سرشناسه : الحسیني الشیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.
عنوان واسم المؤلف:كل فرد حركة وفلسفة التأخر/ السیدمحمد الحسیني الشیرازي؛ [برای] موسسةالشجرةالطیبة.
تفاصيل المنشور: قم : انتشارات دارالعلم، 1442 ق.= 1399.
مواصفات المظهر: 136 ص.؛ 5/14×5/21 س م.
ISBN : 978-964-204-604-1
حالة الاستماع: فاپا(الطبعة الثانية)
لسان : العربية.
ملحوظة : الطبعة الثانية.
ملحوظة : کتابنامه: ص. [125] - 130؛ أيضا مع الترجمة.
موضوع : الفلسفة الإسلامية
Islamic philosophy
المعرف المضاف: موسسة شجره طیبة(قم)
ترتيب الكونجرس: BBR1350
تصنيف ديوي: 189/1
رقم الببليوغرافيا الوطنية: 7539437
معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا
ص: 1
يهدی ثواب
طباعة هذا الكتاب إلی الإمام علي الرضا (علیه السلام)
كل فرد حركة وفلسفة التأخر
---------------------
آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمة الله)
الناشر: دارالعلم
المطبوع: 10000
المطبعة: احسان
الطبعة الثانية 1442ه ق
إخراج: نهضة الله عظيمي
------------------
شابك 978-964-204-604-1
------------------
النجف الأشرف: مكتبة الإمام الحسن المجتبى(علیه السلام) للطلب 07826265250
كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي(علیه السلام)، مكتبة الإمام الحسين(علیه السلام) التخصصية
مشهد المقدسة: مدرسة الإمام الرضا(علیه السلام)، جهارراه شهدا، شارع بهجت، فرع 5
طهران:شارع انقلاب، شارع 12 فروردين، مجتمع ناشران، الطابقالأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم
قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح الله، أول فرع 19، دار العلم
قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم
ص: 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمينَ * الرَّحْمنِ الرَّحيمِ * مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقيمَ * صِراطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ الضَّالِّينَ}
ص: 3
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.
(كل فرد حركة) اسم هذا الكتاب الذي كتبته لأجل إنهاض المسلمين حتى يُنقذوا العالم من الآفات والشرور.
إنّ العالم كان في السابق - لأجل عدم كثرة الوسائل الآلية آنذاك التي وضعت اليوم بأيدي الذين لا يرجون ثواب الله سبحانه ولا يخافون عقابه من ناحية، ولأجل عدم صيرورة المادّة آنذاك هي المحور بدل الإنسان الذي جعله الله سبحانه المحور، قال تعالى: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} إلى قوله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}(1) - أقل شرّاً بالقياس بشرور العالم بعد الأمرين المذكورين، حتى بقدر جزء من ألوف الأجزاء في الحال الحاضر.والعلاج الحقيقي، هو أن يأتي المصلح عجل الله تعالی فرجه الشریف الذي يملأ الله به الأرض قسطاً وعدلاً، بعد أن تملأ ظلماً وجوراً.
أما قبل ذلك - أي قبل ظهور الإمام(علیه السلام) الذي أمره بيد الله وحده -
ص: 5
فمن الممكن أن يخفف المؤمنون بالله واليوم الآخر بعض الآلام، كل بقدره، وقد قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): «اتّقوا النار ولو بشق تمرة»(1)،
وقال(صلی الله علیه و آله): «لئن يهدي الله عزّ وجل على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت»(2)،
ومن المعلوم أنّ الشمس تطلع على ما لا يحصى من مليارات الثروات البشرية والنباتية والجماديّة وغيرها.
وهذا الكتاب (كل فرد حركة) كُتب لأجل ذلك، ولعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً، وهو اسم مقتبس من قوله(صلی الله علیه و آله): «المؤمن وحده جماعة»(3)، وقد جعلت الكتاب في فصول.
الأول: في كيفية الحركة.
والثاني: في مقابل الحركة، مما اصطلحنا عليه ب-(فلسفة التأخّر).
والثالث: في جملة من الأرقامالمذكورة في الإعلام الحاضر، مما يشحذ الهمم للتحرك.
فإن المصلح حتى إذا كان كخاتم الأنبياء(صلی الله علیه و آله) فإنه بحاجة إلى العون من الله سبحانه تشويقاً وتثبيتاً، قال تعالى:
{لَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً}(4)، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ
ص: 6
تَرْتِيلاً}(1) فكيف بأمثالنا من الناس العادييّن!!
والله المسئول أن يوفقنا لخدمة البشريّة، فإن البشر أخوة - كما دلّت على ذلك آيات متعددة(2)
-ولقوله(علیه السلام): «على كل كبد حرَّى أجر»(3).
والله الموفّق المستعان
قم المقدسة
18 رجب 1415ه ق
محمد الشيرازي
ص: 7
ص: 8
ص: 9
ص: 10
من الضروري تكوين كل فرد فرد، مهما كان عمله أو مكانته الاجتماعية، أو ظروفه المعيشية؛ هيئة أو جماعة أو جمعية أو ندوة أو نحوها، وإنمّا المهم التجمع مع جماعة، لأنّ «يد الله مع الجماعة»(1) فيجتمعون كل أسبوع أو نحوه مرّة، لأجل تقديم الحياة في بُعد من أبعادها، ولنذكر من باب المثال، جملة من هذه الأبعاد، من غير فرق بين الرجال والنساء، وبمختلف القوميات واللغات، سواء كانوا من أهل قطر واحد كالعراقيين، أم أقطار كالعراقي والإيراني والخليجي، فإن الإنسان أخ الإنسان أحبّ أم كره، وإنمّا {جَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} نعم لاشك {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}(2). والأبعاد الممكن إتباعها لا تحصى كثرة، ونحن نذكر جملة منها، والله الموفق:
1- بناء المدارس: ولا يهمّ أن تكون متواضعة، من أيّة حيثية من الحيثيات؛ إذ المدرسة طريق، وإنما المهم الهدف، وقد بنى جماعة في
ص: 11
الهند قبل التحرّر مئات المدارس في القرى، من الخشب والعيدان والطين وما أشبه، وكان الأولاد يجلسون على تراب الأرض، والمعلم الواحد فقط في أية مدرسة منها يعلمهم القراءة والكتابة، وكانت تلك المدارس من أعمدة التحرير في الهند.
2- بناء المساجد: ف-«من بنى مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة»(1)
كما في الحديث، كبيراً كان المسجد أو صغيراً، ولو كمفحص قطاة(2)،
كما ورد، فإن المسجد مكان القرب إلىالله سبحانه، ويقوّي المعنويات، والبناء يوحي إلى الإنسان بالمعاني التي بني لأجلها، لوضوح أن الزمان والمكان واللباس وما إلى ذلك، من أسباب الإيحاء، ولذا قال علماء الاجتماع: بأن كل نوع من الزي واللباس - زي العالم أو الجندي أو التاجر، أو ما أشبه، يوحي بالمعاني التي يرتبط هذا اللبس بتلك المعاني.
3- تأسيس صلوات الجماعة: فإن كثيراً من المساجد والحسينيات، والأماكن القابلة لإقامة الجماعة كالقاعات العامة، فارغة عن تلك، مع أن
ص: 12
«الصلاة عمود الدين»(1) و«قُربان كل تقي»(2)، والناس لا يهتمون - غالباً - إلاّ بجماعات خاصة، وفي أماكن خاصة، فإذا أقيمت الجماعة التف ولو قليل حولها، وما أعظمها من ثواب ومن شعائر، ولو كان مقوّمها إمام واحد ومأموم واحد، وقد كان الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) يصلي في أول البعثة مع أمير المؤمنينعلي(علیه السلام) وخديجة(علیها السلام) فقط(3) ولمدة طويلة(4).
واللازم أن تحرّض النساء والأطفال لحضور الجماعة، كما كانا يحضران صلاة الرسول(صلی الله علیه و آله) في المدينة، وكما جعل رسول الله(صلی الله علیه و آله) (أمّ ورقة)(5)
إماماً للنساء كما ورد(6)، وكان في زمان أمير المؤمنين(علیه السلام) مساجد في الكوفة خاصة بالنساء، كما يتعارف في الحال الحاضر حسينيات للنساء، في كثير من بلاد الإسلام.
4- تأسيس المكتبات: فإن المكتبة ترفع المستوى الثقافي للأمّة، وطلب العلم الصحيح بين فريضة ومستحب، وقد ورد في الحديث: «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة»(7)
كما أنّ اللازم - على
ص: 13
البعض - تعلّم العلوم الباطلة لردّها كالأديان المزيّفة والمبادئ الهدّامة، وما أشبه ذلك.ومن الممكن أن تكون المكتبات عامة أو خاصة، في البيوت أو المساجد أو سائر المؤسسات، بل وحتى في مثل الطائرات والقطارات والسيارات ومراكز الطب والأطباء والمحامين، إلى غير ذلك.
من غير فرق - في ضرورة ذلك - بين ما يكون للرجال أو النساء أو الأطفال أو لفئة خاصة، ومن ذلك المكتبات الصوتية، وما أشبه ذلك.
5- تأسيس الحسينيات: بأن تكون هناك هيئة تؤسس الحسينيات لأجل مختلف الأعمال الخيرية من مجالس الوعظ، وصلاة الجماعة، والاحتفالات، والعزيّات، وما أشبه ذلك من أقسام الخير والبرّ، ولو جعلت - مع حفظ الشؤون اللازمة - لأجل مجالس الزواج والختان وتشييع الأموات والإطعامات العامة في المناسبات، فلا بأس، وكذلك تكون فيها المكتبة وغيرها مما يجعلها أوسع وأشمل.
ومن المعلوم أنه لا خصوصية للاسم، إلاّ أنّ ذكر الإمام الحسين(علیه السلام) حيث يكون أكثر كان الاسم مشتقاً منه، وإلاّ ف-(الرسوليّة) و(الحيدريّة) و(الفاطميّة) و(الحسنيّة) إلى أن ينتهي إلى(المهديّة) كلها صحيح وإحياءً لأسمائهم المباركة (عليهم الصلاة والسلام)، واسمهم(علیهم السلام) شعبة من أسمائه سبحانه، حيث ورد في الدعاء: «يا عالي بحقّ علي»(1) إلى آخره.
ص: 14
وفيه من التبّرك ما لا يخفى: «يا من اسمه دواء وذكره شفاء»(1)
وقد وُجدت ألواح سفينة نوح(علیه السلام) في زماننا - في التنقيبات - فكان على مقدمتها أسماؤهم(علیهم السلام)، كما ورد ذلك في الروايات أيضاً(2).
6- تأسيس المطابع: بأن تقوم جمعيّة بذلك، فإنه توسيع للثقافة، والثقافة هي التي تقود حياة الإنسان، فنرى - مثلاً - أخوين من بيت واحد، أحدهما يخرج إلى الملهى ونحوه، والآخر يخرج إلى المسجد ونحوه، والفرق اختلاف الثقافة.
وقد رأينا كيف أن أبا طالب(علیه السلام) مؤمن قريش حامى عن الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله)، وأبا لهب حارب الرسول(صلی الله علیه و آله)، ولا فرق بينهما أباً وعشيرةً ومسكناًوما أشبه، إلاّ بالثقافة، فهذا ثقافته سماوية رفيعة، وذلك ثقافته شيطانية وضيعة، وهكذا.
وكثيراً ما يمكن لمثل هذه الجماعات أن تساعد في هذه الأمور، وإن لم تباشر بها أو لم تؤسسها بنفسها، فقد لا يكون لأصحاب هذه المشاريع إمكانية الاستمرار بأنفسها إلاّ بمساعدة هذه الجماعات.
ويلزم الاستفادة أيضاً من مثل الإذاعة والتلفزيون، والجريدة والمجلّة، والأشرطة والنشرة، والفيديو وما أشبه من الوسائل الحديثة، فإنها بحاجة إلى جمعيات تقوم بها في كل مكان ممكن، نعم إنّ البلاد الاستبدادية
ص: 15
كعراق صدّام - في الوقت الحاضر - لا يمكن فيها ذلك، أما البلاد الحرّة، إسلامية كانت كباكستان وشمال العراق، أو غيرها كأمريكا وكندا تسمح بذلك، فما أحسن أن يستغلها الإنسان لنشر العلم والثقافة والفضيلة والتقوى، وحيث الاستمراريّة في الجماعة والنشاط، يمكن أن تكثرها حسب قوّة نشاطها وتحصيلها للمال اللازم للتأسيس والإدارة، وقد ذكرنا جملة من ذلكفي كتاب: (أسبوع المولد الشريف)(1).
7- هيئات الإطعام: وما إلى ذلك، في مختلف المناسبات، كأيام الأفراح والأحزان، وكذلك الإطعام لولادة أو زواج أو موت، فتتكفل الإطعام للذين لا إمكانية لهم بذلك.
وقد تكون الهيئة لإعطاء المواد الغذائية للعوائل المحتاجة.
ومثل ذلك هيئات الإكساء ونحوه، فتقوم بشراء الملبوسات للفقراء وغيرها، وكثيراً ما يسهل الأمر بجمع أمثالها وأمثال الدواء ونحوه من بيوت الناس خصوصاً الأغنياء منهم، وقد قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): «أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها في فقرائكم»(2)
وما ذكرناه جار في مختلف الحاجيات كالمدافئ الشتوية، والبرّادات الصيفية،
ص: 16
والفرش، والأعبية(1)
وما إلى ذلك.
8- جماعات مساعدة الولادة، والزواج، وشئون الأموات: حيث إنّ كثيراً من الناس الفقراء في دنيا اليوم، التي اتسمت بالماديّة، وبوانفساه(2)، يعجزون عن إدارة شؤون أنفسهم، خاصة في هذه الحالات وفي الحديث الشريف: «عونك الضعيف من أفضل الصدقة»(3).
ولا يلزم أن تقوم الهيئة بكل شؤون الأمور الثلاثة، بل من الممكن قيامها ببعض شؤونها، مثل إحضار القابلة للحوامل، أو تهيئة ملابس الطفل، أو تصدّي علاجه في حال الاحتياج، أو تهيئة الأكفان للأموات، أو تهيئة المسكن للزوجين إلى سنة مثلاً، وما أشبه ذلك، وقد قال سبحانه: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}(4).
9- جماعات تشغيل العاطلين: من غير فرق بين الرجال والنساء، وقد كان لنا في كربلاء المقدسة (هيئة الأعمال الشريفة) لذلك، ولتبديل
ص: 17
الأشغال المحرّمة إلى الأشغال المحللّة، مثل محلات القمار إلى المقاهي، ودكان الحلاّق للذقن، إلى دكان بيع الغذاء والمعلّبات، إلى غير ذلك، وربما تقوم الجمعية بمساعدة نفس الحلاق ليكتفي بتزيين الرأس وحلقه دون اللحية، في ما إذا كان الناس المتدينون يراجعونه، ليعيش بقدر حاجته عن الحلال، وفي الدعاء: «أغنني بحلالك عن حرامك»(1).
وهكذا بالنسبة إلى النساء العاطلات، بتهيئة وسائل الخياطة والنساجة وصنع السجاد، وما إلى ذلك لهنّ، أو تشغيلهن في المشاغل الشريفة كتعليم البنات وتمريض النساء، وصنع المصنوعات الخفيفة من الألبسة والأحذية والمصوغات، وما إلى ذلك.
10- لجان تكميل البيوت بالماديّات والمعنويات: مثل إرشادأصحابها إلى صنع الحديقة فيها واقتناء الدواجن، وإلى النظافة وحوض السمك والتجميل الميسور، وأن يكون في كل بيت مكتبة، وفي كل بيت مجلس حسيني أسبوعي، وفي كل بيت أشرطة القرآن الحكيم والتعاليم الإسلامية، والفيديو الديني إذا أمكن، إلى غير ذلك.
وقد دخل رسول الله(صلی الله علیه و آله) بيتاً، فقال(صلی الله علیه و آله): «ما لي لا أرى البركة في بيتكم؟!» قالوا: يا رسول الله(صلی الله علیه و آله) وما البركة؟ قال(صلی الله علیه و آله): «الشاة»(2).
وفي حديث آخر: قال أمير المؤمنين(علیه السلام): «من كانت في منزله شاة
ص: 18
قدَّست عليهم الملائكة في كل يوم، ومن كانت في منزله اثنتان قدَّست عليهم الملائكة في كل يوم مرتين، وكذلك في الثلاثة، ويقول الله: بورك فيكم»(1).
11- سقوط بيت المال: حيث سقط (بيت المال) عن قائمة بلاد الإسلام - كسقوط كثير من الموازين الإسلامية - انتشر الفقراء والعجزة في مظاهر المدن، مما يشين سمعةالإسلام وبلاد المسلمين.
فمن اللازم أن تكون جماعات للتخفيف من هذه الظاهرة وفي صورة الإمكان القضاء عليها وتنزيه البلاد منها، وذلك بتشغيل ما أمكن من الفقراء رجالاً ونساءً في أشغال حرة شريفة، ولو بجعل (بسطة) أو (عربة) لحمل البضائع لهم، لبيعها في أماكن مناسبة، أو تشغيل النساء في بيوتهن بصنع السجّاد والجورب والتطريز والخياطة وتربية الدواجن، وما إلى ذلك.
12- تأسيس جمعيات لتحسين حال الجيش: فإنه حيث سقطت القوانين الإسلامية، خلّفها قوانين المستعمرين في كل الأبعاد، وهي مهّدت لإذلال المسلمين وتأخيرهم، ومن جملة تلك القوانين، قانون الجنديّة والعسكرية، فإنها مخالفة للإسلام ومخالفة للإنسانية في أمور:
الأول: أخذ الجند بالإجبار، وهذا خلاف الحرية الإسلامية وحرية
ص: 19
الإنسان.
الثاني: إقصاء الجند عن مواطنهم، وذلك يوجب في كثير من الأحيان:
أولاً: فسادهم الأخلاقي.وثانياً: فساد عوائلهم أحياناً.
وثالثاً: عدم بقاء معيل لهم في كثير من العوائل.
الثالث: إذلالهم بإعطاء راتب قليل لهم، ربما لا يكفي لحوائج يوم واحد، مثلاً كان في العراق يُعطى للجندي كل شهر مائة فلس، وفي ذلك اليوم كان يكفي هذا المبلغ لكيلو من اللحم فقط، ورفّعه قاسم(1)
فجعله ربع دينار، حيث صار الكيلو من اللحم ربع دينار.
الرابع: تضعيفهم بدنياً وجنسياً بإدخال الكافور في أطعمتهم، كما يصنع ذلك في بعض البلاد، ومن المعلوم أن الكافور يضعّف البدن أيمّا ضعف، ويسقط الشهوة الجنسية بعد الخمسين مما يسبب مشاكل بين الأزواج، وجملة منهم ينتهي أمرهم إلى الطلاق، كما رأينا.
نعم قد لا يسبب الكافور في سنّي الشباب قطع الشهوة ولذا اشتكى إلينا - ونحن في العراق - جملة من الجند، بأنهم يتعرضون لقضايا الجنس المشينة فاعلاً ومفعولاً.
الخامس: كما أن كثيراً منهم فيمراكز التدريب، يقعون فريسة ضباط لايراقبون الله سبحانه فيفعلون بهم القبيح، وإذا أرادوا التمنّع من
ص: 20
أولئك الضباط اتهموا بالمخالفة للأوامر والجلد والتجويع والسجن والتعذيب وما أشبه ذلك، وسمعت أنّ البهلويَين كانا يعملان بالجند نفس تلك الأعمال، ولذا لم نجد أن جيوشهم دخلوا حرباً حقيقية، فقد انهزم جيش البهلوي الأول في الحرب العالمية الثانية أمام الجيش الغازي ولم يصمد حتى ساعة واحدة، وكذلك انهزم جيش العراق أمام إسرائيل أفضع هزيمة، إلى غير ذلك مما هو معروف.
ولذا يكون شأن جمعيات التحسين بواسطة الضغوط والإعلام وغيرهما أمور:
الأول: رفع الجبر عن العسكرية، وانما من أراد من الشباب دخل في الجندية، ومن لم يرد لم يدخل.
الثاني: كون جند كل بلد يتدرب في مدينته أو ما يقاربها، فكلّ يوم عدة ساعات ثم يرجع إلى أهله وبيته وكسبه.
الثالث: إعطاء كل جندي راتباً بقدر حقه من ساعات العمل، مثلاً تكون ساعات العمل في الشهر مائةوعشرين ساعة والأجر لكل ساعة دينار، فيعطى كل شهر مائة وعشرين ديناراً، ثم تكون هناك قاعدة للجيش كالموظفين، وكلما احتيج إلى الجند، أحضروا في ظرف أربع وعشرين ساعة لحرب أو نحوها، وهذا هو الأسلوب الإسلامي الإنساني، وقد اتخذه بعض حكومات الدنيا، فنجحوا.
13- العناية بذوي الاحتياجات الخاصة: هنالك أشخاص تخلّفوا عن الحياة ماديّاً أو معنوياً، جسدياً أو روحياً، من الولادة أو بمرض أو
ص: 21
بعرض، أو ما أشبه، كالعجزة والأرامل والأيتام والمعوّقين والمتخلفين عقلياً وأصحاب الأمراض المزمنة والمشوّهين، فاللازم عناية خاصة بهم، فتؤسس جمعيات لأجل التخفيف عن مشاكلهم، وذلك بالإضافة إلى أنه يجلب لطف الله ورحمته، وفي الحديث: «إنما ترزقون بضعفائكم»(1)
احترام للإنسان، ووقاية من سقوط نفس الإنسان في بعض المشاكل، فلا يجدمن يمد إليه يد العون.
ويمكن ذلك بفتح المدارس الخاصة، كمدارس المكفوفين، والمتخلفين لساناً أو أذناً، أو ما أشبه، لترفيعهم حسب القدرة، وإيوائهم في محلات خاصة تناسب الكرامة الإنسانية، وإسعافهم بالدواء والملابس، وتزويج عزّابهم وعازباتهم، وتجميل المشوهين منهم، وتهيئة مثل الأرجل والأيدي والأعين الصناعية لهم، وجعل برامج ترفيهية لأجل تخفيف آلامهم، إلى غير ذلك.
14- لجان زراعة الأراضي: فإن الله خلق المياه والأراضي وسائر الإمكانات، لأجل استفادة العباد من الأرض، مباشرة بالحبوب ونحوها، أو بسبب الحيوان من الأنعام والأسماك والطيور والنحل وما أشبه ذلك، والمستعمرون منذ دخلوا بلاد الإسلام وضعوا المناهج والقوانين لجعل الأرض يباباً(2)،
حتى يفتقر المسلمون، وحيث تتعطل
ص: 22
الأيادي العاملة تكثر المفاسد، إلى غيرذلك مما يسببه الفقر، ولكي نحتاج إليهم حتى في أهم مقومات الحياة وأبسطها مثل الخبز واللحم والبيض وما إليها.
فاللازم على اللجان الواعيّة أن تقوم بسدّ هذا الفراغ، فإن الاحتياج أم المشاكل، والعجيب في الأمر، أنه كلما حصل تبديل في الحكم لا يحصل تغيير في هذه الجهة فالجوهر واحد وإن اختلف المظهر، من أدنى الشرق إلى أدنى الغرب، مثلاً جاء في العراق حكومة الملكييّن بمختلف ملوكهم وأحزابهم، ثم جاء الجمهوريون كقاسم الشيوعي، وسلام القومي، وعبد الرحمن الديموقراطي، وبكر البعثي البريطاني، وصدام البعثي الأمريكي، وزراعة العراق لم تتغير إلاّ من السيئ إلى الأسوأ، من الغالي إلى الأغلى، ومن القليل إلى الأقل.
وبالمناسبة إني قابلت خمسة وزراء المعارف - طالباً منهم تعديل المناهج إلى الصالحة - في خمس حكومات عراقية من الملكييّن إلى الجمهوريين، بمختلف أشكالها، فكان السكرتير الذي بيده كل الأمور حلاً وربطاً، شخصاً واحداً مسيحياً، مما فسّر لي قول الرصافي:
إنّ الوزارة لا أباً لك عندنا *** ثوب يفصّل في معامل لندنا
وقوله الآخر:
المستشار هو الذي شرب الطلى***فعلام يا هذا الوزير تعربد؟
15- لجان التحرير: إنّ التفكير الاستعماري الذي سيطر على المسلمين، بسبب الاستعمار الثقافي أو العسكري، أودى بالكثير من
ص: 23
الحرّيات الإنسانية والإسلامية، فقد أخذت القوانين الاستعمارية المستوردة، أو المنشأة في تلك الحكومات للبلاد الإسلامية، أغلب حريات المسلمين بلا أيّ مبّرر معقول.
مثلاً: الدار التي كانت تُبنى قبل نصف قرن في العراق كانت غير مكلفة، وذلك لحريّة الأرض وإباحتها لمن عمرّها، فلا ثمن لها، وحرية البناء فلا احتياج إلى الإجازة والضريبة، كما أن من كان يريد البناء كان يختار بنفسه كمية ذرع الأرض ومكانها، وطوابق البناء،وخصوصيات البناء، وعدد الغرف، وكيفيات المرافق و... باستثناء شرطين حيث إنهما كانا لازمين، يُلزمهما العقل والشرع، فلا تجاوز عليهما: مراعاة الشارع، وعدم الإضرار بالآخرين من الجيران ومن إليهم.
أما اليوم، فالأرض تشترى بأسعار غالية، وبرخصة من الحكومة، وبضريبة، وبإجازة للبناء، ودفع رسومات باهظة، وملاحظة المنتقل منه والمنتقل إليه، وأحياناً رضى الجيران، وكمية البناء، وكيفية البناء، و... .
فبينما كان المسلم سابقاً يختار أرضاً غير مملوكة ويخططها، ويقوم ببنائه من غد كما يشاء، نرى الآن يلزم علينا إذا أردنا البناء أن نركض سنة أو أكثر، من دائرة إلى دائرة، ونقف كالعبد الذليل عند مولاه الطاغي، ونقدّم الثمن والرشوة والضريبة وأشياء وأشياء.
وهكذا يقال بالنسبة إلى كل عمل وعمل.
نعم بقي أن تفرض حكومات العملاء في بلادنا تحديد أعداد التنفس، وطول شعر اللحية والرأس، وخصوصيات الأكل دفعة
ص: 24
ودفعات، ومرة ومرات، وزماناً ومكاناً وجهة،ومقدار الخطوات والوقوف، ليلاً أو نهاراً، بخطوات كبيرة أو صغيرة، سريعة أو بطيئة، وهكذا وهلمّ جراً، فيأخذوا الضرائب على ذلك، ضريبة للدولة، وللبلدية، وللمجهود الحربي، ولإدارة القضاء، ولإدارة الأمن، ولإدارة الشرطة، وللصحة و... وبعد كل هذه التقييدات التي وضعتها هذه الحكومات يملؤون الدنيا باسم الحرية والعدالة والمصلحة.
وأنه لم يأت منذ ألف سنة - كما قاله لي قاسم - حكومة بهذه الفضيلة والخدمة ومراعاة المصلحة.
ثم عليك أن تصفق للزعيم الأوحد، وحزبه المسدّد، والقائد الأعلى، والإنسان المفدّى، الذي لم ير البلد قبله مثله، والضوء الذي ينير الشعب، ومنارة البلاد، ومنقذ الشعب، وابن الشعب البارّ، والشمس المشرقة، والقمر المنير، والبطل الذي لا يقهر، إلى تسعين اسماً، كما كان يطلقه (قاسم) على نفسه.
وجاء بعده صدام وجعله شعراً يتغنى به في وسائل إعلامه:
أنت الشمس أنت القمر*** أنت الماء أنت المطر
أنت السيف أنت البحر*** أنت العذب أنت النهر
أنت العزّ أنت الفخر
... إلى خمسين بيتاً
وعلى هذا فاللازم على لجان التحرير، أن تُرجع الناس إلى الحريات الإسلامية والإنسانية، وهذا يحتاج - أول ما يحتاج - إلى تبنّي (الاستشارية: الديموقراطية) والتعددية، والمؤسسات الدستورية، وإلاّ فيضيق النطاق
ص: 25
حتى في ما ذكرناه في الأنفاس والشَعر وخصوصيات الأكل والشرب وما أشبه.
وما يذكر له من المبرر، من احتياج الدولة إلى المال، وإلى تشغيل الموظفين، وإلى جمال المدينة، وإلى استحكام الأمر، وإلى لزوم مشاركة الدولة، وما أشبه ذلك، غير تام، إذ الدولة لا تحتاج إلى المال، إلاّ بقدر الضروريات في الإدارة، وإن الدولة مشرفة فقط وفقط، حالها حال مدير المدرسة، كما ذكرنا تفصيله في كتاب: (فقه الدولة).
واللازم أن يكون كل الأمور - حتى السجون وهي تقدر بالقدر الضروريالضروري لا كما هي اليوم من الكثرة - بيد الناس، كما هو في الغرب كذلك، وعليه فلا موظفين عاطلين حتى تحتاج الدولة إلى توظيفهم، بل الشركات الأهلية هي التي تشغل الناس، فتنقل الإنسان من الاستهلاك إلى الإنتاج، ومن تجميد القوى إلى إطلاق كفاءاته وحرياته، فإن الإنسان إذا ركض لنفسه جدّ واجتهد، وأعمل كل قواه وأتقن، بخلاف الموظف، ولذا فشلت الحكومات الاشتراكية، وغلبتها الحكومات الرأسمالية على إشكالاتها وانحرافاتها في نظر الإسلام، حيث الرأسمالية على الأسلوب الغربي.
إن الاشتراكية تجمد اشتياق الناس إلى الإنتاج موظفاً وشعباً.
أما الأول: فلأنه لا يعمل لنفسه، فلا شوق له.
وأما الثاني: فلأنه يعلم أن إنتاجه لغيره، ولا داعي للإنتاج حينئذ، إلى غير ذلك مما ذكرنا تفصيله في كتاب (الفقه: الاقتصاد).
ومن قال: إن جمال المدينة يتوقف على هذه القيود؟
ص: 26
كما أن استحكام الأمر والأمن لايتوقف إلاّ على الحرية، لا على الكبت.
وأي لزوم لتدخل الدولة في كل شأن، بل أي جواز عقلي أو شرعي له. بل الحرية الإسلامية والإنسانية تقتضي ما ذكره الفقهاء من القاعدة الفقهية: (الناس مسلّطون على أموالهم وأنفسهم). وإنما الدولة عليها شؤونها المقررة في الإسلام، كما ذكرناها في (فقه الدولة).
وحيث إنّ الغرب عمل بشيء من هذه القاعدة الإسلامية تقدم ذلك التقدم الهائل، وسيأتي يوم يعمل البشرية بها وبغيرها من سائر قوانين الإسلام بإذن الله سبحانه، وقد ألمعنا إليه في كتاب: (الغرب يتغيّر).
ولنمثل مثالاً آخر لعمل لجان الحريّة، وهو: تحرير الإنسان من الجنسية والهوية والتذكرة والإقامة وتأشيرة الدخول والخروج إلى البلاد وعن البلاد، والمنع عن السفر وعن الإقامة، فلماذا كل ذلك؟ فإن كان لأجل دليل الشرع، فما هو؟ وإن كان لأجل اقتضاء العقل، فأي دليل عقلي على ذلك؟ وإن كان لأجل أن الغرب فعل ونحنأتباعهم، فإن الغرب بنفسه أسقط كثيراً من هذه الأمور.
أليست أوروبا (ذات السبعمائة مليون وهي مختلفة الأديان والمذاهب واللغات والقوميّات، ومتضاربة المصالح والأهداف، وقد وقعت بينها حروب جغرافية سابقة) ألغت كل ذلك، واتبعت القرآن - ولو في الجملة - في الأمة الواحدة والحرية والأخوة؟
ومن المعلوم أن هذه التقييدات ذات مضار سياسية واجتماعية
ص: 27
واقتصادية وثقافية وتربوية وعائلية وإنسانية.
فالمضرة السياسية: هي تجزؤ البلد الإسلامي الكبير إلى دويلات صغيرة وضعيفة مما يوجب تأخرها وعدم إمكان تعاون البلاد في الدفاع عن أنفسها.
والمضرة الاجتماعية: عبارة عن عدم إمكان التعاون بين شعب هذا البلد وشعب ذلك البلد، إلاّ في نطاق محدود جداً.
والمضرة الاقتصادية: تنشأ من عدم إمكان التعاون الاقتصادي الحرّ، والتنافس الإيجابي، والتطوير والتقدم المناسب، فإن«يد الله مع الجماعة»(1)
كما في الحديث، وليس ما ورد في الحديث أمراً غيبيّاً فقط بل خارجياً أيضاً إلى جنب الغيبيّة.
والمضرة الثقافية: عبارة عن تشتت الثقافة الواحدة التي هي الثقافة الواقعية للأمّة، ولذا أخذت إيران تحيى القورشية(2)، وعراق البابلية، ومصر الفرعونية، و... .
والمضرة التربوية: لأن الناس المتشتتين يميلون إلى الكذب والنفاق لتمشية أهدافهم المالية والعمرانية وما يرتبط بالحضر والسفر والإقامة وغيرها.
والمضرة العائلية: لأن التزويج والتزاوج يقلّ بين بلدين، ولأن العائلة الواحدة تنهدم بالتفرق، إذا هاجر أحدهم إلى البلد الآخر.
ص: 28
والمضرة الإنسانية: لأن الإنسان أخ الإنسان، أحب أم كره، والهدف {لِتَعَارَفُوا}(1) كما قاله القرآن الحكيم، وهذه القيود تهدم كلاالأمرين.
16- لجان حقوق الإنسان: إنّ جملة من حكّام المسلمين اعتادوا الاستبداد، والأثرة، وهضم حقوق الآخرين، وسجن الناس، وتسفيرهم، وتعذيبهم، والتكلم مع الناس باستعلاء وغرور، والفساد والإفساد، كما أن جملة من حكام غير المسلمين أيضاً كذلك.
والإنسان الذي له إنسانية، والذي يخاف الله واليوم الآخر، يجد في قرارة نفسه، وفي شرع الله سبحانه، لزوم إنقاذ المستضعفين، كما في القرآن الحكيم(2)،
والإنسان أخ الإنسان، ونظير له في الخلق، والمشاركة الوجدانية تقتضي فطرياً الإنقاذ والحيلولة دون الظلم.
قال سبحانه: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً}(3).
وقال رسول الله(صلی الله علیه و آله): «الناس كأسناط المشط سواء»(4).
وقال أمير المؤمنين(علیه السلام): «أو نظير لك في الخلق»(5).
ص: 29
فمن اللازم تشكيل لجان حقوق الإنسان، سواء الحقوق العامة، مثل: حق الإنسان بما هو إنسان، أم المتوسطة مثل: حق الإنسان المسلم، أم حق جهة خاصة مثل: حق السجناء، وقد كتبت في هذه الناحية الإنسانية والإسلامية(1) كتباً يمكن للجان الحقوق الاستفادة منها في الأخذ والعطاء، والحيلولة دون الانتهاك، وإزالة للظالم أو ردعه أو تخفيف لظلمه بالقدر الممكن.
17- تجميل المدن: ورد في الحديث: «إنّ الله جميل يحب الجمال»(2)، وذلك يجري في كل شؤون الحياة، والتي منها المُدُن،والنظافة نوع من الجمال، بالإضافة إلى أنها صحة وانشراح للنفس.
وعليه، يلزم أن تشكّل جماعات لهذا الشأن، مع العلم أن دولنا المرتبطة بالغرب كثيراً مّا تحارب هذا الموضوع، كما شاهدت ذلك بنفسي في عراق الجمهوريين، حيث كانوا يمنعون ما أعددناه من اللجان من تنظيف المدن المقدسة التي كنّا فيها، وقال لنا بعض المربوطين بالدولة: إن الغرب شرط على الحكومة ترك البلاد تغوص في الوساخة خصوصاً المدن المقدسة، حتى يرى العالم أن الإسلام متخلِّف، وخصوصاً المدن المقدسة، وإني لاأستبعد كلام هذا
ص: 30
القائل، لأني بنفسي رأيت فيلماً صنع في إحدى البلاد الاستعمارية كان يُري كربلاء المقدسة مدينة وسخة، حيث كان الفيلم صوّر أزقتها الضيّقة ومداخن البلد والقاذورات، والذباب المنتشر حول النفايات، وفي وسط كل ذلك صوّر القبّة المطهرة، مما لا يشك الإنسان أن المصوّر كان عامداً.
18- حاجات القرى: إن البلاد الإسلامية حيث توزّع ثورتها بين الحكومات الأجنبية التي جاءت بهاأو المساندة لها، فإن حكومات بلادنا تأتي - غالباً - على قطار (انكلي أمريكي) كما قاله (علي صالح السعدي) وزير الداخلية لحكومة البعث التي جاءت بنفسها على قطار أولئك، فلهذه الحكومات الاستعمارية حصة الأسد من ثروات الشعب، وما بقى من الفريسة تكون لحكومات هذه البلاد، وغالباً ليس للشعب أيّ شيء من الثروة الطبيعية، بل الضرائب المرهقة تفقر الشعوب، ولذا فالمصالح العامة في المدن الكبيرة تبقى بدون إنجاز، فكيف بالقرى والأرياف، إن الشاه على ادعاءاته العريضة لم يعمّر حتى جنوب طهران العاصمة، كما رأيت ذلك بنفسي، حين جئت إلى إيران بُعيد سقوطه، فكيف بسائر المدن، بل القرى.
وقد بنى أحد أخيار الكويت زهاء خمسين مخزناً لمياه الأمطار في خمسين قرية بدائية، لم يكن لهم إلاّ ماء المطر الذي كانوا يحفظونه في حبابهم وخابياتهم لشربهم طول السنة، مما أراحهم هذا المحسن عن ذلك بصنع المخازن لهم.
ص: 31
ولذا فاللازم أن تشكّل جماعات لتعمير القرى والأرياف بالماء والكهرباء والتلفون والتبليطوالمستوصف وما إلى ذلك.
إن البهلوي الأول أدخل السفور وحوانيت الخمور ومحلات البغاء في كثير من القرى، بينما كانت القرية تعيش في ظلام قرون وسطى الغرب، في كل مناحي الحياة، وأفقر إيران أيما إفقار.
أما الثروة فنقلها إلى أسياده المستعمرين وإلى بنوك الخارج إيداعاً له ولأهله ولمن كان يعاونه في العمالة.
من هنا فإن إعمار القرى يكون من أكبر المثوبات، والله يجزي المحسنين.
19- من المهم أن تُشكّل جماعة من المهندسين والمحامين والأطباء، جمعيات لأجل البنايات الخيرية، ودور الفقراء والمساكين، مجاناً، قربة إلى الله تعالى، فإن مثل ذلك بالإضافة إلى ما فيه من المثوبة والأجر، يرد ثقة المجتمع إلى نفسه، ويكون لمثل هذا المجتمع من السمعة الطيبة، والصيت الحسن، ما يرفعه إلى مصاف الأمم المتحضرة: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}(1).
20- جملة من حكومات بلاد الإسلام تكون سَبُعاً ضارياً على شعوبها، كما وصف أمير المؤمنين(علیه السلام) وقال: «ولا تكن سبعاً
ص: 32
ضارياً»(1).
وما دامت الديكتاتورية باقية في هذه البلاد سيبقى هذا الأمر على قوّته، إن لم يصر أقوى يوماً بعد يوم، كما قال الشاعر:
إن البغاث(2) بأرضنا يستنسر***
والأتن
في أسواقنا تستحمر
فاللازم، والحال هذا، أن تشكّل جماعات لأجل إنقاذ الناس من مخالبهم، وقد قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): «عونك الضعيف من أفضل الصدقة»(3).
ويكون همّ الجماعة إنقاذ من وقع في شبكتهم وظلمهم، فإن هذه الحكومات هي أعداء شعبها، فمن كان من الناس صاحب حاجة لا يقضون حاجته، وحكموا على الناسبالضرائب المرهقة، أو السجن، أو ما أشبه ذلك من ألف مشكلة ومشكلة توجدها هذه الحكومات للناس في مختلف شؤونهم الحيوية.
21- لجان الأخلاق والآداب والأحكام وسائر ما يرتبط بالدين عموماً: من مثل التفسير والتاريخ الإسلامي والعقائد وإجابة الشبهات وما أشبه ذلك، وهذه اللجان ضرورية في الحال الحاضر حيث سيل من
ص: 33
الجهل بهذه الأمور، ومن الإشكال عليها والشبهات، بسبب الجهل أو العناد على الحق، فإن المسلمين قبل جرف الحضارة المادية لهم، كانوا على وضعهم الطبيعي في التعليم والتعلّم والاستمرارية في المناهج المرتبطة بالإسلام عقيدةً وشريعةً وغير ذلك.
أما بعد الجرف، تغيّرت المعادلات وتزعزت الموازين، ولذا تحتاج تلك الموازين إلى المؤسس والمقوّم ورافع الإشكال.
ويمكن ذلك بإصدار المجلات والنشرات، والخطابة في الإذاعات والتلفزيونات، وتخصيص أرقام هواتف للإجابة على الأسئلة والشبهات، إلى غير ذلك منالوسائل الحديثة، أو الاستعداد كلّ يوم ساعة - مثلاً - من العالم لأجل الجواب عمّن يأتيه، وقد أسسنا نحن وجماعة من العلماء في كربلاء المقدسة - قبل أربعين سنة - مجلة باسم: (أجوبة المسائل الدينية) لأجل ذلك، واستُقبلت استقبالاً رائعاً، إلى أن أغلقتها الحكومة المنحرفة.
22- حيث طغت المادية على بلاد الإسلام، وانتشرت الاعتباطية في سائر أمور المسلمين، مثلاً: كان في السابق يتم الزواج عبر الأقرباء الناضجين في الاختيار، بينما يتم الآن عبر الرغبات المفاجئة للشاب والشابة مما ينتهي كثيراً إلى الطلاق، وهكذا احتاج الإصلاح بين الناس إلى لجان تخصص من وقتها لذلك، وقد قال سبحانه: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}(1)
ص: 34
وقال تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}(1).
ويمكن أن تكون المدرسة الأم في الحوزة العلمية، وتكون لها فروع في مختلف البلدان، وإذا تحققشورى المرجعية وتعدّد الأحزاب الإسلامية كان ذلك من السهولة بمكان.
23- المنكوبون في البلاد الإسلامية صاروا بكثرة خارجة عن العدّ والإحصاء، وذلك بما كسبت أيديهم وأيدي غيرهم، فإن الغرب سُلّط عليهم فسببت لهم نكبات لم يسبق لها مثيل، كما أن الغرب جنح نحو المادة، فأفسد البيئة، كخرق طبقة الأوزون ومضار تشرنوبيل(2)
وغيرهما، مما سبّب سيلاً من الأمراض والأعراض.
بالإضافة إلى المطاردات المستمرة للمسلمين، حتى أن الإحصاءات تدل على أن ثمانين في المائة من المشردين من أوطانهم من المسلمين، وقد سبّب إفساد الغرب للبيئة، السيول والزلازل والبراكين، وما أشبه ذلك مما زاد في نكبة المسلمين بما لم يعهد في التاريخ مثله، إلى غير ذلك.
فمن الضروري تشكيل لجان لأجلمساعدة المنكوبين والأخذ بأيديهم إلى أن يفرّج الله سبحانه.
واللازم أن تنظر لجان الإغاثة إلى المسلمين كوحدة واحدة، من غير
ص: 35
فرق بين لغاتهم وأقطارهم وقومياتهم وسائر خصوصياتهم التي جعلت للتعارف لا للتناكر، {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}(1).
وقد رأيت في مجموعة أنّ الإمام(علیه السلام) قال لأحد الحكّام عندما طلب منه(علیه السلام) النصيحة: (اجعل الأكبر منك أباً، ومن في عمرك أخاً، ومن أقل عمراً منك ابناً، فبرّ أباك، وصل أخاك، وارحم أبناك)(2).
ومن المعلوم أن (من يَرحَم يُرحَم)(3).و(من يأخذ بأيدي الناس يأخذ الله بيده).
و(من قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى الله له سبعين حاجة)(4).
وحتى الأمر - في الإسلام - أعم من ذلك، حيث قال(صلی الله علیه و آله): «لكل كبد حرّى أجر»(5)
إلى غير ذلك مما فصلّناه في موضعه.
ص: 36
24- من المعلوم (أنّ الناس على دين ملوكهم)، و«إذا تغيّر السلطان تغيّر الزمان»(1)، وهذا يرجع إلى أن السياسة هي الموجهة لشؤون الحياة، وقد رأينا ذلك في العراق، حيث كانت ديموقراطية، وشيوعية، وبعثية، وقومية، فكان الناس - إلاّ من حفظهم الله سبحانه - مع من غَلب.
وحيث ضَعُف في المسلمين الحسّالسياسي، ضعفت فيهم كل شيء، اقتصاداً واجتماعاً، وديناً ودنياً، وتربية وعائلة، وأخلاقاً وآداباً، وغيرها.
وعليه فمن اللازم تشكيل لجان لتقوية الوعي السياسي في الناس، بجعل دروس السياسة، وطبع ونشر الكتب السياسية الهادفة وما أشبه من الأشرطة السمعية والبصرية، وتنظيم المؤتمرات والاجتماعات السياسية، وتشكيل المؤسسات الدستورية إلى غير ذلك.
والمراد بها السياسة الإسلامية الإنسانية، ولذا كانوا(علیهم السلام) «ساسة العباد، وأركان البلاد»(2)،
لا السياسة بمعنى: المراوغة والكذب والاحتيال مما يسمى في الاصطلاح الغربي ب-(المكيافيلي)(3)
وإلاّ فمثل هذه السياسة، ليست إلاّ شيطنة، وتوجب تأخيراً وإفساداً في الأمة، وقد سأل أمير المؤمنين(علیه السلام) الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله)، قائلاً: «ما الحيلة؟
ص: 37
قال(صلی الله علیه و آله): في تركالحيلة»(1)
يريدان بذلك تعلّم البشرية طريق الرشاد والنجاة.
إن ّ كل شيء - إلاّ النادر النادر - مبني على السياسة، ولذا فانحرافها يوجب انحراف كلّ شيء، إلاّ بالنسبة إلى من حفظهم الله تعالى.
ومن المعلوم «إنّ الله أبى أن يجري الأمور إلاّ بأسبابها»(2)
وقد قال سبحانه: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}(3).
25- قد أكثر الحكّام المرتبطون بالغرب عمالة أو فكراً، من القوانين الكابتة لمختلف مناحي الحياة التجارية والزراعية والصناعية والمعمارية والسياحية والعائلية وغيرها.
كما أكثروا من القوانين المفرّقة بين المسلمين، حتى فرّقوا في أسماء الأشهر، مثل: محرّم وصفر،وثور وحوت، وفَرْوَرْدين واُرْديبِهِشْت، ونوفمبر وسبتمبر، وتشرين وكانون.
وكذلك أكثروا من القوانين المجزّأة للجسم الإسلامي الواحد، فلكل قطر عَلَم، وبرلمان، وجيش، وجنسية، وما إلى ذلك.
ص: 38
وأكثر هذه القوانين صارت جزءاً من حياة المسلمين الفكرية والعملية، حتى إذا قيل بعدمها تعجّبوا وحسبوا أنّ من يقول بها يقول المنكر من القول، وأنّ من يعمل بخلافها يعمل المنكر.
ولذا فاللازم أن تكوّن جماعات لأجل خرق هذه القوانين قولاً وعملاً ليرجع إلى المسلمين حالتهم السابقة الإسلامية، وبذلك يرجع إليهم عزّهم وسيادتهم وسعادتهم.
إن ّ ثورة التنباك، وثورة المشروطة، وثورة العشرين - حسب التأريخ الميلادي - في إيران والعراق، كانت لأجل عدم سيطرة الأجانب والمستبدين على المسلمين، لكن الغرب بأساليبهم المعروفة، خرقوا كل هذه الثورات، حتى صارت كأن لم تكن، ووضع مئات القوانين الكابتة المخالفة للإسلام والإنسان حتى صار الجسم الإسلامي الذي كان يُرهب العالم كلّه، جسماً مبعّضاًمخدّراً، يرهبه حتى النسوان والخدم على قول ذلك الشاعر(1).
واللازم على هذه اللجان المحرِّرة تغيير الأسس الثقافية التي أقامها الغرب والشرق في بلادنا إلى الأسس الإسلامية المحرِّرة، وبذلك يُرجى النجاة بإذنه سبحانه وتعالى.
وليعلم أنّ القوانين الكابتة تكون على خلاف القوانين التي تهم الشورى والحرية والأخوة والأمة الواحدة - على الأغلب - مثلاً قانون
ص: 39
الكبت الاقتصادي والتجاري كإعطاء حق الامتياز لشركة فقط بحيث لا حق لغيرهم، قانون يكبت حق غيرهم وحرّيتهم، مضافاً إلى أنه يقتل التنافس الإيجابي مما يوجب الإبداع والرخص والجودة، وهكذا منع كاسب آخر من فتح الدكان في محدودة من كان سبقه بنفس العمل، إلى غير ذلك.
26- من نظر إلى فقه الإسلام منجانب، والقوانين الجارية في بلاد الإسلام من جانب آخر، رأى بينهما بوناً شاسعاً في كثير من أنواع المعاملات، ويكفي لمعرفة ذلك أن يراجع الإنسان كتابي (الجواهر)(1)
و(الوسيط)(2)
فإن الغرب بدّل قوانين الإسلام إلى قوانين ظهرت للوجود من فكر البشر، وهي تخالف الفطرة الإنسانية وكبت للحريات.
لذا فاللازم أن تشكّل جماعات لأجل تبديل تلك القوانين الغربية إلى قوانين إسلامية، في النكاح، والطلاق، والإرث، والقضاء، والبيع، والرهن، وغيرها، لترجع القوانين إسلامية، لما فيها من مصلحة البشر في دنياه وآخرته.
27- لجان الاستغناء عن بضائع الشرق والغرب: إنّ المستعمرين
ص: 40
بسبب عملائهم العسكريين أو الفكريين أو الارتباطيين، قد أغرقوا بلاد الإسلام ببضائعهم مما فيه تعطيل العاملين في بلادالإسلام، وجعل البلاد سوقاً مربحاً لبضائعهم، وبالنتيجة صار ذلك سبباً لأسر المسلمين، كما قاله أمير المؤمنين(علیه السلام): «احتج إلى من شئت تكن أسيره»(1).
وعلى هذا فاللازم أن تشكل لجان الاستغناء عن الغرب والشرق في مختلف أنواع البضائع ونحوها لفك الأسر تدريجاً، لكن هذا يحتاج إلى تحريض المسلمين، بالإتقان وصنع الجيّد بل الأجود، وإلاّ فالناس لا يرغبون في بضائع غير كفء لبضائع الغرب، قال(صلی الله علیه و آله): «رحم الله امرءاً عمل عملاً فأتقنه»(2). وقال سبحانه: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا}(3).
إلى غير ذلك مما دلّ عليه العقل والنقل.
28- لجان التحريض على التأليف: فإن الثقافة عند المسلمين تأخرت تأخراً كبيراً، فبينما كانوا هم المثقفين في الأزمنة الإسلامية، وكان غيرهم عائلاً عليهم، انعكسالأمر منذ تركوا الإسلام، فصار غيرهم هم المثقفين، أمّا المسلمون فصاروا أبعد من ذيل القافلة بمراحل، فبينما غيرهم يصل إلى القمر، وما فوق القمر، لا يصنع المسلمون حتى الإبرة، نعم إنهم يصنعون الأبر الاعتباطية، فإذا احتجت إلى (اختبار
ص: 41
الدّم) تلتجئ إلى أبر الخارج، لما تجد في أبر صنع المسلمين من الأذيّة والألم.
نعم من ترك الله تركه الله سبحانه.
لا يقال: إنّ الغربيين أيضاً تركوا الله؟
لأنه يقال: ليس من يعلم كمن لا يعلم، كما ورد(1)،
بالإضافة إلى أنهم أخذوا بالحريّة الإسلامية - وإن كان بين الحرّيتين عموم من وجه، على اصطلاح أهل المنطق - وبتحصيل العلم، وبالإتقان، وبأشياء أخر مما كان في الإسلام، بينما تركها المسلمون.وعلى أي حال، فاللازم أن تشكّل لجان لتحريض المثقفين على التأليف، ليرتفع مستوى الثقافة في بلاد الإسلام، وقد رأيت في تقرير، أن الياباني يطالع كل يوم (أربع ساعات) بينما الفرد المسلم في بعض بلاد الإسلام يطالع كل يوم (ثلاث ثوان) فقط، أي أن كل عشرين منهم يطالع في كل يوم دقيقة واحدة، وقد علّق على ذلك بعض أهل نفس ذلك البلد، فقال: ومطالعتهم في ثلاث ثوان، هي مطالعة لافتات الدكاكين، والبطاقات التي جعلت للمواد الغذائية، وألواح القبور، وما إلى ذلك.
ومن الواضح أنّ ثقافة الأمم تقاس بوسائل الثقافة السمعية والبصرية
ص: 42
وبساعات الدراسة والمطالعة والمباحثة.
29- من الضروري أن تشكّل لجان لأجل جمع المال والإتجار به، بهدف جعل الأرباح في التخفيف عن يُتم وسائل الثقافة، مثلاً: الوضع الاقتصادي للأمة يقتضي أن تكون الكتب الدراسية في كل سنة ديناراً، بينما يكلف طبعها دينارين، فالربح يخصص لأجل دعمذلك.
وكذلك بالنسبة إلى سائر وسائل العلم والمعرفة، أمثال الراديوات والتلفزيونات وما أشبه، مثلاً إذا كان ترفيع مستوى القطر ثقافياً، يقتضي أن يكون له مائة ألف راديو، وقيمة كل جهاز من أجهزة الإرسال مائة ألف دينار، والذين لهم مثل هذه الكفاءة لا يملكون إلاّ ثلث المبلغ، يزّود القائمون بالأرباح المذكورة، ثلثي المبلغ، ليظهر الجهاز إلى عالم النور.
30- لجان الاستشارة: كانت الحياة رتيبة قبل عصر الآلة، فلما ظهرت الآلة وأضيف إليها شدة المادية، انفصم حبل الحياة وتشتت، بحيث لا يمكن للإنسان الواحد أو الجهة الصغيرة الواحدة، من إدارة نفسه أو جهتها بالشكل المطلوب، وبذلك كثر الاحتياج إلى الإرشاد والعون والاستشارة، فإذا كانت هناك لجان - في مختلف الأبعاد - لأجل إعطاء المشورة لمن يريد الاستشارة، يكون بذلك قد أديّت خدمة كبيرة إلى المجتمع مما يوجب رفعه من الركود وحفظه من السقوط.
ص: 43
وقد قيل لعشيرة جاهلية كانت متفوقة في مختلف تحركاتها الفردية والاجتماعية والحربية والسلمية والاقتصادية، وما إلى ذلك: لماذا هذا النجاح لكم دون سائر القبائل؟ قالوا: لأن لنا كبيراً طاعناً في السن كثير التجربة والتفكّر، نستشيره في كل شؤوننا، وبذلك نوفّق للصواب.
31- لجان إيصال الحياة إلى القابل: إنّ كثيراً من الأشياء تفسد بدون الإنتاج، وكثيراً من الأشياء تنمو دون الممكن، ومن دون وصولها إلى الحدّ القابل لها، وكثيراً من الناس يصلون ولكن لا إلى منتهى القابلية، مثلاً: البذرة قابلة لأن تكون شجرة، والشجرة قابلة لأن تحمل ضعف ما تحمل - في الحال - من الثمرة، فاللازم أن تكون هناك لجان لأجل الأمرين(1)،
وبذلك يكون الإنتاج وافراً مما ينتفع منه المجتمع أيما نفع.
وكذلك بالنسبة إلى الأفراد، فالفرد قابل لأن يتعلم حتى يكونطبيباً، والطبيب قابل لأن يواصل الدورات التخصصية والدراسة العلمية، حتى يكون طبيباً متفوقاً.
فإذا عملت اللجان بالأمرين، كان الإنتاج أولاً، ثم يكون الإنتاج الأفضل، ومن الواضح أن البشر لم يصل بعدُ إلى هذا المستوى في كلا البُعدين، بل في زماننا وبلادنا لا يصل الإنسان حتى إلى الممكن الميسور عند غيرنا، لكبت الحرّيات من قبل الحكّام، ولأسباب أخرى، فهو لا يقدر بل لا يهتم.
ص: 44
إن العلامة الحلي(رحمة الله) إذا لم يدرس، كان فرداً عادياً، وإذا درس ولم يهتم، كان طالباً عادياً، لكن حيث حصل فيه الأمران خرج كمعجزة في التاريخ ومفخرة للأجيال، وكذلك حال الشجرة الباسقة التي تنتج غاية الإنتاج، فإنّ بذرها إذا لم يزرع رجع تراباً بلا إنتاج، وإذا زُرع ولم يعتن به كان أعطى جزءاً من الإنتاج الممكن له.
ومما ذكرناه في الإنسان والنبات، ظهر حال البقاع والحيوانات، قال أمير المؤمنين(علیه السلام): «اتقوا الله في عباده وبلاده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاعوالبهائم»(1)،
فالأرض يمكن الاستفادة الأفضل منها، وكذلك الحيوان، في قبال عدم الاستفادة، وعدم الاستفادة الأفضل.
32- من الضروري تشكيل جمعيات التبليغ والإرشاد، فإن الناس غالباً لا يعرفون دينهم ولا دنياهم، والقول بأنهم يعرفون دنياهم، غير تام، وإلاّ فلماذا هذا التأخر في مختلف مجالات الحياة، من السياسة والاقتصاد والطب والهندسة والعمران والزراعة وغيرها، ولماذا الاختلافات فيها، ولماذا ألف شيء وشيء؟
فهذه الجمعيات تقوم بمساعدة الناس لتُريهم أمور دينهم مما يُسعدهم في الدنيا والآخرة، أو لإرشادهم أمور دنياهم، مما فيه خيرهم المادي والمعنوي أيضاً، فإن من لا معاش له لا معاد له.
وهذه الجمعيات تهيئ وسائل السفر إلى القرى والأرياف، ووسائل
ص: 45
التبليغ السمعية والبصرية، داخل البلاد وخارجها،كما تهيئ الأفراد الصالحين لأجل ذلك.
ومن الواضح لزوم أن يكونوا، كما قال سبحانه: {مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ}(1)، ولذا فاللازم أن تهيئ تلك الجمعيات مؤونة أولئك الأفراد سفراً وحضراً، وإذا كان الناس لا يعطون للمبلِّغين ما يناسبهم، تقوم تلك الجمعيات بإعطاء الباقي، إلى غير ذلك مما هو في طريق التبليغ والإرشاد.
33- لجان مساعدة الشباب للدراسة في الخارج، ولو بالإقراض، إن بلادنا المتخلّفة تحتاج - إلى مدة - لإرسال الشباب والطلاب إلى الخارج للدراسة، حتى يأذن الله سبحانه لأن نصل إلى مستوى العالم.
ومن المعلوم أن كثيراً من الخريجين عن جامعاتنا محتاجون لأجل التكميل والتطور العلمي إلى السفر والدراسة في الخارج، وحيث لا يتمكنون من جهة المال يبقون دون الكمال الممكن، فإذا أسست لجان لأجل إعطائهم المال مجاناً، أو في مقابل ما يتقاضون منهم منالعمل بعد رجوعهم، أو يستردون ما أقرضوهم بعد الرجوع، يكون ذلك مساعدة للبلاد في التقدم في مدارج الرقي.
واللازم في هؤلاء أن يكون قصدهم الخير والتقدم - كسائر المشاريع الخيرية - لا الاسترباح والفائدة، وإلاّ تقل الفائدة والبركة.
ص: 46
ثم هذا يجري حتى بالنسبة إلى استمرار الدراسة الجامعية في بلادنا، بالنسبة إلى الشاب الذي لا يقدر من جهة المعيشة أن يستمر في الدراسة بدون مساعدة ماليّة، فتقدم له الأموال لكي يستمر في دراسته، مجاناً أو قرضاً.
34- جمعيات إسعاف الإنسان: فإن من الضروري تشكيل لجان لحقوق الإنسان بالمعنى العام الشامل للسجناء والمطاردين ونحوهما، ولرعاية الأطفال والأمهات، ولإسعاف المرضى والحوامل، وبالجملة كل ما يشمل دفع الضرر عن الغير، أو إسعافه لحاجته في ما هو قاصر عن انتشال نفسه، فإن الحضارة المادية جعلت المادة هي المحور مما أوقعت الإنسان في مختلف المشاكل، بينما الإسلام جعل الإنسانالمحور {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً}(1) ونجاه من المشاكل المعهودة، وإعطاه الحرّية في كل شيء ما عدا المحرّمات، وجعل بيت المال لإسعافه في حاجاته، وجعل من الواجب الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولذا كان الإنسان في ظلّ الإسلام، لا يحتاج إلى جمعيات حقوق الإنسان، حيث لا حقوق مضيعة حتى يطالب بها أحد.
مثلاً: لا يسجن الإنسان في الإسلام إلاّ نادراً، ولمدة قصيرة جداً، ولا يُعذّب ولا يُطارد الإنسان بالحجز أو المنع عن السفر، أو التسفير أو
ص: 47
التبعيد، إلاّ نادراً جداً، والأطفال لا يكلّفون فوق طاقتهم، وقد رفع القلم عنهم.
و«المرأة ريحانة»(1)
فلا تُهان، وفي الحديث: «اتقوا الله في الضعيفين: النساء واليتيم»(2).
والحوامل يجب إسعافهن، كما في سائر الضعفاء، كما قال سبحانه: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ}(3).وقد قال الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) في وجوب دفع الضرر عن الغير: «من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم»(4)،
إلى غير ذلك من المسلّمات في الإسلام، من جهة الكتاب أو السنة أو الإجماع أو العقل، وهذه الأربعة هي أدلة الأحكام ومصادرها.
أما اليوم وقد سقطت الأنظمة الإسلامية وقوانينها، فاللازم أن تشكل جمعيات لأجل كل مفردة من هذه الأمور، التي ذكرنا بعضها.
35- لجان المغريات والمساعدات: إن كثيراً من الأمور الخيرية يمكن إقامتها بالمغريات المشوّقة للإنسان بأن يفعل ذلك، كما يمكن جعل المشوقات لترك ما يجب أو ينبغي تركه، مثلاً التبغ ضار فإذا جعل لمن
ص: 48
تركه جائزة، تركه، وكذلك حال التأليف إذا جعل المغري لمن فعله.ومن الممكن أن لا يكون المغري جائزة، بل عملاً تؤديه الجمعية للفاعل للخير أو التارك للشر، مثلاً يمكن تشويق الذين يصنعون السجاد وسائر الحاجيات الأهلية والوطنية - والمراد الوطن الإسلامي لا الوطن بالمفهوم الغربي - إن الجمعية تفتح لهم أسواق البيع.
أو مثلاً تفتح الجمعية - السوق الخيري - لأجل الاهتمام بجهة منكوبة أو بجهة يراد الدعاية لها، كبيع كتب الكاتب، أو لبيع الورق للكتّاب، وبالجملة تهيئة الأسباب أو المسبّبات، فإن الكتاب بين من يبيع الورق، وبين من يشتري الكتاب، وكلا الأمرين إعانة للمؤلف ومشجع له على التأليف.
وهذا داخل في التعاون على البر والتقوى(1) إيجاباً، والتعاون على ترك الإثم والعدوان سلباً، وقد قال أمير المؤمنين(علیه السلام): «أمرنا رسول الله(صلی الله علیه و آله) أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة»(2).
وقد كان جمع من العلماء في كلمن إيران والعراق وغيرهما، يذهبون في الأسحار إلى مدارس الطلبة - من غير إخبار مسبق - فمن رأوا منهم يصلّي صلاة الليل يعطونه جائزة لتشجيعه، ملبساً أو كتاباً أو وجه نقدي أو ما أشبه، ومن المعلوم ما لصلاة الليل والقيام في السحر بالذكر والقرآن والدعاء، من الآثار الطبّية للروح، بل البدن أيضاً.
ص: 49
36- جمعيات المناطق المحرومة: إن المدن في بلادنا لها نواقص لا تحصى فكيف بالقرى، التي أغلبها محرومة حتى عن أهم وسائل الحياة الأولية، بالإضافة إلى حرمان أبنائها من التقدّم في كثير من المجالات، مع أنهم أهل التقدم، فربما يكون ابن عادي من أبناء القرية، إذا درس صار عالماً كبيراً، أو خطيباً شهيراً، أو مؤلفاً بارعاً، أو طبيباً حاذقاً، أو مهندساً مرموقاً، أو مخترعاً عظيماً إلى غير ذلك.
فاللازم أن تشكل لجان وجمعيات لكلا الأمرين:
أولاً: إعطاء الحاجيات، الاستفادة من الإمكانات المتاحة في القرية،كجعلها مصيفاً، أو منتزهاً، أو الاستفادة من مياهها المعدنية وأدويتها العشبية.
ثانياً: الاستفادة من أفرادها القابلين.
فإن القرية مخزن كبير لإمداد البشر بالحاجات المادية والمعنوية، إن السيد محمد كاظم الطباطبائي(رحمة الله) المرجع الشهير من قرية من قرى إيران، إلى أمثلة أخرى معروفة في التاريخ.
ولولا احتضان ابن سينا لبهمنيار لم يلمع، بل كان إنساناً عادياً، حاله حال سائر الناس، كسائر النباتات الصحراوية التي تنمو وتذبل، ولا أثر لها إلاّ النضارة الوقتية.
وكذلك لولا عناية السيد الرضي(رحمة الله) بمهيار إلى أمثلة كثيرة.
إن هذا الأمر، وإن كان صادقاً في المدن أيضاً، إلاّ أن في المدن تتوفر - عادة - الدواعي للاستفادة من أهلها، وإنما القرى هي المحرومة في
ص: 50
الأكثر، في كلا الأمرين: المادية والمعنوية.
37- لجان بناء المساكن والبساتين والدكاكين وإعطائهاللناس، ولو بالإقراض لهم، لمدة تسعها حالتهم، فإذا كانت اللجنة خيرية، لا تأخذ منهم شيئاً زائداً، أو تعطي الفقراء مجاناً، أو ببعض القيمة، وإن لم تكن خيرية تأخذ منهم ربحاً معقولاً، وكلما كان الربح أقل كان أفضل، فإذا كانت الأرض والغابة وما أشبه، لمن عمّرها، حسب قانون الله، وكما قرّره الإسلام من قانون (مَن سَبَق)(1)
و «إن الأرض لله ولمن عمّرها»(2) يكون الأمر أسهل.
38- من حاجات الإنسان ما جعله الله دوريّاً، كالأخشاب والمياه وما أشبه، ومنها ما جعله الله - حسب علمنا - غير دوري، كالمعادن.
فمن اللازم أن تشكل لجان الصرف من الأمور الدوريّة مهما أمكن، مكان الأمور غير الدوريّة، إذ في صرف غير الدوريّة إجحاف بحق الأجيال الآتية، مثلاً يمكن البناء بالطين والخشب وهما دوريّان، فلماذا يصرف مثل الحجر والحديد، وهما غير دوريين؟وهذا لا يعني عدم الاستفادة منهما إطلاقاً بل الاستفادة مع مراعاة حق الأجيال القادمة.
ص: 51
إن من الممكن أن يكشف المستقبل إمكان صنع الحديد الواقعي أو الحجر الواقعي، لكن الظاهر إلى الآن أنهما ينفدان، فلماذا يستعملان مع إمكان استعمال غيرهما من الأمور الدوريّة، وقد قرأت في تقرير أن البشر خلال هذا القرن صرف من المنابع غير الدوريّة بقدر صرف البشر في ألوف السنوات منها، وها هم يحددّون عمر النفط بأقل من قرن، وقد صرفت دولة من الدول في خلال عقد من الزمن المياه الجوفية لسبعة آلاف سنة، كما قال الخبراء، إلى غير ذلك.
فاللازم أن يستعمل للوقود الحطب الدوري لا النفط مهما أمكن، أو الطاقة الشمسية إذا تيّسرت، وهكذا بالنسبة إلى الزراعة واستعمال مياه الأمطار لا المياه الجوفيّة، كما يمكن نصب المعامل والمكائن على تيارات البحار والشلالات.
وهكذا الأمر في النفط ونحوه.
39- لجان تقليل الموظفين: إنالموظفين انتفخوا في بلادنا انتفاخاً عجيباً، حتى أكثر من الغرب المنتفخ بما يزيد عن الحجم الطبيعي زيادة كبيرة، وكثرتهم توجب أضراراً جسيمة، منها: نقل المنتج إلى المستهلك، وكبت حرّيات الناس، وصرف الاقتصاد في ما يضر، إلى غيرها مما أشرنا إليه في بعض كتبنا.
ولذا يلزم أن تشكل لجانٌ لأجل التقليل منهم حتى يصل التوظيف إلى الحجم الطبيعي الذي هو دون الحجم الغربي بكثير، وحيث إنه لا يمكن رفع ذلك دفعة مما يوجب اهتزاز الاجتماع، يلزم جعل برنامج
ص: 52
تدريجية، وعند ذاك يجد المجتمع راحة وروحاً، وأنه قد تخلص من أي كابوس من الكبت والثقل على الاقتصاد، واللازم أن يعرض ذلك على الخبراء الدينين والزمنيين معاً، فإذا فرض أنه يكفي لكل ألف إنسان موظف واحد، ترى أن في بلد ذي خمسين مليون نسمة، أربعة ملايين موظف! وهذا كم يكبت؟ وكم يؤخر البلد؟ إذ معنى ذلك أن لكل اثني عشر إنساناً - تقريباً - موظفاً واحداً.
واللازم أن تهيأ أعمال حرّةللموظفين الذين يخرجون عن الوظيفة، كما أن اللازم أن تنظّم المدارس ومعاهد التعليم بحيث لا ينتظر الخرّيج وظيفة، وإنما عملاً حرّاً، وهكذا.
40- لجان ترخيص الأسعار: فإن الأسعار ارتفعت حتى في البلاد العادية ارتفاعاً مهولاً، أما مثل عراق صدام حيث البيضة الواحدة ارتفعت (45) ألف مرة، وشيش الكباب (48) ألف مرة، فذلك ما ينطبق عليه قوله سبحانه: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ}(1).
وترخيص الأسعار يحتاج إلى ألف عامل وعامل، وإلى لجان أخصائيين ومؤتمرات، وإلاّ فسيبقى الغلاء، بل يزداد الغلاء غلواً على طول الزمن، واللازم ترخيص الأسعار في كل جوانب الحاجات من أجرة العامل والموظف والطبيب والمهندس، إلى قيمة الفواكه والمأكولات
ص: 53
والألبسة، إلى غيرها وغيرها.
وأهم شيء ابتلى به المجتمعات: الاستعمار، واستثمار الرأسماليين،والحروب.
وهذا البلاء عام حتى عند الرأسمالية، أما الاشتراكية فلا نتكلم حولها لبشاعتها واستغلال جماعة قليلة في القمة كل الخيرات، بينما الشعب لا يجد حتى لقمة العيش، كما يظهر ذلك من مطالعة أحوال ستالين الذي كان يسكن في قصر من ذهب، بينما يموت الفلاحون جوعاً، وأحوال كيم ال سونغ الذي كان يعيش في ألف جنّة من الترف، بينما كان الشعب الكوري يأكل الأرز كل عام مرّة.
ولذا فاللازم التفكير الجاد في تقليل هذه المشاكل، إن فرض الاستحالة العرفية في النجاة الكامل منها.
وعلى أي حال، فهذه اللجان تنفع بقدر، والنفع بقدر أيضاً ربح، «فما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه»(1)،
و«الميسور لا يسقط بالمعسور»(2).
ثمّ الله سبحانه من وراء ذلك وهو على كل شيء قدير، وقد قال أمير المؤمنين(علیه السلام): «فلما رأى الله منّا الصدق أنزل علينا النصر»(3)
وملاككلامه(علیه السلام) آت في المقام أيضاً إن خُصّ النصر - في قوله(علیه السلام) - بالانتصار في الحرب، وإلاّ فإطلاق كلامه شامل للمقام.
ص: 54
41- لجان نزع السلاح، أو التحديد منها: فإن السلاح الحديث أسوء شيء ابتلي به الإنسان بسبب الصناعة، إنها - معملاً وصنعاً وصانعاً وبائعاً ومشترياً ومستعمِلاً له ومستعمَلا عليه - سوء في سوء في سوء.
فالمعمل آلة لصنع التخريب.
والصنع فعل الشيء المخرِّب.
والصانع فاعل الشيء المخرِّب.
والبائع والمشتري متعاونان في التخريب.
والضابط ونحوه المستعمل للسلاح مدمّر للحياة والحياء.
والمستعمل عليه دمار له إنساناً وحيواناً ونباتاً وأرضاً وسماءً، وقد يبقى آثاره على البيئة عشرات السنوات.
ولا يمكن أن نقف أمام ذلك، إلاّ بالتعقل مرتين:
مرّة لأنّ الدمار خلاف العقل.ومرّة لأنّ فاعل الدمار يُفعل الدمار به ولو بعد حين، ولا عاقل يقدم على أن يدمّر نفسه.
إن هتلر، وموسليني، وستالين، وأمريكا في فيتنام ونحوها، وبريطانيا في الصين ونحوه، وغيرهم دمرّوا، ودُمرّوا به، ولو حسب الخبراء لرأوا أنّ تدمّر المدمِّرين - بالكسر - لم يكن أقلّ من تدمرّ المدمَّرين - بالفتح - إن لم يكن أكثر.
والتعقل عند الكبار، إنما يحصل بالضغوط، كما أن الكبار لما ضغط عليهم العقلاء، توقفوا عن انتشار الأسلحة النووية ونحوها أولاً، وعن
ص: 55
استعمالها بصورة جدية ثانياً.
وعلى هذا فاللازم أن توقف جميع معامل صنع الأسلحة عن صنعها، وتبدّل إلى معامل صنع السلع الحيوية، ثم تدمّر كل الأسلحة المصنوعة الموجودة حالياً، وإذا تشكلت مثل هذه اللجان، تُنظّم فوقها شبكة قوية من الخبراء المتعددي الجنسيات للإشراف على كلا الأمرين - توقيف المعامل وتهديم السلاح المصنوع - ويكون مثل هذا الأمر المهم خطوة تقدمية لإنقاذالبشرية، من قبيل الخطوة التقدميّة التي أقامت الديموقراطية مقام الديكتاتورية، وما ذلك على الله بعزيز.
42- لجان تصنيع المدن: فإن الصناعة الغربية ونحوها خفيفها وثقيلها غزت البلاد الإسلامية، فإذا لم يدخل المسلمون في هذا الباب تأخرّوا، مع أنّ «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»(1)،
وقد قال سبحانه: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ}(2)، وقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}(3).
ومن الواضح أنّ الإعداد في هذا اليوم لا يكون إلاّ بالصناعة، والمراد أعم من المعامل الصغيرة التي يشغلها ثلاثة مثلاً، إلى المصانع الكبيرة، وقد قرأت في تقرير أنّ مدينة كذا الإسلامية التي تشمل على عشرين مليون استوردت خلال سنة واحدة ثلاثة وعشرين ألف معمل.
ص: 56
ومن المعلوم أنّ لجان التصنيعيلزم أن يأخذوا بعاتقهم تذليل الصعوبات وما أكثرها في الحال الحاضر، فليس الأمر مجرّد تشويق أو استيراد للمعامل وتفريغها بيعاً أو نحوه على الناس، إلى غير ذلك.
43- لجان تكوين النقابات: فإن النقابة من أفضل التجمع لأجل جلب المنفعة ودفع المضرّة، وتقدّم البلاد إلى الأمام في مختلف أبعاده، وفي الحديث: «يد الله مع الجماعة»(1).
ومثل النقابة الشركة، حيث إنّ الشركة توجب تجمّع الأيادي على مشروع خاص، وفيه التقدّم الكمي والكيفي للمشروع.
وقد ذكرنا الفرق بين الحزب والنقابة والجمعية والهيئة والجماعة، في بعض كتبنا السياسية، وإن كان الكل عبارة عن التجمع الذي هو مبعث التقدم.
44- يلزم الاهتمام بالحياة وتقديمها إلى الأمام في مختلف أبعادها، فاللازم أن تكون هناكلجان لتكوين جماعات الشعراء والأدباء، حتى لا تُسرف هذه الطاقة، ولا تصرف في الشرّ.
45- لجان الشعائر: فإن الشعائر من مظاهر الإسلام التي توجب
ص: 57
شوكته، قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}(1) فإنها وإن ذكرنا في هذا الكتاب بعضها، إلاّ أن المراد هنا الأعم، كالحج والزيارة للنبي(صلی الله علیه و آله) والمعصومين(علیهم السلام) وأولادهم وذويهم(علیهم السلام) وسائر المعصومين كالأنبياء والمرسلين(علیهم السلام)، والمقابر، وصلوات الجماعة، ومراسم الأحزان والأفراح، كما قال(علیه السلام): «يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا»(2)،
بل يمكن أن يدخل فيها الاستعراض العسكري، وشبه ذلك، وفي القرآن الحكيم: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ}(3).
فإذا كانت هناك لجان لهذه الأمور، توجب التعظيم الأكبر، والتبجيل الأحسن، فإن كل عملوراءه جماعة يؤتى به بأفضل وجه كمّاً وكيفاً.
هذا بالإضافة إلى أن الإنسان جُبل على المظاهر، فإذا لم تصرف طاقته في الشعائر اهتم بصرفها في أشياء غير صحيحة ك-(الرايسز) و(الألعاب) و(السيرك المحرم) و(الزواجات الجماعية المحرمة) وما إلى ذلك، حالها حال سائر طاقات الإنسان إذا لم تصرف في المصارف الصحيحة، فإنه يلتمس لها مصارف باطلة، كالطاقة الجنسية والطاقة العضلية والطاقة السمعية والبصرية، وما إلى ذلك.
ص: 58
46- لجان إحياء الكتب الخطيّة: وقد سألت ذات مرة خبيراً بالكتب، كم من كتبنا طبع؟ قال: عشرة في المائة، وإنّي لا أعلم صحة النسبة وعدمها، إلاّ أنه لا شك أنّ كثيراً من كتبنا لم تطبع، فإذا كانت هناك لجان لأجل هذا الشأن، أمكن تدارك الكثير الكثير من كتبنا الخطيّة الموجودة في مختلف مكتبات العالم، ومخازن الكتب - كما في اليمن والهند - أو الباقية في البيوت القديمة.
ومن الممكن - إذا لم يتيسرالطبع - أخذ الصور من تلك الكتب الخطيّة، بل وحتى من الكتب المطبوعة النادرة الوجود، حيث لم تبق نسخ لها إلاّ نسخة في المكان الفلاني أو نسختين أو نحوهما، وإذا كانت اللجنة قويّة أمكن فتح الأسواق في مكتبات العالم لبيع ما يطبع منها بكل يسر وسهولة.
47- لجان الاكتشافات: كما يفعله الغرب، في الكهوف، وأعماق البحار، ورؤوس الجبال، والأودية، والغابات، بذاتها، أو بحيواناتها، أو بمعادنها، أو نحوها، أو التنقيب عن الآثار، قال سبحانه: {فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ}(1) وقال أمير المؤمنين(علیه السلام): «فسر في ديارهم واعتبر آثارهم»(2)
وغيرهما.
ص: 59
48- لجان تحسين السلالات وتنويعها والتركيب بينها: فقد ظفر الإنسان في هذه الأمور بكنوز من المعرفة والفائدة، مع مراعاة الموازين الشرعية.
49- لجان الغور في أعماق الإنسان: فإنه وإن كان عرفان الإنسان غير مقدور، ولعله يشير إلى ذلك قوله(علیه السلام): «من عرف نفسه فقد عرف ربّه»(1)
على معنى أنّه كما لا يعرف كنه الربّ، كذلك لا يعرف كنه الإنسان، إلاّ أن الأمر بالنسبة إلى معرفة الإنسان ممكن بقدر، سواء بالنسبة إلى روحه أم بالنسبة إلى جسده، وهذا جارٍ في الحيوان أيضاً: {قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ}(2) وفي الدعاء: «يا من يملك حوائج السائلين ويعلم ضمير الصامتين»(3).
50- وأخيراً فلتشكّل لجان لتعمل وتُعمِل، وتهيئ فرص العمل في أي بُعد من أبعاد الخلق: وقد ورد أنّ الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) قال لمن لم يعمل عملاً في يومه: «فارجع إلى أهلك فأصبهم»(4)،
ولعلّه حتى لا
ص: 60
يكون فارغاً ولا يقضي وقته عاطلاً.
وكان النبي(صلی الله علیه و آله) إذا قيل له: إنفلاناً لا عمل له، قال(صلی الله علیه و آله): «سقط من عيني»(1).
فإن الحياة تنمو وتزدهر بالكد والتعب والعمل والنصب.
والأمر كله لله سبحانه وهو الموفق المؤيّد.
ص: 61
ص: 62
ص: 63
ص: 64
إنّ بعض الأفراد، كبعض الجماعات والأمم، يفلسفون للتأخر فكرياً، ولا يتخذون خطوات عملية، وبذلك يتأخرون عملياً.
التأخر والتقدم - أولاً وبالذات - ينشأ من الفكر، ولكن يتبعه العمل أو اللاعمل، وحتى العامل قد يعمل أكثر كميّة أو أحسن كيفية، فيكون تقدّمه أكثر ممن ليس كذلك، ولذا فاللازم - على المسلمين - وقد أصبحوا بعيداً عن الركب ألوف الأميال، أن يتركوا فلسفة التأخر، كما هو شأن الكسالى والمترهّلين، ويأخذوا بجدّ في العمل الموصل الأكثر كمّاً، والأفضل نوعاً، وفي كل الأبعاد، حتى يصلوا بإذنه سبحانه، وإليك جملة من أقسام التفلسف للتأخر.
كما نذكر بعض أسباب التأخر للتخلص منها، والله الموفق المعين.
وحتى قال الشاعر(1):
أخاك أخاك إنّ من لا أخاً له*** كساع إلى الهيجا بغير سلاح
وإن ابن عم المرء فاعلم جناحه*** وهل ينهض البازي بغير جناح
وألف شاهد وشاهد من الآيات والروايات، وأقوال الحكماء، وأمثلة الأدباء، وأشعار الشعراء، وتاريخ الحركات.
والجواب:
أولاً: لك أعوان.
وثانياً: أوجد الأعوان، فإن الحركات تبدأ بواحد، وهل قام الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) إلاّ وهو واحد؟ وألم يكن إبراهيم(علیه السلام) أمّة بوحده(2)،
وسائرالعالم أمّة؟ وهل بدء النبي عيسى(علیه السلام) إلاّ وهو واحد؟ إلى غير ذلك، وهكذا كان حال المسلمين.
2- لا قابلية للناس: ومن قال لك: إنه لا قابلية للناس؟ إنّ الفطرة وهي نقية في الناس، أعظم قابلية، وهل قام المصلحون إلاّ معتمدين على الفطرة؟ والعجيب في الأمر أنّ المفسدين أيضاً يقومون ويقوم الناس معهم، مع أنّ الفطرة تخالفهم، وضمائر الناس ضدّهم، إذا كان المفسدون هكذا، أفليس المصلحون أكثر قدرة على الحركة والنهوض
ص: 66
والقيام؟ وألم يقل الله سبحانه: {إِن يَنصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ}(1) وقال تعالى: {إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(2).
3- ومن فلسفة التأخر: الحدّة قولاً أو عملاً، فإن الناس لا يجتمعون حول الحادّ والعنيف لساناً أو بناناً أو عملاً، وبذلك فهو لايخسر الناس فحسب، بل يخسر نفسه أيضاً، إذ العلم منهما هو في القرطاس ومنه ما هو في الاجتماع، ومن لا يزاول الاجتماع مزاولة عملية لا يجد ذلك العلم، ولذا ورد: «خذ العلم من أفواه الرجال»(3)، وقالوا: الاجتماع نعم المعلّم.
إن بعض الناس عندهم الحدّة، وهذا يسبب خسارتهم.
وفي المقابل هل خسر من لا حدّة له، حتى يكون الإنسان ذا حدّة؟!
يقول الشاعر:
فإن ترفقي يا هند فالرفق أيمن*** وإن تخرقي يا هند فالخرق أشأم
وحيث إن الحدّة في طبيعة بعض الناس، فاللازم أن يمُرّن على تركها، وذلك يمكن بالتفكر والإيحاء النفسي.
ينقل عن أحد الوجهاء: أنه نذر إن ضرب خادمه - حتى وإن كان للتأديب وضمن الشروط الشرعية - صام سنة، فضربه ذات مرة وصام سنة، ثم تأدّب بذلك، ولم يرفع بعده عليه يداً.
ص: 67
يقول تعالى: {بِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِلَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}(1).
4- البطالة، فإنها من فلسفة التأخر: إن قسماً من الناس يقضون أوقاتهم بالبطالة، في أية مهنة كانوا، ويفلسفون للبطالة بفلسفات عقيمة، والجامع بينها انحرافهم الفكري أو ترهّلهم العملي مما يوجب - بالآخرة - تأخرهم عن ركب الحياة.
ومعرفة ذلك إنّما تكون بسبب المقايسة بالأناس العاديّين في تلك المهنة - فإن الأشياء تعرف بأمثالها وأضدادها - هذا إذا لم يرد الإنسان التقدّم، وإلاّ فاللازم أن يعمل أكثر من العاديّين، إذ لو عمل بقدر أعمالهم صار عادياً.
5- النظر إلى من دونه: فإن قسماً من الناس ينظرون إلى من دونهم فيرون أنفسهم متفوقين، بينما يلزم على الإنسان أن ينظر إلى من فوقه، حتى يصعد ويتقدم، وقد قال سبحانه: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى}(2) فإن المتفوق لا انتهاء لرقيّه، لأنالله سبحانه جعل الحياة هكذا.
ولذا قالت الملائكة: «سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك»(3).
ص: 68
وكان الإمام السجاد(علیه السلام) ينظر في عبادة جده أمير المؤمنين(علیه السلام) المندرجة في كتاب - كما في الحديث - ويقول: (من يقوى على ذلك)(1).
ولعلّه كان ذلك ليزداد شوقاً إلى كثرة العبادة مع أنه(علیه السلام) كان أعبد أهل زمانه.
عن الإمام الصادق(علیه السلام) في وصف عبادة الإمام السجاد(علیه السلام) قال: «لقد دخل أبو جعفر(علیه السلام) ابنه عليه، فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، فرآه قد أصفر لونه من السّهر، ورمصت(2)
عيناه من البكاء(3)،
ودبرت جبهته(4)،
وانخزم أنفه منالسجود(5)،
وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة، وقال أبو جعفر(علیه السلام): فلم أملك حين رأيته بتلك الحال البكاء، فبكيت رحمة له، فإذا هو يفكر، فالتفت إليّ بعد هنيهة من دخولي، فقال: يا بني أعطني بعض تلك الصحف، التي فيها عبادة علي بن أبي طالب(علیه السلام)، فأعطيته فقرأ فيها شيئاً يسيراً، ثم تركها من يده تضجراً، وقال: من يقوى على عبادة علي بن أبي طالب(علیه السلام)»(6).
ص: 69
6- ومن فلسفة التأخّر الكسالة: فإنّ الإنسان إذا كسل لم يؤدّ حقاً، فكيف يمكن أن يكون متفوقاً؟
ولذا ورد في دعاء الإمام السجاد(علیه السلام): «واجعل... أقوى قوتّك فيّ إذا نصبت»(1).
ومن المعلوم أن جعل الله سبحانه مثل ذلك تابع لإرادة الإنسان وتهيئته؛ ولذا فاللازم أن يترك الإنسان الكسل، وإذا كان كسولاً أمكن تداركه بالتنوع في أمرواحد، كالحياكة للسجّاد والملبس والحصير وما أشبه، أو في مطالعة كتاب النحو والتفسير والفقه، أو في حفظ القرآن ونهج البلاغة والصحيفة السجادية، أو ما أشبه، أو متنوعاً من مختلف هذه الأمور، كحياكة سجّاد، ومطالعة تفسير، وحفظ سورة من القرآن، وهكذا.
7- الزهد الكاذب عن مزاولة الحياة، هي الأخرى من فلسفة التأخر، فإن الزهد:
أولاً: إنه بمعنى أن لا يملكك شيء، لا أن لا تملك شيئاً.
وثانياً: لا أزهد من رسول الله(صلی الله علیه و آله) ومن أمير المؤمنين(علیه السلام): وكانا يزاولان كل شؤون الحياة من أصغر شيء إلى الحرب، وهي قمة العمل
ص: 70
لإصلاح الدنيا أيضاً.
وفي الحديث: «ليس منّا من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه»(1).
وفي قصة ابن مظعون مع الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله)(2)، وعاصم مع أميرالمؤمنين(علیه السلام)(3) أكبر هداية لمن أراد الاهتداء في هذا الجانب من البحث.
8- ومن فلسفة التأخّر: تصور أنّ الإصلاح غير ممكن إلاّ بقيام الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف
نعم، لا شك أنّ الإصلاح العام الشامل بيده(علیه السلام) وحده، أما الإصلاح بالقدر الميسور فإمكانه ووقوعه في مختلف أدوار التاريخ، من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى الاستدلال.
وهذا الكلام كما يأتي في أصل الإصلاح، يأتي في كمّه كفتح مدرسة أو مدرستين، وفي كيفه كفتح مدرسة ابتدائية أو ثانوية، فالاقتناع بالأقل كمّاً أو كيفاً أيضاً من فلسفة التأخّر.
9- ومن فلسفة التأخّر: زعم أنّه لا يمكن الاعتماد على الناس، ثم سرد بعض الآيات والروايات وقصص التاريخ استدلالاً على ذلك.
إنّ الناس هم الناس، لهم فطرة صحيحة، والله أحسن الخالقين
ص: 71
بخلقه لهم، وقد صوّرهم فأحسن صورهم،وزوّدهم بجنود العقل والجهل، وأنّهم كمعادن الذهب والفضّة(1)،
وأنّ الأنبياء والأئمة(علیهم السلام) والمصلحين، عملوا على نفس هذا الإنسان، وأخذوا منهم إلى السعادة والجنّة قسطاً كبيراً، نعم أحياناً يغلب الصلاح، وأحياناً يغلب الفساد، ولذا فاللازم أن يعتمد المصلح عليهم، والاستثناء لا يوجب التخلّي عن القاعدة العامة؛ ولذا قال الفقهاء بإجراء أصل الصحة، وإن الأصل حسن الظن، إلى غير ذلك.
فاللازم المشي على القاعدة العامة، إلاّ في موارد العلم التفصيلي، أو الإجمالي، وفي موارد الاحتمال العقلائي في الجملة، وما أقل الثلاثة(2)
بالنسبة إلى القاعدة آنفاً.
10- ومن فلسفة التأخر: ظن أنه (اتسع الخرق على الراقع)، فلا يمكن الإصلاح ولا علاج الأمر، ولو بالتقليل من المفاسد والمشاكل.
وحتى إنه إذا اتسع فالميسور لايسقط بالمعسور، كما هي القاعدة العقلائية والشرعية، وحتى لو كان ذاك(3)
أيضاً، فقد أجاب عنه القرآن الحكيم، في قصة صيادي السمك في اليوم المحظور: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً
ص: 72
إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}(1).
فإن احتمال التأثير، ولو بعد ذكر ألف مرّة، أو لألف إنسان كاف في اللزوم الشرعي والعقلي، كما قاله الفقهاء في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
11- ومن فلسفة التأخر: زعم أن المشكلات والانحراف من قبيل: (سحابة صيف عن قريب تقشع).
فإنه حتى سحابة الصيف تنقشع بعوامل طبيعية مما جعلها الله سبحانه للتقشيع، ولو فرض أنّ شيئاً كان من هذا القبيل، فماذا بالنسبة إلى ما ليس من هذا القبيل؟
12- ومن فلسفة التأخر: عدم الاستفادة من كل فرصة ولو كانت قليلة، وعدم الاستفادة من كل قطرة ولو كانت مثقال ذرة، على تعبير القرآن الحكيم.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}(2).
وقال سبحانه: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاّ كُنّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن
ص: 73
رّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرّةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ فِي السّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلآ أَكْبَرَ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ}(1).
وقال تعالى: {وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السّاعَةُ قُلْ بَلَىَ وَرَبّي لَتَأْتِيَنّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبَ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرّةٍ فِي السّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ}(2).
وقال سبحانه: {قُلِ ادْعُواْ الّذِينَ زَعَمْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرّةٍ فِي السّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مّنظَهِيرٍ}(3).
إنّ الأهداف العالية، والمقاصد الرفيعة، تحتاج إلى جمع كل تلك الفرص والذرّات.
ولذا ورد أنّ علياً أمير المؤمنين(علیه السلام) قال للحلاق الذي أراد قص شاربه وطلب من الإمام أن يطبق شفته: الوقت أسرع من هذا، إني لا أترك ذكر الله سبحانه حتى بهذا القدر.
وفي حديث آخر أنه(علیه السلام): ذهب للصلاة بثوب لم يخطه(4).
فإنه(علیه السلام) لم تكن له فرصة ترك العمل حتى بهذا الوقت القليل، مدة
ص: 74
خياطة الكمّ وهو على بدنه.
وورد أنّه: ينبغي للإنسان العبرة من كل نظرة(1).
هذا في الوقت وما أشبه، وبالنسبة إلى (المادة) ورد أنإلقاء النواة، وصب فضل الماء من الإسراف(2).
وروي أنّ أمير المؤمنين(علیه السلام) كتب إلى عمّاله: «ادقّوا أقلامكم، وقاربوا بين سطوركم، واحذفوا عنّي فضولكم، واقصدوا قصد المعاني، وإيّاكم والإكثار، فإن أموال المسلمين لا تحتمل الإضرار»(3).
وقصة إطفائه(علیه السلام) سراج بيت المال(4)
مشهورة، إلى غير ذلك.
إن البحار تتجمع من القطرات، والساعات تتجمع من الثواني، فكل إسراف في قطرة أو ثانية دليل على التخلف ويكون من فلسفة التأخر.
فإذا كان الأمر كذلك في الصغيرة الصغيرة، فكيف بالكبيرة والأكبر من الكبيرة.
قال أمير المؤمنين(علیه السلام): «انتهزوا الفرص فإنها تمر مرّ السحاب»(5)، وكلامه(علیه السلام) يشمل الفرص المادية والمعنوية ولو بالملاك، وقد قال
ص: 75
سبحانه: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍخَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}(1) وقال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}(2).
13- ومن فلسفة التأخر: الاستبداد إنّ المستبد يجلب الكره لنفسه ويفوّت على عمله مصالح كان يستفيدها إن استشار الناس، وأي تأخّر أكبر من هذا التأخر، ولا فرق في استبداد الحكام أو استبداد الأفراد، وإن كان كلما كان الفرد أكبر يكون تأخره عن الواقع بسبب استبداده أكثر والضرر أعظم، ولذا قالوا: زلة العالِم زلّة العالَم(3)
وقال أمير المؤمنين(علیه السلام): «من شاور الرجال شاركها في عقولها»(4).
إن المستبد يُسيء بالنسبة إلى نفسه وإلى عمله قبل الإضرار بالآخرين، من حيث يزعم أنه يحسن إليهما، وهي حالة في النفس قبلأن تكون مظهراً خارجياً.
ولذا فمن اللازم أن يعتاد الإنسان الاستشارية في كل صغيرة وكبيرة حتى تكون ملكة له.
وبالآخرة «من استبد برأيه هلك»(5)، كما قاله أمير المؤمنين(علیه السلام)،
ص: 76
و(هلك) يستلزم (يُهلِك) أيضاً في ما كان الاستبداد مربوطاً بالناس، و(الهلاك) في كلامه(علیه السلام) يشمل كل من كان من شأنه أن يهلك من كبير أو صغير، وكبيرة أو صغيرة، لأنه (هلك) ورد بقول مطلق، ولمناسبة الحكم والموضوع، كما يقوله علماء الأصول.
14- ومن فلسفة التأخر: البخل، فإن البخيل يضر بالحياة عموماً، وبنفسه خصوصاً، وليس من البخل أن يصرف الإنسان بميزان، فإن ذلك عدالة واقتصاد.
بل هو عدم الصرف في موضع الصرف، كمّاً أو كيفاً.
أما أن البخيل يضر الحياة، فلأن الحياة وضعت على العدل: «بالعدل قامت السماوات والأرض»(1)
- كما فيالحديث - فكل انحراف عن العدل ضار بالحياة.
وأما أنه يضر نفسه، فإن «البخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، بعيد من الجنة، قريب من النار»، كما في الحديث(2).
وفي القرآن الحكيم: {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ}(3) فإن ضرر البخل أولاً وبالذات يتوجه إلى النفس، ولذا قال سبحانه: {عَن نَّفْسِهِ} ولم يقل (على نفسه) فإنه أسقط الخير عن نفسه، ثم ثانياً
ص: 77
وبالعرض أسقطه عن غيره.
15- عدم مراعاة الصحة البدنية والنفسية، من فلسفة التأخر، فإن الصحة، كما يقول المثل: (تاج على رؤوس الأصحّاء لا يعرف قدرها إلاّ من فقدها)(1) وقد قالوا: «نعمتان مجهولتان: الصحة والأمان»(2).إن الصحة تقدّم الإنسان، وأصحّاء الجسم - عادة - هم الذين يستفيدون من الحياة ويفيدونها، أما المريض والمعلول، فإن استفاد وأفاد فهو قليل جداً، وحتى هذا المريض والمعلول إذا كان صحيحاً كان يفيد ويستفيد أكثر.
نعم قد يكون المرض والعلّة - في بعض الأحيان - موجباً للاندفاع في الحياة بما أنه لو كان صحيحاً لم يكن له هذا الاندفاع، لكن هذا مطلب ثانوي، والكلام إنما هو في الأمر الأولي.
ومن هنا ورد استحباب سؤال العافية من الله عزّ وجل، كما في الأدعية والروايات(3)،
وفي الدعاء: «اللهم إني أسألك الصحة والسلامة
ص: 78
والعافية والعفة والأمانة وحسن الخلق»(1).
فاللازم مراعاة الصحة وقاية وعلاجاً.
ومن المعلوم صحة المثال القائل:(مثقال من الوقاية خير من قنطار من العلاج) و: (بحفظ قطرة الصحة لا يحتاج الإنسان إلى بحر من العلاج).
16- الخرق وعدم الألفة مع الناس من سمات التأخر، وقد ورد: «لا خير في من لا يألف ولا يُؤلف»(2)،
وحيث إن معاشرة الناس - بشكل عام لا فئة خاصة فحسب - صعب وبحاجة إلى مقومات كثيرة، فعلى الإنسان أن يربّي نفسه على الألفة، وإلاّ خسر نفسه وخسر غيره، فإن في الألفة أخذ وعطاء، فأخذه لنفسه وعطاؤه لغيره.
والمراد ب-«لا خير» أي في هذا البُعد، لا في كل الأبعاد، فإن السلب والإيجاب يرتبط بالبُعد المقابل له عادة، والواقع الأخلاقي بحاجة إلى الأمرين، لا أن يألف فقط أو يُؤلف فقط، فإن الأقسام أربعة: كلاهما، ولا واحد منهما، وأحدهما دون الآخر على شقّيه(3).
17- من فلسفة التأخر: تثقيل الحياة، فإن الحياة بنفسها يسيرة، كما
ص: 79
قال سبحانه: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}(1).
وعن النبي(صلی الله علیه و آله) أنه قال: «يسّروا ولا تعسّروا»(2).
مثلاً: الزواج عبارة عن احتياج شاب وشابة أحدهما إلى الآخر جنسياً وتعاونياً لاستمرارية الحياة الهانئة وتقديم الحياة إلى الأمام، ولذا جعل رسول الله(صلی الله علیه و آله) المهر قليلاً وبسيطاً، من خاتم حديد(3)،
وتعليم سورة من القرآن(4)، وهكذا.
أما إذا جعل المجتمع أو الحكومة للوصول إلى الزواج مهوراً ثقيلة، وشرائط تعجيزية، فمعناه: سدّ باب الزواج، وفتح باب الفساد، وبقاء الشباب والشابات في الحرمان.
ومثلاً: قال الشارع: «الأرض لله ولمن عمرّها»(5)، وقال: «من سَبَقإلى ما لا يسبقه إليه مسلم فهو أحق به»(6) وبذلك يتمكن الإنسان من بناء دار لنفسه بقدر حاجته، من الأرض المجانية، والأخشاب التي يحصل عليها من الغابة ونحوها للسقف والشباك وما أشبه، بماء يمتحه(7)
من بئر يحفرها، إلى غير ذلك، وهل يبقى بعد ذلك إنسان بلا دار إلاّ
ص: 80
نادراً جداً؟
ومثلاً: كل إنسان جعله الشارع حرّاً في الاستفادة من خيرات الأرض والسماء، من السمك والطير والوحش، وتربية الحيوانات، وزرع الأرض المجانية، بقدر ما يشاء وكيف ما يشاء - بشرط عدم الإضرار بالآخرين - وهل بعد ذلك تبقى حاجة إلى غذاء أو كساء أو نحوهما؟
أما المتفلسفون كحكومات بلاد الإسلام وشعوبها في حال الحاضر، فقد ابتدعوا للحياة ألف شرط وشرط، وبذلك وقعوا في مشكلة كبيرة حتى صارت الحياة عسرة جداً بما لم يسبق لها مثيل منذ عمر الإسلام الطويل، ولعلّ ذلك معنىقوله(علیه السلام) في بقرة بني إسرائيل: «ولكن شدّدوا فشدّد الله عليهم»(1).
وما ذكرناه، كما هو صادق في الحكومات والشعوب معاً، بالنسبة إلى الأمر المشترك بينهما، صادق بالنسبة إلى الحكومة وحدها، والشعب وحده، مثلاً: التقيّد في الأكل، وفي الشرب، وفي اللباس، وفي أثاث الدار، وفي السفر، وفي مراسيم الموت والختان والولادة، من فلسفة التأخر، ولذا صار حال الإنسان حال دود القز الذي يجمع حول نفسه من حياكته ما يقتله في داخله.
إن البساطة بالإضافة إلى أنها هنيئة، وغير مكلفة، ورخيصة، ومعطية للحاجات، خفيفة على النفس أيما خفّة، فيعيش الإنسان في
ص: 81
كمال الراحة، وتقّل الأمراض بسببها، كما يتسع الوقت بها للتفرّغ للتقدّم.
وفي الإشارة إلى مثل ذلك، قال الشاعر(1):
ما للمعيل وللمعالي إنما*** يسمو إليهن الوحيد الف-ارد
فالشمس تجتاب السماء فريدة*** وأبو بنات النعش فيها راكد
وفي روايات كثيرة تأكيدات متفرّقة على ذلك، مثل قوله(صلی الله علیه و آله): «اللهم بارك لقوم جلّ آنيتهم الخزف»(2)
و: «مهر السنة»(3)
و: «إذا كان لأهل بيت شاة قدَّستهم الملائكة»(4)
إلى روايات وروايات.
إنه من غير الشك أنّ بعض ترفيهات الحياة، تحتاج إلى بعض التعقيد كوسائل السفر الحديثة، وما أشبه ذلك، إلاّ أنه من غير الشك أيضاً أنّ الإنسان يمكنه الخلاص من هذه التعقيدات في كثير من مناحي الحياة، وما يضعه المجتمع أو الحكومة على عاتقه من المشكلات أشكل ألف مرّة ومرّة من القدر الذي صار بسبب التقدّم الصناعي.
18- ومن فلسفة التأخر: العنف،قال القرآن الحكيم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ
ص: 82
عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ}(1) وقال سبحانه: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}(2).
ولا يخفى أنّ {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ}(3) يفسّره فعل الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله)، وأمير المؤمنين(علیه السلام)، فليست الشدة مطلقة، وهما (عليهما الصلاة والسلام) كانا رحماء حتى على الكفار أيضاً، إلاّ في القدر الضروري، من تثبيت العقيدة والشريعة والأخلاق والآداب، ومن إنقاذ المستضعفين، مثاله مثال: العملية الجراحية المضطر إليها، ولذا نرى الرسول(صلی الله علیه و آله) أعطى الأموال لأهل مكة(4)،
حين كانوا كفاراً يحاربون الرسول(صلی الله علیه و آله)، وعفى وعفى وعفى، وكذلك كان فعل أمير المؤمنين(علیه السلام) بالنسبة إلى من حاربهوأساء إليه(5)،
وكذلك حال سائر المعصومين(علیهم السلام).
وعلى أي حال، إن العنيف في قول أو كتابة أو فعل، إنما يضر نفسه قبل أن يضر غيره، ولذا ورد: «لا وحشة أوحش من العجب»(6).
ورأيت في روايتين ذكرتهما في كتاب (الفقه: الآداب والسنن):
ص: 83
(النهي عن العنف) بهذه اللفظة «لا عنف»(1).
إذن اللاعنف هو شعار الإسلام قبل أن يتخذه (غاندي) شعاراً، كما أن من شعار الإسلام (السلام)، قبل أن يتبناه بعض دول العالم صدقاً أو كذباً، نعم:
قالوا السلام شعارنا وشعارهم*** جرّ الحبال ومثلة الأجسام(2)
لاشك أن الإنسان فيه حالة العنف، لكن يمكن إزالته بالتلقين والإيحاء والتمرين، وعند ذاكتكون ملكة له وطبعاً من طباعه يأتي بكل يسر وعفويّة، كما هو كذلك في سائر الحالات والملكات الرديئة، ولا يخفى أنه لاينفع العنيف الاعتذار، فإنه قد يرفع شدّة الأثر السيئ، لكنه لا يرفع أصل الأثر، ولماذا يفعل العاقل ما يحتاج إلى الاعتذار؟(3).
19- ومن فلسفة التأخر: الكبر، بأن يرى الإنسان نفسه كبيراً، ويترفّع على الآخرين عملاً، فإن هذا يوجب:
أولاً: انفضاض الناس من حوله.
وثانياً: أن لا يأخذ الإنسان من الآخرين ما يصلحه.
وكلاهما يوجبان السقوط.
ص: 84
والكبر يستلزم كثيراً من الرذائل كالعُجب والاستبداد وإهانة الناس بالقول والعمل، وما أشبه ذلك.
20- ومن فلسفة التأخر: الجنوح إلى النزاع، فإن بعض الناس يميلون إلى المشاكل والاختلاف معالآخرين في الصغائر والكبائر، وفي كل أبعاد الحياة، خلافاً لبعض آخر، حيث يميلون إلى الائتلاف، أو يكونون حيادييّن في كلا الأمرين.
والجنوح إلى النزاع والاختلاف نوع مرض في النفس، وانحراف في الذات، فإذا قال الناس: الطريق إلى بلد كذا من الشرق، قال: لا بل من الغرب! أو قالوا: هذه التجارة أربح، قال: بل هذه! ثم إن هذه الحالة قد تكون من اعوجاج السليقة، وقد تكون من جهة إرادة الاختلاف للشهرة، ونحوها.
21- من فلسفة التأخر: الدقة الناشئة عن الوسوسة.
سواء في الأمور الاجتماعية أم الاقتصادية أم السياسية أم التربوية أم التعليمية أم العسكرية أم غيرها، فإن مثل هذه الوسوسة، إما تكفّ الشخص عن المضي، أو لا تكفّه ولكنها توجب المضي بتردد، وكلا الأمرين خلاف التقدم والعزم السوي.
وكذلك الحال بالنسبة إلى الوسوسة والدقة المخالفة للظواهر، لأن الظاهر حجة عند العقلاء، فالدقة والوسوسة فيهاخلاف طريق
ص: 85
العقلاء، مما ينتهي إلى الانحراف في الفكر، والابتعاد عن المجتمع، وأحياناً ينتهي مثل ذلك إلى نوع من (الماليخوليا) كما ذكره الأطباء، ورأينا بعضهم رأى العين، وإذا ابتلى الإنسان بذلك يلزم عليه أن يطرد عنه هذه الحالة، وإلاّ صار مصداقاً لقول الإمام الصادق(علیه السلام): «أي عقل له وهو يطيع الشيطان»(1).
22- ومن فلسفة التأخر: المجادلات اللجوجة، فإن الجدال قد يكون بالتي هي أحسن، كما عبّر عنه القرآن الحكيم(2)،
وهو أيضاً يكون في المرحلة الأخيرة ويأتي في آخر القافلة، حيث يتقدم (الحكمة) بوضع الأشياء موضعها الكلامي والرتبي، ثم (الموعظة الحسنة) حيث الوعظ والإنذار بما لا يستفزّ الطرف المقابل، وإذا لم يجد المتكلم مجالاً لهما يأتي دورالمجادلة الحسنة، وعلى قول (الأدباء) إنّ الواو للعطف المطلق(3)،
كما قال ابن مالك:
فاعطف بواو لاحقاً أو سابقاً *** في الحكم أو مصاحباً موافقاً
لا ينافى الظهور في الترتيب، كما قال به بعض الأدباء(4)
وأيّدهم
ص: 86
الفقيه الهمداني(رحمة الله) في آية الوضوء(1)... في الفقه(2).
وعلى أي حال، فاللازم لمن نزّه نفسه ومنطقه أن يجتنب المجادلة اللجوجة، فإنها بالإضافة إلى كونها لا تقنع الطرف، توجب العداء، وأحياناً إصرار الطرف على رأيه، ولذا نجد الأنبياء(علیهم السلام) - كما في القرآن الحكيم - ما كانوا يستمرون في الاستدلال إذا أحسّوا من الطرف اللجاج.
23- الغرور من سمات التخلف وفلسفة التأخر، ولذا يلزم اجتنابه قدر الإمكان، فإن الإنسان المغرور، لا أنه لا يتقدم فحسب بل يتأخر عن موضعه الطبيعي الذي كان فيه، قال سبحانه: {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}(3) والغَرور اسم الشيطان لأنه يغرّ الإنسان كثيراً(4)، إضافة إلى أنه في غاية الغرور، وقد فصّل في (جامع السعادات) طوائف المغرورين(5)-
مما لا حاجة هنا إلى التفصيل - بل الإشارة إلى جهة أنّ الغرور من فلسفة التأخر، والتاريخ بالإضافة إلى المنطق يدل على أنه ما اغتر إنسان إلاّ وسقط قريباً أو بعيداً.
ص: 87
24- من فلسفة التأخر: الادعاء، فإن الإنسان الذي يدعي يتأخر، سواء كانت نفسه قدر ادعائه أم لم تكن قدر ادعائه بل كانت أقل من ذلك، أما في صورة العدم فلأنه كاذب، ومن المعلوم أنّ الكذب يوجب التأخر، إذ الكذب ينفّر الناسعنه:
فمهما يكن عند امرئ من خليقة *** وإن خالها تخفى على الناس تعلم(1)
وفي الآية الكريمة: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(2) وذكر {الْمُؤْمِنُونَ} مع أنّ طبيعة العمل الانكشاف حتى عند غير المؤمنين، أنّ محلّ الابتلاء هم المؤمنون، نعم أحياناً يستر الله العمل لأمر ما، وكان النبي(صلی الله علیه و آله) أحياناً يدعو بستر تحركه عن الأعداء، حتى يفاجئهم، بما يستلزم قلّة إراقة الدماء كما في التواريخ(3).
يقول الشاعر:
إنّ من يدّعى الذي ليس فيه*** كذّبته شواهد الامتحان
وأما في صورة مطابقة ادعائه للواقع، فالادعاء صفة قبيحة، فإن تزكية المرء نفسه قبيح - كما فيالحديث(4) - اللهم إلاّ إذا كانت هناك جهة أهم.
فلا يقال: لماذا نرى الأنبياء(علیهم السلام) يمدحون أنفسهم كما في القرآن
ص: 88
حكاية عن قول النبي(صلی الله علیه و آله): {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}(1).
إذ من الواضح أنه(صلی الله علیه و آله) إذا لم يعرّف نفسه لم يلتفت الناس حوله، مما يفوّت الناس منفعة الدّين والدنيا، فهو من باب الأهم والمهم، فإن العقلاء يقدّمون الأهم على المهم، وعلى ذلك قاعدة شرعية كما ذكرناه في كتاب (القواعد الفقهية).
وكما في بعض خطب أمير المؤمنين(علیه السلام)(2).
والإمام الحسن(علیه السلام)(3).
والإمام الحسين(علیه السلام)(4).
وكذلك الإمام زين العابدين(علیه السلام) في الكوفة والشام(5).فإنها من باب الأهم والمهم، وإحقاق الحق، وفضح الظالم، وهداية الناس وإرشادهم إلى الطريق الصحيح(6).
ص: 89
فالقاعدة العامة تقول بأن التعقل يقتضي أن يكون الإنسان ساكتاً عن فضائل نفسه - إذا كان له فضل - وإذا اضطر إلى التكلم فاللازم أن يكون قوله وادعاؤه أقل من فعله، لا مساوياً، فكيف بالأكثر، فإذا كان مساوياً كان من فلسفة التأخر، أما الأكثر فهو كذب ومهانة وفضيحة.
25- ومن فلسفة التأخر: عدم الاستقامة، فإن الناس إنما يصادقون ويلتفّون حول المستقيم، أما من كان كل يوم بشكل فالناس يتنفّرون منه أيما تنفر، مثلاً: هذااليوم يصادق وغداً يفارق، وهكذا، أو هذا اليوم يعمل وغداً يعمل ضده أو يتركه، ومثل هذا الإنسان يعيش في وحشة في ذاته، وتنفر من المجتمع، وخروج من عمله، ولذا مدح القرآن والسنة المطهرة والعقلاء المستقيم دون غيره، قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ}(1).
ومن المعلوم أنّ المراد: الاستقامة في الأمر الصحيح، أما إذا ظهر للإنسان عدم صحة عمله فمن فلسفة التأخر أن يبقى على الخطأ، سواء في الصداقات، أم في سائر شؤون الحياة.
أما قوله سبحانه: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}(2)، فلعلّ المراد منه نفي تصور الإنسان أنّ الحال يبقى على كيفية خاصة، بل الله سبحانه يعمل دائماً حسب المصالح، فقد يكون في يومٍ الصلاح في نزول المطر، دون
ص: 90
يوم آخر، وهكذا وهلم جرّاً، وهذا من فلسفة البداء والدعاء والرجاء، والخوف من تغيّر الحالالحسن إلى السيئ، وسوء المنقلب، وما إلى ذلك، فإنه تعالى إذا لم يكن كل يوم في شأن، انسد باب كل ذلك، مما فيه من المفاسد ما لا يحصى، ولذا قالوا: (بقاء الحال من المحال).
لا يقال: فأين القواعد الكليّة في الكون؟
لأنه يقال: من القواعد الكليّة عدم بقاء الحال أيضاً لكنه ليس مطلقاً، كما أن الإيجاب أيضاً ليس مطلقاً، بل لكل منهما مجاله، وهذا بحث فلسفي ليس من مقصد الكتاب تفصيله.
وربما تكون الآية إشارة إلى قدرته تعالى المطلقة.
وعلى أي حال من المهم جداً أن يتدرب الإنسان على الاستقامة.
إن قسماً من الناس يبررون عدم استقامتهم، بأنهم سريعو التأثر، وهذا مَثَل تبرير كل باطل، بما لا يكون مبرَّراً عند الشرع والعقل، فإنه يقال لهم: إن سرعة التأثر من الصفات الذميمة، ومن الضروري تغيير هذه الصفة، وإلاّ أصابه التأخر.
26- ومن فلسفة التأخر: أن يكون الإنسان صريحاً أو غامضاً بالشكل المطلق، فإن كليهما يوجب تأخر الإنسان، إن الصراحة لها مكان، والغموض له مكان آخر، فقول بعض الناس: إني صريح أو غامض، افتخار بالرذيلة لا الفضيلة.
إن الصحيح ما أشير إليه في الحديث من قولهم (عليهم الصلاة
ص: 91
والسلام): «مستسر السرّ وظاهر العلانية»(1)،
كما هو كذلك في التكوين، فالشجرة لها ظاهر اللحا(2)،
وباطن اللحا، وظاهر اللّب وباطن اللّب.
فاللازم أن يكون بعض أمور الإنسان ظاهراً للعيان، وبعضُ أموره باطناً، والبعضُ مختلفاً، فظاهره أكثر، أو باطنه، وبعض أموره في بطن الباطن.
إنّ الأحزاب الصحيحة يعملون كذلك، لهم ظاهر مقال لكل الناس، وباطن له ظهور لبعض أخر، وسرّ للخواص الخواص، وظاهر له بطن.
وعلى أي حال، إن الصراحةالمطلقة كالغموض المطلق، خلاف العقل وسيرة العقلاء.
وقد قال الإمام السجاد(علیه السلام) في الشعر المنسوب إليه(3):
إنيّ لأكتم من علمي جواهره *** كي لا يرى العلم ذو جهل فيفتتنا
وقبل ذلك قال سبحانه في ذمّ بعض الناس: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أذَاعُوا بِهِ}(4).
ص: 92
27- ومن فلسفة التأخر: عدم المبالاة بتجمع المكروه وحصول السلبيات، بل اللازم أن يتعقل الإنسان في عدم حصول المكروه، فإن حصل دفعه فوراً، وإلاّ فالقطرات تكوّن السيول.
قال الشاعر:
ومعظم النار من مستصغر الشرر(1).
وقال الإمام الصادق(علیه السلام): «أربعة أشياء القليل منها كثير: الناروالعداوة والفقر والمرض»(2).
وذلك لأنها تكبر حتى تجرف وتودي.
وكذلك حال التخلف، فتخلّف وتخلّف وتخلّف، في أي بُعدٍ من أبعاد الإنسان، يجعل الإنسان متخلفاً، كما أن عكسه وهو النجاح والتقدم أيضاً كذلك، تتجمع ذرّات وذرات، حتى يحصل التفوّق المطلق والنجاح الرائع.
28- من فلسفة التأخّر: الاشتغال بالتوافه، فإن ضيق وقت الإنسان لايسع للاشتغال بأمرين: التوافه والسير إلى الأهداف الرفيعة، ولذا ورد: «نظره عبرة وسكوته فكرة»(3). إن الحياة كالحَبّ والنوى، لا
ص: 93
بالنسبة إلى الجنة ومرضاة الله سبحانه فحسب، بل حتى بالنسبة إلى نفس الحياة الدنيوية المادية، فمن يزرع خيراً أو شراً، أو تافهاً، يرى الثمر قريباً أو بعيداً.
فبعض الأفكار والأقوال والأعمال، مثلها مثل بذر الخيار والباذنجان، يعطي الثمر بعد ثلاثةأشهر، وبعضها مثلها مثل بذر البرتقال والكمثرى يعطي الثمر بعد سنوات، ولذا ورد في الشرع تجسّم الأعمال، وفي الآية الكريمة: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(1) فنفس عمل الإنسان - بما يشمل فكره وسماعه ولمسه ورؤيته وشمّه، فإنها من العمل أيضاً - يحُوَّل إلى أجسام مناسبة يتلقاها الإنسان في الحياة أو بعد الموت.
وعلى أيّ، فاللازم أن يضع الإنسان جدولاً زمنياً لإلغاء التوافه، وتبديل وقتها إلى أوقات الأعمال الموصلة للأهداف، وكلما تمكن أن يعمل الأفضل فهو أفضل، قال سبحانه: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا}(2)، وقال تعالى: {اتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}(3).
29- ومن فلسفة التأخر: رؤية النفس أفضل من الغير، أو أفضل من واقعها.
بل من التأخر أيضاً عدم معرفة نفسه ورؤيتها دون واقعها.
ص: 94
فإن الأول كبر وغرور، والثاني ذلّ ومهانة، ولذا ورد في الحديث:
«رحم الله امرءاً عرف قدره ولم يتعدّ طوره»(1) والأول «عرف قدره» إيجابي، والثاني «لم يتعدّ» سلبي، فإذا كان له دينار، عليه أن يعرف مقدار ماله، لا أقل ولا أكثر، حتى يبقى ويتصرف إلى حدّ الدينار، لا معطلاً قوّته الاقتصادية ولا أخذاً أكثر من طاقته فيبتلى بمغبته.
قال سبحانه: {وَلاتَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}(2).
وقال عزّ وجل: {الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ}(3).
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}(4). والوسط بين الإفراط والتفريط.
30- ومن فلسفة التأخر: عدم الهدف الرفيع المطلق، أو الأرفع من حاله الذي هو فيه، أو ينوي أن يأتي به.إن بعض الناس ليس له هدف، وبعضهم له هدف وضيع، وبعضهم له هدف رفيع لكنه قادر على الأرفع، فهذا كله من سمات التأخر.
فاللازم أن يهدف الإنسان أرفع الأهداف، ويهيئ أسبابه ويسير
ص: 95
إليه، وبذلك يكون إنساناً تقدمياً.
وقد ورد في الحديث: «من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه شرّهما فهو ملعون»(1)
أي مطرود عن الخير، ومحروم عن الدرجة الرفيعة.
وبذلك يظهر أن من تمكن من الأرفع ولم يفعل فهو شبه مجنون، فكما أن المجنون هو من لا يدرك مصالحه، كذلك هذا الإنسان، إن لم يكن أسوأ منه بحيث يدرك ولا يعمل.
31- ومن فلسفة التأخر: عدم فهم المجتمع، فإن الاجتماع كالنهر الجاري، إن فهمه الإنسان تمكن من السير السريع في وسطه، كمن يسبح في النهر إلى شاطئ السلامة، ومن لم يفهم غرق فيه بما يوصله إلى قاع الانغمار واللاجدوائيّة.
وفهم الاجتماع عبارة عن أن يفهمكيف يعامل، أخذاً وعطاءً، واقتراباً وابتعاداً، واحتراماً بقدر أو بغير قدر، كل ذلك من جهة الزمان والمكان والكم والكيف والجهة، وذلك بحاجة إلى علم النفس وعلم الاجتماع، والمزاولة والاستيعاب لتجارب السابقين، وما إلى ذلك.
32- ومن فلسفة التأخر: أن يُفزّ بالاستفزاز، فلو استفزوه ففزّ لم يتمكن من مواصلة الطريق بسلام، ولا يمكنه الوصول إلى الهدف من
ص: 96
أقصر طرقه.
فإن أقصر الطرق يكون بالصبر والحلم والأناة وتجرّع الغصص وانتهاز الفرص والعفو والصفح وانتظار الفرج والتفكر الدائم وتلمّس الطريق، وأشياء وأشياء، كلها من مقومات ذلك.
33- ومن فلسفة التأخر: عدم مطالعة المطبوعات وعدم مجالسة المجتمع، ومثل هذا الإنسان لا يتمكن أن يعيش بسلام.
فليتصور الشاب أو الشابة عند إرادة الزواج، إذا كانا ممن طالعا الكتب وعلما أن الزوج ذا الأخلاق الرفيعة والدّين هو الذييطمئن إليه، وكذلك في الزوجة، وأقدما على ذلك الزواج، أي ربح يربحانه طول حياتهما، وكذلك إذا كانا معاشرين للاجتماع غير منزويين، وعلما بذلك من خلال القصص والتجارب.
أما بدونهما فإذا أخذ الرجل زوجة غير متدينة فمن يؤمنه أن لا تبيع نفسها لمال وجمال خُفية، وإذا قبلت بزوج خمّار أو قمّار غير خليق فمن يؤمنها أن لا يأتي بزملائه في الفساد ويبيح لهم زوجته، أو يضربها، أو يقطّب في وجهها دائماً بما ينجر إلى الفراق والطلاق، وقد قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): «إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه»(1).
وهكذا بالنسبة إلى اختيار صاحب المعمل العاملَ، ومالك الزرع الفلاحَ، والأستاذ التلميذَ، وبالعكس، وهكذا بالنسبة إلى الأخطار
ص: 97
المرضيّة والعرضية، إن الذي يطالع الكتب ويباشر الاجتماع، يفهم موازين الحياة السعيدة، فلا يراجع في مرضه من لا خبرة له، وإلاّ ربما زاده مرضاً، أوأهلكه، وكذلك من يريد أن يزود داره بمشروع الغاز أو الكهرباء، إذا جاء بمن لا خبرة له، فربما أقدم على حرق داره ومن فيها.
إن فهم الحياة يحصل من الكتاب والاجتماع، أي من مطالعة الكتب، والعيش في المجتمع والأخذ من تجارب الآخرين.
أما احتياج الفقيه والخطيب والمؤلف والشاعر، والطبيب والمهندس والحاكم والمحامي، وأستاذ الجامعة و... إلى مزيد المطالعة والمعاشرة، فلايحتاج إلى البيان، وقد أشار إلى ذلك الفقهاء في كتب القضاء(1).
ثم إن الشعوب المتخلفة هي التي تُبتلى بالدكتاتوريين، مما يهدّم دينهم ودنياهم، وكذلك بالاستعمار والاستثمار، كما نجد ذلك في العالم الثالث بكثرة، ومن قصص ذلك، ما جرى على ثورة العشرين، فإنه قبل سبعين حيث تعشعش التخلف في الناس بسبب العثمانيين الذين حكموا البلاد أكثر من أربعة قرون، ثم جاء الغرب واستعمر العراق، فقام العلماء والعشائر بقيادةالإمام المجاهد الشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي(رحمة الله) بإخراج الغرب، وشكّل الإمام(رحمة الله) أول حكومة إسلامية في العراق، ثم جمع رؤساء العشائر المجاهدين الذين بذلوا مائتي ألف شهيد في مقابل ثمانين ألف من قتلى المستعمرين ومن والاهم.
وقال لهم: انتخبوا أحدكم ملكاً!!
ص: 98
فقالوا: إنا لا نستعد أن يحكم بعضنا بعضاً!
قال الشيخ(رحمة الله): فاجعلوها حكومة دورية، لرئيس ثم رئيس وهكذا.
قالوا: رجع المحذور؟
قال: فاجعلوا حكومة شورائية من جميع الرؤساء بأغلبية الآراء؟
قالوا: يتقدم رأي فئة على الآخرين.
قال: فاقرعوا.
قالوا: أيّ فرق بين أن يتقدم أحدنا على الآخرين بالقرعة أو الشورى.
قال: فانتخبوا (فرمان فرما)(1) وكان وجهاً معروفاً مقبولاً، ديانةًومعرفة وتجربة وعائلة، وهو محسن ثري يليق بالحكم.
قالوا: ليس عراقياً من عنصرنا.
قال الشيخ(رحمة الله): فافعلوا ما شئتم فإنه «لا رأي لمن لا يطاع»(2)
كما قاله أمير المؤمنين(علیه السلام).
قالوا: نختار فيصلاً من الحجاز، واختاروه ولم يكن عراقياً ولا على مذهبهم.
وأول ما فعله فيصل(3)
أن بعّد علماء الشيعة كالسيد الأصفهاني(رحمة الله) والميرزا النائيني(رحمة الله) والشيخ الخالصي(رحمة الله) وأمثالهم من مراجع التقليد،
ص: 99
وإلى اليوم يرتطم الشعب العراقي من السيئ إلى الأسوأ.
ألم يكن ذلك نتيجة التخلف العلمي وقلة الوعي الذي أصاب البلاد من تركة آل عثمان؟
ولو كانوا أهل مطالعة ودراسة وإطلاع على المجتمعات المتفوقة، هل كان الأمر كما كان؟!
34- ومن فلسفة التأخر: وضع النفس فوق موضعها، أو دونه ممايوجب الإذلال.
إذ ليس رؤية الشيء على غير حقيقته - أي شيء كان - مجرد الرؤية، بل تتبع أفكاراً وأفعالاً وأعمالاً تضر وتمنع من التقدم، مثلاً من يكون كبيراً ويرى نفسه صغيراً يعمل أعمال الصغار، وبالعكس، وكلاهما ضاران بالإنسان أولاً وبالذات، وبغيره ثانياً وبالعرض، إن من يرى نفسه عالماً أو طبيباً أو مهندساً وليس به ذلك، يفتي في المسائل على خلاف الواقع مما يوجب إضلال الناس، أو يعطي دواء يوجب العطب والهلاك، أو يبني ما ينهدم على الناس فيقتلهم أو يفسد أعضاءهم أو قواهم إلى غير ذلك.
ولذا فاللازم أن يزن الإنسان نفسه دائماً، ويرى أنه في أي زمان ومكان ومجتمع أو ما أشبه، ومن هذا الباب ما قاله علماء النفس، من أن اللباس، كلباس التاجر والطالب والجندي، ليس مجرد زيّ وخياطة خاصة، بل إن معناه سلسلة من الأعمال والأفكار، فطالب العلم له آداب وأخلاق واجتماعيات خاصة إذا لبس ذلك الزي الخاص، وانخرط
ص: 100
في الحوزة، بينما الجندي ليس له ذلك، وإنما له سلسلة أخرى، وهكذا، ولعلّ ذلك منأسرار منع العلماء من لباس الشهرة.
35- ومن فلسفة التأخر: التعامل مع الحياة - بمختلف أنواعها - على خلاف واقعها، فإن لكل جزء من جزئي الحياة سلسلة أسباب ومسببات ولوازم وتعارفات، فإذا عمل الإنسان بها كما هي حقيقتها، أمن الغلط والاضطراب، وقد سمعت من بعض الأعلام، أنّ في الدعاء: «اللهم أرني الأشياء كما هي»(1).
وإلاّ أفسد، ولو بقدر من يزعم أن هذا دواء أو صالح أو مفيد وليس به، أو من زعم عكسه، فلم تكن نتيجة استعماله أو ترك استعماله إلاّ خبالاً.
والآن صرت إلى أميّة*** والأمور لها مصائر
إلى غير ذلك.
ومن الواضح أن أمثال هذه التملّقات تهين النفس، وتغري الطرف، وأحياناً تفعل بالدماء والأعراض والأموال الشيء الشائن، ولعلّه يكون من صغريات قول الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله):
«احثوا في وجوه المادحين التراب»(1).
وقد كره(صلی الله علیه و آله) مدح الطرف أمامه(2).
وقال أمير المؤمنين(علیه السلام) لمنافق مدحه: «أنا دون ما تقول، وفوق مافي نفسك»(3).
37- ومن فلسفة التأخر: عدم إعطاء الناس قدر حقهم، في أي بعد من أبعاد الحياة، فإنه ظلم وتعدّ وبغي، وقد قال سبحانه: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}(4).
بالإضافة إلى أن من يفعل ذلك يهين نفسه ويسقطها عن نظر المجتمع، والاستبداد مذموم لألف انحراف وانحراف، ومن جملتها هذه الجهة حيث إن ذلك إعطاء للنفس أكثر من حقها، فالحاكم المستبد
ص: 102
يخصص الرأي والحكم والإعلام والمال والسلطة ونحوها لنفسه، بينما أن أكثرها حق الغير الذي يستبد الحاكم به من دون حق، وقد تقدّم في فصل سابق أن الاستبداد من فلسفة التأخر.
فإن كلاً من التصدي لما ليس له، أو عدم التصدي لما له، انحراف عن جادّة الصواب، والوسط هي الجادّة ومصداق من مصاديق {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}(1) فعلى الإنسان الذييعقل، أن يزن نفسه ويزن الأشياء والأشخاص، ثم يعطي كل شيء حقه مما لا يزيد ولا ينقص.
38- ومن فلسفة التأخر: العيش على أعراض الناس والنيل من كرامتهم، كما يفعله بعض الشعراء والأدباء، فيسبّ هذا، ويهين ذاك، ويهتك الآخرين، في شعره أو نثره، في ندوته أو خطابه، إنّ هذا الإنسان إنما أظهر سوأته وإن زعم أنه يظهر سوآت الناس.
وفي الحديث: «من هتك حجاب غيره انكشف عورات بيته»(2).
وقال الشاعر:
لسانك لا تبدي به سوأة امرئٍ*** فكلك سوءات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معائباً*** من الناس قُل يا عين للناس أعين
هذا إذا كان يصدق في ما يقول، وإلاّ فالأمر أفضع ولوكه(3)
ص: 103
للأعراض أبشع.بينما كان من الممكن أن يؤدي الأديب والشاعر رسالته الحقيقية، بتقبيح المفاسد، وإظهار الخلل في النظام والأمة، وذكر كيفية العلاج، وحلّ المشاكل، وبذلك ترفيع نفسه وتخليد شعره أو نثره، وكان له من الأجر والثواب ما للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والداعين إلى الخير.
39- ومن فلسفة التأخر: التشاؤم والتطيّر بالحياة والأحياء، بينما ليس الأمر إلاّ العكس، فالحياة جميلة، والأحياء حركة وبهاء، وحتى المشكلات والمآسي نوع من الجمال وتحفيز للتقدم.
أرأيت النقش الجميل؟ فإنّ النقاط السوداء فيه جميلة أيضاً وتزيده جمالاً.
ولذا اشتهر عند الفلاسفة، إنّ الله سبحانه لا يخلق إلاّ ما كان خيراً محضاً، أو كان خيره أكثر من شرّه، أما إذا كان شرّه أكثر فلا يخلقه سبحانه.
وقال بعض الحكماء: اصنع من الليمونة الحامضة مُربىً حلواً، واجعل من الملح طعاماً مطبوعاً.
40- ومن فلسفة التأخر: سوء الظنبالله وبالناس وبالنفس، ولذا قال الشاعر:
ولا تسيء ظناً بسر أو علن*** إنّ حسن الظن من حسن الفطن
إن الإنسان قد يسيء الظن بالله، ويزعم أنّه تعالى لا يفعل به أو
ص: 104
بالناس، إلاّ الشرور والآفات، والعلل والأسقام.
وقد يسيء الظن بالناس بأنهم حيّالون، مكّارون، مخادعون، سرقة، مفسدون.
وربما أساء الظن بنفسه، وتصور أنه لا يمكنه أن يعيش، ولا أن يتقدم في الحياة.
وكل الأمور الثلاثة بالإضافة إلى أنها كذب وخلاف الواقع، توجب بؤس الإنسان النفسية، وتوقفه عن البناء والعمل، مما ترجع بالنتيجة إلى هدم نفسه وتأخيره عن الحياة والإحياء، وبالعكس من كل ذلك حسن الظن.
إنّا لا نقول بحسن الظن إطلاقاً، بل إنه: القاعدة ويحتاج الاستثناء منها إلى الدليل، وإنما طرف كلامنا مع الذي يجعل سوء الظن قاعدة في حياته، وحسن الظن استثناءً، قال سبحانه: {اجْتَنِبُواكَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}(1).
ولا يخفى أن سوء الظن منشأ لمفاسد كثيرة ومشاكل خارجة عن العدّ، ولا يفعل ذلك عاقل.
41- ومن فلسفة التأخر: عدم المبالاة بالناس ورضاهم، والتمسك بقول الشاعر:
رضى الناس أمرٌ لا يُدرك*** ومن يطلبنه فذا يُهلك
ص: 105
نعم، إن إرضاء الناس بمعصية الله سبحانه يُهلك، لكنّ الكلام في غير المعصية، إن من يرضي الناس يلتف الناس حوله وحينئذ يمكنه هدايتهم، بخلاف من لا يبالي بهم، فكيف بمن يسخطهم؟ فإن من كال للناس سخطاً كالوا له كيلين.
البعض يعتادون على عدم المبالاة بالناس، ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً، بينما أنهم يخسرون الاجتماع، ولا يرون إلاّ المهانة والانحطاط، ويكونون في وحشة دائماً، وانقباض وبؤس مستمرين.
42- ومن فلسفة التأخر: زعم الإنسان الهادف أن يأتيه النصر في طبق من ذهب، أو أنه سيمشي نحو الهدف على أرض مفروشة بالورود.
فإنه في أول الطريق - حيث يرى خلاف ذلك - يقف معتذراً بأن الأمر غير ممكن، والإصلاح قد انقضى وقته فطلبه سفاهة وحصوله محال.
إنّ الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) والأنبياء(علیهم السلام) قبله، والأئمة الطاهرون(علیهم السلام) بعده(صلی الله علیه و آله) الذين ملئوا الدنيا نوراً وأصلحوا العالم - بقدر قابلية العالم - كانت حياتهم عناءً، وسيرهم مشقة، وطريقهم أشواكاً، ولم يصلوا إلى تلك الأهداف السامية إلاّ بالدماء والدموع، وفي المثل: إن الإصلاح يمشي كالسلحفاة على أرض من عوسج(1)،
سماؤها تمطر لهباً، وأرضها رمضاء.
ص: 106
وكما قال الشاعر:
يا ربّ يوم لي لم أظلّله *** أرمض من تحت وأضحي من علُه(1)
وحتى الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) - على أنه أول شخص في البشرية في كل نفسياته وصفاته - كادت نفسه الشريفة أن تذهب، ولذا قال سبحانه: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}(2).
وكان غاندي يقول: لولا الله لكنت معتوهاً منذ زمان.
43- ومن فلسفة التأخر: عدم استغلال الفرص، فإن الفرصة كثيرة الفوت قليلة العود، وفي كلمة أمير المؤمنين(علیه السلام): «انتهزوا الفرص فإنها تمرّ مرّ السحاب»(3).
والفرص هي: فرصة العمر، وفرصة الشباب، وفرص الصحة، وفرصة الأمن، وفرصة الثروة لمن كان ثرياً، وفرصة السلطة للطبقة الحاكمة.
وغالب الفرص تتهيّأ لغالب الناس، لكنهم لا ينتهزونها، لأنهم غير هادفين، أو لأنهم غير واعين، فيأتيهم يوم {يَقُولُ يَا لَيْتَنِياتَّخَذْتُ مَعَ
ص: 107
الرَّسُولِ سَبِيلاً}(1) ويقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} والجواب: {كَلَّا}(2).
44- ومن فلسفة التأخر: عدم الهمّة، فإن الهمّة اندفاع في النفس، يوجب التقدّم في أي بعد من الأبعاد، وبالهمّة يتقدّم الإنسان، وقد روي: (المرء يطير بهمته كما يطير الطائر بجناحيه)(3).
ومن المعلوم أنّ هذا الاندفاع إذا قورن بالحكمة والتضحية يوجب التقدم السريع، وكثيراً ما يصل الإنسان إلى هدفه المنشود، فالهمّة مفردة من أجزاء التقدم لا أنها كل شيء، كسائر الصفات في مختلف أبعاد الحياة، يقول الشاعر:
وبالهمّة العلياء يرقى إلى العُلى*** فمن كان أعلى همّة كان أظهرا(4)
والإنسان لو تصفّح حالات كبار العالم - غير المرتبطين بالسماء كالأنبياء والأوصياء(علیهم السلام) حيث إنهم(علیهم السلام) من عنصر آخر فلا يقاس بهم إلاّ بقدر الأسوة والقدوة - ، لرأى أن من ميّزاتهم البارزة: الهمّة العالية والعزم الشديد، ولذا قال سبحانه: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ
ص: 108
الرُّسُلِ}(1).
45- ومن فلسفة التأخر: كثرة الكلام (الهراء)، أمّا كثرة الكلام لاقتضاء المقام كما في موارد التدريس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على الخير، إلى ما شابه، فهو خارج موضوعاً، إذ هو ليس بالهراء.
إن الإنسان المكثار في الكلام مكروه عند الناس لا يؤبه به، وكثيراً ينزعج مخاطبه من كلامه.
وكما أن المكثار متلبس بفلسفة التأخر، كذلك الصموت الذي لا يتكلم في موضع الكلام، والمراد ب- «إذا كان الكلام من الفضة فالسكوتمن الذهب»(2)
ما إذا كان السكوت أفضل، وليس بمطلق، فإن كل واحد من الكلام والسكوت يتصف عقلاً باللازم، والجائز، والأفضل، والمفضول، وحيث غلبة المفضولية في الكلام، اشتهر هذا المثل.
46- ومن فلسفة التأخر: عدم مداراة الناس، إن الناس فيهم المتقدم والمتأخر، وحسن الخلق وسيئ الخلق، والصادق والكاذب، وسريع التأثر وبطيؤه، ومن يتوقع قدر حقه وزائداً عن حقه، إلى غير ذلك من الأقسام، والإنسان الذي يريد العمل لكي يصل إلى الهدف لابدّ له من
ص: 109
معاشرة الكل، والمعاشرة لا تكون إلاّ بالمداراة، والمداراة ألف شيء وشيء، بأن تداري من سبّك وأهانك وحرمك ولم يصلك، ومن قصر أو قصّر، ومن استعان بك من دون حق له، ومن يضيق عليك ذرعاً، ومن يسيء الخلق، ومن له مطالب تافهة، ومن... ومن... وإلاّ لم تقدر على الجمع، ولم تصل إلى الهدف، ويكون عدم وصولك لأنك لست بأهل، لا لأنالاجتماع ليس بأهل، يقول الشاعر:
ودارهم ما دمت في دارهم*** وأرضهم ما دمت في أرضهم
واحفظ لهم مالاً ونفساً وما*** يبغونه من مقتضى عرضهم
وقد ورد في الحديث عن النبي(صلی الله علیه و آله): «أمرني ربّي بمداراة الناس كما أمرني بتبليغ الرسالة»(1).
فالرسالة في كفّة، والمداراة في كفّة.
47- ومن فلسفة التأخر: عدم الإتقان، فإن الإتقان في الأمور بحاجة إلى صبر وأناة وتعب ونَصب، وغالباً يفرّ الناس من هذه الأمور، وإنما يكتفون بالمظهر معرضين عن المخبر، لكن هذا الإنسان - غير المتقن - يأخذ في تأخر نفسه إلى أن يسقط، من غير فرق بين الفرد والجماعة والأمة، وقد قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): «رحم الله امرئً عمل عملاً فأتقنه»(2).
ص: 110
ولهذه الجهة إيجاباً وسلباً، ترى أن جملة من البلدان الصناعية تقدّموا حيث اعتادوا الإتقان، ومن البلدان الإسلامية تأخّروا حيث تركوا الإتقان واكتفوا بالمظهر فقط، يقول الشاعر:
قد يدرك المتأني بعض حاجته*** وقد يكون مع المستعجل الزلل(1)
48- ومن فلسفة التأخر: الاستهانة بالقدرات، إن الناجحين هم أفراد من البشر اعتمدوا على أنفسهم ومشوا إلى الهدف بكل ثقة واطمئنان حتى وصلوا، قال أمير المؤمنين(علیه السلام):
أتزعم أنك جرم صغير*** وفيك انطوى العالم الأكبر(2)
إن الإنسان كأنه على بئر كبير من المعنويات في داخله، كما أنّ فوهة بئر النفط كذلك في الماديات، وليس عدم الاستهانة بمعنى الغرور والكبر، بل بمعنى الهمّة والعمل، بكل تواضعواستقامة.
ثم إن ما سبق من عمر الإنسان لا يدل على أنه لم يبق له من تلك المعنويات شيء، يقول الشاعر:
لاتقولن مضت أيامه *** إن من جدّ على الدرب وصل
49- ومن فلسفة التأخر: عدم الاستمرارية، بزعم أن الأمر لا ينفع، أو الكسل عن السير إلى الهدف، بينما ليس الكسل إلاّ حالة نفسية
ص: 111
مكذوبة يمكن دفعها بتربية النفس كسائر الصفات والملكات والأحوال.
أما قوله: إن الأمر لا ينفع، فمن أين ذلك؟ بل الحياة تعلّم الإنسان على الاستقامة والاستمرارية، فإن النباتات والحيوانات وكذلك الإنسان كلاً منها ينمو ويكبر ويزهر ويثمر بالاستمرار، فإذا سقيت الشجرة مرة واحدة لايكفي، بل عشرات المرات بل مئات المرّات لتثمر؟ فأحياناً يلزم أن تسقى شجرة الكمثرى - مثلاً - عشر سنوات حتى تعطي الثمر.
وهذا الأمر صادق حتى في الدعاء، والدعوة، فإنه ربّما يدعو الإنسان ربه سنة أو أكثر حتى يستجابدعاؤه، كالشجرة التي تسقى الماء سنة حتى تثمر.
وكذلك الدعوة ربما تحتاج إلى ألف سنة إلاّ خمسين عاماً حتى يستجيب الناس(1).
فعدم الاستقامة في أي بعد من أبعاد الحياة دليل خور النفس وضعف الفهم، ومن سلك هذا المسلك، دلّ سلوكه على احتوائه على فلسفة التأخر التي يجب أن يتخلص منها إلى أن يصل.
50- ومن فلسفة التخلّف: الإغراق والمبالغة في الكلام، زيادة أو نقيصة، ومنه جعل الإطار الهائل لشيء صغير، وبالعكس.
والأول: عبارة عن زيادة المبالغة كمن عنده مائة فيقول: عندي
ص: 112
ملايين.
والثاني: كأن يقول: عنده ألف.
وفي عكسه أن يقول لمن عنده ملايين أو ألف، له مائة.
والإطار الهائل كأن يقول: له العظمة الفائقة، وفي عكسه: لا شيءله من العظمة، إلى أمثال ذلك.
فإنهما وإن كانا جائزين - كما ذكر في البلاغة - إلاّ أنهما صحيحان في موارد خاصة حسب مقتضى المقام، لا الاعتياد بذلك، فإنه يوجب مهانة الإنسان، وعدم الاعتماد على كلامه.
وكما يأتي ذلك في الكلام، يأتي في الإشارة والكتابة، وعلى هذا فاللازم أن يتعوّد الإنسان على ذكر الحقائق.
51- ومن فلسفة التأخر: العجلة، فإنها وإن كانت مستحسنة في الأمور الخيريّة، والأمور الحيويّة الفوتية، إلاّ أنها في غيرهما تدل على مهانة النفس وضيق الأفق.
أما في الأمور الخيرية، فقد قال سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}(1) وقال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}(2). وكذلك في الأمور الفوتية لدلالة العقل.
أما في غير ذلك، فإن الأمر الذي يُستعجل فيه، فكثيراً ما لا يكون
ص: 113
كما ينبغي، ولذا قيل: (إذا استشرت فتأنّ في الجواب وكل واشربوصلّ)، فإنه بذلك يستصحف الرأي عادة، وينضج الفكر ويكون الجواب أقرب إلى الصواب، قال الشاعر:
قد يدرك المتأني بعض حاجته*** وقد يكون مع المستعجل الزلل(1)
والقصائد الحوليات مشهورة(2)،
وأخذها بالألباب حتى بعد طول الزمان شاهد على ذلك.
ولا يخفى أن التأني يلزم أن يكون بقدره لا أكثر من ذلك حتى لا يكون من التسويف الذي هو أيضاً من سمات المتخلفين.
52- ومن فلسفة التأخر: حالة النفاق.
وهو أن يكون الشخص ذا وجهين وذا لسانين وذا عملين، وليس منهأن يكون باطنه أحسن من ظاهره، بل هو نوع من التواضع وإبعاد الإدعاء وعدم تزكية النفس.
وهذه الحالة كما تكون في العقيدة - إلاّ في مورد التقيّة {إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}(3) المحمودة شرعاً وعقلاً وعقلائياً - تكون في مختلف أبعاد
ص: 114
المعاشرة.
ولا يزال المنافق يخفي ما ليس يبديه إلى أن يظهر سرّه، فيُكره عند الناس.
والإنسان إذا كان متساوي الظاهر والباطن، كان محبوباً، فإن الناس يكرهون النفاق، ويحبّون المتساوي، حاله حال سائر الصفات، مما تكون محبوبة أو مكروهة. قال سبحانه: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(1).
53- ومن فلسفة التأخر: عدم الالتزام بالآداب، في أي شأن من شؤون الحياة، كالزواج، والطلاق، والأكل، والشرب، والتخلي، والاستحمام، والمعاشرة، والسفر، والمجلس، والضحك، والبكاء،واللباس، والسير - قال(علیه السلام): «سرعة المشي تذهب ببهاء المؤمن»(2) - والمعاملة، والنظر، والاستماع، والكلام، وحتى في تنظيف الفمّ والأنف والبدن، وألف شيء وشيء، ويجمعها عدم كمال الموزونية.
فاللازم أن يحاول الإنسان قدر المستطاع الالتزام بهذه الأمور، ولا يمكن ذلك - غالباً - إلاّ بطول المطالعة وطول التفكر وطول المعاشرة الحسنة مع الناس، واتخاذ إنسان موزون أسوة، وتجنب أعمال وعادات غير الموزونين، وقد سُئل لقمان الحكيم: ممن تعلمت الأدب؟ فقال:
ص: 115
ممنّ لا أدب له إذ كلما فعل من غير الأدب ورأيته بشعاً في عيني تجنبته(1).
أقول: ولذا قالوا: (وبضدها تتبين الأشياء)(2) وفي المثل: (تُعرف الأشياء بأضدادها).
ص: 116
خاتمة(1)
يجب على المسلمين أن يعيدوا الكرّة لإخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، ولإعادة الحياة السعيدة لكل البشريّة، قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}(2).
فإن البشرية من حيث وقعت تحت الحضارة المادية دخلت في نفق مظلم {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}(3)، وقد اغترّ البشر بشيء من العلم والصنعة والجمال والنظام، لكنه وقع بذلك في مشكلات لا تعدّ ولا تحصى، وفي آلام وأمراض وأسقام وفقر وذُلّ لم تكن موجودة من قبل، والحاصل إنالحضارة الحديثة الخارجة عن دائرة الأنبياء(علیهم السلام) ووحي السماء، أخذت أكثر وأكثر مما أعطت، وانطبق عليها قول الله سبحانه: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً
ص: 117
ضَنْكًا}(1)، سواء كان عامداً حتى ينطبق عليه آخر الآية: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى}(2)، أم لا عن عمد حتى لا تكون له آخرة سيئة، بل يمتحن هناك.
كما دلّ عليه العقل والنقل، لكنه ترتب عليه في هذه الدنيا الآثار الوضعية، إن ّ من يشرب الخمر وهو لا يعلم أنه خمر، يصيبه السكر، ومن يستعمل موجبات الإيدز، وهو لا يعلم بذلك يصيبه الإيدز، كما أنّ العكس كذلك أيضاً، فمن يشرب الدواء وهو لا يعلم أنه دواء يُشفى من مرضه، ومن يحفر الأرض بقصدالزراعة فيظفر بكنز يُغنى، وإن لم يكن حال الحفر يعلم بذلك.
إنّ الدنيا دار أسباب ومسببات، والعلم والجهل لا يؤثران إلاّ في نطاق خاص كنطاق العقوبة وخبث السريرة ونحوهما، أما الشرور والخيرات الدنيوية فتترتبان على الأسباب، علم بهما الإنسان أو جهل، كان فعله أو تركه اختياراً أو اضطراراً، بملأ إرادته أو مكرَهاً.
إنّ الحياة أصبحت تحت ظلّ الحضارة المادية، خارجة عن دائرة
ص: 118
الأنبياء(علیهم السلام) وقوانين السماء، فابتليت بالمشكلات، في كل الأبعاد، فالنساء صار الكثير منهن عانسات، وبعضهن تورطن في البغاء وصرن بضاعة وصوراً دعائية، أو عاملة في أماكن الرجال وقد نجم عن ذلك الكثير من الأمراض، والقلق والوحشة، والذلّ والمعاناة، والفقر والمسكنة، وقد كثر الطلاق كثرة مدهشة، والشباب أصابهم كثير من هذه الأمراض، والعوائل أصبحت تعاني من سوء الأخلاق ومن الابتعاد وانفصال بعضها عنالبعض، وكثير من الناس أصبح لا شغل لهم ولا عمل ونجم عن ذلك الفقر والحرمان، والقلق والفساد، والسرقة والقتل، والحروب والثورات الاقتصادية.
قال أبو ذر(رحمة الله): عجبتُ! للفقراء كيف لا يخرجون بسيوفهم على الأغنياء. وفي الحديث: «الفقر سواد الوجه في الدارين»(1).
وقد حصل تنبؤ أبي ذر(رحمة الله) حيث إن الثورات قامت بسبب الفقر، منذ أن قُتل الخليفة الثالث إلى اليوم، حتى الشيوعية التي أحرقت العالم، مباشرة أو تسبباً.
وظهرت البطالة نتيجة لسياسة الحكومات والقوانين الموضوعة المنحرفة، فلا انطلاق ولا حريّات، فكل شيء ممنوع يُعاقب عليه الإنسان، إما بالسجن أو التعذيب، أو الغرامة أو الحرمان،
ص: 119
فالأرض ليست لله ولمن عمرّها!، والمباحات الأصلية لا يجوز الاستفادة منها!، وقد ألغوا بذلك قاعدة: «من سبق إلىما لا يسبقه إليه مسلم فهو أحق له»(1)
وقاعدة: (إن الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم)(2)
ونصبوا الحدود الجغرافية والمصطنعة بين المسلمين فهذه دولة وتلك دولة، وفرّقوا بين الأخوة، فمنعوا المسلم من السفر من بلد لآخر لتحصيله لقمة العيش أو ليسكن هناك حيث لا يجد في أرضه متسعاً.
كما زاد فقر الناس ومرضهم وجهلهم، والأخيران من نتائج الأول غالباً، وهما تابعان للاستبداد والقوانين التابعة له، سواء كانت مغلفّة بنوع من الديمقراطية أم لا، فإن الأموال تصرف في السرقات القانونية والاستبدادية، وفي التجميل الزائد، وفي كثرتهم المطردّة، وفي شراء الأسلحة، وفي الحربيّات، فلا عمل ولا مال، ومن المعلوم أنه إذا دخل الفقر إلى وطن قال للمرض والجهل والفوضى والفساد تعالوا معي - كماألمعنا إلى أسبابه من قبل - هذا بالإضافة إلى أن الحضارة المادية متمردة على تعاليم السماء، فهي قد أباحت المحرمات في المطاعم والمشارب والمناكح وغيرها، مما سببت مختلف الأمراض والكوارث، إنه ثبت علمياً عند علماء
ص: 120
الغرب مضار المحرمات، كالميتة والدّم ولحم الخنزير والغناء وسائر المحرمات، وكل {مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}(1)، فالإسلام يعلمنا الأدب الرفيع لتركيز الذهن على ذكره سبحانه الموجب لصلاح الدّين والدنيا، مع احتمال أن يكون لذكره تعالى فائدة مادية في الحيوان المذكّى، بالإضافة للفائدة المعنوية - وإن لم يكتشف لنا ذلك - وما أكثر ما اكتشف في ما بعد.
لقد أسّسوا حضارة مادية جميلة في ظاهرها، فما أجملها بالمعامل والمصانع ووسائل النقل ووسائل الاتصال، وكانبالإمكان أن يسهل ذلك في أن تخلو الحياة من الموبقات والمفاسد، كالفقر والأمراض والهرج والمرج، والاستعمار والسجن والتعذيب، والعزوبة والعنس، والكبت والإرهاب، وسوء الأخلاق وفساد الضمير وعدم الإيمان، والاستهتار والإباحية والمفاسد الأخرى التي يزعم البعض أنها من لوازم الحضارة الحديثة، لكنها من نتائجها، وذلك نتيجة لعدم الإيمان بالله واليوم الآخر، وعدم الإيمان بشرائع الإسلام كما أُنزلت.
لقد قلت لعبد الرحمن البزاز في زيارته إلى كربلاء المقدسة أيام حكم عبد السلام(2)، وكان رئيساً للوزراء، وله قدر من الثقافة:
ص: 121
كيف تدّعون الاستقلال وأنتم تعملون بقانون العقوبات الذي هو من صنع الاستعمار؟! وكيف تدّعون الإسلام - وكان عبد الرحمن يدّعي الإسلام - وقد أجهضتم كل الحريّات عرض الحائطونصبتم الحدود الجغرافية المصطنعة بين العراق وجيرانه، وقوّيتم الاختلافات بين أبناء الإسلام وميّزتم بين العراقي وسائر الجنسيات في القانون، خلافاً للقرآن الكريم الداعي إلى (الأمة الواحدة)(1)
و(الأخوة الإسلامية)(2)؟ وكيف تأخذون من الناس الضرائب المرهقة، ولا وجود للضرائب في الإسلام، إلاّ ما قرره الكتاب والسنّة المذكورة في كتب الفقه من الفريقين الشيعة والسنة؟ وكيف تركتم الشورى في نظام الحكم، مع أنه منصوص في القرآن الحكيم والسنّة المطهرة، وبذلك خسرتم سمعتكم كإسلاميين وخسرتم سمعتكم كسياسيين - حيث يقوم العالم المتحضر على الديمقراطية الشبيهة بالشورى - ولذا انفضمن حولكم المسلمون والمثقفون حتى من غير المسلمين؟
وحيث لم يحر جواباً، اكتفى بابتسامة، وقد أصابته سيئات ما كسب، فأخذه البعثيون، بعد الانقلاب على (عارف)، وعذبوه في سجن قصر النهاية، وأخيراً قتلوه.
ص: 122
وعلى أي حال فاللازم الاهتمام لإرجاع الإسلام إلى بلاد المسلمين وتعميم الإسلام في كل العالم ليعيش الناس في حريّة ورفاه وهناء، والله الموفق المستعان.
قم المقدسة
1 / شعبان / 1415ه .ق
محمد الشيرازي
ص: 123
ص: 124
1. القرآن الحكيم.
2. الكافي، الشيخ الكليني، ت329ه ق، دار الكتب الإسلامية، طهران 1407ه ق.
3. الأمالي، الشيخ الصدوق، ت381ه ق، كتابجي، طهران، 1376ه ش.
4. عوالي اللئالي العزيزية، الشيخ ابن أبي الجمهور الأحسائي، ت880ه ق، دار سيد الشهداء(علیه السلام)، قم المقدسة، 1405ه ق.
5. نهج البلاغة، جَمَعَه الشريف الرضي، ت406ه ق، تحقيق صبحي الصالح، قم المقدسة، 1414ه ق.
6. بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ت1110ه ق، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1403ه ق.
7. المحاسن، الشيخ البرقي، ت274ه ق، دار الكتب الإسلامية، قم المقدسة، 1371ه ق.
8.الإرشاد، الشيخ المفيد، ت413ه ق، مؤتمر ألفية الشيخ المفيد،1. قم المقدسة، 1413ه ق.
9. مناقب آل أبي طالب(علیهم السلام)، ابن شهر آشوب المازندراني، ت588ه
ص: 125
ق، انتشارات علامة، قم المقدسة، 1379ه ق.
10. المعتبر، المحقق الحلّي، ت676ه ق، مؤسسة سيد الشهداء(علیه السلام)، قم المقدسة.
11. كنز الفوائد، الشيخ الكراجكي، ت449ه ق، دار الذخائر، قم المقدسة، 1410ه ق.
12. مستدرك الوسائل، الشيخ النوري، ت1320ه ق، مؤسسه آل البيت(علیهم السلام)، قم المقدسة، 1408ه ق.
13. الأمالي، الشيخ الطوسي، ت460ه ق، دار الثقافة، قم المقدسة، 1414ه ق.
14. تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورّام)، ورّام بن أبي فراس، ت605ه ق، مكتبة الفقيه، قم المقدسة، 1410ه ق.
15. وسائل الشيعة، الشيخ الحرّ العالمي، ت1104ه ق، مؤسسة آل البيت(علیهم السلام)، قم المقدسة، 1409ه ق.
16.شرح إحقاق الحق، السيد المرعشي النجفي، ت1411ه ق، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم المقدسة.
17. جامع الأخبار، الشعيري، القرن 6ه ق، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف.
18. من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ت381ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1413ه ق.
19. بصائر الدرجات، الشيخ محمد بن الحسن الصفّار القمي،
ص: 126
ت290ه ق، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم المقدسة، 1404ه ق.
20. الخصال، الشيخ الصدوق، ت381ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1362ه ش.
21. كامل الزيارات، الشيخ ابن قولويه، ت367ه ق، دار المرتضوية، النجف الأشرف، 1356ه ش.
22. غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد بن محمد الآمدي، ت550ه ق، دار الكتاب الإسلامي، قم المقدسة، 1410ه ق.
23. مصباح المتهجد، الشيخ الطوسي، ت460ه ق، مؤسسة فقه الشيعة، بيروت، 1411ه ق.
24.كتاب سليم بن قيس الهلالي،1. سليم بن قيس الهلالي، ت76ه ق، نشر الهادي، قم المقدسة، 1405ه ق.
25. دلائل الصدق، الشيخ محمد حسن المظفر، ت1375ه ق، مؤسسة آل البيت(علیهم السلام)، قم المقدسة، 1422ه ق.
26. تحرير الأحكام، العلامة الحلي، ت726ه ق، مؤسسة الإمام الصادق(علیه السلام)، قم المقدسة، 1420ه ق.
27. روضة الواعظين، ابن فتّال النيسابوري، ت508ه ق، انتشارات الرضي، قم المقدسة، 1375ه ش.
28. العدد القويّة، رضي الدين علي بن يوسف الحلي، ت703ه ق، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم المقدسة، 1408ه ق.
ص: 127
29. رسائل الشريف المرتضى، الشريف المرتضى، ت436ه ق، دار القرآن الكريم، قم المقدسة، 1405ه ق.
30. تذكرة الفقهاء، العلامة الحلي، ت726ه ق، المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية.
31. عيون أخبار الرضا(علیه السلام)، الشيخ الصدوق، ت381ه ق، نشر جهان، طهران، 1378ه ق.
32. كشف الغمة، الشيخ الإربلي، ت692ه ق، بني هاشمي، تبريز، 1381ه ق.
33. تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ت460ه ق، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1407ه ق.
34. شرح ابن عقيل، ابن عقيل الهمداني، ت769ه ق، المكتبة التجارية الكبرى بمصر، 1384ه ق.
35. مغني اللبيب، ابن هشام الأنصاري، ت761ه ق، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم المقدسة، 1404ه ق.
36. مصباح الفقيه، آقا رضا الهمداني، ت1322ه ق، مكتبة النجاح، طهران.
37. تأويل الآيات، السيد علي الأسترآبادي، ت940ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1409ه ق.
38. جامع السعادات، الشيخ محمد مهدي النراقي، ت1209ه ق، دار النعمان، النجف الأشرف.
ص: 128
39.السيرة النبوية، ابن هشام الحميري، ت218ه ق، مكتبة محمد علي صبيح وأولاده، القاهرة،1. 1383ه ق.
40. الاحتجاج، الشيخ أحمد بن علي الطبرسي، ت588ه ق، نشر المرتضى، مشهد المقدسة، 1403ه ق.
41. تفسير العياشي، محمد بن مسعود العياشي، ت320ه ق، المطبعة العلمية، طهران، 1380ه ق.
42. مشارق أنوار اليقين، رجب حافظ البرسي، ت813ه ق، الأعلمي، بيروت، 1422ه ق.
43. شرائع الإسلام، المحقق الحلي، ت676ه ق، انتشارات استقلال، طهران، 1409ه ق.
44. مشكاة الأنوار، الشيخ علي بن الحسن الطبرسي، ت600ه ق، المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف، 1385ه ق.
45. الوافي، الشيخ الفيض الكاشاني، ت1091ه ق، مكتبة الإمام أمير المؤمنين علي(علیه السلام)، أصفهان، 1406ه ق.
46. شرح كلمات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السلام)، عبد الوهاب، ت القرن 6ه ق، جامعة المدرسين، قم المقدسة، 1390ه ق.
47. عدة الداعي، أحمد بن فهد الحلي، ت841ه ق، دار الكتاب الإسلامي، 1407ه ق.
48. ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، الشيخ الصدوق، ت381ه ق، دار الشريف الرضي، قم المقدسة، 1406ه ق.
ص: 129
49. البرهان في تفسير القرآن، السيد هاشم البحراني، ت1107ه ق، مؤسسة البعثة، قم المقدسة، 1374ه ش.
50. عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ت القرن 6ه ق، دار الحديث، قم المقدسة، 1367ه ش.
51. سبل الهدى والرشاد، محمد بن يوسف الصالحي الشامي، ت942ه ق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1414ه ق.
52. الصراط المستقيم، علي بن محمد العاملي النباطي، ت877ه ق، المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف، 1384ه ق.
53. إرشاد القلوب، حسن بن محمد الديلمي، ت841ه ق، الشريف الرضي، قم المقدسة، 1412ه ق.
ص: 130
المقدمة .... 5
الفصل الأول: كيفية الحركة
كلكم راع وكلكم مسؤول ... 11
المدارس .... 11
المساجد .... 12
صلوات الجماعة .... 12
المكتبات العامة ..... 13
الحسينيات ..... 14
المطابع .... 15
الإطعام ..... 16
خدمات عامة .... 17
تشغيل العاطلين ... 17
تكميل البيوت ..... 18
بيت المال ..... 19
الجيش ... 19
ص: 131
أصحاب الاحتياجات الخاصة .... 21
زراعة الأراضي ..... 22
التحرير ..... 23
التحرير من قيود الدولة .... 24
التحرير من الجنسية والهوية ..... 27
حقوق الإنسان ... 29
تجميل المدن ... 30
القرى والأرياف .... 31
المباني الخيرية ..... 32
آفة الدكتاتورية ..... 32
الأخلاق والآداب ..... 33
الصلح خير ..... 34
إغاثة المنكوبين ..... 35
الوعي السياسي .... 37
القوانين الباطلة .... 38
فقه الإسلام ..... 40
البضاعة الأجنبية ..... 40
التأليف والثقافة .... 41
دعم الثقافة ... 43
الاستشارة ... 43
ص: 132
الوصول إلى ذروة الإمكان .... 44
التبليغ والإرشاد ..... 45
البعثات الدراسية .... 46
إسعاف الإنسان ..... 47
المغريات والمساعدات .... 48
المناطق المحرومة .... 50
البناء والإعمار ... 51
ثروات الأجيال ..... 51
تقليل الموظفين ... 52
ترخيص الأسعار ..... 53
نزع السلاح الحديث .... 55
الصناعة والتكنولوجيا ... 56
النقابات ... 57
الشعراء والأدباء ..... 57
الشعائر .... 57
مخطوطات الكتب .... 59
الاكتشافات العلمية ... 59
تحسين السلالات ..... 60
الإنسان ذلك المجهول ..... 60
لا للبطالة ..... 60
ص: 133
الفصل الثاني: فلسفة التأخر
لماذا التأخر؟ ... 65
لا أتمكن .... 65
لا قابلية للناس ... 66
الحدّة والعنف ..... 67
البطالة .... 68
النظر إلى من دونه ... 68
الكسل ... 70
الزهد الكاذب ..... 70
لا يمكن الإصلاح ..... 71
لا اعتماد ... 71
اتسع الخرق .... 72
سحابة صيف ..... 73
هدر الفرص ..... 73
الاستبداد ... 76
البخل ... 77
العافية في البدن والنفس ... 78
عدم الألفة ..... 79
تصعيب الحياة ..... 79
العنف ... 82
ص: 134
الكبر ... 84
النزاع ..... 85
الوسوسة وعدم التسامح ... 85
اللجاج ..... 86
الغرور ..... 87
الإدعاء والعجب .... 88
عدم الاستقامة ..... 90
الصراحة أو الغموض المطلق .. 91
اللامبالاة بالسلبيات ..... 93
التوافه .... 93
أنا الأفضل ..... 94
اللا هدفيّة ..... 95
عدم فهم المجتمع ..... 96
عند الاستفزاز ..... 96
عدم العلم بزمانه .... 97
عدم معرفة نفسه ..... 100
خلاف الواقع ... 101
التملّق .... 101
قدر الناس .... 102
التعدي على الآخرين ..... 103
ص: 135
التشاؤم ... 104
سوء الظن ..... 104
عدم الاهتمام برضا الناس ... 105
تخيّل النصر ... 106
عدم استغلال الفرص ... 107
عدم الهمّة .... 108
الكلام اللغو ..... 109
عدم مداراة الناس ... 109
عدم الإتقان ... 110
الاستهانة بالقدرات ..... 111
عدم الاستمرارية ..... 111
الإغراق والمبالغات ..... 112
العجلة .... 113
النّفاق .... 114
ترك الآداب .... 115
خاتمة .... 117
فهرس المصادر ... 125
فهرس المحتويات .... 131
ص: 136