مساعي الوصول الى المثمرات من الأصول المجلد 3

هويَّة الكتاب

تَأليف سماحة المرجع الديني آية الله العظمى الحاج السيد علاء الدّينَ المُوسَوی الغریفی دامت برکاته

الطبعة الأولى 1442 ه- / 2021م

ص: 1

اشارة

ص: 2

كلمة النَّاشر

وبه نستعين

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله محمَّد المصطفى، وعلى آله الطَّاهرين ذوي العُلا، واللَّعن الدَّائم على أعدائهم أجمعين، إلى قيام يوم الدِّين، وبعد:

فهذا هو الجزء الثَّالث من الكتاب المسمَّى ب- (مساعي الوصول إلى المثمرات من الأصول) لسماحة سيِّدنا المفدَّى المرجع الدِّيني الكبير والفقيه النِّحرير آية الله العظمىالسِّيد علاء الدِّين الموسوي البحراني الغريفي "دام ظلُّه الوارف" البادئ من الباب الخامس والمختص بجملة من مباحث الألفاظ والَّذي يبدأ بالعموم والخصوص.

نقدِّمه بين يدي المطالع الكريم بعد استحصال الموافقة من سماحته "دامت تأييداته" وتفضُّله علينا بها لطباعته ونشره، راجين منه ومن الجميع التَّفضُّل بالدُّعاء لنا بالتَّسديد والتَّأييد في إكمال نشر جميع أجزاء هذا الكتاب القيِّم، وجميع ما ينتجه يراعه الشَّريف وقلمه المنيف.

كما نسأل الله تعالى أن يمتِّعنا بطول بقائه وفي أتم صحَّة وعافية، إنَّ الله سميع مجيب.

النَّاشر

ص: 3

ص: 4

تعقيب وتمهيد لما بين جزئي المدارك اللَّفظيَّة

للثَّاني الماضي والثَّالث الحالي مع المحتوى الإجمالي لمضامينه

لا يخفى على الطَّالب والمطالع والباحث الكرام أنَّ مدارك الأحكام الأربعة المعروفة وهي (الكتاب والسنَّة والإجماع والعقل)، وأنَّا قد جعلنا الأوَّل والثَّاني الشَّريفين منها مخصَّصين أصوليَّاً لما يتعلَّق بمباحث الألفاظ وحصرنا أمورهما في كتابنا هذا (مساعي الوصول) لخصوص الجزئين (الثَّاني الماضي والثَّالث الحالي).

وجعلنا منهجيَّة بحوث هذا الثَّالث بادئة بكلامنا فيه تحت عنوان (التَّعقيب والتَّمهيد) المشار إليهما في العنوان ثمَّ الابتداء بالباب الخامس الآتي ذكره مباشرة والَّذي يتفرَّع إلى ثلاث مقامات:-

المقام الأوَّل: ما يخص البحوث المشتركة لما بين المدركين الشَّريفين ممَّا سبق ذكره في الجزء الثَّاني من متعلَّقات الأوامر والنَّواهي والتَّوابع ومعها البحوث الآتية في هذا الجزء الثَّالث من العموم والخصوص وما بعدهما من البحوث وما يلحق بكل منها من الأمور.

المقام الثَّاني: ما يخص الكتاب الكريم (القرآن الشَّريف)، وله بحوث خاصَّة به كركنيَّة كتاب الله في علم الأصول، ودستوريَّته لكل شؤون الحياة، ومنها التَّعاليم الفقهيَّة الشَّرعيَّة، وحجيَّة الظهور فيه، وتعداد آيات الأحكام وغيرها

المقام الثَّالث: ما يخص السنَّة الشَّريفة ، ولها بحوث خاصَّة بها يأتي ذكرها إن شاء تعالى.

وأمَّا ما يتعلَّق بالمدركين الثَّالث والرَّابع وهما (الإجماع والعقل) مع ملحقاتهما فبما أنَّهما خارجان عمَّا اختصَّت به بحوث المدركين اللَّفظيَّين في هذين الجزئين المخصَّصين لهما دون الباقي، وكونهما منحصرين في البحوث اللُّبيَّة.

ص: 5

فقد خصًّصنا لكليهما باباً خاصَّاً في الجزء الرَّابع، ومن ثمَّ بقيَّة الأبواب الأخرى كبحوث الحجَّة وغيرها في الجزء الخامس.

وبالله الاستعانة.

الباب الخامس

وفيه ثلاث مقامات:-

المقام الأوَّل: ما يشترك في آيات الأحكام والسنَّة الشَّريفة

وفيه فصول:-

الفصل الأوَّل: العموم والخصوص

ومن أهمِّه، هو:-

الحاجة إلى البحث في العموم والخصوصألفاظ العموم

أقسام العام

في الجمع المنكَّر

في شمول الخطاب للمعدومين

عوامل التَّخصيص

في استعمال العام قبل ورود المخصِّص عليه أو وروده على المخصِّص

عمل العام مع الخاص المتِّصل والمنفصل

في جواز التَّخصيص حتَّى يبقى واحد

حجيَّة العام المخصِّص في الباقي

في تعقب المخصِّص عامَّاً متعدِّداً

ص: 6

تعقيب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده

تخصيص العام بالمفهوم

تخصيص الكتاب بخبر الواحد

الدَّوران بين التَّخصيص والنَّسخ

الفصل الثَّاني: الإطلاق والتَّقييد

ومن أهمِّه، هو:-

الفوارق بين الإطلاق والتَّقييد وبين العموم والخصوص

الحاجة إلى البحث عن الإطلاق والتَّقييد

اصطلاح الإطلاق والتَّقييد يعطي التَّلازم بينهما

الإطلاق والتَّقييد وارتباطهما بالوضع أو بمقدِّمات الحكمة.

خصوص مقدِّمات الحكمة وأثرها في المقام

الفرق بين العام والمطلق وهل يجتمعا؟

الفصل الثَّالث: المجمل والمبيَّن

ومن أهمِّه، هو:-

الحاجة إلى بحث المجمل والمبين.

تقسيم المجمل اللفظي إلى مفرد ومركَّب وشيء من أسباب الإجمال فيه.

الفوارق العامَّة بين الإجمال وغيره ممَّا مضى.

مناسبة العلم الإجمالي وقاعدة منجِّزيَّته وفروعه في المقام.

بعض النُّصوص الَّتي وقع الكلام في كونها مجملة أو مبيِّنة.

لابديَّة رفع الإجمال مع المقدرة عليه.

كيفيَّة بيان المجمل عند الحاجة إليه.

الفصل الرَّابع: البداء في آيات الأحكام وما يناط بها من السنَّة

ص: 7

ومن أهمِّه، هو:-

مورد الحاجة إلى الكلام عن البداء.معنى البداء.

الفرق بين النَّسخ والبداء.

أدلَّة البداء من الكتاب والسنَّة عن الفريقين.

أقسام القضاء ومتى يقع البداء منها عند الشِّيعة الإماميَّة.

ثمرة الاعتقاد بالبداء.

الفصل الخامس: مشكلة الجبر والتفويض في آيات الأحكام والسنَّة الشَّريفة

سبب تدوين هذا البحث.

مناشئ الجبر والتَّفويض العامَّة والخاصَّة والأخص.

أدلَّة المجبرة على القول بالجبر بعد بيان أصل فكرتهم وردِّها.

ذرائع المجبِّرة الواهية وخطورتها.

أدلَّة المفوِّضة على القول بالتَّفويض وردِّها.

قول الإماميَّة أهل النَّمط الأوسط وأدلَّتهم.

ما يعين على تعقُّل وتقبُّل الوسط العقائدي والشَّرعي المطلوب.

الفصل السَّادس: الفرق بين حجيَّة ظواهر القرآن ومدى الحاجة إلى ظواهر السنَّة في نفسها لنفسها وللقرآن.

المقام الثَّاني: ما يختص بالكتاب الكريم (القرآن الشَّريف)

وفيه تمهيد وفصلان:-

ركنيَّة كتاب الله في علم الأصول.

دستوريَّة القرآن الكريم لكل شؤون الحياة، ومنها التَّعاليم الفقهيَّة الشَّرعيَّة.

ص: 8

الفصل الأوَّل: حجيَّة الظهور في خصوص القرآن الشَّريف وآيات أحكامه

ومن أهمِّه، هي:-

معنى الحجَّة والحجيَّة.

الفرق بين معاني النَّص والظَّاهر والمضمر.

كون الظواهر من مباحث الألفاظ وحجيَّتها من مباحث الحجَّة.

عدم الفرق في الظاهر القرآني في آيات أحكامه بين كونه حقيقة أو مجازاً ومختصَّاً أو مشتركاً ونحو ذلك.

الحاجة إلى البحث عن الحجيَّة في الظهور القرآني.

إثبات حجيَّة ظواهر القرآن لبعضه لا كلِّه.

الفرق بين حجيَّة القراءات وحجيَّة الظواهر القرآنيَّة.

الفرق بين الظواهر والظاهريَّة.

نماذج ممَّا يدل على إمكان فهم كلام الله من كلام الله نفسه.

الشَّواهد الأخرى الدَّالَّة على حجيَّة ظواهر القرآن وفهم العرب لمعانيه.

الفرق بين المفاهيم والظواهر.كيف يتم الظهور مع مقدِّمات الحكمة.

ما أورده المخالفون من أدلَّة إسقاط حجيَّة ظواهر الكتاب، وما ردُّوا به.

الظاهر والأظهر.

تعارض الأدلَّة القرآنيَّة في نفسها ومع غيرها.

المقارنة بين حالة النَّص والظاهر، وبين حالة الحكم الواقعي وحالة الحكم الظاهري.

الكلام عن أصالة الظهور.

الفصل الثَّاني: تعداد آيات الأحكام ومقاييس عدم حصرها بعدد معيَّن

ص: 9

ومن أهمِّه، هي:-

ليس كل ما شاع من العدد له واقع

ما هو المراد الحقيقي من آيات الأحكام

المقام الثَّالث: ما يختص ببحوث السنَّة لآيات الأحكام

ومن أهمِّه، وهي:-

أهميَّة السنَّة الشَّريفة والكلام عنها لآيات الأحكام.

مصاديق السنَّة الثَّلاثة في عرف الإمامية

هل أنَّ كل ما ورد من أهل التَّسنُّن والمخالفين يُعد من السنَّة عندنا؟

المقارنة بين رواية (خذوا ما رووا ودعوا ما رأوا) ورواية (دعوا ما وافق القوم فإنَّ الرُّشد في خلافهم).

هل من معاني (اختلاف أمَّتي رحمة) هو خصوص ما يقع بيننا وبين العامَّة من الاختلاف؟ أم حتَّى ما بيننا نحن الإماميَّة؟

هل أنَّ ما يعرض على الكتاب ويخالفه من الرِّوايات في ترك العمل به خاص بما كذب على النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ؟

هل أنَّ أخذنا بروايات العامَّة للتَّعبُّد مشروعاً أم لا تعبُّد بها؟

هل نعمل بكل الصِّحاح؟ وهل نترك كل الضِّعاف؟ منَّا ومن الآخرين؟

لماذا يُعد علم الرِّجال غير ميمون في البحث فيه والالتزام بنتائجه؟

هل يُعد المدح والذَّم لرجال السَّند منحصراً في خصوص ورودهما من الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

السنَّة والبدعة.

لماذا تسمَّى العامَّة بأهل السنَّة؟

علاقة السنَّة بآيات الأحكام.

ص: 10

صفات الرَّاوي.

صفات الرِّواية.

لماذا التَّقسيم إلى الصَّحيح والحسن والضَّعيف والموثَّق.

أسباب التَّعارض في الأخبار.

ورود استضعاف النَّبوياَّت.

قاعدة (الجمع مهما أمكن أولى من الطَّرح).ضعف السَّند وجبره بعمل الأصحاب.

الفرق بين كون القران هو الثِّقل الأكبر والسنَّة هي الثِّقل الأصغر وبين كونه هو عدلها وهي عدله والتَّوجيه مع إمكانه إن صحَّ دليل الطَّرفين.

الفصل الثَّاني / الاحتجاج بالسنَّة من الكتاب والسنَّة.

الأوَّل/ بطلان الانسداد الكبير والأقل فضلاً عن الأكثر.

الثَّاني/ شيء من الكلام عن التَّعبُّد بأخبار الآحاد.

الثَّالث/ الفرق بين الانفتاح والانسداد من مراتب الاثنين مع نتائج كل منها في الأوامر علميَّاً بين المراتب من كل منهما مع العمل قبولاً ورفضاً.

الرَّابع: من أدلَّة ما يمكن منه عدم اعتبار خبر الواحد عند العلماء إلاَّ مشروطاً.

خاتمة جزء مباحث الألفاظ: الأصول ومعالجة بعض النُّصوص المختلف فيها بين الفريقين وما شابه ذلك.

المدخل الأوَّل المدخل الثَّاني والمطلب الأوَّل / مقدِّمات البحث

المطلب الثَّاني / موارد إمكان اتِّفاق هذا الحديث وأمثاله مع الأدلَّة الصَّحيحة الأخرى من عدمه

المطلب الثَّالث / خلاصة المطلب مع نتيجته.

ص: 11

الباب الخامس

وفيه ثلاث مقامات:-

المقام الأوَّل

ما يشترك في آيات الأحكام والسنَّة الشَّريفة

وفيه فصول:-

الفصل الأوَّل

العموم والخصوص

بعد الفراغ من مجملات بحث الظهور وحجيَّته في الكتاب من خصوص (آيات الأحكام) وما تبعه من السنَّة الشَّريفة بعد اليأس من آثار النُّصوص المناسبة الممكنة منهما وذكر أنَّ من حالات ذلك الظهور مباحث لفظيَّة مهمَّة -

يجب الخوض لاستقصاء الغرض الشَّرعي أصوليَّاً في مداليل ألفاظ هذه الآيات وما يتبعها من السنَّة من كل ما يتوقَّف الفهم عليه من المباحث الأخرى التَّابعة لها أيضاً.

وأوَّل هذه الأمور هو الكلام عن العموم والخصوص وما يتعلَّق بهما والحديث عنهما يمكن استيفاؤه بأمور:-

ص: 12

الأوَّل/ تعريف العام والخاص

فمعنى العام لغة: هو ما أدَّى إلى الشُّمول لكل الأفراد، أو للأفراد الكثيرة الَّتي قد تستوفى غرض مريد العموم نوعاً، أو ذات السَّريان إلى الكل لعدم خضوعه للقيود ولو خفاءاً، أو لكونه واسع الدَّائرة.

ومعنى الخاص: أنَّه المحصور بجماعة، أو ضيِّق الدَّائرة، أو الَّذي لا يسري إلى غير العدد المعيَّن، أو المتَّصف بصفة معلومة أو المنطبق على معيِّن بالذَّات.

واصطلاحاً: فقد لا يختلف عن المعنى اللُّغوي في بعض أو جميع الأحوال على ما تدل عليه قرائن ذلك، لأنَّ الاختلاف إن وجد فهو في العرف الخاص لعلم الأصول الَّذي ترتَّب فيه خصوصيَّات لسان الدَّليلين الكتاب والسنَّة الَّتي تلحق به أو الَّتي يحتاجها مجمل الكتاب.

وعليه فالعام هو (اللَّفظ الشَّامل بمفاده ومفهومه لجميع ما يصلح انطباق عنوانه عليه في ثبوت الحكم الشَّرعي وممَّا لا علاقة له بالخاص).

وهذا ما يمكن أن يتحقَّق بأقل الجمع الَّذي يتحقَّق به العموم إذا كان أقصى به يراد، كما في أمر الشِّياع المفيد للعلم، وهو ما يرتبط بأقل نسبه الَّتي يحددها لفظ (كل حديث جاوز اثنين فهو شايع)، وكما في أمر الإجماع الحاوي في عدد أفراده المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وإن كان في ضمن ثلاثة على ما حدِّد منطقيَّاً لمثال الشِّياع وأصوليَّاً لمثال الإجماع.

وكلا المثالين ليسا على أساس الحصر والتَّحديد، مع إمكان شمول العام للاثنين -- ولذا سمِّي منطقيَّاً بالجمع المنطقي -- والواحد لكونه يتقوَّم به كل عدد وإن لم يتحقَّق بهما ذلك العموم لبعض الاعتبارات على ما سيأتي بيانه.

والخاص: هو (الحكم الَّذي لا يشمل إلاَّ بعض أفراد موضوعه أو المتعلَّق به أو

ص: 13

المكلَّف به، ومن كل ما له علاقة بالخاص من العمومات).

وعلى هذا المعنى فيكون معنى التَّخصيص هو (إخراج بعض الأفراد عن شمول الحكم العام بعد أن كان اللَّفظ في نفسه شاملاً له لولا التَّخصيص)، وهذا ما يستفاد من الأدلَّة كتاباً وسنةً في التَّطبيق.

ولتقريب معنى التَّخصص على هذا يكون هو (أن يكون اللَّفظ - من أوَّل الأمر بلا تخصيص لفظي من أحد - غير شامل لذلك المفرد غير المشمول للحكم)، كالمرسل إرسال المسلمات في خروج هذا الفرد عن العموم تخصُّصاً في الأدلَّة والعرف الشَّرعي، أو المخصِّص عمليَّاً بعمل الأصحاب حتَّى عرف هكذا تخصُّصاً أو تخصيصاً.

وقد ذكرنا هذين التَّعريفين لغة واصطلاحاً مع وضوحهما للزِّيادة في الإيضاح.

الثَّاني / الحاجة إلى البحث في العموم والخصوص

بعد ثبوت الحجيَّة للظهور القرآني الَّتي هي كالحجيَّة الَّتي لنصوصه صار كمرتبةثانية لزاماً علينا الكلام عن المهمَّات الَّتي يصفها لنا هذا الظهور، والَّتي من أهمِّها -- وكما أشرنا الآن -- العموم والخصوص، لمعرفة مدى حجيَّة كل منهما -- من حيث نفس هذا الكل ومن حيث حجيَّتهما معاً لو تلابسا معاً أو جاء الخاص بعد العام أو العام بعد الخاص - وتبيُّن حالات ذلك ممَّا يعطى العموم المخصَّص وغيره.

وذلك لأنَّ القرآن الكريم في آيات أحكامه، بل هكذا السنَّة قد حويا العام والخاص في نصوصهما وظواهرهما كما لا يخفى على المتتبِّع من العارفين، سواء في حالة الانفراد أو التَّلابس المشار إليه.

ولكن لصعوبة إحراز القول بالعموم - والبناء عليه أو الخصوص كذلك - على كل أحد في كل منهما في أن يكون ثابتاً لنفسه أو مرتبطاً مع الآخر حتَّى يعرف مدى

ص: 14

الحجيَّة له دون غيره أو معه.

كان لابدَّ من الخوض في بعض التَّفاصيل الَّتي في هذه الحالة، ممَّا أمكن من الموارد المحتملة للخروج بالمحصَّلة الأصوليَّة النَّافعة ذات القواعد المفيدة.

الثَّالث / ألفاظ العموم

إنَّ للعموم ألفاظاً خاصَّة دالَّة عليه، إمَّا بالوضع أو الإطلاق حسب اقتضاء مقدِّمات الحكمة، وهي ألفاظ مكوَّنة من ترتيبين:

أحدهما: ما إذا كانت ألفاظاً مفردة مثل (كل)، كما لو وقع في الجملة الشَّرعيَّة الَّتي تقول (كل بالغ عاقل تجب عليه الصَّلاة اليوميَّة).

ومثل ما في معنى كل ك- (جميع)، كقول الشَّارع جملة (جميع الفقراء العوام يستحقُّون الزكاة).

وك- (تمام) كقول الشَّارع جملة (تمام المحرَّمات الشَّرعيَّة محرَّمة على البالغين العاقلين).

وك- (أي) كقول الشَّارع (أي إنسان بالغ عاقل تجب عليه طاعة الله).

وك- (دائماً) كقول الشَّارع (يجب الصَّوم كل عام في شهر رمضان على كل بالغ عاقل غير مريض وغير مسافر دائماً).

ثانيهما: ما إذا كانت هيئات لفظيَّة وهي حالتان:

أ - وقوع النَّكرة في سياق النَّفي أو النَّهي.

والأوَّل: مثل (لا رجل في الدَّار).

والثَّاني: مثل (لا ضرر ولا ضرار)(1).

ص: 15


1- وسائل الشِّيعة: ج 17 ص 341، ب 12 من أبواب إحياء الموات ح3 و 5، و ص319 باب 5 من أبواب الشفعة ح 1.

بناءاً على أن لا ناهية أو في مقام النَّهي، وإن كانت بمظهر النَّفي، كما سيجيء عند الكلام عن قاعدة (لا ضرر ولا ضرار).

ب - كون اللفظ جمعاً محلَّى بالألف واللام، أو مفرداً محلَّى بهما.

فالأوَّل مثل أمر الشَّارع (أكرم العلماء).

والثَّاني مثل قوله تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا](1)، وقول الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ (إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجِّسه شيء)(2).

بشرط عدم كون الألف واللام للعهد الخارجي في الاثنين من هذا الثَّاني.

الرَّابع / أقسام العام

فإنَّ أقسام العام ثلاثة:

1 - العموم الاستغراقي، وهو كون الحكم شاملاً لكل فرد فرد، كقول الشَّارع (عظِّم كل إمام مفترض الطَّاعة)، لكون كل فرد منه موضوعاً للحكم، سواء غابوا أو وفِّقنا لرؤية بعضهم.

2 - العموم المجموعي، كإيماننا بكل الأئمَّة الاثني عشر عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من غير استثناء، حينما عرفنا هذا من الخطاب الدَّال على ذلك، كعقيدتنا العامَّة بهم جميعاً تولِّياً وتبرِّياً.

3 - العموم البدلي، وهو كون الحكم لواحد على نحو البدليَّة كقول الشَّارع (اعتق أيَّ رقبة شئت) نظير الواجبات الكفائيَّة في المعنى لا اللَّفظ إذا أعطى المكلَّف اختياراً لنفسه في هذا.

ص: 16


1- سورة البقرة / آية 275.
2- وسائل الشِّيعة: باب عدم نجاسة الكر من الماء الرَّاكد ح 2، ج 1، ص 117.

الخامس / في الجمع المنكَّر

قال الأصوليون: بأنَّ أكثر العلماء ذكروا أن الجمع المنكَّر - كلفظة علماء وفقهاء أو نحو ذلك - لا يفيد العموم، بل يحمل على أقل مراتبه كالثَّلاثة.

وذهب الباقون أو بعضهم إلى إفادته العموم، وعزوا إفادته ذلك إلى ارتباطه بمقدِّمات الحكمة، وهي:-

الأولى: أن يكون المتكلم في مقام البيان ومتمكِّناً منه، لا في مقام التَّشريع.

الثَّانية: إمكان العموم والخصوص، أو الإطلاق والتَّقييد الآتي من جهة صحَّة التَّقابل.

الثَّالثة: عدم نصب قرينة على الخصوص على التَّقييد متَّصلة ولا منفصلة.

واحتجَّ للأكثر: في إفادة أقلِّ الجمع لا العموم بأنَّ (رجالاً) مثلاً بين الجموع في صلوحه لكل عدد بدلاً، ك- (رجل) بين الآحاد في صلوحه لكل واحد.

فكما أنَّ رجلاً ليس للعموم فيما يتناوله من الآحاد كذلك رجالاً ليس للعموم فيما يتناوله من مراتب العدد غير أقل الجمع.

واحتجَّ الباقون: للدلالة على العموم بأنَّ هذه اللَّفظة وهي (رجال) قد تدل على القلَّة والكثرة لو صدرت من حكيم، فإذا أراد القلَّة وحدها لبيَّنها، وحيث لا قرينة وجب حمله على الدِّلالة على الكل.

ولكن أجيب لنفي الدِّلالة على الكل بإجابتين:

أولاهما: بالمعارضة النَّقضيَّة بأنَّه لو أراد الكل من رجال لبيَّنه كذلك.

وثانيهما: بأنَّنا لا نمنع عدم القرينة، إذ يكفي فيها كون أقل المراتب مراداً قطعاً.

ولكن يمكن مناقشة القولين أيضاً، وهو القول بعدم إرادة العموم.

والقول بإرادته بإمكان إرادة القلَّة والكثرة كما أشرنا بالمقدِّمات.

ص: 17

لأنَّ أقل المراتب المراد قد يكون مراداً على تقدير خصوصه، وقد يكون في ضمن المراد الأكثر منه، لكن يحتاج لإثبات ذلك في الكتاب والسنَّة إلى مثبت.

ولكن إن اكتفي بالدِّلالة على الكثرة -- لا خصوص جمع القلَّة ولا الجميع -- لأمكن الاستدلال على ذلك بقوله تعالى [مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ](1) وقوله [رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ](2)) وغيرهما بناءاً على أنَّ أسباب النزول لا تخصِّص المورد وهو المتبع.

ومن ذلك قوله تعالى [وَقَلِيلٌ مَا هُمْ](3) فقد يجتمع مع الآيتين وبما يمنع عن الكثرة نسبة إلى الأقل من القليل أو بقاءه على صحَّة نوع القليل.

يبقى كون الجميع يراد حتماً بالقرينة فهو مرتبط بها، ولكنَّه خارج عن مقصودنا.لأنَّ المقصود هو إرادة أن يكون الجمع المنكَّر دالاً على العموم وحده، وهذا لم يثبت بالدقَّة القطعيَّة إلاَّ بما يحقِّقه المحقِّقون اجتهاداً فيما تجتمع عليه النُّصوص أو الظواهر بعد اليأس من النُّصوص.

السَّادس/ في شمول الخطاب للمعدومين

إنَّ الآيات المصدَّرة بالخطاب للنَّاس والمؤمنين كقوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] و[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ممَّا يسمَّى بخطاب المشافهة وإن أريد به من نزول الوحي في زمنهم ولهم بصورة أقرب إلى الواقع أو فيهم كما في الخطاب الذي خصَّ به النَّبي والرَّسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لصالح الأمَّة، وكذا ما خصَّ به الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ في البداية بآيات [الَّذين

ص: 18


1- سورة الأحزاب / آية 23.
2- ) سورة النور / آية 37.
3- سورة ص / آية 24.

آمنوا].

ولكن بما أنَّ الرِّسالة عامَّة ومطلقة فلابدَّ من إرادة الباقين إلى يوم القيامة.

بل حتَّى الأمور الخاصَّة كالآيات النَّازلة في حقِّ أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ وكانت متضمِّنة بعض التَّكاليف الشَّرعيَّة المستحبَّة كالتَّصدُّق بالخاتم ونحو ذلك، وهكذا كل ما مرَّ ذكره من أسباب النُّزول الَّتي لابدَّ وأن ترتبط آياتها بأحداث خاصَّة لها مدحاً أو ذمَّاً.

فلابدَّ لجميع هذه الأمور من أن تكون منافعها وما يعاكسها مرتبطاً بأمور العالمين من المعدومين في زمن نزول الآيات والَّذين ولدوا بعد ذلك وسوف يولدون بعدهم.

ولكن إرادة المعدومين بهذه الخطابات المفيدة للعموم لن تكون ثابتة بنفس خطابات المشافهة المذكورة بما أشرنا إليه، وإنَّما بدليل آخر.

وهو قول أصحابنا وأكثر أهل الخلاف بدليل عدم صحَّة مخاطبة المعدومين ب-[يَا أَيُّهَا النَّاسُ] وأمثالها، لما أرسي من الدَّعائم والقواعد الأدبيَّة العربيَّة الخاصَّة، وهكذا الخطابات الأخرى، وإنكار هذا مكابرة وعدم رضوخ للواقع.

وأيضاً إنَّ الصبية والمجانين زمن الخطاب ونزول الوحي لمَّا لم يُشملا قطعاً لعدم تكليفهم آنذاك فعدم شمول المعدومين بذلك يكون من باب أولى.

وذهب قوم منهم إلى تناوله بصيغته ولمن بعدهم، واحتجُّوا بوجهين:

الوجه الأوَّل: أنَّه لو لم يكن الرَّسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مخاطباً لمن بعده بآيات الأحكام وبقول (قولوا لا إله إلاَّ الله تفلحوا) ونحو ذلك لم يكن مرسلاً إليه، واللازم منتف، لأنَّ رسالته ثابتة للجميع قطعاً لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ](1) و (العالمين) لم تحد بزمان النَّبي والرَّسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وعليه الإجماع.

الوجه الثَّاني: إنَّ العلماء لم يزالوا يحتجُّون على أهل الأعصار ممَّن بعد

ص: 19


1- سورة الأنبياء / آية 107.

الصَّحابة بالمسائل الشَّرعية بالآيات والأخبار المنقولة عن النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، وذلك إجماع منهم على العموم.

وأجيب أهل القول الثَّاني عن الوجه الأول: بمنع أن لا تبليغ إلاَّ بهذه العمومات المشابهة، لأنَّ التبليغ لا يتعيَّن فيه المشافهة، بل يكفي حصوله للبعض مشافهة وللباقين الآتين بعدهم بنصب الدَّلائل والإمارات على أنَّ حكمهم حكم الَّذين شافههم الرَّسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ.

وعن الوجه الثَّاني: بأنَّه لا يتعيَّن أن يكون احتجاجهم لتناول الخطاب بصيغته لهم، بل يجوز أن يكون ذلك لعلمهم بأنَّ الحكم ثابت عليهم بدليل آخر، وهذا ممَّا لا نزاع فيه.

إذ كوننا مكلَّفين ونحن في آخر الزَّمان بما كُلِّفوا به معلوم بالضَّرورة من الدِّين.

وسعة الأدلَّة كتاباً وسنَّة وما حواه لنا علم الأصول من خيرة الأسانيد والمعالم للتَّدليل بأمتن الأدلَّة مبني على هذا وأمثاله، حتَّى شاع (ما خفي على فقيه طريق لكل مسألة مهمة)، وبالأخص في أمور الضَّرورات الدِّينيَّة، فإنَّه خير كاف للمقام.

السَّابع / عوامل التَّخصيص

إنَّ عوامل التَّخصيص للعام عديدة:-

منها: (إلاَّ) كقولك (أكرم العلماء إلاَّ الفسَّاق) أو قولك (أكرم العلماء) ثمَّ بعد فترة قلت (أكرم العلماء إلاَّ الفسَّاق).

ومنها: لا النَّاهية كما لو قلت (أكرم العلماء ولكن لا تكرم الفسَّاق منهم) أو قلت (أكرم العلماء) وبعد مدَّة قلت أيضاً ( لا تكرم الفسَّاق منهم).

ومنها: لا دائماً كقولك ( حارب الكفَّار لا دائماً) أي فيما إذا قرب انصياعهم أو رجحان مهادنتهم.

ص: 20

ومنها: بعض كقولك (بر بالأيتام) ثمَّ قلت (اترك بر بعضهم) حينما عرفت أنَّ بعضهم اكتفوا.

ومنها: التَّخصيص بالمفهوم الموافق كما في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ](1) الَّتي عمومها بالعربيَّة وغيرها، فإذا خصَّت ب- (بعت) مثلاً عربيَّاً - وكلمة بعت ماض أقرب وأصرح في الإنشاء كما سيأتي - كانت العقود صحيحة بهذا التَّخصيص دون الفعل المضارع، وعلى الأخص إذا لم يعتبر الماضي في اللُّغات الأخرى.

ومنها: بالمفهوم المخالف كقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا](2) الدَّال بمفهوم الشَّرط على جواز الأخذ بخبر غير الفاسق بغير تبيُّن إذا يعد غير الفاسق عادلاً، بناءاً على عدم وجود الواسطة بين الفاسق والعادل وهو المجهول أو وجود الواسطة وهو المجهول في أمره وصحَّة القول بعدم الحاجة إلى التَّبين في خبره لو أخبر.

ومنها: بتخصيص آية بآية كما في قوله تعالى [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ](3) في بدء الدَّعوة إلى الصَّوم تخييراً بين الفدية والصَّوم ثمَّ حصر ترك الصَّوم على المريض والمسافر بقوله [فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ].

ومنها: بتخصيص آية من رواية متواترة كما بين قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا](4) وبين حديث الثَّقلين القاضي بالأخذ بمجموع

ص: 21


1- سورة المائدة / آية 1.
2- سورة الحجرات / آية 6.
3- سورة البقرة / آية 184.
4- سورة الحشر / آية 7.

المستفاد من الكتاب والسنَّة ومن ذلك تخصيص العمومات الَّتي في الآية المذكورة الَّتي قد يراد منها عموم المأخوذ عن النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وإن كان من صحابي.

فبمحو هذا الحديث المتواتر حصر الأخذ الشَّرعي وبالأخص في الفقهيَّات في كونه لابدَّ وأن يكون عن العترة المطهَّرة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

ومنها: بتخصيص من خبر عادل واحد لآية، وبتعقيب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده كما في قوله تعالى [وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ](1) إلى قوله [وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ](2)، فإنَّ المطلَّقات عامَّة للرَّجعيَّات وغيرهنَّ ولكن الضّمير في بعولتهنَّ يراد به خصوص الرَّجعيَّات.

ومنها: بتخصيص العام بمخصَّص متَّصل كقولك (أكرم كلَّ عالم إلاَّ الفسَّاق).

ومنها: بتخصيص العام بمخصَّص منفصل كقولك (أكرم كلَّ عالم) ثمَّ بعد فترة تقول(لا تكرم الفسَّاق منهم)، وسريان الإجمال الَّذي في المخصَّص في العام كما في الشُّبهة المفهوميَّة والشُّبهة المصداقيَّة.

وسيجيء هذه الأنواع من التَّخصيص فيما يأتي من أمور هذا البحث تباعاً بإذن الله تعالى.

الثَّامن / في استعمال العام قبل ورود المخصِّص عليه

أو وروده على المخصِّص

قد يكون الكلام عن استعمال العام متفاوتاً بين ما إذا أتى بدون مخصِّص - ولكنَّه يحتمل مجيئه بعده، بسبب وجود بعض الأقوال لبعض الفقهاء العظام الَّذين لم

ص: 22


1- سورة البقرة / آية 228.
2- سورة البقرة / آية 228.

يفتوا إلاَّ عن دليل، وكان من نوع المنفصل الَّذي مرَّ بيانه -

وبين ما لو جاء بعده ذلك المخصِّص المنفصل، ومن المنفصل ما لو جاء بعد حضور وقت العمل.

فإن أتى العام قبل الخاص، فقد ذهب بعض من أصحابنا إلى جواز الاستدلال به قبل استقصاء البحث في طلب التَّخصيص، ومال إلى هذا القول بعض العامَّة على ما حكي عنهم، وهو ما ينفعنا في عملية التَّقريب المذهبي، ولعلَّ في هذا القول قوَّة لو احتمل الفور في الخطاب بالعموم، فضلاً عما لو بدت قراءته.

واستقرب الشَّيخ في النِّهاية عدم الجواز، ومال إلى هذا القول بعض العامَّة أيضاً على ما حكي عنهم، وهو نافع في عملية التَّقريب اليوم أيضاً لو تمَّ دليله ما لم يستقص في طلب التَّخصيص.

وهذا القول يمكن الأخذ به لو احتمل وجود التَّخصيص لهذا العام، ولو لما عرف مشهوراً من قول (ما من عام إلاَّ وقد خص)، وفي الأخص لو كانت الفوريَّة فيه غير واردة أو محتملة أو كانت هناك أقوال تشير إلى وجود أثر لعدم العام وحده.

وهذا الأمر مع ما وجَّهناه هيِّن.

وإنَّما المهم من مبلغ البحث هو أنَّه قال الأكثر يكفي العمل بالعام بحيث يغلب معه الظن بعدم التَّخصيص.

وقال بعض إنَّه لا يكفي ذلك، بل لابدَّ من القطع بانتفائه.

وهذا القول لهذا البعض قد يكون مبنيَّاً على القول المشهور القائل (ما من عام إلاَّ وقد خص)، ولكن لا ينكر وجود شيء من المبالغة فيه، لوجود كثير من العمومات المعمول بها وحدها، وبالأخص مع احتمال الفوريَّة في الامتثال في بعض العمومات كوجود أقوال تحبِّذ على الامتثال الفوري.

يبقى الكلام الصَّحيح وارداً في أنَّه مع الاحتمال - فضلاً عن وجود الظن -

ص: 23

بالمخصِّص مع عدم الفوريَّة المذكورة لابدَّ من السَّعي، للتَّعرف عن المخصِّص حتَّى يحصل الانتفاء، وهو الأحوط دون الحاجة إلى تحصيل اليقين بالانتفاء.

ودليل ذلك أنَّ المجتهد يجب عليه البحث عن الأدلَّة وكيفيَّة دلالتها، والتَّخصيص كيفيَّة في الدِّلالة، ولذا قد شاع ما قيل (ما من عام إلاَّ وقد خص)، لكثرة العمومات المخصَّصة لا لكلِّها، فصار احتمال ثبوته مساوياً لاحتمال عدمه، وتوقَّف ترجح أحد الأمرين على البحث والتَّفتيش.

وإنَّما اكتفينا بحصول الظن ولم نشترط القطع، لأنَّه ممَّا لا سبيل إليه غالباً، إذ غاية الأمر عدم الوجدان، وهو لا يدل على عدم الوجود، فلو اشترط القطع لأدَّى إلى إبطال العمل بأكثر العمومات وهي كثيرة لوحدها في أدلَّة الأحكام.

تبقى قرائن فوريَّة الواجبات واحتمال الموت عند التَّأخير - وبالأخص لو تأخَّر الخاص ومنه حالات ما بعد وقت العمل أو تعسَّرت بعض المصادر لتحصيل وجود المخصِّص أو عدم قطعاً - فحينئذ يكون المورد من موارد استعمال العام لا محالة إلى أنيأتي المخصِّص.

وبذلك تظهر حالة المبالغة الَّتي في القول المذكور (ما من عام إلاَّ وقد خص) وهي الَّتي تعني عدم الحاجة إلى إعمالها في كل حالة للعموم، ولأنَّ العموم أصالة يرجع إليها عند الشَّك.

التَّاسع / عمل العام مع الخاص المتِّصل والمنفصل

فإذا دخل الخاص على العام - أو دخل العام على الخاص - فلابدَّ إمَّا أن يكون الخاص متَّصلاً أو منفصلاً.

والأوَّل: هو أن يقترن بالعام مخصِّصه في نفس الكلام الواحد الحاصل من المتكلِّم كقول (أشهد أن لا إله إلاَّ الله)، وهذا الاتِّصال الَّذي بسبب إلاَّ، ولفظ

ص: 24

الجلالة من كلمة الإخلاص قرينة على إرادة ما عدا الخاص من العموم المنفي، ومن ذلك القرينة الحاليَّة المكثَّف بها الكلام الدَّالة على إرادة الخصوص على وجه يصح تعويل المتكلِّم عليها في بيان مراده.

والثَّاني: أن لا يقترن به مخصصِّه في نفس الكلام، بل يرد في كلام آخر مستقل قبله أو بعده، وبهذا يكون الاتِّصال قرينة على إرادة ما عدا الخاص من العموم كالأوَّل كقولك (أكرم العلماء)، وبعد ساعة تقول (لا تكرم الفسَّاق منهم).

وبما أنَّ قرينة الأوَّل والثاني تعطي نفس النَّتيجة في المعنى فلا فرق بين الاثنين، وبالأخص لو كان الثَّاني وهو الانفصال لم يكن المخصِّص فيه حاصلاً بعد حضور وقت العمل كما سيتَّضح.

نعم هناك فرق بسيط بين المتِّصل والمنفصل لا أجده مضرَّاً في التَّقارب بينهما، وهو أنَّ المتِّصل لا ينعقد لكلامه ظهور إلاَّ في الخصوص وهو باقي العموم، والمنفصل ينعقد لعامَّه ظهور في أوَّل الأمر ثمَّ يخصص بعد ذلك، إلاَّ أن خاصَّه يكون أقوى، ولذلك يغطَّي على العموم حين مجيئه فوراً.

العاشر/ هل استعمال العام في المخصَّص حقيقة أم مجاز؟

لمَّا بيَّنا آنفاً في التَّمثيل للمتِّصل والمنفصل من العامَّين المخصصين في أنَّه قد حصل ذلك بسبب القرينة لكل منهما - حين أمر الآمر بهما مثلاً أو ببركة ما ظهر بعد استفراغ الوسع - صار ذلك مدعاة لبيان المراد من هاتين القرينتين في أنَّهما هل كانتا للتَّدليل على المجازيَّة في الاثنين؟

أم أنَّ ذلك مبقياً للعام المخصِّص على حقيقته في العموم؟ وإن قلَّت أفراده حتَّى لو وصل إلى أقل نسبة كالواحد أو الاثنين أو أقل الجمع.

فإنَّ الأقوال قد تعدَّدت في هذا الأمر:-

ص: 25

الأوَّل: يقول بالمجاز في الاثنين، لأنَّه استعمال للشَّيء في غير ما وضع له.

الثَّاني: بأنَّه حقيقة لكليهما، ولعلَّه للاعتماد على قاعدة المبالغة القائلة (ما من عام إلاَّ وقد خص)، لأنَّها مهما أثَّرت أثرها في العام عند تخصيصه - وبالأخص لو كان العدد الباقي كبيراً - لا يخرج ما بقي عن أن يكون نفس ذلك العام دالاَّ عليه.

الثَّالث: بالتَّفصيل، وهو كون الحقيقة حاصلة في المتِّصل والمجاز للمنفصل، وقد يشتد ذلك فيما لو كان بعد حضور وقت العمل.

وقيل العكس، وهو المجاز للمتِّصل والحقيقة للمنفصل.

وانتصر للحقيقة في الاثنين وهو الحق، بدليل أنَّ القول بالمجاز توهُّم، لأنَّ أداة العموم لمَّا كانت موضوعة للدِّلالة على سعة مدخولها وعمومه لجميع الأفراد، فلو أريد بعضه فقد استعملت في غير ما وضعت له فصارت مجازاً، وبهذا حصل التَّوهم.

بينما لو تأمَّلنا يسيراً لوجدناه يندفع بأسهل ما يكون.

لأنَّه في التَّخصيص بالمتِّصل إذا قلت (أكرم كل عالم إلاَّ الفاسقين)، فإنَّك لم تستعملأداة العموم إلاَّ في معناها، وهو الشُّمول الَّذي ينتج مع الاستثناء (أكرم كل عالم عادل).

وإنَّما لا يراد غير العموم في (كل) الَّتي للحقيقة، فلعدم صحَّة أن يكون مكان (كل) كلمة (بعض) ليتوهم باستعمال الشَّيء في بعض ما وضع له بسبب القرينة المتوهِّمة وهو المجاز، ولذا لا يقبل (أكرم بعض العلماء إلاَّ الفاسقين).

وإذا قبلناه تنزُّلاً لما يتَّضح الاستثناء المخصَّص، وهو ما لا يستقيم لو قلنا (أكرم بعض العلماء العدول)، لأنَّا وصلنا سابقاً إلى صحَّة قول (أكرم كل عالم عادل) دون غيره.

وأمَّا في الَّذي تقل أفراده ولم يبق إلاَّ الواحد أو الاثنان أو الثَّلاثة فهو داخل في الحقيقة، إذا لم يكن من مصاديق الكل، إلاَّ هذه النِّسبة كقول (اعتق كل عبد) ولم

ص: 26

يوجد إلاَّ هذه النِّسبة القليلة.

وكذا لو قال القائل (أكرم كل عالم عادل) لو قلَّ العلماء العدول وما بقي منهم إلاَّ هذا النَّفر اليسير ولو صدفة، وهكذا في كلمة الإخلاص وهي (لا إله إلاَّ الله) حيث نفت كل إله غير الله تعالى.

وبهذا البيان يكتفى ببيان مثبت الحقيقة، لأنَّ المجاز استعمال الشَّيء في غير ما وضع له، وصيغ التَّكليف يعد مألوفها الأساسي هو الحقائق نوعاً لا المجازات وإن توفَّرت.

الحادي عشر: في جواز التَّخصيص حتَّى يبقى واحد

إذا جاء الخاص فخصَّص العام فكم هي النِّسبة المقبولة لتبقي مراده من العام؟

ذهب بعض إلى جواز التَّخصيص حتَّى يبقى واحد، ويمكن التَّمثيل لهذا يقول (أكرم كل عالم إلاَّ الفسَّاق) وصادف أنَّه لم يكن من العلماء عدولاً إلاَّ واحد، ويمكن أن ينظَّر له بكلمة الإخلاص وهي (لا إله إلاَّ الله)، لأنَّ الاستثناء نفي كل آلهة وما بقى ألا الله، وممَّن ذهب إلى هذا الرأي السيد المرتضى والشَّيخ وأبو المكارم وبن زهرة(1).

وقيل حتَّى يبقى ثلاثة، ويمكن التَّمثيل له بالمثال الأوَّل، وإذا كان الباقي من العلماء العدول صدفة ثلاثة، وهو الجمع اللُّغوي، ولكن بحكمه مثال كلمة الإخلاص في المثال الثَّاني لأنَّه لم يبق منه إلاَّ الواحد.

وقيل اثنان، وهو الجمع المنطقي، ولكن يحكمه مثال كلمة الإخلاص كذلك، وهذا النَّوع من التَّخصيص إن صحَّ أو لم يصح يسمَّى بتخصيص الأكثر، ولعل

ص: 27


1- معالم الدين وملاذ المجتهدين / ابن الشَّهيد الثَّاني ص157.

التَّعبير به - بهذه العبارة - عبارة عن عدم الرِّضا بها.

وذهب الأكثرون ومنهم المحقِّق(1) إلى أنَّه لابدَّ من بقاء جمع يقرب من مدلول العام، إلاَّ أن يستعمل في حق الواحد على سبيل التَّعظيم.

ولعلَّ مراد الأكثر هو التَّعظيم لله الواحد، ولكن وحده الله تعالى مع فخامتها المقدَّسة لا تخرج عن كونها ذات وحدة حقيقيَّة، فضلاً عن الأكثر من الأعداد في نسبها القليلة.

ولعلَّ مرادهم أيضاً من هذا التَّحديد في تخصيص الأكثر المرتجى قبوله أو المقبول حقَّاً هو المراد من وضع النُّصوص الشَّرعية، لا ما يصادفها في التَّطبيق والاستعمال.

وأمَّا ما يستدل به الأكثر أو بعضهم من الأمثلة الَّتي تضرب، لمحاولة التَّدليل على عدم قبول أي عدد قليل، وهو المسمَّى بتخصيص الأكثر.

إلاَّ بما وضح من حمله على التَّفخيم كقولهم بقبح قول القائل (أكلت كل رمَّانة في البستان) وفيه آلاف وقد أكل واحدة أو ثلاثة، وقبح قوله (أخذت كل ما في الصندوق من الذهب وفيه ألف وقد أخذ ديناراً أو ثلاثة).

فإنَّ القولين مع إمكان حملهما على صفة المبالغة المرادة الَّتي قد تعطي معنى نسبة الكثرة المرادة، بلا فرق بين الواحد والاثنين والثَّلاثة، لأهميَّة المأكول في نظر صاحب البستان البخيل، أو المأخوذ في نظر صاحب الصندوق الحريص وهما غير الأكَل أو الآخَذ، فهما ليسا كالنُّصوص الشَّرعية حتَّى لو أريدت وضعاً كذلك.

لأجل أنَّ الاستعمال الشَّرعي قد يصادفه النِّسب القليلة من الأعداد المتوفِّرة من حيث التَّطبيق، كما لو فرض أن قال النَّص (كل من دخل داري فهو حر)، ولم يدخله صدفة إلاَّ العدد القليل، أو (كل من جاءك فأكرمه)، ولم يفسَّر إلاَّ بواحد أو اثنين أو ثلاثة.

ص: 28


1- معالم الدين وملاذ المجتهدين / ابن الشَّهيد الثَّاني ص157.

فإذا وجد المخصِّص بعد هذين المثالين لا مانع من دلالة العموم على الباقي منه وإن قلَّ كهذه النِّسب، ولذلك جاء قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ](1) والمراد نعيم بن مسعود باتِّفاق المفسرين.

وعلم بالضَّرورة من اللُّغة صحَّة قولنا (أكلت الخبز وشربت الماء)، وما أكل وما شرب إلاَّ القليل منها منهما.

ولو ذكرت المبالغة في التَّعبير للرَّد، لقلنا بإمكان مصاحبة الشِّبع والارتواء بالقليلين من ذلك، بسبب القناعة الحقيقيَّة، لأنَّ القلَّة والكثرة من المعاني النِّسبية.

الثَّاني عشر / حجيَّة العام المخصِّص في الباقي

لمَّا تقدَّم الكلام عن العام المخصِّص باتِّصال في أنَّه لابدَّ وأن ينعقد له الظهور في العموم المخصِّص، وكما تقدَّم أيضاً حصول ذلك في العام المخصِّص بانفصال، ولكن الأوَّل يكون أظهر من الثَّاني أو من باب كون الأوَّل نصَّاً والثَّاني ظاهراً -

فقد ناسب الكلام حينئذ حول التَّعرُّف على أنَّ هذا الظهور أو الأكثر في المقام هل هو حجَّة في جميع باقي العام المخصِّص أم لا؟

فمُثِّل لذلك قديماً بما إذا قال السيِّد لعبده (أكرم كل من دخل داري إلاَّ فلاناً) باتِّصال أو قال (أكرم من دخل داري) ثمَّ سكت ثمَّ قال بعده (لا تكرم فلاناً) بانفصال، فترك الإكرام بغير من وقع النَّص على إخراجه كلاًّ أو بعضاً، عُدَّ في العرف عاصياً وذمَّه العقلاء على المخالفة.

وذلك دليل الظهور والحجيَّة معاً في جميع الباقي، بناءاً على حقيقة الارتباط بباقي العام كما ذكرنا سابقاً.

وأمَّا بناءاً على المجازيَّة والتَّشكيك في أمر دخول الواحد والاثنين ممَّا دون أقل

ص: 29


1- سورة آل عمران / آية 173.

الجمع مع هذا الأقل في بعض الأمثلة فقد مُثِّل لذلك حديثاً بما إذا شككنا في شمول العام المخصِّص لبعض أفراد الباقي من العام بعد التَّخصيص.

كما إذا قال الشَّارع (كل ماء طاهر إلاَّ المتغيِّر بالنَّجاسة) بدليل متَّصل أو قال (كل ماء طاهر) ثمَّ عقَّبه بالمنفصل بقول (الماء المتغيِّر بالنَّجاسة ليس بطاهر)، ونحن احتملنا استثناء الماء القليل الملاقي للنَّجاسة من دون تغيُّر.

فإذا قلنا بأنَّ العام المتخصِّص حجَّة في كل الباقي فلابدَّ من أن نطَّرد هذا الاحتمال بظاهر عموم العام في جميع الباقي، فنحكم بطهارة الماء الملاقي من غير المتغيّر حتَّى لو كان قليلاً.

وإذا لم نقل بحجيَّته لجميع الباقي يبقى هذا الاحتمال معلَّقاً ينتظر منَّا دليلاً آخر لبعض الشُّبه الآتي بيانها.

وهذا المثال الأخير ممَّا يشير إلى وجود أقوال في المسألة.لكن الحجيَّة لابدَّ من بقاءها ثابتة في أمر كل مصداق ثابت من الأفراد الباقية، وبالأخص كثيراً في المنفصل بعد حضور وقت العمل، وعلى الأكثر في الاستثناء المنقطع الخارج موضوعاً، لا ما يشك فيه بسبب اتِّصاله بالمتغيِّر ولم يتغيِّر وهو قليل، بل هو ثابت في عدم الطَّهارة من أدلَّة أخرى ولا من مثبت الحجيَّة لجميع المصاديق كما في المثال الأوَّل.

الثَّالث عشر / هل يسري إجمال المخصِّص إلى العام؟

فحينما يكون خاص مجمل ويدخل على عام فإنَّ الإجمال على نحوين:-

1 - (الشُّبهة المفهوميَّة)، وهي في فرض الشَّك في نفس مفهوم الخاص، بأن كان مجملاً نحو قول الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ (كل ماء طاهر إلاَّ ما تغيَّر طعمه أو لونه أو ريحه)، في التَّغيُّر الَّذي يشك فيه بأنَّ المراد من التَّغيُّر هو خصوص التَّغيُّر الحسِّي أو ما يشمل

ص: 30

التَّغيُّر التَّقديري، ونحو قولنا (أحسن الظن إلاَّ بخالد) الَّذي يشك فيه أنَّ المراد من خالد هو خالد بن بكر أو خالد بن سعد مثلاً.

2 - (الشُّبهة المصداقيَّة)، وهي في فرض الشَّك في دخول فرد من أفراد العام في الخاص، مع وضوح مفهوم الخاص بأن كان مبيَّناً لا إجمال فيه، كما إذا شكَّ في مثال الماء السَّابق ولكن بصورة أخرى مختلفة بعض الشَّيء وهي أنَّ ماءاً معيَّناً أتغيَّر بالنَّجاسة فدخل في حكم الخاص؟

أم لم يتغيَّر فهو لا يزال باقياً على طهارته؟

وكما إذا شكَّ في إنسان أنَّ يده حينما أخذ من أحد شيئاً يد أمانة فلا يضمن أم لا؟ فيكون ضامناً إذا تلف.

والكلام في الشُّبهتين يختلف اختلافاً بيِّناً، فلنفرد لكل منهما بحثاً مستقلاً.

أمَّا الأولى: وهي (المفهوميَّة) فدوران الشُّبهة فيها في حالتين:

أولاهما: ما بين الأقل والأكثر كنفس المثال السَّابق، فالأقل هو المتغيِّر الحسٍّّي، لأنَّه المتيقَّن في حالة الشُّبهة، والأكثر هو الأعم من الحسِّي والتَّقديري.

ثانيهما: كونه ما بين المتباينين كالمثال الثَّاني الَّذي بعده، فإنَّ هذا الدَّوران متساوي في نسبة التَّردُّد فيه بين الاثنين، وهما خالد بن بكر وخالد بن سعد بلا قدر متيقَّن من أحدهما دون الآخر.

وفي كلتا الحالتين قد يدخل الخاص المجمل على العام دخولاً باتِّصال، وقد يكون دخولاً بانفصال فتكون حالاتهما أربعة:

1 ، 2 - وهما إذا كانتا في حالة الاتِّصال، وفي كلا الحالتين لا يمكن الرجوع في شبهتهما إلى عموم العام وأصالته، وإنَّما إجمال المخصِّص يسرى إلى هذا العموم، لأنَّ الاتِّصال قرينة مأثِّرة، فلا ينعقد للعام ظهور فيما لم يعلم خروجه عن عنوان الخاص، فيجتنب المشتبه في تغيُّره حسَّاً وتقديراً، كما في مثال ما بين الأقل والأكثر

ص: 31

وهكذا لا يحسن الظن أيضاً بكلا المستثنيين المتردَّد فيهما تردُّد تباين كما في مثال المتباينين وهما خالد بن بكر وخالد بن سعد.

3 - في حالة الانفصال عند الدَّوران بين الأقل والأكثر فقط، ففي هذه الحالة لا يسرى إجمال الخاص إلى عموم العام بتمامه، لما بيَّناه سابقاً بأنَّ العام يجرى على طبيعته ما عدا القدر المتيقَّن وهو الأقل، وهو في المثال المتقدِّم خصوص الماء المتغيِّر بالتَّغيُّر الحسِّي.

وأمَّا فيما زاد على المتيقَّن وهو التَّغيُّر التَّقديري فلا حجيَّة للخاص على العام حتَّى يتأثَّر به.

نعم يمكن الاستعانة للقول بنجاسة التَّقديري كالماء القليل المتَّصل بالمتغيِّر بالنَّجاسة بسبب القلَّة ولم يتغيَّر من أدلَّة أخرى.

4 - في الدَّوران بين المتباينين إذا كان المخصِّص (منفصلاً)، فهو في المقام كالمتَّصل لحصول العلم الإجمالي بالتَّخصيص واقعاً، والتَّساوي في الاحتمال من دون قرينة مرجِّحة في اختصاص الدُّخول لأحد الفردين في مثال المتباينين السَّابق فيالاستثناء دون الآخر، كقول القائل (أحسن الظن) ثمَّ سكت وبعد فترة قال (لا تحسن الظن بخالد) ثمَّ حصل الشَّك والدَّوران، ولا قرينة في خروج أحدهما دون الآخر، ولذلك لا تبقى حجيَّة في العموم في كل منهما، بسبب التَّردُّد وتساوى النِّسبة بين الاثنين، لتأثير الاثنين في عموم العام بالنَّتيجة من هذا السَّبب.

إلاَّ أنَّ الفرق بين المتِّصل والمنفصل هو أنَّ المتَّصل المجمل يرتفع بسببه ظهور الكلام في العموم رأساً، والخاص المنفصل المجمل بالتَّردُّد بين المتباينين في مثاله ترتفع به حجيَّة الظهور لا من رأس وإنَّما بالتَّردُّد المتساوي فيجب ترك حسن الظن بكلا الشَّخصين خالد وخالد.

وأمَّا الثَّانية: وهي (المصداقيَّة) وهي الحاصلة في فرض الشَّك في دخول فرد من

ص: 32

أفراد ما ينطبق عليه العام في المخصِّص، مع كون المخصِّص مبيَّناً لا إجمال فيه كالإجمال في المفهوميَّة، وإنَّما الإجمال في ذلك المصداق، فمن حيث لا يعلم أنَّ هذا الفرد متَّصف بعنوان الخاص فخرج عن حكم العام؟ أم لم يُتَّصف به فهو مشمول لحكم العام كما في المثالين السَّابقين في المصداقيَّة؟

كما إذا شكَّ في الأوَّل وهو مثال الماء أنَّ ماءاً معيناً أتغيَّر بالنَّجاسة فدخل في حكم الخاص؟ أم لم يتغيَّر فكان باقياً على طهارته ولم يتَّصل بماء متنجِّس متغيِّر؟

وكما إذا شكَّ في الثَّاني في اليد الموضوعة على مال لإنسان آخر أنَّها يد أمانة أم لا؟ للاستفادة من مفاد قول النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (على اليد ما أخذت حتَّى تؤدي)(1) وفي كلا المثالين يُعد التَّخصيص المحتمل هو نفس الإجمال المعلوم فيهما.

فقد نسب إلى مشهور علماءنا القدامى بجواز التَّمسُّك بالعام في الشُّبهة المصداقيَّة من دون أن يؤثِّر الخاص أثره في هذا العموم لو كان بعده مخصَّص في الاتِّصال أو الانفصال، ولكن بما أنَّا قد ذكرنا في السَّابق أنَّ العام لو خصِّص لابدَّ وأن يتأثَّر بالخاص.

وبهذا لابدَّ وأن يظهر الفرق بين الشُّبهة المصداقيَّة وبين الشُّبهة المفهوميَّة في خصوص المنفصل عند الدَّوران بين الأقل والأكثر.

فإنَّ الخاص في الشبهة المفهومية ليس حجَّة إلاَّ في الأقل وهو القدر المتيقَّن، والزَّائد المشكوك لا علاقة له بالتَّأثُّر بالخاص، وأمَّا العام فهو الحجَّة فيه.

وعليه لا يكون الأكثر مردَّداً بين دخوله في تلك الحجَّة أو هذه الحجَّة، كالمصداق المردَّد.

بينما الشُّبهة المصداقيَّة ثابتة التَّأثُّر بالعام المخصِّص دون عموم العام وحده، وعليه فلا ضمان في مثل ما أفتى به المشهور في اليد المشكوكة بأنَّها يد عادية أو يد

ص: 33


1- مستدرك الوسائل ج 3 كتاب الغصب ص 145.

أمانة، من حيث ما وجَّهناه في قضيَّة العام المخصَّص.

بل من حيث ما قصده من اشتهار الضمان عندهم، ولعلَّ ذلك من جهة احتياطيَّة، وهو في محلِّه لإبراء الذمَّة المحتملة من اشتغالها بما هو المتيقَّن ولو إجمالاً أو من جهةكون الَّذي في اليد صار بسبب الأخذ كما نصَّ الحديث لا من إعطاء صاحب الحاجة وائتمانه.

وأمَّا في عدم النَّجاسة الَّتي في الماء المعيَّن المشكوك في ورودها فيه، فالأمر أسهل وأوضح ارتباطاً بقاعدة الطَّهارة.

الرَّابع عشر / في تعقب المخصِّص عامَّاً متعدِّداً

إذا تعقَّب المخصِّص كأداة الاستثناء متعدِّداً من الأقوال جملاً أو مفردات ممَّا يصح عوده إلى كل واحد كقولك في الجمل المتعدِّدة (أكرم العلماء وداري النَّاس إلاَّ الجهَّال) وكقولك في المفردات (أدِ الصَّوم والحج والزَّكاة والخمس والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر والجهاد إلاَّ ما لم يتوفَّر شرطه فيك) كان الأخير من الجمل والمفردات مخصوصاً قطعاً، ولكن هل يختص معه الباقي بالتَّساوي؟.

أو يختص الباقي به أو غير ذلك؟

جاء في ذلك أقوال، ومُثِّل لذلك في آيات الأحكام بقوله تعالى [وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا](1).

فالأوَّل من الأقوال: هو أنَّ هذا الاستثناء الَّذي في الآية جاء من الحكم الأخير فقط، وهو فسق هؤلاء فينتفي بالتَّوبة كما أشرنا دون الباقي، لأنَّ الباقي هو المحتاج

ص: 34


1- سورة النور / آية 4.

إلى الجلد بسبب ثبوت الفرية أو عدم كفاءة الشهود بالكمال، وهي لا تنافي زوال الفسق بالتَّوبة.

وكذلك عدم قبول الشَّهادة من المفتري وعلى الخصوص إذا أجرى عليه الحد وباستمرار وإن انتفى فسقه بالتَّوبة المذكورة.

وإن قيل لماذا كان الجاهليون حينما أسلموا وآمنوا تاب الله عليهم وقبلت شهادتهم في مواقعها الصَّحيحة ولم يجلدوا وكانوا قد فسقوا في أيَّان الجاهليَّة كثيراً برميهم المحصنات ونحو ذلك ؟

فإنَّا نقول: بأنَّ هذا جاء في أيَّام الإسلام الأولى كعفو عام وخاص لذلك الوقت ولقاعدة عُرفت في ذلك وهي (الإسلام يجبُّ ما قبله)(1) وطبِّقت في كل كافر أسلم بعد ذلك أيضاً.

ولكن لا يمكن أن يطبَّق هذا العفو فيما يجري بين المسلمين من التَّجاوزات في ظل الإسلام إلاَّ بصدق التَّوبة من الفسق فقط وهو المتيقَّن في الآية.

الثَّاني: كون الاستثناء منه ومن الحكم بعدم قبول شهادتهم، ومن الحكم بجلدهم الثَّمانين جلدة، فرفع العقاب بالتَّوبة المذكورة، وهذان قولان رئيسيان للمسألة، ينحلاَّن إلى أقوال أربعة:

1 - ظهور الكلام في رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة الأخيرة، وإن كان رجوعه إلى غير الأخيرة ممكناً، ولكنَّه يحتاج إلى قرينة على ذلك.

2 - ظهوره في رجوعه إلى جميع الجمل وتخصيصها بالأخيرة فقط يحتاج إلى الدَّليل.

3 - عدم ظهوره في واحد منها، وإن كان رجوعه إلى الأخير متيقِّناً على كل حال، أمَّا ما عدا الأخيرة فيبقى مجملاً، لوجود ما يصلح للقرينة فلا ينعقد لها ظهور

ص: 35


1- عوالي اللئالي: ج 2، ص 54، ح 145.

في العموم فلا تجرى أصالة العموم فيها.

4 - التَّفصيل بين ما إذا كان الموضوع واحداً للجمل المتعاقبة لم يتكرَّر ذكره، وقد ذكر في صدر الكلام مثل ذلك كما في قولك (أحسن إلى النَّاس واحترمهم واقضِ حوائجهم إلاَّ الفاسقين)، وبهذا يعود الاستثناء إلى الجميع.

وبين ما إذا كان الموضوع متعدِّداً في ذكره لكل جملة كالآية الكريمة المتقدِّمة وإن كان الموضوع في المعنى قد يكون واحداً للجميع بالتَّوجيه.

وبذلك يكون العود إلى الأخيرة، لأنَّ الموضوع في ظاهره قد ذكر فيها مستقلاً، لأنَّ الاستثناء أخذ محلَّه الخاص.

وبذلك يكون العود إلى الباقي محتاجاً إلى قرينة مفقودة في المقام فرضاً فيتمسَّك بأصالة العموم عند الشبهة.

وبهذا يكون الجمع بين آراء العلماء المتعدِّدة ممكناً وحاصلاً.فمن ذهب إلى القول برجوعه إلى خصوص الأخيرة فلعلَّه كان ناظراً إلى ما في الآية الكريمة من تعدُّد الموضوع ظاهراً.

ومن ذهب إلى القول بالرُّجوع إلى الجميع فلعلَّه كان ناظراً إلى الجمل الَّتي لم يذكر فيها الموضوع إلاَّ في صدر الكلام، فيكون النِّزاع لفظيَّاً.

وبذلك تتحقَّق القاعدة المفيدة في العموم والخصوص عند ورود الخاص عقيب جمل متعدِّدة.

الخامس عشر / تعقيب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده

فإنَّ ممَّا ينبغي الحرص على معرفته في المقام هو ما لو ورد خاص على عام برجوع الضَّمير إلى بعضه، ومثَّلوا لذلك بأمثلة من آيات الأحكام وغيرها من السنَّة،

ص: 36

ومن ذلك قوله تعالى [وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ](1) ثمَّ قال بعد ذلك[وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ] والمطلَّقات عام يشمل الرَّجعيَّات والبائنات، ولكنَّه أعاد الضَّمير في القول القرآني الثَّاني وهو المخصِّص المنفصل بعوده إلى خصوص الرَّجعيات، فكان العام بظاهره مخصِّصاً.

ولكن يستشكل من هذا التَّخصيص في أنَّه قد لا يكون من نوع التَّخصيصات الماضية.

إذ أنَّ الماضية الَّتي ذكرنا بعض أمثلتها والَّتي منها (أكرم العلماء ألا الفساق) - حيث استثنى الفسَّاق من مجموع العلماء وهم كلُّهم - من يمكن أن يطرأ عليهم الفسق، لاعتبارهم من غير المعصومين إن أريد من العلماء هو ما عداهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ لتصحيح كون الاستثناء متَّصلاً لا منقطعاً، وهم مع ذلك من يمكن أن يبقى العموم للعام فيهم على حاله في بواقيه بما معناه (أكرم العلماء العدول) كما مرَّ.

حيث أنَّ هذا التَّخصيص في هذه الآية قد يُراد منه عود الضَّمير على خصوص الرَّجعيَّات الَّتي هي الحصَّة المميَّزة من العام بلا أي ارتباط بالحصَّة الأخرى المميَّزة منه وهي البائنات، لأنَّ البائنات لا أحقيَّة للرِّجال في العود إليهن في العدَّة إلاَّ بعقد جديد بخلاف الرَّجعيَّات، لأنَّ الرُّجوع إليهنَّ بلا عقد أثناء العدَّة لأنَّ الرَّجعية (زوجة) كما في بعض الأخبار.

ولذلك تكون حصَّة العموم ثابتة في البائنات من دون عود الضَّمير لأي فرد منهنَّ لها إلاَّ بنحو من التَّوسُّع في الاصطلاح التَّسامحي، وبالقول بالتَّخصيص على هذا النَّحو يختص الحكم بالتَّربُّص بهنَّ، لأنَّ المتربِّصات هنَّ عموم المطلَّقات لا خصوص الرَّجعيَّات، ولكنَّه قد لا ينفع كثيراً، وهو أمر استكشاف الحمل دون تسهيل أمر الإرجاع.

ص: 37


1- سورة البقرة / آية 228.

في حين أنَّ المقصودات في القضيَّة هنَّ الرَّجعيَّات لا غيرهن وإن حملن.

إلاَّ إذا أريد ذلك التَّوسُّع بمعنى أنَّ التَّربص هو الأعم ممَّا هو في العدْة كما في الرَّجعيَّة الَّتي ترجع بمجرَّد رجوع زوجها إليها وما بعد انتهاءها لتتحرَّر البائن فتتزوَّج نفس زوجها بعقد جديد أو أي شخص.

فجاء التَّخصيص بعود الضَّمير للرَّجعيات من دليلها الخاص، وهو أظهريَّة الانصراف إلى أنَّها المرادة ولو من توضيح السنَّة وشموله للبائن قد يكون من هذا التَّعميم المذكور.

لكن إذا عقد عليها في العدَّة بعقد جديد بموافقتها من دون حاجة إلى نهاية العدَّة، لأنَّه كان زوجاً سابقاً لها، فهو أحق من الأجنبي في ذلك، أو رجعت البائن عن بذلها فانقلب الطَّلاق البائن إلى رجعي، فهو حينئذ أحق برجعته إليها كذلك ولكن هذا أقل ظهوراً من الرَّجعيَّة بطبيعتها.

وقد خالف الشَّيخ قدس سره القول بالتَّخصيص فأبقى العموم على حاله وهو عموم المطلَّقات.وما جاء من عود الضَّمير على البعض فهو من باب الاستخدام عنده، وهو محتمل ومقبول في إبقاء العموم إذا لم يكن ذلك بنحو الاستخدام لكانت المطلَّقة البائن خارجة موضوعاً فلا تخصَّص حينئذٍ.

وعند الشَّك يمكن الرجوع إلى أصالة العموم، لأنَّا لا ننكر أن يكون عود الضَّمير إلى بعض أفراد العام المفرزة بحصَّة مميَّزة أو من دليل آخر إضافي كالسنَّة موجباً لصرف ظهور العام عن عمومه.

ومن هذا القبيل تمثيلهم بما لو قال المولى (العلماء يجب إكرامهم) ثمَّ قال (وهم يجوز تقليدهم) باتِّصال في المثال وأريد من ذلك العدول بقرينة في أمر التَّقليد من أدلَّة ذلك الخاصَّة به.

ص: 38

فإنَّه واضح في هذا المثال أنَّ تقييد الحكم الثَّاني بالعدول لا يوجب تقييد الحكم الأوَّل وهو وجوب إكرام العلماء، الَّذي لا نشترط فيه كونهم عدولاً بذلك.

إضافة إلى ما قد أسلفناه في العام المخصَّص الأصلي من بقاء العموم فيه بعد تخصيصه، لأنَّه مهما كان المخصِّص فيه لا يجعله مجازاً، بل يبقى حقيقة في باقية وعلى عمومه كما مثَّلنا.

السَّادس عشر / تخصيص العام بالمفهوم

بعد تعريف المفهوم بأنَّه (ما وراء اللَّفظ) فهو يقع على قسمين:

مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة.

ففي القسم الأوَّل: إذا جاء في الشَّرع عام -- وهو مثل قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ](1) باعتبار أنَّ العقود تشمل كل عقد صِيغ له باللُّغة العربيَّة وبغيرها ومنها الأمر --

وجاء دليل آخر منه على اعتبار كون العقد بصيغة الماضي، وهو الأصرح في الإنشاء في القواعد العربيَّة.

فقد قيل: إنَّه يدل بالأولويَّة، على اعتبار أنَّ العربيَّة في العقد لذلك الماضي في الأكثر ممَّا يُعد بالعربيَّة وغيرها لأصل العقود، لأنَّه لما دلَّ -- مضافاً إلى هذا -- على عدم صحَّة العقد بالمضارع من العربيَّة حيث لم يرد.

فلئن لم يصح هذا من لغة أخرى فهو هنا من طريق أولى بعدم الصحَّة.

ولا شكَّ أنَّ مثل هذا العموم للعقود العربيَّة وغيرها يخصِّصه هذا المفهوم إن ثبت لأنَّه كالنَّص أو كان أظهر من عموم العام عند وروده، فهذا المفهوم من قسم

ص: 39


1- سورة المائدة / آية 1.

مفهوم الموافقة، لسهولة تقبُّله دون مخالفة.

وإذا جاء في القسم الثَّاني للمخالفة في لسان الشِّرع أيضاً عام مثل قوله تعالى [إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً](1)، وهو الَّذي يريد منه تعالى بظاهره كل ظن حتَّى الظن الحاصل من خبر الواحد العادل.

وجاء من لسانه قول آخر وهو [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا](2) وهو الدَّال بمفهوم المخالفة الَّذي فيه الدِّلالة على جواز الأخذ بخبر غير الفاسق بغير تبيُّن.

وهو ما اعتبره المستدل به، مخصِّصاً لعموم العام، فهذا من قسم مفهوم المخالفة بناءاً عليه.

والعلماء إن لم يختلفوا في تخصيص العام بمفهوم الموافقة فإنَّهم اختلفوا فيتخصيصه بمفهوم المخالفة.

فقيل بتقديم العام وعدم تجويزهم بتخصيصه بهذا المفهوم المخالف.

وقيل بتقديم هذا المفهوم.

وقيل بالتَّوقُّف.

وقيلت أقوال مفصَّلة أخرى.

وإنَّما حصل هذا الخلاف فلأنَّه لمَّا كان في ظهور المفهوم المخالف ليس من القوَّة بمكان، بحيث يبلغ كبلوغ درجة ظهور المنطوق أو مفهوم الموافقة، وقع الكلام في أنَّ المفهوم هل هو أقوى من ظهور العام فيقدَّم عليه؟

أو أنَّ العام أقوى فيقدَّم؟

أو أنَّهما متساويان فيتوقَّف فيهما؟

ص: 40


1- سورة يونس / آية 36.
2- سورة الحجرات / آية 6.

أو يخضع في ذلك إلى مقامات ذات قرائن أخرى تحل المشكلة.

ولكن الَّذي يبقى الالتزام به ثابتاً لأنَّه حاصل في اليد فعلاً هو أنَّ عموم العام وهو الظن المذكور في الآية لمَّا كان معلوماً بحسب الظاهر لا كالنَّص الصَّريح لأنَّ الظاهر من الظنون، وأنَّ مفهوم المخالفة أيضاً من الظنون، وهو قرينة مؤثِّرة تأثير مساواة الظن الخاص للظن العام في النِّسبة الظنيَّة.

فلابدَّ حينئذ من أن تكون مخصَّصة للعموم، وإنَّ عدم التَّأثير المدَّعى لن يكون إلاَّ إذا كان العام نصَّاً والمخصِّص ظنيَّاً في ظهوره، وهذا لم يظهر شيء منه هنا.

نعم إنَّ مفهوم المخالفة الَّذي في الآية الثَّانية وهو (إن لم يجئكم فاسق) إن أريد منه مجهول الهويَّة، وهو من لم تحرز عدالته وإن لم يُعلم فسقه -- إن تعقلنا المعنى الوسط فيه وبالأخص في اشتباك الفتن في آخر الزَّمن، وصار (سوء الظن من حسن الفطن) --

فإنَّ التَّخصيص بذلك مشكل.

والتَّوقُّف حينئذ يكون أوفق بالاحتياط.

فإلى مزيد في المقام من التَّتبُّع واستفراغ الوسع أكثر لمعرفة مدى ما يناسب إساءة الظن أكثر أم حسنه لتشخيص الموقف المناسب بصورة أوضح.

السَّابع عشر / تخصيص الكتاب بخبر الواحد

لا شكَّ بصحَّة تخصيص عام آيات الأحكام بالمتواترات من الأحاديث، ولكنَّ الكلام المحتاج إليه هنا دائر فيما بين العلماء حول إمكان تخصيص الآيات بخبر العادل الواحد وعدمه؟

فمنهم من جوَّزه لاعتبار أنَّ النَّسخ الَّذي جعلوه بأنَّه لا يجوز أن يكون إلاَّ بالكتاب نفسه أو المتواترات، فإنَّما هو لأنَّ النَّسخ رفع والتَّخصيص دفع، والدَّفع

ص: 41

أهون من الرَّفع، وإنَّ الرَّفع لا يناسبه إلاَّ الدَّليل القوي بخلاف أمر التَّخصيص الَّذي هو أهون.

لأنَّ القرآن في أمره وإن كان قطعي الصدور ولكنَّه ظنِّي الدِّلالة، والَّذي كان ظنِّي الدِّلالة فبالإمكان أن يخصَّص بظنِّي السَّند والدِّلالة، وإن قلَّ عمَّا لو كان ظنِّي السَّند قطعي الدِّلالة وكلاهما موجودان في المخصِّصات إذا تناسبا في الدَّفع أو الرَّفع.

ومنهم من منع التَّخصيص به، لأنَّه ممَّا قد يصعب على المبتدئ لأوَّل وهلة الإيمان بجواز التَّخصيص به، نظراً إلى أنَّ الكتاب المقدَّس إنَّما كان وحياً منزَّلاً من عند الله بلا ريب فيه، والخبر الظنِّي يحتمل فيه الخطأ والكذب وإن احتمل في مقابلهما الصَّواب والصِّدق كذلك، لوجود بعض الوسائط الغريبة وغير المطمئن بها فكيف يقدَّم على الكتاب أو يأثِّر فيه.

إضافة إلى ما في خبر الواحد من المشاكل الَّتي أعرض عنها الأصحاب وعن الخبر في أصله لأجلها.

ولكن ما ذكرناه من الدِّفاع عن جواز العمل به للتَّخصيص وجوازه كاف في ركَّة ما يسبِّب القول بعدم جواز العمل والتَّخصيص على نحو الإطلاق.إضافة إلى أنَّ رأي المشهور بين أهل التَّحقيق من عدم صحَّة العمل بخبر الواحد في الاستدلال به على الأحكام الشَّرعية كبقيَّة الأدلَّة الأخرى الضعيفة إلاَّ بالشروط المقويَّة الآتية في بحوث السنَّة ومصاديق أضعف الحُجيَّات المقبولة.

لذلك هو غير ما عرف من سيرة العلماء من القديم على العمل بخبر الواحد إذا كان مخصِّصاً للعام القرآني لما ذكرناه من التَّعليل.

نعم إنَّ هذا النَّحو من التَّخصيص إن جاء ليخصِّص العام القرآني يجب أن لا يؤخذ به في مقابل المتواتر أو المستفيض، أو أن لا يؤخذ به لو كان مجرَّداً من القرائن في مقابل آخر مثله، ولكنَّه محفوف بالقرائن فضلاً عن الرِّواية الضَّعيفة المجبورة بعمل

ص: 42

الأصحاب.

الثَّامن عشر / الدَّوران بين التَّخصيص والنَّسخ

فإنَّه قد يشتبه الأمر لدى بعض المبتدئين بأمر التَّقارب كثيراً بين النَّسخ والتَّخصيص، لكن الصَّحيح أنَّ التَّخصيص في واقعه هو غير النَّسخ، لأنَّ النسخ رفع والتَّخصيص دفع لبعض أفراده.

إلاَّ أنَّ التَّخصيص المنفصل - وبالأخص ما كان بعد حضور وقت العمل - قاربوا بينه وبين النَّسخ، ومع ذلك رجَّحوا أمر تسميته بالتَّخصيص في مورد التَّشكيك حين الجهل بالتَّأريخ.

وقد يتسامح في أمر تسميته بالنَّسخ أيضاً - إذا كان المقصود من هذا النَّسخ هو غير النَّسخ الكلِّي الممتنع وهو نسخ الحكم والتِّلاوة معاً، أو الحكم كاملاً مع بقاء التِّلاوة للآية، حتَّى لو كانت فارغة من أي معنى، كما لو كان تغيُّره بالعنوان الثَّانوي دون الأوَّلي، لئلاَّ تبقى الآية خالية من الدَّلالة على شيء، لأنَّ ذلك يخالف الإعجاز القرآني ولو في بعض معانيه الأوَّليَّة - وهو نوع نسخ الحكم وبقاء التِّلاوة.

وللتَّفصيل الأنسب نأجِّل هذا الكلام بخصوصه إلى الكلام عن النَّسخ الآتي كملحق به من بحوث النَّاسخ والمنسوخ في الكتاب والسنَّة.

التَّاسع عشر / نتيجة البحث

قد ثبت من خلال أمور هذا البحث من بدايتها إلى حدِّ النِّهاية أنَّ التَّخصيص وارد مهم على كتاب الله في آيات أحكامه من الكتاب نفسه أو من السنَّة القطعيَّة.

بل وحتَّى السنَّة الظنيَّة من مواردها الخاصَّة وهكذا المفاهيم في بعضها وله أدلَّته

ص: 43

المهمَّة.

بل هو حجَّة مأثِّرة على عموم العام إذا كانت كاملة في مواصفاتها حتَّى أدخل التَّخصيص كل ما عدا الاستثناء وغيره من المخصِّصات حتَّى الأعداد القليلة في باقي ذلك العام، ولكثرة هذه التَّخصيصات صدرت المبالغة القائلة (ما من عام إلاَّ وقد خص).

إلاَّ أنَّ الحق لابدَّ وأن يعترف به في أنَّ هناك عمومات باقية على حالها لم تأثِّر فيها مخصِّصات للفرق بين النَّص والظاهر، وضعف الظاهر في قبال النَّص إذا أثبتت وجود نفسه بدون معارض، أو وجود شبهات لا قيمة لها في قبال العمومات، لأهميَّة أصالة العموم الَّتي يرجع إليها عند الشَّك.

ص: 44

الفصل الثَّاني

الإطلاق والتَّقييد في الكتاب وملحقه السنَّة

لا يتم استيفاء الغرض الأصولي - عن الإطلاق والتَّقييد من مباحث الألفاظ - إلاَّ بأمور نعرضها أو نعرض مجملها في أمور:-

الأوَّل / معنى الإطلاق لغة

إنَّ معناه لغة: هو الإرسال والشُّيوع ويقابله التَّقييد.

ومعناه اصطلاحاً: في علم الأصول بأنَّ المطلق المأخوذ منه هو (ما دلَّ على شايع في جنسه)، بمعنى كونه حصَّة محتملة لحصص كثيرة ممَّا يندرج تحت أمر مشترك.

ويقابله المقيَّد المأخوذ من التَّقييد وهو (ما دلَّ على معنى غير شايع في جنسه)، أو كما عبَّر به صاحب المعالم قدس سره (ما يدل لا على شايع في جنسه)(1).

وقد يطلق المقيَّد على معنى آخر، وهو (ما أخرج عن شياع) مثل رقبة مؤمنة، فإنَّها وإن كانت شائعة بين الرَّقبات المؤمنات لكنَّها أخرجت من الشِّياع بوجه ما، حيث كانت شائعة بين المؤمنة وغير المؤمنة، فأزيل ذلك الشِّياع عنه وقيِّد بالمؤمنة، فهو مطلق من وجه ومقيَّد من وجه آخر.

ونقل صاحب المعالم قدس سره أنَّ الاصطلاح الثَّاني للمقيَّد هو الاصطلاح الشَّايع.

وهذا يُستفاد منه أنَّ بينهما تقابل الملكة وعدمها، بمعنى أنَّ الإطلاق هو عدم التَّقييد عمَّا من شأنه أن يكون مقيَّداً، ومن هذين المبنيين أخذت كلمة المطلَّق والمقيَّد،

ص: 45


1- معالم الدين وملاذ المجتهدين / ابن الشَّهيد الثَّاني ص150.

وسيأتي ذكر الأقوال في بيان التَّلازم والتَّقابل بينهما.

ولعلَّ التَّعريف الثَّاني هو الصَّحيح من جهة العثور على المطلقات المقيَّدة من ألفاظ الشَّرع بما يحمل الاثنين، وهما الشيوع - مع انصراف الذهن عنه - وعدمه، وهو الخروج عن الشيوع بالاعتبار الآخر المغاير له.

واعتنائهم بهذا التَّعريف للمقيَّد لئلا نخسر من فوائد هذه المطلقات المقيَّدة كما مرَّ في التَّمثيل للرقبة المؤمنة.

بينما التَّعريف الأوَّل وهو (ما يدل لا على شائع في جنسه) فيه معنى نفي الجنس الَّذي لا يبقي ولا يذر من أي شيء يمكن أن يحمله المقيَّد من المطلقات إلاَّ تلك الحالة الواحدة، وإن أمكن تعقُّل تفاوت الاعتبار، مع العلم بأنَّ الألفاظ قابلة في أصل وضعها للحمل المتعدِّد للاعتبار المتعدِّد.

وأصل هذا التَّعريف قديم وقد بحث عنه كثيراً، ولعلَّه من زمن ما قبل سلطان العلماء قدس سره، وأحصوا عليه مؤاخذات عديدة لا داعي إلى الإطالة بها كثيراً، ما دام المراد هوتقريب المعنى الَّذي وضع له اللَّفظ، لعدم الفرق الدَّقيق بين التَّعريف اللُّغوي الَّذي مضى وهذا الاصطلاحي بما لا يخفى على اللَّبيب الَّذي لاحظهما معاً.

ولذلك يُعد من التَّعاريف اللفظيَّة أو ما يسمَّى بشرح الاسم كما مرَّ في تعريف العموم والخصوص.

ولعلَّه لذلك عدَّ بعضهم سرد الإشكالات الَّتي نقل أنَّها أوردت عليه لا داعي له، لأنَّه قد يضخَّم حجم الشَّيء البسيط في بابه على الأذهان، والأذهان بحسن فطرتها لا ترى في أوَّل رؤيتها إلاَّ الواضح في بساطته، وهو ما يشبه المقصود اللُّغوي من المقصود الاصطلاحي حينما لا يكون شيء أكثر منه في الواقع، إلاَّ في حالة قد لا يَخفى حتَّى على طلاَّب علم الأصول المبتدئين من المحصِّلين، وهي كون المطلق والمقيِّد مستعملان في لساني الشَّرع كتاباً وسنَّة على خصوص القضايا الفقهيَّة.

ص: 46

وبهذا يكون الفرق بين اللُّغة والشَّرع هو أنَّ اللغة تريد استعمال الاثنين بما يوافقها في دائرتها الواسعة غير المحدودة من حيث الإطلاق والتَّقييد بلا خصوصيَّات الدِّين والشَّريعة، والشَّرع يُراد من لسانه استعمالهما في دائرته الخاصَّة.

وبتوضيح آخر، وهو أنَّ إرسال كل شيء بحسبه وما يليق به، فإذا نسِّب الإطلاق والتَّقييد إلى اللَّفظ فإنَّما يُراد ذلك بحسب ماله من دلالة على المعنى فيكونان وصفين للفظ باعتبار المعنى.

فقد يكون مطلقاً باعتبار تعدُّد حالاته وقد يكون مقيَّداً لو لم يكن بالمستوى اللغوي، وهو ما قد يكون مقيَّداً لو لم يختلف لكن حسب اللسان الشَّرعي الأضيق في مثل آيات الأحكام والسنَّة المرتبطة بها.

ومن موارد استعمال لفظ المطلق المقرِّبة للمعنى أكثر -- غير ما مثَّلنا به سابقاً من الرَّقبة والرَّقبة المؤمنة -- أنَّ العلَم الشَّخصي (كمحمَّد) المعرَّف بالألف واللام (كالرَّجل) لا يسمَّيان مطلقين باعتبار معناهما المحدَّد والمشخَّص الَّذي لا شيوع ولا إرسال فيه.

ولكن لا تَظن باعتبار آخر عدم جواز أن يسمَّى العلم الشَّخصي مطلقاً إذا تعدَّدت أحواله كحالات السَّفر والحضر والنَّوم واليقظة والصَّحة والمرض والغنى والفقر والإيمان والفسق والعلم والجهل ونحو ذلك.

فإذا قال الآمر (أكرم محمَّداً) وتعدَّدت هذه الأحوال أو بعضها فيه من ايجابيَّاتها أو سلبيَّاتها واقتضى الأمر بما يناسب المشروع مثلاً ولم يكن هناك من قيد مؤثِّر يقيِّد هذا المشخَّص عند الآمر بإكرامه يكون (محمَّد) لا محالة مطلقاً، وهكذا الأمر نفسه جار في المعرف بالألف واللام.

وهكذا العام الَّذي نعرفه بأنَّه غير مطلق، لأنَّ العموم الَّذي فيه جاء باعتبار أفراده وأعداده كما مرَّ في بحث العموم وكما سيجيء أيضاً في مناسبة أخرى.

ص: 47

لكنَّه لا يمنع من اتَّصافه بالإطلاق أيضاً إذا لوحظ باعتبار تعدُّد أحواله كما سيتَّضح أكثر ولم يمنعه مانع لعدم التَّزاحم بين المعنيين في أكثر القضايا إذا أفرز في الذِّهن اعتبار الأفراد عن الأحوال والكيفيَّات كما سيأتي.

فإنَّ (رجالاً) أو (قوماً) أو نحوهما وإن كان كل منهما عامَّاً على ما مضى بيانه في باب العموم والخصوص من حيث معنى العدد فقط ولكنَّهما يمكن صدق الإطلاق على كل منهما كذلك إذا تعدُّدت أحوالهما كالفقر والغنى والصحَّة والمرض ونحو ذلك.

وبهذا يكون التَّعريف الماضي شاملاً لما ظاهره المشخَّص وما ظاهره المعمَّم إذا لوحظت فيهما الأحوال المتعدِّد، وهو كونه (شايعاً في جنسه).

أمَّا العموم الَّذي لا تعدُّد لأحواله فهو وإن تعدَّدت أفراده كالنَّكرة في سياق النَّفي كقول الشارع (لا صلاة لمن جاره المسجد إلا في المسجد)(1) و (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)(2) و(لا صلاة إلاَّ بطهور)(3) و (لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب)(4) وغيرها، فإنَّه لاإطلاق في كل منها.

لأنَّ الشيوع المراد في التَّعريف ليس كالشُّيوع في أمثال هذا النَّوع من العام مع عدم صحَّة القياس على العام هنا وغيره وإن حصل تشابه في مطلق الشُّموليَّة.

والشُّيوع في هذا العام هو سلب الأفراد فلا إطلاق حينئذ لانتفاء موضوعه الأساسي، وهو من يجب أن تظهر فيهم الأحوال ولو في باق واحد كما سيتضح

ص: 48


1- وسائل الشِّيعة: ج5 ص194 / أبواب أحكام المساجد ب 2 ح 1.
2- 2 وسائل الشِّيعة: ج 17 ص 341 ،الباب 12 من أبواب إحياء الموات ح 3 و 5 ، و ص 319 باب 5 من أبواب الشفعة ح 1.
3- وسائل الشيعة ج 1 ص 365 أبواب الوضوء ب 1 ح 1.
4- مستدرك الوسائل: ج4 ص158 / أبواب القراءة ب 1 ح 5.

قريباً في بيان الفوارق.

وبهذا يتبَّين الفرق في استعمال المشخِّص العلمي والمعرَّف بأداة التَّعريف بما يفيد الإطلاق لوجود الفرد الواحد على الأقل بينهما وبين العام.

حيث أن الصنف الأوَّل يمكن أنَّ يكون الإطلاق قبل التقييد في جميع أفراده من الأحوال، والثاني في أفراده كذلك ما عدا النَّكرة في سياق النَّفي، وهذا سهل يسير.

ولكنَّ الَّذي ينبغي التَّأمُّل فيه في شأن التَّعريف هو أنَّ المطلق من الألفاظ هل جاء بالوضع؟

أم بمقدِّمات الحكمة؟

ولا شكَّ أنَّ الأعلام في المقام المذكور والجمل مرتبطة للتَّدليل على الإطلاق بمقدَّمات الحكمة كما سيجيء.

ولكنَّ النَّكرة كرقبة ورجال ممَّا مر وأسماء الأجناس اختلفوا في أمرهما.

فمنهم من قال بالوضع.

ومنهم من قال بمقدِّمات الحكمة، وهو آت قريباً إنشاء الله.

الثَّاني / الفوارق بين الإطلاق والتَّقييد

وبين العموم والخصوص

لقد كثرت الاشتباهات وتلابست المعاني في الأذهان لكثير من الطلاَّب حتَّى تولَّدت بعض الشُّبهات في أمر العنوانين المختلفين من مباحث ألفاظ الأصول وهما المطلق والمقيَّد والعام والخاص، فأطلقوا على الإطلاق عموماً وعلى العموم إطلاقاً.

وإن كان بعض الدَّقيقين منهم قد يطلق هذا على ذاك وبالعكس تسامحاً، لخصوص جامع الشُّموليَّة الَّتي بينهما من حالة الأعم من الأعداد والحالات كما سيتَّضح، مع حفظ الميزة الذَّاتيَّة لكل منهما في ذهنه وهو مشكل جدَّاً من جهة خلط

ص: 49

الاصطلاحات.

حتَّى أنَّ بعض المعاني الأصوليَّة اشتبكت في كتب الأصوليِّين فلم يعرف أنَّها من الَّذي يعود للإطلاق والتَّقييد؟

أم للعموم والخصوص؟.

حتَّى حصل التَّوهُّم المعاكس مع وضوح الأمر كثيراً لو رُكِّز على الفروق الواضحة الآتية بين العنوانين، وبالأخص لو أتقن أعزاءنا الطلاَّب أمور هذا التَّركيز، وما غفلوا عنه بعد معرفة الفوارق يوماً بمواصلتهم الدِّراسيَّة.

ولو اعتذر عن حسن القصد في أهل العلم وهو الَّذي لا يمكن نكرانه فيهم نوعاً حينما قد يخونهم التَّعبير أو يجعلون هذا التَّعيير من التَّكيُّف لغرض التَّوضيح لتلامذتهم وممَّا قد يستعمله الجدد بعد ذلك في التَّدريس بسبب ذلك التلقي أو ما يفعله بعض غير العرب بسبب ضعف فصاحتهم.

فإنَّ هذا يكون أشكل من الماضي، لأنَّ التَّغيير في الاصطلاح وإن جاء في البداية على براءة وحسن قصد إلاَّ أنَّه بعد العثور على اختلاط المعاني وتشابك الألفاظ المختلفةبعضها عن بعض اصطلاحاً وإمكان التَّصحيح أو السَّعي وإن كان بطيئاً.

وبالأخص لو شمل ضررها الطلاَّب الأبرياء فإنَّه سوف يكون ذلك محظوراً علميَّاً للسَّعي في التَّصحيح.

ومن ثَمَّ يحظر شرعاً عند العلم بأنَّ التَّعبير من مختلفين في نصوص الشَّرع وظواهره، وأنَّه بالتَّساهل سوف يغيِّر أسس مدرسة أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الفقهيَّة المبنيَّة على الرَّصانة الإلهيَّة في جميع أمورها، وفيما له علاقة بالتَّقسيم الاصطلاحي، وسوف يشاع الأغراء بالجهل بهذا الخلط والخبط وهو الذي ما فعله إلاَّ غيرنا من الأعداء بقصد أو جهل بغيره.

ولأجل هذه المهمَّة الاصطلاحيَّة لنذكر الفوارق المهمَّة في المقام بين الاثنين

ص: 50

وهي:-

أوَّلاً: كون الإطلاق لا يأتي مصطلحه إلاَّ في تعدُّد الأحوال والكيفيَّات، وكل ما يؤول إلى حدِّ السَّلب والإيجاب، وإن صاحب بعض ألفاظه العموم ومعناه، لأنَّه إن صاحبه ذلك غير مقصود حين قصد الإطلاق إلاَّ أن يريد المدرِّس مثلاً أن ينظر لتلامذته للاثنين معاً كمطلق وعام في آن واحد إذا اتَّفقا، لأنَّ (رقبة) لا عموم لها أصلاً و(لا رجل) لا إطلاق فيها أصلاً.

وكون العموم لا يأتي مصطلحه إلاَّ في كميَّة الأفراد وأعدادها، وإن اجتمع الإطلاق معه لفظاً باعتباره الخاص الَّذي ليس فيه مزاحمة مع العموم فيما لو صحَّ الاجتماع كما مرَّ في الإطلاق والتَّمثيل بكلمة (رجالاً).

ثانياً: كون الإطلاق بلا أداة في لفظه تدل عليه، وإن عرف مجيئه في ألفاظ معروفة كالمفردات من اسم الجنس والنَّكرة والجمل العاديَّة والشَّرطيَّة الَّتي سوف تأتي.

وأمَّا العموم ففي أوَّله أداة تدل عليه مع الألفاظ العاديَّة، مثل (كل) و (لا شيء) و (دائماً) ونحو ذلك.

ثالثاً: كون الإطلاق لا يثبت إلاَّ بمقدِّمات الحكمة على رأي المتأخِّرين، مبتدأ به من سلطان العلماء قدس سره حتَّى الآن، وإن كان القدامى فرَّقوا كما سيجيء بين بعض الألفاظ الَّتي يعروها الإطلاق، فجعلوا أسماء الأجناس ونحوها ممَّا وضع للإطلاق وغيرها مرتبطة بمقدِّمات الحكمة.

لكن سيأتي إمكان الجمع بين القولين.

وكون العموم جاء بالوضع كقولهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ (كل مولود يولد على الفطرة)(1)، فإنَّ كلمة مولود لو لم تكن معها (كل) وضعاً لم تدل على العموم.

ص: 51


1- الكافي / ج2 - باب كون المؤمن في صلب الكافر ص14.

وبمقدِّمات الحكمة كقوله تعالى [أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ] الَّتي تحتمل عموم البيع بسبب التَّحلية بألف ولام التَّعريف، وتحتمل خصوصه بسبب ألف ولام العهد، فهنا عند التَّحير قد يرجع في ذلك إلى مقدِّمات الحكمة، فتكون للعموم لو انطبقت عليها.

رابعاً: كون الإطلاق أقل ظهوراً من العموم، والعموم أكثر، ولعلَّه في الإطلاق منخلوِّه من الأدوات اللَّفظيَّة المظهرة له كما هو في العموم، لاعتماده على الفهم أكثر من المنبِّه اللَّفظي، ولعلَّه من جهة أقليَّة المصاديق في الكتاب والسنَّة.

إلاَّ أنَّ كلاَّ من الإطلاق والعموم جعل في الأصول أصالة يرجع إليها عند كل شك صحيح يأتي.

خامساً: كون المطلق لغة إذا قيِّد لا يبقى له باقي، فلفظ (رقبة) لمَّا قيِّدت بالمؤمنة عند الأمر بعتقها لم يبق شيء من المصاديق المحتملة فيما بعد التَّقييد والعام يبقى له باقي.

هذه بعض الفوارق الَّتي لو ركز عليها بين المقامين -- واستعمل كل منهما في مقامه الشَّرعي عند الحاجة في باب التَّطبيق الاستنباطي، لما في الكتاب والسنَّة -- لأستغني بذلك عن كل حالة محيِّرة أو مربكة نوعاً.

فيجب إذن علينا التَّفريق في جميع التَّصرفات البيانَّية في لساننا تدريساً ومدارسة وتدرساً، للتَّعود على مواكبة الحدث حين الدُّخول في الاستنباط لتفادي الوقوع في الاشتباه بين المصطلحين لاختلاف معنى كل منهما حتماً عن الآخر ممَّا ذكر.

الثَّالث / الحاجة إلى البحث عن الإطلاق والتَّقييد

قد تظهر الحاجة إلى البحث عن الإطلاق والتَّقييد أصوليَّاً كالحاجة إلى الكلام عن العموم والخصوص الماضي، لكن بأسباب، وهي:-

الأوَّل: باعتبار ما يخص المقام فيما يتعلَّق في الأحوال والكيفيَّات لأحوال

ص: 52

المكلَّفين وكيفيَّاتها المنوطة بالحكم الشَّرعي الصَّادر من الوحي ولسان المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، الَّذين حملا هذه الأحوال والكيفيَّات ممَّا مرَّ من الحاجة إلى التَّفريق بين هذا المقام ومقام العام الخاص لئلا يختلط احدهما بالآخر.

الثَّاني: الحاجة إلى أصل ذكر الإطلاق والتَّقييد من حيث هما لورود الكثير من الإطلاقات لها في مصدري التَّشريع الشَّريفين لمعرفة كونها مقيدة أم لا؟

أو كانت صالحة للتَّقييد أم لا؟

الثَّالث: قد يكون بعض ألفاظ لسان الشَّارع جاءت مطلقة، ولكن لم يعثر على المقيَّد لمشاكل تغيُّر الأمور بسبب الأحداث غير المتعمَّدة أو تغييرها بما كان متعمَّداً.

أو كانت هناك مؤشِّرات تعطي الأمل في تحصيل هذا المقيَّد بعد السَّعي والتَّنقيب وبالأخص بعد وقت العمل.

فاحتيج إلى هذا البحث والى أصل هذا الأمر الثَّالث من الأمور بأجمعه، لذكر مدى الحاجة في جميع مجالاتها لبيان القواعد والتَّطبيق وكما أوضحنا بعضاً من ذلك في الأمر الثَّاني الذي قبله كذلك.

الرَّابع: ومن ذلك الحاجة إلى البحث الأصولي والتَّوسُّع فيه حول هذا الأمر للتَّعرف على مدى ضرورة قواعد هذا الأمر وضعاً بناءاً عليه أو بما تقتضيه الحكمة في مقدِّماتها ممَّا سيأتي تفصيله.

الخامس: وبسبب ما وُجِدَ في ألسنة الفقهاء العظام قديماً وحديثاً، وهي الَّتي عبَّرت من حيث النَّتيجة بوجود الإطلاقات والتَّقييدات للأحكام في فتاواهم واستدلالاتهم، من مجموع الأدلَّة الَّتي قد تتجاوز مرحلة اللِّسانين الشَّريفين الأساسيَّين أو ما ظهر لهم من خصوص اللسانين أنفسهما.

ممَّا يعطينا مؤشِّر عدم جواز الغفلة أو التَّغافل عن هذا الأمر، لأجل استفراغ الوسع في مقام الاستدلال ووجوبه لإبراء الذمَّة أكثر ما دام ظن وجود الإطلاق

ص: 53

وحده من دون مقيِّد أو ظن وجود الإطلاق حاصلاً مع المقيَّد.

الرَّابع / اصطلاح الإطلاق والتَّقييد

هل يعطي التَّلازم بينهما ولو إجمالاً أم لا؟

على الرغم من اقتضاء الحكمة في الحكم الشَّرعي في بعض الأحوال لأن يكون في بعض ألفاظه نصوصاً أو ظواهر ما يرتبط بالإطلاق فقط، أو كان قد بحث عن المقيَّد حينما احتمل تحصيله ولكن لم يحالف الحظ على تحصيله وبقي الإطلاق وحده، أو شُكَّ في وجود المقيِّد وجاء مورد الرُّجوع عند الشَّك إلى أصالة الإطلاق،.

فانَّه قد اعتبر عند تدوين الأصول اصطلاح التَّلازم بين الإطلاق والتَّقييد ولو على اقل نسبة من نسب التَّطبيق الفعلي في ذلك جدلاً وإن كان الأمر ليس كذلك واقعاً.

فإذا سمِّي اللَّفظ مطلقاً وكان صالحاً للإطلاق كما سيأتي بيانه فلابدَّ من أن يكونإطلاقه في مقابل التَّقييد له.

وإذا سمِّي اللفظ الآخر مقيَّداً فلابدَّ أن يكون التَّقييد به في مقابل الإطلاق له، كالتَّناسب بين الأشد والأضعف لتثبيت ركنَّية هذه الصَّلاحيَّة من حيث المبدأ.

وإن كان المطلق قد يثبت وجود نفسه وحده من دون مقيِّد إمَّا بتعيين من الشَّارع أو لم يعثر على مقيِّده لو كان كما مرَّ بيان بعض حالاته.

ولعلَّ هذا التَّلازم بينهما فيما عدا هاتين الحالتين وهما لا يضرَّان في صدق التَّلازم.

أو كان اصطلاح التَّلازم في عمومه ولو للاستعداد لما سوف يعثر على المقيِّد المطلوب بعد ذلك حينما كان محتملاً أو لم يعثر فعلاً عليه وبقي في ظرف الشَّك وإن ألحق الأمر بأصالة الإطلاق للتَّطبيق الشَّرعي الفعلي في المستعجلات.

ص: 54

ولكن بقى احتمال التَّحصيل منتظراً إلى حين الوقت المناسب المستقبلي ما عدا ما عيَّنه الله في شرعه مطلقاً لا قيد له بحكمته.

بل إنَّ هذا الخارج وهو ما أطلق لفظه من دون مقيِّد شرعاً هو الدَّاخل في معنى التَّلازم كذلك.

لكن ذلك من ناحية أخرى، وهي كون هذا اللَّفظ المطلق مطلقاً في مقابل التَّقييد كما مرَّ من جهة بيانَّية مع كونه لم يقيَّد وهو وارد في علم المعاني والبيان.

وإن كان يمكن حينئذ أن لا يسمَّى بلفظ المطلق على رأي السيِّد الأستاذ قدس سره القائل بتقابل التَّضاد(1) كما سيأتي.

أم بسبب حالة الوضع للإطلاق فقط لا لمقدِّمات الحكمة كما يراه القدماء في بعض الألفاظ، وهو ما سوف نجيب عنه وعمَّا سبقه إنشاء الله.

ولكنَّهم اختلفوا بينهم في هذا التَّلازم قديماً وحديثاً وهو الَّذي بمعنى التَّقابل على أقوال:-

أوَّلاً: كونه تقابل العدم والملكة أو الملكة وعدمها.

لأنَّ الإطلاق هو عدم التَّقييد فيما من شأنه أن يقيَّد، فيتبع الإطلاق التَّقييد في الإمكان، أي أنَّه إذا أمكن التَّقييد في الكلام وفي لسان الدَّليل أمكن الإطلاق، ولو امتنع استحال الإطلاق كالتَّلازم بين الأشد والأضعف.

بمعنى أنَّه لا يمكن فرض استكشاف الإطلاق وإرادته من كلام المتكلِّم في مورد لا يصح فيه التَّقييد، بل يكون مثل هذا الكلام لا مطلقاً ولا مقيداً، كأمثلة النكرة في سياق النفي ممَّا مرَّ بيانه وغيره مما يأتي، وإن كان في الواقع أنَّ المتكلِّم لابدَّ وأن يريد أحدهما من حيث النَّتيجة الخارجيَّة.

وهذا الرَّأي هو الَّذي استقرَّ عليه الكثيرون من الأصولييَّن المتأخِّرين، ومنهم

ص: 55


1- محاضرات في أصول الفقه ج5 ص 365.

الشَّيخ النَّائيني قدس سره(1) وتبعه الشَّيخ المظفَّر قدس سره في أصوله(2)، وقد أستفيد ذلك من ذكر تعاريف صاحب المعالم قدس سره للمطلق والمقيَّد(3) كما مرَّ ذكره(4).

ثانياً: كون التَّقابل بين الإطلاق والتَّقييد تقابل التَّضاد.

بمعنى أنَّه إذا استحال أحدهما وهو التَّقييد مثلاً تعيَّن الآخر وهو الإطلاق، وهو رأي السيِّد الأستاذ قدس سره(5).

معتبراً أنَّ تقابل الملكة وعدمها لا يمكن تقبُّله وهو الَّذي كالعمى والبصر في مقامالإطلاق والتَّقييد، لأنَّ مثل (رقبة) و(رقبة مؤمنة) في نظره على هذا الأساس بينهما تضاد لا غير، لكون كل منهما وجوديَّاً مضاداً لصاحبه، لعدم اجتماعهما معاً في آن واحد.

لكن بعد التأمل في كلام الشيخ الآخوند قدس سره - وهذا المثال الأخير - يظهر منه أنَّ (رقبة) في إطلاقها هي عدم خصوص كونها (رقبة مؤمنة) عمَّا من شأنها أن تكون (رقبة مؤمنة) بالفطرة.

وهكذا بقيَّة الأمثلة الَّتي قد لا ينكرها حتَّى السيِّد الأستاذ قدس سره بالبناء عليها، بناءاً على اعتبار الماهيَّة (لا بشرط).

وإذا كان لا يمكن في نظره الشَّريف أن يقال للسَّاكن متحرِّكاً وللمتحرك ساكناً كما هو الصحيح في بعض الحالات، ومثله على هذا الأساس أيضاً لا يقال للمطلق مقيَّداً ولا للمقيَّد مطلقاً.

ص: 56


1- أجود التَّقريرات ج1 ص520.
2- أصول الفقه - الشيخ محمد رضا المظفر - ج1 ص225.
3- معالم الدِّين وملاذ المجتهدين - ابن الشِّهيد الثَّاني - ص150.
4- راجع ص 45.
5- محاضرات في أصول الفقه ج5 ص 365.

إلاَّ أنَّه يمكن اجتماع المطلق والمقيَّد في حالة أخرى، وهي كون المطلق إذا قيِّد صار شيئاً آخر وقصدنا منه هو حالة التطبيق الخارجي لا المطلق من حيث هو وحده ولا المقيَّد من حيث هو وحده، فإنَّ التَّضاد من هذه النَّاحية لا مانع منه.

وهكذا المتحرك لابدَّ وأنَّ تنتهي حركته إلى سكون وإن لم يصح العكس من جميع حالاته.

ولذلك يعتبر التَّعبير بالعمى والبصر أفضل لأنه أوسع مجالاً للانطباق الخارجي.

وثم إنَّه إذا امتنع التَّقييد تعيَّن الآخر وإن صحَّ ولكن ليس معناه انه يصح تسميته بالمطلق، وهذا يختلف عن معنى التَّضاد بناءاً على اعتبار الماهيَّة (بشرط شيء) حذراً من حصول المجازيَّة عند التَّقييد وهي ما تخص حالة القول بالوضع على هذا النَّحو كما اشرنا.

ثم إنَّ العمى والبصر في أمر تقابل الملكة وعدمها لا ينافيان أمثلة الإطلاق والتَّقييد بأجمعها، والكل من باب واحد لأنَّ المقصود من العمى الَّذي هو عدم البصر وكما قال تعالى [وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ](1) هو ما كان لصاحبه قابليَّة البصر لا كالجدار، وإن جاء عماه من الولادة، وإلاَّ كيف ولد وله عينان، لأنَّ عمى الولادة قد يكون سببه من الوالدين فضلاً عمَّا لو طرؤ العمى بعد الولادة، وهكذا (رقبة) المطلقة هي عدم (المؤمنة) عمَّا من شأنها أن تكون مؤمنة لوجود القابليَّة بحكم الفطرة لما ورد (كل مولود يولد على الفطرة).

ولم تمتنع كذلك جميع الأمثلة الأخرى من الإطلاق والتَّقييد عن صدق هذا عليها إلاَّ في السَّالبة بانتقاء الموضوع كقاعدة (لا شكَّ لكثير الشَّك)(2) ونحوه، فإنَّ

ص: 57


1- سورة فاطر / آية 19.
2- بناءاً على مجموعة من الرِّوايات، منها صحيحة محمَّد بن مسلم عن أبي جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: (إذا كثر عليك السَّهو فامض في صلاتك)، وسائل الشيعة ج 5، ص329، ب 16 ح 1.

حالة العدم فيه حينما وجدت بنفي كثرة الشَّك لا تعني وجود شيء من الإطلاق ولا عدمه.وعليه فيكون التَّضاد بين الإطلاق والتَّقييد في أمثلتهما والَّذي معناه عدم التَّصادق الخارجي بينهما لا داعي له لوجود العدميَّة الظليَّة في البين لا الذَّاتيَّة.

ثالثاً: كون التَّقابل بين الاثنين تقابل التَّناقض.

أي إذا ارتفع أحدهما تعيَّن الآخر، وهو ما مال إليه الشَّيخ أغا ضياء الدِّين العراقي قدس سره(1) وتبعه الشَّهيد الصَّدر قدس سره(2).

ولكنَّه أبعد من التَّضاد حسب المتصوَّر الصَّحيح الَّذي ذكرناه، وإن صحَّ التَّعبير بذلك تسامحاً.

لأنَّ التَّعريف الماضي للمقيَّد بقولهم (هو ما دلَّ لا على شايع في جنسه) وإن كان يناسب التَّناقض، إلاَّ أنَّه ليس معناه أن لا يلتقي مطلق مع قيده بإطلاق الإمكان فيكون مقيداً معتداً به لذلك.

وهذا هو معنى القابليَّة والشَّأنيَّة، مضافاً إلى أننا رجَّحنا التَّعريف الثاني وهو (ما أخرج عن شياع) كما مرَّ.

وعليه فيكون بارتفاع أحدهما وهو الإطلاق على مبنى هذا القول يتعيَّن الآخر وهو التَّقييد، إلاَّ أنَّه عليه أن لا يسميِّه مقيَّداً للتَّلازم بين الإطلاق والتَّقييد وهو مستحيل.

الخامس / هل يختص الإطلاق في المفردات أم يطرأ على الجمل؟

لا يختص الإطلاق المرتبط بالتَّقييد ارتباط الملكة وعدمها المذكور بالألفاظ المفردة

ص: 58


1- نهاية الأفكار - آقا ضياء العراقي - ج3 ص17.
2- دروس في علم الأصول - السيد محمد باقر الصدر - ج2 ص81 - 82.

من آيات الأحكام وما يلحق بها من السنَّة من اسم الجنس وعلم الجنس والنَّكرة والجموع مما مرَّ تمثيله في بداية البحث.

بل يشمل الجمل أيضاً كإطلاق صيغة افعل الَّذي يقتضى استفادة الوجوب العيني فيها كما في قوله تعالى [أَقِمْ الصَّلاةَ](1) من الَّتي يراد منها اليوميَّة على المكلَّفين، فهي المطلقة في حالاتها المختلفة أوقاتاً وكيفيَّات وصلحت أن يعتد بمقيَّداتها الأخرى من الأدلَّة بلا أن يكون ذلك الوجوب كفائيَّاً كبعض الواجبات الأخرى.

وهكذا [وأَقِيمُوا الصَّلاةَ](2) لأنَّها (لا تسقط بحال)(3).

أو صيغة افعل ذات العلاقة بما يقتضيه الوجوب التَّعييني لا التَّخييري كما في قوله تعالى [فَلْيَصُمْهُ](4) من الَّتي يراد منها تعيين الصَّوم على كل المكلَّفين غير المرضى والمسافرين، بعد سقوط حالة التَّخيير الَّتي كانت في بداية تشريع الصَّوم الصَّعبة على نوع المبتدئين.

فهذه الفقرة من الآية أمر مطلق بتعدُّد حالاته وأيضاً تقبل التَّقييد، ولذا قيِّدت بفقرة أخرى من القرآن وهي [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ](5) وقوله تعالى في فقرة أخرى من آيات الصوم [شَهْرُ رَمَضَانَ] حيث عيَّنت الشَّهر بصورة أخص.

أو صيغة افعل ذات العلاقة بالوجوب النَّفسي المخالف للغيري، فإنَّ كلمة (حجُّوا) في حديث النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قابل للإطلاق في بدايته.

وعليه فهي وحدها فعلاً تعد مطلقة ولكنَّها صارت مقيدةً بتكملته بعد ذلك وهي

ص: 59


1- سورة الإسراء / آية 78.
2- سورة البقرة / آية 43.
3- وسائل الشيعة ج2 ص373 / أبواب الاستحاضة ب 1 ح 5.
4- سورة البقرة / آية 185.
5- سورة البقرة / آية 185.

قوله (خذوا عنِّي مناسككم)(1) أي لا عن طريق آخر غير ذات رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أو نفسه وهو أمير المؤمنين وأبنائه عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

فإنَّ الإطلاق في جميع هذه الأوامر إنَّما هو نوع إطلاق الجملة وهو حج التمتع أو القرآن أو الأفراد أو مطلق الأحوال في كل من هذه الأقسام، فإنَّ جميعها مراد حتماً بهذا الإطلاق.

ومثله إطلاق الجملة الشَّرطية في استفادة الانحصار في الشَّرط، كما في قول الشَّارع مثلاً (إن ظاهرت فاعتق رقبة) وقوله بعد ذلك (لا تملك رقبة كافرة) فإنَّ الثَّاني يقيِّد الأوَّل بنفي الكفر لا محالة.

ولكن قد يبدو من بعض التَّصرفات الأصوليَّة هو التَّركيز على المفردات ممَّا قديستظهر منه عدم العناية بما يقع في الجمل.

ولعلَّ عدم شمول البحث عندهم للجمل أنَّه كان لاعتبار عدم وجود ضابط كلِّي لمطلقاتها، ولكن عدم وجود هذا الضابط الَّذي يرضيهم لا يمنع شمول بحث مقدِّمات الحكمة لهذه الأمور عند غيرهم.

وقد بحث عن إطلاق بعض الجمل في مناسباتها كإطلاق صيغة افعل الآمرة ولا تفعل الناهية والجملة الشَّرطيَّة ونحوها عند هؤلاء الآخرين، وقد مرَّ تمثيلنا لذلك في بدايات البحث.

السَّادس / الإطلاق والتَّقييد وارتباطهما بالوضع أو بمقدِّمات الحكمة؟

قد أشرنا فيما سبق ونقول الآن بعدم الشَّك في كون الإطلاق في الأعلام

ص: 60


1- أخرجه مسلم في صحيحه (2/ 943، رقم 1297). واللَّفظ للبيهقي في السنن الكبرى (5/ 204، رقم 9542)، ولفظ مسلم: "لتأْخذوا مناسككم فإنَّي لا أدري لعلِّي لا أحج بعد حجتي هذه".

الشَّخصيَّة اتِّجاه أحوالها وكيفيَّاتها ليس هو بالوضع من جهة الواضع، وكذلك في الجمل وما شابهها كالجمل الشَّرطيَّة بل إنَّما هو مستفاد من خصوص مقدمات الحكمة المشار إليها سابقاً على الأصح وهي الثَّلاثة المعروفة(1) وهي:

1. إمكان الإطلاق والتَّقييد من جهة صحة التَّقابل السَّابق ذكره.

2. عدم نصب قرينة على التَّقييد متَّصلة ولا منفصلة.

3. كون المتكلِّم في مقام البيان لا في مقام التشريع، لاحتمال أن التَّشريع إذا صار لا يراد تنجيزه مستعجلاً.

لأنَّه لا خلاف في ذلك عند الجميع قديماً وحديثاً، وعن طريق إعمال هذه المقدِّمات استكشف كون المطلق مطلقاً لا كونه قد وضع لذلك لعدم الدَّليل عليه، وإن وضعت بعض ألفاظ العموم لعدم الملازمة بين العام والمطلق، وإنَّما الإشكال وسبب القيل والقال ما بين أهل العلم من القدماء والمتأخرين هو في أسماء الأجناس وأعلامها والنَّكرات، عدا النَّكرة في سياق النَّفي وبعض الجموع.

فقال القدماء بأنَّها موضوعة لمعانيها بما هي شائعة ومرسلة على وجه يكون الإرسال والإطلاق مأخوذاً في المعنى الموضوع له اللفظ.

وقال المتأخِّرون ابتداءاً من سلطان العلماء قدس سره(2) بأنَّها موضوعة لنفس المعاني بما هي، بدون زيادة الإطلاق فيها، وإنَّما الإطلاق يستفاد من مقدِّمات الحكمة بسبب نفس تجرُّد اللفظ من القيد.

وعلى قول القدماء يكون استعمال اللفظ في المقيَّد من باب المجاز، لأنَّه استعمل في غير ما وضع له، وهو محذور لا يمكن تحمله في مقابل الحقيقة.

وعلى قول المتأخرين يكون من باب الحقيقة، لأنَّه ما عرف الإطلاق في هذه

ص: 61


1- راجع ص17 سطر 8،7،6.
2- راجع هذه النِّسبة في كتاب أصول الشَّيخ المظفَّر قدس سره ج1 - ص227.

الألفاظ عندهم إلاَّ بمقدِّمات الحكمة، بعدما كانت دالَّة في الوضع على خصوص معانيها بما هي من ما عدا الإطلاق حتَّى صارت صالحة للتَّقيد بعد ذلك من تلك المقدِّمات.

ولتوضيح المطلب - ومحاولة التَّقريب بين القديم والحديث مع إمكانه ومحذور البقاء على هذا الخلاف مع هذا الإمكان إن أبقيناه على حاله إذ بإبقائه حين إذ لا يجعل المجازيَّة مساوية للحقيقة بتاتاً - نحتاج إلى تقديم أمور ثلاثة، ثانيها وثالثها يصحان أن يكونا هما المقصودان في هذه الألفاظ، لتكون على معنى ما يصح منهما وعن طريقهما قد يتم العلاج، وهي المسمَّاة ب- (اعتبارات الماهية الثَّلاث) إذا قيست إلى ما هو خارج عن ذاتها، كما إذا قيست الرَّقبة بعد أطلاقها إلى الإيمان بعد التَّقييد عند الحكم عليها بحكم ما كوجوب العتق ونحو ذلك ممَّا سيتَّضح، وهذه الأمور الثَّلاثة هي:

أوَّلاً: أن تعتبر الماهيَّة المقولة في جواب ما هو مشروطة بعدمه، كما إذا كان القصر في الصَّلاة واجباً على المسافر غير العاصي في سفره بمثل السَّرقة والفرار من الزَّحفونحوهما، وتسمَّى بالماهيَّة (بشرط لا)، لأخذ عدم العصيان فيه في موضوع الحكم.

ثانياً: أن تعتبر الماهيَّة مشروطة بذلك الأمر الخارج، كاشتراط كون الرَّقبة مؤمنة بعد الظهار، فتسمَّى بالماهيَّة (بشرط شيء).

وهذا هو الاعتبار الَّذي يتناسب مع قول القدماء المدَّعى في كون أسماء الأجناس والأعلام والنَّكرات بأنَّها مطلقة وضعاً عندهم لا غير وباستمرار بحيث لو قيِّدت لكان ذلك بحكم المجاز.

ثالثاً: أن لا تعتبر مشروطة بوجوده ولا بعدمه، كوجوب الصَّلاة على الإنسان الَّذي لم تشترط فيه حالة الحريَّة ولا عدمها.

ص: 62

وإذا اعتبرنا صفة كون المكلَّف حرَّاً لكثرة الأحرار وندرة العبيد -- أو إنَّ عدم توفُّر الأخير -- لا يعني كون المكلَّف حرَّاً شرطاً، لأنَّ أصل الوجوب لم تعتبر فيه الحريَّة لا بوجودها ولا بعدمها.

فهو ما يناسب أن تسمَّى الماهيَّة بالماهيَّة (لا بشرط)، وتسمى أيضاً ب-(اللا بشرط القسمي)، وهو الَّذي معناه أنَّه القسم الثَّالث من هذه الأقسام الثلاثة.

وهو الَّذي لو اعتبر على رأي القدماء في حمل المطلقات عليه لأمكن فيه الجمع بين القديم والحديث عليه بلا مجازيَّة فيه عند تقييدها كما سيأتي.

وقد يطلق عليه بالقسيم أي أحد الأقسام الثلاثة.

وأمَّا مقسم الثَّلاثة فهو نفس لفظ (اعتبارات الماهيَّة) المذكورة سابقاً، ويمكن أن يكون (اللا بشرط القسمي) المذكور في مقابل (اللا بشرط المقسمي) كأحد أفراده.

وهذا الأخير تعبير عن الماهيَّة الَّتي تعرض لها علماء المنطق والأصوليون لمعنى آخر وهو كونه مقسماً للثلاثة المذكورة بأجمعها مكان لفظ (اعتبارات الماهيَّة) المذكورة.

وبما أنَّه لا ينفعنا ذكر (اللا بشرط المقسمي) الآن كثيراً فهو إلى الإعراض عنه وكذلك عن الماهيَّة الأخرى المسمَّاة بالمهملة - المفسَّرة بالمبهمة الَّتي لا ترتبط إلاَّ بخصوص ذات الشيء وذاتيَّاته مع قطع النَّظر عن خصوص الاعتبارات الثَّلاث الماضية - أفضل.

فالعمدة إذن هو القسم الثَّاني والثَّالث من المجموع الأوَّل من الاعتبارات وهو الَّذي يراد منه معنى الإطلاق في باب المطلق والمقيد.

وهو الواضح من الثَّالث أكثر باللُّجوء إليه في الحقيقة بنحو أجدر.

ولكن الاختلاف بين القدماء والمتأخرين هو ما يحتاج إلى الحل عند الإمكان، وبالأخص لو أمكن الجمع بين الرَّأيين كما أشرنا للوصول إلى فكرة موحَّدة يستفاد

ص: 63

منها كمنهج واحد حين الابتلاء بلفظ من الكتاب أو السنة الملحقة بآيات أحكامه للتَّعرف على كونه مطلقاً حقيقة من دون ارتباط بمجازيه.

وخلاصة إمكان الجمع أنَّه لا يمكن أن يحرز فيه شيء من ذلك بعدما اختلفوا على أقوال بنحو آخر عدُّوها أربعة لا داعي إلى ذكرها اختصاراً إلاَّ برابعها حسب وهو المتصل في نتيجته بثالث اعتبارات الماهيَّة الماضية، وهو الَّذي يتصور معناه أنَّ الموضوع لهذات المعنى المفيد هو (اللا بشرط القسمي) بلا حاجة مهمَّة إلى ذكر بقيَّة الأقوال الثَّلاثة الَّتي قبله.

على أن يكون هذا الاعتبار مصحِّحاً للموضوع لا قيداً للموضوع له لئلاَّ يكون من هذه الاعتبارات ما هو (بشرط شيء) هو المراد في مطلبنا.

بل يجب أن يكون هو هذا المعتبر الثَّالث المسمَّى ب-(اللا بشرط) كي يمكن الجمع، وبذلك يكون مطلقاً، ولو قيد هذا المطلق حينما صار كذلك بمقدِّمات الحكمة لا يكون مجازاً ومستعملاً في غير ما وضع له بينما لو جعل الوضع (بشرط شيء)، فإنَّ المجازيَّة تظهر لاستمرار الإطلاق وضعاً وما يبرز منه الخلاف حينئذ.

وبذلك قد اتَّفق المتأخرون أو بعضهم حلاًّ للإشكال، على أنَّ الموضوع له إذا كان هو خصوص ذات المعنى لا الإطلاق بماهيَّة (شرط شيء) ثمَّ صار مطلقاً بال- (لا بشرط)، فإنَّه إذا قيِّد فسوف لا يكون استعمال اللفظ في المقيد مجازاً، وبذلك يمكن أن يتحقَّق التَّلائم بين الجانبين من القدامى إذا قبلوا ال- (لا بشرط) بعد كون الموضوع له ذاتاً فقط عندهم مع المتأخرين حينما لا تكون المجازيَّة مثبتة عند القدماء بإصرار إذ هي مشكوكة في نسبتها لهم على ما يروى أيضاً.

ولا مشاحَّة في الاصطلاح من حيث أسلوب الاستثمار إذا كانت النَّتيجة تظهر متَّحدة.

كيف وأنَّ المرجع هو مقدِّمات الحكمة في المقام عند القدماء كذلك على ما بينَّاه

ص: 64

مع رضاهم بما قرَّرناه.

ونوضِّح ذلك بصورة أكثر فنقول:-

مثلاً لو جاء اسم جنس أو اسم علم أو نكرة، وكان كل منها موضوعاً من قبل الواضع -- على خصوص معناه على رأي القدماء وهو المراد من اعتبارات الماهيَّة الماضية (بشرط شيء) من دون أن يضاف إلى خصوص هذه المعاني الإطلاق كما يعتبره المتأخِّرون لنفوذ (اللا بشرط) في هذه المعاني بعد ذلك الوضع ممَّا يجعل مجال الإطلاق في هذه الألفاظ متحقِّقاً و(اللا بشرط) بعد التأمُّل يسيراً لا تتنافى مع مقدِّمات الحكمة المشار إليها --

ثمَّ حصل التَّقييد بعد ذلك فلابدَّ من أن تراد الحقيقة ويبتعد المجاز، وبذلك يمكن الجمع بين الاثنين وهم القدامى والمتأخِّرون.

السَّابع / خصوص مقدِّمات الحكمة وأثرها في المقام

لما ثبت جملة بل تفصيلاً أنَّ مقدِّمات الحكمة لها دخل مهم في تشخيص الإطلاق لتهيئة اللَّفظ للتَّقييد مع الحاجة إليه بالفحص واستفراغ الوسع أو لجعله مهيَّأً ولو للعثور على المقيِّد صدفة إن كان على خلاف الألفاظ الَّتي لا تصلح للإطلاق، وبالأخص حال كون الألفاظ موضوعة لذات المعاني لا للمعاني بما هي مطلقة وهي كالَّتي بشرط شيء ممَّا مرَّ ذكره.

فلابدَّ في إثبات أنَّ المقصود من اللَّفظ هو المطلق لتسرية الحكم إلى تمام الأفراد والمصاديق من قرينة خاصَّة أو عامَّة تجعل الكلام ظاهراً في إرادة الإطلاق عن طريق هذه المقدِّمات، وهي ثلاثة معروفة وقد أزادها بعض الإعلام باثنين.

ولكن نحن نقتصر على ما هو المعروف منطقيَّاً وأصوليَّاً، وهو مجرَّد هذه الثَّلاثة

ص: 65

الَّتي تقدَّم ذكرها(1)، لخلوها من المناقشة كالاثنين الآخرين حين رغبتنا الآن في عدم التَّوسع الكثير، ونذكرها بتفاصيلها ومناقشاتها، وهي:-

المقدِّمة الأولى: هي إمكان الإطلاق والتَّقييد.

بأنَّ يكون المتكلِّم الشَّرعي متمكِّناً من البيان والإتيان بالقيد وعلى نحو يكون متعلَّق الحكم أو موضوعه قبل فرض تعلق الحكم به قابلاً للانقسام كأي مثال من مستوى أمثلة مصاديق ما ينطبق عليه الإطلاق والتَّقييد ممَّا يطلق عليه التَّقسيمات الأوليَّة كما في الواجبات.

فإنَّ الصَّلاة مثلاً تنقسم باعتبار الخصوصيَّات الإيجابيَّة والسَّلبية الَّتي يمكن أن تلحقها في الخارج في ذاتها مع قطع النَّظر عن تعلق الأمر بها إلى ذات سورة وفاقدتها أو ذات تسليم وفاقدته ونحو ذلك، وبذلك تكون مطلقة لأنَّها مع صحَّة اشتمالها على القسمينقبل الاتِّصاف بخصوص أحدهما وقبولها تصل إلى هذا المعنى من الإطلاق.

لذلك ومع قطع النظر عن خصوص الصحة أو البطلان مثلاً فسوف تكون في باب اعتبارات الماهيَّة الثلاث من قبيل (اللا بشرط) وهو معنى الإطلاق، على خلاف ما إذا كانت بقيد الاتِّصاف بالسُّورة لملاحظة خصوص حالة الصحة الشرعية مثلاً فإنَّها تكون (بشرط شيء) من هذه الاعتبارات، وهو معنى التَّقييد.

وهذا كلُّه في هذه المقدِّمة الأولى على خلاف حالة عدم قبول هذا الانقسام إلاَّ بعد التَّعلُّق، وهو في مثل ما لا يمكن أخذه قيداً في المأمور به، وهو قيد قصد الامتثال.

إذ قبل تحقُّق الحكم مثلاً إيجاباً أو سلباً لا معنى لغرض إتيان الصَّلاة مثلاً بداعي أمرها وهو لم يكن، لأنَّ المفروض في هذه الحالة لا أمر بها حتَّى يمكن فرض قصده

ص: 66


1- راجع ص17 سطر 8،7،6 الَّتي تتعلَّق بالعام والخاص، وص61 والَّتي تتعلَّق بالمطلق والمقيَّد بصورة إجماليَّة، وهنا بصورة تفصيليَّة.

كما في النيَّة.

وهكذا الحالة السَّلبيَّة المعاكسة، فلا إطلاق لعدم إمكان التَّقييد بسبب استحالته، لأنَّ تقييد الصَّلاة بالنيَّة إنَّما هو عند الأمر بها، وتقسيم الصَّلاة إلى منويَّة لتصح وغير منويَّة لتبطل لا محلَّ له بعد التَّكليف، لأنَّه لم يكن من قصدنا حينئذ.

فإذن لا يصح الإطلاق، وإنَّما هو الَّذي لو كان قبل ذلك، ولذا يكون هنا من قبيل السَّالبة بانتفاء الموضوع.

ومن أمثلة ما لا إطلاق له لعدم إمكان تقييده هو قولهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ (لا صلاة إلاَّ بطهور)(1) وإن دخل في العموم، وكل مثال فيه النَّكرة في سياق النَّفي.

المقدِّمة الثَّانية: عدم نصب قرينة على التَّقييد لا متَّصلة ولا منفصلة.

لأنَّه مع القرينة المتَّصلة لا ينعقد ظهور للكلام إلاَّ في المقيَّد، وإذا قيِّد المطلق لا يبقى لنا مجال للانتفاع بالمطلق، لعدم الدَّاعي له، إلاَّ أنَّه دليل على ثبوت الإطلاق له قبل أن يقيَّد لو لم يلازمه القيد في النُّصوص والظواهر من بداية التَّشريع أو كقاعدة يستفاد منها معرفة المطلق من جرَّاء صلاحيَّته للتَّقييد بسبب ما مرَّ من تقابل الملكة وعدمها ممَّا بين الإطلاق والتَّقييد.

ومع المنفصلة فينعقد للكلام ظهور في الإطلاق حتماً، ولكنَّه يسقط عن الحجيَّة المستمرَّة، لقيام القرينة المقدَّمة عليه والحاكمة الَّتي سوف تقيِّده أيضاً، فيكون ظهوره ظهوراً بدويَّاً كما قلنا في تخصيص العموم المنفصل، وهو غير نافع تماماً، ولا تكون للمطلق تلك الدِّلالة التَّصديقيَّة الكاشفة عن مراد المتكلِّم.

بل الدِّلالة التَّصديقيَّة إنَّما هي على إرادة التَّقييد واقعاً إلاَّ في بعض الحالات الَّتي قد تكون نادرة بأشد من ندره العموم الَّذي يأتيه المخصِّص منفصلاً، كما في

ص: 67


1- وسائل الشِّيعة ج1 ص365 / أبواب الوضوء ب 1 ح1.

حالة الإطلاق ممَّا قبل موعد مجيء المقيِّد المنفصل واحتملت فوريَّة العمل وتعطُّل المقيِّد إلى حين قد يكون بعيداً يصعب انتظاره بفوريَّة وجوب عتق رقبة، فإنَّه قد يفتى لذلك بوجوب الإسراع بعتق أي رقبة متوفِّرة كانت حينئذ.المقدِّمة الثالثة: أن يكون المتكلِّم في مقام البيان لا الإجمال أو الإهمال.

فإنَّه لو لم يكن في مقام البيان بأن كان في مقام التَّشريع الَّذي قد يقضى المشرِّع في تشريعه قضاءه بمجرَّد إبداء الحكم وليس عنده غرض سوى ذلك فلا إطلاق فيه للإجمال.

وأمَّا كون التَّشريع لذلك الشَّيء منجِّزاً فوريَّاً فلا دليل عليه إلاَّ في النُّصوص والواضحات من الظواهر، لأنَّه مع عدم النُّصوص والواضحات من الظواهر قد يخضع إلى انتظار مجيء وقت آخر يناسب العمل بتمام إن تبيَّن له دليل منخفض مقبول.

وكذا الإجمال الامتحاني وغيره من أهداف الحكيم، فإنَّه لا ينعقد له ظهور في الإطلاق وكذلك حالة الإهمال إذا اقتضت حكمته فإنَّه لا ينعقد له ظهور في الإطلاق.

ولنضرب مثالاً على الإهمال من هذه الأمور، وهو فيما إذا كان المشرِّع في صدد حكم آخر غير ما عُدَّ مهملاً لالتماسه من دليل آخر مثل قوله تعالى من بعض آيات الأحكام [فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ](1) الوارد في مقام بيان حل صيد الكلاب المعلَّمة من جهة كونه ميتة فأباحه تعالى وليس هو في مقام بيان مواضع الإمساك في أنها تتنجَّس بسبب القضم فيجب تطهيرها أم لا؟.

فإنَّ هذا المقام له مورده الآخر للتَّدليل عليه في وجوب تطهيره الحتمي، فإذن لم

ص: 68


1- سورة المائدة / آية 4.

يكن هو في مقام بيان هذه الجهة فلا ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق من هذه الناحية حتى يشمل هذا المقام أيضاً.

نعم لو شكَّ في بعض الصُّور أنَّ المتكلِّم في مقام البيان أو الإهمال؟

فإنَّ الأصل العقلائي يقتضي بأن يكون في مقام البيان، لأنَّ العقلاء عادة لا يحملون المتكلَّم إلاَّ على أنَّه ملتفت غير غافل وجاد غير هازل عند الشَّك في ذلك.

وكذلك يحملونه على أنَّه في مقام البيان والإفهام لا في مقام الإهمال والإبهام وبالأخص المشرِّع لا كما في الآية ممَّا قد يتوهَّمه المتساهلون، وقد أضيف إلى هذه المقدِّمات الثَّلاث اثنان لا داعي إلى الإطالة بهما لأهمية خصوص الثلاثة عند الجميع.

وبعد بيان هذه المقدِّمات الثَّلاث فكل كلام مجرَّد من القيد يُعدُّ مطلقاً يحسب النَّص والظاهر، وكاشفاً عن أنَّ المتكلم لا يريد التَّقييد فعلاً إلاَّ أن تأتي قرائنه، إذ هي غير ممتنعة بحسب الطَّبيعة ما دامت العلاقة بين الإطلاق والتَّقييد علاقة تقابل العدم والملكة كما سلف فهمه.

وإلاَّ لو كان قد أراده المشرَّع واقعاً لكان عليه البيان، ويستحيل على المشرِّع إرادة شيء لم يبيِّنه.

وكذلك يستحيل أن يحاسب عليه قبل ذلك وهو الحكيم الملتفت العادل والجاد غير الهازل.

وبهذا يكون الإطلاق وحده - لو لم يقيَّد بالفعل وبالأخص لو تعطَّل تقييده المحتمل في واجبات قد تكون فوريَّة والموت قد يكون أقرب من الصَّبر والانتظار لمعرفة المقيَّد ونحوذلك وإن صلح للتَّقييد من هذه المقدِّمات للتَّقابل المذكور -

حجَّة على المتكلِّم والسَّامع ولو مؤقَّتاً أو قلَّت مصاديقه صدفة.

ص: 69

الثَّامن / أمثلة الإطلاق والتَّقييد

إنَّ أمثلة الإطلاق والتَّقييد في صحَّة الحمل وعدمه في التَّنافي وعدمه وما ينبغي حول ذلك بما لوحظت الارتباطات بين الصِّيغ التَّعبيريَّة في الكتاب من آيات أحكامه وفي السنَّة التَّابعة لها.

بل حتَّى في لسان أهل العلم الفقهي والأصولي والاصطلاحي المليء بالثَّوابت حسب العادة المتعارفة دائماً والمتعلِّق بالكتاب والسنَّة المشار إليهما حتماً على امتداد تأريخ علمائنا الإماميَّة، ومنهم من كان من غيرهم ثمَّ اهتدى وصار منهم، ومن الغير ممَّن انسجم ولو ببعض الشَّيء معنا بالمطابقة معاً وممَّا جاء في عباراتهم بلسان الدقَّة والمتانة من ذلك ، وبالأخص في جهابذتهم ولو لفهم كلامهم الأصولي والفقهي المطابق أو المتطابق، على أساس ما وضع أدبيَّاً بيانيَّاً ومنطقيَّاً ثمَّ أدخل في الأصول خادم العلم الفقهي الخاص بما بين الإطلاق والتَّقييد من القواعد المتّخذة لتسهيل أمر الوصول إلى الفهم الصَّحيح لمعاني الكتاب والسنَّة ولمعرفة مدى توصُّلات مساعي أولئك الفقهاء من هذين المصدرين الشَّريفين من الإيجابيَّات أو حتَّى إلى ما قد يؤول إلى شيء من غير ذلك اعتماداً منَّا على مبدأ التَّخطئة لو لم يضر التَّلائم.

وذلك كلُّه حينما تجتمع تلك الصِّيغ عند التَّقابل المعهود أمره في بحثنا، سواء في المفردات المصاغة حديثاً جملاً أو الجمل الأصيلة وشبهها من الَّتي تصحِّح حمل المطلق على المقيَّد أو تصحِّحه من حالات التَّنافي وعدمه.

علماً بأنَّ معنى التَّنافي بين المطلق والمقيَّد أنَّ التَّكيُّف في المطلق لا يجتمع مع التَّكيُّف في المقيَّد مع فرض المحافظة على ظهورهما معاً، أي أنَّهما يتكاذبان في ظهورهما لكن لا يعني هذا عدم صحَّة الحمل ولو نادراً في بعض الصُّور إن قلنا بعدم صحَّته نوعاً في الغالب، لأنَّ لكل قاعدة من شواذ كما سيتَّضح.

ص: 70

وأمَّا معنى عدم التَّنافي فهو حالة عدم الاختلاف بين قضيَّتي المطلق والمقيَّد كما سيجيء أيضاً، ممَّا يمكن فيه صحَّة الحمل أو الجمع بلا حمل، فعلى الرَّغم من حالة التَّقابل بين الاثنين عموماً وما اخترناه من التَّلازم بسبب تقابل العدم والملكة ممَّا مرَّ بيانه ولو في الجملة لمراعاة نظر الخصم عناية بأصل المطلب في العرض الابتدائي.

فللتَّدقيق في شأن ذلك مع الأمثلة المعروضة قديماً وحديثاً فرَّق الأصوليُّون بين حالتين لا ثالث لهما:-

الحالة الأولى: إذا ورد مطلق ومقيَّد واختلف حكمهما فقالوا بأنَّه لا يحمل أحدهما على الآخر حينئذ بوجه من الوجوه اتِّفاقاً، إلاَّ في حالة واحدة كما سيجيء.

ومثَّلوا لأصل ما به عدم صحَّة المطلق على المقيَّد عند الاختلاف قديماً كأساس يمكن أن يتفرَّع عليه جميع صور عدم صحَّة الحمل، وهو قولهم فيما لو ورد (أكرم هاشميَّاً) وورد كذلك (جالس هاشميَّاً عالماً) وما يشبهه.

فإنَّ منشأ عدم صحَّة الحمل هو أنَّ إكرام الهاشمي بمثل احترامه غير مجالسة الهاشمي العالم، واتِّضاح هذا الأمر أكثر فيما لو كان التَّكليف واحداً لا يتعدَّد بتعدُّد الاعتبار.

نظير ذلك ما قد مثَّلوا به مؤخَّراً على هذا النَّحو وهو فيما لو قال الطَّبيب لمراجعه (اشرب لبناً) ثمَّ قال (اشرب لبناً حلواً).

فإنَّ ظاهر القول الثَّاني تعيين شرب الحلو منه، وهو الحالة الثَّانية المرتبطة بالأمر بشرب الحلو، لأنَّ الأولى قد تحمل على حالة النَّظرة السَّاذجة الَّتي قد تبيح شرب الحامض وهو مضر، بينما حالة المرض بالنَّظرة الدَّقيقة تدعو إلى خصوص شرب الحلو لشدَّة المرض المعالج بالحلاوة.

الحالة الثَّانية: إذا ورد مطلق ومقيَّد ولم يختلف أحدهما عن الآخر في الحكم، ولكن الاختلاف وعدمه كان في الموجب فواحد متَّحد في الحكم بما بين المطلق والمقيَّد

ص: 71

لكنَّه مختلف في الموجب في حالة الإثبات، واثنان متَّحدان في الموجب أحدهما في المطلق والمقيَّد مثبت وثانيهما في كلاهما منفي.

فهاهنا تكون الأقسام ثلاثة، اثنان أو قسمان لهما علاقة بصحَّة الحمل أو إمكان الجمع والأخير لا يصح فيه الحمل أو الجمع كما سيجيء.

وقد مثَّلوا للأوَّل منها بقولهم قديماً فيما لو ورد (أكرم هاشميَّاً) وورد أيضاً ولو بلسان آخر عما مضى غير مضر (أكرم هاشميَّاً عارفاً).

والثَّاني (لا تعتق المكاتب) و (لا تعتق المكاتب الكافر)، فهنا لابدَّ وأن يحصل المجال بالحمل أو الجمع بين القولين، وهو بطبيعة الحال لم يكن إلاَّ حين ما لو كان التَّكليف في أحدهما معلَّقاً على شيء وفي الآخر معلَّقاً على شيء آخر ممَّا لا يتزاحم معه تطبيق الاثنين في شخص واحد، وهو الهاشمي العارف وغير العارف ولو لشرفه في السِّيادة.

ومثَّلوا حديثاً كذلك بقولهم فيما لو قال الطَّبيب لمريضه (إذا أكلت فاشرب لبناً) وقال أيضاً (إذا استيقظت من النَّوم اشرب لبناً حلواً)، فإنَّه لا تنافي بين الاثنين.وكذلك فيما لو كان التَّكليف في المطلق إلزاميَّاً وفي المقيَّد استحبابيَّاً كما مرَّ في المثال الأوَّل في صورة التَّنافي في قولي الطَّبيب وهما (اشرب لبناً) و (اشرب لبنا حلواً) فيما لو أريد منهما حالة عدم التَّنافي لما أشرنا منه إلى أنَّ حالة القولين مختلف باختلاف الاعتبار والَّذي منه حالة عدم التَّنافي، فإنَّه إذا أريد من الأوَّل وجوب الشُّرب لأصل اللَّبن ومن الثَّاني استحبابه لو كان حلواً فلا تنافي.

وكذلك يمكن أن تجيء حالة عدم التَّنافي في نفس المثال لو فهم من التَّكليف في المقيَّد وهو خصوص اللَّبن الحلو أنَّه تكليف ثاني غير التَّكليف المطلوب من الأوَّل لنفع المريض بالاثنين في حالتين.

ومن هنا نعرف أنَّ القاعدة المعروفة في باب تطبيق الأدلَّة اللَّفظيَّة أو الرِّوايات

ص: 72

القائلة بأنَّ (الجمع مهما أمكن أولى من الطَّرح) تشمل حالة الجمع الدِّلالي والجمع العملي.

أمَّا الحالة الأولى من الحالتين وهي الَّتي فيما لو اختلف فيها حكم المطلق عن المقيَّد ففيها وفي عدم إمكان الحمل للمطلق على المقيَّد صور تصل إلى ستَّة:-

الصَّورة الأولى: فيما لو كان الخطابان المتضمِّنان للإطلاق والتَّقييد من جنس واحد، وهو أنَّ كلاهما أمر كنحو (أكرم هاشميَّاً)، وهو من حالة الإطلاق و (جالس هاشميَّاً عالماً) - وهو من حالة التَّقييد - ففي ذلك لا يمكن حمل المطلق على المقيَّد على أساس ما ذكرناه سابقاً، فيما لو كان التَّكليف واحداً لا متعدِّداً، وهكذا بقيَّة الأمثلة المشابهة.

الصَّورة الثَّانية: فيما لو كان كلا الخطابين نهياً كنحو (لا تبخل على هاشمي) - من حالة الإطلاق - و (لا تفارق هاشميَّاً عالماً في المجالسة) من حالة التَّقييد، وهي ممَّا لا يمكن فيها الحمل كذلك بناءاً على أنَّ التَّكليف واحد وهكذا بقيَّة الأمثلة.

الصَّورة الثَّالثة: فيما لو كان أحدهما أمراً وثانيهما نهياً كنحو (أكرم هاشميَّاً) - من حالة الإطلاق - و (لا تفارق هاشميَّاً عالماً في المجالسة) من حالة التَّقييد، وهذه كالصُّورتين السَّابقتين إذا كانت على نفس المبنى، وكذا العكس.

الصُّورة الرَّابعة: فيما لو كان الموجب في الاثنين واحداً، وهو الأمر الدَّال على الوجوب كنحو (أعط هاشميَّاً من خمسك) و (جالس هاشميَّاً عالماً) وهذه كالسَّوابق لو كانت على نفس المبنى.

الصُّورة الخامسة: فيما لو كان الموجب في الاثنين مختلفاً كما لو قال (إذا لقيت اليتيم فأكرمه) وقال (جالس الهاشمي العالم).

ص: 73

الصُّورة السَّادسة: لو اتَّحد الموجب كما لو قال (إذا لقيت اليتيم فأطعمه) وقال (إذا لقيت الهاشمي العالم فتعلَّم منه).

وبهذا المستوى من التَّنافي في هذه الحالات الستَّة لا يجوز فيها حمل المطلق على المقيَّد أبداً لو كانت على المبنى الماضي ذكره، إلاَّ في حالة واحدة استثنيت وهي مثل أن يقول الآمر (إن ظاهرت فاعتق رقبة) ويقول بعد ذلك (لا تملك رقبة كافرة) فهنا معالتَّنافي والاختلاف لابدَّ وأن يقيَّد المطلق عند التَّطبيق لإبراء الذمَّة بالقدر المتيقَّن من الاثنين ما دام كلا المطلبين وارداً بتساوي في السَّند والدِّلالة ولم يكن غيرهما لينتج من خلال الرَّبط الممكن نفي الكفر عند إرادة إعتاق الرَّقبة بعد الظهار وإن كان الظهار والملك لحكمين مختلفين بحسب الظاهر، لتوقُّف الإعتاق على الملك ولو لنص آخر ثابت في المقام وهو قولهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ (لا عتق إلاَّ في ملك)، ولوجود تكليفين فيختلف أحدهما عن الآخر لا تكليف واحد يمكن اجتماعهما له فيما ذكرناه، سواء تقدَّم أو تأخَّر، وسواء كان مجيء المتأخِّر بعد وقت العمل بالمتقدِّم أو قبله أو بالتَّصرُّف في المقيَّد على وجه لا ينافي الإطلاق ليبقى ظهور المطلق على حاله، ويمكن أن يمثَّل لذلك بقول الطَّبيب (اشرب اللَّبن) و (لا تشرب اللَّبن الحامض) لإرادة الحلو.

وأمَّا الحالة الثَّانية من الحالتين، وهي ما إذا ورد مطلق ومقيَّد ولم يختلف حكمهما ولكن الاختلاف وعدمه كان في الموجب وهو على أقسام ثلاثة كما أشرنا آنفاً:--

القسم الأوَّل: منها أن يتَّحد موجبهما حال كونهما مثبتين مثل قول الآمر (إن ظاهرت فاعتق رقبة) ويقول بعد ذلك (إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة)، ومثله قول الطَّبيب (إن مرضت فاشرب لبناً) أو (إن مرضت فاشرب لبناً حلواً).

فهنا لابدَّ وأن يحمل المطلق على المقيَّد وهو من طبيعيَّات حالات التَّلازم، واستدلَّ عليه بالإجماع، وهو غير غريب في المجال الفقهي إن دلَّت دلائله بتمام،

ص: 74

ولعدم جواز التَّفكيك بين روايتين متكافئتين بهذا النَّحو لو كانتا أو غيرهما.

وأمَّا في حال عدم وجود ذلك فرضاً فهذا الَّذي رتَّبه الأصوليُّون الفحول هنا كقاعدة يُبنى عليها بالنَّتيجة على نهجها حين العثور على مثل هاتين الرِّوايتين فهو من أهله وفي محلَّه وإن كان نظريَّاً قبل العثور عليهما، ولكن (عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود)، بل ما أكثر المصاديق من ذلك لو استفرغ الوسع في سبيله، وممَّن قال بذلك صاحب النِّهاية قدس سره.

وبذلك يكون هذا الحمل من الحمل البياني بين المطلق والمقيَّد لا النَّسخ له كما قيل، سواء تقدَّم أحدهما على الآخر أو تأخَّر، لأنَّ قاعدة (الجمع مهما أمكن أولى من الطَّرح) تفرض نفسها ولا تحدَّد في التَّقدُّم أو التَّأخُّر، وقيل ضعيفاً إنَّ ذلك من نوع النَّسخ له لا التَّقييد إن أتى القيد بعد المطلق، فهنا مطلبان:-

إمَّا مطلب حمل المطلق على المقيَّد، أو كونه بياناً لا نسخاً.

أمَّا الأوَّل: وهو حمل المطلق على المقيَّد فهو واضح، لأنَّه من الجمع بين الدَّليلين الَّذين لا مانع ولا منع من الجمع بينهما كما مرَّ بيانه، ولأنَّ العمل بالمقيَّد لابدَّ وأن يلزم منه العمل بالمطلق كما في المثال السَّابق المناسب بلا تلازم في صورة العكس، لصدق المطلق وحده في بعض حالاته من دون تقييد كما أسهبنا في هذا فيما سبق.

وبهذا المعنى يكون الصَّواب كما قلنا، وبالأخص عند وجوب حرصنا على بقاء الوجوب على الحقيقة من دون الحاجة إلى المجاز وهو النَّدب، ولأنَّ حمل المطلق على المقيَّد من باب الحمل على القدر المتيقَّن بالجمع بين القولين.

وأمَّا مع احتمال التَّجوُّز في رواية القيد واحتماله في رواية الإطلاق لبعض الأسباب فإنَّه لابدَّ وأن يكون مدعاة للتَّساقط أو التَّوقُّف، لأنَّ صحَّة الحمل لابدَّ وأن تحرز فيها الجديَّة بلا مجازيَّة، لأنَّ الأصل عدم القرينة.

ص: 75

وأمَّا الثَّاني: وهو كونه بياناً لا نسخاً، فلأنَّه في المعنى أو بعضه نوع من التَّخصيص، فإنَّ المراد من المطلق ك- (رقبة) الَّتي مرَّ ذكرها هو أي فرد كان من أفراد ماهيَّتها، فيصير هذا المطلق كالعام إلاَّ أنَّه على نحو البدل في حصصه من حالاته ويصير تقييداً بنحو (مؤمنة)، كالتَّخصيص والإخراج لبعض المسميَّات والحالات عن أن يصلح بدلاً.

فالتَّقييد الاصطلاحي هنا في كونه كالتَّخصيص هو بمعنى أنَّ الخاص المتأخر كما أنَّه بيان للعام المتقدِّم وليس ناسخاً له فكذلك المقيَّد المتأخر لو سبقه المطلق وتقدَّم عليه.

إضافة إلى أنَّ القول الأوَّل المدَّعى نسخه بالقول الثَّاني المقيِّد له كثيراً ما يحتاج إليه كمطلق وإن قيِّد في قضيَّة الثَّاني كقول (إن ظاهرت فاعتق رقبة) أوَّلاً.

فإنَّ هذا لو جعلناه منسوخاً لما أمكننا الاستفادة منه في المقامات الأخرى بالإطلاق، لأنَّ سيرة أهل البت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ لم تقتصر على عتق خصوص الرِّقاب المؤمنة في المواقع العامَّة الأخرى، ولذا يكون تضييقاً لتلك الفوائد ومنها الجوانب الإنسانيَّة في حالاتها.

ولكن استدلَّ للقول بالنَّسخ بهذا القيد المتأخّر عن اللَّفظ المطلق بأنَّه لا يمكن البناء على مطلق الرَّقبة بعد ورود رواية التَّقييد، لأنَّه لو كان هذا القيد بياناً للمطلق حينئذ لكان المراد بالمطلق هو المقيَّد فيجب أن يكون مجازاً في ذلك لأنَّه استعمال للشَّيء في غير ما وضع له وهو فرع الدِّلالة لا أصلها والدَّلالة منتفية، إذ أنَّ المطلق لا دلالة له على مقيَّد خاص.

ولكن أجيب عنه: بأنَّ المعنى إنَّما يقهم من اللَّفظ بواسطة القرينة، وهي هنا القيد فيجب أن يكون حصول الدِّلالة والفهم لها بعده لا قبله، بينما هذا الَّذي ذكر في الاستدلال إنَّما يتم لو أراده لوجب حصولهما قبله لا بعده وليس الأمر كما قالوا

ص: 76

وكما استدلُّوا.

القسم الثَّاني: أن يتَّحد موجب المطلق والمقيَّد منفييَّن فإنَّهما ممَّا يعمل بهما معاً اتِّفاقاً مثل أن يقول القائل الشَّرعي في كفَّارة الظِّهار (لا تعتق المكاتب) ويقول أيضاً (لا تعتق المكاتب الكافر).

علماً بأنَّ المكاتب قد يكون مسلماً وكافراً وأنَّ غير المكاتب كذلك، وذلك حيث لا يقصد الاستغراق في مطلق الكافر أو مطلق المسلم المملوك كما في (أشتر اللَّحم) فلا يجزي في ذلك إعتاق مطلق المكاتب حتَّى المسلم.

نعم يجوز إعتاق الكافر إذا لم يكن مكاتباً لو لم يُرَ إعتاق خصوص المؤمن من دليل آخر، ومثله قول الطَّبيب (لا تشرب اللَّبن الخاثر) وقوله (لا تشرب اللَّبن الحامض)، وبذلك يكون مفادهما جواز شرب الحليب الأصلي.

القسم الثَّالث: أن يختلف موجبهما كقول القائل (إذا ظاهرت فاعتق رقبة) وقوله (إذا قتلت فاعتق رقبة مؤمنة)، ومثله قول الطَّبيب (إذا أكلت الغداء فاستلق) وقوله (إذا أكلتالعشاء فتمشَّ)، وعلى هذا لا يمكن فيه حمل أحد القولين وهو مثلاً الأوَّل المطلق على الثَّاني وهو المقيَّد، للاختلاف بين موضوعي القولين وهو رأينا نحن الإماميَّة.

وأمَّا العامَّة فقد ذهب الكثير منهم على ما رواه صاحب المعالم قدس سره إلى استعمال القياس عندهم في المقام بحمل هذا المطلق على المقيَّد إذا اجتمعت شرائط القياس الَّتي يفرضونها في ذلك، وربَّما نقل عن بعضهم الحمل على المقيَّد مطلقاً، وكلاهما باطل لاسيَّما الأخير، لوضوح الفارق بين القولين المرويَّين الَّذي لا تنفع فيه حتَّى شرائط أولئك الكثيرين.

ص: 77

التَّاسع / نتيجة البحث

لقد تبيَّن من خلال عرض هذه الأمور أنَّ الكلام عن الإطلاق والتَّقييد من أهم مباحث الأصول اللَّفظيَّة للكتاب والسنَّة، وعلى أساس ما وضع في هذه المباحث من القواعد والأصول أنَّه اعتبر أنَّ كل ما يجري للفقهاء والأصوليِّين من الكلام الفقهي والأصولي يمكن محاسبتهم عليه إن تجاوزوا حدود ما وضعوه أو وضع له من المباني الصَّحيحة، بناءاً منَّا على ما نلتزم به من مبنى التَّخطئة لأنَّ العصمة لأهلها.

وأنَّ تقابل الإطلاق والتَّقييد تقابل الملكة وعدمها، لا تقابل التَّضاد أو التَّناقض.

وأنَّ الإطلاق فمرتبط في إثباته أو استكشافه بمقدِّمات الحكمة لا بالوضع، حذراً من الوقوع في محذور المجازيَّة، وأنَّه لا يلزم أن يكون على الدَّوام مقيَّداً، ولذا عُدَّ أصالة يرجع إليها عند الشَّك.

وأنَّ مسألة حمل المطلق على المقيَّد مرتبطة بحالات عدم التَّنافي بين قضايا تقابل الإطلاق والتَّعيين على تفصيل ذكرناه.

وأمَّا حالات التَّنافي فكلُّها لا تقبل الحمل إلاَّ حالة واحدة مرَّ التَّمثيل لها وذكرنا قاعدة يمكن القياس عليها في صحَّة الحمل وعدمه أو مطلق الجمع وعدمه، وهي أنَّه إذا كان التَّكليف واحداً لكل منهما لا يمكن الحمل أو الجمع وإن كان متعدِّداً بتعدُّد القولين فلا مانع.

الفرق بين العام والمطلق وهل يجتمعان؟

قد مضى التَّعريف لكل من الاثنين(1) وللتَّمثيل للاثنين في مثال واحد غير ضار

ص: 78


1- راجع ص13 و ص45.

بكل من تعريف كل من الاثنين.

هو ما لو قلنا خطاباً للمقول له إن أبدى أمواله لإكرام وتكريم من كان أهلاً للعطاء (أكرم العالم)، وهو لفظ معرَّف بالألف واللاَّم وبنحو الإفراد، وذلك علامة على دلالته على العموم، فهو عام يُراد به إكرام كل عالم.

وهذا المفرد الدَّال على العموم يسمَّى مطلقاً أيضاً على ما يطلق عليه في الأصول بالعام الإطلاقي لارتباطه بمقدِّمات الحكمة

ص: 79

الفصل الثَّالث

المجمل والمبيَّن في آيات الأحكام وما يتعلَّق به من السنَّة

إنَّ المجمل والمبيَّن كالمباحث الماضية في الأهميَّة تجاه الدِّليلين الرَّئيسين، بل لابدَّ وأن يتوسَّعا إلى الأفعال للمعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وتمام الكلام عنهما أو عن مهمَّاتهما يحصل ببيان أمور:-

الأوَّل: معنى المجمل والمبيَّن عند اللُّغويين وفي الاصطلاح الأصولي.

إنَّ معنى المجمل والمبيَّن في اللُّغة هو أنَّ الأوَّل اسم لما يكون معناه مشتبهاً وغير ظاهر فيه، والَّثاني اسم لما يكون واضحاً وغير مشتبه.

ومعنى المجمل في اصطلاح الأصوليين جاء بتعابير متعدِّدة الألفاظ من لدن أعلام الفن، وبعكسه المبيَّن.

منها ما قاله العلاَّمة قدس سره ( المجمل ما أفاد شيئاً معيَّناً في نقسه لا يعيِّنه اللَّفظ)(1).

أقول: وذلك بمعنى أنَّ ذلك الشَّيء المعيَّن قد يكون هو المقصود في التَّكليف الأصلي ولكنَّه اختفى أو أضمر المشرَّع أمره في لفظ أوسع منه لا يفصح عنه لحكمة وقتيَّة.

أو لم يفهم المقابل - وهو المكلَّف - منه ذلك المقصود بعينه إلاَّ بالمبيَّن اللَّفظي الآخر لضعفه اللُّغوي والاصطلاحي أو لعدم انتباهه.

أو بالمبيَّن الفعلي كما في أفعال المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وكما أثبته قول النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (صلُّوا

ص: 80


1- مبادئ الوصول إلى علم الأصول ص 154.

كما رأيتموني أصلِّي)(1) وقوله كذلك (خذوا عنِّي مناسككم)(2) كما أنَّ الإجمال قد يكون فعليَّاً لا يُبيَّن إلاَّ بمبيَّن لفظي أو فعلي كذلك كما سيأتي توضيح ذلك أو شيء منه.

ثمَّ قال العلاَّمة قدس سره (والمبيَّن يطلق على المستغنى عن البيان)(3).

أقول: وذلك كالنُّصوص والظواهر الواضحة في أساسها كتاباً وسنَّة أو ما كان بسببه منهما قد استوضح ما سبقه من المجمل اللفظي أو حتَّى الفعلي بهذا اللَّفظي أو بالفعلي كما أشرنا وكما سيتَّضح.

وقد يُراد من كلامه الأوَّل قدس سره - عن المجمل بقرينة قوله (لا يعيِّنه اللَّفظ) - أنَّه ما يعم الفعل المجمل كذلك، لقصور في اللَّفظ، وهو ما لا يلازمه الوضوح في الفعل كذلك.

إضافة إلى أنَّه يمكن أن يعيِّنه الفعل كما مر وكما سيأتي، لأنه قد يريد من قوله (لا يعيِّنه اللَّفظ) أي لا يعيِّنه وحده باختصاص، وذلك كما لو جهل أمر وضوء الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ أمام من يُتقَّى أمره من الوشاة والنَّواصب أو من يحتمل فيه ذلك، فإنَّ هذا الوضوء لو جهل أمره أنَّه هو المطابق للواقع ولمذهبهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ أم لا؟.

فإنَّه لا يدل على المشروعيَّة الواضحة إلاَّ أنَّ يوضح باللَّفظ الموضِّح أو بالفعل الموضِّح كذلك في حال الاختيار وأمام من لا يتَّقى من أمره قطعاً أو احتمالاً معتدَّاً

ص: 81


1- عوالي اللئالي: ج1، ص197، ذيل حديث 8، صحيح البخاري 1: 162 كتاب الصلاة باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة، تفسير الرازي 2/164.
2- أخرجه مسلم في صحيحه (2/ 943، رقم 1297). واللَّفظ للبيهقي في السنن الكبرى (5/ 204، رقم 9542)، ولفظ مسلم: "لتأْخذوا مناسككم فإنَّي لا أدري لعلِّي لا أحج بعد حجتي هذه".
3- مبادئ الوصول إلى علم الأصول ص 154.

به.

وقد أعان على فهم هذا المقصود العام أيضاً تعبيره الثَّاني عن المبيِّن الَّذي تقدَّم بقرينة قوله (المستغني عن البيان) أي إنَّ استغناؤه عنه إمَّا بكفاءة اللفظ من الأساس أو بإيضاح المقصود بنفس الفعل كما مرَّ في حديثي النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وكما حرَّرناه في بحث السنَّة بأنَّ من مصاديقها فعل المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وهو الَّذي قد يظهر مجملاً وقد يظهر من أساسه بيناً واضحاً.

وقد يتبنَّى توضيح المجملات من الألفاظ والأفعال وبتمام هذا الثَّاني لابدَّ وأن يحسن السكوت من المتكلِّم والسَّامع ولا ينتظر شيء يحتاج إليه من البيان ومنه الأفعال أيضاً، وسوف يتَّضح هذا في المستقبل القريب أكثر إنشاء الله تعالى.

ومنها ما قاله الشَّيخ البهائي قدس سره (المجمل ما دلالته غير واضحة والمبيِّن نقيض المجمل)(1).

أقول: وهذا التَّعريف للاثنين بحسب ظاهره كذلك لا يعبِّر عن خصوص الألفاظ للنَّصين الشَّريفين كما بيَّنا، وإن كان المصدران الشَّريفان في ألفاظهما هما الأساس المتَّبع والمتعارف في هذه البحوث الأصوليَّة من قسم مباحث الألفاظ لأكثريَّة الاستدلال بذلك كمالا يخفى.

بل صرَّحت الظواهر والنُّصوص على مشاركة الأفعال لتلك الألفاظ ومن الشَّيء الكثير والجم الغفير كما سيأتي.

وما ذاك إلاَّ لتقويم بعض الحالات المجملة والمبيِّنة من غير اللَّفظيَّة الأصيلة والاهتمام بها في هذه التَّعاريف لئلا نحرم منها، لأنَّها ما حفظت بعضها بنصوصها التَّامَّة كالنَّقل للفظ السنَّة بالمعنى أو حكاية فعل المعصوم باللفظ من معصوم أتى بعده، أو ما حكى فعلهم بعض حواريهم الثِّقات باللفظ أو بالفعل لصيرورة الحواري

ص: 82


1- زبدة الأصول ص144.

من أهل الاقتداء بهم ثمَّ نقل ذلك لنا.

وهذه النَّاحية عن هذه المصاديق وإن ابتعدت بعض الشَّيء عن اللَّفظ الأساس كما أسلفنا بناءاً على رأي من يرى أنَّ المجمل والمبيَّن هما من مباحث الألفاظ فقط لو افترضنا ولو نادراً، إلاَّ أنَّها ألحقت أمورها بالتَّالي بالألفاظ فوصل الأمر إلى هذه المباحث ومشتقَّاتها بما يتناسب والنَّظر الأصولي اللفظي الأعم.

ومنها ما قاله صاحب المعالم قدس سره وهو قوله (أصل المجمل هو ما لم يتَّضح دلالته)(1) وقال بعد ذلك (المبين نقيض المجمل، فهو متِّضح الدِّلالة)(2).

أقول: سواء كان بنفسه مثل [وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ](3)، أو بواسطة الغير ويسمَّى ذلك الغير مبيَّناً، أي موضَّحاً للمجمل الَّذي سبقه، لأنَّه جاء خاصَّاً له كما مرَّّ بيان هذا المعنى في أمر تعدَّد معنى المبيَّن عند تعليقنا على تعريف العلامة قدس سره.

وفي هذا التَّعبير مزيد تأييد كذلك إلى أهميَّة الدِّلالة عند التَّبيُّن وعدمها عند الإجمال ودخول الحالة الفعليَّة كذلك، لعدم تصريحه بخصوص الدِّلالة وعدمها لفظاً كما أوضحنا وكما سيجيء.

وأنَّ ذكره لقوله تعالى [وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ](4) كشاهد لفظي لا يوجب تخصيص اللَّفظ في المقام، ولأنَّ (إثبات الشَّيء لا ينفي ما عداه)، وإنَّ الأمثلة قد تضرب ولا يقاس عليها في كل الموارد، أو يقاس عليها في خصوص موردها، أو أنَّ قياسها ليس إلاَّ لأحد قسمي المطلوب.

ومنها ما قاله المحقق العراقي قدس سره وهو: (المجمل هو ما لم يكن ظاهر الدِّلالة، ولا

ص: 83


1- معالم الدين وملاذ المجتهدين ص152.
2- نفس المصدر ص156.ج
3- سورة البقرة / آية 29.ج
4- سورة البقرة / آية 29.

يكون قالباً لمعنى خاص، بل قالب لمعاني كثيرة كالمشترك، والمبيِّن خلافه)(1).

أقول: ولكن يبقى هذا التَّعريف وإن ذكر فيه كلمة (القالب) و(المشترك) الَّذين ظاهرهما اللَّفظ فهو كما علَّقنا به على تعريف صاحب المعالم قدس سره بأنَّه:-

إن أراد الإجمال والتَّبيين في التَّعريف أنَّهما اللَّفظيَّان فلا يعنى عدم إرادة بقيَّةالمعاني الأخرى حتَّى عن طريق الأفعال، إضافة إلى أنَّ الأفعال قد تشترك بين محتملين أو أكثر من المعاني كما مرَّ وكما سيأتي.

ومنها ما قاله الشيخ المظفَّر قدس سره وهو (عرَّفوا المجمل اصطلاحاً بأنَّه ما لم تتَّضح دلالته، ويقابله المبيِّن)(2).

أقول: وهذا التَّعريف على إجماله ينفعنا ويقترب كثيراً ممَّا نريد، وإن كان قد جاء به نقلاً عمَّن سبقه، ولعلَّ من ذلك ما قاله صاحب المعالم قدس سره والمحقِّق العراقي قدس سره الَّذين فيهما الإشارة أو التَّصريح بإرادة اللَّفظ، ولكن ذكره التَّعريف وإطلاقه في عبارته له وعدم تعليقه عليه بشيء إضافي خاص يكفي في قبوله له، إضافة إلى أنَّ اختصاره لجميع أو أغلب ما مضى ذكره من التَّعاريف ممَّا يعطي الظن المهم والقوي بتقارب الجميع أو الأغلب المهم على المعنى الموحَّد، وهو الَّذي أوضحنا بعضه، وهو المقارب للمعنى اللُّغوي المذكور في طليعة البحث من غير المنافي لدخول الفعل في الدِّلالة كذلك.

وقد ذكره السيد الأستاذ السيِّد الخوئي قدس سره بقوله (أنَّ المجمل والمبيَّن هنا كالمطلق والمقيَّد والعام والخاص مستعملان في معناهما اللُّغوي، وليس للأصوليِّين فيهما اصطلاح خاص)(3).

ص: 84


1- منهاج الأصول - محمد إبراهيم الكرباسي - ج2 ص363.
2- أصول الفقه ج1 ص179.
3- محاضرات في أصول الفقه ج4 ص555.

ولكن يمكن القول بأنَّ هناك معنى خاص إضافي يمتاز به الفقه نوعاً عن عموم وإطلاق مراد اللُّغة.

ومن هذا المنطلق يختلف المصطلح الأصولي الخادم لخصوص القضيَّة الفقهيَّة، بل هو الصَّحيح لو لم تكن الدِّلالة اللُّغويَّة ثابتة في الإجمال الفعلي.

بل إنَّ دخول الإجمال في الأفعال وكذلك مبيِّناتها ممَّا يجعل الاصطلاح الأصولي والشَّرعي أكثر دقَّة، وإن كان في الجملة صحيحاً.

وبذلك يكون ما بين الاصطلاح واللُّغة عموماً وخصوصاً من وجه، لأنَّ اللُّغة أعم من الاصطلاح في خروج اللُّغة عن إطار الدِّين في بعض الأمور أو كثيرها.

والاصطلاح أعم من اللُّغة كذلك بالأفعال المجملة والأفعال المبيَّنة بالأفعال كذلك ولو في الجملة.

إلاَّ إذا قلنا بأنَّ اللُّغة لا تمنع - من دلالات ألفاظها - على الإجمال في الأفعال بسبب العموم والإطلاق الدِّلالي، فتتحوَّل النِّسبة إلى ما بين العام والخاص المطلق، وهو أنَّ كل أمر فقهي مجمل لفظي وفعلي يدخل في اللُّغة.

لأنَّ الألفاظ التَّعريفيَّة في المصطلح اللُّغوي تشمل الأفعال حتماً ولا عكس، لخروج قضايا اللُّغة غير الفقهيَّة وهو محتمل بل مقبول.

وعند هاتين النِّسبتين من النِّسب الأربع المنطقيَّة لم يكن التَّناسب الكامل بين اللُّغة والاصطلاح ثابتاً كما يدَّعى.

الثَّاني: الحاجة إلى بحث المجمل والمبين

إنَّ الكلام عن المجمل والمبيِّن كالكلام عن مباحث الألفاظ الأصوليَّة السَّابقة ضروري جدَّاً لأمور:

منها: أنَّ آيات الأحكام - الَّتي هي مع غيرها والرِّوايات المتعلِّقة بهذه الآيات من

ص: 85

الَّتي حصل في كثير منها هذا الإجمال في أصل النُّزول والورود للحكمة الشَّرعيَّة المشار إليها فيما سبق وما ظهر لنا في ذلك كذلك من التَّردُّد والتَّأمُّل والتَّوقف في المعاني من حيث نحن، لا من حيث الوحي والرِّوايات المعصوميَّة حتَّى حصل الإجمال --

لابدَّ من أنَّها تنتظر منَّا السَّعي لتحصيل المبيِّن لهذا الإجمال إن كان، ولو بالسَّعي لتحصيل الثَّقافة الأدبيَّة المعينة على فهم البيان له.

وإن لم يظهر لنا أو لم نقدر عليه فليس هو إلاَّ لحكمة قد يأتي وقتها، ولا يعلم سر تأجيلها إلاَّ الله والراسخون في العلم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ أدلاء، بلا أي قصور أو تقصير في ذلك، ومن دون أن يقبل فيه تصوُّر جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة من أحد.

وهذا لا يمكن التَّنبُّه إليه إلاَّ من خلال عرض هذا البحث وهذه الموارد للحاجة.

ومنها: للتَّفرقة الاصطلاحيَّة الأصوليَّة بين المجمل والمبيَّن وبين ما قد يشبههما ممَّا مضى من العناوين ولو بعض الشَّيء، للتَّفاوت الَّذي سوف يأتي بيانه في الفوارق وغيره، لئلاَّ يحصل الخلط والخبط العلمي، فتتأثَّر بعد ذلك المفاهيم والنَّتائج أو المسألة الأصوليَّة.

وكونها للمسألة الفقهيَّة لابدَّ وأن تكون في غاية الحسَّاسيَّة، للأوامر الكثيرة الصَّريحة والآمرة بعدم فعل الجرأة على التَّشريع إلاَّ من أمر الله، والنَّاهية في نفس الوقت عن التَّجاوز عن الحدود المرسومة في كيفيَّة الاستنباط الصَّحيح من مواقعه الَّتي أهمُّها ألفاظ الكتاب والسنَّة، حذراً من الوقوع في الابتداع، وللابتعاد عن الخبط والخلط وعن عدم الضَّبط.

ولذلك كان عرضنا لهذا البحث.

ومنها: للفهم الصّحيح لكلام الفقهاء المهمِّين والحاذقين من القدامى والمحدثين، المبتني على الأخذ الاصطلاحي من المصادر الشَّرعية حسب المعهود عنهم، وعلى

ص: 86

نهج الفن الدَّقيق المرتبط بمباحث الألفاظ المتفاوتة في عناوينها من هذه الأصول، وغيرها من القواعد الفقهية المصطيدة من كثرة التَّحقيقات واستمرارها على اختلاف عناوينها كذلك.

لمعرفة ما قد أوصلهم إلى الحكم الشَّرعي وفهمه بسهولة أو أسهليَّة أو صعوبة أو إلى الطَّريق المسدود في بعض الأوقات.

ولمعرفة أمور التَّسهيلات النَّاجحة في تجاربهم، للوصول الأكثر إلى ذلك المطلب الفقهي الأصيل، على الأسس المضبوطة الحاصلة عن مساعي أولئك الفقهاء الحثيثة.

ولمعرفة صحَّة ذلك بتمام من عدمه عند خوضنا نحن في غمار هذا الأمر عيالاً على أسلوبهم ولو مع ما ننتقيه من المقدِّمات والسطوح المستقلَّة، وبالأخص عند العثور على بعض الاشتباهات من بعضهم في أمر تطبيق الحكم على الموضوع ومناسبته التَّامَّة ومدى علاقته بالنُّصوص المعتمدة وغيرها من عدمه.

وذلك بناءاً على مبنانا الرَّصين وهو مبدأ التَّخطئة لغير أهل العصمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، وأنَّ المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ليس له قولان متساويان في مطلب واحد في وقت واحد يناقض أحدهما الآخر في الحالة الاختياريَّة، لأسباب من جملتها الرِّوايات الَّتي قد يصعب فهمها من الوجهة الأدبيَّة.

ومن جملتها ما نقل من تلك الرِّوايات وبالخصوص الطَّويلة الَّتي ما نقلت لتدل على خصوص مطلب واحد كالمسمَّات بالجامعة وغيرها.

بل إنَّما ذلك لتحفظ من الضِّياع، ولكون صدرها قد يختلف عن عجزها أو كلاهما أو أحدهما يختلف عن الوسط أو الوسط يختلف عنهما أو عن أحدهما.

فحصل من بعض ذلك من الإجمال ما قد يتعكَّر به صفو الفهم الصَّحيح في بعض الأحوال، أو ما قد يحصل من توهُّم الارتباط أو بعضه بذلك بسبب استبساط الأمر وحسن الظن من بعضهم بظاهر هذا المروي الطَّويل من دون تحقيق وتدقيق، ممَّا

ص: 87

قد يسبِّب تعطيل بعض أمور الشَّريعة المحتاج إليها، ولكن ما انزاح عند بعضهم أو عند الكثير من طلاَّب هذا اليوم من المهمِّين هذا التَّوهُّم إلاَّ بعد التَّقسيم لهذه الرِّوايات الطَّويلة أو ما يشبهها على العناوين الفقهيَّة من الَّذي صنعه الحر العاملي في وسائله قدس سره وغيره.

وإن كان لدينا على ذلك بعض الملاحظات ممَّا لا يمكن الآن بيانه، أو انكشاف الأمر بعد التَّأمُّل والتَّوجيه بعد معرفته منَّا أو من الآخرين، أو ما نُقل من تلك الرِّوايات بالمعنى من بعض الحواري ولكن بلفظ غير وافٍ يمثل يفي به كلام الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ للفرق بين الإمام والمأموم، وغير ذلك من الأسباب.

ولهذا احتجنا إلى هذا البحث لمعرفة ما ينفعنا ويدفع المشاكل عنَّا بصورة أكثر.

ومنها: ما يتعلَّق في أمر التَّدقيق في المسألة الأصوليَّة لفهم الفرق بين المجمل والمبيَّن بالمنظور الاصطلاحي لكل منهما كما مرَّ في أوَّل البحث، لئلاَّ يتوهم في بعض الأحوال أنَّ المجمل مبيَّن أو العكس.

ولمحاولة الوصول إلى بعض القواعد الأصوليَّة النَّافعة إن كان لتسهيل الأمر أكثرللباحثين بسبب الارتباكات الحاصلة في الأذهان من بعض الأدلَّة اللفظيَّة الشَّريفة، ومن ذلك ما يتعلَّق بموضوعنا الخاص.

ولمعرفة أنَّ الأصل أو القاعدة في هذه المباحث لو أمكن اتِّخاذها بعد تحصيلها والاستقرار عليها في المقام في أنَّه هل كان من مصاديقها ما يمكن العمل به والقياس عليه كقاعدة اعتياديَّة مستقيمة عند الحاجة.

ولتقريب الطَّريق عن طريقها حتَّى لو كان لها شيء من تلك الشواذ، لتكون الشَّواذ من قبيل الخارج بالنَّص الَّذي لا يضر بقاعديَّة القاعدة؟

أم أنَّ القاعدة أو الأصل ليست بقاعدة إذا كان لها شيء من تلك الشَّواذ، وإن كانت مفيدة في بعض الأحوال كالحالة التَّسهيليَّة اللَّفظيَّة الَّتي قد يستفاد منها مع

ص: 88

المساعي الأخرى بما يكون أقرب للوصول للهدف من السَّعي الميداني الابتدائي لو كان وحده للفقيه الباحث؟

ولذا لا يعتد ببعض الأصول عند بعضهم لضعفها في أدائها، ولأنَّ التَّحصيل الفقهي الميداني المباشر في نجاحه أعلى من قواعد الأصول.

ولكن هذه الفكرة على أهميِّتها وثبوت أعلائيَّاتها هي كذلك لو كانت ثابتة المصداقيَّة مائة بالمائة.

ولكون القواعد الأصوليَّة مقرَّرات علميَّة صناعيَّة، والفقه أعلى بلا شك لأهلِّيته.

ولكن لن يصيب الهدف من السَّعي الاستنباطي النَّاجح من ذلك إلاَّ النَّادر الشَّاذ والَّذي قطع في عمره وبإخلاصه الإلهي بنجاح أو ما كان قد أجراه منه في طريقه عن عدَّة دورات فقهيَّة كاملة، إلى غير هذا من موارد الحاجة.

الثَّالث: هل إنَّ الإجمال والتَّبيين يختَّصان بالألفاظ والأقوال فقط؟

أم إنَّهما تشملهما الحالات الفعليَّة فيسريان فيها

لقد بيَّنا سابقاً عن أمر الأفعال بعض الشَّيء استطراداً وإن تعدَّد بهذا الآن ذكر ذلك لما تفرضه المناسبة.

ولكن هذا الأمر قد أعددناه خاصَّاً بهذا المطلب، اهتماماً به لدفع شبهه قد تقال، وهي أنَّ وضع الإجمال في أساسه كان للألفاظ ثمَّ استعمل تسامحاً للأفعال.

ولكن هذا لم يظهر لنا في لسان الشَّارع المقدَّس وضعاً واستعمالاً بعد ما قال تعالى [وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ](1) وكما ورد في

ص: 89


1- سورة التوبة / آية 105.

الحديث الشَّريف (لا علم إلاَّ بعمل)(1) وما بيَّناه سابقاً من أنَّ فعل المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ من مصاديق السنَّة الثَّلاثة المعروفة في الأصول، وهو ممَّا قد يطرأ عليه الإجمال.

ومن ذلك ما أوردناه من بعض روايات الإجمال الفعلي المتعلِّقة بوضوء الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ المحتمل إجراؤه أمام من يُتَّقى أمامه الإجراء الصَّحيح من المخالفين الأعداء.

وكذلك ما ورد من فعل الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ الظاهر في إجماله كذلك في صلاته لجلسة الاستراحة، الَّتي لا يُدرى أنَّها بفعلها كانت منه على نحو الوجوب أو الاستحباب.

وهكذا في كل مطلب اختلف فيه في الأقوال والأدلَّة بين الاستحباب والوجوب لكل أمر، وَاصلَ فعلَه المعصومون عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من الأقوال والأدلَّة المحترمة في بابها وغير المعرض عنها بين الجميع وبين المشهور ولم يُعرف عنهم أنَّهم تساهلوا فيه.

وهكذا في كل مطلب استمرُّوا بتركه ممَّا يحتمل فيه كون التَّرك للحرمة أو الكراهة من تلك الأقوال أو الأدلَّة.

وقد مرَّ من تعاريف العلماء الماضية للمجمل ما يساعد على إمكان حمل لفظهملمطلق الفعل واللَّفظ الشَّرعيين بوضوح، لا خصوص اللَّفظ كما قد يوهمه التَّعريف اللُّغوي، ولا ما قد ذكره السيِّد الأستاذ قدس سره من ادِّعاء المقارنة بين اللُّغة والاصطلاح، ولا كما قد يظهر من بعض العبائر الأخرى الَّتي قد أجبنا عنها.

بل قد ذكر صاحب المعالم قدس سره ما يؤيِّد قوله عنه بعد تعريفه (ويكون - الإجمال - فعلاً ولفظاً)(2).

وكما لم يستبعد حمل التَّعريف اللُّغوي الماضي له نفسه إذا قارنَّا بينه وبين الاصطلاحي، أو قاربنا بينهما بما لا يمنع من الانطباق على الأفعال.

وكما ذكر الشَّيخ المظفَّر قدس سره لهذا الأمر بقوله المؤيِّد وهو (ومن هذا البيان نعرف

ص: 90


1- التحفة السنيَّة (مخطوط) السيد عبد الله الجزائري ص16.
2- معالم الدين وملاذ المجتهدين ص152.

أنَّ المجمل يشمل اللَّفظ والفعل)(1) وغير ذلك.

الرَّابع: تقسيم المجمل اللَّفظي إلى مفرد ومركَّب

وشيء من أسباب الإجمال فيه

ينقسم المجمل اللَّفظي حسب المتابعات الميدانيَّة لعموم الألفاظ اللُّغويَّة - ومنه إلى ما في خصوص نصوصنا وظواهرنا اللَّفظيَّة الشَّرعيَّة من الكتاب والسنَّة - إلى مفرد ومركَّب.

فالمفرد مثل اللَّفظ المشترك لتردُّده بين معانيه المختلفة، إمَّا بالأصالة ك- (العين وجون والقرء)، وإمَّا بالإعلال ك- (المختار) المتردِّد بين الفاعل والمفعول، لأنَّ أصله إمَّا من مختيَر بفتح الياء أو مختِير بكسرها.

وبهذا اللَّفظ الجديد الجامع لهذين الأصلين صار مجملاً، وهكذا كلمة وضع العمامة في كلام بعضهم المحتملة لمعنى التتويج بها أو خلعها من على الرَّأس في قول سحيم ابن وئيل:-

أنا بن جلا وطلاَّع الثَّنايا *** متى أضع العمامة تعرفوني(2)

وهكذا بعض الكلمات الأخرى الَّتي تحمل الوجهين أو الأكثر في مثل المغالطات الاختياريَّة والإمتحانيَّة وأحاجي الكلمات وهي كثيرة لا تحصى.

والمركَّب فكقوله تعالى من آيات أحكامه [أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ](3)

ص: 91


1- أصول الفقه ج1 ص179.
2- لسحيم ابن وثيل ابن عمرو ابن جوين ابن أهيب، أحد فرسان بني تميم وشعرائها المفلقين، وقد تمثَّل بها الحجاج بن يوسف الثقفي في خطبته المشهورة يوم تولَّى إمارة العراق.
3- سورة البقرة / آية 235.

لتردُّده بين الزَّوج والولي.

وقد يكون إجماله بسبب كون استعماله في الجملة في غير ما وضع له، فيكون بذلك مجازاً عند صرف لفظه عن حقيقته، أو لعدم معرفة عود الضَّمير فيه من الَّذي هو من نوع (مغالطة المماراة).

ومُثِّل للاثنين بما يحتملهما معاً وهو مثل قول القائل لمَّا سئل عن أفضل أصحاب النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في مقام من ينبغي أمامه اتِّقاء شرِّه فقال (من بنته في بيته)، فحصل هذا الإجمال المتعمَّد بالمغالطة، أو الحالة المجازيَّة بسبب التَّقيَّة.

فإنَّ المقصود هو أمير المؤمنين علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ، لأنَّ زوجته الزَّهراء عَلَيْهِا السَّلاَمُ ابنة النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْفي بيت زوجها، ولكن أراد المقابل بذلك إيهام السَّامع بكونه أبا بكر، لأنَّ ابنته عائشة في بيت النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ للخلاص من شر من كان حاضراً في المكان.

ويشبه هذا إحراج معاوية (لع) لعقيل بن أبي طالب "رضوان الله عليه" لأن يسبَّ أخاه أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ في مجلسه، فأجابه محرجاً أمام الجموع مخاطباً لهم (إنَّ معاويةيأمرني بسبِّ علي فالعنوه)(1) أي العنوا معاوية في الحقيقة وإن كان في الإيهام علَّياً في الظاهر.

وبطبيعة الحال إنَّ عود الضمير وإن كان على مبنى العامَّة من الأعداء المخالفين بكونه على البعيد ممَّا يشفى غليل المؤمنين، لأنَّه لابدَّ وأن يكون ناتجة السَّب لمعاوية (لع) وكما يقصد عقيل في قلبه وواقع لسانه، وإن كان على عكس مبنانا ومباني أدباءهم الواقعيين في آية الوضوء وهي قوله تعالى [وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ](2) كما لا يخفى على اللَّبيب الأديب.

لكن المقصود الحتمي من هذا التَّعبير هو إثارة معنى الإجمال للمغالطة أو

ص: 92


1- الأنوار العلوية -- الشَّيخ جعفر النَّقدي -- ص16.ج
2- سورة المائدة / آية 6.

التَّورية أو المجازيَّة.

وكما في مرجع الضَّمير حيث يتقدُّمه أمران يصلح لكل واحد منهما نحو (ضرب زيد عمرواً فضربته)، فأجملت لتردُّده بين زيد وعمرو.

وكقول الآمر(لتضرب العاصي) وكان في الحضرة رجل وفي المخدع امرأة واحتمال أمر المخاطب المذكَّر أو الغائبة المؤنَّثة وارداً فحصل الإجمال لا محالة، لما مرَّ من الأسباب وغيرها.

وكالمخصوص بمجهول نحو قوله تعالى من آيات الأحكام [وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ](1) فإنَّ تقييد الحل بالإحصان وهو الزَّواج مع الجهل بالحل بسبب عدم التَّفصيل لما وراء ذلك بالدقَّة المفيدة يوجب الإجمال فيما أحل، ونحو قوله تعالى كذلك [أُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ](2).

ولذلك بعدما تليت عليهم نصوص وظواهر المحرَّمات بقيت أمور عالقة في كونها مجهولة الحكم بالدقَّة الشَّرعية للإجمال القرآني في مثل هذه الآية كما لا يخفى، ولمشاكل السنَّة في بعض الأسانيد والمتون كذلك.

ولذا نجد الفقهاء بين محلِّل لبعض الأمور - لأنَّه في نظره لم يجد حرمة صريحة اعتماداً على قاعدة (كل شيء لك حلال حتَّى تعلم أنَّه حرام بعينه)(3)، وإن خالف المشهور العملي أو السِّيرة العمليَّة أو الاستدلال بضعاف متعدِّدة لو اجتمعت لشكَّلت متانة دليليَّة على التَّحريم اعتماداً على أصالة الحليَّة كالكنغر والجرِّي ولحم الأرنب وغيرها - وبين محرِّم متورِّع، للأدلَّة الَّتي ذكرناها الآن وغيرها، ولورود الاحتياط في اللحوم وغير ذلك.

ص: 93


1- سورة النساء / آية 24.
2- سورة الحج / آية 30.
3- وسائل الشيعة ج17، ص89، أبواب ما يكتسب به، ب4، ح4، ط آل البيت.

وقد يكون الإجمال لاختلال التَّركيب اللَّفظي في الجمل كقول الفرزدق:-

وما مثله في النَّاس إلاَّ مملَّكاً *** أبو أمِّه حي أبوه يقابله(1)

فلم يعلم الملك من هو؟، فهل إنَّه صاحب الضمير الأوَّل؟ أم جدُّه لأمِّه؟، وثمَّ لم يُعلم أنَّ الحي هو جدُّه لأمِّه؟ أو والد جدِّه لأمِّه مقابلاً له؟.

ومثل هذا البيت ورود الإجمال في بعض الرِّوايات المنقولة بالمعنى وبالأسلوب غير الاصطلاحي أو بما لا يفهمه المقابل بسبب الإضمار المضيِّع للمعنى ونحو ذلك.

وقد يكون الإجمال لوجود ما يصلح للقرينة كقوله تعالى [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ](2) ولو من آية أخرى أو فقرة تحقِّق ذلك، لما ذكرناه في كثير من المواقع عن أهميَّة تفسير القرآن بالقرآن، فإنَّ هذا الوصف في الآية لمَّا كان يدل بظاهره لو ترك وحده وبوضوح على عدالة جميع من كان مع النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ من أصحابه الذين عايشوه بمعاصرته مع نفاق بعضهم وانقلاب آخرين منهم على أعقابهم، أو أسلموا بسطحيَّة من غير إيمان وقاوموا بظلم وارتداد عترته عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ واغتصبوا الخلافة الشَّرعيَّة الإلهيَّة، وهو ما لا يتناسب مع أرض الواقع والتَّأريخ الصَّحيح والمحقَّق، فأسعف الله تعالى الآية الكريمة بالآية المناسبة ذات القرينة المبيِّنة لما كان في الأولى من الإجمال، وهو قوله تعالى في ذيل هذه المجملة [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ](3)، فصارت كلمة [وَالَّذِينَ مَعَهُ] من الآية الأولى بهذا الذيل أنَّه يُراد منهم بعضهم لا جميعهم.

ومن هذا البعض بل أهمه من خصَّ بالإمامة والخلافة للنَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وهم أمير

ص: 94


1- هذا قول الفرزدق، يمدحُ إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي خالَ هشام بن عبدالملك.
2- سورة الفتح / آية 29.
3- سورة المائدة / آية 9.ج

المؤمنين والحسنان عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من بعده إذا لم نخصهم بدليل آخر أكثر تخصيصاً وهو متوفِّر في موارد عديدة جدَّاً نحن الآن في غنى عنه.

بل هم الصَّفوة بالأدلَّة الإضافيَّة الكثيرة الأخرى والَّذين لا يصح الأخذ فقهيَّاً إلاَّ منهم وعنهم، إلى غير ذلك من الجم الغفير من هذا الكثير.

وقد يكون المجمل بكلا قسميه اعتباريَّاً لا حقيقيَّاً دائماً، إذ قد يكون اللفظ مجملاً عند شخص مبيَّناً عند آخر كما مرَّ من التَّمثيل لصور الامتحان والمغالطة والتَّغطية للتَّستُّر والتَّقيَّة أمام الأعداء.

وهذا ما لا يمكن البقاء عليه دوماً في المسائل الشَّرعيَّة إلاَّ بانتظار ما يرفع هذه الحالات الطَّارئة للوصول إلى حالة الحكم الاختياري الأصيل لعقيدتنا بكفاءة أدلَّة شرع الله وتماميَّة مدار أحكامه، وإن حاول طمس بعضها أو الكثير منها الحاقدون، أو تطرَّف في أمر ذلك الآخرون، ولو بالتَّلاعب بأنماط الاستدلال.

ولذلك تثبت عندنا نحن الإماميَّة حرمة تأخير البيان عن وقت الحاجة، كما اشرنا وكما سيجيء بيان ذلك في الكلام عن مبيِّن الإجمال إنشاء الله، ولو بالسَّعي الحثيث منَّا للتَّعرُّف على المبيِّن دعماً لما يمتنع على الله.

ولذلك ورد عن سلفنا الصَّالح قولهم (يكفينا ما بين الدَّفَّتين)، أي القرآن الكريم، معربطه بحديث الثَّقلين المعروف.

ومن هنا لابدَّ وأن نعرف أنَّ العارف بالإجمال ومبيِّنه إذا غالط غيره في حال الضَّرورة لا يحق له أن يغالط نفسه أو غيره في الاختيار، وأنَّ العارف بالإجمال دون معرفة المبيِّن عليه دوام الفحص أو انتظار حصوله من مجتهده إن لم يقدر على الاجتهاد، وسيأتي توضيح هذا في باب المبيِّن ولو إشارة.

ص: 95

الخامس: الفوارق العامَّة بين الإجمال وغيره ممَّا مضى

إنَّ من الفوارق بين الإجمال وغيره هو:

1 - إنَّ الإجمال قد يشترك مع غيره من الإطلاق والعموم في حرمة تأخير البيان عن وقت الحاجة في المورد المناسب للحرمة الممتنعة على الله تعالى، ولكن ليس بملازمة للمساواة التَّامَّة في ذلك بينه وبين غيره منهما، إلاَّ بما تقتضيه مناسبة عدم الحاجة السَّريعة إلى ذلك، لأنَّ رفع الإجمال بالبيان حاجته في مورده الاعتيادي أشد وإلى امتثال أوامر الله المبيِّنة أسرع.

إلاَّ في الموارد المستثنات الَّتي لا يمكن فيها تصوُّر حرمة التَّأخير، كالأمور الواردة بالإجمال وإنَّ تطبيقها مفصَّلة قد لا يكون إلاَّ في عصر صاحب العصر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ كالجهاد والولاية العامَّة والقضاء ووجوب صلاة الجمعة عينيَّاً وصلاة العيد كذلك، بناءاً على القول بالتَّعليق على زمانه.

وقد تظهر في مثل هذا الإجمال - حتَّى لو كان وحده من دون مبيِّن - فائدة وهي فيما لو ظهر الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

حيث لو قيل بأنَّ الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ إذا ظهر أتى بدين جديد على ما ترويه بعض الرِّوايات(1)؟

لأمكنت الإجابة عليه بأنَّ المقصود من ذلك هو حالة من الانطماس والاندراس

ص: 96


1- عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: (إذا قام القائم عَلَيْهِ السَّلاَمُ جاء بأمر جديد كما دعى رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في بدو الإسلام إلى أمر جديد)، بحار الأنوار: ج 52 ص338 ح 82.ج وعن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر (محمّد بن عليّ): (... يقوم بأمر جديد، وسنة جديدة وقضاء جديد، على العرب شديد، وليس شأنه إلا القتل، ولا يستنيب أحدا ولا تأخذه في الله لومة لائم) بحار الأنوار: ج 52 ص 348/ ح 99.

للدِّين وتعاليمه لا الإتيان بالدِّين الجديد، بسبب امتلاء الأرض ظلماً وفساداً وإلى حد صيرورة المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وكما دلَّت عليه بعض روايات آخر، والَّتي منها قوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (لقد بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء قيل ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: "الَّذين يصلحون إذا فسد النَّاس")(1).

أي بدء بأنصار قليلين ولم يلتفوا إلى قيمه ومبادئه ومن ثَمَّ ابتعادها عنهم غضباً من الله عليهم، وسيعود أيضاً بأنصار قليلين.

لا أنَّ الدِّين يأتي جديداً بحقيقته على يديه عَلَيْهِ السَّلاَمُ لأنَّه فرع الرِّسالة والامتداد لها وهو الإمام الثَّاني عشر "سلام الله عليه"، وقد قال الله تعالى في سابق الأزمان بعد بيعة الغدير [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا](2).

ولذلك بقيت بعض الأمور مجملة في الكتاب والسنَّة من دون تبيين، ولو كان قد جاء بدين جديد على حقيقته حين ظهوره لما صرَّح تعالى وكذلك رسوله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بمثل هذه المجملات الَّتي تنتظر ظهوره عَلَيْهِ السَّلاَمُ لإعادة تطبيقها ونحوه، وهذا من التفاوت بين المجمل وبين الإطلاق والعموم.

نعم هناك بعض إطلاقات وعمومات قليلة لم تكن كحالات الإجمال لا يعرف تقييدها وتخصيصها إلاَّ الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ، لأنَّا لم نعثر عليها للأسباب الَّتي مرَّت أكثر من مرَّة لا لكونها لم تقيَّد أو لم تخصَّص من يومها الأوَّل.

2 - إنَّ المجمل لا يمكن أن يستفاد منه تلك الاستفادة الطَّبيعيَّة معجَّلاً إلاَّ لما ذكرناه من الاختبار بالأحاجي واستكشاف الذَّكاء الفطري عن غيره، أو للإغراء والإيهام

ص: 97


1- كمال الدين وتمام النعمة -- الشيخ الصدوق -- ص 201، كما روته العامَّة في كتبهم كصحيح مسلم (208).
2- سورة المائدة / آية 3.

والتَّقيَّة والمغالطة لبعض الأعداء وغيرهم، والعمل على أساس العلم الإجمالي لا التَّفصيلي بطريقة الاحتياط لا التَّقليد والاجتهاد إلاَّ نادراً جدَّاً، أو تأجيل وقت العمل لحكمة، بينما المطلق والعام يمكن فيهما العمل الطَّبيعي قبل التَّقييد والتَّخصيص ولو في الجملة الأحسن من حالة الإجمال.

3 - إنَّ المجمل لا ظهور ولا نصوصيَّة فيه فلا يقال نص مجمل وظاهر مجمل إلاَّ أنَّ يستظهر منه الإجمال للعلم التَّفصيلي، بخلاف المطلق والعام فإنَّهما يرتبطان بالنص والظاهر.

4 - إنَّ المجمل إذا بيِّن يكون كالمطلق إذا قُيِّد لا باقي له بخارج عنه بعد تبينه، بخلاف العام لو خُصِّص فإنَّه لابدَّ له من باقٍ قليل أو كثير ليلتزم به عامَّاً مخصَّصاً، ولذا جمع بعض الأصوليين ما بين بحثي الإطلاق والتَّقييد والإجمال والتَّبيين في باب واحد أو بتسلسل موضوعي متلاصق واحد كما عُرف في المعالم.

5 - إنَّ المجمل وإن اشترك مع المطلق والعام في أمر انطباقه مثلهما على المفرد اللَّفظي والمركَّب اللَّفظي إلاَّ أنَّه يختلف عنهما، في أنَّه يطلق لفظه ويراد منه اللفظ والفعلكما مرَّ، فيقال لفظ مجمل وفعل مجمل، بينما المطلق والعام علاقتهما بالألفاظ فقط.

6 - إنَّ الإجمال يتنافر مع الإطلاق أو العموم في بعض حالاته، فلابدَّ في أنَّه إذا لم يكن اللفظ الشَّرعي من أحدهما في مقام البيان - من غير التَّشريع أو الإجمال والإبهام - الَّذي هو أحد مقدِّمات الحكمة، بأن كان لفظ أحدهما في مقام التَّشريع ونحوه، فلا يمكن أن يكون المطلق مطلقاً أصلاً ولا العام عامَّاً وكذلك الإجمال غني عن هذا، لعدم وجود التَّقابل بينه وبين التَّبيين كالمطلق والعام.

7 - إنَّ المجمل وإن أشبه المتشابه الآتي ذكره في بعض الأمور في الكلام عن بحث المحكم والمتشابه وكما ذكرناه في التَّعريف اللغوي وغيره، وأنَّ المبيَّن الَّذي في مقابله أو

ص: 98

الرَّافع لإجماله لو كان موجوداً وإن أشبه المحكم في بعض الآيات والنُّصوص كما في قوله تعالى [هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ].

إلاَّ أنَّ بحث المجمل والمبيَّن وبالتَّقابل الخاص الَّذي بينهما وبالاعتبار الخاص الَّذي يحصل لهما فيه فلابدَّ وأن يختلف عن بحث المحكم والمتشابه في التَّقابل الخاص الَّذي بينهما للاعتبار الخاص الَّذي يحصل لهما فيه وإن حصل التَّشابه كما فيما بين الإجمال والتَّشابه المشار إليه وفيما بين المبيَّن والمحكم المشار إليه كذلك.

ويمكن استيضاح هذا الأمر أكثر من قراءة البحثين للتَّمييز بينهما أكثر، ولا مشاحَّة في الاصطلاح ولا ضير في ذلك ما دام التَّرادف جزئيَّاً بسبب التَّقابل الخاص المذكور في المقامين.

السَّادس/ مناسبة العلم الإجمالي وقاعدة منجِّزيَّته وفروعه في المقام

بعدما أشرنا إلى ضعف المجمل القولي والفعلي عن أداء المهمَّة الشَّرعية طبيعيَّاً تكليفاً وتطبيقاً إلاَّ بانتظار مجيء المبيِّن.

فليس معناه أن تُعدم الفائدة منه بالمرَّة حتَّى بالمعنى الثَّانوي لو كان وحده كما ذكرناه من حالات الاختبار والمغالطات ونحوهما أو أن يُرتجى الرِّضا الشَّرعي بما قد تبرئ الذمَّة به من العمل بالمعلوم الميسور من غير التَّفصيلي على الأقل بعد الاشتغال اليقيني لو تأخَّر المبيِّن في بعض مصاديقه ووصل أمره إلى حد اليأس وما يشبهه لئلا يأتي الفوت.

لذا قد حاولنا بهذا الأمر السَّادس تسديد المطلب بالنَّحو الإضافي ببيان بعض ما يتناسب والكلام عن قاعدة منجِّزيَّة العلم الإجمالي وما يتعلَّق بالابتلاء بفروعه أو بعضها المحتاجة ولو إجمالاً إلى إبراء الذمَّة التَّفصيليَّة وان لم يكن ذلك هو الأمر

ص: 99

الَّذي كلَّفنا به في واقعه في علم الله تعالى إلاَّ في أحد طرفي التَّردُّد بين هذا الفرد أو ذاك في مورد الفعل بمثل الجمع بينهما وفي مورد التَّرك بالاجتناب عنهما معاً، وذلك من باب (اشتغال الذمَّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني).

علماً بأنَّ هذه القاعدة وإن اتَّصفت بمستوى من العلم نسبيَّاً إلاَّ أنَّ مفادها باقٍ على إجماله ولن تخرج عن الإجمال البياني ومعه التَّكليفي فنبقى على نفس مستوى طبيعيَّة الأمر الَّذي نحن فيه وأضفناها ولو باختصار لهذه المشابهة كفائدة إضافيَّة.

وأنَّ التَّفصيل الَّذي يرفع ثقل هذا الإجمال التَّكليفي هو العمل المبرئ للذمَّة ولو مؤقَّتاً لا للدِّلالة المطلوبة بطبيعتها لانتفائها بالتَّردُّد بين هذا وذاك من التَّكليفين كالجمع بين صلاتي الظهر والجمعة يوم الجمعة.

لأنَّ الأدلَّة الخاصَّة بالظهر خصَّتها باستمرار والخاصَّة بالجمعة خصَّتها وبنفس المستوى على أحد الأقوال حتَّى تأسَّس القول بما يفيد التَّخيير أو التَّحيُّر في أمر ما يبرئ الذمَّة منهما على التَّحديد مع توفُّر الشُّروط.وكالجمع بين القصر والتَّمام حين دخول بلد المواطنة مع سعته قبل الوصول إلى دويرة الأهل للاختلاف في مؤدَّى الأدلَّة.

وكذا الجمع بينهما قبل الوصول إلى محقِّق المسافة الشَّرعيَّة الكاملة وهو الثَّمانية والأربعون "كم" لاحتمال كون التَّقدير الأقل وهو الأربعة والأربعون هو الصَّحيح كذلك فيجمع بينهما في الموقع الثَّاني ذا المقدار الأقل، بناءاً على أهميَّة الأكثر ولو استحباباً.

وهكذا كل ما يتردَّد به بين الأمرين الفعليين ومنه ما بين الأقل والأكثر كالتَّردُّد الاستدلالي بين الأقل والأكثر كما فيما بين التَّسبيحة الواحدة وبين الثَّلاثة في الرِّكعتين الثَّالثة والرَّابعة للثُّلاثيَّة والرُّباعيَّة من الصَّلوات بالالتزام بالثَّلاثة دوماً.

وكالإقامة للتَّردُّد فيها بين وجوبها واستحبابها المؤكَّد بالالتزام بها دوماً

ص: 100

والصَّلاة إلى الجهات الأربع لو جهل الاتِّجاه.

وهكذا حالات التَّردُّد في شيء بين القول بحرمته والقول بكراهته بالالتزام بتركه ولو احتياطاً.

وكذا في الأمور الوضعيَّة من الأحكام كنجاسة أحد الإناءين لقوله عَلَيْهِ السَّلاَمُ (أهرقهما وتيمَّم)(1) وغير ذلك.

وحديثنا عن هذا الأمر في الاهتمام بإلحاقه ببحثنا لم يكن مختصَّاً بفتاوى الوجوب أو التَّحريم في أمر العلم الإجمالي كما في إهراق الإناءين والاحتياط الوارد فيه صريحاً بوجوب اجتناب اللُّحوم والدِّماء والفروج.

أو الاستحباب والكراهة برجحانهما الاحتياطي كما مرَّ من بعض الأمثلة، بل في الأوسع من ذلك.

وأسباب التَّكليف اللازم مع هذا الإجمال لم تكن طبيعيَّة، بل إنَّما هي قهريَّة، ومنها:-

طرؤ بعض المشاكل على أدلَّتنا الشَّرعيَّة في الكتاب من حيث الدِّلالة وفي السنَّة من حيث السَّند والدِّلالة بسبب عدائي مقصود أو غير مقصود في تحقُّق نتيجته أو عدمها.

لكن خطِّط لذلك في المقصود العدائي بليل وتلاقفه الألدَّاء وإن بان ضرره علينا بعد حين حتَّى لو لم يُعرف المخطِّط المنفِّذ بشخصه مع العلم بجهته الأساسيَّة أو حزبه الخاص وبالعكس، إضافة إلى الكوارث الطَّبيعيَّة.

ومن دلائل حالات المعادات لصاحب الشَّريعة ومداركه:

1 - منع التَّدوين للأحاديث الشَّريفة بعد وفاة النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مباشرة ممَّن يدَّعي الصحبة والإخلاص له صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ، وهو بريء ممَّن يعاديه.

ص: 101


1- وسائل الشيعة ج1 ص169/ أبواب الماء المطلق ب 12 ح 1 (نقل بالمضمون).

2 - اختلاق رُواة أدُّعي عنهم أنَّهم من الصَّحابة لا أصل لهم في الصحبة وفي الإسلام واختلاق روايات مكذوبة من وضَّاعين من الصَّحابة المنافقين.

3 - اختلاط رواياتنا بروايات غيرنا مع التَّفاوت في الاعتبار بيننا وبينهم في بعض التَّصرفات العمديَّة.4 - فتاوى مشتركة في أكثر من مذهب كنقل شيء أو بعض شيء من بعض أعلام لنا كان لهم عهدان عهد سنِّي وعهد شيعي من جهة التَّفاوت الاستدلالي المذهبي غير المتوازن مع وجود احتمالات تعمُّد بعض الأعداء في زجِّ فتاوى ذلك العهد بهذا العهد للإرباك.

5 - حالات النَّقل بالمعنى المشوَّش لحقيقة المرويَّات.

6 - الأخذ من روايات طويلة يتناقض صدرها مع عجزها أو هما مع الوسط أو الوسط معهما أو مع أحدهما كما أشرنا إلى ذلك في الماضي.

وغير ذلك ممَّا ضيِّع علينا بعضاً أو كثيراً من الأمور لو لم أبالغ من الَّتي اضطرَّتنا لبقاء التزامنا بما وصل إلينا من إجمال القرآن وإجمال السنَّة وبهذه الكيفيَّة بسبب ما ذكرنا ممَّا لم يظهر له مبيِّن يكشف عنه تلك الغمَّة، ولو كان ذلك إجمالاً علميَّاً لأنَّه يكفيه في المشابهة لهذا الأمر أنَّه غير تفصيلي.

إلاَّ أنَّ هذا ليس معناه -- مع وجود فحولنا الفقهاء والمحقِّقين قديماً وحديثاً في أعيانهم وآثارهم -- أن لا مخرج له عندهم بالمرَّة ولو بأداء ما يمكن من الميسور لإبراء الذمَّة.

وبذلك عرفونا بوجود المجال الشَّرعي للالتزام بالمقدار الممكن والَّذي به تبرئ الذمَّة وبذلك يتناسب الإلحاق.

ص: 102

السَّابع / بعض النُّصوص الَّتي وقع الكلام في كونها مجملة أو مبيِّنة

إنَّ من جملة ما ذكره العلماء من تلك النُّصوص الخاصَّة بآيات الأحكام للبحث عنها هو قوله تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا](1).

واختلفوا في أمري القطع واليد، فقال بعضهم بأنَّ القطع من المجمل المتشابه، باعتبار أنَّه يطلق على الإبانة ويطلق على الجرح أيضاً، لأنَّه يقال لغويَّاً لمن جرح يده بالسكِّين قطعها، كما يقال لمن أبانها كذلك، واللُّغة مرجعنا في هذه الأمور عند الحيرة، ولذلك صارت هذه مجملة.

وقال بعض بأنَّ اليد يُراد من ظاهرها لو خلِّي وطبعه في الأمور بأن يستفاد منه إرادة تمام العضو المخصوص من المفصل الأعلى إلى أطراف الأصابع.

إلاَّ أنَّه غير مراد وحده في هذه الآية، بل أريد منها في مقابل ذلك ما هو إلى المرفق لحد العضو المغسول في الوضوء، وما هو خصوص الكف إلى الرسغ، لتحديد موقع التَّيمُّم، وما هو خصوص الأصابع الأربع ما عدا الإبهام، لقطع يد السَّارق على مذهبنا نحن الإماميَّة.

وغير ذلك من التَّحديد لقطع يد السَّارق عند العامَّة، وكل له دليله عند أهله، ولهذا صارت هذه الآية بسبب تجرُّدها من القرينة مجملة لحملها للكل بتساوي عند هذا البعض أو ذاك.

ولكن أجيب عن الأوَّل:-

بأنَّ دلالة القطع على الإبانة بحسب الحقيقة صحيح، بل هو المتبادر إلى الذِّهن، وأمَّا دلالته على الجرح كذلك بنفس المساواة فليس بصحيح إلاَّ مجازاً، لأنَّ الاستعمال يدخل فيه الحقيقة والمجاز، والفرق بينهما في التَّشخيص واضح.

ص: 103


1- سورة المائدة / آية 38.

وهذه الدِّلالة على الجرح هي غير الأمر الموضوع له اللَّفظ حقيقة، لأنَّه إن جاء مع قرينته الخاصَّة المتفاوتة عن معنى البتر، وهي الجرح الَّذي لو تسامحنا في التَّعبير عنه بالقطع لجعلناه قطعاً لبعض اليد ولو شقَّاً بنحو التَّسامح كتقطيع النُّسوة أيديهن ليوسف كما قال تعالى [فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ](1).

وبذلك لا يتم الإجمال في هذه العبارة الشَّريفة للمعنى الوحداني الثَّابت فيها، وهو القطع بمعنى البتر والإبانة فقط.

وأجيب عن الثَّاني:-

بأنَّه إن أريد ما في غير الآية أو نفس اليد على طبيعتها بالوضع اللُّغوي العام مع قطع النَّظر عن خصوص يد السَّارق مثلاً فلابدَّ من أن يصدق الإجمال، لما مرَّ من المصاديق المتعدِّدة، وهذا لا خلاف فيه.وأمَّا استعمالها في الآية في خصوص حكم السَّارق والسَّارقة بالوضع الشَّرعي فهو وإن كان يمكن أن يدعَّى ارتفاع إجمالها به بسبب الرُّسوخ الذِّهني لفقهاء ومتفقِّهي مذهب أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، للقرينة المعيِّنة للمراد الملازمة لكل حالة سرقة تثبت بربع دينار ذهبي فما فوق كما لا يخفى.

وارتباطاً بالسِّيرة العمليَّة المنقادة إلى السنَّة الشَّريفة بمصاديقها القوليَّة والعمليَّة والإمضائيَّة والمؤكِّدة بمثل ما رواه في الوسائل عن أبي علي الأشعري عن محمَّد بن عبد الجبار عن صفوان عن اسحق بن عمَّار عن أبي إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُقال (تقطع يد السَّارق ويترك إبهامه وصدر راحته)(2).

وغير ذلك ممَّا استكشف أمر تأكيده من الكتاب في رواية شريفة أخرى ذكرت عن الإمام الجواد عَلَيْهِ السَّلاَمُ لإجابة الطَّاغوت العبَّاسي حينما سأله عن مقدار يد السَّارق،

ص: 104


1- سورة يوسف / آية 31.ج
2- وسائل الشيعة ج28 ص252 / أبواب حد السرقة ب 4 ح 4.

واستشهد لهذا التَّحديد للمقطوع بقوله تعالى [وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ](1)، ومن المساجد السَّبعة للسَّاجد هو راحتا الكفَّين مع الإبهام.

إلاَّ أنَّه لا يعنى هذا عدم بقاء الإجمال الَّذي كان في الأصل لناحية معرفة المقطوع لا معنى القطع في مقابل الجرح الَّذي مرَّ ذكره.

وبذلك لا يكون رافعاً للإجمال الأصلي في الواقع إلاَّ من الكتاب نفسه والسنَّة الشَّريفة معه، إضافة إلى المعنى اللُّّغوي الَّذي يُراد منه ذلك بمثل ما في قوله تعالى [فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ](2) وهي المقصود منها الأصابع ولو في الجملة، وبالأخص أكثر لو رجعنا إضافيَّاً إلى محاولة الحل الشَّرعي النَّوعي الأوسع الَّذي لا يتقيَّد بمذهب معيَّن لعموم المسلمين، وهو المرتبط بالفقه المقارن للتَّقريب.

فلابدَّ في هذا من أن تتنوَّع الملاحظة ويكون كل مذهب من المذاهب الإسلاميَّة الخمسة أو الأكثر يطرح دليله، وعند ذلك لابدَّ من أن تلاحظ اليد ملاحظتها اللُّغويَّة الجامعة لكل المصاديق المذكورة أعلاه.

وبذلك يرجع الإجمال بصورة أوضح إلى ما أشرنا إليه سابقاً ممَّا نستدل نحن به على خصوص المقطوع من اليد الكاملة في السَّرقة لا القطع الَّذي مرَّ عدم الإجمال فيه.

ومنها قوله تعالى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ](3) حيث قال أكثر النَّاس أو اعتبروا أنَّه لا إجمال في التَّحريم المضاف إلى الأعيان والأشخاص، لأنَّ من استقرأ كلام العرب علم أنَّ مرادهم في مثله حيث يطلقونه بهذا اللفظ إنَّما هو تحريم الفعل المقصود من ذلك كالأكل في المأكول والشُّرب في المشروب واللبس في الملبوس

ص: 105


1- سورة الجن / آية 18.
2- سورة البقرة / آية 79.
3- سورة النساء / آية 23.

والوطء في الموطؤ، فإذا قيل حُرِّم عليكم لحم الخنزير أو الخمر أو الحرير أو الأمهَّات وغيرهنَّ من المحارم فقد فهم ذلك كلُّه من الألفاظ المذكورة وما يناسبها بسبق واضح إلى الفهم عرفاً، فلذلك هو متِّضحالدِّلالة فلا إجمال.

ولكن خالف في هذا البعض من النَّاس وقالوا بإجمال التَّحريم، لاستدلالهم بأنَّ تحريم الأشخاص والأعيان غير معقول لاختلافها واختلاف معانيها، فلابدَّ من إضمار فعل يصح كونه متعلِّقاً له ليتناسب معه، والأفعال كثيرة ولا يمكن إضمار الجميع والمقام يتفاوت، ولانَّ ما يقدر للضَّرورة لابدَّ وأن يقدَّر بقدرها فتعيَّن إضمار البعض، ولا دليل على خصوصيَّة شيء منها فدلالته على البعض المراد غير واضحة وهو معنى الإجمال.

ومن هنا يمكن أن نعرف أكثر أن الإجمال في نفس [أمَّهاتكم] في المعاني المتعدِّدة والمردَّدة بين ما يحرم وغيره كالزِّنا المحرَّم وما شابهه من ملحقاته المحرَّمة كالتَّصرُّفات الأقل الَّتي كانت بشهوة وغير ذلك ممَّا لم يحرم كالتَّقبيل للاحترام أو الشَّفقة والمضاجعة البريئة من المحارم فإنَّ ذلك يعد من الإجمال الَّذي لم تعرف تفاصيله إلاَّ بالرجوع إلى أدلَّة أخرى.

إلاَّ أنَّهم أجيبوا بالمنع من عدم وضوح الدِّلالة على ذلك البعض المدَّعى جهالته لما دلَّ ممَّا مرَّ من دلالة العرف على إرادة المقصود من مثله، وهو في الآية حرمة الوطء للمحارم لا غير لدلالة لفظ التَّحريم الصَّريح ولو ظاهراً وهو الصَّحيح ولو سياقيَّاً.

وأمَّا التَّصرفات الأخرى المباحة والجائزة ممَّا سمح به الشَّارع المقدَّس للأدلَّة الأخرى فهي خارجة حتماً عن حالة مدلول التَّحريم الصَّريح على عدم الحليَّة إلاَّ بالاستثناء لها من الأدلَّة الأخرى.

ومنها قوله تعالى [فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ](1)، وقول النَّبي

ص: 106


1- سورة البقرة / آية 197.

صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (لا صلاة إلاَّ بطهور)(1)، ومثله كل ما اشتمل من الأحاديث الشَّريفة وما يلحق بها على (لا) النَّافية للجنس من المرتبطة بالأمور الشَّرعية لحكمة قد يأتي العلم بها بعدئذ إن حسبت من المجملات كقوله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب)(2)، وقوله (لا صلاة لحاقن)(3)، وقوله (لا عمل في الصَّلاة)(4)، وقوله (لا صلاة لمن جاره المسجد إلاَّ في المسجد)(5)، وقوله (لا جماعة في نافلة)(6)، وقوله (لا سهو لمن كثر عليه السَّهو)(7)، وقوله (لا صيام لمن لم يُبيِّت الصِّيام في اللَّيل)(8)، وقوله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (لا بيع إلاَّ في ملك)(9)، وقوله (لا نكاح إلاَّ بولي)(10)،وقوله (لا رضاع بعد فطام)(11)، وقوله (لا عتق إلاّ في الملك)(12) وقوله (لا رهبانيَّة في الإسلام)(13)، وقوله (لا غيبة لفاسق أو

ص: 107


1- وسائل الشيعة: ج1 ص365 / أبواب الوضوء ب 1 ح1.
2- مستدرك الوسائل: ج4 ص158 / أبواب القراءة ب 1 ح 5.
3- وسائل الشيعة: ج7 ص266 / أبواب قواطع الصلاة ب 15 ح 5.
4- وسائل الشيعة: ج 4 ص 1264، الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة ح 4، وفيه: ليس في الصلاة عمل.
5- وسائل الشيعة: ج5 ص194 / أبواب أحكام المساجد ب 2 ح 1.ج
6- وسائل الشيعة: ج8 ص32 / أبواب نافلة شهر رمضان ب 7 ح 6.
7- وسائل الشيعة ج8 ص227 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 16 ح 1.
8- سنن الدارقطني: ج2 / 172 برقم 1 ولفظ الحديث: "من لم يبيِّت الصِّيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له".
9- المستدرك ج13 ص230 / أبواب عقد البيع وشروطه ب1 ح3 (مع اختلاف يسير).
10- المجموع لمحيي الدين النووي ج 16 ص 174.
11- الكافي ج3 - 5 -423.
12- وسائل الشيعة: ج23 ص 15 / كتاب العتق ب 5 ح1 ، 2 ، 6 (مع اختلاف يسير).
13- جاء هذا الحديث في مجمع البحرين في مادّة (رهب).

في فاسق)(1)، وقوله (لا غش في الإسلام)(2)، وقوله (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)(3)، وقوله (لا حرج في الدِّين)(4)، وقوله (لا علم إلاَّ بعمل)(5).

ومنها غير ذلك من الرِّوايات وبقيَّة الألفاظ اللغويَّة الَّتي تكلَّموا فيها مَّا لم يتعلَّق بالأمور الشَّرعيَّة الواضحة في عدم إجمالها.

حيث عدَّ جماعة هذه النُّصوص والرِّوايات وأمثالهما من المجملات، لأنَّها بأجمعها تدل ظاهراً على نفي الفعل على الإطلاق من دون إفراز فعل عن فعل مع العلم باختلاف الأفعال بعد تعددها في اطار ذلك الإطلاق.

وأضيف إلى ذلك بأنَّ العرف في مثل هذه الألفاظ المتعدِّدة في نفي أجناسها مختلف، فيفهم منه نفي الصحَّة تارة ونفي الكمال أخرى ونفي الضرر تارة ثالثة أو لفظ مشروع رابعة أو نافذ خامسة، إلى غير ذلك ممَّا سيتَّضح أكثر، فكان متردِّداً بينها، ولذا يلزم فيها جميعاً الإجمال ما لم تتأكَّد القرينة المفرزة لكل المعاني عن الأخريات.

ولكنَّ الجواب عنه: أنَّ اختلاف العرف في الفهم إن كان في مثل ما ذكرتم فإنَّما كان باعتبار الاختلاف في التَّشخيص في أنَّه كان ظاهراً في نفي الصحَّة أو في نفي

ص: 108


1- مستدرك الوسائل، ج 9، ص 129، باب 134 من أبواب أحكام العشرة، ح6، تنبيه الخواطر، ج1، ص811.
2- سنن الدارمي: ج 2 ص 248 ،وفيه: لا غش بين المسلمين.
3- وسائل الشيعة: ج 17 ص 341 ،الباب 12 من أبواب إحياء الموات ح 3 و 5 ، و ص 319 باب 5 من أبواب الشفعة ح 1.ج
4- وسائل الشيعة: ج 1 ص 114 ،الباب 8 من أبواب الماء المطلق ح 5 وفيه: ما جعل عليكم في الدين من حرج.
5- التحفة السنية (مخطوط) السيد عبد الله الجزائري ص16.

الكمال.

بمعنى أنَّ كل صاحب مذهب يحمله على ما يعتقد هو به بحسب ما يظهر عنده، لا أنَّه متردِّد بين الحملين مثلاً عند الشَّخصين معاً كما فرض لأنَّه حسب الفرض ظاهر عند كل منهما ما هو المعتقد به حسب العرف فلا إجمال، وليس هو كتحديد المقدار المقطوع من اليد الَّتي بيَّنا أنَّها ما عرفت إلاَّ بالأدلَّة المبيِّنة للإجمال فيها.

ولو قبلنا هذا التَّردُّد بين الحملين عند كل منهما افتراضاً لكن لا يمكن في ذلك نقبل تساوي كلا المعنيين، لأرجحيَّة نفي الصِّفة وهي الصحَّة على نفى الذَّات بناءاً على الأعممن الصَّحيح والفاسد.

لأنَّ من نفي الصحَّة ما يمكن فيه تدارك العمل بإرجاعه صحيحاً كحالة نسيان الفاتحة الَّتي لو تداركها المصلَّي في الرَّواية القائلة (لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب)(1) عند نسيانها وجاء بها متداركاً بعد الفراغ من الصَّلاة أو نسيان السَّجدة الواحدة وسجد سجدتي السَّهو تداركاً.

إضافة إلى كون بعض الألفاظ الَّتي لا يراد منها معنى واحد كالأعلام أو النِّكرات المفردة المنفيَّة بلا ك- (لا رجل في الدَّار).

ولكنَّ الإنصاف لابدَّ وأن ينتهي إلى القول بأنَّ بعض الأمور لابدَّ وأن تستوضح في هذه الأدلَّة من أدلَّة أخرى لها وهو ما ظهر كثيراً من تدقيقات الفقهاء إذ لم يقتصروا على خصوص هذه الأدلَّة الأولى إن كانت غامضة لديهم، ولذا فيكون الحق المذكور وارداً في الجملة لا التَّفصيل.

وفصَّل بعضهم بين ما لو كان الفعل المنفي شرعيَّاً - كما في الأمثلة المذكورة ولو بنحو التَّوجيه في بعضها كما في الحديث الأخير - أو لغويَّاً ذا حكم واحد كالعلم الدَّال على معنى واحد خاص فيه فلا إجمال في ذلك.

ص: 109


1- مستدرك الوسائل 4 : 158 / أبواب القراءة ب 1 ح 5.

لأنَّ الشَّرعيَّات لابدَّ وأن يختار لها الشَّارع المقدَّس الألفاظ المعلومة المفهومة وإلاَّ يمتنع عليه أن يكلِّفنا بشيء لا نفهمه ولا يحق له أن يعاقبنا على شيء نخالفه فيه بسبب عدم تطبيقنا لمراده الَّذي لم يوضحه من جهلنا.

نعم يمكن أن يُلقي اللَّوم علينا فيما لو اختار لمراده الشَّرعي لفظاً وافياً ونحن لم نفهمه بسبب جهلنا حينما كان علينا أن نعرف أوَّلاً مقدِّمات العلوم وسطوحها ولم نفعل ذلك.

وأمَّا اللُّغوي ذا الحكم الواحد فهو أوضح من سابقه في تعقله بعدم إجماله، فرقاً بينه وبين ما لو كان لغويَّاً ذا حكم متعدِّد كالمشترك فعدَّ من المجملات، وكذلك لو حصل تردُّد بين نفي الذَّات أو نفي الصِّفات فهو من المجمل كذلك كما مرَّ.

واستدلَّ لهذا التَّفصيل، بأنَّ انتفاء الفعل الشَّرعي ممكن بفوات شرطه أو جزئه فيجري النَّفي فيه على ظاهره ولا يكون هناك إجمال.

وكذا مع إيجاد حكم اللُّغوي كالعلم الشَّخصي الَّذي لا يراد منه إلاَّ معنى واحد.

وكذا النَّكرات الَّتي نفيت بلا النَّافية للجنس فإنَّه يجب صرف النَّفي إلى ذلك المنفي لأنَه ظاهر في ذلك، فلا داعي إلى الشَّك فيه.

وأمَّا إذا كان للغوي حكمان أو أكثر كالمشترك أو لنفرض الفضيلة والأجزاء فليس أحدهما أولى من الآخر فلابدَّ من الإجمال.

ولكنَّ الجواب كالجواب الماضي عن الرأي الأوَّل، وهو أنَّ اختلاف العرف والفهم إن كان فإنَّما كان باعتبار الاختلاف في أنَّه ظاهر في الفضيلة أو الإجزاء، فكل صاحب مذهب يحمله على ما يعتقد هو به منهما، لا أنَّ المعنيين قد تردَّد كل من الشَّخصين بهما معاً،ولو افترضنا أنَّ هذا التَّردُّد كان عندهما معاً فلم نسلِّم أنَّ الفضيلة والأجزاء متساويان عند كل منهما.

ص: 110

وعليه فلابدَّ من كون كل منهما يبنى على أحد المعنيين دون الآخر حينما يتَّضح التَّرجيح عنده، ولكن لا ينبغي أن نجعل هذا الأمر لازماً في وضوحه بالدقَّة التَّامة في مثل المشتركات عند الواضعين لمعانيها.

لأنَّ المشتركات اللَّفظيَّة حينما تصل إلينا وهي موضوعة لمعانيها من مئات أو آلاف السِّنين فإنَّها تأتينا إتياناً متساوياً في كل معانيها.

وإنَّما الوضوح المذكور بأحد المعاني دون الباقي عند كل ذي مذهب حسب ما يعرفه في عرفه فهو حينما كان عند وضع كلِّ معنى للمشتركات على حدة في أزمنة كلِّ وضع في زمنه معلوم وواضح، وهكذا عند التَّطبيق الدِّلالي، وهذا لا ينفعنا إلاَّ في حالته وحينه.

ولكن الأفضل أن نقول أخيراً هنا ولربَّما ليس آخراً وإن أوجزنا المطلب، بأنَّ الحق ينبغي أن يقال في التَّوجيه الأفضل كما ذكره بعض الأفاضل بتصرُّف منَّا:-

أنَّ (لا) النَّافية للجنس في هذه المركَّبات لمَّا كانت تحتاج إلى اسم وخبر على نهج القواعد النَّحويَّة وكان الخبر محذوفاً كما مضى حتَّى في مثل قوله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (لا غيبة لفاسق أو في فاسق)(1) الَّتي قد يتصوَّر البعض بأنَّها لا تحتاج إلى الخبر مطلقاً كبعض أمثلة نفي الجنس الَّتي ذكرها النُّحاة بدون حاجة إلى ذلك الخبر في بعض الأحوال، لأنَّ الخبر فيها في حالات الحاجة الخاصَّة لا يستغنى عنه عند إرادة إكمال معناه وبما يتناسب مع مناسبة الحكم للموضوع.

ولذلك يكون الخبر المحذوف معلوماً لتلك المناسبة وملازماً للقرينة الرَّابطة للحكم بالرِّباط المناسب للموضوع بنحو التَّطابق الكامل لتعيين المراد، وبالوضع الحقيقي لا المجازي.

ص: 111


1- مستدرك الوسائل، ج 9، ص 129، باب 134 من أبواب أحكام العشرة، ح6، تنبيه الخواطر، ج1، ص811.

وبذلك يكون المقصود بواسطة هذه القرينة واحداً غير متعدِّد من بين ما تتعدَّد معانيه الحقيقية، وبهذا يرتفع الإجمال صحيحاً.

لأنَّ الإجمال إنَّما يكون بسبب عدم القرينة أو عدم تأثيرها وبالمعنى الحقيقي الواحد يرتفع استعمال الشَّيء في غير ما وضع له ما دامت القرينة الصَّارفة غير موجودة أو مؤثِّرة، وهذا ما يساعد على فهم العرف بالصورة البيانيَّة الأدبيَّة بصورة أكثر.

وعلى هذا المبنى لابدَّ وأن يكون تطبيق المحذوف الصَّحيح المناسب في تقديره بمناسبة الحكم للموضوع في الأمثلة الماضية كما يلي:

ففي مثل الحديث الأوَّل وهو (لا صلاة إلاَّ بطهور)(1) بناءاً على الوضع للأعم من الصَّحيح والفاسد كما مرَّ يكون التَّقدير لا صلاة صحيحة لا غير.وهكذا (لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب)(2) وفي مثل (لا صلاة لحاقن)(3) يكون التَّقدير لا صلاة كاملة، بناءاً على أنَّ قيام الدَّليل كان على أنَّ الحاقن لا تفسد صلاته إذا كان يقصد من الحقن هو حبس البول والغائط، وإلاَّ يكون التَّقدير الصَّحيح، ولو كان بنحو الاحتياط أنَّه لا صلاة صحيحة كذلك لو أريد من الحقن المعروف طبيَّاً قديماً ولو نادراً من إدخال الماء الخاص إلى الباطن أو إصبع النبات بعد الوضوء من طريق الخاتم كالحديثين الماضيين.

وفي مثل (لا عمل في صلاة)(4) لا عمل خارجي مشروع فيها.

ص: 112


1- وسائل الشيعة ج 1 ص 365 أبواب الوضوء ب 1 ح 1.
2- مستدرك الوسائل ج4 ص158 / أبواب القراءة ب 1 ح 5.
3- وسائل الشيعة 7 : 266 / أبواب قواطع الصلاة ب 15 ح 5.
4- وسائل الشيعة: ج 4 ص 1264، الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة ح 4، وفيه: ليس في الصلاة عمل.

وفي مثل (لا صلاة لمن جاره المسجد إلاَّ في المسجد)(1) لا صلاة كاملة في ثوابها.

وفي مثل (لا جماعة في نافلة)(2) لا جماعة مشروعة.

وفي مثل (لا سهو لمن كثر عليه السَّهو)(3) لا سهو مضر أو محتاج إلى سجدتي السَّهو أو إعادة الصَّلاة.

وفي مثل (لا صيام لمن لم يُبيِّت الصِّيام من اللَّيل)(4) لا صيام صحيح، لذلك إذا استمرَّ بناءاً على الأعم كما مرَّ، إلاَّ بما أستثني من بعض المبرِّرات.

وفي مثل [فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ](5) لا رفث ولا فسوق ولا جدال مشروعات في الحج.

وفي مثل (لا بيع إلاَّ في ملك)(6) لا بيع صحيح بناءاً على الأعم كما مرَّ لاحتمال أن يكون تامَّاً بإمضاء المالك لو كان فضوليَّاً.

وفي مثل (لا رضاع بعد فطام)(7) لا رضاع بجائز بعد فطام بناءاً على خصوصه، وفي معنى آخر بناءاً على خصوصه كذلك لا رضاع بناشر للحرمة بعد الفطام، وفي مثل (لا رهبانيَّة في الإسلام)(8) لا رهبانيَّة مشروعة.

ص: 113


1- وسائل الشيعة ج5 ص194 / أبواب أحكام المساجد ب 2 ح 1.
2- وسائل الشيعة ج8 ص32 / أبواب نافلة شهر رمضان ب 7 ح 6.
3- وسائل الشيعة ج8 ص227 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 16 ح 1.
4- سنن الدارقطني: ج2 ص172 برقم 1 ولفظ الحديث: "من لم يبيِّت الصِّيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له".
5- سورة البقرة / آية 197.ج
6- المستدرك 13 : 230 / أبواب عقد البيع وشروطه ب1 ح3 (مع اختلاف يسير).
7- الكافي ج3 - 5 -423.
8- جاء هذا الحديث في مجمع البحرين في مادّة (رهب).

وفي مثل (لا غيبة لفاسق أو في فاسق)(1) لا غيبة محرَّمة.وفي مثل (لا غش في الإسلام)(2) لا غش مشروع.

وفي مثل (لا نكاح إلاَّ بولي)(3) لا نكاح صحيح في البواكر بناءاً على الأعم بناءاً على هذا القول، وأمَّا بناءاً على الصحَّة مع ثبوت مجرَّد الحرمة يكون المعنى لا نكاح بجائز وهو محقق الحكم التَّكليفي فقط لا الوضعي.

وفي مثل ( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)(4) لا ضرر ولا ضرار مشروعان.

وفي مثل (لا حرج في الدِّين)(5) لا حرج مبطل لأعمالكم لأنَّ الضرورة تقدَّر بقدرها.

وفي مثل (لا علم إلاَّ بعمل)(6) لا علم نافع.

وفي مثل قولهم (لا حياء في الدِّين) لا حياء يستوجب عدم إفشاء المسألة الشَّرعيَّة.

إلى غير ذلك من الأدلَّة المشابهة والَّتي لا تخفى أجوبتها المناسبة على ذوي الذوق والعرف وما يتناسب مع الحكم والموضوع إضافة إلى ما تشير إليه الأدلَّة

ص: 114


1- مستدرك الوسائل، ج 9، ص 129، باب 134 من أبواب أحكام العشرة، ح6، تنبيه الخواطر، ج1، ص811.ج
2- سنن الدارمي: ج 2 ص 248، وفيه: لا غش بين المسلمين.
3- المجموع لمحيى الدين النووي ج 16 ص 174.
4- وسائل الشيعة: ج 17 ص 341 ،الباب 12 من أبواب إحياء الموات ح 3 و 5 ، و ص 319 باب 5 من أبواب الشفعة ح 1.ج
5- وسائل الشيعة: ج 1 ص 114 ،الباب 8 من أبواب الماء المطلق ح 5 وفيه: ما جعل عليكم في الدين من حرج.
6- التحفة السنية (مخطوط) السيد عبد الله الجزائري ص16.

للمعنى الواحد الَّذي لا يشاركه معنى آخر.

ولسائل أن يسأل بأنَّ هناك مجالاً لتقدير خبر عام يتناسب مع جميع هذه الأمثلة مثل موجود وثابت ومتحقِّق فيحصل بهذا النَّفي نفي الوجود والثبوت والتَّحقُّق وبما قد لا يتنافى والتَّقادير الَّتي بنيناها فلا داعي للتَّأثُّر بكلام البعض بادِّعاء أنَّ كل تقدير عام ينفي التَّقدير الخاص المتعارف أو المتناسب؟

فنقول: لا مانع من ذلك لو لم يتناف والتَّقدير حقيقة إلاَّ إذا دلَّت القرائن على عدم نفي هذه الأمور حقيقة، بل تنزُّلاً وادِّعاءاً.

وحينئذ فلابدَّ من الحمل على هذا المعنى الأخير كما في مثل قولهم (لا علم إلاَّ في عمل)(1) الَّذي يكون معناه أنَّ العلم بلا عمل كلا علم، وبالأخص إذا تضمَّن كون العمل واجباً.

وهكذا قولهم ( لا إقرار لمن أقرَّ بنفسه على الزِّنا) الَّذي يكون معناه بأنَّ إقراره كلا إقرار باعتبار عدم نفوذه عليه.

وكذا (لا سهو لمن كثر عليه السَّهو)(2) الَّذي يكون معناه أنَّ سهوه كلا سهو وهو غير مناف لما قرَّرناه مسبقاً من حالاته.هذا كلُّه من جهة تكوين الشَّيء، وقد أشرنا إليه في الجملة.

وأمَّا لو كان من ناحية التَّشريع فقد بيَّنَّاه كذلك في أمثلته كما مرَّ في الأمثلة الماضية الَّتي منها (لا غيبة لفاسق)(3) أي محرَّمة.

وأمَّا إن كان النَّفي متعلِّقاً بعنوان يصح انطباقه على الحكم فيدل هذا النَّفي على

ص: 115


1- التحفة السنية (مخطوط) السيد عبد الله الجزائري ص16.
2- وسائل الشيعة ج8 ص227 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 16 ح 1.
3- مستدرك الوسائل، ج 9، ص 129، باب 134 من أبواب أحكام العشرة، ح6، تنبيه الخواطر، ج1، ص811.

عدم تشريع حكم ينطبق عليه هذا العنوان كما في (لا حرج في الدِّين)(1).

وبالنَّتيجة تكون الحالات ثلاثة، ولتوضيحها نقول:

1 - إذا كان النَّفي من جهة تكوين الشَّيء فإنَّ في ذلك إذا قامت قرينة على عدم إرادة نفي الوجود حقيقة، بل كان ذلك ادِّعاءاً وتنزيلاً، بمعنى أن ننزِّل الموجود منزلة المعدوم، لا اعتبار عدم حصول الأثر المرغوب فيه أو المتوقَّع منه.

كقول (لا علم إلاَّ بعمل)(2) المراد منه أنَّ العلم بلا عمل كلا علم إذا لم تحصل الفائدة المترتِّبة منه، كان يُدَّعى أنَّ الموجود الخارجي ليس من أفراد الجنس الَّذي تعلَّق به النَّفي تنزيلاً.

وهكذا قولهم (لا إقرار لمن أقرَّ بنفسه على الزِّنا) الَّذي يراد منه أنَّ إقراره كلا إقرار، ولذلك نجد في روايات الإقرار أمام النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وأمام أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ من قِبل من يدَّعي الزِّنا على نفسه لا يُجابه إقراره أمامهما بالتَّصديق منهما بسهولة.

بل بوعظه عن التَّسرُّع بهذا القول لئلاَّ يكون متوهِّماً أو بالمغالطة له ونحوها في ادِّعاءه لصرفه عن ذلك، لاحتمال عدم الواقعيَّة في هذا الادِّعاء أو الاشتباه ونحو ذلك.

وهكذا في قول (لا سهو لمن كثر عليه السَّهو)(3) الَّذي يُراد منه أنَّ سهوه كلا سهو، لظن انتقال هذه الحالة إلى الوسوسة الَّتي يمنع من البناء عليها، فلابدَّ في جميع ذلك من عدم البناء على النَّفي الحقيقي كما مر.

2- ما إذا كان النَّفي راجعاً إلى عالم التَّشريع، فإن كان النَّفي متعلِّقاً بالفعل

ص: 116


1- وسائل الشيعة: ج 1 ص 114 ،الباب 8 من أبواب الماء المطلق ح 5 وفيه: ما جعل عليكم في الدين من حرج.
2- التحفة السنية (مخطوط) السيد عبد الله الجزائري ص16.
3- وسائل الشيعة ج8 ص227 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 16 ح 1.

كقول (لا رهبانيَّة في الإسلام)(1) فإنَّه يكون النَّفي فيه دالاًّ على عدم ثبوت حكمه في الشَّريعة، وعليه تكون الرهبانيَّة المعروفة عند النَّصارى غير ثابتة في التَّشريع بتحليل، ولذلك تكون من البِدع الَّتي لا أصل لها.

وكقول (لا غيبة لفاسق أو في فاسق)(2) الَّتي يُراد من نفيها نفي أثرها في التَّحريم،ومثلها (لا غش في الإسلام)(3) وأمثال ذلك ممَّا مرَّ تفسيره.

3 - ما إذا كان النَّفي متعلِّقاً بعنوان يصح انطباقه على الحكم، فيدل النَّفي حينئذ على عدم تشريع حكم ينطبق عليه هذا العنوان كما في قول (لا حرج في الدِّين)(4)، فإنَّ الحرج حالة غير اختياريَّة لو وقع أمر المكلَّف فيه، وما قدر على أن يؤدِّي وظيفته الاختياريَّة فلا بأس به بمقدار ما يباح شرعاً من المقدور.

وهكذا في حديث (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)(5)، وغير ذلك من النَّظائر.

وبالنَّتيجة إنَّ المركَّبات الماضية تصل إلى أن لا تكون مجملة في أساسها إلاَّ إذا عمِّمت وأطلقت وتجرَّدت عن القرينة فيصيبها الإجمال حينئذ وكما فصَّلناه فيما سبق.

ص: 117


1- جاء هذا الحديث في مجمع البحرين في مادّة (رهب).
2- مستدرك الوسائل، ج 9، ص 129، باب 134 من أبواب أحكام العشرة، ح6، تنبيه الخواطر، ج1، ص811.
3- سنن الدارمي: ج 2 ص 248 ،وفيه: لا غش بين المسلمين.
4- وسائل الشيعة: ج 1 ص 114 ،الباب 8 من أبواب الماء المطلق ح 5 وفيه: ما جعل عليكم في الدين من حرج.
5- وسائل الشيعة: ج 17 ص 341 ،الباب 12 من أبواب إحياء الموات ح 3 و 5 ، و ص 319 باب 5 من أبواب الشفعة ح 1.

الثَّامن / لابديَّة رفع الإجمال مع المقدرة عليه

لابدَّ من محاولة رفع الإجمال اللَّفظي والعقلي عندما تكون الأمور الشَّرعيَّة في نصوصها وظواهرها وبقيَّة أدلَّتها مبهمة وغامضة، مع المقدرة على ذلك والسَّعي لذلك تفحُّصاً وترقُّباً ومثابرة ولو من مضانِّها البعيدة، حتَّى لو كلَّف الإنسان طلب العلم لنيل ذلك ولو بالذِّهاب إلى أبعد الأماكن وبصرف أضخم المبالغ قبل التَّلبُّس بالعمل الشَّرعي، لئلاَّ يكون العمل - من دون تبيُّن - ناقصاً أو غير مقبول.

حتَّى لو يصحَّح في بعض أحواله في الجملة، لأنَّه مع ذلك التَّصحيح قد يكون عملاً مستعجلاً بالميسور ولكنَّه في واقعه لو حصل التَّبين بعد ذلك وانكشف أنَّه مبيَّن من الأوَّل لتبيَّن أنَّه ممَّا يجب إعادته في داخل الوقت الواسع أو قضاؤه في الخارج لو انتهى.

وهذا ما أثبتته الأدلَّة في مواقع عديدة، فهو حينئذ لم يكن مع إجماله على طبيعته كما أوضحناه في السَّابق إلاَّ في حالات.

فإنَّ الطَّبيعي هو المبيَن من أساسه أو المبيَّن بعد إجماله من المبيَّن، ولا يتم ذلك إلا بالتَّفحص والسَّعي والاستفصال، أو رؤية النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أو الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ كيف يعمل، أو كيف موقفه لو عمل المكلَّف وطبَّق أمامه بأنَّه هل كان يرضى أم لا؟.

وما هو التَّكليف في دور الغيبة الكبرى وأنَّه بالسَّعي والاجتهاد، وفي عدم إمكانه بالأخذ بفتوى المجتهد الَّذي يُعتمد عليه، إضافة إلى أنَّ الاحتياط قد يكون طريقاً محرزاً لبراءة الذمَّة لو لم يمكن الاثنان الأساسيَّان كما مرَّ.

ولو لم يلتزم بهذه النَّاحية كما أوضحنا لوقع المتخلِّف في محنة السَّير في مسلك الجهالة وحيرة الضلالة، أو الوقوع في شبهة القول بجواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وكلاهما باطل وعاطل.

ص: 118

أمَّا الأوَّل فهو أوضح من الواضح لقوله تعالى [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ](1) ومن ذلك بل أهمه أمور الفقه والشَّريعة ووجوب تطبيقها تامَّة وعن بصيرة.

وأمَّا الثَّاني فإذا كان بنحو العمد بدون مبرِّر مع وجود الحاجة إليه فإنَّه يخالف العدل الإلهي المسلَّم، فضلاً عن أصل عدم البيان.

لأنَّه تعالى بعد أن أوجب علينا الواجبات وحرَّم علينا المحرَّمات وكلَّفنا بغيرهما من الإحكام التَّكليفية الخمسة - وكذا ما تتبعها من الإحكام الوضعيَّة - وكتب علينا أن يحاسبنا عليها عند الإطاعة وعدمها وبما نتيجته الثَواب وعدمه وغير ذلك ممَّا يتعلَّق بأمور عموم الأحكام.

فلابدَّ من كون حقِّه في ذلك كلِّه ثابتاً بعد إبلاغنا بهذه الأمور إبلاغاً واضحاً تقوم حجَّته التَّامَّة علينا به بلا مجال لنا في الاعتراض عليه.

وأنَّ بقاء الإجمال من دون بيان مع فرض المحاسبة المذكورة هي من الجبر الصَّريح الَّذي لا يمكن تحمُّله.

في حين أنَّه ممتنع على المشرِّع تعالى حسب الصَّحيح من العقائد الأصوليَّة، لأنَّه العدل المطلق وصاحب الدِّين الوسط الَّذي لا جبر فيه ولا تفويض.

نعم هناك مجال على القول بتأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة، وهو ما أشرنا إليه سابقاً.

فقال قوم بجوازه مطلقاً.

وقال آخرون بالمنع المطلق كذلك.

والمحكي(2) عن المرتضى قدس سره التَّفصيل:-

ص: 119


1- سورة الزمر / آية 9.
2- معالم الأصول (مع حاشية سلطان العلماء) ص219، عن (الذريعة ص363).

بين القول بجواز التَّأخير عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة - لعدم امتناع أن يفرض في ذلك مصلحة دينيَّة يحسن لأجلها في المقام المناسب.

ومن ذلك: ما لو ولَّى الملك والياً على بلد معيَّن قائلاً له (لقد ولَّيتك على البلد الفلاني ((للأمر المستعجل من غير تفصيل)) وسوف أفصِّل لك نموذج حكمك فيما بعد)، وهذا الأمر وارد معقول في بابه.

وبين القول بعدم جواز ذلك في غير مورده حتَّى عن وقت الخطاب إذا كان هناك غرض في الإجمال كما مرَّ بيانه، وقاس هذا على العام حينما يراد منه الاستغراق، ولكن هذا ليس على طبيعته.

فالتَّفصيل للسيِّد قدس سره بين الجواز وعدمه ليس بمتساوٍ لقوَّة حجَّة القول بجواز التَّأخير أكثر من حجَّة الثَّاني.

لأنَّ بعدم جواز تأخير البيان يكون المعنى هو البقاء على الإجمال، وعند هذا البقاء يظهر الأمر غير الطَّبيعي، والقياس على العام غير صحيح، لإمكان أن يكون معنىالاستغراق مراداً طبيعيَّاً من العام لا كالمجمل الَّذي لا يجوز تأخير بيانه.

ولكنَّ الصَّحيح هو جواز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب في الجملة لا تفصيلاً إذا اقتضت الحكمة الإلهيَّة.

التَّاسع/ كيفيَّة بيان المجمل عند الحاجة إليه

بعد أن ثبت وجوب أن يفهم المراد الشَّرعي من تكاليفه الإلهيَّة - وإلاَّ يكون التَّكليف تكليفاً بما لا يطاق، لأنَّه لم يفهم، وهو من الإغراء بالجهل -

فلابدَّ من كون الخطاب إمَّا أن يكون بيِّناً من أساسه، وهو المسمَّى بمتَّضح الدِّلالة كقوله تعالى [وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ](1).

ص: 120


1- سورة البقرة / آية 282.

أو بواسطة الغير كاللفظ أو الفعل المجمل إذا أوضحه ذلك الغير، وهو المسمَّى بالمبيِّن بكسر الياء المشدَّدة، وبهذا وبما يأتي تتجلَّى معرفة المبيِّن وكيفيَّة بيان المجمل.

وهذا المبيَّن مفتوح الباء المشددة يعتبر كالمجمل في انقسامه إلى مفرد وإلى مركَّب من ناحية القول وإلى ما يكون فعلاً كما مرَّت الإشارة إليه في قسم المجمل، ومن أمثلة القول المفرد المجمل قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً](1)، وكان بيانه بقوله تعالى [صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ](2).

ومن ذلك المجمل قوله تعالى [قَالَ هِيَ عَصَايَ](3) وكان بيانه بقوله [أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى].

ومن القول المركَّب المجمل قوله تعالى [أَقِيمُوا الصَّلاةَ](4)، وكان من بيانها بفعل النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والَّذي أكَّد عليه، مضافاً إلى فعله المعروف آنذاك والمحفوظ بالسِّيرة العمليَّة المستمرَّة بقوله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي)(5).

ومن القول المركَّب المجمل قوله تعالى [آتُوا الزَّكَاةَ](6)، وكان بيانها حاصلاً بقول الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ (في الغنم السَّائمة زكاة) المأخوذ من قولهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ(وليس على العوامل شيء إنما ذلك على السَّائمة الرَّاعية)(7)، وبقوله عَلَيْهِ السَّلاَمُ (فيما سقت السَّماء

ص: 121


1- سورة البقرة / آية 67.
2- ) سورة البقرة / آية 69.
3- سورة طه / آية 18.
4- سورة البقرة / آية 43.
5- غوالي اللئالي ج1 ص197 الفصل التاسع ح8. والغوالي ج3 ص85 باب الصلاة.
6- سورة البقرة / آية 43.
7- وسائل الشِّيعة ج6 ص80، وفي مستدرك الوسائل ج 7 ص63 عن دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، أنه قال: "الزكاة في الإبل والبقر والغنم السائمة".

العُشر)(1).

ومن القول المجمل المركَّب قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ](2)، وكان من بيانه ما تمَّ بفعل الرَّسول صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وحفظ بالمناسك الَّتي أجراها من تطبيقه وحفظ منها ما حفظ خلفاً عن سلف، مع ما بُيِّن بالرِّوايات، ومنها ما أكَّد عليه صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بقوله (خذوا عنِّي مناسككم)(3)، ومن الأخذ ما أخذ من القول والفعل.

ومن موضِّح حجيَّة الأفعال المبنيَّة ما أسهب به الأصوليُّون عن مصاديق السنَّة الشَّريفة بأنَّ منها فعل المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ كما مرَّ بيانه عن المجمل الفعلي، ولو عرف معرِّف الإجمال بالفعل من المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ولم يثبت عنه غيره كان المدرك منحصراً به.ولذلك يضاف إلى هذا الدَّليل الفعلي مدرك عقلي ملزم بعدم جواز التَّخلُّف عن التَّطبيق على نهجه.

ومن موضِّحات هذا الدَّليل المبيِّن الفعلي روايات المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الشَّريفة الَّتي نقلت لنا أفعال النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في صلاته وزكاته وحجِّه ونحو ذلك، وما عرفونا به من أفعالهم المطابقة لفعل النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مع عموم المبنيَّات اللفظيَّة.

وممَّا مضى يعلم كون الفعل بياناً تارة بالضَّرورة من قصده وأخرى بنصِّه، كما مرَّ من قوله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (صلُوا كما رأيتموني أصلِّي)(4) وغيره.

وتارة أخرى بالدَّليل العقلي، كما لو ذكر المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ مجملاً وقت الحاجة إلى

ص: 122


1- وسائل الشيعة الباب 4 من زكاة الغلات.
2- سورة آل عمران / آية 97.
3- أخرجه مسلم في صحيحه (2/ 943، رقم 1297). واللفظ للبيهقي في السنن الكبرى (5/ 204، رقم 9542)، ولفظ مسلم: "لتأْخذوا مناسككم فإنَّي لا أدري لعلِّي لا أحج بعد حجتي هذه".
4- غوالي اللئالي ج1 ص197 الفصل التاسع ح8. والغوالي ج3 ص85 باب الصلاة.

العمل به ثمَّ فعل فعلاً يصلح بياناً له ولم يصدر عنه غيره، إذ بذلك يحكم العقل بوجوب البناء على ذلك لانحصار الأمر به، لأنَّ بعدمه يكون التَّطبيق الممنوع مبنيَّاً عليه، وهو جواز التَّأخير عن وقت الحاجة.

العاشر / نتيجة البحث

لابدَّ بعد بيان الأمور الماضية من تسليم وجود المجملات وضرورة بيانها أو مجيئها مبنيَّة الأساس في النُّصوص الشَّرعيَّة وغيرها حتَّى بعض الأفعال من جهة شرعيَّة أو غيرها وبالصِّفة الخاصَّة الَّتي يمتاز بها هذا البحث عن غيره ممَّا مرَّ من البحوث الماضية وإن حصل بعض التَّشابه فيما بينه وبينهما، إمَّا عاجلاً وقت الحاجة ولو بسعي المكلَّف نفسه أو آجلاً بعد الخطاب لو لم تثبت الحاجة ولو مجملاً وبتلك الكيفيَّات الَّتي مرَّت عليك.

وكون المجمل لو ثبت وبقي فهو على غير طبيعته في الدِّلالة وإن كان قد يستفاد منه بعض الحالات الخارجة عن الطَّبيعة أو لربَّما يجب في موارد الوجوب كما مرَّ في أمر الأحاجي والاختبار ومغالطة المماراة ونحو ذلك.

وكون المجمل والمبيَّن قد يكونان مفردين ومركَّبين.

وقد يكون كل منهما فعلاً أو قولاً يبيِّنه الفعل أو فعلاً يبيِّنه القول أو قولين أو كون ما كان ظاهره القول المجمل ولكنَّه مبيَّن في أساسه ولم يلتفت إليه المقابل.

ص: 123

الفصل الرَّابع

البداء في آيات الأحكام وما يناط بها من السنَّة

وفيه مباحث:-

الأوَّل: مورد الحاجة إلى الكلام عن البداء

بعد أن كان سبب تسمية علم الكلام - بكونه علماً وبالشُّهرة المتعارفة بين علماءه ولو في الجملة المفيدة في المقام - هو من جهة أنَّ أوَّل مسألة طُرقت عندهم فيه هو: هل أنَّ كلام الله قديم أم حادث؟

لأهميِّتها بين كل العناوين الكلاميَّة الأخرى، لأنَّ منها تتفرَّع كثير من الأمور الاعتقاديَّة المهمَّة المعروفة في مواقعها من هذا العلم، ومنها جاء الكلام عن البداء على أن القدم المفروض في المسألة هو غير الخاضع للزَّمان من المقولات التِّسع كما سيتَّضح.

بمعنى أنَّ هذا القرآن الموجود بين الدَّفتين بجميع آياته ومنها آيات الأحكام قطعاً حسب الفرض هو ذلك من حيث القِدَم عندهم في مورد نزاعهم أو أنَّه حادث بكل معانيه كذلك، وبالطَّبع إنَّ الله من صفاته أنَّه متكلِّم وأنَّ كلامه عين ذاته.

وبعد تبيُّن استحالة قِدَم هذا الموجود لخضوع المسألة حينئذ بهذا النَّحو إلى القول بتعدُّد القدماء، وهو من الممتنعات، وإلى انقلاب الحادث وهو هذا الموجود مع جلالته إلى قديم، وهو ممتنع كذلك، وإلى كون الله موصوفاً بما لا يستحق أن يوصف به، وهو مساواته للحوادث في القِدَم أو الحدوث وهو ممتنع أيضاً.

ص: 124

وبعد تعيُّن حدوث هذا الموجود وهو القرآن الَّذي هو ما بين الدَّفتين لا غير، وانحصار القِدَم حسب الفرض المذكور بالمعاني المرتبطة بالذَّات الأقدس، وهي ما قد يسمَّى في بعض تعابيرهم بالكلام النَّفسي المختص به تعالى عندهم، والَّذي جعل من مظاهر معانيه أنَّ دروب الهداية إليها تتحقَّق من هذه المركَّبات اللَّفظيَّة العظيمة بما أفاض عليها وأضاف إليها تعالى أنوار الوحي الإلهي القدسيَّة من عنده، بحيث لا يمكن فهم المقصود الشَّرعي إلاَّ بواسطتها، لأنَّها الَّتي تتناسب مع مستوانا نحن البشر في عالم المقولات التِّسع.

فلابدَّ إذن من معرفة أمور حوتها هذه الألفاظ قد أشكل أمر بعضها على بعض الأفكار.

ومن جملتها ما نحن بصدده في هذا المدخل قد مرَّ بعضها.

ومن جملتها النَّسخ.

ومن جملتها ما هو المناسب ذكره الآن بعد النَّسخ مباشرة، وهو البداء لمشابهته له في بعض الحالات كما سيجيء إنشاء الله تعالى، وهو تصحيح ما يصح منه وإبطال ما يبطل، وبالأخص في أمورنا الفقهيَّة.

هذا من حيث الفرض العام في البحث.

وأمَّا من حيث الفرض الخاص في البداء فلأنَّه وإن ذكروه في باب العقائد وأصولها مألوفاً جدَّاً، إلاَّ أنَّه يقترب من غرض المتشرِّعة في أصول الفقه عندهم أيضاً لتصحيح مداركه وتنقيحها، بل حتَّى المسائل الفقهيَّة المستفادة من تلك المدارك كما سيتَّضح.

فلهذا وغيره نحن بحاجة إلى البحث عن البداء في هذا المدخل.

ص: 125

الثَّاني: معنى البداء

قد ذكرت اللُّغة (1) أنَّ البداء مصدر (بَدَا) (يَبْدُو) ( بُدُوّا ) ظهر فهو ( بَادٍ ) و (بَدَا له في الأمر) أي ظهر له ما لم يظهر أوَّلاً، والاسم (البَدَاءُ) مثل سلام.

وقال الرَّاغب الأصفهاني(2): بدا الشيء بَدواً وبَداءً أي ظهر ظهوراً، قال تعالى [وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ](3).

وقد فسَّر السيِّد الأستاذ قدس سره وغيره هذا اللَّفظ بكلمة أخرى، وهي الإبداء، نتيجةٍ لما استفيد من التتبُّعات المصحِّحة للصَّحيح لا غيره كما سيتَّضح.

وهذا البداء بهذا المعنى أو ما يقاربه في مصطلح المتكلِّمين أو المتشرِّعة في مداركهم الأصوليَّة وأحكامهم على وجه - من أوجه التَّعلُّق الصَّحيح في بابه - قد يكون مناسباً مهمَّاً للبحث عنه في مدخلنا حول آيات الأحكام.

لكونه في أمر يشترك في باب العقائد من جهة التَّكوين وفي باب المدارك الأصوليَّة الفقهيَّة، للرَّبط الموجود أيضاً بين التَّكوين والتَّشريع من جهة أخرى وفي باب الفرعيَّات المطابقة فقهيَّاً لها من جهة أخرى كذلك كما أشرنا وكما سيجيء.

وإنَّما ركَّزنا فعلاً على المعنى اللُّغوي دون غيره فلناحية ما سيأتي بيانه من التَّفاوت المذهبي بين الخاصَّة والعامَّة حول اعتبار البداء.

أو فقل إصرار العامَّة على المغالطة ضدَّ الخاصَّة بما لا طائل تحته، بل بما يفضح أكذوبتهم ضدَّنا، فأخذ بالموجَّه منه الخاصَّة، ورفضه العامَّة أو بعضهم، ممَّن لم يقبل مكابرة بروايات رواها رواتهم ومن صحاحهم ممَّا يؤيِّدينا في الموجَّه من ذلك، لا ممَّا

ص: 126


1- المصباح المنير -- الفيومي -- ج1 ص 40.
2- مفردات غريب القرآن ص40.
3- سورة الزمر / آية 47.

لُفِّق علينا إن كان انتصاراً للحق ولو ضدَّ أنفسهم كما سيجيء.

لأنَّ التَّفاوت المذكور لابدَّ عند المنازلة للخصم في بعض الأحوال، لغرض كسبه للهداية وإبعاده عن الغواية من أن يرجح اللجوء بالتَّالي إلى اللُّغة لأنَّها مرجعنا جميعاً بلا أي قدرة على التَّخلُّف عنها في آخر المطاف.

وعليه ترتفع الإشكالات أو الاجتهادات المتطرِّفة بالرُّجوع إلى الأمر المتَّفق عليه وهو المناسب لتمام ما بني عليه ممَّا سيأتي توضيحه عنه.

وفي هذا البداء فينا نحن البشر لا يُراد به غير أن يبدو لنا مثلاً رأي في الشَّيء لم يكن لنا في السَّابق أي علاقة به.

فإن كنَّا على حالة فلابدَّ من أن تتبدَّل فينا تلك الحالة حينما صمَّمنا عليها، كتبديل الشَّيء بالتَّرك عن حالة الفعل السَّابق أو بالعكس من التَّصرُّفات المختلفة، نتيجة لتغيُّر العلم الَّذي يطرأ على الإنسان ويتفاوت عنده الحسن عن السِّيء أو الأحسن عن الحسن، نتيجة للجهل الَّذي يبتلي به ويغيِّر تصرفاته، لأنَّ فكره مَعرض للتَّغيُّرات بسبب المصالح والمفاسد المتفاوتة، ولذلك تحصل عنده كثير من النَّدامات الَّتي تغيِّر قراراته.

وهذا أمر وارد في أكثر تصرفات البشر ما لم يعاند وتركبه الحماقة.

ونظير ذلك قوله تعالى [وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون](1) وقوله أيضاً [وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون](2) وقوله كذلك [وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ](3).

وهذا البداء بهذا المعنى في الله تعالى مستحيل عليه، لأنَّ علمه وكل صفاته

ص: 127


1- سورة الزمر / آية 48.
2- سورة الجاثية / آية 33.
3- سورة الزمر / آية 47.

الثُّبوتيَّة والسَّلبيَّة - الكماليَّة والجماليَّة والجلاليَّة الثَّابتة والمتزلزل بعضها ممَّا يتَّصف به البشر منها كالرَّازقيَّة والخالقيَّة - تنافي حصول هذه الحالة فيه، ولا يناسبه إلاَّ مقام المحو والإثبات القضائي الموقوف الَّذي سوف يتجلَّى تباعاً.

ولذلك لابدَّ من التَّوجيه لهذه الحالة بعد فصل الخالق عن المخلوق مثلاً بخصوص ما يناسب الخالق تعالى.

وقد وردت بعض التَّوجيهات والتَّحذيرات من الخلط في الرِّوايات الشَّريفة.

فمن التَّوجيهات ما عن الكافي في الصَّحيح عن الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ قوله: (ما بدا لله في شيء إلاَّ كان في علمه قبل أن يبدو له)(1).وأيضاً ما في الكافي عنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنه قال (إن الله تعالى لم يبدُ له من جهل)(2).

ومن التَّحذيرات من تشبيه الله تعالى بمخلوقيه ما عن الصدوق في إكمال الدِّين بإسناده عن أبي بصير وسماعه عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال (من زعم أنَّ الله عزَّ وجل يبدو له في شيء لم يعلمه أمسَّ فابرؤا منه)(3).

وقال في رواية أخرى على ما في اعتقادات الصدوق قدس سره (من زعم أنَّ الله بدا له في شيء بداء ندامة فهو عندنا كافر بالله العظيم)(4).

وروي الشَّيخ الطُّوسي في كتاب الغيبة بإسناده عن البُرقطي عن أبي الحسن الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال علي بن الحسين

وعلي بن أبي طالب قبله ومحمد بن علي وجعفر بن محمد عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ (كيف لنا بالحديث مع هذه الآية [يمحو الله] فأمَّا من قال بأنَّ الله تعالى

ص: 128


1- الكافي: ج1ص148ح9.
2- الكافي: ج1 ص148ح10.ج
3- إكمال الدين:ص70.
4- بحار الأنوار 4/125.

لا يعلم الشَّيء إلاَّ بعد كونه فقد كفر وخرج عن التَّوحيد)(1).

هذا مع ما سيأتي من الأدلَّة والرِّوايات الأخرى الَّتي هي غيض من فيض ممَّا تحلَّت به الشِّيعة الإماميَّة من حالة التَّفريق بين البداء في البشر وبين البداء في الخالق جلَّ وعلا.

إضافة إلى ما قد أثبتته روايات العامَّة المعتبرة عندهم والمرويَّة عن لسان النبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ من طرقهم وعن لسان من يحترمونه من الصَّحابة وعن لسان أعلامهم وبعض مذاهبهم ممَّا يقوِّي هذا الأساس الرَّصين ويؤيِّدنا بلا أيِّ مجال للخلاف في هذا التَّفريق وعدم منع البداء عند الله بمعناه المناسب له بل ثبوته، إلاَّ بمكابرة أو عناد وهو مألوف أكثر المخالفين، إضافة إلى حالة سوء عقيدة بعضهم في الله كما سيجيء.

وأمَّا تهجُّم الكثير من العامَّة علينا نحن الإماميَّة لكوننا نقول بالبداء في الله بما فسَّرناه بتوجيهاتنا الوجيهة وغير الخفية على كل من ألقى السمع وهو شهيد ونحن الأدرى بما في مقاصدنا الصَّادقة والأغنياء عن تفسيراتهم وتوجيهاتهم المضرِّة بنا ونحن الأبرياء منها ومن كل ما يضمرونه أو يظهرونه ضدَّنا من التُّهم والأباطيل في هذا الأمر وغيره.

فإنَّهم أن تركوا التَّفهُّم البريء والإنصاف الجريء ولو على أنفسهم ولم يحملونا على شيء من محامل الخير كما يجب أو ينبغي وأصرُّوا واستكبروا استكباراً.

فهو ضلال عدائي أو تضليل اعتدائي أو كلاهما، وهو ليس بغريب أو عجيب من أهل التطرف والانحراف، وليس بجديد علينا، وليس وصفهم على هذا النحو بأول قارورةكسرت في الإسلام كما أحسن بذلك المنصفون الكثيرون جدَّاً من الأخوة العامَّة.

بل ممَّا قد لا يختلف أمرهم الخاص هذا عن موقف اليهود تجاه الله تعالى حيث

ص: 129


1- إكمال الدين:ص70.

حكى تعالى في قرانه المجيد توصيفهم الباطل له تعالى لتفنيده بقوله [وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ](1)، فأجاب عنه تعالى للتفنيد بقوله بعد ذلك [غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ] وكما سيتضح الأمر فيه مرة ثانية قريباً في محله من هذا البحث بإذن الله.

ومثل هذا من أهل العناد ليس بضار لنا، وإن كان يحز في النفس بقاء هذا الانحراف فيهم، ونحن لو كان في مقدورنا أن نسعى لهدايتهم لما جاز منَّا تقاعسنا لحظة واحدة، وإنَّما الضرر الكثير هو تأثير شبهاتهم الباطلة في الأبرياء المغفلين، وبتعمية من علماءهم الحاقدين مع كثرة المصادر.

وإن تفهَّموا أو أنصفوا أنفسهم حبَّاً بالهداية ولو بعد حين وآمنوا بالمحو والإثبات وبأمِّ الكتاب حتَّى لو استدلُّوا ضدَّ التَّغيير والتَّبديل بآية إكمال الدِّين وإتمام النِّعمة، وعلى ضوء مسلكهم المخالف لملحمة بيعة يوم غدير خم المعروفة بين الخاصِّ والعام في إمرة أمير المؤمنين عليعَلَيْهِ السَّلاَمُ خليفة من بعد رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مباشرة، وفرح النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والملائكة وعموم النَّاس بها في هذه الآية، والَّتي قد يفسِّرها النَّاكثون والمنقلبون على الأعقاب باطلاً بأنَّها الآية الَّتي ختم بها الوحي بالصِّفة العامَّة بلا أن يكون أيُّ مجال لأحد في التَّغيير والتَّبديل.

ورضينا منهم بذلك منازلة بما شاءوا لبعض الأغراض ومنها الزِّيادة في النَّقض عليهم، وإن خالف عقيدتنا الثَّابتة في أمر حقيقة الآية لعدم منافاتها لغرضها الأوَّل.

فإنَّ انصياعهم للحق أو بعضه ولو شيئاً فشيئاً قد يدنو ويقترب من الهدف المنشود أو بعضه وحسب استعدادهم وصلاحيَّتهم لتمام هذا التَّوفيق أو بعضه و (أوَّل الغيث قطر ثمَّ ينهمل)، وعلى الأخص لو انصاعوا إلى ما أوردته كتبهم.

ونكتفي الآن برواية واحدة ولو تمهيداً لما سيأتي التَّوسع في سرده من الأدلَّة المتعدِّدة قريباً بإذن الله.

ص: 130


1- سورة المائدة / آية 64.

ففي البخاري بإسناده عن أبي عمره أنَّ أبا هريرة حدَّثه أنَّه سمع رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ يقول : ( إنَّ ثلاثة في بني إسرائيل، أبرص، وأعمى، وأقرع، بدا لله عزَّ وجل أن يبتليهم أتى الأبرص فقال أي شيء أحب إليك، قال لون حسن وجلد حسن قد قذرني النَّاس، قال فمسحه فذهب عنه فأعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً، فقال أي المال أحب إليك، قال الإبل (أو قال البقر هو شك في ذلك إن الأبرص والأقرع قال أحدهما الإبل وقال الآخر البقر)، فأعطي ناقة عشراء فقال يبارك لك فيها.

وأتى الأقرع فقال أيُّ شيء أحب إليك، قال شعر حسن ويذهب عنِّي هذا قد قذرني النَّاس، قال فمسحه فذهب وأعطي شعراً حسناً، قال فأيُّ المال أحب إليك.قال البقر قال فأعطاه بقرة حاملاً، وقال يبارك لك فيها.

وأتى الأعمى فقال أيُّ شيء أحب إليك، قال يرد الله إليَّ بصري فأبصر به النَّاس، قال فمسحه فردَّ الله إليه بصره، قال فأيُّ المال أحب إليك، قال الغنم فأعطاه شاة والداً فأنتج هذان وولَّد هذا.

فكان لهذا واد من إبل، ولهذا واد من بقر، ولهذا واد من غنم.

ثمَّ إنَّه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال رجل مسكين تقطَّعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلاَّ بالله ثمَّ بك أسألك بالَّذي أعطاك اللَّون الحسن والجلد الحسن والمال بعيراً أتبلغ عليه في سفري، فقال له إنَّ الحقوق كثيرة فقال له كأنِّي أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك النَّاس فقيرا فأعطاك الله، فقال لقد ورثت لكابر عن كابر، فقال إن كنت كاذباً فصيَّرك الله إلى ما كنت.

وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا، فردَّ عليه مثل ما ردَّ عليه هذا، فقال إن كنت كاذباً فصيَّرك الله إلى ما كنت.

وأتى الأعمى في صورته فقال رجل مسكين وابن سبيل وتقطَّعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلاَّ بالله ثمَّ بك، أسألك بالَّذي ردَّ عليك بصرك شاة أتبلغ بها

ص: 131

في سفري، فقال قد كنت أعمى فردَّ الله بصري وفقيراً فقد أغناني فخذ ما شئت، فو الله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله.

فقال أمسك مالك فإنَّما ابتليتم فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك)(1).

وأمَّا روايات العامَّة الأخرى -- المكمِّلة لرواية البخاري الماضية فضلاً عن الخاصَّة -- الَّتي تنص على كون الصَّدقة والدُّعاء وصلة الأرحام تغيِّر القضاء المبرم فكثيرة لا تحصى وغفيرة لا تستقصى، وسيأتي في حينه ما يتيسَّر منها قريباً في هذا البحث .

الثَّالث: إشكال ورد

ومن بؤس ما ابتلى به المغرضون أو الجهلة المعاندون من العامَّة ضدَّ الشِّيعة الإماميَّة ممَّا قد أعدَّ تشنيعاً عليهم وطعناً في مذهبهم وطريقتهم أنَّهم حسبوا بعض روايات وردت عن الأئمَّة الأطهارعَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

أنَّها أوردت - حسب جهلهم أو توريط من تبنَّى توريطهم - إيراد ما يشفي غليلهم من الحقد والحنق كما في توحيد الصَّدوق عن الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ بقوله (ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل ابني)(2).

لكونهم يفسِّرونه بانحرافهم بأنَّ البداء يؤدِّي إلى خفاء أمر موت إسماعيلابن الإمام جعفر ابن محمَّد الصَّادق "سلام الله عليهم" قبل البداء إلى حين موته في حياة أبيه الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ بسبب المرض، وعنده استحقَّ الخلافة والإمامة أخوه موسى الكاظم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وإن كان أصغر سنَّاً منه بعد وفاة أبيهم عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

ص: 132


1- صحيح البخاري: كتاب الأنبياء باب ما ذكره عن بني اسرائيل، الحديث 3277.
2- التوحيد: 336 ح10، إكمال الدين: 69، تصحيح الاعتقاد من مصنّفات الشيخ المفيد: 5|66.

وهكذا قد تكون روايات أخرى - أثارت حفيظتهم العِدائيَّة - على وزن الشُّبهات.

ولكن الجواب على هذا التَّشنيع واضح وضوح الشَّمس في رابعة النَّهار.

وذلك حينما نرجع إلى المعنى اللُّغوي الماضي المتَّفق عليه بين الجميع، ونُحرِّم على أنفسنا وأنفس الآخرين قبول المغالطة بما لم يتَّضح من هذه الرِّواية شيء منها أو من أمثالها ممَّا لو كان وبما يبهت به الإماميَّة الأبرياء ولو بأدنى إشارة إن كان الخصماء عرباً كما يزعمون، والعُرب ببابهم.

وهو ما يستظهرونه من كلمة (ما) النَّافية، وهي الأولى في الرِّواية الَّتي قد تُعطي بالنَّظرة السَّطحيَّة تجاهه تعالى عدم البُدوِّ له والمفسَّر بالخفاء عليه، بينما الواقع خلافه.

لأنَّ تفسير البداء بالظهور هنا بعد الخفاء في مثل هذه الرِّواية وغيرها ما هو إلاَّ الخفاء على النَّاس حسب لا على الله تعالى، لأنَّه العالم بحقائق الأمور وبجميع تقلُّباتها القضائيَّة الموقوفة كما سيتَّضح هذا لمن تخفى عليه هذه الأمور من الأدلَّة الآتية.

وإن كان غير خفي على كل مسلم متتبِّع في النُّصوص وفيما حوته العقول من خير المعقول والمنقول.

وكذلك ليس هو بداء لله وللنَّاس معاً حتى يُتصور التَّساوي بين الخالق والمخلوق، لتجنُّب لوثة الشِّرك حتَّى لو صغرت بعض معانيه - وهو الثَّابت الَّذي لا ننثني عنه.

وبذلك كان قوله تعالى [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ](1)، وأم الكتاب هي القضائيَّات الموقوفة في ثابت معانيها.

ص: 133


1- سورة الرعد / آية 39.

وكذلك قوله تعالى [لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ](1) وقوله [كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ](2) وقوله [فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ](3).

ومن كانت هذه وأمثالها مواصفاته العظمى كيف تخفى عليه خافيته، وكيف لا يقلِّب الأمور كيف يشاء، وهي عنده بميزانية عدالة لا تضاهيها عدالة.

وعليه يكون البداء بمعنى الظهور من الله بعد الخفاء على النَّاس لا عليه.

أو الإبداء أي الإظهار.

لأنَّ الأشياء كلُّها ظاهرة لديه كما سيتَّضح أكثر، أو أنَّ اللام في (لله) بمعنى من، ولهذا المعنى الأخير شواهد مهمَّة في اللُّغة العربيَّة والنَّحو.منها ما في كتاب مغني اللَّبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام الأنصاري(4)، حيث قال عن (اللام) ما نصُّه:-

والرَّابع عشر موافقة من نحو (سمعت له صراخاً)، وقول جرير:-

لنا الفضل في الدُنيا وأنفك راغم *** ونحن لكم يوم القيامة أفضلُ

انتهى موضع الحاجة، وبهذا نكتفي عن الإطالة اختصاراً.

وعليه يكون معنى الشَّاهد النَّثري (سمعتُ منه صراخاً)، ومعنى الشَّاهد الشِّعري (منَّا الفضل الخ).

ومن أراد التَّوسع في فهم الشَّواهد فليراجع كتب اللُّغة العربيَّة والنَّحو مضافاً إلى كتب التَّفسير في مقامات آياتها اللُّغويَّة.

مضافاً إلى التَّصريح في القرآن الكريم بما يجمع أمر البداء للنَّاس ولله

ص: 134


1- سورة الروم / آية 4.ج
2- سورة الرحمن / آية 29.
3- سورة الدخان / آية 4.
4- مغنى اللَّبيب -- ابن هشام الأنصاري -- ج1 ص213.ج

وبالتَّصريح بمن لله عزَّ وجل وهو قوله تعالى [وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ](1).

وعليه فلا قيمة لإشكال المستشكلين وافتراء المفترين، وعليهم التَّوبة والإنابة والتَّعلُّم على أيدي العلماء المتَّقين.

وتوضيح الجواب: بأنَّ القول بالبداء لم يكن كما يتصوَّره أو يصوِّره المبهتون ضدَّنا وهو أنَّا نقول:-

بصحَّة القول بكون علم الله يتغيَّر في ظاهره، نتيجة لتغيُّر الأحوال في المخلوقين لما مرَّ من إشارتنا بأكثر من مرَّة إلى أنَّ الخالق تعالى بكماله وجماله وجلاله ليس كمخلوقيه من ذوي المقولات التِّسع وبلا أيِّة ملازمة بينه وبينهم في ذلك حتََى يُشاع هذا التَّعلُّق الباطل، لكون علمه لا يتغيَّر

تجاههم لو قضى بشيء حتَّى لو تبدَّل الأشخاص بالبداء، نتيجة لما قد يسبِّبونه على أنفسهم أو يسبِّبه الآخرون لهم من حالات القضاء المختلف محتومه عن مخرومه.

أو نتيجة لبعض الأمراض المميتة وإن استحقَّ المتوفَّى الإمامة قبل مستحقِّها الحقيقي ذاتها لولا بعض الموانع.

أو لبعض أسباب غير الاستحقاق الذَّاتي وإنَّما لاعتقاد جمع من المتطرِّفين بإمامة إسماعيل ابن الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ حتَّى أشاعوا غيبة إسماعيل الباطلة.

إلاَّ أنَّ تصريح أبيه عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن المرض الَّذي ألمَّ به والملحوق بوفاته وإظهاره لهم ميِّتاً هو الَّذي كشف هذا القضاء في أن يكون أخوه الإمام الكاظم عَلَيْهِ السَّلاَمُ هو الإمام من بعد أبيه وإنَّ كان إسماعيل أكبر ولده.

ص: 135


1- سورة الزمر / آية 47.

الرَّابع: إشكال آخر ورد

وقد يقال عمَّا يثيره الأصوليُّون كصاحب الكفاية(1) قدس سره وغيره من الإشكال بالإشارة إلى ما قد يظهر إلى البعض من الحديث المتعارف بينهم وهو (السَّعيد سعيد في بطن أمِّه والشَّقي شقي في بطن أمِّه).

أو محاولة لدفع دخل في البين لتنزيه الله تعالى عما قد يُثار من الشُّبهات ضدَّه بسبب هذا الحديث بتوجيهه.

ومن ذلك ما يناط بمسألتنا حيث أنَّه قد يُثار من ظاهره سؤال، وهو أنَّه لو صحَّ الحديث في لفظه أو معناه فضلاً عن كليهما في الدَّاعي إلى التَّبدُّل والتَّغيُّر إذا كانت الإمامة مثلاً في عقيدتنا ثابتة في الإثنى عشر إماماً عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ لا تتغيَّر وقد انحصرت فيهم فعلاً دون غيرهم.

وهكذا الأحكام الَّتي قد انتهت آياتها بآية [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا](2) وهو يوم الغدير.

بحيث لا يصح الأخذ للإحكام إلاَّ منهم وعنهم سواء عن طرق أعلامنا وثقاتنا أو حتَّى ثقات العامَّة فضلاً عمَّا اجتمعوا عليه على الشُّروط المتعارفة في كتب علمي الرِّجال والحديث.

فنقول في الجواب: وكما أثبتناه في باب النَّسخ، بأنَّ بعض الأمور ترتبط بالأوقات وما يناسبها وبالأحوال وما يناسبها، وهكذا بقيَّة المقولات المرتبطة بالنَّاس، لكون الأشياء مرهونة بها.

وإنَّ علم الله لا يتغيَّر تجاه قضاءه الَّذي أبرمه من سماءه تجاههم بما سبَّبوه

ص: 136


1- كفاية الأصول - الآخوند الخراساني - ج1 ص68.
2- سورة المائدة / آية 3.

لأنفسهم وبما سبَّبه أو يسبِّبه الآخرون لهم أو بما سبَّبه بعض لبعض وإن كان في ضمنهم الأبرياء لبعض الأمور النِّظاميَّة لحرق أو احتراق الأخضر باليابس، وكقتل أو موت بعض أبناء الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُعن بعض الأمراض، فضلاً عن قتل الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ على يد وبأمر من فراعنة زمانهم قبل قضاءهم وقتهم الطَّبيعي لأداء الرِّسالة متكاملة في أزمنتهم الطَّبيعيَّة.

ولهذا احتجنا في هذه الغيبة الكبرى إلى التَّفقُّه الاجتهادي بما هو مسموح لنا فيه لئلاَّ تُعطَّل الأحكام إلى أن يأتي اليوم الموعود في ظهور الإمام عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ لوجوب انتظاره بفارغ الصَّبر.

وأنَّه تعالى لابدَّ وأن يعلم السَّعادة والشَّقاوة في النَّاس ومن بطون أمَّهاتهم على الأقل.

بل من قبل ذلك كما دلَّت عليه بعض الأدلَّة والرِّوايات الَّتي تتحدَّث عن كرامة الأشباح الخمسة وهم النَّبي والوصي والزَّهراء والحسنان عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ومن تلاهم من المعصومين، وأنَّ الله خلقهم من عالم الذر وغير ذلك.

ولكنَّه مع ذلك كلِّه لم يكن هو المسبِّب لهم تلك السَّعادة، وإن عظم توفقيهم باختيارهم فوق مستوى البشر دون مستوى الخالق.

أو لأعدائهم تلك الشَّقاوة من بطون الأمَّهات.

حتَّى يمكن أن يتصوَّر الجبر التَّكويني مع التَّشريعي كما ادَّعاه البعض، بل الكثير وإن علم واطَّلع على كل شيء.

ولا هو الَّذي أغفل عنهم فتاه النَّاس، أو فوَّض إليهم الأمور كما يتصوَّره المفوِّضة.

أو فلت الأمر من يده كما يتصوَّره اليهود ومن واساهم أو ساواهم من حيث لا يشعر.

ص: 137

بل إنَّ علمه ودينه وشرعه وكل نعمائه مرتبطة بالمتوسِّط من التَّصرُّفات بلا إفراط ولا تفريط وكما قال تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا](1) وكما ورد في حديث الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ حيث يقول (لا جبر ولا تفويض بل منزلة بين المنزلتين)(2).

وأمَّا قوله تعالى [إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ](3) فلا ينافي ما ذكرناه وإن كانت الواو فيه للمعيَّة، لأنَّ العبادة في [ما تعبدون] بإتِّباع الأحكام وإطاعة الله المعبود بما يستحقُّه تابعة لأصل الخلقة، والإيجاد للوصول إلى حد إبراء الذمَّة من التَّكليف الموجب لها تبعية عدم التَّلازم الكامل بين التَّكوين والتَّشريع،لتثبيت حقيقة حسن الاختيار في عبادة العابد وتمييزه عن حالة سوء الاختيار الَّتي يتَّصف بها العصاة، والمبرهن عليها بما شاء الله من الأدلَّة من مواقعها الخاصَّة.

وإلاَّ كيف يتم بمقتضى عدالته تعالى استحقاق الثَّواب بموجبه والعقاب بموجبه لو كانت العبادة قهريَّة كالخلق والإيجاد.

ثمَّ إنَّ ضمِّ قوله تعالى [وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ](4) وقوله [إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا](5) ونحوهما إلى هذا القول الكريم هو الَّذي يحل كل إشكال وأزمة في البين.

وإن قيل ما معنى النَّص المشهور (أبى الله أن يجري الأمور إلاَّ بأسبابها فجعل لكل شيء سبباً)(6) فبناء على ذلك فهو العالم وهو السَّبب في كل شيء حتَّى في

ص: 138


1- سورة البقرة / آية 143.
2- بحار الأنوار 5 : 17 ح 28.
3- سورة الأنبياء / آية 98.
4- سورة البلد / آية 10.
5- سورة الإنسان / آية 3.
6- الكافي ج 1ص 183.

اختيارات البشر أم هناك شيء آخر؟

وإذا كان كذلك كيف يتم الأمر؟

والأمر متفاوت بين السَّعادة والشَّقاوة، والله هو مسبِّب الأسباب، وعليه كيف لا يكون الجبر بناء على هذا المشهور؟

فنقول ردَّاً على ما قيل: بأنَّ الله تعالى قال الجواب بآيات من أوَّل حين الصَّدع بالحق وأوَّل يوم ألقاء للحجَّة وإقامة المحجَّة وأوضحه بمثل قوله تعالى [فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ](1) وغير ذلك من الأدلَّة.

ولتوضيح الدِّفاع أكثر وبما يناسب المقام نذكر ما عن إسماعيل بن عمَّار قال قلت لأبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ (المؤمن رحمة على المؤمن).

قال: (نعم).

قلت: وكيف ذاك؟.

قال (أيما مؤمن أتاه أخوه في حاجة فإنَّما ذلك رحمة ساقها الله إليه وسبَّبها، إن قضى حاجته كان قد قبل الرَّحمة بقبولها، وإن ردَّه عن حاجته وهو يقدر على قضائها فإنَّما ردَّ عن نفسه رحمة من الله عزَّ وجل ساقها إليه وسبَّبها له، وذخر الله عزَّ وجل تلك الرَّحمة إلى يوم القيامة حتَّى يكون المردود عن حاجته هو الحاكم فيها إن شاء صرفها إلى نفسه وإن شاء صرفها إلى غيره).

إلى أن قال: (استيقن أنَّه لن يردَّها عن نفسه يا إسماعيل من أتاه أخوه في حاجة يقدر على قضائها فلم يقضها له سلَّط الله عليه شجاعاً ينهش إبهامه في قبره إلى يوم القيامة مغفوراً له أو معذِّباً)(2).

ص: 139


1- سورة الزلزلة / آية 7 - 8.
2- عدَّة الداعي لابن فهد الحلي ص 177، وسائل الشيعة: ج16 ص358 ب25 ح21757.

وأمَّا إيصال الشَّيخ الآخوند قدس سره الأمر بعد تلك الإثارة التَّدقيقيَّة إلى حيث قوله بتعبيره الفارسي بما معناه عربيَّاً (وصل القلم إلى هنا وكسر رأسه)(1) ممَّا قد أشعر البعض إلى أنَّه أوصله إلى الإذعان بالجبر.

فإنَّه لم يدل بالتَّأكيد بعد التَّأمُّل البسيط فضلاً عن الدِّقَّة فيه حتَّى إلى الإلماح إلى ذلك الإذعان بانكسار القلم جبراً.

بل إنَّه قد يدل حقيقة على جبر الكسر الاعتقادي بعدم القول بالجبر الكامل من ناحية الحقيقة الدِّينيَّة العقائديَّة والمتشرعيَّة بنفس ما بيَّنَّاه من المتوسِّط في الأمور أي بلا رهينة مبتدعة ولا تفويض استهتاري.

أو بأنَّ العلم الَّذي أوصل الشَّيخ أصوليَّاً صناعيَّاً إلى العقم غير المنتج حسب فنِّه.

وهو لا يعني بذلك عدم وجود اعتبار منه لنتائج الفقه الاجتهادي الميداني غير المرتبط بالأصول النَّظريَّة الَّتي ليس فيها ثمرة عمليَّة بعمق علمي منتج أصولي للآخرين وبدون أي محذور.

بل إنَّه يقصده أهل العلم الدِّيني الشَّرعي وهو الَّذي لا ينفي علم الله تعالى واطِّلاعه وتسلُّطه الحكيم في الأمور، ولا يثبت عدم نسبة التَّسبيب المباشر المرتبط بحسن الاختيار أو سوءه إلى مخلوقيه من المكلَّفين في أمر البداء.

وأمَّا إكمال الدِّين في آية الغدير وفي الأعم من ذلك فلا تمنع من وجوب المتابعة العلميَّة الاجتهاديَّة أو رجحانها والاستدلال في مواردها وقت الغيبة الكبرى هذه للخلاص من شبهات الطَّريق ومحاولة الوصول إلى الواقع.

ص: 140


1- كفاية الأصول ج1 ص68، حيث قال (قلم اينجا رسيد سر بشكست).

الخامس: الفرق بين النَّسخ والبداء

ويمكن تقريب إمكان البداء وتعقُّله بل حصوله بما يصحُّ نسبته إلى الله تعالى لا بما يرمينا به الأعداء بأنَّه يقرب شيئاً أو بعض شيء من النَّسخ أو هو نفسه على بعض الوجوه ممَّا سيأتي في النَّسخ المتَّفق عليه بين كافَّة المسلمين، وهو الَّذي حصل من ديننا الحنيف لكافَّة الشَّرايع السَّماويَّة السَّابقة.

لقوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ](1) وقوله [إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ](2) وقوله [وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ](3) وقوله [وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ](4) وغير ذلك.

لإنَّ ديننا الحنيف جمع كل الخير الَّذي فيما مضى وزيادات تتناسب مع آخر الزَّمان المشار إليه في قوله تعالى [اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ](5) وكما أثبته الباقي من ماضي الكتب السَّماويَّة ومن آيات قرآننا الواسع بما لا داعي إلى الإطالة به، وللتَّشابه الموجود بين ديننا الحنيف والدِّيانات السَّماوية السَّابقة.

ولذا كان قول النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ يهدر مع كثير ما يبهر وهو [إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق](6).

بل حتَّى من النَّسخ الوارد في ديننا داخليَّاً في بعض معانيه الحقَّة ممَّا في آيات

ص: 141


1- سورة آل عمران / آية 144.
2- سورة آل عمران / آية 19.
3- سورة آل عمران / آية 85.
4- سورة آل عمران / آية 102.
5- سورة القمر / آية 1.ج
6- بحار الأنوار ج16ص210.

الأحكام الفقهيَّة.

فالبداء يمكن أن يقرب من النَّسخ بتوجيهات متفاوتة بين القرب والبعد إلاَّ أنَّها سالمة من المحاذير وهي:-

1 -- أنَّ البداء إذا كان كمحو لكل ما مضى وإثبات شيء وكأنَّه جديد كما أشرنا إلى معناه بأنَّه راجع إلى حالة المحو والإثبات.

وذلك بمعنى أنَّ كل بداء له منزلته في التَّكوين، فهو كالنَّسخ في التَّشريع، وهو المعنى الَّذي نُسب إلى الدَّاماد قدس سره.

وعليه فما هو في الأمر التَّشريعي والأحكام التَّكليفيَّة نسخ هو في الأمر التَّكويني والمكوِّنات الزَّمانيَّة بداء، بل إنَّ النَّسخ كأنَّه بداء تشريعي، والبداء كأنَّه نسخ تكويني.ومن هنا وبهذه المناسبة يتناسب البحث عن البداء حتَّى شرعاً للتَّلازم بين التَّكوين والتَّشريع، لعوده بالتَّالي إلى النَّسخ في الوجه الآخر ولو في الجملة ومن باب معرفة الأشياء بأضدادها.

وعليه يكون الفرق بين البداء -- الَّذي هو كمحو لكل ما مضى -- وبين النَّسخ لكل الشَّرائع السَّابقة متساوي النِّسبة من حيث الكم مختلف من حيث الاعتبار بين التَّكوين والتَّشريع، وإن اجتمعا في الجملة التَّلازميَّة.

وبين البداء وبين النَّسخ في ديننا داخليَّاً وهو المعروف بجزئيَّته، كما أنَّه عموم بدائي وخصوص نسخي، وإن اجتمعا جزئياً في الكيف بسبب التَّلازم بين المكوِّنات البدائيَّة وبين الشَّرع الَّذي لابدَّ وأن يكون في كل حادثة.

2 -- إنَّ البداء إذا فسَّرناه بما فسَّره السيِّد المرتضى قدس سره وهو أنَّ المراد من البداء كونه بمعنى أنَّه ظهر له من الأمر ما لم يكن ظاهراً له، لأنَّه قبل وجود الأمر والنَّهي لا يكون الأمر والنَّهي ظاهرين كمدركين، وإنَّما يعلم أنَّه تعالى يأمر وينهى في المستقبل فإذا أمر فعلاً أو نهى كان البداء حاصلاً.

ص: 142

فإنَّه إذا اعتبرنا هذا المعنى من السيِّد قدس سره صحيحاً على ما ظهر من نقل النَّاقل عنه من جهة حالة توجيه أنَّ عدم ظهور الأمر والنَّهي لا يدل على عدم علم الله تعالى بذلك.

فإنَّه يمكن أن يختلف هذا البداء عن النَّسخ، ولكن لا يخرج عن صددنا في البحث عن البداء كما لا يخفى وبشكل أوضح في مورد التَّلازم وأقرب من السَّابق لطرحه الاستشهاد هنا بالأوامر والنَّواهي.

أمَّا إذا وُجِّه قوله بأنَّه عند الأمر والنهي أنَّه لا يعلم حتَّى مع نفي الجهل الثَّابت عنه سبحانه فهو ممَّا لا يمكن قبوله حتماً لو لم تكن واسطة بين الجهل والعلم.

وعلى أيِّ فبالاستشهاد بالأمر والنَّهي في البداء وباختصاص النَّسخ في ذلك أيضاً يظهر التَّقارب.

إلاَّ أنَّ النَّسخ حينما فسَّرناه في شرعنا الإسلامي بأنَّه الجزئي أو أنَّه تخصيص أزماني للعموم، وهو في البداء كامل، لأنَّه كمحو لكل ما مضى كما في التَّبدُّل في الإمامة قبل حدوثها في ذلك المبدو عنه إلى غيره، كما في السيِّد محمد عَلَيْهِ السَّلاَمُ ابن الإمام الهادي عَلَيْهِ السَّلاَمُ بسبب مرضه وموته وكما نصَّت عليه الزِّيارة الشَّريفة للعسكريين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الَّتي منها قول الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ (السَّلام عليكما يا من بدا لله في شأنكما).

فإنَّ النَّسخ يكون أخص من البداء كما سلف في التَّوجيه الأوَّل، وهو مع ذلك لا يخرج عن الصَّدد الأصولي الشَّرعي من مبحثنا.

3 - إذا فسَّرنا البداء بالمفهوم من عالمي المحو والإثبات أو إثبات أنَّ اللهمختار مطلوب في كل الأفعال التَّكوينيَّة وفي كل الإدراكات ومنها التَّشريعيَّة.

ولذلك ركَّز أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ على البداء وحثُّونا على الاهتمام به ردَّاً على اليهود القائلين بأنَّ الله تعالى فرغ من الأمر كما مرَّ.

وردَّاً على أبي إسحاق النظَّام وبعض المعتزلة القائلين بأنَّ الله خلق الموجودات

ص: 143

دفعة واحدة على ما هي عليه الآن في مكوِّناتها، بحيث لم يتقدَّم خلق آدم على خلق أولاده، وإنَّما التَّقدُّم يقع في ظهورها لا في وجودها وحدوثها(1).

وردَّاً على بعض الفلاسفة القائلين بالعقول والنُّفوس الفلكيَّة وأنَّ الله تعالى لم يؤثِّر حقيقة إلاَّ في العقل الأوَّل، فهم يعزلونه تعالى عن ملكه وسلطانه وينسبون الحوادث إلى غيره.

وردَّاً على آخرين من الفلاسفة قالوا أنَّ الله سبحانه واحد أوجد جميع مخلوقاته دفعة واحدة دهريَّة لا ترتُّب فيها باعتبار الصُّدور بل إنَّما ترتُّبها في الأزمان فقط.

فنفى أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ في رواياتهم الآتية كل ذلك، لكونه تجميداً لقدرة الله تعالى الثَّابتة في اختياره لكل ما يتناسب مع الحكمة الإراديَّة من الإبقاء أو الإزالة وبكون كل يوم هو في شأن، فهو المفيد لأهمية البداء على النَّسخ كما سبق، وهو ما تصدَّى له الشَّيخ المجلسي قدس سره في بحاره(2).

4 - إذا فسَّرنا البداء بكون المراد منه هو النَّسخ بعينه إلاَّ أنَّ إطلاقه على النَّسخ فيه نوع من التَّوسُّع والمجازيَّة على ما أورده الشَّيخ الطُّوسي قدس سره في العِدَّة(3) ونقله عن السيِّد المرتضى(4) قدس سره فهو المناسب لبحثنا كذلك إذا لم تكن مجازيَّته مبعدة له عن صميم بحثنا ولو بأدنى مناسبة.

5 - إذا فسَّرنا البداء بما فسَّره الشَّيخ الصَّدوق قدس سره في توحيده(5) وهو أنَّ معناه أن

ص: 144


1- شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج4 - ص252.
2- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج4 ص129 - 133.
3- عدّة الأصول للشيخ الطوسي ج 2 ص 485 من الطبعة الجديدة (فصل في ذكر حقيقة النسخ و بيان شرائطه و الفصل بينه و بين البداء).
4- رسائل المرتضى ج 1 ص 117.
5- التوحيد ص 335 باب 54 البداء.

يبدأ بشيء من خلقه فيخلقه قبل كل شيء ثمَّ يُعدم ذلك ويبدأ بخلق غيره، أو يأمر بأمر ثمَّ ينهى عن مثله أو ينهى عن شيء ثمَّ يأمر بمثل ما نهى عنه.

وذلك مثل ما مرَّ من نسخ الشَّرائع وتحويل القبلة، وعِدة المتوفَّى عنها زوجها.

ولا يأمر الله عباده بأمر في وقت ما إلاَّ وهو يعلم أنَّ الصَّلاح لهم في ذلك الوقت في أن يأمر ذلك ويعلم في وقت آخر أنَّ الصَّلاح في أن ينهاهم عن مثل ما أمرهم به.

فمن أقرَّ بتبعيَّة الأوامر والنَّواهي إلى ما به المصالح والمفاسد أقرَّ حتماً بالبداء الَّذي فسَّرناه فيما مضى، وقد مرَّ شيء من الأدلَّة.

وسيأتي أنَّ هناك أدلَّة مهمَّة كثيرة تمدح حالة الاعتقاد بسعة قدرة الباري ونفوذه في ذلك.

وهذا ما ينبأ عن قرب البداء أيضاً من النَّسخ ولكن بصورة أعم من التَّكوين والتَّشريع.

وبهذا تحصل مناسبة البحث عن ملازمات آيات الأحكام.

6 - ومنها أنَّ الأمور العامَّة والخاصَّة والمطلقة والمقيَّدة والنَّاسخة والمنسوخة والمفردة والمركَّبة والخبريَّة والإنشائيَّة بأجمعها منقوشة في اللَّوح وممَّا يزيد على علم الملائكة والأنبياء والرُّسل، وهي ما يسمَّى بكتاب المحو والإثبات وبما قد تقتضيه الحكمة فيه التَّقدُّم في العلم بأموره أو التَّأخُّر فيه.

والبداء هو عبارة عن هذا التَّغيُّر.

وبكون النَّسخ أحد معاني مفرداته يكون البداء أعم منه ويتناسب مع بحثنا كذلك، وهو ما اعتبره بعض العلماء.

وهناك توجيهات مشابهة لا داعي إليها، إمَّا للحذر من أمور التِّكرار أو أنَّها خاضعة للمناقشة المبعدة لها عن القبول.

ص: 145

السَّادس: أدلَّة البداء من الكتاب والسنَّة عن الفريقين

ومن جملة ما قد يستدل على صحَّة البداء لله أمور:-

أ - من الكتاب قوله تعالى [الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا](1)، وقوله كذلك [بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء](2).

وقوله أيضاً [تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ](3).وقوله أيضاً [ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا](4).

وقوله أيضاً [لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً](5).

وقوله أيضاً [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ](6).

وقوله بما يناسب مع البداء في الناس والبداء لله [وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ](7).

وقريب من ذلك آيات النَّسخ كما مرَّ توضيحه.

وغير ذلك من كثير الآيات الدَّالَّة على البداء من الله تعالى وإن لم يكن بلفظه منه تعالى، لأنَّ معناه لابدَّ وان يحصل من المحو والإثبات، وهو حاصل فيها لا محالة ولو بنحو اللازم والملزوم ومن حالات الاختبار والامتحان وعلى نهج ما مرَّ من قوله

ص: 146


1- سورة الأنفال / آية 66.
2- سورة المائدة / آية 64.
3- سورة الملك / آية 1.
4- سورة الكهف / آية 12.
5- سورة هود / آية 7.
6- سورة محمد / آية 31.
7- سورة الزمر / آية 47.

تعالى [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ](1)، وقوله [فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ](2).

ب. ما دلَّ من السنَّة الشَّريفة عمَّا رواه الإماميَّة من طرقهم المعنعنة، ومن ذلك ما في توحيد الصَّدوق قدس سره عن الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ بقوله (ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل ابني)(3) على ما مرَّ منَّا من التَّوجيه.

لا كما التبس على الآخرين، أو لفَّقه المغرضون من التَّوجيه الباطل.

ومنه ما في زيارة الإمامين العسكريين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وهو (السَّلام عليكما يا من بدا لله في شأنكما) على ما وجَّهناه في حينه.

ومنه ما عن اعتقادات الصَّدوق قدس سره عن الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ من قوله (من زعم أنَّ الله بدا له في شيء بداء ندامة فهو عندنا كافر بالله العظيم)(4)، وهو الَّذي يستفاد منه صحَّة البداء بلا ندامة.

ومنه ما عن البحار عن الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ كذلك من قوله (من زعم أنَّ الله بدا له في شيء ولم يعلمه أمس فأبرأ منه)(5)، وهو المفيد صحَّته لو كان عن علمه جلَّ وعلا.

ومنه ما عن الكافي عن زرارة عن الباقر والصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ (ما عبد الله بشيء مثل البداء)(6).

ص: 147


1- سورة الرعد / آية 39.
2- سورة الدخان / آية 4.
3- التوحيد: 336 ح10، إكمال الدين: 69، تصحيح الاعتقاد من مصنّفات الشيخ المفيد: 5/66.
4- بحار الأنوار 4/125.
5- إكمال الدين: 69.
6- الكافي 1 / 113 ح 1.

وفيه أيضاً عن هشام بن سالم عن الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنَّه قال (ما عُظِّم الله بشيء بمثل البداء)(1).

وفيه ما روي في الصَّحيح عن الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ (ما بدا لله في شيء إلا كان في علمه قبل أن يبدو له)(2).

وهذا من جملة أخبار دلَّت على أنَّ البداء لا يستلزم معنى لا يتناسب مع قدسيَّة الله سبحانه، وهو مناسب للرِّواية الرَّابعة كثيراً.

وفي توحيد الصَّدوق بإسناده عن محمَّد بن مسلم عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنَّه قال (ما بعث الله عزَّ وجل نبيَّاً حتَّى يأخذ عليه ثلاث خصال - الإقراربالعبوديَّة - وخلع الأنداد - وأنَّ الله يقدِّم ما يشاء ويؤخِّر ما يشاء)(3)، والعبارة الأخيرة هي البداء.

وروي بأنَّ عبد المطَّلب عَلَيْهِ السَّلاَمُ كان أوَّل من قال بالبداء - علماً بأنَّه كان من أوَّل الموحِّدين وعلى نهج إبراهيم الخليل، وفي رواية أنَّه آخر حواري عيسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ وقيل بنبوَّته - وروي أنَّه كان يعلم بنبوَّة محمَّد صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عند طفولته.

فعن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: يبعث عبد المطلب أمة وحده، عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء وذلك أنَّه أوَّل من قال بالبداء، قال: وكان عبد المطلب أرسل رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ إلى رعاته في إبل قد ندت له، فجمعها فأبطأ عليه فأخذ بحلقة باب الكعبة وجعل يقول: "يا رب أتهلك آلك إن تفعل فأمر ما بدا لك" فجاء رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بالإبل وقد وجه عبد المطلب في كل طريق وفي كل شعب في طلبه وجعل يصيح: " يا رب أتهلك آلك إن تفعل فأمر ما بدا لك " ولما رأى رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أخذه فقبله

ص: 148


1- الكافي 1 / 113 ذ ح 1، وفيه بدل ما بين القوسين بمثل.
2- الكافي 1 / 114 ح 9.
3- الكافي 1 / 114 ح 3.

وقال: يا بني لا وجهتك بعد هذا في شيء فإنِّي أخاف أن تغتال فتقتل(1).

ج-. وروى العامَّة في كتبهم ما يؤيِّد ما نقول ونعتقد، ويُفنِّد ما يقول به الآخرون، ومن ذلك ما رواه ابن الأثير في كامله التَّأريخي عن جدِّ النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عبد المطَّلب عَلَيْهِ السَّلاَمُأنَّه قال مخاطباً ربَّه يوم جاء أصحاب الفيل لمهاجمة بيت الله الحرام:-

لا همَّ إنَّ المرء يمنع رحله فأمنع حلالك *** إن كنت تاركهم وكعبتنا فأمر ما بدا لك(2)

أقول: وقد فسَّروا مراده من قوله (فأمر ما بدا لك) بأنَّه ظهور قضاء قد كان منه في سابق علمه؟

وهو وإن لم يكن متعيِّناً إلاَّ أنَّه يكفينا شاهداً على قِدَم هذا الاصطلاح، مع كون عبد المطَّلب من عباد الله الموحِّدين وأهل الحنيفيَّة البيضاء والأكثر كما مرَّ.

وقد مرَّ ما رواه البخاري والجامع الصَّحيح وكتاب الأنبياء وابن الأثير في النِّهاية مادَّة (بدا) (أنَّ ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى بدا لهم أن يبتليهم فبعث إليهم ملكاً إلخ)(3).

وفسَّره ابن حجر العسقلاني في فتح الباري بقوله - عن بدا - أي سبق في علم الله فأراد إظهاره وليس المراد أنَّه ظهر له بعد أن كان خافياً، لأنَّ ذلك محال فيحقِّ الله تعالى(4).

وروى ابن حنبل في مسنده أنَّ رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قال (يجمع الله عزَّ وجل الأمم في صعيد يوم القيامة فإذا بدا لله عزَّ وجل أن يصدع بين خلقه مثل لكل ما كانوا

ص: 149


1- الكافي ج1 ص447 ح24.
2- الملل والنحل 2: 239.
3- راجع ص131 - 132.
4- فتح الباري بشرح صحيح البخاري ج 6 ص579 ح3464.

يعبدون الخ)(1).

وروى الطَّيالسي وأحمد في مسنده وابن سعد في طبقاته والتَّرمذي فقال الطَّيالسي بإيجاز قال، (قال: رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ إنَّ الله أرى آدم ذريَّته فرأى رجلاً أزهراً ساطعاً نوره، قال: يا ربِّ من هذا، قال: هذا ابنك داود، قال: يا ربَّ فما عمره، قال: ستُّون سنة، قال: يا رب زد في عمره، قال: لا إلاَّ أن تزيده من عمرك، قال: وما عمري، قال: ألف سنة، قال: آدم فقد وهبت له أربعين سنة من عمري، فلما حضره الموت وجاءته الملائكة قال: قد بقي من عمري أربعون سنة، قالوا إنَّك قد وهبتها لداوود)(2).

وأقول هذه الرِّواية يظهر منها البداء عمليَّاً وإن لم يأت لفظه.

وروى صاحب كنز العمَّال وصاحب الدر المنثور عن علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنَّه (سأل رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عن هذه الآية [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ](3) فقال له "لأقرُّ عينيك بتفسيرها ولأقرُّ عين أمَّتي بتفسيرها، الصَّدقة على وجهها وبر الوالدين واصطناع المعروف يحوِّل الشَّقاء سعادة ويزيد في العمر ويقي مصارع السُّوء")(4)، وهذا من البداء العملي كالرِّواية السابقة .

وروى السَّيوطي في الدر المنثور أنَّه أخرج عبد بن حميد وبن جرير وبن المنذر

ص: 150


1- مسند أحمد ابن حنبل المجلد الرابع ح 19152.
2- مسند الطيالسي : 350 ح2692، ومسند أحمد 1 : 251 و 298 و 371، طبقات ابن سعد 1 : 7 -- 9 ق 1 ط أوربا. وسنن الترمذي 11 : 196-197 بتفسير سورة الأعراف. وفي البحار 4 : 102-103 عن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ باختلاف يسير في اللَّفظ.
3- سورة الرعد / آية 39.
4- جامع الأحاديث لجلال الدين السيوطي ح 32785 عن كنز العمال 4444، الدر المنثور 4 : 661.

عن عمر بن الخطاب أنَّه قال وهو يطوف في البيت (اللَّهمَّ إن كنت كتبت عليَّ شقاوة أو ذنباً فأمحه فإنَّك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب فاجعله سعادة ومغفرة)(1)، وهذه الرِّواية بداء عملي كما مرَّ.

وقد نقل صاحب كتاب نقض الوشيعة أنَّ هذا الرَّأي رأي ابن مسعود وأبي وائل وقتادة كذلك.

وروى السَّيوطي عن الحاكم صاحب المستدرك عن ابن عباس وصحَّحه وكذاالذَّهبي أنَّه قال: (لا ينفع الحذر من القدر ولكن الله يمحو بالدُّعاء ما يشاء من القدر)(2).

وأقول: هو من حبر الأمَّة اعتراف بالبداء عمليَّاً.

وفي صحيح مسلم عن أنس ابن مالك قال: سمعت رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ يقول: (من سرَّه أن يبسط عليه رزقه أو يُنافي في أثره فليصل رحمه)(3).

وقد قال النَّووي في شرح الحديث:-

(وأمَّا التَّأخير في الأجل ففيه سؤال مشهور وهو أنَّ الآجال والأرزاق مقدَّرة لا تزيد ولا تنقص [وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ] وأجاب العلماء بأجوبة الصَّحيح:-

منها أن هذه الزِّيادة بالبركة في عمره والتَّوفيق للطَّاعات وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة وصيانتها عن الضِّياع في غير ذلك.

والثَّاني: أنَّه بالنِّسبة إلى ما يظهر من الملائكة وفي اللَّوح المحفوظ ونحو ذلك - في

ص: 151


1- الدر المنثور في التفسير بالمأثور الجزء الثامن تفسير سورة الرعد تفسير قوله تعالى يمحو الله ما يشاء ص471.
2- المصدر السَّابق ص47، مستدرك الحاكم: 2 / 350.
3- صحيح مسلم ح4767.ج

قضيَّة آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ في حفيده داود عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فيظهر في اللَّوح أنَّ عمره ستُّون سنة إلاَّ أن يصل رحمه فإن وصلها زيد له أربعون وقد علم الله سبحانه وتعالى ما سيقع له من ذلك وهو من معنى قوله تعالى [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ] فيه النِّسبة إلى علم الله تعالى وما سبق به قدرة ولا زيادة بل هي مستحيلة، وبالنِّسبة إلى ما ظهر للمخلوقين نتصوَّر الزِّيادة وهو مراد الحديث)(1).

وهذا الَّذي ذكره النَّووي هو البداء بعينه وإن لم يظهر من لفظه.

وهذا التَّكيف وارد باستفاضة في كثير من الموارد وكما يقول القائل:

عباراتنا شتَّى وحسنك واحد ***** وكل إلى هذا الجمال يشير

وهذه الرِّوايات والأرَّاء من العامَّة ومن طرقهم هي الَّتي يقول ويعتقد بها الإماميَّة تماماً، فلا مجال إذن للمهاترات والتَّشنيعات.

وإن كان في جعبة المشنِّعين شيء فليفكِّروا في حلِّ مشاكلهم ويستعينوا بمن صبر عليهم من علمائنا واحتضن مذاهبهم لإصلاحهم من سلفنا الصَّالح من أئمَّتنا الأطهار عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، وليوحِّدوا صفوفهم بالوئام معنا إن أحبُّوا الخير لأنفسهم ضدَّ العدو المتوحِّد ضدَّ جميعنا والمسلمون مذاهب.

السَّابع: أقسام القضاء ومتى يقع البداء منها عند الشِّيعة الإماميَّة

القضاء الإلهي على ما ذكره العلماء الأجلاَّء على أنحاء ثلاثة:--

الأوَّل: قضاء الله الَّذي لم يُطلع عليه أحداً من عباده، وهو العلم المخزونالَّذي اختصَّ به لنفسه.

وهذا لا يمكن أن يقر به البداء أبداً، وإنما ينشأ منه كما نصت عليه روايات أهل

ص: 152


1- صحيح مسلم بشرح النووي: 16 / 114.

البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

حيث روى الشَّيخ الصَّدوق قدس سره في العيون بإسناده عن الحسن بن محمد النَّوفلي أنَّ الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال لسليمان المرزوي : رويت عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنَّه قال: (إنَّ لله عزَّ وجل علمين علماً مخزوناً مكنوناً لا يعلمه إلاَّ هو من ذلك يكون البداء وعلماً علَّمه ملائكته ورسله فالعلماء من أهل بيت نبيِّك يعلمون)(1).

وهذا لا يعني أنَّه يقر به البداء وإنَّما ينشأ منه كما سيتَّضح.

وروى صاحب البحار قدس سره في باب البداء أنَّه روى الشَّيخ محمَّد بن الحسن الصفَّار في بصائر الدَّرجات بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: (إنَّ لله علمين علم مكنون مخزون لا يعلمه إلاَّ هو من ذلك يكون البداء وعلم علَّمه ملائكته ورسله وأنبياءه ونحن نعلمه)(2).

أقول: وهكذا الأمر كالرِّواية الأولى لا يقر به البداء وإنَّما ينشأ منه.

الثَّاني: قضاء الله الَّذي علَّمه نبيه صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وملائكته بأنَّه سيقع حتماً، وهذا لا شكَّ أيضاً في عدم وقوع البداء فيه وإن لم ينشأ منه كالقسم الأوَّل، وهو موقع الإخبار بالمغيَّبات كما في رواية العياشي عن عمرو بن الحمق، وهذا القضاء والَّذي بعده أشار إليهما تعالى بقوله [عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا](3).

وقال الصَّدوق قدس سره في عيون أخبار الرِّضا -- إضافة إلى الرِّواية المتقدِّمة عنه قدس سره -- (أنَّ عليَّاً كان يقول العلم علمان، فعلم علَّمه الله ملائكته ورسله، فما علَّمه ملائكته

ص: 153


1- عيون أخبار الرضا باب 13 والبحار : باب البداء والنسخ ج 2 ص 132.
2- بحار الأنوار باب البداء والنسخ ج 2 ص 136 ط كمباني ، ورواه الشيخ الكليني عن أبي بصير أيضا، الوافي باب البداء ج 1 ص 113.
3- البيان في تفسير القرآن ص 394.

ورسله فإنَّه يكون ولا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله، وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه أحداً من خلقه، يقدِّم منه ما يشاء ويؤخِّر ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء)(1).

وهذه الرِّواية لم يكن في ظاهرها إلاَّ حالة نشوء البداء من العلم الخاص لا طروه عليه.

وروي في البحار عن العيَّاشي عن الفضل قال سمعت أبا جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ يقول:- (من الأمور أمور محتومة جائية لا محالة، ومن الأمور أمور موقوفة عند الله، يقدِّم منها ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء لم يطلع على ذلك أحداً - يعني الموقوفة علىالصَّدقات وصلة الأرحام ونحو ذلك - فأمَّا ما جاءت به الرُّسل فهي كائنة لا يكذب نفسه ولا نبيُّه ولا ملائكته)(2).

وأقول: من ذلك إنباء المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بالحوادث المستقبليَّة لأنَّه لا يكذب نبيَّه وملائكته وهي كثيرة جدَّاً.

الثَّالث: قضاء الله الَّذي أخبر نبيَّه وملائكته بوقوعه في الخارج إلاَّ أنَّه موقوف على أن لا تتعلَّق مشيئة الله بخلافه، وهذا القسم هو الَّذي يقع فيه البداء بآية المحو والإثبات وبآية كون الأمر لله من قبل ومن بعد، ودلَّت على ذلك روايات كثيرة.

منها ما في تفسير علي بن إبراهيم والبحار عن عبد الله بن مسكان عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: (إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة والرُّوح والكتبة إلى سماء الدُّنيا فيكتبون ما يكتبون من قضاء الله تعالى في تلك السنة، فإذا أراد الله أن يقدم شيئاً أو يؤخِّره أو ينقص شيئاً أمر الملك أن يمحو ما يشاء ثمَّ أثبت الَّذي أراده.

قلت وكل شيء هو عند الله مثبت في كتاب؟

ص: 154


1- عيون أخبار الرضا باب 13 وبحار الأنوار: باب البداء والنسخ ج 2 ص 132.
2- بحار الأنوار: باب البداء والنسخ ج 2 ص 133.

قال: نعم.

قلت: فأي شيء يكون بعده.

قال: سبحان الله ثمَّ يحدث الله أيضاً ما يشاء تبارك وتعالى)(1).

ومنها ما في التَّفسير نفسه والبحار عن عبد الله بن مسكان عن أبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ في تفسير قوله تعالى [فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ]:-

(أي يقدِّر الله كل أمر من الحق ومن الباطل وما يكون في تلك السنَّة وله فيه البداء والمشيئة يقدِّم ما يشاء ويؤخِّر ما يشاء من الآجال والأرزاق والبلايا والأعراض والأمراض ويزيد منها ما يشاء وينقص ما يشاء)(2).

ومنها ما في كتاب الاحتجاج وآمالي الصَّدوق والتَّوحيد عن الأصبغ عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنَّه قال: (لولا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة وهي هذه الآية [يمحو الله الخ])(3).

ومنها ما في تفسير العياشي والبحار عن زرارة عن أبي جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: (كان علي بن الحسين عَلَيْهِ السَّلاَمُ يقول لولا آية في كتاب الله لحدَّثتكم بما يكون إلى يوم القيامة، فقلت: أي آية، قال: قول الله يمحو الله الخ)(4).

ومنها ما في قرب الإسناد والبحار عن البيزنطي عن الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: (قال أبوعبد الله وأبو جعفر وعلي بن الحسين والحسين بن علي وعلي بن أبي طالب عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ لولا آية في كتاب الله لحدثتكم بما يكون إلى أن تقوم السَّاعة يمحو آيته)(5).

ص: 155


1- بحار الأنوار: باب البداء والنسخ ج 2 ص 133.
2- المصدر السَّابق ص134.
3- الاحتجاج للطبرسي ص 137 المطبعة المرتضوية - النجف الأشرف.
4- بحار الأنوار باب البداء والنسخ ج 2 ص 139.
5- المصدر السَّابق ص 132.

إلى غير ذلك ممَّا يدل على القضاء الموقوف على الصَّدقات وبر الوالدين وصلة الأرحام والدُّعاء، وموقوف على أن لا تتعلَّق مشيئة الله بخلافه وعلى وزن قوله تعالى [وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ](1).

الثَّامن: ثمرة الاعتقاد بالبداء

إنَّ البحث عن البداء هل يختص بما يجوز الاعتقاد به ويبيحه حسب؟

أم يمكن أن يزيد عن هذا إلى ما به الرُّجحان والأكثر؟

فنقول في الجواب: إنَّ الرِّوايات والأدلَّة السَّابقة لمَّا قالت بمثل قولهم (ما عُبد الله بمثل البداء)(2) ونحوه، ومن ضمن العبادة ما هو الواجب وما هو الأقل منه وهو المستحب، لا ما هو الأقل وهو مجرَّد الجواز، وإنَّما القول بمجرَّد الجواز كان في بعض مجالات النِّقاش للنَّقض على الخصم المشهِّر بالشِّيعة الملتزمين بالبداء الصَّحيح، لإخضاعه إلى أقل النِّسب وهو مجرَّد القول بإمكان البداء ثمَّ جرُّه إلى الأكثر بما مرَّ.

فلابدَّ إذن في الواقع من أنَّ المقصود هو الرَّاجح وبكلا درجتيه، لا ذلك المجرَّد من الرُّجحان، ونظراً لوجود ثمار وفوائد للاعتقاد به إذا فسَّرناه بما لا يستلزم أقل نسبة من الجهل إلى الله تعالى، وليس فيه ما ينافي عظمته وقدس ذاته فلابدَّ من ذكرها أو شيء منها.

ومنها: ثمرة الاعتراف الصَّريح بأنَّ العالم تحت سلطانه وقدرته ممَّا ينبغي ذكره عند الحاجة إلى هذا البحث هو ما في ثمرة الاعتقاد بالبداء في حدوثه وبقاءه.

ومنها: الاعتقاد بإنَّ إرادته نافذة في الأشياء أزلاً وأبداً وكما قال [وَمَا تَشَاؤُونَ

ص: 156


1- سورة التكوير / آية 29.
2- الكافي 1 / 113 ح 1.

إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ](1).

ومنها ثمرة اتِّضاح الفارق بين العلم الإلهي وعلم المخلوقين لعدم وصول علم الله إلى الجهل والنَّدامة ونحوهما.

ومنها ثمرة إيجاب البداء انقطاع العبد إليه في كل المعايير.

ومنها توفيقه للطَّاعة وإبعاده عن المعصية بسبب الانقطاع والإخلاص إليه.

وفي فرض هذه الثِّمار وأنَّها توصل إلى ما به الرُّجحان وإلى ما يوصل إلى براءة الذمَّة من الواجب فلابدَّ إذن من كون هذه الثِّمار لا تفارق حالة الرُّجحان وإلى أعلى مراتبه كما أشرنا.

التَّاسع: نتيجة البحث وخلاصة الكلام عن البداء

وبعد تتمَّة الكلام عن هذا الموضوع يتبيَّن لكل من ألقى السَّمع وهو شهيد أنَّ البداء للنَّاس ممكن وثابت بسبب تغيُّر معلوماتهم وتبدُّلها من رأي إلى رأي، وبسبب انتقال الذِّهن من الجهل إلى العلم ومن العلميَّة إلى الأعلميَّة أو من حالة المساواة بين المقامين أو من حسن الاختيار السَّابق إلى سوء النَّتيجة، لكون النَّاس كثيراً ما تسوء اختياراتهم.

ومن ذلك تتبدَّل الأحكام المرتَّبة شرعاً على المواضيع المختلفة.

وبذلك يتبيَّن اشتراك البداء لله تعالى مع البداء للنَّاس ولكن على وزن ما يناسبه كما اتَّضح من قوله تعالى[وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ](2).

وكذلك يتبيَّن أنَّ البداء لله تعالى ممكن وثابت، كذلك لنفس سبب ما يرتبط

ص: 157


1- سورة التكوير / آية 29.ج
2- سورة الزمر / آية 47.

بالنَّاس من حالة حسن الاختيار وسوءه.

بل حتَّى ممَّا يختص به من علمه الَّذي ما علَّمه ملائكته وأنبياءه ورسله حينما يريد تغيير بعض الأمور وتبديلها أو إبداء شيء لم يطلعهم عليه كالسَّاعة وغيرها.

وقد يتجاوز ذلك مرحلة الثُّبوت الممكن إلى الرَّاجح المستحب والواجب ولو بالعنوان الثَّانوي حسب ما تقتضيه حكمته ومن دون أن يكون عن جهل، لأنَّه عالم بكل شيء حتَّى لو انتفى موضوع العلميَّة الفعلي.

لأنَّ علمه في ذلك إن لم يكن فعليَّاً لبعض مقتضيات عدم الإيجاد أو الإظهار يكون حينئذ بالقوَّة لأنَّه تعالى يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.

ص: 158

الفصل الخامس

مشكلة الجبر والتَّفويض في آيات الأحكام والسنَّة الشَّريفة

وفيه مباحث:-

الأوَّل: سبب تدوين هذا البحث

أ / من المعلوم والمألوف صحيحاً في مورده في كون بحث الجبر والتَّفويض لا يذكر إلاَّ في أصول العقائد وعلم الكلام.

ولمَّا كانت الأحكام الإلهيَّة الشَّرعيَّة هي الَّتي يجب أن تكون المطابقة للعدالة الإلهيَّة في جميع الأمور حلالها وحرامها.

كذلك في أمور العقائد وأمور التَّكوين أيضاً، على خلاف رغبة من انحرف وشذَّ وتطرَّف عن الفطرة السَّليمة والمنهجيَّة المستقيمة ممَّن أتحفهم الله تعالى - بعد العقل وبعثة الأنبياء وإرسال الرُّسل وخيرة الأئمَّة والأوصياء - بخيرة الكتب السَّماويَّة والألواح.

في حين هم أهل مبادئها عقيدة وعملاً والأحق بها ليخضعوا لها، لكونهم خصُّوا بها كاليهود والنَّصارى والمجوس وغيرهم ممَّن سبقهم.

لكن لم يستخدموا عقولهم بما يصل إلى الحد المعقول واتَّجهوا إلى محاربة أنبياءهم ورسلهم وأسباطهم وحاربوا كتبهم وحرَّفوها.

وبالأخص المجوس حينما قتلوا نبيَّهم وأحرقوا كتابهم عداءاً وحماقة بجهالة وتطرُّفاً بضلالة.

وازداد اليهود فجعلوا أنفسهم الشَّعب المختار.

ص: 159

والتزم النَّصارى برهبانيَّتهم الَّتي ابتدعوها وشرَّق الآخرون وغرَّبوا بمثل هذا وذاك وذلك ونحو زائد على ما هنالك.

بل ما اقتصر على هذا المستوى ممَّن غيَّر وفات وبقيت آثارهم - الَّتي كانت من سيئات المخلَّفات التي تأسَّست منها أنواع الكفر والإلحاد والجاهليات وإلى هذا الحين - تعاني منها الشُّعوب المعاصرة والمستقبليَّة حتَّى الَّتي تحضَّرت سطحيَّاً بحضارة الإسلام العظيم.

فسرى هذا الدَّاء العضال من حالتي التَّفريط والإفراط والتَّحجُّر والانفلات في كثير ممَّن أتحفهم الله تعالى بديننا الخاتم -- وخير الأديان وخاتم المرسلين وسيِّد الأنبياء وبقرآنهم العظيم تحفة العالم الَّذي حفظه لهم بالعناية الفائقة وكما قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ](1) وحفظ سنَّتهمبالعترة المطهَّرة كما في حديث الثَّقلين المتواتر بين الفريقين -- مع شدَّة محاربة المنافقين لها -- الَّذي منه قول النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والمأكَّد بالتَّوصية به مرَّات (وإنَّهما - الكتاب والعترة - لن يفترقا حتَّى يردا علي الحوض)(2) -- بعد إتحافهم بذلك العقل السَّديد، وللأسف الشَّديد.

إذ كانوا بسبب تلك السَّوابق وسطحيَّة إسلامهم أو إيمانهم ممَّن تلاقفتهم الأهواء وأخذتهم الرِّيح الحمراء والصَّفراء يميناً وشمالاً، بسبب ما جبلوا عليه من آثار تلك الجاهليَّة الأولى والمدِّ الإسرائيلي والغزو الرُّومي أو الدَّاخل فيهم بترحاب جاهلي فيهم بخبث نواياهم ونفاقهم.

ص: 160


1- سورة الحجر / آية 9.
2- ينابيع المودة -- القندوزي الحنفي -- ص 15 من طرق شتى، وأخرج ص 16 عن الإمام الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ، ورواه في معناه الترمذي في سننه (3786)، وفي معناه رواه أيضاً الإمام أحمد في مسنده (3/14، 17، 26، 59 )، وأبو يعلى في مسنده (1017) وغيرهم، وبنحوه ابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 1598).ج

أو تفضيل رؤوس متطرِّفي المسلمين لهذا التَّطرُّف أو ذاك على اتِّباع هدي الثَّقلين، حتَّى لو أدَّى ذلك التَّطرُّف إلى تعاسة حظوظهم وصاروا بذلك عبيد الغزاة من كفرة الشَّرق والغرب أو عبيد أفكارهم.

باعتبار أنَّ هدي الثَّقلين هو النَّمط الأوسط والآخذ للأمور على يد وليِّ أمرها في شدائدها وغيرها على المحجَّة البيضاء باعتراف شخص من ألدِّ الأعداء.

مع علم الجميع بانتصار الإسلام آنذاك في شرق الأرض وغربها وانهيار عروش كسرى وقيصر والآخرين.

وما ذلك إلاَّ لتلك المعادات للنَّمط الأوسط العادل وخوفاً من نفعه العظيم لهم حماقة ومكابرة وعناداً حتَّى قال قائلهم (حسبنا كتاب الله)(1)، حتَّى حاربوا السنَّة -- وبالأخص الَّتي عن طريق العترة المطهَّرة -- وقال الآخر عن النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ حينما كان يريد تكرار الإيصاء بالثَّقلين قبيل وفاته أو قتله كتابة (دعوه إنَّه ليهجر)(2)، وتلاه حرَّاق المصاحف(3).

فصاروا وللأسف الأشد فرقتين من ذلك الشذوذ المتنوع:-

فرقة تقول بالجبر نستجير بالله تعالى.

وفرقة تقول بالتَّفويض.

وهي تشبه ما كان جارياً قبل الإسلام تأثُّراً بشبهات القديم، أو اقتصاراً على ما يحكِّمون عقولهم المنحرفة في أمورهم فيه من كتاب الله وحده أو اختلاقاً من عند أنفسهم لأنفسهم لروايات ترضيهم وحدهم بما لا أصل له.

ص: 161


1- صحيح البخاري ج: 4 ص: 1612، باب 78 باب مرض النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ووفاته ح 4168 وح 4169، وباب 17 باب قول المريض قوموا عني.
2- المصدر السَّابق، صحيح مسلم في باب ترك الوصية ج5ص76.
3- تفسير القرطبي, باب ذكر جمع القرآن، البيان في تفسير القرآن: 277.

إمَّا لكونها من الإسرائيليَّات لكونها لم تصلح أن تكون مرفوعة إلى النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لتغلغل الإسرائيليِّين كثيراً أو من غيرها ممَّا عرف.

إذ مؤداه كان إلى الرَّهبنة والتَّصوف المنحرف.

فخوفاً على آيات الأحكام من أن يستفاد منها الاستفادة النَّاقصة - الَّتي هي إمَّا الجبر أو التفويض حسب، ومن دون متابعة كل ما يستلزم فيه الإيصال إلى العدالة والوسطيَّة المطلوبة وعلى هدي الثَّقلين من نفس الكتاب بعضه مع بعض، لكونه قد يفسِّر بعضه بعضاً ومن الكتاب مع متواتر السنَّة عن أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ أو من تلك السنَّة مع الكتاب مع مصاحبة العقل الفطري السَّليم على ما سيأتي توضيحه.

فلابدَّ -- لمواصلة المسيرة على خطِّ العدالة تلك وكما أرادته كتب السَّماء الأصليَّة والَّتي جامعها وخاتمها قرآننا العظيم الجامع المانع - من محاولة إيضاح ثبوت هذا الخطِّ الوسط الَّذي لا جبر فيه ولا تفويض.

وذلك حسب مداركه الصَّحيحة المعقولة والمنقولة رغم إصرار المتطرِّفينعلى تطرُّفهم عنايةً بأهم أموره في المقام وهي الأحكام الشَّرعيَّة من آياتها الأصوليَّة لآيات قواعدها الفقهيَّة إلى آياتها الشَّرعيَّة الفرعيَّة وبمعونة السنَّة الشَّريفة عن العترة المطهَّرة وممَّا أمكن الأخذ به من الموثَّقات من الطُّرق الأخرى حتَّى ممَّا لا يصح إلاَّ أن يكون كعوامل مساعدة لذلك مع بقيَّة ما يعتمد عليه من الَّتي أوضحت لنا الكثير من الغوامض القرآنيَّة ومنها التَّقارب أو التَّقريب.

ب / وكذلك لمَّا كانت مشكلة الجبر والتَّفويض مؤثِّرة آثرها البالغ على الحالة الاختياريَّة المنظَّمة الوسطى المرادة للإسلام المعتدل قديماً وحديثاً، وعلى الفكر البشري الموزون في طاعاته المطلوب أداءها ومعاصيه المطلوب اجتنابها في دار التَّكليف الإلهي الدُّنيويَّة هذه والَّتي لا يمكن أن تدرك ثمار هذه الطَّاعات أو يتوقَّى من مضار تلك المعاصي دنيا وآخرة إلاَّ بتجنُّب الاعتقاد بالجبر الكامل والتَّفويض

ص: 162

الكامل قبل ذلك لمضار التَّفريط والإفراط في ناحيتي التَّطرُّف المحظور ممَّا سيتَّضح أكثر ممَّا يستدعي الخوض في هذا الموضوع لتنقيحه من هذا التَّطرُّف.

لأنَّ من مضار الجبر حين الاعتقاد به هو جعل الإنسان نفسه مجبوراً إمَّا على الطَّاعة في مقامها، أو على المعصية في مقامها وإلى حدِّ ما يوصل إلى عدم وجود معنى للثَّواب أو لا معنى للعقاب باستحقاق عقلي أو شرعي بينما الدُّنيا الَّتي لا تخفى على ذوي الألباب من أهل المعقول والمنقول هي دار امتحان بالعمل إمَّا بحسن العمل أو بسوءه.

إضافة إلى أهميَّة شكر المفيض والمنعم تعالى عقلاً ونقلاً، لضرورة الاعتقاد بيوم القيامة والحساب فيه بعد الموت عند كافَّة المسلمين كما سيتَّضح أكثر.

ومن مضار التَّفويض هو جعل الإنسان نفسه حرَّاً طليقاً مفوَّضاً له كل شيء من أفعال الطَّاعات والمعاصي.

لأنَّ الله قد قدَّره على كل شيء بما يوصله إلى أن لا مسؤوليَّة عليه في شيء ولا محاسبة تدور على بال أحد وإن فعل خسيسَ الأفاعيل.

بينما أنَّ الطَّاعات والمعاصي متفاوتة في الكمِّ والكيف شدَّة وخفَّة ومدى الضَّرر من عدمه.

وإدراك العقول قبل تصريحات الشَّريعة المقدَّسة لتلك التَّفاوتات ثابت كذلك، لتفاوت المسؤوليَّة على أساس هذا المدى أو ذاك والنَّاس ليسوا كالبهائم لا يخفى عليهم هذان الأمران المتناقضان ومضامينهما المختلفة شدَّة وخفَّة وبالأخص يوم القيامة والحساب إذا كانت قد خفيت عليهم بأقل تقصير أو عدمت المحاسبة والقضاء العادل في الدُّنيا بسبب عدم توفُّر دولة الحق الإسلاميَّة في أكثر أوقاتها وكما سيتَّضح أيضاً.

فلابدَّ من اتِّخاذ حالة ما يكشف الغبار والضبابيَّة المنحوسة عن هذهالحالة

ص: 163

الشَّرعيَّة الوسطى الَّتي ما بين التَّطرفيِّين ببيان شيء مناسب من القضيَّة الكلاميَّة المناسبة ولو بشيء أوسع يسيراً ممَّا مرَّ من الإشارات في البحوث الماضية لكفايته في مقامنا من مورد الحاجة وكما أراده قوله تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا](1) وكما قصده الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ (لا جبر ولا تفويض بل منزلة بين المنزلتين)(2)، واتِّخاذ شيء من الإشارة الأصوليَّة أيضاً لمعرفة كيفيَّة واجب التَّصدِّي الاستنباطي عند وقوع مثل هذه الأمور كما في ورود بعض آيات التَّكليف الَّتي ظاهرها الجبر عند أصحابه مثلاً إذا وردت أمامنا ونحن أهل النَّمط الأوسط.

فلابدَّ إذن من أن نسعى إلى الوصول إلى ما يدل على ما يقابل ذلك ويرده من الأدلَّة كتاباً وسنَّة وأدلَّة أخرى اعتماداً على كمال الشَّريعة وعدالتها وكفاءة أدلَّتها للوصول إلى ذلك النَّمط الأوسط المراد.

وهكذا لابدَّ من أن نعرف تكليفنا الشَّرعي الاستنباطي إذا ورد نص يستظهر منه التَّخيير المطلق من قبل أهل التَّفويض بسعينا الحثيث لمعرفة ما يقابله من الرَّد باستفراغ وسعنا لما يطابق هذا النَّمط، لمعرفتنا السَّابقة بكمال الشَّرع في كتابه الكريم وسنَّته الشَّريفة عن طريق العترة المطهَّرة مع الأدلَّة المعتبرة الأخرى المعروفة في مواقعها ممَّا سيأتي.

الثَّاني: مناشئ الجبر والتَّفويض العامَّة والخاصَّة والأخص

أ / لا شكَّ في أنَّ الغزو الفلسفي العالمي غير المتقيِّد بديانات السَّماء والمرتبط بما تستنتجه العقول من محاورها وقواعدها المنطقيَّة الَّتي رتَّبها الفلاسفة والَّذي سبق الدِّين الإسلامي في تصرُّفاته وعاصر الدِّيانات السَّماويَّة السَّابقة.

ص: 164


1- سورة البقرة / آية 143.
2- بحار الأنوار 5 : 17 ح 28.

بل سبقها أو سبق بعضها ولم يتقيِّد فكره بها كما لم يتقيَّد بالإسلام عن معاصرته له وإن أذعن في نتائجه الفلسفيَّة أو بعضها من قبل بعض أجياله وطبقاته بالتَّوحيد وببعض الأمور المطابقة والمقبولة في عقائدنا تفصيلاً أو إجمالاً.

أو ما كان يمكنه أن يؤثِّر أثره المعارض بتمام من هذا الغزو في الفكر والعقل المعاصر للإسلام والمسلمين والمتأثِّر بنشاطهما وثورتهما العارمة عقيدة وعملاً من البداية إلاَّ في بعض الحالات أو على بعض الطَّبقات وإن لم يطلق عليه غزو.

لأنَّه قد يكون مفروضاً في واقعه بما فرضه المتأثِّرون بذلك الفكر على أنفسهم، ليكون بديلاً عن الفكر السَّماوي الإسلامي الَّذي صدع به النَّبي محمَّد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، على الأقل عناداً له ولدعوته، حتَّى من قبل بعض المسلمين الَّذين دخلوا في الإسلام العظيم خائفين جبناً من سلطانه الأمين، أو طامعين كالمنافقين بعد ما يئسوا من بقاء قدرتهم على ممارسة طقوس جاهليَّتهم الحمقاء، أو بقوا متأرجحين بين انتمائهم الدِّيني السَّطحي نفاقاً أو جهلاً عن الخوف والطَّمع، وبين تأثُّرهم الفلسفي المجرَّد من قيم وروحيَّة الإعجاز الإلهي العظيم والمرتَّب بقواعد وضوابط وضعها البشر المحدود في قدراته مهما برع وتنوَّع والَّذي من فروعه بقايا التَّطرُّف السَّماوي اليهودي والنَّصراني الَّذي تمَّ به تحريف كتابي الملَّتين وضياع القيم العامَّة بين الأمم أو شتاتها.

ممَّا أحوج الأمر كثيراًَ إلى بزوغ شمس الإسلام وإعادة الكرَّة الإنقاذيَّة الإلهيَّة لحفظ العالم بأحسن النِّظام حتَّى امتدَّ هذا الغزو المعارض أو هذه المعاصرة المؤثِّرة أو الانقياد والتَّأثُّر مسبِّباً انتشار الفلسفة اليونانيَّة المشهورة، حيث فرضت واقعها على أوساطنا الإسلاميَّة وعلى عقول من ذكرناهم سابقاً ولاحقاً لما مرَّ من الأسباب مع شدَّة الرَّقابة الإسلاميَّة الَّتي ذكرناها وأشرنا إلى نجاحاتها المهمَّة.

ولكن بما لا يمكن أن تقبل عللها بهذا الانتشار مطابقة لمعلولاتها بصورة كافية في أمور عقائدنا الإسلامية الصحيحة التامة فضلاً عن أمور شريعتنا السامية الحساسة

ص: 165

بأصالتها.

لأنَّ هذه الفلسفة في وضعها البشري لقواعدها وإن تظافر على ضبطها الملايين لمحدوديَّتهم ولا محدوديَّة الخالق المشرِّع بإعجازاته تراها قد زحفت بالنَّتيجة غير الوافية من كلِّ الجهات إلى مالا تقبله كافَّة العقول بتعقُّل مقبول.

إضافة إلى ما قد حرَّفته سابقاً تلك الدِّيانات السَّابقة من كتبها الَّتي أصبحت من نتائج تحريفاتها إمَّا الجبر أو التَّفويض حتَّى أصبحت طبقات هاتين الفكرتين من الدَّاخل والخارج جنود هدم للنَّمط المعتدل قبل الإسلام وبعده.

فأثَّر هذا وذاك وذلك شيئاً كبيراً من التَّطابق المضرِّ، وبالأخص فيزماننا الإسلامي الأوَّل في بعض أساليب الدَّعوة الإسلاميَّة الصَّافية المتكاملة في نجاحها الَّذي كان قد مهَّد له النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وسعى معه الأئمَّة الأطهار عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وبقيَّة الأخيار وبخير السُّبل الَّتي أنجح بها زرع الإيمان الكامل في كثير من أنصاره وأنصار أهل بيته عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وإن قلُّوا من حيث ما كان يريده ويأمله.

بل حصل هذا التَّأثُّر واحتدم كثيراً حتَّى حين قلب الفلسفة اليونانيَّة إلى الإسلاميَّة لكثرة النِّزاعات واشتداد الشُّبهات على المطلب المراد عقيدة وعملاً حتَّى كثرت وجوه المسلمين المتطرِّفين ممَّن مرَّ ذكرهم ممَّن عرفوا بالمنافقين القدامى وبعدهم جاء جماعة عرفوا بالأشاعرة وأضرابهم ممَّن سبقهم من الأسلاف الَّذين أصرُّوا على بقاءهم مجبِّرة وحتَّى يومنا هذا وممَّن قابلهم ومنهم فرقة أخرى وهم الَّذين أصرَّوا على التَّفويض حتَّى هذا الحين وهم المعتزلة.

حتَّى تألَّفت عند قلب الفلسفة إلى الإسلاميَّة بسبب ذلك مدرستان كاملتان لهما نفوذهما وقد سبقتا، وبهذا يظهر المنشأ العام الَّذي يجب الوقاية من مخاطره ويجب التَّخطيط العلمي لدفعه.

ب / وبعد الشُّروع في قلب الفلسفة اليونانيَّة إلى الإسلاميَّة وتطوُّر بحوثها مع

ص: 166

وجود من أشرنا إلى ذكرهم من زعماء المدرستين الإسلاميَّتين من المتطرِّفين وغيرهم من أمثالهم في تطرُّفات أخرى، وخوف أهل الدِّين الحريصين من بقيَّة المسلمين على الحق الإلهي العادل بمثاليَّته، لئلاَّ يضيع ويهدر بدون اشتراك في خوض غمار هذا المضمار للسَّعي في تصفيته وأهم أنصار مدرسة أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الخاصَّة بهم ولهم وهي مجالسهم الخاصَّة والعامرة بأئمَّة أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ - توسَّعت دائرة المشاجرة الفكريَّة والمشاحنة العلميَّة.

فقالت الأشاعرة شيئاً والخوارج آخر والمعتزلة شيئاً آخر.

وكان مورد النِّزاع فيما بينهم بادياً آنذاك تحت منبر أبي الحسن البصري الأشعري حول مسألة أنَّ مرتكب المعصية الكبيرة هل هو كافر أو مسلم أو غير ذلك؟

وبسبب عدم ضبط قوانين الاحتجاج الصَّحيح عقلاً ونقلاً عند غير أهل البيت وضعف الدِّين أو عدمه ولكن مع تلابس الشُّبهات الَّتي جعلت ما ليس في كونه من العلل علَّة وجعلت ما كان من العلل ليس بعلَّة.

فقال: الخوارج أنَّ مرتكب الكبيرة كافر.

وقال أبو الحسن إنَّه ليس بمسلم ولا كافر.

وقال المعتزلة: إنَّ مقتضى العدالة الإلهيَّة إنَّ مرتكبها مسلم ولكنَّه عاصي، لعدم إنكاره الشَّهادتين وبهما بقاء الإسلام وحقن الدِّماء، وتركوا جلسة أبي الحسن بزعامة واصل بن عطاء صانعين لأنفسهم جلسة خاصَّة، وعندهاصرَّح أبو الحسن بعبارته (لقد اعتزلنا واصل وجماعته)(1)، ولذلك سمُّوا بالمعتزلة.

وتفاقمت المشاكل واشتدَّ النِّزاع وإلى حدِّ التَّجاوز عن خط العدالة حتَّى ممَّن كان يقول بها سابقاً حتَّى وصل الأمر إلى نشوء مدرستي الجبر والتَّفويض.

ص: 167


1- الملل والنحل ج1 ص52.

لكون المعتزلة وإن حاموا عن العدل لكنَّهم أفرطوا في أمره وبعدم مقبوليَّة أهل الاثنين الحدِّ الوسط الآتي والمفروض قبوله يتبيَّن

المنشأ الخاص.

ج / وبعد اتِّضاح الانقسام إلى الجبر والعدل بعد نبذ فكرة الخوارج من قبل الجميع ومعرفة أنَّ المجبِّرة هم الأشاعرة وأبرزهم بعد الأشعري جهم بن صفوان، وأهل العدل هم المعتزلة في مقابلهم وهم جماعة واصل وبعد تبيُّن أنَّ الإماميَّة في الواقعيَّة الأدق هم أهل هذا العدل قبل ذلك فاصطلح على الاثنين وهم المعتزلة والإماميَّة بالعدليَّة إلاَّ أنَّ إفراط المعتزلة في العدل والى حد القول بالتفويض واعتدال أهل العدل الواقعيين والى حد القول بالمنزلة بين المنزلتين انقسم الكل إلى ثلاثة مذاهب وهم المجبرة والمفوضة والأمامية وبهذا يتم المنشأ الأخص.

الثَّالث: أدلة المجبرة على القول بالجبر بعد بيان أصل فكرتهم وردها

أمَّا قول الأشاعرة قادة الجبر نقلاً عن شرح القوشجي لتجريد الاعتقاد ومن أبرزهم بعد أبي الحسن جهم بن صفوان كما سبق.

فهو أنَّه (لا حكم للعقل في حسن الأفعال وقبحها وليس الحسن والقبح عائدين إلى أمر حقيقي حاصل فعلاً قبل ورود بيان الشَّارع، بل إنَّ ما حسَّنه الشَّارع فهو حسن وما قبَّحه فهو قبيح وبكامل السُّلطان، فلو عكس الشَّارع القضيَّة فحسن ما قبَّحه وقبح ما حسَّنه لم يكن ممتنعاً في نظرهم وانقلب الأمر فصار القبيح حسناً والحسن قبيحاً، لأنَّ الاعتبار بيده ومثَّلوا لذلك بالنَّسخ من الحرمة إلى الوجوب ومن الوجوب إلى الحرمة)(1).

وبسبب ذلك نقلوا أنَّ الله هو الموجد لكل أفعالنا حسنها وقبيحها.

ص: 168


1- راجع: شرح المقاصد 4: 284؛ شرح التجريد للقوشجيّ: 337.

وإذا كان في هذا شيء من الإجمال فببيان أقرب عن هؤلاء المجبِّرة.

وهو أنَّهم قد ذهبوا إلى أنَّ الله هو الفاعل لأفعالنا نحن المخلوقين كما كان قد خلقنا، سواء كانت خيراً أم شرَّاً من دون أن يكون للمخلوقين أي اختيار في صدور الفعل أو تركه مع سبق عدم إمكان التَّحسين والتَّقبيح العقلييَّن حتَّى يتم فيهم الاختيار الكامل.

وإنَّما كان تقبُّلهم لهذه الأمور اكتسابيَّاً لما يخلقه الله فيهم ويبيِّنه في شرعه لهم ويطبِّقه فيهم بتيسير لا تخيير كامل فيه، وأنَّ القدرة الَّتي فيهم وإن كانت لا يمكن إنكارها فيهم أيضاً إلاَّ أنَّها مجملة غير مؤثِّرة باستقلال إرادي تام، وإنَّما الأمر كله للشَّارع وهو الله تعالى كما مرَّ.

وبذلك يكون قد أجبرهم على فعل المعاصي ومع ذلك يعاقبهم ويعذِّبهم عليها، وأجبرهم على فعل الطَّاعات ومع ذلك يثيبهم عليها، وذلك لأنَّهم يعتبرون هذه الأفعال في الحقيقة منه تعالى، وان الخلق ملكه يفعل فيه ما يشاء، وإنَّما تنسب إليهم على سبيل المجاز، لأنَّهم محلُّها لتلك القدرة المجملة الَّتي فيهم.

وممَّا استدلُّوا به قول الله تعالى [وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ](1) وتفسيره على نهجهم هو (أنَّ الله خلقكم وخلق أعمالكم).

ومرجع ذلك كلُّه عندهم إلى إنكار السَّببيَّة الطَّبيعيَّة بين الأشياء حسبما يؤدِّي إليه كلامهم، وأنَّ الله عندهم هو المسبِّب الطِّبيعي الحقيقي ولا مسبِّب سواه وإن جاء الفعل بمباشرة من عبيده.

إذ ظنُّوا واتَّخذوا ظنَّهم بل وهمهم يقيناً بأنَّ ذلك هو مقتضى كونه خالق كل شيء على ما استوضحوه واهمين من ظواهر كثير من الآيات الدَّالَّة على ذلك بهذه البساطة المستعجلة عندهم، وإن تفاوتت التَّصدِّيات والأوصاف المناسبة بين الخالق

ص: 169


1- سورة الصافات / آية 96.

والمخلوق كل بحسبه.

وثمَّ إنَّه بمجموع ما مرَّ من بيانهم الأوَّل المجمل في بدايته وبما قرَّبنا به فكرتهم بالبيان الآخر قد تظهر مشكلة أخرى، وهي مشكلة الجبر التَّكويني مع الجبر التَّشريعي بسواء كما مرَّ في استشهادهم بالآية الماضية.

إضافة إلى ما يمكن أن يتذرَّع به بعضهم ممَّا قد يستظهرونه من قوله تعالى كذلك [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ](1)، إلى غير ذلك من محاولاتهم.

فلابدَّ حينئذ من الإجابة والرَّد على ما تذرَّعوا به من الأوهام أوَّلاً وبيان بعض ما يترتَّب على القول بذلك من المضار ثانياً.

فنقول أوَّلاً: إنَّ التَّحسين والتَّقبيح العقليَّين موجودان ولهما أدلَّتهما الثَّابتة كما في المستقلاَّت العقليَّة من حسن الإحسان وقبح الظلم.

وآيات القرآن الكريم ومعها السنَّة الشَّريفة عن العترة المطهَّرة وغيرهاطافحة في مصدريهما بمدح الإحسان وفاعله وذم الظلم ومرتكبه إذا قام بذلك العبد.

فكيف بالله خالق العقل في الإنسان ومكرمه به وجاعله فيه أوَّل الرُّسل له قبل إرسال الرُّسل وبعثة الأنبياء باطنيَّاً، والكل يعلم ببعض الإجمالات في آيات الأحكام والسنَّة المرتبطة بها وفي غير ذلك ممَّا يضطر العقل لأن يعمل دوره لتشخيص أمر ما يستحدث من القضايا.

فلابدَّ من قبول ما يدركه العقل في الموارد غير المحكمة شرعاً إلاَّ أنَّه بما حدَّد للعقول من التَّصرُّف وبما ساعدت عليه الأدلَّة الإرشاديَّة الكاشفة عن فسح الشَّارع المقدَّس المجال فيه من مقدار الحاجة منه.

إضافة إلى النِّسبة الاختياريَّة الخاصَّة الَّتي يقدر بها هذا الإنسان أن يحسن في اختياره أو يسيئه، كي لا ينسب الظلم إلى الله، والَّذي لابدَّ أن ينشأ من الإصرار

ص: 170


1- سورة الذاريات / آية 56.ج

على القول بالجبر من هؤلاء.

والله هو القائل عن نفسه تجاه دور البشر في عيشه في غمار نعمه [وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ](1) والقائل أيضاً [وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا](2) وغيرهما كثير من أمثالهما.

وقال أيضاً [ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا](3) وقال كذلك [يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ](4) وقال كذلك [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ](5) وإلى آيات كثيرة جدَّاً وفي جميع موارد المسألة الدِّفاعية الرادَّة لهم.

مع ورود نصوص كثيرة جدَّاً من السنَّة كذلك، منها قول النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (جئتكم بالشَّريعة السَّهلة السَّمحة)(6).

ومنها ما روي من أنَّ (العقل ما عبد به الرَّحمن واكتسب به الجنان)(7) مع ورود آيات وروايات ما يوسع المجال في التَّصرف في هذه الدُّنيا كما سيجيء ممَّا يمنح العقل قدرة الاختيار في الفعل أو عدمه أو التَّعجيل به أو تأخيره.

وإلاَّ كيف تمسك هؤلاء المجبِّرة بآرائهم وأصرُّوا عليها وإن لم نتقبَّلها ولم يتقبَّلها

ص: 171


1- سورة آل عمران / آية 182.
2- سورة الكهف / آية 49.
3- سورة البقرة / آية 286.
4- سورة البقرة / آية 185.
5- سورة الحج - سورة 22 - آية 78.
6- الكافي 5:494 باب "كراهية الرهبانيّة وترك الباه" الحديث الأوّل، وفيه "بعثني بالحنيفية السهلة السمحة"، ومسند أحمد بن حنبل 5:266، تفسير القرطبي 19:39، الطبقات الكبرى 1:140 وفيها "بُعثتُ بالحنيفية السمحة".
7- الكافي ج1 باب العقل والجهل ح3.ج

الآخرون ولم يختاروا غيرها كمن اختار الأفكار الأخرى وهم بشر عقلاء مثلهم ومنهم من يريد إحقاق الحق وإبطال الباطل وكلُّهم قد عبَّرعنهم الله تعالى بقوله [كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ](1).

وأهل الصواب لابدَّ أن يكونوا أحد هذه الأحزاب كما في حديث افتراق الأمَّة الَّذي لابدَّ أن تكون في فرقه الفرقة النَّاجية.

وما تمسَّكوا به إلاَّ بصلاحية قوله تعالى الموسع لذلك الضيق المزعوم والمحدود بحدود الوسط وهو [إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا](2) وقوله [وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ](3) وغيرهما من الأدلَّة.

وإن تمسَّك بهما وبأمثالهما المفوِّضة من غيرنا بما صوُّروه لأنفسهم من التَّطرُّف الآتي ببيانه والرَّد له.

وهؤلاء المجِّبرة إن حبذوا التَّقيد لبعض الشبهات إن أغمضنا عنها جدلاً بالشَّرع فلا أقلَّ لهم من وجوب ملازمتهم حالة الوسط الَّتي نلتزم بها من سيرة أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ المتجنِّبة عن حالة التَّفريط وعن حالة الإفراط الآتية وكما في قوله تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا](4).

لأنَّ الجبر من غير تعديل لا يمكن تعقُّله مع ذكريات التَّخيير ونحوها والتَّفويض الآتي لا يمكن تقبُّله كذلك لصالح من يشدِّد ارتباطه بالله.

ولا يجوز نسبة الظلم تكويناً وتشريعاً إلى الله لانتظام الحياة في التَّكوين ونفي الظلم وإثبات العدل في التَّشريع في الكتاب والسنَّة مع توفُّر مصاديق ذلك عند

ص: 172


1- سورة المؤمنون / آية 53.
2- سورة الإنسان / آية 3.
3- سورة البلد / آية 10.ج
4- سورة البقرة / آية 143.

التَّطبيق وجداناً بين المؤمنين وحَسني العقيدة وكما مرَّ وما سيأتي بيانه من الشَّواهد.

فلابد من ايكال عهدة أمور الطَّاعات في هذه الدُّنيا منسوبة إلى المكلَّف نفسه بحسن إرادته ولصالحه وأمور المعاصي فيها منسوبة إليه كذلك بسوء إرادته ومضرَّته.

ولذلك قال تعالى [إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ](1) وقال أيضاً [إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا](2) وقال أيضاً [فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ](3) وغيرها من الآيات والأحاديث.

وإذا أصرُّوا على الجبر وعلى ما قرروه من دون تبرير معقول ومنقول فكيف يعالجون ما يعارض أدلَّتهم الجبريَّة من أدلَّة الحالة الوسطيَّة إلاَّ أن ينسبوا إلى الله الظلم في شرعه وهو مستحيل بما مرَّ بيانه.وإذا أرادوا التَّقيُّد بالجبر التَّكويني كذلك فنعمة الإيجاد والنِّظام في الحياة وحبِّها من الجميع في حلوها ومرها ينفي ذلك حتماً، وإلاَّ لما أحبوها مع الآخرين مع كونهم قادرين على إفناءهم أنفسهم باختيارهم أيضاً.

بل حقَّق شذَّاذهم نحر أنفسهم باختيارهم وحقَّق آخرون تفجير أنفسهم لقتل الآخرين حتَّى تمرَّدوا على الجهاد الواجب الأصيل حبَّاً لها ونحوه.

وإذا بهم خلطوه بالتَّشريعي الَّذي نعتبره نحن أهل الوسط منفياً كذلك يكون الإشكال أكثر والعيب أكبر.

لأنَّه تعالى في أمور التَّكوين لا يجوز أن يعاب عليه كالفقر والعمى وبقيَّة أنواع المرض ونقص الأعمار غير المتعمَّدة ونحو ذلك، حينما يتعقَّل الكل أنَّ أسباب ذلك

ص: 173


1- سورة الرعد / آية 11.
2- سورة الإسراء / آية 7.
3- سورة الزلزلة / آية 7 - 8.

كلها من البشر كما مرَّ بيان ذلك في أقسام القضاء من البحوث السَّابقة وأشرنا إلى بعض منه آنفاً وأنَّ الله لا يحمد على مكروه سواه.

بل كل ما يرد من الله شيء من ذلك والبشر كان سببه المباشر فهو محبوب يرجح الصَّبر عليه والسَّعي لإزالة مضارِّه لما نبَّهنا على امكانه ورجحانه.

لأنَّه في الموجود من منافعه الباقية نعمة في واقعها وإن كانت قد تعتبر نعمة خفية لبعض الاعتبارات، فضلاً عن أضداد ذلك من النِّعم الظاهرة الباهرة.

ونحن لمَّا استشهدنا سابقاً بآية جعل الأمَّة وسطاً فإنَّ هذا الجعل التَّكويني ومعه التَّشريعي لابدَّ وأن يصلا سويَّة إلى معنى ذلك الوسط ومعتدل النَّمط مع ما سنكمله من نفي التَّفويض من مستوى هذا التَّكوين الَّذي مثَّلنا له، وإن استزحم وعدالة الله تعالى في شرعه بما تقدَّم مع نفي التَّفويض الَّذي سوف يتم.

وأمَّا تمسُّكهم بقضيَّة النَّسخ للمحرَّم بالواجب والواجب بالمحرَّم وبما ثبَّتناه بما فصَّلناه في محلِّه، فإنَّ الله المشرِّع سبحانه لمَّا يقر الجميع ويعتقدون ببالغ حكمته ومن مقتضيات حكمة هذا الحكيم أنَّه إذا غيَّر شيئاً ممَّا سبق من أحكامه وبدله بما يختلف عنه فلابدَّ من كون هذا التَّغيير والتَّبديل أو ذاك مع تبدُّل الزَّمن لا يخالف مورد تلك الحكمة لمبدئيَّتها الثَّابتة في الحكيم وإن اختلفت لأنَّها ما ناسبت إلاَّ الحكم الجديد.

وقد سبق في البحث عن البداء والنَّسخ قبله ما يفيد في هذا الأمر.

لأنَّ مقامي الاختلاف الحكمي لم يكن شيئاً واحداً ومن مناسبة واحدة في زمانها المتعاقب المختلف كما في الزَّمان الواحد المستحيل، وإلاَّ لأمكن أن يطاع الله من حيث يعصى، وهو ليس كذلك حتماً لجلبه معنى الإيقاع في الظلم الباطل الصَّريح وبما لا معقوليَّة فيه تماماً.

وأمَّا ما استدلُّوا به من قوله تعالى: [وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تعْمَلُونَ](1) الَّذي

ص: 174


1- سورة الصافات / آية 96.

يعتقدون به أنَّه يفيدهم في ظاهر ما يبنون عليه بنيانهم الهزيل جدَّاً ومتهاويالأركان قطعاً، على أنَّه تعالى قد خلقهم عابدين من دون أن يكونوا كالشَّاكرين لأنعمه تعالى بحسن اختيارهم أو الواعين في عبادتهم له خوفاً أو طمعاً.

فإنَّه لمَّا كان هذا القول الشَّريف في واقعه المنيف في معرض الرَّد على ما أورد في الآية السَّابقة لها من الشُّبهة، وهي قوله بصيغة الاستفهام الإنكاري لعملهم [قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ](1)، وهو عبادتهم للأصنام الَّتي ينحتونها بأيديهم.

لأنَّهم لو عبدوا تلك الَّتي أوجدوها هم -- كبقيَّة بسائط الأشياء الَّتي تناسبهم حسب مع أنَّ الله هو خالقهم والمفيض عليهم بالنِّعم الوافرة وتتعيَّن عبادته عليهم شكراً لأنعمه -- كيف يقبل منهم ذلك السَّفه في التَّشخيص الاستحقاقي في العبادة وتلك هي الجماد، إلاَّ بأن يخلق لهم كيفيَّة العبادة في شرعه وهو صاحب وجهتها.

فلا مجال لقبول هذا المنحوت الجامد خالقاً كالخالق المباشر الواقعي سبحانه بدون مناسبة.

إضافة إلى أنَّ هذه الآية المفسَّرة بما قبلها تفيدنا في نفي الجبر التَّكويني والتَّشريعي السَّابق بيانه دعماً له ببطلان استدلالهم بالآية.

وأَّما ما يمكن أن يستدل به البعض من قوله تعالى: [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ](2) على نوع من الجبر العبادي فلا يمكن تعقُّله قبل التَّقبل لما مضى شرحه.

إضافة إلى دلالة الفعل المضارع آخر الآية وهو كلمة [يَعْبُدُونَ] على الأوسع من زمان الحال وهو الاستقبال كذلك والمفيد للمواسعة ذات العلاقة تمكين المكلَّف بأن يختار الإيجاب أو السَّلب من أمور تكاليفه العباديَّة وهي خلاف المضايقة كما في

ص: 175


1- سورة الصافات / آية 95.
2- سورة الذاريات / آية 56.

دلالة الأمر المرتبط بخصوص الزَّمان الاستقبالي الموسَّع من قوله تعالى [فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ](1) مع ضمِّ تاء المطاوعة المعروفة في إفادة معنى التَّوسعة في الاختيار بصورة أكثر.

وهكذا قوله تعالى [وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ](2) المرتبط بالأمر الاستقبالي الموسَّع، مع إضافة قرينة لمؤدَّى حقيقة المفاعلة في كلمة (سَارِعُواْ) المفيدة للاختيار المبعد للمسألة عن الجبر العبادي من النَّواحي التَّعبيريَّة.

الرَّابع: ذرائع المجبِّرة الواهية وخطورتها

هذا وإنَّ القول بالجبر أوصل القائلين به إلى مضار لا تتحمَّل ولا يمكنهم الاعتذار منها بأي ذريعة قد يتصوَّرها مرتكبوها أو يصورونها للآخرين منافع أواعتذاراً ولكنَّها واهية، وهي:

1 -- إنَّ العقل البشري لا وزن له في الأمور، فلا تحسين ولا تقبيح، فلا مسؤوليَّة عند القول بالجبر، بينما أقل دليل في اختصاره من كتاب الله وهي كثيرة يذكره تعالى في ختام آيات المسؤوليَّة قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]،وهذا اللفظ متعدِّد المصاديق في القرآن العزيز.

ومن ذلك ما يرتبط بآيات الأحكام، وهو الكافي في الرَّد مع الأدلَّة الكثيرة من السنَّة، لأنَّ العقل - وهو تحفة البشر العظيمة - لابدَّ من مصاحبته عند التَّصرُّف في الأمور حتَّى في مورد توفُّر النُّصوص الشَّرعية، إلاَّ أنَّه لا يجوز له الاجتهاد في مقابلها.

ص: 176


1- سورة البقرة / آية 148.ج
2- سورة آل عمران / آية 133.

ولو لم تكن تلك المصاحبة موجودة لكانت تلك التَّصرُّفات غير معقولة، ولما لام بعض البشر بعضهم الآخر فيما يتصرَّفون به من السَّلبيَّات الَّتي حصلت وهي كثيرة جدَّاً.

وقد أشبع الأصوليُّون الكلام حول التَّحسين والتَّقبيح في مقابل غير المجتهدين من المحدِّثين وبالوزن البياني المعتدل، بما ينفع كثيراً في نصرة العدل الكامل، وهو المنزلة بين المنزلتين الآتية، وبالنَّتيجة لو لم نجعل للعقل وزناً لجعلناه كالمفقود وحالة الفقدان حالة عدم تكليف والواقع خلافه فهو ضرر.

2 -- تبرير بعض الضعفاء والكسالى والمتقاعسين عن مهمَّات الأعمال في حياتهم نتائج ضعفهم وكسلهم وتقاعسهم بالجبر، وإن لم يكونوا في الأساس من أهل فكرته تذرُّعاً بهذه التَّبجُّحات الواهية، أي أنَّهم مجبورون على ذلك ولا مفرَّ منه مع علمهم أو علم بعضهم بكونها واهية، لئلاَّ يعاب عليهم قصورهم أو تقصيرهم.

بينما الحث القرآني والسنَّة الشَّريفة والإجماعات والسِّيرة المستمرَّة من زمن المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ والعقل الَّذي يمقت البقاء على الضَّعف والكسل والتَّقاعس عن مهمَّات الحياة إلاَّ بمكافحة هذه النَّواقص مع القدرة على العلاج ولو بالاستعانة بالغير ونحو ذلك أمور وافرة بالشَّواهد والأدلَّة على أهميَّة العمل وبذل النَّشاط في مثل سبيل الكسب للعيال وعلى الجهاد وذمِّ التَّكاسل وأهله ذمَّاً كثيراًَ.

وإنَّ ممَّا يدفع الكسل ويكشف عن القدرة الهائلة في البشر غير المصاب بالإمراض المعوِّقة له هي مواصلة العمل نفسه ولو كلَّفه العمل في بدايته مشقَّة وصعوبة.

لأنَّ العافية تأتي متدرِّجة بعد التَّرك المكسل والمجربات أثبت وجودها بما لا يرد التَّبجّح بعدم القدرة.

3 -- اتِّخاذ البعض القول بالجبر ذريعة للتَّحلل من الالتزامات الشَّريفة والمقبولة،

ص: 177

ولإشباع الرَّغبات الدَّنيئة الرَّخيصة، حتَّى شاع الفساد في البلاد، وبذلك تحقَّقت أمال أهل الفسق والعناد من أشرار العباد.

ومن أهم ما يثبت أركان الخلاص من هذه المضار المفسدة في الأرض هو الحلال الَّذي في مقابلها، وتوفُّر أنواعها بما يسد رغبة الدُّنيوييِّن كذلك بدل ذلك الحرام، وعدم امكان نسخه بما يخالفه مع بقاء الدِّين والشَّريعة الحاكمة بين المسلمين وإن حكم البلاد المفسدون والشُّعور بالمسؤوليَّة الفرديَّة والاجتماعيَّة الثَّابت في أدلَّته وكما ورد [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ](1) وورد في الحديث (كلُّكم راع وكلُّكم مسؤول عنرعيَّته)(2) إلى غير ذلك من الأدلَّة الكثيرة.

وقد قال في مقابل ذلك ما يسد رغبة الدُّنيوييِّن من الحلال [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ](3) وقال [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ](4) وقال [الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا](5).

وورد عن الإمام الحسن المجتبى عَلَيْهِ السَّلاَمُ (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنَّك تموت غداً)(6) إلى غير ذلك من النُّصوص.

إضافة إلى أنَّ الآيات والرَّوايات من هذا القبيل هي المشجعِّة للزِّيادة من نعم الله رغبة بكثرتها، بل الموجبة إلى الرَّغبة بكثرة عبادته تعالى وشكر نعمه، وهي خلاف

ص: 178


1- سورة التحريم / آية 6.
2- بحار الأنوار: ج72 ص38 ب35 ضمن ح36.
3- سورة الأعراف / آية 32.
4- سورة آل عمران / آية 14.
5- سورة الكهف / آية 46.
6- من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق، 3/ 156.

الكسل والضَّعف والتَّقاعس الَّذي قد يكثر بسببه هذه الأيام التَّقيُّد بما قد يُسبِّبه علينا الغزو الاستعماري الكافر ناجحاً أو عموم ما كان معادياً لديننا الحنيف.

4.بعض الدَّوافع السِّياسيَّة المقيتة من الأمويين الطلقاء في سلطاتهم الضالَّة الظالمة والمتطرِّفة بالنِّفاق وضرب الأعناق.

الَّتي ابتدأت إسلاميَّاً تقريباً وبصراحة أكثر ممَّا سبق المجريات التَّأريخيَّة المريرة قبيل وفاة النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وبعيدها.

فضلاً عمَّا كان بعدها من أيَّام المشايخ الثَّلاثة الَّتي من مقولاتهم فيها قول الثَّاني -- في شأن مخالفته لخلافة أمير المؤمنينعَلَيْهِ السَّلاَمُ حينما حاربوها وحاربوه لمَّا خافوا على أنفسهم من غضبه الإلهي وسيفه البتَّار -- حينما جرُّوه من حمائله (دعوه إنَّه مُوصَى) أي أنَّه لا يقدر على المخالفة لحكمنا الدُّنيوي.

وقد جنَّدوا لأنفسهم القريب والبعيد وبكل الوسائل جميع وسائل إعلامهم لنشر القول بالجبر، ووضعوا الأحاديث المفتعلة والملفَّقة ومن صحابة مختلقين أو من المأجورين في سبيله، بادِّعاء أنَّ الله جعلنا عليكم أمراء وسلاطين بعد استعمال تلك المخادعات والإغراءات ووسائل الحديد والنَّار لتخدير أعصاب النَّاس وتحذيرهم عوامِّهم وخواصِّهم عن القيام بأيِّ محاولة ثورة معارضة لمملكتهم وسلطانهم.

وهذا من أكبر المخاطر الَّتي أنشأ لها الجبر على المسلمين، ليكون أمثال هؤلاء المنافقين والمطرودين من قبل سيِّد المرسلين صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مفروضين ولو ظاهراً فقط قادة على المسلمين والمؤمنين، ويترك أئمَّة أهل البيت الطَّاهرين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ عن أن يقيموا حكم الحق والعدل ويأخذوا مواقعهم الإلهيَّة بين الملايين.

حتَّى بان هذا الأمر ظاهراً كل الظهور في أصول وقواعد علماءهم ممَّن أتى مؤيَّداً لهم ولمن بعدهم من وعَّاظ السَّلاطين ولو بتلفيق عبادات مكذوبة ادُّعيت أنَّها من الأحاديث.

ص: 179

الخامس: أدلَّة المفوِّضة على القول بالتَّفويض وردِّها

استدلَّ المفوِّضة - وهم الفرقة المقابلة للمجبِّرة مقابلة العكس بالنَّتيجة - فقالوا إنَّ الله بعد خلقه للمخلوقين قد فوَّض الأفعال إليهم وأقدرهم عليها ورفع قدرته وقضاءه عنها.

وذلك لأنَّ نسبة الأفعال إليه تعالى مستلزم نسبة النَّقص إليه، لأنَّها أفعال خاصَّة في مقولاتها من هؤلاء البشر، والخالق لا تناسبه هذه في محاسنها ومساوئها، هذا من جهة.

كما أنَّ للموجودات أسبابها الخاصَّة بها من حيث المباشرة وإن انتهت كلُّها إلى مسبِّب الأسباب والسَّبب الأوَّل وهو الله من الجهة الثَّانية.

واستدلَّ هؤلاء بمثل قوله تعالى [وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ](1)، وقوله كذلك [إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا](2) ونحوهما.

وقد سبق هؤلاء من سبقهم من اليهود الَّذين قالوا على لسان القرآن الكريم عن عقيدتهم في الله [وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ](3).

أو ما ورد من تعبيرهم العادي عن الله أنَّه خلق الخلق ثمَّ فلت الأمر من يده بما يزيد في نسبة التَّحدي لشأن الله تعالى بنسبة العجز إليه في السَّيطرة بعد الخلق.

إلاَّ أنَّ هؤلاء المفوِّضة من المسلمين لمَّا كانوا يرتبطون بالإسلام وبعض قيوده قالوا بأنَّه تعالى خلقنا وأقدرنا على فعل كل شيء بما يقلِّل من نسبة هذا العجز إليه.

لكنَّهم مع ذلك تجاوزا عن هذا الَّذي يعتبرونه قليلاً مصحَّحاً أو معقولاً إلى

ص: 180


1- سورة البلد / آية 10.ج
2- سورة الإنسان / آية 3.
3- سورة المائدة / آية 64.

الأخذ بالقياس وتفاعلوا معه تفاعل الاعتبار المخل، أي حتَّى لو تجاوز عن خط النُّصوص الشَّرعيَّة وصار اجتهاداً في مقابلها لإطلاق التَّحسين والتَّقبيح العقلييَّن في نظرهم وإن قالوا بالعدل قبال المجبِّرة كما سيتَّضح غير ذلك.

ونقول في ردِّهم:-

بأنَّ هذا القول على علاَّتة يؤدِّي إلى إخراج الله عن سلطانه وإن كان بإقدار منه لخلقه في الجملة لكن لا كما يتصوَّره اليهود من التَّحدي الأشد، لكونه تعجيزاً له ويداه مبسوطتان كما ورد في جوابه لليهود وقد أبقته صريحاً آياته القرآنيَّة الكثيرة.

ولكون التَّفويض يؤدِّي إلى اشتراك خلقه معه في هذا التَّمكين والإقدار وهم ضعفاء لمحدوديَّتهم من قبل تكوينهم وولادتهم وحين وفاتهم لقوله تعالى [لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا](1) وبصريح آيات أخرى كذلك.

وإذا كان في الجبر ظلم ينسب إلى الله تعالى لعباده ففي التَّفويض إهمال من الله لأمور بريَّته، وهو ظلم من المفوِّضة لحق الله الَّذي لا يرضيه حتماً الفوضى في نعم ما أعطاه من النِّظام.

وكِلتا الحالتين تفريط وإفراط وصِفتا نقص يجب تنزيهه عنهما، لأنَّه الكمال المطلق.

إضافة إلى إمكان القول بأنَّ نتيجة الجبر والتَّفويض سلبيَّاً واحدة.

لأنَّ نتيجة الجبر عند أصحابه عدم جواز معاقبة العبد على أفعاله من المعاصي، لأنَّه مجبور عليها، وهذه المعاقبة تتعارض مع العدالة، وهذا ظلم إذا قلنا باستحقاق العبد بهذه المعصية تلك المعاقبة.

بينما نصوص العقوبة عند المعصية ما أكثرها في القرآن والسنَّة ويعرفها ويقر بها المجبِّرة أنفسهم، إلاَّ أن يعتقدوا بأنَّ الظلم جائز مع العقوبة.

ص: 181


1- سورة الرعد / آية 16.

وأنَّ نتيجة التَّفويض عدم جواز معاقبة العبد على أفعاله أيضاً لو فعل معصية، لأنَّه قد ترك تعالى عبده بعد أن خلقه مفوِّضاً إليه فعل ما يشاء من دون أن يتدخَّل في شيء من أموره وأفعاله وإن أخلَّ العبد بالنِّظام وهو من العبث لأنَّه من الرِّضا بالنِّظام وعدمه.

وعليه فالمعاقبة أيضاً تتعارض مع عدالته، وهم يعتقدون بها فضلاً عن جعل هذا السَّبب إهمالاً، مع أنَّه تعالى يمهل ولا يهمل وكما قال [فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا](1).

إضافة إلى أنَّ آيتي الهداية اللَّتين ظاهرهما الثَّابت بالمتابعةالصَّحيحة ممَّا مضى ذكره كانتا بنحو إراءة الطَّريق لا الإيصال إلى الواقع، كما يزعمه المفوِّضة من التَّفويض الكامل.

مع أنَّهما لو ضممناهما إلى ما يستدل به المجبِّرة من الآيات ومنها ما مضى من قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ](2) لأنتج ذلك الحد الوسط المراد كما سيجيء.

السَّادس: قول الإماميَّة أهل النَّمط الأوسط وأدلَّتهم

وقال الإماميَّة - السَّائرين على خط أهل البيت النَّبوي الطَّاهر عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ في الاعتدال الاعتقادي التَّكويني والتَّشريعي شركاء المعتزلة في العدل الإلهي لحسن الصدف في أمر التَّقريب المذهبي الإسلامي وإن خالفوهم في أمر التَّفويض كما سلف -

بأنَّ العقل له الحق في أن يدرك حسن الأفعال وقبحها، كما له أن يحكم على

ص: 182


1- سورة الطارق / آية 17.
2- سورة الذاريات / آية 56.

الأشياء وبالأخص العقائد الضروريَّة.

بل حتَّى بعض الشَّرعيات إذا أعوزت الأدلَّة كما في المستقلاَّت العقليَّة من حسن الإحسان وقبح الظلم المدعومة أو المستكشفة بأوضح الأدلَّة اللَّفظيَّة الإرشاديَّة، وكذلك في عمليَّة التَّطبيق للأحكام تمييزاً للحرام عن الحلال بسبب وجود النِّسبة الثَّابتة المعقولة من حسن الاختيار وسوءه.

ولكن بما لا إفراط فيه من إخضاع كل شيء إلى التَّخرُّص العقلي كيفما يكون حتَّى لو صار اجتهاداً في مقابل النُّصوص كما يصل إليه المفوِّضة المعتزلة بالنَّتيجة، وبسبب النِّسبة المحدودة من الجبر الَّذي نعبِّر عنه بالاحاطة الإلهيَّة الرَّقابية في عيشنا التَّشريعي بعد التَّكويني في هذه الدُّنيا قبل يوم القيامة والحساب وانتظاراً لهما.

وقالوا بأنَّ العبد خالق لأفعاله خيرها وشرها مع تلك الرَّقابة الإلهيَّة والاختيار المعتدل فيه اعتزازاً بالعدل الإلهي لنفي الظلم مطلقاً عنه.

وإن كان كل ما حصل ممَّا كان في ظواهره الشدَّة والابتلاء من بعض زحمات الحياة الدُّنيويَّة أو كثيرها هو للامتحان والاختبار، ومما اعتاد عليه الجميع في كونه من سنن الحياة المحتملة.

واتَّفقوا على أنَّ أصول المعرفة وشكر النِّعمة ممَّا يجب الاعتقاد به على أن يكون الالتزام الشَّرعي من أمثال آيات الأحكام وما يعضدها من الأدلَّة الأخرى على النَّهج المطلوب منه بلا تشريع أو ابتداع.

لأنَّ ورود التَّكاليف الَّتي ظاهرها التَّقيُّد ألطاف إلهيَّة على النَّاس أرسلها إلى العباد بتوسُّط النَّبي الصَّادق الأمين صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمَّة الطَّاهرين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من بعده عن الوحي المبين وأحاديث سيِّد المرسلين شرحاً لها وتأكيداً عليها امتحاناً واختباراً لقوله تعالى الماضي [لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ](1) بسبب ما أعدَّه الله

ص: 183


1- سورة الأنفال / آية 42.

من العقوبة للعاصين والمثوبة والأجر للمطيعين.

وبهذا التَّحديد المتوسِّط بين الإفراط والتَّفريط يتحقَّق تطبيق ما ذكرناه من قوله تعالى الماضي [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا](1).

وتطبيق النَّص الوارد عن الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ صاحب مدرسة أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بعد آبائه عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بقوله الَّذي مرَّ ذكره وهو (لا جبر ولا تفويض بل منزلة بين المنزلتين)(2)، دحضاً لفكرة الجبر واللاشعور العقلائي وفكرة التَّفويض والإهمال أو الانفلات.

السَّابع: ما يعين على تعقُّل وتقبُّل الوسط العقائدي والشَّرعي المطلوب

وممَّا يعين على تعقُّل وتقبُّل النَّمط الأوسط العقائدي والشَّرعي المطلوب النَّاشئ من مدرسة الإماميَّة الإثنا عشريَّة هو أمور عقليَّة وأمور نقليَّة.

الأولى: الأمور العقليَّة، ونوجزها بالأمور التَّالية:-

أوَّلاً: إنَّ كل عاقل لا محالة يميِّز بين الأفعال الاختياريَّة وغيرها فينطلق من وحي عقله في الأولى وينقبض في الثَّانية، إلاَّ أنَّه يرى نفسه مختاراً في جميع هذه الأمور من الأفعال والتَّصرفات الممكنة لا كما يتصوَّره المفوِّضة وإحساسه بذلك وجداني، ولذلك فهو مختار وليس مجبوراً على شيء.

ومن ذلك أفعالنا البشريَّة الشَّرعيَّة المرتبطة بالحلال والحرام حتَّى لو صمَّم على فعل شيء فيه بعض الشَّدائد كالمعاصي الَّتي من وراءها عقوبة قد يتحمَّلها وهو مع ذلك يعتقد بكونه عاصياً لا طليقاً بمعنى التَّفويض بلا مسؤوليَّة أو الطَّاعات الَّتي في

ص: 184


1- سورة البقرة / آية 143.
2- بحار الأنوار 5 : 17 ح 28.

طريق الزَّحمات حبَّاً بالمثوبة لما ورد (خير الأمور أحمزها).

على أن يكون هذا الاختيار معقولاً مقبولاً وسطيَّاً.

ثانياً: مدح العقلاء العادل إذا عدل والمحسن إذا أحسن بين النَّاس وذمِّهم الجائر الظَّالم والمسيء لهم، لعلمهم جميعاً مقدرة العادل على الاستمرار بعدله وإحسانه من حسن إرادته، ولذا يكون مدحه بما لا حدود له، ولعلمهم جميعاً مقدرة الظَّالم على ترك الظُّلم والإساءة.

وعليه فلا يستحق مسلوب الإرادة المدح والذَّم بقانون العدالة.

ولذلك يبتعد العقلاء عن أخذ كل قرار إيجابي أو سلبي تجاه هذا المسلوب، ولكنَّهم يذمُّون الفوضائي غير المتوسِّط في اختياره وفي الشَّريعة المقدَّسة تفاصيل فرعيَّة مهمَّة حول من كان مضطرَّاً أو مجبوراً على أفعاله من قِبل الآخرين ليس هذا محلُّها، وسوف تتَّضح.

ثالثاً: إذا قلنا بالجبر فلا داعي للوعد بالمكافئة الحسنة بدل فعل الخير والوعيد بالعقوبة في مقابل الإساءة فيما يدور فيما بيننا، لأنَّ المفروض أنَّ فاعل الخير أو خلافه لم يقم بشيء يستحق عليه ما يناسب عمله عند القول بالجبر.

وسيأتي توضيح هذا الأمر أكثر في الأدلَّة النَّقليَّة.

وإذا قلنا بالحريَّة المطلقة، فما معنى حسن الإحسان وقبح الظلم عند المعتزلة إذا قالوا بالتَّفويض والإهمال ظلم في حق الله تعالى.

رابعاً: عدم جواز التَّكليف بحكم العقل إذا لم يكن الإنسان مختاراً، وقد سبق أن نوَّهنا على وجوب شكر المنعم عقلاً، وهو ما يصحِّح قبول التَّكليف، بل وجوبه.

وقد سبق أن استشهدنا عليه بما يكشفه أو يكون دليلاً عليه وهو قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ](1).

ص: 185


1- سورة الذاريات / آية 56.

إلاَّ أنَّ هذا الاختيار محدود بالضَّوابط المرتبطة بالوسطيَّة غير الفوضائيَّة، لأهميَّة المسؤوليَّة والحساب يوم القيامة، ولكون هذا الحساب من ضروريَّات أصول العقائد.

خامساً: إذا قلنا بالجبر يلزم أن يكون الله في غاية الظُّلم للعباد والجور عليهم، لأنَّه يخلق فينا المعاصي وأنواع الكفر والشِّرك ويأمر بمعاقبتنا، إذا لم نفرِّق بين التَّكوين والتَّشريع ولم نقسِّم الجبر إلى ما لا يصح معه الاختيار وإلى يصح معه وهو حالة الوسطيَّة.

وكذلك لو قلنا بالتَّفويض فإنَّا سوف ننسب إلى الله الإهمال على الأقل.

وكذا سوف ننسب النَّقص في السُّلطان أو انعدامه، لكونه قد أقدرنا على كل شيء، وهو أمر مرت عيوبه.

سادساً: إذا قلنا بالجبر يلزم أن يكون العاصي مطيعاً، لأنَه استجاب لجعل الله له على هذا النَّحو ولم يقدر على التَّخلُّف، وأن يكون المطيع عاصياً، لأنَّهما أطاع من تلقاء نفسه وإنَّما اتَّبع إرادة مكوَّنة.

وأي عاقل يرضى لنفسه اعتقاد الكفر طاعة والإيمان معصية، بينما المعصية لم تأت إلاَّ من النَّفس الأمَّارة بإساءة الاختيار، والطَّاعة لم تأت إلاَّ من النَّفس اللوَّامة أو المطمئنَّة بحسن الاختيار.

وإذا قلنا بالتَّفويض يلزم أن يكون المرتكب للمعاصي غير محاسب ولا مسؤول عمَّا اقترفه منها، لاعتقاده بأنَّ الله هو الَّذي أقدره وحرَّره في هذه الأمور وغيرها.

بينما المعتزلة يحسِّنون ويقبِّحون إلاَّ أنَّهم وللأسف يلتزمون بالتَّفويض.

سابعاً: إذا قلنا بالجبر يلزم منه نسبة السَّفه إلى الله تعالى، لأنَّه بذلك يفعل ما يضادد الحكمة، والفرق بين المعصية والطَّاعة واضح في شرع الله لا يخفى على أحد.

لأنَّ الأشاعرة حينما قالوا بذلك وكانوا قد أعدُّوا أنفسهم من العقلاء - كما لا يخفى حينما أصروا على فكرتهم - وصاروا يقولون إنَّ الله كره الإيمان من الكافر

ص: 186

حينما صيَّره كذلك وأمره بالإيمان، وأراد الكفر من الكافر حينما صيَّره كذلك ونهاه عنه.

بينما العقلاء لا يتعقَّلون غير رجحان أمر الغير بما يحسن فعله وينهونه عمَّا يكرهونه فيه، والله خالق العقل والعقلاء كيف يتقبلون منه هذا السفه بلا استحالته فيه.

وإذا قلنا بالتفويض لا نتصور من ذلك إلا الفوضى وعدم الانضباط المتوسط.

ثامناً: إذا قلنا بالجبر ونسبة الظُّلم إلى الله من جرَّاءه كيف نتعقُّله فيه وهو المعروف في عدله بانتظام الحياة والشَّرع وبانتصافه للمظلوم من الظَّالم في الدُّنيا قبل الآخرة في قانون المحاكم القضائيَّة المتوفِّرة في آيات الأحكام.

وإذا قلنا بالتَّفويض لانتفت المسؤوليَّة ويكون صاحب التَّفويض كشريك لله، والله لا شريك له، فلابدَّ من الوسط.

تاسعاًُ: إذا قلنا بالجبر وقلنا بسببه بعصيان العبد إذا ارتكب المعاصي وأنَّ الله صيَّره هكذا.

ومن تلك المعاصي الكذب وعدم الوفاء بالوعد والعياذ بالله منهما، فمتى نصدِّق بكلام الله وهو أصدق الحديث ومنه آيات الأحكام، ومتى نصدِّق بوعده ووعيده وقد ذكرهما الله مرَّات في كتابه، وهو الَّذي لا يخلف الميعاد كما قالته آياته مرَّات كذلك، ولانتفت الفائدة من إرسال الرُّسل وبعثة الأنبياء لو يعارضهم النَّاس بالتَّكذيب.

والعكس هو الصَّحيح وغيره الباطل بأتم الحجج والمعاجز والكرامات ونبيُّنا صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ هو الصادق الأمين.

وإذا قلنا بالتَّفويض لانتفت الحاجة إلى الأحكام وتفاصيلها، فلابدَّ من الوسط.عاشراً: إذا قلنا بالجبر فإنَّ به خيالات الإفحام للأنبياء والرُّسل والأسباط حينما

ص: 187

يبلِّغون أقوامهم بالدَّعوة إلى الله ودينه ورسالته ووحيه وآخر الأديان ديننا الحنيف فيجيبهم الكفَّار بخيالاتهم وخيلائهم بعدم قدرتهم على الإيمان بتلك الدَّعوة، لأنَّ الله خلقهم هكذا على ما يريده هؤلاء.

بينما هذا الإفحام لا وجود له في جميع أدوار النبوَّات والرِّسالات إلاَّ حالات العناد والمغالطات والمحاربات الرَّعناء وبأشنع الحماقات.

بل العكس هو الصَّحيح وبأقوم الحجج والبراهين الباهرات.

وإذا قلنا بالتَّفويض فلا يصح منَّا نفي المسؤوليَّة، وبذلك فلابدَّ من عدمه واللجوء إلى النَّمط الأوسط.

حادي عشر: لو كان الأمر كما يريده المجبِّرة لصار التَّكليف تكليفاً بما لا يطاق، وهو قبيح عقلاً.

وقد أرشد إلى هذا المعنى قوله تعالى [لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا](1)، وقوله [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ](2)، وقوله [يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ](3) وغير ذلك.

وبعدم تعقُّل هذا الأمر فلا جبر، ولكنَّه الوسع ونفي الحرج واليسر في هذه النُّصوص وغيرها، ولكنَّه ليست بمعنى التَّفويض الَّذي يريده الآخرون، فلابدَّ من معنى التَّوسُّط.

الثَّانية: الأمور النَّقليَّة:-

وهي الَّتي تعيننا على الأخذ بخصوص المعنى الوسط وهو المنزلة بين المنزلتين، فهي على قسمين من الكتاب ومن السنَّة.

ص: 188


1- سورة البقرة / آية 286.
2- سورة الحج / آية 78.
3- سورة البقرة / آية 185.ج

أمَّا الأول: وهو الكتاب، ففي أمور:-

الأوَّل: الآيات الدَّالَّة على مدح المؤمن لإيمانه وذمِّ الكافر لكفره والوعد بالثَّواب على الطَّاعة والوعيد بالعقاب على المعصية.

كقوله تعالى في مورد المدح [وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى](1)، وقوله [إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا](2)، وقوله [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ](3)، وقوله [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ](4).وقوله في مورد الذَّم [فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا](5)، وقوله [فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ](6)، وقوله [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ](7)، وقوله [فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِم ْسَاهُونَ](8)، فلابدَّ بذلك وغيره من دحر شبهتي الجبر والتَّفويض وبقاء المنزلة بين المنزلتين.

الثَّاني: الآيات الدَّالَّة على الجزاء لحسن الأفعال كقوله تعالى [هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلاَّ الْإِحْسَانُ](9) وقوله [مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا](10)، وقوله

ص: 189


1- سورة النجم / آية 37.
2- سورة الإسراء / آية 3.
3- سورة التوبة / آية 114.
4- سورة القلم / آية 4.
5- سورة مريم / آية 37.
6- سورة البقرة / آية 79.
7- سورة المسد / آية 1.
8- سورة البقرة / آية 79.
9- سورة الرحمن / آية 60.
10- سورة الأنعام / آية 160.

[إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ](1)، وقوله [فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ](2)، وقوله [لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ](3).

وعلى الجزاء لسوء الأفعال كقوله تعالى [وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا](4)، وقوله [وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ](5)، وقوله [وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا](6)، وقوله [وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ](7).

وبذلك لا مجال إلاَّ بالتَّفصيل في أمر الجبر والتَّفويض بما يتوسَّط.

الثَّالث: الآيات الدَّالَّة على أفعال العباد مستندة إليهم وصادرة عنهم كقوله تعالى [وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى](8)، وقوله [لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى](9)، وقوله [الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ](10)، وقوله [فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ](11)، وقوله [إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ](12)،وقوله [ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ

ص: 190


1- سورة الإسراء / آية 7.
2- سورة الزلزلة / آية 7 - 8.
3- سورة الصافات / آية 61.
4- سورة الأنعام / آية 160.
5- سورة الزلزلة / آية 8.
6- سورة الإسراء / آية 7.
7- سورة البقرة / آية 286.
8- سورة النجم / آية 40.
9- سورة طه / آية 15.
10- سورة غافر / آية 17.
11- سورة البقرة / آية 79.
12- سورة الرعد / آية 11.

حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ](1)، وقوله [بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا](2)، وقوله [فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ](3)، وقوله [مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ](4)، وقوله [كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ](5).

وإذا ثبت الرَّبط بالفاعل المباشر كما في هذه الآيات ونحوها فلا يمكن تعقُّل وتقبُّل أن يكون ذلك الفعل محسوباً على الغير إذا كان معصية لقوله تعالى [وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى](6)، هذا بالنِّسبة إلى ما بين البشر أنفسهم.

وأمَّا بالنِّسبة إلى مسبِّب الأسباب فقد ذكرنا أنَّه لم تحسب عليه هذه الأمور حتماً، لأنَّه خالق الشَّرع والتَّعاليم فقط، وأمَّا محسوبيَّة التَّطبيق فهو مع المباشر لها.

نعم قد يكون فعل الطَّاعة إذا قام به شخص وكان آخر يدين هذا الشَّخص ككون المطيع في داره آخذاً لها بنحو الغصب فإنَّه يكون ثواب طاعته لذلك الدَّائن كما أثبتته الأدلَّة.

والأدلَّة الماضية لا شكَّ أنَّ فيها تمام الإشارة إلى العقوبة بعد المحاسبة إن كانت هناك حكومة شرعيَّة مطبقة على ما يرام في الدُّنيا.

ولو لم يكن كذلك لعدم ضبط الحكم وقواعده أو انفلات العاصي فلابدَّ من تعيُّن ذلك يوم القيامة على ما سيجيء.

الرَّابع: الآيات الذَّامَّة واللائمة على كفر الكافرين ومعصية العاصين، لكونهم

ص: 191


1- سورة الأنفال / آية 53.
2- سورة يوسف / آية 18.
3- سورة المائدة / آية 30.
4- سورة النساء / آية 123.
5- سورة الطور / آية 21.
6- سورة الأنعام / آية 164.

يقدرون على ترك الكفر والمعاصي كقوله تعالى [كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ](1)، وقوله [وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ](2)، وقوله [فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ](3)، وقوله [فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ](4).

فلابدَّ -- مع قدرة الكفرة والعصاة على الإقلاع عمَّا هم عليه، ونتيجة الآيات هذه -- من القول بعدم صحَّة الجبر إلاَّ أنَّه بلا فوضى التَّفويض.

الخامس: الآيات الدَّالَّة على الإنكار كقوله تعالى [لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّبِالْبَاطِلِ](5)، وقوله [لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ](6)، وقوله [لِمَ تَكْفُرُونَ](7) وغير ذلك.

ففي حال كون الله هو فاعل اللَّبس والصَّد والكفر فيهم كيف يستنكر منهم ذلك إذا لم يكونوا قادرين على الإقلاع منها، فلابدَّ من الاختيار بلا فوضى.

السَّادس: الآيات الدَّالَّة على الامتحان والاختبار كقوله تعالى [ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ](8)، وقوله [لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً](9)، ويلحق بها قوله تعالى [وَسَارِعُواْ]، وقوله [اسْتَبِقُواْ] وغيرهما.

ص: 192


1- سورة البقرة / آية 28.
2- سورة النساء / آية 39.
3- سورة المدثر / آية 49.
4- سورة الانشقاق / آية 20.
5- سورة آل عمران / آية 71.
6- سورة آل عمران / آية 99.
7- سورة آل عمران / آية 70.
8- سورة الأنفال / آية 42.
9- سورة هود / آية 7.

ففي حال عدم قدرة العبد الذَّاتيَّة - على اقتحام ساحة الامتحان والاختبار في هذه الدُّنيا والوجدان الشَّائع والذَّائع الَّذي لا يختلف فيه اثنان هو قابليَّة المصارعة وفعليَّتها التَّامَّة في هذه السَّاحة - كيف يبيِّن الله أمرهما في آياته إذن، فلابدَّ من الاختيار بدون فوضى.

السَّابع: الآيات الدَّالَّة على العفو كقوله تعالى [وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ](1)، وقوله [وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ](2)، وقوله [عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ](3)، وقوله تعالى [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى](4).

والعفو والغفران في القرآن دليل على ثبوت الذَّنب على مقترفه أوَّلاً، لأنَّهما لا يصحَّان إلاَّ عن المذنب وهو مباشر الذَّنب أو من يلحق به من مغريه من أمثاله لا خالق المذنب وهو منزِّل هذه الآيات أو تارك الأولى إذا كان من الأنبياء، وبذلك ينفي الجبر وبالمسؤوليَّة حال القول بمطلق التَّخيير بنفي التَّفويض.

الثَّامن: الآيات الدَّالَّة على أنَّه تعالى خيَّر عباده في أفعالهم بين إيجادها وعدمه في هذه الدُّنيا وجعلها متَّصلة بمشيئتهم، كقوله تعالى [فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ](5)، وقوله [اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ](6) وإن كان في مورد التَّهديد.

وقوله [لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ](7)، وقوله [فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ

ص: 193


1- سورة آل عمران آية 31.
2- سورة النساء / آية 48.
3- سورة التوبة / آية 43.
4- سورة طه / آية 82.
5- سورة الكهف / آية 29.
6- سورة فصلت / آية 40.
7- سورة التكوير / آية 28.

مَآبًا](1)وغيرها.

وهذه وأمثالها خير دليل على وجود الاختيار في العباد فلا جبر، ومع وجود تفريق أهل المعقول بين حالتي حسن الاختيار وسوءه ينتفي مطلقه، وهو رأى المفوِّضة، ولا يبقى إلاَّ الوسط.

وأمَّا آيات الرَّبط بمشيئة الله تعالى الَّتي لا يمكن نكرانها كقوله تعالى [وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ](2) وغيره.

فلا يمكن في باب وجوب التَّدقيق في العقيدة وتسديدها وتحسينها إلاَّ أن يكون في أمر التَّكوين والإيجاد مع التَّشريع وكذلك في النَّسخ والبداء لا في تسيير العبد المختار في تطبيق الأحكام وعدمه ولا في إطلاق سراحه على أي نحو يشتهيه العبد من دون محاسبة، لأجل أهميَّة النَّمط الأوسط.

التَّاسع: الآيات الدَّالَّة على أنَّ الله تعالى أمر عباده بالمسارعة إلى فعل الطَّاعة كقوله [وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ](3)، وقوله [فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ](4)، وقوله [وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ](5).

وغيرها من أدلَّة ما يدل على المواسعة في الأداء للتَّكاليف الشَّرعيَّة كالصَّلوات الموسَّعة بأوقاتها وغير ذلك، حتَّى المضيَّقة الَّتي ثبت بعد كون العبد مخيَّراً بين فعلها وعدمه وهي واجبة عليه أنَّه هو الَّذي آخرها إلى هذا الوقت الضيق، فإنَّها لا تمت بالجبر بأي صلة مع نفي التَّفويض كذلك بما أوضحناه، وهو غير حالة الاختبار

ص: 194


1- سورة النبأ / آية 39.
2- سورة التكوير / آية 29.
3- سورة آل عمران / آية 133.
4- سورة البقرة / آية 148.
5- سورة الواقعة / آية 11.

والامتحان الماضي في آياتها المشابهة لهذا التَّاسع.

العاشر: الآيات الدَّالَّة على اعتراف الكافر والعصاة باستناد أفعالهم إليهم كقوله تعالى [وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ](1) إلى قوله [أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ](2)، وقوله [مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ](3)، وقوله [كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ](4)، وقوله [فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ](5).فإنَّ هذه الآيات خير دليل على ما أجراه الكفَّار والعصاة من سوء العقائد والأعمال من سوء اختيارهم إلاَّ أنَّهم لو خالفوها بالعكس الدَّقيق لساروا على النَّمط الأوسط.

الحادي عشر: الآيات الدَّالَّة على التَّبشير والإنذار كقوله تعالى [بَشِيرًا وَنَذِيرًا](6)، وقوله [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا](7).

وغيرهما ممَّا يدل على وجود الحلال والحرام في شرع الله في هذه الدُّنيا وارتباط كل منهما بما يطابق الطَّاعة في الأوَّل والمعصية في الثَّاني، وهو ممَّا يعرف الإنسان بمحبوبيَّة الأوَّل ومبغوضيَّة الثَّاني، ولو لم يكن من مقدور العبد إمكانيَّة الالتزام

ص: 195


1- سورة سبأ / آية 31.
2- سورة سبأ / آية 32.
3- سورة المدثر / آية 42.
4- سورة الملك / آية 8.
5- سورة الأعراف / آية 39.
6- سورة البقرة / آية 119.
7- سورة النساء / آية 165.

بالأوَّل والإقلاع عن الثَّاني لما كلَّف الله نبيه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بتبليغه الأمَّة على هذا النَّحو.

الثَّاني عشر: الآيات الدَّالَّة على كون القرآن وأهمِّها آيات الأحكام حجَّة على العباد بعد إرسال الرُّسل وبعثة الأنبياء كقوله تعالى [لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ](1) وغيره.

وأيُّ حجَّة لو قلنا بالجبر بعد احتجاج أهل الكفر والمعاصي على الله بقولهم بما معناه (كيف تأمرنا بالإيمان أو الطَّاعة وقد خلقت فينا ضدَّهما).

وأيُّ حجَّة لو قلنا بالتَّفويض بعد احتجاج هذا العنصر كذلك يحتج عليه تعالى بقوله كيف تأمرنا بخصوص الإيمان أو الطَّاعة وأنت الَّذي أقدرتنا على كليهما بمطلق الاختيار.

فلابدَّ من القول بالنَّمط الأوسط تخليصاً من هاتين الفكرتين الباطلتين بما مضى ذكره.

وأمَّا الدَّليل النَّقلي الثَّاني، وهو السنَّة، فنلخِّصها في أمور:-

الأوَّل: ما عن حقِّ اليقين عن الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ (النَّاس في القدر على ثلاثة أوجه: رجل زعم أنَّ الله تعالى أجبر النَّاس على المعاصي فهذا قد ظلم الله في حكمه فهو كافر، ورجل يزعم أنَّ الأمر مفوَّض إليهم فهذا قد وهن الله في سلطانه فهو كافر، ورجل يقول أنَّ الله كلَّف العباد ما يطيقون ولم يكلِّفهم مالا يطيقون وإذا أحسن حمد الله وإذا أساء استغفر الله فهو مسلم بالغ)(2).

أقول: وهذا الوجه الأخير هو التَّابع للنَّمط الأوسط.

الثَّاني: ما عن تصحيح الاعتقاد للمفيد قدس سره أنَّه سأل أبو حنيفة الإمام موسى الكاظم عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن أفعال العباد ممَّن هي: قال: (إنَّ أفعال العباد لا تخلو من ثلاثةمنازل،

ص: 196


1- سورة الأحزاب / آية 45.
2- بحار الأنوار : ج5 ص9 ب1 ح14.

إمَّا أن تكون من الله تعالى خاصَّة، أو منه ومن العبد على وجه الاشتراك فيها، أو من العبد خاصَّة.

فلو كانت من الله تعالى خاصَّة لكان أولى بالحمد على حسنها والذَّم على قبحها ولم يتخلَّق بغيره حمد ولا لوم فيها.

ولو كانت من الله ومن العبد لكان الحمد لهما معاً فيها والذَّم عليهما جميعاً فيها.

وإذا بطل هذان الوجهان ثبت أنَّها من الخلق، فإن عاقبهم الله تعالى على حبِّنا يتهم بها فله ذلك وإن عفى عنهم فهو أهل التَّقوى وأهل المغفرة)(1).

أقول: وهذا المنزل الأخير هو المقصود في المراد الأوسط.

الثَّالث: ما عن الميزان أنَّه سُئل أبو الحسن الثَّالث عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن أفعال العباد أهي مخلوقة لله تعالى؟ فقال: (لو كان خالقاً لها لما تبرأ منها وقد قال سبحانه [أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ] ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم وإنَّما تبرأ من شركهم وقبائحهم)(2).

الرَّابع: ما عن حقِّ اليقين أيضاً عن الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ (لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين)(3).

الخامس: عن استقصاء النَّظر في القضاء والقدر، سأل أبو حنيفة الإمام الكاظم عَلَيْهِ السَّلاَمُ ممَّن المعصية؟ قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ ("المعصية إمَّا من العبد أو من ربِّه تعالى أو منهما.

فإن كانت من الله تعالى فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده الضَّعيف ويأخذه بما لم يفعله، وإن كانت المعصية منهما فهو الشَّريك القوي، والقوي أولى بانصاف

ص: 197


1- تصحيح الاعتقاد: ص 13.
2- تصحيح الاعتقاد للمفيد، ص187، 188، بحار الأنوار 5 : 20.ج
3- بحار الأنوار 5 : 17 ح 28.

عبده الضَّعيف.

وإن كانت من العبد فعليه وقع الأمر وإليه يوجَّه المدح والذَّم، وهو أحق بالثَّواب والعقاب"

فقال أبو حنيفة: [ذريَّة بعضها من بعض])(1).

السَّادس: عن استقصاء النَّظر الماضي عن أصبغ بن نباتة قال : قام إلى علي بن أبي طالب عَلَيْهِ السَّلاَمُ شيخ بعد انصرافه من صفين، فقال : أخبرنا يا أمير المؤمنين عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء الله وقدره؟

قال علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ: والذي فلق الحبة وبرئ النسمة ما وطئنا موطئاً ولا هبطنا وادياً ولا علونا تلعة إلاَّ بقضاء وقدر.

فقال الشَّيخ: عند الله احتسب عناي، ما أرى لي من الأجر شيئاً.

فقال له: مه ! أيها الشَّيخ، بل الله أعظم أجركم في مسيركم وأنتم سائرون وفيمنصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في حال من حالاتكم مكرهين ولا إليها مضطرين.

فقال الشيخ وكيف والقضاء والقدر ساقنا؟

فقال: ويحك ظننت قضاء لازماً وقدراً حتماً، لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب والوعد والوعيد والأمر والنهي، ولم يأت لائمَّة من الله لمذنب ولا محمدة لمحسن، ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء ولا المسيء أولى بالذم من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشيطان وشهود الزور وأهل العمى عن الصواب، وهم قدرية هذه الأمة ومجوسها.

إنَّ الله تعالى أمر تخييراً ونهى تحذيراً وكلف يسراً، ولم يكلف عسراً ولم يعص مغلوباً ولم يطع مكرهاً ولم يرسل الرسل إلى خلقه عبثاً ولم يخلق السماوات

ص: 198


1- الاحتجاج للطبرسي 2: 387 - 388، وبحار الأنوار 48: 106.ج

والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النَّار.

فقال الشَّيخ: وما القضاء والقدر اللَّذان ما سرنا إلاَّ بهما.

قال: هو الأمر من الله تعالى والحكم، ثمَّ تلا قوله وقضى ربَّك ألا تعبدوا إلا إيَّاه فنهض الشَّيخ مسروراً وهو يقول:-

أنت الإمام الَّذي نرجو بطاعته * يوم النُّشور من الرحمن رضوانا

أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً * جزاك ربَّك عنَّا فيه إحسانا)(1).

أقول: وهذا عين النَّمط الأوسط مع بيان بعض الحِكم والأسرار.

السَّابع: ما رواه الشَّيخ أبو علي في كتاب الاحتجاج عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ وقد سُئل عن القضاء والقدر فقال: (لا تقولوا وكَّلهم الله إلى أنفسهم فتوهنوه، ولا تقولوا أجبرهم فتظلموه، ولكن قولوا الخير بتوفيق الله والشَّر بخذلان الله، وكل سابق في علم الله)(2).

الثَّامن: ممَّا ورد من الرِّوايات الَّتي تحث على اتِّخاذ النَّمط الأوسط في كل الأمور بعد ما مضى من الآيات، ومنها مورد ما بين الجبر والتَّفويض كما في القول المأثور (أَمْراً بَيْنَ أَمْرَينً وَخَيْرُ الأُمُورً أَوَسَاطًهَا)(3)، وقول الإمام الحسن عَلَيْهِ السَّلاَمُ (اعمل لدنياك كأنَّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنَّك تموت غداً)(4).

وهذا ما يستلزم الجمع بين الأمرين الشَّريفين للوصول إلى الحدِّ الوسط المطلوب، وبذلك نحارب الرَّهبنة المقيتة والتَّصوُّف المنحرف والجبر الموجب للكفر،

ص: 199


1- نقله الصدوق في عيون أخبار الرضا: 1 / 139، والبحار: 5 / 75 عن الشافي.
2- احتجاج الطبرسي 1: 311; البحار 5: 95.
3- رواه البيهقي في السنن الكبرى (3/273): بإسناده عن عمرو بن الْحارث، قال عمرو: بَلَغَنًي أَنَّ رَسُولَ اللهً صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قال: (أَمْراً بَيْنَ أَمْرَينً وَخَيْرُ الأُمُورً أَوَسَاطًهَا).ج
4- من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق، 3/ 156.ج

ونحارب حالة مطلق الاختيار بلا أن يحد بالمسؤوليَّة كالانغماس في ملاذ الدُّنيا إلى حدِّ ترك الآخرة والفوضى والإباحيَّة والعلمانيَّة ونحو ذلك، كما في رواية أبي علي الأشعري عن محمد بن عبد الجبار... قال: (رأيت أبا عبدالله عَلَيْهِ السَّلاَمُ وعليهقميص غليظ خشن تحت ثيابه، وفوقها جبّة صوف، وفوقها قميص غليظ، فمسستها، فقلت: إنّ الناس يكرهون لباس الصوف، فقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: "كلا، كان أبي محمد بن علي عَلَيْهِمُا اَلسَّلاَمُ يلبسها، وكان علي بن الحسين عَلَيْهِمُا اَلسَّلاَمُ يلبسها، وكانوا عَلَيْهِمُا اَلسَّلاَمُ يلبسون أغلظ ثيابهم إذا قاموا إلى الصَّلاة, ونحن نفعل ذلك)(1).

وقد روي أنَّ يهوديَّاً رأى الإمام الحسن عَلَيْهِ السَّلاَمُ في ثياب حسنة أنَّ أباك على عَلَيْهِ السَّلاَمُ كان يلبس الصوف الخشن وكان ثوبه كثير الرقع، قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ كان في زمان أبي الفقراء كثر، والآن اغتنى الناس، ثمَّ قال له الإمام هذا لكم وأشار إلى عباءته ورفع العباءة فوجد اليهودي ثياب من الصوف الخشن، وقال هذا لي.

وعلى هذا الأساس قول الشَّاعر:-

وما أحسن الدِّين والدُّنيا إذا اجتمعا *** إلى غير ذلك من الرِّوايات .

الثَّامن: نتيجة البحث وعمليَّة المعالجة لأمور آيات الأحكام

عند وقوع ما يشكل أمره

بعد ما مرَّ تفصيله كثيراً عن مشكلة الجبر والتَّفويض فنتيجة البحث عنهما وعن ردِّهما بالأساليب المتعدِّدة مثل ما يؤدِّيانه من المخاطر الاعتقاديَّة والشَّرعيَّة وإلى حدِّ إيصالهما إلى الكفر بالأدلَّة العقليَّة والنَّقلية من الكتاب ومن السنَّة كانت بإيصال

ص: 200


1- الكافي، الشيخ الكليني، ج 6، ص 450.

الأمر إلى المنزلة بين المنزلتين.

وهو الموافق لما يطمئن به من الأدلَّة العقليَّة والنَّقليَّة عن القرآن وعن السنَّة من طريق أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ كذلك.

لكون أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُهم مدرسة النَّمط الأوسط هذه، وإن اشتركوا مع المعتزلة مسبقاً في العدل الإلهي ضدَّ الأشاعرة والخوارج، إلاَّ أنَّهم فارقوهم حينما أفرطوا وقالوا بالتَّفويض ونحوه.

وبعد ذلك لو حصل للفقيه ما يشغل فكره - حينما يتابع آيات الأحكام ومعها السنَّة المرتبطة بالفقه للبحث والاستنباط ممَّا ظاهره لأوَّل وهلة شيء من الجبر افتراضاً على رأي المجبِّرة من بعض الأدلَّة المزعومة -

فلابدَّ من أن يجعل أمام عينه أدلَّة التَّخيير الَّتي يستدل بها المفوِّضة على رأيهم أيضاً، ليجمع بين الدَّليلين ما يفيد ذلك النَّمط الأوسط.

وكذلك لو حصل له ما يشغل فكره بأدلَّة التَّخيير الَّتي يستدل بها أهل التَّفويض على رأيهم كذلك.

فلابدَّ من أن يجعل أمام عينه ما يضاد مطلق التَّخيير للابديَّة الوصول إلى طريق الوسط العقائدي والتَّكليف الشَّرعي، لعدم إمكان البقاء على خصوص ما يثبت تمام المسؤوليَّة بدون تخيير، ولا على خصوص ما يثبت التَّخيير بدون مسؤوليَّة ومراقبة ولا إمكانيَّة التَّخلِّي عن الاثنين.

وعليه أيضاً اتِّخاذ الوسط الجامع بين الاثنين لاستحالة التَّناقض بين الآيات.

لأنَّ كلا الطَّرفين المتطرِّفين يقولان بصحَّة ورود الآيات الَّتي تمسك بها كل منهما وإمكانيَّة تحقُّق الموِّحد المعنوي من الفريقين واستحالة رضا الشَّارع في البقاء على حيرة من الأمر، لئلا يكون للنَّاس على الله من حجَّة.

وعلى هذا الأساس ونحوه يجب أن يديم الفقيه أمر بحثه واستنباطه.

ص: 201

وقد اهتمَّ أصوليُّوا الفقهاء في أمر الأدلَّة الَّتي قد يظهر من بعضها حينما يضم بعضها إلى بعض حالة التَّناقض أو ما يشبهه في هذا المقام المبحوث عنه وغيره.

ومن أهمِّه حالات ما يجري بين آيات الأحكام نفسها أو ما بينها وبين السنَّة مع الحاجة التَّامَّة إلى كل من هذه النُّصوص وعدم وجود دليل ثالث معوِّض.

فولَّدوا هم وأهل الدِّراية والحديث قاعدة يلتجأ إليها في موارد الحاجة وهي (الجمع مهما أمكن أولى من الطَّرح).

ومن ذلك ما تعطيه الأدلَّة الإرشاديَّة الَّتي قد يؤمن بها حتَّى العامَّة لو خلُّوا وطباعهم.

وقد تزداد هذه الأولويَّة إلى حد وجوب عدم التَّهاون فيها، لصحَّة هذه الأدلَّة ومشهوريَّة العمل بها وترتُّب كثير من المسائل الفرعيَّة المهمَّة عليها.

ص: 202

الفصل الخامس: الفرق بين حجيَّة ظواهر القرآن

ومدى الحاجة إلى ظواهر السنَّة في نفسها لنفسها وللقرآن

إنَّ حجيَّة ظواهر القرآن ثابتة على أساس أدلَّة ذلك الآتية بعد أن كان القرآن قطعي الصدور ظنِّي الدِّلالة في نوعه، وهو ممَّا يحوجنا على الأكثر إلى القول بالظهور والبناء عليه كما مرَّ وقلَّة النصوص فيه، ولو قيل بأنَّ الظن كيف يُبنى عليه؟

فإنَّا نقول إنَّ الظنون على قسمين:-

الأول/ ما نُهي عن العمل به، وهو غير مقصودنا في العمل أو كان مقصوداً ولكنَّه في مورد التَّقيَّة وهي أيضاً لا يبنى عليها إلاَّ في مواردها الخاصَّة لا في بقيَّة الأحوال الاعتياديَّة.

الثاني/ وهو الظن المعتبر، وهو مقصودنا، أو غير المعتبر في نفسه لكنَّه مع قرائن أخرى منضمَّة إليه تجعله معتبراً، وإذا كان عند الشَّك في المكلَّف به تأتي أصالة الاشتغال، لأنَّ اشتغال الذمَّة اليقيني يستدعى الفراغ اليقيني، فكيف إذن بمفاد هذا الظن المعتبر أو ما يشبهه.

وأمَّا السنَّة المعروفة بكونها ظنيَّة الصدور قطعيَّة الدِّلالة فلا فائدة في الحديث عن حجيَّة ظواهرها نوعاً لو لم يكن المراد من ألفاظها قطعيَّاً بعد ظنيَّة الصدور المعتبرة أو الظنيَّتين المعتبرتين صدوراً ودلالة، لمحذور الظنيَّة المركَّبة من كونها كذلك في الصدور والدِّلالة وبالنَّحو الضعيف، إلاَّ إذا قلنا بأقوائيَّة الظنيَّة في صدورها وضعف قطعيَّة الدِّلالة بما يبرز حالة الظهور في لفظها ولم يكن مصدر فقهي آخر غير هذا فلا مانع من الأخذ به وهو له وجوده وإن قل.

نعم يبقى كونها قطعيَّة الدِّلالة كما في بعض المعتبرات وغير المحمولة على التَّقية، فلا حاجة لنا في الكلام عن حجيَّة الظواهر فيها، لأنَّ المقطوع به هنا كالنَّص.

ص: 203

المقام الثَّاني

ما يختص بالكتاب الكريم (القرآن الشَّريف)

وفيه تمهيدان وفصلان:-

التَّمهيد الأوَّل

ركنيَّة كتاب الله تعالى في علم الأصول

قد مرَّت الإشارة عن هذه الرُّكنيَّة في الجزء الأوَّل من المبادئ، وهي هنا تُعد لازمة البيان أصوليَّاً بما يناسبها حول كتاب الله تعالى عموماً وآيات أحكامه العقائديَّة الأصوليَّةوفرعيَّاتها وآيات أحكامه للأصول الفقهيَّة والقواعد الفقهيَّة وفرعيَّات مسائل تلك الفقهيَّات الكليَّة كناية عن الفقه العام خصوصاً، أو عن ما تحمله آيات أحكامه المتعلِّقة بالفقه الشَّرعي قواعد وأحكام كليَّة وجزئيَّة دون غير ذلك بصفة أخص.

هذه الرُّكنيَّة المهمَّة جدَّاً كأوَّل ما يجب أن يُعتمد عليه في هذا القرآن العظيم من ركني مباحث الألفاظ أو أهم الدَّليلين اللَّفظييَّن للخوض في خصوص بحوثه المتميِّزة عن الرُّكن الثَّاني الآتي وهو السنَّة وبحوثها دون الكلام عنهما مشتركاً غير ما سبق في قبال الدَّليلين اللبِّيين الخاص بيانهما في الجزء الرَّابع الآتي ل- (مساعي الوصول).

فلم يكن القرآن الكريم يوماً حسب العقيدة الحقَّة بيننا فيه كلِّه أو بعضه أو أبعاضه من آياته العظيمة المعطاء من لدن ذي الرَّحمة الواسعة -- مهما تباعدت بعض جوانبها وحصصها الموضوعيَّة لكل علم من علومه الوافرة والمتعدِّدة بتعدُّد حاجة

ص: 204

كل البشر لو أراد التَّكامل بتكامل المهتدين إلى جوانب العيش الرَّغيد وإطاعة الخالق تعالى شكراً لأنعمه عن بعض من جوانبها ووجهاتها الاصطلاحيَّة الخاصَّة بكل منها حيث تدعو الحاجة إليها كلاًّ أو بعضاً --

بمعزل عمَّا لو أريد الكلام عن علاقة خصوص علم الأصول بخصوص آيات الأحكام البارزة كثيراً جدَّاً في هذا العلم أو ما هو الأعم من آيات الأحكام الفرعيَّة للفقه الأصولي الشَّريف أو الأحكام الكليَّة للفقه الضَّروري أو النَّظري أو الأعم من ذلك كآيات القواعد الفقهيَّة أو الأصوليَّة.

لأهميَّة فهم أنَّ هذا القرآن العزيز وبكل ما فيه من شؤون الحياة الشَّريفة للنَّشأتين.

أنَّها لم تخرج يوماً أو بعض يوم بالمباشرة أو التَّسبيب عن أحكام الشَّرع الشَّامل للجميع لو أهتدى أهل البصائر إلى الحق وشكر أنعمه تعالى وكما قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ](1)، وحول عموم واطلاق ما أتحفنا الله تعالى به من كتابه الرُّكن الأركن من حيث العموم الشَّامل لما نريد حيث قال تعالى [مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ](2)، وقال أيضاً [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ](3)، وغيرهما.

ومن أهم ذلك ما خصصناه بالذِّكر في بحث ركنيَّة الكتاب ومن آيات ما يرتبط بالتَّفقُّه عن الأصول قوله تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ

ص: 205


1- سورة الذاريات / آية 56.
2- سورة الأنعام / آية 38.
3- سورة النحل / آية 89.

يَحْذَرُونَ](1)، وبما تطمئن به كل نفس مطمئنَّة بأقوائيَّة حجيَّة هذا القرآن الآتية فيما يخص الحجيَّة بطبقاتها من البحوث بعد هذا الجزء.

وهو الأسمى في ركنيَّته على الأركان الباقية وهي (السنَّة والإجماع والعقل) بتواتره وغيره من المطمئنَّات وكما سيأتي الكلام عن بقيَّة ما يجب ذكره من بحوث الحجج آتياً، وكما قال تعالى في هذا الأمر [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ](2) وبكمال الاستدلال بآياته الخاصَّة من النُّصوص والمحكمات في المقام الخاص والأكثر.

ولذلك لابدَّ أن ينظر في تلك الآيات عند تلاوتها بعد تعلُّمها المتقن الأوَّل ابتداءاً عند الماهرين من القرَّاء الحاوين لقواعد ذلك الأدبيَّة النَّاعمة والخشنة.

بالتَّأمُّل والإمعان عن الخبرة المطلوبة من طلاَّب العلم الأفاضل.

وإن كان هذا النُّظر قد يتفاوت بحسب تفاوت الطبقات العلميَّة وبتفاوت بعض أبعاض هذا الرُّكن العظيم عن بعضها الآخر لبعض الاعتبارات الخاصَّة في قلَّة الإصابة للهدف أو الكثرة أو الأكثر وبسبب تعدُّد الطُّرق الأصوليَّة الموصلة أو ما يفوقها من الحذاقة الذَّاتيَّةالقدسيَّة من محرزاتها الاعتباريَّة المحترمة عند الخوض في كل مسألة أصوليَّة عند تطابقها مع كل القدرات لتسهيل أمر الاستنباط الصَّحيح للفقاهة النَّاجحة.

ليكون هذا الرُّكن كما عرف في إمكان انفراده في حلِّ الأمور الخاصَّة به أو بمعونة تفسير القرآن بالقرآن أو بمعونة اشتراك الرِّوايات معه تأويلاً لمعرفة قوَّة المؤوَّل من معاني آياته إن أمكن من طرق أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ المعتبرة، أو حتَّى الأكثر من الإجماع والعقل، وكذا الأصول العمليَّة المقرَّرة للشَّاك في مقام العمل الآتية في محلِّها

ص: 206


1- سورة التوبة / آية 122.
2- سورة البقرة / آية 2.

لمعرفة بقيَّة المعاني.

وللحكمة الَّتي انتبه إليها الفطاحل من علماءنا نتيجة للحاجة الماسَّة ومن بعض ما أشارت إليه مؤشِّرات كلمات الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من الحاجة إلى ما يتناسب مع البعد كثيراً عن زمن الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وحواريهم وما تسبَّب منه من تبعثر الأصول الأربعمائة وغير ذلك.

جاء دور التَّوسُّع من قبل الأصوليِّين منهم بما يزيد كثيراً على عناوين أصولهم، وتوسَّعنا نحن هنا معهم على ديدنهم للفوز معهم بما فازوا أو يفوزون به إن حالفنا التَّوفيق معهم إلى شيء من ذلك.

وعند ظهور الفوائد من هذه التَّوسعة لابدَّ وأن يكون الفوز محرزاً بالدَّرجة الأولى بهذا الرُّكن لشموليَّته وسعته، سواء كانت آياته من النُّصوص والمحكمات أو المجملات والمتشابهات كما سيتَّضح، وكما سلف ذكره في الجزء الأوَّل.

فهو الَّذي لابدَّ وأن يرجع إليه عند الحيرة في نصوصه ومحكماته الفقهيَّة عن تلك الأصول إن اتَّضحت فوائدها بالعنوان الأوَّلي، وكذلك ما كان بالعنوان الثَّانوي لو لم يبد إلاَّ الحكم الظَّاهري أو الأضعف ممَّا يمكن قبوله لو صدَّت القدرة عن الحكم الواقعي إن لم يتمكَّن من الأخذ حتَّى بذلك الظاهر على ما سيجيء ذكره من جواز الأخذ بأضعف ما يمكن أن يحتج به.

ومن ذلك بعض حالات تفسير القرآن بالقرآن أو حتَّى ما يمكن تسميته من الأحكام بما تحت العنوان الثَّالث رتبة دانية إن أمكن وصحَّ الاستدلال به عند بعض الانسدادات لجوءاً إلى إرشاديَّات بعض الآيات للعقول كي يتصرَّف في الأمر المشكل كما في بعض أبواب الأصول العمليَّة المقرَّرة للشَّاك في مقام العمل.

وممَّا يمكن أن يلحق بالعناوين الأوليَّة والثَّانويَّة ما أفاده القرآن الكريم من آيات أحكامه بمعونة السنَّة تأويلاً أو تفسيراً عن طريق الإتِّباع لما أصَّله النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وأهل بيته

ص: 207

الأطهار والأئمَّة الأبرار عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من مثل حديث الثَّقلين ونحوه قولاً وفعلاً وتقريراً تأويلاً وتفسيراً لإقامة الحجَّة وإتمام المحجَّة القرآنيَّة الكاملة بذلك عن خصوص طريقهم لأنَّه تعالى كما قال [لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ](1)، ولأنَّ بقيَّة المدارك سائرة في مناهجها تحت ظلِّه.

ثمَّ قد أوضح تعالى مرجعيَّته لهذا الرُّكن بالمباشرة الواضحة ومع التَّسبيب الهام في مجملاته من السنَّة وما ورثه أهل البيت الطَّاهر عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ عن علم النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً](2).

وأكَّد هذا تعالى أيضاً بما يُعطي حتماً صدق هذا الأمر مقابل المخالفين لو طبِّق كما في الآية آنفة الذِّكر وكما يطابق التَّفسير والتَّأويل الصَّحيحين بقوله تعالى الآخر [وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً](3).

لكون النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وصفوته عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ هم القرآن النَّاطق وكما أثبتته بحوث القواعد الحقَّة الَّتي ليس هنا محلها.

وأنَّ هذه الآية الشَّريفة الثَّانية الَّتي تلك الآية الَّتي سبقتها تكون داخلة حتماً في النَّتيجة المضمونة النَّجاح كما مرَّ عند كل استنباط أصولي مستقيم وكما عُرف صحيحاً عن أهل بيت العصمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وعن صادقهم عَلَيْهِ السَّلاَمُ قوله (إنَّما علينا أن نلقي

ص: 208


1- سورة فصلت / آية 42.
2- سورة النساء / آية 59.
3- سورة النساء / آية 83.

إليكم الأصول وعليكم أن تفرِّعوا)(1) وعن الإمام الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ (علينا إلقاء الأصول وعليكم التَّفريع)(2).

وعلى فرض ادِّعاء بعض الجهلاء والمخالفين والمنافقين بأنَّ بعض الآيات الَّتي مرَّت ترتبط بعهود الأنبياء السَّابقين فكيف يُراد منها ما يرتبط بأمور ما عرضه لنا نبيُّنا صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وأهل بيته عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ حول شؤون فقه الإسلام وأصوله؟

فإنَّه لابدَّ وأن يرد ذلك بأمرين غير خفيَّين على أهل التَّتبُّع والإنصاف:-

أحدهما: كون شرائع السَّماء واحدة في طرقها وجواهرها مع مضامين ركننا الأركن، وسيِّد وحي الله واحد على جميع الرُّسل وسيِّدهم الخاتم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ.

ثانيهما: أنَّ مفاد كل وارد في القرآن الكريم لا يُخصِّص المورد، ولأنَّ أسباب نزول الآيات الواردة عن القديم للاستشهاد بها ما كانت ولن تكون إلاَّ لتحقيق مسبِّباتها في ظل الإسلام، ومن ذلك كشف الآية الثَّانية للمراد من الأولى.

وعلى هذا لابدَّ من التَّهيؤ لوضع العناوين المناسبة لمقام قرآن الأصول والفقه وما يتفرَّع عنه من بحوث مناسبة معتادة أم غير معتادة قد كشفته حقائق الأصول.

فإنَّ شأنيَّة هذه الرُّكنيَّة تتكوَّن في أمور مهمَّة، وهي ذات عناوين جسيمة، منها (الكلام عن فضل القرآن الكريم) ومختصر الإشادة به قرآنيَّاً آيات باهرات، ومن السنَّة الشَّريفة خيرة الرِّوايات المتواترات والمعتبرات، ليذكر الباقي في أمور الحجيَّة وطبقاتها مستقبلاً.

ففي ضمن ما تفيده أدلَّة الإشادة هو أهميَّة حثِّها البالغ على قراءة آياته وتعلُّمها والتَّدبُّر لمعانيها العالية الَّتي لن تغترب عن ذهن كل عربي أصيل أو متعلِّم طبيعي ناجح في تعلُّمه لفقه آيات أحكامه الأصيلة الَّتي نزلت نصوصها وظواهرها العظيمة

ص: 209


1- وسائل الشِّيعة: ج18 ص41 باب 6 ح 51.
2- وسائل الشِّيعة: ج18 ص41 باب 6 ح 52.

على مستواها المألوف والمعروف والأعلى كثيراً من نسق ضبطها وتأليفها الإلهي الرِّسالي الهادي للآخرين، الَّذي لابدَّ أن تظهر ثماره عند التَّعلُّم لذوي الذَّكاء التَّعليمي من جدِّيَّته وما يحقِّق فوائدها من الشُّروط.

فضلاً عن من تفتَّحت لأجله أذهان الآخرين من الأذكياء المفرطين طبيعيَّاً لا تعليميَّاً لهذا التَّدبُّر ولجميع ما تتنوَّر القلوب به من أنوار دروب الهدايات الأخرى غير المحتسبة، سواء وجوه المضامين السَّبعة إن تعدَّدت على مستوى القراءات أو السَّبعين على ما فصِّل في محلِّه للمقام الخاص به.

قال تعالى [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا](1) وقال أيضاً [أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا](2)، وقال أيضاً [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ](3)، وقال أيضاً [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ](4)، وقال أيضاً [الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ](5)، وقال أيضاً [أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ](6)، وقال أيضاً [وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ](7)، وقال أيضاً [فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ](8)..

ص: 210


1- سورة النساء / آية 82.
2- سورة محمد / آية 24.
3- سورة الأعراف / آية 204.
4- سورة ص / آية 29.
5- سورة البقرة / آية 121.
6- سورة المؤمنون / آية 68.
7- سورة القمر/ آية 17.
8- سورة الدخان/ آية 58.

وفي الحديث عن ابن عبَّاس عن النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أنه قال: (أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه)(1).

وعن أبي عبد الرحمن السَّلمي قال: (حدثنا من كان يقرئنا من الصحابة أنَّهم كانوا يأخذون من رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتَّى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل)(2).

وعن عثمان وابن مسعود وأبي: (أنَّ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتَّى يتعلموا ما فيها من العمل فيعلمهم القرآن والعمل جميعا)(3).

وقال أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ (ألا أُخبركم بالفقيه؟ من لم يقنِّط النَّاس من رحمة الله, ولميؤمنهم من عذاب الله, ولم يؤيسهم من روحِ الله, ولم يرخِّص في معاصي الله, ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره, ألا لا خير في علم ليس فيه تفهُّم, ألا لا خيرَ في قراءة ليس فيها تدبُّر, ألا لا خيرَ في عبادةٍ ليس فيها تفقُّه، ألا لا خير في نسك لا ورع فيه)(4).

وعن الإمام علي بن الحسين قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ (آيات القرآن خزائن، فكلَّما فتحت خزانة، فينبغي لك أن تنظر ما فيها)(5).

وعن الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: (إنَّ هذا القرآن فيه منار الهُدى ومصابيح الدُّجى فليجْل جال بصره ويفتح للضياءِ نظره فإنَّ التفكّر حياة قلب البصير، كما

ص: 211


1- بحار الأنوار: 92 / 106، البا ب: 9، الحديث: 1.
2- تفسير القرطبي: 1 / 6.
3- أصول الكافي- الشيخ الكليني - كتاب فضل القرآن.
4- نفس المصدر ج1 ص36.
5- نفس المصدر ج2 ص609، الحديث: 2.

يمشي المستنير في الظلمات بالنُّور)(1).

وفي الحديث عن أَبي عبد الله جعفر بن محمَّد الصَّادق صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في قوله تعالى [الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ] قَالَ: (يرتلون آياته ويتفهَّمون معانيه ويعملون بأَحكامه ويرجون وعده ويخشون عذابه و يتمثَّلون قِصَصه ويَعتبرونَ أَمثاله ويَأْتونَ أَوامره ويَجتنبون نواهيه ما هو واللهِ بحفظِ آياته وسرد حروفه وتلاوة سوره ودَرس أَعشاره وأَخماسه حفظوا حروفه وأَضاعوا حدوده وإنَّما هو تَدبُّر آياته يقول الله تعالى كتاب أَنزلناه إليك مبارك ليدَّبروا آياته)(2).

وعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ أيضاً يقول: (قد أمكن الكتاب من زمامه فهو قَائِده وإمامه يحل حيث حَلَّ ثقله وينزل حيث كان منزله)(3).

إلى غير هذا من المنبِّهات من الكتاب والسنَّة العامَّة والخاصَّة لأهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الَّتي أعطت وتعطي بقرارها المتلائم لفظاً ومعنى كل طالب علم حوزوي مطبِّق له تماماً في بدايات تحصيله العلمي ضماناً محرزاً لنجاحه التَّام في اجتهاداته الكاملة فيه فقهاً وأصولاً ونحوهما.

كيف وإمامنا أمير المؤمنين علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ صاحب المبادرات القصوى هو والزَّهراء عَلَيْهِ السَّلاَمُ وبقيَّة أبناءهما الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ في دقَّة تطبيقاتهم لهذه الأمور عن الله ورسوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ من نعومة أظفارهم.

ولذلك كان لهم الفوز في قصب السَّبق في تمام أموره فاستحقُّوا درجات أن يعطونا تعاليم هذه الأمور، ولذا كان من تلك التَّوجيهات الشَّريفة ما قاله أمير المؤمنين "سلام الله عليه" (لقد علَّمني رسول الله ألف باب من الحلال والحرام، ومما

ص: 212


1- أصول الكافي - الشيخ الكليني - ج2 ص600.
2- مجموعة ورام: ج2 ص237.
3- نهج البلاغة: في خطبة له عَلَيْهِ السَّلاَمُ في بيان صفة المتقين وصفات الفسَّاق.

كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، كل باب منها يفتح ألف باب)(1) وقيل (ألف ألف باب حتى علمت علم المناياوالبلايا وفصل الخطاب)(2).

ولذا كان بسبب تطبيق إرشاداتهم ونصائحهم من سائر الأمَّة ومن كل المذاهب من بكَّر في نضوجه العلمي وبتفوَّق باهر فيه دون سنِّ البلوغ وهم في كثرة والحمد لله من أتباع أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

ص: 213


1- تأريخ ابن عساكر: ج2 ص483 - 484، تحت رقم : 1012، ط2، والجويني في فرائد السمطين 1 : 101 / 70، والمتقي في كنز العمال 13 : 114 / 36372، والحافظ المغربي في (فتح الملك العلي) : 48.
2- الخصال ج2 ص173 و 174.

التَّمهيد الثَّاني

دستوريَّة القرآن الكريم لكل شؤون الحياة

ومنها التَّعاليم الفقهيَّة الشَّرعيَّة

لا شكَّ ولا ريب لكل مسلم ومؤمن واع بل حتَّى غيرهما من الوعاة الصَّادقين من أهل التتبُّع والإنصاف من الأخوة العامَّة بأنَّ القرآن الكريم المنزل على نبيِّنا صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بتواتره الإعجازي محفوظ من كل شائبة وبأفصح وأبلغ ما نطق به العرب من قريش.

قد جاء حاوياً تحف الحياة الإسلاميَّة العامَّة والخاصَّة مع تمام الإنسانيَّة المثلى معرباً عن جميع ما حوته الكتب السَّماويَّة السَّابقة أبان صدقها وسلامتها الأساسيَّة عن لسان الوحي المبين آنذاك للأنبياء السَّابقين ومحسِّنات إضافيَّة حتَّى مع إجماله ومحفوظيَّته عن الخاتم الصَّادق الأمين صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بما لم تحفظ به البقيَّة السَّابقة بمثل حفظه.

ممَّا سبَّب القول بنسخ التَّمسُّك بوجوب العمل بمنهجيَّة الدِّيانات السَّابقة وإن كانت سماويَّة، بل بحرمته، دون التَّمسُّك بإسلامنا العظيم، لقوله تعالى [إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ](1)، وقوله تعالى [أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ](2) وقوله تعالى [إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ](3) وغيره.

ولا شكَّ أن هذه الدستوريَّة للقرآن ومرجعيَّته للحياة الإسلامية بصورة عامَّة -- بما فيها اهتمامه بشؤون السيَّاسة والحكم ومفاهيمها المتعدِّدة من الولاية والخلافة

ص: 214


1- سورة آل عمران / آية 19.
2- سورة آل عمران / آية 83.
3- سورة يوسف / آية 40.

والتَّمكين من الأرض والشُّورى وتحديد شكليَّة الدَّولة المسلمة وطبيعة عملها ووضع أسسها ومقاصدها -- مشمولة بالهداية الربَّانيَّة.

ولأنَّها المحكمة والصَّالحة الَّتي تتجلى في مثل قول الله عزَّ وجل [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا * وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ](1).

وقوله تعالى [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ * هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ](2).

وقوله تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً](3).

وذلك لمعالجته من نفسه بدون أي قدرة من أحد مهما أوتي من قابليَّة أو فعليَّة على إيجاد أي تعارض أو تناقض في نفسه من نفسه لسلامته الذَّاتيَّة وعصمته السَّماويَّة على ما سيجيء بيانه قريباً جدَّاً، كشرح الآيات بالآيات أو الآيات بالمعتبر من الرِّوايات النَّبويَّة الشَّريفة عن الثِّقل الثَّاني الآتي من العترة المطهَّرة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ تفسيراً وتأويلاً في الحديث المتواتر بين الفريقين المعروف بحديث الثَّقلين، ضدَّ من ابتدع بقول

ص: 215


1- سورة المائدة / آية 48، 49، 50.
2- سورة الجاثية / آية 18، 19، 20.
3- سورة النساء / آية 105.

(حسبنا كتاب الله)(1)، ليقيس ويستحسن من رأيه حتَّى مع الفارق ونحو ذلك.

إذ بهما علاج أمور الأوامر والنَّواهي والعام والخاص والمطلق والمقيَّد والمجمل والمبيَّن والنَّص والظاهر والمنطوق والمفهوم والمحكم والمتشابه والنَّاسخ والمنسوخ وغير ذلك ممَّا مرَّ ذكره.

وعن طريقهما تمَّ حفظ هذا القرآن ليكون دستوراً وافياً حتَّى صدق هذا الحفظ بقوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ](2).

وتوضيح ذلك أيضاً من حديث الثَّقلين المشار إليه في لفظه المعتبر بقول النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ( وإنَّهما - القرآن والعترة - لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض)(3).وخير شاهد على ذلك ما ورد عن أمير المؤمنين "سلام الله عليه" أنَّه (لمَّا بعث عبد الله بن عبَّاس للاحتجاج على الخوارج قال له عَلَيْهِ السَّلاَمُ "لا تخاصمهم بالقرآن فإنَّ القرآن حمَّال أوجه، ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنَّة، فإنَّهم لن يجدوا عنها محيصا")(4).

وبما لا خيار في مخالفة هذه الدُّستوريَّة للعالم كلِّه زماناً ومكاناً ضدَّ كل وضع وابتداع وحداثة واختراع، ولم تغب معالمه العظيمة بعد عصر النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمَّة الحفظة الكرام عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ حتَّى عن حواريهم الأشراف ومنهم النوَّاب الأربعة في الغيبة

ص: 216


1- صحيح البخاري ج: 4 ص: 1612، باب 78 باب مرض النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ووفاته ح 4168 وح 4169، وباب 17 باب قول المريض قوموا عني.ج
2- سورة الحجر / آية 9.
3- القندوزي الحنفي في ينابيع المودَّة ص 15 من طرق شتى، وأخرج ص 16 عن الإمام الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ، ورواه في معناه الترمذي في سننه (3786).
4- نهج البلاغة: 3/ 136، وعزاه السُّيوطي في الإتقان إلى طبقات ابن سعد. راجع الإتقان في علوم القرآن ج1/ص409 إلى ص417.

الصغرى وحتَّى الفقهاء العظماء في الغيبة الكبرى للإمام المفدَّى المنتظر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ.

وأهم ما ينبغي التَّنبيه عليه والإشارة إليه حول هذه الدُّستوريَّة هو ما فيه من قيم إسلاميَّة ذاتية عظيمة، مع مضغوطيَّاته الإيجازيَّة الإعجازيَّة بالنَّحو الَّذي لا يحل رموزها إلاَّ النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وعترته عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

وهي في الحقيقة قيم إنسانية تدل عليها فطرة الله التي فطر الناس عليها قبل أن تتلوث تلك الفطرة بالملوثات العقائديَّة والأخلاقية المستوردة والمبثوثة من خيانة الدَّاخل ومحاربات الخارج، يقول الله عزَّ وجل [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ](1).

إضافة إلى الأمور الفقهيَّة الشَّرعيَّة للأحكام التَّكليفيَّة بعد العقائديَّة وما يلحق بها من بقيَّة تصرُّفات الحياة الأخرى دينيَّة ودنيويَّة.

ولن ننسى ما هو غير خفي على المتتبِّع والمطلِّع على عظمة الكتب السَّماويَّة بصورة عامَّة والقرآن الكريم بصورة خاصَّة أن نذكر ونستشهد بما نقل مترجماً عن إقرار واعتراف مجموعة غير قليلة من علماء الغرب في بيان أهميَّة هذا الكتاب الإلهي العريق ولو كان في كثير منها بعض الإجمال، إضافة إلى ما سبق ذكره من مدح الوليد ابن المغيرة (لع) بما يفي.

ردَّاً على كل من يحاول المقارنة أو المفاضلة بينه (الكتاب الشَّريف) وبين الدَّساتير الوضعيَّة من البشر الَّتي جُلُّ اهتمامه هو ما يخدم المصالح الظاهريَّة الجوفاء الَّتي من المستحيل أن تستوعب جميع مصالح النَّاس وشؤونهم الحياتيَّة الخاصَّة والعامَّة.

ص: 217


1- سورة الروم / آية 30، 31، 32.ج

أو لرد كل من يُشكِّك في قدرة هذا الدُّستور العظيم (القرآن الكريم) على تنظيم جميع شؤون الحياة، والَّذين منهم:-

1 -- ألبرت أينشتاين ((1879--1955م)) (ليس القرآن كتاب جبر ولا هندسة و لاحساب، بل هو مجموعة من قوانين الَّتي تهدي النَّاس إلى صراط مستقيم صراط الَّذي عجر الكبار الفلاسفة عن تعيينه).

أقول: هذا القول صحيح في أواخره، ولكن صاحبه أخطأ في تشخيص جامعيَّة القرآن لما سبقها من بقيَّة العلوم.

2 -- ويل دورانت ((ولد في سنة 1885)) (إنَّ السُّلوك الدِّيني في القرآن يشمل السُّلوك الدُّنيوي أيضاً وجميع الأمور قد جاءت من قبل الله عن طريق الوحي يحتوي قوانين من الأدب والصحَّة والزَّواج والطَّلاق والمعاشرة مع الأبناء والحيوانات والعبيد والتِّجارة والسِّياسة والرِّبا والدَّين والعقود والوصايا والصناعة والثروة والجزاء والحرب والسلم.

إنَّ القرآن يعطي عقائد سهلة بعيدة عن الإبهام في النُّفوس البسيطة ويحرِّرهم من العادات المذمومة كعبادة الأصنام والكهانة.

هو القرآن الَّذي يحكم أصول نظام المجتمع والوحدة الاجتماعية بين المسلمين).

أقول: حتَّى لغير المسلمين بإعجازيَّاته السَّماويَّة ووضعيَّاً مأذوناً فيه بما لا يمتنع شرعاً من العقل المستقل، فضلاً عن غيره، لهدايتهم إلى الحق ولو إنسانيَّاً.

3 - نابليون بونابارت ((1769 -- 1821م)) (إنَّ القرآن وحده يضمن سعادة البشر، إنَّني آمل في المستقبل القريب أن أجعل جميع العلماء والمثقفين من جميع أنحاء العالم أن يتَّحدوا على نظام واحد فقط على أساس أصول القرآن الكريم الَّذي هو حقيقة أصليَّة والَّذي يقود النَّاس إلى السَّعادة.

أقول: كما بشَّرت به الكتب السَّماويَّة السَّابقة توراة وإنجيلاً وبقيَّة الصُّحف

ص: 218

والألواح.

4 - قال غوته الشاعر الألماني ((1832)) (إنَّ الرُّهبان الغافلين عن الله حرمونا وأبعدونا عن فهم حقائق القرآن وعظمة من جاء به على مرَّ الزَّمان، لكن على أثر التَّقدُّم العلمي عن قريب يتوجَّه النَّاس إلى هذا الكتاب ويكون محوراً لأفكار الجميع).

أقول: لجامعيَّته العلميَّة كما في نقضنا على الشَّاهد الأوَّل بعدمها مع بقاء الحاجة إلى الرَّوحانيَّة المثلى بين يدي الله بدل الرَّهبانيَّة المبتدعة وبدل التَّجرُّد اليهودي غير المنضبط.

5 - دكتور ماركس ((1818 -- 1883م)) (القرآن يحتوي على جميع الرِّسالات الإلهيَّة الموجودة في الكتب المقدَّسة الَّتي جاءت بشكل عام إلى جميع الأمم أن في القرآن آيات حول طلب العلم والتَّفكُّر والتَّدرس ولابدَّ عليَّ أن اعترف أنَّ هذا الكتاب قد صحَّح كثيراً من اشتباهات البشر).

أقول: وصحَّة هذا القول منوطة بحالة اشتباهات البشر المذكورة حتَّى مع القول المزعوم بسلامة تلك الكتب السَّماويَّة القديمة ككثير من إنجيل برنابا فضلاً عن تحريف أكثرها وخرَّاب الكنائس والتَّلوث بالتَّثليث والتَّمكين من الغزو الاستعماري لبلاد الاعتدال الإسلامي وإشاعة الفوضى المخرِّبة له ونحو ذلك.

إلى غير ذلك من الكثير من المقولات الَّتي تعبِّر عن اهتمامات المفكرِّين في منهجيَّةهذه الرِّسالة السَّماوية الجليلة لحياة البشريَّة بصورة عامَّة.

لذا كان لزاماً على أصولُّيي وفقهاء مذاهب الأمَّة الإسلاميَّة الكرام جعل هذا الدُّستور هو الرُّكن الأوَّل للأركان الأربعة المتعارفة في الاستدلال على التَّفاصيل الَّتي بينَّا ما مضى منها ونبيَّن ما يأتي بمعونة الرُّكن الثَّاني وغيره وتفريعاتها الأصوليَّة المتعارفة عند الأصوليِّين وعند خبراء الفقهاء المجتهدين بإذن الله تعالى.

ص: 219

ونحن قد ذكرنا هذا المطلب عنواناً ومعنوناً بداية لشيء من التَّوسُع الأصولي لأمور خصوص دليليَّة هذا الرُّكن الأوَّل وآيات أحكامه حتَّى نهاية ما أردناه من ذلك وهو المسمَّى بالدَّليل اللَّفظي.

ومن بعده الرُّكن الثَّاني وهو الدَّليل اللَّفظي الآتي أيضاً وهو السنَّة وما يتبعها من تفريعات في هذا الجزء وإلى الرَّابع الآتي عن الدَّليلين اللبِّيين.

ونحن على ضوء هذه الأساسيَّات حاولنا -- وعلى نهج ما قد يغاير الأسلوب الأكاديمي، لأهميَّته الحوزويَّة في دقَّته لابتدائه من العلَّة إلى المعلول عكس الأكاديمي المعروف بسطحيَّته -- تدوين ما يؤسِّس صحَّة التَّفريع للدُّستور العراقي وغيره ممَّا يرضي الآخرين إقليميَّاً إن اهتدوا والأوسع عند الحاجة.

بما يطابق شرع الله استدلالاً ونتيجة للحاجة الماسَّة إلى ذلك بعد الخلاص من العهد الطَّاغوتي الماضي في العام الثَّالث الماضي بعد الألفين لترجِّي الوصول بذلك منَّا أو من خير ما كتبه الآخرون عن مثل ما أردنا من تقديم واجب الخدمات إلى نصرة المستضعفين فيه وفي غيره دينيَّاً وولائيَّاً وإنسانيَّاً .

لقوَّة ما تنطبق عليه الحجَّة القانونيَّة الموافقة لشرعيَّات كتاب الله ورسوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وإلهيَّات أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وإنسانيَّاتهم الَّتي جعل بعضها ناموساً ومثلاً يضرب به حتَّى في هيئة الأمم المتَّحدة الحاليَّة الَّتي علَّقت على أروقتها ما ورد مأثوراً عن مولى الموحِّدين والإنسانيِّين "سلام الله عليه" في وصيَّته لمالك الأشتر "رضوان الله عليه" (النَّاس صنفان إمَّا أخ لك في الدِّين أو نظير لك في الخلق).

أقول: إن سمح في تطبيقه كما يرام.

وقد طبع بعض ما كتبناه سابقاً كمسودَّة للدُّستور تنضيديَّاً لمضامينه، وبقي الباقي مخطوطاً ينتظر الفرصة السَّانحة لطباعته الكاملة.

ولأجله ولأجل ما شابهه استفادة وأداءاً وتطبيقيَّاً في نجاحه تكون جميع

ص: 220

التَّدوينات المغايرة للقوانين الإسلاميَّة المدَّعاة جوهريَّاً وشكليَّاً وإن تشبَّثت ببعض الإنسانيَّات والحريَّات المزِّيفة بدعارتها كالفرنسيَّة باسم الحريَّة أو الاتِّحاد الخانق إفراطاً أو تفريطاً كالبريطاني ودعاياته المزيَّفة بمكيدة النَّظريَّة السِّياسيَّة المعروفة (فرِّق تسد) وغيرهما من عناوين الخداع الماكر للشُّعوب سياسيَّاً وحزبيَّاً من التَّيارات المتطرِّفة الأخرى مع تيًّارات الوهابيَّة وأشباهها.

فهي مخالفة للعدالة بجميع أنواعها لأنَّ مدارك تدوينها وضعيَّة ملاكها العقل المستقل المرتبط بالأهواء النَّفسيَّة والنَّزعات الشَّيطانيَّة التَّكالبيَّة على غنائم الآمنين.نسأل الله تعالى أن يحقِّق ما نرتجيه بتكاتف الشُّرفاء من المسلمين والمؤمنين والإنسانيِّين من ذوي غايات الاعتدال والإنصاف، للسَّير على منهجيَّة جميع أوامره وترك نواهيه، على ضوء ما حاولناه وحاوله النَّاجحون في حسن أساليبهم من خصوص ما ينتظر التَّطبيق العملي لا القولي أو ألمكتوب في القراطيس فقط بما تتفِّق عليه ثوابت الاثنين إيجابيَّاً، لاجتناب المطامع الشَّخصيَّة ولو بالَّذي يتيسَّر إنجاحه إلى أن يظهر الإمام المنتظر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ.

ص: 221

الفصل الأوَّل

الاحتجاج بالكتاب الكريم من آياته

على مدِّعي الانسداد الكبير للأحكام جهلاً عقلاً وشرعاً

مقدِّمة:-

لمَّا كانت علميَّة القرآن الكريم وبالأخص آيات أحكامه العامَّة والخاصَّة والأخص هي الَّتي يعتمد عليها في الواقع الشَّرعي دستوريَّاً دون شيء آخر من المدارك الأخرى الثَّلاثة إلاَّ بأن تكون خاضعة وتابعة لها.

فقد ظهر في التَّأريخ العلمي الإسلامي من بين جميع المدارس والمذاهب الإسلاميَّة الخمسة والأكثر سنيَّة وشيعيَّة أو في خط أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بما يسمَّى ب- (الانفتاح الكبير) وما يسمَّى ب- (الانسداد الكبير) وبينهما القول بالتَّوسعة أو التَّضييق المتوسِّط بين الحالتين.

بما قد يتفاوت عند التَّحقُّق بما عند كل من هذه المذاهب على ما صحَّ أو يصح الأخذ به من الأصول والقواعد المعروفة على النِّسبة المؤكَّدة الصَّافية ممَّا بين الانفتاح والانسداد علماً وعلميَّاً نصوصاً وظواهر من كافَّة جوانب المدرك وهو الأركن الأوَّل وما يتبعه ويخضع له من الأركان الثَّلاثة الباقية، لمعرفة المقدار الحق المتبَّع عند الجميع إن أمكن التَّوصُّل أو على أساس من الإصلاحيَّات الموصلة لإنجاح التَّقريب أو التَّقارب، لتكون النَّتيجة الاجتهاديَّة الموحِّدة أو القريبة جهد الإمكان، إضافة إلى الثَّوابت المعلومة عند الجميع.

هي أفضل ما يحصل التَّوصُّل إليه عند الجميع نوعاً.

ص: 222

على أمل أن نتمِّم بقيَّة ما يتبع هذا البحث المهم من البحوث المهمَّة أيضاً والنَّافعة جدَّاً في الجزء الرَّابع بعد الفراغ من أمور المدركين اللبيِّين، فنقول:-

ليس لمدِّعي الانسداد الكبير علماً وعلميَّاً ونحوهما من المعتبرات الاستناديَّة الاصطلاحيَّة من جهلة العلمانيِّين ووضَّاعي القوانين الغريبة والبعيدين كل المبعد عن نفائس القرآن الكريم -- خزانة الحجج والإعجازيَّات -- إلاَّ المكابرة الحمقاء والشَّطط الخارق تشريقاً وتغريباً في أجواء حضيض الجهالة ما داموا في عنادهم --- ضدَّ استفراغ الوسع الشَّريف -- أعداء ما جهلوا، وإن ادَّعوا الإسلام أو بعضهم جهلاً أو لفَّقوا بينه وبين غيره من الأفكار التَّحرِّريَّة الضَّالَّة أو ادَّعوا الانتماء إلى دستوريَّة كتابه سطحيَّاً ليفسِّروه بما تشاؤه تصوُّراتهم المختلفة كثيراً عن جواهر وحي السَّماء الموحى بها إلى الرَّسول الصَّادق الأمين صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والمبعوث لهذه الأمَّة المرحومة الَّتي ضيِّعت للأسف أكثرها نفسها بين المنافقين الَّذين كانوا معه إلاَّ بعد تبليغه في غدير خم بفحوى خلافة أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ صاحب الولاية العظمى وحده دون المعارضين والمختومة بقوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا](1).

فليس لهم أي مجال لادِّعاء هذا الانسداد ما دامت سعة عبائر آياته أو سعة آفاقها ومضامينها وإن ضاقت ألفاظها بالإجمال الحكيم.

وكذا طرق الاستفادة المتعدِّدة أدبيَّاً وعلميَّاً غير خفيَّة بالدَّرجة الأولى عن الَّذين خوطبوا به في ديارهم من ديار وحي الله و (صاحب الدَّار أدرى بما فيها) وبالدَّرجة التَّالية البضعة الطَّاهرة عَلَيْهِ السَّلاَمُ وأبناءها الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ والدَّرجة الَّتي تليها من تعلَّم منهم من حواريهم كل ذوي الدَّرجات التَّالية.

بينما الآخرون من المخالفين ممَّن عاصرهم واستقى من جاهليَّات المخالفة

ص: 223


1- سورة المائدة / آية 3.

والأفكار المشَّوشة عن أمثالهم.

وكذا من جاء بعدهم حتَّى اليوم فأقل ما يوصفون به ممَّا ابتلوا به أنَّهم (أعداء ما جهلوا).

وبالأخص إن خلطوا في نقاشهم في تقييماتهم الفكريَّة للأمور بين العقل المقيَّد بموازين خير المعقول وما لا يُعاب عليه في الشَّرع وبين العقل المتحرِّر من كلِّ تقيُّد ديني وإنساني ونحوهما كموازين بعض عقول الفلاسفة غير المتقيِّدين بالدِّين والقيم الإنسانيَّة أو حتَّى السَّفسطائيِّين ممَّن شذُّوا وإن تسطَّحوا بشعار الإسلام ديناً لهم كعادة اعتادوا عليها أو للتَّغطية على شذوذهم.

إلاَّ أنَّهم ببعدهم الذَّاتي والدَّقيق عن خير المعقول المطابق للحكمة والشَّرع مباشرة أو تسبيباً تشوشت سيرتهم سطحاً وذاتاً بالشُّبهات مع الأسف إلى أنَّ كان الزَّيف والانحراف بالنَّتيجة. نصيبهم

وقد كان لنا كلام ينفع كثيراً لتوضيح المقام وفسح ما يمكن فسحه لهم من المجال في بعض مقامات دورة الأصول هذه، بحيث كان جوهرها الفرق بين الدقَّة العرفيَّةالشَّرعيَّة وقربها الكثير من الجانب المقبول.

وبين الدقَّة الفلسفيَّة واختلافها العلمي عن حقيقة الحكمة وبعدها أيضاً عن المقبول مع ذكر بعض أسباب ذلك.

وممَّا يثبت عدم الرِّضا بادِّعاء الانسداد الكبير شرعاً وإن لم يكن دالاًّ من نفسه لوحده على الانفتاح الكامل أو حتَّى الكبير.

هو قوله تعالى الصَّريح الماضي ذكره في كتابه الكريم [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ](1).

وقد تبيَّن ممَّا بثَّه علماء الأدب نحواً وصرفاً وبلاغة على ضوء هذه الآية وأمثالها

ص: 224


1- سورة النحل / آية 89.

من القواعد المشتركة المتَّبعة لصالح لغة العرب والبيان القرآني تفسيراً وتأويلاً عن هذا القول الكريم من حالة الإجمال في العبارة مع سعة المعاني في نفس الوقت وبقرينة ما أفادته الآية الكريمة الماضية الَّتي بلَّغ بها النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في حجَّة الوداع.

حيث دلَّ على كلِّ ما تتطلَّبه الحياة تكويناً وتشريعاً عقيدة وعملاً ومعاملة وبما ينفي قطعاً الانسداد الكامل لمسلِّميَّة ما أفادنا به خاتم الأنبياء والمرسلين صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من الآثار التَّثقيفيَّة للأمَّة وبما ملأ الخافقين ومنها التَّواتر القرآني وغيره.

بل حتَّى الانسداد الكبير المذكور في عنوان البحث عن الحجيَّة والأكثر في بعض الأحيان، إلاَّ إذا ضاقت آفاق العلم من جهابذة السَّلف تقصيراً عن أن يتوسَّعوا في مجالات التَّوسُّع الَّذي كان من واقع وظيفتهم الأصوليَّة.

بل من وظائفهم الَّتي ما بان منها إلاَّ تلك الموسوعات الضَّخمة الَّتي شرحت لنا ولغيرنا تلك المجملات عن الأسس المشار إليها.

فجزا الله تعالى سلفنا الصَّالح عنَّا خير الجزاء.

إذ دون عدم إمكانه من مجالاته المتنوِّعة حتَّى عرف عن قدرات فقهاءنا الفائقة أنَّه (ما خفي على فقيه طريق) قوَّة وممارسة فعليَّة خرط القتاد.

ومن ذلك تفسير القرآن بالقرآن كما أشرنا أكثر من مرَّة وتوجيه غامضه بموضَّحه.

وكذلك توسيع معنى التَّبيان الإنشائي دون خصوص مجرَّد الإخباري من (كلِّ شيء) للآية ولو عن طريق ما لا ربط فيه ظاهراً بين الإجمال والتَّبيين لهذه الآية الثَّانية وغيرهما ممَّا سُمِّي أدبيَّاً بطريق السِّياق الَّذي تعلَّمنا نماذجه القيِّمة من فراسات مولانا أمير المؤمنين وأبناءه عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ اللا محدودة، حتَّى قال أبو الأوصياء عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن خلوته بالنَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ممَّا مرَّ ذكره حين دعاه إليه ليُسارَّه ليلة وفاته (لقد علَّمني رسول الله ألف باب من الحلال والحرام، ومما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، كل باب منها يفتح

ص: 225

ألف باب)(1)وقيل (ألف ألف باب حتى علمت علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب)(2).

ولا غرو عن مقامه القرآني العظيم حينما عرف مشهوراً بين الأحبَّة والأعداء وعلى ما فاهت به ألسنة جميعهم أنَّه (القرآن النَّاطق)(3).

كيف وهو جامعه كما نزل من البداية والنِّهاية والَّذي نزل في حقِّه (ثلث القرآن).

ولا مبالغة أيضاً حينما اشتهر، بل تواتر عنه -- حتَّى أمام أعداءه بشهاداتهم الكثيرة في حقِّه بعد وفاة النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ كما كان يوم الغدير قبلها -- أنَّه كان مرجع الكل في الكل، ممَّن نكث البيعة وممَّن بقى على بيعته ولم يُرتِّب الأثر عليها، أو رتَّبه حتَّى على مضض بالغ، أو البعض ممَّن ينتظرون الخلاص بالهداية من التَّزلزل، أو كما عليه المنافقون.

حتَّى عرف عنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ من لواعج أشجانه وتحرُّقه على ما أصاب الأمَّة من تمرُّدات المنافقين وما بقي من خمول الكثيرين عن الاستفادة من خزانة وحي الله بعد الحث الشَّديد كتاباً وسنَّة ونحوهما على طلب العلم بترجيِّه أن يطلبوه منه ومن أبناءه الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، وبالأخص حينما كانوا من خير السُّعداء تحت ظلِّه إن سلكوا مسلك ما كان يحبه فيهم أن يكونوا عليه.

ص: 226


1- تاريخ ابن عساكر: ج2 ص483 - 484، تحت رقم : 1012، ط2، والجويني في فرائد السمطين 1 : 101 / 70، والمتقي في كنز العمال 13 : 114 / 36372، والحافظ المغربي في (فتح الملك العلي) : 48.
2- الخصال 2 : 173 و 174.
3- فقد ورد أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ قوله (هذا كتاب الله الصَّامت وأنا كتاب الله النَّاطق)، أصول الكافي ج1/ ص61.

قوله مرَّات على منبر وعظه (سلوني قبل أن تفقدوني)(1).

وعُرف قوله أيضاً بعد علمه بقساوة من عاداه معه وضدَّه وضدَّ أبناءه عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وحتَّى ضدَّ أنفسهم المحتاجة للعلم، حتَّى لو سبَّب حبِّهم للبعد عنه حبِّهم للجهل مع تلك الحاجة وهو أعلم النَّاس بعد رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بحقائق التَّأويل إلى أن تمنَّى قائلاً (لوددت أنِّي لم أركم ولم أعرفكم، معرفة والله جرَّت ندماً، وأعقبت سدماً، قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً، وجرَّعتموني نغب التهمام أنفاساً)(2).

بل بالتَّأمُّل الإضافي في الآية الثَّانية المذكورة ومطابقة الكليَّة الَّتي فيها لبعض الكواشف القرآنية الأخرى.

يتبيَّن وبوضوح أنَّ من أوليات وأولويَّات ما يتضمَّنه عمومها وإطلاقها هو حجيَّة الأوامر والنَّواهي الأحكاميَّة، وكذا توابعها من السُّنن الَّتي كشف عنها مثل قوله تعالى الآخر وهو الثَّالث وهو [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا](3)، بعد التَّفريق الأصولي في الآية الثَّانية بين مادَّة الإخبار وفعَّاليَّته كما أشرنا، ومادَّة الإنشاء وفعَّاليَّته كما أشرنا كذلك.

لانكشاف ما يعطيه الإنشاء بعد اتِّضاحه من قرينته الضمنيَّة بسبب الكواشف مع ضمِّ الآية الثَّالثة إلى الثَّانية.إذ هي مثلها في إفاضة العموم والإطلاق مع شيء عن ابتعادها عن خصوص مادَّة الإخبار الَّتي في الثَّانية من الَّتي لا تحمل حكماً من موضوعات العلوم الأخرى.

فتشترك حجيَّة الثَّانية العامَّة والمطلقة مع الثَّالثة الَّتي فيها تخصيص واضح وتقييد

ص: 227


1- كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال -- المتقي الهندي -- ج 14 ح 612.
2- نهج البلاغة -- خطب الإمام علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ ج1 ص70.
3- سورة الحشر / آية 7.ج

ثابت بعد ثبوت وإثبات صحَّة الاستفادة من العام المطلق مع ما يشاركه من الآية الثَّالثة.

مع اتِّساع وجوب الأخذ بما قد يزيد على كلام الله تعالى من الحجيَّة من نفس كلام الله، وهو ما معناه ما آتاكم به النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ من عند الله متواتراً لا من خصوص المصاحف وحدها.

وبالأخص إذا أضفنا إلى المقام قوله تعالى الرَّابع [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ](1) الوارد في باب أمور الطَّاعات عموماً وإطلاقاً .

مع إضافة التَّوسعة لجانب أن تكون الحجيَّة ثابتة الوجوب على المؤمنين بإطاعة ولي الأمر المنصوص عليه من الله في يوم الغدير مع أبناءه الحجج عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

وكذلك لو أضفنا قوله تعالى الخامس وهو [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ](2) الوارد في باب خصوص ترك المعاصي وبالجمع بين الآيتين الأخيرتين يحصل الانسجام بين الأوامر والنَّواهي كما في الآية الثَّالثة إذا كانت هناك إلهيَّاً نكتة تراد لم نفهمها في الشَّرع صراحة بمثل الأخذ بالإشارات.

بناءاً على أهميَّة ما أشرنا إليه وما سيجيء في النِّهاية من كشف الآيات بالآيات إذا كانت مواضيعها وما يرتبط بها أوَّليَّاً محدودة بحدود المجملات.

وبالأخص لو لم تكن موَّفقين بالمثول في زماننا بين يدي النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمَّة المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من بعده للاستفادة من تفصيلاتهم الرَّافعة للإجمال مباشرة، وإن اقتدر أدبيَّاً في غيبتهم مع غيبة ولي الأمر الحالي على فهم بعض التَّفاصيل دون كلِّها

ص: 228


1- سورة النساء / آية 59.
2- سورة التحريم / آية 6.ج

وقتيَّاً إلى أن يأتي دور التَّفاصيل الكاملة على ضوء ما يأتي من البحث التَّفصيلي عن مثبتات صحَّة الاحتجاج بالسنَّة أيَّام الغيبة الكبرى وبما يصح التَّصرُّف الاجتهادي فيه ممَّا اشترك منها متقناً بين الكتاب والسنَّة أو السنَّة وحدها على ما يأتي في أمورها الخاصَّة.

وبناءاً أيضاً على أن آيات القرآن لم يكن إعجازها للحجيَّة محصوراً بما كتب ونقش كما أشرنا مع شرافة ذلك اللَّفظي لجهاتها المعلومة.

بل مع فعاليَّة الإعجاز بالتَّبليغ به من قبل النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأوصياء المعصومين من قبله لموضوعيَّة في نفس التَّبليغ، كما أثبتته آيات كثيرة.

ابتداءاً من آية التَّبليغ بحادثة الغدير الهامَّة جدَّاً وإلزام النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بها وإلزام خلفائه عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الشَّرعيِّين بمواصلة التَّبليغ أيضاً، لإظهار حجيَّة من يجب التَّبليغ به ومن بعده الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ في ذلك، لئلاَّ تخلو الأرض من الحجَّة وهي الآية السَّادسة وهي قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَالنَّاسِ](1).

وانتهاءاً ببقيَّة الآيات الَّتي نشروها بين الأمَّة لإلمامهم العظيم والواسع بما حواه أمير المؤمنين وأبناؤه عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ عن النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ كما مرَّ ذكره من كلِّ ما يبيِّن الإجمال ويوضِّح الغموض تفسيراً وتأويلاً، سواء وافق القواعد الأدبيَّة المعلنة أو كان لنكتة يعلم سرَّها في النَّتيجة كالسِّياقات المشار إليها والمسجَّل فضل الانبهار بها لصالح أمير المؤمنين علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ أمام الشَّيخ الأوَّل والشَّيخ الثَّاني لما أبتليا بالتَّجاوزات على العلم الصَّحيح ونختار من بينها حادثتين:-

أولاهما: حادثة التَّعرُّف في النَّتيجة على مقدار أقل الحمل الشَّرعي الَّتي أبتلي بها الشَّيخ الثَّاني، وإن لم يكن مألوفاً عند غير المتفقِّهين من أمثاله، لكون مدَّته

ص: 229


1- سورة المائدة / آية 67.

المألوفة تسعة أشهر وغيرها ستَّة.

إذ في قوله تعالى السَّابع [وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ](1) الَّذي تراد منه مدَّة الرِّضاع مع الحمل وهي أربعة وعشرون شهراً لا يمكن أن تراد مدَّة أقل الحمل وهي الأشهر الستَّة إلاَّ بالرُّجوع إلى قوله تعالى في آية أخرى [وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا](2).

لأنَّ بالجمع بين القولين الكريمين لابدَّ أن يكون الصَّافي بالنَّتيجة وإن لم يكن مألوفاً أشهراً ستَّة.

وهذه العمليَّة الاستنتاجيَّة مبتنية على ما يسمَّى بدلالة الإشارة ومن صنف السِّياقات وصاحب الفوز فيها حلال المشكلات وهو أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

وحكمة عدم مألوفيَّة المدَّة الأقل الَّتي أوصل الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ الأمَّة إليها أو أنَّه كشفها لها لإنقاذ بعض الحوامل من تهمة الزِّنا.

ولهذا ارتدع الشَّيخ الثَّاني عن أن يقيم الحد في رئاسته على صاحبة القضيَّة المتهمَّة في مدَّة حملها بعد أن أثنى على الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ بما يجعل مرجعيَّة هذا له دون الثَّاني.

وثانيهما: وهو حول قول الله تعالى الثَّامن [وَفَاكِهَةً وَأَبًّا](3) الَّذي حيَّر الشَّيخ الأوَّل في رئاسته في كلمته تعالى الأخيرة أمام أعلم النَّاس بعد النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ حتَّى كاد الأوَّل أن يعترض على وضع هذه الكلمة في هذا المقام [وأبَّا].

وبعد أن عرَّفه أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ بأن ما بعدها يرفع الغموض الَّذي يعتريها وهي إضافة قوله تعالى [مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ](4) ارتفع غمَّه مع مدح الولي الأعظم

ص: 230


1- سورة لقمان / آية 14.ج
2- سورة الأحقاف / آية 15.
3- سورة عبس / آية 31.
4- سورة النازعات / آية 33.

والثَّناء عليه بما يثبت مرجعيَّة الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ على الشَّيخ الأول كذلك.

وهكذا بقيَّة الأئمَّة من أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بما أتحفوا الأمَّة بفائق قدراتهم المذهلة للعقول حول غوامض القرآن الكريم في كافَّة العلوم والمعارف أقوالاً وأفعالاً وتقريراتوبما ثبتَّهم أنَّهم حجج الله على العالمين، ولكن دون أن يقدِّموا لزعامتهم الأصيلة، لكونهم الحكماء النَّافذين كما فرضهم الله على الأمَّة.

ولتكون الحجَّة البالغة قائمة ودائمة على ما ذكرناه على بطلان الانسداد الكامل حتماً، لتبقى الأمَّة محتاجة إلى فتح الأبواب مشرعة بهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

وكذا الانسداد الكبير وما يزيد لوفرة الإمدادات الإلهيَّة المتنوِّعة الَّتي مضت الإشارة إلى شيء منها وما سيأتي من الكثير.

لأنَّ في أطروحتنا هذه أنَّنا في وسط الطَّريق من مختلف العلاجيَّات حتَّى بما يختارونه من لسان السنَّة المغاير للقرآني بعض الشَّيء ظاهراً والمفهم في نفس الوقت عند الأدباء بما ينسجم مع الآيات على ما سيجيء كذلك.

بل حتَّى بعض الانسدادات الأقل لما ذكرناه وأكَّدنا عليه في بحوثنا الماضية أكثر من مرَّة وغيرها وإن حصل من الكوارث الطَّبيعيَّة والمعادية الكثيرة دينيَّة وطائفيَّة وإنسانيَّة وسياسيَّة، وهو ما قد ظنَّه أو يظنُّه الظَّانون ومنهم العلمانيُّون ونحوهم ليبيحوا لأنفسهم الاجتهاد في مقابل النُّصوص والأدلَّة المعتبرة الأخرى.

ومن يفترض الإجمال البالغ وأمثاله بما بين الدَّفتين، وبالأخص في زماننا من عهد الغيبة الكبرى وبُعده عن عهد المعاصرة لزمن النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ كثيراً وما نسب إليهم من عظيم الإفادات.

كيف يمكن الاحتفاظ بها سالمة آنذالك في أذهان خيار الصَّحابة والتَّابعين وتابعي التَّابعين ومن نطلق عليهم ب- (حواري الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ) وهلمَّ جرَّا.

وما بينهم الوضَّاع والملفِّق والمنافق والحِبر اليهودي والزِّنديق من حيث يخفى

ص: 231

ومن حيث لا يخفى، إلى أن تصل المعلومة إلينا مع جميعهم سالمة كذلك؟

فإنَّه يقال في مقابل هذا بأنَّ الإجمال القرآني المذكور مع تواتر ألفاظه المعلومة ليس ناشئاً في أصله من اختلاط النَّقلة الكاذبين أو الملفِّقين بالصَّادقين في تدوين الآيات في الجمع القرآني.

وإنَّما لحكمة خاصَّة بخلق القرآن على هذه الصُّورة إذا لم يكن السَّبب من التَّقديم والتَّأخير في آياته المغايرة لهذه الصُّورة في بعض أو كثير الآيات والَّتي عرف تدوينها على يد أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ وكما نزلت على النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ من البداية إلى النِّهاية مع عدم مخالفتها الجوهريَّة لأصل آيات ما بين الدَّفتين المبارك لو كان هذا التَّقديم والتَّأخير المغاير في الصُّورة فقط أو بعضه يساعد على رفع بعض الإجمالات.

وهو ليس بغريب عن قاعدة ما مرَّ ذكره من تطبيقها أكثر من مرَّة ومرَّة بين المفسِّرين المهمِّين من تفسير القرآن بالقرآن واتَّبعناها مرَّات في بحثنا هذا، وإن لم يكن بعضها من خصوص حالة التَّقديم والتَّأخير، إلاَّ إذا لم يوافق هذا التَّقديم والتَّأخير المغاير وأمثاله مذاقات الكذبة والملفِّقين والطَّائفيِّين الَّذين حاولوا ويحاولون تغيير مسار المعاني القرآنيَّة الأصيلة.

ويقال أيضاً بأنَّ الإجمال المذكور لم يكن وحده في الميدان حتَّى ينبَّه على المزيد منأخذ الحذر من أساليب المخاطر المعادية المتعدِّدة في الطَّريق وإن كان الاحتياط حسناً على كل حال.

فإنَّ في ضمن الكتاب الكريم قواعد خاصَّة متَّبعة قابلة لأن تكون آياته مقياساً لتصحيح ما فاهت به ألسنة من أخذ عن النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وأهل بيته عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بعض المفاهيم القرآنيَّة غير المنضبطة أو المشكوك في نقلها كما في بعض القراءات المتفاوتة والمسبِّبة لتغيُّر بعض تلك المفاهيم غير المتلائمة مع ما كان الأصح منها في أسباب النُّزول المختلفة أو بين الصَّحيح وغيره.

ص: 232

ومن هؤلاء النَّقلة بعض رجال الأمويِّين والمنافقين الَّذين سبَّبوا تغيير الحقائق بالرَّشاوى وأمثالها حتَّى سبق في علم الله ما يحوج إلى جعل مثل قاعدة قوله تعالى [فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً](1) مرجعاً للتَّقييم من عدمه مع ترجيح الرَّبط للتَّقوية بالقول القرآني الرَّابع الماضي.

إضافة إلى ما قد يُستفاد من قوله تعالى [وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً](2)، الَّذي يوضِّح المقصود من أولياء الأمور وهم الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بعد النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في المرجعيَّة الظَّاهريَّة والباطنيَّة سياق الآية الماضية ارتباطاً بتفسير القرآن بالقرآن، وهو ما يعني كون شأن مرجعيَّة أولي الأمر يتَّضح بجلاء ونجاح عند استنباط المختصِّين لها عن مداركها.

إضافة إلى ما بقي من الأحاديث المناسبة لهذا المورد السَّالمة من الكذب والتَّلفيق والمعارضة لظواهر الكتاب أو بواطنه وعن الفريقين وكما وعد الله عباده، ولا خلف لوعده في حفظ ما يكفينا من المصادر ولو على الإجمال الَّذي نقوله الآن ونبحث عن غيره فيما يأتي من لسان الدَّليل الثَّاني اللَّفظي وهو السنَّة.

حيث جاء في القرآن الكريم قوله تعالى العاشر [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ](3)، وهو الَّذي به ديمومة مرجعيَّة عموم الذِّكر القرآني وإطلاقه باطناً وظاهراً بالحجيَّة وبمقايسته للأمور ونحوها ممَّا سُطِّر في الأصول الأصيلة وفي فعَّاليَّة السنَّة الشَّريفة المشابهة.

ص: 233


1- سورة النساء / آية 59.ج
2- سورة النساء / آية 83.
3- سورة الحجر / آية 9.

لما للذِّكر القرآني من المحفوظيَّة وغيرها كما مرَّ عنها في قوله تعالى الماضي والرَّابع المثبت لها ما للذِّكر القرآني نفسه، سواء عن طريق الاحتجاج القرآني أو عن طريق الاحتجاج بالسنَّة الآتي بإذن الله في إجماليَّاته أو تفاصيله المكملِّة.

وهذه المحفوظيَّة للكتاب والسنَّة وعن الكتاب والسنَّة وللإجمال والتَّبيين جاءت مؤكِّدة ومعها بقيَّة بركاتها بقول النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ المتواتر بين الفريقين وهو (إنِّي مخلِّف فيكمالثَّقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً وأنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض)(1).

ولختم ما علينا بيانه من الكلام عن الاحتجاج بالكتاب الكريم من آياته على مدِّعي الانسداد الكبير أو حتَّى الأقل المسبِّب لتطاول الوضَّاعين ونحوهم، وما يعاكسه من حالات الانفتاح درجات الرِّفعة أو دركات الضِّعة من ناحية العقل والشَّرع مع الابتلاءات التَّأريخيَّة في طريقها الطَّويل العريض.

لابدَّ من تكثيف العناية بكل ما تمَّ الوصول إليه من الحجج المخطوطة والملفوظة نصوصاً وظواهر ومضامين معنويَّة ومفهومة عقلاً ونقلاً شرعيَّاً أدلَّة وقواعد في المختصرات الماضية وما مرَّ من الإشارات إلى ما سيأتي التَّفصيل له أو بعضه في مجالاته من الآيات والأخبار وما حملته من الحجج البشريَّة الرَّبانيَّة كالنَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ مع البضعة الطَّاهرة للنَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بالاعتزاز بهم.

واعتبار شأنهم وشؤون الحجج الَّتي سبقتها حججاً يستند إليها بعد الله تعالى، لئلاَّ تسيخ الأرض بأهلها بدونهم.

لأنَّ عظمة شأنها وضرورة وجودها في كل زمان ومكان ومن ذلك زمن الغيبة

ص: 234


1- الترمذي في سننه (3786)، وفي معناه رواه الإمام أحمد في مسنده (3/14، 17، 26، 59)، وأبو يعلى في مسنده ( 117) وغيرهم، وبنحوه ابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 1598).

الكبرى هذه فإنَّ الأرض الآن عامرة بوجود الحجَّة المنتظر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ وإن كان غائباً لما قدَّر الله تعالى له من الوقت.

ومن شاء التَّوسُّع في الاطِّلاع على شيء من بركات وجوده عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ فليراجع كلامنا عن ليلة القدر وسورتها المرتبطتين بصاحب الأمر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ في كتابنا (مختصر أحكام الصَّوم).

لما لعلاقاته بالرُّوح الأمين الَّذي ينزل كل ليلة قدر ويعطيه مقادير الأرزاق والأعمار للنَّاس من أزمنة إمامته عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ وللسَنة كلِّها، كما كان ينزل فيها في أزمنة النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمَّة السَّابقين ومن سبقهم من أزمنة الأنبياء والرُّسل الماضين.

فتمام البركة في بحثنا إذن يعود إلى بركات حجيَّة صاحب الرِّسالة بعد الله تعالى وما أرسل من أجله.

وميزانيَّة ديمومة هذه البركات عن عدمها هو ديمومة الانقياد والطَّاعة، وهو تطبيق كامل الأوامر واجتناب كامل النَّواهي، ومع انتفاء امتثال ما يجب لابدَّ أن تكون الإضاعة لكيان الحجج، فتنتفي البركات.

ولهذا وأمثاله قال تعالى قوله الحادي عشر لبركات حجيَّة جميع الأنبياء والمرسلين وآخرهم وسيِّدهم الخاتم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ [وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً](1).

ونبيُّنا صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مع أوصياءه الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من أهل البيت لم يقصِّروا في واجباتهم تجاهأنفسهم والأمَّة مع الضغوط القصوى الَّتي قاسوها من الأعداء من أجل إيجاد موانع التَّبليغ بالرِّسالة على ما يرام.

وقال تعالى أيضاً في قوله الثَّاني عشر الَّذي فيه تشخيص شأن الحجيَّة الخاتمة فيه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وفي الأئمَّة الاثني عشر عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وهو قوله [وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ](2)،

ص: 235


1- سورة الإسراء / آية 15.
2- سورة الأنفال / آية 33.

أي لما قاساه النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ونقباؤه الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من مآسي ومتاعب لإيصال الرِّسالة وإلى حدِّ أنَّهم ما كانوا من أعداءهم إلاَّ بين مقتول أو مسموم.

ولأجل الرَّأفة بهذه الأمَّة المرحومة كثيراً واختلاف الكثيرين منهم عن الأعداء الحقيقيِّين من مثل حكَّام الجور.

جاءت التَّسهيلات الإلهيَّة لطرح بركات الحجج بما كان أيسر ممَّا يُقوِّي عليه كل إنسان عاصي لينجو من هلكات معاصيه بمثل قول الله تعالى الثَّالث عشر وهو [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى](1).

ويؤكِّده بما يتلاءم مع المقام أكثر قوله عزَّ وجل الرَّابع عشر [وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ](2).

وغير ذلك من الفرص المفتوحة للنَّجاة والفوز مدركيَّاً وعمليَّاً.

فالحجَّة إذن بكل مصاديقها واعتباراتها الَّتي عرفها الفقيه والأصولي من خلال بحوثه واستدلالاته النَّاجحة عند الله تعالى في قوانينه المتَّبعة ثبوتاً وإثباتاً أمر مقدَّس لا مفرَّ من التَّقيُّد به عقيدة وعملاً.

ص: 236


1- سورة طه / آية 82.
2- سورة الأنفال / آية 33.ج

الفصل الثَّاني

حجيَّة الظهور في القرآن وآيات أحكامه

مقدِّمة:-

لم يكن بحثنا عن حجيَّة الظهور هنا تكراراً لما مرَّ ذكره في فهرست الجزء الأوَّل لضرورة الكلام عن بعض الأمور الأوليَّة.

ولا إهمالاً أو تكراراً لما لابدَّ من أن يأتي ذكره من الحديث عن بحث الحجج وأنواعها وطبقاتها في الجزء الرَّابع بعد الانتهاء فيه من الدَّليلين اللُّبيَّين للَّذي نذكره الآن.

ولمجرَّد تشخيص الفرق بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري قبل الارتقاء لمقام الحجيَّة، وإن كان في ذلك فائدة تشخيص الفرق بينه وبين ما أوردناه في الجزء الثَّاني من مباحث الألفاظ حول المفاهيم بتفوَّق الظَّاهري عليها غالباً، فضلاً عن الأظهر.

وإنَّما حجيَّة الظهور هنا حول خصوص آيات الذِّكر الحكيم عموماً وخصوصاً من آيات الفقه العام وأخصَّاً ما يتعلَّق بآيات الأحكام أصولاً وفقهاً.

لغرض تثبيت سعة آفاق القرآن الاستدلاليَّة بعد قلَّة النُّصوص أو عدم القدرة الكافية لغير المعصومين من فقهاء الأمَّة إبان الغيبة الكبرى هذه.

وبالأخص أيَّام بُعد الإسناد كهذه الأيَّام لتكثير مصاديقها بواسطة التَّأويليات من الآيات لا للكلام عن سعة ما مرَّ ذكره ممَّا يثبت في الجملة الوافية عدم انسداد العلم والعلمي الكبيرين من نفس الكتاب الكريم وخاصَّة توابعه الذَّاكرة لأموره ممَّا طرحناه.

لئلاَّ يجرأ العلمانيُّون وأهل البدع بأنواع عبثهم بألفاظ أحكام الوحي الإلهي،

ص: 237

لسدِّ علمها وعلميَّاتها وملحقاتهما على أذهاننا وإنَّما عن طريق وضع إضافة بحجيَّة الظهور من نفس كتاب الله وخاصَّة هذه التَّوابع.

ولذا نجعل هذا البحث مع أهميَّته كمكمِّل لبحث منع هذا الانسداد المزعوم وكلاهما كمقدِّمة لما يأتي من بحث الحجج الَّتي لابدَّ أن تسبِّب ببركة سعة رحمة الله مع حسن النَّوايا صحَّة ما قاله السَّلف الصَّالح من علماءنا ومن حالفهم من المنصفين في الجملة الوافية (ما خفي على فقيه طريق).

ويتم الكلام في المقام بأمور:-

الأوَّل/ في معنى الحجَّة والحجيَّة

إنَّ معنى الحجَّة في اللُّغة: هو كل شيء يصلح أن يحتج به على الغير وذلك بأن يكون به الظفر على الغير عند الخصومة معه والظفر على الغير على نحوين :

1 - إمَّا بإسكاته وقطع عذره وباطله.

2 - وإمَّا بأن يلجئه على عذر صاحب الحجة فتكون الحجة معذرة لدى الغير والحجة هي الدليل والبرهان.وقال الأزهري : إنَّما سميت حجة لأنَّها تُحَج أي تقصد لأن القصد لها واليها وكذلك معنى المحجَّة أي محجَّة الطريق وهي المقصد والمسلك§َّة.

يعطينا من بديهي إنتاجه نتيجة وهي (العالم حادث) الَّذي تعتبر حجيَّة المبرهن بها هو نفس الشَّكل الأولَّ مثلاً، ومن هنا تحصل الحجَّة المنطقيَّة.

وأمَّا ما لا يوصل إلى المجهول التَّصديقي من الأشياء المركَّبة كقولنا ( النَّار حارَّة) -- والَّذي لم يكن في تركيبه نافعاً كأحد الأشكال للاحتياج في فهمه والتَّصديق بمعناه إلى الإحساس به بإحدى الحواس المناسبة كحاسَّة اللمس مثلاً بمجرَّد الإخبار أو بالتَّصديق الوجداني عادة لا بالأعمق والمنطق -- لا ينظر إلى هذا المعنى.

وإنَّما نظره إلى الحجَّة بما يوصل إلى المجهول التَّصديقي بما مثَّلنا له أوَّلاً.

ومن الأمثلة الفقهيَّة (هذا ما أفتى به المفتي وكل ما أفتى به المفتي واجب في حقِّي فهذا واجب في حقِّي)، وأغلب استنباطات الفقهاء مبنيَّة على الظهور في كتاب الله كما سيجيء بيانه في الأمر الثَّامن.

وأمَّا معناها في الأصول: فهو المعلوم التَّصديقي الخاص من حيث أنَّه يوصل إلى مجهول تصديقي خاص شرعي، كالأوامر المراد فهم معناها شرعاً حينما ورد من لسان الشَّرع القرآني الَّذي يراد فهمه في أنَّه يدل على الوجوب أو الاستحباب حسب ما يراد من القرائن الخاصَّة في ذلك.

وأمَّا معنى الحجيَّة فهو اصطلاح خاص يراد منه ما يُستثمر من الحجَّة كمعنى دليليَّة الدَّليل أو بتعبير آخر أنَّ الحجيَّة كاسم المصدر الَّذي يُراد منه نتيجة الحدث والقوَّة الحكميَّة الَّتي بها يجوز أو يجب العمل بالظواهر بينما المصدر هو ما يحمل نفس الحدث.

الثَّاني / الفرق بين معاني النَّص والظَّاهر والمضمر

لا شكَّ أنَّ في التَّعبير القرآني - وبالأخص فيما يدور حول المطالب الأصوليَّة المعتنى بها في فهم عبائر النُّصوص الواردة باتِّخاذها مستمسكاً يُؤمِّن لقابضه حجيَّة

ص: 239

ما تفيده تلك النُّصوص والَّتي اهتُّموا بها في آيات الأحكام بصفة أكثر من غيرها، لأهميَّة التَّدقيق فيها، لكونها ظنيَّة في دلالاتها نوعاً.

بخلاف السنَّة الَّتي تبرز فيها حالات القطعيَّة في دلالات مضامينها بصفة أكثر، ولمحاولة معرفة أكثر ما يمكن فهمه من الفقه المعروف في سعته.

بل حتَّى عبائر السنَّة الشَّريفة في بعض الأحوال وبالأخص المعتبر منها، بل حتَّى غير المعتبر في نفسه إذا ضمَّ إليه قرائن تحوجنا إلى التَّدقيق المنتج فيتحقَّق اعتباره.

إلاَّ أنَّ المقام الآن حول خصوص ما في القرآن لما سيجيء تعليله - نص وظاهر ومضمر، والنَّص هو (نفس ما يُراد من اللَّفظ دون غيره لا ما في الظاهر ولا ما في الباطن بحيث لا يتحمَّل خلافه أو كان الظاهر أو ما في الباطن الأعمق محتملاً إلاَّ أنَّه لا قصد لهذين المحتملين في مقابل النَّص لعدم قدرتهما على مناهضة هذا النَّص).

والظَّاهر (ما أُريد منه المعنى في الظاهر فقط مع احتمال أن يكون هناك مراد آخر في الواقع لكنَّه لم يظهر مثل ظهور الظاهر).

إلاَّ أنَّ المعنى الظاهري قوي بقرائنه لا كالنَّص (والمحتمل ضعيف وهو المضمر).فإذا دلَّ عليه دليل وحصل التَّفوُّق بسببه فاز المتفوِّق وجعل أظهر وترك الآخر وإذا تساوى الاثنان تساقطا في أمور التَّعارض أو يختار احدهما إذا كان كلاهما يحقِّق الواجب أو يبرئ الذمَّة وهو مفصَّل في محالِّ بحوثه.

الثَّالث / كون الظواهر من مباحث الألفاظ

وحجيِّتها من مباحث الحجة

إنَّ البحث عن ظواهر القرآن هو بحث لغوي قد يستعان على فهمها من القواعد الأدبيَّة لكن في مقام استخدام الطرق الأصوليَّة الخاصَّة من مباحث الألفاظ المرتبطة

ص: 240

بالكتاب والسنَّة.

ولذا اعتبر اطلاق اللفظ القرآني أو عموم اللفظ كألفاظ السنَّة أو أي لفظ عربي يراد فهم معناه من هذا الإطلاق أنَّه قد يراد منه النَّص، وقد يُراد منه الظاهر.

إضافة إلى ما قد يعرض اللفظ من الطوارئ الأخرى كالاختصاص والاشتراك أو الحقيقة أو المجاز ونحو ذلك كما سيجيء قريباً، وإن استعين على فهم حقيقة المراد من نلك الطوارئ بتخريجات عقليَّة ذات نتائج بديهيَّة كما مرَّ بيانه من الاستعانة بالشَّكل الأوَّل.

وإنَّ البحث عن حجيَّة الظواهر داخل في بحوث الحجَّة من علم الأصول، كما مرَّ تفصيل شيء أو بعض شيء من ذلك في الأمر الأوَّل، وسيأتي الأكثر عنها في الجزء الرَّابع.

الرَّابع/ عدم الفرق في الظاهر القرآني في آيات أحكامه

بين كونه حقيقة أو مجازاً ومختصَّاً أو مشتركاً ونحو ذلك

فإنَّ الظاهر قد يكون معرضاً للحقيقة والمجاز، كما لو ورد لفظ شرعي يأمر بالصَّلاة فإنَّه تارة يدل على الفريضة اليوميَّة وعلى معناها الحقيقي بقرائنها.

وتارة يدل على معنى الدُّعاء وهو المجاز مع قرينته المجازيَّة بحسب الظاهر.

وقد يكون معرضاً للاختصاص والاشتراك، كما لو دلَّ لفظ شرعي يدل باختصاصه بحسب الظاهر من لفظ( زكِّ) بحسب قرينته على وجوب زكاة المال، كما أنَّه لو دلَّ اللفظ بدون قرينة لكان دالاًّ على مشترك بينها وبين زكاة الفطرة أو عموم التَّزكية .

وقد يكون معرضاً للإطلاق والتَّقييد في ظاهره كما لو جاء لفظ فيه أمر كالأمر

ص: 241

بطلب العلم ففي إطلاقه يراد منه كل علم وفي تقييده يراد منه خصوص العلم الَّذي قيَّده صاحب الشَّرع.

وقد يكون معرضاً للعموم والخصوص، كما لو جاء دليل يأمر بموالاة أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

فمع قرينة أهل بيت النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ كما هو المتعارف لا يراد غيرهم، وبفرض دون القرينة أصلاً يراد عموم موارد الأرحام لسائر النَّاس في محبَّتهم وصلاتهم.

وقد يكون الأمر معرضاً للإجمال والتَّبيين، كالأمر المجمل الآني بالصَّلاة في الظاهر القرآني من حيث الأوقات، والأمر المفصَّل الَّذي يأتي من آية أخرى مفصَّلة أو من السنَّة في ذلك.

وقد يكون معرضاً للانتقال والارتجال، كما لو جاء لفظ يحتمل الأمرين فمع قرينة النَّقل كالصَّلاة ذات الأركان الخاصَّة في عهدنا الإسلامي لا يراد غيرها بعد نقلها عن معنى الدُّعاء، ومع عدم القرينة يمكن تفسيرها بذات الأركان أيضاً لكن بمعنى الحقيقة الشَّرعيَّة لا المتشرِّعيَّة بناءاً عليه.

وقد يكون معرضاً للاشتراك والمجاز في بعض الألفاظ لغويَّاً، ففي ذلك لا يؤخذ إلاَّبالمجاز لأنَّه أولى.

وهذا العروض في الظواهر لم يكن منحصراً فيها دون أن يكون في النُّصوص كذلك، فإنَّ النُّصوص القرآنيَّة كذلك على قلَّتها ولكن بما أنَّ بحثنا عن مورد الابتلاء الأكثر وهو الظواهر كنَّا قد بحثنا البحث لأجله.

الخامس / الحاجة إلى البحث عن الحجيَّة في الظهور القرآني

أختلف في ظهور الظواهر اللَّفظيَّة:-

فمنهم من يعتبره أنَّه هو الغالب في فهم المعاني اللَّفظيَّة ارتباطاً بأهل الذَّوق،

ص: 242

اعتماداً على كل حالة فيها انتفاء الضِّد وهو النَّص في المقام من باب معرفة الأشياء بأضدادها.

وقد تصبح سرعة الفهم في هذا الأمر إلى حد ما يشبه البديهيَّات، ومن ذلك ما ظهر من بعض الآيات الَّتي استشهدنا بها على فهم الظاهر من دون حاجة إلى تعليل على مطلبه بحجَّة أو دليل.

ومن هذه النَّاحية يمكن لأمثال هؤلاء أن يقولوا بعدم الدَّاعي إلى الكلام عن الحجيَّة وهذا هو قول أوَّل.

ومنهم: من لم يعتبر الظهور أصلاً ولا يتذوَّقه، إلاَّ ما قامت عليه الأدلَّة من الكتاب على الكتاب، ومن السنَّة على الكتاب، أو نحو ذلك من أنواع التَّرابط الدَّليلي لتيسُّر ذلك، على قاعدة (نحن مع الدَّليل نميل معه حيث يميل) واعتقاداً بهذا.

ولذا قد يقول القائل لهذا القول بأنَّه لا فائدة من الكلام عن الحجيَّة كذلك، وهم مجموعة من المحدِّثين.

لكن على أساس اعتبارهم هذه الاستفادات من القرآن بأنَّها استفادات من نوع النُّصوص لا الظواهر وهذا قول ثانٍ.

وهو وإن لم يكن مقبولاً كما سيأتي لأهميَّة الظواهر، إلاَّ أنَّه أهون من قول (حسبنا كتاب الله)(1) الماضي ردُّه سابقاً.

ومنهم: الحد الوسط ما بين القولين، وهو القول الثَّالث القائل بالظهور وجداناً، وكأنَّه بديهي وبالدَّليل لكن دون أن يصير نصَّاً كذلك.

لأنَّ الحاجة إلى الدَّليل هنا من جهة كون الظاهر في حالاته أضعف من قوَّة

ص: 243


1- صحيح البخاري ج: 4 ص: 1612، باب 78 باب مرض النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ووفاته ح 4168 وح 4169، وباب 17 باب قول المريض قوموا عنِّي.

النَّص الواقعي لو خلِّي الشَّيء على طبيعته لو كان النَّص موجوداً كثيراً.

فلذلك يحتاج إثباته إلى الدَّليل، ومتى ما كان الدَّليل موجوداً تكون حالة النَّصيَّة مفقودة أو مخفيَّة.

بل إنَّ حالة البداهة أو ما يشابهها ممَّا مرَّ في القول الأوَّل من هذه الأقوال الثَّلاثة هو أوَّل الدَّليل على المقصود.

إذن فصار الظاهر هو المحتاج إلى الدَّليل وفي حالة وجوده تثبت حجيَّته لو لم يبدُ النَّص المخالف.

ومن هنا وهو الاختلاف في مفاد الظهور تتم الحاجة إلى هذا البحث، وإن كان بالمقدار الَّذي دلَّت عليه الأدلَّة من القرآن ومن السنَّة ومن القواعد الأدبيَّة المتَّبعة لغة وصرفاً ونحواً وبياناً خدمة لآيات الأحكام، لكونها موقع الحاجة الضَّروريَّة.

بل للاختلاف على أصل موضوع الظواهر كما سيتَّضح في الأمور الآتية ومنها الثَّاني عشر.

وإن حاول أن يستدل هؤلاء المحدِّثون على مدَّعاهم بأنَّ الكتاب والسنَّة في حديثالثَّقلين هما شيء واحد بقرينة قول النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في آخره ( وإنَّهما - القرآن والعترة - لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض)(1).

وبسبب ذلك وباتِّباع تطبيق السنَّة الواردة عن العترة في جميع كتب المحدِّثين الشِّيعيَّة على آيات الأحكام لا يفهم من هذه الآيات إلاَّ النُّصوص لا الظواهر.

لأجبناهم بأنَّ القرآن لو خلِّي وحده وطبيعته لابدَّ وأن تكون نصوصه قليلة كما

ص: 244


1- القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ص 15 من طرق شتى . وأخرج ص 16 عن الإمام الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ، ورواه في معناه الترمذي في سننه (3786)، وفي معناه رواه أيضاً الإمام أحمد في مسنده (3/14، 17، 26، 59 )، وأبو يعلى في مسنده (1017) وغيرهم، وبنحوه ابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 1598).

أثبته الأدب وكتب التَّفسير وكثير من الرِّوايات الشَّريفة، وإن كان الكتاب وما أفادته العترة المطَّهرة في جوهرهما واحد.

ولا شكَّ أيضاً بأنَّ أحاديث السنَّة والجوامع الأربعة الأولى والمجامع الأخيرة لم تجمع ليعمل بجميعها، لخضوعها للتَّمحيص والتَّقسيم ولو إجمالاً، كما اعترف بذلك الكثير من الفقهاء المجتهدين من المحدِّثين أنفسهم مع غيرهم.

ومن هذا وذاك لو أريدت المقارنة بين الكتاب والعترة ليبقيا مجتمعين إلى يوم القيامة كما يريده النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لا كما قد يفسَّر لأولئك المحدِّثين غير المدقِّقين.

فلابدَّ من أن يكون ذلك إذن تامَّاً على أساس الاجتهاد في أمور الأحكام، لاختلاف الرِّوايات بين المقبول وغيره كما وضح في محلِّه.

والاجتهاد أيضاً خاضع للصَّواب والخطأ، فلابدَّ إذن من أن يكون الحكم الإلهي القرآني في نوعه مفهوماً على أساس الظاهر لا النَّص الَّذي لم يبرز مضادَّاً له.

السَّادس / إثبات حجيَّة ظواهر القرآن لبعضه لا كلِّه

من المعلوم والبديهي أن كلاًّ من الأنبياء والمرسلين لابدَّ وأن يأتي بلسان قومه ومنهم نبيُّنا المرسل الخاتم صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ، الَّذي كان قومه فصحاء قريش.

فلابدَّ أيضاً وأن يفهم أولئك القوم كلامه المنزل من عند الله من أحكام ما يجب عليهم وما يحرم، ولتحدِّيه إيَّاهم بإعجازه حينما تمرَّدوا عليه وحاربوه أو تحضيراً لهم بذلك لو يتمرَّدون عليه ويحاربونه.

ولذلك أسلم وآمن من أولئك النَّاس في زمن نبيِّنا صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ومنهم بعض من قريش بما أنزل إليهم لتبليغ جميع الأمَّة على يده صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وإن قلُّوا وحاربه الأكثرون.

في حين انتشر الإسلام ودستوره بحمد الله بما ملأ الخافقين طولاً وعرضاً وزماناً ومكاناً ببركة تلك المعاجز الخارقة وبالصَّبر والتَّضحيات وطيب أخلاق النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ

ص: 245

وحسن سياسته وببركة نصوص الآيات وإن قلَّت وظواهرها، وظهرت معانيه الباهرة وبما أنار الدروب للبشريَّة جميعاً بمعجزاته ليفهموه لا ليجهلوه.

اللَّهم إلاَّ إنَّ هذا الفهم كان منه ما هو السَّريع جدَّاً في طبعه لسريع الانتباه ومنه ما هو السَّريع بالنِّسبة إلى الأقل في ذلك الانتباه للمنته أو البطيء لبعض المتأمِّلين:--

فالأوَّل: ما كان نصَّاً، وهو لسهولة أمر فهم المعاني به لا يحتاج منَّا إلى الكلام عن الظواهر في بابه، لأنَّ الظواهر غير النصوص.

والثَّاني: ما كان ظاهراً، وهو مورد بحثنا.

والظاهر أيضاً قد يتفاوت فيه فيما بين من كان مرتبطاً بمقدِّمات الحكمة وبين من لم يرتبط بها.

نعم هناك غموض في بعض الآيات ووضوح في البعض الآخر بسبب الذكاء المفرط ولكنَّه قليل لم تُبنَ له قاعدة ليبنى عليها من هذه القلَّة، ولم يورد النبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وحياً من عندهممَّا كلَّم به قومه ليفهمه كل أحد، بل إنَّه من عند الله.

فلا شكَّ إذن بأنَّ كلام الله ولو بإجماله منه ما يمكن فهمه ولو بواسطة نبيِّنا صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أو أوصياءه من أئمَّتنا عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وبالأوامر والنَّواهي الواضحة من آيات الأحكام ومنه ما كان، بفهم بالقواعد الأدبيَّة وتطبيقها.

فحصل فهم بعضه بالنُّصوص وحصل فهم بعضه الآخر بالظواهر.

إضافة إلى بعض المجازات القرآنية الَّتي لا ظاهر لها، لأنَّها لو يبنى على ظواهرها الحقيقيَّة لكان معناها التَّجسيم لله تعالى عن ذلك علوَّاً كبيراً كوجه الله ويده ونحوهما ممَّا لابدَّ من حمله على ما يناسب المعاني المجازيَّة المناسبة له ونحو ذلك ممَّا أبعده علماؤنا عن عالم البناء على الظواهر.

وهذا من أدلَّة ما كان فهمه في الجملة لا في التَّفصيل.

ص: 246

السَّابع/ الفرق بين حجيَّة القراءات وحجيَّة الظواهر القرآنيَّة

إنَّ حجيَّة القراءات كما مرَّ بيانه هو ما اتَّفق عليه من القراءات من الرِّوايات المتواترة في اعتبارها، والَّتي قد يظهر من بعضها كون لفظه نصَّاً لا ظاهراً، ولابدَّ في هذا من كون الحجيَّة فيه مرتبطة بطبيعتها الدِّلاليَّة.

وقد يظهر من بعضها على نفس الأساس المتواتر كذلك في كون لفظه ظاهراً في دلالته لا نصَّاً، فتكون الحجيَّة في القراءة مشابهة لما نحن نبحث فيه في الظواهر القرآنيَّة إذا لم تكن معارضة لحالة النَّص أو مخالفة له.

كما لو كانت تلك القِّراءة الثَّانية لنفس الآية الواحدة محمولة على التَّقيَّة كنصب (أرجلكم) في آية الوضوء عطفاً على البعيد الممنوع في أصله أدبيَّاً وهو (وجوهكم) من قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ](1).

أو كانت غير معارضة، كما لو كانت القراءة في قوله تعالى من آية اجتناب النِّساء في المحيض [حَتَّى يَطْهُرْنَ](2) بتسكين الطاء هي المتَّبعة ولا تعارضها القراءة الثَّانية الَّتي هي بتشديد الطاء والمراد منها إضافة الغُسل وإن كانت أحوط.

ولكنَّ الظاهر قد أمكن دعمه بالسنَّة المقويَّة لذلك الظاهر فجعله يفيد كما يفيده النَّص على القراءة الأولى.

وأمَّا حجيَّة ظواهر القرآن فهي في خصوص ما يظهر لا ما يكون نصَّاً ولأنَّ القِراءات منها ما لم يؤخذ به.

ص: 247


1- سورة المائدة / آية 6.
2- البقرة آية 222.

الثَّامن/ الفرق بين الظواهر والظاهريَّة

إنَّ العمل بالظواهر القرآنيَّة يُبنى عليه عند الحاجة الماسَّة، وهي حالة اليأس من تحصيل النُّصوص.

والنُّصوص وإن كانت هي المأخوذ بها في أسس الدِّلالات المعتبرة لأقوائيَّتها إلاَّ أنَّها محدودة بحدود المنصوصات وهي قليلة في بابها.

فعند ذلك اليأس لابدَّ من الأخذ بالظواهر بتوضيح الكتاب بالكتاب إن أمكن، فمع الاستعانة بالسنَّة في حالات كثيرة وبقيَّة الأدلَّة من الأدبيَّات وغيرها في مواردها، ومن السنَّة المعتبرة ما يبرز مع الكتاب كالنَّص في الظهور.

ومع اليأس من النصوص الَّتي في السنَّة أيضاً لابدَّ من الأخذ بالظواهر الَّتي تبرز فيها وإن كانت هذه في السنَّة أقل ممَّا في الكتاب لتسليم أمر التَّكليف الشَّرعي عن هذاالطريق، لئلاَّ ينسد باب العلم بالنُّصوص القليلة وهو المحوج إلى الإبراء وإن كان من الظواهر.

وأمَّا الظاهريَّة فهم الَّذين ساءت عقائدهم فأخذوا بالظَّواهر القرآنيَّة، فجعلوا لله تعالى وجهاً ويداً وجوارح وجسماً ونحو ذلك، ومنهم بعض الحنابلة المجسِّمة ومن أتى بعدهم من التَّيميَّة والوهابيَّة.

وقد ساءت تصرُّفاتهم الفقهيَّة الاستنباطيَّة كذلك، حتَّى أخذوا يتوسَّعون بالأخذ بالظَّواهر حتَّى في مجال الظنون والاحتمالات الوهميَّة إنَّ صح التَّعبير، لإصرارهم على عدم الأخذ بالسنَّة من جهة اعتماداً على قواعد أسلافهم الأوائل الَّذين قالوا بوقاحتهم (حسبنا كتاب الله)(1) لمحاربتهم للسنَّة ولتدوينها، ولمحاربتهم

ص: 248


1- صحيح البخاري ج: 4 ص: 1612، باب 78 باب مرض النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ووفاته ح 4168 وح 4169، وباب 17 باب قول المريض قوموا عنِّي.

لكون النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أوصى بالثَّقلين الكتاب والعترة.

علماً بأنَّ العِترة هي موطن السنَّة المعتبرة والأضمن من تصحيح روايات بقيَّة الرُّواة، لأنَّهم الَّذين نزل الوحي في بيوتهم وهم الأدرى بما فيها كما مرَّ توضيحه.

وأنَّهم من جهة أخرى وضعوا صحابة لا أصل لهم واختلقوا أحاديث أو لفَّقوا أخرى أو حذفوا أو قطعوا أخريات حتَّى ضاقت على بعض الأبرياء منهم السُّبل بما صنعه أسلافهم.

إضافة إلى الكوارث الطَّبيعيَّة وغيرها فما قدرهم هذا الأمر على الاستفادة من السنَّة المزعومة عندهم استفادتهم الطَّبيعيَّة كما يريدون أمام قدرات جهابذتنا الفقهاء والأصوليين.

بل استعملوا هذه الاستنباطات من خارج ما يريده الظاهر القرآني في واقعه، ولذلك كثر عندهم القياس الممنوع عندنا، ومنه القياس مع الفارق والاستحسان ونحو ذلك.

التَّاسع / نماذج ممَّا يدل على إمكان فهم كلام الله من كلام الله نفسه

ومن ذلك المستفاد من الظواهر، ومن ذلك ما يدل على وجوب أو لزوم العمل بما في القرآن والأخذ بما يفهم من ظواهره إن لم تكن نصوص لتزاحمها.

من ذلك قوله تعالى [أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا](1) ممَّا مرَّ ذكره، والتدبر لا يكون إلا للظواهر نوعاً وغيرها، ولو لم تكن الظواهر داخلة لما قال تعالى [أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا]، لأغلبيَّتها، وإن لم يمتنع كشف النُّصوص وبعض المفاهيم.

ص: 249


1- سورة 24/ آية 47.

لأوضحيَّة النُّصوص عن أن تكون القلوب عادة مقفلة عنها.

ومن ذلك قوله [وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ](1) أي بالأمثال الَّتي قد تضرب ولا يقاس عليها لدعم ذلك الظاهر أو إيضاحه بالمثل، لا كأسرعيَّة فهم النُّصوص.

ومنه قوله تعالى [وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195)](2)، والمبين هنا بمعنى الموضِّح للمجمل.

إمَّا من التَّبيين وهو الإيضاح لكل ما لم يظهر ولو للآخرين.

أو الإبانة وهو القطع، وهو الَّذي كتب معناه وإن كان مقطوعاً به كالنَّص للمعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، ومنه قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ](3).ومنه قوله تعالى مخاطباً نبيَّه الكريم [فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ](4)، لأنَّه كما قال عن نفسه صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (أنا أفصح من نطق بالضَّاد بيد أنِّي من قريش واسترضعت في بني سعد)(5) ليتَّضح ما كان مبهماً عليهم بوضوح العبارة بفصاحة لسانه صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ومنه الظواهر للآخرين.

ومنه قوله تعالى [وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ](6)، والتِّيسير هو توسيع نطاق الإفادة سواء بالنُّصوص أو الظواهر، وهي أكثر الميسور للأمَّة في مثل

ص: 250


1- سورة 27/ آية 39.
2- سورة 26/ آية 195.
3- سورة 138/ آية 3.
4- سورة 44/ آية 58.
5- المزهر للسُّيوطي، ج1، ص209، ومغني اللَّبيب ج1 باب "بيد".
6- سورة 17/ آية 54.

البُعد عن أهل العصمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، ومنه قوله [أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً](1).

إذ أنَّ الاختلاف القليل المحتمل إضافة إلى أنَّه ربَّما لا يضر فهو ممَّا قد يستوضح به الظواهر، وعليه أمكن حمل قول النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (اختلاف أمَّتي رحمة)(2).

بناءاً على الأخذ به إن فُسِّر باستيضاح المعاني إلى ما هو الظاهر أو الأظهر عند تخالف أبناء الأمَّة على النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أو ما يشبه هذا بعده من الأفكار المتضاربة حول أمثال معاني المدارك القرآنية، فأوصلت اجتهادات المجتهدين بحق إلى ما هو الأوفق ظاهراً أو أظهراً إلى ما يراد.

إلى غير ذلك وهو كثير.

العاشر / الشَّواهد الأخرى

الدَّالَّة على حجيَّة ظواهر القرآن وفهم العرب لمعانيه

إنَّ من تلك الشَّواهد أمور عمليَّة أو تأثرية بإعجاب حتَّى من أعداء النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ نذكر منها، ولو إضافة إلى ما ذكرناه في الجزء الأوَّل من عربيَّة القرآن، وفي هذا الجزء ممَّا سبق للتَّقوية أكثر:-

أ. ما مرَّ ذكره في دلائل الإعجاز من الاعتراف بعظمة هذا القرآن من أقوال أعداءه الَّذين منهم الوليد بن المغيرة "لع"، وهو المعروف في فطرته العربية الفصيحة

ص: 251


1- سورة 82/ آية 4.
2- سلسلة الأحاديث الضعيفة ج1 ص 140، الأسرار المرفوعة ص 50 ، الجامع لأحكام القرآن ( تفسير القرطبي ) ج4 ص 151 ، الجامع الصغير للسيوطي ص 24 ، المقاصد الحسنة للسَّخاوي ص 26.

البليغة، ولو لم يحصل عنده فهم لظواهره لم يعترف.

فقد اعترف بقوله عندما سأله أبو جهل عن القرآن (فما أقول فيه فو الله ما منكم رجل أعلم في الأشعار منِّي ولا أعلم برجزه منِّي ولا بقصيده ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الَّذي يقول شيئاً من هذا والله إنَّ لقوله لحلاوة وإنَّه ليحطم ما تحته وإنَّه ليعلو ولا يعلى)(1).

وممَّا قاله فيه على بعض روايات أخرى (والله لقد سمعت منه كلاماً ما هو من كلام الإنس ومن كلام الجن وإنَّ له لحلاوة وإنَّ عليه لطلاوة وإنَّ أعلاه لمثمر وإنَّ أسفله لمغدق وإنَّه ليعلوا ولا يعلى عليه وما يقول هذا بشر)(2).

ب. إسلام الكثيرين من المشركين واليهود والنَّصارى وغيرهم من أهل الفصاحةوالبلاغة قديماً وحديثاً، وبما لا يمكن حصرهم وإحصاؤهم من الملايين، وإنَّ ممَّا تأثَّروا به حتماً في ذلك هو فهمهم لظواهر آياته.

ولو قيل بأنَّ منهم من أسلم متأثِّراً بالإعلام أو الإغراء أو التَّلقين بالإسلام السَّطحي أو كان طامعاً أو مدسوساً كبعض المستشرقين وغير ذلك؟

فإنَّا نقول بأنَّ المتأثِّرين بالظواهر لا ينبغي أن نستهين بالَّذين أسلموا منهم عن إيمان وهداية تامَّة، لأنَّ مثل هذا المستوى لم يختص بمن لا يعرف إلاَّ النُّصوص.

على أنَّ النُّصوص قليلة وعلى أنَّها قد لا توصل في بعض الأحوال إلاَّ لمجرَّد ذلك الإسلام السَّطحي أو المزيَّف ممَّن أسلم، لعدم دخول الإيمان في القلب حالة فهم تلك النُّصوص إلاَّ في حالات خاصَّة، ولدخول الإيمان فيه عن طريق الظواهر وما أكثر حالاتها من ذلك.

ص: 252


1- تفسير الطبري 12/309 وتفسير عبد الرزاق 2/ 1328.
2- نفس المصدرين السابقين، و روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني -- شهاب الدين محمود ابن عبدالله الحسيني الألوسي -- في تفسير آية [فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ].

ج-. ذكر الأصولييِّن بحث الظواهر في مقرَّراتهم وكتبهم ومحرَّراتهم من زمن الارتباط بالفن الأصولي وبدو الحاجة إليه زمن الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وحتَّى هذا الحين وتمَّ ذلك في الأصول الَّتي للخاصَّة والعامَّة وفيما يخص ظواهر الكتاب، وهو محل كلامنا في هذا البحث.

ولولا اعترافهم بذلك في محالِّه لما دوَّنوه ولو إجمالاً، فنتج بذلك القول بحجيَّة الظواهر.

ولذلك أيضاً فرَّقوا في أصولهم في التَّعارض الَّذي قد يحصل بين الظواهر والمحتملات الضعيفة وقدَّموا الظواهر على المحتملات لعدم وجود ما هو أقوى فعلاً منها.

د. إنَّ القرآن نزل حجَّة للرسالة على أعدائها، وإنَّ النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قد تحدَّى البشر على أن يأتوا ولو بسورة من مثله كما مرَّ ما يبرهن على هذا في دلائل الإعجاز وإنَّ عدم القدرة على الإتيان لا يلازمه عدم الفهم.

ومعنى هذا أنَّ العرب كانت تفهم معاني القرآن من ظواهره، لأنَّه قد نزل على طبق لغتهم، كما قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ](1) وهم الفحول في بابها من ألفاظ الآدميين وهو الأمي ما بينهم، فأكبروها نصوصاً وظواهر.

ولو كان القرآن من قبيل الأحاجي والألغاز في هذا التَّحدي لم تصح مطالبتهم بمعارضته فيما فعله معارضوه المعاندون من أهل الطَّيش والغرور الخاسرين ولم يثبت لآخرين منهم لهم إعجازه كما مرَّ من كلام الوليد وغير ذلك ممَّا لم نذكره.

لأنَّهم لم يستطيعوا فهمه إذا كان لفظه من الألغاز ونحوها، وهو المنافي للغرض من إنزال القرآن ودعوة البشر إلى الإيمان له علماً وعملاً إذا كان كذلك.

ه-. الرِّوايات الواردة وبتضافر مهم في أمر الأمَّة بالتَّمسك بالكتاب والعترة

ص: 253


1- سورة إبراهيم / آية 4.ج

الَّذين تركهما النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في الأمَّة لأن يحفظهما المسلمون وأن يعتبروا بهما ويسيروا على نهجهما دوماً، لأنَّ أحدهما يدعم الآخر في كل الميادين ومحنهما، وهما حصيلة أتعابالنَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، ولذا قال عنهما (وإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض)(1)، وما هذه التَّوصيات للأمَّة بجميع فصائلها إلاَّ لأنَّ من عبارات القرآن ما هو مفهوم ظاهري لهم بالمباشرة أو بالتَّسبيب أو كليهما.

و. الرِّوايات المتواترة الَّتي أمرت بعرض الأخبار على الكتاب عند الشَّك في صحَّة بعض تلك الأخبار لمعرفة مدى صحَّتها من عدمها، لكون الكتاب فيه الميزانيَّة التَّامَّة لهذه الأمور، وإنَّ ما خالف الكتاب منها يضرب عرض الجدار أو أنَّه باطل أو أنَّه زخرف أو أنَّه منهي عن قبوله أو أنَّ الأئمَّة لم تقله.

وهذه الرِّوايات صريحة في حجيَّة ظواهر الكتاب ولو لم تكن الظواهر موجودة لما صحَّ كون القرآن مقياساً شرعيَّاً في التَّصحيح.

ز. استدلالات الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ على جملة من الأحكام الشَّرعيَّة وغيرها بالآيات القرآنيَّة، وهم يعلمون أنَّ هذا لابدَّ وأن يفهمه المخاطبون من قبلهم وأنَّه يصل من بعد المخاطبين الأوَّل إلى الأوسع.

وكيف يخاطبون من لم يفهم هذه الأدلَّة في نصوصها إن كانت النُّصوص موفورة وفي ظواهرها إن لم تكن وهي الأكثر، ومن هذه الرِّوايات:-

الرَّواية الَّتي رواها الصَّدوق قدس سره بإسناده عن زرارة قال:

(قلت لأبي جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ ألا تخبرني من أين علمت وقلت : إنَّ المسح ببعض

ص: 254


1- القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ص 15 من طرق شتى . وأخرج ص 16 عن الإمام الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ، ورواه في معناه الترمذي في سننه (3786)، وفي معناه رواه أيضاً الإمام أحمد في مسنده (3/14، 17، 26، 59 )، وأبو يعلى في مسنده (1017) وغيرهم، وبنحوه ابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 1598).

الرَّأس وبعض الرِّجلين؟.

فضحك فقال: يا زرارة قاله رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ونزل به الكتاب من الله عزّ وجلّ، لأنَّ الله عزَّ وجل قال [فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ]، فعرفنا أنَّ الوجه كلَّه ينبغي أن يغسل.

ثمَّ قال [وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ] فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه، فعرفنا أنَّه ينبغي لهما أن يغسلا إلى المرفقين.

ثمَّ فصّل بين الكلام فقال [وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ] فعرفنا حين قال [بِرُؤُوسِكُمْ] أنَّ المسح ببعض الرَّأس لمكان الباء.

ثمَّ وصل الرِّجلين بالرَّأس كما وصل اليدين بالوجه فقال: [وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ] فعرفنا حين وصلهما بالرَّأس أنَّ المسح على بعضهما، ثم فسّر ذلك رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ للناس فضيَّعوه)(1).

ومنها: قول الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ في نهي الدَّوانيقي عن قبول خبر النمَّام أنَّه فاسق، وقدقال الله تعالى [إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا](2) ، لبروز المعنى الظاهري للمخاطب.

لكون النَّميمة من الفسق بلا خلاف، ولعلَّه لا يؤخذ برواية النَّمَّام لخصوصيَّة في النَّميمة الَّتي لها مواردها، وإن كان صادقاً في الخير الَّذي قاله ممَّا لم يكن متضمِّناً معنى النَّميمة عدا أخبار الثِّقات وإن لم يكونوا عدولاً من غير النَّمَّامين.

ومنها: قوله عَلَيْهِ السَّلاَمُ لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء اعتذاراً بأنَّه لم يكن شيئاً أتاه برجله، أما سمعت قول الله عزَّ وجل [إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ

ص: 255


1- وسائل الشِّيعة ج1: 412/ أبواب الوضوء ب23 ح1، الفقيه ج1: 56 / 212.ج والآية من سورة المائدة / آية 6.ج
2- وسائل الشِّيعة ج8: 619، ب164 من أبواب أحكام العشرة، ح10. والآية من سورة الحجرات / آية 6.

أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً](1).

للظاهر الواضح في أنَّ الجالس المستمع للغناء لا يعيق وصوله إلى الذَّنب عدم كونه يأتي الغناء برجله من الأوَّل إذا صادفه الغناء حين جلوسه في بيت الخلاء وبقي على هذا الاستماع مستأنساً بما يسمع.

ومنها: قوله عَلَيْهِ السَّلاَمُ لابنه إسماعيل فإذا شهد عندك المؤمنون فصدِّقهم، مستدلاً بقول الله عز وجل[يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ](2) لوضوح الظاهر منه.

ومنها: قوله عَلَيْهِ السَّلاَمُ في تحليل نكاح العبد للمطلَّقة ثلاثاً أنَّه (زوج) قال الله عزَّ وجلَّ [حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ](3) بسبب الإطلاق الَّذي لا بفرِّق بين الحر والعبد.

لا أن يكون ذلك على نحو التَّجحيش الَّذي لم يكن عن عقد شرعي وعليه فمن بعد ذلك العقد لابدَّ من وجود الطَّلاق أوَّلاً لتحل للأوَّل إن شاءت أن تقبله بزواج جديد بعد نهاية عدَّة الطَّلاق.

ومنها: قوله عَلَيْهِ السَّلاَمُ في أنَّ المطلَّقة ثلاثاً لا تحل بالعقد المنقطع إنَّ الله تعالى قال [فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا](4).

أي أنَّه بعد طلاق الزَّوج المحلِّل إيَّاها فلا مانع من عودة العلاقة بالعقد الجديد،

ص: 256


1- وسائل الشِّيعة ج2: 957، ب18 من أبواب الأغسال المسنونة، ح 1.ج والآية من سورة الإسراء / آية 36.ج
2- وسائل الشِّيعة ج13: 230، ب 6 من أحكام الوديعة، ح1. والآية من سورة التوبة / آية 61.
3- وسائل الشِّيعة ج15: 370، ب12 من أبواب أقسام الطلاق، ح 1.ج والآية من سورة البقرة / آية 230.
4- وسائل الشِّيعة ج15: 369، ب 9 من أبواب أقسام الطلاق، ح4.ج والآية من سورة البقرة / آية 230.

أمَّا العقد المنقطع فلا، لأنَّه لا طلاق فيه فلا رجوع فيه كما تريده الآية.

بل يحتاج بعد انتهاء المدَّة إلى عقد دائم جديد، سواء من نفس هذا الَّذي عقد عليها بالمنقطع أو غيره حتَّى يجوز الرُّجوع إلى الأوَّل بالعقد الجديد أيضاً وبقرينة [فَإِن طَلَّقَهَا] وإن كان المنقطع يعد زواجاً شرعيَّاً في بابه.وكذا لا يصح التَّحليل بما يصل الانفصال فيه بعد ذلك إلى حالة الفسخ لا الطلاق.

ومنها: رواية عبد الأعلى، قوله عَلَيْهِ السَّلاَمُ في حكم من عثر، فوقع ظفره، فجعل على إصبعه مرارة "إن هذا وشبهه يعرف من كتاب الله [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ](1)، ثمَّ قال امسح عليه"، أي على ما يطابق الميسور، لظهور أمره لكل متأمِّل بعد الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالإحالة.

ومنها: استدلاله عَلَيْهِ السَّلاَمُ على حليَّة بعض النِّساء بقوله تعالى [وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ](2) ، لظهور حليَّة كل ما عدا ما حُرِّم صريحاً في الكتاب أو الكتاب والسنَّة كبنت أخت الزَّوجة أو بنت أخيها إذا كان بموافقة الخالة أو العمَّة أو كانت أخت الزَّوجة بعد طلاق نفس الزَّوجة أو وفاتها وغير ذلك.

ومنها: استدلاله عَلَيْهِ السَّلاَمُ على عدم جواز نكاح العبد من قبل نفسه بدون إذن مولاه بقوله تعالى [عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ](3)، للظهور الثَّابت في هذا.

ص: 257


1- وسائل الشِّيعة ج1: 327، ب39 من أبواب الوضوء، ح5.ج والآية من سورة الحج / آية 78.
2- وسائل الشِّيعة ج14: 377، ب 30 من أبواب م يحرم بالمصاهرة، ح11. والآية من سورة النساء / آية 24.ج
3- وسائل الشِّيعة ج15: 341، ب43 من أبواب مقدمات الطلاق، ح2. والآية من سورة النحل / آية 75.ج

ومنها: استدلاله عَلَيْهِ السَّلاَمُ على حليَّة بعض الحيوانات بقوله تعالى [قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ](1)، أي فيما عدا ما صُرِّح به في الحرمة قبل ذلك ممَّا في الكتاب ومن بعده بتلك الحرمة، لكمال ظهور الحليَّة بعد تلك التَّصريحات من الكتاب والسنَّة، لفراغ الباقي من أي تصريح مشابه.

إلاَّ أنَّه ورد الاحتياط في اللحوم فيبقى الباقي مستدلاًّ عليه بقوله عَلَيْهِ السَّلاَمُ ( كل شيء لك حلال حتَّى تعلم أنَّ حرام بعينه)(2).

وهناك أمور كثيرة أخرى من الاستدلالات على مثل هذا الأمر تفرَّقت في كتب الرِّوايات والموسوعات الفقهية اعرضنا عنها للاختصار.

الحادي عشر/ الفرق بين المفاهيم والظواهر

قد عنون الأصوليُّون لكل موضوع بحثاً خاصَّاً، ولكل حجِّة مستقلَّة لابدَّ من خلال هذا أن يتصوَّر الإنسان أنَّ كلاًّ منهما له أبعاده المستقلَّة، وإن حصل ملتقى بينهما جملة أو تفصيلاً حسب التّتبع.

لكن قد يبدو للباحث المتأمِّل عدم الفرق ما بينهما في بعض الوجوه أو كلِّها ولواختلف أسلوب كل منهما كقول من يقول حول هذا في شعره.

عباراتنا شتَّى وحسنك واحد *** وكل إلى هذا الجمال يشير

حينما يلتقي تعريف كل منهما من حيث النَّتيجة بالآخر.

فإذا قالوا مثلاً عن الظاهر بعد تعريفه بأنَّه متى ما لم يكن في اللَّفظ نصيَّة على

ص: 258


1- وسائل الشِّيعة ج16: 324، ب4 من أبواب كراهة لحوم الخيل والبغال، ح6.ج والآية من سورة الأنعام / آية 145.
2- وسائل الشيعة ج17، ص89، أبواب ما يكتسب به، ب4، ح4، ط آل البيت.ج

شيء فلابدَّ من أن يكون الدَّور بعده للظاهر ولو بإعمال الأدلَّة الَّتي تعيَّن على ذلك.

وأنَّهم إذا قالوا عن المفهوم بعد تعريفه بأنَّه متى ما لم يكن للفظ منطوق فإنَّ الدور بعد ذلك لابدَّ وأن يكون للمفهوم، وهو الَّذي يفهم من وراء اللَّفظ.

إلاَّ أنَّ الظواهر قد تبدو لأوَّل وهلة للنَّاظر قريبة من معنى مفهوم الموافقة، لا مفهوم المخالفة، لاختفائه ولو في الجملة عن طبيعة المعنى الظاهري الَّذي قد يكون فيه نسبة بعد عن الالتواء البياني الَّذي في مفهوم المخالفة بين النَّص والظاهر في التَّعريف البسيط إن لم يدقَّق فيه.

كما في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ](1) إن اعتبرنا المفهوم الصَّحيح هو (العادل).

كما لا نحتاج إلى تبيُّن عند مجيئه بخبر لأنَّ العادل هو الظاهر الموافق لبراءة الذمَّة في عدم التَّبيُّن في خبره إذا أخبر بشيء.

وأمَّا مفهوم المخالفة الَّذي معناه (عدم مجيء الفاسق بشيء) والَّذي قد يدخل في هذا العدم (مجهول الحال) أيضاً فهو أخفى من أن يكون ظاهراً أو أنَّ الظاهر الماضي أظهر من حال المجهول إن ظهر من حكمه شيء.

ولذا قد يتورَّع في تصديقه وبالأخص في آخر الزَّمان زمن كثرة الفتن المناسبة لإساءة الظن، لكن حينما يكون الظاهر قد يظهر من خصوص إعمال الدَّليل الدَّقيق لا البسيط.

فقد يلتقي مع مفهوم المخالفة كذلك مع ذلك الدَّليل المقوى المشار إليه سابقاً كظواهر المسلمين في أسواقهم وفي ذوات المسلمين المأثور معناها في بعض الأدعية الَّتي منها (اللَّهم إنَّا لا نعلم منه إلاَّ خيراً وأنت أعلم به منَّا).

ص: 259


1- سورة الحجرات آية 6.

وروايات الحمل على الصحَّة الَّتي منها (احمل أخاك على سبعين محملاً)(1).

إلاَّ إنَّ هذا لا يُنال فيه التَّطابق إلاَّ في الأزمنة المناسبة والَّتي تقل فيها الفتن والشُّبهات الَّتي تحرم فيها إساءة الظن.

ومن ذلك ما لو حملنا عدم خبر الفاسق على العادل فقط لعدم وجود الواسطة بناء على ذلك.

الثَّاني عشر/ كيف يتم الظهور مع مقدِّمات الحكمة

إنَّه قد يُتصوَّر بأنَّ الظهور لا يتم في اللَّفظ إذا يستعان بقرينة أو بمساعدة لفظ شارحأو دليل مفهومي كما مرَّ بيانه في المقارنة بين الظاهر والمفهوم.

ولكن هذا لا يمكن المساعدة عليه وإن كان بعض الاستدلالات الملتوية قد يستفاد بسببها التَّفريق ما بين الظاهر والأظهر، لأنَّ بتطبيق أمر مقدِّمات الحكمة على الموضوع يسهل الأمر لا محالة.

فمقدِّمات الحكمة -- مع ذكرها سابقاً نعيدها الآن للحاجة إلى تكرارها -- هي:-

1 - إمكان الإطلاق والتَّقييد بأن يكون متعلَّق الحكم أو موضوعه قبل فرض تعلُّق الحكم به قابلاً للانقسام، وبذلك يتم ظهور الشَّيء.

2 - عدم نصب قرينة على التَّقيد لا متَّصلة ولا منفصلة، لأنَّه مع القرينة المتَّصلة لا ينعقد ظهور للكلام إلاَّ في المقيَّد، ومع المنفصلة ينعقد له ظهور في الإطلاق، ولكنَّه

ص: 260


1- وهو من الأحاديث المشهورة كما في الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، ج15 ص353، وبهذا النص ليس له وجود في كتب الحديث بعد الفحص عنه في مظانه. نعم في البحار ج 15 قسم العشرة ص 170 من الطبع القديم عن مصباح الشريعة عن أبي بن كعب: (إذا رأيتم أحد إخوانكم في خصلة تستنكرونها منه فتأولوا لها سبعين تأويلا).

يسقط عن الحجيَّة لقيام القرينة عليه مقدَّماً.

3 - أن يكون المتكلِّم في مقام البيان بجدِّية، وهنا يراد كلام الله أو المعصوم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ لا في مقام التَّشريع، لأنَّ الجدِّية في البيان واضحة.

وأمَّا في مقام التِّشريع فليست واضحة، لأنَّه قد يشرَّع الشَّيء ولم يُرَد السرعة في الأداء كالتَّخيير في الصَّوم بينه وبين الفدية في بداية التَّشريع وهو الَّذي نسخ بعد ذلك وبقي الصَّوم وحده.

وكخصوصيَّات التَّشريع الَّتي منها ما يجب أيَّام وجود المعصوم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ كصلاة الجمعة والعيدين وولاية الفقيه والجهاد على الرأي المشهور في بعض هذه الأمور أو كلِّها.

الثَّالث عشر / ما أورده المخالفون

من أدلَّة إسقاط حجيَّة ظواهر الكتاب وما ردُّوا به

قد مرَّ في الأمر الثَّالث أنَّ من الأقوال الثَّلاثة هو مخالفة جماعة من المحدِّثين، وإن كانوا منَّا نحن الإماميَّة غير المجتهدين، فأنكروا حجيَّة ظواهر الكتاب، ومنعوا عن العمل بالظَّاهر، لإجمال الكتاب، اعتماداً منهم على ما رووه من الأحاديث الشَّريفة، وما جمعوه أو جمع لهم في المجامع المعروفة.

بناءاً عندهم على عدم الحاجة إلى علم الرِّجال، أو كونه غير ميمون لمضار الجرح والتَّعديل حتَّى في غير المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، إلاَّ من ذمِّهم المعصومون عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بصراحة.

وقولهم بعدم الحاجة إلى التَّقسيم في الرِّوايات للانفتاح العلمي الكامل عندهم بسبب كثرة تلك الرِّوايات لأنَّها نصوص عندهم.

ص: 261

وعلى هذا الأساس تكون الخطابات الإلهيَّة الفقهيَّة مقترنة مع السنَّة بأجمعها نصوصاً، ولذلك قال صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في آخر حديث الثَّقلين عبارته المشهورة (وإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض)(1)، واستدلوا على ذلك أيضاً بأمور:-

أحدها: اختصاص فهم القرآن فيمن خُوطب به كالَّذين آمنوا وهم الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُلأنَّهم المبلِّغون بعد النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، كما في رواية عن الإمام الحسن المجتبى عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنَّه متى ما سمع آية مطلعها [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] يقول بعد ذلك (لبَّيك اللَّهم لَّبيك)(2).

وما في مرسلة شعيب بن أنس عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنَّه قال لأبي حنيفة (أنت فقيه أهل العراق؟ قال نعم قال فبأي شيء تفتيهم قال بكتاب الله وسنَّة نبيِّه صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ يا أبا حنيفة لقد ادَّعيت علماً - ويلك - ما جعل الله ذلك إلاَّ عند أهل الكتاب الَّذين أنزل عليهم ويلكما هو إلاَّ عند الخاص من ذريَّة نبيِّنا صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وما ورثك الله تعالى من كتابه حرفاً)(3).

وما في رواية زيد الشَّحام قال دخل قتادة على أبي جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ فقال له (أنت فقيه أهل البصرة فقال هكذا يزعمون، فقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ بلغني أنَّك تُفسِّر القرآن، قال نعم.

إلى أن قال يا قتادة إن كنت قد فسَّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت

ص: 262


1- القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ص 15 من طرق شتى . وأخرج ص 16 عن الإمام الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ، ورواه في معناه الترمذي في سننه (3786)، وفي معناه رواه أيضاً الإمام أحمد في مسنده (3/14، 17، 26، 59 )، وأبو يعلى في مسنده (1017) وغيرهم، وبنحوه ابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 1598).
2- الأمالي - الشيخ الصدوق - ص244.
3- بحار الأنوار : 2 / 293، الباب 34 ، الحديث : 13، وراجع: البيان في تفسير القرآن: 184.

وأهلكت، وإن كنت قد فسَّرته من الرِّجال فقد هلكت وأهلكت، يا قتادة - ويحك - إنَّما يعرف القرآن من خُوطب به)(1).

فهذه الرِّوايات وأمثالها يتبيَّن بل يتَّضح للعيان الَّذي لا احتمال آخر فيه عدم جواز البناء على ما يظهر لهذا أو ذاك.

فلا مجال للحجيَّة المدَّعاة في الظهور فيه ما دام حصر الفهم لواقع الوحي معيَّناً في طبقة المعصومينعَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ومن نزل الوحي في بيوتهم.

بل إنَّ الظاهر لم يكن حتَّى عندهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ لأنَّ الَّذي عندهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من المعاني هو المقصود الواقعي لا الظاهري كما يتوهَّم فلا ظهور.

وإذا قيل بأنَّ الرِّوايات ضعيفة في بعضها؟

فإنَّه يقال بأنَّ المضمون متَّفق عليه بين روايات عديدة تشكِّل القوَّة الَّتي لا يجوز التَّطاول فيها على من حظوا بالخطاب.

والجواب عن هذا الدَّليل: بأنَّ المراد من فهم القرآن في كلام الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ حق الفهم هو فهم القرآن عند أهله الخاصِّين لا كأبي حنيفة المعوج في سليقته، ولأنَّه من وعَّاظ السَّلاطين ومن المتَّهمين في إدخال الغرائب في شرع الله بقياساته الباطلة.

ويظهر هذا من توبيخ الإمام عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ له.

لأنَّ الأئمَّة هم الورثة لهذه المعاني لقوله تعالى [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا](2)، علماً بأنَّ الكتاب يراد منه خصوص أحكام الشَّريعة المرادة مثل قوله تعالى [فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ](3) الَّذي يراد منه ذلك.

وهو لا يعني عدم فهم غير الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من الموالين لهم والمنضبطين في سيرتهم

ص: 263


1- فروع الكافي ج8 ص 311 ب8 ، ح485، وراجع : البيان في تفسير القرآن: 184.ج
2- سورة فاطر / آية 32.ج
3- سورة البينة / آية 3.

معهم من تلك الآيات من نصوصها وظواهرها كما أوضحنا ذلك في الأمر العاشر، وهو ما يعني أيضاً بأنَّ ما عدا الكتاب - المراد منه آيات الأحكام - من الآيات الأخرى أو السنَّة وإن قلَّت باق على ظهوره.

إلاَّ أنَّ هذا الظهور وهو المقبول حينما لم يوجد نص على شيء لن يكون من تخرَّص هذا أو ذاك من عند نفسه بلا ركون إلى أدلَّة شرعيَّة تُعين على وجود شرعي لهذا الظهور فالظهور باق في كلِّ شيء من مواقعه وإن كان مجملاً في بعض الأمور.

وثمَّ إنَّ المقصود من الأمور الَّتي يراد منها فهم الشَّيء حقَّ فهمه ليس هو كل ما في القرآن، لأجل وجود غيرها من الواضحات ممَّا عدا النُّصوص كالواضحات الَّتي يفهمها أبو حنيفة وغيره كمعنى قوله تعالى [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ](1) وغيره الكثير ممَّا لا يمكن أن يؤثِّر فيه أثره المخالف هو أو غيره لافتضاحهم بسرعة إن فعلوا شيئاً من هذا القبيل وإن فعلوا الكثير ممَّا يفضحهم.إضافة إلى أنَّ الخطابات بمطلع الآيات وهي [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وإن اختصَّ بها الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ إلاَّ أنَّ هذا الاختصاص إنَّما كان بالمرتبة الأولى لا بالمراتب الَّتي تحصل بعدها من بقيَّة المكلَّفين المثقَّفين ببراءة وإيمان لإمكان أن تفهم المراتب الَّتي بعدهم - ممَّن يحوى القواعد الأدبيَّة - تلك الظواهر بسبب تطبيقها كما مرَّ في الأمر العاشر.

إضافة إلى أنَّ التَّقسيم في أمور المرويَّات ورجالها لم يكن فيمن ينبغي أو يجب حمله منهم على الصحَّة من إماراتها وإنَّما فيمن اتَّفق المحقِّقون على رفضهم ورفض الرِّوايات المعرض عنها حتَّى من قبل المحدِّثين الآخرين المجتهدين وبذلك يظهر الشَّأن للظواهر وأهميَّتها بسبب الاجتهاد كما أوضحناه في الأمر الرَّابع.

ص: 264


1- سورة الإخلاص آية 1.

ثانيها: النَّهي عن التَّفسير بالرَّأي:-

فقد كثر النَّهي عن التَّفسير للقرآن بالرَّأي، بالإضافة إلى ما ورد في القرآن نفسه من حصر ذلك بالله تعالى في قوله [وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ](1) وإنَّ الرَّاسخين يعلمون بذلك كما علَّمهم الله.

بناءاً على أنَّ التَّأويل هو التَّفسير وعلى ما في روايات متواترة بين الفريقين، ومنها ما مرَّ الكلام عليه وغيره ومنه (من فسَّر القرآن برأيه أكبَّه الله على منخريه في نار جهنَّم) وغيره.

والجواب: إنَّ التَّفسير هو (كشف القناع عن شيء كان مستوراً) فلا يكون منه حمل اللَّفظ على ظاهره لأنَّه ليس بمستور حتَّى يكشف.

ولو فرضنا تنزُّلاً أنَّه تفسير فليس هو تفسير بالرأي حتَّى يحرم لما مرَّ من أنَّه قد يستعان عليه ببعض الأدلَّة أو من معرفة الشَّيء بضدِّه كما مرَّ في الأمر الرَّابع لوضوحه وعدم طغيان ما عداه عليه انتصاراً لحجيَّة الظاهر.

ثالثها: غموض معاني القرآن

فلا شكَّ أنَّ معانيه هي جوهر العلم وحقيقة المعرفة وكنوز الفكر العظيمة، وقد ورد في العلم (أعطه كلَّك يعطك بعضه)، بل إنَّ أمر أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الَّذين نزل الوحي في بيوتهم الَّتي أذن الله أن ترفع كما ورد عنهم (صعب مستصعب)، فكيف بدستورهم العظيم وإن كانوا هم لسانه الأقوم.

بل إنَّ كتب السَّلف الصَّالح في بعض أو كثير منها قد لا يفهمها إلاَّ العلماء الأكابر أو الأقلُّون منهم، فكيف بما كان مدركهم الأعظم ومستمسكهم الأقوم القرآن الأكرم، وهو الَّذي يضعِّف فكرة القول بالظواهر أو يمحوها.

ص: 265


1- سورة آل عمران / آية 7.

والجواب: بأنَّ هذا الأمر وإن كان - في غوامضه وفي بعض آياته وبكثرة - كنوز لا تفهم إلاَّ بشروح وإيضاحات من النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ كما لا يخفى عمَّا أوضحته كتب التَّفسير المهمَّة والَّتي منها المصنَّفات عن آيات الإحكام إلاَّ أنَّه ليس معنى ذلك أنَّ القرآنكلَّه على هذا النَّحو.

فإنَّ ما عدا غريب القرآن على فرض كثرته هناك الكثير ممَّا يمكن استيضاح أمره ممَّن له خلفيَّة علميَّة في الأدبيَّات وعلوم العربيَّة من سائر العارفين.

إضافة إلى وجود الأوضح من ذلك أيضاً والَّتي عبَّرنا عنها في أنَّها كالبديهيَّات في سرعة التَّوجُّه إليها عند استحضار مقدِّمات الحكمة أو حسن السَّليقة الفطريَّة والذَّوق السَّليم وممَّا يعرف ظهوره من القرائن الحاليَّة والمقاليَّة، وهو ما يطلق عليه بالظواهر.

وغريب القرآن مستوضح من مصادره الشَّرعيَّة ومنها اللغويَّة عند الحاجة، وعلم الأصول قد تكفَّل هذه الأمور بضوابط مهمَّة وناجحة فلا صعوبة ولا استصعاب إلاَّ عند الجهل والابتعاد عن خط أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

رابعها: العلم بإرادة خلاف الظاهر

لمَّا كانت بعض الألفاظ لم تبرز فيها نصيَّتها المطلوبة فقد يأتي على رأي من يرى الظهور اللَّفظي دون هذا الظهور.

إلاَّ أنَّ هذا لم يثبت كذلك، بسبب وجود قرائن على خلاف الظاهر ولو بالعلم الإجمالي كورود المخصِّصات لعمومات القرآن والمقيِّدات لإطلاقاته، وإنَّ بعض ظواهر القرآن غير مراد قطعاً، وهذه كلُّها غير معلومة بعينها ليتوقَّف فيها بخصوصها.

وبالنَّتيجة إنَّ جميع الظواهر ونحوها مجمل بالعرض، كما كان العلم بإرادة الخلاف مجملاً بالذَّات، فلا يجوز أن يعمل بها حذراً من الوقوع فيما يخالف الواقع، وإن كان ذلك الإجمال العرضي لا أصالة فيه فلا يبقى للظاهر مجال ، هكذا قالوا.

ص: 266

والجواب: إنَّ هذا العلم الإجمالي المانع عن الأخذ بالظواهر إنَّما يكون كذلك إذا أريد العمل بها قبل الفحص عن المراد.

وأمَّا إذا كان بعد الفحص والحصول على المقدار الَّذي علم المكلَّف بوجوده إجمالاً بين الظواهر فلا شكَّ أنَّه ينحل ذلك العلم الإجمالي ويسقط عن منع الظواهر، فتبقى الظواهر على طبيعتها.

ويدخل هذا الأمر في السنَّة كذلك وإن استقلَّها بعضهم في هذا الأمر لأنَ أكثرها تعد نصوصاً لا ظواهر عندهم كما مرَّ بيانه.

مع لزوم التَّفريق بين حالة قرب الإسناد عن بُعده مع لزوم الفرق بين قرب الإسناد عن بُعده.

خامسها: المنع عن إتِّباع المتشابه

فقد منع تعالى العمل بالمتشابه في قوله تعالى [آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ](1).

والمتشابه منه ما هو الظاهر كذلك، بخلاف المحكمات ولا أقل من احتمال شمولهللمنع فيه للظاهر فيسقط الظاهر عن الاعتبار، لأنَّه إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، وبهذا البيان جاء الإشكال.

والجواب: إنَّ لفظ المتشابه واضح في أنَّه للَّفظ وجهان من المعاني أو أكثر كالمشترك اللفظي، وهذا التَّعدُّد متساوي في كل فرد من أفراده في الاعتبار.

فإذا أطلق اللَّفظ المتشابه احتمل أن يراد منه كل من معانيه كلفظ جون الَّذي يُراد منه الأبيض والأسود من العبيد الَّذي لا يختلف عن مراد المطالب به للخدمة.

وكذلك القرء الَّذي يشمل حالة وجود دم الحيض في الحائض وحالة وجود

ص: 267


1- سورة آل عمران / آية 7.

نقائها منه أيَّام استمرار العادة عندها لغرض استثناء حالة من اليأس منها.

ولذلك لو أريد تشخيص أحد المعنيين من هذا المشترك يحتاج إلى التَّوقف عند ذلك إلى أن تأتي القرينة المعيِّنة المراد، فإذا أتت على واحد منها اختصَّ اللَّفظ به دون الباقي وبذلك يرجع الظهور إلى طبيعته والعمل به عند الحاجة الماسَّة.

سادسها: وقوع التَّحريف في القرآن

فقد وقع التَّحريف في القرآن وقد ورد ذلك على كافَّة الألسنة من الفريقين، وهذا ما يظهر مضرَّاً بالظواهر كثيراً سواء التَّحريف بالنِّقاط والحركات وبالحروف والكلمات وبالآيات زيادة ونقيصة وبالتَّقديم والتَّأخير لتغيُّر المعاني فلم ينفع القول بالظواهر فهي ساقطة، وعلى هذا كان نقل الإشكال.

والجواب: إنَّ أنواع التَّحريف المدَّعى متفاوتة، فمنها ما لم يسمَّ بالتَّحريف واقعاً فهو ممَّا لا يضر كالتَّقديم والتَّأخير وكالحركات والحروف الَّتي لا تغيِّر المعنى ولا توصله إلى المخل الخطير.

وكما مر في أمر القراءات المعتبرة الَّتي قد لا تضر على تعدُّدها.

وكما في نسخ الحكم دون التِّلاوة، لعدم فقد المعنى بالمرَّة بعد ذلك النَّسخ حذراً من الإخلال بالإعجاز القرآني والإخلال بالخزانة العظمى في جميع المجالات منه.

وكالمفسَّر أيضاً بتخصيص العموم الأزماني.

وأمَّا فيما يدَّعى من اعتبار أسلافنا العظام أو بعضهم للتَّحريف فإنَّه محمول على ما وجَّهناه أو على ما حاوله بعض أسلاف المخالفين، وإن لم يرسم في الموجود بين الدَّفتين، وفي مثل هذا يبقى الظهور على تمام المجال فيه.

وأمَّا في غير ذلك ومنه القراءات غير المعتبرة أو المضرَّة بالمعاني الصَّحيحة وما صرَّحت به المصادر السنيَّة ممَّا يرفض منها.

فإنَّهم إن أصرُّوا على شيء خطير أو ادُّعوا بهتاناً ضدَّ مذهب أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ،

ص: 268

فإنَّه بما أنَّه لا قيمة لما ادَّعوه ولما بهتوا به المؤمنين وسادتهم وكما هو المعروف كثيراً وبما لا يتناسب مع مقصودهم الواقعي.

حيث افتروا علينا وعلى أئمَّتنا عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بأنَّا نقول كلمات بأنَّها من الوحي وهم نفوها ولم يفرقوا بين وحي التَّنزيل ووحي التَّأويل والقران يقول [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ](1).

إضافة إلى ما نستعين به على تقوية ذلك بالسنَّة الصَّحيحة الَّتي حاربوها وما حواه حديث الثَّقلين - الكتاب والعترة - المتواتر بين الفريقين حيث قال صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في آخره (وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)(2).

إضافة إلى ما ورد عن سلفنا الصَّالح قولهم (يكفينا ما بين الدَّفتين)، وبذلك لم يكن التَّحريف موجوداً.

فإذا انتقى التَّحريف فلا منع من الظهور وبقاء حجيَّته وإن لم يصرُّوا أو بعضهم على شيء خطير، فالأمر سهل يسير، كما في جمع أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ للقرآن على نهج أسباب النزول النُّجوميَّة.

الرَّابع عشر/ الظاهر والأظهر

بعد ثبوت الظواهر في طبيعتها كما مرَّ، وبعد تتبُّع الأمثلة وقرائنها فهناك ما يفيد ثبوت شيء آخر زائد على الظواهر، وهو الأظهر منها.

ص: 269


1- سورة الحجر / آية 9.
2- القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ص 15 من طرق شتى . وأخرج ص 16 عن الإمام الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ، ورواه في معناه الترمذي في سننه (3786)، وفي معناه رواه أيضاً الإمام أحمد في مسنده (3/14، 17، 26، 59 )، وأبو يعلى في مسنده (1017) وغيرهم، وبنحوه ابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 1598).

كالفرق في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ](1) من أنَّ (العادل) في المفهوم الظاهري المسمَّى بمفهوم الموافقة لهذه الآية أظهر من قولنا (إن لم يجئكم فاسق) المسمَّى بمفهوم المخالفة إذا ظهر معناه وهو المجهول الَّذي قد يختفي فيه العادل.

وقد يكون المحتمل هو المضمر وإذا دلَّ عليه الدَّليل يكون ظاهراً والظاهر يكون أظهر إن كانت دلائله أقوى، والأمثلة كثيرة سيَّالة في مقامات عديدة.

الخامس عشر/ في نماذج من الأمثلة الأخرى

المناسبة لبعض الظواهر المعلومةوقد أستفيد من بعض العبارات القرآنيَّة بصراحة كظواهر، لذا اخترنا ذكر بعضها كتطبيق من جانبنا، للتَّوسُّع العملي للتَّذكير والإفادة.

فإنَّ من ذلك ما في آية الوضوء وهي قوله تعالى [وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ](2) فإنَّ المراد منه - بعطف الأرجل على القريب وهو (رؤوسكم) - المسح لا الغَسل بحكم الظاهر لا ما يريده البعض من العطف على البعيد وهو (وجوهكم) لكونه خلاف الظاهر وبعيداً نحويَّاً عند أهل النَّظر.

وكالرَّمل المراد من مطلق الصَّعيد في آية التَّيمُّم الَّتي تقول [فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً](3).

وكالصَّلوات الخمس بأجمعها في آية [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ

ص: 270


1- الحجرات آية 6.
2- المائدة آية 6.
3- المائدة آية 6.

الْوُسْطَى](1) لأنَّ الوسطى مجهولة فيما بينها، فينبغي الاهتمام بالجميع لأدراك الوسطى تماماً.

وكالصَّوم المراد من قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ](2) ظاهراً أنَّه صوم شهر رمضان، ولو بمعونة آيات وروايات أخرى لا غيره، وإن كان قد يكون مطلوباً شرعاً إذا أريد من أدلَّته.

وكزكاة الأموال المرادة في كل آيات [وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ](3) المتعدِّدة ولو بمعونة أدلَّ أخرى.

وأمَّا ما في قوله تعالى [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى](4) فظاهرها زكاة الفطر لا زكاة المال للتَّقدُّم والتَّأخر في ذكر الزَّكاة في الآيتين.

وكالغنائم المطلقة الَّتي لا تختص بالغنائم الحربيَّة حسب التَّفسير اللُّغوي عند الحيرة والشَّك كما قاله الفيروز آبادي في قاموسه، وكذلك المفسِّرون من أمثاله معنا.

لا الَّتي يبني عليها العامَّة من المقيِّدة بالحربيَّة في فقههم كما في آية الخمس وهي قوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ](5).

وكالحج الواجب في العمر مرَّة واحدة وإن أريد مطلق الحج في بعض الوجوه

ص: 271


1- البقرة آية 238.
2- البقرة آية 183.ج
3- البقرة آية 43.ج
4- الأعلى آية 14.
5- الأنفال آية 41.

من قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً](1) لأنَّ المطلق أخفى من الظاهر وإذا كان المطلق ظاهراً فالواجب أظهر بحسب أدلَّة أظهريَّته.

السَّادس عشر/ تعارض الأدلَّة القرآنيَّة في نفسها ومع غيرها

بعد البناء على ما أكَّدنا عليه سابقاً تحت عناوين متعدِّدة من البحوث الماضية من عصمة كلام الله تعالى وكلام رسوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، وكذا الأئمَّة "صلوات الله عليهم أجمعين" تبعاً لمرجعيَّة القرآن ودستوريَّته وما يلحق به.

وبعد التَّأملات العلميَّة والمتابعات الميدانيَّة خلفاً عن سلف ظهر الكثير من حالات ما ظاهره التَّعارض بين النَّص والظاهر، وبين الأظهر والظاهر، وبين الظاهر والمضمر، ممَّا بين القرآن بعضه مع بعض، وبين القرآن والسنَّة، وبين السنَّة والسنَّة تفسيراً لآيات الأحكام، والتَّعارض بين الظاهر والإمارة وبين الأصل العملي تعبيراً في كل منهما عن المضمون القرآني في مقابل ما مرَّ ذكره في آخر الجزء الأوَّل ولو في الجملة من بحثتعارض الأحوال.

وهذه الأمور تبغي الحل، وبالأخص لو كانت من مباحث الحجَّة، وإن اشتركت بين اللَّفظيَّات واللبيَّات الآتية، لا خصوص مباحث الألفاظ كي يقتصر فيها في بعض أحوالها أو كثيرها على الأمور الأدبيَّة ولا يمكن تركها ما دام العلم منفتحاً ومصادر التَّشريع ميسورة وإن لم يكن اليسر تامَّاً في كل مجالاته وانفتاح العلم على مصراعيه بسبب الانسداد الصَّغير المعروف أو المتوسِّط، لئلاَّ تعطَّل الأحكام أو تغطى المصادر المخالفة لمذهب الحق عليه.

لعدم وجود أي تناقض شرعي كامل في مصادرنا في واقعه حسب عقائدنا الحقَّة

ص: 272


1- آل عمران آية 97.

إلاَّ بحالات تعارض ظاهري كانت لها علاماتها المعروفة في الزَّعم أو الاشتباه وثمَّ الجواب عنهما.

وهذه الأنواع من حالات التَّعارض قد تبدو من حالات التَّفاوت بين كتب التَّفسير الشِّيعيَّة والسنيَّة وبين كتب الأخبار المتعلِّقة بآيات الأحكام في مجامع الفريقين وحالات التَّفاوت الأصولي بين مقرَّرات الفريقين كذلك.

بل بين ما قد يحصل من التَّفاوت العلمي بين المحدِّثين والأصوليين أو بين عموم المجتهدين من فقهاء الشِّيعة الإماميَّة في بعض الفرعيَّات النَّاتجة ممَّا يحصل من ظواهر التَّعارض في الأدلَّة بما بينهم من الجزئيَّات الاجتهاديَّة.

فلابدَّ إن أردنا إجراء العلاج التَّدقيقي من اتِّخاذ أمور مهمَّة يفرز بها عند الوصول إلى الحق ما يستفاد منه بالنَّتيجة عمَّا لا يمكن أن يستفاد منه أو يجب الإعراض عنه.

وقد مرَّ الكلام فيما مضى من الأمور عمَّا بين النَّص والظاهر مع شيء من الأمثلة.

وكذا ما بين الأظهر والظاهر، والظاهر والمضمر، وشيء من الكلام أيضاً عمَّا بين القرآن والقرآن والقرآن والسنَّة وما بين السنَّة والسنَّة للصالح القرآني وآيات أحكامه لمرجعيَّته ودستوريَّته.

بقي الكلام عن التَّعارض بين الظاهر أو الإمارة والأصل العملي، فللإفادة الأكثر فيما مضى وما يأتي لنوجز الفكرة بعمومها قبل التَّفكير في علاج الأخير ثمَّ بيانه بعد ذلك.

فتارة قد يوجد التَّعارض في نطاق الدَّليل اللَّفظي بين كلامين صادرين من الله تعالى أو الله ورسوله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أو الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

وأخرى بين دليل لفظي عن المعصوم ودليل من نوع آخر كالبرهاني

ص: 273

والاستقرائي، وفي كل من التَّارتين حالات:-

أمَّا الأولى وهي معارضة لفظ للفظ فحالاتها:-

الأولى/ استحالة أن يوجد كلامان تامَّان للمعصوم يكشف كل منهما بصورة قطعيَّة عن نوع من الحكم الشَّرعي مثلاً يختلف عن الَّذي يكشف عنه الكلام الآخر من نفس الموضوع.

ونقصد بالمعصوم هنا كل ما لا يعتريه الخطأ لعصمته، ككلام الله تعالى وكلام رسوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وكلام أهل العصمة بالإمامة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

لأنَّه يوقع الأمر في التَّناقض المستحيل في صدوره من المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ مثلاً، كوجوب الصَّلاة وحرمتها أو الصَّوم وحرمته أو الحج وحرمته ونحو ذلك في موضوع واحد مع كمال الشُّروط.

الثَّانية/ قد يكون أحد الكلامين الصَّادرين عن المعصوم صريحاً وقطعيَّاً ويدل الآخر بمجرَّد ظهوره على ما ينافي المنصوص الصَّريح لذلك الكلام وقد مرَّ توضيحه.

ونضيف إيضاحاً أكثر مثالاً، وهو ما لو رأينا حديثاً نبويَّاً يقول بصراحة مثلاً (يجوز للصَّائم أن يرتمس في الماء حال صومه) ويقول في لفظ آخر ما ظاهره الحرمة وهو (لا ترتمس في الماء وأنت صائم) باعتبار أنَّ الحرمة أقرب المعاني إلى صيغة النَّهي -- وإناحتمل حملها على الكراهة -- فينشأ التَّعارض بين صراحة النَّص وبين الظاهر.

فيقدِّم النَّص على الظاهر بناءاً على هذه النَّتيجة وإن عدَّ مكروهاً عند القائل بذلك، إلاَّ إذا كان النَّص من السنَّة المعرض عنها واللفظ الظاهر معمولاً به فيقدِّم الثَّاني على الأوَّل وهو أن يترك الارتماس ولو احتياطاً.

الثَّالثة/ قد يكون موضوع الحكم في أحد اللفظين أخص وأضيق دائرة من الآخر كما بين العموم والخصوص المطلق.

ومثاله: ما لو جاء دليل يدل على تعميم حرمة الرِّبا وهو ما لفظه (الرِّبا حرام)

ص: 274

وفي اللَّفظ الآخر ما يدل على تضييق هذا الحكم بمثل لفظ ( الرِّبا بين الوالد وولده ليس بحرام).

وفي هذه الحالة نقدِّم الثَّاني على الأوَّل إن كان كلا اللَّفظين نصَّين أو ظاهرين أو الثَّاني أظهر.

وأمَّا في حالة كون الأوَّل نصَّاً والثَّاني ظاهراً أظهر أو الثَّاني ظاهراً فعلينا تطبيق الأوَّل ولو للاحتياط.

الرَّابعة/ وقد يكون أحد اللَّفظين دالاُّ على ثبوت حكم لموضوع والآخر ينفي ذلك الحكم في حالة معيَّنة تنفي ذلك الموضوع كما لو قال اللَّفظ الأوَّل (الحج واجب على المستطيع) وقال الآخر في مقابله (المدين ليس مستطيعاً) فيؤخذ بالثَّاني ويسمَّى حاكماً ولا يؤخذ بالأوَّل ويسمَّى محكوماً.

وذلك فيما لو كان كلا اللَّفظين نصَّين أو ظاهرين أو كانا ظاهرين والثَّاني أظهراً والأوَّل ظاهراً والثَّاني نصَّاً.

الخامسة/ ما إذا لم يكن في أحد اللفظين كلام صريح قطعي ولا ما يصلح أن يكون قرينة تفسيريَّة للآخر ومخصِّصة له أو مقيِّدة لإطلاقه أو حاكمة عليه فلا يجوز العمل بأي واحد منهما لأنَّهما بمستوى واحد.

كما لو دلَّ دليل وجوب الصَّلاة في الدار المغصوبة، ودليل حرمتها في نفس الدَّار -- إلاَّ في حالة واحدة وهي ضيق الوقت والصَّلاة حال الخروج من الدَّار -- فينتفي الوجوب أو الحرمة بالمعنى المطلق، لإمكان أن تكون حالة الالتقاء بما يؤدِّي حالة أداء الواجب ونفي الحرمة.

وفي هذا الاستثناء ما يرتبط بالعام والخاص من وجه بين الدَّليلين.

وأمَّا التَّارة الثَّانية:-

وهي معارضة اللَّفظ للدَّليل الثَّاني من الاستقرائي والبرهاني من النَّوع الآخر

ص: 275

وهو ما ينبغي أن ينبَّه عليه لعدم بيانه سابقاً، فحلُّه كذلك في حالات:-

الأولى/ فيما إذا جاء نص ثابت من المعصوم وفي قباله دليل برهاني أو استقرائي قطعي فلابدَّ من تقديم نص المعصوم لضعف كل ما يقابله مهما كان.

ولذا اعتبر فقهاء الشَّريعة عدم قبول تخريجات العقول في مقابل نصوص الشَّريعة الثَّابتة، وأدلَّة الأصول العمليَّة لم تتَّخذ أصوليَّاً إلاَّ في حالة عدم وجود النُّصوص اللفظيَّة الشَّرعيَّة.الثَّانية/ إذا وجد تعارض بين دليل لفظي ظاهري ودليل آخر ليس لفظيَّاً ولا قطعيَّاً، فلابدَّ من تقديم الدَّليل اللَّفظي في ظاهره، لأنَّه حجَّة كذلك دون غير اللَّفظي، لأنَّه ليس بحجَّة ما دام لا يؤدِّي إلى القطع كالظاهر.

كالَّذي يدل على أنَّ الجاهل بأحكام الزَّكاة ليس معذوراً، وهو المشهور.

وممَّن صرَّح بعدم معذوريَّة الجاهل إلاَّ في مواضع مخصوصة، كحكمي الجهر والاخفات، والقصر والإتمام، الشهيدان عَلَيْهِا السَّلاَمُ في مواضع من مصنّفاتهما(1).

وفي قباله ممَّن خالف في ذلك جمع من متأخري المتأخرين بقولهم بمعذوريَّة الجاهل في جملة من الأحكام إلاَّ مواضع مخصوصة، وهو ما بنى عليه جملة من العلماء منهم المولى الأردبيلي قدس سره، وتلميذه السيّد صاحب (المدارك) قدس سره، والمحدّث الكاشاني قدس سره، والمحدّث الأمين الأستر آبادي قدس سره، والمحدث العلاَّمة السيّد نعمة اللّه الجزائري قدس سره، والعلاَّمة الشَّيخ سلمان بن عبد اللّه البحراني قدس سره والمحدِّث الشَّيخ يوسف البحراني قدس سره(2).

الثَّالثة/ إذا عارض دليل لفظي غير ظاهر أو ضعيف دليلاً عقليَّاً برهانيَّاً أو استقرائيَّاً تامَّاً فلابدَّ من تقديم العقلي على اللَّفظي.

ص: 276


1- الألفيّة في الصلاة اليوميّة: 22- 23، روض الجنان: 248.
2- الدُّرر النَّجفية من الملتقطات اليوسفية ج1 - الشيخ يوسف البحراني - ص77.

لأنَّ العقلي يؤدِّي إلى العلم الشَّرعي واللَّفظي غير الصَّريح عاجز كرواية ضعيفة تقول بارتفاع التَّكليف عن الجاهل مطلقاً حتَّى لو كان مقصِّراً ودليل عقلي يقول باشتغال الذمَّة، لأنَّ من الجهل هو الجهل بالمكلَّف به.

فلابدَّ من اتِّباع الثَّاني وإن كان احتياطاً، وبالأخص إذا كان الدَّليل العقلي غير مستقل.

السَّابع عشر/ المقارنة بين حالة النَّص والظاهر

وبين حالة الحكم الواقعي وحالة الحكم الظاهري

قد يدور في الأذهان ما يمكن حصوله في هذه المقارنة، وهو أنَّ كل نص لفظي لابدَّ وأن يطرأ عليه الحكم الواقعي.

كوجوب الصَّلاة ووجوب الصَّوم والحج ونحو ذلك حينما يجيء من الأدلَّة الثَّابتة الصَّريحة بذلك من الكتاب والسنَّة، ما لم يكن ذلك النَّص مشتبهاً في نصيَّته كبعض الآيات، أو بعض نصوص السنَّة المحمولة على التقيَّة وإن بقي النَّص فيها على حاله.

وهكذا الظاهر في حقيقته إذا جاء من المصدرين الشَّريفين وإن احتمل خلاف الواقع من ثبوت هذا الحكم في ظاهره إذا كان ذلك الحكم ثابتاً من هذه الظواهر للشَّيء بما هو في نفسه فعل من الأفعال كهذه الأمثلة:-

فالوجوب ثابت للصَّلاة مثلاً بما هي صلاة في نفسها وبما هي فعل من الأفعال مع قطع النَّظر عن أي شيء آخر غير ذلك، وهكذا في بقيَّة أنواع الوجوب.

وأمَّا إذا كان الحكم ثابتاً للشَّيء بما هو مجهول حكمه الواقعي، كما في حالة اختلاف الفقهاء في حرمة النَّظر إلى وجه المرأة الأجنبيَّة، أو وجوب الإقامة قبل

ص: 277

الصَّلاة، حتَّى إذا كانت هناك بعض ألفاظ من الكتاب أو السنَّة.

لكنَّها لم تفِ بالمقصود الخاص لهذين الأمرين اجتهاداً.

فحصل هذا الحكم عن طريق الأدلَّة الفقاهتيَّة، كالأدلَّة العقليَّة القاضية بمثل الاحتياط أو الاشتغال أو البرائة، أو عدم الاعتناء بالشَّك الحاصل بعد عدم وجود الدَّليل الاجتهادي الدَّال على الحكم الواقعي.

فعند حصول الشَّك من بعد ذلك، بأن لا يعلم الفقيه حرمة النَّظر إلى وجه الأجنبيَّة، أو وجوب الإقامة قبل الصَّلاة، ولئلاَّ يكون متحيِّراً في ذلك.

فلابدَّ من وجود حكم آخر ولو كان عقليَّاً والسَّير على نهجه، كوجوب الاحتياط وغيره من الأصول العمليَّة المقرَّرة للشَّاك في مقام العمل(1).

ولو قيل كيف يتساوى النَّص والظاهر القرآنيين في كون كليهما يطرأ عليهما الحكم الواقعي، مع أنَّ النَّص لا يحتمل الخلاف والظاهر يحتمله، ومع أنَّ الظاهر أيضاً لا يتناسب في ظاهره إلاَّ مع الحكم الظاهري لفظاً إن صحَّ التَّعبير؟

فإنَّا نقول: بأنَّ المراد من ظاهر الألفاظ كتاباً وسنَّة لا يتناسب مع الأصول العمليَّة إلاَّفي حالات كما أشرنا، ولذا يقدَّم عليها مع وجوده عند المعارضة كما مرَّ بيانه.

وإنَّ ما يسمَّى بالحكم الظاهري لا يمكن أن يلازمه دليليَّة الألفاظ وإن كانت منشئاً لأصوله العمليَّة، كمقوِّم الاحتياط الَّذي منه قولهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ (احتط لدينك)، وكمقوِّم الاستصحاب المعروف وهو (أبقِ ما كان على ما كان) وغيرهما.

وثمَّ أنَّ الحكم الواقعي مع الظاهر اللَّفظي وإن احتمل خلافه فإنَّه قد يتصادف تطابقهما ما دام الخلاف غير مقطوع به.

كما أنَّ النَّصيَّة الَّتي في الكتاب في بعض الحالات قد تكون مشتبهاً في تشخيصها.

ص: 278


1- راجع أصول المظفر قدس سره ج1 ص6.جج

وكذلك النَّصيَّة المدَّعاة في السنَّة المرتبطة بالكتاب قد تسبِّب ظنيَّة الصدور فيها عدم التَّطابق كذلك.

فتبيَّن إذن إمكان تساوي الألفاظ من الأدلَّة الاجتهاديَّة في حملها للأحكام الواقعيَّة بين النُّصوص والظواهر وإنَّ الأحكام الظاهريَّة حاصلة من الأصول العمليَّة المسمَّاة بالأدلَّة الفقاهتيَّة.

الثَّامن عشر/ الكلام عن أصالة الظهور

فبعد أن تمَّ الكلام عن حجيَّة الظهور وتماميَّتها - بأدلَّة عديدة وبيان الحاجة الفعليَّة إلى الظهور والبناء عليه في أغلب الحالات الاستدلاليَّة كتاباً وسنَّة - كان لزاماً علينا بيان ما ترقَّى إليه الأصوليون من أمر هذا الظهور.

فقد وصلوا إلى أمر مهم في تتبُّعاتهم حوله فجعلوا له أصالة يُبنى عليها عند الشَّك.

ومورد هذه الأصالة هو ما إذا كان اللَّفظ ظاهراً في معنى خاص لا على وجه خصوص النَّص فيه والَّذي لا يحتمل معه الخلاف.

بل حتَّى لو كان يحتمل إرادة خلاف الظاهر منه كما مرَّ من التَّفريق بين الظاهر والمضمر المحتمل.

فإنَّ الأصل حينئذ أن يحمل الكلام عند ورود الشَّك على الظاهر لا المضمر المحتمل كبقيَّة الأصالات الأخرى المعروفة - مثل أصالة عدم التَّقدير وأصالة الإطلاق وأصالة العموم وأصالة الحقيقة - حينما يرد شك في التَّقدير والتَّقييد والتَّخصيص والمجاز.

بل إنَّ جميع هذه الأصول الأخرى في الحقيقة هو نفس مأدَّى أصالة الظهور في مورد احتمال ما كان محتملاً وهو خفي، وهكذا في بقيَّة الأصول.

ص: 279

فلو عبَّرنا بدلاً عن كل من هذه الأصول بأصالة الظهور كان التَّعبير صحيحاً مؤدِّياً للغرض بتمامه، بل كلُّها يرجع اعتبارها إلى اعتبار أصالة الظهور.

فليس عندنا في الحقيقة إلاَّ أصل واحد وهو أصالة الظهور، وبذلك تكون هذه الأصالة أوسع ممَّا لو اقتصرنا عليها وحدها.

ومن أدلَّة ذلك أنَّه لو كان الكلام ظاهراً في المجاز مثلاً عكس المثال السَّابق من أدلَّة ذلك واحتمل إرادة الحقيقة وشكَّ في إرادتها فقد انعكس الأمر وكان الأصل من اللفظ هو المجاز لظهوره فيه بغلبة الظهور المجازي على احتمال الحقيقة لضعفها بالشَّك.

وهو دليل على أنَّ الأصل هو الظهور وهكذا بقيَّة الأصالات الأخرى الماضية.

التَّاسع عشر / ومن هذه الأمور النَّتيجة النِّهائيَّة

وخلاصة البحث الماضي بهذه الأسطر

فإنَّ نتيجة ما ذكرناه - وخلاصته التي لا تحتاج إلى برهان إضافي بعد الذي بيَّناه من الأمور الماضية عن ظواهر الكتاب الكريم والَّتي أهمُّها ما يتعلَّق بآيات الإحكام لا عمومالظواهر الَّتي قد تمنع كما فيما يتعلَّق بأمور العقائد في الله تعالى كالوجه واليد والعرش والكرسي واللَّوح والقلم، إلاَّ أن تحمل على الظواهر المجازيَّة ونحو ذلك في الخالق تعالى -.

هي أنَّ البناء على الظواهر - لو لم تكن النُّصوص وإن قلَّت ثابتة فيها - واجب أو ثابت بالرجحان المطلق.

ومن ضروريَّاته أنَّ تركه يسبِّب انغلاق باب العلم كثيراً في حين أنَّه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة فضلاً عن عدمه.

ولأنَّ الشَّرع قد أوجب علينا أموراً يوميَّة وفوريَّة لا تقبل الانتظار، وإنَّ التَّأمل

ص: 280

في أطول مدَّة تزيد على حالة الاستظهار بهذه الطَّريقة لابدَّ وأن يسبِّب تأخير البيان مضارَّاً لا تطاق عن وقت الحاجة.

فلابدَّ من القول بحجيَّة الظهور في هذا الوقت الخاص.

وستتَّضح بعض أمور أخرى في الكلام عن أمور السنَّة والأمور اللُّبيَّة وأمور الحجَّة وبحوثها.

وهذا كلُّه مبني على القول بالتَّخطئة إماميَّاً، دون التَّصويب، لأنَّا أتباع الأدلَّة المعتبرة نميل معها حيث تميل.

ص: 281

الفصل الثَّالث

تعداد آيات الأحكام ومقاييس عدم حصرها بعدد معيَّن

وفيه مواضيع:-

الأوَّل/ ليس كل ما شاع من العدد له واقع

قد اشتهر بل شاع في بعض المصادر والأوساط العلميَّة بأنَّ آيات الأحكام عددها خمسمائة آية.

ولكن نوقش ذلك بالتِّكرار الموجود في تلك الآيات، سواء كان التِّكرار مزيَّداً للعدد أو مُنقصاً أو مبقياً على المقدار نفسه وبالمتداخل القابل للانحلال منها إلى آيات أو مضامين آيات في المعنى.

سواء كان هذا الانحلال من آية واحدة تحمل مضمونين أو أكثر أو آيتين ظاهرهما التَّداخل المؤدِّي إلى معنى واحد.

وبعد التَّأمُّل والتَّوسُّع في المراجعة قد يصل الأمر إلى أن يحصل بعد الانحلال معنيان من الآيتين، كما في الالتقاء الموحَّد بين العموم والخصوص من وجه والانفصال من جهتين، أو العموم والخصوص المطلق.

ومن ذلك ما ذكره بعض الأفاضل من أنَّ بعض هذه الآيات ما يتعلَّق بالعنوان الفقهي وذكر له عدداً منحصراً به وهو (348) آية كالطَّهارة والصَّلاة والزَّكاة ونحو ذلك.

وبعضها ما يتعلَّق بالمعنون الفقهي وذكر له عدداً منحصراً به وهو (467) آية،

ص: 282

كأمور الوضوء والتَّيمُّم والغُسل من الجنابة والحيض ونحو ذلك في الطَّهارة وأمور الاتِّجاه إلى القبلة والأوقات الخاصَّة وحالات الرُّكوع والسُّجود ونحو ذلك في الصَّلاة وهكذا.

وتوضيحه بمعنى أنَّ عنوان الطَّهارة مثلاً له من هذه الآيات (12)، آية ولكن ما حواه ممَّا تحته من المعنونات (18) آية .

وهكذا في بقيَّة العناوين والمعنونات الأخرى ولعلَّه مما يحصل من نتيجة التَّداخل مع تجنُّب التَّأكيديَّات من المكرَّرات اللَّفظيَّة وغيرها ما قد يصل إلى خمسمائة آية.

لكن يبدو الأمر مشكلاً بحسب الدِّقة كذلك.

إلاَّ أن نقول بالمعنى التَّقريبي، وهو لا يعطي الضبط الكامل، إذ قد يزيد في العدد ولو قليلاً ولا ينقص.

مع أنَّ بعض أو كثير من المكرَّرات تابعة لسياقات كل منها المخالفة إجمالاً لكل منها.

ولكن نحن بدورنا نحاول جهد الإمكان أن نستقري كل ما يظهر لنا به علاقة بالأمور الفقهيَّة - منطوقيَّة بحسب النَّص والظاهر ومفهوميه بما تعارف الأخذ به من مفهومي الشَّرط والغاية، مع دعم القرآن بالقرآن ودعم القرآن بالسنَّة المعتبرة.

لأنَّا لسنا ممَّن يقول (حسبنا كتاب الله)(1) والحمد لله، إلاَّ بالركون إلى العترة معه، ودعم القرآن بالإجماع والسِّيرة والعقل الخاضع لدقائق الشَّرع بالأدلَّة الإرشاديَّة.

كما في قوله تعالى [فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ](2) إرشاداً منه تعالى إلى ما

ص: 283


1- صحيح البخاري ج: 4 ص: 1612، باب 78 باب مرض النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ووفاته ح 4168 وح 4169، وباب 17 باب قول المريض قوموا عني.
2- سورة النساء / آية 15.

يستقر في عقول العقلاء من أهميَّة رعاية المصالح الدُنيويَّة ودفع مفاسدها، ولحسن الإحسان وقبح الظلم الموصلين إلى قبول المستقلاَّت العقليَّة في مقامها الخاص.

لمحاولة الوصول إلى العدد الصَّحيح أو ما يقاربه عن طريق التَّدقيق في بحوثنا الفقهيَّة الآتية من دورتنا هذه إذا حالفنا الحظ، ولو من مختلف ما يصل بأيدينا من المصادر المناسبة وحتَّى المراجع الحديثة الَّتي لا تخرج عن طور مدارك الجميع المعتبرة حتَّى فيما ورد منها في بعض القصص القرآنيَّة الَّتي قد يعتبرها البعض بعيدة عن حملها للأحكام.

بينما الأمر ليس كذلك في كل مجال، لأنَّها قد تحمل أحكاماً قد تكون ممضاة في كياننا الشَّرعي وفي سنَّة نبينا صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وبالإجماع والسِّيرة وبالعقل.

كما في قصَّة بني إسرائيل لمَّا أعلنوا التَّمرُّد والإفساد في الأرض الَّتي بعدها كتب الله عليهم حكم القصاص على الجنايات كالسِّن بالسِّن والعين بالعين وغيرهما وقد أمضاه تعالى في شرعنا كما قال [وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَنلَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ](1).

وحتَّى المنسوخ المتقن في نسخه مع بقاء آيته، لكون النَّسخ جزيَّئاً في واقعه، لتبقى الآية باقية على حجيَّتها ولو ببعض المعنى كما سيتَّضح.

بل حتَّى المكرَّرات، لكون التِّكرار وإن كان من معانيه التَّأكيد الَّذي لا يكثر العدد في كثير منه، لأنَّ منه ما سيتَّضح التَّعرُّف عليه في بحوث هذا المدخل من دورتنا الفقهيَّة الآتية، من جهة كون بعضها ملحقاً بمضامين قرآنيَّة متفاوتة ممَّا قبلها أو بعدها تبعد جانب خصوص التَّأكيد فيزيد العدد كما سيتَّضح.

علماً بأنَّ الأحكام المقصودة في حمل الآيات لها هي الأحكام التَّكليفيَّة ولو

ص: 284


1- سورة المائدة / آية 45.

كانت معها الوضعيَّة لزاد العدد كذلك كما سيأتي على ما أثبتته أسباب النُّزول الصَّحيحة.

وعليه فهذه الشُّهرة أو الإشاعة بهذا العدد الخاص أو ما يقاربه للآيات مع هذه الاحتمالات وغيرها ممَّا سيأتي توضيحه قد لا تكون لها مصداقيَّة مضمونة بالدِّقة الكاملة وبالتَّحقيق الدَّقيق لكل آية وآية وبالمدرك المدروس لها تماماً وكما أورده المناقشون.

بل إنَّ هذه المناقشات كانت أيضاً في كثير منها ذات إجمال في نتيجتها لا توصلنا إلى عدد معين إلاَّ بعد استغراق البحوث العلميَّة والعمليَّة في سبيل ذلك، وهذا ليس بالسَّهل اليسير دائماً قبل تمام الاستغراق.

وعلى أي حال، فسواء كان العدد المدَّعى وهو الخمسمائة آية من حيث الدِّقة المحتملة، حسبما وصل إليه بعض الفطاحل القدامى قدس سره من معرفتهم لعدد تلك الآيات من نفس تلك الآيات المدَّعاة، أو من ضمِّ بعضها إلى البعض الآخر كما فيما بين العناوين والمعنونات ، أو من خواصِّها المعلومة من السنَّة الشَّريفة.

أو نحو ذلك ممَّا قد يكون لم يصل إلينا بعض تلك المصادر بضبط مقنع أو لم تتوفَّر لدينا حتَّى مع سعينا الحثيث، وإنَّما وصلنا منها النَّتائج فقط، وهم - بطبع إكبارنا لهم - لا يمكن تكذيبهم، وإن كانوا معنا من المخطِّئة.

فإنَّ الإشكال في إصابتهم للهدف باق لما أشرنا إليه في بداية الحديث، ومن حيث ما اعتبره الآخرون من كون السَّبب هو التِّكرار المفيد للكثرة في بعض الحالات والتَّداخل لو أمكن الانحلال منه إلى مضامين متعدِّدة يختلف بعضها عن بعض ولو بمعونة من السنَّة مثلاً، أو ما يتفاوت فيه العدد قلَّة وكثرة عن الفرق بين عدد العنوان عن عدد المعنون حينما لا يحصل من ذلك تصحيح للخمسمائة آية وحدها كما اشتهر وشاع من حيث النَّتيجة.

ص: 285

بل قد يزيد في العدد إلى ما هو الأكثر ولو في الجملة المعقولة المقبولة.

إضافة إلى أنَّه قد ورد في مقابل هذا التَّحديد بسند معتبر عن الإمام الجواد عَلَيْهِ السَّلاَمُ (القرآن أربعة أرباع ربع فينا وربع في عدِّونا وربع فرائض وأحكام وربع قصصوأمثال)(1).

وقريب منه روي عن أبي جعفر الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ أيضاً، وقبله عن النبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أيضاً.

بل وثمَّة روايات أخرى كما عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال سمعت أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ يقول (نزل القرآن أثلاثاً : ثلث فينا وفي عدوّنا، وثلث سنن وأمثال، وثلث فرائض وأحكام)(2)، لكن جميع ما ورد هنا لم يتشخَّص العدد دقيقاً.

الثَّاني/ سؤال غريب ليس له جواب شافي

وممَّا مرَّ ذكره قد يرد سؤال غريب ناشئ عن رواية الإمام الجواد عَلَيْهِ السَّلاَمُ لا جواب له، إلاَّ العكس أو البقاء على الإجمال الَّذي سبق وإن نبَّهنا عليه أعلاه، وهو الَّذي لا يكون المستوضح أمر العدد فيه ثابتاً إلاَّ بعد انتهاء دورتنا الفقهيَّة هذه عن آيات الأحكام بأجمعها بإذن الله

وهذا السؤال هو أنَّ عدد آيات القرآن الكريم بأجمعها إذا كان - كما لا يخفى - ستَّة آلاف آية وستُّمائة وستَّة وستِّين آية.

فكيف ينسجم مع عدد الخمسمائة آية والخمسمائة لا تناسب لها مع ربع هذا

ص: 286


1- الكافي: ج2، ص459 وتفسير البرهان: ج1، ص21 وتفسير الصافي ج1 ص24، ومصابيح الأنوار ج2 ص294، وعدة رسائل للمفيد (المسائل السروية) ص225، وتفسير العياشي ج1 ص9 وفي هامشه عن البحار ج19 ص30.
2- تفسير العياشي ص8.

المقدار (بضمِّ الرَّاء) الَّذي لابدَّ وأن يصل إلى الأكثر من ثلاثة أضعافها؟

وعند الإنصاف أكثر:-

فإمَّا أن نقول بناءاً على صحَّة هذه الرِّواية سنداً ومتناً كما لا يخفى بنقصان الموجود من آيات الأحكام إذا لم يكن غير الخمسمائة آية فرضاً موجوداً وهو الَّذي يستدعي القول بالنُّقصان، كما ادَّعاه بعض الصَّحابة وبعض نسوة النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ كالثَّاني والمرأة وغيرهما، كما هو مدَّون في كتب القوم فراجع.

وهو مرفوض عندنا جملة وتفصيلاً، لتواتر ما بين الدَّفتين في صحَّته وكماله بين أيدينا.

وإذا كان هناك نقص افتراضاً لا يقدر أحد على ادِّعائه للتَّواتر المعروف وكما ورد عن سلفنا الصَّالح قولهم ((يكفينا ما بين الدَّفتين)) وإن كانت مواريث النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والعترة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ كاملة عند صاحب العصر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ.

فالرُّكون إلى السنَّة عن العترة هو الَّذي يشفي العليل ويروي الغليل في بيان المقاصد الخفيَّة والأسرار القرآنيَّة.

أو أن نقول وندَّعى زيادات في كونها آيات في الأحكام لم تضم إلى كتاب الله كذلك، كالوحي غير القرآني وإن كان نافعاً جدَّاً أو داخلاً في بعض أسرار التَّأويل.

وهو ممنوع للسَّبب نفسه جملة وتفصيلاً كما مرَّ تحقيقه في الكلام عن جمع القرآن وزيادته ونقصانه، وإن ما احتملتاه مع تمام صحَّته لا يزيد على المحدود.

أو نقول بعدم فهم المقصود من هذه الآيات - عن هذه الرِّواية كما يتناسب ومحتواها الواقعي بما يفرز العدد الصَّحيح - حقَّ الفهم، إلاَّ بالتَّوجيه غير المخجل بضوابط ما بين الدَّفَّتين.

وإن ظهر بعضها بمظهر عدم كونها من آيات الأحكام كما في القصص أو ما عرف بالمفهوم المعتبر في الأصول كالشَّرط والغاية من ذلك إذا أريد على إطلاقه

ص: 287

حينما نوقش في المفهوم بكونه لم يكن كالمنطوق في الاعتبار.

أو أنَّه قد لا يكون مشهوراً في ضمِّه، أو كان ممَّا ضمَّت إليه السنَّة الشَّريفة الَّتي أوصى بها النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في الأخذ بها من الثِّقل الثَّاني في حديث الثَّقلين الَّذين حاربهما المخالفون والمنقلبون على أعقابهم ممَّا قد ناقشنا فيه سابقاً ولاحقاً.

وهذا الوجه الثَّالث هو ممَّا يتناسب مع القول بأنَّ عدد الخمسمائة آية غير مضبوط تحقيقاً.

ولوجود بعض المخالفين لهذا وكما مرَّ التَّلميح لذلك، أو شيء منه في مطلع البحث وهو القريب في تعقلُّه وتقبُّله.

لكن لا على أساس خصوص ما هو الأقل منها، بل إنَّ الأقرب هو الخمسمائة فما فوق، لعدم العثور على مدرك العدد المحدَّد بتمامه، مع ضعف احتمال الأقل في قبال شهرة الخمسمائة وإشاعتها مع ما نذكره الآن من الاحتمالات المكثِّرة في العدد.

وبالأخص لو لم نلتزم بكون الخمسمائة إذا بقينا عليها - في عناوينها ومعنوناتهاالفقهيَّة الَّتي توصَّل إليها بعض الأفاضل إلى أن يكون المجموع ثمانمائة وخمسة عشر لا تزيد عليها - كآيات جامعة قابلة للانحلال إلى آيات أو مضامين آيات.

وبالأخص أيضاً إذا استندنا فيها إلى السنَّة عن العترة المطهَّرة في تشخيص مصاديق بعض معنونات العناوين الَّتي لم تتَّضح من نفس القرآن إلاَّ بالسنَّة أو تشخيص المعنونات تشخيصاً كاملاً بعد ما حصل تشخيص قرآني إجمالي عن طريق السنَّة أو حتَّى تشخيص بعض العناوين الفقهيَّة من السنَّة ولكن معنوناتها كانت مذكورة في القرآن الكريم.

كما في عنوان الدِّية المذكورة في القرآن وهي قوله تعالى [فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ](1)، وكان المعنون مثلاً في السنَّة وإن لم يزد العدد بذلك في أصل الموعود من

ص: 288


1- سورة النساء / آية 92.

العنوان.

وكما في الآية المنسوخة وناسخها مثلاً من السنَّة المعتبرة المتواترة.

لأنَّ آيتي الدِّية والآية المنسوخة لم يكن يتداخل معهما شيء من المعنونات الَّتي في القرآن نفسه لعدم وجود شيء يناسبه وهذا ما قد يساعد على الزِّيادة الإضافيَّة ويصير مقياساً لها.

ولذلك ادَّعى بعض أعلامنا اعتماداً على بعض المدارك أنَّ الإمام الغائب عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ إذا ظهر ظهرت منه أمور فقهيَّة لم تكن مألوفة من قبل، وكأنَّه يأتي بدين جديد ويجابهه علماء السُّوء في حينه بقولهم (ارجع من حيث أتيت حسبنا كتاب الله)(1) فيقاومهم.

ولهذا ولأمثاله عرف عن العلم ومنه سيِّد العلوم وهو الفقه بعد العقائد (أعطه كلَّك يعطك بعضه)، وهو ما يتساوى مع مبدأ التَّخطئة في نظرنا نحن الإماميَّة كما أسلفنا.

ولعلَّ من الَّذي يحتمل فيه العثور على الزِّيادة من عدد الآيات المطلوبة هو البناء على ما جمعه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عَلَيْهِ السَّلاَمُ - لا على خصوص ما جمع فيما بين الدَّفتين الحالي - وهو ما تسلسل من الوحي في نزوله تسلسلاً بحسب المناسبات، لأنَّه أوفى بالمقصود وإن كانا واحداً في الأصل.

وهذا المجموع من قبل أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ وبخطِّه الشَّريف هو إن لم نوفَّق لرؤيته لكونه محفوظاً عند المولى صاحب الأمر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ.

فإنَّنا إذا تمسَّكنا بروايات أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الَّتي لابدَّ وأن ترعى في مضامينها المقاصد الحقيقيَّة لآيات الأحكام وما يتناسب منها والتَّسلسل الطَّبيعي والَّذي لا

ص: 289


1- صحيح البخاري ج: 4 ص: 1612، باب 78 باب مرض النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ووفاته ح 4168 وح 4169، وباب 17 باب قول المريض قوموا عنِّي.

علاقة له بالتَّحريف في شيء ولو بحسب الظاهر واستفرغنا وسعنا في سبيل تحصيل تلك المدارك ونتائجها.

فلا شكَّ حينئذ في إمكان تحصيل النِّسبة العدديَّة الَّتي لا تتقيَّد بالخمسمائة أيضاً، بل قد تزيد عليها وتصل إلى ما يتناسب والرُّبع الخاص بالأحكام والفرائض ممَّا يوفَّق لهالمجتهدون المحقِّقون نتيجة لاستفراغ وسعهم في هذا السَّبيل مع براءة الذمَّة عمَّا لم يظهر لنا غيره إن كان.

أو أن توجَّه كلمة الرُّبع في الرِّواية لأعلى المعنى الحقيقي العددي الدَّقيق، بل على المعنى المجازي أو الحقيقي الَّذي قد يتسامح في إفراده خارجاً في القلَّة والكثرة.

أو أنَّ الفرائض والأحكام الَّتي تتناسب مع ربع القرآن الدَّقيق قد تكون أصولاً فقهيَّة وقواعد خاصَّة بالفقه وفقهيَّات ذات أحكام تكليفيَّة ووضعيَّة وقضايا كليَّة وجزئية في أسباب نزولها.

إلاَّ أنَّها لعلَّها عمِّمت بسبب نصوص وأدلَّة أخرى مع ما احتملناه من أحكام القصص والمفاهيم.

وبهذا المعنى الأخر قد يتوسَّع المقصود ويقترب المنشود من مدلول الرِّواية وهو بالتَّأكيد يبتعد عن خصوص الخمسمائة آية في الزِّيادة بصورة أوضح من ذي قبل.

وأمَّا إذا لم يُبنَ على هذه الرِّواية لبعض الدَّواعي فلم تبق الخمسمائة هي المرادة كذلك لما مضى ولما سيجيء وحدها، إلاَّ إذا جاء دليل أخر يساعد عليها خاصَّة وهو لم يكن.

وبالأخص لو بنينا على رواية الثُّلث الَّتي ذكرناها بعد وهي الأدهى والأشد في أهميَّة عدم الحد بخصوص الخمسمائة مع صحَّة رواية الأرباع في دواعي أخرى.

فلابدَّ من اللُّجوء إلى التَّوجيهات الوجيهة الَّتي ذكرنا بعضها أو أكثرها ممَّا يعطي المجال في المقياسيَّة الَّتي لا تجعل البقاء على الخمسمائة ثابتاً.

ص: 290

الثَّالث/ سؤال آخر تأكيدي نجيب عليه

ثمَّ إنَّه ينبغي أن يطرح للتَّأكيد سؤال أخر - كما وعدنا لنجيب عليه حول نفس الموضوع - وهو هل أنَّ تكرار بعض آيات الحكم الشَّرعي يزيد في نسبة عددها على إطلاقه حينما لم يكن أحد أسباب تحديدها في خصوص الخمسمائة؟

فنقول: لا شكَّ في أنَّ كل تكرار لفظي في القرآن الكريم، ومنه آيات الأحكام إن وجد في تشابهه الحرفي بدقَّة أو بما يقرب منه أو المعنوي بحيث لا يتغيَّر معناه عمَّا سبقه وبلا أن يدخله المعنى التَّأكيدي على الأقل فهو لغو مرفوض في كل العلوم الأدبيَّة والمنطقيَّة والأصوليَّة، وهو بعيد عن إعجاز ما بين الدَّفتين واختلاف السِّياقات.

إضافة إلى عدم ثبوت الزِّيادة المسلَّم بطلانها فيه، وبالأخص فيما نعنيه من الآيات، وهي واللَّغو ممنوعان في العموم والخصوص القرآني، لثبوت وأهميَّة إعجازهما المسلَّم والمتَّفق عليه والَّذي لابدَّ منه عقلاً ونقلاً والَّذي يضر به هذان الأمران.

وعليه فإذا كان فيه تكرار قد أعدَّ للتَّأكيد مثلاً وكما يرام في أحد مداليله ومنه ما لو لم يكن حرفيَّاً لفظيَّاً بتلك الدِّقة في التَّشابه الَّذي لا يغيِّر المعنى كما هو مشهود به في بعض الآيات كالتِّكرار الموجود في بعض آيات الصَّوم وهي قوله تعالى [وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ](1) المسبوق بما يشبهه وهو قوله تعالى [فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ](2).

فإنَّه مع نفيه اللَّغويَّة والزِّيادة السَّابق ذكرها لا يضيف شيئاً على الخمسمائة آية إن لم تكن منها وإن كان التَّشابه في بعض الحروف أو كان لا تشابه في اللَّفظ وبما

ص: 291


1- سورة البقرة / آية 185.
2- سورة البقرة / آية 184.ج

يغيِّر المعنى بين السَّابق واللاحق، لأنَّ (اختلاف اللَّفظ يدل على اختلاف المعنى) ولو في بعض الحروف أو من حيث التَّغيير المفهومي.

فإنَّه ممَّا لا ينفي الزِّيادة المحتملة ولو المقاربة منها للخمسمائة آية، وإن أدُّعي التِّكرار والتَّشابه بعض الشَّيء بسبب العلاقة بالآيتين الماضيتين كما سيأتي.

كما فيما بين قوله تعالى [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ](1) وهو المعروف بنسخه بما يأتي والَّذي يكون معناه بناءاً على النَّسخ (وعلى القادرين على الصَّوم إذا لم يلتزموا به أن يعطوا الفدية بدلاً عنه وإن يصوموا ولا يدفعوا الفدية).

وبين قوله تعالى بعد ذلك [فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ](2).

لأنَّ الآية الأولى فيها ضمان ما كان منسوخاً إسلاميَّاً في صدر الإسلام، وهو التَّخيير بين الصَّوم والفدية، لعدم التَّعوُّد على الصَّوم آنذاك باستثناء المريض الَّذي لا يقدر عليهوالمسافر القاطع للمسافة المعروفة قديماً وحديثاً والثَّانية فيها ضمان ما بعد النَّسخ وهو تعيُّن الصَّوم على المكلَّف بلا بديل من الفدية.

حيث جعلت بعد ذلك على المريض الَّذي استمرَّ به المرض إلى شهر رمضان الثَّاني من دون قدرة على القضاء، ونحو ذلك.

وإنَّما قلنا بإمكان أن تزيد نسبة الخمسمائة آية في مثل حالة النَّسخ هذه كي يجعل أحد المقاييس الآتية للتَّعرُّف على الزِّيادة في العدد.

لأنَّ مبنانا فيه على النَّسخ الجزئي لا الكلِّي الَّذي يبطل الآية السَّابقة في كل معنى تحمله كما مرَّ، باعتبار أنَّ هذا يخل بالإعجاز المسلَّم مع كون القرآن حمَّال وجوه، وهو من نوع تخصيص العام في الأصول.

ص: 292


1- سورة البقرة / آية 184.ج
2- سورة البقرة / آية 185.ج

إضافة إلى أنَّ الآية المنسوخة بعد النَّسخ لا تخلو من بعض معاني أخرى ولو بمعونة السنَّة الشَّريفة وغيرها من الأدلَّة.

إضافة أيضاً إلى أنَّ التِّكرار الَّذي ذكرناه سابقاً في الآيتين السَّابقتين وهما قوله [فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ](1) السَّابق للآية المنسوخة.

وقوله [وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ](2) اللاحق للآية النَّاسخة والَّذي جعلناه تكراراً مؤكَّداً.

قد يحتمل فيه - بضمِّ كل من الآيتين إلى كل من المنسوخ والنَّاسخ مع تفسير النَّسخ بالجزئي لا الكلِّي - أنَّ كلاًّ منهما - مع ما ضُمَّ إليه - يحمل معنى فقهيَّاً - ولو بمعونة الأدلَّة الأخرى - يختلف عن المعنى الآخر.

وهو ممَّا قد يزيد في نسبة الخمسمائة آية أو الأكثر ويجعل مقياساً آخر لذلك.

ومن ذلك كل تكرار لفظي مسبوق أو ملحوق بما يغيِّر المعنى ويجعله متفاوتاً، وإن كان بحسب ظاهره مرتبطاً بالتِّكرار المؤكَّد.

لأن قاعدة كل تكرار مؤكَّد لم تثبت دوماً مادامت المعاني الشَّريفة الأخرى محتملة، وبالأخص إذا احتيج إليها في آيات الأحكام واستخرجت من جرَّاء التَّبحُّر الفقهي - المتنوِّع في مداخله ومخارجه - أو التَّفسيري المتداخل مع الفقه أو الأصول - أو الأدبي - المرتبط جدَّاً بذلك - أمور تنفي ذلك التَّأكيد أو تبقيه مع ضمِّ بعض المعاني الأخرى.

فالآية الأولى وهي [فَمَن كَانَ مِنكُم] جاءت لتأسيس المعذرَّية من التَّكليف بعد الفسخ وانتهاء فترة التَّخيير، وصارت الفدية لمن يستمر به المرض إلى رمضان الثَّاني كما مضى.

ص: 293


1- سورة البقرة / آية 185.
2- سورة البقرة / آية 184.ج

والآية الثَّانية جاءت لتجديد المعذريَّة بعد تعميم التَّكليف لغرض بيان فلسفة المعذريَّة، بدليل قوله تعالى بعد ذلك [يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ](1).

ولطالما بحث الباحثون ودقَّق المدقِّقون فقهاً وأصولاً ونحو ذلك في المواقع العلميَّةالمختلفة واقتضى التَّطويل العلمي عندهم نقضاً وإبراماً حكماً وموضوعاً في سبيل تحقيق ما يصبون نحوه، وإن اقتضى تكرارهم الاستدلالي ما فيه بعض التَّشابه من تلك المواقع العلميَّة المختلفة - كالآية الواحدة أو الرِّواية الواحدة أو أي مدرك مقبول أخر واحد وارداً على أكثر من مطلب ومطلب.

لأنَّ تلك الآية أو الرِّواية أو غيرهما قد تكون واسعة المجال قابلة لأن يستفاد منها في أكثر من مجال، فحين وجود هكذا آية منطبقة على أكثر من معنى لا يمكن أن يقال عنها أنَّها قابلة للتِّكرار التَّأكيدي الَّذي لا يقبل منه ذلك دوماً فقط.

إلاَّ إذا كان لفظاً متشابهاً في كل حروفه بلا تقيُّد بأي ناحية لفظيَّة سابقة أو لاحقة مغيِّرة لأحد المتكرِّرين عن الآخر، أو كان التَّشابه في بعض حروفه أو كثيرها أو أكثرها أو أجمعها وكان فيما بين المكرِّرين ترادف معنوي موحَّد.

بناءاً على أنَّ اختلاف اللَّفظ قد لا يغيِّر المعنى، وإن كنَّا لا نأنس به إلاَّ إذا ثبت بدليل قطعي.

كما قد يظهر من بعض النُّصوص الَّتي ظاهرها التِّكرار أيضاً حتَّى اللَّفظي منها وبما تعارف القول بأنَّه للتَّأكيد فقط، إلاَّ أنَّه يمنع اعتباره في ذلك أدبيَّاً مثل كثرة التِّكرار المماثل بلا وجه وجيه، غير التِّكرار العادي الَّذي يمكن تقبُّله للتَّأكيد في بعض الحالات ممَّا مرَّ ذكره آنفاً.

كآيات الصَّلاة والزَّكاة كقوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ](2) الَّتي

ص: 294


1- سورة البقرة / آية 185.
2- سورة البقرة / آية 43.ج

تصل بكثرتها إلى حدِّ متعدِّد كثيراً.

فإنَّها إذا ربطت في بعضها على ما يناسب الدقَّة المطابقة للواقع المخالف للظاهر المذكور بما بعدها.

فإنَّها سوف تحمل - لو قارنَّاها بأمثالها الَّتي يكون ما بعدها أيضاً مغايراً لما بعد تلك - معنى مغايراً لما يرتبط بما بين خصوص المتماثل التَّأكيدي، لاختلاف المقامات والموارد.

فضلاً عمَّا لو يقع تقديم وتأخير ما بين الصَّلاة والزَّكاة مثلاً، كما في آية أخرى عكس الآيات المتماثلة السَّابقة الذِّكر، فيسبِّب ذلك التَّغاير الحكمي كذلك لما سبق كما في قوله تعالى [قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (87) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى](1) وإن حصل التَّشابه بين هذه الآية وبين الآيات السَّابقة في بعض الأمور.

فإنَّ هذه الآية لما تقدَّمت الزَّكاة منها على الصَّلاة فإنَّه يراد من الزَّكاة فيها هو زكاة الفطرة ومن الصَّلاة صلاة العيد بقرينة كون مشروعيَّة دفع الزَّكاة قبل صلاة العيد ولو بمعونة أدلَّة إضافيَّة.

وأنَّ تلك الآيات السَّابقة يراد من الصَّلاة فيها هي الصَّلاة اليوميَّة ومن الزَّكاة زكاة الأموال، ولذا تأخَّرت في الذِّكر عنها لأنَّ الصَّلاة عمود الدِّين وأهم أركانه.

وهذه الكثرة في التِّكرار بما وجَّهناه يحصل مقياس آخر في إمكان تكثير العدد.إلى غير ذلك من أنواع التِّكرار الكثير الَّذي لم يقبل إلاَّ بالتَّوجيه الشَّرعي.

ص: 295


1- سورة الأعلى / آية 14.

الرَّابع/ إجابة توضيحيَّة على سؤال آخر

تتضمَّن بعض المقاييس النَّافعة الأخرى

وللتَّوضيح الأكثر لنطرح سؤالاً آخر مناسباً للإجابة عليه وهو:

هل أنَّ التَّداخل في بعض الآيات -- كأية واحدة تحمل مطلبين أو أكثر في آن واحد بسبب الاشتراك اللَّفظي، أو غيره كما فيما بين المنطوق والمفهوم، أو بسبب تعدُّد القراءات إذا أمكن انحلاله إلى أكثر من معنى وحكم ولو بمعونة بعض الأدلَّة الأخرى -

يؤثِّر في كميَّة الآيات وإن كان ضمن آية واحدة فيكثِّرها أو لابدَّ من بقاءها ولو بحسب

الظاهر على ذلك الموحَّد العنواني من القدر المعروف في الآية الواحدة وإن احتملت أكثر من معنى واحد؟

وعلى الأخص فيما لو كانت الواحدة منها قابلة للتَّبعيض والتَّقطيع على ألفاظ يحمل كل منها معنى متفاوتاً عن الآخر؟

وهكذا فيما لو كان هذا التداخل المعنوي قابلاً للانحلال إلى أكثر من معنى فيما لو كان بين أكثر من آية وان احتمل التكرار التأكيدي فيها ولو اعتماداً على كون القرآن بين بعض آياته يفسِّر بعضه بعضاً؟

فنقول لسرد أحد المقاييس الأخرى: إنَّ مثل اللَّفظ المشترك المرتبط بآيات الأحكام كلفظ القرء المراد به الطُّهر من الحيض، والمراد منه أيضاً نفس الحيض حسب قرينة كلِّ منهما، ومنه ما في الآية الواحدة الَّتي يمكن أن يكون اشتراكها اللفظي في معنيين إذا كان كلا المعنيين أمراً فقهيَّاً.

وقامت القرينة الخاصَّة المسمَّاة بمعيِّنة المراد لكل منهما، بما يتفاوت أحدهما عن الآخر ولو بمعونة الأدلَّة الصَّحيحة الأخرى.

ص: 296

وهكذا لو كان لأكثر من المعنيين مع توفُّر القرائن المتفاوتة لصالح كل منها ممَّا يناسبها، سواء كانت القرائن من نفس الكتاب الكريم أو السنَّة أو الإجماع أو السِّيرة المستمرَّة وبقيَّة الأدلَّة كالحلول الأدبيَّة المتَّفق عليها بين الفقهاء والمفسِّرين لغوامض التَّعابير القرآنيَّة، وإن لم يكن الانطباق على الجميع في آن واحد.

فلابدَّ -- بناءاً على أنَّ القرآن حمَّال وجوه كما هو الصَّحيح والمبيَّن في محلِّه من هذا المدخل وأنَّ الآية الواحدة قد تدل على أكثر من معنى وإن كان سبب نزولها التَّأريخي محمولاً على خصوص أحد معانيها أو أهمِّها لما أوضحناه من التَّوجيه في بحث أسباب النُّزول ولما هو محقَّق في محلِّه من أنَّ الاتِّحاد في القراءة المتَّفق عليها مثلاً إذا تفاوت المبنى الصَّرفي للفظته القرآنيَّة الواحدة على مبنيين ككلمة الأمر في قوله تعالى [لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ](1) الَّتي يمكن أن نجمعها على أوامر وأمور، علماً بأنَّ الجمع الأوَّل في خصوص الفقهيَّات والثَّاني الَّذي بمعنى عموم الأشياء الَّتي في ضمنها الفقهيَّات قد يؤثِّر أثره بتعدُّد المعنى الفقهي --

من أن يسبِّب ذلك ما يشبه تعدُّد الآية المتفاوت بالتَّالي ويجعل مقياساً للتَّعدُّد المكثر في العدد وإن كانت هي تلك الآية الواحدة المفترضة أوَّلاً.

وذلك إذا جعلنا الآية هي الدَّليل على الحكم الشَّرعي المتنوِّع بسبب تعدُّد وجوهها وبما يجعل اللفظ متكيِّفاً تكيُّف الاختلاف والتَّفاوت الحكمي باختلاف تلك الوجوه بلا تناقض مخل بالإعجاز كما مرَّ، وهو الانحلال الَّذي أشرنا إليه في السؤال بحيث يجوز أن تجعل الآية الواحدة دليلاً متعدِّداً على كل معنى تحمله مستقلاً عن الآخر كل مع قرينته.

ومن تلك المقاييس ما يتفاوت فيه المنطوق عن المفهوم باستفادة واضحة في استقلال أحدهما عن الآخران ثبت كما في قوله تعالى [إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا

ص: 297


1- سورة الروم / آية 4.ج

أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ](1) كوجوب التَّبيُّن في خبر الفاسق وعدمه في خبر العادل في مفهوم الموافقة والتَّوقُّف أو الاحتياط في مفهوم المخالفة وهو مفهوم (إن لم يجئكم فاسق) الَّذي لم تعلم عدالته ولم يكن فاسقاً وهو المجهول إذا بنينا على المعنى الوسط.

وهكذا يحتمل من المقاييس ما يحتمل فيه من الآيات المنفردة إمكان حمل اللَّفظ معنى الحقيقة والمجاز في آن واحد، بأن يكون للحقيقة إذا لم تكن هناك قرينة صارفة عنها وإن يكون للمجاز مع وجودها -- بناءاً على صحَّة التَّعدُّد الخاص في كونه على الوجه المتفاوت بالاعتبار -- كالأمر في الصَّلاة الَّذي يراد منه حقيقة اليوميَّة ومجازاً صلاة الأموات ولو بواسطة السنَّة.

وهكذا من تلك المقاييس كل لفظ قابل لأن يحمل أكثر من معنى كما بين المطلق والمقيَّد، وكان يستفاد منه التَّعدُّد الحكمي ولو من الأدلَّة الإضافيَّة الممكنة، كالأمر بالصَّلاة المثبت للوجوب على المكلَّف ولو قبل حلول وقتها حتَّى لو كان غير متطِّهر، وبقاء هذاالأمر مثبتاً للوجوب مع قيد الطَّهارة حين دخول الوقت والأداء ولو بمعونة دليل إضافي كقولهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ (لا صلاة إلاَّ بطهور)(2).

وهكذا ما بين المجمل والمبيَّن، كوجوب الصَّلاة من دليله الَّذي يحمل المعنيين، كأصل الوجوب على المكلَّف الَّذي ذكر في القرآن احتواؤها على القراءة والرُّكوع والسجود والقنوت والتَّسبيح ونحو ذلك على إجماله، وكالوجوب مع التَّفاصيل في الرَّكعات ونحوها من الكيفيَّة الَّتي فصَّلها النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وكما قال ( صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي)(3).

ص: 298


1- سورة الحجرات / آية 6.
2- كتاب وسائل الشيعة ج 1 ص 365 أبواب الوضوء ب 1 ح 1.
3- عوالي اللئالي: ج1، ص197، ذيل ح8، تفسير الرازي ج2 ص164.ج

أمَّا إذا لم يكن الأمر في الآية الواحدة قابلاً للتَّعدُّد بالدَّليل الموحَّد المتقن بحسب اعتباره على أساس الواحد الَّذي لا يعُلم غيره أو المجتهد في أمره.

فلابدَّ من أن يكون المحمول للآية هو خصوص ذلك المعنى الواحد لعدم إمكان تعدُّد اعتبار الآية الواحدة بأكثر ممَّا تدل عليه أو ما تمَّ الاجتهاد فيه منه.

وممَّا قد يثبت المقاييس الأكثر ضبطاً بالمثال في المقام ما اشتهر في أمر القراءات في الآية الواحدة، وهي وإن كانت كثيرة ولكن الصَّحيح منها هو السَّبعة المعروفة، ولكنَّها قليلة النَّفع إذا لم تختلف معاني كلٍّ منها أو بعضها.

وقد يكون اختلاف القراءة من نوع آخر مؤثِّر بالمعنى بسبب الاختلاف كما سبق ذكر بعض أمثلة ذلك.

وفي المقام كما في آية الحيض وهي قوله تعالى منها [وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ](1).

فإن صحَّ فيه تسكين الطَّاء وفتحها مع تشديدها، فإنَّه مع التَّسكين يكون الحكم فيها جواز المواقعة للزَّوجة بمجرَّد النَّقاء من الدَّم وإن لم تغتسل من حدث حيضها على كراهيَّة في ذلك.

ومع التَّشديد يكون الحكم فيها استحباب الاغتسال بعد النَّقاء لو أريدت المواقعة.

وبهذين الحكمين لا محالة بتعدَّد الحكم وتعدَّد الوجه في الآية الواحدة وبما يبرهن كذلك على كون تعدُّد المدركيَّة فيها في آن واحد، لعدم التَّزاحم بين المكروه والمستحب مثل التَّزاحم الَّذي يكون ما بين المحرَّم والواجب في آن واحد، لمنعه في الأخير إلاَّ بالحل الاضطراري المرخَّص به شرعاً في مقاماته الخاصَّة.

بينما لو جاءت على الآية قراءة صحيحة وقراءة مرفوضة، وسبب ذلك هذا

ص: 299


1- سورة البقرة / آية 222.

التَّزاحم المضر شرعاً.

فلابدَّ من توحُّد الحكم المطابق للحكمة في الآية وجعلها مدركاً واحداً لا أكثر ولو بنحو الاحتياط الوجوبي لبعض الفقهاء بالاغتسال عند النَّقاء من الحيض لو أريدت المواقعة بسبب قوَّة التشديد وضعف التسكين إذا بني على ذلك بوجه وجيه.ومن تلك المقاييس كون الآية الواحدة قابلة لتقطيعها إلى فقرات يستفاد من كل منها حكم شرعي يتفاوت عمَّا تحمله الأخريات وأقل شيء هو الحكمان من الآية الواحدة إذا تألَّفت من فقرتين.

ونظير ذلك في السنَّة الشَّريفة المنقولة عن أهل البيت عَلَيْهِ السَّلاَمُ في الكتب الأربعة بطولها حينما حوت عبائرها ما يمكن في أحاديثها التَّقطيع كما أوضحه وبوَّبه من ذلك عمليَّاً الحر العاملي قدس سره في وسائله من تلك الكتب على أبواب الفقه ممَّا لم يفعله الآخرون تقريباً.

ففي الآيات الكريمة بناءاً على عدم حجيَّة كيفيَّة التَّرتيب المعروف في المصحف العثماني مع التَّواتر المسلَّم بما بين دفَّتيه وعدم الضَّير في التَّقديم والتَّأخير وبالأخص لو كان مناسباً لحالات النُّزول المناسب، كما في المصحف الَّذي جمعه أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ أو ما قد يقرب منه، وهو الَّذي جمعه أحد الصَّحابة الآخرين.

لكون الضَّير والمنع منحصراً بالإزادة والتَّنقيص فقط لو أمكن تقطيع فقراتها أو بعضها واستفادة الأحكام المتعدِّدة ولو بضميمة من القران من الآيات الأخرى المناسبة أو السنَّة أو نحوهما ممَّا يساعد على ذلك من دون طرؤ أي خلل مضر وكما مرَّ فيما صنَّفه صاحب الوسائل.

فإنَّها قد تكون أيضاً ممَّا يوسِّع في مقياس التَّعدُّد، وبالأخص ما لو اعتبرنا إمكانيَّة جعل الباري جزء الآية أية كذلك كما هو محقَّق في محلِّه من بعض بحوثنا المناسبة.

وكذلك نقول من المقاييس: أنَّ مثل آيتين أو أكثر إذا حملتا أو حملت معنى

ص: 300

يكاد أن يكون واحداً بحسب ظاهره كالمشترك المعنوي، أو بما قد يسمَّى في بعض الاعتبارات بالمترادف ممَّا بين النصَّين مثلاً، لأنَّ القرآن قد يفسَِّر بعضه بعضاً إذا أمكن انحلالهما ولو على خلاف الظاهر أو الأكثر منهما عن ذلك التَّوحد الظَّاهري لبعض الوجوه، بناءاً على أنَّ (اختلاف اللَّفظ يدل على اختلاف المعنى) كما هو الصَّحيح ولو في خصوص الإجمال وله أدلَّته المعروفة، كما في حالة ما بين الكثير من النُّصوص المتعدِّدة من نسبة العموم والخصوص المطلق ونسبة العموم والخصوص من وجه لا في خصوص باب التَّساوي الكامل الَّذي لا يتعدَّد فيه المعنى، أو يوضِّح فيه أحد النصَّين مثلاً النَّص الآخر للمعنى الواحد الَّذي لم نجعله وحده الثَّابت في الميدان إلاَّ بموضِّحه ما دام التَّناقص التَّام غير موجود في المقام.

فلابدَّ حينئذ عند هذا الانحلال ولو بمعونة الأدلَّة الأخرى من جعل كل آية مستقلَّة عن غيرها.

وبذلك يظهر مقياس ما يساعد على زيادة العدد دون حالة التَّساوي الكامل الَّذي لا يفهم منه إلاَّ حالة أمثال التِّكرار التَّأكيدي أو ما يوضِّح النَّصَّان بعضهما من البعض الآخر.

الخامس/ ما هو المراد الحقيقي من آيات الأحكام

من المعلوم أنَّه لم يثبت بدليل قطعي بأنَّ آيات الأحكام هي خصوص الآيات المعدَّة لأن يستنبط منها الحكم الشَّرعي من نصِّها أو ظاهرها أو منطوقها أو مفهومها أو خاصِّها أو عامِّها أو مطلقها أو مقيِّدها أو مجملها أو مبيِّنها أو ناسخها أو منسوخها أو من حالة الورود أو الحكومة أو نحو ذلك ممَّا تفنَّن فيه الأصوليُّون من الطرق المعدَّة لمعرفة الحكم الشَّرعي والمقصود في التَّطبيق غيرها.

وبذلك لابدَّ وأن تكون شاملة لآيات التَّطبيق الشَّرعي عبادات ومعاملات ونحو

ص: 301

ذلك من الفقهيَّات، كالأوامر والنَّواهي الَّتي لا تخفى على كلِّ أحد في كلِّ ما تعطيه، وكالبسملة المستفادة من آية التَّذكية لأنَّ تكون واجبة بها، وهي موجودة في القرآن.

وكالفاتحة والسور المقروءة في الصَّلاة وجوباً أو لزوماً، وهي كلُّها موجودة في القرآن كذلك ومعها البسملة.

وإن استدلَّ أو أكمل الاستدلال عليها في القرآن ممَّا سيأتي، وغير ذلك إن كان.

ولكن لمَّا كان إثبات الزَّوائد على الخمسمائة آية - محور البحث - تحقيقاً يحتاج إلى الاستقراء التَّدقيقي الكامل وإلى آخر الدَّورة الفقهيَّة بإذن الله وتوفيقه - وإن ذكرنا كثيراً من المقاييس الدَّاخليَّة الَّتي تحتمل أو تظن بسببها الزِّيادة، بل إنَّ بعضها من المهمَّات في ذلك إلاَّ أنَّها علميَّاً ينبغي أن تبقى على الاحتمال ومن باب الأولى آيات وسور التَّطبيق المباشر -

إضافة إلى حالة الاهتمام منَّا إلى أمر الاستقراء لكلِّ ما مضى تحقيقاً للأمانة العلميَة مع التَّشكيك في الخمسمائة المذكور.

فلابدَّ لنا من الكلام عن آيات التَّطبيق المباشر وسوره والبسملة وغيرها ولو فيالجملة، إن كان لم يظهر منَّا وافياً في هذه العجالة باستطراده تحت عنوان (مقياس إلحاقي).

السَّادس/ مقياس إلحاقي قابل للنَّفع في المقام

ممَّا ينبغي إلحاقه بهذه المقاييس وإن لم يكن أساسيَّاً في بعض الأمور أمر البسملة، فإنَّ البعض حين تشكيكه فيها في أنَّها هل كانت من القرآن أم لا؟

واتِّضاح ثبوتها في أنَّها منه بلا أيِّ إمكان لأي تشكيك في ذلك بالأدلَّة المتقنة المتوفِّرة في محلِّها وثبوت جزئيَّتها من الفاتحة ووجوب قراءتها في كل سورة عند الصَّلاة اليوميَّة وغيرها ما عدا سورة التَّوبة باستثناء قراءة سور العزائم الأربع في

ص: 302

الصَّلاة الواجبة وإن كان منها البسملة لسبب ليس هذا محلُّه.

فإنَّ البسملة الَّتي مع الفاتحة مثلاً، وإن لم تكن هي من خصوص آيات الأحكام الَّتي يراد منها الاجتهاد فيها أو الاستنباط منها لأحكام الفقه، بل وهكذا السُّور الأخرى.

إلاَّ أنَّها من الآيات الملازمة للأحكام، إذا وسَّعنا كلمة الحكم الشَّرعي إلى ما هو الأعم من حالة الاستنباط والاجتهاد في النُّصوص، وهو عمليَّة التَّطبيق والأداء لما يجب، وهو القراءة والتِّلاوة لها مثلاً وإن استدلَّ على ذلك بقول النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب)(1)، وهي الَّتي جزؤها البسملة بالأدلَّة الخاصَّة الأخرى لناحية ما أشرنا إليه من التَّعميم وبالرِّضا بهذا القدر لا شكَّ بتوسُّع تلك الأعداد الإضافيَّة من الآيات والسُّور إلى ما هو الأزيد ممَّا ذكرناه.

لكون الفاتحة مثلاً أو غيرها من السُّور مرادة إرادة وجوبيَّة في قراءتها في الصَّلاة اليومية الَّتي هي أهم ركن في فروع الدِّين وفي غيرها من الواجبات، كما في صلاة الجمعة وصلاة الآيات.

وهكذا في الحج الَّذي من أركانه الطَّواف الَّذي لا يكمِّله ركناً مقبولاً إلا صلاة ركعتيه، لما ورد من أنَّ (الطَّواف صلاة)(2) ومن ذلك وجوب الفاتحة في كل من الرَّكعتين وفي السُّورة الَّتي بعدها.

إضافة إلى ما قد تكون البسملة مع الفاتحة أو غيرها من السُّور المقروءة في هذه الصَّلوات غير مختصَّة بالواجبة.

بل كل الصَّلوات حتَّى المستحبَّات المروية بتعاليمها منها تكون لازمة ولا تصح مشروعيَّتها إلاَّ مع تلك البسملة والفاتحة، حذراً من التَّشريع المحرَّم المغاير لذلك، مع

ص: 303


1- مستدرك الوسائل ج4 ص158 / أبواب القراءة ب 1 ح 5.ج
2- سنن البيهقي ج5 : 85 ، 87.جج

أهميَّة التَّأمُّل في قراءة القرآن النَّاجح في إيجاد انشراح الذِّهن وتنوُّره بسبب تلك البسملة وبالأخص من قبل الفقهاء في حالات الاجتهاد والخوض في الاستنباط لآيات الأحكام أثناء هذا التَّطبيق والأداء.

بل إنَّ الاهتمام بأمر البسملة هذه في قراءتها الحكميَّة التَّكليفيَّة الواجبة عند ذبح الذَّبائح لتذكيتها المتوقِّفة عليها والَّتي يرتبط بها الحكم الوضعي كذلك، وهو صيرورتها ميتة لو لم تقرأ البسملة عليها حين الذَّبح، ممَّا يجعلها مزيدة للعدد على أساس التَّعميم الَّذي ذكرناه وإن كانت آية الاستدلال عليها بآية أخرى تخصُّها في ذلك وهي قوله تعالى [وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ](1).

وهكذا في مقامات مستحبَّة أخرى كثيرة، ومنها قراءتها للتَّبرُّك عند الشُّروع بكل شيء وكما في الحديث الشَّريف وهو (كل حديث ذي بال لم يُبدأ ببسم الله فهو أبتر)(2)،وإنَّ الجهر بها من علامات المؤمن كما عن الإمام الحسن العسكري عَلَيْهِ السَّلاَمُ (علامات المؤمن خمسة صلاة الإحدى والخمسين وزيارة الأربعين والتَّختُّم باليمين وتعفير الجبين والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم)(3).

ومن أهمِّ تلك البدايات هي المطالب الدِّينيَّة العلميَّة والبحوث الفقهيَّة ونحوها والَّتي من أسرار أهميَّة قراءة هذه البسملة في بدايتها، إضافة إلى بركة تلاوتها.

وبالأخص لو سبقت بالاستعاذة من الشَّيطان الرَّجيم، لدفع الشَّيطان وشرح الذِّهن والصَّدر.

ص: 304


1- سورة الأنعام / آية 121.
2- أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (496) و (497)، وأخرجه أحمد في مسنده (14/329/8712)، وأبو داود في سننه (5/111/4840)، وابن أبي شيبة في المصنف (9/116/ 27219).ج
3- بحار الأنوار/ ج101 ص106 رواية 17 ب14.

وللتَّعمُّق الفكري النَّاجح والمنتج للاستنباط الصَّحيح والمبرئ للذمَّة بأداء وتطبيق أحكامه وبالوصول إلى هذه النَّاحية الأخيرة وتقبُّلها قبولاً حسناً.

نكون قد وصلنا إلى إمكان تعقُّل دخول البسملة في لوازم آيات الأحكام أو نفسها بالمعنى التَّوسُّعي كما مرَّ بيانه ولو إلحاقاً.

وقد يرتضى أمر كثرة أعدادها مع السُّور الأخرى المتفاوتة في مضامينها والَّتي قد لا يخلو كل منها عن بعض الأحكام الشَّرعيَّة المختلف كل منها عن البواقي في السور الأخرى.

سواء الأحكام المفصَّلة أو المجملة أو المذكور بالإشارة ولو كان أكثرها من نوع التِّكرار التِّأكيدي إذا بنينا هذا التَّوسُّع أو الإلحاق عليه ولو بالاستعانة بأدلَّة موضِّحة أخرى.

السَّابع/ خلاصة البحث

وخلاصة البحث ونتيجته تتحقَّق بأمور ختامها النَّتيجة، علماً بأنَّ الأمور هي ممَّا يساعد على عدم جعل المقياس في الأعداد هو خصوص الخمسمائة آية، وهي:

1 - التِّكرار الكثير من آيات الأحكام غير المرتبط بخصوص المعنى التَّأكيدي، لكونه في نفسه -- بدون معنى إضافي آخر له مثابته -- معيباً في الأدبيَّات في الغالب.

وهو المرتبط بالمتماثل في النصَّين أو الأكثر بجميع الحروف إذا التحق كل من ذلك بما بعده ممَّا لابدَّ أن يغيِّر مفاده ولو في المعنى كالخطابات الكثيرة المتشابهة أو غيرها من المتشابهات الكثيرة في الألفاظ القرآنيَّة المتفاوت كل منها مع تلك المتماثلة في معناها بما ارتبطت به بما بعدها مثلاً، بحيث تجعل كل متماثل بسبب هذا الالتحاق متفاوتاً مع ما يماثله في الحكم الشَّرعي، لكي يذهب الخلل التِّكراري الأدبي، وإن احتاج إلى القرينة الموِّضحِّة كالتَّقديم والتَّأخير.

ص: 305

بحيث لو لم يكن هذا العلاج لصار معيباً فيه أدبيَّاً والقرآن معجز خالد كما في آيات تعدُّد الصَّلاة والزَّكاة، فضلاً عمَّا لو صار تقديم وتأخير في مضامين بعض من ذلك المكرَّر كآية زكاة الفطرة والصَّلاة الَّتي بعدها ممَّا مرَّ التَّمثيل له.

2 - التِّكرار الاعتيادي كالمكرَّر مرَّتين فقط والَّذي قد يفيد أكثره تكراراً تأكيديَّاً إذا دلَّ دليل على عدم شيء من هذا التَّأكيد واضحاً كما مرَّ من بعض الاحتمالات المغايرة إذا جلعنا الأكثريَّة قرينة مفضَّلة أدبيَّاً على مجرَّد الاحتمال الضَّعيف مع عدم وجود حجَّة أقوى.

3 - التَّشابه اللَّفظي بين النُّصوص المتعدِّدة في بعض الحروف أو كثيرها أو أكثرها أو حتَّى الَّذي لا تشابه فيه من حيث اللَّفظ، ولكن قد يتقارب النصَّان أو الأكثر حتَّى في المعنى بما يظهر منه الاختلاف ولو بسبب أدلَّة أخرى، كما في المشترك المعنوي في مثل العموم والخصوص المطلق والَّذي من وجه، والَّذي قد تزداد بعض مصاديقه حتَّى على الخمسمائة آية.إلاَّ إذا كان قد ضبط بعض مصاديقه صاحب اقتراح العدد من الأعلام قدس سره، وهو ما لم يثبت لدينا عنه من حساباته التَّدقيقيَّة في التَّطبيق.

4 - ما قد يتوسَّع من العدد بسبب ما يخص العنوان وما يخص المعنون من الآيات الَّتي لو اجتمعت لزادت في ظاهرها على الخمسمائة إن لم نقل بتداخل كل منهما في الآخر تداخلاً مقلِّصاً للآيات ليصل إلى حد خصوص الخمسمائة أو ما يقاربها، لعدم ضمان ذلك بالشَّيء المسلَّم، وبالأخص لو استعين بسنَّة النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وعترته عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ في استيضاح بعض المعنونات أو بعض العناوين، ولذلك تعد هذه الخمسمائة إن بقينا عليها كجامعة لما يزيد، وبما لا يمنع منه عليها إن دلَّ الدَّليل عليها، وهي العدد الأقل المسلَّم به على الأكثر.

5 - ما يرتبط بالمشترك اللَّفظي من اللَّفظ الواحد والَّذي قد ينحل إلى معنيين أو

ص: 306

أكثر حسب القرينة الخاصَّة بما قد يوسِّع العدد بالوجه المختلف، وبما لا يخضع لخصوص الخمسمائة.

6 - ما يرتبط من ذلك في اللَّفظ القرآني الواحد الحامل لما فيه الحقيقة والمجاز، كالأمر بالصَّلاة الَّذي يراد منه حقيقة اليوميَّة ومجازاً صلاة الأموات ولو بواسطة السنَّة.

أو عموم الأدعية الرَّاجح شرعاً قراءتها من المصاديق اللُّغويَّة الأخرى وإن كانت شرعيَّتها واجبة تحت ظلِّ الإمام عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ كقنوت صلاة العيد أو حتَّى المستحب الَّذي لا ينبغي تركه في التَّنصيص كقنوت الصَّلوات.

7 - ما يرتبط من ذلك بالأمر القرآني القابل لأن ينطبق على المجمل، وهو أصل وجوب الصَّلاة على المكلَّف في تكبيرها وقراءتها وركوعها وسجودها وقنوتها وتسبيحها وعلى المبيَّن وهو عدد الرَّكعات وبقيَّة التَّفاصيل للكيفيَّة بواسطة السنَّة بانحلال هذا الإجمال إلى هذا المقدار من الاشتقاقات وإلى ما يزيد كثيراً في الأداء والقضاء وغير ذلك ممَّا لم يحصر بالخمسمائة آية.

8 - ما يرتبط من ذلك بالأمر القرآني القابل لأن ينطبق على المطلق، وهو وجوب أصل الصَّلاة على المكلَّف وإن لم يكن الوقت داخلاً ولم يكن متطِّهراً وعلى المقيَّد حين الدخول وهو التَّطهر قبل ذلك، ممَّا يمكن أن تتوسَّع بذلك الدَّائرة.

9 - ما يرتبط من ذلك في اللَّفظ النصِّي الواحد الحامل للمنطوق والمفهوم في آن واحد، ممَّا يمكن أن يحل كل معنى تكليفي في محلِّ المناسب من ذلك المنطوق والمفهوم القابل للأخذ به.

10 - ما يرتبط باللَّفظ الواحد الَّذي تتعدَّد فيه القراءة المغيَّرة للمعنى ممَّا سبق التَّمثيل له، وفي مثل هذا أيضاً ما تتوسَّع به الدَّائرة.

11 - ما سبق بيانه من الإشارات الجوابيَّة عن رواية الأرباع الأربعة الصَّحيحة

ص: 307

الَّتي أحدها ما يخصُّ الأحكام والفرائض لو أخذ به أخذاً حقيقيَّاً إن اعتمدت، فضلاً عن رواية الأثلاث، ممَّا لم تتأكَّد منه مقادير خصوص الخمسمائة آية ليبنى عليها دون الزِّيادات.

12 - ما يستفاد من سيرة الأنبياء والرُّسل الماضين في قصصهم من الثَّوابت الممضاة والمؤكَّدة في شرعنا ولو في بعضها.13 - ما مرَّ الكلام عنه في أمور النَّسخ الَّذي لا يرفع كل ما في الآية المنسوخة مع لزوم بقاء تلاوتها وكان الباقي متفاوتا ولو بعض الشَّيء عن النَّاسخ كما مرَّ وهو ما عبَّرنا عن النَّاسخ فيه بتخصيص العام.

14 - ما قد يستفاد من بعض الأحكام من تفسير القرآن بالقرآن ولو خالف التَّرتيب العثماني أو ما يربط بالنُّصوص الأخرى فتتوسَّع بسبب ذلك هذه المدارك.

15 - ما قد يستفاد من حالة التَّبعيض للآية الواحدة ذات الفقرات المتعدِّدة الَّتي يحمل كل منها حكماً مغايراً للأخر بلا تناقص كما فيما بين صدر الآية ووسطها وذيلها.

16 - ما قد يستفاد من بعض الآيات المختلفة اختلاف الحكم التَّكليفي عن الوضعي من الأحكام، لما دلَّت عليه آياته الَّتي من جملتها قوله تعالى [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ](1) وقوله تعالى [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى](2) وقوله تعالى [وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ](3) وقوله تعالى [وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ](4)، إلى غير ذلك.

ص: 308


1- سورة المائدة / آية 27.
2- سورة طه / آية 82.
3- سورة الأعراف / آية 139.
4- سورة آل عمران / آية 85.

17 - ما قد يستفاد من تلك الآيات القواعد الأصوليَّة والقواعد الفقهيَّة إن عمَّمنا كلمة الأحكام لها لما يشمل الأصول والقواعد.

وتفاصيل الفوارق بين هذه الأمور أو بعضها مبيَّن في موسوعتنا هذه في مواقعها المناسبة.

18 - ما يمكن أن يستفاد من اللَّفظة الواحدة في القراءة الواحدة إذا اختلف مبناها الصَّرفي بين أمرين كما في كلمة الأمر الَّتي قد تجمع على أوامر وعلى أمور كقوله تعالى [لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ](1) إذا لم يقصد منها خصوص التَّكوين.

وقد ساعدت السنَّة على ذلك ممَّا مضت الإشارة إليه ولو في خصوص ما يجمع على أوامر ممَّا يراد منه خدمة القضايا الأصوليَّة اللفظيَّة حينما لم يؤلف كونه من تلك الآيات، وهو ما يزيد على الخمسمائة آية إذا كان غرض العالم المحدِّد لرقمها أنَّه يقصد منه خصوص الأحكام لا الأصول والقواعد.

19 - ما يمكن أن يستفاد من الأدلَّة الإرشاديَّة بعض الأحكام الَّتي تقول بها العقول في خصوص مستقِّلاتها إذا لم تتوفَّر الأدلَّة الأصيلة في التَّشريع كما في بعض مستحدثات المسائل هذه الأيَّام إذا أمكن انخراطها في ضمن آيات الأحكام بالصِّفة الأعم.

20 - ما يمكن الاستفادة منه بالإلحاق كما في أمر البسملة وما يوصل بها من السُّور وبالأخص سور آيات الأحكام أو خصوص تلك الآيات.

فهذه الأمور وقد يكون غيرها لم يخطر ببالنا الآن كلُّها قد تساعد على عدم محدوديَّةعدد آيات الأحكام في الخمسمائة آية وإن كان تحصيلها من قبل الواصلين إليها لم يكن بالشَّيء السَّهل اليسير.

وعليه فالنتيجة وكما مرَّ بيانه في أثناء البحث بكون العدد الكامل لا يمكن

ص: 309


1- سورة الروم / آية 4.

إحرازه إلاَّ بعد نهاية الدَّورة الفقهيَّة التي نحن بصدد البحث العلمي فيها، ونسال الله تعالى التَّوفيق لإتمامها.

ص: 310

المقام الثَّالث

ما يختص ببحوث الدَّليل اللَّفظي الثَّاني

السنَّة بعد آيات الأحكام وما يتعلَّق بها

وفيه فصول:--

الفصل الأوَّل

ركنيَّة السنَّة بعد كتاب الله تعالى

وهي تتم بأمور:-

الأوَّل/ أهميَّة أصل السنَّة

وأهميَّة الكلام عنها لآيات الأحكام

لم تكن السنَّة في يوم من أيَّام الإسلام العزيز - كالَّذي تلاحمت لأجله مع الآيات لأكثر قضاياه الشَّرعية الفقهيَّة المهمَّة في مصادرها الإلهيَّة كتاباً وسنَّة وغيرهما واستقرَّت عليه في معدنها الصَّافي، ثمَّ استفرغت من معينها وعيونها الكبرى المعطاء العزيزة وهم النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وعترته عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ تلاحم الجوهر الموحَّد --

منعزلة ومستقلَّة لوحدها في التَّشريع، إلاَّ في قضايا محترمة تفهم من خلال عرضنا لها ممَّا يأتي وغيره.

كما لم يكن الكتاب الكريم مستقِّلاً ومنعزلاً عنها انعزال من قال (حسبنا كتاب

ص: 311

الله)(1) وحارب العترة والسنَّة الَّتي حملتها وحارب تدوينها، لشبهة ولَّدها من عند نفسه نفاقاً وانقلاباً على الأعقاب.

وهي الخوف من اختلاط السنَّة بالكتاب كما أراده النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في عترته، حرباً لوصيَّة النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في الآل عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، ودفعاً لخلاف الأحكام الرَّشيدة الأصيلة، ومحاربة لثقل حديث الثَّقلين (الكتاب والعترة) على قلوب كل منافق ومنقلب على عقبيه.

ولذلك - ولحاجة القرآن في آيات أحكامه، في باب توضيح الغوامض، وتبيين المجملات منها، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وبيان النَّاسخ من المنسوخ، وتعيين المشتركات اللَّفظيَّة، وتفهيم المشتركات المعنويَّة، وتشخيص الحقائق من المجازات، وفي أمور العلاجات في باب التَّعارض وغير ذلك.إلى هذا العِدل العظيم بعد الكتاب الكريم، وهو السنَّة في صحاحها ومعتبراتها ومقبولاتها في ميدان العمل، حتَّى الرِّوايات المحمولة على التَّقيَّة في خصوص مواردها والمرفوضة عندنا في مورد الاختيار، ولكنَّها مقبولة لأنَّها مؤيَّدة لرواياتنا في بعضها، ولو لتكون مقرِّبة في باب التَّقريب المذهبي لخفض عنف المخالفين معنا، أو ملزمة لأهل الخلاف بقاعدة الإلزام في البعض الآخر لو جاملناهم ورتَّبوا الأثر على ذلك برضاهم ولو مؤقَّتاً --

أعددنا هذا البحث لذكر بعض معالم السنَّة المهمَّة من حيث الصُّدور وأسانيده الكليَّة في رجاله وخصوصيَّاتهم، ومن حيث المتن والدِّلالة وقواعدهما ولو بإجمال.

ص: 312


1- صحيح البخاري ج: 4 ص: 1612، باب 78 باب مرض النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ووفاته ح 4168 وح 4169، وباب 17 باب قول المريض قوموا عنِّي.

الثَّاني / معنى السنَّة لغة واصطلاحاً

ومن المعلوم أن السنَّة في اللُّغة هي: الطَّريق، والصَّراط، والجادَّة، والمسلك، والمنهج(1).

ويراد منها سنَّة الطَّريق مثلاً، وجمعها سنن كذلك هي الطرق والمسالك، ويقال لفلان امض على سُنَّتك أي على مسلكك، سواء كان هذا المسلك محموداً أم مذموماً ما لم يرد تخصيص في ذلك، واستفيد ذلك أيضاً من حديث النبي عَلَيْهِ السَّلاَمُ (من سنّ سنَّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجره شيء، ومن سنّ سنَّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من وزره شيء)(2).

واصطلاحاً شرعيَّاً: هو كل ما جاء عن النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قولاً أو فعلاً أو تقريراً، من مضامين الأحاديث الشَّريفة أو المنسوبة إليه صحيحاً، بواسطة الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ومن نقل عنهم، ممَّا يشمل كل أمور الشَّريعة والدِّين على سعتهما.

ويلحق بالشَّريعة السِّيرة والسُّلوك والأخلاق وكل ما يناط بالأحكام التَّكليفيَّة من أمور الحياة، والَّتي لا تخرج أبداً عن عالم الوجوب والتَّحريم والاستحباب والكراهة والإباحة والأحكام الوضعيَّة الشَّاملة للصحَّة والفساد والقبول والرَّفض، والَّتي لابدَّ وأن يكون منها العقائد الحقَّة الَّتي هي أساس قبول العبادات، بناءاً على أنَّ كل شيء في الحياة مرتبط بالأحكام الخمسة الماضية وبالوضعيَّة التي بعدها.

فتوحيد الله مثلاً واجب كالصَّلاة الواجبة والشِّرك محرَّم ومرفوض، كما أنَّ الصَّلاة بعدم الإخلاص في النيَّة أو الشِّرك أو الرِّياء أو مجرَّد تركها عمداً محرَّمة وتمرُّد

ص: 313


1- لسان العرب -- ابن منظور -- ج13 ص226.
2- ثواب الأعمال: ص132 باب ثواب من سن سنة هدى، ومكارم الأخلاق ص454.

مرفوض.

بل إنَّ جزئيَّات العقائد تابعة للأحكام الفقهيَّة على ما مرَّ وسيتَّضح في مقاماتها.

وبحديث الثَّقلين الكتاب والعترة - وحديث (أنا مدينة العلم وعلي بابها)(1) وحديث (يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنَّه لا نبي بعدي)(2) وحديث (علي أعلمكم وعلي أقضاكم)(3) وغير ذلك -

عدَّت السنَّة في أحاديثها وتطبيقاتها ثابتة عن أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بعد النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ومن أوصى بهم لا غيرهم من حيث المبدأ، لأنَّهم (من أهل بيت زقُّوا العلم زقَّاً)(4)، كما اعترف بها عدوهم الألد يزيد الطاغية "لع" بقوله في الإمام السجاد عَلَيْهِ السَّلاَمُ ذلك، ولأنَّهم أهل بيتنزل الوحي في بيوتهم، وغير ذلك من المضامين الكثيرة المشابهة.

وقد ورد على لسان العرب في أمثالهم أنَّ (صاحب الدَّار أدرى بما فيه)، ومصداقه والمقصود منه أولاده الَّذين نزلت في حقِّهم آية التَّطهير مع النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وهم علي والحسنان وأمَّهما الزَّهراء عَلَيْهِا السَّلاَمُ من أهل الكساء دون نساء النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ.

ويلحق بهم الأئمَّة التِّسعة من ولد الحسين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ كما أثبتت ذلك الأدلَّة الخاصَّة فيهم.

وكل من روى بحق وصدق عنهم من خيرة الرواة من المرويَّات لابدَّ أن ينشر بصدق وحق ما نقول به منها، وكذب ما يخالفه الأعداء منها.

بل قد توسَّعت لفظة السنَّة في اصطلاحها، بعد ثبوت الامتداد الرَّصين لأئمَّة

ص: 314


1- فيض القدير، ج 3: ص 46، كنز العمال، ج 5: ص 600، المعجم الكبير للطبراني ج11 صفحة 65.ج
2- مسند أحمد - 3/67، صحيح البخاري 6/ 3، صحيح مسلم 15/ 175.
3- الحميدي في كتاب الجمع بين الصحيحين في خلافة عمر بن الخطاب.
4- بحار الأنوار ج45 ص 138 ب 39 ح1.

أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ مع الزَّهراء عَلَيْهِا السَّلاَمُ في نقل الأحاديث النَّبويَّة الشَّريفة عند الإماميَّة وعلماءهم حتَّى اليوم لأن يطلق عليها نفس الاسم، حينما ترد عن جميع هؤلاء حتَّى لو نقلوا الأحاديث بألفاظهم الشَّريفة وعملية النَّقل إن صحَّت من رواتهم مع ضوابط القبول لبُعد الزَّمن عن وقت الصدور الأساسي فهو منهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ أصح، لعدم مخالفتها لجواهر ما عن النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ.

وبالأخص حينما لا تعارض فيها مع الكتاب لو عرضت عليه كما دلَّت عليه رواياته وكلام الإمام إمام الكلام.

وعليه فيكون كل ما ورد عن النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ من طريق أئمَّة أهل البيت الهداة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ مع تطبيق شروط علمي الرِّجال والدِّراية والحديث هو من سنَّة النَّبي الواسعة.

بل لم يقتصر الأمر على خصوص هذا المورد، بل حصل التَّوسع في كون السنَّة سنَّة نبويَّة شريفة أصوليَّاً بكل ما صحَّ عن المعصومين الأربعة عشر عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ إلى صاحب الأمر الإمام الثَّاني عشر عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ في أقوالهم وأفعالهم وتقاريرهم.

الثَّالث / مصاديق السنَّة الثَّلاثة في عرف الإماميَّة

وهي:- كما هو معلوم وكما بيَّنَّا سابقاً أكثر من مرَّة

1 - قول المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ

2 - فعله عَلَيْهِ السَّلاَمُ

3 - تقريره عَلَيْهِ السَّلاَمُ

فقد بحث الأصوليون قديماً وحديثاً عن هذه الأمور الثَّلاثة، وبثُّوا أركان قبولها وجعلها أمراً مشخِّصاً للسنَّة حينما تصح الأقوال والأفعال والتَّقارير عنهم دون غيرهم، واستشهدوا بروايات كثيرة وفي مواقع مختلفة ثابتة عنهم، سواء وردت عن الرِّواة الممدوحين من قبلهم واتَّضح ذلك لنا بعد ذلك أيضاً.

ص: 315

أم جاءت عن رواة عرفناهم من الثَّوابت الرِّجاليَّة وقواعد علم الدِّراية والحديث أهلاً للقبول.

والمراد من قول المعصوم هو الحديث بنصِّه الأصيل كقول النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (صلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي)(1) و (خذوا عنِّي مناسككم)(2) أو ما كان منقولاً بالمعنى بلفظ آخر يؤدِّي نفس المعنى بدون تغيير لجوهره.

والمراد من فعله هو نفس أداء النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ الصَّلاة بمثل الصَّلاة خلفه أو ما يأتي به من أفعال الحج بنفسه ونحو ذلك، وكذلك متابعة بقيَّة المعصومين بما يفعلونه من الأعمال العباديَّة والنَّهج على مسلكهم.والمراد من التَّقرير هو ما لو أُجري الفعل العبادي مثلاً من قبل المؤمنين أمام أحد المعصومين ولم يُرفض من قبلهم.

الرَّابع / هل أنَّ كل ما ورد من أهل التَّسنُّن والمخالفين

يُعد من السنَّة عندنا؟

لا شكَّ ولا ريب بعد محاولة طمس آثار السنَّة الشَّريفة حقداً على العترة وعلى ما أوصى به النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في حديث الثَّقلين وغيره -- وبالأخص المضامين القرآنيَّة المشيدة بمقام العترة في مثل قوله تعالى على لسان نبيه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ [قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا

ص: 316


1- غوالي اللئالي ج1 ص197 الفصل التاسع ح8. والغوالي ج3 ص85 باب الصلاة.
2- أخرجه مسلم (2/ 943، رقم 1297). واللفظ للبيهقي في السنن الكبرى (5/ 204، رقم 9542)، ولفظ مسلم: "لتأْخذوا مناسككم فإنَّي لا أدري لعلِّي لا أحج بعد حجتي هذه".

الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى](1) حرصاً منه 2 على أخذ السنَّة من القربى --

من قبل المتآمرين على الخلاقة الإلهيَّة، لكون السنَّة إن أخذت من أهلها وطبِّقت بسلام لمَّا فلت أمر الخلافة الإلهيَّة من أيدي أولي القربى.

وبعد منع كل من يدِّون المحفوظ من السنَّة - بعد وفاة النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ومحاربته أو تهديده ومعاقبته ومن كل الطبقات وأوعز المنع جهاراً إلى المشايخ الثَّلاثة ومن تعاون معهم وخيف على السنَّة الأصيلة من الاندثار.

حرص كثيرون على التَّدوين ولو سرَّاً، فنقل الكثير عن النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ومن مختلف الطَّبقات ثقات وغير ثقات.

وهو ممَّا يعطي الأمل في صدق بعضها ولو من حيث المضمون، ويعطى الظن واليقين بكذب البعض الآخر، أو بتغيير المعنى من أثر الجهالة وعدم الضبط.

إضافة إلى ما أضيف إلى هذا المجال من الصَّحابة المختلفين أو الوضَّاعين وغيرهم، كما لفَّقه أبو هريرة الَّذي لم تتح صحبته للنَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ رغم فترتها القليلة التَّفرُّغ للأخذ منه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والجلوس بين يديه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مثلما كان متفرِّغاً للسَّابقين في الإسلام في مكَّة المكرَّمة تفرُّغاً تامَّاً، بسبب أنَّ إسلامه كان متأخِّراً وابتدأ حين مجيئه مع وفد اليمن للنَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ.

وكانت فترة صحبته له صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مزدحمة بالأحداث كفتح مكَّة والغزوات المختلفة الَّتي تلتها، كحنين وتبوك والطَّائف وغيرها، بالإضافة إلى حجَّة الوداع.

ثمَّ لم يحفظ منه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مباشرة طوال تلك الفترة المتقطعِّة الَّتي لم تصل إلى السَّنتين إلاَّ النَّزر القليل، وقيل فقط الآذان، حيث لم يأتي بالأحاديث الكثيرة، إلاَّ بالنَّقل الباطل عن أستاذه كعب الأحبار التَّابعي إن كان مسلماً في واقعه.

فكيف يروى الصَّحابي من هذا النَّوع عن التَّابعي من مثل كعب

ص: 317


1- سورة الشورى / آية 23.

الملوَّث؟(1)

ومن هذا وأمثاله كثرت الشُّكوك فحصل التَّورع الشَّرعي من السَّلف الصَّالح من نوع هذه الرِّوايات، حتَّى لو كانت بعض الرِّوايات من الثِّقات أو كانت معانيها مقبولة عند العرض على الكتاب، فلم يجعلوها دليلاً أساسيَّاً بعد الكتاب إلاَّ أن يرتضي بها الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

لكن بما أنَّ الواقع الإيجابي لا ينبغي نكرانه لصالح الألفاظ أو المضامين الإيجابيَّة من بعض هذه الرِّوايات ومن باب قوله تعالى [وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ](2) لا داعي لنكرانها بالمرَّة حتَّى لو أخذت مؤيَّدة أو مفيدة في مقام الأخذ بقاعدة الإلزام للمخالفين لإخضاعهم للتَّوحُّد أمام العدو الواحد ونحو ذلك.

وبناءاً على هذا فلا مانع من جعل هذه الرِّوايات الإيجابيَّة من السنَّة بالمصطلح التَّسنُّني كما في مفاد قاعدة الإلزام أو بالمصطلح اللغوي العام، وأمَّا بمصطلحنا الأصوليالخاص والشَّديد في ضوابطه فلا يمكن إلاَّ بجر المضمون الإيجابي لصالح رواياتنا الواردة من طرقنا لا ما جاء بغضاً من طرقهم ومنسوباً إليهم وترك الباقي في مزابل الموضوعات.

ص: 318


1- راجع ما صدر وما كتب عن حياته من الكتب المهمَّة (أضواء على السنة المحمدية)، و(شيخ المضيرة) لمؤلِّفهما محمود أبو ريَّة، و (السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث) للشَّيخ محمد الغزالي و (أبو هريرة وأحاديثه في الميزان) للدكتور نور الدين أبو لحية.
2- سورة الأعراف / آية 85.

الخامس / المقارنة بين رواية

(خذوا ما رووا ودعوا ما رأوا)(1)

ورواية (دعوا ما وافق القوم فإنَّ الرُّشد في خلافهم)(2).

لا شكَّ في أنَّ علماءنا أخذوا بروايات العامَّة والَّتي جاءت من طرقهم خاصَّة، لكن ليس بأجمعها، وإنَّما بروايات الثِّقات الَّذين لا يكذبون كما أشرنا في المطلب الثَّالث لو كانت مؤيَّدة، أو ما دلَّت القرائن على صدق بعضهم ولو صدفة.

بل ازداد أخذهم من ذلك حتَّى لو كانت بعض الرِّوايات مختلقة ونحو ذلك، أو من مختلقين وضَّاعين ولكن مضامين هذه الرِّوايات أو بعضها معتقد بها عند العامَّة وكانت من حيث النَّتيجة توافق مذهب أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ لجمع الشَّمل وإنجاح عملية التَّقريب بين المذاهب من الأغراض الثَّانويَّة، أو لا توافق مذهبنا في حالاتها أو بعضها ولكن يراد منا إلزام العامَّة بقاعدة الإلزام، وهي نتيجة قول الإمام عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ (ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم)(3).

كمسألة الطَّلاق بالثَّلاث في المجلس الواحد الَّذي نعتبره بدعيَّاً حينما كانت الزَّوجة شيعيَّة تحت المخالف الَّذي طلَّقها وأريد الخلاص من سيطرته الظالمة عليها، فبهذا الطلاق في نظر العامَّة تحرم عليه حتَّى تنكح زوجاً غيره، فإن خرجت من حبالته كانت حرَّة مطلَّقة في مذهبنا وإن كانت في مذهب من طلَّقها حرة بالتَّجحيش ثمَّ العود إلى الأوَّل والمحرَّم عليها عندنا.

حيث أنَّ التَّحليل الَّذي عندنا كان بالزَّواج الطَّبيعي بعد الطلاق لا بالتَّجحيش وحريَّتها بادية بطلاقهم بالإطلاق من هذا العمل إن شاءت ممَّا كان عليها من ذلك.

ص: 319


1- وسائل الشيعة ج18 ص ص 103 ، الحديث 13.
2- وسائل الشيعة: ج27 ص112.ج
3- وسائل الشيعة: ج26 ص158 ب4 ح32712.

وعلى فرض طلاق هذا الثَّاني لها أو موته فلها الحريَّة الكاملة أيضاً في الزَّواج من أيِّ مؤمن تشاء لا ممَّن كان مخالفاً ناصبيَّاً أو حتَّى من عدمه من بقيَّة المسلمين.

بل مقتضى الأمر في رواية المقارنة الأولى الواردة عن الإمام العسكري عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الدَّال على الوجوب -- حينما لم يدل دليل على الأقل منه -- يفيد وجوب الأخذ بما ذكرناه وحرمة تركه حينما تمس الحاجة إلى ذلك.

بحيث يصيب الأمَّة ضرر بعدم الالتزام بما ذكرناه من جهة جمع الشَّمل الإسلامي أمام العدو المشترك، ومن جهة إجراء قاعدة الإلزام، لا في أن تكون هذه الاستفادات كاستفاداتنا الطَّبيعيَّة العباديَّة كما تريده رواياتنا الأصيلة.

ولعلَّ من بعض ما ذكرناه الآن يكون داخلاً في قاعدة (الجمع مهما أمكن أولى من الطرح) إذا أريد منها تعميم هذه الأرجحيَّة حتَّى في هذه المصاديق الإضافيَّة كما هو المحتمل.

هذا كلُّه في مجرَّد الأخذ بالرِّوايات المأخوذة من طرقهم لا فيما اجتهدوا في معانيهمنها وأخذوا منها بما يرضيهم ممَّا يشدد في أزمات الخلاف فيما بيننا وبينهم.

وقد أيَّدنا في هذا من أكابر رجال سلف العامَّة الأول في ذلك عبد الله بن عمر في قضيَّة المتعة المشروعة في زمن رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والمستمرَّة في مشروعيَّتها من الكتاب والسنَّة والسِّيرة والَّتي حرَّمها أبوه بقوله (متعتان حلالتان كانتا على عهد رسول الله وأنَّا أحرِّمهما وأعاقب عليهما)(1).

حيث قال ابن عمر بعد هذا الَّذي حدث من أبيه ضدَّ ما شرَّعه الله ورسوله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ معلَّقاً عليه بقوله المنسوب له من كتب العامَّة والخاصَّة (أرأيت إن كان أبي قد نهى عنها وسنَّها رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ نترك السنَّة ونتبِّع أبي)(2).

ص: 320


1- تفسير الفخر الرازي الكبير ج 10 ص 50 الطبعة الثالثة.
2- مسند أحمد ج 2 ص 95 - 104 و ج 4 ص 4 -36.ج

وكما في رواية أن (يحي بن اكثم القاضي قال لشيخ بالبصرة كان يتمتع، عمن أخذت المتعة؟ فقال : عن عمر، فقال: له كيف وهو أشد الناس نهيا عنها؟ فقال: إن الخبر الصَّحيح جاء عنه أنَّه صعد المنبر وقال: إنَّ الله ورسوله أحلا لكم متعتين وأنا أحرِّمهما وأعاقب عليهما، فقبلنا شهادته وروايته عن رسول اللهصَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ولم نقبل تحريمه لها من قبل نفسه)(1).

وغير ذلك الكثير من المؤيِّدات.

اللَّهم إلاَّ في حالات مثل ما لو وافقت اجتهاداتهم وآراءهم آراءنا الشَّرعيَّة الأصيلة كما أشرنا إلى ذلك سابقاً، فيما لو اتَّفقنا معاً في النَّتيجة وفي أمور المستثنيات المذكورة في أمور جمع الشَّمل والتَّقريب وقاعدة الإلزام من موارد الوفاق لا الخلاف، وإن لم تكن نصوص رواياتهم الخاصَّة بهم دالَّة منهم على كل ذلك إلاَّ بتوجيهاتنا.

وقد أيَّد ذلك من رواياتنا الخاصَّة في أمور عرض الرِّوايات الَّتي يراد معرفة صحَّتها من عدمها ولو من حيث المبدأ على كتاب الله تعالى ما يمكن أن يقبل من تلك الآراء عند ذلك العرض.

ومن ذلك حالات تعلُّقهم بالمعنى اجتهاداً وبذلك تكون عبارة (دعوا) ليس على إطلاقها.

ويمكن أن يكون المراد من الأمر بالأخذ بما رووا هو حالة الأخذ للرَّد أو المناقشة الهدَّامة لرواياتهم المخالفة جهاراً سنداً ومتناً ودلالة وبما لا يمكن فيه جمع الشَّمل أصلاً.

بل يزيد في المشاحنة والخصومة، بل ويزيد على الوضع الإسلامي الأصيل بمثل

ص: 321


1- تفسير الفخر الرازي الكبير ج 10 ص 50 الطبعة الثالثة، جواهر الكلام نقلا عن حفاظ السنة ج 30 ص 148 وما بعدها.ج

ما يلتزم به وعَّاظ السَّلاطين من الفقهيَّات الباطلة واجتهادات أصحابها العاطلة والمعربة عن مداركها الباطلة، والَّتي منها ما كان يقوله أبو حنيفة (قال علي - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - وأنا أقول خلافاً لقوله)(1).وحُكي عنه أنَّه (كان يقول خالفت جعفر بن محمد في جميع أقواله وفتاواه، ولم يبق إلا حالة السجود، فما أدري أنه يغمض عينيه أو يفتحها حتى أذهب إلى خلافه وأفتى الناس بنقيض فعله)(2).

إلى غير ذلك من أمثال ما يشوِّش أو حتَّى ما يشوِّه عصمة النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وآله الطاهرين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ويقلب فضائلهم الأصيلة والَّتي لا تبارى في اعتبارها واشتهارها إلى رذائل.

ويقلب رذائل أعدائهم المنافقين والمفضوحين إلى فضائل كما صنعه الأمويون وغيرهم، بسبب بذل طائل الأموال والإغراءات الثِّقال عداءاً لأصل الإسلام.

إلى أن أوردوا من طرقهم كذلك ما افتروا به على الإسلام والمسلمين وعن بعض أئمَّتنا عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ كذباً وزوراً، كنسبتهم شرب الخمر إلى أمير المؤمنين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ أو أنَّ سكينة بنت الحسين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ تنادم الشُّعراء.

وغير ذلك من الكثير والجم الغفير ممَّا اعتنى به الأعداء وروَّجوا له نصرة لجاهليتهم، والَّتي يحاك لها اليوم بالعلمانيَّة وأمثالها أو بما يحارب خطَّ أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ على الأقل.

فإنَّ الأخذ بما رووا فضلاً عما رأوا باطلاً كذلك - في مثل ما مرَّ ذكره من الأمثلة الأخيرة - بدون مناقشة وردٍّ ولو للشُّبهات البسيطة - مقوم لباطلهم ومؤثِّر على حقوقنا المضيِّعة عند الأعداء.

ص: 322


1- الكشكول للشَّيخ يوسف البحراني 3/46.
2- نفس المصدر السَّابق.ج

وهو معناه سكوت عند الحاجة إلى الكلام المدافع عن هذا الحق، والسَّاكت عن الحق عند توفُّر الأدلَّة والمقدرة على دفعه شيطان أخرس ودفع للأباطيل لأن تنتشر.

وكيف يعرف الحق من الباطل من دون أخذ لروايات القوم للاطِّلاع عليها لمعرفة ما هو الصَّحيح المؤيِّد ولو في الجملة ليستفاد منه وما هو الباطل ليرفض.

وقد ورد عند الجميع (من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده وإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)(1)، كما ورد أيضاً (إن تركتم الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر سلَّط الله عليكم شراركم ثمَّ تدعون فلا يستجاب لكم)(2) وغير ذلك.

وممَّا يدل على تأكُّد الرَّد أو وجوبه عبارة الحديث الثَّاني الوارد عن الإمام الصَّادق عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وهو (دعوا ما وافق القوم فإنَّ الرُّشد في خلافهم)(3)، أي في اجتهاداتهم المخالفة للمشروع أو عن الرِّوايات المرفوضة عندنا معها إجمالاً.

وأمَّا ما يتعلَّق بهذه الرِّواية الأخيرة عن الإمام الصَّادق عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ لغرض معرفته بصورة أدق وللتَّدقيق في أمر المقارنة الجامعة ومداها وأمر المانعة ومداها ببعض التَّفصيل.فنقول: بأنَّ قول الإمام عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ هذا في فقرته الأولى منه يراد من ظاهرها هو النَّهي عن الأخذ بآرائهم، إمَّا لاجتهاداتهم في مقابل النُّصوص وقياسات واستحسانات باطلة، أو مبنيَّة على روايات لا صحَّة لها سنداً ودلالة.

وأمَّا الفقرة الثَّانية: فقد يراد منها معنى الرُّشد في مخالفتهم لنا، لوضوح الحق

ص: 323


1- ميزان الحكمة، ج 3، ص 1950.
2- رواه المسلم في (الإيمان) باب كون النهي عن المنكر من الإيمان برقم 49.
3- وسائل الشِّيعة: ج18 باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث19، الكافي ج1 ص23، وفي رواية أخرى (ما خالف العامَّة ففيه الرَّشاد).ج

المبين من طرقنا حتماً، لكثرة عوامل ذلك.

وإن حاول جميع الأعداء أو أكثرهم أو الكثير منهم طمس حقٍّنا وإتلاف الكثير من مصادرنا، إضافة إلى الكوارث الطَّبيعيَّة المدمِّرة طوال قروننا الإسلاميَّة المجيدة نصرة للدِّين وأهله من غير أن تحتسب.

وقد قال الشَّافعي تعبيراً عن هذا الحق النَّاجح والمتفوِّق على كل ما يريده الأعداء من حججهم الواهية بأنَّه قد (أخفى أعداء علي عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ فضائله بغضاً وحسداً وأحباءه خوفاً وطمعاً ثمَّ ظهر ما بين ذين وذين ما ملأ الخافقين)(1).

بل إنَّ ما أشاد بالدِّين الحق والمسلك الشَّرعي المدقَّق وعن صاحب الكمال المطلق والإمام الأوَّل المصدَّق وأبناءه فقهاء الأمَّة أولي الصِّدق ومن لسان الأعداء والمخالفين ومن طرقهم ومن الصَّدر الأوَّل ما هو أوفى وأوفق وكما قال الشاعر:

ومناقب شهد العدو بفضلها *** والفضل ما شهدت به الأعداء(2)

وبسبب ذلك اهتدى الكثيرون جدَّاً والى هذا الحين وإلى ما شاء الله ممَّا سيأتي.

وقد يُراد من (الرُّشد في خلافهم) هو الخلاف الواقع فيما بينهم، كالخلاف الواقع بين المذاهب الأربعة مع الزَّيديَّة وغيرهم وهو كثير.

وقد ساعد هذا الخلاف فيما بينهم على نصرة مذهب أهل البيت عَلَيْهِ السَّلاَمُ بصورة أكثر، بل أفادنا ذلك في أن حصل من أقوال بعض هذه المذاهب عن طريق تطاحنهم في الاستدلالات ما أنتج تفوُّق ما يريده مذهبنا ولو من حيث النَّتيجة.

كحرمة التَّكفير في الفرائض عند المالكيَّة، ووجوب حيَّ على خير العمل عند

ص: 324


1- الإمامة في ضوء الكتاب والسنة لمهدي السماوي ص129 ط 1977، مشارق أنوار اليقين، الحافظ البرسي، مؤسسة الأعلمي ط 1419، تحقيق السيد علي عاشور ص171.ج
2- للشَّاعر الفارقي، راجع تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار -- ابن بطوطة -- ج1 ص30.

الزَّيديَّة، والخمس في غير الغنائم الحربيَّة وغير ذلك.

وعلى هذا يحمل ما ورد عن العامَّة من الحديث النَّبوي القائل (اختلاف أمَّتي رحمة)(1) في بعض معانيه، لكون الحق لابدَّ أن يبرز منتصراً بين تلك الاختلافات ممَّا مرَّ ذكره وغيره.

وبهذين التَّوجيهين لرواية الإمام الصَّادق عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ إن أريد الرُّشد في مخالفتهم لنا أو فيما بينهم وكان حصول ما بينهم ضدَّنا في الأخبار الَّتي رووها.فلابدَّ من أن يكون ما في رواية العسكري عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من قوله عن بني فضَّال (خذوا ما رووا ودعوا ما رأوا)(2) مع عبارة النَّص الثَّاني.

هو عدم إمكان الجمع، إلاَّ فيما استثنياه في الحديث عن النَّص الأوَّل.

وكما أيَّد ذلك القاعدة المعروفة (الجمع مهما أمكن أولى من الطرح) وما أجمع عليه أصحابنا من الأخذ بالموثَّقات الواردة عنهم.

ومن ذلك ما حصل من تخالف المذاهب فيما بينهم في أنواع الأدلَّة اللَّفظيَّة المتعدِّدة الَّتي صادف أن يكون منها ما وافقنا ولو في توجيه ما استثنيناه، وعليه يكون إمكان الجمع بين الرَّوايتين جزئيَّاً.

وأمَّا إن أريد من (الرُّشد في خلافهم) هو مخالفتنا لآرائهم واجتهاداتهم - حينما كانت آراؤهم وجهالتهم عناديَّة لنا، لخبث نواياهم أو ضغط سلاطينهم الجائرين عليهم.

فانَّه لابدَّ وأن يتم الكلام بأنَّ عبارة (ودعوا ما رأوا) في الرِّواية الأولى و(الرُّشد في خلافهم) وهو الرِّواية الثَّانية قد تطابقا بمعنى موحَّد، وهو النَّهي -- وما يؤدِّي إليه --

ص: 325


1- سلسلة الأحاديث الضعيفة ج1 ص 140، الأسرار المرفوعة ص 50، الجامع لأحكام القرآن ( تفسير القرطبي ) ج4 ص 151 ، الجامع الصغير للسيوطي ص 24.
2- كتاب الغيبة: 240، الطبعة الثانية.ج

عن الأخذ بآرائهم.

كما استشهدنا به من مخالفات أبي حنيفة، وبقيَّة المخالفات من أمثاله الَّتي يبنون عليها من مؤدَّى الرِّوايات القبيحة الَّتي لا تتناسب مع مقام النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ووصيِّه وباقي أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ أو الموجِّهة من غيرها بسوء اجتهاداتهم.

يبقى الأمر بأخذ مرويَّاتهم بما في صدر الرِّواية الأولى مفصَّلاً بما ذكرناه.

السَّادس / هل من معاني

(اختلاف أمَّتي رحمة)(1)

هو خصوص ما يقع بيننا وبين العامَّة من الاختلاف؟

أم حتَّى ما بيننا نحن الإماميَّة؟

إنَّ هذه الرِّواية الواردة عن النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بواسطة القوم من أهل الخلاف -- بناءاً على صحَّتها أو صحَّة مضمونها الَّذي قد يوافق بعض مضامين رواياتنا ممَّا يدور فيما بيننا، وبالأخص إذا حملنا رواية الإمام الصَّادق عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الماضية وهي (الرُّشد في خلافهم)(2) -- بمعنى الاختلاف ودون الَّذي يدور فيما بيننا ولو في غالبه إن لم نبالغ مع كوننا مخطِّئة.

وأنَّ معنى الرُّشد الَّذي يشملنا من حالات الرَّحمة الَّتي تتَّسع لنا، وغير ذلك

ص: 326


1- سلسلة الأحاديث الضعيفة ج1 ص 140، الأسرار المرفوعة ص 50 ، الجامع لأحكام القرآن ( تفسير القرطبي ) ج4 ص 151 ، الجامع الصغير للسيوطي ص 24 ، المقاصد الحسنة للسَّخاوي ص 26.
2- وسائل الشِّيعة: ج18 باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث19، الكافي ج1 ص23، وفي رواية أخرى (ما خالف العامَّة ففيه الرَّشاد).

من القرائن.

قد يراد منها ما يقع بيننا وبين القوم من المناقشات المؤدِّية إلى استبصارهم عند انكشاف الحقِّ لهم.

أو بمعنى اختلافهم العنادي عنَّا والَّذي قد يؤدِّي بعد الهداية إلى الانصياع إلى الحق والى الاستبصار باتِّضاح أموره لمن ألقى السَّمع وهو شهيد، حينما يكون ذلك التَّفاوت في نقل الرِّوايات.

وهو الأقرب من معنى ما يقع بيننا نحن الإماميَّة، لضعف هذه الحالة ما بيننا.

لكن لا يمتنع ذلك من صدق هذه الرَّحمة بهذا الاختلاف بما يقع بيننا إذا يزداد بسببه شدَّ الأواصر أكثر، وبالأخص إذا فُسِّر بمعنى آخر وهو كون الاختلاف بمعنى تخالف الأمَّة على النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بمعنى الرَّواح والمجيء عليه.

لأنَّ بهذا الاختلاف إليه صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لابدَّ وأن تتوحَّد الرِّوايات وأن لا يؤخذ إلاَّ بما صحَّ منها.

ولكن يا ترى هل حصل بالنَّتيجة هذا التَّوحُّد كاملاً حتَّى تصل الرَّحمة كاملة للجميع؟

لكن للأسف لم يحصل إلاَّ النَّزر اليسير وبمعنى خصوص ما وقع بيننا وبين العامة أكثر، لا ما قد يقع بين بعض الإماميَّة أنفسهم ممَّا لا ينبغي أن يُعبأ به إلاَّ للوصول إلى ما تتجلَّى به الحقائق أكثر.

وأمَّا في كون ما بقي من التَّفاوت ما بيننا وبين العامَّة في الآراء والاجتهادات غير الهادية.

فلا يمكن قبول ذلك مطلقاً في أن يكون معنى لهذه الرِّواية، ما دامت أدلَّة أهل الخلاف ضعيفة واجتهادات في مقابل النُّصوص.

ولأنَّ الرَّحمة لا تشمل حالات العناد وكما سلف في الرِّوايتين عن العسكري

ص: 327

عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وجدِّه الصادق عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، وسيأتي تفصيل الكلام في خاتمة هذا الجزء.

السَّابع / هل إنَّ ما يعرض على الكتاب ويخالفه من الرِّوايات

في ترك العمل به خاص بما كذب على النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ؟

أم حتَّى الَّتي وردت عندنا وعند غيرنا ولم تفهم؟

لم يكن كل ما ترفضه آيات أحكام الكتاب الكريم (القرآن الشَّريف) بحسب الظاهر خاصَّاً بما كذب به على النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ دون ما لم يفهم من الرِّوايات حتَّى لو كان صحيحاً في سنده عندنا أو موثوقاً به عندنا من رواياتهم.

إضافة إلى أنَّ بعض ما كذب به بحسب الظاهر هو صادق في واقعه لوجود الاشتباه في التَّطبيق على نحو الكذب.

ولذلك نجد أنَّ ما كذب به لو عرض على الكتاب يكون مرفوضاً في نوعه ولا يمنع في بعض الأحوال من حالة عدم رفضه تماماً لما ذكرناه من حالة الاشتباه في تطبيق الكذب وإن كان قاصد الكذب آثماً في الواقع.لإمكان أن يتوصَّل بالتَّالي إلى الرَّأي المطابق للواقع.

وكذلك نجد الرِّوايات الأخرى - الَّتي لم نفهم المقصود منها وإن صحَّ سندها في بعضها - ما يرفضه الكتاب في بعض الحالات، ومن ذلك روايات التَّقيَّة كحالات الاختيار وفي بعضها الآخر ما يقبله كحالات الاضطرار أو ما لا يرفضه، للتَّأمُّل في أمر الوجه الَّذي يتناسب مع الرَّفض أو عدمه.

الثَّامن / هل إن أخذنا بروايات العامَّة للتَّعبُّد أم لا تعبُّد بها؟

من المعلوم أنَّ أخذنا بروايات العامَّة ليس للتَّعبُّد بها مطلقاً، لأنَّ العمل بها لو

ص: 328

كان مضمونها يغاير مضامين أدلَّتنا فسوف يؤدِّي إلى كون عملنا متناقضاً مع رواياتهم إن قمنا بالمفهومين.

أو باطلاً إن قمنا بما يخالف الصَّحيح حسب موازيننا، وهو ما تؤدِّيه رواياتهم نوعاً لا كلاًّ.

أو صحيحاً وهو ما تؤدِّيه رواياتنا وبعض رواياتهم غير المشخَّصة إلاَّ بالتَّفحُّص.

وبذلك يكون العمل برواياتهم لا داعي له تعبُّديَّاً.

وعليه فلابدَّ من اتِّخاذ وجه وجيه للعمل على طبق هذه الرِّوايات الإضافيَّة عند الحاجة الماسَّة وكما سلف بيان بعض أسباب العمل بها.

فإنَّ الحاجة الدَّاعية إلى اعتبار هذه الرِّوايات والعمل على طبقها وإن صحَّت عند العامَّة ولم تصح عندنا، أو وثِّق بها عندنا مع غزارة أو وضوح أدلَّتنا بالنِّسبة إلى عملنا، أو صحَّت عندنا ولكنَّها محمولة على التَّقيَّة، لا لأجلنا وإنَّما كان ذلك لأجل العامَّة فقط بينهم وأمامهم.

لتوسعة الفقه الجامع لأكبر عدد ممكن من المسلمين على اختلاف مذاهبهم كحالة التَّقريب وبما أشرنا إليه من حالات تطبيق قاعدة الإلزام.

التَّاسع / هل نعمل بكل الصِّحاح؟ وهل نترك كل الضِّعاف؟

لابدَّ وأن يركَّز في حالة العمل الاستدلالي عند الحاجة على قواعد مرتَّبة على أصول الحديث وقواعد الرِّجال.

فليس كل صحيح في سنده يمكن البناء عليه، لكون بعض حالاته لا يجوز الأخذ به، لأنَّه ممَّا أعرض عنه الأصحاب، وبعضها الآخر لا يعمل به إلاَّ في حالة التَّقيَّة.

وتبقى الحالات الأخرى يعمل بها في حالتين:-

أوَّلاهما: صحيح، ولكنَّه من أخبار الآحاد، وهو ما يطلق عليه بالأعلائي في

ص: 329

بعض حالاته، أو ما كان من الأدون، إلاَّ أنَّه محفوف ببعض القرائن الأخرى المقوِّية.

فإذا كانا من هذا القبيل فيمكن البناء عليهما في موردهما، وإلاَّ فلا يبنى عليهما للظن الضَّعيف في خبر الواحد المجرَّد ممَّا اشترطناه فيه في مقابل الأقوى منهما ممَّا سيأتي ذكره.

وثانيهما: الخبر المتواتر، وهو دليل مجرى العمل الشَّرعي الاعتيادي، وإن كان قليلاً أيَّام بُعد الإسناد مع توفُّره.

وليس كل خبر ضعيف يجب تركه أو الإعراض عنه، لكون بعض حالاته يمكن العمل به إذا كان محفوفاً بالقرائن المقوِّية له كما مرَّ ذكره، وبعضها ما لا يمكن العمل به أو يجب تركه وهو ما لم تحفَّه القرائن المقوِّية ممَّا سيأتي ذكره.

وبهذا التَّقييد المذكور نقدر أن نعرف القاعدة المطلوبة، وهي كل رواية صحيحة غير معرض عنها ولم تكن جارية في خصوص مقام التَّقيَّة حتَّى لو كانت من أخبار الآحاد غير الأعلائيَّة إذا حُفَّ بها من القرائن المقوِّية أو كانت أعلائيَّة معتبرةلابدَّ وأن يعمل بها، لو لم يشك في مضمونها فضلاً عن المتواترة.

العاشر / لماذا يُعد علم الرِّجال غير ميمون

في البحث فيه والالتزام بنتائجه؟

إنَّما يُعد علم الرِّجال غير ميمون بسبب بُعد الزَّمن عن المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وكثرة الوسائط الَّتي تسبِّب الجهل بالأشخاص وقلَّة المصادر وضعف المعرفة وضعف التَّدين أو ما يشبهه، ممَّا يُسبِّب سطحيَّة تشخيص حالات الجرح والتَّعديل بدون ورع.

ومن خلال هذا البُعد المتنوِّع تسبَّب البُعد عمَّن يراد معرفتهم في حالة الجهل بحالهم من حيث الجرح أو التَّعديل، فاختفت الحقائق أو ما أمكن الوصول إلى أشخاصها قبولاَّ بهم أو رفضا لهم بحق، لكون من أجمع على وثاقته أو عدالته أو

ص: 330

أجمع على وجود الخلل في دينه وإيمانه وصدقه لا كلام لنا في أمره قبولاً أو رفضاً.

ومن ذلك ما صرَّح الإمام عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ عنهم بالمدح أو الذم، وصح نسبة ذلك عن الإمام عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

ومنه من كان قريباً من عصرنا وعرفناه بالدقَّة الشَّرعية.

يبقى المجهول في أمره مع قلَّة المصادر أو تلفها بسبب الكوارث الطَّبيعيَّة وغيرها وغير ذلك ممَّا مرَّ ذكره.

وكون بعض الحالات ممَّا يستدعى الحمل على الصحَّة أو الاحتياط على الأقل ممَّا بين المؤمنين، وهو ما يتناسب مع رواية (احمل أخاك المؤمن على سبعين محمل)(1).

أمَّا بعض الحالات الأخرى كحالات الخلط فقد تشير إليها قول رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (احترسوا من النَّاس بسوء الظَّن)(2).

وقول أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ أيضاً (إذا استولى الصَّلاح على الزَّمان وأهله ثمَّ أساء رجل الظَّن برجل لم تظهر منه حوبة فقد ظلم، وإذا استولى الفساد على الزَّمان وأهله فأحسن رجل الظَّن برجل فقد غرر)(3).

وقول الإمام علي الهادي عَلَيْهِ السَّلاَمُ أيضاً (إذا كان زمان العدل فيه أغلب من الجور فحرام أن يظن بأحد سوءاً حتَّى يعلم ذلك منه، وإذا كان زمان الجور أغلب فيه من العدل، فليس لأحد أن يظن بأحد خيراً ما لم يعلم ذلك منه)(4).

وكذلك القول المشهور أو الحكمة المعروفة (إذا فسد الزَّمان وأهله فسوء الظن

ص: 331


1- الحدائق الناضرة / الشيخ يوسف البحراني، ج 18، ص312.
2- ميزان الحكمة ج2 ص1787، البحار: 77 / 158 / 142 وص 211.
3- نهج البلاغة: الحكمة 114.
4- ميزان الحكمة ج2 ص1787 وأعلام الدين: 312.

من حسن الفطن).

وإن كان عدم رجحان سرعة البت بالذَّم -- أو مجرَّد رجحان الحمل على الصحَّة -- لا يعطينا بتَّاً بصدق ما يقال من الأخبار.

فلابدَّ من التَّورع في هذه الأمور كثيراً ومع عدمه يصل الأمر إلى عدم الاعتداد به.

لكن لابدَّ للحق من أن يقال في أنَّ علم الرِّجال قد يحتاج إليه مع التَّدين والدِّقة والضَّبط والحاجة الماسَّة لتدقيق بعض أمور الكتب الأربعة، لأنَّها ما وضعت لأن يعمل بجميعها، وإنَّما وضعت للحفظ من الضِّياع على الأقل مع جلالة قدرها، لكونها عن خصوص الإماميَّة.

على أن يحقَّق في أمورها بعد ذلك في مجهود آخر، سواء من الواضعين للمنقولات الشَّريفة وهم المحمَّدون الثَّلاثة قدس سره أو ممَّن يأتي من بعدهم.

وقد دلَّت الأدلَّة الأربعة على حرمة العمل بالظن، وأنَّه لا يجوز نسبة أيُّ حكم له تعالى ما لم يثبت ذلك بدليل قطعي أو بما ينتهي إلى الدَّليل القطعي كما قال تعالى [قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ](1) وقال أيضاً [وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ](2)، وقال أيضاً[وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً](3).

إضافة إلى كثير وغفير من الرِّوايات العلاجيَّة والتَّوجيهيَّة للحواري وخيار الرُّواة، الَّتي منها ما في صحيح أبي بصير (قال قلت لأبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب الله ولا سنَّة نبيه فننظر فيها فقال "أما أنَّك إن أصبت لم

ص: 332


1- سورة يونس / آية 59.ج
2- سورة الإسراء / آية 36.ج
3- سورة يونس / آية 36.

تؤجر وإن أخطأت كذبت على الله")(1).

وغير ذلك من الرِّوايات، وكلُّها تدل على عدم جواز أيِّ تصدِّي لأي دليل محتمل ولم يتقن أمره إلاَّ بعد التَّثبت منه في السَّند والدِّلالة للتَّشويش الَّذي حصل وللاختلاق للأصحاب وللرِّوايات الَّتي وضعهما الأعداء وللخلل الَّذي منيت به كثير من الرِّوايات الواردة في كتبنا عنهم.

الحادي عشر / هل يُعد المدح والذَّم لرجال السَّند منحصراً

قد يتبادر إلى الذَّهن أنَّ الذم والمدح هل هو في خصوص ورودهما من الإمام عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ أو عنه بالمباشرة لمعاصرته لمن يروي عنه؟ أم يشمل ما نعرفه نحن أيضاً من تطبيقات قواعد عامَّة لذلك حتَّى في مجال بُعد الزَّمن عن المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، فيما يتعلَّق بخصوصيَّات الممدوحين والمذمومين ممَّا يستحقُّونه شرعاً لمعاصرتنا لهم لتكون القواعد واحدة أو متشابهة؟

فنقول: لا يمكن أن يكون أمر المدح أو الذَّم الطَّبيعيين لرجال السنَّة منحصراً في التَّشخيص لها من قبل الإمام عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ فقط.

بل يشملنا نحن كذلك فيما نعرفه عمَّن يروي عنا أو نروي عنهم.

بل يشمل كل مصادر الجرح والتَّعديل المصيبة للهدف والمتقنة له حتَّى في الوسائط الَّتي بين عصري الإمام وعصرنا، حتَّى لو احتطنا في أمر ما بين العصرين ممَّا مرَّ ذكره إذا حصلت تلك الإصابة وذلك الإتقان في تطبيق القواعد العلميَّة والاستقصاءات الميدانيَّة حول الأشخاص مدحاً أو ذمَّاً وصادف حصول ذلك بواسطة التَّسهيلات الإلهيَّة.

ص: 333


1- الكافي 1: 56، الوسائل في باب - 6 - من أبواب صفات القاضي.ج

بل حتَّى بعض ما يرد عن الإمام عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ حول رواته ومن يأخذ عنه فإنَّه يجب التَّأكُّد منه والتَّثبُّت في أمره لئلا يقع الإنسان في مطبَّات مشكلة، لكثرة الأعداء ومكثري الشُّبهات من أعداء الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، إضافة إلى بُعدنا عن زمن الإمام عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ المؤثِّر في الغالب لهذا الأمر كما مرَّ بيانه.

بل حتَّى في بعض ما يكون معاصراً لنا كذلك، لما يقع من الإشكالات وما يخفى علينا من بعض الواقعيَّات من باب أولى.

ولكوننا لم نكن معصومين فلابدَّ من التَّأكُّد في الدَّور الأوَّل وهو عصر الإمام عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ والعصر الوسط وعصرنا بمستوى يتناسب مع كل حالة تقتضيه للخروج من حالة الظنون المضرِّة والَّتي لا تبرئ الذمَّة بالاجتهاد والتَّخرص من دون استفراغ وسع عن غير أهليَّة.

الثَّاني عشر / السنَّة والبدعة

قد أشرنا في بداية الحديث عن المقام الثَّالث هذا وهو السنَّة الشَّريفة وعن معنى(السنَّة) لغويَّاً إلى حديث النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (من استنَّ بسنَّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن استنَّ بسنَّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)(1).

كما وضحَّنا ما ينبغي الكلام عنه أيضاً عن معناها اصطلاحاً، وبقي الكلام عن بعض التَّفاصيل الَّتي تتعلَّق بالكلام عن تفريقها عن موضوع البدعة.

فنقول: إنَّ المقصود من السنَّة في عرفنا التَّشريعي الإسلامي هو كل ما سنَّه رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ للأمَّة، استفادة من مضامين وحي الله القرآنيَّة ووحيه التَّأويليَّة

ص: 334


1- جامع أحاديث الشيعة - السيد البروجردي - ج 14 - ص 27، 1926 (16) عن الاختصاص 251.

وغيرهما من الأحاديث القدسيَّة دون غير ذلك، حيث قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى](1) وقال أيضاً [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا](2) وقال أيضاً [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ](3).

إلى غير ذلك من الآيات، وتضاف إليها الأحاديث الشَّريفة الَّتي تأمر وتنصح الأمَّة جمعاء بالاستنان بسنَّة النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ.

والَّتي بعد التَّأمل قليلاً في الآيات والرِّوايات الخاصَّة في المقام تتجلَّى لنا أهميَّة الأخذ بجميع ما صحَّ عن النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ من سنَّته قولاً وفعلاً وتقريراً كما مرَّ بيانه سابقاً، لا خصوص الأقوال أو الأقوال والأفعال.

بل حتَّى كل ما سكت عنه النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ من غير إنكار على فعل قام به المسلم، وهو المسمَّى بالتَّقرير.

واستمرَّ هذا الاصطلاح وارداً عن كل قول أو فعل أو تقرير من أحد الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

بدليل آية المباهلة الَّتي أدخلت وعبَّرت عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ تجاه رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بنفس واحدة في قوله تعالى [وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ](4) وقول النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في حق علي عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ (علي مع القرآن والقرآن مع علي)(5) وقوله (علي أعلمكم و علي

ص: 335


1- سورة النجم / آية 3 - 5.
2- سورة الحشر / آية 7.
3- سورة الأحزاب / آية 21.
4- سورة آل عمران / آية 61.
5- سورة النور / آية 36.

أقضاكم)(1) وقوله (أنا مدينة العلم وعلي بابها)(2).

وبدليل قول أمير المؤمنين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ليلة وفاة النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لمَّا سارَّه النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ تحت الكساء (لقد علَّمني رسول الله ألف باب من الحلال والحرام، ومما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، كل باب منها يفتح ألف باب)(3) وقيل (ألف ألف باب حتى علمت علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب)(4).

وبدليل أقوال النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ الكثيرة مسبقاً في أمير المؤمنين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وفي أولاده عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، ممَّا يدل على أنَّهم جميعاً القران النَّاطق، وبما يشمل الجميع مع الزَّهراء عَلَيْهِا السَّلاَمُ.

ومن ذلك ما في حديث الثَّقلين (إنِّي مخلِّف فيكم الثَّقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتيما إن تمسَّكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً وأنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض)(5)، لأنَّ العترة هي خزانة وحي الله وبيوتها البيوت الَّتي [أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ](6) وكما معروف على لسان العرب في أمثالهم أنَّ (صاحب الدَّار أدرى بما في الدَّار).

ص: 336


1- الحميدي في كتاب الجمع بين الصحيحين في خلافة عمر بن الخطاب.
2- فيض القدير، ج 3: ص 46، كنز العمال، ج 5: ص 600، المعجم الكبير للطبراني ج11 صفحة 65.
3- تاريخ ابن عساكر: ج2 ص483 - 484، تحت رقم : 1012، ط2، والجويني في (فرائد السمطين) ج1: 101 / 70، والمتقي في (كنز العمال) ج13 ص114 ح 36372، والحافظ المغربي في (فتح الملك العلي) ص48.ج
4- الخصال 2 : 173 و 174.
5- الترمذي في سننه (3786)، وفي معناه رواه الإمام أحمد في مسنده (3/14، 17، 26، 59)، وأبو يعلى في مسنده ( 117) وغيرهم، وبنحوه ابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 1598).
6- سورة النور / آية 36.

وهكذا ما في قوله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عنهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ جميعاً (أوَّلنا محمَّد وآخرنا محمَّد وأوسطنا محمَّد بل كلُّنا محمِّد فلا تفرِّقوا بيننا)(1).

وغير ذلك ممَّا يدل على أنَّ ما يؤخذ عنهم جميعاً من الأقوال والأفعال والتَّقارير هو السنَّة النَّبويَّة كذلك.

وبهذا التَّحديد في النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وآله عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ لا يمكن أن يعتبر من السنَّة ما نسب إلى الغير مهما كان، حتَّى لو صحَّ من بعض الأقوال عند البعض عن النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ممَّا قد يفيد الاحتمال في مقابل ما ذكرناه من الأدلَّة الباهرة، كما أشرنا إلى شيء من ذلك من الرِّوايات الموثَّقة عنده.

فإنَّه حينما يكون شيء من ذلك فإنَّما نقول عنه -- حينما لا ينافي كتاب الله وروايات النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وآله عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الواردة من طرقنا -- بأنَّه حديث نبوي وعهدته على راويه.

لا سنَّة نبويَّة صادرة عن فلان الصَّحابي أو التَّابعي بالدقَّة وهكذا، ولذلك اشتهر عندنا استضعاف هكذا نبويَّات إلاَّ ما حقِّق فيها.

لأنَّ عمليَّة البناء الشَّرعي لا تتم كاملة عنهم لأنَّهم مهما وثقوا فهم مجرَّد وسائط ليس إلاَّ والحجج هم الأئمَّة الأطهار.

نعم صدرت هناك ومن أسلاف السَّلفيين تعصُّبات وتزمُّتات ضدَّ خط أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، لمحاولة تصحيح هذه النِّسبة إلى رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عن طريق جعل بعض الصَّحابة أو من بعدهم هم محور النَّقل والاقتداء معاً.

فجعلوا الكثير من الرِّوايات المزيَّفة روايات عن النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وفي مقابل ما يصح عن أهل البيت الطَّاهر عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، لتغيير المعالم الإسلاميَّة الأصيلة مع أكابر أسلافهم الَّذين حاربوا تدوين السنَّة الأصيلة وكتابتها بالحجج الواهيَّة، وهي زعمهم الخوف

ص: 337


1- بحار الأنوار ج25 ص363 ح23.

من تلابس السنَّة بالكتاب مع ادِّعاء بعضهم نقصان الكتاب والعياذ بالله ممَّا سبق ذكره.

بل إنَّهم استأنسوا وتحزَّبوا لما أراده الشَّيخان كقول الخليفة الأوَّل (إنَّ النَّبي لا يورِّث)(1) لردِّ الزَّهراء عَلَيْهِا السَّلاَمُ حين مطالبتها بإرثها من أبيها من فدك والعوالي وغير ذلك، وأهم منها إرث الإمامة والخلافة الَّتي لبعلها علي أمير المؤمنين وأولاده المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُحينما انقلب القوم على أعقابهم إلاَّ خُلَّص الأصحاب واغتصبوها.

في حين أنَّ هذه الرِّواية وهذ الخبر آحادي لا أثر له ولا قيمة فيه في مقابل نصوص الميراث القرآنيَّة.

وكذلك قول الخليفة الثَّاني في متعة الحج والنِّساء (وأنَّا أحرِّمهما وأعاقب عليهما)(2).

وقوله أيضاً بتراويح النَّوافل الرَّمضانية جماعات، في حين أنَّ النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لم يفعل ذلك ولا أهل بيته عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ولا خلَّص أصحابه.

ولمَّا فرَّق الحسنان عَلَيْهِ السَّلاَمُ جموع المصلِّين لهذه النَّوافل صاحوا تحزُّباً للخليفة الثَّاني عند باب المسجد مستنكرين (وا سنَّة عمراه)(3) دفاعاً عنها.

فهذه الأخيرة وأمثالها من الكثير والجم الغفير من الأقوال والأفعال والتَّقارير الَّتي عن المشايخ الثَّلاثة، والَّتي منها أيضاً ما فعله الخليفة الثَّالث من إعطاء مروان (الوزغ) خُمس أفريقيا، وهو حمل أربعين بعيراً صداقاً لزواجه من ابنته.

وهكذا ما فعله الأمويون حينما أخليت الأجواء لهم من أمثال الوضع والدَّس

ص: 338


1- مسند أحمد ابن حنبل ج 1 ص198.
2- تفسير الفخر الرازي الكبير ج 10 ص 50 الطبعة الثالثة.
3- شرح نهج البلاغة ج12 ص283، جامع احاديث الشيعة8: 147، باب7، ح4 وح6.ج

والاختلاق، بما لا يمكن أن يطاق حتَّى فضح أولئك الأوائل والأواخر وحي الله وما أثبتته حجج الله من الحجج الدَّامغة بآياتهم السَّاطعة.

ومع ذلك أخذ أولئك النَّواصب والمتعصِّبون من المتقدِّمين ومن المتأخِّرين يقولون تذرعاً لهم عنهم بأنَّهم (اجتهدوا فأخطأوا).

وغير ذلك من الأعذار الواهية الَّتي لا تصلح أن تكون مع سبق الإصرار والتَّرك بالإعراض وعدم الاعتذار، كما دلَّت عليه الكثير من القرائن إلاَّ من نوع البدع المخالفة للسنَّة.

أمَّا البدعة:--

فبعد ما مرَّ بيانه تكون في مقابل السنَّة النَّبويَّة الأصيلة والواردة بواسطة أئمَّتنا عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، وما ألحق بذلك من النَّبويَّات الَّتي رواتها مجرَّد وسائط، لا مذاهب يًتحزَّب لهم، وإن اجتهدوا في مقابل النُّصوص والظواهر الشَّريفة.

ويدخل في ذلك كل تلفيق واختلاق وتشويش وإغلاق متعمَّد بسبب النَّقل بالمعنى، أو قلب للحقائق وتغيير في الأسماء لمن يستحق المناقب وجعلها فيمن يحبُّون وعدمها فيمن يكرهون.

ومن ذلك قلب الحقائق في بعض أسباب النُّزول المفترات، والَّتي منها ما يرتبط بآيات الأحكام تحريفاً.

فإنَّ كل ذلك وغيره مع وجود الأدلَّة الصَّحيحة من معدنها الأصيل في مقابلها يعد اجتهاداً باطلاً وابتداعاً محرَّماً تحرِّمه الأدلَّة الدَّامغة الصَّريحة والواضحة والَّتي منها قوله تعالى [ما آتاكم الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا](1) وقول النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (مَنْ قالَ في الْقُرآن بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّا مقْعَدَهُ مِنَ النّار)(2) وقوله (حلال محمَّد حلال

ص: 339


1- سورة الحشر /آية 7.
2- تفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن": 1/32، وفي تفسير "مجمع البيان": 1/9.ججج

إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة)(1) وقوله (من افتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه)(2).

أقول: فإذا كان المبتدع بهذا الوزن من المذمَّة فكيف يتحزَّب له ويُقتدى به بإصرار وعناد إذا لم يرد من ذلك إرجاع الأمَّة إلى الجاهليَّة الأولى وأحزابها.

نعم قد يُراد من الرِّواية الماضية في العنوان من قسمها الأوَّل (من سنَّ سنَّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء)(3) هو تطبيق قواعدنا الشَّرعية بالأفعال وتطبيق أصولنا الثَّابتة بالفروع، والَّتي أهمُّها ما لم يكن من الشَّرعيَّات مألوفاً في بعض المجتمعات والمدن الَّتي صار فيها مألوفاً كبعض الواجباتالمهجورة أو المتقاعس عنها ثمَّ صارت مألوفة.

وهكذا بعض المستحبَّات وبعض حالات الشَّعائر الدِّينيَّة المغفول عنها، وبالخصوص في آخر الزَّمان الَّذي صار فيه المعروف منكراً والمنكر معروفاً، لا من أتى بشيء لم يأت به الإسلام أساساً لأنَّه من البدع.

وقد يراد من هذه السنَّة هو ما أشيع فعله وصار نافعاً للفرد وللمجتمع ممَّا كان مباحاً في أصله ولم يكن عباديَّاً في مشروعيَّته كالمصنوعات النَّافعة من السيَّارات والطائرات وبقيَّة وسائط النَّقل السريعة والكهرباء والطب الحديث وغير ذلك ممَّا لا يعد ويحصى في هذا الزَّمن إذا قصد من ذلك الإنسانيَّة والقربة الإلهيَّة إذا كان الإنسان مسلماً ومؤمناً بالآخرة ولم يكن في ذلك ضرر متعمَّد من جانب آخر.

بل إنَّه داخل في بعض العمومات والإطلاقات المشجِّعة على ذلك وإلاَّ فأجره يكون مجرَّد صيت الدنيا، ولعلَّ كلا الأمرين مرادان إذا سبق التَّوفيق إلهيَّاً لهما.

ص: 340


1- أصول الكافي ج1 ص 58، بصائر الدرجات: ص 148 ب 31 ح 7.ج
2- الوسائل - باب 4 - من أبواب صفات القاضي - حديث 1.ج
3- جامع أحاديث الشيعة - السيد البروجردي - ج 14 - ص 27.

وأمَّا ما في القسم الثَّاني وهو [مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا](1) وقولهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ (ومن استن بسنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غيران ينقص من أوزارهم شيء)(2) لسبق الرَّحمة الإلهيَّة حتَّى في مثل هذه ليرى العبد المجرم مدى رأفته تعالى بعباده حتَّى في هذه الحالة لأنَّه لا يحرمه الله بجرم غيره وإن تأثَّر بفعله، لأنَّه هو الَّذي ورَّطه، وما مصاديق هذا الأمر إلاَّ بالبدع أمثالها على خصوص مبتدعيها دون من تأثَّر بهم لاحتمال ندامته.

الثَّالث عشر / لماذا تسمَّى العامَّة بأهل السنَّة؟

بعد الَّذي ذكرناه عن المتعصِّبين من مسلمي العامَّة ولو بالإشارة إلى قرائن اعتزازهم بهذه التَّسمية وإن عرفوا عن تصرُّفاتهم أو تصرُّفات المتعصِّبين من أسلافهم من الدَّس والوضع والتَّلفيق وإن كان واقعه معاداة للعترة الطَّاهرة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ في حديث الثَّقلين وإن لم يرتض المنصفون من بقيَّة أسلافهم هذا أو بعضه.

فإنَّ الصَّحيح أن يقال عنهم أنَّهم إذا حملوا هذه الصِّفة هم (أهل التَّسنُّن).

وهل نحن أهل العترة في مقابل ذلك ومعها السنة للصِّراع في حديث الثَّقلين بين عترتي وسنَّتي بعمومها وإطلاقها؟

أم أنَّهم أهل السنَّة الواردة من طرقهم ورجالهم الأوائل الَّذين منعوا كتابتها وإن صحَّت؟

أو ما سنَّه لهم الخليفة الثَّاني ولم يقبلوا ما يرويه الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ؟

ص: 341


1- سورة غافر / آية 40.
2- جامع أحاديث الشيعة - السيد البروجردي - ج 14 - ص 27، 1926 (16) عن الاختصاص 251.

فإنَّ ما يظهر للإجابة من نوع العامَّة وأهل التَّسنُّن هو أنَّهم في الظاهر أتباع سنَّة النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، وإن كان هذا الظهور غير ثابت من جميعهم، بسبب كثرتهم المتفاوتة وتعدُّد فرقهم واختلاف النَّواصب عن اللَّينين منهم.

على أنَّ ظاهر اللَّينين لم يثبت عنهم أنَّهم يقصدون كونهم أهل السنَّة حتَّى الَّتي ترد عن الأئمَّة المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وإن كان بعض ما يروونه من طرقهم فيه اسم بعض أئمَّتنا عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، لأنَّه من يفتِّش فقهيَّاتهم من جميع المذاهب الأربعة، ليجد الكثير والغفير ممَّا يخالف مسائلنا الأصيلة وأئمتنا عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ لم يقولوا إلاَّ حكماً واحداً.

يبقى النَّواصب ومن لفَّ لفَّهم قد لا يفهمون سوى السنَّة النَّبويَّة من المبتدعات والملفَّقات وما نقل بالمعنى البعيد، وما قاله بعض الصَّحابة من مشايخهم من الاجتهادات في مقابل النُّصوص مع ما ندر من النَّبويَّات الَّتي فيها مجال أو بعض مجال للتَّأييد ونحوه.

وبهذا الَّذي ذكرناه في نوعه يكون بانتسابنا إلى العترة في المقابل ومعه السنَّة الشَّريفة بالطبع لما أحدثه المخالفون من الصِّراع والتَّحزُّب سبباً في تَّسمية السنةالمخالفة وإن لم نقصد نحن المقابلة في ذلك للمعاداة المفقودة من جانبنا لا كما قد يتصوَّرون أو يُصوَّر لهم، وممَّا كشف عن تخربِّهم المعادي هو إصرار الكثير منهم على أنَّ حديث الثَّقلين لا يقول إلاَّ (سنَّتي) لا (عترتي أهل بيتي).

ومن هؤلاء المؤيِّدون لمنع صحابتهم الأوائل تدوين السنَّة، وجعل السنَّة هي ما نسب إلى النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ من طرقهم ولو باجتهاد الخليفة الثَّاني.

مع أنَّ الثَّابت في كتبهم ولصحة في السنَّد عندهم هو ما عندنا إلاَّ ما أصرَّ عليه النَّواصب وأمثالهم.

وقد لان الكثير من أهل اللِّين والإنصاف ومن ألحق بهم بعد معرفة عدم صحَّة فقرة (سنَّتي) في الحديث فاعترفوا بما عندنا.

ص: 342

الرَّابع عشر / علاقة السنَّة بآيات الأحكام

بناءاً على أنَّ السنَّة الشَّريفة -- من قول المعصوم وفعله وتقريره من النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ مع الزَّهراء عَلَيْهِا السَّلاَمُ الَّتي هي مثال المرأة المسلمة والمؤمنة في عموم الأشياء -- المرتبطة بالأحكام التَّكليفيَّة الخمسة والوضعيَّة المرتبطة بالصحَّة والفساد والقبول والرَّفض.

لابدَّ أن تكون مرتبطة بآيات الأحكام حتَّى الأحكام الاعتقاديَّة والأخلاقيَّة، وخصوص السِّيرة النَّبويَّة وسيرة أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الخاصَّة بهم وبمضمونها، لأجل أمرين:--

1 -- حاجة آيات الأحكام إلى السنَّة المتقنة لحل أمور المجملات من تلك الآيات والمتشابهات منها وحالات النَّسخ الَّتي فيها، وهكذا أمور تخصيص العام وتقييد الإطلاق الَّذي فيها ونحو ذلك.

2 -- حاجة السنَّة إلى الآيات في مسائل الإشكال والتَّردُّد في أمور ألفاظ ومطالب السنَّة عند عرضها على الكتاب لحل ذلك.

وشدَّة العلاقة هذه تبيَّنت من تأكيد النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ على هذا التَّرابط وانتشار أمره وإلى حدِّ أن صار حديث الثَّقلين متواتراً بين الفريقين وأخضع الكثير من أهل التَّسنُّن إلى الاعتقاد بكلمة (عترتي أهل بيتي) بدل ما لفَّقوه من كلمة (سنَّتي) بعد الاطِّلاع الصَّحيح على واقع الرَّاوي والرِّواية.

وكذللك من عبارة (وإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض)(1) الأخيرة في

ص: 343


1- القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ص 15 من طرق شتى، وأخرجها في ص 16 عن الإمام الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ، ورواه في معناه الترمذي في سننه (ح 3786)، وفي معناه رواه أيضاً الإمام أحمد في مسنده (3/14، 17، 26، 59 )، وأبو يعلى في مسنده (1017) وغيرهم.ج

الحديث.

ومن تأكيد النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ على ذلك بإرادته ليلة وفاته أن يؤتى له بدواة وكتف ليكتب هذا الحديث، لئلاَّ يحاول من يحاول الانقلاب على الأعقاب طمس هذه الحقيقة المهمَّة.

ولذا ورد الرَّفض من الثَّاني حيث قال (دعوه إنَّه يهجر)(1).

إضافة إلى النُّصوص الكثيرة جدَّاً كتاباً وسنَّة ممَّا يؤكِّد على هذه العلاقة بين الكتاب والسنَّة في العموم والخصوص.

الخامس عشر / صفات الرَّاوي

إنَّ الحرص المستمر من سلفنا الصَّالح -- من زمن المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ حتَّى الآن من الرِّوايات والسِّيرة المستمرَّة، وعلى نهج التَّخطيطات العلميَّة، البنَّاءة للواقع الشَّرعي،الهدَّامة للباطل المخالف، والمحافظة على الأقل على الموجود من الآثار الشَّريفة، لئلا تضيع أو لتبقى سالمة من الَّتي وضعوها في علم الرِّجال وعلم الدِّراية والحديث تجاه الرِّوايات المحدَّدة، لتوضيح آيات الأحكام ودعم معانيها باللفظ النَّبوي والإمامي الأوضح والأصرح --

قد أدَّى لأن يعطي هذا السَّلف لخير الخلف النَّصائح المهمَّة، لتحقيق المآرب الشَّريفة في العلمين المنيفين، والَّذي توجد في مجموعهما ما يرتبط بصفات الرَّاوي.

وبعد تقسيم الأخبار إلى متواترة وغيرها كانت الصِّفات المرادة في الاثنين حتماً.

ص: 344


1- صحيح البخاري ج: 4 ص: 1612، باب 78 باب مرض النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ووفاته ح 4168 وح 4169، وباب 17 باب قول المريض قوموا عني، صحيح مسلم في باب ترك الوصية ج5 ص76.

أمَّا في التَّواتر وهي المطلوبة الآن مع قلَّته، وهي شروط ثلاثة تخص المخبرين، واثنان تخص السَّامعين:--

أمَّا الأولى: وهي ما يخص المخبرين فثلاثة، وهي:--

فالأوَّل منها: أن يبلغ المخبرون حدَّاً في كثرتهم واختلاف أزمانهم وأماكنهم بنحو يمتنع فيه تواطؤهم عادة على الكذب.

الثَّاني: أن يستند علمهم إلى الوجدان والحس، فإنَّ علمهم مثل معلومة حدوث العالم المستنتج من الشَّكل الأوَّل، وإن كان علمهم بديهي الإنتاج، ولكنَّه في مقامنا المنقول لا يفيد قطعاً إلاَّ بما يطمئننا سنداً ومضموناً.

الثَّالث: استواء الطَّرفين المخبرين والواسطة الَّتي بينهما، أعني بلوغ جميع طبقات المخبرين في الأوَّل والآخر والوسط.

وأمَّا الثَّاني: وهي ما يخص السَّامعين فهما اثنان:-

أوَّلهما: ألاَّ يكونوا عالمين بما أخبروا عنه سابقاً اضطراراً، لأنَّه من قبيل تحصيل الحاصل، للفرق بين رؤية الحادثة وبين الإخبار عنها للغو.

الثَّاني: أن لا يكون السَّامع قد سبق بشبهة أو تقليد قد يؤدِّيان أو أحدهما إلى اعتقاد نفي موجب الخبر، لأنَّ مبنى التَّواتر وأهميَّة الأخذ به هو عدم الاصطدام بما يضادُّه، وهو رأي محترم لعلم الهدى قدس سره.

وكل ذلك مبني على شرط أساسي وهو العدالة أو عدم الفسق، لأنَّ الفسق نوعاً لا يؤمن به حالات التَّحرج عن الكذب إلاَّ في الموثَّق.

وإنَّ علماء الرِّجال قد استفادوا ممَّا ورد وصحَّ وروده عمَّا يناسب المقام أدلَّة كافية تثبت ذلك، مثل قوله تعالى [إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ](1).

ص: 345


1- سورة الحجرات / آية 6.

وغير ذلك من الرِّوايات إشارة أو تصريحاً وعما أتقنوه مبرئاً للذمَّة لتصحيح ما يأتي عنهم من الرِّوايات معزَّزاً من عدمه حول صفات الرَّاوي من المدح والذَّم، ومن ذلك الأعدليَّة والأفقهيَّة والأوثقيَّة الواردة في مقبولة عمر ابن حنظلة حيث قال عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ (الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر)(1).

وعلى هذا الأساس جاءت صفات الرَّاوي المعضودة مدحاً وذماً لمن لم يتَّصف بهذه الصِّفات أو أساسيَّاتها إذا اعتبرنا أنَّ رواة الأحاديث المعتبرين هم الفقهاء، والفقهاء هم رواة الأحاديث، وأمَّا الصِّفات الَّتي قد تراد عند الحاجة إلى أخبار الآحاد فهي الَّتي سوف تأتي في الأمر السَّادس عشر.

السَّادس عشر / صفات الرِّواية

صفات الرِّواية هي المتواترة، ومنها ما بين الفريقين والمستفيضة والمشهورة.

ومنها ما بين الفريقين والمعتبرة والضعيفة المجبورة بعمل الأصحاب ورواية الآحاد الأعلائيَّة والمحفوفة بالقرائن والموثَّقة أو المقبولة والعاميَّة والمرفوعة والمقطوعة والمعرض عنها والمحمولة على التَّقيَّة وإن كان كل منهما صحيحاً في نفسه والآحاد غير المعمول بها والضَّعيفة كذلك والنَّبويَّة.

وقد استفادوا عند متابعة الرِّوايات فعرفوا أنَّ من أهم صفاتها هي الشهرة الرِّوائية وهي المشهورة بين عدَّة رواة، وقد تكون منها المستفيضة ولكن قد لا يعتد بها إلاَّ بإحدى القرائن المقويَّة للمعتبرة.

ص: 346


1- وسائل الشيعة / 27 / 106 / باب 9 وجوب الجمع بين الأحاديث المختلفة.

السَّابع عشر / لماذا التَّقسيم

إلى الصَّحيح والحسن والضَّعيف والموثَّق

لم يكن التَّقسيم لخصوص ما ورد من طرقنا ورجالنا (رحم الله الماضين وحفظ الباقين) ولغير طرقنا وغير رجالنا من الأخوَّة العامَّة، وإن نشأ عندنا بين الأصولييِّن والأخبارييِّن شدَّة كما سبق و سيأتي موجزه.

وإنَّما للأعم من ذلك، لأجل معرفة مدى ما يمكن الالتزام به من الرِّوايات، والَّتي منها الموثَّقات والنَّبويَّات المشهورة والمؤيَّدة، والَّتي يمكن أن يجري بسببها عمليَّة التَّقريب أو ردع التَّزمت ضدَّنا على الأقل، وهو من مشاريع ألطاف ومحبوبيَّة المقارنة الفقهيَّة أمام العدو المشترك.

وأمَّا ما نحتاج إليه من ذلك من رواياتنا في مجموع كتبنا ومصادرنا القديمة والحديثة فقد قال نوع المحدِّثين بعدم الرِّضا بالتَّقسيم لوجوب الأخذ بكل ما ورد وبالأخص ما في كتاب الكافي.

وقال الأصوليون ومجتهدوا المحدِّثين بوجوب التَّقسيم للفروقات الكثيرة في الرِّواية والرَّاوي وبما لا يقبل الإنكار ولو الإجمالي للاستفادة من بعض الاستثناءات الخاصَّة.

وممَّا يؤيِّده ويساعد عليه كثير من المحدثين المجتهدين قولهم بأنَّه بما مضمونه (ما جمعت الكتب الجوامع من قبل أصحابها ليعمل بها وإنَّما جمعت لئلا تضيع وتدثر).

وهو ما معناه أنَّه يمكن أن يكون لمن يأتي من العلماء فيما بعد الحق في اختيار المعتبر من غيره في نظره بسبب التَّفاوت في الرُّواة والرِّوايات.

وبذلك لا داعي إلى الإكثار من النِّزاع فيما بنينا حول التَّقسيم وعدمه للزوم

ص: 347

التَّقسيم.

وبناءاً على ما ذكرناه من صفات الرُّواة وصفات الرِّوايات فلابدَّ من أن تكون أقسام الرِّوايات المأخوذ بها - على إطلاق الأخذ الَّذي معناه الأعم من المتعبَّد به وهو المنحصر في طرقنا المعتبرة ومن غير المتعبد به تعبداً كاملاً وهو المأخوذ من طرق العامَّة وإن أيد بعضه رواياتنا ونفع في عمليَّة التَّقريب أو نفع في مشروع تطبيق قاعدة الإلزام لحصر المتعبَّد به من ذلك في خصوص الموثَّقات من رواياتهم ولم يشك في أمرها وبالأخص المحفوفة بالقرائن من المرتبطة بشؤون الشَّريعة الفقهيَّة وحصره في النَّبويَّات الأخلاقيَّة المعروضة على الكتاب والسنَّة الَّتي من طرقنا ولم تخالفها والمشهورات المتَّفق عليها بين الفريقين -

هي: أنَّ الرِّوايات تنقسم إلى قسمين:--

أوَّلهما: الوارد من طرقنا فقط.

الثَّاني: هو الوارد من طرق العامة فقط

وكل من الطَّريقين المختلفين إمَّا أن يكون أحدهما يوافق الآخر، أو يخالفه.

والموافق من الطَّريقين إمَّا أن يكون مشهوراً، أو غير مشهور.

وكل من الاثنين إمَّا أن يكون الَّذي من طريقنا مشهوراً عندنا غير مشهور عندالعامَّة، أو غير مشهور عندنا مشهوراً عند العامة.

وهكذا الَّذي من طريق العامَّة، والعمدة في ذلك مدى الاعتبار من عدمه.

فالمعتبر عندنا: لا يختلف فيه الأمر بين كونه مشهوراً أم لا إذا كان مطابقاً للقواعد الآتية.

والمعتبر عند العامَّة: قد يكون موافقاً لمسلكنا من حيث النَّتيجة، وقد لا يوافقنا من حيث الطَّريق، سواء كان مشهوراً أم لا، ولكن قد يستفاد منه عندنا في بعض حالات التَّقريب، أو تطبيق قاعدة الإلزام عليهم.

ص: 348

وأمَّا المخالف فقد يكون مخالفاً بالكليَّة واقعاً، وإن أُيَّد من رواياتنا الصَّحيحة المحمولة على التَّقيَّة.

فإنَّ هذا النَّوع لا يجوز العمل بتأييده عندنا اختياراً إلاَّ في مورد التَّقيَّة فقط، وقد يكون التَّخالف في الجملة كما في حالة العموم والخصوص المطلق والعموم والخصوص من وجه نبينا وبينهم، فلا يعمل إلاَّ بما وافق حالة الاختيار من حالاتهما السَّانحة.

وأمَّا خصوص الوارد من طرقنا فإمَّا أن يكون خبراً متواتراً أو خبراً آحاديَّاً.

والمتواتر قد يلحق به المتواتر بالمعنى والمستفيض مع شرطه.

والآحاد قد يكون أعلائيَّاً، وقد لا يكون، وكل منهما قد يكون محفوفاً بالقرائن، وقد لا يكون.

وبسط الكلام أو بعضه لابدَّ وأن يكون بعد تعريف كل من المتواتر والآحاد فنقول:

أوَّلاً: الخبر المتواتر

إنَّ معنى الخبر المتواتر: هو كما مرَّ خبر جماعة يفيد بنفسه العلم بصدقه، ولا ريب في إمكانه ووقوعه في طرقنا مع دقَّة ضوابطه، وإن لم يكن كثير منه جدَّاً ما يعني الفقيه، لانحصار الأمر بتوفُّره.

وقد ناقش البعض من أهل الملل الفاسدة على ما حكي عنهم بإشكالات واهية، يُعد التَّداول بها تأييداً للبهت والمكابرة ضدَّ أهم الحقائق الثَّابتة الماضية، أو ترويجاً لمزالق الأفهام المؤثِّرة على الحقائق، بل باعثاً على السُّخرية لكل حقائق التَّأريخ الماضي بعدم وجود مصاديق المتواترات.

ولكنَّا نجد العلم الضروري بالبلاد النَّائية والأمم الخالية منَّا غالباً كما نجد العلم بالمحسوسات، ولا فرق بينهما فيما يعود إلى الجزم، وما ذلك إلاَّ بالأخبار المتواترة

ص: 349

قطعاً عن عوالمها وحالاتها وبما لا مجال لإنكاره.

وقد جرَّبنا الكثير من هذه الحالات -- وحالنا حال الآلاف والملايين من الآخرين -- في أسفارنا الَّتي طبَّقناها لتلك البلدان النَّائية التي آمنَّا بها قبل سفرنا إليها، بسبب تواتر العلم بها وبأخبارها، كإيمان المتيقَّن بالمحسوسات، وبعد تطبيق سفرنا إليها ما تبيَّن منه غير ذلك التَّطابق.

وهكذا أخبار خير الخلف عن خير السَّلف وبالكثرة المعتبرة المؤثِّرة.

إلاَّ أنَّه لأجل الضبط الأهم ولخطورة أمور الشَّريعة لئلاَّ تدلُّهم قد بينَّا أنَّهم قد اعتبرواشروطاً في الرَّاوي المخبر وهي ثلاثة، واثنان في السَّامع، إذا توفَّرت تسدِّد الأمر المطمئن وتبيَّن سخف أي مستشكل عليه، وقد مر الكلام عنها سابقاً بما لا يحوج إلى التَّفصيل أكثر.

ويلحق بالخبر المتواتر ما تواتر في المعنى، إذ قد تكثر الأخبار وتختلف في الألفاظ، ولكن يشتمل كل منها على معنى مشترك بينها بجهة التَّضمن والالتزام، فيحصل العلم بذلك القدر المشترك، ويسمَّى المتواتر من جهة المعنى.

كتواتر ما أنتج جمع القرآن بين الدَّفتين ووقائع أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ النَّاجحة في حروبه المتعدِّدة في غزوة بدر وأُحد وحنين وغيرها، لتضمُّن الأخبار على اختلافها نفس معنى الحدثين المهمِّين، وبالالتزام استفيدت حجيَّة القرآن وشجاعة أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

ثانياً: الآحاد، وهو ما جاء في سلسلة الإخبار به من طريق واحد، وهو ما سيأتي توضيحه في الفصل الثَّالث آخر ما نحتاجه في الكلام عن بحوث السنَّة من هذا الجزء الثَّالث -- من مباحث الألفاظ --.

ص: 350

الثَّامن عشر / أسباب التَّعارض في الأخبار

قد بيَّنا سابقاً أنَّ لسان آيات الأحكام لم تكن بحاجة إلى الكلام عن أسباب التَّعارض -- الَّذي قد يمر على البال -- فيما بين جملها الَّتي لا وجود لأي تعارض في واقعه حولها وحول غيرها لإعجازيَّات كلام الله تعالى حول المطلب الفقهي الَّذي لابدَّ أن يكون واحداً كبقيَّة آياته ومعانيها الأخرى، ليصير الحق واحداً في مقابل الباطل الَّذي يعاكسه، بمثل ما تدعو له تلك الحاجة فعلاً إلى بيانها، فيما لو وجد بين الأخبار الفقهيَّة المتعارضة أصوليَّاً على الأقل.

لأنَّ آيات الأحكام قطعيَّة الصدور ومحكمة المعاني الَّتي لا يتفاوت بعضها مع بعض، لإمكان إرجاع متشابهاتها إلى محكماتها وإن أجملت، لإمكان إزالة الإجمال الَّذي فيها إلى المبيِّنات ونحو ذلك، ومن ظنيَّات معانيها لا يُعبأ بها إلاَّ بعلاجها ببعض الأخبار.

فلا تعارض من هذه النَّاحية حتَّى تذكر الأسباب أو شيء منها باتِّساع.

لكن يحتاج إلى التَّأمُّل الجيِّد في موارد الحساسيَّات المحتملة ولو بالاستعانة بآيات أخرى موضِّحة أو روايات معتبرة كاشفة عن السَّداد الإلهي المعهود ثبوته في عقائدنا المسلَّمة حول ذلك.

وأمَّا القول بأنَّ المشكل لم يكن هو في الصدور، وإنَّما موجب التَّعارض هو في الدَّلالات، لأنَّها ظنيَّة لا قطع فيها؟

فإنَّه لابدَّ وأن يجاب عنه بأنَّ الظنيَّة على نحوين:--

أحدهما: ما لم يُبنَ عليه للنَّهي عن الأخذ به فلا داعي لذكر الأسباب النَّاتجة من التَّعارض الحاصل عن طريقه هناك، لعدم اعتباره بسبب الظنون الَّتي لا يُبنى عليها.

ص: 351

ثانيهما: ما كان مقبولاً ومعتبراً سواء جاء من نفس الآيات الكاشفة عن الآيات الأخرى، أو من السنَّة المعتبرة الَّتي تعضد مضامين الآيات الظنيَّة العلميَّة لتقوِّي تلك الظنيَّة العلميَّة لتشكِّل العلم للحكم الواقعي أو الحكم الظاهري المحتاج إليه حالة فقد الواقعي.

وهذه ممَّا يندر عند أهل التَّحقيق والتَّدقيق حصول التَّعارض بسببها مع وجود هذا النَّحو الثَّاني.

ولذلك كان حديث الثَّقلين المشهور بين الفريقين القائل في آخره (وإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض)(1) بناءاً على أنَّ العِدل للكتاب هو روايات العترة الصَّحيحة.

وبذلك لم يكن تعارضاً معتدَّاً به مطلقاً وإنَّما التَّعارض المحتمل في مقامه هو ما يؤدِّي إلى التَّزاحم المحرج بين الصَّحيح الاعتيادي وغيره حتَّى الموافق للتَّقيَّة وهذا لميكن مهمَّاً.

للفرق بين الإحراج عند الاضطرار بوجوب الالتزام به دون الاختيار لعدم الإحراج فيه.

فلابدَّ أن يبقى التَّركيز على خصوص الأخبار ليتعرَّف على أسباب التَّعارض فيما بينها، لكونها ظنيَّة الصدور واتِّساع أسباب هذه الظَّنيَّة بما أشرنا.

كالإضافة إلى تعدُّد درجات الظُّنون بين ما يُعتبر وما لا يُعتبر وعدم إحراز القطعيَّة في معانيها لانخفاض ما دون المقطوع به منها إلى ما قد يُعتبر على مضض وإلى

ص: 352


1- القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ص 15 من طرق شتى . وأخرج ص 16 عن الإمام الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ، ورواه في معناه الترمذي في سننه (3786)، وفي معناه رواه أيضاً الإمام أحمد في مسنده (3/14، 17، 26، 59 )، وأبو يعلى في مسنده (1017) وغيرهم، وبنحوه ابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 1598).

ما لا يُعتبر.

وعليه فنقول:--

إنَّ التَّعارض فيما بين الأخبار لكثرتها والتَّفاوت في أسانيد نقلها واختلاف ألفاظها ونحو ذلك ممَّا له أسبابه العديدة:--

أحدها: ما كان اللَّفظ فيما بين الاثنين واحداً، ولكن السنَّة متفاوتة بين المقبول وغيره بحسب صناعة علم الرِّجال، ولكن هذا ممَّا لم يحرج الفقيه كثيراً، لأنَّه يعتبر مبناه هو المقبول لا غيره وغير المقبول يعد مؤيِّداً، وبالأخص من ذلك الثِّقة.

ثانيها: ما كان اللَّفظ متعدِّداً ومختلفاً وكان السَّند يتفاوت كذلك بين المقبول وغيره بحسب صناعة علم الرِّجال، إلاَّ أنَّ هذا الاختلاف في لفظي الروايتين له حالتان يتفاوت الأمر من جهتهما.

فإن كان الاختلاف اللَّفظي لا يضر بالمعنى الموحَّد فيما بينهما حسب الموازين الأدبيَّة العربيَّة والبيانيَّة وكان بينهما عدم فرق في المعنى، فلابدَّ من العمل بهما كما في أمر السَّبب الأوَّل.

وإن كان الاختلاف اللفظي بينهما مضرِّاً بالتَّوحُّد -- بحيث يكون أحدهما مبيحاً والآخر محرَّماً -- فلابدَّ في هذا من البناء على مقبول السَّند لا غيره، وإن كان غير المقبول يبنى عليه في مورد التَّقيَّة لأنَّ الضَّرورة تقدَّر بقدرها.

ثالثها: إذا كان الخبران متفاوتين معاً بلا مجال للتَّوحُّد وكان سند كل منهما مقبولاً فهذا له حالتان:--

الحالة الأولى: إذا أمكن الجمع ما بينهما من دون ضرر للاستفادة منهما جهد الإمكان، حسب قاعدة (الجمع مهما أمكن أولى من الطَّرح) كما سيجيء في هذه الحالة.

كما لو كان بين الاثنين حالة اختيار وحالة تقيَّة - كما أشرنا في آخر السَّبب الثَّاني

ص: 353

- وعرف مورد التَّقية فيبنى عليه في خصوص موردها ويبنى على حالة الاختيار في جميع الموارد لو لم يحصل التَّزاحم مع التَّقيَّة في الجو الاجتماعي الواحد.

ولكن المشكل إذا لم يعرف خصوص مورد التَّقية عن غيره فيما بين الأمرين ممَّا بين زمانين ومجتمعين.

إلاَّ أنَّ المهوِّن للخطب هو إتِّباع ما خالف العامَّة من الاثنين في مرحلة الاختيار دوماً إذا عرف ولم يضرُّه من العامَّة ضرر.وكما لو كان بين الخبرين عموم وخصوص مطلق أو عموم وخصوص من وجه فإنَّه لابدَّ وأن يبنى من ذلك على خصوص مورد الالتقاء، ما لم يكن مورد الالتقاء موافقاً للتَّقيَّة لأنَّه لا يبنى عليه إلاَّ في خصوص مواردها كحالات لزوم الإتِّقاء.

الحالة الثَّانية: فيما إذا لم يمكن الجمع ما بين الخبرين للتَّعاند لكون أحدهما يبيح والآخر يحرم فلابدَّ في المقام من ملاحظة التَّفريق بين ما وافق العامَّة وتركه وما خالفها والعمل به وأمر التَّفريق بين حالة التَّقية عن غيرها كما مرَّ واتِّباع حالة قاعدة (دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة)(1) في مقام ذلك.

إلاَّ أنَّ البعض ذكر إمكان الجمع في المقام كالالتزام بصلاة الجمعة لا بنحو تشريع وجوبها وصلاة الظهر، لاحتمال بقاء الظهر على الأصالة عند صلاتها حال صلاة الجمعة بعد ذلك إذا كان أحد الخبرين يقول بحرمتها والآخر يقول بخلافه، ولو بأن تُصلَّى الجمعة بنحو استحبابي على قول.

رابعها: إذا كان الخبران متفاوتين في المضمون وأمكن الجمع بينهماوكان أحد طريقهما أقوى والآخر ضعيف مقوَّى بعمل الأصحاب ونحوه أو كان ممَّا اجتمعت في المضمون روايات ضعيفة عديدة في كل منها ولكنَّها تشكِّل قوَّة معتبرة وهذا أمر هيِّن.

خامسها: إذا كان الخبران منقولين بالمعنى وفي هذا حالتان:-

ص: 354


1- كفاية الأصول : 214.

إمَّا أن يتوافقا أو يتفاوتا.

وهذا التَّفاوت إمَّا أن يكون فيه إمكان جمع أو لا.

ومع إمكان الجمع وصحَّة النِّسبة أو قبولها فالأمر سهل وإلاَّ فلا.

سادسها: إذا كان الخبران فيهما أو في أحدهما تحريف أو تلفيق أو اختلاق، فإن كان فيهما معاً ذلك فيرفض الكل.

وإذا كان في أحدهما ذلك دون الآخر أخذ بالآخر إذا كان مقبولاً في سنده ودلالته ويرفض الثَّاني، إلاَّ إذا كان مضمونه يؤيِّد الأوَّل، فإنَّه يلحق بمداركنا لكنَّه ليس لنا وإنَّما للعامَّة في قضيَّة التَّقريب المذهبي مع كونه مؤيَّداً لما يقول به البعض منَّا.

أو أنَّه من الموثِّقات المأخوذ بها في بابها عندنا إذا حُفَّ بالقرائن وله مصداقية شرعيَّة بمثل إمكان عدم التَّعاند، وسيأتي تفصيل علاجه في باب التَّعادل والتَّراجيح.

التَّاسع عشر / ورود استضعاف النَّبوياَّت

قد مرَّ أيضاً أنَّ الأحاديث الَّتي تفاوتت نوعاً وبدَّقة في بعضها سواء الَّتي من بعض طرقنا غير المدروسة أو طرق العامَّة، هي بسبب الوضع والتَّلفيق والنَّقل بالمعنى غير المساوي بتمام لكلام النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والإمام عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، وكون بعض طرقنا من غير الإماميَّة الكاملين، إضافة إلى عموم أو نوع طرق العامَّة في أكثر الحالات دون المأخوذ بها عندنا منها في اشتراكها بين الطَّريقين.

وإذا كان بعض طرقنا تحتاج إلى تهديب وتدقيق فكيف بطرق العامَّة، وخصوصاً في الفقهيَّات، فمن الأولى أن يتقن أمرها طريقاً ودلالة لتلتحق بالموثِّقات من رواياتهم.

وبالأخص فيما يتعلَّق بسيرة النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وأهل بيته عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الَّتي قد تثار من خلالها عن طرقهم الشُّبهات على نزاهتهم وعصمتهم، دون اعتذار الأعداء بمثل ضم النَّبي

ص: 355

صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والآل عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ في سيرتهم إلى ما يشبه سيرة الجاهليَّة الَّتي كان هؤلاء الأعداء سائرين على نهجها بنفاقهم لجعل أكاذيبهم عنهم حاملة لهم عليها.

ولذلك ورد عندنا القول باستضعاف النَّبويَّات، وهي الواردة من طرق غير الإماميَّة عن النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ كما مرَّ من الإشارة إلى بعض الأسباب، وكذا ما اختلط منها.

ولذلك وغيره نجد المشايخ الثَّلاثة في عهودهم بعد وفاة النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أنَّهم كانوا يحاربون من يدوِّن أحاديث النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ الأصيلة.

لكن نحن وإن كنَّا ننتفع بمثل بعض الحالات من هذا القبيل في دعم مسألة الاستضعاف إلاَّ عن طرقنا عن أئمَّتنا عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الَّذين أوَّلهم إمامنا أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ ومعه الزهراء المعصومة والحسنان عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ في ذلك الوقت وآخرهم الحجَّة المنتظر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ.

ولكنَّ أكثر هذا المنع - وإن نفعنا بعضه في الجملة لما مرَّ - كان لمحاربة ما يدعم المنقول عن العترة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من بعض هذه النَّبويَّات من رواتها الواردة عن بعض أنصار أميرالمؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ، لتصريح الخليفة الأوَّل بكلمة (حسبنا كتاب الله)(1) واجتهاد الخليفة الثَّاني كثيراً في مقابل النُّصوص وتصرف الخليفة الثَّالث كذلك بما يشبه من سبقه.

ولذلك ما هان على المشايخ الثَّلاثة وأنصارهم اشتهار بعض النَّبويَّات الأخرى بين الفريقين ممَّا لم يدخل في المستضعفة.

ومن هذا وذاك وذلك فنحن لا نأخذ إلاَّ من المنَّقحات الَّتي من طرقنا ومن الموثَّقات حتَّى لو كانت من طرق غيرنا، وبالأخص الَّتي لا تصطدم مع الكتاب والسنَّة الَّتي من طرقنا والمحفوفة ببعض القرائن المطمئنَّة الأخرى.

ص: 356


1- صحيح البخاري ج: 4 ص: 1612، باب 78 باب مرض النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ووفاته ح 4168 وح 4169، وباب 17 باب قول المريض قوموا عني.ج

على أنَّنا قد نأخذ من بعض الرِّوايات الأخرى المؤيِّدة لنفع عملية التَّقريب ولو في الجملة كما سلف.

وكذلك في الرِّوايات المخالفة لسيرتنا المستمدَّة من سلفنا الصَّالح ولكنَّها نافعة في قضيَّة تطبيق قاعدة الإلزام على بعض العامَّة، كالطَّلاق بالثَّلاث في المجلس الواحد لتخليص امرأة مؤمنة من مطلِّقها العامي ونحو ذلك ممَّا ذكره.

العشرون / قاعدة (الجمع مهما أمكن أولى من الطَّرح)

إنَّ هذا المطلب مهم جدَّاً فيما وقع بين رواياتنا المتعارضة تعارضاً لا تباين فيه كالعام والخاص من وجه والعام والخاص المطلق، وبالأخص لو كانت قوَّة في سند المتعارضين مع هذه الانسدادات الَّتي قد تهدِّد أمن العلم الشَّرعي الأصيل والَّتي قد تلجئ إلى الأخذ ببعض الأصول في غير موعد جواز الأخذ بها مع وجود المجال لاستفراغ الوسع بصفتها المبرئة للذمَّة.

وبالأخص أيضاً حالة وجود المؤشِّرات الكثيرة على وجود إمكان تحصيل آثار في الرِّوايات لحل المشكل الشَّرعي، كالأقوال المهمَّة المنسوبة إلى أساطين علماءنا وعمل الأصحاب وبعض الإجماعات، وغير ذلك ممَّا لا يبقى العذر عن هذه المتابعة.

بل إنَّ هذه الأهميَّة لم تكن خاصَّة في رواياتنا، بل إنَّها شاملة حتَّى في أمر روايات القوم، لغرض السَّعي إلى توحيد الكلمة الإسلاميَّة، لتثير نسبة الفقه المشترك الكبير فيما بيننا وبين العامَّة.

بل كثرة هذه الأهميَّة وازدياد الحاجة إليها قد لا يمنع الأولويَّة فيها القول بالوجوب علينا وعليهم، أو علينا لو لم يسعوا سعي الخير للتَّقاعس الموجود عند الكثير منهم، أو لانسداد باب العلم الاجتهادي الرَّصين عندهم نوعاً، لتقليدهم المذاهب الأربعة وكثرة الأخطاء وضعف المباني عند من فتح باب الاجتهاد لنفسه

ص: 357

منهم دون مشاركة الباقين له في ذلك على الأساس الصَّحيح.

ولذلك خرج منهم التيميُّون والوهابيُّون وغيرهم وما أبقوا للخط المستقيم في جملته باقية، فضلاً عن وجوب ذلك على الغيارى والعقلاء اللينين منهم، لغرض جمع الشَّمل الَّذي ذكرناه لا الَّذي يؤثِّره المتزمتون منهم في ذلك من تكبير شقَّة الخلاف.

وقد ورد من طرقنا الكثير من الرِّوايات الَّتي تثبت وجوب الجمع بين الأحاديث المختلفة.

كقول أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ (إذا أتاكم عنَّا حديثان مختلفان، فخذوا بما وافق منهما القرآن، فإن لم تجدوا لهما شاهداً من القرآن، فخذوا بالمجمع عليه، فإنَّ المجمع عليه لا ريب فيه، فإن كان فيه اختلاف وتساوت الأحاديث فيه، فخذوا بأبعدهما من قول العامَّة)(1).

وما رواه ابن أبي جمهور الأحسائي في غوالي اللئالي، عن العلاَّمة، مرفوعاً إلىزرارة: قال: سألت أبا جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فقلت: جعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان، فبأيِّهما آخذ؟

فقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: يا زرارة، خذ بما اشتهر بين أصحابك و دع الشاذّ النادر.

فقلت: يا سيّدي، إنّهما معا مشهوران مأثوران عنكم.

فقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك، فقلت: إنّهما معاً عدلان مرضيّان موثّقان، فقال: انظر ما وافق منهما العامّة فاتركه وخذ بما خالف، فإنّ الحقّ فيما خالفهم.

قلت: ربّما كانا موافقين لهم أو مخالفين، فكيف أصنع؟.

قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك، واترك الآخر.

ص: 358


1- مستدرك الوسائل: 17/ 306 باب وجوب الجمع بين الأحاديث، حديث 11.

قلت: إنّهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له، فكيف أصنع؟ فقال: إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به، ودع الآخر)(1).

وما رواه الصَّدوق بإسناده عن أبي الحسن الرِّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ، في حديث طويل، قال فيه:--

(فما ورد عليكم من حديثين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله، فما كان في كتاب الله موجوداً حلالاً أو حراماً، فاتَّبعوا ما وافق الكتاب، و ما لم يكن في الكتاب فاعرضوهما على سنن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، فما كان في السنَّة موجوداً منهيَّاً عنه، نهي حرام أو مأموراً به عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أمر إلزام، فاتَّبعوا ما وافق نهي النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وأمره، فما كان في السنّة نهي إعافة أو كراهة ثمّ كان الخبر خلافه، فذلك رخصة في ما عافه رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، أو كرهه و لم يحرّمه، و ذلك الَّذي يسع الأخذ بهما جميعاً وبأيِّهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والاتِّباع والردُّ إلى رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردُّوا إلينا علمه، فنحن أولى بذلك، ولا تقولوا فيها بآرائكم، وعليكم بالكفٍّ والتثبُّت والوقوف، وأنتم طالبون باحثون حتَّى يأتيكم البيان من عندنا)(2).

وما عن رسالة القطب الرَّاوندي، بسنده الصحيح عن الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ:--

(إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، و ما خالف كتاب الله فذروه، فان لم تجدوه في كتاب الله، فاعرضوهما على أخبار العامة، فما وافق أخبارهم فذروه، و ما خالف أخبارهم فخذوه)(3).

ص: 359


1- غوالي اللئالي: ج 4 ص 133 ح 229، بحار الانوار: ج 2 ص 245 ب 29 ح 57.
2- عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 21 ح 45 (بالمعنى)، وسائل الشيعة: ج 27 ص 115 ب 9 ح 33354.
3- وسائل الشيعة: ج 27 ص 118 ب 9 ح 33362.

وما بسنده أيضا عن الحسين بن السري، قال أبو عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ :--

(إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم)(1).

وما بسنده أيضا عن الحسن بن الجهم في حديث، قلت له -- يعني: العبد الصالح عَلَيْهِ السَّلاَمُ:--(يروى عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ شيء، و يروى عنه أيضا خلاف ذلك، فبأيّهما نأخذ؟ قال: خذ ما خالف القوم، وما وافق القوم فاجتنبه)(2).

وما بسنده أيضا عن محمد بن عبد الله: قال: قلت للرّضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ:

(كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟ قال: إذا ورد عليكم خبران مختلفان، فانظروا ما خالف منهما العامّة فخذوه، و انظروا ما يوافق أخبارهم فذروه)(3).

وما عن الاحتجاج بسنده عن سماعة بن مهران، قال: قلت لأبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ:--

(يرد علينا حديثان، واحد يأمرنا بالأخذ به و الآخر ينهانا.

قال: لا تعمل بواحد منهما حتَّى تلقى صاحبك فتسأل، قلت: لابدَّ أن نعمل بواحد منهما، قال: خذ بما خالف العامَّة)(4).

إلى غير ذلك من الرِّوايات العديدة، وسيأتي ما ينفع كثيراً في آخر الجزء الرَّابع.

ص: 360


1- وسائل الشيعة: ج 27 ص 118 ب 9 ح 33363.
2- وسائل الشيعة: ج 27 ص 118 ب 9 ح 33364، بحار الانوار: ج 2 ص 235 ب 29 ح 18.
3- وسائل الشيعة: ج 27 ص 119 ب 9 ح 33367 (بالمعنى)، بحار الانوار: ج 2 ص 235 ب 29 ح 19.
4- الاحتجاج: ص 357، وسائل الشيعة: ج 27 ص 122 ب 9 ح 33375، بحار الانوار: ج 2 ص 224 ب 29 ح 1.

الحادي والعشرون / ضعف السَّند وجبره بعمل الأصحاب

قد يكون في مقابل عدم العمل بأخبار الآحاد عندنا من جهة ظنيَّة هذه الأخبار بالظنيَّة المخيفة في مقابل نصوص القران ومحكماته في نفسه وفي المتواترات الَّتي تعطي القطع أو اليقين من معالم الشَّريعة وبالأخص غير المستفيضة وغير الأعلائيَّة المحفوفة بالقرائن وفي غيره.

تمام العمل بالرِّوايات الضعيفة من طرقنا حينما تكون مجبورة بعمل الأصحاب بسبب الشُّهرة العمليَّة قديماً وحديثاً، وهي المعروفة بالسِّيرة المستمرَّة.

لا الشهرة الرِّوائيَّة، لكونها قد تشتهر بين الرُّواة وتذكر في الجوامع المدوَّنة ولكنَّها معرض عنها، وقد تكون صحيحة ويعرض عنها الأصحاب لكونها محمولة على التَّقيَّة ولم يأت موردهما.

ولا الشُّهرة الفتوائيَّة، لأنَّها قد تزيد وهي قليلة فيما سبقها، وقد تقل وهي مشهورة قبل ذلك، لأنَّها مبنيَّة على الاجتهاد وهو يحتمل الخطأ والصَّواب.

لا كالمصدر الَّذي يرجع إليه من الرِّوايات والسِّيرة العمليَّة المحترمة بين الأصحاب.

وليست هي بأفضل من اجماعات الشَّيخ الَّتي أعرضوا عنها بسبب التَّحقيق الَّذي ابتدأ به المحقِّق الحلي رحمه الله.

وقد يكون من ذلك نفس أخبار الآحاد الَّتي تستضعف لو دعمت بعمل الأصحاب.

ص: 361

الثَّاني والعشرون / الفرق بين الثِّقل الأكبر (القرآن) والثِّقل الأصغر (السنَّة)

وبين كونه هو عدلها وهي عدله والتَّوجيه مع إمكانه إن صحَّ دليل الطَّرفين

لا شكَّ بأنَّ السنَّة المنقولة في أساسها عن النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بواسطة العترة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وإن صحَّ إطلاقها بالمعنى اللُّغوي الَّذي يحوي في جملته شيئاً من معناها الاصطلاحي.

أو حتَّى الاصطلاحي الَّذي اعتبره أصوليُّونا تبعاً لعدم المانع من أن تقبله العترة المطهَّرة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بضمِّ المأخوذ به من النَّبويَّات المأخوذ بها عند الجميع ممَّا ورد من طرق الأخوة العامَّة وورد عندنا أو لم تتصادم مع ثوابتنا ومن الموثَّقات من مصاديق آية النَّبأ بعد التَّبيُّن من وثاقة الرَّاوي الفاسق حين صدقه.

هي عدل للكتاب في الاعتبار بالاحتجاج المساوي له في الأحكام الواقعيَّة لو توفَّرا معاً في ذلك أو الظَّاهريَّة كذلك.

أو اختلفا وكان الأقوى بمؤهَّلات القوَّة في الكتاب كالواقعي فهو المقدَّم على ما في السنَّة إذا ما حملت خصوص الظَّاهري المخالف.

أو كان الأقوى بمؤهِّلات القوَّة في السنَّة كالحكم الواقعي إذا خالف الظَّاهري المخالف للكتاب فهو المقدَّم.

وهذا كلُّه لا ينافي كون الكتاب بكلِّه هو الثِّقل الأكبر، والسنَّة بالمأخوذ بها بين ما تقول به العترة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وما ترتضيه من الآخرين هو الثِّقل الأصغر.

وسيتَّضح هذا الأمر نوعاً بنحو أوسع ممَّا نلخِّصه الآن في الكلام الآتي عن الاحتجاج بالسنَّة من الكتاب والسنَّة على منع الانسداد الكبير والأقل فضلاً عن الأكثر، وما سيأتي في الكلام عن الحُجج ومقاماتها في القسم الأخير تقريباً من الجزء الرَّابع.

ص: 362

الثَّالث والعشرون / نتيجة البحث

إنَّ السنَّة الشَّريفة وما ألحق بها ممَّا يؤيِّدها من النَّبويَّات المشهورة وما أورده الثِّقات لضروريَّة ومهمَّة لآيات الأحكام.

لأهميَّة الفقه وأهميَّة التَّدقيق فيه بسبب سعته ودقَّة مطالبه وتنوُّع فروعه وممَّا لا يمكن أن ندرك جميع أموره على سعة مضامين الآيات، وأنَّها خزائن لا يعلم مداها إلاَّ الله والرَّاسخون في العلم من النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وآله المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بالاستفادة من هذه السنَّة الشَّريفة عن طرقهم وما ألحق بها باعتزاز وإن تعدَّدت مصادر التَّشريع، فحصرت في الكتاب والسنَّة والإجماع والعقل من الأصول العمليَّة الأربعة المقرَّرة للشَّاك في مقام العمل.

فالسنَّة هي المصدر الثَّاني بعد الآيات في المنزلة، بل جعل بعضهم الإجماع من السنَّة، لأنَّ حجيَّة الإجماع بوجود الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ في المجمعين، بل جعل بعضهم الاستصحاب من السنَّة، لأنَّ مدركه سنَّة.

فلابدَّ من التَّعرُّض حين استعراضنا في هذه الموسوعة لمطالب آيات الأحكام وبحوثها لأي مطلب نحتاج إليه منها، ولأنَّا لا نريد أن نذكر الفقه مع خصوص هذه الآيات وإن أتت بما أجملته وعرضته من المجملات لرغبتنا المسبقة ممَّا مرَّ بمحاولة الاستيعاب لما أمكننا وما تيسَّرت لنا مصادره، والله وليَّ التوفيق.

ص: 363

الفصل الثَّاني

الاحتجاج بالسنَّة من الكتاب والسنَّة

وفيه مواضيع:-

الأوَّل/ بطلان الانسداد الكبير والأقل فضلاً عن الأكثر

بعد الفراغ من استقرار الكلام الماضي على مرجعيَّة كلام الله تعالى الخاصَّة ببحوث المدرك الشَّرعي الأوَّل من الأربع المعروفة، لتبيين مجملات آياته الأخرى ونحوها ومرجعيَّته أيضاً في تصحيح ما يمكن الأخذ به من السنَّة عند الشَّك في أسانيدها ودلالاتها تفسيراً وتأويلاً عن طرق مرجعيَّته المعتمدة، لتوسعة المدارك كمَّاً وكيفاً، لنقض قول من يزعم بالانسداد العلمي الشَّرعي الكبير، بل حتَّى الأقل من الكبير، فضلاً عن الأكثر، فيتطاول القائلون بكل ذلك ويعبثوا بالأحكام بدل الاستعانة بالأدَّلة الشَّريفة بالقياسات الباطلة والاستحسانات والوضع ضدَّ الشَّرع.

لابدَّ من التَّحوُّل عند الوصول إلى ما يخص المصدر الثَّاني من تلك المدارك المعروفة وهي السنَّة فيما يُراد لها من البحوث ومنها بعد التَّأكُّد من وجود الكثير والجم الغفير من أحاديثها ورواياتها الحاكية لأقوال وأفعال وتقارير المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ والَّتي اعتبرت حججاً للتَّمسُّك بها بالمباشرة في أسانيدها العامرة ومضامينها العالية ولو بقرائن الوثوق أو بواسطة تقوية مرجعيَّة القرآن وطرقه لها.

للاستفادة من هذه السنَّة القوية أو المقوَّاة كمرجعيَّة ثانية أو ثانويَّة في رتبتها نسبة إلى كتاب الله.

بل حتَّى أوليَّة بالنِّسبة إليه في بعض الحالات العارضة، لكثرة تفصيلاتها الدِّلاليَّة

ص: 364

القطعيَّة، مع كونها ظنيَّة الصُّدور حالة التَّمسُّك بالقوي من ظنونها والتَّجنُّب عن ضعافها، بسبب المقويَّات المذكورة لها لإجماليات كلام الله الكثيرة، وكونه ظنِّي الدِّلالة إلاَّ بمثل هذه السنَّة، ولاستفادة ما يؤكِّد بطلان زعم الانسداد الكبير، بل حتَّى الأقل، فضلاُ عن الأكثر.

وللبدء بما يمكن الاستفادة من مرجعيَّتها الخاصَّة بعد الكتاب أن يستوضح بواسطتها غوامض القرآن ومجملاته.

فإنَّ مثل حثِّ النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ الكثير على الأخذ بحديث الثَّقلين المتواتر بين الفريقين وغيره، بالجمع الدَّائم بين الكتاب والسنَّة وعلى المصاحبة التَّفاعليَّة، ليحل بعضهما مشاكل ما يتعكَّر منه فهم مضامين البعض الآخر وإلى حدِّ أن تبقى أعالي مضامين كل منهما -- وبما تتسِّع له كل حاجات الأمَّة لتلبية مطالبها -- محفوظة وتحت ظلِّ ولي العصر المنتظر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ الحافظ لها حتَّى يردا على رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ الحوض.

ولهذا نجد تركيز علماء الأمَّة وفقهاء الفقه العام والفقه الخاص -- وبقيَّة أمور التَّديُّن الأخرى في الحوزات المعتمدة لدى الإماميَّة ومن يحذو حذوهم -- على استغلال أخبار السنَّة الشَّريفة.

لسعة رواياتها وكثرة مضامينها الإيجابيَّة بعد ضبطها في كافَّة ما تحتاجه من الضَّبط السَّندي والقواعد الدِّلاليَّة، لتصول وتجول بحيويَّاتها في بحوث بحار علومها، لخدمة كتاب الله تعالى الموضِّحة وشبه المأسِّسة لتفصيل جزئيَّات الفقهيَّات الخاصَّة بأكثر من قيامهم بخدمة خصوص ما ينبغي التَّركيز على الكتاب نفسه الممكنة من آيات أحكامه العامَّة والخاصَّة من غير الجزئيَّات.

وهذا وإن كان مهمَّاً توسُّعيَّاً وتنقيحيَّاً في نفسه لمكانه بيد المحصِّلين، إلاَّ أنَّه بعد مرور حالة التَّركيز المتيسِّرة هذه على السنَّة وأحاديثها بأكثر من الكتاب المضغوط في تركيزاته الشَّريفة الخاصَّة به مع مرور الزَّمان.

ص: 365

حتَّى كادت الأذهان أن تضعف في عميق ما ينبغي أن تحيط به عن خصوص معالم آيات الكتاب الخاصَّة الأخص من الجزئيَّات غير المحدودة من مثل مستحدثات المسائل الكثيرة اليوم، وبنحو ما لا يمكن تحمُّله من ظهور الفرق من ضعف العلم بالكتاب، بسبب التَّقاعس عمَّا يمكن التَّوسُّع فيه، وكأنَّه نحو من أنحاء الهجران له.

أو بنحو الاكتفاء بما كتبه الشَّيخ الجزائري قدس سره في قلائد درره وغيره من علماء التَّفصيل في هذا الباب ممَّا بين المتوسِّط أو الكثير المحتاج إلى مهمَّات استحدثت من الأكثر.

وبين السَّطحي كالَّذي جمعه الشَّيخ كاشف الغطاء قدس سره من آيات الأحكام الخاصَّة، وما كتبه علماء التَّفسير من المبعثرات من البحوث المختصرة عن تلك الآيات وغيرها.

ولذلك كانت مساعينا في أصولنا هذه بمحاولة الجمع في بحوثها لخدمة ما يحتاجه المدركان ولو ببعض نماذج خاصَّة توسُّعيَّة مشجِّعة عن آيات الأحكام أشرنا إليها بالذِّكر ليسعى القادرون الأفاضل للتَّوغُّل النَّافع اليوم بما قد تُسد به الخِلَّة منه ولو الجملة.

وكذلك لخدمة توصيات النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ الكثيرة بالعمل على ضوء حديث الثَّقلين ونحوهمع عدم جواز التَّقصير في حقِّ ما تحتاجه السنَّة من التَّوسُّعات الخاصَّة بها، لإظهار التَّوسعة الأنجح عن المدركين اللَّفظين وبمعيَّة ما يصح من أمور المدارك اللُّبيَّة.

كي لا يتطاول من يتطاول على شأنيَّة شرع الله بادِّعاء الانسداد الكبير في مداركه كما نوَّهنا وكرَّرنا، وإن حصل ما حصل من الكوارث الطَّبيعيَّة والمحاربة الكثيرة، بسبب ضغوط دول النِّفاق والانقلاب على الأعقاب والأمويِّين والعبَّاسيِّين وغيرهم مع دول الكفر، بل حتَّى ادِّعاء الانسداد الأقل في التَّمادي المعادي عن الأكبر.

ص: 366

لإمكان القول بالانفتاح العلمي المتوسِّط بدل الانسداد، حتَّى الأقل من الكبير، لتعدُّد الطُّرق الفقهائيَّة المنقذة من التَّورُّط بمخاطره المتحجَّج بها لممارسات فقهائنا العريقة المعطية للأمل الكبير من مسالك حل المشاكل، لئلاًّ يتطاول المتساهلون حتَّى على ادِّعاء الانسداد الكامل.

ما دام فقهائنا وأصوليُّونا المتضلِّعون بأيديهم هذه الملكات بالطُّرق المتعدِّدة المشار إليها وإن ضيَّق أعداؤنا الخنَّاق على مصادرنا كثيراً.

بل بالإمكان القول وبدون الحاجة إلى المبالغة بتوفُّر ما يزيد على المتوسِّط من الآمال المنقذة.

بل إن المشكل الأشكل الدَّاعي لتوجُّه الحريصين الخاصِّين على بذل الهِمم البالغة معنا، لمكافحة المحاربين للمسلك الإمامي من بقيَّة المذاهب الأخرى.

حيث أنَّ مصاديق الانسدادات -- وبالأخص الَّتي من طرقهم -- عندهم كثيرة حتَّى واقعاً.

فأبو حنيفة بنى فقهيَّاته على أحاديث قليلة جدَّاً، وجميع الباقي الكثير بناه على القياسات والاستحسانات.

نعم نحن لا نبني على الانفتاح الكامل بمجرَّد ادِّعاء بعض من يُحسب حتَّى علينا ممَّن دأبه الأخذ بالغث والسَّمين من الأدلَّة، إمَّا لضعف أُفقه في الاصطلاحيَّات من عدم اكتراثه بها مذهبيَّاً، وهم قلَّة شبه المنتهية ببركة هداية المجتهدين لهم منهم وغيرهم.

أو عدم كفاءته العلميَّة فيها ليبرِّر لنفسه صحَّة تطبيقها ولو باطلاً، أو كونه من العوام.

فإنَّ في طريق هذا المسلك من التَّطبيقات الضَّعيفة -- لو تركت بسذاجة أو بًعد عن التَّعمُّق الاصطلاحي وبالأخص في مقام التَّعرُّف على آيات الأحكام عن كلا

ص: 367

المدركين -- فإنَّ هناك عقبات كؤود لا تدرك حالة الخلاص من مخاطرها إلاَّ بشقِّ الأنفس.

وممَّا ساعد على تثبيت مشروعيَّة المرجعيَّة للسنَّة الشَّريفة -- بعد الفراغ من واجب تنقيح مجالاتها المحتاجة إليه حتَّى لبعض حالات كتاب الله على ما سيتَّضح من بعض آيات القرآن نفسه -- هو قوله تعالى [ما آتاكم الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا](1) من حيث العموم والإطلاق بمرجعيَّة القرآن للقرآن ممَّا مرَّ، وللسنَّة كما سبق، ومرجعيَّة السنَّة للقرآن مع تيسيرها أمر إيضاح القرآن للقرآن كذلك كحلقة وصل، ومرجعيَّة السنَّة للسنَّة.وممَّا يُساعد على هذا التَّثبيت وبما يزيد على الأخذ من كتاب الله من خصوص رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وسيرته العطرة دون الآخرين بمشروعيَّة مرجعيَّتها من أولي الأمر من بعده حسب توصياته صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ الكثيرة بهم، لكونهم حفظة أحاديث سنَّته صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وبقرينة بقيَّة الآية المثبِّتة لمرجعيَّة النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ومرجعيَّة آله الأطهار عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بلساني القرآن والسنَّة تبعاً للسِّياق القرآني كآية الولاية وغيرها.

وممَّا يؤكِّد على عموم الحجيَّة وإطلاقها في مرجعيَّة السنَّة من لساني النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وآله عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ عن القرآن والسنَّة معاً وبقيَّة تضاعيفهما المعنويَّة وفي كافة المجالات هو حديث الثَّقلين الَّذي مرَّ بيانه.

وبعد التَّأكُّد من تمام حجيَّة السنَّة المنقَّحة في مجالاتها اللَّفظيَّة والمعنويَّة إماميَّاً والموثِّقات لها وتبيُّن مرجعيَّتها بما مضى ذكره.

لابدَّ أن ينتج من هذا كم وكيف ما حوته كتب الأحاديث الأربعة الأولى والأخيرة وما ألحق بها من الرِّوايات الشَّريفة المعمول بها بعد تصفيتها على ضوء ما يلزم تطبيقه من قواعد الحديث الأربع في حقِّها.

ص: 368


1- سورة الحشر /آية 7.

ليؤخذ بكل ما يعمل به ويترك الباقي كالمهجورات والمعرض عنها والمعمول بها حال التَّقيَّة إذا كان الظرف ظرفاً اختياريَّاً وما خالفنا ووافق العامَّة.

وبذلك يكون الباقي مع ما اعتراه من الكوارث الطَّبيعيَّة والمعادية لو لم تُضف إليه مساعي بعض المقلِّصين لها تسرُّعاً بحجج ضعفها تزلُّفاً للأعداء بقصد أو بدون قصد، مع أنَّها مجبورة بعمل الأصحاب ونحو ذلك، حاوياً بركات لا يُستهان بها وإلى حد أن يزيد على نسبة النِّصف من الانفتاح.

وإن قيل بقلَّة المرويَّات المقبولة؟

أجيبوا: ومن منطلق القوَّة تجربيَّاً بقول العلماء المجرِّبين (إنَّنا كثيراً ما نصحِّح الأسانيد بالمتون)(1).

وإن قيل بأنَّها ظنيَّة الأسانيد؟

فأجيبوا بما قاله المخضرمون من العلماء بقولهم (ما خفي على فقيه طريق).

ومن محقِّقات البركات للتَّوسعة هو الجمع بين المتعارضين من حالتي العموم والخصوص من وجه من حالة التَّلاقي، ومن ذلك ما قد يُستفاد لها من السِّياقات.

ومن ذلك أيضاً التَّواترات المعنويَّة، واستعمال الضِّعاف المجبورة بعمل الأصحاب كما أشرنا.

ولهذا وغيره لا مجال لأي وضع غير شرعي أو كتابة بتجرُّد بتحرُّر كامل لبعض الدَّساتير الظَّالمة للشُّعوب المسلمة كما سبق ذكره في الكلام عن دستوريَّة القرآن.

وعلى فرض صحَّة وجود شيء من مصاديق الانسداد الكبير لو لم يكن ما هو الأقل، فضلاً عمَّا لو كان الأكثر من الكبير موجوداً إذا قبلنا جدلاً بعض حالات التَّقليص المدَّعى، ولو لأجل خصوص البناء عليها والاعتبار لها ولو بعد حين وإن كانت واردة كما أشرنامن طرق الإماميَّة المحترمة.

ص: 369


1- الفردوس الأعلى ص 51.

وإنَّما لحفظها فيها لينظر في أمورها ويُحقِّق في طرفها الرِّجاليَّة واللِّسانيَّة وعن مباشرة أو قرب الإسناد أو بُعد فيه، وبنقل النَّص عن الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ أو بنقل المعنى عنه وعلاقتها بآيات الكتاب ومقاييسه وبقيَّة السنَّة المعتبرة الَّتي يمكن القياس عليها كالكتاب ومعرفة التَّفاوت النَّظري حولها بين قدامى الأصحاب والَّذين أتوا رواة عنهم أو يأتون بعد ذلك عمَّن سبقهم.

ولو افترض أيضاً بكونها لم تكن من قبيل ما كان مألوفاً في البناء عليها في الواجبات والمحرَّمات بأن كانت يؤخذ بها على أنَّها من خصوص ما يتعلَّق بالمستحبَّات والمكروهات وهي المرتبطة بأدلَّة التَّسامح في أدلَّة السُّنن ونحو ذلك.

ممَّا سبَّب فجوة في حدوث عسر شديد، أو عذر أكيد من عدم وجود قدرة فعليَّة على الاعتماد استدلاليَّاً في المقامات الجدِّيَّة، أو بمعونة العقل غير المستقل كالتَّابع للأدلَّة الإرشاديَّة أو المحتاج إلى الرَّبط بالسِّياقات في أبوابها المقرَّرة والَّتي قد تتوسَّع.

وبالأخص في التَّطورات الصِّناعيَّة الحديثة المتكثِّرة كمعلومات الكومبيوترات وفروعها العديدة العجيبة والَّتي قد لا تتسِّع لمستحدثاتها من المسائل آفاق هذه الرِّوايات في أذهان غير المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من بقيَّة المجتهدين لا من حيث مصادرها ولا من حيث متون الكثير من مضامينها أو بعضها.

فضلاً عمَّا لو قبلنا سعة وعمق ما أحدثته الكوارث الطَّبيعيَّة والمعادية في التَّأريخ الماضي من النَّقص الكثير في الأدلَّة الَّتي يحتمل أن تسد الحاجة الحاليَّة أو بعضها.

ولأجل هذا عُدَّ الاستناد في عرفنا الفقهي العام والخاص شرعيَّاً ضروريَّاً، بأن يُحكم أصوليُّوا الفقه السَّيطرة على هذا الموقف لخدمة الشَّرع بمحاولة دؤوب، لتوليد طريق أو قاعدة تُساعد على حلِّ هذه المشكلة بما يوافقه أو لا يردع عنه، كي لا يتجرَّأ الوضَّاعون باتِّخاذ حلولهم المتكِّئة على تخريجات العقل المستقل في غير الأمور البديهيَّة، حتَّى لو لم يمض لهم الشِّرع بقبول قرارات أهل هذه العقول اضطراراً أو

ص: 370

اختياراً.

وبأن مثلاً صدفة نجاح الاتِّخاذ الأصولي ولو بمستوى هذا الوزن من الافتراض، ولو بمثل اتِّخاذ بعض أهل الأصول عزل تلك الأدلَّة المدَّعاة عندهم بكونها أدلَّة.

عن أن تكون كذلك حال افتراض الانسداد الكبير أو الأكبر ممَّا كان قد قُلِّص منها من هذا أو ذاك ونحو ذلك، وجعل مكانه في هذا النَّجاح ما سُمِّي من روايات السنَّة الشَّريفة بالصِّحاح، وإن تجرَّدت ولم تكن محفوفة بشيء من القرائن أو مجبورة بعمل الأصحاب ولم تبرهن على صحَّة الأخذ بها اعتياديَّاً أدلَّة قوَّة كأخبار الآحاد المصاحبة للدَّعائم الإضافيَّة كتاباً وسنَّة ونحو ذلك ولو بحجَّة الاضطرار إليها شريطة مصداقيَّة بقاء هذا الانسداد الكبير أو الأكبر.

في حين أنَّنا ننكره حسب افتراضنا وإن كانت التَّجارب غير بعيدة عن أيدينا مع الآخرين.

وإن كانت بعض هذه البدائل من الرِّوايات شبيهة بتلك المقلِّصات في تلك الانسداداتأو هي نفسها غفلة عنها، فما هو دور المقلِّص أو المؤيِّد له مع الحاجة إليها افتراضاً وكان بإمكاننا دعمها ببعض القرائن والمقويَّات.

فلأنَّنا سبق وأن قلنا بأنَّه مع وفرة ما ذكرناه من بركات الأدلَّة العديدة وفروعها المتعدِّدة بالانسداد المتوسِّط.

بل لا وجود حتَّى لبعض الكبير معه فضلاً عن الأقل عنهما لتلك الطرق الميسورة بيد الفقهاء الماهرين بنحو الاستدلال اللِّمي أو الإنِّي.

حيث ما كان منَّا هذا الشِّق الآخر المغاير للمتوسِّط ونحوه إلاَّ بالنَّحو الافتراضي إلى أن جاء دوره الأنسب.

كما أوصلناه في الأزمنة الأخيرة هذه إلى احتماليَّة إمكان أن تكون لهذا الافتراض مصداقيَّة لسنا مبالغين إذا قبلنا قول من قال بفكرة البحث والنَّظر في شأن

ص: 371

بعض الأدلَّة حتَّى الضَّعيفة إذا احتيج إليها اليوم.

الثَّاني/ شيء من الكلام عن التَّعبُّد بأخبار الآحاد

ولكثرة القائلين بإمكان أن تكون معالجة بعض هذه الأدلَّة ومنها بعض أخبار الآحاد المسمَّاة بالصِّحاح لقبولها -- وإن تجرَّدت من القرائن -- قال بعض الأصوليِّين بضرورة التَّعبُّد بالعمل بها استناداً إلى توجيهات ارتآها أصحابها.

لكن لا يمكن قبوله إلاَّ على أساس تصفياتها من أن تعارض ثوابت آيات الأحكام وثوابت روايات السنَّة المحكمة الأقوى منها في المقابلة أو المساوية في ذلك ليتساقطا للجوء إلى ما هو الأقوى.

وبعد تصفياتها من كونها من روايات التَّقيَّة المحتاج إليها، حتَّى لو كانت من أخبار الآحاد المجرَّدة إن كانت في موارد الاختيار دون مواقعها من حالات الاضطرار.

وبعد إعياء الفقيه الأصولي المتضلِّع في كافَّة الطرق الشَّرعيَّة الَّتي كان ناجحاً فيها لحل مشاكله المعضلة هذه وانحصار حل الأمور غير الاعتياديَّة في هذه الأخبار.

وبالأخص حالة حلول الشَّك المستلزم لمعرفة الحكم في نفس المكلَّف به دون ما كان في أساس التَّكليف مع هذا الانسداد الكبير المفترض.

وإن استدلَّ المتعبِّد بها معتقداً بنجاحه في ذلك وأفتى عن طريقها في جميع المراحل المحتمل نجاح الإفتاء فيها عنده حال الانسداد الكبير المحتاج إليها فيه لو لم تتعارض معها الثَّوابت القرآنيَّة الأقوى منها بواسطة الاستدلال القرآني المتعارف كآية النَّبأ عن طريق المفهوم الموافق والمنتج عكس ما قالته الآية وهو (إن جاءكم عادل).

فقد رددناه كما هو محرَّر في محلِّه من الحديث عن أخبار الآحاد وحول الكلام عن الحجَّة إذا قلبناه إلى مفهوم المخالفة، وهو ما ينتج معنى (إن لم يجئكم فاسق)،

ص: 372

وهو المؤدَّي إلى المعنى المجهول، وهو المردَّد بين العادل والَّذي لم يُعلم حاله من العدالة أو الجهالة.

وبذلك يكون قرارنا إلى التَّوقُّف الَّذي لا يؤدِّي إلاَّ إلى القول بالعمل بأخبار الآحاد المحفوفة بالقرائن.

أو أنَّه في خصوص هذا النَّوع الافتراضي من الانسداد الكبير ونحوه إن كان مع تجرُّدها وبتعيُّن الحاجة الماسة إلى الالتزام بالاحتياط دون الفتوى المذكورة.

وإن استدل المتعبِّد بها عن طريق القول بتواتر السنَّة على الأخذ بما تقوله أخبار الآحاد وإن تجرَّدت.

فيمكن ردُّه بالعمل بها مع القرائن وإن كانت خارجيَّة.

وفي الآونة الأخيرة مع الانسداد المذكور والحاجة الماسَّة مع التَّجرُّدات كافَّة لا مانع من إجراءها بالعمل بالاحتياط دون الإفتاء.

وإن استند المتعبَّد بها مع هذا الانسداد وهذه الحاجة على الإجماع المدَّعى أيضاً.

فهو وإن قبلناه -- في موقع القبول بالنِّسبة إلى أخبار الآحاد الموثوق بها في رجالها وغير ذلك إلاَّ أنَّها حالة التَّجرُّد من القرائن -- يحتاج الإفتاء على ضوئها إلى جرأة شرعيَّة.

لذا وللخلاص من مشغوليَّة الذمَّة عند التَّصدِّي إلى التَّشريع بدون مدرك اعتيادي يمكن العمل بالنَّحو الاحتياطي دون الأكثر.

وإن استند المتعبِّد بها على السِّيرة العقلائيَّة مع احتمال تفاوتها بين القديم والحديث وما حدَّدناه في موضوع القضيَّة وما بين الأخبار المحفوفة وبين غيرها وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال .

فلابدَّ من البقاء على الاحتياط الوجوبي أيضاً دون الأكثر، ولذا عرف بين

ص: 373

فقهاءنا الورعين بالإلتزام بالاحتياط الوجوبي توُّرعاً بالدِّماء واللُّحوم والأعراض والأموال المعتد بها، وما نحن فيه لم يخرج بالكليَّة عن هذه الأمور.

وقد توسُّعنا في هذا الأمر في الكلام عن أخبار الآحاد الآتية قريباً في الفصل الثَّالث، وموارد الحجَّة المعتبرة في الجزء الرَّابع، ومورد تحكيم العقل غير المستقل تطبيقاً لقاعدة الاشتغال إذا كان الشَّك في المكلَّف به في الجزء الأخير للأصول.

الثَّالث/ الفرق بين الانفتاح والانسداد من مراتب الاثنين مع نتائج كل منها في

الأوامر علميَّاً بين المراتب من كل منهما مع العمل قبولاً ورفضاً

لا شكَّ بأنَّ القول بالانفتاح العلمي لمدارك التَّشريع الإسلامي الأصيل وتفرُّعاته وملحقاته في الأزمنة الأولى غير المعقَّدة -- وإن كان الانسداد الكبير آنف الذِّكر في عنوان البحث الحالي أخطر منه في بعض الأمور إذا كانت بعض آثاره بادية من تلك الأدوار.

ولذا قدَّمنا محاولة الاستدلال على بطلان الانسداد الكبير والأقل إذا أريد منه اللُّجوء إلى تصحيح القياسات الممنوعة ونحوها ممَّا مرَّ ذكره وكما سيتَّضح أكثر عن الاثنينفضلاً عن الأكثر.

فلم يكن مألوفاً جدَّاً وطبيعيَّاً عمليَّاً وفي كافَّة جوانبه أو أغلبها إلاَّ في الصَّدر الأوَّل وعهد الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ عدا ما منعت عنه أمور التَّقيَّة وبعض تطرُّفات الآخرين.

ولكن حالة الانفتاح هذه ازدادت مع تحلِّيها بالجانب البحثي العلمي بعد مدرسة الإمامين الباقرين عَلَيْهِمُا اَلسَّلاَمُ وبما حدَّداه عن أموره من التَّصرُّفات المقبولة آنذاك.

وبالأخص عند تعدُّد المذاهب الأخرى لبقيَّة المسلمين بسبب شبهاتها وكثرة مخالفاتها لمصادر الإماميَّة وعُرفت أجوبتها السَّديدة من قبل أئمَّتنا عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ عليها، حينما

ص: 374

تلمَّذ علماؤنا دراسيَّاً على مثل الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ مباشرة وبالواسطة، وبانت آثار التَّوسُّع في هذا الانفتاح ممَّا حفظ لفظاً ومعنى، أو عرف معنى ونقل المعنى بلفظ مطابق أو مقارب آخر صُحِّحت بعض مرويَّاته اصطلاحيَّاً لصالح الخط الإمامي.

وكتب مثل الأصول الأربعمائة من قبل حواري الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وجمع في الغيبة الصُّغرى وبدايات الكبرى كذلك جوامع وخزائن شريفة منها ومن غيرها.

حتَّى بان ذلك رسميَّاً في الجوامع الأربعة الأولى للمحمَّدين الثَّلاثة قدس سره في الغيبة الكبرى وفي اعتزاز إمامي بها وبما جاء بعدها من المجامع الأربعة الأخيرة وغيرها ولو للحرص على حماية ما أمكن الاحتفاظ به ممَّا ضاع أو ضُيِّع من تلك الأصول الأربعمائة مع الَّذي منع من تدوينه المانعون ممَّا سبق ولم يُعثر على بعضه.

ولكن هذا الانفتاح كان آنذاك وبعده منتشراً على أساسين:--

الأساس الأوَّل: عند أهل العلم مع قرب الإسناد وقلَّة احتمال ضعف المرويَّات وسهولة فهم العبائر المتداولة عند أهلها وضبط المصطلحات وكثرة القرائن على عدم خفاء ذلك الفهم.

ولأجل هذا عرف من توجيهات الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بصحَّة الأخذ بروايات ما حفظ من معاني أحاديث الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وإن نقلت بالمعنى المضبوط المعروف بين أهل قرائن الوثاقة والوثوق.

حتَّى عرف بأنَّ كتاب النِّهاية للشَّيخ الطُّوسي قدس سره وغيره لآخرين كان فتوائيَّاً جامعاً لتلك الرِّوايات، أو فقل بعض معانيها مع حذف فواصلها المذكورة في الرِّوايات.

وإن كان بسبب سهولة هذا الفهم أو ذاك عند أولئك الأقدمين كانت قلَّة أو بساطة في الاجتهاد الَّذي لا يحتاج إلى ما هو الأكثر منه في حينه حتَّى جاء هذا الدَّور الأصولي في أزمنتنا عند بدو التَّعقيدات.

ص: 375

الأساس الثَّاني: ما ألتزم به بعض عوام المحدِّثين وأتباعهم من الاعتقاد والتَّعبُّد بالأخذ بكل ما يظهر لهم من تلك الرِّوايات بسطحيَّة تامَّة، وعلى الأخص في مثل كتاب الكافي الشَّريف، حتَّى لو شاكت أمور فهمها على بعض أذكياءهم دون أن يقبلوا التَّقليد للمجتهد الاصطلاحي أو يخضعوا لحجَّته المتعلِّقة بلزوم اتِّباع بعض قواعد الرِّجال والحديث وما اتَّفق عليه المجتهدون من أتباع باقي القواعد الأصوليَّة.

إلى أن ازداد هذا الانشقاق بين الأساسين الماضيين حتَّى مع ازدياد الحاجة إلى النظر والاجتهاد الخاصَّين واللازمين اصطلاحاً في مثل المستحدثات على الأقل.

بل وفي اختلاط الرِّوايات ببعض أضداد دخيلة أو ملفَّقة معها من هنا وهناك أو شبيهة بها ممَّا يصعب فهمه، وإن وجدت في بعض مصادرنا نحن الإماميَّة ولم تكن من نوع النُّصوص الصَّريحة في معانيها الَّتي لم يتعارف كونها ممَّا يصح أن يجتهد فيها.

وبالخصوص في مثل أزمنتنا الَّتي فيها بُعد في الإسناد مع الكوارث الطَّبيعيَّة والمعادية الَّتي حلَّت على مصادر الحق من تراثيَّاتنا وتراثيَّات الآخرين النَّاصرة لحقوقنا.

وهذا الحديث قد أشرنا إلى شيء عنه في الجزء الأوَّل من كتابنا هذا (مساعيالوصول) وبما يخص أمر الأساس الثَّاني.

وللإشارة إلى نصرة الأصول واجتهاد المجتهدين وإن كانوا في أساسهم من المحدِّثين على عوامهم الَّذين قد تحرَّرت أفكار الكثيرين منهم والحمد لله بمساعي المصلحين من مجتهديهم لهم فخضعوا للاجتهاد والتَّقليد عند الحاجة إلى كل منهما.

وقد تضائل الانفتاح الَّذي كان عندنا بمعناه الأوَّل بسبب الحوادث المانعة أو المحجمة حتَّى سُمِّيت بداياته بالانسداد كأوَّل بدايات دركاته من بدايات ما سبق من التضاؤل.

ثمَّ ازدادت حالاته كلَّما كثرت الموانع والحُجب، ولذلك بان التَّوسُّع في

ص: 376

الأصول.

ولا شكَّ أيضاً بأنَّ القول بالانسداد من مؤشِّرات التَّصدِّي المعادي الأوَّل سلفيَّاً كإتلاف الأحاديث الشَّريفة ومحاربة تدوينها في بداية عهد الخلفاء الثَّلاثة على ما شهدت بذلك كتبهم المعروفة بالصِّحاح الستَّة وغيرها كما مرَّ، بحجَّة الخوف من أن يكون وجودها لو بقيت أو سمح بتدوينها بديلاً موضِّحاً لبعض الآيات المحفوظة بين الدَّفَّتين (القرآن الكريم)، والَّتي لا تختلف عنها حتَّى ما جمعه أمير المؤمنين الإمام علي "سلام الله عليه" -- أيَّام عُزلته حينما تركوه أيَّام خلافتهم الَّتي أرادوها -- من الآيات المطابقة لمعاني أسباب النزول، وقد رفضوه أيضاً.

بل حتَّى مع غض النَّظر عند اختلاق أحاديث تلو أحاديث لم يقلها النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ حتَّى لو قال بعضها ثمَّ لًفِّقت بما لم يقله منها.

حتَّى رفض الخليفة الثَّاني جهاراً أمام من حضر عند النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ليلة وفاته -- ما أراده صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ من الكتابة الموثَّقة لصالح مستقبل الأمَّة المخيف من عبث المنافقين وأضرابهم بعد رحيله -- بقوله عنه (دعوه إنَّه ليهجر)(1).

وحرق الخليفة الثَّالث ما جمع من المصاحف والإبقاء على واحد مع ما أحدثه جمعه من الأمويِّين أو قبلهم أو لفَّقوه من الإسرائيليَّات ونحوها مع بذل طائل الأموال لتغيير الحقائق.

لم يجيء دور البحث حول هذا الانسداد -- بعد الانفتاح الأصيل المذكور -- موضوعيَّاً سلباً وإيجاباً جملة وتفصيلاً وبمفاجئة عند حدوث الكوارث والتَّصدِّيات المعادية للنَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وصفوة آله عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

ممَّا حثَّ القرآن والسنَّة كثيراً على وجوب حفظ ذمار الأمَّة بوجوب العناية بشأنهما العظيم، رغم الإيغال الشَّديد من أعدائهم بالتَّآمر عليهم قتلاً وسُمَّاً

ص: 377


1- صحيح مسلم في باب ترك الوصية ج5ص76.

ومطاردة واعتقالات.

مع مؤشِّرات الخوف السَّابق من أفاعيل المنافقين واليهود من الدَّس والاختلاق بمثل إشارة آية الانقلاب على الأعقاب وغيرها.

بما سبَّب تأكيد النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ على دحر المعادات ومقدِّماتها باتِّباع حديث الثَّقلين وغيره وتنصيب أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ وصيَّاً له وخليفة من بعده في أكثر من مورد وبالأخص يوم الغدير على رؤوس الأشهاد.

وقوله بما يدل على خوفه الدَّائم من عموم الأعداء وخصومهم (لقد بًدئَ الإسلامغريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء قيل ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: "الَّذين يصلحون إذا فسد النَّاس")(1) وغيره ظاهراً.

إلاَّ في بدايات بُعد الإسناد المباشر عن الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وحواريهم المباشرين لهم كزمن التَّوسُّع في كتابة الأصول والتَّفصيل في الدِّراية والحديث وكثافة الحرص على سلامة ما بقي من صحيح كل منسوب إلى النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بواسطة الأئمَّة مع الزَّهراء عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من الرِّوايات دون الآخرين، إلاَّ في بعض المستثنيات بعد الأحداث المُرَّة الَّتي مرَّت، وهو ما شجَّع كثيراً على جمع المجامع الأربعة الأخيرة.

ثمَّ توسَّع الكلام عن الانسداد بحيث كلَّما دُقِّق في علم الأصول والتَّطبيقات الفقهيَّة العامَّة والخاصَّة في جميع ما يتعلَّق في الدِّين عقيدة وعملاً وأخلاقاً.

ونحو ذلك كلَّما عمرت حوزات أهل بيت النُّبوَّة وتعمَّقت في علميَّاتها في العالم الإسلامي، بسبب ما يصل إلى الأعاظم من غيارى رجالها من أخبار توسُّع وصول الحوادث الكارثيَّة الَّتي مرَّ ذكرها من مصادرها وما سلم من بعض ما قد ينسجم وبقيَّة مصادر المذاهب الأخرى.

ص: 378


1- كمال الدين وتمام النعمة -- الشيخ الصدوق -- ص 201، كما روته العامَّة في كتبهم كصحيح مسلم (208).ج

ولكن بعد التَّدقيق المنصف ظهرت أقوال متفاوتة عن هذا الانسداد بين واقعي وبين مبالغ فيه من غيره كمَّاً وكيفاً ممَّا يُلجأ الباحث إلى إضافة المزيد من السَّعي الجاد لمتابعة ما بقي من المصادر ليتم البناء عليها لأصالتها دون غيرها كي لا يشرع الباحث من عند نفسه بدون داع علمي.

وعلى كلٍّ فقد ظهر بعض ما قد سبَّب الحاجة إلى الخوض عن مجمل هذا الانسداد ولو بنسبته القليلة المسلمة والمعتز بها عند الجميع لوفرة البركة المفروض أن تكون معادلة لها من الانفتاح الطَّبيعي الَّذي ذكرناه سابقاً والَّذي سمَّيناه بالأساس الأوَّل دون الثَّاني الَّذي في قباله اجتهاد المجتهدين والمجوِّزين لتقليد كل عامي لم يبلغ رتبة الاجتهاد ودون الانفتاح الَّذي يراه بعض المذاهب الأخرى كالَّذي تعبَّد بالأخذ بمرويَّاته من الغث والسَّمين والموضوع والملفَّق أو لم يمنع من بقاءها في ضمن المفتوح منها عندهم ومنهم الحنابلة.

ولأجل هذا وأمثاله اشتبكت المفاهيم عند أصوليهم وفقهائهم، ولعلَّه لأجل هذا ونحوه انغلق باب الاجتهاد عندهم فترة طويلة جدَّاً أو تلاعبت بأفكار بعضهم التَّكتُّلات الحزبيَّة المتشدِّدة ومنها التَّيميَّة والوهابيَّة.

مع ما كان قد حلَّ فيما بين بعضهم من آخرين مع البعض الآخر من التَّنافسات العدائيَّة وغيرها إلى أن ضاقت الأمور وكاد أن يتَّسع الخرق على الرَّاقع.

فضلاً عن إلحاح دعاة التَّقريب -- للخلاص من مخاطر ضياع الحق بسبب طول هذه الأزمات وعرضها -- بين المذاهب الخمسة.

إلى أن هدى الله تعالى المنصفين منهم وبالأخص من استبصر من غير القليلين منهمإلى هدى جادَّة الصَّواب عند الاضطرار مع الاختيار من تلقاء أنفس آخرين وإلى محاولات ترميم ما يخص الوضع الإسلامي العام ولو بلمِّ الشَّمل من التَّبعثر.

وإلى حدِّ التَّصريح من ذوي الإنصاف مع بالغ التَّأكيدات بوجوب إعادة النَّظر

ص: 379

في التَّأريخ الَّذي وضَّعه أو شوَّشه الأمويُّون ومن عاصرهم وتلاهم ضدَّ السِّيرة النَّبويَّة الطَّاهرة.

بل صرَّح علماء الأزهر اليوم -- بعد استقرارهم السَّابق على رسميَّة وشرعيَّة الانتماء إلى المذهب الخامس أستاذ أئمَّة المذاهب الأخرى وهو الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ -- إلى أهميَّة فتح باب الاجتهاد من جديد.

وإن كنَّا نتمنَّى أن كان ويكون على الأسس الصَّحيحة وبما أراده المستبصرون والمنصفون معهم وبما يعم الجميع على كلمة سواء، وببركات تطبيق كافَّة القواعد المناسبة لموضوع أي مناسبة ابتلائيَّة، بل واستكشاف حكمها كما يريده الله تعالى في شرعه ورسوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ويحفظه الأئمَّة الهداة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من بعده مع استفراغ الوسع كلَّما اقتضت الحاجة الماسَّة إلى تمامه للأخذ به أو إتمامه لتطبيقه.

فالمعادات المؤلمة الَّتي حصلت بين بعض المذاهب مع الحاجة إلى جمع الشِّمل وتقوية الحجَّة المثلى ضدَّ عدو الجميع هي أهم الكوارث الَّتي سبَّبت وتُسبِّب هذه النِّسبة الضئيلة في بدايتها من الانسداد.

والأنكى منه بعض أسباب شخصيَّة -- حصلت من نسب مختلفة منها من معادات شخصيَّة ضدَّ مذهب معيَّن، لانتسابه إلى مسلك الحق بأي عنوان كان، أو لمجرَّد احتكار تراث مهم معيَّن ناتج عن شُح مطاع، ولو ضدَّ من أؤتمن للدَّفع إلى معيَّن نوعاً أو شخصاً أو ليختص به للانتفاع به منه --

فحصل التَّفاوت الزَّائد على النِّسبة الواقعيَّة المذكورة حال تداخل نسب حالات الانفتاح العلمي المعادل لنسبة الانسداد الابتدائيَّة، مع تفاوته معها في الزِّيادة والنَّقيصة، بسبب تفاوت حالات تلك المعادات بين الشِّدَّة والخفَّة.

وهكذا كلَّما تقدَّمت الأيَّام والسِّنين والأعوام وتعقَّدت الأمور في الغيبة الكبرى هذه بالصِّفة الأكثر وبعد الإسناد وازدياد الانسداد.

ص: 380

فكان ممَّا لابدَّ أن يكون الانفتاح العلمي المعادل له مشابهاً بالنَّحو العكسي، وهو ما يُسبِّب ضعفه النِّسبي.

ولأجل إحراز الدقَّة العلميَّة الأصوليَّة الأكثر في ذلك لابدَّ من الخوض الإضافي في سبيله ولو افتراضاً احتماليَّاً عقلائيَّاً، لاستكشاف ما هو الأحق بين الانسداد الكبير المدَّعى، رغم كثرة الشَّدائد المسبِّبة لأمثاله، والانفتاح الأقل المعادل له عادة قبل ثبوت هذا الانسداد.

مع وجوب التَّفريق العادل علميَّاً بين أهل التَّمذهب بالانفتاح من العوام من دون تثبُّت في واقعيَّته وبين أهل الاجتهاد الواقعيِّين الَّذين لا يخلطون بين الغث والسَّمين وبين من يدَّعي الاجتهاد ويقيس ويستحسن ونحو ذلك مدَّعياً الانسداد الكبير مع إمكان حلِّ هذهالأمور أصوليَّاً شرعيَّاً حتَّى مع قلَّة الانفتاح المعادلة لكثرة الانسداد المدَّعى إذا كانت قلَّة الانفتاح في خصوص ما ورد عن أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ عن المعتبرات وهي وافية في نفسها والمعالجة من غيرها فنيَّاً اجتهاديَّاً وفقاهتيَّاً وكثرة الانسداد المراد منها ما كان مسبِّباً من المعادات لخط أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الَّذي أكثر حالات ادِّعائه أنَّه لا واقع له ولا يكسر طوق إحكام سيطرة أعاظم الفقهاء الأتقياء عليه.

وبالأخص لو كانت مع رواياتهم موثِّقات يأخذ بها الإماميَّة للعامَّة، وهو الَّذي لأجله قد يترك العامَّة موثِّقاتهم المعتبرة عند الإماميَّة تعصُّباً ويلتزمون حال ادِّعائهم بالانسداد الكبير مفضِّلين أن يكون مكانه القياسات والاستحسانات ونحوهما ضدَّ آثار أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وهم لا يعلمون وما أوقعهم في هذا الشَّرك إلاَّ عنادهم المعادي.

ومن أهل الانسدادات الكبيرة في سيرة العامَّة وللأسف ما أعتقد به -- وعمل به بعضهم على ما عرف من ترجمته -- أبو حنيفة المذكور حاله المضاد، وإن كان زيدي العقيدة وشهد بحق تلمذته على يد الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ في سنتيها ومعه من سار على

ص: 381

نهجه.

وهذا واضح في أنَّه من تحريضات المعادات الأخرى للإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ من العبَّاسيِّين لأبي حنيفة.

ومن أهل الانفتاحات عند العامَّة تمذهبيَّاً -- وإن لم يكن كاملاً أو كبيراً أو حتَّى الأقل وإن كان معادلاً عكسيَّاً لقول أبي حنيفة وجماعته -- هم الحنابلة.

ومع ذلك منهم من كان يستعمل القياس ونحوه في مستحدثات الأمور في بعض الأحوال، لأنَّهم لم يكن تمذهبهم كسيرة بعض الانفتاحيِّين من عوام الإماميَّة المحسوبين عليهم.

وإن لم نرتض مسلكهم العملي لو لم يُقلِّدوا الأجلاَّء من مجتهديهم أو مجتهدي الأصوليِّين مع كون أكثر رواياتهم المنفتحين عليها قابلة للانتفاع بها في ميدان اجتهادات الإماميَّة الصَّحيحة وبالنَّحو المحترم في أجمعها ما دامت في نوعها واردة عن الإماميَّة.

وإن أستثني بعضها فينا أو جاز النَّظر معنويَّاً في بعضها الآخر ونحو ذلك.

إضافة إلى عدم مشابهة روايات انفتاح الحنابلة وأمثالهم من العامَّة في أغلبها، لجمعها الكثير بين الغث والسَّمين، وبسبب كثرة الوضع والاختلاق الأموي وما سبقه والإسرائيلي مع كثرة التَّلفيقات فيها.

وكذلك كثرة روايات أبي هريرة المحسوب على الصَّحابة وهو الَّذي لم يحفظ من صحبته سوى روايات قليلة جداًً وبقيَّة رواياته الكثيرة عن كعب الأحبار وهو يظهر تابعيَّته وإن أيَّده بعض العامَّة من خواص أصحابه.

وإضافة إلى عدم مشابهة ضوابط رواياتهم في صحاحهم وغيرها من الرِّجاليَّة وقواعد أحاديثها الدِّرائيَّة لضوابطنا في دقَّتها.

مع احترامنا لكل ما تطابق من باقي رواياتهم من الموثَّقات والتَّضمُّنيَّات الَّتي

ص: 382

كثيراً ما يستفاد منها في باب التَّقريب وجمع الشِّمل بين المذاهب ولو في الجملة المهمَّة، لدحرالنِّسبة الأكبر من الخطورة أمام العدو الواحد وضدَّ الجميع ولو في خصوص النَّتائج الإلتقائيَّة، لو لم تتكافأ أدلَّتنا مع أدلَّتهم أو أساليبنا مع أساليبهم.

وعمدة الحديث العلمي عن الانسداد والانفتاح بمراتب كل منهما المقبولة في التَّقابل المعقول شرعاً بينهما والَّذي أشغل الفكر الوسطى للإماميِّين كثيراً، لترتُّب كم وكيف القدرة الاستنباطيَّة للفقيه المعتمد على أساسيَّات الأصول المدركيَّة غير البعيدة ولو جزئيَّاً، بل أقرب القربيَّة إلى ما لابدَّ أن يصل إلى جوهر وحي الله في نهاية المطاف العلمي والعملي.

ومعهم الكثيرون ممَّن ساروا على نهجهم في البحوث كفقهاء عهدي التَّسنُّن ثمَّ التَّشيُّع.

ومن قال -- ممَّن بقى على حاله السَّابق -- بوجوب إعادة النَّظر في التَّأريخ وأمور الرِّجال والحديث بإنصاف، لظهور كثرة التَّناقضات عنده وعند غيره، فضلاً عمَّن استبصر وبقي مصرِّاً على ما اتَّخذه الأصوليُّون منَّا من دروب التَّوسّع الاستدلالي لفظيَّاً ولُبيَّاً ونحوهما بلا قياس ونحوه.

فإذا ما أردنا حسم قضيَّة الفرق بين حالات الانسداد والانفتاح الواقعيِّين، أو حتَّى الظَّاهريِّين عند العجز عن احتواء بعض الواقعيَّات في أزمنتنا الحاليَّة من الغيبة الكبرى، بعد الابتعاد عن التَّمذهبيِّين الَّذي أشرنا إلى بعض مصاديقهم، لخروجهم عن الأوزان العلميَّة العمليَّة الشَّرعيَّة المبرئة للذِّمَّة سعة وضيقاً.

مع إعراضنا حتَّى عن ما التزم به بعض عوام الإماميَّة من قولهم بالانفتاح الكبير أو الكامل وإن ضبط العلماء أكثر المرويات خوفاً من تصرُّفات هؤلاء العوام بما لم يعلم به إلاَّ المجتهدون من أخطاءهم.

هو أهميَّة تمحيص ما يحتاج من الرِّوايات إليها كما مرَّ أكثر من مرَّة.

ص: 383

إضافة إلى ما ركَّزنا عليه سابقاً إماميَّاً من عدم الرِّضا بادِّعاء الانسداد الكبير ولو إشارة، فضلاً عن الأكثر، إذا كان هذا ممَّا قد يوصلنا إلى الالتجاء إلى استعمال القياسات مع الفوارق في توجيهات الأمور ونحو ذلك.

وما يعادل هذا من الانفتاح القليل الَّذي لا يفي ولا يكفي، وبالأخص بعد محاولة بعض من لم يستوعب ذهنه منَّا بقيَّة ما كان مفتوحاً للفقيه الَّذي لا يخفى عليه طريق، بمثل قبول البناء على الوثوق، وما خفي على من لم يتابع كسلاً وتقاعساً منافذ ما جعله الله في قوله القرآني [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ](1) وغيره دون أن يستفرغ

وسعه.

ومع ذلك يقوم بتقليص ما أمكن الأخذ به من الانفتاحات الأكثر من هذا القليل المدَّعى بتعادله للانسداد الكبير والأكثر وما قد لا يمتنع عن إمكان القول بالانسداد الوسطي الَّذي يعادله الانفتاح الأكثر من القليل الماضي، مع مشجِّعات ما يُعطي من الأمل الإيجابي لصالح هذا الانفتاح عند الأخذ بالعلاجيَّات المهمَّة الواردة مؤكَّداً عن الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ إذا حلَّ توهُّم زائد بالانسداد.وبالأخص عند نجاح القول بكفاءة الأصول وقواعدها الصِّناعيَّة وتلائمها مع هذه النِّسبة الوسطيَّة ووصولها إلى حد براءة ذمَّة العباد المكلَّفين في جميع المجالات دون ابتداع أحد غير ما يلائم وحي الله بعيداً عن القياسات والاستحسانات وسدِّ الذَّرائع.

أمَّا القول بالحاجة إلى لزوم الأخذ بما يزيد على الانفتاح الوسطي الَّذي قد يتعادل معه إمكان القول بالانسداد القليل فهو الَّذي قد يُسبِّب كون زماننا المتأخِّر شبيهاً بالزَّمن المتقدِّم، وهو ما أشرنا إليه من زمن بُعد الإسناد هذا في زماننا المختلف عن قربه الماضي، وهو ما قد يختلف فيه حتَّى في نوعيَّة الاجتهاد بين زماننا وزمن

ص: 384


1- سورة النحل / آية 89.

الماضي بين دقَّة الحالي وخفَّة الماضي، وما قد يُسبِّب نوعيَّة امكان الأخذ بأخبار الآحاد وصحَّته، كهذا الزَّمان بناءاُ عليه بشرط أو بدون شرط من اشتهار عدمه كالزَّمن الماضي الَّذي تكثر فيه المتواترات ويندر فيه الآحاد.

الرَّابع: من أدلَّة ما يمكن منه عدم اعتبار خبر الواحد

عند العلماء إلاَّ مشروطاً

وقبل الخوض في صلب موضوعه لابدَّ لنا من بيان مقدِّمتين:-

المقدِّمة الأولى:-

لعلَّ الاختصار الماضي عمَّا ذكرناه من مرجوحيَّة القول بالتَّعبُّد بأخبار الآحاد المجرَّدة مع ضعفها بالنَّحو الاستطرادي السَّريع.

ولفرض إنهاء البحث الماضي ببقاياه غير كاف في عمليَّة ترجيح الاعتماد على أخبار الآحاد المقصودة بالقرائن إلاَّ بشيء من التَّفصيل عن حال ما يلزم ذكره من القرائن معها ما دام احتمال العثور على شيء منها ممكناً بالسَّعي حتَّى بما قد يبالغ به من بعض الانسدادات المحتمل كونها غير مدروسة، ليُعاد ذكر هذه المرجوحيَّة وأرجحيَّة الرَّبط بالقرائن ونحوها بما هو أقرب للتَّقوى في نهاية البحث.

المقدِّمة الثَّانية:-

إن الحديث عن الخبر الواحد عموماً قبل الشُّروع بالكلام عن العنوان أعلاه بالصِّفة العامَّة لدى علماء عموم المسلمين الَّتي تستحق أن يطلق عليها في أخبار الفقهيَّات لديهم بالخاصَّة.

ص: 385

وقبل الشُّروع بما يرتبط بأخبارها لدى علماءنا الإماميَّة الَّتي تستحق أن يطلق عليها بالأخص.

لابدَّ أن يدخلنا ذلك العام في مطلب شائك صعب المنال عمَّا نحن نريد الوصول إليه من أخبار أمور الفقهيَّات الخاصَّة وإن دخلت فيها بعض أخبار فقهيَّات الأخوة العامَّة المقبولة، فضلاً عن تلك الأخص من أخبار فقهيَّاتنا الإماميَّة المحقَّقة في الكثير منها إن لم نقل في الأكثر بعد قدسيَّة جميع ما ورد منها عن الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

لكون أخبار الآحاد العامَّة الَّتي أهم مصاديقها التَّأريخيَّات والَّتي تُعد كثيراً في مشهوراتها إن لم نقل الأكثر بحاجة إلى الغربلة وتجديد النَّظر.

فكيف بأخبار آحادها والَّتي تُعد أصدق محمل تُحمل عليه كل المنقولات حتَّى الخاصَّة والأخص أنَّها تحتمل الصِّدق والكذب، بل وكذلك حتَّى أخبار فقهيَّات عموم المسلمين المحتاجة إلى غربلة مرويَّات ما لم يطمئن به الإماميَّة.

فلم يبق إذن إلاَّ ما هو الأقرب إلى القبول من مرويَّات الفقه الإمامي من الَّذي حقَّقأكثره ومعه المقبول من روايات المأخوذ به من مرويَّات العامَّة ممَّا يصلح أن يكون العنوان الماضي باقياً على شموله له، لما يبتغيه أهل التَّحقيق والتَّقوى للوصول إلى ما فيه براءة الذِّمَّة الأكثر.

وبعد بيان هاتين المقدِّمتين نقول:-

إنَّ لعدم اعتبار خبر الواحد المجرَّد عند العلماء قديماً أدلَّة مهمَّة وإن صحَّت سلسلة اعتباره بمرور الزَّمن إجمالاً أو تفصيلاً عند الآخرين بما قد يكون منها ما يأتي الحديث عنه ومن مضامينه ممَّا لابدَّ من المرور عليها، للخلاص في النَّتيجة عن كلتا الحالتين إلى معنى موحَّد منتج، وهي أمور:--

الأمر الأوَّل: التَّأكيد على أهميَّة اعتبار البيِّنة الشَّرعيَّة بها على ما نصَّ عليه كثيراً كتاباً وسنَّة كإمارة تثبت بها حجيِّتها من تلك الموارد في مقابل العدل الواحد،

ص: 386

بل دون قبوله وحده، فضلاً عن حالة عدم ضمان عدالة هذا الواحد لو تحمَّل الشَّهادة وأخبر بها وحده وإن لم يثبت كذبه ولم تقوِّمه قرينة من القرائن بها على ما سيجيء.

وللتَّأكيد على هذا وغيره دون ما عداها بسبب الأدلَّة المتنوِّعة كتاباً وسنَّة، بل وسيرة باسم (قاعدة البيِّنة) ومن موارد الحاجة اشتراطاً وتحمُّلاً واجباً في إيقاع الطلاق.

ولتثبيت الإدِّعاء في المحاكم الشَّرعيَّة وقضايا الادعاء لتثبيت الأهلَّة واستحباب الإشهاد في الزَّواج ووجوب الأدلاء به عند الحاجة اللازمة إليه لدع الإشكال.

وبعد ثبوت هذا الأمر ووجود مقتضياته وثبوت منع نقائض العمل به وهو الأخذ بالبيِّنة دون مجرَّد الخبر الواحد.

يمكن القول أيضاً بعدم صحَّة الأخذ بالخبر الواحد حتَّى في باب نقل الرِّوايات والعمل بمضامين محتوياتها، وإن صحَّ وحده سنداً بصفة قويَّة من النِّسب، دون أن يكون ذلك قرينة من القرائن المشروطة لها ووجود الحاجات الماسَّة إليه في الموارد العديدة.

على ما سيأتي بيان مرِّجحات العمل به، ولو بسبب وجود شيء من الإشكالات في الاعتداد به على الأقل في مقابل أدلَّة اعتبارات البيِّنة الأقوى جدَّاً من مواردها الَّتي لا تناهض، ما لم يحف بالخبر الواحد من قرائن التَّوثيق ومؤهِّلات التَّصديق الآتية.

ومن مرشِّحات تقديم البيِّنة على الخبر المجرَّد وإن كان عادلاً قوله تعالى [لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ](1)، إذا لم يكن للبيِّنة معنى آخر غير الشَّاهدين العادلين أو الشَّاهد العادل ومعه قرائنه المعادلة

ص: 387


1- سورة البينة / آية 1.

من التَّقييم الشَّرعي من المقامات كالشَّاهد واليمين.

ومن ذلك قوله تعالى [لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ](1)، إلى غير هذين النَّصين المباركين من الكتاب وما يعاضدهما من نصوص ومضامين السنَّة المؤكَّدة حول البيِّنة الشَّرعيَّة الَّتي تقوم بها الحجج الشَّريفة.

وعلى فرض الحاجة إلى الخضوع لتفسيرها أو تأويلها بالَّذي كان أوسع منالشَّاهدين العادلين أو الأكثر من العادل الواحد المقرون بقرائن المعادلة فلا تقل تلك البيِّنة عمليَّاً عند الأتقياء من فقهاء الأمَّة وأصوليِّيها عن محاولاتهم المستمرَّة جهد الإمكان على تثبيت حججهم الاستنباطيَّة للأحكام المساوية لها في الاعتبار كالنُّصوص والظواهر المرتبطة بالظُّنون الخاصَّة والتَّواتر والشِّياع المفيد للعلم والشُّهرة العمليَّة والسِّيرة العمليَّة المستمرِّة من زمن المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ والإجماع الإمامي ونحو ذلك من بعض القواعد.

وبناءاً على أنَّ بعض حالات إثبات الشَّيء قد ينفي ما عداه ولو منازلة للخصم المصر على الأخذ بخبر الواحد من الَّذي لم تظهر مع حالته قرينة العدالة أو التَّوثيق الشَّخصي أو وثوق القضية الرِّوائيَّة كليَّاً، سواء كان منَّا إماميَّاً أو من الآخرين.

وعلى الأخص كثيراً لو كان الاستدلال بأمثاله حتَّى في مقابل النُّصوص الصَّريحة الَّتي لا يختلف فيها اثنان من أبناء الأمَّة المعتادين على ثوابتهم الإسلاميَّة العامَّة فضلاً عن المتفوِّقين عليهم بالعلم والمعرفة.

كما في قضيَّة ادِّعاء الخليفة الأوَّل لردِّ الصدِّيقة الزَّهراء عَلَيْهِ السَّلاَمُ عند مطالبتها أمام عموم الصَّحابة والمسلمين في المسجد النَّبوي بُعيد وفاة أبيها صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ إرجاع ما كان تحت يدها من فدك والعوالي بعد ما أخذهما منها بعد ما انفضَّت جلسة السَّقيفة، وأمير المؤمنين "سلام الله عليه" مشغول بتجهيز ابن عمِّه رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ.

ص: 388


1- سورة الأنفال / آية 42.

حيث قلب مطالبتها له بإرجاعه ما كان تحت يدها من فدك والعوالي وتحت تصرُّفها من عهد أبيها صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بدعواه أنَّ هذين لاحق لكِ فيهما بأن يكونا من المواريث.

فأوقع نفسه في مأزق آخر كبير -- وهو انتزاع ما في يدها ممَّا كان لها وتحت تصُّرفها -- بادِّعائه خبره المجرَّد المعروف ضدَّ الزَّهراء عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن أبيها صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بقوله (نحن معاشر الأنبياء لا نورِّث ما تركناه صدقة)(1).

بينما النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ما قال إلاَّ ما صدر من الوحي في آيات المواريث العامَّة والمطلقة والخاصَّة بين ذراريهم، بما لا مناقشة فيه.

بل قد صدعت بالدِّفاع عن حقِّها الشَّريف مستشهدة بهذه الآيات وغيرها في خطبتها العظيمة أمام الجميع بما لا مجال للنِّقاش في مقابله.

ولتبيُّن الحق والحقيقة ومن مصادر الفريقين لم يغب عن أذهان الكثيرين من المنصفين وجوب نصرتهما في مجالي العقيدة والشَّرع من غير الإماميَّة.

حتَّى ازداد التَّعلُّق الاستدلالي واعتزازاً بالميسور من الأدلَّة القويَّة آنذاك واستمر التَّمسُّك بها ومن أعاليها المتواترات وما يقرب منها وإلى عهد السيِّد المرتضى قدس سره ومن ينهج نهجه من بعده حتَّى صارت الشُّهرة للعمل بها لوفرتها وبعدم الأخذ بأخبار الآحاد.

إلاَّ أنَّه ومن باب قوله تعالى [وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ](2)، وتطوُّر الأحداث بين القديم والحديث من الكوارث الطَّبيعيَّة والحروب المعادية نوعيَّة وشخصيَّة واختفاء دقائقالأمور العلميَّة، ممَّا سبَّب بعض الانسدادات الَّتي أوجدت وجوب النَّظر، إن لم نقل وجوب إعادته من جديد، حتَّى فيما قد يزيد على أخبار الآحاد المجرَّدة من بعض ما حُفَّ منها ببعض القرائن إن ساعد الدَّليل المتقن على

ص: 389


1- مسند أحمد بن حنبل 2/463.
2- سورة الأعراف / آية 85.

الأخذ بما هو أوسع منها، بسبب تلك الانسدادات ومع عدم تساوي الآحاد المجرَّدة بالمحفوفة في مساعدة الأدلَّة.

لابدَّ من أن نبقى على ما ساعدت عليه، فنقول:-

أنَّه عُدَّ عند المشهور أنَّ امكان استفادة الأخذ بخبر الواحد ممنوع من آية النَّبأ وهي قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا](1) ولو بنحوه الإجمالي في مقابل التَّحقيق.

إلاَّ أنَّه عُدَّ امكان الأخذ المحدود بحدود الشَّفافيَّة لغرض التَّوسُّع عند الانسدادات، لصالح تسنيدات فقهنا العظيم غير المحدود بتشعُّبات بحور مسائله، لو أعيت قدرات أصوله الفائقة عن إيجاد قواعد خاصَّة له من مثل نفس هذه الآية، ولو من قول الفاسق المذكور في الآية مع التَّبيُّن في منطوقها وظهور صدقه في نبأه المصاحب للوثاقة به، كقرينة مانعة عن الغفلة والنَّوم والسَّهو والنِّسيان في الإخباريَّة، وإن كان مغايراً لخبر العادل غير المذكور إلاَّ مفهوماً لو تطرأ عليه الغفلة ونحوها.

أو مغايراً لغير الفاسق الدَّاخل في المفهوم العام المخالف حتَّى الشَّامل للعادل وإن فضل ظاهراً على الفاسق غير المتبيَّن أمره، لولا دخوله في المفهوم والفاسق في المنطوق المتبيَّن مع ضمان عدم غفلته ونحوها.

وهو شموله للمتوقِّف فيه مفهوماً أنَّه عادل أو غيره، وإن كان هذا الأخير أشد على القضايا المحتاجة للتَّوثيق من الجهة العامَّة وغير ذلك.

ونخص بالذِّكر بالصِّفة الأكثر خبر الفرد العدل الواحد إذا عرضته العوارض من الغفلة ونحوها مع ما مضى ذكره من حاله ليخرج المستفيض الَّذي قد يزيد على الاثنين من البيِّنة الَّتي أقلُّها اثنان حينما كانوا عدولاً.

لأنَّ البيِّنة إن تأكَّدت أدلَّتها كما أشرنا في كونها للمقام لها موضوعيَّتها الخاصَّة

ص: 390


1- سورة الحجرات / آية 6.ج

بها فلا معنى للأخذ بالأقل من الاثنين إلاَّ بموارد مستثناة خارجة بالنَّص والدَّليل الخاص عن قاعدتها كخبر الَّذي لا يكذب في عموم القضايا ممَّا مرَّ ذكره ومن مصاديقها قبول أذانه لتوقيت الفرائض الخاصَّة وقبول وثاقة صاحب اليد وقبول عزل الوكيل بوصول خبر العزل به من لدن الثِّقة المرسل لذلك.

ووصول خبر الوصيَّة به من مظان ذلك ونحوها، وقد تثبتت هذه المصاديق عن أدلَّتها في الفقه.

وعليه فيصح الأخذ بالخبر المستفيض وإن لم يكن أفراده من مقوِّمات البيِّنات اكتفاءاً بوثاقة أفراده.

إضافة إلى أنَّ بعض أفراده قد يدخل في المشاع إن تمَّ قبولها ولو من حيث خصوص الوثاقة دون العدالة.ومن ذلك إذا أفاد العلم دون الظَّن كما في قضيَّة الأهلَّة وغيرها.

ومن مؤكِّدات وجوب الاهتمام بالبيِّنات الشَّرعيَّة لتطبيقها في مواردها الخاصَّة بما يشتمل على شاهدي العدل على الأقل ولتشييد قاعديَّتها.

ومن ذلك محاولة التَّعرُّف عن طريق الحديث عنه أنَّ إثبات ذلك هل يمكن منه نفي ما عداه أم لا؟ هو قوله تعالى [وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ](1)

ليُرى صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عن هذا الطَّريق امكان معرفة قيمة هذه القاعدة من عدمها سلباً أو إيجاباً من هذه الآية وما يشبهها من الكتاب والسنَّة.

فهي ونظائرها من الأدلَّة في ظاهر صيغتها الأمريَّة الواضحة من الأمر بالاستشهاد بالشَّهيدين وجوب التَّعبُّد بالتَّحميل بالأخذ بهما عند الحاجة في موردهما الشَّرعي الخاص في مثل القضاء وأمام كاتب العدل ونحوهما للتَّحمُّل إدلاءاً منهما وإخباراً بمفادهما دون الأقل.

ص: 391


1- سورة البقرة / آية 282.

وهو مثل الاكتفاء بالشَّاهد العادل الواحد لو جاء معهما الاطمئنان بالتَّطابق الرَّافع للشَّك بالخلاف، ما لم يكونا في معرض طرؤ السَّهو والنِّسيان عليهما، فضلاً عن العادل الواحد على ما عُبِّر به في لسان الآخرين، على ما حكي هذا عن القاضي وظاهر عبارة الكاتب والشَّيخ قدس سره.

وإن قيل بعدم التَّصريح في الأدلَّة بعدالة الشَّاهدين كما في ظاهر الآية.

فيجاب: بما يأتي من ذكر الآيات الصَّريحة بذلك والكاشفة عمَّا سبق ذكره من صحَّة تسديد تفسير القرآن بالقرآن.

وممَّا يؤكِّد إرادة العلم الشَّرعي بوجوب التَّعبُّد بإقامة الشَّهادة الكاملة لموضوعيَّة تامَّة لتمام الشَّاهدين العادلين لينفي ذلك العدل الواحد الَّذي بقبوله لا يتم إلاَّ الأخذ بالظِّن العام مع طرؤ غفلاته وسهوه ونسيانه أثناء الحدث، وكما مرَّ من الكلام عن آية النَّبأ.

والأخذ بالظَّن العام ممنوع كمَّاً وكيفاً تحقيقاً في قوله تعالى [وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ](1)، وما الَّذي فيه النَّهي عن حالة التَّوصُّل إلى ما به عدم العلم إلاَّ الوصول إلى الجهل أو بعض متاهاته ومنه الظُّنون الممنوعة الواردة في قوله تعالى [وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً](2).

وعلى هذا إن قيل أنَّه قد يرتكز في أذهان العقلاء من كلِّ مذهب وملَّة أنَّ الحجيَّة في المقام عند الحاجة في القضايا الاجتماعيَّة إلى إقامة الشَّهادات والبيِّنات بين الفرق الاجتماعيَّة المتفاوتة في المذاهب والملل.

هي الحجيَّة العقلائيَّة دون التَّعبُّد بالشَّهادة الكاملة.

فإنَّه يُقال: لا مجال للأخذ بما يُدَّعى ويترك التَّعبُّد، لأنَّ هذه الحجيَّة لا قيمة لها

ص: 392


1- سورة الإسراء / آية 36.
2- سورة يونس / آية 36.

إذا كان وزن العدالة في الشَّاهدين مختلفاً فيه بين الأقوام والأديان والمذاهب بما قد يصل إلىما به بعض التَّسامح.

ولكن الحق الإلهي واحد لا تعدُّد فيه لقوله تعالى [إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ](1) وقوله [وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ](2) وغيرهما.

حتَّى على فرض أن يتعاون المتطِّرفون أو ما يقرب منهم فيما لو قيل أنَّ بينهم توهُّماً وهو أنَّ العدالة لها معنى واحد بين جميع العقلاء وهو موضوعها، سواء تعدَّد مصداقها أو تفرَّد بين جميعهم.

فإنَّ الاختلاف الدِّيني أو المذهبي فيما بين المتطرِّفين ونحوهم لابدَّ أن يبقى غير موَّحد لتعقُّلاتهم المبنيَّة على غير دين الله الواحد لينجز لهم أنَّهم لو تخرَّبوا على ما قيل، وهو قبول شهادة العدل الواحد الَّذي حدَّدوا معناه على مستوى ما بدا ما فيهم سابقاً من الاختلاف بالنَّحو الحزبي.

فلا وزن إذن لغير التَّعبُّد المولوي ما دامت موضوعيَّة ذلك في لسان الشَّرع كهذه الآية غير البعيد عن المولويَّة فيها، بل هي نفسها وبصيغة الأمر المعروفة بدلالتها على الوجوب دون أن تكون خصوص الآية للإرشاد وبابتعاد عن كون دور العقل واصلاً إلى صيرورة تصرُّفاته مستقلَّة دون خضوعه للشَّرع وأوامره قابلة للإحتجاج بها مع الآيات الإرشاديَّة.

وما أدعي من ضعف هذا الرَّأي أيضاً بما قيل في مقابل ذلك من السِّيرة والإجماع، ودعوى القطع المخالف بما ارتكز في نفوس رهط من السَّلف الصَّالح من العلم العادي بالبيِّنة لا التَّعبُّدي المذكور.

ص: 393


1- سورة آل عمران / آية 19.
2- سورة آل عمران / آية 85.

لا يمكن الرِّضا به بمثل تعقُّل ما يتفاوت من معنى العدالة إلاَّ بمعناها الشَّرعي ودون الأخذ بالشَّاهد العادل الواحد مع العلم من تفاوت اعتبار العلم عندنا بين كون العدل الواحد جزء للبيِّنة لا غير.

وبين كون الشَّاهد الثِّقة المؤتمن الَّذي لا يكذب ليؤخذ بخبره دون ما سبقه.

ويتبع عدم قبول السِّيرة بهذا المعنى أمر الإجماع المخالف أيضاً، وكذا القطع معها بالقطع المخالف فلا انسداد في الاعتراض المقابل.

ومن أدلَّة اعتبار البيِّنة دون اعتبار الفرد الواحد المجرَّد من قرينة الوثوق به كما مرَّ وكما سيأتي مع التَّنصيص على عدالة الشَّاهدين ككاشف عن حقيقة ما أريد ممَّا مرَّ ذكره من النُّصوص بناءاً على قاعدة تفسير القرآن بالقرآن قوله تعالى [وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ](1) بالأمر بالتَّحميل للتَّحمُّل بالإخبار عند الحاجة إلى ذلك.

ويؤيِّده مؤكَّداً قوله تعالى الآخر [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ](2) بنحو التَّحمُّل للأخباربالنَّتيجة ووجوبه لضبط الأمور الشَّرعيَّة بها عن طريق شاهدي العدل.

وقد جاء في القرآن الكريم ما فيه شيء يتعلَّق بالمقام ولو لم يكن بالنَّحو المباشر بنحو من المدح للنَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بأنَّه كما يقول تعالى عنه [يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ](3).

وهو أنَّ إيمانه لصالحهم في حال تكثُّرهم الجمعي دون انفراد بعضهم عن بعض، إذ لو انفرد بعضهم عن بعضهم بالنَّحو الانفرادي من تلقاء أنفسهم لمَّا كان صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مريداً

ص: 394


1- سورة الطلاق / آية 2.
2- سورة المائدة / آية 106.
3- سورة التوبة / آية 61.

من قدسيَّة ذاته إلاَّ بالجمع ومصالح الجميع، لا كل فرد فرد وإن كانت مصالح الأفراد غير ممحاة ما دامت موضوعيَّة تصديق جميع المؤمنين به صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ موجودة.

لأنَّ الجميع أقرب إلى تعظيم الشَّعائر وأنتج إلى ما به الوثوق وأكد إلى ناحية حصول التَّصديق ومن هذه الصِّفة يعرف سر ما ترمي إليه هذه الآية.

ونظير هذا ما تؤكِّد عليه آية الاعتصام بحبل الله وغيرها من الآيات والأحاديث الشَّريفة الأخرى.

ومن مضامين ذلك أمور الشَّهادات وكما يستفاد اعتبارها من معتبرة مسعدة ابن صدقة عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: سمعته يقول (كل شيء لك حلال حتَّى تعلم أنَّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، أو المملوك عندك لعله حر قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهرا، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البينة)(1).

وهو ما يحضر ذلك في الموضوعات والحوادث المحتملة في العالم حتَّى يستبين الواقع أو ما يعادله وهو قيام البيِّنة.

وكذا ما ورد في الجبن كاشفاً عن المقصود من البيِّنة بقوله عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ (كل شيء لك حلال حتَّى يجيئك شاهدان يشهدان بأنَّ فيه ميتة)(2).

ومثله جملة من الأخبار تحمل نفس المعنى وهي كقرائن حافَّة بهذا الخبر يشد بعضها بعضاً فإمَّا ببيِّنة شرعيَّة كما مرَّ أو خبر واحد محفوف بقرائن التَّوثيق للنَّاقل أو الوثوق في القضيَّة على ما سيجيء.

الأمر الثَّاني: ما ظاهره من الأدلَّة عدم اعتبار الأقل من نسبة التَّواتر حتَّى بما

ص: 395


1- وسائل الشيعة ج17، ص89، أبواب ما يكتسب به، ب4، ح4، ط آل البيت.
2- الوسائل، ج 17، ص 91، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 2.

زاد عن خبر الواحد إلاَّ إجمالاً وإن لم يساو التَّواتر فيه كما في قوله تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ](1).

لأنَّ الواحد من طلاَّب العلم إذا رجع إلى أهله بعد تفرُّغه الدَّائم أو بين حين وآخر أيَّام التَّحصيل بأحكام دينهم بإنذارهم ليحذروا ممَّا لم يأخذوا به من تبليغاته وتوجيهاته السَّابقة لهم أو لم يطبِّقوه ممَّا علَّموه منه من المفروض كلِّها أو بعضها عليهم --وبالأخص إذا كان وضعه عندهم في معرض الشَّك فيه كالعادة في كثير من قضايا الواحد المرسل للتَّبليغ الَّذي لم تتأكَّد عدالته إلاَّ عن طريق التَّفحُّص عن مصاحبة أقرانه الوافدين مثله معه لأداء وظيفة التَّبليغ الجماعي المشابه لما يقوم به صاحبهم، ليكون مقبولاً في صحبتهم له أو مع ضمِّ عادل آخر إن كان الأوَّل عادلاً لإتمام البيِّنة كما في قاعدتها.

أو كان فاسقاً مع التَّبيُّن الَّذي لا يرفع وجوب الابتعاد عن تصديقه وعن خبره، لكونه الثِّقة الَّذي لا يكذب كما ذكرته آية النَّبأ في منطوقها المقدَّم على المفهوم وإن كان من العامَّة من جهة وثاقته أو كونه ذا عهدين في حياته بالتَّسنُّن والتَّشيُّع وكان ثقة في كليهما أو منصوصاً من الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ بوثاقته.

على ما سيجيء ذكر من نصَّ عليهم بذلك من الحواري ومنهم النوَّاب الأربعة وأصحاب الإجماع وأهل المراسيل المعتمدة بين الجميع والَّذين حُفَّت بقضاياهم درجة الوثوق أو المرويَّات عن درجة الاستفاضة إلاَّ ما لا يقل عن عدد التَّواتر المتبَّع حسب دليله --

فإن ثبت من شواهد التَّصديق الجازم تماميَّة مصداقيَّة توجيهات هذا الرَّاجع

ص: 396


1- سورة التوبة / آية 122.

الواحد إلى أهله من صحَّة توجيهات الآخرين من الرَّاجعين إلى أهليهم معه وبتطابق كامل في المعلومات الواصلة إلى ذوي كلِّ الطلاَّب وعلى مستوى التَّواتر ونحوه، ممَّا يُحقِّق الإشاعة المفيدة للعلم دون الظِّن ما لم يمنع عن مصداقيَّته آية النَّفر الماضية.

كما ذكرنا عن بعض حالات الاستفاضة لو جاء معها الاطمئنان العرفي الرَّافع للشِّك بما يقبل التَّواتر وبعض حالات الاستفاضة في كونهما من رعيل واحد.

أو ما قبلناه من نفس المخبر الواحد إذا حُفَّ بالقرائن ما لم يكن مجرَّداً عن شيء منها أو كون ذلك الواحد صاحب يد قوَّمته الأدلَّة المهمَّة الخاصَّة أو غيره من المصاديق المأخوذ بها حتَّى مع انفراد أصحابها لأدلَّتها الخاصَّة المذكورة في مواقعها.

ثمَّ إنَّ اعتبار التَّواتر في الآية المذكورة كما في غيرها ممَّا يأتي قريباً مهم جدَّاً من حيث كونه محتاجاً إليه في موارد غير محدودة إذا صادف وقوع الشَّك في بعضها فإنَّه لا يرتفع شرعاً إلاَّ بتحقُّقه لموضوعيَّة مطمئنَّة في عدده الخاص كما في مسألة الأهلَّة والإخبار برؤيتها أوَّل الشَّهر أو آخره لمعرفة الهلال الثَّاني صياماً وإفطاراً أو حجَّاً ومواعيد اقتصاديَّة وديون وعادات النِّساء وعددهن.

فإنَّه لابدَّ من هذا الثُّبوت بأمور شرعيَّة ستَّة يُعدُّ التَّواتر والشِّياع المفيد للعلم منها محل تفصيلها في الفقه.

ومن الآيات الواردة في شأن التَّواتر قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ](1).

أقول: إنَّ الكتمان لما أنزل الله تعالى من التَّوجيهات الإلهيَّة للعباد بعد العلم بها إجمالاً أو تفصيلاً من كلِّ مكلَّف شرعاً بالتَّبليغ بها مباشرة أو تسبيباً من الأنبياء والرُّسلوالأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ومن دونهم من سائر المؤمنين والمسلمين وعظاً وإرشادات وإن

ص: 397


1- سورة البقرة / آية 159.

كان محرَّماً على الجميع وعلى كلِّ فرد فرد حالة التَّقصير والتَّقاعس عن أداء واجب تعليم الجهلة لحاجتهم الماسَّة إلى تلك التَّوجيهات والتَّعاليم الإلهيَّة وحسب القضايا ومقاماتها في الحالتين.

وإن استثني أهل العصمة من بينهم بحتميَّة عدم تقصيرهم في أداء كل ما وجب عليهم من ذلك وما بقي إلاَّ سائر أهل العلم من المؤمنين والمسلمين ممَّن دونهم إذا قصَّروا فيما كلَّفوا به من ذلك جملة أو تفصيلاً.

ولكن ليس معنى ذلك كون تحريم الكتمان على الفرد أن لا يحتاج إلى ثان في مقام اشتراط العدالة فيه وقد حصلت لإكمال البيِّنة بالعادل الثَّاني معه لتقوم الحجَّة الشَّرعيَّة في مقامات اشتراطها على الأقل وإلاَّ فلا أو نحو ذلك ممَّا مرَّ وما سيأتي ذكره للطَّالب والمطالع الكريم.

ولذا عبَّر تعالى في هذه الآية بما قد يزيد على الفرد بقوله (يكتمون) وهو أقل الجمع اللُّغوي على الأقل والَّذي لا يمنع عن أكثره كذلك.

بل حتَّى إذا ازدادوا مهما بلغوا ومن مصاديق ذلك ما به شدَّة المسؤوليَّة عليهم إن وصلوا إلى حدِّ التَّواتر واحتيج إليهم بإدلائهم بمعلوماتهم أو القسامات وغيرها كما دلَّت عليه آيات تغليظ أخرى عليهم وعلى أمثالهم من العصاة والمتمرِّدين كقوله تعالى [وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ](1) ونحوه.

بل دون أن يكون معنى لإرادة الشَّخص الواحد من كاتمي الحق في مقام هذه الآية إلاَّ أن يتمِّم بما يجب أن يكون ليستفاد من مدلولاته مع غيره وإن تضاعف عليه الإثم أضعافاً مضاعفة كإبليس "لعنه الله" كاسم جنس في قضيَّته القياسيَّة الباطلة ضدَّ أبي البشر آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ لكونه يمثِّل جميع الأبالسة مع كل من جنَّده وأمثاله.

أو لا حقَّ لهذا الواحد أن يشهد وحده أو حتَّى لو كان معه غيره مع عدالتهما.

ص: 398


1- سورة المؤمنون / آية 70.

بل حتَّى ما لو زادوا كذلك إلى الثَّلاثة لوجوب كتمان شهادتهم احتراماً لشرف العوائل الَّذي يجب حفظه ولو تطبيقيَّاً، لكون الله تعالى يحب السَّاترين إذا لم يكن عدد الشُّهود كافياً لشهود الزِّنا الأربعة المحدودة في شرع الله ولو من الجهة الظَّاهريَّة، وإلاَّ يجب أن يجلد الباقون للفرية تكريماً لنواميسهم حذراً من أن يفتضحوا.

وهل من تلك الآيات الواردة في شأن التَّواتر قوله تعالى [فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ](1).

مع تماميَّة وضوحها في وجوب التَّلقِّي من أهل الذِّكر بصيغة الأمر من قبل المأمورين ليكلِّفوا بمسؤوليَّة العطاء أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر للآخرين تبعاً لأدلَّة ذلك.

ومن أهمِّ مصاديق ذلك وما به النَّفع الكثير الحتمي لرفع الجهالة وحيرة الضَّلالة هونسبة الآخذ التَّواتري والعطاء المماثل؟

ثمَّ أقول: فإن كان المراد من أهل الذِّكر هم الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بعد النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ فلا نقاش في حجيَّة قول الفرد منهم، لأنَّ كلاًّ منهم يُعدَّ أمَّة حسب تقييم الأدلَّة الخاصَّة في علم الكلام بهم.

فضلاً عن حجيَّة قول الأكثر كحجيَّة نقل ما حملته العترة كلُّهم أو بعضهم ممَّن يزيدوا عن الفرد الواحد منهم ممَّا حمله حديث الثَّقلين وأمثاله من الرِّوايات النَّاقلة عن الأكثر من الواحد منهم إذا دلَّت على ذلك دلائل صدقه.

وإن كانوا هم أصحابهم وحواريهم والرُّواة عنهم من غير المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، فالجمع هو المقصود كما حملته الآية إن كانوا هم المسؤولين على أن يكون معنى أهل الذِّكر فيها بالمستوى الأخفض من أهل العصمة وهم الَّذين تعلَّموا منهم مباشرة أو بالواسطة والأقل يبقى محتاجاً إلى تقوية خاصَّة لا محالة ومنه الواحد مع كونه المحفوف

ص: 399


1- سورة النحل / آية 43.

بقرائن التَّوثيق.

لأنَّ الواحد مقوِّم العدد، ولأنَّه من أهل الذِّكر بمعناه الثَّانوي والدَّاخل في الكلِّي البدلي على ما سيتَّضح أمره من الرِّوايات العلاجيَّة كرواية (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم)(1).

وإن كان الاثنان غير عادلين فيحتاجان إلى المطمئن وهو وثاقة كلِّ منهما، ومع ذلك يكونان من أهل الذِّكر بالمعنى الثَّانوي أيضاً.

وأمَّا العدل الواحد لو لم يطمئن به بسبب النِّسيان والغفلة ونحوهما، فضلاً عن غيره فقد مضى شيء عنه.

وسيأتي توضيح أمرهما ممَّا مرَّ حول آية النَّبأ وما قد يأتي لو لم تعضده، لكونه داخلاً في المفهوم والفاسق الثِّقة في المنطوق.

وأمَّا قبول ذلك اعتماداً على ما مضى ذكره من مثل قبول أذان الثِّقة وقبول قول صاحب اليد وعزل الوكيل بوصول خبر العزل به وثبوت الوصيَّة به على أساس من تبعيَّتها للأدلَّة الخاصَّة الآتي لكلِّ منها شيء يخصُّه بصراحة.

فإن بين كلِّ منها وبين العدل الواحد من القياس الواضح الَّذي لم تضمن مقبوليَّته العلميَّة مع الفوارق الواضحة ما لا يخفى أمره.

وإضافة إلى أنَّ خبر الثِّقة بينه وبين العدل الواحد عموم من وجه.

إذ يمكن أن يكون المقبول هو الثِّقة وإن لم يكن عادلاً، بينما العادل قد لا يكون مقبولاً حسب متابعة الأدلَّة الخاصَّة بالثِّقة بعد تبيُّن وثاقته المطمئنَّة كما في ظاهر آية النَّبأ المرتبطة بالفاسق فقط منطوقاً دون العادل الواحد الدَّاخل بالمفهوم لو عارضه ما هو أقوى منه لو كان يعرض العادل نسيان ونوم واشتباه ونحوها.

فإنَّ ما دلَّ على اعتبار خبر الثِّقة لا يشمل خبر هذا العدل الواحد مع نسيانه

ص: 400


1- كمال الدين ج2 ص483 ب 45 ح4، الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج2 ص 283.

واشتباهه على ما سيأتي.

وإن كان في مقابل ذلك قد يجتمع العدل الواحد لو حُفَّ ببعض قرائن التَّوثيق، وهوما يتساوى مع البيِّنة في الاعتبار ومع الفاسق الثِّقة أيضاً.

بينما الفاسق لو بان عدم الوثوق به من خلال التبيُّن الَّذي ذكرته آية النَّبأ في المنطوق يكون ضعيفاً أمامهما.

نعم إنَّ حجيَّة البيِّنة وشاهدي العدل بما مرَّ ذكره في الأمر الأوَّل والتَّواتر بما مرَّ ذكره في هذا الأمر الثَّاني بأدلَّة كلٍّ منهما وقول الثِّقة المطمئن به، سواء كان فاسقاً أو عادلاً وإن كان وحده ممَّا مضى ذكر شيء منهما وما سيجيء في الأمر الثَّالث قد تكون وبما قد يزيد بعض الشَّيء في الممدوحين من قبل أحد الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ولا أقل من أن يتساووا مع من أجرينا ذكرهم.

كما في رواية محمد بن قولويه قال:- (عن سعد بن عبد الله، عن أحمد ابن محمد بن عيسى، عن عبد الله بن محمد الحجال، عن العلاء بن رزين، عن عبد الله بن أبي يعفور ((قال: قلت لأبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ إنَّه ليس كل ساعة ألقاك، ولا يمكن القدوم، ويجئ الرَّجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كل ما يسألني عنه.

فقال: ما يمنعك من محمَّد بن مسلم الثَّقفي، فإنَّه سمع من أبي، وكان عنده وجيهاً)))(1).

و عنه أيضاً (عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمد بن عيسى عن عبد الله بن محمَّد الحجال عن يونس بن يعقوب قال: ((كنَّا عند أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: أما لكم من مفزع أما لكم من مستراح تستريحون إليه ما يمنعكم من الحارث بن المغيرة النَّضري؟)))(2).

ص: 401


1- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج27 - ص144.
2- رجال الكشِّي ج1 ص337.

أقول: كل هذا مبني على اطمئناننا بما استدللنا عليه من التَّوثيق الشَّخصي المصرَّح به من قبل الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ للرُّواة وإن انفردوا بسبب وضوح القرائن.

وممَّا ورد حول هذا الأمر وبنحو يشمل معنى المروي المتواتر والمستفيض والجمع المنطقي كالاثنين، بل حتَّى الفرد الواحد بسبب دخوله في عموم الرُّواة، لأنَّه أحد أفراد العموم الشَّامل له في التَّشخيص ممَّا يقصده الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

ما رواه الشَّيخ في كتاب الغيبة عن جماعة عن جعفر ابن محمّد ابن قولويه وأبي طالب الزِّراري وغيرهما كلُّهم عن محمد بن يعقوب الكليني عن إسحاق بن يعقوب قال: (سألت "النَّائب" محمد بن عثمان العمري ~ أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت علي فورد التَّوقيع بخط مولانا صاحب الزَّمان عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ:

أمَّا ما سألت عنه أرشدك الله وثبَّتك، ووقاك من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمنا..... إلى أن قال:-

وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنَّهم حجتي عليكم وأنا حجَّةالله)(1).

أقول: هذا وما سبقه نماذج ممَّا ورد في توثيق الأشخاص الرُّواة من قبل الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ خصوصاً وعموماً.

ولنجعل رواية الشَّيخ قدس سره في كتابه أخيرة لنكتفي بها عن الإطالة على أن تكون روابط الوثوق والوثاقة الحاصلة بالمطمئنات محوَّلة فعلاً إلى خصوص الأزمنة الأولى من أيَّام قرب الإسناد لسهولة تصحيحها بما تثبته الآثار المتقنة عند أهلها ومن دون تصريح بالمنع عن الأخذ من راوي واحد بعينه.

وممَّا ورد في شأن التَّسنيد لما يُسبِّب قبول أذان المؤذِّن الثِّقة وإن كان منفرداً في أذانه لمنع قياس الأخذ من العادل الواحد به بسبب الفارق بينهما إلاَّ مع مكمِّل البيِّنة

ص: 402


1- الغيبة للشيخ الطوسي / 176، الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج2 ص283.

بالعادل الثَّاني أو القرينة المطمئنَّة بعدم غفلته عمَّا يوثق به في باب الإخبار ما عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال :-

(«لما هبط جبرئيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالأذان على رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ كان رأسه في حجر علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ فأذن جبرئيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ وأقام.

فلمَّا انتبه رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قال: يا علي، سمعت؟

قال: نعم.

قال: حفظت؟

قال: نعم.

قال: ادع بلالاً فعلّمه، فدعا علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ بلالاً فعلّمه«)(1).

وصحيحة ذريح المحاربي قال (قال لي أبو عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ"صل الجمعة بأذان هؤلاء فإنَّهم أشد شيء مواظبة على الوقت")(2).

أقول: بناءاً على ما سبق وما يأتي من مقبوليَّة قول الثِّقة حتَّى لو كان من العامَّة على ما أثبتته منطوقيَّة آية النَّبأ، مع ضمان مصادفة دخول وقتهم مع وقتنا يوم الجمعة.

وصحيحة معاوية بن وهب عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ -- في حديث -- (قال : لا تنتظر بأَذانك وإقامتك إلاَّ دخول وقت الصَّلاة، واحدر إقامتك حدراً.

قال: وكان لرسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مؤذِّنان، أحدهما بلال، والآخر ابن أمّ مكتوم، وكان ابن أمّ مكتوم أعمى، وكان يؤذِّن قبل الصُّبح، وكان بلال يؤذِّن بعد الصُّبح.

فقال النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ: إنَّ ابن أمّ مكتوم يؤذِّن بليلٍ، فإذا سمعتم أَذانه فكلوا واشربوا

ص: 403


1- الكافي - الشيخ الكليني - ج 3 باب (بدء الأذان والإقامة وفضلهما وثوابهما) ص 302 ح2 من لا يحضره الفقيه - الصدوق القمِّي - ج1 ص282 ح865.
2- الوسائل ج5 ص378 / أبواب الأذان والإقامة ب 3 ح 1.

حتَّى تسمعوا أَذان بلال)(1).

وقد أخرجها أيضاً في الوسائل بتمامها في كتاب الصوم بزيادة هذا الذيل: (فقال النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ: (إذا سمعتم صوت بلال فدعوا الطعام والشَّراب فقد أصبحتم)(2).

كما غيَّرتِ العامَّة هذا الحديث وعكسته عن جهته بغضاً لبلال، وقالوا : إنَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قال:--

(إنَّ بلالاً يؤذِّن بليلٍ ، فإذا سمعتم أَذانه فكلُّوا واشربوا حتَّى تسمعوا أذان ابن أمّ مكتوم)(3).

أقول: هذه الرِّواية واضحة الدلالة على اعتبار أذان بلال العارف الثِّقة وكونه حجَّة على دخول الوقت مطلقاً ومنه الصَّباح في الصَّلاة والصِّيام بما لا يقاس عليه غيره.

وعن محمد بن علي بن محبوب عن محمد بن الحسين عن محمد بن عبد الله بن زرارة عن عيسى بن عبد الله الهاشمي، عن أبيه، عن جده، عن علي عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ قال (المؤذِّن مؤتمن، والإمام ضامن)(4).

أقول: في أذان المؤذِّن الواحد إذا كان عادلاً في الوقت المقرِّر الشَّرعي على ما في هذه الرِّوايات لو تطابقت على نهج القبول الشَّرعي ما هو إلاَّ لمقبوليَّته الصَّريحة فيها لا لما قد يستفاد أمره من آية النَّبأ من حيث المفهوم ولخصوصيَّة عند الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ

ص: 404


1- وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص389، أبواب الأذان والإقامة، باب8، ح1، 2، ط آل البيت.ج
2- الوسائل ج10: ص111 / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب42 ح1.ج
3- صحيح البخاري: 1/ 210 الحديث 623، صحيح مسلم: 2/ 630 الحديث 37.ج
4- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج5 - ص378.

بالأذان من العادل وغيره إذا كان ثقة ودون أن يقاس العادل الواحد على أي مؤذِّن ثقة في هذه الرِّوايات إذا تجرَّد.

وأمَّا صحيحة ذريح الماضية فإن كانت الإشارة فيها من الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ إلى المسموع الواحد المنسوب إليهم مع وثاقته في نظر الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ فأذانه هو المطابق يوم الجمعة وإلاَّ فهو الَّذي قد تفسِّره الرِّوايات الأخرى عند المطابقة أيضاً كما كان في عهد رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وأيَّام خلافة أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ إن لم تكن الرِّواية في عهد الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ وتعدُّد المذاهب محمولة على التقيَّة ولو بالصَّلاة معهم مسايرة ثمَّ صلاة الظُّهر بعد قيامهم للجمعة.

وممَّا ورد في شأن تسنيد قبول ذي اليد صحيحة أبي بصير قال: (سألت أبا عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن الفأرة تقع في السِّمن أو في الزَّيت فتموت فيه فقال: ((إن كان جامدا فتطرحها وما حولها ويؤكل ما بقي، وإن كان ذائبا فأسرج به وأعلمهم إذا بعته)))(1).

أقول: حيث دلَّت كلمة (وأعلمهم) على وجوب الإعلام الإضافي إلى تكليفه الملازم، لكونه صاحب اليد المؤتمن على ما حدث تحت نظره ليد المشتري على القضية وتوابعها دلالة تامَّة لئلاَّ يتصرَّف بما يحرم.

ومثله: ما ورد عن عبد الله بن جعفر في (قرب الإسناد) عن محمد بن الوليد، عن عبد الله بن بكير قال: (سألت أبا عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن رجل أعار رجلاً ثوباً فصلَّى فيه وهو لايصلِّي فيه.

قال: لا يعلمه.

قال: قلت: فإن أعلمه؟

ص: 405


1- وسائل الشِّيعة: ج 12 ص 66 باب 6 من أبواب ما يكتسب به ح 2.

قال: يعيد)(1).

أقول: لأنَّ المعلِّم صاحب يد وهو أدرى بما كان تحت يده أنَّه هل كان ممَّا كان يصلح أن يصلَّى فيه أم لا؟ كما لو كان مغصوباً ونحوه.

و كصحيح معاوية بن عمار عن أبى عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ في حديث -- (قلت فرجل من غير أهل المعرفة ممَّن لا نعرفه يشربه على الثُّلث، ولا يستحلُّه على النِّصف يخبرنا أن عنده بُختجاً (أي عصيراً) على الثُّلث، قد ذهب ثلثاه، و بقي ثلثه يشرب منه؟

قال: نعم)(2).

وما ورد أيضاً في متفرِّقات الأبواب من القول بطهارة ما يؤخذ من يد المسلم مثل ما ورد في الحجَّام وأنَّه مؤتمن على تطهير موضع الحجامة(3).

أقول: وهذه الرِّوايات ناهضة بما كان أقوى من خبر العادل مع وحدته من حيث ذاته، حتَّى لو كان مدرك ذلك أخبار ضعيفة، لكونها قد يؤخذ بها إذا كانت مجبورة بعمل الأصحاب على ما سيتَّضح.

أو كانت جملة روايات فيها استفاضة مع صحاح يشد بعضها بعضاً، حتَّى أنَّ جزء البيِّنة قد يطرأ عليه ما يقدِّم قول الثِّقة عليه مطلقاً إذا نسي ونحو ذلك ولم ينسَ الثِّقة إذا كان صاحب يد.

فلا يصح الأخذ بخبر العادل الواحد قياساً على قوَّة مدارك صاحب اليد من دون قرينة توثيقيَّة له، أو جمعه بعادل آخر ينقل نفس خبره لفظاً أو معنى يتم انطباقهما، على ما يتمِّم لهما حجيَّة ذلك.

وممَّا ورد في شأن قول عزل الوكيل بعدم نفوذ وكالته رواية هشام بن سالم عن

ص: 406


1- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج3 - ص488.جج
2- وسائل الشيعة ج 17 ص 234 في الباب 7 من الأشربة المحرمة ح 4.
3- وسائل الشيعة باب 50 من أبواب النجاسات ، و 56.

أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ في رجل وكَّل آخر على وكالة في أمر من الأمور وأشهد له بذلك شاهدين، فقام الوكيل فخرج لإمضاء الأمر فقال: اشهدوا أنِّي قد عزلت فلاناً عن الوكالة، فقال:--

(إن كان الوكيل أمضى الأمر الَّذي وكَّل فيه قبل العزل فإنَّ الأمر واقع ماض على ما أمضاه الوكيل، كره الموكِّل أم رضى.

قلت: فإنَّ الوكيل أمضى الأمر قبل أن يعلم العزل أو يبلغه أن قد عزل عن الوكالة فالأمر على ما أمضاه؟

قال: نعم.

قلت له: فإن بلغه العزل قبل أن يمضى الأمر ثم ذهب حتى أمضاه لم يكن ذلك بشيء؟قال: نعم إن الوكيل إذا وكل ثم قام عن المجلس فأمره ماض أبدا، والوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه أو يشافه بالعزل عن الوكالة).

أقول: وبهذا وأمثاله مع البناء عليه لا يصح أن يقاس عليه الاعتماد على خبر العدل الواحد أو يساويه دون ما يوثِّقه شيء آخر أو يضاف إليه ما يكمِّل البيِّنة.

وممَّا ورد في شأن تثبيت الوصيَّة بخبر الثِّقة ما عن إسحاق بن عمَّار، عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال:- (سألته عن رجل كانت له عندي دنانير وكان مريضاً.

فقال لي: إن حدث بي حدث فأعط فلاناً عشرين ديناراً، وأعط أخي بقيَّة الدَّنانير، فمات ولم أشهد موته فأتاني رجل مسلم صادق.

فقال لي: إنَّه أمرني أن أقول لك: انظر الدَّنانير التي أمرتك أن تدفعها إلى أخي فتصدَّق منها بعشرة دنانير أقسمها في المسلمين ولم يعلم أخوه أنَّ له عندي شيئاً، فقال: أرى أن تصدَّق منها بعشرة دنانير كما قال)(1).

ص: 407


1- الكافي - الشيخ الكليني - ج 7 ص65.

أقول: وبهذه الموارد الأربعة الَّتي ذكرنا بعض أدلَّتها، مع كون كلِّ منها خارجة بالنَّص عمَّا حدَّدناه من أدلَّة البيِّنة، وأدلَّة التَّواتر، وأدلَّة الأخذ من الثِّقة وإن كان فاسقاً عن مثل آية النَّبأ بعد التَّبيُّن، وعدم صلاحيَّة كونها مقياساً لتقويم حجيَّة خبر الواحد العادل المجرَّد وإن كان يسهو ويغفل وينسى وينام.

إلاَّ أنَّها تفيد فائدة كعوامل مساعدة بذكر الوثاقة الَّتي اعتبرت في أدلتها، كما تقتضيه من ذلك آية النَّبأ للفاسق الثِّقة مع العدل الواحد المجرَّد الثِّقة في تساوي ما بينهما، ولو بجامع نسبة العموم والخصوص من وجه، مع عدم قبول تصديق خبر الفاسق بعد التَّبيُّن الفاشل من الآية، وعدم قبول تصديق خبر العدل الواحد بعد تبيُّن عدم الوثوق به من الآية أيضاً، إلاَّ مع إضافة العدل الآخر إليه.

الأمر الثَّالث: وهو تخصيص الكلام على مبنى ما قد يُقال (إثبات الشَّيء لا ينفي ما عداه)، وهو الَّذي يمكن تصحيح ثبوته على أساس من الإجمال دون التَّفصيل الكامل، وهو ما يعني بقاء الحاجة التَّامَّة في قضايا كثيرة إلى الحديث عن خصوص الخبر الواحد لانعقاد الأمل وطيداً بالعثور على الضَّالَّة المنشودة فيما بين عهدي يسر الأدلَّة العالية أيَّام الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ قديماً وما يقرب منها.

وعسرها كهذه الأيَّام إلاَّ ما بقي من القليل الَّذي قد لا يكفي مع سعة الفقه المعهودة.

فإنَّ البيِّنة وقيود اعتبار حجيَّتها بخصوص الشَّاهدين العادلين وإن أمكن السَّعي الآن لتحصيل مصاديق كثيرة منها، لسدِّ حاجة الفقيه، إلاَّ أنَّها في مقامات خاصَّة من الفقه دون بواقيه مع سعته العظمى.

بينما أخبار التَّواتر الأشد منها في المقام لقلَّتها في الأزمنة الحاضرة وإن كثرت في السَّابق أو أنَّ كثيراً منها اليوم بعد أن وصلتنا بسبب الفارق الزَّمني واعتراض الحوادث الفتَّاكة عفويَّة وعدائيَّة.

ص: 408

وصلتنا ملحقة بأخبار الآحاد ونحوها، ممَّا صارت محوجة إلى التَّأمُّل والتَّدقيقالفنِّيين دراية ورجالاً في سبيلهما.

فأصبحنا بين هذا وذاك وغيرهما بأمس الحاجة إلى النَّظر من جديد في نوع الخبر الواحد النَّاقل لمثل البيِّنات والمتواترات لا عن خصوص الخبر الواحد وحده، وهو موكول إلى محلِّه من أصولنا وغيره.

ص: 409

خاتمة جزء مباحث الألفاظ

الأصول ومعالجة بعض النُّصوص المختلف فيها

بين الفريقين وما شابه ذلك

المدخل الأوَّل

بعد أن أنهينا ما أوردناه من مواضيع ما يخص ركنيَّة السنَّة المتمثِّلة بما يخص الواردات عن العترة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وما يتناسب معها من غيرها وما يحتاج إلى الدِّراسة والنَّظر من ذلك الغير والملفَّقات أو الموضوعات والآراء الخاصَّة على اختصار كلِّ منها نوعا.

أحببنا أن ننبِّه بهذه الخاتمة الجامعة لشتاتها، ولمحاولة ما به الحث على جمع شمل عموم المسلمين.

وبالأخص أهل المروءة والإنصاف منهم ممَّن يحب أن يعتز بالبقاء على الثَّوابت المشتركة المهمَّة حاقنة للدِّماء ومحقِّقة للألفة والمحبَّة وطاردة للعدو المحارب للجميع وفاسحة لمجال المناقشة الموضوعيَّة التَّعاونيَّة البريئة الهدَّامة للفرقة والبنَّاءة للوحدة حول بقاء الأمور الممكنة لنصرة الحق والحقيقة مع الاحترام المتبادل بين الجميع.

المدخل الثَّاني

إن من الأمور المهمَّة الَّتي ينبغي التَّعرُّض لها بحثاً ونقاشاً لتسديد السنَّة الواردة عن العترة المطهَّرة عند إمكانهما، أو الأعم من الجهة الرِّجاليَّة أو الحديثيَّة دلالة ودراية -- ومنها الرِّوايات المنسوبة إلى النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عن بعض الصَّحابة من غير العترة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ -- إن لم تنسجم مع قواعدها كما يرام إجمالاُ وتفصيلاً واقعاً، أو حتَّى ظاهراً أو

ص: 410

احتيج إلى التَّأمُّل فيها، إن أمكن الجمع أو التَّصحيح، لصالح الجميع، أو لخصوص صالح الإماميَّة للتَّقريب أو التَّقارب مع صالح الآخرين.

أو لخصوص صالح الآخرين لتقريبهم بالنَّحو الأكثر، مع ما لو أمكنت الاستفادة للإماميَّة في أجوائهم كما في بعض العوامل المساعدة منه، لتقوية مسلكهم في نظر الآخرين، أو عدم شدَّتهم عليهم، أو للتَّقريب على قاعدة الإلزام.

حتَّى شاع النَّقض والإبرام العلمي بينهم أو الجدل المنطقي الَّذي قد يؤدِّي إلى إمكان الاستفادة منه بالتَّالي عن مثل عرض ما أشكل أمره من بعض الرِّوايات على الكتاب الكريم وثوابته المعروفة.

أو السنَّة المتقنة بالعترة ورواياتها العلاجيَّة عند التَّعارض ونحوه.

أو روايات عموم المسلمين الَّتي لم تخرج منها العترة، وهي المشتركات عند صحَّة التَّوجيه بذلك وبيد أكفَّاء الصِّناعة العلاجيَّة، إن وفِّقوا للقيام النَّاجح بهذا الأمر مع بُعد الزَّمن عن زمن الصَّدر الإسلامي.

وفي حالة عدم إمكان التَّوجيه بالجمع ونحوه، فالأمر فيها لابدَّ وأن يصل إلى الهجر وعدم الاعتبار -

هي روايات قد توجد في بعض الكتب الخاصَّة أو العامَّة أو تطفح على بعض السنَّة منها السنَّة أهل الفضل الخواص أو أهل الثِّقافة العامَّة.

وإن كنَّا قد اخترنا بعض الرِّوايات المنسوبة للأخوة العامَّة لبيان شيء أو بعض شيء ممَّا يتناسب من الحديث عمَّا بيننا وبينهم للتَّقريب والتَّقارب.

ونختار الآن منها في الخاتمة عند التَّوسُّع الآتي أو بعضه ممَّا هو أوسع ممَّا مضى ذكره في (اختلاف أمَّتي رحمة)(1) بالدَّرجة الأولى.

ص: 411


1- 140، الأسرار المرفوعة ص 50 ، الجامع لأحكام القرآن ( تفسير القرطبي ) ج4 ص 151 ، الجامع الصغير للسيوطي ص 24 ، المقاصد الحسنة للسَّخاوي ص 26.

أو حديث (أصحابي كالنُّجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) (1) بالدَّرجة الأقل.أو حديث (يد الله مع الجماعة)(2) ولو بنحو من الإشارة خوف الإطالة الأكثر.

إلاَّ أنَّ المقصود هو الاكتفاء بنماذج نسأل الله أن تكون معبِّرة عن كل حديث ورواية أشكل أمرها ليطلب حلَّه على ضوء ما بينَّاه ونبيِّنه أو تترك حين تسبيب

ص: 412


1- قال الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (ج1 / ص144 و145) : موضوع. ورواه ابن عبد البر في (جامع العلم) (2 / 91) قال ابن عبد البر : هذا إسناد لا تقوم به حجة لأن الحارث بن غصين مجهول.ج ورواه ابن حزم في (الأحكام) (6 / 82) من طريق سلام بن سليم قال حدثنا : الحارث بن غصين، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن (جابر) مرفوعاًً به، وقال ابن حزم : هذه رواية ساقطة. فقد روى عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قال: ما وجدتم في كتاب الله عزّ وجلّ فالعمل لكم به لا عذر لكم في تركه، ومالم يكن في كتاب الله عزّ وجلّ وكانت في سنّة مني فلا عذر لكم في ترك سنّتي، وما لم يكن فيه سنّة مني فما قال أصحابي فقولوا، فإنّما مثل أصحابي فيكم كمثل النّجوم، بأيّها أخذ اهتدي وبأىّ أقاويل أصحابي أخذتم اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة.ج قيل: يا رسول الله ومن أصحابك؟ قال: أهل بيتي. (رواه الصّدوق رحمة الله في معاني الأخبار ص 156، قال: حدّثني محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، عن محمّد بن الحسن الصفّار، عن الحسن بن موسى الخشاب، عن غياث ابن كلوب، عن إِسحاق بن عمار، عن جعفر بن محمّد عن آبائه عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، قال: قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ما وجدتم...، ورواه الصفار رحمه الله في بصائر الدرجات 1/11. ونقله في بحار الأنوار 2/220 والاحتجاج، 2، 259).
2- رواه الترمذي (2167).

المشاكل على الأمَّة مع تقديم أخلاق المحبَّة والاحترام على مسبِّبات إثارة الفتن.

والبحث حول الحديث الَّذي نختاره الآن عموماً مع الإشارة إلى مصادر ضعفه عند الإماميَّة وعند العامَّة ما ذكرناه وسنذكره الآن وهو الأوَّل تحت الخط وأسفل الصَّفحة ومن بعده الاثنين الأخرين.

لكون الأحاديث الضِّعاف والمشكلة والمتعارضة لا يمكن الإعراض عنها أو هجرها وإسقاطها بمجرَّد ادِّعاء هذا عنها وبكل بساطة.

وعلى الأخص لو قلنا بالوثوق لا بخصوص وثاقة الرَّاوي وهي الضِّعاف المجبورة بعمل الأصحاب وإن استقلَّت المدرسة القابلة الأخرى وشاع أمرها في الآونة الأخيرة، وهي الَّتي نهج عليها السيِّد الأستاذ السيِّد الخوئي عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

وهي خصوص وثاقة الرَّاوي معارضة للمسألة المشهورة قديماً.

وسوف يأتي التَّعرُّض لبحث المقامين واختيار ما تساعد عليه الأدلَّة في حينه بإذن الله وتوفيقه

والبحث أيضاً حول هذا الحديث الأوَّل وما بعده نذكره كميزان للجميع في القبول أو الرَّفض وعلى ضوء بعض العلاجيَّات ويتبعه بعض آخر ولو بنحو الإشارة كنموذج للتَّطبيق العملي تجربيَّاً، وهو يستدعي بيان ثلاثة مطالب:-

المطلب الأوَّل

مقدِّمة البحث

إنَّ أهميَّة طرح هذا البحث في هذه الموسوعة الأصوليَّة - قسم السنَّة ومباحث الألفاظ - يظهر بعد تقديم مقدِّمات، ثلاث وهي:

أوَّلاً: إنَّ كثرة المضاربات الفكريَّة والمناقشات المذهبيَّة - بين المذاهب الإسلاميَّة

ص: 413

وفرقها المتعدِّدة الَّتي سبَّبها أعداء الدِّين الواحد والحقيقة الواحدة طول التَّأريخ وعرضهمن الخارج وخونة الدَّاخل، حتَّى أوصل ذلك في شدَّته بأن يكفِّر بعضهم بعضاً -

قد أثَّرت أثرها في المجتمع الإسلامي الواحد ذي الكفاءات الدَّامغة في كثرة جوامع الكلم وأمور التَّوحُّد، الَّتي لو فكَّر الغيور بأدنى تأمُّل في شأنها لابدَّ وأن يصل إلى أنَّ هذه الكفاءة لا يجوز أن يسمح في أمرها ساعة واحدة لأن توصل الأمَّة الواحدة لأن تتفرَّق هذا التَّفرُّق المهلك والمشتِّت.

ومن ذلك الآراء الفقهيَّة الَّتي لا شكَّ في أنَّ أساسيَّاتها موحَّدة غالباً مهما حصل تفاوت في الجزئيَّات حتَّى في أزمنتنا هذه وغرابة الباقي.

ثانياً: إنَّ اختيارنا في هذا الموضوع الأصولي العام بمقارنته بحديث (اختلاف أمَّتي رحمة) مثلاُ لم يكن كما مرَّ لخصوص هذا الحديث وإن لم يكن ثابتاً عندنا بخصوصيَّته اللفظيَّة.

وإنَّما لمضمون هذه الهيكليَّة المرويَّة في كتب إخواننا العامَّة بأكثر من حديث وحديث ولو في بعض التَّشابه ولو ظاهراً.

ومثل ذلك أنَّهم قد يروون (أصحابي كالنُّجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) إذا كان المبنى عندهم هو ما يؤدِّي إلى جواز الاقتداء بأيِّ شخص منهم، حتَّى لو تفاوتوا في العقيدة - كالمنافقين - وفي العمل كالمجتهدين في مقابل النصوص، كترك ولاية أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ ومتعة الحج ومتعة النِّساء و (حيَّ على خير العمل) و الالتزام ب- (الصَّلاة خير من النَّوم) ونحو ذلك.

كما أنَّ في مضمون حديثنا الحالي الأوَّل ربَّما يكون وحدة النَّتيجة المذهبيَّة مع التَّبعثر الواضح فيها لو ضَّم إلى الثَّاني مثلاً إن صدق التَّشابه الظاهري ولو في الجملة.

وهذا في نفسه خطر جدَّا ما لم يمكن التَّوجيه الصَّحيح أو تسقط هذه الرِّواية

ص: 414

وأمثالها عن الاعتبار.

وعلى أساس ما يجمع الحديثين على مستوى القول بالتَّصويب - الآتي بيانه بالمنع - ولو بالبيان المختصر لما مرَّ بيانه سابقاً.

لنبيِّن الأمر الصَّحيح من معنى اختلاف الأمَّة في حديث عنوان بحثنا هذا على فرض صحَّته حتَّى عندنا ولو من حيث المعنى.

هو وما يروونه من الحديث الآخر وأمثاله.

مع إمكان الحمل على الصَّحيح منهما ممَّا يزيل العموميَّة الَّتي قد تدخل التَّصويب من جهة المقارنة مع الفقه العظيم في شأنه وأدلَّته العظيمة الَّتي لا تتناسب مع هذا التَّصويب الآتي والموقع في شرك التَّناقض الخطر.

والَّذي لو عمل التَّناقض فيه عمله لأدَّى إلى إمكان القول بأنَّ المشرِّع تعالى له الحق في أن يفعل كل شيء حتَّى ما يستحيل عليه في تكوينه وتشريعه.

بينما ما نريده نحن الآن في التَّصحيح هو أن لا يعطي إلاَّ قرائن الحمل على ما يؤدِّى إلى الحكم الواحد وإن كان بين المختلفين بعض حالات الاختلاف عند إمكان التَّلاقي على إجماله وبه لا يترك للود قضيَّة.ثالثاً: بعد فرض صحَّة الحديث -- ولو في الجملة وخضوع الخصم لإمكان تصحيح أو دفع الشبهات العالقة في الأذهان في أي بحث واقعي وموضوعي بالقرائن ولو من أحاديث أخرى صحيحة، أو أصح فضلاً عن الآيات الَّتي لابدَّ من إرجاع أي حديث يعسر فهمه إليها، لكونها المرجع وذات الأصالة في نصوص الله ومحكماته وظواهره أو بعضها --

فإنَّ الاختلاف في الرَّأي قد يقع للتَّفاوتات في النَّظر عند كل أحد وفي كل أمر لم يصل إلى حد القطع واليقين، وحسب مستوى الاطلاع الشخصي الثَّقافي للأشياء بالاجتهاد الاصطلاحي، وحسب ما يؤدِّيه اللَّفظ المسموع من المقابل والمقروء في

ص: 415

المكتوب.

ومن ذلك الأحاديث الواردة مع غضِّ النظر عن صحَّة سندها وعدمه إن لم يؤثِّر ذلك عليها شيئاً سلبيَّاً على المعنى الصَّحيح المجمل، أو نقلها بالمعنى كتصرُّف بعض الرُّواة، ممَّا قد يسبِّب التَّأثير عليه، وإن صح الأساس حتَّى في نظر من كان أعلم من غيره من سعاة التَّدقيق.

سواء كان ذلك في الأمور الاعتقاديَّة الكاشفة عن المعقول الَّذي هو مدركها نوعاً، أو كانت من نصوص فرعيَّاتها من الفقه العام، أو غيرها من العلوم والمعارف الأخرى الَّتي أهمُّها وأخطرها - في مجال التَّشريع الإلهي الَّذي لا يصح التَّجاوز عنه وعليه ولا يجوز - هو الفقه، لكون أهم مصادره الكتاب والسنَّة الشَّريفة.

وهذه حقيقة لها مجالها الواسع من المصاديق ومن أقدم العصور، وحتَّى هذا الحين.

ولهذا كثرت الملل والنِّحل والمذاهب والمشارب حتَّى تجاوز أمر الاختلاف إلى حدِّ الجدل الفارغ، وحب ذلك وإلى حدِّ الفوضى عناداً في بعض الأمور.

حتَّى صحَّت المبالغة بالقول (ما من مسألة في الكون إلاَّ ووقع الخلاف فيها)، على الإجمال، وكما ورد في القرآن الكريم [كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ](1)، وقال أيضاً [قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ](2)، أي لكون الدُّنيا دار ابتلاء والآخرة دار امتحان وحساب.

ومن هذا المنطلق قال أحد الشُّعراء:--

نحن بما عندنا وأنت بما *** عندك راضٍ والرَّأي مختلفٌ(3)

ص: 416


1- / آية 32.ج
2- / آية 84.
3- هذا البيت من المنسرح لقيس بن الخطيم.

ولكن لم يكن هذا النَّوع من الاختلاف هنا مشروعاً بهذا النَّحو إلى هذا الحد وبدوام، كما يزعمه الزَّاعمون ويهواه هواة التَّفرقة والفوضى عقلاً ونقلاً، أو نقلاً وعقلاً وبالنَّحو الَّذي يتقيَّد به كل العقلاء، حتَّى لو لم يخلوا وطباعهم وحسن فطرتهم.

إلاَّ ما لو رأى من استفرغ وسعه من ذوي النَّظر والاجتهاد - الطَّبيعيين السَّديدين حسب التَّجربة العلميَّة المتينة رأياً في غير ما اتَّفق عليه عقلاً ونقلاً بين العقلاء والمسلمين والمؤمنين - قد يخالف رأي الآخرين من ذوي الآراء الأخرى.أو ما يخالفه الآخرون فيه، وعلى نهج القواعد الأصوليَّة المتَّفق عليها أيضاً في كل علم حسبما يختص به من المبادئ والأدلَّة والقواعد.

وعلى أساس ما إذا لو ساعد الدَّليل أي دليل صحيح كان على شيء من الأشياء ومن أي قبيل يكون كذلك للوصول إلى الحق ببراءة تامَّة وعلى قصد التَّوحد في النَّتيجة لو أمكن، فضلاً عن أهميَّة القصد القربي السَّابق.

ومن ذلك مصادفة الإتِّفاق أو الوفاق الاصطلاحيِّين بين بعض رجالنا وبعض رجال الأخوة العامَّة.

أو أساس إن لم يمكن أن يتوصَّل إلى تلك النَّتيجة الموحَّدة، أو المصطلح الطَّريقي الواحد، بمثل عدم مساعدة الدَّليل الَّذي للآخر عند كلِّ من القبيلين لقام كل منهم بالقصد إليها وتبنيِّها وإلقاء مسؤوليَّة عدم الوصول إليها على كلِّ من سبَّب التَّفرقة.

فإنَّه حينئذ لا مانع من البقاء على هذا الاختلاف لأجل الوصول إلى الحق والحقيقة المنشودة المتصوَّرة، على ما سيأتي تبيُّنه بوضوح عند ذكر الاحتمالات قريباً أكثر مع ضبط الأعصاب عن أن تتعصَّب، بل بجعل الاحترام المتبادل حالاًّ محلَّها.

أمَّا لو حصل عناد وإصرار على الخلاف للاختلاف لا للائتلاف من الجميع -- والعياذ بالله، وهو ما لا نبتغيه حتَّى ولو من حيث القصد الصَّحيح منَّا باطناً في بداية

ص: 417

البحث من حيث تصوَّرنا السَّليم علميَّاً أو منصفي الآخرين، أو توهَّماً كالبناء على روايات (الرُّشد في خلافهم)(1) إن طبِّقت عموماً واطلاقاً، أي على خلاف أهل الخلاف من العامَّة، لعدم تناسب موقع هذا الأسلوب من الوجهة الظاهريَّة ترجيحاً للتَّقيَّة على ما سيتَّضح في الفقه من مقتضياتها، لأنَّ الضَّرورة تقدَّدر بقدرها --

فلن يكون ذلك مقبولاً لا عقلاً ولا نقلاً من مواقعها دائماً، لأهميَّة التَّريُّث في الأمور وخطورة التَّسرُّع في العناد والصراع للخلاص من حصول العداواة أو زيادتها.

وأمَّا لو حصل اختلاف في اليقينيَّات والضَّروريَّات المتوِّهمة بدون تركيز على قاعدة عادلة كما يقول القائل:-

وكل يدَّعى وصلاً بليلى *** وليلى لا تقر لهم بذاكا

فهذا أدهى وأمر ومن أي طرف من الأطراف حصل.

فضلاً عمَّا لو كان من جميع من يشكل أمر بعض العباد كفئات وأحزاب المنقلبين على الأعقاب والنَّاكثين والقاسطين والمارقين وأمثالهم في تعاملهم ضدَّ أهل الحق.

فهذا لم يكن بمجموعه مقبولاً كذلك، بلا مجال للمتابعة أو النِّقاش.

بل حالهم أسوء حالاً ممَّن يريد التَّعامل معهم في أخبارهم من حالات الظن الَّذي يستهجن العمل به، سواء في الاعتقاديَّات كالضَّروريَّات منها مثل الأصول الخمسة وهي (التَّوحيد والعدل والنبوَّة والإمامة والمعاد يوم القيامة).

أم في الفقهيَّات كالضَّروريَّات واليقينيَّات الفقهيَّة كالأركان الدِّينيَّة الخمسة وهي (الصَّلاة والزَّكاة والحج والصَّوم والولاية) والفروع العشرة المجمع عليها من حيث

ص: 418


1- وسائل الشيعة: ج26 ص158 ب4 ح32712، الكافي ج1 ص8، وفي رواية أخرى (ما خالف العامَّة ففيه الرَّشاد).

الأساس لدى الإماميَّة وهي (الصَّلاة والصِّيام والحج والزَّكاة والخمس والجهاد والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر والتَّولِّي والتَّبرِّي) وإن اختلف في فروع هذه الفروع بين المذاهب.

لأنَّ منه لابدَّ وأن تكون الأمور المتَّفق عليها بين الجميع هي ممَّا لم يختلف فيه اثنان من المسلمين.

فمن أتقن توحيد الله بالبداهة ونحوها أو اعتقاده بوجوب الصَّلاة ضرورة لا يمكن أن يعارضه يقين آخر في مقابله في كل من المقامين.

وقد أثبتت الموانع الإلهيَّة والشَّرعيَّة وجودها في الأدلَّة الكثيرة جدَّاً فمنعت التَّفرقة والاختلاف كقوله تعالى [وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا](1) وقوله [وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ](2).

وكقول النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في حديث افتراق الأمَّة المشهور (وستفترق أمَّتي من بعدي ثلاث وسبعون فرقة، فرقة ناجية والباقون في النَّار)(3)، للإشارة بهذا الحديث بسوء اختيار الأمَّة لما عدا مسلك الفرقة النَّاجية.

وأخرج عن سعيد بن يحيى بإسناده عن عاصم عن أبي ذر عن عبد الله بن مسعود قال:-- (تمارينا في سورة من القرآن فقلنا خمس وثلاثون أو ستة وثلاثون آية.

قال فانطلقنا إلى رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ فوجدنا عليَّاً يناجيه.

قال فقلنا إنَّما اختلفنا في القراءة قال فاحمرَّ وجه رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وقال إنَّما هلك من كان قبلكم باختلافهم بينهم.

ص: 419


1- / آية 13.
2- / آية 103.
3- سنن أبي داود 3/896، صحيح الجامع الصغير للسيوطي 1/156 ، مشكاة المصابيح 1/61، الدر المنثور 2/286.

قال ثمَّ أسرَّ إلى علي شيئاً فقال لنا علي إنَّ رسول الله يأمركم أن تقرؤوا كما عًُلِّمتم)(1)، وغير ذلك الكثير.

فتعيَّن أنَه يكون إمكان أو وقوع الخلاف فيما دون مرتبة العلم اليقيني أو الظن المعتبر هو الَّذي وُفِّق لإدراك المتَّفق والمجمع عليه من الجميع مع معرفة طريق الاجتهاد الصَّحيح ونزاهة القصد المحقَّق في الأصول.

بل قد يكون الاختلاف في هذه الظنيَّات واقعاً لا من جهة المطلب الواقعي في الحكم.وإنَّما هو من جهة الظاهر بسبب تفاوت الأدلَّة واختلافها في تشخيص النَّص أو الظاهر والمنطوق أو المفهوم، أو تفاوتها من حيث الدِّلالة أو من حيث السَّند وبين تواتر الأدلَّة سنداً أو آحادها المجبورة والمحفوفة بالقرائن أو آحادها.

بناءاً على الأخذ بها واختلافها لا لوحدها إن صحَّت سنديَّاً في أعاليها أو صحَّت في الجملة على ما سيجيء الكلام حول التَّعبُّد في مجالها.

وإنَّما الضَّير فيها لكونها قد زجَّ في ضمن موجودها الشُّبهات كروايات الزَّنادقة والإسرائيليَّات افتراءاً لجميعها أو تلفيقاً بين الصَّحيح والسَّقيم وغير ذلك من الموضوعات الَّتي قد تشوِّش بال المتقنين من المحقِّقين.

فضلاً عن غيرهم وفي جميع المجالات الاعتقاديَّة والعلميَّة الأخرى الَّتي أهمُّها الفقهيَّة وأصولها وبالأخص في حين الغيبة الكبرى الَّتي ملئت أيَّامها بالمشاكل على رؤوس أهل العلم "رحم الله الماضين وسدَّد الباقين" من الكوارث الطَّبيعيَّة وغير الطَّبيعيَّة على الأصول والأدلَّة المتنوِّعة ونقدر أن نظم معهم بعض الليِّنين من روَّاد

ص: 420


1- تفسير ابن كثير ج1 ص 127، زوائد المسند (1/5، 106)، ورواه أحمد (3992، 3993)، والطَّبري في تفسيره (1/12)، وأبو يعلى (8/5057)، وابن حبان (1783)، والحاكم في صحيحه (2/223، 224).

الحقيقة.

وإن كان بعضهم من غير الإماميَّة - ممَّن لم يتزمَّت بالخلاف للاختلاف كما مرَّ، ومع ذلك وعن طريق الاجتهاد الصَّحيح أو ما يقرب منه من حيث النَّتيجة من كل فضلاء المسلمين أو غيرهم ولو عن الطُّرق العاميَّة من الآخرين لمحاولة الجمع بين الفريقين من حالات التَّقريب -

قد ظهر منهم ما به الوفاق أو حسن الاتِّفاق على نتيجة واحدة في كثير من الفروع ومنها الفقهيَّة للمسلمين جميعاً أو نوعاً أو كمذهب مستقل مسالم أو أكثر مع مذهب أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

ولكن مع الأسف قد كثر أهل الباطل، بل ازدادوا وقلَّ روَّاد الحق، بل ندروا حتَّى أصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً وبوضع يرثى له، ويقابله عدو نوعي واحد شرس متكاتف بين كل شعوبه على باطله من جرَّاء الصِّراع الدَّاخلي والعناد فيه وإن استورد المدرك المثير لذلك من الزَّنادقة والوضَّاعيين والإسرائيليين كما مرَّت الإشارة إليه.

ولذلك فضَّل الباري تعالى هذا الأمر، أعني النِّقاش البنَّاء للوئام والالتئام، والهدَّام للخصام بين أكبر عدد من الأنام، بأحسن الأساليب الأخلاقيَّة حتَّى مع روَّاد الخلاف المعاندين وأهل الكفر الحاقدين المحدودة بحدود العزَّة للمؤمنين وعدم الإذلال لمقام أنفسهم، وشدَّد على كل متزمَّت حاقد بقوله في سورة الكافرون [قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)](1).

ولأجل كون الاختلاف قد يكون من جهة الأدلَّة كما مرَّ، فلابدَّ من أن يكون الحق واحداً في باطنها لا يتعدَّد وإن حصل ذلك التَّعدُّد البريء في الرَّأي فالمصيب له

ص: 421


1- / آية 1.ج

أجران والمخطئ له أجر واحد على ما أفادته الأدلَّة أيضاً.وقال بذلك الإمامي وأقرَّ بعض غيره به من بقيَّة المذاهب، على أن لا يكون الكل هو حكم الله في الواقعة الواحدة وفي الواقع ما إذا تعدَّد وتجاوز الرَّأي الواحد إلى رأيَّين حتَّى بناءاً على المستفاد الظاهري من الأدلَّة.

لكون الظاهر لو كان هو ذلك الدَّليل النَّصي الَّذي قد يفيد اليقين فلا قيمة له ما دام في قباله شيء آخر مثله مضادَّاً له أو العكس، وهو النَّص الَّذي يقابله الظَّاهر.

ولذلك لا قيمة لما يراه المصوِّبة حينما يقولون بتعدُّد حكم الله في الواقعة مع التَّعارض في القضيَّة الواحدة لو لم تتعدَّد جوانبها، كما بين العموم والخصوص من وجه أو العموم والخصوص المطلق، والحق هو ذلك الملتقى إن حصل من العمومين.

بل يوعز ذلك إن حصل تفاوت إلى اشتباههم في أحد الرَّأيين إن كان ثانيهما صحيحاً تامَّاً دون غيره.

ثمَّ إنَّه قد يتصوَّر البعض من الأخوة العامَّة أحقيَّة التَّصويب، وعلى الأكثر في خصوص المجال الفقهي لو لم يخالفونا كثيراً في العقائد، وعلى ما لم يثبت له أي مدرك أصولي.

ما دام الحق لابدَّ أن يكون واحداً لا يتكثَّر عند الله ورسوله لو حصل اختلاف فيه في رأيهم الَّذي يرونه ضدَّ المذهب الحق الَّذي يراه المخطِّئة، الَّذين يقولون بأنَّ المجتهد قد يصيب وقد يخطئ عند تعدُّد الآراء وهم نحن الإماميَّة.

لا في كل ما تعدَّد من الآراء في حديث اختلاف الأمَّة المذكور وأمثاله.

مع أنَّ الحق على خلافه، لأنَّه من المصادرة أن يكون مدَّعى الإصابة يجعل رأيه هو محلُّها بلا أن يثبت لها دليلها، والمصادرة معناها جعل الدَّعوى عين الدَّليل، والمناقضة بما يقابله من الآراء المستدل عليها بأدلَّتها.

ولذلك كان لأبي حنيفة في سابق ما ذكرناه عنه من المخالفات العناديَّة الكثيرة

ص: 422

جدَّاً لأستاذه الإمام الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وإن كان بتحريض طاغوت عصره العبَّاسي عن طريق القياسات التَّمثيليَّة الباطلة، وعلى أساس خصوص مباني أحاديث قليلة.

ولذلك ورد عن الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ قولهم عن أمثال هؤلاء وحينما يلتزمون بهذه الأساليب بإصرار (الرُّشد في خلافهم)(1) كما مرَّ.

ولذلك فلابدَّ من التَّدقيق في أمر ما يناسب الصَّحيح، لإحرازه ولإفرازه عمَّا لا يناسبه في محوريَّة هذا الحديث، الَّذي قد يقبله أهل الحق بما يتنافى مع مقرَّرات أهل الخلاف، لكون أهل الحق مع أهل الرُّشد دائماً وإن فسِّروا الحق ويفسِّره الآخرون بما يشتهون.

ص: 423


1- وسائل الشيعة: ج26 ص158 ب4 ح32712، الكافي ج1 ص8، وفي رواية أخرى (ما خالف العامَّة ففيه الرَّشاد).

المطلب الثَّاني

موارد إمكان اتِّفاق هذا الحديث وأمثاله

مع الأدلَّة الصَّحيحة الأخرى من عدمه

وبعد تكامل هذه المقدِّمات الثَّلاث ولو مختصراً نقول:

بناءاً على ثبوت هذه الرِّواية الشَّريفة عن النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ السَّابقة (اختلاف أمَّتي رحمة)، لكونها قد تكون من النَّبويَّات الَّتي لم تُرو عن طرق أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ إلاَّ ضعيفة، أو إن رواها بعض أصحابنا من خصوص طرق العامَّة كما هم كذلك.

بل حتَّى مع عدم ثبوتها كذلك كما مرَّ ذكره، إلاَّ من جانب واحد وضعيف.

ولكن لأنَّه ربَّما ورد في بعض النُّصوص الصَّحيحة ولو في الجملة وبلسان مختلف، ما قد يبيِّن بعض مضامين ما تحمله هذه الرِّواية إن لم نقل كل مضامينها، ممَّا قد يصحِّح الحمل على التَّوافق المضموني حتَّى بين الخاصَّة والعامَّة.

لكون الصَّحيحة قد تكون بألفاظ أخرى، فضلاً عمَّا لو كانت أقرب لألفاظ هذه الرِّواية.

وقد تصدق بعض النُّصوص لمضامينها العالية المرتبطة بإمكان توجيه هذه الرِّواية ولأدلَّة مقوِّمة أخرى، وإن لم تكن تلك النُّصوص في صحَّة سنديَّة تامَّة.

لإمكان الأخذ بها بنحو العوامل المساعدة والمؤيِّدة، أو كانت صحيحة ولكنَّها منقولة بالمعنى الَّذي لا يخل بالمضامين العالية، كما سيتَّضح الآن.

لبيان ما يمكن تحصيله من مضامين التَّوافق مع بعض الأدلَّة الأخرى الَّتي من طرقنا أو الطرق العامَّة المتِّفقة ولو في الجملة للتَّقريب.

فلابدَّ من محاولة التَّعرُّف على موارد إمكان اتِّفاق هذا الحديث مع الأدلَّة

ص: 424

الصَّحيحة الأخرى، كمحتملات نفرضها للغربلة الفكريَّة أو العلميَّة للأخذ بما أتقن أمره منها في المجال الفقهي العائد للأصول الحقَّة أو المشتركة، وما أتقن أمره من العقائديَّات الفرعيَّة العامَّة مع الفرعيَّة الفقهيَّة.

وهي المسمَّاة بالفقه العام ممَّا قد يكون هذا محلُّه من الأصول وما أتقن أمره من الصَّحيح في المجالات الأخرى وتُرك وهُجر الباقي ما لم يتقن أمره ويخالف القواعد رجاليَّاً ودراية في علم الحديث، لأهميَّة الحفاظ على قوَّة السنَّة الشَّريفة لفظاً ومعنى وما مرَّ من ذكر الحديث الأوَّل وما بعده، إلاَّ مثالاً للغربلة المشار إليها، وهي أمور:-

أوَّلاً: إنَّ كون الاختلاف رحمة ثابت في معناه بخصوص ما يرغب به أو يريده النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ الَّذي بعث رحمة للعالمين في قوله الواحد حكماً على كل مسألة وكل حادثة تتناسب معه وتنضوي تحته عن وحي الله تعالى بلا تعدُّد في الزَّمان الواحد، إلاَّ ما كان في الزَّمن المتعدِّد كحالة النَّسخ الجزئي في بعض الآيات.

كجواز دفع الفدية بدلاً عن الصَّوم تخييراً بينهما في حال الصحَّة والاختيار في بداية تشريعه ثمَّ نسخت تلك الحالة بعد التعوُّد على الصَّوم وغير ذلك، وهذا ليس من مطلبنا حتماً.

وإنَّما هو خصوص ثبوت الحكم الواحد في الواقعة الواحدة في الزَّمان الواحد.

وقد أثبتته الأدلَّة الكثيرة من الكتاب والسنَّة وإن تعدَّدت الآراء الاجتهاديَّة في جوانبها الدَّليليَّة والاستدلاليَّة على النَّحو الَّذي لا يؤثِّر على ذلك الحكم الواحد بالنَّتيجة.

كحكم الوجوب على الشَّيء الَّذي دلَّ دليله الصَّحيح في نظر مجتهد ودلَّ دليل صحيح آخر عليه في نظر مجتهد آخر، وإن التقى الرَّأيان في الجملة أو لم يلتقيا مطلقاً بدون أن يصِّحح كلا الرَّأيين.

وهكذا إذا أمكن تعدُّد الأكثر عليه من الأدلَّة الصَّحيحة في بابها عند أهلها.

ص: 425

ويلحق بذلك إمكانيَّة الأخذ بمثل تعدُّد أدلَّة التَّقريب المذهبي وإن كان أحد الدَّليلين غير مقبول عند الطَّرف المقابل.

وهكذا الأمر في مجال حكم الحرمة كما سيتَّضح أكثر.

كوجوب الصَّلاة اليوميَّة الَّتي لم يكن في مقابله عدم الوجوب أبداً على المكلَّفين والمكلَّفات في أدلَّة ذلك الواضحة غير المحتاجة إلى السَّرد والبيان.

وهكذا حرمة شرب الخمرة الَّتي لم تتغيَّر في أدلَّتها أيضاً أبداً بما لا داعي أيضاً، لسرد أدلَّته أكثر وكما حدَّد جميع مصاديق الأحكام الشَّرعيَّة في قوله تعالى [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا](1) وقوله [وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً](2).

وهكذا في قول النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (حلال محمَّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يومالقيامة)(3) وغيرها.

ثانياً: بل يمكن الرِّضا في اختلاف القول الواحد المفروض بين مجتهدين مثلاً وكل يقول قولاً ينسبه إلى النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ كالواجب والمستحب ولكن يقصد كل منهما أنَّ النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ما قال إلاَّ قوله دون قول غيره المخالف له.

مضافاً إلى ما يمكن في ذلك من إيصال هذا الخلاف إلى أن ينتج الوفاق بين الاثنين على الحكم الواحد، وهو القول بالرُّجحان بالمعنى الأعم، وهو المطلوب أيضاً إذا طبَّق الاثنان الواجب والمستحب.

وهو كثير المصاديق من دون أن يعترض أحد المجتهدين على الآخر فيما توصَّل إليه.

لأنَّ كلاًّ منهما له رأيه، لكن لا بنحو التَّصويب الَّذي لا يساعد عليه سوى رواية

ص: 426


1- / آية 187.
2- / آية 62.
3- أصول من الكافي ج1 ص 58، بصائر الدرجات: ص 148 ب 31 ح 7.

العامَّة دونما الَّتي تروى من طرقنا عن النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، وهي (أصحابي كالنُّجوم بأيِّهم اقتديتم اهتديتم)(1).

وهي الَّتي يراد من (أصحابي) في الحديث (أهل بيتي) وإن استضعفت عندنا انسجاماً مع كثرة الأحاديث المادحة لأهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

بل يلحق بذلك بعض حالات التَّقريب الإيجابي بيننا وبين المذاهب الأخرى وإن أوصلت الحالات إلى إخضاعهم إلى صحيح ما نقوله بقاعدة الإلزام.

بل إنَّ لزوم البناء على الحكم الواحد في الواقعة الواحدة كما أشرنا ثابت حتَّى فيما لو لم يكن الجمع بين الرَّأيين الاجتهادييِّن المختلف فيهما ممكناً ولو في الجملة.

كما إذا حصل تضاد كالقول بوجوب الجمعة في الغيبة الكبرى والقول بحرمتها لو لم يكن غيرهما محتملاً، فإنَّ في ما بين هذين لا يمكن الجمع بينهما.

ومع ذلك لابدَّ من اعتبار القول الواحد من هذين الحكمين دون الآخر.

وفي ذلك أيضاً أدلَّة كثيرة نفصِّلها في المضامين الاستدلاليَّة في أحكام الموسوعة الآتية إنشاء الله تعالى وإن كان لا يعيب أحد المجتهدين على الآخر فيما أدَّى إليه اجتهاده.

بناءاً على صحَّة اجتهاد كل من الرَّأيين من الوجهة الصِّناعيَّة، لعدم إمكان التَّوسُّع من قبلهما أكثر ممَّا حصل على أساس من استفراغ الوسع في سبيله لكن لا على أساس القول بالتَّصويب الممنوع عندنا كما مرَّ.

ثالثاً: وقد يكون ذلك الاختلاف مدعاة للأجر والثَّواب إذا فُسِّر الحديث بمعنى أنَّ الاختلاف يُراد منه التَّخالف على النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ.

أي كثرة الورود عليه والرَّواح والمجيء إليه، للاستفادة من محضره الأعظم

ص: 427


1- سلسلة الأحاديث الضعيفة (ج1 / ص144و145)، ورواه ابن عبد البر في (جامع العلم) (2 / 91).ج

والنَّظر إلى وجهه الأكرم والسُّؤال منه عن أمور ما ينفع من أمور الدُّنيا والدِّين ولما يحبُّه اللهويرضاه من ذلك المعدن الصَّافي، اغتناماً للفرص، وهو شرف ما أعظمه من شرف وما مثله من المناهل من مغترف لو استغل على ما يرام ويستهدف.

وقد يكون هذا المعنى ثابتاً كذلك، فيما لو حصل التَّخالف من الأمَّة عند خليفة النَّبي عَلَيْهِ السَّلاَمُ وهو نفس رسول الله صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وخليفته في ليلة المبيت على الفراش عند الهجرة وفي آية المباهلة والغدير وغيرها.

وهكذا بقية الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، بل حتَّى نوَّابهم الخاصُّون، بل العامُّون في الغيبة الكبرى هذه، للزوم استمرار الوظيفة الإلهيَّة الشَّرعيَّة بما وظِّفوا له وعدم جواز قطعها في الإفادة والاستفادة، على ما هو مكثور من الأدلَّة الواضحة الَّتي لا تحتاج إلى السَّرد والبيان أكثر.

وبقرينة كون قول النبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في (اختلاف أمَّتي رحمة) عنوان البحث لم يذكر فيه (اختلاف أمَّتي عليَّ رحمة)، ليكون الأمر خاصَّاً به ظاهراً دون الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، فلا مجال للتَّوهُّم فيه من أحد.

بل حتَّى في هذا المعنى كان النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ يحوِّل بعض التَّوجيهات على أصحابه وأهمُّهم أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فيصح العموم والإطلاق إذن لما بيَّنَّاه.

وهذا المعنى وهو التَّخالف الَّذي ذكرناه يعتبر وجهاً وجيهاً عند الشِّيعة الإماميَّة.

بل قد يقدَّم هذا القول على بقيَّة الوجوه الأخرى، لما فيها من المجال الواسع في المناقشة المخالفة دون هذا الوجه وممَّا يتناسب مع هذا الوجه كون الاختلاف قد حصل على النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من أوطان مختلفة.

وهو وارد في الأدلَّة كثيراً جدَّاً بالحثِّ على الاستفادة والتَّزوُّد منهم، ليعم النَّفع الدِّيني في أكبر عدد ممكن من النَّاس من أكثر عدد من زعماء الأمَّة، وإن جاء ما يؤدِّي هذا المعنى بألفاظ متفاوتة.

ص: 428

ولذلك استعملت كلمة الجمع في آية النَّفر وهي [وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ](1) دون استعمال الأفراد لعدم وجود الحجيَّة فيه إلاَّ مع القرينة المؤكِّدة.

رابعاً: لابدَّ من التَّفريق بين الخلاف الَّذي فسَّرناه في الأمر الثَّالث، وبين التَّخالف الَّذي يراد منه الخلاف للاختلاف بمعنى التَّشاحن والصِّراع العنادي، وإن كان مبتنياً على أساس من شبهة استدلاليَّة خالية من مرونة النِّقاش البريء.

فإنَّ ذلك قد جعلناه فيما لا يمكن إرادته في الحديث الشَّريف وأمثاله.

نعم يمكن أن يراد هذا المعنى واستمراره بين أهل الحل والعقد، للسبب النَّزيه إذا احتمل مجال العثور على معنى يتحف رائدي الحق والحقيقة من جرَّاء مواصلة التَّحقيق والتَّدقيق النَّظري والجدلي للوصول إلى النَّتيجة الحقَّة الموحَّدة إذا أمضيت ولو إرشاداً من الشَّرع.

لا ما إذا كان الخلاف للاختلاف، ولو في وسط الطَّريق لمجهوليَّة معنى الخلاف.

فضلاً عن الاختلاف الأوضح في عدم إرادته من الحديث بالمعنى الثَّاني، لأنَّه كثيراً مايكون منه مبدئيَّة مخالفة الحق المقيتة أو بقاء الخلاف بين فرق المسلمين للتَّشاحن، لا للتَّوحُّد والمؤاخاة مهما تكثَّرت جوامع الشَّمل الإسلامي بين الجميع.

ولذا ورد في صحاحنا لردِّ المخالفين لنا بعِداء أيَّاً كانت نسبته لو قالوا ضدَّ الأحكام الحقَّة حكماً على نهج القياس مع الفارق وغير ذلك من قواعدهم الأصوليَّة المردودة حديث (الرُّشد في خلافهم)(2).

ولأنَّ النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لابدَّ وأن يحمل قصده على أصح المعاني القريبة جدَّاً من مضامين الكتاب والسنَّة الصَّحيحة.

ص: 429


1- سورة التوبة / آية 122.
2- وسائل الشيعة: ج26 ص158 ب4 ح32712، الكافي ج1 ص8، وفي رواية أخرى (ما خالف العامَّة ففيه الرَّشاد).

وفي مثل هذا الحديث وإن أريد حمله على معنى الخلاف للاختلاف في بعض من المعنى بما صحَّحناه، وليس للمعنى الثَّالث ولا لما استدركناه.

فضعف سنده وضعف معناه جدَّاً فيما لا يصح كما في قصد الخلاف للتَّشاحن المقيت لابدَّ وأن يؤثِّر أثراً صريحاً بعدم جواز الأخذ به.

ومن أمثلة عدم الصحَّة كذلك كون خليفتين شرعاً في آن واحد عن الأساس الواحد، فلم يكن مقبولاً ألبتَّة لقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً](1) وهو الخليفة الواحد بصفة أكثر، لئلاَّ يتطاحن الاثنان عن ذلك الأساس، وهو ما يطابق حقيقة الجاعل للخليفة تعالى في وحدانيَّته الَّتي قال عنها تعالى [لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا](2).

ولهذا نصَّب النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ خليفة واحداً في غدير خم وغيره بعد نبوءته ورسالته، وهو علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ وإلى آخر سلسلة الأئمَّة الاثني عشر عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ واحداً بعد واحد إلى آخر الزَّمان، لئلاَّ تسيخ الأرض لو خلت يوماً من الحجَّة.

ومن هذه النَّاحية أيضاً لا يصح تقليد أكثر من فقيه في زمن الغيبة هذه في مسألة واحدة أو مسائل فرعيَّة من موضوع واحد، وإن صحَّ التَّعدُّد بمثل التَّقليد في العبادات لشخص يختص بها أكثر خبره من غيره فيها وفي المعاملات لآخر مختص بها كذلك، لاختلاف الموضوع على تفصيل مسهب فقهي في محلِّه.

خامساً: ويمكن أن يكون الحمل على الخلاف للاختلاف بالمعنى الثَّاني كالاستدراك الَّذي ذكرناه، ولكن بنحو اختلافه جدلاً منطقيَّاً كما أشرنا في المعنى الرَّابع وفي أي علم ومنه الفقه، لشحَّذ الذهن وتنقيحه إلى حيث محاولة الوصول إلى المعاني الصَّحيحة المطابقة للواقع أو الظاهر المعمول به في المستقبل.

ص: 430


1- سورة البقرة / آية 30.
2- سورة الأنبياء / آية 22.

وهذه الحالة لا يمكن الأخذ بها إلاَّ في موقع الدِّراسة التَّعليميَّة أو للامتحان، لا للبناء على كل ما ينتج رأساً كما أشرنا دون أن يكون للجدل الفارغ، وهو لا لهذا ولا لذلك، لكن لابدَّ أن ينتهي بتطويقه عمليَّاً بالمبيح الشَّرعي كما مرَّ في الرَّابع.سادساً: ومن أدلَّة عدم صحَّة هذا الحديث هو فيما لو قصد منه كون الرَّحمة في الاختلاف لا للائتلاف، مع كون الحق لابدَّ من أن يكون واحداً لا يتعدَّد كما مرَّ باعتبار جميع حالات الاختلاف والأخذ بها.

وهو ما يدل عليه حديث افتراق الأمَّة المشهور بين الفريقين وهو قول النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (افترقت أمَّة أخي موسى إحدى وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقون في النَّار، وافترقت أمَّة أخي عيسى إلى اثنين وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقون في النَّار، وستفترق أمَّتي من بعدي ثلاث وسبعون فرقة، فرقة ناجية والباقون في النَّار)(1)، وهو ما يشمل كافَّة الاختلافات الفكريَّة عقائديَّة وشرعيَّة مذهبيَّة إسلاميَّة وغيرها.

ولكن يمكن فيه أن يكون الاختلاف رحمة باعتبار آخر، لا للإصرار عليه مستمرَّاً، وإن توزَّع الحق ضائعاً بين الفرق الثَّلاث والسَّبعين، من دون إمكان الظفر به موحَّداً بين الجميع.

بل لأنَّه شيء قد وقع وأنه يجب السَّعي الحثيث لكشف ذلك الحق الواحد والالتزام به.

لأنَّ الافتراق إلى هذا الحد الممنوع قلَّ عدده أو كثر هو المحفِّز لوجوب السَّعي ولا يمكن وصول ما عدا الواحد المقبول فيه إلى الهلاك ونار الآخرة، إلاَّ لأنَّ الحق واحد لا يكثر عدده ولا يمكن الآخذ بما عداه كما مرَّ عند توفُّر أدلَّته.

سابعاً: ويمكن أن يكون من المعاني المحتملة هو أنَّه لولا الاختلاف في الرَّأي

ص: 431


1- سنن أبي داود 3/896، صحيح الجامع الصغير للسيوطي 1/156 ، مشكاة المصابيح 1/61، الدر المنثور 2/286.ج

والعمل لكان النَّاس كلُّهم على نهج واحد.

فإن كان حسناً لسقط التَّكليف عن البحث والتَّنقيب الواجب، إذ الواقع خلافه مع أنَّ بُعد زمننا عن زمن صدور الأدلَّة يناهض استقرارها في الألفاظ والمفاهيم.

وهو ما يُسبِّب عدم العثور التَّام على الضَّالَّة المنشودة لضياع بعض المصادر أو التَّشويش فيها ونحوهما، إذ الواقع خلافه ما دامت الضَّالَّة لم يعثر عليها.

وإن كان كلّه سيَِّئاً لنزل البلاء وصُبَّ على العالم أجمع.

وقد يشير إلى هذا المعنى قوله تعالى [وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا](1)، أي لا لبقاء الاختلاف لعدم وجود موضوعيَّة فيه دائمة.

ثامناً: ويمكن أن يكون الاختلاف بمعنى التَّفاوت في الأدلَّة مع الوصول إلى نتيجة موحَّدة، لسعة تلك الأدلَّة عند العلماء كما مرَّ سابقاً في المقدِّمات.

إمَّا من جهة تعدُّد الرِّوايات، بحيث يعتمد على بعضها بعض منهم، ويعتمد على البعض الآخر منها بعض آخر كذلك، والكل يعطي نتيجة واحدة كالتَّكافؤ في المعنى أو السَّند أو كلاهما ونحو ذلك.

أو كان الدَّليل مثلاً واحداً كبعض الآيات أو الرِّوايات أو غيرها من الأدلَّة.والعلماء قد يختلفون في كيفيَّة الاستدلال المتعدِّدة من ذلك الدَّليل الواحد لتعدُّد حيثيَّاته، لكن في اختلافهم المذكور نتيجة الحكم الإيجابي الصَّحيح الواحد أو السَّلبي الصَّحيح الواحد، أو كان النِّزاع لفظيَّاً بين المختلفين.

بحيث أنَّه لابدَّ من أن يكون النَّاتج واحداً كما سلف أو أن يكون بين المختلفين في الدَّليل الواحد الواسع في مآخذه الاستدلاليَّة أو الأكثر من الدَّليل الواحد تفاوت العموم والخصوص بين ما يكون من وجه وبين ما يكون مطلقاً، وهو الَّذي يبقى حتماً مجالاً موحَّداً ولو في الجملة الجزئيَّة بين المتخاصمين.

ص: 432


1- سورة الحجرات / آية 13.

وهكذا وإلى حدِّ لا ينفي وجود الرَّحمة الإلهيَّة بشآبيبها الشَّاملة للأمَّة إذا حصل عندها مثل ذلك.

وقد يتفرَّع من هذا المنتج الموحَّد ولو في الجملة ما بين المتخالفين فيما لو اختلفت القراءات فيما يكتبه المجتهدون في بحوثهم وتقاريرهم العلميَّة أو يبينونه في محاضراتهم لتلامذتهم وفيهم المجتهدون كذلك، فقرأها أو سمعها الآخرون وظهر عندهم نظر آخر يختلف عما أبداه أو يبديه المؤسِّسون.

وبالأخص فيما لو كانت العبارات أو الألفاظ حمَّالة وجوه وتشعُّبات كالحديث الَّذي أدخلناه في البحث كالمثال مع غيره.

وكان فكر التَّلامذة مثلاً لوذعيَّاً شفَّافاً كثير التَّخرُج إلى ما هو الصَّحيح مع حسن القصد عند الجميع، كالَّذي يوصل الجميع إلى المعنى الموحَّد، لا من سبق ذكرهم من أهل العناد.

فقد يركِّز المجتهد من هؤلاء على شيء في مطلبه ويجعل له دليله المتين في نظره، ويأتي الآخر حينما لاحظ ما يكتبه أو يقوله ذلك المجتهد الأوَّل فقد ينقدح في ذهنه شيء أحسن ممَّا عند الأوَّل في نظر ذلك الثَّاني.

وقد تكون كلتا القراءتين يراد منهما إيجاب واحد أو يختلف أحدهما عن الآخر باعتبار مع اجتماعهما في الجملة كما مرَّ.

وهكذا قد تتوسَّع القراءات وإلى حد ما قد يختلف كل من القراءتين أو الأكثر، والى حدِّ ما لا تنتفي فيه الرَّحمة مع إحراز المقاصد الصَّحيحة لدى جميع الأطراف ولو بانتظار ظهور صاحب الأمر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ، لتصحيح المسيرة الفكريَّة، أو لاتِّحاف أفكارنا بالاجماعات الاصطلاحيَّة برأيه الشَّريف.

تاسعاً: ويمكن أن يكون حصول مشاكل الاختلاف بين علماء الأمَّة من نحو الابتلاء وهو رحمة في بابها وبالسِّعة المطلوبة وعلى نحو ما قد ورد (إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ

ص: 433

مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ)(1).

ليكون الإنسان مشمولاً بالرَّحمات الإلهيَّة باستحقاق تام بسبب حصول كثرة المعاناة وبذل الجهد الشَّرعي البريء باستفراغ الوسع وأمثاله مع حسن القصد.فإنَّه قد يخرج بالنّور المبين من بين تلك الآراء المختلفة وانكشاف حقِّه بالعلم اليقين وإلى محدوده الأوجه ظاهراً بعد تلك الصِّراعات والاختلافات الَّتي حصلت، وإن لم تصادف الواقع وعلى طبق الخبر الوارد عن العامَّة (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب، فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر)(2).

علماً بأنَّ هذه الاختلافات قد لا تكون محتسبة أيضاً، كما في حالة الإصابة عند انكشافها.

فإذا فوجئ بها وأبدى الباحث فائق همَّته وحصل الخير على يديه كان مثاباً حتماً بما يستحقُّه ولو كان في البداية بلا رغبة به كحاله ما قد ورد في شأنه (ربَّما يثاب المرء رغماً على نفسه)، لأنَّ المهم حسن قصده في البداية وإن لم يحتسب النَّتيجة.

عاشراً: ويمكن أن يكون حصول مشاكل الاختلاف هذه للامتحان العام والاختبار الدّنيوي، كما في قوله تعالى [لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ](3)، وكما في قوله أيضاً [لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً](4)، وقوله كذلك [الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ](5) وغيرها، وهي كثيرة

ص: 434


1- ابن ماجه 4031، وأبو يَعْلَى 4253، والبيهقي "شعب الإيمان" ج7 ص144/9783.
2- مسند أحمد 4: 198 حديث عمرو بن العاص.
3- سورة الأنفال / آية 42.
4- سورة هود / آية 7.
5- سورة العنكبوت / آية 2.ج

ومعها السنَّة كذلك.

لأنَّ الحياة لن تكون حياة عزيزة غالية دينيَّاً بحق إلاَّ بالجهاد والمثابرة بإخلاص وعلم، وأنَّها حياة لا لهذه الحياة الدَّانية فقط وإن أبيح منها ما أبيح بل للآخرة العالية معها أو لخصوصها، والَّتي تنوِّر دروبها وكل آفاقها بالخدمة الصَّحيحة للعلم والعمل الصَّحيح الصَّالح حتَّى لو حصلت أعظم الاختلافات وأشدِّها وفي كل المجالات وأشكل الشُّبهات وإن لم يقصد منها ما يضر.

لكون الحق لابدَّ وأن تطلع شمسه أو يبزغ نور قمرها بيد الأكفَّاء المخلصين حتَّى لو وصل عنف الاختلاف إلى أشدِّه عصياناً على أهل الحق.

فإنَّها وإن اشتدَّت وبأشد أنواع العناء فصار الشَّعب الواحد شعوباً والقبيلة الكبرى الواحدة قبائل متعدِّدة بالامتحان وسوء أعمال النَّاس ونحو ذلك.

فلابدَّ وأن تظهر الحقائق يوماً من الأيَّام ولو بعد حين على يد من ذكرناهم من المخلصين ممَّن هداهم الله واختارهم لجمع الشَّمل وصناعة المستحيل، ولو على رأي بعض أهل الكسل والخمول ممَّن لم يرض به المجاهدون بحق كالأنبياء والرُّسل والأئمَّة وحواريهم وأعلام الأمَّة الَّذين بذلوا كل غال ونفيس لهم، لإسعادها وإعادتها أمَّة واحدة مرحومة كما قصده النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في حديثه من الرَّحمة، وكما يكشف عنه قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِأَتْقَاكُمْ](1).

وغيره من أدلَّة الجوامع للشَّمل حتَّى لو حصل ذلك الخير على أساس خسارة المعاندين والمتعصِّبين لما سبَّبوه.

وقد تكون الآية الماضية لسعة آفاقها راجعة إلى المعنى الثَّامن، لمعرفة ما في الحديث المذكور في العقائد والشَّرعيَّات الفقهيَّة ليكونوا متَّحدين أصولاً وفروعاً من

ص: 435


1- سورة الحجرات / آية 13.

سعي أنفسهم بذلك، لأنَّه واجب في حقِّهم وحقِّ غيرهم وإن كان أمر الابتلاء هنا لها أقرب وكي يبطل قول المجبِّرة.

هذا إذا كان الاختلاف مدعاة للتَّوحُّد وحاثَّاً عليه ولو من خصوص العقلاء الغيارى الحريصين عليه، وهم الأقلون، وإنَّ روَّاد الخلاف للاختلاف هم الأكثرون كما نصَّت بعض النُّصوص.

وأمَّا إذا لم يكن الاختلاف مدعاة أو نحو ذلك للتَّوحد في النَّتيجة ولو لكثرة أنصار السُّوء أو أكثريَّتهم كما مرَّ -- أعاذنا الله منهم -- ممَّن يمكنهم توجيه ما كان من الصَّحيح غير صحيح كذباً وزوراً وبالعكس، حتَّى لو كانت الأدلَّة صحيحة وإن تفاوتت بما يمكن أو لا يمنع من جمع شملها على نتيجة موحَّدة علميَّاً.

فلم تكن الرَّحمة هنا في الحديث بارزة ولو يسيراً للنَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وأنصارهما من الأمَّة وبأضخم نسبها وإلى آخر الدُّنيا بالانتصار على الأعداء المختلفين من تلك الأمَّة إذا كانت جميع صور الأداء باطلة.

بل النِّقمة هي بارزة مكانها حتماً عليهم، كحلول غضب الله على أعداءه حينما أساءوا التَّصرف تلو التَّصرف ضدَّ أولياءه، ممَّا قلَّب الأمور إلى حدِّ انقلاب مصاديق الأمَّة المرحومة إلى (أمَّة السُّوء)(1) على حدِّ تعبير إمامنا الحسين عَلَيْهِ السَّلاَمُ يوم عاشوراء في خطابه لأعدائه المصرِّين على مقاتلته وأصحابه نصرة ليزيد الكفر والنِّفاق والفسق والفجور آنذاك.

وذلك الأثر من سوابقه، وهو الاختلاف العمدي ضدَّ بيعة الغدير الَّتي أرسى دعائمها النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أو ممَّا يسمَّى عند الأعداء بالإجماع.

وهو المرفوض عند أهل الحق، لكونه خالف النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والمنصوص عليه في البيعة وبقيَّة الصَّفوة.

ص: 436


1- الفتوح -- ابن أعثم -- ج5 ص118.

ولأنَّه إجماع ادّعي افتراءاً ضدَّ تصريحات النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ المادحة لأهل بيته الطَّاهر عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، وإلى حدِّ جعله إيَّاهم وما يحملون الثِّقل الثَّاني بعد القرآن الأوَّل.

وكذلك الانحرافات الَّتي تلت تلك، إلاَّ على أنَّ الرَّحمة في الحديث تكون بمعنى فضيحة الأعداء المخالفين للكتاب والسنَّة المودعة عند العترة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وللإجماع الصَّحيح ولو كان مؤلَّفاً من علي وفاطمة والحسن والحسين وسلمان وأبي ذر وعمَّار والمقداد ونحوهم منالقليلين الَّذين مدحهم الله في قوله تعالى [وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ](1) وقوله [وَقَلِيلٌ مَا هُمْ](2) ونحوهما.

لأنَّ الاختلاف لو حصل في العقائد والأحكام وأظهر المحقِّقون والمدقِّقون حقائقهم العلميَّة الصَّحيحة في ذلك فلابدَّ من ظهور زيف المبطلين بعد ذلك من أكاذيبهم وشبهاتهم الباطلة الَّتي قد تشبه الحق وليست من الحق.

ولذا ورد قوله تعالى فيما يخالف كلام الحديث الشَّريف على ما صحَّ فيه من التَّوجيهات الَّتي ذكرناها ونذكرها لتصحيحه حفاظاً منه على بيان حكم المطلب المخالف [وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً](3).

وذلك فيما لو كان المقصود من الاختلاف في حديثه قليلاً أو حتَّى الكثير الَّذي يسهِّل الوصول إلى دحره ووضوح الحق الواحد فيه.

وإن قيل بأنَّ هذه الآية الأخيرة من بعض ما تحمله من الاختلاف، فهل يمكن أن يكون ما عند الله أيضاً في بعض المقامات؟

لأنَّا لم يظهر لنا من حديث الاختلاف من عمومه وإطلاقه خصوص حالة القلَّة، بل قد تكون في ذلك كثرة بحيث سرعان ما يتوصَّل فيها إلى الحق والرّجوع إليه كما

ص: 437


1- سورة سبأ / آية 13.
2- سورة ص / آية 24.
3- سورة النساء / آية 82.

أشرنا سابقاً.

ومن ذلك ما قد يقع كثيراً بين أهل الفضل والأقل منهم من المعتدلين والمخلصين.

وبالأخص ما لو كانت الكثرة في الاختلاف لا بنحو الكثرة العدديَّة في المذاهب مثل ما ذكرناه في كثرتها المتمثِّلة في حديث اختلاف الأمَّة إلى ثلاثة وسبعين السَّابق ذكره.

حيث إنَّ الكثرة المرغوبة من أراء العقلاء والمتديِّنين لا تميل، إلاَّ إلى تلك الفرقة الواحدة النَّاجية والكثرة العدديَّة من الفرق هي المعرض عنها.

بل لا يقبل منها، إلاَّ الكثرة بالمشادَّة العلميَّة ضدَّ العدديَّة وإن قلَّ عدد أنصار النَّاجية أو أن يقصد ممَّا عند غير الله.

هل يمكن أن يكون هو النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ إذا أمكن أن يكون عنده صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ذلك وإن لم يوص به، لأنَّ علم الله أوسع من علم النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لا علمه الخاص بالنِّسبة إلى الله.

أو لأنَّ علم النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ منه ما كان لابتلاء النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بأمَّته في مثل ذلك وعلى أساس أنَّ ظاهر الآية هذه قد يكون في غير موضع الغضب الإلهي.

لاحتمال أن يكون الأمر الاختلافي في سنَّة الرَّسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، لكون السنَّة قد يظهر منها ما لم يكن ظاهراً من الكتاب، ولذلك صار مرجعاً للسنَّة فيما طرأ عليها من المشاكل.

إذ قد يكون من الاختلاف ما كان كثيراً منه في الحديث النَّبوي.

بينما ما ورد في الكتاب لم يكن في صدوره ذلك أو يقل بناء عليه مثل ما عرف منذلك في السنَّة من الاختلاف؟

فنقول: في ذلك بأنَّه لا يمكن هذا، وهو أن يجعل ممَّا كان عند الله ممَّا لو كان قليلاً وفي بعض المقامات حسب مفهوم المخالفة، إلاَّ بنحو عمليَّة إرادة افتضاح المعاندين

ص: 438

من المخالفين للحق والحاقدين عليه حينما أفلج النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ حججهم وأكذب أحدوثتهم ومنهم من ظهر في آخر الزَّمان وحاربوا وكفَّروا كل المذاهب الخمسة المتآخية في كثير من الأمور إن لم نقل أكثرها لو توحَّدت أو من يرتجى منهم ذلك بدون شك، وحينما لا يلبِّي الحق برغباتهم اللا دينيَّة والخارجة عن الصَّدد الشَّرعي.

ولذا يجب التَّفريق بين الأمَّة المرحومة الَّتي يريدها النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في حديثه وأمثاله وبين أمَّة السُّوء النَّاشئة عنها من ذوي الارتداد والنِّفاق ونحوهما، لأنَّ الآية في مورد الرَّد لمن لم يأخذ من عند الله لا غير.

على أن لا يكون ما عند النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ حسب ما نعتقد به هو من غير ما عند الله، لأنَّ كل ما عند النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ هو ممَّا عنده تعالى لقوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى](1).

وإن كانت الرِّواية الشَّريفة بناءاً على اعتبارها -- وكذا غيرها لو بنينا عليها -- قد تشمل الأمَّة بالرَّحمة الَّتي ترتبط بكل ما وجَّهناه على أساس عدم وجود أمَّة السُّوء فيها أو أنَّها موجودة فيها، لكونها مشمولة بالرَّحمة أيضاً إن اهتدت وانصاعت وتركت الاختلاف أو أنَّها مشمولة بذلك أيضاً حبَّاً في هدايتها بعد ندامتها.

إضافة إلى إمكان كون القلَّة المضرَّة في الاختلاف أيضاً ما كان أو يكون إلاَّ مع شدَّة التَّشاحن المفرِّقة الَّتي لا يريدها الشَّرع حتماً فتبقى القلَّة الأخرى غير المضرَّة والَّتي قد يحملها الحديث بنحو خال من المعارضة وهي حالة الاختلاف المشمولة بالرَّحمة.

فلا يمكن إذن إثارة هذا الإشكال في كلِّ حالة إلاَّ بما استثنيناه ولم تقصد النَّبي في الآية، لأنَّ مصبَّها ولو ظاهراً كان فيما لا يرضي الله خاصَّة، لأنَّها في موقع إشهاد ذوي الحجى لو يراقبوا الأمر بإنصاف حينما يكثر الخلاف للاختلاف الممنوع أو يزرع

ص: 439


1- سورة النجم / آية 3.

ليبقى كفتن آخر الزَّمان، مع أنَّ ما عند غير الله وأنصاره هو باطل في نوعه بل كلُّه وإن قلَّ عدده أو قلَّ كيف الاختلاف فيه على ما يفهم من الآية.

لإمكان أن يقلَّ خطره في بعض الحالات كما في الموضوعات والمبتدعات، فضلاً عمَّا لو كان ممَّا قد يكثر فيه الاختلاف ولا يمكن احتوائه ولو بمعونة قوَّة المعادين من أهل الظلم والبطش ومنهم أهل الكفر المدعومين من بلدانهم الحاقدة والمحاربة الغازية والمحاربة المتصدِّية لكل تحرك تصحيحي أو بحث علمي موضوعي منهجي من أهل الحق، لما كان أو يكون من كتب التَّوراة والأناجيل المحرَّفة وغيرهما من كتب الضلال الأخرى الَّتي في قبالها القرآن المحفوظ في صدوره ممَّا بين الدَّفتين.

وإن حاول المغرضون من الدَّاخل والخارج زرع الشُّكوك والأوهام في مضامينهالشَّريفة المسدَّدة بنقل العترة المباركة مهما طال الزَّمن وكثر العدو وقلَّ النَّاصر كالسَّلفييِّن والوهابييِّن والمستشرقين من أهل الكفر إضافة إلى زنادقة القديم وسليمان رشدي الجديد ونحوهم.

حادي عشر: ويمكن أن يوجِّه الحديث بالرَّحمة فيه مع القول بضعف سنده بما يمكن الاستفادة منه في مجال الأخذ به وعن طريقه وغيره من أمثاله في السُّنن من المستحبَّات والمكروهات حينما نقدر أن نجير ضعف سنده بروايات قاعدة (من بلغه ثواب على عمل)(1) وقاعدة التَّسامح في أدلَّة السُّنن لما كان قد يصنعه الاختلاف فضلاً عن كثرته من الضَّعف حتَّى في هذا الحديث.

لكون الاختلاف فيه رحمة، حتَّى فيما لم يجب أو لم يحرم من المباحات الَّتي يحل التَّنافس فيها لشحذ الذِّهن على ما سيجيء قريباً.

ولكن إمكان العمل - على ضوءه كدليل للأخريات من الرِّوايات المختلف في مضامينها - لا يتم في السُّنن إلاَّ فيما لا يمكن احتواء الخلاف والوصول إلى الحق

ص: 440


1- ثواب الأعمال - 1/160.

الصَّحيح الَّذي قد يكون بمفاد تلك الرِّوايات في الواجب إلاَّ به.

إمَّا مع إمكان الوصول إلى الحق وضرب الآراء الباطلة عرض الحائط مثلاً فيمكن استفادة ما تدل عليه تلك الرِّوايات من حقيقة مداليلها الواضحة إمَّا الواجبة أو المحرَّمة أو المستحبَّة أو المكروهة.

وكذا في خصوص ما لو كان الحديث صحيحاً في نفسه أو صحَّحته أدلَّة أخرى لا ترتبط بخصوص فوائد أمور السنن وحدها.

ثاني عشر: ويمكن أن يراد من هذا الحديث إثارة الخلاف والاختلاف إن كان في مسألة أو مسائل، أو أمكن إيجاده فيها لتهييج القرائح النيِّرة بما فيها من علميَّات دفينة نافعة، حتَّى تظهر الحجج من خلال ذلك، وهي تشبه حالة الامتحان الماضية بعض الشَّيء لكن لا بنحو الدقَّة.

وعلى ذلك يمكن الاستدلال بقوله تعالى العام المطلق [وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا](1) لاعتبار أنَّ تعدُّد الشعوب قد يكون من تعدُّد المذاهب أو الأفكار الأخرى ولو كانت في حينها ولم تظهر الآن.

ولذلك قال تعالى بعدها مباشرة [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ](2) للإشارة إلى أنَّ غير الأكرم لا يغمط حقُّه في حالاته المعتدلة بتمام.

وأوضح منه قول أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ في غرر الحكم (اضربوا بعض الرَّأي ببعض يتولَّد منه الصَّواب)(3) على أساس أنَّ الرَّأي هو مجمع الاختلاف والقابل للتَّفكيك والتَّفريع.

أو أنَّه كما قال أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ في مقام آخر (العلم نقطة كثّرها الجاهلون،

ص: 441


1- سورة الحجرات / آية 13.
2- سورة الحجرات / آية 13.ج
3- غرر الحكم : 2567.

والألف وحدة عرفها الراسخون)(1).

وكذلك قوله عَلَيْهِ السَّلاَمُ في البحار (من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ)(2)، ومن ذلك تتبيَّن الرَّحمة في الاختلاف، ولو إلى آخر العمر وهو من محبَّذات الانتساب إلى طلب العلم الحوزوي الشَّريف وفيه ما يشبه بعض مضامين المعنى الرَّابع.

وقد يتحقَّق النَّفع الأكثر عند اللِّقاء أو التَّلاقي الوجداني الَّذي كثيراً ما يتوصَّل منه إلى ما يتحقَّق به التَّراحم ولو في الجملة، لأنَّ الإنسان مدني بالطَّبع.

بل إنَّ النَّاس [بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ](3) كما قال تعالى ما لم يتشبَّهوا بالبهائم والعجماوات ومع نزاهة المقاصد جازت التَّنافسات كما قال تعالى [وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ](4).

المطلب الثَّالث / خلاصة المطلب مع نتيجته

قد تبيَّن في أكثر من موقع وبالأخص من ما مضى أنَّ بعض النُّصوص الَّتي ينسبها بعض الرُّواة إلى النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لم تكن صحيحة ولا تنسجم.

بل تتعارض مع غيرها حتَّى على مباني أصحاب الكتب الَّتي ترويها من النَّاحية الرِّجاليَّة.

لكن ربَّما يمكن أن توجَّه وتعالج ويُستفاد منها بما يتلائم مع قواعد الإماميَّة الأصوليَّة، وقد بينَّا بعضها والوجوه الَّتي يمكن أن تعالج بها.

ص: 442


1- ينابيع المودة لذوي القربى للقندوزي جلد :1 ص213.
2- بحار الأنوار، العلامة المجلسي ج2، ص29، شرح ابن أبي الحديد 18 / 404.
3- سورة المائدة / آية 51.
4- سورة المطففين / آية 26.ج

وبناءاً على كل الوجوه الَّتي ذكرناها وممَّا يدعو إلى الألفة والوصول إلى الحق الواحد أو الموحَّد، ولو تعدَّدت جوانبه بين المجتهدين بحق، دون المعنى المستنكر منها.

بناءاً على التَّخطئة لا التَّصويب مع صحَّة الرِّواية عند اعتبارها أو عضدها بما يجبرها ولو من حيث المعنى إن لم تصح سنداً ونحو ذلك، وإن تمَّ التَّركيز عليها في البدايات.

على أنَّ الاختلاف بمعنى التَّخالف وهو التَّكاثر في المراجعة، أو ما كان الاختلاف في الحديث لا للاختلاف بل للإئتلاف ولكنَّه للجمع المتعارف كما في الآية، دون الجمع التَّبرُّعي.

ولذلك كان اهتمام الشَّرع جادَّاً بوضع المشوِّقات للجمع المذكور مع الملزمات وما تفرضه الواجبات لتحقيق هذا الهدف، كما في صلاة الفرائض جماعة وفي صلاة الجمعة الجامعة وصلاة العيد كذلك على أقل التَّقادير أدائيَّاً.وهكذا الاستسقاء وأداء فريضة الحج مع الملايين، والصَّوم كذلك عند مجيء وقت إفطار الصَّائمين بين جميعهم، سواء اجتمعوا على مائدة واحدة في متَّسع من الأرض، أو بين جميعهم في الوقت الموحَّد وإن فصلت بين مختلف عوائلهم جدران البيوت ونحوها.

وكذلك صلة الأرحام وتشييع الجنائز وعيادة المريض وزيارة المؤمنين بعضهم لبعض في الأعياد والتَّجمعات في كل مظاهر الخير النَّافع للتَّعاون ونحوه والجهاد جماعة لا فرادى في موارده.

وهكذا ممَّا تكثر مصاديقه ممَّا يأتي بيانه في مضامين موسوعتنا الفقهيَّة مستقبلاً.

فإنَّه قد يكون قول النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في حديثه الماضي المعروض هو وأمثاله، لبسط التَّفاوض العلمي حوله في هذا البحث من قبيل الإخبار بما يقع في المستقبل من الفتن وكثرة الملل والنِّحل حتَّى الجديدة منها ساءت أم حسنت وارداً بأكثر ممَّا كان يحتمل

ص: 443

أنَّه إخبار عمَّا كان يحصل في زمانه.

لضعف هذا الاحتمال ولو من حيث مجاملة المنافقين الَّتي لا دوام لها ومن كان في قلوبهم مرض من أهل زمانه، أو نيَّة تآمر وتمرُّد من يأتي بعده ولو ظاهراً سياسيَّاً، لما قد لا يؤدِّي إلاَّ لتبرير مواقفهم التَّمرُّديَّة ونحو ذلك.

لأنَّ الملتقى لابدَّ وأن يكون إلى الاتِّحاد بعد ما حصل من المشاكل، مع براءة من يختلف نظره في نصوص استفاداته وكانت هذه المستهدفات له ولو كانت بحسب الظاهر.

لاحتمال الخطأ عندنا وعند غيرنا اعتماداً في أغلب الأمور على تأكُّد مجيء دولة آل محمَّد عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، والَّتي لابدَّ وأن يصار إليها تحت راية صاحب الأمر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ الَّذي لابدَّ وأن تتوحَّد الكلمة عنده وأمامه بدون نفاق أو مجاملة وقتيَّة أو تمرُّد من أحد ولو في مجرَّد النيَّة.

لأنَّه منه الحكم الفصل بعد الأئمَّة السَّابقين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من بعد ذلك الصَّبر الطَّويل، ولكسب رضاه نصرة للدِّين الواحد، لأنَّه الَّذي يظهر وينهض أخيراً لأجله وينتقل به الحكم الشَّرعي من حالة الاكتفاء في بعض الأمور له بالظَّاهر أيام الغيبة الكبرى إلى توحده في جميعها بالحكم الواقعي دون غيره تطبيقاً للوعد الإلهي وكما قال تعالى [كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ](1).

وهذا الإخبار لا غرابة منه وهو صرف الرَّحمة وتمامها، فإنَّ الإخبار بالمغيَّبات - من مثل النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ ومن عصمه الله من آله عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بالتَّعليم والإلهام الإلهي - ثابت وكثير بإذن الله تعالى كما لا يخفى.

ومن تصريحات ما يشير إلى بالغ هذه الرَّحمة عن آخر الزَّمان قوله تعالى [وَنُرِيدُ

ص: 444


1- سورة المجادلة / آية 21.

أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ](1).

وممَّا قد يفترق حديث (أصحابي كالنُّجوم) عن الحديث الأوَّل هو هذا المعنى بناءاً على إرادة (أصحابي) في هذا الثَّاني هم المختلطون بين المقبول منهم وغيره.وما يقال من إنَّ روايته صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ الَّتي تقول (يد الله مع الجماعة)(2) وهي الَّتي ممَّا يرويه العامَّة أيضاً مع مناقشتها الماضية بأنَّه غريب؟

فإنَّه يجاب بأنَّها صحيحة بلا غرابة حتَّى على إطلاقها الَّذي يريدون منه عدم المنع من بقاء الخلاف المرفوض ولو لإيقاع الأعداء في الفضيحة.

أو كونهم اتَّفقوا على الباطل حينما خالفوا النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، وما بقى منهم إلاَّ القليل من أصحابه في بعض حروبه وفي قضيَّة الدَّار وبيعة الغدير الَّتي نقضوها وإجماعاتهم الَّتي وضعوها جبراً لكسرهم الَّذي لا ينجبر.

وفي مقابل النُّصوص الصَّريحة والمشهود عليها بمرأى ومسمع، لم يقبل إلاَّ فيما صحَّحناه من التَّوجيهات لحديث الاختلاف الَّتي لا تبقى للجماعة إذا اجتمعت على شيء، سوى ما بيَّنَّاه من معنى الإجماع الَّذي يحوي في ضمنه الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

وهو ما يحوي الحجَّة الَّتي لا تسبِّب أي اختلاف ولم تكن في مقابل أي نص صحيح.

لأنَّه هو الإجماع الحاوي لصاحب النَّص وهو الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ على ما نفسِّره نحن الإماميَّة في أصول الفقه بما لا يخالف الثَّوابت الإلهيَّة جهد إمكان مساعيهم غير الخارجة عن الطور المصطلح وإن قلَّ العدد.

وإن قالوا بأنَّ المقصود من الجماعة في لسان النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بناءاً على صحَّة الحديث هم أهل السنَّة والجماعة ليفسِّر لهم بما يريدون أو بما لم يمنعوه؟

ص: 445


1- سورة القصص / آية 5.ج
2- رواه الترمذي (2167).ج

فنقول: بأنَّ قصد النَّبي صلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ فيه لم يكن لجهة معيَّنة من المسلمين حتَّى يخرج علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ وأهله وأصحابه أو عموم من خالف تلك الجماعة من المسلمين كمالك ابن نويرة، لأنَّ الَّنبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ نبي الكل، وإن ادَّعوا بأنَّ إجماعهم غير إجماعنا.

لكون إجماعنا لابدَّ فيه من وجود معصوم من الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ فيه كالإمام الغائب عَلَيْهِ السَّلاَمُ وإن قلَّ العدد فهو وإن كان صحيحاً.

لكنَّه لا يمنع من تفادي الخلاف ومحاولة جمع الشَّمل بين الإجماعين ومنه الفقهي، ولو بنحو التَّقريب المذهبي الَّذي ينتهي عنده الكثير من الأمور الخلافيَّة والَّتي أهمُّها الفرعيَّة كما سبق.

وممَّا ينفع في ذلك تطبيق قوله تعالى [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ](1) إذا أريد ما ينفع من صغريات الأمور ومن اجتماع فقهاء المذاهب المعنيَّة في مكافحة الاختلاف المضر لهذا التَّقريب، مع تحبيذ حسن القصد لدى الجميع.

مع أحقيَّة إجماعاتنا الواقعيَّة الَّتي تضر بالجماعة لو لم يتبعوا تلك الإجماعات.

هذا شيء يسير من بعض مساعينا العلاجيَّة لما يُروى من الأحاديث الَّتي قد يحاول بعض المتطرِّفين أن يولِّد منها أمر جواز اصطناع الخلاف للخلاف معاداة للآخرين ممَّا لا يرتضيه عاقل أو لتصحيح القول بالتَّصويب حتَّى لو تكثَّرت الأقوال المتضاربة عندهمونحو ذلك.

وما كان قد منعناه من ذلك ممَّا مر فهو لحب التَّوحد والتَّآلف ولو بما قد يحصل من ذلك ولو في الجملة للتَّقريب والتَّقارب ولو على كلمة سواء.

ومع تحسين المقاصد الاجتهاديَّة وتبادل الاحترامات رضينا أيضاً، حتَّى لو أدَّت بعض الأبواب الموصدة إلى شيء من المخالفات الَّتي لا يقدر على تجنُّبها من الدَّليل المتفاوت من ألفاظه أو مضامينها أو من الحالة الاستدلاليَّة أو القدرة الاستيعابيَّة لها

ص: 446


1- سورة الشورى / آية 38.

من جرَّاء كثرة التِّجربة وقلَّتها، نتيجة للبُعد أو التَّباعد وقلَّة المصادر للآخرين ونحو ذلك، والَّتي قد يكون منها ما يمكن فيه فك قيد الجمع بين الآراء المتفاوتة، شريطة عدم التَّنازل عن الحق الثَّابت.

ومن هذا الشَّيء نوع تجربة نقاشيَّة علميَّة يراد التَّدرُّب عليها في باب الدِّراية والحديث الأصوليَّين مع مرجعيَّة ثوابت كتاب الله تعالى.

وعلى الأخوة العامَّة أن يساعدونا ويساعدوا أنفسهم في هذه المساعي للتَّقريب وأمثاله، حرصاً على الانضواء تحت راية الفرقة النَّاجية ولتشملنا تلك الرَّحمة ومن الله تعالى تمام التَّوفيق.

ص: 447

نهاية المطاف

وإلى هنا ينبغي لنا أن نكتفي بهذا القدر من الكلام عمَّا سمَّيناه في هذا الجزء في الباب الخامس المتعلِّق بالمباحث الأخيرة من مباحث الألفاظ لتكون بداية الجزء الرَّابع الآتي من الباب السَّادس المتعلّق بالمباحث اللُّبيَّة وبعده مبحث الحجَّة وطبقاتها وبعدهما مبحث التَّعادل والتَّرجيح.

حسبما تيسَّر لي مع تشتُّت البال وكثر الأشغال مع قصد وجه الله تعالى السَّابق تقرُّباً إليه، ولو لأداء أن لا أكون مقصِّراً تجاه واجب الانتماء إلى الحوزة النِّجفيَّة المطهَّرة منذ نعومة الأظفار.

رجاء أن يكون مقبولاً عنده وبدعوات المولى المعظَّم صاحب الأمر عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ للتَّأييد والتَّسديد إلى إكمال بقيَّة الأجزاء، ولو كمقدِّمات يؤمل أن تطرح فيها أو بعدها لطلاَّبها بمقدارها البركات، والله ولِّي التَّوفيق.

ليلة السَّابع عشر من شهر ربيع الأوَّل علاء الدِّين الموسوي

لسنة 1442ه- الغريفي

ص: 448

المصادر

1. القران الكريم

2. الاحتجاج / الطَّبرسي

3. الأحكام / ابن حزم

4. الإتقان في علوم القرآن /السيوطي

5. الإمامة في ضوء الكتاب والسنة / مهدي السماوي

6. الأمالي / الشيخ الصدوق

7. الأنوار العلوية / الشَّيخ جعفر النَّقدي

8. الأسرار المرفوعة / نور الدين علي القاري

9. البيان في تفسير القرآن / السيد الخوئي

10. الدر المنثور / السيوطي

11. الجمع بين الصحيحين للحميدي

12. الكشكول / البحراني

13. الدُّرر النَّجفية من الملتقطات اليوسفية / الشيخ يوسف البحراني

14. الوافي / الفيض الكاشاني

15. الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة / البحراني

16. الطبقات الكبرى / الشعراني

17. المبسوط / السرخسي الحنفي

18. المجموع / محيي الدين النووي

19. المزهر / جلال الدين السيوطي

20. الملل والنحل / أبو الفتح الشهرستاني

ص: 449

21. المناقب / ابن شهر آشوب

22. المستدرك / للحاكم النيسابوري

23. المصباح المنير / المقري الفيومي

24. المعجم الكبير للطبراني

25. المصنف ابن أبي شيبة

26. المقاصد الحسنة للسَّخاوي

27. السنَّة / ابن أبي عاصم

28. الفتوح / ابن أعثم

29. الفردوس الأعلى / كاشف الغطاء

30. التحفة السنيَّة (مخطوط) / السيد عبد الله الجزائري

31. التهذيب / الطوسي1.

32. التوحيد / الصدوق

33. الخصال / الصَّدوق

34. الغيبة / الطوسي

35. أجود التَّقريرات تقريرات الشَّيخ النَّائيني للسيِّد الخوئي

36. أمالي / الشيخ الطوسي

37. أعيان الشيعة / السيد محسن الأمين

38. أصول الكافي / الكليني

39. أصول الفقه / الشَّيخ المظفَّر

40. بحار الأنوار / المجلسي

41. بصائر الدرجات / لمحمّد بن الحسن الصفار

42. جامع الأحاديث / جلال الدين السيوطي

43. جامع العلم / ابن عبد البر

ص: 450

44. جامع أحاديث الشيعة / البروجردي

45. جواهر الكلام / الجواهري

46. دروس في علم الأصول / الصدر

47. دعائم الإسلام / القاضي النعمان "ابن حيون" المغربي

48. وسائل الشيعة / الحر العاملي

49. زبدة الأصول / البهائي

50. زوائد المسند

51. طبقات ابن سعد

52. ينابيع المودة / القندوزي الحنفي

53. كمال الدين وتمام النعمة / الشيخ الصدوق

54. كنز العمال / المتقى بن حسام الدين الهندي

55. كشف الغمة / أبي الحسن الإربلي

56. لسان العرب / ابن منظور الأنصاري

57. مبادئ الوصول إلى علم الأصول / العلامة الحلي

58. مجموعة الشَّيخ ورَّام

59. مجمع البيان / الطبرسي

60. مجمع البحرين / الطريحي

61. محاضرات في أصول الفقه /الفياض

62. مكارم الأخلاق / الطبرسي

63. ميزان الحكمة / الرَّيشهري

64. منهاج الأصول / محمد إبراهيم الكرباسي

65. من لا يحضره الفقيه / الصَّدوق

66. منتهى الأصول / البنجوردي

ص: 451

67. منتهى الدراية

68. منتهى المطلب / العلامة الحلي

69. مسند أبي داود الطيالسي

70. مسند أحمد ابن حنبل

71. مستدرك الوسائل / النوري

72. مشارق أنوار اليقين / الحافظ البرسي

73. معالم الدين وملاذ المجتهدين / لابن الشَّهيد الثَّاني

74. مفردات غريب القرآن / الراغب الاصفهانى

75. مصابيح الأنوار

76. مغني اللبيب / ابن هشام

77. نهاية الأفكار / تقريرات أغا ضياء الدين العراقي

78. نهج البلاغة

79. سلسلة الأحاديث الضعيفة / للمحدث الألباني

80. سنن الإمام أحمد

81. سنن أبي داود

82. سنن أبي يعلى

83. سنن ابن ماجه

84. سنن الدارمي

85. سنن الدارقطني

86. سنن الحافظ أبو بكر البيهقي الشافعي

87. سنن النسائي

88. سنن الترمذي

89. عدّة الأصول / الشيخ الطوسي

ص: 452

90. عدة رسائل للمفيد (المسائل السروية)

91. عوالي اللئالي / ابن أبي جمهور الأحسائي

92. عيون أخبار الرِّضا / الصدوق

93. فيض القدير / محمد عبد الرؤوف المناوي

94. فرائد السمطين / الجويني

95. فروع الكافي / الكليني

96. فتح الباري بشرح صحيح البخاري / ابن حجر العسقلاني

97. فتح الملك العلي / الحافظ المغربي

98. صب العذاب على من سب الأصحاب / الآلوسي

99. صحيح الجامع الصغير للسيوطي

100. صحيح البخاري

101. صحيح ابن حبَّان

102. صحيح مسلم

103. رجال الكشِّي

104. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني / الآلوسي

105. رسائل السيد المرتضى

106. شرح أصول الكافي / مولي محمد صالح المازندراني

107. شرح المقاصد /التفتازاني

108. شرح التجريد / القوشجيّ

109. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد

110. شرح صحيح مسلم / النووي

111. تأريخ ابن عساكر

112. تهذيب الأحكام / الطوسي

ص: 453

113. تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار -- ابن بطوطة

114. تفسير الطبري

115. تفسير المراغي

116. تفسير العياشي

117. تفسير الفخر الرازي الكبير

118. تفسير الصافي

119. تفسير القرطبي

120. تفسير الرازي

121. تفسير ابن كثير

122. تفسير عبد الرزاق

123. تصحيح الاعتقاد / الشيخ المفيد

124. ثواب الأعمال / ابن بابويه القمي

125. غرر الحكم / الشيخ عبد الواحدالتميمي الآمدي

ص: 454

1 -كلمة النَّاشر..... 3

2 -تعقيب وتمهيد لما بين جزئي المدارك اللَّفظيَّة للثَّاني الماضي والثَّالث الحالي مع المحتوى الإجمالي لمضامينه

..... 5

3 - الباب الخامس ..... 12

4 -المقام الأوَّل / ما يشترك في آيات الأحكام والسنَّة الشَّريفة..... 12

5 -الفصل الأوَّل / العموم والخصوص..... 12

6 - الأوَّل/ تعريف العام والخاص..... 13

7 - الثَّاني / الحاجة إلى البحث في العموم والخصوص..... 14

8 - الثَّالث / ألفاظ العموم..... 15

9 -الرَّابع / أقسام العام..... 16

10 -الخامس / في الجمع المنكَّر..... 17

11 -السَّادس / في شمول الخطاب للمعدومين..... 18

12 -السَّابع / عوامل التَّخصيص..... 20

13 -الثَّامن / في استعمال العام قبل ورود المخصِّص عليه أو وروده على المخصِّص..... 22

14 -التَّاسع / عمل العام مع الخاص المتِّصل والمنفصل..... 24

15 - العاشر/ هل استعمال العام في المخصَّص حقيقة أم مجاز؟..... 25

16 -الحادي عشر: في جواز التَّخصيص حتَّى يبقى واحد..... 27

17 -الثَّاني عشر / حجيَّة العام المخصِّص في الباقي..... 29

18 -الثَّالث عشر / هل يسري إجمال المخصِّص إلى العام؟..... 30

ص: 455

19 - الرَّابع عشر / في تعقب المخصِّص عامَّاً متعدِّداً..... 34

20 -الخامس عشر / تعقيب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده..... 36

21 -السَّادس عشر / تخصيص العام بالمفهوم..... 39

22 -السَّابع عشر / تخصيص الكتاب بخبر الواحد..... 41

23 -الثَّامن عشر / الدَّوران بين التَّخصيص والنَّسخ..... 43

24 -التَّاسع عشر / نتيجة البحث..... 43

25 -الفصل الثَّاني / الإطلاق والتَّقييد في الكتاب وملحقه السنَّة..... 45

26 -الأوَّل / معنى الإطلاق لغة..... 45

27 - الثَّاني / الفوارق بين الإطلاق والتَّقييد وبين العموم والخصوص..... 49

28 -الثَّالث / الحاجة إلى البحث عن الإطلاق والتَّقييد..... 52

29 -الرَّابع / اصطلاح الإطلاق والتَّقييد هل يعطي التَّلازم بينهما ولو إجمالاً أم لا؟..... 54

30 - الخامس / هل يختص الإطلاق في المفردات أم يطرأ على الجمل؟..... 58

31 -السَّادس / الإطلاق والتَّقييد وارتباطهما بالوضع أو بمقدِّمات الحكمة؟..... 60

32 - السَّابع / خصوص مقدِّمات الحكمة وأثرها في المقام..... 65

33 - الثَّامن / أمثلة الإطلاق والتَّقييد..... 70

34 - التَّاسع / نتيجة البحث..... 78

35 - الفرق بين العام والمطلق وهل يجتمعان؟..... 78

36 -الفصل الثَّالث / المجمل والمبيَّن في آيات الأحكام وما يتعلَّق به من السنَّة..... 80

37 -الأوَّل: معنى المجمل والمبيَّن عند اللُّغويين وفي الاصطلاح الأصولي..... 80

38 -الثَّاني: الحاجة إلى بحث المجمل والمبين..... 85

39 - الثَّالث: هل إنَّ الإجمال والتَّبيين يختَّصان بالألفاظ والأقوال فقط؟ أم إنَّهما تشملهما الحالات الفعليَّة فيسريان فيها..... 89

ص: 456

40 - الرَّابع: تقسيم المجمل اللَّفظي إلى مفرد ومركَّب وشيء من أسباب الإجمال فيه..... 91

41 -الخامس: الفوارق العامَّة بين الإجمال وغيره ممَّا مضى..... 96

42 -السَّادس/ مناسبة العلم الإجمالي وقاعدة منجِّزيَّته وفروعه في المقام..... 99

43 -السَّابع / بعض النُّصوص الَّتي وقع الكلام في كونها مجملة أو مبيِّنة..... 103

44 -الثَّامن / لابديَّة رفع الإجمال مع المقدرة عليه..... 118

45 - التَّاسع / كيفيَّة بيان المجمل عند الحاجة إليه..... 120

46 -العاشر / نتيجة البحث..... 123

47 -الفصل الرَّابع / البداء في آيات الأحكام وما يناط بها من السنَّة..... 124

48 - الأوَّل: مورد الحاجة إلى الكلام عن البداء..... 124

49 - الثَّاني: معنى البداء..... 126

50 - الثَّالث: إشكال ورد..... 132

51 - الرَّابع: إشكال آخر ورد..... 136

52 - الخامس: الفرق بين النَّسخ والبداء..... 141

53 - السَّادس: أدلَّة البداء من الكتاب والسنَّة عن الفريقين..... 146

54 - السَّابع: أقسام القضاء ومتى يقع البداء منها عند الشِّيعة الإماميَّة..... 152

55 - الثَّامن: ثمرة الاعتقاد بالبداء..... 156

56 - التَّاسع: نتيجة البحث وخلاصة الكلام عن البداء..... 157

57 - الفصل الخامس / مشكلة الجبر والتَّفويض في آيات الأحكام والسنَّة الشَّريفة..... 159

58 - الأوَّل: سبب تدوين هذا البحث..... 159

59 - الثَّاني: مناشىء الجبر والتَّفويض العامَّة والخاصَّة والأخص..... 164

60 - الثَّالث: أدلة المجبرة على القول بالجبر بعد بيان أصل فكرتهم وردها..... 168

ص: 457

61 - الرَّابع: ذرائع المجبِّرة الواهية وخطورتها..... 176

62 - الخامس: أدلَّة المفوِّضة على القول بالتَّفويض وردِّها..... 180

63 - السَّادس: قول الإماميَّة أهل النَّمط الأوسط وأدلَّتهم..... 182

64 -السَّابع: ما يعين على تعقُّل وتقبُّل الوسط العقائدي والشَّرعي المطلوب..... 184

65 - الثَّامن: نتيجة البحث وعمليَّة المعالجة لأمور آيات الأحكام عند وقوع ما يشكل أمره..... 200

66 - الفصل الخامس: الفرق بين حجيَّة ظواهر القرآن ومدى الحاجة إلى ظواهر السنَّة في نفسها لنفسها وللقرآن..... 203

67 - المقام الثَّاني / ما يختص بالكتاب الكريم (القرآن الشَّريف)..... 204

68 - التَّمهيد الأوَّل / ركنيَّة كتاب الله تعالى في علم الأصول..... 204

69 - التَّمهيد الثَّاني / دستوريَّة القرآن الكريم لكل شؤون الحياة ومنها التَّعاليم الفقهيَّة الشَّرعيَّة..... 214

70 - الفصل الأوَّل / الاحتجاج بالكتاب الكريم من آياته على مدِّعي الانسداد الكبير للأحكام جهلاً عقلاً وشرعاً..... 222

71 - الفصل الثَّاني / حجيَّة الظهور في القرآن وآيات أحكامه..... 237

72 - الأوَّل/ في معنى الحجَّة والحجيَّة..... 238

73 - الثَّاني / الفرق بين معاني النَّص والظَّاهر والمضمر..... 239

74 - الثَّالث / كون الظواهر من مباحث الألفاظ وحجيِّتها من مباحث الحجة..... 240

75 - الرَّابع/ عدم الفرق في الظاهر القرآني في آيات أحكامه بين كونه حقيقة أو مجازاً ومختصَّاً أو مشتركاً ونحو ذلك..... 241

76 - الخامس / الحاجة إلى البحث عن الحجيَّة في الظهور القرآني..... 242

77 - السَّادس / إثبات حجيَّة ظواهر القرآن لبعضه لا كلِّه..... 245

ص: 458

75 - السَّابع/ الفرق بين حجيَّة القراءات وحجيَّة الظواهر القرآنيَّة..... 247

76 - الثَّامن/ الفرق بين الظواهر والظاهرية..... 248

77 - التَّاسع / نماذج ممَّا يدل على إمكان فهم كلام الله من كلام الله نفسه..... 249

78 - العاشر / الشَّواهد الأخرى الدَّالَّة على حجيَّة ظواهر القرآن وفهم العرب لمعانيه..... 251

79 - الحادي عشر/ الفرق بين المفاهيم والظواهر..... 258

80 - الثَّاني عشر/ كيف يتم الظهور مع مقدِّمات الحكمة..... 260

81 - الثَّالث عشر / ما أورده المخالفون من أدلَّة إسقاط حجيَّة ظواهر الكتاب وما ردُّوا به..... 261

82 - الرَّابع عشر/ الظاهر والأظهر..... 269

83 - الخامس عشر/ في نماذج من الأمثلة الأخرى المناسبة لبعض الظواهر المعلومة..... 270

84 - السَّادس عشر/ تعارض الأدلَّة القرآنيَّة في نفسها ومع غيرها..... 272

85- السَّابع عشر/ المقارنة بين حالة النَّص والظاهر وبين حالة الحكم الواقعي وحالة الحكم الظاهري..... 277

86 - الثَّامن عشر/ الكلام عن أصالة الظهور..... 279

87 - التَّاسع عشر / ومن هذه الأمور النَّتيجة النِّهائيَّة وخلاصة البحث الماضي بهذه الأسطر..... 280

88 - الفصل الثَّالث / تعداد آيات الأحكام ومقاييس عدم حصرها بعدد معيَّن..... 282

89 - الأوَّل/ ليس كل ما شاع من العدد له واقع..... 282

90 - الثَّاني/ سؤال غريب ليس له جواب شافي..... 286

91 - الثَّالث/ سؤال آخر تأكيدي نجيب عليه..... 291

92 - الرَّابع/ إجابة توضيحيَّة على سؤال آخر تتضمَّن بعض المقاييس النَّافعة الأخرى..... 296

ص: 459

92 - الخامس/ ما هو المراد الحقيقي من آيات الأحكام..... 301

93 - السَّادس/ مقياس إلحاقي قابل للنَّفع في المقام..... 302

94 - السَّابع/ خلاصة البحث..... 302

95 - المقام الثَّالث / ما يختص ببحوث الدَّليل اللَّفظي الثَّاني السنَّة بعد آيات الأحكام وما يتعلَّق بها..... 311

96 - الفصل الأوَّل / ركنيَّة السنَّة بعد كتاب الله تعالى..... 311

97 - الأوَّل/ أهميَّة أصل السنَّة وأهميَّة الكلام عنها لآيات الأحكام..... 311

98 - الثَّاني / معنى السنَّة لغة واصطلاحاً..... 313

99 - الثَّالث / مصاديق السنَّة الثَّلاثة في عرف الإماميَّة..... 315

100 - الرَّابع / هل أنَّ كل ما ورد من أهل التَّسنُّن والمخالفين يُعد من السنَّة عندنا؟..... 316

101 - الخامس / المقارنة بين رواية (خذوا ما رووا ودعوا ما رأوا) ورواية (دعوا ما وافق القوم فإنَّ الرُّشد في خلافهم)..... 319

102 - السَّادس / هل من معاني (اختلاف أمَّتي رحمة) هو خصوص ما يقع بيننا وبين العامَّة من الاختلاف؟ أم حتَّى

ما بيننا نحن الإماميَّة؟..... 326

103- السَّابع / هل إنَّ ما يعرض على الكتاب ويخالفه من الرِّوايات في ترك العمل به خاص بما كذب على النَّبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ؟ ..... 328

104 - الثَّامن / هل إن أخذنا بروايات العامَّة للتَّعبُّد أم لا تعبُّد بها؟..... 328

105 - التَّاسع / هل نعمل بكل الصِّحاح؟ وهل نترك كل الضِّعاف؟..... 329

106 -العاشر / لماذا يُعد علم الرِّجال غير ميمون في البحث فيه والالتزام بنتائجه؟..... 330

107- الحادي عشر / هل يُعد المدح والذَّم لرجال السَّند منحصراً..... 333

108- الثَّاني عشر / السنَّة والبدعة..... 334

ص: 460

109 - الثَّالث عشر / لماذا تسمَّى العامَّة بأهل السنَّة؟..... 341

110 - الرَّابع عشر / علاقة السنَّة بآيات الأحكام..... 343

111 - الخامس عشر / صفات الرَّاوي..... 344

112 - السَّادس عشر / صفات الرِّواية..... 346

113- السَّابع عشر / لماذا التَّقسيم إلى الصَّحيح والحسن والضَّعيف والموثَّق..... 347

114 - الثَّامن عشر / أسباب التَّعارض في الأخبار..... 351

115 - التَّاسع عشر / ورود استضعاف النَّبوياَّت..... 355

116 - العشرون / قاعدة (الجمع مهما أمكن أولى من الطَّرح)..... 357

117- الحادي والعشرون / ضعف السَّند وجبره بعمل الأصحاب..... 361

118- الثَّاني والعشرون / الفرق بين الثِّقل الأكبر (القرآن) والثِّقل الأصغر (السنَّة) وبين كونه هو عدلها وهي

عدله والتَّوجيه مع إمكانه إن صحَّ دليل الطَّرفين..... 362

119 - الثَّالث والعشرون / نتيجة البحث..... 363

120 - الفصل الثَّاني / الاحتجاج بالسنَّة من الكتاب والسنَّة ..... 364

121 - الأوَّل/ بطلان الانسداد الكبير والأقل فضلاً عن الأكثر..... 364

122- الثَّاني/ شيء من الكلام عن التَّعبُّد بأخبار الآحاد..... 372

123- الثَّالث/ الفرق بين الانفتاح والانسداد من مراتب الاثنين مع نتائج كل منها في الأوامر علميَّاً بين المراتب من

كل منهما مع العمل قبولاً ورفضاً..... 374

124- الرَّابع: من أدلَّة ما يمكن منه عدم اعتبار خبر الواحد عند العلماء إلاَّ مشروطاً..... 385

125- المقدِّمة الأولى..... 385

126- المقدِّمة الثَّانية..... 385

127- خاتمة جزء مباحث الألفاظ / الأصول ومعالجة بعض النُّصوص المختلف فيها بين الفريقين وما شابه ذلك..... 410

ص: 461

128- المدخل الأوَّل..... 410

129- المدخل الثَّاني... ..... 410

130- المطلب الأوَّل / مقدِّمة البحث..... 413

131- المطلب الثَّاني / موارد إمكان اتِّفاق هذا الحديث وأمثاله مع الأدلَّة الصَّحيحة الأخرى من عدمه..... 424

132- المطلب الثَّالث / خلاصة المطلب مع نتيجته..... 442

133- نهاية المطاف..... 448

115 - المصادر..... 449

ص: 462

ص: 463

ص: 464

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.