مساعي الوصول الى المثمرات من الأصول المجلد 2

هوية الکتاب

تَأليف سماحة المرجع الديني آية الله العظمى الحاج السيد علاء الدّينَ المُوسَوی الغریفی دامت برکاته

الطبعة الأولى 1442 ه- / 2021م

ص: 1

اشارة

ص: 2

كلمة النَّاشر

اشارة

وبه نستعين

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله محمَّد المصطفى، وعلى آله الطَّاهرين ذوي العُلا، واللَّعن الدَّائم على أعدائهم أجمعين، إلى قيام يوم الدِّين، وبعد:

فهذا هو الجزء الثَّاني من الكتاب المسمَّى ب- (مساعي الوصول إلى المثمرات من الأصول) لسماحة سيِّدنا المفدَّى المرجع الدِّيني الكبير والفقيه النِّحرير آية الله العظمى السِّيد علاء الدِّين الموسوي البحراني الغريفي "دام ظلُّه الوارف" البادئ من الباب الثَّالث والمختص بجملة من مباحث الألفاظ بعد الانتهاء من الجزء الأوَّل الماضي والخاص بمقدِّمات مباحث الألفاظ.

نقدِّمه بين يدي المطالع الكريم بعد استحصال الموافقة من سماحته "دامت تأييداته" وتفضُّله علينا بها لطباعته ونشره، راجين منه ومن الجميع التَّفضُّل بالدُّعاء لنا بالتَّسديد والتَّأييد في إكمال نشر جميع أجزاء هذا الكتاب القيِّم، وجميع ما ينتجه يراعه الشَّريف وقلمه المنيف.

كما نسأل الله تعالى أن يمتِّعنا بطول بقائه وفي أتم صحَّة وعافية، إنَّ الله سميع مجيب.

النَّاشر

ص: 3

ص: 4

المحتوى الإجمالي لمضامين الجزء الثَّاني

الباب الثَّالث / مباحث الألفاظ

(الاشتقاق)

1 - التَّمهيد الأوَّل (تلخيص المبادئ اللُّغويَّة والمبادئ الأحكاميَّة للرَّبط بين الجزء الأوَّل والجزء الثَّاني).

2 - التَّمهيد الثَّاني (ضرورة البدء في الأصول بمباحث الألفاظ).

3 - (ذو التَّمهيدين - المشتق وما بعده من مباحث الألفاظ).

4 - الأوامر والنَّواهي الإلهيَّة من آيات الأحكام وما يلحقها من السنَّة، وهي في أمور:

الأمر الأوَّل: (المدخل لها - وهو لا بديَّة الحكم المسبق ولو إجمالاً بكون الحالة بين هذه الأوامر والنَّواهي على أنحاء من الأمور هذا أوَّلها - ويلحق بهذا الأمر «تفاصيله في طيَّات المباحث المناسبة الآتية ممَّا لا يخفى على المتتبِّع الحاذق، نمر عليها فيما يأتي»).

الأمر الثَّاني: العقائديَّة النَّظريَّة، ومنها الفرعيَّة أو غير الضَّروريَّة وترجُّح إلحاقها بالفقه العام.

الأمر الثَّالث: ما يناط بالمقام الخاص من بحثي الأوامر والنَّواهي.

الأمر الرَّابع: مع الأوامر والنَّواهي، أو هل يمكن أن يقال عنهما ذلك معاً، وهو أنَّ الأمر نهي والنَّهي أمر.

الأمر الخامس: الفرق بين الطَّلب المولوي والإرشادي أمراً ونهياً.

ص: 5

الأمر السَّادس: كيفيَّة التَّصوير التَّوضيحي لما يقال عن الأمر والنَّهي معاً مع إمكانه أو حالة عدمه.

الأمر السَّابع: كيف تكون الأوامر والنَّواهي محدودة بأربعة؟، والأحكام التَّكليفيَّة المشهورة خمسة.

الأمر الثَّامن: ألفاظ أخر يمكن أن تؤدِّي مؤدَّى الأوامر والنَّواهي إعراباً عن الأحكام الخمسة.

الأمر التَّاسع: الأحكام الوضعيَّة التَّابعة للأحكام الخمسة صحَّة أو فساداً أو قبولاً أو عدماً

الأمر العاشر: انقسام الطَّلب إلى شيئين من حيث النَّوع، طلب فعل وهو الأمر، وطلب ترك وهو النَّهي.

الأمر الحادي عشر: دلالة الأمر في أساسه على الوجوب دون بقيَّة الأحكام، وإن دلَّ على ما يفيد الحرمة مع القرينة تهديداً.

الأمر الثَّاني عشر: الوضع والاستعمال في اللُّغة والشَّرع، وإن دخل ما يدل على أكثر من معنى اعتماداً على القرينة.

الأمر الثَّالث عشر: دلالة الأمر على الاستحباب بالعنوان الأوَّلي مع القرينة، وبالعنوان الثَّانوي عند الحاجة وإن كره أوَّليَّاً.

الأمر الرَّابع عشر: دلالة الأمر على القدر المشترك.

الأمر الخامس عش: دلالة الأمر على الاشتراك لغة.

الأمر السَّادس عشر: التَّوقُّف في دلالة الأمر على الشَّيء بعينه، والانتهاء إلى القول بالوجوب الشَّرعي.

الأمر السَّابع عشر: التَّنبيه على ما عدا الوجوب والاستحباب لغة واصطلاحاً شرعيَّاً في مدى إرادته من الأوامر.

ص: 6

الأمر الثَّامن عشر: توابع الأوامر والنَّواهي، وهي:-

التَّابع الأوَّل: المرَّة والتِّكرار.

التَّابع الثَّاني: الفور والتَّراخي.

التَّابع الثَّالث: الواجب الموسَّع والمضيَّق.

التَّابع الرَّابع: هل يدل منع الوجوب على الجواز.

التَّابع الخامس: الحقيقة الشَّرعيَّة والمتشرعيَّة.

التَّابع السَّادس:

بحث الأوامر المكرَّرة.

التَّابع السَّابع: الأمر بالأمر.

التَّابع الثَّامن: أداء المأمور به هل يتبعه قضاؤه بدليله وعكسه؟

التَّابع التَّاسع: هل يجزي الأمر مع انتفاء الشَّرط.

التَّابع العاشر: المفاهيم وهي في ستَّة أمور:-

1 - سعة لغة القران وإلى الأخذ بالمفاهيم ولو في الجملة.

2 - عناية الأصوليِّين بها واختلافهم في موقعيَّة بحثها والسِّر فيه.

3 - معنى المفهوم.

4 - هل إنَّ المفاهيم تابعة لمباحث الألفاظ أم للعقل غير المستقل.

5 - هل المفهوم في بابه حجَّة أم لا؟

6 - أقسام المفاهيم وتعدادها، وهي في خمسة وسادسها تتميم مهم.

أ - مفهوم الشَّرط.

ب - مفهوم الوصف.

ج - مفهوم الغاية.

د - مفهوم الحصر والاستثناء.

ه- - مفهوم العدد واللَّقب.

ص: 7

و - تتميم مهم مغفول عنه عن دلالة الاقتضاء والتَّنبيه والإشارة.

التَّابع الحادي عشر: مقدِّمة الواجب.

التَّابع الثَّاني عشر: ما يلحق بمقدِّمة الواجب (الواجب النَّفسي والغيري).

التَّابع الثَّالث عشر: الضِّد ومعقوليَّاته ومقبوليَّاته.

التَّابع الرَّابع

عشر: هل إنَّ الأهم في بحث الضِّد أنَّه العلمي فقط؟ أم ليجني ثماراً ولو بشرط؟

التَّابع الخامس عشر: بحث التَّرتُّب.

التَّابع السَّادس عشر: هل يدل النَّهي على الفساد في العبادة أو المعاملة أم لا؟

الخاتمة للجزء الثَّاني عن مباحث الألفاظ، وهي الباب الرَّابع على اختصارها حول النَّواهي المستقلَّة.

ص: 8

التَّمهيد الأول

تلخيص المبادئ اللَّغويَّة والمبادئ الأحكاميَّة

المدخل:-

لمَّا اعتبر المهمُّون من الأصوليِّين أنَّ أساس البحث والحديث المناسب عن طرفي مبادئ العنوان أعلاه للغويَّة والأحكاميَّة معاً -- في أصولهم الصِّناعيَّة والأوسع منها لأهل التَّبحُّر الاستنباطي الفقهي العظيم له وفيه محوريَّة مهمَّة جدَّاً -- يتكفَّل التَّفصيل عنها بما ينتفع به أصوليَّاً من المبدأ إلى المنتهى وبالطَّاقات الإضافيَّة الإلهيَّة الأخرى للفقه الإسلامي الأزكى في منابع، ولكافَّة أجزاء كتابنا الثَّلاثة الخاصَّة بمباحث الألفاظ ومقدِّماتها، وهي الجزء الَّذي مضى إنجازه وطباعته حول المقدِّمات، وهذا الجزء الَّذي بين يدي الطَّالب والباحث والمطالع الكريم، والَّذي يليه بإذن الله تعالى وتوفيقه الجزء الثَّالث المهيَّأ للتَّدقيق والطِّباعة.

ومن بعد ذلك البحوث اللُّبيَّة وغيرها لإتمامها كأجزاء خمسة بإذن الله الميِّسر تبارك وتعالى أو ما يزيد.

ناسب اهتمامنا على ضوء اعتبارهم الهام بتلخيصنا للكلام عن اللغويَّة من تلك المبادئ وعن الأحكاميَّة.

ليكون القارئ الكريم على ذُكر في ذهنه المحترم حينما مرَّ على معارف الجزء الأوَّل الَّتي تكثر فيه عادة أمور المبادئ اللُّغويَّة العامَّة منها والخاصَّة وما يخصُّه منها، والَّتي قد تكون منها بعض ما في الجزأين الأخيرين.

وحينما يمر على ما يتعارف ذكره على الأكثر من أمور المبادئ الأحكاميَّة - قبل البدء ببحث المشتق ليتم الرَّبط الموضوعي في ذهنه عن هذا الملَّخص بين التَّفاصيل

ص: 9

الماضية والآتية، لأنَّ الماضية وإن كانت مثلها تُعد من المبادئ إلاَّ أنَّها كمبادئ للآتية الأحكاميَّة.

ولذا فرَّقنا بين موضوعي تعارض الأحوال الماضي ذكره في آخر الجزء الأوَّل وتعارض الأدلَّة الآتي ذكره حسبما أوضحناه من السَّبب في محلِّه المناسب.

وبما أنَّ كلاًّ من جزئي هذا العنوان يحتاج إلى بيان خاص به، فقد رتَّبناهما على مطلبين:

المطلب الأوَّل / تلخيص المبادئ اللَّغويَّة

وهو بحسب التَّناسب العلمي التَّسلسلي بين المقدَّم والتَّالي يكون مقدَّماً في البيان بالاختصار الَّذي صمَّمنا عليه على تاليه لحكمة ما لا يمكن الإحاطة به إلاَّ في أمور:-

أوَّلها - أنَّه ممَّا ثبت تحقُّقه وجداناً وفطرَّيَّاً لبني البشر وبما لا يقبل الإنكار من الوجهة اللَّفظيَّة اللِّسانيَّة ومن كل أحد إلاَّ عند التَّعوُّق ضرورة الإقرار بنعمة البيان عند كل إنسان والحاجة إلى التَّفاهم عن طريق اللِّسان على خلاف البهائم المسخَّرة إلهيَّاً للبشر والببغائيَّات المحدودة بحدود التَّبعيَّة لهم لا غير.

فلابدَّ إذن لهذه النَّاحية اللُّغويَّة في مباديها من ذكر ما يحوجنا إلى استعراض ما يتيسَّر لنا مع الاختصار إلى ضرورة الإفصاح لمن يحتاج إلى التَّعلُّم والتَّهجِّي بالحروف الهجائيَّة ومن بعدها الأبجديَّات من ألفاظها اللُّغويَّة، الَّتي عن طريق الهجائيَّة والأبجديَّة يمكن تحقُّق التَّعرُّف على كيفيَّة تكوين الكلمات المفردة والمركَّبة ومن كافَّة اللُّغات الأصيلة.

وأهمِّها العربيَّة، وهي المفضَّلة على جميع أساليبها لو كانت قرشيَّة وبفصاحتها المعروفة.

ولكونها لغة القرآن والسنَّة ومن مداركها بعدهما كانت القواميس اللُّغويَّة

ص: 10

المعتمدة، أو عموم اللُّغة العربيَّة بالدَّرجة المقاربة لو تنضبط في قواعدها الأدبيَّة المنتجة للألفاظ الصَّالحة للتَّفاهم النَّاجح دلالةً واستعمالاً مفردات ومركَّبات مترابطة لو كانت راسخة في الأذهان بحيث يصح السُّكوت عليها من المتكلِّم والسَّامع إن لم تصطدم مع أساسيَّات الثَّوابت الشَّرعيَّة بالنَّتيجة، حيث صارت بمعونة تلك القواعد الأدبيَّة عن تلك العلوم من النَّحو والصَّرف والتَّجويد والقراءات والمعاني والبيان والبديع من مباحث ألفاظها.

وعلى الأخص لو كانت تلك المعارف وقواعدها ممَّا ورد صحيحاً عند بزوغ شمس الإسلام والرِّسالة المحمديَّة على صاحبها وآله "صلوات الله وسلامه عليه" وبما قد تفوق عموم اللًّغة القرشيَّة في المصطلحات العلميَّة في لسان الكتاب والسنَّة.

كما ورد مؤكَّداً من توجيهات المعلِّم الأوَّل بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وهو مولانا ومولى الثَّقلين أمير المؤمنين ربيب الوحي علي u لتلميذه أبي الأسود الدُّئلي والَّذي أخذ منه الخليل الفراهيدي ومن الخليل.

تمَّ أخذ سيبويه الَّذي كان مبناه التَّوسُّعي الأدبي بعد التتَّبُّع والاستقراء مع مشافهة كلام العرب الأصلاء والأقحاح، وعلى قاعدة ما كان يعتمد سيبويه عليه في استدلالاته لو نطلب منه مصادرها من أحد يجيبه بقوله (العرب ببابك).

رغم محاربة علماء السُّوء والتَّزلُّف لسلاطين الجور العبَّاسي له، والَّتي ما آتت أكلها بالنُّضوج والأريحيَّة الأدبيَّة والإعجازيَّة الإسلاميَّة وما رسَّخت تلك القواعد لها بعده حتَّى جاءت تطابقها تلك القواميس المعتمدة إلى اليوم، إلاَّ ما قلَّ وندر ممَّا خلَّفه الأعداء وشطحات بعض الجهلة المتأخِّرين وبما جمع كل ما مرَّ ذكره من الأمر الأوَّل - مورد حديثنا - وكذلك الثَّاني الآتي.

إلاَّ على نهج ما أتحفنا به أوَّلاً وآخراً أمام الفصاحة والبلاغة، بل شريك القرآن وعدله والقرآن النَّاطق الإمام علي u، بل والَّذي عنه وعن الزَّهراء سلام الله علیها وعن

ص: 11

أبناءهما الأئمَّة الطَّاهرين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ أهل لسان الثِّقل الثَّاني بعد كتاب الله في حديث الثَّقلين المتواتر بين الفريقين.

ولذلك أصبحت تلك الألفاظ الواردة عنهم وعن تلامذة الإمام العظيم وقواعدهم جامعة مانعة ابتداءاً من مباديها اللَّفظيَّة وانتهاءاً في تلك التَّعاليم إلى المبادئ الأحكاميَّة المقبلة.

وعلى فرض ورود ما سار عليه النَّحوي ابن النَّاظم صحيحاً في شرحه لألفيَّة والده ابن مالك النَّحويَّة، لأنَّ منهجه النَّحوي كان عقليَّاً وهو على نحو التَّثليث المحصور عقلاً لأجزاء الكلمة وإن كان كتثليث الاستقرائيِّين في كونها من الأسماء والأفعال والحروف، إلاَّ أنَّها كانت في نظره على نحو الحصر العقلي، لا ما كان أكثر وهو عند بعض من قد يتصوَّر سذاجة أو على نحو الإمكان بلا مصداقيَّة.

ولكن ذلك في حالة التَّوجُّه الإسمي في عالم المصاديق لا خلاف فيه بين الحالتين من حيث النَّتيجة، حيث اتَّفق العقل والنَّقل على الثَّلاثة، وعلى أن لا يعدو عن كلام أمير المؤمنين u وكما ورد عنه مشهوراً بين الفريقين من تحديداته لنفس الثَّلاثة.

بل قال النُّحاة الآخرون مشهوراً كذلك وممَّا يمكن فيه جمع الحالتين لنفس الثَّلاثة عبارة (لو كان ثمَّة هناك نوع رابع لعثرنا عليه) حسب تعبير ابن هشام الأنصاري.

وعلى فرض تقديم الحصر العقلي ولو جدلاً على التتبُّعي الاستقرائي - فإنَّا نقول بأنَّ جميع ما ورد مع آثار ما لا يخفى على أرباب اللُّغة العامَّة من آيات وروايات ومنها ما صحَّ وروده مشهوراً من طرقنا وغيرها أصوليَّاً عن أمور المبادئ الأحكاميَّة الآتية قريباً تكون إرشاديَّة للعقول الَّتي وصلت إلى هذه القواعد.

كيف وأمير المؤمنين u كان واضع حدودها وقواعدها بما لا خصومة فيه بين الاثنين ولو كان شيء يغايرها لبانت بعض آثار ذلك.

ص: 12

ثانيها - أنَّه ثبت بالتَّحقيق الفطري والوجداني ومن أمر التَّجربيَّات الكاملة وغيرها، أو فقل النَّاقصة تنزُّلاً لصالح أعداء سيبويه كالكسائي والفرَّاء الطَّائفيَّين ضدَّ الشَّاب الفطحل المنتسب في علمه إلى مدرسة أمير المؤمنين "سلام الله عليه"(1).

ص: 13


1- إشارة إلى المسألة الزَّنبوريَّة المشهورة الَّتي نقلها الكثيرون في كتبهم كالدميري في كتابه حياة الحيوان الكبرى وابن هشام الأنصاري في كتابه مغني اللَّبيب:- حيث أنَّ سيبويه قصد بغداد قادماً من البصرة، لقضاء حاجة خاصة به لعلَّها ضائقة ماليَّة، وحدث أن قصد وزير هارون الرشيد يحيى البرمكي، فأكرمه وأوسع له، واستقبله بحفاوة، وبعد أن طاب المستقر لسيبويه عُرض عليه أن يناظر زعيم مدرسة النحو في الكوفة الكسائي، فوافق على ذلك مسروراً للخروج من هذه المناظرة بالعلم والفائدة، وكانت أبرز مسألة ناقشوها وسُميِّت المناظرة باسمها هي (المسألة الزُّنبوريَّة). وغير خفي أن أشهر مدرستين اختصَّتا بدراسة وتدريس علم (النحو)، مدرسة الكوفة بزعامة الكسائي، ومدرسة البصرة بزعامة سيبويه الَّذي كان شابَّا يافعاً وأثبت نفسه في غزارة علمه، وقد تلمَّذ على العالم الكبير واضع علم العروض ومفصّل أسماء البحور الشعرية (الخليل بن أحمد الفراهيدي). فلما حضر سيبويه تقدَّم إليه الفرَّاء وخلف، فسأله خلف عن مسألة فأجاب فيها، فقال له: أخطأت، ثمَّ سأله ثانية وثالثة، وهو يجيبه، ويقول له: أخطأت، فقال له (سيبويه) هذا سوء أدب، فأقبل عليه الفرَّاء فقال له: إنَّ في هذا الرَّجل حِدّة وعَجَلةٌ، ولكن ما تقول فيمن قال: ((هؤلاء أبون ومررت بأبين)). كيف تقول على مثال ذلك من: ((وأيتُ أو أويتُ))، فأجابه، فقال له: أعد النظر، فقال: لست أكلِّمكما حتَّى يحضر صاحبكما، فحضر الكسائي فقال له (الكسائي):- تسألني أو أسألك؟ فقال له سيبويه: سَل أنت. فسأله كيف تقول : كنتُ أظن أن العقربَ أشد لسعة من الزنبور (فإذا هو هي)، أم (فإذا هو إياها)؟. فقال سيبويه: ((فإذا هو هي)) ولا يجوز النَّصب. وسأله عن أمثال ذلك نحو: ((خرجت فإذا عبدُالله القائمُ، أو القائمَ)). فقال له: كل ذلك بالرَّفع. فقال الكسائي: العربُ ترفع كل ذلك وتنصبه. فقال يحيى : قد اختلفتما، وأنتما رئيسا بلديكما ، فمَن يحكم بينكما؟ فقال له الكسائي: هذه العربُ ببابك، قد سمع منهم أهلُ البلدين ، فيُحضَرون ويُسأَلون، فقال يحيى وجعفر: أنصفت، فأُحضروا، فوافقوا الكسائي، فاستكان سيبويهِ، فأمر له يحيى بعشرة آلاف درهم، فخرج إلى فارس، فأقام بها حتَّى مات وهو ابن اثنين وثلاثين سنة، فيقال:- ((إنّ العربَ قد أُرشوا على ذلك، أو إنهم عَلموا منزلة الكسائي عند الرَّشيد، ويقال: إنَّهم قالوا: القول قول الكسائي، ولم ينطقوا بالنَّصب، وإنَّ سيبويهِ قال ليحيى: مُرٔهمٔ أن ينطقوا بذلك، فإنَّ ألسنتَهم لا تطوعُ به)). ولقد أحسن الإمام الأديب أبو الحسن حازم بن محمد الأنصاري القرطاجني، إذ قال في منظومته في النَّحو حاكياً هذه الواقعة والمسألة:- والعُرب قد تحذف الأخبار بعد إذا *** إذا عنت فجأة الأمر الَّذي دهما وربما نصبوا للحال بعد إذا *** وربّما رفعوا من بعدها ربما فإن توالى ضميران اكتسى بهما *** وجهُ الحقيقة من إشكاله غمما لذاك أعيت على الأفهام مسألة *** أهدت إلى سيبويه الحتف والغُمما قد كانت العقرب العوجاء أحسبها *** قدما أشدّ من الزنبور وقعَ حُما وفي الجواب عليها هل “إذا هو هي” *** أو هل “إذا هو إياها” قد اختصما وخطّأ ابن زياد وابن حمزة في *** ما قال فيها أبا بشر وقد ظلما وغاظ عمراً عليٌّ في حكومته *** يا ليته لم يكن في أمره حكما كغيظ عمرو عليَّاً في حكومته *** يا ليته لم يكن في أمره حكما وفجّع ابن زياد كل منتخب *** من أهله إذ غدا منه يفيض دما كفجعة ابن زياد كل منتخب *** من أهله إذ غدا منه يفيض دما وأصبحت بعده الأنفاس باكية *** في كل طرس كدمع سَحَّ وانسجما وليس يخلو امرئ من حاسد أضِم *** لولا التَّنافس في الدنيا لما أُضما والغبن في العلم أشجى محنة علمت *** وأبرحُ الناس شجوا عالم هُضما وقد أشار هذا الأديب الألمعي في منظومته هذه إلى إلفاتات تستدعي منَّا الإشادة بها. وهي: أنَّ ابن زياد في البيت السَّابع والعاشر هو أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور بن مروان الأسلمي الديلمي الكوفي، مولى بني أسد، المعروف بالفَرَّاء الَّذي ابتدأ بمعيَّة خلف وهما من تلامذة الكسائي، وابن حمزة هو أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله بن بهمن بن فيروز الكسائي، وأبا بشر هو عمرو بن عثمان بن قنبر مولى بني الحارث بن كعب، وقد عرف بالولاء، يُكنى أبو بشر، الملقب سيبويه. فعمرو في البيت الثَّامن هو سيبويه وعلي هو الكسائي. أمَّا عمرو في البيت التَّاسع فهو عمرو ابن العاص "لعنه الله" وعلي هو أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب "سلام الله عليه". أمَّا ابن زياد في البيت السَّابع والعاشر كما مرَّ هو الفرَّاء، وأشار بإلفاتاته إلى فجيعته لسيبويه. وابن زياد في البيت الحادي عشر هو عبيد الله ابن زياد ابن أبيه "لعنهم الله"، وأشار إلى فجيعته وقتله لسيِّد الشُّهداء أبي عبد الله الحسين "سلام الله عليه". وكأنَّ الشَّاعر يريد بثَّ ألمه بذلك بمعنى قلب الموازين العادلة بمثل جعل عمرو (سيبويه) هو الظالم كابن العاص، وجعل علي (الكسائي) هو المظلوم كعلي ابن أبي طالب u، تلبية لقرار أنصار الرَّشيد الظالم وإن كان الحق والحقيقة غير ذلك.

ص: 14

وبمعونة المعقول العام غير المصطلح ظهرت قديماً وحديثاً قواعد وقضايا نظريَّة

ص: 15

تنتظر انطباق القواعد عليها أو عدمه مصطلحات خاصَّة ادُّعيت بلا حجَّة ظاهرة أنجحها علماؤها حسب نظرهم التَّجريبي وإن تفاوتاهم أيضاً في نظريَّاتهم بين سلب وإيجاب.

إلاَّ أنَّه وللخلاص من محاولات إنِّجاح بعض ادِّعاءات المتزلِّفين لأصحاب السَّلاطين وإن خالفت القواعد وغير ذلك صحَّ عنهم من وحي العقل المتساوي في نعمته الأساسيَّة لدى الجميع إن ضبطت لهم وفيما بينهم قواعد خاصَّة لا تفاوت فيما بينهم فيها سميَّت بالمنطق ووضعت له آليَّات وطرق كمباحث الألفاظ لكونها قنطرة لإيصال المعاني إلى الأذهان وبأي لغة كانت، لكون هذا العلم عند علماءه يُعد خادم كل العلوم كما مرَّ.

وإن كنَّا نفضِّل الألفاظ العربيَّة في مقام بحوثنا هذه، ولإمكان التقاء كثير من المعاني جدَّاً في الأذهان الَّتي تحملها كافَّة اللُّغات المتعارفة والمتعايشة على اختلافها.

ومن ذلك بعض الطُّرق الرِّياضيَّة لتسهيل الاستنتاج في كل مقام مشكل من أمور الكميَّات والكيفيَّات والأشكال الأربعة والنِّسب الأربعة والكلِّيَّات الخمسة وغير ذلك، ممَّا قد يُستفاد منه في علم الأصول والفقه أيضاً.

وإن كانت بعض الاصطلاحات قد تتفاوت ما بين علم المنطق عمَّا عند علم الأصول عمَّا عند الفقه، إلاَّ مع اتِّفاق المنطق والأصول على بعض المتشابهات، بما لا تنافر فيه من حيث النَّتيجة العمليَّة لدى الجميع ويشترك معهما الفقه كذلك.

كأمر الاستفادة من الشَّكل الأوَّل المنطقي بديهي الإنتاج مع إيجاب الصُّغرى وكليَّة الكبرى وتسليم إحدى المقدِّمتين.

ولأجل بعض الشَّبه أو كثيره بينهما كالمسلَّمات بين عقلي العلمين إذا تصادفا يوماً جُعلت الأصول منطقاً للفقه.

إضافة إلى ما اختصَّ به علم الأصول من مصطلحاته المغايرة للمنطق، ومن

ص: 16

حيث الاختلاف لابدَّ أنَّ يكون عقل المنطقي خارجاً في بعض الحالات عن التَّقيُّدات الدِّينيَّة بمثل بعض الاستحسانات والقياسات المرفوضة شرعاً وأصولاً وهي قياسات التَّمثيل.

وإنَّ عقل الأصولي المتقيِّد بدينه لابدَّ أن لا يحيد عن الشَّرع إمَّا تعبُّداً وإمَّا بنسبة خاصَّة له من التَّحرُّر عن العقل المستقل بخضوعه للشَّرع ولو باكتفاء صاحبه بما يظهر له من حكمة التَّشريع لو لم يتبيَّن له العلَّة، وإن قبل شرعاً منه في بعض الأحوال من باب التَّسهيل الشَّرعي في الاضطراريَّات وإن استقلَّ عن الشَّرع.

كما في قول الطَّبيب الحاذق إذا تطابق مع نظره بنحو الإمضاء من مثل مساعدة الآيات الإرشاديَّة كالتَّحسين والتَّقبيح العقليَّين بسبب أمثال قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ](1)، أي بجميع مقامات العدالة الَّتي لن تذهب عن ذهن كل منصف بين نفسه وغيره.

وختم بعض آيات أخرى بقوله تعالى [وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا](2) أي بما يقر به وجدان كل منصف عاقل بسمعه وبصره.

وقوله [فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ](3) أي بقسط العدالة المتساوية بين جميع العقلاء.

ثالثها - أنَّه بعد ثبوت الحاجة إلى الفقه الشَّريف والاجتهاد فيه لاستنباط أحكامه وبالأخص عند البعد عن زمن فهم آيات الرُّكن الأوَّل كما يُرام وبالأخص أكثر عند

ص: 17


1- سورة النحل / آية 90.
2- سورة النساء / آية 58.
3- سورة الحجرات / آية 9.

ضعف الحالة الثَّقافيَّة في قوانين الأدب العربي، بل وانهيارها كما في مثل ما كان لفظ الآيات معلوماً بوضوح فطريَّاً وببركة معاشرة النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وحواريهم وقبل تأثير الأعاجم بلغاتهم المختلفة من الأزمنة السَّابقة وتوفُّر التُّراثيَّات الحاوية للثَّقافات الأصيلة من المصادر الشَّارحة لها أكثر في الأزمنة المتأخِّرة -

أصبح من ألزم اللَّوازم وبما هو أشد أهميَّة من خادم العلوم - وهو المنطق وطرقه وإن أفاد في الجملة لتسهيل أمر إنجاح عمليَّة التَّعرُّف على أحكام الله ممَّا مرَّ ذكره إشارة - التُّعرُّف على المنطق الخاص للفقه.

إضافة إلى بعض ما قد يلتقي به المنطق العام في بعض الحالات المحدودة وهو الأصول، لاحتوائه على المدارك الأصوليَّة المبيِّنة للخطوط العريضة صناعيَّاً بقواعدها الموروثة علميَّاً في أسسها، وإن كانت قليلة في الصَّدر الأوَّل وتوسَّعت مع مباحث ألفاظها الأخص من مباحث ألفاظ المنطق حسب حاجة الأزمنة المتأخِّرة.

إلى أن توسَّع نطاق تلك الأصول الفقهيَّة، لتذليل الصِّعاب في الطُّرق الشَّائكة وعلى وزن المعقول المسموح به شرعاً في ذلك من نفس إرشاديَّات الكتاب الكريم الحاوي للأصول والقواعد الأصوليَّة والفقهيَّة المحضة، ممَّا اجتمعت قواعد الاثنين عليه في آيات الأحكام الَّتي لم تستعمل إلاَّ باللُّغة العربيَّة الخاصَّة وهي في نفس الوقت لم تخرج عن الصَّدد التَّصوُّري والتَّصديقي المبيِّت للأشياء وللضَّروريَّات والنَّظريَّات المراد تحقيقها عند المتابعة من تلك المظان.

لا كالعقل المتحرِّر في المنطق حتَّى إذا خلط بين التَّقيُّد الشَّرعي وغيره لو سُعي إلى محاولة جمع الشَّمل بينهما مع إمكانه ووجود بعض المصاديق المقبولة شرعاً.

بل لسعي بعض الصِّناعيِّين الأتقياء إلى وضع خطوط أضيق وأقرب إلى هدف المشرِّع ومبلِّغ رسالته وحفَّاظ معالمه من الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

رابعها - إنَّ المبادئ اللُّغويَّة العربيَّة الَّتي ذكرنا مصاديقها أو شيئاً منها كنماذج في

ص: 18

الجزء الأوَّل المعد كموطن للمبادئ المرتبطة بعموم هذه اللُّغة.

ونتعرَّض الآن للإلماح لها هنا أيضاً ولو بشيء يسير، ليبقى ذهن الطَّالب والباحث والمطالع الكريم مشغولاً بها كذلك عن قرب من هذه العامَّة ومن بعض المبادئ المشابهة لها ممَّا يحمله عموم ما يجمله القرآن الكريم ومعالم السنَّة العامَّة الشَّريفة من غير الأمور الفقهيَّة الخاصَّة.

ليلتقي ذهن الجميع بما حصل وما نعرضه الآن من خواص بحوثنا التَّمهيديَّة بحكم قرب التَّلاقي بين ألفاظ النَّصَّين الشَّريفين العامَّين وبين ألفاظهما الخاصَّة الأحكاميَّة الآتية، ولو من جهة علاقة عموم الأولى للنَّصَّين وخصوص الثَّانية لهما كالانسجام بين العامَّة والخاصَّة فيما يُسمَّى بالفقه العام الشَّامل للأمور الاعتقاديَّة وللفقه الخاص المقصود في علم الأصول لبعض الأمور الَّتي يدركها المختصُّون من المنافع المترتِّبة على إمكان اجتماع الحالتين كالعقائد الفرعيَّة الَّتي لا يعرف العوام وجوبها من عدمه، فجوَّز الفقهاء أو بعضهم تقليد العامي لمن يُفتي من المجتهدين بأحد الحكمين وغير ذلك.

ولأجل ما سيأتي إيضاحه أكثر حين التَّمثيل لبعض ما يتناسب مع محاولة الاختصار للمبادئ العامَّة - ينبغي القول أنَّه لا يمكن الرُّجوع فيها فوراً إلى قواميسها اللُّغويَّة قبل التَّدقيق في أمر ما كان الأصلح في الأخذ منه من تلك القواميس ما دام عموم القرآن وعموم السنَّة في باب الاعتماد عليهما في الاستدلال كباب أولى أكثر من أي مصدر آخر مفتوحي الباب على مصراعيهما قبل الدُّخول في عالم آيات الأحكام ورواياتها في السنَّة الخاصَّة الآتية للجامع العربي الفصيح البليغ المحفوظ للاثنين وبما يطمئن به أكثر، وإنَّ اللُّغة العامَّة في تلك القواميس وإن حفظ الكثير منها سالماً على نحو الأصالة، إلاَّ أنَّ بعضاَ لا على التَّعيين ممَّا بينها لم يسلم من التَّحريف حتَّى غير العمدي بسبب احتكاك الأعاجم في القديم فغيَّر أصالتها.

ص: 19

ولذلك كان عموم ألفاظ القرآن وعموم ما صحَّ سنده أدبيَّاً من السنَّة لابدَّ أن يشملهما قول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم المشهور بين الفريقين من حديث الثَّقلين، ولذا اهتمَّ رهط مهمٌّ من العلماء الغيارى حتَّى من غير أهل المسلك الإمامي لنفس القضايا العامَّة للخلاص ممَّا كان هجيناً جهد الإمكان حرصاً على الفوائد العامَّة لجميع المسلمين فكتبوا قواميس عامَّة مفيدة جدَّاً وممَّّا يحوي كافَّة مدارك مباني هذه المعاني بما لا يتنافر نوعاً عن لغتي الكتاب والسنَّة العامَّتين.

ومن كتب الإماميَّة المفيدة في هذه الأزمنة ما كتبه الشَّيخ الطَّريحي قدس سره في موسوعته اللُّغويَّة المسمَّاة ب- (مجمع البحرين "الكتاب والسنَّة") واقترب منه في الزَّمن الأقدم في العطاء نوعاً من غير الإماميَّة صاحب كتاب القاموس وما أشبهه حتَّى استؤنس من هذين الكتابين وما شابههما بما ينتفع به منهما ممَّا يزيد على اللُّغة العامَّة المخيفة ممَّا يتعلَّق

بأمور الألفاظ الأحكاميَّة الآتية.

ومن ذلك كمثال مفيد واحد للجميع أيضاً في مجال التَّقريب بين المذاهب رضي المتعصِّبون؟ أم لم يرضوا؟، وهو اتِّفاقهم بما نتيجته على أنَّ الخمس الواجب ليس هو في خصوص الغنائم الحربيَّة، وإنَّما كان في مطلق ما يغنمه الإنسان في المتاجر حتَّى في غير الحرب.

فلابدَّ لهذا الباب المفتوح من السَّعي الجاد للعثور على حلِّ أي مشكل لغوي، إذ لا عذر بعد أي تعذير، لأنَّ العرب بالباب كما قيل فإن حصلت حيرة فهي من التَّقاعس عن هذا السَّعي الملزم بالاهتمام باستفراغ الوسع إلاَّ في باب ادِّعاء انسداد باب العلم الكامل والعياذ بالله من دون تقصير ولكنَّه ادِّعاء لا دليل عليه لوفرة المؤهِّلات المدركيَّة الَّتي عن طريقها انكشفت أيَّة غبرة مزعومة، لكن لا بمعنى الانفتاح الكامل على ما سيجيء إيضاحه في بحوث الكلام عن الحجَّة وغيرها كما أشير إلى هذا في الجزء الأوَّل.

ص: 20

وعلى فرض كون الانفتاح اللُّغوي غير كامل وبما لا مفرَّ منه ولذلك حصلت بعض التَّفاوتات النَّظريَّة الاجتهاديَّة البريئة بين مجتهد وآخر - ففي الجملة المذكورة قد تكون الجهالة جهالة قصوريَّة أو تقصيريَّة تقاعسيَّة وكل منهما له حكمه وقد تكون من هذه الجملة أيضاً حالة عدم العثور على الضَّالَّة اللُّغويَّة المرجوَّة بعد السَّعي الكامل من غير جهالة فإنَّ المرجع يكون تشخيص المعنى حينئذ هو العرف العام وإلاَّ فلابدَّ من اللُّجوء إلى الأعراف الخاصَّة وأهمُّها صلاحاً وفلاحاً هو تعاليم شرع الله تعالى على ما سيجيء توضيح أسياسيَّات طرقه الأخرى.

وبعد تقديم هذه المقدّمة لهذا الجانب اللُّغوي العام من المبادئ تأتي الحاجة إلى ذكر بعض نماذج من العناوين المتعارفة بين أهل الاصطلاح والأدباء لها علاقتها التَّامَّة بعلم الأصول من مطلب المبادئ اللُّغويَّة، وكذا له علاقته التَّامَّة أيضاً بقسم المبادئ الأحكاميَّة الآتية كما مرَّ ذكره وكما سيتَّضح أكثر من التَّمثيل الآتي للمطلبين معاً، فنقول:-

الأوَّل: باب الحقيقة والمجاز، فإنَّ المصداق للحقيقة في اللُّغة العربيَّة العامَّة هو ما قصدت إرادته من ألفاظها الحاملة للمعاني الطَّبيعيَّة بلا أي مغايرة لما وضعت هي له، ولذلك يكون تمام فهم حقيقة تلك المعاني من الألفاظ حاصلاً عن طريق التَّبادر وبدون حاجة إلى جعل أي قرينة صارفة عنها إلى غيرها، بل المعنى المغاير لها محتاج إلى القرينة الصَّارفة عنها.

والمجاز على خلاف ذلك، لأنَّ فيه ما يزيد على ذلك كالتَّغيير واستعمال اللَّفظ في غير معتاد الموضوع له، إذ هو الَّذي يحتاج فهمه إلى القرينة الصَّارفة له عن المعنى الحقيقي، وتُعد لغته عربيَّة خاصَّة.

وهذه الخاصَّة قد تدخل في قسم المبادئ الأحكاميَّة الآتية إذا قصدنا منها عموم ما يتعلَّق بالفقه العام الشَّامل للعقائد والفقهيَّات الخاصَّة في النَّتيجة كما في قوله تعالى

ص: 21

[إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ](1)، لكون حقيقة المبايعة المتبَّعة لغة إنَّما تكون بالأيدي البشريَّة لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وليَده الشَّريفة وهو سيِّد البشر، ودلَّ ذلك على هذه الطَّبيعة بنحو التَّبادر.

ولكن حصر هذه المبايعة ب- (إنَّما) إنَّما كان المبايعة لله تعالى دون شيء آخر، لكون نتيجة ذلك بالتَّالي كانت مبايعة له في التَّعبُّد بدينه عقائديَّاً وشرعيَّاً لا غير، ويد الرَّسول كانت واسطة شرف رسالي أكمل لهذا المعنى الحقيقي.

إلاَّ أنَّ [يَدُ اللَّهِ] في الآية بعد الحقيقة الماضي بيانها لابدَّ أن تكون بالمعنى المجازي المحتاج للقرينة الصَّارفة عن تلك الحقيقة لحرمة اعتقاد أنَّ يد الله مجسَّمة كالبشر.

ولذا صحَّ تأويلها من ألسنة قادة البشر وهم الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بأنَّ يده تعالى كانت ولا تزال ولن تزال إلاَّ بمعنى القدرة دون المعنى الجسمي له.

الثَّاني: باب تقديم الحقيقة العرفيَّة على اللُّغويَّة عند التَّعارض، ومن مصاديق ذلك ما عن محمَّد ابن يحيى عن أحمد ابن محمَّد عن علي ابن الحكم عن علي ابن أبي حمزة قال سألت أبا إبراهيم u عن رجل زوج ابنه ابنة أخيه وأمهرها بيتاً وخادماً ثمَّ مات الرَّجل، قال: يؤخذ المهر من وسط المال قال: قلت: فالبيت والخادم؟ قال: وسط من البيوت، والخادم وسط من الخدم، قلت: ثلاثين أربعين دينارا والبيت نحو من ذلك، فقال: هذا سبعين ثمانين ديناراً مائة نحو من ذلك)(2).

أقول: جاءت إجابة الإمام u بالنَّحو الوسطي المذكور للمهر وللبيت وللخادم وهو تقدير عرفي يحسم النِّزاع في المعارضة لا بالقليل المخل ولا بالكثير المرهق لكونه حكماً يوافق العدالة فأي مقدار يرضون به ولو سكوتاً يكون مقبولاً، وبذلك يقدم

ص: 22


1- سورة الفتح / آية 10.
2- وسائل الشيعة ج15 ص 35 - 36.

على المعنوي اللُّغوي الَّذي منه المسمَّى، وقد يكون مخلاًّ ومنه المرهق في غلائه وهو خلاف المأمول في باب المعارضة كما مضى شيء من معانيه في تعارض الأحوال من الجزء الأوَّل.

الثَّالث: باب البناء على العلم الواقعي عند توفُّر العلم به، وكذا البناء على العلم الظاهري عند عدم الواقعي حين توفُّر الظاهري من تلك المبادئ اللُّغوية، ومن أمثلتها في المقام ما عن محمَّد ابن إسماعيل ابن بزيع أنَّه سأل الرِّضا u عن امرأة أحلَّت لزوجها جاريتها فقال ذلك له قال فإن خاف أن تكون تمزح قال فإن علم أنَّها تمزح فلا)(1).

أقول: إنَّ ما يطابق العلم الواقعي هو الحالة الأولى من الرِّواية وما يطابق الظاهر بلا استثمار شيء هو الأخير من الرِّواية.

الرَّابع: باب استعمال اللَّفظ في أكثر من معنى من معانيه إن تعدَّدت، ومن أمثلته ما عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن موسى بن القاسم، وأبي قتادة القمي، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر u قال: سألته عن صلاة الجنائز إذا أحمرت الشَّمس أتصلح أو لا؟ قال: (لا صلاة في وقت صلاة)، وقال: (إذا وجبت الشَّمس فصل المغرب ثمَّ صل على الجنائز)(2).

أقول: في إجابة الإمام u الأولى أنَّه استعمل لفظ الصَّلاة في معنيين الأوَّل كان للجنائز والثَّاني لفريضة المغرب، وبذلك حصل الاشتراك للتَّشابه اللَّفظي بين الاثنين.

وفي إجابته الثَّانية تمَّ بها إفراز القرينة المعيِّنة لمراد كل من الحالتين، ففي التَّعبير الأوَّل منها تمَّ العود إلى ثاني الإجابة الأولى، وفي التَّعبير للإجابة الثَّانية تمَّ العود إلى أولى الإجابة الأولى للإمام u.

ص: 23


1- وسائل الشيعة ج 21 ص128.
2- وسائل الشيعة ج 3 ص124.

الخامس: باب استعمال المشترك في كلا معنييه، ومن ذلك قول الله تعالى [أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ](1)

أقول: قد جعل الله تعالى في تعبيره القرآني بالسُّجود بجميع أنواعه الَّتي لابدَّ أن تتفاوت مصاديقه بين هذا وذاك وذلك من مخلوقاته في الحالة وجمعها كلِّها في معنى واحد وهو الخضوع والانقياد إلى تمام إرادته، وهو المحقِّق لما في الباب إلى غير ذلك من الأمثلة، وبهذا لم يتم إفراز معنى عن معنى من هذه المخلوقات والسُّجود واحد إلاَّ بقرينة كل منها.

السَّادس: باب حجيَّة مفهوم الأولويَّة العرفيَّة المستفادة من اللَّفظ أو القطعيَّة، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى [فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا](2)، وغير ذلك من الأدلَّة.

أقول: فإنَّ أهل العرف لابدَّ أن تقضي أفكارهم الفطريَّة الطَّبيعيَّة حتميَّاً باستقباح عمليَّة ضرب الأبوين من قبل أبناءهم إذا حصل مثل قول [أُفٍّ] لهما الأهون لفظاً ومقبوحاً ضدَّهما من باب أولى بصفة أشد.

السَّابع: باب عدم حجيَّة مفهوم الأولويَّة إذا كانت اعتباريَّة بمثل تشخيص الأحكام اجتهاداً قياسيَّاً تمثيليَّاً، بمعنى أنَّها تزول متى زال الاعتبار، ومنه تبعيَّة ذلك لحكم الله تعالى في شرعه، إذ هو صاحب كل اعتبار لقوله تعالى [وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ](3) وقوله [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ](4) وغيرهما،

ص: 24


1- سورة الحج / آية 18.
2- سورة الإسراء / آية 23.
3- سورة الإنسان / آية 30.
4- سورة الرعد / آية 39.

وإن اختلف ذلك أو بعضه للحكمة البالغة عن المألوف العرفي في هذه الاعتبارات، لخطورة قياس ما يغاير ثوابت أحكام الله وشرعه من الأمور عليه مع الفارق.

ومن أمثلة ذلك قياسات أبي حنيفة وغيره من القيَّاسين والوضَّاعين المخالفين صراحة للحكم الإلهي حتَّى لو خالف العقل المتحرِّر المستقل إذا لم يكن قراره ممَّا تمضيه الثَّوابت الشَّرعيَّة عند الشَّارع كقرارات الأطبَّاء الحاذقين لقوله تعالى [وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ](1)، وفي آية أخرى بعدها [فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ]، وفي آية أخرى بعدها [فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ].

ومن أسباب عدم قبول هذه المفاهيم هو كونها ظنيَّة تخرُّصيَّة غير مستفادة من اللَّفظ، فعن عيسى بن عبد الله القرشي قال:-

(دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله u فقال: يا أبا حنيفة قد بلغني أنك تقيس!

فقال: نعم.

فقال: لا تقس فإنَّ أوَّل من قاس إبليس "لعنه الله" حين قال: [خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ](2)، فقاس بين النَّار والطِّين، ولو قاس نوريَّة آدم بنوريَّة النَّار وعرف ما بين النورين، وصفاء أحدهما على الآخر)(3).

أقول: وهو القياس مع الفارق البيِّن.

إلى غير ذلك من الأبواب، وهي متوِّفرة في أجزاء كتابنا عند التَّوسُّع المحدود فيها وفي غيره ما يجدها المتتبِّع كثيراً إن أراد التَّوسُّع أكثر.

ونكتفي هنا بهذا التَّلخيص وأنهينا منه ما يرتبط بالمبادئ اللُّغويَّة.

ص: 25


1- سورة المائدة / آية 44، 45، 46.
2- سورة الأعراف / آية 12.
3- الاحتجاج ج 2 ص117.

المطلب الثَّاني / تلخيص المبادئ الأحكاميَّة

وهي المعدَّة في الصَّورة الأنسب وإن كانت من رعيل المبادئ أيضاً بالصِّفة العامَّة لمطالب ما يستدعي بيانه في هذا الجزء الثَّاني والَّذي بعده من مباحث الألفاظ المرتبطة بآيات وروايات مدارك الأحكام الشَّرعيَّة اللَّفظيَّة الخاصَّة، ومن أقرب ما يتَّصل بذلك موضوع تعارض الأدلَّة الآتي في موقعه المناسب كثيراً، للسان الأدلَّة الأحكامي في الفقه العام والفقه الخاص، وأخفيَّة ذلك عن اللِّسان الماضي من بحث تعارض الأحوال السَّابق.

وممَّا أعدَّه الأصوليُّون من المصاديق لهذا المطلب تحديداً أو تقريباً منها للأذهان في هذا التَّلخيص زاد في الواقع أو نقص هو أربعة عشر باباً جعلناها أمثلة للاستثمار من ذكر هذه الأمور بهذا النَّحو الموجز كمقدِّمة قبل الَّتفصيل للبحوث الآتية بإذن الله تعالى، فنقول:-

الأوَّل: باب الأمر صيغة ومفهوماً للوجوب والنَّهي صيغة ومفهوماً للتَّحريم في لساني الكتاب والسنَّة.

ومن أمثلة ذلك القرآنيَّة قوله تعالى [فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ](1)، وكذا قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا](2)، وعن محمَّد بن سنان، عن عبد الله بن مسكان، عن أبي عبد الله الابزاري قال: سألت أبا عبد الله u عن (رجل نسي فصلَّى ركعتي طواف الفريضة في الحجر، قال: يعيدهما خلف المقام، لأنَّ الله تعالى يقول:

ص: 26


1- سورة النور / آية 63.
2- سورة الحشر / آية 7.

[وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى] عنى بذلك ركعتي طواف الفريضة)(1).

أقول: وهذا من الأمر الَّذي يفيده المنطوق، وأمَّا النَّهي عن الصَّلاة في الحجر فهو المستفاد من المفهوم.

الثَّاني: باب استعمال الأمر في النَّدب والنَّهي في الكراهة في الكتاب والسنَّة، كما لو جاء أمر منهما وإن ظهرت منه بعض ملامح للوجوب إلاَّ أنَّه جاء أيضاً ما ظاهره جواز التَّرك مع كفاءة النَّصين في الاعتبار بهما وكما لوجاء نهي من أحدهما قد يلوح من ظاهره بعض ملامح الحرمة ثمَّ جاء دليل يعارضه في المعنى والاعتبار بلسان لا بأس بارتكابه.

وأمثال ذلك وممَّا ورد من السنَّة حول الأمر ما رواه الحسين بن سعيد عن محمد بن إسماعيل عن أبي الحسن u قال: (سألته عن المذي فأمرني بالوضوء منه، ثم أعدت عليه سنة أخرى فأمرني بالوضوء منه، وقال: إنَّ عليَّاً u أمر المقداد أن يسأل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم واستحيا أن يسأله فقال: فيه الوضوء، قلت فإن لم أتوضأ، قال: لا بأس به)(2).

أقول: وهذا ما نتيجته كراهيَّة البقاء على ظهور المذي مفهوماً بدون وضوء، والاستحباب المؤكَّد منطوقاً على استعمال الوضوء، لتكرار ترجيح القول بالوضوء منه مع كون تركه ممَّا لا بأس به.

الثَّالث: باب أنَّ النَّهي يدل على فساد المنهي عنه في العبادات وغيرها كما عن الحسين بن سعيد عن ابن أبي عمير عن حماد عن ابن أبي شعبة (يعني عبيد الله ابن علي الحلبي) قال: قلت لأبي عبد الله u رجل صام في السَّفر فقال: إن كان بلغه أنَّ

ص: 27


1- وسائل الشيعة ج 13 ص425.
2- تهذيب الأحكام ج 1 ص18.

رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم نهى عن ذلك فعليه القضاء، وإن لم يكن بلغه فلا شيء عليه)(1).

أقول: هذا نموذج عن العبادات، وأمَّا ما عن المعاملات فعن سهل بن زياد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه جميعاً، عن أحمد بن محمَّد بن أبي نصر، عن أبان، عن أبي بصير، عن عمرو بن رياح، عن أبي جعفر u قال:

قلت له: (بلغني أنَّك تقول: من طلَّق لغير السنَّة أنَّك لا ترى طلاقه شيئاً؟ فقال أبو جعفر u: ما أقوله بل الله عزَّ وجل يقوله، أما والله لو كنَّا نفتيكم بالجور لكنَّا شرَّاً منكم لأنَّ الله عزَّ وجل يقول: [لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ] إلى آخر الآية)(2).

أقول: إنَّ التَّفصيل لذلك في العبادات وفي المعاملات قد يكثر عند أهل العلم بصحَّة القول بالفساد في الأولى على النَّحو الأكثر، وفي الثَّانية أيضاً على النَّحو الأقل لإمكان عدم الدَّاعي لذلك الفساد في الثَّانية في أمور كصحَّة بعض عقود أهل الفضول بالإمضاء من المالك ولو بعد ذلك العقد، وستأتي بعض التَّفاصيل الموضِّحة في بحوث المستقبل.

الرَّابع: باب أنَّ الأمر بالشَّيء يقتضي الأمر بما لا يتم إلاَّ به إيجاباً أو ندباً، وقد أثبتت مصاديق هذا روايات عديدة فحواها واحد، ومن ذلك ما عن أحمد بن محمد عن عثمان بن عيسى عن سماعة قال سألت أبا عبد الله u عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيُّهما هو وليس يقدر على ماء غيره؟ قال: يهريقهما ويتيمَّم)(3).

أقول: إنَّ المراد ممَّا لا يتم الواجب إلاَّ به هو طهارة ماء الإناء المأمور أن يتوضأ

ص: 28


1- تهذيب الأحكام ج 4 ص221.
2- الكافي ج 6 ص57 - 58.
3- تهذيب الأحكام ج 1 ص24.

به إذا كان مشخَّصاً، وفي الرَّواية المذكور عدم التَّشخيص لذلك الماء والإناء الَّذي حواه يسبِّب الشُّبهة المحصورة بين الإناءين الَّذين أحدهما طاهر لا على التَّعيين والآخر نجس، ولهذا جاء أمر الإمام u بالتَّجنُّب عن كلا المائين والتَّيمُّم.

الخامس: باب أنَّ الأمر بالشَّيء يقتضي النَّهي عن ضدِّه إذا كان رافعاً للقدرة عليه، وحكم اجتماع الأمر والنَّهي والصَّلاة في المكان المغصوب واللِّباس المغصوب.

ومن ذلك ما عن موسى بن القاسم، عن أبي جميلة، عن ضريس الكناسي، عن أبي عبد الله u قال: (إنَّ امرأة أتت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لبعض الحاجة فقال لها: لعلَّك من المسوِّفات، قالت: وما المسوِّفات يا رسول الله؟ قال: المرأة الَّتي يدعوها زوجها لبعض الحاجة فلا تزال تسوِّفه حتَّى ينعس زوجها وينام فتلك لا تزال الملائكة تلعنها حتَّى يستيقظ زوجها)(1).

أقول: وهذا ما اقتضى في الأمر به وهو قضاء حاجة الزَّوج من زوجته القادرة على تلبيتها إذا أمرها به عن ضدِّ ذلك كالتَّسويف له من قبلها حتَّى زالت قدرة زوجها على قضاء تلك الحاجة بسبب النُّعاس الَّذي اعتراه وسوء عاقبة الزَّوجة المسوِّفة لزوجها.

وأمَّا فيما يتعلَّق بعدم اجتماع الأمر والنَّهي كالأمر بالصَّلاة والنَّهي عن الكون في المكان المغصوب كما في حالة الاختيار وعدم الاضطرار وسعة الوقت فقد ورد في تحف العقول عن أمير المؤمنين "سلام الله عليه" في وصاياه لكميل ابن زياد "رضوان الله عليه" (يا كميل ليس الشأن أن تصلي وتصوم وتتصدق، الشأن أن تكون الصلاة بقلب نقي وعمل عند الله مرضي وخشوع سوي وانظر فيما تصلي وعلى ما تصلي إن لم يكن من وجهه وحله فلا قبول)(2).

ص: 29


1- الكافي ج 5 ص509.
2- تحف العقول ص174.

أقول: وجاء هذا بأكثر من طريق وإلى غير ذلك من الرِّوايات.

السَّادس: باب الوجوب الموسَّع والمضيَّق، ومن أمثلته ما عن ابن أبي عمير عن عمر بن أذينة عن زرارة قال:

سمعت أبا جعفر u يقول: إنَّ من الأمور أموراً مضيَّقة وأموراً موسَّعة، وإنَّ الوقت وقتان، الصَّلاة ممَّا فيه السِّعة فربَّما عجَّل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وربَّما أخَّر إلاَّ صلاة الجمعة، فإنَّ صلاة الجمعة من الأمر المضيَّق إنَّما لها وقت واحد حين تزول، ووقت العصر يوم الجمعة وقت الظهر في سائر الأيام)(1).

أقول: أي عند الجمع بين الظهر والعصر، إلى غير ذلك من أدلَّة مواقيت بقيَّة الصَّلوات موسِّعها ومضيِّقها.

السَّابع: باب الوجوب والاستحباب الكفائي، ومن أمثلته ما عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن يحيى، عن غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله u قال: (إذا سلم من القوم واحد أجزأ عنهم وإذا ردَّ واحد أجزأ عنهم)(2).

أقول: إنَّ الابتداء بالسَّلام من المستحبَّات الأخلاقيَّة المهمَّة بين المسلمين، وقد يتحقَّق ذلك الاستحباب ولو من واحد عن الجميع، وإنَّ الرَّد واجب، وقد يكفي ذلك من واحد عن الجميع وإن بقي الاستحباب من الأكثر، ونظير هذه الرِّواية روايات عديدة للواجب والمستحب.

الثَّامن: باب الوجوب التَّخييري، ومثاله ما عن أحمد بن محمَّد عن علي بن الحكم عن حمزة عن أبي جعفر u قال: سمعته يقول: إنَّ الله فوَّض إلى النَّاس في كفَّارة اليمين كما فوَّض إلى الإمام في المحارب أن يصنع ما شاء، وقال: كل شيء في

ص: 30


1- تهذيب الأحكام ج 3 ص13.
2- الكافي ج 2 ص647.

القرآن "أو" فصاحبه فيه بالخيار)(1).

أقول: وهناك روايات أخرى مشابهة.

التَّاسع: باب العموم والخصوص، ومن أمثلته ما عن ابن سنان، عن رجل، عن أبي عبد الله u قال: (سئل وأنا حاضر عن امرأة أرضعت غلاماً مملوكاً لها من لبنها حتَّى فطمته هل لها أن تبيعه؟ قال: فقال: لا هو ابنها من الرَّضاعة، حرم عليها بيعه وأكل ثمنه، قال: ثمَّ قال: أليس رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: يحرم الرَّضاع ما يحرم من النَّسب؟)(2).

أقول: ومعه ما يشبهه في العموم ب- (ما) الموصولة والشَّرطيَّة، وهكذا (كل والجمع المضاف) ولم يستثن منذ ذلك حتَّى مجرَّد الرَّضاع الكامل بأقل مدَّة، حيث دخل في العموم بسبب دليله الخاص، وممَّا يساعد عليه في بعض الحالات شهرة قولهم (ما من عام إلاَّ وقد خص)، وهناك أمثلة أخرى تأتي عند تفاصيل البحوث المناسبة.

العاشر: باب إفادة الجمع المحلَّى باللام الَّذي للعموم زيادة على ما في الباب السَّابق، ومن أمثلته ما عن عبد العزيز بن مسلم عن الإمام الرِّضا u في حديث طويل في صفات الإمام قال فيه (إنَّ الإمامة خصَّ الله عزَّ وجل بها إبراهيم الخليل بعد النبوَّة والخلَّة، مرتبة ثالثة وفضيلة شرَّفه الله بها، فأشاد بها ذكره فقال عز وجل: [إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا] فقال الخليل سروراً بها [وَمِن ذُرِّيَّتِي] قال الله عز وجل: [لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ](3))(4) فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم

ص: 31


1- تهذيب الأحكام ج 8 ص299.
2- الكافي ج 5 ص446.
3- سورة البقرة / آية 124.
4- الاحتجاج ج 2 ص226.

القيامة، وصارت في الصَّفوة.

أقول: والصَّفوة عند الإماميَّة هم أهل العصمة بعد النَّبي والرَّسول الخاتم صلی الله علیه و آله و سلم والزَّهراء سلام الله علیها والَّذين أوَّلهم وزعيمهم صاحب بيعة يوم الغدير وغيرها من الدَّلائل المهمَّة، وهناك روايات أخر، ومع هذه القاعدة الأصوليَّة اللَّفظيَّة جاءت تعاليم القواعد الأدبيَّة في تطابق معزِّز لهذه الأدبيَّة.

الحادي عشر: باب النَّكرة الواقعة في سياق النَّفي تفيد العموم، ومن أمثلة ذلك ما عن علي الميثمي، عن ابن فضال، عن مفضل بن صالح، عن ليث المرادي قال: سألت أبا عبد الله u عن (العبد هل يجوز طلاقه؟ فقال: إن كانت أمتك فلا، إن الله عزَّ و جل يقول [عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْءٍ](1) وإن كانت أمة قوم آخرين أو حرَّة جاز طلاقه)(2).

أقول: ومثل هذه الرِّواية روايات أخرى مشابهة، وبهذا جاءت تعاليم القواعد الأدبيَّة.

الثَّاني عشر: باب تخصيص العام بالمتَّصل والمنفصل، ومن أمثلة ذلك ما عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بكر بن صالح، عن القاسم بن يزيد (القاسم بن بريد)، عن أبي عمرو الزبيري، عن أبي عبدالله u - في حديث طويل - (وفرض على السمع أن يتنزه عن الاستماع إلى ما حرم الله، وأن يعرض عماَّ لا يحل له ممَّا نهى الله عزّ وجلّ عنه، والإصغاء إلى ما أسخط الله عزَّ وجل، فقال: عزَّ وجل في ذلك: [وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ](3))(4).

ص: 32


1- سورة النحل / آية 75.
2- تهذيب الأحكام ج7: 348 رقم 1423.
3- (4) سورة النساء / آية 140، الكافي ج 2 ص35..

أقول: وهذا من آيات تخصيص العام بالمتَّصل - ثمَّ استثنى الله تعالى موضع النِّسيان فقال - بعد العام الماضي [وَإِمّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ](1).

الثَّالث عشر: باب أنَّ أقل الجمع اثنان، وهو المسمَّى في اللُّغة العامَّة بالجمع المنطقي، وقي لغة القرآن كذلك كما نصَّت على ذلك آيات كثيرة، ومن ذلك قول الله تعالى في قضيَّة داوود وسليمان [وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ](2)، وقال تعالى في قضيَّة الخصمين [إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ](3) وقال أيضاً [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ](4) وقال كذلك في قضيَّة موسى وهارون [إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ](5).

أقول: وكون أقل الجمع في بعض نصوص أخرى يُراد منها الثَّلاثة، وهي نصوص خاصَّة للفقه دون عموم المعلومات القرآنيَّة كما في أقل الطهر وأقل الحيض والاستنجاء بالأحجار أو الخرق الثَّلاثة من الغائط وغير ذلك، وهذا في نفس الوقت لا يتنافى مع أهل العرف الخاص وهم المتشرِّعة في الثَّلاثة مع أهل العرف العام إن جعلوا الاثنين هما الأقل لو أضيف واحد أو أكثر في الاستعمال.

الرَّابع عشر: باب وجوب العمل بالمطلق حتَّى يرد المقيَّد كما عن الصَّادق u (كل شيء مطلق حتَّى يرد فيه نهي)(6).

أقول: هذه بعض نماذج للأبواب المذكورة نكتفي بما أوردناه منها مع كثرة ما

ص: 33


1- سورة الأنعام / آية 68.
2- سورة الأنبياء / آية 78.
3- سورة ص آية 21.
4- سورة الحج / آية 19.
5- سورة الشعراء / آية 15.
6- الوسائل 27: 173 / أبواب صفات القاضي ب 12 ح 67 (الطبعة القديمة ح 60).

ورد في هذا الأمر من الأحكاميَّة للتَّلخيص الَّذي صمَّمنا عليه اعتماداً على التَّوسعة والتَّفصيل في البحوث الآتية، وكذلك في الأمر الَّذي سبقه، والله تعالى المستعان في كلِّ ما نبديه.

ص: 34

التَّمهيد الثَّاني

ضرورة البدء في الأصول بمباحث الألفاظ

بعد الانتهاء من مقدِّمات مباحث الألفاظ - أو ما أطلق عليه بالمبادي من الباب الثَّاني ممَّا بين المقدِّمات وذيها - لابدَّ من التَّنبيه عند مواصلة البحث حين إرادة الدخول في الباب الثَّالث المتعلِّق بذكر مباحث الألفاظ نفسها وهو هذا الباب على ضرورة البدء بعد الَّذي مضى ذكره من هذه المباحث قبل تفصيلها بما يلخِّصها أوَّلاً وفاءاً بما وعدنا به سابقاً في الفهرست الماضي، ليكون التَّفصيل عنها وهو الثَّاني مسبوقاً بهذا الأوَّل، لأهميَّته في إعطاء الفكرة الموجزة عمَّا يليها من التَّفاصيل، لئلاَّ يكون الطالب ومدرِّبوه في مفاجئة مربكة في تسلسل الأمور العلميَّة، لأنَّ الإرباك ممَّا قد يضر بالإنسان نفسيَّاً ثمَّ ذهنيَّاً عمَّا ينبغي تدبيره له أ و تدبُّره من جمع الذِّهن للانتباه اللاَّزم والمنجح لرسوخ المعلومات في الأذهان على ما يقوله علماء التَّدوين المنطقي والبياني إلاَّ ما قلَّ وندر من طبقات أولئك الأذكياء غير المحتاجين إلى ذلك.

وكما أنَّ في بيان هذه المباحث الآتية من الضَّرورة القاضية به لتفصيله لابدَّ إذن من أن يترشَّح من الإيجاز الَّذي يسبقه شيء من الأهميَّة أيضاً كما أشرنا آنفاً فلابدَّ أن نقول:-

بعد ما خلق الله تعالى الكائنات من كتم العدم إلى حيِّز هذا الوجود على اختلاف أجناسها وأنواعها مرئيَّة كالبشر والعجماوات والبهائم وغير مرئيَّة من الملائكة والجان والجن، وجعل لكلِّ نفس هداها، وجعل لأولئك البشر من بين تلك البهائم والعجماوات هداياته مع تكريمه وإتحافه لهم هم والملائكة والجان والجن بالعقل والدِّين، تمييزاً لهم عن تلك البهائم والعجماوات، وفضَّل البشر على باقي

ص: 35

المخلوقات ومنها غير المرئيَّة في قوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ](1) بما ميَّزهم عن الباقين.

وانتهى بأمره تعالى للسُّجود لآدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ أبي البشر اعتماداً على أنواع التَّكريمات والهدايات الإلهيَّة له لأداء واجباته الثِّقال تجاه أبناءه ولتحمُّله أعباء قضايا المسؤوليَّة تجاههم ومعهم من ساوى أبا البشر عَلَيْهِ السَّلاَمُ، بل وشاركه في ذلك من الأنبياء أو زادوا عليه كالرُّسل وأولي العزم والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وغير هؤلاء من الصُّلحاء والأولياء من الصَّلاحيَّات والوظائف الَّتي باتحافهم بها.

لابدَّ وأن توصل السَّالكين مسالكهم إلى ما يخرق الحجب بالتَّفوُّق حتَّى على الملائكة فضلاً عن الجان والجن لتحمُّل البشر ما لم يتحمُّله الغير، لأنَّ الله يعلم ما لم يعلمه الباقون وإن كان خلق البشر جاء من أديم الأرض الثَّقيل في كينونيَّته لا كالملائكة العاقلة العابدة باطاعاتها المعروفة فخضع الملائكة طاعة لله بموازين المعقول المخضعة، لأنَّه تعالى هو العالم بما لم يعلم به الباقون.

ولكن تكبُّر إبليس شيطان الجن "لعنه الله" العاقل الحاسد بنفسيَّته الأمَّارة بلا اعتماد على شيء مبِّرر بل للقياس وإن كان مع الفارق لقول إبليس [أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ](2) حتَّى جاءت الإغراءات الحاسدة العِدائيَّة وتوالت الإغواءات الحاقدة الإبليسيَّة حتَّى في نفس الجنَّة الَّتي لا تكليف بها لآدم للأكل من الشَّجرة ولو بمعنى ترك الأولى حتَّى أكل آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ منها وزوجه وازدادت مشاكل ذلك بعد إنزاله إلى الأرض لإيقاع آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ في خِضم الابتلاء عند أداء واجباته تجاه أبناءه وبقيَّة المخلوقات المكلَّفة العاقلة من غير البشر وغيرها، إلاَّ أنَّ آدم u بقي صامداً صمود الأنبياء.

ص: 36


1- سورة الإسراء / آية 70.
2- سورة ص / آية 76.

وازدادت هذه المشاكل كثيراً من إبليس وشياطينه حسداً وعلى البشر أجمعهم إلاَّ العباد المخلَّصين كما صرَّح هو بذلك، وهذا ما أحوج إلى نزول المبادئ السَّماويَّة الرَّافعة لدرجات المطيعين، إنقاذاً لوحدة العقل بين المغريات الأربع لبني آدم في دنيا التَّكليف الشَّرعي كما قال الشَّاعر النَّاصح الأخلاقي(1):

إنِّي ابتليت بأربع ما سُلِّطوا *** إلاَّ بشدَّة شقوتي وعنائي

إبليس والدُّنيا ونفسي والهوى *** كيف الخلاص وكلُّهم أعدائي

ومن تلك المبادئ وآخرها إسلامنا العزيز الَّذي كُلِّف به نبيُّنا الرَّسول الخاتم 2 المحتاج إلى نشره ونشر معالم كتابه الكريم وسنَّته الشَّريفة بحالات وكيفيَّات نقل المقاصد الفكريَّة المختلفة بواسطة مثل اللِّسان كما في قوله تعالى [الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ](2) وبواسطة القلم كما في قوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ](3) للتَّفكُّر والتَّذكُّر والتَّذكير والمذاكرة والمراسلات الإعلاميَّة والاستعلاميَّة بكافَّة أنواعها، ولتدوم المعلومة عند الإنسان حتَّى بأكثر ممَّا لو أنساه الشَّيطان لواجب تنبيه النَّاسين من المربيِّن المذكِّرين لقوله تعالى [وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ](4).

بل بالتَّذكير حتَّى مع عدم تأكُّد النَّفع الفوري لأهميَّته حتَّى الَّذي لو احتمل فيه ذلك النَّفع لموضوعيَّته ولو رجاءاً عند المواجهة لرجح ذلك التَّذكير.

ص: 37


1- قيل هذه الأبيات لحمد بن هادي بن حمد بن علي آل جابر المري الغيهبان، وقد ولد في أواخر القرن الثَّامن عشر.
2- سورة الرحمن / آية 1 - 4.
3- سورة العلق / آية 1 - 4.
4- سورة الذاريات / آية 55.

بل قد يزداد في أهميَّته وبما لا يمنع من الوجوب فيه لو توقَّف الأمر عليه لقوله تعالى [فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى](1).

وباللِّسان والقلم لابدَّ وأن تكون واسطة التَّداول - الأهم بالمعلومات المحتاج إليها في هذه الحياة من الَّتي ترضي الله وتدفع سخطه على الأقل - هي اللُّغات من حيث المبدأ، بلا فرق بين كل منها إذا تحقَّق الغرض التَّام منها ولو في الجملة الوافية بمثل الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر وإن قلَّ المهتدون حبَّاً للبركة لقوله تعالى [كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ](2)، أي من واقع ما بدت منه المسؤوليَّة تجاه هذين الموردين من الأدلَّة، ومنها تتفرَّع المشتقَّات.

وإن كانت العربيَّة هي المفضَّلة كما سبق ما لم يكن غيرها متعيِّناً تجاه غير العرب ممَّن عليه مسؤوليَّتهم وكما سيتَّضح، وقد اقتصر فيها على تلك الموهبة الَّتي وهبها الله تعالى للبشر كما في قوله تعالى [وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا](3) لو أريد منها اللُّغات على بعض الوجوه المحتملة، إذ لا منع منه لو اقتضى مقتضيه وانتفى مانعه.

وممَّا يمكن أن يُستدل على شيء من ذلك لتطبيق الأوامر الإلهيَّة وامتثال الحكمة البالغة من وراءها منه تعالى دون غيره قوله تعالى [لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ](4) للبقاء دوماً على خصوص النُّصوص الواردة معانيها مباشرة من السَّماء بلا أي تصرُّف إضافي ولو تعبُّداً، إن توفَّرت مع خطورة ما يحتمله بعض الأعداء من الاتِّهامات للنَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وهو المعصوم.

ومن ذلك قوله تعالى [وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ

ص: 38


1- سورة الأعلى / آية 9.
2- سورة البقرة / آية 249.
3- سورة البقرة / آية 31.
4- سورة القيامة / آية 16.

لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ](1) امتثالاً للكلفة الَّتي لا يجب الأكثر منها وقد لا يصح الأقل، لئلاَّ يصل الأمر إلى ما يعكس فيه الغرض في بعض أو حتَّى كثير الحالات وبما يجلب منه الضرر ولتجنُّب أساليب الخطر، ولذا قال تعالى [كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ](2) أي حتَّى هذا العقل المحاط بالمغريات الأربع لو صارع أصحابه في عقولهم هذه المغريات إلاَّ مع تطابق أولئك الرُّسل مع ما يأمر به الله تعالى من تلك الغلبة لحصلت إلهيَّاً بنجاح.

ومن المعلومات الأهم بعد علم الكلام والعقائد في آخر الزَّمان كما في أوَّله بعد مجاميع إرسال الرُّسل وبعثة الأنبياء وأساليب الوحي السَّابقة هو الفقه المحتاج في مداركه إلى أفضل اللُّغات وهي النُّصوص العربيَّة الَّتي للكتاب الكريم والسنَّة الكريمة بواسطة العترة المطهَّرة بعد النَّبي 2 ممَّا يُطلق عليه بالأدلَّة الاجتهاديَّة بل حتَّى ما يعود إلى الأدلَّة الفقاهتيَّة المستفادة في أمورها من الأدلَّة الإرشاديَّة الَّتي لا تخلو من اللُّغة العربيَّة في إرشاديَّتها كذلك وإن كان بالإمكان جواز الاستعانة بلغات الأقوام الَّذين لا يعرفون غير لغتهم لإفهامهم مقاصد شرع الله تعالى إلى حين إتقانهم اللُّغة العربيَّة لتتم النِّعمة بما هو أفضل وأيسر لهم.

ولأنَّ الألفاظ العربيَّة وصرفيَّاتها ونحويَّاتها وغيرهما من العلوم الأدبيَّة الأخرى الَّتي تضم مباحث الألفاظ كعلم المعاني والبيان وغيرهما كما في خادم العلوم وهو المنطق قسم مباحث الألفاظ الخاصَّة بالعربيَّة وكعلم الأصول المرتبط بمباحث الألفاظ العربيَّة للكتاب والسنَّة كذلك وما يتعلَّق بهما من علوم الدِّراية والحديث وغيرهما من العلوم اللاَّزمة قبل التَّفقُّه الاجتهادي الكامل وإن كان في أثناء التَّعبُّؤ التَّحصيلي العلمي للمقدِّمات والسُّطوح للحاجة إلى ذلك غالباً لا يمكن الوصول فيها إلى ما

ص: 39


1- سورة الحاقة / آية 44 - 46.
2- سورة المجادلة / آية 21.

يُرضي المجتهد الكامل لله في الله وبما يطابق الأدلَّة والقواعد الأصوليَّة المبرئة للذمَّة إلاَّ بإتقان مباحث تلك الألفاظ الأصوليَّة.

وهنا تتَّضح ضرورة البدء بمباحث الألفاظ وبلا فرق بين الأصول الأصيلة المصاحبة للفقاهة القديمة والأصول المستقلَّة الَّتي أعدوها صناعيَّة في بابها تحت ظل الأوامر والنَّواهي الإلهيَّة وتوابعها وغيرها من بقايا مباحث الألفاظ الآتية والتَّي بعد انتهاءها ينتهي الكلام عن الحديث الأول المهم الحاوي لتمام المضامين المهمَّة للدّليلين اللَّفظين من شرعيَّات الكتاب والسنَّة وتوابعهما والَّذي به ينتهي هذا الجزء الثَّاني ل- (المساعي)، والَّذي قسَّمنا بحوثه مع بقاياه لطولها ممَّا مرَّ في المحتوى الإجمالي عمَّا يأتي في الجزء المختوم بالبَّاب الرَّابع وعن النَّواهي المستقلَّة.

ليكون بعده باقيها للجزء الثَّالث بادئاً من الباب الخامس من بحوث العموم والخصوص من محتواهاً الإجمالي الآتي ذكره في بدايته بإذن اله تعالى إلى آخر مباحث الألفاظ للمدركين الأهمَّين.

لينتقل الكلام بعد التَّقسيم للألفاظ للجزأين بعد الأوَّل إلى ما يخص الكلام عن الجزء الرَّابع للمساعي والخاص بما يلزم ذكره وممَّا يتم به الكلام عن المصدرين الآخرين اللُّبيَّين من مجموع المصادر التَّشريعيَّة الأربع وهما الإجماع والعقل وتوابعهما، ليكون الحديث عنهما عائداً للباب السَّادس على أن يختم الحديث في هذا الجزء بالبحث عن تعارض الأدلَّة وإلى بحوث الجزء الخامس أو ما يزيد.

نسأل الله تعالى تحقيق أمنياتنا لما يرضيه وبدعوات صاحب الأمر "عجَّل الله فرجه الشَّريف" بإتمام ما نبتغيه، والحمد لله أوَّلاً وآخراً.

ص: 40

بحث المشتق

وهو الَّذي يتَّضح ببيان أمور:-

الأمر الأوَّل / أين يكون موقعه المناسب أو الأنسب

هل في المقدِّمات والمبادئ أو في مباحث الألفاظ؟

بما أنَّ بحث المشتق لدى الأصوليُّين جمع مكوَّراً في مضامينه بين المبادئ ومقدِّمات المباحث اللَّفظيَّة وبين خصوص ما يتعلَّق بنفس مباحث الألفاظ في بعض الحالات أو كثيرها بان التَّحيُّر الإلتزامي بعد ذلك.

فتعارف لدى بعضهم ذكر هذا الأمر آخر الكلام عن مقدِّمات مباحث الألفاظ أو ما يسمَّى عندهم بالمبادئ لناحية تناسبه مع المبادئ في سطحيَّة البحث عنها عند المرور عليها مرَّ الكرام، أي لو لم يلتفت إلى الغاية الأصوليَّة بعدُ معها، لقلَّة الفوائد الأصوليَّة من المشتق الأصولي في موقع ذكر المبادئ، كذكر الأفعال لدخولها في الاشتقاق النَّحوي الَّذي سيأتي إفرازه عن الأصولي قريباً، كالماضي الدَّال على الفعل الَّذي انقضى زمن فعله، والمضارع الدَّال على الفعل الصَّادق على زمن الحال والاستقبال، والأمر الدَّال على الفعل الَّذي زمانه في المستقبل وهو المعروف عند النُّحاة بكونه المشتق أو المتصرِّف في مقابل الجوامد، وكذكر المصادر بناءاً على دخولها عند النَّحويِّين كذلك، حيث عرف عنها عندهم أنَّها الثَّالثة في تصريف الكلام وإن لم تكن داخلة في النِّزاع عند الأصوليِّين في بعض الحالات على ما سيجيء أيضاً، وكما عرف عند الصِّرفيِّين أنَّها مبدأ الاشتقاق.

لكون هذه الأمور لا تجري أصوليَّاً على الذَّات في الجملة كما تجري الاشتقاقات الأصوليَّة على الذَّات كما سيجيء تفصيله.

ص: 41

كما وأنَّه تعارف لدى البعض الآخر ذكر هذا الأمر في بداية مباحث الألفاظ حين ربط هذه الأمور المعروفة لدى الأدباء بأمور المشتقَّات الدَّاخلة في مورد النِّزاع عند أهل الأصول ممَّا يجري منها على الذَّات لاتِّصاف الذَّات بمبدأ ذلك المشتق ولو كانت جوامد عند النَّحويِّين والصَّرفيِّين.

وإلى هنا لابدَّ أن يتجلَّى الوجه الأنسب لذكرنا هذا البحث في أوَّل مباحث الألفاظ إذا ضمَّ إليه موضع النِّزاع ما دام النَّفع يتحقَّق ولو كان في الجملة.

ولذا تعارف عند البعض المهم من الأصوليِّين كفطحل الصِّناعة الشَّيخ الكمبَّاني u وتبعه الشَّيخ المظفَّر u وغيره في أصوله حيث ذكره في بداية مباحث الألفاظ، ولعلَّه لما به تمام العلاقة بهذه المباحث ولو على جملتها كما أشار إليه الأستاذ السيِّد السَّبزواري u.

الأمر الثَّاني: معنى الاشتقاق عند النُّحاة ومعناه عند الأصوليِّين

والفرق بينهما من النِّسب المنطقيَّة الأربعة في بدايات أصوله.

بعد تبيُّن معنى المشتق النَّحوي ليس علينا إلاَّ ذكره عند الأصوليِّين أنَّه ما هو؟

فبعد ما عرف أنَّ النَّحوي خارج عن المتنازع فيه، فإنَّ المشتق الَّذي هو مورد النِّزاع هو الأصولي لا أكثر، وهو كل ما يجري على الذَّات لاتِّصاف الذَّات بمبدأ ذلك المشتق، وألحق بذلك الجوامد في عرف النَّحويِّين، إمَّا لحلول ذلك المبدأ فيه كالبياض إذا حلَّ في الجسم، وهو ما يوجب حمل الأبيض على الذَّات واتِّحاده معها، فيقال الشَّيء الفلاني أبيض، أو لصدوره من المبدأ كالضرب كقولك فلان ضارب لصدوره عن الذَّات وهو موجب لصحَّة حمل الضَّارب عليها ليتَّحد معها، أو لأنَّ الذَّات منشأ لانتزاع ذلك الوصف كالمالك، فإنَّ الذَّات الَّتي اعتبرت لها الملكيَّة ينتزع عنها عنوان المالك حسبما يناسبها، ولكن لكونها من الاعتبارات الَّتي

ص: 42

لابدَّ أن تنتهي بانتهاء الاعتبار، فهي ليست حالة فيه كالبياض لتفاوت المالك الحقيقي تعالى عن المالك المحدود وهو العبد ولا صادرة منه كالضَّرب وللفارق بين المادَّة والهيئة.

وبناءاً على كون المشتق هو الَّذي يجري على الذَّات فيشمل اسم الفاعل واسم المفعول كما سيجيء، وإن نوقش في اسم المفعول والصِّفة المشبَّهة وصيغة المبالغة واسم الزَّمان - ولنا فيه كلام آت أيضاً - واسم المكان واسم الآلة.

ومثَّل بعض المحقِّقين لهذه الأمور بأمثلة على تسلسلها وهي المحب والمحبوب والكريم والهيَّاب والمقتل والمذبح والمحترم، وبعض هذه الأمور والأمثلة الَّتي لها لصاحب الفصول u رأي فيها يأتي بمناسبته.

فعليه فالفرق بين المشتق النَّحوي والمشتق الأصولي من النِّسب الأربعة المنطقيَّة هو العموم والخصوص من وجه.

وبهذا الفرق يمتاز موضع النِّزاع عن غيره، وتتضِّح الأمثلة الصَّحيحة عن غيرها - إن كانت - لصحَّة أن يجتمع الطرفان من النَّحوي والأصولي كالجامد النَّحوي والمتصرِّف الأصولي وهو ما يعني به المشتق في عنوان البحث وأنَّه هو من باب الغالب لا التَّخصُّص في خصوص المشتقات الأصوليَّة لدخول الجوامد النِّحويَّة.

فإنَّ جميع الجوامد النَّحويَّة المحمولة داخلة في مورد البحث كقولنا (هند زوجة زيد) أو (زينب امرأة عمرو) أو (بكر غلام خالد) أو (زيد أخ لعمرو) إلى غير ذلك من الجوامد وهي المشتقَّة أصوليَّاً كالزَّوج والزَّوجة والرَّجل والمرأة والغلام والسيِّد أو المالك والمملوك والأخ لأخيه بسبب تعدُّد الأمثلة باشتقاقها إلى عِدَّة حالات، لإمكان أن تزول علاقة الزَّوجيَّة بالطَّلاق وأن لا تزول مع عدمه.

وهكذا المثال الثَّاني لو افتقد أحد المتعاقدين أو بقي معه، ولإمكان اطلاق سراح الغلام فتزول العبوديَّة وإن تبقى مع عدمه، ولإمكان زوال الأخوَّة إذا مات

ص: 43

أحد الأخوين وبقاءها إذا بقي على قيد الحياة، وصحَّة أن ينفصل المشتق النَّحوي من الأفعال الثَّلاثة ماضياً ومضارعاً وأمراً، وإن كانت ممَّا يسند إليها، والمصدر على قول في المصدر على ما سيجيء لخروجها عن موضع النِّزاع لعدم حملها على الذَّات.

إذ لا يصح حمل زيد على (ضَرْبْ) بفتح الضَّاد وتسكين الرَّاء وتنوين الباء بنحو أن يكون هو هو حقيقة وغير ذلك ما عدا الأسماء المشتقَّة عن هذه الأفعال فهي داخلة لارتباطها بالذَّات وصحَّة الحمل عليها من أسماء الأفعال ونحوها لاشتقاقها عن الأفعال نحويَّاً كما مرَّ كالمشتقَّات الأصوليَّة كقولنا زيد ضارب وهكذا الباقي، وصحَّة أن تنفصل العناوين الذَّاتيَّة غير الاشتقاقيَّة المنتزعة عن الذَّوات بذاتها وإن كانت أسماء كعنوان الإنسان والحيوان والحجر والشَّجر لكونها من الجوامد عن المنشق الأصولي لعدم بقاء الذَّات معها حال زوال المبدأ عنها لأنَّ المبدأ مقوِّم للذَّات، ولذلك يمتنع بقاء الذَّات مع انعدام المبدأ عنها، فإنَّ إنسانيَّة الإنسان في المثال الماضي مقوِّمة لذات الإنسان، وعليه فلابدَّ أن يستحيل بقاء ذات الإنسان مع انعدام الصُّورة النَّوعيَّة الإنسانيَّة الَّتي يُعبَّر عنها بالمبدأ، لعدم معقوليَّة شمول محل النِّزاع لمثل المقام، ولذا لا يصح حمل الإنسان على فاقد الإنسان كالحجر والبقر ونحوهما وبالعكس، وبهذا يتم الفرق المنطقي بين الجانبين النَّحوي والأصولي مع عدمه بينهما.

الأمر الثَّالث: لزوم التَّعرُّف على شرطين مهمَّين جدَّاً في المقام

بعد إمكان الجمع فيما مرَّ ذكره بين الجوامد عند النَّحويِّين والمشتقَّات عند الأصوليِّين في نسبة ما مرَّ كذلك من ترتُّب نسبة العموم والخصوص من وجه الماضية وبما مثَّلنا له من الزَّوج والأخ والرِّق وإمكان دخول الضَّارب والمضروب ونحو ذلك وإشارة توقُّف حصوله مؤدِّياً أداءه الكامل على ما اشترطوه في البين من الشَّرطين المهمَّين لابدَّ من التَّعرُّض لهما كما اشترطوا وهو:

ص: 44

أ / أن يكون المشتق الأصولي جارياً على الذَّات كالأمثلة الَّتي مرَّ ذكرها لإمكان بل وصحَّة حمله عليها ك- (هند زوج عمرو) و (زيد ضارب) ونحو ذلك ممَّا سيأتي التَّمثيل له استدلالاً عليه لموردي الاجتماع.

ب / أن لا تزول الذَّات بزوال تلبُّسها بالصِّفة، لعدم صحَّة الإنسان إنسان بنفي النَّوعيَّة، وكذا (زيد ضرب) إذا أريد من زيد أنَّه مع الضَّرب هو هو إلاَّ بما سيأتي من التَّوجيه، وفي حالة عدم إمكان الإصلاح يظهر مورد الافتراق.

الأمر الرَّابع: محل البحث الأصولي ومورد الاستثمار

أ - ممَّا ضرب من الأمثلة في المقام كأدلَّة فقهيَّة نافعة يراد منها الدُّخول في عالم إمكان الاستثمار من عدمه وهي ما صرَّح به فخر المحقِّقين كما في إيضاح الفوائد وعاضده الشَّهيد الثَّاني u كما في مسالك الأفهام حول مسألة زوجتين كبيرتين أرضعتا زوجه صغيرة حيث قال:

(قال "قدَّس الله سره": ولو أرضعت الصغيرة زوجتاه (إلى قوله) الكبيرتين، أقول: تحرم المرضعة الأولى والصغيرة مع الدخول بإحدى الكبيرتين بالإجماع وأما المرضعة الأخيرة ففي تحريمها خلاف، واختار والدي المصنف، وابن إدريس تحريمها لأن هذه يصدق عليها أنها أم زوجته لأنه لا يشترط في صدق المشتق بقاء المعنى المشتق منه فكذا هنا)(1).

أقول: إذن يكون هذا الَّذي ذكر في الكفاية عن الإيضاح وغيره مثالاً للبحث فيه ومحل السُّؤال الَّذي يتضمَّنه، وهو هل أنَّ المشتق المنقضي عنه المبدأ مشتق حقيقة أم لا؟ ليكون البحث علميَّاً غير عقيم، ولذا كان قد أنتج تحريم المرضعة الثَّانية على رأي

ص: 45


1- إيضاح الفوائد في شرح مشكلات القواعد / فخر المحقِّقين ج3 ص 52.

بعض الفطاحل السَّابقين كما مرَّ اعتماداً على الإجماع إذا كان الإرضاع على نحو التَّعاقب ولو لم يكن داخلاً في تلك الكبيرة الثَّانية في البداية اعتماداً على مجرَّد العقد السَّابق عليها في الظاهر ثمَّ صار الإرضاع، وبناءاً على شمول قوله تعالى [وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ](1) حينما حرمت المرضعة والرَّضيعة مع قوله الأخر [وَأُمَّهَاتُكُمُ الَّلاتِي أَرْضَعْنَكُمْ](2) وقول النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم الَّذي رواه الفريقان: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)(3)، وأسُّست على ذلك قاعدة (لحمة الرِّضاع كلحمة النَّسب)(4) على أساس صحَّة نقله فضلاً عمَّا لو أرضعت الاثنان تلك الصَّغيرة على هذا التَّعاقب.

ب - وممَّا يمكن أن يستثمر منه في المقام فقهيَّاً على هذا الأساس الأصولي هو كراهة التَّخلِّي تحت الشَّجرة الَّتي أثمرت سابقاً وانقضى عنها المبدأ، فقد يطلق هذا السُّؤال ويطلب الجواب عنه كما في بعض الرِّوايات لو صدقت فإنَّه يكون صدقها إمَّا بالمعنى الحقيقي أو المجازي مع أنَّ القضية المثمرة بالفعل هي مورد الكراهة قطعاً، بل حتَّى الَّتي هي في معرض الأثمار إن أتى وقتها وإن لم تثمر قعلاً على رأي آخرين.

ج - وممَّا يمكن أن يظهر منه ثمرة النِّزاع سلباً أو إيجاباً ورود كراهة الوضوء أو الغُسل بالماء المسخَّن أو السَّاخن بالشَّمس ممَّا لا يأبى الاستفادة من الخبر الوارد حتَّى

ص: 46


1- سورة النساء / آية 23.
2- نفس الآية.
3- وسائل الشيعة ج 14 ص 280 أبواب ما يحرم بالرَّضاع باب 1 ح 1، (صحيح البخاري) ج 3 ص 222 باب الشَّهادة على الأنساب والرِّضاع المستفيض.
4- هذه مقولة وردت عن لسان الفقهاء ولم تكن كنص رواية، والظَّاهر جرياً على المرويَّة في كتب الفريقين (الولاء لحمة كلحمة النَّسب). راجع التهذيب: ج 8 (1) باب العتق وأحكامه ص 255 ح 159 وتمامه (لا تباع ولا توهب)، كما وراجع القواعد الفقهية - السيد البجنوردي ج 4 ص323.

لو جاء عربيَّاً بلسان اسم المفعول أو اسم الفاعل ممَّا يحسب على الأسماء من جهة خارجيَّة إن لم يرد خصوص التَّعبير بقول الرِّواية في لسان النَّقل (سخَّنته الشَّمس) .

حيث اختلف القدامى من الأصوليِّين في هذا المشتق في أنَّه حقيقة في خصوص ما تلبَّس بالمبدأ في الحال مجاز فيما انقضى عنه التَّلبُّس؟ أو حتَّى مالو انقضى ذلك عنه لو لم يبرد تامَّاً.

د - استدلال المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالآية الكريمة [قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ](1) على عدم لياقة من كان مشركاً وأسلم لخلافة النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم، ولا يتم الاستدلال على خلافة الثَّلاثة إلاَّ على البناء على الأعم وهو ما قد رفض وإن قبل في بعض الأمثلة الماضية، ولكنَّ الردَّ في خصوص المقام واضح كل الوضوح في قضيَّة بيعة الغدير وآيتيه، وإنَّ عليَّاً عَلَيْهِ السَّلاَمُ يختلف عن المغتصبين، لكونه ما كفر حتَّى أسلم لأنَّه الوحيد الَّذي ولد على الفطرة وأنَّ إسلامه كان على الفطرة، ومساواة من عُرف بالنِّفاق أو ضعف الإسلام له أو جهة الرُّتب الإيمانيَّة المتفاوتة بين أولئك وأمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ قياس مع الفارق.

وأنَّ الماء الَّذي برد بعد أن كان ساخناً وانتهى زمانه إن صحَّ ما ذكر في الجملة الضئيلة أو المضمحلَّة جداً، وكذا الخشبة البالية من الشَّجرة لابدَّ وأن يختلف عن أصحاب الملكات كالعالم والطَّبيب ونحوهما إذا لم ينس كل منهما ما اختصَّ به في ماضي أيَّامه.

وقد أجمع المعتزلة وجماعة من متأخرِّي أصحابنا على هذا الأمر حينما كانت هذه السُّخونة محفوظة في مثالها في الحال.

وعلى هذا لابدَّ أن لا يكون الوضوء أو الغُسل مكروهاً بالماء الَّذي برد وانقضى عنه التَّلبُّس، لأنَّ من قال بالكراهة لا يصدق عنده حينئذ أنَّ الماء سخن بالشَّمس في الحال بل كان مسخَّناً تبعاً لناحية صدق الحقيقة في ذلك دون المجاز، وقالوا بأنَّه مجاز

ص: 47


1- سورة البقرة / آية 124.

فيما انقضى عنه التَّلبُّس، وقد أجمع على رأي الحقيقة حتَّى فيما انقضى عنه التَّلبُّس الأشاعرة منهم وجماعة من المتقدِّمين من أصحابنا أيضاً، إذ تبقى هذه الكراهيَّة ثابتة حتَّى بدون القرينة الصَّارفة لو خفَّت تلك السُُّخونة.

وكل هذا الأمر المختلف فيه بينهم بعد الاتِّفاق على أنَّه مجاز فيما يتلبَّس بالمبدأ في المستقبل، ومعلوم كون صدق هذا الاتِّفاق ثابتاً على المجازيَّة مع وجود القرينة.

ولا أظن خفاء الحق في البين بعد عرض هذه الأمثلة ومنها الأخير في بروز المعنى الحقيقي مميَّزاً عن غيره أو أنَّه حقيقة في كليهما بمعنى أنَّه موضوع للأعم منها ما دامت أثار الصِّدق الحقيقي باقية وإن خفت كخفة السُّخونة عن الأوَّل أو كون ظل الشَّجرة باق قابل للأثمار في حينه دون خصوص عودٍ بالٍ باق منها بدون أي نفع فيه إلاَّ أن يكون حطباً ونحوه أو أنتج الاجتهاد حرمة الكبيرة الثَّانية على أنَّها أم الزَّوجة الصَّغيرة ولو من جهة ورود الاحتياط في الفروج.

إذ أنَّ المختار هو القول الأوَّل مع الحاجة إلى القرينة فيما انقضى عنه التَّلبُّس ما دام التَّبادر وعدم صحَّة السَّلب واردين في خصوص ما تلبَّس بالمبدأ دون غيره دون الحالة الثَّانية، إضافة إلى أنَّ هذا القول فيه تأسيس قاعدة مشتركة بين الخاصَّة والعامَّة تساعد على حالة من التَّقريب بين أهل المشاكل المذهبيَّة وإن كان الرَّأي الثَّاني فيه هذه النَّاحية المرغوبة ولكن بعد أن استدلَّ أصحاب هذا الرَّأي على مدَّعاهم وهو:-

1- إمكان صحَّة التَّبادر على صدق الحقيقة على الأعم من الحقيقة في الحال وما انقضى عنه التَّلبُّس.

2 - عدم صحَّة السَّلب، في هذا المدَّعى أيضاً.

جاء ما يتَّعلَّق بالادِّعاء المخالف أيضاً وهو عدم إمكان صحَّة هذا التَّبادر مع صحَّة السَّلب عند الرَّهط العلمي الآخر لصالح القول الآخر لو لم يحتج إلى القرينة فيختار القول الثَّاني لعموم الصِّدق الحقيقي في الحالتين.

ص: 48

الأمر الخامس: نظرة فيما اختلف فيه من الأمثلة المفردة

أنَّها داخلة فيما تنازعوا فيه أم لا؟

فقد عرف عن صاحب الفصول u مخالفته للرَّأي الأصولي السَّائد، حيث برَّر جعل المصدر الَّذي لم يكن متعارفاً أنَّه ممَّا يتنازع فيه أصوليَّاً أنَّه لم يمكن عدم دخوله في المتنازع فيه لو قدِّر ل- (ضرب) المصدر كلمة (ذو).

ومثَّل له كلمة (رجل عدل) المراد منه اسم الفاعل، وهو الَّذي معناه العادل إلحاقاً منه بالمشتق النَّحوي المشترك مع المشتق الأصولي في صدق عنوان الاشتقاق الأصولي الَّذي يشمل الاثنين.

وهو الَّذي لا مانع منه إن لم يأبه الأدباء والأصوليُّون وانطبقت عليه بعض النُّصوص مع توفُّر شرطي ما تمَّ التَّركيز عليه، وهو كون المشتق الأصولي وما يلحق به جارياً على الذَّات وأن لا تزول الذَّات بزوال تلبُّسها بالصِّفة.

وخالف أيضاً في اسم المفعول، بحجَّة أنَّه انتفى مفاده لكونه لم يكن مرتكباً بخصوص حالة التَّلبُّس.

ولكن يمكن الإجابة عنه:

بعدم ثبوت الاختصاص بحالة التَّلبُّس وغيره باسم الفاعل، بل إنَّ الأعم أيضاً وارد في الاثنين اسم الفاعل واسم المفعول، والتَّمثيل لشيء دون شيء لا يثبت الاختصاص، وكذلك صفة المبالغة كالهيَّاب ونحوه في إمكان صدق الأعم في الأمثلة عليه.

ص: 49

الأمر السَّادس: نزاع البعض في اسم الزَّمان

بعد ورود عدم الشَّك في كون عموم الزَّمان ظروفاً وقتيَّة فانية وآنات غير مستقرَّة لا تعود إلاَّ في مصاحبتها للأحداث كبيرها وصغيرها وقديرها ووضيعها ممَّا قد لا يُعبأ بتلك الآنات بمثل ما يُعبأ بأحداثها حتَّى الصَّغير والوضيع منها كالتُّراثيات والآثار التَّأريخيَّة القديمة للتَّذكُّر والتَّذكير بها فضلاً عن بعض الأحداث الكبيرة والقديرة الَّتي مجَّدت بأهميَّتها وخلَّدت بخطورتها أو قُدسيَّتها حتَّى النَّاحية الزَّمنيَّة البالية في أهميَّة ذكرياتها.

بل ذاب الحدث الخاص بها في الزَّمان وذاب الزَّمان في الحدث إلى أن اندمج الزَّمان بمكان الحدث والمكان في حدثه الزَّماني غير المنفك عنه، وكأنَّ ذلك الزَّمن يعيش مع المعتقد به في كلِّ يوم وإن كانت بعض مصاديق هذه الأمور تختلف باختلاف أهل الدِّيانات السَّماويَّة عن غيرها حقيقة أو اعتباراً.

ولذا جاء في القران الكريم ما ينبِّه على التَّلازم الاعتباري بين الزَّمان والمكان بسبب الحدث فضلاً عن المهم من الأحداث في قوله تعالى [فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى](1) وقوله [وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ](2)، فلماذا لم يطلق في صدق الحدث على ما هو الأعم من المتلبِّس ما انقضى عنه التَّلبُّس؟

ولهذا ظنَّ الظَّانُّون عدم جريان النِّزاع في اسم الزَّمان بينما نحن كنَّا قد ذكرنا أنَّ اسم الزَّمان من تلك الأسماء المستعملة في باب المشتق الأصولي حتَّى بالَّذي يمكن أن يطلق عليه بالمصدر الميمي على وزن (مضرب) الدَّاخل فيه الزَّمان والمكان وما

ص: 50


1- سورة الأعلى / آية 9.
2- سورة الذاريات / آية 55.

جمع بينهما وبين الحدث.

فجاء في ظنِّهم على ما قدَّمناه من الوجهة العامَّة حول الموضوع المبحوث عنه وشروطه أنَّه يُعتبر في جريان اسم الزَّمان بقاء الذَّات مع زوال الوصف مع أنَّ زوال الوصف في اسم الزَّمان ملازم لزوال الذَّات لاعتبار استمراريَّة انصرام وجوده، لأنَّ كل جزء منه ينعدم بوجود الجزء اللاحق فلا تبقى ذات مستمرَّة ومن ذلك ساعات الأيَّام واللَّيالي وأسماء أيَّام الأسبوع وأسابيع الشَّهر والأشهر وفصول السَّنة.

فإذا كان مقتل زيد مثلاً يوم الجمعة فيوم السَّبت الَّذي بعده ذات أخرى من الزَّمان لا يمكن فيها تصوُّر القتل لزيد لتحديد يوم القتل له يوم الجمعة، لعدم جواز البناء على اعتباره في بعض الحالات كالدقَّة الَّتي في باب المرافعات.

ولكن في الجواب: وإن كان هذا الأمر بالدقَّة الفلسفيَّة في الجملة المتعدِّدة كثيراً أو حتَّى قليلاً قد لا يُعتنى به عن التَّوسُّع في الاعتبارات ذات بعض التَّلاقي حتَّى المعنوي الإنساني والعاطفي والقيم الدِّينيَّة الَّتي خضع حتَّى الفلاسفة من الموحِّدين لها وغيرهم من القائلين بالتَّوسُّع في بقعة الإمكان وما منعوا من تلاقي المقولات التِّسعة كالزَّمان والمكان والجِدة ونحوها كان يرسِّخ الحدث في ضخامته في زمان المكرَّر والمعاد ومكانه المراد وإذا كانت الفلسفة في بعض جوانب المنحرفين من مريديها

فإنَّه لا يعني ذلك عدم معرفة حكماءها المهمُّين للقيم الَّتي تفوق ظن الظانين معنويَّاً بالمرَّة بل إنَّ الأمر أكثر من هذا وكما قال تعالى [لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ](1) وغيره.

نعم يمكن أن تظهر صحَّة هذا الأمر كما أراده الظَّانوُّن لو كان لاسم الزَّمان لفظ مستقل مخصوص ولكن الحق في المقابل هنا أنَّ هيئة اسم الزَّمان موضوعة لما هو يعم

ص: 51


1- سورة التَّوبة / آية 33.

اسم الزَّمان والمكان لا خصوص الزَّمان المنفلت عن الأحداث العاديَّة وكأنَّ حدثه لم يكن له أيَّة أهميَّة ويشملهما معاً كما سلف التَّمثيل له بالمصدر الميمي وتعيُّنه زماناً دون المكان لاشتراكه المعنوي بنحو محتاج إلى القرينة المفهمة لإفراز أحدهما عن الآخر، ولعدم وجود القرينة يكون هذا الاسم مع ما ذكرناه من مرجِّحات الجامع بين الطَّرفين.

فإنَّه يكفي في صحَّة الوضع له وتعميمه لما تلبَّس بالمبدأ وما انقضى عنه أن يكون أحد فرديه يمكن أن يتصوَّر فيه انقضاء المبدأ وبقاء الذَّات ولو لشدَّة الحالة الاعتباريَّة بعلاقتها المتينة مع الذَّات كالشِّعارات المشهورة الَّتي قد تغلب حتَّى بعض أو كثير النَّواحي المجازية كما في قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ](1) كما في مقتل الحسين عَلَيْهِ السَّلاَمُ مكاناً وزماناً وحدثاً عظيماً ما كتب التَّأريخ المنصف حتَّى على لسان أعداءه مثله أبداً، وإن سعى بعض أعداء آخرين إلى ما يشوِّش هذا الحدث العظيم، لأنَّ الأمر كما قال الشَّاعر الكربلائي علي محمد الحائري(2) ~:

كذب الموت فالحسين مخلَّد *** كلَّما أخلق الزَّمان تجدَّد

ومن هذا الَّذي ذكرناه عن إمكان صحَّة الأعم من الزَّمان والمكان والحدث تبدو صحَّة كون المشتق حقيقة في خصوص ما تلبَّس بالمبدأ في الحال وفيما انقضى عنه التَّلبُّس أيضاً، بل أشادت به آيات تعظيم الشَّعائر في عمومها وإطلاقها كقوله تعالى [ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ](3).

ص: 52


1- سورة آل عمران / آية 169.
2- هو علي ابن محمَّد ابن محمَّد علي شمس الواعظين ابن زين العابدين الحائري، أديب وشاعر وتربوي، ولد في كربلاء عام 1933م وتوفِّي فيها عام 1999م.
3- سورة الحج / آية 32.

بل قد نصر هذا القول المحقِّق الأصفهاني u وتلميذه الأستاذ السيِّد الخوئي u والشَّيخ المظفَّر u بقوله (أنَّ هذا صحيح لو كان لاسم الزَّمان لفظ مستقل مخصوص، ولكن الحق أنَّ هيئة اسم الزَّمان موضوعة لما هو يعم اسم الزَّمان والمكان ويشملهما معا، فمعنى "المضرب" مثلاً: "الذات المتَّصفة بكونها ظرفاً للضَّرب" والظَّرف أعم من أن يكون زماناَ أو مكاناَ، ويتعيَّن أحدهما بالقرينة، والهيئة إذا كانت موضوعة للجامع بين الظرفين فهذا الجامع يكفي في صحة الوضع له..إلخ)(1).

بل نحن نثنِّي ونقول أنَّ الأمر يمكن أن يكون جارياً حتَّى في التَّجاوز عن حدِّ حقيقة زمان يوم عاشوراء المقدَّس ومكانه من طفِّ كربلاء وحدثهما العظيم الَّذي ارتبط ارتباط عشرات الملايين سنويَّاً بمصير الأمَّة الإسلاميَّة المستضعفة بل وعموم الإنسانيَّة المضامة حتَّى خرج من صميم تلك القلوب الحُسينيَّة بالتَّعاطف اللِّساني المثالي بأنَّ (كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء).

فالعمدة أنَّ النِّزاع يكون في وضع أصل الهيئة الَّتي تصلح للزَّمان والمكان لا لخصوص اسم الزَّمان، ويكفي في صحَّة الوضع للأعم إمكان الفرد المنقضي عنه المبدأ في أحد أقسامه وإن امتنع الفرد الآخر من حالة الانقضاء كالباري جلَّ وعلا في اسمه لعدم خضوعه للمقولات التِّسعة ومنها ما انقضى زمانه.

الأمر السَّابع: دفع وهم

بمعنى أنَّ اختلاف المبادئ لا يخرج المشتقَّات عن محل النِّزاع

جرى التَّوهُّم كالعادة أيضاً في بعض الموارد النِّزاعيَّة، ففصَّل بعضهم بين ما إذا كان المبدأ على نحو الفعليَّة كالضَّرب والشُّرب والقيام ونحوها من المبادئ حال

ص: 53


1- أصول الفقه ج 1 ص99 - 100.

ممارسة هذه الأفعال.

وبين ما إذا كان المبدأ من قبيل الحرفة ك- (البقل) والملكة ك- (الاجتهاد) والمهنة ك- (القضاء والطِّبابة) والصَّنعة ك- (النِّجارة) ونحو ذلك.

وقالوا بأنَّ النِّزاع لا يجري في بعض المشتقَّات الجارية على الذَّات مثل البقَّال والمجتهد والقاضي والطَّبيب والنجَّار.

بينما الواقع أنَّه حصل الاتِّفاق بل الإجماع على أنَّ هذا موضوع للأعم كالمطلب السَّابق وهو الصَّحيح والأعم من آخر الجزء الأوَّل.

ومنشأ هذا التَّوهُّم ليس هو كما قد يتصوَّر منهم كما مثَّلوا بما كان المبدأ على نحو الفعليَّة مثل الضَّرب والشُّرب والقيام من الحالات غير الرَّاسخة في بعض حالاتها مثل رسوخ المهن والحِرف والملكات، فإنَّ مستوى الضَّرب والشُّرب والقيام الَّتي قد تأتي مصادفة فإنَّها قد تأتي وتنتهي بانتهاء تلك المصادفة حتَّى لا تُقاس تلك المهن والحِرف والملكات عليها وهي مختلفة عن تلك برسوخ معانيها فيها بعد الاستراحة من حالات التَّلبُّس بها.

بل هو فحوى قول بعضهم أنَّا نجد صدق هذه المشتقَّات حقيقة على نحو من انقضى عنه التَّلبُّس بالمبدأ - من غير شك - وذلك نحو صدقها على من كان نائماً - مثلاً - مع أنَّ النَّائم غير متلبِّس بالنِّجارة أو الخياطة أو البقالة أو الطِّبابة أو القضاء أو الاجتهاد فعلاً ولكنَّه كان متلبِّساً بها في زمان مضى وانقضى وسيتلبَّس بذلك بعد انتهاء النَّوم والاستراحة ما لم يترك تلك الأمور ناسياً ونحو ذلك.

وكذلك أسماء الآلات كالمنشار والمقود والمكنسة فإنَّها تصدق على ذواتها حقيقة مع عدم التَّلبُّس فعلاً بمبادئها حينما تترك الممارسة بمؤدِّياتها إلى وقت آخر حينما تأتي الحاجة إليها في أي وقت تكون لها.

والجواب عن توهُّمهم أنَّهم غفلوا عن معنى المبدأ المصحِّح لصدق المشتق فهو

ص: 54

مختلف، حيث تارة يكون من الفعليَّات وأخرى من الملكات وثالثة من الحِرف والصِّناعات.

فحل الإشكال مبتن على أمر الرُّسوخ الَّذي ذكرناه ممَّيزاً من عدمه إلاَّ إذا زالت تلك الصِّفة عن صاحبها بالمرَّة فإذا نام أو تعطَّل عمله بنحو التَّقاعد الكامل أو نسى معلوماته فإنَّه لا محالة يكون كالحالة الأولى وهي الفعليَّات الَّتي مع صدق القيام أو الضَّرب أو الشُّرب فيها تكون الحقيقة حقيقة حين التَّلبُّس بالذَّات أو حتَّى ما هو الأعم في بعض الأحوال إذا كان الضَّرب والشُّرب والقيام بلسان الأسماء المشتقَّة من الأفعال دون نفس الأفعال والمصدر معها حينما لم يكن يصحِّحه إضمار تقدير.

الأمر الثَّامن: مختارنا في المقام

مختارنا في المقام من حيث البداية أنَّ المشتق حقيقة في المتلبِّس بالمبدأ، مجاز في غيره من حيث الصِّناعة العلميَّة.

ودليلنا عليه التَّبادر وعدم صحَّة السَّلب، وعلى المجاز صحَّة السَّلب عمَّن زال عنه الوصف للفعل الَّذي لا تعدُّد فيه لو انتهى زمانه، إلاَّ إذا كان لعنوان الصِّفة مع المعنون ديمومة خاصَّة على ما مرَّ ذكره في الملكات والحِرف والصِّناعات ونحوها كما سنشير إليه، فلا يقال للقائم أنَّه قاعد ولا للجاهل أنَّه عالم فعلاً ونحو ذلك بما لا مجال فيه للتَّشكيك وفي المجاز سعة في غير ما هي الحقيقة.

نعم قد تتوسَّع الحقيقة في بعض المستثنيات إذا صدقت الحرفة والملكة والمهنة والصَّنعة وكذا الآلات الماضي ذكرها في كل زمان تقام فيه ما لم تنس وتهجر من دون حاجة في صدقها إلى قرينة.

وإنَّ الأمثلة الَّتي تكلَّم فيها الفقهاء والعقائديُّون وضربوا لها أو لبعضها نصوصاً من الآيات والرِّوايات وصارت مورد الاحتمال على ما هو الأعم من حالة التَّلبُّس

ص: 55

بالمبدأ، وهو شمول بعض ما انقضى عنه التَّلبُّس بالحقيقة على ما ساعدت تلك الأدلَّة عليه بينهم فهو الَّذي لم ينتف عدمه.

لكوننا فيما مضى لم يظهر عندنا ما يُثبت ركيزة أصوليَّة صناعيَّة عامَّة لجميع حالاتها تغلب كل طاقات المتضلِّعين الفقهاء أو تساويها في بعض الحالات كخصوص حالة ما تلبَّس بالمبدأ.

ولذا قال الإماميَّة القدامى مع دليلهم والمتأخِّرون كذلك ما يوافق الرَّأيين، مع كوننا نقول ذلك على مبنى التَّخطئة دون التَّصويب.

فالنَّتيجة لابدَّ وأن تكون بأنَّ الحق ما يوافق عليه الرَّأي الفقهي منَّا ومن غيرنا لو سار على وفق ما نهج منهجنا بعد استفراغ الوسع له، لكونه لابدَّ وأن يفوق هذا الرَّأي الأصولي الصِّناعي المحدود من بحث المشتق إذا كان أقل عمقاً من العمق الفقهي المتعارف عندنا.

ص: 56

الأوامر والنَّواهي الإلهيَّة في آيات الأحكام

وما يلحق بهما من السنَّة

مدخل البحث العام

قد تعارف بين الأصوليِّين قديماً وحديثاً في الظاهر المعمول به للتَّدوين أنَّه من بدايات بحوث مباحث الألفاظ، ونخص بالذِّكر وبالصِّفة الأقرب إلى واقع النُّصوص والظواهر الشَّريفة كتاباً وسنَّة، وهي المطلوب في النَّتيجة النِّهائيَّة للوصول إليها وإن تحرَّروا عنها عقلائيَّاً علميَّاً خدمة للصِّناعة - أنَّها لابدَّ أن تكون مطابقة للمنهجيَّة العربيَّة وإن أمكن الشَّرح أو لزم لمن لا يقوى عليها في بعض أدوار تحصيل الأصول أو احتيج إلى بيان المقصود في البحوث العلميَّة الأصوليَّة بغير لساني الكتاب والسنَّة من البيانات الأخرى ولو كمعين لفهم المقصود الكامل إن تعرَّف الآخرون على شيء من هذه العربيَّة أو حتَّى على اللَّهجات العربيَّة غير المألوفة لو توقَّف أمر فهم المقصود الكامل الأكمل على التزام الأستاذ العارف بالبيان به.

ومن ذلك ما يتعلَّق بما نحتاج إليه من المقارنة بين لغة القواميس العربيَّة وما فيها من الكلام عن الأوامر والنَّواهي في عموم اللُّغة وبين لغة الاصطلاح الأصولي العام الصِّناعي ثمَّ الدنو إلى ما يخص الكتاب الكريم وحول ما هو الأخص من عموم الأوامر والنَّواهي القرآني وهو آيات الأحكام وما يناط بها من السنَّة من القرب التَّام أو ما كان بالنَّحو الأبعد بعض الشَّيء بعد الكلام عن عمومهما الفقهي من تلك الآيات وروايات الأحكام الأوسع من خصوص تلك الآيات كما في نسخ السنَّة بالكتاب ونسخ الكتاب بالسنَّة على ما سوف يجيء.

ص: 57

علماً بأنَّ هذا البحث المهم القابل للتَّوسعة في أمره - وإلى بحوث فرعيَّة أخرى بحيث لا تقل أهميَّتها من حيث هي إن توسَّعنا فيها واكتفينا حتَّى بالإشارات المفهمة إلى ما يُراد من البحث الكبير والتَّوسعة فيه أو في الفروع -

لابدَّ أن تظهر بسببه أوسعيَّة البحث الكبير العام، وتمام الكلام لابدَّ أن يتم نوعاً بما يلي من الأمور:

أوَّلاً - لابديَّة العلم المسبق ولو إجمالاً

بكون الحالة بين هذه الأوامر على أنحاء هذا أوَّلها.

ولتأتي تفاصيل هذا الأوَّل في طيَّات المباحث المناسبة الآتية وبما لا يخفى على المتتبِّع الحاذق.

أ/ عن أهميَّة دور الأوامر والنَّواهي الإلهيَّة أصوليًّا لفظيَّاً في تثبيت الأحكام الشَّرعيَّة ومدى الحاجة إليها:

ولأجل هذه الأهميَّة نقول:-

إنَّ أهم مباحث الألفاظ الأصوليَّة للفقه الإسلامي - والَّتي لولاها لم تعرف الأحكام الشَّرعية التَّكليفيَّة الخمسة بالدَّرجة الأولى من صيغها المتعارفة وتوابعها من الأحكام الوضعيَّة الماضي ذكرها في الجزء الأوَّل حول مقدِّمات مباحث الألفاظ في كلامنا عن فهرست الدِّراسات الأصوليَّة ص124 وما أضيف إليه بعد ذلك من الجزء الماضي وكما سيتَّضح هنا في هذا الجزء من البحوث المشابهة والأهم ممَّا يناسب نفس مباحث الألفاظ بعد تلك المقدِّمات والأوسع - هي مباحث الأوامر والنَّواهي الواردة في القرآن الكريم والَّتي تشمل كل ما يجب وما يستحب وما يحرم وما يكره وما يباح من مداليل ألفاظها.

لأنَّ الأوامر والنَّواهي وما يلحق بها من توابعهما الآتية في بابها من الآيات هي

ص: 58

الوسيلة اللَّفظيَّة الأقرب لاستنهاض العبد للطَّاعة والانقياد إلى الحكم الإلهي ولو بالتَّجرُّد عن بعض القرائن إذا كانت الفطرة البشريَّة سليمة من التَّلوُّث من هنا أو هناك ولكن لم تكن تلك الفطرة السَّليمة وذات العقل السَّليم هي السبَّاقة بالاهتداء إلى الصَّواب عادة قبل ورود اللَّفظ الاصطلاحي المستنهض لها تبعاً للمعنى الحقيقي لكل معنى حقيقي تمَّت قرائنه المحتاج إليها، أو لم تتم حتَّى لو سَلمت تلك الفطرة وهو صراحة تلك الأوامر والنَّواهي أو توابعهما وهي الَّتي يتَّضح - عن طريقها حسب المتعارف عند انفتاح باب العلم - أغلب الفقه الخاص ممَّا يسمَّى بالمولويَّات.

بل وإلى حدِّ أن يتجاوز هذا عن حدود أحكام الشَّريعة الفقهيَّة إلى أحكام العقيدة الإسلامية المرادة في رسوخها قبل تطبيق الفقه، لوجوب معرفة المرسل تعالى والرَّسول 2 وحافظ الرسالة الموصل والهادي وهو الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ مع بقية العقائد قبل ذلك وإن لم يسقط التَّكليف عنه عقلاً وهو ما قد يسمَّى بالفقه العام.

فيكون اللِّسان الشَّرعي الإلهي في المقام الحالي هو الأوَّل من هذه الأصول، وهو تلك الأوامر والنَّواهي المصاحبة لآيات الأحكام - مورد بحثنا الخاص المستمر من هذا المدخل الماضي - ويتبعه الأحكام الوضعيَّة من الصحَّة والفساد والقبول والرَّد ونحوها من نفس تلك الأوامر والنَّواهي أو من تلك أيضاً ولو بمعونة أدلَّة أخرى كما سيتَّضح في بحث مستقل لها تمَّت باصطياد ومن سعي حثيث للفقهاء "رحم الله الماضين منهم وحفظ الباقين" ممَّا كان قد حقَّق لهم قواعد هم الَّتي انطلقوا منها بهذه الأحكام الوضعيَّة وإن جاء في بعض نصوص الآيات أو ظواهرها من بعض الموارد أو الرِّوايات الأخرى ما يُشيد أو يؤكِّد شيئاً مهمَّاً من هذه الأحكام كما سيجيء.

ويكون اللِّسان الثَّاني هنا هو المصاحب لآيات العقائد وهو فيها وإن كان في ظاهره يشبه اللِّسان الأوَّل في أداء وعطاء النَّتيجة وهو نفس الوجوب أو ما يؤكِّده

ص: 59

بالتَّعبير الأصح مع سبق أصول العقائد الأساسيَّة في الأصول رتبة للفقه كما لا يخفى كتوحيد الله كما في قوله تعالى [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ](1) والحرمة كالشَّرك بالله والعياذ به في قوله بصيغة النَّهي في قوله [لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ](2) ونحوهما من الأحكام بمستوى ما يثبت من آياتها ممَّا يناسبها في مقاماتها الخاصَّة كعدم جواز التَّخلُّف عقائديَّاً في مؤدَّى الوجوب والحرمة عن حدِّيهما العقليَّين المنكشفين بالنُّصوص القرآنيَّة وعدم رجحان التَّخلف في ذلك في مؤدَّى الاستحباب والكراهة من حدِّيهما والتَّساوي في مقام الإباحة ممَّا هو موضَّح في محلِّه وليس هذا محل تفصيله.

إلاَّ أنَّ الأوَّل وهو الفقهي هنا يعد دليلاً أساسيَّاً مثبتاً للحكم الشَّرعي في جميع الفقه من حيث المبدأ إن توفَّرت ألفاظه ولو بمعونة السنَّة من دون انسداد، أو كان الانسداد جزئيَّاً غير ضار في وجوب متابعة موارده وإلى حدِّ ما عدا ما يرتبط منه بالأصول العمليَّة من المستحدثات أو بعضها بسبب ذلك الانسداد إذا كثُر.

والدَّليل الأساسي للأوَّل من الآيات وتوابعها من الرِّوايات عند الانفتاح وما يلحق به من الانسداد الجزئي يطلق عليه بالمولوي على ما سيجيء ذكره، وعند الانسداد الأكثر في باب المستحدثات الخالية من الدَّليل المولوي يكون المستمسك للعقل الشَّرعي هو الأدلَّة الإرشاديَّة على ما سيجيء بيانه.

ومن هنا يأتي دور الاستدلال العقلي لصالح أصول العقائد لما سيأتي توضيحه قريباً جدَّاً.

ب/ أن تتَّصل الأوامر بالنَّواهي اتِّصال المطابقة من الدِّلالات الثَّلاث فيقسِّر الأوَّل بالثَّاني وبالعكس على ما سيتَّضح أمر ذلك وهو ما يجعل الأمر والنَّهي معاً بمستوى واحد في علاقتها بمبحث الألفاظ بدون تفاوت وهو ما يصحِّح حمل الأمر

ص: 60


1- سورة الإخلاص آية /1.
2- سورة لقمان / آية 13.

على النَّهي والنَّهي على الأمر إن كان.

ج/ أن تنفصل الأوامر بالكليَّة عن النَّواهي وبالعكس وهي حالة استقلال الأوَّل عن الثَّاني وبالعكس، وهو ما سيأتي الحديث عنه تحت عنوان النَّواهي المستقلَّة إلى آخر هذا الجزء، وهو الأكثر وضوحاً في ارتباطه التَّام بما يناسبه من مباحث الألفاظ كالصَّلاة في الدَّار المغصوبة من أول وقتها إلى آخره وجوباً وأداءاً وكذلك الصَّلاة في المسجد المتنجِّس.

د/ علاقة النَّواهي بالأوامر علاقة إجماليَّة بنحو الدِّلالة التَّضمُّنيَّة دون المطابقيَّة كالأمر بالصَّلاة والنَّهي عن فعل المنافيات مع القدرة على ترك المنافيات، ويلحق بذلك علاقة النَّواهي بالأوامر بنحو الدِّلالة الإلتزاميَّة، فإنَّ تبعيَّة الحالتين لما يُسبِّب بطلان الصَّلاة مثلاً أو حرمة ارتكاب المنهي عنه لم تدخل في صميم الكلام عن مباحث الألفاظ بالنَّحو الطَّبيعي كما في (ب) و (ج)، وإنَّما سوف يتَّضح أمرهما عند الحديث عن مسألة الضِّد المتعلِّقة بغير المستقلاَّت العقليَّة ومقدِّمة الواجب والإجزاء والمفاهيم وغيرها ممَّا يصح أن تكون غير المستقلاَّت العقليَّة طريقاً له من بين ما يأتي بيانه من توابع الأوامر غير المستقلَّة.

ثانياً - العقائديَّات النَّظريَّة أو غير الضروريَّة

وترجيح إلحاقها بالفقه العام

والثَّاني وهو العقائدي فإنَّه يُعد دليلاً إرشاديَّاً كاشفاً عن الدَّليل العقلي الأساسي المطلوب في جميع العقائد الضروريَّة البديهيَّة كما هو محقَّق في مواضعه من بحوث آيات العقائد وما يناط ببحوث علم الكلام المختص بأدلَّته ولم يستثن إلاَّ العقائد غير الضروريَّة التَّابعة

للأدلَّة الشَّبيهة بأدلَّة الفقه، إلاَّ أن نلحق هذا الثَّاني في الأوَّل ونقرِّبه منه في مواضع الارتباط والتَّلاقي ليكون كالدَّليل الأساسي والمثبت

ص: 61

المماثل له في حصول هذه الأحكام أو هو نفسه في خصوص هذه المواضع، ولكن في خصوص هذه العقائد غير الضروريَّة كما لا يخفى لا غير أو ما أمكن فيه اجتماع المدركين، لكونها من الَّتي تفاوتت بعض العقول الذكيَّة في نتائجها مع أدلَّتها منطقيَّاً وكلاميَّاً ومن فرعيَّات تلك العقائد كما في الأمور الفقهيَّة السَّابقة والَّتي لن يكون لها بعد اليأس الاستدلالي العقلي التَّام والمستقل عن ارتباطه إلاَّ بالأدلَّة الإرشاديَّة عن أن يكفيها منقذاً ومخلصاً بصحَّة الاعتقاد بها إلاَّ هذا اللسان القرآني الثَّاني، ولكنَّه في تخريجه الاستدلالي حينئذ لا يفارق اللِّسان الفقهي المولوي أيضاً في نوعيَّة تخريجاته ولو بالاستعانة بالمأوَّلات القرآنيَّة الصَّحيحة سواء من ربط القرآن بالقرآن أو القرآن بالسنَّة، وهو وارد في كثير من صغريات العقائد أو عموم غير البديهيَّات العقائديَّة الفطريَّة، وإن أعانت على ذلك كثيراً السنَّة الشَّريفة الواردة عن العترة الطاهرة والموثَّقات التَّامَّة أو حتَّى لو احتيج في بعض الأوقات إلى بعض روايات العامَّة للاستفادة عن طريقها من قاعدة الإلزام لهم كثيراً في ذلك لو لم يؤمن بعض العامَّة بمكثور وصحاح رواياتنا عند تشنُّجاتهم الكثيرة البادية من أيَّام الحروب الطَّائفيَّة وحتَّى الآن كما في زيارة قبور الأولياء والرَّجعة والبداء والشَّفاعة والتَّوسُّل ودقائق البرزخ وسؤال الملكين في القبر والعبور على الصِّراط والحساب والمعاد الجسماني والشُّرب من حوض الكوثر والخلود في الجنَّة أو النَّار لمستحقِّهما وعصمة النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم قبل بعثته للرِّسالة وعلامات الظهور غير المجمع عليها من قبلهم لصاحب الأمر f بين أهل الاعتقاد بها وأدلَّة كونه المولود المغيَّب بعد الحسن العسكري u ونحو ذلك الكثير من فقهيَّات الفرعيَّات العقائديَّة والفرعيَّات الأصيلة المختلف فيها .

كما وأنَّه قد يلحق بعض الأدلَّة الأصوليَّة الإرشاديَّة للفقه الإسلامي نفسه من بعض مستحدثاته في هذه المشابهة بعد اليأس من الأدلَّة الطَّبيعيَّة الأوليَّة والأساسية من الكتاب والسنَّة والإجماع والسِّيرة العمليَّة المستمرَّة أو عمل الأصحاب بما يشبه

ص: 62

هذا اللِّسان الثَّاني المرتبط بالعقائد حينما كان إرشاديَّاً في ضروريَّاتها، فيقوم العقل بإجراء أحكامه العقليَّة بعد استنتاجه لها حينذاك، وهي الَّتي لم يكن متخلِّفاً فيها يوماً عن حكم الله تعالى لو خلِّي وطبعه بسبب تماميَّة معقوليَّة حسن الإحسان وقبح الظلم الَّتي أعدَّت عنده كقاعدة ومن غير المستقلاَّت العقليَّة من الَّتي أرشدت إليها هذه الأدلَّة الإرشاديَّة من مقامات المستحدثات الغريبة الَّتي لم يعثر لها على دليل لفظي اعتيادي مباشر من الكتاب أو السنَّة أو نحوهما ممَّا عدا هذه الأصول، وهو ما يسمَّى بالأصول العمليَّة المقرَّرة للشَّاك في مقام العمل، حتَّى أخذ من جرَّاء ما ذكرناه لسان الدَّليل العقائدي شيئاً أو بعض شيء من أسلوب تخريج لسان الدَّليل الشَّرعي بأتِّباعه له في مثل ما مرَّت الإشارة إليه من فرعيَّات العقائد غير الضَّروريَّة ممَّا لم يستغن عن الدَّليل اللَّفظي.

ويتبع هذا الأمر الأمور الأخلاقيَّة كذلك ، لكونها عقليَّة في أساسها مع الإرشاديَّات ولكنَّها تحتاج إلى الألفاظ في المقامات المشابهة لو توفَّرت.

وهكذا أخذ الشَّرع - في فقهه نتيجة لما عرَّفنا الفقهاء به أصوليَّاً عن الدَّليل الإرشادي وإن كان المتصرِّف الأساسي هو العقل في التَّخريج - شيئاً من أساليب الدَّليل العقائدي ليبرِّر ذلك التَّصرُّف بالأدلَّة الإرشاديَّة ويكون بهذا البيان الَّذي ذكرناه تقارب بين اللِّسانين في بعض الأمور وبين العقلين في البعض الآخر وإن كان لكل من اللِّسانين موقع بحثه الخاص كالعقل في المقامين بحسب الدقَّة الموضوعيَّة والحكميَّة.

وعلى هذا قد يصل بنا الكلام المناسب إلى شيء أو بعض شيء ممَّا يخص اللِّسان الأصولي المشابه إلى ناتج واحد وإن كان ناتج هذا الاستدلال هو ممَّا يخص العقائد الفرعية فيجتهد فيها المجتهد ويرجع العامي فيها لو لم يقدر على ممارسته الاستدلاليَّة بنفسه تقليداً إلى ذلك المجتهد كما في الفقه، وقد عرفنا عن السيد الأستاذ

ص: 63

السيد الخوئي u أنَّه ممَّن يرى هذا الرأي وغيره كذلك وهو الصَّحيح في محلِّه على ما أوضحناه في كتابنا الفقهي الأصولي العلمي الخاص على (الاجتهاد والتَّقليد والاحتياط) المرتبط بالعروة الوثقى.

وقد يصل بنا الكلام المناسب أيضاً إلى ما يخص اللِّسان الأصولي الشَّرعي الإرشادي والمتصرِّف هو العقل وبما يشبه دليل العقائد الإرشادي ولكن بالصُّورة الأقرب إلى الشَّرع كما بينَّا والنَّاتج أمر فقهي محض داخل في صميم أحكام الفقه الخاص والعام، ولذلك جعلنا الكلام هنا عن الأوامر والنواهي في واقعه عمَّا يمكن أن يلتقي به اللِّسانان أو يتقارب فيه المقصدان لاحتواء أكبر نسبة ممكنة من الفوائد.

ثالثاً - ما يُناط بالمقام الخاص من بحث الأوامر والنَّواهي من السنَّة

هذا وبعد معرفة هذه الأهميَّة الإجماليَّة من أوامر ونواهي القرآن الكريم والَّتي أهمها ما في آيات الأحكام، وإن جاوزناها إلى شيء مناسب آخر في القرآن من بعض الوجوه أو كثيرها، لإتمام الفائدة أو لفسح المجال للذِّهن المحتاج عند استقامته من هذا التَّجاوز إن كان يحتمل أن يستفيد المحصِّل ما يناسب بصورة أفضل.

فلنعرف لإتمام الفائدة وتقويتها وتوضيحها بصورة أحسن كون السنَّة الواردة عن النَّبي 2 والَّتي حملتها لنا العترة الشَّريفة بالمرتبة الثَّانية بعد الكتاب وآيات أحكامه هي نفسها المحتاج إليها كذلك لدعم آيات الأحكام في أوامرها ونواهيها وما يلحق بهما منها فيما بيَّناه لا لعجز لا حلَّ له في الكتاب وإنما للإجمال الَّذي فيه حسب الحكمة الوضعيَّة الإلهيَّة لما هو مثبت في موضعه من هذه الموسوعة وبحوثها وللحكمة الإلهيَّة في ذلك كلِّه، وقد أوضحنا بعض هذه المضامين في الكلام عن السنَّة ببيان خاص آخر عن أساسيَّات مدارك الأحكام وهو الثَّاني بعد كتاب الله تعالى فلا نفصِّل الآن إلاَّ في تلك المناسبات الآتية.

ص: 64

ويلحق بالسنَّة المذكورة عند التَّوسُّع فيها المرويَّات عن طريق العامَّة ممَّا أشرنا إليه ممَّا يمكن الانتفاع به لدفع الشُّبهات المعادية من بعض أهل التَّسنُّن المعارضين ولإلزامهم بما ألزموا به أنفسهم ومن كتبهم، وبنفس الحاجة الأصوليَّة إلى البحث عن الأوامر والنَّواهي المرتبطة بها وغير المنفكَّة عنها لكون مباحث الألفاظ الأصوليَّة العامَّة مرتبطة ومنحصرة على الأكثر في هذين المدركين المهمَّين بمستوى متوافق إلاَّ بفارق المهم والأهم والتحاق الثَّاني بالأوَّل وتبعيَّته له على ما سوف يتوضَّح في مجال خصوص الكلام عن السنَّة ما عدا حالة الحاجة الأهم للثَّاني كما في توقُّف فهم الأوَّل على الثَّاني وهو سر اهتمام النَّبي 2 بالوصيَّة بالثِّقلين وبما لا يقلِّل من شأنيَّة أهميَّة الأوامر والنَّواهي والكلام المسهب عنهما وعن خواصِّهما في المدرك الأساس ومن ثمَّ في تابعه كما مر، اهتماماً بغرضنا في هذا التَّدوين لهذه الموسوعة.

ولذا ينبغي التَّنبُّه إلى أنَّ بحثنا هذا وإن كان يخص آيات الأحكام في بعض أو كثير الوجوه أو عموم البحث في أوامرها ونواهيها أو عموم البحث عن الأوامر والنَّواهي المولويَّة والإرشاديَّة الآتي بيانها للاعتبارات الماضية الَّتي ذكرناها، إلاَّ أنَّه لا ينبغي أن تفوتنا فوائد السنة المعاضدة في أوامرها ونواهيها في كثير وجم غفير من المهمَّات الصَّعبة الَّتي عن طريقها فهمت ضوابط الأحكام الخمسة الَّتي في آيات الأحكام المولويَّة منها والإرشاديَّة وللجامع اللَّفظي في المدركين، بل يجب فهم ذلك في كل مواضع الوجوب لإفراز الأحكام الخمسة بعضها عن بعض لئلاَّ تختلط بسبب الجوامع اللَّفظيَّة المشتركة في جملتها، فالبحث إذن في واقعه شامل للاثنين معاً في مسألة اخراج القاعدة الأصوليَّة الموحَّدة للاستفادة منها وإن كان كل منهما مختلفاً عن الآخر بحسب رتبته ومورد الحاجة بالدِّقَّة إليه لما مرَّ ذكره من مورد الالتقاء المفيد وهو واضح ممَّا كرَّرناه في البيان.

إضافة إلى ما يمكن أن يستفاد منه هذا الحكم الشَّرعي أو ذاك - من أساليب

ص: 65

قرآنيَّة أخرى غير نفس الأوامر والنَّواهي وتوابعهما المتعارفة اصطلاحيَّاً - بالدَّرجة الثَّانية وكعوامل مساعدة مهمَّة على هذا الفهم للأحكام الخمسة المذكورة وإن كانت عند البعض قد تُعد أصرح من ذلك كألفاظ تحمل معها دلائل نفس الوجوب أو لفظه ومعناه ودلائل نفس التحريم أو لفظه ومعناه ودلائل الاستحباب ودلائل الكراهة ودلائل الإباحة كذلك حيث اصطلح عليها ذلك لهذه الأحكام أو ما يشبهه بما سنوِّضحه، وكذلك من أساليب السنَّة الملحقة الأخرى وبما قد يكون أصرح كثيراً من هذه العوامل المساعدة وبما قد يقل في أموره النِّزاع بين الأصوليِّين وكذلك من أساليبها الأخرى كقول المعصوم وفعله وتقريره عن هذه الأحكام، لأنَّ السنَّة قطعيَّة المعاني بعد ضبط أسانيدها ولو لإمكان العثور عليها عند دراسة مقدِّمات ذلك كما سيتَّضح أكثر عند التَّفريق بين الكتاب والسنَّة.

إلاَّ أنَّ الأهم الَّذي ينبغي أن نفتتح به الكلام عن هذا المقام أوَّلاً هو بحث الأوامر والنَّواهي المتعارفة في اللَّفظ من القرآن وتابعته السنَّة لتشخيص مدى تأثيرها الخطابي بين العلماء وإن كان المكلَّف الأخرس قد يستفيد أحكامه كذلك من معاني لسانهما بنحو الإشارة إليه ومن فعل المعصوم وتقريره إشارة عمليَّة على حدٍّ سواء ثمَّ الكلام عن البواقي من هذه الملحقات ثانياً، لأهميَّة هذا البحث الأوَّل على نحو التَّقيَّة من الأساليب، لأنَّ بأساليب غير الأوامر والنَّواهي الصَّريحة الَّتي استعملها الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ أمام جواسيس الطَّواغيت كانت تخلِّصهم من المشاكل كالكنايات أو الإشارات ونحوها ممَّا جاء في النُّصوص من ملحقات الأوامر والنُّصوص لعدم صراحتها ومن جهة تأثير ألفاظ الأوامر والنَّواهي البالغ في صراحتها بنحو عام لوحدها في استنهاض المكلَّف للإطاعة بسرعة وتنبيهه من غفلته بصورة أكثر للخلاص من خطورتها بالابتعاد عنها وإبدالها بما مرَّ وبالتَّمويه تقيَّة.

ومن الأساليب المماثلة عربيَّاً لما تؤدِّيه الأوامر والنَّواهي الصَّريحة هي ألفاظ أو

ص: 66

حروف أخرى لتفيد نفس فائدتهما على ما سيجيء ذكره والتَّمثيل له في الأمر الثَّامن.

ولذلك ظهر من بحوث الأصوليِّين أنَّه لو لم تكن هذه الأوامر والنَّواهي والأخريات الَّتي تأدِّي مؤدَّاها موجودة في لسان الشرع القرآني وما ألحق به من السنَّة لأمكن المتخلِّفين عن خطوط الشَّريعة المحدودة بحدود الخطورة المنهي عنها وهم كثيرون أن يحتجُّوا على الله تعالى حينما يريد أن يحاسبهم أو يعاقبهم يوم القيامة قائلين له بأنَّهم لم يرد أمامهم من المنبِّه الكلامي الشَّيء الكافي بمثل الأوامر والنَّواهي والبواعث والزَّواجر حتَّى يمتنعوا من هذا التَّخلُّف أو ذاك أو أنَّها كانت ولكن لم يستفد منها كون تلك الأوامر للوجوب والنَّواهي للحرمة حينما لم يحقِّق شيء علمي في أمرهما وغير ذلك.

هذا وإنَّ العلوم الأدبيَّة وكتبها الدِّراسيَّة في بحوثها الخاصَّة ابتدائيَّة ومتوِّسطة ونهائيَّة حول ألفاظ التَّخاطب المؤثِّرة كلُّها تفضِّل جانبهما حتَّى في مطلق التَّرجيح والمرجوحيَّة على الأساليب الأخرى من دلائل ثبوت التَّكاليف فلابدَّ إذن من البدء بالخوض أوَّلاً في هذين المطلبين المهمِّين بل والأهمَّين من نوع القضايا، وإن كانت بعض الأساليب الأخرى في بعض المقامات البلاغيَّة من هذه العلوم مؤثِّرة بصورة أكثر في أكثر الحالات، لكون جميعها بالدقَّة لا يمكن حسب التتبُّع أن تغلب دائماً جميع مصاديق حالتي الأمر والنَّهي المبحوث عنهما بالدَّرجة الأولى ولذلك جعلنا الكلام عن الأساليب الأخرى في المرحلة الثَّانية لا للاستهانة بهذه الأساليب بل لما بقي ممَّا يمكن أن يعتز به من بواقي الباب العلمي المفتوح على ما سيتَّضح.

ولأهميَّتهما أيضاً كانت بحوث المنطقيِّين روَّاد خادم العلوم في مباحث ألفاظهم العربيَّة لاعتبار الألفاظ عندهم قنطرة لإيصال المعاني إلى الأذهان تقرِّر هذا التَّقرير، وللغرض نفسه لكسب القوميَّات الأخرى إلى هذه المعاني الشَّريفة وعلى الأخص في

ص: 67

هذه الأهميَّة - كانت بحوث علمائنا الأصوليَّة اللَّفظيَّة المسمَّاة في بعض تعابيرالبعض بمنطق الفقه من مثل النُّصوص القرآنيَّة وتوابعها والظَّواهر والعموم والخصوص والإطلاق والتَّقييد والإجمال والتَّبيين والنَّسخ والبداء والمنطوق والمفهوم والورود والحكومة المتَّصلة بهما - مركَّزة عليهما بالأساس كما مرَّ ثمَّ على باقي الدَّلائل، ولهذه الأهميَّة كذلك يتفرَّع عنهما أوَّلاً بحث التَّعبدي والتَّوصلِّي والفور والتَّراخي والموسَّع والمضيَّق والمرَّة والتِّكرار ونحو ذلك من حالات التَّوسُّعات الأصوليَّة المحتملة بصفة التَّركيز عليهما أكثر من البواقي ثمَّ يكون الكلام عن البواقي إن اقتضى ثانياً، لمحاولة التَّعرُّف على مدى ما يمكن فهمه الأصولي عند التَّوسُّع من وجود قواعد أصوليَّة أو العثور عليها بالنَّحو الإضافي إلى ما ركَّزوا عليه في السَّابق لتذليل الصِّعاب الاجتهاديَّة بما هو أكثر من السَّابق من عدم ذلك.

رابعاً- معنى الأوامر والنواهي أو هل يمكن أن يقال عنهما

ذلك بنحو من الجمع وهو أنَّ الأمر نهي أو النَّهي أمر أم لا؟

قد يتطرَّق إلى الكلام عن الأوامر والنَّواهي في مألوف التَّوسُّع البحثي لمساعينا لصالح مباحث الألفاظ، سواء في مجال ما به كثرة النَّفع أو حتَّى قلَّته بلحاظات متعدِّدة ومختلفة، فمنها الحاجة إلى معرفة كلٍّ من الأوامر والنَّواهي على حِدة لغة ثمَّ اصطلاحاً للإحاطة بخواص كلٍّ منهما ذاتيَّاً لمتابعة كل ما يتعلَّق بكل من أمورهما من الأدلَّة المرتبطة بها مطابقة وتضمُّمناً وإلتزاماً.

منها ما يحق للباحث السَّعي له وإن قلَّ أو ضعف نفعه كما أشرنا في العنوان من حالتي الجمع الذَّاتي لكلٍّ من الأوامر والنَّواهي ليكونا كشيء واحد بنحو من المطابقة ليفسِّر أحدهما بالآخر وبما يقترب من ذلك ولو كحالة التَّضمُّن.

ومنها ما قد يصل من تعلُّق أحدهما بالآخر بنحو من الاقتضاء التَّلازمي العقلي

ص: 68

غير المستقل.

ومنها ما يُلحظ منه أمر المنافرة التَّامَّة أو ما يشبههما كما في مصداقي واجبي الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر المستقل أحدهما عن الآخر، لكون كل منهما التَّاسع والعاشر من فروع الدِّين العشرة، وقد أشرنا إلى شيء من هذه الأمور في المدخل الماضي، وسوف تكون خاتمة هذا الجزء الثَّاني من (المساعي) حالة الاستقلال التَّام أو ما يشبهه بين الأمر والنَّهي بإذن الله تعالى.

ولأهميَّة الحاجة إلى معرفة ما يخص كلاًّ من الأوامر والنَّواهي من المعاني على حِدة لابدَّ من نيَّة الشُّروع للخلاص من لازم ذكره قبل تفصيل القسمين المهمَّين ولو بنحو من اللَّف والاختصار

تلخيص الكلام عن اجتماع الأمر والنَّهي

لم يكن الكلام عن اجتماع الأمر والنَّهي وبما مرَّ التَّنويه عنه عند الأصوليُّين من البحوث الَّتي تكثر فوائدها كغيرها من مباحث الألفاظ وإن اعتني بها بين فقهاءهم بأن يُقرَّر هذا الاجتماع عندهم فيها على نحو من الصَّلاة في المحل المغصوب هل تصح أم لا؟

وبين الأصوليِّين منهم بأن يُقال إنَّ تعدُّد العنوان في الواحد هل ينفع في دفع محذور التَّضاد بين الأمر والنَّهي أو لا؟

وبين الباحثين عن أمور المبادئ الأحكاميَّة الَّتي مرَّ التَّعرُّض لها أيضاً - اختصاراً لصالح ما يتعلَّق بشيء من هذا الجزء كالَّذي قبله - في التَّمهيد الأوَّل من هذا الجزء الَّذي بين يدي المطالع إذا كان البحث في نفس الأمر والنَّهي من حيث حالاتها الفرديَّة والاجتماعيَّة بناءاً على أنَّ هذا الاعتناء منهم في البحث لا يخلو من غرض علمي مفيد إمَّا ثبوتاً أو ثبوتاً وإثباتاً ولو في الجملة، ولذا لا نحتاج إلاَّ إلى الاقتصار

ص: 69

على الملخَّص المفيد منه وإنَّ قلَّت مصاديقه، فنقول:-

أولاً: ذكر بعض الأصوليِّين إمكان الجمع بين الأمر والنَّهي لمعنى واحد على أساس أنَّ الأمر بالشَّيء هو النَّهي عن ضدِّه، وهو ما يعني إن أريد منه التَّّطابق العكسي كذلك في صيرورة النَّهي أمراً أيضاً وبالخصوص لو أريد من الضِّد الَّذي للأمر أنَّه الضِّد العام.

وهذا المعنى إن ارتضي به عندهم لن يكون إلاَّ بمعنى التَّرك لكي يكون ترك التَّرك مؤدِّياً معنى انقلاب نهي النَّهي إلى معنى الأمر نفسه، لكنَّه معدُّ من التَّكلفات الأدبيَّة الَّتي لم يتحمَّلها المصلحون منهم إلاَّ بتبديل التَّرك بلفظ الكف، لكونه أهون.

ومع ذلك لا فائدة كثيرة من هذا الاجتماع التَّوحيدي إلاَّ لتضخيم المعنى التَّأكيدي لمفاد الأمر إن أمكن استيعاب معناه.

ونحيل أمور التَّأكيد لهذا المعنى إلى مبحث الضِّد وما يتلوه من توابع الأوامر الآتية في أواخر هذا الجزء الثَّاني.

ثانياً: ذكروا أيضاً عن إمكان هذا الجمع بالمعنى الاقتضائي التَّلازمي عن طريقالعقل غير المستقل حينما يكون معنى الضِّد الَّذي في الأمر ضدَّاً خاصَّاً بمصداقيَّة إجماليَّة يأتي بعض أمثلتها في بحث التَّرتُّب من توابع الأوامر لهذا الجزء أيضاً.

ثالثاً: ذكروا أيضاً عن إمكان هذا الجمع حتَّى بمعنى ما يستقل من الأوامر عن النَّواهي استقلالاً كاملاً، وكذلك ما يستقل من النَّواهي عن الأوامر استقلالها الكامل من قسمي الأوامر والنَّواهي الآيتين قريباً بعد الانتهاء من تلخيص الجمع بينهما، لكن دون أن تكون حالته طبيعيَّة بنحو من المطابقة اعتماداً على قرار الكلاميِّين باستحالة أن يصدر من الحكيم العادل حكم واجب يزاحمه حكم محرَّم كقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى](1)، إلاَّ بنحو

ص: 70


1- سورة النساء / آية 43.

تضمُّني كحالتي العموم والخصوص من وجه كقوله (صلِّ ولا تغصب) أو العموم والخصوص المطلق ك- (صلِّ ولا تصلِّ في الحرير)، أو بنحو جمع في حالة استثنائيَّة كالصَّلاة في الدَّار المغصوبة في ضيق وقت الصَّلاة حالة الخروج جمعاً بين الحقَّين، وأكل الميتة مع حرمتها حالة الاضطرار وتجويز الالتحاق بصلاة الجماعة مشياً بعد التَّكبير اجتهاداً إذا كان بين المأموم وبين الجماعة الرَّاكعين لإدراكها مسافة تحوجه إلى المشي أو تقليداً لمن يجوِّز ذلك.

و لاستيضاح الأمر أكثر لهذا المطلب الثَّالث نحيل المطالع إلى خاتمة هذا الجزء الثَّاني.

العود إلى تفصيل ما يلزم بيانه

من معاني إمكان الاجتماع أو عدمه

وبعد الانتهاء ممَّا لزم من الكلام عن تلخيص اجتماع الأمر والنَّهي لنعود إلى تفصيل ما يلزم بيانه من معاني إمكان اجتماع الأوامر والنَّواهي الَّتي لو لم يصح أن يكون الأمر نهياً والنَّهي أمراً مطابقاً لجاز أن يكون تضمُّناً أو التزاماً اقتضائيَّاً على الأقل.

فإنَّ من بقاياه أنَّ معنى الأوامر مع ذكر بعض ما يلزم ذكره مختصراً من النَّواهي عند استلزام ذكره لصالح الاثنينيَّة المجتمعة ممَّا أمكن تصحيحه في تلخيص الاجتماع الماضي من بعض المصاديق وكما سوف يتَّضح أكثر إلى حين التَّفصيل المستقل عنها في محلِّه الآتي في الخاتمة بعد الفراغ من جميع شؤون اجتماع الأمر والنَّهي، هو:-

أنَّ معنى الأمر في مشهور تعاريف الأصوليِّين الَّذي هو مفرد الأوامر - غير الأمر مفرد الأمور الَّذي بمعنى الشَّيء - وأعني به الَّذي يصح منه الاشتقاق الصَّرفي على خلاف الأمر الَّذي بمعنى الشَّيء - إذا تجرَّد عن القرائن وأريد منه الوجوب على

ص: 71

القول السَّائد - يكون هو طلب فعل الشَّيء من العالي إلى الدَّاني مع المنع من التَّرك.

وهو مأخوذ ممَّا يتداول اجتماعيَّاً بين العقلاء كما يعرضه اللُّغويُّون في قواميسهم الَّتي لا تخلو من ذكر بعض مصطلحاتنا الخاصَّة أو ما يقرب منها.

إضافة إلى عموم ما يريدونه كقولهم للتَّشبيه (إذا قال السيِّد لعبده بعد الدِّفع له نقداً أو الوالد لولده كذلك اشتر لي من السُّوق خبزاً أو لحماً أو نحوهما)، وهو ما معناه بينهم إذا لم يمتثل العبد أمر سيِّده أو الولد أمر والده في ذلك لابدَّ أن يكون كل منهما في معرض المخالفة الموجبة للعقوبة أو الحرمان من رضا السيِّد أو الوالد أو لم يكن من الأخفض من مستوى الوجوب وهو الاستحباب ليصل الأمر بتركه إلى الكراهة (وهكذا إذا نهياهما عن فعل شيء لو تخلَّفا ففعلاه ممَّا يقتضي عكس قرار السيِّد أو الوالد تجاههما) وهو ما معناه بينهم استحقاقهما العقوبة من السيِّد أو الوالد حينما كان النَّهي عن فعل شيء لم يرض كلاًّ منهما على نحو من الغضب به أو ما هو حتَّى الأخفض الَّذي لم يسبِّب شدَّة في غضبه بالمرتبة الأدنى ليكون مكروهاً (وهكذا ما يتناسب مع تخيير السيِّد أو الوالد للغلام وللولدالفعل وعدمه من الأشياء) وهو ما يتناسب مع معنى الإباحة.

وعلى هذا الأساس بني الحكم الشَّرعي الوارد من الوحي الكريم، وعلى أساس أن يأتي كل نبي بلسان قومه كما قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ](1)، ومن أجله كان رضا الرَّب تعالى عند الإطاعة وغضبه عند عدمها من الأوامر الصَّارمة أو النَّواهي الصَّارمة، وعلى أساس تفاوتات درجات تلك الأوامر والنَّواهي كما في المستحبَّات والمكروهات أو الأقل عند التَّساوي.

ومن ذلك عرفت الأحكام التَّكليفيَّة الَّتي مرَّت في الجزء الأوَّل بمعونة أدلَّة التَّرهيب والتَّرغيب والوعد والوعيد من محكمات وظواهر الآيات ومن السنَّة

ص: 72


1- سورة إبراهيم / آية 4.

الشَّرعيَّة المتفوِّقة على العقل المستقل، وإن حاول بعضهم نفي الوجوب والحرمة ونحوهما بنحو من الدقَّة الَّتي عنده تمسُّكاً بشبهة الضرر المحتمل وعكسه الَّذي يتصوَّرونه تحرُّراً عقليَّاً بدل القول بالوجوب والحرمة ونحوهما في بقيَّة الدَّرجات العادلة من الوجهة الشَّرعيَّة على ما سيجيء قريباً حتَّى من التَّفريق بين الأدلَّة المولويَّة والإرشاديَّة الَّتي قد تكون ثانيتها مبيحة للعقل غير المستقل أو حتَّى المستقل أن يتصرَّف بما يوازن قوانين العدالة الإلهيَّة بدون نيَّة تشريعه من عند نفسه إلاَّ بإمضاء من الشَّرع.

على خلاف النَّهي الَّذي هو مفرد النَّواهي ومن العالي إلى الدَّاني كذلك إذا تجرَّد وأريدت منه الحرمة أو دلَّت قرائنها عليها لأنَّه - هو طلب ترك الشَّيء مع المنع من الفعل - على ما سوف يجيء بيانه أو على أساس ما لو أريد منه الأقل منها على ما دلَّت عليه قرائنه كالمكروه الَّذي خلافه الاستحباب أو الأقل كالمباح كذلك لو تساوى الأمران.

وهذا على خلاف ما إذا كان الطَّلب في المطلبين من المساوي إلى المساوي فإنَّه يسمَّى بالالتماس، وهو خارج عن موضوعنا أو كان من الدَّاني إلى العالي فإنَّه يسمَّى بالدُّعاء، وهو خارج عن موضوعنا كذلك إلى غير ذلك من المعاني الخارجة الأخرى كالتَّسخير مثل قوله تعالى: [فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ](1) والتَّعجيز في مثل قوله أيضاً [فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ](2) والتَّسوية في مثل قوله [فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا](3) والاحتقار في مثل [أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ](4) والتَّكوين في مثل [كُن

ص: 73


1- سورة البقرة / آية 65.
2- سورة البقرة / آية 23.
3- سورة الطور / آية 16.
4- سورة يونس / آية 80.

فَيَكُونُ](1) ونحو ذلك.

والأمر في مقام الاستحباب مع التَّجرُّد عن القرينة كذلك على قولٍ لا مطلقاً أو إذا دلَّت قرينته عليه هو طلب فعل الشَّيء من العالي إلى الدَّاني كذلك مع عدم المنع من التَّرك ولكن مع شيء من الرجحان المناسب بما يقل عن الوجوب.

والنَّهي في مقام الكراهة مع التَّجرُّد على قولٍ لا مطلقاً أو إذا دلَّت قرائنها هو طلب ترك الفعل من العالي إلى الدَّاني كذلك مع عدم المنع من الفعل بمثل صيغة الأمر كقول النَّص (اترك) أو النَّهي ك- (لا تفعل) مع مرجوحيَّته المناسبة له في قلَّة الثَّواب وعدمه على ما سوف يجيء بيانه في البحث عن النَّهي الخاص في القسم الثَّاني الآتي من الخاتمة.

وفي مقام الإباحة هو تساوي الطَّرفين في الطَّلب فعلاً أو تركاً من نفس العالي إلى الدَّاني وبصيغة الأمر المعروفة بنحو منح الرُّخصة بأي منهما أو إعطاءالإجازة في ذلك بعد الاستجازة.

وقد يتجاوز هذا الطَّلب في بعض مقاماته الأكثر من الخمسة أيضاً كالتَّهديد والإنذار ممَّا سوف يتَّضح أنَّه ممَّا يلتحقا به، أي إمَّا بالأوامر الواجبة كالأوَّل أو النَّواهي المحرَّمة.

فالمتيقَّن في التَّعريف المطلوب إذن هو خصوص ما كان من العالي إلى الدَّاني فيهما حسب، لكنَّ المراد من هذا العالي وإلى الدَّاني من ذلك - وهو ما إذا اكتفينا بهما وطبَّقناهما على الأمور الخمسة المعهودة - هو خصوص الأوامر والنَّواهي من الأدلَّة المولويَّة الإلهيَّة للعباد في الشَّرع الشَّريف والدِّين الحنيف بالمرتبة الأولى لا اللغويَّة العامَّة وإن دخلت فيها الشَّرعيَّة نوعاً كما سيتَّضح فيما بعد أو المتشرعيَّة في غير حالات ما لو تترجم بها إن برز ذلك وكما مضى من بعض بدائيَّات عنهما في

ص: 74


1- سورة البقرة / آية 117.

الجزء الأوَّل.

وهكذا الأوامر والنَّواهي الَّتي بلَّغ بهما النَّبي 2 تبشيراً أو إنذاراً سواء من الكتاب أو السنَّة الَّتي بالمرتبة الثَّانية التَّابعة للشَّرع لوجوب اطاعته في الأوامر والنَّواهي الموجبة أو المحرِّمة أو عدم جواز الاستهانة بمشروعيَّة كلامه في عموم القضايا لقوله تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا](1) وكذا ما بلَّغ به الوصي والإمام الحافظ لكلِّ ذلك عن النَّبي 2 عن الله تعالى بالمرتبة الثَّالثة كأمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ ثالث أرباب الولاية العظمى في دلائل بيعة الغدير وآية التَّصدُّق بالخاتم وآية المنزلة وغير ذلك ومن بعده أبناؤه الأطهار عَلَيْهِ السَّلاَمُ وكذا العلماء الأبرار والفقهاء الأخيار من سائر المؤمنين من حواري الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ في حياتهم إذا لم يتواجد الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ أو بعد موتهم إلى الإمام العسكري عَلَيْهِ السَّلاَمُ في الغيبة الصغرى أو الغيبة الكبرى بالمرتبة الرَّابعة.

وهكذا سائر المؤمنين والمكلَّفين بتعلُّم وتعليم الأحكام من مسائل الحلال والحرام والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر علماً وعملاً بالمرتبة الخامسة، وهكذا فيبلغ العالم الجاهل ويأخذ الجاهل من العالم جميع الأحكام الإبتلائيَّة أو ما يتيسَّر منها من مختلف طبقات المكلَّفين ذكوراً وإناثاً وكما ورد في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ](2) وقوله ناقلاً قول لقمان الحكيم يعظ ولده [وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ](3) وغيرهما الكثير من الآيات ومعها كافَّة الرِّوايات الشَّريفة الَّتي ضمَّت في طيَّاتها مضامين التَّكاليف الشَّرعيَّة القرآنيَّة المجملة والمفصَّلة وبصورة أوضح وأصرح لجميع المكلَّفين كما لا يخفى، ولكن

ص: 75


1- سورة الحشر /آية 7.
2- سورة التحريم / آية 6.
3- سورة لقمان / آية 17.

كل بحسب مقامه ومستواه من القدرة، إلاَّ أنَّه لم يخرج كون الواعظ والآمر والنَّاهي والمعلِّم والمدرِّس مع الأمر المولوي عن وجوب حرصه في كونه على نهج أعلى مستوى في المعرفة والثَّقافة الدِّينيَّة بعد النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ومنيليهم من المجتهدين ممَّن كان لهم الإفادة وعليهم الاستفادة في الوعظ والتَّوجيه لحفظ ناموس النَّمط التَّعليمي الاجتماعي الَّذي ذكرناه سابقاً عند العقلاء علماً وعملاً كالسيِّد تجاه غلامه والوالد تجاه ولده إذا أريد أن يكونا مطيعين.

وقد ورد الحث على الأخذ بكلام هؤلاء من قبل المحتاجين إلى الوعظ والأمر والنَّهي ونحوهما حتَّى من الأدلَّة الإرشاديَّة لقوله تعالى [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ](1) وقوله [وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ](2)، وإن كان التزام هذا الواعظ أو الآمر والنَّاهي ضعيفاً في نفسه في بعض الأحوال كفسق المعلِّم، لأهميَّة كسب العلم في نفسه وكما ورد (خُذُوا الحِكمَةَ ولَو مِنَ المُشرِكينَ)(3) لأنَّ عدم تطبيق العلم من هذا العالم هو حجَّة عليه لا على المتعلِّم لأنَّه قد أفرغ ذمَّته بالتَّعلُّم منه وما بقي إلاَّ العمل بذلك العلم وهو سهل في حالة عدم القصد لترك التَّطبيق الصَّحيح وإن كان المعلِّم الفاسق قد نال توبيخه المهم من قوله تعالى [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ](4).

وكذا من هؤلاء الآباء تجاه أبناءهم في المسؤوليَّة، والأبناء تجاه آباءهم في لزوم الإطاعة لهم، أو عموم رجحانها عليهم إذا كان العلم والعمل الصَّالح مرغوباً عند الجميع كما لا يخفى، وقد ينعكس الأمر مع الأسف فيكون الابن واعظاً والأب

ص: 76


1- سورة الزمر / آية 9.
2- سورة يوسف / آية 76.
3- المحاسن لأبي جعفر البرقي: 1 / 359 / 771 عن عليّ بن سيف.
4- سورة البقرة / آية 44.

مأموراً بالطَّاعة له وإن لم يكن مألوفاً بين الطَّبقات لدعم الشَّرع على أساس من الأدب الرَّفيع تجاه والده لأداء الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ولقوله تعالى [وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا](1) وغيره.

وهكذا المعلِّمون أو المدرِّسون تجاه تلامذتهم وقد تنعكس المسؤوليَّة وإن كان التَّلميذ متعلِّماً أو دارساً من أستاذه ولكنَّه موفَّق في التَّطبيق بما هو أفضل من معلِّمه أو أستاذه.

أمَّا إذا كانت الأوامر والنَّواهي صادرة من الجهات غير الشَّرعيَّة كأوامر ونواهي الجهلة فضلاً عن الحمقى وأهل البدع أو الطَّواغيت والظلمة وسائر المتغطرسين على هذا وذاك وذلك من المستضعفين ممن لا مثابة لهم بأي مرتبة من العلو المناسب واقعاً على الَّذين تولَّوا أمورهم ظلماً وعدواناً أو مخادعة وزوراً وبهتاناً كحكَّام الجور ممَّن يكون دستورهم الوضعي على الأكثر أمراً بالمنكر ونهياً عن المعروف فلا مشروعيَّة فيها، لأنَّ اصطلاح الوظيفة والتَّوظيف المراد أصوليَّاً في ذلك هو في خصوص ما ذكرناه عمَّن ذكرناهم وإن ضمَّت بعض المنقولاتاللغويَّة العامَّة في قواميسها بعض هذه المعاني أو الكثير منها.

وإن ادَّعى سلاطين الجور أو بعضهم أو بعض من يروِّج لهم مشروعيَّة أوامرهم ونواهيهم بالحجَّة الواهية وهي أنَّ الله سلَّطهم على العباد جبراً وقهراً وبما لا قابليةَّ لأولئك على الانفكاك عن ذلك وإن كان تسلطهم عليهم حاصلاً بالحديد والنَّار ومنهم المجبِّرة ومن أوائلهم بنو أميَّة ومن أسَّس لهم أساس الظلم والجور، وإن كانوا قد تمسَّكوا باطلاً بقوله تعالى [أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ](2) حينما فسَّروه بما اشتهت أنفسهم حتَّى سلَّطوا أنفسهم على الرِّقاب وحاربوا السنَّة

ص: 77


1- سورة لقمان / آية 15.
2- سورة النساء / آية 59.

الشَّارحة له بالعترة والأئمة الأطهار عَلَيْهِم السَّلاَمُ من أولي الأمر الواقعيِّين بعد النَّبي 2 من الأحباب بل وقتلوهم وشرَّدوهم، ولكن ما قدروا على محو آثارهم بالنَّتيجة، بل ازدادت شأنيَّتهم علوَّاً وسمُّواً بدون ارتياب.

وهذا التَّفسير المخالف ممَّا لا يجوز قبوله من الوضَّاعين، بل يجب رفضه جملة وتفصيلاً، وهو مفصَّل في محلِّه بخروجه عن قوانين الإسلام عقائديَّاً وإن سار تحت ظلِّهم للتَّغطية كثير ممَّن عنون لهم بعنوان علماء إلاَّ أنَّهم في واقع الأمر من علماء السُّوء ووعَّاظ السَّلاطين خوفاً وطمعاً ونحوهما وبما لا يُعطي لهم أي مجال للمشروعيَّة ولمناقضته بأداء ذلك إلى محاربة حكم الله جهاراً في كثير أو أكثر المواضيع في النَّتيجة ولو ظهر من بعض مغالطاتهم ما ظاهره الحق ولكن واقعه هو الباطل لكثرة الشُّبهات المتعمَّدة.

نعم هناك بحث لأمر قابل لأن يرتبط بالوجوب وحرمة المخالفة وإن كان تحت سلطة السُّلطان الجائر وهو ما يتعلَّق بأمور حفظ النِّظام من الأوامر والنَّواهي الصَّادرة عنه لا غيرها ممَّا لا يخالف الشَّرع من الجهات الأخرى فهو وإن كان بعد لم تثبت المشروعيَّة كاملة له في أوامره ونواهيه هذه بالعنوان الأوَّلي شرعاً إلاَّ أنَّه يجب الإطاعة فيه لأمور أظهرتها بعض الأدلَّة والنُصوص وقال بها بعض العلماء، وقد يكون منها ما اشتهر عن قوله تعالى في بعض الأحاديث القدسيَّة (الظالم عدل الله على الأرض ينتقم به، ثم ينتقم منه)(1)، ولو كان بعض ذلك للابتلاء ولامتحان الأمَّة به، لا لأي نحو من المشروعيَّة الواقعيَّة كما سلف فيطاع أمر هذا الظَّالم لدفع شرِّه وجلب المنافع المحتملة للنَّفس والغير بذلك حتَّى مع إضمار عدم كون ذلك مرغوباً به تحت ظلِّ ذلك، إذ لا كرامة حقيقيَّة له في الواقع.

ولذلك حدَّثتنا الرِّوايات الشَّريفة عن سلوكيَّات أئمَّتنا الأطهار النِّظاميَّة التَّامَّة

ص: 78


1- كشف الخفاء / العجلوني ج 2 ص49 - 50.

ومعهم حواريهم ومن سار على نهجهم من مواليهم وقت حكم طواغيت عصورهم على أحسن حال مع فارغ صبرهم ومن دواعي ذلك التَّقيَّة.

وهو بحث مهم في نفسه وقد مرَّ ذكره لمناسبة، وقد تكون له مناسبة أنسب لتفصيله في محل آخر لا داعي له الآن.

ومن ذلك مطاوعته في القوانين النِّظاميَّة الَّتي لو التزم بها لاستفاد المواطن وكثيراً ما تكون هذه من صالحه كإشارات المرور ونحوها وهي ما يشترك به سلطان العدل والجور معاً إلى أن يأذن الله تعالى بالخلاص من سلطان الجور بالمرَّة بمثل الجهاديَّات الدِّفاعيَّة بأنواعها المهمَّة مع القدرات لو جاءت مقتضياتها وانتفت موانعها وبالأخص بتفريج الهم بظهور الإمام المنتظر لإنعاش الأمَّة بدولته.

خامساً - الفرق بين الطَّلب المولوي والإرشادي أمراً ونهياً

ومن بعد هذا المطلب الطَّلب المولوي الَّذي مرَّ في المطلب الأوَّل الإشارة إليه بعد المدخل العام وبقيَّة ما مضى من المطالب.

وهو المراد به الأوامر الإلهيَّة الَّتي أسَّست لنا الواجبات الإسلاميَّة بصراحة النُّصوص القرآنيَّة بما اصطلحوا عليه للواجبات بلفظ (البعث) والمحرَّمات بلفظ (الزَّجر) من آيات الأحكام وما يتبعها أيضاً من جزئيَّات العقائد ممَّا سلف بيانه، وبصراحة النُّصوص من السنَّة في كلا المطلبين ممَّا مضى ذكره أيضاً، وممَّا قد لا يتفاوت كثيراً عمَّا ذكرناه عن التَّعارفات المتوارثة عقلائيَّاً وما قد نصَّ عليه في القواميس اللُّغويَّة -

جاء الطَّلب الإرشادي للاستعانة به كوارد من القرآن والسنَّة عند انسداد باب العلم من صريح المولويَّات الخاصَّة أمام الفقهاء المتتبِّعين ليمضي الشَّرع للعقل السَّليم تصرُّفه الاجتهادي تحت ظلِّهما في المسائل المستحدثة ومن قبيل حسن الإحسان وقبح

ص: 79

الظلم في مقابل الاجتهادات في مقابل النُّصوص لئلاَّ يُقال أنَّ العقل في مثل هذه الأمور الخطيرة أفتى بغير دليل شرعي.

فجاء دور ذكر المولوي والإرشادي للتَّعرُّف على الفرق بين المعنيين لئلاَّ يختلط أمرهما في مورد التَّطبيق وعلى الأخص فيما جاء من الأمثلة ما يتناسب مع المعنيين لا يفرز أحدهما عن الآخر إلاَّ باللِّحاظ الخاص لكل منهما، وهذا له أمثلة عديدة من القرآن الكريم وهي [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ](1) وتطبيقهما عقلي يدركهما كل عاقل ومحل التَّطبيق الواسع للإرشادي آخر الأصول وهي الأصول العمليَّة المقرَّرة للشَّاك في مقام العمل استصحاباً أو تخييراً أو اشتغالاً ونحو ذلك.

ومثل ذلك قوله تعالى [وَالَّلاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةًمِّنكُمْ](2) الَّذي أعدَّ إلهيَّاً للإرشاد ولإراءة الطَّريق إلى ما يتفطَّن له جميع العقلاء من معقوليَّاتهم العامَّة والمتَّفق على قبولها حتَّى في شرع الله تعالى، وإن كان ممَّا لم تظهره بعض النُّصوص صراحة أو لم يوفَّق لأنَّ يستفيد منها بعض أهل العلم الاصطلاحيِّين كاستفاداتهم في الفقهيَّات من المولويَّات الصَّريحة.

وإن كانت تلك المعقولات موجودة عند التَّأمُّل المناسب حتَّى من قبل بعض أهل العلم الآخرين في مواضيع قضاياهم الخطيرة الَّتي قد تحتاج لذلك إلى تثبيت وقائعها باستفراغ وسعهم للاحتجاج بها أو عليها إلى أمور من ذلك الاستشهاد ولو بأدنى إشارة، إلحاقاً ببقيَّة الأدلَّة الإرشاديَّة المثبِّتة لحق المعقول النَّوعي في التَّصرُّف حتَّى بما استقلَّت به تلك العقول من الموارد الخاصَّة بمبرِّر عدم الرَّدع من الشَّرع مثل [فَاسْتَشْهِدُواْ] آنف الذِّكر أو حسن الإحسان وقبح الظلم وكل ما ينضوي تحت هذا

ص: 80


1- سورة النحل / آية 90.
2- سورة النساء / آية 15.

العنوان من الَّتي تذهب عن هذه العقول استقلالها ممَّا خلت النُّصوص المولويَّة من ذكره في بعض الأدوار واستنتاج بعض الأحكام الشَّرعيَّة من تلك المواضيع في بعض أو كثير المستحدثات إذا انسدَّ باب العلم الفقهي الصَّريح.

بل يكفينا من الأسانيد الإضافيَّة للمقام بعض خواتيم الآيات القرآنيَّة معزَّزاً له كقوله تعالى [لعلَّكم تعقلون] وقوله [لعلَّهم يهتدون] وغيره الكثير.

وقد سبقت هذا العنوان - وهو عنوان الفرق بين المعنيين - بعض آيات كنَّا قد أوردناها لمقام ما قد يختلف بعض الشَّيء بالدقَّة عمَّا نحن بصدده الآن تصلح أن تكون من نوع الإرشاديَّة أيضاً كقوله تعالى [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ](1) وقوله للحث على المزيد من العلم [وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ](2) وقوله [وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا](3) لتشجيع الأمَّة على المزيد منه وإلى ما يناسب مثابة حاجة أبنائها إلى التَّوسُّع في العلم وإن توهَّم العلمانيُّون أنَّ لهم الحق في استقلالهم في اتِّباعهم علومهم بدون تقيُّد بالشَّرع للا بديَّة التَّعبُّد بالشَّريعة حتَّى عن طريق الإرشاديَّات،

وهكذا قوله [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ](4) لحث النَّفس أولويَّاً ببركة هذا الإرشاد التَّأنيبي الَّذي لولاه لما أمكن تشريع دليل الأولويَّة، بل وقوَّاه قوله تعالى الآخر [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ](5)،وهكذا قوله تعالى لوعظ لقمان الحكيم ابنه [يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ

ص: 81


1- سورة الزمر / آية 9.
2- سورة يوسف / آية 76.
3- سورة طه / آية 114.
4- سورة البقرة / آية 44.
5- سورة التحريم / آية 6.

بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىمَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ](1).

أقول: وهو ما ينبِّه كل عقل ومنه عقل الصَّغير الَّذي لم يكلَّف بتعاليم الشَّرع بعد لأهميَّة الاقتداء بتجارب الأب الحكيم لو سبَّب ذلك هدايته لتطبيق ما في الآية من المضامين تجاه الآخرين والمحفِّز عقلاً لتوجُّه النَّفس أوَّلاً ثمَّ الآخرين ممَّا سبق ذكره من الأدلَّة الماضية أيضاً.

ومن تلك الآيات الإرشاديَّة قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ](2) الَّذي به تمام الدِّلالة الإرشاديَّة وإلى جميع الأحكام التَّكليفيَّة الخمسة وتوابعها الوضعيَّة وحتَّى السُّلوكيَّات التَّصاعديَّة القريبة العرفانيَّة الَّتي تتجلَّى في نفس المؤمن العابد بواسطتها معاني (حسنات الأبرار سيِّئات المقرَّبين)(3)، ومضامين دعاء أمير المؤمنين علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ الوارد عنه وهو (إلهي ما عبدتك طمعاً في جنَّتك ولا خوفاً من نارك ولكن رأيتك أهلاً للعبادة فعبدتُّك)(4) إلى غير هذا من الأوامر ونحوها من الإرشاديَّات ومعها ما يتبعها من ألفاظ السنَّة الشَّريفة الَّتي لا داعي إلى الإطالة بأمثالها لوفرتها عند الحاجة إلى الاستشهاد بها.

فلننتقل إلى إيضاح الفرق بين المعنيين، بل قد يقبل التَّوضيح بضرب مثال من الإرشاديَّات الماضية نفسها، بحيث يصلح للمعنيين معاً مولويَّاً وإرشاديَّاً، إضافة إلى

ص: 82


1- سورة لقمان / آية 17.
2- سورة النساء / آية 59.
3- هذه المقولة مشهورة على ألسن الأخلاقيِّين، ولم ترد في حديث أو رواية إلاَّ ما نسبها بعض العامَّة إلى أبي سعيد الخراز، إلاَّ أنَّها لا تتنافى مع ما يلتزم به أهل العرفان الشَّرعي. راجع تذكرة الموضوعات - الفتني - ص188، كشف الخفاء - العجلوني - ج1 ص357.
4- ميزان الحكمة : ج 6 ص 18.

ما يخص كلاًّ من الاثنين من الأمثلة الخاصَّة.

ولنختر لذلك آخر الأمثلة الماضية وهو قوله تعالى [اَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ](1) فإنَّ الأمر فيه حينما كان من العالي إلى الدَّاني أمكن أن يكون مولويَّاً ومنشأً لاستحقاق الثَّواب بالإطاعة والعقاب بالمعصية زيادة على المفسدة المترتِّبة على ترك الفعل كما في أمر الشَّارع بالاجتناب عن تناول المضر المستفاد من نفس هذا القول في كونه إمضاءاً لما يقول به عقل الطَّبيب الماهر إذا نصح المريض بأن يصلح مزاجه المتعكِّر بشرب الدَّواء المر، لأنَّ بتركه يتضرَّر وهو بهذا القول الكريم صار في نفس الوقت إرشاديَّاً لا مولويَّاً فقط، بناءاُ على عموم وإطلاق هذا القول فيما يخص وجوب الإطاعة للواجبات الشَّرعيَّة، ومن ذلك وجوب دفع كل ضرر ومنه الصحِّي وهو معنى لا خلاف فيه، فاجتمع المعنيان عند الآخذ بالمعنى الإرشادي حين الانسداد العلمي الشَّرعي مولويَّاً عند افتراضه بما مرَّ ذكره من معناه.وهكذا الأقوال الشَّريفة الأخرى الَّتي تحمل المعنيين كلاًّ باعتباره.

ومن هذه الآية وما يشابهها يتبيَّن قرار نفي الشَّك عن قضيَّة قانون المولويَّة والعبوديَّة الَّتي لا زمتها الفطرة السَّليمة أيضاً بلزوم امتثال أوامر الآمر على من دونه.

فكل موظَّف في تكاليفه العامَّة والخاصَّة مأمور بمتابعة أوامر من هو عال عليه، ولزوم هذا التَّوظيف من المشهورات المسلَّمة منطقيَّاً بين الكل للمصلحة العامَّة النِّظاميَّة.

ومنه يظهر كذلك أنَّ أوامر الشَّارع واجبة الامتثال كما أنَّ مناهيه لازمة الاجتناب وإن كان مفاد الآية يمكن أن يتوسَّع إلى درجتي الاستحباب والكراهة حتَّى لو احتاج كل منهما إلى القرينة الحالية أو المقاليَّة أو ما هو الأوسع ليراد الخامس وهو الإباحة الَّتي لم يرد حولها إثبات ونهي من النَّصوص مع التَّنصُّل عن التَّدخُّل

ص: 83


1- سورة النساء / آية 59.

في شأنها تشريعاً بدون مدرك نفي النَّهي أو الإثبات على ما سيجيء اتِّضاحه في المطلب السَّابع.

وإن كان هذا قد يستند إلى الحكم الفطري، وهو دفع الضَّرر المحتمل الحاصر على رأي بعض الأفاضل لحالتي ما به النَّفع والضَّرر النَّفع الملزم لاقتنائه والضَّرر الملزم لدفعه من هذا الحكم الفطري الَّذي نوهَّنا عنه بمعنيي البعث والزجر وهو على علاَّته غير ممنوع صناعة حتَّى على رأي بعض الأصوليِّين الَّذين يجعلون التَّضلُّع الفقهي قد يفوق محدوديَّة الأصول الصِّناعيَّة، لأنَّه لا يمتنع عنه التَّوسُّع في باب التَّضلُّع الفقهي أن يراد كلَّ الأحكام الخمسة وهي الوجوب والتَّحريم والاستحباب والكراهة والإباحة وإن احتيج إلى القرائن المقاليَّة أو الحاليَّة للثَّلاثة الأخيرة.

وقرائن بقيَّة الأحكام الثَّلاثة غير خفيَّة على أدباء الفقهاء وأتباعهم من الأصوليِّين ومن التزم بخصوص حكم الفطرة، وهو معنى دفع الضَّرر المحتمل المحدَّد بين المعنيين المشار إليهما.

وإذا كان ذلك كذلك ما بال من لم تخف عليه المستحبَّات وممارسة الالتزام بها والمكروهات وممارسة الاجتناب عنها من أمثال الأبدال والعرفانيِّين من حواري الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُوالأبدال الَّذين ما بارحوا أتباع أئمَّتهم بسيرة (حسنات الأبرار سيِّئات المقرَّبين)(1) حتَّى نالوا درجة التَّجلِّي من غير حاجة منهم إلى جعل القرائن للثَّلاثة فضلاً عن أنَّ أبا الأئمَّة عَلَيْهِ السَّلاَمُ سلطان الأمَّة في خلافته وعظيم سيرته الواردة عند دعائه (إلهي ما عبدتك طمعاً في جنَّتك ولا خوفاً من نارك، ولكن رأيتك أهلاً للعبادة فعبدتُّك)(2) أي وهو الَّذي لا تخفى عليه المستحبَّات بالتزامه بها كالواجبات والمكروهات بالتَّجنُّب عنها كالمحرَّمات وإذا التزم بشيء مباح فلم يفعله إلاَّ بما يثيبه

ص: 84


1- راجع هامش (3) في ص82 الماضية، ولا داع إلى الإعادة.
2- ميزان الحكمة : ج 6 ص 18.

منه وهو القائل لرعاية عوام الأمَّة بما ينسجم مع ما أتى به النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم ممَّا يناسب الأحكام التَّكليفيَّة الخمسة المتناسبة مع تسهيل الأحكام عليها وتيسيرها لها إلى ما ليس فيه ضغط وإجبار كما ورد عنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ في النَّهج قوله مخاطباً عثمان ابن حنيف ومن معه (ألا وإنِّي أعلم أنَّكم لا تقدرون على ذلك ولكنأعينوني بورع واجتهاد وعفَّة وسداد)(1).

وقد فُسِّر الأمر الإرشادي في مقابل المولوي بأنَّه بمنزلة الإخبار الَّذي لا يستفاد منه الوجوب ابتداءاً.

والأوَّل وهو المولوي يقصد منه البعث أو الزَّجر عن متعلَّقه ممَّا مرَّ.

فالإرشادي إن أفاد بعض ما يشبه المولوي يُقصد منه الحكاية عن شيء كالمصلحة أو المفسدة.

فالأوَّل وإن دلَّ على مصلحة أو مفسدة لكن الدِّلالة المذكورة غير مقصودة ذاتاً لحمله التَّعبُّديَّات في الأساس على المعاني الأوَّليَّة.

كما أنَّ الثَّاني وإن كان موجباً للبعث والزَّجر بالتَّالي لكنَّه غير مراد من الخطاب نفسه ابتداءاً كما أشرنا إلى أنَّ من أمثلته العرفيَّات الَّتي منها أمر الطَّبيب للمريض بشرب الدَّواء وإن كان مرَّاً وكان الدَّليل الإرشادي من مثل الآية وغيرها يؤيِّد العقل في قرار الطَّبيب المتصرِّف بما حدَّد له شرعاً.

وهذا المقدار يكفينا عن الفرق وإن كانت الإطالة فيها مجال نبغيه لمحل آخر.

ص: 85


1- بحار الأنوار ج 40 ص340، نهج البلاغة - خطب الإمام علي u ج3 ص 70.

سادساً - كيفيَّة التَّصوير التَّوضيحي لما يقال عن الأمر والنَّهي معاً

من الكلام مع إمكانه أو حالة عدمه؟

قد نوَّهنا عنها بما يشبه هذا العنوان تحت العنوان الرَّابع لغرض تقسيم البحث العام عن الأمر والنَّهي، وللبدء بمعنى الأوامر والنَّواهي وذكر ما قد يشترك أمره من الكلام عنهما فنقول إن كان في المقام سابقاً شيء من الغموض.

أنَّه قد يفسَّر الأمر بالنَّهي والنَّهي بالأمر مع حفظ ما يحمله كلا اللَّفظين من ذلك المعنى الواحد المرتبط بالإطاعة في كلِّ منهما بتساوي أو ما يقرب منه في الجملة الجامعة بينهما، فيقال إنَّ الأمر بالشيء هو النَّهي عن ضدِّه، وإنَّ النَّهي عن الشَّيء هو الأمر بضدِّه كالصَّلاة فإنَّها مأمور بها ومنهي عن تركها في الوقت الواحد بلا أن يشغله شاغل اضطراري في الوقت الواسع عنها، لعدم إمكان الجمع بين الصَّلاة ومنافياتها المحلَّلة أو المحرَّمة، ومن أمثلة هذا قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ](1) وقوله [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى](2) فضلاً عمَّا لو كان الوقت ضيِّقاً أو خاصَّاً بما لا يصح فيه غير هذه الصَّلاة.

ولأجل احتمال عدم التَّطابق الكامل بين الاثنين وبما لا يصحِّح حمل أحدهما على الآخر بتمام ولو لاختلاف لفظ كلِّ منهما عن الآخر مع إمكان التَّطابق الإجمالي، نقول:-

قد نوقش في ذلك بأنَّه إن أريد ذلك فلابدَّ من اشتراط أن يراد من الضدِّ حينئذ

ص: 86


1- سورة العنكبوت / آية 45.
2- سورة النساء / آية 43.

هو الضدِّ الخاص كالأكل والشُّرب بالنِّسبة إلى الصَّلاة مثلاً، لأنَّهما منهي عنهما حينها سواء في الوقت الموسَّع لو اختار المكلَّف صلاته في الوقت الخاص لها أو المضيَّق لها مطلقاً، لا الضدِّ العام لعدم التَّساوي على الأقل بين المعرِّف والمُعرَّف.

علماً بأنَّ المراد من المعرِّف المساوي هنا في أقل تقاديره هو الأجلى ليصح وليجمع الأفراد ويمنع الأغيار ولو بمستواه البسيط وإلاَّ يكون من قبيل تعريف الشَّيء بضدِّه أو ما يقرب منه أو يكون هو نفسه إن تساوى معه بلا إجلائيَّة والمستثنى الأوَّل مرفوض والمستثنى الآخر مرفوض أيضاً لمنع تعريف الشَّيء بنفسه، لأنَّه من قبيل تحصيل الحاصل.

إضافة إلى أنَّ الأمر لو كان كذلك في إمكان التَّعبير عنه بالنَّهي تامَّاً لما ثنِّي الأمر بالنَّهي في قوله تعالى [كُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ](1) لأنَّ اختلاف التَّعبير يدل على اختلاف المعنى، ولأنَّ الحكمة القرآنيَّة الشَّرعيَّة هنا لا يراد منها سوى النَّهي عن الزَّائد الَّذي لو أكل أيضاً لآثر التَّخمة ولو أبقي بعد الاستفادة منهما في القمامة لكان من التَّبذير.

إلاَّ أنَّ يقال بإرادة النَّهي من ذلك الأمر بمعنى لا تتركوا الأكل الاعتيادي الَّذي لا يمنعكم عن الإتيان الطَّبيعي بواجباتكم الَّتي منها صلواتكم، وهو التفاتة معمَّقة من اللَّفظ قد لا تزاد اعتياديَّاً لو ركَّز على الظَّواهر.

وكذلك قوله [وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ](2) بناءاً على أنَّ الواو عاطفة على الآية السَّابقة لها ليكون الأمر والنَّهي متطابقين على الأحكام الخمسة كلِّها لا خصوص البر والتَّقوى المستحبَّين أو حتَّى الاستئناف فيه لو أريد منها

ص: 87


1- سورة الأعراف / آية 31.
2- سورة المائدة / آية 2.

كل الأحكام إلاَّ إذا أريد من التَّثنية بالنَّهي الإضافة التَّصحيحيَّة لمعنى الأمر لا بمعنى أن يتساويا في السِّياق.

وكذا قوله [وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ](1)، أي إذا كان المراد من الاعتقاد هو نفس عدم التَّفرُّق لا أكثر ولا أقل بينما الواقع من عدم التَّفرُّق المراد أنَّ التَّفرُّق وهو عدمه هو أقل الخطرين لو لم يلتزم بالاعتصام، بينما الاعتصام لو التزم به وفي مواقع الشِّدَّة والأزمات لاحتاج إلى التَّماسك الأشد اعتصاماً.

وغير ذلك لحقيقة عدم هذا التَّساوي المزعوم، إلاَّ في بعض القضايا النَّادرة غير المخلَّة بالمألوف السَّائد كالأمر بالصَّلاة في هذا الوقت والنَّهي عن تركها الآن أو للتَّأكيد في الآيات بين الأوامر والنَّواهي لوجود الجامع بينهما ولو إجمالاً، وبهذا يتبيَّن ما نبني عليه ردَّاً لغير المقبول من المناقشة دون المطلق منها.

وهكذا الأمر نفسه حينما يجيء ما يشبه العكس مثلاً في ذكر النُّصوص بأن يتقدَّمالنَّفي ثمَّ يأتي بعده الأمر كما في قوله تعالى مخاطباً الأعراب [قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ](2) للفرق الأوضح ممَّا سبق من الآيات إلاّ أن يدَّعى إرادة التَّأكيد أيضاً من تعبير النَّهي عن الأمر ولو من الجامع الجزئي بين المطلبين لا الَّذي بمعنى التَّساوي الكامل وهو غير كاف عن دليل قطعي دال عليه في مثل ما نحن فيه وإن تمَّ التَّأكيد بالجامع الجزئي من مصاديق الآيات الماضية.

لأنَّنا نريد التَّعبير بالأمر عن النَّهي والنَّهي عن الأمر لا بنحو التَّأكيد أو للجامع الجزئي بل بنحو أن يكون الضدُّ خاصَّاً وهو المهم إن تحقَّق وإن لم يظهر من بعض النُّصوص واضحاً، لاحتمال أن يكون هذا الخاص من النُّصوص الخاصَّة لا من

ص: 88


1- سورة آل عمران / آية 103.
2- سورة الحجرات / آية 14.

تعبير الأمر بالنَّهي وبالعكس بنحو التَّساوي الكامل كما سوف يتَّضح.

وعليه لو لم يظهر شيء من ذلك فلابدَّ من البقاء فقهيَّاً على الاصطلاحات الخاصَّة للعناوين الموافقة للنُّصوص الشَّريفة الأخرى من مثل بعض الآيات أو روايات السنَّة الصَّحيحة.

بل وقع الإشكال حتَّى في الضدِّ العام الملحق بالخاص كما سوف يتَّضح فيما بعد.

ونوجزه بأنَّه لو أمر المكلَّف بصلاته مثلاً ونهي في نفس المعنى والوقت عن فعل الأمور العامَّة المانعة وهو الضدُّ العامَّ لأمكن عدم التَّساوي كذلك لنفس الاحتمال ممَّا مرَّ، كما لو كان ذلك المكلَّف إمرأة وكانت على حيض أو نفاس وهما لا محالة رافعان عنها التَّكليف الفعلي الخاص في الأداء والقضاء كما لا يخفى، وإن كان بالنَّحو العام باقياً من جهة البلوغ والعقل لما بعد أيَّام الدَّم.

وهكذا الرَّجل قبل دخول وقت الفريضة أو حتَّى بعد دخوله هو والمرأة الطَّاهرة أيضاً ولكنَّ ذلك التَّكليف كان في بدايات سعة الوقت المعهودة للصَّلوات المفروضة، وهكذا بقيَّة الواجبات الأخرى غير الصَّلاة في أوقاتها الموسَّعة، وهكذا النَّهي لو حصل شرعاً عن شيء إذا عرَّفناه بالأمر لعدم التَّساوي الكامل.

ولذا قال الآخرون فراراً من هذه الإشكالات بأنَّ الأمر بالشَّيء هو الَّذي يقتضي النَّهي عن ضدِّه لا أنَّ الأمر هو النَّهي، وأنَّ النَّهي عن الشيء هو الَّذي يقتضى الأمر بضدِّه لا أنَّ النَّهي هو الأمر، لعدم التَّساوي المذكور، ولكون الاقتضاء أقرب إلى حالة عدم القدرة على التَّعريف الحقيقي المشروط فيه كونه مؤلَّفاً من الجنس القريب والفصل القريب وهو غير متوفِّر إلاَّ المعرب عن المعرف الاقتضائي المذكور كالتَّعريف التَّسامحي الَّذي ذكرناه في مطلع البحث الرَّابع اعتماداً على وفرة النُّصوص المبيِّنة للأضداد كالأكل والشُّرب والنَّوم ولكنَّه بمعنى التَّرك لا غير كما

ص: 89

سوف يتَّضح أكثر عند إفراز كل من الأمر والنَّهي للكلام عن كل منهما بما يخصُه على حدة بعد ثبوت عدم التَّساوي الحقيقي كما يعرف أحدهما بالآخروإن تقاربا في الجملة أو توقَّف التَّساوي على شرط الضدِّ العام بمعنى التَّرك بعد الفراغ من ذلك وتحت عنوان (هل يمكن الجمع بين الأمر والنَّهي حتَّى لو ابتعد كل منهما عن الآخر بتنافر كثير أم لا).

ومع كلِّ ذلك نحن نبقى فنقول:

بأنَّ المناقشة إن صحَّت بمنع التَّساوي الكامل فلم تصح إن بقي شيء من التَّقارب الجزئي.

وإنَّ التَّعريف الاقتضائي - وإن صحَّ لعدم إمكان التَّسليم للحد التَّام ولاعتياديَّة النُّصوص الذَّاكرة للموانع المخلَّة بالصَّلاة في مثال البحث غالباً إلاَّ أنَّ الضدِّ المنهي عنه في الصَّلاة وهو التَّرك أو المنهي عنه في تركها وهو الأمر بفعلها لا بنحو الاقتضاء بل بنحو التَّحديد المنطقي - لو تحقَّق له موضوع في المقام مع احتماله لكان أدق لكونه داخلاً في حيِّز الإمكان إن جعلنا مثالي الحائض والنَّفساء وعموم المكلَّفين في صلواتهم وغيرها في الأوقات الموسَّّعة ممَّا يسمَّى بالأمور الخارجة بالنَّص غير المخلَّة بقاعدة التَّعريف والكلام عن هذه الأمور وعن إمكان الجمع بين المتضادَّين فيه وعدمه آت بإذن الله في واحد من توابع الأوامر الآتية وفيما بعد الفراغ من الكلام عن خصوص الأوامر وإن اشتركت في الجملة مع غيرها كهذه الموارد وعن خصوص النَّواهي الَّتي لا تشترك مع الأوامر للفرق بين الصَّلاة وبين السكر وكما سيتَّضح أكثر من التَّمثيل بالصَّلاة حتَّى في الدَّار المغصوبة بنحو من التَّجاوز المشروع في محلِّه وكما مرَّت الإشارة إلى ذلك فيما سبق، وهو ما لا يضر في جعل هذا المورد السَّادس على جزئيَّة العلاقة المذكورة مناسباً.

ص: 90

سابعاً. كيف تكون الأوامر والنَّواهي محدودة بأربعة

والأحكام التَّكليفيَّة المشهورة خمسة

قد يتراءى للسَّطحي في أوَّل وهلة من دراسته بأنَّ الأمر والنَّهي لا يحمل كل منهما سوى شيئين لا أكثر.

ففي الأمر لو كان معناه شديداً في آمريَّته سواء من حيث دلالته الطَّبيعيَّة أو ما أظهرته القرينة في بعض المقامات يكون الواجب.

وفيه لو كان الشَّيء خفيفاً في آمريَّته مع القرينة الاعتياديَّة على ذلك أو بلا قرينة في بعض المقامات الاستثنائيَّة إن سكتنا عنها يكون المستحب.

وفي النَّهي لو كان الشَّيء شديداً في مبغوضيَّته سواء من حيث دلالته الطَّبيعيَّة على ذلك أو ما أظهرته القرينة من مقاماتها يكون المحرم.

وفيه أيضاً لو كان الشَّيء خفيفاً في مبغوضيَّته مع القرينة الاعتياديَّة على ذلك أو بلا قرينة عليه في بعض المقامات الاستثنائيَّة يكون المكروه، وبذلك تتم الأحكام من مصطلحات الحلال والحرام في هذه الوهلة واصلة إلى هذه الأربعة لو لم يتوجَّه أو لم يوجِّهه مدرِّسه إلى ما هو الصَّحيح مع العلم مشهوراً ومعتبراً بأنَّها خمسة لا أقل وخامسها المباح وهو ما يتساوى فيه جانب الرُّجحان والمرجوحيَّة من صيغتي الأمر والنَّهي عند الشَّرع وإن اختصَّ ذلك المباح بصيغة الأمر الَّتي تقبل أن تحمل كل ما لا حرمة فيه وإن كان مع القرينة ومنه ما يتساوى فيه ذلك وهو الجواز بالمعنى الأوَّل أو ما يحمل حكماً من أيٍ من أحكام الرُّجحان والمرجوحيَّة من الأمر والنَّهي الماضي ذكرهما أو ما حمله الأمر من النَّهي عن ضدِّه الخاص أو ما حمله النَّهي من الأمر بضدِّه الخاص وما آل إليه الكلام الماضي وهذا الكلام حقيقة لا يمكن نكرانها فكيف يتم الإلحاق أو متى يكشف النقاب عن كل الخمسة؟

ص: 91

فنقول: إنَّ الأوامر والنَّواهي في أساسهما الشَّديد كما مر هو دلالتهما على الوجوب من الأوامر وعلى الحرمة من النَّواهي بالصِّفة الاعتياديَّة من التَّعبير وإن أمكن التَّجاوز عن هذين بما مرَّ ذكره وإذا خفَّا يكون المستحب من الأوَّل والمكروه من الثَّاني ومحل الكلام عن هذا الأساس وما يتفرَّع عن كل من الصِّيغتين فيما يأتي.

ولكن لا يمكن أن ينسى أمر ما يختلط فيه أمر حالتيهما من الرُّجحان والمرجوحيَّة إذا انحصر الأمر فيهما دون الأساسيَين وحصل التَّساوي في لفظ واحد قد يجمعهما من عدم العلم بأحدهما دون الآخر أو تأكَّد التَّساوي بينهما في أمر من الأوامر ولو بما ظاهره عدم حمله حكماً من الأحكام وبالخصوص أحد الخفيفين المذكورين بمثل قرينة الترخيص بين الفعل والعدم أو الإجازة بعد الاستجازة من الآمر ممَّا مرَّ ذكره، وإن جعل إشكالاً لدى البعض لحصر الأمر في الأربعة.

وبذلك وصل الأمر في العدد من الأحكام إلى الخمسة بناءاً على كماليَّة الشَّريعةالمقدَّسة الَّتي لا يمكن نكرانها وأنَّها قد استوعبت كل أفعال المكلَّفين وتصرُّفاتهم وما تركت شيئاً إلاَّ وبيَّنت حكمه.

ولذا أمكن توزيع المعاني الخمسة بين الأربعة بما يصح أو لا يمنع، ولا شكَّ أنَّ المباحات منها بمعونة النصوص من الكتاب وآيات أحكامه وأضيفت إليه السنَّة الشَّارحة بعد ذلك على أنَّ الأوامر والنَّواهي منطبقة على جميع هذه الأحكام الخمسة ولو بانحصار بعضها في صيغ خاصَّة أو بحسب القرائن الدالَّة عليها كما سيتَّضح في الآتي أكثر إنشاء الله تعالى.

فمن آيات ما يدل على الوجوب حقيقة قوله تعالى [أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا](1) وذلك لغرض الحث على وجوب بعض الصَّلوات اليوميَّة كالظُّهر مثلاً لتجرُّد لفظ الأمر كما سيأتي عمَّا

ص: 92


1- سورة الإسراء / آية 78.

يدل على ما هو أخفض من الوجوب وإضافة قرينة الدلوك للتَّشخيص وهو الزَّوال إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الأخرى حتَّى لو كان من فصيلة غير افعل من التَّوابع ويتبعها الأوامر من السنَّة وكذا ما يتأكَّد منه الوجوب من المصدرين ولو بتفسير أحدهما من الآخر.

ومن آيات ما يدل على الحرمة حقيقة قوله تعالى [وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ](1) وقوله [وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ](2) لتجرُّد النَّهي الدَّال على الحرمة عمَّا هو أخفض منها أو مع بعض القرائن المؤكِّدة من القرآن وغيره من السنَّة في التدليل على حرمة الأكل وغير ذلك من الآيات والأدلَّة الأخرى الكثيرة.

ومن آيات ما يدل على الاستحباب قوله تعالى [وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ](3) لاستحباب أصل الزَّواج بما دلَّت عليه قرائنه وإن وجب بالعارض بما سيتَّضح في المقامات المناسبة الآتية بإذن الله، وقوله أيضاً [فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا](4) لكون الكتابة أضمن لصالح السيد وكذا مملوكه، وقوله كذلك [وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ](5) حيث كانت صلاة اللَّيل زائدة على أصل الصَّلوات اليوميَّة الواجبة وغير ذلك من الآيات والأدلَّة الأخرى.

ومن آيات ما يدل على الكراهة قوله تعالى [وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ](6) لكراهة ما قبل الاستثناء الواضحة من النَّهي المثبت استحباب ما بعده

ص: 93


1- سورة الأنعام / آية 152.
2- سورة البقرة / آية 188.
3- سورة النور / آية 32.
4- سورة النور / آية 33.
5- سورة الإسراء / آية 79.
6- سورة العنكبوت / آية 46.

وغير ذلك من الآيات والأدلَّة الكثيرة الأخرى.ومن آيات ما يدل على الإباحة وبمحاولة تركيز أكثر عليها من الأدلَّة والشَّواهد مثل قوله تعالى [فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ](1) فبعد كون الاستحباب في زوجة واحدة ثابتاً ممَّا مرَّ ذكره كان النِّكاح في الأكثر داخلاً في أصل الإباحة وعليه تكون الزِّيادة عليها بشيء من الرُّجحان مشروطة بالعدالة وإلاَّ فقد يصير الأمر إلى مستوى المشروعيَّة المكروهة أو الأشد وهذا بحث خاص في مورده الآخر.

ومثل قوله تعالى [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ](2) الدَّال على إباحة أصل العمل في مقابل الحرمة الَّتي في أثناء نهار الشَّهر المبارك بسبب الصَّوم الواجب، وكذا في مقابل الحرمة المتوهَّمة عند بعض الصَّحابة أيَّام بداية التَّشريع حتَّى في اللَّيل وإن استحبَّ ليلة الصِّيام الأولى بأكثر من أصل الإباحة لبعض الاعتبارات الأخرى في بقيَّة اللَّيالي.

ومثل قوله تعالى [وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ](3) للإباحة الظاهرة بعد نهاية الإحرام الَّتي لا يعقل أكثر منها ابتداءاً.

ومثل قوله تعالى [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ](4)، ومثل قوله كذلك [وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ](5).

ص: 94


1- سورة النساء / آية 3.
2- سورة البقرة / آية 187.
3- سورة المائدة / آية 2.
4- سورة الأعراف / آية 32.
5- سورة الأعراف / آية 157.

ومثل قوله أيضاً ممَّا مرَّ [وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ](1) الواضح في التَرخيص بكل ما عدا الحرام من الإسراف إلى أن يزيد على أصل الإباحة بما يستحب أو يجب أو يكره بما دلَّت على ذلك أدلَّة كل منها وهو خارج عن المقام المبحوث عنه.

بل هكذا قال الأصوليُّون بثبوت الوصول إلى القول بالإباحة أو عموم الجواز الَّذي منه الإباحة في كلِّ ما خرج عن تمام تعريف الوجوب وهو (الأمر بالفعل مع المنع من التَّرك) وصار هذا الأمر لم يمنع من التَّرك الَّذي كان جزء التَّعريف فبقي الجواز على حاله من مجرَّد الأمر عندهم.

إلاَّ أنَّنا نقول بأنَّ هذا صحيح ولكن مع بقاء كل ما عدا الواجب ممَّا لم يحرم أو ما عدا ما يحرم وما يجب ممَّا يجوز فعله لو قبلنا في الجملة تفسير الواجب بالحرام بما يصح دون غيره ممَّا مرَّ ذكره لا خصوص المباح أو الجائز وهو الجائز بالمعنى العام، لأنَّ القول بكلامهم لو كان على علاَّته من دون استدراكنا لا يمكن الأخذ به في خصوص المباح إلاَّ بالقرينة المفرزة له دون الباقي.

ولأنَّنا لم يثبت عندنا الانسداد الكبير في الأدلَّة القرآنيَّة اللَّفظيَّة حتَّى السنَّة التَّابعةلوفرتها فلم يكن إلاَّ الصَّغير، وهو ما قد يحوجنا إلى شيء من الإكثار من استفراغ الوسع مع احتمال الاستفادة منه لا البقاء على خصوص قواعدهم الَّتي قد يكون منها (كل ما عدا المنع من التَّرك هو المباح أو الجائز)، لاحتمال أن يكون المراد هو ما فوق المباح كالمستحب أو دونه كالكراهة.

وبذلك تتم الأحكام الخمسة بحصول المباح إن دلَّت قرينته باستفراغ الوسع وهو غاية المراد، وقد أوضحنا أمر هذا الخامس في الجزء الأوَّل عن تعليقاتنا على العروة الوثقى (قسم الاجتهاد والتَّقليد).

ص: 95


1- سورة الأعراف / آية 31.

ثامناً - ألفاظ أخرى تؤدِّي مؤدَّى الأوامر والنَّواهي

للإعراب عن الأحكام الخمسة

ولم يقتصر في الأمر والنَّهي المذكورين في دلالتيهما ذاتيَّاً ولو من حيث النَّتيجة على ما دلاَّ عليه من صيغتيهما الحاليَّة الاعتياديَّة وبما مثَّلنا لهما على الأحكام الخمسة، بل تجاوز ذلك إلى اصطلاح صيغ - أخرى نتيجة لمتابعات الفقهاء في أصولهم للسان الشَّارع - دالَّة عليها كذلك بدل صيغتي الأمر والنَّهي المذكورين لو لم يتوفَّرا أو لم يعثر على شيء منهما لتفيد نفس الفائدة في إيضاح هذه الأحكام الخمسة وبما قد يكون أصرح.

وقد أيَّدت ذلك القواميس اللُّغويَّة ولتوسعة رقعة الاستدلال بما هو أوسع من الصِّيغتين في فقهنا الحنيف الواسع ولئلاَّ تبقى للنَّاس على الله أيَّة حجَّة بصورة أفضل من خصوص الصِّّيغتين ولئلا ينحصر اللسان في اصطلاح ضيِّق لا يعين على التَّوسعة واللِّسان الشَّرعي من الكتاب والسنَّة في صيغهما ممَّا يعين عليها وإن كانت هذه الصِّيغ الأخرى تعد ملحقة كما مرَّ من نواحي الإلحاق الخاصَّة بها مع ما ذكرناه من أهميَّتها في مقاماتها البلاغيَّة الخاصَّة.

ولكن من ذلك ما قد يحتاج إلى القرينة على حصول ما يراد منه على أحدها، ومنه مالا يحتاج إليها، أو كالذي لا يحتاج إليها لخفة أمرها في عالمها أو وضوح دلالة المراد من تلك الصِّيغة ونحوهما عن أحد هذه الأحكام، وهو غير ضار أصوليَّاً إن أحكمنا وضع الشَّيء في ما يناسبه من ذلك.

فممَّا كان مناسباً للتَّدليل على الوجوب من الصِّيغ الأخرى هو المضارع المحفوف بلام الأمر بدون قرينة إضافية غير لام الأمر الدَّالَّة على الوجوب المرتبطة بهذا الفعل مع كونه وحده غير دال على شيء من ذلك لأنَّه يحتمل فيه الحال

ص: 96

والاستقبال وليس كالفعل الإنشائي المرتبط بالفعل الماضي الخاص في موارده من صيغ العقود الملزمة ونحوها، وهكذا الفعل المضارع الخالي من اللام إذا قصد به الإنشاء، وهو مثل قوله تعالى [لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ](1).

وكذلك ما ورد من مثل قوله تعالى: [وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ](2) إلحاقاً له بباب الأمر وإن كان هو نفسه قابلاً للتَّدليل على الاستحباب ولكنَّه مع القرينة الإضافيَّة ولو من السنَّة أو ما يدل على التَّهديد مثل قوله تعالى [اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ](3) أو الإنذار المراد من قوله تعالى [قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ](4) إلحاقاً للقولين الشَّريفين الأخيرين في النَّتيجة بالنَّهي عن التَّمادي فيما لا يرضي الله وشرعه.

وهكذا كلمة (فريضة) الواردة في القرآن من الدوال على الوجوب كقوله تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ](5) حيث جاء التَّكليف بصيغة الفرض المساوي للوجوب وبالفعل الماضي، أي فمن فرض على نفسه بالتزامه بما فرضه الله عليه، وهكذا قوله تعالى [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ](6)، وكذا قوله [قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ](7).

ص: 97


1- سورة الطلاق / آية 7.
2- سورة الإسراء / آية 106.
3- سورة فصلت / آية 40.
4- سورة إبراهيم / آية 30.
5- سورة البقرة / آية 197.
6- سورة القصص / آية 85.
7- سورة الأحزاب / آية 50.

ومن ذلك ما دلَّ عليه بكلمة (يأمر) وإن جاءت بالفعل المضارع المجرَّد من لام الأمر للموضوعيَّة الخاصَّة المرتبطة بمشتقَّات الأمر [إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا](1) وقوله [إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى](2) وقوله [إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً](3).

ومن ذلك صيغة عليك في مثل قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ](4) الَّتي بمعنى ألزموها وقوله [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً](5) وهي الَّتي بمعنى ولله حق على النَّاس أو كانت كلمة يجب عليهممقدرة.

ومن ذلك اسم الفعل من قبيل (صه) و (مه) أو (مكانك)، وهكذا المضارع المقصود به الإنشاء ممَّا مرَّ ذكره نحو (يعيد صلاته) أو (أطلب منك أن تكتب)، وكذا الجملة الاسميَّة المقصود بها الإنشاء نحو (الصَّلاة مطلوبة منك) و (زكاة الفطرة عليك)، وهكذا المصدر النَّائب عن فعل الأمر مثل (إعادة الفعل صياماً)، وغير ذلك من كل ما اتِّفق على كونه يؤدِّي مأدَّى الأمر الَّذي للوجوب حتَّى لو لم يرد بعضه في القرآن ما دام قد ورد في لسان الرِّوايات الشَّريفة المعتمدة التَّابعة.

وممَّا كان مناسباً للتَّدليل على الاستحباب هو كل ما كان دالاًّ في ظاهره مع تجرُّده عن القرائن الاستحبابيَّة ممَّا مضى من الشَّواهد والأمثلة القرآنيَّة وما ألحق بها إذا جاءته قرائنه أو غلب استعماله في المستحب وضعف استعماله في الواجب بسبب

ص: 98


1- سورة النساء / آية 58.
2- سورة النحل / آية 90.
3- سورة البقرة / آية 67.
4- سورة المائدة / آية 105.
5- سورة آل عمران / آية 97.

الشُّهرة العمليَّة والسِّيرة المستمرَّة كما في بعض القضايا الخاصَّة غير المخلَّة بقاعدة دلالة الأوامر على الوجوب لو تجرَّدت مثل صلاة اللَّيل الَّتي كانت واجبة على النَّبي 2 وصارت مستحبَّة على الآخرين.

وهكذا ما استدلَّ عليه بقوله تعالى [وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ](1) حيث دلَّ على استحبابه بصراحة من هذا التَّعبير ولكن الوجوب لابدَّ له من القرينة وهي مثل كون مجرَّد الإسلام لابدَّ وأن يسبِّب انزلاقه نحو النِّفاق وأمثاله كالأعراب الموصوفين غالباً بكونهم [أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا](2) حتَّى لو أسلموا أو لم يكن كلُّهم كذلك.

وهكذا ما يفيده قوله تعالى [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ](3) إذا أريد من ذلك اللَّيلة الأولى حسب ما ظهر من القرائن ولو من السنَّة الشَّريفة لعدم الصَّراحة فيه كما سبق بيانه إلاَّ في خصوص الإباحة.

وممَّا كان مناسباً للتَّدليل على الحرمة قوله تعالى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ](4) الدَّالَّة على التَّحريم بصراحة وبدون حاجة إلى القرينة، إلاَّ أنَّها إذا أريد منها الكراهة "لا سمح الله" أو لم تحمل على حقيقة التَّحريم كما هو محقَّق فقهيَّاً في محلِّه، فلابدَّ لها من القرينة للمجازيَّة المرتبطة باستعمال الشَّيء في غير ما وضع له من غير أمور الزَّواج الثَّابت، وهو الكراهة في النَّواهي وملحقاتها وقوله [إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ](5) وغيرهما من أمثالهما.

ص: 99


1- سورة الحجرات / آية 7.
2- سورة التوبة / آية 97.
3- سورة البقرة / آية 187.
4- سورة النساء / آية 23.
5- سورة البقرة / آية 173.

وكذلك قوله [إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ](1) وغيره من أمثاله حيثوردت بالفعل المضارع مع كونها للإنشاء لصراحتها بلسان النَّهي الَّذي مرَّ ذكره بمساواته للا تفعل، وكذلك أيضاً قوله [اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ](2) وكذا [فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ](3) وكذا [وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ](4) وأمثالها لكونها جاءت بصيغة الأمر أو ما يؤدِّي معناها، وبناءاً على ما ذكرناه من أنَّ النَّهي عن الشَّيء هو الأمر بضدِّه عكس ما مرَّ ذكره في المطلب الرَّابع والسَّادس لحصول التَّساوي بالنَّتيجة بين المتقابلين ممَّا أجمل منه وهما الأمر والنَّهي فيعود لكلِّ شيء من المعرفين بما يخصُّه ممَّا يحتمل دون الأكثر.

ومنه ما جمع النَّهي والحرمة في آن واحد في آية واحدة كما في قوله تعالى [وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ](5)، أي حرَّم قتلها فنهى عنه وذلك نوع من التَّأكيد.

ومثل ذلك الأمر بالمنع المعروف فيما ورد عن الإمام الحسين عَلَيْهِ السَّلاَمُ يوم الطف مخاطباً أعداءه (امنعوا عتاتكم وجهَّالكم عن التعرُّض لحرمي)(6) حيث جمع عَلَيْهِ السَّلاَمُ بين الأمر الدَّال على الوجوب والمصاغ في نفس الوقت بصيغة الأمر بالمنع وهو الَّذي معناه وجوب الأمر بالإقلاع عن الاعتداء وهو صريح في كونه من أدلَّة التَّحريم.

وممَّا كان مناسباً للتَّدليل على الكراهة هو ما لو دلَّت قرينتها عليها مع آيات

ص: 100


1- سورة الممتحنة / آية 9.
2- سورة الحجرات / آية 12.
3- سورة الحج / آية 30.
4- سورة الأنعام / آية 151.
5- سورة الأنعام / آية 151.
6- رواه الخوارزمي في المقتل: 2 : 33، وابن طاووس في الملهوف: 171.

[يَنْهَاكُمُ اللَّهُ](1) المكرَّرة ونحوها ممَّا يساعد على ذلك لو غلب الاستعمال بمثل الشُّهرات العمليَّة على الكراهة ولو لأسباب خفيت علينا أو الإجماعات المتقنة.

وهكذا قوله تعالى [اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ](2) الماضي ذكره في خصوص ما زاد على ذلك البعض المحرَّم لشمول النَّهي بسعته بالنَّهي عنه زائداً بمعنى الحث على التَّورُّع عن ذلك الكثير.

وقد يكون هذا التَورُّع داخلاً في الواجب العقلي مقدِّمة للخلاص من المحرَّم إذا لم يحرز فهم ذلك البعض من الكثير احتياطاً.

وإذا أراد المكلَّف تحمُّل مبغوضيَّة المكروه بإساءة الظن لبعض الدَّواعي لعدم الحرمة فيه فلابدَّ له من إقامة قرينة عدم ذلك التَّحريم أوَّلاً عليه، ليبرِّر لنفسه ذلك.

لأنَّ الآية قد لا تساعد على ذلك إلاَّ بالمبرِّر كحالات آخر الزَّمان الَّتي لأجلها ورد عن الإمام علي الهاديu قوله (إذا كان زمان العدل فيه أغلب من الجور فحرام أن يظن بأحد سوءاً حتَّى يعلم ذلك منه، وإذا كان زمان الجور أغلب فيه من العدل، فليس لأحد أنيظن بأحد خيراً ما لم يعلم ذلك منه)(3).

وإلاَّ قد تغلب بعض الأوامر المقابلة بالضد مثل قول الحديث (احمل أخاك المؤمن على سبعين محمل)(4) إلى غير ذلك ممَّا قد يختلف فيه أيَّام إمكان الحمل على الصحَّة من القديم الَّذي قد يكثر فيه المؤمنون أو لكثرة الالتزام بالتَّقيَّة لأجل الحفاظ عليهم عن أيَّام رجحان التَّحفُّظ عن الحمل عليها في قرب أيَّام غيبة الإمام المنتظر من أيَّام العسكري عَلَيْهِ السَّلاَمُ لصريح لسان الرِّواية الثَّانية.

ص: 101


1- سورة الممتحنة / آية 9.
2- سورة الحجرات / آية 12.
3- ميزان الحكمة ج2 ص1787 وأعلام الدين: ص312.
4- الحدائق الناضرة / الشيخ يوسف البحراني، ج 18، ص312.

وهكذا قوله تعالى [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ](1) الماضي ذكره إذا لم تنتف الكراهيَّة عن التَّحليل لصدق التَّحليل بالمعنى العام على الأحكام الأربعة كلُّها ممَّا عدا التَّحريم في مثل ليلة القدر أو لياليها المحتملة أو العشر الأواخر الَّتي كان النَّبي 2 فيها يلبس المئزر ويعتزل النِّساء ويتفرَّع فيها للعبادة وهكذا أهل بيته عَلَيْهِم السَّلاَمُ.

لكنَّه لا يدل هذا التَّحليل من حيث هو على خصوص الكراهة إلاَّ مع القرينة كما أشرنا إلى ذلك بليالي القدر والعشر الأواخر بواسطة ما يخصُّها من الرِّوايات، لأنَّ اصطلاح التَّحليل في أساسه قد يدل على الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة كذلك، فيتزاحم مع الكراهة كما في اللَّيلة الأولى المستحب فيها ذلك من شهر رمضان المبارك إلاَّ بالتَّشخيص.

وممَّا كان مناسباً للتَّدليل على الإباحة وهي الحكم الخامس المراد تأكُّده هو كل ما جاء من النُّصوص الإلهيَّة وما يتبعها من السنَّة ممَّا دلَّ أو استعمل فيه ما يتساوى فيه الطَّرفان من جانب الرُّجحان وجانب المرجوحيَّة، أو ما لم يبدُ منه حكم من الأحكام الأربعة الماضية.

إمَّا من صراحة لفظه من دون حاجة إلى قرينة صارفة مثلاً لاختصاصه في ذلك المعنى، أو لكثرة الاستعمال فيه بحيث لا يناهضه شيء غيره من المعاني الأخرى فضلاً عن الأغلبيَّة فيه، أو غير ذلك من القرائن الدَّالَّة عليها حينما كان اللَّفظ في واقعه موضوعاً لشيء غير الإباحة أو للأعم منها ومن غيرها كما في قوله تعالى [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ](2) الماضي ذكره فيما عدا اللَّيلة الأولى من شهر رمضان الَّتي جاء استحباب الرَّفث فيها، لأدلَّة ذلك الخاصَّة منه فيها وممَّا عدا اللَّيالي

ص: 102


1- سورة البقرة / آية 187.
2- سورة البقرة آية 187.

من العشر الأواخر منه أو ليلة القدر وما بعدها منه، لكراهته المعروفة من أدلَّة ذلك عند المتشرِّعة كما أشرنا إليه فيما سبق، فيبقى الوسط من لياليه داخلاً في معنى الإباحة من كلمة التَّحليل في الآية.

إلاَّ أنَّ الرَّفث جاء في الآية مباحاً مع القرينة كما وصفنا لتراكم الاحتمالات الثَّلاثة على كلمة (أحلَّ) وهي الاستحباب في اللَّيلة الأولى والكراهة في اللَّيالي الأخيرة والإباحةفيما بين الاثنين لأنَّه ما تبيَّن ذلك إلاَّ بعد مراجعة الأدلَّة وهو غير ضار بعد تبيُّن الثُبوت الَّذي قد لا يمنع عن قرب الإثبات كذلك بعد استفراغ الوسع النَّاجح.

وهناك وجه آخر قد يساعد على إمكانيَّة تصوُّر أصل الإباحة بدون ما مضى وهو فيما لو لوحظت منه الإباحة في خصوص ما يقابل الحرمة من هذا النَّص، وهي الَّتي ترتبط بحالة الصَّوم في النَّهار لحرمة الرَّفث فيه، أو فيما كان يُتصوَّر وهماً من قبل بعض أصحاب النَّبي 2 من أنَّ الرَّفث كان محرَّماً عليهم حتَّى في اللَّيل إلى أن أحدث بعض منهم في أنفسهم ما كان محرَّماً عليهم، وأقلُّه تحريمهم على أنفسهم ما كان حلالاً لهم، إمَّا تشريعاً منهم لذلك، أو تكليفاً من أنفسهم عليها بما لا يطيقون بقرينة قوله تعالى من نفس آيات الصَّوم [عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ](1).

ولذلك كانوا يستعملون الوصال في صيامهم بترك ما أبيح لهم وهو محرَّم كذلك إلى أن هدى الله من هدى بعد نزول الوحي في ذلك.

وبهذا يظهر معنى الإباحة الصِّرفة والمجرَّدة من الزَّوائد في أوَّل وهلتها وإن أمكنت الزِّيادة فيها برجحان أو مرجوحيَّة في بعض الإضافيَّات بعد ذلك مع القرائن الَّتي أشرنا إليها ولكنَّه غير ضار في أن تكون مجرَّدة كما بيَّنا مع إضافة قوله تعالى في

ص: 103


1- سورة البقرة / آية 187.

آخر الآية [فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ](1) أو مع القرينة كذلك لكون الأهم هو أصل وجود الإباحة والحكم الخامس وقد ظهر ممَّا مضى.

ومن ذلك قوله تعالى [وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ](2) لكون كل ما عدا المحرَّم هو مباح في أساسه وإن زاد عنه إلى الأكثر فهو خاضع إلى القرينة، ومثل ذلك بوضوح أكثر قوله تعالى [وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ](3).

حيث ثبتت الإباحة بحليَّة الطِّيبات وإن كانت تلك الإباحة هي إحدى ما يراد من الآية كالواجبات والمستحبَّات وحتَّى المكروهات لعدم المنع من قبلها كما مرَّ.

وهذه الإباحة بالمقابلة بتحريم الخبائث في نفس الآية الكريمة، ومن ذلك قوله تعالى [أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ](4) وهو يشبه ما مضى وتتجلَّى فيه أصالة الإباحة.

ومن هذا وأمثاله أسِّست القاعدة الأصوليَّة المعروفة لأحقيَّة الرُّجوع إليها عند الشَّك في الشَّيء بأنَّه حلال أو حرام اعتماداً على ما ورد (كل شيء لك حلال حتَّى تعلم أنَّه حرامبعينه)(5)، وهكذا كل ما يعطيه معنى (يجوز) أو (يباح) أو (لا مانع) أو (يرخص) أو (لك ذلك) من عموم النُّصوص والظَّواهر ومنها نصوص السنَّة الشَّريفة وظواهرها.

ص: 104


1- سورة البقرة / آية 187.
2- سورة النساء / آية 24.
3- سورة الأعراف / آية 157.
4- سورة المائدة / آية 1.
5- وسائل الشيعة ج17، ص89، أبواب ما يكتسب به، ب4، ح4، ط آل البيت.

تاسعاً- الأحكام الوضعيَّة التَّابعة للأحكام الخمسة

ولو كانت بألفاظ خاصَّة لها في النُّصوص القرآنية وتوابعها

لم تكن من صرف الملازمة الذَّاتيَّة للأوامر والنَّواهي

ولم يقتصر الأمر والنَّهي الإلهيَّان وهكذا ما ألحق بهما ممَّا ذكرناه من ألفاظ النُّصوص الشَّريفة الأخرى التَّابعة في دلالات ذلك الذَّاتيَّة أو بالملازمة ولو من حيث النَّتيجة على صحَّة ما كان مرضيَّاً ممَّا قد أمر به إذا طبِّق وبطلان ما كان منهيَّاً عنه إذا ارتكب كذلك ونحوه من الأحكام المسمَّاة بالوضعيَّة دائماً من نفس تلك الأوامر بأنَّها تقتضي الصحَّة لو طبق تمام مقتضاها والنَّواهي كذلك بارتكاب المعصية كما في أكثر العبادات المعروفة فيها بأنَّها تقتضي الفساد إلاَّ ما صُحِّح منها كما في علاجيَّات الشُّكوك.

وفي المعاملات بأنَّها تقتضيه كذلك ولو في القليل منها حسبما ظهر لنا من تتبع السَّلف الصَّالح.

بل جاء ما يوضِّح ذلك أو بعضه في بعض نصوص خاصَّة أخرى تحمل هذه الأحكام الوضعيَّة وتصرِّح بها بلا حاجة دائمة أو ملحَّة إلى تلك الملازمة في الأمر والنَّهي وما ألحق بهما بالاقتصار عليها، لأهميَّة التَّوسعة البيانيَّة المفروضة الَّتي ذكرناها ارتباطاً بالنُّصوص والظَّواهر الشَّريفة المتوفِّرة ممَّا سوف يتبيَّن تفاصيل هذه الأمور وغيرها في تضاعيف ما يأتي من البحوث الأصوليَّة والفقهيَّة بعدها ممَّا يأتي أساسه أو يكمل ما بدأنا منه بشيء من الكلام.

ولعلَّ تلك الملازمات كملازمة الصحَّة وملازمة الفساد وهكذا القبول والرَّد ونحوها المعروفة بين الفقهاء ما جاءت أو بعضها إلاَّ من اصطيادها من بين تلك النُّصوص على ما مرَّ التَّنبيه عليه سابقاً ولذا تؤكِّد عليه الآيات الشَّريفة.

ص: 105

ومن ذلك قوله تعالى [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ](1) لكون المتَّقين بسبب تقواهم لابدَّ من كونهم يتقنون أعمالهم وكافَّة تصرُّفاتهم عند أدائهم لها بعد تعلُمهم المشروع منها وأحكامه ويؤدُونها أداءاً صحيحاً فتكون مقبولة.

وقوله أيضاً [وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ](2) أي في عمومها حذراً من السَّفه وتمزيق الأوقات والأفعال بما لا ينفع فيه أو ما فيه ضرر إذا كان الإبطال بمثل قطعها أو فعل قواطعها أو الإخلال بنيَّتها أو الخلط بينها وبين أضدادها اعتزازاً بالصَّحيح فيها مع سماح الأدلَّة الباقية بالإبقاء عليها حتَّى لو كان حكمها أقل من حكم الوجوب كالاستحباب وكان الصَّحيح من ذلك لا يتم إلاَّ بالإكمال على الوجه الصَّحيح، وإن أوضحت هذا الأمر نصوص قرآنيَّة أخرى أو من السنَّة الشَّريفة.وقوله أيضاً [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى](3) لكون الغفران من الأحكام الوضعيَّة المعروفة الَّتي جاءت منه تعالى رحمة ومنَّة إلهيَّة لكن بعد ما يسبقه من تطبيق الشُّروط المذكورة من التَّوبة والإيمان والعمل الصَّالح ثمَّ الاهتداء في الآية ليتم الاستحقاق له.

وقوله أيضاً [وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ](4) لأنَّ عدم القبول وكذا الخسران من هذه الأحكام التَابعَين لارتكاب الحرام وهو البقاء على التَّديُّن بأديان ما قبل الإسلام دون التَّديُّن به وإن كانت سماويَّة ما لم يكن الإسلام أحدها وخاتمها الحاوي لها.

وقوله الَّذي جمع ما بين الحكم الوضعي والتَّكليفي أيضاً وهو [وَلاَ تَأْكُلُواْ

ص: 106


1- سورة المائدة / آية 27.
2- سورة محمد / آية 33.
3- سورة طه / آية 82.
4- سورة آل عمران / آية 85.

أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ](1) حيث جمع تعالى فيه بين النَّهي المحرَّم والباطل الوضعي المرتبط به بمثل الإسراف والتَّبذير والتَّرامي والتَّراشي والكسب المحرَّم بأنواعه ونحو ذلك ممَّا يلازم البطلان التَّعاملي وسحتيَّة الأرباح.

وقوله أيضاً [وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ](2) أي حينما كانوا يخالفون الإسلام عقيدة وعملاً عبادة وتجارة، إلى غير ذلك من الآيات والَّتي قد يوضَّح بعضها بعضاً أو توضِّحه السنَّة التَّابعة أو يبرز مستقَّلاً منها ممَّا لم يكن في ظاهر الكتاب لإيضاح هذه المعاني المهمَّة التَّابعة للأحكام الأصيلة خدمة منها للآيات المجملة عن الأحكام ولوازمها الوضعيَّة.

فالكافر والمنافق والفاسق المستمر والمصر على فسقه تجب عليه الصَّلاة مثلاً ونحوها من بقيَّة الواجبات وهكذا يخاطب بعموم الطَّاعات ولكنَّها لم تقبل منه لكفره أو للنِّفاق ولعدم إحراز النيَّة الصَّحيحة من الكافر والمنافق أو للإصرار على الفسق من الفاسق إلى نهاية الحياة على العكس من حالة الإسلام ببراءة.

وكذا الإيمان وصدق النيَّة أو التَّوبة والإنابة الصَّادقتين بعد التَّورُّط سابقاً بشيء ممَّا حرَّم الله فلابدَّ من القبول وأمثاله من هذه الأحكام أو تعليق رضا الباري لو خلط العبد بين الطَّاعة والمعصية إلى أن يتوحَّد السُّلوك المعتدل في الطَّاعة فيكون هذا العبد مشمولاً به.

إلاَّ أنَّ هذه الأحكام في هذه الألفاظ المضافة إلى الخمسة الأصيلة الماضية لم تتشكَّل - لواحد كل منها بهذه الألفاظ - تلك القاعدة المعروفة بين العلماء بالأحكام الوضعيَّة الَّتي يرجع إليها سلباً أو إيجاباً كميزان يبنى عليه فقهيَّاً كما في نفس الأمر والنهي - من عنواني الأمر والنَّهي العامَّين - ولكنَّها قد تكون مشكلة بمجموعها مع

ص: 107


1- سورة البقرة / آية 188.
2- سورة الأعراف / آية 139.

تلك الأوامر والنَّواهي وتوابعها لكون ألفاظ الأحكام الوضعيَّة الَّتي مرَّت في النُّصوص والَّتي اصطيدتمنها عناوينها ببركة سعي الفقهاء تابعة دوماً لتلك الأساسيَّات بنحو الإرشاد إليها منهما ومن توابعهما.

(تنبيه مهم)

يبقى شيء ينبغي التَّنبيه عليه لأهميَّته وهو أنَّ هذه الأحكام الوضعيَّة هل تختص إيجاباً وسلباً في الواجبات والمحرَّمات حسب؟ أم تشمل جميع الخمسة؟

فنقول: إنَّ جميع الأحكام التَّكليفيَّة الخمسة لابدَّ وإن تكون صحَّة نتائجها وعدمها مرهونة بالأداء الكامل لها أو عدمه لعدم اختلاف المستحب والمكروه والمباح عن الاثنين الأوَّليَّين وهما الواجب والمحرَّم لعدم تلازم الحكم الوضعي دوماً في الصحَّة والفساد المعروف بهما لخصوص الواجب والمحرَّم انسجاماً مع الفطرة السَّليمة والذَّوق السَّليم.

وبه أقرَّت العقول المتقيِّدة بالدِّين مع شواهد النُّصوص عليه في أمور تلك الثَّلاثة أيضاً من تتبُّعات الفقهاء الكثيرة وبنحو يبعث على الاطمئنان كذلك.

ومن تلك النُّصوص الَتي وردت في الأحكام التَّكليفيَّة الخمسة الأصيلة من الأوامر والنَّواهي، ومنها الَّتي وردت في ملحقات التَّكليفيَّة وبنفس عددها، ومنها ما جاء بلسان الوضعيَّة.

وقد يتَّضح الأمر أكثر لما يراد فهمه من مقامنا لو جمعت المجاميع الثَّلاثة في الذِّهن، وهي (الإيمان وصدق النيَّة أو عكسهما والأحكام التَّكليفيَّة والأحكام الوضعيَّة.

فإنَّ أدنى ملاحظة من قبل كلِّ لبيب وارد في تشخيص معاني الفقهيَّات ونحوها إذا عرف المقدِّمات الحوزويَّة لابدَّ وأن تظهر له هذه الأحكام الوضعيَّة على حقيقتها.

ص: 108

ومن ذلك حتماً ما في الأمور الثَّلاثة الباقية وهي المستحبَّة والمكروهة والمباحة، لأنَّ كل من أجرى أعماله العباديَّة والمعاملاتيَّة وبقيَّة أمور الحياة الأخرى الفقهيَّة بلا مخالفة لشرع الله في شيء منها ولا حقوق الآخرين وبلا إضرار بالنَّفس فهي صحيحة أو مقبولة أو لا ضير فيها، وهكذا كل ما أجري من ذلك مخالفاً بإفراط أو تفريط وابتداع وتشريع فهو باطل أو مرفوض ونحو ذلك.

فالمباح المميِّز في تشخيصه والمشخَّص بما مضى مثلاً من دلائله أو بالرُّجوع إلى أصل الإباحة لتشخيصه عند الشَّك فيه بأنَّه من أي حكم هو من الثَّلاثة لابدَّ من أن يكون ميزانه في القبول والرَّفض مبنيَّاً على هذا المقياس ولو بالعنوان الثَّانوي.

عاشراً- انقسام الطَّلب إلى شيئين

من حيث النَّوع طلب فعل وهو الأمر وطلب ترك وهو النَّهي

ومن الأمور المشتركة الَّتي يمكن أن تسمَّى بين الأمر والنَّهي وباسم الطَّلب الجامع هي انقسام الطَّلب من حيث النَّوع إلى شيئين وهما:-

طلب الفعل للأمر وطلب التَّرك للنَّهي وإن انفصل كل منهما باسم خاص له.

وعليه فهل كون الكلام بين البحثين يمكن أن يقال عنهما معاً؟ كما في السَّابق من العناوين أم لا؟ ليكون الأوَّل مرتبطاً بنفسه والثَّاني كذلك بدون اشتراك.

وللإجابة نقول كما مرَّ في الأمور المشتركة.

بعد انقسام الطَّلب من العالي إلى الدَّاني إلى شيئين نوعيَّين في الأساس - ممَّا تعدَّدت أشياءه في خارج ما نحن فيه في المصداقيَّة العلميَّة في لسان الأدب والمنطق العقلي ومع لسان الشَّرع إلى ما هو الأكثر وهي أحكام الشَّرع المعروفة - وهما طلب الفعل - وهو الأمر المراد منه على الأكثر أصوليَّاً كما سيتَّضح بأنَّه البعث - وطلب التَّرك، وهو النَّهي المراد منه على الأكثر بأنَّه الزَّجر.

ص: 109

ولعدم إمكان الخلط التَّام فيما بينهما في شيء واحد يراد منه كل منهما دوماً ولو بقيود إضافيَّة تخص كلاًّ منهما إلاَّ بما ذكرناه من معنى الاقتضاء عند محاولة التَّعريف لكل من الأمر والنَّهي.

لعدم هذا الإمكان لو أريدت الدقَّة في ذلك بصورة أفضل ولو في بعض الشَّيء وإن فسِّر أحدهما بالآخر على بعض الوجوه كما ذكرنا في السابق بإضافة (عن الضدِّ الخاص) حين تعريف الأمر وبإضافة (بالضدِّ الخاص) في تعريف النَّهي ربطاً بما سبق بيانه من التَّعريفين.

فلابدَّ إذن لهذه الدقَّة من إفراز أحدهما عن الآخر في البحث والبيان للكلام عن كل من الاثنين على حدة - وهما الأمر والنَّهي - للاطلاع أوَّلاً على ما يشخصه ويميِّزه عن الآخر.

ثمَّ إن ظهر ثانياً بعد ذلك شيء يوصل إلى ما به الاشتراك الَّذي في الجملة المعهودة كالاستلزام والاقتضاء فلا نمنع منه بل نبقي عليه لتظهر حالة الإفراز المهمَّة الآن بصفتهاالأجود بعد انتهاء الحاجة الفعليَّة إلى الجمع وينتهي إلى حقيقة الجمع الأدق فيما بينهما لما مرَّ بيانه من الأسباب.

فلنبدأ بالأوَّل وهو طلب الفعل المشار إليه آنفاً ومظهره اللَّفظي في القرآن الكريم من آيات أحكامه الخاصَّة أو بالمعنى الأوسع وإن قلَّ عن المعنى العام لما مرَّ التَّنويه به بأنَّه هو ذلك الأمر الطَّلبي الخاص من العالي إلى الدَّاني الَّذي اجتمعت حروفه ب- (أ - م - ر) مفتوح الهمزة مسكَّن الميم، وأقلُّه المجموع على أوامر ممَّا مرَّ التَّمثيل له والاستشهاد عليه بالآيات وبقيَّة النُّصوص وما قد سيجيء عند الحاجة وهو الثَّلاثة وبتصاعد.

لا الَّذي بمعنى الشَّيء والدَّاخل في عموم مادة (أ - م - ر) مفتوح الهمزة مسكَّن الميم، وما يجمع على أمور والَّذي من أمثلته القرآنيَّة قوله تعالى [وَأَمْرُهُمْ شُورَى

ص: 110

بَيْنَهُمْ](1)) وقوله [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ](2) ونحوهما.

ولا هو بالأمر الطَّلبي الَّذي يكون بمعنى الالتماس في موارد التَّساوي بين الطَّالب والمطلوب منه شأناً من الخطابات الخاصَّة بقيودها.

ولا بمعنى الدُّعاء الحاصل من الدَّاني إلى العالي شأناً.

ولا الطَّلبي بالمعاني الأخرى كالتَّمني والتَّرجي والاستفهام والعرض والتَّحضيض ونحوها، إلاَّ بما كان من تلك المطالب أقل صرامة أو ما به شدَّة في الصَّرامة كالتَّحضيض المستوضح أمره من آية النَّفر الَّتي أستفيد منها به وجوب التَّقليد للمجتهد الكفوء من كل مجتهد حي للعوام.

بسبب أنَّ التَّحضيض جاء وحيه بالصَّرامة المعهودة من قبل الله تعالى فهو الملحق بطبيعة الأوامر الطَّبيعيَّة الصَّادرة من الله تعالى للمكلَّفين ولكن بالنَّحو الكنائي الَّذي قد يكون أبلغ من التَّصريح في بعض الأحوال.

وأمَّا الأقل صرامة وبشيء من اللِّين المخل بكون الطَّلب من العالي إلى الدَّاني كالعرض الممثَّل أدبيَّاً له بقول الشَّاعر:-

يا بن الكرام ألا تدنو فتبصر ما *** قد حدَّثوك فما راءٍ كمن سمعا(3)

فهو مع بقيَّة أنواع الطَّلب الأخرى كأدوات التَّمنِّي ك- (ليت) المشار إلى معناها في قول الشَّاعر:

ألا ليت الزَّمان يعود يوماً *** فأخبره بما فعل المشيب(4)

والتَّرجِّي ك- (لعلَّ) الممثَّل لها في قوله تعالى [لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ

ص: 111


1- سورة الشورى / آية 38.
2- سورة آل عمران / آية 159.
3- راجع قطر النَّدى لابن هشام الأنصاري ص74.
4- راجع المصدر السَّابق ص148.

السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى](1).والاستفهام الممثَّل له قرآنيَّاً في قوله تعالى [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ](2) لو صيغت أو بعضها بما قد يُسمَّى في الظاهر بما يتَّصل بآيات الأحكام فإنَّها لا تدل على المعاني الحقيقيَّة، لأنَّ صياغة السؤال عادة لم يصح أن تكون من مثل المشرِّع تعالى وهو العالم بكلِّ شيء.

إذ لابدَّ أن تظهر توجيهاتها بما يتناسب عند المرور عليها، وإن كانت قد جاءت لاغتنام الفرص بأسلوب الأمر الأخلاقي لكسب المأمورين للمطاوعة لئلاَّ يكون فاقدها من الخاسرين ولو بمثابة من مثابات اللُّطف الإلهي ومع ذلك فلم يحسن حمل مثل هذا الخطاب إلاَّ من مثل النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم صاحب الأخلاق العظيمة.

ولذا كان يخاطب الأمَّة بالملامة والتَّأنيب بما مضى من الآية الماضية، ولذا قال تعالى عن تصرفات النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم المسؤول بالتَّبليغ بها بمثل قوله [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ](3)، ولذا استعملت بعض هذه الألفاظ للتَّشجيع على التَّحصيل العلمي وبلسان الأخلاق الرَّفيعة الخاصَّة إلهيَّاً ونبويَّاً ولكن حينما كانت بما يتناسب ولسان البشر لكون النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم ما جاء إلاَّ بلسان قومه لهدايتهم وكما قال تعالى [وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى](4).

إضافة إلى أنَّ بعض آيات هذه الأنواع من الطَّلب ومنها آية السؤال الماضية ما جاءت باللِّسان المولوي، وإنَّما بالإرشادي لتحكيم العقل والمستفاد منه التَّوبيخ

ص: 112


1- سورة غافر / آية 36.
2- سورة البقرة / آية 44.
3- سورة الحشر / آية 7.
4- سورة النَّجم / آية 3.

والتَّأنيب كما مرَّ أمكن قبول المعنيين بالحمل المجازي في الله والحقيقي في النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وإن رخصت رقاب النَّاس بالنِّسبة إلى مقام النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم المرسل وهو العالم حتماً بما قال في خطابهم.

بل قد صيغت آية النَّفر الَّتي آخرها [لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ](1) نفسها ليأنِّبوا أنفسهم عقليَّاً قبل الشَّرع إذا قصَّروا تجاه العلوم الإلهيَّة، وهكذا بقيَّة أمثلة أنواع الطَّلب الأخرى، وبهذا الأسلوب القيِّم صحَّ قول الشَّاعر النَّاصح:-

أشر للحر من قرب وبُعد فإنَّ الحر تكفيه الإشارة(2)

الحادي عشر- دلالة الأمر في أساسه على الوجوب

دون بقيَّة الأحكام وإن قيل بتعدُّد معانيه لعدم المزاحمة

ومن خواص ما يتعلَّق بالأوامر من الأحكام الخمس دون النَّواهي هي دلالتها على الوجوب حسب:-

فنقول عن دلالة الأمر في أساسه بعد ما مضى وأنَّه على الوجوب دون بقيَّة الأحكام التَّكليفيَّة الأخرى حقيقة بعد الفراغ من بيان مقدِّمة وهي الكلام أوَّلاً عن استعمالات هذه اللَّفظة المتعدِّدة في الصِّيغ القرآنيَّة ثمَّ التَّصريح ثانياً عن ذي المقدِّمة لتخليص البحث عنه ممَّا قد يزاحمه من المشاركات الشَّكليَّة الخارجة عنه واقعاً.

أمَّا الكلام عن المقدِّمة وهي الاستعمالات المتعدِّدة لهذه الصِّيغة واللَّفظة في الصِّيغ القرآنيَّة وما يتبعها من السنَّة وفي اللُّغة المسايرة.

فهي المطابقة لمادة الأمر الَّتي هي من (أ - م - ر) كذلك ولكن في الأمر المجموع

ص: 113


1- سورة التوبة / آية 122.
2- مقتل الحسين u للمقرّم 340 عن تحفة العالم للسيّد جعفر بحر العلوم 1 ص 37.

على أوامر لا كما سبق ولما يخص الأحكام التَّكليفيَّة الخمسة أو ما يصح منها معه وان اختلفت مبانيه الصَّرفيَّة بعض الشَّيء ك- (فِعلَل) الوارد فيه قوله تعالى [اقرأ](1) ونحوها، وهكذا ما وازنها من السنَّة، وهكذا اللغة العامَّة المطابقة إن لم تخرج عن الصَّدد الشَّرعي، وك- (فَعلِل) الوارد فيه قوله تعالى (صلِّ) و النَّص الآخر (زكِ) ونحوهما وهكذا ما وازنهما من السنَّة، وهكذا اللغة العامَّة المطابقة إن لم تخرج عن الصَّدد الشَّرعي، وك- (فُعل) الوارد فيه قوله تعالى [قُمْ فَأَنذِرْ](2) و (قُل) ونحوهما وهكذا ما وازنهما من السنَّة، وهكذا اللغة العامَّة غير المخالفة، وك- (فاعل) الوارد فيه قوله تعالى [فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ](3) و[حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى](4) ونحوهما وما وازنهما من السنَّة وهكذا اللغة غير المخالفة.

وغير ذلك من صيغ الأمر الواردة في القرآن وما يتبعها ممَّا مرَّ الكلام عنه ولو إجمالاً فيه، وكذا ما جاء في السنَّة الشَّريفة التَّابعة له وما عرف من اللغة العامَّة المطابقة، بل قد تكون السنَّة الشَّرعيَّة واردة في الأحكام بأكثر من القرآن لوضوحها وإجماله.

ولذلك قال العلماء عنه وعنها بأنَّه قطعي الصُّدور ظنِّي الدِّلالة وأنَّها ظنيَّة الصُّدور وقطعيَّة الدِّلالة حتَّى عالجوا الأمر فيما بينهما بحالة جمع أصولي متقن يحوج أحدهما إلى الآخر كما أوصى رسول الله 2 بحديث الثَّقلين المشهور بين الفريقين وبما هو محقَّق في محلِّه من بحوثنا الأخرى وليس هذا موضعه.

ولذا قد يرد إشكال من بعضهم على أنَّ القرآن لا يمكن أن يكون الأمر فيه

ص: 114


1- سورة العلق / آية 1.
2- سورة المدثر / آية 2.
3- سورة التوبة / آية 12.
4- سورة البقرة / آية 238.

واضحاً بصورته الشَّرعيَّة لوحده لكونه قد ورد فيه وفي غيره بخمسة عشر معنى، وهذا العدد دال قطعاً على ما يزيد على الأحكام الخمسة الَّتي أوَّلها الوجوب.

بينما بحوثنا فيه أوَّلاً خاصَّة في الخمسة لا غير إلاَّ بعض من التَّوابع الَّتي سنوضِّحها.

ولتكون بحوثنا هذه ثانياً مستخلصة في الوجوب فقط والعموم المرتبط بالمعاني وألفاظها الخمسة عشر لا يرتبط بآيات الأحكام وحدها فلا ينفعنا البحث في شيء ميسَّر عمَّا في خصوص القرآن إلاَّ مع السنَّة وكلامنا فيه عن خصوص آيات أحكامه.

فنجيب أوَّلاً: بأنَّ السنَّة وهي الثِّقل المعظَّم الثَّاني مع شرافتها وكونها تابعة للثِّقل الأعظم الأوَّل في حديث الثَّقلين وموضِّحة لمعاني القرآن المجملة في بعض ألفاظه لا تنقص من عظمته حينما يحتاج إليها، بل تظهر كماله في مجمله ومبيِّنه، ولذا أوصى النَّبي 2 بهما في مقامات عديدة في روايات الفريقين ليعمل بهما معاً مع كونها التَّابعة له وما لا يضر ببحثنا عن آيات الأحكام.

ولعلَّ المتابعة للسنَّة بإخلاص واستفراغ وسع تُسبِّب التَّعرُّف على المعاني الخمسة عشر إن كانت وبما لا تضر بجوهريَّة الخمسة الرَّئيسيَّة، ولعلَّ سعة الخمسة عشر هي التَّي تكون من ضرب الخمسة الرَّئيسيَّة بالثَّلاثة الَّتي يذكرها الأخلاقيُّون وأهل العرفان الشَّرعيُّون وهي عبادة العبيد للخوف من النَّار وعبادة التُّجَّار طمعاً في الجنان والحور وعبادة الأحرار وكما حدَّده أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ في دعائه الماضي.

وثانياً: بأنَّ هذا الإشكال لم يجيء إلاَّ حينما نعمِّم المطلب الأصولي اللَّفظي في القرآن كلِّه، ولذا قد يدخل الخمسة عشر أمراً لخمسة عشر معنى أو بعضها ممَّا كان زائداً على المطلوب الشَّرعي وبما قد يضر في القضيَّة لو لم يتوسَّع في القضيَّة إلى ما يزيد عن الشَّرعيَّات من بقيَّة العلوم الأخرى الَّتي أوَّلها العقائد والأخلاق والطب والهندسة ونحوهاممَّا لم تخرج الخمسة التَّكليفيَّة عن أمورها فيصل إلى هذا الرَّقم.

ص: 115

بل حتَّى لو أدخلنا السنَّة مع القرآن في المنظور العام الَّذي قد يخرجنا عن الصَّدد الشَّرعي جملة أو تفصيلاً.

ولذلك أو بعضه اعتبر البعض من أعلام الأصول المهمِّين كصاحب المعالم قدس سره الوجوب في الأوامر أو ما قد يزيد عليه فيها من المعاني الخمس ثابتاً من خصوص الوجهة اللغويَّة أو العقليَّة معها لا الشَّرعيَّة الاصطلاحيَّة كما سيأتي، ليدخل في نظره أكبر عدد من الأوامر وملحقاتها ولو بأن يكون الوجوب عقليَّاً، للتَّنبيه على أنَّ طاعة المولى واجبة ابتداءاً من تعقُّل ذلك ممَّا يجري بين العبد تجاه سيِّده إذا أمره لتسري من بعد ذلك أولويَّة إطاعة الخالق تعالى في وجوبها.

ولكن حينما نخصًّص كلامنا في محض آيات الأحكام الَّتي نقصدها في البحث دون البواقي ومنها النُّصوص المحكمة أو البالغة في ظهورها في المعنى الشَّرعي لا غير مبلغ الاعتبار أو حتَّى الَّتي احتيج في كثيرها أو أكثرها إلى السنَّة الشَّريفة جملة أو تفصيلاً لبعض الوجوه حينما سبق أن قلنا بأنَّها التَّابعة مع أهميَّتها البالغة والموضِّحة لمعاني النُّصوص المجملة.

فلابدَّ من الرُّضوخ إلى التَّعريف بالقول بالوجوب ونحوه من الأحكام الخمسة على النهج الاصطلاحي الشَّرعي لا اللغوي المزبور لإمكان الوصول إليه، بل ثبوته وتوفُّر مصاديقه بما سيتَّضح إنشاء الله تعالى.

وإن ساعدت بعض أبواب اللغة في قواميسها المطلوبة على الانفتاح على الشَّرعيَّات الاصطلاحيَّة بعد فهم تعاريف الأصوليِّين على ضوء ما أعطته تلك القواميس من لزوم فهم الوجوب العقلي من طريقها وممَّا أوضحوه وإن كانت قد تزيد عن هذه الخمسة في الجملة بما يشبهها من هذه الخمسة.

وهي كل ما طابق كلمة (افعل) وما وازنها أو اشتقَّ منها وما ألحق بها من ألفاظ الأمر الطَّلبي الآخر في الحالات الاتِّصافيَّة الأعم للخلاص من مسؤوليَّة عدم

ص: 116

التَّشخيص المضبوط كالوجوب والاستحباب والإباحة والكراهة الَّتي بمثل الَّذي يؤدِّي إلى ما يشبه معنى الوعيد في مرحلته الخفيفة الَّتي لا تصل إلى الحرمة المرتبطة بالنَّهي الخارج عن مفاد الأمر المستقل عنه في هذا المطلب الخاص إن صحَّ التَّعبير.

وهكذا ما يشبه التَّحريم أو يؤدِّي مؤدَّاه من نفس هذه الصِّيغة كما في التَّهديد والإنذار إذا أصرَّ المخالفون للشَّرع على الارتكاب أو مارسوه حتى أوصلها العلماء هي وأخريات من الفقرات القرآنيَّة إلى خمسة عشر أو الأقرب ولخروج أكثرها عن الصَّدد المطلوب في مهمَّة التَّشخيص لما نريده.

فلابدَّ من أن لا نمثِّل إلاَّ للممكن الَّذي لا يتنافى مع الخمسة المعهودة وإن زاد بعض الشَّيء عن عددها إن وفِّقنا للتَّطبيق بالأمثلة القرآنيَّة المقنعة لتشخيص كل منها أوَّلاً، وإن تكرَّر للتَّأكيد ولمعرفة المراد منها في حالة الوجوب مثلاً بالتَّشخيص المميِّز له عن البواقي ثانياً بعد هذه المقدِّمة وإلقاء عهدة البواقي على حالاتها المختلفة من الأبوابالأخرى.

وهي إن كانت قرائنها مع كل منها على شيء ميسَّر فالأمر سهل وإلاَّ فلابدَّ من التَّفحُّص عن القرائن واستفراغ الوسع في ذلك مع احتمال وجودها وفي حالة اليأس بالعدم فلا يبقى غير الوجوب الآتي بيانه ولو بالتَّوجيه بالمعنى نحوه ما لم يصطدم بمحذور آخر يمنعه من ناحية أخرى.

فمثال الوجوب وكما مر هو قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ](1) لو أريدت المولويَّة منه شرعاً وقوله [قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ](2) أي في حالة التَّعجيز إلى غيرها من النُّصوص وبمختلف الأوزان الآمريَّة.

ص: 117


1- سورة البقرة / آية 43.
2- سورة البقرة / آية 111.

ومثال النَّدب قوله تعالى [فَكَاتِبُوهُمْ](1) أي العبيد لكراهة الدَّوام على تملُّكهم وبالأخص إذا وصلوا إلى مرحلة الإعياء من الخدمة أو الإيمان المرجِّح للعتق عند انتهاء المرجَّح لامتلاك العبيد بالشِّراء للغنائم الَّتي منها ذلك إسلاميَّاً وبالخصوص إذا جاءت مناسباته الَّتي منها عيد شهر رمضان حتَّى مع المكاتبة.

ولذا جعل الشَّارع المقدَّس هذه وأمثالها منافذ مشروعة عديدة لفكِّهم من الرقيَّة كما كان الإمام السجَّاد عَلَيْهِ السَّلاَمُ وغيره من الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ معتاداً على منقبة تطبيقه، وجعل منها حالات واجبة كالكفَّارات ونحوها من حالات الوجوب أو الأقل كالدَّرجة المستحبَّة وهي المقصودة هنا.

ولأجل أهميَّة العتق بكلِّ أنواعه جعل المكاتبة الَّتي قد تستثقل لدى بعض العبيد مستحبَّة معهم لكونها مشروعة معهم ولصالحهم في مختلف حالاتها ومقتضية للثَّواب لكونها من مقدِّمات تحرير الرِّقاب الرَّاجحة نوعاً وتركه مرجوح وإن لم يكن معه عقاب مع ما في التَّرك من النَّفع المادِّي لنفس المالك لو لم يُرد مجرد التَّحرير القربي ولعلَّه أراده مع القربة لغاية دينيَّة أو أراد المال لإيداع البركة فيما بقي عنده بعد ذلك.

وهكذا قوله تعالى [وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا](2) لأنَّ ردَّ السَّلام بالأحسن زائد على الوجوب وهو الرَّد بالمثل فلابدَّ من القول باستحبابه.

ومثال الإباحة مع ما مرَّ قوله تعالى [كُلُوا وَاشْرَبُوا](3) حينما يقابل بالنَهي عن مطلق المرجوح المعدود من الكراهة على ما سيجي الآن، وعن الإسراف المحرَّم الَّذي سبق بيانه حيث لا ينتج أوَّل ذي بدء إلاَّ ما يباح ويجوز وإن كان قد يرتقي كل من

ص: 118


1- سورة النور /آية 33.
2- سورة النساء / آية 86.
3- سورة البقرة / آية 60.

الأكل والشُّرب بحسب القرائن إلى مرحلة الاستحباب ثمَّ الوجوب أو قد ينزَّل مائلاً نحو المبغوضيَّة القريبة من التَّحريم وهي الكراهة.وهكذا قوله [وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ](1) أي إن شئتم، إذا أريد من هذه الآية مطلق الإباحة للاصطياد وهو ثابت باشتراط ما بعد الإحلال من الإحرام، لأنَّه كان محرَّماً أثناء الإحرام ويؤكِّده عند المقابلة بالتَّحريم المنتج لأقل مراتب الجواز وإن أمكن ارتقاؤه إلى ما هو أكثر كالاستحباب والأعلى حسب دلالة القرائن وكذا النُّزول للكراهة بسببها أيضاً.

ومثال الكراهة أو ما يشبهها لو كان في أمر تهديدي خفيف اللهجة من قرائنه هو نفس قوله تعالى الماضي ذكره [قُلْ تَمَتَّعُواْ](2) لأنَّه مع القرينة على الخفَّة إنذار لم يصل الإقحام التَّام فيه إلى حدِّ مواقع الهلكة وإنَّما كان في مجرَّد التَّواجد في بدايات مسالكها.

إضافة إلى ما مضى من أدلَّة المكروهات الاصطلاحيَّة الَّتي منها كذلك قوله تعالى [نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ](3) إذا كان المقصود إباحة وطي النِّساء مثل البهائم على الكراهيَّة ولو من الأدلَّة الأخرى أو التَّنبيه من هذا الأمر على مبغوضيَّة إتيان النِّساء من الدُّبر للمجازيَّة بسبب القرب من موقع الحرث بنحو الكراهة لو رضيت لكونه محش الغائط ولم تكن على حيض أو نفاس والأخير هو الأظهر في ثبوت الكراهيَّة وإن كان الأوَّل محتملاً كما سيأتي في محلِّه.

ومثال ما يناسب الحرمة من الأوامر كالتَّهديد شديد اللهجة والَّذي مفاده وجوب الإقلاع عن المحرَّم ولو مع بعض القرائن مثل قوله تعالى [اعْمَلُوا مَا

ص: 119


1- سورة المائدة / آية 2.
2- سورة إبراهيم / آية 30.
3- سورة البقرة / آية 223.

شِئْتُمْ](1) كالانشغال بما يمنع من أداء الواجب مثل الصَّلاة وإن كان ذلك المانع محللاًّ في نفسه فضلاً عمَّا لو كان محرَّماً أو كان قد عُدَّ ترك الصَّلاة مثلاً بلا تشاغل بشيء آخر محلَّل أو محرَّم وكان عدم التَّشاغل هو عمل في هذا التَهديد ولو تجوَّزاً.

ومثال ما يشبهها كذلك في الأمر شديد اللَّهجة من قرائنه أو عدمها إن أمكن التَّدليل على الإنذار من مجرَّد ورود النَّص الشَّريف الماضي هو قوله تعالى [قُلْ تَمَتَّعُواْ](2) مع ما دلَّ عليه من أمثلة التَّحريم الأصليَّة للحذر من التَّلبُّس بما يحرم فعلاً المحقَّق للعقوبة الدُّنيويَّة قبل الآخرويَّة.

ولكن لمَّا كان الأشكال باقياً في بعض الموارد الأخرى أو كثيرها لعدم وضوح أو عدم إمكان استيضاح قرائن ما عدا الوجوب في بعضها أو اختفاء مظاهر الوجوب في بعضها الآخر.

لكون الجميع المحتمل جاء على صيغة (افعل) أمراً أو ما يؤول إليه من فصائل الأمر ولكثرة الاستعمال المجازي في غير الوجوب ممَّا سموه بالمجاز الغالب في مقام الاستحباب الآتي ذكره، حتَّى أثَّر على أصل الدِّلالة على الوجوب عند البعض، فأخذالاستحباب مكان الوجوب في الأصالة، أو في بعض المقامات عند بعض آخر.

حتَّى قال بعضهم بأنَّ (افعل) دالَّة على الوجوب بحسب الظَّاهر الَّذي قد يكون معناه على خلاف الواقع الَّذي لم يتَّضح.

وقال بعضهم أيضاً بأنَّها صيغة مشتركة اشتراكاً لفظيَّاً بين الوجوب والنَّدب.

وقال آخرون بأنَّها للقدر المشترك منهما وهو الطَّلب ليس أكثر حتَّى لو اختلف اللفظ.

وتجاوز آخرون فقالوا بالاشتراك بين الثَّلاثة.

ص: 120


1- سورة فصلت / آية 40.
2- سورة إبراهيم / آية 30.

وقال آخرون كذلك بأنَّها مشتركة ما بين الأربعة.

وقال آخرون شيئاً آخر لا نطيل فيه المقام لقلَّة أهميته، وإنَّما سوف يأتي بيان ما كان نافعاً في مطلبه في محلِّه، وهنا أمكن القول بتعدُّد المعاني مع الألفاظ وإن اتَّحدت بتصوير آخر والأمثلة الَّتي مرَّت من الآيات وإن تكرَّرت مع السَّابق من بعض العناوين فهي هنا لغرض الخوض في تعدُّد معاني الأكثر من الخمسة الأصيلة.

وأمَّا الكلام عن ذي المقدِّمة فلابدَّ من الخوض في موضوعه الخاص بعد ما مضى ولو بمقدار الحاجة الماسَّة بأهميَّتها لتفريغ لفظة الأمر - إلى خصوص ما تدل عليه مع التَّجرُّد من القرائن - عمَّا قد يتصوَّر من بعض حالات الاشتراك لترك الباقي على ما تدل عليه قرائنه.

فنقول: إنَّه ذكر المهمُّون من الأصوليِّين ومنهم صاحب المعالم قدس سره بأّنَّ دلالة الأمر وما في معناها مع التَّجرُّد حقيقة في الوجوب فقط بحسب اللُّغة على الأقوى وفاقاً لجمهور الأصوليِّين، وهو مذهب أكثر الفقهاء والمتكلِّمين وأبي الحسين والشَّافعيَّة وعلى ذلك، فهو مجاز في البواقي من الأحكام مع تجرُّد لفظ الأمر وبقيَّة ألفاظه التَّابعة له من القرائن للحاجة إليها عنده، لأنَّه استعمال في غير ما وضع له.

وهذا إن تمَّ وثبت بأدلَّته عنده وعندهم فإنَّ انتزاع الوجوب من كلِّ هذه الأوامر القرآنيَّة بملحقاتها المشابهة وبما جاء في السنَّة وما جاءت به اللغة في قواميسها يكون سهلاً يسيراًً، على ما أثبتته ظواهر مألوفيَّة هذا الأمر بين الأصوليِّين والفقهاء المتَّجهين نحو هذا الاتِّجاه مع صاحب المعالم قدس سره وأمثاله أو كان هو معهم في أكثر الحالات أو دائمها على مدَّعاهم أو مدَّعاه.

ولكن فتح باب هذه السُّهولة واليسر على مصراعيه لما كان من خصوص ما يناسب القرار اللُّغوي من هذه الادِّعاءات الأصوليَّة والفقهيَّة الَّتي لم تتقيَّد في فهم الوجوب بخصوص ما يتعلَّق بالشَّرعي الاصطلاحي الَّذي مرَّت الإشارة إليه وأنَّ

ص: 121

القرار اللُّغوي الدَّاخل فيه المعلوم الشَّرعي وغيره من العقلي الَّذي فسح له المجال شرعاً من الأدلَّة الإرشاديَّة على رأي من يجعله هو المقياس في التَّشخيص للواجب ابتداءاً.

فلابدَّ وأن يراد منه خصوص وجوبه العقلي ومن قرائنه ما بيَّناه في السَّابق من حالة جعل المقياس كذلك عموم الأوامر القرآنيَّة والَّتي تدخل فيها المعاني الخمسة عشر أو ما قد يزيد وما يشمل الفقه والعقائد وغيرهما وإن لم تشخِّص أسماءها أو بعضها.

وأمَّا بعد ما خصَّصنا الكلام في بعض مطالب موسوعتنا السَّابقة عن آيات الأحكاموعن خصوص ما في القرآن وما يلحق به من السنَّة وإن توسّعنا إلى ما قد يدخل أوامر العقائد والأخلاق والإرشاديَّات.

وكذا ما في بحوث هذه الأصول وأدخلنا السنَّة التَّابعة، وهكذا اللغة الخاصَّة التَّي يحويها أمثال مجمع البحرين أو بعضه.

فلابدَّ من أن تكون النَّظرة إلى القرار اللُّغوي العام وسير هؤلاء الأصوليِّين نحو الوجوب العقلي المرتَّب على نهجها غير ملزمة في البقاء عليها، وقد أشرنا إليه مراراً.

إضافة إلى أنَّ واجبات الإسلام وفرائضه الثَّابتة من الأوامر الَّتي وردت في الكتاب العزيز ومعه ملحقاته والَّذي من هذه الواجبات الصَّلاة -- مثلاً الَّتي هي عمود الدِّين وسيِّد الفرائض -- فإنَّها في الشَّرع بمعنى ذات الأركان الخاصَّة وبما لم تفهمه اللُّغة الملحوظة بالاعتبار عندهم.

بينما في اللُّغة بمعنى الدُّعاء كصلاة الأموات ونحوها من عموم الأدعية الَّتي لا ترتبط بجميع مصاديقها بخصوص الوجوب الشَّرعي الَّذي نريده بمنظورنا الَّذي سوف يتَّضح بأنَّه الشَّرعي لا غير مع ثبوت الوجوب العقلي مع هذا الوجوب لا محالة معيَّناً على لزوم الاعتقاد بهذا الوجوب بطريق أولى.

ص: 122

وإن قيل فلماذا وجبت فرائض الصَّلاة اليوميَّة شرعاً ووجبت صلاة الأموات وهي مرتبطة بالمفهوم اللغوي؟

فإنَّا نقول بأنَّه ما وجب كلاهما بمعنى حرمة التَّرك لهما مع العقاب عليه بالنَّحو المتساوي إلاَّ في نظر الشَّرع الخاص، إذ لم يعلم كون صلاة الأموات في اللُّغة واجباً بأي نحو من الوجوب وإن رجح شرعاً لو أدرك أهل اللُّغة العامَّة بعض ما يريده الشَّرع دون القرار الشَّرعي، لعدم المألوفيَّة في ذلك عند أهل اللُّغة السَّابقين نوعاً ولو يسيراً من حالات التَّفصيل ولو كان لبان، مع الفرق البيِّن شرعاً أنَّ اليوميَّة واجبة عينيَّة وصلاة الأموات كفائيَّة.

وكذلك مطلق الدعاء في رجحان الالتزام وإن كان هذا المطلق من الوضع اللُّغوي، لأنَّه ما يتعلق ببعض الخصوصيات في رجحانه مع كونه مأثوراً لوجوده في زمن الدِّيانات الماضية، إلاَّ إذا أدخلنا الشَّرع في التَّشخيص ليكون عملاً إسلاميَّاً، ومنه الدُّعاء الواجب من صيغة الأمر المفيدة له.

نعم قد تستكشف بعض المعاني الفقهيَّة من الألفاظ اللغويَّة عن طريق الشَّرع بالإمضاء ونحوه كما مرَّ، لكون بعض ما قبل الإسلام من مخلَّفات الشَّرائع السَّماويَّة القديمة المناسبة لأزمنتها هو ممَّا أقرَّه وأمضاه شرعنا إذا لم تنتف مناسبته مع ظروفنا الإسلاميَّة الأصيلة أو كون شرعنا قد أكمله وحسَّنه إذا كان هناك بعض من المنافاة.

وهذا الرَّأي الَّذي نراه في المقابل قد تساعد عليه الفكرة الأصوليَّة المعروفة، وهي كون الحقيقة - الَّتي تحملها الألفاظ القرآنيَّة من آيات الأحكام والسنَّة التَّابعة لها وحتَّى اللغة الملحقة بهما والمسايرة لهما - حقيقة متشرعيَّة لا شرعيَّة جديدة، بحيث لم يكن لها أساس سابق يشبهها قبل الإسلام ولو في الجملة ولو بالإمضاء ونحوه.

كيف والإسلام قديم بقدم الفطرة، فيمكن حينئذ أن يستفاد ما تعطيه اللُّغة في ألفاظها من معنى الوجوب المراد وإن جاء القرآن على نهجها العربي، لكن لابدَّ وأن

ص: 123

نبقى على تلك الحاجة إلى الإمضاء الشَّرعي وكذا التَّقرير من المعصوم في السنَّة ونحوهما.

لأنَّ اللُّغة القرآنيَّة ما اختيرت إلهيَّاً إلاَّ من أحسن أنواع اللُّغة العربيَّة والَّتي لا تتنافر مع اللغات الدِّينيَّة السَّابقة بتنافر كبير، بحيث يمكن للعربيَّة القديمة وقواميسها من ذلك أن تخضع للتَّشريع الحنيف أو إمضاءه أو تقرير المعصوم لما ينسجم مع شرعنا من مفاهيمها.

ولذلك كان السيد المرتضى علم الهدى قدس سره صاحب الرَّأي المعارض لصاحب المعالم قدس سره يقول ما مضمونه (أنَّ لفظ الأمر مشترك في اللغة بين الوجوب والنَّدب وأمَّا في العرف الشَّرعي فهو حقيقة في الوجوب فقط).

وعليه فمألوفيَّة سرعة استفادة الوجوب من مجرَّد الأمر بين الأصوليِّين أو مقنِّني الأصول من الفقهاء المتبحرِّين لعلَّها ما جاءت إلاَّ من هذا العرف الشَّرعي السَّائد بين العلماء المتشرِّعة قديماً وحديثاً والمنسجم مع اللغة العربيَّة الدِّينيَّة في قواميسها وفي قرآن آيات الأحكام والسنَّة المطهَّرة وبما يخضعها للشَّرع ولا عكس إلاَّ في مواقع الحيرة عند انسداد باب العلم عن فهم المعاني.

وأمَّا مطلق اللُّغة أو عمومها فلا تفيدنا أوامرها إلاَّ بما وجَّهناه من الإمضائيَّات لابتعاده عن تكوين المصطلحات الملائمة للشَّرع وحدها.

ولذلك قال السيِّد قدس سره بخضوعها إلى القول بالاشتراك اللغوي بين الوجوب والنَّدب حينما يأتي أمر ولم يمكن توجيهه مولويَّاً عند الانسداد ولا أصوليَّاً عمليَّاً عند الشَّك ببركة الأدلَّة الإرشاديَّة عند الانسداد الأكثر وإنَّما يكون المرجع هي تلك القواميس اللُّغويَّة.

نعم هناك تخريجة يمكن أن تعطي مجالاً للقول بصدق الوجوب وحده من جهة المجاز الغالب بسبب المألوفيَة من كثرة الاستعمال، وهو ما قد يقترب ممَّا ذكرناه من

ص: 124

حالة الإمضاء الشَّرعي ليكون وجوب الأمر بالتَّالي شرعيَّاً لا عقليَّاً أو شرعيَّاً في اللُّغة الخاصَّة، لا حقيقة مستقلَّة في معناه له، لتشعُّب اللُّغة العامَّة وحدها وبالخصوص أكثر إذا جعلنا اللغة المعاصرة للإسلام والمتأثِّرة به مستقلَّة عمَّا قبل الإسلام من زمن الجاهليَّة والأديان السَّابقة الَّتي حرِّفت كتبها وإن كانت الحقيقة متشرِّعيَّة، لوجود بعض العلاقات الَّتي لم تنته مع القديم الَّذي بقي بعضه من دون تحريف.

وبذلك تكون اللغة لغتين لا يمكن أن يكون الوجوب في حقيقته ثابتاً لغة بذلك.

وهكذا ما يقصده المتكلِّمون في أمور الضَّروريَّات العقائديَّة الَّتي ملاكها العقل مع تلك اللغة.

وكذا ما يشعر به العقلاء والعارفون من وجوب شكر المنعم عقلاً قبل الشَّرع للإرتقاء والذَّوبان في الله عزَّ وجل وحبِّه حين تعاملهم مع الألفاظ الواردة في ذلك وإن كان مستحبَّاً في واقعه كما في دعاء أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ الماضي ذكره مكرَّراً (إلهي ماعبدتك طمعاً في جنَّتك ولا خوفاً من نارك، ولكن رأيتك أهلاً للعبادة فعبدتُّك)(1).

وبهذا الَّذي بيَّناه ووجَّهنا به البحث يكون المطلب الحق معارضاً للوجوب اللغوي وحده ولزوم كونه شرعيَّاً في الأوامر عرفاً أو لغوياً ممضى شرعاً لا غير.

وللتَّأكيد على الوجوب العرفي الشَّرعي للأمر وما يلحق به لابدَّ من ذكر أدلَّة القائلين بالوجوب له لغة بتصرُّف ومناقشتها وردِّها رجوعاً إلى ما نريد فنقول:-

1 - قد استدلَّ القائلون بالوجوب لغة أوَّلاً:

ببعض القضايا الوجدانيَّة الاجتماعيَّة الَّتي فيما بين العقلاء بأن السيد إذا قال لعبده (افعل) كذا أو (اشتر لنا كذا) ولم يفعل أو لم يشتر عُد عاصياً بين مجتمعه وذمَّه العقلاء" معلِّلين حسن ذمِّه بمجرَّد ترك الامتثال وهو معنى الوجوب الَّذي مرَّ

ص: 125


1- ميزان الحكمة : ج 6 ص 18.

أنَّه الأمر بالفعل مع المنع من التَّرك، ولذا عُد منه قوله تعالى [أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي](1) أي تركت مقتضاه إذا أريد من التَّرك ما يستحق به العبد الذَّم والعقوبة عليه.

ولكن يمكن أن يفترض على ذلك إيراد لنقض هذا الاستدلال وهو منع المقدِّمة القائلة بأنَّ الذَّم من العقلاء دوماً كان معلولاً لمجرَّد التَّرك لجواز أن يكون الذَّم مطابقاً للقرينة المثبتة لمصداقيَّته في الخارج لا مع التَّجرُّد منها وهو وارد كثيراً فيما بين السَّادة وعبيدهم أو من شابههم من ذوي الشَّأن مع من كان دونهم من الخدم حينما يحصل تقصير واقعي من قبل العبيد أو الخدم وبالأخص حين ورود القرائن غالبة في مثل هذه الأوامر الاجتماعيَّة لا مثل حالة التَّجرُّد الَّتي كثيراً ما يحصل فيها عكس العصيان حين انكشاف الواقع بل حتَّى ما يريح السيِّد أو صاحب الشَّأن إذا انكشف الخلاف بعدم الامتثال غير المتعمِّد فلا يدل إذن على الأمر للوجوب لغة حقيقة بدون القرينة، وللفرق بين الأمور الاجتماعيَّة الَّتي يكثر فيها الظلم بين السَّادة وعبيدهم أو المتعالين على خدَّامهم المظلومين وبين حقوق الله عزَّ وجل الفقهيَّة المفروضة وغيرها على عباده المليئة بالعدل واللُّطف والرَّحمة والفيوضات العظيمة بما صدر منه في قرآنه من الأوامر وبما لا يقاس هذا بذاك دوماً ولو بأقل نسبة حتَّى لو جاء في القرآن لفظ المعصية للأمر للفرق الواضح بين معصية الله ورسوله لأمرهما وبين معصية النَّاس لأمثال الفراعنة فلابدَّ من ترتيب الأثر المناسب.

وقد يجاب دفاعاً عن الوجوب لغة بأنَّ المفروض فيما ذكرناه هو نفس التَّجرُّد عن القرينة وانتفاءها بل وعلى فرض وجود شيء منها أو احتماله فلتقدَّر منتفية.

فإنَّ الوجدان يشهد ببقاء الذَّم حينئذ عرفاً وبضميمة أصالة عدم النَّقل عند الشَّك لصيغة افعل وما شابهها عن المعنى اللُّغوي إلى العرفي الشَّرعي للوجوب.

وبهذا يتم المطلوب.

ص: 126


1- سورة طه / آية 93.

لكنَّا نضيف لدعم القول بالوجوب العرفي الشَّرعي ونقول:بأنَّ الذَّم العرفي المذكور الَّذي قاله أو اعترف به المجيب من حيث لا يريد إن كان العرف فيه شرعيَّاً فقد صحَّ ما توصَّلنا إليه لا ما يريده هذا المجيب.

لأنَّه لم يكن الشَّرع يوماً تابعاً لكل مقرَّرات اللُّغة بدوام إلاَّ في الجملة، لأنَّه صاحب اصطلاحات خاصَّة تشاطره اللغة الخاصَّة مشاطرة الانضمام له ولاصطلاحاته إلاَّ في حالة واحدة.

وهي أنَّ المتشرِّعة من فقهاءنا قد يستفيدون من معاني ألفاظ تلك المفردات أو ما يشبهها من عموم اللغة في بعض الحالات الَّتي لم يعرف معناها من جانب الشَّرع ومداركه بسبب الكوارث الَّتي أغلقت بعض أبوابه الأصليَّة عليهم من الحاقدين ونحوهم وبما لا يؤثِّر على الاصطلاحات العرفيَّة الشَرعيَّة الخاصَّة.

وبذلك لا تتم الحجيَّة التَّامَّة في اللغة إلاَّ بما وجَّهناه سابقاً من الإمضاء أو التَّقرير لكل ما ينسجم مع الشَّرع من حالاتها وهو القريب ممَّا قاله السيد علم الهدى قدس سره أو هو نفسه.

لأنَّ مألوفيَّة استفادة الوجوب من الأمر ما جاءت إلاّ بعد رضا الشَّرع بما قالته اللغة أو بإمضاء منه لا بقرارها وحدها كي يحتاج إلى القرينة حينما يكون الوجوب شرعيَّاً وهذا كثير في بابه.

وقد أُلف بين الأصوليِّين بأن قول المعصوم وفعله وتقريره حجَّة، وبين الفقهاء بأنَّ الإسلام يجب ما قبله.

وإن كان العرف في نظر المجيب عرفاً لغويَّاً خاصَّاً أو اجتماعيَّاً لا علاقة له بالشَّرع في شيء ولو في بعض الأمور دون بعض كما مرَّ آنفاً من ذكر حالة ظلم السَّادة كثيراً لعبيدهم أو ذوي الأموال لخدَّامهم ممَّا لم يقبله الشَّرع حتماً أن يكون يوماً مقياساً على كون الأمر دوماً للوجوب مع تجرُده بحسب اللُّغة سارياً منها إلى

ص: 127

الشَّرع وبالنَّحو المطلق، إلاَّ إذا اعتبرنا جميع تعاملات السَّادة مع عبيدهم -- وكذا الآخرين -- عادلة، لكن هذا غير ثابت حتماً، بل العكس هو الأكثر، فلا يمكن الخلط بين مراد الشَّرع ومراد غيره في كل اعتبار.

وعلى فرض قولنا بوجود شيء مقبول من التَّعاملات عند اللغة ومجتمعاتها فلا ينفعنا إلاَّ في الوجوب العقلي دليلاً إرشاديَّاً على الشَّرعي وفي خصوص مقامه لا في كل الموارد كبعض الآيات الإرشاديَّة، وهو مع ذلك يحتاج إلى الإمضاء من قبله لو لم يكن دليل شرعي آخر يقومه.

2 - واستدلُّوا على الوجوب لغةً ثانياً:

بقوله تعالى مخاطباً لإبليس [قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ](1) والمراد بالأمر هو [اسْجُدُواْ] في قوله تعالى قبل ذلك [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ](2)وإنَّ الاستفهام في هذا الخطاب كان منه تعالى في معرض الإنكار والاعتراض لا الاستفهام الحقيقي كما لا يخفى مثل قوله تعالى [قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ](3) وقول الشَّاعر:

فكم من سائل عن أمره وهو عالم(4)

فلابدَّ من كون مفاد الأمر هو وجوب الامتثال حقيقة لغة.

ولكن نحن نقول مثل ما قد يقوله الآخرون بأنَّ السُّجود في الآية مجهول في أنَّه هل كان لعبادة آدم قدس سره بصفة استثنائيَّة خاصَّة ذات توجيه عند الله بنحو الخضوع له، أو بنحو الامتحان لهم لنفس معرفة مدى الخضوع له قدس سره في عالم الجنَّة.

ص: 128


1- سورة الأعراف / آية 12.
2- سورة البقرة / آية 34.
3- سورة البقرة / آية 30.
4- أدب الطَّف ج8 ص34، من قصيدة للسيد ميرزا صالح القزويني المتوفى 1304.

فهو الَّذي لم يخرج بنوع هذه المعاني عن كون المصداقيَّة لغويَّة لوفرة القرائن لها دون المعاني الخاصَّة في الله لاختصاص المعنى الشَّرعي فيه تعالى وكما قال [وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا](1).

أو أنَّ السُّجود كان لله في واقعه هناك للدعاء لآدم شكراً لأنَّ آدم نعمة في كونه أوَّل البشر والخليفة الأوَّل وما هو مدى هذا السجود مقارنة له بما في شرعنا في عالم التَّكليف الدُّنيوي العرفي الاصطلاحي شرعاً.

وبهذا التَّفاوت - بين اللحاظين وهما مجهوليَّة الأوَّل ومعلوميَّة الثَّاني أو معلوميَّة الأوَّل بما لا يتناسب مع الثَّاني المعلوم أمره - لم يثبت المطلوب للقول بالوجوب لغة حقيقة مع التَّجرُّد عن القرائن بدقائقه كما يدَّعى.

وحتَى لو كان بهذا الدَّليل ثابت الوجوب في اللغة فإنَّه من محض العقل وليس هو كما في شرعنا العبادي وفقهنا الحنيف بدقَّته وإن كان خضوع العقل اللُّغوي محفِّزاً للخضوع لله وتعاليم شرعه من باب أولى، وبحيث لم يكن ممضى لأحد مهما كان مستواه في عالمنا بنحو العبادة إلاَّ لله وحده.

ولذلك إن وقعت شبهة كما في قضيَّة سجود أخوة يوسف مع أبيهم لابدَّ من التَّوجيه المناسب والعقل لابدَّ أن يكون تابعاً للشَّرع، فلا يمكن الإقرار بهذا الاستدلال اللُّغوي على الوجوب على علاَّته من جميع النَّواحي.

3 - واستدلُّوا كذلك عليه لغة ثالثاً:

بقوله تعالى [فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ](2) حيث هدَّد سبحانه مخالف الأمر بالعذاب وإن لم يكن أليماً فضلاً عن الأليم، والتَّهديد بذلك دليل الوجوب.

ص: 129


1- سورة الجن / آية 18.
2- سورة النور / آية 63.

لأنَّه لم يهدِّد على ترك غير الواجب حسب التَّتبُّع والاستقراء للأدلَّة ولعدالة الله الثابتة في أحكامه.وأجيب بأنَّ الآية إنَّما دلَّت على أنَّ مخالف الأمر مأمور بالحذر بما يلحق بفعل الأمر وهو (فليحذر)، وهو لا يمكن إنكاره ولكن لا دلالة في مثله على وجوب الحذر قبل إيقاع النَّفس العمدي في المخالفة القطعيَّة للأمر الواجب امتثاله لانطباق مجرَّد الأمر بالحذر على الوجوب والاستحباب لغة قبل ارتكاب الحرام.

وهو لا يعطي من مجموعهما إلاَّ رجحان الامتثال للأمر بالمعنى الأعم أو ما قد يطلق عليه عند بعضهم بالاحتياط من التَّورط إن صحَّ التَّعبير، وهو في واقعه لم يكن حكماً واقعيَّاً من الأحكام الخمسة، وهو الوجوب المطلوب إثباته، وهو غير تام إلاَّ بتقدير كون هذا الأمر للوجوب وحده لغة، وهو عين المتنازع فيه.

وثمَّ إنَّ الحذر عن الشَّيء الخطر الَّذي قد يستلزم القول بالوجوب فيه قبل حصول المحذور مع احتمال الخلاف لا يحصر الأمر فيه لاشتراكه مع الاستحباب كما مرَّ وإن كان من حالاته التَّجرِّي للخلاف فيه بين التَّجرِّي المحرَّم والتَّجرِّي المكروه.

وعلى فرض وجود الحرمة فيه فالأمر بوجوب الإقلاع من حالته ليس إلاَّ من العقل فقط وهو لا ينفعنا على مسلكنا الشَّرعي وإن أرضى القائلين بالوجوب لغة.

إضافة إلى ذكر الفتنة في الآية الَّتي استدَّل بها الآخرون فإنَّها لو لوحظت بأدنى تأمُّل فإنَّها لم تبتعد عن ذهن اللَّبيب في كونها مخلوطة بين ما نتيجته الحرام وبين غيره وقد تنتهي بسلام وإن رجح الحذر.

وكذلك مساواتها في التَّرديد بينها وبين فقرة [عَذَابٌ أَلِيمٌ](1) بكلمة (أو) الواضحة في ذلك وهو ما لا يعطي للوصول - إلى استحقاق العذاب الأليم - أي مجال قبل ارتكاب ما يستوجبه.

ص: 130


1- سورة النور / آية 63.

لأنَّ هذا إمَّا أن يقلب الفتنة المخلوطة إلى ما نتيجته العذاب، وهو ارتكاب الحرام وهو غير معقول في عدالة حكم الله الثَّابتة.

أو تبقي حالة التَّردُّد في أمر ما يجري بين العباد كافَّة بين المتمحِّض بالحرام في النَّتيجة وهو العذاب الأليم، وبين المخلوط الذي بمجموع فرديه - وهو الَّذي تضمَّنته الفتنة المذكورة - لا يشكِّل ما بين الفقرتين خصوص ما يحرم من مقدِّمتي

النَّتيجتين المتفاوتتين، وهو في بعد تام عن حالة خصوص وجوب حالة الإقلاع الَّذي يريده المستدِّلون.

ثمَّ إن أعيدت محاولة التَّسنيد لهذا الوجوب في (افعل) لغة - حول نفس الآية بإنَّ هذا الأمر كان للإيجاب والإلزام قطعاً إذ لا معنى لندب الحذر عن العذاب وإباحته ومع التَّنزُّل عن القول بالوجوب كما يذكر الخصم - فلا أقل من دلالة (فليحذر) على حسن الحذر حين مخالفة الأمر كهذا الفعل مع لام الأمر.

ولا ريب أنَّه إنَّما يحسن عند قيام المقتضي للعذاب، إذ لو لم يوجد المقتضي له لكان الحذر عنه سفهاً وعبثاً كالحذر من الجدار المائل للسقوط بعدم التَّواجد تحت ظلُّهوالحذر من افتراس الأسد بعدم التَّواجد في مكان تواجده.

فإنَّ هذا الحسن مع وجود المقتضي يخصص عموم الحسن الَّذي تنزَّلنا إليه إلى الوجوب المنشود، وهو على خلاف حالتي السَّفهيَّة والعبثيَّة كما في الحذر من الجدار غير الماثل للسُّقوط والحذر من الأسد المفترس حالة عدم وجوده، لعدم وجود المقتضي، ولكونهما محالاً على الله لحكمته البالغة في أحكامه ولكون القران واضحاً في إعجازه البياني السَّديد فلابدَّ من القول بالوجوب لغة.

إلاَّ أنَّنا لابدَّ أن نقول أيضاً: إنَّ حسن الحذر مهما كان مع ذلك التَّنزُّل الصَّريح لا يثبت الوجوب دوماً وإن كان هو أبرز مصداقي الحسن - وهما الوجوب والنَّدب - لضعف المقتضي، لأنَّ الجدار لم يسقط مع ميلانه، والأسد لم يفترس القريب منه

ص: 131

لأنَّه نائم أو نحو ذلك من كل حالات ما قبل إيقاع النَّفس في التَّهلكة من المؤمِّنات على الحياة من قريب أو بعيد ولو بالاحتمال العقلائي.

لإمكان أن يكون هذا المقدار من حسن الحذر غير مثبت للوجوب المزعوم خاصَّة في اللغة وخصوصاً مع التَّجرُّد عن القرينة الكاملة.

إذ قد لا يبقى من حسنه إلاَّ نفس النَّتيجة وهي السَّلامة لا غير وهو ما يتأتَّى من القول بالاشتراك اللَّفظي لغة لا القول بالوجوب خاصَّة، وهو النَّمط الأوسط في اعتداله.

وإن تنزَّلنا للخصم كما قال فقلنا بالوجوب حين صدور مثل هذا الأمر في القرآن الكريم وجاء بسببه حسن الحذر بالمعنى الأعم وبما لا يمنع من وجود المقتضي القوي للوجوب كما في الظنون المتاخمة للعلم بالسَّير نحو الهلكة.

فلا نسلِّم له بالنَّتيجة إلاَّ بالقول بالوجوب الشَّرعي لا اللغوي كما لو حصل إمضاء من الشَّرع أو قضى عرفه الخاص بذلك.

وقد يساعد على القول بحسن الحذر الأعم من الوجوب لغة قول البعض بأنَّ هذا الاستدلال بالآية مبني على أنَّ المراد بمخالفة الأمر فيها هو حمله على ما يخالف ويغاير المأمور به، وهو المعنى الايجابي العام كالحذر ممَّا يجب تركه أو يستحب تركه، فإن صحَّ الأعم فلم يستقل الوجوب وحده لغة في هذه الآية.

ولكن أجاب على هذا الرَّأي الأخير صاحب المعالم قدس سره، بقوله بأنَّ:-

(المتبادر إلى الفهم من المخالفة هو ترك الامتثال والآتيان بالمأمور به.

وأما المعنى الذي ذكرتموه فبعيد عن الفهم، غير متبادر عند إطلاق اللفظ، فلا يصار إليه إلا بدليل، وكأنها في الآية اعتبرت متضمنة معنى الاعراض، فعديت ب- "عن")(1).

ص: 132


1- معالم الدين وملاذ المجتهدين ص48.

بمعنى أنَّ القرينة مفقودة، فلم يثبت لصالح من نعترض عليهم شيء ممَّا يدَّعون، وكأنَّها في الآية اعتبرت متضمِّنة معنى الأعراض فعديت ب- (عن)، فلو كانت المخالفة بمعنى التَّغيير لما عديت ب- (عن).

إلاَّ أنَّنا نبقى فنقول أيضاً:-أنَّ التَّحقيق في أمر [يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ](1) من الآية الماضية باق على ابتناءه على الحذر الَّذي ذكرنا عدم اختصاصه بما يجب من جهة احتمال الخلاف قبل التَّورُّط في الهلكة وإن رجح الاحتياط أو اشتدَّ في بعض المقامات فصار لازماً.

لأنَّ المطلوب المراد عند المعارض هو خصوص فتوى الوجوب من الأمر الثَّابت والاحتياط مهما كان فليس بحكم.

وإذا كان شيء منه مراعى كما في الاحتياطات الوجوبيَّة كما مرَّت الإشارة إليه فما هو إلاَّ بسبب الإمضاء الشَّرعي المظنون وسبب صدق عرفه الخاص إن كان حاصلاً.

وعليه فلا يكون وجوبه إن توصَّلنا إليه إلاَّ وجوباً شرعيَّاً، وأمَّا كلمة (وكأنَّها في الآية اعتبرت متضمِّنة معنى الإعراض إلخ) السَّابقة في كلام المعترض فلم تثبت لنا حق المطابقة كاملاً حتَّى تكون بمعنى الإعراض واقعاً لعدم كفاءة كاف التَّشبيه في التَّدليل على حقيقة الشَّيء.

4 - واستدلوا كذلك عليه لغةً رابعاً:

بقوله تعالى: [وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ](2) فإنَّه سبحانه ذمَّهم على مخالفتهم للأمر، ولولا أنَّه للوجوب لم يتوجَّه الذَّم.

وهذا الدَّليل مبني على أساس كون الرُّكوع ليس هو بركوع الصَّلوات المتعارفة

ص: 133


1- سورة النور / آية 63.
2- سورة المرسلات / آية 48.

عند المتشرِّعة بحسب الظاهر وإلاَّ لم يكن الوجوب في الركوع الاصطلاحي الشَّرعي في اللغة فقط والمفروض هو لغوي.

واعترض على هذا الاستدلال بشيئين:

أوَّلهما: منع كون الذَّم على ترك المأمور به، بل إنَّما كان على تكذيب الرُّسل في التَّبليغ حيث أنَّهم لمَّا بلغوا من قبلهم بالرُّكوع كذَّبوهم بدليل قوله تعالى [وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ](1).

وهذه قضيَّة متعارفة غالباً أو دائماً في عهود الأنبياء والرُّسل ما بينهم وبين رعاياهم من حالة تكذيب الرَّعايا لهم أو المحاربة ونحو ذلك من أنواع المطالبة بالدَّليل أو المعجز، طلباً لما يثبت صدق أولئك الأنبياء أو الرُّسل، فلا وضوح إذن في كون الذَّم على ترك المأمور به، فلا يثبت هذا الوجوب بهذا الاعتبار.

ثانيهما: أنَّ الصيغة وهي (اركعوا) تفيد الوجوب، ولا مانع من ذلك وحسب طبيعة الأوامر والنَّواهي ما لم يكن كما في الاعتراض الأوَّل على دليل المستدل.

وعلى أساس هذه الطَّبيعة فلابدَّ من انضمام القرينة إليها لو احتمل دخول معنى آخرفيها لتفيد الوجوب إجماعاً، فلعلَّ الأمر بالرُّكوع كان مقترناً بما يقتضي كونه للوجوب حتَّى لو كان حسب مبنى المستدل اللغوي، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال فلم يكن الوجوب وحده هو فارس الميدان.

وأجيب عن هذا الاعتراض من قبل المستدل أو أنصاره بجوابين على فقرتي الاعتراض:

فعن الأولى: بأنَّ المكذِّبين إمَّا أن يكونوا هم الَّذين لم يركعوا عقيب أمرهم بالرُّكوع أو غيرهم.

فإن كان الأوَّل وهو أنَّ الَّذين لم يركعوا هم نفس المكذِّبين فجاز أن يستحقُّوا

ص: 134


1- سورة المرسلات / آية 15.

الذَّم بترك الرُّكوع والويل بواسطة التَّكذيب، فإنَّ الكفَّار عندنا نحن الإماميَّة معاقبون على الفروع كعقابهم على الأصول.

وإن كان الثَّاني وهم غير المكذِّبين لم يكن إثبات الويل لقوم بسبب تكذيبهم منافياً لذمِّ قوم بتركهم ما أمروا به، وقد يجتمع الأمران في جهة واحدة.

وعن الثَّانية: بأنَّه تعالى رتَّب الذَّم على مجرَّد مخالفة الأمر فدلَّ على أنَّ الاعتبار به لا بالقرينة، وهذا هو الظَّاهر أكثر من غيره.

ولكن نحن نبقى فنقول عن الجواب الأوَّل: بعدم الدَّاعي إلى تقسيم المكذِّبين في الجواب إلى غير راكعين وغيرهم ما داموا مكذِّبين بأجمعهم.

لأنَّ من لم يُعلم عدم ركوعه لم يحسب راكعاً وإن ركع وهو مكذِّب أو في عداده، وهو المنافق في قلبه وحكمه مع صاحبه واحد فضلاً عمَّا لو لم يكن راكعاً كصاحبه في ظاهر ركوعه لو أحرز نفاقه، إلاَّ أن نحمل ذلك على الوجوب الشَّرعي كما اتَّضح وسيتَّضح.

ونقول أيضاً عن الجواب الثَّاني: بأنَّ المدار لمَّا كان على العرف باعتراف مؤسِّس القول بالوجوب لغة ولم يكن ذلك العرف داخلاً إلاَّ في الشَّرعيات لا ما هو الأعم لدخول ما ليس بحكم شرعي في الأحكام الشَّرعيَّة فتختلط المعاني وهي متباعدة لو كان اللحاظ لحاظاً لغويَّاً وفي المقام عرف خاص.

وإن صدق شيء من ألفاظ الوحي المبين أو أشياء لوحدها من ذلك ولو ظاهراً، فلابدَّ من أن لا يخلو المطلب من حالة امضائيَّة أو نحوها من الشَّرع كي لا يبقى العرف لغويَّاً والمقصود في الأمر هو الشَّرعيَّات.

وإن كانت هذه الآية من آيات الأحكام المتعارفة شرعاً فلا مانع من دلالتها على الوجوب الشَّرعي فوراً من الأمر الَّذي فيها بمجرَّده كذلك بدون أيِّ تكلُّف.

وأمَّا إذا حسبت الآية من القصص الماضية إذا فرضنا أو احتملنا كونها غير

ص: 135

داخلة في ضمن آيات الأحكام المتعارفة فلا مانع من دلالتها اللغويَّة العامَّة ظاهراً على الوجوب غير الاصطلاحي.

ولكن كونها لم تكن في الواقع من آيات الأحكام أو ملحقاتها بعد التَّدقيق والوصول إلى شيء من ذلك بمثل الإمضاء الشَّرعي لو تطابق العملان إن تطابقا على شكل واحد أو لم يتطابق المشكل كالصَّلاة على الموتى ونحوه فأوَّل الكلام.فلابدَّ إذن من التَّدقيق في مثل هذه الآية المطروحة للبحث من قبل المستدل وغيرها لو شُكَّ في نوعيَّتها وفي أمر حاجتها أو عدم حاجتها إلى القرينة.

فإنَّها بعد التَّدقيق إن حسبت من الآيات الاصطلاحيَّة فلا داعي إلى القرينة على الوجوب ما دام العرف الشَّرعي قاضياً بذلك وأنَّه الَّذي قرَّبها إلينا أو أمضاها لنا وإن لم تحسب من الاصطلاحيَّة.

فلابدَّ من القرينة للاشتراك بين الوجوب والنَّدب ومع صدق القرينة لا مجال للتَّبادر لغة بدون صدق الإمضاء بواسطة القرينة.

وقد بيَّنَّا بعض هذا الكلام المشابه في الكلام عن تعداد آيات الأحكام الآتي ذكره ولو موجزاً في هذا الجزء فراجع.

الثَّاني عشر - الوضع والاستعمال في اللُّغة والشَّرع

بعدما مرَّ من الكلام في الجزء الأوَّل من بعض الجوانب السَّطحيَّة عن أهمِّ ما يحفِّز النُّفوس تجاه معبودها تعالى أو من أمرنا بإطاعتهم من خلفاءه في أرضه من أنبياء ورسل وأئمَّة لتلك الإطاعة، وهو الوجوب أكثر من غيره من الأحكام في الأوامر الَّتي مرَّت .

فمن الرَّاجح الآن -- في هذا الجزء للتَّدقيق أصوليَّاً فقهيَّاً مع التَّطبيق وللتَّوضيح أكثر حينئذ -- بيان ما قد يسبِّب غلبة اللغة على الشَّرع إذا توقَّف فهم ما عند الشِّرع

ص: 136

على ما في قواميس اللُّغة كحاجتنا إلى الرُّجوع إلى مثل مجمع البحرين وغيره في المرحلة الأخيرة كأزمنة الصَّدر الأوَّل أو المعرفة عن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ أو الشَّرع على اللُّغة.

كما لو كان فيه صدق الحقيقة الشَّرعيَّة في زماننا بدون قرينة وهو الكلام عن الوضع والاستعمال ومدى علاقتهما في توليد الاصطلاحات الَّتي لا يجوز فنيَّاً تجاوزها لو تحقَّقت، سواء كانت لصالح اللغة المطابقة للشَّرع أو لصالح الشَّرع إن كانت اللُّغة أعم، وعند عدم التَّحقُّق فسوف يخضع الأمر وملحقاته إلى القرائن لفهم غير الوجوب.

فنقول حينئذ: كل مصطلح لفظي - وأهمُّه ما بين أيدينا ومورد حاجتنا الفعليَّة والمحور الأصولي وهو اللغوي العربي والَّذي منه والشَّامخ بين ألفاظه ألفاظ الكتاب والسنَّة وأهمُّها ألفاظ ما تحصى به الأحكام - لابدَّ له - حينما يصير اصطلاحاً لشيء أو أشياء ومنه تلك الأوامر - من الوضع ويؤكِّده الاستعمال.

وهذا الاستعمال إمَّا بكثرته للدَّلالة على الشَّيء حقيقة مع التَّجرُّد بمثل التَّبادر أو قلَّته للدَّلالة على الشَّيء مجازاً لحاجته بسبب القلَّة إلى القرينة.

وهذا الوضع إمَّا أن يكون عامَّاً قابلاً لدخول أكثر من مصداق فيه في شموليَّته، أو خاصَّاً في مصداق واحد في تلك الحقيقة أو ذلك المجاز، كما في صدق الأمر لغة على الوجوب فقط حقيقة، أو صدقه لغة على الوجوب والنَّدب أو الأكثر حقيقة كذلك لكن باشتراك، أو صدقه على الوجوب شرعاً حقيقة فقط كذلك، أو عليه وعلى النَدب أو الأكثر حقيقة باشتراك، أو كما في صدق الأمر لغة أو شرعاً عموماً أو خصوصاً لكن بمجازيَّة بسبب قلَّة الاستعمال، كما مرَّت بياناتنا حول ذلك وكما سوف يأتي.

وكما أنَّ الوضع إمَّا أن يكون تعينيَّاً في عمومه أو خصوصه، أو تعيينيَّاً في كلِّ

ص: 137

منهما من ناحية اللغة أو الشَّرع، فهذه صور عديدة نبتغي التَّعرُّف عليها أو على المهم منها لصالح موردنا المبحوث عنه.

فهذا المصطلح أو ذاك لمَّا كان موضوعاً قبل كلِّ شيء وضعاً لغويَّاً عامَّاً ونوعيَّاً، أو خاصَّاً في شيء لا يعدوه، ولكن جُهلت كثرة الاستعمال فيه أو قلَّته كالأمر، وكان أيضاً من صنَّاع قراره وأصحابه المهمِّين - إضافة إلى اللغوييِّن - هم الفقهاء وأصوليُّوهم الَّذين لم يبارحوا المباني الفقهيَّة الإلهيَّة اللُّغويَّة المخزونة في كتاب الله العزيز وهو القرآن العربي المبين، والَّذي اختار من لغة العرب أجودها، وخصَّ الفقه وتوابعه بآيات الأحكام وتتبعه السنَّة، بل هما فيما حوياه من لسان الفقه الخاص أفضل ما في عموم وإطلاق اللُّغة على ما أحكم عند أهل التَّتبُّع والخبرة.

وكان هذا الأمر قد جهل فيه كذلك التَّعيين والتَّعيُّن في وضعه، ووصل أمر استعماله لغة إلى حالات مختلفة كما مرَّ عليك.

فهل على هذا يصلح له أن يكون معياراً اصطلاحيَّاً تامَّاً للوجوب لغة مع التَّجرُّد عن القرينة في مقابل الاستحباب المحتاج إليها كما يقال؟

بحيث يراد ذلك في نفس الفقه كذلك بمستوى واحد تابع للاصطلاح الأصولي لغة.أم لا يصلح، إلاَّ أن يكون معياراً اصطلاحيَّاً تامَّاً للوجوب شرعاً مع التَّجرُّد عن تلك القرينة كذلك في مقابل الاستحباب المحتاج إليها أيضاً؟

أم أنَّ الوجوب والاستحباب كلاهما كانا في اشتراك لفظي؟

أم كانا في اشتراك معنوي جامعهما الطَّلب ونحو ذلك أم لا؟

فهذه أسئلة تحتاج إلى البحث والإجابة النَّافعة.

مع أنَّ الفقه وتوابعه له اصطلاحاته الخاصَّة المتميِّزة عمَّا عداه بحيث تجعله هو المتبوع، وليس هو التَّابع في الوضع والاستعمال بتلك الأوامر ومن ناحية الظهور

ص: 138

الأقوى كذلك، وإن ضعف هذا الأمر فيه في بداية التشريع وبداية الدَّعوة.

لكون العمدة هو اعتبار هذا الاصطلاح أيَّام زهوه وضعاً واستعمالاً بحيث لا يُراد بنحو التَّبادر إلاَّ هذا المعنى.

ولم يُختر فقهيَّاً عند الفقهاء وفي مصطلحهم إلاَّ الوجوب في مقام دليله الخاص، أو الاستحباب في مقامه أيضاً، أو غير ذلك من الأحكام الخمسة بالمنظور الفقهي فقط.

وما اللُّغة حينذاك عند الأصوليِّين الآخرين إلاَّ تابعة للفقه أيَّام زهوه، وحين ترسخ مصطلحه مع مجهوليَّة فترة ضعف مصطلحه في بدء الدَّعوة وعدم أهميَّة قيمتها حينما نشأت قوَّته وازدادت إلى أن صار حقيقة غالبة واللُّغة حقيقة مغلوبة؟

فنقول: إنَّه سبق وإن ذكرنا بأنَّ اللُّغة مع تنوعها اللَّفظي في أمور الدِّين وغيره، بل غير المحصور بشيء باعتبار معيَّن، لاختراق أجوائها بمختلف المذاهب السَّماويَّة وغير السَّماويَّة فلسفيَّة وجاهليَّة وبالمعاني الجديَّة والهازلة ونحو ذلك.

لا يمكن أن نجعلها مقياساً لنا في خصوص ما نحن نؤمن به أو ننقاد إليه من الوجهة المولويَّة الإسلاميَّة والإيمانيَّة الخاصَّة تعبُّداً، بمثل التَّلقِّي المباشر من المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ أو نائبه الخاص أو اجتهاداً أو تقليداً في زمن البعد عن المعصوم مكاناً وزماناً، وملؤ قضاياها على الأكثر الإسلام والإيمان والانقياد والطَّاعة للمشرِّع تعالى مع هذا التَّفاوت اللغوي.

إلاَّ في خصوص ما يتلائم منها وقضايانا الفقهيَّة الخاصَّة هذه وما يتبعها.

مع أنَّ اللُّغة الشَّائكة في مضامينها المتفاوتة -- وبما أشرنا إليه في السؤال والَّتي لم يفرز بعضها عن بعض نوعاً إلاَّ بالقرائن إلاَّ ما قلَّ وندر حتَّى الكتب السَّماويَّة -- أصبحت في قواميسها المعربة متهرِّءة بالتَّحريف والزِّيادة والنَّقيصة، ما عدا القرآن الكريم المحفوظ في جميعه ومنه آيات أحكامه.

ص: 139

فلا يصح فرض كل الأمور اللُّغويَّة مسلَّطة دوماً على خصوص الأوامر الشَّرعيَّة لتعطي الوجوب من عندها، أو يتولَّى الأصوليُّون نيابة عنها هذا الدَّفع، لفقدان اللُّغة لهذه الصَّلاحيَّة، إلاَّ إذا أفرزت بعض قضاياها عن العالم المشترك ونحوه وتمحَّضت لخدمة ما نحن فيه.

فلا قياس في قضايانا الشَّرعية على اللُّغويَّة في شيء مع غنانا الشَّرعي وضعف اللُّغة وعدم تمكُّنها المعهود من التَّسلُّط على الشَّرع، بل قِدم قوَّة الشَّرع حتَّى في فترات ماقبل الإسلام من عهود السَّماويَّات ممَّا بقي ولم يحرَّف منها وإن قلَّ كثيراً، ومنها ما نقل منها في القرآن الكريم، وهو ما لا بأس به في انسجامه فقهيَّاً مع ما عندنا.

وهذا ما قد يساعد على تسلُّطه على اللُّغة حتَّى في الفترة المجهولة في أمر حقيقة الوضع والاستعمال، كبدء الدَّعوة الإسلاميَّة، أو في عموم الفترات المجهولة الأخرى الَّتي قد يقال بأنَّها ممَّا تضعف فيها قوَّة كلا الأمرين.

إلاَّ في حالة قدرة اللُّغة فيما لو لم يكن الاصطلاح الفقهي ثابتاً آنذاك ولم يكن اصطلاح اللغة ثابتاً أيضاً لصالح جهة معيَّنة، فلا يستفاد إلاَّ وجوب الطَّاعة العقليَّة كما أسلفنا في أصل الوضع بتنوُّعه وعمومه وإطلاقه، ويتبعه أو يؤكِّده الاستعمال كذلك، وهو لا ينفعنا في المقام إلاَّ في الخضوع العرفاني، وهو ما قد يجعل استحبابه واجباً عقليَّاً.

وأمَّا في مقام استكشاف المسائل الفقهيَّة الشَّرعيَّة فلا نفع فيه نفعاً تامَّاً لا في تحقيق الوجوب الشَّرعي فيه، لعدم وضوحه عن هذا الطَّريق، لما مرَّ ذكره.

ولا في براءة الذمَّة في أداءه بعد التَّكليف على أي حال، حينما كان واجباً شرعيَّاً حسب الفرض في الواقع ولم نكن نعلمه في حقيقة ذلك الوضع اللُّغوي والاستعمال فيه تعيينيَّاً أو تعيُّناً، سواء بقلَّة الاستعمال أو كثرته، إلاَّ إذا كان الشَّرعي شرعيَّاً لا تعترف اللُّغة بشرعيَّته إلاَّ عن طريقها، وهو رأي الفريق الأوَّل من

ص: 140

الأصولييِّن.

مع أنَّا قد سبق وأن ذكرنا أنَّ الشَّرع لا يعترف بكل ما تعتبره اللُّغة بهذه البساطة إلاَّ بإمضاء منه.

والآن نحن في حِل من هذه الزَّاوية التَّأريخيَّة النَّادرة في بدء الدَّعوة من أواخر أيَّام الجاهليَّة الأولى لجهالة الأمر الحقيقي فيها عن اللغة ومدى علاقة الشَّرع بها، لأنَّها لم تكن من محل ابتلاءنا هذه الأيَّام وما سبقها من أيَّام الزَّهو الشَّرعي والاصطلاح الفقهي لا اللغوي.

ولذلك يفضِّل فقهاء اليوم - بل حتَّى من سبقهم ممَّن يرى حجيَّة الاصطلاح الفقهي والحقيقة المتبادر إليها في أوامر القرآن الفقهيَّة وما يتبعها من السنَّة عند الحاجة إلى بعض الكتب اللغويَّة - الرُّجوع إلى ما يتضمَّن منها ما هو الأقرب إلى الهدف الشَّرعي، لا العموم اللُّغوي من أمثال كتاب (مجمع البحرين)، لكونه الأقرب في اختياره إلى تحقيق عموم مراد لسان مصدري الكتاب والسنَّة وخصوصه، والأقرب إلى لسانهما الفقهي بصورة خاصَّة أخص.

دون أن يرجعوا إلى اللغويَّات العامَّة الأبعد، لما سبق ذكره من أنَّ الأخذ من هذه اللغويَّات العامَّة - ومن مقرَّراتها الحالة الوجوبيَّة للأوامر - لا ينفعنا نفعاً تامَّاً.

لاحتمال كون هذا الوجوب جاء من القرينة من مثل الإمضاء الشَّرعي لا من التَّجرُّد عنها.

وأنَّ وجوب الطَّاعة الثَّابت من الأوامر من ناحية ظهورها في الأعم من الوجوب والاستحباب الشَّرعيَّين لا ينفعنا كذلك عن نفس الوجوب الشَّرعي التَّام.

بينما قد تنفعنا الطَّاعة الواجبة شرعاً بسبب الوضع التَّعييني الَّذي يراه بعضالأصوليِّين إن كنَّا قبلناه ،دون أن نلتزم بالوضع التَّعيُّني بسبب كثرة الاستعمال الَّذي صيَّرته مألوفاً متعارفاً شرعيَّاً،وهو رأي الأصوليِّين الآخرين.

ص: 141

وإن كان في أساسه وقبل اصطلاحه للشَّرع والفقه كان للوجوب اللُّغوي في القسم المقارب لمقامنا بعد التَّوجيه له ومن أقسامه، لكونه أمضى شرعاً حتَّى صار اصطلاحاً لا يفهم غيره.

إلاَّ أنَّنا نرى في المقام وغيره بأنَّ الوضع في صيغة الأمر وغيره من التَّوابع وضع تعيُّني لناحية أدق من التَّعييني، إلاَّ أنَّه نفس النَّفع والفائدة الَّتي في الوضع التَّعييني.

وهو مثل ما اختلف فيه الأصوليُّون على فريقين، فريق يقول بالحقيقة الشَّرعيَّة أو التَّعيين، وآخر يقول بالحقيقة المتشرعيَّة أو التَّعيُّن.

ولكن لا نطيل هنا في هذين المقامين لأنَّ لهما محل آخر وبما يقتضيه مع ما مرَّ الكلام عليه حوله في الجزء الأوَّل.

وعليه يكون كلا المقامين مساعداً للوجوب العرفي الشَّرعي في الأوامر مع التَّجرُّد وبلا حاجة إلى القرينة، بل إذا أُريد الوجوب العقلي اللًّغوي والماضي تصويره منها فلابدَّ من القرينة عليه.

وهكذا الاستحباب الشَّرعي وغيره ممَّا عدا الوجوب فإنَّه لابدَّ له من القرينة لو أريد وحده في مقابل الوجوب الشَّرعي.

وان كان هذا الاستحباب في مجاز غالب مؤثِّر على حقيقة الوجوب الشَّرعي بعض الشَّيء كما يقولون، لأنَّ ذلك لا يصيِّره حقيقة معارضة للوجوب كما يتوهمه البعض، ممَّا سنبينه بإذن الله حال بقاء المجازيَّة مهما بلغت ما بلغت للفوارق الاصطلاحيَّة الواضحة.

وبهذا الَّذي بينَّاه تكون الطَّاعة الَّتي في خصوص هذا الإطار هي المحقِّقة لوجوب الامتثال الشَّرعي ولو ظاهراً حين الجهل بالنُّصوص الصَّريحة في بعض حالات الاستقراء والتَّتبُّع حول هذه الأمور، ما لم يرخِّص نفس المولى تعالى في التَّرك ويأذن به.

ص: 142

وإن كان من ذلك ما أجري في بدء البعثة الشَّريفة ولو في بعض أدوارها المعقولة، لا الطَّاعة الخارجة عن هذا الإطار، وإن رجحت عرفانيَّاً كما مرَّ بيانه من مثل سيرة بعض المؤمنين المستقيمة قبل الإسلام وبعد عهود الدِّيانات السَّماوية السَّابقة، كما كان عليه سلمان الفارسي وعبد المطِّلب وأبو طالب "رضوان الله عليهم" وكل من كان متديِّناً بدين الأحناف، وكما عُرف به جعفر الطيَّار(رض) أيَّام الجاهليَّة من حسن السِّيرة والسَّريرة لإطاعة الله أو مقت المحرَّمات الواجب تركها عقلاً التزاماً بالفطرة السَّليمة ولو في العرف اللغوي.

لأنَّها وإن لم تكن من خصوصيَّات المصطلحات في ظل الإسلام وشرعه، ولكنَّها قابلة لذلك كما حصل تعينيَّاً أو تعيُّناً.

الثَّالث عشر- دلالة الأمر على الاستحباب

بعدما مرَّ الكلام على الوجوب الشَّرعي -- وترجيحه على اللغوي وذكر ما ينبغي فيه حول الأوامر -- جاء دور القول بما يتناسب مع الوجوب في الإيجابيَّة، ولكن هو أخفض منه في شدَّة التَّكليف به.

وهو الاستحباب من الأحكام، بحيث لا عقوبة على ترك المستحبَّات من مصاديقه، كما هي في حالة الواجبات الماضية وبما يشبه الوجوب كذلك في كون الصِّيغة المبحوث عنها أوَّلاً هي نفس الأوامر وإن تبعتها توابع تخصُّها كما مرَّ ذكره، وبنفس مستوى الخلاف والاختلاف فيما بين الأصوليِّين.

فبعض قال بأنَّ الأمر كما كان يدل على الوجوب لغة حقيقة مع التَّجرُّد عن القرينة فكذلك يدل على الاستحباب لغة مجازاً مع القرينة.

وآخرون قالوا بأنَّ الأمر يدل على الاستحباب لغة كذلك مع التَّجرُّد من القرينة للدَّلالة على الحقيقة في ذلك، وهو أنَّ الَّذي معناه الوجوب لا يظهر من الأمر إلاَّ

ص: 143

بنحو المجاز لحاجته إلى القرينة.

وهو الَّذي نفيناه مع سابقه بالقول بالوجوب الشَّرعي الحقيقي له دونهما.

ولكن لتوضيح الدقَّة أكثر دفاعاً عمَّا نراه لابدَّ من استعراض ما يتعلَّق بهذا الاستحباب جرياً على ما قمنا به من الكلام عن الوجوب لغة كما أراده القائلون به، نقول وبتصرُّف نافع بإذن الله:-

احتجَّ القائلون بأنَّه للنَّدب بوجهين:-

أحدهما: قول النَّبي 2 (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم)(1)، فقالوا بأنَّ وجه الدَّلالة أنَّه 2 ردَّ الإتيان بالمأمور به إلى مشيئتنا وهو معنى النَّدب، لأنَّ الرِّواية دلَّت على استعمال الأمر في النَّدب لا مجرَّد الوضع الَّذي لم يلتزم به البعض والأصل فيه الحقيقة،فللإنسان أن يختار من ذلك القليل أو الكثير بحسب الاستطاعة وهو مردَّد ما بين المقدارين بصيغة خالية من الشِدَّة.

وهذا الحديث وإن لم يكن من آيات الأحكام ولكنَّه من التَّوابع والملحقات للسنَّة، بل والمؤسِّسة لبعض القواعد ولو بالمشاركة.

ولكن أجيب في مقابل هذا على أنَّ الأمر للوجوب، إذ لو كان للنَّدب فقط لم يحتج إلى البيان، لانصرافه إليه بلا حاجة إلى هذا البيان، بينما جاء هذا المعنى له ببيان إضافي لا لمنع الوجوب، بل ربَّما له شأن في توليد أو الدَّعم لإحدى القواعد الفقهيَّة التَّسهيليَّة المهمَّة، وهو خلاف المأمول من المستدل.

وأمَّا حمل هذا البيان من المستدل ونحوه على نحو التَّوكيد والتَّوضيح لا على تأسيس الحصر في النَّدب، بحيث لا يراد الوجوب بسبب المشيئة فهو خلاف الأصل.

لكون الأصل هو الوجوب بلا حاجة إلى البيان لا مثل ما احتيج إليه في أمر

ص: 144


1- أخرجه البخاري في "الاعتصام بالكتاب والسنَّة" باب الاقتداء بسنن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم (7288)، ومسلم في "الحج" (1337).

الاستحباب.

وأجيب أيضاً لصالح القول بالوجوب بالمنع من ردِّه إلى مشيئتنا، وإنَّما ردُّه إلى استطاعتنا وهو معنى الوجوب، لأنَّ الفرائض والواجبات ما جاءت إلاَّ مطابقة للاستطاعة والقدرة على الأداء وكما قال تعالى [نَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا](1) ومنه هذه التَّكاليف.

ثمَّ إنَّ هذا الحديث في واقعه ما جاء إلاَّ تفصيلاً لما أجمله تعالى من قوله: [مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا](2) وهو واضح في وجوب امتثال الأوامر، وتفصيل الحديث لا ينفي وجوب أقل ما يمكن فعله.

ونظير ذلك تقريباً وجوب الفرائض اليوميَّة داخل أوقات تسعها وتسع غيرها.

وجاء أيضاً مطابقاً لما ذكره تعالى من حالات نفي العسر والحرج ونفي التَّكليف بما لا يطاق في آيات أخرى عن حالة أداء الفرائض والواجبات ارتباطاً بالعدل الإلهي المتواصل في كلِّ شيء، وإن وجبت في بداية الأمر على المكلَّف غير المقتدر على نحو الإجمال كذلك كما في قوله تعالى عن الصَّوم أثناء المرض والسفر [يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ](3) وقوله عن الحج [وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً](4) وغيرهما من الأمور الخاصَّة.

وهكذا جاء مطابقاً لهذه الحالات من التَّكاليف العامَّة مثل قوله تعالى [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ](5)، وكذلك قوله [لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ

ص: 145


1- سورة الطلاق / آية 3.
2- سورة الحشر / آية 7.
3- سورة البقرة / آية 185.
4- سورة آل عمران / آية 97.
5- سورة الحج / آية 78.

وُسْعَهَا](1) وغير ذلك منالأحاديث الشَّريفة الَّتي لا ترفع مداليل الأوامر المثبتة لوجوب الواجبات، وإنَّما تحدِّد التَّكاليف بما يتناسب والقدرة الفعليَّة.

وإذا اعتبرت الفرائض غير الصَّلاة بأنَّها مشروطة في وجوبها بشروط لو لم تتوفَّر لم تكن بواجبة، فإن الصَّلاة تكفينا في أنَّها لا تسقط بحال وإنَّما تتفاوت حالاتها حسب ما يتناسب وطاقة المكلَّف، إضافة إلى أنَّ بقيَّة هذه الواجبات من غيرها لم تكن دوماً بساقطة أصلاً، بل إنَّها ربَّما تكون مؤجلَّة.

وإن أورد مورد على أنَّ الأمر في الحديث لا يدل بالمطابقة أو التَّضمُّن على الوجوب؟

فإنَّه يجاب أوَّلاً: بأنَّ الأمر يكفيه أن يستلزم ذلك لا أكثر، لكون معنى الوجوب من لوازمه غير المنفكَّة عنه لإرادته من الأمر بالدَّرجة الأولى وهو كاف في المقام.

وثاني الوجهين: إنَّ أهل اللُّغة قالوا: (لا فرق بين السُّؤال والأمر إلاَّ في الرُّتبة)(2)، فإنَّ رتبة الآمر أعلى من رتبة السَّائل، والسُّؤال إنَّما يدل على النَّدب فكذلك الأمر، إذ لو دلَّ الأمر على الإيجاب لكان بينهما فرق آخر، وهو خلاف ما نقلوه من حالة عدم الفرق وهو ما كان هذا العدم في الطول لا في العرض.

وأجيب عن هذا الثَاني بجوابين:

أوَّلاً: بأنَّ النَّقل المذكور عن أهل اللُّغة غير ثابت، بل صرَّح بعضهم بعدم صحَّته على ما نقله صاحب المعالم قدس سره.

وثانياً: لو تنزَّلنا مع النَّقل، وقلنا بأنَّ القائل بكون الأمر للإيجاب -- وهو الوارد المألوف في السَّاحة العلميَّة الفقهيَّة -- يقول بأنَّ السُّؤال يدل عليه أيضاً، في مقابل

ص: 146


1- سورة البقرة / آية 286.
2- وهذه المقولة من احتجاج ونقل أبي هاشم المعتزلي، راجع معالم الدين وملاذ المجتهدين ص49.

القول بالنَّدب لثبوت الحق في ذلك، لأنَّ صيغة افعل عنده موضوعة لطلب الفعل مع المنع من التَّرك، وقد استعملها السَّائل فيه أيضاً، لكنَّه لا يلزم منه الوجوب، إذ الوجوب لا يثبت إلاَّ من جهة الشَّرع، وبذلك لا يلزم المسؤول القبول.

وبهذا يتبيَّن الفرق بين المسؤول والسؤال، فلا يكون إلاَّ الوجوب للفارق بين الحالتين.

ونبقى نحن نضيف ونبيِّن مؤكِّدين:-

بأنَّ الوجوب هو المتعيَّن لا الاستحباب لما مضى، وأنَّه شرعي لا لغوي محض، لأنَّ اللغة قد تحمل شيئاً يثبت شرعاً بالإمضاء ونحوه من التَّطابق أو بكثرة الاستعمال كما في ما أوضحناه في الجواب الثَّاني في ردِّ دليل أهل اللغة، ولكن لا داعي إلى ضمِّ السُّؤال إلى الأمر.

لأنَّه مع قول أهل اللُّغة الماضي ذكره عن السُّؤال والفرق بينه وبين الأمر (إلاَّ في الرُّتبة)، فإنَّه لم يخرج عن كون هذا قياس مع الفارق الواضح المصرَّح به من قبل نفسالقايس وهو اللُّغة.

إضافة إلى كوننا وإن قلنا سابقاً أنَّ السُّؤال من أنواع الطَّلب وقد يؤتى به للتَّوبيخ أو بنحو الأدلَّة الإرشاديَّة الَّتي تعطي معنى القول بالوجوب عقلاً، لكن هذا غير مناسب ليكون من لسان مقام المشرِّع تعالى بالمعنى الحقيقي، فحصرنا أمر المأخوذ منه ممَّا نصُّه من أنواع الطَّلب كما في التَّحضيض لصحَّة كون معناه من العالي إلى الدَّاني دون السؤال وغيره، للفرق الَّذي مرَّ ذكره.

لأنَّ الأمر جهته جهة علو على خلاف السُّؤال، وإن أريد من ضمِّه إلى الأمر كذلك في ردِّ القول بأنَّه للنَّدب لعدم الحاجة بعد تبيُّن الفرق.

إضافة إلى ما ذكره ابن الشهيد الثَّاني "صاحب المعالم" قدس سره من احتجاج السيِّد المرتضى u على الدَّليل على كون هذه الصِّيغة على الوجوب الشَّرعي لا غير، وأنَّها

ص: 147

حقيقة فيه بالنِّسبة إلى العرف الخاص به في قوله:-

(بحمل الصَّحابة كل أمر ورد في القرآن أو السنَّة على الوجوب وكان يناظر بعضهم بعضاً في مسائل مختلفة ومتى أورد أحدهم على صاحبه أمراً من الله سبحانه أو من رسوله 2 لم يقل صاحبه هذا أمر والأمر يقتضي النَّدب أو الوقف بين الوجوب والنَّدب بل اكتفوا في اللزوم والوجوب بالظَّاهر وهذا معلوم ضرورة من عاداتهم، ومعلوم أيضاً أنَّ ذلك من شأن التَّابعين لهم وتابعي التابعين فطالما اختلفوا وتناظروا فلم يخرجوا عن القانون الَّذي ذكرناه، وهذا يدل على قيام الحجَّة عليهم بذلك حتَّى جرت عادتهم وخرجوا عمَّا يقتضيه مجرَّد وضع اللغة في هذا الباب)(1).

حيث نقل قول السيِّد المرتضى قدس سره ("وأمَّا أصحابنا معشر الإماميَّة فلا يختلفون في هذا الحكم الَّذي ذكرناه وإن اختلفوا في أحكام هذه الألفاظ في موضوع اللغة فلم يحملوا قط ظواهر هذه الألفاظ إلاَّ على ما بيَّناه ولم يتوقَّفوا على الأدلَّة، وقد بينَّا في مواضع من كتبنا أنَّ أجماع أصحابنا حجَّة" (2))(3).

هذا كلامه "رُفع مقامه" وهو حجَّة في بابه ومن القدماء.

وناقشه صاحب المعالم قدس سره في قوله (وأمَّا احتجاجه على أنَّه في العرف الشَّرعي للوجوب فيتحقَّق ما ادعيناه "من أنَّ الأمر في اللُّغة أيضاً في الوجوب فقط كما في العرف" إذ الظاهر أنَّ حملهم له على الوجوب إنَّما هو لكونه له لغة، ولأنَّ تخصيص ذلك بعرفهم يستدعي تغيير اللفظ عن موضوعه اللغوي وهو مخالف للأصل)(4).

فإنَّنا نقول إضافة إلى ما مضى جواباً مختصراً بنحوين:

ص: 148


1- معالم الدين وملاذ المجتهدين ص51.
2- الذَّريعة إلى أصول الشَّريعة / السيد المرتضى ج1 ص52.
3- معالم الدين وملاذ المجتهدين ص51.
4- معالم الدين وملاذ المجتهدين ص52.

فأوَّلاً: بأنَّ أوَّل عبارته عن كلام السيِّد قدس سره اعتراف منه ضمناً بالعرف الشَّرعي أو أنَّه ما نفاه وإن كان ذلك عنده من تلك اللُّغة أساساً.

وثانياً: إنَّ جعله هذا الأساس الَّذي لا ينكر عنده - أصالة مؤثِّرة على هذا العرف الشَّرعي لا يمكن قبوله للتَّفاوت الاعتباري بما أوضحناه سابقاً من حيث الزَّمان - بقِدم اللُّغة وعمومها وإطلاقها وبحدوث الشَّرع على أساس مجيئه بعد ذلك بالحقيقة الشَّرعيَّة أو المتشرعيَّة كما نوَّهنا وبأوضاع خاصَّة.

كانت نصوصها من الكتاب والسنَّة بنحو يختلف عن نصوص اللُّغة وإن نزل القرآن على منحاها.

ومن حيث معنى الطَّاعة - في كونها لغة بالأوامر إن قبلناها واجبة - فهي عقليَّة، وإن لم نقبلها للوجوب فقط فهي مشتركة بين الوجوب والنَّدب اللُّغوي، كما هو الحق عنده بما أسلفنا نقله ولو إشارة.

ومن حيث معناها في كونها شرعاً بهذه الأوامر فهي طاعة شرعيَّة منبعها الأوامر الإلهيَّة وهو مبتغانا في مبنانا لغلبتها.

الرَّابع عشر - دلالة الأمر على القدر المشترك

بين الوجوب والاستحباب مثلاً

من جملة ما بحثه الأصوليُّون ممَّا يحتمل كون الأوامر داخلة فيه هو دلالتها على القدر المشترك، وهو طلب الفعل المراد منها فقط من دون قصد خاص لكلِّ ما يحمله الطَّلب، كالوجوب بكلِّ خصوصيَّاته والنَّدب كذلك، وهو المتعارف ذكره بينهم في المقام أو الأزيد لو اختلف لفظ كل منها عن الآخر دون ما لو اتَّفق.

لأنَّ قصد الأثنين معاً من اللَّفظة الواحدة مثلاً بهذا النَّحو يدخل الأوامر في الاشتراك اللَّفظي الموحَّد.

ص: 149

وهو غير القدر المشترك المراد ذكره وذكر الكلام عنه هنا أو لأحدهما دون الآخر مثلاً، لأنَّ أحدهما دون الآخر مع اللفظي يحوجه إلى القرينة معيِّنة المراد.

دون القدر المشترك كذلك وقصد أحدهما دون الآخر فقط بلا اشتراك لفظي مع عدم التَّساوي في المصداق الخارجي الَّذي يدخل الأوامر في أمر المجاز ويحوجه إلى القرينة الصَّارفة، كإرادة النَّدب منها مع احتمال إرادة الوجوب، وهو غير القدر المشترك المراد ذكره أيضاً.

ومع اشتراك الاثنين معاً تكون قرينته هي المسمَّاة بالمفهمة مع التَّساوي في المصداق كالإنسان والبشر.

فلأجل الوصول إلى محصِّلة نافعة إيجابيَّة أو سلبيَّة للاستقرار على مطلب أصولي ذي ثمرة عمليَّة في مجال آيات الأحكام وما يتبعها من الأوامر ودلالتها الأصيلة.

فلابدَّ من استعراض ما تكلَّموا فيه استدلالاً عليه وهو القدر المشترك الَّذي هو ليس بالوجوب حسب وليس بالاستحباب كذلك جرياً على ما أحصي من نتاجهم فنقول مع شيءمن التَّصرُّف:-

احتجَّ القائلون بأنَّه للقدر المشترك - وهو الطَّلب المراد منه الوجوب والاستحباب معاً مثلاً مع التَّفاوت اللفظي بين الاثنين وإن زاد الوجوب على الاستحباب بقيد المنع من التَّرك أو انخفض الاستحباب عن الوجوب بقيد عدم المنع من التَّرك - بأنَّ الصِّيغة استعملت تارة في الوجوب كقوله تعالى [أَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وآتوا الزَّكاة](1) وغيره، وأخرى في النَّدب كقوله تعالى [فَكَاتِبُوهُمْ](2) وغيره على حدِّ سواء، بلا امتياز لأحدهما على الآخر في العرض القرآني مع التَّفاوت اللفظي

ص: 150


1- سورة البقرة / آية 43.
2- سورة النور / آية 33.

والمعنوي بين النَّصَّين وحصول اللقاء المجمل بينهما.

فإن كانت هذه الصِّيغة موضوعة لكل منهما مع كل خصوصيَّة فيهما لا مجرَّد الطَّلب لزم الاشتراك اللفظي المحوج للقرينة المعيِّنة في كل منهما كما مرَّ.

بينما هذا الطَّلب بمجرَّده أخف مؤنة حتَّى في تشخيص الواجب عن المستحب أو العكس، لعدم الحاجة في الخصوصيَّة لكل منهما وبالخصوص عند المواظبين على المستحبَّات مع الواجبات والمحترمين لأوامر الاثنين بالسَّوية كأهل العرفان والسُّلوك الشَّرعي الَّذين يكفيهم مجرَّد الطَّلب بهاتين الصِّيغتين.

وإن كانت هذه الصِّيغة موضوعة لأحدهما فقط لزم المجاز المحوج للقرينة الصَارفة، بينما كل من النَّصَّين استعمل فيما يخصُّه للجامع المشترك المعهود بلا عناية الحاجة إلى القرينة الصَّارفة أو ما سبقها وللطَّلب، فيكون حقيقة في القدر المشترك بينهما بتبادره عند الإطلاق في النَّصَّين وغيرهما، وهو طلب الفعل دفعاً للاشتراك والمجاز، فإذا علم أنَّهما مرجوحان فالقدر المشترك هو الرَّاجح.

وكان جواب من ردَّهم وهم القائلون بالوجوب لغة بنحو الحقيقة وبالنَّدب بنحو المجاز وإن كان مخالفاً للأصل، وهو الحقيقة الدَّالَّة على نفسها مع التَّجرُّد عن القرينة تجاه الشَّرعيَّة، لكن يجب المصير إليه إذا دلَّ الدَّليل عليه، وهو خير من الاشتراك في دليل المحتجِّين حتَّى إذا كان هذا المجاز في نفسه يحتاج إلى الوضع الأوَّل وإلى معرفة المناسبة بين المعينين وإلى النَّقل منه إلى المعنى المجازي.

فإنَّ الحاجة إلى ذلك في مقابل الحقيقة المحتاجة إلى الوضع فقط لا في مقابل الاشتراك، فحينما بيَّنا أنَّه حقيقة في الوجوب بخصوصه رعاية للوضع الأوَّل وجاء مورد الوضع الثَّاني وقرينته، فلابدَّ من كونه مجازاً في مقابل الأوَّل وهما النَّدب ومطلق الطَّلب.

لأنّهما استعملا في غير ما وضع له الأمر، وإلاَّ لزم الاشتراك المخالف للأصل

ص: 151

بصفة أشد منه، بل هو المرجوح وهو مرفوض بخلاف دليل الحقيقة الأصيل وهو أمر الوجوب مع التَّجرُّد، وبخلاف دليل المجاز وهو النَّدب أو مطلق الطَّلب مع القرينة.

على أنَّ المجاز لازم كذلك بتقدير وضعه للقدر المشترك وهو ذلك الطَّلب العام، لأنَّاستعماله في كل واحد من المعنيين بخصوصه مجاز، لأنَّ كل واحد بخصوصه استعمال في غير ما وضع له.

وإذا ثبت أنَّ التَّجوز اللازم على التَّقدير الأوَّل - وهو ما كان في مقابل الحقيقة أقل كلفة منه بتقدير القدر المشترك على التَّقدير الثَّاني، لأنَّه في الأوَّل مختص بأحد المعنيين وفي الثَّاني - حاصل فيهما كان بالتَّرجيح - لو لم يقم عليه دليل أقوى - أحق من الآخر.

لكن مع كل ذلك لابدَّ من كون الوجوب هو المقدَّم في أصالته لو لم تكن قرائن غير الأصل موجودة لكونه قد دلَّت عليه الأدلَّة الأربعة وهي الكتاب والسنَّة واللغة والعرف.

إذن نبقى نقول -- عوداً على ما مضى وتوكيداً له -- إذا كان قصد هذا القائل بالوجوب هو الوجوب اللغوي فلابدَّ من القول في مقابله بأنَّه الشَّرعي لما مضى بيانه، وإذا كان قصده هو الشَّرعي فهو المقصود والمنشود.

إلحاق

ويلحق بدلالة لفظ الأمر على الطَّلب الجامع للوجوب والنَّدب الكلام عن الأكثر من الاثنين، لأنَّ دلالته على الأكثر كالدِّلالة على الاثنين في نظر القائل بذلك إذا كان الجامع للجميع هو الطَّلب لا غير من أحد معانيه المناسبة الأخرى من غير الوجوب والنَّدب ممَّا سبق ذكره كالآيات الَّتي تجمع هذا الأكثر في الطَّلب الواحد

ص: 152

مثل قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ](1) أي الَّتي قد يكون من غرض الواعظ بها هو الأمر بالإقلاع عمَّا يحرم من إساءة الظن وعمَا يكره وحتَّى عمَّا يستحب لما مرَّ بيانه عنه من أنَّه قد يحمل هذه الثَّلاثة ولا غرض لهذا الواعظ سوى أصل الإقلاع، لئلاَّ يتورَّط المكلَّف بارتكاب ما كان محرَّماً بل حتَّى ما كان مكروهاً في طريق الظان وإن جاز ارتكابه وفيه يسير من المبغوضيَّة بل حتَّى المستحب الرَّاجح فعله بترجيح تركه لو اختلط بالظن العام الَّذي صار عرضة للإشتباه بالمحرَّم أو المكروه تخلُّصاً من ذلك المحرَّم أو المكروه، وهكذا الإنذار والتَّهديد إذا ناسب أحدهما مثلاً نص يقصده مع الوجوب والنَّدب، أو الإذن الشَّامل للوجوب والنَّدب والإباحة، وإنَّ الدَّليل الَّذي ذكره القائل في الطَّلب للاثنين هو نفسه جار في الأكثر وإنَّ ردَّه هناك جار هنا أيضاً وهو دلالة الأدلَّة الأربعة على الوجوب والباقي خاضع للقرائن مع تعليقنا نفسه عليه.

الخامس عشر- دلالة الأمر على الاشتراك لغة

ومن تلك البحوث الَّتي تطرَّق إليها الأصوليُّون حول الأمر وملحقاته للكلام عن دلالته الَّتي ادَّعاها جماعة منهم بما هو أوسع من الوجوب أو النَّدب هو الاشتراك اللَّفظي الجامع بين الاثنين، وإن أحوج فهم كل منهما بخصوصه إلى القرينة المعيِّنة المراد، لإمكان دلالة هذا الأمر على كلِّ منهما من حيث المبدأ للإيجابيَّة المرتبطة به حين تعريف كلِّ منهما بما مرَّ ذكره، ولعدم المانع من حمله كلاًّ منهما في الجملة طولاً أو عرضاً بعموم الرُّجحان، وهذا ليس بضائر.

وإنَّما المهم هو دلالته عليهما معاً بكلِّ خصوصيَّاتهما وفي آن واحد وهو ما

ص: 153


1- سورة الحجرات / آية 12.

يحتاج إلى برهنة هؤلاء الجماعة على مدَّعاهم.

لكون هذا الادِّعاء يزاحم ما سلف ذكره من حمله خصوص الوجوب مع واضح أدلَّته الماضية شرعاً بعد ادِّعاءهم أوَّلاً لغة بأدلَّة قد نقضت.

وهكذا من حمله الاستحباب فقط على رأي من يدَّعي ذلك بالأدلَّة الَّتي أرادوها وبما كان أقوى من الاشتراك وإن نقضتها أدلَّة الوجوب الشَّرعي.

وهكذا من حمله ما يتناسب مع مطلق الطَّلب بأدلَّته الَّتي أتى بها مدَّعوا ذلك وبما كان أقوى عندهم وعند غيرهم من هذا الاشتراك اللفظي وإن فنِّدت أدلَّة هذا بأدلَّة القول بالوجوب الماضي لولا القيام بهذه البرهنة من مدِّعي الاشتراك لمعرفة قوَّتها من ضعفها أمام الأدلَّة الماضية.

فلنذكر شيئاً أو بعض شيء ممَّا قالوه لتقويم مدَّعاهم ولو بتصرُّف منَّا لغرض المناقشة والوصول إلى الحق في المقام:-

احتج السيد المرتضى قدس سره - على أنَّ صيغة الأمر مشتركة لغة بين الوجوب والاستحباب اشتراكاً لفظيَّاً في مقابل ادِّعاء خصوص الوجوب له لغة - بأنَّه:-(لا شبهة في استعمال هذه الصِّيغة في الإيجاب والنَّدب معاً في اللُّغة والتَّعارف والقران والسنَّة، وظاهر الاستعمال يقتضي الحقيقة)(1)، أي اللغويَّة.

وهو ما يلِّوح من السيِّد قدس سره أنَّ هذا لم يكن بمصادفة الاستعمال النَّادر، وإنَّما من الكثرة المفيدة لهذا التَّبادر.

وبناءاً على هذا يكون هو المأخوذ به دون القول بالوجوب اللُّغوي في مقابل الشَّرعي، الَّذي قد يدَّعى له مجرَّد الوضع اللُّغوي له من دون معرفة أنَّه استعمل كاستعمال الأمر للاشتراك اللُّغوي في الاثنين في اللُّغة والتَّعارف والقرآن والسنَّة، وعليه فلا يُعدل عن هذه الحقيقة إلاَّ بدليل.

ص: 154


1- الذَّريعة إلى أصول الشَّريعة / السيد المرتضى ج 1 ص52.

ثمَّ قال: (وما استعمال اللَّفظة الواحدة في الشَّيئين أو الأشياء إلاَّ كاستعمالها في الشَّيء الواحد للدَّلالة على الحقيقة).

وهو ما قد لا يمنعنا أن نضيف منَّا أكثر من ذي قبل وعلى مستوى هذا المبنى أيضاً من إمكان حمل الأمر أكثر من اثنين كما سيأتي، ومن دون أن يكون ذلك مقصوراً على الأمر كذلك، فلا غرابة في أمره حينئذ.

وأجابه صاحب المعالم قدس سره عن هذا الاحتجاج بتوضيح منا:-

(أنَّا قد بيَّنَّا أنَّ الوجوب - وحده - هو المتبادر من أطلاق الأمر عرفاً، ثمَّ إنَّ مجرَّد استعمالها - أي الصِّيغة - في النَّدب لا يقتضي كونه حقيقة فيه أيضاً، بل يكون مجازا لوجود إمارته وكونه خيراً من الاشتراك.

وقوله ]إنَّ استعمال اللفظة الواحدة في الشَّيئين أو الأشياء كاستعمالها في الشَّيء الواحد في الدِّلالة على الحقيقة[ إنَّما يصح إذا تساوت نسبة اللفظ إلى الشَّيئين أو الأشياء في الاستعمال إمَّا مع التَّفاوت بالتَّبادر وعدمه أو بما أشبه هذا من علامات الحقيقة والمجاز فلا، وقد بيَّنَّا ثبوت التَّفاوت)(1).

وما ذلك إلاَّ أنَّ المجاز خير من الاشتراك، فكيف الحقيقة.

ولكن نحن نقول أيضاً: أنَّ هذا الوجوب ما دام لغويَّاً في نظر من يرفض الاشتراك فلا يمكن الرِّضا به، بعد ما مرَّ كثيراً ممَّا يمنعه من كون اللُّغة مختلطة قبل الإسلام، إلاَّ فئة خاصَّة منها ومن قواميسها ارتبطت بالاصطلاح الشَّرعي.

وإن كان هناك نوع وجوب عقلي لا يذهب عن البال وله ألفاظه المستقلَّة، لكنَّه لا يضاهي الشَّرعي وإن أمكن دخوله في عمقه عرفانيَّاً، لأنَّه لا يزاحم أصالة الوجوب الشَّرعي المصطلح، بل المتعيَّن هو الشَّرعي.

وأدلَّة من يقول باللُّغوي إمَّا عائدة إلى الشَّرعي، أو أنَّها لا تصلح كي تكون أدلَّة

ص: 155


1- معالم الدين وملاذ المجتهدين ص51 - 52.

لخصوص الوجوب له، لقوَّة الاشتراك اللُّغوي لما مرَّ من اختلاط اللُّغة القديمة بما لا نظام خاصٌّ فيها يؤهلها لخصوص الوجوب اللُّغوي وحده أو الاستحباب وحده فيتساوى المعنيان، فيحل الاشتراك بما لا مقاومة منه للوجوب الشَّرعي إن جاءت مقوِّماته.

وعليه فما ذكره صاحب المعالم قدس سره من كون المجاز خيراً من الاشتراك فهو وإن كان في محلِّه من حيث المبدأ، ولكن لا يقبل إلاَّ إذا ثبت موضوعه، وهو غلبة الوجوب في اللُّغة على النَّدب من جميع النَّواحي بسبب كثرة الاستعمال، ليكون شبيه الحقيقة بتبادره إلى الذِّهن من هذه القرينة في ظلِّ الاصطلاح الفقهي الشَّرعي وازدهاره دون غلبة الوجوب في العرف الشَّرعي.

لأنَّ الشَّرع لا يخضع للغة، وإنَّما اللُّغة هي الخاضعة إلاَّ ما سبق استثناؤه من الرُّجوع إلى اللُّغة في المرحلة الأخيرة بعد اليأس من صراحة الشَّرع الواقعيَّة ثمَّ الظاهريَّة ثمَّ العرفيَّة.فلا محلَّ إذن لهذا المجاز فلا يبقى إلاَّ الاشتراك مع افتراض البقاء على اللُّغة.

نعم لا نبالغ في هذا الاشتراك دوماً لو ضعف الوجوب لغة في أبوابه نسبيَّاً وحلَّت غلبة النَّدب من كثرة استعماله، لإمكان حمل النَّدب على المجاز المحتاج إلى القرينة.

وعندها يكون المجاز خيراً من الاشتراك، إلاَّ إذا حصل التَّساوي بين الاثنين بما لا يمكن الفرار من الاشتراك بينهما أو صارت غلبة النَّدب في قبال هجران الوجوب ليكون النَّدب حقيقة في بابه والوجوب مجازاً في بابه لا يظهر من أوامره إلاَّ عبر القرينة الصَّارفة.

وهذا كلُّه نحن في غنى عنه ما دمنا مع الحقيقة العرفيَّة الشَّرعيَّة في ظلِّ اصطلاحنا الفقهي الشَّرعي.

ص: 156

وعلى هذا الأساس الَّذي ثبتنا عليه يمكن أن يكون النَّدب في مقابله مجازاً لا أكثر ما لم تحصل غلبة استعمال النَّدب في قبال هجران الوجوب الشَّرعي، ليكون الوجوب هو المحتاج إلى القرينة عكس النَّدب إن قبلنا مصاديقه النَّادرة أو المساواة بسبب كثرة الاستعمال في المقامين.

وهو نادر أيضاً لا يضر مع ما سبق بقاعدة دلالة الأمر على الوجوب شرعاً.

وقد اعترف في معالمه قدس سره بما قد يفيد العموم أو الإطلاق ولو بما وجَّهناه سابقاً أو ما سيأتي (بأنَّ الوجوب هو المتبادر من اطلاق الأمر عرفاً)(1).

ومعلوم من سياقات كلماته الماضية أنَّه العرف اللغوي الَّذي لابدَّ أن ينسجم مع الشَّرع، بل إنَّه المنسجم معه حينما تأتي مصاديقه معه في حينه، لما مرَّ ذكره من حمل اللغة أيَّام الجاهلية جميع المطالب المتنوِّعة حتَّى في اللفظ الواحد، إمَّا بنحو الاشتراك أو الحقيقة والمجاز وبما لا يخص عهداً بعينه أو عرفاً بخصوصه حتَّى العرف الشَّرعي الخاص في زمن الإسلام الَّذي ترسَّخت اصطلاحاته الخاصَّة من زمن كثرة الاستعمال الأوَّل تعيُّناً أو تعييناً الأوَّل إلى هذا الحين.

وعلى فرض عدم انسجامه مع الشَّرع لتبقى الحقيقة عنده قدس سره فمعناه أنَّ القرآن في آيات أحكامه والسنَّة التَّابعة لها حينما أتت على ميزانيَّة هذه اللغة العربيَّة ما أتت إلاَّ لمعاني قد تخرج عن مضامين الإسلام والاستقامة الشَّرعيَّة كثيراً وهو غير مقصود بأقل تقاديره عنده قدس سره حتماً لأنَّه من أكابر علماء الإسلام الأصيلين.

فالعرف عنده أيضاً لابدَّ وأن يشمل عرفنا الشَّرعي بما مرَّ وبالإمضاء والتَّقرير كما سلف، ولو لم يكن إلاَّ أن نبقى معه قدس سره على هذا الإجمال لكفى.

ص: 157


1- راجع المصدر السَّابق.

إلحاق

وبعد الفراغ من مسألة الاشتراك اللغوي بين الوجوب والنَّدب لردِّ الوجوب اللغوي وحده، لابدَّ من معرفة وجود رأي يقول بإمكان الدِّلالة في الأوامر على أكثر من اثنين أيضاً مثل الثَّلاثة وهي الوجوب والنَّدب والإباحة الَّتي قد يستدل عليها بقوله تعالى [وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ](1)، حينما يمكن إفادته الجميع بمساواة اعتماداً من المستدل على الاستعمال لأنَّه أعم من الحقيقة قبل أن يكثر ويؤثِّر عليها بالإسراف المكروه.

بناءاً على أنَّ هذه الآية جمعت الأكل والشرب الواجبين الَّذين لو لم يكونا لمات أولئك المخاطبون والمستحبِّين كحالة الاستعداد للسَّفر أو العمل الشَّاق المحتاج لحسن التَّغذية بهما والمباحين للشَّهوة غير المحرَّمة بهما.

بل قد يقول رأي آخر بإمكان دلالة هذه الأوامر على الأربعة بمثل إضافة الكراهة، ويحتمل أن تكون نفس الآية الماضية هي الَّتي يمكن التَّمسُّك بها عندهم بنحو المساواة على نحو اعتبار إمكان أن يكون الأكل والشُّرب بزيادة عن مقدار الحاجة إليهما بما لم يصل إلى حدِّ الحرمة، شريطة أن لا تكون هذه الكراهة مشمولة في قوله تعالى [ولا تسرفوا]، إذا كان نهيه يراد منه الحرام، أو بناءاً على أنَّ هذا النَّهي لا يخص الحرام كالكراهة.

وهذا النَّحو من الإلحاق ذكرناه مع مضامينه مع شيء من التَّصرُّف منَّا للسيِّد المرتضى قدس سره ومن أيَّده في مقابل القول بالوجوب اللغوي فقط.

ويناسبه جرياً على ما مضى أيضاً ردَّ صاحب المعالم قدس سره الماضي عن أصل الاشتراك اللفظي.

ص: 158


1- سورة الأعراف / آية 31.

ويناسبه أيضاً ما أضفناه من التَّعليق بإمكان الاشتراك نوعاً في مقابل هذا الوجوب، وانتصارنا للقول بالوجوب الشَّرعي، وإن كان الوجوب اللُّغوي له وجوده في عموم اللغة بما لا يزاحم الشَّرعي في اصطلاحه.

السَّادس عشر- التَّوقُّف في دلالة الأمر على الشَّيء بعينه

والانتهاء إلى القول بالوجوب الشَّرعي

بعد حصول ما مضى من الخلاف والاختلاف حول الأوامر ودلالتها واستعراض كل من ذوي الآراء دليله وقوَّة بعض الأدلَّة وضعف البعض الآخر والتَّحيُّر في أمر أدلَّة أخرى في أنَّها مناسبة أم لا؟

نشأ مذهب التَّوقُّف في هذا الأمر حتَّى حاول أصحابه التَّدليل على مقصودهم بأدلَّتهم.

فاحتجَّ الذَّاهبون إلى التَّوقُف بأنَّه لو ثبت كون الأمر موضوعاً لشيء من المعاني المشار إليها فيما مضى ليثبت بدليل واللازم منتف.

لأنَّ الدَّليل إمَّا العقل ولا مدخل له لأنَّه لا يدرك أنَّ اللفظ الفلاني موضوع للمعنى الفلاني بهذه السُّهولة لا بالحقيقة لمعنى واحد أو لاثنين أو لأكثر أو لطلب واحد يجمع ما يحمله لفظان أو أكثر لمعنين أو أكثر.

وأمَّا النَّقل وهو إمَّا الآحاد فلا يفيد العلم لأنَّ في مثل هذه المسألة عمليَّة لا يكتفي بالظَّن فيها أو التَّواتر والعادة تقضي بامتناع عدم الاطِّلاع على التَّواتر ممَّن يبحث ويجتهد في الطَّلب فكان الواجب أن لا يختلف فيه بينما الواقع خلافه.

وأجيبوا: بمنع الحصر في العقل والنَّقل بالآحاد والتَّواتر وهو ثبوت الوجوب في الأدلَّة الأربعة الَّتي قدَّمناها وهي اللغة والتَّعارف والكتاب والسنَّة ومرجعها إلى تتبُّع مظانِّ استعمال اللفظ بالكثرة المرضية بنشوء الحقيقة في ذلك.

ص: 159

ونحن نجيب أيضاً بأنَّ قصد المجيب إذا كان للإفادة الوجوبيَّة اللغويَّة غير الاصطلاحيَّة فقط فلا يمكن المساعدة عليه.

لأنَّ ما ظهر من الأدلَّة الأربعة لا ينفع إلاَّ بما يعود للوجوب الشَّرعي الاصطلاحي ولو بعد الدَّلالة على الوجوب اللغوي بالإمضاء ونحوه كما مرَّ توضيحه، حتَّى لو كان عن طريق ظنِّي معتبر يغلب ما يقل عنه من أدلَّة الآراء الأخرى.

وكذلك ما تحمله الظواهر لو انعدمت النُّصوص ولم يقاومها دليل من تلك الآراء وإلاَّ لانغلق باب العلم في الشَّرعيَّات، وإن كان للإفادة الشَّرعيَّة فهو عين المطلوب.

السَّابع عشر- التَّنبيه على ما عدا الوجوب والاستحباب لغة

واصطلاحاً شرعيَّاً في مدى إرادته من الأوامر

بعد أن مرَّ الكلام عن إمكان حمل الأوامر وما يلحق بها على أكثر من الوجوب والاستحباب وبما يتناسب مع الأحكام الشَّرعيَّة من المعاني الخمسة عشر لا جميعها،وتبيَّن أنَّ الحقيقة كانت في جهة الوجوب والبواقي تحتاج إلى القرائن على ما عداه وإن حصل الكلام مختصراً فيما مضى عن الأكثر منه كما في الاستحباب، والنِّقاش فيه أو ما حصل من الأكثر منه بنحو الإشارة إليه.

فلا داعي لبسط الأكثر من تلك المعاني، لإمكان بيان بعضه في باب النَّواهي كالأوامر الَّتي مفادها وجوب التَّرك كاجتنبوا أو اتركوا أو التَّهديد والإنذار.

لعدم أهميَّة هذه ببسط الكلام فيها لوضوحها بما مرَّ تحت عنوان (دلالة الأمر في أساسه على الوجوب دون بقيَّة الأحكام) وبما سيأتي عند مجيء مناسبة أخرى له.

ص: 160

توابع الأمر

(تنبيه حول تسلسل التَّوابع الآتية)

بما أنَّ التَّوابع الآتية بعضها توابع الواجب بوضوح وبعضها توابع الأوامر العامَّة بوضوح أيضاً كما سوف يتَّضح للمتتبِّع.

ونحن جمعناها هنا تحت عنوان واحد وهو عنوان توابع الأمر وذلك رعاية للأوامر الجامعة ورعاية للواجب الشَّامل للجميع أيضاً، لكون الأوامر أبرزها الواجب كما مضى تحقيقه.

فرعاية لما رتَّبه العلماء السَّابقون للتَّسلسل الموضوعي بالدقَّة قدَّمنا توابع ما يتعلَّق بالواجب أوَّلاً، ثمَّ جعلنا ما يتعلَّق بالأوامر العامَّة ثانياً بعده للانتقال بعد ذلك إلى بحث النَّواهي المستقلَّة في خاتمة هذا الجزء بإذن الله تعالى.

والمتتبِّع النَّبيه لا تخفى عليه قرائن افراز شيء عن شيء، ومن ثمَّ إنَّ هذه التَّوابع ليس بأجمعها ذات علاقة تامَّة لأن يكون طريق علاج أمورها هو خصوص طريق غير المستقلاَّت العقليَّة، لإمكان أن تعالج عن طريق خصوص بعض الأدلَّة اللَّفظيَّة المتوفِّرة كما سيتَّضح.

التَّابع الأوَّل / وهو المرَّة والتِّكرار

معنى المرَّة والتِّكرار أو طلب الماهيَّة:-

إذا جاء نص فيه أمر أو ما يلحق به يراد امتثال مضمونه كالأمر بالصَّلاة مثلاً، فهل المطلوب من طلب الإتيان بها بعد الفراغ من دلالته على الوجوب هو صرف

ص: 161

الماهيَّة من دون أن يتقيَّد أمرها بمرَّة أو تكرار؟

علماً بأنَّ الماهيَّة هي الحقيقة المقولة في جواب ما هو، حيث أنَّه لو أتى بها المكلَّف مرَّة واحدة تحقَّقت تلك الماهيَّة، أو أتى أكثر تحقَّقت أيضاً، ككامل ركعات اليوميَّة- أو كصلوات كلِّ أيَّام الحياة الواجبة وبنفس مستوى الوجوب وهي الماهيَّة المسمَّاة منطقيَّاً بالماهيَّة اللا بشرط.

لكونها تجتمع حتَّى مع ألف شرط على حد قول المنطقيِّين، بلا خصوص المرَة ولا خصوص التِّكرار.

وإن كانت المرَّة هي الَّتي لابدَّ أن تكون مصداقاً للامتثال على الأقل، وإن تجاوز المصداق الواحد عن أوَّله فغير ممنوع منطقيَّاً إذا كان المراد من نصوص الشَّرع هو ذلك على نحو الحقيقة.

أو أن يكون التِّكرار لغواً في بعض مقامات أخرى، أو الاعتزاز بكون ذلك الأمر في إيجابه جارياً في كلِّ صلاة يحل وقتها حينما لا لغويَّة فيه إذا كان المقصود خصوص المرَّةالواحدة لا أكثر وهو ما يسمَّى بشرط لا؟.

بمعنى أنَّه إذا أريد التِّكرار فلابدَّ من مجيء الأمر مرَّة ثانية له، وكذلك الثَّالثَّة للأكثر، وهكذا لو نصبت قرينة إضافيَّة للأمر الأوَّل تدل على ذلك، لخصوصيَّة في النَّص أيضاً لكن مع القرينة.

أمَّ أنَّ المقصود هو خصوص التِّكرار، بحيث لا يكتفي بخصوص المرَّة الواحدة لدخولها في المكرَّر، وهو ما يسمَّى عندهم بالماهيَّة بشرط شيء، أي إذا أريد التِّكرار، وهو ما لابدَّ فيه من نصب قرينة لهما كذلك؟.

وعلى هذا الأساس إن استقرَّ الرَّأي على الأوَّل فلابدَّ من أن تكون إرادة الثَّاني أو الثَّالث مصحوبة بالقرينة الصَّارفة بخلاف المعنى الأوَّل لاعتباره هو الحقيقة عند تبادره وإلاَّ فلا.

ص: 162

وإن كان المعنى الحقيقي هو الثَّاني لأجل نصوصه فلابدَّ من اعتبار المعنيين الأوَّل والثَّالث أنَّهما الدَّاخلان في المعنى المجازي لحاجتهما إلى القرينة الصَّارفة.

وإذا كان المعنى الحقيقي هو الثَّالث حسبما يقتضيه نصُّه فلابدَّ من حاجة المعنيين الآخرين وهما الأوَّل والثَّاني إلى القرينة الصَّارفة أيضاً.

ويضاف إلى هذه الثَّلاثة رابع نحتاج إلى التَّعرُّف عليه وهو التَّوقُّف عن كلِّ قرار يتَّخذ على أي ممَّا مضى بمعنى لزوم إرجاع النَّتيجة - لاتِّخاذ أي معنى من الأوامر - إلى دلالة القرائن على كلِّ معنى يراد بعينه لصعوبة التَّبادر من أي معنى عند القائلين بالتَّوقُّف.

فالأقوال إذن تكون أربعة.

وفي المقام وقبل الخوض في شيء عمَّا مضى، وللتَّركيز على خصوص ما حقَّقناه سابقاً عن الوجوب ونحوه أكثر إن أمكن، كي نعرف تكليفنا من هذا التَّفريع عن أصل الوجوب الشَّرعي في آيات الأحكام وما يلحق بها.

لابدَّ من محاولة فهم المقصود - عند الأصوليِّين حينما بحثوا عن هذا الأمر وناقشوا فيه - بأنَّه هل كان حول هذا الأمر من النَّاحية اللغويَّة العامَّة أم اللغويَّة الخاصَّة المرتبطة بالعرف الشَّرعي وآيات أحكامه وتوابعها؟

لنعرف أنَّه لو كان المقصود هو الأخير لكان بحثه ذا ثمرة عمليَّة سريعة في الأصول إن تمَّت نتائجه كما يرام.

ولو كان هو الأوَّل لكان إمَّا معرضاً عنه أو بطيئاً في إنتاجه لحاجته إلى التَّوجيه بمثل خضوعه إلى الأعراف الشَّرعيَّة الخاصَّة الَّتي توَّلدت في ظلِّ الإسلام حين هجران الأعراف العامَّة أو بقاء دلالة أوامرها على عموم وإطلاق الألفاظ اللغويَّة في عالمها الآخر، الَّذي لا يخدم سوى المنطق العام أو ينسجم معه المنطق العام (خادم العلوم)، لا علم الأصول المسخَّر لخدمة خصوص الفقه ومداركه اللَّفظيَّة وغيرها

ص: 163

وتوليد القواعد والطُّرق الممهدة لاستنباط أحكامه بأسهل ما يمكن؟

وعل كلِّ فقد يتبيَّن عنهم شيء مفهم للمقصود حينما نعرض ما عرضوا أوَّل قول من أقواله الأربعة الآتية ممَّا يجعلنا منتبهين إلى ما نبحث عنه وندقِّق فيه وعنه بصورة نافعة أكثر ولو بالعلاج.

أوَّل الأقوال طلب إيجاد الحقيقة:-

وهو أن يكون المطلوب من الأمر صرف وجود الشَّيء بلا قيد ولا شرط، بمعنى أنَّه يريد الآمر أن لا يبقى مطلوبه معدوماً ولو بفرد واحد، وبه لا محالة يتحقَّق الامتثال، كما لا يمنع من الأكثر، إلاَّ أنَّه قد يكون لغواً، ومثَّلوا لذلك في باب الفقهيَّات بالصَّلاة اليوميَّة.

وممَّن قال بهذا القول صاحب المعالم قدس سره وهو الَّذي كان يرى أنَّ الأوامر تدل على الوجوب لغة لا شرعاً.

وقد سبق عرض ذلك ومناقشته وبعدها ما سنعرضه الآن عنه في المقام تفريعاً ممَّامضى ممَّا سوف يتبيَّن ميله كذلك إلى النَّحو اللغوي.

فورد عنه قوله مع بعض التَّصرُّف منَّا (الحق أنَّ صيغة الأمر بمجرَّدها - أي إذا تجرَّدت من قرائن المرَّة أو التِّكرار - لا إشعار فيها بوحدة ولا تكرار وإنَّما تدل على طلب الماهيَّة - أي حقيقة الشَّيء - لأنَّ المتبادر من الأمر طلب إيجاد حقيقة الفعل والمرَّة والتَّكرار خارجان عن حقيقته كالزَّمان والمكان ونحوهما، فكما أن قول القائل اضرب غير متناول لمكان ولا زمان ولا آلة يقع بها الضرب كذلك - هو - غير متناول للعدد في كثرة ولا قلَّة)(1).

وهذا البيان منه قدس سره يظهر منه بعد جعله تفريعاً عن أصل الوجوب أن أوامره لا

ص: 164


1- معالم الدين وملاذ المجتهدين ص53.

تفيد سوى طلب إيجاد الحقيقة لغة كذلك وكما أشرنا.

وهو ما لا نرتضيه من حيث المبدأ وإن كان لا يهمُّنا أمر هذا التَّفريع، لإمكان علاجه مثل ما أهمَّنا أصل الوجوب، وهو الأساس حينما أكثرنا في مناقشته سابقاً ورجَّحنا القول بالوجوب الشَّرعي لا اللُّغوي.

لمسيس الارتباط بالتَّعرُّف على المراد من نصوص آيات الأحكام خاصَّة، إلاَّ إذا تطابقت اللُّغة العامَّة والشَّرع على منهجيَّة واحدة قبل الإسلام أو يقوم مقام اللُّغة العامَّة مع الشَّرع اللُّغة العرفيَّة الخاصَّة.

وأمَّا ما أراده قدس سره من أنَّ الأمر لا يدل إلاَّ على طلب إيجاد الحقيقة، فهو كما قال من حيث المبدأ كذلك وكما سيتَّضح دليله أكثر من ردود أدلَّة الأقوال الأخرى الآتية، لكن على النَّهج الشَّرعي لا اللُّغوي، كما أشرنا وكما سيأتي من النَّظائر المؤكدة.

فنحن بما أنَّنا قد ركَّزنا على أخذ الوجوب العرفي الشَّرعي فلا يمكن بعد ذلك قبول ما يقابله لاختلاف المصاديق بين المقامين، وإن كانت اللُّغة ومعانيها - ومنها الوجوب العقلي - لا يمكن إنكارها بالمرَّة، بل يمكن انضمام بعضها تحت ظلِّ الشَّرع وبما يختلف عن وضعها الأوَّل.

فبالإمكان عندئذ قبول هذا التَّفريع عن دلالة الأمر على الوجوب ممَّا بيَّنه صاحب المعالم قدس سره، لكن على ضوء مسلكنا حسب، لعدم وجود الموانع عنه، ولإمكان الاتِّفاق عليه من حيث النَّتيجة.

فدلالة طبيعة الأمر بالضَّرب - وهو المعنى المصدري للفعل - هي المتعيِّنة دون غيرها وهي اللا بشرط.

لأنَّ الوجهين الأخيرين قبل الرَّابع - وهما ما كان بشرط لا وبشرط شيء إذا أريد كل منهما وحده دون الآخر - يحتاجان إلى بيان زائد على مفاد أصل الصِّيغة

ص: 165

وإطلاقها، والأصل عدم الحاجة إليه للوضوح الحاصل.

وإن صحَّ أن يأتي المأمور بكل منهما لا بقيدي القولين الثَّاني والثَّالث كالضَّرب المكرَّر أو غير المكرَّر إذا لم يمنع من أحدهما الآمر قبل إذ أو بعدئذ، وبلا فرق بين المادَّةوهي (ض - ر - ب) والهيئة وهي صيغة (اضرب) مثلاً أو كلمة (صلِّ) الَّتي ترتبط بالمادَّة وهي حروف الصَّلاة والهيئة وهي هذا الأمر الوارد.

ثاني الأقوال إفادة المرَّة فقط:-

وهو أن يكون المطلوب هو الوجود الواحد بقيد الوحدة، فلو أتى المكلَّف حينئذ بالمأمور به مرَّتين لا يحصل الامتثال أصلاً، كتَّكبيرة الإحرام للصَّلاة، فإنَّ الإتيان بالثَّانية عقيب الأولى مبطل للأولى، وهي تقع باطلة إلاَّ بالثَّالثة، وهي المرَّة المرادة أو الأولى الَّتي لا ثانية بعدها، عدا ما لو نصَّ على الإضافة الاستحبابيَّة غير الوجوبيَّة الخارجة عن إطار بحثنا من المثال.

واستدلَّ من قال بالمرَّة أيضاً: بأنَّه إذا قال السيِّد لعبده ادخل الدَّار فدخلها مرَّة عدَّ ممتثلاً عرفاً، ولو كان للتِّكرار لما عدَّ كذلك.

ولكن جاء الجواب له: بأنَّه إنَّما صار ممتثلاً لأنَّ المأمور به وهو الحقيقة حصل بالمرَّة، لا لأنَّ الأمر ظاهر في المرَّة بخصوصها كما يتوهَّم.

إذ لو كان كذلك لم يصدق الامتثال فيما بعدها وهو حاصل لا محالة في طبيعة القدر المشترك بين المرَّة والتِّكرار في لسان الأوامر عرفاً.

وبالأخص إذا أدخلنا الشَّرع مع اللُّغة لكون مكرَّر الدخول في الدَّار لا يمنع من أن يعد ممتثلاً أيضاً، كما لو طلب منه دخولها لسقي الماء فدخلها بسقي ناقص غفلة أو اشتباهاً ثمَّ دخلها بعد ذلك لإكمال السَّقي، ومن ذلك كون توفُّر الماء الكافي محتاجاً إلى هذا التِّكرار.

ص: 166

وعليه فلسان الشَّرع في مثل المنع من تثنية تكبيرة الإحرام إلاَّ بالتَّثليث مثلاً، لأنَّ المراد الأوَّل هو المرَّة الأولى لا أكثر أو الثَّالثة، وهي نفسها المرَّة مكان الأولى ما جاءت إلاَّ من العرف الخاص في الشَّرع، أو من اللُّغة المنسجمة مع الشَّرع، بما قرَّرناه سابقاً بالمرَّة الَّتي تقول بها الطَّبيعة الفقهيَّة الَّتي قد يكون التِّكرار عندها لغواً لكن لا يمنع من تكرارها الاستحبابي منه إلى ثلاث أو خمس أو سبع أحدها تكبيرة الإحرام حتَّى لو تأخَّرت على ما يُصرَّح به في الرَّسائل العمليَّة لمباني ذلك العلميَّة الَّتي في محلِّها.

وإلاَّ فلابدَّ من التَّفريق لتهذيب البحث من المفارقات بين اللُّغة والشَّرع في أصل الموضوع، حينما يتنافر المقصودان والبقاء على ما يجمعهما على الموحِّد الَّذي فيه خضوع اللُّغة للشَّرع دون العكس أو خضوع أهل الشَّرع في أيَّام الغيبة في بعض الأحوال إلى اللُّغة الخاصَّة غير المضرَّة بالقرار الشَّرعي إذا انتهت مباني الشَّرع الأربعة كلِّها، وما بقي إلاَّ العرف الشَّرعي المستفاد من القواميس اللُّغويَّة القريبة من مبانينا كما مرَّ بيانه.

ثالث الأقوال: إفادة التِّكرار:-

بأن يكون المطلوب هو الوجود المتكرِّر بشرط تكرُّره، فيكون المطلوب هو المجموع بما هو مجموع، فلا يحصل الامتثال بالمرَّة أصلاً كركعات الصَّلاة الواحدة ثنائيَّة أو ثلاثيَّةأو رباعيَّة أو اليوميَّة الخمسة بركعاتها السَّبعة عشر ونحو ذلك من المصاديق إذا عُدَّت هذه الرَّكعات على اختلاف بعضها عن بعض تكراراً.

وقد استدلَّ القائلون به بوجوه ثلاثة، قد رُدَّ كل منها بما يأتي بعد استعراض أفرادها.

الوجه الأوَّل: إنَّ صيغة الأمر لو لم تكرَّر وأريد تكرارها لما تكرَّرت الصَّلاة

ص: 167

والصَّوم في فرائضهما المستمرَّة قطعاً.

ففي الصَّلاة فرائض معلومة مكرَّرة في كل يوم بركعاتها المرتبطة بالصَّلوات الخمس وفي الصَّوم أداؤه كل يوم من أيَّام شهر رمضان ومن كل عام.

ولكن أجيب عن هذا القول بالمنع من هذه الملازمة دائماً، لإمكان أن لا يكون هذا الأمر للتِّكرار أصلاً، ولكنَّه لا يمنع منه فتتكرَّر الصَّلاة والصَّوم.

لأنَّ كلاًّ منهما لعلَّه جاء من دليل آخر لا من نفس الصِّيغة القرآنيَّة الأولى، كآية ثانية من باب تفسير القرآن بالقرآن، أو من أقوال النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والعترة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ كالسنَّة بتفاصيلها، أو إجماع بما يرتضى منه، أو تقييد بعلَّة أو شرط مع بقيَّة الأدلَّة من الأصول إن كانت وانسجمت، وبالأخص ركعات الصَّلاة حتَّى إذا لم يتفاوت بعضها عن بعض في الكيفيَّة، كصلاة الصَّحيح في بدنه أو الأدنى من المعوَّقين ممَّا لم يسقط كل منهما عن كلِّ مكلَّف بحال أداءاً وقضاءاً عند الفوت من كلِّ يوم عدا الحائض والنُّفساء ما عدا الصَّوم.

فإنَّ الصَّوم في بعض أحواله لمَّا كان فرضه بقرينة كون شهر رمضان زمناً له، وهو لمعنى واحد ظاهراً واستمراريَّة أوامره له في كلِّ عام وإن كان لثلاثين يوماً.

فلا نمنع من تكراره الشَّهري إلاَّ بنحو القيد من نفس النُّصوص القرآنيَّة لآيات الأحكام وتعداد أيامه داخلي، فيستحب قصد شهره من أولَّه بالنيَّة الموحَّدة على ما قرِّر في الفقه.

ولذا قد ينقطع التَّكليف بعد صلاة واحدة أو صوم يوم واحد.

إضافة إلى أنَّ استدلال المستدل على ذلك كان من نوع حمل الألفاظ اللغويَّة لذلك لا كما هو مفصَّل شرعاً.

ولو تنزَّلنا وقبلنا بأنَّه جاء من نفس الصِّيغة لوحدها، فما العذر في الحج الَّذي جاء التَّكليف به من صيغته لوحدها في العمر كلِّه مرَّة واحدة.

ص: 168

نعم يمكن أن يكون الأمر حاملاً للمعنى المتكرِّر مستمرَّاً، لكن لا لأجل الأداء المتكرِّر للامتثال كما يتوهَّم، وإنَّما للتَّنبيه على ذلك الفرد الواجب أو أفراده المتكرِّرة الَّتي تأتي واجبة بقرائنها لئلاَّ يتخلَّف المكلَّف عنها في أزمنة وجوبها أو إمكانها، ولأجل أن يكون ذهن المكلَّف مستقرَّاً على هذا التَّكليف ناوياً أداءه لا أكثر، ولكن هذا المعنى لا يظهر من طرح المستدل في استدلاله السَّابق.

الوجه الثَّاني: إنَّ النَّهي يقتضي التِّكرار كالنَّهي عن (شرب الخمر) لاستمرار حرمته في كلِّ يوم وساعة، وهكذا النَّواهي عن المحرَّمات الأخرى، فكذلك الأمر قياساً عليه بجامع اشتراكهما في الدَّلالة على الطَّلب.

ونزَّل القائلون بذلك هذه الصِّيغة منزلة قول النَّاهي (لا تشربها أبداً) أو الآمر (اتركهاأبداً).

ولكن أجيب عنه من ناحيتين:-

أولاهما: إنَّ قياس الأمر على النَّهي قياس في اللُّغة، واللغة توقيفيَّة فهو باطل، لأنَّها لا تثبت إلاَّ بالنَّقل وهو مقصور على ما ورد منها حتَّى لو قلنا بجوازه في الأحكام الشَّرعيَّة كقياس حرمة النَّبيذ بحرمة الخمر لجامع العليَّة بينهما.

وقد مرَّ التَّفريق ما بين خصوص الأمر وخصوص النَّهي وإن اجتمعا في الجملة والتقت صيغة كلِّ منهما مع الأخرى كذلك في مصداق واحد وهو الصَّلاة في (صلِّ) المردَّد بين الموسَّع والمضيَّق في صلاته و (لا تترك الصَّلاة) الصالحة بالدَّرجة القطعيَّة في ضيق الوقت، لوجود التَّفاوت بين المثالين وترك المسكر في (اترك المسكر) أمراً و (لا تشربه) نهياً، لاختلال هذا في الأمثلة الأخرى.

لأنَّ اختلاف الألفاظ يدل على اختلاف المعنى ولو في الجملة، فلا يقاس أحدهما على الآخر كما سيتَّضح.

وثانيهما: بيان الفارق بين الأمر والنَّهي، فإنَّ النَّهي بصيغته يقتضي انتفاء

ص: 169

الحقيقة، وهو إنَّما يكون بانتفائها في جميع الأوقات، لأنَّ انتفاء الماهيَّة موقوف على انتفاء جميع الأفراد المنهي عنها تقديراً فيها، وترك المنهي عنه بالمرَّة لا يعني خصوص التِّكرار للفعل المحرَم، لأنَّ صحَّة تعقُّله في الذِّهن تقديريَة حتَّى مع وحدانيَّته في الخارج، لأنَّه يتحقَّق بالتَّرك مرَّة واحدة مستمرَّاً، وإنَّ الأمر يقتضي إثباتها وهو يحصل بمرَّة لأنَّ الماهيَّة إيجاباً توجد بفرد واحد.

وعليه فالنَّهي إن اقتضى التِّكرار بما صوِّرناه ليس معناه أن الأمر كذلك قطعاً.

وأيضاً التِّكرار في الأمر إن حصل فرضاً يكون مانعاً من فعل غير المأمور به ممَّا يحتاج إليه، لامتلاء الزَّمان بتكاليف الامتثاليَّات المكرَّرة افتراضاً بخلافه في النَّهي.

إذ التُروك تجتمع وتجامع كل فعل، فإنَّ قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ](1) - وهو الَّذي فيه الصَّلاة المأمور بها فيما شاء الله من الآيات والأدلَّة الأخرى - يستفاد منه بأنَّ الفعل المأمور به وإن كان واحداً، فهو قابل لأن يجتمع معه ومع غيره تروك عديدة كترك الزِّنا وشرب الخمر واللواط والقمار والشَّتم والضَّرب اعتداءاً والكذب ونحو ذلك الكثير من كبائر المعاصي.

إضافة إلى أنَّ تنزيلهم الأمر - حين إرادتهم منه التِّكرار ومنزلة إرادة ذلك منه أبداً - لعلَّه كان مرادهم منه معنى ما يجب إجراء الواجب منه في الوقت الموسَّع لا المضيَّق أو الخاص ممَّا لا يمكن التِّكرار فيه، وهو الَّذي لا ينافي معنى الوجوب لتلك المرَّة الواحدة المحقِّقة للماهيَّة الَّتي نراها.

وهو ما يناسب معنى التَّراخي الآتي ذكره في التَّابع الثَّاني وهو الكلام عن الفور والتَّراخي، بمعنى صدق تكرار أمريَّة الأمر أو نهييِّة النَّهي موزَّعة على أزمنة الإمكان المتعدِّدة من الموسَّع، لتكون حصَّة الزَّمن الأوَّل إذا أدَّى فيها الواجب أو ترك المحرَّم بلاداعٍ للتِّكرار ، وإذا لم يحصل ذلك فيه ففي الزَّمن الثَّاني وإذا لم يحصل كذلك

ص: 170


1- سورة العنكبوت / آية 45.

ففي الثَّالث، وهكذا إلى أخر أزمنة الإمكان، وعلى هذا فلا تكرار إلاَّ في الصِّيغة.

والقول به وحده لا ينافي القول بطلب الماهيَّة في الفعل كالأمر بالصَّلاة وفي النَّهي كترك شرب الخمر أو ترك الصَّلاة وهو المسمَّى بطلب ترك المحرَّم أثناء الصَّلاة.

لأنَّ هذا الطَّلب في واقعه واحد يصدق في كلِّ زمان من الوقت الموسَّع الَّذي ذكرناه، وعند ذلك يصح قياس أحد الأمرين على الآخر، ولكنَّه لا يخرج عن مصاديق طلب الماهيَّة.

وأمَّا إذا كان المأمور به يمكن أن يتعدَّد بتعدُّد هذه الصِّيغة المتكرِّرة بما وجَّهناه من الافتراض لغة فليس بممكن شرعاً، إلاَّ إذا بطل الامتثال الأوَّل، وهكذا في الامتثال الثَّاني فيعاد ثالثاً وهكذا بواقي التُّروك، وهو خارج عن الفروض الاعتياديَّة من هذا البحث.

الوجه الثَّالث: إنَّ الأمر بالشَّيء نهي عن ضدِّه، والنَّهي يمنع عن المنهي عنه دائماً فيلزم التِّكرار في المأمور به.

فيكون على هذا معنى (اضرب) طلب الضَّرب دائماً من دون كفاية المرَّة، لأنَّه بهذا التَّفسير يعني إذا كان ترك الضَّرب منهيَّاً عنه دائماً حسب تعريف الأمر كان فعل الضَّرب مأموراً به دائماً كذلك، وهكذا جميع الأوامر الأخرى.

ولكن أجيب عن هذا بعد قبول كون الأمر بالشَّيء نهياً عن ضدِّه الخاص في جميع الحالات لما قد سبق الكلام حوله إلاَّ بتوجيه وكما سيتَّضح أو تخصيص ذلك الأمر بالنَّهي عن ضدِّه العام وإرادة التَّرك منه بمنع كون النَّهي الَّذي في ضمن الأمر مانعاً عن المنهي عنه دائماً، بل يتفرَّع على نوع الأمر الَّذي هو في ضمنه.

فإن كان النَّهي مستقلاًّ فيدل على الدَّوام كقول الشَّارع لا تكفر ولا تشرك ولا تغتب ولا تزن ولا تكذب ونحو ذلك كما سيتَّضح بيانه في الجزء الثَّاني قريباً بلا إمكان صدق الملازمة.

ص: 171

وإن كان النَّهي في ضمن الأمر ويتفرَّع عليه كقول الشَّارع لا تترك الصَّلاة المستفادة من (صلِّ)، فيدل على عدم الدَّوام إذا امتثل وصلَّى صلاته.

ونظير ذلك الأمر بالحركة، فإن كان الأمر بها دائماً فإنَّه يقتضي المنع من السكون دائماً، وإن كان الأمر بها في ساعة حسب فيقتضي المنع عن السكون فيها لا دائماً وهما بعيدان عن كل ملازم.

ولذلك نرى الله تعالى في كتابه العزيز لم يجمع مفادي الأمر والنَّهي في واحد من لفظيهما ينحو مستمر مع إمكان التقاءهما في الجملة المعهودة خارجاً.

بل فرَّق بينهما في آيات مرَّت ومنها قوله [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا](1) فما جمع فيه بين الأمر والنَّهي بالأمر حسب ولا بينهما بالنَّهي حسب للفوارق الَّتي أشرنا إليها.وإن التقى كل من الأمر والنَّهي في بعض الحالات فلا دلالة فيه على لزوم حالة واحدة من الحالتين، لا من خصوص الأمر ولا من خصوص النَّهي.

ولذا صار المعروف معروفاً والمنكر منكراً، وهما الاثنان المعروفات من فروع الدِّين العشرة.

إلى غير ذلك من آيات ونصوص أخرى من هذا القبيل، ولو لاحتمال استقلال هذا النَّهي عن الأمر الَّذي لا يعلم سرَّه إلاَّ الله تعالى والرَّاسخون في العلم هم الأدلاء عليه، وقد قال تعالى في مقام مناسب لذلك [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا](2) وغيره.

ولذا جعل الحدود والتَّعزيرات توقيفيَّة لا يحق تجاوزها، إضافة إلى أنَّ الحكم للشَّرع لا للغة وكما سلف بيانه.

ص: 172


1- سورة الحشر / آية 7.
2- سورة البقرة / آية 187.

رابع الأقوال: القول بالتَّوقف عن خصوص المرَّة والتِّكرار وكلِّي الطَّبيعة.

فإنَّه قد يحار المرء حينما تتكاثر الآراء وتتزاحم الأفكار عليه في المسألة الواحدة وتزداد الاحتمالات بكثرة الشُّبهات من هنا وهناك عنده، وبالأخص إذا كان سطحيَّاً في نظراته أو لم يدقِّق الفكر جيداً.

ومن ذلك ما جاء من الكلام عن الأوامر في المرَّة والتِّكرار وكلِّي الطَّبيعة إلى أن وصل في البعض إلى القول بالتَّوقف وعدم التَّصميم على قرار معين عمَّا مضى.

واحتجُّوا لمطلوبهم كما احتجُّوا في قضيَّة الوجوب الَّذي مضى ذكره للأوامر ونحوه من الأحكام حينما قالوا بالتَّوقُّف هناك.

فقالوا بالتَّوقُّف هنا كذلك، وكانت حجَّتهم بأنَّه لو ثبت شيء من هذه المعاني الثَّلاثة لثبت بدليل وهو إمَّا العقل أو النَّقل:-

والأوَّل: لا مدخل له لأنَّه لا يدرك أنَّ اللفظ الفلاني موضوع للمعنى الفلاني حتَّى يختار أي هذه المعاني يشاء بحدِّ إدراكه ما دامت اللغة العامَّة لا يتحدَّد لها فكر معيَّن - لكونها في أوضاعها واستعمالاتها - متداولة عند جميع طبقات النَّاس على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم ومشاربهم.

والثَّاني: وهو الآحاد أو التَّواتر، بأنَّ الآحاد لا تفيد إلاَّ الظنيَّة الضعيفة، وبالخصوص إنَّ ضعفها لا يتناسب مع القضايا المهمَّة الكبيرة، وإنَّ الَّذي قد يعتريه من الآحاد المحفوفة بالقرائن المقويَّة للضَّعف لم يثبت منها شيء هنا، ولو كان لبان.

وإنَّ التَّواتر لو حصل لكان مانعاً من الخلاف والاختلاف، بينما الوجدان أو حتَّى ما هو الأقل نسبة -- من التَّتبُّع -- يشهدان بوجودهما، فلا مناص إذن من نتيجة هي عدم البت بشيء من ذلك.

وعليه فلابدَّ من إجراء عمليَّة استفراغ الوسع أو إضافة شيء آخر منه إليه - إن

ص: 173

سبقها نسبة غير وافية منه - في كلِّ أمر يأتي لمعرفته جيّداً عن طريق القرائن.ولكن أجيبوا - وعلى نهج ما قد مضى في أمور توقفهم في القول بالوجوب ونحوه لما نحن فيه من هذا التّابع - بمنع حصر الدَّليل بما مرَّ ذكره.

لأنَّ سبق المعنى إلى الفهم وتبادره من اللَّفظ -- ومنه الأوامر وملحقاتها في المقام وغير المقام ممَّا سبق ذكره -- يُعدَّ أمارة على وضعه له وعلى استعماله فيه، ويُعدُّ عدمها دليل على عدمه.

وقد مرَّ بأنَّه لا يتبادر من الأمر شيء إلاَّ طلب إيجاد الفعل وهو كافٍ في إثبات ما يماثله ممَّا يقصد منه تعيين مدلوله.

ولعلَّه لم يقتصر في دلالة هذه الأوامر على الكلِّي الطَّبيعي الأدائي من هذا الواجب في هذا البحث، بل قد يشمل هذا في كلامهم حتَّى القضائي كما سوف يأتي التَّعرُّض له في مجالات هذه الأمور الفقهيَّة الاستدلاليَّة المناسبة من أبواب القضاء للفوائت.

ونحن نضيف إلى هذه الإجابة وإلى ما سبقها من الأجوبة المساندة للقول الأوَّل بأنَّ كثرة النِّقاش - في هذه الأقوال الثَّلاثة الأخيرة بل حتَّى في الأربعة كلِّها وإن كنَّا قد رضينا لا محالة بالقول الأوَّل من حيث المبدأ وهو كلِّي الطِّبيعة للأوامر - لعلَّها ما جاءتنا في الظَّاهر إلاَّ من استعراض هذه الأمور عن هذه الأوامر على النَّحو اللُّغوي العام أصوليَّاً لا نحو العرف الشَّرعي الخاص.

لاختلاف الأمثلة المعروضة من الأصوليِّين في المقام المختلف فيه ما بينهم حينما يريد كل منهم أن يُنظِّرَ لمطلبه بمثال يتناسب مع مسلكه.

حيث مثَّلوا ب- (أمر السيِّد عبده)، ومثَّلوا بكلام الآدميِّين العام الشَّبيه بهذا أيضاً، وهو ما يصلح حتماً لمراد الأصولي الَّذي يرى أنَّ اللُّغة العامَّة هي المعيار وعليها المدار في تشخيص مداليل الأوامر على أن تكون الأعراف الشَّرعيَّة الخاصَّة

ص: 174

داخلة في هذا المعيار وبخضوع - لها - يمكن أن تتولَّد عن طريقه قواعد أصول الفقه اللَّفظيَّة ولوازمها.

ومثَّلوا كذلك بأوامر الله تعالى لعباده - من كتابه القرآني من آيات الأحكام وتوابعها - مباشرة - ومثَّلوا بالسنَّة الَّتي أفاضها النَّبي 5 لنا بواسطة العترة عَلَيْهِم السَّلاَمُ - وهما الثِّقلان - المرتبطان بالوحي المنزل لفظاً ومعنىً، وهو ما يصلح حتماً لمرام الأصولي الَّذي يرى أنَّ العرف الشَّرعي هو ما عليه المعيار الأصيل في تشخيص مداليلها لا ذلك العموم اللُّغوي، وهذا ما يتجلَّى منه شيء من التَّفاوت.

لاعتبار أنَّ القرآن والسنَّة الخاصَّين فقهيَّاً وشرعيَّاً لا يمكن أن ينسجما تماماً مع عموم اللغة الَّذي لا يمكن أن يسانده إلاَّ المنطق العام - خادم العلوم - ومنه بعض القضايا الخارجة عن الفقه والشَّريعة من الكتاب والسنَّة بينما خصوص الشَّرع ولغته وألفاظه الاصطلاحيَّة الخاصَّة لا سند مهمَّاً له إلاَّ منطقه الخاص وهو الأصول الفقهيَّة المتعارفة والَّتي أهمُّها في المقام مباحث الألفاظ لا غير.

كيف وقد ظهر من كلا الفريقين تقريباً أنَّه مثل كل منهما لمطلبه بأمثلة الآخر أو ما يشبهها اشتباهاً ونحوه حتَّى صار الخلط المشوَّش وكثر النِّقاش بما لا طائل تحته في موارد عديدة لا تخفى على المتتبِّع.بينما لو تمسَّكنا من البداية بخصوص المعايير الأصوليَّة ونتائج البحث الأصولي المرتبط بالعرف الخاص الشَّرعي وخصوص أدلَّته مثل ما أشرنا إليه آنفاً من أوامر آيات الأحكام وما يتبعها من ألفاظ السنَّة دون الألفاظ العربيَّة العامَّة إلاَّ بما استثنيناه منها سابقاً في محلِّه ممَّا مضى.

لم تبق عندنا حيرة كبيرة، ولا يداهمنا نقاش معارض مشوَّش أو لا طائل تحته، لا حينما نقول بالوجوب الأساس، ولا حينما نقول بالكلِّي الطَّبيعي في المقام من هذا الآن وهو أوَّل توابعه.

ص: 175

لأنَّ القول بهذين هو المتعيِّن عندنا بما مرَّ تحريره وما أضفناه إليه، ولأنَّ الشَّرع الشَّريف بالسَّداد الإلهي الَّذي هو فيه لا يمكن أن يبقينا في هذه الحيرة.

لا كما يقول به المتوقِّفون جميعاً أو حتَّى ما توصَّلوا إليه من وجوب التَّفتيش عن القرائن في كلِّ ما مضى من الأقوال المهمَّة في المسألة وبما قد يتوسَّع بسعة اللُّغة العامَّة.

لوجود ما به الكفاية المغنية عن هذا التَّفتيش من القواعد المهمَّة والأدلَّة الشَّرعيَّة الاصطلاحيَّة الكافية أو المساعدة على التَّبادر وسرعة الفهم بهذا وبما قبله بما يدحض القول بالتَّوقُّف.

وإن كنَّا قد نرجِّح القول احتياطاً باستفراغ الوسع جهد الإمكان في كلِّ مجال محتمل عقلائي من مجالاتنا الشَّرعيَّة المألوفة الأخرى، حينما نحتمل شيئاً يستدعي ذلك، لأنَّ ترجيحاتنا ذلك أو بعضه كانت أو تكون في مجالات اصطلاحيَّاتنا حسب لا في السِّعة اللغويَّة العامَّة.

إضافة إلى إمكان حصول ما به التَّفاوت التَّشخيصي من مداليل الأوامر وتوابعها للمرَّة والتِّكرار - موردي البحث في هذا التَّابع - ممَّا مرَّ ذكره بسبب عدم وضوح الزَّمن المراد أن يجري الواجب فيه مكرَّراً أو غيره في أنَّه:

هل كان موسَّعاً أو غيره؟ أو أنَّ هذا التِّكرار المراد أو عدمه هل المفروض أن تحمله صيغة الأمر فقط وإن لم يستثمر عمليَّاً أم هو ما يجب أن يطبَّق في الامتثال العملي من ذلك لا أقل؟

وهذا كلُّه أيضاً لو تمَّ فهو ممَّا قد يعيننا على تحقيق مرادنا الَّذي ذكرناه.

لأنَّ الوقت الضيِّق التَّام لا يناسبه مثلاً إلاَّ المرَّة حتَّى لو كان من ضمن الوقت الواسع كنهاية الوقت منه أو حتَّى أوَّله إذا ما جاءت مؤشِّرات الموت ونحوها.

ولكن هذه المرَّة لابدَّ وأن نبقى نحن فنقول عنها بأنَّها هي نفسها مرَّة الكلِّي

ص: 176

الطَّبيعي الذَّي مصداقه المرَّة حتماً وإن كانت المرَّة الثَّانية الَّتي بعدها قد تكون لغواً لو لم يبرِّرها مبرِّر الكلِّي الطَّبيعي لكنَّها لم تمنع في بعض مقامات أخرى.

كما لو برِّر الإتيان بها مرَّة ثانية مبرِّر الكلِّي الطَّبيعي لفقد الأولى شروط الصحَّة أو لم يأت بها في الظرف الأوَّل عصياناً أو غفلة أو نحو ذلك.

أو كان قد ارتفع الضِّيق ولو من غير احتساب أو انكشفت سعة الوقت عن اشتباه سابق بالضِّيق أو كان الوقت واسعاً على حقيقته في السِّعة لكون المرَّة الثَّانية كانت هيالمرادة دون الأولى لسبب من الأسباب وإن حملتها الصِّيغة في الظَّاهر.

لأنَّ حمل الصِّيغة لا يتلازم دوماً مع كلِّ تطبيق وامتثال عملي حتَّى لو كان هو الأظهر، لأنَّ التَّطبيق والامتثال مرتبطان بمرَّة الكلِّي الطَّبيعي لما مرَّ.

وإلاَّ لكان الواجب يلزم تكراره طول هذا الزَّمن الواسع إذا اعتبرنا أنَّ صيغ الأوامر متعدِّدة وموزَّعة على كلِّ أوقات إمكان أداء الواجب الواحد فيه ولكن هذا بهذا النَّحو لم يكن له وجود في الشَّريعة أصلاً ولوحدة الأمر الَّتي فيها مرونة التِّكرار وشبهه بما يناسب الكلِّي الطَّبيعي عند الحاجة.

وذلك إذا أبطل العمل الأوَّل كما سبق أو استحبَّ تكراره مع صحَّة الأَّوَّل كما لو كان المكلَّف قد صلَّى فريضته منفرداً ثمَّ أقيمت الجماعة في نفس المكان والوقت المقارب.

ولكن هذان الموردان تابعان لمقامهما الخاص الخارج عن المورد الطَّبيعي وهو المرَّة في كليهما الطَّبيعي بلا قيد المرَّة وحدها دائماً ولا قيد التِّكرار العملي كذلك.

وهكذا الأمر نفسه جارٍ في الزَّمن الثَّالث للمرَّة الثَّالثة لو لم يكتف بالثَّانية في الزَّمن الثَّاني، وهكذا ما بعد ممَّا يمكن حصوله لإبراء الذِّمَّة في هذه المرونة إلى آخر الزَّمن الموسَّع.

وبهذا يتم المطلوب على ما ذكرناه دون غيره في الإيضاح الإضافي الَّذي أرجوه

ص: 177

أن يكون نافعاً أكثر.

التَّابع الثَّاني / الفور والتَّراخي وبما يشبهه في بعض النَّواحي

من سعة الوقت وضيقه.

والبحث فيه عن أمور:-

1 - ضرورة الكلام عنهما وأهميَّة تشخيص موضوع البحث.

إنَّ من فروع المسألة الماضية وتوابعها - وهي الكلام عن دلالة الأوامر على الوجوب - هو الكلام عن الفور والتَّراخي لقضايا مهمَّة حولهما يجب على أهل العلم التَّحقيق فيها واستمرار التَّأكُّد منها، وبالأخص في قضايانا الفقهيَّة المرتبطة بالكتاب من آياته الخاصَّة وهي آيات الأحكام والسنَّة الشَّريفة التَّابعة لها وما يلحق بها.

لأنَّ بتحقيقها أو استمرار التَّأكُّد منها يتم ضبط الحكم الشَّرعي على الأساس الأصولي اللفظي المحكم حتَّى مع سعة الوقت المفروضة بأن تكون كذلك للكلام عن الاثنين معاً، بناءاً على أنَّ ضيق الوقت لا يناسبه غير الفور ولو في الجملة وكما سوف يتَّضح لكون السِّعة قد تشمل الاثنين معاً حتَّى في التَّطبيق كما سيجيء وإن اهتمام السَّلف من الأصوليِّين في البحث عنهما معاً لا محالة منصب ولو ظاهراً على حالة الوجوب المسلَّم عند الجميع تقريباً في الأوامر وتوابعها بصورة أكثر.

إذ لو كان المراد هو خصوص المستحبَّات فضلاً عن الأقل كالمباحات والأدنى منه كالمكروهات من الأمور الدَّاخلة في عموم الجواز لاقتصروا في بحثهم هذا على خصوصالتَّراخي لا عن الاثنين وهما الفور والتَّراخي معاً لأنَّه الأنسب للمستحب وما دونه في الوقت الموسَّع.

ص: 178

إلاَّ ما اشترطت فيه المبادرة والإسراع من غير الواجبات وهي تلك المستحبَّات لخصوص تسبيب ما به صحَّة العمل المستحب المصاحب للثَّواب الأرقى بالتَّعجيل فيه أو المتعيِّن في ذلك بالأدلَّة الخاصَّة، إذا أريد إحرازه بدلاً من حالة التَّأجيل والتَّراخي فيه، لا لإبراء الذِّمَّة المشغولة بشيء واجب يجب أداؤه تامَّاً صحيحاً إذا افترضنا عدم وجوده وإنَّما المفترض وجوده مثلاً هو المستحب لا غير.

بل حتَّى لو خلطنا المستحبَّات مع الواجبات في الافتراض الَّذي يحتمل فيه بعض التَّناسب مع هذا البحث المراد أن يكون جامعاً وإن ضعفت مناسبة المستحبَّات كثيراً فيه.

فإنَّنا لو خلطنا بينهما حينئذ مع التَّفاوت الملحوظ لما وصلنا فيه إلى نتيجة مرضية تصلح للحكمين من الفور والتَّراخي تجاه التَّكليفين المختلفين الَّذين أوَّلهما الواجبات الَّتي يحرم التَّهاون فيها وثانيهما المستحبَّات الَّتي يجوز تركها، وإن كان التَّرك يسبِّب الحرمان من الأجر والثَّواب، أو أنَّ تركه هجراناً يًسبِّب الجفاء، وهو من صغار المعاصي لمثل صلاة اللَّيل.

وغير ذلك من الفوارق حتَّى لو اخترنا الفور للواجب والتَّراخي للمستحب، لافتراض تعلُّق الاثنين وهما الوجبات والمستحبَّات في البحث عن الاثنين، وهما الفور والتَّراخي معاً في بعض الحالات مع التَّفصيل في البعض الآخر لما مرَّت الإشارة إليه وما سيأتي، وهو ما لا يعطي قاعدة متوازنة بين المتفاوتين.

وعلى كل ِّفمع هذا كلِّه فإنَّ المستحب في المقام في ذهن المحقِّقين إن لم يكن له وجود بالمرَّة فهو نادر ندرة التَّفاوت بين الواجب والمستحب.

ولذلك إن أرادوا في سعيهم الحثيث هذا - وبالاهتمام البالغ منهم في الحديث عن الواجب - الوصول إلى نتائج مهمَّة وموسَّعة وذات ثمار عمليَّة متنوِّعة فلا يناسبه حتماً خلط المستحبَّات به مع التَّفاوت البيِّن والَّذي أشرنا إليه وما قد يتَّضح بعضه

ص: 179

آتياً.

فإذن بعد ما استعرضوا الكلام عن الاثنين معاً وهما الفور والتَّراخي فلا محالة من كون الأبرز في الحديث عنهما بل المتعيِّن هو الكلام عنهما في ظلِّ الوجوب على القدر المتيقَّن في نفعه لا غير.

بل لو أدخلوا المستحبَّات مع تلك الواجبات في بحثهم هذا عنهما لما كان الأمر مقبولاً كما يرام، ولوصل إلى ما يسوء بسبب الخلط مع التَّفاوت والدِّقَّة في الفقهيَّات.

لأنَّه لو كان كذلك لذهبت مناسبة الكلام عن الفور بخصوصه بناءاً عليه لو اقتضى أمر الكلام عنه لاشتراك ما يتناسب معه ولو في الأكثر جدلاً وهو الواجبات مع ما لا يتناسب معه بمساواة كاملة وهي المستحبَّات كما سلف ولو في النِّسبة الأقل جدلاً، أو كان يناسب خصوص التَّراخي على الأكثر وهي هذه المستحبَّات والأقل منها والأدنى كذلك ممَّا يدخل تحت عنوان الجواز.

أو ما يدخل من الاثنين - الواجبات والمستحبَّات - في خصوص مطلب التَّراخي بناءاً على القول بالفور فقط إلاَّ أن نختار التَّراخي دون الفور ليشترك الاثنان - واجبات ومستحبَّات - في البحث عنهما في حدوده، بناءاً على سعة الوقت في كلتا وظيفتي كليهمالكنَّهما غير متوازنين كذلك لضعف المستحب تجاه الواجب.

ولذلك فهو غريب منهم إن قصدوا البحث عنهما بمساواة في أمره وبنتيجة موحَّدة.

وإن كان هذا الاستحباب قد يناسب الوقت الواسع والتَّراخي فيه بصفة تخصُّه كثيراً ووجداناً، بناءاً على التَّراخي لو ارتضيناه وحده لمعرفة النَّتيجة إن حصلت إيجابيَّاً باليد بمعرفة كثرة الثَّواب بالفور والمبادرة في أوقاته أو سلبيَّاً في قلَّته وضآلته بعدمها أو بالتَّراخي في فعل هذه المستحبَّات.

كما وقد يدخل هذا البحث أيضاً إن أردنا التَّعمُّق أكثر في أمور القضاء

ص: 180

للواجبات كما مرَّ في التَّابع الأوَّل إذا انتهى وقت الأداء، أي إذا استمرَّت دلالة الأوامر على الوجوب بعد نهاية الوقت الخاص للواجب أيضاً، كما لو كان في أمور الأداء إذا عُدَّ دليل الأداء والقضاء واحداً بمساواة أو مشابهة ولم يسقط وجوب الواجب إذا انتهى وقت أداءه ولو في الجملة، كتبدُّل حالة النيَّة من نيَّة الأداء إلى القضاء أو كان قد دلَّ دليل القضاء الخاص على وجود مناسبة البحث عن الفور والتَّراخي والتَّوسُّع فيه في زمانه الخارجي كذلك ولو من بدوِّ علامات الموت القريب من المكلَّف إذا أريد الفور، وعدمه إذا أريد التَّراخي.

ومن أدلَّة رجحان إدخالهم القضاء مع الأداء في البحث الأثر الوارد (يقضي ما فات كما فات)(1) وغيره، إلاَّ أنَّ هذا الواجب الَّذي يريده الأصوليُّون القدامى -- إن كانت مبانيهم أو بعضهم الأساسيَّة هي المصادر اللغويَّة -- لابدَّ وأن يصل بالنَّتيجة إلى مستوى مبانينا الشَّرعيَّة المباشرة بعد ذلك على ما أوضحناه وما سيتَّضح أكثر.

وزبدة الكلام عن تشخيص موضوع البحث هو أنَّه عن عموم الفور والتَّراخي في الوقت الموسَّع، لأنَّ المضيَّق وما يلحق به قرينته معه في الدَّلالة على الفوريَّة وحدها ما لم يحصل دليل على شمول الموسَّع للمضيَّق كذلك.

وأنَّ التَّراخي وحده وإن كان لا يتناسب إلاَّ مع الموسَّع إلاَّ أنَّهم لم يبحثوا عنه فيه وحده ظاهراً إلاَّ مع الفور كما مرَّ شرحه، وهو ما كان داخلاً في مورد الوجوب لا الاستحباب إلاَّ بمعنى يختلف عن مورد الوجوب للتَّفاوت الَّذي أوضحناه بين الحكمين.

وهذا كلُّه ما قد يقترب من قول الكلِّي الطَّبيعي الَّذي يجمع بينهما بعد تعيُّنه بمثبِّتاته دون غيره من الأقوال كما سوف يتَّضح.

ص: 181


1- الوسائل 8: 268/ أبواب قضاء الصلوات ب 6 وغيره.

2 - الأقوال والأدلَّة على كلِّ منها والإجابات عليها والرَّأي المختار.

فعلى هذا الأساس ونحوه من المحتملات الَّتي أدخلناها في تدوين البحث لشموله لها ولو على الاحتمال.

فإنَّهم قد اختلفوا في هذا البحث عن الواجب المبحوث عنه ولو بالتَّركيز الخاص نحوه أكثر من غيره وإن احتمل كقدر متيقَّن في قصده في كون صيغته لابدَّ أن تكون دالةَّعلى الفور في التَّطبيق دون التَّراخي، وهو الأمر المطلق إضافة إلى دلالة الصِّيغة على ذلك.

أو على الاشتراك اللفظي بين الاثنين - الفور والتَّراخي - المحتاج إلى القرينة المعيِّنة عند التَّطبيق.

أو على مطلق الطَّلب وهو الأعم الَّذي يمكن فيه التَّطبيق مع هذه الدَّلالة بفعله كقدر متيقَّن في القبول بين الفور والتَّراخي.

أو لا هذا ولا ذاك ولا ذلك، وإنَّما هو خصوص التَّراخي إن قبلناه قولاً رابعاً، إن أمكن ادِّعاء ظهوره من الأوامر بمظهر التَّبادر لوحده كالآراء الثَّلاثة السَّابقة على ما ظهر من إضافته إلى الثَّلاثة رابعاً من الشَّيخ المظفَّر قدس سره في أصوله.

إلاَّ أنُّه لم يُعرف في البحث عندهم عنه وحده إلاَّ منضمَّاً إلى الفور في الوقت الموسَّع.

وقد يُراد احتمال أحدها لا بنحو التَّبادر، لكن على ما تدل على كلِّ منها قرينته إن قبلنا قولاً خامساً يقول بالوقف جدلاً، فلا يُرتضى بناءاً عليه في البين إلاَّ بصدق الحاجة إلى القرينة.

ولكنَّه أوَّل الكلام لوجود التَّبادر الحتمي في أحد الأقوال الرَّئيسيَّة الماضية كما سيظهر في النَّتيجة.

ص: 182

لتكون الآراء بالنَّحو المسلَّم في ظاهر الصِّراع تجنُّباً عن الإطالة المملَّة وبدون جدوى ثلاثة لا غير.

وكل قد استدلَّ على مطلبه بدليل خاص يراه علماً بأنَّ تفاوت النَّتيجة ما بين هذه الآراء مع أدلَّة كل منها في القبول والعدم قد يبتني على ملاحظاتهم أو بعضها فيما اختلفوا فيه:-

بأنَّه هل كان حول المصطلح الأصولي اللغوي وحده دون العرف الشَّرعي كما أشرنا ليكون على أساسه الوصول إلى القرار الشَّرعي؟

أم هل كان حول المصطلح الأصولي الشَّرعي المشيَّد ركنه بالعرف الشَّرعي الخاص من البداية لا بخصوص ما سبق ولا بخضوع الشَّرع للَّغة في جميع الموارد وكما أسلفنا بيانه؟

وأنَّه هل كان الفور في كلامهم فوراً في أوَّل الوقت الحقيقي لا غيره كالفترة الزَّمنيَّة الكافية والمختصَّة لصلاة الفريضة الواحدة مثلاً فيه حتَّى لو كان الوقت في واقعه متَّسعاً؟

أو أنَّه كان كذلك في أوَّل أوقات الإمكان وإن كان في وسط الحقيقي الموسَّع أو خصوص أواخره الَّتي يضيق وقتها أو حتَّى أوائله أو أواسطه وغيرها من الَّتي تعيَّنت بمؤشِّرات الموت ونحوها لا غير؟

أم كان كل من الوقتين - الموسَّع والمضيَّق - داخلاً في البحث بورود مناسب فيه عن الفور والتَّراخي منهما في المقام الأدائي مع احتمال إدخالهم الوقت القضائي تبعاً للأدائي في البين ممَّا سبق بيانه فيكون الفور والتَّراخي داخلين في البحث بالمعنى الأعم؟

وقد يكون التَّراخي المبحوث عنه أيضاً منه وارداً في السُّؤال وهو:-

هل هو ذلك الوقت الأوَّل كذلك ولكن بما يناسبه، كما لو جعلناه للصَّلاة

ص: 183

الماضي مثالها لا بنحو التَّعيِّين المضيِّق فيه لها، لئلاَّ تكون مناسبة لمعنى الفور الَّذي ذكرناه، وإنَّما هو من ضمن الوقت الموسَّع المتراخي فيه من بدايته، كما لو أدَّاها المكلَّف فيه شوقاً منه لها بصرف اختياره لا لأنَّه لا يجوز التَّجاوز عنه إلى ما بعده أو لأنَّ تعيين هذا الوقت الأوَّل ربَّما كان لعدم جواز الصَّلاة قبله.

لأنَّ الصَّلاة كتاب موقوت بصريح البعض القرآني الشَّريف من بدايته كما هو في نهايته، فلا يمنع من كونه من التَّراخي، أو لكي لا يصلِّي غير تلك الصَّلاة الخاصَّة فيه، كصلاة الظهر في أوَّل وقتها فلا يجوز صلاة غيرها فيه لا أن يمنع شمول التَّراخي له كذلك في جملة ما لم يمنع منه وإن احتكَّ بالخاص؟

أو كان التَّراخي مناسباً لما بعد انتهاء مؤشِّرات الموت إذا بقي وقت واسع يتَّسع له؟

أو ما كان منه بعد أوَّل أزمنة الإمكان من الفترات الأخرى إذا حصرنا الأوَّل مجالاً خاصَّاً للفور؟

أو ما قد يمتد حتَّى إلى الأواخر من الوقت الأدائي إلحاقاً للأخير بالوقت الموسَّع لاعتبار أنَّ ذلك الأخير ربَّما كان يمكن أن يتوصَّل إليه المصلِّي أو إلى شيء منه مبتدئاً ممَّا قبله بنيَّة التَّراخي، وإن كان قد يُعد باعتباره الآخر من أوقات الفور حذراً من التَّجاوزإلى الوقت القضائي بلا إبراء الذِّمَّة الأدائيَّة.

وكما قد يدخل في التَّراخي حتَّى الَّذي يبقى من الواجب واجباً إذا خرج عن وقت الأداء وصار قضاءيَّاً إذا توسَّعنا في الاعتبار وقبلناه في التَّخطيط للبحث العام - وإن كان بعض حالات هذا التَّجاوز إليه عن تعمُّد ومعصية - لحتميَّة ثبوت صحَّة العمل المتقن حتَّى في الخارج، لبقاء الوجوب من أدلَّته الخاصَّة المحتَّم فيه ملازمته للصحَّة والأقرب من هذا للواقع في صحَّة التَّراخي هو ما لو كان المكلَّف مدركاً من داخل الوقت الأدائي على الأقل مقدار ركعة فقط.

ص: 184

فإنَّهم قالوا وقلنا بوجوب الابتداء بتلك الرِّكعة من ذلك الوقت وإن وقع الباقي في خارج الوقت وقالوا أيضاً بصحَّة الصَّلاة في هذا النَّحو من التَّوسُّع والتَّراخي للأدلَّة المثبتة في هذا الباب وإن قلنا فيه وفيما سبقه بالبطلان ووجوب الإعادة في موارد أخرى مغايرة.

كل هذه الأمور من الأسئلة وما بعدها أشياء لابدَّ وأن تدور في الخلد ولابدَّ من احتواءها إن احتيج إلى الإجابة عنها أو عن بعضها.

ونحن إذا تأمَّلنا بعد ذكر هذه المحتملات في ألفاظ هذه الأوامر ومضامينها كتاباً وسنَّة واستقرينا آراء فقهاءنا مع أدلَّتهم والأخذ بأقواها أو أقربها إلى الواقع، لإرساء دعائم الأصول اللفظيَّة أو الميسور من بعضها أو التَّأكد من صحَّة ما استحصل منها من عدمه إن كان الاستقراء ممَّا يمكن أن تتشكَّل به القواعد الأصوليَّة اللفظيَّة.

فقد يتفاوت لدى البعض تشخيص الحق في المقام بين ما تدل عليه صيغة الأمر مثلاً وإن لم يُرَد منه الفعل وبين ما يُطلب فعله في مقام الامتثال خارجاً كدلالة الصِّيغة على التَّراخي في الوقت الموسَّع وكون هذا الامتثال قد أجري في أوَّل أوقاته الَّذي قد يحتمل فيه عدم كونه مصداقاً ثابتاً للتَّراخي فيه في جميع الحالات إلاَّ بما وجَّهناه آنفاً.

وكدلالتها على الفور أيضاً لمؤشِّر الموت مثلاً وإن كان في أواسط الوقت الواسع للعبادة، وكون الامتثال ما أجري إلاَّ في أواخر الأوقات، بسبب عدم صدق المؤشِّر وبقاء الحياة وإن كان من المجازفة أو المعصية في التَّأخير فانكشف عدم ثبوت ذلك المؤشِّر.

إلاَّ إذا قلنا بتلازم دلالة الصِّيغة مع الفعل دوماً ولم نفكِّك بينهما ولو على ما هو الظَّاهر عند متابعة الأدلَّة وحكمة الحكيم تعالى فيها وبما قد يكون أسد من القول بالتَّفريق بين الاثنين، وهو أمر طبيعي في كلِّ الأصول من ذوات الثِّمار العمليَّة.

ص: 185

وعليه فلا فور ولا تراخي في كلِّ من الفور والتَّراخي على حِدة، ولا اشتراك لفظي ما بينهما كذلك.

وإنَّما هو مطلق الفعل المطلوب عند تعيُّنه حين بطلان القولين السَّابقين، ولو بمساعدة بعض القرائن على خصوص الفور أو التَّراخي كما سيتَّضح إن أريد الوصول إلى ما يشبه حالة التَّبادر من هذا القول الأخير.

3 - الاكتفاء في البحث بالآراء الرَّئيسيَّة الثَّلاث.

وحسم الأمر لا يتحقَّق تحديده إلاَّ حينما يستقر الكلام حول رأي معيَّن من هذه الآراءالرَّئيسيَّة الثَّلاثة المدَّعاة وهي الفور والتَّراخي ومطلق الطَّلب، بعد معرفة دليل كلِّ قائل من قائليها وانتصار الدَّليل الحق في البين بعد الخوض في مناقشتها ولو بالإجمال الكافي.

وقد يفهم إنشاء الله حكم ما يحتاج إلى فهمه كالتَّراخي وحده فيما بعد - أثناء الاستدلال -

فلنأت بعد التَّوكُل على الله بهذه الأقوال مع شيء من التَّصرُّف والإضافات النَّافعة منَّا واختيار الرَّأي السَّديد.

القول الأوَّل: هو الفور

وهو الاستعجال والمبادرة في أداء المأمور به بدون تواني، وقد يكون منه عموم الاستعجال حتَّى في القضاء كما في الأداء أيضاً إذا صدق التَّكليف السَّابق واستمرَّ إلى ما بعد انتهاء الوقت ولو في بعض المقامات، كما فيما لو دلَّت إمارات الموت على قربه من المكلَّف ونحو ذلك.

وممَّن ذهب إلى جوهر القول الشَّيخ الطُّوسي قدس سره وأبو الحسن الكرخي

ص: 186

وغيرهما.

واستدلُّوا بأدلَّة ستَّة على مدَّعاهم ذكرها بأجمعها صاحب المعالم قدس سره ونذكرها نحن بأجمعها مع شيء من التَّصرُّف المشار إليه آنفاً.

الدَّليل الأوَّل: إنَّهم قالوا بأنَّ الأمر المطلق يقتضي الفور والتَّعجيل فلو أخرَّ المكلَّف عصى كما لو أمر السيِّد عبده أن يسقيه ماءاً فأخَّر العبد السَّقي بلا عذر عُدَّ عاصياً عرفاً بحيث لولا إفادة هذا الأمر للفور لم يكن بالتَّأخير من العصاة والواقع العرفي خلافه.

ويظهر منهم بهذه الملازمة الَّتي في الاستدلال إضافة إلى الدَّلالة على الفور أنَّ دلالة الأمر هي على الوجوب نوعاً كذلك كما سبق بيانه، وأنَّ الوجوب هذا ثابت كذلك في سرعة الامتثال المطلوبة إن قبلت في أدلَّتها.

لكن بلا ملازمة في أن يكون العمل بعد ذلك أيضاً باطلاً معه في الوقت المتراخي والموسَّع، لأنَّ بعدم الفور بعد تكامل دليله معصية، وبتأجيل الامتثال مع سعة الوقت لا بطلان، بل هو صحَّة.

فالأوَّل حكم تكليفي مع ضمان الوضعي وهو الصحَّة.

والثَّاني حكم وضعي، ولكنَّه إيجابي وهو صحَّة العمل كما قلنا، حتَّى لو تأخَّر وقته وكان في السَّابق معصية بالتَّأخير ممَّا قد سبَّب قلَّة الثَّواب أو عدمه واحتاج إلى رفع ذلك بالاستغفار والتَّوبة.

وهذا الفرق هنا بين الحكم التَّكليفي والوضعي رد لمن يتوهَّم أنَّ النَّهي في العبادات يقتضي الفساد مطلقاً.

وكأنَّ صحَّة العمل هذه عندهم حالة العصيان بالتَّأخير لا خلاف فيها، حتَّى عند من لم يقل بخصوص الفور وهو السيِّد المرتضى قدس سره كما مضى وكما سيأتي.

وبذلك صفى استدلالهم هذا على الفور في خصوص الحكم التَّكليفي لا غير.

ص: 187

وقد رُدَّ هذا الدَّليل بأنَّ وجوب التَّعجيل ما جاء إلاَّ من الحاجة وهي قرينة عليه، لامن مجرَّد اللفظ وفي كلِّ حال فلا دليل على الفور وحده بتبادر.

وإنَّ حمل اللفظ المجرَّد من القرائن في كلِّ أحواله مع اختلافها الواضح بعضها عن بعض على هذا الوجوب - هو أوَّل الكلام.

بل هو محل النِّزاع، وإن ارتضينا الوجوب في الوقت الضيِّق أو دلَّت قرينته، وإن كان في ضمن الموسَّع أو رأيناه الأصل في الوقت الخاص لاعتبار آخر، لأنَّ هذه الأمور خارجة من محور البحث تخصيصاً أو تخصُّصاً.

وإذا كان ذلك الاختلاف كذلك فكيف إذن نقيس عليه أمر الوقت الموسَّع حتَّى لو حصل تفاوت في الفضيلة بين التَّعجيل والتَّأجيل.

الدَّليل الثَّاني: أنَّه تعالى ذمَّ إبليس (لع) على ترك السُّجود لآدم u بقوله تعالى [قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ](1)، وهو الاستفهام الإنكاري على إبليس الَّذي يعطي معنى تحدِّيه لأمر الله تعالى الواجب اتِّباعه وهو السُّجود لآدم بعدم امتثاله والقيام به مثل ما قام به الملائكة له.

ولو لم يكن الأمر فيه للفور لم يتوجَّه عليه الذَّم بمثل هذا الاستفهام، ولكان له أن يقول مخاطباً الله تعالى إنَّك لم تأمرني بالمبادرة وسوف أسجد، والحال أنَّه سبحانه ذمَّه بالآية آنفة الذِّكر بما لا نقاش فيه، بعد تأكُّد التَّصميم منه على عدم الامتثال الفوري، وإبليس المذموم بما أنَّه لم يجب بشيء من ذلك فكان الأمر بالفور.

ورُدَّ هذا الدَّليل الثَّاني كذلك: بأنَّ الذَّم جاء على اعتبار كون الأمر مقيَّداً بوقت معيَّن، ولم يأت بالفعل فيه وهو السُّجود وقت تسوية الله عزَّ وجل لآدم بخلقه ونفخه فيه من روحه، وكان الدَّليل على التَّقييد قوله تعالى في الآية السَّابقة على الآية

ص: 188


1- سورة الأعراف / آية 12.

الماضية في الدَّليل [فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ](1).

فلم يكن إلاَّ الفور الَّذي ارتبط بالوقت المعيَّن، لا من مجرَّد الأمر بالسُّجود في عموم الوقت الموسَّع بدون تعيين حتَّى يقال به حسب فلا فور كما يريد المستدل.

ولو قيل" بأنَّ عدم سجوده الفوري لآدم لعلَّه كان من كونه لم يكن من سنخ الملائكة تكويناً، لأنَّهم من نور، وابليس كان من الجن كما تشهد عليه الآية [إلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ](2)، والجان من نار كما في قوله تعالى [وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ](3).

لقلنا: بأنَّه وإن كان كذلك، لكن ذلك لا ينفي شموله بالخطاب التَّكليفي، وإلاَّ فلا معنى من توبيخ المولى عزَّ وجل له بعدم تنفيذ السُّجود لآدم u وتمرُّده، في حين كونه قبل هذا الأمر والتَّكليف كان ملتزماً بعبادته وكان مكثراً منها فرزقه الله معاشرة الملائكة فكان كالطَّاووس بين الملائكة، فوصف قبل تمرُّده ب- (طاووس الملائكة) حسب بعض الآثاروالرِّوايات على فرض تسليمها، ولا ينافي ذلك ما ورد عن الإمام الهادي u بأنَّ (طاووس الملائكة هو الرُّوح الأمين جبرئيل u)(4)، من باب حمل تلك الرِّوايات على تشريفه بهذا اللَّقب قبل التَّمرُّد وعدم الطَّاعة.

إذن في هذا الخطاب لا فوريَّة فيه، لاستمرار غضب الله عليه في جميع آيات بغضه وحسده لآدم، وهذا من جملتها فيتم الرَّد إذن كاملاً.

الدَّليل الثَّالث: أنَّه لو شُرِّع التَّأخير وهو ما يؤول إلى التَّراخي لوجب أن يكون إلى وقت معيَّن.

ص: 189


1- سورة الحجر / آية 29.
2- سورة الكهف /آية 50.
3- سورة الحجر / آية 27.
4- بحار الأنوار: ج17 ص309.

واللازم منتف، لأنَّه لولا الوقت المعيَّن لكان إلى آخر أزمنة الإمكان اتِّفاقاً، ولكنَّه لا يستقيم لأنَّه غير معلوم، إذ لا يعلم الشَّخص منَّا آخر عمره وأن الجهل به يستلزم التَّكليف بالمحال.

وبما أنَّه لا وقت معيَّن له وأنَّ الجهل بالتَّشخيص إلى آخر العمر يستدعي التَّكليف بالمحال، فلابدَّ من الفور.

لأنَّه ليس في الأمر إشعار بتعيين الوقت وليس عليه دليل من خارج، وبهذا ينتفي اللازم بوضوح أكثر.

ولكن رُدَّ هذا الدَّليل من جهتين:-

الأولى: بالدَّليل النَّقضي المنطقي، وهو أنَّه لا مانع من التَّأخير، لعدم النِّزاع في إمكان التَّصريح بجوازه ولو بقرينة، كأنَّ يقول الآمر (افعل كذا ونفيت عنك الفور)، مع أنّ الدَّليل على عدم شرع التَّأخير جارٍ فيه بعينه، فلا يثبت الفور مع هذه المرونة المساعدة على التَّوسُّع.

الثَّانية: أنَّه إنَّما يلزم تكليف المحال لو كان التَّأخير متعيِّناً إلى آخر أزمنة الإمكان غير المعلومة في نهايتها، وهو غير لازم، لإمكان تحديد التَّراخي في الوقت الواسع الخاص بمحدوديَّته في مثل أمثلة الصَّلوات الَّتي مرَّت بعضها وغيرها.

ولذا لم يجز الإتيان به على الفور، لعدم إمكان تعريف الوقت الَّذي يؤخر إليه.

بينما لو التزمنا بجواز الفور لا وجوبه أو عموم رجحانه مع عدم المنع من التَّراخي فيه فلا محذور للتَّمكُّن من الالتزام بالمبادرة، لأنَّه لا محال ليمتنع التَّكليف به.

وبذلك يمكن القول بوجوب الفور حتَّى في الوقت الواسع، لكن بمعنى طلب حقيقة الفعل من غير دلالة على الفور في وقت خاص ولا التَّراخي بخصوصه، إلاَّ أنَّه بمعنى عدم جواز التَّهاون بالواجب إلى نهاية الوقت.

ص: 190

الدَّليل الرَّابع: قوله تعالى [وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ](1) حيث أمر تعالى عباده بالمسارعة إلى هذه المغفرة عند ارتكاب الذُّنوب ومنها ترك الواجبات وفعل المحرمات، لكن لا بإيجاد حقيقة المغفرة من نفس العباد - لأنَّها من رحمة الله وعفوه - بل بفعلالمأمور به، فيستحيل مسارعة العبد إلى المغفرة بإيجادها من دون امتثال الأوامر فوراً، وحينئذ تجب المسارعة إلى هذا الامتثال.

ونظير هذا القول الإلهي قوله تعالى [فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ](2)، حيث أنَّ فعل المأمور بالفعل وهو الاستباق مثلاً داخل في عموم الخير ات، فيجب الاستباق إليه وهو الخيرات للأمر بذلك، وإنَّما يتحقَّق هذا الاستباق بأدائه الفوري.

ورُدَّ هذا الدَّليل: بأنَّ الاستدلال بالآيتين على المطلوب المذكور لم يكن بالدقَّة الشَّافية حتَّى يبنى عليه، بل الواضح خلافها.

لأنَّ (سارعوا) في الآية الأولى لم تكن ك- (أسرعوا) ولا (استبقوا) في الآية الثَّانية ك- (اسبقوا) المتَّفق عليهما أدبيَّاً وأصوليَّاً في أنَّهما ممَّا يخص الوجوب فقط في أمريهما المجرَّدين من الألف والثَّاء.

بينما أمر الآيتين وهما المؤدَّيان أداء المسارعة مع الألف والاستباق مع التَّاء بالمفاعلة والافتعال لا يُعطي في كليهما غير معنى أفضليَّة المسارعة والاستباق، بلا أيَّة علاقة بوجوبهما بشيء ولو جزئي من الفوريَّة.

لأنَّ المسارعة والاستباق لا ينسجمان إلاَّ مع الوقت الموسَّع، عكس أسرعوا واسبقوا المرتبطين بالواجب في وقته الضيِّق الَّذي لا مهلة فيه أو وقته الموسَّع مع مؤشِّر الموت ونحوه، مثل ما يتناسب من ذلك الوقت الموسَّع في طبيعته من تلك الأفضليَّة الَّتي يجوز فيها التَّأخير.

ص: 191


1- سورة آل عمران / آية 133.
2- سورة البقرة / آية 148.

وإن لم نقل بالأفضليَّة في خطابي الآيتين، لقلنا بوجوب الفور في وقتهما الواسع أو الموسَّع، وهو غير وارد مع القرينة الإضافيَّة في الآية الثَّانية زيادة على تاء (استبقوا) وهي كلمة (الخيرات) الصَّريحة في المستحب دون الواجب، وإن كان اللَّفظ فيها وفي الآية السَّابقة عليها لفظي أمر للقرينة المصاحبة.

وكأنَّ شأن الآيتين في المقام شأن قوله تعالى [وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ](1) للتَّشجيع على المسابقة في طاعة الله الَّتي لابدَّ وأن تلازمها الفسحة المجاليَّة زمانيَّة أو مكانيَّة أو كليهما، سواء بين المكلَّف ونفسه الأمَّارة لاغتنام الفرصة، أو بين المكلَّف والآخرين، كي يتَّحقق في ذلك درجات السَّبق والأسبقيَّة، وإن دخلت الواجبات في بعض الأحوال، لعدم إمكان المنع فيها بالمرَّة، وإلاَّ فلا معنى لذكر التَّنافس فيه.

وإنَّما الفور اللازم الَّذي لا يراد غيره فهو في المضيَّق فقط أو ما شابهه كما مرَّ، لعدم إمكان أن يقال لمن أُمر بالصَّوم غداً مثلاً فصام ( إنَّك سارعت إليه واستبقت له).

ولكن لو أمر المولى تعالى عبده بالصَّوم يوماً -- أو أيَّاماً معدودة في طول السَّنة من دون تعيين لها من ضمن أيَّامها الأوسع كقضاء ما فاته من أيَّام شهر رمضان الماضي مثلاً -- وأتى بما كان عليه في أوائل أيَّامها لصحَّ أن يقال عنه (أنَّه سارع إلى ما عليهواستبق).

ولذلك يُعد الوقت الواسع أو الموسَّع أنسب ما يكون لهذين اللَّفظين وإن كانا أمرين ظاهرهما الدَّلالة على الوجوب لولا هذين الحرفين الزَّائدين لتلائمهما مع التَّراخي، وإن كان الفور قد يرجح عليه من إمارته بنحو الاستحباب من الَّتي منها ألف المسارعة وتاء الاستباق للمطاوعة.

ص: 192


1- سورة المطففين / آية 26.

نعم يمكن القول ببقاء الوجوب أيضاً في آية المسارعة من ناحية الأمر الدَّال عليه حتَّى مع الألف الشَّاهد على الوقت الموسَّع مع التَّراخي المتعيِّن في المقام الَّذي لا يتناسب أداؤه إلاَّ مع الكلِّي الطَّبيعي الَّذي يصير معنى الفوريَّة فيه داخل الموسَّع مستحبَّاً، ولكنَّه لا يخرج عن كونه واجباً بمعنى عدم جواز التَّجاوز عن تمام الوقت إذا كان وجوبه في ضمن موسِّعيَّته ثابتاً وكان في الضِّيق أثبت إلاَّ بأداء ذلك الواجب كما سوف يتَّضح.

نعم إذا كانت (سارعوا) قد فُسِّرت بمعنى (بادروا) وهو الدَّال على الفوريَّة، فيمكن أن تكون مراده، وهي مع صيغة الأمر دليل الوجوب كذلك.

ولكنَّه لا يتم إلاَّ في الوقت المضيَّق، لعدم تناسب الفوريَّة مع ما ذكرناه من وقت التَّراخي، وهو الموسَّع الَّذي لا يتناسب إلاَّ مع المادَّة وهي المسارعة والاستباق حسب تفسيرها بمعنى بادروا، ولكن بحمله على المجاز لا على الحقيقة، لأنَّه استعمل في غير ما وضع له، لعدم المألوفيَّة في ذلك.

وأيضاً إنَّ حمل (سارعوا) - الَّتي دون هذا التَّفسير - على النَّدب وبصيغة الأمر سوف يكون مجازاً كذلك، فيتعارض المجازان فيتساقطان، ولكن بالإمكان التَّمسُّك عند الشَّك بأصالة عدم الفوريَّة، وبالأخص إذا حملنا الأمر على الوقت الموسَّع.

وعدم التَّغافل عن مؤدَّى الآية الثَّانية المساعدة عليه أكثر لعدم وجود المناقشة فيها مثل ما جرى في الأولى مع ضمِّ كلمة (الخيرات) المؤيِّدة لاستحباب الفور لا وجوبه بصفة أكثر، وبهذا ترتفع المنافاة بين الهيئة والمادَّة.

وممَّا يؤكِّد هذه النَّتيجة هو البناء على الأخذ بمطلق الفعل امتثالاً لطلب حقيقة المجتمع مع الفور والتَّراخي، بلا أن يكون المقصود هو خصوص الثَّاني ليكون مشتركاً لفظيَّاً كما سيجيء شرحه، لكون التَّراخي لابدَّ وأن يحمل في أوَّل أزمانه فرد الفوريَّة، وعليه فإذا أريد خصوصها دون معنى التَّراخي الَّذي ضمَّ زمنها فلابدَّ من

ص: 193

القرينة.

هذا ما كان من الجواب الَّذي قد يتناسب مع القرار الأصولي اللُّغوي.

وأمَّا ما يتناسب مع القرار الأصولي للعرف الشَّرعي وإن كان له أساس لغوي فسوف يأتي ما يتناسب معه بصفة أدق من التَّفاصيل المناسبة لمصدري الكتاب والسنَّة التَّابعة وما يتبعهما من اللغويَّات وهي الأقرب لما نستهدفه في هذه الموسوعة.

الدَّليل الخامس: أنَّ كلَّ مخبر يخبر بخبر ما كقوله (سافر الحجَّاج أو رجعوا أو انتهيت من وظيفتي الدِّراسيَّة الحوزويَّة أو ابتدأت بها أو أنَّ ولدي مصلِّي ,صائم أو لم يلتزم بالصَّوم والصَّلاة تمُّرداً) إلى آخره.

وأنَّ كل من ينشئ بإنشاء ما كقول البائع (بعتك هذا الكتاب بدينار أو صالحتك علىما بيني وبينك من الشُّبهات الماليَّة بدينار أو زوجتك موكِّلتي فلانة على مهر قدره كذا وكذا أو فلانة -- أصالة من زوجها أو وكالة عنه أمام الشُّهود -- طالق) إلى آخره.

إنَّما يقصدان من هذه الإخبارات والإنشاءات خصوص الزَّمان الحاضر فكذلك الأمر إلحاقاً له بالأعم الأغلب، ولأنَّ صدوره جاء في الحال مثل الإخبار والإنشاء، ولذلك يكون مفاده الفوريَّة مثل مفادهما الَّذي يظهر للمطالع.

ورُدَّ هذا من جهتين:-

الأولى: بأنَّ هذا قياس في اللُّغة، وقد سبق أن قلنا بمنعه مع صريح المغايرة ما بين الخبر والإنشاء وبين الأوامر، لأنَّ الأوامر غيرهما لفظاً واصطلاحاً لا محالة، حتَّى أمكنت الاستفادة من القياسات الخاصَّة الأخرى أو لا تمتنع أو قد ترجح في مقاماتها العقليَّة المنطقيَّة كما في العقائد أو الشَّرعيَّة كقياس (حرمة النَّبيذ) على (حرمة الخمرة) لجامع الإسكار وعِليَّته المشتركة عقلاً وشرعاً للنَّص.

إلاَّ إذا كان الأمر فرداً مساوياً للخبر والإنشاء في كلِّ شيء تحت ذلك الأعم

ص: 194

الأغلب أو أمور خاصَّة تجمع ما بينهما كي يفيض الجميع ما يتعلَّق بالوقت الحاضر بما ينتفع به، وهو غير صحيح بل الواقع خلافه كما سيجيء.

كما أنَّ هذا القياس العقلي لا يقبل على فرض وجوده في الحال إلاَّ في المطلب الأصولي على مبنى اللُّغة لا الشَّرع لاستحالته فيه إن ارتضينا اللُّغة وحدها كمبنى في أصول اللُّغة على كلِّ حال.

الثَّانية: بوجود الفارق بين المقيس والمقيس عليه، لأنَّ الخبر والإنشاء إن اختصَّا بما يتعلَّق بالحال فالأمر لا يمكن توجيهه نحوه في أثره ومؤدَّاه، وإن صدر لفظه في زمن يُعدُّ حالا من الأحوال كحالهما أو ما يتناسب مع كلِّ الأحوال بمثل حمله وجوب الامتثال كما في الأوامر الموافقة للمعقول المنطقي أو حمله هذا الوجوب كما في الأوامر الشَّرعيَّة الإلهيَّة لأنَّه حاصل والحاصل لا يطلب.

وإنَّما توجيهه إلى الاستقبال بخلاف المأمور به من المقاس عليهما، فمثل كلمة (افعل) أو (صلِّ) لا يراد منها الامتثال لهذا الأمر إلاَّ بعد الفراغ من التَّلفُّظ بصيغته وهو أوَّل أوقات الاستقبال، بخلاف ذلك من المقاس عليهما من أمثلتهما الَّتي وقعت مصاديقها في أحوالها.

ولكن هذا الاستقبال المطلوب فيه امتثال ما يريده الأمر إمَّا أن يكون من النَّاحية المطلقة، أي سواء كان متعقِّباً للحال بمعناه المباشر وهو الفور من أوَّل أزمنة ما يتناسب معه من الوقت الموسَّع الَّذي مرَّ ذكره في مقام التَّطبيق أو غير متعقِّب له وهو التَّراخي الموسَّع من دون إحراج بالفور.

أو أن يكون من ناحية ما يمكن تعقُّله في الوقت الضيِّق الَّذي لا يمتنع أن يكون أوَّل أوقات زمن التَّراخي أو هو نفسه كما حدَّدناه للفور خصِّيصاً.

لا ما تحمله الصِّيغة من معنى الاستقبال في لفظها - الَّذي يكون معناه مجهولاً.

فكلتا الحالتين محتملتان، ولأجلهها صار التَّرديد بين اثنين.

ص: 195

ولكن لا يصار إلى ذلك الفور بخصوصه وهو المرتبط بالزَّمن الأوَّل بعد صدور الأمر إلاَّ بدليل، سواء في الأصول اللُّغويَّة المنطقيَّة أو الفقهيَّة الخاصَّة.

نعم لو التزمنا بامتثال الأوامر وهي حقيقة الفعل المطلوب لكفى بما سيتَّضح أكثر قريباً.

ثمَّ ولو قيل بأنَّ هذا الأمر الَّذي بعد التَّلفُّظ به لماذا لا يمتثل مطلوبه في أوَّل أزمنة ما بعده، وهو الّذي معناه الفور كذلك؟

لقلنا بأنَّ هذا هو المتنازع فيه، وأنَّه لم يكن الاستدلال الماضي نافعاً في أمره، للفرق الَّذي بيَّنَّاه.

وأمَّا مسألة أنَّ الحاصل لا يطلب وإنَّ صحَّ فلا ينقضه الأمر للأمر الوارد حول الأوامر نفسها لو استكشف أمر المسؤوليَّة بالتَّكليف بها كما في قوله تعالى [وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ](1) وقوله تعالى [وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ](2) وغيرهما.

لأنَّ كلمة (وأمر) في النَّصَّين لا يمكن أن يطلبا بنفسيهما عندما حصلا في الحال، لأنَّه تحصيل حاصل في الخطاب الإلهي كما في ثاني الجوابين لاستدلال السيِّد قدس سره.

وإنَّما الَّذي يصح أن يطلب هو الَّذي يراد إجراؤه من تأثير (أءمر) من الأمر الثَّاني الَّذي يجب أن يقوم به النَّبي أو الرَّسول 5 أو الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ أو سائر المبلِّغين في الاستقبال بعد ذلك الأمر الأوَّل.

وهو غير المتنازع فيه قطعاً فلم تثبت الفوريَّة المستدل عليها بما مضى.

وإنَّما قد يحصل شيء من ذلك في خصوص النَّصَّين أو النَّص الثَّاني لا قربيَّته للفور من دليل خاص قد لا يُقاس عليه في كلِّ الموارد، وهو كما في الحديث الشَّريف القائل (من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع

ص: 196


1- سورة طه / آية 132.
2- سورة لقمان / آية 17.

فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)(1)، والحديث عن الأمر بالأمر سوف يأتي قريباً في أحد التَّوابع الآتية.

الدَّليل السَّادس: أنَّ المستدل قال بأنَّ النَّهي لمَّا كان يفيد الفور وهو سرعة الاجتناب عن المنهي عنه وعدم جواز الإبقاء عليه حتَّى في نيَّة التَّجرِّي عند كثيرين، فكذلك الأمر يفيده لأنَّه طلب مثله، وأيضاً لمَّا كان الأمر بالشَّيء يقتضي النَّهي عن أضداده وهي تقتضي الفوريَّة فالأمر كذلك مثله لجامع الطَّلبيَّة وهو كما في التِّكرار طابق النَّعل بالنَّعل.

ورُدَّ هذا الاستدلال: بأنَّ مطلق النَّهي ليس كما يتصوَّره المستدل، لأنَّه ينقسم في حقيقته إلى قسمين مستقل وغير مستقل، والمستقل - وهو الَّذي لا يرتبط بما وراءه بشيء - هو الّذي يفيد لفظه الفور، كقولك (لا تغتب) و (لا تزن) و (لا تشرب الخمرة) و (لا تقامر) و (لا ترتش) ونحوها وهو كما يقول المستدل.ولكن غير المستقل، وهو النَّهي التَّابع للأمر والملازم له دوماً أو الَّذي هو في ضمنه كلَّما أطلق بتعبير آخر نحو لا تترك هذا الضَّرب الشَّرعي المستفاد من قول الآمر الشَّرعي (اضرب المجرم حدَّاً أو تعزيراً)، أو لا تترك الصَّلاة المستفادة من قول الآمر (صلِّ فرائضك) وهكذا في الصَّوم والزَّكاة والخمس والحج والأمر بالواجبات الأخرى حينما يلازمها النَّهي عن تركها.

لا يلازم الفوريَّة، لأنَّه متى تحقَّق الضَّرب في المثال الأوَّل والصَّلاة في الثَّاني أو بقيَّة أوامر الواجبات الأخرى المرتبطة معها ما وراءها من النَّواهي المناسبة لها بالتَّلازم المشار إليه انقطع استمرار الخطاب ولا يبقى معها أي تقيُّد بالفور، لتبعيَّة هذه النَّواهي لمقامات أوامرها ومقتضيات مقاماتها، وإن قلنا بعدم جواز تعطيل الأحكام

ص: 197


1- ميزان الحكمة / ج 3 ص 1950.

في الأزمنة الموسَّعة الَّتي منها أوَّل الأزمنة، لأنَّ هذا القول لابدَّ وأن يفسَّر بعدم جواز التَّأخير عن جميع الوقت الموسَّع.

ولهذا لا يمكن المقايسة بين الأوامر والنَّواهي من الجهتين حتَّى يقال بالفوريَّة في الحالتين معاً لهذا الفرق.

وكذلك لا يمكن المقايسة بينهما بسبب المساواة في الطَّلبيَّة الواحدة مهما تعدَّدت.

فحينما فرَّقنا ما بين الأمر والنَّهي بحالتي الاستقلال وغيره، فكيف لا نفرِّق في البين بجامع الطَّلب المتعدِّد في الأكثر، وقد ذكرنا حصول فوارق أخرى بين الأنواع الأخرى.

ولذلك فلا مساواة كاملة لا بكون اقتضاء الأمر النَّهي عن ضدِّه، ولا اقتضاء النَّهي الأمر بضدِّه، ما دام القسمان موجودين في البين.

وإذا قبلنا الفوريَّة في قسمها المستقل من النَّواهي فقط فلابدَّ من كونها في الزَّمان الضيِّق وهو وقت ما بعد الخطاب.

وأمَّا الواسع، فلا وجود له لئلاَّ يتمادى النَّاس بارتكاب المآثم متى ما اشتهوا أو متى ما شاءوا، ولذلك قد تنقلب الأوقات الموسَّعة للأوامر المناسبة كقوله تعالى [وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ](1) ونحوه إلى أوقات ضيِّقة للنَّواهي المستقلَّة إلاَّ في حالة ما لو ارتكب المنهي عنه إذا اعتقد بكراهته في الموسَّع ثمَّ انكشفت حرمته فلابدَّ من الانتهاء منه فيه كذلك فوراً.

وعليه فبعد الأدلَّة الستَّة الماضية وردودها لا يتعيَّن القول بالفور كما يراه المتمسِّكون به في الأوامر وملحقاتها لا في اللُّغة ولا في الشَّرع إلاَّ مع ضيق الوقت وتعيُّنه، وإن حمل اللَّفظ والصِّيغة للاثنين وهما الفور والتَّراخي.

لأنَّ الحمل قد يحصل لغة وصيغة أو في ألفاظ الشَّرع، ولكن لا يجب أن يلازمه

ص: 198


1- سورة الأنعام / آية 151.

التَّطبيق إلاَّ مع حصول المؤهِّل له، وهو إمَّا التَّبادر للعلاقة بين اللفظ والمعنى إن كانت، أو ما تؤدِّي إليه القرينة مثل عطش الآمر حينما يأمر عبده أو خادمه بالسَّقي إذا كان لا يتحمَّل التَّأخير لشدَّته أو مثل بدو إمارات الموت في أوائل وقت الصَّلاة الموسَّع أو أواسطه أو أواخره.والتَّبادر لا يمكن أن نتساهل في أمره حتَّى لو أدُّعي للفوريَّة، إلاَّ بما قلناه سابقاً أكثر من مرَّة، وهو أنَّ تمر فترة زمنيَّة تشد العلاقة بين اللفظ والمعنى من كثرة الاستعمال واستقرار ذلك في الخواطر من دون انفكاك، بحيث يكون الفور وهو المراد من الأمر دون التَّراخي وجوباً من ذلك الوقت الموسَّع.

وهذا غير ممكن في اللُّغة لما ذكرناه عنها بهذه السُّهولة.

وأمَّا في الشَّرع فلا مانع منه إن أريدت حقيقة الطَّلب لما مرَّ ذكره أيضاً أو من تبعيَّته للأدلَّة المتوفِّرة الَّتي استقرأها فقهاء الأصول وأصوليُّوا الفقه وتتبَّعوا ما يناسب منها للمقام حتَّى ظهر منها ما يثبت ذلك.

القول الثَّاني: وهو الاشتراك اللَّفظي بين الفور والتَّراخي.

فقد أدَّعى السيِّد المرتضى علم الهدى قدس سره(1) بأنَّ الأمر ممَّا كان يحمل عليه يحمل على ما به الاشتراك اللَّفظي من الفور والتَّراخي، كما كان عنده دلالة الأمر على الوجوب والاستحباب اللَّفظي بنحو الاشتراك أيضاً، كما مرَّت الإشارة إلى ذلك في البحث عن الوجوب، بل هذا البحث تابع لذاك ظاهراً عنده.

وكان مضمون ادِّعاءه هذا واستدلاله عليه مع بعض التَّصرُّف التَّقريبي للذِّهن والإضافي المناسب منَّا:-

بأنَّ الأمر لمَّا صدر واستعمل في الدَّلالة على الفور وفي نفس المستوى أيضاً

ص: 199


1- الذَّريعة إلى أصول الشَّريعة ص132.

صدر واستعمل قبله أو في حينه عند قوم آخرين أو بعده على التَّراخي كذلك وبنحو مستقل في أحدهما عن الآخر وبمساواة وتعادل في دلالة واستعمال كلِّ منهما بما يخصُّه أو بنحو لم يثبت فيه زيادة دلالة على دلالة أو استعمال على استعمال.

ولا أسبقيَّة فهم الفور على التَّراخي ولا أسبقيَّة فهم التَّراخي على الفور مع عدم امتناع صيغ الأوامر وتوابعها ولو من حيث المبدأ في أن تحمل كلا المعنيين في آن واحد، وبالأخص كون ذلك بالمنظور اللُّغوي.

فلا محالة إذن من أن يكون حمل الأمر لهما حمل الاشتراك اللَّفظي ثابتاً، ما دامت اللُّغة وقواميسها تشهد بذلك، بحيث لم يفهم خصوص أحد المعنيين وحده دون الآخر إلاَّ بالقرينة معيِّنة المراد.

ومن ذلك ما قد جاء من الاستعمال المشترك لهذه الصِّيغة في القرآن الكريم وتوابعه من ألفاظ السنَّة العامَّة.

وبهذا النَّحو المتساوي لخصوص الفور وخصوص التَّراخي وظاهر استعمال لفظة الأمر في الاثنين معاً لابدَّ أن يكون حقيقة فيهما، ولكن ليس في أن يدل كلاهما معاً في آن واحد بهذا الاستعمال بقرينة كل منهما المتفاوتة إلاَّ بعزل مطلب عن مطلب حسب قرينته الخاصَّة.إلاَّ في مقام التَّمثيل للمشتركات اللفظيَّة مثل العين والجون والقرء ونحو ذلك، لتقريب كلِّي المشتركات إلى ذهن الطلاَّب ونحوهم أو للأحاجي الأدبيَّة المسليَّة أو المأدية والامتحانات المحرجة، ولكن هذا ليس موضع بحثنا.

لأنَّ موضعه المراد علمي وعملي وحقيقي في أصول مهمَّة لهذه الموسوعة.

ولذا لا يمكن أن يستفاد من أحدهما شيء مع هذا الاشتراك إلاَّ بالقرينة مع استحالة أن يكون شيء حقيقيَّاً وعلميَّاً وعمليَّاً من كليهما بدون الإفراز.

وممَّا يُعطي مجال وجود المشترك مثل ما مرَّ أنَّه لا شبهة في حسن استفهام المأمور

ص: 200

من آمره أو من يمثِّله عند حيرته في نوع المراد من المعنيين في أنَّه هل المراد هو الفور؟ أو التَّراخي؟ إذا لم تكن هناك عادة أو إمارة دالَّة على خصوص أحدهما دون الآخر.

لعدم إمكان الجمع بين الاثنين من إطلاق اللفظ لما مرَّ ذكره، وهذا الحسن في الاستفهام لا يناسبه إلاَّ التَّعرُّف على خصوص هذا أو خصوص ذاك، لاحتمال بقاء وجود الاثنين في آن واحد من هذا اللفظ بما يوصل إلى الحيرة لو لم تكن تلك القرينة المعيِّنة موجودة، لأنَّه لو اختصَّ بأحدهما أو انضمَّ أحدهما إلى الآخر بالقدر المشترك في الواقع أو الظاهر أو الأظهر بدون هذا الاشتراك اللفظي وبدون الحاجة إلى أيَّة قرينة، لتبادر ذلك المعنى إلى الذِّهن وبدون الحاجة إلى الاستفهام.

بينما الواقع خلافه فلابدَّ للخلاص من الالتباس وتعطيل الواجبات من نصب القرينة عند الحاجة حين إرادة الأمر الخاص، ليدل على المعنى المخصوص في المحاورات الكلاميَّة الاعتياديَّة أو الاستفهام المذكور أعلاه، لئلاَّ يكون إغراء بالجهل وهو كثير في تصرُّفات الجاهلين من أهل اللُّغة.

هذا ما يتعلَّق بعموم اللغة وقد يكون معها بعض عموميَّات ما في الكتاب والسنَّة الَّتي لا تعنينا أيضاً وقد رجح الاستفهام علميَّاً وأدبيَّاً عند الحاجة على نحو الحقيقة.

وأمَّا خصوصيَّات الكتاب والسنَّة وهي أمور الأحكام الشَّرعيَّة وتتبعها الاعتقاديَّات غير الضَّروريَّة، ومعها ما يناسبها من خصوصيَّات اللغة المقاربة، فلابدَّ للشَّارع أيضاً من أن ينصب القرائن لنا إن كنَّا لا نهتدي إليها إن أراد شيئاً خاصَّاً أو أن يعرِّفنا كيف ننصب القرائن عند الحاجة في المشتركات أو أن نسأل أهل الذِّكر وكما قال تعالى [فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ](1) وبما هو أهم وأحوج إليه من أمر المشتركات في عرف اللغة العامة.

ص: 201


1- سورة النحل / آية 43.

ولذا لم تغفل الشَّريعة المقدَّسة عن أهميَّة هذه الأمور فاتَّخذت لنا العلاجيَّات المهمَّة في روايات أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ لو أشكل أمر من هذا القبيل.

ولذلك لا يمكن القول بانَّ الشَّارع تصدَّى لوضع المشتركات لولا بعض موارد التَّقيَّة الملجئة إلى التَّعبير بالإجمال للتدرُّج أو التَّقيَّة إلى أن يأتي دور كشف الواقع، لأنَّه لم يترك شيئاً إلاَّ وبيَّنه.

وإنَّ ما حصل في نصوصه من الإجمال ونحوه فما هو إلاَّ من سوء فهم المكلِّفين الواردين في التَّحقيق أو من الكوارث الطَّبيعيَّة وغير الطَّبيعيَّة على مصادر الرِّوايات وعدم التَّحقيق العلمي الكافي منه والحاجة إلى استفراغ الوسع الكامل في سبيل ذلك.

وقد أجيب السيِّد قدس سره بأنَّ الَّذي يتبادر إلى الذِّهن من إطلاق الأمر من دون تكلُّف ليس هو إلاَّ مطلق طلب الفعل، لحمله له واستعماله فيما هو الأعم من الفور والتَّراخي، الَّذي قد يكون أوَّل حصَّة من زمن التَّراخي الموسَّع - وهي الَّتي يمكن أن تجتمع أيضاً مع حصَّةالفور المضيَّقة من أوَّل الأوقات كذلك - هو ما يحقِّق المطلوب من طلب الفعل من دون حاجة إلى الاشتراك وقراءنه وهو المقدَّم عليه كذلك في مورد الشَّك.

لأنَّ لفظ الأمر لمطلق الطَّلب يحمله ويستعمل فيه، ولفظ المشترك يحمل الجميع ولا يستعمل فيها بأجمعها كما سبق بيانه، مضافاً إلى ما يفسحه لنا مجال مطلق الطَّلب من بقيَّة أوقات الوقت الموسَّع لذلك عند الحاجة أو لغيره من اللوازم الأخرى.

وقد يكون من بعض حالاته اجتماع الفور مع التَّراخي ممكناً، بل واقعاً في الخارج كالزَّمن الثَّاني الَّذي عصى فيه المأمور حين تخلَّف عن الأوَّل بعدم الامتثال فيه، بناءاً على الفور ولو تقديراً لو وجب فما أدى وظيفته إلاَّ في ذلك الثَّاني وهو من أوقات التَّراخي حتماً أو ترك ذلك المأمور الأوَّل حتَّى جاء الزَّمن الثَّاني حينما لم

ص: 202

يجب الفور بل يرجح استحباباً أو ما لا مانع منه كالمباح.

وهكذا قد يكون هذا الأمر حاصلاً بأجزائه في تنفيذه في الوقت الثَّالث، وكذا البواقي على ذلك الاحتمال ممَّا يتَّسع له مجال مطلق الطَّلب في الوجوب والاستحباب والعمل الصَّحيح، ممَّا قد يسبِّبه إضافة لطف وطيب أخلاق تسامحاً، وإن كانت الحاجة قد تدعوا عرفانيَّاً إلى الاستغفار في مواردها، لكنَّها بلا ملازمة دائمة لهذه الصحَّة لا ما كان في خصوص كلِّ من الفور والتَّراخي حتَّى يتعاندا أو لا يمكن اجتماعهما في الفعل الواحد.

ولأنَّ كلا منهما قد لا يفهم من لفظ الأمر إلاَّ بالقرينة لا مع تجرُّده عنها حتَّى يقتضي كونه حقيقة فيه كما في الجواب الَّذي أورد على السيِّد وما جاءه من إضافاتنا.

ولعلَّه يمكن رضاه بما نقول أو بشيء منه لو نجعل ترجيحنا للجامع الأعم، وهو الامتثال بمطلق الطَّلب على نهج العرف الشَّرعي الَّذي نراه لا اللُّغوي، إن استحال اللُّغوي في نظره.

وإن أمكن في نظرنا بعض الشَّيء كما كان يرجِّحه في إثباته للوجوب الشَّرعي دون اللغوي، لأنَّ اللغوي كان عنده مع الاستحباب مشتركاً لفظيَّاً كما في المقام، بل إنَّ عموم هذا التَّابع الثَّاني فرع للكلام عن أصل المتبوع وهو الوجوب.

وعلى الأقل أنَّه لم يصدر من السيِّد قدس سره منع من القول بمطلق الطَّلب أو كلِّي الطَّبيعة بالمنظور العرفي الشَّرعي، الَّذي هو خير من الاشتراك عند الشَّك، لما أشرنا إليه وما سيأتي.

ولأنَّ في مطلق الطَّلب إمكان الإسراع بأداء الواجب أو عدم التَّساهل في أمره إلى آخر وقته الموسَّع، وإن لم يكن في القصد بعض التَّفاصيل حرصاً على إبراء الذمَّة، ولو بالتَّمسُّك بقاعدة الميسور.

بينما الاشتراك لو كان مع عذر أو حتَّى مع عسر تحصيل القرينة المعيِّنة فيه

ص: 203

لأسباب لا بدونها، وهي:-

1 - انسداد باب العلم لكثرة المصاديق المشتركة في اللُّغة، وصعوبة الأخذ بها في مجالاتنا الفقهيَّة لو يبنى عليها دائماً، لعدم إمكان العثور على القرائن المريحة دائماً.

2 - إبقاء كثير من واجباتنا معطَّلة، وعرقلة أداء الواجب بما كان أسرع منه فيإبراء الذمَّة، وبالخصوص أكثر في الواجبات الَّتي حلَّت أوقاتها ولو موسَّعة وبما قد لا يتيسَّر فيه تحصيل هذه القرينة أو تلك.

3 - اتِّهام الشَّريعة بقصورها أو تقصيرها وتكليفها للأمَّة بما لا يطاق، والأمر ليس كذلك.

هذا ويكفي في حسن الاستفهام كونه موضوعاً للمعنى الأعم المذكور لا غيره، ولهذا يحسن للآمر فيما نحن فيه أن يجيب سائله بالتَّخيير بين الأمرين من دون أن يكون فيه خروج عن ظاهر اللفظ حينما كان كذلك ، ولو كان موضوعاً لكل واحد منهما بخصوصه كما يريده السيِّد لكان في إرادة التَّخيير بينهما فيه - إذا أجاب الآمر سائله - خروج عن ظاهر اللفظ وارتكاب للتَّجوُّز وهو مدعاة للتّكلُّف.

في حين أنَّ ما نرجِّحه نحن في الجواب لا تكلُّف فيه للانفتاح بما مرَّ ذكره.

بل إنَّ الاستفهام قد يكون لا داعي له حتَّى في المقام لإمكان الالتزام بالقدر المتيقَّن فيه وبالتَّخيير مستقلاًّ عنه من غير داع للتَّحيّر لوضوح ذلك من مطلق الطَّلب، إلاَّ ما أغمض من بعض أمور وأوامر الشَّريعة في أطراف الجوامع ممَّا يحتاج إلى استفراغ الوسع عند احتمال وجود الضالَّة في السَّعي لذلك أو ما تبرزه من القرائن المشخِّصة لأحد الطَّرفين أو الأطراف دون الباقي.

ولكن هذا قليل لا يناهض ما شخَّصناه.

ص: 204

القول الثَّالث: وهو الدَّلالة على مطلق الطَّلب.

إنَّ ثالث الأقوال ممَّا مرَّت الإشارة إلى مهمَّات إعدادها في المقام وهو الرَّأي المعتبر منها، وهو الدَّلالة على مطلق الطَّلب، وهو ما كان الأعم من الفور والتَّراخي وإليه ذهب جماعة منهم المحقِّق أبو القاسم محمد بن سعيد والعلاَّمة الحلِّي قدس سرهما.

واستدلُّوا على هذا المراد بأدلَّة قد مرَّ ما يكفي منها في ردودنا على القولين الماضيين، فأغنانا ذلك عن الإطالة والحمد لله، فصار المجال واضحاً ومثبَّتاً لقوَّة هذا القول الثَّالث وجاهزاً أكثر.

إضافة إلى ما سنوجزه من دليلهم على ذلك مع بعض تصرُّف نافع منَّا.

وهو أنَّه لمَّا كان الأمر لم يدل على الفور وحده لما مرَّ دفعه، ولا على التَّراخي وحده كذلك لما مرَّ دفعه أيضاً، لوجود حالات الفوريَّة معه حتَّى في الوقت الواسع فضلاً عن الضيِّق.

ولم يدل على الاشتراك اللفظي أيضاً لما مرَّ دفعه قريباً وتوجيه أمر الخروج من مشكل الاشتراك إلى حالة هذا الثَّالث بما سبَّب قوَّته.

ومن ذلك اندماج التَّراخي مع الفور بجامع الطَّلب، بحيث لا يجعل الفور وحده ولا التَّراخي وحده قادراً على الاستقلال حتَّى في ذلك الوقت الواسع ممَّا مرَّ ذكره، وهو الأقدر من الاشتراك اللَّفظي قطعاً.

لعدم الحاجة إلى القرينة المعيِّنة وإن حمل قرينة الإفهام، لإمكان صدق الفور والتَّراخي حتَّى في الحصَّة الأولى من الزَّمن الموسَّع، لكون خصوص الفور وخصوص التَّراخي خارجين عن مدلول الأمر في هذا الجامع حسب الفرض، على مبنى أنَّ المجاز خير من الاشتراك.

فلابدَّ إذن من الرُّضوخ إلى ما يمكن الرِّضا به، بل هو المتعيِّن كما مرَّ في التَّابع

ص: 205

الأوَّل، وهو استقرار أمر الدَّلالة على مطلق الفعل، وهو الأعم من الفور والتَّراخي، الَّذي نتيجته في الوقت الموسَّع أنَّ أيَّاً من الاثنين إذا أُتي يه كان مجزياً، وإن كان التَّراخي بالفعل قد تمر به في بعض الأوقات حالة من العصيان حينما يتخلَّف عن الامتثال في الوقت الأوَّل من آنات الموسَّع.

إلاَّ أنَّه لم يثبت في مثل هذا الأمر الجامع، إلاَّ حينما ينكشف له أنَّ في التَّقدير كان الواجب هو الفور لقرينة ذلك، لتعيُّن طلب حقيقة الفعل في مدلول الأمر.

والفور والتَّراخي خارجان عنها، لأنَّهما من صفات الفعل لا الفاعل، فلا دلالة له عليهما لا بحسب المادَّة ولا بحسب الصُّورة (الهيئة).

ولكن لإلفات النَّظر أكثر نقول تأكيداً: أنَّ هذا القول لو كان منظوراً عند أصحابه قدس سره بالاعتبار العرفي الشَّرعي، وبالأخص حينما يقول بعض من يرى رأي الدَّلالة على مطلق الطَّلب في هذا القول الثَّالث.

ونحن معهم كما لا يخفى بأنَّ هذه النَّتيجة هي كالنَّتيجة في التَّابع الأوَّل.فإنَّ المطلب يكون هنا كما كنَّا قد عقَّبنا عليه هناك، وهو أنَّ الأمر يدل على مطلق الطَّلب.

ولو أريد أحد الأمرين من الفور أو التَّراخي فلابدَّ من نصب القرينة على مراده.

وفي حال سعة المدارك الشَّرعيَّة - إن انغلقت الأبواب العلميَّة لبعض العوارض الطَّارئة مع احتمال وجود الخلاف - فلابدَّ من استفراغ الوسع أكثر، لتحصيل الخصوصيَّة، فيما لو كان الوقت موسَّعاً ولو لاحتمال وجود الضَّالَّة عقلائيَّاً إن أمكن السَّعي، أو وجوب الفوريَّة في الوقت المعيَّن أو ما يشبهه من حالات الانحصار الزَّمني ولو بعد الحصَّة الزَّمنيَّة الأولى، لأنَّ هذا المنظور يختلف عن عموم المنظور اللُّغوي.

ص: 206

تنبيه مهم

حول ما مضى من التَّابع الماضي والآتي

لابدَّ من تبيُّن الفرق بين حالتي الفرق بين الفور والتَّراخي -- من التَّابع الماضي -- وبين الموسَّع والمضيَّق الآتي، لكل ذكي ومتتبِّع، لما يذكر من المصطلحات الخاصَّة لكل من المقامين، لاحتمال الاشتباه بين كل منهما إذا لاحظ ما يتناسب معه من الأدلَّة والقواعد الفقهيَّة والأصوليَّة المتعلَّقة به.

فإنَّ الموسَّع من الآتي قد بتناسب معه الفور والتَّراخي، والمضيَّق منه كذلك قد يتناسب مع كل منهما، لأنَّ دين الله من الفقه العام والخاص نصَّ كثيراً على ما يتناسب من نصوص التَّيسير والتَّسهيل آيات وروايات وقواعد وأصول، وسوف يتَّضح البعض عن طريق نماذج من الأمثلة.

لكن لو حاولنا التَّفريق الأدق بينهما نجدهم قالوا عن الفور والتَّراخي بأنَّ صيغتهما لا تدل بشيء من الدِّلالات الثَّلاث بأكثر ممَّا دلَّت عليه أدلَّة حسن المسارعة والاستباق بالخيرات والمبرَّات، والحسن بما فوق الوجوب.

بينما الموسَّع والمضيَّق الآتيان فهما خاضعان للزَّمان تكويناً وتشريعاً في الواجب وغيره من أفعال المكلَّفين.

فإن كان الزَّمان دخيلاً في الواجب شرعاً أيضاً يسمَّى موقَّتاً، وإلاَّ فغير موقَّت، والأوَّل إمَّا مضيَّق أو موسَّع، والموسَّع إمَّا فوري أو لا، والأخير له أفراد طوليَّة وعرضية ولا إشكال في وقوع الجميع حسب التَّعليم الشَّرعي.

لكن قد يكون الموقَّت حتَّى مع سعة وقته -- وكذا غيره -- ممَّا لا مهلة في أداءه فضلاً مع ضيق الوقت بحق أداءه، ممَّا لا يمكن فيه إلاَّ فوريَّة الأداء، ولا تتناسب معه حالة المسارعة والاستباق في البحث الماضي.

ص: 207

التَّابع الثَّالث / الواجب الموسَّع والمضيَّق

والزَّائد على وقته وما ليس له وقت.

إنَّ من أهم المقولات التِّسعة لأعمالنا العامَّة وعلى الأخص الشَّرعيَّة الخاصَّة والَّتي تتشخَّص فيه الأحداث ويمتاز به وجودها عن عدمها ويمتاز به حكم بعضها عن البعض الآخر.

هو الزَّمان، اعتماداً طبيعيَّاً وشرعيَّاً على أن الأشياء مرهونة بأوقاتها على أي نحو يرتبط الزَّمان بكل منها.

وقد برز هذا الأمر بالصِّيغة الأكثر في الشَّرعيَّات للحكمة البالغة إلهيَّاً وراء ذلك من أسباب التَّشريع، ومن ذلك ما يرتبط بشرطيَّة أو قيديَّة ذلك الأمر الشَّرعي في الأداء أو القضاء وبما قد يختلف عن الأمور العامَّة.

لكون الشَّرع دقيقاً في الأمور الَّتي له علاقة بالحكم عليها وحدَّياً في ذلك، ومعه العقل السَّليم المطيع لأوامره، وإن لم يخرج عن أطار الزَّمن حتماً كذلك كبداية لكل شيء تكويناً وتشريعاً.

وقد كتبنا بعض بحوث نسأل الله تعالى إتمامها بعنوان (أوقات العبادات والمعاملات ودقائق ضبطها) فيها توضيح ذلك بما لابدَّ أن ينتفع به.

فقد يكون منها ما كان مؤقَّتاً بوقت ما، وهو ما يستقر عليه التَّكوين والتَّشريع، وقد يكون منها ما لا يكون مؤقَّتاً بوقت معيَّن، وإن خضع للزَّمن في صيرورته الاعتياديَّة، وهو الَّذي يستقر عليه التَّشريع في تحديداته لا التَّكوين وإن كان لعدم انفكاكه عن الزَّمان طبيعة، لكنَّه لا اعتبار له شرعاً بتلك الدقَّة إلاَّ في حالات خاصَّة قد يصاحب الشَّرع فيها بعض حالات التَّكوين بما ليس له وقت محدَّد كالأحكام الَّتي تشرِّع متى ما يولد المولود ومتى ما يبلغ المكلَّف.

ص: 208

وهكذا في جميع الحالات وكافَّة الأمور ولو ظاهراً بلا أن يكون لها وقت محدَّد حتَّى الوفاة للإنسان وأحكامها إلاَّ من كان المولود له شأنيَّة إضافيَّة في نبوَّته أو رسالته أو إمامته أو علميَّته الَّتي يراد لها أن تشاع ذكراها حتَّى حالة الولادة لإحصاء كل ما يتعلَّق بحياته الَّتي قد يكون منها ما يرتبط بالولادة ممَّا يتناسب والذكر الخاص به حينها أو باستمرار إحياء ذكراها في كل سنة.

الأوَّل: وهو المؤقَّت.

فإمَّا أن يكون موسَّعاً، وهو وصاحبه الآتي أشير إليهما في النُّصوص وغيرها، كأن يكون العمل الكذائي مثلاً بالإمكان إجراءه في الوقت الواسع لمرَّات عديدة يمكن أن يستغرقها ذلك الزَّمان لو أريد ذلك أو احتيج إليه.

إلاَّ أنَّ المطلوب الشَّرعي واحد كما في مقاماتنا الشَّرعيَّة الواجبة المتعارفة بحسب الحكم الأوَّلي لطفاً من الله تعالى، لأجل أن يتَّسع الوقت للمشاغل المهمَّة الأخرى، وحتَّى لا تتزاحم مع الواجب المشخَّص حرصاً عليه.

كالصَّلاة اليوميَّة الموقوتة والمتفاوتة بين أوقات الوجوب والفضيلة الخاصَّة ابتداءاً، والمشتركة التَّامَّة بين الظهرين مثلاً والخاصَّة للأخيرة الثَّانية كذلك، كفرض الوقت الموسَّع للظهر والعصر الأدائيَّين من الزَّوال إلى الغروب ما عدا الوقتين الخاصَّين لكل منهما، والمغرب والعشاء إلى منتصف اللَّيل كذلك، وما بين الطلوعين لصلاة الصُّبح على التَّفصيل المعروف في الفقه.

وكقضاء شهر رمضان لعموم السنة ما عدا العيدين.

وأداء الحج في العمر مرَّة واحدة عند الاستطاعة وفي موسمه، وهكذا بقيَّة الموقَّتات الأخرى من الفقه.

وإمَّا أن يكون مضيَّقاً، وهو ما لا يمكن إجراؤه من المكلَّف إلاَّ حسب إرادة الشَّرع وطلبه في وقته الخاص المعيَّن، من دون أن يتجاوز عنه تقدُّماً أو تأخُّراً مع

ص: 209

كفاءته لكلِّ ذلك العمل بمساواة كافية.

إمَّا بتعيُّنه في ذلك الوقت من قبل العرف العام لو احتيج إليه شرعاً، أو من قبل العرف الشَّرعي نفسه، أو تعيُّنه ولو من صدفة اضطرَّته إلى ذلك ثمَّ أمضي له شرعاً ولو في الوقت الموسَّع كمؤشِّر الموت أو بقصد المكلَّف، كما لو عين به واجباً مضيَّقاً على نفسه ولو في الموسَّع كالنَّذر والعهد واليمين.

وهذا الثَّاني وهو المضيَّق أقرب من سابقه الموسَّع مصداقيَّة إلى ما مرَّ من (أنَّ الأشياء مرهونة بأوقاتها).

إلاَّ أنَّه لم يكن منسجماً انسجام الأوَّل مع اللطف الإلهي في التَّكليف به، ولذلك نعتبره نوعاً خاصَّاً من رعيل التَّكاليف الثَّانويَّة الَّتي سبَّبها المكلَّف على نفسه وأنَّ شرعيَّته أتت من فسح الشَّارع له المجال فيه أو جرَّه القدر إلى ذلك بعد أن كان الأصل هو السِّعة، لكون المكلَّف لم يبادر بداية إلى الامتثال ولو من المرجِّح الاستحبابي.

ولذلك يكون المقام ممَّا تنطبق عليه الآية الكريمة وهي قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُمَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ](1) وكما سوف يتَّضح أكثر.

وإمَّا أن يكون زائداً على الوقت المحدَّد وبما كان أكبر منه بحيث لو أجري العمل فيه لبقي قسم منه خارج الوقت المحدَّد له كما سبق وسيتَّضح قريباً كذلك.

وأمَّا الثَّاني: وهو ما ليس له وقت معيَّن من الزَّمان.

فهو وإن كان ممَّا لابدَّ أن يصير في أحد أوقات تحل مناسبتها مصادفة فيجب أو يرجح أو يباح كما سبق ذكره، بمعنى أنَّه يمكن أن يجري في أي وقت ومنه الَّذي يجب فعله ويأتيه حكمه من مقتضياته.

ص: 210


1- سورة الرعد / آية 11.

ولذا فرَّق العلماء في أمره بين أن يكون فوريَّاً وبين غيره من نوع عدم التَّوقيت له بوقت محدَّد، لأسباب بعض العوارض الطَّارئة عليه.

لا للذَّات الَّتي ليس لها وقت معيَّن كما في صلاة الزَّلزلة، فإنَّ صلاتها وقت حدوثها فوريَّة وإن انتهت وعرف بها المكلَّف لأحد أوقاتها في الأداء، ولأجل ذلك دلَّت الأدلَّة المناسبة كما هو محرَّر في محلِّه من الفقه.

وكذا صلاة الجنائز كلما مات أو استشهد مسلم.

هكذا عرَّفتنا الأوامر الإلهيَّة من آيات الأحكام وما يلحق بها من القرآن الكريم والسنَّة التَّابعة له من أوامرها وملحقاتها وما يتبع المصدرين من الملحقات الإضافيَّة في فنِّ الأصول.

وكذا ما ألحق بذلك من اللغة الخاصَّة وعرفيَّاتها المخصوصة الَّتي لا يمتنع عقلاً ولا وضعاً ولا عادة من حمل ألفاظها الخاصَّة القريبة من التَّعارف الشَّرعي وما يحوم حوله على ما أوضحه لنا المفسِّرون المهمُّون لعموم القرآن ولخصوص آيات أحكامه وما عرَّفنا به فقهاء الأصول وأصوليُّوا الفقه.

وعلى ذلك شواهد ومشاهد مؤنسة لأهل التَّحقيق والتَّتبُّع لو اطَّلعوا عليها، وسوف تظهر مصاديقها للمحقِّق والمتتبِّع في مضامين بحوثنا الفقهيَّة المستقبليَّة المرتبطة بخصوص هذه العناوين إن شاء الله تعالى.

وقبل الشُّروع بالمقصود الأصيل في البحث وهو الأوَّل - الموسَّع - لنذكر مقدِّمة مختصرة قبله.

وهي عن الموردين السَّابقين الَّذين أوَّلاهما ما كان ملحقاً بالأوَّل الأصيل، وهو الزَّائد على الوقت.

وثانيهما ما ليس له وقت.

وهو الثَّاني بعد المقصود ممَّا أشرنا إليه لمطلبهما بالكلام المختصر عنهما أوَّلاً

ص: 211

لخلوِّهما عن كبير الفائدة بالتَّفصيل لهما للتَّفرُّغ ثانياً بعد ذلك إلى ذلك الأصيل.

أمَّا الكلام عن الأوَّل من الاثنين الإضافيَّين، وهو الزَّائد من الأعمال على الوقت وهو الَّذي لا وجود له في أصله لا في التَّكوين ولا في التَّشريع وبالأخص إذا كان الواجبيستغرق في أداءه الوقت وزيادة، لأنَّه بذلك لابدَّ وأن يخالف عقيدتنا الحقَّة في العدل الإلهي والَّتي لا يجوز لأي شخص الشَّك فيه للأدلَّة الكثيرة الثَّابتة في محلِّها من علم الكلام ولقوله تعالى [قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا](1) وقوله [وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا](2) وقوله [إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ](3) وقوله [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا](4)، وغير ذلك ممَّا يدل على أنَّ الأمور مرهونة بأوقاتها كما سبق.

ولكن قد يحصل شيء من التَّجاوزات بصورة استثنائيَّة خارجة بالدَّليل الخاص وغير المنافي للعدالة، لكون التَّكليف لم يكن مثلها ما يستغرق الوقت كلَّه وزيادة، وإنَّما من قبيل ما قد يتجاوز الوقت ولكن بداية العمل كانت في ضمن الوقت الخاص لا من أوَّل الخارج عنه.

ولكن هذا لا يمكن ولا يجوز أن يقاس عليه إذا دلَّ الدَّليل عليه، كما لو لم يدرك المكلَّف من صلاته الأدائيَّة من آخر وقتها إلاَّ مقدار ركعة أو ركعتين أو ثلاث إذا كانت رباعيَّة والباقي صار في خارج الوقت كما في صلاة العصر الَّتي نهاية وقتها غياب الشَّمس وصلاة العشاء الَّتي نهاية وقتها للمختار نصف اللَّيل.

فلابدَّ من الاستعجال في مثل هذا الأداء لو ابتلي المكلَّف بهذا الابتلاء وأمثاله

ص: 212


1- سورة الطلاق / آية 3.
2- سورة الأحزاب / آية 38.
3- سورة القمر / آية 49.
4- سورة البقرة / آية 286.

وإن صار باقي الرَّكعات في خارج الوقت وهكذا بقيَّة الأمور لو كانت من هذا القبيل أو ما يشبهه لو دلَّ عليه الدَّليل.

للأدلَّة العامَّة الدَّالَّة على ذلك قبل الخاصَّة، وهي قوله تعالى [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا](1) وقوله تعالى [وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ](2) مع قاعدة الميسور المستفادة من الحديث المشهور (لا يترك الميسور بالمعسور) جمعاً فيما بينهما أي وإن تجاوز عن حدِّه المرسوم له.

وأمَّا ثاني الإضافيَّين: وهو الَّذي لا وقت له خاص في الشَّرع وإن كان كل فعل لابدَّ له بالطَّبع من وقت يحتويه، إلاَّ أنَّ الشَّرع وسَّع نطاقه، وهو إمَّا فوري كإزالة النَّجاسة عن المساجد أثر رؤيتها والنَّهي عن المنكر أثر حصول مقتضيه وردِّ السَّلام لمن بدأ به فوراً وإن كان واجباً كفائيَّاً والفوائت من الصَّلاة والصَّوم ونحوهما إذا بدت إمارات الموت على المكلَّف بها.

وإمَّا غير فوري كقضاء الفوائت خارج الوقت الأدائي بلا مقتضي ملزم للتَّعجيل كالصَّلاة والصِّيام ونحوهما.نعم يمكن أن يستثنى من سعة وقتهما مثلاً حضور الصَّلاة الحاضرة فإنَّها إذا ضاق وقتها الأدائي قُدِّمت على الفائتة، وهكذا الصَّوم القضائي بالنِّسبة إلى ما عدا يومي العيدين وأيَّام التَّشريق لمن كان بمنى سواء كان ناسكاً أم غير ناسك وأيَّام شهر رمضان الخاصَّة بالأداء في أيَّامها دون أن يكون فيها أي قضاء.

ومن غير الفوريَّات الخمس والزَّكاة إذا لم تبدأ في أموالهما حالة التَّلف أو ظن السَّرقة، أو حاجة المستحق السَّريعة لهما، أو ضعف المالين عن القدرة الشِّرائيَّة بسبب التَّعطيل، أو يصعب إيصالهما إلى الحاكم الشَّرعي لبعض الطَّوارئ وإن

ص: 213


1- سورة البقرة / آية 286.
2- سورة محمد / آية 33.

طالب بهما.

ومن غير الفوريَّات كذلك صلاة الجنائز، إلى غير ذلك ممَّا ليس له وقت معيَّن ممَّا هو محرَّر كله وبإسهاب في الفقه فليطلب هناك.

وبهذا البيان من المقدِّمة نكتفي لهذا الاطِّلاع العام ولأخذ الفكرة العامَّة عمَّا ينبغي التَّحرُّز عنه حين الخوض في صميم الموضوع وذي المقدِّمة المهم.

فنقول عن الأوَّل: وهو المقصود في البحث وهو الَّذي عبَّرنا عنه بالمؤَّقت ولنأخذ ما كان موسَّعاً منه وهو الأهم كما سلف وكما سيأتي.

فإنَّه قد ذكر الأصوليُّون من علمائنا عنه قدس سره بأنَّ الأمر بالفعل في وقت يفضل عنه جائز عقلاً، بمعنى إمكانه وعدم امتناعه وواقع على الأصح شرعاً، وهو كذلك وورد نقلاً كما لا يخفى على المتتبِّعين للنُّصوص الشَّرعيَّة وظواهرها في المقام والَّتي كلَّفتنا بذوات الأوقات الموسَّعة من العبادات وغيرها، وهو الَّذي يمكن بل يصح أن يسمَّى بذي الوقت الموسَّع، لأنَّ فيه توسعة على المكلَّف بحكم تجويز أداءه في أوَّل الوقت وفي أثناءه وفي أواخره.

كالصَّلوات اليوميَّة وصلاة الآيات في حالتيهما الشَّرعيَّة الطَّبيعيَّة، وكلِّي فريضة الحج في ضمن أشهره الثَّلاثة وبقيَّة أعمال الحج المفصَّلة ما عدا الوقوفين، لحكمة إلهيَّة لا يعلمها إلاَّ الله، أو لأنَّهما أهم ركنين في الحج، إلاَّ إذا قصدنا من الرُّكنين خصوص المسمَّى الجزئي، فتحصل السِّعة كذلك وإن كان عليه فداء عند المخالفة.

والعمرة المرتبطة بأوقات كل منها المفصَّلة إلى غير ذلك ممَّا وردت فيه الأدلَّة الكافية بحكم اللطف والفضل الإلهيَّين الزَّائدين على وجوب شكر المنعم على عظيم نعمه الَّتي منها سعة الوقت والثَّابت في حقِّه وجوب هذه الأمور على العباد وعلى نحو من السِّعة وقاعدتها.

أمَّا من جهة العموم فهي آيات عديدة منها قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ

ص: 214

يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ](1) وإن جاء في ضمن آيات الصَّوم وغيره لسعة الحياة في مشاغلها اللازمة الأخرى.

وأمَّا من جهة الخصوص كما فيما يتعلَّق بالظهرين من هذا التَّوقيت الموسَّع في مثلقوله تعالى [أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ](2) وغيره ممَّا سوف يأتي ذكره عند التَّفاصيل الفقهيَّة.

إلاَّ أنَّه لأجل هذا التَّوقيت المومى إليه بالتَّوسعة لا يجوز ترك الواجب في جميع الوقت بطريق أولى حتَّى بترك فعله إلى وقت القضاء وإن أمكنت صحَّته، لأنَّه قد يكون في حالة غير اختياريَّة حتَّى لو صوحبت بشيء من التَّساهل والمعصية.

لما قد فرَّقنا فيه بين الحكم التَّكليفي والوضعي لأدلَّة الوجوب في الوقت وحرمة التأخير عنه أدائيَّاً، ولوجوب احترام اللطف والفضل الإلهيَّين.

وإن اكتفى الشَّرع في سعته بالمرَّة الواحدة في أصل الشَّرع، أو أنَّه وجبت الإعادة أو استحبَّت، تحت عناوين أخرى ليس هنا موضع بحثها.

وبهذا القول قال أكثر الأصحاب كالمرتضى والشَّيخ والمحقِّق والعلاَّمة وصاحب المعالم قدس سره وجمهور المحقِّقين من العامَّة(3).

ولكن أشكل آخرون بل أنكروا على هذا، لظنِّهم أنَّ هذا يؤدِّي إلى جواز ترك الواجب حينما يترك من أوَّل الوقت ويؤخِّر إلى وسطه مثلاً أو يترك من وسطه بعد اليأس من أوَّله ويؤخِّر إلى ما قبل آخره، وهكذا فيما هو الأوسع من الأوقات لمثل الواجب الواحد من الواجبات.

فمنعوا هذا السَّراح المطلق بما مضى ذكره بين قائل بأنَّ الوجوب فيما ورد من

ص: 215


1- سورة البقرة / آية 185.
2- سورة الإسراء / آية 78.
3- معالم الدين وملاذ المجتهدين ص73.

الأوامر الَّتي ظاهرها ذلك كان مختصَّاً بأوَّل الوقت وهو المستظهر من كلام المفيد قدس سره على ما ذكره العلاَّمة قدس سره عنه.

وبين قائل بأنَّه مختص بآخر الوقت، ولكنَّه لو فعله في أوَّله كان جارياً مجرى تقديم الخمس والزَّكاة فيكون نفلاً يسقط به الفرض، وهو منسوب إلى بعض العامَّة من غير المحقِّقين.

وبين قائل بأنَّه مختص بالآخر كذلك ولكنَّه إذا وقع في الأوَّل وقع بلا حكم إلاَّ أنَّ المكلَّف إذا بقي على تكليفه تبيَّن أنَّ ما أتى به كان واجباً وإن خرج عن صفات التَّكليف كان نفلاً كتقديم غُسل الجمعة يوم الخميس أو ليلة الجمعة وهو منسوب إلى بعض آخر من العامَّة من غير المحقِّقين.

ولكن لا يخفى على المتتبِّعين ما في هذه الأقوال الثَّلاثة - على الرَّغم من جلالة قدر صاحب القول الأوَّل وهو الشَّيخ المفيد قدس سره إن ثبتت النِّسبة إليه - من الضَّعف.

ولذلك أجيبوا أوَّلاً: بما أسلفناه ممَّا قاله أكثر الأصحاب ممَّا لم يجعل في قول الشَّيخ المفيد قدس سره قوَّة استقلاليَّة بدون أن يكون في قبالهم مثل رأي الأكثر المشار إليه.

وثانياً: بأنَّ ما أفاده الشَّيخ المفيد قدس سره - وإن كان ظاهره عدم الرِّضا بتأخير الواجب عن الوقت الأوَّل لو طبِّق في الزَّمن الثَّاني فضلاً عن الثَّالث أو الأبعد من ذلك الموسَّعالمفترض في هذا القول، لأهميَّة رجحان عموم التَّقديم غير المستنكر - أنَّه يكون من القضاء أو ما يجري في مسلكه مع هذه السِّعة وهو غريب.

بينما هذا القول المستظهر من سماحته قدس سره لا يؤدِّي إلاَّ إلى ما يخص الوقت المضيَّق لا الموسَّع المفترض.

ولأنَّ الاختصاص المشهور بيننا مثلاً إن كان يقصده لمثل صلاة الظُّهر من الوقت الموسَّع من أوَّل وقتها وهو ما كان بمقدار أدائها، وهكذا المغرب من أوَّل وقتها الموسَّع بمقدار أداءها وهو لا يعني حرمة الأداء لكلٍّ منهما في الوقت الثَّاني أو ما

ص: 216

بعده وإلى ما قبل وقت العصر بمقدار الظُّهر أو ما قبل وقت العشاء بمقدار المغرب من آخر وقتيهما لتساوي أوقات الموسَّع المفترض في البحث.

اللَّهمَّ إلاَّ في فضيلة التَّقديم وقلَّة ثواب التَّأخير الَّذين أشرنا إليهما لا غير مع الاختيار والتَّعمُّد، وهذا لا يمكن إنكاره.

بل لا ينبغي أن يُتساهل فيه لكراهة التَّأخير عمداً فضلاً عن عدمهما.

ولهذا لا يمكن في أمر وجوب الأداء في الزَّمان الأوَّل أن نرتضي به كما يفيد المفيد قدس سره أن يكون التَّوجيه الوجيه إلاَّ بنحو حرمة صلاة غير صلاة الظُّهر في وقتها الخاص من أوَّل هذا الموسَّع لها وللعصر، وكذلك حرمة صلاة غير صلاة المغرب في وقت المغرب الخاص من أوَّل الوقت الموسَّع لها وللعشاء كما لا يخفى.

ولا يخفى أنَّ الفرق واضح بين حرمة غير صلاة الظُّهر في وقتها الخاص المذكور وحرمة صلاة غير المغرب في وقت المغرب الخاص المذكور.

وبين وجوب الظُّهر أو المغرب في الوقتين الخاصَّين لهما وبالنَّحو الَّذي لا يسمح من التَّأخير في وقتيهما الموسَّع.

لكون هذا الأخير يحتاج إلى دليل صريح، بل هو باطل إجماعاً، هو وادِّعاء وجوب الفرض في الوقت الأخير مع السِّعة المفترضة في البحث كما سوف يتَّضح.

وثالثاً: إنَّ القولين الأخيرين الآخرين ليس لعَلَم من فقهائنا وأصوليينا ولا جمهور محقِّقي العامَّة من يُرتضى بهما، وهكذا غيرهما من أراء أخرى متروكة لا يُعتنى بها.

إضافة إلى أنَّ القول الأوَّل - من هذين القولين في جعل قائليه الوقت الأخير من الموسَّع هو الواجب لا غيره - لعلَّه كان كذلك من كونه لو تخلَّف عنه لصار قضائيَّاً لا لأجل الحصص الزَّمنيَّة السَّابقة على هذا الأخير ليكون نفلاً لو فعل الواجب فيها ومُسقطاً للفرض بها.

ص: 217

لأنَّ الواجبات الموقوتة لا يمكن أن يعوَّض عنها تقديم فعلها على أوقاتها لو كانت أوقاتها متأخِّرة حقَّاً، وبالأخص حينما يعتبر التَّقديم نفليَّاً.

وعليه فلا يمكن أن يستدل لهذا بقوله تعالى [وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ](1) كما قد يتوَّهم، لأنَّ الآية لا تريد إلاَّ الإسراع بفعل الخيرات العامَّة قبل فواتالأوان وفراق الحياة وهو غير شامل لتقديم الواجبات على أوقاتها الخاصَّة وبالنَّحو الاستحبابي المعوِّض عن الواجبات.

وامَّا تقديم الخمس والزَّكاة على وقتهما إن أجزناه فإنَّما هو بنحو الدفع قرضاً لا بنحو صدق الخمس والزَّكاة قبل وقتيهما، لأنَّهما قد لا يصدق الحكم بوجوبهما إن حلَّ الوقت المنتظر فيه صدق ذلك لهما، وقد لا يبقى المستحق لهما مستحقَّاً عند صدق وجوبهما حقَّاً فلا يصدق حينئذٍ ما مثَّلوا به أو مُثِّل لهم به.

وإنَّ القول الثَّاني - من القولين الأخيرين في جعل قائليه الوقت الأخير من الموسَّع هو الواجب لا ما سبقه، ولكنَّه إن سبق فعله على الأخير فإنَّه يكون بلا حكم إلاَّ إذا جاء الوقت الأخير وثبت البقاء على التَّكليف فيعوَّض هذا السَّبق بنحو الكشف -

لا يمكن فيه قبول الكشف في المقام، لعدم تسليم قاعدَّيته في كلِّ مورد يحتمل دخوله فيه بل هذا القول أوهى من سابقه.

لأنَّ فعل الأمر قبل وقته يكون عند أولئك نفلاً، وأمَّا عند هؤلاء لا حكم له.

إضافة إلى أنَّ التَّمثيل لقولهم فيما لو لم يبق التَّكليف على حاله -- بمثل تقديم غُسل الجمعة عليها في يوم الخميس أو ليلتها وجعله نفلاً -- لا يمكن المساعدة عليه، لعدم التَّناسب بين اللا حكم في السَّابق كما افترضوا وبين الاستحباب.

إضافة إلى أنَّ صدق عدم التَّكليف لا يتناسب مع أي حكم حتَّى المستحب.

ص: 218


1- سورة البقرة / آية 110.

ونزيد على ذلك بأنَّ تقديم غُسل الجمعة لم يثبت فيه الاستحباب تامَّاً وإنَّما يؤتى به لرجاء المطلوبيَّة، ولذلك لا يصلح هذا المطلب إلى هذا الحد دليلاً.

خلاصة البحث

نقول: بعد افتراض الوقت الموسَّع - للواجب الواحد كالظُّهر مثلاً أو المغرب مثلاً أو الواجبين كالظُّهر والعصر أو المغرب والعشاء في وقت كل من الاثنين الأولى والاثنين الثَّانية المشترك - ثابتاً في المقام وأنَّه غير ما هو الخاص بضيق أو باختصاص، مثل الوقت الأوَّل المحصور لصلاة واحدة أو الوقت الأخير كالعصر أو العشاء أو ما قبل الأخير كالظهر والمغرب المحصور كل ما تقدَّم لصلاة واحدة الَّذي يجب فعل الواجب فيه.

بحيث لا يجوز تعدِّي أحد هذين الوقتين الخاصَّين إلى الوسط الواسع بحكم مشترك إلاَّ بالتَّوجيه الَّذي ذكره هؤلاء المستدلُّون بمقدار أداء الصَّلاة الخاصَّة ممَّا مضى بركعاتها.

بل إنَّه المشترك للصَّلاتين ولكنَّه بتقديم الظُّهر على العصر أو المغرب على العشاء على ما سيتَّضح في محلِّه وأنَّه الموسَّع للظُّهر أو للمغرب من الوقتين على الأقل كشاهد ثابت للتَّمثيل الموضِّح للمقام.

فلابدَّ حينئذٍ من تساوي جميع أجزاء الوقت الموسَّع القابل لتقسيمه على حصص متساوية من أوَّل الوقت إلى آخره من كلِّ منهما، بحيث يمكن أداء كلٍّ من الصَّلاتين في كلِّ حصَّة زمنيَّة مناسبة من هذه الحصص بلا أن تكون قضاءاً أو نفلاً خارجين عن مقامنا أو ليس لها بالتَّقديم حكم أو نحو ذلك، سواء تقدَّم الأداء أو تأخَّر مع ذكر فارق الفضيلة الَّذي ذكرناه وفارق ما وجَّهنا به الأداء في الحصَّة الأولى والحصَّة الأخيرة أو ما قبلها.

ص: 219

وبحيث لو لم يأت المكلَّف بواجبه في الوقت الأوَّل لأمكنه الإتيان به في الثَّاني، ولو لم يمكن الإتيان به في الثَّاني ففي الثَّالث، وهكذا إلى الآخر أو ما قبله ممَّا مرَّ ذكره.

علماً بأنَّ تكرار هذا الواجب الواحد بعد الاطمئنان بأدائه وبصحَّته لغو لا داعي له إلاَّ في مستثنيات خارجة عن موضوعنا لا علاقة لها في بحثنا هذا.

فلا يقال باعتبار التَّساوي أنَّه بمعنى إمكان التِّكرار في جميع الحصص المتساوية فضلاً عن الوجوب، وإنَّ تساويه المقصود بالذِّكر لا يعني دخول القضاء مع الأداء فيه لما سيأتي شرحه في تابع آخر.

وإنَّ مؤشِّر الموت الَّذي ذكرناه أكثر من مرَّة في وجوب التَّعجيل بالأداء ليس بدائم، لأنَّ في مقابله الأمل في الحياة، ولأجله صدرت الأوامر باستمرار الواجبات، ولولا الأمل لبطل العمل.

إضافة إلى ما ذكرناه من اللطف والفضل الإلهيَّين بالتَّوسعة الَّتي تحتاج إلى شكر المنعم تعالى عليها، لا عدم الاعتداد بحكم السِّعة بالمرَّة.

وعلى أساس هذا التَّساوي في كلِّ هذه الحصص لو أديت الصَّلاة مثلاً في الحصَّة الأخيرة وما قبل النِّهاية - صحيحة في ركعاتها وشروطها - حتَّى لو فرضت المعصية عند التَّخلُّف عمداً عن الحصَّة الأولى بناءاً على رأي الشَّيخ المفيد قدس سره.وهكذا الثَّانية أو الثَّالثة الَّتي قبل الأخيرة، بناءاً على أنَّ الأمر بالشَّيء يقتضي النَّهي عن ضدِّه، وقد جاء للحصَّة الأولى مع فرض التَّوسعة والمساواة الَّتي فيها فإنَّه لا يعني فيه اقتضاء هذا النَّهي الفساد.

لأنَّ الفساد الَّذي يمكن أن يتصوَّر في المقام هو الصَّلاة قبل وقتها وهو ما قبل الزَّوال مثلاً وإن كانت مطابقة لفقهيَّاتها الذَّاتيَّة أو كانت قد صُلِّيت في داخل الوقت كالحصَّة الأولى ولكنَّها بلا وضوء أو معه ولكنَّه مع الخلل المبطل له أو نحو ذلك من

ص: 220

المنافيات، وهذا غير موردنا.

لأنَّ المورد المبحوث عنه هو التَّأخير إلى الحصَّة الثَّانية أو الأكثر إلى الأخيرة مع حفظ جميع الضَّوابط الشَّرعيَّة.

إضافة إلى أنَّه لا يمكن قبول المساواة المدَّعاة بين الحصص على أن توزَّع ركعات الصَّلاة الواحدة أو جميع أفعال الرَّكعات بين الحصص الممكنة من الزَّوال إلى الغروب أو من الغروب إلى منتصف اللَّيل للمختار من الوقتين الموسَّعين الأخرين، وبهذا تكون المساواة لا ضير فيها ولا يضر في الواجب الواحد الأداء في الأوَّل أو الوسط أو الأخير، وهكذا لو اشترك الوقت بين فرضين كالظُّهر والعصر والمغرب والعشاء إلاَّ في الفضيلة وعدمها ممَّا تمَّت الإشارة إليه.

وبعد هذا كلِّه فلن يبقى عندنا إلاَّ قولان للسَّلف الصَّالح ومن تبعهم.

القول الأوَّل: قول السيِّد المرتضى علم الهدى قدس سره واختاره شيخ الطَّائفة حكاية عن المحقِّق الحلِّي قدس سره وتبعهما السيِّد أبو المكارم بن زهرة قدس سره والقاضي سعد الدِّين بن البرَّاج وجماعة من المعتزلة(1).

وهو القول بوجوب البدل، وهو العزم على أداء الفعل في الحصَّة الثَّانية من الوقت إذا أخَّره عن الحصَّة الأولى أو على الثَّالثة إذا أخَّره عن الحصّة الثَّانية، وهكذا في الباقي.

ولكنَّا نقول: بأنَّ هذا الرَّأي لو راجعنا ما سبق وهو التَّابع الثَّاني فإنَّه لا يختلف عن الفور الَّذي نفيناه.

وإذا أرادوا من الأمر تكراره مع كلِّ حصَّة يتخلَّف المكلَّف عن أداء واجبه فيما

ص: 221


1- راجع معالم الدين وملاذ المجتهدين ص74، عن كتاب معارج الأصول، ص 74، وكتاب نهاية الأصول، ورقه 70، ص1.

سبقها فهو خلاف الظَّاهر من أوامر آيات الأحكام أو ما يتبعها من السنَّة الشَّريفة، وإلاَّ لانقلبت التَّوسعة اللطفيَّة التَّفضليَّة إلى التَّعيين المضيَّق أو ما يؤدِّي إليه، في حين أنَّ الخطاب الإلهي واحد لا شكَّ فيه بحسب كلِّ أمر.

إذن هو مخالف للبلاغة والإعجاز المعروفين من لسان مصادر التَّشريع المهمَّة.

بل إَّن المعصية على هذا عند التَّخلُّفات سوف تكون موزَّعة على جميع الحصص، بينما الواقع أنَّها لم تكن واضحة إلاَّ بعد انتهاء وقت كافَّة الحصص بدون امتثال، فلو أدى المكلَّف واجبه حتَّى في الوقت الأخير فلا معصية.نعم لا تنكر الأفضليَّة المشار إليها في السَّابق وكما ورد ممَّا قدَّمناه من آيتي المسارعة والاستباق في التَّابع الثَّاني، ودلالة أمر الصَّلاة الفوري مثلاً على الاستحباب مع القرينة ما دام الوقت داخليَّاً.

وأمَّا دلالته على الوجوب وحرمة التَّرك في هذه الفوريَّة غير المحتاجة إلى القرينة فما هو إلاَّ ثابت مع كمال الامتثال في الوقت بتلك المرَّة الواحدة الواجبة في أي حصَّة من الحصص الدَّاخليَّة وحرمة التَّخلُّف لو انتهى بدون تلك المرَّة.

ومع ذلك فقد وردت روايات تعلَّقت بأمور الحكم الدَّاخلي للأوقات الموسَّعة نكتفي بما ورد منها عن الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ، فعن أبي عبدالله u قال : (إنَّ فضل الوقت الأوَّل على الآخر كفضل الآخرة على الدنيا) (1) وعنه u أيضاً (أوَّله رضوان الله، وآخره عفو الله، والعفو لا يكون إلاّ عن ذنب)(2) إلى غير ذلك.

فإذن لابدَّ من دلالة هذه الرِّواية وأمثالها على ما يتعلَّق بالوقت الواسع وما يمكن إجراؤه فيه من الواجب في أوَّله أو آخره لا خصوص الواجب الواحد المحدَّد في أمر إبراء الذمَّة منه بما يُتصوَّر، فإنَّه يمكن فيه تصوُّر السِّعة لمثل صلاة الصُّبح الوحيدة

ص: 222


1- وسائل الشيعة ج 4 ص121.
2- نفس المصدر السَّابق.

فيه.

القول الثَّاني: وهو الَّذي مفاده النَّقض على القول السَّابق، وهو رأي الأكثرين في تعبير البعض، ومنهم المحقِّق والعلاَّمة وصاحب المعالم قدس سره:-

حيث قالوا بعدم الوجوب، لأنَّ الأمر ورد مطلقاً بالفعل وليس فيه تعرُّض للتَّخيير بينه وبين العزم.

بل ظاهره ينفي التَّخيير ضرورة كون الأمر دالاًّ على وجوب الفعل بعينه لا ببدله، فيبقى وجوب العزم محتاجاً إلى دليل يخصَّه، والإصرار على القول به تحكُّم كتخصيص الوجوب بجزء معيَّن والوقت الموسَّع.

وهذا الثَّاني وهو النَّقض يعطي عين ما رددنا به القول الأوَّل أو الأقرب إليه، وهو المناسب لما استقرَّ عليه رأينا من عموم ما مضى ذكره، فلا يحتاج إلى تعليق إضافي.

وأمَّا المضيَّق من المؤقَّت المذكور فهو الَّذي لا إشكال في إمكانه ووقوعه، بل لا ينبغي فيه الإشكال مطلقاً من عالمه وإن كان غير طبيعي في بابه الشَّرعي كالموسَّع.

لأهميَّة التَّفريق بين الحدث الَّذي لا يزداد على حيِّزه الزَّماني المحدَّد له تكويناً ولا ينقص وإن كان عبادة شرعيَّة وبين الحدث الَّذي جعل له الشَّرع وقتاً موسَّعاً يحويه ويحوي أمثاله مرَّات لطفاً وفضلاً منه، لئلاَّ يفرط به بسبب المزاحمات المهمَّة الأخرى من الأحداث، كالصَّوم في كلِّ نهار لأيَّام شهر رمضان المبارك من الفجر إلى الغروب بل في رمضان كلِّه من الهلال إلى الهلال.

وهكذا حج البيت في عام الاستطاعة مع حرمة التَّسويف.

وهكذا يوم الثَّالث من أيَّام الاعتكاف وإن ابتدأ باليومين السَّابقين بنحو اختيارياستحبابي.

وكذا ما يجب من المؤقَّت المضيَّق من الصَّلاة أو الصِّيام بنحو النَّذر أو العهد أو

ص: 223

اليمين.

وهكذا الحصَّة المضيَّقة من الموسَّع إذا جاءت مؤشِّرات الموت.

وكذا وقت الظُّهر الخاص من أوَّله إذا كان معنى ضيقه أن لا يقدِّم المكلَّف هذه الصَّلاة على الزَّوال أو لا يصلِّي غير الظُّهر مكان الظُّهر.

وهكذا وقت العصر الخاص في آخر الموسَّع الَّذي يعني في ضيقه أن لا يصلِّي غيرها في وقتها أو أن لا يتجاوز عن هذا الوقت بلا صلاة.

وهكذا ما يتعلَّق بالمغرب والعشاء ممَّا سبق ذكره، وكذا صلاة الفجر في موارد الضِّيق وكذا الآيات.

فإنَّ الضِّيق الَّذي في الصَّوم حينما صار صار بتكليف نفسي لا فعلي كالصَّلاة الَّتي تحتاج للاهتمام بها في حكمها الأوَّلي إلى السِّعة الوقتيَّة.

لكنَّ الرَّادع النَّفسي عن المفطِّرات فيه لا يمنع عن وقت سعته في إمكان إجراء أعمال ضروريَّة أخرى، إضافة إلى فسحة اللَّيل وسعته لمزاولة الأمور العاديَّة، وهكذا الاعتكاف الشَّبيه به.

والضيق الَّذي في الحج عام الاستطاعة بعد دخول أشهر الحج وإن كان بمعنى عدم جواز التَّأخير إلى العام الآتي، لكنَّه إذا لوحظ وهو في ضمن أشهر الحج الثَّلاثة أو في ظروف أعماله الفرعيَّة المتعدِّدة عمرة وحجَّاً سواء عمليَّة الإحرام أو كان طوافاً أو صلاة أو سعياً أو تقصيراً في العمرة.

وهكذا أعمال الحج الخاصَّة من الإحرام إلى آخر شيء منه حتَّى طواف النِّساء، فإنَّها أغلبها لا تخلو من السِّعة الزَّمنيَّة حتَّى في الوقوفين في مسألة إدراك الرُّكنيَّة بالمسمَّى الكافي وإن أوجب ترك باقي ما بين الزَّوال إلى الغروب في عرفة وترك باقي ما بين طلوع الفجر وطلوع الشَّمس في المزدلفة دفع الفداء والكفَّارة على ما هو المفصَّل في موضعه، وهكذا بقيَّة ما مثَّلنا به.

ص: 224

وأمَّا إلحاق ما ذكرناه من بعض أمثلة ما كان موسَّعاً من غير ذلك فلا يعتريه حكم الضيق بالعنوان الأوَّلي.

وكذا لا يكون الوقت الأوَّل من الموسَّع واجباً ملحقاً بالمضيَّق ولا جعل الوجوب مودعاً على نحو البدليَّة كي يضيِّق السِّعة في الموسَّع ولا الوقت الأخير من الموسَّع بالمعنيين ممَّا قاله الفريقان من خيرة محقِّقي العامَّة من هذا المضيَّق إلاَّ بسبب انحصار الأداء فيه بسبب عدمه فيما سبق مثلاً كانحصار الفرض في بعض حصص ما سبق ذكره بسبب مؤشِّر الموت أو بمعنى عدم جواز التَّقديم على أوَّل الوقت لكونه وقتاً خارجاً غير شرعي فإنَّها من الملحقات بالمضيَّق لا من أساسيَّاته كما مرَّ ذكره.

التَّابع الرَّابع / هل يدل نسخ الوجوب على الجواز؟

ذكر الأصوليُّون هذا البحث تحت عنوانه، ولكن كان ذكرهم له على الأكثر للاستعراض العلمي النَّظري، ولم يهتمُّوا فيه بأنَّه ذو فائدة عمليَّة محرزة كبيرة أو قليلة ولو ظاهراً أو حتَّى لو لم تكن.

لاحتمال كون بحثهم هذا كان لتوسعة الذِّهن فقط على ما هو المحرز، أو لعلَّه كأطروحة خدمة للعلم والعلماء تحضيراً لمحصِّلي المستقبل عسى أن ينتخبوا من سعيهم شيئاً باليد، ولو لأن ينفتح ذهنهم فيه وإن تأخَّر زمانهم إلى ما به رجاء بعض الثِّمار العمليَّة مستقبلاً إضافة إلى محض العلميَّة.

فقالوا: إذا وجب شيء في النُّصوص من آيات الأحكام أو توابعها في وقت خاص من أوامرها أو ما يلحق بها ثمَّ جاء ناسخ مقطوع به، بما قد يتفاوت فيه كلامهم في بقاء الجواز العام الَّذي كان مدلولاً للأمر مع المنع من التَّرك بعد مجيء ذلك النَّسخ للجزء الثَّاني من التَّعريف المؤلَّف من جزءين وهو الجواز والمنع من التَّرك وعدمه.

ص: 225

فهل يدل نسخ ذلك الوجوب على الجواز حتَّى المحمول على ما عدا المحرَّم أم لا؟

فمنهم من قال ببقاء الجواز ومنهم من قال بعدمه.

وفي الحقيقة إنَّ هذا يرتكز على مبنيين، كل مبنى عائد لفريق منهم.

فمبنى يُراد منه رفع خصوص المنع من التَّرك فقط دون الفقرة الأولى من التَّعريف، وهذا ما قد يتناسب مع قاعدة (إثبات الشَّيء لا ينفي ما عداه) ومثَّلوا لذلك بما إذا صدر أمر شرعي بالإتِّجاه في العبادات الخاصَّة إلى جهة بيت المقدس كما حدث سابقاً كقبلة للنَّاس ثمَّ حصل النَّسخ بعده بقوله تعالى في المسجد المعروف بمسجد القبلتين في المدينة المنوَّرة [فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ](1).

حيث قال المستدل: ببقاء الجواز إلى القبلة الأولى، محتجَّاً بأنَّ المقتضي للجواز موجود والمانع منه مفقود، فوجب القول بتحقُّقه.

ويمكن أن يستدل لهم كذلك بآية النَّجوى، فإنَّها بعد نسخ وجوب الصَّدقة للنَّجوى معالنَّبي 2، حينما لم يطعه أحد في ذلك إلاَّ أمير المؤمنينعَلَيْهِ السَّلاَمُ وحازها فضيلة لنفسه، وبقي الاستحباب، فهو داخل بناءاً على هذا في عموم الجواز.

ومبنى يُراد منه رفع الوجوب من أصله وهو ما يتعلَّق بمفاد كمال التَّعريف المذكور أعلاه أو قل الجواز مع المنع من التَّرك للبحث من جديد عمَّا يدل على الجواز المغاير للوجوب من الأحكام الخمسة وعلى الأخص مع إمكان العثور أو احتماله أو ظنِّه ما دام الانسداد العلمي لم يكن كاملاً أو كبيراً.

وبذلك قال العلاَّمة في النِّهاية وصاحب المعالم وبعض المحقِّقين من العامَّة(2)،

ص: 226


1- سورة البقرة / آية 144.
2- راجع معالم الدين وملاذ المجتهدين ص74، عن كتاب نهاية الأصول، ورقة 74، ص2.

واستدلُّوا على مدَّعاهم بما مضمونه وبتصرُّف منَّا:-

بأنَّه كما أنَّ الحيوان لا يتقوَّم ولا يوجد إلاَّ بانضمام قيد النَّاطقيَّة والصَّاهليَّة أو غيرهما من القيود في باب التَّعريفات للإنسان أو الفرس مثلاً، كذلك الإذن في الفعل في باب الأوامر لا يتقوَّم ولا يوجد إلاَّ بقيد المنع من التَّرك أو رجحان عدم التَّرك أو غيرهما من قيود أحكام الأوامر.

وأجاب من قال ببقاء الجواز بعد النَّسخ عند استدلاله:

بوجود المقتضي وعدم المانع بالمنع من وجود المقتضي، لأنَّ الجواز الَّذي هو جزء من ماهيَّة الوجوب في مقامنا وقدر مشترك بينها وبين الأحكام الثَّلاثة الأخر وهي الاستحباب والكراهة والإباحة لا تحقِّق له بدون انضمام قيودها إليه قطعاً وإن لم يثبت عليه الفصل للجنس.

لأنَّ انحصار الأحكام في الخمسة يُعد من الضَّروريَّات دون أن يتداخل بعضها في بعض، وحينئذ فالشَّك في وجود القيد يوجب الشَّك في وجود المقتضي.

ويمكن الإجابة عن آية النَّجوى:-

بأنَّ بقاء الاستحباب بعد أن كانت الصَّدقة واجبة ما جاء بعد نسخ الوجوب لوحده حتَّى يقال ما يقال وإنَّما جاء بدليل آخر يدل على الاستحباب ولو من تقرير المعصوم أو أدلَّة الصَّدقات العامَّة الكثيرة المستحبَّة الَّتي تقلب هذا الجواز إلى الاستحباب.

وعليه فمن طريق البت بكلٍّ من المبنيين والبناء عليهما من كل فريق يلتزم بمبناه منهما يمكن أن يُعرف مقدار دلالة نسخ الوجوب في أنَّه هل هو جزء تعريفه أم كله.

فإن بنينا على الأوَّل فلابدَّ من أن تبقى دلالة الأمر على الجواز على حالها لا يمسها شيء من النَّسخ.

لأنَّ الوجوب إذا كان ينحلَّ في تعريفه إلى الجواز والمنع من التَّرك ولم يرفع من

ص: 227

هذين الجزئين إلاَّ الثَّاني وهو المنع من التَّرك وحده فلا محالة أن يبقى الجنس الجامع وهو الجواز أو ما قد يسمَّى بالإذن في الفعل أو طلب الفعل الَّذي لا يبقى فيه إلاَّ ما في الأمور الثَّلاثة من الأحكام التَّكليفيَّة الخمسة ما عدا الوجوب المنسوخ مثلاً والحرمة المخالفة للوجوب مخالفتها التَّامَّة من الأوَّل.ولا يمكن دخولها حتَّى بعد النَّسخ في هذا المبنى، وهذا أتم من غيره فسوف يسهِّل للفقيه أمر الفتوى من دون تكلُّف المتابعة.

ولكن مع هذا لابدَّ أن يحتاج إلى تشخيص نوعيَّة الجواز المخالف للوجوب من الاستحباب أو الكراهة أو الإباحة من لسان الشَّرع للتَّدقيق المطلوب.

وإن بنينا على الثَّاني فلابدَّ من أن لا يبقى لدليل الوجوب شيء يدل عليه، لاعتبار أنَّ الوجوب معنى بسيط لا ينحل معناه إلى جزئين كالألفاظ المعرِّفة والمقرِّبة إلى الذِّهن لهذا المعنى البسيط.

فلا يتصوَّر في النَّسخ أنَّه رفع للمنع من التَّرك فقط حتَّى يبقى الجواز - وهو الجزء الأوَّل بعد رفع الثَّاني - هو السَّائد في التَّأثير.

وإنَّ هذا التَّركيب الموجود في التَّعريف ما هو إلاَّ للإعراب المقرِّب لهذا المعنى البسيط كبقيَّة التَّعاريف الأربعة للأحكام الأربعة الباقية الَّتي لا تنفك عنها، كالاستحباب البسيط الَّذي تعريفه الجواز الرَّاجح مع عدم المنع من التَّرك، والإباحة البسيطة الَّتي تعريفها الجواز مع عدم المنع من التَّرك وعدم التَّرجيح للفعل وبالنَّحو المتساوي، والكراهة البسيطة الَّتي تعريفها بأنَّها الجواز مع مرجوحيَّة الفعل وعدم المنع من التَّرك، والحرمة البسيطة الَّتي تعريفها بأنَّها لطلب التَّرك مع المنع من الفعل.

بحيث لا ترتبط هذه التَّعاريف الخمسة للأحكام الخمسة بعضها مع بعض.

وهذا ما يعني بأنَّ الجواز بعد النَّسخ الوارد يحتاج إلى دليل خاص يدل عليه أيضاً، ولا يكفي دليل الوجوب وحده بعد نسخه على أمل وجود شيء باقٍ من

ص: 228

الجواز ما دام كل حكم له اصطلاحه الخاص مع بساطته،

وعليه فيكون الفعل بعد النَّسخ معرضاً لاحتمال طرو كلٍّ من الأحكام الأربعة الأخرى إذا جاء دليل كلٍّ منها بدون معارضة.

ولكن نحن نقدر أن نقول في الختام كما أشرنا سلفاً بأنَّ البحث قليل الفائدة إن لم نقل بأنَّها منعدمة فيه عمليَّاً، وإن توسَّع الذِّهن به ولو لقلَّة هذه الفائدة بانحصارها في إيضاح إثبات هذا العدم العملي، وبالأخص حينما قلنا في بحوثنا السَّابقة عن النَّسخ في آيات الأحكام في بحثه الخاص بعد أن توصَّلنا هناك إلى أنَّه نسخ الحكم لا التِّلاوة - بأنَّ رفع الحكم في واقعه ليس هو كلُّه بل جزء منه وهو ما قد يسمَّى بالنَّسخ التَّخصيصي.

فإذا كان المنسوخ هو بعض الوجوب فلابدَّ من أن يكون له باق غير منسوخ، كما قد سبق التَّمثيل له بالصَّوم المنسوخ حكم وجوبه التَّخييري بين الصَّوم والفدية في بدء التَّشريع له، لعدم التَّعوُّد عليه بما يثبت خصوص الصَّوم على المكلَّف بعد ذلك التَّعوُّد بقوله تعالى [فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ](1) ونحو ذلك من حالات النَّسخ الأخرى.

فلا داعي للقول بالجواز في القول الأوَّل ما دام شيء من الوجوب باقياً حينما كان النَّسخ رافعاُ لبعض الوجوب دون كلِّه وعلى نحو التَّخصيص لا رفع التِّلاوة.

بل لا داعي لكلا القولين لعدم الفائدة بشيء مهم من المعنيين، لأنَّ كليهما لم يثبتلهما بصراحة أكثر.

وقد يبنى على الثَّاني من حيث المبدأ لوفرة الأدلَّة الَّتي قد تعرَّفنا على ما عدا الوجوب من الأحكام الأربعة الأخرى بعد حصول النَّسخ بدل القول بالجواز بنحو المجازفة بلا ركون إلى الأدلَّة.

ص: 229


1- سورة البقرة / آية 185.

التَّابع الخامس / الحقيقة الشَّرعيَّة والمتشرعيَّة في نظرتهما الثَّانية

هذا أحد مواضيع الأصول اللَّفظيَّة الَّتي ذكرها الأصوليُّون أو بعضهم قبل مباحث الألفاظ من مقدِّماتها كما مرَّ، ونحن ذكرناها في الجزء الأوَّل بالأسلوب العام الشَّامل للعلاقة اللُّغويَّة العامَّة حتَّى الَّتي قبل أن تتناسب مع مضامين الشَّرع في نصوصه شرعيَّة أم متشرعيَّة.

ونحن الآن نذكر الكلام عنها كذلك وإن كان فيها بعض التِّكرار، لكن حسب ترتُّبه المتعارف فيها بصورته المناسبة الأكثر من نفس مباحث الألفاظ الدِّينيَّة العامَّة من هذه الموسوعة، لإحاطة المطالع الكريم بالأوسع ممَّا يتناسب مع ما قبل مباحث الألفاظ وما بعدها كلَّما تقترب بحوثنا من الفقهيَّة الخاصَّة من ألفاظ آيات الأحكام ورواياته، وهوما يلي:-

الأوَّل: عدم الرَّغبة الأدبيَّة في المجاز نوعاً في الأدلَّة ما دامت الإرادة جدِّية وطبيعيَّة في بيان المعاني، سواء في الإبداء من جانب أو عند التَّفاهم.

فلم يكن المجاز العربي -- في لغة العرب المعتبرة في كونها أفضل اللُّغات في استيعاب مضامين وحي خاتم الرِّسالات وأفضلها، وهو القرآن الكريم، وإن كان يحمل في طيَّاته ومضامينه الكثير منه للحاجة إليه في مقاماتها الخاصَّة بذلك، كما سنشير إلى المهم منها من قسم آيات أحكامه وما يتبعها من السنَّة الشَّريفة --

مرغوباً فيه فقهيَّاً وأصوليَّاً، كما هو ديدن التَّشريع الإلهي ولسانه المتشعِّب لكل البشر في المعمورة بأعلى المضامين، الَّتي لابدَّ وأن تصل إلى كافَّة أذهانهم بالمباشرة أو التَّسبيب السَّهل اليسير وإلاَّ لاختلطت الحقيقة بالمجاز.

لكونه يبتعد كثيراً عن الحقيقة التَّكليفيَّة الواقعيَّة ولو ظاهراً في طبيعة مراحل الأداء، ولأنَّه قد يوصل إلى الإغراء بالجهل الممتنع في أن يكون للنَّاس فيه على الله

ص: 230

أيَّة حجَّة عند المخالفة للمعذِّريَّة الواضحة لهم بسبب ذلك ولقبح العقاب بلا بيان إلاَّ في بعض الاستثناءات وتحت العناوين الثَّانويَّة المبرَّر لها ذلك.

بينما التَّلفُّظ بخصوص الحقيقة أو ما يقترب معها يكون له تعالى عليهم تمام الحجَّة البالغة في ذلك، وله أن يعاقبهم على ترك الواجبات وفعل المحرَّمات بعد وضوح الأدلَّة بحقائقها النَّاصعة ولو بالتَّسبيب الاستدلالي من ربط شيء بشيء أو نفي شيء عن شيء من عدم صحَّته معه.

بل حتَّى اللُّغة الَّتي قد يُحتاج إليها في قواميسها عندما تضعف الأدلَّة الأصيلة أو تنعدم، فإنَّ المجاز بدون علاج يُعد في بعض الأمور غير مرغوب فيه نوعاً كذلك.

إلاَّ في باب التَّقيَّة أيَّام المحن كما كان في بدء الدَّعوة السريَّة للنَّبي صلی الله علیه و آله و سلم إلى الإسلام وبعد فقده للاتِّقاء من شر المنافقين وشر المنقلبين من أصحابه على الأعقاب حرباً له ولأهل بيته عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ولخلافة وصيِّه أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ يوم الغدير نفاقاً وبغضاً وحسداً وارتداداً وأخذاً بثأر أشياخهم المشركين الَّذين قتلوا بسيف الإسلام المسلول - سيف ذي الفقار - ولغصب تلك الخلافة كما حقَّقوا ذلك وفوق ذلك ممَّا يشيب منه رأس الإنسان الغيور قبل أهل العدل الإسلامي والولائي.

وبعد كثرة التَّيارات المخالفة والمحاربة تطرُّفاً وتعصُّباً لا يُطاق ومنها عهود الدَّولتين المشؤمتين الأمويَّة والعبَّاسيَّة وما بعدهما من عهود أهل النِّفاق والسَّلفيَّة وسلاطين الجور.

فقد استعمل هذا المجاز والكنايات والاستعارات والضمائر العامَّة والاختباريَّة والموهمة للمعاني الثَّانويَّة العقلائيَّة، ومنها التَّقيَّة أمام الأعداء خوفاً من بطشهم وفتكهم أو لإبعادهم عن المؤمنين.

مع أنَّ القضيَّة المرادة خاصَّة غير عامَّة في كلِّ مورد، وإن جاءت بها وبالحث عليها كثير من النُّصوص كتاباً وعترة وبتأكيدات كثيرة ومهمَّة لتخليص الفرقة النَّاجية

ص: 231

لتنجو من بطش أولئك الأعداء.

في حين أنَّه قد التزم ب- (التَّقيَّة) المخالفون أنفسهم في موارد خوفهم بين فرقهم المتنافرة.

فإنَّها بعد ما كانت في الموارد غير الاعتياديَّة فلا يجوز لنا إجراء نصوصها تلك في القضايا الاختياريَّة الَّتي لا ترتبط إلاَّ بالاعتياديَّات غير المخيفة خوفها الصَّحيح.

لكون تلك خاصَّة في مواردها، ولأنَّ الضَّرورة تقدَّر بقدرها دون أن يُلتزم بها في كلِّ مورد، ما دامت القدرة على الحجَّة والبرهان البالغين في مورد المحاججات ممكنين في موارد الاختبار الكثيرة جدَّاً ولو من فسح الأعداء أنفسهم أو غيرهم من بعض المخالفين العقلاء والمنصفين شيئاً من ذلك، من دون إخافة مؤذية أو فسح مخادع أو بعد ضعف تلك الدُّول الظالمة والمرتدَّة والمنافقة أو بعد قوَّتنا في مواقعنا الإيمانيَّة ممَّا سبَّب انتصار المبادئ الحقَّة للنَّبي 2 وأهل بيته الأئمَّة الأطهار عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ مع سيِّدة النِّساء الزَّهراء قدس سرهما وخيرة الأصحاب من بركة وجودهم والاحتكاك بهم والاستفادة منهم أحياءاً وأمواتاً -- لأنَّهم أحياءعند ربِّهم يرزقون -- بعد انتشار علومهم في مدرسة الإمامين الباقر والصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ حتَّى توسَّع التَّشيُّع وعلومه وعقائده وشرعيَّاته وإلى هذا اليوم بما شاء الله.

أو حاجة تلك الدَّولة أو الدُّول الظالمة لفسح المجال لبعض الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ كما حصل للإمامين الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ والصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ من العبَّاسيِّين بعد ضعف الدَّولة الأمويَّة وإلى حدِّ الانهيار، ثمَّ بالانتهاء سياسيَّاً عن العجمومة المبتلى بها آنذاك لفتح مدرستيهما العظيمتين على مصراعي بابيهما، وهكذا غيرهما حتَّى اليوم في بعض المجالات.

فإذن لابدَّ من استعمال الحقيقة في طبيعة التَّلفُّظ دون غيرها في الاختيار.

وأمَّا الإجمال والتَّعمية والتَّورية ونحوهما ممَّا مرَّ في هذه الآيات ممَّا جاء إضافيَّاً

ص: 232

فهو للاختصار ونحوه من حكمة الحكيم تعالى كما في السُّور المكيَّة القصار ممَّا فيه من بعض ألفاظ الفقهيَّات كما في بدء الدَّعوة أو لمعلوميَّته الثَّابتة من قبل المعاصرين للنَّبي 2 وأهل بيته الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ من بركة وجودهم أو التَّعلُّم منهم أو لأنَّه كان الوحي قد نزل بلسان أولئك الأقوام ممَّا لا تخفى معانيه عليهم نوعاً كما ورد في النُّصوص ممَّا سوف يتوسَّع عرضه لها عند تطبيق هذه الأصول في فقهيَّاتنا.

ولكنَّه اختفى الأمر علينا وعلى من سبقنا من الَّذين جاءوا بعد أولئك بسبب الأعداء والطَّامعين والمتساهلين والنَّقل بالمعنى ونحو ذلك ومن الكوارث الطَّبيعيَّة ونحوها وتجنُّب التَّعرُّف على تأويلات الأئمَّة الأطهار عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الَّذين نزل الوحي في بيوتهم حتَّى صار ذلك الانسداد العلمي الصَّغير الَّذي أكَّد عليه المحقِّقون من الأصوليِّين والمتعارف عندنا لدى ذلك التَّحقيق أيضاً وبما لا يمكن إنكاره.

أو كان ذلك بسبب البقاء على عهد العجومة وتكثُّر مدارسها - من كل غير عربي من غير مدارسنا - تعصُّباً قوميَّاً أو تساهلاً غروريَّاً بما يحمله ذلك العالم أو قلَّة في التَّحصيل العلمي بالنِّسبة إلى الآخرين أو للشُّبهات المثارة على بعض الألفاظ الواضحة قبل دفعها أو قبل التَّأمُّل في أمرها.

مع أنَّ علماءنا من السَّلف الصَّالح القريبين من عهود الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ جمعوا لنا خيار الأحاديث الشَّارحة للمجملات من الآيات في أمرها لتسليم وضوحها بعد التَّأمُّل.

ولأنَّ العلماء الفطاحل منَّا عرباً وعجماً صرَّحوا بأقوال مهمَّة تساعد على كون هذا الانسداد صغيراً، كتصريح الشَّيخ النَّائيني قدس سره بما مضمونه بأنَّ من يحاول التَّدخُّل في تنقيح أسانيد الكافي فلابدَّ أن يعتريه العجز.

وكذا تصريح الشَّيخ كاشف الغطاء قدس سره (إنَّنا كثيراً ما نصحِّح الأسانيد بالمتون)(1)

ص: 233


1- الفردوس الأعلى / الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ص 51.

ونحوهما.

فجاء حلُّه في أموره وأوامره بسبب مرونة تلك الآيات الشَّريفة مع ما يفسِّرها من المتوسِّطة والطَّويلة بما لا يخرجها عن إعجازها وتسديد الشَّارع للأحكام فيها بين بعضها مع بعضها الآخر فيشرح بعضها بعضها.وبسبب السنَّة الشَّريفة لفظاً وعملاً وتقريراً من المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ كذلك يتم رفع ذلك الإجمال أو دفعه ونحوه من التَّعميات بتشخيصها أو بعضها.

وبسبب القوَّة الاستنباطيَّة الَّتي تعلَّمها العلماء خلفاً عن سلف من مصادرهم وطرقهم العديدة المتوارثة ممَّا حفظه الله تعالى لهم بقدرته الغيبيَّة، نتيجة لإخلاصهم التَّقرُّبي ومن حرصهم عليها في الحوزات العلميَّة النَّجفيَّة والحُليَّة والقُميَّة وغيرها من الكثير، وممَّا تعلَّموه ومارسوه من فنون الأدبيَّات المُعينة على الفهم والأصول النَّافعة مع تلك الممارسات الطَّويلة المعطاء.

يبقى لسان العقائد والقصص وبقيَّة المعارف وغيرها، فلا مشاحَّة في الاصطلاح إذا كان لها اصطلاح يغاير ما يتعلَّق بالفقه والأصول جملة أو تفصيلاً.

ولأنَّه لولا المجازات والكنايات والاستعارات في ذلك ومنه العقائد لكان الخالق مثلاً في تجسًُّم ونحو ذلك -- نسجير بالله -- بمثل ما ادَّعاه ابن تيميَّة وأمثاله، ممَّا هو مستحيل وممتنع ذاتاً بالنِّسبة إليه ولا يناسبه تعالى، لأنَّه ليس كمثله شيء من أشياءنا من المقولات التِّسعة.

ولجاز أن يُغالى في النَّبي 2 وأهل بيته عَلَيْهِم السَّلاَمُ بكثرة، بسبب المبالغة في مدحهم آيات وروايات، وإن كانوا عَلَيْهِم السَّلاَمُ فوق مستوى المخلوق دون مستوى الخالق تعالى.

إلاَّ أنَّه للخشية من كثرة الفتن المحرجة ومن التَّطرُّف ينبغي لنا التَّورُّع من بعض إضافات قد يتَّهمنا بعض مخالفينا بها، وإن كنَّا نحن بحسن نوايانا من شبهاتهم أبرياء.

وعليه فتكون الحقيقة فقهيَّاً هي المتعيِّنة في المقام، ولكنَّها هل هي الشَّرعيَّة المحضة

ص: 234

أم المتشرِّعيَّة حينئذ؟

فنقول في الجواب عنه: أنَّها تندرج ضمن البحوث الآتية بعد الَّذي مرَّ ذكره آنفاً من البحث الأوَّل وهو عدم الرَّغبة الأدبيَّة في المجاز نوعاً في الأدلَّة ما دامت الإرادة جديَّة وطبيعيَّة في بيان المعاني.

الثَّاني: ما مدى أهميَّة هذا البحث

فقد ثبت عندهم أنَّ هذا البحث لم يكن بذا فائدة مهمَّة، لعدم الاختلاف فيما بين السَّلف وعهد الأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ حتى عهد النَّبي 2 بأنَّ ما يشك فيه من النُّصوص الشَّرعيَّة بأنَّه هل يراد منه الحمل على المعنى اللُّغوي أو الشَّرعي؟

أو التَّوقُّف، وهو أنَّه لابدَّ وأن يراد منه الحقيقة.

إلاَّ أنَّها لم تُعلم، هل هي الشَّرعيَّة أم المتشرِّعيَّة؟

والجواب: لابدَّ وأن تكون للمتشرِّعيَّة، حيث مصاديق صدر الإسلام قبل تصريح النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم بأقواله المنسوبة إليه ممَّا مضى ذكره وما سيأتي، لا الشَّرعيَّة إلاَّ في زمن صدق التَّبادر وعدم صحَّة السَّلب.

لأنَّها معاني جديدة عند الأعم الأعلم من النَّاس لاحتياج أن تصدق معانيها بالتَّبادر والانسباق الذِّهني إلى مدَّة التَّعوِّد على سرعة فهم معناها عند إطلاقها ولا اللغويَّة، لما مرَّ بيانه في البحث السَّابق، ولا داعي للتَّوقُّف.

الثَّالث: هل الحقيقة شرعيَّة أم متشرِّعيَّة

قد مضى البحث عن هذين المقامين بأكثر من موقع حتَّى صار في المقام أصوليَاً رأيان:

أحدهما: رأي الحقيقة الشَّرعيَّة.

ص: 235

وثانيهما: رأي الحقيقة المتشرِّعيَّة.

وقد بحثوا فيهما قديماً وحديثاً في ضمن المباحث الأساسيَّة، لكنَّا قد جعلناهما هنا كما أشرنا من هذه التَّوابع، بعد تلخيص تلك الأساسيَّة البدائيَّة وتمحيصها لصالح هذه المتَّصلة بالشَّرعيَّات كثيراً.

ونحن قبل الخوض في ذلك وقبل الكلام عن أساسيَّات ما هنالك أو شيء منه لغة، وعرض أدلَّة كل من الرَّأيين.

لابدَّ أن نعرف ما معنى الشَّرعيَّة وما معنى المتشرِّعيَّة، كي نصل إلى ما هو المختار منهما عن معرفة صحيحة لمعناهما بالتَّوضيح الإضافي:-

أ / معنى الحقيقة الشَّرعيَّة

هو أنَّ جميع المصطلحات - حسب اعتقاد أصحابها - ما سبقها وما سبق الواضع لها - وهو المشرِّع تعالى وضعاً واستعمالاً بصدور الأوامر ليطاع الآمر تعالى - أي سابق.بل ما سبق بزوغ شمس إسلامنا العزيز الشَّرعي - في أزمنة الشَّرائع السَّماويَّة القديمة وذلك بمعنى حتَّى الحنيفيَّة البيضاء الإبراهيميَّة العشرة أو الأقل أو الأكثر ولا كتب الأنبياء السَّابقين وإن حرِّف أكثرها فيما بقي منها أو إن قلَّ النَّاجي كما في إنجيل برنابا ونحوه - أي سابق.

بحيث أنَّ النَّبي 2 بعد نزول الوحي عليه فقهيَّاً وشرح مقاصده لنا تامَّة -- في ذلك ببيانه وسنَّته الشَّريفة -- وأمرنا بالفرائض عمليَّاً.

كانت معانيها قبل ذلك التَّشريع -- من أوَّلها إلى آخرها مع فروعها جميعاً وما يتبعها من السنن والمستحبَّات والمكروهات والمحرَّمات -- غير معهودة سابقاً.

وكأنَّه كان يقول لمن بعث إليهم آنذاك مخاطباً لهم بما مضمونه (أنِّي وضعت لكم

ص: 236

هذا الشَّيء أو ذاك من الفرائض والأحكام) أو قام بقوله وبعمله هذا ليُقتدى به من قبلهم، أو يمضيه لهم كذلك إذا أجروه أمامه قولاً وفعلاً وتقريراً.

بدون أن يكون شيء من ذلك له سابقة في العهود القديمة من أزمنة تلك الدِّيانات.

بل حتَّى في اللُّغة الَّتي نقلت كتبها في قواميسها القديمة والحديثة ونقلت أشياء وغيرها من كون اللُّغة وقواميسها عربية، وهي صاحبة التَّضلُّع في بيان أدق المعاني من اللُّغات الأخرى، إضافة إلى الألفاظ القديمة العربية مع جميع معانيها.

لا شيء فيها - حسب ادِّعائهم - ما يشبه ما عندنا، فضلاً عن أن يكون هو نفسه.

فلم يصدق من هذا المعنى الحقيقي إلاَّ الَّذي تعوَّدنا عليه بسرعة الانتباه إليه عند مجرَّد إطلاقه.

وهذا في بداية أيَّام التَّشريع لم يتحقَّق منه شيء إلاَّ بالممارسة عمليَّاً مع النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وخلَّص الأصحاب.

ب - معنى الحقيقة المتشرعيَّة

وهو خلاف مفاد الشَّرعيَّة، وبنحو أن تكون الحقائق قد توصَّل إليها الفقهاء وأصوليوهم اصطياداً ومتابعة.

على أنَّها لا تنفي كونها كليات وصغريات أو بعضها كذلك أو ما يشبه جميعها أو بعضها في سابق عهود ديانات السَّماء.

ومن ذلك ما عثر عليه من بواقي ما لم يحرَّف من كتبها السَّابقة، وما نطق القرآن الكريم به في آيات أحكامه أو قصص الماضين ممَّا يتعلَّق بذلك.

ولأنَّ الوحي الإلهي واحد قديماً وحديثاً وهو لسان الإسلام الصَّادق في عهدَي القديم والحديث كما جاء عن القديم على لسان إبراهيم الخليل سلام الله علیها وغيره.

ص: 237

وكذلك جاء في قواميس اللُّغة الكثير والجم الغفير من الرَّوابط بين طقوس الماضي والتزاماتنا، من دون أن يكون أي مؤثِّر ثابت من نبينا صلی الله علیه و آله و سلم أنَّه تصدَّى للوضع الجديد وبالمعنى الأوَّل.

بل نُقل عنه قوله مثلاً (صلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي)(1) أو (خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ)(2)

وهكذا ثمَّ صلَّى أو حجَّ، وهو ما يدل بالتَّأكيد على أنَّه لا حقيقة تامَّة له بمجرَّد هذين القولين.

ثمَّ إنَّ هذين الحديثين الشَّريفين له صلی الله علیه و آله و سلم لا ينفيان منه صلی الله علیه و آله و سلم عدم العلاقة بالقديم من التَّعاليم ولو جزئيَّاً، وإثبات الشَّيء لا ينفي ما عداه.

وبعد بيان هذه المقدِّمة من معنى الاثنين لنعرف كلاًّ من الرأيين مع دليله جرياً علىما سبقنا السَّلف الصالح به مع بعض إضافاتنا للتَّوصُّل إلى ما هو الحق في الأخير وبالدقَّة الممكنة الأكثر.

وذلك بعد معرفة أساس أوضاع كل مصطلح فقهي وشرعي وعرفي خاص للشَّرع وهو اللُّغة العربيَّة القديمة لا محالة، لكونها الأساس الَّذي لابدَّ وأن يرجع إليه وجداناً جملة أو تفصيلاً عند الحاجة الماسَّة إليها إن لم يظهر من الشَّرع أو العرف ما يكفي.

وإن كان لنا رأي أدق من ذلك، باعتبار أنَّ للفقه والشَّرع ولعرفه الخاص رأي خاص كما سبق تحقيقه والتَّدقيق فيه.

فإنَّها وإن كانت هذه اللُّغة عامَّة تشمل كل لفظ أصيل مجمل بمعنى خاص ولأي

ص: 238


1- غوالي اللئالي ج1 ص197 الفصل التاسع ح8.
2- أخرجه مسلم (2/ 943، رقم 1297). واللفظ للبيهقي في السنن الكبرى (5/ 204، رقم 9542)، ولفظ مسلم: "لتأْخذوا مناسككم فإنَّي لا أدري لعلِّي لا أحج بعد حجتي هذه".

علم ومعرفة وغير ذلك.

كما واستعملت فيها الحقائق والمجازات ونحوهما كما أفرزه علماء الأدبيَّات العامَّة والخاصَّة المتعدِّدة من المعاني المختلفة وفصَّلوه وقسَّموه إلى عناوين ذكرها البيانيوَّن والمناطقة وعلماء الأصول وكوَّنوا منها مباحث مهمَّة جداً أُطلق عليها بمباحث الألفاظ بعد مباحث سابقة عليها وهي أساسيَّات لهذه المباحث فُصلِّت بنحو دقيق مناسب في علم أصول الفقه.

لكنَّها في أبرز ما فيها جداً وواقعاً تحمُّل الحقائق، وذلك بما معناه أنَّ الأعراف الخاصَّة لو تبانى أصحابها على شيء لهم خاص فيها على خلاف ما تعرفه اللُّغة من الحقائق الَّتي عندها أو كانت تلك الأعراف عند أهلها حقائق لكانت في نظر أهل اللُّغة مجازات إلاَّ إذا هجرت المعاني اللغويَّة القديمة وغلبت العرفيَّة الخاصَّة في عالمها في وصفها واستعمالها بحيث لم يُلحظ ذلك الأساس بأي اعتبار.

فحينما كانت الصَّلاة مثلاً عند أهل اللُّغة بمعنى الدُّعاء وعند أهل الشَّرع بمعنى كونها ذات الأركان الخاصَّة.

وحينما كان الصَّوم في اللُّغة لمطلق الإمساك وعند أهل الشَّرع بمعنى الإمساك عن المفطِّرات العشرة.

وحينما كانت الزَّكاة في اللُّغة هي النَّزاهة والنَّظافة وعند أهل الشَّرع هو إخراج المال الواجب المعروف.

وحينما كان الحج في اللُّغة هو مطلق القصد وعند أهل الشَّرع هو مناسك مكَّة المعروفة -

فلا شكَّ أنَّ المعاني اللغويَّة كافَّة عند أهلها حقائق وغيرها في نظرهم مجازات، وإن كان الغير في الواقع أنَّه من أهل تلك اللُّغة.

إلاَّ أنَّنا قد قلنا في السَّابق بعد التَّحقيق والتَّدقيق بأنَّ تلك اللُّغة بعمومها

ص: 239

وإطلاقها -- واختلاط أمورها المتعدِّدة بما يبعدنا عن مقصودنا الخاص في البحث -- هو خصوص آيات الأحكام، الَّتي لا تحمل سوى الأعراف الخاصَّة بل الأخص.

وإن كانت اللُّغة لها معاني حقيقيَّة في ظاهرها كالأسد وهو الحيوان المفترس والإنسان المعروف وهو النَّاطق. ومعاني عرفيَّة لها كالدابَّة لذات الأربع بعد كونها لكل ما دبَّ.

فلا يلزم إذن أن تكون مرجعنا في كل شيء، إلاَّ ما كان قد استثنيناه من موارد الحاجة الخاصَّة، وهي نادرة لا تتعلَّق إلاَّ بموارد تلك النُّدرة وانسداد باب العلم في المصادر الشَّرعيَّة، مع رجحان الاحتياط بالرجوع إلى أمثال كتاب (مجمع البحرين) وما حوته الموسوعات الاستدلاليَّة من اللُّغويَّات المناسبة بقربها لمثل هذا الكتاب.

إضافة إلى ما لو حصل هجران للمعنى الأوَّل كما ذكره علماء الأدبيَّات، وإن كان ما بين ذلك القديم وهذا الحديث شيء أو بعض شيء من العلاقة الجزئيَّة كما مرَّ وكما سيأتي.وحينئذ بعد ذلك الهجران صار ممَّا لا شكَّ فيه أن هذا الأخير يُعد من نوع الحقيقة الَّتي لا غبار عليها، إلاَّ ما وقع الشَّك فيه من بعض الحالات بأنَّه هل هذا الَّذي لابدَّ وأن يلتزم به ممَّا لم يسبق له فهم الماضين قبل الإسلام العزيز أنَّه من الوضع التَّعييني أو التَّعيُّني؟

فهو ما سوف يأتي قريباً بيانه في أدلَّة كل من الرَّأيين.

وتظهر حينئذ ثمرة النِّزاع فيما لو جاءت الآيات وما يتبعها من الرِّوايات بدون قرينة، كما هو المتعارف عند الفقهاء وعلماء الأصول.

فإن كان عدم القرينة تبادراً من نوع التَّعيين فهو الحقيقة كما مرَّ ذكره من الرِّوايات الشَّريفة آنفاً.

وإن كان من نوع التُّعين وهو ما يتفطَّن له الفقهاء وأهل الأصول عادة قديماً

ص: 240

وحديثاً، وبالأخص أهل التَّحقيق والتَّدقيق منهم، حتَّى أنَّهم ما عرفوا عنها إلاَّ كونها حقائق ولكنَّها من نوع أخفض من الوضع التَّعييني، لوجود العلاقة ولو جزئيَّة مع اللغة، ولذا تُعد في بدايتها من المجازات لكونها أعراف خاصَّة لا حقائق أصيلة.

وبعد التَّعرُّف على ما أردنا بيانه بعد الإنتهاء من المقدِّمة لنعرف كلاًّ من الرَّأيين مع دليله للتَّوصُّل إلى ما هو الحق في الأخير.

فالأوَّل، وهو الحقيقة الشَّرعيَّة.

فقد احتج المثبتون لها بنحو التَّعيين ومنهم المعتزلة مطلقاً كما قيل، بأنَّا نقطع بأنَّ الصَّلاة مثلاً اسم للرَّكعات المخصوصة بما فيها من الأقوال والهيئات، وأنَّ الصِّيام لإمساك مخصوص، وأنَّ الزَّكاة لأداء مال مخصوص، وأنَّ الحج لقصد مخصوص.

ونقطع أيضاً بسبق هذه المعاني منها إلى الفهم عند إطلاقها، وذلك هو التَّبادر وهو علامة الحقيقة.

ثمَّ إنَّ هذا لم يحصل إلاَّ بتصرُّف الشَّارع ونقله لهذه الألفاظ إلى تلك المعاني الشَّرعيَّة وهو معنى هذه الحقيقة الشَّرعيَّة.

ورُدَّ ذلك: بأنَّه لا يلزم من استعمالها - من قبل المتشرِّعة حينما وصلت إليهم - في غير معانيها الأساسيَّة -- كما سبق وأن ذكرناه - أن تكون حقائق شرعيَّة.

بل يجوز كونها مجازات عندهم، وإن كانت جديدة في بداية التَّشريع من زمن النَّبي 0، وقد اشتهرت بعد ذلك من زمن أمير المؤمنين u إلى يومنا هذا حتَّى صارت حقائق بالنَّحو الأخر فيما بينهم، بعد هجران العلاقة مع الماضي.

ولأنَّ الحقيقة بالمعنى الأوَّل مقطوعة العدم.

لأنَّه لو كان لنقل إلينا بالتَّواتر أو بالآحاد على الأقل لعدم الدَّاعي إلى الإخفاء، بل الدَّواعي متظافرة على نقله مع أنَّه لم ينقل ذلك أو شيء منه أبداً ولو كان لبان.

بينما العلاقة مع اللُّغة لها آثارها أو بعضها وإن انتقل الأمر إلى حقيقته الَّتي عند

ص: 241

المتشرِّعة بعد ذلك.

والثَّاني: هو الحقيقة المتشرعيَّة:-

فأحتج النَّافون مطلقاً ومنهم القاضي أبو بكر كما قيل بوجهين:

الأوَّل: أنَّه لو ثبت نقل الشَّارع هذه الألفاظ إلى غير معانيها اللُّغويَّة -- وهي الشَّرعيَّة -- بنحو التَّعيين لفهَّمها المخاطبين بها، حيث أنَّهم مكلَّفون بما تتضمَّنه تلك الألفاظ من المعاني الشَّرعيَّة، ولا ريب أنَّ الفهم شرط التَّكليف.

الثَّاني: لو كانت حقائق شرعيَّة كما قيل لكانت غير عربيَّة، واللاَّزم باطل، فالملزوم مثله، لأنَّ النَّاقل لمعانيها لابدَّ وأن يكون هو اللُّغة نفسها والمطلوب مفقود فيها.

بيان الملازمة: أنَّ اختصاص الألفاظ باللُّغات إنَّما هو بحسب دلالتها بالوضع فيها والعرب لم يفهموها -- لأنَّه المفروض -- فلا تكون عربية.

فمثلاً اختصاص لفظة (ضرب ونصر وعلم) باللُّغة العربيَّة إنَّما هو بسبب دلالتهابالوضع فيها، وكذلك اختصاص لفظة (زدن ورفتن وآمدن) ليست بعربيَّة وهي الفارسيَّة، إذ لم يضعها العرب في لغة العرب لمعانيها المعلومة.

فكذلك لفظة الصَّلاة والصَّوم والحج والزَّكاة لا تكون عربية حسب الفرض المشتبه به، وذلك لأنَّ العرب لم يضعوها في لغة العرب لمعانيها الشَّرعيَّة فلا تكون عربيَّة والواقع خلاف ذلك.

ولذلك يكون اللازم باطلاً، لأنَّه يلزم أن لا يكون القرآن عربيَّاً في جميعه لاشتمالهِ عليها وما بعضه خاصَّة عربي لا يكون عربيَّاً كلَّه، وقد قال الله سبحانه [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ](1).

ص: 242


1- سورة يوسف / آية 2.

وقد أوضحنا هذا الأمر في بحث من بحوث هذه الموسوعة تحت عنوان (من فضائل القرآن عروبته فيه وفي آيات أحكامه وتوابعها) فراجع.

إضافة إلى أنَّ دعوى كونها أسماء لمعانيها الشَّرعيَّة للشَّارع ممنوعة، وإن كان بلغة العرب.

وهذا أيضاً بالنَّظر إلى اطلاق أهل الشَّرع من بعض أهل الفقه والكلام، لامتناع أن يطلقوا شيئاً لم يعلموا به، لأنَّه لم يأت إليهم بالنَّحو التَّدريجي الَّذي يمكن أن يتبادروا عليه.

بل إنَّ التَّدريجي المتعارف في ورود أحكام الشَّريعة على نهجه وحياً وسنَّة يصعب اطلاقه أيضاً، إلاَّ بعد إكمال الدِّين وختم الوحي وبعد كثرة الممارسة والتَّعوُّد عليه.

فالَّذي يلزم حينئذ هو كونها حقائق عرفيَّة لهم لا حقائق شرعيَّة كما يُدَّعى.

ولأن الاشتهار والإفادة بغير قرينة إنَّما هو في عرف أهل الشَّرع لا في اطلاق الشَّارع، لإمكانه بل وقوعه وما أكثره، ولأنَّ السَّبق إلى الفهم بغير قرينة إنَّما كان بالنِّسبة إلى المتشرِّعة لا إلى الشَّارع لغناه تعالى عن فهم خصائص ما شرَّعه.

وبهذا يكون المعنى التَّعيُّني أو الحقيقة المتشرعيَّة هي المتعيِّنة وإن كانت غير مترسِّخة في الأذهان في بداية التَّشريع من زمن النَّبي 4، للحاجة إلى القرينة في الغالب.

لقوَّة المعاني اللغويَّة القديمة حينذاك أو كون الألفاظ صارت بنحو المجاز المشهور وقراءتها بدأت من فعل النَّبي 4 وقوله وتقريره كما مرَّ الحديث عنه، إلاَّ أنَّها صارت من وزن الحقيقة العرفيَّة الخاصَّة في زمن إمامنا أمير المؤمنين سلام الله علیهاوما بعده كما سبق حتَّى صار معلوماً بدون قرينة.

لأن اللفظ اذا استعمل في معنى خاص في لسان جماعة كثيره زماناً معتداً به -

ص: 243

ومن ذلك ما لو كان المعنى جديداً ولو في علاقة جزئيَّة مع الماضي اللغوي - يصح أن يكون حقيقة فيه بكثرة الاستعمال.

فكيف إذا كان ذلك معلوماً عند قاطبة المسلمين ما بعد بدء الدَّعوة، وإن احتيج في بعض الأحوال إلى بعض القرائن الاستيضاحيَّة من بعض الأدلَّة والرِّوايات لكسب الاطمئنان الاجتهادي حتَّى قد يلوح من بعض الرِّوايات بعض الشُّبهات والمشتركات.

فلا تنفى تلك الحقيقة العرفيَّة في الأعم الأغلب، وإن زادت تلك الشُّبهات أو المشتركات، ولعل الشُّبهات تلك من احتمال ضعف في أدبيَّات البعض لا عند من يمتلك القدرة عليها ويمارسها.

وبالنَّتيجة لو ادُّعي افتراضاً التكافؤ في الدَّليلين وحصل التَّفاوت في العملين لابدَّ أن يكون هنا المقدَّم منهما ما وافق الاستنباط الدَّقيق الفقهي.

ولو كان التَّفاوت غير مركَّز عليه شرعاً فيهون الأمر أيضاً، وإن كان كلا العملين هو واحد.

فلابدَّ من الوصول إلى ما هو نتيجته بإنَّه نزاع لفظي، فلا جدوى من هذا الاختلاف والله العالم.

التَّابع السَّادس / بحث الأوامر المكرَّرة

وهي المراد منها ما لو كرِّرت مرَّتين من قبل الأمر أو من يمثِّله حول نفس الموضوع الَّذي لأجله صدر الأمر للمرَّة الأولى إذا لم يكن فرق في ذي الموضوع بين نفس الآمر وبين من يمثِّله.

كالأمر بالسَّقي بالماء في العرفيَّات اللُّغويَّة بين العقلاء الاجتماعيِّين الَّذين يحترمون الطَّبقيَّات كما بين الآباء وأبناءهم والسَّادة وخدَّامهم أو حتَّى السَّادة

ص: 244

وعبيدهم إن وجدوا في هذا الزَّمن، وقد نقلت أمر ذلك الكتب القاموسيَّة والتَّأريخيَّة بإسهاب.

وكالأمر بالصَّلاة في العرفيَّات الخاصَّة أو الشَّرعيَّات، قبل أن تصرف القرينة لأحد الأمرين الحقيقة عن المجاز وبعد الامتثال للأمر الأوَّل.

فهو لا يحمل سوى صورة واحدة، وهي لزوم الامتثال الثَّاني في لسان اللُّغويَّات والعرفيَّات العامَّة كما في أمر السَّقي بالماء أو العرفيَّات الخاصَّة أو لسان الشَّرعيَّات وصيغها من الكتاب والسنَّة، ولكن باصطلاح لفظ الوجوب كما في الأمر بالصَّلاة ونحوها، وهي الأعلى من صفة ما يستحب لإعداد الأمر الثَّاني كالأمر الأوَّل بنحو تأسيسي.

وهناك صورة أخرى، وهي ما لو كان ذلك التِّكرار قبل امتثال الأمر الأوَّل.

وهذا ما قد يسبِّب وقوع الشَّك والتَّردُّد بين أن يكون اللُّزوم أو الوجوب في المقام بين مثالي الأمرين للامتثال مرَّتين أو كفاية المرَّة الأولى أو الثَّانية لا على التَّعيين.

وبسبب هذا التَّردُّد الحاصل كثيراً جدَّاً بين أبناء المجتمع لابدَّ أن يؤدِّي أوامره إلى معقوليَّة احتمال توسُّعها إلى أربع صور بسبب مصداقيَّة معنى التَّأسيس للأمر الثَّاني أو التَّأكيد له الوارد في البين.

الصُّورة الأولى: المشفعة بالمثال، هي أن يكون الأمران معاً غير معلَّقين على شرط، كأن يقول الآمر لغويَّاً مثلاً لمأموره (أسقني ماءاً) ثمَّ يقول ثانياً أمراً أخر مماثلاً وهو (أسقني ماءاً) في الفترة العرفيَّة غير المعطية لامتياز أحد الأمرين على الآخر وبما يخرجهما عن صدق التَّردُّد الملاحظ بين التَّأكيد والتَّأسيس.

وكذا أن يقول الأمر المتشرِّعي أو الشَّرعي أمره الأوَّل (صلِّ) ثمَّ يكرِّر هذا الأمر نفسه وهو (صلِّ) ثانية.

فإنَّ الظاهر بعد هذا التَّردُّد أن يحمل الأمر الثَّاني على التَّأكيد دون التَّأسيس ما

ص: 245

لم تكن قرينة تميِّز الثَّاني على الأوَّل، ولأنَّ الطَّبيعة الواحدة يستحيل تعلُّق الأمرين بها من دون ذلك الامتياز، ولصحَّة التَّأكيد على ذلك الأمر الَّذي يلزم أو يجب القيام به حتَّى لو أدَّى ذلك الأمر الأوَّل قبل هذا الثَّاني، إمَّا لعدم كفاية مصداقه أو لتسبيب بطلانه.

بينما لو كان هذا الثَّاني تأسيساً مستقلاًّ غير مؤكَّد لسابقه لكان على الآمر تقييد متعلِّقه ولو ب- (مرَّة واحدة) أو (أعد صلاتك) واللُّغة وعرفيَّاتها العامَّة والشَّرع وبصدارة في العرف الخاص والحقيقة الشَّرعيَّة متَّسعان لهذا ونحوه عند المتابعة.

ولذا فضَّلنا القول بالتَّأكيد دون التَّأسيس، وإن كان القول بالتَّأكيد في نفسه خلاف الأصل وخلاف ظاهر الكلام لو خلِّي ونفسه.

لأنَّا ذكرنا أن بعض حالاته كون سابقه قد أدَّى على خلل أو في بعضه كذلك أو أدِّعي كون الأمر الثَّاني جاء على بطؤ، وهو خلاف المتعارف للعمل الواحد.

الصَّورة الثَّانية: وهي المشفعة بالمثال مع التَّعليق بالشَّرط سواء في المثال اللُّغوي الاجتماعي أو العرفي الخاص المرتبط بالشَّرعي.

فإنَّ الأمرين إذا علِّقا على شرط -- كأن يقول الآمر اللُّغوي (إن أردتني مصاحباً لكفي المسير فاسقني)، والشَّرعي حسبما ورد في النًّصوص وما أكثرها (إن كنت محدثاً فتوضَّأ) ثمَّ يكرِّر القول ثانياً --

فإنَّه لا يحمل ثانياً إلاَّ على التَّأكيد كالصُّورة الأولى، وإن اختلفت الصُّورتان بين المعلَّقة وغيرها.

ولعل الشَّرطيَّة في كلا مثالي هذه الصُّورة الثَّانية هي الَّتي ساعدت على قبول هذا القرار كعدمهما في الصُّورة الأولى.

الصُّورة الثَّالثة: وهي ما لو كانت الأولى غير معلَّقة على شيء، وقد يكون العمل واحداً كالأمر في الشَّرعيَّات بالاغتسال بالنَّحو المطلق في تلك الأولى كقول

ص: 246

المولى (اغتسل) بدون الاشتراط، وثانية بالمقيَّد كقوله تعالى (إن كنت مجنباً فاغتسل).

وهو ما قد يكون معناه أن لا يمنع من حمل المطلق على المقيد وهو غير مختلف عن معنى التَّأكيد على الأسس المبنيَّة وكالصورتين الأوليَّتين وبالنَّحو الكاشف.

الصُّورة الرَّابعة: وهي ما لو كانت كل من الحالتين في الصُّورة معلَّقة في مثالها على شيء، ولكن ذلك الشَّيء مختلف في الأولى عن الثَّانية كقول المولى الشَّرعي في الأوَّل (إن مسست ميِّتاً في برده وقبل تطهيره فاغتسل) وقوله في الثَّاني وعلى ما بينَّاه (إن كنت جنباً فاغتسل).

فإنَّ هذه الصُّورة لا تخرج عن كون التِّكرار فيها تأسيساً وإن لم يمنع من الاكتفاء بالغُسل الواحد التَّداخلي اعتماداً على كون غسل الجنابة يكفي فيه دخول بقيَّة الأغسال الأخرى المغايرة واجبة أو مستحبَّة، ولا تأكيد فيه ما لم تكن قرينة تثبت أنَّ الأمر المولوي الأوَّل كأن يراد منه غسل الجنابة كالثَّاني فهو في معنى التَّأكيد كما ذكرنا، لكنَّه مخالف للأصل مع تجرُّده.

التَّابع السَّابع / الأمر بالأمر

من جملة ما ذكر أدبيَّاً وعلى هذا النَّحو ذكر هذا في مباحث الألفاظ الأصوليَّة أيضاً أنَّ الأمر يفيد وجوب الامتثال على المأمور.

بحيث لو تخلَّف عن هذا الامتثال يكون عاصيا كما لو أمر السيِّد عبده بسقيه ماء من قبل عبد آخر يأمره بذلك، وهكذا الأب لو أمر ولده بأن يأمر من يتكفَّل هذا الأمر من الآخرين كعصيان المأمور الأوَّل.

وعلى هذا النَّحو جرت تعابير الأدباء وأهل اللُّغة اعتماداً على العرف السَّائد بينهم؟ فقالوا بأنَّ مؤدَّى الأمر الثَّاني هو نفس الثَّاني.

ص: 247

أم قد يحصل بعض التَّفاوت؟

فقالوا بأنَّ الوجوب نفسه جارٍ في المقام، إلاَّ أنَّه عقلي من جهلة استعمال أهل اللُّغة لهذا المعنى السَّائد لا غوي على ما ظهر من معاني ما تضمَّنته القواميس اللُّغويَّة وكتب العلوم.

لكن لم يعلم بالدقَّة أنَّ أهل الأعراف الَّذين شخَّصوا المعاني هذه هل كانوا متفاوتين بينهم بسطاً وقبضاً، نتيجة لاختلافهم بين ملل ونحل متعدِّدة والحكم العقلي المذكور لم تثبت شرعيَّته سماويَّاً إلاَّ عند شروق شمس الإسلام وبعثة النَّبي ورسالته وتحديدات الصِّيغ التَّفاهميَّة الَّتي جاءت عن طريقها حتَّى لو قلنا برضا الإسلام العزيز بالإمضاء لبعض تلك الأعراف عن طريق بعض الأدلَّة الإرشاديَّة ليكون ما تقول به اللُّغة وتعاليم الآداب وصيغها هو نفسه ما يراد من الصِّيغ المولويَّة في القران والسنَّة لكن حينما نقرأبعض الآيات المشابهة كقوله تعالى [خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ](1) وقوله [وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا](2) وقوله [يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ](3).

وهكذا ما يشبه هذه الآيات من نصوص السنَّة الواردة عن العترة وما ألحق بها من المؤيِّدات عن خيار الآخرين إذا تأمَّلنا فيها.

فإنَّنا سنجد الوجوب العقلي غير اللازم شرعاً، إلاَّ أن يؤكِّده الشَّرع في تضاعيف أحكامه.

للتَّفاوت البيِّن بين ما تقوله النَّاس من أهل اللُّغة -- وفي ضمنهم الجهلة وعلى ضوء أعرافها غير الشَّرعيَّة الَّتي قد يكون منها بعض أو كثير التَّعاملات القاسية بين

ص: 248


1- سورة الأعراف / آية 199.
2- سورة طه / آية 132.
3- سورة لقمان / آية 17.

السَّادة والعبيد- وبين ما تقوله نصوص الشَّرع الشَّريف الَّذي بيده الإمضاء بعد التَّصحيح.

وهو أنَّ الأمر الأوَّل الصَّادر منه مولويَّاً إذا كان واجباً مطلقاً كالأمر بالصَّلاة في الآية الشَّريفة الأخيرة الماضية والَّتي ورد عنها أنَّها (لا تسقط بحال)(1).

والأمر الثَّاني هو الأمر بالمعروف الَّذي أمر به ثانياً بعد أمره الأوَّل بوجوب التزامه هو الَّذي صار أوَّلاً، ليحقِّق واجبه الآخر بعد التزامه السَّابق أنَّه كان كما لا يخفى من نوع الواجب الكفائي.

وهو تفاوت.

وعند تسليمنا بهذا التَّفاوت لا يمكن أن نستعمل القياس على اللُّغة إلاَّ بالتَّساوي التَّام بين الشَّرع وبين اللُّغة، لتصح المقايسة والتَّفاوت بين الشَّرعي الحديث وبين اللُّغوي المحفوف في قدمه بالشَّرائع والرِّسالات السَّماويَّة السَّابقة الَّتي قد تحصل بينها وبين الإسلام بعض التَّشابهات ممَّا بقي محفوظاً على قلَّته وإلى حد الآن، لكن لا توصلنا إلى حد صحَّة تماميَّة المقايسة.

ولذلك نرى أنَّ الأرجح في هذا هو الرجوع إلى ما ذكرناه عن الحقيقة اللُّغويَّة والشَّرعيَّة والمتشرِّعيَّة من هذا الكتاب لجزئه الأوَّل إذ قد يتشابه في النَّتيجة الأمر الأوَّل والأمر الثَّاني وكما قال تعالى تأنيباً وتوبيخاً للمتخلِّفين [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ](2)، فضلاً عمَّا لو كانوا قد سبقوا بالأمر الأوَّل ولم يقوموا بواجبهم.

ص: 249


1- الوسائل 2: 373 / أبواب الاستحاضة ب 1 ح 5.
2- سورة البقرة / آية 44.

التَّابع الثَّامن / أداء المأمور به هل يتبعه قضاءه بدليله وحكمه؟

أم كان من نحو مستقل؟

قد تطلق كلمة القضاء في العقائد تكويناً ويراد منها ما يقابل القدر بالنَّحو المحتَّم، وقد تطلق في التَّشريع لتولِّي أمور البت في أمور النِّزاعات، وهذان المعنيان ليس لنا الآن بهما أيَّة علاقة.

وأمَّا القضاء بمعنى الإتيان بالشَّيء المأمور به إذا كان مؤقَّتاً كما في الشَّرعيَّات بعد انتهاء وقته الأصلي ففي الفقه الشَّرعي العام له لسانان:-

لسان فقهي استنباطي خاص قد عنى به فقهاءنا عنايتهم الشَّريفة أتحفوا بها موسوعاتهم الفقهيَّة وبما أنتج لهم من ذلك فتاوى شرعيَّة خاصَّة دوَّنوا لها رسائل عمليَّة لمقلِّديهم، وهي معدَّة لطلاَّبها الرَّاغبين في التَّزوَّد من معلوماتها.

وهي ليس لنا معها فعلاً كبير فائدة كذلك، وإن كانت النَّتيجة قد تتقارب أو هي نفسها مع ما أعطاه الأصوليُّون في كتبهم الخاصَّة حولها.

ولسان أصولي خاص به قد يبدأ له عندهم أوَّلاً بالعقل في أنَّه هل يمكن أن يتعقَّل له مشروعيَّة باقية عند انتهاء وقت التَّشريع الأدائي له بلا تطبيق فيه؟

ثمَّ لينظر ثانياً بعد مقبوليَّة هذا التَّعقُّل بأنَّه هل يمكن أن يكون ما يقول به العقل يقول به الشَّرع وعلى الأخص لو أمضى للعقل مثل هذا التَّعقُّل ولو بالأدلَّة الإرشادَّية؟

أم لابدَّ من محاولة إيجاد تنصيص شرعي خاص لا يبتعد حتَّى العقل عنه في الفقه الشَّرعي العام؟

وبذلك قد تكون النَّتيجة واحدة فقهاً وأصولاً.

وعلى أي حال فإنَّ ممَّا يتفرَّع على البحث عن الموقَّت (تبعية القضاء الأدائي)

ص: 250

بعد بحث الموسَّع والمضيَّق، وقد أعددناها من مباحث الألفاظ بعد المقدِّمات الماضية لقرب استفادة أمرها من العناوين الملازمة للنُّصوص أو المستفادة من النُّصوص نفسها ولو من كون التَّوقيت الأدائي كقاعدة معوِّضة عن التَّصريح بالدَّليل لما يجب أن يكون من القضاء بعد انتهاء وقت الأداء وهي من خواص باب الأوامر.

وهذه التَّبعيَّة وإن كان من حقِّها أن تذكر قبل توابع الأوامر لأهميَّتها بعد الأوامر إلاَّ أنَّها رجح ذكرها الآن لكونها من فروع بحث الموقَّت منها.

فبعد مسلميَّة كون المؤقَّتات من الواجبات لو فات وقتها من دون امتثال، إمَّا لتركها عن عذر أوعن عمد واختيار، وإمَّا لفسادها لعذر أو لغير عذر كما في الصَّلاة أو الصَّوم ونحوهما إلى أن انتهت أوقاتها الأدائيَّة.

فإنَّ ممَّا ثبت في الشَّريعة وجوب تداركها وهو وجوب قضاءها خارج الوقت، إمَّا من قبل المكلَّف نفسه في حياته، أو القضاء عنه من قبل نائب عنه لو لم يستطع هو نفسه كما في الحج كذلك، على تفصيل في محلِّه أو القضاء عنه من قبل الآخرين بعد وفاته على تفصيل أوسع في أكثر من الحج، وهو ممَّا لا كلام لنا فيه.

ولكن الأصوليُّين هنا اختلفوا في أنَّ وجوب القضاء هل كان على مقتضى القاعدة كما أشرنا؟

أي بمعنى أنَّ الأمر بنفس الوقت يدل على وجوب قضاءه إذا فات في وقته، فيكون وجوب القضاء بنفس دليل الأداء.

أو أنَّ القاعدة لا تقتضي ذلك، بل وجوب القضاء يحتاج إلى دليل خاص غير نفس دليل الأداء؟

أمَّ أنَّ هناك تفصيل بين ما إذا كان الدَّليل على التَّوقيت متَّصلاً فلا تبعيَّة، لأنَّه هو نفسه ما خلا التَّوقيت الَّذي انتهى أمده وكان العملان يعد كل منهما لو أدرك من القضاء المحتاج إلى دليل آخر.

ص: 251

وبين ما إذا كان منفصلاً فالقضاء تابع للأداء لا أنَّه هو نفسه، وكل من العملين له عنوانه.

فالأقوال ثلاثة ولربَّما يأتي التَّعرُّض لما نستقر عليه ولو استطراداً بالمثال في باب الملازمات العقليَّة للوصول إلى ما يرتجى قبوله أو لا يرتجى في حينه بما هو أوضح، وهي:-

1 - قول بالتَّبعيَّة مطلقاً

2 - قول بعدمها مطلقاً

3 - قول بالتَّفصيل الَّذي بينَّا ملخَّصه.

والمختار هو ما سعى له الفقهاء ورتَّبوه من الأدلَّة الإضافيَّة على قاعدة الأداء لا من خصوص قاعدة الأداء وهو استصحابه كما أشرنا وللتَّفاوت العنواني.

التَّابع التَّاسع / هل يجزئ الأمر مع انتفاء الشَّرط

لا شكَّ في أنَّ الواجبات الثَّابتة في الشَّرع من الأوامر وملحقاتها لا تخلو إمَّا أن تكون مطلقة لا تسقط بحال كالصَّلاة.

وإنَّ الشُّروط الَّتي فيها هي إمَّا شروط عامَّة كالحياة والبلوغ والعقل والطَّهارة من الحيض والنَّفاس للنَِّساء كباقي الواجبات، وإمَّا أن تكون شروط خاصَّة مع تلك العامَّة الَّتي يلزم أن تكون في الجميع، لاستكشاف مرحلة أصل التَّكليف كالصَّوم والحج والخمس والزَّكاة وغير ذلك من فروع الدِّين العشرة ممَّا هو معروف في الفقه بالنِّسبة إلى كلِّ فرع من تلك الفروع.

وعليه فهل يتفاوت الأمر ونحوه في دلالته على الوجوب في الواجب المشروط بالشَّروط الخاصَّة الَّتي انتفى شرطه أو شروطه منها فلا يدل عليه؟

أو لا يجوز أن يدل عليه الأمر، لئلاَّ يكون ذلك من التَّشريع الباطل، بسبب

ص: 252

انتفاء موضوع تنجيز التَّكليف به فعلاً وبهذه الدقَّة لأنَّه عدم عند عدم شرطه؟

أم هو كالمشروط الَّذي حصل شرطه أو كان في أساسه واجباً مطلقاً لابدَّ وأن يدل عليه ولو تقديراً ولو لتوفُّر الشَّروط العامَّة فقط من هذا التَّقدير ككون الإنسان حيَّاً بالغاً عاقلاً ولكن الشروط الخاصَّة بعد لم تتوفَّر فيه فعلاً وعلى أمل توفُّرها فيه؟

كالحج المأمول أن تظهر للمكلَّف مؤشِّرات الاستطاعة شبه الكاملة فيؤدِّيه بنحو الجواز غيرالتَّشريعي أو لإبراء الذمَّة شبه المشغولة.

فهنا رأيان وقولان:

قول لأكثر المخالفين من العامَّة، وقول للإماميَّة ومن تبعهم من بعض العامَّة، وقول ثالث، ونحن نأخذ بالثَّالث الآتي لما سيأتي سببه.

فاختلف أصوليُّوا ومتكلِّموا العامَّة وتفاوتوا عن أصوليي ومتكلِّمي الإماميَّة ومن تبعهم من العامَّة فيما اختلفوا فيه مع أولئك العامَّة:-

1 - فنسب أحد جهابذة علماءنا إلى أكثر المخالفين من العامَّة - وهو صاحب المعالم قدس سره - القول بأنَّ (الأمر بالفعل المشروط جائز وإن علم الآمر انتفاء شرطه فعلاً مع احتمال تعدِّي بعض متأخِّريهم فأجاز ذلك حتَّى مع علم المأمور أيضاً)(1).

أقول: وهذا المعنى بظاهره لا يلوح منه سوى كون هذا البعض كان من المجبِّرة.

ثمَّ قال قدس سره (مع نقل كثير منهم الاتِّفاق على منعه إلخ).

أقول أيضاً: وذلك لاحتمال الحذر من وصول هذه الفكرة إلى حدِّ القول بالجبر الممنوع إلهيَّاً في الأحكام كما هو مخل في العقائد.

وأكثر الظن أنَّ المانعين من هؤلاء هم المعتزلة جماعة واصل ابن عطاء، لتمسُّكهم بالعدل الإلهي معنا نحن الإماميَّة، على خلاف قول الأشاعرة وإن خالفونا في أمورهم الأخرى، كالقول بالتَّفويض والعياذ بالله.

ص: 253


1- معالم الدين وملاذ المجتهدين ص82.

نعم قد يشكل البت بهذا الوجه في كل صورة كما لو كان الواجب الَّذي انتفى شرطه أنَّه لا يسبِّب حرمة عليه كالصَّوم المشروط بما لا أذيَّة فيه عليه بشدَّة.

2 - ثمَّ قال (وشرط أصحابنا الإماميَّة عند تجويزهم ذلك مع انتفاء الشَّرط كون الآمر جاهلاً بالانتفاء).

أقول: حذراً من الجبر والقساوة من الأسياد ضدَّ عبيدهم أو الطَّبقات المرفَّهة ضدَّ خدمهم عند علم الآمر منهم بذلك، وهو من يمكن في حقِّه الجهل في بعض حالاته من غير المعصومين من النَّبي 5 والأئمَّة عَلَيْهِم السَّلاَمُ.

ولذلك مثَّل بقوله (كأنَّ يأمر السيِّد عبده بالفعل في غد - مثلاً - ويتَّفق موته قبله فإنَّ الأمر هنا جائز باعتبار عدم العلم بانتفاء الشَّرط ويكون مشروطاً ببقاء العبد إلى الوقت المعيَّن)(1).أقول: وبما أنَّ المفروض عدم بقاء العبد في المثال مع الجهل فلا موضوع لعدم الجواز لعدم ثبوت الجبر كما أشار قدس سره هكذا مع علم هذا النَّوع من الآمر وكذلك المأمور، وكون الشَّرط شرط وجود ككون العبد غير راغب في امتثال أوامر سيِّده، لا شرط وجوب كالحياة والبلوغ والعقل، فلا جبر ولا محذور كذلك.

وعلى الظاهر أنَّ هذا الشَّرط في هذا المورد وغيره لا يفرِّق الأمر فيه بين عدم توفُّره من الأوَّل كالصِّبا أو توفَّر وانتفى قبل الأمر.

وأمَّا مع علم الآمر بذلك الانتفاء وعلمه ببقاء حياة المأمور وإحراز رغبته في الامتثال وكون الشَّرط شرط وجوب كالحياة والبلوغ والعقل، فضلاً عن كون الآمر هو الله تعالى، إذ يتأكَّد هذا الأمر في أوامره تعالى كثيراُ.

فلا يجوز، حيث قال قدس سره بعد ذلك (وأمَّا مع علم الآمر كأمر الله تعالى زيداً بصوم غدٍ وهو يعلم موته فيه فليس بجائز وهو الحق).

ص: 254


1- نفس المصدر السَّابق.

أقول: لكنَّه قد لا يضرنا هذا الأمر إذا أراد الآمر تعالى من أمره هذا اختبار المأمور وأمثاله ليموتوا ولو كانوا في وسط الطَّاعة ليثيبهم.

3 - وهو ما نقول به نحن تأييداً: إذا كان الموت قضاءاً حتميَّاً كما لا يخفى على كلِّ أحد كسنَّة الحياة وهو كذلك، لأنَّ الله ليس بظلاَّم للعبيد في ذلك.

إضافة إلى عدم إمكان فرض الجهالة عليه حتَّى ينتفي الجبر في بعض الحالات إلاَّ ما نقول به نحن.

وهذا هو القول الثَّالث، وهو في موارد استثنائيَّة مصحِّحة لقولنا الثَّالث لو انتفى الجبر.

فالقضيَّة تتجلَّى في الأمور الآتية مع تصرُّفنا:-

أوَّلاً: إذا كان إصدار الأوامر منه تعالى إصداراً لنوع كل من تتوفَّر فيه الشُّروط المذكورة أعلاه -- لا خصوص الأفراد الَّذين يموتون قبل صدور الأمر مع ذلك العلم الإلهي وهو القضاء المبرم بالموت فماتوا -- فهو من نوع السَّالبة بانتفاء الموضوع.

أو لم يموتوا بسبب من أسباب التَّفصيل كما في صلة الأرحام أو الصَّدقات فصدر الأمر، فكما مرَّ ذكره بالتَّمثيل الماضي للاختبار ولو ليموت في وسط العمل كما في قوله تعالى [وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا](1).

أو على تقدير شمول العبد فيخرج الحال من يموت قبل أن يصل إليه ذلك الأمر وبالطَّبع إنَّ أوامره تعالى نوعيَّة.

وعلى تقدير توفُّر ما يلزم توفُّره في المكلَّف لا على فرض عدم التَّوفُّر إلى حدِّ ذلك الموت لاستحالة ذلك بالنِّسبة إليه.

ثانياً: ممَّا يستثنى من ذلك أمره تعالى عباده بالصَّلاة مثلاً، وهو يعلم أنَّ بعضهم

ص: 255


1- سورة النساء / آية 100.

لايتطهَّرون -- أو لا يريدون الالتزام بالصَّلاة عصياناً -- فلا جبر ولا تكليف بما لا يطاق، وإنَّما النَّتيجة هو معصيتهم له تعالى.

ثالثاً: ومن ذلك حالة البداء عندنا نحن الإماميَّة، لأنَّه قد يظهر منه تعالى بعض أوامر من هذا القبيل نحن لا نعلم سرَّها، كما لو بدا له أو منه تعالى أمر في عبد من عباده يعلم به أنَّه سوف يموت في السَّنة الفلانيَّة قبل الأمر ولكنَّ العبد وصل رحمه فأطال تعالى عمره.

رابعاً: ما لو كان للامتحان والاختبار.

خامساً: ما لو كان المكلَّف قد نام أو نسي وجهل تكليفه ثمَّ عرف أو استيقظ بعد نهاية الوقت وكان عليه القضاء.

سادساً: ما لو كان قد صمَّم على العصيان والتَّمرُّد عن الطَّاعة ثمَّ مات فوجب على ولده الأكبر القضاء عنه ولو ليخفِّف عنه يوم القيامة.

ومن أدلَّة المجوِّزين:-

أنَّه لو لم يصح مثل هذه الأوامر لم يعلم إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ بوجوب ذبح ولده لانتفاء شرطه عند وقته - وهو عدم النَّسخ - وقد علمه، وإلاَّ لم يقدم على ذبح ولده بتهيئة الأسباب من الإضجاع وتلِّه للجبين وإمرار المدية على حلقه بل مطاوعة ولده النَّبي إسماعيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ كذلك، لأنَّه حرام على تقدير عدم العلم بالوجوب ولم يحتج أيضاً إلى فداء، وقد قال الله تعالى [وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ](1).

والجواب عن ذلك: بالمنع من تكليف إبراهيم بالذَّبح الَّذي هو فري الأوداج، بل كُلِّف بمقدِّماته كالإضجاع وتناول المدية وما يجري مجرى ذلك والدَّليل على ذلك قوله تعالى [وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ](2).

ص: 256


1- سورة الصافات / آية 107.
2- سورة الصافات / آية 104.

وأمَّا جزعه عَلَيْهِ السَّلاَمُ فلإشفاقه من أن يؤمر - بعد مقدِّمات الذَّبح - به نفسه لجريان العادة بذلك.

وأمَّا الفداء فيجوز أن يكون عمَّا ظنَّ أنَّه سيؤمر به من الذَّبح أو عن مقدِّمات الذَّبح زيادة عمَّا فعله لم يكن قد أمر بها.

إذ لا يجب في الفدية أن يكون من جنس المفدى - وهو ما كان الفداء بدلاً منه - حتَّى ورد في بعض النُّصوص أنَّه الهدي في الحج أو الأضحية.

وورد أيضاً إن التزمنا بالمماثل في بعض التَّأويلات الشَّرعيَّة أنَّه هو سيِّد الشُّهداء أبو عبد الله الحسين شهيد كربلاء "سلام الله عليه"، وهو معنى العظيم في [وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ] وهو الصَّحيح في بابه.

ثمَّ أقول: وهذا الجواب صحيح ويتناسب مع ما ذكرناه سابقاً ممَّا يستحقُّه المولى تعالى من التَّوجيهات لطاعته.ومن أدلَّتهم كذلك قولهم:-

بأنَّ الأمر كما يحسن لمصالح تنشأ من المأمور به، كذلك يحسن لمصالح تنشأ من نفس الأمر وموضع النِّزاع من هذا القبيل.

فإنَّ المكلَّف من حيث عدم علمه بانتفاء فعل المأمور به ربَّما يوطِّن نفسه على الامتثال، بل قد يكون مستأنساً لعمق إيمانه فيحصل له بذلك لطف في الآخرة وفي الدُّنيا لانزجاره عن القبيح.

ألا ترى أنَّ المولى قد يستصلح بعض عبيده بأوامر ينجزها عليه مع عزمه على نسخها امتحاناً له، والإنسان قد يقول لغيره وكَّكلتك في بيع عبدي مثلاً مع علمه بأنَّ سيعزله إذا كان غرضه استمالة الوكيل - أي لكي يعلم بميله هل هو راغب في البيع أم لا؟ - أو امتحانه في أمر العبد - هل هو راض أن يباع العبد ويبقى المولى بلا عبيد أم لا؟

ص: 257

و الجواب أيضاً بالمنع، لأنَّه لو سلِّم ذلك لم يكن الطَّلب هناك للفعل لما قد علم من امتناعه، بل للعزم على الفعل والانقياد إليه والامتثال لأوامره وليس النِّزاع فيه بل في نفس الفعل.

وأمَّا ما ذكر فيه من المثال فإنَّما يحسن لمكان التَّوصُّل إلى تحصيل العلم بحال العبد والوكيل، وذلك ممتنع في حقِّه تعالى، للفرق بينه وبين عبده فلا يقبل، للقياس مع الفارق.

أقول: وهذا الجواب كالجواب الأوَّل بلا فرق فلا نعيد، وهو صحيح لو كانت النَّتيجة كما مرَّ ذكره من المستثنيات في الجواب الثَّالث.

التَّابع العاشر / المفاهيم

إنَّ للمفاهيم في اللُّغة العربيَّة وزناً مهمَّاً يضاف إلى المنطوق نصوصاً وظواهر لابدَّ من الكلام عنه لأسباب مهمَّة قد لا يوفَّق لها غير العربي في لغته، بحيث لا يستوعب معارف الإسلام العظيمة في سعتها ودقَّتها كتاباً وسنَّة إلاَّ تلك العربيَّة.

وقد يتَّضح أمره أكثر عند المرور على البحث عن ما يقابل بحث حجيَّة الظهور من المفاهيم، ومن هذه الأسباب هي:-

الأوَّل: سعة لغة القرآن والى الأخذ بالمفاهيم ولو في الجملة.

لا شكَّ أنَّ من سعة اللُّغة العربيَّة وتفوُّقها على بقيَّة اللُّغات الأخرى -- وارتباطها بما ينفع وينتفع به جميع البشر على اختلاف طبقاتهم ومشاربهم وأقوامهم لو تعلَّموها وعلَّموها وبالخصوص لمعارف شرعنا الإسلامي الحنيف العام الشَّامل بالنَّفع لكلِّهم، لكونه دين الفطرة وأصل الخلقة المنسجمة مع كل مبادئه المستقيمة انسجامها الطَّبيعي أو التَّطبعي، ولئلا تبقى للنَّاس أيَّة حجَّة في شيء، وليظهر الله

ص: 258

تعالى دينه على الدِّين كلِّه بهذه اللُّغة وحجَّته البالغة بها عليهم، لأنَّها لا تكفيها إلاَّ هذه اللُّغة، ولأنَّها لغة أهل الجنَّة وأوَّل ما نطق به أبونا أدم u --

أن جعل فيها دروباً وطرائق لحمل كل المعاني غير المحدودة في كثرتها وللتَّفهيم والتَّفاهم قد يخفى كثيراً منها على البسطاء من غير المتعلِّمين أو ضعيفي المعرفة بأدبيَّاتها حتَّى مع وضوحها ليتعلَّموا.

لأنَّها تحمل في أقوالها وتخاريجها المختلفة ومركَّباتها وجملها المتفاوتة مضامين كبيرة وعالية من المعاني لم تحملها غيرها من اللُّغات الأعجميَّة - وهي الَّتي لم تكن عربيَّة - بل لو حملها غيرها لكانت تلك المعاني معقَّدة, وقد تخفى على من تخفى عليهم حسداً على أقوامها وأنصارها من غيرهم، لصعوبة تعلُّمهم لها.

ولذلك نشأت النِّزاعات القوميَّة المعادية من الأخرين ومن خونة الدَّاخل من أعداء الإسلام، الَّذين وجدوا ضالَّة كفرهم وانحرافهم وفسقهم وأطماعهم في غيرها، وإن كان الدِّين جامعاً لكل القوميَّات وعالج أشدَّ هذه المشاكل بأفضل العلاجات.

ومن تلك هي المفاهيم الَّتي تُفهم من وراء اللَّفظ العربي، ومن أهم أقسام هذا اللَّفظ هو آيات الأحكام وما يتبعه من السنَّة، وذلك إذا كان في مقابل المنطوق لا غير ممَّا اختلفوا فيه من المفاهيم كما سوف يتَّضح قريباً بإذن الله تعالى.

فاقتضت حكمة المكوِّن والمشرِّع جلَّ وعلا أن تضم هذه اللُّغة الواسعة في جنباتها - وإن كان بالمرتبة الثَّانية بعد المنطوق - هذه المفاهيم، لأنَّها لم تكن بمستوى المنطوق من النُّصوص والمحكمات.

بل حتَّى الظواهر الملحقة بالمنطوق من غير المُعدّة من المفاهيم اصطلاحاً، كما سوف يجيء إيضاحه من موارد الإفادة والاستفادة القريبة من ذهن الإنسان الفَطن المتوجِّه، حيث أنَّهما يحصلان منه عادةً بعد ذلك بصورة أوسع، ولعلَّه من هذا

ص: 259

وأمثاله ورد أنَّ للآيات سبع بطون أو سبعون بطناً ووجهاً.

ونحن لابدَّ أن لا نمنع من الاستفادة من هذه المفاهيم إن ساعدت الأدلَّة عليها بعد انتهاء الاستفادة من النُّصوص المحكمة، وكذا الأظهريَّات والظواهر المقبولة وثمَّ هذه المفاهيم عند الحاجة إليها.

الثَّاني: عناية الأصوليِّين بها واختلافهم في موقع بحثها والسِّر فيه.

اعتنى الأصوليُّون قديماً وحديثاً بالبحث عن المفاهيم بعد ما عرفوا قدرها ومحلِّها في حمل المعاني المهمَّة والحاجة إليها، لأنَّها من لغة القرآن والسنَّة، لئلا تفوتهم فوائدها وإن كانت في بعضها قد تُعد من زوايا وخبايا الكلام غير الميسور فهمها لكل أحد كمفهوم المخالفة، فأسَّسوا لها بعض القواعد أو استكشفوها من مظانِّها للالتزام بتطبيق ما صحَّ وتأكَّد الصَّحيح منها في طريق الاستنباط.

ونظراً لأنَّهم اختلفوا في موضع البحث في هذه المفاهيم في أنَّه هل المناسب كونه في ظل توابع الأوامر أو بعد النَّواهي ليشمل الاثنين، لتساويهما في الاعتبار، وإن كان كلمنهما له اعتباره الخاص في المعنى على ما سيجيء ذكره في القسم الثَّاني وهو النَّواهي المستقلَّة، وصار هذا الأمر مختلفاً فيه في الظَّاهر بين القدماء والمحدثين.

أمَّا القدامى ومن يقرب منهم فظهر من بعضهم ذكرهُ لها والبحث فيها تحت ظل الأوامر كصاحب المعالم قدس سره وغيره، وأمَّا المحدثون فجعلوها بعد الاثنين كالشَّيخ المظفر رحمه الله في أصوله.

ولعل النَّظرة الأولى هي من جهة كون الأوامر أنَّها هي الأهم والأولى في أن يكون هذا موضعها بعد الأوامر قبل النَّواهي، لكون الأوامر أساس النَّواهي في بعض الاعتبارات بحيث لم تعلم النَّواهي إلاَّ بعد عدم امتثال الأوامر.

وإن كانت النَّواهي قد يدخل في خدمتها وتعريفها الأوامر في ظاهر الحال

ص: 260

للتَّلاقي في الإجمال بين الاثنين كما مرَّ وكما سيأتي، فتكون بمثابة الخضوع للنَّواهي، لأنَّ النَّهي في رتبته الأولى هو طلب التَّرك مع المنع من الفعل.

بينما كان الأمر الَّذي هو الأساس هو طلب الفعل مع المنع من الترك، ولأنَّه لو طبَّق المكلَّف النَّهي، فترك شرب الخمرة ولعب القمار والزنا والسَّرقة ونحو ذلك فليس معناه أنَّه قد طبَّق الأوامر وأطاع الله تعالى فيها فصلَّى وصام وزكَّى وحجَّ ونحو ذلك.

فلذلك جعلت بعد الأوامر وقبل النَّواهي على ما سيتَّضح أكثر في القسم الثَّاني من بحث النَّواهي المستقلَّة.

ولعل النَّظرة الثَّانية هي الجمع بين الأمر والنَّهي المترابطين في كون أحدهما متمِّماً للأخر ولو في الجملة، كما سبق أن ذكرنا شيئاً من ذلك في بداية الكلام عن الأوامر.

إلاَّ أنَّ النَّظرة الأولى هي الأدق تقريباً، كما لا يخفى لتكون المفاهيم من توابع الأوامر.

وإن كان الاحتجاج بها يحتاج إلى بعض الدَّعم الشَّرعي، كحاجة مفهوم الشَّرط في مثل آية النَّبأ إذا كان هو العادل لو قلنا بعدم كفاءته وحده إلى عضده ببعض القرائن كعضده بالشُّهرة العمليَّة.

الثَّالث: معنى المفهوم:

ولذلك كلِّه جاء في مجال التَّوجيهات للاصطلاحات والعناوين المختلفة لألفاظ اللُّغة العربيَّة الَّتي منها المفاهيم لأهل العلم وتنويع الاصطلاحات في إطلاقهم لكلمتها حسب العادة على ثلاثة معان، نستعرضها لحصر المقصود بالبحث هنا للبحث بعينه وترك الباقي لمجالاته الخاصَّة به.

ص: 261

أحدها: المعنى المراد للفظ المفهوم منه، فيساوي ذلك المفهوم ذلك المعنى المراد من اللَّفظ الأساسي، سواء كان ذلك الأساسي مفرداً أو جملة، وسواء كان مراداً حقيقيَّاً أو مجازيَّاً من لفظه، وليس ما بين الاثنين تنافر.

فمثلاً زيد المفرد معناه ذلك الاسم للعلم الخاص، وزيد قائم وهو الجملة المتعارفة تعني الإخبار عن قيام زيد، ولفظة الأسد الحقيقي تعنى الحيوان الخاص المفترس، ولفظة المجازي هو المسمَّى به شخص من البشر المشابه للأصل بالقوَّة يعنى ذلك الرَّجل الشُّجاع، وهكذا الأمر فيما يتعلَّق بأمثالنا الفقهيَّة.

ثانيها: ما يقابل المصداق، فيراد منه كل معنى يفهم ليراد منه ذلك المصداق الخارجي، وإن لم يكن هذا المفهوم مدلولاً للفظ، فيعم المعنى الأوَّل وغيره.

فإذا كان المصداق الخارجي لبعض الكليَّات مثلاً (زيد) للإنسان أو (البقرة) للحيوان فبالإمكان حتماً أن يراد في تعريف أحدهما ما يفهم منه من دون أن يتعلَّق شيء منه بخصوص لفظي مصداقيهما الخارجيين بتعلُّق المعنى المفهوم، حيث أنَّ معنى المفهوم للأوَّل وهو الإنسان هو الحيوان النَّاطق، والمفهوم للثَّاني هو الحيوان الصَّامت، لكون المعنيين فكريَّين.ثالثها: ما يقابل المنطوق، وهو الأخص من سابقيه - وهو مقصد الأصوليِّين في هذا البحث - وهو ما يختص حسبما ذكروا في مقرَّراتهم بالمدلولات الإلتزاميَّة للجمل التَّركيبيَّة، سواء كانت إنشائيَّة أو إخباريَّة.

فلا يقال لغير هذين المركَّبين من المفردات أنَّ لها مفهوماً، لأنَّه لا شيء وراء ألفاظها حتَّى يتصوَّر المفهوم لها في حدود هذا المعنى الثَّالث وإن كانت جزء من المدلولات الإلتزاميَّة الَّتي في جملها الإنشائيَّة أو الإخباريَّة، لأنَّ جزء التَّركيب لا شكَّ في أن يكون أحد أجزاء المركَّب، ولكنَّه ملازم له صيرورته جزء ومفرداً منه، بحيث لم يفهم له معنى إلاَّ بانضمامه إلى ذلك المركَّب الإنشائي أو الإخباري، بل لا

ص: 262

يتم حتَّى لو كان في مركب ناقص.

أمَّا المنطوق فلم يكن إلاَّ ما دلَّ عليه ذلك اللفظ الَّذي نطق به ذاتاً، ككونه ما قال إلاَّ لما لا يزيد عليه من المعنى بالمطابقة حتَّى لو كان المعنى مجازيَّاً جاء استعماله بتلك المطابقة بسبب القرينة، وإن كانت مداليل الأحكام الشَّرعيَّة تبتعد عن المجازات جملةً وتفصيلاً إلاَّ بما أوضحناه سابقاً عند الكلام عن الحقيقة الشَّرعيَّة والمتشرعيَّة.

وعلى هذا الأساس يكون المفهوم الَّذي لم يكن اللَّفظ حاملاً له بصراحة في تلك المقابلة بنحو الدِّلالة المطابقيَّة، وإنَّما كان لازماً لمعنى الجملة بنحو اللُّزوم البيِّن بالمعنى الأخص وإلاَّ لم يكن من المفاهيم.

وممَّا يمكن أن يمثَّل به في المقام من آيات الأحكام هو قوله تعالى [إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا](1) فإنَّ المنطوق هو وجوب التَّبيُّن عند إخبار الفاسق بأي خبر وإن كان صادقاً في الواقع، وهو ما حواه مضمون نفس اللَّفظ الصَّريح.

وإنَّ المفهوم المراد من وراءه هو إن لم يجئكم فاسق بنبأ فلا تتبيَّنوا، بناءاً على الرِّضا بمفهوم المخالفة حتَّى بالنِّسبة إلى المجهول في أمره، لأنَّنا لا نريد في الآية خصوص ما يصح فيه صدق المفهوم في الآية، وهو مفهوم الموافقة كما سيتَّضح.

وممَّا مثَّلوا به في المقام كذلك قولهم عَلَيْهِم السَّلاَمُ فيما ورد عنهم (إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجِّسه شيء)(2)، فإنَّ المنطوق فيه هو عدم تنجُّس الماء البالغ كرَّاً بشيء من النَّجاسات ممَّا أعطاه المضمون اللَّفظي الوارد إذا لم يتغيَّر بتلك النَّجاسات.

وأنَّ المفهوم من وراء هذا اللفظ - إذا قبلناه أن يكون مفهوماً بناءاً على قبول وصحَّة مفهوم المخالفة في الجمل الشَّرطيَّة - أنَّه إذا لم يبلغ كرَّاً يتنجَّس حتَّى لو لم يتغيَّر بوصف النَّجاسة وإن كان يمكن المناقشة كذلك في ما لم يبلغ الكر كالعين والبئر

ص: 263


1- سورة الحجرات / آية 6.
2- وسائل الشيعة: باب عدم نجاسة الكر من الماء الراكد ح 2، ج 1، ص 117.

وغسالة الحمَّام حيث قالوا بطهارتها.

فإذن يكون المنطوق في مختصر العبارة وواضحها كما جاء بتعبير أحد الأفاضل المعاصرين رحمه الله بأنَّه (حكم دلَّ عليه اللَّفظ في محل النُّطق، والمفهوم هو حكم دلَّ عليه اللَّفظ لا في محل النُّطق)(1).

وهو الَّذي يرتبط لكل الأحكام الخمسة، ولذلك جعلناه بحسب التَّسلسل الموضوعي من توابع الأوامر لا من توابع خصوص الواجب.

الرَّابع: هل إنَّ المفاهيم تابعة لمباحث الألفاظ؟ أم للعقل غير المستقل.

عُرف المفهوم اللَّفظي بين الأصوليِّين بأنَّه المعلوم بمقدار ما من وراء اللَّفظ، لا من نفس دلالة ذلك اللَّفظ على ذلك المقدار الخاص ممَّا سبق، كما عُرف بينهم أيضاً بكونه منالأمور المحاوريَّة.

لكن لم يصل كما وصلت إليه ألفاظ نصوص وظواهر الكتاب والسنَّة بأدلَّتهما الطَّبيعيَّة المرتبطة بمباحث الألفاظ كاملة.

ولذلك لم يرد لفظ المفهوم بين أهل التتبُّع في المصدرين الشَّريفين بما يتساوى وتمام طبيعة ألفاظهما الدالَّة على معاني كل منهما من تلك النُّصوص والظواهر ممَّا يخص المعنى الثَّالث المذكور للمفاهيم آنفاً حتَّى يكون مؤدَّاه الخاص من الموضوعات الشَّرعيَّة أو المستنبطة المحتاجة إلى النَّظر أو البحث.

وهذا هو ما سبَّب عرضهم لموضوعه والبحث حوله في خصوص ما يتعلَّق بالأمور العقليَّة غير المستقلَّة دون الشَّرعيَّة الكاملة.

وهو نوع ابتعاد عن خصوصيَّات مباحث الألفاظ المطابقة لمعانيها في المتعارف

ص: 264


1- أصول الفقه ج 1 ص155.

الاعتيادي، ومنه المصطلح الأصولي وإلى خصوص ما يلازم مثال الكر -- الماضي ذكره في الرِّواية -- عرفاً اعتياديَّاً أيضاً في قبال المنطوق.

دون ما يقابل المعنيين السَّابقين وبنحو اللُّزوم البيِّن بالمعنى الأخص وفي خصوص المركبَّات الدَّائرة بين أهل المحاورات والاحتجاجات البيانيَّة دون مفرداتها بما يصح الاعتماد عليه فيما بينهم، ليتجلَّى المعنى من ذلك المفهوم.

سواء كان الكلام الَّذي يعطيه إنشاءيَّاً مثل (أكرم زيداً إن جاءك) أم إخباريَّاً مثل (إن ضربتني ضربتك)، وسواء كان أحد المثالين يحمل حكماً لغير مذكور أو حكماً غير مذكور والكل واحد.

ولكن بما أنَّ هذا النَّوع من الفهم -- وإن كان مألوفاً أمره بين خصوص أهل المحاورات والاحتجاجات الكلاميَّة -- غير طبيعة فهم أهل لساني الكتاب والسنَّة المنصرف إلى المعنى الأوَّل والثَّاني من معاني المفاهيم الثَّلاثة الَّتي مرَّت.

إلاَّ أنَّ هذا المعنى الثَّالث ما دام معناه المحاوري لم يعرف عنه شيء مفيد حتَّى يتدخَّل أهل المحاورة، وبالأخص الاصطلاحيِّين والمسموح لهم فيه علميَّاً في أمثلة ما ورد في الكتاب والسنَّة ممَّا عرف في المفاهيم الَّتي أنهاها صاحب كشف الغطاء قدس سره إلى عشرين نوعاً منها حتَّى وصلت خلاصتها بين أهل العلم اليوم إلى ستَّة.

لكونها لو أنتجت كلُّها على ما يراد فهمه بلا تفاوت بينهم كان ذلك تحت ظل الألفاظ وقواعدها المناسبة مع مداليل المصدرين الشَّريفين من آيات الأحكام ورواياتها على ما سيجيء التَّمثيل له ممَّا يصح أو لا يصح حسبما يطابق الشُّروط المطروحة في المقام.

إذن فلا معنى للكلام فيه ولو في خصوص مفهوم الموافقة إن انتفى الموضوع أو غيره من الشُّروط.

وهذا ما قد سبَّب ادخالهم لموضوعه والبحث فيه وإدخاله في بحوث مباحث

ص: 265

الألفاظ.

ونظراً لمصادفة البحث في هذا الجزء الثَّاني عن مباحث الألفاظ والدخول في بحوث ما يرتبط بالمعقولات غير المستقلَّة كمسألة الضد ومقدِّمة الواجب والواجب الغيري والإجزاء.

كان البحث منَّا عن المفاهيم الستَّة والمناقشة حولها ممَّا يرضي من تعارف بينهم ذكرها حتَّى في خصوص مباحث الألفاظ.

الخامس: هل المفهوم في بابه حجَّة أم لا؟

قد يلوح من بعض تعبيرات الأصوليِّين أنَّ المفهوم لمَّا كان يُتساءل حوله في أنَّه هل كان حجَّة في بابه أم لا؟

بأنَّ البحث عنه لا يناسبه إلاَّ أن يكون في مباحث الحجَّة لا في مباحث الألفاظ كما هو موجود في مباحث الأخير.

بينما القضية لم تصل في واقعها إلى هذا المعنى، لأنَّ النِّزاع إن قبلناه لم يكن واصلاً إلى أنَّه حجَّة حتَّى يدخل في مباحثها.بل إنَّه إذا كان لكلام مفهوم يدل عليه فهل هو ظاهر فيه أم لا؟ حتَّى يُبنى عليه كبقيَّة الظواهر الأخرى.

أو لا يبنى عليه، كما في السَّالبة بانتفاء الموضوع في مفهوم الشَّرط مثلاً، أو مفهوم المخالفة فيه كذلك عند المشهور.

وعليه فإذا كان مورد النِّزاع هو في السُّؤال الثَّاني لا الأوَّل، وحصر مورده الَّذي لا يمكن القول به كالسَّالبة بانتفاء الموضوع ومفهوم المخالفة بما مر إيضاحه في(معنى المفهوم) من مفهوم الشَّرط وبعض المفاهيم الَّتي نتيجتها عدم ظهورها كما سيأتي في التَّقسيم والتِّعداد.

ص: 266

فلابدَّ من أن يبقى الباقي وهو المشهور بينهم ولو كان في الجملة بأنَّه ممَّا لا شكَّ فيه بأن الكلام إذا كان له مفهوم يدل عليه فهو ظاهر فيه.

وبذلك يكون حجَّة من المتكلِّم على السَّامع، ومن السَّامع على المتكلِّم كبقيَّة الظواهر الأخرى مع بقاء بحثه من مباحث الألفاظ .

ولذلك قال صاحب المعالم قدس سره ( الحق أنَّ تعليق الأمر - بل مطلق الحكم - على شرط يدل على انتفاءه عند انتفاء الشَّرط وهو مختار أكثر المحقِّقين ومنهم الفاضلان)(1).

أقول وهما العلاَّمة وابنه فخر المحقِّقين رضي الله عنها، ولكن الحق هو في الإجمال لو أذن للعقل أن يستدل به من الأدلَّة الإرشاديَّة لا التفصيل كما نوَّهنا، ولذلك لا يكون الظهور في الجميع.

والمقصود من مطلق الحكم هو أنَّ الإسناد والحكم قد يكون في أساسه بدون شرط نحو (أنت حر لوجه الله)، وقد يكون معلَّقاً بشرط نحو (إن صلَّيت فأنت حر).

فالمقصود في المقام هو المثال الثَّاني، وإن لم يكن أمراً حسب إطلاقه رحمه الله وهو الممثِّل له بقولهم (أدِّ صلاتك أُطلق سراحك)، لأنَّه لا يختص بالأوامر عنده على خلاف قول أخرين.

وكان استدلال صاحب المعالم رحمه اللهعلى ما ادَّعاه بأنَّ:-

(لنا أن قول القائل "أعط زيداً درهماً إن أكرمك" يجرى في الحرف مجرى قولنا "الشَّرط في اعطاءه اكرامك"، والمتبادر من هذا انتفاء الإعطاء عند انتفاء الإكرام قطعاً، بحيث لا يكاد يُنكر عند مراجعة الوجدان، فيكون الأوَّل أيضاً هكذا، وإذا ثبتت الدِّلالة على هذا المعنى عرفاً ضممنا إلى ذلك مقدِّمة أخرى سبق التنبيه عليها، وهي أصالة عدم النَّقل فيكون كذلك لغة).

ص: 267


1- معالم الدين وملاذ المجتهدين ص77.

أقول: وهو كما قال آخرون قبلي بأنَّه رحمه الله يريد من هذا الاستدلال هذه النَّتيجة، وهي ثبوت كون التَّعليق دالاًّ على انتفاء الحكم عند انتفاء الشَّرط لغة أيضاً.

إلاَّ أنَّ هذا وهو أصالة كون اللُّغة هي مرجعنا في كل الأمور كما كان قد أصرَّ عليه البعض في بحوثهم، وكنَّا قد ناقشناه عليه هناك ممَّا أثبتناه أنَّ المقصود من العرف هو العرف الشَّرعي، لا خصوص اللُّغوي العام، للعموم والتَّنوع في اللُّغة بما يمنع من القول بكون أعرافها غير الشَّرعية لها تلك الأصالة الكافية، كما سبقه وسبقنا في هذه النَّتيجة السيد المرتضى علم الهدى قدس سره، فلا يتم الإطلاق في الحكم كما يدَّعي.

ولذلك ذهب السيد علم الهدى قدس سره إلى أنَّه لا يدل عليه إلاَّ بدليل منفصل، لعدم الإنسداد الكامل في الأدلَّة، وتبعه ابن زهرة وهو قول جماعة من العامَّة.

محتجَّاً على ما ذهب إليه ( بأنَّ تأثير الشَّرط هو تعليق الحكم به وليس يمتنع ان يخلفه وينوب منابه شرط أخر يجري مجراه ولا يخرج عن أن يكون شرطاً)(1).أقول: وهذا ما مفاده عنده بأنَّ تعريف الشَّرط في القضية الشَّرطيَّة -- الَّتي يتوقَّف فيها أمر المقدَّم على محقِّقه في التَّالي -- لا يلزم بأن يكون في مطلق الأحكام ومن كل قضية أن يكون لها مفهوم إلاَّ بالدَّليل المنفصل.

ومثَّل لذلك بقوله من آيات الأحكام (ألا ترى أنَّ قوله تعالى [وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ](2) يمنع من قبول الشَّاهد الواحد حتَّى ينضمَّ إليه أخر لواجب توفير البيِّنة، فانضمام الثَّاني إلى الأوَّل شرط في القبول، ثمَّ نعلم أنَّ ضمَّ امرأتين إلى الشَّاهد الأوَّل يقوم مقام الثَّاني ثمَّ نعلم بدليل أخر إذا انضمَّ اليمين إلى الواحد يقوم مقامه أيضاً فنيابة بعض الشُّروط عن بعض أكثر من أن تحصى).

ص: 268


1- معالم الدين وملاذ المجتهدين ص78، عن الذريعة للسيد المرتضى قدس سره 1 / 406، في جوابه عن ثالث وجوه أدلة القول بثبوت المفهوم.
2- سورة البقرة / آية 282.

أقول: وهذا ما يمكن أن ينتفي بسببه البناء على المفهوم حتَّى مطلقاً، لأنَّ الشَّاهد والمرأتين أو الشَّاهد واليمين ما جاءا حقَّاً من نفس القضية الشَّرطية، وإنَّما من الدَّليل المنفصل أو القرينة المنفصلة.

ومسألة النِّيابة المدَّعاة منه قدس سرهتحتاج إلى قوَّة استدلاليَّة أكثر إن استفادها بعضهم، ومن ذلك بقاء المفهوم، وإن كان قيد [من رجالكم] قد لا ينفي ما عداه.

إضافة ما ذكروه من الكلام عن مفهوم الوصف كما في الآية، وكذلك إضافة إلى ما ذكره من مصاديق قبول قول الثِّقة المتبيَّن منه وإن كان فاسقاً أو ما ورد من خير ذي الشَّهادتين للنَّص الخاص ونحو ذلك كما سوف يتَّضح في الكلام عن مفهوم الوصف.

واحتج موافقوا السيد قدس سره -- مع ذلك -- (بأنَّه لو كان انتفاء الشَّرط مقتضياً لانتفاء ما عُلِّق عليه لكان قوله تعالى [وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا](1) دالاًّ على عدم تحريم الإكراه حيث لا يردن التَّحصُّن، وليس كذلك بل هو حرام مطلقاً)(2).

أقول: أي سواء أردن التَّحصُّن أو لا, لانتفاء الموضوع بعدم حجيَّة ذلك لحرمة الزِّنا بأدلَّته المستقلَّة الكثيرة وحرمة غض النَّظر عن تيسير مقدِّماته.

إلاَّ إذا قلنا بأنَّ المقصود من الإكراه هو الإحراج الاختباري لبعض من لم ترد الزواج لاستكشاف أمرها في موارد الشُّبهة إلاَّ أن تتزوَّج خوفاً عليها.

ولكن هذا ما يحتاج إلى قوَّة استظهاريَّة، أو أنَّ الإكراه لم يحرم إذا لم يردن الزَّواج، لانتفاء موضوع هذا الحكم حينما كان موضوعه إرادة الزَّواج فقط ولم يكن البغاء يمر على بالهنَّ لشرفهن، لعدم لزوم عدم الحرمة ثبوت الإباحة، ولذلك مثَّلوا

ص: 269


1- سورة النور / آية 33.
2- معالم الدين وملاذ المجتهدين ص78.

بما إذا انقلب الخمر خلاًّ.

فنقول في ذلك لا حرمة، لأنَّ انتفاء الحرمة لم يكن نتيجة عروض الخل على الخمر، بل لانتفاء موضوع الخمريَّة أو للمبالغة في النَّهي عن الإكراه.ولكن ليس معنى ذلك أنَّنا نوافق صاحب المعالم قدس سره في كلِّ ما قال، كما لا يخفى.

6 - أقسام المفهوم وأنواعه .

ينقسم المفهوم إلى مفهوم الموافقة كما في قوله تعالى [إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا](1) الَّذي مفهومه هو مفهوم الموافقة (إن جاءكم عادل فلا تتبيَّنوا).

وإلى مفهوم المخالفة، وهو ما يقرب من نفس هذا القول، كما لو نقول إن لم يجئكم فاسق فلا تتبيَّنوا، ولكن ليس معنى هذا هو التَّصديق بكل شيء إضافي من الكلام كما أشرنا.

وأمَّا الأنواع فهي:-

1- مفهوم الشرط

2 - مفهوم الوصف 3 - مفهوم الغاية

4 - مفهوم الحصر أو الاستثناء 5 و 6- مفهوم اللقب والعدد

ونأتي لها تباعاً:

الأوَّل / مفهوم الشَّرط:-

وهو أهم المفاهيم الَّتي يحتج بها المتكلِّم على السَّامع أو السَّامع على المتكلِّم، وإن كان بعض حالاته عدم قبول بعض مفاهيمه كما لو قيل (إن رزقت ولداً فاختنه)

ص: 270


1- سورة الحجرات / آية 6.

أي كان المقدَّم هو نفس موضوع الحكم، حيث يكون الحكم في التَّالي منوطاً بالشَّرط في المقدَّم على وجه لا يعقل فرض الحكم بدونه، لأنَّه لو لم يرزق ولداً فلا داعي للختان، للسَّالبة بانتفاء الموضوع.

ومنه ما مرَّ من قوله تعالى [وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا](1) فإنَّه لا يعقل فرض الإكراه المحرَّم على البغاء إلاَّ بعد فرض إرادة التَّحصُّن والزَّواج من الفتيات إلاَّ ممَّا وجَّهناه.

وهذا لا نزاع بينهم في أمره لاتِّفاقهم على أنَّه لا مفهوم لهذا النَّحو من الجملة الشَّرطيَّة نوعاً.

وإنَّما النِّزاع بينهم في هذا البحث على أن لا تكون الجملة الشَّرطيَّة مسوقة لبيان الموضوع، حيث يكون الحكم في التَّالي منوطاً بالشُّرط على وجه يمكن فرض الحكم بدونه نحو قولهم (أن أحسن صديقك فأحسن إليه)، فصار النِّزاع في صدق المفهوم وترتيب الأثر عليه.

فبعض قال ما مضمونه (إن لم يحسن إليك فلا تحسن إليه)، وبالأخص إذا كان المطلوب شرعيَّاً ارتباطاً بالمفهوم في النُّصوص، وإن أمكنت المناقشة عقليَّاً.

وبعضهم اعتبر عدم لزوم عدم الإحسان لمن لم يحسن إليك، لأنَّ فرض الإحسان إلى الصَّديق لا يتوقَّف عقلاً وأخلاقيَّاً على فرض صدور الإحسان منه أو لا، فإنَّه يمكن الإحسان حتَّى على من يُسيء التَّصرف مع أصدقائه طبقاً لبعض المرويَّات الَّتي منها قولهم (أحسن لمن أساء إليك ) أو (أُنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً).

ومرجع هذا النِّزاع مبني على دلالة الجملة الشَّرطيَّة على انتفاء الحكم عند انتفاء الشَّرط الَّذي لم يستقر الأمر عليه مطلقاً، ولذا صحَّ هذا السُّؤال الَّذي يحتاج إلى الإجابة.

ص: 271


1- سورة النور / آية 33.

وهو هل يستكشف من طبع التَّعليق على الشَّرط انتفاء نوع الحكم المعلَّق كالوجوب مثلاً على تقدير انتفاء الشَّرط؟

والجواب: أنَّه لمَّا كان في مفهوم الشَّرطيَّة قولان، فإنَّ الأرجح دلالتها على الانتفاء عند الانتفاء، ولو بالاقتصار على مفهوم الموافقة وإن احتيج أمره إلى تقوية على وجه آخر أو مفهوم المخالفة نفسه كما في الآية [إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا](1) إذا كان مفهوم المخالفة فيه وجود طرف ثالث وهو المجهول.

بل إنَّ الفاسق أو العادل كما إذا انتفى الفاسق فلا مجال لأن يجيء إلاَّ العادل، فإنَّه لا يحتاج إلى التَّبيُّن عند الانتفاء حسب هذا المفهوم إذا قبلنا العادل وحده إن وثق به.

إلاَّ أنَّ في مفهوم المخالفة يبقى الإشكال فلابدَّ من أن تكون القضية محصورة في خصوص ما يصح كما أشرنا في السَّابق دون مطلق العادل وحده.

علماً بأنَّ هذا الخاص من الصَّحيح المسلَّم لم يكن الوصول إليه بالشَّيء الصَّعب،وإنَّما كان بسبب الوضع العربي بنحو التَّبادر إلى معناه فيكون حجَّة بلا إشكال إن جري العرف الأدبي عليه بدون التَّقيُّد بالشَّرع الأهم وهو أوَّل الكلام.

(ما هي علامات مفهوم الشَّرط في القضايا)

إنَّ لمفهوم الشَّرط علامات لابدَّ من وجودها وتحقُّقها، وهي:-

1 -- دلالتها على الارتباط والملازمة بين المقدَّم والتَّالي، وذلك الارتباط بينهما لزوميَّاً أنه بالوضع بحكم التَّبادر، وذلك بوضع الهيئة التَّركيبيَّة للجملة الشَّرطيَّة بمجموعها، لا بوضع خصوص أدوات الشَّرط حتَّى ينكر وضعها لذلك، فاستعملها

ص: 272


1- سورة الحجرات / آية 6.

في القضية الاتِّفاقيَّة الَّتي لا ترابط أساسي فيها، كأن يكون بالعناية وادِّعاء التَّلازم والارتباط إذا اتَّفقت لهما المقارنة في الوجود كقولك (إذا صاح الدِّيك حل وقت الأذان) أي لو قبلت هذه الملازمة على الدَّوام.

2 -- دلالتها على أنَّ الثاني معلَّق على المقدَّم ومرتَّب عليه، فيكون المقدَّم سبباً للتَّالي، ولكن بمعنى أنَّ المراد كل ما يترتَّب عليه الشَّيء وإن كان شرطاً ونحوه وهو الأعم من السَّبب المصطلح في فن المعقول وهو متحقِّق بالوضع كذلك، وهو وضع واحد لا وضعان وهو التَّلازم والتَّرتيب للارتباط الخاص وهو ترتُّب التَّالي على المقدَّم كقول (إذا طلع الفجر حلَّ وقت الآذان).

3 -- الدلالة على انحصار السَّببيَّة في المقدَّم، بمعنى أنَّه لا سبب بديل له يترتَّب عليه التَّالي كما ذكرناه ممَّا بيَّنه علم الهدى قدس سره في نيابة الشَّاهد والمرأتين والشَّاهد واليمين، لكون ذلك كان بديلاً منفصلاً، ولكن دلالتها على أنَّ الشَّرط منحصر كانت بالإطلاق لا الوضع على ما ذكره البعض من أهل العلم، لأنَّه لو كان هناك شرط أخر للجزاء بديلاً للشَّرط الأساس أو كان معه شرط أخر يكونان معاً شرطاً للحكم لاحتاج ذلك إلى بيان زائد إمَّا بالعطف في الصُّورة الأولى بأو وبالواو في الصُّورة الثَّانية.

وبعد إتمام ما ذكرناه لا يبقى الشَّك في صدق المفهوم للشَّرطية، ولذلك جاءت رواية أبي بصير عن الإمام الصَّادقعَلَيْهِ السَّلاَمُ في استدلاله بالمفهوم حيث قال سألت أبا عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن الشَّاة تذبح فلا تتحرَّك ويراق منها دم عبيط فقال لا تؤكل؟ للحاجة إلى كلا الأمرين وهما الحركة وشخب الدَّم.

أنَّ عليَّاً عَلَيْهِ السَّلاَمُ كان يقول (إذا ركضت الرِّجل أو طرفت العين فكُل)(1).

وهذا واضح منه عَلَيْهِ السَّلاَمُ في صدق المفهوم ولزومه. ولكنَّا نقول أنَّ مفهوم المخالفة

ص: 273


1- جامع أحاديث الشيعة / السيد البروجردي ج 23 ص 70 عن التَّهذيب ج9 ص57.

لا يكون بالنَّحو المطلق إلاَّ ما يدل الدَّليل عليه.

( اذا تعدَّد الشَّرط واتَّحد الجزاء )

كما لو تقول (إن صلَّيت وصمت الواجبين فسأزوِّجك)، وهكذا ما يناسب هذا المثال ممَّا قد يكون من الكتاب أو السنَّة، فإنَّ قرينة الواو العاطفة في الشَّرط إذا جمعت بين الواجبين على المخاطب المكلَّف لابدَّ أن تكون المجازاة بالتَّزويج مرتبطة بتطبيق الاثنين دون أحدهما.

وأمَّا باقي الكلام عن مفهوم الشَّرط والأخذ به فقد مضى بعضه، وسيأتي آخر في بحث السنَّة.

الثَّاني / مفهوم الوصف

تعارف ذكر مفهوم الوصف فيما بين المفاهيم وإن كانت أغلب حالاته بالنَّتيجة لا نفع فيه إلاَّ أن تعارفهم على ذكره التَّسلسلي عادة بعد مفهوم الشَّرط بالمباشرة، وبالأخص عند محاولة المقارنة بين الاثنين للتَّعرُّف على مورد التَّلاقي المناسب بينهما وإن قلَّ.

فلابدَّ أن نجد أنَّ مفهوم الوصف يشبه مفهوم الشَّرط في التَّحقُّق، أي فكما أنَّ مفهوم الشَّرط يؤخذ به إذا كان علَّة تامَّة منحصرة قائمة على الحجَّة المعتبرة لثبوت الحكم للموضوع دون ما يكون مقتضياً له أو لا اقتضاء له أصلاً.

فكذلك جاء التَّشابه على هذا النَّحو في مفهوم الوصف، فبعد التَّطابق بين الوصف والموصوف لابدَّ أن يحصل الانتفاء عند الانتفاء كما سيتَّضح.

ومن هنا يمكن القول بعدم الرَّيب في ثبوت المفهوم للوصف في بعض الموارد لقرائن خارجيَّة أو داخليَّة كما لا ريب في عدمه كذلك في بعض الموارد الأخرى، إذ

ص: 274

عند اجتماع الأفراد عند قيام العلَّة التَّامَّة على هذا وامتناع الأغيار بانغلاق الباب عنها ينعقد الأمل بعدم الرَّيب أيضاً في إثبات صدقه الخارجي بما قد تكثر بسببه مصاديق هذه الأمور في تضاعيف الأمور الفقهيَّة الاستدلاليَّة إيجاباً أو سلباً لكل فقيه متتبِّع.

لكنَّ الكلام بعد هذا وذاك وعلى النَّحو الأهم حول إمكان إيجاد القاعدة الكليَّة الَّتي يصح الاستناد إليها في شؤون الأدلَّة اللَّفظيَّة للأحكام، بل في كل مقام من حالات عدمه بالاستناد على ما يضاددها احتمالات كلُّها قابلة للمناقشة على ما سيجيء بعض نماذج مهمَّة منه.

والمراد من الوصف في المقام مايشمل النَّعت ويتعدَّاه من أشباهه كالحال والتَّمييز وعطف البيان والبدل وغيرها ممَّا يصلح أن يكون قيداً لموضوع التَّكليف، كما أنَّ الوصف يختص بما إذا كان معتمداً على موصوف فلا يشمل ما إذا كان الوصف نفسه موضوعاً للحكم محو قوله تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا](1) لخروج الآية عمَّا نحن فيه ودخولها في مفهوم اللَّقب الَّذي لا وجود لموضوعه على ما سيأتي، من أنَّ أمر السَّالبة بانتفاء الموضوع لا مفهوم له، ومنه مفهوم اللَّقب بعد استقرارهم على كون موصوف الوصف يجب أن يكون موجوداً لا غير.

ولهذا ونحوه جعل اثنان من موارد امتناع صدق المفهوم للوصف من النِّسب المنطقيَّة الأربعة وهما التَّساوي والتَّباين وأمكن صدقه مع الاثنين الباقيين وهما العموم والخصوص المطلق والعموم والخصوص من وجه في بحوثهم.

وسر امتناع صدق مفهوم الوصف على نحو التَّساوي بينه وبين الموصوف كون الظَّاهر خروجه عن مورد البحث، لكون مقتضى التَّساوي بين الموصوف والصِّفة -- وإن كان الإتِّحاد الإجمالي بينهما مراداً دون معنى التَّساوي الكامل -- انتفاء

ص: 275


1-

الموصوف بانتفاء الوصف قهراً، فتكون القضيَّة من نوع السَّالبة بانتفاء الموضوع، وهو ما لا مفهوم له كالشَّرط إذا خلا من المفهوم.

إلاَّ إذا كان مورد نظر المانعين من صدق المفهوم إلى ما هو الأعم من ثبوت الموضوع خارجاً أو فرضاً، لأنَّ بالتَّساوي وبالأعم لا يحصل تضييق وتقييد في الموصوف فلا يصح فرض انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف.

ولكنَّه حسب ما استفاده أحد أساتذتنا العظام قدس سره أنَّ هذا بعيد عن مغزى كلماتهم.

وسر هذا الامتناع بالقياس إلى مورد الافتراق والتَّباين لو افترق الوصف عن الموصوف، ففي مثال (في الغنم السَّائمة زكاة) المأخوذ من قولهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ(وليس على العوامل شئ إنما ذلك على السائمة الراعية)(1) إذا افترض أنَّ له مفهوماً من وراء اللَّفظ مع هذا الافتراق الواضح الحاصل من طرف الموضوع ما دام لا اعتماد فيه للوصف علىالموصوف في ظاهر الخطاب إذا أدخل غير الغنم في محاولة الاستفادة من المفهوم كالإبل.

يكون ما نُسب إلى الشَّافعيَّة من نفي وجوب الزَّكاة فيها لا وجه له أصلاً، لإنَّ الحق هو الواجب في كلِّ النِّعم الثَّلاث كل بحسب تعليماته وتفاصيله في الفقه.

وأمَّا الاثنان الباقيان وهما العام والخاص المطلق والعام والخاص من وجه وبالأخص الثَّاني للتَّلاقي الإجمالي بين الوصف والموصوف من جانبي الوجهين معاً إذا كانت العلَّة التَّامَّة هي سبب حصر ثبوت الحكم للموضوع وبه يتحقَّق المفهوم وهو الانتفاء عند الانتفاء إذا ساعدت الأدلَّة المناسبة على ذلك فضلاً عن العام والخاص المطلق -- فلا مفهوم له لو لم تساعد على تثبيته الأدلَّة المناسبة.

ص: 276


1- وسائل الشِّيعة ج6 ص80، وفي مستدرك الوسائل / الميرزا النوري ج 7 ص63 عن دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ، أنه قال: "الزكاة في الإبل والبقر والغنم السائمة".

ولنشرع بعد هذا في موارد ما جاءت به المناقشات للإجابة عليها، وهي:-

أوَّلاً: إن قيل بثبوت المفهوم سفهاً حتَّى في قوله تعالى الواضح ضدَّ القيل [وَرَبَائِبُكُمُ الَّلاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ الَّلاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ](1)، بحجَّة كثرة أو أكثريَّة من يحسبن ظاهراً من الرَّبائب ولكنَّهنَّ لم يكنَّ في حالات حتَّى يوماً واحداً أو دقيقة في الحجور وإن قيل بكون غالب الصِّبيان في الحجور ولو حصانة تسامحاً.

فإنَّه يجاب عنه: بحكمة الحكم الإلهي الَّذي لم يترك قرينة الدخول بإمَّهاتهنَّ، وإلاَّ لحلَّ الغضب الإلهي بالجمع بين الدخول بالأمَّهات بعد الزَّواج منهنَّ وبين حليَّة الرَّبائب معهنَّ أيضاً بحجَّة ندرة من صادفن أن كنَّ في الحجور.

ولذا فالأصح أن يدَّعى عن هذه الآية بداية بأنَّها ممَّا لا مفهوم لها، مع إضافة أنَّ هناك أدلَّة خاصَّة غير هذه الآية -- لا لضعف فيها حول هذا الأمر -- دلَّت على حرمة الرَّبيبة مطلقاً حتَّى لو لم يدخل بإمِّها الَّتي عقد عليها عقد الزَّواج حسب وإن لم تكن الرَّبيبة يوماً في الحِجر.

ثانياً: إن استدلَّ ببعض المرويات على أنَّها ممَّا ثبت لها المفهوم كما عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم (مطل الغني ظلم)(2)، ومنه استكشافه في المحاورات العرفيَّة.

فإنَّه يجاب: بأنَّ ذلك على تقديره لا ينفع المستدل لأنَّا لا نمنع كما سلفت الإشارة من دلالة التَّقييد بالوصف كالغنى على المفهوم أحياناً لوجود قرينة.

وإنَّما موضوع البحث في اقتضاء طبع الوصف لو خُلِّي ونفسه للمفهوم، وفي خصوص المثال تجد القرينة على إناطة الحكم بالغني موجودة من جهة مناسبة الحكم

ص: 277


1- سورة النساء / آية 23.
2- ميزان الحكمة / الريشهري ج2 ص959 عن مستدرك الوسائل: 13 / 397 / 15713، وفي صحيح البخاري 3: 123، صحيح مسلم 3: 1197 / 1564، سنن ابن ماجة 2 بإضافة (وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع).

للموضوع.

فيفهم أنَّ السَّبب في الحكم بالظلم كون المدين غنيَّاً فيكون مطلُّه ظلماً بتعمُّد عدم الدَّفع.

لكن إلى هنا نحن والمستدل متَّفقون بدون مناقشة.

أمَّا إذا كان المدين هو الفقير -- بل حتَّى الغني المدين إذا كان سبب مماطلته بعد التَّحقُّق هو عدم القدرة الفعليَّة على الوفاء، كما هو عموم وإطلاق النَّص الإلهي وهو قوله تعالى [فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ](1) -- فلا نساعده على ما يظهر من مدَّعاه.

ثالثاً: ما قيل من اشتهار أنَّ الأصل في القيد أن يكون احترازيَّاً، وإنَّ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعليَّة فيثبت المفهوم لا محالة، وهو المفهوم المعاكس وهو الانتفاء عند الإنتفاء.

فإنَّه يُجاب: بأنَّ هذا وإن كان مسلماً في ظاهره ولكن معنى الاحتراز حينما كان هو تضييق دائرة الموضوع لإخراج ما عدا القيد عن شمول شخص الحكم له لا غير.

وقولنا بتسليم أمره كذلك ليس لكونه من المفهوم في شيء، لإنَّ اثبات الحكم لموضوع لا ينفي ثبوت سنخ الحكم لما عداه، لأنَّه سوف يكون من السَّالبة بانتفاء الموضوع كمفهوم اللَّقب ما دامت النَّتيجة لم تصل إلى كون القيد احترازيَّاً بأن يلزم إرجاعه قيداً للحكم المراد جعل المفهوم له.

وقضيَّة تعليق الحكم على الوصف مشعراً بالعليَّة ليست من القواعد المعتبرة مع إنَّ الإشعار بالعليَّة أعم من العليَّة التَّامَّة المنحصرة الَّتي هي مناط تحقُّق المفهوم المراد.

رابعاً: ولو قيل أنَّ الوصف لو لم يدل على المفهوم لكان ذكره لغواً، إذ لا فائدة فيه غير ذلك، وهو الانتفاء عند الانتفاء؟

فإنَّه يجاب: بأنَّ الفائدة غير منحصرة برجوعه إلى خصوص الحكم، وكفى فائدة

ص: 278


1- سورة البقرة / آية 280.

فيه، وهي تحديد موضوع الحكم وتقييده به، وهو ما قد لا ينفعنا إذا كانت المناقشة في غير ما نحن بصدده.

كيف وهناك فوائد أخرى متجاوزة عمَّا يخرج عن توصيف الحكم، لعدم الحاجة إليه ممَّا عدا موضوع الحكم عند أهل المحاورات الأدبيَّة كأهل علم المعاني والبيان والبديع، وبكثرة لو تأمَّلوا فيها وتشعَّبوا في جوانبها نثراً وشعراً.

خامساً: ولو قيل بدلالة الوصف على المفهوم وضعاً وبما لا مفرَّ منه ولو كان في جملته الخاصَّة به كي يكون ما زاد عليها خارجاً بالدَّليل تخصيصاً.

فإنَّه يجاب عنه: إنَّه لو كان كذلك لما وقع الخلاف فيه بين أهل العلم المخصوصين في أمور المفاهيم، ولكانت قواميس اللُّغة مرجعاً ولو لذلك البعض المرصود في تشخيصه الوضعي من دون احتياج إلى إتعاب النَّفس لعدم تميُّزه المغاير إلى التَّمسُّك بالأدلَّة الخارجيَّة.

(زبدة المخض فيما مضى عن مفهوم الوصف)

بعد إيجاز ما يوضِّح معيار ما تتشخَّص به قضيَّة المفاهيم المنتجة بالنَّحو الأكثر عمَّا بينها وبين كل منطوق لها من الانتفاء عند الانتفاء كمفهوم الوصف الَّذي من ثوابتانتاجه على ضعفها ثبوت الموضوع لحلول الوصف عليه، لتشكيل الجامع بين الوصف والموصوف بما يُحقِّق علاقة العليَّة والمعلوليَّة النَّاشئة من خصوص الحجَّة المعتبرة في الشِّرعيَّات في السَّلب والإيجاب إذا كان الوصف قيداً للحكم دون نشوءها من الاقتضاء أو اللا اقتضاء عقلاً.

وإن لم يكن له موضوع فلابدَّ أن يشمله حكم السَّالبة بانتفاء الموضوع كمفهوم اللَّقب الآتي، وكذا إذا كان الوصف قيداً للمحمول فقط.

فلنفرض بعده مثال المفهوم بالمثال الَّذي لا مفهوم له من باب تعريف الشَّيء

ص: 279

بأضداده، فإنَّ المنطوق المألوف عرضه اليوم لتعريف المعنى المعاكس للذِّهن هو تعريف الشَّكل الهندسي المربَّع بإنَّه (ذو الأضلاع الأربعة قائمة الزَّوايا).

فإنَّك مهما حاولت أن تقلب أركان تعريفه ظهراً لبطن فلن تجد مجالاً لفهم أي شيء وراء هذه الأركان والمعنى المنطوق.

ونظيره قولك حين الاعتراف منك بأنَّ (عليك لزيد عشرة دراهم إلاَّ درهم) بالَّرفع بجعل (درهم) وصفاً.

فإنَّه يثبت في ذمَّته لزيد تمام العشرة الموصوفة بإنَّها ليست بدرهم، ولا يصح أن تكون استثنائيَّة، لعدم نصب درهم، ولا مفهوم لها حينئذ، فلا تدل على عدم ثبوت شيء آخر في ذمَّته لزيد.

وبهذا وذلك من الأمثلة يتم ترجيحنا بمثل غالبيَّة عدم ثبوت الموضوع لحلول الوصف على الموصوف ليتحقَّق له مفهوم بعدمه، إلاَّ إذا دلَّت عليه قرائنه البيانيَّة المثبتة لإنصراف الذِّهن إلى صحَّة المفهوم حسب تطبيق قواعد علمي النَّحو والمعاني والبيان على ما يظهر من مدارك الأحكام.

الثَّالث / مفهوم الغاية

من أمور التَّسلسل الموضوعي المتعارف بين أصحاب التَّدوين للمفاهيم منطقيَّاً وأصوليَّاً هو مفهوم الغاية، لما قصده أصحاب كل من العلمين من حيث العقل المستقل للجهة الأولى، أو غير المستقل للجهة الأخيرة، أو ما قد يتَّضح من بعض الإضافات المناسبة لذلك، أو ما هو الأقرب لمراد غايات الشَّرع المدركيَّة، لما قد يتبيَّن سرُّه أكثر من خلال ضرب الأمثلة الآتية بعون الله تعالى.

بل حتَّى إذا كانت نتائجها على أساس من العقل المستقل منطقيَّاً، بل وأصوليَّاً وقام الشَّرع بإمضاءه لبعض القرائن الإيجابيَّة الجامعة بين العقل والشَّرع فلا مانع.

ص: 280

فحق الكلام عن هذا المفهوم أن يُقال على علاَّته ولو مختصراً جامعاً في حالتين عند تقييده إذا ورد بالغاية.

الحالة الأولى: وهي ما لا مفهوم للفظه من وراءه ظاهراً، سواء كان مفهوم موافقة أو مفهوم مخالفة كبعض الأمثلة الآتية، أو له ذلك المفهوم بالمعنيين لكونه لا نزاع لهم في أمر أمثلته لإمكان حلِّ أمورها على ضوء القرائن وأدلَّتها على ما سيتَّضح.وعند استعراض هذه الحالة مع أمثلتها يمكن معرفة شيء أو بعض شيء عن الحالة الثَّانية الآتية بنحو من الضدِّيَّة المخالفة، إذ قد تُعرف الأشياء بأضدادها ولو بالشَّكليَّة المشابهة لها بعض الشَّيء، لكن بنحو يحتاج إلى التَّوجيه المغاير للمعنى الَّذي يُحسب له حسابه إن بني عليه في الحالة الآتية.

الحالة الثَّانية: ما له مفهوم وبالمعنيين.

وكل من الحالتين لها حدودها المرسومة بياناً وتمثيلاً وتوجيهاً وغير ذلك.

أمَّا الحالة الأولى: فالمتَّبع بين أهل التَّحقيق الَّذي نحن نوافقهم عليه أنَّ لها معنيين ولو بالاكتفاء بمجرَّد التَّمييز التَّعريفي عن الحالة الآتية الثَّانية، لأنَّ مورد النِّزاع بينهم من الحالتين هي الآتية دون الَّتي بين أيدينا.

فتارة يُراد بها آخر الشَّيء باعتبار وجوده المختص به غائيَّاً كقول المهندس أو المسَّاح (مسافة هذا الشَّيء ذراع واحد).

أو مشتركاً بين الأوَّل والأخير إذا ورد شيء بمثل قوله (كل السَّمكة حتَّى رأسها).

ففي المثال الأوَّل إذا كان محدوداً بما لا يزيد ولا ينقص، وفي الثَّاني إذا أريدت السَّمكة كلَّها، فصار كل من المحدودين داخلاً في المغيَّا.

ومثلهما ما ورد في الشَّرع لتحديد مسافة من عليه السَّعي وراء البئر للتَّطهير بماءه

ص: 281

ب- (غلوة سهم في السَّهلة وغلوة سهمين في الحزنة).

وهذه الأمثلة ونحوها مرتبطة بخصوص المنطوق، وهي الَّتي لم يخل من الموضوع.

وتارة أخرى يُراد بها ما ينتهي عند الشَّيء باعتبار الحكم لا باعتبار الموضوع كقوله تعالى [ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ](1)، وإن كان الموضوع باقياً.

وعليه فكلا التَّقديرين فقهيَّاً سواء قلنا بأنَّ آخر نهار الصِّيام بناءاً على القرائن المعتبرة هو ما بعد مغيب الشَّمس الحقيقي ولو بدقيقة إن اكتفينا به.

أو أوَّل لحظة من ذهاب الحمرة المشرقيَّة على ما هو المتبَّع من تلك القرائن وبه براءة الذمَّة من التَّشريع الإضافي المحرَّم.

إذ عند الشَّك يرجع إلى الاستصحاب ما بين الوقتين ولو احتياطاً، لئلاَّ يدخل الحال عرفاً في عمق اللَّيل هروباً من صوم الوصال المحرَّم.

وعليه فيكون الحكم المحدود في هذه الآية بما ذكرنا غير مانع من الدخول في المغيَّا، وإن أمكن حصول مفهوم موافقة على ما مرَّ توضيحه فيها.

وكذا مفهوم مخالفة أيضاً، لأنَّ الخطاب فيها دال على وجوب إتمام الصِّيام إلاَّ لمن يسافر في النَّهار قاطعاً للمسافة، والَّذي يمرض بما يمنع من الصَّوم، وكذا المرأة الَّتي تحيض أو تتنفَّس وغير ذلك.

وبما أنَّ كلمة (حتَّى) تشترك مع (إلى) في بعض النُّصوص الدَّاخلة في محور الحديث الَّذي يحتمل أكثر من معنى حتَّى في خصوص هذه الحالة الأولى ما دامت القرائن هي الَّتييُعوَّل عليها لهذه الحالة أو لما يعود للحالة الآتية.

ولهذه النَّاحية لا مانع من الاستشهاد بالرِّواية الشَّريفة إلحاقاً بالآية الماضية وهي

ص: 282


1- سورة البقرة / آية 187.

(كل شيء لك حلال حتَّى تعلم أنَّه حرام بعينه)(1)، فيحنما لم يتَّضح تشخيص الحرام بعد (حتَّى) في هذه الرِّواية -- أو حصل شك لشبهة وقعت -- فلابدَّ أن يُستصحب الحلال الَّذي قبلها.

وكما مرَّ فيما لو ورد (كل السَّمكة حتَّى رأسها)، فإنَّ الأكل لها لو تخلَّف عن أكل رأسها لم يكن عاصياً، لعدم صدور صيغة الأمر دليلاًّ على الوجوب بسبب بعض القرائن.

فيظهر التَّشابه بين نتيجتي الحتَّائتين فلا دلالة على ما قد يتصوَّر من أنَّ رواية (كل شيء لك حلال حتَّى... إلخ) تعود إلى الأمثلة الخاصَّة بأمور الحالة الثَّانية الآتية.

فالحق أن يُقال أنَّه لم يدخل ما قبل حتَّى بما بعدها بعمق دوماً بسبب تفاوت حالات ورود القرائن.

ومن قرائن تفاوت هذه الحالات ما يدل على ما لا يلائم هذه الحالة الَّتي بأيدينا، وهو ما لا يختلط فيه الحلال بالحرام فهي شبيهة ب- (إلى).

فإنَّهما وإن عرف أدبيَّاً عنهما بأنَّ الغاية بسببهما قد تكون داخلة في المغيَّا، لكن لا يلزم أن تكون كذلك بعمق حتَّى بما قد يختلط فيه الحلال بالحرام في الرِّواية الأخيرة، لتمثيلنا بما هو الأسبق ممَّا لا يحتمل فيه هذا المحذور.

ولذلك يمكن أن تًعد هذه الأمثلة حول هذه الحالة من نوع السَّالبة بانتفاء الموضوع، وكونها مرتبطة بالمنطوق إلاَّ إذا كانت قرينة دالَّة على الخلاف، ومن مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة كما أشرنا.

وأمَّا الحالة الثَّانية: وهي الَّتي يحوم حولها بحثنا الَّذي لأجله ينم تحرير أموره فيها عمَّا وقع أو يقع من الملابسات.

ص: 283


1- وسائل الشيعة ج17، ص89، أبواب ما يكتسب به، ب4، ح4، ط آل البيت.

أي هل تدل الحالة هذه على ارتفاع الحكم عمَّا بعد الغاية، أم لا؟

فالحق أن يقال أنَّ الغاية إن كانت قيداً للموضوع تكون من الوصف حينئذ إذا صار شبيهاً باللَّقب الآتي، وهو الَّذي سبق ذكره بأنَّه لا مفهوم له، وإن كانت قيداً للحكم فتدل على ارتفاع الحكم عمَّا بعد الغاية قهراً، وإلاَّ فلن تكون غاية، وهو من الخُلف غير الخفي على الملتفت.

ولأجله كان الاستشهاد بقاعدتي النَّصَّين الشَّريفين (كل شئ نظيف حتَّى تعلم أنه قذر)(1)، و (كل شيء لك حلال حتَّى تعلم أنَّه حرام بعينه)(2) كمقياسين مهمَّين للتَّطبيق لو علمت القذارة والحرمة بعد التَّفحُّص قلَّ أو كثر.

لما أشرنا من الاعتماد على القرائن مع إمكان أن يُقال حصول هذا المعنى من الدِّلالةالمنطوقيَّة حتَّى دون المفهوميَّة لوضوحه.

وعند الشَّك يمكن الرجوع إلى الاستصحاب إذا تحقَّقت شرائطه، وإن تعذَّرت فالبراءة، وبالسَّير على نهجها يتم الانفكاك عن العلاقة بالمنطوق والمفهوم.

وعلى هذا المستوى أمكن التَّشابه على إجماله بين مفهوم الشَّرط ومفهوم الوصف ومفهوم الغاية كما أشرنا في مطلع البحث.

الرَّابع / مفهوم الحصر أو الاستثناء.

اتَّفق كافَّة أهل المحاورات البيانيَّة قديماً وحديثاً عقلاً ونقلاً ومن كافَّة اللُّغات وأهمُّها لغة التَّكاليف الإلهيَّة العامَّة والخاصَّة، وعلى الأخص اليوم إسلاميَّاً وشرعيَّاً

ص: 284


1- التهذيب: ج 1 ص 285 باب تطهير الثياب من النجاسات الحديث 119، الوسائل: ج 2 الباب 37 من النجاسات الحديث 4.
2- وسائل الشيعة ج17، ص89، أبواب ما يكتسب به، ب4، ح4، ط آل البيت.

عامَّاً وخاصَّاً، وهي اللُّغة العربيَّة الأم قرآناً وسنَّة ونحوهما من علوم الدِّين وتشعُّبات حياة الاستقامة وبعناية علوم الأدب الَّتي لم تخرج عن طور بحوثتنا الَّتي من أهمِّها النَّحو والبلاغة وشواهدهما العربيَّة القديمة.

على أنَّ هناك شبه ثوابت من أدوات الحصر والاستثناء اتُّخذت بعد تنقيحها وفرزها عن مثيلاتها الغريبة وبمعونة القرائن الخاصَّة من قبل مدوِّني قواعد علوم الأدب، وأضاف إليها الأصوليُّون مقرَّراتهم الخاصَّة كثوابت تظهر عن طريقها ما يسمَّى منها (مفاهيم الحصر) ومنها ( مفاهيم الاستثناء).

على أن لا يمتنع التقاؤهما بأدائهما نفس المؤدَّى بعد تنقيتهما من الشَّوائب الغريبة عن تلك الأدوات الآتية مع التحاق بعض هيئات آتية أخرى تُعطي نفس المفاد بواسطة القرائن كالتَّبادر ونحو ذلك.

وقبل التقائهما بما لا يمنع من ظهور المفاهيم كما في حالة عدم صحَّة أن يكون للحصر مفهوماً يطلق على الحصر لغة (القصر) وهو الَّذي لا يحصل له مفهوم قطعاً.

ومن أمثلة ذلك ما ذكره البيانيُّون ما سمَّوه بقصر الصِّفة على الموصوف كرواية (لا سيف إلاَّ ذو الفقار ولا فتى إلاَّ علي)(1)، وكذا ما سمَّوه بقصر الموصوف على الصِّفة كقوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ](2) وقوله [إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ](3)، وغير ذلك.

وبعد التقائهما بما لا يمنع لم يصطلح على الحصر إلاَّ لفظ الحصر نفسه، وبذلك يكون الاستثناء أقرب إلى معنى الحصر المفهومي ما لم يكن مانعاً من صدق المفهوم ممَّا يأتي بيانه.

ص: 285


1- تذكرة خواص الأمَّة في خصائص الأئمَّة / سبط ابن الجوزي ص29.
2- سورة آل عمران / آية 144.
3- سورة الرعد / آية 7.

إضافة إلى أنَّ من أسباب قربه من الحصر لصدق المفهوم هو اقتضاء المحاورات المتعارفة في كل لغة أنَّ الاستثناء من الإيجاب سلب ومن السَّلب إيجاب.

ومن هنا تظهر بعض المعاني من وراء الألفاظ وهي المفاهيم، اهتماماً بأنَّ الحكمالمذكور فيما تحمله أمثال هذه القضايا تختص بخصوص المستثنى منه لا بعين الاستنثاء، ولذلك اشتهر بينهم أنَّ انتغاء حكم المستثنى منه عن حكم المستثنى إنَّما هو بالمفهوم.

ولذلك فإن أرادوا هذا منه في الجملة لا دائماً بل في بعض الموارد الخاصَّة على ما سيتَّضح منَّا توجيه خصوص حالة إجماله فلا إشكال فيه.

وإلاَّ فالظاهر أنَّه في مثل (ليس) و (لا يكون) سائد بينهم بالمنطوق لا بالمفهوم، لتبادر ذلك منهما في محاوراتهم.

بل حتَّى في مثل (إلاَّ) أيضاً إذا كان استعمالها في حدود الحكم المنطوقي ومتعلَّقاته، فضلاً عمَّا إذا كان ذلك من قيود الموضوع، لأنَّ مرجعه إلى الوصف، في حين أنَّ الوصف كما مرَّ في مفهومه الخاص السَّابق إذا كان بمعنى اللَّقب لا مفهوم له، وكما سيأتي في الكلام عن اللَّقب.

فيصح إذن أن يُقال أنَّ الأدوات الاستثنائيَّة في طبيعتها الزَّائدة على ما أشرنا إليه من الحالة الإجماليَّة الجائزة في المفاهيم تدل دائماً على انتفاء حكم ما قبلها عمَّا بعدها بالمنطوق لا بالمفهوم إلاَّ في بعض تلك الموارد المجملة المستثناة من تلك الطَّبيعة السَّائدة بينهم لقرائنها الخاصَّة.

والبارز من بين تلك الأدوات الملتحقة بهذه الطَّبيعة والمناقش في بعض أمثلتها إلاَّ ما خرج عنها، لصحَّة مفهومها للقرائن الخاصَّة، هي:-

1 - إلاَّ 2 - إنَّما 3 - بل الاضرابيَّة

ويلحق بهذه الأدوات الثَّلاثة هيئات لفظيَّة عربيَّة إذا أفادت معنى الحصر كتقدُّم

ص: 286

المفعول على الفاعل، وتعريف المسند إليه بلام الجنس مع تقديمه، وغير ذلك ممَّا ستأتي بعض أمثلته الميسورة في نهاية المطاف.

وسبب ورود بعض المناقشات حول بعض أمثلة الأدوات الثَّلاثة هو أنَّ (إلاَّ) جاءت على وجوه ثلاثة، وهي:-

الأوَّل: (إلاَّ) الوصفيَّة الَّتي بمعنى (غير)، وهي الَّتي مثَّلنا لها في الكلام عن مفهوم الوصف بقولنا مثلاً (في ذمَّتي لزيد عشرة دراهم إلاَّ درهم) بالرَّفع، وقلنا عن هذا المثال أنَّه ممَّا لا مفهوم له، لأنَّه لم يكن مفاد (إلاَّ) مفاد الاسثناء الإخراجي، وإلاَّ لوجب نصب (درهم) فلا نعيد، وإلاَّ فمعناه تمام العشرة.

الثَّاني: (إلاَّ) الاستثنائيَّة، وهي الَّتي لا شبهة في دلالتها على المفهوم خلافاً لطبيعة ما ساد بينهم بسبب بدو القرائن عند انتفاء حكم المستثنى منه عن المستثنى، ونصب المستثنى الَّذي بعد (إلاَّ) وهو لفظ (درهم) في المثال الماضي لإلاَّ الوصفيَّة.

ولإنَّ الاستثنائيَّة موضوعه للإخراج لزوماً بنحو اللُّزوم البيِّن بالمعنى الأخص، وهو ما لابدَّ أن يؤدِّي إلى أن يكون المستثنى محكوماً بنقيض حكم المستثنى منه، وهو ما يكون المعنى فيه إقرار المقر بأنَّ ذمَّته لزيد من الدَّراهم سوى تسعة بإخراجه الواحد المنصوب.

وهذا مع وضوحه قد سبَّب -- مع الفرق بين الوصفيَّة والاستثنائيَّة بحسب القرائنبينهم في النَّحو والبلاغة -- بعض توهُّم بأنَّ هذا المثال ممَّا يعود إلى كون الاستثناء وصفيَّاً لا إخراجيَّاً.

وجوابه: لابدَّ أن يرتفع عند الشَّك في نفس المثال المذكور في أنَّ (إلاَّ) هذه استثنائيَّة أم وصفيَّة لو أضيفت إلى أوَّله كلمة (ليس)، فإنَّه يكون المعنى بناءاً على الاستثناء أنَّ الأصل فيه تقدُّمه على الوصف فيما مرَّ من وصفه الإجمالي مع القرائن دون ما يُدَّعى من كون الطَّبيعة مع المنطوق لا مفهوم لها، فإنَّه لابدَّ أن يكون عند نفي

ص: 287

الإقرار لزيد بالدَّراهم العشرة ب- (ليس) المضافة في بداية المثال أن تكون نتيجته الاعتراف بخصوص الدَّرهم الواحد المذكور بعد (إلاَّ) دون التِّسعة المنفيَّة ب- (ليس) مع الاهتمام أدبيَّاً بنصب (درهم) الَّتي بعد (إلاَّ).

وأمَّا مورد توهُّم الوصفيَّة فإنَّ مقتضى المثال المحفوف ب- (ليس) في أوَّلها و (إلاَّ) في آخرها أن ليس في ذمَّته لزيد أي شيء من تلك الدَّراهم العشرة الموصوفة بأنَّها ليست من نوع الدَّراهم.

وممَّا توهَّمه بعضهم عن (إلاَّ) الاستثنائيَّة بأنَّها قد تكون ممَّا لا مفهوم لها بقرينة عدم دخول الحديث الشَّريف وهو قولهم (لا صلاة إلاَّ بطهور)(1) وقولهم (لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب)(2) في مفاد المفهوم الكامل لما وراء الحديثين.

لما يمكن أن يصح فيهما الاكتفاء بكون الطَّهور وحده هو الصَّلاة في الأوَّل، وبكون الفاتحة وحدها هي الصَّلاة في الثَّاني، ولو لم تتحقَّق سائر الأجزاء والشَّرائط في الأوَّل إذا اعتبر الطهور مقدَّمة واجبة للصَّلاة ليس إلاَّ، وفي الثَّاني كذلك حينما تعتبر الفاتحة أحد أجزاء وشرائط الصَّلاة الواجبة، وهذان المقداران غير كافيين عند الجميع.

وجواب أمر الاكتفاء بما ذكر عنهما فيما مرَّ باطل قطعاً.

لأنَّ حقيقة المراد من الحديثين عند مراجعة تفاصيل مداركهما الأخرى هو المجموع من المقدِّمة وذيها وأجزاء العبادة وشرائطها الخارجيَّة والدَّاخليَّة دون خصوص ما أشير إلى شيء مهم مبالغ فيه فيهما بنحو من الاختصار، فكل من الحديثين كأنَّه عبارة أخرى عن قول آخر للإمام u وهي (الصلاة ثلاثة أثلاث ثلث

ص: 288


1- كتاب وسائل الشيعة ج 1 ص 365 أبواب الوضوء ب 1 ح 1.
2- المستدرك 4 : 158 / أبواب القراءة ب 1 ح 5.

طهور وثلث ركوع وثلث سجود)(1) ونحوه من الرِّوايات المشابهة.

كما أنَّ قبول اسلام من قال (لا إله إلاَّ الله) لا يدل على ثبوت المفهوم الكامل للإستثناء المسبوق ب- (لا النَّافية) على نحو الكليَّة لو لم يكن معه إقرار بالرِّسالة المحمَّديَّة.

وعلى فرض كونها بالمفهوم -- لا لخصوص المنطوق الَّذي لم يعط إلاَّ معنى كلمة التَّوحيد (الإخلاص) ك- (ليس) و (لا يكون) الماضيتين -- فلا يتم.إلاَّ أن يكون كمال ذلك للقرينة الخاصَّة، وهي للأدلَّة غير الخافية مع إضافة كلمة (محمَّد رسول الله)، وإن لم يطلق عليها المفهوم اصطلاحاً.

الثَّالث: (إلاَّ) الحصريَّة، وهي المسمَّاة بأداة الحصر بعد النَّفي، وهي الَّتي تنسجم كثيراً مع ما مرَّ ذكره من المناقشات المفيدة وأجوبتها.

بل هي صالحة لأن تكون عائدة إليها أيضاً تمثيلاً ومناقشة وإجابة وإن كانت هذه الأداة هي الاستثنائيَّة، سواء كانت وحدها بانفراد أو مسبوقة بحرف نفي وتنسجم كثيراً كذلك مع (إنَّما) الآتية في دلالتها على معنى الحصر وإن كان التَّركيب متفاوتاً بين لفظيهما.

الثَّاني من الأدوات الَّتي يراد الكلام عنها في المقام هي (إنَّما).

وهي كما أشرنا أنَّها دالَّة على الحصر والاختصاص لتبادر ذلك منه عند أهل المحاورات، فإذا استعملت في حصر الحكم في موضوع معيَّن دلَّت بالملازمة البيِّنة على انتفاءه عن غير ذلك الموضوع وهو الواضح في كونه من المفهوم إلاَّ إذا عثر على قرينة على الخلاف مربكة للتَّبادر.

ص: 289


1- وسائل الشيعة ج6 ص389.

الثَّالث من الأدوات الموما إليها (بل) الإضرابيَّة.

وتستعمل أدبيَّاً في وجوه ثلاثة ك- (إلاَّ):-

أوَّلها: إذا كانت للدِّلالة على كون المضروب عنه جاء عن غفلة، أو عن نحو الغلط، وهذا المعنى لا دلالة له على شيء من الحصر بوضوح.

ثانيها: إذا كانت للدِّلالة على كون المضروب عنه جاء للتَّأكيد عليه ولتقريره نحو (زيد عالم بل شاعر)، وهو لا دلالة له على الحصر كالسَّابق.

ثالثها: وهي الَّتي لو دلَّت على معنى الرَّدع وابطال ما ثبت أوَّلاً، وهي بغيتنا كشاهد على صحَّة المفهوم.

والأمثلة كثيرة ومنها قوله تعالى [أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ](1)، أي في دلالة ما بعد (بل) على الحصر والنَّفي لما قبلها، وعلى خلاف ما مرَّ ذكره من معنى القصر في بداية البحث.

الرَّابع: وهو الملحق بالأدوات

وهي الهيئات الَّتي وعدنا آنفاً بذكرها للإستفادة من مناسبة ذكرها بشيء من الأمثلة الدَّالَّة على المفاهيم بوضوح بعد انتهاء الأدوات مثل تقدُّم المفعول على الفاعل [إِيَّاكَ نَعْبُدُوَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ](2).

ومثل تعريف المسند إليه بلام الجنس مع تقديمه في الذِّكر عند التَّثميل كقولك (الرَّسول الخاتم محمَّد) و (الإمام الأوَّل علي)، والأمثلة كثيرة جدَّاً عربيَّاً عامَّاً وخاصَّاً قديماً وحديثاً، ومن العام القديم قول الشَّاعر:-

ص: 290


1- سورة المؤمنون / آية 70.
2- سورة الفاتحة / آية 5.

إذا قالت حذام فصدقوها *** فإنَّ القول ما قالت حذام(1)

حتَّى عُدَّ من كثرة الأمثلة وفي جميع الميادين الأدبيَّة بلاغيَّاً لهذا الرَّابع وما سبقه من الأساليب الحصريَّة قاعدة يستوحى منها:

أنَّ كل ما يعطي معنى حصريَّاً بسبب التَّلازم البيِّن لابدَّ أن يكون دالاًّ على المفهوم بنحو المبادرة.

الخامس والسَّادس / مفهوم العدد واللَّقب

قد دار الحديث بين الأصوليِّين حول الاثنين الأخيرين، وهما مفهوم العدد ومفهو اللَّقب ودورانه البحثي عن حقيقة وجود كل منهما من عدمه أو مألوفيَّة كثرة مصاديقه من قلَّتها الضَّعيفة في هيئات الألفاظ الأدبيَّة ومنها ما يخص المدارك الأصوليَّة وتبيُّن ما نتيجته الضَّعف في مفهوم كل منهما وبالأخص الثَّاني.

ولذلك أخَّروه وأخَّرناه معهم، بل ضممنا الاثنين إلى كل منهما في عنوان واحد، للإختصار الممكن كما يرى الطَّالب والباحث الكريم، ولجامع ضعفهما الأدائي على ما سيأتي، وإن كان كل منهما مستقلاًّ في ذكرع التَّسلسلي، فنقول:-

الأوَّل منهما: مفهوم العدد.

فإنَّ جملته العدديَّة -- إذا كانت قد قيَّد موضوعها أو متعلَّق الحكم فيها بعدد محدَّد -- يمكن أن يكون البحث عن ظهورها في المفهوم عن عدمه.

فارضاً السُّؤال على نفسه وعن أنَّ طبيعيِّ الحكم الثَّابت للموضوع أو ذلك

ص: 291


1- قيل القائل هو زوجها (لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل)، وقيل إنه ل- (ديسم بن طارق) أحد شعراء الجاهلية، وقد جرى مجرى المثل.

المتعلَّق ذي العدد الخاص، بأنَّه هل ينتفي عن الموضوع غير المحدَّد بذلك العدد الخاص أم لا؟

ففي مجال ما يجب علينا من السَّعي لتحصيله من آثار المدارك الشَّرعيَّة على نهج من سبقنا من السَّلف الصَّالح الكاشفة عمَّا يوضِّح وجود المفاهيم من غيرها.

فإنَّ الميسور باليد منها تارة يكون محدوداً بالنِّسبة إلى طرفي القلَّة والكثرة ومن صنف الواجبات العباديَّة، كركعات صلاة الظهر المختلفة في وجوبها بين كونها تامَّة الرَّكعات للمتم كالمواطن والمقيم، وناقصة بركعتين للمقصر في سفره.

فبتعيَّن أحد المقدَّرين لا يجزي المغاير عمداً.

وتارة أخرى بالنِّسبة إلى طرف القلَّة من الواجبات كالزَّكواة والصَّدقات الواجبة المحدودة بحد خاص معيَّن فلا يجزي الأقل وإن جاز الأكثر استحباباً أو احتياطاً إذا لم يكن ذلك بنيَّة التَّشريع.

وثالثة: يكون محدوداً ومن الواجبات كذلك بالنِّسبة إلى طرف الزِّيادة، كدليل صومثلاثين يوماً من شهر رمضان دون الأكثر إذا كانت هذه الدِّلالة من جهة خصوصيَّة المورد، لا من جهة أصل التَّحديد بالعدد حتَّى يكون لنفس العدد مفهوم لو لم ترد حرمة صوم العيد من سبب ما مرَّ من التَّحديد.

ويُلحق بهذه الثَّالثة: ما يكون محدوداً بالنِّسبة إلى طرف الزِّيادة من المستحبَّات، حيث لا تجوز الزِّيادة على نافلة الظهر المعلومة بعددها وركعاتها الثَّمان تشريعاً وإن جاز التَّقليل.

وتارة رابعة: كحالات عدم اقتضاء شيء من طرفي الزِّيادة والنَّقيصة كعموم المستحبَّات الَّتي تُقيَّد بقيد خاص فيهما وإن كانت الزِّيادة أفضل.

وهكذا القضائيَّات الاحتياطيَّة وإن وجبت بعضها احتمالاً مع كون الإكثار منها أبرء للذمَّة الاحتماليَّة.

ص: 292

ولسعة ما ورد لتسنيد فرعيَّات الفقهيَّات من الطَّهارة إلى الدِّيات من الأدلَّة -- وبما قد يزيد كثيراً على ما حُدِّد ممَّا ذكرناه من التَّحديدات العدديَّة وإن كان القليل والنَّادر منها -- قد يبدو من بعضها أنَّ له مفهوماً، لأنَّ أكثريَّة تلك الأدلَّة هي المغيِّرة لسيطرة تلك المفاهيم.

فإنَّه على الغالب بل الأغلب عدم وقوع الخلاف بين المدقِّقين ظاهراً في عدم القول برسميَّة المفاهيم المؤثِّرة إلاَّ ما أثبتته تلك السِّعة بصراحة من حالة الخلاف، فضلاً عن المستحبَّات ونحوها ممَّا لا اقتضاء فيها من النَّفي عند الانتفاء في زيادة أو نقيصة.

الثَّاني: مفهوم اللَّقب.

واللَّقب في مصطلح أهل مباحث الألفاظ ( كل اسم لغوي سواء كان مشتقَّاً أو وصفاً غير معتمد على موصوف مذكور) كقولك (أكرم عالماً) وقول الله تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا](1)، وقول (أطعم فقيراً).

أو كان جامداً غير موصوف بوصف كقولك (أكرم رجلاً) أو (أكرم زيداً).

والبحث المراد عن مفهوم اللَّقب هو لمحاولة التَّعرُّف على مدى ثبوت المفهوم له من عدمه من الجمل اللَّقبيَّة بين أهل المحاورات، وأهمُّها ما ورد في بيانات مدارك الأحكام.

بأنَّ من معاني ما قد يظهر من بعض ما قد يتصوَّر أنَّها من المفاهيم، وأنَّها هل تنتفي بانتفاء اللَّقب أم لا؟

وهو ما دعى بعض السَّطحيِّين إلى شيء من التَّحيُّر أو حتَّى بعض القصور.

ص: 293


1-

ولكن بعد أن أوردنا الإشكالات في الماضي وبأكثر من مرَّة في دلالة الوصف على المفهوم يكون عدم دلالة اللَّقب عليه بطريق أولى.

ثمَّ إنَّ مثل قول (زيد قائم) لا يدل على نفي القعود عنه، نعم حين القيام الواقعي لايصدق عليه القعود فعلاً من جهة امتناع الضدَّين إذا أريد من القيام في (زيد قام) الحكم النَّوعي.

ولا ربط لهذا بشيء من المفهوم كما لا يدل من باب أولى أيضاً على نفي القيام عن عمرو الَّذي لم يذكر مكان زيد في المثال المذكور بشيء من الدِّلالات اللَّفظيَّة المعروفة.

وقد ارتكز في نفوس أهل العلم أنَّ اثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عمَّا عداه، ونفي ما عداه عنه وعن غيره.

وبعبارة أخرى: أنَّ نفس موضوع الحكم بعنوانه لا يشعر بتعليق الحكم عليه، فضلاً عن أن يكون له حضور في الانحصار.

نعم غاية ما يفهم من اللَّقب عدم تناول شخص الحكم لغير ما يشمله عموم الإسم، وهذا لا كلام لنا فيه.

أمَّا عدم ثبوت نوع الحكم لموضوع آخر فلا دلالة له عليه أصلاً.

إلاَّ ما لو أدَّت بعض ألفاظ النُّصوص ومعتبرات الأدلَّة بصراحتها ما تؤدِّيها معاني ما وراء الألفاظ بالخصوص دون ما تكون مستفادة من وراءها.

ولهذا وأمثاله عدُّوا مفهوم اللَّقب من أضعف المفاهيم، ولذا أخَّرناه.

ص: 294

تتميم مهم مغفول عنه عن

(دلالة الاقتضاء والتَّنبيه والإشارة)

التَّقديم

لم يُعهد لهذه الأمور تدوين مشخَّص مألوف في الأصول وفي مثل هذه المواقع من غير الدِّلالات اللَّفظيَّة الثَّلاث المعهودة قديماً، وهي (المطابقيَّة والتَّضمنيَّة والإلتزاميَّة) في مواقعها المخصوصة إلاَّ مؤخَّراً، ولدلالات أخرى سميِّت ب- (الاقتضاء والتَّنبيه والإشارة) رمزنا لها كلمة الدِّلالات الجديدة، وبنحو جمع شمل.

ولمَّا كان ذكره مبعثراً عنها في المنطقيَّات -- خادمة العلوم -- وفي الأدبيَّات البيانيَّة والمعاني البلاغيَّة ومن قبل بعض الأعلام المهمِّين الحريصين على السَّعي لإنجاز الفوائد المتكاملة حتَّى في الأصول لو لم تكن اعتياديَّة ولو كملحقات لبعض توابع مباحث ألفاظها الَّتي من شواهد أمورها الكثيرة والمتنوِّعة في تلك الأدبيَّات وما قبلها ولو من بعض لغات أخرى مشاركة لها في معانيها.

لم يكن غير بعيد عمَّا يمكن أن يكون وبقوَّة في مألوفيَّتها شبه اللَّفظيَّة الأصوليَّة كالَّتي ممَّا في الكتاب الكريم والسنَّة الشَّريفة من المضامين العالية غير المترابطة ترابط الدِّلالات الثَّلاث المعهودة من مثل التَّطابق والتَّضمُّن وبالأسلوب الدِّلالي الآخر.

ونخص به في الذِّكر ما أطلقنا عليه آنفاً بأنَّه عمَّا يرتبط بدلالات الاقتضاء والتَّنبيه، بل حتَّى الإشارة لو تمَّت مؤهلات امكان الاستفادة الثَّمنيَّة منها في المجال الشَّرعي الإصلاحي الَّذي سيجيء.

وإن حسبت أكثر مضامين هذه الدِّلالات الجديدة غير بعيدة بعض الشَّيء عن الثَّلاثة المعهودة، لكونها في علو ما تعطيه يمكن إلحاق ثمارها بثمار الظَّواهر اللَّفظيَّة وإن كان بنحو أقل، لضعف الرَّوابط على ما سيتَّضح.

ص: 295

كيف وقد كثر تطرَّق الفقهاء والأصوليِّين إلى ذكر هذه الجديدة أو مختلف أمثلتها ألفاظاً وكتابات في مدوَّناتهم القديمة مع هذا التَّبعثُّر غير المنظوم بقواعد مألوفة قابلة لسرعة الاستفادة منها في الأصول؟

وإن استضعفت الثَّالثة من هذه الجديدة كثيراً لفقد روابط التَّعلُّق المألوفة في الدِّلالات المعهودة في حين أن ما تعطيه القرينة الإشاريَّة -- من الفائدة المغفول عنها، وهي ذات سمو إصلاحي معنوي -- حريَّة بأن يعتنى بأمور هذه المستضعفة، فضلاً عن اللَّتين عدَّتا أمور أمثلتهما ملحقة بالظواهر اللَّفظيَّة.

ولذا أطلق على الثَّلاث الجديدة لفظ الدِّلالات أيضاً وإن كان مع بعض التَّسامح اعتزازاً بما مرَّ من التَّقارب.

بل حري بنا كمن سبقنا من بعض الأعلام المتأخِّرين "رفع الله تعالى درجاتهم" أن نجمع شتات أمور هذه الثَّلاثة في موضوع موحَّد كاهتمام السَّلف الصَّالح بأمور الثَّلاثة المعهودة بما يستحقُّه كل منها أو ما قد يتيسَّر من الحديث عنها بأيدي الباحثين منَّا تتبعُّاًلمظانِّ كل ما يساعد على تدوينها الموحَّد.

لينظر بحثها المجموع هذا بالعناية المركَّزة والاعتبار وحسن التَّلقِّي كثيراً من مصادرها المأخوذة منها كالمنطق ومواضيعه المناسبة لها من ملحقات مباحث ألفاظه كبعض حالات اللازم والملزوم كغير البيِّن أو البيِّن بالمعنى الأعم على ما يأتي وما يناسبها في الذِّكر من جميع الأدبيَّات والأصول في ملحقات مباحث ألفاظها من الَّتي لابدَّ وأن تمر على كلِّ طالب حوزوي أيَّام دراساته للمقدِّمات والسُّطوح.

للوقوف على ما يوضِّح أمور كل منها وبالنَّحو المشترك بما يناسب كثيراً بحوثنا الخاصَّة هذه من الشَّواهد القرآنيَّة الخاصَّة بآيات الأحكام وروايات النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وأهل البيت والأئمَّة المعصومين عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ والَّتي تحل معضلاتها عنهم بالتَّأويل، لضعف العلائم اللَّفظيَّة أو عدمها.

ص: 296

ولذا تفوَّقوا في إنجاح قضائيَّاتهم بما يبهر العقول.

إضافة إلى مألوفيَّة ما قد يؤخذ به بل اتَّفق على الأخذ به في عمومات واطلاقات ما يناسب نفس الاستفادة المرادة ممَّا يتحقَّق به الصِّدق العرفي المحتاج إليه من المعاني أو لا أقل ممَّا يوجد الاستئناس منها في شؤوننا الأدبيَّة العربيَّة العامَّة والرَّاقية من راقي كلام الآدميِّين وعلى ما يتلائم مع مفردات أصولنا الشَّرعيَّة المنسجمة معها.

أو لا أقل من غير المعارضة لها من المواقع الطِّبيعيَّة المشتركة معها عموماً أو خصوصاً في النَّتيجة، لصالح مجملات وتفاصيل ديننا العظيم، أو حتَّى لصالح ما يتلائم مع مبادئ بل غايات ما قد يساعد في تيسير إصلاحيَّات أمور ما نزل من عموم وحي السَّماء السَّابق ممَّا حُرِّف، لأجل أحكام الكتابيِّين والتزاماتهم السَّابقة وعلاجها، وبقي محفوظاً إلى اليوم من غير تحريف لهداية المنحرفين منهم من قبل مجاهدينا بإفهامهم.

ليلتقي مع تعاليم إسلامنا الجامع العزيز وما صحَّ من (إنجيل برنابا) ونحوه والإبراهيميَّات المعلومة والمحفوظة بتلك اللُّغة العربيَّة الأصيلة والعامَّة الحاوية لكل مباني ومعاني علومها الأدبيَّة المشتركة والخاصَّة غير القاصرة والمقصِّرة في حق ما اختصَّ من المباني والمعاني الأخرى لتلك العلوم المشار إليها نصرة للحق وأهله.

سواء كانت تلك الألفاظ الرَّاعية لتلك المباني والمعاني -- من محور بحثنا المذكور وهو الدِّلالات الجديدة -- أصيلة في ألفاظها ومعانيها.

أو أصيلة في معانيها وترجمت إلى أصيل مستعرب حوته قواميس العرب وغيرهم والمسلمين وغيرهم وحوت لها كتب العلوم الأدبيَّة لأعلام عرب وغيرهم ومسلمين من شتَّى مذاهبهم وغيرهم ألفاظاً مفردة تحمل معاني.

أو مركَّبة تركيب جمل مفيدة من كلمتين فأكثر.

ص: 297

أو من جمل متعدِّدة مترابطة كالجمل الخبريَّة والفعليَّة والوصفيَّة والحاليَّة.

أو غير مترابطة في ظاهرها لكن لها علاقة بسياق يكشف حالتها.

أو جملة معترضة يتعلَّق ما قبلها بما بعدها وظهر من مفرداتها ومركَّباتها معاني حقيقيَّة ومجازيَّة وكنايات تصريحيَّة وتلويحيَّة واستعارات وإضمارات ونحوها لم تغفل عنمهمَّاتها الآيات الكريمة والرِّوايات الشَّريفة وغيرهما من كلام الآدميِّين الَّذي من أفضله نهج البلاغة وأدعية الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ المعروفة في عظم ما حوته.

ثمَّ أعالي كلام الآدميِّين الَّذي من أهمِّه اللُّغويَّات الأصيلة وشواهد العلوم نحواً وصرفاً ومنطقاً لبعض صناعاته الخمسة ومعانياً وبيانات بلاغيَّة نثراً وشعراً ممَّا يستأنس بها كثيراً، لتقريب معاني مبانينا الشَّريفة في الأصول ولتصلح أن يستفاد منها على ما سيجيء -- بعد بيان مواقع بحثها -- ذكر كل منها على نحو التَّعاقب واحداً بعد الآخر، اعتماداً على طرق فقهيَّة قد تفوق بعض الأصوليَّات بمثل التَّأويلات المتقنة لأهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وغيرها.

(مواقع الدِّلالات الثَّلاث الجديدة في الأدبيَّات والأصول)

للدِّلالات الثَّلاث الجديدة من (الاقتضاء والتَّنبيه والإشارة) مواقع للحديث عنها وبأكثر من جانب، والتَّطبيق لها فيما بين ما اشترك من علمي الأدبيَّات والأصول من أمور مباحث الألفاظ وتوابعهما وبما يقدر عليه سعي الباحث الحريص عليها لأن يعرف عنها بما يشترك بينها.

أو عن كل منها ممَّا قد يختلف حدُّه وحتَّى مبلغ هذا البحث حولها من الإيجاز أو الإطناب في مثل علاقة جميع هذه الثَّلاثة في ارتباطها بالعلقة السِّياقيَّة كما سيتَّضح في التَّمثيل.

مع اختلاف (الاقتضاء والتَّنبيه) عن الثَّالثة وهي (الإشارة) باشتراط أن يكونا

ص: 298

مقصودين عند العرف على الأقل، على تفصيل يأتي بين الأولى والثَّانية وعند لتَّمثيل كذلك.

وفي الثَّالثة أن يشترط فيها عكس ما اشترط في الاثنين السَّابقين عليها، وهو أن لا تكون دلالتها مقصودة بالقصد الاستعمالي بحسب العرف، ولكن مدلولها لازم لمدلول الكلام لزوماً غير مبيَّن أو لزوماً بيِّناً بالمعنى الأعم.

سواء استنبط هذا المدلول من كلام واحد أو من كلامين، وسياقيَّته الواسطة فيها كثيراً ما تكون خفيَّة على البعض، مع كونها أدبيَّاً قد لا تخرج إلاَّ من وحي العقل وتدبير الأذكياء كما كان بعضها عند الأدباء من الأحاجي ونحوها.

وعند الشَّرعيِّين ومدوِّني الأصول لم تكن علقتها الاستنباطيَّة الخفيَّة إلاَّ من وحي الله تعالى، ولم يعرف أسرار الوصول إليها إلاَّ من نزل الوحي في بيوتهم.

وقد أشرنا إلى أن ضبط نجاح أصحاب هذه الفعَّاليَّات التَّأويليَّة لمضامين الإلهيَّات عن هذا الطَّريق وفي مثل القضائيَّات الشَّائكة وبما قد بهر العقول وبما سيأتي التَّمثيل له.

فما اشترك ممَّا بين الأدبيَّات وقواعدها وأمثلتها المتنوِّعة -- تجاه هذه الأمور ومدارك الفقه والأصول أو تقارب معها كثيراً، بناءاً على ما جاء في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ](1).

بل حتَّى الأمور الَّتي قد يستفاد بعض معانيها من خادم العلوم (علم المنطق) من توابع مباحث ألفاظه، كبعض حالات دلالة اللازم والملزوم من الدِّلالة الثَّالثة القديمة من الدِّلالات الثَّلاثة المعهودة في علم المنطق والَّتي قد لا تمتنع أن تلتقي مع الثَّالثة الجديدة من الدِّلالات الثَّلاث (مورد البحث) وهي الإشارة في أمور اللازم غير البيِّن أو البيِّن بالمعنى العام --

ص: 299


1- سورة إبراهيم / آية 4.

ما هو إلاَّ الأمثلة التَّوضيحيَّة لجميع الثَّلاثة الجديدة الَّتي منها الألفاظ المفردة الَّتي تحمل معنى من المعاني حقيقيَّاً كان أو مجازيَّاً أو نحوهما ظاهراً كان أو مضمراً ومنها المركَّبة تركيب جملة مفيدة من كلمتين فأكثر أو من أكثر من جملة كجملتين أو جملات متعدِّدة مفيدة في كل منها أو بين بعضها مع بعضها الآخر على ما مرَّت الإشارة إليه وإلى سببه.

وبسبب ابتعاد هذه الثَّلاثة الجديدة عن تشخيص معنى عن معنى لأمورها المتعارفة بمعونة ضعف الرَّوابط اللَّفظيَّة أو عدمها ظاهراً للحِكم الأدبيَّة أو لأسرار الحِكم للوحي المبين والاكتفاء من حيث المبدأ لا في كل شيء بما سمَّاه الجميع ب- (الوسائل السِّياقيَّة) وسمَّوه له في باب الدِّلالة الإلتزاميَّة لتدخل دلالة (الاقتضاء والتَّنبيه) ويخرج ما كان من باب المطابقة والتَّضمُّن، وأمَّا الإشارة فهي معروفة بعلاقتها بالتَّلازم ممَّا سبق وما يأتي.

صار لزاماً علينا أن نبحث عن المواقع الَّتي تألف لها نفوس الطلاَّب الكرام ونفوسنا التَّواقة في باب التّدوين لما يتناسب ويليق بأمورها في مقام الاعتبار والحجيَّة لها على ما سيجيء، وهي:-أوَّلاً: استئناس أهل العلوم والمعارف الأدبيَّة الصِّناعيَّة بما ورد من كلام العرب القديم ومن تلاهم ناهجاً منهجهم نثراً وشعراً ومنها الأحاجي.

ثانياً: وهو ما قد نجعله الأهم لما يليق ببحوثنا الأصوليَّة وما دخل في الغرض منها وما تقوم الخدمة له، وهو باب التَّديُّن والاتِّجاه إلى أنواع طاعات المعبود تعالى في شرعه لصالح النَّشأتين للدَّارين، لكثرة ما ورد من المدارك وبكافَّة الأساليب وبالخصوص في هذه الأمور الثَّلاثة.

وستظهر فوائد ذلك من خلال التَّنظير بالأمثلة لجميعها.

ثالثاً: ما يعود إلى إنعاش ما يستأنس به بحثا (الضِّد والتَّرتُّب) عكس ما قيل من

ص: 300

عدم إمكان تعقُّل الشَّرعيَّة في أمورهما عن العقل غير المستقل أو حتَّى المستقل بواسطة اللازم غير البيِّن أو اللازم البيِّن بالمعنى العام كالإمضاء الشَّرعي لقول الطَّبيب.

رابعاً: ومنها وهو ذكر البحث كلِّه إلى آخره، لأنَّه كان بنحو التتمَّة لبحث المفاهيم لما اظهرناه من الأسباب، ولذا صار الأنسب أن لا يكون موقع ذكر هذا البحث بعد الفراغ من ذكر جميع المفاهيم بنحو مستقل.

(الاقتضاء)

ودلالته هي ما كان المدلول منها فيه مضمراً إمَّا لضرورة صدق المتكلِّم أو لصحَّة وقوع الملفوظ به عقلاً أو شرعاً عن المقوِّم اللُّغوي مع سعته والاعتياديَّات المتعارفة كل حسب قرينته.

وهو ما معناه أنَّ مدلول الخطاب فيه لا يستفاد من المنطوق المقابل للمفهوم الاصطلاحي لوحده، بل يحتاج إلى تقدير ما يجعله صادقاً وصحيحاً على خلاف دلالة التَّنبيه الآتية والمسمَّاة ب- (الإيماء) أيضاً، وهي الَّتي يكتفى فيها بالعلاقة السِّياقيَّة واشتراط كونها مع سابقتها مقصودة عند العُرف كما يأتي.

وقد يطلق على دلالة الاقتضاء بدلالة الالتزام.

وللتَّدليل على هذه الدِّلالة الجديدة الأولى من الشَّواهد العربيَّة في العلوم الأدبيَّة من النَّحو والمعاني والبيان والبلاغة ما لا يمكن حصره في مختصر.

لذا رأينا أن نعوِّض عنها هنا بما يماثلها من موقعها الأصولي والفقهي في مداركهما الغفيرة من لساني الكتاب والسنَّة وبعض المتفرِّقات الأدبيَّة المفيدة.

فمنها: قوله تعالى [وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا](1) الَّذي لا يراد منه قطعاً غير

ص: 301


1- سورة يوسف / آية 82.

ساكني القرية.

لسفاهة أن يراد من الوحي الإعجازي -- ولهداية البشر ببعثة الأنبياء والمرسلين الحكيمة والمحكمة مخاطبة المبعوث في ذلك ابتداءاً بسبب كفر وانحرافات أهلها --

بأن تكون لبيوتها وجدرانها وجماداتها وعجماواتها أذن سامعة، ولذا بعد اليأس منهداية أمثال هؤلاء قد تختفي بعض ضمائر التَّعابير لحكمة بالغة كهذه الآية الكريمة وهي الاختصار المفهوم وكما قال الأديب اليائس:-

لقد أسمعت لو ناديت حيَّاً ***** ولكن لا حياة لمن تنادي(1)

فلا ضير أن لا يراد بلاغيَّاً عقليَّاً اقتضائيَّاً تلازميَّاً إلاَّ تحسيس الضمائر الَّتي كانت ميِّتة في غفلاتهم بين يدي رسولهم حينما أمر بسؤال القرية مكانهم، بينما الواقع هو إضمار لفظ (أهل) من باب حذف المضاف أو تقدير معنى (أهل) فيكون من باب المجاز في الإسناد.

ومع هذا فلا مجال لإثارة شبهة أنَّ استعمال (القرية) في غير ما وضعت له مجازاً تابع للمعنى المطابقي، وإن صحَّ هذا في مجاله الخاص به دون مجالنا الاقتضائي التَّقديري وأنَّه هو الأصل دون هذا الاستعمال.

للفرق الواضح بين أن تكون القرينة المرادة في طريق الاقتضاء هي نفسها المحفوف بها الكلام والدَّال على إرادة المعنى المجازي من اللَّفظ لا دلالة نفس اللَّفظ عليه بغير توسُّط القرينة.

ومنها قوله صلی الله علیه و آله و سلم (لا عتق إلا بعد ملك)(2) فإنَّه إن صيغت عبارة أخرى على ضوء هذا الحديث الشَّريف للتَّطبيق والمناسب لما يحتاجه من الإضماء كما ورد في

ص: 302


1- هذا البيت للشاعر عمرو بن معدي كرب بن ربيعة الزبيدي، الذي عاش في الفترة بين عامي 525، 642 ميلادي.
2- الكافي ج 6 ص179.

مقولات العرب (اعتق عبدك عنِّي بألف) إن ساروا على نهجه لابدَّ أن تكون صحَّة هذا العتق الشَّرعي متوقِّفة على الملك أوَّلاً ثمَّ العتق بعده فيجب تقدير كلمة (ملكِّني) أي ملكِّني العبد ثمَّ اعتقه عنِّي.

ومنها: قوله صلی الله علیه و آله و سلم (لا ضرر ولا ضرار في الاسلام)(1) للابدَّيَّة التَّقدير الاقتضائي بما يتناسب مع عدالة المفيض "جلَّ وعلا" بعظيم نعمائه ومنها نعمة الإسلام.

لئلاَّ يفوه الإباحيُّون والظلمة من أعداءه بما يهوونه من عدم التَّقيُّد بتعاليمه وضوابطه الَّتي سببها انحراف البشر وضلاليَّاتهم.

اعتماداً على ما قد يستظهرونه من كلام النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم المحكم في إضماره لمعنى الأحكام والآثار الشَّرعيَّة، لتكون هي المنفيَّة حقيقة لوجود الضِّرر والضِّرار قطعاً عند المسلمين في تصرُّفاتهم ما بينهم، فضلاً عن أهل الكفر.

ومنها: قوله صلی الله علیه و آله و سلم (لا صلاة لمن جاره المسجد إلاَّ في المسجد)(2) فإنَّ صدق الكلام وصحَّته تتوقَّف على تقدير كلمة (كاملة) محذوفة بعد الصَّلاة، ليكون المحذوف كمالالصَّلاة لا أصل الصَّلاة على تفصيل في محلِّه.

ومنها: قوله تعالى [وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ](3) بناءاً على أنَّ لفظ اللام في (له) لم يوضع لإفادة الحكمين المذكورين في الآية الشَّريفة وهما الرِّزق والكسوة على ما هو الظَّاهر لأنَّهافي (له) لها مثابتها في الوضع البياني الاقتضائي والإلتزامي كمثابة دلالة لفظ السَّقف على الحائط المستتبع له استتباع الرَّفيق الملازم الخارج عن ذاته، وكدلالة الإنسان على قابل صفة الخياطة وتعلُّمها.

ص: 303


1- الوسائل: ج 17 ص 341 ،الباب 12 من أبواب إحياء الموات ح 3 و 5 ، و ص 319 باب 5 من أبواب الشفعة ح 1.
2- الوسائل 5 : 194 / أبواب أحكام المساجد ب 2 ح 1.
3- سورة البقرة / آية 233.

وهو ما يقتضي في المقام عقلاً التزاميَّاً تقدير من يُلزم شرعاً بالحكمين المذكورين وهما الإنفاق بالمعروف على زوجاته لملازمة اللام له وهي خارجة وهو (وعلى المولود له ولد منهن)، لتكون الهاء مع الَّلام عبارة عن الزَّوج، وإنَّ النَّسب ومسؤليَّاته مرتبطة بالآباء دون الأمَّهات.

ومنها: قوله تعالى [يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ](1) فلأجل إظهار حكمة كلام الله الكامل في ظاهره وواقعه لابدَّ من أن يكون مطابقاً لقواعد أدبيَّات ما نزل على طبقها، إذ لا يتم مسدَّداً من دون مناقشة من أحد إلاَّ بتقدير (منه) بعد (تشربون) وإن كان مستواه الإجمالي ونحوه من إعجازيَّاته يتطابق وبانبهار مع ما يفهمه الأذكياء المفرطون ومنهم (الوليد ابن المغيرة "لعنه الله") الَّذي كان معجباً به كثيراً مع كفره، وقد صحَّ الاقتضاء عن أمثاله أدبيَّاً.

ومنها: ما جاء من أشعار القديم المنسجم مع هذه الآية قول الشَّاعر:

نحن بما عندنا وأنت بما *** عندك راضٍ والرَّأي مختلفٌ(2)

في حاجته الاقتضائيَّة والإلتزاميَّة إلى تقدير (راضون) بعد (عندنا) من الشَّطر الأوَّل.

(التَّنبيه والإيماء)

وهي أن تكون دلالة أحدهما مقصودة للمتكلِّم بحسب العرف، لكن لا يتوقَّف صدق الكلام أو صحَّته عليه مثل دلالة الاقتضاء وإن أشبهته في كون الدِّلالة مقصودة للمتكلِّم لكفاية سياق الكلام بما يقطع معه بإرادة ذلك الَّلازم أو يستبعد

ص: 304


1- سورة المؤمنون / آية 33.
2- هذا البيت من المنسرح لقيس بن الخطيم.

عدم إرادته.

وأمثلة هذا الأمر كثيرة جدَّاً من لسان الأدباء تنبيهاً وإيماءاً ومن لسان مدارك الشَّريعة أيضاً، وأضيف إلى التَّنبيه والإيماء لفظ (التَّفهيم).

فهذه الدِّلالة لهذه الألفاظ المتداخلة للمحور الواحد تعارف أن يحصل التَّفهيم بها بتغليب علامة دالَّة على المقصود بواسطة أداة أو حركة أو نحوهما.

إلاَّ أنَّ الإيماء الَّذي ذكروه يمكن دخوله في الإشارة الثَّالثة الآتية، لكن بما يخصُّها،ولكل من هذا الثَّاني والثَّالث قرينته.

فمن الأمثلة الواردة عن ابن عبَّاس قال (بينا رجل واقف مع النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته فقال النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم اغسلوه بماء وسدر وكفِّنوه في ثوبين ولا تمسُّوه طيباً ولا تخمِّروا رأسه ولا تحنِّطوه فإنَّ الله يبعثه يوم القيامة ملبِّياً)(1).

فالتَّعليل بمدلول اللَّفظ على الحكم من هذا الحديث الَّذي استشهد به الشَّوكاني في المقام للأخذ بما نتَّفق عليه معاً ونترك الباقي للتَّحقيق.

هو النَّهي في قوله (ولا تمسُّوه) وهو متقدِّم والوصف ما دلَّ عليه قوله (فإنَّه يبعث) وهذا بدخول الفاء عليه يجعل عِلَّة النَّهي هي أن يبعث ملبِّياً.

ومنها وممَّا استشهد به بدر الدين الشَّوكاني للمقام في آيتين ولكن بدخول الفاء على الحكم، ويكون الوصف متقدِّماً وهو على اثنين.

والآيتان هما قوله تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا](2) وقوله كذلك [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ](3) بدخول الفاء في كل منهما على كلام وأسلوب للشَّارع.

ص: 305


1- صحيح البخاري ج2 ص217.
2- سورة المائدة / آية 38.
3- سورة المائدة / آية 6.

حيث نبَّهت الفاء في الآية الأولى وأومأت عن طريق التَّعليل بمدلول اللَّفظ إلى أنَّ الوصف هو السَّرقة باستحقاق قطع اليدين.

ونبَّهت أيضاً في الآية الثَّانية بإيماءها على أنَّ القيام فيها للصَّلاة، ويدل فيها على الغسل وهو متأخِّر عن الوصف لدخول الفاء عليه، فيجب لأجل القيام الَّذي حلَّ وقته.

ومنها: ما إذا أراد المتكلِّم بيان أمر فنبَّه عليه بذكر ما يلازمه عقلاً أو عرفاً كما إذا قال القائل مثلاً (دقَّت السَّاعة العاشرة)، حيث تكون السَّاعة العاشرة موعداً له مع المخاطب، لينبِّهه على حلول الموعد المتَّفق عليه.

أو قال (طلعت الشَّمس) مخاطباً من قد استيقظ من نومه حينئذ، لبيان فوات وقت أداء صلاة الغداة.

أو قال (إنِّي عطشان) لدلالة على طلب الماء للسَّقي بأي نحو من الإيماء.

ومن هذا الباب ذكر الخبر، لبيان لازم الفائدة، مثل ما لو أخبر المخاطب بقوله (إنَّك صائم)، لبيان أنَّه عالم بصومه، لينضبط في صومه.

ومن هذا الباب أيضاً الكنايات إذا كان المراد الحقيقي مقصوداً بالإفادة من صريح اللَّفظ ثمَّ كنَّى به عن شيء آخر، لئلاَّ ينزعج عند التَّصريح بالحقيقي.

ومنها: ما إذا اقترن الكلام بشيء يفيد كونه عِلَّة للحكم أو شرطاً مانعاً أو جزءاً أو غير هذه الأمور فيكون ذكر الحكم تنبيهاً على كون ذلك الشَّيء عِلَّة أو شرطاً مانعاً أو جزءاً أو عدم كونه كذلك.مثاله: قول المفتي (أعد الصَّلاة) لمن سأله عن الشَّك في أعداد الثُّنائيَّة، فإنَّه يُستفاد منه أنَّ الشَّك المذكور عِلَّة لبطلان الصَّلاة وللحكم بوجوب الإعادة،.

ومثال آخر: قول النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم (كفِّر) للأعرابي الَّذي قال له (هلكت وأهلكت

ص: 306

واقعت أهلي في شهر رمضان)(1)، فإنَّه يفيد أنَّ الوقاع في الصَّوم الواجب موجب للكفَّارة.

ومثال ثالث: قوله (بطل البيع) لمن قال له (بعت السَّمك في النَّهر) فيفهم منه اشتراط القدرة على التَّسليم في البيع.

ومثال رابع: قوله (لا تعيد) لمن سأل عن (الصَّلاة في الحمام)، فيفهم منه عدم مانعيَّة الكون في الحمَّام للصَّلاة وإن حسب من المكروهات غير المحرَّمة.

وهكذا غير هذه الأمثلة من المقارنات لمختلف الأحكام الشَّرعيَّة.

ومنها: ما إذا اقترن الكلام بشيء يفيد تعيين بعض متعلَّقات الفعل كما إذا قال القائل (وصلت إلى النَّهر وشربت)، فيفهم من هذه المقارنة أنَّ المشروب هو الماء وأنَّه من النَّهر.

ومثل ما إذا قال (قمت وخطبت) أي وخطبت قائماً.

وهكذا، لئلاَّ يتَّهم في المثالين بما يلام عليه.

(دلالة الإشارة)

الإشارة في اللُّغة تأتي بمعنى الإيماء، فيقال أشار إليه وشوراً أومأ، ويكون ذلك بالكف والعين والحاجب، وأشار الرَّجل يشير إشارة إذا أومأ بيديه، ولذا جاء في أشعارهم:-

أشر للحر من قرب وبُعد *** فإنَّ الحر تكفيه الإشارة(2)

وهي في الاصطلاح من حيث لفظه في فكر الأصوليِّين - المسمَّاة عند الأحناف

ص: 307


1- التاج الجامع للصحاح:2/67.
2- مقتل الحسين u للمقرّم 340 عن تحفة العالم للسيّد جعفر بحر العلوم 1 ص 37.

بإشارة النَّص - وعلى حدِّ تعبير أصولينا ومعنا بعض العامَّة كالشَّوكاني بأنَّها (دلالة اللَّفظ على لازم غير مقصود للمتكلِّم ولا يتوقَّف عليه صدق الكلام ولا صحَّته)(1).

ومعنى دلالته على معنى لازم ذلك أنَّ هذه الدِّلالة من باب الحالة الإلتزاميَّة وإن دخلت معها دلالة الاقتضاء والتَّنبيه المفسَّرة بما مرَّ ذكره ب- (الإيماء) وهو المشترك مع ما تفسَّر به (الإشارة) أيضاً.

حيث قلنا سلفاً بأنَّ (الإيماء) المشترك بين الثَّاني والثَّالث من الدِّلالتين كل له قرينته المعيِّنة المراد الخاصَّة به، حيث أنَّ الدِّلالتين الأولى والثَّانية وهي (الاقتضاء والإيماء) المراد بها (التَّنبيه) لكل منهما مقصودتان قصداً كما مرَّ، والإيماء الَّذي للإشارة غير مقصود للمتكلِّم على النَّحو الَّذي يتَّضح في الأمثلة الآتية بنحو من اللزوم للكلام لمدلولهلزوماً غير بيِّن أوبيِّناً بالمعنى العام، سواء استنبط المدلول من كلام واحد أو من كلامين.

ومن الأمثلة المتعارفة بينهم لتوضيح المطلوب لذهن الطَّالب والمتتبِّع قوله تعالى آيتين في مجموعهما حصول أقل الحمل أولاهما قوله تعالى [وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا](2)، وثانيهما قوله [وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ](3).

فإنَّه بطرح الحولين الكاملين للرَّضاعة وهما مدَّة الفصال الخاصَّة بها يكون الباقي ستَّة أشهر، فيعرف أقل الحمل.

وبهذا التَّوجيه الاستنباطي المهم قام أمير المؤمنين علي "سلام الله عليه" حلاًّ لمشكلة أوقع عمر نفسه فيها كاد أن يحد بسببها امرأة حاملاً بريئة ولدت لستَّة أشهر

ص: 308


1- معجم أصول الفقه / خالد رمضان حسن ص304.
2- سورة الأحقاف / آية 15.
3- سورة البقرة / آية 233.

بتهمة الزِّنا وهي في حبالة زوجها الشَّرعي(1).

وهذه من الموارد السَّبعين الَّتي اعترف بسببها بالأحقيَّة لأمير المؤمنين u بأقواله المشهورة (لولا علي لهلك عمر)(2) في الإمامة وإلحاق ولدها بأبيه.

ومنها ما سمَّاه الأحناف بإشارة النَّص أحياناً فإنَّهم يرون أنَّ دلالة الإشارة تشبه رجلاً ينظر ببصره إلى شيء ويدرك مع ذلك شيئاً آخر فكذلك العبارة الَّتي يستشهد بها في التَّمثيل للمقام، حيث يقصد منها معنى هو المدرك بدلالة تلك العبارة.

وقد تشير إلى معنى آخر يكون من لوزام تلك العبارة, وهو المسمَّى بدلالة الإشارة وذكروا للتَّمثيل ما في قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ](3).

حيث دلَّ في عبارته عندهم على أنَّ الشُّورى أصل من أصول الإسلام، ودلَّ بإشارته أيضاً على وجوب إيجاد طائفة من الأمَّة تستشار في أمورها وشؤونها بحيث لا يمكن مشاورة كل فرد من أفرادها لوحده.

وقد يساعد على تصحيح أصالة هذا الأصل المدَّعى في نظر بعضهم مشروعيَّة ما في قوله تعالى [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ](4)، أي حتَّى لو استقلُّوا عن النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم عبارة وإشارة.

بل قد يدَّعي من قد يدَّعي جزافاً بعد أمر النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم في الآية الأولى بمعنى إخضاعه لمشاورتهم، وهو ما قد يُبرِّر لهم استقلالهم في أمورهم عنه أو أن يفرضوا عليه ما يرونه خلافاً لرأيه عند مشاورته لهم أو كون مشاورته نحو استجازة منه لهم.

ص: 309


1- بحار الأنوار / المجلسي ج9 ص 483، طبعة الكمبانيّ.
2- الرياض النضرة 2/194، الاستيعاب في معرفة الأصحاب - ج 2 باب علي.
3- سورة آل عمران / آية 159.
4- سورة الشورى / آية 38.

وعلى أيِّ حال إن قبلنا أن يكون معنى الإشارة في هذه الآية مثالاً يُحتذى به للمقام وعلى تمام مستوى هذه الدِّلالة الأخيرة.

فلابدَّ من الخلاص من الإلتباسات الَّتي يحاولها بعض المنحرفين في عقيدتهم ضدَّ مستوى سلطة النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم العظمى ليبقى الباقي ناجياً من هذه الشُّبهات بذكر بعض التَّصحيحات ولو بالنَّحو المختصر، وهي:-

أوَّلاً: إنَّ أصول الإسلام الثَّابتة لا يجوز زجِّها عقيدة وعملاً بما اختلفت فيها المذاهب والمشارب الكلاميَّة والفقهيَّة بعد ثبوت ما يوجب على الجميع إعادة النَّظر في غير ما صحَّ عن أهل البيت الطَّاهر عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من الرِّوايات الَّتي جعلوها مفسِّرة لبعض الآيات كالآية المذكورة والَّتي بعدها.

ثانياً: صراحة قوله تعالى [مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ](1) وقوله [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا](2) وقوله [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِيالأَمْرِ مِنكُمْ](3) وقوله [فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ](4) وقوله [إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ](5) وقوله [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ](6)، وغير ذلك من الكثير الَّذي لا يوضِّح مكنون ما فيها من اللِّسان الثَّاني للمدركين المعظَّمين إلاَّ ما عناه

ص: 310


1- سورة القصص / آية 68.
2- سورة الحشر / آية 7.
3- سورة النساء / آية 59.
4- سورة النساء / آية 65.
5- سورة المائدة / آية 55.
6- سورة المائدة / آية 67.

الحديث المتواتر بين الفريقين وهو المعروف ب- (حديث الثَّقلين) وأمثاله ممَّا ورد عن الإماميَّة وعن المنصفين من غيرهم ليعرِّفنا مع أمثاله من هم أهل الشُّورى في كبريات الأمور في عصر النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم وبُعيده.

ثالثاً: أهميَّة التَّفريق في أمور الشُّورى بين الأمور الجزئيَّة -- وصغريات الأمور المحتاجة إلى جمع الشَّمل العرفي أو من يُسمَّون بأهل الحل والعقد لو تعاونوا على النِّظام الموحَّد في دقائقه لمَّاحصل خلل اجتماعي فيما بينهم، ولساد العباد والبلاد سعادة الدَّارين ومعهم سعادة بقيَّة الأقليَّات --

وبين الأمور المهمَّة، وهي النبُّوة وبعدها الإمامة، وهي المتمثِّلة في الأئمَّة الاثنى عشر عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ.

فلن يكون ممَّن يمكن أن يؤذن لهم في التَّصدِّيات الاجتهاديَّة الاستنباطيَّة بالدَّرجة التَّالية بعد وفاة النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم والأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ وغيبة ولي الأمر f الأخير من بعض حواريهم ومن يليهم من عدول المجتهدين الخاصِّين القابلين للتَّفكير واستنتاج أمور المعضلات الكبرى دون من هبَّ ودب، ليفرض نفسه من أهل الشُّورى.

كيف بمن كان من المنافقين أو المنقلبين على الأعقاب وغير ذلك وإن زاحم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وأوصياءه عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الَّذين نوَّه مرَّات وكرَّات بمقاماتهم.

ومنها مفاد قوله تعالى [فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ](1) فإنَّه يؤخذ من هذا القول الكريم بطريق العبارة إباحة المباشرات للزَّوجات والطَّعام والشَّراب إلى طلوع الفجر من ليالي شهر رمضان، ولكن يؤخذ منه بطريق الإشارة صحَّة صوم من أصبح جنباً إذا نسي غُسله أو نام نومته الأولى قبل الفجر بمدَّة تمكِّنه أن يستيقظ قبله للإغتسال ليطلع الفجر على طهارته وما استيقظ إلاَّ بعده بدون تعمُّد.

ص: 311


1- سورة البقرة / آية 187.

لأنَّه أبيحت له هذه المباشرات إلى طلوع الفجر بلا شيء من هذه المزاحمات العمديَّة، إذ عند طلوعه يبدأ صومه ويلزمه من وقت النَّهار بعد ذلك ما يكفي للإغتسال من الجنابة على الأقل ما لم يضق وقت الفرائض العباديَّة المشروطة بالطَّهارة، على ما هومفصَّل في محلِّه من الفقه.

حجيَّة الدِّلالات الثَّلاث الجديدة

ذكر الشَّيخ المظفَّر قدس سره في أصوله عن الاثنين الأوَّل والثَّاني من هذه الدِّلالات قوله:-

(أمَّا "الاقتضاء" و "التَّنبيه" فلا شكَّ في حجيَّتهما إذا كانت هناك دلالة وظهور، لأنَّه من باب حجيَّة الظواهر، ولا كلام في ذلك)(1).

أقول: وهو صحيح كما عُلِّل عند الأصوليِّين إذا كان سند النُّصوص الَّتي تحمل تلك الدِّلالات سنداً صحيحاً معتبراً غير معارض بما يخالفه ممَّا كان أقوى مع المواصفات المشترطة في كلِّ منهما.

وأمَّا حول ثالثة هذه الدِّلالات، وهي (الإشارة) فقد أشكل قدس سره على حجيَّتها من باب الظَّواهر فقال:-

(إنَّ تسميتها بالدِّلالة من باب المسامحة، إذ المفروض أنَّها غير مقصودة، والدِّلالة تابعة للإرادة، وحقُّها أن تسمَّى "إشارة" و "إشعاراً" فقط بغير لفظ "الدِّلالة" فليست هي من الظَّواهر في شيء حتَّى تكون حجَّة من هذه الجهة)(2).

أقول: لكن أشكل عليه بأنَّ هذا الإشكال في أنَّ دلالتها غير مقصودة مبني على

ص: 312


1- أصول الفقه ج 1 ص188.
2- المصدر السَّابق.

تبعيَّة الدِّلالة للإرادة، وهو غير تام، كما هو موضَّح في محلِّه أصوليَّاً.

ثمَّ تلا هذا الأمر المناقش فيه باعترافه بحجيَّتها في باقي أمورها بقوله:-

(نعم، هي حجَّة من باب الملازمة العقليَّة حيث تكون ملازمة، فيستكشف منها لازمها، سواء كان حكماً أم غير حكم، كالأخذ بلوازم إقرار المقر وإن لم يكن قاصداً لها أو كان منكراً للملازمة)(1).

ثمَّ أقول: إنَّ إفادة هذه الدِّلالة وإن لم تكن مقصودة إلاَّ أنَّها غير قاصرة عن أن تُعطي بدل غض النَّظر الحاصل إشعاراً آخر من ناحية أخرى على ما أفادته الأمثلة المتنوِّعة الماضية، إذ قد يكون من هذا القبيل الأدبي المثل المعروف (إيَّاك أعني واسمعي ياجارة) بناءاً على أنَّ المخاطبة لم تكن مقصودة جدَّاً، وإنَّما المراد هو إشعار الجارة ليلتزم العقل بهذا التَّوجّه.

التَّابع الحادي عشر / مقدِّمة الواجب

لا شكَّ في أنَّ كلَّ عاقل يدرك أنَّه إذا وجب عليه شيء يتوقَّف تحقُّقه على مقدِّمات ذلك الشَّيء فلابدَّ له أوَّلاً من تهيئة تلك المقدِّمات ولو إجمالاً أو تهيؤها - أي كانت تلك بين العقلاء - ثمَّ يأتي بذلك ثانياً.

سواء كان شرطاً، وهو الشَّرط الشَّرعي الَّذي لا يتأتَّى الفعل بدونه عقلاً أو عادة، إلاَّ أنَّ الشَّارع جعله شرطاً لإيقاعه على الوجه المشروع كالوضوء والغُسل والتَّيمُّم للصَّلاة أو للصَّوم أو الطَّواف والاعتكاف ونحو ذلك، والشَّرع هو الغالب.

أو كان سبباً، وهو ما يلزم من وجوده وجود الشَّيء ومن عدمه عدمه خارجاً، وهو المعبَّر عنه بالعلَّة التَّامَّة، كعمليَّة الصُّعود للكون على السَّطح.

ص: 313


1- المصدر السَّابق.

أو كان من المقدِّمات العقليَّة، وهي الَّتي لا يتأتَّى الفعل بدونها عقلاً وليس شرطاً عقليَّاً أيضاً، كنصب السلَّم للصُّعود على السَّطح وكترك جميع الأضداد للواجب.

أو كان من المقدِّمات العاديَّة، وهي الَّتي لا يتأتَّى الفعل بدونها عادة وليس شرطاً عاديَّاً أيضاً، كغُسل جزء من الرأس لغسل الوجه كلِّه في الوضوء مثلاً وستر جزء من الوجه لستر الرأس كلِّه في باب حجاب الرَّأس للمرَّأة.

وهي المسمَّاة بتعبير آخر بالمقدِّمات العلميَّة احتياطاً أو تدقيقاً لإبراء الذمَّة.

وهذا أمر قال به الأكثر، بل لا نزاع فيه من حيث المبدأ، وإن توسَّعنا في معنى المقدِّمات بإدخال المقدِّمات الشَّرعيَّة أو الشُّروط أو نحو ذلك ممَّا سوف يتَّضح.

إلاَّ أنَّ الأصوليِّين اختلفوا في أمر تلك المقدِّمات في بحوثهم بين كونها وجبت بالوجوب العقلي الَّذي لا يرتبط بشيء من الألفاظ ارتباطاً وثيقاً - وإن كانت الألفاظ كقنطرة لإيصال المعاني إلى الأذهان، وذلك بنحو من الملازمة غير البيِّنة أو البيِّنة بالمعنى الأعم.

ثمَّ بعد ذلك يترشَّح ذلك الوجوب إلى الشَّرع، ومنه يكون الوجوب شرعيَّاً، وهومبني على القول المعروف بينهم وهو (كل ما حكم به العقل حكم به الشرع) جملة في اعتبار عند قوم أو تفصيلاً في اعتبار آخر عند آخرين.

لكنَّا لا نرى من ذلك إلاَّ من حيث الإجمال إذا كان العقل هو الدَّليل الرَّابع لا الأوَّل وهو المستفاد من الأدلَّة الإرشاديَّة لا ذلك الأوَّل المستقل عن الشِّرع في تخريجاته كما هو محقَّق في موضعه ردَّاً على أصحابه العلمانيّين وأهل القانون الوضعي.

أو لا يترشَّح شيء منه إلاَّ أن يبقى الوجوب عقليَّاً لا شرعيَّاً، وهو الَّذي يعتبره الفقهاء - لو لم يصادفه عندهم دليل شرعي يؤيِّده - احتياطيَّاً، كنحو المقدِّمات العلميَّة

ص: 314

المتعارفة في كثرة مصاديقها في الوضوء والغُسل والتَّيمُّم وغيرهما من العبادات المرتبطة بهما -- كالصَّلاة والصَّوم والحج -- والمعاملات كالبيع بدفع الزَّائد وأخذ النَّاقص، وعلى الأخص لو أمضى شرعاً عكس التَّعارف السوقي اللا شرعي.

وبين كونها ما وجبت إلاَّ بسبب الألفاظ، وهي الَّتي كانت بنحو الملازمة البيِّنة بالمعنى الأخص، ولكن العقل لا يتخلَّى مع ذلك عن الرَّبط بين المقدِّمة وذيها ولو بنحو التَّصوُّر الَّذي لا يعد مشرعاً أو المذعن التَّابع للشَّرع ولو بالإذن الإرشادي.

ولكن نظراً إلى أنَّ بحوثنا في هذه الموسوعة متعلِّقة بمباحث آيات الأحكام أو فقل الفقه القرآني الموسَّع خاصَّة وأكثرها مع ما يتبعها من السنَّة الشَّريفة لفظيَّة كما لا يخفى مع ذلك التَّعقُّل -

مع كون الانسداد العلمي - الَّذي منيت به الشَّريعة المقدَّسة الَّتي مسلكها الصَّحيح على مسلك النَّبي 5 وأهل بيته الطَّاهرين عَلَيْهِم السَّلاَمُ على ما هو محقَّق في محلَّه أصوليَّاً - كان صغيراً، وهو الَّذي يعطي الأمل كثيراً أو بالصِّفة الأكثر في إمكان ترجيح بل تحقُّق جعل هذا البحث لفظيَّاً أكثر من كونه عقليَّاً في الأصول.

وبالأخص إذا ضمَّمنا الرِّوايات المساندة للكتاب من الضعاف المجبورة بعمل الأصحاب مع أخبار الآحاد المحفوفة بالقرائن أو الآحاد الأعلائيَّة مع بعض قريناتها أيضاً، أو ممَّا قد تؤيَّد ببعض المستفيضات معنويَّاً لو لم يعثر على المتواترات في مقابل الأحاد، لو لم يعارضها ما يمنع من الاستفادة منها وملحقات ذلك.

وهو ممَّا يشيَّد به وجوب تلك المقدِّمات شرعاً أو ما يتصادق العقل عليه والشَّرع في ذلك، ولإحراز كون البحث ذا ثمرة عمليَّة لا علميَّة فقط.

إضافة إلى أنَّ الملازمة الَّتي كانت بين الواجبات الَّتي تثبتها الأوامر اللَّفظيَّة وبين مقدِّماتها بعد ما كانت من نوع البيِّنة بالمعنى الأخص في هذه المناسبة - بل حتَّى لو كان الانسداد متوسِّطاً مع استفراغ الوسع والمهارة الاجتهاديَّة فيه.

ص: 315

فلابدَّ حينئذ من أن تكون محاولتنا - في هذا البحث لإثبات اللازم للملزوم - محصورة لا محالة وبصفة أكثر في شأن الدَّلالة اللفظيَّة لا العقليَّة حسب، لأنَّه يحصل بسببها وهو الدَّلالة الإلتزاميَّة اللفظيَّة خاصَّة، وسيأتي حول السنَّة ما ينفع أكثر.

ولا شكَّ في أنَّ الدَّلالة الإلتزاميَّة هذه من الظَّواهر الَّتي هي حجَّة لفظيَّة وعليها المعوَّل أكثر كلَّما تحقَّقت بنجاح علمي وعملي.

ولعلَّه لهذه الملاحظة أدخل الأصوليُّون السَّابقون هذه المسألة في مباحث الألفاظ، حيث جعلوها من مباحث الأوامر بالخصوص.

وعلى هذا الأساس وكون الملازمة هذه بين الواجب ومقدِّماته وبنحو الملازمة البيِّنة بالمعنى الأخص لا إشكال فيها ظاهراً بين الجميع، إذا تمَّ بهذا المقدار لا أكثر.

وإن جاء آخرون فأدخلوا هذه المسألة في المدار العقلي المحض من دون اكتراث بالعلاقة اللَّفظيَّة وإن تضمَّنت في الظَّاهر عند الآخرين، ولعلَّه عند هؤلاء مستضعفة لأنَّها أخبار آحاد أو ضعيفة وإن جبرت بعمل الأصحاب.فأصابوا بعض الشَّيء علميَّاً وقالوا بوجوب مقدِّمة الواجب ورتَّبوا الأثر عقلاً من دون أن يرتبط ذلك بالأوامر اللفظيَّة الَّتي يعنينا أمرها هنا، وإن كان أساس هذا الوجوب لفظيَّاً، وهو ما يعني أنَّ (كلَّ ما يقول به العقل يقول به الشَّرع).

بينما لا يصح من ذلك عمليَّاً إلاَّ ما يجب بنحو المستقلاَّت العقليَّة الخاصَّة في مواردها كما مرَّ، ولأهميَّة التَّفريق بين اللَّفظ المشرِّع كالأوامر الشَّرعيَّة وبين غيره كأوامر السَّادة لعبيدهم.

فالصَّلاة مثلاً إذا وجبت على المكلَّف مع سعة وقتها لا يجب عليه تهيئة مقدِّماتها مثل الوضوء أو الغُسل أو التَّيمُّم لأجل ذلك الوجوب.

بل لم يقل الفقهاء في ذلك إلاَّ باستحبابها أو أخذها في أصل الشَّرع مع تلك السِّعة ومن أدلَّة خارجة عن هذه الملازمة مع الوجوب الثَّابت لها.

ص: 316

وهكذا الصَّوم في شهر رمضان حينما يجب على المكلَّف وكان قبل أوَّل أيَّامه مثلاً من أوَّل ليلته الأولى مجنباً، أو كانت المرأة حائضاً قد نقت من حيضها أو نفساء نقت من نفاسها ولم تغتسل، وكذا الرَّجل من جنابته.

فإنَّهم لا يجب عليهم الطَّهارة، وهي الاغتسال مثلاً مع سعة الوقت، وإنَّما يستحب لهم المبادرة إليه في أصل الشَّرع.

وهكذا الحج فهو وإن كان واجباً في أصل الشَّرع على المكلَّف في العمر مرةَّ واحدة بعد الاستطاعة -- الَّتي يفترض أن تكون محرزة عليه -- بأعماله المهمَّة مثلاً طواف عمرة التَّمتُّع وطواف الحج وطواف النِّساء، فهي -- وإن كانت واجبة على المكلَّف لا تنفك عنه في حجِّه، لأنَّها من أهمِّ أعماله أو الملحقة مع سعة الوقت لأي طواف منها في تلك البقاع -- لا يجب الطَّهور قبلها مع تلك السِّعة، وإنَّما الطَّهور مستحب في أساسه.

وهكذا الحج أيضاً إذا أحرز وجوبه في ظرف بعض سنين استطاعته من غير المعيَّنة في ظرف سنة بعينها، ولنفرضها في ظرف سنتين أو ثلاث من تلك السِّنين أو حتَّى في سنة واحدة معيَّنة ولكن قبل مجيء أشهر الحج ممَّا قد يحوجه إلى السَّعي لاكتساب أو شيء منه لتحصيل تلك الاستطاعة وأمثالها من المقدِّمات.

فلا يجب عليه تحصيل مقدِّماته هذه لأجل أصل الوجوب المحرز في ظرف هذه السَّنة أو تلك مع السِّعة الَّتي افترضناها وإن استحبَّ توفير المال اقتصاديَّاً لمثل هذا الواجب ولو قبل موعده الدَّقيق.

سواء قلنا بأنَّ هذه الأمور من المقدِّمات الخاصَّة حقَّاً، أو توسَّعنا فقلنا بأنَّها من عموم المقدِّمات، وإن كانت في واقعها كالطَّهارات وأموال الاستطاعة من الشُّروط الَّتي لا تصح العبادات المذكورة إلاَّ بتوفُّرها مسبقاً.

إلى غير ذلك من الأمثلة الأخرى فإنَّ المورد سيَّال بالنَّظائر والأمثال.

ص: 317

نعم يبقى الكلام في مورد ضيق الوقت وانحصار الأمر به.

فلابدَّ من ثبوت هذه المقدِّمات لتلك الواجبات، لكن لا ينفعنا في مسألة تدوين أصل البحث الَّذي ربطوا فيه المقدِّمات والَّذي أهم حالاته سعة الوقت.بل إنَّ حالات ضيق الوقت قد جاءت دلائل وجوب مقدِّماتها من نصوص الأدلَّة اللفظيَّة، وإن كان العقل لابدَّ وأن يتعقَّل اللزوم في الأثناء، ولكنَّه لم يكن هو المستقل أو هو الَّذي عليه المعوَّل.

وعليه فلن تكون المسألة ذات ثمرة عمليَّة في البحث عنها في كلِّ مجال حتَّى مع الفائدة العلميَّة المجرَّدة ولو جملة.

إلاَّ بما قرَّبناه آنفاً عند توجيه البحث لصالح كون اللازم والملزوم والمقدِّمات وذيها وانسجام بعضها مع بعض مع الدَّلائل اللفظيَّة، الَّتي لابدَّ وأن يحرز معها دخول العقل في الملازمة نحو دخول تصوُّر وتعقُّل، لا دخول تشريع، كما في أمثلة الصَّلاة والصَّوم والحج الماضية.

ولكن مع افتراض ضيق الوقت لها بما لا يسع إلاَّ للطَّهارة والصَّلاة والصَّوم وطواف الحج، أو كون ذلك الضِّيق الاستطاعة للحج في سنته بعد دخول أشهر الحج.

فلابدَّ بعد ذلك من الاهتمام بالمقدِّمة تجاه ذيها الواجب وعدم التَّفريط فيها.

بل حتَّى في نفس حال السِّعة المفترضة في مثل الصَّلاة من تلك الأمثلة لا من جهة وجوب الطَّهارة غير الثَّابت بالفوريَّة مع تلك السِّعة العاديَّة كما سبق ذكره.

ولكن من جهة توقُّف صحَّة الصَّلاة - الَّتي لا يجوز التَّفريط فيها بحال - على الطَّهارة لأنَّه (لا صلاة إلاَّ بطهور)(1)، وإن كانت الطَّهارة مستحبَّة في أساسها مع تلك السِّعة المفترضة آنفاً.

ص: 318


1- كتاب وسائل الشيعة ج 1 ص 365 أبواب الوضوء ب 1 ح 1.

إلاَّ أنَّها قد تشتد وتصل إلى شيء من ذلك الوجوب في حالة عروض بعض مؤشِّرات الموت أو كونه ابتدأ قاصداً في الموسَّع، ولكنَّها لم تخرج عمَّا ذكرناه من خضوع ذلك إلى مداليل الألفاظ الشَّريفة لا إلى العقل كقوله تعالى [وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ](1).

ولكن قد تكون المسألة ذات ثمرة علميَّة حسب، ولكنَّها لم تحرز في علميَّتها تلك، إلاَّ إذا أدخلناها في مباحث الألفاظ على القول بذلك عند القدامى أو أدخلناها كذلك في الملازمات العقليَّة عند المتأخِّرين على القول بذلك أيضاً، لمحاولة الجمع بين الجهتين اللفظيَّة والعقليَّة.

لأنَّ بذلك إن لم يناسب إدخالها في الملازمات العقليَّة بالمعنى الأخص فلابدَّ من أن تدخل في الملازمات العقليَّة بالمعنى الأعم بالصِّفة العلميَّة الطَّبيعيَّة، وهو ممَّا يرتجى فيه الوصول حتماً إلى ما به النَّفع العلمي، وإن لم يعط النَّتيجة العمليَّة المباشرة.

إلاَّ أنَّها سوف ترتبط بعد ذلك وبالصِّفة غير المباشرة بكثير من المسائل -- على ما ذكره بعض الأفاضل -- من ذات الشَّأن العملي أيضاً، كالعلمي، ولكنَّه في الفقه لا في الأصول لعدم المباشرة، فهي بهذا خرجت عن الفن الأصولي إلى خصوص الفقهيَّات.

فلنذكر بعض المواقع المناسبة في مجال العمل ممَّا نستحضره الآن من المقدِّمات لئلاَّتفوتنا فوائدها، كيف وإنَّ علميَّتها ما ثبتت ثمرتها، إلاَّ إذا أدخلناها في مباحث الألفاظ بناءاً عليه، وهي:-

1 - البحث عن الشَّرط المتأخِّر شرعاً، والَّذي ظاهره تأخُّره في الوجود عن الواجب المشروط، بينما هو في واقعه كاشف عن صحَّة العمل العبادي المشروط به في الأدلَّة حينما يكون الشَّرط شرطاً في المأمور به كما في الأمور التَّالية:

ص: 319


1- سورة محمد / آية 33.

أ/ في الغُسل اللَّيلي للمستحاضة الكبرى الَّذي يُعد عند البعض شرطاً لصوم النَّهار السَّابق على اللَّيل، وإن لم يكن في واقعه رافعاً للحدثيَّة الَّتي في النَّهار السَّابق، بينما النَّقل لا محلَّ له هنا، لأنَّ هذا الشَّرط شرعي لا عرفي كبيع الفضولي الآتي ذكره إضافة إلى مخالفة هذا المثال للَّذي يناسبه.

ب/ حينما يكون الشَّرط المتأخِّر شرطاً للحكم، سواء كان الحكم تكليفيَّاً ككون تحقيق الوجوب للمشروط بأداء ذلك الشَّرط المتأخِّر.

أو وصفيَّاً كثبوت الإجزاء والصحَّة بالإتيان به بعد ذلك المشروط، على قول بعض آخر بذلك، لأنَّه يكون عندهم محسوباً كالأجزاء الدَّاخليَّة للواجب المركَّب الواحد وإن كان خارجاً عنها في الحقيقة.

فكما أنَّ الجزء الأوَّل وما بعده من الواجب مراعى في البراءة منه أو صحَّته وأجزائه على الأقل إلى أن يحصل الجزء الأخير الواقعي، فكذلك هذا الخارج المتأخِّر في كونه حينما كان شرطاً متأخِّراً لابدَّ فيه من كون كل الواجب المشروط في جميع أجزاءه، وإن كان الأخير اعتباريَّاً يراعى في براءة الذمَّة من عهدة وجوبه أو صحَّة أو إجزاء القيام به إلى أن يؤتى بعده بذلك الشَّرط.

ج/ في إجازة بيع الفضولي - الَّذي أجري عقده سابقاً - الكاشفة بعد نهايته عن صحَّة البيع، بناء على الكشف عندهم، لا النَّقل الَّذي بمعنى العقد الجديد في تلك الإجازة.

وعلى كل فسواء ثبت هذا الشَّرط شرعاً أو لم يثبت فلابدَّ من وجود الثَّمرة العلميَّة على الأقل.

وأمَّا النَّقل وإن صحَّ عرفاً فلا يفيد هنا، لعدم انطباق المثال عليه.

2 - البحث عن المقدِّمات المفوِّتة:-

أ/ كما في وجوب قطع المسافة للحج الواجب قبل حلول أيَّامه إذا عرف، بأنَّه

ص: 320

ليس بإمكانه الذَّهاب أصلاً بعد تلك الأيَّام.

ب/ ووجوب الوضوء أو الغُسل قبل دخول وقت الصَّلاة عند التَّأكُّد من عدم التَّمكُّن من أحدهما المحتاج إليه فعلاً بعد دخول وقتها، وإن كان بالإمكان حصول التُّراب للتَّيمُّم بعد دخول وقتها بدلاً عن أحدهما، لاعتبار أنَّ التَّيمُّم مبيح وليس برافع كالوضوء أو الغُسل.

أو وجوب التَّيمُّم بدلاً عن أحدهما لو انحصر الأمر فيه قبل دخول وقت الصَّلاة أيضاً عند ذلك التَّأكُّد من عدم التَّمكُّن منه عند الحاجة إليه بعد دخول وقتها.

ج/ ووجوب الغُسل من الجنابة لعموم المكلَّفين أو من الحيض والنَّفاس للنِّساءللصَّوم قبل الفجر الَّذي لابدَّ حين طلوعه من كون المكلَّف طاهراً، ولكن في حالة وجود سعة الوقت، ككون جاهزيَّة الغُسل أو مناسبته كانت من أوَّل اللَّيل، ولكن كان ذلك بعد التَّأكُّد من أنَّ عدم الاغتسال في ذلك الأوَّل يفوِّت الفرصة على المكلَّف، لعدم توفُّر ما يحتاج إليه من حاجات الاغتسال آخر اللَّيل.

وهكذا الأمر في التَّيمُّم المعوَّض عن الغُّسل عند الحاجة إليه.

وإنَّما سميِّت هذه المقدِّمات بالمفوِّتة عند المصطلحين لها فلاعتبار أنَّ تركها موجب لتفويت الواجب الأساسي في وقته.

وعليه فإن ثبت بالدَّليل وجوب هذه المقدِّمات شرعاً كما قد اشرنا في بعض الأمثلة الَّتي قد لا تخلو بعضها على الأقل إن لم نقل الكل من دليل يقوِّمه، فلابدَّ من اشتراك العقل في هذا الوجوب مع الشَّرع اعتماداً على أصل وجوب ذي المقدِّمة.

ولكن هذا الاشتراك بمعنى تصوُّر العقل وإذعانه لقرار الشَّرع، لا أنَّه هو المشرِّع أو المشارك في التَّشريع، وإن ساعد على شيء من ذلك علميَّاً في البداية إن توسَّعنا وكانت تلك المساعدة بمعنى إقراره بلزوم هذه المقدِّمات.

3 - البحث عن المقدِّمات العباديَّة، حيث ثبت بالدَّليل الشَّرعي بأنَّ بعض

ص: 321

المقدِّمات الشَّرعيَّة لا تقع مقدِّمة إلاَّ إذا وقعت على وجه عبادي، بمعنى أنَّه مقصود فيه القربة إلى الله تعالى حيث تعبَّدنا لإحراز المقدِّمة الصَّحيحة قبل ذيها ولنيل الثَّواب المترتِّب على أدائها بخصوصها قبل فعل ذيها وقبل إحراز الثَّواب المترتِّب عليه.

وذلك خاص في الطَّهارات الثَّلاث وهي الوضوء والغُسل والتَّيمُّم المعوِّض عن سابقيه عند عدم القدرة عليهما، وهي بأجمعها تصح أن تكون مقدِّمة لكلِّ ما يتوقَّف على الطَّهارة من العبادات وإن اشترط في صحَّتها قصد القربة فيها وبما يساوي أصل ذي المقدِّمة في ذلك.

وقد فصَّلناها في كتابنا الفقهي شبه الموسَّع (المقدِّمات العامَّة لكتاب غُنية المتَّقين في أحكام الدِّين)، وسوف يتَّضح هذا الأمر أيضاً في خصوص مباحثنا الفقهيَّة المرتبطة بآيات الأحكام من هذه الموسوعة بعد الأصول وفي خصوص باب الطَّهارات، فلا حاجة لنا هنا إلى التِّكرار.

وهذه الطَّهارات الثَّلاث - الَّتي لابدَّ في تصحيح مقدِّميتها وترتُّب الثَّواب عليها بما ذكرناه - إضافة إلى حاجة العبادات الخاصَّة إليها ممَّا لا يخفى على المحصَّلين - إلى التَّقرُّب الإلهي - لا تغاير المقدِّمة العامَّة المرتبطة بالطَّهارة العامَّة أيضاً لو أريد منها حتميَّة الفوز بالثَّواب على كل عمل.

ولكن بعض أنواعها قد يكون من نوع آخر لا تشترط فيه نيَّة القربة وإن كانت النيَّة أفضل، وهي عمليَّة التَّطهير الواجب أو الَّتي لا تصح العبادة أو حتَّى مقدِّماتها الثَّلاث المذكورة إلاَّ بتحقيقها قبل ذلك، كعمليَّة التَّطهير من الخبائث والنَّجاسات العرضيَّة قبل فعل ما تشترط فيه الطَّهارة ومقدِّماتها من العبادات.

وعلى كل حال فهذه المقدِّمات وإن وردت في الشَّرع عباديَّة الثَّلاثة الماضية منهاوما ألحق بها، فلا يمنع من أن يكون حكم العقل هو الدَّاعي - لو بقي الفكر الأصولي

ص: 322

مستقلاًّ فلا ثمرة علميَّة فيه أصلاً - علميَّاً إلى فعلها كمقدِّمات إلى ذيها، ولكن على ما عُرف عنها في الشَّرع.

لأنَّ هذا الورود فيه لا يجعلها مستقلَّة في الشَّرع عن ذيها وإن كانت الدَّيمومة على الطَّهارة راجحة في نفسها ولها موضوعيَّتها الخاصَّة بها من أدلَّة أخرى.

فالثَّمرة العلميَّة موجودة لا محالة بلا أن يكون العقل هو المشرِّع ولا المشارك فيه، إلاَّ في مورد المستقلاَّت العقليَّة الَّتي لا تلزم المكلَّف بالقصد القربي مع سعة الوقت بمثل الوضوء أو الغسل أو التَّيمُّم البديل، وإن استحبَّت المبادرة للواجب المشروط بالطَّهارة إلاَّ في الوقت الضيِّق.

لكن لو صلَّى مثلاً عن الطَّهارة في الوقت الموسَّع بدون القصد القربي لا صحَّة في صلاته، لتنصيص الشَّرع من جهة أخرى كما مرَّ، وهو غير ما نريده في المقام.

التَّابع الثَّاني عشر: ما يلحق بمقدِّمة الواجب

الواجب النَّفسي والغيري

لقد اعتاد الأصوليُّون أو بعضهم على ذكر هذا البحث في ضمن مباحث الملازمات العقليَّة، الَّذي سوف يأتي مطلبه بعد الفراغ من مباحث الألفاظ، تبعاً لشبيهه أو الأساس الَّذي يكون هذا البحث أقرب ما يكون إليه -- وهو مبحث مقدِّمة الواجب -- المعتبر كونه من أهم مباحثها هناك، ولو من بعض النَّواحي دون جميعها.

ولكنَّا حينما نوَّهنا هناك - في التَّابع السَّابق في مقدِّمة الواج8ب - بأنَّ الثَّمرات العمليَّة بأنَّها معدومة في هذا الأصل، إلاَّ إذا أخذنا بعض المصاديق المناسبة لمباحث الألفاظ والأنسب لمباحثنا هي آيات الأحكام كالمقدِّمات العباديَّة ولو بالواسطة، كما مرَّ توضيحه هناك.

ونقلنا البحث عن مقدِّمته إلى تلك المباحث اهتماماً بالاستثمار الممكن.

ص: 323

لذلك جاء اهتمامنا بجعل هذا التَّابع الثَّاني عشر أن يكون تابعاً له أيضاً هنا دون الالتزام بالتَّعرُّض لهما في الملازمات الآتية في حينها.

وقد مرَّ الكلام كذلك، بأنَّه يمكن أن يرتبط به البحث عن هذا الواجب النَّفسي والغيري ببعض لا بأس به من الارتباط المناسب القديم كذلك أيضاً وهو الحديث عن مقدِّمة الواجب، بل قد يكون هو نفسه في بعض الجوانب، بل إنَّ الواجب الغيري كما يقول البعض هو نفس وجوب المقدِّمة، لكن لو ثبت وجوبها مطلقاً أو يزيد.

ولذلك ينبغي أن نتبع هذا الواجب بكلا نوعيه والكلام عنهما بما يشبه ذلك الحديث، لاغتنام بعض الفوائد الأصوليَّة المشتركة المدَّعاة، وكذا الإضافيَّة النَّافعة جهد الإمكان إن تيسَّرت.

وعلى الأخص لو ثبت وجوب المقدِّمة بالنَّحو المطلق كما أشرنا كما هو المحقَّق إلاَّ بما أوضحناه.

وبقي وجوب الواجب الغيري على حاله ببعض من الاعتبار الخاص به، وبما يشبهالمقدِّمة في خصوص مصاديق القول بعباديَّتها لو يثبت كما سيجيء كذلك.

وقبل الخوض في النَّوعين بما سوف نختاره من الاختصار عنهما -- لعدم الحاجة الماسَّة إلى التَّفصيل في البيان -- لابدَّ من محاولة فهمهما كل على حدة، للتَّفريق بينهما ولو على مستوى التَّقابل الإسمي لكل منهما، لا كما قد يتصوَّره الواهمون كما سيجيء.

فالواجب النَّفسي: هو الواجب لنفسه لا لواجب آخر كالصَّلاة اليوميَّة، ويقابله الواجب الغيري كالوضوء على ما سيجيء، وهو الثَّابت الأساسي في وجوبه من الأوامر وملحقاتها، ويتأكَّد وجوبه كلَّما يضيق وقت أداء الصَّلاة.

وهذا الواجب وإن لم يكن هو المقصود ذاتاً في هذا البيان من التَّابع، لأنَّه قد

ص: 324

انتهى الكلام عنه في السَّابق كأساس تتَّصل به هذه التَّوابع.

في حين خصَّصنا له عنواناً مستقلاًّ، لتوضيح المقصود من الواجب الغيري بصورة أكثر من باب تعريف الشَّيء بضدِّه، ولإزالة بعض الإشكال عمَّا يخص النَّفسي كما سيتَّضح.

فهو كما مرَّ (ما وجب لنفسه للأمر ونحوه)، كالصَّلاة الَّتي مرَّ ذكرها وغيرها من عبادات الإسلام الأساسيَّة، وكل واجب شرعي أساسي ارتبطت به المقدِّمات ولم يلحق هو بها.

وإن أدخلنا حالات العرفان أو بعضها في كون هذا الوجوب - الَّذي في هذه الواجبات الأساسيَّة - بأنَّه ما جاء إلاَّ لمصلحة شرعيَّة متنوِّعة للدُّنيا والآخرة أو ما هو أرقى منها عرفانيَّاً، لكون تلك الغايات لم تكن هي نفسها الواجبة.

بل إنَّ بعضها كان فوق مستوى الواجبة وإن استحبَّ في الأساس، لكن في مستوى مشاعر العرفانيِّين كالصَّلاة الَّتي تؤدِّى لا طمعاً في الجنَّة ولا خوفاً من النَّار، بل ما قد يرقى العبد فيه أكثر، وإن وجب جلب النَّعيم بامتثال الأوامر المولويَّة تعبُّداً لا أكثر.

وهكذا الابتعاد عن الجحيم بترك المحرَّمات كذلك بلا أن يناط وجوب الصَّلاة مثلاً بقصد هذه الغايات دوماً - لأنَّ العرفان شعور قربي إضافي حسب المراتب العلميَّة وإن كان بعض أهل العرفان في مراتبهم العالية قد يكونون من الأميِّين لدقَّة مقاصدهم الشَّريفة نوعاً وبعض أهل العلم سطحيِّيين فيها.

والواجب الغيري هو (ما وجب لواجب آخر)، وهو المقابل للنَّفسي كالوضوء والغُسل للصَّلاة أو التَّيمُّم لها بدلاً عنهما، ومثل الصَّلاة في ذلك هو الصَّوم والحج والعمرة والاعتكاف وغير ذلك، ممَّا لا يصح شيء منه أو لا يقبل أو يحرم أو تفرغ الذمَّة من الواجب الأساس إلاَّ بها.

ص: 325

ومن ذلك أيضاً بل ما هو الأشد تلازماً فيه حالة الضِّيق في أوقات كل من هذه الواجبات الأساسيَّة كما مرَّ ذكره.

وهذا الغيري هو محل الكلام في هذا التَّابع دون غيره.

وكأنَّه في هذا التَّابع أقرب إلى الشَّرعيَّة من عقليَّة الكلام عن مقدِّمة الواجب الاحتياطيَّة، ولأجله قد تحرز فيه الثِّمار العمليَّة.ولكون أمثلة الغيري المتعارفة عند الأصوليِّين نوعاً هي المقدِّمات العباديَّة وتوابعها أو التَّوصليَّة الَّتي لا تبتعد كثيراً عن إمكان إحراز العباديَّة فيها ولو كانت لوحدها من دون لحاظها مقدِّمة، وإن أطلق تسامحاً في بعض الحالات على الغيري بالمقدِّمة وبالعكس.

وبتعريفنا للاثنين (النَّفسي والغيري) -- ومقابله الواجب للغير للواجب للنَّفس -- يتبيَّن معنى الثَّاني أكثر، بسبب فهم الأوَّل من تعريفه الَّذي لا يخفى على اللَّبيب الفطن حتماً من هذه المقابلة وما سبقها.

على خلاف ما قد توهَّمه البعض من ارتباطه التَّوهمي المخالف لتعلُّق الثَّاني الطَّبيعي بالأوَّل، حيث جعل (ممَّا وجب لنفسه) -- وهو الأوَّل -- أن يعطي معنى أن يكون وجوب الشَّيء الواجب علَّة لنفسه في الواجب النَّفسي وهو معلولها.

ولكن بمقتضى مقابلته لتعريف الواجب الغيري لا يستفاد منه سوى أنَّ وجوب الغير علَّة لوجوبه كما عليه المشهور.

ولهذا التَّوهُّم مجال في النَّفسي، لامتناع أن يكون الشَّيء علَّة لنفسه، حذراً من توقُّف الشَّيء على نفسه أو على ما يتوقَّف هو عليه، وهو من الدَّور الممتنع.

مع كفاءة الشَّرع التَّامَّة في التَّدليل على الوجوب النَّفسي وعليَّته من الآيات والرِّوايات.

فلابدَّ من أن يكون كما أوضحناه في المقابلة الصَّحيحة السَّابقة.

ص: 326

ولهذا نرى الشَّيخ المظفَّر رحمه الله في أصوله نظَّر معنى الواجب لنفسه(1) بأنَّه ك-تعبير عن الله تعالى في الوجوب الاعتقادي علينا به بأنَّه (واجب الوجود لذاته) أي ليس مستفاداً من الغير ولا عائداً له، فهكذا هذا الواجب لأنَّه ليس معلولاً لذاته.

ولكن هذا التَّنظير ليس في محلِّه بالدقَّة إلاَّ في سطحيَّة في التَّنظير، لأنَّه تعالى ليس معلولاً لذاته بمعنى تركُّب الشَّيء من العلَّة والمعلول، لبساطة ذاته تعالى من التَّركُّب، وأنَّ وحدانيَّته هي الهوهويَّة.

أمَّا الواجب النَّفسي وإن كان لا يخضع للغير ومنه نفس الغيري حينما يسبق النَّفسي لا يجب إلاَّ من سابقه، ويشبه الذَّات الأقدس من هذه النَّاحية.

لكنَّه في نفس الوقت تابع لدليله الَّذي لولاه لما صار واجباً لنفسه من الآيات والرِّوايات وهي الَّتي قد تسمَّى بالعلَّة له.

وهذا لم يكن في ذاته تعالى البسيطة، وإن كنَّا لم نعرفها إلاَّ بالآثار، لما ورد في الأدعية المأثورة المتعدِّدة الَّتي منها فقرة قول الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ (يا من دلَّ على ذاته بذاته)(2) وقولهم عَلَيْهِم السَّلاَمُ في فقرة دعاء آخر (بك عرفتك)(3) وغيرهما.

وبهذا يتم معنى الواجب الغيري بأنَّ وجوبه كان للغير وتابع له لكونه مقدِّمة له،ويعرف في مقابله معنى الواجب لنفسه.

وبعد الفراغ من الكلام عن الواجب بالغير جاءت الحاجة إلى تشخيص بعض خصائص له يمتاز بها عن الواجب النَّفسي تفطَّن لها علماؤنا قدس سره بعد ما اتَّضح لهم معنى التَّبعيَّة فيه، نذكرها ببعض من التَّصرُّف النَّافع.

أحدها: كما أنَّه لا وجوب استقلالي له لا إطاعة استقلاليَّة له كذلك، وإن

ص: 327


1- أصول الفقه ج 2 ص321.
2- من فقرات دعاء الصَّباح لأمير المؤمنين u.
3- من فقرات دعاء أبي حمزة الثَّمالي لزين العابدين u.

شُخِّصت الإطاعة له استقلالاً لا بلحاظ الارتباط، كرجحان الدَّيمومة على الوضوء أو للكون على الطَّهارة أو هو أو الغُسل لرفع الحدث فقط وإن لم ترتبط أساساً بالواجب في بعض أحوالها إلاَّ بعد تجديد الوضوء مثلاً.

وبالأخص إذا جعلنا مقدِّمة الواجب واجبة أو أنَّ الوجوب الغيري كان مرتبطاً بالواجب المضيَّق أو الحصَّة الأخيرة من الموسَّع لا بما قبله وإن كانت شرطيَّة الكون على الطَّهارة في الموسَّع تشبه الوجوب في بعض حالاتها.

ثانيها: بعد ذكر الخاصَّة الأولى للغيري فلا ثواب مستقل فيه غير الثَّواب الَّذي يحصل على إطاعة النَّفسي، كما أنَّ العقاب يصيب تارك النَّفسي أو ما قد نسميِّه بذي المقدِّمة بسبب ترك الغيري أو المقدِّمة الَّتي توجب بطلان النَّفسي أو تعطيله إذا استمرَّ إلى آخر وقته.

وأمَّا ما ورد في الرِّوايات الشَّريفة كثيراً - من ذكر الأجر والثَّواب على نفس المشي الَّذي هو مقدِّمة للحج الواجب بدلاً عن أنواع الرَّاحلة المريحة بحسب مراحلها، كما قد أشرنا آنفاً مثل هذا في باب الوضوء أو الغُسل من مرجِّحاتها الذَّاتيَّة شرعاً، أو كونه غيريَّاً له بحسب الظَّاهر وبما قد يزيد حتماً على أنواع الرَّاحلة حتَّى لو كانت القديمة -

فلعلَّه كان بمعنى توزيع ثواب نفس العمل على مقدِّماتها، لأنَّه كلَّما كثرت مقدِّمات العمل - ولو بضخامة زحمات ذلك الشَّيء - كثرت حمازة نفس ذلك العمل فينسب الثَّواب كذلك إلى المقدِّمة ولو مجازاً.

أو أنَّ التَّبعيض هي الحالة الَّتي قوَّت العلاقة بينهما وجعلت التَّابع والمتبوع كأنَّهما شيء واحد، وإن تفاوت تابع عن تابع في الاعتياديَّة الَّتي لا تكلِّف المعتاد على ما به المشقَّة كثيراً أو المشقَّة الزَّائدة عليها بالنِّسبة إلى غير المعتاد.

أو أنَّ الالتزام بفعل المقدِّمة أو الواجب الغيري على الأنسب على اعتبار أنَّ

ص: 328

القيام به مشروع في القيام بالنَّفسي أو ذي المقدِّمة.

ثالثها: إنَّ الوجوب الغيري لا يكون إلاَّ توصليَّاً، أي لا عباديَّة فيه تجاه النَّفسي وإن كان يصلح للعباديَّة، أو لا يمتنع عنها لوحده ولا في المقدِّمة تجاه ذيها، لأنَّه لا يصح أن يقال إنَّ الصَّلاة طهارة والحج مشي في طريقه.

كما لو شخَّصناهما في الارتباط في الوقت الموسَّع للواجب، اهتماماً بالكون على الطَّهارات الثَّلاث مستقلاًّ مثلاً.

فإنَّ العباديَّة موجودة ونيل الثَّواب عليها يحتاج إلى قصد القربة حتماً كما سبق نظيره ولكنَّها لا تتشخَّص إلاَّ بالتَّعلُّق المذكور.نعم قد يكون عدم ذلك موجوداً في مثل إزالة النَّجاسة ونحوها ممَّا لا يحتاج إلى القربة وإن رجح عموماً أيضاً، لعدم عباديَّته سواء في الموسَّع والمضيَّق استعداداً لذي المقدِّمة والنَّفسي.

رابعها: إنَّ كلَّ ما كان شرطاً في وجوب ذي المقدِّمة أو النَّفسي فهو شرط في وجوب المقدِّمة والغيري، كما في أصل الوجوب فيما بينهما كالبلوغ والعقل.

وكذلك قيل باستحالة تحقُّق وجوب فعلي للمقدِّمة قبل تحقُّق وجوب ذيها، لاستحالة حصول التَّابع قبل حصول متبوعه، أو لاستحالة حصول المعلول قبل حلول علَّته، بناءاً على أنَّ وجوب المقدِّمة معلول لوجوب ذيها.

بل هناك شيء أشد، بل قد سبَّب إشكالاً للبعض حينما قالوا كيف نقدِّم المقدِّمة على وقت ذيها؟

مع التَّلازم الَّذي ذكرناه حتَّى في المقدّمة المفوِّتة، كوجوب الغُسل ليلاً على الَّذي يجب عليه الصَّوم يوم غد من شهر رمضان مثلاً إذا كان مجنباً في اللَّيل، لكون اللَّيل قبل وقت الصَّوم والطَّهارة فعليَّة وجوبها تحصل من أوَّل لحظة من نهار الصَّوم.

ولكنَّ الجواب واضح: بأنَّ صحَّة الإشكال إن تمَّت فهو من نوع الخارج بالنَّص

ص: 329

وغيره.

وأمَّا مع عدم صحَّة هذا الإشكال كما هو الصَّحيح فإنَّه لكون العقل بهذه الدقَّة لا دخل له في المقام من جهة العمل والثَّمرة العمليَّة المطلوبة، ما دمنا مع النُّصوص حتَّى في المقدِّمة المفوِّتة.

أو لكون الطَّهارة وهي هذا الغُسل مثلاً قد انحصرت في ذلك الوقت من دون قدرة على غيرها، وهذا لا يمنع من الجماع بعد ثبوت حليَّته فضلاً عن استحالته ليلة الصِّيام في آيات الصَّوم حتَّى لو نام الصَّائم ليلاً وهو مجنب وكان معتاد الانتباه أو حتَّى غير معتاده إذا استيقظ في آخر الليل.

التَّابع الثَّالث عشر / مسألة الضِّد

بعد التَّفاوت الذِّهني بين المفكِّرين من علماء الأصول حول المراد من الضِّد ومعناه التَّابع للأوامر بواسطة النَّهي المقابل لها بنسبته الخاصَّة من المعقوليَّة غير المستقلَّة على ما سيتَّضح.

لابدَّ أن يُفرض السُّؤال عنه وعن محتملاته في نفسه للوصول إلى الغاية المرتجاة لدى الباحثين منهم عنه وعن كل مطلب فكَّروا أو يُفكِّرون فيه من المعروضات الأصوليَّة الأخرى، بُغية العثور على ما به النَّفع الأكثر إن كان من الثِّمار العمليَّة عند التَّطبيق العملي للأدلَّة الشَّريفة المعطاء، إن ساعدت على شيء جملة أو تفصيلاً من عدمه.

حيث يمكن أن يُقال: ما هو المراد من هذا الضِّد عندهم، وما يقتضيه إن اشترك تعقُّل النَّهي مع ذلك الأمر الَّذي صار النَّهي ضدَّاً له؟

فهل إنَّ المراد منه أنَّه هو بمعنى التَّرك، وهو المسمَّى عندهم بالضِّد العام كمثلالصَّلاة الأدائيةَّ في سعة وقتها أو ضيقه الأدائي، وهو الأشد في المسؤوليَّة على

ص: 330

المكلَّف وما يقتضيه من آثار النَّهي عند ترك امتثال الأمر بها أو حتَّى القضائيَّة بعد انتهاء وقتها من دون امتثال، لأنَّ فريضتها لن تترك بحال بعد تأكُّد وجوبها ولو بعد انتهاء وقتها الأدائي تبعاً لأدلَّة القضاء.

إذا كان المراد من النَّهي هو نفسه الأمر إن أمكن تقبُّل تصوُّره، وإن لم يكن عن سلاسة أدبيَّة.

والَّذي يُعد مورده معه من مصاديق الجمع بين الأوامر والنَّواهي بمعنى واحد، وهو ما تبرء به الذمَّة وهو المفسَّر مع عدم تلك السَّلاسة بمعنى كون الأمر بأنَّه أمر بترك التَّرك؟

وهذا النَّهي عن المعنى الضدِّي المذكور هو في قبال النَّهي المستقل الَّذي سيأتي في آخر هذا الجزء الثَّاني من كتابنا (مساعي الوصول).

وهو الَّذي لا يمكن فيه بحسب التَّعارف الاعتيادي اجتماع في الأمر والنَّهي إلاَّ بما تفوَّق فيه جهابذة أهل الفقاهة على أهل الصَّناعة الأصوليَّة في الجملة المقبولة من الميدان الاجتهادي الفقهي الَّذي أمكن فيه هذا الجمع بين بعض حالات الأمر والنَّهي المقابل له ولو في حالة الضَّرورة وبما هو أسلم من معنى الجمع الماضي، كالصَّلاة مع ضيق وقتها في الدَّار المغصوبة أثناء الخروج الفوري، إن أمكن تصوُّره وتحقُّقه دون غير ذلك.

أم أنَّ الضِّد هو ما يقتضيه النَّهي من الأضداد المسمَّاة عندهم بالخاصَّة الَّتي ستأتي في تبعيَّتها للعامَّة، وعلى أي معنى ينبغي أن تكون؟

والَّتي قد تجتمع مع ما يحمله الأمر المولوي أو الإرشادي من مثل صلاة الفريضة اليوميَّة في سعة وقتها بما لا يفوِّت المكلَّف على نفسه شيئاً منها أداءاً ومن لوازمه الأخرى كالكسب للمعيشة ونحوها من المباحثات والأكثر إن احتاج وبما لا يزاحم الصَّلاة شيء منها ومن غيرها من المنافيات؟

ص: 331

أمَّا مع ضيق وقت الصَّلاة فلا اجتماع مع منافياتها.

فكل هذه الحالات جرت في أفكارهم.

ولأجل أهميَّة تشخيص المهم من موارد الخلاف بينهم ليلتزم به دون غيره لابدَّ أوَّلاً من فهم المفردات المشار إليها فيما قدَّمناه وهي (الضِّد) و (الاقتضاء) و (النَّهي)، ثمَّ تعقيبها بباقي ما تستحقُّه من الأمور:

فأمَّا (الضِّد) فإنَّه في اصطلاح الحكماء أو الفلاسفة يراد منه خصوص المعاند الوجودي، وهو غير مراد عند الأصوليِّين وأهل العُرف.

وإنَّما المراد عندهم في اصطلاحهما ما هو الأعم من خصوص المعاند الوجودي والعدمي والمنافي الَّذي يشمل التَّرك الَّذي يُعبَّر عنه بالنَّقيض.

بينما ذلك الضِّد الوجودي فقط عند الفلاسفة هو مضرب المثل أعني الضدَّين اللَّذين لا ثالث لهما، والأعم الأصولي ما كان يحمل مرونة إلى ما هو الثَّالث.

فكانت النَّتيجة عندهم انقسام الضِّد إلى العام -- وهو التَّرك الَّذي معناه النَّقيض --وإلى الخاص، وهو مطلق المعاند الوجودي.

وأمَّا (الاقتضاء) فإنَّ المراد منه في كلماتهم أنَّه الأعم من دلالة العينيَّة للشَّيء والجزئيَّة له واللُّزوم مطلقاً من الدِّلالات الثَّلاث وهو ما معناه أن يُراد به لابديَّة ثبوت النَّهي عن الضِّد عند الأمر بالشَّيء.

إمَّا لكون الأمر يدل عليه بإحدى الدِّلالات الثَّلاث وهي (المطابقة والتَّضمُّن والإلتزام) بسبب اللَّوازم العُرفيَّة المتوقِّفة على الاستظهار من الأدلَّة لتكون داخلة في مباحث الألفاظ.

وإمَّا لأنَّ هذه المسألة أيضاً من المسائل الأصوليَّة العقليَّة غير المستقلَّة كما أشرنا من دون أن يكون لزومه بيِّناً بالمعنى الأخص حتَّى يدل عليه بالإلتزام الأعم، بناءاً على الملازمة أو المقدِّميَّة على ما سيجيء تفصيله عنهما.

ص: 332

إذ قال بكل واحد منها قائل.

فلابدَّ أن يكون مورد النِّزاع مجمع الأقوال، فالمراد من الاقتضاء عندهم كما أشرنا أنَّه أعم من كل ذلك، وكما سيأتي تشخيص ما هو الأصح.

وأمَّا (النَّهي) وهو الَّذي عليه التَّركيز في الضديَّة للأوامر الواردة من الشَّارع المقدَّس، وإن كان تبعيَّاً كوجوب المقدِّمة الغيري التَّبعي بكون معناه المطابقي هو الزَّجر والرَّدع عمَّا تعلَّق به، وإن فسَّره المتقدِّمون بطلب التَّرك كما أشرنا وكما سيأتي من التَّعليق.

وبعد فهم مجمل ما يُراد من المفردات الثَّلاث هذه فليس من المهم علينا التَّعرُّض له في المقام إلاَّ مسألتان، وهما:-

الضِّد العام، والضِّد الخاص المنضوي تحته بناءاً عليه في كل حالة.

والخوض في كل منهما بعد تسلسل ذكرهما المتعاقب الأنسب ممَّا يستدعي التَّفرُّغ قبله من ذكر معنى (التَّرك) المشار إلى عدم سلاسته في الذَّوق الأدبي وما يحتاج إليه من التَّعليق الإضافي فنقول:-

أوَّلاً: (التَّرك)، فإنَّه بعد ظهور معناه بالمستوى الَّذي عندما يصدر الأمر الإلهي إذا اقتضى النَّهي عن ضدِّه العام.

وفُسِّر بهذا المعنى في الوجود والعدم كالأمر بالصَّلاة الَّتي تقتضي النَّهي عن عدمها وجوداً مثل عدم الانشغال بغيرها من المنافيات المباحة في نفسها أساساً في سعة وقتها، فضلاً عن المحرَّمات الَّتي كقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى](1).

وفضلاً كذلك عن وقتها الضيِّق وعنه عدماً كحالة تعيُّن أداءها في كل وقتها الضيِّق دون الانشغال بأي شُغل آخر مزاحم عنها من المباحات المنافية كما كان يمكن

ص: 333


1- سورة النساء / آية 43.

أن يكون في وقتها الواسع إذا انتهى.

وهذا التَّرك المتصوَّر معناه عن مثل هذه الأوامر لم يظهر جليَّاً لمن قال به من كثير من الأصوليِّن إلاَّ بمعنى ترك التَّرك حسبما اعتادوا عليه، والعادة قد يصعب تركها، ولوليساوى ذلك الأمر مع النَّهي الَّذي اقتضاه عن ضدِّه العام في الوجود والعدم لتطبيق ذلك الأمر تامَّاً بدون منافاة مبطلة.

وكأنَّهم وللأسف ليس لهم تعبير اعتادوا عليه إلاَّ مع هذا الضيق أو اللَّفظ الملتوي في العبارة وكما سلف تعبيرنا عنه بعدم سلاسته فيها.

مع إضافة ما قد لا يمكن تحمُّله ممَّا قد يؤدِّيه معنى ترك التَّرك المشابه لنفي النَّفي، بل المؤدِّي إلى معنى الطَّلب الَّذي لا يتلائم مع مساواته لنفس طلب ذلك الأمر المولوي الأوَّل إن أخذ به.

وهو ما يضر أدبيَّاً بمستوى كون ذلك الأمر لابدَّ أن يقتضي النَّهي عن ضدِّه العام وجوداً أو عدماً، وإن أريد من ذلك التَّرك للضِّد هو خصوص التَّفرُّغ للصَّلاة دون غيرها من الأعمال بما فسَّرناه أكثر من مرَّة.

إلاَّ إذا استبدل لفظ ترك التَّرك الَّذي وصلوا إليه مكان ما يوصلهم البقاء عليه من توهُّم مساواته لما يؤدِّي إلى طلب التَّرك المماثل للأمر المولوي في خطورته المذكورة بلفظ (الكف)، وتطبيق معناه المانع في ضدِّيته لفعل أي مناف في كلا الوقتين الواسع والضيِّق، من دون تكرار طلب آخر لطلب الأمر الأوَّل المقتضي لمعنى النَّهي عن الضِّد لا ما يخالفه.

ثانياً (التَّرك أيضاً)، فبعد أن فسَّروا الضِّد بمعنى (التَّرك) آنفاً، وقمنا بمحاولة توضيح التَّفاوت الموافق للذَّوق الأدبي السَّليم عن غيره واختيار ما ينقِّح به المفسِّر للضَّد بما كان الأصح أن يكون بمعنى ما يوافق لفظ (الكف) دون غيره.

لابدَّ من ذكر الأقوال الَّتي اختلفوا فيها حول مسألته كما نوَّهنا عنه لبحثه بما

ص: 334

يستحقُّه من بعض التَّفصيل، وهي:-

أ ) ما لعلَّه لأجل التَّوهُّم الماضي، وهو أنَّ النَّهي معناه طلب التَّرك ذهب بعضهم إلى عينيَّة الأمر بالشَّيء للنَّهي عن الضِّد العام، وهو ما قد يصل إلى معنى الدِّلالة المطابقيَّة، وقد عبَّروا عن هذا التَّرك بكلمة (النَّقيض).

ولكن ردَّ ذلك: بانتفاء العينيَّة لا مفهوماً ولا خارجاً وجداناً، وكما سبق من التَّوجيه فيكون من مجرَّد الدَّعوى بلا دليل.

ب ) قيل: بأنَّه جزء مدلوله ومفهومه فيدل عليه بنحو الدِّلالة التَّضمُّنيَّة لتركُّبها من الأمر بالشَّيء مع المنع من التَّرك.

وردَّ أيضاً: بما حُقِّق في أنَّ الوجوب بسيط لا تركُّب فيه وفي حقيقته، وإنَّما كان في مقام شرح الإسم تقريباً، لإفهام أهل العرف، لا ما هو الأدق من التَّعريفات للأمور الذَّاتيَّة كما مرَّ في الجزء الأوَّل من الكلام عن التَّعريف للأصول.

ج ) وقيل بأنَّ النَّهي عن هذا النَّحو من الضِّذ لا هو عينه ولا هو جزؤه، وإنَّما هو من لوازمه العرفيَّة المتوقِّفة على الاستظهار من الأدلَّة المتناسبة معها، وهي وإن كانت من بعض الجوانب مرتبطة بمباحث الألفاظ كما لا يخفى إذا كانت ملازمتها لها بيِّنة بالمعنى الأخص.إلاَّ أنَّها ترجع بالآخرة في بعض مراتبها إلى الملازمات العقليَّة، لعدم انفكاكها الكامل عن الأوامر، كما لو كانت بيِّنة بالمعنى العام.

فهي من العقليَّات غير المستقلَّة دون أن تكون الملازمة غير بيِّنة، حذراً من أن تكون مع العقل عقليَّة صرفة، بل هي من غير المستقلَّة بمعنى الزَّجر.

ولذا قال جمع أنَّه (بالملازمة، لأنَّ طلب الشَّيء يلازم مبغوضيَّة تركه، وهذا وجه حسن ثبوتاً وإثباتاً)(1).

ص: 335


1- تهذيب الأصول / السيد السبزواري ج1 ص233.

أقول: إنَّ هذا الحسن ليس بدائم في تلازمه، إذ ربَّ أمر بالصَّلاة قد يُكتفى به عن قول لا تتركها، وربَّ نهي ك- (لا تشرب الخمرة) قد يُكتفى به عن ترك شربها.

ثالثاً: تتمَّة الكلام عن باقي ما عن الضِّد العام.

بعد أن ذكرنا الأقوال الَّتي في الضِّد العام الَّتي أرادوها أن تكون بمعنى التَّرك، وتخلَّصنا إلى ما قد اخترناه أن يكون هذا الضِّد بمعنى (الكَّف)، وأن يكون الَّلازم والملزوم في المقام من التَّخريجات العقليَّة غير المستقلَّة، لا الصِّرفة والعرفيَّة لا الدقيَّة.

ولأجل انسجامه مع بحث مقدِّمة الواجب وبحث التَّرتُّب بما بين الأهم والمهم الآتي بيانه ونحوهما، بما يُعد من توابع الأوامر والنَّواهي مع الحاجة إلى شيء من التَّوجيه.

نحتاج إلى بيان شيء هو كتتمَّة عن باقي ما عن الضِّد العام المذكور، وينضوي تحته بالطَّبع الضِّد الخاص على تفصيل آت، ولو كتوضيح لما مضى ذكره.

فإنَّ الأمر بالشَّيء مثلاً لمَّا كان على وجه الوجوب كافياً في الزَّجر عن تركه فلا حاجة إلى جعل للنَّهي عن التَّرك من الشَّارع زيادة على الأمر بذلك الشَّيء للإكتفاء بالمنع العقلي التَّبعي الَّذي أشرنا إليه.

فحيث لم يكن اختلافهم في الضِّد العام من جهة أصل الاقتضاء وعدمه كما مرَّ على ما سطَّروه مع وضوحه، وإنَّما كان في كيفيَّة ذلك.

فعليه إن كان مراد القائلين بهذا الاقتضاء أنَّ نفس الأمر بالفعل يكون زاجراً عن تركه فهو متَّفق عليه، بل لزومه ثابت، لكونه مقتضى الوجوب مع أنَّه ليس هو موضع النِّزاع في مسألتنا، لكون النِّزاع فيها هو النَّهي المولوي زائداً على الأمر بالفعل.

وإن أرادوا باقتضاءهم أنَّ هناك نهياً مولويَّاً عن التَّرك يقتضيه الأمر بالفعل على ما في النِّزاع، فلا تسليم به، لعدم الدَّليل المقوِّم، بل هو ممنوع.

ص: 336

لعدم قبول الدِّلالة على العينيَّة ولا التَّضمُّنيَّة إلاَّ ما ذكرناه بعدهما من إمكان استثناء الدِّلالة الالتزاميَّة الَّتي من توابع الأوامر والنَّواهي من العقليَّات غير المستقلَّة.

لكون العقل التَّابع لنصوص الأوامر والنَّواهي يدرك حتماً أنَّ نفس الأمر بالشَّيء كاف في الزَّجر عن تركه، كما أنَّ نفس النَّهي عن الفعل كاف للدَّعوة إلى تركه بدون حاجة إلى جعل جديد من المولى تعالى في كلا المقامين، لأنَّهما في الحقيقة من واد واحد.

ولذلك قدَّمنا ما يدل على عدم قبول أن يُفسَّر التَّرك بلفظ الطَّلب، لعدم تلائمه مع الأمر، إذ ليس هناك طلب للتَّرك وراءالرَّدع عن الفعل في النَّهي، ولا نهي عن التَّرك وراءطلب الفعل في الأمر، كما مرَّ من بعض التَّمثيل للتَّقريب بذلك.

رابعاً: تلخيص استدلالهم على الاقتضاء في الضِّد العام والخاص بوجهين:-

لكن ينبغي لنا قبل البدء بتلخيص وجهي استدلالهم على الاقتضاء في الضِّدَّين -- العام والخاص -- أن نعرِّف معنى تبعيَّة الضِّد العام للضِّد الخاص.

فهو الَّذي لابدَّ أن يبتني اقتضاء الأمر بالشَّيء للنَّهي عن ضدِّه الخاص، ويتفرَّع على القول باقتضائه للنَّهي عن ضدِّه العام.

أي كما أنَّه لا نهي مولوي عن الضِّد العام فمن باب أولى أن يصح القول بأنَّه لا نهي مولوي عن الضِّد الخاص كذلك، ولأجله يصح القول بحق ولو إجمالاً بأنَّ الأمر بالشَّيء لا يقتضي النَّهي عن ضدِّه مطلقاً، أي سواء كان عامَّاً أو خاصَّاً.

وهو ما قد سيتَّضح في ذكر وجهي الاستدلال والأمثلة، للتَّفريق بين العام والعام والخاص ولو إجمالاً.

وبعده لنعرف موجز الوجهين مع إضافة بعض ما يناسب تعليقاً منَّا عليه.

أ ) الوجه الأوَّل: عن جهة الملازمة المشار إليها سابقاً، فدليلهم على تبعيَّة الضِّد الخاص للضِّد العام أولويَّاً مركَّب من مقدِّمات ثلاث إن اجتمعت متلازمة على

ص: 337

صحَّة واحدة يصح ادِّعاؤها، وإلاَّ فلا.

أولاها: وجوب كلِّ ضد ملازم لعدم الضِّد الآخر فيما لا ثالث له، وعدم الأضداد الأخر فيما له ثالث، وسيأتي ما يشبهه في الشَّرط الثَّالث للأخذ بالتَّرتُّب قريباً.

وهذه المقدِّمة من الواضحات الَّتي لا ينكرها أحد، فالأكل وهو الضِّد الخاص الملازم للضِّد العام وهو ترك الصَّلاة الواجبة لابدَّ من تصحيح ملازمته وتبعيَّته لضدِّه العام أولويَّاً وجوداً وتأثيراً في وقت الصَّلاة الضِّيق.

بل وكذلك في وقتها الواسع -- إذا أراد المكلَّف الإتيان بها فتركها وهو الضِّد العام -- لابدَّ أن يتبعه الضِّد الخاص وهو الأكل مثلاً، لحرمة فعل المنافي ان افترض التَّرك.

ولكن بعد القول بعدم وجود النَّهي المولوي في الضِّد العام فلا موجب للضِّد الخاص له كذلك بهذا النَّحو من الملازمة فيمكن أن يختار ترك الصَّلاة في فسحة وقتها ولا نهي عن مثل الأكل، إلاَّ إذا تعيَّنت من مقتض ملزم فيها.

ويمكن أن ينهي عن الأكل بسبب الصَّوم وتترك الصَّلاة في فسحة وقتها مؤقَّتاً.

ثانيتها: المتلازمان متَّحدان في الحكم، فلو كان أحدهما واجباً يكون الآخر كذلك لاقتضاء التَّلازم ذلك.

فإذا كانت إزالة النَّجاسة عن المسجد واجبة نفسيَّة ذاتيَّة فوريَّة يكون ترك الصَّلاة الملازم لها أيضاً واجباً نفسيَّاً ذاتيَّاً لمكان الملازمة بينهما خارجاً.

لكن يمكن أن يُقال: بإمكان أن يكون النِّزاع بين من يقول بالتَّلازم بين الضِّد العام والخاص وبين من يقول بعدمه لفظيَّاً.

أي إنَّ كل من يوجب وجود الملاك للحكم من كلا فريقي النِّزاع في هذا الأمر، إضافة إلى من يوجب الإتِّحاد في الحكم منهما أيضاً يقول بالتَّلازم بينهما، ومن لم

ص: 338

يوجب وجودالملاك له يقول بالعدم.

إلاَّ أنَّ هذا قد لا يجدي نفعاً حين الموازنة بين حالتي الضدَّين عند التَّفحُّص في عالم الأدلَّة الَّتي لكلِّ منهما على حِدة بعدم العثور على أيِّ دليل من عقل أو نقل على أنَّ التَّلازم الوجودي بين المتلازمين موجب للتَّلازم الحكمي أيضاً بالنِّسبة إلى الحكم الواقعي، لوجود حالات مهمَّة من التَّفكُّك بين ما قيل أو يُقال من بعض التَّلازمات المدَّعاة ومنها المتصادفات.

إضافة إلى أنَّ بعض ما قيل عن بعض الأدلَّة اللَّفظيَّة بأنَّها كانت مولويَّة قد جمعت الضدَّين.

فما هي في واقعها إلاَّ حالة إرشاديَّة، فإدِّعاء العلاقة المولويَّة باطلة بمثل انفكاك وجوب الصَّلاة عن الوجوب مع سعة وقتها بسبب ما زاحمه من النَّجاسة مثلاً.

ثالثتها: تقدَّم أنَّ وجوب الشَّيء ملازم لمبغوضيَّة نقيضه، لكون النَّقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، وليسا كالضدَّين إذا كان لهما ثالث، فإذا كان ترك الصَّلاة الملازم مع وجود النَّجاسة واجباً نفسيَّاً ذاتيَّاً فوريَّاً يكون فعل الصَّلاة مبغوضاً وحراماً، لأنَّ الفعل نقيض التَّرك وبديله بالوجدان، فتفسد لا محالة، لأنَّ مبغوضيَّة العبادة عبارة أخرى عن فسادها، كما لا يخفى.

فالنَّتيجة أنَّ الأمر بالشَّيء يقتضي النَّهي عن ضدِّه خاصَّاً كان الضِّد أو عامَّاً.

لكن نبقى لنقول بأنَّ هذه المقدِّمة الثَّالثة وصحَّة القول بفساد العبادة فيها بسبب المبغوضيَّة الَّتي فيها حين أداءها مع حرمتها المذكورة في الجملة دون التَّفصيل يمكن الاقتصار عليها دون ما هو الأوسع.

لعدم القدرة على إثبات أنَّ كل مبغوضيَّة لأيِّة عبادة لأي سبب هي عبارة أخرى عن القول بفسادها إذا أدِّيت، كالصَّلاة

في ضيق وقتها دون سعته، ووجود محل طاهر في المسجد للصَّلاة فيه مع تلك النَّجاسة، وبالأخص لو احتمل عقلائيَّاً أن

ص: 339

خبرها لم يخف ولن يخفى على أحد من الواردين إلى ذلك المسجد، ليتبنَّوا الإزالة مكانه.

وسيجي بعض تفصيل آخر له يثبت هذه الصحَّة الإجماليَّة بلا ذلك التَّفصيل الَّذي قد يُدَّعى، ما لم نساو في القضيَّة بين سعة الوقت وضيقه، وبين حالتي الأداء والقضاء في المسؤوليَّة على المكلَّف الواحد وهو أوَّل الكلام.

وخلاصة نتيجة ما حملته هذه المقدِّمات الثَّلاث الَّتي مرَّت -- مع ذكر وجوب تلازمها على روي موحَّد في صحَّة ما تحمله كلُّها لتثبيت أمر تلازم الضِّد الخاص للضِّد العام كشرط مسبق له ممَّا مرَّ ذكره من الوجه الأوَّل بدلاً من عدمه بصحَّة الإيراد عليه --

بأنَّ المقدِّمة الأولى والأخيرة وإن كانتا صحيحتين من حيث كل منهما بما مرَّ من البيان عنهما.

إلاَّ أنَّ المقدِّمة الوسطى في بطلانها الَّذي مرَّ ذكره مع تقديم اشتراط أن تكون كل الثَّلاثة متوافقة على صحَّة مفصَّلة، لتثبيت التَّلازم المراد، وبما أنَّه لم يحصل فلا تلازم حينئذ يمكن ادِّعاؤه فضلاً عن قبوله.ب ) الوجه الثَّاني من جهة هذه المقدِّميَّة الَّتي أشرنا إليها سابقاً في معروضات هذا البحث، وهي:-

مقدِّميَّة عدم أحد الضدَّين لوجود الآخر، وتلخيصه بدعوى أنَّ ترك الضِّد الخاص مقدِّمة لفعل المأمور به.

ففي المثال المتقدِّم للمقدِّمة الأولى من الوجه الأوَّل آنف الذِّكر لمحاولة عرض الاستدلال على هذا النَّحو من مسلك المقدِّميَّة يكون ترك الأكل مقدِّمة لفعل الصَّلاة وإن كان الأكل في أصله مباحاً مع سعة الوقت ومقدِّمة واجبة مع ضيقه، فيجب ترك الضِّد الخاص.

ص: 340

وإذا وجب ترك الأكل حرم ضدُّه وهو ترك التَّرك للأكل، لأنَّ الأمر بالشَّيء يقتضي النَّهي عن الضِّد العام.

وإذا حرم ترك ترك الأكل، فإنَّ معناه حرمة فعله، لأنَّ نفي النَّفي اثبات، فيكون الضد الخاص منهيَّاً عنه تابعاً للضدِّ العام بهذا النَّوع من الاستدلال.

ويمكن أن نبقى فنقول تعليقاً على هذا بشيء من الصَّحَّة في الجملة إذا لم يكن النَّهي نهياً مولويَّاً عن الضدِّ العام كما قد سلف أن قلنا بمنعه، ولذا جعلنا الأدلَّة الَّتي كانت بكونها إرشاديَّة، وكان التَّرك بمعنى العدم دون الوجودي خوف انقلابه إلى معنى الطَّلب الَّذي مرَّ نفيه.

ولكنَّ هذا المعنى لا يتناسب مع ما نعرضه من دليل الوجه الثَّاني على مسلك المقدِّميَّة خوف الوقوع في شبهة الكعبي الَّتي تقلب المباح وهو الأكل في سعة وقت الصَّلاة إلى كون تركه واجباً.

مع امكان دفعها بنفي المقدِّميَّة رأساً، فلا موضوع للشُّبهة، وأيضاً أنَّه يكفي في ترك الحرام وجود الصَّارف النَّفسي عن فعله بأي وجه اتَّفق.

وإذا قلنا بأنَّ التَّرك بالمعنى الوجودي دون العدمي فلا مفرَّ أيضاً من الوقوع في خطر الدَّور الحتمي، وهو عند البناء على أوَّ ل أقوال أربعة في المقام، وهو قول قائل بأنَّ ترك أحد الضدَّين لكل من الأهم والمهم مقدِّمة لوجود الآخر، وترك الآخر مقدِّمة لوجود الأوَّل، فيتوقَّف ترك أحدهما على ما يتوقَّف عليه ترك الآخر نفسه مقدِّمة لوجوده.

إلاَّ أن يقال بأنَّ التَّوقف من طرف الوجود فعلي، ومن طرف التَّرك - المضاد للعدم - شأني اقتضائي، ساعد عليه عدم العليَّة والمعلوليَّة في الأعدَام، فنقبله في سلاسته دون أن نقبل ترك التَّرك هذا مفسِّراً بالطَّلب الآخر المقابل للأمر الأوَّل لقبول الأمر الإرشادي وقبول كون النَّهي بمعنى الزَّجر والكف على أن لا تكون عدميَّته من

ص: 341

نوع العدم المحض ليتصرَّف العقل غير المستقل بما يتناسب مع ما هو مسموح له في الأمور.

خلاصة ما توصَّلنا إليه في نتيجة الكلام

(حول وجهي استدلالهم المختصر بالوجهين معاً)

قد توصَّلنا في النَّتيجة عن الوجه الأوَّل على مسلك الملازمة أن لا تلازم حينئذ بنحو من التَّفصيل بين الضِّد العام والخاص يمكن ادِّعاؤه، فضلاً عن قبوله، لوجود حالات مهمَّة من الانفكاكات بينهما ممَّا مرَّ، فلم تضعف إلاَّ الحالة الإجماليَّة.

وكذلك عن الوجه الثَّاني على مسلك المقدِّميَّة الَّذي توصَّلنا فيه بكون الرِّضا بالصحَّة فيه في الجملة أيضاً دون التَّفصيل إذا لم يكن النَّهي فيها نهياً مولويَّاً عن الضدِّ العام، وكان التَّرك بمعنى العدم، وفسَّرناه بالعدم الظلِّي دون المحض.

فلا مجال للقول بأنَّ الأمر بالشَّيء يقتضي النَّهي عن ضدِّه مطلقاً لا بالملازمة ولا بالمقدِّميَّة.

التَّابع الرَّابع عشر: هل أنَّ الأهم في بحث الضِّد أنَّه علمي؟

أم أنَّه ليجني ثماراً ولو بشرط؟

لأجل أن لا يكون البحث عن الضِّد في الأهميَّة لخصوص الغرض العلمي فقط دون أن يستفاد منه في الخارج من المصاديق العلميَّة كثمرة ترتجى ولو في بعض جوانبه دون جميعها، وإن كان الغرض العلمي وحده للأشياء قد يكون مفيداً لتوسعة الذِّهن حتَّى في مثل قضيَّتنا الأصوليَّة الخاصَّة الَّتي يبتني البحث فيها غالباً حبَّاً للإستثمارمنه وخشية من التَّطرقات العبثيَّة بلا جدوى.

ص: 342

وإن كان بعضها قد يُعد من الفوائد المحرزة في ذاتها ولو قصداً إليها للسَّعي لها في الطَّريق، لكنَّها لقلَّتها أو ندرتها يكون البحث فيها كالجاف.

أو هي موجودة فعلاً طبيعيَّة مع قلَّتها بين التَّكاليف، ولكن لقلَّة الابتلاء بها بين العوام وغيرهم من المحتاجين ممَّا قد لا يجعل بعض فقهائهم المرموقين لديهم ولو في بعض الأدوار مهتمِّين بها كثيراً ولو بحجَّة ندرة السؤال عنها أو قلَّة الطَّلب للتَّعرُّف عليها فيتركون البحث العلمي، بل وكذا الفقهي أيضاً فيها.

فمع احتمال وجود شيء من مقتضيات التَّفكير العلمي والعملي -- والعثور على ما به النَّفع المحرز ولو إجمالاً مع انتفاء الموانع المضرَّة وكثرة الحث المشجِّع دينيَّاً على تطوير أمور الحوزة العلميَّة والعمليَّة وتوسعتها، بل قد يكثر النَّفع القليل عند التَّوغُّل العلمي الأصولي والتَّعمُّق البحثي العلمي إن احتملت القوَّة في العثور على المصاديق المعتد بها من ذلك --

يجب السَّعي لذلك جهد الإمكان ولو بمقدار الحاجة دون الأكثر.

لأنَّه ما من قضيَّة في وجود المكلَّفين إلاَّ ولها حكم إلهي اهتمَّت به الشَّريعة في مصادرها الرَّصينة تصريحاً وتلويحاً تتوسَّع لأجلها الاحتمالات المثمرة إن أعتني بخدمتها على ما يرام، وإن كانت في البداية علميَّة فقط.

ومن ذلك أمور الأضداد مع التَّركيز على الخاصَّة منها لما مرَّ من الكلام السَّابق عند البحث عن الضِّد ونفي الارتباط بين العام والخاص ولو لخصوص هذا الكلام الحالي.

ولعلَّه لأجل أهميَّة قاعدة (اشتغال الذمَّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني) ولغيره تطرَّق أجلَّة علمائنا قدس سره إلى هذا الكلام التَّكميلي المهم بعد انتهاء تطرُّقهم إلى بحث الضِّد ، وهو موافق لنسق أطروحتنا الأصوليَّة المتواضعة هذه بين أيدي أعلامنا لاهتمامنا فيها جهد الإمكان نوعاً بالمثمرات من الأصول ولو بعد حين.

ص: 343

وعدم تبعيَّة الأضداد الخاصَّة للعامَّة بنحو المطابقة والتَّضمُّن وحتَّى بنحو الملازمة على مسلك الملازمة وعلى مسلك المقدِّميَّة.

إلاَّ بنحو ما تخلَّصنا إليه من اتِّخاذ تصرُّفاتنا في هذه الأمور إذا كانت أدلَّة تلك الأوامر مع أضدادها إرشاديَّة لا مولويَّة.

لاستكشاف أنَّ ارتباط الخاصَّة منها فيه مجال للإستثمار أم لا؟ وعن طريق اتِّصاف الضِّد بالعباديَّة أم بغيرها؟ وفي حالة الاقتضاء أم بعدمه؟ بمثل معرفة القول بفساد العبادة أم بعدمها؟

كما في مقدَّمة الواجب لو حصلت مضادَّة خاصَّة وكبعض أمور التَّرتُّب الآتية قريباً ممَّا بين الأهم والمهم وغيرهما ممَّا مضى وما سيأتي كذلك بانحصار مجال الاستثمار فيها مع تلك الأضداد الخاصَّة فقط.

والعمدة في الشُّروط الَّتي وضعوها في المقام لتصحيح مجال سلامة ما يؤمَّل منه الاستثمار من عدمه هو صحَّة اتِّصاف الضدَّية بالعبادة دون غيرها لتجويز اطلاق الفساد عليها عند المخالفة من عدمه، لأنَّ حالة عدمه لا موضوع لتصحيح اطلاق الفساد علىحالة المخالفة فيها مع اشتراط القول بالاقتضاء أيضاً وحصل تزاحم بين ذلك الواجب وبين ضدِّه.

وأمَّا مع القول بعدم الاقتضاء فلا مجال لإطلاق الفساد على الضِّد حتَّى مع عباديَّته.

وهذا ما يحتاج في البداية إلى شيء من التَّوضيح ولو لافتراضه صحيحاً على علاَّته لاحتمال المناقشة في أموره أو بعضها إن اقتضت إليها.

الأوَّل: كما لو كان هناك واجب لم يتقيَّد وجوبه في كونه عبادة كاحتمال الحاجة إلى تطهير الملابس الواجب، وكان ما يضادده نافلة فلا شكَّ في تقدُّم الواجب على المندوب، بل بناءاً على اقتضاء الأمر بالشَّيء النَّهي عن ضدِّه الخاص لا يصح

ص: 344

الاشتغال بالنَّافلة مثلاً إذا كانت مطلقة كغير الرَّاتبة، وقد حلَّ وقت صلاة الفريضة، وهو ما يقتضي وقوع النَّافلة فاسداً لو كان حال التَّزاحم مع الضِّد وهو مثل غسل الملابس.

وبناءاُ على هذا وعلى عموم وجوب الواجب وإطلاقه تدخل الفوائت الواجبة الَّتي يجب قضاؤها أيضاً في تقدُّمها على النَّوافل المطلقة إذا حصلت الرَّغبة في مزاحمة النَّافلة للفريضة لتقضى بحجَّة سعة أوقات الفريضة القضائيَّة.

لكن يبقى تقدُّم هذه الفريضة لأصل وجوبها المقدَّم على النَّافلة مطلقاً، ويزداد في تأكُّده كثرة تقصير المكلَّف السَّابق تجاه بعض الواجبات من ذلك وكبر عمره وعجزه عن الخلط بناءاً على النَّهي عن الضِّد.

وأمَّا بناءاً على القول بعدم اقتضاء النَّهي عن الضِّد فعدم جواز فعل النَّافلة يحتاج إلى دليل خاص إذا اتُّبعت شروط الصحَّة كالطَّهارة.

ويلحق بهذا ما لو كان الواجب غير عبادي، كوجوب غَسل الملابس المتنجِّسة مقدِّمة لأداء الفريضة معها مع القول بعدم الاقتضاء فهو غير مقدَّم على النَّافلة إلاَّ بدليل، لأنَّه من توابع الأمور العقليَّة غير المستقلَّة، وسيأتي ذكره في بحث التَّرتُّب.

ولأجل عدم الدَّليل فلا حجيَّة على بطلان النَّافة، وبالأخص إذا كان وقت الفريضة غير ضيِّق.

نعم يمكن أن تستثنى النَّوافل الرَّاتبة لورود الأمر بها كورود الأمر بالواجبة إذا ساوينا بين الأمرين في موضوعيَّة أمر الاقتضاء المطلق وأثره في ضدَّية كل منهما، وبالأخص لو كان الواجب موسَّعاً إن أمكن تصوُّر المزاحمة بينها وبين صلاتي الظُّهرين فلا مانع من تلك النَّوافل مع سعة وقتي الظُّهرين وإلاَّ فلهذه النَّوافل وقتها المحدَّد في الفقه الشَّرعي بدون مزاحمة.

الثَّاني: أن يكون الضِّد العبادي واجباً، ولكنَّه أدنى أهميَّة من الواجب الأساس

ص: 345

في الشَّريعة، كما في مورد اجتماع انقاذ غريق محترم إنسانيَّاً بالمزاحمة مع الصَّلاة الواجبة.

فإنَّه لمكان هذا التَّزاحم بين الأمرين الواجبين لمتضادَّي متعلَّقيهما، حيث أنَّ كل أمر يتولَّد منه ضد للأمر المقابل له.

لابدَّ أن يتقدَّم الواجب الأوَّل مع عدم عباديَّته على الثَّاني حتَّى مع عباديَّته مثل صلاة الفريضة في وقتها الواسع، بل حتَّى في ضيقه الخاص تقديماً للصَّالح العام العادلالإنساني على الحق الإلهي الخاص.

فلو قُدِّم الثَّاني المسبِّب لهلاك الغريق استهانة بضدِّ الثَّاني من الأمر الأوَّل، لابدَّ أن يكون أداؤها فاسداً بناءاً على عباديَّة الواجب الثَّاني واقتضاء أمر الواجب الأوَّل النَّهي عن الضِّد الخاص.

إلاَّ في حالة ما لو أدَّى المكلَّف صلاته وصادف مجيء آخر أنقذ الغريق، فإنَّ صحَّة صلاته تحتاج إلى دليل، مع ضخامة إثم هذا النَّوع من التَّجرِّي المحتاج إلى الاستغفار والتَّوبة.

أو من أدَّى صلاته في ضيق وقتها مع وجود احتماله العقلائي الوارد بمن يحقِّق انقاذ الغريق من الآخرين، وقد تحقَّق مع رجحان الاحتياط بالاستغفار والتَّوبة من شبهة التَّجرِّي المخالف إن حصلت.

الثَّالث: أن يكون الضِّد العبادي واجباً أيضاً، ولكنَّه موسَّع الوقت في مجاله الشَّرعي أثناء سعته والأوَّل مضيَّق فيه.

ولا شكَّ في أنَّ المضيَّق مقدَّم على الموسَّع حال سعته، وإن كان الموسَّع أكثر أهميَّة منه، لعدم وجود ضرر عند اختيار المزاحمة من المكلَّف بالموسَّع للمضيَّق، ما لم يكن في باقي حصص الموسَّع ممَّا يزامن المضيَّق من الواجب الأهم ما يُعدُّ مشغلاً له عن الاهتمام بالمضيَّق.

ص: 346

كاجتماع قضاء الدَّين الفوري مع القدرة على الوفاء به مع الصَّلاة في سعة وقتها.

وكذلك إزالة النَّجاسة الواجبة فوراً عن المسجد، لو لم تشمل الآخرين مع الصَّلاة المذكورة في سعة الوقت.

وعلى هذا ففي حالة تساوي المثالين المذكورين في نظر أهل العلم مع البناء على الاقتضاء وعباديَّة الضِّد يظهر الفساد عند المخالفة في تلك الصَّلاة.

وفي حالة التَّفاوت النَّظري بينهم، كاختلاف المثال الثَّاني عن الأوَّل، كمن ترك من عليه الإزالة بمثل عدم الابتلاء بحاجة المصلِّين الآخرين فعلاً للصَّلاة مع وجود بقعة طاهرة لصلاة مصلٍّ واحد اتَّخذها لنفسه فصلَّى صلاته في تلك السِّعة من الوقت مع تركه للإزالة مع فوريَّة وجوبها ليقوم بها بعد انتهاء صلاته حسبما يستفاد من أدلَّة فوريَّة ذلك عموماً أو إطلاقاً أو كليهما.

فإنَّه قد يختلف النَّظر حالة وجود الابتلاء بحاجة المصلِّين إلى كل بقاع المسجد المتنجِّسة للتَّطهير، وفوريَّة الإزالة عليه لصلاتهم جميعاً مع عدم وجود بقعة خاصَّة طاهرة له ليصلِّي فيها.

ففي الصُّورة الثَّانية هذه يمكن أن يتصوَّر الفساد عند المخالفة أكثر من الأولى.

الرَّابع: أن يكون الضِّد العبادي واجباً أيضاً، ولكنَّه مخيَّر كخصال الكفَّارة لمن ترك الصَّوم عمداً، وكان قد عيَّن على نفسه سفر يوم معيَّن أثناء وجوب الكفَّارة عليه بنذر ونحوه، وإن كان المخيَّر أكثر أهميَّة من المعيَّن، لأنَّ المخيَّر له بدل دون المعيَّن.

لذلك يجب أن يتقدَّم المعيَّن على المخيَّر، فلو ترك السَّفر المعيَّن وأشغل نفسه بصومالكفَّارة المتنافي مع السَّفر -- وبنينا على أنَّ مطلق الأمر بالشَّيء يقتضي النَّهي عن ضدِّه الخاص -- لابدَّ أن يكون الصَّوم منهيَّاً عنه وفاسداً.

ص: 347

هذه الأمور الأربعة الَّتي ذكروها باستعراضنا مضمونها الإجمالي عنهم من موارد الاستثمار المستقات من المظان الاستدلاليَّة الشَّريفة عند العثور عليها هنا وهناك مع ما ضممنا إليها دمجاً بعض إضافاتنا الَّتي قد تشير إلى إمكان الحاجة إلى ضمِّ مناقشات أخرى مفيدة مضت أو هي آتية.

كما في أمر واجب غيري تبعي لفرض واجب أساسي مولوي كالوضوء لصلاة فريضة في سعة وقتها، أو حتَّى في ضيقه إن زاحمها وجوب انقاذ غريق فوراً، بحيث لو ترك لمات ولم يحتمل آخر ينقذه.

فالوضوء الَّذي ينوى لصلاة الفريضة دون الكون على الطَّهارة مثلاً مع سعة الوقت لها ولحصص كثيرة حينما تبطل الحصَّة الأولى عند المزاحمة الَّتي ذكرناها من الغريق بغرقه وموته.

هل يكون بتبعيَّته للصَّلاة دون الكون على الطَّهارة باطلاً كذلك، ليتوضَّأ صاحبه مرَّة أخرى لإعادة الصَّلاة الباطلة في الحصَّة الثَّانية من الوقت؟

أم لا داعي لإعادته لصلاحيَّته لأداء الصَّلاة في كل حصصها من ذلك الوقت، ولكون الأمر بالتَّبعي مستقلاًّ عن الأمر بالأساسي ما لم يحصل النَّاقض، أم لا؟

فقال بكلٍّ قائل.

فعلى القول الأوَّل يمكن أن يتنجَّز معنى الاستثمار للتَّبعيَّة إن قلنا بالملازمة.

مع ترجيح القول الثَّاني، لاستقلال الأمر بالتَّبعي، ولعمومه وإطلاقه وعدم تبعيَّته لخصوص ما بطل من الحصَّة الأولى للصَّلاة، بل يصلح هذا لكل ما يشترط فيه الطَّهارة من الأعمال.

ويتبع الوضوء التَّيمُّم أيضاً لو جاء ظرفه لنفس السَّبب، وهو استقلال الأمر به لو فقد الماء، ولرواية (يكفيك الصَّعيد عشر سنين)(1) وغيرها.

ص: 348


1- وسائل الشيعة (آل البيت) ج3 ص386.

وعليه يكون الاستثمار هنا ضعيفاً، وإن صادف بعض فساد في الواجب المتبوع.

ولعلَّه لخروج الواجب المتبوع بالدَّليل المثبت للفساد وبما يختلف عن دليل التَّابع المستقل.

وكل هذا عن الواجب الأساسي -- إذا قيل بفساده تجاه ما هو الأهم في الأمور الأربعة الماضي ذكرها مع ما يشابهها -- مبني على القول بالاقتضاء ونحوه.

وأمَّا على البناء على عدم الاقتضاء كما مضت الإشارة إليه فلا وجه للفساد أصلاً، بل وكذا بناءاً على الشَّك في الاقتضاء وعدمه.

لإمكان حلِّه بالاستعانة بأصالة الصَّحَّة وعدم المانعيَّة في العبادة الَّتي يكون تركها -- وهي صلاة الفريضة حتَّى في سعة وقتها -- مقدِّمة لإتيان الواجب الأهم، وهو انقاذ الغريق عند تصوُّر التَّزاحم مثلاً بين الحالتين.مع تثبيتنا لعدم الاقتضاء، الَّذي لا يُبقي مجالاً للقول بأي معنى لإدِّعاء الفساد في فريضة الصَّلاة المهمَّة لو أديَّت وتُرك الأهم وهو الإنقاذ.

لأنَّ الأهميَّة جاءت من تشخيص خارجي عقلي غير مستقل، من دون أي ارتباط بين الأمرين، وهما انقاذ الغريق ووجوب الصَّلاة، حتَّى يُقدَّم وجوب الصَّلاة -- وبالأخص في ضيق وقتها -- على وجوب الإنقاذ، لو كان كلا الأمرين مولويَّين في الآن الواحد، وكان على هذا استقرار أراء المحقِّقين من العلماء.

بل عُرف عن الشَّيخ البهائي قدس سره القول ببطلان الثَّمرة العمليَّة للمقام تخصُّصاً، حيث قال في مأثوراته:-

(إنَّ الثَّمرة إنَّما تتصوَّر في العبادة المأمور بها عند ابتلاءها بمزاحمة الضِّد الأهم، وهو غير ممكن، لعدم إمكان صدور الأمر بالضدَّين من العاقل، فضلاً عن الحكيم تعالى فتبطل العبادة من حيث عدم الأمر.

فلا تصل النَّوبة إلى القول بأنَّ الأمر بالشَّيء نهي عن ضدِّه أوَّلاً؟، ولا إلى أنَّ

ص: 349

النَّهي في العبادة يوجب الفساد.

لأنَّ كل ذلك مبني على إمكان تحقُّق الأمر بالعبادة المبتلاة بالضِّد الأهم، وهو غير ممكن.

والاستدلال للبطلان بعدم المقتضي للصحَّة أولى من الاستدلال بوجود المانع عنها كما لا يخفى)(1).

أقول: لكن لا يمنع هذا عن إمكان توجيه الرَّد إجمالاً بعدم الدَّاعي إلى مطلق التَّشدُّد في مجال الجمع بين أمرين متضادَّين إلهيَّاً في آن واحد.

أحدهما: عن ملاكه الخاص حتَّى لو كان هو الأقل أهميَّة.

وثانيهما: إن كان الأهم وإن كان عند دليل عقلي غير مستقل مع إمكانيَّة اثبات الأمر بالضِّدَّين على نحو التَّرتُّب الآتي بيانه الآن لاحقاً.

التَّابع الخامس عشر: بحث التَّرتُّب.

ممَّا دار بين الأصوليِّين مأخوذاً بعد الكلام عن مسألة الضِّد المتفرِّعة عن بحث الأوامر والنَّواهي الواسع.

هو الكلام عن التَّرتُّب، بل جعل موضوع بحثه تابعاً لموضوع بحث الضِّد، لتبعيَّته للأوامر والنَّواهي مع كونه بهذه التَّبعيَّة أيضاً يرتبط بأمور الملازمات العقليَّة غير المستقلَّة.

بل ساد النِّقاش في أمره نقضاً وإبراماً بمقدار ما ضربوه حول ذلك من الأمثلة المختلفة المتعارفة الآتية بين قداماهم ومحدثيهم من هؤلاء العلماء حوله ممَّا بين الأهم والمهم من تلك الأوامر والنَّواهي.

ص: 350


1- تهذيب الأصول / السبزواري ج1 ص228.

على أن يكون معنى هذا التَّرتُّب مردَّداً عندهم بين أن يكون:-

عبارة عن لزوم التَّعرُّف على صحَّة تصوير أمرين فعليَّين بالضدَّين من كلِّ منهما في آن واحد.

أو على أن يكون الوجوب بالنِّسبة إلى الأهم مطلقاً وفعليَّاً على الإطلاق، وتكون فعليَّة الوجوب بالنِّسبة إلى غير الأهم مشروطة بعصيان الأهم.

ومع عدمه لم يكن وجوبه فعليَّاً أم ماذا؟

وعلى كلا المعنيين ينبغي أن يُفترض من كل من الأمرين للإستيعاب الَّلازم ما يقتضي النَّهي عن ضدِّه، أم لا؟ بناءاً على حصوله في موارد الحصول.

وإنَّ النَّهي المذكور هل يقتضي الفساد في العبادة، أم لا؟

إذا كان كل من الأمرين يحثُّ على العبادة وجوباً أو استحباباً أو وجوباً أهم من وجوب غير الأهم، أو ما بين وجوبين مضيَّق وموسَّع، وهكذا ممَّا يتَّضح عند التَّوسُّع في الأمثلة.

ولأجل التَّوضيح بالنَّحو الأكثر لما ذكروه من صورتي معنى التَّرتُّب لننقل ما ذكره الشَّيخ المظفَّر قدس سره في أصوله بقوله:-

(فإذا قلنا بأنَّ صحَّة العبادة لا تتوقَّف على وجود أمر فعلي متعلِّق به، وقلنا بأنَّه لا نهي عن الضِّد، أو النَّهي عنه لا يقتضي الفساد، فلا إشكال ولا مشكلة، لأنَّ فعل المهم العبادي يقع صحيحاً حتَّى مع فعليَّة الأمر بالأهم، غاية الأمر يكون المكلَّف عاصياً بترك الأهم من دون أن يؤثِّر ذلك على صحَّة ما فعله من العبادة)(1).

ثمَّ قال في الصُّورة الثَّانية:-

(وإنَّما المشكلة فيما إذا قلنا بالنَّهي عن الضِّد، وأنَّ النَّهي يقتضي الفساد، أو قلنا

ص: 351


1- أصول الفقه / المظفر ج2 ص372.

بتوقُّف صحَّة العبادة على الأمر بها -- كما هو المعروف عن الشَّيخ صاحب الجواهر(1) قدس سره، فإنَّ أعمالهم هذه كلُّها باطلة، ولا يستحقُّون عليها ثواباً، لأنَّه إمَّا منهي عنها، والنَّهي يقتضي الفساد، وإمَّا لا أمر بها، وصحَّتها تتوقَّف على الأمر)(2).

أقول: إنَّ البيان الأوَّل لما ذكره الشَّيخ قدس سره يظهر منه المعنى الإيجابي لصالح التَّرتُّب ثبوتاً وإثباتاً على المبنى الخاص الَّذي في هذا الأوَّل، وهو عدم لزوم أن يكون كل عصيان بترك الأهم وفعل المهم العبادي موجباً لفساد العبادة، ما عدا حالات خاصَّة، وإنَّما الحاجة إلى التَّوبة.

وأمَّا بيانه الثَّاني: وعلى مبنى الصُّورة الثَّانية الَّتي لها وجودها عند الأصوليِّين أيضاً، وهو القول بالعصيان المصحوب بفساد العبادة.

لكن مع عدم ثبوت وإثبات ما يقتضي فسادها بنحو الموجبة الكليَّة، إلاَّ فيما عرفمن ذلك بين الفقهاء فلا مجال إلاَّ لإبقاء الأمل في الحالة النَّظريَّة لصالح التَّرتُّب الَّتي لابدَّ أن يظهر أصحابها قدرتهم على الإثبات المصداقي مع الثُّبوت، لعدم الاستحالة في المقام ممَّا سيتجلَّى أمره.

وممَّا ذكروه من الأمثلة في المقام ولصالح البيان الأوَّل مع الإمكان النَّظري للبيان الثَّاني عن المحاورات العرفيَّة قبل البدء بما ورد ممَّا بين الأهم والمهم من الأوامر وملحقاتها الشَّرعيَّة والَّتي تُعد أصدق شاهد على الثُّبوت والإثبات وإمكان القول به مع الامتناع قول المولى (اسقني ماءاً وافرش لي سجَّادتي وإن عصيتني في الأوَّل فلا تعصني في الأخير).

فالعرف يقضي بصدور الأمرين معاً من سيِّد العبد في الآن الواحد، مع أسبقيَّة السَّقي وأهميَّته، لكون الأوَّل مع احتمال العصيان بتركه وكون مثابة مسؤوليَّة التَّرك

ص: 352


1- جواهر الكلام: ج 9 ص155 - 157.
2- أصول الفقه / المظفر ج2 ص372 -- 373.

كمثابة ترك الأولى أو ما قد يؤدِّي إلى مجرَّد الملامة للكراهة المشابهة للعصيان اللُّغوي.

أو حتَّى العصيان الملحق بالشَّرعي الَّذي قد يصل إليه بنحو العنوان الثَّانوي، وهذا قد لا ينفي المساواة بين هذا الأهم وبين المهم الَّذي تلاه.

وهو معنى الآن الواحد المذكور آنفاً دون أن يكون اشتراط سَبق ترك الأهم موجباً للعصيان والحرمة مطلقاً، وكذا الفساد مطلقاً لو قدَّم المهم على الأهم.

ولذا لا ينبغي رفض محاولة سعي المانعين للتَّرتُّب لعدم قدرتهم على العثور على ما يُحقِّقه ثبوتاً وإثباتاً، بحجَّة عدم مصادفتهم لمصاديق هذه القدرة، لعدم المانع من بقايا ما في أذهانهم النَّظريَّة، لسعة ما حوته الأوامر والنَّواهي، ولأنَّه ما خفي على فقيه طريق، كما مرَّ وكما سيجيء.

وممَّا ذكروه من الأمثلة المشابهة في المقامات الشَّرعيَّة، وهي كثيرة كحالات تعليق الوجوب على الاختيار والعصيان، مثل تعليق وجوب القضاء المهم على ترك الأداء الأهم وعصيان أمره صلاة وصياماً وحجَّاً وعمرة ونحوها.

وكتعليق الأمر بالكفَّارات المهمَّة على ارتكاب المحظورات الأهم في الأمر بالإنتهاء عن فعلها صوماً وإحراماً وقتلاً ونحوها.

ونسب المشهور إلى أنَّ أوَّل من أسَّس ونبَّه على نظريَّة "الترتب" هو المحقِّق الكركي قدس سره(1) والَّتي هي من أدق النَّظريَّات العلميَّة،وأنكر على أساسها "ثمرة الضِّد".

وتبعه جملة من الأساطين والأساتذة المتقدِّمين، منهم المجدِّد الشِّيرازي الكبير قدس سره(2) وتلميذه المحقق الفشاركي قدس سره الَّذين شيَّدوا أركانه وبالغوا في الفحص والتَّحقيق حوله بتقديم مقدِّمات كثيرة.

ص: 353


1- جامع المقاصد:5/ ص12 - 14.
2- درر الفوائد ج1 ص 107، تقريرات المجدّد الشيرازي 2: 273.

وقد عنونها الشَّيخ كاشف الغطاء الكبير قدس سره(1) بالعنوان الخاص المتعارف حاليَّاً، ردَّاًعلى ما أشكله الشَّيخ البهائي قدس سره على صحّة العبادة عند عدم الاقتضاء.

كما وقد نقَّح هذا البحث الدَّقيق ورتَّبه المحقِّق النَّائيني قدس سره(2)، وتبعه تلميذه أستاذنا السيِّد الخوئي قدس سره(3).

إلاَّ أنَّ الشَّيخ الأنصاري قدس سره(4) قد أنكر في رسائله ما يتعلَّق بالأهم والمهم حول هذا التَّرتُّب أشدَّ الإنكار، وتبعه صاحب الكفاية الشَّيخ الآخوند قدس سره.

ولم يكن هذا البحث في الأزمنة الغابرة عند الأقدمين قدس سره بالنَّحو المتنازع فيه حدَّياً له عين ولا أثر، إلاَّ ما ذكر عنه ذكراً نظريَّاً لا أكثر.

لكن مع عدم الإشكال من أحد نوعاً قي صحَّة جعل المتنازعين خطاباً وملاكاً فإنَّه يكون أصل النِّزاع في أمريهما لفظيَّاً كالتَّردُّد بين المتنازعين قبل حصول القدرة على انقاذ الغريق.

فإنَّ من يثبت قدرة المكلَّف على الامتثال يقول بوقوع التَّرتُّب لا محالة، ولكنَّه معترف بالامتناع مع عدم القدرة.

ومن يثبت عدم القدرة على الامتثال لا مناص له إلاَّ القول بالامتناع.

ولهذا وأمثاله قد تكون أسباب امتناعات المانعين ظاهرة دون شيء آخر تبعاً للنَّتيجة، لا للمانع النَّظري العقلي في كلا مرحلتي الثُّبوت والإثبات كقاعدة يُبنى عليها.

فالنِّزاع الأصولي بين ما نوَّهنا عنهم في مقام الإثبات والامتثال وبما يزيد على

ص: 354


1- كشف الغطاء: 27.
2- مقالات الأصول 1: 342.
3- محاضرات في أصول الفقه ج2 ص397.
4- فرائد الأصول 2: 761.

النِّزاع اللَّفظي إن أصَّروا عليه بين القول بالتَّرتُّب وعدمه.

ما هو إلاَّ لمحاولة من يقول بالتَّرتُّب على أساس توفُّر شروط خاصَّة، لتكوين قاعدة كليَّة له للتَّمسُّك بها بين كل ما هو أهم ومهم من القضايا الشَّرعيَّة، حينما يصدران في آن واحد، ولو ليتزاحما في الآداء، مع إمكان ذلك فيهما كما في بعض ما مرَّ.

فالأهم الَّذي قدَّمه من يقول بتقدَّمه على المهم -- بناءاً على الأخذ بقاعدة الأولويَّة في جميع الموارد، أي حتَّى فيما لم يقبل التَّطبيق على هذا النَّحو، لخروجه بالنَّص ولو في بعض المقامات دون غيرها كقوله تعالى [فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا](1)، لحرمة الأشد حتماً كالضَّرب والقتل ونحوهما على الأبناء.

وكقوله تعالى [وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا](2)، وهو ما يحرم مؤكَّداً على أولياءهنَّ إكراههنَّ عليه حتَّى لو لم يردن التَّحصُّن، بل عليهم منعهنَّ عن التَّسبيب --

فهو غير مقبول، لعدم جريان هذه القاعدة مع ما خرج عنها.والمهم الَّذي يخضع للأهم -- وإن كان بكل بساطة ولو من الجهة اللَّفظيَّة، سواء تعمَّق معناها، أو كان سطحيَّاً -- فإنَّه لا يمكن من جهتها أيضاً تكوُّن هذه القاعدة بتمام خضوعه للأهم، بنحو انسلاب اختيار المختار وفي كل حالة، حتَّى إذا كان الأمر من الأهم (يقتضي النَّهي عن ضدِّه)، وهو فعل المهم، وإنَّ النَّهي عنه (يقتضي الفساد في العبادة)، للقول ببطلانه.

لعدم ثبوت كليَّة (كل أمر يقتضي النَّهي عن ضدِّه) وعدم كليَّة (كل نهي يقتضي الفساد في العبادة) إلاَّ في بعض حالات من الجهتين.

ص: 355


1- سورة الإسراء / آية 23.
2- سورة النُّور / آية 33.

كالأمر بالصَّلاة (الأهم) في وقتها الموسَّع كصلاة الظهر أو العصر، والأمر بصلاة الآيات (المهمَّة) كصلاة كسوف الشَّمس في الآن الواحد، وقيام المكلَّف بهذه الصَّلاة (المهمَّة) في وقتها الخاص، ثمَّ الصَّلاة اليوميَّة بعد ذلك.

فلا النَّهي عن الضِّد في الأمرين حاصل، ولا الفساد في العبادتين عند اقتضاء أمريهما النَّهي عن الضِّد حاصل.

وهو ما يؤمن به الكل، مع أنَّ هذه الصَّلاة اليوميَّة في ضيق وقتها مقدِّمة على صلاة الكسوف.

وبهذا التَّخلُّف عند عدم الاقتضاء للنَّهي والفساد فيه في الأمرين غير متماش عند من يحاول توليد القاعدة الكليَّة المذكورة لأن يتغلَّب الأهم على المهم دوماً حالة الإثبات إلاَّ ما أخرجه الدَّليل.

فضلاً عن الَّذين لم يتصدُّوا لهذه الأمور إلاَّ في الصُّورة الثُّبوتيَّة النَّظريَّة لو قدروا على تحقيق مرادهم بالتَّالي.

وعليه فالنَّتيجة المتحصَّلة من مجموع ما مضى أنَّ التَّرتُّب بين قول المانعين في حال الثُّبوت وعالم النَّظريَّات وبين قول محاولي توليد القاعدة الكليَّة في حال الثُّبوت والإثبات.

هو الوسط والموجبة الجزئيَّة على أن لا ينعدم الأمل نظريَّاً.

وعليه فمن المهم والأجدر في المقام السَّعي للتَّعرُّض للشُّروط المتعارفة المشار إليها بينهم، تسديداً لما نريد ولو بإيجاز مع ما يتلوها أو بعضها من التَّعليق الممكن أو المناسب إن كان، فهي:-

أوَّلاً: وجود الملاك في كل واحد من المتزاحمين ثبوتاً، وتماميَّة الحجَّة على كل واحد منهما إثباتاً.

وهذا الشَّرط معتبر عند المجوِّزين والمانعين.

ص: 356

ثانياً: كون الأهم مضيَّقاً، سواء كان المهم كذلك أم لا، كإنقاذ الغريق، أو كان ضيق أمر الغريق من جهة الملاك الذَّاتي، أو من جهة فوريَّة الخطاب المتواصلة كإزالة النَّجاسة من المسجد.

أقول: عن الأهم المضيِّق حول هذا الشَّرط الثَّاني -- كما في ضيق وقت الصَّلاة اليوميَّة -- لا يلزم من تركه دائماً بالانشغال بالمهم في ضيقه أيضاً بمثل انقاذ الغريق حصول المعصية.غاية الأمر ينتقل التَّكليف لطفاً من الله جلَّ وعلا إلى القضاء، لأنَّ هلاك الغريق بتركه والانشغال باليوميَّة أخطر وأشد عنده تعالى من الاهتمام بأداء الصَّلاة حتَّى في وقتها الضيِّق.

للحق العام الَّذي قد يُقدَّم على حقِّ الله الخاص من مقتضيات حكمته التَّشريعيَّة.

وإنَّما الملفت للنَّظر هو حالة عدم ضيق المهم والاهتمام به دون فعل الأهم المضيِّق، فإنَّه يوجب العصيان المحتاج إلى الاستغفار والتَّوبة، دون أن يسبِّب ذلك شيئاً مفسداً لعمليَّة انقاذ الغريق إن تحقَّق حتَّى في مهلة أوسع من ضيق وقت اليوميَّة.

فضلاً عمَّا لو جاء ملاك وجوب انقاذ الغريق ذاتيَّاً وحصل فعلاً فلا معصية عند ترك ذلك الأهم أيضاً.

وكذا في فوريَّة الخطاب حالة حصول النَّجاسة في المسجد لو توقَّف الأمر في ذلك على ذلك المكلَّف المبتلى بوجوب إزالتها عليه دون غيره، لأنَّه لا توسعة في مجال الإزالة حينئذ حتَّى يكون وقتها ضيِّقاً.

ثالثاً: كون الضَّدَّين ممَّا لهما ثالث، وأن لا يكون فعل أحدهما في ظرف ترك الآخر من الأمور التَّكوينيَّة، ويكون الأمر به حينئذ من الشَّارع إرشاديَّاً، لا أن يكون مولويَّاً.

ص: 357

ومورد البحث في التَّرتُّب إنَّما هو اجتماع الأمرين المولويَّين في آن واحد.

أقول: هذا حينما يكون الضِّدَّان قد تزاحما بين أهم ومهم في بعض الاعتبارات الفعليَّة ولهما ضدُّ ثالث يمكن اللُّجوء إليه في بعض الحالات.

كالصَّلاة في ضيق وقتها والغريق الَّذي يجب إنقاذه وكان ضدُّهما الثَّالث أيضاً عليه الصَّلاة في ضيق وقتها، وقد ألزم بالابتدار إلى إنقاذ ذلك الغريق.

وهو ممَّا يُغني الأوَّل عن تعيُّن الإنقاذ عليه للوجوب الكفائي على الاثنين، لكون هذا تنفُّس إضافي.

لعدم وجوب تقدُّم ذلك الأهم مطلقاً على المهم، إلاَّ في حالات، عدا مثل هذا الإنقاذ، لعدم إمكان تعقُّل فساد حالة الإنقاذ موضوعاً إن تحقَّقت فعلاً من الأوَّل أو الثَّاني، وإن جاء النَّهي عنها ظاهراً بسبب ذلك الأمر بالأهم وهو الصَّلاة المضيَّقة.

ولهذا ومع ما سبق من الشَّرطين الماضيين يكون التَّرتُّب ممَّا يجوز الأخذ به مع شرطيَّة التَّزاحم التَّكليفي والتَّشريعي، لا من أصليهما، وإنَّما ممَّا بين فعلي الضَّدَّين من الجهة الخارجيَّة.

على أن لا يكون وقت ضيق صلاة الأهم قبل بداية (الغرق) المهم، أو حلول الغرق قبل ضيق الصَّلاة (الأهم)، وأن يكون الأمر إرشاديَّاً لا مولويَّاً في ذلك التَّزامن التَّكليفي بين الضِّدَّين.

لأنَّ الأدلَّة الإرشاديَّة أشمل من الزَّمان والمكان ونحوهما في تحقُّق ما افترضناه من التَّزاحم المبقي لتعقُّل معنى العدل الإلهي في التَّشريع الَّذي يفترض فيه صحَّة التَّرتُّب المذكور، دون التَّزاحم في الأمور والأوامر المولويَّة تشريعاً وتطبيقاً.

رابعاً: انحصار مورد البحث بمرحلة قدرة قدرة المكلَّف فقط من دون أن يكون فيالبين مانع آخر من موانع التَّكليف، لأنَّه لا موضوع للخطاب مع وجود مانع عنه في البين، فلا يفرض اجتماع الخطابين في آن واحد حتَّى يتَّحقق موضوع التَّرتُّب.

ص: 358

أقول: فإذا تعذَّرت أو تعسَّرت الاستقلاليَّة المطلوبة في مثل انقاذ الغريق المذكور تكون القضيَّة من قبيل السَّالبة بانتفاء الموضوع، لتفاوت خطاب الأهم عن خطاب المهم المحتاج إلى توفُّر القدرة التَّامَّة.

فلابدَّ من تقديم الأهم ولو بصلاة العاجز إن تعدَّدا أو تعسَّر الكامل.

خامساً: كون الأهم والمهم متعدِّدين وجوداً على ما هو المعلوم من كلماتهم.

فلا يكون مورد تداخل الأغسال واجتماع الأمر والنَّهي -- بناءاً على الجواز -- من موارد التَّرتُّب، لغرض اتِّحاد الوجود في متعلَّق الخطاب فيهما.

أقول: بعد تسليم وحدة الخطاب الإلهي في الأمر المقتضي لوجوب كل غُسل واجب كالجنابة والحيض والاستحاضة ومسِّ الميِّت، أو وجوب ما مضى ذكره مع استحباب غُسل الجمعة -- بناء على عدم وجوبه أو استحباب الأغسال المستحبَّة كغُسل الإحرام أو الزِّيارة وما حُقِّق فقهيَّاً عن الأدلَّة الشَّريفة من صحَّة التَّداخل في أسبابها تبعاً لأهمِّها --

فلن يكون مورد تداخلها من موارد التَّرتُّب.

وأمَّا اجتماع الأمر والنَّهي فإنَّه إن شكِّك في بعض مصاديقه فإنَّه لا ينبغي الشَّك في مثل الصَّلاة في الدَّار المغصوبة إن ضاق وقتها أثناء الخروج، فلا ترتُّب كذلك.

سادساً: إمكان فرض إطلاق خطاب الأهم وتقييد خطاب المهم بترك الأهم، وإلاَّ فمع فرض بقاء اطلاق الخطابين من كل جهة فلم يقل أحد بالجواز حينئذ.

أقول: وهذا الشَّرط السَّادس قد سبق التَّعرُّف على مضمونه من التَّعريف للتَّرتُّب عند المعتبرين له حالة إطلاق خطاب الأهم وتقييد خطاب المهم بترك الأهم بنحو العصيان مع بقيَّة الشُّروط.

مع ما ذكرناه من إمكان اقتراب بعض المانعين في ناحية تعقُّل النِّزاع اللَّفظي المذكور من المعتبرين له.

ص: 359

على شرط الوصول إلى التَّوفيق الفعلي دون بقاء إطلاق الخطابين المانع من تحقُّق شيء، وعند توفُّر كل الشُّروط يتم الجواز على الأقل من وجهات ثلاث:--

أ ) وجهة الدَّليل العقلي لما مرَّت الإشارة إليه في بداية البحث بأنَّه مرتبط بالملازمات العقليَّة غير المستقلَّة، فإنَّ المقتضي في المقام موجود، وهو جواز التَّرتُّب، وهو البناء على المهم على الأقل -- بسبب الملاك والخطاب -- والمانع مفقود، فلابدَّ من الوقوع.

ب ) وجهة الاستظهار الصِّناعي الأصولي، فإذا كان الخطابان عرضيَّين من كل جهة فلا ريب في الامتناع.

وأمَّا إذا كانا طوليَّين، ككون خطاب المهم مشروطاً بترك الأهم ولو عصياناً فلا أثر للامتناع حينئذ، كما مرَّ التَّمثيل لذلك في الصَّلاة الواجبة في وقتها الضيِّق وإنقاذ الغريق وغيره من الأمثلة المشابهة ما دامت القدرة الطُّوليَّة موجودة في الحالتين.ج ) وجهة الاعتبار العرفي، فإنَّ المحاورات العرفيَّة -- قد مرَّ سابقاً في بدايات البحث -- أنَّها أصدق شاهد على الصَّحَّة والوقوع في كثير من الأمثلة الَّتي لا يمكن البخس بحقِّها بين الآدميِّين اجتماعيَّاً.

كأمر الآمر لخادمه بقوله (اذهب فأوف ديني المستعجل الَّذي عليَّ لفلان، فإن عصيتني فاسقني دوائي الَّذي قارب موعده).

ولدعم المسألة أكثر إن استدَّل المانعون ضدَّاً للتَّرتُّب بأنَّه:-

من نوع طلب الضدِّين، وهو ممتنع عقلاً وقبيح، فيكون محالاً من الشَّارع في آن واحد، لاستحالة المحالات من الله تعالى في شرعه العادل؟

نقول كما سبق في آخر الكلام عن ثمرة الضِّد.

فإنَّهم لابدَّ أن يجابوا: بأنَّ هذا النَّوع طرد لطلب الضِّدَّين المزعوم جعلهما في آن واحد، لا أن يكون جمعاً بينهما في الطَّلب.

ص: 360

لما مرَّ ذكره من كون فعل المهم مشروطاً بعصيان الأهم، فضلاً عمَّا لو لم تنجز عقوبة على ذلك العصيان.

أو لا موضوع لها إن دعت ضرورة خاصَّة للمهم، كما مرَّ في أمر انقاذ الغريق.

فكيف يكون حينئذ طلباً للضَّدَّين؟

وبه غاية ما يعنينا من تلخيص الكلام عن التَّرتُّب المبحوث عنه في الأصول.

بلا حاجة إلى المزيد عن وجه الدَّليل العقلي، ووجه الاستظهار الصِّناعي الأصولي، ووجه الاعتبار العرفي.

أين يكمن فساد النَّهي عن الشَّيء عبادة أو معاملة إن صحَّ؟

وهل هو عن الدِّلالة أم عن الاقتضاء؟

للحديث عن هذا الأمر -- في قدمه وحدوثه الأصولي بين العلماء قدس سره، وأهميَّته بين توابع الأمر والنَّهي وتحت هذا العنوان -- مقامان مهمَّان، وهما:-

أحدهما: في العبادة وملحقاتها، مع كون المعاملة من فقهيَّاتها بعنوان الفقه الشَّامل لهما.

ثانيهما: في المعاملة الخاصَّة وما يرتبط بجوانبها المخصوصة الَّتي أوردوها حال الانفصال عن العبادة.

وفي كلا المقامين إن صحَّ الفساد جملة أو تفصيلاً، أم لا؟

وقبل البدء بهذا الحديث -- عن كل من المقامين، لمحاولة التَّفصيل فيه -- لابدَّ من التَّركيز فيه أوَّلاً على الصَّواب الَّذي نحاوله ممَّا دار منهم من التَّفاوت النَّظري حول المفردات الاصطلاحيَّة السَّائدة ممَّا عرضوه منها فيه.

ثمَّ العملي للميل إليه أو اختياره في نتيجة التَّفصيل جملة أو تفصيلاً من

ص: 361

عدمهما، وهي ألفاظ.أولاها وثانيها: ما دار بينهم من عبارتي (الدِّلالة) و (الاقتضاء).

فجعل قدماؤهم الدِّلالة -- تحت العنوان المذكور أعلاه -- علامة للتَّدليل على كون ألفاظ الأوامر بسبب ما تعطيه النَّواهي المضادَّة عنها.

موجبة لفساد العمل العبادي أو المعاملي بالتَّخلُّف عن تلك الأوامر والالتزام بما يطابق النَّواهي عنها أو عدمه جملة أو تفصيلاً، دون تطبيق هذا الأمر بنحو الاقتضاء.

وهو ما قد يجعل الفساد أو عدمه -- بناءاً على ذلك -- مستفاداً من الأعم من المطابقة الدِّلاليَّة أو التَّضمُّنيَّة أو الإلتزاميَّة بالمعنى الخاص أو العام.

وهو ما قد كان مسبِّباً زجهم هذا الموضوع في مباحث الألفاظ، ولو ليتناسب ذلك على النَّحو الأكثر لصالح أمور خصوص الدِّلالة.

بينما أكثريَّة حالات طروق هذا الموضوع بين متأخِّري هؤلاء العلماء هي حول ما يرتبط بالدِّلالة الإلتزاميَّة دون المطابقة والتَّضمُّن.

لذا ناسب كون البديل عن مصطلح الدِّلالة على الأكثر لفظ (الاقتضاء)، لأقربيَّة الحالة الإلتزاميَّة في بعض معانيها من مصداقيَّة المعقول غير المستقل حتَّى لو بقي زجُّنا لهذا الموضوع في مجموعة توابع مباحث الألفاظ بالدَّرجة الأولى من أساسها، كما هو الأفضل، كما صنعه الشَّيخ المحقِّق الآخوند قدس سره بالرَّبط بمصطلح الاقتضاء.

وهذه منه قدس سره قد تُعد من المخالفات الاصطلاحيَّة لما هو المشهور بين القدامى.

ولتكون كما أشرنا أميل إلى بحوث الملازمات العقليَّة غير المستقلَّة، ولذا جاء ذكرها في التَّوابع.

وقد مرَّ الحديث منَّا عمَّا يفي ويكفي من ذلك بنحو أكثر في مبحث الضِّد

ص: 362

والتَّرتُّب من المجموعة، فليراجعا.

وثالثها: (النَّهي) المدلول منه -- بواسطة الأدلَّة اللَّفظيَّة أو المتعقَّل منه بواسطة الَّلازم والملزوم منها بعد الأمر -- معنى الفساد أو عدمه في العبادة أو المعاملة جملة أو تفصيلاً أو غير ذلك.

وفي النَّهي الَّذي قد تفاوت فيما بين الأعلام قدس سره في أمر معنى الاقتضاء بين التَّحريمي ليقتضي الفساد، وبين التَّنزيهي كما في المكروهات لكي لا يقتضيه على قول بعضهم، وبين النَّفسي كالسُّجود للصَّنم، وبين الغيري كقول الصَّادق u: (لا تصلِّ فيما لا يؤكل لحمه، ذكَّاه الذَّبح أو لم يذِّكه)(1)، أو غير ذلك كالتَّبعي كما في مورد ترك الأهم والإتيان بالعبادة المهمَّة في ظرف التَّرك كما في مبحث التَّرتُّب.

فعرف عن الشَّيخ الآخوند قدس سره التزامه بالأعم من دلالته بحسب الوضع على خصوص التَّحريمي، ليشمل التَّنزيهي الدَّال على الكراهة، وإن كانت كلمة النَّهي ظاهرة في التَّحريم فقط، كما صنعه الشَّيخ النَّائيني قدس سره فقط على خلافه، ليظهر منه عدم القول بالفساد.

إلاَّ أنَّ الظهور في التَّحريم ليس منحصراً في جهة الوضع، بل يمكن حصوله في جهة العقل أيضاً.

ويتبعه في نظره النَّفسي كذلك، لأنَّه مع سابقه يتم الفساد عند ارتكاب المنهي عنه عنده، بل من قال بالأعم أدخل الغيري في التَّنزيهي مع التَّحريمي والنَّفسي في مورد النِّزاع الدَّائر بينهم في المقام على ما سيتَّضح في المقامين الآتيين عند التَّفصيل.

ورابعها: (الفساد) وهو الَّذي يكون معناه عدم صحَّة الشَّيء عمَّا في شأنه أن يكون فاسداً، وهو المسمَّى منطقيَّاً بمصطلح العدم والملكة، دون تقابل الضِّدِّين ولا

ص: 363


1- الكافي 3: 397 ح 1، التهذيب 2: 209 ح 818، الاستبصار 1: 383 ح 1454، باختلاف في ألفاظ الحديث.

النَّقيضين.

فمن يعصي الشَّرع والعقل المستقيم باحتسائه الخمرة المنهي عنها مع حرمة شربها واستحقاق محتسيها العقوبة الشَّرعيَّة الخاصَّة عليه.

لا معنى لتصحيح ما أوقع نفسه فيه من عموم واطلاق هذا الفساد المختلف عن المصطلح الآنف الذِّكر، إلاَّ بمعنى ما يحتاج إلى الاستغفار والتَّوبة والإنابة دون معنى ما يعنيه المصطلحون من حالة الإعادة أو القضاء المتعارفين من الفساد النَّوعي الخلقي الاجتماعي.

نعم إذا ارتبط هذا الاحتساء المحرَّم بالعمل العبادي الَّذي يرجع المعنى المصطلح للفساد، فإنَّه لابدَّ أن يُحقِّقه كالجمع بين الصَّلاة وشرب الخمرة، وهو المحوج لا محالة إلى الإعادة أو القضاء بعد التَّنزُّه التَّام عنها، وسيأتي التَّوضيح الأكثر في موارد التَّطبيق المناسبة.

ولذا أمكنت التَّوسعة في التَّعبير عن الفساد بالمعنيين معاً بأن تكون الصَّحَّة والفساد من الاعتبارات الإضافيَّة، فتنتزعان من مطابقة الشَّيء لما هو المطلوب منه للصَّحيح ومايخالفه وهو الفاسد.

ويطلق عليهما أيضاً التَّماميَّة وعدمها من دون أن تكون خصوصيَّة للجعل الشَّرعي في ذلك، فتدخل في العقائد أيضاً.

ومن حالاتها لو اختلت في ذهن العابد تجاه المعبود تعالى بما يستوجب الإعادة أو القضاء، كما وقد تكون التَّوسعة في مثل ما ذكرناه من ارتكاب مجرَّد المعاصي غير المرتبطة بمثل الصَّلاة كالخمرة أو القرب منها كما في آية النَّهي عن الاقتراب منها.

وخامسها: (متعلَّق النَّهي) وهو الَّذي يصح بين أهل الاصطلاح أن يكون محلاًّ للنِّزاع، سواء في العبادة أو في المعاملة، ليطلق عليه الفساد من عدمه كالصَّلاة الفاسدة إذا اختلَّت شروط صحَّتها، والصَّحَّة إذا طابقتها.

ص: 364

وهكذا البيع الباطل إذا اختَّلت شروط صحَّته، والصَّحيح الَّذي تكاملت حسبما تفيده الأدلَّة اللَّفظيَّة أو ما قد تقتضيه ملازماتها من ذلك أو عدمه، دون مثل شرب الخمرة الَّذي مرَّ ذكره في اللَّفظ الَّرابع.

فإنَّه لا معنى لأن يقال بأنَّ النَّهي الصَّادر إلهيَّاً عن شرب الخمرة يقتضي الفساد أو لا يقتضيه؟

إلاَّ بما مرَّ من التَّوجيه الخارج عن المعنى المصطلح الخاص، وهو المسبِّب للضَّرر الخاص أو العام الاجتماعي.

وقد يتعلَّق النَّهي بأصل العبادة كصوم يومي العيدين، أو بجزئها كالنَّهي عن قراءة إحدى سور العزائم في الصَّلاة، أو شرطها كالنَّهي عن الصَّلاة باللِّباس المغصوب أو المتنجِّس، أو النَّهي عن الوصف الَّلازم لها كترك الجهر وهي إخفاتيَّة عمداً، أو بالعكس كذلك، على ما سيأتي البت بحكمه دلالة أو اقتضاءاً.

وبعد الفراغ ممَّا كان علينا ذكره من المفردات الواردة في مصطلحات البحث لتمم المباشرة بأخذ ما يمكن أن يستثمر منه إيجاباً أو سلباً بعدمه.

لابدَّ من العود إلى الكلام عن كل من المقامين المشار إليهما عبادة ثمَّ معاملة وبما يتناسب ذكره منَّا حولهما جملة أو تفصيلاً في السَّلب أو الإيجاب بعون الله تعالى.

المقام الأوَّل

لابدَّ من محاولة تعيين محل الكلام الأنسب عمَّا يحتمل وروده فيه عباديَّاً قبل الخوض في صميم البحث الخاص عنه ثبوتاً أو إثباتاً أو كلاهما: فنقول:-

بما أنَّ معنى العباديَّة الجامعة في المقام للفقه العام الشَّامل للكلاميَّات والعقائد ولفروع الأحكام الشَّرعيَّة بأجمعها معها من بدايتها إلى نهايتها حتَّى المعاملات الملازمة لوجوب التَّفقُّه ورجحانه الكامل فيها على ما سيجيء مناسبة ذكره في المقام

ص: 365

الثَّاني حينما أمكن جعل كل من معنييهما عقائد وفرعيَّات قابلاً لدخوله فيه من حيث عموم وخصوص الخاص.

فصحَّ أن يقال في الأوَّل (مفسدة الشَّيء العقائدي تسقطه عن صلاحيَّة التَّقرُّب به إلىالمعبود جلَّ وعلا عقيدة كالشِّرك به والعياذ بالله).

وصحَّ في الثَّاني كما في العبادات أن يقال (إنَّ المحرَّمة منها أو المخلوطة بالحرام توجب على المكلَّف حينما كان الأساس واجباً وعلى طبق المشروع كالصَّلاة أو غيرها الإعادة في الوقت أو القضاء في خارجه).

كما يصح جعل العبادات من الواجبات النَّفسيَّة أو الغيريَّة من التَّي تتعلَّق بالملازمات العقليَّة غير المستقلَّة المعروفة أصوليَّاً بأن يقال عنها في هذه البحوث (كل عبادة منهي عنها فاسدة عقلاً).

وهذا الأخير من بين المعاني الثَّلاثة هو الَّذي ركَّز عليه فيما بينهم دون الباقي في البحث، لأنَّ فساد الفاسد الواضح الَّذي لا نزاع فيه عباديَّاً عندهم كالثَّاني منها هو ما دلَّت عليه الألفاظ الاجتهاديَّة الاعتياديَّة من الأدلَّة لا ما نحن نخصُّه بالذِّكر من هذا المورد المتنازع فيه الَّذي ذكرناه.

وحيث لم يعقدوا بحثاً مستقلاًّ في الأصول -- لأمور هذه الملازمات أو تطرَّق بعض المتأخَّرين إلى شيء أو بعض شيء منها بما قد لا يستوعب المقام المعتد به -- أدرجوه اضطراراً في مباحث الألفاظ.

ونحن ذكرناه في هذا الجزء الثَّاني من (المساعي)، ولكن أدرجناه في آخر توابع الأوامر والنَّواهي، لا من أساسيَّات بحوثهما اللَّفظيَّةً، ولو ليتناسب وضعه ولو بعض الشَّيء مع غيره من البحوث المرتبطة على الأكثر بالتَّصرُّفات العقليَّة غير المستقلَّة.

ص: 366

(صميم الكلام عن المقام الأولَّ وهو اقتضاء النَّهي في العبادات الفساد من عدمه)

بعد فهم شيء من مورد هذا البحث الأنسب للمقام العبادي، نقول عن مرحلتين:-

أولى المرحلتين

(عن طريق ما يحصل من الشُّكوك)

لا يمكن لكل عاقل وعاقلة أن ينكرا وجدانيَّاً -- حول الفقه العام المشار إليه، ومنه الفقه الخاص -- مبغوضيَّة التَّقرُّب إلى المعبود جلَّ وعلا في كل ما نهى عنه ومنع منه في شرعه الكريم، ومن قبله العقل السَّليم، لأنَّه (لا يطاع الله من حيث يُعصى)، بل هو مستقبح وباطل ومردود على صاحبه.

وإنَّ مجرَّد تصوُّر شيء من ذلك تجاهه تعالى دليل عليه، لا يحتاج إلى مزيد عناية رفضيَّة، ولو من هذه الحيثيَّة الإجماليَّة.

إلاَّ أنَّ الَّذي قد يوضِّح بعض الأمور -- وإلى حدِّ ما يتَّضح منه خصوص المراد المتنازع فيه ممَّا أشرنا إليه -- هو الدُّخول في شيء من التَّفصيل، حتَّى يتبيَّن الفساد من الصحَّة فيه، وما يستوجب الإعادة أو القضاء من العدم، حينما كانت العبادة شرعاً مشروطة بقصد القربة ونحوه كالصَّلاة ونحوها دون ما لم يُشترط فيه ذلك القصد كغَسل الملابس، وإن رجح فيها ذلك شرعاً لو لم يصاحبه محرَّم كالغسل بالماء المغصوب.

فإنَّها وإن طهرت من نجاستها لكنَّها لم يصب صاحبها إلاَّ الإثم وإرضاء صاحب الماء وجوباً، لاستباحة هذا التَّصرُّف الحاصل منه بعد ذلك.

ففي مرحلة الخوض في هذا المقدار من التَّفصيل لحل الأمر المتنازع فيه وإن كان

ص: 367

قبل ما يلزم من حالة عزل ما لا نزاع فيه من دلالة النَّهي على الفساد لصالح المتنازع فيه، ولتقوية اتِّخاذ القرار المحكم في أمره عن طريق بيان شيء عن هذا الَّذي لا نزاع فيه من بدائيَّات أحواله، ممَّا كان قبل أن يثبت النَّهي منها دلالته على الفساد أو عدمه ثمَّ الانتهاء إلى صميم المتنازع فيه من أمور الاقتضاء بعد عزل المشار إليه.

أنَّه ممَّا قد يدعو للنَّظر حتَّى فيما يتعلَّق ببعض شؤون نفس الدَّال والمدلول قبل قيام الحجَّة المعتبرة الَّتي لابدَّ منها على القول بالفساد ولو لشيء من الجامع المشترك بين هذا الدَّال والمدلول وبين الاقتضاء المراد.

لكون الأوَّل له تمام العلاقة بالأدلَّة اللَّفظيَّة وقواعدها الكافية.

وكون الثَّاني له علاقة بالإشارات من الأدلَّة الإرشاديَّة ولو لجامع إجمالي.

بل لإمكان أن لا يتم لكليهما حصول الفساد، فضلاً عن الثَّاني لحصوله في الدَّال والمدلول لو تكاملت الشُّروط، ولأجل تهوين الخطب على هذا الثَّاني بمعنى الاقتضاء، إذا لم يثبت تحقُّق القول بالفساد عن طريقه بنحو أيسر من حالة الدَّال والمدلول بما نذكره الآن عنه.

كما لو داخل المكلَّف الشَّك في جو من المسألة الأصوليَّة، فشكَّ في حصول هذاالفساد الدِّلالي من عدمه ثبوتاً في العدم الأزلي بنحو من المساواة التَّامَّة بينهما وجوداً وعدماً.

فمقتضى الأصل الأصولي لابدَّ من عدم ثبوت شيء من هذا الفساد، لأنَّ العدم الوصفي ليس له حالة سابقة في الأزلي، كما لا يخفى.

مع أنَّ نفس الشَّك في هذا الثُّبوت من عدمه وحده يكفي في عدم الثُّبوت.

فلابدَّ إذن من قيام الحجَّة المعتبرة على مطلق ادِّعاء دلالة النَّهي على الفساد دون ما كان أقل منها.

ومن أجل وجود بعض حالات هذا الأقل كان التَّفاوت النَّظري بين بعض

ص: 368

الباحثين حول وجود ما قد يظهر تقبُّل هذا المقدار من الثُّبوت على علاَّته من عدمه.

على أنَّنا لا نتعاطف مع هذا المستوى الأقل من معنى الثُّبوت تصوُّراً.

وكذا لو شُكَّ أصوليَّاً في دلالة النَّهي على الفساد عن طريق هذه الدِّلالة كذلك في مقام الإثبات والحالة التَّصديقيَّة بينها وبين عدمها بإحدى الدِّلالات المعتبرة الثَّلاث، لو لم نقل بأنَّ مجاهدة من يحاول إثبات الفساد من عدمه من كافَّة طرقه عن هذا الشَّك هي الأصعب.

ولذا عبَّر أحد أساتذتنا العظام قدس سره بقوله عن هذا (فبالأصل الجاري في عدم الدلالة بالعدم الأزلي تنتفي تلك الدلالة، مع أن الشك في ثبوت الدلالة يكفي في عدمها)(1).

وهذا ما نتيجته أنَّ كل شك في المسألة الأصوليَّة لا يُعطي أي مجال للفساد، سواء في العبادات أو المعاملات.

ولهذا ينعقد الأمل الكثير في قلب الفقيه الأصولي فيهما، وبالأخص العبادات بإمكان البناء على خصوص حمل قضاياها على جانب الصحَّة بسبب التَّمسُّك بعموميَّات الأدلَّة وإطلاقاتها دون الفساد لو لم يكن أي معنى من هذا التَّمسُّك مشوباً بدليل ذا موضوع مشتبه ولو بجزء منه، لأجل البقاء أو حتَّى الإبقاء بما يمكن توجيهه على تصحيح الصَّحيح واقعاً أو ظاهراً، لأجل الخلاص من قبح التَّقرُّب إلى المعبود جلَّ وعلا بما يكون مبغوضاً لديه.

وعلى هذا النَّحو يمكن تسهيل تعقُّل عدم قبول معنى الفساد في فرض الاقتضاء الآتي أيضاً.

وأمَّا ما كان ممَّا قد يدور في مجال الأصول العمليَّة المقرَّرة للشَّاك في مقام العمل في المسائل الفقهيَّة الَّتي توصل الأمر المشكوك في مسألتنا من حالة احتمال الفساد من

ص: 369


1- تهذيب الأصول ج1 ص240.

عدمه حسبما قرَّره الأصوليُّون.

لئلاَّ يبقى المكلَّف فقهيَّاً في تحيُّره بين أحدهما بلا أصل يرجع إليه حسب التَّوجيه المناسب للموضوع والحكم الموافق للعدل الإلهي وما ذكرته الأدلَّة الإرشاديَّة ممَّا ذكروه، ليكون المرجع إمَّا إلى البراءة أو التَّخيير أو الاشتغال أو الاحتياط على ما سوف تجيءتفاصيله في جزئنا الأخير لدورة الأصول من كتاب (المساعي).

فإنَّ ملخَّص ما ينبغي من الكلام حوله الآن:

أنَّ كل مسألة ومسألة من المسائل الفقهيَّة الَّتي تطرح للتَّداول تُعد من صغريات الأقل والأكثر في باب العبادات، قبل أن تصل إلى حالة استقرار كونها أو بعضها بعد تكامل بعض حالات هذا التَّداول كبريات أو قواعد للإفادة النَّوعيَّة في مواطنها.

فإنَّ خروج معلوم الفساد -- في حالة بقاء الصغريات على حالها -- عن الإطلاقات والعمومات من الأدلَّة أمر مسلَّم.

ولكن خروج مشكوك الفساد ليس كذلك، فمن قال في الأقل والأكثر بالبراءة مثلاً يقول بها هنا أيضاً.

ومن قال فيه بالاحتياط يلزمه القول به في المقام، على حدِّ الاختلاف المبنائي.

على أنَّ الاحتياط عند غير القائلين به لا يُعطي حكماً قطعيَّاً ملزماً بالإعادة أو القضاء مثلاً في كل فساد مدلول عليه بالاحتياط وإن جُعل وجوبيَّاً عند القائلين به.

وبهذا يلزم التَّخلُّص إلى القول بوجوب إحراز دلالة الحجَّة المعتبرة على ثبوت وإثبات وقوع الفساد في العبادة المختلَّة بفقد أحد أجزائها عمداً، فضلاً عن ركن من أركانها كالصَّلاة أو شرط من شروطها دون الأقل منها من أمور ما لا نزاع فيه، فضلاً عن محل الاقتضاء الآتي ذكره ممَّا تنازعوا فيه.

بل إنَّ موارد الأصول العمليَّة المقرَّرة للشَّاك في مقام العمل فقهيَّاً هي الأقرب -- لتعقُّل أمور حلِّها عن الاقتضاء دون الدَّال والمدلول بواسطة العقل غير المستقل من

ص: 370

أمور حُسن الإحسان وقُبح الظلم لو حصل تردُّد بين الفساد والصحَّة ونتج عن طريق هذه الأصول الحكم بما مرَّ من البراءة من الزَّائد مثلاً --

من جعلها مختصَّة بحالة تقيُّدات الفقهاء بالأدلَّة الاعتياديَّة الَّتي يمكن أن تتحقَّق بها الحجج المعتبرة لثبوت وإثبات حالات الفساد في العبادات بما مضت الإشارة إليه.

ومن حالات البراءة من الزَّائد لا يراد ما هو الأكثر من الاستغفار.

وليس كل فساد محتمل احتيط في أمره بمحتاج إلى الإعادة، فضلاً عن القضاء دائماً وفي كلا الطَّريقين دلالة واقتضاءاً.

بل حتَّى إن اشتهر بين الفقهاء حول النَّواهي التَّحريميَّة في العبادات مطلقاً بأنَّها إرشاد إلى الفساد.

فإنَّ التَّحقيقات الفقهيَّة في الطَّريقين كليهما كان نتاجها ذلك في الجملة دون التَّفصيل، مع أنَّ بعض حالاته كون اطلاق اسمه على نحو المجاز دون خصوص الحقيقة الَّتي اشتهرت.

ومع تلك الحقيقة المدَّعاة بنحو الشُّهرة المبالغ فيها بينهم لم يثبت أنَّ كل فساد يصلون إليه يوجب الإعادة أو القضاء ممَّا تكرَّرت الإشارة إليه وإلى غيره.

ومن أراد التَّوسُّع فليراجع فقهيَّاتنا المختصرَّة والموسَّعة لنا وللأخرين ممَّن سبقوا.

وأمَّا فيما لو حصل شك في جريان العمومات والإطلاقات الاستدلاليَّة لجهة أخرىغير التَّردُّد الماضي بين الأقل والأكثر من الجهات فإنَّه لم يبق بعده دليل اعتيادي أو قرينة في البين كذلك بالأمثلة الآتية وبصفة أكثر على بقاء ثبوت تلك المبغوضيَّة المستهجنة تجاه المعبود جلَّ وعلا من عباديَّاتها أو ما اختلطت مع غيرها، فضلاً عن إثباتها.

فتصل النَّوبة هنا حتماً بعد وقوع الشَّك بين الفساد وأصل الصحَّة لو لم يكن تلازم اللازم والملزوم العقلي البيِّن غير المستقل مع الشَّرعي محاسباً عليه بين واجبين

ص: 371

اجتمعا على تكليف المكلَّف بكل منهما أساسيَّاً بحيث لا ينفك أحدهما عن الآخر.

كما في عبادتي صلاة الظهر والعصر المصاحبتين لصيام شهر رمضان بدون ذلك التَّلازم المذكور بينهما إذا فسد أحدهما بالحجُّة المعتبرة كالصَّلاتين لوجود خلل في شروطهما أو نقص في أجزائهما عمداً، فضلاً عن الأركان من دون إصابة ذات الصِّيام بشي ممَّا يبطله.

أو بمثل الصَّلاة في الدَّار المغصوبة دون أن يصيب حالة الصَّوم شيء من جريرة هذه المصاحبة.

أو ما اختلطت عبادة مع غيرها في واجبين كواجب إزالة النَّجاسة عن المسجد مع مصاحبة المعتكف فيه في مرحلة وجوب اعتكافه.

فإنَّ المعتكف إذا لم يصب أمور اعتكافه خلل خاص بشرعيَّته فلا ضير عليه فيه إذا عصى بتركه ما وجب عليه من إزالة النَّجاسة.

ومثل هذا ما لو سلَّم الإنسان على المصليَّة لتجيبه وهو واجب قاصداً الالتذاذ بصوتها وهي أجنبيَّة وأجابته مع حسن نيَّة.

وهنا في هذه الأمثلة وأضرابها اشترك النَّقل الشَّرعي والاستدلالي مع العقل الاقتضائي كذلك في عدم سريان فساد عبادة بما يوجب الإعادة أو القضاء لها إلى العبادة الأخرى حتَّى لو صاحبتها في أصل التَّكليف لو كانت محفوظة بشرعيَّتها الخاصَّة.

وكذا في تأثير معصية ترك الإزالة وإن كبرت على أصل ما يخص طاعات تصرُّفات المعتكف الخاصَّة باعتكافه.

وكذا في تأثير معصية المسلم على الأجنبيَّة بما قصده وإن كبرت على صحَّة صلاتها مع سلامة قصدها.

ولذا جمع تعالى هذه الأمور بالنَّقل والعقل بقوله [وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ

ص: 372

أُخْرَى](1) أي على المكلَّف نفسه إذا اتُّهم الغير بالوزر.

ثاني المرحلتين:

(مرحلة ما لو ثبتت الحجَّة على فساد شيء وبنحوه الأعم

في العبادة وملحقاتها أم لم تثبت؟)

بعد الانتهاء من مراحل ما قد يقع من الشُّكوك في بعض أمور المسائل الأصوليَّة وفي الفقهيَّات المنوطة بأمور الأصول العمليَّة وغيرها للعباديَّات وغيرها ممَّا يشترك معها استدلاليَّاً ممَّا كانت نتيجته عدم تحقُّق الفساد التَّام ثبوتاً بمعناه الخاص، فضلاً عنه إثباتاً --

وكذا فضلاً عن معناه الأعم الَّذي لا يراد منه الإعادة أو القضاء أو ما أطلق عليه الفساد وأريد منه معناه المجازي.

وكذا ما لو حصل ذلك الخاص للفساد بحجَّته في واجب له واجب آخر مصاحب له في أصل التَّكليف النَّهاري لو لم يصبه ما يفسده، مثل واجبي صلاة الظهر والعصر والصَّوم، حينما لا ملازمة له مع غيره المصاحب لو فسد بما يضرُّه من بعض التُّصرُّفات ممَّا تمَّ استعراض الأمثلة الماضيَّة لإيضاحه.

وإنَّ جميع ما مرَّ كان ممَّا ييسِّر أرضيَّة استفادة عدم الفساد الخاص عن طريق الاقتضاء كذلك بنحو أوضح --

لابدَّ من الدُّخول الآن في مرحلة ما اعتاد عليه البعض من استكشاف أمر وقوع الفساد من عدمه عن طريق بعض جوانب ما لو ثبتت حجَّة الفساد فيه أو معه استدلاليَّاً ممَّا قد مرَّت الإشارة إلى بعضه ولو كان بالبيان المختصر.

ص: 373


1- سورة الأنعام / آية 164.

ولنرى حالة الاقتضاء معه في أنَّه هل تكون مؤيَّدة أم لا؟ إيجاباً أو سلباً كليَّاً أم في الجملة؟

فحال العبادة الدَّاخلة في محل النِّزاع -- وهي الَّتي يشترط في صحَّتها أو قبولها قصد القربة ممَّا مرَّ ذكره أكثر من مرَّة -- هي المغايرة لما لا يشترط فيه ذلك كغسل الملابس حسب التَّوظيف الشَّرعي لمقدِّماتها، وإن رجح فيه هذا القصد من باب الكمال لا الشَّرط شرعاً.

لإمكان تحقُّق الطَّهارة الحاصلة به من النَّجاسة المحتاج إلى رفعها منها ممَّا مرَّت الإشارة إليه أيضاً.

بل حتَّى لو كان ماء الغسيل مغصوباً فليس من داع لعدم حصول الطَّهارة به وإن أحتيج إلى كسب رضا المغصوب منه فيه.

فلم يبق حينئذ إلاَّ ما يمكن أن تقوم الحجَّة المعتبرة عليه من الفساد العبادي بسبب ارتكاب النَّواهي التَّحريميَّة إذا أدَّى هذا الفساد في معناه الحقيقي إلى وجوب إعادة الواجب صحيحاً بعدما فسد ولو بمثل ترك قصد القربة ونحوه من الشُّروط الأخرى.أو حتَّى ما قد يحصل من بعض النَّواهي التَّنزيهيَّة لو ألحقناها بالتَّحريميَّة بسبب وصول ترك بعض المستحبَّات المؤكَّدة كصلاة اللَّيل وزيارة النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم عند المرور على دياره وديار آله عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ المقدَّسة مكرَّراً وإلى حدِّ معنى الهجران الجفائي المنقلب بالعنوان الثَّانوي إلى ما قد يحرم تركهما وأشباههما لو فسَّرنا الفساد بمعناه الأعم.

لكن بعض هذه المستحبَّات المؤكَّدة لو وجبت ثانويَّاً وبقي الفساد لها بهجرها بمعناه الأعم لا يعني رجحان القضاء لبعضها كصلاة اللَّيل إذا تركت وانتهى وقتها شرعاً مهجورة رجوع الفساد لها إلى معناه الحقيقي لتقضى وجوباً.

لأنَّ القضاء الوارد فيها ليس بأكثر من كونه مستحبَّاً، بل لو لم يرد رجحان هذا

ص: 374

القضاء الاستحبابي لبعض المستحبَّات الأخرى لو تركت هجراً وهي مؤكَّدة فيكفي التَّكفير عن مبغوضيَّة تركها بالعنوان الإضافي بالاستغفار له ولكلِّ النَّظائر المماثلة.

بل ومن مستوى ما هو الأخف من ذلك لو أريد للفساد معناه المجازي كذلك.

ومن هذا الأخف ما لا يخفى على المتفقِّه في دينه من أمر الشكوك التِّسعة الَّتي وضعت لها حلولها شرعاً إذا وقعت في الفرائض اليوميَّة بالاحتياطات ونحوها لكي لا يحتاج معها إلى الإعادة أو القضاء المرتبط أحدهما بالفساد الحقيقي.

ومن الأخف ما قد يفرضه الوسواسي خياليَّاً على نفسه من نفس الحاجة إلى الإعادة أو القضاء لصلواته وغيرها مع أنَّها حكم باطل شرعاً اعتماداً على قاعدة (لا شكَّ لكثير الشَّك).

وممَّا يزيد البحث دقَّة في المقام عدم الخلط لصالحه بين حالة اجتماع الأوامر والنَّواهي الماضية بمجرَّد ادِّعاء هذا الخلط لصالحه مع ندرة هذا الالتقاء بينهما في مثل الصَّلاة في الدَّار المغصوبة في آخر الوقت المكتوبة وحالة الخروج، لأنَّ مصاديقها القليلة وإن ذكرنا شيئاً من حالات ندرتها في بدايات مباحث هذا الجزء الثَّاني تحت عنوان (اجتماع الأمر والنَّهي).

فإنَّها لا تتلازم مع ما نحن نبحثه في الدِّلالة أو الاقتضاء أيضاً وان استنتج بأحدهما كالأوَّل، وهو الدِّلالة على عدم حصول الفساد الحقيقي في العبادة إجمالاً، فضلاً عن الاقتضاء لانفكاك الأمر عن النَّهي في بعض الأحوال، وكذا العكس.

لأنَّ الأمر الصَّادر لو نفذ فاسداً -- حسب التَّعليمات المرسومة وعلم استمرار هذا الصُّدور إلاَّ أن يؤتى به صحيحاً -- لابدَّ أن تجب إعادته صحيحاً، وإذا كان مؤقَّتاً وانتهى وقته لابدَّ من قضاءه.

وكذا النَّهي التَّحريمي لو كان ممَّا لا علاقة له بموضوع الأمر المزبور خارجاً وفي وقته، وإن ارتبطا بنوعيَّة معنويَّة تشملهما كمعنويَّة إطاعة الأمر بالصَّلاة.

ص: 375

فإنَّه وإن كان لا يعني أن تكون الصَّلاة باطلة لو شربت الخمرة المحرَّمة في غير وقت هذه الصَّلاة، ولا يعني أن لا تكون الخمرة غير محرَّمة الشُّرب حتَّى لو لم يكن شربها مصاحباً للصَّلاة.

فإنَّ الحالة المعنويَّة الَّتي شملت الأمر الوجوبي والنَّهي التَّحريمي -- حالة انفكاكهماعن بعض كل منهما -- ما أروعها من معنويَّة تجمع مجتمع الأمَّة بفعل الطَّاعات وترك المعاصي معاً حتَّى مع الانفكاك، الَّذي لا يعني عدم وجوب الواجب وعدم حرمة المحرَّم.

(أنحاء النَّهي عن العبادة الموجبة لفسادها أو عدمه)

وممَّا يعينننا على مزيد التَّعرُّف على ما تثبته الحجج المعتبرة من الفساد الحقيقي في العبادة -- استدلاليَّاً أو اقتضاءيَّاً أيضاً بواسطة أحد محقِّقاته من عدمها وبنحو يوجب الإعادة أو القضاء، أو لا يوجب شيئاً منهما، وإن بقي الفساد فيها لإزالته لعلاجيَّاته فيها بما رسم للصَّلاة من أحكام الشُّكوك التِّسعة وما رسم من إضافيَّات الأحكام فيها بتدارك الواجبات المنسيَّة من الفاتحة والتَّشهُّد مع صلاة الاحتياط للشُّكوك وغير ذلك وسجود السَّهو للإضافيَّات --

هو أنَّ للنَّهي أنحاء في الفقه عرفت، ولها حدودها القواعديَّة في تضاعيفه، ينبغي أن نذكرها مشفوعة بالأمثلة لتمييز الفاسد حقَّاً من عدمه بحثاً، وهي:-

أحدها: أن يتعلَّق النَّهي بأصل العبادة كالنَّهي عن صوم يومي العيدين، وصوم أيَّام التَّشريق الثَّلاث لمن كان بمنى سواء كان ناسكاً أم لا، وصوم الوصال، وصلاتي الحائض والنَّفساء اليوميَّة.

إلاَّ أنَّ هذه وإن كانت فاسدة أو باطلة لابتداعها لارتفاعها تكليفاً عنهما، لكنَّها لا تلزم المكلَّف بإعادة أو قضاء للارتفاع، بل لا تحتاج إن صليِّت أكثر من الاستغفار

ص: 376

والتَّوبة حسب الأدلَّة.

ثانيها: أن يتعلَّق بجزئها كالنَّهي عن قراءة سورة من سور العزائم الأربع في فرائضه بعد الفاتحة.

لأنَّ الإكمال الَّذي يجب مع كلِّ سورة من آياته لابدَّ أن تكون أحدها آية العزيمة الَّتي لو قرأت لوجب بسبب قراءتها معها سجود إضافي أثناء الصَّلاة المحدودة في سجداتها وركعاتها.

إلاَّ أنَّ هذه الباطلة المخترقة به تستدعي الإعادة أو القضاء وجوباً حسب الأدلَّة.

ثالثها: أن يتعلَّق بشرطها أو بشرط جزئها كالنَّهي عن الصَّلاة باللِّباس المغصوب أو المتنجِّس والصَّلاة في هاتين الحالتين باطلة وتحتاج إلى الإعادة في الوقت أو القضاء في خارجه مع التَّصحيح لها حسب ما أعانت عليه الأدلَّة.

رابعها: أن يتعلَّق بوصف ملازم للصَّلاة مثلاً أو لجزئها كالنَّهي عن الجهر بالقراءة في موضع الإخفات في الظهرين والنَّهي عن الإخفات في موضع الجهر في غيرهما إذا كانت المخالفة عمديَّة.

ومن ذلك تعمُّد الإتمام مكان القصر وتعمُّد القصر مكان الإتمام، إلاَّ في صلاة الخوف وهو ما يحتاج إلى الإعادة في الوقت أو القضاء في خارجه حسبما توجيه الأدلَّة دون حالات السَّهو والنِّسيان من جميعها كذلك.

خامسها: النَّواهي التَّنزيهيَّة لو تمادى المكلَّف بالإكثار من ارتكابها وكان عكسها المستحبَّات المؤكَّدة كما مرَّ ذكره من التَّمثيل بصلاة اللَّيل وزيارة النَّبي صلی الله علیه و آله و سلم فيما لو تركا جفاءاً وانقلب النَّهي عن تركهما بالعنوان الثَّانوي إلى ما يُعادل الحرمة.

وكذلك زيارة أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ومن بينهم هجران زيارة الإمام الحسين u والشُّهداء بقساوة مرفوضة حتماً.

فإنَّ مصاديق هذه المعاصي وأمثالها وأن تُعد مراتبيَّاً من صغائر المعاصي.

ص: 377

فإنَّ تركها بهذا النَّحو من الهجران مبغوض جدَّاً عند الشَّرع جلَّ وعلا حسب الأدلَّة المؤكَّدة وإلى حدِّ أن تضخم هذه المبغوضيَّة كلَّما دعت الحاجة إلى هذه الأمور بالإشارات والتَّصريحات ولكونها من أفضل مصاديق آيات تعظيم الشَّعائر، ولذا ورد (لا تنظر إلى صِغر المعصية بل انظر إلى من عصيت)(1).

ولا ترتفع هذه المبغوضيَّة إلاَّ بممارسة التَّقرُّب إليه تعالى بالالتزام بكل ما يخالف هذه المعاصي وإن قلَّت في كونها بدون القساوة المذكورة.

اهتماماً بالقرب المعنوي له وعكسه المبغوضيَّة المرفوضة تجاهه سبحانه، للدُّنوِّ منه ولو بواسطة المستحبَّات بعناوينها الأوليَّة، لضخامة إفادتها بالإكثار منها عرفانيَّاً على وزن (حسنات الأبرار سيِّئات المقرَّبين)(2).وهذه وإن كان يستحب قضاء بعضها كما أشرنا إذا انتهى وقتها الاستحبابي كصلاة اللَّيل وبقيَّة النَّوافل الرَّاتبة أو التَّعويض بما هو الأعم من الأداء والقضاء للبعض الآخر من تلك المصاديق المستحبَّة المؤكَّدة عند فواتها اعتزازاً بإفاداتها ولما مرَّ من التَّعظيم لشعائرها أمثال تعويض الزِّيارات المخصوصة للأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ من الَّتي تركت.

لكن يبقى حالها لا يعني كون الاهتمام بها على هذا النَّحو أنَّ سببه فساد حقيقي سابق كان قد حلَّ فيها.

سادسها: النَّواهي الغيريَّة الدَّاخلة في كلِّ مجال من مجالات الحاجة الَّلازمة بعد العرض على مستوى تمحيص أمورها، كعدم اتِّباع شرائط ما يُصحِّح الوضوء أو الغُسل أو التَّيمُّم بدلاً عن كلِّ منهما عند الحاجة الماسَّة إلى العبادة الواجبة، بل حتَّى المستحبَّة المتوقِّفة على أحدها.

ص: 378


1- بحار الأنوار، ج 74، ص 77.
2- راجع هامش (3) في ص82، ولا داع إلى الإعادة.

لإزالة الأحداث الكبيرة والصَّغيرة بأحدها عند تعيينه أو تعيُّنه وإن كان الطَّهور بأحدها مستحبَّاً في أساسه واجباً غيريَّاً عند توقُّف العبادة المشروطة بالطَّهارة عليه، عكس النَّواهي الغيريَّة المحرَّمة غيريَّاً.

وباختلال أي شرط لأفراد هذه الأنواع من الشُّروط لابدَّ من إعادتها صحيحة.

وبتمحيص أمر هذا الأخير لابدَّ للفقيه الأصولي أن يحسب عليه تمييز ما لا نزاع فيه بين العلماء مع ما سبقه، وهو ما تثبَّتت الحجَّة المعتبرة على اتِّصافه بالفساد الحقيقي في العبادات عند ارتكاب النَّواهي المسبِّبة له دلالة أو اقتضاءاً أو كليهما من هذه الأنحاء الستَّة عن غير الحقيقي فيها، ممَّا نتيجته إثبات فسادها إجمالاً لا تفصيلاً بما أثبتناه.

لكن يبقى الباقي عليه أيضاً ممَّا فيه النِّزاع بينهم بأنَّه هل يعتري العبادات فساد حقيقي أم لا؟

وإنَّ ما يعتريه الفساد منها يحتاج إلى الإعادة أو القضاء أم انَّه يختلف؟

فقد أشرنا إلى مصاديق هذه الأنحاء الستَّة، وأجبنا مختصراً عمَّا يعود لكل منها على ما يقتضيه مسلك الاقتضاء، وهو حالات عدم اقتضاء الفساد الحقيقي للعبادة، وهي بعض حالات من النَّماذج.

دون ما اشترك فيه الاثنان، وهما المسلك الدِّلالي والمسلك الاقتضائي المؤيِّد له بما اتَّفقا عليه، وهو حصول الفساد الموجب للإعادة أو القضاء.

فالدِّلالي تابع للأدلَّة اللَّفظيَّة، والاقتضائي تابع للعقل غير المستقل، والأخير هو المؤهَّل لتقييم أمور ما دون الحجَّة المعتبرة على ما مرَّ من الأحكام التَّابعة للشَّرعيَّة من الأخريات.

ومن يريد التَّوسُّع إلى مصاديق إضافيَّة فليراجع فقهيَّاتنا المفصَّلة، وما ذكرناه في بحثي الضِّد والتَّرتُّب.

ص: 379

مختصر التَّقييم لصميم البحث الماضي بواسطة الاقتضاء

لما دون الحجَّة المعتبرةبعد تسليم ما تقوم به الحجَّة المعتبرة من الفساد في العبادة في النَّقل والعقل دلالة واقتضاءاً فيما مرَّ من بعض الأنحاء المعروضة الستَّة آنفاً بعد إتقانها موضوعاً وحكماً ومصاديق للفساد الحقيقي وعدم اعتداد أهل التَّحقيق من العلماء بما يتصوَّر من فساد ما دون تلك الحجَّة.

وبعد الحاجة أيضاً إلى معرفة نوعيَّة أحكام ما دونها من الأنحاء المحتملة الأخرى من الَّتي لا تفارق ذهنيَّة وعاة الأمَّة ورعاتها، لحرصهم الدَّائم على الاستفادة من سعة منابع فوائد الشَّريعة المقدَّسة والجمَّة الغفيرة للإفادة الَّلازمة منهم، لابتنائها حتَّى بما دون ما تقومه تلك الحجج المعتبرة من الأساليب الأخرى المتعارفة في الأصول.

كما أثبتته عمومات وإطلاقات إرشاديَّة يمكن أن تكون مدارك مشروعة أيضاً يأخذ بها العقل غير المستقل لتحديد وظيفة كل من كان من باقي ذوي تلك الأنحاء.

ولقد أسهبنا فيما مرَّ من سرد الأمثلة والتَّنبيهات الَّتي توضِّح ما يعطيه الاقتضاء النَّاجح من التَّشخيصات بما لا حاجة بعده إلى التَّوسعة في هذا التَّلخيص عن كلِّ ما هو متنازع فيه زيادة عليها.

فلم يبق إلاَّ إيكال أمر التَّفاصيل الأكثر إلى إسعافنا إلهيَّاً بدعاء المؤمنين الأفاضل والطلاَّب الأعزَّاء بالعافية وصفاء البال للتَّوفيق إلى تحقيق هذا المجال عمقاً واستغراقاً، إنَّ الله سميع مجيب.

ومن أراد الاطِّلاع الإضافي السَّريع فعليه مراجعة بحث الضِّد والتَّرتُّب من بحوثنا السَّابقة من هذا الجزء الثَّاني.

ص: 380

المقام الثَّاني

اقتضاء النَّهي الفساد في المعاملات من عدمه

مرَّ شيء عمَّا يتعلَّق بتشخيص الفساد في المعاملات من عدمه مشتركاً مع العبادات في الدِّلالة أو الاقتضاء أو كليهما في الكلام عن مفردات بداية البحث الأساسي لشرح معانيها، وبما لم يخلُ من فائدة العلم المشترك بمصطلحاتها إلى أن جاء دور التَّركيز على خصوص أحوال المعاملات من ذلك الفساد دون غيرها من عدمه فقهيَّاً.

كما وجعل العلماء بالمناسبة لنهي هذه الأمور أقساماً ثلاثة، للبحث في كلِّ منها من حيث قرب الارتباط بما نحن فيه من الفساد في هذه المعاملات حتَّى بما تشترك معها به تلك العبادات أيضاً، وهو ما يحمل الأوَّل منها عليه.

ومن حيث توسُّطه في ذلك، وهو ما يحمل ثانيها.

ومن حيث الحالة الأخيرة، وهي ما تحمل الثَّالث، وهو البعيد عن الفساد إجمالاً مع التَّوجيه.

ونحن نستعرض ما يكفينا منها ولو مختصراً، لأنَّ التعمُّق الفقهي التَّطبيقي هو الَّذي يعطي النَّتيجة المناسبة لكل منها.

الأوَّل منها: وهو الَّذي يكون النَّهي فيه بداعي بيان مانعيَّة الشَّيء المنهي عنه صريحاً أو بداع آخر مشابه له ولو بالإرشاد إلى المانعيَّة، فيكون كل منهما دالاًّ على فساد المعاملة عند الإخلال بشروط صحَّتها.

لتساوي المصاديق المرفوضة شرعاً، ولو لدلالة النَّهي على اعتبار عدم المانع من حصول ذلك فيها- فتخلُّفه تخلُّف للشَّرط المعتبر في صحَّتها.

سواء تعلَّق الإرشاد إلى الفساد بالمَنشأ في مثل الإيقاعات كالطَّلاق أو

ص: 381

العتق، أو بأحد الطَّرفين في العقود بيعاً وشراءاً ونكاحاً وغيرها، كإيقاع الصَّبي والمجنون والسَّفيه وعقودهم.

أو بأحد العوضين في العقود كبيع الخمر والكلب مثلاً بدون مبرِّر شرعي، لأنَّ ثمنهما سحت.

أو بالمورد في الإيقاعات كالبطلان فيها مع فقد الشَّرط كالبلوغ والعقل وشاهدي العدل وغيرهما في الطَّلاق.

أو بمطلق التَّسبيب كبيع المنابذة ونكاح الشِّغار ونحوهما.

فلا شكَّ في فساد هذا التَّعامل وبكل معانيه ما دام أنَّ النَّهي المعاملي إرشاد إليه، فضلاً عمَّا لو قامت الحجَّة الشَّرعيَّة الاستدلاليَّة عليه.

بل هو كما مرَّ ذكره في موارد فساد العبادة.

وبذلك كان كل من الأمرين عبادة ومعاملة ممَّا لا نزاع فيه بين الأصوليِّين الفقهاء.

ومن أراد التَّوسُّع فإنَّ الضَّالَّة المنشودة للمقام هي الفقهيَّات الأصوليَّة العلميَّة والعمليَّة والتَّي تطابقت عليها كلتا الواسطتين الاستدلاليَّة والاقتضائيَّة.لكن بما أنَّه لا تلازم شرعاً بين هذا الفساد النَّاتج عن الحجَّة المعتبرة، وإن كان ممَّا لا نزاع في فساده بينهم كما في الأمور العباديَّة السَّابقة.

وبين وجوب الإعادة أو القضاء للتَّعويض بالصَّحيح، وإن كان على نحو الدَّوام بعد توفُّر الأدلَّة الاستثنائيَّة على عدم استمراريَّة بقاء ذلك الفساد ما دامت هذه الأدلَّة مطابقة له، وإن غلبت كثرة الفساد الحقيقي في العبادات.

وإن لم تكن تلك الكثرة أيضاً بدائميَّة في جميع مصاديقها، لوجود بعض المستثنيات في المعاملات كبعض عقود الصِّبيان المصحِّحة مسبقاً بتخويل أولياءهم أو أرباب عملهم، كبعض الممَّيزين المؤتمنين منهم وما هم فوق ذلك ممَّا دون البلوغ.

ص: 382

ومثل هذا التَّعامل وإن أطلق على نتيجته الفساد ظاهراً، إلاَّ أنَّ الدَّليل المخالف هو الحاكم بإسقاطه.

وقد يلحق بحالته العلاج بعد إتمام العقد من الصَّبي بإمضاء من ولي أمره له في هذا، بناءاً على قاعدة الكشف.

وكتصحيح بيع كلاب الحراسة وبيع سوائل الخمور المعدَّة اقتناءاً وبيعاً للتَّخليل لا غير.

وبيع الفضولي البائع أو المخوَّل ما لا يملكه لآخر، ثمَّ تلاه إمضاء صاحب الحاجة المبيعة.

ونحو ذلك من كثير التَّعاملات المصحَّحة بالأدلَّة أو بالتَّوجيه المطابق لها أو ما تداركه المتعامل أثناء تعامله بما يرضي الشَّرع، وإن كانت البداية غير مرحَّب بها وعرف صحيحاً بين المتشرِّعة.

فلا مانع من القول إذن بصحَّة الحكم بالفساد مع الاستثناءات المشاعة في الفقه والمصفَّاة بالفساد الإجمالي كما ذكرنا هذا في العبادات، أو بقي الفساد بالنَّحو الأدنى على حاله في بواقي ما مضى وأمثاله، بتسبُّب عن سبب الفساد ممَّن لا تصح منهم الإعادة المتعارفة.

لكن ليس كالإعادة والقضاء في العبادات، بل بما يصح أداؤه على النَّهج المشروع، وممَّن يقبل منهم ذلك وعلى هذا النَّحو من الإجمال فقط.

الثَّاني: وهو ما إذا كان النَّهي الوارد تكليفيَّاً محضاً بدون أي أثر وضعي سلبي يترتَّب عليه عند المخالفة للأمر المقابل للحالة التَّعامليَّة، إلاَّ بمبغوضيَّة ما تعلَّق به ذلك النَّهي، بداعي مجرَّد الرَّدع والزَّجر لا غير.

وهو برزخ ما بين ما تأكَّد منه الفساد الحقيقي ولو إجمالاً، وبين ما لم يتأكَّد منه الصَّحَّة إلاَّ مع التَّوجيه وهو الثَّالث الآتي قريباً.

ص: 383

كالنَّهي عن البيع والشِّراء وقت النِّداء يوم الجمعة لصلاتها في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌلَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ](1).

فإنَّ البيع لو تحقَّق وتكاملت شروطه وقت النِّداء، وإن نال مرتكبه إثماً ومعصية يزولان بالاستغفار والتَّوبة النَّصوحة ولم تكن هناك مخالفة للتَّقرُّب للمعبود تعالى بالمبغوض بعدهما لخلوِّه من ذلك الأثر الوضعي المعاكس كما سبق في العبادات، ولعدم اشتراط قصد القربة في المعاملات وإن رجح قصدها استحباباً فيما لم يتعارض فيه الأمر والنَّهي.

وعليه فمن ارتدع بعد كمال العقد والتحق بالصَّلاة ورجع مطالباً بحقِّه ثمناً أو مثمناً لابدَّ من أن يكون عموم وإطلاق قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ](2)، ناصرين له وكانت أصالة الصحَّة أيضاً عامرة لصالحه عند الشَّك.

فضلاً عمَّا لو قيل بعدم وجوب هذه الصَّلاة، أو قيل بمجرَّد استحبابها بناءاً عليه كذلك في الغيبة الكبرى، ولأجله جاءت كلمة [نودي] في الآية مبنيَّة للمجهول.

ومثل ما مضى من النَّهي عن غسل الثَّوب المتنجِّس بالماء المغصوب، وتمَّ هذا على طبق الموازين الرَّدعيَّة والزَّجريَّة الماضية وطبق المبغوضيَّة من دون أثر وضعي معاكس، وهو بقاء الثَّوب على نجاسته، بل تطهر بذلك الغسل على ما أثبتته الأدلَّة مع براءة ذمَّة الغاسل إذا رضي صاحب الماء أو تمَّ تعويضه.

وعليه فعدم الفساد في المثالين ونحوهما ثابت، سواء في المعاملات اللَّفظيَّة والاصطلاحيَّة التَّابعة لأدلَّتها أو العمليَّة كالتَّصرُّف بالغسل بالماء المغصوب وفي مقابلة وجوب إرضاء صاحبه.

ص: 384


1- سورة الجمعة / آية 9.
2- سورة المائدة / آية 1.

وكلا المثالين علاقتهما بذات السَّبب الَّذي لا منافاة عقلاً -- غير مستقل -- ولا عرفاً أيضاً فيهما بين مبغوضيَّة العقد والتَّسبُّب به وبين إمضاء الشَّارع له بطرقه الَّتي مرَّت بعد تكامل العقد اللَّفظي وبين مبغوضيَّة التَّصرُّف بالغسل والتَّسبيب به كذلك وبين رضا مالك الماء بطرقه أيضاً.

الثَّالث: وهو ما إذا كان النَّهي عن المسبِّب، كما عن نفس وجود المعاملة، وهي الَّتي لم تتأكَّد من أمثلتها الصحَّة إلاَّ مع التَّوجيه لإمكانها أو عدم امتناعها إذا قبلت التَّوجيهات شرعاً.

كالنَّهي عن بيع العبد الآبق وبيع المصحف الشَّريف وبيع الطَّائر المملوك وهو في السَّماء وأمثالها قبل التَّوجيه المصحِّح.

فذهب جماعة من أهل العلم إلى القول بفساد هذا التَّعامل، لاستظهارهم من هذا ظاهراً عدم الفوز بقبض المبيع.

لكن عند طرح المجمل من القول على بساط البحث والتَّفصيل ولو مع هذا الإجمال أيضاً ككون العبد ذا مزاج خاص بتعوُّده على أن يعود بعد حين مختصر.وكون معاني المصحف الَّتي لا تكون معوَّضة بأعلى أثمان وخزائن الدُّنيا كلُّها ولن يصل إلى جميعها إلاَّ النَّبيصلی الله علیه و آله و سلم والإمام u ومن أوتي كل معارفه ممَّن شهد لهم بذلك منهما للآخرين حتَّى تصلح أن تملك لبعض حكراً لهم دون بعض.

مع كونها معروضة إلهيَّاً لهداية الجميع بعظيم أنوارها مشروطة بالتَّعلُّم ممَّن نزلت عليهم وخُصُّوا بها، كمن عنده علم الكتاب u، فلم يتيسَّر منها للمتعلِّم إلاَّ بما يطابق ما بمستواه، وعلى طبق مقولة (أعطه كلَّك يعطك بعضه).

فلابدَّ من بيع مثل المصحف من المطمئن على صحَّة مصداقيَّة التَّمليك بما قوبل بالثَّمن من غير ما مرَّ من المعاني العظمى.

وكون الطَّائر الطَّليق في الجو قد علَّمه مالكه سابقاً أو لاحقاً بأن يعود إليه متَّى

ص: 385

أراد بالإشارة الخاصَّة إليه، أو هو عائد إليه حسب عادته معه.

وعلى أساس ما ذكرنا وأشرنا إذا لم يستظهر من الأدلَّة أنَّ النَّهي إرشاد إلى خصوص الفساد كما مرَّ، لوجود السِّعة في مقاصد المتعاملين الذِّهنيَّة ومن معانيها ما يتوصَّل به إلى برِّ الأمان.

فلا يدل ذلك على خصوص البطلان أو أنَّه تكليفي محض، حتَّى لا يتحقَّق البطلان أيضاً.

ومقتضى الإطلاق والعموم وأصالة الصحَّة عند ورود الشَّك عدم البطلان في هذا القسم الثَّالث أيضاً، لكون المرجع الحاكم في هذا وهو كون تعيين أنَّ النَّهي تكليفي محض أو إرشاد إلى الفساد هي القرائن المعتبرة من النُّصوص أو الإجماع المعتبر، دون مطلق الإدِّعاء دون أن يدعم بالدَّليل.

وبالأخص إذا بيع الآبق وإن لم يعثر عليه على وجه احتمال العثور عليه عقلائيَّاً كما أشرنا، وكما لو كان بيعه مع ضميمة معتبرة ولو قلَّت قيمتها أو بيع المصحف الشَّريف بصفته الورقيَّة وكتاباتها المملوكة ممَّا بين الدَّفَّتين.

وإن احتاط الورعون وهو في محلِّه بالتَّبادل فيه بين المتبايعين بنحو التَّهادي، إكباراً لتلك المعاني بالنَّحو الاستحبابي.

أو بيع الطَّائر وهو في السَّماء مع ما مضى ذكره عنه مع ضميمة معتبرة مبررِّة للموقف، وكذا بقيَّة الأمثلة.

ولو قيل بأنَّ ممَّا قد يستدل به من كلمات الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ بنحو التَّعليل منهم لتثبيت الفساد وبمطلق النَّهي التَّكليفي ممَّا ورد عنهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ حول نكاح العبد وتزوُّجه بدون إذن من سيِّده.

كما عن زرارة عن الإمام الباقر u سأله عن مملوك تزوَّج بغير إذن سيِّده فقال ذلك إلى سيِّده إن شاء أجازه وإن شاء فرَّق بينهما.

ص: 386

قلت أصلحك الله إنَّ الحكم ابن عتبة وإبراهيم النَّخعي وأصحابهما يقولون إنَّ أصل النِّكاح فاسد ولا يحل إجازة السيِّد له.فقال أبو جعفر u أنَّه لم يعص الله وإنَّما عصى سيِّده فإذا أجاز فهو له جائز)(1).

فإنَّ من فحوى هذا التَّعليل يظهر معنى كليَّاً، وهو أنَّ كل عقد أو إيقاع تحقَّقت فيه معصية الله تعالى يكون باطلاً.

أقول: فإنَّه يمكن أن يقال بعدم تصحيح الأخذ بهذا المعنى الكلِّي المخلوط فيه معنى نكاح العبد الموقوف على إجازة سيِّده.

ومعنى نكاح المحارم الَّذي لا تنفعه إجازة أي أحد، لوجوب التَّفريق بين مصداقي المعنيين المختلف في شرع الله سبحانه.

بكون الأوَّل قابلاً للصحَّة بالإجازة، وكون الثَّاني دائماً محكوماً عليه بالبطلان.

حيث ثبت بإطلاق الأدلَّة وعموماتها وبما لا نزاع فيه بأنَّ كل نكاح مأذون فيه من شرع الله إلاَّ بما قام الدَّليل الخاص على فساده كالمحارم.

ويضاف من التَّسنيد الَّذي يعطي أمل الرِّضا بزواج العبد إذا أجازه سيِّده بعد ذلك، للتَّفريق بينه وبين من يتزوَّج إحدى محارمه بدون أي أمل بأن يرتضي منه ذلك ما في صحيح منصور بن حازم، عن أبي عبد الله u في (مملوك تزوَّج بغير إذن مولاه أعاصٍ لله؟ قال: عاصٍ لمولاه، قلت: حرام هو؟ قال: ما أزعم أنَّه حرام ونوله أن لا يفعل إلاَّ بإذن مولاه)(2).

أقول: وببيان الإمام u من عدم الحرمة تثبيت حتمي له إذا تعقَّب زواجه رضا سيِّده عنه فيه بحصره المعصية لسيِّده دون الله تعالى في حكمه العام المطلق بصحَّة كل

ص: 387


1- الوسائل باب 22 من أبواب نكاح العبيد والإماء من كتاب النكاح حديث 1.
2- وسائل الشيعة (آل البيت) ج 21 ص113.

زواج قابل للتَّصحيح إذا توقَّف على قيد أو شرط من كل مباح أو لا مانع منه في أصل التَّشريع عدا ما لا مجال فيه بالتَّنصيص الخاص بالمنع منه من المحارم.

ثمَّ إن افترضنا المبالغة بأكثر ممَّا لو قيل آنفاً لصالح دلالة النَّهي في العبادات والمعاملات معاً بتعويض دلالته على الصحَّة مكان الفساد المدَّعى للحسم أكثر.

وقلنا بما كان قد قيل من هذه الدِّلالة مع تبديل الفساد بالصحَّة في الأمرين معاً، بناءاً على ما قالوا بأنَّ تعلُّق النَّهي بشيء لابدَّ أن يكون بلحاظ أثره المترتِّب عليه والفساد لا أثر له.

فلابدَّ من أن تكون دلالته في كل منهما على الصحَّة لا على الفساد إلاَّ ما خرج بالدَّليل.

ثمَّ بعده لو أخذنا بما أشرنا إلى بعضه في السَّابق جواباً قد تفضَّل به وبما أضاف إليه أحد أساتذتنا العظام قدس سره وهو خلاصة الحق بقوله:-

(إنَّه إن أراد الصحة الفعلية من كل حيثية فبطلان هذا القول غني عن البيان في العبادات، بل و في المعاملات أيضا إن كان النهي إرشادا إلى الفساد.و إن كان المراد الكشف عن الصحة لو لا النهي فهو حق لم يختلف فيه أحد)(1).

أقول: بعد ورود قول الأئمَّة عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ(لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه)(2)، ويعضده رواية نفي الجنس الَّتي لابدَّ أن يكون منها معاني النَّهي وهي قولهم عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ (لا بيع إلاَّ في ملك)(3).

إن كان المراد الكشف عن الصحَّة لولا النَّواهي إذا تحدَّاها الفضولي وباع مال

ص: 388


1- تهذيب الأصول - ج1 – ص245.
2- وسائل الشيعة: ج14 ص572 ب90 ضمن ح19843.
3- المستدرك 13 : 230 / أبواب عقد البيع وشروطه ب1 ح3 (مع اختلاف يسير).

غيره بدون إذنه، ثمَّ تعقَّبه بعد ذلك وأجازه فهو الحق الَّذي لم يختلف فيه أحد كما مرَّ.

فخلاصة الجميع لا شكَّ في حصول الفساد الإجمالي في العبادات والمعاملات إلاَّ أنَّها في الأولى أكثر.

ومن أراد الخوض الأوسع فليراجع فقهيَّات الجانبين الاستدلاليَّة، وبما هو أنجر للمطلِّع من الفتوائيَّة، ومن الله تمام التَّوفيق.

ص: 389

خاتمة الجزء الثَّاني

الباب الرَّابع الصِّنف الثَّاني(النَّواهي المستقلَّة)

وهو على اختصارنا له بوَّبنا له هذا التَّبويب الخاص به، على أمل أن يسعى للتَّوسُّع في أمره الباحثون بما قد ينفع

وهذا الصِّنف الثَّاني هو من حالتي النَّهي الَّتي أشرنا بعد مرورنا على الصِّنف الأوَّل الماضي منهما وهو المرتبط باشتراكه مع الأوامر الَّتي بدأنا بالبحث فيها أوائل مباحث الألفاظ بعد الاشتقاق مشتركة مع تلك النَّواهي ولو بما هي عليه من الحالة الإجماليَّة التَّابعة المذكورة في هذا الجزء الثَّاني، وصنفه الأوَّل وما حملته من المعنى.

وأمَّا هذا الصِّنف الثَّاني للنَّهي لابدَّ أن نبحث فيه الآن على ما يتيسَّر على النَّحو المستقل عن الأوامر، وإن جعلناه تابعاً لها في الذكر في كثير من الحالات سابقاً، حيث كان أصله الوضعي والاستعمالي ذلك على الأكثر.

لأنَّه لا ينسجم مع الأوامر لو خلِّيت الألفاظ المتضادَّة وطباعها التَّداوليَّة بمثل ما انسجم معها بعض مصاديق الصِّنف الأوَّل الموضوعيَّة من تلك النَّواهي الخارجة عن طبيعة التَّداول الوضعي اللَّفظي والدَّاخلة في ذهنيَّة المتداخلات الفكريَّة الأصوليَّة للفقهاء وما حوته أفكارهم من دقائق المفاهيم، حينما صدعوا بمجريات نواهي الكتاب والسنَّة عن العترة الشَّريفة الَّتي طالما لم يدرك كل دقائقهم أكابر اللُّغويِّين.

وإن كان هذا الثَّاني المفترض وهو غير المنسجم مع تلك الأوامر بأيِّة علاقة من

ص: 390

علاقات الاشتراك أو التَّفرُّع عنها من الوجهة اللُّغويَّة العامَّة وذات العلاقة بالقواعد المنطقيَّة السَّائدة.

حيث أنَّ البارز منه على الأكثر هو ما كان ضدَّاً تامَّاً للأوامر وعلى تمام انطباق أنَّ المصداقيَّة الثَّابتة لحالة الضدَّيَّة هي أنَّ الضدَّين لا يجتمعان كما صرَّح به المنطقيُّون، وإن كان عدم الالتقاء بينهما عند المنطقيِّين حقيقيَّاً وعند الشَّرع اعتباريَّاً، حينما لا ينسجم على الأكثر أي أمر مع أي نهي في عكس الأوَّل وعكس الثَّاني.

كما بين النَّهي والأمر لو قلبنا الحالة، حتَّى أنَّه لو فسِّر هذا الأمر بما إذا جاء أمر بالصَّلاة على أنَّه يراد منه النَّهي عن تركه ما هو إلاَّ لعدم انسجام الأمر بالصَّلاة ذات الوقت المحدود قرآنيَّاً في جميع أوقاتها مع السِّعة المعهودة بين أفرادها، وعلى نحو إمكان أداءها نفسها في تلك السِّعة ولو بأضعاف كثيرة مع النَّهي عن التَّرك لها في جميع تلك الأجزاء من الوقت الموسَّع فهو غير ممكن تشريعاً.

مع أنَّ الواجب الأدائي هو مرَّة واحدة حسب الأدلَّة حذراً من الوقوع فيما يوصل الحالة إلى العسر والحرج الممنوعين في الكتاب والسنَّة والإجماع والسِّيرة العمليَّة والعقل ونحوها تجاه التَّزاحم مع التَّكاليف المتنوِّعة الأخرى المطلوبة من المكلَّف غير الصَّلاة من شؤون الحياة الأخرى الَّلازمة وغيرها ممَّا عدا وقت الفضيلة الخاص بها أو الضِّيق لها عند الاضطرار إليه قصوراً أو تقصيراً أو نحوهما.

فهو وإن دخل في نسبة من الاشتراك وذكرنا بعض أمثلته في الصِّنف الأوَّل ومواقعه الَّتي مرَّت.

فإنَّه في واقعه الذَّاتي ليس منسجماً مع تلك الأوامر بالانسجام التَّام مع حالات النَّهي، إذا أريد من المنهي عنه أنَّه هو ما يعارض الصَّلاة كالفحشاء والمنكر والخمر بل القرب من الصَّلاة حالة السكر.

بل حتَّى المحلَّلات من بقيَّة المنافيات لأن يكون النَّهي كما في الحالات المشتركة

ص: 391

القديمة كلاًّ أو جزء.

لأنَّ الأمر الَّذي يعطي إيجاب التَّكليف بالصَّلاة حسب والنَّهي نهياً عن ترك تلك الصَّلاة لابدَّ أن يكون بمعنى المنع عن قطع المواصلة على أداءها بالنَّحو التَّأكيدي على مفاد ذلك الأمر المؤسَّس، وهما معنيان فيهما شيء من التَّفاوت الَّذي لا يساعد حتَّى على تمام الانسجام ومن حالات النَّهي في المقام عدم التَّرك لها في الدَّار المغصوبة وهو لا يتم إن أريد تصحيحه إلاَّ في حال الهروب في الوقت المضيَّق حسب وهو معنى غير طبيعي في ندرته وإن جاز.

لوجود التَّنافر التَّام بين الأمر بها وبين أن تصلَّى في تلك الدَّار حالة الاستقرار بينما كانت تلك الدَّار مغصوبة.

ولذا سمُّوا هذا المثال من أمثلة التَّزاحم لما حصل من التَّنافر وهو التَّطبيق الاضطراري للصَّلاة وإن كانت هروباً من الغصبيَّة ولضيق الوقت.

ولذا لا يعوَّض النَّهي عن الأمر في جميع الحالات من كلِّ الجهات إلاَّ بنحو التَّأكيدوبالنَّحو العلاجي على عدم جواز التَّهاون بمزاولة مفاد الأمر واعتماداً على ما ورد من أنَّ (الصَّلاة لا تسقط بحال)(1) وهو مخالف للأحوال الأخرى.

إذ لعلَّ الآمر لا يريد من أمره تأسيساً إلاَّ المرَّة الواحدة وسعة الوقت لكل صلاة من أوقاتها بمقدار تلك المرَّة وللتَّصرُّفات الأخرى كالأكل والشُّرب والعمل والدَّرس والنَّوم ونحو ذلك، لا لتكرار الصَّلاة مرَّات عديدة في تلك السِّعة إلاَّ للإعادة التَّصحيحيَّة.

وإنَّ من مصاديق عدم انسجام النَّهي مع الأمر هو قوله تعالى [وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ](2).

ص: 392


1- الوسائل 2: 373 / أبواب الاستحاضة ب 1 ح 5.
2- سورة العنكبوت / آية 45.

ومن تلك المصاديق عدم الانسجام بوضوح مع ما في قوله تعالى [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى](1) بنحو أولى.

وإذا جعلت الأوامر بطبيعتها من السِّعة منسجمة مع الطَّاعات أكثر والنَّواهي مع المعاصي كبارها وصغارها كذلك، ومن ذلك لا يصح دوماً أن يقال في باب العقائد (آمن بالله الواحد) وأنت تريد أو غيرك (لا تؤمن بالله الواحد) تعالى الله عن ذلك علوَّاً كبيراً، إلاَّ أن يضاف إلى الثَّاني كلمة (نفاقاً) والعياذ بالله من كل تناقض سرَّاً ووقاحة علناً.

لأنَّ المتناقضين لا يجتمعان ولا يرتفعان لتأكُّد الوحدويَّة في الموجد تعالى على ما هو محرَّر في محلِّه ووضوحه لكل عاقل مستقيم.

وهكذا ما نحن فيه من أمور الأحكام العباديَّة كما بين لفظي (صلِّ) في الأمر و (لا تصلِّ) نهياً، إلاَّ مع إضافة (مع السكر) أو (القرب منه) أو (بلا طهور).

لعدم إمكان الانسجام بين المتضادَّين من دون الإضافة المذكورة في جميع أوقات السِّعة المذكورة أعلاه، فضلاً عن أوقات الضِّيق.

لما مرَّ من أنَّ (الصَّلاة لا تسقط بحال)(2) في مرَّة الامتثال، وإن ارتفعا في بعض الأوقات من أوقات السِّعة حتَّى بدون معصية لو تقدَّم عمل للاضطرار إليه من المباحات، كإفطار الصَّائم في صومه المستحب مع تلك الصَّلاة وإن فضِّلت الصَّلاة في الاختيار ولو لأنَّ (اختلاف اللَّفظ يدل على اختلاف المعنى).

أو لأجل تلك الموجبة الجزئيَّة من حالتي التَّلاقي، أو السَّالبة الجزئيَّة من حالتي التَّنافر مع كون البارز الأكثر هو التَّنافر بين الأمر والنَّهي.

ولذا عنون الفقهاء أجمعون "رضوان الله عليهم" في تدوينهم الفقهي العلمي

ص: 393


1- سورة النساء / آية 43
2- الوسائل 2: 373 / أبواب الاستحاضة ب 1 ح 5.

والعملي لفروع الدِّين العشرة المعروفة بمطابقتها للأدلَّة المتَّصلة بكل فرع منها من آيات الأحكام ورواياتها، وهي كون كل منها جامعاً لأفرادها ومانعاً لأغيارها "جازاهم الله عنَّا خيراً" كما هو مفصَّل في محلِّه.حتَّى جعلوا السَّابع منها وهو الأمر بالمعروف مغايراً للثَّامن منها تماماً ظاهراً وهو النَّهي عن المنكر كذلك كما في قوله تعالى [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ](1) وآية لقمان الحكيم يعظ ولده حول هذين الواجبين في قوله تعالى [يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ](2).

وعن الحديث الشَّريف عن لزومهما حيث قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم (اذا لم يأمروا بالمعروف و لم ينهوا عن المنكر ... سلط الله عليهم شرارهم فيدعوا عند ذلك خيارهم فلا يستجاب لهم)(3) وغيره.

حتَّى عُدَّا عندهم من أهم العقائد الشَّرعيَّة عند جميع المسلمين، وما هو إلاَّ لكون مصاديق الأمر الذَّاتيَّة غير مصاديق النَّهي الذَّاتيَّة في الجملة والتَّفصيل.

ولذا فرَّقوا بين صرف الطَّاعات بدرجاتها عن صرف المعاصي بدركاتها.

وبهذا نزلت آيات الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر على لسان كل الأنبياء والرُّسل والحكماء ولسان نبيِّنا صلی الله علیه و آله و سلم.

وهكذا تفاصيل ما في السنَّة وعلى لسانهم ولسان العترة دون أن يعوَّض المعروف يوماً عن المنكر والمنكر عن المعروف كذلك، أو للحاجة في هذا التَّقسيم إلى الإفادات المتعدِّدة لتوسعة الفقاهة في أذهان المكلَّفين أو الجمع بين بعض الأوامر

ص: 394


1- سورة آل عمران / آية 104.
2- سورة لقمان / آية 17.
3- تحف العقول، ص51.

وبعض النَّواهي جمع عموم وخصوص من وجه أو جمعاً مطلقاً، وترك الباقي على نحو الاستقلال الدَّائم.

ومن مصاديق ذلك [وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ](1)، وقوله [وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ](2)، وغيرهما.

ولو أراد الله اندكاك الأمر بالنَّهي والنَّهي بالأمر مطلقاً لما فصَّل بينهما في هذين القولين وغيرهما ممَّا سبق.

إلاَّ بما مرَّ ذكره من أمثال حالة التَّزاحم الأدائيَّة في قضيَّة الصَّلاة في الدَّار المغصوبة عند ضيق الوقت من حالة العلاج الاستثنائيَّة دون طبيعة إمكان تلاقي الأمر بالنَّهي أو تلاقي النَّهي بالأمر.

بل لا تلاقي بين كل واجب ومستحب ومكروه ومباح مع كل محرَّم في سعة ذلك الواجب، أو كون النَّواهي تأتي لتهذيب الأوامر وتنقيتها من الشَّوائب.

نعم تشترك تلك الأمور الأربعة بكل ما يسعه ذلك الوقت الواسع لها ممَّا ذكرناه في الصِّنف الأوَّل إلاَّ ذلك الخاص بالواجب فلا مشاركة.هذا ما يتعلَّق باللِّسان الأوَّل وهو التَّعبير السَّطحي من المضادَّة للشَّيء عن الشَّيء لعدم إمكان اجتماع الضدَّين حديَّاً ممَّا مرَّ كالسَّواد والبياض، إن رضينا به لما نوَّهنا عنه.

إذ لا يعبِّر أحدهما عن الآخر منطقيَّاً كما كان ذلك في الأدب العربي إلاَّ مع الضميمة المخلَّة بحقيقة المتضادَّين كما أسلفنا عند تحقُّق اللِّقاء الإجمالي، ومن ذلك ما لو كان يمكن حصوله بسهولة إذا ارتفع الضدَّان إلى معنى صدق المعنى الثَّالث الَّذي يمكن فيه صدق التَّلاقي كما في المعاني المشتركة مع الأوامر من النَّواهي من

ص: 395


1- سورة آل عمران / آية 103.
2- سورة المائدة / آية 2.

صنفها الأوَّل الماضي، ولما يتحقَّق به الاعتبار الشَّرعي لا الحقيقي.

أمَّا الَّذي يتعلَّق باللِّسان الثَّاني وهو المعمَّق في ضدَّيه الضِّد حسب قصد صاحبه، وهو ما قد يضاف إلى الأمر مثلاً ما لا يمنع من الملاقاة من كلمات ضد الضِّد بما وراء المنطوق من عمقه المفهومي.

فقد ذكروا في أمره ما يمكن فيه القول بأنَّ الأمر بالشَّيء هو عدم النَّهي عن ضدِّ ضدِّه، وهو ما يتناسب مع نفس معنى الأمر الإلهي المتناسب مع معنى تناسب عدم العسر والحرج في التَّكاليف الإسلاميَّة المتعارفة في اللُّطف الإلهي المولوي ولم يتعارف عنهم كثرة الكلام أو نحو ذلك عن هذا النَّهي بعده ليكون كالأمر بأنَّ النَّهي هل يراد منه الأمر بضدِّه أم لا؟

وهو ما يتكفَّل أموره بحثنا عن الأضداد.

وقد تكلَّمنا في السَّابق عن موارد الصِّنف الأوَّل من موارد الملاقاة بما لا يحوجنا إلى الإطالة عنه أكثر وهو الَّذي يكون معنى الأمر فيه بالصَّلاة هو النَّهي الخاص عن تركها وكأنَّه أمر وزيادة بلزوم المواصلة ممَّا مرَّ ذكره.

والحمد لله أوَّلاً وآخراً

ص: 396

نهاية المطاف

وإلى هنا نكتفي بهذا القدر من الكلام عمَّا سمَّيناه في هذا الجزء الثَّاني في الباب الثَّالث بالمدخل، وفي خاتمته الباب الرَّابع الخاص بالنَّواهي المستقلَّة، وما بين البابين بعد الاشتقاق الكلام حول الأوامر والنَّواهي المنضمَّة إليها وتوابعهما، لتكون بداية الجزء الثَّالث الآتي من الباب الخامس.

ممَّا تيسَّر لي مع تشتُّت البال وكثرة الأشغال مع قصد وجه الله تعالى السَّابق تقرُّباً إليه ولو لأن لا أكون مقصِّراً تجاه واجب الانتماء إلى الحوزة النِّجفيَّة المطهَّرة منذ نعومة الأظفار، ليكون مقبولاً عنده وبدعوات المولى المعظَّم صاحب الأمر f للتَّأييد والتَّسديد إلى إكمال بقيَّة الأجزاء ولو كمقترحات يؤمل من بعضها أن تطرح فيها أو بعدها لطلاَّبها والفضلاء بمقدارها البركات.

والله ولِّي التَّوفيق.

النَّجف الأشرف 8 ذي الحجَّة الحرام

علاء الدِّين الموسوي

لسنة 1441ه- الغريفي

ص: 397

المصادر

1. القران الكريم

2. الاحتجاج / الطَّبرسي

3. الاستبصار / الطُّوسي

4. الاستيعاب في معرفة الأصحاب / ابن عبد البر

5. الحدائق الناضرة / الشيخ يوسف البحراني

6. الكافي / الكليني

7. المستدرك / للحاكم النيسابوري

8. المحاسن / أبي جعفر البرقي

9. الملهوف / ابن طاووس

10. المقتل / الخوارزمي

11. السنن الكبرى / البيهقي

12. الفردوس الأعلى / الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء

13. القواعد الفقهية - السيد البجنوردي

14. الرياض النضرة / الطبري

15. التهذيب / الطوسي

16. الذَّريعة إلى أصول الشَّريعة/ السيد المرتضى

17. أدب الطَّف / السيد جواد شبر

18. أصول الفقه / الشَّيخ المظفَّر

19. إيضاح الفوائد في شرح مشكلات القواعد / فخر المحقِّقين

ص: 398

20. بحار الأنوار / المجلسي

21. جامع أحاديث الشيعة / السيد البروجردي

22. جامع المقاصد / المحقق الكركي

23. جواهر الكلام / الشيخ محمد حسن الجواهري

24. دعائم الإسلام / للقاضي أبي حنيفة النعمان ابن محمد المغربي

25. درر الفوائد / الشيخ عبد الكريم الحائري

26. وسائل الشيعة / الحر العاملي

27. كشف الخفاء / العجلوني

28. كشف الغطاء / الشيخ جعفر كاشف الغطاء

29. محاضرات في أصول الفقه / الشيخ محمد إسحاق الفياض

30. ميزان الحكمة / الرَّيشهري

31. مستدرك الوسائل / الميرزا النوري1.

32. معجم أصول الفقه / خالد رمضان حسن

33. معالم الدين وملاذ المجتهدين / لابن الشَّهيد الثَّاني

34. معارج الأصول / المحقق الحلي

35. مقالات الأصول / الشيخ ضياء الدين العراقي

36. مقتل الحسين u / المقرّم

37. مغني اللبيب / ابن هشام

38. نهاية الأصول / العلامة الحلي

39. نهج البلاغة: الكتاب 47

40. سنن ابن ماجة

41. فرائد الأصول / الشَّيخ الأنصاري

42. صحيح البخاري

ص: 399

43. صحيح مسلم

44. قطر النَّدى لابن هشام الأنصاري

45. تهذيب الأصول /السَّبزواري

46. تحف العقول / ابن شعبة الحراني

47. تحفة العالم / السيّد جعفر بحر العلوم

48. تهذيب الأحكام / الطوسي

49. تقريرات المجدّد الشيرازي

50. تذكرة الموضوعات - الفتني

51. تذكرة خواص الأمَّة في خصائص الأئمَّة / سبط ابن الجوزي

52. غوالي اللئالي / ابن أبي جمهور الأحسائي

ص: 400

فهرس

1 -كلمة النَّاشر... 3

2 -المحتوى الإجمالي لمضامين الجزء الثَّاني ... 5

3 -التَّمهيد الأول / تلخيص المبادئ اللَّغويَّة والمبادئ الأحكاميَّة ... 9

4 -المطلب الأوَّل / تلخيص المبادئ اللَّغويَّة... 10

5 -المطلب الثَّاني / تلخيص المبادئ الأحكاميَّة... 26

6 -التَّمهيد الثَّاني / ضرورة البدء في الأصول بمباحث الألفاظ ... 35

7 - بحث المشتق... 41

8 - الأمر الأوَّل / أين يكون موقعه المناسب أو الأنسب هل في المقدِّمات والمبادئ أو في مباحث الألفاظ؟... 41

9 - الأمر الثَّاني: معنى الاشتقاق عند النُّحاة ومعناه عند الأصوليِّين والفرق بينهما من النِّسب المنطقيَّة الأربعة

في بدايات أصوله... 42

10 -الأمر الثَّالث: لزوم التَّعرُّف على شرطين مهمَّين جدَّاً في المقام... 44

11 -الأمر الرَّابع: محل البحث الأصولي ومورد الاستثمار... 45

12 -الأمر الخامس: نظرة فيما اختلف فيه من الأمثلة المفردة أنَّها داخلة فيما تنازعوا فيه أم لا؟... 49

13 -الأمر السَّادس: نزاع البعض في اسم الزَّمان... 50

14 -الأمر السَّابع: دفع وهم، بمعنى أنَّ اختلاف المبادئ لا يخرج المشتقَّات عن محل النِّزاع... 53

15 -الأمر الثَّامن: مختارنا في المقام... 55

16 -الأوامر والنَّواهي الإلهيَّة في آيات الأحكام وما يلحق بهما من السنَّة... 58

ص: 401

17 -مدخل البحث العام... 58

18 -أوَّلاً- لابديَّة العلم المسبق ولو إجمالاً بكون الحالة بين هذه الأوامر على أنحاء هذا أوَّلها ... 58

19 -ثانياً - العقائديَّات النَّظريَّة أو غير الضروريَّة وترجيح إلحاقها بالفقه العام ... 61

20 -ثالثاً - ما يُناط بالمقام الخاص من بحث الأوامر والنَّواهي من السنَّة ... 64

21 -رابعاً -- معنى الأوامر والنواهي أو هل يمكن أن يقال عنهما ذلك بنحو من الجمع وهو أنَّ الأمر نهي أو النَّهي أمر

أم لا؟... 68

22 -تلخيص الكلام عن اجتماع الأمر والنَّهي... 69

23 -العود إلى تفصيل ما يلزم بيانه من معاني إمكان الاجتماع أو عدمه... 71

24 -خامساً - الفرق بين الطَّلب المولوي والإرشادي أمراً ونهياً... 79

25-سادساً - كيفيَّة التَّصوير التَّوضيحي لما يقال عن الأمر والنَّهي معاً من الكلام مع إمكانه أو حالة عدمه؟... 86

26 -سابعاً. كيف تكون الأوامر والنَّواهي محدودة بأربعة والأحكام التَّكليفيَّة المشهورة خمسة... 91

27 -ثامناً - ألفاظ أخرى تؤدِّي مؤدَّى الأوامر والنَّواهي للإعراب عن الأحكام الخمسة... 96

28 -تاسعاً -- الأحكام الوضعيَّة التَّابعة للأحكام الخمسة ولو كانت بألفاظ خاصَّة لها في النُّصوص القرآنية وتوابعها

لم تكن من صرف الملازمة الذَّاتيَّة للأوامر والنَّواهي... 105

29 -(تنبيه مهم)... 108

30 - عاشراً- انقسام الطَّلب إلى شيئين من حيث النَّوع طلب فعل وهو الأمر وطلب ترك وهو النَّهي... 109

ص: 402

31 -الحادي عشر- دلالة الأمر في أساسه على الوجوب دون بقيَّة الأحكام وإن قيل بتعدُّد معانيه لعدم المزاحمة

... 113

32 -الثَّاني عشر - الوضع والاستعمال في اللُّغة والشَّرع ... 136

33 -الثَّالث عشر -- دلالة الأمر على الاستحباب... 143

34 -الرَّابع عشر - دلالة الأمر على القدر المشترك بين الوجوب والاستحباب مثلاً... 149

35 -إلحاق... 152

36 -الخامس عشر- دلالة الأمر على الاشتراك لغة ... 153

37 -إلحاق... 158

38 -السَّادس عشر- التَّوقُّف في دلالة الأمر على الشَّيء بعينه والانتهاء إلى القول بالوجوب الشَّرعي... 159

39 -السَّابع عشر- التَّنبيه على ما عدا الوجوب والاستحباب لغة واصطلاحاً شرعيَّاً في مدى إرادته من الأوامر... 160

40 -توابع الأمر... 161

41 -(تنبيه حول تسلسل التَّوابع الآتية)... 161

42 -التَّابع الأوَّل / وهو المرَّة والتِّكرار... 161

43 - أوَّل الأقوال طلب إيجاد الحقيقة... 164

44 - ثاني الأقوال إفادة المرَّة فقط... 166

45 -ثالث الأقوال: إفادة التِّكرار ... 167

46 -التَّابع الثَّاني / الفور والتَّراخي وبما يشبهه في بعض النَّواحي من سعة الوقت وضيقه... 178

47 -1 - ضرورة الكلام عنهما وأهميَّةتشخيص موضوع البحث... 178

48 -2 - الأقوال والأدلَّة على كلِّ منها والإجابات عليها والرَّأي المختار... 182

49 -3 - الاكتفاء في البحث بالآراء الرَّئيسيَّة الثَّلاث... 186

ص: 403

50 -القول الأوَّل: هو الفور... 186

51 -القول الثَّاني: وهو الاشتراك اللَّفظي بين الفور والتَّراخي... 199

52 - القول الثَّالث: وهو الدَّلالة على مطلق الطَّلب ... 205

53 -تنبيه مهم حول ما مضى منالتَّابع الماضي والآتي... 207

54 -التَّابع الثَّالث / الواجبالموسَّع والمضيَّق والزَّائد على وقته وما ليس له وقت ... 208

55 -الأوَّل: وهو المؤقَّت........................................................209

56 -خلاصة البحث... 219

57 -التَّابع الرَّابع / هل يدل نسخ الوجوب على الجواز؟... 225

58 -التَّابع الخامس / الحقيقة الشَّرعيَّة والمتشرعيَّة في نظرتهما الثَّانية... 230

59 -الثَّاني: ما مدى أهميَّة هذا البحث... 235

60 -الثَّالث: هل الحقيقة شرعيَّة أم متشرِّعيَّة... 235

61 -أ / معنى الحقيقة الشَّرعيَّة... 236

62 -ب - معنى الحقيقة المتشرعيَّة... 237

63 -فالأوَّل، وهو الحقيقة الشَّرعيَّة... 241

64 -والثَّاني: هو الحقيقة المتشرعيَّة... 242

65 -التَّابع السَّادس / بحث الأوامر المكرَّرة ... 244

66 -التَّابع السَّابع / الأمر بالأمر... 247

67 -التَّابع الثَّامن / أداء المأمور به هل يتبعه قضاءه بدليله وحكمه؟ أم كان من نحو مستقل؟... 250

68 -التَّابع التَّاسع / هل يجزئ الأمر مع انتفاء الشَّرط... 252

69 -التَّابع العاشر / المفاهيم... 258

70 -الأوَّل: سعة لغة القرآن والى الأخذ بالمفاهيم ولو في الجملة... 258

71 -الثَّاني: عناية الأصوليِّين بها واختلافهم في موقع بحثها والسِّر فيه... 260

ص: 404

72 - الثَّالث: معنى المفهوم... 261

73 - الرَّابع: هل إنَّ المفاهيم تابعة لمباحث الألفاظ؟ أم للعقل غير المستقل ... 264

74 - الخامس: هل المفهوم في بابه حجَّة أم لا؟... 266

75 - 6 - أقسام المفهوم وأنواعه... 270

76 - الأوَّل / مفهوم الشَّرط... 272

77 - (ما هي علامات مفهوم الشَّرط في القضايا)... 272

78 - ( اذا تعدد الشرط واتحد الجزاء )... 274

79 -الثَّاني / مفهوم الوصف... 274

80 -(زبدة المخض فيما مضى عنمفهوم الوصف)... 279

81 -الثَّالث / مفهوم الغاية... 280

82 -الرَّابع / مفهوم الحصر أو الاستثناء... 284

83-الثَّاني من الأدوات الَّتي يراد الكلام عنها في المقام هي (إنَّما)... 289

84 -الثَّالث من الأدوات الموما إليها (بل) الإضرابيَّة... 290

85 -الرَّابع: وهو الملحق بالأدوات... 290

86 -الخامس والسَّادس / مفهوم العدد واللَّقب... 291

87 -الأوَّل منهما: مفهوم العدد... 291

88 -الثَّاني: مفهوم اللَّقب... 293

89 -تتميم مهم مغفول عنه عن (دلالة الاقتضاء والتَّنبيه والإشارة)... 295

90 -(مواقع الدِّلالات الثَّلاث الجديدة في الأدبيَّات والأصول)... 298

91 -(الاقتضاء)... 301

92 -(التَّنبيه والإيماء)... 304

93 -(دلالة الإشارة)... 307

94 -حجيَّة الدِّلالات الثَّلاث الجديدة... 313

ص: 405

95 - التَّابع الحادي عشر / مقدِّمة الواجب... 313

96 - التَّابع الثَّاني عشر: ما يلحق بمقدِّمة الواجب الواجب النَّفسي والغيري... 323

97 - التَّابع الثَّالث عشر / مسألة الضِّد... 330

98 - (خلاصة ما توصَّلنا إليه في نتيجة الكلام حول وجهي استدلالهم المختصر بالوجهين معاً)... 342

99- التَّابع الرَّابع عشر: هل أنَّ الأهم في بحث الضِّد أنَّه علمي؟ أم أنَّه ليجني ثماراً ولو بشرط؟... 342

100-التَّابع الخامس عشر: بحث التَّرتُّب... 350

101-أين يكمن فساد النَّهي عن الشَّيء عبادة أو معاملة إن صحَّ؟ وهل هو عن الدِّلالة أم عن الاقتضاء؟... 361

102 - المقام الأوَّل... 365

103- (صميم الكلام عن المقام الأولَّ وهو اقتضاء النَّهي في العبادات الفساد من عدمه)... 367

104- أولى المرحلتين (عن طريق ما يحصل من الشُّكوك)... 367

105-ثاني المرحلتين: (مرحلة ما لو ثبتت الحجَّة على فساد شيء وبنحوه الأعم في العبادة وملحقاتها أم لم تثبت؟)... 373

106-(أنحاء النَّهي عن العبادة الموجبة لفسادها أو عدمه)... 376

107-مختصر التَّقييم لصميم البحث الماضي بواسطة الاقتضاء لما دون الحجَّة المعتبرة ...380

108-المقام الثَّاني / اقتضاء النَّهي الفساد في المعاملات من عدمه... 381

109-خاتمة الجزء الثَّاني- الباب الرَّابع- الصِّنف الثَّاني/ (النَّواهي المستقلَّة)... 390

110-نهاية المطاف... 397

111-المصادر... 398

112-فهرس... 401

ص: 406

ص: 407

ص: 408

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.