخمر، وارتكاب الزنا والفواحش، والاستهتار بحقوق الناس، وعدم الالتفات إليهموعدم تقديرهم(2).

حتى أن أحد علماء السنة (في قصة طويلة)، قال: كنا نخاف أن تمطر السماء بالحجارة، ذلك لأن يزيد كان يزني بالمحارم، أمثال أخته وعمته وما أشبه(3).

هذان نموذجان من الطغاة، وعلى طول الخط يكون الطاغي إما هكذا وإما هكذا عادة، فهو إما طاغ ماكر مخادع دنيء، وإما طاغ بليد شرس مستهتر.

وقد قام الإمام الحسن والإمام الحسين(علیهما السلام) بأمر من اللّه بأحسن القيام واتخاذ المواقف الحكيمة ضد هذين الطاغيين، وهما درس للبشرية في كيفية مقابلة الطغاة بقسميها.

فالإمام الحسن(علیه السلام) قيظهُ اللّه سبحانه وتعالى لمقابلة الطاغي من القسم الأوّل، بينما الإمام الحسين(علیه السلام) قيظهُ اللّه سبحانه وتعالى لمقابلةالطاغي من القسم الثاني.

فالمصلحون في العالم يلزم أن يقتدوا إما بالإمام الحسن(علیه السلام) إذا كان أمامهم

ص: 150


1- انظر البهجة المرضية: 474.
2- انظر البداية والنهاية 8: 258.
3- انظر الطبقات الكبرى 5: 66.

مثل معاوية، وإما أن يقتدوا بالإمام الحسين(علیه السلام) إذا كان أمامهم مثل يزيد.

والحديث الشريف يقول: «الحسن والحسين إمامان، إن قاما وإن قعدا».

فيبيّن الدور البارز للإمام الحسن(علیه السلام) وأنه كيف يجب أن يحارب وكيف يجب أن يسالم، حتى أن الإمام(علیه السلام) إذا لم يكن يسالم معاوية، لكان ذلك نقصاً في دوره، لأن معاوية كان كالعملة المزيفة التي لها وجهان:

وجه حرب ووجه سلم، وعلى الإمام الحسن(علیه السلام) أن يظهر الوجهين ويفضحه، فإذا كان الإمام يحارب فقط لكان يظهر وجه معاوية الحربي والمخادع فحسب، أما وجهه السلمي فما كان يظهر ولا ينجلي.وكذلك العكس أيضاً حيث أن الإمام الحسن(علیه السلام) إذا لم يحارب لكان نقص في دوره، لأنه كان يظهر وجه سلم معاوية فقط، أي وجه دنائته دون أن يكشف وجهه الحربي.

من هنا كان الإمام الحسن(علیه السلام) دقيقاً في تخطيطه الذي هو تخطيط من اللّه سبحانه وتعالى، حسب المنطق والعقل - بقطع النظر عن العصمة، واعتقادنا نحن به كإمام مفترض الطاعة والولاية - لذا فإن الإمام(علیه السلام) حارب فترة من الزمن لإظهار وجه معاوية الحربي ثم هادنه، يعني أظهر وجه الخداع وأظهر وجه الدناءة.

ولو كان قد حارب الإمام(علیه السلام) حتى يُقتل مثلاً، لما كان يظهر وجه دناءة معاوية، حيث كان يقوم بسباب علي(علیه السلام) على المنابر والإمام الحسن(علیه السلام) جالس تحته، في الوقت الذي كان من شروط الصلح أن لا يسبّ علياً(علیه السلام)؟(1).

وما كان ينكشف وجه معاوية في تجاوزه الشروط الأخر التيشرطها الإمام

ص: 151


1- انظر الإرشاد 2: 14.

في الصلح، من عدم التعرض للإمام الحسن وأقربائه وشيعة علي(علیه السلام)؟

وكذلك ما كان يظهر قول معاوية على المنبر: (إني كنت منيت الحسن وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء منها)(1).

هذه كلها لم تكن تظهر لو لم يسالم الإمام الحسن(علیه السلام) مع معاوية ويتصالح معه، فصلحه معه بين حقائق الأمور ووقائعها، ووضعها أمام أعين الناس، ليعرفوا من هو الإمام(علیه السلام) ومن هو معاوية، ليمزوا من هو خليفة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) حقاً؟

وإن لم يكن هناك مصلح كالإمام الحسن(علیه السلام)، لما كان يظهر وجها معاوية وجه سلمه ووجه حربه، لذا فالإمام الحسن(علیه السلام) سيبقى نهجاً وخطاً يقف أمام كل من يأتي من الطغاة إلى يوم القيامة وهو يتمثل بصورة معاوية، وبذلك يتعلم المصلحون طريق المقاومة وفضح الظالم.وفي هذا المجال أحاديث عديدة، فبعض الأحاديث محتواه أكبر من دلالته الظاهرية، وبعض الأحاديث محتواه بقدر دلالته، وبعبارة أخرى: بعض الأحاديث رمز، وبعض الأحاديث تطبيق، ومن باب المثال نقول: لو فرضنا أن هناك مقداراً من الماء وكان ظاهره بقدر باطنه وليس أكثر، فظاهره خمسون لتراً وباطنه كذلك، وقد يكون هذا المقدار منفذ إلى عين فيها ملايين اللترات من الماء، فالسطح واحد، ولكن العمق والامتداد يختلف.

كيف يُواجَه الطغاة؟

نعود إلى أصل البحث، وهو أن الطغاة على نوعين:

1- طاغٍ مخادع ودنيء، ونسميه بالطاغي الماكر، فهو يجمع بين الشيئين الخداع والدناءة، وهكذا طاغٍ واجهه الإمام الحسن(علیه السلام)، فهو إمام لمن واجه مثل

ص: 152


1- الإرشاد 2: 14.

هذا القسم من الطغاة إلى الأبد، لأنه يأتي في التاريخ الطغاة من نماذج معاوية، ويحتاج إلى المصلحين مننماذج الإمام الحسن(علیه السلام).

أما الطغاة من نماذج يزيد، فهو يحتاج إلى المصلحين من نماذج الإمام الحسين(علیه السلام). وهو القسم الثاني:

2- طاغٍ بليد، يعني الشرس في الحرب، والمستهتر في السلم.

ومن أدق الأعمال التي قام بها الإمام الحسين(علیه السلام) أمام يزيد، أنه أرسل مسلم بن عقيل(علیه السلام) وحده إلى الكوفة. فإنه كان يريد فضح يزيد وأعوانه.

قسم من الناس يتعجبون من ذلك، كما أنهم يتعجبون لماذا فرّق الإمام الحسين(علیه السلام) أصحابه وقال: من أراد منكم أن يذهب فليذهب، لأنني سوف أُقتل والقوم لا يريدون سوى قتلي - بعكس ما يفعله القادة العسكرييون دائماً وفي جميع الحروب حيث يجمعون الأصحاب - ، ولكن الإمام الحسين(علیه السلام) ومن مكة المكرمة كان يقول لهم: إذهبوا، إذهبوا، إذهبوا... وتفرقوا،تفرقوا... واستمر ذلك حتى ليلة عاشوراء(1)، عجباً هل هذا الإنسان يريد الحرب؟

نعم، هذا الإنسان يريد الحرب بصورتها الصحيحة، ويفهم كيف يحارب، ليفضح عدوه على طول التاريخ؟

وفي الحقيقة إذا كان الإمام الحسين(علیه السلام) يفعل غير ذلك، كنا نسأل لماذا الإمام الحسين(علیه السلام) حارب في الوقت الذي كان يعلم أنه بكل الصور مقتول؟

فإن دولة بني أمية كانت دولة قوية، وسيعة عريضة، ضاربة بأجرانها مناطق مما يعرف اليوم بالاتحاد السوفيتي، إلى أواسط أفريقيا، هذه الدولة الضخمة خرج ضدها الإمام(علیه السلام) في فئة قليلة وحارب هيبتها وسلطانها.

ص: 153


1- انظر الإرشاد 2: 75 و 91.

وذلك لأن الإمام الحسين(علیه السلام) كان في مواجهة طاغ هو يزيد، وقلنا سابقاً أن يزيد كان شرساً في الحرب، وفي نفس الوقتمستهتر في السلم، استهتاره واضح لأنه يزيد الخمر وأبي قيس(1) ولعب القردة والزنا والاستهتار والفواحش وما أشبه.

حتى أن المؤرخين ذكروا أن معاوية كان مريضاً شديد المرض وفي حالة الاحتضار، وكان يزيد في بعض القرى يشرب الخمر، ويلعب بالكلاب، فهو إلى هذا الحد كان مستهتراً، كان خارج البلد(2) لا يقيم لأبيه وزناً وهو في حال الموت، ولا لخلافته، ولا لأنه خلّفه وولاّه عهده، فاستهتاره في السلم وعدم الحرب معروف لا يحتاج إلى الكشف.

وإنما حرب يزيد كان يحتاج إلى الكشف، لأن فيه درساً لجميع الأجيال التي تواجه طغاة كأمثاله.

والدرس هنا كيف يلزم أن تقاوم الشراسة، وأين تظهر الشراسة؟الشراسة تظهر إذا كان المصلح قليل العدد، فالشراسة لا تظهر عادة مع كثرة العدد، بل مع قلة العدد، كما يقول الشاعر على ما ذكره السيوطي(3):

والذئب أخشاه*** إن مررت به وحدي

الذئب شرس، لكن أين تظهر شراسته إذا كنت وحدك، أما إذا كنت مع جماعة لا تظهر شراسته.

فإذا كان مع الإمام الحسين(علیه السلام) عشرة آلاف إنسان، وحاربوا الأمويين، لم تظهر شراستهم، فالأمويون آنذاك لم يتمكنوا من أن يصنعوا بالإمام الحسين(علیه السلام) هذا الصنيع الذي صنعوا به، وإن كانوا يتمكنون من قتله، فما كانت تظهر شراسة يزيد.

ص: 154


1- اسم قرد ليزيد بن معاوية، انظر أنساب الأشراف 5: 287.
2- انظر الفتوح لابن الأعثم 4: 352.
3- البهجة المرضية: 264.

وهكذا إذا كان مع مسلم بن عقيل(علیه السلام) حين جاء إلى الكوفة، ألف إنسان أو أكثر، فلم يكن ابن زياد يتمكن أنيشنقه مقلوباً في كناسة الكوفة، إنما تظهر هذه الشراسة مع قلة عدد المصلحين، فإن كثرة المصلحين تلقي الرعب في نفوس الطغاة، انظروا يزيد نفسه لما رأى الإمام(علیه السلام) في الشام وبعد خطبته الشريفة حيث تغيرت آراء الناس، وأصبحوا بصدد نصرة الإمام، بدّل الأمر وقال: إني ما فعلت هذا الشيء.

فالإمام الحسين(علیه السلام) كان متعمداً في أن يكون جيشه قليل العدد، حتى يظهر آخر قطرة من شراسة الحكام الطغاة ويفضحهم.

وهذا خطاب للمصلحين إذا كان أمامهم مثل يزيد، وكان عدد الأنصار قليلاً، فلا يقول المصلح: إن هذا الحاكم الطاغي شرس فلا أقاومه.

الإمام الحسين(علیه السلام) بصورة دقيقة، وبتخطيط إلهي من أعجب وأدق التخطيطات، فضح يزيد وبني أمية وجميع الطغاة على طول التاريخ، فأظهر كل الشراسة التي كانت في قلب يزيد، حتى يكون إماماًللذين يأتون من بعده، ويقابلهم طاغ بليد من قبيل يزيد.

دور المعصوم(علیه السلام) واستمرار الرسالة

إذن فقول رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»(1)، ليس بمعنى التقديس فقط، وليس أن الرسول(صلی الله علیه و آله) يريد أن يبين أنهما سيدان عالمان جليلان، وأنه تعلموا منهما المسائل والأحكام فقط، وإن كان هذا الشيء صحيحاً أيضاً.

قسم من الناس قد يتعجب لقلة نقل الروايات الفقهية عن الإمامين الحسن

ص: 155


1- علل الشرائع 1: 211.

والحسين(علیهما السلام)، فالإمامان الحسن والحسين(علیهما السلام) دورهما الأهم ليس دور الفقه، بل كان دور الإمامين الحسن والحسين(علیهما السلام) دور مقابلة الطغاة من هذا القبيل.

وكان دور الإمام الباقر والصادق(علیهما السلام) دور الفقه، لماذا؟

لأنه كان مقابل الإمام الصادق(علیه السلام) الفقهاء الذين كانوا يريدون تحريف الفقه الإسلامي، ولذا كان على الإمام الصادق(علیه السلام) أن يظهرالفقه.

وقد أشرنا سابقاً إلى أننا بحاجة إلى الكثير من البحث، حتى نبيّن بقدر فهمنا أدوار المعصومين(علیهم السلام) ونتكلم حول كل واحد واحد من المعصومين الأربعة عشر، الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) والزهراء(علیها السلام) والأئمة (عليهم الصلاة والسلام) وأنه كيف كان كل واحد من هؤلاء الأطهار قائداً ومعلماً إلى الأبد، وأن كل دور يشبه دور الرسول(صلی الله علیه و آله) أو فاطمة الزهراء أو دور علي أمير المؤمنين أو دور الإمام الحسن، أو دور الإمام الحسين(علیهم السلام)، أو دور سائر الأئمة إلى دور الإمام المهدي(علیه السلام) فعلى المصلح أن يتخذهم قدوة وأسوة، ويعمل مثل ذلك المعصوم(علیه السلام) المشابه دوره لدوره، وإلّا فإن خالفهم(علیهم السلام) فقد أخل الإنسان بواجبه وأخطأ.

وبذلك ظهر:

1- أنه كيف تفرز المجتمعات الطغاة؟

2- نفسية الطغاة وأقسامهم.3- كيف يجب أن يقابَل كل طاغ.

وحديث رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»، لعله يشير إلى بعض ما ذكرناه.

ص: 156

قبس من شعاع الإمام الحسين(علیه السلام)

الشهادة والحياة الأبدية

اشارة

قال تعالى: «وَلَا تَحسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَموَٰتَۢاۚ بَل أَحيَآءٌ عِندَ رَبِّهِم يُرزَقُونَ»(1).

تشير الآية الكريمة إلى حال الذين يقتلون في سبيل اللّه، وتؤكد لنا استمرار حياتهم بعد القتل، وأنهم يبقون أحياءٌ، فإن من استشهد في سبيل اللّه لا تنتهي حياته، بل يبقى حياً يرزق، وهذا ما تؤكده الآية المباركة.

فكما أن هذه الحياة المادية ذات مراتب منها مرتبة كاملة نسبياً كمن كان سعيداً فرحاً، ومنها مرتبة ناقصة كمن كان شقياً حزيناً،كذلك من مات يكون على قسمين - بعد بقاء كليهما في حياة من لون آخر - قسم يكون حياً هناك أي سعيداً فرحاً وقسم يكون ميتاً هناك أي شقياً حزيناً(2).

وكيف لا؟ والشهداء هم الذين ضحّوا بأنفسهم في سبيل العقيدة، وفي سبيل إعلاء كلمة التوحيد والحق، وأناروا الحياة بدمائهم الزكية، كي يتسنى للأجيال التمسّك بعرى الإسلام.

وقد يكون المضحّي بنفسه بالإضافة إلى أنه شهيد وقد وعد اللّه بحياته، يكون

ص: 157


1- سورة آل عمران، الآية: 169.
2- انظر تفسير تقريب القرآن 1: 417.

عروة من عرى الإيمان والعقيدة وإماماً من أئمة المسلمين، كما هو الحال بالنسبة لسيد الشهداء أبي عبد اللّه الحسين(علیه السلام) فما أعظم هذا الشهيد وما أرفع مكانته وقد قال الإمام زين العابدين(علیه السلام): «وأما الآخرة فبنور وجهك مشرقة»(1).

الإمام المعصوم

وإذا أردنا أن نتعرف قليلاً على هذه الشخصية العظيمة، فإنه ينبغي أن نقرأ بعض الأحاديث التي تبين مكانة الإمام المعصوم(علیه السلام) عند اللّه عزّ وجلّ ومقامه التكويني والتشريعي.

فقد جاء عن أبي عبد اللّه الصادق(علیه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: «وَمَن يُؤتَ ٱلحِكمَةَ فَقَد أُوتِيَ خَيرا كَثِيراۗ»(2) قال(علیه السلام): «طاعة اللّه ومعرفة الإمام»(3).

وكذلك جاء عن الإمام موسى بن جعفر(علیهما السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: «قُل أَرَءَيتُم إِن أَصبَحَ مَآؤُكُم غَورا فَمَن يَأتِيكُم بِمَآءٖ مَّعِينِۢ»(4)، قال(علیه السلام): «إذا غاب عنكم إمامكم فمن يأتيكم بإمام جديد»(5).

وجاء عن الإمام الرضا(علیه السلام) أنه قال: «فمن ذا الذي يبلغ معرفةالإمام، أو يمكنه اختياره؟! هيهات هيهات! ضلّت العقول، وتاهت الحلوم، وحارت الألباب، وخسئت العيون، وتصاغرت العظماء، وتحيرت الحكماء... وعييت البلغاء عن وصف شأن من شأنه أو فضيلة من فضائله وأقرت بالعجز والتقصير...»(6).

ص: 158


1- انظر مقتل الحسين(علیه السلام) للمقرم: 337.
2- سورة البقرة، الآية: 269.
3- الكافي 1: 185.
4- سورة الملك، الآية: 30.
5- الكافي 1: 340.
6- الكافي 1: 201.

وقال(علیه السلام) أيضاً: «... الإمام أمين اللّه في خلقه، وحجته على عباده، وخليفته في بلاده، والداعي إلى اللّه والذاب عن حرم اللّه...»(1).

إذن، من خلال هذه الأحاديث الشريفة وكثير غيرها يمكن أن نعرف بعض مكانة الإمام الحسين(علیه السلام)، وقربه من اللّه عزّ وجلّ ودوره في قيادة المجتمع الإنساني وهدايته، فإذا أردنا أن نحلّ بساحة الرحمة الإلهية، ونحصل على السعادة الدنيوية والأخروية، فلا بد أن نتبع خطى الإمام الحسين(علیه السلام)، ونسير على طريقه الذي رسمهللأجيال بدمه الشريف، وهذا الأمر أيضاً يصدق على بقية الأئمة المعصومين(علیهم السلام)، إلّا أن بحثنا الآن يدور حول أبي عبد اللّه الحسين(علیه السلام).

نعم، فقد امتاز الإمام الحسين(علیه السلام) عن سائر الشهداء والثائرين بخصائص تفوق كل الشهداء فأصبح سيد الشهداء من الأولين والآخرين، وهذا لا باعتباره إماماً معصوماً فقط، ولا لأنه سبط(2)

رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وريحانته من الدنيا(3) فحسب، بل لجلالة الأهداف التي فجّر ثورته من أجلها، وعظمة التضحية التي قدّمها(علیه السلام)، وتكاملية الأبعاد فيها، ومن هنا جاء التأكيد الكبير على الشعائر الحسينية وزيارة الإمام الحسين(علیه السلام).

زيارة الإمام الحسين(علیه السلام)

إن المتتبع للأحاديث التي جاءت حول فضل زيارة الإمام الحسين(علیه السلام) يدرك عظمة هذا الشهيد الطاهر، وعلو مكانه،وارتفاع شأنه وشموخه في العالمين ومقامه عند اللّه عزّ وجلّ.

ص: 159


1- الكافي 1: 200.
2- انظر الإرشاد 2: 127.
3- انظر عيون أخبار الرضا(علیه السلام) 2: 27.

يقول معاوية بن وهب: استأذنت على أبي عبد اللّه(علیه السلام) فقيل لي: أدخل، فدخلت، فوجدته في مصلاه في بيته، فجلست حتى قضى صلاته، فسمعته يناجي ربه وهو يقول: «اللّهم يا من خصنا بالكرامة، ووعدنا بالشفاعة، وخصنا بالوصية، وأعطانا علم ما مضى وعلم ما بقي، وجعل أفئدة من الناس تهوي إلينا، اغفر لي ولأخواني وزوار قبر أبي الحسين، الذين أنفقوا أموالهم وأشخصوا أبدانهم، رغبة في برنا، ورجاءاً لما عندك في صلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيك، وإجابة منهم لأمرنا، وغيظاً أدخلوه على عدونا، أرادوا بذلك رضاك، فكافهم عنا بالرضوان، وأكلأهم بالليل والنهار، وأخلف على أهاليهم وأولادهم الذين خلفوا بأحسن الخلف، واصحبهم واكفهم شر كل جبار عنيد، وكل ضعيف من خلقك وشديد، وشر شياطين الإنس والجن، واعطهم أفضل ما أملوا منك في غربتهم عن أوطانهم، وما آثرونا به علىأبنائهم وأهاليهم وقراباتهم.

اللّهم إن أعدائنا عابوا عليهم بخروجهم، فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا، خلافاً منهم على من خالفنا، فارحم تلك الوجوه التي غيرتها الشمس، وارحم تلك الخدود التي تتقلب على حضرة أبي عبد اللّه الحسين(علیه السلام)، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا، وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا.

اللّهم إني أستودعك تلك الأبدان، وتلك الأنفس حتى توفيهم على الحوض يوم العطش الأكبر».

- قال الراوي - : فما زال يدعو وهو ساجد بهذا الدعاء فلما انصرف قلت: جعلت فداك لو أن هذا الذي سمعت منك كان لمن لايعرف اللّه عزّ وجلّ لظننت أن النار لا تطعم منه شيئاً أبداً، واللّه لقد تمنيت أني كنت زرته ولم أحج.

فقال لي(علیه السلام): «ما أقربك منه فما الذي يمنعك من زيارته؟».

ص: 160

ثم قال(علیه السلام): «يا معاوية لم تَدَعُ ذلك؟».

قلت: جعلت فداك لم أر أن الأمر يبلغ هذا كله.

فقال: «يا معاوية من يدعو لزواره في السماء أكثر ممن يدعو لهم في الأرض»(1).

روي عن أبي عبد اللّه(علیه السلام) أنه في أول ولاية أبي جعفر - المنصور - نزل النجف، وقال لأعرابي كان في الطريق: «من أين قدمت؟» قال: من أقصى اليمن... ثم قال له: «فبما جئت هيهنا؟».

قال: جئت زائراً للحسين(علیه السلام).

فقال أبو عبد اللّه(علیه السلام): «فجئت من غير حاجة ليس إلّا للزيارة؟».

قال: جئت من غير حاجة إلّا أن أصلي عنده وأزوره فأسلم عليه وأرجع إلى أهلي.

فقال أبو عبد اللّه(علیه السلام): «وما ترون في زيارته؟».

قال: نرى في زيارته البركة في أنفسنا وأهالينا وأولادنا،وأموالنا، ومعايشنا وقضاء حوائجنا.

فقال أبو عبد اللّه(علیه السلام): «أفلا أزيدك من فضله فضلاً يا أخا اليمن؟».

قال: زدني يابن رسول اللّه.

قال: «إن زيارة الحسين(علیه السلام) تعدل حجة مقبولة زاكية مع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)»، فتعجب من ذلك.

قال(علیه السلام): «إي واللّه وحجتين مبرورتين متقبلتين زاكيتين مع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)» فتعجب، فلم يزل أبو عبد اللّه(علیه السلام) يزيد حتى قال: «ثلاثين حجة مبرورة متقبلة

ص: 161


1- كامل الزيارات: 116.

زاكية مع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)»(1).

وروي عن ابن عباس قول النبي(صلی الله علیه و آله) له والحسين(علیه السلام) على عاتقه يقبله: «من زاره عارفاً بحقه كتب اللّه له ثواب ألف حجة وألف عمرة، ومن زاره كمن زارني ومن زراني كمن زار اللّه في عرشه، وحق الزائر على المزور وهو اللّه تعالى أن لا يعذبه في النار ألّا أنالإجابة تحت قبته والشفاء في تربته، والأئمة من ذريته...»(2).

أحاديث في فضله(علیه السلام)

أما ما ورد من أحاديث في بيان مكانة الإمام أبي عبد اللّه الحسين(علیه السلام) فكثير جداً، فقد جاء عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أنه قال: «من أحب أن ينظر إلى أحب أهل الأرض إلى أهل السماء، فلينظر إلى الحسين»(3).

وقال(صلی الله علیه و آله): «ألا وإن الحسين باب من أبواب الجنة، من عاداه حرّم اللّه عليه رائحة الجنة»(4).

ولعل هذا الحديث يكفي عن سرد بقية الأحاديث الواردة عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في فضله(علیه السلام)، ومكانته عند اللّه عزّ وجلّ.

أما ما ورد في فضله(علیه السلام) وفضل تعظيم شعائره عن أهل البيت(علیهم السلام) فهي كثيرة جداً فقد جاء عن الإمام الصادق(علیه السلام) قوله: «من ذكرناعنده ففاضت عيناه حرم اللّه وجهه على النار»(5).

ص: 162


1- كامل الزيارات: 162.
2- الصراط المستقيم 2: 145.
3- مناقب آل أبي طالب(علیهم السلام) 4: 73.
4- مائة منقبة: 22.
5- كامل الزيارات: 104.

فما حسبك في من بكى على الإمام الحسين(علیه السلام) الذي هو سيد الشهداء وقتيل العبرة؟ وقد قال الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف في زيارته للحسين(علیه السلام) المسماة بزيارة الناحية المقدسة: «السلام على من جعل الشفاء في تربته، السلام على من الإجابة تحت قبته، السلام على من الأئمة في ذريته...»(1).

ويكفي أن نقول: إن العبارة الأولى (الشفاء في تربته) كافية لبيان الإعجاز الإلهي في هذا الأمر، وإن دلّ ذلك على شيء فإنما يدل على مكانته(علیه السلام) وشرفه.

وقد ذكرنا في بعض كتبنا شيئاً من كرامات الإمام الحسين(علیه السلام)، مثل تكلّم رأسه الشريف، أو سطوع النور منه وهو مقطوع، وعلى الرمح مشروع.

التسبيح بتربته(علیه السلام)

روى عبد اللّه بن إبراهيم بن محمد الثقفي عن أبيه عن الإمام الصادق(علیه السلام): «أن فاطمة(علیها السلام) كانت مسبحتها من خيط صوف مفتل معقود عليه عدد التكبيرات، فكانت بيدها(علیها السلام) تديرها تكبر وتسبح إلى أن قتل حمزة بن عبد المطلب(علیه السلام)، فاستعملت تربته وعملت التسابيح، فاستعملها الناس، فلما قتل الحسين(علیه السلام) وجدد على قاتله العذاب عدل بالأمر عليه فاستعملوا تربته لما فيها من الفضل والمزية»(2).

وكذلك جاء عنهم(علیه السلام) بيان عظيم الفضل في التسبيح بتربة أبي عبد اللّه الحسين(علیه السلام) أن الحور العين إذا أبصرن واحداً من الأملاك يهبط إلى الأرض لأمر ما، يستهدين التسبيح والتربة من قبر الحسين(علیه السلام)(3).

ص: 163


1- المزار الكبير: 497.
2- كتاب المزار: 150.
3- كتاب المزار: 151.

شهداء مع الإمام الحسين(علیه السلام)

ثم إنه من أهم ما جعل نهضة الإمام الحسين(علیه السلام) تمتاز على سائرالنهضات طول التاريخ هو عظيم فضل أصحابه الذين استشهدوا معه، حيث قال الإمام الحسين(علیه السلام): «فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولاخيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبرّ وأوصل من أهل بيتي»(1).

فهذا أبو الفضل العبّاس بن علي بن أبي طالب(علیهم السلام) أمه أم البنين بنت حزام بن خالد بن دارم الكلابية أحد أعظم شهداء الطف، وله الكثير من الكرامات والفضل، وهي تدل على علو منزلته ودرجة قربه من اللّه عزّ وجلّ، وفيه(علیه السلام) قال الإمام السجاد علي بن الحسين(علیهما السلام): «رحم اللّه العباس، فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه، حتى قطعت يداه، فأبدله اللّه عزّ وجلّ بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وإن للعباس عند اللّه تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة»(2). ثم إن العباس(علیه السلام) هو باب الحوائج إلى اللّه عزّ وجلّ وهذا من مصاديقكون الشهداء أحياء عند ربهم، حيث الناس يستفيدون من نورهم حتى بعد شهادتهم، ويتوسلون بهم وتقضى حوائجهم، ولا بأس بذكر قصة على سبيل المثال تبين مكانة الشهيد وكيف أن عطاءه لا ينتهي أبداً.

قصة من كرامات الشهيد

اشارة

قبل خمسة عشر عاماً كان هناك بائع للبلور في كربلاء المقدسة، وفي أحد الأيام وعندما رجع من عمله إلى المنزل فوجئ بعدد كبير من الأكراد الذين يقطنون شمال العراق في منزله، فتعجب هذا البائع، حيث أصابته الدهشة، فجاء

ص: 164


1- الإرشاد 2: 91.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 462.

إلى زوجته لتخبره بالخبر!

فهدأت الزوجة زوجها وحاولت أن تذكِّره، فقالت: ألّا تذكر قصة ذلك الرجل الكردي الذي جاء في العام المنصرم مع زوجته في بيتنا، وكانت زوجته قد أصابها العقم حوالي (20 سنة) وكانت قد ذهبت إلى العديد من الدول الأجنبية للمداواة لكنها لم تجنِ سوى اليأس، فقلت لها: نحن عندنا طبيب هو أفضل من كلطبيب، وبلا أي تكلفة.

فقالت المرأة الكردية: من هذا الطبيب وأين هو؟ لنذهب إليه الآن.

فقلت لها: ذاك هو أبو الفضل العباس(علیه السلام)، فأخذتها إلى حرم أبي الفضل، وقلت لها: إن مولانا أبا الفضل ما قدِمَ إليه أحد يطلب حاجة إلّا أعطاه اللّه تعالى ببركته(علیه السلام).

فأخذت المرأة بالتكلم مع أبي الفضل(علیه السلام) بقلب مهموم، وتئن وهي محزونة، وبعدها خرجنا وقد زرع اللّه تعالى في قلبها الأمل.

وبعد أيام حملت المرأة ثم وضعت طفلاً، ألّا تذكر هذه المرأة؟

فقال الرجل بائع البلور: نعم لقد تذكرت، ولكن هؤلاء ماذا يريدون الآن؟

فقالت زوجته: هؤلاء أيضاً ممن أصيبت زوجاتهم بالعقم وهم أيضاً من الأخوة الأكراد وتلك المرأة هي التي دلتهم علينا، ونصحتهم بالذهاب إلى كربلاء عند ضريح أبي الفضل العباس(علیه السلام) ليطلبواعنده من اللّه أن يرزقهم الأطفال، كما رزق هذه المرأة.

وهذه القصة واحدة من آلاف القصص التي تتحدث عن عطاء الشهداء وعن قرب منزلتهم من اللّه تعالى حيث جعلهم أحياء عنده يرزقون(1).

ص: 165


1- انظر كتاب (العباس(علیه السلام) والعصمة الصغرى، للإمام الشيرازي(رحمة الله).

يوم عاشوراء

هناك أيام أثرت في تغيير مجرى الحياة، من أهمها يوم عاشوراء، فكما أن يوم السابع والعشرين من شهر رجب ذكرى المبعث النبوي الشريف أثر في تغيير مجرى الحياة، وكما أن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عمل على زرع الإسلام والإيمان في نفوس الأفراد، كذلك يوم عاشوراء وتضحية أبي عبد اللّه الحسين(علیه السلام) أثر على إعادة الإيمان إلى القلوب، وإرجاع صورة الإسلام التي حاولت الأيدي الآثمة طمسها وتغييرها.

فعندما طلب كفار قريش من رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) التنازل عن دعوتهمقابل مجموعة من الامتيازات الدنيوية الزائلة أجابهم(صلی الله علیه و آله): «واللّه لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى يظهره اللّه، أو أهلك»(1).

حيث أبدى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) صلابته في الدعوة إلى اللّه، كذلك كان أبو عبد اللّه الحسين(علیه السلام) حيث جسَّد صلابته في كربلاء المقدسة في عدة مواقف هي أقوى من أن يلفها النسيان ويطويها الزمان، ففي ظهيرة يوم عاشوراء عندما ذكّره أحد أصحابه بحلول وقت الصلاة قال(علیه السلام): نعم هذا أول وقتها، فقام(علیه السلام) وصلى صلاة الظهر جماعة بأصحابه(2)،

رغم احتدام المعركة، وتكالب الأعداء على معسكره(علیه السلام) ولكنه لم يترك فرضاً من فرائض اللّه تعالى، باعتباره وقف هذه الوقفة؛ من أجل صيانة الفرائض وإقامة الدين وإحياء الإسلام وقوانينه.وقد ورد في زيارة الإمام الحسين(علیه السلام): «أشهد أنك قد أقمت الصلاة، وآتيت

ص: 166


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 14: 54.
2- انظر بحار الأنوار 45: 21.

الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر»(1).

فيوم عاشوراء هو اليوم الذي يعلمنا كيف نصحح سيرتنا في هذه الحياة، ونجعلها مطابقاً لسيرة الإمام الحسين(علیه السلام) وطريقته، الذي ضحى بكل ما يملك من أجل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الفرائض والعمل بالقرآن والتمسك بأهل البيت(علیهم السلام).

من كرامات سيد الشهداء(علیه السلام)

نعم، إن الإمام الحسين(علیه السلام) حيّ وسيبقى حياً كما وَعَد اللّه بذلك في كتابه الكريم(2)،

وقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً»(3)،

وقد ذكرنا أن من مصاديقحياتهم(علیهم السلام) هو استمرارية كراماتهم ومعاجزهم والتي يمكن للإنسان أن يدرك من خلالها عظمة أهل البيت(علیهم السلام) وعظمة سيد الشهداء(علیه السلام) ومقام الشهادة.

يذكر إن شخصاً سافر من إيران إلى كربلاء المقدسة لزيارة الإمام الحسين(علیه السلام)، ولم تكن آنذاك أية وسيلة للنقل من وسائل هذه الأيام، وحينما وصل ذلك الزائر الإيراني إلى قرب نهر الفرات في قضاء (المسيّب)(4).

رآه أحد المزارعين وكان من النواصب، فضحك منه، وقال له: أنتم الشيعة إلى متى تصدّقون هذه الخرافات، وتظلّون تبكون، وتقرؤون التعازي، وتأتون لزيارة شخص مات قبل (1200) عام.

ص: 167


1- كامل الزيارات: 203.
2- حيث قال تعالى: «وَلَا تَحسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَموَٰتَۢاۚ بَل أَحيَآءٌ عِندَ رَبِّهِم يُرزَقُونَ» سورة آل عمران، الآية: 169.
3- مستدرك الوسائل 10: 318.
4- يمر بهذا القضاء نهر الفرات الذي يفصل بين بغداد وكربلاء والحلة وهو قضاء تابع لمدينة بابل يبعد عن كربلاء المقدسة (42كم).

فلما سمع الزائر قول ذلك الناصبي تأثر كثيراً، وقال له سأشكوك عند أمير المؤمنين، فأخذ الرجل يستهزئ به، فلما وصلالزائر الإيراني إلى النجف الأشرف خاطب الإمام(علیه السلام) قائلاً: يا مولاي، يا ابن عمّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، إني كنت قد جئتك بعشرات الحاجات، ولكني الآن لي حاجة واحدة فقط، وهي مجازاة ذلك المزارع الناصبي حيث أخذ يستهزأ بي وبعقيدتي.

وفي الليل وبينما كان الزائر نائماً، رأى في منامه أمير المؤمنين الإمام علي(علیه السلام) يكلمه، ويقول له: يا فلان إنك ومن أجل زيارتنا قطعت هذه المسافات الطويلة، فلك عندنا المنزلة والجاه والمقام، ولكنا لا نستطيع أن نجيبك إلى ما طلبت من معاقبة الرجل الناصبي، فإن لذلك الناصبي حقاً علينا: ففي أحد الأيام، وحينما كان يحرث الأرض بقرب الفرات، وقع بصره مرّة على الماء، فتذكر عطش أبي عبد اللّه الحسين(علیه السلام)، وقال في نفسه: كم هم ظالمون أهل الكوفة، إذ لم يسقوا الحسين(علیه السلام) وعياله قطرة من هذا الماء الجاري، ثم سقطت من عينه قطرة من الدمع، لذا فإن له حقاً عندنا.بعد ذلك وبعد أن قضى عدة أيام في النجف وكربلاء، عاد الزائر ومن نفس الطريق إلى إيران، فمر أثناء عودته بذلك المزارع، فقال له المزارع: أيها الإيراني هل اشتكيتني إلى علي بن أبي طالب(علیه السلام)؟

فقال له الإيراني: نعم شكوتك، ولكن الإمام(علیه السلام) أجابني بكذا وكذا، ثم ذكر له جواب الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام) مفصّلاً، فبكى ذلك المزارع كثيراً، وتشيَّع من ساعته.

فسأله الإيراني: عن سبب بكائه وتشيعه؟

فقال له المزارع: إن ما قاله لك الإمام(علیه السلام) صحيح جداً، ولم يعلم بهذا الخبر إلّا اللّه وأنا. لذا فعرفت أن إمامكم على الحق، لأنه اطّلع على ما في باطني.

ص: 168

الحسين(علیه السلام) مصباح الهدى

ليس غريباً ولا عجيباً حينما تظهر الكرامات على يد الإمام الحسين(علیه السلام)، لأننا لو تتبعنا سيرة الإمام الحسين(علیه السلام)، من ولادته إلى لحظات استشهاده وعرفنا شيئاً عن عظيم شخصيته ومقامه عند اللّهعزّ وجلّ، لزال هذا الاستغراب عنا.

فقد روي أن النبي(صلی الله علیه و آله) كان يضع إبهامه في فم الحسين(علیه السلام) والحسين يمصّ منها ما يكفيه اليومين والثلاثة، ثم يقول النبي(صلی الله علیه و آله): «إيهاً حسين، إيهاً حسين، أبى اللّه إلّا ما يريد، هي فيك وفي ولدك»(1).

كما أخذت ملائكة اللّه تعالى بالنزول والسلام والتهنئة للرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله)، بمناسبة مولد الحسين(علیه السلام) وذلك بأمر من اللّه عزّ وجلّ، فقد قال الإمام الصادق(علیه السلام) أنه قال: «كان ملك بين المؤمنين يقال له صلصائيل بعثه اللّه في بعث فأبطأ فسلبه ريشه ودق جناحيه وأسكنه في جزيرة من جزائر البحر إلى ليلة ولد الحسين(علیه السلام) فنزلت الملائكة واستأذنت اللّه في تهنئة جدي رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وتهنئة أمير المؤمنين(علیه السلام) وفاطمة(علیها السلام) فأذن اللّه لهم فنزلوا أفواجاً من العرش ومنسماء سماء، فمروا بصلصائيل وهو ملقى بالجزيرة فلما نظروا إليه وقفوا، فقال لهم: يا ملائكة ربي، إلى أين تريدون وفيم هبطتم؟

فقالت له الملائكة: يا صلصائيل قد ولد في هذه الليلة أكرم مولود ولد في الدنيا بعد جده رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وأبيه علي(علیه السلام) وأمه فاطمة(علیها السلام) وأخيه الحسن(علیه السلام) وهو الحسين(علیه السلام)، وقد استأذنا اللّه في تهنئة حبيبه محمد(صلی الله علیه و آله) لولده فأذن لنا.

فقال صلصائيل: يا ملائكة اللّه إني أسألكم باللّه ربنا وربكم وبحبيبه

ص: 169


1- انظر مناقب آل أبي طالب(علیهم السلام) 4: 50، وفيه فجعل لسانه(صلی الله علیه و آله) في فمه فجعل الحسين(علیه السلام) يمص، حتى قال النبي(صلی الله علیه و آله): «إيهاً يا حسين إيهاً حسين، ثم قال: أبا اللّه إلا ما يريد هي فيك وفي ولدك، يعني الإمامة».

محمد(صلی الله علیه و آله) وبهذا المولود أن تحملوني معكم إلى حبيب اللّه، وتسألونه وأسأله أن يسأل اللّه بحق هذا المولود الذي وهبه اللّه له أن يغفر لي خطيئتي ويجبر كسر جناحي ويردني إلى مقامي مع الملائكة المقربين، فحملوه وجاءوا به إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فهنئوه بابنه الحسين(علیه السلام) وقصوا عليه قصة الملك وسألوه مسألة اللّه والإقسام عليه بحق الحسين(علیه السلام) أن يغفر له خطيئته، ويجبر كسر جناحه، ويرده إلى مقامه مع الملائكة المقربين.فقام رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فدخل على فاطمة(علیها السلام) فقال لها: ناوليني ابني الحسين فأخرجته إليه مقموطاً يناغي جده رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، فخرج به إلى الملائكة فحمله على بطن كفه فهللوا وكبروا وحمدوا اللّه تعالى وأثنوا عليه، فتوجه به إلى القبلة نحو السماء، فقال: اللّهم إني أسألك بحق ابني الحسين أن تغفر لصلصائيل خطيئته وتجبر كسر جناحه وترده إلى مقامه مع الملائكة المقربين، فتقبل اللّه تعالى من النبي(صلی الله علیه و آله) ما أقسم به عليه وغفر لصلصائيل خطيئته، وجبر كسر جناحه ورده إلى مقامه مع الملائكة المقربين»(1).

إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في فضل الإمام الحسين(علیه السلام) وعلو شأنه، ومكانته عند اللّه، وعند رسوله(صلی الله علیه و آله).

فقد جاء عن أبيّ بن كعب أنه قال: دخل على النبي(صلی الله علیه و آله) الحسين(علیه السلام)، فقال له: «مرحباً بك يا أبا عبد اللّه، يا زين السماوات والأرضين».

فقال له أبيّ: وكيف يكون يا رسول اللّه زين السماواتوالأرضين أحد غيرك؟

فقال(صلی الله علیه و آله): «يا أبيّ، والذي بعثني بالحق نبياً، إن الحسين بن علي(علیهما السلام) في السماء أكبر منه في الأرضين، وإنه لمكتوب من يمين العرش، الحسين مصباح

ص: 170


1- بحار الأنوار 43: 259.

الهدى وسفينة النجاة» ثم أخذ بيده، وقال(علیه السلام): «أيها الناس هذا الحسين بن علي فاعرفوه وفضلوه، كما فضله اللّه، فوالذي نفسي بيده، إنه لفي الجنة، ومحبيه في الجنة، ومحبي محبيه في الجنة»(1).

وقال أبو عبد اللّه الإمام الصادق(علیه السلام): «... بأبي قتيل كل عبرة، قيل: وما قتيل كل عبرة يا بن رسول اللّه؟ قال: لا يذكره مؤمن إلّا بكى»(2).

وهناك حادثة تاريخية مشهورة تدل في ما تدل على عظمة الإمام الحسين(علیه السلام) وشدة محبة النبي(صلی الله علیه و آله) له حيث ذكروا أن النبي(صلی الله علیه و آله) كانيخطب على المنبر، إذ خرج الحسين(علیه السلام) فوطئ في ثوبه وسقط فبكى، فنزل النبي(صلی الله علیه و آله) فضمه إليه، وقال(صلی الله علیه و آله): «... والذي نفسي بيده، ما دريت أني نزلت عن منبري»(3).

هذا موقع الإمام الحسين(علیه السلام) من قلب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وهذا مقدار الحب الذي يكنه الرسول(صلی الله علیه و آله) له، ولعل كل ما قاله الرسول(صلی الله علیه و آله) في الإمام الحسين(علیه السلام) هو مقدار من عظمته(علیه السلام)، ولعل الذي وصلنا هو أقل من ذلك بكثير.

هدف الإمام الحسين(علیه السلام)

إن الإمام أبا عبد اللّه الحسين(علیه السلام) كان يقول: «أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر أسير بسيرة جدي وسيرة أبي علي بن أبي طالب...»(4).

إنه كان يريد أن يُخرج الأمة من المنكر إلى المعروف، كان يريد أن يضع حداً للمنكر، وأن ينتشل الأمة من الحضيضالذي أركست فيه إلى العز، وذلك عندما

ص: 171


1- انظر مدينة المعاجز 4: 51؛ معالي السبطين 1: 86.
2- مستدرك الوسائل 10: 318.
3- مناقب آل أبي طالب(علیهم السلام) 4: 71.
4- مناقب آل أبي طالب 4: 89.

رضيت الأمة الإسلامية بواقعها المتردّي، المتمثل بالخمول، والركون إلى الدنيا، والسكوت على الظلم، وتسلط الظالمين من أمثال يزيد وأبيه وأضرابهم، فأراد الإمام الحسين(علیه السلام) أن يبث روح الإيمان والحق فيها لتنهض من جديد، كما كانت في عهد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، لأنه كان يرى أن الدين على وشك أن يُحرَّف، فأراد أن يعيد الدين غضاً طرياً.

هكذا صار الإمام الحسين(علیه السلام) مصباح الهدى وسفينة النجاة، ومن هنا صار(علیه السلام) صفوة اللّه؛ فقد جاء عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السلام) أنه قال: «قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): أدخلت الجنة فرأيت على بابها مكتوباً بالذهب: لا إله إلّا اللّه، محمد حبيب اللّه، علي ولي اللّه، فاطمة أَمة اللّه، الحسن والحسين صفوة اللّه، على مبغضيهم لعنة اللّه»(1).

إن التمسّك بصفوة اللّه، والاستنارة بهذا المصباح الإلهييكون هداية في الدنيا، ونجاة في الآخرة، لأن حب الإمام الحسين(علیه السلام) يستتبع العمل الصالح، وذلك لأنه(علیه السلام) مصباح ينير طريق الحق لسالكيه، ولأنه(علیه السلام) فرّق بين طريق الحق وطريق الباطل بنهضته المباركة، ولسان حاله(علیه السلام):

إن كان دين محمد لم يستقم *** إلّا بقتلي فيا سيوف خذيني(2)

ومن المعلوم كما رواه الفريقان أن الإمام الحسين(علیه السلام) من أهل البيت، فهو خامس أصحاب الكساء، الذين نزلت فيهم آية التطهير في قوله تعالى:

«إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجسَ أَهلَ ٱلبَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيرا»(3).

فهو(علیه السلام) بدليل القرآن من أهل البيت(علیهم السلام)، الذين حبهم نجاة وبغضهم هلكة،

ص: 172


1- الخصال 1: 324.
2- من قصيدة للشيخ محسن أبو الحب الكبير(رحمة الله).
3- سورة الأحزاب، الآية: 33.

وقد قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): ­«حبّي وحبّ أهل بيتينافع في سبعة مواطن، أهوالهن عظيمة: عند الوفاة، وفي القبر، وعند النشور، وعند الكتاب، وعند الحساب، وعند الميزان، وعند الصراط»(1).

حقاً إن الإمام الحسين(علیه السلام) مصباح الهدى، فما زال نوره وضياؤه يشرق علينا بالبركة والخير فهو يميز الحق من الباطل في جميع العصور والأزمان مضافاً إلى استمرارية نوره في ذريته الطاهرة، وذلك عبر الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف، فهو حفيد الإمام الحسين(علیه السلام)، لأن اللّه تعالى كرامة للحسين(علیه السلام) جعل الأئمة - وهم حفظة الدين - من صلبه(علیه السلام)، كما ورد في الحديث الشريف، وكان ذلك عوضاً عن شهادة الإمام الحسين(علیه السلام) وعظيم ما لاقاه من المصائب التي جرت عليه يوم عاشوراء وما بعده.

مصائب الحسين(علیه السلام)

عندما يقع الشهيد بين يدي المسلمين فإن الواجب هو أن يحمل جسده بكل احترام حتى يُوارى في قبره، لكن هذا لم يجر أبداً مع جسد الإمام الحسين الطاهر(علیه السلام)، بل إن رأسه الشريف،بعدما فصل عن بدنه، حمل على الرماح من كربلاء إلى الشام(2).

وعندما جيء برأس الحسين(علیه السلام) إلى مجلس يزيد، فبدلاً من أن يوضع في محل محترم؛ وضع في طشت، وأخذ يزيد قضيباً من الخيزران ونكت به ثنايا أبي عبد اللّه(علیه السلام)(3).

وعندما كان الرأس الشريف لا يزال في قصر يزيد، انشغل يزيد مع من كان في القصر بالقمار وشرب الخمر، وحينما انتهى من شربه سكب ما زاد عنده من

ص: 173


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 10.
2- انظر مقتل الحسين(علیه السلام) للخوارزمي 2: 39.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 165.

الخمر على الرأس الشريف(1).

فما أعظمها من مصائب وما أثقلها على قلب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وقلب فاطمة الزهراء(علیها السلام)، هذا مضافاً إلى ما جرى على الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه يوم عاشوراء من عظيم المصائب.

رأس الحسين(علیه السلام)

من الكرامات التي أعطاها اللّه سبحانه للإمام الحسين(علیه السلام)، هيتكلم رأسه الشريف، وما كان له من دورٍ في هداية الناس وإصلاحهم، بل دور في عملية البناء الإسلامي.

فأمّا إصلاح الناس وهدايتهم، فقد كان رأس أبي عبد اللّه الحسين(علیه السلام) وهو على أسنة الرماح يتلو القرآن طيلة الطريق من كربلاء إلى الشام ثم إلى كربلاء، حيث دفن مع الجسد الشريف(2).

ولما أمر يزيد بقتل رسول ملك الروم حيث أنكر عليه فعلته، نطق الرأس الشريف بصوت رفيع: «لا حول ولا قوة إلّا باللّه»(3).

فكان الناس عندما يسمعون ذلك من الرأس الشريف، يدركون أنها معجزة إلهية، وأنّ قضية هذا الرأس مرتبطة بالسماء، فكان عاملاً مؤثراً في هداية الناس، وكاشفاً للحقيقة لهم وعرفوا صحة كلام رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) حيث قال: «إني تارك فيكم الثقلينكتاب اللّه وعترتي أهل بيتي»(4) وأدركوا أن الحق مع الإمام الحسين(علیه السلام)، لما رأوا المعجزات تظهر من رأسه المبارك.

ص: 174


1- عيون أخبار الرضا(علیه السلام) 2: 22.
2- انظر الإرشاد 2: 117.
3- انظر مثير الأحزان: 103.
4- كمال الدين وتمام النعمة 1: 64.

وأما من ناحية البناء الإسلامي، فيذكر التاريخ لنا: أن مسجد (الحنانة)(1)

أقيم بسبب رأس الحسين(علیه السلام)، حيث وضع الرأس الشريف هناك أثناء المسير إلى الشام، فأقيم على ذلك المكان مسجد الحنانة، وهكذا مسجد رأس الحسين(علیه السلام) في كربلاء المقدسة(2)، وكذلك (مشهد النقطة) في حلب و(مقام رأس الحسين(علیه السلام)) في دمشق إلى غيرها من الآثار الإسلامية التي أقيمت، وكان سبب إقامتها من بركات الرأس الشريف.

واجباتنا تجاه عاشوراء

هناك واجبات علينا تجاه قضية الإمام الحسين(علیه السلام) وشهادته، نذكربعضها:

أولاً: يلزم علينا أن نعمل لكي نعرض قضية الإمام الحسين(علیه السلام) ومبادئه وأهدافه، من خلال أحدث الأجهزة العصرية، عن طريق محطات البث المرئية والمسموعة، والإنترنت، والكتاب والشريط المسجل، وكل ما يصدق عليه الإعلام وإيصالها إلى العالم بأجمعه، بشكلها الذي أراده الإمام الحسين(علیه السلام)، وأن نعظّم الشعائر التي تقدمها الهيئات الحسينية من ذكرٍ لأبي عبد اللّه الحسين(علیه السلام) والبكاء والعزاء ومختلف مواكب الحزن، كما يحسن أن تعطل الأسواق والمحلات ونشر مظاهر الحزن والعزاء خلال أيام عاشوراء، لا سيما يوم العاشر؛ إشعاراً بالحزن على أبي عبد اللّه الحسين(علیه السلام)، فقد قال الإمام الرضا(علیه السلام): «إن المحرم شهر كان أهل الجاهلية يحرمون فيه القتال، فاستحلت فيه دماؤنا، وهتك فيه حرمتنا، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأضرمت النيران في مضاربنا، وانتهب ما فيها من ثقلنا، ولم ترع لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) حرمة في أمرنا، إن

ص: 175


1- حنانة موضع بظهر النجف الأشرف بها مسجد رأس الحسين(علیه السلام).
2- من أقدم المساجد الأثرية في كربلاء، وكان يضم في وسطه مقام رأس الحسين(علیه السلام) فعرف بهذا الاسم، وموقعه بالقرب من باب السدرة، وقد طاله الهدم.

يوم الحسين(علیه السلام) أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذل عزيزنا بأرض كرب وبلاء، وأورثتنا يا أرض كرب وبلاء أورثتنا الكرب البلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، فإن البكاء يحط الذنوب العظام، - ثم قال(علیه السلام): - كان أبي(علیه السلام) إذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين(علیه السلام)»(1).

وقال(علیه السلام) أيضاً: «من ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى اللّه له حوائج الدنيا والآخرة، ومن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه يجعل اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة يوم فرحه وسروره، وقرت بنا في الجنان عينه، ومن سمى يوم عاشوراء يوم بركة، وادخر لمنزله شيئاً، لم يبارك له في ما ادخر، وحشر يومالقيامة مع يزيد وعبيد اللّه بن زياد وعمر بن سعد لعنهم اللّه إلى أسفل درك من النار»(2).

ثانياً: مثلما سار الإمام الحسين(علیه السلام) في طريق تطبيق الإسلام والعمل بقوانين القرآن يتوجب علينا كذلك أن تكون خطانا إثر خطاه(علیه السلام)، وأن نسعى لتطبيق أحكام الإسلام في بلدان العالم الإسلامي.

ثالثاً: علينا أن نقيم - وأينما كنا - مجالس العزاء لأبي عبد اللّه الحسين(علیه السلام) على أفضل نحو ممكن، لأن بقاء الإسلام إلى آخر الزمان هو الهدف الذي من أجله استشهد الإمام الحسين(علیه السلام)، فإن الإسلام سيبقى حياً إلى الأبد بفضل دم سيد الشهداء(علیه السلام)، ودماء الشهداء الذين تربوا في مدرسته(علیه السلام) والذين يدافعون عن العقيدة الإسلامية المقدسة طول التاريخ.

ص: 176


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 128.
2- علل الشرائع 1: 227.

وفي كلمة مختصرة: إن إقامة المآتم والعزاء والبكاء أيامعاشوراء على الإمام أبي عبد اللّه الحسين(علیه السلام)، وإقامة المآدب لإطعام الناس في ذلك، وإحياء عاشوراء فهذه المراسيم وأمثالها هي التي حفظت لنا روح التشيّع والتمسك بالقرآن والعترة الطاهرة(علیه السلام).

الإمام السجاد(علیه السلام) وعاشوراء

وقد جسّد الإمام زين العابدين(علیه السلام) هذا المعنى في كثرة بكائه على أبيه الإمام الحسين(علیه السلام)، وندبه إياه.

فقد ورد عن الإمام الباقر(علیه السلام) أنه قال: «ولقد كان بكى على أبيه الحسين(علیه السلام) عشرين سنة، وما وضع بين يديه طعام إلّا بكى، حتى قال له مولى: يا بن رسول اللّه، أما آن لحزنك أن ينقضي؟ فقال له: ويحك إن يعقوب النبي(علیه السلام) كان له اثنا عشر ابنا فغيب اللّه عنه واحداً منهم فابيضت عيناه من كثرة بكائه عليه، وشاب رأسه من الحزن، وأحدودب ظهره من الغم، وكان ابنه حياً في الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولينحولي، فكيف ينقضي حزني»(1).

وقد رووا إن الإمام السجاد(علیه السلام) بكى على مصيبة الحسين(علیه السلام) حتى خيف على عينيه، وكان(علیه السلام) إذا أخذ إناءاً يشرب ماء بكى حتى يملاءها دمعاً فقيل له في ذلك، فقال(علیه السلام): «كيف لا أبكي وقد منع أبي من الماء الذي كان مطلقاً للسباع والوحوش»(2).

أهل البيت(علیهم السلام) وإقامة العزاء

وقد أقام الأئمة المعصومون(علیهم السلام) مجالس العزاء يوم عاشوراء، فقد حثّ أئمة

ص: 177


1- الخصال 1: 518.
2- مناقب آل أبي طالب(علیهم السلام) 4: 166.

أهل البيت(علیهم السلام) وعلى الدوام على إقامة العزاء وبكل أشكاله الواجبة والمستحبة والمباحة فهو يوم لا كسائر الأيام، فقد ورد عنهم(علیهم السلام) أحاديث كثيرة منها:

عن عبد اللّه الفضل الهاشمي قال: قلت لأبي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق(علیهما السلام)، يا بن رسول اللّه، كيف صار يوم عاشوراء، يوم مصيبة وغم وجزع وبكاء دون اليوم الذي قبض فيه رسولاللّه(صلی الله علیه و آله) واليوم الذي ماتت فيه فاطمة(علیها السلام) واليوم الذي قتل فيه أمير المؤمنين(علیه السلام) واليوم الذي قتل فيه الحسن(علیه السلام) بالسم؟

فقال: «إن يوم الحسين أعظم مصيبة من جميع سائر الأيام؛ وذلك أن أصحاب الكساء الذي كانوا أكرم الخلق على اللّه تعالى كانوا خمسة فلما مضى عنهم النبي(صلی الله علیه و آله) بقي أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين(علیهم السلام) فكان فيهم للناس عزاء وسلوة، فلما مضت فاطمة(علیها السلام) كان في أمير المؤمنين والحسن والحسين(علیهم السلام) للناس عزاء وسلوة، فلما مضى الحسن(علیه السلام) كان للناس في الحسين(علیه السلام) عزاء وسلوة، فلما قتل الحسين(علیه السلام) لم يكن بقي من أهل الكساء أحد للناس فيه بعده عزاء وسلوة، فكان ذهابه كذهاب جميعهم كما كان بقاؤه كبقاء جميعهم؛ فلذلك صار يومه أعظم مصيبة...»(1).

جزيل الثواب

ومن هنا ورد الثواب العظيم على هذه الشعائر الحسينية، فقد قالالإمام أبو جعفر الباقر(علیهما السلام): «كان علي بن الحسين(علیهما السلام) يقول: أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين(علیه السلام) حتى تسيل على خده بوأه اللّه تعالى بها في الجنة غرفاً يسكنها أحقاباً، وأيما مؤمن دمعت عيناه

ص: 178


1- علل الشرائع 1: 225.

حتى تسيل على خديه في ما مسنا من الأذى من عدونا في الدنيا بوأه اللّه منزل صدق، وأيما مؤمن مسه أذى فينا فدمعت عيناه حتى تسيل على خده من مضاضة أو أذى فينا صرف اللّه من وجهه الأذى وآمنه يوم القيامة من سخط النار»(1).

من أنشد شعراً

وقال أبو عبد اللّه الصادق(علیه السلام) لأبي عمارة: «يا أبا عمارة أنشدني في الحسين بن علي(علیهما السلام)»، قال: فأنشدته فبكى، ثم أنشدته فبكى، قال: فواللّه ما زلت أنشده ويبكي حتى سمعت البكاء من الدار، قال: فقال: «يا أبا عمارة من أنشد في الحسين بن علي شعراً فأبكى خمسين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكىثلاثين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فأبكى عشرة فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فأبكى واحداً فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فبكى فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فتباكى فله الجنة»(2).

ومن هنا جاء الطغاة وعلى مر التاريخ ليمنعوا هذه المراسيم المقدسة والشعائر الحسينية، كما هو الحال في نظام البعث الصدامي في العراق، إذ بدأ النظام بمنع العزاء الحسيني في مدينة بغداد أولاً، ثم منع إقامة التعازي في كافة مدن العراق، ثم منع أهل البصرة وغيرها من مدن العراق من المجيء إلى كربلاء المقدسة في أيام المناسبات الدينية كالعاشر من المحرم وزيارة الأربعين في عشرين صفر.

ثم تجرأ واعتقل العلماء والخطباء وعذّبهم وأعدم العديد منهم، كل ذلك من أجل القضاء على الروح النابضة في الأمة، وهيالتي تنبعث من الشعائر

ص: 179


1- ثواب الأعمال: 83.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 141.

الإسلامية والحسينية.

هذه كانت إطلالة سريعة عن دور سيد الشهداء(علیه السلام)، في حفظ واستمرار الإسلام، وبيان شيء عن مكانته عند اللّه، وسمو مقامه، وخلود ذكراه، وجلالة شأنه في الدنيا والآخرة، وكيف لا يكون صاحب ذلك المقام؟ وهو القائل:

تركت الخلق طُراً في هَواكا *** وأيتمتُ العيال لكي أراكا

فلو قطّعتني في الحبّ إرباً*** لما مال الفؤاد إلى سواكا

وهي كلمات تظهر مدى إخلاص الإمام الحسين(علیه السلام) في حبه للّه، وإخلاصه في الدفاع عن الإسلام، نسأل اللّه سبحانه أن يوفقنا لأداء ما يجب علينا تجاه الإمام الحسين(علیه السلام) وقضيته المباركة ونهضته المقدسة.

اللّهم صل على محمد وآل محمد، واجعل لنا مقام صدق معالحسين(علیه السلام) وأصحاب الحسين(علیه السلام) الذين بذلوا مهجهم دون الحسين(علیه السلام)، وارزقنا شفاعة الحسين(علیه السلام) يوم الورود، إنك على كل شيء قدير.

من هدي القرآن الحكيم

من خصائص الإمام الحسين(علیه السلام)

قال تعالى: «يَٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفسُ ٱلمُطمَئِنَّةُ * ٱرجِعِيٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَة مَّرضِيَّة * فَٱدخُلِي فِي عِبَٰدِي * وَٱدخُلِي جَنَّتِي»(1).

جزاء الشهيد عند اللّه سبحانه

قال عزّ وجلّ : «وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعمَٰلَهُم»(2).

وقال تعالى: «وَلَا تَحسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَموَٰتَۢاۚ بَل أَحيَآءٌ عِندَ رَبِّهِم

ص: 180


1- سورة الفجر، الآية: 27-30.
2- سورة محمد، الآية: 4.

يُرزَقُونَ»(1).

وقال سبحانه تعالى: «أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم جَنَّٰتٖ تَجرِي مِن تَحتِهَاٱلأَنهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ ذَٰلِكَ ٱلفَوزُ ٱلعَظِيمُ»(2).

واجبنا تجاه القضية الحسينية

قال تعالى: «ذَٰلِكَۖ وَمَن يُعَظِّم شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى ٱلقُلُوبِ»(3).

من هدي السنّة المطهّرة

من خصائص الإمام الحسين(علیه السلام)

قال الإمام الصادق(علیه السلام): «اقرؤوا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم فإنها سورة الحسين بن علي(علیهما السلام) وارغبوا فيها رحمكم اللّه، فقال له أبو أسامة وكان حاضر المجلس: كيف صارت هذه السورة للحسين(علیه السلام) خاصة؟ فقال(علیه السلام): ألّا تسمع إلى قوله تعالى: «يَٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفسُ ٱلمُطمَئِنَّةُ * ٱرجِعِيٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَة مَّرضِيَّة * فَٱدخُلِي فِي عِبَٰدِي * وَٱدخُلِي جَنَّتِي»(4) إنما يعني الحسين بن علي(علیهما السلام) فهو ذو النفس المطمئنة الراضية المرضية...»(5).

ص: 181


1- سورة آل عمران، الآية: 169.
2- سورة التوبة، الآية: 89.
3- سورة الحج، الآية: 32.
4- سورة الفجر، الآية: 27-30.
5- تأويل الآيات الظاهرة: 769.

وقال الإمام الصادق(علیه السلام) قال: «إن اللّه تعالى عوض الحسين(علیه السلام) من قتله أن جعل الإمامة في ذريته، والشفاء في تربته، وإجابة الدعاء عند قبره، ولا تعد أيام زائره جائياً ولا راجعاً من عمره»(1).

وقال الإمام الصادق(علیه السلام): «أتى جبرئيل(علیه السلام) إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقال له: السلام عليك يا محمد ألّا أبشرك بغلام تقتله أمتك من بعدك؟ فقال: لا حاجة لي فيه، فانتهض إلى السماء ثم عاد إليه الثانية، فقال له مثل ذلك، فقال: لا حاجة لي فيه، فانعرج إلى السماء ثم انقض إليه الثالثة، فقال مثل ذلك، فقال: لا حاجة لي فيه، فقال: إن ربك جاعل الوصية في عقبه، فقال: نعم...»(2).

من كراماته(علیه السلام)

وقال الشيخ المفيد(رحمة الله): ولما اصبح عبيد اللّه بن زياد بعث برأس الحسين(علیه السلام) فدير به في سكك الكوفة كلها، وقبائلها، فروي عنزيد بن أرقم أنه قال: مر به عليّ وهو على رمح وأنا في غرفة، فلما حاذاني سمعته يقرأ: «أَم حَسِبتَ أَنَّ أَصحَٰبَ ٱلكَهفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِن ءَايَٰتِنَا عَجَبًا»(3) فقفّ واللّه شعري عليّ وناديت: رأسك يا بن رسول اللّه أعجب وأعجب(4).

قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «حسين مني وأنا من حسين، أحب اللّه من أحب حسيناً حسين سبط من الأسباط»(5).

الشهيد عند اللّه سبحانه

قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «ثلاثة يشفعون إلى اللّه عزّ وجلّ فيُشَفَّعون: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء»(6).

وقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) للحسين(علیه السلام): «... وإن لك في الجنة درجات لن تنالها

ص: 182


1- تأويل الآيات الظاهرة: 598.
2- كامل الزيارات: 56.
3- سورة الكهف، الآية: 9.
4- الإرشاد 2: 117.
5- الإرشاد 2: 127.
6- الخصال 1: 156.

إلّا بالشهادة...»(1).وقال الإمام الحسين(علیه السلام): «... لا أرى الموت إلّا سعادة»(2).

التمسك بالحسين وأهل البيت(علیهم السلام) هداية ونجاة

قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «ألا وأن الحسين باب من أبواب الجنة من عاداه حرم اللّه عليه رائحة الجنة»(3).

وقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «.. فإنما مثل أصحابي كمثل النجوم بأيها أخذ اهتدي وبأي أقاويل أصحابي أخذتم أهتديتم... فقيل يا رسول اللّه ومن أصحابك؟ قال: أهل بيتي»(4).

وقال أبو ذر الغفاري (رضوان اللّه عليه): سمعت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يقول: «... إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق»(5).

وقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «إني قد تركت فيكم الثقلين ما إن تمسكتمبهما لن تضلوا بعدي، وأحدهما أكبر من الآخر: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألّا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض»(6).

واجبنا تجاه القضية الحسينية

قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «يا فاطمة إن نساء أمتي يبكون على نساء أهل بيتي،

ص: 183


1- بحار الأنوار 44: 328.
2- شرح الأخبار 3: 150.
3- مائة منقبة: 22.
4- معاني الأخبار: 156.
5- الأمالي للشيخ الطوسي: 60.
6- الطرائف 1: 114.

ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي ويجددون العزاء جيلاً بعد جيل في كل سنة...»(1).

قال الإمام الصادق(علیه السلام): في قوله تعالى: «مِمَّا رَزَقنَٰهُم يُنفِقُونَ...»(2) قال: «مما علمناهم ينبؤون»(3).

وقال الإمام الصادق(علیه السلام): «تلاقوا وتحادثوا العلم، فإن بالحديث تجلى القلوب الرائنة، وبالحديث إحياء أمرنا، فرحم اللّه من أحياأمرنا»(4).

ص: 184


1- بحار الأنوار 44: 293.
2- سورة البقرة، الآية: 3.
3- معاني الأخبار: 23.
4- عوالي اللئالي 4: 67.

يوم الحسين(علیه السلام) 3 شعبان ذكرى مولده المبارك

الولادة المباركة

اشارة

ولد الإمام الحسين(علیه السلام) في الثالث من شعبان سنة ثلاث أو أربع من الهجرة النبوية المباركة.

وفي الحديث: «لما ولد الإمام الحسين(علیه السلام) هبط جبرئيل(علیه السلام) ومعه ألف ملك يهنئون النبي(صلی الله علیه و آله) بولادته. وجاءت به فاطمة(علیها السلام) إلى النبي(صلی الله علیه و آله) فسر وسماه حسيناً»(1).

وعن إبراهيم بن شعيب قال: سمعت أبا عبد اللّه(علیه السلام) يقول: «إن الحسين بن علي(علیهما السلام) لما ولد أمر اللّه عزّ وجلّ جبرئيل أن يهبط في ألف من الملائكة فيهنئ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من اللّه ومن جبرئيل، قال:فهبط جبرئيل فمر على جزيرة في البحر فيها ملك يقال له فطرس كان من الحملة بعثه اللّه عزّ وجلّ في شيء فأبطأ عليه فكسر جناحه وألقاه في تلك الجزيرة، فعبد اللّه تبارك وتعالى فيها سبعمائة عام حتى ولد الحسين بن علي(علیهما السلام) فقال الملك لجبرئيل: يا جبرئيل أين تريد؟

قال: إن اللّه عزّ وجلّ أنعم على محمد(صلی الله علیه و آله) بنعمة فبعثت أهنؤه من اللّه ومني.

فقال: يا جبرئيل احملني معك لعل محمداً(صلی الله علیه و آله) يدعو لي.

ص: 185


1- مثير الأحزان: 16.

قال: فحمله.

قال: فلما دخل جبرئيل على النبي(صلی الله علیه و آله) هنأه من اللّه عزّ وجلّ ومنه، وأخبره بحال فطرس.

فقال النبي(صلی الله علیه و آله): قل له: تمسّح بهذا المولود وعد إلى مكانك.

قال: فتمسح فطرس بالحسين بن علي(علیهما السلام) وارتفع.

فقال: يا رسول اللّه أما إن أمتك ستقتله وله عليّ مكافاة أنلايزوره زائر إلّا أبلغته عنه، ولا يسلّم عليه مسلّم إلّا أبلغته سلامه، ولا يصلي عليه مصلّ إلّا أبلغته صلاته، ثم ارتفع»(1).

طهّره اللّه من عرشه

عن ابن عباس قال: لما كان مولد الحسين بن علي (صلوات اللّه عليهما) وكانت قابلته صفية بنت عبد المطلب، فدخل عليها النبي(صلی الله علیه و آله) فقال: «يا عمة ناوليني ولدي».

قالت: فداك الآباء والأمهات كيف أناولكه ولم أطهره بعد!

قال: «والذي نفس محمد بيده لقد طهّره اللّه من علا عرشه».

فمد بيده وكفيه فناولته إياه، فطأطأ عليه برأسه يقبل مقلتيه وخديه ويمج لسانه كأنما يمج عسلاً أو لبنا. ثم بكى طويلاً(صلی الله علیه و آله) فلما أفاق قال: «قتل اللّه قوما يقتلوك!»

قالت صفية: فقلت: حبيبي محمد من يقتل عترة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)؟قال: «يا عمة تقتله الفئة الباغية من بني أمية»(2).

ص: 186


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 137.
2- مناقب الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام) للكوفي القاضي 2: 234.

تكريم العلم والعلماء

في ذكرى مولد الإمام الحسين(علیه السلام) علينا أن نتعلم من مدرسته المباركة، ونقتدي بسيرته الطاهرة فإن في ذلك سعادة الدنيا والآخرة، وخلاص للأمة من أزماتها ومشاكلها الكثيرة.

يروى أن الإمام الحسين(علیه السلام) أرسل أحد أولاده إلى عبد الرحمن السلمي(1)، ليعلمه القراءة والكتابة فعلّمه سورة الحمد، فلما عاد إلى المنزل، سأله(علیه السلام): «ماذا تعلمت؟».

قال: سورة الحمد.

فاستدعى (صلوات اللّه وسلامه عليه) عبد الرحمن السلمي وأعطاه ألف دينار، وألف حلة، وحشا فاه دراً.

فقيل له في ذلك، فقال(علیه السلام): وأين يقع هذا من عطائه، يعنيتعليمه(2).

وقد ذكرت هذه القصة في البحار(3)، وكذلك في المستدرك(4)، وفي كتب أخرى أيضاً(5).

وإذا أردنا أن نعرف قيمة هذا العطاء، فإن ألف دينار يعني ألف مثقال من الذهب، والمثقال الشرعي من الذهب يعادل ثلاثة أرباع المثقال الصيرفي.

يعني إذا كان المثقال الصيرفي يساوي 24 حمصة، فالمثقال الشرعي يساوي 18 حمصة. إذن ألف دينار يعادل سبعمائة وخمسين مثقالاً من الذهب اليوم، فإذا حسبنا

ص: 187


1- عبد الرحمن أو أبو عبد الرحمن السلمي هو عبد اللّه بن حبيب بن ربيعة الكوفي، مقرئ الكوفة ومن أولاد الصحابة.
2- انظر مناقب آل أبي طالب(علیهم السلام) 4: 66.
3- بحار الأنوار 44: 191.
4- مستدرك الوسائل 4: 247.
5- انظر البرهان في تفسير القرآن 1: 100.

قيمة كل مثقال من الذهب اليوم، يتبين أن الإمام(علیه السلام) دفع له ما يعادل الملايين.

كما أن الإمام(علیه السلام) دفع له ألف حلة، وقيمة كل حُلة كانت تعادلديناراً واحداً، فيعني أنه دفع من الحلل ما يعادل الملايين أيضا.

وأما بالنسبة إلى الدر حيث «وحشا فاه دراً»، فإنا لا نعلم حجم هذه الدرر، صغيرة كانت أم كبيرة؛ وما هي قيمتها، لأن الدر الصغير أقل قيمة من الدر الكبير، ولكن من الواضح أن هذه أيضا تعادل الملايين.

وهذا يعني أن الإمام(علیه السلام) كان قد أعطى هذا المعلم عشرات الملايين!

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا قام الإمام الحسين(علیه السلام) بهذا العمل؟

هل لأنه كان كريماً فقط، نعم إنه(علیه السلام) كان في قمة الكرم، فالإمام(علیه السلام) كريم وشجاع، وعالم وتقي، وجامع لكل الصفات الحسنة والخصال الحميدة.

فهل كان هدف الإمام هو العمل بمصداق من الجود والكرم، ومجرد أن الكريم يعطي المال للناس؟!أم كان القصد هو تشجيع العلم والعلماء؟ وبيان دورهم في الحياة؟

الظاهر أن قصد الإمام الحسين (صلوات اللّه وسلامه عليه) هو تكريم العلم والعلماء، والتأكيد على دور العلم والعلماء في بناء المجتمع وتقدمه وتطوره.

وهذا ما نفتقده اليوم.

فإذا فهم المسلمون أهمية العلم والعلماء، وظهرت عندهم قيمة ذلك تقدموا، فإنه لم يحصل ما حصل اليوم للعالم الإسلامي من التأخر والتخلف في جميع مناحي الحياة إلّا بالابتعاد عن العلم والعلماء، حيث أصبحنا من الأمم التي هي في الدرجة الثانية أو الثالثة أو الأكثر تأخراً.

لماذا تقدم الغرب؟

أما الغربيون فتقدموا علينا في العديد من مجالات الحياة، لأنهم عرفوا مكانة

ص: 188

العلم والعلماء، وقدّروا العلم والعلماء، فإنكم تلاحظون اليوم أن أغلب الصنائع - وربما كلها - التي نستعملها في حياتنا اليومية ليلاً ونهاراً فهي من صنعهم.فالكهرباء منهم، والثلاجة التي في منازلنا منهم، وكذلك الغسالة، والسيارة، وغيرها، وغيرها.

وإذا أراد أحدنا الذهاب إلى حج بيت اللّه، فالطائرة من صنعهم؟!

وإذا أردنا نشر المفاهيم الإسلامية عبر المذياع والتلفاز، فأيضا تعود إليهم.

وإذا ما مرض أحد - لا سمح اللّه - فعندما يذهب إلى المستشفى للمعالجة، فالدواء ووسائل العلاج والأجهزة الطبية منهم.

لماذا تقدموا وتأخرنا؟

لأنهم عملوا ببعض القوانين الإسلامية التي جاء بها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الطاهرون(علیهم السلام) ومنهم الإمام الحسين(علیه السلام)، والتي منها تكريم العلم والعلماء، فتقدموا.

وتركنا نحن المسلمين القوانين الإسلامية التي وردت في القرآن الكريم، وجاءت على لسان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الأطهار(علیهم السلام) فتأخرنا.ومن تلك القوانين الحيوية، ما يستفاد من هذه القصة الصغيرة، حيث أكرم الإمام الحسين(علیه السلام) ذلك المعلّم بهذا التكريم الكبير.

ولكننا عند ما نقرأ هذا الحديث نعده مجرد فضيلة من فضائل الإمام الحسين(علیه السلام) وكرم من مصاديق جوده وكرمه، من دون أن نعرف ما الذي أراده الإمام الحسين(علیه السلام) بعمله هذا؟!

النبي(صلی الله علیه و آله) والتأكيد على العلم

وهكذا كان القرآن الكريم والنبي العظيم(صلی الله علیه و آله) يؤكدون على دور العلم

ص: 189

والعلماء.

فبعد انتصار نبي الإسلام(صلی الله علیه و آله) في معركة بدر، وأسرِ عدد من المشركين، اقترح البعض بقتل الأسرى، لكن الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) لم يقبل بذلك.

في التاريخ: إن عمر قال: يا رسول اللّه، كذبوك وأخرجوك فقدّمهم واضرب أعناقهم، ومكّن علياً من عقيل فيضرب عنقه، ومكن حمزة من عباس، ومكّني من فلان أضرب عنقه، فإنهؤلاء أئمة الكفر(1).

فقال(صلی الله علیه و آله): «إن اللّه يلين قلوب رجال حتى يكون ألين من اللبن، ويقسي قلوب رجال حتى يكون أشد من الحجارة مثلك».

هذا وكان المشركون قد أرسلوا إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من يتوسط لإطلاق سراح الأسرى مقابل الفداء.

وقال(صلی الله علیه و آله) في ما قال: من كان منكم يعرف القراءة والكتابة، فليعلم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة، ثم ليذهب إلى مكة وإن بقي كافراً مشركاً(2).

فماذا أراد النبي(صلی الله علیه و آله) بهذا العمل؟!

أراد أن يؤكد على ضرورة تحلي المسلمين بالعلم، ودور العلم والعلماء في تطور المجتمع وتقدمه.وقد قال(صلی الله علیه و آله): «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة»(3).

وهذا ما قام به الغربيون بعد الحرب العالمية الثانية، حيث طالبوا ألمانيا بدفع الغرامات الحربية، وكانت الغرامة تسليم العلماء إليهم ليستفيدوا من علومهم في تطور بلادهم.

ص: 190


1- بحار الأنوار 19: 241، وعوالي اللئالي 2: 101.
2- انظر مسند أحمد 1: 247.
3- كنز الفوائد 2: 107.

لقد كان هذا عمل نبينا(صلی الله علیه و آله) نحن المسلمين، فهل تعلمنا منه ذلك؟!

إن كل من يسير على سنة اللّه في الكون وسيرة النبي(صلی الله علیه و آله) وأهل بيته(علیهم السلام) في الحياة سوف يتقدم، سواء كان مسيحياً أم يهودياً، فاللّه تعالى يقول في القرآن: «كُلّا نُّمِدُّ»(1)، أي نعطي الجميع «مِن عَطَآءِ رَبِّكَۚ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحظُورًا» وذلك للاختبار والامتحان، فإن الدنيا دار أسباب ومسببات.

مدرسة الإمام الحسين(علیه السلام)

اشارة

إن علينا أن نتعلم في يوم الحسين(علیه السلام) - سواء في يوم مولده الشريف،أو يوم استشهاده - من مدرسته النيرة، وسيرته العطرة.

وقد أكد الإمام الحسين(علیه السلام) بسيرته وأقواله على دور العلم والعلماء في المجتمع، كما مر في قصة تكريم المعلم الذي علم ولده سورة من القرآن.

فهذه القصة وكذلك قصة نبي الإسلام(صلی الله علیه و آله) في بدر، هي من أجل تعليمنا، لكننا لم نتعلم وتعلم غيرنا، فأصبحوا سادة الدنيا، وعادوا يملكون كل شيء، وأصبحت بلادنا في أشد الفقر وأتعس حالات الحرمان.

قال الإمام الحسين(علیه السلام) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان منزلة العلماء:

«... وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء، لو كنتم تشعرون ذلك بأن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء باللّه الأمناء على حلاله وحرامه فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سلبتم ذلك إلّا بتفرقكم عن الحق، واختلافكمفي السنة بعد البينة الواضحة، ولو صبرتم على الأذى وتحملتم المئونة في ذات اللّه، كانت أمور اللّه عليكم ترد وعنكم تصدر وإليكم ترجع،

ص: 191


1- سورة الإسراء، الآية: 20.

ولكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم واستسلمتم أمور اللّه في أيديهم، يعملون بالشبهات ويسيرون في الشهوات، سلطهم على ذلك فراركم من الموت، وإعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم، فأسلمتم الضعفاء في أيديهم فمن بين مستعبد مقهور، وبين مستضعف على معيشته مغلوب، يتقلبون في الملك بآرائهم ويستشعرون الخزي بأهوائهم، اقتداء بالأشرار وجرأة على الجبار، في كل بلد منهم على منبره خطيب يصقع، فالأرض لهم شاغرة وأيديهم فيها مبسوطة، والناس لهم خول(1)، لا يدفعون يد لامس، فمن بين جبار عنيد، وذي سطوة على الضعفة شديد، مطاع لايعرف المبدئ المعيد، فيا عجباً وما لي لا أعجب والأرض من غاش غشوم ومتصدق ظلوم وعامل على المؤمنينبهم غير رحيم، فاللّه الحاكم في ما فيه تنازعنا والقاضي بحكمه في ما شجر بيننا، اللّهم إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنري المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك، فإن لم تنصرونا وتنصفونا قوي الظلمة عليكم وعملوا في إطفاء نور نبيكم وحسبنا اللّه وعليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير»(2).

حركة الوهابيين

هذا بالنسبة إلى الغربيين وتقدمهم في مجالات الحياة، وكذلك الحال - نسبياً - بالنسبة إلى بعض الحركات المنحرفة كالوهابيين، فإنهم على رغم باطلهم يعملون ليل نهار لنشر أفكارهم ومبادئهم بين الناس.

الوهابيون مع أنهم قلة قليلة جداً، لكنهم أسسوا في العديد من بلاد العالم

ص: 192


1- الخِوَل: العبيد والخدم والإماء.
2- تحف العقول: 238.

مؤسسات وجمعيات ومدارس كثيرة وكبيرةلتعليم مناهجهم العنيفة التي تخالف الشرع والعقل والفطرة، فتقدموا بقدر ما عملوا.

على عكسنا، حيث لا نعمل فلا نتقدم.

وقد قال مولانا أمير المؤمنين(علیه السلام) مخاطبا أصحابه:

«فيا عجبا عجبا واللّه يميث القلبَ ويجلب الهمَّ من اجتماع هؤلاء على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، فقبحاً لكم وترحاً، حين صرتم غرضاً(1) يُرمى، يُغار عليكم ولا تغيرون، وتُغزون ولا تَغزون، ويُعصى اللّه وترضون»(2).

وقال(علیه السلام): «واللّه إنكم لعلى حق، وإن القوم لعلى باطل، فلا يكونن أولى بالجد على باطلهم منكم في حقكم»(3).وقال(علیه السلام): «فلا يكونن أهل الضلال إلى باطلهم، والركون إلى سبيل الطاغوت، أشد اجتماعاً على باطلهم وضلالتهم منكم على حقكم»(4).

وقال(علیه السلام): «ولا أرى هؤلاء القوم إلّا ظاهرين عليكم لاجتماعهم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم، وطاعتهم لإمامهم ومعصيتكم لإمامكم، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم، وخيانتكم إياي»(5).

وقال(علیه السلام): «فالعجب كل العجب، وكيف لا أعجب من اجتماع قوم على باطلهم، وتخاذلكم عن حقكم»(6).

وفي نهج البلاغة:

ص: 193


1- الغرض: ما ينصب ليرمى بالسهام ونحوها، فقد صاروا بمنزلة الهدف يرميهم الرامون.
2- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 27 من خطبة له(علیه السلام) وهو يستنهض بها الناس ويذكر فضل الجهاد.
3- بحار الأنوار 32: 489.
4- الغارات 1: 191.
5- الغارات 2: 437.
6- الإحتجاج 1: 174.

«إني واللّه لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون(1) منكمباجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، وبمعصيتكم إمامكم في الحق، وطاعتهم إمامهم في الباطل، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم، فلو ائتمنت أحدكم على قعب(2) لخشيت أن يذهب بعلاقته(3)، اللّهم إني قد مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم خيراً منهم، وأبدلهم بي شراً مني»(4).

وهكذا أصبحنا وأصبحوا.

حيث تفرقنا عن الحق، وتمسكوا بباطلهم.

هناك جمعية وهابية في الكويت تدعى: (جمعية الإصلاح)، أسسها مجموعة من التجار الوهابيين، وهي موجودة لحد الآن، وتصدر لها مجلة، اسمها (المجتمع). وقد جاء في عددها ما قبلالأخير: بأن الوهابيين اجتمعوا وقرروا للعام الجديد الميلادي طبع وتوزيع مائة مليون كتاب في العالم.

ومن الواضح أن هذا العمل بحاجة إلى مبلغ خيالي من الأموال، لتهيئة الكتب وطبعها وتوزيعها بين الناس. ولكنهم قد رصدوا كل المبلغ لذلك.

هكذا يعملون لنشر ثقافتهم.

ونحن نتعجب كيف سيطر الوهابيون على بلاد كثيرة!

أو كيف سيطر الغربيون على الدنيا.

ص: 194


1- سيدالون منكم: سيغلبونكم وتكون لهم الدولة بدلكم.
2- القَعْب: القدح الضخم.
3- عِلاقة القَعْب: ما يعلق منه من ليف أو نحوه.
4- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 25 من خطبة له(علیه السلام) وقد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد.

إنهم عرفوا سنن الحياة فاتبعوها.

إنها سنن ذكرها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) والأئمة الطاهرين(علیهم السلام)، ومن قبل بينها اللّه تعالى في القرآن الكريم، حيث قال عزّ وجلّ: «وَقُلِ ٱعمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُم وَرَسُولُهُۥ وَٱلمُؤمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلغَيبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُم تَعمَلُونَ»(1).وقال تعالى: «قُل هَل يَستَوِي ٱلَّذِينَ يَعلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعلَمُونَۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلبَٰبِ»(2).

وقال سبحانه: «كُلّا نُّمِدُّ هَٰٓؤُلَآءِ وَهَٰٓؤُلَآءِ مِن عَطَآءِ رَبِّكَۚ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحظُورًا * ٱنظُر كَيفَ فَضَّلنَا بَعضَهُم عَلَىٰ بَعضٖۚ وَلَلأٓخِرَةُ أَكبَرُ دَرَجَٰتٖ وَأَكبَرُ تَفضِيلا»(3).

وقال جلّ جلاله: «وَأَن لَّيسَ لِلإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعيَهُۥ سَوفَ يُرَىٰ»(4).

وخلاصة الأمر:

إنه راجع إلى العلم والعلماء والنشاط.

هذا وقد قال مولانا أمير المؤمنين(علیه السلام) في وصيته الأخيرة - ومن المعلوم أن الإنسان يؤكد في آخر وصاياه على أهم ما يراه - :«اللّه اللّه في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم»(5).

وقد سبقنا غيرنا، فأصبح يملك العلم والصناعة والثروة والحكم وغيرها... ولم يبق للمسلمين شيء، وإن بقي فكان للوهابيين ومن أشبه، وأما نحن فلا.

حيث لم نتعلم من الإمام الحسين(علیه السلام) في الاهتمام بدور العلم والعلماء، ولم

ص: 195


1- سورة التوبة، الآية: 105.
2- سورة الزمر، الآية: 9.
3- سورة الإسراء، الآية: 20-21.
4- سورة النجم، الآية: 39-40.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 47 من وصية له(علیه السلام) للحسن والحسين(علیهما السلام) لما ضربه ابن ملجم (لعنه اللّه).

نأخذ بسيرته العطرة وسيرة أبيه وجده(علیهم السلام) في السير على هديهم.

هناك في الأدب الفارسي قصة تقول:

بأنه حصلت معركة في مكان ما، وانتصر القوم، وكانت هناك غنائم كثيرة، فأخذ كل نصيبه، وبقي شخص كان مهتماً بتصفيف شعره، وتجميل صورته، وترتيب ملابسه، بعدها ذهب ليأخذ من الغنائم فلم ير شيئاً، فعاد خائباً خاسراً، وقد سأله أحدهم: ما غنمت أيهاالجميل في شعرك! فقال: لا شيء... لاشيء(1).

إننا أصبحنا كهذا الغافل، فلم نحصل على أي شيء.

الاستثمار التبليغي

القصة الثانية أيضاً من الوهابيين؛ حيث استغلوا فرصة الحج ووفود الملايين من المسلمين إلى بيت اللّه الحرام وزيارة النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله) لأجل تبليغ دينهم ونشر أفكارهم ومبادئهم.

فأنتم شاهدتم المسجد الحرام، وكذلك المسجد النبوي الشريف(صلی الله علیه و آله)، كيف عمروها ووسعوها وبرمجوا لها، حيث يتسع لمليون مصلٍ، وكم يوزعون على الحجاج والزوار من الكتب والأشرطة والنشرات وما أشبه، وكم هناك من مبلغيهم يدعون الناس إلى عقيدة الوهابية وأفكارها.

ثم انظروا إلى حرم الإمام الرضا(علیه السلام) وحرم السيدة معصومة(علیها السلام)وسائر مشاهدنا المشرفة ومزاراتنا المقدسة، حيث إنها لا تسع لعدد كبير من الزوار، ولا تشتمل على برامج تبليغية لنشر معارف أهل البيت(علیهم السلام) من نشر الكتب وتوزيع الأشرطة وما أشبه. فالزائر يأتي ويزور ثم يذهب من دون أن يقدّم له أي شيء.

ص: 196


1- وأصل الشعر بالفارسية: بگفتا كه: اى سُنبلت پيچ پيچ*** زيغما چه آورده اى؟ گفت: هيچ هيچ

وربما احتج البعض وقال بأن هذه أماكن أثرية قديمة لا يمكن توسعتها، ولكن هل كونها من الأماكن الأثرية جزء من الأدلة الشرعية، بأن نجعل الناس في ضيق وشدة ولا نواكب التطور والتقدم العصري بسبب ذلك!

فالقضية من باب الأهم والمهم، بالإضافة إلى أنه في كثير من الأحيان وعبر استشارة الأخصائيين والخبراء يمكن الاحتفاظ بالأماكن الأثرية القديمة مع إيجاد التوسعة المطلوبة.

لِمَ لا نتعلم من عمل النبي(صلی الله علیه و آله)! إذ قام بتوسيع مسجده المبارك بنفسه(1).وأنتم تنظرون اليوم الشدة والضيق التي يعاني منها الناس عند زيارتهم للمشاهد المشرفة، سواء في الحر والبرد، مضافاً إلى مشاكل اختلاط النساء والرجال.

إذن يلزم علينا ونحن في يوم الحسين(علیه السلام) وفي ذكرى ميلاده المبارك، أن نهتم أكبر الاهتمام بما يرتبط بأهل البيت(علیهم السلام) من المشاهد المشرفة والروضات المقدسة، وأن نعمل بواجبنا من تبليغ رسالة النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله) وتعاليم أهل البيت(علیهم السلام).

قيل إنه قبل فترة أمر فهد(2) ببناء ثلاثة آلاف مكتبة في الدول التي تحررت من الإتحاد السوفيتي، وخصص لها المبالغ اللازمة وهي مبالغ كبيرة جدا.

فكم بنينا وكم خصصنا؟

هذا ما يعملون، ولكننا ما ذا نعمل؟

فكم مكتبة توجد في قم المقدسة؟!

ص: 197


1- انظر الكافي 3: 295.
2- فهد بن عبد العزيز آل سعود 1923-2005م.

وكم مؤسسة لإرشاد الزائرين، ونشر علوم أهل البيت(علیهم السلام) إلى العالم؟

وكم من مكتبة بنيت في أنحاء العالم بتوجيه ودعم من الحوزة العلمية بقم المقدسة؟

لا شيء يذكر!

مع أن قم المقدسة تعتبر ومنذ ألف سنة مركزاً للعلم والدين والتقوى والفضيلة.

فانظروا كيف يفكر غيرنا، وكيف يعمل، وكيف ينشر فكره وعقيدته، ونحن في واد آخر.

فإذا رأيتم طالبين، أحدهما مجد يتعب نفسه ويسهر الليل في الدراسة والمطالعة والبحث والتحقيق، والآخر ينام الليل ولايتعب، فمن منهما يتقدم ويتطور؟

النتيجة واضحة.

وهكذا الحال بالنسبة إلى الأمم المتطورة والمتأخرة.

الإسلام يعلو

إن لبنان بلد صغير، ونفوسه ضعف نفوس قم المقدسة أو أكثر بقليل، وقد ذهبت إلى لبنان وشاهدته عن قرب، يوجد في لبنان ثلاثمائة وخمسون محطة إذاعية وتلفزيونية(1)، مضافاً إلى المئات من الصحف والنشرات والمجلات و...؛ وهذه القوة الإعلامية هي من أسرار تقدمهم وتطورهم، فإن كل شخص أو جهة أو حزب في لبنان حر في تأسيس محطة إذاعية وتلفزيونية، أو نشر صحيفة أو مجلة، من دون أن تمنعه الدولة.

ص: 198


1- هذا في تاريخ إلقاء المحاضرة.

فإذا أردنا أن نقيس على لبنان فيلزم أن تكون في قم المقدسة - حيث الحوزة العلمية المرتبطة بالدنيا، وهي عش آل محمد(علیهم السلام) كما في الروايات(1) - على الأقل مائة وسبعون محطة إذاعية وتلفزيونية.

ولكن لا توجد حتى محطة واحدة.فانظروا لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟

من الواضح أن الذي لا يعمل يبقى متخلفاً.

هذا من جانب، ولكن الذي يجعل المسؤولية أكبر وأثقل ما ورد عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من قوله: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»(2).

فإن الذي يُلزمنا به هذا الحديث: أن على الأمة الإسلامية، أن تكون أعلى من سائر الأمم وأكثر تطوراً وتقدماً. وهذا واجب شرعاً للحفاظ على قانون العلو.

ولكن إذا لم نكن أعلى من غيرنا، فعلى الأقل أن نكون كسائر الأمم ومثل باقي العالم، يعني أن تكون لنا صنعة كصنعتهم، وتكون لنا حريات كحرياتهم، وتكون لنا وسائل إعلام كوسائلهم من صحافة ومحطات إذاعية وتلفزيونية ودور نشر وما أشبه.فأين نحن منهم؟

دور الطلبة والعلماء

إن للطلبة والعلماء والحوزات العلمية الدور الأكبر في تطوير الأمة وإرشادها نحو التقدم والرقي. فإن الطلبة في كل أمة هم الذين يرفعون من شأنها، أو يحطون من قدرها.

ص: 199


1- انظر بحار الأنوار 57: 214.
2- من لا يحضره الفقيه 4: 334.

وإنني أقدر حتى أصغر الطلبة المبتدئين الذين يدرسون الأمثلة(1) وما أشبه، فإنه يمكن لهذا الطالب المبتدئ أن يؤدي دوراً إيجابياً في تطوير الأمة.

فكيف بالذي تقدم أكثر كالذي يدرس (السيوطي)(2)، أو (شرح اللمعة)(3)؟أو مكاسب الشيخ(4)، أو يحضر بحث الخارج(5).

وكيف بكبار العلماء والخطباء والفضلاء.

فعلينا أن ننظر إلى غيرنا ممن تقدم لنعرف أسباب تقدمه ولانتأخر عن الركب، فإن الأشياء تعرف بأضدادها وبأمثالها، كما قيل في الحكمة.

حكام الجور من أسباب التأخر

اشارة

بعد مراجعة التاريخ الإسلامي والتدقيق والتحقيق في مختلف مراحلها يتبين بوضوح أن من أحد أهم أسباب تأخرنا نحن المسلمين في العالم هم: بنو أمية وبنو العباس.فالنبي الأعظم(صلی الله علیه و آله) وضع خطة محكمة - ربما نفصّل ذلك في كتاب آخر -

ص: 200


1- كتاب الأمثلة لمحمد بن عبيد اللّه المسبحي الحراني المصري المتوفى (420ه) وهو في الصرف يدرس للمبتدئين بدراسة العلوم الحوزوية.
2- وهو شرح الألفية في النحو لجلال الدين السيوطي المتوفى (911ه)، وهو من الكتب الدراسية في الحوزة.
3- الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، للشهيد السعيد زين الدين الجبعي العاملي المعروف بالشهيد الثاني، قُتل في (965ه) (رضوان اللّه عليه) علماً بأن متن اللمعة هو للشهيد السعيد محمد بن جمال الدين مكي العاملي المعروف بالشهيد الأول(رحمة الله) قُتل في (786ه) وقد درس هذا الكتاب منذ تأليفه إلى الآن مئات الألوف من طلبة العلم، وما زال يدرس في جيمع الحوزات العلمية.
4- المكاسب للشيخ الأعظم الأنصاري في الفقه الإستدلالي.
5- مرحلة بحث الخارج هي المرحلة العليا من العلوم الحوزوية حيث يكون البحث خارجاً عن التقيد بالكتاب، فتطرح المسائل وتبحث بصورة أكثر تحقيقاً وتدقيقاً وعمقاً واستدلالاً. ليصل الطالب إلى الرأي الصحيح عبر الاجتهاد في المسألة.

لهداية الناس جميعاً نحو الإسلام، ولكي تسلم الدنيا بأسرها، لكن السر في تأخر المسلمين وتخلفهم هو تغيير المنهج الصحيح بعد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، قال تعالى: «أَفَإِيْن مَّاتَ أَو قُتِلَ ٱنقَلَبتُم عَلَىٰٓ أَعقَٰبِكُمۚ»(1).

فإن بني أمية وبني العباس ومن سبقهم ما أن وصلوا إلى الحكم حتى منعوا المسلمين من التقدم والتطور، بل كانوا يزجون بهم من حرب إلى حرب، ويقولون: إنها فتوحات. لم تكن فتوحات بل هو كذب محض، ربما نبحث عن ذلك في وقت آخر، فمقولة هارون عندما كان يخاطب السحاب: أينما تمطرين سيأتيني خراجكِ(2). كذب وتزوير للتاريخ وعدم إطلاع.

إن هؤلاء - من هارون، والمأمون، والمتوكل، ومعاوية - همالذين وقفوا في وجه المسلمين وحدوا من نشاطهم وتقدمهم، ومما يدل على ذلك القصتان التاليتان:

قسوة خالد بن عبد اللّه القسري

كان خالد بن عبد اللّه القسري(3) كالحجاج في سفك الدماء، وارتكاب الحرام، وانتهاك الحرمات، والحد من العلم، والضغط على العلماء ومحاربة أهل البيت(علیهم السلام) وشيعتهم. فكان سوطاً من سياط بني أمية، وجلاداً من جلاديهم، وعاملاً مستبداً من عمالهم.

أما لماذا اشتهر الحجاج بالظلم والاستبداد وسفك الدماء ولم يشتهر خالد؛ فلأن الحجاج - وكما يذكر الحاج المولى هاشم في (منتخب التواريخ) - ثار

ص: 201


1- سورة آل عمران، الآية: 144.
2- مآثر الإنافة 1: 194.
3- خالد بن عبد اللّه بن يزيد بن أسد القسري، من أهل دمشق (66ه-126ه) من وُلاة بني مروان، عُرف بعدائه ونصبه لأمير المؤمنين(علیه السلام).

أكثر ضد علي أمير المؤمنين(علیه السلام) وشيعته وفي وضح النهار، فأخذ يبحث عن قبر الإمام(علیه السلام) في الكوفة لينبشه، وقد نبش اثنين وعشرين ألف قبر لأجل ذلك ولكنه لم يعثر على قبرالإمام.

إن اشتهار الحجاج كجلاد لبني أمية جاء لكثير ظلمه في هذا الباب. أما خالد بن عبد اللّه القسري، والذي نريد نقل قصة عنه، فقد كان من ظلمه أنه اتخذ سياسة محاربة العلم والعلماء، لأن بني أمية وبني العباس كانوا يقضون على العلم والعلماء ليقولوا: نحن السادة.

ففي أحد الأيام صعد خالد القسري المنبر في مسجد الكوفة - ومسجد الكوفة آنذاك كان أكبر بكثير مما عليه المسجد الآن - وكان عيد الأضحى، فخطب خطبته ثم قال: أيها الناس، اليوم يوم الأضحى، والأضحية فيه مستحبة، وكل منكم سيضحي بشاة أو بقرة أو ناقة، ولكني سأضحي بأضحية خاصة تختلف عن أضحياتكم.

فتوجهت أنظار الجميع إليه، ماذا سيفعل. وكان رجل في ذلك الوقت حاضراً في المسجد يدعى (جَعْد)(1) فأمر خالد جلاوزتهوجلاديه بالقبض على جَعْد، ثم قال: ألقوه أرضاً، ثم أخرج سكيناً وذبحه في المسجد(2).

فهل يمكن لهذه الأمة أن تتقدم!

الأمة التي تقطع رؤوس علمائها في المسجد؛ لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر! كيف يمكنها أن تتقدم؟

ص: 202


1- الجَعْد بن درهم مولى سويد بن غفلة، من أهل الشام، سكن الجزيرة الفراتية. أخذ عنه مروان الحمار لما ولي الجزيرة في أيام هشام بن عبد الملك، ولهذا يقال له: مروان الجعدي، فنسب إليه. ومن أراد ذم مروان لقبه بالجعدي. ويعتبر الجعد شيخ الجهم بن صفوان الذي تنسب إليه الطائفة الجهمية. طلبه هشام فظفر به، ثم سيره إلى خالد بن عبد اللّه القسري، فقتله يوم عيد الأضحى عام 124ه.
2- انظر أنساب الأشراف 8: 379، والتاريخ الكبير للبخاري 1: 64.

فهؤلاء (بنو أمية وبنو العباس ومن شاكلهم) وقفوا أمام العلم، وإلّا لما كانت الأمة الإسلامية كما هي عليه الآن من التأخر والحرمان.

هذه هي القصة الأولى.

مقتل عبد اللّه بن المقفع

أما القصة الأخرى فهي عن بني العباس وعمالهم، فقد كان شخص إيراني في العراق يدعى عبد اللّه بن المقفع، وليس الكلام في تقييمه وبما قاله المؤرخون حوله؛ لأننا لسنا في صدد تحليل شخصيته، فإن هناك خلافاً حول عبد اللّه بن المقفع، ولم يكن لي تحقيق في هذا الباب حتى أبينه. لكن عبد اللّه بن المقفع كان أديباً مرموقاً، ربما لا نملك اليوم أديباً مثله بين الإيرانيين.

لقد كان قمة في الأدب العربي، والدليل على ذلك أن كتبه موجودة لحد الآن وتطبع في مصر وغيرها باستمرار، ومن كتبه (كليلة ودمنة)(1)، وهو كتاب أدبي رفيع المستوى في اللغة العربية، وقد ترجم إلى العربية من نسخة فارسية، علماً بأن أصلالكتاب يعود إلى الهند في زمان (أنو شيروان)(2)، فترجم إلى الفارسية من الهندية، ثم قام عبد اللّه بن المقفع بترجمته إلى العربية، لكن نسخته العربية رفيعة المستوى جداً، وقد طالعته مرتين ونصف.

لقد كان عبد اللّه بن المقفع رجلاً عالماً مشهوراً في الأوساط، وقد جاء يوماً إلى منزل والي العباسيين في البصرة وكان اسمه سفيان بن معاوية - فالمنصور العباسي كان حاكماً في بغداد، وله والٍ في البصرة - فدخل عليه وترك فرسه عند

ص: 203


1- وهو كتاب في الأخلاق وتهذيب النفوس، وضعه بيدبا الفيلسوف الهندي لدبشليم ملك الهند، يشتمل على قصص وحكايات ونوادر، وضرب أمثال على ألسنة البهائم والطيور، لا يستغنى عنها الملوك والوزراء، والأمراء والحكام، يتفهمها ذوو العقول ويتأدبون بها. ترجمه ابن المقفع.
2- وتعني: ذو الروح الخالدة، من ملوك الأسرة الساسانية، ملك فارس للفترة 531-579م.

غلامه في الباب، وكان منزل الوالي واسعاً جداً، والناس يدخلون ويخرجون. فبقي الغلام منتظراً ساعة وساعتين وثلاث ساعات، فلم يخرج عبد اللّه، فحل وقت الظهر وكذلك العصر، ولم يخرج عبد اللّه بن المقفع!فاستغرب الغلام وأحس بالشر، فعاد إلى أصدقائه وأخبرهم بأمره. فجاءوا إلى منزل الوالي، وقالوا له: أين عبد اللّه بن المقفع؟

قال: لم يأت إليَّ أصلاً.

فقال الغلام: هذا فرسه وقد دخل إلى منزلكم.

فقال: لا علم لي به.

فذهبوا إلى المنصور العباسي في بغداد؛ لأن عبد اللّه كان شخصية مهمة، فلا يمكن أن يبقى حاله مجهولاً هكذا. فما الذي حدث له!

فقال المنصور: لا علم لي بذلك.

فقالوا: أنت الحاكم وهذا واليك، فاسأل ماذا جرى له.

فقال: سوف أسأل عنه.

ومر يوم ويومان وعشرة أيام، ثم أسبوع وأسبوعان، وبعدها شهر وشهران. ثم ذهبوا إليه مرة أخرى، فأنكر الحاكم علمه بالموضوع أصلاً.

فقالوا: لا يمكن أن يكون الحاكم بلا علم عن واليه بالبصرة، ومايجري على العلماء والشخصيات.

والمسافة بين بغداد والبصرة لم تكن إلّا أربعمائة كيلومتر.

فقال الحاكم: لا علم لي بالموضوع.

فقالوا: اسأل عنه.

قال: سأسأل عنه.

مر على القصة يوم ويومان، ثم أسبوع وأسبوعان، وبعدها شهر وشهران، ولا

ص: 204

يعلم ما حل بعبد اللّه بن المقفع، هل طار إلى السماء، أم غار في الأرض.

فأيس الناس وقاموا بالتحقيق بأنفسهم.

يقول الشاعر(1):

ومهما تكن عند امرئ من خليقة*** وإن خالها تخفى على الناس تعلم

نعم لا يمكن للإنسان أن يخفي صفاته دائماً، فإن الناس يوماً ماسيطلعون عليها، وقد قال اللّه قبل هذا الشاعر: «وَقُلِ ٱعمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُم وَرَسُولُهُۥ وَٱلمُؤمِنُونَۖ»(2)، فإن المؤمنين يرون أعمال الناس.

وهذا ما يرى في المجتمع فإن الناس عادة يعرفون بأن الشخص الفلاني عالم، والشخص الفلاني جاهل، والطبيب الفلاني أفضل، والطبيب الفلاني علمه أقل، وهكذا.

عند ما يئس الناس من الحاكم العباسي في تحقيق مصير عبد اللّه بن المقفع، حققوا بأنفسهم عنه، من مقربي الوالي، فتبين أن المنصور العباسي أمر واليه بالبصرة بقتل عبد اللّه بن المقفع شر قتلة(3)، وذلك لأن هذا الشخص كان عالماً، ومن البديهي أن العالم لا يرضى بمنكرات الحكام، فيقول: هذا ليس بصحيح، هذا ظلم لا يجوز، هذا اعتداء وزور، هذا قتل وسفك للدماء، و... .وكان الوالي يعلم بأن عبد اللّه بن المقفع يأتيه يوم كذا، فأمر بسجر تنور، فلما جاء ابن المقفع أمر بالقبض عليه، وتقطيع بدنه قطعة قطعة، وإلقائها في التنور حتى أتى على جميع جسده بأمر الحاكم العباسي(4).

ص: 205


1- وهو زهير بن أبي سلمى.
2- سورة التوبة، الآية: 105.
3- انظر سير أعلام النبلاء 6: 209.
4- انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 18: 269.

نعم هؤلاء الحكام من بني أمية وبني العباس كانوا السبب في تأخر الأمة الإسلامية حيث حكموا بالظلم والاستبداد، وقضوا على العلم والعلماء.

ولكن مدرسة أهل البيت(علیهم السلام) هي مدرسة العلم والعلماء، ومن هنا نرى الإمام الحسين(علیه السلام) ونحن في يومه المبارك، ذكرى مولده الشريف، قام بتكريم المعلم الذي علم ولده سورة من القرآن أيما تكريم، تعظيماً للعلم والعلماء.

الكتابة والتأليف

اشارة

إننا نملك شيئين مهمين وهما بأيدينا:الأول: الكتابة والتأليف.

الثاني: الخطابة والبيان.

وهما من أسس العلم ونشر الثقافة والوعي.

فعلينا أن نكتب عن الإمام الحسين(علیه السلام) وننشر فكره(علیه السلام) وعلومه في جميع العالم. فإن اللّه عزّ وجلّ خلق هؤلاء الأطهار(علیهم السلام) سفناً لنجاة الأمة، ومصابيح لهداية الخلق.

كما قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «إن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة»(1).

ولكن كم كُتب عن الإمام الحسين(علیه السلام)؟

نعم كتب عن الإمام الحسين(علیه السلام) أكثر من باقي الأئمة والأنبياء (صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين) ولكنه قليل، فقد كُتب عن إقبال اللاهوري أكثر مما كتب عن الإمام الحسين(علیه السلام)!

كان إقبال اللاهوري شخصاً عالماً وشاعراً، وأشعاره جميلة، وكانيدعو لاستقلال باكستان. فكتبوا عن شخصيته خمسة آلاف كتاب وكراس، ولكن هل

ص: 206


1- مدينة المعاجز 4: 52.

تتمكنون من جمع خمسة آلاف كتاب حول الإمام الحسين(علیه السلام) منذ ألف وثلاثمائة سنة مضت وإلى الآن.

فهذا يعني أننا مقصرون!

فمن يتحمل عبء التقصير هذا؟

نحن لدينا القدرة على الكتابة والتأليف، فليس من الصحيح أن ندع الكتابة والتأليف جانباً، بل علينا أن نكتب وننشر تعاليم أهل البيت(علیه السلام) وعلومهم للعالم، فنكتب حول اللّه عزّ وجلّ، وحول النبي(صلی الله علیه و آله)، وحول أمير المؤمنين(علیه السلام) وحول الإمام الحسين(علیه السلام) وحول الإمام الصادق(علیه السلام) وحول سائر الأئمة الطاهرين(علیهم السلام) وحول الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(علیها السلام)، وحول السيدة المعصومة(علیها السلام) وهكذا.

كل شخص منا يلزم عليه أن يكتب كتاباً، ففي قم المقدسة - وكمايقولون - يوجد ثلاثون ألف رجل دين، فإذا كتب كل واحد منهم كتاباً يصبح لدينا ثلاثون ألف كتاب، ومن الواضح تأثير هذه الكتب في رفع المستوى الثقافي.

مكتبات في كل مكان

كما علينا أن نسعى لتأسيس المكتبات العامة والخاصة، ففي كل مكان وفي كل بيت مكتبة وهكذا.

كان أحد التجار في الكويت يدعى الحاج عبد الصمد، وكان يذهب إلى اليابان للتجارة. فسألته يوماً: كيف تقدمت اليابان هذا التقدم الهائل في العلم والصناعة؟

قال: إن الشعب الياباني مثقف وواع، وهذا ما شاهدته بعيني، حيث إنك ترى في القطار الذي تسافر به مكتبة خاصة، وفي الحافلة التي تستقلها مكتبة، وفي الباخرة التي تسافر بها مكتبة، وفي جميع الأماكن العامة والخاصة مكتبة، فلا ترى إنساناً لا يطالع، الكل مشغولون بالمطالعة والقراءة.

ص: 207

قال: والأعجب من هذا أنك إذا ما دخلت بيت الياباني،تجد في غرفة استقباله مكتبة، وفي غرفة نومه مكتبة، وفي غرفة الطعام مكتبة، وفي المدخل مكتبة. وحتى في المطبخ والحمام مكتبة وهكذا، فهذا هو من أسباب تقدمهم وتطورهم.

المكتبة المنزلية

نعم علينا أن نوجد في كل بيت من بيوت الناس مكتبة منزلية، فلا يقال هذا رجل قروي لا يقرأ ولا يكتب. فليكن قروياً لكن أبناءه يعرفون القراءة والكتابة وهم سيقرؤون الكتب.

أ تعلمون ماذا سيحدث لو وجدت في كل منزل مكتبة؟!

فلو كان في كل بيت عشرة أو عشرون أو خمسون كتاباً - على الأقل - فسوف يقرأ ويتعلم ويتثقف كل من هو في البيت أو يرتبط بهم، من الابن والبنت والأب والأم والصهر والضيف و... وهكذا يرتفع مستوى الثقافة.

عند ذلك يمكن أن نكون في مستوى التقدم العالمي.

علماً بأنه لا يكفي ذلك إذ على الأمة الإسلامية أن تكونالأعلى من سائر الأمم، حيث قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»(1).

عندما تحررت البلاد الإسلامية في الإتحاد السوفيتي قبل ثلاث سنوات، وحصلت فيها بعض الحرية، أرسل السعوديون لهم سبعة وستين مليون نسخة من القرآن الكريم - حسب ما ورد في بعض التقارير - فكانت الطائرات تقلع بالمصاحف الشريفة لهم. وفي ذلك الوقت كان الأذربيجانيون الشيعة يأتون إلينا ويطلبون منا المصاحف فربما هيأنا لهم عشرين أو ثلاثين أو ما أشبه.

ص: 208


1- من لا يحضره الفقيه 4: 334.

فانظروا كيف تقدم هؤلاء، وتأخرنا.

والدنيا دار العمل لمن أراد التقدم في الحياة، والمجال مفتوح لكل من يعمل، قال اللّه تعالى في القرآن المجيد: «وَقُلِ ٱعمَلُواْ»(1)، فكل من يعمل يصبح سيداً، إذا عملنا نحن نصبحسادة العالم، وإذا عمل غيرنا فهو السيد لا محالة.

الخطابة والبيان

الأمر الثاني مما يمكننا العمل به في سبيل نشر الثقافة والوعي: هو البيان والخطابة، فعلينا أن نستفيد من هذه القوة لنشر معارف الإمام الحسين(علیه السلام) وعلومه وأهدافه، ومن مصاديق البيان، البث الإذاعي والتلفزيوني، حيث سبق أن مدينة قم المقدسة يلزم أن يبث منها مئات القنوات الإذاعية والتلفزيونية لنشر علوم الإسلام وعلوم أهل البيت(علیهم السلام) إلى العالم.

وعليه يلزم أن يكون لكل عالم، وكل مرجع تقليد، وكل خطيب مهم، محطة إذاعية أو تلفزيونية، يتكلم ويتحدث فيها عن الإسلام وأهله، والقرآن وحملته، وهذا ما يوجب رفع المستوى الثقافي عند الأمة، وهو من مقومات الوصول إلى ركب التقدم والحضارة.

قدرنا وقدرتنا

نحن متمكنون ببركة ما نملك من مقومات القوة والقدرةالمعنوية، بواسطة الإمام الحسين(علیه السلام) والنبي الأعظم(صلی الله علیه و آله) وسائر الأئمة المعصومين(علیهم السلام) وببركة علومهم وباتخاذ الفضيلة والتقوى والأخلاق، أن نتقدم على جميع الأمم بإذن اللّه تعالى.

وهذا ما نتعلمه من يوم الإمام الحسين(علیه السلام) في ذكرى مولده الشريف، حيث

ص: 209


1- سورة التوبة، الآية: 105.

مكانة العلم والعلماء عند الإمام(علیه السلام).

«اللّهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز به الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»(1).

ص: 210


1- الكافي 3: 424.

مع الإمام موسى بن جعفر(علیهما السلام) والتغيير في العراق

مظلومية أهل البيت(علیهم السلام)

إن أهل البيت المعصومين(علیهم السلام) هم أكثر من وقع عليهم الظلم بعد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، قال الإمام الباقر(علیه السلام): «لما نزلت هذه الآية «يَومَ نَدعُواْ كُلَّ أُنَاسِۢ بِإِمَٰمِهِمۖ»(1) قال المسلمون: يا رسول اللّه، ألست إمام الناس كلهم أجمعين؟

قال: فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): أنا رسول اللّه إلى الناس أجمعين، ولكن سيكون من بعدي أئمة على الناس من اللّه من أهل بيتي يقومون في الناس فيُكَذَّبون ويَظلمهم أئمة الكفروالضلال وأشياعهم، فمن والاهم واتبعهم وصدقهم فهو مني ومعي وسيلقاني، ألّا ومن ظلمهم وكذَّبهم فليس مني ولا معي وأنا منه بريء»(2).

ومن هؤلاء العترة الطاهرة المظلومة مولانا الإمام موسى بن جعفر(علیهما السلام) حيث قضى أكثر من عشر سنوات(3) في سجون بني العباس المظلمة، وتحت التعذيب القاسي حتى قضى نحبه مسموماً في سجن هارون ببغداد.

وقد ورد في زيارته(علیه السلام):

ص: 211


1- سورة الإسراء، الآية: 71.
2- الكافي 1: 215.
3- انظر بحار الأنوار 48: 206.

«اللّهم صلّ على محمد وأهل بيته، وصلّ على موسى بن جعفر وصي الأبرار، وإمام الأخيار، وعيبة الأنوار، ووارث السكينة والوقار، والحكم والآثار... المضطهد بالظُلم، والمقبور بالجور، والمعذَّب في قعر السجون وظُلَم المطامير، ذي الساقالمرضوض بحلق القيود، والجنازة المنادى عليها بذُل الاستخفاف، والوارد على جده المصطفى وأبيه المرتضى وأمه سيدة النساء، بإرث مغصوب، وولاء مسلوب، وأمر مغلوب، ودم مطلوب، وسم مشروب. اللّهم وكما صبر على غيظ المحن، وتجرع فيك غصص الكرب، واستسلم لرضاك، وأخلص الطاعة لك، ومحض الخشوع، واستشعر الخضوع، وعادى البدعة وأهلها، ولم يلحقه في شيء من أوامرك ونواهيك لومة لائم، صلّ عليه صلاة نامية منيفة زاكية، توجب له بها شفاعة أمم من خلقك، وقرون من براياك...»(1).

والسؤال هو: لماذا جرى هذا الظلم الكبير على الإمام موسى بن جعفر(علیهما السلام)، مع أن الكل كانوا يعرفون ويعترفون بفضله وعلمه وزهده وتقواه وورعه، وأنه ابن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) مضافاً إلى كونه حجة اللّه على الخلق، وأنه من أئمة المسلمين بنص رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وقد كانالشيعة آنذاك بكثرة في بغداد، وسائر المسلمين من غير الشيعة أيضاً كانوا يعلمون بعظيم منزلة الإمام(علیه السلام)، فلماذا هذه الظلامات؟

في الجواب نقول: إن أبناء الأمة الإسلامية سكتوا على ظلم الظلمة، وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخذ كل واحد منهم يفكر في مصلحته الشخصية، مضافاً إلى أن البعض منهم تركوا عترة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) الذين وصى بهم النبي(صلی الله علیه و آله)، فاجترأ طغاة العصر على ظلمهم وسفك دمائهم بالسيف والسم،

ص: 212


1- بحار الأنوار 99: 17.

ومنهم الإمام موسى بن جعفر(علیهما السلام) الذي بقي مسجوناً حتى قضى نحبه مسموماً شهيداً في سجن هارون العباسي.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى سائر الأئمة الطاهرين(علیهم السلام).

وهكذا الأمر بالنسبة إلى شيعتهم المظلومين إلى يومنا هذا.

علماء السنة يعترفون بفضل الإمام(علیه السلام)

قال الخطيب البغدادي في كتابه (تاريخ بغداد):

(كان موسى بن جعفر(علیهما السلام) يُدعى العبد الصالح من عبادتهواجتهاده، روى أصحابنا أنه(علیه السلام) دخل مسجد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فسجد سجدة في أول الليل، وسمع وهو يقول في سجوده: «عظم الذنب عندي فليحسن العفو عندك، يا أهل التقوى، ويا أهل المغفرة»، فجعل يردّدها حتّى أصبح)(1).

وقال محمد بن طلحة الشافعي في كتابه (مطالب السؤول):

(أبو الحسن موسى بن جعفر الكاظم(علیهما السلام) هو الإمام الكبير القدر، العظيم الشأن، المجتهد الجاد في الاجتهاد، المشهور بالعبادة، المواظب على الطاعات، المشهور بالكرامات، يبيت الليل ساجداً وقائماً، ويقطع النهار مُتصدقاً وصائماً، ولفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين عليه دُعي كاظماً، كان يجازي المسيء بإحسانه إليه، ويقابل الجاني بعفوه عنه، ولكثرة عبادته كان يسمّى بالعبد الصالح، ويعرف في العراق باب الحوائج إلى اللّه، لنجح مطالب المتوسّلين إلى اللّه تعالى به، كرامته تحار منها العقول،وتقضي بأن له عند اللّه تعالى قدم صدق لا تزلّ ولا تزول... وكان له ألقاب كثيرة: الكاظم وهو أشهرها، والصابر، والصالح، والأمين...

ثم يذكر بعض كراماته ويقول: فهذه الكرامات العالية الأقدار، الخارقة العوائد

ص: 213


1- تاريخ بغداد 13: 29.

هي على التحقيق جلّية المناقب، وزينة المزايا، وغرر الصفات، ولا يؤتاها إلّا من فاضت عليه العناية الربّانية، وأنوار التأييد، ومرّت له أخلاف التوفيق، وأزلفته من مقام التقديس والتطهير، وما يلقّاها إلّا ذو حظّ عظيم)(1).

وقال ابن الصباغ المالكي في (الفصول المهمة):

(الكاظم هو الإمام الكبير القدر، والأوحد الحجة الحبر، الساهر ليله قائماً، القاطع نهاره صائماً، المسمّى لفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين كاظماً، وهو المعروف عند أهل العراق ببابالحوائج إلى اللّه، وذلك لنجح قضاء حوائج المسلمين... وكان موسى الكاظم(علیه السلام) أعبد أهل زمانه، وأعلمهم، وأسخاهم كفّاً، وأكرمهم نفساً، وكان يتفقّد فقراء المدينة في الليل ويحمل إليهم الدراهم والدنانير إلى بيوتهم والنفقات، ولا يعلمون من أيّ جهة وصلهم ذلك، ولم يعلموا بذلكَ إلّا بعد موته(علیه السلام)، وكان كثيراً ما يدعو: «اللّهمَّ إنّي أسْألُكَ الراحة عنْدَ الموْت، والعفْوَ عندَ الحِساب»)(2).

وقال الرشدي الدمشقي في (الروضة الندية):

(الإمام موسى الكاظم أبو إبراهيم، كان يبيت الليل ساجداً وقائماً، ويقطع النهار متصدّقاً وصائماً، حليماً يتجاوز عن المعتدين عليه، كريماً يقابل المسيء بالإحسان إليه ولذا لقّب بالكاظم، ولكثرة عبادته سمّي بالعبد الصالح، ويعرف في العراق بباب الحوائج إلى اللّه تعالى لنجح المتوسّلين به إليه سبحانه، عباداته مشهورة، تقضي بأن له قدم صدق عند اللّه لا يزول، وكراماتهمشهورة تحار منها العقول)(3).

ص: 214


1- مطالب السؤول: 446-451.
2- الفصول المهمة في معرفة الأئمة: 931-949.
3- الروضة الندية: 11 طبع مصر نقلاً عن شرح إحقاق الحق 12: 305.

هارون العباسي يعترف بإمامته(علیه السلام)

روى الشيخ سليمان القندوزي في (ينابيع المودّة)(1) عن (فصل الخطاب) لخواجة بارسا البخاري، قال:

(روى المأمون، عن أبيه الرشيد، أنّه قال لبنيه في حقّ موسى الكاظم(علیه السلام): هذا إمام الناس، وحجّة اللّه على خلقه، وخليفته على عباده، أنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وإنه واللّه لأحقّ بمقام رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) مني ومن الخلق جميعاً، وواللّه لو نازعني في هذا الأمر لآخذنّ بالذي فيه عيناه، فإنّ الملك عقيم.

وقال الرشيد للمأمون: يا بُنيّ، هذا وارث علم النبيين، هذا موسى بن جعفر(علیهما السلام) إن أردت العلم الصحيح تجده عند هذا).

إلى غير ذلك مما هو كثير.

قال تعالى: «وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱستَيقَنَتهَآ أَنفُسُهُم ظُلماوَعُلُوّاۚ فَٱنظُر كَيفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلمُفسِدِينَ»(2).

الدنيا دار العمل

قال مولانا الإمام موسى بن جعفر(علیهما السلام): «من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم يعرف الزيادة في نفسه فهو في النقصان، ومن كان إلى النقصان فالموت خير له من الحياة»(3).

إن الدنيا كانت وما زالت محلاً للعمل، يعني إن اللّه تبارك وتعالى خلق الدنيا هكذا، فكل من يعمل ويسعى فيها يتقدم، وكل من لا يعمل ولا يسعى فيها لا يتقدم بل يتأخر، وهذه هي السنة الكونية والقاعدة العامة للدنيا.

ص: 215


1- ينابيع المودة: 3: 165.
2- سورة النمل، الآية: 14.
3- كشف الغمة 2: 252.

قال تعالى: «وَقُلِ ٱعمَلُواْ»(1).

وفي آية أخرى: «إِنَّا عَٰمِلُونَ»(2).وهذا من الضروريات والبديهيات التي يجدها الإنسان من نفسه، حيث يرى مكانة العامل وتقدمه في الحياة، بخلاف الكسول والذي لا يعمل.

فكل فرد يعمل ويسعى أكثر، يكون هو المتقدم أكثر، وكل جماعة تعمل وتسعى أكثر تكون هي المتقدمة أكثر، وكذلك كل أمة تعمل وتسعى أكثر تكون هي المتقدمة أكثر.

ولا فرق في متعلق سعي الإنسان سواء كان عملياً أم علمياً من هذه الناحية.

تقدم المسلمين الأوائل

في يوم ما كان المسلمون يعملون بجدّ فأصبحوا حينذاك سادة الدنيا، وفي يوم آخر أصبح الآخرون يعملون بجدّ فغدوا سادة الدنيا، أما المسلمون اليوم فليسوا سادة لأنهم تركوا العمل، وواقع الحال يشهد بأن سادة الدنيا الآن هم الآخرون.

والسر في ذلك هو: العمل واللاعمل، فيوم كان المسلمونيعملون أصبحوا السادة في الدنيا، ويوم أخذ الآخرون يعملون أصبحوا هم السادة في الدنيا.

السكوت القاتل

نحن نعلم جميعاً بأن الإمام موسى بن جعفر(علیهما السلام) قد فارق الدنيا مسموماً شهيداً في سجون بني العباس، وقد كان هارون العباسي أمر شخصاً يدعى السندي بن شاهك(3) - وكان يهودياً على القول المشهور - أن يسجن الإمام(علیه السلام) ويضيق عليه ويعذبه إلى أن أمره بقتل الإمام(علیه السلام) بالسم.

ص: 216


1- سورة التوبة، الآية: 105.
2- سورة هود، الآية: 121.
3- هو الجلاد وصاحب شرطة وحرس هارون العباسي.

وهنا سؤال يطرح نفسه: لماذا تمكن هارون من هذا الظلم الكبير؟

الجواب: لأن قسماً كبيراً من الناس تركوا أهل البيت(علیهم السلام) ولم يعملوا بوصية النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله) في أهل بيته الطاهرين.

وكذلك الشيعة في بغداد، فإن بغداد كانت معروفة بالتشيع ومليئة بالشيعة، ولكن الشيعة أنفسهم كانوا متقاعسين ولايعملون.

فلم نسمع أو نقرأ بأن الشيعة في بغداد أو غيرهم من المسلمين اجتمعوا يوماً لإنقاذ الإمام موسى بن جعفر(علیهما السلام)، كما لم يردنا أنهم ذهبوا إلى هارون أو السندي بن شاهك ليكلموه ويضغطوا عليه لصده عن ظلم الإمام(علیه السلام).

نعم، إن الظالم إنما يتسلط على الأبرياء وعلى الأخيار بتقاعس الناس وترك العمل، فإذا ترك الناس العمل الصالح سُلطت عليهم الظلمة والأشرار ثم يدعون فلا يُستجاب لهم، كما تذكر الرواية الشريفة الواردة عن أمير المؤمنين(علیه السلام)(1).

فقد كان الجميع آنذاك مشغولاً بكسبه وتجارته، يخرج من بيته ويذهب إلى محل عمله أو مزرعته ثم يعود إليه، من دون أن يفكر في موضوع الإمامة وظلم الحكام وقضايا الأمة.

نادِ في القومربما يقول البعض - فراراً عن العمل - : ما قيمتي وما أثر عملي، أنا فرد واحد لا أتمكن من التغيير والتأثير... لا قدرة لي... لا يوجد عندي المال الكافي، وما أشبه من الأعذار.

إن هذه الكلمات كلمات غير منطقية، فكل إنسان يستطيع القيام بأعمال كثيرة وكبيرة ومؤثرة، كل بحسبه.

ص: 217


1- انظر تهذيب الأحكام 6: 177.

في قصة حنين حيث ورد ذكرها في القرآن الكريم في قوله تعالى: «وَيَومَ حُنَينٍ إِذ أَعجَبَتكُم كَثرَتُكُم»(1) دروس وعبر كثيرة.

فحنين اسمُ وادٍ تحيط به الجبال وهو قريب من (أوطاس) وكان به وقعة حنين، وهو موجود الآن، ومن المناسب أن يزوره الإنسان وخاصة عندما يتشرف بالحج، ليرى كيف كانت معركة حنين وفرار المسلمين وموقف النبي(صلی الله علیه و آله).

لقد بقي النبي(صلی الله علیه و آله) في يوم حنين وحيداً بعدما فرّ المسلمون عنهوالقصة مشهورة مذكورة في التواريخ، حيث انهزم المسلمون بالرغم من تعدادهم البالغ اثني عشر ألف مقاتل، ولم يبق مع النبي(صلی الله علیه و آله) إلّا العباس وأمير المؤمنين(علیه السلام) وتسعة من أبناء العباس وشخص آخر، يعني لم يصمد مع النبي(صلی الله علیه و آله) سوى اثني عشر شخصاً فقط، بينما هرب الجميع، ولما شاهد الكفار هروب المسلمين هجموا على النبي(صلی الله علیه و آله) ليقتلوه وكان تعدادهم ثلاثين ألفاً، فقال الكفار: لنقض عليه الآن. ولهذا ورد اسم حنين في القرآن؛ لأن القصة مهمة جداً.

فنظر النبي(صلی الله علیه و آله) حوله فرأى أمير المؤمنين(علیه السلام) منهمكاً بالمبارزة والدفاع عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في قصة مفصلة مذكورة في محلها، كما أحاط أبناء العباس بالنبي(صلی الله علیه و آله) وهم عبد اللّه وعبيد اللّه والفضل وقثم و...، وكان العباس عم النبي(صلی الله علیه و آله) رجلاً جهورياً صيتاً، فنظر إليه النبي(صلی الله علیه و آله) وناداه: «نادِ في القوم وذكرهم العهد»(2).وقد ورد في كُتب الزيارة: في زيارات أمير المؤمنين(علیه السلام): «وَعَمُّكَ الْعَبّاسُ يُنادِي الْمُنْهَزِمينَ: يا أَصْحابَ سورَةِ الْبُقَرَةِ، يا أَهْلَ بَيْعَةِ الشَّجَرَةِ»(3).

ص: 218


1- سورة التوبة، الآية: 25.
2- الإرشاد 1: 142.
3- المزار الكبير: 274.

فأخذ العباس ينادي فيهم، فاجتمع المسلمون مرة أخرى وتمكن النبي(صلی الله علیه و آله) من لمِّهم والانتصار بهم على المشركين، والقصة مفصلة(1).

إن «نادِ في القوم» تعتبر مسألة مهمة. فليس من الصحيح أن يقول الشخص: أنا لا أقدر على أي شيء، فيترك العمل، ربما يمكن أن يساهم بصوته، كما أن العباس(علیه السلام) أخذ ينصر النبي(صلی الله علیه و آله) بصوته.

إذن، الدنيا دار عمل ولكل عمل أثر، فللصوت، للكلام، للكتابة، للدعاء، للبكاء، ولكل شيء أثر.

ومن هنا تكون المسؤولية الملقاة على عواتقنا كبيرة.وخاصة بالنسبة إلى واجباتنا تجاه أئمة أهل البيت(علیهم السلام) ومنهم مولانا الإمام موسى بن جعفر(علیهما السلام). وهذا الظلم الكبير الذي وقع على أهل البيت(علیهم السلام) كان من أهم أسبابه تخاذل الناس وعدم تحملهم وأدائهم للمسؤولية. واليوم يلزم على كل واحد منا أن يساهم في نشر علوم أهل البيت(علیهم السلام) في العالم.

العراق وحكومة الأكثرية

ما ذكرناه كان كالمقدمة للبحث.

والحديث حول العراق ودور الشيعة فيه.

إن الأكثرية من سكان العراق هم الشيعة، وقد قال مدير عام نفوس العراق قبل خمس وعشرين سنة: إن (80%) من سكان العراق هم الشيعة، وأن (15%) سنة، وأن (5%) ما بين يهودي ومسيحي وصابئي وعلي اللّهي ويزيدي وغيرهم.

ولكن الشيعة ليس بيدهم أي شيء، بل هم المظلومون المستضعفون في العراق، والحكم الدكتاتوري الطائفي يفعل فيهم ما يشاء من التهجير والتشريد

ص: 219


1- انظر تفسير القمي 1: 285؛ والإرشاد 1: 142.

والسجن ومصادرة الأموالوالقتل...

ومن أسباب ذلك أن الشيعة لم يعملوا.

أما السنة فقبل سبعين سنة تعلموا كيف يترأسون على الناس، عندها طبّعوا البلد كله بطابع السنة.

والآن كما هو المشهور بين الساسة بأن صدام وجماعته قد آلوا على الزوال، وأن نفس الغربيين الذين جاءوا بهم يريدون تغييرهم.

وعلينا أن نعمل بكل طاقاتنا لإرجاع حقوق الشيعة في العراق، فيلزم أن تكون الإذاعة إذاعة شيعية، والأذان أذاناً شيعياً، والتلفزيون تلفزيوناً شيعياً، والمحافظون محافظين شيعة، والكتب المدرسية كتباً شيعية، والمدراء العامون شيعة، وهكذا في كل مجالات الحياة السياسية وغيرها، وهذا معناه أن يكون العراق شيعياً، وذلك لأنه الحق الطبيعي للأكثرية التي تشكل (80%) من السكان.فإن قال البعض: بأن الشيعة أقل من ذلك.

نقول، لو سلمنا بأنهم (70%) من الشعب العراقي، فأيضاً هم الأكثرية ويلزم أن تكون الحكومة شيعية، حسب قانون الإسلام، وقانون الدول المسماة بالديمقراطية.

فإن الدنيا والقوانين الديمقراطية تقر بأن الرأي هو رأي الأكثرية، فإذا ما حصل خلاف في مجلس الشورى فيعمل بما تقول به الأكثرية، فالقاعدة هذه وقوانين الدنيا كذلك. وبما أن أكثرية العراق هم الشيعة فيلزم أن تكون حكومة العراق حكومة شيعية.

مسؤولية الجميع

فالكل يمكن أن يساهم في إحقاق حقوق الشيعة في العراق، أقل شيء هو صوتك ونطقك وكلامك، فإن العراق عندما يكون بأيدي السنة فإنه يعني تضييع

ص: 220

حقوق الشيعة الأكثيرة، وخاصة مع الأسلوب الاستبدادي الطائفي الذي يواجهون به الشعب الشيعي المسلم.فلا يقولن أحدكم: إنني الآن خرجت من العراق وسكنت في قم أو في بلدة أخرى من البلاد الإسلامة وغيرها ولا أريد العودة إلى وطني. فهذا لا يكون عذراً، فإن الذي يقبع الآن في قعر السجون أما ابن عمك أو ابن عمي، والآن يوجد مائتان وخمسون عالماً بارزاً من علماء العراق في سجون صدام.

لماذا تُحرم الأكثرية من حقوقها، ومن المسلّم الذي يعترف به الجميع أن أكثرية العراق هم الشيعة، ونحن لدينا الأرقام الواضحة الدالة على ذلك، فإن أكثر مدن العراق يقطنها الشيعة. فالنجف الأشرف سكانها شيعة، وكربلاء المقدسة سكانها شيعة، والحلة سكانها شيعة، والبصرة سكانها شيعة، والعمارة سكانها شيعة، وهكذا أغلب سكان المدن هم الشيعة، وحتى أن سكان بغداد أكثرهم شيعة، أي أكثر من (80%) منهم.

مزارات السنة في بغداد

في بغداد يوجد مزاران للسنة:

الأول: مزار إمامهم الأعظم أبي حنيفة وهو عبارة عن مدرسةملتصقة بقبر أبي حنيفة.

الثاني: مزار الشيخ عبد القادر الجيلاني وهو رئيس المتصوفين، ويسمونه ب-(شال اللّه)، وقد كتبوا على قبره شعراً قرأته بنفسي، بأن والده من نسل الإمام الحسن(علیه السلام)، ووالدته من نسل الإمام الحسين(علیه السلام)، وأنه صحيح النسبين!

أما وجه تسميته ب-(شال اللّه)، فإنهم يقولون: بأن عبد القادر كان يمشي في أحد الأيام على النهر فرأى اللّه - والعياذ باللّه - قد سقط في النهر ولم يتمكن من الخروج، فمد عبد القادر يده وأخرج اللّه من النهر، ولهذا يقال له: شال اللّه.

ص: 221

عقيدة التجسيم عند السنة

ويأتي إعتقاد السنة بمثل هذا الكلام؛ لأنهم يعتقدون بالتجسيم، يعني أن السنة يعتقدون بأن اللّه جسم، له يد ورجل و... كما أن النصارى أيضاً يعتقدون بمثل هذا. فقد جاء في كتبهم المقدسة - كما قرأته بنفسي - بأن نبي اللّه يعقوب(علیه السلام) كان في خيمته فقصده شخص، فقال له: أ تصارعني؟ فقال: نعم. فتصارعا إلىالصباح فلم يتمكن يعقوب من إلقائه أرضاً ولا هو تمكن من إلقاء يعقوب أرضاً. وعند طلوع الفجر قال ذلك الشخص ليعقوب: دعني، فأنا أريد أن أذهب لإدارة السماوات والأرض. فقال له يعقوب: ومن أنت؟ قال: أنا اللّه. فتعلق به يعقوب وقال له: لن أدعك حتى تجعلني نبياً. فأعطاه النبوة(1)!

وسنذكر بعض الشواهد مما يدل على اعتقاد السنة بالتجسيم:

قال النووي في شرح مسلم(2): (باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة لربهم... إن مذهب أهل السنة أن رؤية اللّه ممكنة... وزعمت طائفة من أهل البدع المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة أن اللّه تعالى لا يراه أحد من خلقه، وأن رؤيته مستحيلة عقلاً).

وقال الشاطبي في الإعتصام(3): (ومنها ردهم للأحاديث التيجرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم... كالمنكرين لعذاب القبر والصراط والميزان ورؤية اللّه عزّ وجلّ في الآخرة، وكذلك حديث الذباب وقتله، وأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء!).

ص: 222


1- انظر العهد القديم والجديد 1: 54 سفر التكوين الإصحاح: 32، الآيات: 22-30، مجمع الكنائس الشرقية، الطبعة الثانية، بيروت - لبنان.
2- شرح صحيح مسلم 3: 15.
3- الإعتصام 1: 168.

وحكى الذهبي في سيره(1) قال: (من لم يقر بأن اللّه تعالى يعجب ويضحك وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، فيقول: من يسألني فأعطيه، فهو زنديق كافر، يستتاب فإن تاب وإلّا ضربت عنقه!، ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين! قلت: لا يكفر إلّا إن علم أن الرسول(صلی الله علیه و آله) قاله، فإن جحد بعد ذلك فهذا معاند، نسأل اللّه الهدى، وإن اعترف أن هذا حق ولكن قال: أخوض في معانيه فقد أحسن، وإن آمن وأول ذلك كله أو تأول بعضه، فهو طريقة معروفة).وقال الذهبي في سيره(2): (قال حفص بن عبد اللّه: سمعت إبراهيم بن طهمان يقول: واللّه الذي لا إله إلّا هو لقد رأى محمد ربه... وقال أبوحاتم: شيخان بخراسان مرجئان: أبوحمزة السكري وإبراهيم بن طهمان وهما ثقتان. وقال أبو زرعة: كنت عند أحمد بن حنبل فذكر إبراهيم بن طهمان وكان متكئاً من علة فجلس وقال: لا ينبغي أن يذكر الصالحون فيتكأ. وقال أحمد: كان مرجئاً شديداً على الجهمية).

وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ(3): (وقال أحمد بن سلمة: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: جمعني وهذا المبتدع ابن أبي صالح مجلس الأمير عبد اللّه بن طاهر فسألني الأمير عن أخبار النزول فسردتها، فقال ابن أبي صالح: كفرت برب ينزل من سماء إلى سماء! فقلت: آمنت برب يفعل ما يشاء. هذه حكاية صحيحة رواها البيهقي في الأسماء والصفات. قال البخاري: مات ليلة نصف شعبان سنة ثمانوثلاثين ومائتين وله سبع وسبعون سنة).

وقال الدميري في حياة الحيوان(4): (واختلف في جواز الرؤية فأكثر المبتدعة

ص: 223


1- سير أعلام النبلاء 14: 396.
2- سير أعلام النبلاء 7: 381.
3- تذكرة الحفاظ 2: 435.
4- حياة الحيوان 2: 206.

على إنكار جوازها في الدنيا والآخرة، وأكثر أهل السنة والسلف على جوازها فيهما ووقوعها في الآخرة).

إلى غيرها مما هو مذكور في كتب الكلام.

بغداد مدينة الشيعة

إن بغداد هي مدينة الشيعة، والشيعة هم سكانها، ونحن على علم بمناطق بغداد كافة، فواحدة منها هي (الثورة)(1) جميع سكانها شيعة، ومنطقة أخرى تدعى (الشُعلة) جميع سكانها شيعة، ومنطقة أخرى تدعى (قناة الجيش) جميع سكانها شيعة، ومنطقة أخرى تدعى (بغداد الجديدة) جميع سكانها شيعة، ومنطقة أخرى تدعى (الكرادة الشرقية) جميع سكانها شيعة، إلى غيرها منالمناطق الكثيرة. ولكن بعض المناطق القليلة في بغداد سكانها سنة مثل منطقة (الأعظمية) مع العلم بأن الكثير من سكانها شيعة أيضاً.

مع ذلك فإن السنة الأقلية في العراق وهم (15%) فقط، تسلطوا على الأكثري، وأخذوا يديرون البلاد بالظلم والجور والاستبداد وأبشع أنواع الطائفية وصورها، فيقتلون ويعذبون ويطردون العالم والجاهل، والكبير والصغير، والرجل والمرأة.

التغيير المترقب

حسب ما يبدو أن هناك تغييراً سيحصل في العراق، فيلزم على الشيعة المطالبة الجادة بحقوقهم لأنهم الأكثرية، فإذا كانت الحكومة بيد الشيعة فمعنى ذلك حرية العتبات المقدسة، والحوزات العلمية، وحرية الزيارة، وحرية العلماء، وحرية صلة الأرحام، وحرية الشعائر الحسينية وما إلى ذلك.

أما إذا لم تصبح الحكومة بأيدي الشيعة فإن أل- (15%) من السنة هم الذين

ص: 224


1- وتسمى اليوم بمدينة الصدر بعد زوال النظام الصدامي البائد.

سيتسلطون مرة أخرى وتعاد المأساة من جديد.

إبعاد المراجع من العراق

إن حكومة الأقلية وهضمها لحقوق الشيعة في العراق لم تكن في زمن صدام فقط، نعم الضغوط كانت في زمنه أشد، وإلّا فإن أول حكومة السنة عندما تشكلت في العراق قبل سبعين عاماً كانت حكومة فيصل(1)، وأول عمل قامت به هو إبعاد مراجع الشيعة إلى إيران، وكان منهم السيد أبو الحسن، والميرزا النائيني، والسيد عبد الحسين حجت، والسيد علي الطباطبائي (رضوان اللّه عليهم).

وقد استأجر الشيخ عبد الكريم اليزدي(رحمة الله)، نفس المنزل الذي نزل فيه السيد البروجردي(رحمة الله) في ما بعد، فجاء مراجع التقليد من العراق وسكنوا هذا البيت.

فالضغوط على الشيعة وحوزاتها العلمية ومراجعها بدأت من أول حكومة للأقلية في العراق إلى أن وصل الأمر إلى صدام.

لا تنخدعواربما يقولون: نحن إخوة ولا فرق بين الشيعي والسني، وذلك في محاولة منهم لإعطاء الحكم إلى الأقلية من جديد.

ولكن علينا أن لا ننخدع بذلك، نعم نحن لا ندعو إلى النزاع والطائفية، ولكن الأخوّة لا تعني أن الأخ يهضم حق أخيه، وخاصة ما يرتبط بحق الأكثرية.

العراق يلزم أن تحكمه الأكثرية الشيعية، وفي نفس الوقت نحن لا نقول بتضييع أي حق من حقوق الأقلية السنية، فالعراق فيه بعض المدن الصغيرة السنية كتكريت وغيرها - مع وجود الشيعة فيها أيضاً بنسبة ملحوظة - فليكن المحافظ ومن أشبه في هذه المدن سنياً. وهكذا بالنسبة إلى سائر أمور هذه

ص: 225


1- أبو غازي، فيصل بن الحسين بن علي الحسني الهاشمي، ملك العراق.

المدن، كالتعليم والتربية والقضاء وغيرها.

وقد ذهبت أنا شخصياً إلى تكريت، وذلك عندما أبعدوا إليها أحد أصدقائنا قبل ثلاثين عاماً فذهبت لزيارته هناك، يومها لم تكن تكريت سوى قرية صغيرة، كما لم تكن شوارعهامبلطة، ولم تصلها خدمات الماء ولا الكهرباء، كما لم تعرف خدمة الهاتف مطلقاً، وكانت أزقتها ترابية. حتى عندما ذهبت إلى هناك في منزل صديقنا، وبالرغم من نزوله في بيت شخص قد أبعد أيضاً فقد جاءوا لنا بمدفأة نفطية مما يظهر فقرهم وفاقتهم المادية.

وهكذا يكون حال سائر القرى والمدن السنية: هيت، عانة، كبيسة، جبة.

فالمعيار «لَا تَظلِمُونَ وَلَا تُظلَمُونَ»(1) كما في الآية الكريمة.

رعاية حقوق الأقلية

إن السنة في العراق هم الأقلية، ولكن إذا كانت الحكومة بأيدي الشيعة الأكثرية فهذا لا يعني أن تُهضم حق السنة، بل يُضمن لهم كامل حقوقهم، فترسل إلى تكريت وهيت وعانة وما أشبه محافظ وقائم مقام من السنة، وكذلك بالنسبة إلى قضاتهم وكتبهم المدرسية، وإذاعتهم وكلامهم وحرياتهم فلا مانع لدينا منذلك. فإنا لا نريد أن نهضم حقهم.

فيلزم أن يراعى حق الأكثرية، وهذا هو قانون الإسلام، وقانون الديمقراطية اليوم، حيث تعطي الحق للأكثرية في تشكيل الحكومة.

يبقى الكلام في مسؤولية كل واحد منا تجاه هذه المسألة وهي ضرورة حكومة الأكثرية في العراق.

فما هو دورنا في هذا المجال؟

ص: 226


1- سورة البقرة، الآية: 279.

فعلى كل واحد أن يعمل بقدر طاقته، حتى من لا يقدر إلّا على الكلام؛ عليه أن يؤدي دوره بالكلام، فإن قول رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لعمه العباس: «نادِ في القوم وذكرهم العهد»(1) يدل على ضرورة الاستفادة حتى من الصوت والكلام.

فلو أن شيعة بغداد في زمان الإمام موسى بن جعفر(علیهما السلام) قاموا بواجبهم في الدفاع عن الإمام(علیه السلام)، وقاموا بتظاهرات وضغوط علىالحكومة الظالمة، لم يتمكن هارون من حبس الإمام موسى بن جعفر(علیهما السلام)، وإذا ما حبسه فكان يطلق سراحه من السجن بسرعة، ولكن أحداً لم يتكلم أبداً.

محاربة الحجاب في إيران

إن للكلام أثراً بالغاً في المجتمع، سواء كان حقاً أم باطلاً.

أحد شعراء إيران ويدعى إيرج ميرزا(2) كان بذيء اللسان فاحشاً، له شعر في ترويج السفور والاختلاط وعدم الحجاب، يقول ما معناه:

علينا أن نحث الناس على عدم الحجاب، فنطرح هنا وهناك فكرة السفور، وشيئاً فشيئاً يسري هذا الكلام في الناس، وبذلك ينكشف وجوه الفتيات(3).وكان هذا قبل زمان البهلوي(4).

فعندما يطرح في المجتمع فكرة السفور، ترى المؤمنين يحاربونها ويخالفونها، أما الفساق فيرحبون بها، ثم البعض يخالف والبعض يؤيد، فتتهيأ الأرضية لتلك الفكرة.

ص: 227


1- الإرشاد 1: 142.
2- جلال الممالك ابن غلام حسين المولود بتبريز في شهر رمضان 1291ه، والمتوفى بطهران في شهر شعبان 1344ه .
3- وأصل الشعر بالفارسية: كم كم اين زمزمه آغاز شود *** بهمين زمزمه روی زنان باز شود
4- رضا خان المعروف بالبهلوي الأول.

نعم، إن للكلام والشعار والكلمة تأثيراً كبيراً في المجتمع. سواء أريد بها الحق أم الباطل. ومن هنا نرى تأثير الدعايات البالغ في المجتمع.

أهمية القلم والبيان

إن للكلمة والكلام أهمية خاصة، وكذلك الكتابة، وهذا ما يؤكد عليه القرآن الكريم وسائر الكتب السماوية أيضاً.

لقد طالعت الكتب الموجودة الآن والتي يدعى بأنها سماوية، وهي التوراة والإنجيل - وقد أصبحت محرّفة، وبقي القرآن فقط كما أنزله اللّه تعالى من غير تغيير ولا زيادة ولا نقصان وسيبقىكذلك إلى يوم القيامة - كما قرأت كتاب كونفوشيوس(1) والذي كان حكيماً ويبلغ عدد أتباعه خمسمائة مليون شخص في العالم.

وكذلك طالعت كتاب بوذا، فالبوذيون لديهم كتاب. وكل هذه الكتب تؤكد على أهمية القلم والبيان بشكل أو آخر.

طبعاً لا يكون التأكيد فيها بمثل ما ورد في قرآننا، حيث يحتوي على سورة باسم (القلم) قال تعالى: «بِسمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ * نٓۚ وَٱلقَلَمِ وَمَا يَسطُرُونَ»(2)، وهناك سورة أخرى تؤكد على القراءة والكلمة والكلام، حيث قال تعالىفي سورة العلق: «ٱقرَأ بِٱسمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ»(3) وهي أول آية نزلت بعد «بِسمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحمَٰنِ

ص: 228


1- وهو عبارة عن مجموعة من الأخلاقيات أكدت على المحبة واللياقة والفضيلة والطاعة البنوية والولاء العائلي ونادت بالعدالة والسلام العالمي، تكلم بها كونفوشيوس إلى أتباعه، والتي أصبحت في ما ديناً وفلسفة ونهج حياة عرفت بالكونفوشيوسية، والتي ظلت ألفي عام مصدر هداية ومعرفة للشعب الصيني، وأساس البنية الاجتماعية والتربوية والإدارية التي ميزته عبر العصور. وقد تركت الكونفوشيوسية أثرها العميق في ثقافة الطاويين والبوذيين والمسيحيين الصينيين.
2- سورة القلم، الآية: 1.
3- سورة العلق، الآية: 1.

ٱلرَّحِيمِ» على القول المشهور، و«ٱقرَأ» يعني الكلام.

وقال سبحانه في موضع آخر من القرآن الكريم: «كَلِمَة طَيِّبَة كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ»(1)، «وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٖ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ»(2).

وهكذا نجد في التوراة عبارة: (في البدء كانت الكلمة)(3)، يعني أن الكلام كان قبل كل شيء.

الكلمة مسؤولية الجميع

الكلمة هي أول ما يطلقها الشخص الذي يريد الخير كالذي يريد أن يبني مسجداً. كما أن الكلمة هي أول ما يطلقها الشخصالذي يريد الشر كمن يريد أن ينشر الخمور.

ومن هنا يلزم على كل واحد منا أن يساهم - على أقل التقادير - بكلمته، حيث يؤكد دائماً وفي كل مكان، على ضرورة أن تكون الحكومة المستقبلية في العراق بيد الشيعة الأكثرية.

فلا يشترط أن يكون الإنسان ذا قوة أو مكانة أو مال أو جيش، بل الكل مسؤول عن الكلمة الحسنة. فعلينا جميعاً أن ننطق بكلمة وكلمة، فهي سهلة يسيرة وخفيفة على اللسان، من على المنبر أو تحت المنبر وفي وسط المجتمع وفي البيت وفي السوق ولكل أحد.

ربما يقول أحدهم: ما فائدة الكلمة وماذا يترتب عليها؟

فنقول: إننا نشاهد جموع السيول تتشكل من القطرات، قطرة واثنتين وثلاث وأربع وخمس قطرات وهكذا... حتى يجتمع السيل. فأنا أتكلم بألف كلمة حول

ص: 229


1- سورة إبراهيم، الآية: 24.
2- سورة إبراهيم، الآية: 26.
3- العهد القديم والجديد 2: 145 إنجيل يوحنا، الإصحاح: 1، الآية: 1، مجمع الكنائس الشرقية، بيروت - لبنان.

هذا الموضوع مثلاً، وأنت تتكلم بمئات الكلمات، والثالث بألف وخمسمائة كلمة،والرابع بثلاثة آلاف كلمة، وهكذا يتشكل السيل.

نعم، يلزم على الجميع وخاصة العراقيين أن يطالبوا دائماً بتشكيل الحكومة الشيعية في العراق لأنهم الأكثرية.

إدارة الأقلية إدارة ظالمة

إن العراق بلد الشيعة، وفيه كبار علماء التشيع وكبرى الحوزات العلمية، مضافاً إلى تلك الأضرحة الشريفة للأئمة الطاهرين(علیهم السلام). والناس موالون لأهل البيت(علیهم السلام) حيث كانت تقام في مختلف أرجاء العراق أكبر مجالس العزاء واللطم وكذلك الاحتفالات الدينية العطرة، ولكن بعض الأقلية سيطروا على البلاد وعلى الشعب المؤمن بالقوة والسلاح، وعرفوا كيف يديرون الناس بالكبت والإرهاب، تلك الإدارة الظالمة، ويا ليتهم كانوا يكتفون بإدارة البلاد ونهب ثرواتها، ولكنهم يضربون ويسجنون ويقتلون ويبعدون ويصادرون الأموال ويسحقون الأمة بأجمعها.

وكل هذا الظلم الذي يسمع ويرى لم يكن صدام البادئ به أولاً، بل البادئ الأول هو فيصل قبل سبعين عاماً. وهذه المصائبكلها نتيجة حكم الأقلية وإبعاد الشيعة عن الحكم، فكان أول عمل قام فيصل به هو الضغط على الحوزات العلمية وإبعاد الفقهاء والمراجع، وهكذا في الحكومات التي تلتها، وأنا أتذكر كيف كانت تتعامل مختلف الحكومات في العراق مع الشيعة حيث الظلم والاستبداد والكبت والجور.

نعش الإمام الكاظم(علیه السلام)

يوجد مكان في بغداد يدعى (المنطقة) إن شاء اللّه عند ما يزول صدام ستذهبون إلى العراق وتشاهدونها، وقد ذهبت إليها شخصياً. وكان يوم ذكرى شهادة الإمام موسى بن جعفر(علیهما السلام)، حيث يجتمع من الشيعة مليونان إلى ثلاثة

ص: 230

ملايين، فيأتون مشياً على الأقدام من (المنطقة) في بغداد إلى الكاظمية المقدسة وربما تكون المسافة بينهما أكثر من فرسخ، وهم يحملون النعش الرمزي للإمام موسى بن جعفر(علیهما السلام) بكل إجلال واحترام، ولم أر مراسم مثلها تقام إلّا في كربلاء وأيام عاشوراء.

وهذا نوع وفاء للإمام(علیه السلام) حيث لم يأت آنذاك من يشيّع جثمانالإمام فحمله أربعة حمالين!

فلماذا لم يهتم الناس بأمر الإمام(علیه السلام) في ذلك الوقت ولم يفعلوا شيئاً، «تِلكَ أُمَّة قَد خَلَتۖ» أي مضت، «لَهَا مَا كَسَبَت»(1). ولكن ما هي مسؤوليتنا اليوم حيث يقول تعالى: «وَلَكُم مَّا كَسَبتُمۖ»(2).

لا رأي لمن لا يطاع

يقول أمير المؤمنين(علیه السلام): «لا رأي لمن لا يطاع»(3).

إن العراق تحرر من الاستعمار البريطاني في ثورة العشرين الشهيرة، وكان التحرير بقيادة المرجع الكبير الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمة الله)، وهو خال والدنا(رحمة الله)، وقد نقل لنا الوالد(رحمة الله) الكثير من قصصه، فقد كان الوالد من تلامذته.فالشيخ الشيرازي(رحمة الله) هو الذي أنقذ العراق من أيدي الإنجليز، في حرب دموية راح ضحيتها ثمانون ألف قتيل من الجيش الإنجليزي ومائتا ألف شهيد من العراقيين، وكانت العشائر العراقية تأتمر بأمر المراجع والعلماء، فتمكنوا من تحرير العراق.

ص: 231


1- سورة البقرة، الآية: 134.
2- سورة البقرة، الآية: 134.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 27 ومن خطبة له(علیه السلام) وقد قالها يستنهض بها الناس حين ورد خبر غزو الأنبار بجيش معاوية فلم ينهضوا.

وبعد التحرير ومن أجل تشكيل الحكومة فقد اجتمع الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمة الله) بالوجهاء ورؤساء العشائر وقال: الآن وقد تمكنا من تحرير العراق، فأنا لا أريد أن أكون حاكماً عليكم، بل أنا عالم أدعمكم وأحميكم، فانتخبوا واحداً منكم ليكون ملكاً على العراق.

فقالوا: لا نقبل بأن يتأمر علينا أحدنا، وكيف يتأمر رئيس عشيرة على عشيرة أخرى، فالعراق بلد عشائري.

فقال: إذن اجعلوا الحكم دورياً والملكية دورية، يعني يحكم أحدكم سنتين والآخر سنتين... وهكذا.

قالوا: نفس النتيجة فكيف يحكمنا منافسنا... لا نفعل ذلك.قال: إذن القرعة فهي لكل أمر مشكل، وهو حل عقلي وشرعي، فلنقترع ونجعل واحداً منكم ملكاً؟

قالوا: نفس النتيجة وهي أن تظهر القرعة باسم فلان، ومعناها أن يصبح فلان حاكماً علينا.

قال: إذن شكلوا حكومة جماعية وقيادة مشتركة - وهذا كلام قاله الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمة الله) قبل سبعين سنة لرؤساء العراق - فكم هو عددكم ولنفرض خمسين نفراً، فشكلوا مجلساً رئاسياً، وما تقرره الأكثرية يجرى في العراق.

قالوا: لا نرضى بذلك، كيف نجتمع وكيف وكيف؟

قال: إذن هناك حل آخر - فقد كان يوجد شخصية مرموقة في العراق آنذاك اسمه (فرمانفرما)، وكان من وجهاء الشيعة وكان رجلاً كبيراً ومحترماً وصاحب ثروة وأملاك كثيرة في بغداد وأملاكه موجودة إلى الآن - قال الشيخ: اجعلوه رئيساً عليكم.

ص: 232

قالوا: لا نفعل ذلك؛ لأنه ليس من عنصرنا، وأصله منإيران.

قال الشيخ: الآن إذ لم تقبلوا أي رأي من هذه المقترحات، فاذهبوا واعملوا ما شئتم، وكما يقول أمير المؤمنين(علیه السلام): «لا رأي لمن لا يُطاع».

وبعد ذلك حكمت الأقلية السنية في العراق وجرى ما جرى من الظلم على شيعة أهل البيت(علیهم السلام) إلى يومنا هذا.

نعم إن «حب الدنيا رأس كل خطيئة»(1)، فعند ما يترك الناس نصيحة القادة الأتقياء الحكماء فلا تكون النتيجة إلّا الخسارة في الدنيا والآخرة.

وفي تاريخ النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله) نرى عندما لم يعملوا بما أمر(صلی الله علیه و آله) به أصحابه في غزوة أحد حيث قال لهم: «ابقوا هنا قَتَلنا أو قُتِلنا، غَنَمنا أو غُنِمنا»(2)، لكنهم لم يبقوا وجاءوا لجمع الغنائم والقصة مشهورة.عند ذلك قُتِل سبعون مسلماً من خيرة المسلمين وعلى رأسهم سيد الشهداء حمزة(علیه السلام).

وهكذا كان الأمر بالنسبة إلى العراق بعد ثورة العشرين، حيث لم يسمعوا كلام القائد، وأخذوا يتنازعون في ما بينهم، حتى جاءوا بسني حكمهم، وأصبح من يومذاك الطائفية والظلم والاستبداد والجور والإرهاب مخيماً على العراقيين.

وإلّا فالعراق أكثره شيعة، وأكثر مدنه شيعية، وحوزاته العلمية حوزات شيعية، وعشائره عشائر الشيعة، ومثقفوه - أي: الجامعيون والأساتذة والمهندسون - أكثرهم من الشيعة، و(99%) من الجيش العراقي من الشيعة، وأعظم التجارة بأيدي الشيعة، ولكن أربعة تعلموا كيف يديرون هؤلاء فسيطروا عليهم وفعلوا بهم ما فعلوا من الظلم والاستبداد، والسر في ذلك أن الشيعة لم يتبعوا قائدهم بعد

ص: 233


1- الكافي 2: 131.
2- انظر تفسير القمي 1: 111-112، حيث قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «إن رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكة فلا تخرجوا من هذا المكان، وإن رأيتموهم قد هزمونا حتى أدخلونا المدينة فلا تبرحوا والزموا مراكزكم».

ثورة العشرين فابتلوا إلى هذااليوم.

كيف نساهم في تشكيل حكومة الأكثرية؟

نحن يمكننا المساهمة في أن يكون حكم العراق بأيدي الشيعة بعد زوال صدام إن شاء اللّه، وأقل ذلك بالكلمة والكلام.

يقول اللّه تعالى في القرآن: «وَإِذ قَالَت أُمَّة مِّنهُم لِمَ تَعِظُونَ قَومًا ٱللَّهُ مُهلِكُهُم أَو مُعَذِّبُهُم عَذَابا شَدِيداۖ قَالُواْ مَعذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُم»(1).

فعلى كل إنسان أن يقول، حتى لو تصور بأنه لا فائدة في ذلك، فإن أقل التقادير تكون له المعذرة إلى اللّه عزّ وجلّ، فيوم القيامة نقول: إلهنا نحن قلنا، أنا قلت، وأنت قلت، وهو قال، وهي قالت، وهكذا الآخرون قالوا، من على المنبر وتحت المنبر، وفي كل مكان ولكل أحد: بأنه يلزم أن تكون حكومة العراق بأيدي الشيعة.

لقد دعا نوح النبي(علیه السلام) الناس إلى اللّه تسعمائة وخمسين عاماً فلم يؤثرفيهم، قال تعالى: «وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيل»(2)، قال المفسرون: القليل هو سبعة أشخاص فقط خلال تسعمائة وخمسين عاماً، وأكثر ما قيل في ذلك، قالوا: آمن به ثمانون شخصاً(3).

فإذا ما تحدّث كل واحد منا حول حكومة الأكثرية في العراق، وانتشر ذلك في المجتمع فإنه سوف يؤثر بشكل أو آخر إن شاء اللّه.

أسلوب التحريض

عمرو بن العاص كان حاكم مصر، فطرده عثمان فذهب إلى فلسطين واشتغل

ص: 234


1- سورة الأعراف، الآية: 164.
2- سورة هود، الآية: 40.
3- انظر تفسير مجمع البيان 5: 279.

بأموره الشخصية وأصبح فرداً عادياً هناك.

وفي أحد الأيام جاء إلى عمرو بن العاص ابنه عبد اللّه، فقال له: أما علمت الخبر؟ قال: كلا، فما الذي حدث؟ قال: قتلوا عثمان. فقال عمرو بن العاص لابنه: قد كنت أُحرض عليه حتى الراعي فيالصحراء(1).

أي إنه كان من الذين ساهم في قتل عثمان بتحريضه، فقال: كل من كنت أراه سواء كان رجلاً أم امرأة، طفلاً أم شيخاً، عالماً أم جاهلاً، كنت أتكلم معه ضد عثمان، لقد كنت أحرض عليه حتى الراعي في الصحراء.

فإن أسلوب الكلمة والكلمة تؤثر، سواء في الحق أم الباطل.

ونحن بحمد اللّه نملك القلم ولنا القدرة على البيان، فعلينا أن نؤكد في كل مكان ولكل شخص على ضرورة أن يكون الحكم في العراق بيد الشيعة لأنهم الأكثرية.

الكلمة المؤثرة

ورد أن الإمام موسى الكاظم(علیه السلام) في يوم من الأيام كان يمرّ علىدار بشر(2) في بغداد، فسمع أصوات الغناء والطرب تخرج من تلك الدار، فخرجت جارية وبيدها قمامة البيت فرمت بها في جانب الدرب، فقال(علیه السلام) لها: يا جارية صاحب هذا الدار حرّ أم عبد؟

فقالت: بل حرّ.

فقال(علیه السلام): صدقتِ، لو كان عبداً لخاف من مولاه.

فلما دخلت قال مولاها وهو على مائدة السكر: ما أبطأكِ علينا؟

فقالت: حدثني رجل بكذا.

ص: 235


1- انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 144.
2- أبو نصر المروزي، بشر بن الحارث بن عبدالرحمن بن عطاء البغدادي المشهور بالحافي.

فأثر كلام الإمام(علیه السلام) في بشر وغيره تغييراً جوهرياً. فخرج بشر حافياً حتى لقي مولانا الكاظم(علیه السلام) فتاب على يديه(1).

فنرى كيف تؤثر كلمة واحدة وتغير من واقع الشخص وتهديه من الضلال إلى الهدى.

دور اللسان وأهميتهفي أحد الأيام دخل على معاوية واحد من شيعة أمير المؤمنين(علیه السلام) وكان سيداً في عشيرته، فشتمه معاوية، فخرج مغضباً من الباب وقال شعراً:

أيشتمني معاوية بن حرب*** وسيفي صارم ومعي لساني

وحولي من ذوي يمن ليوث*** ضراغمة تهش إلى الطعان

فخشي معاوية من لسانه، فاستدعاه وأرضاه، حيث دفع له مالاً كبيراً حتى رضي(2).

نعم، إن اللسان مهم جداً، وأنتم أصحاب لسان وقلم، فعليكم بشحذ الهمة أينما ذهبتم وأينما جلستم، حتى في محل الحلاقة، حيث يمكن للإنسان أن يقول للحلاق: ما هو الوضع في العراق؟ فيقول: لقد بقي هذا اللعين صدام. فيقول له: سيُزال بإذن اللّه تعالى، ولكنيلزم أن يكون مستقبل العراق بأيدي الشيعة وإلّا إذا جاء شخص آخر بعد صدام أسمه هدام مثلاً سيعيد البلاء مرة أخرى على رؤوس الشيعة.

الناس على دين ملوكهم

كان في النجف الأشرف أحد كبار المراجع وهو المرحوم السيد عبد الأعلى السبزواري(رحمة الله) وهو من أقاربنا، وقد كان محسناً بغض النظر عن علمه وتقواه،

ص: 236


1- منهاج الكرامة: 59.
2- انظر المستطرف 1: 109، الغدير 10: 171.

وكانت تربطنا به صداقة منذ خمسين سنة في العراق.

كان هذا السيد الجليل من الذين يساعدون الفقراء ويهتم بالجيران ويحسن إليهم، وكان يعيش عيشة الزهاد، لقد كان رجلاً واقعياً.

عندما أخرج الطغاة جمعاً كبيراً من شيعة العراق بحجة أنهم من أصول إيرانية، كان بعض جيران السيد يسألون أهله: متى يخرجونكم حتى نأخذ منزلكم؟

لماذا أصبح الأمر هكذا؛ لأن الناس على دين ملوكهم كما فيالروايات(1). وقد قال أمير المؤمنين(علیه السلام): «إذا تغير السلطان تغير الزمان»(2).

وفي الختام

إن شاء اللّه سيزول صدام، ولكن من الضروري أن تكون الحكومة بعده بأيدي الشيعة لأنهم الأكثرية، وعلى كل واحد منا مسؤولية بيان ذلك، فالكل يؤكد على ضرورة هذا الأمر بكل ما يمكنه حتى بكلمة واحدة، من على المنبر وتحت المنبر، وفي التجمعات، وعلى انفراد، سواء كان فيه فائدة أم لا، يلزم التأكيد على ضرورة أن تكون حكومة العراق بأيدي الشيعة، يعني أن يكون رئيس الجمهورية من الشيعة، والوزراء من الشيعة، وقادة الجيش من الشيعة، والدوائر من الشيعة، والإعلام بيد الشيعة وهكذا في كل الأمور، وهذا لايعنى عدم إعطاء الأقلية حقها، بل يضمن لهم كافة حقوقهم.

إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً.

ص: 237


1- انظر كشف الغمة 2: 21.
2- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31 ومن وصية له(علیه السلام) للحسن بن علي(علیهما السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.

في مولد الإمام الحجة

ضرورة معرفة الإمام(علیه السلام)

اشارة

قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهلية»(1).

هذه الرواية الشريفة رواها أيضاً أبناء العامة عن النبي(صلی الله علیه و آله)(2)، يعني أن الرواية متفق عليها عند السنة والشيعة. فالذي يموت ولا يعرف إمام زمانه(علیه السلام) مات وكأنه في زمان الجاهلية وعلى هيئة الجاهليين، أي كأنه لم يكن مسلماً.

مفردات الحديث

(مِيتة) بالكسر: للحال والهيئة، أي مات على هيئة الجاهليين، وهناك فرق في لغة العرب بين (مَيتة) و(مِيتة). ف (مَيتة) بالفتح للذات، وتعني: الشاة الميتة أو الإنسان الميت. أما (مِيتة) بالكسر فتعني كيفية الموت. و«مات مِيتة جاهلية» يعني مات كما كان يموت الناس في الجاهلية، أي: كأنه مات على غير دين الإسلام.

وفي مجمع البحرين:

ص: 238


1- مناقب آل أبي طالب(علیهم السلام) 1: 246.
2- مسند أحمد 4: 96 وفيه: (من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية). ومسند أبي يعلى 13: 366 وفيه: (من مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهلية). والمعجم الكبير للطبراني 19: 388 وفيه: (من مات بغير إمام مات ميتةً جاهلية) وغيرهم كثير.

و(الميتة) بالكسر للحال والهيئة، ومنه (مات ميتة حسنة).

و(مِيتة السوء) بفتح السين: هي الحالة التي يكون عليها الإنسان عند الموت، كالفقر المدقع والوصب الموجع والألم المغلق والأعلال التي تفضي به إلى كفران النعمة ونسيان الذكر، والأحوال التي تشغله عما له وعليه.

و(مات ميتة جاهلية): أي كموت أهل الجاهلية.

و(الميتة) بالفتح من الحيوان، وجمعها (ميتات)، وأصلها ميتةبالتشديد، قيل: والتزم التشديد في ميتة الأناسي، والتخفيف في غير الناس فرقاً بينهما.

و(الميتون) بالتشديد يختص بذكور العقلاء، والميتات لإناثهم، وبالتخفيف للحيوان، انتهى(1).

هذا بالنسبة إلى كلمة (ميتة).

المعرفة

أما قوله(صلی الله علیه و آله) في الحديث الشريف: «ولم يعرف» فلا تعني المعرفة المجردة فقط، بل معناها: المعرفة المستلزمة للولاء والطاعة؛ لأن الكفار أيضاً كانوا يعرفون النبي(صلی الله علیه و آله) حق المعرفة، ولكن معرفتهم لم تستلزم الولاء والطاعة له(صلی الله علیه و آله)، قال تعالى: «يَعرِفُونَهُۥ كَمَا يَعرِفُونَ أَبنَآءَهُمۖ»(2)، وفي آية أخرى: «وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱستَيقَنَتهَآ أَنفُسُهُم»(3).فأولئك الذين كانوا حول النبي(صلی الله علیه و آله)، وحول سائر الأنبياء(علیهم السلام)، وحول الأئمة المعصومين(علیهم السلام)، كانوا يعرفونهم... وربما أفضل من الآخرين؛ لأنهم رأوهم بأم أعينهم، ولكن المال والمنصب والتعصب الأعمى وتقليد الآباء والدنيا وزخارفها

ص: 239


1- مجمع البحرين 2: 224.
2- سورة البقرة، الآية: 146.
3- سورة النمل، الآية: 14.

والشهوات هي التي حالت بينهم وبين الاعتراف بولايتهم، وهذا بحث مفصل ليس هنا موضعه.

إذن فالمراد من: «لم يعرف» ليست معرفة إمام الزمان المجردة فقط، فالمتوكل العباسي كان يعرف إمام زمانه وربما أفضل منا، فنحن عرفنا الإمام(علیه السلام) بالسماع وهو عرفه بالرؤية، وكذلك المعتمد وسائر بني العباس، وكذلك بنو أمية ومن شابههم ممن جحدوا ولاية الأولياء الطاهرين المعصومين(علیهم السلام).

فالمعرفة تعني الطاعة، وتعني الولاء، ولهذا يطلق عليها (التولي) في مقابل (التبري) بالياء، أما ما اشتهر على بعض الألسن من قولهم (تولى) و(تبرى) بالألف فليس صحيحاً، بل الصحيح(تولي) و(تبري) بالكسر.

فلسفة الحديث

أما بالنسبة إلى فلسفة الحديث، أي لماذا أصبح «من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهلية»؟

فالإنسان الذي يصلي ويصوم ويحج ويدفع الحقوق الشرعية ولا يكذب ولا يفعل الموبقات، هو إنسان صالح من هذه النواحي، فكيف إذا لم يعرف إمام الزمان(علیه السلام) لا يقبل اللّه تعالى منه، ويقول له: لقد مت ميتة الجاهليين أي كما مات أبو لهب، وكما مات أبو جهل وكما مات سائر من في الجاهلية.

في الجواب نقول:

إن هناك أشباهاً لهذا الحديث في العديد من المسائل الشريعة المقدسة، وفيها بحث مفصل، بحيث ترى أمراً واحداً يكون هو الأساس وبدونه لا تقبل الأشياء، أو أن أمراً واحداً يكون بمثابة جميع الأمور، ونحن لا نريد هنا إلّا الإشارة إلى ناحية منها وإن كانتالموارد متعددة.

ص: 240

قتل الناس جميعاً

من تلك الموارد المشابهة قوله تعالى في الآية المباركة: «مَن قَتَلَ نَفسَۢا بِغَيرِ نَفسٍ أَو فَسَادٖ فِي ٱلأَرضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعا»(1)، حيث اعتبر الباري عزّ وجلّ قتل واحد من الناس كقتلهم جميعاً.

هذا في القتل المحرّم، أي في غير القصاص وفي غير الحدود الشرعية المقررة، فمرة يُقتل شخص قصاصاً، ومرة يُقتل بحكم الحاكم الشرعي الجامع للشرائط وفي الموارد المقررة، أما غير ذلك أي إذا كان «بِغَيرِ نَفسٍ أَو فَسَادٖ فِي ٱلأَرضِ» فقد جعله الشارع كقتل جميع الناس «فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعا» وهذه ليست مبالغة، بل بيان للحكم الواقعي والأثر الحقيقي لقتل الإنسان الواحد، فالقرآن لا يبالغ بل يبين الحقائق كما هي، فيكون معنى الآية: إن من قتل شخصاً واحداً ظلماً، فكأنما قتلجميع البشر منذ أن وجد آدم(علیه السلام) وإلى آخر يوم من وجود بنيه في الدنيا.

منكر الضروري كافر

ومن تلك الموارد المشابهة هي ما ذكره الفقهاء في الحكم بالكفر على منكر الضرورة الدينية، هذا إذا لم يكن إنكاره عن شبهة، فإن هناك شروطاً كثيرة للحكم بالكفر ذكرناها في الفقه(2).

فإن من حصلت لديه شبهة لا يحكم بكفره ولا يجوز قتله، بل يلزم البحث معه وفتح الحوار والنقاش الهادف لرفع الشبهة.

أما المعاند الذي ينكر ضرورياً من الضروريات فحكمه الكفر، حتى إذا كان يصلي ويصوم ويحج ويزكي إلى غيرها من الواجبات.

ص: 241


1- سورة المائدة، الآية: 32.
2- انظر موسوعة الفقه: كتاب الحدود والتعزيرات.

فمثلاً من يعلم بأن السواك مستحب أكد عليه رسولاللّه(صلی الله علیه و آله)، ثم أنكر ذلك لا عن شبهة، قال الفقهاء: يحكم بكفره حتى إذا كان ملتزماً بسائر الأمور من الصلاة والصيام وما أشبه.

فالمنكر لضروري واحد كمنكر الجميع وذلك لاستلزامه تكذيب الرسول(صلی الله علیه و آله) والعياذ باللّه، فحينئذ يكون عند اللّه في حكم أبي جهل وسائر المشركين من هذه الحيثية.

وهذه المسألة أي أن منكر الضرورة كافر، يكون من أمثال ما نحن فيه، حيث قال(صلی الله علیه و آله): «من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهلية».

فلا يقال: كيف يكون كالجاهليين، مع صلاته وصومه والتزامه بسائر تكاليفه.

إن فلسفة الأمر واضحة بعد التدقيق والإمعان، فالسر في كافة الموارد المذكورة ربما ترجع إلى أمر واحد ولكنها جاءت في صور مختلفة.

إن معرفة الإمام(علیه السلام) هو الاعتراف بالقيادة الشرعية، التي هيالأساس في كل العبادات، وللتقريب نقول: إن مثلها مثل مقود السيارة. فالسيارة التي تضم جميع أجزائها وبنحو حسن، ماذا سيحدث لها إذا لم تشتمل على المقود؟ إنها تصطدم بالجبل وتسقط في الوادي فتتلف ويهلك جميع من كان فيها، وحينئذ لافائدة في جميع تلك الأجزاء.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى معرفة الإمام(علیه السلام) وسائر التكاليف الشرعية.

ثم إن المراد بالقيادة والمعرفة: هو الانقياد والامتثال، والطاعة والإتباع. فالذي لا يعرف إمام زمانه يكون بحكم الجاهليين، كما قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله).

فإذا قال الإنسان: أنا لا أؤمن بالقيادة الشرعية، فهذا مثله مثل نصراني صالح في تصرفاته، فهل ينفعه ذلك؟ فالنصراني الذي يقوم بالأعمال الخيرية، ويعمل المبرات، ويواسي الأيتام، ويقوم بالآلاف من مثل هذه الأعمال الصالحة، ثم يقول:

ص: 242

أنا لا أؤمنبنبي الإسلام(صلی الله علیه و آله). هل تقبل منه تلك الأعمال؟ وما هو حكمه؟

إنه إنسان كافر، ولا قيمة لما يقوم به من تلك الأعمال، إذا عرف الرسول الأعظم محمد(صلی الله علیه و آله) ولم يؤمن به؛ لأن اللّه سبحانه ليس بحاجة إلى أعمال البر التي يقوم بها الإنسان، ولا يتقبل اللّه إلّا من المتقين، كما قال عزّ وجلّ: «إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلمُتَّقِينَ»(1)، وقال تعالى: «وَمَن يَبتَغِ غَيرَ ٱلإِسلَٰمِ دِينا فَلَن يُقبَلَ مِنهُ»(2).

إن اللّه أراد منا الطاعة لأوامره والاعتراف بأنبيائه وأوليائه(علیهم السلام) وأخذ الشريعة منهم، وإلّا فليس اللّه محتاجاً لأعمالنا، بل البشر بحاجة إلى ربه عزّ وجلّ وإلى فعل الخيرات والاعتقاد بما يجب الاعتقاد به كما بينه اللّه تعالى.

إذن فالشخص الذي يموت ولم يعرف إمام زمانه - سواء في زمنالإمام أمير المؤمنين علي(علیه السلام) أم في زمن الإمام الصادق(علیه السلام)، أم في زمن الإمام الرضا(علیه السلام)، أم في زمن الإمام العسكري(علیه السلام)، وكذلك في زمن الغيبة في عهد مولانا الإمام الحجة المنتظر(علیه السلام) - يموت ميتة جاهلية. يعني: إنه أبو جهل آخر وإن كان إنساناً صالحاً في سائر أعماله.

أما من يمدح الجماعة الفلانية بأنها تصلي الصلوات في أول أوقاتها، أو أنها تراعي بعض التكاليف والأوامر الشرعية، وهم لا يعرفون ولا يعترفون بإمام زمانهم، فإنه لم يلتفت إلى ضرورة التمسك بكل الإسلام وأن البعض منه لا يكفي.

قال تعالى: «أَفَتُؤمِنُونَ بِبَعضِ ٱلكِتَٰبِ وَتَكفُرُونَ بِبَعضٖۚ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفعَلُ ذَٰلِكَ

ص: 243


1- سورة المائدة، الآية: 27.
2- سورة آل عمران، الآية: 85.

مِنكُم إِلَّا خِزي فِي ٱلحَيَوٰةِ ٱلدُّنيَاۖ وَيَومَ ٱلقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰٓ أَشَدِّ ٱلعَذَابِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعمَلُونَ»(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) «لو أن عبداً عبد اللّه بين الصفا والمروة ألف عام، ثم ألف عام، ثم ألف عام، حتى يصير كالشن البالي، ثم لميدرك محبتنا أكبه اللّه على منخريه في النار، ثم تلا: «قُل لَّآ أَسَٔلُكُم عَلَيهِ أَجرًا إِلَّا ٱلمَوَدَّةَ فِي ٱلقُربَىٰۗ»»(2)(3).

وفي هذا المعنى قال الشاعر(رحمة الله):

لو أن عبداً أتى بالصالحات غداً*** وود كل نبي مرسل وولي

وقام ما قام قواماً بلا كسل*** وصام ما صام صواماً بلا ملل

وحج ما حج من فرض ومن سنن*** وطاف بالبيت حاف غير منتعل

وطار في الجو لا يأوي إلى أحد*** وغاص في البحر لا يخشى من البلل

وعاش في الناس آلافاً مؤلفة*** خلواً من الذنب معصوماً من الزلل

يكسو اليتامى من الديباج كلهم*** ويطعم البائسين البر بالعسل

ما كان في الحشر عند اللّه منتفعاً*** إلّا بحب أمير المؤمنين علي(4)

فهذه حقيقة حيث يلزم على الإنسان أن يؤمن بجميع ما أمره اللّه عزّ وجلّ، ومن أهمها معرفة إمام الزمان(علیه السلام)، أما أن يقول: (قال اللّه وأقول) فهذا هو الكفر بعينه.

أما ما يقال: من أنهم يصلون أفضل صلاة، ونصبوا حنفيات ماء جيدة

ص: 244


1- سورة البقرة، الآية: 85.
2- سورة الشورى، الآية: 23.
3- شواهد التنزيل 2: 203.
4- تنسب الأبيات للخواجة نصير الدين الطوسي.

للحجاج(1)،

فهذه لا قيمة لها عند اللّه، فاللّه ليس بحاجة إلى حنفيات الماء هذه.وهذا مثل ابن ملجم (لعنه اللّه) حيث قتل مولانا أمير المؤمنين(علیه السلام) من أجل الغريزة الجنسية الشيطانية(2)

- بعد ما اتفق مع أصحابه علىذلك - فلو فرضنا أنه كان يصلي طيلة عمره أحسن صلاة، ويصوم في أشد الأيام حراً، فهل ينفعه ذلك وقد أقدم على أكبر جريمة؟

ولنفرض الآن أن البشر كافة ومنذ اليوم الأول لخلقهم وإلى اليوم الآخر قد تجمعوا، وتأتي هذه التي تدعى قطام وتقول لابن ملجم: خذ هذه القنبلة الذرية وألقها عليهم حتى تحظى بمضاجعتي.

ص: 245


1- إشارة إلى بعض المظاهر التي أخذ بها الوهابيون التكفيريون من صلوات الجماعة وغلق المحلات جبراً لأدائها، وهم يكفّرون المسلمين ويبيحون دماءهم ولا يعتقدون بولاية أهل البيت(علیهم السلام) وقد أمر اللّه عزّ وجلّ ورسوله(صلی الله علیه و آله) بولايتهم واتباعهم.
2- وروي أن ابن ملجم المرادي لعنه اللّه أتى أمير المؤمنين(علیه السلام) يبايعه في من بايعه، ثم أدبر عنه فدعاه أمير المؤمنين(علیه السلام) فتوثق منه، وتوكد عليه أن لا يغدر ولا ينكث ففعل فقال ابن ملجم: واللّه يا أمير المؤمنين ما رأيتك فعلت هذا بأحد غيري، فقال(علیه السلام): (أريد حياته ويريد قتلي)... . قطام بنت الأخضر التميمية، وكان أمير المؤمنين(علیه السلام) قتل أباها وأخاها بالنهروان وكانت من أجمل نساء زمانها، فلما رآها ابن ملجم لعنه اللّه شغف بها واشتد اعجابه فسأل في نكاحها وخطبها، فقالت له: ما الذي تسمى لي من الصداق فقال لها: احكمي ما بدا لك قالت: أنا محكمة عليك بثلاثة آلاف درهم ووصيفاً وخادماً وقتل علي بن أبي طالب، فقال لها: جميع ما سألت وأما قتل علي بن أبي طالب فأنّى لي بذلك؟ فقالت: تلتمس غرته فإن أنت قتلته شفيت نفسي، وهناك العيش معي وإن قتلت فما عند اللّه خير وأبقى، فقال: وأيم اللّه ما أقدمني هذا المصر إلّا هذا، وقد كنت هارباً منه لامن مع أهله إلّا ما سألتني من قتل علي بن أبي طالب فلك ما سألت. قال الشاعر في أمر قطام التي استدعت ابن ملجم إلى قتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السلام): فلم أر مهرا ساقه ذو سماحة*** كمهر قطام من فصيح وأعجم ثلاثة آلاف وعبد وقينة*** وضرب علي بالحسام المصمصم فلا مهر أغلى من علي وإن غلى*** ولا فتك إلّا دون فتك ابن ملجم راجع روضة الواعظين 1: 132 و 133 و 137.

ماذا سيفعل هذا المجرم، إنه سيقدم على قتل الناس جميعاً، فالإنسان الذي أنزلته غريزته الجنسية إلى الوحل لا فرق عنده سواء قتل شخصاً واحداً أم قتل ملياراً من البشر.

وسواء قتل إنسانا عادياً أم قتل أمير المؤمنين(علیه السلام) خير البشر.

نعم يقول تعالى: «مَن قَتَلَ نَفسَۢا بِغَيرِ نَفسٍ أَو فَسَادٖفِي ٱلأَرضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعا»(1).

ألم يحدث ذلك في هيروشيما في الحرب العالمية الثانية، وأنا أتذكر الجريمة في حينها، فالضابط المجرم ومن أجل أن تدفع له حكومته مرتباً شهرياً مقداره كذا من الدولارات، ألقى قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي، فقتل مائتين وخمسين ألف شخص.

وكذلك ما قام به صدام خلال الحرب العراقية - الإيرانية من ضرب الأكراد في مدينة حلبجة بالأسلحة الكيميائية فقتل في الحال ستة آلاف شخص ما بين صغير وكبير ورجل وامرأة بالإضافة إلى آلاف الجرحى، حتى الحيوانات والنباتات لم تسلم من ذلك فماتت فوراً.

بالإضافة إلى الملايين الذين قتلهم من الشيعة في الجنوب والوسط وغيرهما وفي حرب إيران والكويت وخاصة فيالانتفاضة الشعبانية.

فلا فرق في النفس المجرمة سواء أطلقت رصاصة واحدة فقتلت شخصاً واحداً أم ألقت قنبلة وقتلت ربع العالم، والآن إذا سولت له هذه النفس: بإلقاء قنبلة وقتل مليون من البشر، سيقدم، فالنتيجة هي واحدة؛ لأنه عندما تحصل الرغبة عند الإنسان في قتل الإنسان، سواء كانت من أجل الغريزة الجنسية أم من

ص: 246


1- سورة المائدة، الآية: 32.

أجل المنصب أم من أجل المال أم لأي سبب آخر، فلا فرق عنده سواء قتل شخصاً واحداً أم قتل مائة ألف شخص، يقول الباري عزّ وجلّ: «مَن قَتَلَ نَفسَۢا بِغَيرِ نَفسٍ أَو فَسَادٖ فِي ٱلأَرضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعا»(1).

مع الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام)

ثم إن الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام) خاطب ابن ملجم حينما ضربه بالسيف، فقال: هل كنت إمام سوء لك؟ هل حبستك؟ هل ضربتك سوطاً؟ هل قتلت أحداً منك؟ هل غصبتك مالك؟ هلظلمتك؟

وذلك ليتضح للعالم بأن هذه الجريمة دافعها خبث المجرم فقط وسوء سريرته واستحواذ الشيطان عليه.

قال ابن ملجم: لا، أفأنت تنقذ من في النار؟!

أي: إنني من أهل النار، وما أقدمتُ عليه هو ما يفعله أهل النار.

حيث من المعلوم أن أمير المؤمنين(علیه السلام) لم يسئ إلى ابن ملجم مطلقاً في أي حال من الأحوال، كما لم يسئ إلى غيره، بل كان مثالاً للعدل والإحسان والمحبة والغفران.

ولذلك قال ابن ملجم: أنا من أهل النار(2).

فالغريزة الجنسية لهذا الإنسان دفعته لأن يقتل علي بن أبي طالب(علیه السلام)، والآن ما الذي يمنع هذا الإنسان من قتل كافة البشر من أجل غريزته الجنسية.

وهكذا الأمر في منكر الضروري

وهكذا يكون الأمر في من ينكر ضرورياً من ضروريات الدين.

ص: 247


1- سورة المائدة، الآية: 32.
2- انظر بحار الأنوار 42: 287؛ مجمع الزوائد 9: 141.

فهل يفرق عند إنسان يقول بكذب النبي(صلی الله علیه و آله) والعياذ باللّه، كما حكى القرآن عن لسان الكفار: «كَذَّابٌ أَشِر»(1)، أو يقول: إن السواك لا فائدة فيه وليس بمستحب، وهو يعلم بأن الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) أكد عليه، فالنتيجة واحدة لا فرق بينهما.

يعني: إن الإنسان عندما ينكر ضرورية من ضروريات الدين، فحكمه حكم إنكار الرسالة بأجمعها.

هذا بشرط أن لا يكون ذلك عن شبهة، فربما يقول: إن الحكم الفلاني كان خاصاً بزمان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) مثلاً، أو كان خاصاً بظرف مكاني معين، أو قضية في واقعة، أو ما أشبه، فهذا لا يترتب عليه حكم منكر الضروري.

ولكن المعاند الذي يقول: صحيح بأن النبي(صلی الله علیه و آله) قال كذا،ولكنني أقول في مقابله كذا، كما قال أتاتورك: إن القرآن الذي جاء به محمد ووضعه على البعير وأرسله إلى تركيا، يلزم أن نضعه على نفس البعير ونخرجه من تركيا.

فالمحور في هذه الأمور واحد، ولكل هذه المسائل فلسفة واحدة، وهي فلسفة نفسية وحالة ترتبط بإيمان الفرد، فالحالة النفسية هذه هي التي دعته لأن ينكر ضرورية من ضروريات الدين، أو يكون قاتلاً، أو «لم يعرف إمام زمانه» فيكون بلا قيادة شرعية، وهذه الحالة النفسية كما أقدمت على قتل واحد تقدم على قتل الكثيرين، وكما أنكرت ضرورية تنكر سائر الضروريات، وكما لا تقر بالإمام تهمل سائر الواجبات، فكل هذه مردها إلى أمر واحد.

مع رأس المنافقين

كان عبد اللّه بن أبيّ رأس المنافقين، وقد نزلت فيه سورة (المنافقون) وكان

ص: 248


1- سورة القمر، الآية: 25.

يعرف رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) معرفة تامة ربما أكثر من العديد من المسلمين الصحابة، لكن هذه المعرفة بوحدها لاتكفي إلّا إذا كان الإنسان معتقداً بولاية رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) واتباعها.

وكان النبي(صلی الله علیه و آله) على معرفة تامة به أيضاً، ولكن اللّه أمره بمداراة الناس ووصفه(صلی الله علیه و آله) بالخُلق العظيم، حيث قال: «وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ»(1).

فعندما مرض عبد اللّه بن أُبي وأشرف على الموت وأخذ يعالج سكراته، أرسل ابنه إلى الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) لكي يطلب منه الحضور عنده وكان ابنه من المؤمنين.

فلبى النبي(صلی الله علیه و آله) دعوته وذهب لزيارته، مع أنه كان قد آذى النبي(صلی الله علیه و آله) وتجاسر عليه مراراً، وأفحش له في القول وأهانه، وكان يبث الأراجيف حوله، وقد كان النبي(صلی الله علیه و آله) حاكما ورئيساً للدولة الإسلامية ولم يكن نبياً فقط.

وفي التاريخ: إن عبد اللّه بن أبيّ عند ما كان يجلس مع أصدقائه المنافقين- وكانوا من الذين يتظاهرون بالإسلام - وكان يمر بهم رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، كان عبد اللّه يضع عباءته على أنفه(2)،

يعني: حتى لا يشم رائحته الكريهة - والعياذ باللّه - ، هكذا كان يهين النبي(صلی الله علیه و آله) مع أنه(صلی الله علیه و آله) كان يُشم منه أحسن رائحة العطر.

وفي التاريخ أيضاً: إن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) كان يحمر وجهه من شدة تأذيه من هذه الإساءة.

هذا الشخص عندما أخذ ينازع الموت قال لابنه: اذهب وادع لي محمداً - وذكر اسم النبي(صلی الله علیه و آله) - ليأتي لزيارتي.

ص: 249


1- سورة القلم، الآية: 4.
2- انظر تفسير مجمع البيان 9: 220.

فذهب ابنه إلى النبي(صلی الله علیه و آله) وأخبره بالأمر...

فوافق النبي(صلی الله علیه و آله) بكل رحابة صدر على الذهاب لزيارته، وكان عبد اللّه في حال الاحتضار. فقال: يا رسول اللّه أنا خائف من القبر والقيامة!، وليس لي وسيلة نجاة إلّا أن تعطيني رداءك الذيترتديه ليكفنونني به.

نعم، إنه كان يعرف النبي(صلی الله علیه و آله) كما كان يعرف القبر والقيامة.

فخلع النبي(صلی الله علیه و آله) رداءه وأعطاه إياه في الحال، وأصبح بدنه الشريف عارياً(1).

ولكن عبد اللّه ابن أبي مات منافقاً، فلم يكن في قلبه يعترف بالرسالة النبوية.

إذن نستنتج مما سبق: أن المراد بالمعرفة في قوله(صلی الله علیه و آله): «من لم يعرف إمام زمانه»، المعرفة التي تستلزم الاعتقاد بالولاية لا تلك المعرفة المجردة. ومن هنا ترى أن الروايات التي وردت في تفسير الإيمان تقول: «الإيمان إقرار باللسان، ومعرفة بالقلب، وعمل بالأركان»(2).

ولكن عبد اللّه بن أُبي كان يعرف النبي(صلی الله علیه و آله) قطعاً وربما أفضل منا؛ لأنه قد رآه... وعند موته كان يتظاهر بحبه للنبي(صلی الله علیه و آله)، لكنهمات منافقاً وفارق الحياة على حال النفاق. فالمعرفة تعني العلم والاعتقاد والانضمام تحت اللواء، وإذا كانت المعرفة بدون الاعتقاد بالولاية والانضمام تحت اللواء فلا قيمة لها.

نعمة الاعتقاد بولاية إمام الزمان(علیه السلام)

إن من سعادتنا نحن الشيعة هو اعترافنا بإمام زماننا الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف ، ومن نعم اللّه تعالى علينا أن خلقنا من أبوين شيعيين، وإلّا فطريق

ص: 250


1- انظر الطرائف 2: 443.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 268.

الاهتداء كان صعباً.

يقول الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام) في نهج البلاغة: «ووضعهم من الدنيا مواضعهم»(1).

وعليه يلزم شكر وتقدير هذه السعادة وهذه النعمة الكبيرة.

ومن أكبر النعم الإلهية وجود إمام زماننا وكونه حياً وإن كنا لا نراه، فهل رأينا السيد المسيح(علیه السلام)؟ أم هل رأينا النبي موسى(علیه السلام)؟ أم هل رأينا نبي الإسلام(صلی الله علیه و آله)؟ أم هل رأينا الإمام الصادق(علیه السلام)؟ كلا، فالرؤيةليست هي المعيار بل المعرفة هي المعيار، إمام زماننا حي وحاضر بيننا ولكنه غائب عن الأنظار، ونحن نقرأ في دعاء الندبة: «أين السبب المتصل بين الأرض والسماء»(2)،

فالفرد الوحيد الذي يربط آلاف الآلاف باللّه عزّ وجلّ هو بقية اللّه

في الأرض وهو يعيش بين ظهرانيهم.

وفي الروايات أنه عندما يظهر الإمام الحجة(علیه السلام) يقول كثير من الناس: لقد كنت رأيت هذا الشخص من قبل، ويقول آخر: كنت رأيته في المكان الفلاني، وثالث يقول: كنت شاهدته في اليوم الفلاني. فهو(علیه السلام) بيننا ومطلع على أحوالنا بإذن اللّه عزّ وجلّ .

ولا يخفى أن علم الإمام(علیه السلام) علم حضوري وليس كعلمنا، فإن له الإحاطة بالعالم بإذن اللّه تعالى. كما أن عزرائيل له الإحاطة بالخلق ومن هنا يقبض أرواحهم بكل سهولة.

وفي الحديث الشريف: إن النبي(صلی الله علیه و آله) سأل عزرائيل وقال: كيفتتمكن من

ص: 251


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 193، ومن خطبة له(علیه السلام) يصف فيها المتقين.
2- المزار الكبير: 579.

قبض أرواح البشر في شرق الأرض وغربها؟ قال: يا رسول اللّه، الدنيا في يدي مثل الدرهم في كف أحدكم، فهل يغيب هذا الدرهم عنه(1).

فالأنبياء والأئمة(علیهم السلام) هكذا يطلعون على الأمور ليل نهار، فإنهم خلفاء اللّه، انتخبهم اللّه واجتباهم، وهناك روايات كثيرة في هذا الباب، فهم حاضرون وناظرون، يسمعون ويفهمون، هكذا خلقهم اللّه عزّ وجلّ وأراد لهم، والأمر بسيط جداً لتعلقه بقدرة اللّه وإرادته عزّ وجلّ.

ونحن نقرأ في إذن الدخول عند زيارة الإمام الحسين(علیه السلام) وسائر المشاهد: «أشهد أنك تسمع كلامي وترى مقامي وترد سلامي»(2).

تعريف الإمام(علیه السلام) للعالم

ثم إنه لا يكفى أن يعرف الإنسان إمام زمانه(علیه السلام) ويعتقد بولايتهفحسب، بل اللازم إرشاد الناس إلى معرفته(علیه السلام)، فهنالك الكثير من الناس لا يعرفون إمام زمانهم، وحينئذ يشملهم قول رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهلية».

فمن أهم ما يلزمنا تعريف إمام الزمان للناس، وهذا بحاجة إلى قدر كبير من العمل وتحمل المسؤولية والصبر في سبيل اللّه.

فقدر المعرفة تعريفه(علیه السلام)، مضافاً إلى طاعته والانضمام تحت لوائه، فهل نصدر عن رأيه أم لا؟

وقدر المعرفة أن نعرفه(علیه السلام) بأنه عالم بنا، وهو الحجة علينا، وهو سبب الفيض وواسطته.

ص: 252


1- انظر من لا يحضره الفقيه 1: 134.
2- انظر المزار الكبير: 211، ومستدرك الوسائل 10: 345.

وهذه المعرفة بحاجة إلى صفاء النفس وتصفية الروح من أوساخ الدنيا.

يقول الشاعر ما مضمونه(1):

إن رجال الحقيقة وطلابها همالذين يشترون بضاعة لا رواج لها.

وقد رأيت في العراق بعض من كان كذلك، كانوا من الذين زهدوا في الدنيا واشتروا الآخرة، أحدهم السيد محمد الكوفي(رحمة الله)، والآخر السيد مرتضى الطالقاني(رحمة الله).

فإن اللّه لا ينظر إلى الظاهر بل ينظر إلى الباطن أولاً، إنه ينظر إلى القلب قبل كل شيء، ينظر إلى الجوارح ثم إلى الجوانح، فإن نظام اللّه قائم على الباطن قبل الظاهر. فقد ورد في وصية النبي(صلی الله علیه و آله) لأبي ذر قوله: «يا أبا ذر، إن اللّه لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. يا أبا ذر، إن التقوى هاهنا - وأشار بيده إلى صدره - ...»(2).

فهؤلاء الذين رأيتهم في العراق كانوا أناساً غير سائر الناس،فكانوا لا يحبون السمعة ولا المظاهر، فإن اللّه يطلب شيئاً آخر ولايحب هذه الأشياء الظاهرية، صحيح أن بعض هذه المظاهر لاإشكال فيها، ولكن طلاب الحق هم من يعملون من أجل اللّه لا من أجل السمعة والرياء، ففي كل وقت نفكر فيه بترويج بضاعتنا وهو ما يعرف بالسمعة والتفاضل والسيادة والفخر والكبر وأنا الأعلم وأنا الأفضل وأنا الرائد وأنا وأنا، عند ذلك يلزم أن نعلم بأننا قد أصبحنا من أصحاب الدنيا ولسنا من طلاب الحق.

ص: 253


1- أصل الشعر بالفارسية: خريدار بازار بی رونقند*** كسانی كه مردان راه حقند
2- مستدرك الوسائل 11: 264.

إخلاص النية شرط التشرف

هناك العديد ممن نال شرف التشرف بلقاء مولانا الإمام الحجة المنتظر(علیه السلام)، ومنهم صاحب القصة التالية:

كان أحد الأشخاص المؤمنين يعيش في طهران وعمله بيع الأقفال، والقصة تعود لخمسين سنة مضت وقد حكيت عن عدة من ثقاة طهران ممن رأوه، وأنا أنقلها عن بعض علماء طهران.فقد كان في زمن البهلوي(1)

بائع أقفال في طهران يجلس في زاوية من السوق ويرتزق منه، وكان إنساناً مستقيماً، حسن النية صافي القلب، وكان نظره على الأرض دائماً لا يرفعه؛ لأن النساء السافرات كانت تمر من أمامه، وكان يبسط أقفاله على الأرض وليس له دكان، كما كان صادقاً في معاملته وصحيحاً لا يغش الناس، وهذه خصلة مهمة جداً؛ لأنه جاء في الروايات المتعددة بأنه لا تغرنكم صلاتهم، ولا يغرنكم صومهم، ولكن انظروا إلى مدى أمانتهم وصدقهم(2)،

فإن حفظ الأمانة والصدق في الحياة صعب جداً.

وكان الناس يتعجبون من صدق معاملة هذا الرجل، حيث كان يتعامل بالقيمة الحقيقية لا ينقص ولا يزيد عليها، ولا يحتال فيالبضاعة الجيدة وغير الجيدة؛ لأن كل بضاعة فيها جيد وغير جيد.

هذا من جانب، ومن جانب آخر كان أحد المشايخ في طهران في المدرسة الفلانية - لم أعد أتذكر اسم المدرسة - يدعى الشيخ حسين، وكان هذا الشيخ رجلاً صالحاً وزاهداً وعابداً، وقد خطر على باله أن يبحث عن إمام الزمان(علیه السلام)

ص: 254


1- رضا خان المعروف بالبهلوي الأول.
2- انظر الأمالي للشيخ الصدوق: 303، فعن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم وكثرة الحج والمعروف وطنطنتهم بالليل انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة».

لكي يتشرف بلقائه، ففكر بأن أفضل عمل يقوم به كي يحظى برؤية إمام الزمان(علیه السلام) هو أن يصوم النهار ويقوم الليل إلى أربعين يوماً، ففي رواية عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أنه قال: «من أخلص للّه أربعين يوماً فجر اللّه ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه»(1)،

فاشتغل هذا الشيخ بالصيام في النهار، واجتناب الشبهات والمحرمات، وقضاء أكثر الليل بالعبادات من الصلاة وقراءة القرآن وهكذا.

مرت ثلاثة أيام وربما أكثر والشيخ مشغول ببرنامجه العبادي الخاص ولم يعلم أحد بذلك، وفي أحد الأيام مر الشيخ من أمام بائعالأقفال، حيث كان طريقه من هناك عادة، وإذا به يرى أن البائع قد قام بعمل غير مألوف، حيث مر من أمامه شخص ذو هيبة فسلّم الشخص المار عليه، فلما رآه البائع ارتبك وقام من مكانه فوراً وأخذ يقبّل يدي هذا الذي سلّم عليه وانكب على رجليه!

فتعجب الشيخ من عمل هذا البائع، فمن هذا الرجل الذي يحترمه البائع إلى هذه الدرجة؟

فلما ذهب الرجل تقدم الشيخ إلى البائع وقال له: أي عمل هذا الذي فعلته، ومن كان هذا الشخص؟!

علماً بأنه لم تكن بين الشيخ والبائع معرفة سابقة، فلا الشيخ حسين كان يعرف البائع ولا البائع يعرف الشيخ حسين، وإنما مثله مثل كل شخص يمر من أمام شخص آخر.

فقال البائع له: هو من يتمنى الشيخ حسين رؤيته وذلك بصيام أربعين يوماً وقيام لياليها بالعبادة! إنه مولانا الإمام الحجة المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف.

فالشيخ حسين لم ينل رؤية الإمام(علیه السلام) إلّا في لحظات وهولايعرفه، أما هذا

ص: 255


1- عدة الداعي: 232.

الإنسان المؤمن البائع للأقفال فقد سلّم الإمام عليه...

وفي هذه القصة دروس وعبر ينبغي علينا أن نلتف إليها.

فماذا كان قد فعل بائع الأقفال حتى يسلم عليه إمام الزمان(علیه السلام)؟

هذا ما يلزم التفكر فيه دوماً.

فالإنسان المرتبط باللّه والذي يريد أن يعمل في سبيل اللّه وأن يكون على نهج النبي(صلی الله علیه و آله) والأئمة الطاهرين(علیهم السلام) يلزم أن يكون كذلك، فإن اللّه لايعترف بالظواهر ولا ينظر إليها، بل ينظر إلى القلوب وإلى النيات.

في الحديث الشريف: «إن اللّه لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم ونياتكم»(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «إنما الأعمال بالنيات»(2).وفي الآية المباركة: «إِلَّا مَن أَتَى ٱللَّهَ بِقَلبٖ سَلِيمٖ»(3).

فاللّه تعالى يتعامل مع القلوب، حتى إن أولئك الأشرار يحذرهم اللّه في القرآن ويقول: «نَارُ ٱللَّهِ ٱلمُوقَدَةُ * ٱلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى ٱلأَفِٔدَةِ»(4)، فالنار ترتبط بقلوبهم قبل جوارحهم، والأفئدة جمع فؤاد يعني: القلب، ذلك المكان الذي جعل من معاوية في النار، وجعل من سلمان في أعلى عليين، إنه القلب، من هنا ترى أن المحور في الآيتين هو القلب.

قصة من أفغانستان

أفغانستان كانت ولازالت تعيش بعض العصبية المذهبية الشديدة، وإن قلّت

ص: 256


1- جامع الأخبار: 100.
2- تهذيب الأحكام 4: 186.
3- سورة الشعراء، الآية: 89.
4- سورة الهمزة، الآية: 6- 7.

يوماً بعد يوم، وقد ظُلم الشيعة هناك كثيراً، فقتلوا منهم الكثير حتى أرادوا إبادتهم في قضية عبد الرحمان خان وغيرها(1).

ص: 257


1- في العام 1880م وجدت بريطانيا نفسها مجبرة على الانسحاب من أفغانستان، لذا عمدت إلى تنصيب عميل لها على البلاد، يكون مطيعاً لها ومنفذاً لأوامرها ورغباتها وأهدافها. وكان الخيار البريطاني المناسب هو (عبد الرحمن خان) الذي كان معروفاً بقساوة القلب، وعديم العاطفة والرحمة، كما كان أنانياً ومستبداً وعنيداً وحقوداً، وكان يحتقر شعبه، ويشعر بعقدة الحقارة والضعف والدونية أمام الإنجليز، كما كان معروفاً بحقده وكراهيته وعدائه لجميع القوميات الأفغانية والقبائل البشتونية عدا قبيلته، وكان حقده وعداؤه للمسلمين الشيعة والهزارة أشد وأكثر. كما كان شديد العداء والكراهية للعلماء؛ ويكيل لهم السباب والشتائم والإهانات. وكان أول عمل يقوم به بعد الاستيلاء على منطقة ما، هو تخريب المدارس والمساجد والمراكز العلمية والثقافية، وزج العلماء والمثقفين والمفكرين والفنانين وأصحاب المهارات والمهن في السجون. وعندما استولى على مدينة هراة دمر أكثر من خمسين مدرسة ومسجداً وحسينية. كما هدم مصلى هراة الذي كان يعتبر نموذجاً رائعاً وفريداً من نوعه في الفن المعماري في آسيا الوسطى، وتراثاً إسلامياً وحضارياً متميزاً في أفغانستان. وبالرغم من الإرهاب الذي كان يمارسه عبد الرحمن خان، وسياسة البطش والاستبداد والقتل الذي اعتمده لإرساء قواعد نظامه الجائر، لم يستسلم الشعب الأفغاني، وبدأت أصوات المعارضة ترتفع من هنا وهناك، فانطلقت ثورات شعبية عديدة ضده، وكان الثائرون من السنة والشيعة والبشتون والأزبك والهزارة والطاجيك لديهم هدف واحد، هو القضاء على نظامه الجائر، وكانت أهم تلك الثورات: ثورة القبائل البشتوتية، وثورة التركستانيين، وثورة المسلمين الشيعة الهزارة. وقد سعى عبد الرحمن خان للحصول على مبرر ديني وشرعي للقضاء نهائياً على المسلمين الشيعة في هزارستان؛ لأنه كان يدرك بأن التوسل بالأساليب الدينية والمبررات الشرعية هو السبيل الوحيد لإثارة جميع القبائل الأفغانية السنية ضد المسلمين الشيعة. فاستغل جهل الناس وتخلفهم الكبير واعتقادهم الراسخ بالعلماء ورجال الدين، في سبيل تحقيق أهدافه المشؤومة. لذا فقد طلب من علماء البلاط إصدار فتوى بتكفير المسلمين الشيعة، باعتبارهم متمردين وخارجين على السلطان العادل! ومع الأسف أن عدداً من علماء السوء ووعاظ السلاطين استجابوا لطلبه وأصدروا فتوى بتكفير المسلمين الشيعة!! ويقال: إن عبد الرحمن كان قد حصل على فتوى تكفير المسلمين من علماء نجد والحجاز - كما يفعلون اليوم مع الشعب العراقي المظلوم - وإن العلماء الأفغان استندوا على ذلك، وفيما يلي نص الفتوى: (بسم اللّه الرحمن الرحيم، لا يخفى على المسلمين وأتباع المذهب الحنفي الحنيف، أن الأمير عبد الرحمن خان حفظه اللّه المنان، من شرور البدعة والطغيان، قام بتأديب الهزارة البغاة الأشرار، وبعد أن ظفر على بعضهم، حصل جنود الأمير المنصور على ورقتين من كتاب يسمى (تحفة المواج) في إحدى المناطق التابعة للهزارة الأشرار، وتتضمن الورقتين أبيات كلها سب وشتم وإهانات صارخة للخلفاء الراشدين الثلاثة، سيدنا أبي بكر الصديق، وسيدنا عمر الفاروق، وسيدنا عثمان ذي النورين (رضي اللّه عنهم جميعاً)، الذين هم أئمة وقدوة المسلمين. وقد قام ظل اللّه في الأرض الأمير عبد الرحمن خان، بإرسال الورقتين إلى محكمة الشريعة النبوية العليا في كابل للتحقيق والبت في الأمر، وإبداء رأيها وحكمها الشرعي في المسألة. وبعد أن اطلعت المحكمة على أبيات الكفر والضلال، ومن أجل أن تقطع الطريق على الروافض، وتسلب منهم فرصة الإنكار والتقية والبراءة من مضمون أبيات الرفض، حصلت المحكمة على كتاب (حياة القلوب) تأليف محمد باقر المجلسي ووجدنا نص مضامين تلك الأبيات في ذلك الكتاب المعتبر لدى الروافض. وبعد التحقيق والتحري ثبت لدى محكمة الشريعة النبوية العليا وبدون أدنى شك رفض وكفر وارتداد الهزارة، وبناءً على هذا نحكم نحن في محكمة الشريعة النبوية العليا في كابل بكفر وارتداد الهزارة ووجوب قتلهم قبل التوبة وبعدها. إننا واعتباراً من اليوم نعتبر الهزارة مرتدين وبغاة، ومفسدين في الأرض، وإن قتلهم وتمزيق صفوفهم، وهدم بيوتهم، وسبي نسائهم، هو عين الجهاد، وقوام للدين، ونصرة للإسلام والمسلمين. إن أمر الأمير العادل عبد الرحمن خان بوجوب محاربة الهزارة البغاة فرض واجب على كل من يمكنه القيام بذلك، وأن من قتل أحداً من الهزارة أو قُتل دون ذلك يعتبر شهيداً ومجاهداً وغازياً وناصراً للدين الحنيف ورسول الإسلام. كما أن قتلى الهزارة مخلدون في النار والجحيم. إننا نقدم هذا الحكم الشرعي إلى الأمير العادل عبد الرحمن خان ونرجو من جلالته ومقامه الكريم، إبلاغ هذا الحكم إلى كافة المسلمين في أفغانستان، ليعلم جميع المسلمين الأفغان بكفر وارتداد الهزارة، ووجوب القضاء عليهم في كل مكان). التوقيع: المولوي مير فضل اللّه، مستشار محكمة الشريعة النبوية في كابل. المولوي مير محمد، مستشار محكمة الشريعة النبوية في كابل. المولوي مير نظام الدين، مستشار محكمة الشريعة النبوية في كابل. المولوي عبد الملك، مستشار محكمة الشريعة النبوية في كابل. المولوي عمر عمران، مستشار محكمة الشريعة النبوية في كابل. المولوي مير سيد ظاهر، مستشار محكمة الشريعة النبوية في كابل. المولوي عبد الحميد، مستشار محكمة الشريعة النبوية في كابل. المولوي محمد إسلام، مستشار محكمة الشريعة النبوية في باميان. بعد حصول عبد الرحمن على فتاوى تكفير المسلمين الشيعة، وجد الظروف مناسبة أكثر من أي وقت آخر للانتقام من المسلمين الشيعة. فبادر إلى إرسال عدد من وعاظ السلاطين إلى أقاليم ومدن البلاد، لإبلاغ الناس فتوى التكفير، وحث الناس على التطوع والمشاركة في قتال الهزارة. وقد طبعت عشرات الآلاف النسخ من الفتوى لتوزيعها في مختلف المدن والقرى والأرياف. كما استدعى عبد الرحمن زعماء قبائل البشتون، ولا سيما الحدودية ودعاهم إلى إرسال مقاتليهم للمشاركة في الحرب، ووعدهم بتوزيع أراضي وأموال وممتلكات الهزارة عليهم، ويكون لهم ما غنموه من الأموال وما أسروه من النساء والغلمان. وبهذه الأساليب الخبيثة تمكن عبد الرحمن أن يجند عشرات الآلاف من أبناء القبائل البشتونية، لا سيما القبائل البدوية لمحاربة الهزارة، كما أرسل 125 ألفاً من قواته النظامية إلى هزارستان. وبدأت الحرب غير المتكافئة بين المسلمين الشيعة الذين كانوا يدافعون عن مقدساتهم ووجودهم وبين جيش مدجج بأحداث أنواع الأسلحة. وأمر عبد الرحمن بأسر المئات من أبناء الهزارة الذين كانوا في المناطق الواقعة تحت سيطرته، واستخدامهم كدروع بشرية في القتال. وبدأت المعارك بعد هجوم واسع شنته القوات الحكومية من جميع المحاور على مواقع المسلمين الشيعة الذين لم يكن أمامهم خيار سوى المقاومة المستميتة والتصدي بقوة للحملات الوحشية. ومع أن المسلمين الشيعة كانوا يعرفون عدم جدوى المقاومة، وأن المهاجمين لن يتركوهم وشأنهم حتى إذا انهزموا لمرات عديدة. لكنهم فضلوا المقاومة حتى الموت في ساحة القتال دفاعاً عن العقيدة والإيمان والكرامة على الاستسلام، كما أنهم كانوا على يقين بأنهم سيقتلون سواء قاوموا أم استسلموا. وفي ربيع عام 1892م بدأ الهجوم الواسع لقوات عبد الرحمن من خمسة محاور هي: كابل، وغزنة، وقندهار، وهرات، ومزار شريف. وكان السردار عبد القدوس خان المعروف بقساوة قلبه، وعدائه الشديد للمسلمين الشيعة يقود العمليات. وقد أصدر هذا المجرم وبناءً على تعليمات عبد الرحمن أمراً بقتل جميع الرجال الهزارة دون تمييز بين مسلح وغير مسلح، وحرق المزارع وإتلاف المواد الغذائية، كما أمر بفرض حصار اقتصادي محكم على هزارستان. وبالرغم من اتساع دائرة العمليات العسكرية والتفوق العددي والتكنولوجي لقوات عبد الرحمن إلّا أنها لم تتمكن من التقدم في المناطق الشيعية، إذ كانت تواجه مقاومة عنيفة في جميع المحاور. واستمر هذا الدفاع البطولي والمقاومة المستميتة أكثر من سنة كاملة. وفي صيف عام 1893م شددت قوات عبد الرحمن من هجماتها، واستخدمت المدافع الميدانية المتطورة لضرب مواقع المدافعين، كما أن الحصار الاقتصادي وانتشار المجاعة وأنواع الأمراض المعدية بين سكان المنطقة قد أثر في معنويات المدافعين، فتمكنت قوات عبد الرحمن من اختراق بعض المواقع، وإيجاد ثغرات في تحصينات الهزارة. واستولى على المناطق الشيعية بالتدريج واضطر المدافعون إلى الانسحاب إلى منطقة اورزكان القلعة الطبيعية الحصينة للمسلمين الشيعة. وقد ارتكبت قوات عبد الرحمن مجازر بشعة في المناطق الشيعية، وحولتها إلى مسالخ حقيقية، فقتلت عشرات الآلاف من الأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ، وحفرت مقابر جماعية دفن الناس فيها وهم أحياء. وبعد انسحاب المقاتلين الشيعة إلى اورزكان فرضت القوات الحكومية طوقاً محكماً على المنطقة، وجرت أشد المعارك وأشرسها في تلك المنطقة واستمرت عدة أشهر ولكن أخيراً سقط ذلك الحصن المنيع بعد استشهاد المدافعين والمقاومين. واستولى عبد الرحمن على جميع مناطق هزارستان بعد قتال دام أكثر من عام ونصف. وقام عبد الرحمن بارتكاب جرائم ومجازر بشرية، ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب بل قام بمصادرة أفضل الأراضي الزراعية، وتوزيعها على القبائل البدوية الحدودية التي كانت تحت حماية الإنجليز، والمناطق المغتصبة هي: اجرستان، جورة، اورزكان خاص، كيزاب، تيري، دهراود، داي جوبلن. وهذه المناطق تعتبر من أفضل مناطق أفغانستان من الناحية الزراعية حيث خصوبة الأرض، ووفرة المياه، فضلاً عن الموقع الاستراتيجي. بعد سيطرة عبد الرحمن على المناطق الشيعية في هزارستان، بادرت مرتزقته الأشرار إلى ارتكاب مجازر بشعة وجرائم فظيعة في مختلف المناطق، ولم يتركوا جريمة إلا وارتكبوها. لقد كانت التعليمات المعطاة للجنود واضحة وهي القضاء الكامل على الهزارة. وقد استخدمت مرتزقة عبد الرحمن أبشع الأساليب في القتل والتعذيب والتنكيل، وكانت تقوم بحرق القرى، وهدم المساجد، وحرق المزارع والأشجار، وإبادة المواشي. كما أنها كانت تمنع الناس من دفن الموتى والقتلى، حتى أن أغلب الجثث كانت تتفسخ وسط البيوت. وقد انتشرت نتيجة ذلك مختلف الأوبئة والأمراض حتى أن بعض الجنود أصيبوا بأمراض خطيرة انتشرت في المنطقة. ومن أساليبهم الوحشية، قطع أطراف المعتقل وتركه ينزف حتى الموت. ومنها تسليط الكلاب المتوحشة على المعتقل وهو مقيد لتنهش من لحمه حتى يموت. ولعل من أبشع جرائمهم وأفظعها ذبح الأطفال والرضع أمام عيون أمهاتهم، واغتصاب الفتيات المسلمات، والاعتداء على النساء بحضور أرحامهن. ومنها تجريد الطاعنين في السن من النساء والرجال من ثيابهم وشد وثاقهم وتركهم في العراء دون طعام وشراب حتى الموت. وكان جنود عبد الرحمن يتلذذون من قتل الأطفال، وكانوا يعتبرونه لعبة مسلية ومثيرة. حيث كانوا يرمون الأطفال إلى الأعلى ثم يتلقونهم بسيوفهم ورماحهم ويقطعونهم إرباً إرباً. أما عن معاملتهم مع أسرى الحرب فحدث ولا حرج، حيث كانوا يقطعون أنف الأسير وأذنيه، ويدخلون سيخاً حديدياً ساخناً في عينيه، بعد ذلك كانوا يقطعون يديه ورجليه ويستمرون في طعنه وضربه بالسيوف والخناجر حتى الموت. وكان لدى كل واحد من الضباط عدد من الكلاب المدربة على أكل لحوم البشر، والفتك بالإنسان خلال لحظات. وكان يقدم إلى الكلاب في كل وجبة أسير شيعي مقيد، فكانت الكلاب تفتك به وتأكل من لحمه. وكانوا في أغلب الأحيان يعلقون الأسير في غصن شجرة، ويبقرون بطنه ويخرجون أحشاءه، ثم يتركون الكلاب المتوحشة لتأكل من أحشائه ولحمه. بعد عام كامل من القتل الوحشي والتصفية الجسدية أصدر عبد الرحمن أمراً بوقف قتل الهزارة، وأجاز بيع وشراء أسرى الهزارة، بشرط أن يدفع كل من يبتاع شيعياً 10% أي عُشر ثمنه للدولة. بعد هذا الأمر الجائر بدأت معاناة ومأساة جديدة للمسلمين الشيعة، وكان الجنود ومرتزقة النظام يغتصبون الفتيات ونساء الهزارة. وعندما كان أحد من ذوي وأقارب تلك الفتيات يقدم شكوى إلى أمراء الجيش، كان الجنود يدعون بأنهم ابتاعوها من شخص آخر. وكان الناس يفضلون الموت على الحياة والعيش الذليل، وعلى هذا كانوا يقدمون على الانتحار للتخلص من الأسر، ويقال: بأن مرتزقة عبد الرحمن اعتقلت 400 امرأة شيعية في منطقة داية بولاية غزنة، وكان من المقرر نقلهن إلى العاصمة لعرضهن في أسواق النخاسة، وعندما وصلن فوق جسر على نهر جاغوري رمين بأنفسهن في النهر وغرقن في أمواجه. ويقال: بأن 40 فتاة من منطقة اورزكان هربن إلى الجبال من مرتزقة عبد الرحمن، وعندما شعرن بأنهن أمام طريق مسدود، صعدن إلى قمة صخرة عالية ورمين بأنفسهن في وادي سحيق دفعة واحدة، فتقطعت أوصالهن والتحقن بالرفيق الأعلى. وكانت كبيرة الفتيات تدعى شيرين فصار اسمها رمزاً للبطولة والفداء في هزارستان. وبعد أن أصدر عبد الرحمن أمره بجواز بيع وشراء المسلمين الشيعة، نشطت أسواق النخاسة في كابول وقندهار وغزنة وهرات والمدن الأخرى. وكان الأسرى من النساء والرجال والأطفال يؤخذون إلى كابل والمدن ليباعوا في محلات خاصة. وكانت أنشط المراكز هي العاصمة كابل، حيث كان عبد الرحمن بنفسه يشرف على البيع. وقد حددت الحكومة أسعاراً للأسرى كالتالي: الفتاة الباكرة 10 روبيات، والفتاة الشابة 5 روبيات، والشاب البالغ 15 روبية، والصبي دون الخامسة عشر 5 روبيات. أما الأطفال وغيرهم فقد كان يتم بيعهم دون التقيد بسعر معين. وكان يتم إيقاف الأسرى بشكل استعراضي، وكل من كان يرغب بشراء أسير كان عليه أن يدفع المبلغ المحدد للأمير عبد الرحمن، ثم يقوم باختيار العبد أو الأمة من بين الأسرى. وما أن يتم اختيار العبد أو الأمة حتى كانت أصوات الطبول ترتفع فرحاً وابتهاجاً. ولا يعلم إلا اللّه وحده كم عدد المسلمين الشيعة الذين تم بيعهم في أسواق النخاسة في مختلف المدن، إلا أن هناك بعض الأرقام التي تبين جانباً بسيطاً من عدد الأسرى الهزارة الذين تم بيعهم، مع أن مصدر هذه الأرقام هو السلطة الظالمة، إلا أنها تكشف مدى ظلامة المسلمين الشيعة الهزارة، ومدى حقد وحقارة أعدائهم. فقد ورد في المستندات الحكومية: بأن القاضي ملا خواجه محمد قاضي المحكمة الشرعية في ارزكان، بعث إلى الأمير عبد الرحمن خان مبلغ 1940 روبية من الضرائب المأخوذة عن بيع 1293 امرأة وطفل شيعي في ارزكان. وفي مدينة قندهار تم بيع 46666 شخص ما بين امرأة وفتاة وشاب وطفل. وكان مسلسل إبادة المسلمين الشيعة مستمراً بكل وحشية وقساوة وبربرية إلى أن أخبر الشيخ الآخوند ملا كاظم الهروي صاحب كتاب كفاية الأصول، سماحة آية اللّه العظمى السيد ميرزا حسن الشيرازي(رحمة الله) عن الأوضاع المأساوية للشيعة في أفغانستان، فبعث رسالة شديدة اللهجة إلى ناصر الدين شاه ملك إيران، وأمره أن يطلب من بريطانيا الإيعاز إلى عبد الرحمن بوقف مجازر المسلمين الشيعة، وهدد سماحته في حال استمرار المجازر فإنه سيتخذ قرارات حاسمة. وأبلغ ناصر الدين شاه رسالة الإمام الشيرازي إلى الإنجليز الذين طلبوا من عميلهم عبد الرحمن وقف المجازر فوراً. وبناء على أوامر الإنجليز فقد أوقف (عبد الرحمن) مسلسل إبادة المسلمين الشيعة، وأمر بانسحاب قوات الجيش من هزارستان. لقد كانت رسالة الإمام الشيرازي سبباً في وقف إبادة المسلمين الشيعة، ومن الغريب أن العديد من وسائل الإعلام والصحف الإسلامية التي تكتب عن حياة الإمام الشيرازي، لم تتطرق إلى هذه الرسالة التاريخية الهامة التي أنقذت حياة عدة ملايين من المسلمين الشيعة، ولا شك في أنها لا تقل في الأهمية عن فتوى التنباك وغيره. وبعد تحرك الميرزا الشيرازي خف أعمال القتل ومسلسل إبادة المسلمين الشيعة إلى حد كبير، إلّا أن عملية التجويع والقهر والإذلال استمرت في ما بعد، وقد حرم المسلمين الشيعة من جميع حقوقهم الاجتماعية والإنسانية، وأصبحت مناطقهم محرومة من كل الخدمات، وحتى الآن تعتبر المناطق الشيعية من اكثر المناطق حرماناً في أفغانستان. كما رأينا هذه الحالة في العراق أيام حكم المجرم صدام المخلوع.

ص: 258

ص: 259

ص: 260

ص: 261

وقد حدثني المرحوم المدرس الأفغاني(رحمة الله) وذلك عند ما كان يأتينا للزيارة

ص: 262

بعد ما يُنهي تدريسه، قال: إن القبيلة الفلانية في أفغانستان - ولا أريد ذكر اسمها - كانت متعصبة ضدنا نحن الشيعة بصورة شديدة، يقول: وفي إحدى المرات جمعتني الصدفة مع أربعة منهم في السيارة وكنا نريد الذهاب من مدينة إلى أخرى، ومن أجل إضفاء جو المحبة والصداقة عندما وصلنا إلى محل الاستراحة فقد ذهبت إلى المقهى وطلبت من صاحب المقهى أن يعطيني شاياً بالإبريق مع الأقداح والصينية، لا أن يعطيني الشاي بيدي، فأعطاني إبريق الشاي ومعه الأقداح والسكر بعدما وضعها جميعاً في صينية، فأخذتها وقد وضعت يدي تحتها وجئت بها وكانوا أربعة وقلت: لهم تفضلوا. قالوا: لا نشرب، قلت: لماذا؟ قالوا: لأنك نجس. قلت: لو سلمنا بأنني نجس! ولكني لم ألمسه بيدي. قالوا: كلا، ما أن لمست يدك الصينية فقد تنجس الشايجميعاً.

الاستغاثة بالإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف

ذكر لي أحد المؤمنين من أفغانستان قبل أربعين عاماً وذلك عندما كنا في العراق، قال: في أحد الأيام وصلت إلى قبيلة متعصبة جداً، لذلك فقد أخفيت مذهبي خوفاً على نفسي. قال: وقد أُجبرت على البقاء هناك مدة، فرأيت في القبيلة شاباً من نفس القبيلة، أبوه فلان، وكان شاباً في الخامسة أو السادسة والعشرين من العمر، وكان شيعياً قوياً في اعتقاده. قال: فتعجبت كثيراً، فسألته يوماً: ألست ابن فلان؟ ألست شقيق فلان وفلان؟ وكلهم كانوا من أبناء العامة، فكيف تكون قبيلتك بهذا التعصب وأنت شيعي هكذا؟ وكيف لم ينزلوا بك بلاءً لحد الآن؟ قال: في الحقيقة أنهم لم ينزلوا عليَّ بلاءً؛ لأن القبيلة سابقاً قد اتفقت في ما بينها على أن لا يغدر أحد بأحد.

لقد كان أبو لهب ضد النبي(صلی الله علیه و آله) ولكنه كان يقول: إن محمداً مني فلا أدعكم

ص: 263

تهجمون على داره في قصة الهجرة المشهورة(1)،

بالرغم أنه كان من أشد أعداء رسول اللّه(صلی الله علیه و آله).

فقلت له: فكيف أصبحت شيعياً؟

قال: إن لي قصة عجيبة، فقد كانت لي (داية) - أي: مرضعة - شيعية وكانت من غير قبيلتنا، وكانت فقيرة، وبقيت عندها إلى أن أصبح عمري خمس أو ست سنوات، وكنت أحياناً أزورها في شبابي، وكانت قبيلتنا تقول عنها: إنها نجسة، فلا يأكلون معها، وكانت امرأة طيبة تصلي وتصوم وتقرأ القرآن. وفي أحد الأيام قلت لها: أنتِ امرأة طيبة، تصلين وتصومين وتقرئين القرآن، وأنتِ طاهرة وأمينة ولا تكذبين، فلِمَ يقول عنكِ هؤلاء بأنكِ كافرة؟! قالت: دعك من هذا.قال: فأصررت عليها.

فقالت: في الحقيقة نحن وهؤلاء مذهبان، ونحن على مذهب الشيعة.

قلت: وما الذي في مذهب الشيعة من زيادة أو نقصان؟

قالت: نحن إمامية اثنا عشرية ومن أتباع أهل البيت(علیهم السلام)، ثم أخذت تذكر أسماء الأئمة(علیهم السلام) واحداً بعد واحد، وبعدما وصلت إلى الإمام الحجة(علیه السلام)، قالت: إن هذا الإمام حي وموجود، وسيأتي في يوم ما ليملأ الأرض بالقسط والعدل بعد ما ملئت بالظلم والجور.

قلت لها: وما الفائدة في أن يكون غائباً ثم يأتي بعد مائة أو مائتي سنة أو أكثر؟

قالت: من فوائده أنه إذا ما وقع إنسان في مشكلة فاستغاث به يغيثه، كأن ضل في الصحراء أو البحر أو ما أشبه.

ص: 264


1- فقد ورد في قصة الهجرة المباركة: أنه لما أمسى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، جاءت قريش ليدخلوا عليه. فقال أبو لهب: لا أدعكم أن تدخلوا عليه بالليل؛ فإن في الدار صبياناً ونساءً، ولا نأمن أن تقع بهم يد خاطئة، فنحرسه الليلة فإذا أصبحنا دخلنا عليه. فناموا حول حجرة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله). انظر تفسير القمي 1: 275.

انتهى حديثنا آنذاك، إلى أن عزمت على الحج، وكان السفر للحج بواسطة الجمال - لأنه وإلى خمسين سنة قبل لم تكنالسيارات موجودة، وكان الناس يسافرون على الجمال وما أشبه - قال: ركبنا الجمال وذهبت مع القافلة إلى الحج، وفي أحد الأيام تعبنا جميعاً، فالطريق طويل، والصحراء والحر والبرد وقلة الطعام، وقد دخل الليل فنامت القافلة ونمت أنا أيضاً، وفجأة استيقظت من حرارة الشمس فلم أر أحداً في الصحراء، وولم يكن بعيري موجوداً، فقد ذهب الجميع وفقدت راحلتي، فاستوحشت وحشة شديدة من هذا الأمر ولم استوحش طول عمري مثل هذا، فالخوف من اللصوص - فاللصوص في السابق كانوا يقتلون الإنسان في كثير من الأحيان، ولا يكتفون بسرقته، بل ربما كانوا يتعدون على عرضه سواء كان شاباً أم فتاة - والخوف من الحيوانات المفترسة في الصحراء، فماذا أفعل - فالإنسان الذي يقع في مأزق مثل هذا يفهم معنى هذا الكلام، وأي وحشة تسيطر عليه؛ لأنه هناك صفات لدى الإنسان يفهمها في وقتها، ولكن لا يمكنه فهمها من القصة - قال: لقد تملكني هكذا شعور، وفي هذا الأثناءتذكرت تلك الداية المرضعة وحديثها عن الإمام الحجة(علیه السلام)، فقررت الاستغاثة بالحجة(علیه السلام)، فاستغثت به وفجأة شاهدت فارساً قد قصدني وقال: ما تريد؟ قال: عندما جاء لم أعرفه وفكرت أنه شخص عادي، فقال: ما تريد؟ وقد تكلم معي باللغة الفارسية وباللهجة الأفغانية.

قلت: لقد ظللت الطريق، وقد تركتني القافلة، وأنا قلق ومضطرب.

قال: لا عليك... اتبعني. وكان هو على الفرس وأنا راجل، فتحركنا خطوتين أو ثلاث خطوات، فقال: هذه قافلتك. وما أن قال: هذه قافلتك، حتى خطر ببالي من يكون هذا! فنظرت فلم أره وانتهى الأمر، فعرفت في وقتها أنه الإمام الحجة(علیه السلام)، وكانت ما قالته الداية لي حقاً، فتشيعت في الحال وقدمت إلى مكة، فالتقيت

ص: 265

بعالم من علماء الشيعة وسألته عن آداب التشيع، فعلمني ذلك، ومنذ ذلك الحين أنا شيعي، ومهما حاولت القافلةوالأقرباء والأصدقاء بأن أرجع عن التشيع لم يتغير رأيي لأنني عرفت الحق فاتبعته عن قناعة.

اعتراف شاعر النيل

هناك الكثير ممن يعرف الحق ولكن لا يعترف به ولا يتبعه، فالحديث النبوي الشريف الذي يصرح بأن: «من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهلية»، أي لم يعترف به، و: إلّا فإن هذا الحديث رواه أبناء العامة أيضاً، كما أنهم ذكروا قول خليفتهم الثاني: (لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن)(1). وقوله: (لولا علي لهلك عمر)(2).

وكذلك بالنسبة إلى ما جرى من الظلم على الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(علیها السلام) وهجوم القوم على الباب.

ومع ذلك كله لم يعترفوا بولاية الأئمة الطاهرين من أهلالبيت(علیهم السلام).

كان فاروق ملك مصر قبل عبد الناصر...

علماً بأن مصر كانت من بلاد الشيعة ولكن بعد ما قتل صلاح الدين الأيوبي جميع الشيعة هناك وأسقط الدولة الفاطمية تغيرت المعادلة.

وكان في عهد فاروق شاعر مصر المعروف حافظ إبراهيم والذي يسمى ب- : (شاعر النيل)، والنيل نهر مصر، فيعني شاعر البلاد، وله ديوان شعر وقد قرأت ديوانه أنا شخصياً ولا أنقل عن أحد، وديوانه موجود يباع. وقد أقام الملك فاروق احتفالاً عظيماً حضره كافة الوزراء والعسكر وعلماء الأزهر، فألقى حافظ إبراهيم

ص: 266


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 18، نظم درر السمطين: 132.
2- انظر تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: 152، وغيره كثير.

قصيدته التي يقول في مطلعها:

حسبي وحسب القوافي حين أُلقيها *** إني إلى ساحة الفاروق أُهديها

يعني: يكفيني فخراً أن أُهدي قصيدتي هذه إلى الفاروق.

فقيل له: وأي فاروق تريد، هذا الفاروق، أم عمر؟

قال: أي منهما قصدتم فهو صحيح.

ثم ألقى قصيدته، إلى أن وصل إلى هذا البيت:

وقولة لعلي قالها عمر*** أكرم بسامعها أعظم بملقيها

حرقت دارك لا أُبقي عليك بها *** إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها

لاحظوا أنهم يعرفون كل شيء، ولكن مجرد هذه المعرفة لا تكفي، بل يلزم أن تكون المعرفة مستلزمة لما يترتب عليها.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى مولانا الإمام المهدي المنتظر(علیه السلام)، فإن أبناء العامة كتبوا ورووا حول الإمام المهدي(علیه السلام) الكثير من الكتب والروايات، ولكن هذا بوحده لا يكفي(1).

تعريف الناس بالإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف

اشارة

نحن أناس قد منّ اللّه علينا بمعرفة إمام زماننا الإمام الحجة(علیه السلام) والاعتقاد به، فعلينا أن نسعى لهداية الآخرين أيضاً إلى ذلك.

إن اللّه قد أعطانا شمساً مضيئة لكننا جعلناها منحصرة بمكان خاص، فلا يكفي مجرد الدعاء للإمام(علیه السلام) بالفرج والتوسل إليه، والقيام ببعض الوظائف المذكورة من التصدق وما أشبه، بل علينا مسؤولية هداية الآخرين لمعرفة هذا

ص: 267


1- انظر كتاب: (المهدي(علیه السلام) في القرآن)، و(المهدي(علیه السلام) في السنة)، للمرجع الديني آية اللّه العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي(دام ظله).

الإمام العظيم والاعتقاد بولايته.

فيلزم على كل واحد منا أن يسعى لنشر اسم الإمام(علیه السلام) وعلومه ومدرسته في العالم أجمع، عبر طبع ونشر الكتب وتقديم البرامج التلفزيونية في الفضائيات وغيرها، والاستفادة من الإنترنيت وما أشبه لتعريف العالم بالإمام(علیه السلام).

يوجد في قم المقدسة أحد العلماء - والذي لا يرغب في ذكر اسمه - وقد أتعب نفسه منذ سبع إلى عشر سنوات بجمع الكتب التي أُلفت حول الإمام الحجة(علیه السلام)، وقبل أسبوع أو عشرة أيام أخبرني بأنهتمكن من جمع اسم ألف وثلاثمائة كتاب دُوّنت حول الإمام(علیه السلام) بشكل مستقل باللغة العربية والفارسية وغيرها.

فقلت له: أتعلم كم نحن مقصرون في حق امام الزمان(علیه السلام)، فإن الإمام(علیه السلام) موجود منذ اثني عشر قرناً تقريباً، إذ ولد عجل الله تعالی فرجه الشریف في سنة مائتين وخمسة وخمسين للهجرة ونحن الآن في سنة ألف وأربعمائة وعدة سنوات للهجرة، ولم يكتب حول الإمام(علیه السلام) سوى 1100إلى 1200كتاب، حسب البحث الطويل الذي دام عدة سنوات لاستقراء هذه الكتب، وهذا يعني أن معدل الكتابة هو كتاب واحد فقط لكل سنة. وإذا ما نظرنا إلى الأرقام العالمية فسنرى كم هذا الرقم ضئيل وقليل.

قاعة (إقبال) في المكتبة البريطانية

ثم نقلت له ما كتب حول إقبال اللاهوري(1):

فقلت: إن أربعة أشخاص قبل خمسين سنة - وأنا أتذكرهم جميعاً - قدأتعبوا أنفسهم من أجل استقلال باكستان، وهم:

ص: 268


1- شاعر وفيلسوف مسلم باكستاني.

1- محمد علي جناح(1).

2- خان عبد الغفار خان.

3- إقبال اللاهوري.

4- راجو محمود آباد.

وقد شاهدت هذا الأخير عندما جاء إلى العراق للزيارة، فهؤلاء الأربعة قد تحملوا المشاق والمتاعب الكبيرة وضحوا بأموالهم وأنفسهم فجعلوا من باكستان دولة مستقلة، وقد رحلوا كلهم عن الدنيا، أحد هؤلاء الأربعة اسمه إقبال، وإقبال توفي حديثاً يعني قبل ثلاثين أو خمس وثلاثين سنة، أما خان عبد الغفار خان فقبل عشر سنوات، لقد كانوا معاصرين لنا.

وكان إقبال أشهرهم، وقد كتب عنه أصدقاؤه كثيراً من الكتب في تاريخه وسيرته، فكم بلغ عدد الكتب التي كتبت عنه؟إنها بلغت خمسة آلاف كتاب وكراس.

ينقل أحد المعاصرين له وهو من أصدقائنا المعممين، ويقول: لقد سافرت إلى بريطانيا، فذهبت إلى المكتبة الوطنية هناك، فسألت أمين المكتبة وقلت: هل عندكم كتاب حول إقبال؟

قال: ليس عندنا كتاباً فقط بل عندنا قاعة خاصة حول إقبال وتدعى: (قاعة إقبال)، وكان يتكلم بالفارسية.

فقلت: أتأذن لي بدخولها؟

قال: تفضل، وأرسل معي شخصاً ليرشدني، وكانت القاعة كبيرة، وكانت مملوءة بأقفاص الكتب من أرضها إلى سقفها، وكان جميعها حول إقبال.

ص: 269


1- سياسي هندي مسلم.

قال: بما أني كنت أعرف أربع لغات هي: الفارسية والعربية والتركية والأُردية. قلت: وأين هي؟

قال: هناك، وأرشدني إليها بحيث كان مجموع هذه الكتب باللغات الأربعة يبلغ أربعمائة وعشرون كتاباً قد طبعت بهذهاللغات، بالإضافة إلى كتب أخرى بسائر اللغات كالصينية والهندية والإنجليزية وما أشبه فلم أحصها، ولكن الذي أحصيتها بهذه اللغات الأربعة فقط بلغ أربعمائة وعشرين كتاباً.

والآن كم نحن مقصرون وقاصرون في حق الإمام الحجة(علیه السلام).

فإقبال كان فرداً نشطاً وشاعراً معروفاً وله عدة قصائد، وقد قرأت بعض قصائده، وبيته موجود إلى الآن في باكستان وقد تحول إلى متحف، إنه يُكتب عنه خمسة آلاف عنوان بحيث تشكل مكتبة كاملة، عندها نحن وخلال اثني عشر قرناً لم نكتب حول الإمام الحجة(علیه السلام) سوى ألف وثلاثمائة كتاب.

إن قم وحدها تتمكن من تعريف إمام الزمان(علیه السلام) إلى العالم بأجمعه، ففي قم يوجد خمسة وعشرون ألف رجل دين، فإذا ما كتب كل واحد منهم كتاباً حول إمام الزمان(علیه السلام) خلال سنة واحدة، فكم يصبح العدد دفعة واحدة، يصبح خمسة أضعاف الكتب المؤلفة حول إقبال.لكننا ومع الأسف أصبحنا أمة متأخرة ومتخلفة، فلا نعمل بمسؤولياتنا الدينية تجاه أئمتنا الطاهرين(علیهم السلام)، بالرغم من أننا كنا أصحاب الهمم والثقافة والتقدم في بدو الأمر، حيث كانت الهمة همتنا، والتقدم لعلومنا، فإن تطور الغرب وتقدمه كان ببركة علوم الإسلام وعلوم أهل البيت(علیهم السلام).

تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام

العلامة السيد حسن الصدر من علماء الشيعة المرموقين ألف كتاباً تحت عنوان: (تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام) يقول في هذا الكتاب: إن الشيعة هم

ص: 270

الذين أسسوا كافة العلوم الإسلامية، ثم إن سائر المذاهب أخذوا منهم(1)، لقد ذكر ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة: إن كافة العلوم قد أخذت عن علي بن أبي طالب(علیه السلام)(2).

لا حظوا بأن مثل ابن أبي الحديد والذي لم يكن شيعياًيعترف بأننا كنا في المقدمة.

ولكن ماذا حصل لنا حيث تأخرنا قليلاً قليلاً؟

نعم يلزم علينا أن نجدد نشاطنا في مختلف المجالات وخاصة في ما يرتبط بتعريف الأئمة الطاهرين(علیهم السلام) إلى العالم، فنؤلف الكتب حول الإمام الحجة(علیه السلام) ليتعرف على وجوده المبارك جميع الناس ويعرفون أنه المنقذ الحقيقي الحي، فالأئمة(علیهم السلام) كلهم منقذون ولا شبهة في الموضوع، ولكن هذا العصر هو عصر الإمام المهدي(علیه السلام)، وهو المنقذ للبشرية بإذن اللّه تعالى، مضافاً إلى أن الأئمة(علیهم السلام) هم الذين أمرونا وأرشدونا نحو الإمام(علیه السلام).

كان أحد الأشخاص المؤمنين يزور الإمام الحسين(علیه السلام) في كربلاء المقدسة لحاجة له وذلك لمدة غير قصيرة، فرأى الإمام الحسين(علیه السلام) في عالم الرؤيا وهو يقول له: اذهب إلى سامراء واطلب حاجتك من الإمام الحجة(علیه السلام)؛ لأنه إمامك الحي. وهذا لا ينافي ما ورد من أنالدعاء تحت قبة الإمام الحسين(علیه السلام) مستجاب حتماً(3).

كما أن الإمام الهادي(علیه السلام) في قصة أرسل شخصاً إلى قبر الإمام الحسين(علیه السلام) في كربلاء ليدعو اللّه تعالى.

ص: 271


1- انظر مقدمة الكتاب.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 17.
3- انظر وسائل الشيعة 14: 537.

فعن سهل بن زياد، عن أبي هاشم الجعفري، قال: بعث إليّ أبو الحسن(علیه السلام) في مرضه وإلى محمد بن حمزة، فسبقني إليه محمد بن حمزة، وأخبرني محمد: ما زال يقول: «ابعثوا إلى الحَيْرِ، ابعثوا إلى الحَيْرِ»(1). فقلت لمحمد: ألّا قلت له: أنا أذهب إلى الحَيْرِ.

ثم دخلت عليه، وقلت له: جعلت فداك، أنا أذهب إلى الحَيْرِ. فقال(علیه السلام): «انظروا في ذاك»(2)...

قال: فذكرت ذلك لعلي بن بلال، فقال: ما كان يصنع بالحَيْرِ،وهو الحَيْرُ(3)؟

فقدمت العسكر فدخلت عليه، فقال لي: «اجلس» حين أردت القيام، فلما رأيته أنس بي ذكرت له قول علي بن بلال. فقال لي: «ألا قلت له: إن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) كان يطوف بالبيت ويقبل الحجر، وحرمة النبي والمؤمن أعظم من حرمة البيت، وأمره اللّه عزّ وجلّ أن يقف بعرفة، وإنما هي مواطن يحب اللّه أن يذكر فيها، فأنا أحب أن يدعى اللّه لي حيث يحب اللّه أن يدعى فيها...»(4).

فإن ما قام به الإمام الهادي(علیه السلام) يدل على موضوعية الحائر الحسيني الشريف لاستجابة الدعاء، كما هو تعليم لنا، وكذلك قصة ذلك الزائر الذي أرسله الإمام الحسين(علیه السلام) إلى سامراء، فإنه للتعليم أيضاً بحيث نسعى وراء إمامنا الحي.

الخاتمة

وفي الختام ينبغي التأكيد على ضرورة النشاط الثقافي والتبليغي للتعريف

ص: 272


1- أي: ابعثوا رجلاً إلى حائر الحسين(علیه السلام) يدعو لي هناك.
2- فإن الذهاب إلى كربلاء كان مظنة للأذى والضرر، فانظروا في ذلك، لأن المتوكل (لعنه اللّه) كان يمنع الناس من زيارة الإمام الحسين(علیه السلام) أشد المنع.
3- أي: هو في الشرف مثل الحائر الحسيني الشريف، فأي حاجة له في أن يدعى له عند قبر الإمام الحسين(علیه السلام).
4- الكافي 4: 567.

بالإمام الحجة(علیه السلام) إلى العالم كافة، وذلك بتأليف كل واحد من طلبة العلوم الدينية وغيرهم من المؤمنين كتاباً حول الإمام(علیه السلام)، وترجمة هذه الكتب إلى مختلف اللغات العالمية.

بالإضافة إلى ضرورة الاستفادة من التقنيات الحديثة لتعريف الناس بإمام زمانهم(علیه السلام) من الإذاعات والفضائيات والإنترنيت وغيرها.

ص: 273

في رحاب السيدة المعصومة(علیها السلام)

اشارة

في رحاب السيدة المعصومة(علیها السلام)(1)

ذكرى استشهاد السيدة المعصومة(علیها السلام)

العاشر من شهر ربيع الثاني يصادف - على قول - يوم استشهاد كريمة أهل البيت السيدة فاطمة المعصومة(علیها السلام) بنت الإمام موسى بن جعفر(علیهما السلام).

فبعض العلماء والأساتذة في الحوزة العلمية المباركة قد أعلن اليوم عطلة، والبعض الآخر استمر بالدراسة. ومن المناسب في هكذا أمور أن تنظم من قبل شورى الفقهاء المراجع، وأن تعين شؤون الحوزة بأكثرية الآراء، حتى يزول التشتت والاختلاف، وقد أشار القرآن الحكيم وفي ثلاثة مواضع إلىمسألة الاستشارة وبثلاث صيغ: «شُورَىٰ» و«شَاوِرهُم» و«تَشَاوُرٖ»، والتي تعني أكثرية الآراء. وقد كتبنا حول هذا الموضوع كتاباً تحت عنوان: (الشورى في الإسلام)(2).

ص: 274


1- ألقيت المحاضره في عام (1414ه-).
2- من تأليفات الإمام الشيرازي(رحمة الله) تناول سماحته فيه إلى المواضيع التالية: الفصل الأول: توضيح جوانب من الشورى، المشير والمستشير، المشورة، هل تلزم المشورة، هل يلزم المستشار، كم قدر المشورة. الفصل الثاني: تفصيل الحزب وأقسامه، الأحزاب الدكتاتورية، فشل الأحزاب السياسية في العالم الثالث، الهيكلية العامة للأحزاب السياسية، العلاقات الداخلية في التنظيمات، أقسام التمركز، بدل العضوية، الأحزاب الديمقراطية والدكتاتورية، الأحزاب السياسية والمؤسسات الحكومية، النظام القائم على الحزبين، التجمعات الضاغطة، اللجوء إلى السرية، الفرق بين مجموعات النفوذ والأحزاب السياسية، الزعماء الحقيقيون للأحزاب السياسية، الرأي العام، النظام الحزبي، البرلمان، الحزب والانتخابات. الفصل الثالث: جملة من روايات المشورة.

وما لم يتحقق هذا الأمر؛ فإن الاختلافات ستبقى قائمة في الحوزة.

قال تعالى: «وَأَمرُهُم شُورَىٰ بَينَهُم»(1).وقال سبحانه: «وَشَاوِرهُم فِي ٱلأَمرِۖ»(2).

وقال تعالى: «فَإِن أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٖ مِّنهُمَا وَتَشَاوُرٖ»(3).

وعلى كل حال فقد رأينا اليوم القيام بعمل وسط بين البحث الفقهي وعدمه، حيث سنبحث بعون اللّه تعالى بحثاً أخلاقياً بالمعنى الأعم في ثلاثة مواضيع:

الموضوع الأول: نبذة عن حياة السيدة المعصومة(علیها السلام)

ولادتها ووفاتها

وُلدت السيدة فاطمة المعصومة(علیها السلام) بنت الإمام موسى الكاظم(علیه السلام)، في غرة ذي القعدة سنة (173ه.) ووردت قم المقدسة في سنة (201ه-)، وتوفيت بها مسمومة شهيدة في العاشر من ربيع الثاني من نفس العام.

روي أنها خرجت في طلب أخيها الإمام الرضا(علیه السلام)، فلما وصلتإلى (ساوة) مرضت.

أقول: كان مرضها على أثر السم، على ما سيأتي.

فسألت: كم بيني وبين قم؟

قالوا: عشرة فراسخ.

فأمرت خادمها، فذهب بها إلى قم(4) وأنزلها في بيت موسى بن خزرج بن

ص: 275


1- سورة الشورى، الآية: 38.
2- سورة آل عمران، الآية: 159.
3- سورة البقرة، الآية: 233.
4- دخلت السيدة المعصومة(علیها السلام) إلى قم المقدسة في تاريخ 23 ربيع الأول عام (201ه ) عن طريق مدينة (ساوة) وفي مثل هذا اليوم يحتفل القميون بقدومها ويزينون الشوارع والأزقة تكريماً لها.

سعد. فكانت فيها ستة عشر يوماً، ثم فارقت الحياة، فدفنها موسى بعد التغسيل والتكفين في أرض له، وهي التي الآن مدفنها ومزارها، وبنى على قبرها سقفاً من البواري، ثم بنت زينب بنت الإمام الجواد(علیه السلام) عليها قبة، ثم دفنت بجوارها عدد من بنات الإمام الجواد(علیه السلام) وغيرهن من ذراري الأئمة المعصومين(علیهم السلام)(1).واليوم روضتها المقدسة مزار وملاذ للمؤمنين من مختلف بقاع العالم.

من فضائلها(علیها السلام)

وردت في حق السيدة فاطمة المعصومة(علیها السلام) وفي فضل زيارتها أحاديث عديدة من الأئمة الطاهرين(علیهم السلام).

كما بشّر الإمام الصادق(علیه السلام) بولادتها، وقال بأنها سوف تدفن في قم ولها مقام الشفاعة.

حيث روي عنه(علیه السلام) أنه قال:

«إن للّه حرماً وهو مكة، ألّا إن لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) حرماً وهو المدينة، ألّا وإن لأمير المؤمنين(علیه السلام) حرماً وهو الكوفة، ألّا وإن قم الكوفة الصغيرة، ألّا إن للجنة ثمانية أبواب، ثلاثة منها إلى قم، تقبض فيها امرأة من ولدي اسمها فاطمة بنت موسى، وتدخل بشفاعتها شيعتي الجنة بأجمعهم»(2).وفي رواية قال الإمام الصادق(علیه السلام): «مرحباً بإخواننا من أهل قم... إن لنا حرماً وهو بلدة قم، وستدفن فيها امرأة من أولادي تسمى فاطمة، فمن زارها وجبت له الجنة». قال الراوي: وكان هذا الكلام منه(علیه السلام) قبل أن يولد الكاظم(علیه السلام)(3).

ص: 276


1- انظر بحار الأنوار 48: 290.
2- بحار الأنوار 57: 228.
3- مستدرك الوسائل 10: 368.

وفي رواية أخرى قال(علیه السلام): «إن زيارتها تعادل الجنة»(1).

وروى المحدث الجليل صاحب الوسائل في باب استحباب زيارة قبر فاطمة بنت موسى بن جعفر(علیهم السلام) بقم، عن سعد بن سعد قال: سألت أبا الحسن الرضا(علیه السلام) عن زيارة فاطمة بنت موسى بن جعفر(علیهم السلام) بقم، فقال(علیه السلام): «من زارها فله الجنة»(2).

وعن ابن الرضا (الإمام الجواد) (علیه السلام): «من زار قبر عمتي بقم فله الجنة»(3).إلى غيرها من الروايات.

وتوفيت مسمومة شهيدة

الميرزا القمي(رحمة الله) صاحب القوانين المدفون بقرب الروضة المعصومية المباركة، له عدة مؤلفات قيمة، أشهرها (قوانين الأصول)، وله كتاب آخر على شكل السؤال والجواب تحت عنوان: (جامع الشتات) في ثلاث مجلدات، وهو كتاب فقهي كثير الفائدة وقد اشتمل على بعض الفوائد الأخرى. نقل المرحوم الميرزا في هذا الكتاب روايتين تدل على أن السيدة المعصومة(علیها السلام) قد فارقت الحياة قبل الإمام الرضا(علیه السلام).

حيث أرادت(علیها السلام) الالتقاء بالإمام الرضا(علیه السلام)، وأكبر ظني أنها توجهت بأمر الإمام(علیه السلام) نحو إيران، ثم ما أن وصلت إلى قم حتى فارقت الحياة.

فما كان السبب في وفاتها؟

في البحار: روى مشايخ قم أنه لما أخرج المأمون علي بن موسى الرضا(علیهما السلام) من المدينة إلى المرو في سنة مائتين خرجت فاطمة أخته فيسنة إحدى ومائتين تطلبه فلما وصلت إلى ساوه مرضت، فسألت كم بيني وبين قم؟ قالوا عشرة فراسخ،

ص: 277


1- مستدرك الوسائل 10: 368.
2- وسائل الشيعة 14: 576.
3- وسائل الشيعة 14: 576.

فأمرت خادمها فذهب بها إلى قم وأنزلها في بيت موسى بن خزرج بن سعد.

ثم قال: والأصح أنه لما وصل الخبر إلى آل سعد اتفقوا وخرجوا إليها أن يطلبوا منها النزول في بلدة قم، فخرج من بينهم موسى بن خزرج فلما وصل إليها أخذ بزمام ناقتها وجرها إلى قم وأنزلها في داره فكانت فيها ستة عشر يوماً ثم مضت إلى رحمة اللّه ورضوانه، فدفنها موسى بعد التغسيل والتكفين في أرض له وهي التي الآن مدفنها وبنى على قبرها سقفاً من البواري، إلى أن بَنَت زينب بنت الجواد(علیه السلام) عليها قبة(1).

إذن توفيت(علیها السلام) على أثر مرض مفاجئ لم يذكر سبب لهذا المرض.

فما كان السبب في ذلك؟

عند ما كنا في العراق قرأت كتاباً تاريخياً يذكر بأن المأمون العباسيكما قام بقتل الإمام الرضا(علیه السلام) بالسم، كذلك دس السم إلى السيدة المعصومة(علیها السلام) وهي في طريقها لزيارة أخيها بخراسان، فقد استشهدت هي بالسم أيضاً.

وأتصور أن هذا الرأي هو الصحيح، فإن التاريخ لم يذكر سبباً خاصاً في وفاة السيدة المعصومة(علیها السلام) من مرض مسبق أو ما أشبه، في الوقت الذي كانت تلك المخدرة قد رحلت عن الدنيا وهي في شبابها حيث كان عمرها 18، أو 20، أو 28 سنة، من دون أن تكون مسبوقة بمرض أو علة.

وطبقاً لنقل ذلك الكتاب فإن المأمون كان قد سمها(علیها السلام)(2).

ص: 278


1- بحارالأنوار 57: 219.
2- انظر أيضاً كتاب (قم المقدسة رائدة الحضارة): 45، حيث يقول الإمام الشيرازي(رحمة الله) فيه: فلما وصلت السيدة المعصومة(علیها السلام) إلى ساوة، تمرضت، وكان سبب مرضها(علیها السلام) كما في التاريخ أن المأمون كتب إلى عماله أن يدسوا لها السم الفتاك في طعامها، فأثر ذلك السم فيها، وضعفت عن مواصلة سفرها إلى خراسان، ولما أحست بالخطر، سألت(علیها السلام) من معها عن مقدار المسافة الباقية إلى قم...).

كما قام المأمون بقتل إخوتها - بالسيف أو بالسم - في طريقهملزيارة الإمام الرضا(علیه السلام).

الاغتيالات سياسة الطغاة

وعلى كل، فإن الشيء الذي يملكه حكام الجور هو تلك الاغتيالات التي يقومون بها ضد المؤمنين الأبرياء إما بالسيف، وإما بالسم إن لم يمكنهم السيف، وكان أولهم معاوية الذي قام باغتيال مالك الأشتر (رضوان اللّه عليه) عن طريق سقيه السم بالعسل مما أدى إلى استشهاده، ولما وصل إليه خبر شهادة مالك قال مفتخراً: إن للّه جنوداً من عسل!(1).

يعني أن ذلك العسل المسموم هو الذي قضى على مالك واعتبره معاوية أنه من جنود اللّه!

لكن العاقبة للمتقين، حيث ترى اليوم أن قبر مالك الأشتر في مصر أصبح مزاراً للمؤمنين، وقبر معاوية في سوريا عادي مزبلة، ولقد شاهدت بنفسي قبر معاوية وكيف أنها مزبلة.

وبعد معاوية فقد سلك حكام الجور من بني أمية وبني العباسوغيرهم نفس الطريقة لأنها طريقة سهلة ربما لا يفهم بها كل أحد، فقتلوا أكثر الأئمة وذراريهم وأصحابهم بالسم.

عند دفن السيدة المعصومة(علیها السلام)

ورد في التاريخ أنه حضر دفن السيدة المعصومة(علیها السلام) اثنان من الفرسان الملثمين وقاما بدفنها(2)، ولعل لأن السيدة لم يكن لها أقرباء في قم وكانت غريبة.

ص: 279


1- الإختصاص: 81.
2- انظر بحار الأنوار 48: 290؛ 57: 219.

وأحتمل أن يكون هذان الإثنان من إخوتها، فأحدهما الإمام الرضا(علیه السلام) والثاني أخوه، لأن الإمام الرضا(علیه السلام) كان له عدة إخوة، ويحتمل أن يكون الآخر هو الإمام الجواد(علیه السلام)(1).

روى العلامة المجلسي(رحمة الله) في البحار: أنه لما توفيت فاطمة(علیها السلام) وغسلوها وكفنوها ذهبوا بها إلى بابلان ووضعوها على سردابحفروه لها، فاختلف آل سعد بينهم في من يدخل السرداب ويدفنها فيه فاتفقوا على خادم لهم شيخ كبير صالح يقال له قادر فلما بعثوا إليها رأوا راكبين سريعين متلثمين يأتيان من جانب الرملة، فلما قربا من الجنازة نزلا وصليا عليها ودخلا السرداب وأخذا الجنازة فدفناها ثم خرجا وركبا وذهبا ولم يعلم أحد من هما، والمحراب الذي كانت فاطمة(علیها السلام) تصلي إليها موجود إلى الآن في دار موسى بن الخزرج(2).

وعلى كل حال فقد ذكر البعض أن ذلك اليوم الذي استشهدت فيه السيدة المعصومة(علیها السلام)، هو هذا اليوم، ولا بأس بهذا القول، فإنها قد استشهدت في يوم ما، وهذا اليوم أحد محتملات العلم الإجمالي، وهو من تعظيم الشعائر حيث قال تعالى: «وَمَن يُعَظِّم شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى ٱلقُلُوبِ»(3).

المدفونون بجوارها

في التاريخ: أن بنات الإمام الجواد(علیه السلام) زينب وأم محمد وميمونة نزلن قم عند أخيهن موسى المبرقع، فلما متن دفنّ عند فاطمة بنت موسى(علیهما السلام)(4).

ص: 280


1- وقد يكون الاحتمال الأخير ضعيفا، وذلك لأن الإمام الجواد(علیه السلام) كان عمره الشريف حينذاك ست أو سبع سنوات. فإن ولادته في العاشر من شهر رجب عام (196ه) أو (195ه )، ووفاة السيدة المعصومة(علیها السلام) في 10 ربيع الثاني (201ه) ، فتأمل.
2- بحارالأنوار 57: 219.
3- سورة الحج، الآية: 32.
4- بحار الأنوار 50: 161 (بيان).

وفي البحار: ثم ماتت أم محمد بنت موسى بن محمد بن علي الرضا(علیه السلام) فدفنوها في جنب فاطمة (رضي اللّه عنها)، ثم توفيت ميمونة أختها فدفنوها هناك أيضاً، وبنوا عليهما أيضاً قبة، ودفن فيها أم إسحاق جارية محمد وأم حبيب جارية محمد بن أحمد الرضا وأخت محمد بن موسى(1).

من كراماتها

نقل لي المرجع الديني آية اللّه العظمى السيد المرعشي النجفي(رحمة الله)، أنه في قصة دخل السرداب التي دفنت السيدة المعصومة(علیها السلام) فيه، فرأى جثمانها الطاهر وكأنها دفنت في نفس اللحظةحيث كان البدن الشريف طرياً وذلك بعد أكثر من ألف سنة(2).

ص: 281


1- بحارالأنوار 57: 219.
2- للتفصيل انظر كتاب قم المقدسة رائدة الحضارة: 200، للإمام الشيرازي(رحمة الله)، وفيه: نقل لي آية اللّه السيد المرعشي النجفي(رحمة الله): أن شقوقاً حدثت في أسطوانات الروضة المباركة للسيدة فاطمة المعصومة(علیها السلام)، تلك الأسطوانات التي تعتمد عليها القبة الذهبية المنورة، فاستدعي المعمارون لترميم الشقوق وإصلاح الأسطوانات، فقال المعمارون: لأجل الاطمئنان من أن هذه الشقوق الحادثة في الأسطوانات سطحية، وليست عميقة، لابد وأن ينزل أحد إلى السرداب المحيط بالقبر الشريف، ويستعلم حال السرداب والجدران والأعمدة التي تعتمد عليها الأسطوانات. فانتخبوا جماعة من السادة، ومن بينهم السيد المرعشي، للنزول إلى داخل السرداب حيث القبر الشريف، فنزل السيد المرعشي ومن معه من السادة، وإذا بهم يرون السيدة فاطمة المعصومة(علیها السلام) مسجاة باتجاه القبلة، وقد كُشف الكفن عن وجهها المنير، كما هو في مستحبات الدفن، حيث يستحب صنع وسادة من التراب وكشف وجه الميت ووضعه عليها. يقول السيد المرعشي(رحمة الله): وكانت كالنائمة أو كالميتة الآن طرية، ويفوح منها رائحة عطر الكافور، وكان كفنها طرياً جديداً أيضاً، وكأنها قد دفنت تواً، وكان لونها حنطاوياً مشبّعاً يميل إلى السمرة الشديدة، كما هو عليه أهل المدينة المنورة، وكانت من حيث السن كأنها في من أبناء العشرينات. هذا وكان إلى جانبها وحواليها نساء أخر، وكانت هي(علیها السلام) تتوسط امرأتين يميل لون وجههما إلى السواد الشديد، حتى كأنهما من وصائف السودان وجواريهما، وكن جميعاً حتى أكفانهن طريات جديدات كأنهن دفنّ اليوم أو البارحة.

وكيف لا يكون كذلك وقد رأي جثمان القطب الراوندي المدفون في صحن فاطمة المعصومة(علیها السلام) طرياً، وذلك عند بناء الصحن الشريف حيث انهدم قبره وظهر جسد الراوندي طرياً بعد سبعمائة عام.

الموضوع الثاني: تاريخ قم وتشيعها

اشارة

إن مدينة قم قد تم فتحها في عهد حكومة الثاني(1)، حيث إن إيران قد تم فتحها في ذلك الزمان. والكلام يدور حول كيفية تشيعها؛ لأن الثاني كان بعيداً كل البعد عن التشيع والولاء لأهل البيت(علیهم السلام).

حسب التتبع الذي قمنا به فإن التشيع في إيران قد مر بخمسة أدوار:

الدور الأول

اشارة

كان أول أدوار التشيع قد ظهر في زمن حكومة الإمام أميرالمؤمنين علي(علیه السلام)؛ لأن الإمام(علیه السلام) كان هو الحاكم المطلق للبلاد الإسلامية، وكما نعلم فإن الحكومة الإسلامية كانت واسعة جداً ومترامية الأطراف، من ليبيا إلى بلاد القوقاز في الإتحاد السوفيتي، وأن إيران كانت جزءاً من هذه الحكومة الكبيرة، وأن الإمام علي(علیه السلام) كان على عكس طريقة الثاني، إذ كان (صلوات اللّه وسلامه عليه) ينظر إلى الإيرانيين بنفس العين التي ينظر بها إلى باقي المسلمين، حيث لا فرق بين عربي وعجمي إلّا بالتقوى.

أما الثاني فقد ميّز بين العرب والعجم بشكل كبير على ما هو مذكور في التاريخ. وهذا ما يخالف القرآن الكريم وسيرة الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) وجميع تعاليم الإسلام.

فعلى سبيل المثال: إن الثاني لم يسمح للإيرانيين بالدخول إلى المدينة

ص: 282


1- الثاني: كناية عن عمر بن الخطاب.

المنورة، والشيء الآخر أنه اعتبرهم مواطنين من الدرجة الثانية، وكان يقول بأفضلية العرب على غيرهم، ومنعالعجم من التزويج من العرب، إلى غير ذلك مما ورد في التاريخ(1)،ونحن لانريد التعرض لهذا.

ص: 283


1- انظر بحار الأنوار 33: 262، وفيه: وفي كتاب معاوية إلى زياد: وانظر إلى الموالي ومن أسلم من الأعاجم فخذهم بسنة عمر بن الخطاب فإن في ذلك خزيهم وذلهم، أن ينكح العرب فيهم ولا ينكحونهم، وأن يرثوهم العرب ولا يرثوا العرب، وأن تقصر بهم في عطائهم وأرزاقهم، وأن يقدموا في المغازي، يصلحون الطريق ويقطعون الشجر، ولا يؤم أحد منهم العرب في صلاة، ولا يتقدم أحد منهم في الصف الأول إذا أحضرت العرب إلّا أن يتم الصف، ولا تول أحداً منهم ثغراً من ثغور المسلمين، ولا مصراً من أمصارهم، ولا يلي أحد منهم قضاء المسلمين ولا أحكامهم، فإن هذه سنة عمر فيهم وسيرته جزاه عن أمة محمد وعن بني أمية خاصة أفضل الجزاء، فلعمري لولا ما صنع هو وصاحبه وقوتهما وصلابتهما في دين اللّه لكنا وجميع هذه الأمة لبني هاشم الموالي ولتوارثوا الخلافة واحداً بعد واحد... إلى أن قال: يا أخي لو أن عمر سن دية الموالي على النصف من دية العربي فذلك أقرب للتقوى لما كان للعرب فضل على العجم فإذا جاءك كتابي هذا فأذل العجم وأهنهم وأقصهم ولا تستعن بأحد منهم ولا تقض لهم حاجة... إلى أن قال: وحدثني ابن أبي المعيط أنك أخبرته أنك قرأت كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري وبعث إليه بحبل طوله خمسة أشبار وقال له أعرض من قبلك من أهل البصرة فمن وجدت من الموالي ومن أسلم من الأعاجم قد بلغ خمسة أشبار فقدمه فاضرب عنقه فشاورك أبو موسى في ذلك فنهيته وأمرته أن يراجع فراجعه وذهبت أنت بالكتاب إلى عمر وإنما صنعت ما صنعت تعصباً للموالي وأنت يومئذ تحسب أنك ابن عبد ثقيف فلم تزل تلتمس حتى رددته عن رأيه وخوفته فرقة الناس فرجع وقلت له يومئذ وقد عاديت أهل هذا البيت أخاف أن يثوروا إلى علي فينهض بهم فيزيل ملكك فكف عن ذلك، وما أعلم يا أخي ولد مولود من أبي سفيان أعظم شؤما عليهم منك حين رددت عمر عن رأيه ونهيته عنه وخبرني أن الذي صرفت به عن رأيه في قتلهم أنك قلت إنك سمعت علي بن أبي طالب(علیه السلام) يقول: لتضربنكم الأعاجم على هذا الدين عوداً كما ضربتموهم عليه بدءاً، وقال: ليملأن اللّه أيديكم من الأعاجم وليصيرن أسداً لا يفرون فليضربن أعناقكم وليغلبنكم على فيئكم، فقال لك وقد سمع ذلك من علي يرويه عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فذلك الذي دعاني إلى الكتاب إلى صاحبك في قتلهم وقد كنت عزمت على أن أكتب إلى عمالي في سائر الأمصار فقلت لعمر لا تفعل يا أمير المؤمنين! فإني لست آمن أن يدعوهم علي(علیه السلام) إلى نصرته وهم كثير وقد علمت شجاعة علي وأهل بيته وعداوته لك ولصاحبك فرددته عن ذلك... وحدثتني أنك ذكرت ذلك لعلي في إمارة عثمان فأخبرك أن أصحاب الرايات السود، وفي رواية أخرى وخبرتني أنك سمعت علياً في إمارة عثمان يقول إن أصحاب الرايات السود التي تقبل من خراسان هم الأعاجم وأنهم الذين يغلبون بني أمية على ملكهم ويقتلونهم تحت كل كوكب، فلو كنت يا أخي لم ترد عمر عن ذلك لجرت سنة ولاستأصلهم اللّه وقطع أصلهم وإذن لانتست به الخلفاء بعده حتى لا يبقى منهم شعر ولا ظفر ولا نافخ نار، فإنهم آفة الدين فما أكثر ما قد سن عمر في هذه الأمة بخلاف سنة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فتابعه الناس عليها وأخذوا بها فتكون هذه مثل واحدة منهن.

وقد سار عثمان من بعده على هذا المنوال، إذ لم يكن للإيرانيين في زمان عثمان قيمة تذكر.

وأما أمير المؤمنين الإمام علي(علیه السلام) فقد كان قانونه نفس قانون القرآن إذ يقول: «إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ ٱللَّهِ أَتقَىٰكُمۚ»(1)، ونفس كلام الرسول(صلی الله علیه و آله) في اليوم الأول: «لا فضل لعربي على عجمي... إلّا بالتقوى»(2)، فمن كان الأتقى فهو الأفضل، سواء كان عربياً أم أعجمياً. وعليه فقد رأى الإيرانيون أن الإمام(علیه السلام) يقوم بتطبيق العدالة، ومن الطبيعي أن كل شخص يحب العدالة ويطلبها. وهذا كان من أسباب نمو الحركة الشيعية في إيران.

إن من مقومات العدالة هي المساواة بين الناس أمام القانون،مثلاً: لا يفرق بين أحد والآخر لأنه ولد في مدنية كذا، فهو أفضل من الشخص الذي ولد في مدينة أخرى، فهذا ما لا وجه له في الإسلام أبداً. أو مثلاً: لأن فلان لغته عربية أو فارسية فهو الأفضل من غيره، هذه معايير الجاهلية، بل الميزان في الإسلام هو قوله تعالى: «إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ ٱللَّهِ أَتقَىٰكُمۚ»(3) والميزان الصحيح، هو ميزان الكفاءة والقيم المعنوية، لا ميزان القومية والتبعية والحدود الجغرافية وأمثالها.

ص: 284


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- معدن الجواهر: 21.
3- سورة الحجرات، الآية: 13.

لقد أعاد الإمام علي(علیه السلام) ومنذ ابتداء حكومته كافة القوانين التي أمر بها الإسلام ونزل بها الذكر الحكيم، وجعلها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وعمل الخلفاء على خلافها، والشاهد على هذا المطلب قصص كثيرة مذكورة في التاريخ، وليس البحث الآن عن ذلك، بل الكلام حول قم المقدسة وتاريخ تشيعها.

إن أهم سبب في نشر التشيع هي السيرة العادلة للإمام أميرالمؤمنين علي(علیه السلام)، فعندما جعل الإمام(علیه السلام) الكوفة عاصمة لحكومته، وعمّ العمران والازدهار والتطور والرخاء للجميع، حيث ازداد عدد سكانها حتى بلغت ستة ملايين نسمة، ومساحتها عشرة فراسخ، أي طول الكوفة كان في حدود ستين كيلومتراً، كان (صلوات اللّه وسلامه عليه) ينظر إلى العرب والعجم هناك بشكل واحد، فلهم شخصية واحدة، وحقوق متساوية، وكان يدفع لهم عطاءً واحداً، فكان من نتيجة هذا امتعاض بعض العرب الجاهليين وانزعاجهم من هذه السياسة العادلة؛ لأنهم يرون أن امتيازاتهم قد زالت.

أنا عربية وهذه عجمية

يروى أن امرأتين جاءتا إلى أمير المؤمنين(علیه السلام) وأظهرتا الفاقة، فأمر(علیه السلام) خادمه بأن يعطي كل واحدة منهن عشرين ديناراً، وكُراً من الحنطة، وهو مكيال أهل العراق. فاعترضت إحدى المرأتين، وقالت: أنا عربية وهذه عجمية، فكيف تساوي بالعطاء بيننا!

فقال الإمام(علیه السلام): «إني لم أجد في كتاب اللّه فضيلة لبني إسرائيلعلى بني إسحاق»(1)؛

لأن العجم من أولاد إسحاق، والعرب من أولاد إسماعيل.

وقال(علیه السلام): إني قد قرأت كتاب اللّه فلم أجد فضلاً للعرب على العجم.

ص: 285


1- انظر الإختصاص: 151.
المؤمن كفو المؤمنة

ومما ابتدعه الثاني في عهده حيث فرق بين العرب والعجم، أنه لم يرض بتزويج العجم من العرب، وفرق بينهم وبين العرب في الإرث، وفي صلاة الجماعة، وغيرها(1).

عن أبي عبد اللّه(علیه السلام) قال: «أتت الموالي أمير المؤمنين(علیه السلام) فقالوا: نشكو إليك هؤلاء العرب، إن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) كان يعطينا معهم العطايا بالسوية وزوج سلمان وبلالاً وصهيباً وأبوا علينا هؤلاء وقالوا: لا نفعل، فذهب إليهم أمير المؤمنين(علیه السلام) فكلمهم فيهم، فصاح الأعاريب أبينا ذلك يا أبا الحسن أبينا ذلك، فخرج وهو مغضب يجر رداؤه وهو يقول: يا معشر الموالي إن هؤلاء قد صيروكم بمنزلةاليهود والنصارى يتزوجون إليكم ولا يزوجونكم ولا يعطونكم مثل ما يأخذون فاتّجروا، بارك اللّه لكم فإني قد سمعت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يقول: الرزق عشرة أجزاء تسعة أجزاء في التجارة وواحدة في غيرها»(2).

ومنذ ذلك الوقت حيث رأى العجم أن الإمام(علیه السلام) هو التطبيق العملي الصحيح للإسلام والقرآن، وهو الحاكم بالعدل والمساواة بين الناس، أصبحوا من محبي أمير المؤمنين(علیه السلام) وهذه هي بذرة التشيع في إيران.

كانت هذه هي النواة والدور الأول لتشيع إيران ولكنها لم تتسم بالشمولية؛ لأن حكومة الإمام(علیه السلام) الظاهرية كانت قصيرة جداً.

الدور الثاني

الدور الثاني من التشيع في إيران والذي كان السبب في تشيع قم هو عهد الأشعريين اليمنيين.

ص: 286


1- انظر بحار الأنوار 33: 261-264.
2- الكافي 5: 318.

فقد كانت قم في بداية الأمر عبارة عن قلاع متفرقة وصغيرة تعود لبعض اليهود أو المجوس. وفي زمان بني أمية كانت اليمن شيعية؛ لأن أهل اليمن أسلموا على يد الإمام علي بن أبي طالب(علیه السلام)، وقد كانوا شيعة منذ القدم وإلى يومنا هذا، فإن اليمن شيعة ولكنهم زيدية(1)،

ويبلغ عدد سكان اليمن خمسة وعشرون مليون نسمة(2)، وهم يعتقدون بالنبي(صلی الله علیه و آله)، وأمير المؤمنين(علیه السلام)، والإمام الحسن والإمام الحسين(علیهما السلام)، والإمام زين العابدين(علیه السلام)، ولكنهم بعد الإمام زين العابدين(علیه السلام) يعتقدون بإمامة الشهيد زيد بن الإمام زين العابدين(علیه السلام).وفي زمان بني أمية كانت اليمن تعتبر من مراكز الشيعة، وكان هذا التجمع يشكل خطراً على بني أمية أعداء علي(علیه السلام)، ولهذا فقد قاموا بإبعاد أعداد كبيرة منهم إلى مكان (بيغولة)(3) أي قم، وهو عبارة عن واد لا زرع فيه حتى لا يتمكنوا من النشاط والفعالية، ولا يتصل بهم الناس.

وهؤلاء الذين أبعدوا كانوا أشعريين(4)،

ولا زال أولادهم وذريتهم موجودين

ص: 287


1- الزيدية: طائفة من الشيعة تقول بإمامة زيد بن علي بن الحسين السجاد(علیهما السلام)، وبإمامة كل فاطمي دعا إلى نفسه، وهو على ظاهر العدالة، ومن أهل العلم والشجاعة، وكانت بيعته على تجريد السيف للجهاد. والزيدية ثلاث فرق: الجارودية وهم أصحاب أبي الجارود زياد بن المنذر، والسليمانية من أتباع سليمان بن حريز، والبترية ويسمون بالصالحية أيضاً لأن من رؤسائهم الحسن بن صالح.
2- تشير الإحصائيات الأخيرة إلى أن نفوس اليمن حوالي (29) مليون نسمة.
3- بيغولة: كلمة فارسية وتعني الناحية البعيدة عن الناس، كما تعني الأرض الخراب أيضاً.
4- الأشعريون: قبيلة مشهورة باليمن نسبة إلى أشعر، والأشعر هو نبت بن أدد، قال ابن الكلبي: إنما سمي نبت بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ الأشعر؛ لأن أمه ولدته وهو أشعر، والشعر على كل شيء منه فسمي الأشعر. وأما الأشاعرة القميون: فهم يمانيون أيضاً والذين دعا لهم النبي(صلی الله علیه و آله)، فقال: «اللّهم اغفر للأشعريين صغيرهم وكبيرهم». وقال(صلی الله علیه و آله): «الأشعريون مني وأنا منهم» انظر بحار الأنوار 57: 220.

في قم المقدسة.

ولعل قم هي أول المدن الإيرانية التي تشيعت، وبعدها كاشان،والسر في ذلك قربها من قم وتقبل أهلها للحق.

علماً بأن الشيعة الذين جاءوا إلى قم قد اشتغلوا بالزراعة ونشطوا، وبالنتيجة فقد تشيعت القرى التي كانت في أطراف قم وكذلك ساوة وكاشان.

إذن فإن قم وكاشان هما أولى المدن التي تشيعت.

الدور الثالث

الدور الثالث لتشيع إيران، أوجده البويهيون(1)، وهم في الأصل من أهل مازندران، وكان قسم من إيران مثل شيراز ونواحي فارس إلى خوزستان والعراق تحت سلطانهم، وكانوا شيعة. وقد كان في زمانهم كبار العلماء من أمثال:الصدوقين...(2).

والمفيد...

والمرتضى...

والرضي...

وابن الجنيد(3)

(رضوان اللّه عليهم أجمعين)، وقد مهدت الحكومة لنشر علوم آل محمد(علیهم السلام) فحدثت موجة من التشيع في إيران.

ص: 288


1- البويهيون: أسرة شيعية حكمت من سنة 334ه واستمر حكمها إلى سنة 447ه. تنسب إلى (أبي شجاع بويه)، ولكن مؤسسيها الحقيقيين هم أبناؤه الثلاثة: 1- علي (الملقب بعماد الدولة)، 2- الحسن (الملقب بركن الدولة)، 3- أحمد (الملقب بمعز الدولة).
2- وهما علي بن الحسين بن بابويه القمي، وابنه محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق.
3- أبو علي محمد بن أحمد بن الجنيد الكاتب الإسكافي.

الدور الرابع

أما الدور الرابع فقد أوجده العلامة الحلي، فقد جاء إلى إيران ومعه مجموعة كبيرة من تلامذته في زمان الملك خدا بندة(1)،وقد ألف عدة كتب في إيران، وقد عمل على نشر التشيع ما تمكن، فأحدث موجة من التشيع، ولكن بقيت إيران لحد كبير سنية إلى أن جاء الدور الخامس.

الدور الخامس

الدور الخامس هو تشيع إيران بالكامل فقد حدث ذلك بجهود مباركة من الصفويين(2)،

فقد تمكنوا وبمساعدة مجموعة من العلماء مثل:

المجلسي الأول(3)...

والمجلسي الثاني(4)...

والمير فندرسكي(5)...والشيخ البهائي(6)...

من نشر التشيع في كافة أنحاء إيران، حتى أصبحت إيران من أهم دول الشيعة في العالم.

وقد سعت السنة كثيراً للقضاء على التشيع في إيران ولكن باءوا بالفشل،

ص: 289


1- محمد بن أرغون بن أبغا بن هلاكو بن تولى بن جنكزخان المغولي، السلطان غياث الدين المعروف ب (خدا بنده)، ومعناه: عبد اللّه.
2- الصفويون أسرة شيعية علوية عريقة تنتسب إلى صفي الدين الأردبيلي المدفون بأردبيل في أذربيجان.
3- المولى محمد تقي المجلسي المعروف بالمجلسي الأول.
4- محمد باقر بن محمد تقي بن مقصود علي المجلسي، المعروف بالعلامة المجلسي وبالمجلسي الثاني.
5- السيد الأمير أبو القاسم الفندرسكي الحسيني الموسوي، والفندرسكي: بكسر الفاء والنون نسبة إلى فندرسك قصبة من ناحية أعمال أستراباد.
6- بهاء الدين محمد بن الحسين بن عبد الصمد الحارثي الجعبي، المعروف بالشيخ البهائي، والحارثي نسبة إلى الحارث الهمداني.

والسر في ذلك هو أن المجلسيين والشيخ البهائي وسائر العلماء قاموا بتوعية وتثقيف الناس الذين تشيعوا، وذلك بواسطة الكتب والبحث العلمي والحوار الهادف، قد تمكنوا من تغيير ثقافتهم نحو أهل البيت(علیهم السلام)، حتى علم الناس بالدليل والبرهان أحقية مذهب أهل البيت(علیهم السلام).

من هنا ترى أن مجموعة من الغربيين والسنة يقولون بأن التشيع في إيران هو من إيجاد الصفويين.

وفي الواقع أن التشيع في إيران لم يكن من إيجاد الصفويين،بل إن الصفويين قاموا بنشر علوم الشيعة وهي علوم أهل البيت(علیهم السلام) وفي المقابل فإن علوم السنة لم تتمكن من المقاومة والبقاء أمام مدرسة أهل البيت(علیهم السلام) فقد زالت جانباً. وأخذ هذا الدور الحق بالتقدم.

هذا ملخص عن أدوار إيران في تشيعها، أما مدينة قم المقدسة فقد تشيعت في الدور الثاني أي بجهود الأشعريين وهم شيعة اليمن.

كما أن أول مدينة في العراق تشيعت هي الكوفة، وذلك في زمان أمير المؤمنين(علیه السلام)، وقد سعى بنو أمية كثيراً للقضاء على الكوفة فلم يتمكنوا وبقيت شيعية.

وهكذا بالنسبة إلى إيران حيث إن أول مدينة تشيعت منها - بعد الكوفة في العراق - هي قم.

وكانت قم المقدسة - ولا تزال بحمد اللّه تعالى - تضم عدداً من كبار علماء الإمامية المعروفين طول التاريخ، مثل:

الصدوقين...وعلي بن إبراهيم(1)...

ص: 290


1- يعتبر علي بن إبراهيم القمي من أبرز وأوثق رواة الشيعة، ومن المعاصرين للإمام الحسن العسكري(علیه السلام).

وسائر المحدثين والفقهاء.

أما سائر مدن إيران فكانت سنية، فمثلاً طهران كانت سنية بالكامل، وكانوا من أتباع المذهب الشافعي والحنفي، وكثيراً ما حدثت معارك شديدة بين هذين الطائفتين.

الموضوع الثالث: مستقبل قم ودورها في نشر علوم آل محمد(علیهم السلام)

المحور الأول: حرم السيدة المعصومة(علیها السلام)

اشارة

إن أهم معالم قم المقدسة هو حرم السيدة المعصومة(علیها السلام)، فإن هذه السيدة الجليلة هي سبب الخير والبركة لمدينة قم وأهاليها، بل للعالم والعالمين بأجمعهم.

ولكن الحرم الشريف والأروقة وما أشبه لا تتناسب مع عظمة السيدة المعصومة(علیها السلام) ولا تناسب دور قم في إيصال معارفأهل البيت(علیهم السلام) إلى العالم.

فهذا الحرم وبهذا الأسلوب لا يناسب قم ولا التشيع، وأنا أتصور أنه يلزم العمل لتوسيع الحرم الشريف بدرجة يتسع مليون زائر.

فإن الناس حتى غير الملتزمين منهم يعتقدون بالدين وبالأئمة وذويهم، فحتى أولئك الذين لا يلتزمون بالأمور الشرعية، مثل الشخص الذي لا يصلي، أو الذي يشرب الخمر - والعياذ باللّه - أو المرأة السافرة، فإنهم يحترمون السيدة المعصومة(علیها السلام). فالدين يرتبط بروح الناس وهو أمر فطري لا يمكن القضاء عليه.

من هنا فإن حرم السيدة المعصومة(علیها السلام) هي مأوى لجميع الناس، فينبغي أن يكون بحيث يسع أكبر عدد منهم.

إن الشيعي الذي يعيش في أقصى الباكستان أو أفغانستان أو الهند أو سوريا أو لبنان أو بلاد الغرب وأوروبا، فإنه متعلق بقلبه بالسيدة المعصومة(علیها السلام)، ومتعلق

ص: 291

بأهل البيت(علیهم السلام) فرداً فرداً، ويود أن يوفق لزيارتهم والاستفادة من معين بركاتهم.من هنا يلزم أن يكون الحرم الشريف يسع أكبر عدد من الزوار حتى من غير الإيرانيين ومن شيعة العالم بأجمعهم.

فإن الدين وحب الصالحين والأنبياء والأئمة(علیهم السلام) أمر فطري، فأنتم شاهدتم الإتحاد السوفيتي كان يقتّل الناس سبعين سنة ليتخلوا عن الدين.

سبعون سنة! إنها ليست يوما أو يومين، يعني أربعة أجيال؛ لأنه لو تحسبون أن بين جدكم الأعلى وبينكم سبعين سنة، فقد تغيرت أربعة أجيال في الإتحاد السوفيتي، وبالرغم من هذا لم يتمكنوا من القضاء على الدين وجذوره، فمع زوال الضغط قد عاد الجميع إلى دينهم الأول. المسيحيون واليهود عادوا إلى دينهم، والمسلمون والشيعة عادوا إلى دينهم ومذهبهم، لقد قابلت مجموعة منهم فوجدتهم شيعة مثلنا مع فارق بسيط وهو أنه وبسبب عدم وجود المبلغين فقد جهلوا بعض الأمور، وإلّا فإن الإسلام والتشيع في الإتحاد السوفيتي لم ينقص منه شيئاً.وعلى كل حال فإن الكلام حول لزوم توسعة حرم السيدة المعصومة(علیها السلام) إلى درجة بحيث يتسع إلى مليون مصل وزائر على أقل التقادير.

ربما يقول البعض أن في توسيع الحرم خراب لبعض الأماكن الأثرية؟

ولكننا نقول: إنه يلزم ملاحظة الأهم والمهم، وربما أمكن الجمع بين التوسعة وحفظ الآثار، فإن الدين هو المقدم دائماً على كل شيء، فإن مجموعة من المؤمنين كانوا يعيشون قبل مائة عام وبنوا ما يناسبهم من الحرم والقبة وحسب حاجة ذلك الوقت فجزاهم اللّه خيراً، ولكن اليوم تغيرت المعادلات، فإن الأصل والمعيار هو الدين والإنسان والروح والواقعيات.

لقد شاهد الكثير منكم المسجد الحرام، فقد كان في الماضي مسجداً صغيراً،

ص: 292

وقد تشرفتُ بزيارته قبل ثمان وثلاثين عاماً فكان صغيراً، ولكنه توسع الآن بحيث يتسع لمليون مصلٍ،فهذا أفضل من أن يبقى المسجد كما كان في السابق.

إذن يلزمنا العمل لأجل توسعة الروضة المعصومية المباركة، بحيث يكون حرم السيدة المعصومة(علیها السلام) على الأقل يستوعب مليون زائر، وحتى يمكن حضور مليون مصلٍ في صلاة الجماعة، وبالطبع لا نريد بذلك توحيد صلوات الجماعة؛ فإنها من البدع التي ابتدعها السعوديون على خلاف الإسلام والإنسانية، وذلك بتوحيد الصلوات في جماعة واحدة وإجبار الناس عليها.

في الوقت الذي كان النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله) قد بنى في المدينة المنورة وكانت صغيرة في يومه، سبعاً وأربعين مسجداً، فمن أراد الصلاة مع النبي(صلی الله علیه و آله) صلى معه، ومن أراد الصلاة مع غيره صلى معهم.

إذن يلزم أن تكون صلوات الجماعة متعددة وحرة، حتى يختار الناس الإمام الذين يريدون الاقتداء به في الصلاة.

الحريات من أسباب انتشار الإسلام

وأساساً فإن الحريات التي منحها الإسلام للناس، هي أحد الأسباب الرئيسية في انتشار الإسلام، وفي اجتماع الناس حولالدين وقادته، فليس من الضروري أن يصلي الجميع بجماعة واحدة.

وبالطبع إلى ما قبل زمان آل سعود كان الوضع كذلك، بحيث كان كل شخص يتمكن من الصلاة جماعة في المسجد الحرام، حتى أنه زمان المرحوم الحاج آقا حسين القمي، وكان من مراجع الشيعة الكبار، وقد توفي قبل خمسين عاماً، عندما ذهب إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة كان يقيم صلاة الجماعة في المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف وكان يقتدي به الشيعة هناك.

فأي فخر في أن يكون جميع الناس يصلون خلف إمام واحد، أو يكونوا على

ص: 293

شاكلة واحدة.

هذا أسلوب البهلوي(1)

وأمثاله، الذي أمر الناس بتوحيد لباسهم.

فهل رأيتم أحد العقلاء يدعو الناس إلى أن يأكلوا نوعاًواحداً من الطعام.

فأي كلام هذا!

الكل أحرار في أعمالهم، ومنها ما يرتبط بمسألة اختيار إمام الجماعة للصلاة.

إذن من الخطأ ما نراه من البعض حيث يمدح آل سعود على هذا العمل المخالف للإسلام،

وربما مدحوهم بأنه عندما يحل وقت الظهر، تغلق جميع المحال التجارية ويذهبون إلى الصلاة؛ فإن الناس يجتمعون خوفاً من عصا الآمرين بالمعروف!، وهذه ليست فضيلة، بل بالعكس، فإنها بدعة في الدين.

فلم يرد في التاريخ أن النبي(صلی الله علیه و آله) أو أمير المؤمنين(علیه السلام) قد أجبرا بالعصا شخصاً على ترك عمله وحضور صلاة الجماعة، حتى عمر الذي يعتقدون به لم يفعل مثل هذا.

علماً بأن هذا العمل الخاطئ من الجبر والإكراه لحضور الصلاة،وغير ذلك من الأخطاء الكثيرة التي قام بها حكام السعودية كان السبب في تشويه صورة الإسلام في العالم، في الوقت الذي يمنح الإسلام الكثير من الحريات للناس ويدعوهم الى اللّه بالحكمة والموعظة الحسنة من دون جبر وإكراه.

قال تعالى: «لَآ إِكرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ»(2).

وقال عزّ وجلّ : «لَّستَ عَلَيهِم بِمُصَيطِرٍ»(3).

ص: 294


1- رضا خان المعروف بالبهلوي الأول.
2- سورة البقرة، الآية: 256.
3- سورة الغاشية، الآية: 22.

نعم، الإسلام يمنع عن المحرمات من شرب الخمر وما أشبه والمحرمات قليلة جداً، ولكن في غير المحرمات فإن جميع الأشياء في الإسلام مطلقة وحرة حتى العبادة، فأنت حر في أن تصلي في بيتك أو في المسجد أو في غيرهما.

وخلاصة الكلام: يلزم أن يكون الحرم الشريف في قم المقدسة يتسع لمليون زائر، فنحن لسنا مثل اليابان نعاني من قلةالأرض، بحيث نجبر على إدغام الأعمال وبناء الطبقات. إن في قم مساحات شاسعة من كل ناحية، من قم إلى كاشان إلى أصفهان إلى طهران إلى غيرها. علماً بأن هذه الأراضي الواسعة من نعم اللّه علينا، ثم إن الناس على استعداد لدفع الأموال من أجل الأمور الدينية وفي سبيل أهل البيت(علیهم السلام) بشكل لا حدود له، وحتى النساء على استعداد لبذل حليهن وذهبهن في سبيل اللّه وأهل البيت(علیهم السلام).

فثقوا إذا ما حدث مثل هذه التوسعة من أجل مستقبل قم؛ فإن الناس سيدفعون المال اللازم خلال ثلاث سنوات، فالسيد البروجردي (رضوان اللّه عليه) بنى مسجد الأعظم بأموال الناس وبتبرعات من المؤمنين، وكانت التبرعات بكثرة حتى أن السيد أخبرهم بأنه لا حاجة بعد للمال، فقد جمع المال الكافي.

المحور الثاني: نظافة مدينة قم المقدسة

الإسلام دين النظافة وأفضل نموذج فيها، وكلنا سمع وقرأالحديث الشريف: «النظافة من الإيمان»(1).

علماً بأن للنظافة معنى شمولياً واسعاً(2)، لسنا بصدد بحثه الآن.

والكلام في مدينة قم المقدسة، حيث يلزم أن تكون في غاية النظافة والطهارة،

ص: 295


1- بحار الأنوار 59: 291.
2- انظر كتاب (فقه النظافة) للإمام الشيرازي(رحمة الله).

حتى يشعر كل من يرد إليها بأنها نموذج ومثال من النظافة الإسلامية.

لقد أخذ المسيحيون - والغرب بشكل عام - عدة أشياء من الإسلام وعملوا بها، وبالنتيجة فقد تقدموا، كانت النظافة واحدة منها.

عندما كنا في الكويت وفي أحد الأيام كنت ماراً بالسيارة من حي يسمى بالشرق، فلاحظت تواجد أعداد كثيرة من الناس، وقد كانوا في غاية النظافة، حيث ارتدوا ملابس نظيفة وجميلة، وقد امتلئ الجو بعبق عطورهم.

فسألت من السائق وكان كويتياً - لأني لم أكن أملك السيارة،نعم أراد البعض أن يعطونا سيارة لكنني لم أقبل بذلك - : ما الخبر؟ فقال: هنا كنيسة وهؤلاء يجتمعون هنا كل يوم أحد للعبادة.

المسيحيون في الكويت قليلون جداً، وأكثرهم طلاب أو عمال أو ما أشبه، ولكن في أيام الأحد يرتدون أفضل ملابسهم، ويتعطرون بأفضل العطور، ثم يجتمعون في الكنيسة.

أما الكنيسة نفسها - فحسب ما قاله بعض أصدقائنا - فهي واسعة جداً، وهي نظيفة مزينة بالورود، ويستقبل العاملون فيها الناس بتقديم الشرابت والحلوى والمرطبات. بحيث يرى الشخص أن هذه الأشياء من مظاهر الدين فينجذب إليهم.

ومن الطبيعي أن الإنسان إذا ذهب إلى مكان نظيف وتلقى أفضل الاحترام والاستقبال، فسوف يذهب إليه مرة أخرى وهكذا.

إن الغربيين تعلموا هذه الأمور من الإسلام فتقدموا، ولكننا قد أعرضنا عنها فتأخرنا.إذن يلزم علينا أن نعمل لأن تكون مدينة قم المقدسة مثالاً عالياً للنظافة والجمال، يعني إذا أراد شخص أن يرى مكاناً نظيفاً وجميلاً فيه مظاهر الحضارة

ص: 296

والتقدم، يُرشد إلى قم المقدسة.

وهذه مسؤولية الجميع، ويمكن لكل فرد منا أن يساهم في هذا الأمر؛ فقد قال النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله): «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته»(1).

المحور الثالث: الاستعداد لاستقبال شيعة العالم

إن مدينة قم المقدسة وكما في الروايات: «عش آل محمد ومأوى شيعتهم»(2).

وللسيدة المعصومة(علیها السلام) مئات الملايين من المحبين في جميع أنحاء العالم، حيث تواجد الشيعة، فيلزم أن تكون قم المقدسة بحيث تصبح مأوى للشيعة كما ورد في الحديث، فتستوعب الملايين منالزوار وتنشر بينهم ثقافة أهل البيت(علیهم السلام)، وخاصة من شيعة خارج إيران، فإن ذلك يوجب التماسك بين أتباع أهل البيت(علیهم السلام) وارتباطهم بحوزاتهم العلمية والعلماء والمراجع، والتزود من علوم آل محمد(علیهم السلام)، مضافاً إلى الفوائد الاقتصادية الكبيرة للناس.

وهذا كله بفضل السيدة المعصومة(علیها السلام) وعظمتها وبركاتها، وإن كنا لا نعلم الكثير من سيرتها، لكن يكفيها فخراً أن ثلاثة من الأئمة المعصومين(علیهم السلام)(3) قالوا في حقها: «من زارها وجبت له الجنة»(4).

إن الشيعة يعتقدون بهذا الكلام، وأن كل ما يقوله المعصوم(علیه السلام) هو الواقع مائة في المائة، وعليه فإذا أراد شيعة العالم أن يزورا قم المقدسة فهل نحن مستعدون لذلك؟

علماً بأن الشيعة هم نصف المسلمين، وهذا ما اعترف به أنورالسادات رئيس

ص: 297


1- جامع الأخبار: 119.
2- بحار الأنوار 57: 214.
3- وهم الإمام الصادق(علیه السلام) والإمام الرضا(علیه السلام) والإمام الجواد(علیه السلام).
4- انظر بحار الأنوار 48: 317، 99: 267.

جمهورية مصر السابق، حيث قال إن الشيعة يشكلون نصف العالم الإسلامي، وطبقاً لإحصاءات الجامع الأزهر حيث ذكرت قبل مدة بأن عدد مسلمي العالم يبلغ ألف وستمائة مليون مسلم(1)،

إذن نصفهم يعني ثمانمائة مليون، وهم الشيعة في العالم.

فعلى الجميع أن يهتم بتوسيع المدينة لكي تستعد لاستقبال الملايين من الزوار، وذلك ببناء الفنادق الفخمة والشوارع الواسعة والطرق السريعة والمرافق العامة وسائر الخدمات للزوار.

وهناك إحصائيات تقول بأنه في العام الماضي وفد إلى مشهد الإمام الرضا(علیه السلام) اثنا عشر مليون زائر.

وهكذا يلزم أن تكون قم المقدسة، بل أن يزداد عدد الزوار في مشهد وفي قم.

إذن يلزم بناء أماكن لاستقبال الزائرين، وتقديم الخدماتلهم، علماً بأن هذا العمل يمكن أن يقوم به الناس، إذا ما أعطينا الحريات الكفاية للشعب، وشجعنا رأس المال للاستثمار الصحيح، فإن الناس والمؤسسات الأهلية هم الذين يقومون ببناء الفنادق وأماكن استقبال الزائرين وما أشبه.

ونحن يلزم أن لا نكون أقل من الملحدين؛ ففي موسكو - على ما يقال - قام ستالين ببناء فندق ضخم يضم عشرة آلاف غرفة، هذا في حكم فندق الإلحاد والاستبداد والدكتاتورية والماديات، فكيف يلزم أن تكون الدول الإسلامية وخاصة التي تضم المزارات الشريفة.

المحور الرابع: التبليغ والإرشاد الديني

اشارة

إن مختلف الناس بحاجة إلى التبليغ والإرشاد، ومعرفة معالم دينهم، وعليه

ص: 298


1- بلغ عدد المسلمين اليوم أكثر من ملياري مسلم.

يلزم أن يعود كل زائر أتى إلى قم المقدسة، سواء كان رجلاً أو امرأة أو طفلاً إلى وطنه بالزاد الروحي والمعنوي. والتبليغ الديني والاستفادة من علوم أهل البيت(علیهم السلام)، وهذه مسؤولية الجميع أيضاً، من المؤسسات التبليغية، وإدارةالروضة المعصومية، والحوزات العلمية، وغيرها، فإني أرى ضرورة أن يكون لكل مرجع من الفقهاء المراجع محطة إذاعية وتلفزيونية حتى يتم بواسطتها التبليغ والإرشاد الصحيح.

وعند ذلك يمكن أن نحافظ على الشباب وإيمانهم.

إن الأديان والمذاهب الباطلة تدعو إلى دينها ومذهبها باستمرار وبمختلف الوسائل والإمكانات الحديثة، أما نحن فأقل الناس عملاً، ألّا يلزم أن يكون لنا تبليغ بالمستوى العالمي.

لو فرضنا أن عدد الفقهاء المراجع في قم المقدسة المعترف بهم من قبل الحوزة عشرة، فيلزم أن يكون لكل منهم محطة إذاعية وتلفزيونية، حتى يشتغل كل واحد بالتبليغ والإرشاد وطبع وتوزيع الكتب والكراريس والملصقات والنشرات وغيرها، حتى لانرى بعدها الشباب المنحرفين.

إذن يلزم أن يكون العمل التبليغي بحيث إن كل شخص يزور قم المقدسة يرجع منها بزاد روحي ومعنوي.إن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الطاهرين والأئمة المعصومين(علیهم السلام) تركوا لنا جميع الجوانب الدينية والدنيوية، وكذلك الجوانب الروحية والجسمية، وما يضمن للإنسان سعادته في الدنيا والآخرة، ولكن يلزم علينا الاستفادة من بركات هذه الأنوار الطاهرة.

هكذا يعملون

أحد الأصدقاء سافر قبل فترة إلى فرنسا، وقد نقل لي أنه في باريس وفي أحد

ص: 299

الأيام قال له صاحب المنزل الذي يسكن عنده: يجرى اليوم في الكنيسة مراسم عقد زواج مسيحيين، فإن كنت ترغب بمشاهدة ذلك فتعال معي.

قال: فذهبت معه إلى الكنيسة للمشاهدة.

- وكم هو جميل أن نقوم نحن المسلمين بإجراء مراسم عقد زواجنا في المساجد والأضرحة المقدسة، حتى يكون هناك ارتباط واقتراب من اللّه أكثر، فقد انتبه هؤلاء المسيحيون إلى هذا الأمر وأوجدوا هذا الارتباط لأنفسهم - .يقول الرجل: وما أن وصلت الكنيسة حتى وجدت النساء والرجال قد تجمعوا، بينما جلس القس الذي يجري العقد في صدر المجلس خلف الطاولة، وقد امتلأت القاعة بالطاولات والكراسي.

في البداية قام القس بفتح الكتاب المقدس - ونحن نعلم بأنه مليء بالتحريف - وقرأ عدة آيات منه، وقام بتفسيرها للحضور، بعدها وزعوا على الجميع منشوراً أخلاقياً دينيا، حتى عندما يعود كل واحد منهم إلى منزله قد أخذ لنفسه وعائلته زاداً روحياً.

في المرة الثالثة قاموا بتوزيع الحلوى بين الناس، وبعد ذلك جاء شاب وشابة وبيد كل واحد منهما سلة مليئة بالأزهار، فكانا يهديان زهرة لكل واحد من الحضور، ويقولان له: تبرع للكنيسة. والكل تبرع بما يرغب من المال، بحيث امتلأت السلة بالتبرعات، وفي النهاية أجريت صيغة العقد، وخرجوا من الكنيسة.ألا ترون كيف يستغل هؤلاء حتى مراسم عقد الزواج، ليوجدوا فيه ارتباطاً بين الناس والكنيسة، ويقوموا بالتبليغ وجمع المال. إن الغربيين عندما تقدموا لم يكن ذلك بمعجزة، وإنما هو أخذ بالواقع وبسنن الحياة، فقد أخذوا قدراً من مناهج الإسلام وتمكنوا من صناعة الإبرة إلى الطائرة، ولكننا نحن المسلمين البالغ عددنا ألف وستمائة مليون لا نتمكن من صناعة أي شيء.

ص: 300

التمسك بالقرآن والعترة

لقد قال أمير المؤمنين(علیه السلام) قبل ألف وأربعمائة عام: «اللّه اللّه في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم»(1).

إن غيرنا تمسك بالقرآن وبمناهجه وأصبح سادة الدنيا، أما نحن فقد تركنا القرآن وأهل البيت(علیهم السلام) فأصبحنا نحتاج حتى اللحم والخبز لكي يستورد لنا من الخارج.

وفي الختام

وفي الختام نذكر بأنه يلزم أن تكون مدينة قم المقدسة مركزاً للتزود الروحي والمعنوي ومأوى لجميع الشيعة في العالم، وخاصة في مواسم الزيارة، كالأعياد، في مثل عيد الغدير، أو عيد النوروز، وكذا سائر المناسبات الدينية، حيث تأتي أعداد غفيرة إلى قم المقدسة، فهم يعطلون أعمالهم ويأتون مع عوائلهم إلى هنا، فيلزم عند عودتهم أن يكونوا قد تزودوا بالزاد الروحي، لا أن يأتوا لمشاهدة الأبواب والجدران وغاية الأمر التشرف بزيارة الحرم فحسب.

عاصمة الحوزة العلمية

إن قم المقدسة هي مدينة الحوزة العلمية وعاصمة العلماء والفضلاء وفيها أكثر من عشرين ألف رجل دين، وبهذا العدد يمكن تنوير العالم وإرشاد الناس إلى معارف أهل البيت(علیهم السلام). وذلك عن طريق الإرشاد والوعظ وتوزيع الكتب وكثرة المجالس الحسينية والمنابر التربوية، وعبر محطات البث التلفزيوني والإذاعي، مضافاً إلى المنشورات والملصقات المؤثرة، وهذا جزءمن أداء الواجب بالنسبة إلى حق السيدة الجليلة فاطمة المعصومة(علیها السلام).

ص: 301


1- نهج البلاغة، الخطب الرقم 47، من وصية له(علیه السلام) للحسن والحسين(علیهما السلام) لما ضربه ابن ملجم (لعنه اللّه).
زيارة السيدة المعصومة(علیها السلام)

روي عن الإمام الرضا(علیه السلام) قال: «يا سعد إن عندكم لنا قبر»، قلت: جعلت فداك قبر فاطمة بنت موسى(علیهما السلام)؟ قال: «نعم، من زارها عارفاً بحقها فله الجنة، فإذا أتيت القبر فقم عند رأسها مستقبل القبلة وكبّر أربعاً وثلاثين تكبيرة، وسبح ثلاثاً وثلاثين تسبيحة، واحمد اللّه ثلاثاً وثلاثين تحميدة ثم قل:

السَّلامُ عَلى آدَمَ صَفْوَةِ اللّهِ، السَّلامُ عَلى نُوح نَبِيِّ اللّهِ، السَّلامُ عَلى إبْراهيمَ خَليلِ اللّهِ، اَلسَّلامُ عَلى مُوسى كَليمِ اللّهِ، اَلسَّلامُ عَلى عيسى رُوحِ اللّهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا رَسُولَ اللّهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا خَيْرَ خَلْقِ اللّهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا صَفِيَّ اللّهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ خاتَمَ النَّبِيّينَ.

السَّلامُ عَلَيْكَ يا أَميرَ الْمُؤْمِنينَ عَلِيَّ بْنَ أَبي طالِب وَصِيَّ رَسُولِ اللّهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا فاطِمَةُ سَيِّدَةَ نِساءِ الْعالَمينَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكُمايا سِبْطَيْ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ وَسَيِّدَيْ شَبابِ أَهْلِ الْجَّنَةِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا عَليَّ بْنَ الْحُسَيْنِ سَيِّدَ الْعابِدينَ وَقُرَّةَ عَيْنِ النّاظِرينَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ باقِرَ الْعِلْمِ بَعْدَ النَّبِيِّ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّد الصّادِقَ الْبارَّ الأَمينَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا مُوسَى بْنَ جَعْفَر الطّاهِرَ الطُّهْرَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا عَلِيَّ بْنَ مُوسَى الرِّضا الْمُرْتَضى، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ التَّقِيَّ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّد النَّقِيَّ النّاصِحَ الأَمينَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا حَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ، اَلسَّلامُ عَلَى الْوَصيِّ مِنْ بَعْدِهِ، اَللّهُمَّ صَلِّ عَلى نُورِكَ وَسِراجِكَ وَوَلِيِّ وَلِيِّكَ وَوَصِيِّ وَصِيِّكَ، وَحُجَّتِكَ عَلى خَلْقِكَ.

اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ رَسُولِ اللّهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ فاطِمَةَ وخَديجَةَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ أَميرِالْمُؤْمِنينَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ وَلِيِّ اللّهِ اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا أُخْتَ وَلِيِّ اللّهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا عَمَّةَ وَلِيِّ اللّهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ مُوسَى بْنِ جَعْفَر وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكاتُهُ.

ص: 302

اَلسَّلامُ عَلَيْكِ عَرَّفَ اللّهُ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَحَشَرَنا في زُمْرَتِكُمْ وَاَوْرَدَنا حَوْضَ نَبِيِّكُمْ، وَسَقانا بِكَأسِ جَدِّكُمْ مِنْ يَدِ عَليِّ بْنِ أَبي طالِب صَلَواتُ اللّهِ عَلَيْكُمْ أَسْأَلُ اللّهَ أَنْ يُرِيَنا فيكُمُ السُّرُورَ وَالْفَرَجَ، وَأَنْ يَجْمَعَنا وإِيّاكُمْ في زُمْرَةِ جَدِّكُمْ مُحَمَّد صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَأَنْ لا يَسْلُبَنا مَعْرِفَتَكُمْ إِنَّهُ وِلِيٌّ قَديرٌ.

أَتَقَرَّبُ إِلَى اللّهِ بِحُبِّكُمْ وَالْبَرائَةِ مِنْ أَعْدائِكُمْ، وَالتَّسْليمِ اِلَى اللّهِ راضِياً بِهِ غَيْرَ مُنْكِر وَلا مُسْتَكْبِر وَعَلى يَقين ما أَتى بِهِ مُحَمَّدٌ وَبِهِ راض، نَطْلُبُ بِذلِكَ وَجْهَكَ يا سَيِّدي اَللّهُمَّ وَرِضاكَ وَالدّارَ الآخِرَةَ. يا فاطِمَةُ اشْفَعي لي في الْجَنَّةِ فَإِنَّ لَكِ عِنْدَ اللّهِ شَأناً مِنَ الشَّأنِ. اَللّهُمَّ إِنّى اَسْاَلُكَ أَنْ تَخْتِمَ لي بِالسَّعادَةِ فَلا تَسْلُبْ مِنّي ما أَنَا فيهِ وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلّا بِاللّهِ الْعَلِيِّ الْعَظيمِ، اَللّهُمَّ اسْتَجِبْ لَنا وَتَقَبَّلْهُ بِكَرَمِكَ وَعِزَّتِكَ وَبِرَحْمَتِكَ وَعافِيَتِكَ، وَصَلَّى اللّهُ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ أَجْمَعينَ وَسَلَّمَ تَسْليماً يا أَرْحَمَ الرّاحِمينَ».

ص: 303

إحياء الشعائر

معنى الإحياء

قال تعالى في كتابه المجيد: «مِن أَجلِ ذَٰلِكَ كَتَبنَا عَلَىٰ بَنِيٓ إِسرَٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفسَۢا بِغَيرِ نَفسٍ أَو فَسَادٖ فِي ٱلأَرضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعا وَمَن أَحيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعاۚ وَلَقَد جَآءَتهُم رُسُلُنَا بِٱلبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرا مِّنهُم بَعدَ ذَٰلِكَ فِي ٱلأَرضِ لَمُسرِفُونَ»(1).

ورد في بعض التفاسير(2)

أن من معاني الإحياء في هذه الآية الكريمة هو الخروج من الضلالة إلى النور، كما ورد عن سماعة، قال: قلت لأبي عبد اللّه(علیه السلام): أنزل اللّه عزّ وجلّ: «مَن قَتَلَ نَفسَۢا بِغَيرِ نَفسٍ أَو فَسَادٖ فِي ٱلأَرضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَجَمِيعا وَمَن أَحيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعاۚ»(3) قال: «من أخرجها من ضلال إلى هدى فقد أحياها، ومن أخرجها من هدى إلى ضلالة فقد قتلها».

وعن أبي بصير عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: سألته «وَمَن أَحيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعاۚ»؟ قال: «من استخرجها من الكفر إلى الإيمان»(4).

وعن فضيل بن يسار قال: قلت لأبي جعفر(علیه السلام): قول اللّه عزّ وجلّ في كتابه «وَمَن أَحيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعاۚ»؟ قال: «من حرق أو غرق».

ص: 304


1- سورة المائدة، الآية: 32.
2- تفسير العياشي 1: 313.
3- سورة المائدة، الآية: 32.
4- تفسير العياشي 1: 313.

قلت: فمن أخرجها من ضلال إلى هدى؟

فقال: «ذاك تأويلها الأعظم»(1).كم-ا ق-ال تبارك تعال-ى: «أَوَ مَن كَانَ مَيتا فَأَحيَينَٰهُ وَجَعَلنَا لَهُۥ نُورا يَمشِي بِهِۦ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ لَيسَ بِخَارِجٖ مِّنهَاۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلكَٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعمَلُونَ»(2). فاعتبرت الآية أن من كان بعيداً عن الإيمان فهو بعيد عن نور العلم والهداية، وجعلت الإيمان بمثابة النور أو العلم الذي يعيش به الإنسان بين الناس، فالنور الذي بمعنى العلم أو الإيمان كما في الآية، هو أحد معاني الإحياء. وحيث إن الإحياء مفهوم كلي فله مصاديق عديدة(3)...

فتارة يكون إحياءً لإنسان منحرف بأن يأتي إليه أحد المؤمنين ويعمل على إصلاحه وهدايته، وتارة يكون إحياءً لأناس موتى وذلك بذكرهم وبيان تاريخهم كما ورد في الحديث الشريف: «من ورخ مؤمناً فكأنما أحياه»(4)، فتعقد مجالس خاصة لذكرسيرة المؤمن المتوفى وتذكر مناقبه وفضائله، وإيمانه وأعماله، أو تكتب وتنشر هذه الأمور فتكون أيضاً إحياءً له.

ومن مصاديق الإحياء أيضاً المجالس التي تُعقد لذكرى وفيات ومواليد الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) والأئمة الأطهار(علیهم السلام) فإن إحياءها يعتبر وبلا شك، من الشعائر التي قال عنها اللّه عزّ وجلّ في كتابه المجيد: «ذَٰلِكَۖ وَمَن يُعَظِّم شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى ٱلقُلُوبِ»(5).

ص: 305


1- الكافي 2: 210.
2- سورة الأنعام، الآية: 122.
3- انظر: تفسير مجمع البيان 4: 152 سورة الأنعام.
4- سفينة البحار 8: 435 مادة (ورخ).
5- سورة الحج، الآية: 32.

فإن «ذَٰلِكَۖ» أي الأمر الذي هو من لوازم الإيمان وترك الشرك. «وَمَن يُعَظِّم شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ» جمع شعيرة، وهي الشيء الملاصق للبدن، وسمى شعيرة بعلاقة الملابسة، والمراد بها الأمور المرتبطة باللّه، وهو عام يشمل كل ما ورد به دليل خاص كالمناسك في الحج، أو دليل عام كالمدارس الدينية التي لم تكن في زمن الرسول(صلی الله علیه و آله) والأئمة(علیهم السلام) وإنما تشملها الأدلة العامة، والإتيانبهذه الجملة هنا بمناسبة أن أعمال الحج من الشعائر،«فَإِنَّهَا» أي أن تعظيم الشعائر «مِن تَقوَى ٱلقُلُوبِ» والضمير في «فَإِنَّهَا» عائد إلى الشعائر، والمراد به تعظيم الشعائر، من باب الملابسة - مجازاً - وإضافة التقوى إلى القلوب؛ لأن حقيقة التقوى في القلب، وإنما يظهر أثره على الجوارح، والتعظيم حقيقة لا ينشأ إلّا من تقوى القلب. والشعيرة هي الأمر المرتبط بشيء كأنه من علائمه ومزاياه، فشعائر الحج الأمور المربوطة بالحج، وشعائر اللّه الأمور المرتبطة باللّه، ولعل اشتقاقها من الشعر بمعنى الشعور كأنه يشعر بالشيء، أو من الشعر بمعنى ما ينبت من الإنسان، كأن الشعيرة تلازم الشيء تلازم الشعر، أو تلازم الشعار - الذي هو الثوب الذي على الجسد مقابل الدثار الذي هو الثوب الفوقاني - لبدن الإنسان، والشعائر في الآية - لكونها مطلقة - تشمل كل شيء كان أو أصبح من الأمور المرتبطة باللّه مما لم ينه عنه، فمعالم الحج من الشعائر، كما أن تشييد القباب على أضرحة الأئمة الطاهرين(علیهم السلام) منالشعائر(1).

ص: 306


1- انظر: تفسير تقريب القرآن 3: 600. والشعائر لغة - كما في لسان العرب - : من شعر: شَعَرَ به وشَعُرَ يَشْعُر شِعْراً وشَعْراً وشِعْرَةً ومَشْعُورَةً وشُعُوراً، كله: عَلِمَ. وحكي: ما شَعَرْتُ بِمَشْعُورِه حتى جاءه فلان، وحكي أَيضاً: أَشْعُرُ فلاناً ما عَمِلَهُ، وأَشْعُرُ لفلانٍ ما عمله، وما شَعَرْتُ فلاناً ما عمله، قال: وهو كلام العرب. ولَيْتَ شِعْرِي: أَي ليت علمي أَو ليتني علمت، وليتَ شِعري من ذلك: أي ليتني شَعَرْتُ، وروي: ليتَ شِعْرِي ما صَنَعَ فلانٌ، أَي ليت علمي حاضر أَو محيط بما صنع. وأَشْعَرَهُ الأَمْرَ وأَشْعَرَه به: أَعلمه إِياه. والإِشْعارُ: الإِعلام. والشّعارُ: العلامة. والشَّعِيرة: البدنة المُهْداةُ، سميت بذلك لأَنه يؤثر فيها بالعلامات، والجمع شعائر. وشِعارُ الحج: مناسكه وعلاماته وآثاره وأَعماله، جمع شَعيرَة، وكل ما جعل عَلَماً لطاعة اللّه عزّ وجلّ كالوقوف والطواف والسعي والرمي والذبح وغير ذلك. والمَشْعَرُ: المَعْلَمُ والمُتَعَبَّدُ من مُتَعَبَّداتِهِ. والمَشاعِرُ: المعالم التي ندب اللّه إِليها وأَمر بالقيام عليها؛ ومنه سمي المَشْعَرُ الحرام لأَنه مَعْلَمٌ للعبادة وموضع؛ قال: ويقولون هو المَشْعَرُ الحرام والمِشْعَرُ، ولا يكادون يقولونه بغير الأَلف واللام. وقال الزجاج: شعائر اللّه: يعني بها جميع متعبدات اللّه التي أَشْعرها اللّه أَي جعلها أَعلاماً لنا، وهي كل ما كان من موقف أَو مسعى أَو ذبح، وإِنما قيل شعائر لكل علم مما تعبد به لأَن قولهم شَعَرْتُ به علمته، فلهذا سميت الأَعلام التي هي متعبدات اللّه تعالى شعائر. والمشاعر: مواضع المناسك. انظر: لسان العرب: 4: 409 مادة (شعر).

ومن أهم الشعائر الإلهية ما يرتبط بالمناسبات الدينية فإنه يصادف بعض أيام السنة العديد من المناسبات الإسلامية، ولابد من الاستعداد مسبقاً بشكل جيد لغرض إحيائها وتعظيمها بصورة تناسب نوع المناسبة؛ فإن إحياء المناسبات الإسلامية من الشعائر التي دعا إليها الإسلام. وليس هذا فحسب، بل حتى إحياء ذكرى موتى المؤمنين يعدّ بمثابة إحياء لهم، فيكون من باب أولى إحياء ذكرى الرسول(صلی الله علیه و آله) وأهل بيته(علیهم السلام).

فقد ورد عن أبي جعفر محمّد بن عليّ(علیهما السلام) أنّه قال: «اجتمعواوتذاكروا تحفّ بكم الملائكة، رحم اللّه من أحيا أمرنا»(1).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(علیه السلام) لداود بن سرحان: «يا داود أبلغ مواليّ عنّي السّلام، وإنّي أقول: رحم اللّه عبداً اجتمع مع آخر فتذاكر أمرنا فإنّ ثالثهما ملكٌ

ص: 307


1- مصادقة الأخوان: 38.

يستغفر لهما، وما اجتمعتم فاشتغلوا بالذّكر فإنّ في اجتماعكم ومذاكرتكم إحياءً لأمرنا، وخير النّاس من بعدنا من ذاكر بأمرنا ودعا إلى ذكرنا»(1).

إحياء ذكرى المؤمن

ولكن ما معنى إحياء ذكرى المؤمن؟

فإنّ للإنسان بُعدان:

الأول: البعد المادي، المتمثل بالجسد وملازماته، من الطول والقصر واللون وما إلى ذلك... .

الثاني: البُعد الروحي، أي آثاره العلمية، وسيرته الطيبة، وكلماته البنّاءة، فهذا البعد - الذي نحن بصدده الآن - يعتبر بمثابةالإشعاع، وبحثنا يدور حول الفائدة التي نحصل عليها منه.

فإن الإسلام أكّد كثيراً على هذا البعد في حياة الإنسان وبعد موته. ففي حياته أكّد على طلب العلم والتعلم والاتصال باللّه تعالى بإخلاص، فقد قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «اطلبوا العلم ولو بالصين فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم»(2).

وقال أمير المؤمنين(علیه السلام): «الدنيا كلها جهل إلّا مواضع العلم، والعلم كله حجة إلّا ما عمل به، والعمل كله رياء إلّا ما كان مخلصاً، والإخلاص على خطر حتى ينظر العبد بما يُختم له»(3).

وحذّر الإسلام من الجهل باعتباره من عوامل التخلف، فقال أمير المؤمنين(علیه السلام): «الجهل مميت الأحياء ومخلد الشقاء»(4).

ص: 308


1- بشارة المصطفى: 110.
2- وسائل الشيعة 27: 27.
3- عيون أخبار الرضا(علیه السلام) 1: 281.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: 78.

ثم نهى عن رذائل الأخلاق من الغيبة وغيرها، التي تميت الإنسان وتعمل على عكس إحيائه فقد اعتبر الغيبة مثلاً منالذنوب العظيمة؛ لأنها عامل قوي في إسقاط البعد المعنوي للإنسان المؤمن، وذهاب سمعته، وشخصيته، فإن الغيبة سوف تجذر النفاق في المجتمع بما تسبب انقطاع أواصر المحبة والأخوة، ومن ثم تسري إلى أن يتلاشى البعُد الروحي في حياة الإنسان نفسه، ومن هنا جاء القرآن يمنع حالة الغيبة فقال تعالى: «وَلَا يَغتَب بَّعضُكُم بَعضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُم أَن يَأكُلَ لَحمَ أَخِيهِ مَيتا فَكَرِهتُمُوهُۚ»(1)، فإن الغيبة هي ذكرك أخاك بما يكره، ولو بالإشارة و«أَيُحِبُّ أَحَدُكُم أَن يَأكُلَ لَحمَ أَخِيهِ مَيتا» فالغيبة بمنزلة أكل لحم الأخ الميت في شدة قبحه وكراهته، ولعل التشبيه من باب أن للأخ ذاتاً وذكراً فكما أن قطع قطعة من لحمه ولوكها في الفم قبيح، كذلك قطع قطعة من ذكره (عرضه) ولوكها في الفم كذلك، وقد جعل كونه غائباً مثل كونه ميتاً في عدم شعور كليهما بما يصنع بلحمهوبذكره«فَكَرِهتُمُوهُۚ» فكما كرهتم أكل لحمه اكرهوا أكل عرضه «وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ» خافوا في عصيانه، وإذا اتقيتم اللّه وتبتم عما سلف منكم، ف- «إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّاب» كثير قبول التوبة «رَّحِيم» يرحم العباد فلا يعاقبهم بعد توبتهم(2).

وقد وردت أحاديث كثيرة عن الأئمة(علیهم السلام) ينهون فيها عن الغيبة، ويبينون عقوبة مرتكبها، منها:

عن الإمام أبي محمّد العسكريّ(علیهما السلام) قال:

«اعلموا أنّ غيبتكم لأخيكم المؤمن من شيعة آل محمّد(علیهم السلام) أعظم في التّحريم من الميتة، قال اللّه عزّ وجلّ: «وَلَا يَغتَب بَّعضُكُم بَعضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُم

ص: 309


1- سورة الحجرات، الآية: 12.
2- تفسير تقريب القرآن 5: 208.

أَن يَأكُلَ لَحمَ أَخِيهِ مَيتا فَكَرِهتُمُوهُۚ»»(1)(2).

وقال الإمام عليّ بن الحسين(علیهما السلام):«إيّاكم والغيبة فإنّها إدام من يأكل لحوم النّاس»(3).

وعن محمّد بن الفضيل عن أبي الحسن موسى(علیه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك، الرّجل من إخواني يبلغني عنه الشّي ء الذي أكرهه فأسأله عن ذلك فينكر ذلك، وقد أخبرني عنه قوم ثقات؟

فقال لي: «يا محمّد كذّب سمعك وبصرك عن أخيك؛ فإن شهد عندك خمسون قسامة وقال لك قولاً فصدّقه وكذّبهم، لا تذيعن عليه شيئاً تشينه به وتهدم به مروءته، فتكون من الّذين قال اللّه في كتابه: «إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلفَٰحِشَةُ فِي ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُم عَذَابٌ أَلِيم»»(4)(5).

وقال الإمام الصّادق(علیه السلام): «إنّ للّه تبارك وتعالى على عبده المؤمن أربعين جُنّة، فمتى أذنب ذنباً كبيراً رفع عنه جُنّة، فإذا اغتاب أخاهالمؤمن بشيء يعلمه منه انكشفت تلك الجنن عنه، ويبقى مهتوك السّتر، فيفتضح في السّماء على ألسنة الملائكة، وفي الأرض على ألسنة النّاس، ولا يرتكب ذنباً إلّا ذكروه، ويقول الملائكة الموكّلون به: يا ربّنا، قد بقي عبدك مهتوك السّتر وقد أمرتنا بحفظه! فيقول عزّ وجلّ: ملائكتي، لو أردت بهذا العبد خيراً ما فضحته، فارفعوا أجنحتكم

ص: 310


1- سورة الحجرات، الآية: 12.
2- بحار الأنوار 72: 258.
3- مستدرك الوسائل 9: 113.
4- سورة النور، الآية: 19.
5- الكافي 8: 147.

عنه، فوعزتي، لا يئول بعدها إلى خير أبداً»(1).

وقال(علیه السلام): «الغيبة حرام على كل مسلم مأثوم صاحبها في كل حال، - إلى أن قال(علیه السلام) - والغيبة تأكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب، أوحى اللّه تعالى عزّ وجلّ إلى موسى بن عمران(علیه السلام): المغتاب إن تاب هو آخر من يدخل الجنّة، وإن لم يتب فهو أول من يدخل النار، قال اللّه عزّ وجلّ: «أَيُحِبُّ أَحَدُكُم أَن يَأكُلَ لَحمَ أَخِيهِ مَيتا فَكَرِهتُمُوهُۚ» ووجوه الغيبة يقع بذكر عيب فيالخَلق والخُلُق والعقل والمعاملة والمذهب والجهل وأشباهه، وأصل الغيبة تتنوّع بعشرة أنواع: شفاء غيظ، ومساعدة قوم، وتهمة، وتصديق خبر بلا كشفه، وسوء ظنّ، وحسد، وسخريّة، وتعجّب، وتبرّم، وتزيّن، فإن أردت السلامة فاذكر الخالق لا المخلوق فيصير لك مكان الغيبة عبرةً ومكان الإثم ثواباً»(2).

ومن هذا المعنى ندرك مدى اهتمام الإسلام بالإنسان حيث لم يسوغ له أن يغتاب أحداً فيقضي على البعد المعنوي فيه.

ومن جهة أخرى أكّد الإسلام على إحياء المؤمن بالذكر الحسن فحث على ذكر الناس المؤمنين بسيرتهم الصالحة أحياءً كانوا أم أمواتاً، والدعاء لهم، بل تقديمهم في الدعاء.

فقد جاء عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أنه قال: «ما من مؤمن دعا للمؤمنين والمؤمنات، إلّا ردّ اللّه عزّ وجلّ عليه مثل الذي دعا لهم به من كل مؤمن ومؤمنة مضى من أول الدهر أو هو آتٍ إلى يوم القيامة، إنالعبد ليؤمر به إلى النار يوم القيامة فيسحب، فيقول المؤمنون والمؤمنات: يا ربِّ هذا الذي كان يدعو لنا،

ص: 311


1- الاختصاص: 220.
2- بحار الأنوار 72: 257.

فشفِّعنا فيه، فيشفّعهم اللّه عزّ وجلّ فيه فينجو»(1).

نعم، هذا قسم من البعد الروحي الذي يهتم الإسلام بتنميته، لما له من فوائد جليلة في الدنيا والآخرة. ونلمس هذا بوضوح في حكاية القرآن عن لسان إبراهيم(علیه السلام) في قوله تعالى: «وَٱجعَل لِّي لِسَانَ صِدقٖ فِي ٱلأٓخِرِينَ»(2).

يعني: يا ربّ، أسألك أن تجعل الناس من بعدي يذكرونني بأن أكون قدوة لهم، فيثنون عليَّ ثناءً صادقاً، لكي تبقى طريقتي بين الناس، التي هي التوحيد، والعمل بشرع اللّه، وفي النهاية سيصبح الدين الذي أرسلتني به سبباً لسعادة الناس في الدنيا ونجاتهم يوم الحساب، وقد أجاب اللّه سبحانه دعاء إبراهيم(علیه السلام)، فقدمرت عشرات القرون والأمم كلها يثنون على إبراهيم(علیه السلام) ويذكرونه بتجلة وإكبار(3).

الاستعمار ومحاربة الشعائر

اشارة

إن الأجهزة الاستعمارية اليوم، تعارض وبشدة، إقامة مثل هذه المجالس والشعائر، في مختلف المناسبات، خوفاً من امتداد إشعاع الأئمة(علیهم السلام) على كل طبقات المجتمع، فيفيق من نومه ويصحو كاشفاً مخططات الاستعمار فيفشلها، ولا بد من ذلك اليوم الذي تهدّ فيه أعمدة الكفر.

أما كيف كان الاستعمار يحارب المجالس فذلك عبر أساليب عديدة ومن جملة تلك الأساليب هو زرع أو تربية عملاء لمحاربة الدين وربما كان يتظاهر بعضهم بخدمة الدين. وهذا ما حصل بالفعل.

ص: 312


1- الكافي 2: 507.
2- سورة الشعراء، الآية: 84.
3- انظر: تفسير تقريب القرآن 4: 56.

فعلى سبيل المثال قام البهلوي الأول في إيران: بمحاربةقرّاء القرآن وخطباء المنابر كثيراً، وقد أوجد كثيراً من الضغوط عليهم، يقول شاعر فارسي قصيدة حول هذا الوضع ما مضمونه(1): إن البهلوي أول أمره كان يركض حاسراً في العزاء، وآخر الأمر أقام حفلات الفسق في ليلة عاشوراء.

وكذلك كان ياسين الهاشمي(2)

وهو أحد عملاء الاستعمار فيالعراق والمنطقة العربية، فإنه عمل كلّ ما بوسعه من أجل الضغط على هذه المجالس، وملاحقتها، ومنعها.

وقد كان مصطفى كمال أتاتورك في تركيا(3) كذلك، حيث حارب الدين

ص: 313


1- وأصل البيت باللغة الفارسية هو: اولش او سر برهنه در عزاها می دويد *** عاقبت جشنى بپا در ليله عاشور كرد
2- ياسين حلمي باشا سلمان الهاشمي، من مواليد بغداد عام (1882م)، تقلد رئاسة الوزارة مرتين. ومما ذكر في أحواله أنه بعد تعيينه زار المس بيل وصافحها قائلاً: نريد معونتكم ومعونتكِ أنت بوجه خاص، وتقول المس بيل في رسالتها إلى أبيها المؤرخة في (31 آب 1922م): اعتقد أن ياسين رجل القَدَر. أطلق عليه لقب (أتاتورك العراق) لتشابه المنهج والسياسة التي كانا يسيران عليها ولقساوته وعنفه وطغيانه، وتكفّل مهمة تصفية الحوزات العلمية في العراق، فطارد رجال الدين وقتل بعضهم ونفى البعض الآخر ومنع إجراء مراسم الشعائر الحسينية واستخدم العنف في تطبيق قانون التجنيد الإلزامي. وموسوعة السياسة: 7: 387 ياسين الهاشمي.
3- الشيعة يشكلون الملايين من سكان تركيا، وأغلبهم من العلويين حيث يقدر عددهم بأكثر من خمسة وعشرين مليوناً، لكنهم تعرّضوا إلى الضغوط والمضايقات أيام الملك العثماني سليم القانوني وغيره، ولذا أخفوا مذهبهم، فاختفى إلى جانب ذلك الوعظ والتبليغ والكثير من آداب المذهب الشيعي، وظهر في جماعة منهم بعض الأمور البعيدة عن واقعهم. وأتاتورك هذا هو مصطفى كمال أتاتورك (1881-1938م) ولد في سلانيك، مؤسس الجمهورية التركية وأول رئيس لها، قام بنشر المفاسد في بلاده، رسخ العلمانية والأفكار الغربية في تركيا، وحارب كل ما يمت إلى الدين الإسلامي فيها، وغيّر كتابة اللغة التركية من الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني.

والمتدينين ومنع مختلف الشعائر الدينية ومجالس العزاء وما أشبه، ثم إن هؤلاء الثلاثة (البهلوي والهاشميوأتاتورك) كانوا قد ظهروا في وقت واحد.ولكن رُبَّ سائل يسأل: لماذا كان هؤلاء يحاربون الشعائر الدينية، التي من بينها مجالس العزاء، أو محافل القرآن وغيرها؟

نقول: إن محاربتهم للشعائر دليل واضح على مدى أهميتها، وقوة تأثيرها على أفراد الأمة، وإلّا لم يكن هناك مبرر ومقتض لمنع الناس عنها، ومنعها عنهم.

إن لمجالس العزاء أهمية كبيرة لا يمكن تجاهلها، وإن للمنبر الحسيني والشعائر دوراً عظيماً في إحياء الشعوب. وهذا مما لا ينكر، وإن لمحافل القرآن أثراً فعّالاً في النفوس، حيث يبقى صدى القرآن يرنّ في مسامع المؤمنين، وتطمئن قلوبهم لذكر اللّه، فيدخل القرآن في وجودهم وتكون آياته منطلقاً لهم، فالقرآن يرفض الظلم والعدوان،وأكل حقوق الناس،ومصادرة حرياتهم، واستعبادهم؛ قال تعالى في كتابه المجيد: «وَمَن لَّم يَحكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُٱلفَٰسِقُونَ»(1).

وقال سبحانه: «وَلَا تَعتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلمُعتَدِينَ»(2).

وقال تعالى: «وَلَا تَقتُلُواْ ٱلنَّفسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلحَقِّۚ»(3).

وقال سبحانه أيضاً: «أَفَحَسِبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِيٓ أَولِيَآءَۚ إِنَّآ أَعتَدنَا جَهَنَّمَ لِلكَٰفِرِينَ نُزُلا»(4).

والمسلمون عندما يقرأون هذه الآيات، سوف يفتح اللّه لهم أفئدتهم ويرسخ

ص: 314


1- سورة المائدة، الآية: 47.
2- سورة البقرة، الآية: 190.
3- سورة الأنعام، الآية: 151.
4- سورة الكهف، الآية: 102.

في نفوسهم مفاهيم القرآن أكثر فأكثر ليدركوا أن الواقع الذين يعيشونه مخالف للقرآن فيسعون فيإصلاحه.

من هنا عمل الطغاة على منع ومحاربة المنابر، ومجالس العزاء، التي تفضح المجرمين وتبشرهم بالعذاب الأليم، وتكشف الحقائق للأمة، وتجعلهم على دراية من الأمر.

أتأتي قبر الحسين(علیه السلام)؟

إن أئمة أهل البيت(علیهم السلام) كانوا يؤكدون دائماً على إحياء الشعائر بمختلف أشكالها من الزيارة وإقامة المجالس والبكاء وما أشبه.

فقد ورد عن مسمع بن عبد الملك كردين البصري قال: قال لي أبو عبد اللّه(علیه السلام): «يا مسمع، أنت من أهل العراق، أما تأتي قبر الحسين(علیه السلام)؟

قلت: لا؛ أنا رجل مشهور عند أهل البصرة، وعندنا من يتبع هوى هذا الخليفة وعدونا كثير من أهل القبائل من النصاب وغيرهم، ولست آمنهم أن يرفعوا حالي عند ولد سليمان فيمثلون بي.قال لي: «أفما تذكر ما صنع به؟».

قلت: نعم.

قال: «فتجزع؟».

قلت: إي واللّه واستعبر لذلك حتى يرى أهلي اثر ذلك علي، فامتنع من الطعام حتى يستبين ذلك في وجهي.

قال: «رحم اللّه دمعتك، أما انك من الذين يعدون من أهل الجزع لنا والذين يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا، ويخافون لخوفنا ويأمنون إذا أمنّا، أما انك سترى عند موتك حضور آبائي لك ووصيتهم ملك الموت بك، وما يلقونك به

ص: 315

من البشارة أفضل، وملك الموت أرق عليك وأشد رحمة لك من الأم الشفيقة على ولدها».

قال: ثم استعبر واستعبرت معه، فقال: «الحمد للّه الذي فضلنا على خلقه بالرحمة وخصنا أهل البيت بالرحمة، يا مسمع، إن الأرض والسماء لتبكي منذ قتل أمير المؤمنين(علیه السلام) رحمة لنا، ومابكى لنا من الملائكة أكثر، وما رقأت دموع الملائكة منذ قتلنا، وما بكى أحد رحمة لنا ولما لقينا إلّا رحمه اللّه قبل أن تخرج الدمعة من عينه، فإذا سالت دموعه على خده فلو أن قطرة من دموعه سقطت في جهنم لأطفأت حرّها حتى لا يوجد لها حر، وإن الموجع قلبه لنا ليفرح يوم يرانا عند موته فرحة لا تزال تلك الفرحة في قلبه حتى يرد علينا الحوض، وإن الكوثر ليفرح بمحبنا إذا ورد عليه حتى أنه ليذيقه من ضروب الطعام ما لا يشتهي أن يصدر عنه. يا مسمع، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً ولم يستق بعدها أبداً، وهو في برد الكافور وريح المسك وطعم الزنجبيل، أحلى من العسل، وألين من الزبد، وأصفى من الدمع، وأذكى من العنبر، يخرج من تسنيم ويمر بأنهار الجنان، يجري على رضراض الدر والياقوت، فيه من القدحان اكثر من عدد نجوم السماء، يوجد ريحه من مسيرة ألف عام، قدحانه من الذهب والفضة وألوان الجوهر، يفوح في وجه الشارب منه كل فائحةحتى يقول الشارب منه: يا ليتني تركت هاهنا لا أبغي بهذا بدلاً ولا عنه تحويلاً. أما إنك يابن كردين ممن تروى منه، وما من عين بكت لنا إلّا نعمت بالنظر إلى الكوثر وسقيت منه من أحبنا، وإن الشارب منه ليعطى من اللذة والطعم والشهوة له أكثر مما يعطاه من هو دونه في حبنا، وإن على الكوثر أمير المؤمنين(علیه السلام) وفي يده عصاً من عوسج يحطم بها أعدائنا، فيقول الرجل منهم: إني أشهد الشهادتين! فيقول: انطلق إلى إمامك فلان فاسأله أن يشفع لك، فيقول: تبرأ مني إمامي الذي تذكره؟ فيقول: ارجع إلى

ص: 316

ورائك فقل للذي كنت تتولاه وتقدمه على الخلق، فاسأله إذا كان خير الخلق عندك أن يشفع لك، فإن خير الخلق حقيق أن لا يرد إذا شفع، فيقول: إني أهلك عطشاً؟ فيقول له: زادك اللّه ظمأ، وزادك اللّه عطشاً».

قلت: جعلت فداك وكيف يقدر على الدنو من الحوض ولم يقدر عليه غيره؟فقال: «ورع عن أشياء قبيحة وكف عن شتمنا أهل البيت إذا ذكرنا، وترك أشياء اجترى عليها غيره، وليس ذلك لحبنا ولا لهوى منه لنا، ولكن ذلك لشدة اجتهاده في عبادته وتدينه ولما قد شغل نفسه به عن ذكر الناس، فأما قلبه فمنافق ودينه النصب واتباعه أهل النصب وولاية الماضين وتقدمه لهما على كل أحد»(1).

حيل الغرب في بلاد المسلمين

وسنذكر شاهداً حول هذا الكلام، ثم نعود لنسمع الحقائق على لسان أحدهم.

أما شاهدنا فهو من بلاد الهند وفي إحدى مدنها، التي كانت تعيش الإسلام في حياتها، ويتعالى في آفاقها صدى الأذان، ونداءات الإيمان، في تلك المدينة كان الناس يعيشون حياة هانئة في ظل الإسلام، ولكن عندما دخلها الإنكليز تحت خدعة وحيلة الشركات التجارية، حوّلوا الهند بعد عدة سنوات إلى بلادمستعمرة بأيديهم - أي غزوها اقتصادياً - وحينما دخل الإنكليز كان في الهند شخص اسمه السلطان (تيبو)(2)

فقام تيبو هذا بجمع الأعوان وتكوين جيش، وقاوم الاستعمار الإنكليزي، لكنه لم يكن يملك العدد الكافي من المقاتلين في حين كان الإنكليز يمتلكون كل القدرات الحربية. وكانت النتيجة أن تغلّب

ص: 317


1- كامل الزيارات: 101.
2- لقد قام سفير الهند في العراق بزيارة الإمام الراحل(رحمة الله) في مدينة كربلاء المقدسة، وتحدّث السفير عن السلطان تيبو، وقال: إنه قام بتلك المواجهة، لأنه كان علوياً، كما أن اسمه علي، وزوجته فاطمة.

الإنكليز على (تيبو) وقتلوا جميع أعوانه وأنصاره، ثم أعطوا أمراً يقضي بقتل نسائهم وأطفالهم وعرّضوا المدينة لمجزرة بشعة، وبقيت جثث القتلى مدة طويلة على الأرض حتى صارت طعمة للحيوانات الجائعة.

بعد ذلك وعندما أثبت الاستعمار الإنكليزي سيطرته على الهند، كان مما أصدروا قانوناً منعوا بموجبه إقامة محافل القرآن، ومجالس التعزية، بينما كان الهنود يهتمون بهذين الأمرين،ويقيمون مراسم العزاء والشعائر الحسينية بشكل جيد، وأكثر من هذا فقد أصدروا قانوناً مفاده: أن أي إنسان يقوم بعقد هذه المجالس، فإنه يُحكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات.

وبعد مدة من صدور هذين القانونين، ظهر رجل متدين ومخلص، وكان من علماء الدين، وقال: حتى لو قررت الدولة حبسي فإنني عازم على تعليم الأطفال القرآن، وكان يقول لكثير من الآباء: أرسلوا أولادكم لكي يتعلموا القرآن، ونتيجة بطش السلطة خاف الناس من إرسال أولادهم إليه حيث لم يأته إلى المسجد في البداية غير طفل يتيم واحد، إلّا أن الرجل لم ييأس ولم يهن بل كان مصمماً على عمله، فاستمر في تدريس اليتيم مدة من الزمن حتى أخذ الطلاب يزدادون يوماً بعد يوم وشيئاً فشيئاً، حتى صار ذلك المسجد عامراً بالدرس والمجالس، بعد ذلك علمت الدولة بالموضوع، وأخذت الشيخ إلى السجن وضغطت عليه لكي يتعهد بعدم تدريس القرآن، إلّا أنه أظهر الثبات وعلوالهمة والاستقامة، فاستمر في تعليم القرآن، حتى بعد أن خرج من السجن.

وهكذا استمر على إقامة الدرس، حتى تكوّنت إلى جانب دروسه دروسٌ أخرى، ثم انتشرت بعد ذلك مدارس القرآن، في العديد من المساجد مرة أخرى.

يعلم من هذه القصة: أن الاستعمار وعملاءه يخافون من الثقافة الإسلامية وترويج الشعائر الإلهية، فيمنعون إقامتها في مستعمراتهم بشتى الطرق

ص: 318

والمبررات، ولا يمكن مقابلتهم إلّا بالصمود والإصرار والتواصل حتى ولو كان ذلك بمقدار قليل، فإن تحقيق الأهداف العظيمة إنما ينشأ من خطوات قصيرة، وكما في المثل: (طريق الألف ميل يبدأ بخطوة).

ومن هنا يلزم التأكيد على ضرورة إقامة المجالس الحسينية بمختلف أشكالها المعهودة، سواء كان للرجال أم النساء وحتى الأطفال، أما ما يقوله البعض بأن فلاناً يقرأ المجالس النسويةاستصغاراً بشأنه، فإنه غير صحيح، وذلك لما تقدم من ذكر فائدة المجالس. فمثلاً: حين ما يقول القارئ: إن يزيد كان شارب الخمر، فإن المستمع سواء كان امرأة أو طفلاً، فإنه يفهم من هذا أن شرب الخمر شيء قبيح، وحين ما يقول: إن يزيد لم تكن لديه عفة، فإن المرأة والبنت الصبية تفهم من أن العفة شيء حسن، وهكذا بقية الصفات من هذا القبيل.

ثم إذا كان القارئ في المجالس قليل العلم، فيجب عليه أن يتعلم، ولا عيب في التعلم، بل كل العيب في الجهل، وفي إعطاء المفاهيم بصورة غير صحيحة، أما القارئ الذي يقرأ للنساء أو للأطفال فلا عيب فيه.

ورد عن أبي عبد اللّه عن أبيه(علیهما السلام) قال: «قال علي(علیه السلام) - في كلام له - : لا يستحي الجاهل إذا لم يعلم أن يتعلم»(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «يا علي، لا فقر أَشد من الجهل ولا مال أَعودمن العقل»(2).

لذا فإن هذه المجالس تساهم بشكل مباشر في بث الوعي الديني بين الجماهير، وغرس المبادئ الصحيحة والأخلاق الحسنة، واقتلاع جذور

ص: 319


1- بحار الأنوار 1: 176.
2- الكافي 1: 25.

الظالمين من البلاد الإسلامية، وتبعث اليأس في قلوب الطامعين في ثروات البلاد الإسلامية.

مجالس التعزية على لسان قس مسيحي

نقل لي أحد مراجع الدين في مدينة قم المقدسة، قصة ظريفة؛ حيث قال: حين ما كنت أدرس في النجف الأشرف، سافرت مرة إلى بغداد مع بعض الطلبة، حيث عرضت لنا حاجة، وهناك سمعنا أن أحد القساوسة يبشّر للمسيحية، فأردنا أن نطلع على نشاطهم في بلادنا فذهبنا إلى المجلس الذي فيه ذلك القس.

وبعد انتهاء المجلس، وانصراف الناس، توجّه إلينا، وقال: من أنتم؟فقلت له: نحن من أهل هذا البلد.

فقال: لا أعني هذا، بل إني أرى عليكم صفة أهل العلم، ولا أرى أنكم أتيتم إلى هنا لكي تستفيدوا.

فقلت له: إننا من طلبة العلوم الدينية، وندرس في النجف الأشرف.

فقال: نعم لقد أدركت هذا.

ثم قال ذلك المسيحي: سأقول لك حقيقة قد لا يقولها لك إنسان غيري، وهذه الحقيقة هي أن نبيكم(صلی الله علیه و آله) كان إنساناً عالماً واعياً فاهماً، ولا يدانيه أحد في ذلك، وقد ترك لكم أشياء لم يتركها أي نبي من الأنبياء لأمته من بعده، ولو كان عندنا واحدة من هذه الأشياء، لجعلنا العالم كله مسيحياً وهي كالتالي:

أولها: هو القرآن الكريم معجزة الإسلام الخالدة.

وثانيها: ذرية نبيكم الذين يطلق عليهم الآن (السادة)، الذين يوحون للناس بوجود الرسول(صلی الله علیه و آله).وثالثها: مراقد الأئمة(علیهم السلام) وأولادهم، فهي كالقطب، تستقطب الناس حولها دوماً، وهي مصدر روحي لهم، وهي مدرسة تذكر الناس بسيرتهم وشريعتهم.

ص: 320

ورابعها: مجالس العزاء التي تقام من أجلهم، فهي أفضل مراكز روحية تشد الناس نحو الإسلام، وكما ترى فإنني هيأتُ هذه الكميات الكبيرة من الفواكه والحلويات، ولكن لم يأت إلى هذا المجلس إلّا العدد القليل من الناس، في حين أنكم بمجرد أن تضعوا راية على باب الدار، وتكتبون عليها (يا حسين) ولا تعطون غير الشاي، ومع هذا فإن جمعاً غفيراً من الناس يجتمع حولكم للاستماع إليكم.

وخامسها: علماؤكم فإنهم حصون الناس من الفتن.

نعم، إن مجالس العزاء تحظى بأهمية خاصة، وكذلك إقامة المراسيم، وإحياء الاحتفالات بمناسبة ولادات الأئمة الأطهار(علیهم السلام).

فإن لهذه المجالس فوائد عظيمة جداً، حيث يطرح من خلالهارأي الإسلام تجاه كل شيء في الحياة، لا سيما مسألة الحكم والحكومة، ورئيس الدولة ومواصفاته، وكيفية سيرته، وغير ذلك من المواصفات التي ذكرها الإسلام بدقة، وتراها في سيرة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) والأئمة الطاهرين(علیهم السلام) بشكل واضح.

وعندما تطرح هذه المسائل، من خلال هذه المجالس فإنها لا تتناسب مع رغبات حكّام الجور، وعندما تذكر صفات الأئمة(علیهم السلام) وشجاعتهم وتضحياتهم من أجل الإسلام والمسلمين، وأمر الناس بالتحلي والتأسي بهم، والتوكل والاعتماد على اللّه عزّ وجلّ وعدم الخوف من أي أحد دونه، فهذه المواضيع كلها لاتتلاءم مع سياسة الطغاة، الذين يحاولون إبعاد الناس عن الإسلام، وإبعادهم عن حضارتهم، وتضعيف إيمانهم، والعمل على زرع مفاهيم ملحدة فيهم، بدل المفاهيم الإسلامية؛ مثل: الصدق والأمانة والإخلاص والمسؤولية، والجهاد والتضحية، وقول كلمة الحق، فيعمل هؤلاء الحكام على نشر مفاهيم الفساد وزرع الفتن وإبعادالناس عن الأخوة الإسلامية بالتركيز على القومية وما

ص: 321

أشبه من المفاهيم الخاطئة الباطلة، للتغطية على المفاهيم الصحيحة.

ومن هنا، كان الحكام الجائرون في حروب مستمرة مع مجالس العزاء والشعائر الدينية، لا سيما مجالس أبي عبد اللّه الحسين(علیه السلام).

والكل يعلم ما للمنبر الحسيني من دور واضح، في توعية الأمة وبث الروح فيها، واستنهاض هممها وتعبئتها بالأفكار الإسلامية، ودعوة الناس إلى الخير والفضيلة، والتعاون والمحبة والتناصر والتأسي بالإمام الحسين(علیه السلام).

فاللازم على كافة المؤمنين الاهتمام بالشعائر الدينية والمجالس الحسينية، كما ينبغي أن تقام المجالس الأسبوعية في كل بيت ومسجد وحسينية وما أشبه، فإن هذه المجالس توجب الرحمة والبركة ونشر الوعي الديني بين الأمة.

من هدي القرآن الحكيم

حياة المؤمن

قال تعالى: «وَلَا تَقُولُواْ لِمَن يُقتَلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِأَموَٰتُۢۚ بَل أَحيَآء وَلَٰكِن لَّا تَشعُرُونَ»(1).

وقال سبحانه: «أَم حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجتَرَحُواْ ٱلسَّئَِّاتِ أَن نَّجعَلَهُم كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَوَآء مَّحيَاهُم وَمَمَاتُهُمۚ سَآءَ مَا يَحكُمُونَ»(2).

وقال عزّ وجلّ: «لِّيَهلِكَ مَن هَلَكَ عَنۢ بَيِّنَةٖ وَيَحيَىٰ مَن حَيَّ عَنۢ بَيِّنَةٖۗ»(3).

وقال تبارك وتعالى: «لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّا وَيَحِقَّ ٱلقَولُ عَلَى ٱلكَٰفِرِينَ»(4).

ص: 322


1- سورة البقرة، الآية: 154.
2- سورة الجاثية، الآية: 21.
3- سورة الأنفال، الآية: 42.
4- سورة يس، الآية: 70.

دور المجالس في إنهاض الأمة

قال عزّ وجلّ: «ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِكرِ ٱللَّهِ تَطمَئِنُّ ٱلقُلُوبُ»(1).وقال سبحانه: «فَذَكِّر بِٱلقُرءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ»(2).

وقال تعالى: «إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُم طَٰٓئِف مِّنَ ٱلشَّيطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبصِرُونَ»(3).

وقال جلّ وعلا: «بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدى وَرَحمَة لَّعَلَّهُم يَتَذَكَّرُونَ»(4).

الاستعداد الدائم للدفاع عن الإسلام

قال تعالى: «وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱستَطَعتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلخَيلِ تُرهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُم وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِم لَا تَعلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعلَمُهُمۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيءٖ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيكُم وَأَنتُم لَا تُظلَمُونَ»(5).

وقال سبحانه: «وَقَٰتِلُوهُم حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتنَة وَيَكُونَٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِۚ»(6).

وقال عزّ وجلّ: «وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُم حَتَّىٰ يَرُدُّوكُم عَن دِينِكُم إِنِ ٱستَطَٰعُواْۚ»(7).

الدعوة لنشر الدين الإسلامي

قال عزّ وجلّ: «فَأَقِم وَجهَكَ لِلدِّينِ ٱلقَيِّمِ مِن قَبلِ أَن يَأتِيَ يَوم لَّا مَرَدَّ لَهُۥ مِنَ

ص: 323


1- سورة الرعد، الآية: 28.
2- سورة ق، الآية: 45.
3- سورة الأعراف، الآية: 201.
4- سورة القصص، الآية: 43.
5- سورة الأنفال، الآية: 60.
6- سورة الأنفال، الآية: 39.
7- سورة البقرة، الآية: 217.

ٱللَّهِۖ»(1).

وقال سبحانه: «وَمَن أَحسَنُ قَولا مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلمُسلِمِينَ»(2).

وقال تعالى: «فَلِذَٰلِكَ فَٱدعُۖ وَٱستَقِم كَمَآ أُمِرتَۖ وَلَا تَتَّبِع أَهوَآءَهُمۖ»(3).وقال جلّ وعلا: «فَٱدعُواْ ٱللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ وَلَو كَرِهَ ٱلكَٰفِرُونَ»(4).

من هدي السنّة المطهّرة

إحياء الشعائر

قال أمير المؤمنين(علیه السلام): «شيعتنا المتباذلون في ولايتنا، المتحابون في مودتنا، المتزاورون في إحياء أمرنا...»(5).

وقال الإمام أبو عبد اللّه الصادق(علیه السلام): «تجلسون وتحدثون؟»

قال قلت: نعم.

قال قال: «تلك المجالس أحبها، فأحيوا أمرنا، يا فضيل فرحم اللّه من أحيا أمرنا. يا فضيل، مَن ذَكَرنا أو ذُكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب غفر اللّه له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر»(6).وعن معتب مولى أبي عبد اللّه(علیه السلام) قال: سمعته يقول لداود بن سرحان: «يا داود، أبلغ موالي عني السلام، وإني أقول رحم اللّه عبداً اجتمع مع آخر فتذاكر أمرنا، فإن

ص: 324


1- سورة الروم، الآية: 43.
2- سورة فصلت، الآية: 33.
3- سورة الشورى، الآية: 15.
4- سورة غافر، الآية: 14.
5- الكافي 2: 236.
6- مصادقة الإخوان: 32.

ثالثهما ملكٌ يستغفر لهما وما اجتمعتم فاشتغلوا بالذكر، فإن في اجتماعكم ومذاكرتكم إحياءً لأمرنا وخير الناس من بعدنا من ذاكر بأمرنا ودعا إلى ذكرنا»(1).

وعن أم المؤمنين أم سلمة (رضي اللّه عنها) أنها قالت: سمعت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يقول: «ما قومٌ اجتمعوا يذكرون فضل علي بن أبي طالب(علیه السلام) إلّا هبطت عليهم ملائكة السماء حتى تحف بهم، فإذا تفرقوا عرجت الملائكة إلى السماء فيقول لهم الملائكة: إنا نشم من رائحتكم ما لا نشمه من الملائكة، فلم نر رائحة أطيب منها؟ فيقولون: كنا عند قوم يذكرون محمداً وأهل بيته(علیهم السلام) فعلق فينا من ريحهم فتعطرنا، فيقولون: اهبطوا بنا إليهم، فيقولون: تفرقوا ومضى كل واحد منهم إلى منزله، فيقولون: اهبطوا بنا حتى نتعطربذلك المكان»(2).

وقال الإمام الرضا(علیه السلام): «ما قال فينا مؤمن شعراً يمدحنا به إلّا بنى اللّه تعالى له مدينة في الجنة أوسع من الدنيا سبع مرات، يزوره فيها كل ملك مقرب، وكل نبي مرسل»(3).

وقال أيضاً(علیه السلام): «من تذكر مصابنا وبكى لما ارتكب منا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذكّر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيا فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»(4).

دور المجالس في إنهاض الأمة

قال أمير المؤمنين(علیه السلام): «مجلس الحكمة غرس الفضلاء»(5).

ص: 325


1- بشارة المصطفى: 110.
2- بحار الأنوار 38: 199.
3- عيون أخبار الرضا(علیه السلام) 1: 7.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 73.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: 704.

وقال(علیه السلام): «مجالس العلم غنيمة»(1).وقال(علیه السلام): «أيها الناس، إنه من استنصح اللّه وفّق، ومن اتخذ قوله دليلاً هُدِيَ للتي هي أقوم»(2).

وقال(علیه السلام): «ما جالس أحد هذا القرآن إلا قام بزيادة أو نقصان، زيادة في هدى، أو نقصان في عمى»(3).

نفي البدع

قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة اللّه»(4).

وقال(صلی الله علیه و آله): «إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ويحذرهم الناس ولا يتعلموا من بدعهم، يكتب اللّه لكم بذلك الحسنات ويرفعلكم به الدرجات في الآخرة»(5).

وقال(صلی الله علیه و آله) أيضاً: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد»(6).

وقال(صلی الله علیه و آله): «إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن، فانه شافع مشفع - إلى قوله(صلی الله علیه و آله) - وهو أوضح دليل إلى خير سبيل...»(7).

ص: 326


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 705.
2- نهج البلاغة، الخطب: الرقم 147 من خطبة له(علیه السلام).
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 698.
4- الكافي 1: 54.
5- الكافي 2: 375.
6- الطرائف 2: 456.
7- عدة الداعي: 286.

الدعوة لنشر الدين الإسلامي

قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «من أدى إلى أمتي حديثاً واحداً يقيم به سُنّة ويرد به بدعة فله الجنة»(1).

وقال(صلی الله علیه و آله): «من تعلم حديثين اثنين ينفع بهما نفسه، أو يعلمهما غيره فينتفع بهما كان خيراً من عبادة ستين سنة»(2).عن الإمام الصادق(علیه السلام): «خطب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يوم منى فقال: نضّر اللّه عبداً(3). سمع مقالتي فوعاها وبلّغها من لم يسمعها - إلى أن قال(صلی الله علیه و آله) - ثلاثة لا يغل عليهن قلب عبد مسلم: إخلاص العمل للّه، والنصيحة لأئمة المسلمين واللزوم لجماعتهم، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم...»(4).

قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «إنما نصر اللّه هذه الأمة بضعفائها ودعوتهم وإخلاصهم وصلاتهم»(5).

ص: 327


1- جامع الأخبار: 181.
2- منية المريد: 372.
3- أي: نعّمه.
4- الأمالي للشيخ المفيد: 186.
5- المحجة البيضاء 8: 125.

المنبر الحسيني وبناء الإنسان

الأئمة وصِناعة النَوع الإنساني

اشارة

قال تعالى في كتابه الحكيم: «هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلهُدَىٰ وَدِينِ ٱلحَقِّ لِيُظهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَو كَرِهَ ٱلمُشرِكُونَ»(1).

وقد جاء في تفسير الآية المباركة: أن اللّه سبحانه وتعالى يُظهر الدين ويؤيّده بالنصر، بالرغم من كُره المشركين والمعاندين. وفي ذلك دلالة واضحة على صحة نبوّة نبيّنا محمد(صلی الله علیه و آله)، لأنه سبحانه قد أظهر دينه على باقي الأديان بالإستعلاء وإعلان الشأن، كما وعده ذلك في حالة الضعف وقلّة الأعوان. وقد سُمِعَ أمير المؤمنين(علیه السلام)يقول: «هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلهُدَىٰ وَدِينِ ٱلحَقِّ لِيُظهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ». «أَظَهَرَ بَعدُ ذلك؟» قالوا: نعم. قال: «كلّا، فوالذي نفسي بيده حتى لا تبقى قرية إلّا وينادى فيها بشهادة لا إله إلّا اللّه بكرة وعشيّاً»(2).

وهو أمر طبيعي أن الرسالة يومئذٍ لم تكن قد وصلت بعد إلى كل أركان الأرض، لأنها كانت في بداية الأمر، وكان المقدّر لها أن تكون كذلك بمرور الزمن، لكن هذا لم يحصل لحد الآن، بل العكس بدأ يتراجع حتى من المناطق التي وصلها، فياترى ما السبب؟ هل إن الرسول(صلی الله علیه و آله) لم يبلِّغ على الوجه الأكمل والعياذ

ص: 328


1- سورة الصف، الآية: 9.
2- انظر تفسير مجمع البيان 9: 463 و 464.

باللّه؟ أم أن الأئمة من بعده لم يفعلوا ذلك نستجير باللّه؟ أم أن الاسلام ليس له قابلية الانتشار أو أنه لم يستطع كنظرية حياة أن يقدّم الحلّ الأمثل للبشرية؟ والجواب على ذلك كله واضح: لأن الرسول(صلی الله علیه و آله) بلَّغ الرسالة على أكمل وجه، والدليل على ذلك انتشار الإسلام في أغلب بقاعالعالم، والأئمة الأطهار(علیهم السلام) من بعده أكملوا ذلك الخطّ أيضاً، وإلّا فكيف وصل هذا التراث الضخم إلى زماننا الحاضر ومن دون تحريف؟ والنظرية الإسلامية لها قابلية الإنتشار، وهي الحلّ الأمثل للبشرية جمعاء. والدليل على ذلك الصحوة الإسلامية التي تجتاح بعض بقاع العالم، وقبول الناس للإسلام كمبدأ للحياة. وهذا ما لم يحصل للأديان الأخرى، ولكن يبقى السؤال عالقاً في الذهن: ما السبب في عدم انتشار الإسلام بشكل كامل وتامّ؟

الحقيقة أن الإسلام له قابلية الانتشار، وهو الأطروحة الحياتية الناجحة مئة في المئة، لأنها إلهيّة جاءت من لدن خالق الحياة، فهو نورٌ كما يعبر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: «يُرِيدُونَ لِيُطفُِٔواْ نُورَ ٱللَّهِ»(1). ومن ذا الذي يستطيع أن يحجب نور الشمس؟ ولكن العلّة في من يحمل الإسلام ويدخل الصراع مع المشركين أو النفس. حيث يكون منهزماً في داخله، لأنهيحمل ألفاظاً مجردة عن التطبيق. والإسلام دين لا يرضى إلّا بتطبيق أن يكون الإنسان الخاوي داخلياً خاسراً في أيّ صراع يدخله، ولذلك اهتم الرسول الكريم(صلی الله علیه و آله) بتربية دعاة للإسلام ثم التنصيص على خلفائه ليرعوه من بعده ويحفظوه من الضياع والتحريف.

ومع أن الأمة قد زوت الحق عن نصابه، والخلافة عن أهلها والحقيقين بها،

ص: 329


1- سورة الصف، الآية: 8.

وهم الأئمة الطاهرون(علیهم السلام)، إلّا أن أهل البيت(علیهم السلام) قد سعوا جهدهم لرعاية تلك النبتة التي غرسها الرسول(صلی الله علیه و آله) وروايتها وتعهدها، فكان أن تمخضت جهودهم الجبارة تلك عن ثلّة مؤمنة كزبر الحديد، لا ترى إلّا الحق ولا تعمل إلّا به، كأصحاب علي والحسين(علیهما السلام) ويوميات كربلاء عام (61ه) أوضح برهان على ذلك. ومن يراجع كتب التاريخ ويطالع مواقف زهير ومسلم بن عوسجة يرى جهود أهل البيت(علیهم السلام) رأي العين، ويتلمس تلك التربية النوعية للعترة الطاهرة. فصلابة أنصار الحسين(علیه السلام) في معركة الطفلم تكن صلابة عاديّة أبداً، وكذلك صبرهم على حرّ السيف والعطش، على الرغم من كثرة الأعداء. وأبلغ من ذلك إرعابهم لقلوب الأعداء. فقد نقلت الروايات: أن عابس بن شبيب الشاكري نزل إلى أرض المعركة، والعدوّ يفرّ من أمامه، حتى أنه نزع لاَمَة حربه، فلم يزدهم ذلك إلّا فراراً(1). وما عابس إلّا مثال تكرر في سائر الأنصار، حتى أن عمرو بن الحجّاج أخذ يصيح في الناس قائلاً: يا حمقى، أتدرون من تقاتلون؟ تقاتلون فرسان أهل المصر، وتقاتلون قوماً مستميتين لم يبرز إليهم أحد منكم إلّا قتلوه(2).

كذلك كان الأئمة(علیهم السلام) يعملون على نشر الدين، وتهيئة الأجيال للدفاع عن حريمه. فإذا أردنا أن نكسب الصراعات لصالحنا، فيجب أن نكون كأولئك الذين ربّاهم الأئمة من خلالالاقتراب للعلماء الصالحين، وورثة الأنبياء الصادقين. حيث يقول الحديث الشريف عن الامام الصادق(علیه السلام): «إن العلماء ورثة الأنبياء...»(3).

ص: 330


1- انظر وقعة الطف: 236.
2- الإرشاد 2: 103.
3- الكافي 1: 32.

المنبر الحسيني وبناء الذات

والمنبر وسيلة إعلامية مهمّة جداً، لأنها من أهم وسائل الاتصال الجماهيري، حيث تطرح من خلاله الأفكار الحقّة للجماهير بصورة مسموعة ومرئيّة، فهو يرسخ العقائد والأفكار بشكل تفصيلي ودقيق في ذهن المستمع، ويشدّه إلى الارتباط الروحي باللّه من خلال شكله المنتظم الجميل، الذي ينقل المستمعين إلى أجواء العظماء والشهداء والصالحين، ومواقفهم ومناقبهم، ومردوده إيجابي على الفرد في تقوية إرادته التي تكون من العوامل الحاسمة في الصراعات بشكل عام، فينهض المستمع من تحته بعقيدة وفكر راسخ، وروح قوية، وهذا ما يميّزه عن وسائل الإعلام الأخرى. لذلك يمكننا أن نعدّ هذه الخصيصة واحدة منأسرار خلوده إلى الآن، بالإضافة إلى جوانب أخرى لسنا بصددها الآن. وخير من عرّف المنبر، وبيّن الدور الذي يجب أن يقوم به هو الإمام زين العابدين(علیه السلام)، عندما قال ليزيد بن معاوية (عليه لعنة اللّه): «يا يزيد أتأذن لي حتى أصعد هذه الأعواد، فأتكلم بكلمات فيهن للّه رضا، ولهؤلاء الجالسين أجر وثواب...»(1). حيث إنه(علیه السلام) أوضح أن المنبر يجب أن يكون بناء للإنسان ضمن الخط الإلهي الذي يجعل في نفوس الحاضرين إرادة قويّة، من خلال تزكيتها وتصفيتها وربطها بالخالق المطلق وهو اللّه عزّ وجلّ.

خَصائِص المِنبر الحُسيني

اشارة

من هنا فلا نبالغ إذا قلنا: إن للمنبر دوراً هامّاً وحاسماً في تهيئة المناخ الحسن لبناء الإنسان، خصوصاً في هذين الشهرين، بل في هذه العشرة أيام بالذات(2).

ص: 331


1- انظر بحار الأنوار 45: 137.
2- المحاضرة ألقيت على مجموعة من الخطباء، قبل توجههم لأداء مهام المنبر الحسيني في شهر محرم الحرام.

وبناءً على هذا لا بدّ من بيانكيفية البناء الذي يقوم به المنبر، والخصائص التي يتميز بها.

1- أن يكون منبراً بنّاءً

قلنا إن المنبر وسيلة مهمة من وسائل الاتصال الجماهيري، التي تبني الإنسان وتقوّمه وتوجّهه الوجهة الصحيحة نحو هدفه الذي خُلِقَ من أجله، وهو الوصول إلى كماله الذي يربطه باللّه عزّ وجلّ. وخلاف ذلك لا يكون المنبر إلّا أعواداً لا قيمة لها. وفي محاورة سيد الساجدين(علیه السلام) ليزيد (لعنة اللّه عليه) خير شاهد على ما نقول، لأن يزيد أمر بمنبر، وخطيب يصعد المنبر، فيذم الحسين وأباه صلوات اللّه عليهما. فصعد الخطيب المنبر، ثم بالغ في ذم أمير المؤمنين والحسين الشهيد(علیهما السلام)، وأطنب في مدح معاوية ويزيد(1).

ولم يكن هذا إلّا مخالفة لأمر اللّه، الذي نهى عن الأخلاق السيئة. والسبّ والشتم ليسا من صفات المسلمين. وهذا واضح عقلاً، لأن العقل يقبّح الفعل السيء، ولا أتصور أنَّ هناك عاقلاً يُحسِّن السبّ والشتم، مضافاً إلى أن فعله مخالفة صريحة لقولهتعالى: «وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسنا»(2). والسبّ والشتم خلاف حسن الخلق الذي فسّرته السنّة الشريفة بطيب الكلام. ففي الحديث عن الإمام الصادق(علیه السلام)، سُئل: ما حدّ حسن الخلق؟ «قال: تليّن جناحك، وتطيّب كلامك، وتلقى أخاك ببشرٍ حسن»(3).

أما ما فعله خطيب يزيد فليس إلّا تلويثاً للقلوب بالكلمات البذيئة التي تنمال من أولياء اللّه الصالحين. فأحدهم أخو رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وابن عمه، وخليفته، وأب من آباء هذه الامة، وذلك قول رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «يا علي أنا وأنت أَبَوا هذه

ص: 332


1- انظر الفتوح لابن أعثم 5: 132.
2- سورة البقرة، الآية: 83.
3- الكافي 2: 103.

الأمة»(1).

فهل يعقّ الابن أباه، وإن لم تكن أبوةً نسبيّة. وأما الآخر فابن الزهراء بضعة الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله)، ونفس الرسول الأمجد، عندما قال(صلی الله علیه و آله): «حسين مني وأنا من حسين».

تلك إذن كانت بضاعة الخطيب ودخيلته، فلا رضا اللّه أراد،ولا الأجر والثواب للجالسين. بينما الإمام السجاد(علیه السلام) حين يصعد تلك الأعواد من بعد ذلك الخطيب يجعلها منبراً حقيقياً بناءً، لأنه ربطهم باللّه تبارك وتعالى، وعرفهم وقربهم بأهل بيت النبوّة، وعدل القرآن الكريم، وأيقظ فطرتهم التي لوّثها الطغاة، وزاد طينها بلةً ذلك الخطيب البائس، الذي اشترى مرضاة المخلوق بسخط الخالق.

2- نشر الوعي

فإن اللّه سبحانه يقول: «أَفَلَم يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرضِ فَتَكُونَ لَهُم قُلُوب يَعقِلُونَ بِهَآ أَو ءَاذَان يَسمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعمَى ٱلأَبصَٰرُ وَلَٰكِن تَعمَى ٱلقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ»(2).

وقد تناولت الآية المباركة جانب البصيرة، وهو جانب مهم لدى الإنسان. والبصيرة تأتي عن طريق وعي الإنسان للحوادث التاريخية وما شابه. ولعل من أظهر أدوار المنبر أثره في توعية الناس، ووضع أيديهم على العلل والأسباب الحقيقية للأحداث، الأمر الذي يكون له مردود إيجابي على المجتمع الإسلاميبشكل عام، في درك الأخطار قبل حدوثها، وعدم مرور المخططات الاستعمارية عليه. وجاء في الحديث عن الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام) قوله: «فإنما البصير من سمع فتفكر، ونظر فأبصر، وانتفع بالعبر، ثم سلك جدداً واضحاً، يتجنّب فيه الصرعة في المهاوي»(3).

ص: 333


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 657.
2- سورة الحج، الآية: 46.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 153 من خطبة له(علیه السلام).

والخطيب الذي يصعد المنبر يجب أن يعطي هذه النقطة حقها من التحليل والتفصيل، ويربطها بالواقع الحاضر.

فمثلاً عندما يذكر الطواغيت وأفعالهم، ومنهاجهم في تضليل الناس، يجب أن يذكر طواغيت العصر الحاضر، لأن الطاغوت دائماً واحد، ولا فرق بين فرعون وغيره من العصر الحاضر. غاية ما في الأمر أن الأسلوب يختلف تبعاً لما يناسب الزمان الذي يعيش فيه.

بالإضافة إلى ذلك، التنبيه على الأخطار والمخططات التي قدتلحق بالأمة من جراء التصرفات الخاطئة. وهذا يعني أن خطيب المنبر الواعي يزرع في كل فرد، تحت منبره، جرساً للإنذار من الأخطار، وذلك عبارة عن وضوح الفكر والبصيرة الجيدة. فنحن نخاطب العباس بن علي(علیه السلام) في الزيارة المخصوصة به، ونقول له: «أشهد إنك مضيت على بصيرةٍ من أمرك»(1).

وهذه البصيرة هي الوعي لقضية الحسين(علیه السلام) من خلال جلوسه، ومخالطته لأبيه وإخوته(علیهم السلام). فكان ذلك سبباً لسلوكه لطريق الحق، واجتنابه لطريق الظلم ومغريات الدنيا. وبالتالي جلس مطمئناً في جنّة الفردوس عند مليك مقتدر.

3- أن يكون المنبر هادفاً

كما قال تعالى: «وَمَا خَلَقتُ ٱلجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلَّا لِيَعبُدُونِ»(2). فإن الآية الشريفة تبيّن الهدف من خلق الإنسان، وهو عبادة اللّه سبحانه وتعالى. وهذا لا يأتي إلّا عن طريقالكمال الإنساني، الذي يوجّهه للكمال المطلق وهو اللّه عزّ وجلّ. وتبيّن أن لكل شيء في هذا الكون هدفاً، وأنه لم يخلق عبثاً، وتعطينا طريقاً

ص: 334


1- مصباح المتهجد 2: 726.
2- سورة الذاريات، الآية: 56.

ومنهجاً في الحياة لأن يكون لنا في كل صغيرة وكبيرة هدف نسعى إليه. والمنبر هو أحد الوسائل التي أسسها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وهدفها الأول والأخير بناء الإنسان وذاته، حتى يكون قوياً في الصراعات، وقوراً في الشدائد والأزمات. فإذا كان المنبر يخدم الأغراض الشخصية والفئوية فهو وإن كان هادفاً إلّا أن أهدافه تكون غير مشروعة، فيتحول إلى أعواد لا قيمة لها، أما إذا كان قاصداً للصالح العام ولخير المجتمع فهو هادف، وهدفه مشروع. فيتلاقى مع الآية المباركة المذكورة آنفاً، لأنه حينئذ يكون موصلاً إلى اللّه سبحانه وتعالى وهو المطلوب.

فالمنبر المطلوب إذن هو البنّاء والهادف والتوعوي، الذي يستلّ تعاليمه من كتاب اللّه وسيرة المعصومين، بعيداً عن الفئويةالضيّقة، والمصالح الشخصية الأنانية.

وما سوى ذلك فهو مجرد أعواد لا يكون فيها للّه رضاً، ولا للجالسين أجر وثواب كما قال امام الساجدين(علیه السلام).

ملاحظات على المِنبر

على أنه يجدر بنا التذكير بأنّ قسماً من الناس يظن أنّ كثرة الصياح وحركة اليد هي التي تنفع الخطيب، وتجعل الناس ينسجمون معه، في حين أنّ العكس هو الصحيح، فالمنبر الهادئ هو المنبر النافع. لأن الصياح والنياح الزائد على طريقة المنبر الشائعة هي دلالة على الإفلاس. ولقد عرفنا - ولا بدّ أنكم عرفتم كذلك - من الخطباء من لا يستخدم اسلوب الصياح، ولا يخرج عن خط المنبر العام، فلم يمنع ذلك الناس من أن ينجذبوا إليه من بداية المجلس، ويستمعوا بشوق. وإذا بدأ بقراءة المصيبة بكوا جميعاً، علماً بأنه لا يطيل في قراءة المصيبة أكثر من دقيقة أو دقيقتين. فالبكاء لا يأتي بإطالة المصيبة، بل بتهييج مكامن العاطفة.

ثم ينبغي على الخطيب عند ذكر الشواهد والقصص تحليلها وبيانوجه

ص: 335

الشاهد فيها للخروج منها بالفائدة المرجوّة، كما أن عليه أن يبتعد كل البعد عن ذكر القضايا المجلة أو المبهمة التي تثير الشكوك في نفوس الحاضرين، أو القضايا الخلاقية بين العلماء، التي تحتاج إلى الدقّة العلمية والاطلاع التخصصي.

الإيمان والبناء

للإيمان معنىً ينقله الحديث المروي عن الإمام الباقر(علیه السلام): «الإيمان ما استقرّ في القلب وأفضى به إلى اللّه عزّ وجلّ وصدَّقه العمل»(1).

فالإيمان أساس متين لتربية ثابتة وبناء دائم مضمون النتائج والاستمرار وبهذا يكون للإنسان المؤمن سيرة معلومة ويكون في حياته الأحكام والترتيب والانسجام، ونستطيع أن نقول بكل جزم أنه سيعمل العمل الفلاني في الوقت الفلاني، أما غير المؤمن لا سيرة ثابتة له في حياته إذ أن له أن يظهر بمظهر الشيطان متى يشاء وهذا أمر طبيعي لأنه لا يلتزم فكرةمعينة ولم تستقر في قلبه عقيدة من العقائد. والإيمان لا يكون دائماً مصدر خير، فربما بُني الإيمان على الخرافات والأساطير كما هو في الأديان الوثنية أو الفِرق الضالّة وهو الإيمان غير الصحيح الذي يهدم ذات الإنسان ويجعل قوتها بقوة المعتقد الذي آمن به. ولأهمية الإيمان في بناء الفرد نلاحظ أن عمل الأنبياء هو غرس الإيمان في نفوس الناس والأمثلة على ذلك كثيرة: فبلال الحبشي كان عبداً مسلوب الإرادة لا يملك من أمره شيئاً نشاهد كيف انه تحوّل إلى عملاق في وجه زعماء مشركي قريش حتى أنه لم يكن يحتاج في حربه النفسية معهم إلى أكثر من سبابته كسلاح لهزيمتهم تحركها قوة الإيمان التي زرعها في نفسه نبينا محمّد(صلی الله علیه و آله) بمجرد طرحه للمعتقد الصحيح وبالأسلوب الحِسي والعقلي المتلائم مع الفطرة

ص: 336


1- الكافي 2: 26.

الإنسانية السليمة.

خلاصة القول

إذن نحن بحاجة ماسّة لصناعة إنسان قوي في مواجهة صعوباتالحياة المادية ومواجهة الأمواج والتيارات والأعاصير الفكرية المنحرفة، بحاجة إلى صناعة إنسان مؤمن بعقيدته الربانيّة وفكره الإلهي وكل ذلك لا يكون إلّا ببناء داخل الإنسان بالإنبات الحسن المثمر والمنبر الحسيني أحد الأدوات المهمة في طريق الإنبات والتربية وترسيخ الإيمان لنصل إلى الهدف والكمال الذي تتوخاه الإنسانية من هذا الوجود الرائع.

«اللّهم إني أسألك رحمةً من عندك تهدي بها قلبي، وتجمع بها أمري، وتلمَّ بها شعثي، ... وتُزكّي بها عملي، وتُلهمني بها رشدي، وتعصمني بها من كل سوء. اللّهم أعطني إيماناً صادقاً، ويقيناً خالصاً، ورحمةً أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة»(1). بحق محمّد وآل محمّد الغُرّ الميامين والحمد للّه ربّ العالمين.

من هدي القرآن الحكيم

من أهم ما يجب أن يدعو إليه خطيب المنبر الحسيني

التمسك بالإسلام

قال تعالى: «إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسلَٰمُۗ»(2).

وقال سبحانه: «فَإِن أَسلَمُواْ فَقَدِ ٱهتَدَواْۖ»(3).

وقال عزّ وجلّ: «وَمَن يَبتَغِ غَيرَ ٱلإِسلَٰمِ دِينا فَلَن يُقبَلَ مِنهُ وَهُوَ فِي ٱلأٓخِرَةِ مِنَ

ص: 337


1- مصباح المتهجد 1: 268.
2- سورة آل عمران، الآية: 19.
3- سورة آل عمران، الآية: 20.

ٱلخَٰسِرِينَ»(1).

وقال جلّ وعلا: «فَإِلَٰهُكُم إِلَٰه وَٰحِد فَلَهُۥٓ أَسلِمُواْۗ»(2).

العمل للآخرة

قال عزّ اسمه: «وَلَلدَّارُ ٱلأٓخِرَةُ خَير لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَۚ أَفَلَا تَعقِلُونَ»(3).

وقال جلّ شأنه: «وَمَن أَرَادَ ٱلأٓخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعيَهَا وَهُوَ مُؤمِن فَأُوْلَٰٓئِكَ كَانَ سَعيُهُم مَّشكُورا»(4).وقال عزّ من قائل: «وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلأٓخِرَةَ لَهِيَ ٱلحَيَوَانُۚ لَو كَانُواْ يَعلَمُونَ»(5).

وقال جلّ ثناؤه: «وَإِنَّ ٱلأٓخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلقَرَارِ»(6).

الإلتزام بمكارم الأخلاق

قال تعالى: «وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسنا»(7).

وقال سبحانه: «وَءَاتَى ٱلمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلقُربَىٰ وَٱليَتَٰمَىٰ وَٱلمَسَٰكِينَ وَٱبنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ...»(8).

وقال عزّ وجلّ: «وَيَأمُرُونَ بِٱلمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ ٱلمُنكَرِ وَيُسَٰرِعُونَ فِي ٱلخَيرَٰتِۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ»(9).

ص: 338


1- سورة آل عمران، الآية: 85.
2- سورة الحج، الآية: 34.
3- سورة الأنعام، الآية: 32.
4- سورة الإسراء، الآية: 19.
5- سورة العنكبوت، الآية: 64.
6- سورة غافر، الآية: 39.
7- سورة البقرة، الآية: 83.
8- سورة البقرة، الآية: 177.
9- سورة آل عمران، الآية: 114.

وقال جلّ شأنه: «يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجتَنِبُواْكَثِيرا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعضَ ٱلظَّنِّ إِثمۖ وَ لَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغتَب بَّعضُكُم بَعضًاۚ»(1).

اتّباع الحق أن لا أقول على اللّه إلّا الحق

قال عزّ اسمه: «حَقِيقٌ عَلَىٰٓ أَن لَّآ أَقُولَ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلحَقَّۚ»(2).

وقال جلّ وعلا: «وَأَنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلحَقَّ مِن رَّبِّهِمۚ»(3).

وقال عزّ من قائل: «إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَواْ بِٱلحَقِّ وَتَوَاصَواْ بِٱلصَّبرِ»(4).

من هدي السنّة المطهّرة

من أهم ما يجب أن يدعو إليه خطيب المنبر الحسيني

التمسك أكثر بالاسلام

قال أمير المؤمنين(علیه السلام): «لا شرف أعلى من الإسلام»(5).

وقال(علیه السلام): «إن اللّه تعالى خصَّكم بالإسلام، واستخلصكم له. وذلك لأنه اسمُ سلامةٍ، وجِماع كرامة... لا تُفتح الخيرات إلّا بمفاتيحه، ولا تُكشف الظلمات إلّا بمصابيحه»(6).

وقال(علیه السلام): «لا مَعقِلَ أمنَع من الإسلام»(7).

ص: 339


1- سورة الحجرات، الآية: 12.
2- سورة الأعراف، الآية: 105.
3- سورة محمد، الآية: 3.
4- سورة العصر، الآية: 3.
5- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 371.
6- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 152 من خطبة له(علیه السلام).
7- غرر الحكم ودرر الكلم: 777.

العمل للآخرة

قال الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله): «شرُّ الناس من باع آخرته بدنياه»(1).

وقال أمير المؤمنين(علیه السلام): «إجعل هَمَّك وجِدِّك لآخرتك»(2).

وقال(علیه السلام): «إنك مخلوق للآخرة فاعمل لها»(3).

الالتزام بمكارم الأخلاق

قال نبي الرحمة والهدى محمد(صلی الله علیه و آله): «عليكم بمكارم الأخلاق، فإن اللّه عزّ وجلّ بعثني بها، وإن مِن مكارم الأخلاق أن يعفو الرجل عمّن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه، وأن يعود من لا يعوده»(4).

وقال أمير المؤمنين(علیه السلام): «إن لأهل الدين علامات يُعرفون بها: صدق الحديث، وأداء الأمانة، ووفاء بالعهد، وصلة الأرحام ورحمة الضعفاء وقلّة المراقبة للنساء - أو قال: قلّة المواتاة للنساء(5)

- وبذل المعروف وحسن الخلق وسعة الخلق واتباع العلم وما يقرب إلى اللّه عزّ وجلّ زلفى»(6).

وعن جرَّاح المدائني قال: قال لي أبو عبد اللّه (الإمام الصادق)(علیه السلام): «ألّا أحدثك بمكارم الأخلاق؟» قلت: بلى: قال:«الصّفح عن الناس، ومؤاساة الرجل أخاه في ماله، وذكر اللّه كثيراً»(7).

ص: 340


1- من لا يحضره الفقيه 4: 353.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: 133.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: 267.
4- الأمالي للشيخ الطوسي: 478.
5- المواتاة: الموافقة والمطاوعة.
6- الكافي 2: 239.
7- معاني الأخبار: 191.

اتّباع الحق والقول بالحق والعمل بالحق

قال الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله): «أتقى الناس من قال الحق في ما له وعليه»(1).

وقال أمير المؤمنين(علیه السلام): «الحق مَنجاةٌ لكل عاملٍ وحجةٌ لكل قائل»(2).

وقال(علیه السلام): «إن أفضل الناس عند اللّه من كان العملُ بالحقِ أحبَّ إليه وإن نقَصَه وكَرَثَة...»(3).

وقال الإمام الصادق(علیه السلام): «إن الحق مُنيف(4)

فاعملوا به»(5).

ص: 341


1- الأمالي للشيخ الصدوق: 20.
2- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 69.
3- نهج البلاغة، الخطب الرقم: 125 من كلام له(علیه السلام) في التحكيم.
4- منيف: عالٍ، مشرف.
5- بحار الأنوار 69: 232.

إلى الهيئات الحسينية

الشيعة وقبور الأئمة(علیهم السلام)

اشارة

قال الإمام الرضا(علیه السلام): «إن لكل إمام عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وإن من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقاً بما رغبوا فيه كان أئمتهم شفعاءهم يوم القيامة»(1).

إن لقبور أهل البيت(علیهم السلام) ومراقدهم الشريفة فائدة دنيوية كبيرة للشيعة ولجميع الناس، كما لها فائدة أخروية وهي نيل الشفاعة لمن زارهم واعتقد بولايتهم، وقد مرت الشيعة بظروف سياسية مختلفة نتيجة تجمعها حول قبور أئمتها، وصعوبات عديدة فرضهاالحاكمون وغيرهم من الدخلاء الأجانب ومع كل ذلك صمدوا واستقاموا في سبيل اللّه، وكانت الهيئات الحسينية تتحمل مسؤوليات عديدة على عاتقها لتنظيم وإحياء المراسيم والشعائر في كافة المناسبات كالوفيات والمواليد المباركة وعيد الغدير الأغر، ومنها الهيئات المباركة التي نراها هذه الأيام والتي تحمل تاريخاً مشرقاً لخدمة أهل البيت(علیهم السلام) سواء في العراق أو في غيره، والبعض من هذه الهيئات المباركة يتحمل السفر ومشاق الطريق لأجل تهيئة موكب وإقامة عزاء، كمن يسافر من كربلاء إلى الكاظمية حيث مرقد الإمامين الجوادين(علیهما السلام) ومن يسافر إلى النجف الأشرف في أيام شهادة أمير

ص: 342


1- الكافي 4: 567.

المؤمنين الإمام علي(علیه السلام) وأيام عيد الغدير، ومن يأتي إلى كربلاء المقدسة أيام عاشوراء وزيارة الأربعين وليالي الجمعة، وكذلك من يتحمل عناء السفر من مشهد الإمام الرضا(علیه السلام) إلى قم المقدسة حيث قبر فاطمة المعصومة(علیها السلام)، وغيرها من المدن التي تضم مراقد أهل البيت(علیهم السلام) ومواليهم.فمن جملة الفوائد التي ترتبت على انتشار قبور الأئمة(علیهم السلام) في مشارق الأرض ومغاربها هي زيادة الروابط الودية والتآخي والتعارف بين أبناء الشيعة، وذلك عند تلاقيهم في المناسبات والزيارات الخاصة أو العامة لهذه القبور، وهذا الحشد كان ولا يزال يمثل ثقلاً سياسياً وعقائدياً في المجتمع العالمي، وهناك فوائد اجتماعية واقتصادية وغيرها لهذه المسألة، فضلاً عن أن وجود قبور الأئمة(علیهم السلام) في هذه البلدان رحمة لأهلها وسبب نيلهم الأجر والثواب لخدمة الناس والزوار.

توسع المدن بمراقدهم(علیهم السلام)

كما إن المناطق التي توجد فيها القبور جذبت الشيعة والمؤمنين حولها للإقامة فيها، وهذا الاجتماع مصدر قوة لا يستهان به، ومن هنا أخذ الأعداء يحاربون مراقد أهل البيت(علیهم السلام) وربما سببوا مواجهات بين الشيعة الموالين وبين الحكومات الجائرة والظالمة على مرّ التاريخ. وبما أن الأمة الإسلامية تمر أحياناً بحالات منالضعف نتيجة عوامل لا مجال لذكرها هنا، سمحت للكثير من المنحرفين وأصحاب الشبهات والبدع من الجهلة إلى التجاوز على هذه المناطق المقدسة والمعتقدات الشريفة، فالوهابيون مثلاً قاموا بتخريب قبور أئمة البقيع سنة (1343ه) حين انتزعوا الحجاز من الشريف حسين واستولوا عليه، ومن قبل هجموا على كربلاء المقدسة مرتين وعاثوا فيها فساداً وقتلاً وتخريباً مركزين حقدهم على الحرم الحسيني الشريف وذلك عام (1216ه).

ص: 343

وظلت القبور الطاهرة في البقيع على حالها إلى الآن، ومن المعلوم أن قبور أخرى كثيرة كانت هناك، فبالإضافة إلى القبور الأربعة للائمة المعصومين(علیهم السلام)، فهناك رواية تقول بأن فاطمة الزهراء(علیها السلام) قد دفنت في البقيع مع اختلاف بين المؤرخين حول مكان دفنها(علیها السلام)(1) وهناك في البقيع قبر أم البنين (رضوان اللّه عليها)وقبور أخرى لذرية الرسول(صلی الله علیه و آله) وآله الأطهار، مضافاً إلى بعض الصحابة المؤمنين.

ولئن جرت المقادير بأن تكون هذه القبور تحت إشراف الزمرة الوهابية فالمحصلة تكون مزيداً من الظلم والتعسف والتخريب للآثار الإسلامية والتاريخية وعدم معرفة حقها وعدم الاهتمام لما ينبغي، على عكس المراقد المقدسة التي هي تحت إشراف الشيعة، كما هو الحال بالنسبة إلى الضريح الشريف للإمام علي بن موسى الرضا(علیهما السلام) أو المرقد الشريف في قم المقدسة للعلوية فاطمة المعصومة(علیها السلام) إذ يحف الشيعة بهذه القبور الطاهرة، ويتوسلون بها إلى اللّه، وقد جاء عن الإمام الرضا(علیه السلام) عندما سئل عن زيارة فاطمة بنت موسى(علیها السلام): «من زارها فله الجنة»(2).وقال الإمام الجواد(علیه السلام): «من زار قبر عمتي بقم في الجنة»(3).

ولا بد من القول هنا أن مدينة قم المقدسة ما صارت بهذا الشكل لو لا وجود قبر فاطمة المعصومة(علیها السلام)، إذ كانت مدينة قم قبل ذلك عبارة عن مجموعة من

ص: 344


1- هناك ثلاث احتمالات في المقام كلها مبنية على الروايات وتوجد هذه الروايات في بحار الأنوار 43: 180 باب ما وقع عليها من الظلم. الاحتمال الأول: إنها في البقيع، الاحتمال الثاني: أنها في بيتها، الاحتمال الثالث: أنها بين قبر الرسول(صلی الله علیه و آله) ومنبره.
2- كامل الزيارات: 324.
3- كامل الزيارات: 324.

القرى تصل إلى سبع قرى، ولا يصل تعداد سكانها إلى أكثر من ثلاثة آلاف نسمة وكان سكانها في السابق من بعض اليهود والمجوس وعبدة النار.

أما اليوم فإن قم المقدسة هي مدينة كبيرة مترامية الأطراف، وأكثر سكانها من الشيعة. وما ذلك إلّا بفضل السيدة فاطمة المعصومة(علیها السلام).

وصايا تخص الهيئات المقيمة في المشاهد المشرفة

اشارة

ومن هنا تكون واجبات على الهيئات الشريفة التي تسكن في هذه البلاد الطاهرة من مشهد الرضا(علیه السلام) المقدس وقم وكربلاء والنجف والكاظمين وما أشبه، نذكر بعضها:

معرفة الإمام

منها: إنه لا بد من معرفة الإمام المعصوم المدفون في تلك البقعة معرفة حقيقية والعمل بما أراده(علیه السلام)، من الدفاع عن الإسلام ونشر مفاهيمه، وكما هو واضح أن الأئمة(علیهم السلام) جميعاً لا يمنعهم الموت من سماع الأحياء أو رؤيتهم كما نقرأ ذلك في الزيارات، قال الشيخ الكفعمي(رحمة الله) تقرأ في أذن الدخول لزيارة النبي(صلی الله علیه و آله) أو أحد الأئمة(علیهم السلام): «.. واعلم ان رسولك وخلفائك(علیهم السلام) أحياء عندك يرزقون، يرون مقامي ويسمعون كلامي ويردّون سلامي...»(1). فهم(علیهم السلام) يسمعون الأحياء ويردون جوابهم، فإن الإنسان حينما يرتفع عن الدنيا والماديات سوف يسمع ويرى كثيراً مما لم يكن يسمعه أو يراه في الدنيا هذا بالنسبة إلى الإنسان العادي فكيف بالأنبياء والأئمة الصالحين(علیهم السلام).

شكر النعمة

ومنها: أنه يلزم على الإنسان المقيم في المشاهد المشرفة أن يشكراللّه على

ص: 345


1- المصباح للكفعمي: 473.

هذه النعمة الكبيرة وهي مجاورته للإمام(علیه السلام)، وأن يقدر هذه النعمة ويذكرها دائماً ويؤدي ما عليه من واجبات تجاهها، فإن الإنسان إذا لم يشكر نعمة اللّه عليه فلربما يأتي يوم يرفع اللّه هذه النعمة منه، كما قال تعالى في القرآن الكريم «لَئِن شَكَرتُم لَأَزِيدَنَّكُمۖ وَلَئِن كَفَرتُم إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد»(1).

وقال الإمام الصادق(علیه السلام): «نحن واللّه نعمة اللّه التي أنعم بها على عباده، وبنا يفوز من فاز»(2).

ومنها: إنه يلزم التفكير والسعي لتأسيس وتقوية الحوزات العليمة عند المراقد المطهرة، فمثلاً: إن الحوزة العلمية اليوم في مشهد الإمام الرضا(علیه السلام) تضم حوالي سبعة آلاف من الطلبة وأهل العلم في حين أن المطلوب أن تكون الحوزة هناك أوسع من هذا بكثير، فتضم على أقل تقدير خمسين ألفاً، وتقوية ذلك بأيدينافإن كل عائلة قادرة على إرسال أحد أبنائها إلى الحوزة عليها أن ترسله، ولو أن هذه الخطوة ستواجه مشاكل كثيرة، إلّا أنه لا بد للإنسان المؤمن أن يتحمل ذلك، فيرسل أحد أبنائه والذي يتميز بالذكاء والفطنة والرغبة في الدرس، وهذا الابن لو وفق وصار من طلاب العلوم الإسلامية، فإنه سوف يصبح أحد خدام وجنود الإمام صاحب الزمان(علیه السلام)، وسوف يصبح الحامي لحرم الأئمة المعصومين(علیهم السلام) والمدافع عنهم في كل حين. بل المدافع عن بيضة الإسلام كله.

قلة طلاب العلوم الدينية

وفي الحقيقة إن عدد طلاب العلوم الدينية قليل جداً، قياساً إلى تعداد الشيعة وحاجة الإسلام اليوم إلى أكبر قدر ممكن من الدعوة إليه، ففي قم المقدسة

ص: 346


1- سورة إبراهيم، الآية: 7.
2- تفسير القمي 1: 371.

يوجد حوالي عشرون ألف طالب، وفي مشهد حوالي سبعة آلاف، في حين أن الوهابيين صار عدد طلاب مدارسهم في مكة لوحدها أضعاف ذلك ولذاترى أن الوهابيين يملكون منافذ كثيرة في العالم لترويج أفكارهم ففي السعودية لديهم مراكز كثيرة لاستقبال الطلبة، فهناك مركز في مكة وآخر في المدينة، وفي الرياض وفي بعض المدن الأخرى مضافاً إلى مدارسهم وحوزاتهم في العديد من الدول الإسلامية، ومن الطبيعي حينما يكون عدد الطلبة والمبلغين عند الوهابية أكثر منا، فإنهم سيسبقوننا في نشر أفكارهم، ويصبح لهم النفوذ الأعظم حيث قال تعالى: «كُلّا نُّمِدُّ هَٰٓؤُلَآءِ وَهَٰٓؤُلَآءِ»(1).

ألم تكن مكة المكرمة في السابق مدينة من مدن المسلمين يزورها كل من يرغب إليها وكذلك المدينة المنورة فكان يزورها كل مسلم وبكامل حريته لزيارة مرقد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الأطهار(علیهم السلام)، فكان المرء يسافر إلى مكة كما يسافر الإنسان اليوم من أصفهان إلى شيراز، أما ما نراه اليوم من كثرة القيود لمن يريد السفرلزيارة بيت اللّه وزيارة قبر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فهو من جور وتآمر الوهابيين على الإسلام، فهم الذين وضعوا هذه العراقيل أمام ذهاب المسلمين إلى مكة والمدينة.

المجالس الحسينية

ومن أهم ما يلزم على كل إنسان موال لأهل البيت(علیهم السلام) أن يقيم كل واحد مجلساً حسينياً في بيته في كل أسبوع مرة، أو كل أسبوعين مرة، أو كل شهر مرة، فإن لإقامة هذه المجالس فوائد كثيرة، منها: ذكر أهل البيت(علیهم السلام) وهي عبادة، ومنها: إن إقامة المجالس لذكرهم(علیهم السلام) يدفع البلاء والمشكلات، وتنزل الملائكة

ص: 347


1- سورة الإسراء، الآية: 20.

على ذلك المكان، وهذا يؤكد حبنا لهم(علیهم السلام) ويشدنا نحوهم، ويربطنا بهم، مما يوجب سعادة الدنيا والآخرة.

فقد جاء عن أبي عبد اللّه الصادق(علیه السلام) أنه قال: «تجلسون وتتحدثون؟» قال: قلت جعلت فداك نعم، قال: «إن تلك المجالس أحبها فأحيوا أمرنا، إنه من ذَكَرنا أو ذُكرنا عنده فخرج من عينه مثلجناح الذبابة غفر اللّه له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر»(1).

وقال الإمام أبو جعفر الباقر(علیه السلام): «أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين(علیه السلام) دمعة حتى تسيل على خده بوأه اللّه بها غرفاً في الجنة يسكنها أحقاباً»(2).

وقال أبو عبد اللّه الصادق(علیه السلام): «من ذكرنا عنده ففاضت عيناه حرم اللّه وجهه على النار»(3).

وعن أبي هارون المكفوف قال: قال أبو عبد اللّه(علیه السلام): «يا أبا هارون أنشدني في الحسين(علیه السلام)» قال: فأنشدته فبكى فقال: «أنشدني كما تنشدون» يعني بالرقة، قال: فأنشدته:

أمرر على جدث الحسين*** فقل لأعظمه الزكية

قال: فبكى، ثم قال: «زدني» قال: فأنشدته القصيدةالأخرى، قال: فبكى وسمعت البكاء من خلف الستر. قال: فلما فرغت. قال لي: «يا أبا هارون من أنشد في الحسين(علیه السلام) شعراً فبكى وأبكى عشراً كتبت له الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى خمسة كتبت له الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى واحداً كتبت لهما الجنة، ومن ذكر الحسين(علیه السلام) عنده فخرج من

ص: 348


1- ثواب الأعمال: 187.
2- كامل الزيارات: 104.
3- كامل الزيارات: 104.

عينيه من الدموع مقدار جناح ذباب كان ثوابه على اللّه ولم يرض له بدون الجنة»(1).

وقال الإمام الباقر(علیه السلام): «ما من رجل ذكرنا أو ذكرنا عنده فخرج من عينيه ماء ولو قدر مثل جناح البعوضة إلّا بنى اللّه له بيتاً في الجنة وجعل ذلك حجاباً بينه وبين النار...»(2).

ثمار المجالس

ومن أهم ثمار هذه المجالس كثرة الثواب ومما يوجب ثقل ميزان الإنسان في يوم القيامة، فمثلاً: كم سيذكر فيها الصلاة على محمدوآل محمد(علیهم السلام)؟ وهذه الصلوات مثقلة للميزان.

كما ورد في الروايات، فقد جاء عن الإمام جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه(علیهم السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): أنا عند الميزان يوم القيامة فمن ثقلت سيئاته على حسناته جئت بالصلاة عليّ حتى أثقل بها حسناته»(3).

وعن عبد السلام بن نعيم قال: قلت لأبي عبد اللّه(علیه السلام): إني دخلت البيت فلم يحضرني شيء من الدعاء إلّا الصلاة على النبي وآله، فقال(علیه السلام): «لم يخرج أحد بأفضل مما خرجت»(4).

وقال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(علیه السلام): «كل دعاء محجوب عن السماء حتى تصلي على محمد وآله»(5).

ص: 349


1- كامل الزيارات: 104.
2- كفاية الأثر: 249.
3- ثواب الأعمال: 155.
4- ثواب الأعمال: 155.
5- ثواب الأعمال: 155.

وعن أحدهما(علیهما السلام) قال: «ما في الميزان شيء أثقل من الصلاةعلى محمد وآل محمد(علیهم السلام)، إن الرجل ليوضع علمه في الميزان فيميل به فيخرج النبي(صلی الله علیه و آله) الصلاة عليه وآله فيضعها في ميزانه فيرجح به»(1).

ترسيخ حب أهل البيت(علیهم السلام)

ومن أهم الفوائد الأخرى ما قاله أبو عبد اللّه الصادق(علیه السلام): «إن حبنا أهل البيت ليحط الذنوب عن العباد كما تحط الريح الشديدة الورق عن الشجر»(2).

فقد قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «... لكل شيء أساس وأساس الإسلام حبنا أهل البيت»(3).

وقال(صلی الله علیه و آله): «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره في ما أفناه، وشبابه في ما أبلاه، وعن ماله من أين كسبه وفي ما أنفقه، وعن حبنا أهل البيت»(4).إذن لا بد من المحافظة والحرص الشديد على إقامة المجالس الحسينية، وإن هذه المجالس لو حضرها حتى القليل كأهل الدار ومن يجاورهم وكان عدد الحاضرين خمسة أو عشرة فقط وصعد الخطيب المنبر وتحدث لهم عن الأخلاق أو التفسير أو عن التاريخ الإسلامي أو عن الأحكام الشرعية والواجبات والمحرمات، فإنكم ستستفيدون ويستفيد أبناؤكم ويستفيد أهل الدار جميعاً.

المجالس الحسينية والعائلة

ويلزم اصطحاب الأطفال والنساء للمجالس الحسينية، مع حفظ الموازين

ص: 350


1- عدة الداعي: 165.
2- قرب الإسناد: 39.
3- الكافي 2: 46.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 39.

الشرعية بأن يخصص للنساء مكاناً خاصاً، فالمرأة لها حقوق كثيرة في دين الإسلام، وعلى عهد الرسول(صلی الله علیه و آله) كانت النساء يأتين لمسجد الرسول(صلی الله علیه و آله) لأداء فريضة الصلاة، وإن النبي(صلی الله علیه و آله) حينما كان يخرج للحرب كان يأخذ معه النساء، فإذا لم تحضر النساء هذه المجالس فمن أين يتعلمن الأحكام الشرعية؟ وهكذا الأطفال، فعلينا أن نربيهم على ولاء أهل البيت(علیهم السلام) وعلى معرفة القرآن والأحكام الإسلامية.ثم إن اللّه تبارك وتعالى لم يستثن النساء من التكليف، إنما جعل التكليف على الرجال والنساء معاً، فقد جاء في القرآن الكريم: «مَن عَمِلَ صَٰلِحا مِّن ذَكَرٍ أَو أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤمِن...»(1).

وهنا لا بد لنا من توصية لنسائنا المؤمنات بالالتزام الكامل لأوامر الشريعة السمحاء، واحترامها ومراعاة توصيات أهل البيت(علیهم السلام) وجميع الأحكام الشرعية كمسألة غض البصر وترك الزينة في الأماكن العامة، لاسيما عند زيارة الأئمة وأولادهم(علیهم السلام)، ومراعاة الحجاب الإسلامي الكامل.

فقد قال تعالى: «وَقُل لِّلمُؤمِنَٰتِ يَغضُضنَ مِن أَبصَٰرِهِنَّ وَيَحفَظنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنهَاۖ وَليَضرِبنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّۖ وَلَا يُبدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَو ءَابَآئِهِنَّ أَو ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَو أَبنَآئِهِنَّ أَو أَبنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَو إِخوَٰنِهِنَّ أَو بَنِيٓ إِخوَٰنِهِنَّ أَو بَنِيٓ أَخَوَٰتِهِنَّ أَو نِسَآئِهِنَّ أَو مَا مَلَكَت أَيمَٰنُهُنَّ أَوِ ٱلتَّٰبِعِينَ غَيرِ أُوْلِي ٱلإِربَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ أَوِ ٱلطِّفلِ ٱلَّذِينَ لَم يَظهَرُواْ عَلَىٰ عَورَٰتِ ٱلنِّسَآءِۖ وَلَا يَضرِبنَ بِأَرجُلِهِنَّ لِيُعلَمَ مَا يُخفِينَ مِن زِينَتِهِنَّۚ وَتُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِجَمِيعًا أَيُّهَ ٱلمُؤمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ»(2).

وعن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «أنه نهى المرأة أن تضرب برجليها الأرض ليسمع

ص: 351


1- سورة النحل، الآية: 97.
2- سورة النور، الآية: 31.

صوت خلخاها ويعلم ما يخفى من زينتها»(1)،

وعدم التهاون في الصلاة، وبالأخص إذا أقيمت صلاة جماعة، وعقد محافل القرآن ومجالس التعزية، وأن لا تكون مجالس النساء عبارة عن اجتماع للتحدث في الأمور الدنيوية والقضايا التي لا نفع من ورائها، بل يجب أن تكون نساؤنا متأسيات بالسيدة فاطمة الزهراء(علیها السلام) والحوراء زينب(علیها السلام) وكيف كانت في نفس الوقت إنسانة عالمة فاضلة وشجاعة وعابدة ومجاهدة، هكذا يجب أن تكون المرأة الشيعية تنطلق من العفاف إلى العلم والعبادة وطاعة المولى وتعظيم الشعائر بشكل صحيح غير مناف للأحكام.

نشر معارف أهل البيت(علیهم السلام)

الموضوع الآخر هو لزوم نشر معارف أهل البيت(علیهم السلام) عبر مختلف الوسائل من الكتب والصحف والإذاعات وما أشبه، فعلينا معرفة معارف الإمام المعصوم(علیه السلام) أولاً ثم نشرها ليستفيد منها العالمون. وخصوصاً من يسكنون إلى جوار الأئمة(علیهم السلام)، فالإمام له بحر بل أبحر من المعرفة، فقد جاء عن أبي عبد اللّه(علیه السلام) قال: «إني لأعلم ما في السماوات وما في الأرض، وأعلم ما في الجنة وأعلم ما في النار، وأعلم ما كان وما يكون» قال: ثم سكت هنيئة فرأى أن ذلك كبر على من سمعه منه، فقال: «علمت ذلك من كتاب اللّه عزّ وجلّ، إن اللّه عزّ وجلّ يقول: فيه تبيان كل شيء»(2)(3).

فعلم الإنسان العادي ما هو إلّا وعاء ماء مقابل علوم الإمام التي هي أكبر من

ص: 352


1- دعائم الإسلام 2: 163.
2- إشارة إلى قوله تعالى في سورة النحل، الآية: 89: «وَنَزَّلنَا عَلَيكَ ٱلكِتَٰبَ تِبيَٰنا لِّكُلِّ شَيءٖ».
3- الكافي 1: 261.

سعة البحر الهادر.فإن هؤلاء أئمة(علیهم السلام) ليسوا خلقاً عادياً، بل هم أوتاد الأرض، وأركان الكون، وعماد الدين. وقد ورد عن الإمام الرضا(علیه السلام) إنه قال: «فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام أو يمكنه اختياره هيهات هيهات، ضلّت العقول، وتاهت الحلوم، وحارت الألباب، وخسئت العيون، وتصاغرت العظماء، وتحيرت الحكماء، وتقاصرت الحلماء...»(1).

نعم، إن اللّه عزّ وجلّ أبقاهم مناراً للبشر ووسيلة لسعادتهم رغم مرور أكثر من (1400) عام على الدعوة والرسالة التي حملوها، بل لو قدر اللّه أن تبقى الأرض ومن فيها أربعين مليون سنة أو أكثر لأبقاهم اللّه، رغم طمع الأعداء في تهديم قبورهم وإزالتها، فإنها ملجأ المؤمنين ومقصد المخلصين، كما في قوله تعالى: «مَا عِندَكُم يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٖۗ»(2).فإن «مَا عِندَكُم» أيها البشر «يَنفَدُ» يتم ويخلص، ولنفرض أنكم حصلتم من وراء نقضكم للعهد على ملك الدنيا فإنه فانٍ زائل «وَمَا عِندَ ٱللَّهِ» من الأجر والثواب المترتب على الوفاء بالعهد «بَاقٖۗ» أبد الآبدين... فإنا نرى الإمام المرتضى علي بن أبي طالب(علیه السلام) حين قيل له في الشورى: نبايعك على كتاب اللّه، وسنة رسوله(صلی الله علیه و آله) وسيرة الشيخين، رفض الشرط الأخير من الجمل الثلاث، ولم ينل الإمبراطورية الإسلامية لأجل هذا الرفض. وقبل عثمان الثلاث لكنه خالف(3)،

فنرى جزاء الإمام(علیه السلام) في الدنيا لصبره إلى اليوم، أما عثمان، فكان جزائه في نقضه للعهد ما رأينا إلى هذا اليوم، وثم قيل للإمام(علیه السلام) أن إبقاء معاوية

ص: 353


1- الكافي 1: 201.
2- سورة النحل، الآية: 96.
3- انظر: شرح نهج البلاغة 1: 188.

لأيام قلائل يمهد له الإمبراطورية الهادئة، لكن الإمام(علیه السلام) رفض، ومعاوية غدر واهتبل، فما مصيره في الدنيا إلّا اللعن والعار، بينما مصير الإمام(علیه السلام) الصابر ما نراه. وفي الإسلام أمثلة كثيرة ترشد إلىمصير الوفي الصابر، وإن رفت الوية الغادر المستعجل أياماً...(1).

ولما كان الأئمة(علیهم السلام) يمثلون إرادة اللّه، ولما كانوا أقرب الخلق إلى اللّه عزّ وجلّ، فهم يستمدون كل شيء من اللّه، واللّه جعلهم مصدر فيوضاته والطافه وهم محمد وآل محمد(علیهم السلام) فلذلك لا ينفذ ما عندهم.

نفحات من حب أهل البيت(علیهم السلام)

من بركات المراقد الشريفة، حصول المعجزات وظهور الكرامات، واستجابة الدعاء وشفاء المرضى وقضاء الحوائج.

كان في كربلاء المقدسة أحد طلاب العلوم الدينية وذلك في زمان الشيخ مرتضى الأنصاري(رحمة الله)، اسمه الشيخ إبراهيم، وكان هذا الشيخ بحاجة إلى الزواج، وإلى مبلغ من المال لأداء الحج ولقضاء دينه، فجاء إلى حرم أبي الفضل العباس(علیه السلام) وطلب حاجته، ثم انتظر يوماً ويومين وثلاثة حتى ستة أشهر، وفي أحد الأيام حينما كان جالساً في حرم أبي الفضل العباس(علیه السلام)، وبعد أن مرّت عليه أيامصعبة لما يعانيه من ضائقة العيش، فقد قضى ستة أشهر ينتظر أن تقضى له حاجته، ولكن الإجابة تأخرت لمصلحة ما، وفجأة نظر إلى امرأة من أهل البادية قد دخلت ضريح أبي الفضل العباس(علیه السلام) وهي تأخذ بيد طفلة لها اشتد بها المرض حيث كانت مصابة بمرض (الكزاز) وقد طوي بدنها لشدة المرض، فقالت الأم مخاطبة أبا الفضل(علیه السلام): يا أبا فاضل، إني أريد أن يشفي اللّه ابنتي

ص: 354


1- انظر: تفسير تقريب القرآن 3: 258.

بالجاه الذي عندك، فشفيت البنت من ساعتها، فراحت الأم تزغرد بالهلاهل وتنثر الحلوى على الزوار، فغضب الشيخ إبراهيم مما رأى وراح يخاطب أبا الفضل العباس(علیه السلام) بلهجة غير التي تناسب مقامه، إذ قال: يا أبا الفضل أهكذا تقضي حاجة البدوية وأنا طالب علم ورجل دين ولا تقضي حاجتي فلا نفع لي بهذه الملابس التي ارتديها - زي طلاب العلوم الدينية - وإني من الآن سأرجع إلى مدينتي التي قدمت إليكم منها (إيران) واترك الدراسة فإنكم قد خيبتموني، وبعد أن خرج من ضريح العباس(علیه السلام)، قال: لا بأسبتوديع الإمام الحسين(علیه السلام)، وبينما هو كذلك بين ضريح العباس(علیه السلام) وضريح الحسين(علیه السلام)، أوقفه شخص وقال له: هل أنت الشيخ إبراهيم؟

قال له: نعم.

قال: يا شيخ إبراهيم إن الشيخ مرتضى الأنصاري يطلبك الآن أن تحضر عنده، ولم يكن الشيخ إبراهيم معروفاً عند الشيخ الأنصاري من قبل، فلما ذهب ودخل على الشيخ الأنصاري(رحمة الله) قال له الشيخ الأنصاري: خذ كيس النقود هذا يا شيخ إبراهيم، واذهب لإنجاز ما طلبته من الإمام، ولكن لا ينبغي أن تكلم الإمام(علیه السلام) والأولياء الصالحين بهذه اللّهجة في المرة القادمة.

نعم، إن حب أهل البيت(علیهم السلام) والالتزام بتعاليمهم والتشرف بمجاورتهم وخدمتهم سواء كانت الخدمة علمية أو عملية له ثمرة دنيوية وأخروية، أما الأخروية فينال الشفاعة بشرطها وشروطها، وأما الفائدة الدنيوية فهي متمثلة في قضاء الحوائج والصفاء الروحي والعون في جميع الأمور الحرجة، ولكن مع ذلكفالمعصوم بإذن اللّه تعالى يستجيب لدعوة المحتاج ويقضي حاجته، وأما ما علينا في قصة الشيخ إبراهيم والمرأة البدوية فإن ذلك امتحان للشيعة بقدر المعرفة، فإن ما يحمله الشيخ من معرفة يوجب عليه الصبر، أما المرأة البدوية

ص: 355

فإنها لا تعرف ذلك وإنما تعرف أن الإمام(علیه السلام) سيقضي حاجتها.

إلى الهيئات عامة

وعلى كافة الهيئات أيضاً بالإضافة إلى ما تقدم من الوصايا أن تعمل على:

أولاً: وضع برنامج متكامل يؤكد ويعمق من خلاله حب أهل البيت(علیهم السلام) في كل فرد، وهذا الحب يجب أن يكون عن وعي وفهم، فإن الحب الساذج من دون وعي، لعله يتصدع في المواقف الحرجة، كما مرّ في القصة الآنفة الذكر، إن صياغة الحب ونقشه في الصدور يقع أيضاً على عاتق الهيئات الحسينية بما تقيمه من مجالس، وإحياء المراسيم الإسلامية ودعوة الخطباء وغيرها منالأمور التي تحيي القلوب وتقلل من انشداد الإنسان بالدنيا، بل تدعوه إلى العروج بالروح عالياً مع فكر أهل البيت(علیهم السلام).

ثانياً: لا بد من الاهتمام بالقرآن الكريم وإقامة المحافل المتعددة لقراءة القرآن وتعليمه وحفظه وخاصة للأطفال؛ لأنهم قوة الإسلام في المستقبل، وكذلك الشباب والنساء، فعلى الجميع أن ينهل من هذا المنهل العذب، ليتزين بأحكامه وتعاليمه، فقد ورد عن أمير المؤمنين(علیه السلام): «العلم في الصغر كالنقش في الحجر»(1).

وقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «معاشر الأنصار أدبوا أولادكم على حب علي...»(2).

ثالثاً: إقامة مجالس تذكر فيها الأحكام الشرعية المبتلى بها عند الناس وتدريس الأمور العقائدية المهمة التي تجب على كل أحد معرفتها، من قبيل أصول الإسلام وفروعه، وأصول المذهبوفروعه، وتأريخ المذهب وحياة

ص: 356


1- كنز الفوائد 1: 319.
2- الصراط المستقيم 2: 68.

الأئمة(علیهم السلام) وتصديهم الخالد للطواغيت، والمسائل الفقهية المبتلى بها يومياً.

رابعاً: لتكن مراكز الهيئات ملتقى للأخوة الإسلامية، ومكان للتآخي والتحابب والصدق وذكر اللّه، والإخلاص في جميع علاقاتنا مع الناس، ومع الأسرة، ومع الأولاد، ومع الأصدقاء وفي الدرجة الأولى علاقتنا مع اللّه عزّ وجلّ ثم علاقتنا مع الأئمة(علیهم السلام) ثم مع الناس.

وفي الختام نسأل اللّه عزّ وجلّ أن يوفقنا للمزيد من معرفة القرآن والعترة الطاهرة إنه سميع مجيب.

اللّهم صل على محمد وآل محمد، «اللّهم إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، وقلب لا يخشع، ودعاء لا يسمع، ونفس لا تشبع»(1) وصلى اللّه على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

من هدي القرآن الحكيم

تعريف الإسلام للناس

قال تعالى: «وَمَن أَحسَنُ قَولا مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحا»(2).

إقامة مجالس الوعظ والإرشاد

قال سبحانه: «ٱدعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلحِكمَةِ وَٱلمَوعِظَةِ ٱلحَسَنَةِۖ»(3).

إقامة مجالس التفقه في الدين

قال تعالى: «فَلَولَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَةٖ مِّنهُم طَآئِفَة لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَومَهُم إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيهِم لَعَلَّهُم يَحذَرُونَ»(4).

ص: 357


1- المصباح للكفعمي: 299.
2- سورة فصلت، الآية: 33.
3- سورة النحل، الآية: 125.
4- سورة التوبة، الآية: 122.

الاهتمام بالأعمال الخيرية

قال تعالى: «وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلبِرِّ وَٱلتَّقوَىٰۖ»(1).

لزوم اتباع الأئمة المعصومين(علیهم السلام)

قال سبحانه: «يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَوَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمرِ مِنكُمۖ»(2).

قال تعالى: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم رَٰكِعُونَ»(3).

وقال عزّ وجلّ: «يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّٰدِقِينَ»(4).

ضرورة إقامة المجالس الحسينية

قال تعالى: «ذَٰلِكَۖ وَمَن يُعَظِّم شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى ٱلقُلُوبِ»(5).

وقال سبحانه: «أَن أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِۚ»(6).

الاهتمام كثيراً بتعليم القرآن الكريم

قال عزّ وجلّ: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلقُرءَانَۚ»(7).

وقال تعالى: «وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلنَٰهُ مُبَارَك فَٱتَّبِعُوهُ وَٱتَّقُواْ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ»(8).

وقال جلّ وعلا: «وَأُمِرتُ أَن أَكُونَ مِنَ ٱلمُسلِمِينَ * وَأَن أَتلُوَاْ ٱلقُرءَانَۖ فَمَنِ

ص: 358


1- سورة المائدة، الآية: 2.
2- سورة النساء، الآية: 59.
3- سورة المائدة، الآية: 55.
4- سورة التوبة، الآية: 119.
5- سورة الحج، الآية: 32.
6- سورة الشورى، الآية: 13.
7- سورة النساء، الآية: 82.
8- سورة الأنعام، الآية: 155.

ٱهتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهتَدِي لِنَفسِهِۦۖ»(1).

وقال سبحانه: «كِتَٰبٌ أَنزَلنَٰهُ إِلَيكَ مُبَٰرَك لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلبَٰبِ»(2).

من هدي السنّة المطهّرة

نشر حب أهل البيت(علیهم السلام)

قال الإمام الباقر عن آبائه(علیهم السلام): قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «حبي وحب أهل بيتي نافع في سبعة مواطن أهوالهن عظيمة: عند الوفاة وفي القبر،وعند النشور، وعند الكتاب، وعند الحساب، وعند الميزان، وعند الصراط»(3).

الاهتمام بالقرآن وتعليمه

قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»(4).

وقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «ومن تعلم القرآن وتواضع في العلم وعلَّم عباد اللّه وهو يريد ما عند اللّه، لم يكن له في الجنة أعظم ثواباً منه ولا أعظم منزلة منه...»(5).

إقامة مجالس التفقه في الدين

قال الإمام الكاظم(علیه السلام):

«تفقهوا في دين اللّه فإن الفقه مفتاح البصيرة وتمام العبادة والسبب إلى المنازل الرفيعة والرتب الجليلة في الدين والدنيا، وفضل الفقيه على العابد

ص: 359


1- سورة النمل، الآية: 91-92.
2- سورة ص، الآية: 29.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: 10.
4- عوالي اللئالي 1: 99.
5- ثواب الأعمال: 293.

كفضل الشمس على الكواكب،ومن لم يتفقه في دينه لم يرض اللّه له عملاً»(1).

لزوم معرفة الإمام المعصوم(علیه السلام)

قال الإمام الصادق(علیه السلام) في قوله اللّه عزّ وجلّ: «وَمَن يُؤتَ ٱلحِكمَةَ فَقَد أُوتِيَ خَيرا كَثِيراۗ»(2) فقال: «طاعة اللّه ومعرفة الإمام»(3).

وعن أحدهما(علیهما السلام) أنه قال: «لا يكون العبد مؤمنا حتى يعرف اللّه ورسوله والأئمة كلهم وإمام زمانه ويرد إليه ويسلم له ثم قال: كيف يعرف الآخر وهو يجهل الأول؟!»(4).

وقال الإمام أبو الحسن(علیه السلام) في قوله «وَمَن أَضَلُّ مِمَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ بِغَيرِ هُدى مِّنَ ٱللَّهِۚ»(5) قال: «يعني من اتخذ دينه رأيهبغير هدىً أئمة الهدى»(6).

وفي ما كتب الإمام الرضا(علیه السلام) للمأمون من شرائع الدين: «من مات ولم يعرفهم - الأئمة(علیهم السلام) - مات ميتة جاهلية»(7).

ضرورة إقامة المجالس الحسينية

قال الإمام الصادق(علیه السلام) لأبي عمار المنشد:

«يا أبا عمار أنشدني في الحسين بن علي(علیهما السلام)» قال: فأنشدته فبكى ثم أنشدته فبكى قال: فواللّه مازلت أنشده ويبكي حتى سمعت البكاء من الدار»(8).

ص: 360


1- تحف العقول: 410.
2- سورة البقرة، الآية: 269.
3- الكافي 1: 185.
4- الكافي 1: 180.
5- سورة القصص، الآية: 50.
6- بصائر الدرجات 1: 13.
7- عيون أخبار الرضا(علیه السلام) 2: 122.
8- الأمالي للشيخ الصدوق: 141.

أخبر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ابنته فاطمة بقتل ولدها الحسين(علیه السلام) وما يجري عليه من المحن بكت فاطمة(علیها السلام) بكاءً شديداً، وقالت: «يا أبت فمن يبكي عليه؟ ومن يلتزم بإقامة العزاء له؟»

فقال النبي(صلی الله علیه و آله): «يا فاطمة إن نساء أمتي يبكون على نساء أهلبيتي، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي ويجددون العزاء جيلاً بعد جيل، في كل سنة...»(1).

وقال الإمام الرضا(علیه السلام): «من تذكر مصابنا وبكى لما ارتكب منا كان معنا في درجتنا يوم القيامة. ومن ذكر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»(2).

فضائل زيارة قبور المعصومين(علیهم السلام)

قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «من زارني بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي، وكنت له شهيداً وشافعاً يوم القيامة»(3).

وقال الإمام الحسن(علیه السلام) لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله):

«يا أبت ما جزاء من زارك؟ فقال(صلی الله علیه و آله): من زارني أو زار أباك أو زارك أو زار أخاك كان حقاً عليّ أن أزوره يوم القيامة حتى أخلصهمن ذنوبه»(4).

قال الإمام الصادق(علیه السلام): «من أتى الحسين(علیه السلام) عارفاً بحقه كتبه اللّه تعالى في أعلى عليين»(5).

ص: 361


1- بحار الأنوار 44: 293.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 73.
3- كامل الزيارات: 13.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: 59.
5- ثواب الأعمال: 85.

قال الإمام الرضا(علیه السلام) في كتاب له إلى البزنطي (أحد أصحابه):

«أبلغ شيعتي أن زيارتي تعدل عند اللّه ألف حجة» قال (البزنطي): فقلت لأبي جعفر(علیه السلام): ألف حجة؟! قال(علیه السلام): «إي واللّه وألف ألف حجة لمن زاره عارفاً بحقه»(1).

ص: 362


1- كامل الزيارات: 306.

ضروريات طالب العلم

اشارة

قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «قليل العلم خير من كثير العبادة»(1)، فهناك أبعاد ثلاثة ضرورية جداً بالنسبة لطالب العلم ومكملة لشخصيته العلمية والدينية في المجتمع:

البعد الأول: العلم الكثير

اشارة

وهو ضروري جداً لطالب العلم لأنه لا يستطيع أن يؤثر في الناس ويهديهم إلى سبيل الرشاد إلّا بواسطة العلم وكلما كان علمه أكثر وأعمق وأوسع في شموله لأبعاد الحياة الدينية والاجتماعية كان مدى تأثيره وهدايته أكثر فأكثر، وتحصيل العلم بحاجة إلى صرف كلّ العمر في هذا السبيل ولذلك فإنّ لسان حال العلميقول لطالب العلم: (أعطني كُلَّك أعطك بعضي).

أهمية العلم في نظر العلماء

جواهر الكلام من الكتب الفقهية المشهورة وهو يعتبر من شمل الكتب الاستدلاليّة إذ أنّه يحتوي على عشرات لآلاف من الأحكام والقوانين الإسلامية المختلفة وربما لم يأت عالم من العلماء منذ زمان شيخ الطائفة إلى الفترة الأخيرة وقد تمكن أن يكتب دورة الفقه بشكل كامل ومفصل واستدلالي غير صاحب الجواهر.

ص: 363


1- منية المريد: 105.

وينقل في أحوال صاحب الجواهر أنه عندما بلغهُ خبر وفاة ولده جلس إلى جوار جنازته وهو مستمر بتأليف كتاب الجواهر ودموعه تجري على خديه.

البعد الثاني: البعد التربوي

اشارة

وهو مهم جداً لكل طالب علم، لأن أهم وظيفة يؤديها طالب العلم هو الإصلاح والإرشاد والتوجيه الاجتماعي، فيجب على طالب العلم مضافاً إلى تحصيل العلم الكثير أن يهتم بتربية المجتعبالطرق الصحيحة وبالأسلوب الذي طبقه الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) في تربية المجتمع. قال الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام) «ارحم من أهلك الصغير ووقّر منهم الكبير» (1).

وفي الحديث: «وأنزلهم جميعاً منك منازلهم، كبيرهم بمنزلة الوالد، وصغيرهم بمنزلة الولد، وأوسطهم بمنزلة الأخ»(2).

إن مكانة طالب العلم الناجح والمؤثر بين الناس تستلزم معايشتهم ومشاركتهم في آمالهم وآلامهم بلا ترفع وانعزال وعلى قول الشاعر:

ولن تستطيع الحلم حتى تحلّماً(3)

وفي الرواية «الخلق عيال اللّه»(4). وبهذا المضمون يقول الإمامأمير المؤمنين(علیه السلام): «اجعل نفسك ميزاناً في ما بينك وبين غيرك فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك واكره له ما تكره لها»(5)،

وهذه الصفة جاءت في الشريعة

ص: 364


1- الأمالي للشيخ المفيد: 222.
2- تحف العقول: 271.
3- من بيت شعر للحاتم الطائي وهو: تحلم عن الأدنين واستبق ودهم*** ولن تستطيع الحلم حتى تحلّما أساس البلاغة: 195.
4- الكافي 2: 164.
5- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31 من وصية له(علیه السلام) لولده الحسن(علیه السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.

الإسلامية باسم المواساة، وفي الواقعة المشهورة عندما ورد أبو الفضل العباس(علیه السلام) المشرعة وأراد أن يشرب الماء وضع يده تحت الماء ورفعها ليشرب تذكر عطش أخيه الحسين(علیه السلام) والأطفال والعيال فرمى الماء من يديه ولم يشرب(1)

مواساة لأخيه بالرغم من عطشه الشديد، ولو شرب العباس(علیه السلام) الماء لما كان مرتكباً للحرام بالرغم من قرب شهادته وتحيته الكبيرة في سبيل دينه وإمامه ومبدئه فهذه مواساة الأخ لأخيه وسائر العطاشى في رمضاء كربلاء تحت وهج الشمس في هاجرة العاشر من المحرم بل إنه(علیه السلام) وفضلاً عن مواساته لأخيه الحسين(علیه السلام) خاطبنفسه قائلاً:

يا نفس من بعد الحسين هوني*** وبعده لا كنت أن تكوني

هذا الحسين شارب المنون*** وتشربين بارد المعين

واللّه ما هذا فعال ديني*** ولا فعال صادق اليقين(2)

الإمام الصادق(علیه السلام) والمواساة

يقول الراوي دخلت على الإمام جعفر الصادق(علیه السلام) فرأيته وعلى كتفه عباءة خلقه ومرقعة فقلت يا ابن رسول اللّه ما هذه العباءة المرقعة؟

فقال(علیه السلام):

ان بين المسلمين كثيراً ممن لا يجد حتى مثل هذه العباءة(3).فالدنيا ليس لها أية قيمة أبداً إلى درجة أنه ورد في بعض الروايات أنها لا تساوي حتى جناحي بعوضة.

ص: 365


1- انظر مقتل الحسين(علیه السلام) لأبي مخنف: 179.
2- انظر ينابيع المودة 3: 67.
3- ربما كان فعل الإمام(علیه السلام) لإختلاف الزمان والمكان حيث لبس العباءة المرقعة واللّه العالم راجع الرواية في كتاب ناسخ التواريخ باب ما يتعلق بالامام الصادق(علیه السلام).

قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «لو عدلت الدنيا عند اللّه عزّ وجلّ جناح بعوضة لما سقى الكافر منها شربة»(1).

وقيل أن النبي(صلی الله علیه و آله) مرّ على سخيلة منبوذة على ظهر الطريق فقال: «والذي نفسي بيده للدنيا أهون على اللّه من هذا الجدي على أهله»(2).

يوسف(علیه السلام) والمواساة

كما ورد في تاريخ النبي يوسف(علیه السلام) إنه عندما كان ملكاً لمصر وكانت كلّ الخزائن تحت تصرفه بحيث أنه أنقذ شعب مصر من قحط سبع سنوات، وكان يوسف(علیه السلام) في فترة سلطانه ضعيفاً جداً، فجاء الأطباء عنده وسألوه عن سبب ذلك، فقال(علیه السلام): عندي ألم خفي!قالوا: أخبرنا عنه لعلنا نستطيع علاجه.

قال(علیه السلام): إنّ نفسي تأمرني كلّ يوم أن أشبعها وأنا أبقي عليها جائعة دائماً!

قالوا: فكم سنة أنت تأكل دون الشبع؟

قال(علیه السلام) سبع سنوات!

قالوا: لماذا لا تأكل حتى الشبع؟

قال(علیه السلام) إني أخاف يوم القيامة أن يقول لي اللّه تعالى يا يوسف لماذا نمت وأنت شبعان ورعاياك من الناس ينامون جياعاً؟ فكيف يكون جوابي؟

البعد الثالث: التقوى والعيش البسيط

اشارة

من الصفات المهمة أيضاً التي يجب على كلّ طالب علم أن يتحلى بها هي التقوى على سبيل الملكة والتطبع وكذلك العيش البسيط السهل وعدم الاعتناء

ص: 366


1- الإختصاص: 243.
2- انظر الكافي 2: 129.

بالدنيا وزخرفها وبهرجهاوبريقها والشاعر الفارسي سعدي قال في هذا المجال:(1).

لو علمت لذة ترك اللذة لما حسبت الشهوات لذة، وإذا فتحت لنفسك باباً إلى السماء أغلقت ألف باب من الناس على نفسك [فلا تحتاج إليهم].

تأثير أحد العلماء الزهاد في الناس

الملّا حسين قلي(رحمة الله) هو أحد الأساتذه المهمّين وكان زاهد عصره، تلاميذه ينقلون في أحواله بأنه كان في النجف الأشرف شخص من الأشرار الأشقياء في أول الأمر اسمه (عبد فرّار) وكان الجميع يخافون منه خوفاً شديداً، وكان أوجب على الجميع أن يحترموه ويقدروه عندما يمرون عليه وإذا مرّ هو من مكان فيجب علىالجالسين أن يقوموا احتراماً له.

وفي ذات يوم دخل عبد فرّار الصحن الشريف للإمام أمير المؤمنين(علیه السلام) فقام له كلّ من كان في الصحن خوفاً منه، وكان في الصحن أيضاً الملّا حسين قلي فلم يقم له ولم يعتنِ به أو يأبه له، فأثار ذلك كبرياء عبد فرّار وخاطب الملّا حسين قلي، ألم تعرف بأني عبد فرّار؟

فلماذا لم تقف احتراماً لي؟

فقال الملّا حسين قلي: إذا كنت عبد فرّار فممّن فررت؟

أمن اللّه فررت أم من رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أم من علي بن أبي طالب(علیه السلام)؟

فنزل هذا الكلام على قلب عبد فرّار كالصاعقة وظل باهتاً لا يدري ما يقول أو

ص: 367


1- ونص البيت هو كالآتي: اگر لذت ترك لذت بدانی *** دگر شهوت نفس لذت ندانی هزاران در از خلق بر خود ببندی *** گرت باز باشد دری آسمانی

يجيب وأقفل مسرعاً إلى البيت.

وفي اليوم التالي عندما كان الملاّ حسين قلي مشغولاً بالتدريس بلغهُ خبر وفاة عبد فرّار فعطّل الملّا درسه على أثر ذلك وقال لتلامذته هلمّوا بنا لنشيع جنازة أحد أولياء اللّه، ثم توجهوا إلىبيت عبد فرّار وعندما وصلوا هناك تعجب الناس من أنه كيف يأتي الآخوند الملّا حسين قلي لتشييع جنازة عبد فرّار ثم تقدم الملّا حسين وسأل زوجة عبد فرّار عن كيفية وفاته فقالت: أمس بعد الظهر جاء عبد فرّار البيت ولكن ليس كعادته بل كان كالأفراد الذين أصابهم مس من الجنون وهو غائب عمّا حوله ولم يلتفت إلى شيء ومنذ ذلك الحين وإلى صباح هذا اليوم كان يبكي بكاء الثكلى وعندما أصبح مات فجأة، فالتفت الملّا حسين إلى تلامذته وقال هنيئاً لعبد فرّار إنه طوى المسيرة التي يجب أن نقضيها طول حياتنا بليلة واحدة!

فهذا هو التأثير الذي يوقعه الأفراد الزاهدون في الدنيا في الآخرين إذا كانوا من أهل العمل والصدق والإخلاص.

إنّ هؤلاء الزهّاد التاركين للدنياهم وحدهم الذين يستطيعون أن يؤثّروا في الناس ويرشدوهم إلى طريق الخير والهداية أكثر من أولئك المتعلقين بالدنيا والمؤثرين لها على كل شيء فالمعنوياتوالفضائل والأخلاق هي التي تصنع الإنسان وتمنحه الحرية والرفعة والسمو وتزيل الرين عن القلوب الجافية.

الشيخ جعفر الشوشتري(رحمة الله)

الشيخ جعفر الشوشتري(رحمة الله) هو أحد العلماء والخطباء البارزين في عصره وكان قمة في الزهد والتقوى، في أحد الأيام جاءه شخص كان مملوكاً لأحد المسلمين وطلب منه أن يتكلم على المنبر حول تحرير العبيد وعتقهم والثواب

ص: 368

الجزيل الذي خصصه اللّه تعالى للمالك الذي يعتق عبده وأثره الحسن في يوم القيامة وذلك حتى يسمع سيده ومالكه هذا الكلام عسى أن يتشوق إلى الثواب أو يرق لحاله ويعتقه، فقال الشيخ جعفر الشوشتري(رحمة الله) لا بأس سأتكلم حول ذلك إن شاء اللّه.

ثم مضت على المحادثة عدة شهور ولم يحدث أن تكلم الشيخ جعفر حول العتق وثوابه، والعبد ينتظر ذلك على أحرّ من الجمر، حتى كانت ليلة من الليالي وإذا بالشيخ جعفر يخصص مجلساً كاملاًللحديث حول تحرير العبيد وعتقهم في الإسلام وثواب ذلك وأثره النفسي الإيجابي في نفوس العبيد وفي المجتمع، فأثّر ذلك الكلام تأثيراً بالغاً في نفس مولى ذلك العبد ممّا سبب أن يعتقه، ثم أن العبد الذي حرّر بقي متعجباً من تأخير الشيخ جعفر حديثه عن هذا الموضوع مما جعله يذهب إلى الشيخ ويسأله عن سبب هذا التأخير المثير للعجب والاستغراب... فقال الشيخ جعفر عندما طلبت مني أن أتكلم حول موضوع العتق آنذاك لم يكن لديَّ شيء من المال حتى اشتري عبداً وأعتقه حتى يؤثر حديثي في مولاك، لذلك بدأت بجمع المال إلى أن تمكنت من جمع مقدارٍ اشتريت به عبداً وأمس أعتقت ذلك العبد الذي اشتريته فصرت بذلك فاعلاً للخير ومترجماً ومتعطفاً على الغير فجعل اللّه تعالى التأثير في كلامي على قلوب المستمعين حتى يعتقوا عبيدهم وكنت أنت أحد المصاديق في ذلك.

قال الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام): «زيادة الفعل على القول أحسنفضيلة...»(1).

ثم إننا إذا أردنا أن نهدي الناس ونرشدهم إلى الصراط المستقيم فعلينا أن نبادر نحن أولاً إلى تحقيق هذه الأبعاد الثلاثة في نفوسنا ونبدأ بفعل الخير وعمل

ص: 369


1- غرر الحكم ودرر الكلم: 391.

الصلاح ونزهد في الدنيا حتى يكون كلامنا مؤثراً ومرشداً لهم إلى الطريق الصحيح في الحياة.

من هدي القرآن الحكيم

العلم

قال تعالى: «قُل هَل يَستَوِي ٱلَّذِينَ يَعلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعلَمُونَۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلبَٰبِ»(1).

وقال سبحانه: «يَرفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُم وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلعِلمَ دَرَجَٰتٖۚ»(2).

وقال عزّ وجلّ: «وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلعِلمَ ٱلَّذِيٓأُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ ٱلحَقَّ»(3).

وقال جلّ شأنه: «وَلِيَعلَمَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلعِلمَ أَنَّهُ ٱلحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤمِنُواْ بِهِۦ»(4).

فضل العلم

قال عزّ اسمه: «قَالَ لَهُۥ مُوسَىٰ هَل أَتَّبِعُكَ عَلَىٰٓ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمتَ رُشدا * قَالَ إِنَّكَ لَن تَستَطِيعَ مَعِيَ صَبرا»(5).

وقال جلّ وعلا: «إِنَّمَا يَخشَى ٱللَّهَ مِن عِبَادِهِ ٱلعُلَمَٰٓؤُاْۗ»(6).

وقال عزّ من قائل: «إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلعِلمَ مِن قَبلِهِۦٓ إِذَا يُتلَىٰ عَلَيهِم يَخِرُّونَ لِلأَذقَانِ سُجَّدا * وَيَقُولُونَ سُبحَٰنَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعدُ رَبِّنَا لَمَفعُولا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذقَانِ يَبكُونَ وَيَزِيدُهُم خُشُوعا»(7).

ص: 370


1- سورة الزمر، الآية: 9.
2- سورة المجادلة، الآية: 11.
3- سورة سبأ، الآية: 6.
4- سورة الحج، الآية: 54.
5- سورة الكهف، الآية: 66-67.
6- سورة فاطر، الآية: 28.
7- سورة الإسراء، الآية: 107-109.

من هدي السنّة المطهّرة

أهمية العلم

عن الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام): «رأس الفضائل العلم، غاية الفضائل العلم»(1).

وعن أمير المؤمنين(علیه السلام): «العلم ضالة المؤمن»(2).

وقال أمير المؤمنين(علیه السلام): «كلّ وعاء يضيق بما جعل فيه إلّا وعاء العلم فإنّه يتسع به»(3).

وعن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «قلب ليس فيه شيء من الحكمة كبيتٍ خرب، فتعلّموا وعلّموا وتفقّهوا ولا تموتوا جهالاً فإن اللّه لا يعذر على الجهل»(4).

وقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «العلم رأس الخير كلّه والجهل رأس الشركله»(5).

وقال أمير المؤمنين(علیه السلام): «إن العلم حياة القلوب ونور الأبصار من العمى وقوة الأبدان من الضعف»(6).

وقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «علماء أمتي كأنبياء بني اسرائيل»(7).

فضل العلم والعالم على غيره

وعن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «العالم بين الجهال كالحي بين الأموات»(8).

ص: 371


1- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 41.
2- عيون أخبار الرضا(علیه السلام) 2: 66.
3- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 205.
4- نهج الفصاحة: 600.
5- بحار الأنوار 74: 175.
6- الأمالي للشيخ الصدوق: 616.
7- الصراط المستقيم 1: 131.
8- الأمالي للشيخ المفيد: 29.

وقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «فضل العلم أحب إلى اللّه عزّ وجلّ من فضل العبادة»(1).

وقال الإمام الباقر(علیه السلام): «تذكر العلم ساعة خير من قيام ليلة»(2).

وقال(علیه السلام): «عالم ينتفع بعلمه أفضل من عبادة سبعين ألفعابد»(3).

وقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «إنّ فضل العالم على العابد كفضل الشمس على الكواكب وفضل العابد على غير العابد كفضل القمر على الكواكب»(4).

وعن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «ركعتان يصليها العالم أفضل من ألف ركعة يصليها العابد»(5).

وقال الإمام الصادق(علیه السلام): «عالم أفضل من ألف عابد وألف زاهد»(6).

وعن الإمام الرضا(علیه السلام): «يقال للعابد يوم القيامة: نِعم الرجل كنت، همتك ذات نفسك وكفيت الناس مؤونتك فادخل الجنة ألّا إن الفقيه من أفاض على الناس خيره وأنقذهم من أعدائهم... ويقالللفقيه: يا أيها الكافل لأيتام آل محمد، الهادي لضعفاء محبيه ومواليه، قف حتى تشفع لمن أخذ عنك أو تعلم منك»(7).

وقال أمير المؤمنين(علیه السلام): «ركعتان من عالم خير من سبعين ركعة من جاهل لأن العالم تأتيه الفتنة فيخرج منها بعلمه وتأتي الجاهل فتنسفه نسفاً»(8).

ص: 372


1- الخصال 1: 4.
2- بحار الأنوار 1: 204.
3- بصائر الدرجات 1: 6.
4- بصائر الدرجات 1: 8.
5- مكارم الأخلاق: 441.
6- ثواب الأعمال: 131.
7- منية المريد: 117.
8- الإختصاص: 245.

النظر إلى العالم

وقال النبي(صلی الله علیه و آله): «النظر في وجوه العلماء عبادة».

وسئل الإمام جعفر بن محمد الصادق(علیهما السلام) عنه فقال: «هو العالم الذي إذا نظرت إليه ذكرّك الآخرة ومن كان خلاف ذلك فالنظر إليه فتنة»(1).

العلم فريضة

قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «أُطلبوا العلم ولو بالصين فإن طلب العلم فريضةعلى كلّ مسلم»(2).

وقال الإمام زين العابدين(علیه السلام): «لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج»(3).

وعن الإمام الصادق(علیه السلام): «كان في ما وعظ لقمان ابنه أنه قال له: يا بني اجعل من أيامك ولياليك وساعاتك نصيباً لك من طلب العلم فإنك لن تجد له تضييعاً مثل تركه»(4).

وقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة»(5).

آثار طلب العلم

قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «طالب العلم بين الجهال كالحي بينالأموات»(6).

وقال الإمام الباقر(علیه السلام): «ما من عبد يغدو في طلب العلم ويروح إلّا خاض

ص: 373


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 84.
2- روضة الواعظين 1: 11.
3- الكافي 1: 35.
4- الأمالي للشيخ الطوسي: 68.
5- كنز الفوائد 2: 107.
6- الأمالي للشيخ الطوسي: 577.

من الرحمة خوضاً»(1).

وعن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك اللّه به طريقاً إلى الجنة»(2).

وقال أمير المؤمنين(علیه السلام): «الشاخص في طلب العلم كالمجاهد في سبيل اللّه»(3).

وعن الإمام الصادق(علیه السلام): «طالب العلم يستغفر له كلّ شيء حتّى الحيتان في البحار والطير في جو السماء»(4).

أصناف طلبة العلم

قال أمير المؤمنين(علیه السلام): «طلبة العلم على ثلاثة أصناف ألّا فاعرفوهمبصفاتهم وأعيانهم: فصنف منهم يتعلمون للمراء والجهل وصنف منهم يتعلمون للاستطالة والختل وصنف منهم يتعلمون للفقه والعقل.

فصاحب المراء والجهل تراه مؤذياً ممارياً للرجال في أندية المقال قد تسربل بالخشوع وتخلّى من الورع فدقّ اللّه من هذا حيزومه(5) وقطع منه خيشومه.

وصاحب الاستطالة والختل فإنه يستطيل به على أمثاله من أشكاله ويتواضع للأغنياء من دونهم فهو لحلوائهم هاضم ولدينه حاطم فأعمى اللّه من هذا بصره وقطع من آثار العلماء أثره.

وأما صاحب الفقه والعقل فإنك فتراه ذا كآبة وحزن قد قام الليل في حِنْدِسه(6)

ص: 374


1- بصائر الدرجات 1: 5.
2- الكافي 1: 34.
3- روضة الواعظين 1: 10.
4- بحار الأنوار 1: 173.
5- الحَيْزوم: وسط الصدر.
6- الحِنْدِس: الظلمة أو الليل الشديد الظلمة.

وانحنى في بُرْنُسه(1) يعمل ويخشى خائفاًوجلاً من كلّ أحد إلّا من كلّ ثقة من إخوانه فشد اللّه من هذا أركانه وأعطاه يوم القيامة أمانه»(2).

ص: 375


1- البُرْنُس: قلنسوة طويلة كان النساك يلبسونها في صدر الإسلام، أي تعمد للعبادة وتوجه إليها وصار في ناحيتها وتجنب الناس وصار في ناحية منهم.
2- أعلام الدين: 89.

ما يحتاجه طالب العلم

اشارة

قال اللّه سبحانه وتعالى: «قُل هَل يَستَوِي ٱلَّذِينَ يَعلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعلَمُونَۗ»(1).

جاءت الآية الكريمة على صورة الاستفهام، وذلك لأن الاستفهام يعتبر من أقوى المحركات المثيرة للمشاعر، فمن باب المثال يقول الأب لابنه الذي صدر منه عمل غير صحيح: هل هذا العمل الذي صدر منك صحيح؟

وذلك في صيغة الاستفهام فهو يعنفه بهذا الاستفهام لأنه أكثر وقعاً في النفس من نفس التعنيف، وهذا الأسلوب البليغ في أداء المعاني والمفاهيم على تمامها، مستعمل كثيراً في القرآن وكذافي الأحاديث الشريفة وأيضاً يستعمل في الشعر فضلاً عن النثر. فهذه الآية الشريفة تبين فضل التعلم بصورة الاستفهام وتقول أيها الناس أنتم احكموا واقضوا هل يستوي العالم مع الجاهل؟

في الوقت الحاضر أصبحت بعض العلوم في متناول الكثير ممن باستطاعته تعلمها ودراستها بدون مانع إلّا بعض العلوم النادرة التي نهى عنها الشارع(2).

وفي الرواية عن الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام): «قيمة كلّ امرىءٍ ما يحسنه»(3).

ما يلزم طالب العلم

اشارة

حديثنا في هذه الصفحات بعد أن قدمنا تلك المقدمة الصغيرة المختصرة

ص: 376


1- سورة الزمر، الآية: 9.
2- كالتنجيم والسحر والقيافة وغيرها على تفصيل مذكور في كتاب المكاسب من الفقه.
3- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 81.

سيدور حول أهم شرط من الشروط التي يجب أن تتوفر في أهل العلم وطلابه، لأن على طالب العلم أن تتوفر فيه ستة شروط لكي تكتمل شخصيته العلمية والتوجيهية بين الناسبحيث إذا افتقد واحدة أو أكثر منها فإنه يلزم عليه أن يسعى لإيجادها وتحقيقها في نفسه حتى يتمكن من أن يقود المجتمع والناس إلى ما فيه صلاح دنياهم وآخرتهم.

والشروط الستة هي

التقوى، والأخلاق الحميدة وقوة القلم، والبيان والسعي الجاد من أجل تأسيس المؤسسات وإقامة المشاريع الاجتماعية والخدمية للأمة وهذه الشروط ليست محل بحثنا اليوم وإنما كلامنا نحصره في الشرط السادس وهو العلم.

ونرجئ الكلام في الشروط الخمسة الأخرى إلى وقت آخر إن شاء اللّه تعالى.

العلم وطالب العلم

اشارة

والعلم يشمل الدراسة والتدريس والمطالعة والحفظ وكل ما يتعلق بذلك من أمور...

ولكي يصل الطالب إلى مرتبة العلم والعلماء يشترط فيه المواصلة والاستمرارية وبذل الوسع في التحصيل.كما قال النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله) «اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد»(1). وقول النبي(صلی الله علیه و آله): «من المهد» ليس لغواً فإنّ جميع كلمات أهل البيت(علیهم السلام) تشتمل على معانٍ بلاغية عالية ومفيدة، وحديثاً اكتشف العلماء هذا الأمر بعدما أشار إليه الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله) قبل ألف واربعمائة سنة بأن ذهن الطفل الوليد كآلة التسجيل أو شريط التسجيل الذي يلتقط كل شيء يمر على ذهنه فإذا وضعت

ص: 377


1- نهج الفصاحة: 218.

إلى جانب مهد الطفل تلاوة القرآن فستنطبع الكلمات القرآنية الشريفة في ذهنه وتؤثر على روحه وقلبه تأثيراً إيجابياً... وفي نفس الوقت إذا وصلت إلى سمعه ألفاظ قبيحة تعافها الأخلاق الفاضلة فأيضاً ستنطبع في ذهنه وتؤثر عليه سلباً. لذلك فإن الإنسان الذي ترى أخلاقه سيئة وقبيحة ليست دائماً تكون بسبب الانحلال الخُلقي الذي شاهده في الأسرة أو المجتمع أو اكتسبه من الأصدقاء وإنما قد يكون اكتسبها وهو صغير في المهد.ومن هنا جاء في الحكمة عن أمير المؤمنين(علیه السلام): «العلم في الصغر كالنقش في الحجر»(1).

دليل من التاريخ

العلامة الحلي(رحمة الله) يُعدّ أحد أكبر المجتهدين في عصره، وقد نشأ هذا العالم الكبير في جو عائلي ملؤهُ العلم والفضيلة حيث كان أبوه عالماً كبيراً وكذلك أمّه، فكان أبوه عندما يريد أن يدرّس يطلب ابنه العلامة وهو طفل صغير في المهد فيضعه إلى جواره ويقول إن الكلام العلمي يؤثر في ذهن الرضيع، لذلك أصبح ابنه بعد سنين طويلة من علماء الشيعة المهمّين الكبار، فالطفل الذي منذ نعومة أظفاره لا يتعامل معه إلّا بأخلاق طيبة ولا يسمع إلّا كلاماً جميلاً يكون هذا الكلام الحسن بمثابة البذرة الصالحة تنبت في نفسه وتعطي أكلها بعد حين طيباً صالحاً وناضجاً.إن جسم الإنسان لا قيمة أساسية له وإنما القيمة التي تعطى للإنسان إنما هي لما يحمله من روح عالية، لأن الجسم عبارة عن لحم وعظم وما أشبه قد صيغا بهذا الشكل المألوف ثم أودع في هذا الجسم الروح الإنسانية كما يقول اللّه

ص: 378


1- كنز الفوائد 1: 319.

تعالى في القرآن: «وَنَفَختُ فِيهِ مِن رُّوحِي»(1).

خصوصاً وإن هذه الروح إلى حد اليوم لم تعرف ولم يستطع علماء الشرق والغرب فهم كنهها وماهيتها.

أما عبارة «إلى اللحد» التي جائت في الرواية فتعني أن الإنسان حتى عند القبر يمتلك قدرة الإدراك والحس والشعور ولذا ورد في بعض الروايات بتلقين الميت عندما يوضع في القبر، حيث إن إحدى فوائد التلقين كما في بعض الروايات هي أن نكيراً ومنكراً لا يأتيان إلى الميت الذي قد لُقّن(2).و«اطلبوا العلم» صيغة أمر فيها معنى الاستمرار والدوام أي على كل حالٍ يجب أن لا يكون للزمان والمكان مدخلٌ في التأثير سلباً على تحصيل العلم وتعلمه، وإنما طلب العلم وتحصيله واجب وضروري دائماً وأبداً في كل زمان ومكان.

دراسة وتدريس الحاج آقا حسين القمي(رحمة الله)

الحاج آقا حسين القمي(رحمة الله) وهو أحد الفقهاء المراجع الذي توفي(3). قبل أربعين سنة تقريباً وكان معاصراً لزمان البهلوي الأول، وعلى أثر حادثة مشهد الأليمة أبعده بهلوي الأول إلى العراق وأقام في مدينة كربلاء المقدسة وكذلك النجف الأشرف حتى وافاه الأجل ودفن في النجف الأشرف، وقد كان الحاج حسين القمي(رحمة الله) يتابع الدرس والبحث حتى في ليالي القدر من شهر رمضان التي من المستحب المؤكد إحياؤها بالدعاء والأذكار والصلوات الخاصة، وكان

ص: 379


1- سورة الحجر، الآية: 29.
2- انظر تهذيب الأحكام 1: 459.
3- توفي عام (1366ه).

يقول طلب العلم وتعلمه أفضلمن أية عبادة أخرى.

عدم إضاعة الوقت

يقول الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام): «نَفسُ المرء خُطاه إلى أجِله»(1). يعني إن كل نفس يتنفّسه الإنسان يقدمه ويقربه إلى الموت خطوة وهكذا، فعلى طالب العلم أن لا يهدر ولا يفرط حتى بالدقيقة الواحدة كما كان علماؤنا الكبار (قدس اللّه أسرارهم) يفعلون ذلك أمثال العلامة الحلي(رحمة الله) الذي كان يؤلف ويكتب وهو راكبٌ على دابته في طريقه إلى كربلاء المقدسة أو في أسفاره الأخرى. هذا فضلاً عن كتبه الكثيرة والعديدة التي كتبها، ويعد كتابه (تذكرة الفقهاء) من الكتب المهمة والأساسية التي يستفيد منها ويعتمد عليها الفقهاء إلى يومنا هذا ويشتمل على مسائل حسابية ورياضية معقدة لم يستطع حلّها حتى بعض أساتذة الجامعة، وذلك لأن بعض مباحث الفقه بحاجة إلى الحسابوالهندسة وعلم الفلك، مثل تعيين جهة القبلة والبيع والإرث والقضاء والديات وغيرها.

وينقل في سيرة العلامة الحلي(رحمة الله) أنه قد ألّف (حوالي ألف كتاب) وكان يلقم لقيمات الغذاء لأنه لم يكن له الوقت الكافي لتناول الطعام لانشغاله في التأليف، واليوم وقد مضى على وفاة العلامة حوالي (سبعمائة سنة) واسمه مازال حياً في الحوزات والجامعات والمحافل العلمية تتناقله الألسنة وكتبه مورداً ومصدراً يرجع إليها الجميع.

كما ينقل عن حياة اديسون الذي اكتشف الكهرباء أنه كان لا يخرج من غرفته لأيام وأيام فيظل منهمكاً في التحقيق والاكتشاف وما كان يهتم بأكله وطعامه وإنما كان يكتفي في بعض الأحيان بكسيرات من الخبز اليابس وعلى أثر هذا

ص: 380


1- نهج البلاغة، الحكم الرقم: 74.

التحقيق المتواصل والتفكير الدؤوب والتجارب المستمرة استطاع أن يسجل ما يقارب ثلاثمائة اكتشاف باسمه، ولحد الآن وفي يوم وفاتهتقطع بعض دول العالم الكهرباء لمدة دقيقة واحدة احتراماً وتقديراً له.

ومن هنا جاء في الحكمة عن لسان العلم أنه يقول لطالبه: (أعطني كلّك أُعطِك بعضي).

فعلى طالب العلم أن يجد ويجتهد بعزم وتصميم في إتقان الدروس العلمية والدينية من أول المقدمات إلى آخر الكفاية، أما ما يقوله البعض من عدم وجود الفائدة الكبيرة في دراسة بعض الكتب الحوزوية كدراسة كتاب المطول - في البيان والمعاني - والقوانين - في الأصول وشرائع الإسلام - في الفقه - بعلة أنها أصبحت قديمة وأن أكثر مبانيها أصبحت باطلة فذلك غير سديد وذلك لأن باقي الدروس العلمية المهمة في الحوزات تعتمد على هذه الكتب اعتماداً مباشراً وكبيراً وما لم يعرف الطالب المباني الأساسية التي ذكرت في هذه الكتب سوف يصعب عليه فهم المطالب اللاحقة التي سوف يواجهها فيالكتب الأخرى.

تعلم القرآن ونهج البلاغة

اشارة

كما يجب على طالب العلم أن يتعلم ويدرس - تحقيقاً - علوم القرآن الكريم ونهج البلاغة والصحيفة السجادية، لأنها تحتوي على بحر زاخر من العلوم الطبيعية والإنسانية والأخلاقية والفكرية التي تمس حياة الإنسان الفردية والاجتماعية وتعالج الكثير من مشكلاته الحيوية المختلفة...

هذا مضافاً إلى ترويج درس العقائد في الحوزات العلمية، حتى نحصل على قدرة كافية لرد وتفنيد المذاهب والعقائد الباطلة والمزيفة كالمسيحية واليهودية والبوذية وغيرها كالوهابية والشيوعية وباقي المذاهب الأخرى التي تسعى بكل

ص: 381

جهدها من أجل تحطيم الإسلام وتشويه مبادئه وأفكاره.

نشاط الشيخ محمد جواد البلاغي في طريق العلم وخدمة الدين

يعد الشيخ محمد جواد البلاغي(رحمة الله) من العلماء الزهاد الذينخدَموا الإسلام خدمة عظيمة بأفكارهم النيرة وأقلامهم القوية وله كتب كثيرة مثل كتاب: (الرحلة المدرسية والمدرسة السياره ونهج الهدى) وغيرها(1).

ينقل عن أحواله بأنه عندما كان يدرس في مدينة سامراء كان يعطي نصف راتبه الشهري - وكان قليلاً جداً - لأحد اليهود مقابل تعليمه اللغة العبرية وذلك لكي يتمكن من أن يدرس ويبحث في التوراة ليستخرج منه مواطن الانحراف والزيف ويكشف مساوءها ويبيّنها للناس ولذلك عندما تُوفي الشيخ البلاغي احتفلت الكنائس والبيع في لندن وكانوا يعللون ذلك ويقولون بأنهم تخلصوا من العالم المسلم الشيعي الوحيد الذي كان بإمكانه تفنيد عقائدنا وإبطال مذاهبنا.

وكذلك كان للشيخ البلاغي(رحمة الله) كتب تحقيقية وعلمية مهمةأخرى في ردّ سائر الأديان المحرفة وهي مورد استفادة الجميع إلى اليوم، حتى أن بعض أساتذة جامعات العراق عندما كانت تواجههم مسألة عويصة في هذه المجالات كانوا يجدون حلّها عنده(رحمة الله).

لأنه كان قد أتعب نفسه وبحث كثيراً ودقق ملياً وحقق حتى وصل إلى هذه المرتبة العالية من العلم والفضيلة.

ونحن لكي نتمكن من إيصال صوت الإسلام إلى أسماع العالم ونقف بقوة الفكر والمنطق والكلمة الحرة أمام الهجمات القوية والشرسة التي يتعرض لها الإسلام اليوم يجب علينا كطلبة للعلوم الدينية أن نبذل أقصى جهدنا ونصرف

ص: 382


1- ككتاب: (الرد على الوهابية) و(التوحيد والتثليث) و(الهدى إلى دين المصطفى).

أغلب أوقاتنا وأعمارنا في سبيل العلم والتحصيل والتحقيق دون ملل أو كسل حتى نستطيع أن نحصن ديننا من التشويه ومجتمعاتنا من الانحراف وسيطرة الأجانب علينا.

اللّهم ارزقنا توفيق الطاعة، وبعد المعصية، وصدق النيّة، وعرفان الحرمة، وأكرمنا بالهدى والإستقامة، وسدّد ألسنتنابالصواب والحكمة، واملأ قلوبنا بالعلم والمعرفة... وتفضّل... على المتعلّمين بالجهد والرغبة، وعلى المستمعين بالاتباع والموعظة»(1).

من هدي القرآن الحكيم

العلم وطالب العلم

قال تعالى: «لَقَد مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلمُؤمِنِينَ إِذ بَعَثَ فِيهِم رَسُولا مِّن أَنفُسِهِم يَتلُواْ عَلَيهِم ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلكِتَٰبَ وَٱلحِكمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ»(2).

وقال سبحانه: «ٱقرَأ وَرَبُّكَ ٱلأَكرَمُ * ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلقَلَمِ * عَلَّمَ ٱلإِنسَٰنَ مَا لَم يَعلَم»(3).

وقال عزّ وجلّ: «قُل هَل يَستَوِي ٱلَّذِينَ يَعلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعلَمُونَۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلبَٰبِ»(4).وقال جلّ وعلا: «وَمَا يَستَوِي ٱلأَعمَىٰ وَٱلبَصِيرُ»(5).

ص: 383


1- البلد الأمين: 349.
2- سورة آل عمران، الآية: 164.
3- سورة العلق، الآية: 3-5.
4- سورة الزمر، الآية: 9.
5- سورة فاطر، الآية: 19.

وقال عزّ اسمه: «يَرفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُم وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلعِلمَ دَرَجَٰتٖۚ»(1).

وقال جلّ شأنه: «يُؤتِي ٱلحِكمَةَ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُؤتَ ٱلحِكمَةَ فَقَد أُوتِيَ خَيرا كَثِيراۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلأَلبَٰبِ»(2).

وقال عزّ من قائل: «وَمَا كَانَ ٱلمُؤمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةۚ فَلَولَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَةٖ مِّنهُم طَآئِفَة لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَومَهُم إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيهِم لَعَلَّهُم يَحذَرُونَ»(3).

تعلم العلم وتعليمه

قال جلّ ثناؤه: «قَد أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيكُم ذِكرا * رَّسُولا يَتلُواْ عَلَيكُم ءَايَٰتِ ٱللَّهِ مُبَيِّنَٰتٖ لِّيُخرِجَ ٱلَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۚ»(4).

وقال تعالى: «هَٰذَا بَصَٰٓئِرُ لِلنَّاسِ وَهُدى وَرَحمَة لِّقَومٖ يُوقِنُونَ»(5).

وقال سبحانه: «وَإِذ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِم وَٱشتَرَواْ بِهِۦ ثَمَنا قَلِيلاۖ فَبِئسَ مَا يَشتَرُونَ»(6).

وقال عزّ وجلّ: «ٱلَّذِينَ يَستَمِعُونَ ٱلقَولَ فَيَتَّبِعُونَ أَحسَنَهُۥٓۚ»(7).

وقال جلّ شأنه: «يَٰٓأَهلَ ٱلكِتَٰبِ قَد جَآءَكُم رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُم كَثِيرا مِّمَّا كُنتُم تُخفُونَ مِنَ ٱلكِتَٰبِ وَيَعفُواْ عَن كَثِيرٖۚ قَد جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُور وَكِتَٰب مُّبِين * يَهدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ وَيُخرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذنِهِۦ وَيَهدِيهِمإِلَىٰ

ص: 384


1- سورة المجادلة، الآية: 11.
2- سورة البقرة، الآية: 269.
3- سورة التوبة، الآية: 122.
4- سورة الطلاق، الآية: 10-11.
5- سورة الجاثية، الآية: 20.
6- سورة آل عمران، الآية: 187.
7- سورة الزمر، الآية: 18.

صِرَٰطٖ مُّستَقِيمٖ»(1).

من هدي السنّة المطهّرة

العلم وطالب العلم

عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «طلب العلم فريضة على كلِّ مسلمٍ ومسلمة»(2).

وقال الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام): «الشاخص في طلب العلم كالمجاهد في سبيل اللّه»(3).

وقال الإمام الصادق(علیه السلام): «اطلبوا العلم ولو بخوض اللجج وشق المهج»(4).

وعن الإمام الباقر(علیه السلام) عن النبي(صلی الله علیه و آله) أنه قال: «اغدُ عالماً أو متعلماً وإياك أن تكون لاهياً متلذذاً»(5).وقال أمير المؤمنين(علیه السلام): «العلم ضالة المؤمن»(6).

وقال الإمام الباقر(علیه السلام): «تذكر العلم ساعة خير من قيام ليلة»(7).

وعن الإمام الباقر(علیه السلام) أنه قال: «ما من عبدٍ يغدو في طلب العلم أو يروح إلّا خاض الرحمة وهتفت به الملائكة مرحباً بزائر اللّه وسلك من الجنّة مثل ذلك المسلك»(8).

وقال الإمام الصادق(علیه السلام): «الناس اثنان: عالمٌ ومتعلم وسائر الناس همج

ص: 385


1- سورة المائدة، الآية: 15-16.
2- كنز الفوائد 2: 107.
3- روضة الواعظين 1: 10.
4- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 108.
5- المحاسن 1: 227.
6- عيون أخبار الرضا(علیه السلام) 2: 66.
7- بحار الأنوار 1: 204.
8- ثواب الأعمال : 131.

والهمج في النار»(1).

ضرورة تعلم العلم وتعليمه

عن الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام): «تعلموا العلمَ فإنّ تعلّمه حسنةٌ ومدارسته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة... وهو أنيس في الوحشة وصاحبٌ في الوحدة وسلاح على الأعداءوزين الأخلّاء، يرفع اللّه به أقواماً يجعلهم في الخير أئمة يقتدى بهم... لأن العلم حياة القلوب... وقوة الأبدان من الضعف... بالعلم يطاع اللّه ويعبد»(2).

وقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «أربعة تلزم كلّ ذي حجى وعقلٍ من أمّتي» قيل: يا رسول اللّه ما هنَّ؟ قال: «استماع العلم وحفظه ونشره والعملُ به»(3).

وقال الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام): «ما أخذ اللّه ميثاقاً من أهل الجهل بطلب تبيان العلم حتى أخذ ميثاقاً من أهل العلم ببيان العلم للجهال لأن العلم قبل الجهل»(4).

وقال الإمام الباقر(علیه السلام): «إن الذي تعلّم العلم منكم له مثل أجر الذي يعلمه وله الفضل عليه، تعلموا العلم من حملة العلم وعلّموهإخوانكم كما علمكُم العلماء»(5).

وعن الإمام الصادق(علیه السلام) أنه قال: «لكل شيء زكاة وزكاة العلم أن يعلّمه أهله»(6).

ص: 386


1- الخصال 1: 39.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: 615.
3- تحف العقول: 57.
4- الأمالي للشيخ المفيد: 66.
5- بصائر الدرجات 1: 4.
6- عدّة الداعي: 72.

تعلّم القرآن وعلوم أهل البيت(علیهم السلام)

من وصايا أمير المؤمنين(علیه السلام) لابنه الحسن(علیه السلام): «... وأن أبتدئك بتعليم كتاب اللّه عزّ وجلّ وتأويله وشرائع الإسلام وأحكامه وحلاله وحرامه لا أجاوز ذلك بك إلى غيره»(1).

وقال الإمام الباقر(علیه السلام): لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة: «شرّقا وغرّبا لن تجدا علماً صحيحاً إلّا شيئاً يخرج من عندنا أهل البيت»(2).

ص: 387


1- نهج البلاغة، الكتب الرقم: 31، من وصية له(علیه السلام) لولده الحسن(علیه السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.
2- بصائر الدرجات 1: 10.

ص: 388

فهرس المحتويات

ولكم في رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أسوة

الرسول(صلی الله علیه و آله) ونزاهة الحرب... 5

قريش والحرب والانتقام... 6

استعداد المسلمين... 8

معركة أحد... 8

مقام أمير المؤمنين(علیه السلام) في أحد..... 11

مقتل حمزة(علیه السلام)... 16

تراجع الكفار إلى مكة..... 23

من أعان ظالماً سلطه اللّه عليه.... 25

دروس وعبر... 27

الاستعمار في بلاد الإسلام... 30

قصة من الواقع.... 31

التوعية والأسوة... 33

الشباب والتأسي..... 34

التأسي بالعترة الطاهرة... 35

التنظيم..... 35

من هدي القرآن الحكيم.... 37

حسن الخلق... 37

معاشرة الناس..... 37

العطف على المساكين..... 38

العدل بين الناس..... 38

من هدي السنّة المطهّرة.... 39

حسن الخلق... 39

ص: 389

معاشرة الناس..... 39

العطف على المساكين والفقراء... 40

العدل بين الناس..... 40

البعثة النبوية الشريفة والدين الإسلامي

البعثة المباركة..... 42

أفضلية الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله)... 43

المؤمنون ونصرة النبي(صلی الله علیه و آله)..... 45

سبب شهرة نبي الإسلام(صلی الله علیه و آله).... 48

أولاً: الإسلام والقرآن الكريم والعترة..... 49

روايات حول القرآن..... 50

روايات حول العترة(علیهم السلام).... 50

سر النجاح..... 51

حقيقة الإسلام... 52

ثانياً: الأحكام العادلة..... 55

ثالثاً: الأمة الواحدة..... 56

الوصي(علیه السلام) يصف البعثة... 56

الصديقة(علیها السلام) تصف البعثة.... 57

من بركات البعثة..... 59

التعامل الإنساني مع الكل..... 59

أخلاقيات البعثة..... 61

التأسي برسول اللّه(صلی الله علیه و آله).... 64

العفو عن القاتل..... 64

رابعاً: دولة الرسول(صلی الله علیه و آله).... 66

مفتاح القوة والضعف.... 70

سبب رقي الإسلام أيام الرسول(صلی الله علیه و آله).... 73

التعامل بحسب الظاهر... 77

ص: 390

أخلاق رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)..... 78

من هدي القرآن الحكيم.... 81

بعثة الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله)..... 81

البعثة النبوية ومكارم الأخلاق... 81

البعثة النبوية والمسؤولية..... 82

بعثة الرسول(صلی الله علیه و آله) والأمة الواحدة.... 82

من هدي السنّة المطهّرة.... 83

بعثة الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله)..... 83

بعثة الرسول(صلی الله علیه و آله) ومكارم الأخلاق..... 84

المسؤولية وإقامة الدين... 84

حقيقة الإسلام... 85

التأسي بالرسول(صلی الله علیه و آله)... 86

عيد الغدير أعظم الأعياد في الإسلام

العيد في الإسلام.... 87

يوم البشرى.... 90

أهل البيت(علیهم السلام) سفن النجاة... 114

قطعات من سفينة نوح... 114

أقل الناس مؤونة وأكثرهم معونة... 116

الشيعة وحُب أمير المؤمنين(علیه السلام)... 119

التاريخ يتحدث.... 121

التأييد الغيبي لأهل الحق..... 122

أمير المؤمنين(علیه السلام) على لسان... 125

الصادق الأمين(صلی الله علیه و آله)..... 125

أهل البيت(علیهم السلام) وعيد الغدير... 127

من هدي القرآن الحكيم..... 135

ولاية أمير المؤمنين(علیه السلام)..... 135

ص: 391

صفات الإمام(علیه السلام)... 136

ذكر أمير المؤمنين(علیه السلام) في القرآن..... 136

متابعة أئمة الحق... 137

من هدي السنّة المطهّرة... 137

يوم الغدير... 137

صفات الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام)..... 138

النبأ العظيم..... 139

الحسن والحسين(علیهما السلام) إمامان قاما أو قعدا

المقدمة... 141

المجتمع يفرز الطغاة.... 143

الطبيعة النفسية للطاغية..... 147

كيف يُواجَه الطغاة؟..... 152

دور المعصوم(علیه السلام) واستمرار الرسالة... 155

قبس من شعاع الإمام الحسين(علیه السلام)

الشهادة والحياة الأبدية... 157

الإمام المعصوم..... 158

زيارة الإمام الحسين(علیه السلام).... 159

أحاديث في فضله(علیه السلام)... 162

التسبيح بتربته(علیه السلام)... 163

شهداء مع الإمام الحسين(علیه السلام).... 164

قصة من كرامات الشهيد... 164

يوم عاشوراء.... 166

من كرامات سيد الشهداء(علیه السلام)... 167

الحسين(علیه السلام) مصباح الهدى..... 169

هدف الإمام الحسين(علیه السلام)... 171

مصائب الحسين(علیه السلام).... 173

ص: 392

رأس الحسين(علیه السلام)..... 174

واجباتنا تجاه عاشوراء.... 175

الإمام السجاد(علیه السلام) وعاشوراء..... 177

أهل البيت(علیهم السلام) وإقامة العزاء... 177

جزيل الثواب... 178

من أنشد شعراً..... 179

من هدي القرآن الحكيم..... 180

من خصائص الإمام الحسين(علیه السلام).... 180

جزاء الشهيد عند اللّه سبحانه..... 180

واجبنا تجاه القضية الحسينية.... 181

من هدي السنّة المطهّرة... 181

من خصائص الإمام الحسين(علیه السلام).... 181

من كراماته(علیه السلام)... 182

الشهيد عند اللّه سبحانه.... 182

التمسك بالحسين وأهل البيت(علیهم السلام) هداية ونجاة... 183

واجبنا تجاه القضية الحسينية.... 183

يوم الحسين(علیه السلام) 3 شعبان ذكرى مولده المبارك

الولادة المباركة..... 185

طهّره اللّه من عرشه... 186

تكريم العلم والعلماء... 187

لماذا تقدم الغرب؟..... 188

النبي(صلی الله علیه و آله) والتأكيد على العلم..... 189

مدرسة الإمام الحسين(علیه السلام)..... 191

حركة الوهابيين..... 192

الاستثمار التبليغي.... 196

الإسلام يعلو... 198

دور الطلبة والعلماء... 199

ص: 393

حكام الجور من أسباب التأخر.... 200

قسوة خالد بن عبد اللّه القسري... 201

مقتل عبد اللّه بن المقفع..... 203

الكتابة والتأليف... 206

مكتبات في كل مكان... 207

المكتبة المنزلية... 208

الخطابة والبيان..... 209

قدرنا وقدرتنا... 209

مع الإمام موسى بن جعفر(علیهما السلام) والتغيير في العراق

مظلومية أهل البيت(علیهم السلام).... 211

علماء السنة يعترفون بفضل الإمام(علیه السلام)..... 213

هارون العباسي يعترف بإمامته(علیه السلام)..... 215

الدنيا دار العمل... 215

تقدم المسلمين الأوائل.... 216

السكوت القاتل... 216

نادِ في القوم.... 217

العراق وحكومة الأكثرية.... 219

مسؤولية الجميع.... 220

مزارات السنة في بغداد... 221

عقيدة التجسيم عند السنة..... 222

بغداد مدينة الشيعة... 224

التغيير المترقب... 224

إبعاد المراجع من العراق..... 225

لا تنخدعوا..... 225

رعاية حقوق الأقلية... 226

محاربة الحجاب في إيران..... 227

أهمية القلم والبيان..... 228

ص: 394

الكلمة مسؤولية الجميع... 229

إدارة الأقلية إدارة ظالمة.... 230

نعش الإمام الكاظم(علیه السلام)... 230

لا رأي لمن لا يطاع... 231

كيف نساهم في تشكيل حكومة الأكثرية؟.... 234

أسلوب التحريض..... 234

الكلمة المؤثرة... 235

دور اللسان وأهميته.... 236

الناس على دين ملوكهم..... 236

وفي الختام.... 237

في مولد الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف

ضرورة معرفة الإمام(علیه السلام).... 238

مفردات الحديث... 238

المعرفة.... 239

فلسفة الحديث..... 240

قتل الناس جميعاً... 241

منكر الضروري كافر..... 241

مع الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام).... 247

وهكذا الأمر في منكر الضروري.... 247

مع رأس المنافقين... 248

نعمة الاعتقاد بولاية إمام الزمان(علیه السلام).... 250

تعريف الإمام(علیه السلام) للعالم.... 252

إخلاص النية شرط التشرف.... 254

قصة من أفغانستان.... 256

الاستغاثة بالإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف... 263

اعتراف شاعر النيل... 266

تعريف الناس بالإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف..... 267

ص: 395

قاعة (إقبال) في المكتبة البريطانية... 268

تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام..... 270

الخاتمة.... 272

في رحاب السيدة المعصومة(علیها السلام))

ذكرى استشهاد السيدة المعصومة(علیها السلام)... 274

الموضوع الأول: نبذة عن حياة السيدة المعصومة(علیها السلام)... 275

ولادتها ووفاتها..... 275

من فضائلها(علیها السلام)..... 276

وتوفيت مسمومة شهيدة.... 277

الاغتيالات سياسة الطغاة... 279

عند دفن السيدة المعصومة(علیها السلام).... 279

المدفونون بجوارها... 280

من كراماتها.... 281

الموضوع الثاني: تاريخ قم وتشيعها.... 282

الدور الأول..... 282

أنا عربية وهذه عجمية... 285

المؤمن كفو المؤمنة.... 286

الدور الثاني..... 286

الدور الثالث.... 288

الدور الرابع..... 289

الدور الخامس... 289

الموضوع الثالث: مستقبل قم ودورها في نشر علوم آل محمد(علیهم السلام).... 291

المحور الأول: حرم السيدة المعصومة(علیها السلام).... 291

الحريات من أسباب انتشار الإسلام..... 293

المحور الثاني: نظافة مدينة قم المقدسة..... 295

المحور الثالث: الاستعداد لاستقبال شيعة العالم.... 297

المحور الرابع: التبليغ والإرشاد الديني... 298

ص: 396

هكذا يعملون... 299

التمسك بالقرآن والعترة..... 301

وفي الختام.... 301

عاصمة الحوزة العلمية..... 301

زيارة السيدة المعصومة(علیها السلام)..... 302

إحياء الشعائر

معنى الإحياء... 304

إحياء ذكرى المؤمن... 308

الاستعمار ومحاربة الشعائر..... 312

أتأتي قبر الحسين(علیه السلام)؟... 315

حيل الغرب في بلاد المسلمين..... 317

مجالس التعزية على لسان قس مسيحي... 320

من هدي القرآن الحكيم..... 322

حياة المؤمن..... 322

دور المجالس في إنهاض الأمة.... 323

الاستعداد الدائم للدفاع عن الإسلام..... 323

الدعوة لنشر الدين الإسلامي... 323

من هدي السنّة المطهّرة... 324

إحياء الشعائر..... 324

دور المجالس في إنهاض الأمة.... 325

نفي البدع... 326

الدعوة لنشر الدين الإسلامي... 327

المنبر الحسيني وبناء الإنسان

الأئمة وصِناعة النَوع الإنساني..... 328

المنبر الحسيني وبناء الذات... 331

خَصائِص المِنبر الحُسيني..... 331

1- أن يكون منبراً بنّاءً..... 332

ص: 397

2- نشر الوعي.... 333

3- أن يكون المنبر هادفاً... 334

ملاحظات على المِنبر.... 335

الإيمان والبناء... 336

خلاصة القول..... 337

من هدي القرآن الحكيم..... 337

من أهم ما يجب أن يدعو إليه خطيب المنبر الحسيني..... 337

التمسك بالإسلام.... 337

العمل للآخرة... 338

الإلتزام بمكارم الأخلاق..... 338

اتّباع الحق أن لا أقول على اللّه إلّا الحق..... 339

من هدي السنّة المطهّرة... 339

من أهم ما يجب أن يدعو إليه خطيب المنبر الحسيني..... 339

التمسك أكثر بالاسلام..... 339

العمل للآخرة... 340

الالتزام بمكارم الأخلاق..... 340

اتّباع الحق والقول بالحق والعمل بالحق.... 341

إلى الهيئات الحسينية

الشيعة وقبور الأئمة(علیهم السلام).... 342

توسع المدن بمراقدهم(علیهم السلام)... 343

وصايا تخص الهيئات المقيمة في المشاهد المشرفة... 345

معرفة الإمام.... 345

شكر النعمة.... 345

قلة طلاب العلوم الدينية.... 346

المجالس الحسينية... 347

ثمار المجالس..... 349

ترسيخ حب أهل البيت(علیهم السلام)... 350

المجالس الحسينية والعائلة..... 350

ص: 398

نشر معارف أهل البيت(علیهم السلام)... 352

نفحات من حب أهل البيت(علیهم السلام).... 354

إلى الهيئات عامة... 356

من هدي القرآن الحكيم..... 357

تعريف الإسلام للناس.... 357

إقامة مجالس الوعظ والإرشاد... 357

إقامة مجالس التفقه في الدين.... 357

الاهتمام بالأعمال الخيرية.... 358

لزوم اتباع الأئمة المعصومين(علیهم السلام)..... 358

ضرورة إقامة المجالس الحسينية... 358

الاهتمام كثيراً بتعليم القرآن الكريم... 358

من هدي السنّة المطهّرة... 359

نشر حب أهل البيت(علیهم السلام)..... 359

الاهتمام بالقرآن وتعليمه.... 359

إقامة مجالس التفقه في الدين.... 359

لزوم معرفة الإمام المعصوم(علیه السلام).... 360

ضرورة إقامة المجالس الحسينية... 360

فضائل زيارة قبور المعصومين(علیهم السلام)..... 361

ضروريات طالب العلم

البعد الأول: العلم الكثير.... 363

أهمية العلم في نظر العلماء... 363

البعد الثاني: البعد التربوي... 364

الإمام الصادق(علیه السلام) والمواساة... 365

يوسف(علیه السلام) والمواساة.... 366

البعد الثالث: التقوى والعيش البسيط.... 366

تأثير أحد العلماء الزهاد في الناس..... 367

الشيخ جعفر الشوشتري(رحمة الله)..... 368

ص: 399

من هدي القرآن الحكيم..... 370

العلم..... 370

فضل العلم... 370

من هدي السنّة المطهّرة... 371

أهمية العلم... 371

فضل العلم والعالم على غيره.... 371

النظر إلى العالم..... 373

العلم فريضة..... 373

آثار طلب العلم.... 373

أصناف طلبة العلم.... 374

ما يحتاجه طالب العلم

ما يلزم طالب العلم... 376

والشروط الستة هي... 377

العلم وطالب العلم.... 377

دليل من التاريخ... 378

دراسة وتدريس الحاج آقا حسين القمي(رحمة الله)... 379

عدم إضاعة الوقت.... 380

تعلم القرآن ونهج البلاغة.... 381

نشاط الشيخ محمد جواد البلاغي في طريق العلم وخدمة الدين... 382

من هدي القرآن الحكيم..... 383

العلم وطالب العلم.... 383

تعلم العلم وتعليمه.... 384

من هدي السنّة المطهّرة... 385

العلم وطالب العلم.... 385

ضرورة تعلم العلم وتعليمه... 386

تعلّم القرآن وعلوم أهل البيت(علیهم السلام)... 387

فهرس المحتويات... 389

ص: 400

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.