الفقه موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي من فقه الزهراء (علیها السلام)
المجلد السابع : خطبتها علیها السلام في الدار 2
المرجع الديني الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته)
ص: 1
الطبعة الأولى
1439 ه 2018م
تهميش وتعليق:
مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر
كربلاء المقدسة
ص: 2
الفقه
من فقه الزهراء (علیها السلام)
المجلد السابع
خطبتها علیها السلام في الدار
القسم الثاني
ص: 3
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الصِّدِيقَةُ الشَّهِيدَةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الرَّضِيَةُ المَرْضِيَّةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الفَاضِلةُ الزَّكِيَةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الحَوْراءُ الإِنْسِيَّةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُحَدَّثَةُ العَليمَةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المَظْلومَةُ المَغْصُوبَةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُضْطَهَدَةُ المَقْهُورَةُ
السَّلامُ عَليْكِ يا فاطِمَةُ بِنْتَ رَسُول اللهِ
وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ
البلد الأمين ص278. مصباح المتهجد ص711
بحار الأنوار ج97 ص195 ب12 ح5 ط بيروت
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.
أما بعد: فهذا الجزء السابع من كتاب (من فقه الزهراء) صلوات الله وسلامه عليها، ويشتمل على تتمة خطبة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في دارها على نساء المهاجرين والأنصار، لما جئن لعيادتها، أسأل الله التوفيق والقبول، إنه سميع الدعاء.
قم المقدسة
محمد الشيرازي
ص: 5
ص: 6
نصح نَصحاً ونُصحاً، فلاناً ولفلان، لها معنيان: وَعَظَه، وأخلص له في المودة.
قال تعالى: «وَلاَ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُريدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»(1).
وفي معجم مقاييس اللغة: (النون والصاد والحاء أصل يدل على ملائمة بين شيئين وإصلاح لهما.. والناصح: الخياط..).
وفي مجمع البحرين: (انتصح فلان: قبل النصيحة).
ومنه يعرف أن النصيحة لا تنحصر بمعنى الخلوص(2). نعم، الخلوص كالوعظ مصداقان للمعنى الأصلي للنصيحة، وهو الملائمة بين شيئين، كما سبق عن المعجم.
وعلى أي، فإن كلا المعنيين يمكن أن يكون مراداً من قولها (صلوات الله عليها): «وَنَصَحَ لَهُمْ سِرّاً وَإِعْلاَناً».
فعلى الأول: محضهم النصيحة ووعظهم،في العلن بخاطباته في المسجد وغيره، وفي السر في جلساته الخاصة معهم.
ص: 7
..............................
وعلى الثاني: أخلص الإمام (عليه السلام) المودة لرعيته في السر والعلن.
وإن كان المعنى الأول أظهر، والجمع بينهما يفيد أنه (عليه السلام) أخلص لهم المودة وأخلص لهم في القول والعمل سراً وعلانيةً.
وفي الرواية النبوية الشريفة: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»(1).
وفي رواية أخرى: قال (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ». قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟. قَالَ: «للهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُؤْمِنِينَ، وَعَامَّتِهِمْ»(2).
فالنصيحة لله: صحة الاعتقاد في وحدانيته، وإخلاص النية في عبادته.
والنصيحة لكتاب الله: التصديق به، والعمل بما فيه.والنصيحة لرسوله: التصديق بنبوته ورسالته، والانقياد لما أمر به ونهى عنه.
والنصيحة لأئمة المسلمين: أي التصديق بإمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأولاده المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين).
والنصيحة للمؤمنين وعامة الناس: هو إرشادهم للمصالح ودفع المفاسد عنهم، حسب ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ص: 8
..............................
مسألة: لا يجوز للقائد أن يكون منافقاً مع شعبه، فيكون ظاهره شيئاً وباطنه شيئا آخر، بل يجب أن يكون ظاهره كباطنه متصفاً بالموازين الشرعية للقيادة.
فعلى القائد أن يضع الشعب في صورة الأمور، مما يعبر عنه اليوم بالشفافية، ويطلعهم على المشاكل والأزمات والأخطار الداخلية والخارجية، الإدارية منها والاقتصادية والسياسية وغيرها، وأن يخبرهم بالحلول المقترحة ويأخد برأيهم فيها، لا كما يفعله الحكام المستبدون والعملاء من تدبير كل الأمور بليل ومن دون استشارة حقيقية، ثم إظهار غير الحقيقة للناس، فإن ذلك محرم شرعاً، وهو من أسباب سقوط الحكومات؛ لأن الحكومة تستمد قوتها من الناس، فلو نافقت معهم ظهر ذلك للناس ولو بعد حين، ففقدوا ثقتهم بها مما يؤول إلى سقوطها ولو بعد حين.
ومن أدلة الحرمة: إنه لا يجوز للحاكم أن يتصرف في أموال الناس أو في أنفسهم إلا برضاهم، كما أشرنا إلىهذه القاعدة في كتاب (القواعد الفقهية) وغيره، أما أدلة ولاية الفقيه - بعد فرض كونه جامعاً للشرائط - فهي مقيدة بأدلة الشورى، وبأدلة اشتراط رضا الناس، بل أدلة الشورى حاكمة عليها، على ما ذكرناه في (الشورى في الإسلام)، و(البيع)، و(الدولة الإسلامية)، وغيرها.
ومن الوجوه: توقف إحقاق الحق على ذلك، وكذا العدل.
ص: 9
..............................
ومنها: قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا»(1).
وقال سبحانه في آية أخرى: «يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ»(2).
والقيام بالقسط فكيف بالقوامية به، وكذلك الشهادة بالقسط، تتوقف على معرفة الحقائق، ونفاق الحكام أكبر حائل دون معرفتها.ومنها: قولها (عليها السلام) ها هنا: «وَنَصَحَ لَهُمْ سِرّاً وَإِعْلاَناً»، فإنه وإن كان إخباراً إلا أنه يفيد الثبوت واللزوم والإنشاء بدلالة الإشارة وغيرها.
ومنها: ما دل على ذم النفاق، الدالة على الحرمة في مثل المقام، فتأمل.
عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقاً - وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ -: مَنْ إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ. إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ فِي كِتَابِهِ: «إِنَّ
ص: 10
..............................
اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ»(1) وَ قَالَ: «أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ»(2)، وَفِي قَوْلِهِ: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا»(3)»(4).
وعن محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: كَتَبْتُ إِلَيْهِأَسْأَلُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ. فَكَتَبَ إِلَيَّ: «أَنَّ اللهَ يَقُولُ: «إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ - إِلَى قَوْلِهِ - سَبِيلًا»(5) لَيْسُوا مِنْ عِتْرَةِ رَسُولِ اللهِ، وَلَيْسُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يُظْهِرُونَ الإِيمَانَ، وَيُسِرُّونَ الْكُفْرَ وَالتَّكْذِيبَ لَعَنَهُمُ اللهُ»(6).
وعن محمد بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «خَلَّتَانِ لاَ تَجْتَمِعَانِ فِي مُنَافِقٍ: فِقْهٌ فِي الإِسْلاَمِ، وَحُسْنُ سَمْتٍ فِي الْوَجْهِ»(7).
ص: 11
..............................
وقال الصادق (عليه السلام): «أَرْبَعٌ مِنْ عَلامَاتِ النِّفَاقِ: قَسَاوَةُ الْقَلْبِ، وَجُمُودُ الْعَيْنِ، وَالإِصْرَارُ عَلَى الذَّنْبِ، وَالْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا»(1).وعن عبَّاد بن صهيب، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «لاَيَجْمَعُ اللهُ لِمُنَافِقٍ وَلاَ فَاسِقٍ: حُسْنَ السَّمْتِ، وَالْفَقْرَ وَحُسْنَ الْخُلُقِ أَبَداً»(2).
ومن خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) يصف فيها المنافقين، قال: «نَحْمَدُهُ عَلَى مَا وَفَّقَ لَهُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَذَادَ عَنْهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَنَسْأَلُهُ لِمِنَّتِهِ تَمَاماً، وَبِحَبْلِهِ اعْتِصَاماً. وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، خَاضَ إِلَى رِضْوَانِ اللهِ كُلَّ غَمْرَةٍ، وَتَجَرَّعَ فِيهِ كُلَّ غُصَّةٍ، وَقَدْ تَلَوَّنَ لَهُ الأَدْنَوْنَ، وَتَأَلَّبَ عَلَيْهِ الأَقْصَوْنَ، وَخَلَعَتْ إِلَيْهِ الْعَرَبُ أَعِنَّتَهَا، وَضَرَبَتْ إِلَى مُحَارَبَتِهِ بُطُونَ رَوَاحِلِهَا، حَتَّى أَنْزَلَتْ بِسَاحَتِهِ عَدَاوَتَهَا مِنْ أَبْعَدِ الدَّارِ، وَأَسْحَقِ الْمَزَارِ.
أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ بِتَقْوَى اللهِ، وَأُحَذِّرُكُمْ أَهْلَ النِّفَاقِ، فَإِنَّهُمُ الضَّالُّونَ الْمُضِلُّونَ، وَالزَّالُّونَ الْمُزِلُّونَ، يَتَلَوَّنُونَ أَلْوَاناً، وَيَفْتَنُّونَ افْتِنَاناً، وَيَعْمِدُونَكُمْ بِكُلِّ عِمَادٍ، وَيَرْصُدُونَكُمْ بِكُلِّ مِرْصَادٍ. قُلُوبُهُمْ دَوِيَّةٌ، وَصِفَاحُهُمْ نَقِيَّةٌ، يَمْشُونَ الْخَفَاءَ، وَيَدِبُّونَ الضَّرَاءَ، وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ، وَقَوْلُهُمْ شِفَاءٌ، وَفِعْلُهُمُ الدَّاءُ الْعَيَاءُ، حَسَدَةُالرَّخَاءِ، وَمُؤَكِّدُو الْبَلاَءِ، وَمُقْنِطُو الرَّجَاءِ.
ص: 12
..............................
لَهُمْ بِكُلِّ طَرِيقٍ صَرِيعٌ، وَإِلَى كُلِّ قَلْبٍ شَفِيعٌ، وَلِكُلِّ شَجْوٍ دُمُوعٌ، يَتَقَارَضُونَ الثَّنَاءَ، وَيَتَرَاقَبُونَ الْجَزَاءَ، إِنْ سَأَلُوا أَلْحَفُوا، وَإِنْ عَذَلُوا كَشَفُوا، وَإِنْ حَكَمُوا أَسْرَفُوا، قَدْ أَعَدُّوا لِكُلِّ حَقٍّ بَاطِلاً، وَلِكُلِّ قَائِمٍ مَائِلاً، وَلِكُلِّ حَيٍّ قَاتِلاً، وَلِكُلِّ بَابٍ مِفْتَاحاً، وَلِكُلِّ لَيْلٍ مِصْبَاحاً.
يَتَوَصَّلُونَ إِلَى الطَّمَعِ بِالْيَأْسِ؛ لِيُقِيمُوا بِهِ أَسْوَاقَهُمْ، وَيُنْفِقُوا بِهِ أَعْلاَقَهُمْ، يَقُولُونَ فَيُشَبِّهُونَ، وَيَصِفُونَ فَيُمَوِّهُونَ، قَدْ هَوَّنُوا الطَّرِيقَ، وَأَضْلَعُوا الْمَضِيقَ، فَهُمْ لُمَةُ الشَّيْطَانِ، وَحُمَةُ النِّيرَانِ، «أُوْلئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ»(1)»(2).
مسألة: يجب على الحاكم أن يوفر كل ما يعطي الناس القدرة على الرقابة عليه،ويحول دون تحوله - ولو بالتدريج - إلى مخادع أو منافق، لا ينصح للناس سراً أو إعلاناً.
وعلى ذلك يجب أن يوفر الصحف الحرة والإذاعات الحرة والفضائيات الحرة، وأن تكون للعلماء والخطباء والكتاب والمفكرين مطلق الحرية في الاطلاع على ما يفعل ويقرر ومع من يستشير وكيف يتخذ قراراته وما مصادر معلوماته،
ص: 13
..............................
وأن تكون لهم مطلق الحرية في أن ينتقدوه ويعظوه بل ويردعوه بالمظاهرات والإضرابات والاعتصامات السليمة وغير ذلك.
مسألة: يجب على القائد نصح الشعب سراً وعلانية والإخلاص لهم.
ولا يكفي أن تكون أعماله كلها على الأصول وحسب مقتضى القاعدة، بل لابد من نصح لهم وإخلاصه أيضاً؛ لأنه وكيل عنهم - في غير منصوب المعصوم (عليه
السلام) بعينه - ولو لم يكن مخلصاً لهم وأوهمهم ذلك لينتخبوه كان مدلساً وهو حرام في مثل المقام، إضافة على أنهشرط ارتكازي للمنتخب والحديث طويل في هذا الباب يترك لمظانه.
مسألة: النصح واجب في موارد ومستحب في موارد، وهو أمر سيال في الحكومة والمنظمات والعائلة وغيرها.
ولا يختص وجوب النصح أو استحبابه بصورة الطلب بل الأمر في النصح الابتدائي كذلك، لكن قد يتأكد الاستحباب أو الوجوب في صورة الطلب وقد يستفاد ذلك من الروايات كروايات نصح المستشير وحقوق المؤمن وما أشبه.
قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «لاَ غِنَى كَالْعَقْلِ، وَلاَ فَقْرَ كَالْجَهْلِ، وَلاَ مِيرَاثَ كَالأَدَبِ، وَلاَ ظَهِيرَ كَالْمُشَاوَرَةِ»(1).
وَقَالَ (عليه السلام): «مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ هَلَكَ، وَمَنْ شَاوَرَ الرِّجَالَ شَارَكَهَا فِي
ص: 14
..............................
عُقُولِهَا»(1).
وقال (عليه السلام): «الاِسْتِشَارَةُ عَيْنُ الْهِدَايَةِ، وَقَدْ خَاطَرَ مَنِ اسْتَغْنَىبِرَأْيِهِ»(2).
وعن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْحَزْمُ؟. قَالَ: مُشَاوَرَةُ ذَوِي الرَّأْيِ وَاتِّبَاعُهُمْ»(3).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «فِيمَا أَوْصَى بِهِ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَلِيّاً (عليه السلام) قَالَ: لاَ مُظَاهَرَةَ أَوْثَقُ مِنَ الْمُشَاوَرَةِ، وَلاَ عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ»(4).
وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «فِي التَّوْرَاةِ أَرْبَعَةُ أَسْطُرٍ: مَنْ لاَ يَسْتَشِرْ يَنْدَمْ، وَالْفَقْرُ الْمَوْتُ الأَكْبَرُ، كَمَا تَدِينُ تُدَانُ، وَمَنْ مَلَكَ اسْتَأْثَرَ»(5).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «لَنْيَهْلِكَ امْرُؤٌ عَنْ مَشُورَةٍ»(6).
ص: 15
..............................
وعن المفضل بن عمر، قال: قال الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام): «مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَاعِظٌ مِنْ قَلْبِهِ، وَزَاجِرٌ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ قَرِينٌ مُرْشِدٌ، اسْتَمْكَنَ عَدُوُّهُ مِنْ عُنُقِهِ»(1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «اسْتَشِرْ فِي أَمْرِكَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ»(2).
وعن سليمان بن خالد، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «اسْتَشِرِ الْعَاقِلَ مِنَ الرِّجَالِ الْوَرِعَ؛ فَإِنَّهُ لاَ يَأْمُرُ إِلاَّ بِخَيْرٍ. وَإِيَّاكَ وَالْخِلاَفَ! فَإِنَّ مُخَالَفَةَ الْوَرِعِ الْعَاقِلِ مَفْسَدَةٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا»(3).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مُشَاوَرَةُالْعَاقِلِ النَّاصِحِ رُشْدٌ وَيُمْنٌ، وَتَوْفِيقٌ مِنَ اللهِ، فَإِذَا أَشَارَ عَلَيْكَ النَّاصِحُ الْعَاقِلُ، فَإِيَّاكَ وَالْخِلاَفَ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ الْعَطَبَ»(4).
وعن المعلى بن خُنَيْسٍ، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «مَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ مَا لاَ قِبَلَ لَهُ بِهِ، أَنْ يَسْتَشِيرَ رَجُلاً عَاقِلاً لَهُ دِينٌ وَوَرَعٌ - ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام) - أَمَا إِنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَخْذُلْهُ اللهُ، بَلْ يَرْفَعُهُ اللهُ، وَرَمَاهُ بِخَيْرِ الأُمُورِ وَأَقْرَبِهَا إِلَى اللهِ»(5).
ص: 16
..............................
وعن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال: «إِنَّ الْمَشُورَةَ لاَ تَكُونُ إِلاَّ بِحُدُودِهَا، فَمَنْ عَرَفَهَا بِحُدُودِهَا وَإِلاَّ كَانَتْ مَضَرَّتُهَا عَلَى الْمُسْتَشِيرِ أَكْثَرَ مِنْ مَنْفَعَتِهَا لَهُ. فَأَوَّلُهَا أَنْ يَكُونَ الَّذِي تُشَاوِرُهُ عَاقِلاً، وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ حُرّاً مُتَدَيِّناً، وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَكُونَ صَدِيقاً مُؤَاخِياً، وَالرَّابِعَةُ أَنْ تُطْلِعَهُ عَلَى سِرِّكَ، فَيَكُونَ عِلْمُهُ بِهِ كَعِلْمِكَ بِنَفْسِكَ، ثُمَّ يُسِرَّ ذَلِكَ وَيَكْتُمَهُ؛ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ عَاقِلاًانْتَفَعْتَ بِمَشُورَتِهِ، وَإِذَا كَانَ حُرّاً مُتَدَيِّناً أَجْهَدَ نَفْسَهُ فِي النَّصِيحَةِ لَكَ، وَإِذَا كَانَ صَدِيقاً مُؤَاخِياً كَتَمَ سِرَّكَ إِذَا أَطْلَعْتَهُ عَلَيْهِ، وَإِذَا أَطْلَعْتَهُ عَلَى سِرِّكَ فَكَانَ عِلْمُهُ بِهِ كَعِلْمِكَ، تَمَّتِ الْمَشُورَةُ وَكَمَلَتِ النَّصِيحَةُ»(1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنِ اسْتَشَارَ أَخَاهُ فَلَمْ يَنْصَحْهُ مَحْضَ الرَّأْيِ، سَلَبَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ رَأْيَهُ»(2).
ص: 17
وَلَمْ يَكُنْ يَتَحَلَّى(1) مِنَ الدُّنيا بِطَائِلٍ
-------------------------------------------
في بعض النسخ: (يحلى): أي يصيب ويستفيد، وأما (يتحلى) على النسخة الأخرى فالوجه فيه - بعد معرفة أن الدنيا وما فيها ليس شيئاً يتحلى ويتزين فيه المؤمن، فكيف بمثل الإمام علي (عليه السلام) - أن ذلك التعبير هو حسب الظاهر وحسب ما يفهمه الناس.
ولذا قال تعالى: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ»(2).
وقال عز وجل: «حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ»(3).
وقال سبحانه: «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»(4).
ولعل النكتة في تعبيرها (صلوات الله عليها) ب «يَتَحَلَّى» الإشارة إلى إغراء الدنيا للحكام والسلاطين، والذين عادة ما يسحرهم ويسوقهم إلى النار، قالتعالى: «إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً»(5)، فهو (عليه السلام) كان رغم ذلك «لَمْ يَكُنْ يَتَحَلَّى مِنَ الدُّنْيا بِطَائِلٍ» فلماذا أعرضتم
ص: 18
..............................
عنه ورجحتم عليه من سحرته الدنيا؟!.
وبعبارة أخرى: هذا تعريض واضح للثلاثة الذين غصبوا الخلافة وأشباههم بأنهم أهل الهوى والدنيا، وإن أراد بعضهم أن يتظاهر بالزهد.
و(الطائل): أي كثير الفائدة، ويراد به: الغنى والقدرة والمنفعة، يقال هذا أمر لا طائل فيه، أي لا منفعة، أو لا كثير منفعة.
مسألة: يحرم على القائد أن يتخذ السلطة مطية لمصالحه الشخصية، فيما يعد استغلالاً منكراً(1) لمنصبه، أو كانتضييعاً لحقوق الناس، أو كان تصرفاً في حقوقهم، أو كان على خلاف ارتكازهم في توكيله، بناء على كونه وكيلاً عنهم، بل حتى على مسلك الولاية نظراً لاشتراط فعليتها في غير المعصوم (عليه السلام) برضى الناس، كما فصلناه في بعض كتبنا(2).
ص: 19
..............................
ومنه يعرف حرمة أن يقوم الحاكم:
بإغلاق الصحف، لنقدها له.
أو تجميد أو تعطيل المؤسسات والمنظمات والنقابات والاتحادات.
أو إغلاق دور النشر والمطابع.
أو أن يعقد اتفاقات اقتصادية كبرى مع شركات أو دول لصالحه الشخصي، مستعيناً باعتباره كحاكم، أو أن يقوم بحيازة مقدار من الأراضي مما يعد أكثر من شأنه كشخص، بل بلحاظ أنه حاكم،فتأمل.
قال الإمام الصادق (عليه السلام): «بَلَغَنِي أَنَّهُ سُئِلَ كَعْبُ الأَحْبَارِ: مَا الأَصْلَحُ فِي الدِّينِ، وَمَا الأَفْسَدُ؟. فَقَالَ: الأَصْلَحُ الْوَرَعُ، وَالأَفْسَدُ الطَّمَعُ. فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: صَدَقْتَ يَا كَعْبُ. وَالطَّمَعُ خَمْرُ الشَّيْطَانِ يَسْقِي بِيَدِهِ لِخَوَاصِّهِ، فَمَنْ سَكِرَ مِنْهُ لاَ يَصْحُو إِلاَّ فِي أَلِيمِ عَذَابِ اللهِ تَعَالَى بِمُجَاوَرَةِ سَاقِيهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الطَّمَعِ سَخْطَةٌ إِلاَّ مُشَارَاةُ الدِّينِ بِالدُّنْيَا، لَكَانَ سَخَطاً عَظِيماً. قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: «أُوْلئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ»(1)»(2).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «تَفَضَّلْ عَلَى مَنْ شِئْتَ فَأَنْتَ أَمِيرُهُ، وَاسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْتَ فَأَنْتَ نَظِيرُهُ، وَافْتَقِرْ إِلَى مَنْ شِئْتَ فَأَنْتَ أَسِيرُهُ. وَالطَّامِعُ مَنْزُوعٌ عَنْهُ الإِيمَانُ وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ؛ لأَنَّ الإِيمَانَ يَحْجُزُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الطَّمَعِ فِي الْخَلْقِ. فَيَقُولُ:يَا صَاحِبِي، خَزَائِنُ اللهِ تَعَالَى مَمْلُوَّةٌ مِنَ الْكَرَامَاتِ، وَهُوَ لاَيُضِيعُ
ص: 20
..............................
أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً، وَمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ مَشُوبٌ بِالْعِلَلِ، وَيَرُدُّهُ إِلَى التَّوَكُّلِ،وَالْقَنَاعَةِ، وَقَصْرِ الأَمَلِ، وَلُزُومِ الطَّاعَةِ، وَالْيَأْسِ مِنَ الْخَلْقِ. فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَزِمَهُ فَقَدْ صَلَحَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ تَرَكَهُ مَعَ شُؤْمِ الطَّبْعِ وَفَارَقَهُ»(1).
مسألة: يكره للحاكم - في غير ما سبق - أن يحلى ويصيب ويستفيد من الغنى شيئاً، قليلاً أو كثيراً، فإن الحاكم أسوة، فعليه أن يلاحظ أضعف الناس، قال (عليه السلام): «إِنَّ اللهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ؛ كَيْلاَ يَتَبَيَّغَ(2) بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ»(3)، كما في نهج البلاغة.
ولذلك ورد أن علياً (عليه السلام) لم يأكل اللحم طول السنة أيام خلافته الظاهرية إلا يوم عيد الأضحى، وعللّه (عليه السلام) بما مضمونه أنه في مثل العيد لا يوجد شخص ليس بمقدوره أكل اللحم. ثم إن الحاكم أشد خطورة من غيره فياحتمال أن تسحره الدنيا وتغره وتضره، فلابد أن يحتاط بشدة فيبتعد عنها أكثر مما ينبغي ويُطلب من عامة الناس، فإن (الحمى) بالنسبة له أوسع وأشد، ضرورة «مَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ»(4).
ص: 21
..............................
مسألة: يكره للإنسان بشكل عام أن ينكب على الدنيا وحطامها بما هي هي، هذا إذا اكتسبها من حلها، وإلا كان حراماً كما هو واضح.
والكراهة تكون فيما إذا لم يستخدمها طريقاً للآخرة، كتأسيس المؤسسات النافعة، وإنقاذ اليتامى والمساكين، بله العزة في مقابل الكفار والمنحرفين.
عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ أَوَّلَ مَا عُصِيَ اللهُ بِهِ سِتٌّ: حُبُّ الدُّنْيَا، وَحُبُّ الرِّئَاسَةِ، وَحُبُّ الطَّعَامِ، وَحُبُّ النِّسَاءِ، وَحُبُّ النَّوْمِ، وَحُبُّ الرَّاحَةِ»(1).وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا أَثْبَتَ اللهُ الْحِكْمَةَ فِي قَلْبِهِ، وَأَنْطَقَ بِهَا لِسَانَهُ، وَبَصَّرَهُ عُيُوبَ الدُّنْيَا دَاءَهَا وَدَوَاءَهَا، وَأَخْرَجَهُ مِنَ الدُّنْيَا سَالِماً إِلَى دَارِ السَّلاَمِ»(2).
وعن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: جُعِلَ الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي بَيْتٍ، وَجُعِلَ مِفْتَاحُهُ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا - ثم قال - قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): لاَ يَجِدُ الرَّجُلُ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ، حَتَّى لاَ يُبَالِيَ مَنْ أَكَلَ الدُّنْيَا. ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): حَرَامٌ عَلَى قُلُوبِكُمْ أَنْ تَعْرِفَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ، حَتَّى تَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا»(3).
ص: 22
..............................
وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنَّ مِنْ أَعْوَنِ الأَخْلاَقِ عَلَى الدِّينِ: الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا»(1).وعن علي بن هاشم بن البريد، عن أبيه، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) عَنِ الزُّهْدِ؟. فَقَالَ: عَشَرَةُ أَشْيَاءَ. فَأَعْلَى دَرَجَةِ الزُّهْدِ أَدْنَى دَرَجَةِ الْوَرَعِ، وَأَعْلَى دَرَجَةِ الْوَرَعِ أَدْنَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ، وَأَعْلَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ أَدْنَى دَرَجَةِ الرِّضَا، أَلاَ وَإِنَّ الزُّهْدَ فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ»(2)»(3).
وعن سفيان بن عُيَيْنَةَ، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) وَهُوَ يَقُولُ: كُلُّ قَلْبٍ فِيهِ شَكٌّ أَوْ شِرْكٌ فَهُوَ سَاقِطٌ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا؛ لِتَفْرُغَ قُلُوبُهُمْ لِلآخِرَةِ»(4).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنَّ عَلاَمَةَ الرَّاغِبِ فِي ثَوَابِ الآخِرَةِ، زُهْدُهُ فِي عَاجِلِ زَهْرَةِ الدُّنْيَا. أَمَا إِنَّ زُهْدَ الزَّاهِدِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لاَ يَنْقُصُهُ مِمَّا قَسَمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ فِيهَا وَإِنْ زَهِدَ، وَإِنَّ حِرْصَ الْحَرِيصِ عَلَى عَاجِلِ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لاَ يَزِيدُهُ فِيهَا وَإِنْ حَرَصَ، فَالْمَغْبُونُ مَنْ حُرِمَ حَظَّهُمِنَ الآخِرَةِ»(5).
ص: 23
..............................
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَا أَعْجَبَ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِيهَا جَائِعاً خَائِفاً»(1).
مسألة: ينبغي للمرء أن يحذر، فإن الدنيا كثيراً ما تأخذ الإنسان برونقها وزخرفها، وإن كان في البداية غير مبال بها، لكن بمجرد أن ينجح في تجارته أو تستقر له السلطة فإنه قد يتغير، لذا من اللازم أن يحتاط لذلك بتذكر الموت والآخرة دائماً، وبالصدقة والتوسل وإتخاذ صديق صدوق رقيباً عليه، والذهاب للمقابر وعيادة المرضى بالمستشفيات للاعتبار، بل فسح المجال لشخص معارض، ووضع الأسس لمثل حزب منافس، وغير ذلك ضمن الضوابط الشرعية.
عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِنَّاللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي، وَعَظَمَتِي وَعُلُوِّي، وَارْتِفَاعِ مَكَانِي، لاَ يُؤْثِرُ عَبْدٌ هَوَايَ عَلَى هَوَى نَفْسِهِ، إِلاَّ كَفَفْتُ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَضَمَّنْتُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ رِزْقَهُ، وَكُنْتُ لَهُ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَةِ كُلِّ تَاجِرٍ»(2).
مسألة: قولها (عليها السلام) في حقه (عليه السلام): «وَلَمْ يَكُنْ يَتَحَلَّى مِنَ الدُّنْيا بِطَائِلٍ»، كان نتيجة عصمته (عليه السلام).
ص: 24
..............................
ولا يتوهم من سببية العصمة لذلك الجبر، فإنه بالاختيار، كما أن عصمة الإنسان العادي عن أكل العذرة مثلاً إنما هو باختياره النابع عن علمه بقذارته، والمعصوم (عليه السلام) بالنسبة إلى كل الرذائل والمحرمات كذلك، بل وكل المكروهات، بل وحتى ترك الأولى أيضاً، على تفصيل ذكرناه في بعض كتبنا.
عن محمد بن أبي عمير، قال: مَا سَمِعْتُ وَلاَ اسْتَفَدْتُ مِنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ فِي طُولِ صُحْبَتِي إِيَّاهُ شَيْئاً، أَحْسَنَ مِنْ هَذَاالْكَلاَمِ فِي صِفَةِ عِصْمَةِ الإِمَامِ، فَإِنِّي سَأَلْتُهُ يَوْماً عَنِ الإِمَامِ أَ هُوَ مَعْصُومٌ؟. قَالَ: نَعَمْ.
قُلْتُ لَهُ: فَمَا صِفَةُ الْعِصْمَةِ فِيهِ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ تُعْرَفُ؟.
قَالَ: إِنَّ جَمِيعَ الذُّنُوبِ لَهَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ لاَ خَامِسَ لَهَا: الْحِرْصُ، وَالْحَسَدُ، وَالْغَضَبُ، وَالشَّهْوَةُ، فَهَذِهِ مَنْفِيَّةٌ عَنْهُ.
لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَرِيصاً عَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا، وَهِيَ تَحْتَ خَاتَمِهِ؛ لأَنَّهُ خَازِنُ الْمُسْلِمِينَ، فَعَلَى مَا ذَا يَحْرِصُ.
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَسُوداً؛ لأَنَّ الإِنْسَانَ إِنَّمَا يَحْسُدُ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ، وَلَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ، فَكَيْفَ يَحْسُدُ مَنْ هُوَ دُونَهُ.
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَغْضَبَ لِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ غَضَبُهُ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِ إِقَامَةَ الْحُدُودِ، وَأَنْ لاَ تَأْخُذَهُ فِي اللهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ، وَلاَ رَأْفَةٌ فِي دِينِهِ، حَتَّى يُقِيمَ حُدُودَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَّبِعَ الشَّهَوَاتِ، وَيُؤْثِرَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ؛ لأَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَبَّبَ إِلَيْهِ الآخِرَةَ، كَمَا حَبَّبَ إِلَيْنَا الدُّنْيَا، فَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى الآخِرَةِ كَمَا نَنْظُرُ إِلَى الدُّنْيَا.
ص: 25
..............................
فَهَلْ رَأَيْتَ أَحَداً تَرَكَ وَجْهاً حَسَناً لِوَجْهٍ قَبِيحٍ، وَطَعَاماً طَيِّباً لِطَعَامٍ مُرٍّ، وَثَوْباًلَيِّناً لِثَوْبٍ خَشِنٍ، وَنِعْمَةً دَائِمَةً بَاقِيَةً لِدُنْيَا زَائِلَةٍ فَانِيَةٍ(1).
وعن محمد بن علي التميمي قال: حَدَّثَنِي سَيِّدِي عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الرِّضَا (عليه السلام)، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام)، عَنْ عَلِيٍّ (عليه السلام)، عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله)، أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْقَضِيبِ الْيَاقُوتِ الأَحْمَرِ، الَّذِي غَرَسَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِيَدِهِ، وَيَكُونَ مُتَمَسِّكاً بِهِ، فَلْيَتَوَلَّ عَلِيّاً وَالأَئِمَّةَ مِنْ وُلْدِهِ؛ فَإِنَّهُمْ خِيَرَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصَفْوَتُهُ، وَهُمُ الْمَعْصُومُونَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ»(2).
وعن محمد بن عمار بن ياسر، عن أبيه، قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ إِنَّ حَافِظَيْ عَلِيٍّ لَيَفْخَرَانِ عَلَى سَائِرِ الْحَفَظَةِ بِكَوْنِهِمَا مَعَ عَلِيٍّ (عليه السلام) وَ ذَلِكَ أَنَّهُمَا لَمْ يَصْعَدَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ بِشَيْ ءٍ مِنْهُ فَيُسْخِطَهُ»(3).وعن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن جده، عن علي بن الحسين (عليهم السلام)، قال: «الإِمَامُ مِنَّا لاَ يَكُونُ إِلاَّ مَعْصُوماً، وَلَيْسَتِ الْعِصْمَةُ فِي ظَاهِرِ الْخِلْقَةِ فَيُعْرَفَ بِهَا، فَلِذَلِكَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مَنْصُوصاً».
فَقِيلَ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، فَمَا مَعْنَى الْمَعْصُومِ؟.
ص: 26
..............................
فَقَالَ: «هُوَ الْمُعْتَصِمُ بِحَبْلِ اللهِ، وَحَبْلُ اللهِ هُوَ الْقُرْآنُ، لاَ يَفْتَرِقَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالإِمَامُ يَهْدِي إِلَى الْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ يَهْدِي إِلَى الإِمَامِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ»(1)»(2).
وعن الحسين الأشقر، قال: قلت لهشام بن الحكم: مَا مَعْنَى قَوْلِكُمْ: إِنَّ الإِمَامَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مَعْصُوماً؟.
قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ ذَلِكَ. فَقَالَ: «الْمَعْصُومُ هُوَ الْمُمْتَنِعُ بِاللهِ مِنْ جَمِيعِ مَحَارِمِ اللهِ، وَقَدْ قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍمُسْتَقِيمٍ»(3)»(4).
ص: 27
-------------------------------------------
(يحظى): أي يظفر، وينال حظاً من الشيء كالرزق.
و(النائل): العطية والمعروف.
وربما تكون الجملة هذه تأكيداً للسابقة، ويحتمل أن يكون المراد بهذه: الأساسيات وبما سبقها الكماليات، أو غير ذلك.
مسألة: يلزم توفير الأسباب التي تؤدي إلى ضبط الحاكم بحيث لا يستغل منصبه لكي (يحلى من الدينا بطائل أو يحظى منها بنائل)، وقد أشرنا في بعض الكتب إلى تفصيله(1).
مسألة: يستحب أو يجب على القائد أن لا يحظى من الدنيا بنائل وعطية.
وربما يكون من فروع ذلك أن يغلق الحاكم باب أخذ الهدية بصفة كونه حاكماً مطلقاً، وإن كانت غير مشوبة بشبهة الرشوة، ويمكن أن توضع قوانين: مثل أن تعطى كل الهدايا المقدمةللحاكم إلى متحف، أو إلى الفقراء، أو ما أشبه ذلك.
وكان ديدن بعض العلماء أنه يوزع ما يهدى له على طلبة العلوم الدينية أو الفقراء أو سائر المؤمنين، وهكذا ينبغي أن يكون الحاكم، وقد يكون ذلك نوع
ص: 28
..............................
ضمان لعدم انجرار الحاكم نحو الدنيا، وعدم طمع أصحاب القلوب المريضة فيه وفي حكمه.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ، طَارِقٌ طَرَقَنَا بِمَلْفُوفَةٍ فِي وِعَائِهَا، وَمَعْجُونَةٍ شَنِئْتُهَا، كَأَنَّمَا عُجِنَتْ بِرِيقِ حَيَّةٍ أَوْ قَيْئِهَا.
فَقُلْتُ: أَ صِلَةٌ! أَمْ زَكَاةٌ! أَمْ صَدَقَةٌ! فَذَلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ».
فَقَالَ: لاَ ذَا وَلاَ ذَاكَ، وَلَكِنَّهَا هَدِيَّةٌ.
فَقُلْتُ: هَبِلَتْكَ الْهَبُولُ، أَعَنْ دِينِ اللَّهِ أَتَيْتَنِي لِتَخْدَعَنِي، أَ مُخْتَبِطٌ أَنْتَ! أَمْ ذُو جِنَّةٍ! أَمْ تَهْجُرُ!.
وَاللهِ، لَوْ أُعْطِيتُ الأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلاَكِهَا، عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ. وَإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا، مَا لِعَلِيٍّ وَلِنَعِيمٍ يَفْنَى،وَلَذَّةٍ لاَ تَبْقَى. نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ، وَقُبْحِ الزَّلَلِ، وَبِهِ نَسْتَعِينُ»(1).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه قال: «مِنَ السُّحْتِ: الْهَدِيَّةُ يَلْتَمِسُ بِهَا مُهْدِيهَا مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا، وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: «وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ»(2)»(3).
وعن جعفر بن محمد (عليه السلام)، أنه قال - فِي قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ:
ص: 29
..............................
«وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ»(1) ، فقال: «هِيَ هَدِيَّتُكَ إِلَى الرَّجُلِ تَطْلُبُ بِهَا مِنَ الثَّوَابِ أَفْضَلُ مِنْهَا، فَذَلِكَ رِبًا»(2).
وعن جعفر بن محمد (عليه السلام)، أنه قال: «فِي الرَّجُلِ يَسْأَلُ الرَّجُلَ الْحَاجَةَ، أَوْ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْأَلَ لَهُ السُّلْطَانَ أَوْ غَيْرَالسُّلْطَانِ فِي حَاجَةٍ، يُهْدِي إِلَيْهِ عَلَى ذَلِكَ، مَا تَرَى فِي قَبُولِ الْهَدِيَّةِ عَلَى هَذَا؟. قال: لاَ يَحِلُّ قَبُولُهَا، وَهِيَ سُحْتٌ وَعَوْنُ الْمُؤْمِنِ فِي هَذَا وَمِثْلُهُ، يَنْبَغِي لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، فَمَنْ قَدَرَ عَلَى عَوْنِ أَخِيهِ فَلْيُعِنْهُ، فَإِنْ أَخَذَ عَلَى ذَلِكَ جُعْلاً، أَوْ هَدِيَّةً، أَوْ أَطْعَمَ عَلَيْهِ طَعَاماً، فَكُلُّ ذَلِكَ سُحْتٌ لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ»(3).
ص: 30
-------------------------------------------
(رِيّ) و(رَيّ): مصدر بمعنى الشرب.
و(الناهل): العطشان، وهو من أسماء الأضداد، فيطلق على الريان أيضاً(1).
أي إنه يشرب إذا كان عطشاناً فقط، وهو كناية عن أنه يقتصر على الضرورة من الدنيا، لا أنه يدخر زخارفها لنفسه أو لأقربائه أو بطانته أو عشيرته أو من ينتسب إليه بالصداقة وما أشبه.
مسألة: ينبغي للقائد أن لا يستفيد من الدنيا إلا بقدر ري الناهل، فإن اقتصر عليه فهو الرابح، لأن «فِي حَلالِهَا حِسَاباً، وَفي حَرَامِهَا عِقَاباً، وَفِي الشُّبُهَاتِ عِتَاباً»(2).
عن جعفر، عن أبيه (عليهما السلام)،قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي، إِذَا صَلَحَا صَلَحَتْ أُمَّتِي، وَإِذَا فَسَدَا فَسَدَتْ أُمَّتِي. قِيلَ: يَا
ص: 31
..............................
رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ هُمَا؟. قَالَ: الْفُقَهَاءُ وَالأُمَرَاءُ»(1).
وعن محمد بن عبد الجبار رفعه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أنه قال: «رَجُلاَنِ لاَ تَنَالُهُمَا شَفَاعَتِي: صَاحِبُ سُلْطَانٍ عَسُوفٍ غَشُومٍ، وَغَالٍ فِي الدِّينِ مَارِقٌ»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «ثَلاَثَةٌ يُدْخِلُهُمُ اللهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَثَلاَثَةٌ يُدْخِلُهُمُ اللهُ النَّارَ بِغَيْرِ حِسَابٍ. فَأَمَّا الَّذِينَ يُدْخِلُهُمُ اللهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ: فَإِمَامٌ عَادِلٌ، وَتَاجِرٌ صَدُوقٌ، وَشَيْخٌ أَفْنَى عُمُرَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَمَّا الثَّلاَثَةُ الَّذِينَ يُدْخِلُهُمُ النَّارَ بِغَيْرِ حِسَابٍ: فَإِمَامٌ جَائِرٌ، وَتَاجِرٌ كَذُوبٌ، وَشَيْخٌزَانٍ»(3).
وعن الصادق (عليه السلام)، قال: «إِنِّي لأَرْجُو النَّجَاةَ لِهَذِهِ الأُمَّةِ لِمَنْ عَرَفَ حَقَّنَا مِنْهُمْ، إِلاَّ لأَحَدِ ثَلاَثَةٍ: صَاحِبِ سُلْطَانٍ جَائِرٍ، وَصَاحِبِ هَوًى، وَالْفَاسِقِ الْمُعْلِنِ»(4).
ص: 32
..............................
وعن الصادق (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)، عن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: «تُكَلِّمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلاَثَةً: أَمِيراً، وَقَارِئاً، وَذَا ثَرْوَةٍ مِنَ الْمَالِ.
فَتَقُولُ لِلأَمِيرِ: يَا مَنْ وَهَبَ اللهُ لَهُ سُلْطَاناً فَلَمْ يَعْدِلْ، فَتَزْدَرِدُهُ كَمَا يَزْدَرِدُ الطَّيْرُ حَبَّ السِّمْسِمِ.
وَتَقُولُ لِلْقَارِئِ: يَا مَنْ تَزَيَّنَ لِلنَّاسِ وَبَارَزَ اللهَ بِالْمَعَاصِي، فَتَزْدَرِدُهُ.
وَتَقُولُ لِلْغَنِيِّ: يَا مَنْ وَهَبَهُ اللهُ دُنْيَا كَثِيرَةً وَاسِعَةً فَيْضاً، وَسَأَلَهُ الْحَقِيرَ الْيَسِيرَ قَرْضاً، فَأَبَى إِلاَّ بُخْلاً،فَتَزْدَرِدُهُ»(1).
ص: 33
-------------------------------------------
(الكافل): المحتاج إلى الطعام، ويطلق على الضامن والعائل، وعلى الذي يصل الصيام، و(بات فلان كافلاً) أي لم يحصل على غداء ولا عشاء.
والمراد ها هنا: الجائع الذي لم يحصل على الطعام، وهذا كناية عن أن الحاكم لا يأكل من الدنيا ولا يغرف منها إلا عند الحاجة وبقدرها.
مسألة: ينبغي وضع رقابة على الحاكم، في تصرفاته المالية والاقتصادية والسياسية وغيرها، فتلاحظ نفقات أسفاره، ونفقات أكله وشربه، ونفقات سكنه وسائر مصاريف حياته، لتكون ضمن الضوابط الشرعية ومن دون تصرف في بيت المال وأموال الناس.
مسألة: ينبغي أن يأخذ الحاكم من الدنيا ما يكفيه ليومه فقط، ولا يدخر شيئاً لغد.
ومن ذلك يعلم أن ما جرى عليه الحكام من ملء خزانتهم وفتح الحسابات في المصارف الأجنبية وغيرها وتملك العمارات والقصور في شتى البلاد، وإن كان فرضاً أنها من أموالهم الخاصة كما لو فرض أنه كان تاجراً قبل أن يتولى الحكومة أو وصله بميراث - مرجوح إن لم يكن حراماً بأحد الوجوه الأربعة السابقة على ما تقدم.
يقول أمير المؤمنين (عليهم السلام): «يَا ابْنَ آدَمَ، لاَ تَحْمِلْ هَمَّ يَوْمِكَ الَّذِي
ص: 34
..............................
لَمْ يَأْتِكَ عَلَى يَوْمِكَ الَّذِي قَدْ أَتَاكَ؛ فَإِنَّهُ إِنْ يَكُ مِنْ عُمُرِكَ يَأْتِ اللهُ فِيهِ بِرِزْقِكَ»(1).
مسألة: (شبعة الكافل) في كلام الصديقة الطاهرة (عليها السلام) قد تكون كناية عن الأقل من حاجة اليوم، بل حاجة هذه الساعة، فإن الشُبعة بضم الشين هي قدر ما يشبع مرة.
وعلى هذا يستحب للإنسان أن لا يقلق على رزقه في المستقبل ولو بعد ساعة وكذا سائر شؤونه.
ولا يتنافى هذا مع مثل: «كَانَ وَاللهِ بَعِيدَ الْمُدَى»(2)، إذ الجمع هو: «اعْمَلْلِدُنْيَاكَ كَأَنَّكَ تَعِيشُ أَبَداً، وَاعْمَلْ لآِخِرَتِكَ كَأَنَّكَ تَمُوتُ غَداً»(3).
التخطيط للمستقبل لازم، أما الحرص فهو باطل، وكذلك كل ما يعني عدم التوكل على الله، وتفصيل البحث في كتب الأخلاق.
ص: 35
..............................
مسألة: الاحتكار حرام، أما إدخار الحاكم الطعام للناس خوف القحط وشبهه أو لدفع احتمال الغلاء(1) فبين واجب ومستحب، فإن المرجوح هو الإدخار للنفس لا للغير، أي الاحتكار لصالح نفسه لا لصالح الناس.
من هنا كان ما قام به يوسف الصديق(عليه السلام) راجحاً بل لازماً، حيث ادخر الطعام لصالح الناس وليس لمصحلته الشخصية.
عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «لَيْسَ الْحُكْرَةُ إِلاَّ فِي الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ، وَالسَّمْنِ»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «نَفِدَ الطَّعَامُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فَأَتَاهُ الْمُسْلِمُونَ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ نَفِدَ الطَّعَامُ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ إِلاَّ عِنْدَ فُلاَنٍ، فَمُرْهُ يَبِيعُهُ النَّاسَ. قَالَ: فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا فُلاَنُ، إِنَّ الْمُسْلِمِينَ ذَكَرُوا أَنَّ الطَّعَامَ قَدْ نَفِدَ إِلاَّ شَيْئاً عِنْدَكَ، فَأَخْرِجْهُ وَبِعْهُ كَيْفَ شِئْتَ، وَلاَ تَحْبِسْهُ»(3).
وعن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «الْحُكْرَةُ أَنْ يَشْتَرِيَ طَعَاماً
ص: 36
..............................
لَيْسَ فِي الْمِصْرِ غَيْرُهُ فَيَحْتَكِرَهُ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمِصْرِ طَعَامٌ أَوْ يُبَاعُ غَيْرُهُ، فَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يَلْتَمِسَ بِسِلْعَتِهِ الْفَضْلَ». قَالَ:وَسَأَلْتُهُ عَنِ الزَّيْتِ؟. فَقَالَ: «إِنْ كَانَ عِنْدَ غَيْرِكَ فَلاَ بَأْسَ بِإِمْسَاكِهِ»(1).
وعن أبي الفضل سالم الحناط، قال: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «مَا عَمَلُكَ؟». قُلْتُ: حَنَّاطٌ، وَرُبَّمَا قَدِمْتُ عَلَى نَفَاقٍ، وَرُبَّمَا قَدِمْتُ عَلَى كَسَادٍ، فَحَبَسْتُ. فَقَالَ: «فَمَا يَقُولُ مَنْ قِبَلَكَ فِيهِ؟». قُلْتُ: يَقُولُونَ: مُحْتَكِرٌ. فَقَالَ: «يَبِيعُهُ أَحَدٌ غَيْرُكَ؟». قُلْتُ: مَا أَبِيعُ أَنَا مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ جُزْءاً. قَالَ: «لاَ بَأْسَ، إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ: حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ الطَّعَامُ الْمَدِينَةَ اشْتَرَاهُ كُلَّهُ، فَمَرَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله). فَقَالَ: يَا حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ، إِيَّاكَ أَنْ تَحْتَكِرَ»(2).
وعن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَحْتَكِرُ الطَّعَامَ وَيَتَرَبَّصُ بِهِ، هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟. فقال: «إِنْ كَانَ الطَّعَامُ كَثِيراً يَسَعُ النَّاسَ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ قَلِيلاً لاَ يَسَعُ النَّاسَ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَحْتَكِرَ الطَّعَامَ، وَيَتْرُكَ النَّاسَ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ»(3).وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ، وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ»(4).
ص: 37
..............................
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قَالَ: «الْحُكْرَةُ فِي الْخِصْبِ أَرْبَعُونَ يَوْماً، وَفِي الشِّدَّةِ وَالْبَلاَءِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا زَادَ عَلَى الأَرْبَعِينَ يَوْماً فِي الْخِصْبِ فَصَاحِبُهُ مَلْعُونٌ، وَمَا زَادَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْعُسْرَةِ فَصَاحِبُهُ مَلْعُونٌ»(1).
وعن حماد بن عثمان، قال: أَصَابَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ غَلاَءٌ وَقَحْطٌ، حَتَّى أَقْبَلَ الرَّجُلُ الْمُوسِرُ يَخْلِطُ الْحِنْطَةَ بِالشَّعِيرِ وَيَأْكُلُهُ، وَيَشْتَرِي بِبَعْضِ الطَّعَامِ. وَكَانَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) طَعَامٌ جَيِّدٌ قَدِ اشْتَرَاهُ أَوَّلَ السَّنَةِ. فَقَالَ لِبَعْضِ مَوَالِيهِ: «اشْتَرِ لَنَا شَعِيراً، فَاخْلِطْ بِهَذَا الطَّعَامِ أَوْ بِعْهُ؛ فَإِنَّا نَكْرَهُ أَنْ نَأْكُلَ جَيِّداً، وَيَأْكُلُ النَّاسُ رَدِيّاً»(2).
وعن مُعَتِّبٍ، قال: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللهِ(عليه السلام) - وَقَدْ تَزَيَّدَ السِّعْرُ بِالْمَدِينَةِ -: «كَمْ عِنْدَنَا مِنْ طَعَامٍ؟». قَالَ: قُلْتُ: عِنْدَنَا مَا يَكْفِيكَ أَشْهُراً كَثِيرَةً. قَالَ: «أَخْرِجْهُ وَبِعْهُ». قَالَ: قُلْتُ لَهُ: وَلَيْسَ بِالْمَدِينَةِ طَعَامٌ!. قَالَ: «بِعْهُ». فَلَمَّا بِعْتُهُ، قَالَ: «اشْتَرِ مَعَ النَّاسِ يَوْماً بِيَوْمٍ - وَقَالَ - يَا مُعَتِّبُ، اجْعَلْ قُوتَ عِيَالِي نِصْفاً شَعِيراً وَنِصْفاً حِنْطَةً؛ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُ أَنِّي وَاجِدٌ أَنْ أُطْعِمَهُمُ الْحِنْطَةَ عَلَى وَجْهِهَا، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَرَانِيَ اللهُ قَدْ أَحْسَنْتُ تَقْدِيرَ الْمَعِيشَةِ»(3).
وعن مُعَتِّبٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو الْحَسَنِ (عليه السلام) يَأْمُرُنَا إِذَا أَدْرَكَتِ الثَّمَرَةُ أَنْ نُخْرِجَهَا فَنَبِيعَهَا، وَنَشْتَرِيَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ يَوْماً بِيَوْمٍ(4).
ص: 38
-------------------------------------------
مسألة: يلزم كشف حقائق القادة والحكام للناس، ليعرفوا من هو (الراغب في الدنيا، المكلب عليها، المفتون بها) ومن هو (الزاهد فيها، المعرض عنها). فإنه نوع صد عن الاستبداد والظلم وأكل الأموال بالباطل.
وكذلك ليعرفوا من هو الشجاع ومن هو الجبان الذي يسلمهم إلى الأعداء عند الحرب، أو عند الضغوط السياسية والاقتصادية وغيرها، وكذلك من هو المدير المدبر من غيره وما أشبه ذلك، فإن مصائر الناس بأيديهم، فلابد أن يعرفهم الناس ليحسنوا الانتخاب.
وهكذا الحال في سائر المسؤولين.
وإذا كان الحاكم والوزير والنائب كذلك، فكيف بمن يدعي أنه خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ظلماً وعدواناً، كالثلاثة وبني أمية وبني العباس.
وما ذكرناه من مستثنيات الغيبة قطعاً، لأنه إذا كان الاستعلام جائزاً عن حال خادم يريد الانسان أن يستخدمه، أوشاب يريد أن يزوجه ابنته، وجاز للمستشار أن يذكر عيوبه فيما يرتبط بنصح المستشير، فكيف بمن يريد أن يصبح نائباً في المجلس، أو وزيراً، أو حتى بمن يدعي أنه مرجع تقليد وسيتصرف في أموال القصر ومن لا ولي له وفي الحقوق الشرعية وما أشبه؟.
ص: 39
..............................
مسألة: يجب وجوباً كفائياً إعلام العالم بأن الإمام علي (عليه السلام) كان هو الزاهد في الدنيا، وأن الثلاثة كانوا الراغبين فيها وإن تظاهر الأولان بغير ذلك. قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَاللهِ لَدُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَهْوَنُ فِي عَيْنِي مِنْ عُرَاقِ خِنْزِيرٍ فِي يَدِ مَجْذُوم»(1).
وقال (عليه السلام): «دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ»(2).
فيجب بيان ذلك للناس، ليعرفوه ويوالوه وليتبعوه وليتأسوا به. قال النبي (صلى الله عليه وآله): «عَلِيٌّ لاَ يَرْزَأُ مِنَ الدُّنْيَا، وَلاَ تَرْزَأُ الدُّنْيَا مِنْهُ»(3).
وقال (صلى الله عليه وآله): «يَا عَلِيُّ، إِنَّ اللهَ قَدْ زَيَّنَكَ بِزِينَةٍ، لَمْ يُزَيِّنِ الْعِبَادَبِزِينَةٍ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْهَا، زَيَّنَكَ بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَجَعَلَكَ لاَ تَزْرَأُ مِنْهَا شَيْئاً، وَلاَ تَزْرَأُ مِنْكَ شَيْئاً، وَوَهَبَكَ حُبَّ الْمَسَاكِينِ، فَجَعَلَكَ تَرْضَى بِهِمْ أَتْبَاعاً، وَيَرْضَوْنَ بِكَ إِمَاماً»(4).
ص: 40
..............................
وقال عمر بن عبد العزيز: «مَا عَلِمْنَا أَحَداً كَانَ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ أَزْهَدَ مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بَعْدَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله)(1).
وقال ابن عيينة: أَزْهَدُ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ(2).
وعن ابن عباس، قال: «فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا»(3) هُوَ: عَلْقَمَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ. «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقامَ رَبِّهِ»(4) عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، خَافَ فَانْتَهَى عَنِ الْمَعْصِيَةِ،وَنَهَى عَنِ الْهَوَى نَفْسَهُ، «فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى»(5) خَاصّاً لِعَلِيٍّ، وَمَنْ كَانَ عَلَى مِنْهَاجِهِ هَكَذَا عَامّاً»(6).
وعن ابن عباس - فِي قَوْلِهِ: «إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً»(7) -: هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، سَيِّدُ مَنِ اتَّقَى عَنِ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ - ثُمَّ سَاقَ التَّفْسِيرَ إِلَى قَوْلِهِ - «جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ»(8) لأَهْلِ بَيْتِكَ خَاصّاً لَهُمْ، وَلِلْمُتَّقِينَ عَامّاً»(9).
ص: 41
وقال سالم بن الجعد: رَأَيْتُ الْغَنَمَ تَبْعُرُ فِي بَيْتِ الْمَالِ فِي زَمَنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) (1).
وعن الشعبي قال: كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَنْضَحُهُ وَيُصَلِّي فِيهِ(2).وعن سالم الجحدري، قال: شَهِدْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أُتِيَ بِمَالٍ عِنْدَ الْمَسَاءِ. فَقَالَ: «اقْتَسِمُوا هَذَا الْمَالَ». فَقَالُوا: قَدْ أَمْسَيْنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَخِّرْهُ إِلَى غَدٍ. فَقَالَ لَهُمْ: «تَقْبَلُونَ لِي أَنْ أَعِيشَ إِلَى غَدٍ». قَالُوا: مَا ذَا بِأَيْدِينَا. فَقَالَ: «لاَ تُؤَخِّرُوهُ حَتَّى تَقْسِمُوهُ»(3).
وَيَرْوِي: أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي عَلَيْهِ وَقْتٌ لاَ يَكُونُ عِنْدَهُ قِيمَةُ ثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ يَشْتَرِي بِهَا إِزَاراً وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، ثُمَّ يَقْسِمُ كُلَّ مَا فِي بَيْتِ الْمَالِ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَقُولُ: «الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أَخْرَجَنِي مِنْهُ كَمَا دَخَلْتُهُ»(4).
وَرَوَى أَبُو جَعْفَرٍ الطُّوسِيُّ: أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه
السلام) قِيلَ لَهُ: أَعْطِ هَذِهِ الأَمْوَالَ لِمَنْ يُخَافُ عَلَيْهِ مِنَ النَّاسِ وَفِرَارُهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ. فَقَالَ (عليه السلام): «أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ، لاَ وَاللهِ لاَ أَفْعَلُ مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ، وَمَا لاَحَ فِي السَّمَاءِ نَجْمٌ. وَاللهِ، لَوْ كَانَ مَالُهُمْ لِي لَوَاسَيْتُ بَيْنَهُمْ، وَكَيْفَ وَإِنَّمَا هِيَأَمْوَالُهُمْ»(5).
ص: 42
..............................
وَأُتِيَ إِلَيْهِ بِمَالٍ، فَكَوَّمَ كُومَةً مِنْ ذَهَبٍ، وَكُومَةً مِنْ فِضَّةٍ، وَقَالَ: «يَا صَفْرَاءُ اصْفَرِّي، يَا بَيْضَاءُ ابْيَضِّي، وَغُرِّيَ غَيْرِي
هَذَا جَنَايَ وَخِيَارُهُ فِيهِ *** وَكُلُّ جَانٍ يَدُهُ إِلَى فِيهِ (1)
وقال الإمام الباقر (عليه السلام) - في خبر -: «وَلَقَدْ وَلِيَ خَمْسَ سِنِينَ، وَمَا وَضَعَ آجُرَّةً عَلَى آجُرَّةٍ، وَلاَ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ، وَلاَ أَقْطَعَ قَطِيعاً، وَلاَ أَوْرَثَ بَيْضاً وَلاَ حُمْراً»(2).
وعن سفيان الثوري: أَنَّ عَيْناً نَبَعَتْ فِي بَعْضِ مَالِهِ، فَبُشِّرَ بِذَلِكَ. فَقَالَ (عليه السلام): «بَشِّرِ الْوَارِثَ». وَسَمَّاهَا عَيْنَ يَنْبُعَ(3).
وعن الزمخشري: أَنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) اشْتَرَى قَمِيصاً، فَقَطَعَ مَا فَضَلَ عَنْ أَصَابِعِهِ،ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ: «حُصَّهُ»، أَيْ خُطَّ كِفَافَهُ(4).
وعن أبي الحسن البلخي: أَنَّهُ اجْتَازَ بِسُوقِ الْكُوفَةِ، فَتَعَلَّقَ بِهِ كُرْسِيٌّ فَتَخَرَّقَ قَمِيصُهُ، فَأَخَذَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ إِلَى الْخَيَّاطِينَ. فَقَالَ: «خِيطُوا لِي ذَا بَارَكَ اللهُ فِيكُمْ»(5).
وعن الأشعث العبدي، قال: رَأَيْتُ عَلِيّاً اغْتَسَلَ فِي الْفُرَاتِ يَوْمَ جُمُعَةٍ، ثُمَّ ابْتَاعَ قَمِيصاً كَرَابِيسَ بِثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ، وَمَا خِيطَ جُرُبَّانُهُ
ص: 43
..............................
بَعْدُ(1).
وعن شبيكة، قال: رَأَيْتُ عَلِيّاً يَأْتَزِرُ فَوْقَ سُرَّتِهِ، وَيَرْفَعُ إِزَارَهُ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ(2).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «كَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) يَلْبَسُ الْقَمِيصَ الزَّابِيَّ، ثُمَّ يَمُدُّ يَدَهُ فَيَقْطَعُ مَعَ أَطْرَافِأَصَابِعِهِ»(3).
وفي حديث عبد الله بن الهذيل: كَانَ إِذَا مَدَّهُ بَلَغَ الظُّفُرَ، وَإِذَا أَرْسَلَهُ كَانَ مَعَ نِصْفِ الذِّرَاعِ(4).
وقال علي بن ربيعة: رَأَيْتُ عَلِيّاً يَأْتَزِرُ، فَرَأَيْتُ عَلَيْهِ ثِيَاباً فَقُلْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ: «وَأَيُّ ثَوْبٍ أَسْتَرُ مِنْهُ لِلْعَوْرَةِ، وَأَنْشَفُ لِلْعَرَقِ»(5).
وَفِي "فَضَائِلِ أَحْمَدَ": رُئِيَ عَلِيٌّ (عليه السلام) إِزَارٌ غَلِيظٌ اشْتَرَاهُ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ، وَرُئِيَ عَلَيْهِ إِزَارٌ مَرْقُوعٌ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ (عليه السلام): «يَقْتَدِي بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، وَيَخْشَعُ لَهُ الْقَلْبُ، وَتَذِلُّ بِهِ النَّفْسُ، وَيَقْصِدُ بِهِ الْمُبَالِغُ - وفي رواية - أَشْبَهُ بِشِعَارِ الصَّالِحِينَ - وفي رواية - أَحْصَنُ لِفَرْجِي - وفي رواية - هَذَا أَبْعَدُ لِي مِنَ
ص: 44
..............................
الْكِبْرِ، وَأَجْدَرُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ الْمُسْلِمُ»(1).
وفي "مُسْنَدُ أَحْمَدَ"، أَنَّهُ قَالَ الْجَعْدِيُّ بْنُ نَعْجَةَ الْخَارِجِيُّ: اتَّقِ اللهَ يَا عَلِيُّ إِنَّكَ مَيِّتٌ. قَالَ: «بَلْ وَاللهِ قَتْلاً ضَرْبَةً عَلَى هَذَا، قَضَاءً مَقْضِيّاً، وَعَهْداً مَعْهُوداً، وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى». وَكَانَ كُمُّهُ لاَ يُجَاوِزُ أَصَابِعَهُ، وَيَقُولُ: «لَيْسَ لِلْكُمَّيْنِ عَلَى الْيَدَيْنِ فَضْلٌ». وَنَظَرَ (عليه السلام) إِلَى فَقِيرٍ انْخَرَقَ كُمُّ ثَوْبِهِ، فَخَرَقَ كُمَّ قَمِيصِهِ، وَأَلْقَاهُ إِلَيْهِ(2).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَا كَانَ لَنَا إِلاَّ إِهَابُ كَبْشٍ، أَبِيتُ مَعَ فَاطِمَةَ بِاللَّيْلِ، وَيُعْلَفُ عَلَيْهَا النَّاضِحُ»(3).
وفي "مُسْنَدِ الْمَوْصِلِيِّ": الشَّعْبِيُّ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ (عليه السلام)، قَالَ: «مَا كَانَ لَيْلَةَ أَهْدَتْ لِي فَاطِمَةُ (عليها السلام) شَيْءٌ يُنَامُ عَلَيْهِ إِلاَّ جِلْدُ كَبْشٍ»(4).وَاشْتَرَى (عليه السلام) ثَوْباً فَأَعْجَبَهُ، فَتَصَدَّقَ بِهِ(5).
ص: 45
..............................
وقال الغزالي في "الإحياء": كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَمْتَنِعُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ حَتَّى يَبِيعَ سَيْفَهُ، وَلاَ يَكُونُ لَهُ إِلاَّ قَمِيصٌ وَاحِدٌ، فِي وَقْتِ الْغُسْلِ لاَ يَجِدُ غَيْرَهُ(1).
وَرَأَى عَقِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخَوْلاَنِيُّ عَلِيّاً (عليه السلام) جَالِساً عَلَى بَرْدَعَةِ حِمَارٍ مُبْتَلَّةٍ. فَقَالَ لأَهْلِهِ فِي ذَلِكَ. فَقَالَتْ: لاَ تَلُومُونِي، فَوَ اللهِ مَا يَرَى شَيْئاً يُنْكِرُهُ، إِلاَّ أَخَذَهُ وَطَرَحَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ(2).
وفي "فضائل أحمد": قال زيد بن محجن، قال علي: «مَنْ يَشْتَرِي سَيْفِي هَذَا. فَوَ اللهِ، لَوْ كَانَ عِنْدِي ثَمَنُ إِزَارٍ مَا بِعْتُهُ»(3).وعن الأصبغ وأبو مسعدة والإمام الباقر (عليه السلام): أَنَّهُ أَتَى الْبَزَّازِينَ، فَقَالَ لِرَجُلٍ: «بِعْنِي ثَوْبَيْنِ». فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عِنْدِي حَاجَتُكَ. فَلَمَّا عَرَفَهُ مَضَى عَنْهُ، فَوَقَفَ عَلَى غُلاَمٍ، فَأَخَذَ ثَوْبَيْنِ أَحَدَهُمَا بِثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ، وَالآخَرَ بِدِرْهَمَيْنِ. فَقَالَ: «يَا قَنْبَرُ، خُذِ الَّذِي بِثَلاَثَةٍ». فَقَالَ: أَنْتَ أَوْلَى بِهِ، تَصْعَدُ الْمِنْبَرَ وَتَخْطُبُ النَّاسَ. قَالَ: «أَنْتَ شَابٌّ وَلَكَ شَرَهُ الشَّبَابِ، وَأَنَا أَسْتَحْيِي مِنْ رَبِّي أَنْ أَتَفَضَّلَ عَلَيْكَ. سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: أَلْبِسُوهُمْ
ص: 46
..............................
مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ». فَلَمَّا لَبِسَ الْقَمِيصَ، مَدَّ كُمَّ الْقَمِيصِ، فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ وَاتِّخَاذِهِ قَلاَنِسَ لِلْفُقَرَاءِ. فَقَالَ الْغُلاَمُ: هَلُمَّ أَكُفَّهُ. قَالَ: «دَعْهُ كَمَا هُوَ؛ فَإِنَّ الأَمْرَ أَسْرَعُ مِنْ ذَلِكَ». فَجَاءَ أَبُو الْغُلاَمِ، فَقَالَ: إِنَّ ابْنِي لَمْ يَعْرِفْكَ، وَهَذَانِ دِرْهَمَانِ رِبْحُهُمَا. فَقَالَ: «مَا كُنْتُ لأَفْعَلَ، قَدْ مَاكَسْتُ وَمَاكَسَنِي، وَاتَّفَقْنَا عَلَى رِضًى»(1).
وعن علي بن أبي عمران، قال: خَرَجَابْنٌ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليه السلام)، وَعَلَيٌّ فِي الرَّحْبَةِ، وَعَلَيْهِ قَمِيصُ خَزٍّ، وَطَوْقٌ مِنْ ذَهَبٍ. فَقَالَ: «ابْنِي هَذَا؟!». قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَدَعَاهُ، فَشَقَّهُ عَلَيْهِ وَأَخَذَ الطَّوْقَ مِنْهُ، فَجَعَلَهُ قِطَعاً قِطَعاً(2).
وعن عمرو بن نعجة السكوني، قال: أُتِيَ عَلِيٌّ (عليه السلام) بِدَابَّةِ دِهْقَانٍ لِيَرْكَبَهَا، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ، قَالَ: «بِسْمِ اللهِ». فَلَمَّا وَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْقَرَبُوسِ زَلَّتْ يَدُهُ مِنَ الصُّفَّةِ. فَقَالَ: «أَ دِيبَاجٌ هِيَ؟! ». قَالَ: نَعَمْ. فَلَمْ يَرْكَبْ(3).
وفي كتاب "الإحياء" عن الغزالي، أَنَّهُ كَانَ لَهُ سَوِيقٌ فِي إِنَاءٍ مَخْتُومٍ يَشْرَبُ مِنْهُ. فَقِيلَ لَهُ:أَ تَفْعَلُ هَذَا بِالْعِرَاقِ مَعَ كَثْرَةِ طَعَامِهِ؟ فَقَالَ: «أَمَا إِنِّي لاَ أَخْتِمُهُ بُخْلاً
ص: 47
..............................
بِهِ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يُجْعَلَ فِيهِ مَا لَيْسَمِنْهُ، وَأَكْرَهُ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنِي غَيْرُ طَيِّبٍ»(1).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: «كَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) لاَ يَأْكُلُ مِمَّا هَنَأَ، حَتَّى يُؤْتَى بِهِ مِنْ ثَمَّ»، يَعْنِي الْحِجَازَ(2).
مسألة: يستحب - بشكل عام - التحلي بالزهد، وقد يجب في القائد في بعض الصور مما أشرنا إليه سابقاً.
والزهد له مصاديق، فمنها الزهد في المال، ومنها الزهد في الشهرة، ومنها الزهد في الرئاسة والسلطة، ومنها الزهد في الشهوات والنساء، ومنها غير ذلك.
عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا: أَثْبَتَ اللهُ الْحِكْمَةَ فِي قَلْبِهِ، وَأَنْطَقَ بِهَا لِسَانَهُ، وَبَصَّرَهُ عُيُوبَ الدُّنْيَا دَاءَهَا وَدَوَاءَهَا، وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا سَالِماً إِلَى دَارِ السَّلاَمِ»(3).وعن أبي حمزة، قال: مَا سَمِعْتُ بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ كَانَ أَزْهَدَ مِنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام)، إِلاَّ مَا بَلَغَنِي عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام). قَالَ:
ص: 48
..............................
وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) إِذَا تَكَلَّمَ فِي الزُّهْدِ وَوَعَظَ، أَبْكَى مَنْ بِحَضْرَتِهِ. قَالَ أَبُو حَمْزَةَ: وَقَرَأْتُ صَحِيفَةً فِيهَا كَلاَمُ زُهْدٍ مِنْ كَلاَمِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام)، فَكَتَبْتُ مَا فِيهَا ثُمَّ أَتَيْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (صلوات الله عليه)، فَعَرَضْتُ مَا فِيهَا عَلَيْهِ، فَعَرَفَهُ وَصَحَّحَهُ، وَكَانَ مَا فِيهَا: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كَفَانَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ كَيْدَ الظَّالِمِينَ، وَبَغْيَ الْحَاسِدِينَ، وَبَطْشَ الْجَبَّارِينَ. أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الطَّوَاغِيتُ وَأَتْبَاعُهُمْ مِنْ أَهْلِ الرَّغْبَةِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَاحْذَرُوا مَا حَذَّرَكُمُ اللهُ مِنْهَا، وَازْهَدُوا فِيمَا زَهَّدَكُمُ اللهُ فِيهِ مِنْهَا، وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى مَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا رُكُونَ مَنِ اتَّخَذَهَا دَارَ قَرَارٍ، وَمَنْزِلَ اسْتِيطَانٍ - إلى أن قال - وَلَيْسَ يَعْرِفُ تَصَرُّفَ أَيَّامِهَا، وَتَقَلُّبَ حَالاتِهَا، وَعَاقِبَةَ ضَرَرِ فِتَنِهَا، إِلاَّ مَنْ عَصَمَهُ اللهُ، وَنَهَجَ سَبِيلَ الرُّشْدِ، وَسَلَكَ طَرِيقَ الْقَصْدِ، ثُمَّ اسْتَعَانَ عَلَى ذَلِكَ بِالزُّهْدِ، فَكَرَّرَالْفِكْرَ، وَاتَّعَظَ بِالصَّبْرِ، وَزَهِدَ فِي عَاجِلِ بَهْجَةِ الدُّنْيَا، وَتَجَافَى عَنْ لَذَّتِهَا، وَرَغِبَ فِي دَائِمِ نَعِيمِ الآخِرَةِ، وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا»(1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنَّ عَلاَمَةَ الرَّاغِبِ فِي ثَوَابِ الآخِرَةِ، زُهْدٌ فِي عَاجِلِ زَهْرَةِ الدُّنْيَا. أَمَا إِنَّ زُهْدَ الزَّاهِدِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لاَ يَنْقُصُهُ مِمَّا قَسَمَ اللهُ لَهُ فِيهَا وَإِنْ زَهِدَ، وَإِنَّ حِرْصَ الْحَرِيصِ عَلَى عَاجِلِ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لاَ يَزِيدُهُ فِيهَا وَإِنْ حَرَصَ. فَالْمَغْبُونُ مَنْ غُبِنَ حَظَّهُ مِنَ الآخِرَةِ»(2).
ص: 49
..............................
وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنَّ مِنْ أَعْوَنِ الأَخْلاَقِ عَلَى الدِّينِ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا»(1).
وعن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله(عليه السلام)، قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «جُعِلَ الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي بَيْتٍ، وَجُعِلَ مِفْتَاحُهُ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا - ثم قال - قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): لاَ يَجِدُ الرَّجُلُ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ حَتَّى لا يُبَالِيَ مَنْ أَكَلَ الدُّنْيَا». ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): «حَرَامٌ عَلَى قُلُوبِكُمْ أَنْ تَعْرِفَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ حَتَّى تَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا»(2).
وعن علي بن هاشم بن البريد، عن أبيه: أَنَّ رَجُلاًًًًًًًًًًًًًًًًًًً سَأَلَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) عَنِ الزُّهْدِ؟. فَقَالَ: «عَشَرَةُ أَشْيَاءَ: فَأَعْلَى دَرَجَةِ الزُّهْدِ أَدْنَى دَرَجَةِ الْوَرَعِ، وَأَعْلَى دَرَجَةِ الْوَرَعِ أَدْنَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ، وَأَعْلَى دَرَجَاتِ الْيَقِينِ أَدْنَى دَرَجَاتِ الرِّضَا. أَلاَ وَإِنَّ الزُّهْدَ فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ: «لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ»(3)»(4).
وعن سفيان بن عُيَيْنَةَ، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «كُلُّ
ص: 50
..............................
قَلْبٍ فِيهِ شَكٌّ أَوْ شِرْكٌ فَهُوَ سَاقِطٌ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا؛ لِتَفْرُغَ قُلُوبُهُمْ لِلآخِرَةِ»(1).
وعن عبد الله بن القاسم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْراً: زَهَّدَهُ فِي الدُّنْيَا، وَفَقَّهَهُ فِي الدِّينِ، وَبَصَّرَهُ عُيُوبَهَا، وَمَنْ أُوتِيَهُنَّ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ - وقال - لَمْ يَطْلُبْ أَحَدٌ الْحَقَّ بِبَابٍ أَفْضَلَ مِنَ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ ضِدٌّ لِمَا طَلَبَ أَعْدَاءُ الْحَقِّ». قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، مِمَّاذَا؟. قَالَ: «مِنَ الرَّغْبَةِ فِيهَا - وقال - أَ لاَ مِنْ صَبَّارٍ كَرِيمٍ فَإِنَّمَا هِيَ أَيَّامٌ قَلاَئِلُ، أَلاَ إِنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ أَنْ تَجِدُوا طَعْمَ الإِيمَانِ حَتَّى تَزْهَدُوا فِي الدُّنْيَا». قال: وَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِذَا تَخَلَّى الْمُؤْمِنُ مِنَ الدُّنْيَا سَمَا، وَوَجَدَ حَلاَوَةَ حُبِّ اللهِ، فَلَمْ يَشْتَغِلُوا بِغَيْرِهِ». قال: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إِنَّ الْقَلْبَ إِذَا صَفَا ضَاقَتْ بِهِ الأَرْضُ حَتَّى يَسْمُوَ»(2).وعن أبي جعفر (عليه السلام) - في حديث - أن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: «أَلاَ وَكُونُوا مِنَ الزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا الرَّاغِبِينَ فِي الآخِرَةِ، أَلاَ إِنَّ الزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا قَدِ اتَّخَذُوا الأَرْضَ بِسَاطاً، وَالتُّرَابَ فِرَاشاً، وَالْمَاءَ طِيباً، وَقُرِّضُوا مِنَ الدُّنْيَا تَقْرِيضاً»(3).
ص: 51
..............................
وعن عمرِو بن سعيد بن هلال، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه
السلام): إِنِّي لاَ أَلْقَاكَ إِلاَّ فِي السِّنِينَ، فَأَوْصِنِي بِشَيْءٍ حَتَّى آخُذَ بِهِ. قال: «أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ، وَالْوَرَعِ، وَالاِجْتِهَادِ. وَإِيَّاكَ أَنْ تَطْمَحَ إِلَى مَنْ فَوْقَكَ، وَكَفَى بِمَا قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»(1)، وَقَالَ: «فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ»(2). فَإِنْ خِفْتَ ذَلِكَ فَاذْكُرْ عَيْشَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فَإِنَّمَا كَانَ قُوتُهُ مِنَ الشَّعِيرِ، وَحَلْوَاهُ مِنَ التَّمْرِ، وَوَقُودُهُ مِنَ السَّعَفِ إِذَا وَجَدَهُ. وَإِذَا أُصِبْتَبِمُصِيبَةٍ فِي نَفْسِكَ، أَوْ مَالِكَ، أَوْ وُلْدِكَ، فَاذْكُرْ مُصَابَكَ بِرَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)؛ فَإِنَّ الْخَلاَئِقَ لَمْ يُصَابُوا بِمِثْلِهِ قَطُّ»(3).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «قِيلَ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): مَا الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا؟. قَالَ: تَنَكُّبُ حَرَامِهَا»(4).
وعن أبي الطفيل، قال: سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَقُولُ: «الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا قَصْرُ الأَمَلِ، وَشُكْرُ كُلِّ نِعْمَةٍ، وَالْوَرَعُ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْكَ»(5).
ص: 52
..............................
وعن إسماعيل بن مسلم، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «لَيْسَ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا بِإِضَاعَةِ الْمَالِ، وَلاَ بِتَحْرِيمِ الْحَلاَلِ، بَلِ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا أَنْ لاَ تَكُونَ بِمَا فِي يَدِكَ أَوْثَقَ مِنْكَ بِمَا فِي يَدِ اللهِ عَزَّوَجَلَّ»(1).
وعن حفص بن غياث، قال: سَمِعْتُ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ (عليه السلام) عِنْدَ قَبْرٍ وَهُوَ يَقُولُ: «إِنَّ شَيْئاً هَذَا آخِرُهُ لَحَقِيقٌ أَنْ يُزْهَدَ فِي أَوَّلِهِ، وَإِنَّ شَيْئاً هَذَا أَوَّلُهُ لَحَقِيقٌ أَنْ يُخَافَ مِنْ آخِرِهِ»(2).
وعن عبد الله بن الحسن بن علي، عن أمه فاطمة بنت الحسين، عن أبيها (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ صَلاَحَ أَوَّلِ هَذِهِ الأُمَّةِ بِالزُّهْدِ وَالْيَقِينِ، وَهَلاَكَ آخِرِهَا بِالشُّحِّ وَالأَمَلِ»(3).
وعن الحسن بن علي العسكري (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم
السلام)، عن الصادق (عليه السلام)، أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الزَّاهِدِ فِي الدُّنْيَا؟. قَالَ: «الَّذِي يَتْرُكُ حَلاَلَهَا مَخَافَةَ حِسَابِهِ، وَيَتْرُكُ حَرَامَهَا مَخَافَةَعِقَابِهِ»(4).
ص: 53
..............................
مسألة: تكره الرغبة في الدنيا والحرص عليها، وقد تكون محرمة بالنسبة للقائد في بعض الصور، وذلك فيما إذا كانت مقدمة للحرام، كتفريطه بحقوق الأُمة، على البحث في حرمة مطلق المقدمة، أم خصوص الموصلة منها، وأنها محرمة شرعاً وعقلاً، أم عقلاً فقط، والتفصيل مذكور في الأصول.
عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «مَثَلُ الْحَرِيصِ عَلَى الدُّنْيَا مَثَلُ دُودَةِ الْقَزِّ، كُلَّمَا ازْدَادَتْ عَلَى نَفْسِهَا لَفّاً، كَانَ أَبْعَدَ لَهَا مِنَ الْخُرُوجِ حَتَّى تَمُوتَ غَمّاً»(1).
وقال أبو عبد الله (عليه السلام): «أَغْنَى الْغِنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ لِلْحِرْصِ أَسِيراً»(2).وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «أَبْعَدُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا لَمْ يُهِمَّهُ إِلاَّ بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ»(3).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ كَثُرَ اشْتِبَاكُهُ فِي الدُّنْيَا، كَانَ أَشَدَّ لِحَسْرَتِهِ عِنْدَ فِرَاقِهَا»(4).
ص: 54
..............................
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «حُرِمَ الْحَرِيصُ خَصْلَتَيْنِ وَلَزِمَتْهُ خَصْلَتَانِ: حُرِمَ الْقَنَاعَةَ فَافْتَقَدَ الرَّاحَةَ، وَحُرِمَ الرِّضَا فَافْتَقَدَ الْيَقِينَ»(1).
مسألة: الزهد ملكة نفسانية لا ترتبط بوجود مغريات وعدمها، أو فرص وعدمها، فإنه (ليس الزهد أن لا تملك شيئاً، بل الزهد أن لا يملكك شيء).
نعم، وجود الفرصة يكشف عنهاللناس، ولذلك قالت (عليها السلام): «وَلَبَانَ لَهُمُ الزَّاهِدُ مِنَ الرَّاغِبِ»، أي إنه (عليه السلام) إذا وصل للحكم والخلافة الظاهرية لبان للناس، وظهر لهم الحاكم الزاهد في الدنيا من الراغب الحريص عليها، وأما في مرحلة الثبوت فإنه (عليه السلام) كان في كل شؤونه كما قال: «لَوْ كُشِفَ لِيَ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِيناً» (2).
عن الأصبغ بن نباتة، قال عَلِيٌّ (عليه السلام): «دَخَلْتُ بِلاَدَكُمْ بِأَشْمَالِي هَذِهِ، وَرَحْلَتِي وَرَاحِلَتِي هَا هِيَ، فَإِنْ أَنَا خَرَجْتُ مِنْ بِلاَدِكُمْ بِغَيْرِ مَا دَخَلْتُ، فَإِنَّنِي مِنَ الْخَائِنِينَ» وفي رواية: «يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ، مَا تَنْقِمُونَ مِنِّي! إِنَّ هَذَا لَمِنْ غَزْلِ أَهْلِي»، وَأَشَارَ إِلَى قَمِيصِهِ(3).
ص: 55
..............................
وَرَآهُ سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ، وَهُوَ يَأْكُلُ رَغِيفاً يَكْسِرُ بِرُكْبَتَيْهِ، وَيُلْقِيهِ فِي لَبَنٍ حَاذِرِ، يَجِدُ رِيحَهُ مِنْ حُمُوضَتِهِ. فَقُلْتُ: وَيْحَكِ يَا فِضَّةُ، أَ مَا تَتَّقُونَ اللهَ تَعَالَى فِيهَذَا الشَّيْخِ، فَتَنْخَلُون لَهُ طَعَاماً لِمَا أَرَى فِيهِ مِنَ النُّخَالِ. فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: «بِأَبِي وَأُمِّي مَنْ لَمْ يُنْخَلْ لَهُ طَعَامٌ، وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الْبُرِّ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ»(1).
وقال (عليه السلام) لعقبة بن علقمة: «يَا أَبَا الْجَنُوبِ، أَدْرَكْتُ رَسُولَ اللهِ يَأْكُلُ أَيْبَسَ مِنْ هَذَا، وَيَلْبَسُ أَخْشَنَ مِنْ هَذَا؛ فَإِنْ أَنَا لَمْ آخُذْ بِهِ خِفْتُ أَنْ لاَ أَلْحَقَ بِهِ»(2).
وَتَرَصَّدَ غَدَاةً عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ، فَأَتَتْ فِضَّةُ بِجِرَابٍ مَخْتُومٍ، فَأَخْرَجَ مِنْهُ خُبْزاً مُتَغَيِّراً خَشِناً. فَقَالَ عَمْرٌو: يَا فِضَّةُ، لَوْ نَخَلْتِ هَذَا الدَّقِيقَ وَطَيَّبْتِهِ. قَالَتْ: كُنْتُ أَفْعَلُ فَنَهَانِي، وَكُنْتُ أَضَعُ فِي جِرَابِهِ طَعَاماً طَيِّباً فَخَتَمَ جِرَابَهُ. ثُمَّ إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فَتَّهُ فِي قَصْعَةٍ، وَصَبَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ، ثُمَّ ذَرَّ عَلَيْهِ الْمِلْحَ، وَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعِهِ. فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: «يَا عَمْرُو، لَقَدْ حَانَتْ هَذِهِ - وَمَدَّ يَدَهُ إِلَى مَحَاسِنِهِ - وَخَسِرَتْ هَذِهِ أَنْ أُدْخِلَهَا النَّارَ مِنْ أَجْلِ الطَّعَامِ، وَهَذَا يُجْزِينِي»(3).وَرَآهُ (عليه السلام) عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ شَنَّةٌ فِيهَا قَرَاحُ مَاءٍ ، وَكِسَرَاتٌ
ص: 56
..............................
مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ وَمِلْحٌ. فَقَالَ: إِنِّي لاَ أَرَى لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَتَظَلُّ نَهَارَكَ طَاوِياً مُجَاهِداً، وَبِاللَّيْلِ سَاهِراً مُكَايِداً، ثُمَّ يَكُونُ هَذَا فَطُورَكَ!. فَقَالَ (عليه السلام): «عَلِّلِ النَّفْسَ بِالْقُنُوعِ، وَإِلاَّ طَلَبَتْ مِنْكَ فَوْقَ مَا يَكْفِيهَا»(1).
وقال سويد بن غفلة: دَخَلْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ عِيدٍ، فَإِذَا عِنْدَهُ فَاثُورٌ عَلَيْهِ خُبْزُ السَّمْرَاءِ، وَصَحْفَةٌ فِيهَا خَطِيفَةٌ وَمِلْبَنَةٌ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، يَوْمُ عِيدٍ وَخَطِيفَةٌ!. فَقَالَ (عليه السلام): «إِنَّمَا هَذَا عِيدُ مَنْ غُفِرَ لَهُ»(2).
وقال ابن بطة في "الإبانة": عَنْ جُنْدَبٍ، أَنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) قَدِمَ إِلَيْهِ لَحْمٌ غَثٌّ. فَقِيلَ لَهُ: نَجْعَلُ لَكَ فِيهِ سَمْناً. فَقَالَ (عليه السلام): «إِنَّا لا نَأْكُلُ أَدَمَيْنِجَمِيعاً»(3).
وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ (عليه السلام) فِي يَوْمِ عِيدٍ أَطْعِمَةٌ. فَقَالَ: «أَجْعَلُهَا بَاجاً». وَخَلَطَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، فَصَارَتْ كَلِمَتُهُ مَثَلاً.
وقال الْعُرَنِيُّ: وُضِعَ خِوَانٌ مِنْ فَالُوذَجٍ بَيْنَ يَدَيْهِ (عليه السلام)، فَوَجَا بِإِصْبَعِهِ حَتَّى بَلَغَ أَسْفَلَهُ، ثُمَّ سَلَّهَا وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئاً، وَتَلَمَّظَ بِإِصْبَعِهِ، وَقَالَ: «طَيِّبٌ طَيِّبٌ، وَمَا هُوَ بِحَرَامٍ، وَلَكِنْ أَكْرَهُ أَنْ أُعَوِّدَ نَفْسِي بِمَا لَمْ أُعَوِّدْهَا». وفي خبر عن
ص: 57
..............................
الإمام الصادق (عليه السلام): «أَنَّهُ مَدَّ يَدَهُ إِلَيْهِ ثُمَّ قَبَضَهَا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ: ذَكَرْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْهُ قَطُّ، فَكَرِهْتُ أَنْ آكُلَهُ». وفي خبر آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام): «أَنَّهُ قَالُوا لَهُ: تُحَرِّمُهُ؟. قَالَ: لاَ، وَلَكِنْ أَخْشَى أَنْ تَتُوقَ إِلَيْهِ نَفْسِي، ثُمَّ تَلاَ: «أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا»(1)»(2).وعن الإمام الباقر (عليه السلام) في خبر: «كَانَ (عليه السلام) لَيُطْعِمُ خُبْزَ الْبُرِّ وَاللَّحْمَ، وَيَنْصَرِفُ إِلَى مَنْزِلِهِ وَيَأْكُلُ خُبْزَ الشَّعِيرِ وَالزَّيْتَ وَالْخَلَ»(3).
وفي (فضائل أحمد): قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): «مَا أَصْبَحَ بِالْكُوفَةِ أَحَدٌ إِلاَّ نَاعِماً، إِنَّ أَدْنَاهُمْ مَنْزِلَةً لَيَأْكُلُ الْبُرَّ، وَيَجْلِسُ فِي الظِّلِّ، وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْفُرَاتِ»(4).
ص: 58
-------------------------------------------
مسألة: تأكيد من الصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها) على أن الإمام علي (عليه السلام) هو (الصادق) بقول مطلق، وفي كل الحالات والظروف، وفي جميع الأزمنة، فلم يكذب في قول ولا فعل(1)، ولا إشارة ولا تقرير، في الخطير من الأمور والحقير منها.
قال (عليه السلام): «وَاللهِ مَا كَذَبْتُ وَلاَ كُذِبْتُ»(2).
وفي المقابل أولئك المنقلبين على الأعقاب الذين كانت حياتهم سلسلة من الكذب والخداع والتدليس والمكروالخديعة والظلم.
كتب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى سهل بن حنيف: «أَ مَا عَلِمْتَ أَنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، وَيَسُدُّ فَاقَةَ جُوعِهِ بِقُرْصَيْهِ، وَلاَ يَأْكُلُ الْفِلْذَةَ فِي حَوْلَيْهِ، إِلاَّ فِي سَنَةِ أُضْحِيَّةٍ يَسْتَشْرِقُ الإِفْطَارَ عَلَى أَدَمَيْهِ، وَلَقَدْ آثَرَ الْيَتِيمَةَ عَلَى سِبْطَيْهِ، وَلَمْ تَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ.
ص: 59
..............................
فَأَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ، وَاللهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً، وَلاَ ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً، وَلاَ أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً، وَلاَ ادَّخَرْتُ مِنْ أَقْطَارِهَا شِبْراً، وَمَا أَقْتَاتُ مِنْهَا كَقُوتِ أَتَانٍ دَبِرَةٍ، وَلَهِيَ فِي عَيْنِي أَهْوَنُ مِنْ عَصْفَةٍ، وَلَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي هَذِهِ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا.
فَقَالَ قَائِلٌ: أَلْقِهَا، فَذُو الأُتُنِ لاَ تَرْضَى لِبَرَاذِعِهَا.
فَقُلْتُ: اعْزُبْ عَنِّي، فَعِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى»(1).
وكتب (عليه السلام) إلى ابن عباس: «أَمَّا بَعْدُ، فَلاَ يَكُنْ حَظُّكَ فِي وِلاَيَتَكَ مَا لاَ تَسْتَفِيدُهُ، وَلاَ غَيْظاً تَشْتَفِيهِ، وَلَكِنْ إِمَاتَةَبَاطِلٍ، وَإِحْيَاءَ حَقٍ»(2).
ودخل ابن عباس على أميرِ المؤمنين (عليه السلام)، وقال: إِنَّ الْحَاجَّ قَدِ اجْتَمَعُوا لِيَسْمَعُوا مِنْكَ. وَهُوَ (عليه السلام) يَخْصِفُ نَعْلاً، قَالَ: «أَمَا وَاللهِ لَهُمَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَمْرِكُمْ هَذَا، إِلاَّ أَنْ أُقِيمَ حَدّاً، أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلاً»(3).
وقال (عليه السلام): «يَا دُنْيَا يَا دُنْيَا، أَ بِي تَعَرَّضْتِ أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّقْتِ، لاَ حَانَ حِينُكِ، هَيْهَاتَ غُرِّي غَيْرِي، لاَ حَاجَةَ لِي فِيكِ، قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلاَثاً لاَ رَجْعَةَ لِي فِيكِ»(4).
ص: 60
..............................
وَلَهُ (عليه السلام):
طَلِّقِ الدُّنْيَا ثَلَاثاً *** وَ اتَّخِذْ زَوْجاً سِوَاهَا
إِنَّهَا زَوْجَةُ سَوْءٍ *** لَا تُبَالِي مَنْ أَتَاهَا (1)ويروى أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان في بعض حيطان فدك، وفي يده مسحاة، فهجمت عليه امرأة من أجمل النساء.
فقالت: يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ، إِنْ تَزَوَّجْتَنِي أُغْنِيكَ عَنْ هَذِهِ الْمِسْحَاةِ، وَأَدُلُّكَ عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ، وَيَكُونُ لَكَ الْمُلْكُ مَا بَقِيتَ.
قال لها: «فَمَنْ أَنْتِ حَتَّى أَخْطُبَكِ مِنْ أَهْلِكِ؟».
قالت: أَنَا الدُّنْيَا.
فقال (عليه السلام): «ارْجِعِي فَاطْلُبِي زَوْجاً غَيْرِي، فَلَسْتِ مِنْ شَأْنِي».
وَأَقْبَلَ عَلَى مِسْحَاتِهِ، وَأَنْشَأَ:
لَقَدْ خَابَ مَنْ غَرَّتْهُ دُنْيَا دَنِيَّةٌ *** وَمَا هِيَ إِنْ غَرَّتْ قُرُوناً بِبَاطِلٍ
أَتَتْنَا عَلَى زِيِّ الْعَرُوسِ بُثَيْنَةُ *** وَ زِينَتُهَا فِي مِثْلِ تِلْكَ الشَّمَائِلِ
فَقُلْتُ لَهَا غُرِّي سِوَايَ فَإِنَّنِي *** عَزُوفٌ عَنِ الدُّنْيَا وَلَسْتُ بِجَاهِلٍ
وَمَا أَنَا وَالدُّنْيَا وَإِنَّ مُحَمَّداً *** رَهِينٌ بِقَفْرٍ بَيْنَ تِلْكَ الْجَنَادِلِ
وَهَبْهَا أَتَتْنِي بِالْكُنُوزِ وَدُرِّهَا *** وَأَمْوَالِ قَارُونَ وَمُلْكِ القَبَائِلِ
ص: 61
..............................
أَ لَيْسَ جَمِيعاً لِلْفَنَاءِ مَصِيرُنَا *** وَيُطْلَبُ مِنْ خُزَّانِهَا بِالطَّوَائِلِ
فَغُرِّي سِوَايَ إِنَّنِي غَيْرُ رَاغِبٍ *** لِمَا فِيكِ مِنْ عِزٍّ وَمُلْكٍ وَنَائِلٍ
وَقَدْ قَنِعَتْ نَفْسِي بِمَا قَدْ رُزِقْتُهُ *** فَشَأْنَكِ يَا دُنْيَا وَأَهْلَ الْغَوَائِلِ
فَإِنِّي أَخَافُ اللهَ يَوْمَ لِقَائِهِ *** وَأَخْشَى عَذَاباً دَائِماً غَيْرَ زَائِلٍ(1)
وقال الإمام الباقر (عليه السلام): «مَا وَرَدَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ كِلاَهُمَا رِضَى اللهِ، إِلاَّ أَخَذَ بِأَشَدِّهِمَا عَلَى بَدَنِهِ»(2).
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِضِرَارِ بْنِ ضَمْرَةَ: صِفْ لِي عَلِيّاً؟.
قَالَ: (كَانَ - وَاللهِ - صَوَّاماً بِالنَّهَارِ، قَوَّاماً بِاللَّيْلِ، يُحِبُّ مِنَ اللِّبَاسِ أَخْشَنَهُ، وَمِنَ الطَّعَامِ أَجْشَبَهُ، وَكَانَ يَجْلِسُ فِينَا، وَيَبْتَدِئُ إِذَا سَكَتْنَا، وَيُجِيبُ إِذَا سَأَلْنَا، يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَيَعْدِلُ فِي الرَّعِيَّةِ، لاَ يَخَافُ الضَّعِيفُ مِنْ جَوْرِهِ، وَلاَ يَطْمَعُ الْقَوِيُّ فِي مَيْلِهِ.
وَاللهِ، لَقَدْ رَأَيْتُهُ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي، وَقَدْ أَسْبَلَ الظَّلاَمُ سُدُولَهُ، وَغَارَتْ نُجُومُهُ، وَهُوَ يَتَمَلْمَلُ فِي الْمِحْرَابِ تَمَلْمُلَ السَّلِيمِ، وَيَبْكِي بُكَاءَ الْحَزِينِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ مُسِيلاً لِلدُّمُوعِ عَلَى خَدِّهِ، قَابِضاً عَلَى لِحْيَتِهِ،يُخَاطِبُ دُنْيَاهُ فَيَقُولُ: يَا دُنْيَا، أَبِي تَشَوَّقْتِ وَلِي تَعَرَّضْتِ، لاَ حَانَ حِينُكِ، فَقَدْ أَبَنْتُكِ ثَلاَثاً لاَ رَجْعَةَ لِي
ص: 62
..............................
فِيكِ، فَعَيْشُكِ قَصِيرٌ، وَخَطَرُكِ يَسِيرُ. آهْ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ، وَبُعْدِ السَّفَرِ، وَوَحْشَةِ الطَّرِيقِ»(1).
مسألة: يجب وجوباً كفائياً إعلام البشرية بأن الصادق في إبلاغ رسالات الله للعالمين من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) خليفته على الخلائق، دون غيره ممن تقمص الخلافة.
قال تعالى: «لِيَسْئَلَ الصَّادِقينَ عَنْ صِدْقِهِمْ»(2)، وقد ذكرنا في "التبيين": (أي «الصَّادِقينَ» في عهدهم مع الله «عَنْ صِدْقِهِمْ» عما قالوه لقومهم من الكلام الصادق، أي أخذنا منهم الميثاق لنسألهم عن أنهم هل أدوا الرسالة أم لا)(3).عن ابن مسعود - في قوله: «إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا»(4) - قال: (زِينَةُ الأَرْضِ الرِّجَالُ، وَزِينَةُ الرِّجَالِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ)(5).
ص: 63
..............................
وعن أبي جعفر (عليه السلام) - فِي قَوْلِهِ: «هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ»(1) - قال: «هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ «يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» »(2).
وفي (فضائل أحمد بن حنبل): قال علي (عليه السلام): «أُحَاجُّ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِتِسْعٍ: بِإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْعَدْلِ فِي الرَّعِيَّةِ، وَالْقَسْمِ بِالسَّوِيَّةِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَأَشْبَاهِهِ»(3).وفي "التهذيب" قال علي بن رافع - وكان على مال أمير المؤمنين (عليه السلام) -: أَخَذَتْ مِنِّي ابْنَتُهُ عِقْدَ لُؤْلُؤٍ عَارِيَّةً مَضْمُونَةً، مَرْدُودَةً بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، فِي أَيَّامِ الأَضْحَى. فَرَآهُ عَلَيْهَا فَعَرَفَهُ، وَقَالَ لِي: «أَ تَخُونُ الْمُسْلِمِينَ!». فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: قَدْ ضَمِنْتُهُ مِنْ مَالِي. فَقَالَ: «رُدَّهُ مِنْ يَوْمِكَ هَذَا، وَإِيَّاكَ أَنْ تَعُودَ لِمِثْلِ هَذَا فَتَنَالَكَ عُقُوبَتِي» ثم قال: «لَوْ كَانَتْ ابْنَتِي أَخَذَتْ هَذَا الْعِقْدَ عَلَى غَيْرِ عَارِيَّةٍ مَضْمُونَةٍ، لَكَانَتْ إِذاً أَوَّلَ هَاشِمِيَّةٍ قُطِعَتْ يَدُهَا عَلَى سَرِقَةٍ». فَقَالَتْ ابْنَتُهُ فِي ذَلِكَ مَقَالاً. فَقَالَ: «يَا بِنْتَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، لاَ تَذْهَبِنَّ بِنَفْسِكِ عَنِ الْحَقِّ، أَ كُلُّ
ص: 64
..............................
نِسَاءِ الْمُهَاجِرِينَ تَتَزَيَّنُ فِي هَذَا الْعِيدِ بِمِثْلِ هَذَا»(1).
وعن زاذان: أَنَّ قَنْبَراً قَدَّمَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) جَامَاتٍ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ فِي الرَّحْبَةِ، وَقَالَ: إِنَّكَ لاَ تَتْرُكُ شَيْئاً إِلاَّ قَسَمْتَهُ، فَخَبَأْتُ لَكَ هَذَا. فَسَلَّ سَيْفَهُ وَقَالَ: «وَيْحَكَ، لَقَدْ أَحْبَبْتَ أَنْ تُدْخِلَبَيْتِي نَاراً». ثُمَّ اسْتَعْرَضَهَا بِسَيْفِهِ، فَضَرَبَهَا حَتَّى انْتَثَرَتْ مِنْ بَيْنِ إِنَاءٍ مَقْطُوعٍ بَضْعَةً وَثَلاَثِينَ، وَقَالَ: «عَلَيَّ بِالْعُرَفَاءِ». فَجَاءُوا فَقَالَ: «هَذَا بِالْحِصَصِ»، وَهُوَ يَقُولُ:
هَذَا جَنَايَ وَخِيَارُهُ فِيهِ *** وَكُلُّ جَانٍ يَدُهُ إِلَى فِيهِ(2)
مسألة: يجب - أو يستحب حسب المصداق - أن يكون الإنسان صادقاً مع نفسه، ومع مجتمعه، ومع ربه، كما كان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) كذلك.
قال (عليه السلام): «وَاللهِ، مَا كَتَمْتُ وَشْمَةً، وَلاَ كَذَبْتُ كِذْبَةً»(3).
وعلمه كان في العوالم السابقة على هذا العالم، فكان إذن مقارناً بل سابقاً على أول لحظة من لحظات حياته في هذه الدنيا(4).
ص: 65
..............................
والصدق مع النفس: أن لا يمنيها بالباطل، ولا يحاول خداعها، بإلباس الباطل ثوب الحق واختلاق الأعذار، بل بأن يحاسبها حساباً عسيراً على كل ما صدر منها.
والصدق مع المجتمع: ينقسم إلى الصدق مع أهله، ومع جيرانه، ومع شركائه في العمل، ومع منافسيه، وحتى مع أعدائه.
وكذلك صدق الحكومة مع الشعب، ومطلق المدير مع المدار، وبالعكس(1).
وأما الصدق مع الله: فهو صدق النية بإخلاص مطلق لا تشوبه شائبة رياء أو سمعة، وصدق القول وصدق العمل، بل صدق التوجه أيضاً، وليطلب تفصيل ذلك من مظانه.
عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «كُونُوا دُعَاةً لِلنَّاسِ بِالْخَيْرِ بِغَيْرِ أَلْسِنَتِكُمْ، لِيَرَوْا مِنْكُمُ الاِجْتِهَادَ، وَالصِّدْقَ، وَالْوَرَعَ»(2).
وعن أبي بصير، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه
السلام) يَقُولُ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الصَّادِقِينَ،وَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ مِنَ الْكَاذِبِينَ. فَإِذَا صَدَقَ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: صَدَقَ وَبَرَّ، وَإِذَا كَذَبَ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: كَذَبَ وَفَجَرَ»(3).
ص: 66
..............................
وعن حسن بن زياد الصيقلِ، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «مَنْ صَدَقَ لِسَانُهُ زَكَا عَمَلُهُ، وَمَنْ حَسُنَتْ نِيَّتُهُ زِيدَ فِي رِزْقِهِ، وَمَنْ حَسُنَ بِرُّهُ بِأَهْلِ بَيْتِهِ مُدَّ لَهُ فِي عُمُرِهِ»(1).
وعن عمرو بن أبي المقدام، قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام) في أول دخلة دخلت عليه: «تَعَلَّمُوا الصِّدْقَ قَبْلَ الْحَدِيثِ»(2).
وعن الفضيل بن يسار، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «يَا فُضَيْلُ، إِنَّ الصَّادِقَ أَوَّلُ مَنْ يُصَدِّقُهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ يَعْلَمُ أَنَّهُ صَادِقٌ، وَتُصَدِّقُهُ نَفْسُهُ تَعْلَمُ أَنَّهُصَادِقٌ»(3).
وعن أحمد بن النضر الخراز، عن جده الربيع بن سعد، قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): «يَا رَبِيعُ، إِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكْتُبَهُ اللهُ صِدِّيقاً»(4).
وعن زيد بن علي، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ أَقْرَبَكُمْ مِنِّي غَداً، وَأَوْجَبَكُمْ عَلَيَّ شَفَاعَةً: أَصْدَقُكُمْ لِلْحَدِيثِ، وَآدَاكُمْ لِلأَمَانَةِ، وَأَحْسَنُكُمْ خُلُقاً، وَأَقْرَبُكُمْ مِنَ النَّاسِ»(5).
وعن محمد بن إسماعيل، رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أُوصِيكَ يَا عَلِيُّ فِي نَفْسِكَ بِخِصَالٍ - اللَّهُمَّ أَعِنْهُ -:
ص: 67
..............................
الأُولَى الصِّدْقُ، وَلاَ يَخْرُجُ مِنْ فِيكَ كَذِبَةٌ أَبَداً»(1).
مسألة: لا يجوز أن يتولى خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلاّ الصادقون بقول مطلق(2)، وهم الأئمة الأثنى عشر (عليهم السلام) فقط دون غيرهم، وهم الذين عينهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأمر من الله عز وجل.
قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ»(3).
وعن بريد بن معاوية العجلي، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: «اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ»؟. قال: «إِيَّانَا عَنَى»(4).
وعن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في قول الله عز وجل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» قال: «الصَّادِقُونَ هُمُ الأَئِمَّةُ، وَالصِّدِّيقُونَ
ص: 68
..............................
بِطَاعَتِهِمْ»(1).
وروى جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) - في قوله: «وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» - قال: «مَعَ آلِ مُحَمَّدٍ (عليهم السلام) »(2).
وعن ابن عباس - في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» -: أَيْ كُونُوا مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)(3).
وقال عز وجل: «قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمينَ»(4).
والكاذب ولو لمرة واحدة طوال عمره ظالم، وقد سبق أنه ليس الاستدلال بذلك متوقفاً على صدق المشتق على المنقضيعنه المبدأ، حتى يكون بحثاً مبنائياً، بل يتم الاستدلال ولو على القول بكونه مجازاً في المنقضي عنه المبدأ. ويمكن الاستدلال على ذلك بوجوه عديدة، نذكر وجها عقلياً واحداً ، وهو:
إن طلب النبي إبراهيم (عليه السلام): «قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمينَ»(5) لا يخلو من أربع صور:
ص: 69
..............................
1: فإن الظالم إما ظالم في الماضي والحاضر، أي وقت طلب إعطائه الإمامة.
2: وإما غير ظالم في الماضي وظالم في الحاضر.
3: وإما ظالم في الماضي وغير ظالم في الحاضر.
4: وإما غير ظالم في الماضي وغير ظالم في الحاضر.
والصورتان الأُوْلَيان يستحيل أن يطلبهما إبراهيم (عليه السلام) بل أي حكيم عاقل، والثالثة نفتها الآية، فبقيت الرابعة وهو المطلوب.
مسألة: يحرم الكذب، خاصة على القائد، ليس لأنه ممن يتأسى به فحسب، بل لموقعه أيضاً.
قال الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّ الْحَسَنَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ حَسَنٌ، وَإِنَّهُ مِنْكَ أَحْسَنُ؛ لِمَكَانِكَ مِنَّا. وَإِنَّ الْقَبِيحَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ قَبِيحٌ، وَإِنَّهُ مِنْكَ أَقْبَحُ»(1).
وعن أبي النعمان، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «يَا أَبَا النُّعْمَانِ، لاَتَكْذِبْ عَلَيْنَا كَذِبَةً فَتُسْلَبَ الْحَنِيفِيَّةَ، وَلاَ تَطْلُبَنَّ أَنْ تَكُونَ رَأْساً فَتَكُونَ ذَنَباً، وَلاَتَسْتَأْكِلِ النَّاسَ بِنَا فَتَفْتَقِرَ؛ فَإِنَّكَ مَوْقُوفٌ لاَ مَحَالَةَ وَمَسْئُولٌ، فَإِنْ صَدَقْت
ص: 70
..............................
صَدَّقْنَاكَ، وَإِنْ كَذَبْتَ كَذَّبْنَاكَ»(1).
وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (صلوات الله عليه) يَقُولُ لِوُلْدِهِ: اتَّقُوا الْكَذِبَ الصَّغِيرَ مِنْهُ وَالْكَبِيرَ، فِي كُلِّ جِدٍّ وَهَزْلٍ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَإِذَا كَذَبَ فِي الصَّغِيرِ اجْتَرَى عَلَى الْكَبِيرِ. أَ مَا عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: مَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَصْدُقُ حَتَّى يَكْتُبَهُ اللهُ صِدِّيقاً، وَمَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ حَتَّى يَكْتُبَهُ اللهُ كَذَّاباً»(2).
وعن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لِلشَّرِّ أَقْفَالاً، وَجَعَلَ مَفَاتِيحَ تِلْكَ الأَقْفَالِ الشَّرَابَ، وَالْكَذِبُ شَرٌّ مِنَ الشَّرَابِ»(3).
وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِنَّ الْكَذِبَ هُوَ خَرَابُ الإِيمَانِ»(4).
وعن أبي خديجة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «الْكَذِبُ عَلَى اللهِ وَعَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وآله) مِنَ الْكَبَائِرِ»(5).
وعن فضيل بن يسار، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِنَّ أَوَّلَ مَنْ يُكَذِّبُ الْكَذَّابَ: اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ الْمَلَكَانِ اللَّذَانِ مَعَهُ، ثُمَّهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ»(6).
ص: 71
..............................
وعن عمر بن يزيد، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ الْكَذَّابَ يَهْلِكُ بِالْبَيِّنَاتِ، وَيَهْلِكُ أَتْبَاعُهُ بِالشُّبُهَاتِ»(1).
وعن معاوية بن وهب، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يقول: «إِنَّ آيَةَ الْكَذَّابِ بِأَنْ يُخْبِرَكَ خَبَرَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَالمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَإِذَا سَأَلْتَهُ عَنْ حَرَامِ اللهِ وَحَلاَلِهِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ»(2).
وعن أبي بصير، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ الْكَذِبَةَ لَتُفَطِّرُ الصَّائِمَ». قُلْتُ: وَأَيُّنَا لاَ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ. قَالَ (عليه السلام): «لَيْسَ حَيْثُ ذَهَبْتَ، إِنَّمَا ذَلِكَ الْكَذِبُ عَلَى اللهِ، وَعَلَى رَسُولِهِ، وَعَلَى الأَئِمَّةِ (صلوات الله عليهم)»(3).وعن أحمد بن محمد بن عيسى، عن بعض أصحابه رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: ذُكِرَ الْحَائِكُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) أَنَّهُ مَلْعُونٌ. فَقَالَ (عليه السلام): «إِنَّمَا ذَاكَ الَّذِي يَحُوكُ الْكَذِبَ عَلَى اللهِ وَعَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وآله)»(4).
ص: 72
..............................
مسألة: يجب التحلي بالصدق خاصة على القائد.
لا يقال: حرمة الكذب لا تستلزم وجوب الصدق.
لأنه يقال: ليس الاستدلال على وجوب الصدق بحرمة الكذب، إذ هو أعم ولا تلازم كما لا يخفى، بل لما دل على وجوبه في مواطن أخر، كما يدل عليه بالالتزام أدلة الهداية والإرشاد في الشؤون العقائدية وفي كل إرشاد واجب.
قال تعالى: «فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(1).
وقال سبحانه: «وَقُلِ الْحقُّ مِنْ رَبِّكُمْ»(2).
وعن علي (عليه السلام)، قال: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: إِنَّ مِنْ مَكَارِمِ الأَخْلاَقِ صِدْقَ الْحَدِيثِ»(3).
وفي كتاب الأخلاق، قال: قيل لرسولالله (صلى الله عليه وآله): بِمَ يُعْرَفُ الْمُؤْمِنُ؟. قال: «بِوَقَارِهِ، وَلِينِهِ، وَصِدْقِ حَدِيثِهِ»(4).
ص: 73
..............................
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَبْعَثْ نَبِيّاً قَطُّ إِلاَّ بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ إِلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ»(1).
وقال علي (عليه السلام): «الصِّدْقُ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَالْبِرُّ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ يَصْدُقُ حَتَّى لاَ يَبْقَى فِي قَلْبِهِ مَوْضِعُ إِبْرَةٍ مِنْ كَذِبٍ، حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ اللهِ صَادِقاً»(2).
وقال (عليه السلام): «إِنَّ مِنْ حَقِيقَةِ الإِيمَانِ أَنْ يُؤْثِرَ الْعَبْدُ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّ، عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُ، وَلاَ يَعْدُو الْمَرْءُ بِمَقَالِهِ عَمَلَهُ»(3).
وقال (عليه السلام) - في خطبة طويلة -: «أَيُّهَا النَّاسُ، أَلاَ فَاصْدُقُوا إِنَّ اللهَ مَعَالصَّادِقِينَ، وَجَانِبُوا الْكَذِبَ فَإِنَّهُ مُجَانِبٌ لِلإِيمَانِ، أَلاَ إِنَّ الصَّادِقَ عَلَى شَفَا مَنْجَاةٍ وَكَرَامَةٍ، أَلاَ إِنَّ الْكَاذِبَ عَلَى شَفَا رَدًى وَهَلَكَةٍ»(4).
وعن علي بن الحسين (عليه السلام)، قال: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَمَلَ إِسْلاَمُهُ، وَمُحِيَتْ ذُنُوبُهُ، وَلَقِيَ رَبَّهُ وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ: وَفَاءٌ للهِ بِمَا يَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهِ لِلنَّاسِ، وَصِدْقُ لِسَانِهِ مَعَ النَّاسِ، وَالاِسْتِحْيَاءُ مِنْ كُلِّ قَبِيحٍ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ النَّاسِ، وَحُسْنُ خُلُقِهِ مَعَ أَهْلِهِ»(5).
ص: 74
..............................
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «الصِّدْقُ نُورٌ مُتَشَعْشَعٌ فِي عَالَمِهِ، كَالشَّمْسِ يَسْتَضِيءُ بِهَا كُلُّ شَيْ ءٍ بِمَعْنَاهُ، مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ يَقَعُ عَلَى مَعْنَاهَا»، إلى أن قال: «وَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ (عليه السلام): الصِّدْقُ سَيْفُ اللهِ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ، أَيْنَمَا هَوَى بِهِ نَفَدَ»(1).وعن رسول اللهِ (صلى الله عليه وآله)، أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «يَا ابْنَ مَسْعُودٍ، عَلَيْكَ بِالصِّدْقِ، وَلاَ تَخْرُجَنَّ مِنْ فِيكَ كَذِبَةٌ أَبَداً»(2).
وعن عبد الله بن عمر، قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله). فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عَمَلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟. قَالَ: «الصِّدْقُ، إِذَا صَدَقَ الْعَبْدُ بَرَّ، وَإِذَا بَرَّ آمَنَ، وَإِذَا آمَنَ دَخَلَ الْجَنَّةَ»(3).
وعن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: «تَحَرَّوُا الصِّدْقَ، فَإِنْ رَأَيْتُمْ فِيهِ الْهَلَكَةَ فَإِنَّ فِيهِ النَّجَاةَ». وقال (صلى الله عليه وآله): «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّهُ مِنَ الْبِرِّ، وَإِنَّهُ فِي الْجَنَّةِ»(4).
ص: 75
«وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(1)
مسألة: يستحب الاستشهاد بالآيات الكريمة في الخطب والكتب والرسائل وغيرها، وقد يجب ذلك إذا كان حفظاً للكتاب من الاندراس أو توقف عليه تأثير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويحرم الترك إذا عدّ هتكاً، وقد سبق تفصيله.
مسألة: يستفاد من استشهادها (عليها السلام) بهذه الآية، أنها (صلوات الله عليها) كانت ترى - وقد شهدت أيضاً - بأن القوم لم يؤمنوا ولم يتقوا، والمضاد للإيمان الكفر، والمضاد للتقوى الفسق.
قال تعالى: «هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإيمَانِ»(2).
وقال سبحانه: «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فقد استَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى»(3).
وقال تعالى: «فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَفَلْيَكْفُرْ»(4).
ص: 76
..............................
وقال سبحانه: «وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ»(1).
مسألة: ويستفاد من استشهادها (عليها السلام) بالآية، أن إنكار الولاية مساوق للكفر، فمنكرها كافر بالكفر العملي على ما سبق. نعم، يترتب عليه أحكام الإسلام ظاهراً.
يستفاد من استشهادها (عليها السلام) بهذه الآية المباركة أن القوم حيث تركوا ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) فلم يؤمنوا ولم يتقوا، لم يفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض، بل حيث إنهم كذّبوا، أخذهم الله بما كانوا يكسبون، ويستحب بيان ذلك.
والآية ومفادها بالإضافة إلى كونها غيبية(2)، واقعية وظاهرة، لأن الذينيؤمنون بالله(3) ويتقونه سبحانه وتعالى، يوفّرون لأنفسهم خير السماء والأرض، أما الأرض فخيرها بالعمارة والزراعة والتجارة والتعاون وحيازة المباحات والزواج وكثرة النسل وقلة المشاكل ونحوها، وأما السماء فإذا كثرت المزارع والأنهار والعيون - وغيرها من موارد الماء - تصعد الأبخرة إلى الأعلى فتولد
ص: 77
..............................
السحاب الممطر بقدرة الله سبحانه وتعالى مما يسبب كثرة زراعة الأرض وعمارتها وقوة الاجتماع.
مضافاً إلى أن من الواضح كون الإيمان يسبب اطمئنان النفس وهدوء الأعصاب وعدم الكآبة والقلق(1)وما أشبهمن الأمراض النفسية الخطيرة،من الأمراض النفسية الخطيرة،من الأمراض النفسية الخطيرة،من الأمراض النفسية الخطيرة،وهذا
ص: 78
ص: 79
ص: 80
.............................
الاطمئنان من أهم أسباب التقدم، إذ النفس المطمئنة تجعل كل أطرافها من البدن والروح والاجتماع - عائليةً ومنظمةً وحكومةً - والطبيعة أشجاراً وجماداً وجبالاً وودياناً وغيرها، في حال خير وسعادة، بخلاف النفس القلقة، فإنها توجب أمراض البدن وغيره، فإن كل واحد من النفس والبدن يؤثر أحدهما في الآخر، ولذا قالوا: سلامة الروح توجب سلامة البدن.
ومن المعلوم أن الروح والجسم إذا مرضا أوجبا هدم الاجتماع، كما أنهما يوجبان عدم الاعتناء بالطبيعة لإنمائها وازدهارها والاستفادة الصحيحة منها.
هذا إضافة إلى أن الإيمان يبعد الإنسان عن المعاصي التي توجب هدم الطبيعة والبدن والعقل والعائلة والمجتمع، في سياسته واقتصاده وحقوقه وغير ذلك، مثل شرب الخمر والزنا والربا والسرقة والاستبداد والظلم والعدوان، والقوانين الكابتة للحريات كحرية الزراعة والتجارة والرعي وغير ذلك، مما يوجب بوار الأراضي وهلاك الحرث والنسل وشيوع الأمراض وغيرها مما مآل ذلك إلى ذهاب وزوال بركاتالسماء والأرض.
أما التقوى فهو السير في جادة الله سبحانه وامتثال أوامره، والله أعلم بالصلاح والفساد، ولم يأمر الناس إلاّ بما يُصلح دينهم ودنياهم وآخرتهم، ويضمن لهم سعادة الدارين.
وإذا اتبع الناس منهج الباري سبحانه في السياسة والاقتصاد والاجتماع وفي حياته الحياة الشخصية، انتفى الفقر والمرض والجهل والفوضى والعوز، ولذا روي أن في عصر مولانا الإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) يكون كل تلك
ص: 81
..............................
الخيرات، فإن الفقر وليد سوء الاستفادة أو سوء توزيع الثروة أو ما أشبه، والمرض وليد سوء التغذية أو سوء اللبس أو سوء المباشرة الجنسية أو نحوها، وكل ذلك ينتفي بسبب المناهج الصحيحة في سلوك الحياة.
نعم، لا شك أن شيئاً من المرض والفقر ونحوهما ما هو من لوازم الإنسان ومن طبيعة الدنيا، لكن الكلام ليس في ذلك، بل فيما نشاهده اليوم من كثرة الأمراض وأنواعها المختلفة والحديثة، فالكلام في المرض العام والفقر العام وانهدام الاجتماع بأبشعالوجوه.
كما أن الجهل والتخلف الثقافي ينتفي بسبب المناهج العلمية الصحيحة، قال سبحانه: «لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ..»(1)، فإنه بين واجب عيني وكفائي وفضيلة.
وبعد ذلك كله لم يكن مجال للفوضى، لأنه وليد الثلاثة الآنفة الذكر، والصدّيقة الطاهرة (صلوات الله عليها) أشارت في كلامها إلى هذا الأمر واستشهدت بالآية المباركة.
ص: 82
«وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ»(1).
مسألة: يستحب - وقد يجب - بيان أن القوم حيث تركوا ولاية علي (عليه السلام) وظلموا فاطمة (عليها السلام) شملتهم هذه الآية: «وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ»(2).
وقد أخذت الصديقة الطاهرة (عليها السلام) هذه الآية من سورة الزمر، فإن الظالم لابد وأن يرتد إليه ظلمه، كما أن المحسن لابد وأن يعود إليه إحسانه، ولا يتمكن الإنسان مهما كان، أن يعجز الله سبحانه وتعالى أو أن يسبقه.
والسين كما هو معلوم للمستقبل القريب، عكس (سوف) التي هي للبعيد، فقوله تعالى: «سَيُصِيبُهُمْ» وعيد من الله وإنذار بأن ما سيصيبهم من العقاب قريب، سواء كان ما يصيبهم في الدنيا أم ما سيصيبهم في الآخرة، إذ ما أقرب الآخرة للإنسان، قال تعالى: «اقْتَرَبَتِالسَّاعَةُ»(3).
وقال عزوجل: «إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا»(4).
ص: 83
..............................
فالظالمون هم الخاسرون وإن ظنوا - في سكرة انتصارهم وسلطتهم - أنهم الرابحون، قال عزوجل: «كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ»(1)، والأمر كما قال الشاعر:
ظَنُّوا بِأَنْ قَتَلَ الْحسَيْنَ يَزِيدُهُمْ *** لَكِنَّمَا قَتَلَ الُحسَيْنُ يَزِيدَا
عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «الظُّلْمُ ثَلاَثَةٌ: ظُلْمٌ يَغْفِرُهُ اللهُ، وَظُلْمٌ لاَ يَغْفِرُهُ اللهُ، وَظُلْمٌ لاَ يَدَعُهُ اللهُ. فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لاَ يَغْفِرُهُ فَالشِّرْكُ، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يَغْفِرُهُ فَظُلْمُ الرَّجُلِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لاَ يَدَعُهُ فَالْمُدَايَنَةُ بَيْنَ الْعِبَادِ»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) في قولالله عز وجل: «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمرْصَادِ»(3)، قال: «قَنْطَرَةٌ عَلَى الصِّرَاطِ لا يَجُوزُهَا عَبْدٌ بِمَظْلِمَةٍ»(4).
وعن شيخ من النخع، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إِنِّي لَمْ أَزَلْ وَالِياً مُنْذُ زَمَنِ الْحَجَّاجِ إِلَى يَوْمِي هَذَا، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟. قَالَ: فَسَكَتَ، ثُمَّ أَعَدْتُ عَلَيْهِ. فَقَالَ (عليه السلام): «لاَ حَتَّى تُؤَدِّيَ إِلَى كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ»(5).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَا مِنْ مَظْلِمَةٍ أَشَدَّ مِنْ مَظْلِمَةٍ لاَيَجِدُ
ص: 84
..............................
صَاحِبُهَا عَلَيْهَا عَوْناً إِلاَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ»(1).
وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «لَمَّا حَضَرَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) الْوَفَاةُ، ضَمَّنِي إِلَى صَدْرِهِ ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ، أُوصِيكَ بِمَا أَوْصَانِي بِهِ أَبِي (عليه السلام) حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، وَبِمَا ذَكَرَ أَنَّأَبَاهُ أَوْصَاهُ بِهِ قَالَ: يَا بُنَيَّ، إِيَّاكَ وَظُلْمَ مَنْ لاَ يَجِدُ عَلَيْكَ نَاصِراً إِلاَّ اللهَ»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): «مَنْ خَافَ الْقِصَاصَ كَفَّ عَنْ ظُلْمِ النَّاسِ»(3).
وعن إسحاق بن عمار، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «مَنْ أَصْبَحَ لاَ يَنْوِي ظُلْمَ أَحَدٍ، غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا أَذْنَبَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، مَا لَمْ يَسْفِكْ دَماً، أَوْ يَأْكُلْ مَالَ يَتِيمٍ حَرَاماً»(4).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أَصْبَحَ لاَ يَهُمُّ بِظُلْمِ أَحَدٍ غَفَرَ اللهُ مَا اجْتَرَمَ»(5).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ ظَلَمَ مَظْلِمَةً أُخِذَ بِهَا فِي نَفْسِهِ، أَوْ فِي مَالِهِ، أَوْ فِي وُلْدِهِ»(6).
ص: 85
..............................
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «اتَّقُوا الظُّلْمَ؛ فَإِنَّهُ ظُلُمَاتُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(1).
وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَظْلِمُ بِمَظْلِمَةٍ، إِلاَّ أَخَذَهُ اللهُ بِهَا فِي نَفْسِهِ، وَمَالِهِ. وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ، فَإِذَا تَابَ غَفَرَ اللهُ لَهُ»(2).
قوله تعالى: «فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(3)، الباء دليل على أن العقوبة جزاء، وهذه الآية من أدلة عدل الله، على خلاف ما زعمه الأشاعرة، وهي تفيد أن الجزاء على قدر المعصية كماً وكيفاً، بلا زيادة عن الاستحقاق، ولا نقيصة إلا فيما كان من لطف الله أو شفاعة أوليائه الطاهرين (عليهم السلام).
هذا، وقد أصاب القوم بالفعل سيئات ما كسبوا في حياتهم الدنيا قبل الآخرة، في أنفسهم وأهليهم، وفيسياستهم واقتصادهم واجتماعهم وغير ذلك،مما يستدعي مجلدات لبيان تفصيلها، ولعل الله يقيّض من يكتب في هذا المجال.
قال النبي (صلى الله عليه وآله): «بِالْعَدْلِ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ» (4).
ص: 86
..............................
وعن الحلبي، قال: أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) أَنَّ أَبَاهُ (عليه السلام) حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَعْطَى خَيْبَرَ بِالنِّصْفِ أَرْضَهَا وَنَخْلَهَا، فَلَمَّا أَدْرَكَتِ الثَّمَرَةُ، بَعَثَ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ، فَقَوَّمَ عَلَيْهِمْ قِيمَةً. فَقَالَ لَهُمْ: إِمَّا أَنْ تَأْخُذُوهُ وَتُعْطُونِي نِصْفَ الثَّمَنِ، وَإِمَّا أَنْ أُعْطِيَكُمْ نِصْفَ الثَّمَنِ وَآخُذَهُ. فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ»(1).
وعن أبي الصباح، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه
السلام) يَقُولُ: «إِنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) لَمَّا افْتَتَحَ خَيْبَرَ تَرَكَهَا فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى النِّصْفِ، فَلَمَّا بَلَغَتِ الثَّمَرَةُ،بَعَثَ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَيْهِمْ، فَخَرَصَ عَلَيْهِمْ. فَجَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فَقَالُوا لَهُ: إِنَّهُ قَدْ زَادَ عَلَيْنَا. فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللهِ فَقَالَ: مَا يَقُولُ هَؤُلاءِ؟. قَالَ: قَدْ خَرَصْتُ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ، فَإِنْ شَاءُوا يَأْخُذُونَ بِمَا خَرَصْنَا، وَإِنْ شَاءُوا أَخَذْنَا. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ: بِهَذَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «اعْرِفُوا اللهَ بِاللهِ، وَالرَّسُولَ بِالرِّسَالَةِ، وَأُولِي الأَمْرِ بِالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ»(3).
وعن العبد الصالح (عليه السلام) في حديث له قال: «إِنَّ اللهَ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئاً مِنْ
ص: 87
..............................
صُنُوفِ الأَمْوَالِ إِلاَّ وَقَدْ قَسَمَهُ، وَأَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ، وَالْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ، وَكُلَّ صِنْفٍ مِنْ صُنُوفِ النَّاسِ. فَقَالَ: لَوْ عُدِلَ فِي النَّاسِ لاَسْتَغْنَوْا» ثمقال: «إِنَّ الْعَدْلَ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَلاَ يَعْدِلُ إِلاَّ مَنْ يُحْسِنُ الْعَدْلَ»(1).
وعن علي بن الحسين (عليه السلام)، قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ فِي آخِرِ خُطْبَتِهِ: طُوبَى لِمَنْ طَابَ خُلُقُهُ، وَطَهُرَتْ سَجِيَّتُهُ، وَصَلَحَتْ سَرِيرَتُهُ، وَحَسُنَتْ عَلاَنِيَتُهُ، وَأَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ، وَأَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ قَوْلِهِ، وَأَنْصَفَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ يَضْمَنُ لِي أَرْبَعَةً بِأَرْبَعَةِ أَبْيَاتٍ فِي الْجَنَّةِ: أَنْفِقْ وَلاَ تَخَفْ فَقْراً، وَأَفْشِ السَّلاَمَ فِي الْعَالَمِ، وَاتْرُكِ الْمِرَاءَ وَإِنْ كُنْتَ مُحِقّاً، وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ»(3).
وعن جارود أبي المنذر، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه
السلام) يَقُولُ: «سَيِّدُ الأَعْمَالِ ثَلاَثَةٌ: إِنْصَافُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ حَتَّى لاَ تَرْضَى بِشَيْءٍ إِلاَّ رَضِيتَ لَهُمْ مِثْلَهُ، وَمُوَاسَاتُكَ الأَخَ فِي الْمَالِ، وَذِكْرُ اللهِ عَلَىكُلِّ حَالٍ، لَيْسَ: سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْد لِلهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ فَقَطْ، وَلَكِنْ إِذَا وَرَدَ عَلَيْكَ شَيْءٌ أَمَرَ اللهُ
ص: 88
..............................
عَزَّوَجَلَّ بِهِ أَخَذْتَ بِهِ، أَوْ إِذَا وَرَدَ عَلَيْكَ شَيْءٌ نَهَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ تَرَكْتَهُ»(1).
وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له: «أَلاَ إِنَّهُ مَنْ يُنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَزِدْهُ اللهُ إِلاَّ عِزّاً»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «ثَلاَثَةٌ هُمْ أَقْرَبُ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ الْحِسَابِ: رَجُلٌ لَمْ تَدْعُهُ قُدْرَةٌ فِي حَالِ غَضَبِهِ إِلَى أَنْ يَحِيفَ عَلَى مَنْ تَحْتَ يَدِهِ، وَرَجُلٌ مَشَى بَيْنَ اثْنَيْنِ فَلَمْ يَمِلْ مَعَ أَحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ بِشَعِيرَةٍ، وَرَجُلٌ قَالَ بِالْحَقِّ فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ»(3).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «أَلاَأُخْبِرُكُمْ بِأَشَدِّ مَا فَرَضَ اللهُ عَلَى خَلْقِهِ» فذكر ثلاثة أشياء «أَوَّلُهَا إِنْصَافُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ»(4).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «سَيِّدُ الأَعْمَالِ إِنْصَافُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ، وَمُوَاسَاةُ الأَخِ فِي اللهِ، وَذِكْرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى كُلِّ حَالٍ»(5).
ص: 89
-------------------------------------------
(ألا) حرف تنبيه لافتتاح الكلام، كقوله تعالى: «أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ»(1).
وكما قال الشاعر: (ألا يا صاح هل) (2).
كما تأتي للتحضيض أيضاً، كقوله سبحانه: «أَ لَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ»(3). وكما يقال: (ألا تتوب وترعوي عن ضلالك).
و(هلم) من أسماء الأفعال بمعنى تعال وأقبل، إذ هي تعني الدعاء إلى الشيء، فهي لازمة، وتأتي بنفس اللفظة للواحد والمثنى والجمع، وللمذكر والمؤنث، ولكن نجد يصرفونها فيقولون: هلما وهلموا وهلمي وهلممن، وقد قال جمع من الأدباء إن الإفراد في الجميع أفصح.مسألة: (هلم) في كلامها (عليها السلام) خطاب لكل الناس والأجيال على مر التاريخ، وليس خاصاً بجيل ذلك الزمن، كما ليس خاصاً بأهل المدينة..
ص: 90
..............................
ولذلك قالت (عليها السلام): (هلم) ولم تقل (هلموا) فإن بعض الأدباء ذهبوا - كما في مجمع البحرين - أن (لفظ هلم خطاب لمن يصلح أن يجيب وإن لم يكن حاضراً، ولفظ هلموا موضوع للموجودين الحاضرين، ويفسره الحديث «هلم إلى الحج» فلو نادى «هلموا إلى الحج» لم يحج يومئذ إلاّ من كان إنسياً مخلوقاً).
مسألة: التنبيه بين واجب ومستحب، وقد يكون المنبه عليه شأناً من شؤون الآخرة، وقد يكون شأناً من شؤون الدنيا.
مسألة: التحضيض على الخير كذلك.
مسألة: وكذلك التحذير من الشر.
والجامع في المسائل الثلاثة انطباق أحد العناوين التالية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل، والإحسان للإخوان وقضاء حوائجهم، وما أشبه ذلك، أو ما يقع مقدمة لذلك فتأمل.قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: كَيْفَ بِكُمْ إِذَا لَبَسَتْكُمْ فِتْنَةٌ، يَرْبُو فِيهَا الْوَلِيدُ، وَيَزِيدُ فِيهَا الْكَبِيرُ، يَجْرِي النَّاسُ عَلَيْهَا فَيَتَّخِذُونَهَا سُنَّةً، فَإِذَا غُيِّرَ مِنْهَا شَيْءٌ، قِيلَ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَتَوْا مُنْكَراً. ثُمَّ يَشْتَدُّ الْبَلاَءُ، وَتُسْبَى الذُّرِّيَّةُ، وَتَدُقُّهُمُ الْفِتَنُ كَمَا تَدُقُّ النَّارُ الْحَطَبَ، وَكَمَا تَدُقُ الرَّحَى بِثِفَالِهَا. يَتَفَقَّهُ النَّاسُ لِغَيْرِ الدِّينِ، وَيَتَعَلَّمُونَ لِغَيْرِ الْعَمَلِ، وَيَطْلُبُونَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ»(1).
ص: 91
..............................
وعن جعفر، عن أبيه (عليهما السلام)، أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله)، قَالَ: «كَيْفَ بِكُمْ إِذَا فَسَدَ نِسَاؤُكُمْ، وَفَسَقَ شُبَّانُكُمْ، وَلَمْ تَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَلَمْ تَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ!.
فَقِيلَ لَهُ: وَيَكُونُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟!.
قَالَ (صلى الله عليه وآله): نَعَمْ، وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ. كَيْفَ بِكُمْ إِذَا أَمَرْتُمْ بِالْمُنْكَرِ، وَنَهَيْتُمْ عَنِ الْمَعْرُوفِ!.
قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ؟!.
قَالَ (صلى الله عليه وآله): «نَعَمْ، وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ. كَيْفَ بِكُمْ إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوفَمُنْكَراً، وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفاً!»(1).
وعن شرحبيل، عن علي (عليه السلام)، قال: «كَيْفَ بِكُمْ وَإِمَارَةَ الصِّبْيَانِ مِنْ قُرَيْشٍ! قَوْمٌ يَكُونُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَتَّخِذُونَ الْمَالَ دُولَةً، وَيَقْتُلُونَ الرِّجَالَ». فقال الأوس بن حجر الثمالي: إِذًا نُقَاتِلُهُمْ وَكِتَابِ اللهِ. قال (عليه السلام): «كَذَبْتَ وَكِتَابِ اللهِ»(2).
وعن علي (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «كَيْفَ بِكُمْ إِذَا كَانَ الْحَجُّ فِيكُمْ مَتْجَراً!. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ ذَلِكَ!. قَالَ: قَوْمٌ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ يَحُجُّونَ عَنِ الأَمْوَاتِ وَالأَحْيَاءِ، فَيَسْتَفْضِلُونَ الْفَضْلَةَ فَيَأْكُلُونَهَا. كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا تَهَيَّأَ أَحَدُكُمْ لِلْجُمُعَةِ عَشِيَّةَ الْخَمِيسِ، كَمَا تَهَيَّأَ الْيَهُودُ عَشِيَّةَ الْجُمُعَةِ
ص: 92
..............................
لِسَبْتِهِمْ»(1).وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «كَيْفَ بِكُمْ وَبِزَمَانٍ يُغَرْبَلُ النَّاسُ فِيهِ، وَيَبْقَى حُثَالَةٌ مِنَ النَّاسِ، قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ»(2).
وعن أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام)، قال: «بَلَغَ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَنْ قَوْمٍ مِنْ قُرَيْشٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: أَيَرَى مُحَمَّدٌ أَنَّهُ قَدْ أَحْكَمَ الأَمْرَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَئِنْ مَاتَ لَنَعْزِلَنَّهَا عَنْهُمْ، وَلَنَجْعَلُهَا فِي سِوَاهُمْ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) حَتَّى قَامَ فِي مَجْمَعِهِمْ ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، كَيْفَ بِكُمْ وَقَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدِي! ثُمَّ رَأَيْتُمُونِي فِي كَتِيبَةٍ مِنْ أَصْحَابِي أَضْرِبُ وُجُوهَكُمْ وَرِقَابَكُمْ بِالسَّيْفِ. فَنَزَلَ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) فِي الْحَالِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ رَبَّكَ يُقْرِئُكَ السَّلاَمَ، وَيَقُولُ لَكَ: قُلْ: إِنْ شَاءَ اللهُ، أَوْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): إِنْ شَاءَ اللهُ، أَوْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَتَوَلَّى ذَلِكَ مِنْكُمْ»(3).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «كَيْفَ بِكُمْ إِذَا مَرَجَ الدِّينُ وَظَهَرَتِ الرَّغْبَةُ!»(4).
ص: 93
-------------------------------------------
مسألة: العجائب محيطة بالإنسان من كل جانب، بل الحق أن كل شيء في كل جهاته عجيب، فإنه تجل لعظمة الله سبحانه وتعالى ودليل عليه، إلا أن بعض الناس قد يدرك من جهات العجب شيئاً أقل، والبعض قد يدرك شيئاً أكثر، وربما البعض لا يدرك شيئاً.
فقولها (عليها السلام): «وَمَا عِشْتَ أَرَاكَ الدَّهْرَ عَجَباً» على إطلاقه تام، فإن الإنسان مهما عمّر وبقي في الحياة الدنيا، فإنه يرى كل يوم شيئاً عجباً من الأمور الكونية والاجتماعية وغيرهما، ومن تقلب الأحوال وتصرف الأمور وغيرها.
مسألة: ينبغي السعي لاستكشاف الأكثر فالأكثر من عجائب الخلق والعالم، فإنه طريق معرفة الباري وحكمته وعلمه وعظمته، وهو طريق كمال الإنسان وتكامله.
ففي الحديث: «وَسِرْ فِي دِيَارِهِمْ وَآثَارِهِمْ، فَانْظُرْ فِيمَا فَعَلُوا، وَعَمَّا انْتَقَلُوا، وَأَيْنَ حَلُّوا وَنَزَلُوا»(1).وفي الآيات الشريفة الكثير مما يؤكد على التفكر في ملكوت السماوات والأرض، وعلى التدبر والتأمل.
ص: 94
..............................
قال تعالى: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهمْ أَنَّهُ الْحقُّ أَوَ لَم يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهيدٌ»(1).
وقال سبحانه: «أَوَ لَم يَتَفَكَّرُوا في أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ»(2).
وقال تعالى: «فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذلِكَ لَمحْيِ الْموْتَى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ»(3).
وقال سبحانه: «إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»(4).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَقُولُ:نَبِّهْ بِالتَّفَكُّرِ قَلْبَكَ، وَجَافِ عَنِ اللَّيْلِ جَنْبَكَ، وَاتَّقِ اللهَ رَبَّكَ»(5).
ص: 95
..............................
وعن الحسن الصيقل، قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَمَّا يَرْوِي النَّاسُ أَنَّ تَفَكُّرَ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ، قُلْتُ: كَيْفَ يَتَفَكَّرُ؟. قَالَ: «يَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ أَوْ بِالدَّارِ فَيَقُولُ: أَيْنَ سَاكِنُوكِ؟ أَيْنَ بَانُوكِ؟ مَا بَالُكِ لاَ تَتَكَلَّمِينَ»(1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ إِدْمَانُ التَّفَكُّرِ فِي اللهِ وَفِي قُدْرَتِهِ»(2).
وعن معمر بن خلاد، قال: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) يَقُولُ: لَيْسَ الْعِبَادَةُ كَثْرَةَ الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ، إِنَّمَا الْعِبَادَةُ التَّفَكُّرُ فِي أَمْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ»(3).
وعن ربعي، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): قال أمير المؤمنين (صلوات اللهعليه): «إِنَّ التَّفَكُّرَ يَدْعُو إِلَى الْبِرِّ وَالْعَمَلِ بِهِ»(4).
مسألة: إن اشتمال الكون في كل جوانبه على العجائب، دليل حكمة الخالق وقدرته سبحانه وتعالى.
لذا يستحب أن يتأمل الإنسان في ملكوت السماوات والأرض، وأن لايستهين بأية ظاهرة مهما بدت بسيطة أو عادية، ومهما خالها غير مفيدة.
ص: 96
..............................
وقضية التفاحة والجاذبية وشبههما من أمثلة الأول، ومثال بنات وردان(1) ومعالجة تلك الدمل المستعصية منأمثلة الثاني(2).
قول الصديقة (عليها السلام): «وَمَا عِشْتَ أَرَاكَ الدَّهْرَ عَجَباً» العجب مطلق، وهو يشمل العجب في نفسه، كما قال تعالى: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهمْ أَنَّهُ الْحقُّ»(3)، والعجب في مجتمعه، وفي عالم النبات والحيوان والجماد، وفي مختلف الجوانب أيضاً.
ص: 97
..............................
مسألة: يلزم الاعتبار من عجائب الدهر، فإنه ورد «مَا أَكْثَرَ الْعِبَرَ وَأَقَلَّ الاِعْتِبَار»(1).
فقول الصديقة (عليها السلام): «وَمَا عِشْتَ... » يستدعي بدلالة الإشارة ضرورة الاعتبار، فإن العاقل من اتعظ بالتجارب والعبر.
عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «كَانَ أَكْثَرُ عِبَادَةِ أَبِي ذَرٍّ (رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ) التَّفَكُّرَ وَالاِعْتِبَارَ»(2).
وفي خبر أبي ذر (رحمه الله)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَلاَثُ سَاعَاتٍ: سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٌ يَتَفَكَّرُ فِيمَا صَنَعَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ، وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيهَا بِحَظِّ نَفْسِهِ مِنَ الْحَلاَلِ»(3).وعن أبي الحسن الثالث (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: «الْعِلْمُ وِرَاثَةٌ كَرِيمَةٌ، وَالآدَابُ حُلَلٌ حِسَانٌ، وَالْفِكْرَةُ مِرْآةٌ صَافِيَةٌ»(4).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) فيما أوصى به الحسن (عليه السلام): «لاَ عِبَادَةَ
ص: 98
..............................
كَالتَّفَكُّرِ فِي صَنْعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ»(1).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أَغْفَلُ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَتَّعِظْ بِتَغَيُّرِ الدُّنْيَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ»(2).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «السَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ»(3).
وعن إسماعيل بن بشر بن عمار، قال:كَتَبَ هَارُونُ إِلَى مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (عليه السلام): عِظْنِي وَأَوْجِزْ. قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ: «مَا مِنْ شَيْءٍ تَرَاهُ عَيْنُكَ إِلاَّ وَفِيهِ مَوْعِظَةٌ»(4).
وقال أبو عبد الله (عليه السلام): «الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي ثَلاَثِ خِصَالٍ، فِي: النَّظَرِ، وَالسُّكُوتِ، وَالْكَلاَمِ. فَكُلُّ نَظَرٍ لَيْسَ فِيهِ اعْتِبَارٌ فَهُوَ سَهْوٌ، وَكُلُّ سُكُوتٍ لَيْسَ فِيهِ فِكْرَةٌ فَهُوَ غَفْلَةٌ، وَكُلُّ كَلاَمٍ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرٌ فَهُوَ لَغْوٌ. فَطُوبَى لِمَنْ كَانَ نَظَرُهُ اعْتِبَاراً، وَسُكُوتُهُ فِكْرَةً، وَكَلاَمُهُ ذِكْراً، وَبَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ، وَأَمِنَ النَّاسُ شَرَّهُ»(5).
ص: 99
..............................
مسألة: الأفعال وإن كانت ظاهرة الدلالة على القصد، إلاّ أنه يعدل عن الظاهر للقرينة، فقولها (عليها
السلام): «أَرَاكَ الدَّهْرَ»المقصود من الإرائة ما هو بمقتضى طبع الدهر، لا أن الدهر قاصد للإراءة، وإن كان له - لدى الدقة والتأمل - وجه، فإن كل شيء يشعر ويدرك ويشهد أيضاً.
قال عز وجل: «وَقَالُوا لِجلُودِهِمْ لِم شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا»(1).
وورد أن اليوم يخاطب الإنسان قائلاً: «أَنَا يَوْمٌ جَدِيدٌ، وَأَنَا عَلَيْكَ شَهِيدٌ، فَقُلْ فِيَّ خَيْراً، وَاعْمَلْ فِيَّ خَيْراً»(2).
وأن الأرض تشهد لمن صلى عليها، لذا يستحب تغيير مكان الصلاة(3).
وأن الأرض تلعن بعض من يمشي عيلها(4).
إلى آخر الأمثلة.
والشاهد أن قولها (عليها السلام): «أَرَاكَ الدَّهْرَ» لا مانع عقلاً من حمله على ظاهره من القصدية بالمعنى الأعم.
ص: 100
..............................
عن جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه (عليهما السلام)، قال: «مَا مِنْ يَوْمٍ يَأْتِي عَلَى ابْنِ آدَمَ إِلاَّ قَالَ ذَلِكَ الْيَوْمُ: يَا ابْنَ آدَمَ، أَنَا يَوْمٌ جَدِيدٌ، وَأَنَا عَلَيْكَ شَهِيدٌ، فَافْعَلْ بِي خَيْراً، وَاعْمَلْ فِيَّ خَيْراً، أُسَهِّلْ لَكَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ فَإِنَّكَ لَنْ تَرَانِي بَعْدَهَا أَبَداً»(1).
وعن جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه (عليهما السلام)، قال: «إِنَّ اللَّيْلَ إِذَا أَقْبَلَ نَادَى مُنَادٍ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ الْخَلاَئِقُ إِلاَّ الثَّقَلَيْنِ: يَا ابْنَ آدَمَ، إِنِّي خَلْقٌ جَدِيدٌ، إِنِّي عَلَى مَا فِيَّ شَهِيدٌ، فَخُذْ مِنِّي؛ فَإِنِّي لَوْ قَدْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ لَمْ أَرْجِعْ إِلَى الدُّنْيَا، ثُمَّ لَمْ تَزْدَدْ فِيَّ حَسَنَةً، وَلَمْ تَسْتَعْتِبْ فِيَّ مِنْ سَيِّئَةٍ. وَكَذَلِكَ يَقُولُ النَّهَارُ إِذَا أَدْبَرَ اللَّيْلُ»(2).
وعن علي بن الحسين (عليه السلام)، قال: «إِنَّ الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِالْعَبْدِ يَكْتُبُ فِي صَحِيفَةِ أَعْمَالِهِ، فَاعْمَلُوا بِأَوَّلِهَا وَآخِرِهَا خَيْراً؛ يُغْفَرْ لَكُمْ مَا بَيْنَ ذَلِكَ»(3).وعن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَةِ عَمَلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ كُلِّ ذَنْبٍ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ»(4).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ النَّهَارَ إِذَا جَاءَ قَالَ: يَا ابْنَ آدَمَ، اعْمَلْ فِي يَوْمِكَ هَذَا خَيْراً، أَشْهَدْ لَكَ بِهِ عِنْدَ رَبِّكَ يَوْمَ الْقِيَامَة؛ فَإِنِّي لَم آتِكَ
ص: 101
..............................
فِيمَا مَضَى، وَلاَ آتِيكَ فِيمَا بَقِيَ. وَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ»(1).
وعن جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)، عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «لاَ تَقْطَعُوا نَهَارَكُمْ بِكَذَا وَكَذَا، وَفَعَلْنَا كَذَا وَكَذَا؛ فَإِنَّ مَعَكُمْ حَفَظَةً يُحْصُونَ عَلَيْكُمْ وَعَلَيْنَا»(2).
وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «يَا أَبَا النُّعْمَانِ، وَلاَ يَغُرَّنَّكَ النَّاسُ مِنْنَفْسِكَ، فَإِنَّ الأَمْرَ يَصِلُ إِلَيْكَ دُونَهُمْ، وَلاَ تَقْطَعْ نَهَارَكَ بِكَذَا وَكَذَا؛ فَإِنَّ مَعَكَ مَنْ يَحْفَظُ عَلَيْكَ عَمَلَكَ سَيِّئاً أَوْ حَسَناً، فَإِنِّي لاَ أَرَى شَيْئاً أَسْرَعَ دَرَكاً، وَلاَ أَسْرَعَ طَلَباً، مِنْ حَسَنَةٍ مُحْدَثَةٍ لِذَنْبٍ قَدِيمٍ»(3).
ص: 102
«وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهمْ»(1)
مسألة: ينبغي التعجب من المنكر، إذا كان التعجب سبباً للتغيير ونوعاً من الردع، فإن المبطل لو عرف أن الناس سيستغربون قوله ويتعجبون منه ولا يصدقونه، فإنه يرتدع في كثير من الأحيان.
مسألة: ينبغي التعجب أشد العجب مما قاله القوم، ومما عملموه بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حيث قلبوا لأهل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله) ظهر المجن، وحيث (زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة والدلالة). قال تعالى: «بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ * وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ»(2).
مسألة: ويستحب إظهار هذا التعجب للناس على مر التاريخ، وبيان أن قول القوم هو العجب حيث خالفوا نص كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله).
مسألة: القول بالمعنى الأعم قد يطلق على الفكر والعمل واللفظ، ولذايقولون: قال بيده كذا أي أشار، ويقولون: قلت في نفسي كذا بمعنى فكرت. وقد يكون من العمل والفعل قوله تعالى: «فَقُلْنَا لَهمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ»(3).
ص: 103
..............................
قال العلامة الطبرسي (رحمه الله) في المجمع: «فَقُلْنَا لَهمْ كُونُوا قِرَدَةً» وهذا إخبار عن سرعة فعله، ومسخه إياهم، لا أن هناك أمراً. ومعناه: وجعلناهم قردة، كقوله تعالى: «فَقَالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ»(1)، ولم يكن هناك قول، وإنما أخبر عن تسهل الفعل عليه، وتكوينه بلا مشقة(2).
لذا فإن قول الصديقة (عليها السلام): «وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهمْ»، ربما يكون المقصود من (قولهم) الأعم من القول والفعل.
ومعنى كلامها (عليها السلام): إن ما يستحق الاستغراب والتعجب هو قول وفعل أولئك الذين غصبوا فدك وغصبوا الخلافة من علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، فإذا كان لك أن تتعجب فاعجب من هذا،وإذا أردت أن تتعجب من شيء فما أجدرك أن تتعجب من هذا.
مسألة: يكره العَجَب أو لا ينبغي مما لا طائلة تحته، كمن يعجب ببعض الحكايات وما لا فائدة فيه.
قَالَ الصَّادِقُ (عليه السلام): «الْمَغْرُورُ فِي الدُّنْيَا مِسْكِينٌ وَفِي الآخِرَةِ مَغْبُونٌ،
ص: 104
..............................
لِأَنَّهُ بَاعَ الْأَفْضَلَ بِالأَدْنَى، وَلا تَعْجَبْ مِنْ نَفْسِكَ حَيْثُ رُبَّمَا اغْتَرَرْتَ بِمَالِكَ وَصِحَّةِ جِسْمِكَ أَنْ لَعَلَّكَ تَبْقَى، وَرُبَّمَا اغْتَرَرْتَ بِطُولِ عُمُرِكَ وَأَوْلَادِكَ وَأَصْحَابِكَ لَعَلَّكَ تَنْجُو بِهِمْ، وَ رُبَّمَا اغْتَرَرْتَ بِحَالِكَ وَ مُنْيَتِكَ وَ إِصَابَتِكَ مَأْمُولَكَ وَهَوَاكَ وَظَنَنْتَ أَنَّكَ صَادِقٌ وَ مُصِيبٌ»(1) الحديث.
وربما ورد النهي عن العَجَب لبيان عظمة الشيء، فهو بالإرشادي أشبه.
ففي الرواية: «وَلا تَعْجَبْ مِنْ هَذَا الْفَضْلِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ فِي هَذَا الدُّعَاءِ فَإِنَّ فِيهِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى الأَعْظَمَ»(2).
وفي رواية: «ثُمَّ قَالَ (عليه السلام):لَعَلَّكَ عَجِبْتَ مِنْ كَلَامِي إِيَّاهُمْ بِالْحَبَشَةِ، قُلْتُ: إِي وَاللَّهِ، قَالَ: لا تَعْجَبْ فَمَا خَفِيَ عَلَيْكَ مِنْ أَمْرِي أَعْجَبُ وَأَعْجَبُ، وَمَا الَّذِي سَمِعْتَهُ مِنِّي إِلاّ كَطَائِرٍ أَخَذَ بِمِنْقَارِهِ مِنَ الْبَحْرِ قَطْرَةً، أَفَتَرَى هَذَا الَّذِي يَأْخُذُهُ بِمِنْقَارِهِ يَنْقُصُ مِنَ الْبَحْرِ، وَالإِمَامُ بِمَنْزِلَةِ الْبَحْرِ لا يَنْفَدُ مَا عِنْدَهُ وَ عَجَائِبُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَجَائِبِ الْبَحْرِ»(3).
وعَنْ زَيْدٍ النَّرْسِيِّ قَالَ: كُنْتُ مَعَ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ فِي الْمَوْقِفِ وَهُوَ يَدْعُو فَتَفَقَّدْتُ دُعَاءَهُ فَمَا رَأَيْتُهُ يَدْعُو لِنَفْسِهِ بِحَرْفٍ وَرَأَيْتُهُ يَدْعُو لِرَجُلٍ رَجُلٍ مِنَ الآفَاقِ وَيُسَمِّيهِمْ وَيُسَمِّي آبَاءَهُمْ حَتَّى أَفَاضَ النَّاسُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا عَمِّ لَقَدْ عَجِبْتُ مِنْكَ وَمِنْ إِيثَارِكَ إِخْوَانَكَ عَلَى نَفْسِكَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ: لا تَعْجَبْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ مَوْلايَ وَمَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَ مُؤْمِنَةٍ جَعْفَرَ الصَّادِقِ (عليه السلام) وَإِلاّ صَمَّتْ
ص: 105
..............................
أُذُنَا مُعَاوِيَةَ وَعَمِيَتْ عَيْنَاهُ، وَلا نَالَتْهُ شَفَاعَةُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُ مِنْهُ، وَهُوَ يَقُولُ: مَنْ دَعَا لأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ نَادَاهُ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا: يَا عَبْدَ اللَّهِ وَلَكَ مِائَةُأَلْفِ ضِعْفِ مَا طَلَبْتَ لأَخِيكَ، وَيُنَادِيهِ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ وَلَكَ مِائَتَا أَلْفِ ضِعْفِ مَا دَعَوْتَ، وَهَكَذَا كُلُّ سَمَاءٍ يُزَادُ فِيهَا مِائَةُ أَلْفٍ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَيُنَادِيهِ مَلَكٌ: يَا عَبْدَ اللَّهِ وَلَكَ سَبْعُمِائَةِ أَلْفِ ضِعْفِ مَا دَعَوْتَ، فَيُنَادِيهِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أَنَا الْغَنِيُّ لَا أَفْتَقِرُ، يَا عَبْدِي لَكَ أَلْفُ أَلْفِ ضِعْفِ مَا دَعَوْتَ»(1).
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ (رحمه الله) قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) أَدْعُو عَلِيّاً (عليه السلام) فَأَتَيْتُ بَيْتَهُ وَنَادَيْتُهُ فَلَمْ يُجِبْنِي، فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) فَقَالَ: عُدْ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ فِي الْبَيْتِ، وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَرَأَيْتُ الرَّحَى تَطْحَنُ وَلا أَحَدَ عِنْدَهَا، فَقُلْتُ لِعَلِيٍّ: إِنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) يَدْعُوكَ، فَخَرَجَ مُتَوَحِّشاً حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) بِمَا رَأَيْتُ، فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ لا تَعْجَبْ، فَإِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحُونَ فِي الأَرْضِ مُوَكَّلُونَ بِمَعُونَةِ آلِ مُحَمَّدٍ»(2).
ص: 106
-------------------------------------------
مسألة: يجب فضح المبطلين إعلامياً، ومنه بيان أنهم يفقدون الدليل والمستند.
مسألة: ومن أهم مصاديق ذلك بيان أن القوم لم يستندوا إلى أي سناد فيما فعلوه من غصب فدك والسلطة والحكومة والخلافة.
فلم يكن لهم مستند شرعي ولا عقلي ولا حتى عرفي.
وما أرادوا أن يستندوا إليها فهي مما يضحك الثكلى، كقول الثاني: (لولا أن فيه دعابة) (1)، وقولهم: (إن النبوة والملوكية لا تجتمعان في بيت واحد) (2) وهو بديهي البطلان، فقد اجتمعتا في داود وسليمان (عليهما السلام)،
والعديد منالأنبياء (عليهم السلام)، إضافة إلى أنها لم تكن ملوكية - بالمعنى المعهود للكلمة - بل كانت خلافة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بأمر الله.
ثم إنه حتى المنطق العرفي يدل على العكس، إذ من هو الأولى بالنبي (صلى الله عليه وآله) ومن هو خليفته وإن كانت ملوكية فرضاً، أ ليس هو الأعلم الأتقى الأعرف بصالح الناس والأحرص على مصالحهم والذي كان أخاً لرسول الله
ص: 107
..............................
(صلى الله عليه وآله).
إن مستندات من غصب الخلافة أوهن حتى من مستندات فرعون ضد موسى (عليه السلام) حيث قال: «إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ»(1).
ومن الناحية العملية كان مستند القوم السيف والكبت والإرهاب فقط، حيث هددوا الجميع بالسيف، واعتدوا على بيت الرسالة وعلى ابنة رسول الله (صلى
الله عليه وآله) وبضعته وتفاحة الفردوس، وعصروها بين الحائط والباب، حتى كسروا ضلعها وأسقطوا جنينها، وحرقوا الباب عليها وضربوها حتى ماتت شهيدةمقتولة مظلومة، بأسوأ صورة وحشية عرفها التاريخ، كل ذلك كان حقداً على رسول الله (صلى الله عليه وآله) من جانب، وتهديداً للمعارضة، وإشعاراً لها بأنهم لا يتورعون عن قتل ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فما بالك بسائر الناس، وهكذا كان مستندهم الإرهاب والسلاح الظالم على شاكلة العتاة الطغاة دائماً كفرعون وهامان وأشباههما.
وكان مستند المستند أهواء النفس والانقياد إلى الشيطان الرجيم، قال تعالى: «اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ»(2).
وقال سبحانه: «أَ تَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ»(3).
ص: 108
..............................
وفي القرآن الكريم حكاية عن الشيطان: « فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمخْلَصِينَ»(1).
وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي، وَكِبْرِيَائِي وَنُورِي، وَعُلُوِّي وَارْتِفَاعِ مَكَانِي، لاَ يُؤْثِرُ عَبْدٌهَوَاهُ عَلَى هَوَايَ، إِلاَّ شَتَّتُّ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَلَبَّسْتُ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ، وَشَغَلْتُ قَلْبَهُ بِهَا، وَلَمْ آتِهِ مِنْهَا إِلاَّ مَا قَدَّرْتُ لَهُ. وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي، وَعَظَمَتِي وَنُورِي، وَعُلُوِّي وَارْتِفَاعِ مَكَانِي، لاَ يُؤْثِرُ عَبْدٌ هَوَايَ عَلَى هَوَاهُ، إِلاَّ اسْتَحْفَظْتُهُ مَلاَئِكَتِي، وَكَفَّلْتُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرَضِينَ رِزْقَهُ، وَكُنْتُ لَهُ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَةِ كُلِّ تَاجِرٍ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ كُلَّ كَلاَمِ الْحِكْمَةِ أَتَقَبَّلُ، إِنَّمَا أَتَقَبَّلُ هَوَاهُ وَهَمَّهُ، فَإِنْ كَانَ هَوَاهُ وَهَمُّهُ فِي رِضَايَ، جَعَلْتُ هَمَّهُ تَقْدِيساً وَتَسْبِيحاً»(3).
وقال (عليه السلام): «جَاهِدْ هَوَاكَ كَمَا تُجَاهِدُ عَدُوَّكَ»(4).
ص: 109
..............................
وعن أبي حمزة، قال: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَالْحُسَيْنِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ جَلَّ جَلاَلُهُ يَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي، وَعَظَمَتِي وَجَمَالِي، وَبَهَائِي وَعُلُوِّي، وَارْتِفَاعِ مَكَانِي، لاَ يُؤْثِرُ عَبْدٌ هَوَايَ عَلَى هَوَاهُ، إِلاَّ جَعَلْتُ هَمَّهُ فِي آخِرَتِهِ، وَغِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَكَفَفْتُ عَنْهُ ضَيْعَتَهُ، وَضَمَّنْتُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ رِزْقَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ»(1).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه قال - في خطبة له -: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَتَانِ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَطُولُ الأَمَلِ. فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وَأَمَّا طُولُ الأَمَلِ فَيُنْسِي الآخِرَةَ»(2).
وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «خَطَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) النَّاسَ. فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ: أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ، وَأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ، يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اللهِ، يَتَوَلَّى فِيهَا رِجَالٌ رِجَالاً. فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ لَمْ يَخْفَ عَلَى ذِي حِجًى، وَلَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ لَمْ يَكُنِاخْتِلاَفٌ، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَمِنْ هَذَا ضِغْثٌ، فَيُمْزَجَانِ فَيَجِيئَانِ مَعاً، فَهُنَالِكَ اسْتَحْوَذَ الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَنَجَا الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللهِ الْحُسْنَى»(3).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِذَا ظَهَرَتِ الْبِدَعُ فِي أُمَّتِي، فَلْيُظْهِرِ
ص: 110
..............................
الْعَالِمُ عِلْمَهُ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ»(1).
وقال (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أَتَى ذَا بِدْعَةٍ فَعَظَّمَهُ، فَإِنَّمَا يَسْعَى فِي هَدْمِ الإِسْلاَمِ»(2).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أَبَى اللَّهُ لِصَاحِبِ الْبِدْعَةِ بِالتَّوْبَةِ». قيل: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ ذَلِكَ؟!. قال: «إِنَّهُ قَدْ أُشْرِبَ قَلْبُهُ حُبَّهَا»(3).
(ليت شعري) معناه: ليتني كنت أعلم أو أشعر، وهذا كناية عن أن مواقف القوم وتصرفاتهم وغصبهم لفدك والخلافة لا وجه له أبداً، لا من عقل ولا من شرع، ولا من ضمير ولا وجدان، ولا من العرف القبلي والعشائري وغيره. (إلى أي سناد استندوا) في أقوالهم وأفعالهم؟
فهل استندوا إلى الكتاب؟ والكتاب منهم براء, أو استندوا إلى السنة المطهرة؟ والسنة هي التي حاربوها (قولاً) بقولهم: (حسبنا كتاب الله) وشبهه، و(فعلاً) بحرق كتب الأحاديث ومطاردة وقتل وسجن ونفي ومضايقة أهل البيت (عليهم السلام) وحملة السنة كعمار وأبي ذر الغفاري وغيرهم (رضوان الله عليهم).
أم إلى السيرة النبوية؟ والسيرة على إحقاق الحق وإبطال الباطل، لا على إبطال الحق وإحقاق الباطل.
ص: 111
..............................
أم إلى سيرة العقلاء؟ ولم تكن سيرة العقلاء بما هم عقلاء على جحود النعمة والانقلاب على المنعم، وحرق منزل ابنته وغصب حقها والانقلاب على خليفته.
أو إلى دليل العقل؟ والعقل قاض بقبح ترجيح المرجوح، وقبح مجازاة الإحسان بالإساءة.
أم إلى الإجماع؟ وهو باطل صغرى،ومناقش كبرى، أما صغرى فلم يكن إجماع، بل لم تكن أكثرية بل لم تكن حتى أقلية، إذ كانت أقلية الأقلية فإن الذين اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة كانوا حوالي خمسين وأهل المدينة كانوا حوالي عشرة آلاف، والمسلمون في العالم كانوا حوالي ثلاثة أرباع المليون وربما أكثر، فلم تكن مشورة من مسلمي سائر الأقطار، بل كان فرض رأي من قسم من أهل المدينة فقط، وإذا كان هذا إجماعاً فالإجماع اذن منعقد بصورة أفضل لهتلر وصدام والحجاج وفرعون والشيطان من قبل.
ثم إن الإجماع حجة كبرى فيما إذا كان كاشفاً عن موافقة الشرع ورأي المعصوم (عليه السلام) دخولاً أو حدساً أو لطفاً أو حساً أو غير ذلك مما حقق في الأصول، أما لو كان الإجماع على خلاف الشرع، وعلى خلاف رأي المعصوم (عليه السلام) وعلى خلاف العقل، فإنه باطل بالإجماع أيضاً(1)، أ رأيت لو أجمعوا على حلية الخمر وحرمة الصلاة، هل كان هذا الإجماع حجة؟.
ص: 112
-------------------------------------------
مسألة: اعتمد القوم الذين غصبوا الخلافة على الجهل والجهلة، وعلى الغدر والختل والمكر، وعلى الإرهاب والعدوان وعلى تسويلات الشيطان، ويجب وجوباً كفائياً بيان ذلك وأنهم لم يعتمدوا على أي عماد شرعي أو عقلي أو عرفي فيما فعلوه كما سبق.
مسألة: يجب القضاء على أعمدة الباطل، وهي كما سبق الجهل والغدر والمكر والإرهاب والعدوان وتسويلات الشيطان، وللتصدي لكل منها والقضاء عليها إذا كانت صفات نفسية، طرق مذكورة في كتب الأخلاق وعلم الاجتماع وغيرها(1).
والفرق بين «إِلَى أَيِّ سِنَادٍ اسْتَنَدُوا» و«إلَى أَيِّ عِمَادٍ اعْتَمَدُوا»، هو أن السند ما يستند إليه الإنسان ويتكئ عليه من الأدلة، وأما العماد فهو من عمد وهو ما يعتمد عليه في جعله ظهيراً له وتقوية لذاته.
وكتوضيح بالمصداق فإن السند: الدليل مثلاً، والعماد القوة والأفراد، إذ كان معتمدهم السفهاء من الناس.
ص: 113
-------------------------------------------
(العروة) من الكوز والأبريق ونحوهما هو المقبض الذي تقبضه باليد، وهي إشارة إلى الوسيلة(1) التي تمسكوا بها واتكأوا عليها لزحزحة الخلافة عن رواسيها ومراسيها.
مسألة: يجب وجوباً كفائياً بيان أن القوم لم يكن لهم مستمسك أبداً، ولم تكن لهم أية عروة شرعية أو عقلية أو عرفية فيما فعلوه من غصب الخلافة وغصب فدك وإيذاء الصديقة (عليها السلام) وظلمها والهجوم على دارها التي كانت المصداق الأبرز لقوله تعالى: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ»(2).
مسألة: يستحب - وقد يجب - تأكيد ذلك بألفاظ مختلفة وبأساليب متنوعة، كما أكدت (صلوات الله عليها) ذلك بعباراتمختلفة.
قال أمير المؤمننين (عليه السلام): «أَمَا وَاللهِ، لَقَدْ تَقَمَّصَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ، وَلاَيَرْقَى
ص: 114
..............................
إِلَيَّ الطَّيْرُ. فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً، وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً، وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ، يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ، وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ. فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرْتُ وَفِي الْعَيْنِ قَذًى، وَفِي الْحَلْقِ شَجًا، أَرَى تُرَاثِي نَهْباً، حَتَّى مَضَى الأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ، فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلاَنٍ بَعْدَهُ - ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الأَعْشَى -:
شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا *** وَيَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ
فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ، إِذْ عَقَدَهَا لآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا، فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ، يَغْلُظُ كَلْمُهَا، وَيَخْشُنُ مَسُّهَا، وَيَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا، وَالاِعْتِذَارُ مِنْهَا, فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ، إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ، وَإِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ. فَمُنِيَ النَّاسُ - لَعَمْرُ اللهِ - بِخَبْطٍ وَشِمَاسٍ، وَتَلَوُّنٍ وَاعْتِرَاضٍ، فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ، وَشِدَّةِالْمِحْنَةِ، حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ، جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ، زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ. فَيَا للهِ وَلِلشُّورَى، مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الأَوَّلِ مِنْهُمْ، حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ، لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا، وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا. فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ، وَمَالَ الآخَرُ لِصِهْرِهِ، مَعَ هَنٍ وَهَنٍ، إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ، بَيْنَ نَثِيلِهِ وَمُعْتَلَفِهِ، وَقَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ، يَخْضَمُونَ مَالَ اللهِ خِضْمَةَ الإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ، إِلَى أَنِ انْتَكَثَ عَلَيْهِ فَتْلُهُ، وَأَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ، وَكَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ»(1).
ص: 115
..............................
وعن عثمان بن أبان، قال: سَأَلْتُ الصَّادِقَ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: «الْمسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِم أَهْلُهَا»(1) الآيَةَ؟. قال: «نَحْنُ ذَلِكَ»(2).وعن أبي سعيد الخدري، قال: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) لِعَلِيٍّ مَا يَلْقَى بَعْدَهُ، قَالَ: فَبَكَى عَلِيٌّ (عليه السلام) وَقَالَ: «أَسْأَلُكَ بِحَقِّ قَرَابَتِي وَصُحْبَتِي، إِلاَّ دَعَوْتَ اللهَ أَنْ يَقْبِضَنِي إِلَيْهِ». قَالَ: «يَا عَلِيُّ، تَسْأَلُنِي أَنْ أَدْعُوَ اللهَ لأَجَلٍ مُؤَجَّلٍ»(3).
وقال أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «بَيْنَا أَنَا وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، إِذِ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَبَكَى. فَقُلْتُك: مَا يُبْكِيكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟!. قَالَ: أَبْكِي مِنْ ضَرَبْتِكَ عَلَى الْقَرْنِ، وَلَطْمِ فَاطِمَةَ خَدَّهَا، وَطَعْنِ الْحَسَنِ فِي فَخِذِهِ، وَالسَّمِّ الَّذِي يُسْقَاهُ، وَقَتْلِ الْحُسَيْنِ»(4).
وَسُئِلَ الْبَاقِرُ (عليه السلام): عَنِ الْخُمُسِ؟. فَقَالَ: «الْخُمُسُ لَنَا، فَمُنِعْنَا فَصَبَرْنَا»(5).
ص: 116
-------------------------------------------
مسألة: يستحب وقد يجب بيان مقام ذريةرسول الله (صلى الله عليه وآله) ومنزلتهم عند الله وعند رسوله، وعظمتهم وخطر شأنهم وجلالة قدرهم وعظيم حرمتهم، كما أشارت الصديقة (عليها السلام) إلى ذلك.
قام أبو ذر (رحمه الله) خطيباً بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: (أَيَّتُهَا الأُمَّةُ الْمُتَحَيِّرَةُ بَعْدَ نَبِيِّهَا، الْمَخْذُولَةُ بِعِصْيَانِهَا، إِنَّ اللهَ يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»(1)، وَآلُ مُحَمَّدٍ الأَخْلاَفُ مِنْ نُوحٍ، وَآلُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَالصَّفْوَةُ وَالسُّلاَلَةُ مِنْ إِسْمَاعِيلَ، وَعِتْرَةُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، أَهْلُ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، وَمَوْضِعُ الرِّسَالَةِ، وَمُخْتَلَفُ الْمَلاَئِكَةِ، وَهُمْ كَالسَّمَاءِ الْمَرْفُوعَةِ، وَالْجِبَالِ الْمَنْصُوبَةِ، وَالْكَعْبَةِ الْمَسْتُورَةِ، وَالْعَيْنِ الصَّافِيَةِ، وَالنُّجُومِ الْهَادِيَةِ، وَالشَّجَرَةِ الْمُبَارَكَةِ، أَضَاءَ نُورُهَا، وَبُورِكَ زَيْتُهَا، مُحَمَّدٌ خَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ وَسَيِّدُ وُلْدِ آدَمَ، وَعَلِيٌّ وَصِيُّ الأَوْصِيَاءِ، وَإِمَامُ الْمُتَّقِينَ، وَقَائِدُ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ، وَهُوَ الصِّدِّيقُ الأَكْبَرُ، وَالْفَارُوقُ الأَعْظَمُ، وَوَصِيُّ مُحَمَّدٍ، وَوَارِثُ عِلْمِهِ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، كَمَا قَالَ اللهُ: «النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِاللهِ»(2)، فَقَدِّمُوا
ص: 117
..............................
مَنْ قَدَّمَ اللهُ، وَأَخِّرُوا مَنْ أَخَّرَ اللهُ، وَاجْعَلُوا الْوَلاَيَةَ وَالْوِرَاثَةَ لِمَنْ جَعَلَ اللهُ)(1).
وروى أحمد في مُسْنَدِهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَخَذَ بِيَدِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَقَالَ: «مَنْ أَحَبَّنِي وَأَحَبَّ هَذَيْنِ وَأَبَاهُمَا وَأُمَّهُمَا، كَانَ مَعِي فِي دَرَجَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(2).
وعن حذيفة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِقَصَبَةِ الْيَاقُوتِ الَّتِي خَلَقَهَا اللهُ تَعَالَى بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: كُونِي، فَكَانَتْ، فَلْيَتَوَلَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مِنْ بَعْدِي»(3).
وعن ابن مسعود: (حُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ يَوْماً خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ، وَمَنْ مَاتَ عَلَيْهِ دَخَلَالْجَنَّة)(4).
وعن أبي سعيد الخدري، أن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: «إِنِّي أَوْشَكَ أَنْ أُدْعَى فَأُجِيبَ، فَإِنِّي تَارِكُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعِتْرَتِي. كِتَابَ اللهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، وَإِنَّ اللَّطِيفَ الْخَبِيرَ أَخْبَرَنِي، أَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ، فَانْظُرُوا بِمَاذَا تَخْلُفُونِّي»(5).
وقال أبو عبد الله (عليه السلام): «مَنْ أَحَبَّنَا للهِ نَفَعَهُ اللهُ بِذَلِكَ،وَلَوْ كَانَ أَسِيراً
ص: 118
..............................
فِي يَدِ الدَّيْلَمِ. وَمَنْ أَحَبَّنَا لِغَيْرِ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ يَفْعَلُ بِهِ مَا يَشَاءُ. إِنَّ حُبَّنَا - أَهْلَ الْبَيْتِ - لَيَحُطُّ الذُّنُوبَ عَنِ الْعِبَادِ، كَمَا تَحُطُّ الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ الْوَرَقَ عَنِ الشَّجَرِ»(1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «لِكُلِّ شَيْءٍ أَسَاسٌ، وَأَسَاسُ الإِسْلاَمِ حُبُّنَا أَهْلَالْبَيْتِ»(2).
وعن حفص الدهان، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «إِنَّ فَوْقَ كُلِّ عِبَادَةٍ عِبَادَةٌ، وَحُبُّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ أَفْضَلُ عِبَادَةٍ»(3).
وعن الفضيل، قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): أَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعِبَادُ إِلَى اللهِ فِيمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ؟. فقال (عليه السلام): «أَفْضَلُ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعِبَادُ إِلَى اللهِ: طَاعَةُ اللهِ، وَطَاعَةُ رَسُولِهِ، وَحُبُّ اللهِ وَحُبُّ رَسُولِهِ (صلى الله عليه وآله) وَأُولِي الأَمْرِ. وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: حُبُّنَا إِيمَانٌ، وَبُغْضُنَا كُفْرٌ»(4).
وعن الحسن بن محمد بن الفضل الهاشمي، عن أبيه، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «إِنَّ حُبَّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ لَيُنْتَفَعُ بِهِ فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ: عِنْدَ اللهِ، وَعِنْدَ الْمَوْتِ، وَعِنْدَ الْقَبْرِ، وَيَوْمَ الْحَشْرِ، وَعِنْدَ الْحَوْضِ، وَعِنْدَ الْمِيزَانِ، وَعِنْدَ الصِّرَاطِ»(5).
ص: 119
..............................
وعن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «فِي الْجَنَّةِ ثَلاَثُ دَرَجَاتٍ، وَفِي النَّارِ ثَلاَثُ دَرَكَاتٍ. فَأَعْلَى دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ لِمَنْ أَحَبَّنَا بِقَلْبِهِ، وَنَصَرَنَا بِلِسَانِهِ وَيَدِهِ. وَفِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ مَنْ أَحَبَّنَا بِقَلْبِهِ، وَنَصَرَنَا بِلِسَانِهِ. وَفِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ مَنْ أَحَبَّنَا بِقَلْبِهِ. وَفِي أَسْفَلِ دَرْكٍ مِنَ النَّارِ مَنْ أَبْغَضَنَا بِقَلْبِهِ، وَأَعَانَ عَلَيْنَا بِلِسَانِهِ وَيَدِهِ. وَفِي الدَّرْكِ الثَّانِيَةِ مِنَ النَّارِ مَنْ أَبْغَضَنَا بِقَلْبِهِ، وَأَعَانَ عَلَيْنَا بِلِسَانِهِ. وَفِي الدَّرْكِ الثَّالِثَةِ مِنَ النَّارِ مَنْ أَبْغَضَنَا بِقَلْبِهِ»(1).
مسألة: يلزم احترام ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) كرامة للرسول (صلى الله عليه وآله).
وفي الحديث عنه (صلى الله عليه وآله)، قال: «أَحِبُّوا أَوْلادِي، الصَّالِحُونَ للهِ،وَالطَّالِحُونَ لِي»(2). وكما قيل في المثل: (لأجل عين ألف عين تكرم)(3).
والأدلة الدالة على منزلة ذراري رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولزوم إكرامهم كثيرة، خاصة وعلى رأسهم الأئمة المعصومون من ذريته (صلوات الله عليهم أجمعين).
ص: 120
..............................
وبناء العقلاء وسيرتهم بل وحكم العقل أيضاً يدل على ذلك بالنسبة إلى كل من له حق على الإنسان، فكيف بحق رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو واسطة اللطف الإلهي على جميع البشر بل على جميع الخلق(1)، وقد قال تعالى: «قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْموَدَّةَ فِي الْقُرْبَى»(2).بل إن إكرام واحترام وإطاعة الذرية - والمقصود بالدرجة الأولى الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ثم الصالحون من أبنائهم - يعود بالنفع للإنسان أولاً، قال تعالى: «قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ»(3)، فإن عز المسلمين وسعادتهم بإكرام ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) والالتفاف حولهم.
عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: قال جدُّنا محمد (صلى الله عليه وآله): «إِنِّي سَأَشْفَعُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَرْبَعِ طَوَائِفَ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ مِثْلُ ذُنُوبِ أَهْلِ الدُّنْيَا: الأَوَّلُ مَنْ سَلَّ سَيْفَهُ لِذُرِّيَّتِي وَنَصَرَهُمْ، الثَّانِيَةُ مَنْ أَعَانَهُمْ فِي حَالِ فَقْرِهِمْ وَفَاقَتِهِمْ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِ، الثَّالِثَةُ مَنْ أَحَبَّهُمْ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، وَالرَّابِعَةُ مَنْ قَضَى حَوَائِجَهُمْ إِذَا اضْطُرُّوا إِلَيْهَا وَسَعَى فِيهَا»(4).
ص: 121
..............................
وعن هُذيل بن حنان، عن أخيه، قال: قلت للصادق (عليه السلام): كَانَ لِي عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (عليهم السلام) حَقٌّ لايُوَفِّيهِ، وَيُمَاطِلُنِي فِيهِ، فَأَغْلَظْتُ عَلَيْهِ الْقَوْلَ، وَأَنَا نَادِمٌ مِمَّا صَنَعْتُ. فقال الصادق (عليه السلام): «أَحْبِبْ آلَ مُحَمَّدٍ، وَأَبْرِئْ ذِمَمَهُمْ، وَاجْعَلْهُمْ فِي حِلٍّ، وَبَالِغْ فِي إِكْرَامِهِمْ، وَإِذَا خَالَطْتَ بِهِمْ وَعَامَلْتَهُمْ فَلاَ تَغْلُظْ عَلَيْهِمُ الْقَوْلَ وَلاَ تَسُبَّهُمْ»(1).
وقال (عليه السلام) - في قوله تعالى: «وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا»(2) الآية -: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ رَعَى حَقَّ قَرَابَاتِ أَبَوَيْهِ أُعْطِيَ فِي الْجَنَّةِ أَلْفَ دَرَجَةٍ، بُعْدُ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ حُضْرُ الْفَرَسِ الْجَوَادِ الْمُضَمَّرِ مِائَةَ أَلْفِ سَنَةٍ، إِحْدَى الدَّرَجَاتِ مِنْ فِضَّةٍ، وَالأُخْرَى مِنْ ذَهَبٍ، وَالأُخْرَى مِنْ لُؤْلُؤٍ، وَالأُخْرَى مِنْ زُمُرُّدٍ، وَالأُخْرَى مِنْ زَبَرْجَدٍ، وَالأُخْرَى مِنْ مِسْكٍ، وَأُخْرَى مِنْ عَنْبَرٍ، وَأُخْرَى مِنْ كَافُورٍ، وَتِلْكَ الدَّرَجَاتُ مِنْ هَذِهِ الأَصْنَافِ. وَمَنْ رَعَى حَقَّ قُرْبَى مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ (صلوات الله عليهما) أُوتِيَ مِنْ فَضْلِ الدَّرَجَاتِ، وَزِيَادَةِ الْمَثُوبَاتِ عَلَى قَدْرِ زِيَادَةِ فَضْلِ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ (صلوات الله عليهما) عَلَى أَبَوَيْ نَسَبِهِ»(3).وقال الحسن بن علي (عليه السلام): «عَلَيْكَ بِالإِحْسَانِ إِلَى قَرَابَاتِ أَبَوَيْ دِينِكَ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ (صلوات الله عليهما)، وَإِنْ أَضَعْتَ قَرَابَاتِ أَبَوَيْ نَسَبِك؛ فَإنَّ
ص: 122
..............................
شُكْرَ هَؤُلاَءِ إِلَى أَبَوَيْ دِينِكَ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ (صلوات الله عليهما) أَثْمَرُ لَكَ مِنْ شُكْرِ هَؤُلاَءِ إِلَى أَبَوَيْ نَسَبِكَ. إِنَّ قَرَابَاتِ أَبَوَيْ دِينِكَ إِذَا شَكَرَكَ عِنْدَهُمَا بِأَقَلِّ قَلِيلٍ يُظْهِرُهُمَا لَكَ، يَحُطُّ عَنْكَ ذُنُوبَكَ وَلَوْ كَانَتْ مِلْ ءَ مَا بَيْنَ الثَّرَى إِلَى الْعَرْشِ، وَإِنَّ قَرَابَاتِ أَبَوَيْ نَسَبِكَ إِنْ شَكَرُوكَ عِنْدَهُمَا وَقَدْ ضَيَّعْتَ قَرَابَاتِ أَبَوَيْ دِينِكَ لَمْ يُغْنِيَا عَنْكَ فَتِيلاً»(1).
وقال علي بن الحسين (عليه السلام): «حَقُّ قَرَابَاتِ أَبَوَيْ دِينِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ (صلوات الله عليهما وأوليائهِما) أَحَقُّ مِنْ قَرَابَاتِ نَسَبِنَا. إِنَّ أَبَوَيْ دِينِنَا يُرْضِيَانِ عَنَّا أَبَوَيْ نَسَبِنَا، وَأَبَوَيْ نَسَبِنَا لاَ يَقْدِرَانِ أَنْ يُرْضِيَا عَنَّا أَبَوَيْ دِينِنَا مُحَمَّداً وَعَلِيّاً (صلوات الله عليهما وقراباتهما)»(2).وقال محمد بن علي (عليه السلام): «مَنْ كَانَ أَبَوْا دِينِهِ مُحَمَّدٌ وَعَلِيٌّ (صلوات الله عليهما) وَقَرَابَاتُهُمَا آثَرَ لَدَيْهِ وَأَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ أَبَوَيْ نَسَبِهِ وَقَرَابَاتِهِمَا، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَضَّلْتَ الأَفْضَلَ، وَآثَرْتَ الأَوْلَى بِالإِيثَارِ، لأَجْعَلَنَّكَ بِدَارِ قَرَارِي، وَمُنَادَمَةُ أَوْلِيَائِي أَوْلَى»(3).
وقال جعفر بن محمد (عليه السلام): «مَنْ ضَاقَ عَنْ قَضَاءِ حَقِّ قَرَابَةِ أَبَوَيْ دِينِهِ وَأَبَوَيْ نَسَبِهِ، وَقَدَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الآخَرِ، فَقَدَّمَ قَرَابَةَ أَبَوَيْ دِينِهِ عَلَى قَرَابَة أَبَويْ نَسَبِهِ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: كَمَا قَدَّمَ قَرَابَاتِ أَبَوَيْ دِينِه
ص: 123
..............................
فَقَدِّمُوهُ إِلَى جِنَانِي، فَيَزْدَادُ فَوْقَ مَا كَانَ أَعَدَّ لَهُ مِنَ الدَّرَجَاتِ أَلْفَ أَلْفِ ضِعْفِهَا»(1).
وعن عمران بن معقل، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «لاَ تَدَعُو صِلَةَ آلِ مُحَمَّدٍ (عليهم السلام) مِنْ أَمْوَالِكُمْ،مَنْ كَانَ غَنِيّاً فَعَلَى قَدْرِ غِنَاهُ، وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَعَلَى قَدْرِ فَقْرِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ اللهُ لَهُ أَهَمَّ الْحَوَائِجِ، فَلْيَصِلْ آلَ مُحَمَّدٍ (عليهم السلام) وَشِيعَتَهُمْ بِأَحْوَجِ مَا يَكُونُ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ»(2).
وعن جابر بن يزيد، عن أبي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إِنَّ الرَّحِمَ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ: اللَّهُمَّ صِلْ مَنْ وَصَلَنِي، وَاقْطَعْ مَنْ قَطَعَنِي، وَهِيَ رَحِمُ آلِ مُحَمَّدٍ (عليهم السلام)، وَهُوَ قَوْلُهُ: «وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ»(3)، وَ كُلَّ ذِي رَحِمٍ»(4).
ص: 124
..............................
مسألة: يجب وجوباً كفائياً بيان أن القوم آذوا ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) على عكس ما وصاهم به، وعلى خلاف ما نزلت به الآيات الشريفة.
والبيان تأسٍ بالصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها) وبالرسول (صلى الله عليه وآله) وبسائر الأئمة الأطهار (عليهم السلام) حيث حرصوا على بيان ذلك.
ثم إن ذلك هو المائز بين الحق والباطل، والمعرف للناس من هو المظلوم ومن هو الظالم، مما يسبب لهم السعادة باتباع الحق والتبري عن الظالم، سعادة دينية ودنيوية.
مسألة: إيذاء ذرية الرسول (صلى الله عليه وآله) أشد حرمة وأشد عقوبة من إيذاء غيرهم؛ لأنه إيذاء للرسول (صلى الله عليه وآله) أيضاً، وإيذاء لأنبياء الله العظام من أجداده كإبراهيم الخليل (عليه وعليهم السلام) أيضاً، ولأنه هتك لحرمتهم جميعاً، واستخفاف بهم، وهذا مع قصد العنوان(1)لا ريب فيه، وكذلك بدون قصد العنوان، لتفاوت الرتبة وضعاً(2).
ص: 125
..............................
قول الصديقة (عليها السلام): «وَعَلَى أَيَّةِ ذُرِّيَّةٍ أَقْدَمُوا»، أي: في إيذائهم لتلك الذرية الطاهرة، والمراد بالذرية هو نفس الصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها) والإمام الحسن والحسين (عليهما السلام)، بل والإمام علي (عليه السلام) أيضاً.
قال سبحانه: «ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ»(1).
وقال تعالى: «قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي»(2).
وقال سبحانه: «ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ»(3).
وقال تعالى: «إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ»(4).
ص: 126
-------------------------------------------
الاحتناك: الاستيلاء، والمراد الاستيلاء على الذرية الطاهرة من خلال الاستيلاء على القيادة والخلافة، فالمجاز في الحذف، أو المراد الاستيلاء على الأعم من الخلافة، كفدك وكعدد من حقوقهم الأخرى.
ويمكن الحمل على المجاز في الإسناد أيضاً، كما جاء في الدعاء: «وَحَمَلُوا النَّاسَ عَلَى أَكْتَافِ آلِ مُحَمَّدٍ»(1).
وفي استخدام كلمة (احتنكوا)، إشارة إلى أن القوم إنما هدموا بيوت أنفسهم بهذه الأعمال التي عملوها، والجرائر التي اجترحوها ضد آل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وقد يكون في انتخابها (صلوات الله عليها) كلمة (احتنكوا)، إشارة إلى أن ما قاموا به هو امتداد لما أقسم عليه الشيطان، حيث قال: «قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا»(2).وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «بَلَى كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كُلِّ مَا أَظَلَّتْهُ السَّمَاءُ، فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ، وَسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ آخَرِينَ. وَنِعْمَ الْحَكَمُ اللهُ، وَمَا أَصْنَعُ بِفَدَكٍ وَغَيْرِ فَدَكٍ، وَالنَّفْسُ مَظَانُّهَا فِي غَدٍ جَدَثٌ، تَنْقَطِعُ فِي ظُلْمَتِهِ آثَارُهَا، وَتَغِيبُ أَخْبَارُهَا، وَحُفْرَةٌ لَوْ زِيدَ فِي فُسْحَتِهَا، وَأَوْسَعَت يَدَا
ص: 127
..............................
حَافِرِهَا، لأَضْغَطَهَا الْحَجَرُ وَالْمَدَرُ، وَسَدَّ فُرَجَهَا التُّرَابُ الْمُتَرَاكِمُ»(1).
وقال العلامة القمي (رحمه الله) في تفسيره:
(وقوله: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهمْ عَذَابًا مُهِينًا»(2)، قال: نزلت فيمن غصب أمير المؤمنين (عليه السلام) حقه، وأخذ حق فاطمة (عليها السلام) وآذاها. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْآذَاهَا فِي حَيَاتِي كَمَنْ آذَاهَا بَعْدَ مَوْتِي، وَمَنْ آذَاهَا بَعْدَ مَوْتِي كَمَنْ آذَاهَا فِي حَيَاتِي، وَمَنْ آذَاهَا فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللهَ»، وهو قول الله: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ» الآية. وقوله: «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمؤْمِنِينَ وَالْمؤْمِنَاتِ» يعني علياً وفاطمة «بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا»(3)، وهي جارية في الناس كلهم)(4).
وعن أبي بكر بن عبيد الله بن أبي مليكة، عن أبيه، قال: جاء رجل من أهل الشام، فسب علياً (عليه السلام) عند ابن عباس، فحصبه ابن عباس، فقال: (يا عدو الله، آذيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَ رَسُولَهُ
ص: 128
..............................
لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهمْ عَذَابًا مُهِينًا»(1)، لو كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) حياً لآذيته)(2).
وعن عمر بن الخطاب، قال: كُنْتُ أَجْفُوعَلِيّاً، فَلَقِيَنِي رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله). فَقَالَ: «إِنَّكَ آذَيْتَنِي يَا عُمَرُ». فَقُلْتُ: أَعُوذُ بِاللهِ مِمَّنْ آذَى رَسُولَهُ. قَالَ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّكَ قَدْ آذَيْتَ عَلِيّاً، وَمَنْ آذَى عَلِيّاً فَقَدْ آذَانِي»(3).
وعن سعد بن أبي وقاص، قال: كُنْتُ أَنَا وَرَجُلاَنِ فِي الْمَسْجِدِ، فَنِلْنَا مِنْ عَلِيٍّ. فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) مُغْضَباً، فَقَالَ (صلى الله عليه وآله): «مَا لَكُمْ وَلِي، مَنْ آذَى عَلِيّاً فَقَدْ آذَانِي»(4).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ آذَى مُؤْمِناً فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللهَ، وَمَنْ آذَى اللهَ فَهُوَ مَلْعُونٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْفُرْقَانِ» وفي خبر آخر: «فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»(5).
ص: 129
«لَبِئْسَ الْموْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ»(1)
مسألة: يجب وجوبا كفائياً بيان أن مولى أولئك الذين غصبوا الخلافة وآذوا الصديقة فاطمة (عليها السلام) وبعلها الإمام علياً (عليه السلام) كان بئس المولى، وأن عشيرهم كان بئس العشير.
عن أبي ذر الغفاري، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من ناصب علياً في الخلافة بعدي فهو كافر، وقد حارب الله ورسوله، ومن شك في علي فهو كافر»(2).
وعن عبد الله بن بريدة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من ناصب وصيي ووارثي فهو كافر، وإن وصيي ووارثي علي بن أبي طالب»(3).
وعن عبد الله بن عباس - في تأويل قوله تعالى: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً»(4) - قال: لما نزلت هذه الآية، قالالنبي (صلى الله عليه وآله): «من ظلم علياً مقعدي هذا بعد وفاتي، فكأنما جحد نبوتي ونبوة الأنبياء قبلي»(5).
ص: 130
..............................
وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يا ابن مسعود، إنه قد أنزل عليَّ آية: «اتَّقُوا فِتْنَةً»(1) الآية، وأنا مستودعكها، ومسمٍّ لك خاصة الظلمة، فكن لما أقول واعياً، وعني له مؤدياً: من ظلم علياً مجلسي هذا، فقد جحد نبوتي ونبوة من كان قبلي»(2).
وعن عمر،قال: (بلغني أن قائلاً منكم يقول: لو مات عمر بايعت فلاناً، فلا يغتر امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرها)(3).
وروى الطبري في تاريخه، قال: (أتىعمر بن الخطاب منزل علي (عليه السلام) وقال: والله لأحرقن عليكم البيت، أو لتخرجن إلى البيعة. فخرج عليه الزبير مصلتاً بالسيف، فعثر وسقط السيف من يده، فوثبوا عليه فأخذوه)(4).
وذكر الواقدي: (أن عمر جاء إلى علي في عصابة، فقال: اخرجوا أو لنحرقنها عليكم)(5).
وذكر ابن جبير في غرره، قال زيد بن أسلم: (أنا كنت ممن حمل الحطب مع عمر إلى باب فاطمة، حين امتنع علي وأصحابه عن البيعة أن يبايعوا.
ص: 131
..............................
فقال عمر لفاطمة: أخرجي من في البيت، وإلا أحرقته ومن فيه. قال: وفي البيت: علي، والحسن، والحسين، وجماعة من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله). فقالت فاطمة: تحرق على ولدي!. قال: أي والله، أو ليخرجن، أو ليبايعن)(1).
وروى ابن عبد ربه في الجزء الرابعمن كتاب العقد - في ذكر الذين تخلفوا عن بيعة أبي بكر - قال ما هذا لفظه: (فأما علي والعباس فقعدا في بيت فاطمة، حتى بعث إليهما أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجهما من بيت فاطمة، وقال: إن أبيا فقاتلهما. فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهما النار، فلقيته فاطمة (عليها السلام) فقالت: يا ابن الخطاب، أجئت لتحرق ديارنا؟!. قال: نعم)(2).
وروى الشافعي ابن المغازلي في كتاب المناقب بإسناده، عن النبي (صلى الله عليه وآله)، أنه قال لعلي (عليه السلام): «إن الأمة ستغدر بك بعدي»(3).
وروى ابن مردويه في المناقب، بإسناده عن ابن عباس، عن النبي (صلى الله عليه وآله) - في حديث - أنه بكى, فقال علي (عليه السلام): «ما يبكيك يا رسول الله!». قال: «ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك حتى يفقدوني»(4).وعن أبي بكر، أنه قال على المنبر: (إن النبي كان يعصم بالوحي، وإن لي
ص: 132
..............................
شيطاناً يعتريني، فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوموني)(1).
وقال أيضاً: (أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم)(2).
وقال عند احتضاره: (ليتني كنت تبنة في لبنة، ليت أمي لم تلدني)(3).
وروى أبو نعيم الحافظ في كتاب حلية الأولياء: (إن عمر لما احتضر قال: يا ليتني كنت كبشاً لقومي قسموني ما بدا لهم، ثم جاءهم أحب قومهم إليهم، فذبحوني فجعلوا نصفي شواء، ونصفي قديداً فأكلوني، فأكون عذرة ولا أكون بشراً)(4).
مسألة: يحرم اتخاذ مولى غير من عينه الله مولى، فإن (المولى) هو الله ثم الرسول (صلى الله عليه وآله)، ثم من عينه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأمر الله عز وجل وهم الأئمة الاثنى عشر (عليهم السلام) ومن بعدهم الوكلاء والنواب العامون عنهم وهم الفقهاء مراجع التقليد الجامعي للشرائط.
عن أبي عبد الله (عليه السلام) - في حديث - قال: «وَاللهِ لَنُحِبُّكُمْ أَنْ تَقُولُوا إِذَا قُلْنَا، وَتَصْمُتُوا إِذَا صَمَتْنَا، وَنَحْن فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَا جَعَلَ اللهُ
ص: 133
..............................
لأَحَدٍ خَيْراً فِي خِلاَفِ أَمْرِنَا»(1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) - في حديث - قال: «حَسْبُكُمْ أَنْ تَقُولُوا مَا نَقُولُ، وَتَصْمُتُوا عَمَّا نَصْمُتُ. إِنَّكُمْ قَدْ رَأَيْتُمْ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَجْعَلْ لأَحَدٍ فِي خِلاَفِنَا خَيْراً»(2).وعن المفضل بن عمر، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «مَنْ دَانَ اللهَ بِغَيْرِ سَمَاعٍ عَنْ صَادِقٍ، أَلْزَمَهُ اللهُ التَّيْهَ إِلَى الْفَنَاءِ. وَمَنِ ادَّعَى سَمَاعاً مِنْ غَيْرِ الْبَابِ الَّذِي فَتَحَهُ اللهُ فَهُوَ مُشْرِكٌ، وَذَلِكَ الْبَابُ الْمَأْمُونُ عَلَى سِرِّ اللهِ الْمَكْنُونِ»(3).
وعن إبراهيم بن أبي محمود، عن الرضا (عليه السلام) - في حديث طويل - قال: أخبرني أبي، عن آبائه (عليهم السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: «مَنْ أَصْغَى إِلَى نَاطِقٍ فَقَدْ عَبَدَهُ، فَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ عَنِ اللهِ فَقَدْ عَبَدَ اللهَ، وَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ عَنْ إِبْلِيسَ فَقَدْ عَبَدَ إِبْلِيسَ» إلى أن قال: «يَا ابْنَ أَبِي مَحْمُودٍ، إِذَا أَخَذَ النَّاسُ يَمِيناً وَشِمَالاً فَالْزَمْ طَرِيقَتَنَا؛ فَإِنَّهُ مَنْ لَزِمَنَا لَزِمْنَاهُ، وَمَنْ فَارَقَنَا فَارَقْنَاهُ؛ فَإِنَّ أَدْنَى مَا يَخْرُجُ بِهِ الرَّجُلُ مِنَ الإِيمَانِ، أَنْ يَقُولَ لِلْحَصَاةِ: هَذِهِ نَوَاةٌ،
ص: 134
..............................
ثُمَّ يَدِينَ بِذَلِكَ وَيَبْرأَ مِمَّنْ خَالَفَهُ. يَاابْنَ أَبِي مَحْمُودٍ، احْفَظْ مَا حَدَّثْتُكَ بِهِ، فَقَدْ جَمَعْتُ لَكَ فِيهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»(1).
وعن الرضا، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ دَانَ بِغَيْرِ سَمَاعٍ، أَلْزَمَهُ اللهُ الْبَتَّةَ إِلَى الْفَنَاءِ. وَمَنْ دَانَ بِسَمَاعٍ مِنْ غَيْرِ الْبَابِ الَّذِي فَتَحَهُ اللهُ لِخَلْقِهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ، وَالْبَابُ الْمَأْمُونُ عَلَى وَحْيِ اللهِ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله)»(2).
وعن محمد بن خالد، عن أخيه سفيان بن خالد، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إِيَّاكَ وَالرِّئَاسَةَ! فَمَا طَلَبَهَا أَحَدٌ إِلاَّ هَلَكَ». فقلت: قَدْ هَلَكْنَا إِذاً، لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا إِلاَّ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يُذْكَرَ وَيُقْصَدَ وَيُؤْخَذَ عَنْهُ. فقال: «لَيْسَ حَيْثُ تَذْهَبُ، إِنَّمَا ذَلِكَ أَنْ تَنْصِبَ رَجُلاً دُونَ الْحُجَّةِ، فَتُصَدِّقَهُ فِي كُلِّ مَا قَالَ، وَتَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى قَوْلِهِ»(3).وعن إبراهيم بن زياد، قال: قال الصادق (عليه السلام): «كَذَبَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَعْرِفُنَا، وَهُوَ مُسْتَمْسِكٌ بِعُرْوَةِ غَيْرِنَا»(4).
ص: 135
..............................
وعن سُليم بن قيس الهلالي، قال: سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَقُولُ: «احْذَرُوا عَلَى دِينِكُمْ ثَلاَثَةً: رَجُلاً قَرَأَ الْقُرْآنَ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ عَلَيْهِ بَهْجَتَهُ، اخْتَرَطَ سَيْفَهُ عَلَى جَارِهِ وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ». فقلت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ؟. قال: الرَّامِي. وَرَجُلاً اسْتَخَفَّتْهُ الأَكَاذِيبُ، كُلَّمَا أَحْدَثَ أُحْدُوثَةَ كَذِبٍ مَدَّهَا بِأَطْوَلَ مِنْهَا. وَرَجُلاً آتَاهُ اللهُ سُلْطَاناً، فَزَعَمَ أَنَّ طَاعَتَهُ طَاعَةُ اللهِ، وَمَعْصِيَتَهُ مَعْصِيَةُ اللهِ، وَكَذَبَ؛ لأَنَّهُ لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ حُبُّهُ لِمَعْصِيَةِ اللهِ، فَلاَ طَاعَةَ فِي مَعْصِيَتِهِ، وَلاَ طَاعَةَ لِمَنْ عَصَى اللهَ. إِنَّمَا الطَّاعَةُ للهِ، وَلِرَسُولِهِ (صلى الله عليه وآله)، وَلِوُلاَةِ الأَمْرِ. وَإِنَّمَا أَمَرَ اللهُ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ (صلى الله عليه وآله)؛ لأَنَّهُ مَعْصُومٌ مُطَهَّرٌ، لاَ يَأْمُرُ بِمَعْصِيَتِهِ. وَإِنَّمَا أَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الأَمْرِ؛ لأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مُطَهَّرُونَ، لا يَأْمُرُونَبِمَعْصِيَتِهِ»(1).
وعن الفضيل بن يسار، قال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: «كُلُّ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ فَهُوَ بَاطِلٌ»(2).
وعن الحجاج بن الصباح، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إِنَّا نُحَدِّثُ عَنْكَ بِالْحَدِيثِ، فَيَقُولُ بَعْضُنَا: قَوْلُنَا قَوْلُهُمْ. قال: «فَمَا تُرِيدُ، أَ تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ إِمَاماً يُقْتَدَى بِكَ، مَنْ رَدَّ الْقَوْلَ إِلَيْنَا فَقَدْ سَلِمَ»(3).
ص: 136
..............................
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَنْ أَخَذَ دِينَهُ مِنْ أَفْوَاهِ الرِّجَالِ أَزَالَتْهُ الرِّجَالُ، وَمَنْ أَخَذَ دِينَهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ زَالَتِ الْجِبَالُ وَلَمْ يَزُلْ»(1).
مسألة: يحرم اتخاذ عشير سوء يقود الإنسان للمعاصي والجحيم، من باب المقدمية، ولو لم يقد فإنه مرجوح ومذموم دون شك، ومن مصاديق ذلك أن تتزوج فاسقاً أو يتزوج فاسقة، إلا لو أحرز قدرته على هدايته أو هدايتها، أو كان لأمر أهم، كما في زواج بعض الأنبياء من غير الصالحات.
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لاَ عَلَيْكَ أَنْ تَصْحَبَ ذَا الْعَقْلِ وَإِنْ لَمْ تَحْمَدْ كَرَمَهُ، وَلَكِنِ انْتَفِعْ بِعَقْلِهِ، وَاحْتَرِسْ مِنْ سَيِّئِ أَخْلاَقِهِ. وَلاَ تَدَعَنَّ صُحْبَةَ الْكَرِيمِ وَإِنْ لَمْ تَنْتَفِعْ بِعَقْلِهِ، وَلَكِنِ انْتَفِعْ بِكَرَمِهِ بِعَقْلِكَ، وَافْرِرْ كُلَّ الْفِرَارِ مِنَ اللَّئِيمِ الأَحْمَقِ»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) إِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ، قَالَ: يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَجَنَّبَ مُؤَاخَاةَ ثَلاثَةٍ: الْمَاجِنِ الْفَاجِرِ، وَالأَحْمَقِ، وَالْكَذَّابِ.
ص: 137
..............................
فَأَمَّا الْمَاجِنُ الْفَاجِرُ: فَيُزَيِّنُ لَكَ فِعْلَهُ، وَيُحِبُّ أَنْ تَكُونَ مِثْلَهُ، وَلاَ يُعِينُكَ عَلَى أَمْرِ دِينِكَ وَمَعَادِكَ، وَمُقَارَنَتُهُ جَفَاءٌ وَقَسْوَةٌ، وَمَدْخَلُهُ وَمَخْرَجُهُ عَارٌ عَلَيْكَ.
وَأَمَّا الأَحْمَقُ: فَإِنَّهُ لاَ يُشِيرُ عَلَيْكَ بِخَيْرٍ، وَلاَ يُرْجَى لِصَرْفِ السُّوءِ عَنْكَ وَلَوْ أَجْهَدَ نَفْسَهُ، وَرُبَّمَا أَرَادَ مَنْفَعَتَكَ فَضَرَّكَ، فَمَوْتُهُ خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِهِ، وَسُكُوتُهُ خَيْرٌ مِنْ نُطْقِهِ، وَبُعْدُهُ خَيْرٌ مِنْ قُرْبِهِ.
وَأَمَّا الْكَذَّابُ: فَإِنَّهُ لاَ يَهْنِئُكَ مَعَهُ عَيْشٌ، يَنْقُلُ حَدِيثَكَ وَيَنْقُلُ إِلَيْكَ الْحَدِيثَ، كُلَّمَا أَفْنَى أُحْدُوثَةً مَطَّهَا بِأُخْرَى مِثْلِهَا، حَتَّى إِنَّهُ يُحَدِّثُ بِالصِّدْقِ فَمَا يُصَدَّقُ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدَاوَةِ، فَيُنْبِتُ السَّخَائِمَ فِي الصُّدُورِ. فَاتَّقُوا اللهَ وَانْظُرُوا لأَنْفُسِكُمْ»(1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لاَ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ أَنْ يُؤَاخِيَ الْفَاجِرَ؛ فَإِنَّهُ يُزَيِّنُ لَهُ فِعْلَهُ، وَيُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ، وَلاَ يُعِينُهُ عَلَى أَمْرِ دُنْيَاهُ، وَلاَ أَمْرِ مَعَادِهِ، وَمَدْخَلُهُ إِلَيْهِ وَمَخْرَجُهُ مِنْعِنْدِهِ شَيْنٌ عَلَيْهِ»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «لاَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُؤَاخِيَ الْفَاجِرَ، وَلاَ الأَحْمَقَ، وَلاَ الْكَذَّابَ»(3).
ص: 138
..............................
وعن عبيد بن زرارة، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إِيَّاكَ وَمُصَادَقَةَ الأَحْمَقِ! فَإِنَّكَ أَسَرَّ مَا تَكُونُ مِنْ نَاحِيَتِهِ، أَقْرَبُ مَا يَكُونُ إِلَى مَسَاءَتِكَ»(1).
وعن عمار بن موسى، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «يَا عَمَّارُ، إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تَسْتَتِبَّ لَكَ النِّعْمَةُ، وَتَكْمُلَ لَكَ الْمُرُوءَةُ، وَتَصْلُحَ لَكَ الْمَعِيشَةُ، فَلاَ تُشَارِكِ الْعَبِيدَ وَالسَّفِلَةَ فِي أَمْرِكَ؛ فَإِنَّهُمْ إِنِ ائْتَمَنْتَهُمْ خَانُوكَ، وَإِنْ حَدَّثُوكَ كَذَبُوكَ، وَإِنْ نُكِبْتَ خَذَلُوكَ، وَإِنْ وَعَدُوكَ أَخْلَفُوكَ»(2).وقال (عليه السلام): «حُبُّ الأَبْرَارِ لِلأَبْرَارِ ثَوَابٌ لِلأَبْرَارِ، وَحُبُّ الْفُجَّارِ لِلأَبْرَارِ فَضِيلَةٌ لِلأَبْرَارِ، وَبُغْضُ الْفُجَّارِ لِلأَبْرَارِ زَيْنٌ لِلأَبْرَارِ، وَبُغْضُ الأَبْرَارِ لِلْفُجَّارِ خِزْيٌ عَلَى الْفُجَّارِ»(3).
وقال لقمان لابنه: «يَا بُنَيَّ، لاَ تَقْتَرِبْ فَيَكُونَ أَبْعَدَ لَكَ، وَلاَ تَبْعُدْ فَتُهَانَ. كُلُّ دَابَّةٍ تُحِبُّ مِثْلَهَا، وَإِنَّ ابْنَ آدَمَ يُحِبُّ مِثْلَهُ. وَلاَ تَنْشُرْ بِرَّكَ إِلاَّ عِنْدَ بَاغِيهِ. كَمَا لَيْسَ بَيْنَ الذِّئْبِ وَالْكَبْشِ خُلَّةٌ، كَذَلِكَ لَيْسَ بَيْنَ الْبَارِّ وَالْفَاجِرِ خُلَّةٌ. مَنْ يَقْرَبْ مِنَ الزِّفْتِ يَعْلَقْ بِهِ بَعْضُهُ، كَذَلِكَ مَنْ يُشَارِكِ الْفَاجِرَ يَتَعَلَّمْ مِنْ طُرُقِهِ. مَنْ يُحِبَّ الْمِرَاءَ يُشْتَمْ، وَمَنْ يَدْخُلْ مَدَاخِلَ السَّوْءِ يُتَّهَمْ، وَمَنْ يُقَارِنْ قَرِينَ السَّوْءِ لاَ يَسْلَمْ، وَمَنْ لاَ يَمْلِكْ لِسَانَهُ يَنْدَمْ»(4).
ص: 139
..............................
وعن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «كَانَ أَبِي (عليه السلام) يَقُولُ: قُمْ بِالْحَقِّ وَلاَ تَعَرَّضْ لِمَا فَاتَكَ، وَاعْتَزِلْ مَا لاَ يَعْنِيكَ، وَتَجَنَّبْ عَدُوَّكَ، وَاحْذَرْ صَدِيقَكَ مِنَ الأَقْوَامِإِلاَّ الأَمِينَ، وَالأَمِينُ مَنْ خَشِيَ اللهَ. وَلاَ تَصْحَبِ الْفَاجِرَ، وَلاَ تُطْلِعْهُ عَلَى سِرِّكَ، وَلاَ تَأْمَنْهُ عَلَى أَمَانَتِكَ، وَاسْتَشِرْ فِي أُمُورِكَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ»(1).
مسألة: لو اضطر الإنسان إلى اتخاذ عشير سوء، لزم أن يقتصر على قدر الضرورة كأكل الميتة.
وعن أبي عبد الله، عن أبيه (عليهما السلام)، قال: قال لي أبي علي بن الحسين (عليه السلام): «يَا بُنَيَّ، انْظُرْ خَمْسَةً فَلاَ تُصَاحِبْهُمْ، وَلاَ تُحَادِثْهُمْ، وَلاَ تُرَافِقْهُمْ فِي طَرِيقٍ». فَقُلْتُ: «يَا أَبَهْ، مَنْ هُمْ عَرِّفْنِيهِمْ؟». قَالَ: «إِيَّاكَ وَمُصَاحَبَةَ الْكَذَّابِ! فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ السَّرَابِ، يُقَرِّبُ لَكَ الْبَعِيدَ، وَيُبَعِّدُ لَكَ الْقَرِيبَ. وَإِيَّاكَ وَمُصَاحَبَةَ الْفَاسِقِ! فَإِنَّهُ بَائِعُكَ بِأُكْلَةٍ، وَأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ. وَإِيَّاكَ وَمُصَاحَبَةَ الْبَخِيلِ! فَإِنَّهُ يَخْذُلُكَ فِي مَالِهِ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إِلَيْهِ. وَإِيَّاكَ وَمُصَاحَبَةَ الأَحْمَقِ! فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَنْفَعَكَ فَيَضُرُّكَ. وَإِيَّاكَ وَمُصَاحَبَةَ الْقَاطِعِ لِرَحِمِهِ! فَإِنِّي وَجَدْتُهُ مَلْعُوناً فِي كِتَابِ اللهِ فِي ثَلاَثَةِ مَوَاضِعَ: قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ:«فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدوا
ص: 140
..............................
فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ»(1)، وَقَالَ: «وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهمُ اللَّعْنَةُ وَلَهمْ سُوءُ الدَّارِ»(2)، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: «الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ»(3)»(4).
وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «لاَ تُقَارِنْ وَلاَ تُؤَاخِ أَرْبَعَةً: الأَحْمَقَ، وَالْبَخِيلَ، وَالْجَبَانَ، وَالْكَذَّابَ, أَمَّا الأَحْمَقُ: فَيُرِيدُ أَنْ يَنْفَعَكَ فَيَضُرُّكَ. وَأَمَّا الْبَخِيلُ: فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْكَ وَلاَ يُعْطِيكَ. وَأَمَّا الْجَبَانُ: فَإِنَّهُ يَهْرُبُ عَنْكَ وَعَنْ وَالِدَيْهِ. وَأَمَّا الْكَذَّابُ: فَإِنَّهُ يَصْدُقُ وَلاَ يُصَدَّقُ»(5).وعن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام) قال: «أَرَدْتُ سَفَراً، فَأَوْصَى إِلَيَّ أَبِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام)، فَقَالَ فِي وَصِيَّتِهِ: إِيَّاكَ يَا بُنَيَّ أَنْ تُصَاحِب
ص: 141
..............................
الأَحْمَقَ أَوْ تُخَالِطَهُ، وَاهْجُرْهُ وَلاَ تُحَادِثْهُ؛ فَإِنَّ الأَحْمَقَ هُجْنَةٌ، عَيَّابٌ غَائِباً كَانَ أَوْ حَاضِراً. إِنْ تَكَلَّمَ فَضَحَهُ حُمْقُهُ، وَإِنْ سَكَتَ قَصَرَ بِهِ عِيُّهُ، وَإِنْ عَمِلَ أَفْسَدَ، وَإِنِ اسْتُرْعِيَ أَضَاعَ. لاَ عِلْمُهُ مِنْ نَفْسِهِ يُغْنِيهِ، وَلاَ عِلْمُ غَيْرِهِ يَنْفَعُهُ، وَلاَ يُطِيعُ نَاصِحَهُ، وَلاَ يَسْتَرِيحُ مُقَارِنُهُ. تَوَدُّ أُمُّهُ أَنَّهَا ثَكِلَتْهُ، وَامْرَأَتُهُ أَنَّهَا فَقَدَتْهُ، وَجَارُهُ بُعْدَ دَارِهِ، وَجَلِيسُهُ الْوَحْدَةَ مِنْ مُجَالَسَتِهِ. إِنْ كَانَ أَصْغَرَ مَنْ فِي الْمَجْلِسِ أَعْنَى مَنْ فَوْقَهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرَهُمْ أَفْسَدَ مَنْ دُونَهُ»(1).
مسألة: لو فرض على الإنسان مولى سوء - حاكماً كان أم ملكاً أم قائداً أم شبه ذلك - لزم عليه مقاومته، والسعيلإرجاع الحق إلى نصابه قدر المستطاع مع مراعاة الموازين الشرعية، بالتثقيف والتوعية والتنظيم وتأسيس المؤسسات الإعلامية والحقوقية والضغط الجماهيري والرأي العام والإضرابات والمظاهرات السلمية وما أشبه.
مسألة: الضلال الخارجي مصدره الأساس إما المولى وإما العشير، أما الداخلي فمصدره النفس والشيطان والهوى، قال الشاعر:
نَفْسِي وَشَيْطَانِي وَدُنْيَا وَالْهوَى*** كَيْفَ الْخلاصُ وَكُلَّهُمْ أَعْدَائِي
ص: 142
..............................
روى نصر بن مزاحم في "كتاب صفين"، قال: لَمَّا قَدِمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ - إلى أن قال - ثُمَّ صَعِدَ المِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: «أَمَّا بَعْدُ يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ- فَإِنَّ لَكُمْ فِي الإِسْلاَمِ فَضْلاً مَا لَمْ تَبَدَّلُوا وَتَغَيَّرُوا - إلى أن قال - أَلاَ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَطُولُ الأَمَلِ. فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وَأَمَّا طُولُ الأَمَلِ فَيُنْسِي الآخِرَةَ»(1).وعن هشام بن الحكم، قال: قال موسى بن جعفر (عليه السلام): «يَا هِشَامُ، مَنْ سَلَّطَ ثَلاَثاً عَلَى ثَلاَثٍ، فَكَأَنَّمَا أَعَانَ عَلَى هَدْمِ عَقْلِهِ: مَنْ أَظْلَمَ نُورَ تَفَكُّرِهِ بِطُولِ أَمَلِهِ، وَمَحَا طَرَائِفَ حِكْمَتِهِ بِفُضُولِ كَلاَمِهِ، وَأَطْفَأَ نُورَ عِبْرَتِهِ بِشَهَوَاتِ نَفْسِهِ، فَكَأَنَّمَا أَعَانَ هَوَاهُ عَلَى هَدْمِ عَقْلِهِ، وَمَنْ هَدَمَ عَقْلَهُ أَفْسَدَ عَلَيْهِ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ»(2).
ورواه الحسن بن علي بن شعبة في (تحف العقول) وزاد فيه: «يَا هِشَامُ، أَوْحَى اللهُ إِلَى دَاوُدَ: يَا دَاوُدُ، حَذِّرْ وَأَنْذِرْ أَصْحَابَكَ عَنْ حُبِّ الشَّهَوَاتِ؛ فَإِنَّ الْمُعَلَّقَةَ قُلُوبُهُمْ بِشَهَوَاتِ الدُّنْيَا قُلُوبُهُمْ مَحْجُوبَةٌ عَنِّي»(3).
وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: «كَانَ فِيمَا وَعَظَ اللهُ بِهِ عِيسَى (عليه السلام) أَنْ قَالَ لَهُ: وَافْطِمْ نَفْسَكَ عَنِ الشَّهَوَاتِ الْمُوبِقَاتِ، وَكُلَّ شَهْوَةٍ تُبَاعِدُكَ مِنِّي فَاهْجُرْهَا»(4).
ص: 143
..............................
وعن ابن سنان، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «كَانَ الْمَسِيحُ (عليه السلام) يَقُولُ لأَصْحَابِهِ: إِنْ كُنْتُمْ أَحِبَّائِي وَإِخْوَانِي فَوَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ مِنَ النَّاسِ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَلَسْتُمْ بِإِخْوَانِي. إِنَّمَا أُعَلِّمُكُمْ لِتَعْمَلُوا، وَلاَ أُعَلِّمُكُمْ لِتُعْجَبُوا، إِنَّكُمْ لَنْ تَنَالُوا مَا تُرِيدُونَ إِلاَّ بِتَرْكِ مَا تَشْتَهُونَ، وَبِصَبْرِكُمْ عَلَى مَا تَكْرَهُونَ»(1).
وعن أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «طُوبَى لِمَنْ تَرَكَ شَهْوَةً حَاضِرَةً لِمَوْعُودٍ لَمْ يَرَهُ قَطُّ»(2).
وعن الصادق (عليه السلام) في حديث قال: «وَمَنْ شُغِفَ بِمَحَبَّةِ الْحَرَامَ وَشَهْوَةِ الزِّنَا، فَهُوَ شِرْكُ الشَّيْطَانِ»(3).
وقال ابن فهد (رحمه الله) في (عُدَّةِ الدَّاعِي): قال عيسى (عليه السلام): «بِحَقٍ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ الزِّقَّ إِذَا لَمْ يَنْخَرِقْ يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ وِعَاءَ الْعَسَلِ، كَذَلِكَ الْقُلُوبُ إِذَا لَمْ تَخْرِقْهَا الشَّهَوَاتُ، أَوْ يُدَنِّسْهَا الطَّمَعُ، أَوْ يُقْسِهَا النَّعِيمُ، فَسَوْفَ تَكُونُ أَوْعِيَةَ الْحِكْمَةِ»(4).
ص: 144
..............................
وعن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ - وَأَقْبَلَ عَلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - فَقَالَ: «يَا أُسَامَةُ، عَلَيْكَ بِطَرِيقِ الْحَقِّ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَخْتَلِجَ دُونَهُ بِزَهْرَةِ رَغَبَاتِ الدُّنْيَا، وَغَضَارَةِ نَعِيمِهَا، وَبَائِدِ سُرُورِهَا، وَزَائِلِ عَيْشِهَا». فَقَالَ أُسَامَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَيْسَرُ مَا يَنْقَطِعُ بِهِ ذَلِكَ الطَّرِيقُ؟. قَالَ: «السَّهَرُ الدَّائِمُ، وَالظَّمَأُ فِي الْهَوَاجِرِ، وَكَفُّ النَّفْسِ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَتَرْكُ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَاجْتِنَابُ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا»(1).
مسألة: يجب على حملة الإسلام ودعاةالتغيير أن يوفروا للناس كلا العاملين:
1: المولى والقيادة الصحيحة الجامعة للشرائط.
2: والجو الإيماني وشبكة العلاقات السليمة التي تحيط بالعاملين والناشطين والمؤمنين.
جاء في وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه الإمام الحسن (عليه السلام)، قوله: «لاَ تَخَافُنَّ فِي اللهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ فَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً كَمَا أَمَرَكُمُ اللهُ. وَلاَ تَتْرُكُنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ فَيُوَلِّيَ اللهُ الأَمْرَ أَشْرَارَكُمْ، وَتَدْعُونَ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَكُمْ. عَلَيْكُمْ يَا بَنِيَّ بِالتَّوَاصُلِ وَالتَّبَاذُلِ وَالتَّبَارِّ،
ص: 145
..............................
وَإِيَّاكُمْ وَالنِّفَاقَ وَالتَّقَاطُعَ وَالتَّدَابُرَ وَالتَّفَرُّقَ، «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ»(1)»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «جَاءَ جَبْرَئِيلُ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله). فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، رَبُّكَ يُقْرِئُكَ السَّلامَوَيَقُولُ لَكَ: دَارِ خَلْقِي»(3).
وقال (صلى الله عليه وآله): «أَمَرَنِي رَبِّي بِمُدَارَاةِ النَّاسِ، كَمَا أَمَرَنِي بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ»(4).
وعن الإمام أبي محمد العسكري (عليه السلام) في تفسيره - في قوله تعالى: «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا»(5) -: قال الصادق (عليه السلام): «قُولُوا لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ حُسْناً مُؤْمِنِهِمْ وَمُخَالِفِهِمْ. أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَيَبْسُطُ لَهُمْ وَجْهَهُ، وَأَمَّا الْمُخَالِفُونَ فَيُكَلِّمُهُمْ بِالْمُدَارَاةِ؛ لاِجْتِذَابِهِمْ إِلَى الإِيمَانِ، فَإِنِ اسْتَتَرَ مِنْ ذَلِكَ يَكُفَّ شُرُورَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ إِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الإِمَامُ (عليه السلام): إِنَّ مُدَارَاةَ أَعْدَاءِ اللهِ مِنْ أَفْضَلِ صَدَقَةِ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَإِخْوَانِهِ. كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي مَنْزِلِهِ، إِذِ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي سَلُولٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ، ائْذَنُوا لَهُ. فَأَذِنُوا لَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ أَجْلَسَهُ وَبَشَرَ فِي وَجْهِهِ.
ص: 146
..............................
فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْتَ فِيهِ مَا قُلْتَ، وَفَعَلْتَ بِهِ مِنَ الْبِشْرِ مَا فَعَلْتَ!. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): يَا عُوَيْشُ، يَا حُمَيْرَاءُ، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ يُكْرَمُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ. وَقَالَ الإِمَامُ (عليه السلام): مَا مِنْ عَبْدٍ وَلاَ أَمَةٍ دَارَى عِبَادَ اللهِ بَأَحْسَنِ الْمُدَارَاةِ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا فِي بَاطِلٍ، وَلَمْ يَخْرُجْ بِهَا مِنْ حَقٍّ، إِلاَّ جَعَلَ اللهُ نَفَسَهُ تَسْبِيحاً، وَزَكَّى أَعْمَالَهُ، وَأَعْطَاهُ لِصَبْرِهِ عَلَى كِتْمَانِ سِرِّنَا، وَاحْتِمَالِ الْغَيْظِ لِمَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ أَعْدَائِنَا، ثَوَابَ الْمُتَشَحِّطِ بِدَمِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ»(1).
وعن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: «لاَ يَكُونُ الْمُؤْمِنُ مُؤْمِناً، حَتَّى يَكُونَ فِيهِ ثَلاَثُ خِصَالٍ: سُنَّةٌ مِنْ رَبِّهِ، وَسُنَّةٌ مِنْ نَبِيِّهِ، وَسُنَّةٌ مِنْ وَلِيِّهِ. فَأَمَّا السُّنَّةُ مِنْ رَبِّهِ فَكِتْمَانُ السِّرِّ، وَأَمَّا السُّنَّةُ مِنْ نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله) فَمُدَارَاةُ النَّاسِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ مِنْ وَلِيِّهِ فَالصَّبْرُ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ»(2).وعن خط الشهيد الأول، عن الصادق (عليه السلام)، أنه قال: «كَمَالُ الأَدَبِ وَالْمُرُوَّةِ فِي سَبْعِ خِصَالٍ: الْعَقْلِ، وَالْحِلْمِ، وَالصَّبْرِ، وَالرِّفْقِ، وَالصَّمْتِ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَالْمُدَارَاةِ»(3).
ص: 147
..............................
وروي أنه: «سَمِعَ سُلَيْمَانُ عُصْفُوراً يَقُولُ لِلْهُدْهُدِ: مَا رَأَيْتُ أَحْسَنَ مِنْ لِقَائِكَ لِلْحِدَأَةِ وَالْبَازِ وَهُمَا عَدُوَّاكَ. فَقَالَ الْهُدْهُدُ: يَا أَخِي، مَنْ حَسُنَتْ مُدَارَاتُهُ طَابَتْ حَيَاتُهُ. فَقَالَ سُلَيْمَانُ: صَدَقَ وَاللهِ الْهُدْهُدُ»(1).
وعن كتاب (قضاء الحقوق) للصوري، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) - فيما أوصى به رفاعة بن شداد البجلي في رسالة إليه -: «دَارِ الْمُؤْمِنَ مَا اسْتَطَعْتَ؛ فَإِنَّ ظَهْرَهُ حِمَى اللهِ، وَنَفْسَهُ كَرِيمَةٌ عَلَى اللهِ، وَلَهُ يَكُونُ ثَوَابُ اللهِ، وَظَالِمَهُ خَصْمُ الله، فَلاَ تَكُنْ خَصْمَهُ»(2).وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن جده (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أَعْقَلُ النَّاسِ أَشَدُّهُمْ مُدَارَاةً لِلنَّاسِ»(3).
وعن سماعة، عنه (عليه السلام) - في حديث - أنه قال: «وَيَحِقُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الاِجْتِهَادُ وَالتَّوَاصُلُ عَلَى التَّعَطُّفِ، وَالْمُوَاسَاةُ لأَهْلِ الْحَاجَةِ وَالتَّعَطُّفُ مِنْكُمْ، يَكُونُونَ عَلَى أَمْرِ اللهِ رُحَمَاءَ بَيْنَهُمْ مُتَرَاحِمِينَ، مُهِمِّينَ لِمَا غَابَ عَنْهُمْ مِنْ أَمْرِهِمْ، عَلَى مَا مَضَى عَلَيْهِ الأَنْصَارُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)»(4).
ص: 148
..............................
وعن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، أنه قال: «تَوَاصَلُوا، وَتَبَاذَلُوا، وَتَبَارُّوا، وَتَرَاحَمُوا، وَكُونُوا إِخْوَاناً بَرَرَةً، كَمَا أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى»(1).وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أنه قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَضَعُ اللهُ الرَّحْمَةَ إِلاَّ عَلَى رَحِيمٍ». قالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كُلُّنَا رَحِيمٌ. قال: «لَيْسَ الَّذِي يَرْحَمُ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ خَاصَّةً، وَلَكِنِ الَّذِي يَرْحَمُ الْمُسْلِمِينَ». وقال (صلى الله عليه وآله): «قَالَ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ رَحْمَتِي فَارْحَمُوا»(2).
مسألة: قد يستفاد من كلامها (صلوات الله عليها) حقيقة تاريخية واجتماعية وسياسية أيضاً، وهي أن القوم المنقلبين على الأعقاب كانت قيادتهم قيادة فاسدة ضالة، وكان أعوانهم والمعاشرين معهم مثلهم، وأنهم بهاتين الدعامتين استطاعوا زحزحة الحق عن أهله وصرفه عن نصابه.
(المولى) له عدة معان، وكذلك (العشير).
قال الشيخ الصدوق (رحمه الله):(المولى) في اللغة يحتمل أن يكون:
ص: 149
..............................
1: مالك الرق، كما يملك المولى عبيده، وله أن يبيعه ويهبه.
2: الْمُعْتَق من الرق.
3: الْمُعْتِق.
وهذه الأوجه الثلاثة مشهورة عند الخاصة والعامة، فهي ساقطة في قول النبي (صلى الله عليه وآله)؛ لأنه لا يجوز أن يكون عنى بقوله: «فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ» واحدة منها، لأنه لا يملك بيع المسلمين، ولا عتقهم من رق العبودية، ولا أعتقوه (عليه السلام).
4: ابن العم، قال الشاعر:
مَهْلًا بَنِي عَمِّنَا مَهْلًا مَوَالَينَا *** لِم تُظْهِرُونَ لَنَا مَا كَانَ مَدْفُونَا
5: العاقبة، قال الله عز وجل: «مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ»(1)،« أي عاقبتكم وما يؤول بكم الحال إليه.
6: لما يلي الشيء، مثل: خلفه وقدامه، قال الشاعر:
فَغَدَتْ كِلَا الْفَرْجَيْنِ تَحْسُبُ أَنَّهُ *** مَوْلَى الْمخَافَةَ خَلْفَهَاوَأَمَامَهَا
ولم نجد أيضاً شيئاً من هذه الأوجهيجوز أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله) عناه بقوله: «فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ»؛ لأنه لا يجوز أن يقول: من كنت ابن عمه فعلي ابن عمه، لأن ذلك معروف معلوم، وتكريره على المسلمين عبث بلا فائدة.وليس يجوز أن يعني به عاقبة أمرهم،ولا خلف ولا قدام؛ لأنه لامعنى
ص: 150
..............................
له ولا فائدة.
ووجدنا اللغة تجيز أن يقول الرجل: فلان مولاي إذا كان مالك طاعته، فكان هذا هو المعنى الذي عناه النبي (صلى الله عليه وآله) بقوله: «فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ»؛ لأن الأقسام التي تحتملها اللغة لم يجز أن يعنيها بما بيناه، ولم يبق قسم غير هذا، فوجب أن يكون هو الذي عناه بقوله (صلى الله عليه وآله): ««فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ».
ومما يؤكد ذلك قوله (صلى الله عليه وآله): «أَلَسْتُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» ثم قال «فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ»، فدل ذلك على أن معنى مولاه هو أنه أولى بهم من أنفسهم؛ لأن المشهور في اللغة والعرف، أن الرجل إذا قال لرجل: إنك أولى بي من نفسي، فقد جعله مطاعاً آمراً عليه، ولا يجوز أن يعصيه.وإنا لو أخذنا بيعة على رجل وأقر بأنا أولى به من نفسه، لم يكن له أن يخالفنا في شيء مما نأمره به؛ لأنه إن خالفنا بطل معنى إقراره بأنا أولى به من نفسه، ولأن العرب أيضاً إذا أمر منهم إنسان إنساناً بشيء، وأخذه بالعمل به، وكان له أن يعصيه فعصاه، قال له: يا هذا، أنا أولى بنفسي منك، إن لي أن أفعل بها ما أريد، وليس ذلك لك مني.
فإذا كان قول الإنسان: أنا أولى بنفسي منك، يوجب له أن يفعل بنفسه ما يشاء، إذا كان في الحقيقة أولى بنفسه من غيره، وجب لمن هو أولى بنفسه منه أن يفعل به ما يشاء، ولا يكون له أن يخالفه ولا يعصيه، إذا كان ذلك كذلك.
ص: 151
..............................
ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله): «أَ لَسْتُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ»، فأقروا له (عليه السلام) بذلك، ثم قال متبعاً لقوله الأول بلا فصل: «فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ»، فقد علم أن قوله (مولاه)، عبارة عن المعنى الذي أقروا له بأنه أولى بهم من أنفسهم، فإذا كان إنما عنى بقوله: «فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ» أي أولى به، فقد جعل ذلك لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) بقوله: «فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ»؛ لأنه لا يصلح أن يكون عنى بقوله: «فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ» قسماً من الأقسام التي أحلنا أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله) عناها في نفسه؛ لأن الأقسام هي أن يكون مالك رق، أو معتقاً، أو ابن عم، أو عاقبة، أو خلفاً، أو قداماً. فإذا لم يكن لهذه الوجوه فيه (صلى الله عليه وآله) معنى، لم يكن لها في علي (عليه السلام) أيضاً معنى، وبقي ملك الطاعة، فثبت أنه عناه.
وإذا وجب ملك طاعة المسلمين لعلي (عليه السلام)، فهو معنى الإمامة؛ لأن الإمامة إنما هي مشتقة من الايتمام بالإنسان، والايتمام هو الإتباع والاقتداء، والعمل بعمله، والقول بقوله، وأصل ذلك في اللغة سهم يكون مثالاً يعمل عليه السهام، ويتبع بصنعة صنعها، وبمقداره مقدارها، فإذا وجبت طاعة علي (عليه السلام) على الخلق استحق معنى الإمامة... إلى آخر كلامه (رحمه الله) وهو طويل أخذنا منه موضع الحاجة(1).
وأما العشير، قال ابن منظور: (العَشِيرُ:الزوج. وقوله تعالى: «لَبِئْسَ
ص: 152
..............................
الْموْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ»(1)، أَي لبئس الْمُعاشِر. ومَعْشَرُ الرجل: أَهله. والمَعْشَرُ: الجماعة، متخالطين كانوا أو غير ذلك؛ قال ذو الإِصبع العَدْوانيّ:
وَأَنْتُمُ مَعْشَرٌ زيْدٌ عَلَىمِائَةٍ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ طُرًّا فَكِيدُونِي
والمَعْشَر والنَّفَر والقَوْم والرَّهْط معناهم: الجمع، لا واحد لهم من لفظهم، للرجال دون النساء. قال: والعَشِيرة أَيضاً الرجال والعالَم أَيضاً للرجال دون النساء. وقال الليث: المَعْشَرُ كل جماعة أَمرُهم واحد نحو مَعْشر المسلمين ومَعْشَر المشركين. والمَعاشِرُ: جماعاتُ الناس. والمَعْشَرُ: الجن والإِنس. وفي التنزيل: «يَا مَعْشَرَ الْجنِّ وَالْإِنْسِ»(2))(3).
ص: 153
مسألة: استشهاد الصديقة (عليها السلام) بهذه الآية، دليل على أنها (صلوات الله عليها) ترى أن أولئك القوم كانوا ظالمين، وحيث إن ظلم غصب الخلافة وإيذاء بضعة الرسول (صلى الله عليه وآله) وإغضابها، بل ضربها وقتلها وجنينها، هو أسوأ الظلم، فإنهم من أهل النار دون شك.
وأنهم استبدلوا الأحسن لا بالحسن ولا بالسيء بل بالأسوأ، ويستفاد هذا من الإطلاق وسائر القرائن، فتأمل.
مسألة: يجب وجوباً كفائياً بيان أن القوم كانوا ظالمين، وأنهم اختاروا أسوأ الخيارات على الإطلاق، أخروياً ودنيوياً، لهم ولمجتمعهم، في الحال وللأجيال القادمة.
عن أبي بصير، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ مَالِ أَخِيهِ ظُلْماً وَلَمْ يَرُدَّهُ إِلَيْهِ، أَكَلَ جَذْوَةً مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(2).وعن أبي عبيدة الحذاء، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام)، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنِ اقْتَطَعَ مَالَ مُؤْمِنٍ غَصْباً بِغَيْرِ حَقِّهِ، لَمْ يَزَلِ اللهُ مُعْرِضاً عَنْهُ، مَاقِتاً لأَعْمَالِهِ الَّتِي يَعْمَلُهَا مِنَ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ، لاَ يُثْبِتُهَا فِي حَسَنَاتِهِ حَتَّى يَتُوَ
ص: 154
..............................
وَيَرُدَّ الْمَالَ الَّذِي أَخَذَهُ إِلَى صَاحِبِهِ»(1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) - في وصيته لأصحابه - قال: «وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُعِينُوا عَلَى مُسْلِمٍ مَظْلُومٍ، فَيَدْعُوَ عَلَيْكُمْ فَيُسْتَجَابَ لَهُ فِيكُمْ؛ فَإِنَّ أَبَانَا رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) كَانَ يَقُولُ: إِنَّ دَعْوَةَ الْمُسْلِمِ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ. وَلْيُعِنْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً؛ فَإِنَّ أَبَانَا رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) كَانَ يَقُولُ: إِنَّ مَعُونَةَ الْمُسْلِمِ خَيْرٌ وَأَعْظَمُ أَجْراً مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَاعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ»(2).
وعن عبد الله بن سنان، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه
السلام) يَقُولُ: «مَنْ أَعَانَظَالِماً عَلَى مَظْلُومٍ، لَمْ يَزَلِ اللهُ عَلَيْهِ سَاخِطاً حَتَّى يَنْزِعَ عَنْ مَعُونَتِهِ»(3).
وعن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام) - في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) - قال: «يَا عَلِيُّ، شَرُّ النَّاسِ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ، وَشَرٌّ مِنْهُ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ»(4).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه قال: «لِلظَّالِمِ مِنَ الرِّجَالِ ثَلاَثُ عَلاَمَاتٍ: يَظْلِمُ مَنْ فَوْقَهُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَمَنْ دُونَهُ بِالْغَلَبَةِ، وَيُظَاهِرُ الْقَوْمَ الظَّلَمَةَ»(5).
ص: 155
..............................
إن الظالم بطبعه يميل إلى استبدال الشيء بالسيء، في الأفكار والأفعال والأقوال والأشخاص وغير ذلك، فكلما عرض له طريقان: طريق الهدى وطريق الهوى، مال إلى طريق الهوى، فإن (شبه الشيء منجذب إليه).وكلما خيّر بين شخصين وصديقين وقائدين: صالح وطالح، أو ضال ومهتد، أو عادل وفاسق، انتخب أقربها إلى طباعه لقاعدة السنخية، وقد قال الشاعر(1) ما معناه: (الطير يميل للطير من جنسه والصقر للصقر.. فإن المماثل يطير مع مماثله أبداً). وقال الشاعر:
عَنِ الْمرْءِ لا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ *** فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمقَارِنِ يَقْتَدِي
وعن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: قال عيسى ابن مريم (عليه السلام): «إِنَّ صَاحِبَ الشَّرِّ يُعْدِي، وَقَرِينَ السَّوْءِ يُرْدِي، فَانْظُرْ مَنْ تُقَارِنُ»(2).
وعن موسى بن القاسم، قال: سمعت المحاربي يروي عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ثَلاَثَةٌ مُجَالَسَتُهُمْ تُمِيتُ الْقَلْبَ: الْجُلُوسُ مَعَ الأَنْذَالِ، وَالْحَدِيثُ مَعَ النِّسَاءِ، وَالْجُلُوسُ مَعَ الأَغْنِيَاءِ»(3).
ص: 156
..............................
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: «لاَ تَصْحَبُوا أَهْلَ الْبِدَعِ وَلاَتُجَالِسُوهُمْ، فَتَصِيرُوا عِنْدَ النَّاسِ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ. قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ وَقَرِينِهِ»(1).
وعن زيد النرسي في أصله، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِيَّاكُمْ وَعِشَارَ الْمُلُوكِ وَأَبْنَاءِ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُصَغِّرُ نِعْمَةَ اللهِ فِي أَعْيُنِكُمْ، وَيُعَقِّبُكُمْ كُفْراً. وَإِيَّاكُمْ وَمُجَالَسَةَ الْمُلُوكِ وَأَبْنَاءِ الدُّنْيَا؛ فَفِي ذَلِكَ ذَهَابُ دِينِكُمْ، وَيُعَقِّبُكُمْ نِفَاقاً، وَذَلِكَ دَاءٌ دَوِيٌّ لاَ شِفَاءَ لَهُ، وَيُورِثُ قَسَاوَةَ الْقَلْبِ، وَيَسْلُبُكُمُ الْخُشُوعَ. وَعَلَيْكُمْ بِالأَشْكَالِ مِنَ النَّاسِ، وَالأَوْسَاطِ مِنَ النَّاسِ، فَعِنْدَهُمْ تَجِدُونَ مَعَادِنَ الْجَوَاهِرِ. وَإِيَّاكُمْ أَنْ تَمُدُّوا أَطْرَافَكُمْ إِلَى مَا فِي أَيْدِي أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَمَنْ مَدَّ طَرْفَهُ إِلَى ذَلِكَ طَالَ حَزَنُهُ، وَلَمْ يُشْفَ غَيْظُهُ، وَاسْتَصْغَرَ نِعْمَةَ اللهِ عِنْدَهُ، فَيَقِلُّ شُكْرُهُ للهِ. وَانْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَكَ، فَتَكُونَ لأَنْعُمِ اللهِ شَاكِراً، وَلِمَزِيدِهِ مُسْتَوْجِباً، وَلِجُودِهِ سَاكِناً»(2).وعن مسعدة بن صدقة، عن الصادق، عن أبيه (عليهما السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أَرْبَعٌ يُمِتْنَ الْقَلْبَ: الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ، وَكَثْرَةُ مُنَافَسَةِ النِّسَاءِ - يَعْنِي مُحَادَثَتَهُنَّ - وَمُمَارَاةُ الأَحْمَقِ تَقُولُ وَيَقُولُ وَلاَ يَرْجِعُ إِلَى خَيْرٍ، وَمُجَالَسَةُ الْمَوْتَى. فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ الله، وَمَا الْمَوْتَى!. قَالَ: كُلُّ غَنِيٍّ مُتْرَفٍ»(3).
ص: 157
..............................
وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَمَنْ سَفِهَ عَلَى النَّاسِ شُتِمَ، وَمَنْ خَالَطَ الأَنْذَالَ حَقِّرَ» إلى أن قال: «لَيْسَ مَنْ جَالَسَ الْجَاهِلَ بِذِي مَعْقُولٍ، مَنْ جَالَسَ الْجَاهِلَ فَلْيَسْتَعِدَّ لِقِيلٍ وَقَالٍ»(1).
وعن النبي (صلى الله عليه وآله)، أنه قال: «الْوَحْدَةُ خَيْرٌ مِنَ الْجَلِيسِ السَّوْءِ، وَالْجَلِيسُ الصَّالِحُ خَيْرٌ مِنَ الْوَحْدَةِ»(2).
الاستدراج بشكل عام حتى في الخير من سنن الله في الكون، والاستدراج نحو الشر والفساد والرذيلة من أساليب إبليس، فإن الظالم قد يبدأ بظلم يبدو له صغيراً، إلاّ أنه ينجر شيئاً فشيئاً إلى ظلم أكبر فأكبر فأكبر.
وهكذا تكون المعاصي، وهي ظلم الإنسان لنفسه، وقد تكون ظلماً لغيره أيضاً.
ففي مضمون الرواية: الحسنات بعضها آخذ بعنق بعض، والسيئات بعضها آخذ بعنق بعض. أي إن معصية واحدة تجر الإنسان إلى معصية أخرى وهكذا حتى تورده النار والعياذ بالله، ما لم يتمسك بحبل التوبة والاستغفار ويراقب نفسه دائماً.
ص: 158
..............................
أساس كل فساد - أو من الأسس الأساسية فيه - هو استبدال القيادة الصالحة بالقيادة السيئة.
من هنا ورد التأكيد الكبير على الولاية، حيث قال (عليه السلام): «وَلَمْيُنَادَ بِشَيْءٍ كَمَا نُودِيَ بِالْوَلاَيَةِ »(1).
قال تعالى: «أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ»(2).
وحيث إن القوم أعرضوا عن القيادة السماوية الصحيحة المتمثلة في الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وتمسكوا بالقيادة السقيمة المنحرفة، فإنه قد وضعوا بذلك الأساس لكل انحراف وفساد «إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمعْلُومِ»(3).
ص: 159
-------------------------------------------
مسألة: لا يحوز اختيار القائد المفضول على الفاضل، وهل هذا على إطلاقه، أي هل يجوز انتخاب المفضول لقيادة التنظيم أو لإدارة مجلس الأمة أو لرئاسة الوزراء، أو حتى لإدارة مختلف المؤسسات كالحسينية والمكتبة والمدرسة وصناديق الإقراض الخيري وشبه ذلك؟.
للمسألة تفصيل وصور، إذ يختلف حال ما يتعلق منها بالشأن العام عما هو أمر خاص وشأن يرتبط بالشخص نفسه، كما يختلف نوع المفضولية ودرجة تأثيرها، وكذلك المفضولية النسبية والمطلقة، ولتفصيل البحث مجال آخر.
ولكن مما لا شك فيه أن خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا تكون إلاّ للأفضل وهو الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) دون غيره.
عن أنس بن مالك، قال: كنا نتهيب أن نسأل رسول الله (صلى
الله عليه وآله)، فلما نزلت: «إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ»(1) رأينا أن نفسه نعيت إليه. فقلنا: يا رسولالله، أ رأيت إن كان شيء فمن نسأل بعدك؟. فقال: «أخي ووزيري وخليفتي في أهلي، وخير من أترك بعدي، يقضي ديني، وينجز موعدي علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه)»(2).
وعن السدي،قال: دخل علي (صلوات الله عليه) على رسول الله (صلى الله عليه
ص: 160
..............................
وآله) وعائشة جالسة. فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مرحبا بسيد العرب». فقالت عائشة: يا رسول الله، أ و لست سيد العرب!. قال: «أنا سيد ولد آدم (عليه السلام) ولا فخر، وعلي سيد العرب»(1).
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري (رحمه الله)، إنه ذكر عنده علي (عليه السلام)، فقال: (ذلك خير البرية - أو قال - خير البشر. يعني علياً (صلوات الله عليه))(2).
وعنه - أيضاً - إنه ذكر علياً (عليه السلام)، فقال: (علي (عليه السلام) خيرالبشر، لا يشك فيه إلا منافق)(3).
وعن عمار بن ياسر (رحمه الله)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إنه قال: «علي خير البشر، فمن أبى فقد كفر». وقال: «ما من قوم ولوا أمورهم رجلاً وفيهم من هو خير منه، إلا كان أمرهم الى سفال»(4).
وعن محمد بن قيس، عن أبيه، قال: (كنا عند الأعمش فتذاكرنا الاختلاف. فقال: أنا أعلم من أين وقع الاختلاف. قلت: من أين وقع؟. قال: ليس هذا موضع ذكر ذلك. قال: فأتيته بعد ذلك فخلوت به. وقلت: ذكرنا الاختلاف الواقع وذكرت أنك تعلم من أين وقع، فسألتك عن ذلك، فقلت:
ص: 161
..............................
ليس هذا موضع ذلك. وقد جئتك خالياً، فأخبرني من أين وقع الاختلاف؟. قال: نعم، ولي أمر هذه الأمة من لم يكن عنده علم فسئل. فسأل الناس فاختلفوا، فلو ردوا هذا الأمر في موضعه ما كان اختلاف. قلت: إلى من؟. قال: إلى من كان يُسأل بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)وما سئل أحد غيره، إلى من كان يقول: سلوني قبل أن تفقدوني، وإنكم لن تجدوا أعلم بما بين اللوحين مني، إلى من كان يضرب بيده على صدره، ويقول: إن هاهنا لعلماً جماً لم أجد له حمله، إلى من قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيه: «أقضاكم علي بن أبي طالب»(1).
وعن عمر المرادي، قال: (كنت أرى رأي الخوارج؛ لأني لم أر قوماً أشد منهم اجتهاداً، ولا أسخى نفوساً بالموت، وكنت آتي القضاة والفقهاء. فقال لي رجل يوماً من الأيام: هل أدلك على امرأة ليس بالبصرة فقيه ولا مجتهد إلا وهو يأتيها. قلت: وددت ذلك. فوصف لي منزلها، فدخلت عليها، فإذا بامرأة قد طعنت في السن، عليها أثر العبادة، في ناحية من دارها رجل ملتف في خلق، فظننت أنه بعض من يخدمها. فقالت لي: ما حاجتك يا عبد الله؟. قلت: إني رجل أرى رأي الخوارج؛ لأني رأيتهم أشد الناس اجتهاداً، وأسخاهم نفوساً بالموت. فرفع إليَّ الشيخ رأسه، وقال: إنك لتحطب في حبل قوم في النار، يسبون الله ورسوله بسبهم أفضل الناس بعد رسول الله (صلى
الله عليه وآله). فأقبلت عليهكالمنكر لما قال.
ص: 162
..............................
فقالت لي المرأة: يا عبد الله، أ تدري من هذا الشيخ؟ هذا أبو الحمراء خادم رسول الله (صلى الله عليه وآله). فقلت له: ما عرفتك، فأخبرني عما عندك في علي (عليه
السلام). قال: أخبرك بما رأت عيناي، وسمعت أذناي، ومشت فيه قدماي، بينا أنا بين يدي رسول الله (صلوات الله عليه وآله) أخدمه، إذ قال لي: «يا أبا الحمراء، أخرج فأتني بمائة رجل من العرب»، وسماهم لي، وخرجت فأتيته بهم، فصفهم صفاً بين يديه. ثم قال لي: «أخرج فأتني بكذا وكذا من العجم»، وسماهم لي. فأتيته بهم فصفهم صفاً خلف صف العرب، ثم قال لي: «أخرج فائتني بقوم من القبط»، وسماهم لي، فأتيته بهم، فصفهم وراء العجم، ثم قال لي: «ائتني بنفر من الحبش»، وسماهم لي، فأتيته بهم، فصفهم من وراء القبط، ثم أقبل على جميعهم، وقال: «أ تشهدون إني مولى المؤمنين، وأولى بهم من أنفسهم». قالوا: اللهم نعم. قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، هل سمعتم و أطعتم». قالوا: نعم، يا رسول الله. قال: «اللهماشهد», ثم قال لي: «يا أبا الحمراء، ائتني بأديم ودواة». فأتيته بذلك، ثم قال لي: «أكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أقرت به العرب والعجم والقبط والحبش، إن الله جل ثناؤه مولى رسوله، ورسوله مولى المؤمنين وأولى بهم من أنفسهم، وإن من كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله». ثم أخذ الكتاب فختمه ودفعه إلى علي، فو الله ما أدري ما صنع به)(1).
..............................
ص: 163
وعن علي بن حزور يرفعه، قال: لما فرغ أمير المؤمنين (صلوات
الله عليه) من قتال أهل البصرة، فوقف (صلوات الله عليه) على أفواه ثلاث سكك، ووقف الناس من حوله، فقال (عليه السلام): «ألا أخبركم بخير الخلق عند الله يوم القيامة». قالوا: نعم، يا أمير المؤمنين فخبرنا. فقال: «هم شيعة من ولد عبد المطلب». قال له عمار بن ياسر: سمهم لنا يا أمير المؤمنين؟. قال: «ما حدثتكم إلا وأنا اريد أن أخبركمبأسمائهم، هم: رسول الله، وصاحبكم وصيه، وحمزة، وجعفر، والحسن، والحسين، والمهدي منا أهل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين)»(1).
وعن ربيعة السعدي، قال: لما كان من أمر عثمان ما كان، بايع الناس علياً (عليه السلام)، وكان حذيفة اليماني على المدائن يوم قتل عثمان، فبعث إليه علي (عليه السلام) بعهده، وأخبره بما كان من أمر الناس وبيعتهم إياه. فنادى حذيفة الصلاة فاجتمع الناس، فقام فيهم خطيباً، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وذكر النبي (صلى الله عليه وآله) بما هو أهله، وأخبرهم بأمر علي (عليه السلام) وما كتب به إليه، وقال: قد والله وليكم أمير المؤمنين حقاً، ورددها سبع مرات، ويحلف لهم بالله على ذلك. فقام إليه رجل، فقال: أيها الأمير، متى كان أمير المؤمنين اليوم حين ولي، أو قد كان قبل ذلك، فإنا نسمعك كررت ذلك سبعاً تحلف عليه، ولا أظن ذلك إلا لأمر تقدم عندك فيه. قال له حذيفة: إن شئت أخبرتكم وإلا فبيني وبينك علي (عليه السلام) فإنه أعلم الناس بما أقوله. قال: فخبرني
ص: 164
..............................
.
فقال حذيفة: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقول لنا: «إذا رأيتم دحية الكلبي عندي جالساً فلا يقربني أحد منكم». وكان جبرائيل يأتيه في صورة دحية الكلبي، وأني أتيته يوماً لأسلم عليه فرأيته نائماً، ورأسه في حجر دحية الكلبي، فغمضت عيني ورجعت، فلقيني علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه)، فقال لي: «من أين جئت؟». قلت: من عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخبرته الخبر. فقال لي: «ارجع معي، فلعلك أن تكون لنا شاهداً على الخلق». فمشى ومشيت معه حتى أتينا باب النبي (صلى الله عليه وآله) فجلست من وراء الباب، ودخل علي (صلوات الله عليه) فقال: «السلام عليكم و رحمة الله و بركاته». فأجابه دحية الكلبي: «وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، يا أمير المؤمنين أدن مني فخذ رأس ابن عمك من حجري، فأنت أولى به مني». فوضع رأس النبي (صلى الله عليه وآله) في حجر علي (عليه السلام)، ثم نظرت فلم أره. ومكث النبي (صلى الله عليه وآله) ملياً ثم انتبه، فنظر الى علي (عليه السلام). فقال: «يا علي، من حجر من أخذت رأسي». قال: «من حجر دحية الكلبي يا رسول الله». قال: «بل أخذته من حجرجبرائيل، فأي شيء قلت حين دخلت؟ وما الذي قال لك؟». قال: قلت: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فقال لي: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا أمير المؤمنين، أدن مني فخذ رأس ابن عمك من حجري، فأنت أولى به مني». فقال: «صدق، أنت أولى بي منه، فهنيئاً لك يا علي، رضي عنك أهل السماء، وسلمت عليك الملائكة بإمرة المؤمنين، فليهنئك هذه الفضيلة والكرامة من الله جل وعز». وما لبث أن خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) فرآني من وراء الباب، فقال لي: «يا حذيفة، أسمعت شيئاً؟».
ص: 165
..............................
فقلت: إي والله سمعته، وأخبرته الخبر. فقال لي: «حدث بما سمعت من جبرائيل (عليه السلام)»(1).
القائد الذَنَب في فكره أو نفسيته أو إدارته أو ما أشبه، يوجب تأخر الأمة، على عكس القائد الكفوء الذي هو من القوادم، فإنه يوجب تقدم الأمة،وذلك في شتى النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها، وهذا بديهي وواضح دلت عليه التجربة وشهد له العقل والبرهان، وقديما قالوا: (الناس على دين ملوكهم). وإن كان التأخر قد يبدو للناس بطيئاً غير ملحوظ في البدء، إلا أنه من الواضح أن كون القائد ذنباً يؤثر في حاضر الناس ومستقبلهم في القضايا الهامة وغيرها.
ومن أسباب ذلك إضافة إلى عدم كفاءة وخبرة ومعرفة القائد الذنب، حيث قال تعالى: « قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ»(2)، أن القائد الذنب يجمع حوله الأذناب والإمعات، فيزيد الأمر خبالاً ووبالاً، «فَزَادُوهُمْ رَهَقًا»(3).
ص: 166
..............................
والسبب في أن الذنب والإمعة يجمع حوله الأذناب والأمعات، أن الأذناب أطوع له وأكثر انقياداً، إضافة للتجانس والسنخية، وأن الذنب يشعر في قرارة نفسه بالدناءة والذلة عندما يشاهد من هو أكفأ وأسمى منه، ولا يرتاح إلا لمنيشعر بتفوقه هو عليه، وإن كان البعض يلتذ بعكس ذلك أي بأن يرى الأكفأ الأعلم منه مستعبَداً له وخادماً وتابعاً بإغراء ثورة أو رياسة أو سطوة أو شهوة أو خوف أو ما أشبه.
قال الإمام الكاظم (عليه السلام) لفضل بن يونس: «أَبْلِغْ خَيْراً وَقُلْ خَيْراً، وَلاَ تَكُنْ إِمَّعَةً». قُلْتُ: وَمَا الإِمَّعَةُ؟. قال (عليه السلام): «لاَ تَقُلْ أَنَا مَعَ النَّاسِ، وَأَنَا كَوَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ؛ إِنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا هُمَا نَجْدَانِ: نَجْدُ خَيْرٍ وَنَجْدُ شَرٍّ، فَلاَ يَكُنْ نَجْدُ الشَّرِّ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ نَجْدِ الْخَيْرِ»(1).
وعن أبي إسحاق السبيعي، عمن حدثه ممن يوثق به، قال: سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ آلُوا بَعْدَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِلَى ثَلاَثَةٍ: آلُوا إِلَى عَالِمٍ عَلَى هُدًى مِنَ اللهِ، قَدْ أَغْنَاهُ اللهُ بِمَا عَلِمَ عَنْ عِلْمِ غَيْرِهِ. وَجَاهِلٍ مُدَّعٍ لِلْعِلْمِ لاَ عِلْمَ لَهُ، مُعْجَبٍ بِمَا عِنْدَهُ، قَدْ فَتَنَتْهُ الدُّنْيَا وَفَتَنَ غَيْرَهُ. وَمُتَعَلِّمٍ مِنْ عَالِمٍ عَلَى سَبِيلِ هُدًى مِنَ اللهِ وَنَجَاةٍ. ثُمَّ هَلَكَ مَنِ ادَّعَى، وَخابَ مَنِافْتَرى»(2).
ص: 167
..............................
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «النَّاسُ ثَلاَثَةٌ: عَالِمٌ، وَمُتَعَلِّمٌ، وَغُثَاءٌ»(1).
وعن جميل، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «يَغْدُو النَّاسُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَصْنَافٍ: عَالِمٍ، وَمُتَعَلِّمٍ، وَغُثَاءٍ. فَنَحْنُ الْعُلَمَاءُ، وَشِيعَتُنَا الْمُتَعَلِّمُونَ، وَسَائِرُ النَّاسِ غُثَاءٌ»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «اغْدُ عَالِماً، أَوْ مُتَعَلِّماً، أَوْ أَحِبَّ الْعُلَمَاءَ، وَلاَ تَكُنْ رَابِعاً فَتَهْلِكَ بِبُغْضِهِمْ»(3).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «اغْدُ عَالِماً، أَوْ مُتَعَلِّماً، أَوْ مُسْتَمِعاً، أَوْ مُحَدِّثاً، وَلاَ تَكُنِ الْخَامِسَ فَتَهْلِكَ».»(4).وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «اغْدُ عَالِماً، أَوْ مُتَعَلِّماً، وَلاَ تَكُنِ الثَّالِثَ فَتَعْطَبَ»(5).
وعن ابن أبي عمير، رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «النَّاسُ اثْنَانِ: عَالِمٌ وَمُتَعَلِّمٌ، وَسَائِرُ النَّاسِ هَمَجٌ، وَالْهَمَجُ فِي النَّارِ»(6).
ص: 168
..............................
وعن كميل بن زياد، قال: خَرَجَ إِلَيَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، فَأَخَذَ بِيَدِي وَأَخْرَجَنِي إِلَى الْجَبَّانِ، وَجَلَسَ وَجَلَسْتُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيَّ، فَقَالَ: «يَا كُمَيْلُ، احْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ, النَّاسُ ثَلاَثَةٌ: عَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ»(1).
مسألة: يجب كفائياً - كما سبق - بيان ذلك، وأن القوم استبدلوا الذنابى بالقوادم، ومن فوائده أن الناس ستهتدي إلى طريق الهدى عند معرفة القوادم والذنابى.
وقال تعالى: «قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ»(1).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده للأشتر النخعي (رحمه الله) لما ولاه على مصر وأعمالها: «فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلإِمَامِكَ،وَأَنْقَاهُمْ جَيْباً، وَأَفْضَلَهُمْ حِلْماً، مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ، وَيَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ، وَيَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ، وَيَنْبُو عَلَى الأَقْوِيَاءِ، وَمِمَّنْ لاَ يُثِيرُهُ الْعُنْفُ، وَلاَ يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ. ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَالأَحْسَابِ، وَأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَالسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ، ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ، وَالسَّخَاءِ وَالسَّمَاحَةِ؛ فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وَشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ» إلى أن قال: «ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ، فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً، وَلاَ تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وَأَثَرَةً؛ فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ، وَتَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَالْحَيَاءِ، مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَالْقَدَمِ فِي الإِسْلاَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ فَإِنَّهُمْ أَكْرَمُ أَخْلاَقاً، وَأَصَحُّ أَعْرَاضاً، وَأَقَلُّ فِي الْمَطَامِعِ إِشْرَاقاً، وَأَبْلَغُ فِي عَوَاقِبِ الأُمُورِ نَظَراً»(2).
..............................
ص: 170
(الذُنابى): يراد به الأتباع، وهو لغة جمع ذنب، والذنب ذيل الطائر، وقيل: الذنابى منبت الذنب.
وقال بعض: الذنابى شبه المخاط يقع من أنوف الإبل، ورد عليه آخرون: بأن المعنى المذكور للذنانى بنونين، مأخوذ من الذنين وهو الذي يسيل من فم الإنسان والمعزى(1).
(القوادم): هي ريشات قوية في مقدم الجناح، ولا يمكن للطائر الطيران إلاّ بها.
أي إن القوم قدموا من حقه التأخير، وأخروا من حقه التقديم، وذلك شأن كل سفيه، فإنه يقدم المفضول على الفاضل، ويتضح قبح ذلك ومآله أيضاً بمثال عرفي، فمن ينتخب لقيادة الطائرة أو السفينة شخصاً جاهلاً، فإنه لا محالة سيهلك ويهلك كل من ركب معه.
ولعل الوجه في قولها (عليها السلام): «الذَّنَابَى بِالْقَوَادِمِ» أن القوم لم يغيروا الخليفة والرأس فقط، بل كان الاستبدال في مختلف مستويات الحكومة، فتم إبعادالإمام علي (عليه السلام) عن الخلافة الظاهرية، كما تم إبعاد مثل عمار وسلمان والمقداد وأبي ذر وسائر الأولياء والأصحاب المنتجبين (رضوان الله عليهم) والكفاءات الصالحة من خيرة الخيرة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين
ص: 171
..............................
(عليه السلام).
وكان ذلك هو المنهج العام وديدنهم في الحكم، أما تولية مثل سلمان (رضوان الله عليه) على المدائن وغيرها لفترة من الزمن فهو استثناء، والذي يبدو أنه كان بضغط من الرأي العام، أو محاولة لامتصاص النقمة لدى الكثير من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتابعين أو ما أشبه ذلك.
ص: 172
-------------------------------------------
(العجز) هو المؤخر من كل شيء.
(والكاهل) هو ما بين الكتفين، وفي اللغة: الكاهل مقدّم أعلى الظهر مما يلي العنق(1).
والكاهل هو أقوى موضع في الجسم على حمل الأثقال، فالحكمة تقتضي وضع الأثقال عليه، أما العجز فلا يمكنه حمل الأثقال ثم إنه في معرض الانزلاق إضافة إلى أنه محل القذرات في الحيوان.
وهذا تشبيه دقيق جداً للذين غصبوا الخلافة:
فهم أولاً: كانوا غير قادرين على حمل أعبائها في أنفسهم.
وهم ثانياً: كانوا غير قادرين على الحفاظ عليها من أن تتدكدك بل أن تتحول بلاءً وآفة، كما حدث ذلك، فإن النعمة تتحول نقمة إذا لم يؤد حقها، قال تعالى: «أَ لَم تَرَ إِلَى الَّذينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّواقَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرَارُ»(2).
هذا كله إضافة إلى ما أحاط بالسلطة التي اغتصبوها من مظاهر الفساد
ص: 173
..............................
وبواطنه، سواء في الأموال أم الأنفس أم الأعراض أم غير ذلك، مما يطلب من مظانه كالغدير والنص والاجتهاد وغيرهما.
عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ثَلاَثٌ مِنَ الذُّنُوبِ تُعَجَّلُ عُقُوبَتُهَا وَلاَ تُؤَخَّرُ إِلَى الآخِرَةِ: عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَالْبَغْيُ عَلَى النَّاسِ، وَكُفْرُ الإِحْسَانِ»(1).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «فَاللهَ اللهَ فِي عَاجِلِ الْبَغْيِ، وَآجِلِ وََخَامَةِ الظُّلْمِ، وَسُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ! فَإِنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَى، وَمَكِيدَتُهُ الْكُبْرَى، الَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ، فَمَا تُكْدِي أَبَداً، وَلاَ تُشْوِي أَحَداً، لاَ عَالِماً لِعِلْمِهِ، وَلاَ مُقِلاًّ فِيطِمْرِهِ»(2).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَالْمَعْرِفَةِ بِمَنْ لاَ تَعْتَذِرُونَ بِجَهَالَتِهِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ الَّذِي هَبَطَ بِهِ آدَمُ، وَجَمِيعَ مَا فُضِّلَتْ بِهِ النَّبِيُّونَ إِلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ فِي عِتْرَةِ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)، فَأَنَّى يُتَاهُ بِكُمْ، بَلْ أَيْنَ تَذْهَبُونَ. يَا مَنْ نَسَخَ مِنْ أَصْلاَبِ السَّفِينَةِ هَذِهِ مِثْلُهَا فِيكُمْ فَارْكَبُوهَا، فَكَمَا نَجَا فِي هَاتِيكَ مَنْ نَجَا، فَكَذَلِكَ يَنْجُو فِي هَذِهِ مَنْ دَخَلَهَا. أَنَا رَهِينٌ بِذَلِكَ قَسَماً حَقّاً وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ، وَالْوَيْلُ لِمَنْ تَخَلَّفَ، ثُمَّ الْوَيْلُ لِمَنْ تَخَلَّفَ. أَمَا بَلَغَكُمْ مَا قَالَ فِيكُمْ نَبِيُّكُمْ (صلى الله عليه وآله) حَيْثُ يَقُولُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ:
ص: 174
..............................
إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا. أَلاَ هذا عَذْبٌ فُراتٌ فَاشْرَبُوا،وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ فَاجْتَنِبُوا»(1).
مسألة: يحرم في الشؤون العامة، وفي كل حق للناس وكان الشخص وكيلاً أو أميناً أو متولياً، استبدال العجز بالكاهل، أي تقديم العجز.
ففي الشؤون الاقتصادية يحرم مثلاً أن يعين شخصاً غير خبير وزيراً للاقتصاد، أو مستشارا للوزارة، أو رئيساً للشركة، وكذا في سائر الشؤون والتخصصات، فإن ذلك تضييع لحق الناس ولحق ذوي الحقوق، فلو ترك ثلثاً وأوصى باستثماره وإنفاق حاصله في وجوه البر ولم يعين وصياً، أو عينه ولم يكن خبيراً، فإن على الوصي إن لم يكن خبيراً، أو الحاكم الشرعي أن يعين خبيراً في الاستثمار، وإلا ربما كان آثماً تكليفاً، وربما ضامنا وضعاً أيضاً، والمسألة فقهية تبحث في أبوابها.
قال تعالى: «لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ»(2).
وقال سبحانه: «وَالَّذينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْرَاعُونَ»(3).
ص: 175
..............................
وقال عزوجل: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(1).
فإن خلاف ما ذكر أكل للمال بالباطل، وتفريط بالأمانة، وعدم الوفاء، وخلاف للشرط الارتكازي في العقد، إلى غير ذلك من العمومات والإطلاقات المرتبطة بالبحث.
ص: 176
فَرَغْماً لِمَعَاطِسِ قَوْمٍ «يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا»(1)
-------------------------------------------
مسألة: يجوز استعمال كلمات مثل: (رغماً) في الظالمين والكفار والملحدين، سواء كان إنشاءً أم إخباراً، كما صنعت الصديقة (صلوات الله عليها) هاهنا، وفي مواضع أُخر، وكما ورد في القرآن الكريم العديد من أمثاله:
قال تعالى: «عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ»(2).
وقال سبحانه: «تَبَّتْ يَدَا أَبي لَهبٍ وَتَبَّ»(3).
وقال عزوجل: «أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ»(4).
وذلك بين خارج خروجاً موضوعياً من السبّ، أو خارجاً خروجاً حكمياً، فإن السب كالكذب حرام ولكن قد يكون واجباً، كما في الكذب في الإصلاح، والسب الرادع عن الظلم دفعاً أو رفعاً، وربما كان مكروهاً أو مستحباً بحسب الموارد الشرعية المقررة. قال تعالى: «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ»(5).
ص: 177
..............................
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ، وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ، وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ، كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ، وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ»(1).
مسألة: ينبغي استهداف الباطل في أقوى نقاط قوته، وفي أسمى مظاهر أبهته وخيلائه وعظمته الظاهرية المتوهمة، فإن ذلك أقوى في ضربه وإسقاطه من أعين الناس.
سواء كان ذلك في الدعاء، كما قالت (عليها السلام): «فَرَغْماً لِمَعَاطِسِ قَوْمٍ»، أو في الإعلام، أو في التخطيط الثقافي أو العسكري في موارده المقررة شرعاً، أو في غيرها، فإن إنهيار أقوى قلعةواستسلام القائد العام مثلاً يقرب ويسهل سقوط باقي جبهة الضلال بشكل أسرع.
قال تعالى: «اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى»(2).
وقال سبحانه: «سَنَسِمُهُ عَلَى الْخرْطُومِ»(3).
ص: 178
..............................
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنِّي فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي» (1).
وقد ورد الذم للكبراء وقيادات الباطل كثيراً في القرآن الكريم، قال تعالى: «وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ»(2).
وقال سبحانه: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»(3).وقال تعالى: «إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ»(4). وقال سبحانه: «وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى»(5).
وقال تعالى: «تَبَّتْ يَدَا أَبي لَهبٍ وَتَبَّ»(6).
ص: 179
..............................
وعن عبد الأعلى بن أعين، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام)، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ أَعْظَمَ الْكِبْرِ غَمْصُ الْخَلْقِ، وَسَفَهُ الْحَقِّ. قَالَ: قُلْتُ: وَمَا غَمْصُ الْخَلْقِ وَسَفَهُ الْحَقِّ؟. قَالَ: يَجْهَلُ الْحَقَّ، وَيَطْعُنُ عَلَى أَهْلِهِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ نَازَعَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رِدَاءَهُ»(1).
مسألة: يجب إعلام الناس وبيان أن ما قام به القوم من الانقلاب على الأعقاب وإقصاء مولانا علي (عليه السلام) وسائر ما فعلوا من الظلم كان من أظهر مصاديققوله تعالى: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا»(2).
وقد كان القوم على صنفين:
1: صنف ربما يحسب أنه يحسن صنعاً، وهؤلاء كانوا جهلة من عوام الناس ممن اختلط عليه الأمر والتبس، فكانوا في جهل مركب، ولا يضر جهلهم المركب بكونهم «الْأَخْسَرينَ أَعْمَالًا»، وكونهم من «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحيَاةِ الدُّنْيَا»، إذ الخسران أمر ثبوتي، وكذل ضلال السعي، ولا يغيره عما هو عليه جهل الضال الخاسر أنه ضال خاسر، إذ العلم والجهل لا يغيران الواقع
ص: 180
..............................
عما هو عليه، وإلا لم يكونا علماً وجهلاً، وهذا خلف، إذ العلم كاشف وليس علة، والجهل إنما هو جهل بما هو واقع.
ولذا جاحد الخالق كافر، وإن جهل أنه كافر وجاهل للحقيقة، والقائل بشريك الباري مشرك وإن كان جهله مركباً، فالكافر والمشرك من «الْأَخْسَرينَ أَعْمَالًا» ومن «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحيَاةِ الدُّنْيَا» وإن توهموا عكس ذلك.ويتضح ذلك بملاحظة أن شخصاً لو ضل الطريق في غابة خطرة أو صحراء موحشة فإنه (ضال) وإن لم يعلم بذلك، بل وإن علم جهلاً مركباً أنه بالاتجاه الصحيح، وسيقع هذا الإنسان طعمة أسد كاسر أو وحش آخر، أو سيموت جوعاً وعطشاً في الصحراء ولا يشفع جهله فهو ضال وخاسر، علم أم لم يعلم.
نعم في شؤون الآخرة، من لطف الله أن الجاهل غير المقصر أي القاصر، يعاد امتحانه من جديد يوم القيامة.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنَّ أَبْغَضَ الْخَلاَئِقِ إِلَى اللهِ تَعَالَى رَجُلاَنِ: رَجُلٌ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى نَفْسِهِ، فَهُوَ جَائِرٌ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، مَشْغُوفٌ بِكَلاَمِ بِدْعَةٍ، وَدُعَاءِ ضَلاَلَةٍ، فَهُوَ فِتْنَةٌ لِمَنِ افْتَتَنَ بِهِ، ضَالٌّ عَنْ هَدْيِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ، مُضِلٌّ لِمَنِ اقْتَدَى بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ، حَمَّالٌ خَطَايَا غَيْرِهِ، رَهْنٌ بِخَطِيئَتِهِ. وَرَجُلٌ قَمَشَ جَهْلاً، مُوضِعٌ فِي جُهَّالِ الأُمَّةِ، عَادٍ فِي أَغْبَاشِ الْفِتْنَةِ، عَمٍ بِمَا فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ، قَدْ سَمَّاهُ أَشْبَاهُ النَّاسِ عَالِماً وَلَيْسَ بِهِ، بَكَّرَ فَاسْتَكْثَرَ مِنْ جَمْعٍ، مَا قَلَّ مِنْهُ خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ، حَتَّى إِذَا ارْتَوَى مِنْ مَاءٍ آجِنٍ، وَاكْتَثَرَ مِنْ غَيْرِ طَائِلٍ، جَلَسَ بَيْنَ النَّاسِ
ص: 181
..............................
قَاضِياً ضَامِناً، لِتَخْلِيصِ مَا الْتَبَسَ عَلَىغَيْرِهِ، فَإِنْ نَزَلَتْ بِهِ إِحْدَى الْمُبْهَمَاتِ، هَيَّأَ لَهَا حَشْواً رَثًّا مِنْ رَأْيِهِ ثُمَّ قَطَعَ بِهِ، فَهُوَ مِنْ لَبْسِ الشُّبُهَاتِ فِي مِثْلِ نَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ، لاَ يَدْرِي أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ، فَإِنْ أَصَابَ خَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْطَأَ، وَإِنْ أَخْطَأَ رَجَا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَ، جَاهِلٌ خَبَّاطُ جَهَالاتٍ، عَاشٍ رَكَّابُ عَشَوَاتٍ، لَمْ يَعَضَّ عَلَى الْعِلْمِ بِضِرْسٍ قَاطِعٍ، يَذْرُو الرِّوَايَاتِ ذَرْوَ الرِّيحِ الْهَشِيمَ، لاَ مَلِيٌّ وَاللهِ إِصْدَارِ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ، وَلاَ أَهْلٌ لِمَا قُرِّظَ بِهِ، لا يَحْسَبُ الْعِلْمَ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَنْكَرَهُ، وَلاَ يَرَى أَنَّ مِنْ وَرَاءِ مَا بَلَغَ مَذْهَباً لِغَيْرِهِ، وَإِنْ أَظْلَمَ عَلَيْهِ أَمْرٌ اكْتَتَمَ بِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ جَهْلِ نَفْسِهِ، تَصْرُخُ مِنْ جَوْرِ قَضَائِهِ الدِّمَاءُ، وَتَعَجُّ مِنْهُ الْمَوَارِيثُ. إِلَى اللهِ أَشْكُو مِنْ مَعْشَرٍ يَعِيشُونَ جُهَّالاً وَيَمُوتُونَ ضُلاَّلاً، لَيْسَ فِيهِمْ سِلْعَةٌ أَبْوَرُ مِنَ الْكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلاَوَتِهِ، وَلاَ سِلْعَةٌ أَنْفَقُ بَيْعاً وَلاَ أَغْلَى ثَمَناً مِنَ الْكِتَابِ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَلاَ عِنْدَهُمْ أَنْكَرُ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَلاَ أَعْرَفُ مِنَ الْمُنْكَرِ»(1).
2: وصنف يعلمون الحقيقة ويوهمون الغير أن ما هم عليه من الباطل هوالحق، ف «هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا»(2)، بناءً على أن (يحسبون) بمعنى أنهم يصورن للناس كذلك، أو يتعاملون تعامل من يحسب أنه يحسن صنعاً، أو يراد ب (يحسبون) نظير الحقيقة الادعائية وإن علم الحقيقة.
ص: 182
..............................
قال تعالى: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ»(1). وقال سبحانه: «بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ»(2).
هذا ويحتمل أن يراد بقوله عز وجل: «وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا»(3) أي فيما يرتبط بدنياهم، فإن العاصي ربما يتصور أنه يتمتع بالملذات وما أشبه وأنه يحسن صنعاً، وهو لا يعلم بأن هذه الملذات وقتية وسيصاب بأمراض ومشاكل في الدنيا قبل الآخرة، وهكذا من غصب الخلافة فربما كانوا يزعمون بانتصارهم الدنيوي - كما زعم يزيد في قتل الإمام الحسين (عليه السلام) - ولكن انقلب عليهم الأمر في الدنيا قبل الآخرة. وكذلك عمربن سعد حيث زعم أنه ينال ملك الري ولكنه خسر الدنيا والآخرة معاً بقتل ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله).
في رواية أَنَّ الصَّادِقَ (عليه السلام)، قال لأبي حنيفة - لما دخل عليه -: «مَنْ أَنْتَ؟». قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ. قَالَ (عليه السلام): «مُفْتِي أَهْلِ الْعِرَاقِ». قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «بِمَا تُفْتِيهِمْ؟». قَالَ: بِكِتَابِ اللهِ. قَالَ (عليه السلام): «وَإِنَّكَ لَعَالِمٌ بِكِتَابِ اللهِ، نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ؟». قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَأَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ»(4) أَيُّ
ص: 183
..............................
مَوْضِعٍ هُوَ؟». قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. فَالْتَفَتَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) إِلَى جُلَسَائِهِ، وَقَالَ: «نَشَدْتُكُمْ بِاللهِ هَلْ تَسِيرُونَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَلاَ تَأْمَنُونَ عَلَى دِمَائِكُمْ مِنَ الْقَتْلِ، وَعَلَى أَمْوَالِكُمْ مِنَ السَّرَقِ؟». فَقَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «وَيْحَكَ يَا أَبَا حَنِيفَةَ، إِنَّ اللهَ لاَ يَقُولُ إِلاَّ حَقّاً. أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَمَنْ دَخَلَهُكَانَ آمِنًا»(1) أَيُّ مَوْضِعٍ هُوَ». قَالَ: ذَلِكَ بَيْتُ اللهِ الْحَرَامُ. فَالْتَفَتَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) إِلَى جُلَسَائِهِ، وَقَالَ: «نَشَدْتُكُمْ بِاللهِ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ زُبَيْرٍ وَسَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ دَخَلاَهُ فَلَمْ يَأْمَنَا الْقَتْلَ». قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه
السلام): وَيْحَكَ يَا أَبَا حَنِيفَةَ، إِنَّ اللهَ لا يَقُولُ إِلاَّ حَقّاً». فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لِي عِلْمٌ بِكِتَابِ اللهِ، إِنَّمَا أَنَا صَاحِبُ قِيَاسٍ. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «فَانْظُرْ فِي قِيَاسِكَ إِنْ كُنْتَ مُقِيساً أَيُّمَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ الْقَتْلُ أَوِ الزِّنَا؟». قَالَ: بَلِ الْقَتْلُ. قَالَ: «فَكَيْفَ رَضِيَ فِي الْقَتْلِ بِشَاهِدَيْنِ، وَلَمْ يَرْضَ فِي الزِّنَا إِلاَّ بِأَرْبَعَةٍ - ثُمَّ قَالَ لَهُ - الصَّلاَةُ أَفْضَلُ أَمِ الصِّيَامُ؟». قَالَ: بَلِ الصَّلاَةُ أَفْضَلُ». قَالَ (عليه السلام): «فَيَجِبُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِكَ عَلَى الْحَائِضِ قَضَاءُ مَا فَاتَهَا مِنَ الصَّلاَةِ فِي حَالِ حَيْضِهَا دُونَ الصِّيَامِ، وَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهَا قَضَاءَ الصَّوْمِ دُونَ الصَّلاَةِ - ثُمَّ قَالَ لَهُ - الْبَوْلُ أَقْذَرُ أَمِ الْمَنِيُّ؟». قَالَ: الْبَوْلُ أَقْذَرُ. قَالَ (عليه السلام): «يَجِبُ عَلَى قِيَاسِكَ أَنْ يَجِبَ الْغُسْلُ مِنَ الْبَوْلِ دُونَ الْمَنِيِّ، وَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ تَعَالَى الْغُسْلَ مِنَ الْمَنِيِّ دُونَ الْبَوْلِ». قَالَ: إِنَّمَا أَنَا صَاحِبُ رَأْيٍ. قَالَ(عليه السلام): «فَمَا تَرَى فِي رَجُلٍ كَانَ لَه
ص: 184
..............................
عَبْدٌ، فَتَزَوَّجَ وَزَوَّجَ عَبْدَهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَدَخَلاَ بِامْرَأَتَيْهِمَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ سَافَرَا وَجَعَلاَ امْرَأَتَيْهِمَا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، فَوَلَدَتَا غُلاَمَيْنِ فَسَقَطَ الْبَيْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَتَلَ الْمَرْأَتَيْنِ وَبَقِيَ الْغُلاَمَانِ، أَيُّهُمَا فِي رَأْيِكَ الْمَالِكُ وَأَيُّهُمَا الْمَمْلُوكُ، وَأَيُّهُمَا الْوَارِثُ وَأَيُّهُمَا الْمَوْرُوثُ؟». قَالَ: إِنَّمَا أَنَا صَاحِبُ حُدُودٍ. قَالَ: «فَمَا تَرَى فِي رَجُلٍ أَعْمَى فَقَأَ عَيْنَ صَحِيحٍ، وَأَقْطَعَ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ، كَيْفَ يُقَامُ عَلَيْهِمَا الْحَدُّ؟». قَالَ: إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ عَالِمٌ بِمَبَاعِثِ الأَنْبِيَاءِ. قَالَ: «فَأَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ حِينَ بَعَثَهُمَا إِلَى فِرْعَوْنَ: «لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى»(1) وَلَعَلَّ مِنْكَ شَكٌّ؟». قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَكَذَلِكَ مِنَ اللهِ شَكٌّ إِذْ قَالَ لَعَلَّهُ؟». قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ عِلْمَ لِي. قَالَ: «تَزْعُمُ أَنَّكَ تُفْتِي بِكِتَابِ اللهِ وَلَسْتَ مِمَّنْ وَرِثَهُ. وَتَزْعُمُ أَنَّكَ صَاحِبُ قِيَاسٍ، وَأَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ، وَلَمْ يُبْنَ دَيْنُ الإِسْلاَمِ عَلَى الْقِيَاسِ. وَتَزْعُمُ أَنَّكَ صَاحِبُ رَأْيٍ، وَكَانَ الرَّأْيُ مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) صَوَاباً، وَمِنْ دُونِهِ خَطَأً؛ لأَنَّ اللهَ تَعَالَىقَالَ: احْكُمْ بَيْنَهُمْ «بِمَا أَرَاكَ اللهُ»(2)، وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ. وَتَزْعُمُ أَنَّكَ صَاحِبُ حُدُودٍ، وَمَنْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ أَوْلَى بِعِلْمِهَا مِنْكَ. وَتَزْعُمُ أَنَّكَ عَالِمٌ بِمَبَاعِثِ الأَنْبِيَاءِ، وَلَخَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ أَعْلَمُ بِمَبَاعِثِهِمْ مِنْكَ. لَوْلاَ أَنْ يُقَالَ: دَخَلَ عَلَى ابْنِ رَسُولِ اللهِ فَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ شَيْءٍ مَا سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ، فَقِسْ إِنْ كُنْتَ مُقِيساً». قَالَ: لاَ تَكَلَّمْتُ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ فِي دِينِ اللهِ بَعْدَ هَذَا الْمَجْلِسِ. قَالَ: «كَلاَّ إِنَّ حُبَّ الرِّئَاسَةِ غَيْرُ تَارِكِكَ، كَمَا لَمْ يَتْرُكْ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ»(3).
..............................
ص: 185
وعن عيسى بن عبد الله القرشي، قال: دَخَلَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام). فَقَالَ: «يَا أَبَا حَنِيفَةَ، قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقِيسُ». فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: «لاَتَقِسْ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ (لَعَنَهُ اللهُ) حِينَ قَالَ: «خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ»(1)، فَقَاسَ مَا بَيْنَ النَّارِ وَالطِّينِ، وَلَوْ قَاسَ نُورِيَّةَ آدَمَ بِنُورِيَّةِ النَّارِ، عَرَفَ مَا بَيْنَ النُّورَيْنِ،وَضِيَاءَ أَحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ»(2).
وسَأَلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى (عليه السلام) بِمَحْضَرٍ مِنَ الرَّشِيدِ وَهُمْ بِمَكَّةَ. فَقَالَ لَهُ: أَ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُظَلِّلَ عَلَيْهِ مَحْمِلَهُ؟. فَقَالَ لَهُ مُوسَى (عليه السلام): «لاَ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ مَعَ الاِخْتِيَارِ». فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: أَ فَيَجُوزُ أَنْ يَمْشِيَ تَحْتَ الظِّلاَلِ مُخْتَاراً؟. فَقَالَ لَهُ: «نَعَمْ». فَتَضَاحَكَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ أَبُو الْحَسَنِ مُوسَى (عليه السلام): «أَ فَتَعْجَبُ مِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) وَتَسْتَهْزِئُ بِهَا. إِنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) كَشَفَ ظِلاَلَهُ فِي إِحْرَامِهِ، وَمَشَى تَحْتَ الظِّلاَلِ وَهُوَ مُحْرِمٌ إِنَّ أَحْكَامَ اللهِ تَعَالَى - يَا مُحَمَّدُ - لاَتُقَاسُ، فَمَنْ قَاسَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ». فَسَكَتَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ لاَ يَرْجِعُ جَوَاباً(3).
وقال العلامة المجلسي (رحمه الله): وَقَدْ جَرَى لأَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى (عليه السلام) بِحَضْرَةِ الْمَهْدِيِّ مَا يَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ،وَهُوَ أَنَّ مُوسَى (عليه السلام)
..............................
ص: 186
سَأَلَ أَبَا يُوسُفَ عَنْ مَسْأَلَةٍ لَيْسَ عِنْدَهُ فِيهَا شَيْءٌ. فَقَالَ لأَبِي الْحَسَنِ مُوسَى (عليه السلام): إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ شَيْءٍ. قَالَ: «هَاتِ». فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي التَّظْلِيلِ لِلْمُحْرِمِ؟. قَالَ: «لاَ يَصْلُحُ». قَالَ: فَيَضْرِبُ الْخِبَاءَ فِي الأَرْضِ فَيَدْخُلُ فِيهِ؟. قَالَ: «نَعَمْ». قَالَ: فَمَا فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَذَاكَ؟. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ مُوسَى (عليه السلام): «مَا تَقُولُ فِي الطَّامِثِ تَقْضِي الصَّلاَةَ؟». قَالَ: لاَ. قَالَ: «تَقْضِي الصَّوْمَ؟». قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «وَلِمَ؟». قَالَ: إِنَّ هَذَا كَذَا جَاءَ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ (عليه السلام): «وَكَذَلِكَ هَذَا». قَالَ الْمَهْدِيُّ لأَبِي يُوسُفَ: مَا أَرَاكَ صَنَعْتَ شَيْئاً. قَالَ: يَا أَمِير رَمَانِي بِحُجَّةٍ(1).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «تَرِدُ عَلَى أَحَدِهِمُ الْقَضِيَّةُ فِي حُكْمٍ مِنَ الأَحْكَامِ، فَيَحْكُمُ فِيهَا بِرَأْيِهِ، ثُمَّ تَرِدُ تِلْكَ الْقَضِيَّةُ بِعَيْنِهَا عَلَى غَيْرِهِ، فَيَحْكُمُ فِيهَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ، ثُمَّ يَجْتَمِعُ الْقُضَاةُ بِذَلِكَ عِنْدَ الإِمَامِ الَّذِي اسْتَقْضَاهُمْ، فَيُصَوِّبُ آرَاءَهُمْ جَمِيعاً، وَإِلَهُهُمْ وَاحِدٌ، وَنَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ، وَكِتَابُهُمْ وَاحِدٌ. أَ فَأَمَرَهُمُ اللهُ سُبْحَانَهُ بِالاِخْتِلاَفِ فَأَطَاعُوهُ، أَمْ نَهَاهُمْعَنْهُ فَعَصَوْهُ، أَمْ أَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ دِيناً نَاقِصاً فَاسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى إِتْمَامِهِ، أَمْ كَانُوا شُرَكَاءَ لَهُ فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا وَعَلَيْهِ أَنْ يَرْضَى، أَمْ أَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ دِيناً تَامّاً فَقَصَّرَ الرَّسُولُ (صلى الله عليه وآله) عَنْ تَبْلِيغِهِ وَأَدَائِهِ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ»(2)، وَفِيهِ تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْ ءٍ، وَذَكَرَ أَنَّ الْكِتَابَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضاً، وَأَنَّهُ لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ، فَقَاَ
ص: 187
..............................
سُبْحَانَهُ: «وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا»(1)، وَإِنَّ الْقُرْآنَ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ، وَبَاطِنُهُ عَمِيقٌ، لاَ تَفْنَى عَجَائِبُهُ، وَلاَ تَنْقَضِي غَرَائِبُهُ، وَلاَتُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إِلاَّ بِهِ»(2).
وعن ابن أبي ليلى، قال: دَخَلْتُ أَنَا وَالنُّعْمَانُ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، فَرَحَّبَ بِنَا. فَقَالَ: «يَا ابْنَ أَبِي لَيْلَى، مَنْ هَذَا الرَّجُلُ؟». فَقُلْتُ:جُعِلْتُ فِدَاكَ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، لَهُ رَأْيٌ وَبَصِيرَةٌ وَنَفَاذٌ». قَالَ: «فَلَعَلَّهُ الَّذِي يَقِيسُ الأَشْيَاءَ بِرَأْيِهِ - ثُمَّ قَالَ - يَا نُعْمَانُ، هَلْ تُحْسِنُ أَنْ تَقِيسَ رَأْسَكَ؟». قَالَ: لاَ. قَالَ: «مَا أَرَاكَ تُحْسِنُ أَنْ تَقِيسَ شَيْئاً، وَلاَ تَهْتَدِي إِلاَّ مِنْ عِنْدِ غَيْرِكَ، فَهَلْ عَرَفْتَ الْمُلُوحَةَ فِي الْعَيْنَيْنِ، وَالْمَرَارَةَ فِي الأُذُنَيْنِ، وَالْبُرُودَةَ فِي الْمَنْخِرَيْنِ، وَالْعُذُوبَةَ فِي الْفَمِ؟». قَالَ: لاَ. قَالَ: «فَهَلْ عَرَفْتَ كَلِمَةً أَوَّلُهَا كُفْرٌ وَآخِرُهَا إِيمَانٌ؟». قَالَ: لاَ. قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، لاَ تَدَعْنَا فِي عَمْيَاءَ مِمَّا وَصَفْتَ لَنَا. قَالَ: «نَعَمْ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ آبَائِي (عليهم السلام) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: إِنَّ اللهَ خَلَقَ عَيْنَيِ ابْنِ آدَمَ شَحْمَتَيْنِ، فَجَعَلَ فِيهِمَا الْمُلُوحَةَ، فَلَوْلاَ ذَلِكَ لَذَابَتَا، وَلَمْ يَقَعْ فِيهِمَا شَيْءٌ مِنَ الْقَذَى إِلاَّ أَذَابَهُمَا، وَالْمُلُوحَةُ تَلْفِظُ مَا يَقَعُ فِي الْعَيْنَيْنِ مِنَ الْقَذَى. وَجَعَلَ الْمَرَارَةَ فِي الأُذُنَيْنِ حِجَاباً لِلدِّمَاغِ، وَلَيْسَ مِنْ دَابَّةٍ تَقَعُ فِي الأُذُنِ إِلاَّ الْتَمَسَتِ الْخُروجَ،
ص: 188
..............................
وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَوَصَلَتْ إِلَى الدِّمَاغِ. وَجَعَلَ الْبُرُودَةَ فِي الْمَنْخِرَيْنِ حِجَاباً لِلدِّمَاغِ،وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَسَالَ الدِّمَاغُ. وَجَعَلَ الْعُذُوبَةَ فِي الْفَمِ مَنّاً مِنَ اللهِ تَعَالَى عَلَى ابْنِ آدَمَ؛ لِيَجِدَ لَذَّةَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. وَأَمَّا كَلِمَةٌ أَوَّلُهَا كُفْرٌ وَآخِرُهَا إِيمَانٌ، فَقَوْلُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، أَوَّلُهَا كُفْرٌ وَآخِرُهَا إِيمَانٌ - ثُمَّ قَالَ - يَا نُعْمَانُ، إِيَّاكَ وَالْقِيَاسَ! فَإِنَّ أَبِي حَدَّثَنِي عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: مَنْ قَاسَ شَيْئاً مِنَ الدِّينِ بِرَأْيِهِ، قَرَنَهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَعَ إِبْلِيسَ فِي النَّارِ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ قَاسَ حَيْثُ قَالَ: «خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ»(1)، فَدَعُوا الرَّأْيَ وَالْقِيَاسَ؛ فَإِنَّ دِينَ اللهِ لَمْ يُوضَعْ عَلَى الْقِيَاسِ»(2).
قولها (عليها السلام): « فَرَغْماً لِمَعَاطِسِ قَوْمٍ».
الرغم: كناية عن الذل والإذلال، قإن الرغام هو التراب، ومن يرغم أنفه في التراب فإنه يكون ذليلاً، وهذا تشبيه للمعقول بالمحسوس، فإن أصل المثل في مصارعة بطلين حيث إن الغالب يمرغ أنف المغلوب بالتراب كناية عن تمام الغلبة والنصر.
والمعاطس: جمع معطس وهو الأنف، على وزن مَفْعَلْ أي مكان العطسة، أو مِفْعَلآلة العطسة، فإن (مَفْعَل) يأتي للزمان والمكان ومصدراً ميمياً، و(مِفْعَل) اسم آلة.
ص: 189
..............................
أي إنهم سيذلون أنفسهم بأعمالهم السيئة وإن حسبوا - بكلا المعنيين أو المعاني السابقة - أنهم يحسنون صنعاً.
وهذا اقتباس من قوله تعالى في سورة الكهف: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا»(1).
قاعدة: الذلة وإرغام الأنف والصغار التي تصيب هؤلاء القوم الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، هي ذلة عند الله وذلة عند الملائكة وما لا نعلمه من العوالم الأخرى، وذلة عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) وذلة عند أهل بيته (عليهم السلام) وذلة عند الأولياء وذلة عند المؤمنين، وذلة في أنفسهم، وذلة في مجتمعهم، وذلة في التاريخ، وذلة في القبر والبرزخ، وذلة في القيامة، وذلة في النار، وقد أشرنا إلى بعض التفصيل في بعض كتبنا.إلفات: الذلة التي تصيبهم عامة شاملة لمختلف نواحي الحياة، من سياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها، على تفصيل ذكرناه في موضع آخر.
ص: 190
..............................
مسألة: بما أن الجزاء يكون من سنخ العمل ومتناسباً معه، فإن أولئك القوم المنقلبين على الأعقاب يجازون بذلة وصغار وإرغام معاطس كما آذوا أولياء الله، وحيث إن درجة الجريمة تقاس بعظمة من أجرم بحقه، فإن إرغام أنوف أولئك الطغاة لا يعدل ما اجترحوا بحق أولياء الله إلا بخلودهم في النار مرغمين أذلة(1)،وتفصيله يطلب من مظانه.
ص: 191
..............................
مسألة: أولئك المنقلبون على الأعقاب يستحقون رغم معاطسهم لا لما قاموا به مباشرة فحسب، بل لأنهم أسسوا أساس الظلم والجور إلى يوم القيامة، فهم يستحقون صغار ودناءة وإرغام أنف لكل ما تسببوا
فيه من الجرائم، ومن إيذاء إولياء الله إلى يوم القيامة، وهذا وجه آخر من وجوه استحقاقهم الإذلال والدنائة أبد الآبدين، فتأمل.
والوجه الآخر ما أشارت إليه الآيات والروايات من «وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ»(1)، فإصرارهم وعدم توبتهم عما فعلوا بأولياء الله حتى وهم في نار جهنم، هو السبب الآخر لاستحقاقهم الخلود في النار أذلة صاغرين.
ص: 192
«أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمفْسِدُونَ وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ»(1)
مسألة: يجب وجوباً كفائياً بيان أن من غصب الخلافة ومن ساعده على ذلك ورضي به أنهم هم المفسدون، ودل على ذلك استشهاد الصديقة (عليها السلام) بهذه الآية المباركة.
قال الإمام الصادق (عليه السلام): «فَسَادُ الظَّاهِرِ مِنْ فَسَادِ الْبَاطِنِ، وَمَنْ أَصْلَحَ سَرِيرَتَهُ أَصْلَحَ اللهُ عَلاَنِيَتَهُ، وَمَنْ خَافَ اللهَ فِي السِّرِّ لَمْ يَهْتِكِ اللهُ عَلاَنِيَتَهُ، وَمَنْ خَانَ اللهَ فِي السِّرِّ هَتَكَ اللهُ سِتْرَهُ فِي الْعَلاَنِيَةِ. وَأَعْظَمُ الْفَسَادِ أَنْ يَرْضَى الْعَبْدُ بِالْغَفْلَةِ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْفَسَادُ يَتَوَلَّدُ مِنْ طُولِ الأَمَلِ، وَالْحِرْصِ، وَالْكِبْرِ، كَمَا أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ قَارُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمفْسِدِينَ»(2)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَساداً»(3) إِلَى آخِرِهَا، وَكَانَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ مِنْ صُنْعِ قَارُونَ وَاعْتِقَادِهِ، وَأَصْلُهَا مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا وَجَمْعِهَا، وَمُتَابَعَةِ النَّفْسِ وَهَوَاهَا، وَإِقَامَةِ شَهَوَاتِهَا، وَحُبِّالْمَحْمَدَةِ، وَمُوَافَقَةِ الشَّيْطَانِ، وَاتِّبَاعِ خُطُوَاتِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ يَجْتَمِعُ تَحْتَ الْغَفْلَةِ عَنِ اللهِ، وَنِسْيَانِ مِنَنِهِ، وَعِلاَجُ ذَلِكَ الْفِرَارُ مِنَ النَّاسِ، وَرَفْضُ الدُّنْيَا، وَطَلاَقُ الرَّاحَةِ، وَالاِنْقِطَاعُ عَنِ الْعَادَاتِ وَقَطْعُ
ص: 193
..............................
عُرُوقِ مَنَابِتِ الشَّهَوَاتِ بِدَوَامِ الذِّكْرِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلُزُومُ الطَّاعَةِ لَهُ، وَاحْتِمَالُ جَفَاءِ الْخَلْقِ، وَمُلاَزَمَةِ الْقَرِينِ، وَشَمَاتَةِ الْعَدُوِّ مِنَ الأَهْلِ وَالْقَرَابَةِ، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ فَتَحْتَ عَلَيْكَ بَابَ عَطْفِ اللهِ، وَحُسْنِ نَظَرِهِ إِلَيْكَ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَخَرَجْتَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَافِلِينَ، وَفَكَكْتَ قَلْبَكَ مِنْ أَسْرِ الشَّيْطَانِ، وَقَدِمْتَ بَابَ اللهِ فِي مَعْشَرِ الْوَارِدِينَ إِلَيْهِ، وَسَلَكْتَ مَسْلَكاً رَجَوْتَ الإِذْنَ بِالدُّخُولِ عَلَى الْمَلِكِ الْكَرِيمِ، الْجَوَادِ الرَّحِيمِ، وَاسْتِبْطَاءِ بِسَاطِهِ عَلَى شَرْطِ الإِذْنِ، وَمَنْ وَطِئَ بِسَاطَ الْمَلِكِ عَلَى شَرْطِ الإِذْنِ لاَ يُحْرَمُ سَلاَمَتَهُ وَكَرَامَتَهُ؛ لأَنَّهُ الْمَلِكُ الْكَرِيمُ، وَالْجَوَادُ الرَّحِيمُ»(1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِذَا رَأَيْتُمْ أَهْلَ الرَّيْبِ وَالْبِدَعِ مِنْ بَعْدِي، فَأَظْهِرُوا الْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ، وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ،وَالْقَوْلَ فِيهِمْ، وَالْوَقِيعَةَ، وَبَاهِتُوهُمْ؛ كَيْلاَ يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الإِسْلاَمِ، وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ، وَلاَ يَتَعَلَّمُوا مِنْ بِدَعِهِمْ، يَكْتُبِ اللهُ لَكُمْ بِذَلِكَ الْحَسَنَاتِ، وَيَرْفَعْ لَكُمْ بِهِ الدَّرَجَاتِ فِي الآخِرَةِ»(2).
مسألة: فساد القوم وإفسادهم ليس خاصاً بالأرض فقط، بل شمل البحر والفضاء، قال تعالى: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ»(3).
ص: 194
..............................
وقال عزوجل: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(1).
* قول الصديقة (عليها السلام): «وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ»، فإنهم يفسدون وتعود عاقبة فسادهم على أنفسهم أيضاً، وهو اقتباس من قوله تعالى: «وَإِذَا قِيلَ لَهمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَايَشْعُرُونَ»(2).
لا يقال: إنهم كانوا يشعرون بذلك، ولذا قال تعالى: «يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ»(3)، وقال سبحانه: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ»(4).
إذ يقال:
أولاً: المراد «وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ» شعوراً مفيداً، كما يقال للإنسان العالم الذي يعمل عمل الجهال: إنه جاهل، أو لمن يتصابى: إنه لا يفهم أو ما أشبه مما هو كثير في البلاغة.
ثانياً: قد يكون المراد «وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ» بكل آثار فسادهم وعواقبه ونتائجه، إذ هم يعلمون جانباً بسيطاً من آثار إفسادهم، ولربما لو علموا بكل
ص: 195
..............................
الفساد لهالهم الأمر وأوحشهم، فتأمل.
ثالثاً: أو «لَا يَشْعُرُونَ» بكنه فسادهم وفداحة جرحهم، وهذا راجع للشيء نفسه، وما سبقه راجع لآثاره كما لا يخفى.
رابعاً: أو يراد ب «لَا يَشْعُرُونَ»: يعملون عملمن لا يشعر، أي يبنون على ذلك وكأنه لا فساد ولا إفساد.
والظاهر من مختلف الأدلة أن ما قاموا به كان عن حقد لا عن جهل.
مسألة: يستحب الاقتباس من القرآن الحكيم وروايات أهل البيت (عليهم السلام) وقد سبق تفصيله، وهكذا كانت سيرة العترة الطاهرة (عليهم السلام) حيث يقتبسون من الآيات الكريمة في أحاديثهم وخطبهم.
عن أبي ذكوان، قال: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْعَبَّاسِ يَقُولُ: (مَا رَأَيْتُ الرِّضَا (عليه السلام) يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ عَلِمَ، وَلاَ رَأَيْتُ أَعْلَمَ مِنْهُ بِمَا كَانَ فِي الزَّمَانِ الأَوَّلِ إِلَى وَقْتِهِ وَعَصْرِهِ، وَكَانَ الْمَأْمُونُ يَمْتَحِنُهُ بِالسُّؤَالِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ فَيُجِيبُ فِيهِ، وَكَانَ كَلاَمُهُ كُلُّهُ وَجَوَابُهُ وَتَمَثُّلُهُ انْتِزَاعَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ)(1).
وعن أبي حمزة قال: مَا سَمِعْتُ بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ كَانَ أَزْهَدَ مِنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام)، إِلاَّ مَا بَلَغَنِي مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام).
ص: 196
..............................
قال أبو حمزة: كَانَ الإِمَامُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) إِذَا تَكَلَّمَ فِي الزُّهْدِ وَوَعَظَ، أَبْكَى مَنْ بِحَضْرَتِهِ. قال أبو حمزة: وَقَرَأْتُ صَحِيفَةً فِيهَا كَلاَمُ زُهْدٍ مِنْ كَلاَمِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام)، وَكَتَبْتُ مَا فِيهَا ثُمَّ أَتَيْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (صلوات الله عليه)، فَعَرَضْتُ مَا فِيهَا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُ وَصَحَّحَهُ، وَكَانَ مَا فِيهَا: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، كَفَانَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ كَيْدَ الظَّالِمِينَ، وَبَغْيَ الْحَاسِدِينَ، وَبَطْشَ الْجَبَّارِينَ. أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الطَّوَاغِيتُ وَأَتْبَاعُهُمْ مِنْ أَهْلِ الرَّغْبَةِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، الْمَائِلُونَ إِلَيْهَا، الْمُفْتَتِنُونَ بِهَا، الْمُقْبِلُونَ عَلَيْهَا، وَعَلَى حُطَامِهَا الْهَامِدِ، وَهَشِيمِهَا الْبَائِدِ غَداً.
وَاحْذَرُوا مَا حَذَّرَكُمُ اللهُ مِنْهَا، وَازْهَدُوا فِيمَا زَهَّدَكُمُ اللهُ فِيهِ مِنْهَا، وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى مَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، رُكُونَ مَنِ اتَّخَذَهَا دَارَ قَرَارٍ، وَمَنْزِلَ اسْتِيطَانٍ. وَاللهِ، إِنَّ لَكُمْ مِمَّا فِيهَا عَلَيْهَا لَدَلِيلاً وَتَنْبِيهاً، مِنْ تَصْرِيفِ أَيَّامِهَا، وَتَغَيُّرِ انْقِلاَبِهَا وَمَثُلاَتِهَا، وَتَلاَعُبِهَا بِأَهْلِهَا.
إِنَّهَا لَتَرْفَعُ الْخَمِيلَ، وَتَضَعُ الشَّرِيفَ، وَتُورِدُ أَقْوَاماً إِلَى النَّارِ غَداً، فَفِي هَذَا مُعْتَبَرٌ وَمُخْتَبَرٌ، وَزَاجِرٌ لِمُنْتَبِهٍ. إِنَّ الأُمُورَ الْوَارِدَةَ عَلَيْكُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِنْ مُظْلِمَاتِ الْفِتَنِ، وَحَوَادِثِ الْبِدَعِ، وَسُنَنِالْجَوْرِ، وَبَوَائِقِ الزَّمَانِ، وَهَيْبَةِ السُّلْطَانِ، وَوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ؛ لَتُثَبِّطُ الْقُلُوبَ عَنْ تَنَبُّهِهَا، وَتُذْهِلُهَا عَنْ مَوْجُودِ الْهُدَى، وَمَعْرِفَةِ أَهْلِ الْحَقِّ، إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ عَصَمَ اللهُ.
فَلَيْسَ يَعْرِفُ تَصَرُّفَ أَيَّامِهَا، وَتَقَلُّبَ حَالاتِهَا، وَعَاقِبَةَ ضَرَرِ فِتْنَتِهَا، إِلاَّ مَنْ عَصَمَ اللهُ، وَنَهَجَ سَبِيلَ الرُّشْدِ، وَسَلَكَ طَرِيقَ الْقَصْدِ، ثُمَّ اسْتَعَانَ عَلَى ذَلِكَ بِالزُّهْدِ. فَكَرَّرَ الْفِكْرَ، وَاتَّعَظَ بِالصَّبْرِ فَازْدَجَرَ، وَزَهِدَ فِيعَاجِلِ بَهْجَة الدُّنْيَا،
ص: 197
..............................
وَتَجَافَى عَنْ لَذَّاتِهَا، وَرَغِبَ فِي دَائِمِ نَعِيمِ الآخِرَةِ، وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا، وَرَاقَبَ الْمَوْتَ، وَشَنَأَ الْحَيَاةَ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، نَظَرَ إِلَى مَا فِي الدُّنْيَا بِعَيْنٍ نَيِّرَةٍ، حَدِيدَةَ الْبَصَرِ، وَأَبْصَرَ حَوَادِثَ الْفِتَنِ، وَضَلاَلَ الْبِدَعِ، وَجَوْرَ الْمُلُوكِ الظَّلَمَةِ.
فَلَقَدْ - لَعَمْرِي - اسْتَدْبَرْتُمُ الأُمُورَ الْمَاضِيَةَ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ مِنَ الْفِتَنِ الْمُتَرَاكِمَةِ، وَالاِنْهِمَاكِ فِيمَا تَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى تَجَنُّبِ الْغُوَاةِ، وَأَهْلِ الْبِدَعِ وَالْبَغْيِ، وَالْفَسَادِ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَاسْتَعِينُوا بِاللهِ وَارْجِعُوا إِلَى طَاعَةِ اللهِ، وَطَاعَةِ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِالطَّاعَةِ، مِمَّنِ اتُّبِعَ فَأُطِيعَ.فَالْحَذَرَ، الْحَذَرَ! مِنْ قَبْلِ النَّدَامَةِ وَالْحَسْرَةِ، وَالْقُدُومِ عَلَى اللهِ، وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَتَاللهِ، مَا صَدَرَ قَوْمٌ قَطُّ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ إِلاَّ إِلَى عَذَابِهِ، وَمَا آثَرَ قَوْمٌ قَطُّ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ إِلاَّ سَاءَ مُنْقَلَبُهُمْ، وَسَاءَ مَصِيرُهُمْ. وَمَا الْعِلْمُ بِاللهِ وَالْعَمَلُ إِلاَّ إِلْفَانِ مُؤْتَلِفَانِ، فَمَنْ عَرَفَ اللهَ خَافَهُ، وَحَثَّهُ الْخَوْفُ عَلَى الْعَمَلِ بِطَاعَةِ اللهِ، وَإِنَّ أَرْبَابَ الْعِلْمِ وَأَتْبَاعَهُمُ الَّذِينَ عَرَفُوا اللهَ، فَعَمِلُوا لَهُ وَرَغِبُوا إِلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ: «إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»(1).
فَلاَ تَلْتَمِسُوا شَيْئاً مِمَّا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا بِمَعْصِيَةِ اللهِ، وَاشْتَغِلُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا بِطَاعَةِ اللهِ، وَاغْتَنِمُوا أَيَّامَهَا، وَاسْعَوْا لِمَا فِيهِ نَجَاتُكُمْ غَداً مِنْ عَذَابِ اللهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَقَلُّ لِلتَّبِعَةِ، وَأَدْنَى مِنَ الْعُذْرِ، وَأَرْجَى لِلنَّجَاةِ. فَقَدِّمُوا أَمْرَ اللهِ وَطَاعَةَ مَنْ أَوْجَبَ اللهُ طَاعَتَهُ بَيْنَ يَدَيِ الأُمُورِ كُلِّهَا، وَلاَ تُقَدِّمُوا الأُمُورَ الْوَارِدَةَ عَلَيْكُمْ، مِنْ طَاعَةِ الطَّوَاغِيتِ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا، بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَطَاعَتِهِ، وَطَاعَةِ أُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ.
ص: 198
..............................
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ عَبِيدُ اللهِ وَنَحْنُ مَعَكُمْ، يَحْكُمُ عَلَيْنَا وَعَلَيْكُمْ سَيِّدٌ حَاكِمٌ غَداً، وَهُوَمُوقِفُكُمْ وَمُسَائِلُكُمْ، فَأَعِدُّوا الْجَوَابَ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَالْمُسَاءَلَةِ، وَالْعَرْضِ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَوْمَئِذٍ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ لاَ يُصَدِّقُ يَوْمَئِذٍ كَاذِباً، وَلاَ يُكَذِّبُ صَادِقاً، وَلاَ يَرُدُّ عُذْرَ مُسْتَحِقٍّ، وَلاَ يَعْذِرُ غَيْرَ مَعْذُورٍ، لَهُ الْحُجَّةُ عَلَى خَلْقِهِ بِالرُّسُلِ، وَالأَوْصِيَاءِ بَعْدَ الرُّسُلِ.
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَاسْتَقْبِلُوا فِي إِصْلاَحِ أَنْفُسِكُمْ، وَطَاعَةِ اللهِ، وَطَاعَةِ مَنْ تَوَلَّوْنَهُ فِيهَا؛ لَعَلَّ نَادِماً قَدْ نَدِمَ فِيمَا فَرَّطَ بِالْأَمْسِ فِي جَنْبِ اللَّهِ، وَضَيَّعَ مِنْ حُقُوقِ اللهِ، وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ، وَتُوبُوا إِلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ، وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَةِ، وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ.
وَإِيَّاكُمْ وَصُحْبَةَ الْعَاصِينَ، وَمَعُونَةَ الظَّالِمِينَ، وَمُجَاوَرَةَ الْفَاسِقِينَ، احْذَرُوا فِتْنَتَهُمْ، وَتَبَاعَدُوا مِنْ سَاحَتِهِمْ. وَاعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ خَالَفَ أَوْلِيَاءَ اللهِ، وَدَانَ بِغَيْرِ دِينِ اللهِ، وَاسْتَبَدَّ بِأَمْرِهِ دُونَ أَمْرِ وَلِيِّ اللَّهِ، كَانَ فِي نَارٍ تَلْتَهِبُ، تَأْكُلُ أَبْدَاناً قَدْ غَابَتْ عَنْهَا أَرْوَاحُهَا، وَغَلَبَتْ عَلَيْهَا شِقْوَتُهَا، فَهُمْ مَوْتَى لاَ يَجِدُونَ حَرَّ النَّارِ، وَلَوْ كَانُوا أَحْيَاءً لَوَجَدُوا مَضَضَ حَرِّ النَّارِ، وَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الأَبْصارِ، وَاحْمَدُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ.
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لاَ تَخْرُجُونَ مِنْ قُدْرَةِ اللهِ إِلَى غَيْرِ قُدْرَتِهِ، وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْوَرَسُولُهُ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، فَانْتَفِعُوا بِالْعِظَةِ، وَتَأَدَّبُوا بِآدَابِ الصَّالِحِينَ»(1).
ص: 199
..............................
وعن أبي الحسن موسى (عليه السلام)، قال: «كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يُوصِي أَصْحَابَهُ، وَيَقُولُ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ؛ فَإِنَّهَا غِبْطَةُ الطَّالِبِ الرَّاجِي، وَثِقَةُ الْهَارِبِ اللاَّجِي، وَاسْتَشْعِرُوا التَّقْوَى شِعَاراً بَاطِناً، وَاذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً خَالِصاً؛ تَحْيَوْا بِهِ أَفْضَلَ الْحَيَاةِ، وَتَسْلُكُوا بِهِ طَرِيقَ النَّجَاةِ.
انْظُرُوا فِي الدُّنْيَا نَظَرَ الزَّاهِدِ الْمُفَارِقِ لَهَا؛ فَإِنَّهَا تُزِيلُ الثَّاوِيَ السَّاكِنَ، وَتَفْجَعُ الْمُتْرَفَ الآمِنَ، لاَ يُرْجَى مِنْهَا مَا تَوَلَّى فَأَدْبَرَ، وَلاَ يُدْرَى مَا هُوَ آتٍ مِنْهَا فَيُنْتَظَرَ. وُصِلَ الْبَلاَءُ مِنْهَا بِالرَّخَاءِ، وَالْبَقَاءُ مِنْهَا إِلَى فَنَاءٍ، فَسُرُورُهَا مَشُوبٌ بِالْحُزْنِ، وَالْبَقَاءُ فِيهَا إِلَى الضَّعْفِ وَالْوَهْنِ.
فَهِيَ كَرَوْضَةٍ اعْتَمَّ مَرْعَاهَا، وَأَعْجَبَتْ مَنْ يَرَاهَا، عَذْبٌ شُرْبُهَا، طَيِّبٌ تُرْبُهَا، تَمُجُّ عُرُوقُهَا الثَّرَى، وَتَنْطُفُ فُرُوعُهَا النَّدَى، حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْعُشْبُ إِبَّانَهُ، وَاسْتَوَى بَنَانُهُ، هَاجَتْ رِيحٌ تَحُتُّ الْوَرَقَ، وَتُفَرِّقُ مَااتَّسَقَ، فَأَصْبَحَتْ كَمَا قَالَ اللهُ: «هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا»(1). انْظُرُوا فِي الدُّنْيَا فِي كَثْرَةِ مَا يُعْجِبُكُمْ، وَقِلَّةِ مَا يَنْفَعُكُمْ»(2).
مسألة: من الحسن إتباع منهج وأسلوب ربط الحاضر بالتاريخ، لما فيه من العبرة والاعتبار والعظة والاتعاظ.
ص: 200
..............................
وفي اقتباسها (صلوات الله عليها) من الآية الشريفة إشعار بذلك، وتنبيه على أن المنقلبين على الأعقاب قد سلكوا طريق بني إسرائيل الذين انقلبوا على موسى (عليه السلام) وقالوا: (اجعل لنا آلهة). قال تعالى: «وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَها كَمَا لَهمْ آلِهةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ»(1).
وفي الروايات أن أُمة الإسلام لها مواقف وعقبات كأُمة موسى (عليه السلام).
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لَتَرْكَبُنَّسُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، وَالْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، وَلاَ تُخْطِئُون طَرِيقَتَهُمْ شِبْرٌ بِشِبْرٍ، وَذِرَاعٌ بِذِرَاعٍ، وَبَاعٌ بِبَاعٍ، حَتَّى أَنْ لَوْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ». قَالُوا: الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى تَعْنِي يَا رَسُولَ اللهِ؟. قَالَ: «فَمَنْ أَعْنِي، لَيُنْقَضُ عُرَى الإِسْلاَمِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَيَكُونُ أَوَّلُ مَا تَنْقُضُونَ مِنْ دِينِكُمُ الإِمَامَةَ، وَآخِرُهُ الصَّلاَةَ»(2).
وعن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) - فِي قَوْلِهِ: «لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ»(3) - قَالَ: «يَا زُرَارَةُ، أَ وَ لَمْ تَرْكَبْ هَذِهِ الأُمَّةُ بَعْدَ نَبِيِّهَا طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ فِي أَمْرِ فُلاَنٍ، وَفُلاَنٍ، وَفُلاَنٍ»(4).
وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده،عن أبيه الحسين بن علي بن أبي
ص: 201
..............................
طالب (عليهم السلام)، قال: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: إِنَّ أُمَّةَ مُوسَى (عليه السلام) افْتَرَقَتْ بَعْدَهُ عَلَى إِحْدَىوَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فِرْقَةٌ مِنْهَا نَاجِيَةٌ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ. وَافْتَرَقَتْ أُمَّةُ عِيسَى (عليه السلام) بَعْدَهُ عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فِرْقَةٌ مِنْهَا نَاجِيَةٌ وَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ. وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفَرَّقُ بَعْدِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فِرْقَةٌ مِنْهَا نَاجِيَةٌ وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ»(1).
وعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «سَيَأْتِي عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِثْلٌ بِمِثْلٍ، وَإِنَّهُمْ تَفَرَّقُوا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَسَتَفَرَّقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، تَزِيدُ عَلَيْهِمْ وَاحِدَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ غَيْرَ وَاحِدَةٍ». قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا تِلْكَ الْوَاحِدَةُ؟. قَالَ: «هُوَ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ الْيَوْمَ، أَنَا وَأَهْلُ بَيْتِي»(2).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه قال لرأس اليهود: «عَلَى كَمِ افْتَرَقْتُمْ؟». قَالَ: عَلَى كَذَا وَكَذَا فِرْقَةً. فَقَالَ (عليه السلام): «كَذَبْتَ». ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: «وَاللهِ، لَوْ ثُنِيَتْ لِيَ الْوِسَادَةُ لَقَضَيْتُ بَيْنَ أَهْلِ التَّوْرَاةِ بِتَوْرَاتِهِمْ، وَبَيْنَ أَهْلِالإِنْجِيلِ بِإِنْجِيلِهِمْ، وَبَيْنَ أَهْلِ الْقُرْآنِ بِقُرْآنِهِمْ. افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، سَبْعُونَ مِنْهَا فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ نَاجِيَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ الَّتِي اتَّبَعَتْ يُوشَعَ بْنَ نُونٍ وَصِيَّ مُوسَى (عليه السلام). وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، إِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ الَّتِي اتَّبَعَت
ص: 202
..............................
شَمْعُونَ وَصِيَّ عِيسَى (عليه السلام). وَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ فِرْقَةً فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ الَّتِي اتَّبَعَتْ وَصِيَّ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) - وَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى صَدْرِهِ ثُمَّ قَالَ - ثَلاَثَ عَشْرَةَ فِرْقَةً مِنَ الثَّلاَثِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا تَنْتَحِلُ مَوَدَّتِي وَحُبِّي، وَاحِدَةٌ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ وَهُمُ النَّمَطُ الأَوْسَطُ، وَاثْنَتَا عَشْرَةَ فِي النَّارِ»(1).
وعن أبي الصهبان البكري، قال: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) وَقَدْ دَعَا رَأْسَ الْجَالُوتِ وَأُسْقُفَّ النَّصَارَى، فَقَالَ: «إِنِّي سَائِلُكُمَا عَنْ أَمْرٍ، وَأَنَا أَعْلَمُ بِهِ مِنْكُمَا، فَلاَ تَكْتُمَانِي يَا رَأْسَالْجَالُوتِ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى (عليه السلام) وَأَطْعَمَكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى، وَضَرَبَ لَكُمْ فِي الْبَحْرِ طَرِيقاً يَبَساً، وَفَجَّرَ لَكُمْ مِنَ الْحَجَرِ الطُّورِيِّ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ عَيْناً، لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَيْناً، إِلاَّ مَا أَخْبَرْتَنِي عَلَى كَمِ افْتَرَقَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى؟». فَقَالَ: وَلاَ إِلاَّ فِرْقَةً وَاحِدَةً. فَقَالَ: «كَذَبْتَ وَالَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ، لَقَدِ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَةً؛ فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: «وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ»(2)، فَهَذِهِ الَّتِي تَنْجُو»(3).
ص: 203
-------------------------------------------
(ويح) اسم فعل تستعمل في مقام الترحم، وفي مقام التوبيخ والزجر، والمقام من الثاني، كما أن من المقام الأول قوله (صلى الله عليه وآله): «وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ»(1)، وما أشبه ذلك مما هو كثير في كلماتهم (عليهم السلام) وكلمات البلغاء. وعن سيبويه: (ويح زجر لمن أشرف على الهلكة، وويل لمن وقع فيها) (2).
مسألة: توبيخ الظالم جائز، والمراد بالجواز هنا المعنى الأعم الشامل للواجب بشروطه.
مسألة: زجر الظالم جائز بالمعنى الأعم كما سبق، وقد سبق وجوبه في الجملة، ولو لم يحتمل التأثير لانطباق عناوين أخرى كردع الغير وإتمام الحجة وغير ذلك.قول الصديقة (عليها السلام): «وَيْحَهُمْ» زجر لهم وللأجيال القادمة، فإن القرآن الكريم والرسول العظيم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) جرى ديدنهم على توجيه الخطاب للحاضرين وإرادة الأعم منهم ومن الغائبين وقد سبق تفصيله.
ص: 204
..............................
عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ، يُتَّبَعُ فِيهِمْ قَوْمٌ، مُرَاءُونَ يَتَقَرَّءُونَ وَيَتَنَسَّكُونَ، حُدَثَاءُ سُفَهَاءُ، لاَ يُوجِبُونَ أَمْراً بِمَعْرُوفٍ، وَلاَ نَهْياً عَنْ مُنْكَرٍ، إِلاَّ إِذَا أَمِنُوا الضَّرَرَ، يَطْلُبُونَ لأَنْفُسِهِمُ الرُّخَصَ وَالْمَعَاذِيرَ، يَتَّبِعُونَ زَلاَّتِ الْعُلَمَاءِ وَفَسَادَ عَمَلِهِمْ، يُقْبِلُونَ عَلَى الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَمَا لا يَكْلِمُهُمْ فِي نَفْسٍ وَلاَ مَالٍ، وَلَوْ أَضَرَّتِ الصَّلاَةُ بِسَائِرِ مَا يَعْمَلُونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ لَرَفَضُوهَا، كَمَا رَفَضُوا أَسْمَى الْفَرَائِضِ وَأَشْرَفَهَا.
إِنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَرِيضَةٌ عَظِيمَةٌ بِهَا تُقَامُ الْفَرَائِضُ، هُنَالِكَ يَتِمُّ غَضَبُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ فَيَعُمُّهُمْ بِعِقَابِهِ، فَيُهْلَكُ الأَبْرَارُ فِي دَارِ الْفُجَّارِ، وَالصِّغَارُ فِي دَارِ الْكِبَارِ.
إِنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ سَبِيلُ الأَنْبِيَاءِ، وَمِنْهَاجُالصُّلَحَاءِ، فَرِيضَةٌ عَظِيمَةٌ بِهَا تُقَامُ الْفَرَائِضُ، وَتَأْمَنُ الْمَذَاهِبُ، وَتَحِلُّ الْمَكَاسِبُ، وَتُرَدُّ الْمَظَالِمُ، وَتُعْمَرُ الأَرْضُ، وَيُنْتَصَفُ مِنَ الأَعْدَاءِ، وَيَسْتَقِيمُ الأَمْرُ. فَأَنْكِرُوا بِقُلُوبِكُمْ، وَالْفِظُوا بِأَلْسِنَتِكُمْ، وَصُكُّوا بِهَا جِبَاهَهُمْ، وَلاَ تَخَافُوا فِي اللهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ، فَإِنِ اتَّعَظُوا وَإِلَى الْحَقِّ رَجَعُوا، فَلاَ سَبِيلَ عَلَيْهِمْ، «إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحقِّ أُولئِكَ لَهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»(1)، هُنَالِكَ فَجَاهِدُوهُمْ بِأَبْدَانِكُمْ، وَأَبْغِضُوهُمْ بِقُلُوبِكُمْ، غَيْرَ طَالِبِينَ سُلْطَاناً، وَلاَ بَاغِينَ مَالاً، وَلاَ مُرِيدِينَ بِظُلْمٍ ظَفَراً- حَتَّى يَفِيئُوا إِلَى أَمْرِ اللهِ، وَيَمْضُوا عَلَى طَاعَتِهِ.
ص: 205
..............................
قَالَ: وَأَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى شُعَيْبٍ النَّبِيِّ (صلوات الله وسلامه عليه): أَنِّي مُعَذِّبٌ مِنْ قَوْمِكَ مِائَةَ أَلْفٍ، أَرْبَعِينَ أَلْفاً مِنْ شِرَارِهِمْ، وَسِتِّينَ أَلْفاً مِنْ خِيَارِهِمْ. فَقَالَ (عليه السلام): يَا رَبِّ، هَؤُلاَءِ الأَشْرَارُ فَمَا بَالُ الأَخْيَارِ! فَأَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ: دَاهَنُوا أَهْلَ الْمَعَاصِي، وَلَمْ يَغْضَبُوا لِغَضَبِي»(1).وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَمْ يُؤْخَذْ لِضَعِيفِهَا مِنْ قَوِيِّهَا بِحَقِّهِ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ»(2).
وعن أبي سعيد الزهري، عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «وَيْلٌ لِقَوْمٍ لاَ يَدِينُونَ اللهَ بِالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ»(3).
وقال أبو جعفر (عليه السلام): «بِئْسَ الْقَوْمُ قَوْمٌ يَعِيبُونَ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ»(4).
وعن حسن، قال: خَطَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ:
«أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَيْثُ مَا عَمِلُوا مِنَ الْمَعَاصِي، وَلَمْ يَنْهَهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّهُمْ لَمَّا تَمَادَوْا فِي الْمَعَاصِي وَلَمْ يَنْهَهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ ذَلِكَ، نَزَلَتْ بِهِمُ الْعُقُوبَاتُ.
ص: 206
..............................
فَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَمْ يُقَرِّبَا أَجَلاً، وَلَمْ يَقْطَعَا رِزْقاً. إِنَّ الأَمْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ كَقَطْرِ الْمَطَرِ إِلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا قَدَّرَ اللهُ لَهَا مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، فَإِنْ أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ فِي أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ، وَرَأَى عِنْدَ أَخِيهِ غَفِيرَةً فِي أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ، فَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِ فِتْنَةً.
فَإِنَّ الْمَرْءَ الْمُسْلِمَ لَبَرِيءٌ مِنَ الْخِيَانَةِ، مَا لَمْ يَغْشَ دَنَاءَةً تَظْهَرُ فَيَخْشَعُ لَهَا إِذَا ذُكِرَتْ، وَيُغْرَى بِهَا لِئَامُ النَّاسِ، كَانَ كَالْفَالِجِ الْيَاسِرِ الَّذِي يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ مِنْ قِدَاحِهِ تُوجِبُ لَهُ الْمَغْنَمَ، وَيُدْفَعُ بِهَا عَنْهُ الْمَغْرَمُ، وَكَذَلِكَ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ الْبَرِي ءُ مِنَ الْخِيَانَةِ، يَنْتَظِرُ مِنَ اللهِ تَعَالَى إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ:
إِمَّا دَاعِيَ اللهِ فَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لَهُ.
وَإِمَّا رِزْقَ اللهِ، فَإِذَا هُوَ ذُو أَهْلٍ وَمَالٍ وَمَعَهُ دِينُهُ وَحَسَبُهُ.
إِنَّ الْمَالَ وَ الْبَنِينَ حَرْثُ الدُّنْيَا، وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ حَرْثُ الآخِرَةِ، وَقَدْ يَجْمَعُهُمَا اللهُ لأَقْوَامٍ، فَاحْذَرُوا مِنَ اللهِ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ، وَاخْشَوْهُ خَشْيَةً لَيْسَتْ بِتَعْذِيرٍ. وَ اعْمَلُوا فِي غَيْرِ رِيَاءٍ وَلاَ سُمْعَةٍ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ اللهِ يَكِلْهُ اللهُ إِلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ، نَسْأَلُ اللهَ مَنَازِلَالشُّهَدَاءِ، وَمُعَايَشَةَ السُّعَدَاءِ، وَمُرَافَقَةَ الأَنْبِيَاءِ»(1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَمَرَنَا
ص: 207
..............................
رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَنْ نَلْقَى أَهْلَ الْمَعَاصِي بِوُجُوهٍ مُكْفَهِرَّةٍ»(1).
وعن محمد بن عرفة، قال: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) يَقُولُ:
«كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: إِذَا أُمَّتِي تَوَاكَلَتِ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَلْيَأْذَنُوا بِوِقَاعٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى»(2).
ص: 208
«أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(1)؟.
مسألة: يجب أن يكون القائد ممن يهدي إلى الحق.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «فَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يَكُونَ الْخَلِيفَةُ عَلَى الأُمَّةِ إِلاَّ أَعْلَمَهُمْ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ: «أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(2)، وَقَالَ: «وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجسْمِ»(3)، وَقَالَ: «أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ»(4)، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): مَا وَلَّتْ أُمَّةٌ قَطُّ أَمْرَهَا رَجُلاً وَفِيهِمْ أَعْلَمُ مِنْهُ إِلاَّ لَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمْ يَذْهَبُ سَفَالاً، حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى مَا تَرَكُوا»(5).
وعن أبي جعفر (عليه السلام) - فِي قَوْلِهِ: «أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّاأَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(6) -:
ص: 209
..............................
«فَأَمَّا مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ فَهُمْ: مُحَمَّدٌ وَآلُ مُحَمَّدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَمَّا مَنْ «لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى» فَهُوَ: مَنْ خَالَفَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ أَهْلَ بَيْتِهِ مِنْ بَعْدِهِ»(1).
وقال الإمام الرضا (عليه السلام): «إِنَّ الأَنْبِيَاءَ وَالأَئِمَّةَ (صلوات الله عليهم) يُوَفِّقُهُمُ اللهُ، وَيُؤْتِيهِمْ مِنْ مَخْزُونِ عِلْمِهِ وَحِكَمِهِ مَا لاَ يُؤْتِيهِ غَيْرَهُمْ، فَيَكُونُ عِلْمُهُمْ فَوْقَ عِلْمِ أَهْلِ الزَّمَانِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(2)، وَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «وَمَنْ يُؤْتَ الْحكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً»(3)، وَقَوْلِهِ فِي طَالُوتَ: «إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ»(4)، وَقَالَ لِنَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله): «أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمتَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً»(5)، وَقَالَ فِي الأَئِمَّةِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّهِ وَعِتْرَتِهِ وَذُرِّيَّتِهِ (صلى الله عليه وآله): «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ
ص: 210
..............................
وَالْحكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا»(1)،وَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اخْتَارَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لأُمُورِ عِبَادِهِ شَرَحَ صَدْرَهُ لِذَلِكَ، وَأَوْدَعَ قَلْبَهُ يَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ، وَأَلْهَمَهُ الْعِلْمَ إِلْهَاماً، فَلَمْ يَعْيَ بَعْدَهُ بِجَوَابٍ، وَلاَ يُحَيَّرُ فِيهِ عَنِ الصَّوَابِ»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «لَقَدْ قَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (صلوات الله عليه) بِقَضِيَّةٍ مَا قَضَى بِهَا أَحَدٌ كَانَ قَبْلَهُ، وَكَانَتْ أَوَّلَ قَضِيَّةٍ قَضَى بِهَا بَعْدَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ (صلى
الله عليه وآله)، وَأَفْضَى الأَمْرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ. فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: أَشَرِبْتَ الْخَمْرَ؟. فَقَالَ الرَّجُلُ: نَعَمْ. فَقَالَ: وَلِمَ شَرِبْتَهَا وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ؟. فَقَالَ: إِنَّنِي لَمَّا أَسْلَمْتُ وَمَنْزِلِيبَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمٍ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْتَحِلُّونَهَا، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّهَا حَرَامٌ فَأَجْتَنِبُهَا. قَالَ: فَالْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ يَا أَبَا حَفْصٍ فِي أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ؟. فَقَالَ: مُعْضِلَةٌ وَأَبُو الْحَسَنِ لَهَا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا غُلاَمُ، ادْعُ لَنَا عَلِيّاً. قَالَ عُمَرُ: بَلْ يُؤْتَى الْحَكَمُ فِي مَنْزِلِهِ. فَأَتَوْهُ وَمَعَهُ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، فَأَخْبَرَهُ بِقِصَّةِ الرَّجُلِ، فَاقْتَصَّ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ. فَقَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام) لأَبِي بَكْرٍ: ابْعَثْ مَعَهُ مَنْ يَدُورُ بِهِ عَلَى مَجَالِسِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، فَمَنْ كَانَ تَلا عَلَيْهِ آيَةَ التَّحْرِيمِ فَلْيَشْهَدْ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَلاَ عَلَيْهِ آيَةَ التَّحْرِيمِ، فَلاَ شَيْ ءَ عَلَيْهِ. فَفَعَلَ أَبُو بَكْرٍ بِالرَّجُلِ مَا قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام)، فَلَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَخَلَّى سَبِيلَهُ.
ص: 211
..............................
فَقَالَ سَلْمَانُ لِعَلِيٍّ (عليه السلام): لَقَدْ أَرْشَدْتَهُمْ. فَقَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أُجَدِّدَ تَأْكِيدَ هَذِهِ الآيَةِ فِيَّ وَفِيهِمْ: «أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(1)»(2).وعن أبي العزرمي، عن أبيه رفع الحديث إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: «مَنْ أَمَّ قَوْماً وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ وَأَفْقَهُ، لَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمْ إِلَى سَفَالٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(3).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْماً لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، وَيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَيَصْرِفَ بِهِ النَّاسَ إِلَى نَفْسِهِ، يَقُولُ: أَنَا رَئِيسُكُمْ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ - ثُمَّ قَالَ - إِنَّ الرِّئَاسَةَ لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ لأَهْلِهَا، فَمَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى نَفْسِهِ وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(4).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِمَامُ الْقَوْمِ وَافِدُهُمْ، فَقَدِّمُوا أَفْضَلَكُمْ»(5).
وقال الإمام الباقر (عليه السلام): «إِنْ سَرَّكُمْ أَنْ تُزَكُّوا صَلاَتَكُمْ، فَقَدِّمُوا خِيَارَكُمْ»(6).
ص: 212
وعن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام)، أن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: «إِنَّ أَئِمَّتَكُمْ وَفْدُكُمْ إِلَى اللهِ، فَانْظُرُوا مَنْ تُوفِدُونَ فِي دِينِكُمْ وَصَلَوَاتِكُمْ»(1).
وعن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: «مَنْ صَلَّى خَلْفَ عَالِمٍ، فَكَأَنَّمَا صَلَّى خَلْفَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)»(2).
مسألة: لا يجوز اتباع القائد غير المعصوم بشكل مطلق وفي كافة الجهات، ولا إطاعة مطلقة لغير المعصوم (عليه السلام)، فمجرد أن يكون الشخص يهدي إلى الحق في جهة، لا يعني لزوم اتباعه في جميع الجهات، كما يفعل كثير من الناس.
فالقائد إذا كان قائداً سياسياً وفرض خبرويته واستقامته في هدايته السياسية للناس، فإنه لا يتبع في القضايا الاقتصادية، لعدم خبرته واستقامته وهدايته في هذا الجانب، كما يفعل الكثير من التعميم للاتباع.
ومثاله الواضح الذي ينبغي الالتفاتإليه: العديد ممن يتصف بالأخلاق وحسن السيرة أو التفوق في مجال من المجالات كالرياضة والطب وما أشبه، وهو غير خبير في السياسة والاقتصاد، فإنه لا يصح له الحكم فيهما ما دام ليس له العلم اللازم في ذلك.
فإنه لا يجوز اتباع من لا خبرة له لمجرد خبرته في شأن آخر، وهذا من مزال الأقدام.
ص: 213
..............................
وقد استخدم استخداماً غير صحيح من الطرفين، سلباً وإيجاباً، فيحتاج الأمر إلى تثبت شديد بلا إفراط ولا تفريط، وبدون أن يتخذ ذلك ذريعة للفرار من تحت راية الدين كما يحاول الاستعمار وأذنابه ذلك.
ومثاله الآخر: بعض المثقفين أو المفكرين، ممن يتجاوز نطاق اختصاصه ليفتي في شؤون الدين! فيحسبه البعض أنه حجة لازمة الاتباع، مع أنه لا اختصاص له فيه، ولا حجية لقوله، فإن مثل ذلك مثل من يتبع آراء الطبيب في القضايا الهندسية عندما يرى من حذاقة في الطب، أو بالعكس.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّىإِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»(1).
وعن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: «إِنِّي لاَ أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي مُؤْمِناً وَلاَ مُشْرِكاً، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَحْجُزُهُ إِيمَانُهُ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُ فَيَقْمَعُهُ كُفْرُهُ، وَلَكِنْ أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ مُنَافِقاً عَلِيمَ اللِّسَانِ، يَقُولُ مَا تَعْرِفُونَ، وَيَعْمَلُ مَا تُنْكِرُونَ»(2).
وعن علي بن سويد السائي، قال: كَتَبَ إِلَيَّ أَبُو الْحَسَنِ الأَوَّلُ (عليه السلام) وَهُوَ فِي السِّجْنِ: «وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ - يَا عَلِيُّ - مِمَّنْ تَأْخُذُ مَعَالِمَ دِينِكَ، لاَ تَأْخُذَنَّ مَعَالِمَ دِينِكَ عَنْ غَيْرِ شِيعَتِنَا؛ فَإِنَّكَ إِنْ تَعَدَّيْتَهُمْ أَخَذْتَ دِينَكَ عَنِ الْخَائِنِينَ، الَّذِينَ خَانُوا اللهَ وَرَسُولَهُ،وَخَانُوا أَمَانَاتِهِمْ.إِنَّهُمُ اؤْتُمِنُوا عَلَى كِتَابِ اللهِ جَلَّ وَعَلاَ
ص: 214
..............................
فَحَرَّفُوهُ وَبَدَّلُوهُ، فَعَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ، وَلَعْنَةُ رَسُولِهِ وَمَلاَئِكَتِهِ، وَلَعْنَةُ آبَائِيَ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَلَعْنَتِي وَلَعْنَةُ شِيعَتِي إِلَى يَوْمِالْقِيَامَةِ»(1).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «اعْرِفُوا مَنَازِلَ شِيعَتِنَا بِقَدْرِ مَا يُحْسِنُونَ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ عَنَّا؛ فَإِنَّا لاَ نَعُدُّ الْفَقِيهَ مِنْهُمْ فَقِيهاً حَتَّى يَكُونَ مُحَدَّثاً». فَقِيلَ لَهُ: أَ وَ يَكُونُ الْمُؤْمِنُ مُحَدَّثاً؟!. قَالَ (عليه السلام): «يَكُونُ مُفَهَّماً، وَالْمُفَهَّمُ مُحَدَّثٌ»(2).
مسألة: لا يجوز اتباع من لا يهدي إلا أن يهدى.
وهذا تعريض من الصديقة (صلوات الله عليها) بمن غصب الخلافة من أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، فإنهم صرحوا بعدم هدايتهم في مواطن شتى، قال الثاني: (لَوْلاَ عَلِيٌّ لَهَلَكَ عُمَرُ) (3). وقال: (كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ حَتَّى الْمُخَدَّرَاتُفِي الْحِجَالِ) (4). وغير ذلك (5).
ص: 215
..............................
وكلامها (صلوات الله عليها) هذا اقتباس من الآية الكريمة في سورة يونس(1).
و(يهدّي) بالتشديد: بمعنى يهتدي.
وهذا قانون عقلي، فإن الهادي يجب أن يقتدى به، لا الشخص الذي
ص: 216
..............................
لايتمكن بنفسه من الهداية إلا أن يُهدى، فإن هذا الشخص على قسمين، إما هو ضال فإنه لايصح إتباعه كما هو واضح، وإما هو غير مهتدٍ في ذاته لكن بهداية هادٍ اهتدى، فإن ذلك الهادي أحق بالاتباع.
فالغاصبون ضالون، وعلى رأي أصحابهم مفضولون بتصريحهم، فكيف يُتبعون؟!.
مسألة: هل وجوب إتباع من يهدي إلى الحق، كرسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) طريقي أم موضوعي؟.
الظاهر أن فيه جانب الطريقية وجانب الموضوعية معاً.
إذ فيه الوصول إلى الواقع، وشيء من (المصلحة السلوكية) إن صح التعبير، وفي مضمون الروايات: من طلب الهداية من غير طريقنا أهل البيت ضل، وضل أي في الطلب نفسه، وربما في الوصول للمطلوب أيضاً.
قال أبو جعفر (عليه السلام) لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة: «شَرِّقَا وَغَرِّبَا، فَلاَ تَجِدَانِ عِلْماً صَحِيحاً إِلاَّ شَيْئاً خَرَجَ مِنْ عِنْدِنَا أَهْلَ الْبَيْتِ»(1).
وعن الإمام الحجة (عليه السلام): (طلب المعارف من غير طريقنا أهل البيت مساوق لإنكارنا)(2).
ص: 217
..............................
ولا يستغرب ذلك، فإن الله أراد أن يطاع من حيث أمر، ولذلك استحق إبليس اللعن والإبعاد لأنه رفض السجود لآدم (عليه السلام) رغم أنه عرض على الله أن يسجد بدل ذلك لربه آلاف السنين.
كما لا تقبل طاعات الإنسان وإن عمل ما عمل إذا أنكر رسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فكما أن قبول الرسالة شرط قبول الأعمال، كذلك قبول الولاية، وكما أن (التوحيد) شرط قبول الأعمال كذلك قبول الرسالة والولاية، فلو أشرك الإنسان بالله ثم صلى أبد الدهر لم يقبل منه.
عن محمد بن مسلم، قال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه
السلام) يَقُولُ: «لَيْسَ عِنْدَ أَحَدٍمِنَ النَّاسِ حَقٌّ وَلاَ صَوَابٌ، وَلاَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَقْضِي بِقَضَاءٍ حَقٍّ، إِلاَّ مَا خَرَجَ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ، وَإِذَا تَشَعَّبَتْ بِهِمُ الأُمُورُ كَانَ الْخَطَأُ مِنْهُمْ، وَالصَّوَابُ مِنْ عَلِيٍّ (عليه السلام)»(1).
ص: 218
..............................
وعن زرارة، قال: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام). فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، يَسْأَلُهُ عَنْ قَوْلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ، فَلاَ تَسْأَلُونِّي عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ أَنْبَأْتُكُمْ بِهِ؟. قَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ عِنْدَهُ عِلْمُ شَيْءٍ، إِلاَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، فَلْيَذْهَبِ النَّاسُ حَيْثُ شَاءُوا، فَوَ اللهِ لَيْسَ الأَمْرُ إِلاَّ مِنْ هَاهُنَا»، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى بَيْتِهِ(1).
وعن معلى بن عثمان، عن أبي بصير، قال: قال لي: إِنَّ الْحَكَمَ بْنَ عُتَيْبَةَ مِمَّنْ قَالَ اللهُ: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْبِمُؤْمِنِينَ»(2)، فَلْيُشَرِّقِ الْحَكَمُ وَلْيُغَرِّبْ، أَمَا وَاللهِ لاَ يُصِيبُ الْعِلْمَ إِلاَّ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ نَزَلَ عَلَيْهِمْ جَبْرَئِيلُ»(3).
وعن سلاّم بن سعيد المخزومي، قال: بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ عَبَّادُ بْنُ كَثِيرٍ عَابِدُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَابْنُ شُرَيْحٍ فَقِيهُ أَهْلِ مَكَّةَ، وَعِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) مَيْمُونٌ الْقَدَّاحُ مَوْلَى أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام). فَسَأَلَهُ عَبَّادُ بْنُ كَثِيرٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، فِي كَمْ ثَوْبٍ كُفِّنَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله)؟. قَالَ: «فِي ثَلاَثَةِ أَثْوَابٍ، ثَوْبَيْنِ صُحَارِيَّيْنِ وَثَوْبٍ حِبَرَةٍ، وَكَانَ فِي الْبُرْدِ قِلَّةٌ». فَكَأَنَّمَا ازْوَرَّ عَبَّادُ بْنُ كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ.
ص: 219
..............................
فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): إِنَّ نَخْلَةَ مَرْيَمَ (عليها السلام) إِنَّمَا كَانَتْ عَجْوَةً، وَنَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ، فَمَا نَبَتَ مِنْ أَصْلِهَا كَانَ عَجْوَةً، وَمَا كَانَ مِنْ لُقَاطٍ فَهُوَ لَوْنٌ. فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ عَبَّادُبْنُ كَثِيرٍ لابْنِ شُرَيْحٍ: وَاللهِ، مَا أَدْرِي مَا هَذَا الْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبَهُ لِي أَبُو عَبْدِ اللهِ. فَقَالَ ابْنُ شُرَيْحٍ: هَذَا الْغُلاَمُ يُخْبِرُكَ؛ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ يَعْنِي مَيْمُونٌ، فَسَأَلَهُ. فَقَالَ مَيْمُونٌ: أَمَا تَعْلَمُ مَا قَالَ لَكَ؟. قَالَ: لاَ وَاللهِ. قَالَ: إِنَّهُ ضَرَبَ لَكَ مَثَلَ نَفْسِهِ، فَأَخْبَرَكَ أَنَّهُ وَلَدٌ مِنْ وُلْدِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، وَعِلْمُ رَسُولِ اللهِ عِنْدَهُمْ، فَمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِهِمْ فَهُوَ صَوَابٌ، وَمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِمْ فَهُوَ لُقَاطٌ(1).
وعن أبي بصير، قال: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ شَهَادَةِ وَلَدِ الزِّنَا تَجُوزُ؟. فَقَالَ: «لاَ». فَقُلْتُ: إِنَّ الْحَكَمَ بْنَ عُتَيْبَةَ يَزْعُمُ أَنَّهَا تَجُوزُ. فَقَالَ: «اللَّهُمَّ لاَ تَغْفِرْ ذَنْبَهُ، مَا قَالَ اللهُ لِلْحَكَمِ: «إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ»(2)، فَلْيَذْهَبِ الْحَكَمُ يَمِيناً وَشِمَالاً، فَوَ اللهِ لاَ يُؤْخَذُ الْعِلْمُ إِلاَّ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ نَزَلَ عَلَيْهِمْ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام)»(3).
يقول الشاعر:
ص: 220
..............................
لو أن عبداً أتى بالصالحات غداً *** وود كل نبي مرسل وولي
وقام ما قام قواماً بلا كسل *** وصام ما صام صواماً بلا ملل
وحج ما حج من فرض ومن سنن *** وطاف بالبيت حاف غير منتعل
وطار في الجو لا يأوي إلى أحد *** وغاص في البحر لا يخشى من البلل
وعاش في الناس آلافاً مؤلفة *** خلواً من الذنب معصوماً من الزلل
يكسو اليتامى من الديباج كلهم *** ويطعم البائسين البُر بالعسل
ما كان في الحشر عند الله منتفعاً *** إلا بحب أمير المؤمنين علي
ص: 221
-------------------------------------------
مسألة: يجوز الحلف بهذه الكلمة (لعمري) ويمكن إضافتها إلى مختلف الضمائر، مثل: (لعمرك)، (لعمره)، (لعمرها)، (لعمرنا) وهكذا، كما حلفت الصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها).
ولا يتوهم من اختصاص الحلف بالله تبارك وتعالى عدم جواز غيره، بل المقصود أن بعض الأحكام الفقهية للقسم مختصة بالقسم بالله عزَّ وجل كما في لزوم الوفاء وترتب الحنث والكفارة وبعض مسائل القضاء وما أشبه، وإلا فأصل الحلف بغير الله جائز، كما ورد كثيراً في القرآن الكريم والسنة المطهرة.
قال تعالى: «وَالنَّجْمِ إِذا هَوَى»(1).
وقال سبحانه: «لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ»(2).
وقال تعالى: «وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ»(3).وقال سبحانه: «وَالضُّحَى»(4).
ص: 222
..............................
وقال تعالى: «وَالْعَصْرِ»(1).
وقال سبحانه: «وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى»(2).
وقال تعالى: «وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا»(3).
وقال سبحانه: «وَالْفَجْرِ»(4).
وكذلك قوله تعالى: «لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ»(5) بناءً على كون لا زائدة، بل وإن لم تكن زائدة على ما ذهبنا إليه فإنه نوع قسم.
و(عَمْر) وجمعه (أعمار) بمعنى الحياة، أو خصوص الحياة الطويلة، والأول أظهر.
فالصديقة (صلوات الله عليها) تقسم بعمرها وحياتها وما أقدس عمرها وحياتها، فإنها (عليها السلام) محور عالم الإمكان، ففي الحديث القدسي: «يا أحمد، لولاك لماخلقت الأفلاك، ولولا علي لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما».
ولا يستغرب ذلك فإنها (عليها السلام) العلة المبقية، ولولاها لم يفِ الغرض بخلق الرسول (صلى الله عليه وآله) وخلق علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكان عدم
ص: 223
..............................
خلقها (عليها السلام) نقضاً للغرض، على تفصيل مذكور في محله.
كما لا ينبغي أن يتوهم منه أفضلية الصديقة (عليها السلام) عليهما (صلوات الله عليهما)، إذ الرسول (صلى الله عليه وآله) أفضل منها بلا شك، والإمام علي (عليه السلام) كفو لها، وقيل بأنه أفضل منها، ولا يلزم من كون الشيء الجزء الأخير المحقق للغرض كونه أفضل، كما أن الأمر كذلك بالنسبة لخاتم الأوصياء الإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، فإنه لولاه لما خلق الله محمداً وعلياً وسائر الأئمة (عليهم السلام) بنفس الملاك.
و(عمْر) يستعمل إضافة إلى الإنسان، كما يستعمل إضافة إلى الله تعالى، فيقال (لعمر الله). وهو مبتدأ، وخبره (قسمي) المقدر، وهكذا (لعمره) و(لعمرك).
والظاهر أن الضمير في (لعمرك) كما في قوله تعالى: «لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْيَعْمَهُونَ»(1)، هو كل من له شأنية الاستماع، ومن يتأتى منه استماعه، فهو مثل قوله تعالى: «وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُسِهِمْ»(2). وإن كان بعض آيات القسم أو الخطاب خاصاً برسول الله (صلى الله عليه وآله)، مثل: «إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ»(3) وما أشبه ذلك.
ص: 224
..............................
مسألة: يحرم تكذيب مثل فاطمة الزهراء (عليها السلام)، أو التشكيك في كلامها، وحتى الشك فيما لو كانت مقدماته اختيارية.
وفي غير الاختياري لابد من العمل على المقدمات، فيقوي إيمانه بالله والرسول (صلى الله عليه وآله) والعترة الطاهرة (عليهم السلام).
وتشتد الحرمة في ما كان لمثلها (صلوات الله عليها) به عناية، أو ما زادت التأكيد عليه، كما في المقام حيث أقسمت (صلوات الله عليها) بعمرها.فلا يجوز التشكيك بكلامها المجرد عن القسم فكيف بما إذا أقسمت.
عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «الْكَذِبُ عَلَى اللهِ، وَعَلَى رَسُولِ اللهِ، وَعَلَى الأَوْصِيَاءِ، مِنَ الْكَبَائِرِ». وَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقَلُّهُ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»(1).
وعن أبي النعمان، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «يَا أَبَا النُّعْمَانِ، لاَتَكْذِبْ عَلَيْنَا كَذِبَةً فَتُسْلَبَ الْحَنِيفِيَّةَ، وَلاَ تَطْلُبَنَّ أَنْ تَكُونَ رَأْساً فَتَكُونَ ذَنَباً، وَلاَ تَسْتَأْكِلِ النَّاسَ بِنَا فَتَفْتَقِرَ؛ فَإِنَّكَ مَوْقُوفٌ لاَ مَحَالَةَ وَمَسْئُولٌ، فَإِنْ صَدَقْتَ صَدَّقْنَاكَ، وَإِنْ كَذَبْتَ كَذَّبْنَاكَ»(2).
وعن أبي بصير، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ الْكَذِبَةَ
ص: 225
..............................
لَتُفَطِّرُ الصَّائِمَ». قُلْتُ: وَأَيُّنَا لاَ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ!. قَالَ: «لَيْسَ حَيْثُ ذَهَبْتَ، إِنَّمَا ذَلِكَ الْكَذِبُ عَلَى اللهِ، وَعَلَى رَسُولِهِ، وَعَلَىالأَئِمَّةِ (صلوات الله عليهم)»(1).
وعن أحمد بن محمد بن عيسى، عن بعض أصحابه، رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: ذُكِرَ الْحَائِكُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) أَنَّهُ مَلْعُونٌ. فَقَالَ: «إِنَّمَا ذَاكَ الَّذِي يَحُوكُ الْكَذِبَ عَلَى اللهِ وَعَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وآله)»(2).
وعن جابر بن يزيد الجعفي، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «مَا أَحَدٌ أَكْذَبَ عَلَى اللهِ وَلاَ عَلَى رَسُولِهِ، مِمَّنْ كَذَّبَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، أَوْ كَذَبَ عَلَيْنَا؛ لأَنَّا إِنَّمَا نُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَعَنِ اللهِ، فَإِذَا كَذَّبَنَا فَقَدْ كَذَّبَ اللهَ وَرَسُولَهُ»(3).
ص: 226
-------------------------------------------
مسألة: الأثر الوضعي هو نوع جزاء للإنسان، فالصديقة (صلوات الله عليها) تصرح بأن ما فعله القوم كان علة، وهذا الأثر الوضعي وهو الحمل بالفتنة هو المعلول، فهم الملامون، وهم الذين يتحملون مسؤولية قبيح أفعالهم كاملاً.
وهكذا تكون لكثير من الذنوب الآثار الوضعية من تغيير النعم وزوالها وما أشبه.
عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «الذُّنُوبُ الَّتِي تُغَيِّرُ النِّعَمَ: الْبَغْيُ، وَالذُّنُوبُ الَّتِي تُورِثُ النَّدَمَ: الْقَتْلُ، وَالَّتِي تُنْزِلُ النِّقَمَ: الظُّلْمُ، وَالَّتِي تَهْتِكُ السِّتْرَ: شُرْبُ الْخَمْرِ، وَالَّتِي تَحْبِسُ الرِّزْقَ: الزِّنَا، وَالَّتِي تُعَجِّلُ الْفَنَاءَ: قَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَالَّتِي تَرُدُّ الدُّعَاءَ وَتُظْلِمُ الْهَوَاءَ: عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ»(1).
وعن إسحاق بن عمار، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه
السلام) يَقُولُ: «كَانَ أَبِي (عليه السلام) يَقُولُ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِيتُعَجِّلُ الْفَنَاءَ، وَتُقَرِّبُ الآجَالَ، وَتُخْلِي الدِّيَارَ، وَهِيَ: قَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَالْعُقُوقُ، وَتَرْكُ الْبِرِّ»(2).
وعن صفوان بن يحيى، قال: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «إِذَا فَشَا أَرْبَعَةٌ ظَهَرَتْ أَرْبَعَةٌ: إِذَا فَشَا الزِّنَا ظَهَرَتِ الزَّلْزَلَةُ، وَإِذَا
ص: 227
..............................
فَشَا الْجَوْرُ فِي الْحُكْمِ احْتَبَسَ الْقَطْرُ، وَإِذَا خُفِرَتِ الذِّمَّةُ أُدِيلَ لأَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ، وَإِذَا مُنِعَتِ الزَّكَاةُ ظَهَرَتِ الْحَاجَةُ»(1).
مسألة: الأثر الوضعي غير خاص بالفعل، بل إن التفكير أيضاً له أثر وضعي، والتصديق والتكذيب، والنية الصالحة والطالحة، والرضا بفعل والسخط عليه، وكذلك الكلام، وهكذا مختلف أنواعالتصرفات الجوانحية والجوارحية، كل منها له (لقاح) وله (نظرة ريثما ينتج).
(لقد لقحت) لقح أي حمل، ولقحت الدابة: حملت، ولقحت الحرب: هاجت بعد سكن.
والمعنى أن هذه الفتنة التي أشعلوا نارها، وهذا الانقلاب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي قاموا به، حملت بمآسي ومشاكل وفجائع كبرى ستظهر بعد حين.
وقد ورد في الزيارة: «فَحُشِرَ سِفْلَةُ الأَعْرَابِ، وَبَقَايَا الأَحْزَابِ، إِلَى دَارِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَمَهْبِطِ الْوَحْيِ وَالْمَلائِكَةِ، وَمُسْتَقَرِّ سُلْطَانِ الْوَلاَيَةِ، وَمَعْدِنِ الْوَصِيَّةِ وَالْخِلاَفَةِ وَالإِمَامَةِ، حَتَّى نَقَضُوا عَهْدَ الْمُصْطَفَى فِي أَخِيهِ عَلَمِ الْهُدَى، وَالْمُبَيِّنِ طَرِيقَ النَّجَاةِ مِنْ طُرُقِ الرَّدَى، وَجَرَحُوا كَبِدَ خَيْرِ الْوَرَى، فِي ظُلْمِ ابْنَتِهِ،
ص: 228
..............................
وَاضْطِهَادِ حَبِيبَتِهِ، وَاهْتِضَامِ عَزِيزَتِهِ، وَبَضْعَةِ لَحْمِهِ، وَفِلْذَةِ كَبِدِهِ، وَخَذَلُوا بَعْلَهَا، وَصَغَّرُوا قَدْرَهُ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُ، وَقَطَعُوا رَحِمَهُ، وَأَنْكَرُوا أُخُوَّتَهُ، وَهَجَرُوا مَوَدَّتَهُ، وَنَقَضُوا طَاعَتَهُ، وَجَحَدُوا وَلايَتَهُ، وَأَطْمَعُوا الْعَبِيدَ فِي خِلاَفَتِهِ،وَقَادُوهُ إِلَى بَيْعَتِهِمْ، مُصْلِتَةً سُيُوفَهَا، مُشْرِعَةً أَسِنَّتَهَا، وَهُوَ سَاخِطُ الْقَلْبِ، هَائِجُ الْغَضَبِ، شَدِيدُ الصَّبْرِ، كَاظِمُ الْغَيْظِ، يَدْعُونَهُ إِلَى بَيْعَتِهِمُ الَّتِي عَمَّ شُؤْمُهَا الإِسْلاَمَ، وَزَرَعَتْ فِي قُلُوبِ أَهْلِهَا الآثَامَ، وَعَقَّتْ سَلْمَانَهَا، وَطَرَدَتْ مِقْدَادَهَا، وَنَفَتْ جُنْدَبَهَا، وَفَتَقَتْ بَطْنَ عَمَّارِهَا، وَحَرَّفَتِ الْقُرْآنَ، وَبَدَّلَتِ الأَحْكَامَ، وَغَيَّرَتِ الْمَقَامَ، وَأَبَاحَتِ الْخُمُسَ لِلطُّلَقَاءِ، وَسَلَّطَتْ أَوْلاَدَ اللُّعَنَاءِ عَلَى الْفُرُوجِ، وَخَلَطَتِ الْحَلالَ بِالْحَرَامِ، وَاسْتَخَفَّتْ بِالإِيمَانِ وَالإِسْلاَمِ، وَهَدَمَتِ الْكَعْبَةَ، وَأَغَارَتْ عَلَى دَارِ الْهِجْرَةِ يَوْمَ الْحَرَّةِ، وَأَبْرَزَتْ بَنَاتِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ لِلنَّكَالِ وَالسَّوْءَةِ، وَأَلْبَسَتْهُنَّ ثَوْبَ الْعَارِ وَالْفَضِيحَةِ، وَرَخَّصَتْ لأَهْلِ الشُّبْهَةِ فِي قَتْلِ أَهْلِ بَيْتِ الصَّفْوَةِ، وَإِبَادَةِ نَسْلِهِ، وَاستيطال [اسْتِيصَالِ] شَافَتِهِ، وَسَبْيِ حَرَمِهِ، وَقَتْلِ أَنْصَارِهِ، وَكَسْرِ مِنْبَرِهِ، وَقَلْبِ مَفْخَرِهِ، وَإِخْفَاءِ دِينِهِ، وَقَطْعِ ذِكْرِهِ»(1).
مسألة: يحمل الإنسان إثم ومسؤولية كل ما نتج عن أفعاله، سواء كانت آثاراًمباشرة أو بالواسطة، فإن الآثام الطولية هي آثار للمعاصي، سواء علم بأن
ص: 229
..............................
ذلك سينتج كل تلك الآثار أم لم يعلم، فلو قتل امرأة فمات رضيعها على أثر موتها، يعاقب في الآخرة عقوبتين(1)، وإن لم يعلم بوجود رضيع لها، أو وإن لم يقصد ذلك.
ولذلك فإن كل المعاصي والآثام على مرور الأزمان والدهور آثامها على كاهل الأول والثاني، فإنهما السبب في انحراف وفساد العالم بأجمعه.
قال ابن الخطاب: (مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ، أَنَا أَنْهَى عَنْهُمَا وَمُعَاقِبٌ عَلَيْهِمَا) (2).
وقال الحكم بن عيينة، قال علي (عليه السلام): «لَوْلاَ أَنَّ عُمَرَ نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ، مَا زَنَى إِلاَّ شَقِيٌّ»(3).وعن عبد الله بن سليمان، قال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: «كَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) يَقُولُ: لَوْلاَ مَا سَبَقَنِي بِهِ بَنِي الْخَطَّابِ، مَا زَنَى إِلاَّ شَقِيٌّ»(4).
وعن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ عُمَرَ لَمَّا وُلِّيَ خَطَبَ عَلَى مِنْبَرِ مَكَّةَ. فَقَالَ: أَمْرَانِ حَلاَلٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَأَنَا أَضْرِبُكُمْ عَلَيْهِمَا، وَأَنْهَاكُمْ عَنْهُمَا: مُتْعَةُ النِّسَاءِ، وَمُتْعَةُ الْحَجِّ. ثُمَّ نَزَلَ، فَأَتَاهُ عُنُقٌ مِنَ النَّاسِ فَقَالُوا... قَالَ: مَا نَظَرْتُ فِي ذَلِكَ إِلاَّ لَكُمْ، نَظَرْتُ إِلَى مَكَّةَ، فَرَأَيْتُهَا جَدْبَةً
ص: 230
..............................
سَدِيدَةَ الْمَعِيشِ. فَقُلْتُ: إِذَا دَخَلَ النَّاسُ مُتَمَتِّعِينَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ قَائِماً لَهُمْ سُوقٌ وَاحِدَةٌ فِي السَّنَةِ، وَإِذَا أَخَذَتْهُمْ بِالْعُمْرَةِ عَلَى وَاحِدَةٍ، وَالْحَجُّ عَلَى وَاحِدَةٍ، كَانَ لَهُمْ سُوقَانِ فِي السَّنَةِ، فَهُوَ عَيْشٌ لَهُمْ. وَأَمَّا مُتْعَةُ النِّسَاءِ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَطِيبُ نَفْسُهُ أَنْ يُزَوِّجَ أُخْتَهُ وَابْنَتَهُ وَخَالَتَهُ وَعَمَّتَهُ رَجُلاً لاَ يَدْرِي مَنْ هُوَ وَلاَ نِسْبَتَهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ يَأْخُذُ الرَّجُلُ الطَّرِيقَ فَيَذْهَبُ، فَيَلِدُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلاَ يَدْرِي إِلَى مَنْ يَنْسُبُهُ. قَالَ: فَخَرَجُوا يُصَفِّقُونَبِأَيْدِيهِمْ، وَيَقُولُونَ: الْقَوْلُ قَوْلُهُ». قَالَ: فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «لَوْلاَ مَا هُوَ مَا زَنَى إِلاَّ شَقِيٌ»(1).
ومن كتاب لأمير المؤمنين (عليه السلام) كتبه لمعاوية (لعنه الله)، قال: «وَاللهِ، لَقَدْ أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَعَرَّفَنِي، أَنَّهُ رَأَى عَلَى مِنْبَرِهِ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً أَئِمَّةَ ضَلاَلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، يَصْعَدُونَ مِنْبَرَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَيَنْزِلُونَ، عَلَى صُورَةِ الْقُرُودِ، يَرُدُّونَ أُمَّتَهُ عَلَى أَدْبَارِهُمْ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، قَدْ خَبَّرَنِي بِأَسْمَائِهِمْ رَجُلاً رَجُلاً، وَكَمْ يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، عَشَرَةٌ مِنْهُمْ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، وَرَجُلاَنِ مِنْ حَيَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ، عَلَيْهِمَا مِثْلُ أَوْزَارِ الأُمَّةِ جَمِيعاً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمِثْلُ جَمِيعِ عَذَابِهِمْ، فَلَيْسَ مِنْ دَمٍ يُهَرَاقُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، وَلاَ فَرْجٍ يُغْشَى حَرَاماً، وَلاَ حُكْمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِمَا وِزْرُهُ. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّ بَنِي الْعَاصِ إِذَا بَلَغُوا ثَلاَثِينَ رَجُلاً، جَعَلُوا كِتَابَ اللهِ دَخَلاً، وَعِبَادَ اللهِ خَوَلاً، وَمَالَ اللهِ دُوَلاً»(2).
ص: 231
..............................
وعن المنذر الثوري، قال: سَمِعْتُ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ (عليهما السلام) يَقُولُ: «إِنَّ ابن أبي قحافة وابن الخطاب عَمَدَا إِلَى الأَمْرِ - وَهُوَ لَنَا كُلُّهُ - فَجَعَلاَ لَنَا فِيهِ سَهْماً كَسَهْمِ الْجَدَّةِ. أَمَا وَاللهِ لَتَهْمِزُ بِهِمَا أَنْفُسُهُمَا، يَوْمَ يَطْلُبُ النَّاسُ فِيهِ شَفَاعَتَنَا»(1).
وروي عنه (عليه السلام) أنه سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ ابن أبي قحافة وابن الخطاب فَقَالَ: «وَاللهِ لَقَدْ ضَيَّعَانَا، وَذَهَبَا بِحَقِّنَا، وَجَلَسَا مَجْلِساً كُنَّا أَحَقَّ بِهِ مِنْهُمَا، وَوَطِئَا عَلَى أَعْنَاقِنَا، وَحَمَلاَ النَّاسَ عَلَى رِقَابِنَا»(2).
وعن أبي الجارود زياد بن المنذر، قال: سُئِلَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليهما السلام) عَنْ ابن أبي قحافة وابن الخطاب، فَقَالَ: «أَضَعَنَا بِآيَاتِنَا، وَاضْطَجَعَا بِسَبِيلِنَا، وَحَمَلاَ النَّاسَ عَلَى رِقَابِنَا»(3).وعن القاسم بن مسلم، قال: كُنْتُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليهما السلام) بِيَنْبُعَ يَدِي فِي يَدِهِ، فَقُلْتُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، أَ تَبْرَأُ مِنْ عَدُوِّهِمَا؟. فَغَضِبَ وَرَمَى بِيَدِهِ مِنْ يَدِي، ثُمَّ قَالَ: «وَيْحَكَ - يَا قَاسِمُ - هُمَا أَوَّلُ مَنْ أَضَعَنَا بِآيَاتِنَا، وَاضْطَجَعَا بِسَبِيلِنَا، وَحَمَلاَ النَّاسَ عَلَى رِقَابِنَا، وَجَلَسَا مَجْلِساً كُنَّا أَحَقَّ
ص: 232
..............................
بِهِ مِنْهُمَا»(1).
وعن كثير النواء، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سَأَلْتُهُ عَنْ ابن أبي قحافة وابن الخطاب؟. فَقَالَ: «هُمَا أَوَّلُ مَنِ انْتَزَى عَلَى حَقِّنَا، وَحَمَلاَ النَّاسَ عَلَى أَعْنَاقِنَا وَأَكْتَافِنَا، وَأَدْخَلاَ الذُّلَّ بُيُوتَنَا»(2).
وعن بشير، قال: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ ابن أبي قحافة وابن الخطاب, فَلَمْ يُجِبْنِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَلَمْيُجِبْنِي، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الثَّالِثَةِ، قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَخْبِرْنِي عَنْهُمَا؟. فَقَالَ: «مَا قُطِرَتْ قَطْرَةُ دَمٍ مِنْ دِمَائِنَا، وَلاَ مِنْ دِمَاءِ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ وَهِيَ فِي أَعْنَاقِهِمَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(3).
ص: 233
-------------------------------------------
مسألتان: يجب في الجملة تحذير الظالم وتنبيهه لعواقب ظلمه، كما يجب تنبيه الناس لعواقب ظلم الظالم عليهم، وما سيترتب على ذلك من المشاكل والمساوئ والمآسي والفجائع والعقوبات.
ووجوب التحذير والتنبيه ليس خاصاً بما إذا علم أو ظن أو احتمل التأثير، بل ربما حتى إذا علم بعدمه، في صورة كونه معذرة، قال تعالى: «وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ»(1)، وإتماماً للحجة، قال سبحانه: «رُسُلًا مُبَشِّرينَ وَمُنْذِرينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا»(2).
وكذا في صورة تأثيره على الآخرين، كما صنعت الصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها) هاهنا.
و(النظرة): على وزن كتفة، من الانتظار أي الإمهال والتأخير في الأمر، أي انتظروا إلى زمن انتاجها، كقولهتعالى: «فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ»(3).
وكأنه خبر لمبتدأ محذوف، أي الواجب النظرة، أو اللازم، أو المطلوب.
ص: 234
..............................
أو مصدر لفعل مقدر منصوب، أي فانتظرة نظرة، أي بقدر ما تنتج هذه الفتنة كنتاج الناقة.
عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «اتَّقُوا الظُّلْمَ! فَإِنَّهُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(1).
وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَظْلِمُ مَظْلِمَةً، إِلاَّ أَخَذَهُ اللهُ بِهَا فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ فَإِذَا تَابَ غَفَرَ لَهُ»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ ظَلَمَ مَظْلِمَةً أُخِذَ بِهَا فِي نَفْسِهِ، أَوْفِي مَالِهِ، أَوْ فِي وُلْدِهِ»(3).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) - فِي قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ»(4) - قَالَ: «قَنْطَرَةٌ عَلَى الصِّرَاطِ لاَ يَجُوزُهَا عَبْدٌ بِمَظْلِمَةٍ»(5).
وعن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «لَمَّا حَضَرَ
ص: 235
..............................
عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) الْوَفَاةُ ضَمَّنِي إِلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ، أُوصِيكَ بِمَا أَوْصَانِي بِهِ أَبِي حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، وَبِمَا ذَكَرَ أَنَّ أَبَاهُ أَوْصَاهُ بِهِ قَالَ: يَا بُنَيَّ، إِيَّاكَ وَظُلْمَ مَنْ لاَ يَجِدُ عَلَيْكَ نَاصِراً إِلاَّ اللهَ»(1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَنْخَافَ الْقِصَاصَ كَفَّ عَنْ ظُلْمِ النَّاسِ»(2).
وعن إسحاق بن عمار، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «مَنْ أَصْبَحَ لاَ يَنْوِي ظُلْمَ أَحَدٍ، غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا أَذْنَبَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، مَا لَمْ يَسْفِكْ دَماً، أَوْ يَأْكُلْ مَالَ يَتِيمٍ حَرَاماً»(3).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) - في حديث - قال: «أَمَا إِنَّهُ مَا ظَفِرَ بِخَيْرٍ مَنْ ظَفِرَ بِالظُّلْمِ، أَمَا إِنَّ الْمَظْلُومَ يَأْخُذُ مِنْ دِينِ الظَّالِمِ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْخُذُ الظَّالِمُ مِنْ مَالِ الْمَظْلُومِ» ثُمَّ قَالَ: «مَنْ يَفْعَلِ الشَّرَّ بِالنَّاسِ فَلاَ يُنْكِرِ الشَّرَّ إِذَا فُعِلَ بِهِ»(4).
وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «الظُّلْمُ فِي الدُّنْيَا هُوَ الظُّلُمَاتُ فِي الآخِرَةِ»(5).
ص: 236
..............................
وعن علي بن سالمٍ، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي، لاَ أُجِيبُ دَعْوَةَ مَظْلُومٍ دَعَانِي فِي مَظْلِمَةٍ ظُلِمَهَا، وَلأَحَدٍ عِنْدَهُ مِثْلُ تِلْكَ الْمَظْلِمَةِ»(1).
وعن زيد بن علي بن الحسين، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: «يَأْخُذُ الْمَظْلُومُ مِنْ دِينِ الظَّالِمِ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْخُذُ الظَّالِمُ مِنْ دُنْيَا الْمَظْلُومِ»(2).
وعن جعفر بن محمد (عليه السلام)، قال: «مَنِ ارْتَكَبَ أَحَداً بِظُلْمٍ بَعَثَ اللهُ مَنْ ظَلَمَهُ مِثْلَهُ، أَوْ عَلَى وُلْدِهِ، أَوْ عَلَى عَقِبِهِ مِنْ بَعْدِهِ»(3).
وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَعْظَمُ الْخَطَايَا اقْتِطَاعُ مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ»(4).وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبْغِضُ الْغَنِيَّ الظَّلُومَ»(5).
ص: 237
..............................
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنِّي لَعَنْتُ سَبْعاً لَعَنَهُمُ اللهُ وَكُلُّ نَبِيٍّ مُجَابٍ. قِيلَ: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟. قَالَ: «الزَّائِدُ فِي كِتَابِ اللهِ، وَالْمُكَذِّبُ بِقَدَرِ اللهِ، وَالْمُخَالِفُ لِسُنَّتِي، وَالْمُسْتَحِلُّ مِنْ عِتْرَتِي مَا حَرَّمَ اللهُ، وَالْمُسَلَّطُ بِالْجَبَرُوتِ لِيُعِزَّ مَنْ أَذَلَّ اللهُ وَيُذِلَّ مَنْ أَعَزَّ اللهُ، وَالْمُسْتَأْثِرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِفَيْئِهِمْ مُنْتَحِلاً لَهُ، وَالْمُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ»(1).
مسألة: من سنن الله تعالى أنه يُنظِر ويُمهِل ولكنه لا يُهمِل، فيجب الحذر والاعتبار من المهلة التي يعطيها الله للعاصي والطاغي، حذراً من كونه كما قالسبحانه: «وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ»(2).
قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إِنَّ اللهَ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْراً فَأَذْنَبَ ذَنْباً، أَتْبَعَهُ بِنَقِمَةٍ، وَيُذَكِّرُهُ الاِسْتِغْفَارَ. وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرّاً فَأَذْنَبَ ذَنْباً، أَتْبَعَهُ بِنِعْمَةٍ لِيُنْسِيَهُ الاِسْتِغْفَارَ، وَيَتَمَادَى بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ»(3) بِالنِّعَمِ عِنْدَ الْمَعَاصِي»(4).
ص: 238
..............................
وسُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنِ الاِسْتِدْرَاجِ. فَقَالَ: «هُوَ الْعَبْدُ يُذْنِبُ الذَّنْبَ، فَيُمْلَى لَهُ وَتُجَدَّدُ لَهُ عِنْدَهَا النِّعَمُ، فَتُلْهِيهِ عَنِ الاِسْتِغْفَارِ مِنَ الذُّنُوبِ، فَهُوَ مُسْتَدْرَجٌ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُ»(1).
وعن سماعة بن مهران، قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه
السلام) عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ»(2)؟. قَالَ: «هُوَالْعَبْدُ يُذْنِبُ الذَّنْبَ، فَتُجَدَّدُ لَهُ النِّعْمَةُ مَعَهُ، تُلْهِيهِ تِلْكَ النِّعْمَةُ عَنِ الاِسْتِغْفَارِ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ»(3).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «كَمْ مِنْ مَغْرُورٍ بِمَا قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ، وَكَمْ مِنْ مُسْتَدْرَجٍ بِسَتْرِ اللهِ عَلَيْهِ، وَكَمْ مِنْ مَفْتُونٍ بِثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ»(4).
مسألة: في مثل موارد قول الصديقة (صلوات الله عليها): «فَنَظِرَةٌ رَيْثَمَا تُنْتَجُ»، هل يمكن تغيير المستبقل؟.
أي هل يمكن الحيلولة دون الآثار الوضعية لما اقترفه الإنسان أو المجتمع بحق نفسه أو الآخرين؟.
ص: 239
..............................
قد يكون في الجملة ممكناً، وذلك بالتوجه الصادق وبالتضرع إلى الله وبمحاولة جبر ما أمكن من الكسر.
قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُكَفَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا»(1).
وقولنا: (في الجملة)؛ لأن قسماً من الآثار لا يمكن تداركها، كما في قوله: «سبقتكم دعوة مستجابة»، وتفصيل البحث في مظانه.
عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إِنَّهُ مَا مِنْ سَنَةٍ أَقَلَّ مَطَراً مِنْ سَنَةٍ، وَلَكِنَّ اللهَ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ. إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا عَمِلَ قَوْمٌ بِالْمَعَاصِي، صَرَفَ عَنْهُمْ مَا كَانَ قَدَّرَ لَهُمْ مِنَ الْمَطَرِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَإِلَى الْفَيَافِي، وَالْبِحَارِ، وَالْجِبَالِ. وَإِنَّ اللهَ لَيُعَذِّبُ الْجُعَلَ فِي جُحْرِهَا بِحَبْسِ الْمَطَرِ عَنِ الأَرْضِ الَّتِي هِيَ بِمَحَلِّهَا، بِخَطَايَا مَنْ بِحَضْرَتِهَا، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهَا السَّبِيلَ فِي مَسْلَكٍ سِوَى مَحَلَّةِ أَهْلِ الْمَعَاصِي» قَالَ: ثُمَّ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام):« «فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ»(2)»(3).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ الرَّجُلَ يُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيُحْرَمُ صَلاَةَ اللَّيْلِ، وَإِنَّ الْعَمَلَ السَّيِّءَ أَسْرَعُ فِيصَاحِبِهِ مِنَ السِّكِّينِ فِي اللَّحْمِ»(4).
ص: 240
..............................
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلاَ يَعْمَلْهَا؛ فَإِنَّهُ رُبَّمَا عَمِلَ الْعَبْدُ السَّيِّئَةَ، فَيَرَاهُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَيَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي، لاَ أَغْفِرُ لَكَ بَعْدَ ذَلِكَ أَبَداً»(1).
وعن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: «حَقٌّ عَلَى اللهِ أَنْ لاَ يُعْصَى فِي دَارٍ إِلاَّ أَضْحَاهَا لِلشَّمْسِ حَتَّى تُطَهِّرَهَا»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْبَسُ عَلَى ذَنْبٍ مِنْ ذُنُوبِهِ مِائَةَ عَامٍ، وَإِنَّهُ لَيَنْظُرُ إِلَى أَزْوَاجِهِ فِي الْجَنَّةِ يَتَنَعَّمْنَ»(3).
وعن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال: «مَا مِنْ عَبْدٍ إِلاَّ وَفِيقَلْبِهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، فَإِذَا أَذْنَبَ ذَنْباً خَرَجَ فِي النُّكْتَةِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِنْ تَابَ ذَهَبَ ذَلِكَ السَّوَادُ، وَإِنْ تَمَادَى فِي الذُّنُوبِ، زَادَ ذَلِكَ السَّوَادُ حَتَّى يُغَطِّيَ الْبَيَاضَ، فَإِذَا غَطَّى الْبَيَاضَ لَمْ يَرْجِعْ صَاحِبُهُ إِلَى خَيْرٍ أَبَداً، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(4)»(5).
وعن علي بن أسباط، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لاَ تُبْدِيَنَّ عَنْ وَاضِحَةٍ وَقَدْ عَمِلْتَ الأَعْمَالَ الْفَاضِحَةَ،
ص: 241
..............................
وَلاَتَأْمَنِ الْبَيَاتَ وَقَدْ عَمِلْتَ السَّيِّئَاتِ»(1).
وعن أبي عمرو المدائني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «كَانَ أَبِي (عليه السلام) يَقُولُ: إِنَّ اللهَ قَضَى قَضَاءً حَتْماً، أن لا يُنْعِمَ عَلَى الْعَبْدِ بِنِعْمَةٍ فَيَسْلُبَهَا إِيَّاهُ حَتَّى يُحْدِثَ الْعَبْدُ ذَنْباً يَسْتَحِقُّ بِذَلِكَ النَّقِمَةَ»(2).وعن سدير، قال: سَأَلَ رَجُلٌ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ»(3) الآيَةَ؟. فَقَالَ: «هَؤُلاَءِ قَوْمٌ كَانَتْ لَهُمْ قُرًى مُتَّصِلَةٌ، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَأَنْهَارٌ جَارِيَةٌ، وَأَمْوَالٌ ظَاهِرَةٌ، فَكَفَرُوا نِعَمَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَغَيَّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ عَافِيَةِ اللهِ، فَغَيَّرَ اللهُ مَا بِهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ، وَ«إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ»(4)، فَأَرْسَلَ اللهُ «عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ»(5) فَغَرَّقَ قُرَاهُمْ، وَخَرَّبَ دِيَارَهُمْ، وَأَذْهَبَ أَمْوَالَهُمْ، وَأَبْدَلَهُمْ مَكَانَ جَنَّاتِهِمْ «جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ»(6)، ثُمَّ قَالَ:«ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ»(7)»(8).
ص: 242
..............................
وعن سماعة،قال:سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «مَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَسَلَبَهَا إِيَّاهُ، حَتَّى يُذْنِبَ ذَنْباًيَسْتَحِقُّ بِذَلِكَ السَّلْبَ»(1).
وعن الهيثم بن واقد الجزري، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ نَبِيّاً مِنْ أَنْبِيَائِهِ إِلَى قَوْمِهِ، وَأَوْحَى إِلَيْهِ أَنْ قُلْ لِقَوْمِكَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ وَلاَ أُنَاسٍ كَانُوا عَلَى طَاعَتِي فَأَصَابَهُمْ فِيهَا سَرَّاءُ فَتَحَوَّلُوا عَمَّا أُحِبُّ إِلَى مَا أَكْرَهُ إِلاَّ تَحَوَّلْتُ لَهُمْ عَمَّا يُحِبُّونَ إِلَى مَا يَكْرَهُونَ. وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ وَلاَ أَهْلِ بَيْتٍ كَانُوا عَلَى مَعْصِيَتِي فَأَصَابَهُمْ فِيهَا ضَرَّاءُ فَتَحَوَّلُوا عَمَّا أَكْرَهُ إِلَى مَا أُحِبُّ إِلاَّ تَحَوَّلْتُ لَهُمْ عَمَّا يَكْرَهُونَ إِلَى مَا يُحِبُّونَ. وَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، فَلاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَتِي؛ فَإِنَّهُ لاَ يَتَعَاظَمُ عِنْدِي ذَنْبٌ أَغْفِرُهُ. وَقُلْ لَهُمْ: لاَ يَتَعَرَّضُوا مُعَانِدِينَ لِسَخَطِي، وَلاَ يَسْتَخِفُّوا بِأَوْلِيَائِي؛ فَإِنَّ لِي سَطَوَاتٍ عِنْدَ غَضَبِي، لاَ يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ مِنْ خَلْقِي»(2).
وعن سليمان الجعفري، عن الرضا (عليه السلام) قال: «أَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى نَبِيٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ: إِذَا أُطِعْتُ رَضِيتُ، وَإِذَا رَضِيتُ بَارَكْتُ، وَلَيْسَ لِبَرَكَتِي نِهَايَةٌ. وَإِذَا عُصِيتُ غَضِبْتُ، وَإِذَا غَضِبْتُ لَعَنْتُ، وَلَعْنَتِيتَبْلُغُ السَّابِعَ مِنَ الْوَرَى»(3).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَكْثُرُ بِهِ الْخَوْفُ مِنَ
ص: 243
..............................
السُّلْطَانِ، وَمَا ذَلِكَ إِلاَّ بِالذُّنُوبِ، فَتَوَقَّوْهَا مَا اسْتَطَعْتُمْ وَلاَ تَمَادَوْا فِيهَا»(1).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لاَ وَجَعَ أَوْجَعُ لِلْقُلُوبِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَلاَ خَوْفَ أَشَدُّ مِنَ الْمَوْتِ، وَكَفَى بِمَا سَلَفَ تَفَكُّراً، وَكَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظاً»(2).
وعن العباس بن هلال الشامي - مولى لأبي الحسن موسى (عليه السلام) - قال: سَمِعْتُ الرِّضَا (عليه السلام) يَقُولُ: «كُلَّمَا أَحْدَثَ الْعِبَادُ مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْمَلُونَ، أَحْدَثَ اللهُ لَهُمْ مِنَ الْبَلاَءِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ»(3).
ص: 244
-------------------------------------------
إن الناقة إذا ولدت، فإنها يحلب منها اللبن، أما الفتنة فإنها إذا لقحت ثم أنتجت فإنها يحلب منها الدم لا اللبن.
(القعب) القدح الضخم الغليظ، الذي يستحلب فيه.
(العبيط) الطري الغليظ.
وهذا أكبر تحذير وإنذار من الصديقة فاطمة (صلوات الله عليها) لهم، حيث أنذرتهم بأن المستقبل مظلم ومخيف وخطر، فإن قدحهم، أي معيشتهم وحياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، سيمتلأ من الدم الطري الغليظ.
وذلك لأن غصب الخلافة سبب خراب بلاد المسلمين والضياع والإنحراف والفتن، وقد حصل كل ذلك للأمة من أول يوم وإلى يومنا هذا، من قصة اعتداء خالد بن الوليد على مالك بن نويرة وعشيرته وما أشبه، ثم تحكم الدكتاتوريات على مر التاريخ، بل والفساد الذي عم الاقتصاد والاجتماع حتى في أفضل الأزمنة السابقة نسبياً، مما لولاها لكانت الأرضجنة، كما قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(1).
ص: 245
..............................
وقال سبحانه: «كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزيزٍ مُقْتَدِرٍ»(1).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) لما أراده الناس على البيعة بعد قتل عثمان: «دَعُونِي وَالْتَمِسُوا غَيْرِي؛ فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَأَلْوَانٌ، لاَ تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ، وَلاَ تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ، وَإِنَّ الآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ، وَالْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ. وَاعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ، وَلَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ، وَعَتْبِ الْعَاتِبِ، وَإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ، وَلَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وَأَطْوَعُكُمْ لِمَنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ، وَأَنَا لَكُمْ وَزِيراً خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً»(2).
مسألة: لكل معصية آثار، وخذلان المعصومين (عليهم السلام) من أكبر المعاصي على الإطلاق، وآثارها لا يمكن أن تعد أو تحصى أو تتصور.
وأكبر نتائج خذلان المرء أو الأمة لأولياء الله المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين)، هو أن الباري سبحانه وتعالى سيخذل من خذلهم، وإذا خذل الله الإنسان فإنه سوف لن يجد نصيراً من دونه، قال تعالى: «وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ»(3)، وسيخسر الإنسان عند ذلك آخرته ودنياه.
ص: 246
..............................
وخذلان الله للإنسان هو من أهم العقوبات وربما أهمها على الإطلاق، التي يواجهها البشر، ولذلك جعله الله عقوبة الشرك به الذي عده أعظم الجرائم، قال تعالى: «لَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا»(1).
وقال سبحانه: «إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ»(2).
مسألة: (احتلاب الدم العبيط) لم يكن خاصاً بالغاصبين للخلافة والراضين بفعله، بل عم الجميع، كما قال تعالى: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً»(3).
مسألة: واحتلاب الدم العبيط لم يكن خاصا أيضاً بذلك الزمن، وبذلك الجيل، بل استمر وسيستمر على كر الأيام والدهور وإلى زمن الظهور.
وهذا ما نشاهده جلياً في عالم اليوم، فإنه نتيجة عدم تحكيم مناهج الله وعدم اتباع الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) فإننا نرى الفساد ظاهراً في الأرض كلها بمشارقها ومغاربها.
ص: 247
..............................
قال تعالى: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ»(1).
مسألة : يستفاد من قول الصديقة (عليهاالسلام): «مِلْ ءَ الْقَعْبِ» فيضان المشاكل والمآسي، وامتلاء كعب وإناء البشرية على مر التاريخ بالنتائج السلبية لغصب الخلافة.
إذن ليست المشاكل والأزمات والآثار السلبية لغصب الخلافة بالشيء القليل، أو حتى الكثير، بل حسب قولها (عليها السلام) وهي صديقة مصدقة، وهي بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومحور الخمسة الطيبة من أصحاب الكساء، والتي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها، ولا يعقل أن ينيط الله رضاه برضاها وغضبه بغضبها دون أن تكون في أعلى درجات العصمة من الخطأ والخطل والسهو والنسيان والذنب والعصيان واللغو ورمي الكلام على عواهنه: فإن المشاكل ستملأ حياة البشرية حتى يعودوا إلى رشدهم، ويضعوا الحق في نصابه، ويرجعوه إلى أهله الطاهرين (عليهم السلام). قال تعالى: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْري فَإِنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى»(2).
ص: 248
وعن محمد بن عبد الجبار، عن بعض أصحابنا رفعه إلى أبي عبد الله (عليه
السلام)، قال: قُلْتُ لَهُ: مَا الْعَقْلُ؟. قَالَ: «مَا عُبِدَ بِهِ الرَّحْمَنُ، وَاكْتُسِبَ بِهِ الْجِنَانُ». قَالَ: قُلْتُ: فَالَّذِي كَانَ فِيمُعَاوِيَةَ؟. فَقَالَ: «تِلْكَ النَّكْرَاءُ، تِلْكَ الشَّيْطَنَةُ، وَهِيَ شَبِيهَةٌ بِالْعَقْلِ وَلَيْسَتْ بِالْعَقْلِ»(1).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَنِ اسْتَحْكَمَتْ لِي فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ احْتَمَلْتُهُ عَلَيْهَا، وَاغْتَفَرْتُ فَقْدَ مَا سِوَاهَا، وَلاَ أَغْتَفِرُ فَقْدَ عَقْلٍ وَلاَ دِينٍ؛ لأَنَّ مُفَارَقَةَ الدِّينِ مُفَارَقَةُ الأَمْنِ، فَلاَ يَتَهَنَّأُ بِحَيَاةٍ مَعَ مَخَافَةٍ، وَفَقْدُ الْعَقْلِ فَقْدُ الْحَيَاةِ، وَلاَ يُقَاسُ إِلاَّ بِالأَمْوَاتِ»(2).
وعن مفضل بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «يَا مُفَضَّلُ، لاَيُفْلِحُ مَنْ لاَ يَعْقِلُ، وَلاَ يَعْقِلُ مَنْ لاَ يَعْلَمُ، وَسَوْفَ يَنْجُبُ مَنْ يَفْهَمُ، وَيَظْفَرُ مَنْ يَحْلُمُ، وَالْعِلْمُ جُنَّةٌ، وَالصِّدْقُ عِزٌّ، وَالْجَهْلُ ذُلٌّ، وَالْفَهْمُ مَجْدٌ، وَالْجُودُ نُجْحٌ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ مَجْلَبَةٌ لِلْمَوَدَّةِ، وَالْعَالِمُ بِزَمَانِهِ لاَ تَهْجُمُ عَلَيْهِ اللَّوَابِسُ، وَالْحَزْمُ مَسَاءَةُ الظَّنِّ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَالْحِكْمَةِ نِعْمَةُ، الْعَالِمِ وَالْجَاهِلُ شَقِيٌّ بَيْنَهُمَا، وَاللهُ وَلِيُّ مَنْ عَرَفَهُ، وَعَدُوُّ مَنْ تَكَلَّفَهُ، وَالْعَاقِلُ غَفُورٌ، وَالْجَاهِلُ خَتُورٌ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُكْرَمَ فَلِنْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُهَانَ فَاخْشُنْ، وَمَنْ كَرُمَ أَصْلُهُ لاَنَ قَلْبُهُ، وَمَنْ خَشُنَ عُنْصُرُهُ غَلُظَ كَبِدُهُ، وَمَنْ فَرَّطَ تَوَرَّطَ، وَمَنْ خَافَ الْعَاقِبَةَ تَثَبَّتَ عَنِ التَّوَغُّلِ فِيمَا لاَ يَعْلَمُ، وَمَنْ هَجَمَ عَلَى أَمْرٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ جَدَعَ أَنْفَ نَفْسِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْيَفْهَمْ، وَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ لَمْ يَسْلَمْ، وَمَنْ لَمْ يَسْلَمْ لَمْ يُكْرَمْ، وَمَنْ لَمْ يُكْرَمْ يُهْضَمْ، وَمَنْ يُهْضَمْ كَانَ أَلْوَمَ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أَحْرَى أَنْ يَنْدَمَ»(3).
ص: 249
..............................
مسألة: يحرم تبديل نعمة الله إلى نقمة، وقول الصديقة (عليها السلام): «دَماً» يشير إلى ذلك.
قال تعالى: «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوارِ»(1).
فإن ما كان يفترض أن يجلب هو اللبن، «لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ»(2)، وهو كناية عن كافة الخيرات والنعم الإلهية.
لكنهم بظلمهم وغصبهم الخلافة حولوا اللبن إلى دم عبيط، وبدلوا نعمة الله كفراً، واستعاضوا بالرخاء الشقاء، وبالعدل الظلم، وبالقسط الإجحاف.
وفي الروايات اللعن على من يقطع سبيل المعروف بل ذم من لا يشكرالمخلوق المتفضل.
عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «لَعَنَ اللهُ قَاطِعِي سَبِيلِ الْمَعْرُوفِ». قِيلَ: وَمَا قَاطِعُو سَبِيلِ الْمَعْرُوفِ؟. قَالَ: «الرَّجُلُ يُصْنَعُ إِلَيْهِ الْمَعْرُوفُ فَيَكْفُرُهُ، فَيَمْتَنِعُ صَاحِبُهُ مِنْ أَنْ يَصْنَعَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ»(3).
ص: 250
..............................
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أُتِيَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَلْيُكَافِئْ بِهِ، فَإِنْ عَجَزَ فَلْيُثْنِ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ كَفَرَ النِّعْمَةَ»(1).
وعن عمار الدهني، قال: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ كُلَّ قَلْبٍ حَزِينٍ، وَيُحِبُّ كُلَّ عَبْدٍ شَكُورٍ. يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَ شَكَرْتَ فُلاَناً. فَيَقُولُ: بَلْ شَكَرْتُكَ يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: لَمْ تَشْكُرْنِي إِنْ لَمْ تَشْكُرْهُ - ثُمَّ قَالَ - أَشْكَرُكُمْ للهِ أَشْكَرُكُمْ لِلنَّاسِ»(2).وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ لَهُ مِنَ الأَجْرِ كَأَجْرِ الصَّائِمِ الْمُحْتَسِبِ، وَالْمُعَافَى الشَّاكِرُ لَهُ مِنَ الأَجْرِ كَأَجْرِ الْمُبْتَلَى الصَّابِرِ، وَالْمُعْطَى الشَّاكِرُ لَهُ مِنَ الأَجْرِ كَأَجْرِ الْمَحْرُومِ الْقَانِعِ»(3).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَا فَتَحَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ بَابَ شُكْرٍ فَخَزَنَ عَنْهُ بَابَ الزِّيَادَةِ»(4).
ص: 251
..............................
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ: اشْكُرْ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْكَ، وَأَنْعِمْ عَلَى مَنْ شَكَرَكَ؛ فَإِنَّهُ لاَ زَوَالَ لِلنَّعْمَاءِ إِذَا شُكِرَتْ، وَلاَ بَقَاءَ لَهَا إِذَا كُفِرَتْ. الشُّكْرُ زِيَادَةٌ فِي النِّعَمِ، وَأَمَانٌ مِنَ الْغِيَرِ»(1).
وقال الإمام الباقر (عليه السلام): «مَاأَنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَشَكَرَهَا بِقَلْبِهِ، إِلاَّ اسْتَوْجَبَ الْمَزِيدَ قَبْلَ أَنْ يُظْهِرَ شُكْرَهُ عَلَى لِسَانِهِ»(2).
وقال أبو عبد الله (عليه السلام): «مَنْ قَصُرَتْ يَدُهُ بِالْمُكَافَأَةِ، فَلْيُطِلْ لِسَانَهُ بِالشُّكْرِ»(3).
وقال (عليه السلام): «مِنْ حَقِّ الشُّكْرِ للهِ أَنْ تَشْكُرَ مَنْ أَجْرَى تِلْكَ النِّعْمَةَ عَلَى يَدِهِ»(4).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ثَلاَثٌ مِنَ الذُّنُوبِ تُعَجَّلُ عُقُوبَتُهَا وَلاَ تُؤَخَّرُ إِلَى الآخِرَةِ: عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَالْبَغْيُ عَلَى النَّاسِ، وَكُفْرُ الإِحْسَانِ»(5).
ص: 252
..............................
وعن الإمام الرضا، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): «أَسْرَعُ الذُّنُوبِ عُقُوبَةً كُفْرَانُ النِّعْمَةِ»(1).
وقال النبي (صلى الله عليه وآله): «يُؤْتَى الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَأْمُرُ بِهِ إِلَى النَّارِ. فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَمَرْتَ بِي إِلَى النَّارِ وَقَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ!. فَيَقُولُ اللهُ: أَيْ عَبْدِي، إِنِّي قَدْ أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ وَلَمْ تَشْكُرْ نِعْمَتِي. فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَنْعَمْتَ عَلَيَّ بِكَذَا وَشَكَرْتُكَ بِكَذَا، وَأَنْعَمْتَ عَلَيَّ بِكَذَا وَشَكَرْتُكَ بِكَذَا، فَلاَ يَزَالُ يُحْصِي النِّعْمَةَ وَيُعَدِّدُ الشُّكْرَ. فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: صَدَقْتَ عَبْدِي، إِلاَّ أَنَّكَ لَمْ تَشْكُرْ مَنْ أَجْرَيْتُ لَكَ النِّعْمَةَ عَلَى يَدَيْهِ، وَإِنِّي قَدْ آلَيْتُ عَلَى نَفْسِي أَنْ لاَ أَقْبَلَ شُكْرَ عَبْدٍ لِنِعْمَةٍ أَنْعَمْتُهَا عَلَيْهِ، حَتَّى يَشْكُرَ مَنْ سَاقَهَا مِنْ خَلْقِي إِلَيْهِ»(2).
وعن مالك بن أعين الجهني، قال: أَوْصَى عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) بَعْضَ وُلْدِهِ. فَقَالَ: «يَا بُنَيَّ، اشْكُرْ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْكَ، وَأَنْعِمْ عَلَى مَنْ شَكَرَكَ؛ فَإِنَّهُ لاَ زَوَالَ لِلنَّعْمَاءِ إِذَا شُكِرَتْ، وَلاَ بَقَاءَ لَهَا إِذَا كُفِرَتْ، وَالشَّاكِرُ بِشُكْرِهِ أَسْعَدُ مِنْهُبِالنِّعْمَةِ الَّتِي وَجَبَ عَلَيْهَا الشُّكْرُ - وَتَلاَ - «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ»(3)»(4).
ص: 253
..............................
ومحمد بن علي بن الحسين، قال: مِنْ أَلْفَاظِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «لاَ يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لاَ يَشْكُرُ النَّاسَ»(1).
وعن إبراهيم بن أبي محمود، قال: سَمِعْتُ الرِّضَا (عليه السلام) يَقُولُ: «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْمُنْعِمَ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، لَمْ يَشْكُرِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ اللهَ مَنَّ عَلَى قَوْمٍ بِالْمَوَاهِبِ فَلَمْ يَشْكُرُوا، فَصَارَتْ عَلَيْهِمْ وَبَالاً. وَابْتَلَى قَوْماً بِالْمَصَائِبِ فَصَبَرُوا، فَصَارَتْ عَلَيْهِمْ نِعْمَةً»(3).
مسألة: يستفاد من قول الصديقة (عليها السلام): «عَبِيطاً»، وهو الدم الطري الغليظ الخالص: إن المحن والمشاكل والبلايا تتجدد يوماً بعد يوم على الناس، ما داموا معرضين عن الأئمة الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين).
وهذا ما نشاهده جلياً واضحاً على امتداد الزمان، فإن عذاب الله للناس
ص: 254
..............................
لايقتصر على أنواع تتكرر، بل يستجد منها كل يوم جديد، وما الأمراض المستجدة(1) إلاّ مثالاً على ذلك، وما خفي وما هو قادم أعظم وأعظم، أعاذنا الله منها.
ولا ملجأ منه تعالى إلا إليه، وذلك بالعودة إلى خلفائه الاثني عشر (عليهم السلام)، الذين نصبهم على لسان رسولالله (صلى الله عليه وآله) أئمةً وسادةً وقادةً وسفنَ النجاة التي مَنْ ركبها نجى، ومن تخلف عنها غرق وهوى.
قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَ كَثيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ»(2).
وقال تعالى: «وَالَّذينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ميثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ»(3).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِرْقٍ يَضْرِبُ، وَلاَ نَكْبَةٍ، وَلاَ صُدَاعٍ، وَلاَ مَرَضٍ، إِلاَّ بِذَنْبٍ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ:
ص: 255
..............................
«وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ»(1) - ثُمَّ قَالَ - وَمَا يَعْفُو اللهُ أَكْثَرُ مِمَّا يُؤَاخِذُ بِهِ»(2).
وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «مَامِنْ نَكْبَةٍ تُصِيبُ الْعَبْدَ إِلاَّ بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللهُ عَنْهُ أَكْثَرُ»(3).
وعن أبي أسامة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ سَطَوَاتِ اللهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ». قَالَ: قُلْتُ لَهُ: وَمَا سَطَوَاتُ اللهِ؟. قَالَ: «الأَخْذُ عَلَى الْمَعَاصِي»(4).
وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيُذْنِبُ الذَّنْبَ، فَيُزْوَى عَنْهُ الرِّزْقُ»(5).
وعن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إِنَّ الذَّنْبَ يَحْرِمُ الْعَبْدَ الرِّزْقَ»(6).
وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُذْنِبُ الذَّنْبَ، فَيُدْرَأُ عَنْهُ الرِّزْقُ - وَتَلاَ هَذِهِ الآيَةَ - «إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ *
ص: 256
..............................
فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ»(1)»(2).
وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِنَّ الْعَبْدَ يَسْأَلُ اللهَ الْحَاجَةَ، فَيَكُونُ مِنْ شَأْنِهِ قَضَاؤُهَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ، أَوْ إِلَى وَقْتٍ بَطِيءٍ، فَيُذْنِبُ الْعَبْدُ ذَنْباً، فَيَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْمَلَكِ: لاَ تَقْضِ حَاجَتَهُ، وَاحْرِمْهُ إِيَّاهَا؛ فَإِنَّهُ تَعَرَّضَ لِسَخَطِي، وَاسْتَوْجَبَ الْحِرْمَانَ مِنِّي»(3).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذَا عَصَانِي مَنْ عَرَفَنِي، سَلَّطْتُ عَلَيْهِ مَنْ لاَ يَعْرِفُنِي»(4).
وعن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: «إِنَّ للهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مُنَادِياً يُنَادِي: مَهْلاً مَهْلاً عِبَادَ اللهِ عَنْ مَعَاصِي اللهِ؛ فَلَوْلاَ بَهَائِمُ رُتَّعٌ، وَصِبْيَةٌ رُضَّعٌ، وَشُيُوخٌ رُكَّعٌ، لَصُبَّ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ صَبّاً، تُرَضُّونَ بِهِ رَضّاً»(5).
مسائل: يستحب - وقد يجب - إيضاح تلك الحقيقة التي صرحت بها الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وإعلام العالم بأن كل المشاكل الموجودة في
ص: 257
..............................
العالم، الإسلامي وغيره، منذ الصدر الأول (أي منذ الانقلاب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد وفاته، حيث قال تعالى: «أَ فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»(1) وإلى هذا اليوم - من سفك الدماء و هتك الأعراض ومصاردة الأموال و... كان كل ذلك نتيجة غصب الخلافة من الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وظلم أهل البيت (عليهم السلام) وكان حجر الأساس في كل ذلك هو مؤامرة السقيفة.
ويجب بيان ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة؛ لأن العالم يستمر غارقاً في الظلم والظلام إلى أن يعود إلى إتباع أهل البيت (عليهم السلام).
ويلزم أن يتحمل الإنسان الأذى الذييواجهه في هذا الطريق، فإن الحق مر، لكن إنقاذ العباد هو الأهم، ولو تسلح الإنسان بالسلم المطلق في قوله وعمله، وتحلى بالحكمة والموعظة الحسنة، لبلغت الأضرار إلى الحد الأقل.
ويلزم أن نعلم بأن ما يخسره الإنسان بسبب جهاده وتضحيته هو أقل مما لو لم يجاهد، فإن الله سيبتليه وذريته بما هو أشد وأمر وأقسى، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): «اغْزُوا تُورِثُوا أَبْنَاءَكُمْ مَجْداً»(2).
ص: 258
الذعاف: السم القاتل، و(الذعف) السم الذي يقتل من ساعته.
المبيد: الذي يبيد الإنسان ويقضي عليه تماماً.
الممقر - كما في بعض النسخ -: الصبر الذي هو أشد درجات المرارة.
مسألة: من أشد المحرمات أن يغير الإنسان منهج الله أو يغير القيادة الشرعية التي عينها رب العباد، فإنه حرام في حد ذاته، ثم إنه يقود إلى إهلاك الحرث والنسل، كما قالت الصديقة (صلوات الله عليها): «ثُمَّ احْتَلَبُوا مِلْ ءَ الْقَعْبِ دَماً عَبِيطاً، وَذُعَافاً مُبِيداً».
وقال تعالى: «وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ»(2).
ثم إن السبب الرئيسي لذلك كله هو: الحكام الجائرون، وعلماء السوء، وجهل الأمة.فاللازم التخطيط الشامل الدقيق للقضاء على كل مقومات الظلم، عبر توعية الناس وتثقيفهم، وعبر الضغط على الحكام وعلماء السوء بكل السبل
ص: 259
..............................
السلمية المتاحة، ومنها الإضرابات العامة والمظاهرات السلمية، ومنها تكوين اللجان والمنظمات الضاغطة داخل الدولة وخارجها.
عن أبي جعفر، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «بِئْسَ الزَّادُ إِلَى الْمَعَادِ الْعُدْوَانُ عَلَى الْعِبَادِ»(1).
وعن ابن أبي يعفور، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «مَنْ زَرَعَ حِنْطَةً فِي أَرْضٍ، فَلَمْ يُزَكِّ أَرْضَهُ وَزَرْعَهُ، وَخَرَجَ زَرْعُهُ كَثِيرَ الشَّعِيرِ، فَبِظُلْمِ عَمَلِهِ فِي مِلْكِ رَقَبَةِ الأَرْضِ، أَوْ بِظُلْمٍ لِمُزَارِعِهِ وَأَكَرَتِهِ؛ لأَنَّ اللهَ يَقُولُ: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ»(2)»(3).وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: «إِيَّاكُمْ وَالْفُحْشَ! فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يُحِبُّ الْفَاحِشَ الْمُتَفَحِّشَ. وَإِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ! فَإِنَّ الظُّلْمَ عِنْدَ اللهِ هُوَ الظُّلُمَاتُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَإِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ! فَإِنَّهُ دَعَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ حَتَّى سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَدَعَاهُمْ حَتَّى قَطَّعُوا أَرْحَامَهُمْ، وَدَعَاهُمْ حَتَّى انْتَهَكُوا وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ»(4).
ص: 260
..............................
وعن موسى بن جعفر، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: «سُئِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): أَيُّ الْخَلْقِ أَشَحُّ؟. قَالَ: مَنْ أَخَذَ الْمَالَ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، فَجَعَلَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ»(1).
مسألة: للأجساد ذعاف مبيد، وكذلكللأرواح، وكلاهما محرم.
وقد يكون كلام الصديقة (صلوات الله عليها) أعم، وإن كان منصرفه الثاني، أو هو كناية، والأخير أرجح.
ويقصد بذعاف الأرواح كل ما يسبب هلاك الأرواح، ومنه: إضلالها مما يسوقها إلى جهنم، ومنه كل ما يسبب تحول الحياة إلى الجحيم مما نرى آثاره واضحة في عالم اليوم، حيث إن الحياة جحيم حقيقة، فقد امتلأت بالفساد والخيانات الزوجية(2)،
ص: 261
ص: 263
ص: 265
..............................
أشخاصاً وحكومات، وغير ذلك.
قال تعالى: «الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍبَعِيدٍ»(1).
وقال سبحانه: «قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ»(2).
وعن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام)، قال: «خَرَجَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَابِضاً عَلَى شَيْئَيْنِ فِي يَدِهِ، فَفَتَحَ يَدَهُ الْيُمْنَى ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ بِأَعْدَادِهِمْ، وَأَحْسَابِهِمْ، وَأَنْسَابِهِمْ، مُجْمَلٌ عَلَيْهِمْ لاَ يَنْقُصُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلاَ يُزَادُ فِيهِمْ أَحَدٌ.
ص: 266
..............................
ثُمَّ فَتَحَ يَدَهُ الْيُسْرَى، فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَهْلِ النَّارِ بِأَعْدَادِهِمْ، وَأَحْسَابِهِمْ، وَأَنْسَابِهِمْ، مُجْمَلٌ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لاَ يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلاَ يُزَادُ فِيهِمْ أَحَدٌ. وَقَدْ يُسْلَكُ بِالسُّعَدَاءِ طَرِيقَ الأَشْقِيَاءِ، حَتَّى يُقَالَ: هُمْ مِنْهُمْ هُمْ هُمْ، مَا أَشْبَهَهُمْ بِهِمْ، ثُمَّ يُدْرِكُ أَحَدَهُمْ سَعَادَتُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَلَوْ بِفُوَاقِ نَاقَةٍ. وَقَدْ يُسْلَكُ بِالأَشْقِيَاءِ طَرِيقَ أَهْلِ السَّعَادَةِ، حَتَّى يُقَالَ: هُمْ مِنْهُمْ هُمْ هُمْ، مَا أَشْبَهَهُمْبِهِمْ، ثُمَّ يُدْرِكُ أَحَدَهُمْ شِقَاهُ وَلَوْ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَلَوْ بِفُوَاقِ نَاقَةٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): الْعَمَلُ بِخَوَاتِيمِهِ، الْعَمَلُ بِخَوَاتِيمِهِ، الْعَمَلُ بِخَوَاتِيمِهِ»(1).
وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن علي (عليهم السلام)، أنه قال: «حَقِيقَةُ السَّعَادَةِ أَنْ يُخْتَمَ الرَّجُلُ عَمَلُهُ بِالسَّعَادَةِ، وَحَقِيقَةُ الشَّقَاءِ أَنْ يُخْتَمَ الْمَرْءُ عَمَلُهُ بِالشَّقَاءِ»(2).
وفي عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، قَالَ الرِّضَا (عليه السلام): قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله): يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَ فُلاَنٌ يَعْمَلُ مِنَ الذُّنُوبِ كَيْتَ وَكَيْتَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): بَلْ قَدْ نَجَا، وَلاَ يَخْتِمُ اللهُ تَعَالَى عَمَلَهُ إِلاَّ بِالْحُسْنَى، وَسَيَمْحُو اللهُ عَنْهُ السَّيِّئَاتِ وَيُبَدِّلُهَا لَهُ حَسَنَاتٍ، إِنَّهُ كَانَ مَرَّةً يَمُرُّ فِي طَرِيقٍ عَرَضَ لَهُ مُؤْمِنٌ، قَدِ انْكَشَفَ عَوْرَتُهُ وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ، فَسَتَرَهَا عَلَيْهِ وَلَمْ يُخْبِرْهُ بِهَا، مَخَافَةَ أَنْ يَخْجَلَ. ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْمُؤْمِنَ عَرَفَهُ فِي مَهْوَاةٍ، فَقَالَ لَهُ:
ص: 267
..............................
أَجْزَلَ اللهُ لَكَ الثَّوَابَ، وَأَكْرَمَ لَكَ الْمَآبَ، وَلاَ نَاقَشَكَ الْحِسَابَ. فَاسْتَجَابَ اللهُ لَهُ فِيهِ، فَهَذَا الْعَبْدُ لاَ يُخْتَمُ لَهُ إِلاَّ بِخَيْرٍ بِدُعَاءِ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِ. فَاتَّصَلَ قَوْلُ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِهَذَا الرَّجُلِ، فَتَابَ وَأَنَابَ وَأَقْبَلَ إِلَى طَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمْ يَأْتِ عَلَيْهِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ حَتَّى أُغِيرَ عَلَى سَرْحِ الْمَدِينَةِ، فَوَجَّهَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي أَثَرِهِمْ جَمَاعَةً، ذَلِكَ الرَّجُلُ أَحَدُهُمْ، فَاسْتُشْهِدَ فِيهِمْ»(1).
وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، فِي قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا»(2)، قَالَ: «بِأَعْمَالِهِمْ شَقُوا»(3).
وعن ابن أبي عمير، قال: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ مَعْنَى قَوْلِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ»؟.
فَقَالَ: «الشَّقِيُّ مَنْ عَلِمَ اللهُ - وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ - أَنَّهُ سَيَعْمَلُ أَعْمَالَ الأَشْقِيَاءِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ عَلِمَ اللهُ - وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَنَّهُ سَيَعْمَلُ أَعْمَالَ السُّعَدَاءِ». قُلْتُ لَهُ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ (صلى الله عليه وآله): «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»؟. فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ الْجِنَّ وَالإِنْسَ لِيَعْبُدُوهُ، وَلَمْ يَخْلُقْهُمْ لِيَعْصُوهُ؛ وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:«وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»(4)، فَيَسَّرَ
ص: 268
..............................
كُلاًّ لِمَا خَلَقَ لَهُ، فَالْوَيْلُ لِمَنِ اسْتَحَبَّ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى»(1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ، فَمَنْ عَلِمَهُ اللهُ سَعِيداً لَمْ يُبْغِضْهُ أَبَداً، وَإِنْ عَمِلَ شَرّاً أَبْغَضَ عَمَلَهُ وَلَمْ يُبْغِضْهُ. وَإِنْ عَلِمَهُ شَقِيّاً لَمْ يُحِبَّهُ أَبَداً، وَإِنْ عَمِلَ صَالِحاً أَحَبَّ عَمَلَهُ، وَأَبْغَضَهُ لِمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَحَبَّ اللهُ شَيْئاً لَمْ يُبْغِضْهُ أَبَداً، وَإِذَا أَبْغَضَ شَيْئاً لَمْ يُحِبَّهُ أَبَداً»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) - فِي قَوْلِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ»(3) - قَالَ: «يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْبَاطِلَ حَقٌّ». وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ بِالْمَوْتِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «إِنَّ اللهَ يَنْقُلُ الْعَبْدَ مِنَ الشَّقَاءِ إِلَى السَّعَادَةِ، وَلاَ يَنْقُلُهُ مِنَ السَّعَادَةِ إِلَى الشَّقَاءِ»(4).
ص: 269
..............................
مسألة: الدفاع عن أهل البيت (عليهم السلام) في مثل هذا الزمن، آكد في الوجوب، وتركه أشد حرمة، وأجره أكبر، فإن خير الأعمال أحمزها، وهو واجب كفائي وإذا لم يقم به من فيه الكفاية إثم الجميع.
مسألة: يحرم فعل كل ما يسبب إبادة الإنسان وإبادة الأمة، فصنع القنبلة الذرية والنووية والقنابل الكيماوية والجرثومية، من أشد المحرمات، وكل ذلك وأمثاله هو نتاج ذلك الانقلاب على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كما قالت (عليها السلام): «أَمَا لَعَمْرِي لَقَدْ لَقِحَتْ، فَنَظِرَةٌ رَيْثَمَا تُنْتَجُ، ثُمَّ احْتَلَبُوا مِلْ ءَ الْقَعْبِ دَماً عَبِيطاً، وَذُعَافاً ممقراً مُبِيداً».
ص: 270
قول الصديقة (عليها السلام): «يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ» إشارة إما لعالم الثبوت، أو عالم الإثبات.
فإن كان الأول، فالمعنى: هنالك يخسر المبطلون أي الخسران الأكبر، وإلا فإنهم بالفعل خاسرون الآن.
وإن كان الثاني فالمعنى هنالك يظهر خسرانهم أو يرون خسرانهم، أي بعد أن أنتجت فتنتهم هنالك يرى المبطلون كيف خسروا في الدنيا والآخرة، لأنهم يخسرون أنفسهم وأهليهم وأموالهم في الحروب وفي مختلف الفتن، كما يخسرون التاريخ أيضاً، إذ يتحولون إلى لعنة بدل الذكر الحسن.
في الآية الشريفة: «وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ»(2).
ثم إنهم يخسرون أنفسهم وأهليهم في الآخرة أيضا، كما قال سبحانه: «قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ»(3).وهذا هو ما حدث، فإن كثيراً من الخلفاء والأمراء والأمم قُتلوا أو أسروا
ص: 271
..............................
أو انتهكت أعراضهم وصودرت أموالهم.. إلى غير ذلك. وفي ضمن أولئك عمت الفتنة المؤمنين والمصلحين والصادقين أيضاً، كما قال سبحانه: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً»(1).
ومثال ذلك السفينة لو خرفها السفهاء فإن الكل يغرق، السفهاء وغيرهم، من لم يعلم، ومن علم ورضي، ومن علم وحاول الحيلولة دون ذلك فلم يقدر.
عن النبي (صلى الله عليه وآله)، أنه قال: «إِنَّ قَوْماً رَكِبُوا سَفِينَةً فِي الْبَحْرِ وَاقْتَسَمُوا، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَوْضِعَهُ، فَنَقَرَ رَجُلٌ مَوْضِعَهُ بِفَأْسٍ. فَقَالُوا: مَا تَصْنَعُ؟!. قَالَ: هُوَ مَكَانِي أَصْنَعُ بِهِ مَا شِئْتُ. فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ نَجَا وَنَجَوْا، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ هَلَكَ وَهَلَكُوا»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:«إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ مَلَكَيْنِ إِلَى أَهْلِ مَدِينَةٍ؛ لِيَقْلِبَاهَا عَلَى أَهْلِهَا. فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَجَدَا رَجُلاً يَدْعُو اللهَ وَيَتَضَرَّعُ. فَقَالَ أَحَدُ الْمَلَكَيْنِ لِصَاحِبِهِ: أَ مَا تَرَى هَذَا الدَّاعِيَ!. فَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُهُ، وَلَكِنْ أَمْضِي لِمَا أَمَرَ بِهِ رَبِّي. فَقَالَ: لاَ، وَلَكِنْ لاَ أُحْدِثُ شَيْئاً حَتَّى أُرَاجِعَ رَبِّي. فَعَادَ إِلَى اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَقَالَ: يَا رَبِّ، إِنِّي انْتَهَيْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَجَدْتُ عَبْدَكَ فُلاَناً يَدْعُوكَ وَيَتَضَرَّعُ إِلَيْكَ. فَقَالَ: امْضِ بِمَا أَمَرْتُكَ بِهِ؛ فَإِنَّ ذَا رَجُلٌ لَمْ يَتَمَعَّرْ وَجْهُهُ غَيْظاً لِي قَطُّ»(3).
ص: 272
..............................
وعن أبي عبد الله (عليه السلام): «أَنَّ رَجُلاً مِنْ خَثْعَمَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله). فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي مَا أَفْضَلُ الإِسْلاَمِ؟. قَالَ: الإِيمَانُ بِاللهِ. قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟. قَالَ: ثُمَّ صِلَةُ الرَّحِمِ. قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟. قَالَ: الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ» قَالَ: فَقَالَ الرَّجُلُ: فَأَيُّ الأَعْمَالِ أَبْغَضُ إِلَى اللهِ؟. قَالَ: الشِّرْكُ بِاللهِ. قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟. قَالَ: قَطِيعَةُ الرَّحِمِ. قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟. قَالَ: الأَمْرُ بِالْمُنْكَرِوَالنَّهْيُ عَنِ الْمَعْرُوفِ»(1).
وعن يعقوب بن يزيد رفعه، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ خُلُقَانِ مِنْ خُلُقِ اللهِ، فَمَنْ نَصَرَهُمَا أَعَزَّهُ اللهُ، وَمَنْ خَذَلَهُمَا خَذَلَهُ اللهُ»(2).
وعن غياث بن إبراهيم، قال: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) إِذَا مَرَّ بِجَمَاعَةٍ يَخْتَصِمُونَ، لاَ يَجُوزُهُمْ حَتَّى يَقُولَ ثَلاَثاً: «اتَّقُوا اللهَ»، يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ(3).
وعن محمد بن عرفة، قال: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) يَقُولُ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: إِذَا أُمَّتِي تَوَاكَلَتِ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَلْيَأْذَنُوا بِوِقَاعٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى»(4).
وقال النبي (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيُبْغِضُ الْمُؤْمِنَ الضَّعِيفَ الَّذِي لاَ دِينَ لَهُ». فَقِيلَ لَهُ: وَمَا الْمُؤْمِنُ الَّذِي لاَدِينَ لَهُ؟!. قَالَ: «الَّذِي لاَ يَنْهَى
ص: 273
..............................
عَنِ الْمُنْكَرِ»(1).
مسألة: يستحب - وقد يجب - بيان أن (المبطل) من الخاسرين في الدنيا والآخرة، كما بينت الصديقة (صلوات الله عليها)، فإن ذلك من طرق الردع ومن وسائل النهي عن المنكر.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَعَاشِرَ النَّاسِ اتَّقُوا اللهَ. فَكَمْ مِنْ مُؤَمِّلٍ مَا لاَ يَبْلُغُهُ، وَبَانٍ مَا لا يَسْكُنُهُ، وَجَامِعٍ مَا سَوْفَ يَتْرُكُهُ، وَلَعَلَّهُ مِنْ بَاطِلٍ جَمَعَهُ، وَمِنْ حَقٍّ مَنَعَهُ، أَصَابَهُ حَرَاماً، وَاحْتَمَلَ بِهِ آثَاماً، فَبَاءَ بِوِزْرِهِ، وَقَدِمَ عَلَى رَبِّهِ، آسِفاً لاَهِفاً، قَدْ «خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ»(2)»(3).وعن الرضا (عليه السلام)، أنه قال: قال علي بن الحسين (عليه السلام): «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ حَسُنَ سَمْتُهُ وَهَدْيُهُ، وَتَمَاوَتَ فِي مَنْطِقِهِ، وَتَخَاضَعَ فِي حَرَكَاتِهِ، فَرُوَيْداً لاَ يَغُرَّنَّكُمْ؛ فَمَا أَكْثَرَ مَنْ يُعْجِزُهُ تَنَاوُلُ الدُّنْيَا وَرُكُوبُ الْحَرَامِ مِنْهَا، لِضَعْفِ نِيَّتِهِ وَمَهَانَتِهِ، وَجُبْنِ قَلْبِهِ. فَنَصَبَ الدِّينَ فَخّاً لَهَا، فَهُوَ لاَ يَزَالُ يَخْتِلُ النَّاسَ بِظَاهِرِهِ، فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْ حَرَامٍ اقْتَحَمَهُ.
ص: 274
..............................
وَإِذَا وَجَدْتُمُوهُ يَعِفُّ عَنِ الْمَالِ الْحَرَامِ، فَرُوَيْداً لاَ يَغُرَّنَّكُمْ؛ فَإِنَّ شَهَوَاتِ الْخَلْقِ مُخْتَلِفَةٌ، فَمَا أَكْثَرَ مَنْ يَنْبُو عَنِ الْمَالِ الْحَرَامِ وَإِنْ كَثُرَ، وَيَحْمِلُ نَفْسَهُ عَلَى شَوْهَاءَ قَبِيحَةٍ، فَيَأْتِي مِنْهَا مُحَرَّماً.
فَإِذَا وَجَدْتُمُوهُ يَعِفُّ عَنْ ذَلِكَ، فَرُوَيْداً لاَ يَغُرَّنَّكُمْ، حَتَّى تَنْظُرُوا مَا عُقْدَةُ عَقْلِهِ؛ فَمَا أَكْثَرَ مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ أَجْمَعَ، ثُمَّ لاَ يَرْجِعُ إِلَى عَقْلٍ مَتِينٍ، فَيَكُونُ مَا يُفْسِدُ بِجَهْلِهِ، أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ بِعَقْلِهِ.
فَإِذَا وَجَدْتُمْ عَقْلَهُ مَتِيناً، فَرُوَيْداً لاَ يَغُرَّكُمْ تَنْظُرُوا، أَمَعَ هَوَاهُ يَكُونُ عَلَى عَقْلِهِ، أَمْ يَكُونُ مَعَ عَقْلِهِ عَلَى هَوَاهُ، وَكَيْفَ مَحَبَّتُهُ لِلرِّئَاسَاتِ الْبَاطِلَةِ وَزُهْدُهُ فِيهَا؛ فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ «خَسِرَ الدُّنْيَاوَالْآخِرَةَ»(1)، يَتْرُكُ الدُّنْيَا لِلدُّنْيَا، وَيَرَى أَنَّ لَذَّةَ الرِّئَاسَةِ الْبَاطِلَةِ، أَفْضَلُ مِنْ لَذَّةِ الأَمْوَالِ وَالنِّعَمِ الْمُبَاحَةِ الْمُحَلَّلَةِ، فَيَتْرُكُ ذَلِكَ أَجْمَعَ طَلَباً لِلرِّئَاسَةِ، حَتَّى «إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ»(2).
فَهُوَ يَخْبِطُ خَبْطَ عَشْوَاءَ، يُوقِدُهُ أَوَّلَ بَاطِلٍ إِلَى أَبْعَدِ غَايَاتِ الْخَسَارَةِ، وَيُمِدُّهُ رَبُّهُ بَعْدَ طَلَبِهِ لِمَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي طُغْيَانِهِ، فَهُوَ يُحِلُّ مَا حَرَّمَ اللهُ، وَيُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ، لاَ يُبَالِي مَا فَاتَ مِنْ دِينِهِ، إِذَا سَلِمَتْ لَهُ الرِّئَاسَةُ، الَّتِي قَدْ شَقِيَ مِنْ أَجْلِهَا، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ «غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ»(3) وَ«أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا
ص: 275
..............................
مُهِينًا»(1).
وَلَكِنَّ الرَّجُلَ، كُلَّ الرَّجُلِ، نِعْمَ الرَّجُلُ، هُوَ الَّذِي جَعَلَ هَوَاهُ تَبَعاً لأَمْرِ اللهِ، وَقُوَاهُ مَبْذُولَةً فِي رِضَى اللهِ، يَرَى الذُّلَّ مَعَ الْحَقِّ أَقْرَبَ إِلَى عِزِّ الأَبَدِ مِنَ الْعِزِّ فِي الْبَاطِلِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ قَلِيلَ مَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ ضَرَّائِهَا، يُؤَدِّيهِ إِلَى دَوَامِ النَّعِيمِ فِي دَارٍ لاَ تَبِيدُوَلاَ تَنْفَدُ، وَأَنَّ كَثِيرَ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ سَرَّائِهَا إِنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ، يُؤَدِّيهِ إِلَى عَذَابٍ لاَ انْقِطَاعَ لَهُ وَلاَ يَزُولُ.
فَذَلِكُمُ الرَّجُلُ، نِعْمَ الرَّجُلُ، فِيهِ فَتَمَسَّكُوا، وَبِسُنَّتِهِ فَاقْتَدُوا، وَإِلَى رَبِّكُمْ فَتَوَسَّلُوا؛ فَإِنَّهُ لاَ تُرَدُّ لَهُ دَعْوَةٌ، وَلاَ يُخَيَّبُ لَهُ طَلِبَةٌ»(2).
وقال عيسى (عليه السلام): «يَا عُلَمَاءَ السَّوْءِ، تَأْمُرُونَ النَّاسَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَلاَ تَفْعَلُونَ مَا تَأْمُرُونَ، وَتَدْرُسُونَ مَا لاَ تَعْلَمُونَ. فَيَا سَوْءَ مَا تَحْكُمُونَ، تَتُوبُونَ بِالْقَوْلِ وَالأَمَانِيِّ، وَتَعْمَلُونَ بِالْهَوَى، وَمَا يُغْنِي عَنْكُمْ أَنْ تُنَقُّوا جُلُودَكُمْ وَقُلُوبُكُمْ دَنِسَةٌ.
وَبِحَقٍّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَكُونُوا كَالْمُنْخُلِ، يَخْرُجُ مِنْهُ الدَّقِيقُ الطَّيِّبُ، وَيَبْقَى فِيهِ النُّخَالَةُ. كَذَلِكَ أَنْتُمْ تُخْرِجُونَ الْحِكْمَةَ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ، وَيَبْقَى الْغِلُّ فِي صُدُورِكُمْ. يَا عَبِيدَ الدُّنْيَا، كَيْفَ يُدْرِكُ الآخِرَةَ مَنْ لاَ تَنْقَضِي مِنَ الدُّنْيَا شَهْوَتُهُ، وَلاَتَنْقَطِعُ مِنْهَا رَغْبَتُهُ.
ص: 276
..............................
بِحَقٍّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ قُلُوبَكُمْ تَبْكِي مِنْأَعْمَالِكُمْ، جَعَلْتُمُ الدُّنْيَا تَحْتَ أَلْسِنَتِكُمْ، وَالْعَمَلَ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ.
بِحَقٍّ أَقُولُ لَكُمْ: لَقَدْ أَفْسَدْتُمْ آخِرَتَكُمْ، فَصَلاَحُ الدُّنْيَا أَحَبُّ إِلَيْكُمْ مِنْ صَلاَحِ الآخِرَةِ، فَأَيُّ النَّاسِ أَخْسَرُ مِنْكُمْ لَوْ تَعْلَمُونَ. وَيْلَكُمْ حَتَّى مَتَى تَصِفُونَ الطَّرِيقَ لِلْمُدْلِجِينَ، وَتُقِيمُونَ فِي مَحَلِّ الْمُتَحَيِّرِينَ، كَأَنَّكُمْ تَدْعُونَ أَهْلَ الدُّنْيَا لِيَلُوكُوهَا لَكُمْ.
مَهْلاً مَهْلاً، وَيْلَكُمْ مَاذَا يُغْنِي عَنِ الْبَيْتِ الْمُظْلِمِ أَنْ يُوضَعَ السِّرَاجُ فَوْقَ ظَهْرِهِ، وَجَوْفُهُ وَحِشٌ مُظْلِمٌ. كَذَلِكَ لاَ يُغْنِي عَنْكُمْ أَنْ يَكُونَ نُورُ الْعِلْمِ بِأَفْوَاهِكُمْ، وَأَجْوَافُكُمْ مِنْهُ وَحْشِيَّةٌ مُعَطَّلَةٌ.
يَا عَبِيدَ الدُّنْيَا، لاَ كَعَبِيدٍ أَتْقِيَاءَ، وَلاَ كَأَحْرَارٍ كِرَامٍ، يُوشِكُ الدُّنْيَا أَنْ تَقْلَعَكُمْ عَنْ أُصُولِكُمْ، فَتُلْقِيكُمْ عَلَى وُجُوهِكُمْ، ثُمَّ تُكِبُّكُمْ عَلَى مَنَاخِرِكُمْ، ثُمَّ تَأْخُذُ خَطَايَاكُمْ بِنَوَاصِيكُمْ، ثُمَّ يَدْفَعُكُمُ الْمُعَلِّمُ مِنْ خَلْفِكُمْ، حَتَّى يُسَلِّمَكُمْ إِلَى الْمَلِكِ الدَّيَّانِ عُرَاةً فُرَادَى، فَيُوقِفُكُمْ عَلَى سَوْءَاتِكُمْ، ثُمَّ يَجْزِيكُمْ بِسُوءِ أَعْمَالِكُمْ»(1).
ص: 277
-------------------------------------------
(غِبّ) بالكسر: يعني العاقبة، وجمعه (أغباب)، تقول: (للإمر غب) أي عاقبة، فهو والمغبة بمعنى واحد.
(التالون): التابعون واللاحقون.
والمقصود ليس المعرفة المجردة فحسب، بل المراد الشمول أيضاً، أي: إن غب وعاقبة ما أسسه الأولون سيشمل اللاحقين أيضاً، بمعنى أن الفتنة ستعمهم، وسيتجرعون من كأس السم، شاؤوا أم أبوا.
فمثلاً: سعد بن عبادة تعرض للاغتيال والقتل، وكان هو ممن أشعل نار الفتنة في السقيفة، ثم أعلن الذين قتلوه: أن الجن قتله، ونقلوا على لسان الجن شعراً في قتله وهو:
قد قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة *** ورميناه بسهمين ولم نخطأ فؤاده
وغير ذلك من الأمثلة مما ملأت صفحات التاريخ.مسألة: يستحب وقد يجب إيضاح هذه الحقيقة التي ذكرتها الصديقة الطاهرة (عليها السلام) للناس، فالظلم والظالم والظلامات، ستنكشف يوماً ما للناس، ولو للأجيال اللاحقة والأمم التالية، وسيعرفها الجميع ولو بعد حين، قال تعالى: «لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ
ص: 278
..............................
جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ»(1).
ويمكن أن يسأل هل سيعرف كل التالين غب ونتيجة ما أسسه الأولون؟. والحال أننا نرى أن أكثر الناس يجهلون الحقيقة؟.
الجواب:
أولاً: يمكن أن يكون المراد في زمن الظهور.
ثانياً: أو في يوم القيامة.
ثالثاً: ويمكن أن يكون المراد قبل زمن الظهور حقيقة، إذ يحتمل أن يتطور العلم والثقافة ليكتشف الناس كل الحقيقة.
رابعاً: ويمكن أن يكون المراد الأعم الأغلب، أو معظم التالين أو العديدمنهم.
وخامساً: أو يكون المراد الرؤوس بقرينة (ما أسسه).
مسألة: معرفة تاريخ الأمم والحكام والملوك، ومَن العادل ومَن الجائر، وأسباب نهوض الأمم وسقوطها، ونتائج الظلم، وآثار العدل وشبه ذلك لازمة، وربما تكون واجبة أي في الجملة.
قال تعالى: «لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ»(2).
ص: 279
..............................
وفي الحديث: «وَسِرْ فِي دِيَارِهِمْ وَآثَارِهِمْ، فَانْظُرْ فِيمَا فَعَلُوا»(1).
مسألة: يجب على الدولة الإسلامية، وعلى الحوزات العلمية وما أشبه، أن تشجع الكتابة الواعية عن التاريخ، بل أن تؤسس لجاناً ومراكز دراسات مهمتها التنقيب عن التاريخ وعن حركتهومراحله وتطوره، وعن كل خصوصياته، فإن التاريخ يتجدد.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْراً بِشِبْرٍ وَذِرَاعاً بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلَ أَحَدُهُمْ فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ»(2).
ويقول الإمام علي (عليه السلام) «وَاعْتَبِرْ بِمَا مَضَى مِنَ الدُّنْيَا لِمَا بَقِيَ مِنْهَا، فَإِنَّ بَعْضَهَا يُشْبِهُ بَعْضاً، وَآخِرَهَا لاَحِقٌ بِأَوَّلِهَا، وَكُلُّهَا حَائِلٌ مُفَارِقٌ»(3).
فليست الفائدة في الكتابة عن التاريخ تنحصر في ضرورية تشخيص المحق من المبطل، وهو نوع جزاء دنيوي قرره الله تعالى، بل للاعتبار أيضاً، ولبناء المستقبل ثالثاً، إلى غير ذلك.
ص: 280
..............................
وفي الكافي: عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) - فِي قَوْلِهِ: «لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًاعَنْ طَبَقٍ»(1) - قال: «يَا زُرَارَةُ، أَ وَ لَمْ تَرْكَبْ هَذِهِ الأُمَّةُ بَعْدَ نَبِيِّهَا طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ فِي أَمْرِ فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ وَفُلاَنٍ»(2).
قال العلامة المجلسي (رحمه الله) في البحار بعد نقل هذه الرواية: (بيان: أي كانت ضلالتهم بعد نبيهم مطابقة لما صدر من الأمم السابقة، من ترك الخليفة، واتباع العجل والسامري، وأشباه ذلك، كما قال علي بن إبراهيم في تفسير تلك الآية: يَقُولُ حَالاً بَعْدَ حَالٍ، يَقُولُ: لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، وَالْقَذَّةِ بِالْقَذَّةِ، لاَ تُخْطِئُونَ طَرِيقَهُمْ وَلاَ يُخْطِئُ، شِبْرٌ بِشِبْرٍ، وَذِرَاعٌ بِذِرَاعٍ، وَبَاعٌ بِبَاعٍ، حَتَّى أَنْ لَوْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ. قَالُوا: الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى تَعْنِي يَا رَسْولَ اللهِ؟. قَالَ: فَمَنْ أَعْنِي، لَتَنْقُضُنَّ عُرَى الإِسْلاَمِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَيَكُونُ أَوَّلَ مَا تَنْقُضُونَ مِنْ دِينِكُمُ الأَمَانَةُ وَآخِرَهُ الصَّلاَةُ)(3).
ص: 281
-------------------------------------------
قول الصديقة (عليها السلام): «طِيبُوا» فيه طعن عليهم وتعريض وتنقيص، كقوله تعالى: «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ»(1)، وقوله سبحانه: «فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ»(2).
و(طاب فلان نفساً عن كذا) أي: رضي من دون أن يكرهه عليه أحد، و(طابت نفسه عن كذا) أي: رضي ببدله، بعكس طابت نفسه بكذا، فهما متقابلان.
و(نفساً) منصوب على التمييز.
ولا يتصور أن يكون المراد بذلك إشارة مجازية إلى فترة راحة واستقرار يمرون بها، وإن أعقب ذلك عذاب وانهيار، وذلك بملاحظة «وَاطْمَئِنُّوا لِلْفِتْنَةِ جَأْشاً، وَأَبْشِرُوا بِسَيْفٍ صَارِمٍ، وَسَطْوَةِ مُعْتَدٍ غَاشِمٍ».
ثم إن «طِيبُوا عن دُنْيَاكُمْ» وإن كان ظاهره خاصاً بذلك الجيل، إلا أنه - أو ملاكه - عام، كما سبق نظيره.
مسألة: هل يحرم أن يطيب الإنسان عندنياه نفساً؟. لا دليل على إطلاقه، إلا فيما عاد إلى إنكار أصل أو فرع أو شبه ذلك، فليتأمل.
ص: 282
..............................
مسألة: يحرم في الجملة أن يغتر الإنسان بظاهر الدنيا وزخرفها وزبرجها، فإنها «لَيِّنٌ مَسُّهَا وَالسَّمُّ النَّاقِعُ فِي جَوْفِهَا»(1).
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ».
وقال (صلى الله عليه وآله): «الدُّنْيَا جِيفَةٌ وَطَالِبُهَا كِلاَبٌ، أَ لاَ تَرَى كَيْفَ أَحَبَّ مَا أَبْغَضَهُ اللهُ، وَأَيُّ خَطِيئَةٍ أَشَدُّ جُرْماً مِنْ هَذَا».
وقال بعض أهل البيت (عليهم السلام): «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا لُقْمَةً فِي فَمِ طِفْلٍ لَرَحِمْنَاهُ، فَكَيْفَ حَالُ مَنْ نَبَذَ حُدُودَ اللهِ تَعَالَى وَرَاءَ ظُهُورِهِ فِي طَلَبِهَا وَالْحِرْصِ عَلَيْهَا، وَالدُّنْيَا دَارٌ لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى سَاكِنِهَا لَرَحِمَتْكَ وَلأَحَبَّتْكَ، وَأَحْسَنَتْ وَدَاعَكَ».
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لَمَّا خَلَقَ اللهُ تَعَالَى الدُّنْيَا أَمَرَهَا بِطَاعَتِهِ، فَأَطَاعَتْ رَبَّهَا. فَقَالَ لَهَا: خَالِفِي مَنْطَلَبَكِ، وَوَافِقِي مَنْ خَالَفَكِ، وَهِيَ عَلَى مَا عَهِدَ اللهُ إِلَيْهَا، وَطَبَعَهَا عَلَيْهَا»(2).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ صُورَةٍ: رَأْسُهَا الْكِبْرُ، وَعَيْنُهَا الْحِرْصُ، وَأُذُنُهَا الطَّمَعُ، وَلِسَانُهَا الرِّيَاءُ، وَيَدُهَا الشَّهْوَةُ، وَرِجْلُهَا الْعُجْبُ، وَقَلْبُهَا الْغَفْلَةُ، وَكَوْنُهَا الْفَنَاءُ، وَحَاصِلُهَا الزَّوَالُ. فَمَنْ أَحَبَّهَا أَوْرَثَتْهُ الْكِبْرَ، وَمَنِ اسْتَحْسَنَهَا أَوْرَثَتْهُ الْحِرْصَ، وَمَنْ طَلَبَهَا أَوْرَثَتْهُ الطَّمَعَ، وَمَنْ مَدَحَهَا أَلْبَسَتْهُ الرِّيَاءَ، وَمَنْ أَرَادَهَا مَكَّنَتْهُ مِنَ الْعُجْبِ، وَمَنْ رَكَنَ إِلَيْهَا أَوْلَتْهُ الْغَفْلَةَ، وَمَنْ
ص: 283
..............................
أَعْجَبَهُ مَتَاعُهَا أَفْتَنَتْهُ وَلاَ تَبْقَى، وَمَنْ جَمَعَهَا وَبَخِلَ بِهَا، رَدَّتْهَا إِلَى مُسْتَقَرِّهَا، وَهِيَ النَّارُ»(1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا أَثْبَتَ اللهُ الْحِكْمَةَ فِي قَلْبِهِ، وَأَنْطَقَ بِهَا لِسَانَهُ، وَبَصَّرَهُ عُيُوبَ الدُّنْيَا دَاءَهَا وَدَوَاءَهَا، وَأَخْرَجَهُ مِنَالدُّنْيَا سَالِماً إِلَى دَارِ السَّلاَمِ»(2).
وعن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «جُعِلَ الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي بَيْتٍ، وَجُعِلَ مِفْتَاحُهُ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا» ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «لاَ يَجِدُ الرَّجُلُ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ، حَتَّى لاَ يُبَالِيَ مَنْ أَكَلَ الدُّنْيَا». ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «حَرَامٌ عَلَى قُلُوبِكُمْ أَنْ تَعْرِفَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ حَتَّى تَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا»(3).
وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنَّ مِنْ أَعْوَنِ الأَخْلاَقِ عَلَى الدِّينِ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا»(4).
وعن علي بن هاشم بن البريد، عن أبيه، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) عَنِ الزُّهْدِ؟. فَقَالَ: «عَشَرَةُ أَشْيَاءَ: فَأَعْلَى دَرَجَةِ الزُّهْدِ أَدْنَى دَرَجَةِ الْوَرَعِ، وَأَعْلَى دَرَجَةِ الْوَرَعِ أَدْنَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ، وَأَعْلَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ أَدْنَى دَرَجَةِ
ص: 284
..............................
الرِّضَا. أَلاَ وَإِنَّ الزُّهْدَ فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ»(1)»(2).
وعن سفيان بن عيينة، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) وَهُوَ يَقُولُ: «كُلُّ قَلْبٍ فِيهِ شَكٌّ أَوْ شِرْكٌ فَهُوَ سَاقِطٌ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا؛ لِتَفْرُغَ قُلُوبُهُمْ لِلآخِرَةِ»(3).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنَّ عَلاَمَةَ الرَّاغِبِ فِي ثَوَابِ الآخِرَةِ، زُهْدُهُ فِي عَاجِلِ زَهْرَةِ الدُّنْيَا. أَمَا إِنَّ زُهْدَ الزَّاهِدِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لا يَنْقُصُهُ مِمَّا قَسَمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ فِيهَا وَإِنْ زَهِدَ، وَإِنَّ حِرْصَ الْحَرِيصِ عَلَى عَاجِلِ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لا يَزِيدُهُ فِيهَا وَإِنْ حَرَصَ، فَالْمَغْبُونُ مَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الآخِرَةِ»(4).وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَا أَعْجَبَ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِيهَا جَائِعاً خَائِفاً»(5).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «خَرَجَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) وَهُوَ مَحْزُونٌ، فَأَتَاهُ مَلَكٌ وَمَعَهُ مَفَاتِيحُ خَزَائِنِ الأَرْضِ. فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، هَذِهِ مَفَاتِيحُ
ص: 285
..............................
خَزَائِنِ الأَرْضِ, يَقُولُ لَكَ رَبُّكَ: افْتَحْ وَخُذْ مِنْهَا مَا شِئْتَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تُنْقَصَ شَيْئاً عِنْدِي. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لاَ دَارَ لَهُ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لاَ عَقْلَ لَهُ. فَقَالَ الْمَلِكُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيّاً، لَقَدْ سَمِعْتُ هَذَا الْكَلاَمَ مِنْ مَلَكٍ يَقُولُهُ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، حِينَ أُعْطِيتُ الْمَفَاتِيحَ»(1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَرَّ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِجَدْيٍ أَسَكَّ مُلْقًى عَلَى مَزْبَلَةٍ مَيْتاً. فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: كَمْ يُسَاوِي هَذَا؟. فَقَالُوا: لَعَلَّهُ لَوْ كَانَ حَيّاً لَمْ يُسَاوِ دِرْهَماً. فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى اللهعليه وآله): وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذَا الْجَدْيِ عَلَى أَهْلِهِ»(2).
ص: 286
-------------------------------------------
(الجأش): النفس والقلب، ورابط الجأش: أي شجاع لأنه رابط القلب وقويه.
(الفتنة): اسم جنس وليس التاء هنا للوحدة، على ما هو مذكور في البلاغة.
وهو تعريض كما سبق، أي لتكن قلوبكم مطمئنة بنزول الفتنة، وهذا يراد به العكس، وهو الأسلوب الأبلغ والأوقع كما لا يخفى.
مسألة: اطمئنان الإنسان نفساً بالفتنة أمر قبيح، لأنه يدل على خبث الطوية وسوء السريرة والنية. ولكن هل يحرم ذلك؟.
إن عاد إلى إنكار اصل أو فرع، أو بغض لأولياء الله حرم، وكذا لو كان مقدمة حرام بناء على المبنى في المسألة، وإلا فإنه بما هو هو لا دليل على حرمته، فتأمل.
نعم، فيما نحن فيه من أشد المحرمات، لأنه من مصاديق إيذاء العترة الطاهرة (عليهم السلام).
ص: 287
..............................
-------------------------------------------
الصارم والصروم: السيف القاطع.
والحاكم الصارم: هو الذي ليست عنده مسامحة في العقاب والتأديب.
وحكم صارم: أي شديد وقاس.
ورجل صرامة: مستبد برأيه.
وقد أشارت الصديقة الطاهرة (عليها السلام) بذلك إلى مستقبل الأمة، على إثر الانقلاب على خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنه سوف يحكم فيهم السيف القاطع، وسيقتل بعضهم بعضاً، كما سيقتل الحكام الناس، ويغتال الناس الحكام أيضاً، فإن «أَبْشِرُوا» عام يشمل الحكام والمحكومين معاً.
وذلك هو الأثر الوضعي لأفعالهم، فإن النتيجة تتبع المقدمات كماً وكيفاً وجهة(1).
قال تعالى: «وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةًضِعِافًا خاَفُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا»(2).
ص: 289
..............................
وقال عزوجل: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً»(1).
وقال الشاعر:
لاَ تَجْنِ شَرًّا تَبْتَغِي بِهِ الأَرَبْ إِنَّكَ لاَ تَجْنِي مِنَ الشَّوْكِ الْعِنَبْ
ومن الواضح أن الطريق إذا كان أوله خطأ، لم ينته إلا إلى خطأ أو تباب أو هلاك أو دمار، إلى صحراء قاحلة(2) أو غابة مخوفة، أو واد سحيق أو ما أشبه.
قال تعالى: «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ»(3).
فهو يجمع بين الهلاك والهول.
وقال سبحانه: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(4).والسيف الصارم الذي أنذرتهم به الصديقه الطاهرة (سلام الله عليها) قد لايشير على ما يصرم رؤوسهم فقط، بل ربما يشير إلى ما يصرم ويهلك ويدمر حياتهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها، كما فصلناه في مكان آخر.
ص: 290
..............................
مسألة: يستحب بشارة الظالم وإنذاره بالسيف الصارم، بل قد يجب إذا كان في ذلك احتمال الردع.
ثم إن لإنذار الظالم طرقاً مختلفة، فيجب على الدعاة سلوكها في هذا الزمن لأنها رادعة إلى حد بعيد عن ظلمهم ومنكرهم.
ومنها: تأسيس منظمات حقوق الإنسان، ومراكز الضغط، والمجلات والجرائد الهادفة، ومواقع الانترنيت وغير ذلك.
ومنها أيضاً: المظاهرات والإضرابات والاعتصامات السلمية وغيرها.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِماً أَوْ مَظْلُوماً، إِنْ يَكُ ظَالِماً فَارْدُدْهُ عَنْ ظُلْمِهِ، وَإِنْ يَكُ مَظْلُوماًفَانْصُرْهُ»(1).
وقال (صلى الله عليه وآله): «رَحِمَ اللهُ عَبْداً كَانَ لأَخِيهِ قِبَلَهُ مَظْلِمَةٌ فِي عِرْضٍ أَوْ مَالٍ، فَأَتَاهُ فَيُحَلِّلُهُ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَيْسَ مَعَهُ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ»(2).
وعنه (صلى الله عليه وآله): «مَنِ اقْتَطَعَ شَيْئاً مِنْ مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَإِنْ كَانَ شَيْئاً يَسِيراً؟!. قَالَ: «وَإِنْ كَانَ قَضِيباً مِنْ أَرَاكٍ»(3).
ص: 291
..............................
وعن حذيفة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أَوْحَى اللهُ إِلَيَّ: أَنْ يَا أَخَا الْمُرْسَلِينَ، يَا أَخَا الْمُنْذِرِينَ، أَنْذِرْ قَوْمَكَ لاَ يَدْخُلُوا بَيْتاً مِنْ بُيُوتِي، وَلأَحَدٍ مِنْ عِبَادِي عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُمْ مَظْلِمَةٌ؛ فَإِنِّي أَلْعَنُهُ مَا دَامَ قَائِماً يُصَلِّي بَيْنَ يَدَيَّ، حَتَّى يَرُدَّ تِلْكَ الظُّلاَمَةَ إِلَى أَهْلِهَا، فَأَكُونَ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَأَكُونَ بَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَكُونَ مِنْ أَوْلِيَائِي وَأَصْفِيَائِي، وَيَكُونَ جَارِي مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَوَالشُّهَداءِ فِي الْجَنَّةِ»(1).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لاَ تَغْبِطَنَّ ظَالِماً بِظُلْمِهِ؛ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَ اللهِ طَالِباً حَثِيثاً» ثُمَّ قَرَأَ:« «كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا»(2)»(3).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَنْ سَلَبَ نِعْمَةَ غَيْرِهِ سَلَبَهُ اللهُ نِعْمَتَهُ»(4).
وقال النبي (صلى الله عليه وآله): «لَوْ بَغَى جَبَلٌ عَلَى جَبَلٍ لَدُكَّ الْبَاغِي»(5).
ورُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) مَرْفُوعاً: «الْوَيْلُ لِظَالِمِ أَهْلِ بَيْتِي، عَذَابُهُمْ مَعَ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ»(6).
وَعَنْهُ (صلى الله عليه وآله): «لاَ يَكْبُرَنَّ عَلَيْكَ ظُلْمُ مَنْ ظَلَمَكَ؛ فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي
ص: 292
..............................
مَضَرَّتِهِ وَنَفَعَكَ»(1).
وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، نَادَى مُنَادٍ: أَيْنَ الظَّلَمَةُ وَأَعْوَانُ الظَّلَمَةِ وَأَشْبَاهُ الظَّلَمَةِ، حَتَّى مَنْ بَرَى لَهُمْ قَلَماً، أَوْ لاَقَ لَهُمْ دَوَاةً، فَيُجْعَلُونَ فِي تَابُوتِ حَدِيدٍ، ثُمَّ يُرْمَى بِهِمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ»(2).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «أَوْحَى اللهُ إِلَى الْمَسِيحِ (عليه السلام): قُلْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: لا يَدْخُلُوا بَيْتاً مِنْ بُيُوتِي إِلاَّ بِأَبْصَارٍ خَاشِعَةٍ، وَقُلُوبٍ طَاهِرَةٍ، وَأَيْدٍ نَقِيَّةٍ. وَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي لاَ أَسْتَجِيبُ لأَحَدٍ مِنْهُمْ دَعْوَةً، وَلأَحَدٍ مِنْ خَلْقِي لَدَيْهِمْ مَظْلِمَةٌ»(3).
وقِيلَ لِلْمَنْصُورِ: فِي حَبْسِكَ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ، فَلَوْ أَمَرْتَ بِإِحْضَارِهِ، وَمَسْأَلَتِهِ عَمَّا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَلِكِ النُّوبَةِ. فَأَحْضَرَهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: صِرْتُ إِلَى جَزِيرَةِ النُّوبَةِ فِي آخِرِ أَمْرِنَا، فَأَمَرْتُ بِالْمَضَارِبِ فَضُرِبَتْ، فَخَرَجَ النُّوبُ يَتَعَجَّبُونَ، وَأَقْبَلَ مَلِكُهُمْ رَجُلٌ طَوِيلٌ، أَصْلَعُ حَافٍ، عَلَيْهِ كِسَاءٌ، فَسَلَّمَ وَجَلَسَ عَلَى الأَرْضِ. فَقُلْتُ: مَا لَكَ لاَ تَجْلِسُ عَلَى الْبِسَاطِ؟. فَقَالَ: أَنَا مَلِكٌ، وَحَقٌّ لِمَنْ رَفَعَهُ اللهُ أَنْ يَتَوَاضَعَ لَهُإِذَا رَفَعَهُ. ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُكُمْ تَطَئُونَ الزَّرْعَ بِدَوَابِّكُمْ، وَالْفَسَادُ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ فِي كِتَابِكُمْ؟!. فَقُلْتُ: عَبِيدُنَا فَعَلُوهُ بِجَهْلِهِمْ. قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ تَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْكُمْ فِي دِينِكُمْ؟!. قُلْتُ: أَشْيَاعُنَا فَعَلُوهُ
ص: 293
..............................
بِجَهْلِهِمْ. قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ تَلْبَسُونَ الدِّيبَاجَ وَتَسْتَحِلُّونَ بِالذَّهَبِ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ؟!. قُلْتُ: فَعَلَ ذَلِكَ أَعَاجِمُ مَنْ خَدَمَنَا كَرِهْنَا الْخِلاَفَ عَلَيْهِمْ. فَجَعَلَ يُكَرِّرُ مَعَاذِيرِي، وَيَنْظُرُ فِي وَجْهِي، وَيُكَرِّرُ مَعَاذِيرِي عَلَى وَجْهِ الاِسْتِهْزَاءِ، ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ كَمَا تَقُولُ يَا ابْنَ مَرْوَانَ، وَلَكِنَّكُمْ قَوْمٌ مَلَكْتُمْ فَظَلَمْتُمْ، وَتَرَكْتُمْ مَا أُمِرْتُمْ، فَأَذَاقَكُمُ اللهُ وَبَالَ أَمْرِكُمْ، وَللهِ فِيكُمْ نِقَمٌ لَمْ تَبْلُغْ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ تَنْزِلَ بِكَ وَأَنْتَ فِي أَرْضِي، فَتُصِيبَنِي مَعَكَ، فَارْتَحِلْ عَنِّي»(1).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ عَذَاباً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَنْ أَشْرَكَهُ اللهُ فِي سُلْطَانِهِ، فَجَارَ فِي حُكْمِه»(2).
مسألة: يستحب وقد يجب بيان تلك الحقيقة للناس، وهي أن الظالم سيسلط عليه سيف صارم، وأن عامة الناس لو سكتوا عن ظلم الظالم فإن ما سيلحقهم من الأذى والضرر والعقاب والأهوال أكبر وأشد وأنكى وأمر، مما حاولوا توقيه عبر السكوت عن ظلم الظالم.
عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «كَانَ أَبِي (عليه السلام) يَقُولُ: خَمْسُ دَعَوَاتٍ لا يُحْجَبْنَ عَنِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: دَعْوَةُ الإِمَامِ الْمُقْسِطِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: لأَنْتَقِمَنَّ لَكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ، وَدَعْوَةُ الْوَلَدِ الصَّالِحِ
ص: 294
..............................
لِوَالِدَيْهِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ الصَّالِحِ لِوَلَدِهِ، وَدَعْوَةُ الْمُؤْمِنِ لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ فَيَقُولُ: وَلَكَ مِثْلُهُ»(1).
وكان فيما وعظ الله عزَّ وجل به عيسى (عليه السلام)، أن قال: «يَا عِيسَى، تُبْ إِلَيَّ بَعْدَ الذَّنْبِ، وَذَكِّرْ بِيَ الأَوَّابِينَ، وَآمِنْ بِي، وَتَقَرَّبْ بِي إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَمُرْهُمْ يَدْعُونِي مَعَكَ. وَإِيَّاكَ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ! فَإِنِّي آلَيْتُ عَلَى نَفْسِي أَنْ أَفْتَحَ لَهَا بَاباًمِنَ السَّمَاءِ بِالْقَبُولِ، وَأَنْ أُجِيبَهُ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: «إِنَّ الْحُسَيْنَ (عليه السلام) لَمَّا قُتِلَ، عَجَّتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ عَلَيْهِمَا، وَالْمَلاَئِكَةُ. فَقَالُوا: يَا رَبَّنَا، أَتَأْذَنُ لَنَا فِي هَلاَكِ الْخَلْقِ حَتَّى نَجُذَّهُمْ مِنْ جَدِيدِ الأَرْضِ، بِمَا اسْتَحَلُّوا حُرْمَتَكَ، وَقَتَلُوا صَفْوَتَكَ. فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِمْ: يَا مَلاَئِكَتِي، وَيَا سَمَائِي، وَيَا أَرْضِي، اسْكُنُوا. ثُمَّ كَشَفَ حِجَاباً مِنَ الْحُجُبِ، فَإِذَا خَلْفَهُ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله) وَاثْنَا عَشَرَ وَصِيّاً لَهُ، فَأَخَذَ بِيَدِ فُلاَنٍ مِنْ بَيْنِهِمْ. فَقَالَ: يَا مَلاَئِكَتِي، وَيَا سَمَاوَاتِي، وَيَا أَرْضِي، بِهَذَا أَنْتَصِرُ مِنْهُمْ لِهَذَا، قَالَهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ»(3).
ص: 295
-------------------------------------------
(السطوة): شدة البطش، تقول: سطى عليه، أي: وثب عليه وقهره.
(الغاشم): الظالم والغاصب.
مسألة: ليس كل قهر محرماً، بل ما كان من المعتدي أي على نحو الاعتداء، ولذلك قالت (عليها السلام): «وَسَطْوَةِ مُعْتَدٍ غَاشِمٍ».
فإن القهر وإن لم يكن أصلاً في التعامل، حيث الأصل السلم واللاعنف، إلا أنه أحياناً لابد من القهر في الجملة لإصلاح بعض المجتمع، وإلا كانت البلاد مرتعاً للصوص والقتلة وأشباههم.
والأمم كلها مجمعة على ذلك، إلا أن الفرق في المصداق، فحتى الأمم المسماة بالمتحضرة تسجن وتضع الغرامات وغيرها، إلا أن ما وضعه الإسلام من الحدود والتعزيرات - بالشروط المقررة، والتي فصلناه في الفقه(1)، هو الأكثر ردعاً والأقل ضرراً، والأنزه منسائر القوانين، والأقرب إلى السلم والسلام.
مضافاً إلى أن في باب الحدود الشرعية، هناك شروط كثيرة وصعبة ربما تجعلها أقرب للتهديد من التنفيذ، لأنها صعبة التحقق، أو نادرة التحقق جداً(2).
ص: 296
..............................
وذلك لأن الإسلام أراد أن يضع رادعاً قوياً، لتطهير المجتمع من الجريمة، وفي الوقت نفسه وضع شروطاً عسيرة جداً كي لا يكثر إجراء الحد.
قال الشيخ المفيد (رحمه الله): (من زنى وتاب قبل أن تقوم الشهادة عليه بالزنى، درأت عنه التوبة الحد. فإن تاب بعد قيام الشهادة عليه، كان للإمام الخيار في العفو عنه أو إقامة الحد عليه، حسب ما يراه من المصلحة في ذلك له ولأهل الإسلام. فإن لم يتب،لم يجز العفو عنه في الحد بحال)(1).
وقال (رحمه الله) أيضاً: (ولا تقام الحدود في المساجد، ولا في مشاهد الأئمة (عليهم السلام)، ومن فعل في المساجد أو المشاهد ما يوجب إقامة الحد عليه، أقيم عليه الحد خارجاً منها، ولم تقم عليه الحدود فيها إن شاء الله)(2).
وقال العلامة ابن إدريس (رحمه الله): (وإذا لاط رجل، ثم تاب قبل قيام البينة، لم يكن للإمام ولا غيره إقامة الحد عليه)(3).
وعن هشام بن أحمر، عن العبد الصالح (عليه السلام)، قال: كَانَ جَالِساً فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَا مَعَهُ، فَسَمِعَ صَوْتَ رَجُلٍ يُضْرَبُ صَلاَةَ الْغَدَاةِ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْبَرْدِ. فَقَالَ: «مَا هَذَا». قَالُوا: رَجُلٌ يُضْرَبُ. فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ! إِنَّهُ
ص: 297
..............................
لا يُضْرَبُ أَحَدٌ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحُدُودِ فِي الشِّتَاءِ إِلاَّ فِي أَحَرِّ سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ، وَلاَ فِي الصَّيْفِ إِلاَّ فِي أَبْرَدِ مَا يَكُونُ مِنَ النَّهَارِ»(1).
وعن جعفرِ بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام)، عن علي (عليه السلام)، قال: «لا حَدَّ عَلَى مَجْنُونٍ حَتَّى يُفِيقَ، وَلاَ عَلَى صَبِيٍّ حَتَّى يُدْرِكَ، وَلاَ عَلَى النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ»(2).
وقال الشيخ المفيد (رحمه الله) في الإرشاد: رَوَتِ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ، أَنَّ مَجْنُونَةً فَجَرَ بِهَا رَجُلٌ، وَقَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهَا. فَأَمَرَ عُمَرُ بِجَلْدِهَا الْحَدَّ، فَمَرَّ بِهَا عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، فَقَالَ: «مَا بَالُ مَجْنُونَةِ آلِ فُلاَنٍ تُقْتَلُ؟». فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ رَجُلاً فَجَرَ بِهَا فَهَرَبَ، وَقَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهَا، وَأَمَرَ عُمَرُ بِجَلْدِهَا. فَقَالَ لَهُمْ: «رُدُّوهَا إِلَيْهِ، وَقُولُوا لَهُ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ هَذِهِ مَجْنُونَةُ آلِ فُلاَنٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَأَنَّهَا مَغْلُوبَةٌ عَلَى عَقْلِهَا وَنَفْسِهَا». فَرَدُّوهَا إِلَيْهِ، فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ(3).وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لاَ يُقَامُ عَلَى أَحَدٍ حَدٌّ بِأَرْضِ الْعَدُوِّ»(4).
ص: 298
..............................
وعن جعفر، عن أبيه، عن علي (عليهم السلام)، أنه قال: «لاَ أُقِيمُ عَلَى رَجُلٍ حَدّاً بِأَرْضِ الْعَدُوِّ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهَا؛ مَخَافَةَ أَنْ تَحْمِلَهُ الْحَمِيَّةُ فَيَلْحَقَ بِالْعَدُوِّ»(1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «لاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ حَتَّى يَنْقَطِعَ الدَّمُ عَنْهَا»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «أُتِيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) بِرَجُلٍ أَصَابَ حَدّاً، وَ بِهِ قُرُوحٌ فِي جَسَدِهِ كَثِيرَةٌ. فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): أَقِرُّوهُ حَتَّى تَبْرَأَ؛ لا تُنْكَأُ عَلَيْهِ فَتَقْتُلُوهُ»(3).وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «لَوْ أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ فِي الإِسْلاَمِ وَأَقَرَّ بِهِ، ثُمَّ شَرِبَ الْخَمْرَ وَزَنَى وَأَكَلَ الرِّبَا وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ، لَمْ أُقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ إِذَا كَانَ جَاهِلاً، إِلاَّ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ قَرَأَ السُّورَةَ الَّتِي فِيهَا الزِّنَا وَالْخَمْرُ وَأَكْلُ الرِّبَا، وَإِذَا جَهِلَ ذَلِكَ أَعْلَمْتُهُ وَأَخْبَرْتُهُ، فَإِنْ رَكِبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ جَلَدْتُهُ، وَأَقَمْتُ عَلَيْهِ الْحَدَّ»(4).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «السَّارِقُ إِذَا جَاءَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ تَائِباً إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، تُرَدُّ سَرِقَتُهُ إِلَى صَاحِبِهَا، وَلا قَطْعَ عَلَيْهِ»(5).
ص: 299
..............................
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) - فِي حَدِيثِ الزَّانِي الَّذِي أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ - أَنَّهُ قَالَ لِقَنْبَرٍ:: «احْتَفِظْ بِهِ». ثُمَّ غَضِبَ وَقَالَ: «مَا أَقْبَحَ بِالرَّجُلِ مِنْكُمْ أَنْ يَأْتِيَ بَعْضَ هَذِهِ الْفَوَاحِشِ، فَيَفْضَحَ نَفْسَهُ عَلَى رُءُوسِ الْمَلإِ، أَ فَلاَ تَابَ فِي بَيْتِهِ. فَوَ اللهِ، لَتَوْبَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ أَفْضَلُ مِنْإِقَامَتِي عَلَيْهِ الْحَدَّ»(1).
وعن جميل بن درَّاج، عن رجل، عن أحدهما (عليه السلام) فِي رَجُلٍ سَرَقَ أَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ أَوْ زَنَى، فَلَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ مِنْهُ، وَلَمْ يُؤْخَذْ حَتَّى تَابَ وَصَلَحَ، فَقَالَ: «إِذَا صَلَحَ وَعُرِفَ مِنْهُ أَمْرٌ جَمِيلٌ، لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ». قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَيْرٍ: قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ أَمْراً قَرِيباً لَمْ تُقَمْ؟. قَالَ: «لَوْ كَانَ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَقَلَّ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُ أَمْرٌ جَمِيلٌ لَمْ تُقَمْ عَلَيْهِ الْحُدُودُ»(2).
وعن فضيل بن يسار، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «لاَ حَدَّ لِمَنْ لاَ حَدَّ عَلَيْهِ، يَعْنِي لَوْ أَنَّ مَجْنُوناً قَذَفَ رَجُلاً لَمْ أَرَ عَلَيْهِ شَيْئاً، وَلَوْ قَذَفَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا زَانِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ»(3).
وعن اليعقوبي، عن أبيه، قال: أُتِيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه
السلام) - وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ - بِرَجُلٍ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. قَالَ:فَلَمَّا قَرُبُوا وَنَظَرَ فِي وُجُوهِهِمْ - قَالَ:
ص: 300
..............................
فَأَقْبَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ. فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «يَا قَنْبَرُ، انْظُرْ مَا هَذِهِ الْجَمَاعَةُ؟». قَالَ: رَجُلٌ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. قَالَ: فَلَمَّا قَرُبُوا وَنَظَرَ فِي وُجُوهِهِمْ، قَالَ: «لاَ مَرْحَباً بِوُجُوهٍ لاَ تُرَى إِلاَّ فِي كُلِّ سُوءٍ، هَؤُلاَءِ فُضُولُ الرِّجَالِ. أَمِطْهُمْ عَنِّي يَا قَنْبَرُ»(1).
مسألة: هل يستفاد من قول الصديقة (صلوات الله عليها): «وَسَطْوَةِ مُعْتَدٍ غَاشِمٍ»، أنه لا يمكن أن تقوم حكومة إسلامية عادلة أبداً حتى ظهور الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)؟.
الظاهر أن كلامها (عليها السلام) لا يدل على ذلك، إذ لا إطلاق فيه من هذه الحيثية، فليست في مقام البيان من هذه الجهة.
إذن من الممكن أن تقوم حكومة إسلامية عادلة ولو في بعض الأرض، ولكنالإمكان شيء والوقوع شيء آخر، فالأمة تركت ما أودعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الكتاب والعترة وتعاليمهما، فأحرمت نفسها من الحكومة العادلة بما للكلمة من معنى إلا في عصر الظهور.
نعم، إذا رجعت الأمة إلى الكتاب والعترة تنعمت بالعدل الإسلامي ولو نسبياً.
ص: 301
..............................
ومما يوضحه أنه لم يكن السيف الصارم حاكماً كل البلاد الإسلامية في كل الأزمنة السابقة، بل كانت دول عديدة حظي الناس فيها بالرفاه والنعيم النسبي، ومنها فترات من حكم الصفويين، ومنها فترات حكم الشيعة في القرن الرابع الهجري، حيث كانت أكثر البلاد الإسلامية تحت سلطتهم، وقال المرحوم كاشف الغطاء: (دخلت إيران حيث لم أر فيها شاكياً ولا شاكيةً، ولا باكياً ولا باكيةً) (1).
فالمقصود من كلامها (صلوات الله عليها): في الجملة، أو المقصود الأعم الأغلب الذي لا ينافي وجود الاستثناء، فإن الظواهر المسلمة قابلة للاستثناء فكيفبغيرها، والاستثناء يؤكد العام ولا يعارضه.
جعل النبي (صلى الله عليه وآله) بأمر الله سبحانه الأئمة اثنى عشر (عليهم السلام) ونصبهم خلفاء له، ليقوموا بدور التبليغ وإدارة العباد والبلاد، بعيداً عن الظلم والجور، وبما يضمن للناس سعادة الدارين.
فإذا كان عصر الغيبة، قام الفقهاء المراجع بهذا الدور حسب الأمر الشرعي وتطبيقاً للأحكام الشرعية، بمعنى تأطيرها وردّ صغرياتها إلى كبريات الشريعة، وذلك بعيداً عن الظلم والاستبداد، حسب ما قررته الشريعة من
ص: 302
..............................
الشورى والاستشارة، قال تعالى: «وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ»(1).
وكما قال علي (عليه السلام): «أَنْ يَخْتَارُوا»(2)، على تفصيل ذكرناه في كتاب(الشورى في الإسلام) (3).
حينذاك لا يكون سيف صارم، لا من المسلمين على بعضهم البعض، ولا من غير المسلمين على المسلمين، بل ولا في العالم أجمع، حيث إن الكفار كانوا يتعرفون على رحمة الإسلام وتقدمه ويأخذون بمناهج المسلمين، كما اتخذوا الآن كثيراً من نظمهم وثقافتهم وحريتهموإتقانهم - ولو بقدر - من المسلمين، إذ إنهم يعترفون بأنهم استفادوا حضارتهم من الإسلام عندما تتلمذوا عند المسلمين
ص: 303
..............................
في الأندلس وغيرها طوال القرون الوسطى(1).
كما أنه حينذاك يكون المال للجميع بحيث لا يَظلمون ولا يُظلمون.
أما ما حدث، فقد جاء السيف مكان المنطق، وأُقصي خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الحكم، وبعده أُقصي أولاده الطاهرون (عليهم السلام)، فمن الطبيعي أن الحاكم حينذاك يكون السيف، والحكم يكون بالظلم والجور، وهكذا كان إلى يومنا هذا، حيث يحكم السيف بين البشرية في كافة أنحاء الأرض، لا بين المسلمين فحسب، ويكون المال بين الأغنياء، حتى أن بعض التقارير يذكر أن نصف العالم يبيتون جائعين! ولا يقف الأمر عند الجوع فقط بل كل لوازم الفقر من الجهل والمرض والفوضى والفساد وسائر المآسي.والغريب أن عمر وعثمان قُتِلا، بل قال بعض: إن أبا بكر أيضاً مات بالسم أو ما أشبه(2)، وهذه نتيجة غصب الخلافة وتحكيم السيف.
أما قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) بيد الخوارج فهو أشهر من أن يذكر، وقد وقع علي (عليه السلام) ضحية عمل الأولين، فإن الخوارج وليد صفين، وصفين وليد جمل، وجمل وليد عثمان وهكذا، ومعنى ذلك أن نفس أهل السقيفة الذين وضعوا السيف مكان المنطق، وقع السيف فيهم، وفي غيرهم، وقد استمرت في المسلمين الحروب من ذلك اليوم، في قصة مالك بن نويرة وإلى اليوم
ص: 304
..............................
بشكل أو بآخر.
أما الفقر فكان نصف بغداد أو أكثره من الفقراء الذين يحتاجون إلى لقمة الخبز، بينما هارون العباسي كان يعيش في قصر مساحته ثلاثة فراسخ، وفي مختلف أنواع النعيم المادي، إلى غير ذلك مما ذكر في التاريخ.
والصديقة الطاهرة (عليها السلام) معقطع النظر عن علمها بالغيب، بتعليم رسول الله (صلى الله عليه وآله) لها، وبالعلم اللدني وما أشبه، فإنها كانت تتكلم عن آثار الظلم والديكتاتورية وتوابع الاستبداد والإعراض عن منهج الله وخليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وغصب الخلافة.
عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْراً، وَكَادَ الْحَسَدُ أَنْ يَغْلِبَ الْقَدَرَ»(1).
وقال (صلى الله عليه وآله): «الْفَقْرُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ»(2).
وقال النبي (صلى الله عليه وآله): «أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَى إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام): خَلَقْتُكَ وَابْتَلَيْتُكَ بِنَارِ نُمْرُودَ، فَلَوِ ابْتَلَيْتُكَ بِالْفَقْرِ، وَرَفَعْتُ عَنْكَ الصَّبْرَ، فَمَا تَصْنَعُ؟. قَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ، الْفَقْرُ إِلَيَّ أَشَدُّ مِنْ نَارِ نُمْرُودَ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: فَبِعِزَّتِي وَجَلاَلِي، مَا خَلَقْتُ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَشَدَّ مِنَ الْفَقْرِ»(3).
ص: 305
..............................
وقال أمير المؤمنين للحسن (عليهما السلام): «لاَ تَلُمْ إِنْسَاناً يَطْلُبُ قُوتَهُ، فَمَنْ عَدِمَ قُوتَهُ كَثُرَ خَطَايَاهُ. يَا بُنَيَّ، الْفَقِيرُ حَقِيرٌ لاَ يُسْمَعُ كَلاَمُهُ، وَلاَ يُعْرَفُ مَقَامُهُ. وَلَوْ كَانَ الْفَقِيرُ صَادِقاً يُسَمُّونَهُ كَاذِباً، وَلَوْ كَانَ زَاهِداً يُسَمُّونَهُ جَاهِلاً. يَا بُنَيَّ، مَنِ ابْتُلِيَ بِالْفَقْرِ فَقَدِ ابْتُلِيَ بِأَرْبَعِ خِصَالٍ: بِالضَّعْفِ فِي يَقِينِهِ، وَالنُّقْصَانِ فِي عَقْلِهِ، وَالرِّقَّةِ فِي دِينِهِ، وَقِلَّةِ الْحَيَاءِ فِي وَجْهِهِ، فَنَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْفَقْرِ»(1).
وقال (صلى الله عليه وآله): «الْفَقْرُ الْمَوْتُ الأَكْبَرُ»(2).
وقال (صلى الله عليه وآله): «الْفَقْرُ شَيْنٌ عِنْدَ النَّاسِ، وَزَيْنٌ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(3).
وقال (صلى الله عليه وآله): «مَنِ اسْتَذَلَّ مُؤْمِناً أَوْ مُؤْمِنَةً، أَوْ حَقَّرَهُ لِفَقْرِهِ وَقِلَّةِ ذَاتِ يَدِهِ، شَهَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّيَفْضَحُهُ»(4).
وقال الرضا (عليه السلام): «مَنْ لَقِيَ فَقِيراً مُسْلِماً، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ خِلاَفَ سَلاَمِهِ عَلَى الْغَنِيِّ، لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ»(5).
وهنا يبقى سؤال:أليست رحمة الله سبحانه تقتضي أن لا يترك الخلق بحيث
ص: 306
..............................
يظلم الإنسان نفسه، ويظلم بعضهم بعضاً، وتظلمهم الطبيعة، بل ويظلم الإنسان والحيوان الحيوان كذبح الإنسان له، وكافتراس بعضها لبعض؟.
والجواب: إن قانون الأسباب والمسببات، وقانون الاختبار والامتحان، وقانون حرية الإنسان كلها يقتضي ما أقره الله مما نراه.
وتوضيحه: إن الأمر دائر بين أن يجعل الله سبحانه للكون قوانين عامة تشمل الكل، كقانون الجاذبية وقوانين الشمس والمعادن وغيرها، وبين أن لايجعلها، بأن يحول دون نفوذ القوانين في موارد الظلم، بحيث إن الإنسان الذي يلقي بنفسه من شاهق أو يدفعه غيره لا يسقط، أو ينزل بهدوء حتى لا تتكسر عظامه.
فإن كان الأول: كان لابد من الظالم والمظلوم والمآسي وغيرها رعاية لقانون الأسباب والمسببات، وقانون الاختبار والامتحان، وقانون حرية الإنسان.
وإن كان الثاني: استحال امتحان الإنسان حتى يستحق الدرجات الرفيعة، فإن لم يخلق الله سبحانه الدرجات الرفيعة في الجنة كان نقصاً في الخلقة، وإن خلق وأعطاها لمن لا يستحق كان خلاف الحكمة، مثله مثل من يكرم الحيوان بما يستحقه الإنسان، أو يكرم الإنسان الأنزل بما يستحق الإنسان الأرفع.
أرأيت لو أن إنساناً أكرم حماراً بما يكرم به إنساناً في اللباس والأكل والمسكن وما أشبه، أ يكون قد فعل ما تقتضيه الحكمة؟!
هذا في إنسان يظلم نفسه أو إنساناً آخر.
وكذلك في الطبيعة حيث تشمل كوارثها الإنسان، من الزلزلة وإحراق
ص: 307
..............................
الشمس وإغراق الماء وما أشبه، فإن ذلك كله مقتضى قانون الأسباب والمسببات، ومقتضى امتحان الإنسان أيضاً.
وتفصيل الكلام في محله.
أما الحيوان الذي يُظلَم - مجهولاً(1)- بسبب إنسان أو حيوان آخر أو طبيعة، فهناك بعض الآيات التي يستفاد منها ثبوت الجزاء حتى للحيوان كقوله تعالى: «أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ»(2)، وقوله عز وجل: «وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ»(3)، إلى غيرهما من الآيات والروايات.
عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِذَا أَخَذَ الْقَوْمُ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، فَإِنْ كَانُوا رُكْبَاناً كَانُوا مِنْ خَيْلِ إِبْلِيسَ، وَإِنْ كَانُوا رَجَّالَةً كَانُوا مِنْ رَجَّالَتِهِ»(4).
وعن الهيثم بن واقد، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه
السلام) يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ نَبِيّاً إِلَى قَوْمِهِ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِأَنْ قُلْ لِقَوْمِكَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ، وَلاَ أَهْلِ بَيْتٍ كَانُوا عَلَى طَاعَتِي فَأَصَابَهُمْ فِيهِمَا سُوءٌ، فَانْتَقَلُوا عَمَّا أُحِبُّ إِلَى مَا أَكْرَهُ، إِلاَّ تَحَوَّلْتُ لَهُمْ عَمَّا يُحِبُّونَ إِلَى مَا يَكْرَهُونَ»(5).
وعن معتب مولى الصادق (عليه السلام)، قال: قال الصادق (عليه السلام):
ص: 308
..............................
«إِنَّمَا وُضِعَتِ الزَّكَاةُ اخْتِبَاراً لِلأَغْنِيَاءِ وَمَعُونَةً لِلْفُقَرَاءِ، وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ أَدَّوْا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ مَا بَقِيَ مُسْلِمٌ فَقِيراً مُحْتَاجاً، وَلاَسْتَغْنَى بِمَا فَرَضَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ. وَإِنَّ النَّاسَ مَا افْتَقَرُوا، وَلاَ احْتَاجُوا، وَلاَ جَاعُوا، وَلاَ عَرُوا، إِلاَّ بِذُنُوبِ الأَغْنِيَاءِ، وَحَقِيقٌ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَمْنَعَ رَحْمَتَهُ مَنْ مَنَعَ حَقَّ اللهِ فِي مَالِهِ. وَأُقْسِمُ بِالَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ وَبَسَطَ الرِّزْقَ، أَنَّهُ مَا ضَاعَ مَالٌ فِي بَرٍّ وَلاَ بَحْرٍ إِلاَّ بِتَرْكِ الزَّكَاةِ، وَمَا صِيدَ صَيْدٌ فِي بَرٍّ وَلاَ بَحْرٍ إِلاَّ بِتَرْكِهِ التَّسْبِيحَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَإِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَسْخَاهُمْ كَفّاً، وَأَسْخَى النَّاسِ مَنْ أَدَّى زَكَاةَ مَالِهِ، وَلَمْ يَبْخَلْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِمَا افْتَرَضَ اللهُ عَزَّوَجَلَّ لَهُمْ فِي مَالِهِ»(1).
وكتب الرضا علي بن موسى (عليهما السلام) إلى محمد بن سنانٍ، فيما كتب إليه من جواب مسائله: «أَنَّ عِلَّةَ الزَّكَاةِ مِنْ أَجْلِ قُوتِ الْفُقَرَاءِ، وَتَحْصِينِ أَمْوَالِ الأَغْنِيَاءِ؛ لأَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ كَلَّفَ أَهْلَ الصِّحَّةِ الْقِيَامَ بِشَأْنِ أَهْلِ الزَّمَانَةِ وَالْبَلْوَى، كَمَا قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ»(2)، فِي أَمْوَالِكُمْ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ تَوْطِينُ الأَنْفُسِ عَلَى الصَّبْرِ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ أَدَاءِ شُكْرِ نِعَمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالطَّمَعِ فِي الزِّيَادَةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ لأَهْلِ الضَّعْفِ، وَالْعَطْفِ عَلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ، وَالْحَثِّ لَهُمْ عَلَى الْمُوَاسَاةِ، وَتَقْوِيَةِ الْفُقَرَاءِ، وَالْمَعُونَةِ لَهُمْ عَلَى أَمْرِ الدِّينِ، وَهُوَ عِظَةٌ لأَهْلِ الْغِنَى، وَعِبْرَةٌ لَهُمْ لِيَسْتَدِلُّوا عَلَى فُقَرَاءِ الآخِرَةِ بِهِمْ،وَمَا لَهُمْ مِنَ الْحَثِّ فِي ذَلِكَ عَلَى الشُّكْرِ للهِ
ص: 309
..............................
تَبَارَكَ وَتَعَالَى، لِمَا خَوَّلَهُمْ وَأَعْطَاهُمْ، وَالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالْخَوْفِ مِنْ أَنْ يَصِيرُوا مِثْلَهُمْ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، فِي أَدَاءِالزَّكَاةِ، وَالصَّدَقَاتِ، وَصِلَةِ الأَرْحَامِ، وَاصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ»(1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: «مَا مِنْ ذِي مَالٍ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ يَمْنَعُ زَكَاةَ مَالِهِ، إِلاَّ حَبَسَهُ اللهُ عَزَّوَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِ شُجَاعاً أَقْرَعَ، يُرِيدُهُ وَهُوَ يَحِيدُ عَنْهُ، فَإِذَا رَأَى أَنَّهُ لاَ يَتَخَلَّصُ مِنْهُ أَمْكَنَهُ مِنْ يَدِهِ، فَقَضِمَهَا كَمَا يُقْضَمُ الْفُجْلُ، ثُمَّ يَصِيرُ طَوْقاً فِي عُنُقِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَ: «سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(2). وَمَا مِنْ ذِي مَالٍ إِبِلٍ أَوْ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ يَمْنَعُ زَكَاةَ مَالِهِ، إِلاَّ حَبَسَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، يَطَؤُهُ كُلُّ ذَاتِ ظِلْفٍ بِظِلْفِهَا، وَيَنْهَشُهُ كُلُّ ذَاتِ نَابٍ بِنَابِهَا. وَمَا مِنْ ذِي مَالٍ نَخْلٍ أَوْ كَرْمٍ أَوْ زَرْعٍ يَمْنَعُ زَكَاتَهُ، إِلاَّ طَوَّقَهُ اللهُ تَعَالَى رَيْعَةَ أَرْضِهِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(3).
وعن أبي جعفرٍ (عليه السلام)، قال: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَرَنَ الزَّكَاةَ بِالصَّلاَةِ،فَقَالَ: «أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ»(4)، فَمَنْ أَقَامَ الصَّلاَةَ وَلَمْ يُؤْتِ الزَّكَاةَ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يُقِمِ الصَّلاَةَ»(5).
ص: 310
..............................
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: «مَانِعُ الزَّكَاةِ يُطَوَّقُ بِحَيَّةٍ قَرْعَاءَ تَأْكُلُ مِنْ دِمَاغِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(1)»(2).
وعنِ الصادقِ (عليه السلام)، أنه قال: «مَلْعُونٌ مَلْعُونٌ مَالٌ لاَ يُزَكَّى»(3).
وعن أبي جعفر (عليه السلام)، أنه قال: «مَا مِنْ عَبْدٍ مَنَعَ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ شَيْئاً، إِلاَّ جَعَلَ اللهُ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُعْبَاناً مِنْ نَارٍ مُطَوَّقاً فِي عُنُقِهِ، يَنْهَشُ مِنْ لَحْمِهِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ الْحِسَابِ، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ:«سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(4)، يَعْنِي مَا بَخِلُوا بِهِ مِنَ الزَّكَاةِ»(5).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَمْنَعُ دِرْهَماً فِي حَقِّهِ، إِلاَّ أَنْفَقَ اثْنَيْنِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ. وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَمْنَعُ حَقّاً فِي مَالِهِ، إِلاَّ طَوَّقَهُ اللهُ بِهِ حَيَّةً مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(6).
ص: 311
..............................
لكن قد يُسأل: لماذا لا يستجاب الدعاء لدفع الظلم والبلاء؟.
فالجواب النقضي: لماذا لا ينفع الدواء؟, فإن الله سبحانه كما جعل للأمراض الدواء، جعل لبعض الأمراض والمقاصد الدعاء، وتأثير كل واحد منهما في الجملة وعلى نحو الاقتضاء، لا على نحو الكلية والعلية التامة.
إذاً الأمر دائر بين الثلاث:
الأول: عدم الجعل مطلقاً.
الثاني: الجعل مطلقاً.
الثالث: الجعل في الجملة.
فالأول: لا صحة له، لأنه نقص في الخلقة، فكل شيء قابل للخلقة وليس فيه محذور، لزم أن يُخلق لأنه مقتضى الفياضية المطلقة فيه سبحانه على ما قالوا.
والثاني: لا صحة له، وإلا لزم خلاف الحكمة، إذ بذلك تتغير الدنيا عن كونها دنياً هكذا، بل تكون جنة، والمفروض أن الدنيا بهذه الكيفية نوع من الخلقة التي تتطلب الخلق بلسان الواقع، والفياض يخلق كل شيء فيهالحكمة بأن لم يكن فيه محذور(1).
ص: 312
..............................
فيبقى الثالث.
لا يقال: ما أكثر ما يشفي الدواء؟.
لأنه يقال: وما أكثر ما يستجاب الدعاء، فإن كلاً منا يذكر أنه دعا للدَّيْن، والفقر، والمرض، والولد، والعدو، وألف شيء وشيء، وقد استجيب له. نعم، ليست الاستجابة فورية، ولا حتمية في كل دعاء، ولا لكل داعٍ.
كما استعمل الدواء للكثير من الأمراض. نعم، ليس كل مرض يعالج بالدواء، وإلاّ لم يكن هناك مرض وموت وهرم وعقم ونقص خلقة وغيرها.
فالدعاء من الأسباب الكونية المعنوية، كالدواء الذي هو من الأسباب المادية، لا ينجح كله ولا يفشل كله،كسائر الأسباب والمسببات التي ليست بنحو العلية التامة، وإنما لها شرائط وموانع ومعدات وقواطع، إلى غير ذلك، فقوله سبحانه: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»(1)، من باب المقتضي لا من باب العلية التامة(2).
عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: «إِنَّ الَّذِينَ
ص: 313
..............................
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ»(1)، قَالَ: هُوَ الدُّعَاءُ»(2).
وعن حماد بن عيسى، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ - فِي حَدِيثٍ -: «إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ. إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ»، وَقَالَ: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْلَكُمْ»(3)»(4).
وعن أبي جعفر (عليه السلام) - في حديث - قال: «وَمَا أَحَدٌ أَبْغَضَ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِمَّنْ يَسْتَكْبِرُ عَنْ عِبَادَتِهِ، وَلاَ يَسْأَلُ مَا عِنْدَهُ»(5).
وقال أبو عبد الله (عليه السلام): «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ الَّتِي قَالَ اللهُ: «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ»(6)»(7).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) - في حديث - قال: «لَوْ أَنَّ عَبْداً سَدَّ فَاهُ وَلَمْ يَسْأَلْ، لَمْ يُعْطَ شَيْئاً، فَسَلْ تُعْطَ»(8).
ص: 314
..............................
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ فَضْلِهِافْتَقَرَ»(1).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلاَنِ كَانَا يَعْمَلاَنِ عَمَلاً وَاحِداً، فَيَرَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَوْقَهُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، بِمَا أَعْطَيْتَهُ وَكَانَ عَمَلُنَا وَاحِداً!. فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: سَأَلَنِي وَلَمْ تَسْأَلْنِي - ثُمَّ قَالَ - سَلُوا اللهَ وَأَجْزِلُوا؛ فَإِنَّهُ لاَ يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ»(2).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لَتَسْأَلُنَّ اللهَ أَوْ لَيَغْضَبَنَّ عَلَيْكُمْ. إِنَّ للهِ عِبَاداً يَعْمَلُونَ فَيُعْطِيهِمْ، وَآخَرِينَ يَسْأَلُونَهُ صَادِقِينَ فَيُعْطِيهِمْ، ثُمَّ يَجْمَعُهُمْ فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ الَّذِينَ عَمِلُوا: رَبَّنَا عَمِلْنَا فَأَعْطَيْتَنَا، فَبِمَا أَعْطَيْتَ هَؤُلاَءِ؟. فَيَقُولُ: هَؤُلاَءِ عِبَادِي، أَعْطَيْتُكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَمْ أَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً، وَسَأَلَنِي هَؤُلاَءِ فَأَعْطَيْتُهُمْ، وَهُوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ»(3).
ص: 315
-------------------------------------------
الهرج: الفتنة والاختلاف والقتل.
لكن هل المراد بالهرج الشامل: الذي يشمل كل المسلمين في ذلك الزمن، أم في كل الأزمنة، أم في الأعم الأغلب، أم في الجملة؟.
قد سبق نظيره فليراجع.
والهرج الشامل هو نتيجة ظلم الحاكم وغصب الخلافة، كما لا يخفى.
مسألة: يجب الاعتقاد بأن الصديقة (صلوات الله عليها) كانت تعلم الغيب بإذن الله ولطفه، كما يجب بيان ذلك في الجملة، والأدلة على علمها (عليها السلام) تنزلها منزلة البديهيات، فلتراجع المفصلات.
عن إسحاق بن جعفر بن محمد بن عيسى بن زيد بن علي، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّمَا سُمِّيَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) مُحَدَّثَةً؛ لأَنَّ الْمَلائِكَةَ كَانَتْ تَهْبِطُ مِنَ السَّمَاءِ، فَتُنَادِيهَا كَمَا تُنَادِي مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، فَتَقُولُ: يَا فَاطِمَةُ، اللهُ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ، وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ. يَا فَاطِمَةُ، اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ، فَتُحَدِّثُهُمْوَيُحَدِّثُونَهَا.
فَقَالَتْ لَهُمْ ذَاتَ لَيْلَةٍ: أَلَيْسَتِ الْمُفَضَّلَةُ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ!
فَقَالُوا: إِنَّ مَرْيَمَ كَانَتْ سَيِّدَةَ نِسَاءِ عَالَمِهَا، وَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَكِ سَيِّدَةَ
ص: 316
..............................
نِسَاءِ عَالَمِكِ وَعَالَمِهَا، وَسَيِّدَةَ نِسَاءِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ»(1).
وعن إسماعيل بن بشار، قال: حدثنا علي بن جعفر الحضرمي بمصر منذ ثلاثين سنة. قال: حدثنا سليمان. قال محمد بن أبي بكر: لَمَّا قَرَأَ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ وَلاَ مُحَدَّثٍ، وَهَلْ يُحَدِّثُ الْمَلاَئِكَةُ إِلاَّ الأَنْبِيَاءَ؟. قَالَ: مَرْيَمُ لَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً وَكَانَتْ مُحَدَّثَةً، وَأُمُّ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ كَانَتْ مُحَدَّثَةً وَلَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً، وَسَارَةُ امْرَأَةُ إِبْرَاهِيمَ قَدْ عَايَنَتِ الْمَلاَئِكَةَ، فَبَشَّرُوهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ، وَلَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) كَانَتْ مُحَدَّثَةً وَلَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً»(2).وعن بريد بن معاوية العجلي، قال: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنِ الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ وَالْمُحَدَّثِ؟. فَقَالَ: «الرَّسُولُ الَّذِي تَأْتِيهِ الْمَلاَئِكَةُ وَيُعَايِنُهُمْ، وَتُبْلِغُهُ عَنِ اللهِ تَعَالَى. وَالنَّبِيُّ الَّذِي يَرَى فِي مَنَامِهِ، فَمَا رَأَى فَهُوَ كَمَا رَأَى. وَالْمُحَدَّثُ الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلامَ - كَلاَمَ الْمَلاَئِكَةِ - وَيُنْقَرُ فِي أُذُنَيْهِ، وَيُنْكَتُ فِي قَلْبِهِ»(3).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام):«وَأَمَّا الْمُحَدَّثُ فَهُوَ الَّذِي يَسْمَعُ كَلاَمَ الْمَلَكِ
ص: 317
..............................
وَلاَ يَرَاهُ، وَلاَ يَأْتِيهِ فِي الْمَنَامِ»(1).
وفي العوالم نقلاً عن المحتضر: روي أن فاطمة (عليها السلام) لما توفي أبوها (صلى الله عليه و آله وسلم) قالت لأمير المؤمنين (عليه السلام): «إني لأسمع من يحدثني بأشياء ووقائع تكون في ذريتي. قال: فإذا سمعتيه فأمليه عليَّ». فصارت تمليه وهو يكتبه، فروي أنه بقدرالقرآن ثلاث مرات ليس فيه شيء من القرآن، فلما كمله سماه: (مصحف فاطمة)؛ لأنها كانت محدثة تحدثها الملائكة(2).
مسألة: يحرم فعل أي شيء يوجب الهرج الشامل، ومن مصاديقه إيقاع الفتنة الطائفية التي توجب هتك الأعراض وإراقة الدماء وغير ذلك.
عن سليم بن قيس، قال: صَعِدَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، أَنَا الَّذِي فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا غَيْرِي. وَايْمُ اللهِ، لَوْ لَمْ أَكُنْ فِيكُمْ لَمَا قُوتِلَ أَهْلُ الْجَمَلِ، وَلاَ أَهْلُ صِفِّينَ، وَلاَ أَهْلُ النَّهْرَوَانِ»(3).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لَتَشْمَلَنَّكُمْ فِتْنَةٌ يَرْبُو فِيهَا الْوَلِيدُ، وَيَنْشَأُ
ص: 318
..............................
فِيهَا الْكَبِيرُ، يَجْرِي النَّاسُ عَلَيْهَا وَيَتَّخِذُونَهَا سُنَّةً، فَإِذَا غُيِّرَ مِنْهَا شَيْءٌ، قَالُوا: أَتَى النَّاسُ مُنْكَراً، غُيِّرَتِ السَّنَّةُ»(1).
وقام رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام). فقال: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، حَدِّثْنَا عَنِ الْفِتَنِ؟.
قال (عليه السلام): «إِنَّ الْفِتْنَةَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ، يُشْبِهْنَ مُقْبِلاَتٍ، وَيُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ. إِنَّ الْفِتَنَ تَحُومُ كَالرِّيَاحِ، يُصِبْنَ بَلَداً وَيُخْطِئْنَ أُخْرَى، أَلاَ إِنَّ أَخْوَفَ الْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فِتْنَةُ بَنِي أُمَيَّةَ، إِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ مُطَيَّنَةٌ، عَمَّتْ فِتْنَتُهَا وَخَصَّتْ بَلِيَّتُهَا، وَأَصَابَ الْبَلاَءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا، وَأَخْطَأَ الْبَلاَءُ مَن عَمِيَ عَنْهَا، يَظْهَرُ أَهْلُ بَاطِلِهَا عَلَى أَهْلِ حَقِّهَا، حَتَّى تُمْلأَ الأَرْضُ عُدْوَاناً وَظُلْماً وَبِدَعاً، أَلاَ وَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ يَضَعُ جَبَرُوتَهَا، وَيَكْسِرُ عُمُدَهَا، وَيَنْزِعُ أَوْتَادَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ»(2).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يَا عَلِيُّ، إِنَّ اللهَ قَضَى الْجِهَادَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الْفِتْنَةِ مِنْ بَعْدِي. فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ نُجَاهِدُالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ فِي فِتْنَتِهِمْ آمِناً؟. قَالَ: يُجَاهِدُونَ عَلَى الأَحْدَاثِ فِي الدِّينِ، إِذَا عَمِلُوا بِالرَّأْيِ فِي الدِّينِ، وَلاَ رَأْيَ فِي الدِّينِ، إِنَّمَا الدِّينُ مِنَ الرَّبِّ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ»(3).
وعن عبد الرحمن بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى:
ص: 319
..............................
«وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً»(1)، قال: «أصابت الناس فتنة بعد ما قبض الله نبيه، حتى تركوا علياً وبايعوا غيره، وهي الفتنة التي فتنوا بها، وقد أمرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بإتباع علي والأوصياء من آل محمد (عليهم السلام)»(2).
وعن معمر بن خلاد، قال: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ (عليه
السلام) يَقُولُ: «الم * أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ»(3)، ثُمَّ قَالَ لِي:«مَا الْفِتْنَةُ؟». قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، الَّذِي عِنْدَنَا الْفِتْنَةُ فِي الدِّينِ. فَقَالَ: «يُفْتَنُونَ كَمَا يُفْتَنُ الذَّهَبُ» ثُمَّ قَالَ: «يُخْلَصُونَ كَمَا يُخْلَصُ الذَّهَبُ»(4).
..............................
قَالَ: «الْكَبَائِرُ الَّتِي أَوْجَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهَا النَّارَ»(1).
وعن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «الْكَبَائِرُ سَبْعٌ: قَتْلُ الْمُؤْمِنِ مُتَعَمِّداً،وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، وَالتَّعَرُّبُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ظُلْماً، وَأَكْلُ الرِّبَا بَعْدَ الْبَيِّنَةِ، وَكُلُّ مَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِ النَّارَ»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): «مَا مِنْ عَبْدٍ إِلاَّ وَعَلَيْهِ أَرْبَعُونَ جُنَّةً حَتَّى يَعْمَلَ أَرْبَعِينَ كَبِيرَةً، فَإِذَا عَمِلَ أَرْبَعِينَ كَبِيرَةً انْكَشَفَتْ عَنْهُ الْجُنَنُ. فَيُوحِي اللهُ إِلَيْهِمْ: أَنِ اسْتُرُوا عَبْدِي بِأَجْنِحَتِكُمْ. فَتَسْتُرُهُ الْمَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا - قَالَ - فَمَا يَدَعُ شَيْئاً مِنَ الْقَبِيحِ إِلاَّ قَارَفَهُ، حَتَّى يَمْتَدِحَ إِلَى النَّاسِ بِفِعْلِهِ الْقَبِيحِ، فَيَقُولُ الْمَلاَئِكَةُ: يَا رَبِّ، هَذَا عَبْدُكَ مَا يَدَعُ شَيْئاً إِلاَّ رَكِبَهُ، وَإِنَّا لَنَسْتَحْيِي مِمَّا يَصْنَعُ. فَيُوحِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِمْ: أَنِ ارْفَعُوا أَجْنِحَتَكُمْ عَنْهُ. فَإِذَا فُعِلَ ذَلِكَ أَخَذَ فِي بُغْضِنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْهَتِكُ سِتْرُهُ فِي السَّمَاءِ، وَسِتْرُهُ فِي الأَرْضِ، فَيَقُولُ الْمَلاَئِكَةُ: يَا رَبِّ، هَذَا عَبْدُكَ قَدْ بَقِيَ مَهْتُوكَ السِّتْرِ. فَيُوحِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِمْ: لَوْ كَانَتْ للهِ فِيهِ حَاجَةٌ، مَا أَمَرَكُمْ أَنْ تَرْفَعُوا أَجْنِحَتَكُمْ عَنْهُ»(3).
وعن مسعدة بن صدقة، قال: سَمِعْتُ أَبَاعَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «الْكَبَائِرُ: الْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ،
ص: 321
..............................
وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ظُلْماً، وَأَكْلُ الرِّبَا بَعْدَ الْبَيِّنَةِ، وَالتَّعَرُّبُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ». فَقِيلَ لَهُ: أَ رَأَيْتَ الْمُرْتَكِبُ لِلْكَبِيرَةِ يَمُوتُ عَلَيْهَا، أَ تُخْرِجُهُ مِنَ الإِيمَانِ؟ وَإِنْ عُذِّبَ بِهَا فَيَكُونُ عَذَابُهُ كَعَذَابِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ لَهُ انْقِطَاعٌ؟. قَالَ: «يَخْرُجُ مِنَ الإِسْلاَمِ إِذَا زَعَمَ أَنَّهَا حَلاَلٌ، وَلِذَلِكَ يُعَذَّبُ أَشَدَّ الْعَذَابِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَرِفاً بِأَنَّهَا كَبِيرَةٌ، وَهِيَ عَلَيْهِ حَرَامٌ، وَأَنَّهُ يُعَذَّبُ عَلَيْهَا، وَأَنَّهَا غَيْرُ حَلاَلٍ، فَإِنَّهُ مُعَذَّبٌ عَلَيْهَا، وَهُوَ أَهْوَنُ عَذَاباً مِنَ الأَوَّلِ، وَيُخْرِجُهُ مِنَ الإِيمَانِ، وَلاَ يُخْرِجُهُ مِنَ الإِسْلاَمِ»(1).
مسألة: يحرم ما يوجب الهرج والمرج في مختلف مجالات الحياة الأساسية، فمايوجب الهرج والمرج والاضطراب الاقتصادي حرام، مثل الإخلال بقانون العرض والطلب عمداً بشكل كبير مضر بحيث يحطم الأسعار أو يسبب ارتفاعها بشكل استثنائي، وكذلك ما يسبب تحطيم العملة الوطنية مما يضر الناس ضرراً بالغاً، إلى غير ذلك.
وكذا ما يوجب الهرج والمرج والاضطراب الأمني والاجتماعي والسياسي وغيرها، إلا إذا زوحم بهرج ومرج أكبر لو لم يتم الأقل أو ما أشبه، فإنه حينئذٍ يكون من مصاديق الأهم والمهم.
ص: 322
..............................
ورد في التاريخ قصة ضرب عبد الملك بن مروان للعملة الإسلامية، ومفادها أن القراطيس(1) كانت للروم - وكان أكثر من بمصر نصرانياً على دين ملك الروم - وكانت تطرز بالرومية - أي يكتب عليها شعار الديانة المسيحية - وكان طرازها: الأب والابن وروح القدس، فلم يزل ذلك كذلك صدر الإسلام كله يمضي على ما كان عليه إلى أن ملك عبد الملك بن مروان فتنبه له وكان فطناً.
فبينا هو ذات يوم إذ مر به قرطاسفنظر إلى طرازه فأمر أن يترجم بالعربية فأنكره، وقال: ما أغلظ هذا في أمر الدين والإسلام أن يكون طراز القراطيس وغير ذلك مما يطرز من ستور وغيرها من عمل هذا البلد - أي مصر - على سعته وكثرة ماله وأهله فتخرج منه هذه القراطيس فتدور في الآفاق والبلاد وقد طرزت بشرك مثبت عليها.
فأمر بالكتاب إلى عبد العزيز بن مروان - وكان عامله بمصر - بإبطال ذلك الطراز على ما كان يطرز به من ثوب وقرطاس وستر وغير ذلك، وأن يأخذ صنَّاع القراطيس أن يطرزوها بسورة التوحيد وآية «شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ»(2). وكتب إلى عمال الآفاق جميعاً بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم ومعاقبة من وجد عنده بعد هذا النهي شيء منها بالضرب الوجيع والحبس الطويل.
فلما أثبتت القراطيس بالطراز المحدث بالتوحيد وحُمل إلى بلاد الروم منها
ص: 323
..............................
انتشر خبرها ووصل إلى ملكهم فترجم له ذلك الطراز، فأنكره وغلظ عليهواستشاط غضباً.
فكتب إلى عبد الملك: إن عمل القراطيس بمصر وسائر ما يطرز هناك للروم، ولم يزل يطرز بطراز الروم إلى أن أبطلته، فإن كان من تقدمك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت، وإن كنت قد أصبت فقد أخطئوا، فاختر من هاتين الحالتين أيهما شئت وأحببت، وقد بعثت إليك بهدية تشبه محلك، وأحببت أن تجعل رد ذلك الطراز إلى ما كان عليه في جميع ما كان يطرز من أصناف الأعلاق حاجة أشكرك عليها، وتأمر بقبض الهدية وكانت عظيم القدر.
فلما قرأ عبد الملك كتابه رد الرسول وأعلمه أن لا جواب له، ولم يقبل الهدية فانصرف بها إلى صاحبه، فلما وافاه أضعف الهدية ورد الرسول إلى عبد الملك، وقال: إني ظننتك استقللت الهدية فلم تقبلها ولم تجبني عن كتابي، فأضعفت لك الهدية وأنا أرغب إليك في مثل ما رغبت فيه من رد هذا الطراز إلى ما كان عليه أولاً.
فقرأ عبد الملك الكتاب ولم يجبه وردّ الهدية، فكتب إليه ملك الروم يقتضي أجوبة كتبه، ويقول: إنك قد استخففت بجوابي وهديتي ولم تسعفني بحاجتي، فتوهمتك استقللت الهدية فأضعفتها فجريت على سبيلك الأول وقد أضعفتها ثالثة، وأنا أحلف بالمسيحلتأمرن برد الطراز إلى ما كان عليه أو لآمرن بنقش الدنانير والدراهم؛ فإنك تعلم أنه لا ينقش شيء منها إلا ما ينقش في بلادي، فينقش عليها من شتم نبيك ما إذا قرأته ارفض جبينك له عرقاً، فأحب أن تقبل هديتي وترد الطراز إلى ما كان عليه، وتجعل ذلك هدية بررتني بها وتبقى على الحال بيني وبينك.
ص: 324
..............................
فلما قرأ عبد الملك الكتاب غلظ عليه وضاقت به الأرض، وقال: أحسبني أشأم مولود ولد في الإسلام؛ لأني جنيت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) من شتم هذا الكافر ما يبقى غابر الدهر ولا يمكن محوه من جميع مملكة العرب. إذ كانت المعاملات تدور بين الناس بدنانير الروم ودراهمهم.
فجمع أهل الإسلام واستشارهم فلم يجد عند أحد منهم رأياً يعمل به. فقال له روح بن زنباع: إنك لتعلم الرأي والمخرج من هذا الأمر ولكنك تتعمد تركه.
قال: ويحك من؟. قال: الباقر من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله).
قال: صدقت ولكنه ارتج عليَّ الرأي فيه.فكتب إلى عامله بالمدينة: أن أشخص إليَّ محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام) مكرماً، ومتعه بمائتي ألف درهم لجهازه وبثلاثمائة ألف درهم لنفقته، وأزح علته في جهازه وجهاز من يخرج معه من أصحابه. وأحتبس الرسول قِبَلَهُ إلى موافاته عليه، فلما وافى أخبره الخبر.
فقال له الباقر (عليه السلام): «لا يعظمن هذا عليك؛ فإنه ليس شيء من جهتين، إحداهما أن الله عز وجل لم يكن ليطلق ما تهددك به صاحب الروم في رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والأخرى وجود الحيلة فيه». قال: وما هي؟.
قال (عليه السلام): «تدعو في هذه الساعة بصنَّاع فيضربون بين يديك سككاً للدراهم والدنانير، وتجعل النقش عليها سورة التوحيد وذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أحدهما في وجه الدرهم والدينار والآخر في الوجه الثاني، وتجعل في
ص: 325
..............................
مدار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يُضرب فيه والسنة التي تُضرب فيه تلك الدراهم والدنانير، وتعمد إلى وزن ثلاثين درهماً عدداً من الأصناف الثلاثة التي العشرة منها وزن عشرة مثاقيل،وعشرة منها وزن ستة مثاقيل، وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل، فتكون أوزانها جميعاً أوزانها واحداً وعشرين مثقالاً فتجزئها من الثلاثين فتصير العدة من الجميع وزن سبعة مثاقيل، وتصب صنجات من قوارير لا تستحيل إلى زيادة ولا نقصان، فتضرب الدراهم على وزن عشرة، والدنانير على وزن سبعة مثاقيل». ففعل عبد الملك ذلك وأمره محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام) أن يكتب السكك في جميع بلدان الإسلام، وأن يتقدم إلى الناس في التعامل بها، وأن يتهدد بقتل من يتعامل بغير هذه السكك من الدراهم والدنانير وغيرها، وأن تبطل وترد إلى مواضع العمل حتى تعاد إلى السكك الإسلامية.
ففعل عبد الملك ذلك وردّ رسول ملك الروم إليه يعلمه بذلك ويقول: إن الله جل وعز مانعك مما قدرت أن تفعله، وقد تقدمت إلى أعمالي في أقطار البلاد بكذا وكذا، وبأبطال السكك والطراز الرومية.
فقيل لملك الروم: افعل ما كنت تهددت به ملك العرب.
فقال: إنما أردت أن أغيظه بما كتبت إليه؛ لأني كنت قادراً عليه والمال وغيره برسوم الروم فأما الآن فلا أفعل؛ لأن ذلك لا يتعامل به أهلالإسلام وامتنع من الذي قال.
وثبت ما أشار به محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام) إلى اليوم(1).
ص: 326
-------------------------------------------
معنى قول الصديقة (عليها السلام): «وَاسْتِبْدَادٍ مِنَ الظَّالِمِينَ»، أنهم يستبدون بالحكم والسلطة، وبالمال والثروات وما أشبه، ويتفردون بها وغيرها، من دون إشراك سائر المصلحين والرعية، كما قال الإمام (عليه السلام): «يأخذ مال الله دولاً، وعباده خولاً، ودينه دغلاً» (1).
مسألة: الاستبداد محرم، بل هو من أعظم المحرمات؛ لأنه مصداق مساماة الله في عظمته، كما قال (عليه السلام): «إِيَّاكَ وَمُسَامَاةَ اللهِ فِي عَظَمَتِه»(2)، ولأنه تسلط على أموال المسلمين وأنفسهم ودمائهم وأعراضهم بغير حق، ولأنه غصب لمقامالإمام أو نائبه بالحق، ولأنه طريق إلى سفك الدماء وهتك الأعراض وسحق سائر الحقوق(3)، ولأنه يسبب تشويه سمعة الإسلام والمسلمين، ولغير ذلك.
وقد ذكرنا في بعض الكتب أن الفقيه إذا استبد بالأمر سقط مشروعية حكمه.
ص: 327
..............................
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «بِئْسَ الزَّادُ إِلَى الْمَعَادِ الْعُدْوَانُ عَلَى الْعِبَادِ»(1).
وقال (عليه السلام): «بِئْسَ الاِسْتِعْدَادُ الاِسْتِبْدَادُ»(2).
وقال (عليه السلام): «بِئْسَ السِّيَاسَةُ الْجَوْرُ»(3).
وقال (عليه السلام): «بِئْسَ السَّجِيَّةُ الْغُلُولُ»(4).وقال (عليه السلام): «حَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَسْتَدِيمَ الاِسْتِرْشَادَ وَيَتْرُكَ الاِسْتِبْدَادَ»(5).
وقال (عليه السلام): «حَقٌّ عَلَى الْمَلِكِ أَنْ يَسُوسَ نَفْسَهُ قَبْلَ جُنْدِهِ»(6).
وقال (عليه السلام): «حَاسِبُوا نُفُوسَكُمْ بِأَعْمَالِهَا، وَطَالِبُوهَا بِأَدَاءِ الْمَفْرُوضِ عَلَيْهَا، وَخُذُوا مِنْ فَنَائِهَا لِبَقَائِهَا، وَتَزَوَّدُوا وَتَأَهَّبُوا قَبْلَ أَنْ تُبْعَثُوا»(7).
وقال (عليه السلام): «الاِسْتِبْدَادُ بِرَأْيِكَ يُزِلُّكَ وَيُهَوِّرُكَ فِي الْمَهَاوِي»(8).
ص: 328
..............................
مسألة: هل النسبة بين الظالم والمستبدالعموم من وجه(1)، أم المطلق(2).
الظاهر الثاني، إذ لا يوجد وجه للقول بالمستبد العادل، فكل مستبد هو ظالم، لأن الاستبداد بحد ذاته ظلم وحرام، لأنه حرمان الناس من حقهم، بل من حقوقهم التي قررها الله لهم، إذ «النَّاسُ مُسَلَّطُونَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ»(3)، وكذلك (وأنفسهم)، فإن من يغصب بلداً بأكمله أسوأ حالاً وأشد ظلماً ممن يغصب داراً واحدة، ومن يمنع الناس حقوقهم(4) أسوأ وأشد ظلماً ممن يغصب ثروة شخص واحد. فالقول بالمستبد العادل قد يكون جمعاً بين المتناقضين، وهو كالقول بالعالم الجاهل! أو العادل الفاسق! أو ما أشبه(5).ثم إن قول الصديقة (عليها السلام): «وَاسْتِبْدَادٍ مِنَ الظَّالِمِينَ»، يراد به المجموع للمجموع، لا الجميع للجميع، ولا الجيمع للمجموع، ولا المجموع للجميع فدقق.
ص: 329
-------------------------------------------
(الفيء) في اللغة: الرجوع، قال تعالى: «وَمَا أَفاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ»(1)، أي والذي أفاءه الله ورده من أموال اليهود، وهو عبارة عن الغنيمة والخراج وأموال المسلمين التي تقسم بينهم، نعم هناك من الأموال ما هو خاص بالمعصوم (عليه السلام) كما هو مقرر في الفقه.
(زهيداً): أي قليلاً.
ولهذا مصداقان:
الأول: أن يكون الفيء بنفسه وفي حد ذاته قليلاً، فإن الإعراض عن منهج الله في الاقتصاد والسياسة ينتج تحطم الزراعة والصناعة مما يسبب قلة الخراج، كما يسبب قلة الغنائم نتيجة الضعف السياسي والعسكري، كما لا يخفى.
الثاني: أن يكون ما يصل من الفيء لعامة المسلمين قليلاً، وذلك بسبب سرقة الحكام للفيء، فلا يرشح منه للناس إلاّ الزهيد القليل، كما هو ديدن الحكامالظلمة، ولا وجه تام لدعوى الانصراف للأول.
وكان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يجامل في الحق، بل يعطي كلاً بمقدار حقه من دون أن يحرم الآخرين على حساب البعض.
ص: 330
..............................
عن المغيرة الضبي، قال: (إِنَّ عَلِيّاً كَانَ لاَ يُعْطِي أَحَداً مِنَ الْفَيْءِ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ)(1).
وعن أبي إسحاق الهمداني: أَنَّ امْرَأَتَيْنِ أَتَتَا عَلِيّاً (عليه السلام) عِنْدَ الْقِسْمَةِ، إِحْدَاهُمَا مِنَ الْعَرَبِ وَالأُخْرَى مِنَ الْمَوَالِي. فَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدَةٍ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَماً، وَكُرّاً مِنَ الطَّعَامِ. فَقَالَتِ الْعَرَبِيَّةُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي امْرَأَةٌ مِنَ الْعَرَبِ وَهَذِهِ امْرَأَةٌ مِنَ الْعَجَمِ.
فَقَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): «إِنِّي لاَ أَجِدُ لِبَنِي إِسْمَاعِيلَ فِي هَذَا الْفَيْ ءِ فَضْلاً عَلَى بَنِي إِسْحَاقَ»(2).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنَّا لاَ يَسَعُنَا أَنْ نُؤْتِيَ امْرَأً مِنَ الْفَيْءِأَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ»(3).
وعن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: «إن الفيء والأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة دم، أو قوم صالحوا، أو قوم أعطوا بأيديهم، وما كان من أرض خربة، أو بطون الأودية، فهذا كله من الفيء، فهذا لله و للرسول، فما كان لله فهو لرسوله يضعه حيث يشاء، وهو للإمام من بعد الرسول»(4).
وعن الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سمعته يقول - في الملوك
ص: 331
..............................
الذين يقطعون الناس -: «هي من الفي ء والأنفال وأشباه ذلك»(1).
وعن ابن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول في الغنيمة: «يخرج منها الخمس، ويقسم ما بقي فيمن قاتل عليه وولي ذلك، فأما الفي ءوالأنفال فهو خالص لرسول الله (صلى الله عليه وآله)»(2).
وعن زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير، أنهم قالوا له: ما حق الإمام في أموال الناس؟. قال: «الفيء والأنفال والخمس، وكل ما دخل منه فيء أو أنفال أو خمس»(3).
وعن زرارة، قال: «الإِمَامُ يُجْرِي وَيُنَفِّلُ وَيُعْطِي مَا شَاءَ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ السِّهَامُ، وَقَدْ قَاتَلَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِقَوْمٍ لَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ نَصِيباً، وَإِنْ شَاءَ قَسَمَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ»(4).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «فَأَمَّا هَذَا الْفَيْءُ فَلَيْسَ لأَحَدٍ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ أَثَرَةٌ، قَدْ فَرَغَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَسْمِهِ، فَهُوَ مَالُ اللهِ وَأَنْتُمْ عِبَادُ اللهِ الْمُسْلِمُونَ، وَهَذَا كِتَابُ اللهِ بِهِ أَقْرَرْنَا، وَعَلَيْهِ شَهِدْنَا، وَلَهُ أَسْلَمْنَا، وَعَهْدُ نَبِيِّنَا بَيْنَ أَظْهُرِنَا، فَسَلِّمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ، فَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِهَذَا، فَلْيَتَوَلَّ كَيْفَ شَاءَ؛ فَإِنَّ الْعَامِلَ بِطَاعَةِ اللهِ،وَالْحَاكِمَ بِحُكْمِ اللهِ، لاَ وَحْشَةَ عَلَيْهِ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ
ص: 332
..............................
يَحْزَنُونَ، أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(1).
مسألة: يحرم على الحكام أن يقوموا بما يسبب زهد فيء المسلمين، سواء المصداق الأول أم الثاني(2).
مسألة: يحرم مساعدة الحاكم على ذلك، ولو بمدة قلم أو كلمة دفاع أو تعليل، كما هو دأب بعض وعاظ السلاطين، وكتّاب الجرائد والمجلات، وحتى بعض نواب مجلس الأمة المنتخبين.
وعن علي بن الحسين (عليه السلام) - في حديث - قال: «إِيَّاكُمْ وَصُحْبَةَ الْعَاصِينَ وَمَعُونَةَ الظَّالِمِينَ»(3).وعن محمد بن عذافر عن أبيه، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يَا عُذَافِرُ، نُبِّئْتُ أَنَّكَ تُعَامِلُ أَبَا أَيُّوبَ وَالرَّبِيعَ، فَمَا حَالُكَ إِذَا نُودِيَ بِكَ فِي أَعْوَانِ الظَّلَمَةِ». قَالَ: فَوَجَمَ أَبِي، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) - لَمَّا رَأَى مَا أَصَابَهُ أَيْ عُذَافِرُ -: «إِنِّي إِنَّمَا خَوَّفْتُكَ بِمَا خَوَّفَنِي اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ بِهِ». قَالَ مُحَمَّدٌ: فَقَدِمَ أَبِي، فَمَا زَالَ مَغْمُوماً مَكْرُوباً حَتَّى مَاتَ(4).
ص: 333
..............................
وعن حريز، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): يَقُولُ: «اتَّقُوا اللهَ وَصُونُوا دِينَكُمْ بِالْوَرَعِ، وَقَوُّوهُ بِالتَّقِيَّةِ، وَالاِسْتِغْنَاءِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ إِنَّهُ مَنْ خَضَعَ لِصَاحِبِ سُلْطَانٍ، وَلِمَنْ يُخَالِفُهُ عَلَى دِينِهِ، طَلَباً لِمَا فِي يَدَيْهِ مِنْ دُنْيَاهُ، أَخْمَلَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَقَّتَهُ عَلَيْهِ، وَوَكَلَهُ إِلَيْهِ، فَإِنْ هُوَ غَلَبَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ دُنْيَاهُ، فَصَارَ إِلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، نَزَعَ اللهُ جَلَّ اسْمُهُ الْبَرَكَةَ مِنْهُ، وَلَمْ يَأْجُرْهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ يُنْفِقُهُ فِي حَجٍّ، وَلاَ عِتْقٍ، وَلاَ بِرٍّ»(1).وعن أبي بصير، قال: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ أَعْمَالِهِمْ. فَقَالَ لِي: «يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، لاَ وَلاَ مَدَّةَ قَلَمٍ؛ إِنَّ أَحَدَهُمْ لاَ يُصِيبُ مِنْ دُنْيَاهُمْ شَيْئاً، إِلاَّ أَصَابُوا مِنْ دِينِهِ مِثْلَهُ، أَوْ حَتَّى يُصِيبُوا مِنْ دِينِهِ مِثْلَهُ»(2).
وعن ابن أبي يعفور، قال: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِنَا. فَقَالَ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّهُ رُبَّمَا أَصَابَ الرَّجُلَ مِنَّا الضِّيقُ أَوِ الشِّدَّةُ، فَيُدْعَى إِلَى الْبِنَاءِ يَبْنِيهِ، أَوِ النَّهَرِ يَكْرِيهِ، أَوِ الْمُسَنَّاةِ يُصْلِحُهَا، فَمَا تَقُولُ فِي ذَلِكَ؟. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «مَا أُحِبُّ أَنِّي عَقَدْتُ لَهُمْ عُقْدَةً، أَوْ وَكَيْتُ لَهُمْ وِكَاءً، وَإِنَّ لِي مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا، لاَ وَلاَ مَدَّةً بِقَلَمٍ؛ إِنَّ أَعْوَانَ الظَّلَمَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي سُرَادِقٍ مِنْ نَارٍ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَ الْعِبَادِ»(3).
ص: 334
..............................
وعن جهم بن حميد، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «أَ مَا تَغْشَى سُلْطَانَ هَؤُلاَءِ». قَالَ: قُلْتُ: لاَ. قَالَ: «وَلِمَ؟».قُلْتُ: فِرَاراً بِدِينِي. قَالَ: «وَعَزَمْتَ عَلَى ذَلِكَ؟». قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ لِيَ: «الآنَ سَلِمَ لَكَ دِينُكَ»(1).
وعن يونس بن يعقوب، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «لاَ تُعِنْهُمْ عَلَى بِنَاءِ مَسْجِدٍ»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ سَوَّدَ اسْمَهُ فِي دِيوَانِ وُلْدِ سَابِعٍ، حَشَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِنْزِيراً»(3).
وعن الصادق (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) - في حديث المناهي - قال: «أَلاَ وَمَنْ عَلَّقَ سَوْطاً بَيْنَ يَدَيْ سُلْطَانٍ، جَعَلَ اللهُ ذَلِكَ السَّوْطَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُعْبَاناً مِنَ النَّارِ طُولُهُ سَبْعُونَ ذِرَاعاً، يُسَلِّطُهُ اللهُ عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ»(4).
وعن جعفر بن محمد (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم
السلام)، قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ: أَيْنَ أَعْوَانُ الظَّلَمَةِ؟ وَمَنْ لاَقَ لَهُمْ دَوَاةً؟ أَوْ رَبَطَ كِيساً؟ أَوْ مَدَّ لَهُمْ مَدَّةَ قَلَمٍ؟ فَاحْشُرُوهُمْ مَعَهُمْ»(5).
ص: 335
..............................
وبهذا الإسناد، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَا اقْتَرَبَ عَبْدٌ مِنْ سُلْطَانٍ جَائِرٍ، إِلاَّ تَبَاعَدَ مِنَ اللهِ. وَلاَ كَثُرَ مَالُهُ، إِلاَّ اشْتَدَّ حِسَابُهُ. وَلاَ كَثُرَ تَبَعُهُ، إِلاَّ كَثُرَتْ شَيَاطِينُهُ»(1).
وبالإسناد، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِيَّاكُمْ وَأَبْوَابَ السُّلْطَانِ وَحَوَاشِيَهَا! فَإِنَّ أَقْرَبَكُمْ مِنْ أَبْوَابِ السُّلْطَانِ وَحَوَاشِيهَا، أَبْعَدُكُمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَمَنْ آثَرَ السُّلْطَانَ عَلَى اللهِ، أَذْهَبَ اللهُ عَنْهُ الْوَرَعَ، وَجَعَلَهُ حَيْرَاناً»(2).
مسألة: يجب مقاومة الحكام عندما يعملون ذلك، وحتى وهم مستمرون في ذلك، والمقاومة سلبية وإيجابية.
ولا نعني بالمقاومة العنيفة منها بل السلمية في جميع الجوانب، فإن السلم أحمد عاقبة على تفصيل ذكرناه في الفقه(3).
وبإسناده السابق - في عيادة المريض - عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) - في حديث - قال: «مَنْ تَوَلَّى خُصُومَةَ ظَالِمٍ أَوْ أَعَانَهُ عَلَيْهَا، نَزَلَ بِهِ مَلَكُ الْمَوْتِ بِالْبُشْرَى بِلَعْنِهِ، وَنَارِ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. وَمَنْ خَفَّ لِسُلْطَانٍ جَائِرٍ فِي حَاجَةٍ، كَانَ قَرِينَهُ فِي النَّارِ. وَمَنْ دَلَّ سُلْطَاناً عَلَى الْجَوْرِ، قُرِنَ مَعَ هَامَانَ، وَكَانَ هُوَ
ص: 336
..............................
وَالسُّلْطَانُ مِنْ أَشَدِّ أَهْلِ النَّارِ عَذَاباً. وَمَنْ عَظَّمَ صَاحِبَ دُنْيَا وَأَحَبَّهُ لِطَمَعِ دُنْيَاهُ، سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ فِي دَرَجَتِهِ مَعَ قَارُونَ فِي التَّابُوتِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ. وَمَنْ عَلَّقَ سَوْطاً بَيْنَ يَدَيْ سُلْطَانٍ جَائِرٍ، جَعَلَهَا اللهُ حَيَّةً طُولُهَا سَبْعُونَ أَلْفَ ذِرَاعٍ، فَيُسَلِّطُهُ اللهُ عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، خَالِداً فِيهَا مُخَلَّداً.وَمَنْ سَعَى بِأَخِيهِ إِلَى سُلْطَانٍ، وَلَمْ يَنَلْهُ مِنْهُ سُوءٌ وَلاَ مَكْرُوهٌ، أَحْبَطَ اللهُ عَمَلَهُ، وَإِنْ وَصَلَ مِنْهُ إِلَيْهِ سُوءٌ أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ أَذًى، جَعَلَهُ اللهُ فِي طَبَقَةٍ مَعَ هَامَانَ فِي جَهَنَّمَ»(1).
وعن ورَّام بن أبي فراس في كتابه، قال: قال (عليه السلام): «مَنْ مَشَى إِلَى ظَالِمٍ لِيُعِينَهُ - وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ ظَالِمٌ - فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الإِسْلاَمِ»(2).
مسألة: من قتل دون الفيء كالشهيد في الأجر والثواب، فإن قوله (عليه السلام): «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»(3) يشمل ذلك أيضاً، لا ملاكاً بل إطلاقاً، فإن الفيء مال المسلمين والحاكم غاصب وسارق، بل أسوأ حالاً من السارق العادي.
وهل ذلك يحتاج إلى إذن الحاكم الشرعي؟.
الظاهر نعم، فيما لم يكن دفاعاً بل كان ابتداءً.
ص: 337
(الحصيد): فعيل بمعنى المفعول أي محصوداً.
و(جمعكم) أو (زرعكم حصيداً): كناية عن أخذ أموالهم بغير الحق، أو أنه أعم من الأموال حتى أن الأولاد أيضاً زرع الإنسان، فإن الله تعالى سماه نباتاً، قال عزوجل: «وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا»(2).
وفي قصة مريم (عليها السلام) قال سبحانه: «فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا»(3).
ومعنى كلام الصديقة (عليها السلام) أن هذه الفتنة - فتنة السقيفة - تقتل أولادهم في الحروب، وفي السجون، والنزاعات، وحتى الأمراض، كما تفني أموالهم، أو تسبب إنفاقها فيما يهلك دنياهم وأخراهم.
مسائل: يحرم على الحاكم أن يقوم بأي شيء يجعل زرع الأمة حصيداً، كما يحرم عليه أن يترك أي شيء يحافظ على زرع الأمة، بل يجب عليه أن يقوم بما ينميزرع الأمة في الجملة، فإنه منصوب لمصالح المسلمين ومؤتمن على ذلك أيضاً.
ص: 338
..............................
قال الإمام الصادق (عليه السلام): «فَكِّرْ يَا مُفَضَّلُ فِي هَذَا الرَّيْعِ الَّذِي جُعِلَ فِي الزَّرْعِ، فَصَارَتِ الْحَبَّةُ الْوَاحِدَةُ تُخَلِّفُ مِائَةَ حَبَّةٍ، وَأَكْثَرَ وَأَقَلَّ، وَكَانَ يَجُوزُ لِلْحَبَّةِ أَنْ تَأْتِيَ بِمِثْلِهَا، فَلِمَ صَارَتْ تَرِيعُ هَذَا الرَّيْعَ، إِلاَّ لِيَكُونَ فِي الْغَلَّةِ مُتَّسَعٌ لِمَا يَرِدُ فِي الأَرْضِ مِنَ الْبَذْرِ، وَمَا يَتَقَوَّتُ الزُّرَّاعُ إِلَى إِدْرَاكِ زَرْعِهَا الْمُسْتَقْبَلِ. أَ لاَ تَرَى أَنَّ الْمَلِكَ لَوْ أَرَادَ عِمَارَةَ بَلَدٍ مِنَ الْبُلْدَانِ، كَانَ السَّبِيلُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُعْطِيَ أَهْلَهُ مَا يَبْذُرُونَهُ فِي أَرْضِهِمْ، وَمَا يَقُوتُهُمْ إِلَى إِدْرَاكِ زَرْعِهِمْ، فَانْظُرْ كَيْفَ تَجِدُ هَذَا الْمِثَالَ قَدْ تَقَدَّمَ فِي تَدْبِيرِ الْحَكِيمِ، فَصَارَ الزَّرْعُ يَرِيعُ هَذَا الرَّيْعَ؛ لِيَفِيَ بِمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلْقُوتِ وَالزِّرَاعَةِ. وَكَذَلِكَ الشَّجَرُ وَالنَّبْتُ وَالنَّخْلُ يَرِيعُ الرَّيْعَ الْكَثِيرَ، فَإِنَّكَ تَرَى الأَصْلَ الْوَاحِدَ حَوْلَهُ مِنْ فِرَاخِهِ أَمْراً عَظِيماً، فَلِمَ كَانَ كَذَلِكَ إِلاَّ لِيَكُونَ فِيهِ مَا يَقْطَعُهُ النَّاسُ، وَيَسْتَعْمِلُونَهُ فِي مَآرِبِهِمْ، وَمَا يُرَدُّ فَيُغْرَسُ فِي الأَرْضِ، وَلَوْ كَانَ الأَصْلُ مِنْهُ يَبْقَى مُنْفَرِداً لاَ يُفْرِخُ وَلاَ يَرِيعُ، لَمَا أَمْكَنَ أَنْ يُقْطَعَ مِنْهُ شَيْءٌ لِعَمَلٍ، وَلاَ لِغَرْسٍ، ثُمَّ كَانَإِنْ أَصَابَتْهُ آفَةٌ، انْقَطَعَ أَصْلُهُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ خَلَفٌ»(1).
مسألة: يلزم على الحاكم الإسلامي وأعوانه أن ينوعوا في مصادر دخل الأمة، بين زراعة، وفيء، وصناعة، واستثمار، وغيرها، فإن ذلك ضمان لاقتصاد البلاد وحفظ لها عن تقلبات الأوضاع العالمية، وتحصين لها من ضغوط الاستعمار، ومن أسباب الاكتفاء الذاتي أيضاً، على تفصيل ذكرناه في الاقتصاد.
ص: 339
..............................
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده إلى مالك الأشتر: «وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ، لاَ يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلاَّ بِبَعْضٍ، وَلاَ غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ، فَمِنْهَا جُنُودُ اللهِ، وَمِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَمِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ، وَمِنْهَا عُمَّالُ الإِنْصَافِ وَالرِّفْقِ، وَمِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُسْلِمَةِ النَّاسِ، وَمِنْهَا التُّجَّارُ وَأَهْلُ الصِّنَاعَاتِ، وَمِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ. وَكُلٌّ قَدْ سَمَّى اللهُ لَهُ سَهْمَهُ، وَوَضَعَ عَلَى حَدِّهِ فَرِيضَةً فِي كِتَابِهِ أَوْسُنَّةِ نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله)، عَهْداً مِنْهُ عِنْدَنَا مَحْفُوظاً. فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اللهِ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ وَزَيْنُ الْوُلاَةِ، وَعِزُّ الدِّينِ، وَسُبُلُ الأَمْنِ، وَلَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِهِمْ، ثُمَّ لاَ قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلاَّ بِمَا يُخْرِجُ اللهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ، الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ، وَيَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ، وَيَكُونُ مِنْ وَرَاءِ حَاجَتِهِمْ، ثُمَّ لاَ قِوَامَ لِهَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ، إِلاَّ بِالصِّنْفِ الثَّالِثِ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ وَالْكُتَّابِ، لِمَا يُحْكِمُونَ مِنَ الْمَعَاقِدِ، وَيَجْمَعُونَ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَيُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَوَاصِّ الأُمُورِ وَعَوَامِّهَا، وَلاَ قِوَامَ لَهُمْ جَمِيعاً إِلاَّ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ، فِيمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ، وَيُقِيمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ، وَيَكْفُونَهُمْ مِنَ التَّرَفُّقِ بِأَيْدِيهِمْ، مَا لاَ يَبْلُغُهُ رِفْقُ غَيْرِهِمْ. ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ، الَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ وَمَعُونَتُهُمْ، وَفِي اللهِ لِكُلٍّ سَعَةٌ، وَلِكُلٍّ عَلَى الْوَالِي حَقٌّ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ، وَلَيْسَ يَخْرُجُ الْوَالِي مِنْ حَقِيقَةِ مَا أَلْزَمَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ، إِلاَّ بِالاهْتِمَامِ وَالاِسْتِعَانَةِ بِاللهِ، وَتَوْطِينِ نَفْسِهِ عَلَى لُزُومِ الْحَقِّ، وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ فِيمَا خَفَّ عَلَيْهِ أَوْ ثَقُل»(1).
ص: 340
-------------------------------------------
الحسرة: حالة نفسية نابعة من فقدان شيء مرجو، وهي قريبة من معنى التلهف على الشيء.
و(يا) داخلة على منادى مقدر، أي يا قوم إني أتحسر لكم وأتلهف على ما أصابكم.
(وأنى بكم) أي إلى أين مصيركم، وما الذي يجري وسيجري عليكم وقد انحرفتم من الطريق. يقال: أنى يسار بكم أي إلى أين يسار بكم؟.
هذا بناءً على كون (أنى) ظرف مكان، ويمكن أن تكون ظرف زمان، أي إلى أي مستقبل مجهول مصيركم، ويمكن أن تكون استفهامية بمعنى كيف، أي كيف بكم إذا نزل بكم البلاء؟ أو كيف الأمر بكم وأنتم على هذه الحال؟ أو ما أشبه ذلك.
والوجه في تحسرها (صلوات الله عليها) إضافة إلى كون أبيها المصطفى (صلى الله عليه وآله) رحمة للعالمين، أنها محور الخمسة الطيبة (عليهم السلام) وبها تمام العلة الغائية لرسالته (صلى الله عليه وآله). قال تعالى في حديث الكساء: «هم:فاطمة وأبوها، وبعلها وبنوها». وقال فيه أيضاً: «إني ما خلقت سماء مبنية، ولا أرضاً مدحية، ولا قمراً منيراً، وشمساً مضيئة، إلا لأجل هؤلاء الخمسة الذين هم تحت الكساء»(1).
ص: 341
..............................
مسألة: يستحب التحسر على الأمة وعلى انحرافها وعلى مشاكلها ومصائبها، كما تحسرت الصديقة (صلوات الله عليها).
لا يقال: قال تعالى: «فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ»(1).
إذ يقال: الحسرة درجات، فبعضها مطلوب والآخر مرغوب عنه، وهو ما خرج عن حده وأوجب الضرر كذهاب النفس أو حتى ما عاق عن العمل، أما أوجب منها تحريضاً على العمل أو تنبيهاً للناس أو تحذيراً أو شبه ذلك، فلا ريب في رجحانه ومطلوبيته.
قال تعالى: «وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَني إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ* فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ»(2).
وقال سبحانه: «وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْئَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ
ص: 342
..............................
فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ * وَمَا أَنْزَلْنا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ * يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ»(1).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَتَحَهُ اللهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ، وَهُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى، وَدِرْعُ اللهِ الْحَصِينَةُ، وَجُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُ، فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ، أَلْبَسَهُ اللهُ ثَوْبَ الذُّلِّ، وَشَمِلَهُ الْبَلاَءُ، وَدُيِّثَ بِالصَّغَارِ وَالْقَمَاءَةِ وَضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالإِسْهَابِ، وَأُدِيلَ الْحَقُّ مِنْهُ بِتَضْيِيعِ الْجِهَادِ، وَسِيمَ الْخَسْفَ، وَمُنِعَ النَّصَفَ.
أَلا وَإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ، لَيْلاً وَنَهَاراً وَسِرّاً وَإِعْلاًناً، وَقُلْتُلَكُمُ: اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ. فَوَاللهِ، مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلاَّ ذَلُّوا، فَتَوَاكَلْتُمْ وَتَخَاذَلْتُمْ، حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ، وَمُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الأَوْطَانُ، وَهَذَا أَخُو غَامِدٍ، قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الأَنْبَارَ، وَقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ، وَأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا، وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ، كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ، وَالأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ، فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلُبَهَا وَقَلاَئِدَهَا وَرُعُثَهَا، مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالاسْتِرْجَاعِ وَ الاِسْتِرْحَامِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ، مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ، وَلاَ أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ، فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً، مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً.
ص: 343
..............................
فَيَا عَجَباً عَجَباً، وَاللهِ يُمِيتُ الْقَلْبَ، وَيَجْلِبُ الْهَمَّ، مِنَ اجْتِمَاعِ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ، وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ. فَقُبْحاً لَكُمْ وَتَرَحاً حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى، يُغَارُ عَلَيْكُمْ وَلاَ تُغِيرُونَ، وَتُغْزَوْنَ وَلاَ تَغْزُونَ، وَيُعْصَى اللهُ وَتَرْضَوْنَ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ الْحَرِّ، قُلْتُمْ: هَذِهِ حَمَارَّةُ الْقَيْظِ، أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ عَنَّا الْحَرُّ. وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ، قُلْتُمْ: هَذِهِ صَبَارَّةُ الْقُرِّ، أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا الْبَرْدُ. كُلُّ هَذَا فِرَاراً مِنَ الْحَرِّوَالْقُرِّ، فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الْحَرِّ وَالْقُرِّ تَفِرُّونَ، فَأَنْتُمْ وَاللهِ مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ.
يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَلاَ رِجَالَ، حُلُومُ الأَطْفَالِ وَعُقُولُ رَبَّاتِ الْحِجَالِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ وَلَمْ أَعْرِفْكُمْ، مَعْرِفَةً وَاللهِ جَرَّتْ نَدَماً، وَأَعْقَبَتْ سَدَماً، قَاتَلَكُمُ اللهُ لَقَدْ مَلأْتُمْ قَلْبِي قَيْحاً، وَشَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً، وَجَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاساً، وَأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ وَالْخِذْلاَنِ، حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ، وَلَكِنْ لاَ عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ. للهِ أَبُوهُمْ، وَهَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً، وَأَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّي، لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَمَا بَلَغْتُ الْعِشْرِينَ، وَهَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ، وَلَكِنْ لاَ رَأْيَ لِمَنْ لاَ يُطَاعُ»(1).
ص: 344
..............................
مسألة: يستحب بيان أن الصديقة (صلوات الله عليها) قد بينت للناس ما يردع عنهم البلاء، وأنها أنذرت وحذرت وتألمت وتحسرت، فإن ذلك نوع مواساة وطريق من طرق الهداية(1).
قال في الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام): «اعْلَمْ - يَرْحَمُكَ اللهُ - أَنَّ حَقَّ الإِخْوَانِ فَرْضٌ لاَزِمٌ أَنْ تَفْدُوهُمْ بِأَنْفُسِكُمْ، وَأَسْمَاعِكُمْ، وَأَبْصَارِكُمْ، وَأَيْدِيكُمْ، وَأَرْجُلِكُمْ، وَجَمِيعِ جَوَارِحِكُمْ. وَهُمْ حُصُونُكُمُ الَّتِي تَلْجَئُونَ إِلَيْهَا فِي الشَّدَائِدِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، لاَ تُبَاطِئُوهُمْ وَلاَ تُخَالِفُوهُمْ وَلاَ تَغْتَابُوهُمْ، وَلاَ تَدَعُوا نُصْرَتَهُمْ وَلاَ مُعَاوَنَتَهُمْ، وَابْذُلُوا النُّفُوسَ وَالأَمْوَالَ دُونَهُمْ، وَالإِقْبَالَ عَلَى اللهِ جَلَّ وَعَزَّ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ، وَمُوَاسَاتَهُمْ وَمُسَاوَاتَهُمْ فِي كُلِّ مَا يَجُوزُ فِيهِ الْمُسَاوَاةُ وَالْمُوَاسَاةُ، وَنُصْرَتَهُمْ ظَالِمِينَ وَمَظْلُومِينَ بِالدَّفْعِ عَنْهُمْ. وَرُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ الْعَالِمُ (عليه السلام) عَنِ الرَّجُلِ يُصْبِحُ مَغْمُوماً، لاَ يَدْرِي سَبَبَ غَمِّهِ؟. فَقَالَ:مَغْمُومٌ. وَكَذَلِكَ إِذَا أَصْبَحَ فَرْحَانَ لِغَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُ الْفَرَحَ، فَبِاللهِ نَسْتَعِينُ عَلَى حُقُوقِ الإِخْوَانِ، وَالأَخُ الَّذِي تَجِبُ لَهُ هَذِهِ الْحُقُوقُ الَّذِي لاَ فَرْقَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ فِي جُمْلَةِ الدِّينِ، وَتَفْصِيلِهِ ثُمَّ مَا يَجِبُ لَهُ بِالْحُقُوقِ عَلَى حَسَبِ قُرْبِ مَا بَيْنَ الإِخْوَانِ وَبُعْدِهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ»(2).
ص: 345
..............................
وأَرْوِي عَنِ الْعَالِمِ (عليه السلام)، أَنَّهُ وَقَفَ حِيَالَ الْكَعْبَةِ - ثُمَّ قَالَ -: «مَا أَعْظَمَ حَقَّكِ يَا كَعْبَةُ. وَوَاللَّهِ إِنَّ حَقَّ الْمُؤْمِنِ لأَعْظَمُ مِنْ حَقِّكِ»(1).
وَرُوِيَ: «أَنَّ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ كَتَبَ اللهُ لَهُ سِتَّةَ آلاَفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ سِتَّةَ آلافِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ سِتَّةَ آلاَفِ دَرَجَةٍ. وَقَضَاءُ حَاجَةِ الْمُؤْمِنِ أَفْضَلُ مِنْ طَوَافٍ وَطَوَافٍ»، حَتَّى عَدَّ عَشَرَةً(2).
وعن سماعة، قال: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْمٍ عِنْدَهُمْ فُضُولٌ، وَبِإِخْوَانِهِمْ حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ،يَشْبَعُوا وَيَجُوعَ إِخْوَانُهُمْ؛ فَإِنَّ الزَّمَانَ شَدِيدٌ؟. فَقَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ، وَلاَ يَحْرِمُهُ. وَيَحِقُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الاِجْتِهَادُ لَهُ، وَالتَّوَاصُلُ عَلَى الْعَطْفِ، وَالْمُوَاسَاةُ لأَهْلِ الْحَاجَةِ وَالتَّعَطُّفُ مِنْكُمْ، يَكُونُونَ عَلَى أَمْرِ اللهِ رُحَمَاءَ بَيْنَهُمْ مُتَرَاحِمِينَ، مُهِمِّينَ لِمَا غَابَ عَنْكُمْ مِنْ أَمْرِهِمْ، عَلَى مَا مَضَى عَلَيْهِ مَعْشَرُ الأَنْصَارِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)»(3).
وعن الخطاب الكوفي ومصعب بن عبد الله الكوفي، قالا: دَخَلَ سَدِيرٌ الصَّيْرَفِيُّ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. فَقَالَ لَهُ: «يَا سَدِيرُ، لاَ تَزَالُ شِيعَتُنَا مَرْعِيِّينَ مَحْفُوظِينَ، مَسْتُورِينَ مَعْصُومِينَ، مَا أَحْسَنُوا النَّظَرَ لأَنْفُسِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَالِقِهِمْ، وَصَحَّتْ نِيَّاتُهُمْ لأَئِمَّتِهِمْ، وَبَرُّوا إِخْوَانَهُمْ، فَعَطَفُوا عَلَى ضَعِيفِهِمْ، وَتَصَدَّقُوا عَلَى ذَوِي الْفَاقَةِ مِنْهُمْ. إِنَّا لاَ نَأْمُرُ بِظُلْمٍ، وَلَكِنَّا
ص: 346
..............................
نَأْمُرُكُمْ بِالْوَرَعِ، الْوَرَعِ، الْوَرَعِ، وَالْمُوَاسَاةِ، الْمُوَاسَاةِ، الْمُوَاسَاةِ لإِخْوَانِكُمْ؛ فَإِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَمْ يَزَالُواالسلام)»(1).
وعن أبي المأمون الحارثي، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): مَا حَقُّ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ؟.
قَالَ: «إِنَّ مِنْ حَقِّ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ: الْمَوَدَّةَ لَهُ فِي صَدْرِهِ، وَالْمُوَاسَاةَ لَهُ فِي مَالِهِ، وَالْخَلَفَ لَهُ فِي أَهْلِهِ، وَالنُّصْرَةَ لَهُ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ، وَإِنْ كَانَ نَافِلَةٌ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ غَائِباً أَخَذَ لَهُ بِنَصِيبِهِ، وَإِذَا مَاتَ الزِّيَارَةَ إِلَى قَبْرِهِ، وَأَنْ لاَ يَظْلِمَهُ، وَأَنْ لاَ يَغُشَّهُ، وَأَنْ لاَ يَخُونَهُ، وَأَنْ لاَ يَخْذُلَهُ، وَأَنْ لا يُكَذِّبَهُ، وَأَنْ لاَ يَقُولَ لَهُ: أُفٍّ، وَإِذَا قَالَ لَهُ: أُفٍّ، فَلَيْسَ بَيْنَهُمَا وَلاَيَةٌ، وَإِذَا قَالَ لَهُ: أَنْتَ عَدُوِّي، فَقَدْ كَفَرَ أَحَدُهُمَا، وَإِذَا اتَّهَمَهُ انْمَاثَ الإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ، كَمَا يَنْمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ»(2).
مسألة: التحسر على المؤمنين له الأجر والثواب، أما التحسر على غيرهم، فما آل منه إلى التحسر على انحسار الدينوشبهه كان فيه الثواب أيضاً، كما في مورد الخطبة.
ص: 347
..............................
وكذلك ما يتحسر من باب الإنسانية، وأن «لكل كبد حرى أجر»(1)، وأنه «نظير لك في الخلق»(2)، وما أشبه.
فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعث رحمة للعالمين لا للمؤمنين فحسب، وكذلك العترة الطاهرة (صلوات الله عليها).
ص: 348
وَقَدْ عَمِيَتْ عَلَيْكُمْ، «أَ نُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كَارِهُونَ»(1)
-------------------------------------------
«عَمِيَتْ عَلَيْكُمْ» أي التبست عليكم، وذلك كالأعمى الذي لا يبصر طريقه، فينحرف عن الجادة إلى الهاوية، والفرق أن تلك هاوية جهنم وهذه هاوية الدنيا، وتلك فيها خسارة الدار الآخرة وهذه خسران الحياة القصيرة الفانية.
وهذا مقتبس من قوله سبحانه في سورة هود: «قَالَ يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ»(2).
وهذا كناية عن أن الإنسان لا يتمكن أن يلزم غيره شيئاً مما يرتبط بجوانحه، وهو يكرهه دون رضاه.
مسألة: لا فرق في الحرمة بين أن يعمي الإنسان طريق الهدى على غيره، وبين أن يعمي نفسه عن طريق الهدى.
وهل أشارت الصديقة (صلوات الله عليها) بقولها: «عَمِيَتْ عَلَيْكُمْ» إلى النوع الأول أم الثاني؟.
أي هل المقصود أنهم أعموا أعينهموقلوبهم عن حق أمير المؤمنين وحقها
ص: 349
..............................
(عليهما السلام) أم أنهم وقعوا تحت هيمنة وإعلام الآخرين؟.
يمكن أن يكون المقصود أعم، نظراً لأنهم كانوا خارجاً على قسمين، غير أنهم من أي فريق كانوا فهم مقصرون لا قاصرون، ومحاسبون فإنهم سمعوا الحق من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان بمقدورهم أن يستوضحوا من أمير المؤمنين (عليه السلام) أو سلمان أو عمار أو المقداد (رضوان الله عليهم) أو من أشبه لو عرضت لبعضهم شبهة فرضاً، ودليل ذلك قولها (عليها السلام) : «أَ نُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ».
عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قُلْتُ لَهُ: قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاها فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا»(1)؟. قَالَ: «مَنْ أَخْرَجَهَا مِنْ ضَلاَلٍ إِلَى هُدًى فَكَأَنَّمَا أَحْيَاهَا، وَمَنْ أَخْرَجَهَا مِنْ هُدًى إِلَى ضَلاَلٍ فَقَدْ قَتَلَهَا»(2).وهذا من التأويل والتفسير بأهم المصاديق.
وعن فضيل بن يسار، قال: قُلْتُ لأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام): قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ: «وَمَنْ أَحْيَاها فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا»(3)؟. قَالَ: «مِنْ حَرَقٍ أَوْ غَرَقٍ». قُلْتُ: فَمَنْ أَخْرَجَهَا مِنْ ضَلاَلٍ إِلَى هُدًى؟. قَالَ: «ذَاكَ تَأْوِيلُهَا
ص: 350
..............................
الأَعْظَمُ»(1).
وعن حمران، قال: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): أَسْأَلُكَ أَصْلَحَكَ اللهُ. فَقَالَ: «نَعَمْ». فَقُلْتُ: كُنْتُ عَلَى حَالٍ وَأَنَا الْيَوْمَ عَلَى حَالٍ أُخْرَى، كُنْتُ أَدْخُلُ الأَرْضَ فَأَدْعُو الرَّجُلَ وَالاِثْنَيْنِ وَالْمَرْأَةَ فَيُنْقِذُ اللهُ مَنْ شَاءَ، وَأَنَا الْيَوْمَ لاَ أَدْعُو أَحَداً. فَقَالَ: «وَمَا عَلَيْكَ أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، فَمَنْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ ظُلْمَةٍ إِلَى نُورٍ أَخْرَجَهُ» ثُمَّ قَالَ: «وَلاَ عَلَيْكَ إِنْ آنَسْتَ مِنْ أَحَدٍ خَيْراً أَنْ تَنْبِذَ إِلَيْهِ الشَّيْءَ نَبْذاً». قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ:«وَمَنْ أَحْيَاها فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا»(2)؟. قَالَ: «مِنْ حَرَقٍ أَوْ غَرَقٍ». ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ: «تَأْوِيلُهَا الأَعْظَمُ أَنْ دَعَاهَا فَاسْتَجَابَتْ لَهُ»(3).
وعن سليمان بن خالد، قال: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): إِنَّ لِي أَهْلَ بَيْتٍ وَهُمْ يَسْمَعُونَ مِنِّي، أَفَأَدْعُوهُمْ إِلَى هَذَا الأَمْرِ؟. فَقَالَ: «نَعَمْ، إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ»(4)»(5).
أي أدعوهم إلى أمر الولاية.
ص: 351
..............................
مسألة: يستحب بيان أنه قد عميت على القوم حيث تركوا أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) وقدموا غيره.
مسألة: قد يلزم التصريح للضال بأنه ضال، وقد يلزم التلميح له بذلك، بذكر عنوان كلي ينطبق عليه، أو بالإشارةإليه أو ما أشبه، وذلك حسب ما يشخص من أنه الرادع أو الأكثر ردعاً أو الأقوى احتمالاً في الردع، في باب النهي عن المنكر.
مسألة: يستحب بيان أن القوم كانوا يكرهون الحق، كما قالت الصديقة فاطمة (صلوات الله عليها): «أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ».
عن سليم بن قيس، قال: قَامَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) عَلَى الْمِنْبَرِ، حِينَ اجْتَمَعَ مَعَ مُعَاوِيَةَ. فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مُعَاوِيَةَ زَعَمَ أَنِّي رَأَيْتُهُ لِلْخِلاَفَةِ أَهْلاً، وَلَمْ أَرَ نَفْسِي لَهَا أَهْلاً، وَكَذَبَ مُعَاوِيَةُ، أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِالنَّاسِ فِي كِتَابِ اللهِ، وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّ اللهِ. فَأُقْسِمُ بِاللهِ، لَوْ أَنَّ النَّاسَ بَايَعُونِي وَأَطَاعُونِي وَنَصَرُونِي؛ لأَعْطَتْهُمُ السَّمَاءُ قَطْرَهَا، وَالأَرْضُ بَرَكَتَهَا، وَلَمَا طَمِعْتَ فِيهَا يَا مُعَاوِيَةُ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَا وَلَّتْ أُمَّةٌ أَمْرَهَا رَجُلاً قَطُّ، وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، إِلاَّ لَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمْ يَذْهَبُ سَفَالاً، حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى مِلَّةِ عَبَدَةِ الْعِجْلِ. وَقَدْ تَرَكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ هَارُونَ، وَاعْتَكَفُوا عَلَى الْعِجْلِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَارُونَ خَلِيفَةُ مُوسَى، وَقَدْ تَرَكَتِ الأُمَّةُ
ص: 352
..............................
عَلِيّاً، وَقَدْ سَمِعُوا رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ لِعَلِيٍّ: أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى غَيْرَ النُّبُوَّةِ، فَلاَ نَبِيَّ بَعْدِي»(1).
وعن عبد الكريم عتبة الهاشمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) - في حديث - أنه أقبل على عمرو بن عبيد، فقال له: «اتَّقِ اللهَ، وَأَنْتُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ فَاتَّقُوا اللهَ؛ فَإِنَّ أَبِي حَدَّثَنِي - وَكَانَ خَيْرَ أَهْلِ الأَرْضِ، وَأَعْلَمَهُمْ بِكِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله) - أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: «مَنْ ضَرَبَ النَّاسَ بِسَيْفِهِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى نَفْسِهِ، وَفِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، فَهُوَ ضَالٌّ مُتَكَلِّفٌ»(2).
وكان المسيح (عليه السلام) يبشر الحواريين بالنبي محمد (صلى الله عليه وآله) فيقولون: هو منا ونحن شيعته. فكان في الانجيل: «لا يلي أمر الأمة رجل وفيهم من هو أعلم منه، إلا كان أمرهم إلى سفال»(3).وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «مَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى نَفْسِهِ، وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ»(4).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ صَلَّى بِقَوْمٍ وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ
ص: 353
..............................
لَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمْ إِلَى سَفَالٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(1).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْماً لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، وَيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَيَصْرِفَ بِهِ النَّاسَ إِلَى نَفْسِهِ، يَقُولُ: أَنَا رَئِيسُكُمْ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الرِّئَاسَةَ لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ لأَهْلِهَا، فَمَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى نَفْسِهِ، وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(2).
وعن النبي (صلى الله عليه وآله)، أنه قال: «من تولى شيئاً من أمور المسلمين، فولى رجلاً شيئاً من أمورهموهو يعلم مكان رجل هو أعلم منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين»(3).
مسألة: المستفاد من قول الصديقة (عليها السلام): «أَ نُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ»، أنها (عليها السلام) - والأدق أنهم (عليهم السلام) - بلحاظ صيغة الجمع في «أَ نُلْزِمُكُمُوهَا»، كانوا قادرين على الإلزام والإجبار، إما غيبياً، أو حتى بالطرق الطبيعية(4)، لكنهم لم يقوموا بذلك للأمر الأهم وامتثالاً للباري عزوجل.
ص: 354
..............................
والسبب أن الله أراد أن تكون الدنيا دار امتحان، وأن يبقى الأئمة (عليهم
السلام) أسوة لكل خير، ولو شاء الأئمة(عليهم السلام) استخدام علمهم الغيبي وقدرتهم بإذن الله، حتى بدون المعجزات لكانت أزمة الأمور كلها بأيديهم ولم يبق مجال للامتحان.
توضيحه: أنه لا شك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) أعلم وأذكر وأكثر قدرة على التخطيط من أي شخص آخر، ولو أرادوا تسلم الحكم في مدة القرنين والنصف عبر إكراه الناس وإجبارهم وعبر الطرق التي استخدمها غيرهم لم يكن ذلك صعباً عليهم، لكن فلسفة الامتحان والمصلحة الإلهية في سنن الكون والحياة حالت دون ذلك.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لَوْلاَ الدِّينُ لَكُنْتُ أَدْهَى الْعَرَبِ»(1).
وقال (عليه السلام) في حديث آخر: «هَيْهَاتَ لَوْلاَ التُّقَى لَكُنْتُ أَدْهَى الْعَرَبِ»(2). وفي رواية أخرى قال (عليه السلام): «لَوْلاَ الدِّينُ وَالتُّقَى لَكُنْتُ أَدْهَى الْعَرَبِ»(3).
ص: 355
..............................
وفي نهج البلاغة: «وَلَوْلاَ كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ»(1).
أما تسلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحكم، ثم الإمام علي (عليه السلام)، ثم الإمام الحسن (عليه السلام) لفترة وجيزة، فكان سبباً في تثبيت أصل الدين، ولم يكن فيه إجبار وإكراه، بل كان باختيار الناس ورضاهم، وكان لابد منه لئلا يندرس الدين بالمرة, ولولا ذلك لكان الظلام مخيماً، وانتفت حكمة الامتحان لذلك أيضاً، فليتأمل فإنه دقيق وتفصيله في محله.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لَوْلاَ أَنَّ الْمَكْرَ وَالْخَدِيعَةَ فِي النَّارِ، لَكُنْتُ أَمْكَرَ النَّاسِ»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يَجِيءُ كُلُّ غَادِرٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِإِمَامٍ مَائِلٍ شِدْقُهُ حَتَّى يَدْخُلَ النَّارَ، وَيَجِيءُ كُلُّ نَاكِثٍ بَيْعَةَإِمَامٍ أَجْذَمَ حَتَّى يَدْخُلَ النَّارَ»(3).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاكَرَ مُسْلِماً»(4).
وعن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سَأَلْتُهُ عَنْ قَرْيَتَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَلِكٌ عَلَى حِدَةٍ،اقْتَتَلُوا ثُمَّ اصْطَلَحُوا،ثُمَّ إِنَّ
ص: 356
..............................
أَحَدَ الْمَلِكَيْنِ غَدَرَ بِصَاحِبِهِ، فَجَاءَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَغْزُوَ مَعَهُمْ تِلْكَ الْمَدِينَةَ؟. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «لاَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْدِرُوا، وَلاَ يَأْمُرُوا بِالْغَدْرِ، وَلاَ يُقَاتِلُوا مَعَ الَّذِينَ غَدَرُوا، وَلَكِنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدُوهُمْ، وَلاَ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ مَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ»(1).
وعن الأصبغ بن نباتة، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ بِالْكُوفَةِ -: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَوْلاَ كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ كُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ، أَلاَ إِنَّ لِكُلِّ غُدَرَةٍ فُجَرَةً، وَلِكُلِّ فُجَرَةٍ كُفَرَةً، أَلاَ وَإِنَّ الْغَدْرَ وَالْفُجُورَ وَالْخِيَانَةَ فِي النَّارِ»(2).
مسألة: الحرية هي الأصل، وربما يستفاد ذلك من قولها (صلوات الله عليها): «أَ نُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ»، إذ رغم أهمية وخطورة الأمر، بل إنه(3) كان من أخطر الأمور على الإطلاق، مع ذلك لم يرفع الإمام (عليه السلام) يده عن أصل الحرية للناس، أي لم يتسيطر عليهم بالقوة والسيف، فتأمل.
وأما سائر الأدلة من الكتاب والسنة على أصالة الحرية فهي أكثر من أن
ص: 357
..............................
تحصى، وقد ذكرنا بعض ما يرتبطويكفي هنا الإشارة إلى بعضها:
قال تعالى: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ»(1).
وقال سبحانه: «يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ»(2).
ص: 358
-------------------------------------------
مسألة: النساء مكلفات بالنهي عن المنكر كالرجال، قال تعالى: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ»(1).
فلا يجوز التعلل بإدارة شؤون المنزل والأطفال، لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا إذا كانت الشروط مجتمعة على ما هو مذكور في كتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام)، قالا: «وَيْلٌ لِقَوْمٍ لاَ يَدِينُونَ اللهَ بِالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ»(2).
وقال أبو جعفر (عليه السلام): «بِئْسَ الْقَوْمُ قَوْمٌ يَعِيبُونَ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِوعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَدْنَى
ص: 359
..............................
الإِنْكَارِ أَنْ يُلْقَى أَهْلُ الْمَعَاصِي بِوُجُوهٍ مُكْفَهِرَّةٍ»(1).
وعن محمد بن عرفة، قال: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) يَقُولُ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: إِذَا أُمَّتِي تَوَاكَلَتِ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَلْتَأْذَنْ بِوِقَاعٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «حَسْبُ الْمُؤْمِنِ عِزّاً إِذَا رَأَى مُنْكَراً أَنْ يَعْلَمَ اللهُ مِنْ نِيَّتِهِ أَنَّهُ لَهُ كَارِهٌ»(3).
..............................
وخبر داود بن فرقد، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إِنِّي أَسْمَعُ الْكَلاَمَ مِنْكَ فَأُرِيدُ أَنْ أَرْوِيَهُ كَمَا سَمِعْتُهُ مِنْكَ فَلاَ يَجِيءُ. قَالَ: «فَتَعَمَّدُ ذَلِكَ؟». قُلْتُ: لاَ. فَقَالَ: «تُرِيدُ الْمَعَانِيَ؟». قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: «فَلاَ بَأْسَ»(1).
وخبره الآخر حين سُئل: أَسْمَعُ الْحَدِيثَوَاجْلِسْ»(2).
ص: 361
-------------------------------------------
مسائل: الاختلاط بين الرجال والنساء لا يجوز في الجملة، كالمشتمل على حرام، أما مجرد مجيء الرجال إلى مكان فيه امرأة، ومجيء النساء إلى مكان فيه رجل مع حفظ الموازين الشرعية، فهو جائز في حد ذاته ما لم يتضمن أو يستلزم محرماً(1).
وربما وجب فيما إذا توقف عليه معروف أو ردع منكر، وربما كان له حكم آخر من الأحكام الخمسة التكليفية.
قال الله تعالى: «يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ»(2).
وقال سبحانه: «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا
ص: 362
..............................
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»(1).
وقال عزوجل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «نَهَى رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَنْ يَدْخُلَ الرِّجَالُ عَلَى النِّسَاءِ إِلاَّ بِإِذْنِهِنَّ»(3).
وبهذا الإسناد: «أَنْ يَدْخُلَ دَاخِلٌ عَلَى النِّسَاءِ إِلاَّ بِإِذْنِ أَوْلِيَائِهِنَّ»(4).
ص: 363
..............................
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «يَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ إِذَا دَخَلَ عَلَى أَبِيهِ، وَلاَ يَسْتَأْذِنُ الأَبُ عَلَى الاِبْنِ» قَالَ: «وَيَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ عَلَى ابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ إِذَا كَانَتَا مُتَزَوِّجَتَيْنِ»(1).
وعن محمد بن علي الحلبي، قال: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): الرَّجُلُ يَسْتَأْذِنُ عَلَى أَبِيهِ؟. قَالَ: «نَعَمْ، قَدْ كُنْتُ أَسْتَأْذِنُ عَلَى أَبِي وَلَيْسَتْ أُمِّي عِنْدَهُ، إِنَّمَا هِيَ امْرَأَةُ أَبِي، تُوُفِّيَتْ أُمِّي وَأَنَا غُلاَمٌ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ خَلْوَتِهِمَا مَا لاَ أُحِبُّ أَنْ أَفْجَأَهُمَا عَلَيْهِ، وَلاَ يُحِبَّانِ ذَلِكَ مِنِّي، السَّلاَمُ أَصْوَبُ وَأَحْسَنُ»(2).
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال:خَرَجَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يُرِيدُ فَاطِمَةَ (عليها السلام) وَأَنَا مَعَهُ، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى الْبَابِ، وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ فَدَفَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: «السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ».
فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: «عَلَيْكَ السَّلاَمُ يَا رَسُولَ اللهِ».
قَالَ: «أَدْخُلُ». قَالَتْ: «ادْخُلْ يَا رَسُولَاللهِ». قَالَ: «أَدْخُلُ أَنَا وَمَنْ مَعِي». فَقَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللهِ، لَيْسَ عَلَيَّ قِنَاعٌ». فَقَالَ: «يَا فَاطِمَةُ، خُذِي فَضْلَ مِلْحَفَتِكِ فَقَنِّعِي بِهِ رَأْسَكِ». فَفَعَلَتْ ثُمَّ قَالَ: «السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ». فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: «وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ يَا رَسُولَ اللهِ». قَالَ: «أَدْخُلُ». قَالَتْ: «نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ». قَالَ: «أَنَا وَمَنْ مَعِي». قَالَتْ: «وَمَنْ مَعَكَ؟». قَالَ: «جَابِرٌ». فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَدَخَلْتُ(3).
ص: 364
..............................
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «لِيَسْتَأْذِنِ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، كَمَا أَمَرَكُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَمَنْ بَلَغَ الْحُلُمَ فَلاَ يَلِجُ عَلَى أُمِّهِ، وَلاَ عَلَى أُخْتِهِ، وَلاَ عَلَى خَالَتِهِ، وَلاَ عَلَى سِوَى ذَلِكَ إِلاَّ بِإِذْنٍ، فَلاَ تَأْذَنُوا حَتَّى يُسَلِّمَ، وَالسَّلاَمُ طَاعَةٌ للهِ عَزَّ وَجَلَّ».
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «لِيَسْتَأْذِنْ عَلَيْكَ خَادِمُكَ إِذَا بَلَغَ الْحُلُمَ فِي ثَلَاثِ عَوْرَاتٍ، إِذَا دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْهُنَّ، وَلَوْ كَانَ بَيْتُهُ فِي بَيْتِكَ» قَالَ: «وَلْيَسْتَأْذِنْ عَلَيْكَ بَعْدَ الْعِشَاءِ - الَّتِي تُسَمَّى الْعَتَمَةَ- وَحِينَ تُصْبِحُ، وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ، إِنَّمَا أَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ لِلْخَلْوَةِ؛ فَإِنَّهَا سَاعَةُ غِرَّةٍ وَخَلْوَةٍ»(1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لاَتَبْدَؤُوا النِّسَاءَ بِالسَّلاَمِ، وَلاَ تَدْعُوهُنَّ إِلَى الطَّعَامِ» الحديث(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: «لاَ تُسَلِّمْ عَلَى الْمَرْأَةِ»(3).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يُسَلِّمُ عَلَى النِّسَاءِ وَيَرْدُدْنَ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يُسَلِّمُ عَلَى النِّسَاءِ، وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الشَّابَّةِ مِنْهُنَّ، وَيَقُولُ: أَتَخَوَّفُ أَنْ يُعْجِبَنِي صَوْتُهَا، فَيَدْخُلَ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِمَّا طَلَبْتُ مِنَ الأَجْرِ»(4).
ص: 365
..............................
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:«إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى غَيُورٌ يُحِبُّ كُلَّ غَيُورٍ، وَلِغَيْرَتِهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ ظَاهِرَهَا وَبَاطِنَهَا»(1).
وعن عبد الله بن أبي يعفور، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِذَا لَمْ يَغَرِ الرَّجُلُ فَهُوَ مَنْكُوسُ الْقَلْبِ»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِذَا أُغِيرَ الرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ أَوْ بَعْضِ مَنَاكِحِهِ مِنْ مَمْلُوكِهِ، فَلَمْ يَغَرْ وَلَمْ يُغَيِّرْ، بَعَثَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ طَائِراً يُقَالُ لَهُ: الْقَفَنْدَرُ، حَتَّى يَسْقُطَ عَلَى عَارِضَةِ بَابِهِ، ثُمَّ يُمْهِلَهُ أَرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ يَهْتِفَ بِهِ: إِنَّ اللهَ غَيُورٌ يُحِبُّ كُلَّ غَيُورٍ، فَإِنْ هُوَ غَارَ وَغَيَّرَ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ فَأَنْكَرَهُ، وَإِلاَّ طَارَ حَتَّى يَسْقُطَ عَلَى رَأْسِهِ، فَيَخْفِقَ بِجَنَاحَيْهِ عَلَى عَيْنَيْهِ ثُمَّ يَطِيرَ عَنْهُ، فَيَنْزِعُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ رُوحَ الإِيمَانِ، وَتُسَمِّيهِ الْمَلاَئِكَةُ الدَّيُّوثَ»(3).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «كَانَ إِبْرَاهِيمُ (عليه السلام) غَيُوراً، وَأَنَا أَغْيَرُمِنْهُ، وَجَدَعَ اللهُ أَنْفَ مَنْ لاَ يَغَارُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ»(4).
وعن إسحاق بن جرير، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ شَيْطَاناً يُقَالُ لَهُ: الْقَفَنْدَرُ، إِذَا ضُرِبَ فِي مَنْزِلِ الرَّجُلِ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً بِالْبَرْبَطِ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، وَضَعَ ذَلِكَ الشَّيْطَانُ كُلَّ عُضْوٍ مِنْهُ عَلَى مِثْلِهِ مِنْ صَاحِبِ
ص: 366
..............................
الْبَيْتِ، ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ نَفْخَةً، فَلاَ يَغَارُ بَعْدَ هَذَا، حَتَّى تُؤْتَى نِسَاؤُهُ فَلاَ يَغَارُ»(1).
مسألة: الاعتذار عن ترك الواجب - كنصرة أهل البيت (عليهم السلام) - أو فعل محرم، بين واجب ومستحب.
فإن الاعتذار العملي واجب، وهو عبارة أخرى عن العمل نفسه كتدارك ما فات، فليس هنالك واجب آخر غير العمل.
وأما الاعتذار القولي فراجح، لما فيه من تطييب القلب وتطهير النفسوقمع الهوى والأسوة وإحقاق الحق وقد يجب في بعض الفروض.
هذا كله إذا كان القول يتبعه العمل، أما مجرد الاعتذار من دون العمل والتدارك فلا فائدة فيه عادة.
ثم إن الظاهر من الرواية: (فجاء إليها قوم من وجوه المهاجرين والأنصار) أن بعضهم قد جاء وليس كلهم، ولا نعلم عددهم أو نسبتهم للمجموع، مما يدل على خذلان كبير لأهل البيت (عليهم السلام) حتى في الذين جاؤوا للاعتذار، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
قال الله تعالى مخاطباً النبي (صلى الله عليه وآله) في ليلة المعراج: «يَا أَحْمَدُ، أَبْغِضِ الدُّنْيَا وَأَهْلَهَا، وَأَحِبَّ الآخِرَةَ وَأَهْلَهَا. قَالَ: يَا رَبِّ، وَمَنْ أَهْلُ الدُّنْيَا وَمَنْ أَهْلُ الآخِرَةِ؟.
ص: 367
..............................
قَالَ: أَهْلُ الدُّنْيَا مَنْ كَثُرَ أَكْلُهُ وَضَحِكُهُ وَنَوْمُهُ وَغَضَبُهُ، قَلِيلُ الرِّضَا، لاَيَعْتَذِرُ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ، وَلاَ يَقْبَلُ عُذْرَ مَنِ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ، كَسْلاَنُ عِنْدَ الطَّاعَةِ، شُجَاعٌ عِنْدَ الْمَعْصِيَةِ، أَمَلُهُ بَعِيدٌ، وَأَجَلُهُ قَرِيبٌ، لاَ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ، قَلِيلُ الْمَنْفَعَةِ، كَثِيرُ الْكَلاَمِ، قَلِيلُ الْخَوْفِ، كَثِيرُ الْفَرَحِعِنْدَ الطَّعَامِ. وَإِنَّ أَهْلَ الدُّنْيَا لاَ يَشْكُرُونَ عِنْدَ الرَّخَاءِ، وَلاَ يَصْبِرُونَ عِنْدَ الْبَلاَءِ، كَثِيرُ النَّاسِ عِنْدَهُمْ قَلِيلٌ، يَحْمَدُونَ أَنْفُسَهُمْ بِمَا لاَ يَفْعَلُونَ، وَيَدَّعُونَ بِمَا لَيْسَ لَهُمْ، وَيَتَكَلَّمُونَ بِمَا يَتَمَنَّوْنَ، وَيَذْكُرُونَ مَسَاوِئَ النَّاسِ وَيُخْفُونَ حَسَنَاتِهِمْ»(1).
وهناك روايات تحث على الاعتذار وقبوله، هذا في غير ما يرتبط بالعقائد الحقة بعد وضوحها، فإن الاعتذار فيها غير مقبول لا عقلاً ولا شرعاً.
في وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه محمد ابن الحنفية (رضوان الله عليه): «اقبل من متنصل عذره، فتنالك الشفاعة»(2).
وفي رواية: «من اعتذر إليه أخوه بمعذرة فلم يقبلها، كان عليه من الخطيئة مثل صاحب مكس. وهو ما يأخذه أعوان السلطان ظالماً عند البيعوالشراء»(3).
ص: 368
..............................
وعن النبي (صلى الله عليه وآله): «من لم يقبل من متنصل - صادقاً أو كاذباً - لم يرد عليَّ الحوض»(1).
وقال (صلى الله عليه وآله): «من اعتذر إليه أخوه من ذَنْبٍ فَرَدَّه، لَمْ يَرِدْ على الحوض إلا مُتَضَيِّحاً»(2).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِقْبَلْ عُذْرَ مَنِ اعْتَذَرَ إِلَيْكَ»(3).
وقال (عليه السلام): «مَا أَذْنَبَ مَنِ اعْتَذَرَ»(4).
وقال (عليه السلام): «أَجْمِلْ إِدْلاَلَ مَنْ أَدَلَّ عَلَيْكَ، وَاقْبَلْ عُذْرَ مَنِ اعْتَذَرَ إِلَيْكَ،وَأَحْسِنْ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ»(5).
وقال (عليه السلام): «مَنِ اعْتَذَرَ فَقَدِ اسْتَقَالَ وَأَنَابَ»(6).
وعن علي بن الحسين (عليه السلام)، قال: «إِنْ شَتَمَكَ رَجُلٌ عَنْ يَمِينِكَ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى يَسَارِكَ فَاعْتَذَرَ إِلَيْكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُ»(7).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
ص: 369
..............................
«اقْبَلُوا الْعُذْرَ مِنْ كُلِّ مُتَنَصِّلٍ مُحِقّاً كَانَ أَوْ مُبْطِلاً، وَمَنْ لَمْ يَقْبَلِ الْعُذْرَ مِنْهُ فَلاَ نَالَتْهُ شَفَاعَتِي»(1).
وقال (صلى الله عليه وآله): «مَنِ اعْتَذَرَ إِلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، جَعَلَ اللهُ عَلَيْهِ إِصْرَ صَاحِبِ مَكْسٍ»(2).وعن ابن مسكان، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إِنِّي لأَحْسَبُكَ إِذَا شُتِمَ عَلِيٌّ (عليه السلام) بَيْنَ يَدَيْكَ أن لَوْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَأْكُلَ أَنْفَ شَاتِمِهِ لَفَعَلْتَ». فَقُلْتُ: إِي وَاللهِ جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنِّي لَهَكَذَا وَأَهْلَ بَيْتِي. قَالَ: «فَلاَ تَفْعَلْ، فَوَ اللهِ لَرُبَّمَا سَمِعْتُ مَنْ شَتَمَ عَلِيّاً، وَمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلاَّ أُسْطُوَانَةٌ فَأَسْتَتِرُ بِهَا، فَإِذَا فَرَغْتُ مِنْ صَلاَتِي، أَمُرُّ بِهِ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَأُصَافِحُهُ»(3).
ص: 370
-------------------------------------------
مسألة: يستحب بيان أن القوم كانوا يعرفون الصديقة (صلوات الله عليها) حق المعرفة، التي يوجب طاعتها وعدم إغضابها، وكانوا يعلمون بأنها سيدة النساء، ولذا قالوا: يا سيدة النساء.
مسألة: ينبغي التنويع عند ذكر الصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها) بذكر مختلف ألقابها وصفاتها، حفظاً لتلك الأسماء والصفات، وصوناً من اندراسها، وقد يجب.
عن يونس بن ظبيان، قال: قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): «لِفَاطِمَةَ (عليها السلام) تِسْعَةُ أَسْمَاءٍ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: فَاطِمَةُ، وَالصِّدِّيقَةُ، وَالْمُبَارَكَةُ، وَالطَّاهِرَةُ، وَالزَّكِيَّةُ، وَالرَّضِيَّةُ، وَالْمَرْضِيَّةُ، وَالْمُحَدَّثَةُ، وَالزَّهْرَاءُ» ثُمَّ قَالَ: «تَدْرِي لأَيِّ شَيْءٍ سُمِّيَتْ فَاطِمَةَ (عليها السلام)؟». قُلْتُ: أَخْبِرْنِي يَا سَيِّدِي. قَالَ: «فُطِمَتْ مِنَ الشَّرِّ». قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «لَوْلاَ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) تَزَوَّجَهَا، لَمَا كَانَ لَهَا كُفْوٌ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ إِلَى يَوْمِالْقِيَامَةِ آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ»(1).
وقال العلامة ابن شهر آشوب في المناقب: (كُنَاهَا: أُمُّ الْحَسَنِ، وَأُمُّ الْحُسَيْنِ، وَأُمُّ الْمُحَسِّنِ، وَأُمُّ الأَئِمَّةِ، وَأُمُّ أَبِيهَا. وأَسْمَاؤُهَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُوجَعْفَرٍ الْقُمِّيُّ: فَاطِمَةُ، الْبَتُولُ، الْحَصَانُ، الْحُرَّةُ، السَّيِّدَةُ، الْعَذْرَاءُ، الزَّهْرَاءُ،
ص: 371
..............................
الْحَوْرَاءُ، الْمُبَارَكَةُ، الطَّاهِرَةُ، الزَّكِيَّةُ، الرَّاضِيَةُ، الْمَرْضِيَّةُ، الْمُحَدَّثَةُ، مَرْيَمُ الْكُبْرَى، الصِّدِّيقَةُ الْكُبْرَى، وَيُقَالُ لَهَا فِي السَّمَاءِ: النُّورِيَّةُ، السَّمَاوِيَّةُ، الْحَانِيَةُ. وَقُلْنَا: الصِّدِّيقَةُ بِالأَقْوَالِ، وَالْمُبَارَكَةُ بِالأَحْوَالِ، وَالطَّاهِرَةُ بِالأَفْعَالِ، الزَّكِيَّةُ بِالْعَدَالَةِ، وَالرَّضِيَّةُ بِالْمَقَالَةِ، وَالْمَرْضِيَّةُ بِالدَّلاَلَةِ، الْمُحَدَّثَةُ بِالشَّفَقَةِ، وَالْحُرَّةُ بِالنَّفَقَةِ، وَالسَّيِّدَةُ بِالصَّدَقَةِ، الْحَصَانُ بِالْمَكَانِ، وَالْبَتُولُ فِي الزَّمَانِ، وَالزَّهْرَاءُ بِالإِحْسَانِ، مَرْيَمُ الْكُبْرَى فِي السِّتْرِ، وَفَاطِمُ بِالسِّرِّ، وَفَاطِمَةُ بِالْبِرِّ، النَّورِيَّةُ بِالشَّهَادَةِ، وَالسَّمَاوِيَّةُ بِالْعِبَادَةِ، وَالْحَانِيَةُ بِالزَّهَادَةِ، وَالْعَذْرَاءُ بِالْوِلاَدَةِ، الزَّاهِدَةُ الصَّفِيَّةُ، الْعَابِدَةُ الرَّضِيَّةُ، الرَّاضِيَةُالْمَرْضِيَّةُ، الْمُتَهَجِّدَةُ الشَّرِيفَةُ، الْقَانِتَةُ الْعَفِيفَةُ، سَيِّدَةُ النِّسْوَانِ، وَحَبِيبَةُ حَبِيبِ الرَّحْمَنِ، وَالْمُحْتَجَبَةُ عَنْ خُزَّانِ الْجِنَانِ، وَصَفِيَّةُ الرَّحْمَنِ، ابْنَةُ خَيْرِ الْمُرْسَلِينَ، وَقُرَّةُ عَيْنِ سَيِّدِ الْخَلاَئِقِ أَجْمَعِينَ، وَوَاسِطَةُ الْعَقْدِ بَيْنَ سَيِّدَاتِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، وَالْمُتَظَلِّمَةُ بَيْنَ يَدَيِ الْعَرْشِ يَوْمَ الدِّينِ، ثَمَرَةُ النُّبُوَّةِ، وَأُمُّ الأَئِمَّةِ، وَزُهْرَةُ فُؤَادِ شَفِيعِ الأُمَّةِ، الزَّهْرَاءُ الْمُحْتَرَمَةُ، وَالْغَرَّاءُ الْمُحْتَشَمَةُ، الْمَكَرَّمَةُ تَحْتَ الْقُبَّةِ الْخَضْرَاءُ، وَالإِنْسِيَّةُ الْحَوْرَاءُ، وَالْبَتُولُ الْعَذْرَاءُ، سِتُّ النِّسَاء، وَارِثَةُ سَيِّدِ الأَنْبِيَاءِ، وَقَرِينَةُ سَيِّدِ الأَوْصِيَاءِ، فَاطِمَةُ الزَّهْرَاءُ، الصِّدِّيقَةُ الْكُبْرَى، رَاحَةُ رُوحِ الْمُصْطَفَى، حَامِلَةُ الْبَلْوَى مِنْ غَيْرِ فَزَعٍ وَلاَ شَكْوَى، وَصَاحِبَةُ شَجَرَةِ طُوبَى، وَمَنْ أُنْزِلَ فِي شَأْنِهَا وَشَأْنِ زَوْجِهَا وَأَوْلاَدِهَا سُورَةُ هَلْ أَتَى، ابْنَةُ النَّبِيِّ، وَصَاحِبَةُ الْوَصِيِّ، وَأُمُّ السِّبْطَيْنِ، وَجَدَّةُ الأَئِمَّةِ، وَسَيِّدَةُ نِسَاءِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، زَوْجَةُ الْمُرْتَضَى، وَوَالِدَةُ الْمُجْتَبَى، وَابْنَةُ الْمُصْطَفَى، السَّيِّدَةُ الْمَفْقُودَةُ، الْكَرِيمَةُ الْمَظْلُومَةُ، الشَّهِيدَةُ، السَّيِّدَةُ الرَّشِيدَةُ، شَقِيقَةُ مَرْيَمَ، وَابْنَةُ مُحَمَّدٍ الأَكْرَمُ،الْمَفْطُومَةُ مِنْ كُلِّ شَرٍّ،الْمَعْلُومَةُ بِكُلِّ خَيْرٍ،الْمَنْعُوتَةُ فِي الإِنْجِيلِ،
ص: 372
..............................
الْمَوْصُوفَةُ بِالْبِرِّ وَالتَّبْجِيلِ، دُرَّةُ صَاحِبِالْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ، جَدُّهَا الْخَلِيلُ، وَمَادِحُهَا الْجَلِيلُ، وَخَاطِبُهَا الْمُرْتَضَى بِأَمْرِ الْمَوْلَى جَبْرَئِيلُ)(1).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «إِنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) سُئِلَ مَا الْبَتُولُ؛ فَإِنَّا سَمِعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ تَقُولُ: إِنَّ مَرْيَمَ بَتُولٌ، وَفَاطِمَةُ بَتُولٌ؟. فَقَالَ: الْبَتُولُ الَّتِي لَنْ تَرَ حُمْرَةً قَطُّ، أَيْ لَمْ تَحِضْ؛ فَإِنَّ الْحَيْضَ مَكْرُوهٌ فِي بَنَاتِ الأَنْبِيَاءِ»(2).
وعن عبد الله بن الفضل الهاشمي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده (عليهم السلام)، قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) ذَاتَ يَوْمٍ جَالِساً، وَعِنْدَهُ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ (عليه السلام). فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ بَشِيراً، مَا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ خَلْقٌ أَحَبَّ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلاَ أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنَّا. إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى شَقَّ لِي اسْماً مِنْ أَسْمَائِهِ، فَهُوَ مَحْمُودٌ وَأَنَا مُحَمَّدٌ، وَشَقَّ لَكَ يَا عَلِيُّ اسْماً مِنْ أَسْمَائِهِ، فَهُوَ الْعَلِيُّ الأَعْلَى وَأَنْتَ عَلِيٌّ، وَشَقَّ لَكَ يَا حَسَنُ اسْماً مِنْ أَسْمَائِهِ، فَهُوَالْمُحْسِنُ وَأَنْتَ حَسَنٌ، وَشَقَّ لَكَ يَا حُسَيْنُ اسْماً مِنْ أَسْمَائِهِ، فَهُوَ ذُو الإِحْسَانِ وَأَنْتَ حُسَيْنٌ، وَشَقَ لَكِ يَا فَاطِمَةُ اسْماً مِنْ أَسْمَائِهِ، فَهُوَ الْفَاطِرُ وَأَنْتِ فَاطِمَةُ».
ثُمَّ قَالَ (صلى الله عليه وآله):
ص: 373
..............................
«اللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ، أَنِّي سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَهُمْ، وَحَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَهُمْ، وَمُحِبٌّ لِمَنْ أَحَبَّهُمْ، وَمُبْغِضٌ لِمَنْ أَبْغَضَهُمْ، وَعَدُوٌّ لِمَنْ عَادَاهُمْ، وَوَلِيٌّ لِمَنْ وَالاهُمْ؛ لأَنَّهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ»(1).
مسألة: ينبغي الإيضاح للناس بأن مريم (عليها السلام) كانت سيدة نساء عالمها، أما الصديقة فاطمة (صلوات الله عليها) فهي سيدة نساء العالمين جميعاً.
عن عيسى بن زيد بن علي (عليه السلام)، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «سُمِّيَتْ فَاطِمَةُ مُحَدَّثَةً؛ لأَنَّ الْمَلاَئِكَةَ كَانَتْ تَهْبِطُ مِنَ السَّمَاءِ فَتُنَادِيهَا كَمَا كَانَتْفَاطِمَةُ، «إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ». يَا فَاطِمَةُ، «اقْنُتِي لِرَبِّكِ»(2)، الآيَةَ، وَتُحَدِّثُهُمْ وَيُحَدِّثُونَهَا. فَقَالَتْ لَهُمْ ذَاتَ لَيْلَةٍ: أَ لَيْسَتِ الْمُفَضَّلَةُ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ؟!. فَقَالُوا: إِنَّ مَرْيَمَ كَانَتْ سَيِّدَةَ نِسَاءِ عَالَمِهَا، وَإِنَّ اللهَ جَعَلَكِ سَيِّدَةَ عَالَمِكِ، وَسَيِّدَةَ نِسَاءِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ»(3).
ص: 374
..............................
وعن ابن عباس، قال: إِنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) كَانَ جَالِساً ذَاتَ يَوْمٍ، وَعِنْدَهُ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ (عليهم
السلام). فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ هَؤُلاَءِ أَهْلُ بَيْتِي، وَأَكْرَمُ النَّاسِ عَلَيَّ، فَأَحْبِبْ مَنْ يُحِبُّهُمْ، وَأَبْغِضْ مَنْ يُبْغِضُهُمْ، وَوَالِ مَنْ وَالاهُمْ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُمْ، وَأَعِنْ مَنْ أَعَانَهُمْ، وَاجْعَلْهُمْ مُطَهَّرِينَ مِنْ كُلِّ رِجْسٍ، مَعْصُومِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحِ الْقُدُسِ مِنْكَ - ثُمَّ قَالَ (صلى الله عليه وآله) - يَا عَلِيُّ، أَنْتَ إِمَامُ أُمَّتِي، وَخَلِيفَتِي عَلَيْهَا بَعْدِي، وَأَنْتَ قَائِدُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى ابْنَتِي فَاطِمَةَنُورٍ، عَنْ يَمِينِهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، وَعَنْ شِمَالِهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، وَبَيْنَ يَدَيْهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، وَخَلْفَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، تَقُودُ مُؤْمِنَاتِ أُمَّتِي إِلَى الْجَنَّةِ، فَأَيُّمَا امْرَأَةٍ صَلَّتْ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، وَصَامَتْ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَحَجَّتْ بَيْتَ اللهِ الْحَرَامِ، وَزَكَّتْ مَالَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا، وَوَالَتْ عَلِيّاً بَعْدِي، دَخَلَتِ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَةِ ابْنَتِي فَاطِمَةَ، وَإِنَّهَا لَسَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ».
فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَ هِيَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ عَالَمِهَا؟.
فَقَالَ (عَلَيْهِ وَآلِهِ السَّلامُ): «ذَاكَ لِمَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، فَأَمَّا ابْنَتِي فَهِيَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مِنَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وَإِنَّهَا لَتَقُومُ فِي مِحْرَابِهَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهَا سَبْعُونَ أَلْفاً مِنَ الْمَلاَئِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَيُنَادُونَهَا بِمَا نَادَتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ مَرْيَمَ، فَيَقُولُونَ: يَا فَاطِمَةُ، إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ».
ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى عَلِيٍّ (عليه السلام)، فَقَالَ: «يَا عَلِيُّ، إِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي، هِيَ نُورُ عَيْنِي وَثَمَرَةُ فُؤَادِي، يَسُوؤُنِي مَا سَاءَهَا، وَيَسُرُّنِي مَا سَرَّهَا، وَإِنَّهَا أَوَّلُ
ص: 375
لُحُوقٍ يَلْحَقُنِي مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَأَحْسِنْ إِلَيْهَا مِنْ بَعْدِي، وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ فَهُمَا ابْنَايَ وَرَيْحَانَتَايَ، وَهُمَا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلْيَكُونَا عَلَيْكَ كَسَمْعِكَ وَبَصَرِكَ».
ثُمَّ رَفَعَ (صلى الله عليه وآله) يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدُ أَنِّي مُحِبٌّ لِمَنْ أَحَبَّهُمْ، وَمُبْغِضٌ لِمَنْ أَبْغَضَهُمْ، وَسِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَهُمْ، وَحَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَهُمْ، وَعَدُوٌّ لِمَنْ عَادَاهُمْ، وَوَلِيٌّ لِمَنْ وَالاهُمْ»(1).
ص: 376
لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نبرم العهد ونحكِّم العقد لما عدلنا عنه إلى غيره!.
-------------------------------------------
مسألة: لا يجوز لمن عرف الحق أن يستمر على الباطل، ولا يقبل الله منه عدلاً ولا صرفاً، بل عليه أن يرتدع فور معرفته بالحق، ولو كان عالماً فعليه أن يتوب ويرعوي.
والقوم كانوا يعرفون أن الحق مع الإمام علي (عليه السلام) لكنهم اختلقوا لتخلفهم عن نصرة الحق عذراً، وربما كان العذر أقبح من الذنب، قالوا: (لو كان أبو الحسن ذكر لنا...)، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد ذكر لهم ذلك من قبل في يوم الغدير وغيره بمتواتر الروايات. كما أن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) قد ذكر لهم ذلك عندما هجم القوم على بيته وجاؤوا به مكرهاً ليبايع ابن أبي قحافة فلم يبايع، بل حاججهم وذكّرهم بمكانته وما نص عليه رسول الله (صلى
الله عليه وآله) في خلافته(1)،وأنه الأحق بالخلافة دون غيره.
بل هناك العديد من الصحابة حاججوا أبابكر قبل أن تفرض عليهم البيعة بالسيف، كسلمان والمقداد وأبي ذر وغيرهم (رضوان الله عليهم).
ص: 377
..............................
هذا ولو سلمنا أنه (عليه السلام) لم يذكر لهم من قبل، كما ادعوا وقالوا: (لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نبرم العهد ونحكم العقد لما عدلنا عنه إلى غيره)، لكنه حتى إذا كان يذكر لهم ذلك من قبل أن يبرموا عهدهم ويحكموا عقدهم الباطل، لكانوا خذلوه أيضاً، ولعدلوا عنه إلى غيره، فإن المشكلة لم تكن في إتمام الحجة عليهم ومعرفتهم بالحق، إذ كان الرسول (صلى الله عليه وآله) قد أتم الحجة عليهم جميعاً من قبل يوم غدير خم، ويوم الانذار وفي خيبر وغيرها، بل المشكلة كانت في انحيازهم للباطل، خوفاً أو طمعاً أو حقداً أو ما أشبه، وأنهم كانوا ممن طبع الله على قلوبهم، ولذلك قالت (عليها السلام): «فَلا عُذْرَ بَعْدَ تَعْذِيرِكُمْ، وَلا أَمْرَ بَعْدَ تَقْصِيرِكُمْ».عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: «خَطَبَ النَّاسَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ (رحمة الله عليه) بَعْدَ أَنْ دُفِنَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، فَقَالَ فِيهَا:
أَلا - أَيُّهَا النَّاسُ - اسْمَعُوا عَنِّي حَدِيثِي، ثُمَّ اعْقِلُوهُ عَنِّي، أَلاَ وَإِنِّي أُوتِيتُ عِلْماً كَثِيراً، فَلَوْ حَدَّثْتُكُمْ بِكُلِّ مَا أَعْلَمُ مِنْ فَضَائِلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) لَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ: هُوَ مَجْنُونٌ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَاتِلِ سَلْمَانَ. أَلاَ إِنَّ لَكُمْ مَنَايَا تَتْبَعُهَا بَلاَيَا، أَلاَ وَإِنَّ عِنْدَ عَلِيٍّ (عليه السلام) عِلْمَ الْمَنَايَا وَالْبَلاَيَا، وَمِيرَاثَ الْوَصَايَا، وَفَصْلَ الْخِطَابِ، وَأَصْلَ الأَنْسَابِ، عَلَى مِنْهَاجِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ مِنْ مُوسَى (عليه السلام)، إِذْ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): أَنْتَ وَصِيِّي فِي أَهْلِ بَيْتِي،وَخَلِيفَتِي فِي أُمَّتِي،وَأَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ
ص: 378
..............................
مُوسَى، وَلَكِنَّكُمْ أَخَذَتْكُمْ سُنَّةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَخْطَأْتُمُ الْحَقَّ، فَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَلاَتَعْلَمُونَ. أَمَا وَاللهِ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ، حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، وَالْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ. أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ، لَوْ وَلَّيْتُمُوهَا عَلِيّاً لأَكَلْتُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْتَحْتِ أَقْدَامِكُمْ، وَلَوْ دَعَوْتُمُ الطَّيْرَ لأَجَابَتْكُمْ فِي جَوِّ السَّمَاءِ، وَلَوْ دَعَوْتُمُ الْحِيتَانَ مِنَ الْبِحَارِ لأَتَتْكُمْ، وَلَمَا عَالَ وَلِيُّ اللهِ، وَلاَ طَاشَ لَكُمْ سَهْمٌ مِنْ فَرَائِضِ اللهِ، وَلاَ اخْتَلَفَ اثْنَانِ فِي حُكْمِ اللهِ، وَلَكِنْ أَبَيْتُمْ فَوَلَّيْتُمُوهَا غَيْرَهُ، فَأَبْشِرُوا بِالْبَلاَيَا، وَاقْنَطُوا مِنَ الرَّخَاءِ، وَقَدْ نَابَذْتُكُمْ عَلى سَواءٍ، فَانْقَطَعَتِ الْعِصْمَةُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ الْوَلاَءِ. عَلَيْكُمْ بِآلِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)؛ فَإِنَّهُمُ الْقَادَةُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالدُّعَاةُ إِلَيْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. عَلَيْكُمْ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه
السلام)، فَوَ اللهِ لَقَدْ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ بِالْوَلاَيَةِ وَإِمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ مِرَاراً جَمَّةً مَعَ نَبِيِّنَا، كُلَّ ذَلِكَ يَأْمُرُنَا بِهِ وَيُؤَكِّدُهُ عَلَيْنَا، فَمَا بَالُ الْقَوْمِ عَرَفُوا فَضْلَهُ فَحَسَدُوهُ، وَقَدْ حَسَدَ هَابِيلَ قَابِيلُ فَقَتَلَهُ، وَكُفَّاراً قَدِ ارْتَدَّتْ أُمَّةُ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، فَأَمْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ كَأَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَأَيْنَ يُذْهَبُ بِكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ! وَيْحَكُمْ مَا لَنَا وَأَبُو فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ! أَ جَهِلْتُمْ أَمْ تَجَاهَلْتُمْ، أَمْ حَسَدْتُمْ أَمْ تَحَاسَدْتُمْ. وَاللهِ لَتَرْتَدُّنَّ كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ بِالسَّيْفِ، يَشْهَدُ الشَّاهِدُ عَلَى النَّاجِي بِالْهَلَكَةِ، وَيَشْهَدُ الشَّاهِدُ عَلَى الْكَافِرِ بِالنَّجَاةِ. أَلاَ وَإِنِّي أَظْهَرْتُ أَمْرِي، وَسَلَّمْتُ لِنَبِيِّي، وَاتَّبَعْتُ مَوْلاَيَ وَمَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، عَلِيّاً أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، وَسَيِّدَ الْوَصِيِّينَ، وَقَائِدَ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ، وَإِمَامَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ»(1).
ص: 379
..............................
وعن محمد ويحيى ابني عبد الله بن الحسن، عن أبيهما، عن جدهما، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قال: «لَمَّا خَطَبَ أَبُو بَكْرٍ، قَامَ إِلَيْهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ - وَكَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ - وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مَرْضَاةَ اللهِ وَأَثْنَى اللهُ عَلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ، وَيَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالإِيمانَ وَأَثْنَى اللهَ عَلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ، تَنَاسَيْتُمْ أَمْ نَسِيتُمْ، أَمْ بَدَّلْتُمْ أَمْ غَيَّرْتُمْ، أَمْ خَذَلْتُمْ أَمْ عَجَزْتُمْ.
أَ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَامَ فِينَا مَقَاماً أَقَامَ فِيهِ عَلِيّاً (عليه السلام)، فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَهَذَا مَوْلاَهُ - يَعْنِي عَلِيّاً - وَمَنْ كُنْتُ نَبِيَّهُ فَهَذَا أَمِيرُهُ.
أَ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: يَا عَلِيُّ، أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، طَاعَتُكَ وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ بَعْدِي كَطَاعَتِي فِي حَيَاتِي، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي.أَ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: أُوصِيكُمْ بِأَهْلِ بَيْتِي خَيْراً، فَقَدِّمُوهُمْ وَلاَ تَقَدَّمُوهُمْ، وَأَمِّرُوهُمْ وَلاَ تَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ.
أَ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: أَهْلُ بَيْتِي مَنَارُ الْهُدَى، وَالدَّالُّونَ عَلَى اللهِ.
أَ وَ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ لِعَلِيٍّ (عليه السلام): أَنْتَ الْهَادِي لِمَنْ ضَلَّ.
أَ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: عَلِيٌّ الْمُحْيِي لِسُنَّتِي،
ص: 380
..............................
وَمُعَلِّمُ أُمَّتِي، وَالْقَائِمُ بِحُجَّتِي، وَخَيْرُ مَنْ أُخَلِّفُ مِنْ بَعْدِي، وَسَيِّدُ أَهْلِ بَيْتِي، وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، طَاعَتُهُ كَطَاعَتِي عَلَى أُمَّتِي.
أَ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَانَ مَنْزِلُهُمَا فِي أَسْفَارِهِمَا وَاحِداً، وَارْتِحَالُهُمَا وَاحِداً.
أَ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَمْ يُوَلِّ عَلَى عَلِيٍّ أَحَداً مِنْكُمْ، وَوَلاَّهُ فِي كُلِّ غَيْبَتِهِ عَلَيْكُمْ.
أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا غِبْتُ فَخَلَّفْتُ عَلَيْكُمْ عَلِيّاً، فَقَدْ خَلَّفْتُ فِيكُمْ رَجُلاً كَنَفْسِي.
أَ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَبْلَ مَوْتِهِ قَدْ جَمَعَنَا فِي بَيْتِ ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ (عليها السلام) فَقَالَ لَنَا: إِنَّ اللهَأَوْحَى إِلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ أَنِ اتَّخِذْ أَخاً مِنْ أَهْلِكَ فَاجْعَلْهُ نَبِيّاً، وَاجْعَلْ أَهْلَهُ لَكَ وَلَداً، أُطَهِّرْهُمْ مِنَ الآفَاتِ، وَأُخَلِّصْهُمْ مِنَ الرَّيْبِ، فَاتَّخَذَ مُوسَى هَارُونَ أَخاً، وَوُلْدَهُ أَئِمَّةً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِهِ، الَّذِينَ يَحُلُّ لَهُمْ فِي مَسَاجِدِهِمْ مَا يَحُلُّ لِمُوسَى، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيَّ أَنِ اتَّخِذْ عَلِيّاً أَخاً، كَمَا أَنَّ مُوسَى اتَّخَذَ هَارُونَ أَخاً، وَاتَّخِذْ وُلْدَهُ وُلْداً، فَقَدْ طَهَّرْتُهُمْ كَمَا طَهَّرْتُ وُلْدَ هَارُونَ، إِلاَّ أَنِّي قَدْ خَتَمْتُ بِكَ النَّبِيِّينَ فَلاَ نَبِيَّ بَعْدَكَ، فَهُمُ الأَئِمَّةُ الْهَادِيَةُ.
أَ فَمَا تُبْصِرُونَ! أَ فَمَا تَفْهَمُونَ! أَ فَمَا تَسْمَعُونَ! ضُرِبَ عَلَيْكُمُ الشُّبُهَاتُ، فَكَانَ مَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَهُ عَطَشٌ شَدِيدٌ حَتَّى خَشِيَ أَنْ يَهْلِكَ، فَلَقِيَ رَجُلاً هَادِياً فِي الطَّرِيقِ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْمَاءِ. فَقَالَ لَهُ: أَمَامَكَ عَيْنَانِ، إِحْدَاهُمَا مَالِحَةٌ،وَالأُخْرَى عَذْبَةٌ،فَإِنْ أَصَبْتَ الْمَالِحَةَ ضَلَلْتَ،وَإِنْ أَصَبْتَ الْعَذْبَةَ
ص: 381
..............................
هُدِيتَ وَرَوِيتَ، فَهَذَا مَثَلُكُمْ أَيَّتُهَا الأُمَّةُ الْمُهْمَلَةُ كَمَا زَعَمْتُمْ. وَايْمُ اللهِ مَا أُهْمِلْتُمْ، لَقَدْ نُصِبَ لَكُمْ عَلَمٌ، يُحِلُّ لَكُمُ الْحَلاَلَ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْكُمُ الْحَرَامَ، وَلَوْ أَطَعْتُمُوهُ مَا اخْتَلَفْتُمْ، وَلاَ تَدَابَرْتُمْ، وَلاَ تَقَاتَلْتُمْ، وَلاَ بَرِئَ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ. فَوَ اللهِ،إِنَّكُمْ بَعْدَهُ لَنَاقِضُونَ عَهْدَ رَسُولِ اللهِ (صلى
الله عليه وآله)، وَإِنَّكُمْ عَلَى عِتْرَتِهِ لَمُخْتَلِفُونَ، وَإِنْ سُئِلَ هَذَا عَنْ غَيْرِ مَا يَعْلَمُ أَفْتَى بِرَأْيِهِ، فَقَدْ أُبْعِدْتُمْ وَتَخَارَسْتُمْ، وَزَعَمْتُمْ أَنَّ الْخِلاَفَ رَحْمَةٌ، هَيْهَاتَ أَبَى الْكِتَابُ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى جَدُّهُ: «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ». ثُمَّ أَخْبَرَنَا بِاخْتِلاَفِكُمْ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: «وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ» أَيْ لِلرَّحْمَةِ، وَهُمْ آلُ مُحَمَّدٍ. سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: يَا عَلِيُّ، أَنْتَ وَشِيعَتُكَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَالنَّاسُ مِنْهَا بِرَاءٌ. فَهَلاَّ قَبِلْتُمْ مِنْ نَبِيِّكُمْ، كَيْفَ وَهُوَ خَبَّرَكُمْ بِانْتِكَاصَتِكُمْ عَنْ وَصِيِّهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمِينِهِ وَوَزِيرِهِ وَأَخِيهِ وَوَلِيِّهِ دُونَكُمْ أَجْمَعِينَ. وَأَطْهَرِكُمْ قَلْباً، وَأَقْدَمِكُمْ سِلْماً، وَأَعْظَمِكُمْ وَعْياً مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، أَعْطَاهُ تُرَاثَهُ، وَأَوْصَاهُ بِعِدَاتِهِ، فَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى أُمَّتِهِ، وَوَضَعَ عِنْدَهُ سِرَّهُ، فَهُوَ وَلِيُّهُ دُونَكُمْ أَجْمَعِينَ، وَأَحَقُّ بِهِ مِنْكُمْ أَكْتَعِينَ، سَيِّدُ الْوَصِيِّينَ، وَوَصِيُّ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ، أَفْضَلُ الْمُتَّقِينَ، وَأَطْوَعُ الأُمَّةِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، سَلَّمْتُمْ عَلَيْهِ بِإِمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ، فِي حَيَاةِ سَيِّدِ النَّبِيِّينَ، وَخَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ. فَقَدْ أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ، وَأَدَّى النَّصِيحَةَ مَنْ وَعَظَ، وَبَصَّرَ مَنْ عَمَى، فَقَدْ سَمِعْتُمْ كَمَا سَمِعْنَا، وَرَأَيْتُمْ كَمَا رَأَيْنَا، وَشَهِدْتُمْ كَمَا شَهِدْنَا. فَقَامَإِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ
ص: 382
..............................
الْجَرَّاحِ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ. فَقَالُوا: يَا أُبَيُّ، أَصَابَكَ خَبَلٌ أَمْ بِكَ جِنَّةٌ!. فَقَالَ: بَلِ الْخَبَلُ فِيكُمْ، وَاللهِ كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَوْماً، فَأَلْفَيْتُهُ يُكَلِّمُ رَجُلاً أَسْمَعُ كَلاَمَهُ وَلاَ أَرَى شَخْصَهُ، فَقَالَ فِيمَا يُخَاطِبُهُ: مَا أَنْصَحَهُ لَكَ وَلأُمَّتِكَ، وَأَعْلَمَهُ بِسُنَّتِكَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): أَ فَتَرَى أُمَّتِي تَنْقَادُ لَهُ مِنْ بَعْدِي؟. قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، يَتْبَعُهُ مِنْ أُمَّتِكَ أَبْرَارُهَا، وَيُخَالِفُ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِكَ فُجَّارُهَا، وَكَذَلِكَ أَوْصِيَاءُ النَّبِيِّينَ مِنْ قَبْلِكَ. يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ أَوْصَى إِلَى يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، وَكَانَ أَعْلَمَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَخْوَفَهُمْ للهِ، وَأَطْوَعَهُمْ لَهُ، فَأَمَرَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَتَّخِذَهُ وَصِيّاً، كَمَا اتَّخَذْتَ عَلِيّاً وَصِيّاً، وَكَمَا أُمِرْتَ بِذَلِكَ، فَحَسَدَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ سِبْطُ مُوسَى خَاصَّةً، فَلَعَنُوهُ وَشَتَمُوهُ وَعَنَفُوهُ وَوَضَعُوا لَهُ، فَإِنْ أَخَذَتْ أُمَّتُكَ سُنَنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَذَّبُوا وَصِيَّكَ، وَجَحَدُوا إِمْرَتَهُ، وَابْتَزُّوا خِلاَفَتَهُ، وَغَالَطُوهُ فِي عِلْمِهِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ هَذَا؟.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): هَذَا مَلَكٌ مِنْ مَلاَئِكَةِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، يُنْبِئُنِي أَنَّ أُمَّتِي تَتَخَلَّفُ عَلَى وَصِيِّي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ(صلوات الله عليه)، وَإِنِّي أُوصِيكَ يَا أُبَيُّ بِوَصِيَّةٍ، إِنْ حَفِظْتَهَا لَمْ تَزَلْ بِخَيْرٍ. يَا أُبَيُّ، عَلَيْكَ بِعَلِيٍّ؛ فَإِنَّهُ الْهَادِي الْمَهْدِيُّ، النَّاصِحُ لأُمَّتِي، الْمُحْيِي لِسُنَّتِي، وَهُوَ إِمَامُكُمْ بَعْدِي، فَمَنْ رَضِيَ بِذَلِكَ لَقِيَنِي عَلَى مَا فَارَقْتُهُ عَلَيْهِ. يَا أُبَيُّ، وَمَنْ غَيَّرَ أَوْ بَدَّلَ لَقِيَنِي نَاكِثاً لِبَيْعَتِي، عَاصِياً أَمْرِي، جَاحِداً لِنُبُوَّتِي، لاَ أَشْفَعُ لَهُ عِنْدَ رَبِّي، وَلاَ أَسْقِيهِ مِنْ حَوْضِي.
فَقَامَتْ إِلَيْهِ رِجَالٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالُوا: اقْعُدْ رَحِمَكَ اللَّهُ يَا أُبَيُّ، فَقَدْ
ص: 383
..............................
أَدَّيْتَ مَا سَمِعْتَ الَّذِي مَعَكَ، وَوَفَيْتَ بِعَهْدِكَ»(1).
مسألة: يجب نقض البيعة مع الظالم، سواء بايع الشخص جاهلاً أو عالماً، قصوراً أو تقصيراً، فإن البيعة في الخلافة تكون لمن نص عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) دون غيره، فإذا بويع غيرهوجب النقض، لأن الاستمرار محرم أيضاً، فلا يعد ذلك قولهم عذراً حيث قالوا: (قد أبرم العهد وأحكم العقد).
إذ هذا العهد باطل والعقد باطل، فإنه تقليد للأمر لمن لا حق له فيه، وذلك كمن يبيع حراً لغيره، أو كمن يبيع ملك غيره للغير، فإن المشتري لا يمكنه أن يحتج بأن العقد قد أبرم، فأصبح الحر أو ملك غير البائع ملكاً لي، فإن العقد والعهد إنما يكون في المحل القابل، والظالم ليس محلاً قابلاً للخلافة، قال تعالى: «لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ»(2).
قولهم: (قبل أن نبرم العهد) أي عهد الخلافة مع الغاصب الأول، و(نحكِّم العقد) لأنها نوع عقد بين الحاكم ومن يبايعه.
وهذا القول من القوم دليل على أنهم كانوا يعلمون أن كل ظلم وقع على الصديقة الطاهرة (عليها السلام) كان ضمن خطة غصب الخلافة من علي أمير المؤمنين
ص: 384
..............................
(عليه السلام)، وأن خطبتها واحتجاجها وغضبها ومطالبتها بحقها كان لإثبات حق بعلها علي (عليها لسلام) في الخلافة.من هنا رأى من غصب الخلافة أنه لابد من أن يقتلوا فاطمة (عليها السلام) وإلاّ فلم تسكت عن حق بعلها، وهذا كان يزلزل حكمهم ويقضي على سمعتهم ويفضحهم.
وانتصرت الصديقة (عليها السلام) حيث بها تبين الحق من الباطل إلى يومنا هذا.
ص: 385
-------------------------------------------
قول الصديقة (عليها السلام): «إِلَيْكُمْ عَنِّي» أي: قوموا عني.. وابتعدوا.. واذهبوا.
مسألة: المطرود من حضرة الصديقة (صلوات الله عليها) مطرود من حضرة الله ورحمته، فإن «الله لَيَغْضَبُ لِغَضَبِ فَاطِمَةَ، وَيَرْضَى لِرِضَاهَا»(1).
فهو ملعون يلعنه الله والملائكة والأنبياء والمرسلون والمؤمنون.
مسألة: من شاق الصديقة فاطمة (صلوات الله عليها) فقد شاق رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومن شاقه (صلى الله عليه وآله) فقد شاق الله ومصيره النار.
قال تعالى: «وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا»(2).يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ»(3).
ص: 386
..............................
وقال عز وجل: «ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ»(1).
مسألة: يجب الوقوف أمام الظالم وصحبه ومن رضي بفعله، كما يلزم عدم قبول عذره وعذرهم، لما لم تقبل (صلوات الله عليها) عذر القوم.
ثم إن الوقوف أمام الظالم وصبحه إنما هو بحسب الظلم والظالم، مراعياً شرائط الزمان والمكان، فإن مصداق النهي عن المنكر عرفي شرعي.
عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ يُتَّبَعُ فِيهِمْ قَوْمٌ مُرَاءُونَ، يَتَقَرَّءُونَ وَيَتَنَسَّكُونَ، حُدَثَاءُ سُفَهَاءُ، لاَ يُوجِبُونَ أَمْراً بِمَعْرُوفٍ وَلاَ نَهْياً عَنْ مُنْكَرٍ، إِلاَّ إِذَا أَمِنُوا الضَّرَرَ، يَطْلُبُونَ لأَنْفُسِهِمُ الرُّخَصَ وَالْمَعَاذِيرَ، يَتَّبِعُونَ زَلاَّتِ الْعُلَمَاءِ وَفَسَادَلاَ يَكْلِمُهُمْ فِي نَفْسٍ وَلاَ مَالٍ، وَلَوْ أَضَرَّتِ الصَّلاَةُ بِسَائِرِ مَا يَعْمَلُونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ لَرَفَضُوهَا، كَمَا رَفَضُوا أَسْمَى الْفَرَائِضِ وَأَشْرَفَهَا. إِنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَرِيضَةٌ عَظِيمَةٌ بِهَا تُقَامُ الْفَرَائِضُ، هُنَالِكَ يَتِمُّ غَضَبُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ فَيَعُمُّهُمْ بِعِقَابِهِ، فَيُهْلَكُ الأَبْرَارُ فِي دَارِ الْفُجَّارِ، وَالصِّغَارُ فِي دَارِ الْكِبَارِ. إِنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ سَبِيلُ الأَنْبِيَاءِ، وَمِنْهَاجُ الصُّلَحَاءِ،
ص: 387
..............................
فَرِيضَةٌ عَظِيمَةٌ بِهَا تُقَامُ الْفَرَائِضُ، وَتَأْمَنُ الْمَذَاهِبُ، وَتَحِلُّ الْمَكَاسِبُ، وَتُرَدُّ الْمَظَالِمُ، وَتُعْمَرُ الأَرْضُ، وَيُنْتَصَفُ مِنَ الأَعْدَاءِ، وَيَسْتَقِيمُ الأَمْرُ. فَأَنْكِرُوا بِقُلُوبِكُمْ، وَالْفِظُوا بِأَلْسِنَتِكُمْ، وَصُكُّوا بِهَا جِبَاهَهُمْ، وَلاَ تَخَافُوا فِي اللهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ، فَإِنِ اتَّعَظُوا وَإِلَى الْحَقِّ رَجَعُوا، فَلاَ سَبِيلَ عَلَيْهِمْ، «إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»(1)، هُنَالِكَ فَجَاهِدُوهُمْ بِأَبْدَانِكُمْ، وَأَبْغِضُوهُمْ بِقُلُوبِكُمْ، غَيْرَ طَالِبِينَ سُلْطَاناً، وَلاَ بَاغِينَ مَالاً، وَلاَ مُرِيدِينَ بِظُلْمٍ ظَفَراً، حَتَّى- قَالَ - وَأَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى شُعَيْبٍ النَّبِيِّ (صلوات الله عليه): أَنِّي مُعَذِّبٌ مِنْ قَوْمِكَ مِائَةَ أَلْفٍ، أَرْبَعِينَ أَلْفاً مِنْ شِرَارِهِمْ، وَسِتِّينَ أَلْفاً مِنْ خِيَارِهِمْ. فَقَالَ (عليه السلام): يَا رَبِّ، هَؤُلاَءِ الأَشْرَارُ، فَمَا بَالُ الأَخْيَارِ!. فَأَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ: دَاهَنُوا أَهْلَ الْمَعَاصِي، وَلَمْ يَغْضَبُوا لِغَضَبِي»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَمْ يُؤْخَذْ لِضَعِيفِهَا مِنْ قَوِيِّهَا بِحَقِّهِ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ»(3).
وعن يحيى بن عقيل، عن حسن، قال: خَطَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَيْثُ مَا عَمِلُوا مِنَ الْمَعَاصِي، وَلَمْ يَنْهَهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّهُمْ لَمَّا تَمَادَوْا
ص: 388
..............................
فِي الْمَعَاصِي، وَلَمْ يَنْهَهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ ذَلِكَ، نَزَلَتْ بِهِمُ الْعُقُوبَاتُ. فَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ،وَاعْلَمُوا أَنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَمْ يُقَرِّبَا أَجَلاً، وَلَمْ يَقْطَعَا رِزْقاً. إِنَّ الأَمْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ كَقَطْرِ الْمَطَرِ إِلَى كُلِّ نَفْسٍ، بِمَا قَدَّرَ اللهُ لَهَا مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، فَإِنْ أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ فِي أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ، وَرَأَى عِنْدَ أَخِيهِ غَفِيرَةً فِي أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ، فَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِ فِتْنَةً؛ فَإِنَّ الْمَرْءَ الْمُسْلِمَ لَبَرِيءٌ مِنَ الْخِيَانَةِ، مَا لَمْ يَغْشَ دَنَاءَةً تَظْهَرُ، فَيَخْشَعُ لَهَا إِذَا ذُكِرَتْ، وَيُغْرَى بِهَا لِئَامُ النَّاسِ، كَانَ كَالْفَالِجِ الْيَاسِرِ، الَّذِي يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ مِنْ قِدَاحِهِ، تُوجِبُ لَهُ الْمَغْنَمَ، وَيُدْفَعُ بِهَا عَنْهُ الْمَغْرَمُ، وَكَذَلِكَ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ الْبَرِيءُ مِنَ الْخِيَانَةِ، يَنْتَظِرُ مِنَ اللهِ تَعَالَى إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، إِمَّا دَاعِيَ اللهِ فَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لَهُ، وَإِمَّا رِزْقَ اللهِ، فَإِذَا هُوَ ذُو أَهْلٍ وَمَالٍ وَمَعَهُ دِينُهُ، وَحَسَبُهُ إِنَّ الْمَالَ وَالْبَنِينَ حَرْثُ الدُّنْيَا، وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ حَرْثُ الآخِرَةِ، وَقَدْ يَجْمَعُهُمَا اللهُ لأَقْوَامٍ. فَاحْذَرُوا مِنَ اللهِ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ، وَاخْشَوْهُ خَشْيَةً لَيْسَتْ بِتَعْذِيرٍ، وَاعْمَلُوا فِي غَيْرِ رِيَاءٍ وَلاَ سُمْعَةٍ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ اللهِ يَكِلْهُ اللهُ إِلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ، نَسْأَلُ اللهَ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَمُعَايَشَةَ السُّعَدَاءِ، وَمُرَافَقَةَ الأَنْبِيَاءِ»(1).وعن أبي إسحاق الخراساني، عن بعض رجاله، قال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْحَى إِلَى دَاوُدَ (عليه السلام): أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ ذَنْبَكَ، وَجَعَلْتُ عَارَ ذَنْبِكَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَقَالَ: كَيْفَ يَا رَبِّ وَأَنْتَ لاَ تَظْلِمُ؟!. قَالَ: إِنَّهُمْ لَمْ يُعَاجِلُوكَ بِالنَّكَرَةِ»(2).
ص: 389
..............................
مسألة: طرد الظالم وأتباعه واجب في الجملة، والطرد قد يكون طرداً من مكان، وقد يكون طرداً من اعتبار، كالطرد من شركة أو مؤسسة أو نقابة أو منظمة أو حزب أو حكومة أو ما أشبه ذلك، والظاهر أن طردها (عليها السلام) لهم كان طرداً من حضرتها، فلم يكن طرداً مكانياً فحسب وإن استلزمه.
مسألة: يستحب - وربما وجب - بيان أن الصديقة (صلوات الله عليها) قالت للقوم: « إِلَيْكُمْ عَنِّي، فَلا عُذْرَ بَعْدَ تَعْذِيرِكُمْ... ».
فإن إيصال صوتها (عليها السلام) للعالم مسؤولية، وكشف الستار عن أولئك الظلمة بهذا الطريق نوع نهي عنالمنكر.
روى أبو محمد بن مسلم بن قتيبة في تاريخه قصة السقيفة، ومما جاء فيها: ثُمَّ قَامَ ابن الخطاب، فَمَشَى مَعَهُ جَمَاعَةٌ، حَتَّى أَتَوْا بَابَ فَاطِمَةَ (عليه السلام) فَدَقُّوا الْبَابَ، فَلَمَّا سَمِعَتْ أَصْوَاتَهُمْ، نَادَتْ بِأَعْلَى صَوْتِهَا بَاكِيَةً: «يَا رَسُولَ اللهِ، مَاذَا لَقِينَا بَعْدَكَ مِنِ ابْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ أَبِي قُحَافَةَ». فَلَمَّا سَمِعَ الْقَوْمُ صَوْتَهَا وَبُكَاءَهَا، انْصَرَفُوا بَاكِينَ، فَكَادَتْ قُلُوبُهُمْ تَتَصَدَّعُ، وَأَكْبَادُهُمْ تَتَفَطَّرُ، وَبَقِيَ ابن الخطاب وَمَعَهُ قَوْمٌ، فَأَخْرَجُوا عَلِيّاً، وَمَضَوْا بِهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ. فَقَالُوا: بَايِعْ. فَقَالَ: «إِنْ أَنَا لَمْ أَفْعَلْ فَمَهْ؟». قَالُوا: إِذاً وَاللهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ نَضْرِبَ عُنُقَكَ. قَالَ: «إِذاً تَقْتُلُونَ عَبْدَ اللهِ وَأَخَا رَسُولِهِ». فَقَالَ ابن الخطاب: أَمَّا عَبْدُ اللهُ فَنَعَمْ، وَأَمَّا أَخَا رَسُولِهِ فَلاَ. وَأَبُو بَكْرٍ سَاكِتٌ لا يَتَكَلَّمُ.
ص: 390
..............................
فَقَالَ لَهُ ابن الخطاب: أَ لاَ تَأْمُرُ فِيهِ بِأَمْرِكَ. فَقَالَ: لاَ أُكْرِهُهُ عَلَى شَيْءٍ مَا كَانَتْ فَاطِمَةُ إِلَى جَنْبِهِ.
فَلَحِقَ عَلِيٌّ (عليه السلام) بِقَبْرِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَصِيحُ وَيَبْكِي وَيُنَادِي: «يَا ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي».فَقَالَ عُمَرُ لأَبِي بَكْرٍ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى فَاطِمَةَ؛ فَإِنَّا قَدْ أَغْضَبْنَاهَا. فَانْطَلَقَا جَمِيعاً فَاسْتَأْذَنَا عَلَى فَاطِمَةَ، فَلَمْ تَأْذَنْ لَهُمَا. فَأَتَيَا عَلِيّاً فَكَلَّمَاهُ، فَأَدْخَلَهُمَا عَلَيْهَا، فَلَمَّا قَعَدَا عِنْدَهَا حَوَّلَتْ وَجْهَهَا إِلَى الْحَائِطِ، فَسَلَّمَا عَلَيْهَا فَلَمْ تَرُدَّ عَلَيْهِمَا السَّلاَمَ. فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا حَبِيبَةَ رَسُولِ اللهِ، وَاللهِ إِنَّ قَرَابَةَ رَسُولِ اللهِ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي، وَإِنَّكِ لأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ عَائِشَةَ ابْنَتِي، وَلَوَدِدْتُ يَوْمَ مَاتَ أَبُوكِ أَنِّي مِتُّ وَلاَ أَبْقَى بَعْدَهُ، أَ فَتَرَانِي أَعْرِفُكِ وَأَعْرِفُ فَضْلَكِ وَشَرَفَكِ، وَأَمْنَعُكِ حَقَّكِ وَمِيرَاثَكِ مِنْ رَسُولِ اللهِ، إِلاَّ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: نَحْنُ مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ، وَمَا تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ!.
فَقَالَتْ: «أَرَأَيْتَكُمَا إِنْ حَدَّثْتُكُمَا حَدِيثاً مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَتَعْرِفَانِهِ وَتَعْقِلاَنِهِ؟». قَالاَ: نَعَمْ. فَقَالَتْ: «نَشَدْتُكُمَا بِاللهِ، أَ لَمْ تَسْمَعَا مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: رِضَا فَاطِمَةَ مِنْ رِضَايَ، وَسَخَطُ فَاطِمَةَ مِنْ سَخَطِي، وَمَنْ أَحَبَّ فَاطِمَةَ ابْنَتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَرْضَى فَاطِمَةَ فَقَدْ أَرْضَانِي، وَمَنْ أَسْخَطَ فَاطِمَةَ فَقَدْ أَسْخَطَنِي». قَالاَ: نَعَمْ سَمِعْنَاهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله).
قَالَتْ: «فَإِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ، أَنَّكُمَا أَسْخَطْتُمَانِي وَمَا أَرْضَيْتُمَانِي، وَلَئِنْلَقِيتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) لأَشْكُوَنَّكُمَا إِلَيْهِ».
ص: 391
..............................
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَائِذاً بِاللهِ مِنْ سَخَطِهِ وَسَخَطِكِ يَا فَاطِمَةُ. ثُمَّ انْتَحَبَ أَبُو بَكْرٍ بَاكِياً، يَكَادُ نَفْسُهُ أَنْ تَزْهَقَ، وَهِيَ تَقُولُ: «وَاللهِ لأَدْعُوَنَّ اللهَ عَلَيْكَ فِي كُلِّ صَلاَةٍ أُصَلِّيهَا»(1).
قول الصديقة (عليها السلام): «فَلا عُذْرَ بَعْدَ تَعْذِيرِكُمْ»، التعذير هو التقصير كما في (المجمع)(2)، والتعذير في الأمر التقصير فيه(3).
وقالوا: عذر يعذر تعذيراً: أي لم يتم ولم يثبت له عذر، وذلك إذا لم يأتِ بعذر صحيح صادق.
فقولها (عليها السلام) بمعنى أنه لاالبطلان، فأعذاركم كاذبة، وأقوالكم باطلة.
أو بمعنى أنه لا عذر لكم بعد أن عذرتكم في المسجد وفي غيره، فقد أقمت عليكم الحجة وأتممتها عليكم ولم أترك لأحد عذراً.
وفي الحديث: «لَقَدْ أَعْذَرَ اللهُ مَنْ بَلَغَ مِنَ العُمْرِ سِتِّينَ سَنَةً»(4). أَي لم يُبْقِ فيه موضعاً للاعْتِذارِ، حيث أَمْهَلَه طُولَ هذه المدة.
ص: 392
..............................
عن عمرو بن ميمون، قال: (كنت شاهداً لعمر يوم طعن - فذكر حديثاً طويلاً ثم قال - قال عمر: ادعوا لي علياً وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص. فلم يكلَّم أحداً منهم غير علي وعثمان. فقال: يا علي، لعل هؤلاء سيعرفون لك قرابتك من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصهرك، وما أنالك الله من الفقه والعلم، فإن وليت هذا الأمر فاتق الله فيه. ثم دعا بعثمان فقال: يا عثمان، لعل هؤلاء القوم يعرفون لك صهرك من رسول اللهتحمل آل أبي معيط على رقاب الناس. ثم قال: ادعوا لي صهيباً. فدعي، فقال: صل بالناس ثلاثاً، وليخل هؤلاء النفر في بيت، فإذا اجتمعوا على رجل منهم، فمن خالفهم فاضربوا رأسه. فلما خرجوا من عند عمر، قال : إن ولَّوها الأجلح سلك بهم الطريق. قال ابن عمر: فما يمنعك منه يا أمير؟، قال: أكره أن أتحملها حياً وميتاً)(1).
وفي رواية أخرى: (قال: لوليتها عثمان لحمل آل أبي معيط على رقاب الناس. والله لو فعلت لفعل، ولو فعل لأوشكوا أن يسيروا إليه حتى يجزوا رأسه. فقالوا: علي؟. قال: رجل قعدد. قالوا: طلحة؟. قال: ذاك رجل فيه بأو. قالوا: الزبير؟. قال: ليس هناك. قالوا: سعد؟. قال: صاحب فرس وقوس. فقالوا: عبد الرحمن بن عوف؟. قال: ذاك فيه إمساك شديد، ولا يصلح لهذا الأمر إلا معط في غير سرف، وممسك في غير تقتير)(2) .
ص: 393
..............................
وعن ابن عباس، قال: (قال عمر: لا أدري ما أصنع بأمة محمد - وذلك قبليعني علياً -. قلت: نعم، هو أهل لها في قرابته برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصهره وسابقته وبلائه. فقال عمر: إن فيه بطالة وفكاهة...)(1).
وعن الأسود بن يزيد، قال: (قلت لعائشة: أ لا تعجبين من رجل من الطلقاء ينازع أصحاب محمد في الخلافة. قالت: وما تعجب من ذلك، هو سلطان الله يؤتيه البر والفاجر، وقد ملك فرعون أهل مصر أربعمائة سنة)(2).
وأخرج الدارقطني عن مروان بن الحكم، أنه قال: (ما كان أحد أدفع عن عثمان من علي. فقيل له: ما لكم تسبونه على المنابر؟!. قال: إنه لا يستقيم لنا الأمر إلاّ بذلك)(3).
وعن أبي إسحاق، قال: (كان شمر بن ذي الجوشن يصلي معنا الفجر، ثم يقعد حتى يصبح، ثم يصلي فيقول: اللهم إنك شريف تحب الشرف، وأنت تعلم أني شريف، فاغفر لي. فقلت: كيف يغفر الله لك، وقدوآله) فأعنت على قتله. قال: ويحك فكيف نصنع. إن أمراءنا هؤلاء أمرونا بأمر فلم نخالفهم، ولو خالفناهم كنا شراً من هذه الحمر)(4).
ص: 394
..............................
وحدث صخر بن جويرية، عن نافع، قال: (لما خلع الناس يزيد بن معاوية، جمع ابن عمر بنيه وأهله، ثم تشهد ثم قال: أما بعد، فإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة، يقال: هذه غدرة فلان. وإن من أعظم الغدر أن لا يكون له الإشراك بالله تعالى، أن يبايع رجل رجلاً على بيع الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) ثم ينكث بيعته، فلا يخلعن أحد منكم يزيد، ولا يشرفن أحد منكم في هذا الأمر، فيكون (صلى الله عليه وآله) بيني وبينه)(1).
وقال عبد الله بن عمرِو بن العاص لأبيه عمرو - حين قُتل عمار -: أ قتلتمما قال؟!. فقال عمرو لمعاوية: أ تسمع ما يقول عبد الله؟. فقال: إنما قتله من جاء به. فسمعه أهل الشام فقالوا إنما قتله من جاء به. فبلغت علياً (عليه السلام)، فقال: «أ يكون النبي (صلى الله عليه وآله) قاتل حمزة (رضي الله عنه)؛ لأنه جاء به»(2).
وعن عبد الله بن الحرث، قال: (إني لأسير مع معاوية في منصرفه من صفين بينه وبين عمرو بن العاص. قال: فقال عبد الله بن عمرو بن العاصي: يا أبت، ما سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لعمار: ويحك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية. قال: فقال عمرو لمعاوية: أ لا تسمع ما يقول هذا!. فقال معاوية: لا تزال تأتينا بهنة، أنحن قتلناه، إنما قتله الذين جاؤوا به)(3).
ص: 395
-------------------------------------------
قول الصديقة (عليها السلام): «وَلا أَمْرَ بَعْدَ تَقْصِيرِكُمْ»، أي: لا أمر لي عليكم،الأولى الإعراض عنكم وطردكم بعد تلك المواقف المخزية منكم، وذلك الخذلان الغريب لأهل بيت نبيكم (صلى الله عليه وآله).
مسألة: التقصير في الواجبات محرم، من باب المقدمية، وهل التقصير في المستحبات مكروه؟.
مسألة: لو قصر في الواجب استحق العقوبة، حتى إذا خرج الواجب بعدئذٍ عن قدرته، فإن ما بالاختيار لا ينافي الاختيار.
مسألة: التقصير في أصول الدين مما يستوجب عليه النار، وأما لواحقها(1) فحسب الأدلة، وأنه من ضروريات الدين أم لا.
مسألة: إزالة العذر واجبة في الجملة، وهي قد تكون بالقول، وقد تكون بالعمل، كتمهيد مقدمات تؤدي إلى ذلك، وهي في زماننا كثيرة ومتشابكة، وقد ذكرنا قسماً منها في (السبيل) و(الصياغة) و(الممارسة)(2).
ص: 396
..............................
مسألة: إقامة العذر الباطل محرم، وربما كانت الأعذار مقدمة محرم.
مسألة: لا يقبل عذر بعد تعذير.
مسألة: لا أمر بعد تقصير.
وربما يعلم من كلام الصديقة (صلوات الله عليها) ها هنا أن الجاهل المقصر في حكم العالم.
هذا فيما إذا كانوا جاهلين جهلاً تقصيرياً فرضاً، أما إذا كانوا عالمين، فالتقصير يراد به هنا: التقصير والتهاون والتخاذل عن نصرتها ونصرة بعلها علي أمير المؤمنين (عليه السلام) رغم علمهم بالحق.
من دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام): «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَجَنِّبْنَا الإِلْحَادَ فِي تَوْحِيدِكَ، وَالْتَّقْصِيرَ فِي تَمْجِيدِكَ، وَالشَّكَّ فِي دِينِكَ، وَالْعَمَى عَنْ سَبِيلِكَ، وَالإِغْفَالَ لِحُرْمَتِكَ، وَالاِنْخِدَاعَ لِعَدُوِّكَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»(1).ومن دعاء الإمام السجاد (عليه السلام): «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِنْ مَظْلُومٍ ظُلِمَ بِحَضْرَتِي فَلَمْ أَنْصُرْهُ، وَمِنْ مَعْرُوفٍ أُسْدِيَ إِلَيَّ فَلَمْ أَشْكُرْهُ، وَمِنْ مُسِيءٍ اعْتَذَرَ إِلَيَّ فَلَمْ أَعْذِرْهُ، وَمِنْ ذِي فَاقَةٍ سَأَلَنِي فَلَمْ أُوثِرْهُ، وَمِنْ حَقِّ ذِي حَقٍّ لَزِمَنِي لِمُؤْمِنٍ فَلَمْ أُوَفِّرْهُ، وَمِنْ عَيْبِ مُؤْمِنٍ ظَهَرَ لِي فَلَمْ أَسْتُرْهُ، وَمِنْ كُلِّ إِثْمٍ عَرَضَ لِي فَلَمْ أَهْجُرْهُ. أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ - يَا إِلَهِي - مِنْهُنَّ وَمِنْ نَظَائِرِهِنَّ اعْتِذَارَ نَدَامَةٍ، يَكُونُ وَاعِظاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ أَشْبَاهِهِنَّ. فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَاجْعَلْ نَدَامَتِي عَلَى مَا
ص: 397
..............................
وَقَعْتُ فِيهِ مِنَ الزَّلاَّتِ، وَعَزْمِي عَلَى تَرْكِ مَا يَعْرِضُ لِي مِنَ السَّيِّئَاتِ، تَوْبَةً تُوجِبُ لِي مَحَبَّتَكَ، يَا مُحِبَّ التَّوَّابِينَ»(1).
وقال الإمام العسكري (عليه السلام): «فَأَمَّا الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ مَا قَصُرَ عَنِ الْعُلُوِّ، وَارْتَفَعَ عَنِ التَّقْصِيرِ، وَاسْتَقَامَ فَلَمْ يَعْدِلْ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْبَاطِلِ»(2).وقال الإمام العسكري (عليه السلام): «فَاتَّقُوا اللهَ وَلاَ تَتَعَرَّضُوا لِمَقْتِ اللهِ بِتَرْكِ التَّقِيَّةِ وَالتَّقْصِيرِ فِي حُقُوقِ إِخْوَانِكُمُ الْمُؤْمِنِينَ»(3).
وعن عيسى بن السري، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أَخْبِرْنِي عَنْ دَعَائِمِ الإِسْلاَمِ، الَّتِي عَلَيْهَا لاَ يَسَعُ أَحَداً مِنَ النَّاسِ التَّقْصِيرُ عَنْ مَعْرِفَةِ شَيْءٍ مِنْهَا، الَّتِي مَنْ قَصَّرَ عَنْ مَعْرِفَةِ شَيْءٍ مِنْهَا فَسَدَتْ عَلَيْهِ دِينُهُ، وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ عَمَلُهُ، وَمَنْ عَرَفَهَا وَعَمِلَ بِهَا صَلَحَ لَهُ دِينُهُ، وَقُبِلَ مِنْهُ عَمَلُهُ، وَلَمْ يُضَيَّقْ مَا هُوَ فِيهِ بِحَمْلِ شَيْءٍ جَهِلَهُ؟. قَالَ: «شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَالإِيمَانُ بِرَسُولِهِ، وَالإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَالزَّكَاةُ، وَالْوَلاَيَةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا، وَهِيَ وَلاَيَةُ آلِ مُحَمَّدٍ (عليهم السلام)».
ص: 398
..............................
قال: قُلْتُ: هَلْ فِي الْوَلاَيَةِ شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ فَضْلٌ يُعْرَفُ لِمَنْ أَخَذَ بِهِ؟. قال: «نَعَمْ، قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَوَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»(1)، فَكَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عَلَيْهِمُ السَّلامُ وَالتَّحِيَّة)»(2).
مسألة: واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يسقط إذا قام به المكلف، فيما لو يئس من التأثير بالتكرار، فإن الصديقة (صلوات الله عليها) كانت كذلك فأمرتهم ونهتم ولكن بعد ذلك تركتهم، حيث كان الخوف والجبن والحرص على الدنيا قد غلب على أولئك القوم مما لم يكن يرجى معه لهم الإنابة والتوبة والعودة إلى الصواب.
عن غياث بن إبراهيم، قال: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) إِذَا مَرَّ بِجَمَاعَةٍ يَخْتَصِمُونَ، لاَ يَجُوزُهُمْ حَتَّى يَقُولَ ثَلاَثاً: «اتَّقُوا اللهَ»، يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ(3).
وعن محمد بن عرفة، قال: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه
السلام) يَقُولُ: «كَانَرَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ:إِذَا أُمَّتِي تَوَاكَلَتِ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ
ص: 399
..............................
عَنِ الْمُنْكَرِ، فَلْيَأْذَنُوا بِوِقَاعٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى»(1).
وقال النبي (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ لَيُبْغِضُ الْمُؤْمِنَ الضَّعِيفَ الَّذِي لاَ دِينَ لَهُ». فَقِيلَ لَهُ: وَمَا الْمُؤْمِنُ الَّذِي لاَ دِينَ لَهُ؟. قَالَ: «الَّذِي لاَ يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) يَقُولُ - وَسُئِلَ عَنِ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ - أَوَاجِبٌ هُوَ عَلَى الأُمَّةِ جَمِيعاً؟. فَقَالَ: «لاَ». فَقِيلَ لَهُ: وَلِمَ؟. قَالَ: «إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْقَوِيِّ الْمُطَاعِ الْعَالِمِ بِالْمَعْرُوفِ مِنَ الْمُنْكَرِ، لاَ عَلَى الضَّعِيفِ الَّذِي لاَ يَهْتَدِي سَبِيلاً إِلَى أَيٍّ مِنْ أَيٍّ، يَقُولُ مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ كِتَابُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلُهُ: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ»(3)، فَهَذَاخَاصٌّ غَيْرُ عَامٍّ، كَمَا قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ»(4)، وَلَمْ يَقُلْ عَلَى أُمَّةِ مُوسَى، وَلاَ عَلَى كُلِّ قَوْمِهِ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أُمَمٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَالأُمَّةُ وَاحِدَةٌ فَصَاعِداً، كَمَا قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلهِ»(5)، يَقُولُ مُطِيعاً للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَيْسَ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْهُدْنَةِ مِنْ حَرَجٍ، إِذَا كَانَ
ص: 400
..............................
لاَ قُوَّةَ لَهُ وَلاَ عُذْرَ وَلاَ طَاعَةَ». قَالَ مَسْعَدَةُ: وَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ - وَسُئِلَ عَنِ الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله): إِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ إِمَامٍ جَائِرٍ، مَا مَعْنَاهُ؟. قَالَ: «هَذَا عَلَى أَنْ يَأْمُرَهُ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُقْبَلُ مِنْهُ، وَإِلاَّ فَلاَ»(1).
مسألة: يستحب - وقد يجب - بيان أن القوم لم يكن لهم عذر بعد تعذيرهم، ولا أمر بعد تقصيرهم، حيث إنهم قدسمعوا من الصديقة فاطمة (عليها السلام) الخطبة في المسجد، بالإضافة إلى ما سمعوه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حق الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) مما بلغ حد الاستفاضة بل التواتر.
وقد بايعوا بأنفسهم علياً (عليه السلام) في يوم غدير خم، كما بايع أسيادهم، ومنهم غاصبوا الخلافة، وقالا كما ورد في كتب العامة أيضاً: (بخ بخ لك يا علي أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة) (2).
ولا يلتفت إلى ما يقوله البعض من عدم إثارة القضايا التاريخية الخلافية، فإنه خلاف مقتضى العقل والوجدان والشرع، ولذلك نلاحظ القرآن الكريم قد
ص: 401
..............................
تطرق للقضايا التاريخية وللمواجهة بين جبهتي الحق والباطل كثيراً، بل وقد ذكر القرآن الحكيم أسماء الطواغيت كفرعون وهامان وأبي لهبوأوصافهم الدالة عليهم وتبرأ منهم، وقد فصلنا ذلك في موضع آخر لا داعي للتكرار، نعم لابد من مراعاة التقية في مواردها.
وهذا آخر ما أردنا بيانه في الفصل الثاني من هذا الكتاب(1).
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
قم المقدسة
محمد الشيرازي
ص: 402
المقدمة 5
معنيان للنصيحة 7
شفافية الحاكم 9
الرقابة على الحاكم 13
نصح الشعب 14
التحلي من الدنيا 18
السلطة مطية الحاكم 19
الحاكم وثروة الناس 21
حطام الدنيا 22
الحذر من الدنيا 24
عصمة الإمام (عليه السلام) 24
ضبط الحاكم / الحاكم و ردّ الهدايا 28
الدنيا والاقتصار على الضرورة 31
للحاكم ما يكفيه ليومه 34
شبعة الكافل 35
حرمة الاحتكار 36
كشف حقيقة الحكام 39
علي (عليه السلام) هو الزاهد 40
الزهد ومصاديقه 48
الرغبة في الدنيا 54
ص: 403
الزهد ملكة نفسانية 55
الصادق بقول مطلق 59
من هم الصادقون؟ 63
مسائل في الصدق 65
الخلافة للصادقين 68
القائد وحرمة الكذب 70
القائد والتحلي بالصدق 73
مسائل في الاستشهاد بالآية 76
معنى «أخذناهم» غيبياً ومادياً 77
الجزاء من سنخ العمل 83
عدل الله تعالى 86
أدوات التنبيه والتحضيض 90
عجائب الدهر 94
العجائب وحكمة الخالق 96
الاعتبار من العجائب 98
قرائن العدول عن الظاهر 100
التعجب من المنكر 103
العَجَب المكروه 104
فضح المبطلين 107
ليت شعري 111
عماد القوم 113
لا عروة للقوم 114
الذرية الطاهرة 117
احترام الذرية النبوية 120
من آذى الذرية الطاهرة \ الإيذاء الأشد حرمة 125
حرمة الاستيلاء على الذرية الطاهرة 127
ص: 404
مولى الظالمين وعشيرهم 130
من هو المولى؟ 133
عشير السوء 137
الاضطرار في سوء العشير 140
فرض مولى السوء 142
مصادر الضلالة 142
القيادة والأجواء الصحيحة 145
القيادة الفاسدة والأعوان الفساق
\ معاني المولى والعشير 149
من هم الظالمون؟ 154
قاعدة 156
تقديم المفضول 160
إفهام الناس \ قيادة الكفاءات 169
معنى الذنابى 171
استبدال العجز بالكاهل 173
الشؤون العامة والقيادة الكفوءة 175
استعمال كلمة (رغماً) 177
استهداف الباطل 178
ما فعله القوم من الظلم 180
معنى الرغم والمعاطس 189
شمول الذل 190
رغم المعاطس والخلود في النار 191
رغم المعاطس ما دامت الدنيا 192
هم المفسدون 193
شمولية فسادهم 194
الاقتباس من القرآن 196
أسلوب الربط التاريخي 200
ص: 405
توبيخ الظالم وزجره 204
القائد والهداية إلى الحق 209
لا طاعة مطلقة لغير المعصوم 213
من لا يهدّي لا يتبع 215
اتباع المهتدي طريقي وموضوعي 217
الحلف ب (لعمري) 222
حرمة الشك والتشكيك في كلام الصديقة 225
الأثر الوضعي وأنواعه 227
شمولية الأثر الوضعي 228
الآثار الطولية للأعمال 229
وجوب تحذير الظالم 234
الإمهال وليس الإهمال 238
تغيير المستقبل 239
إنذار القوم 245
من آثار الخذلان 246
شمولية احتلاب الدم فرداً وزمناً 247
وعلى مر التاريخ 248
تبديل نعمة الله 250
تجدد البلاء والمحن 254
إعلام العالم بالحق 257
تغيير منهج الله 259
سم الأجساد وسم الأرواح 261
الدفاع عن العترة الطاهرة 270
حرمة ما يبيد الإنسان 270
خسارة المبطلين ثبوتاً وإثباتاً 271
المبطل الخاسر 274
ص: 406
التاريخ وفضح الظلم والظالمين 278
معرفة تاريخ الأمم 279
الكتابة الواعية 280
الغرور بظاهر الدنيا 282
اطمئنان النفس بالفتنة 287
مستقبل الأمة بعد الرسول 289
إنذار الظالم 291
لا تسكت عن الظالم 294
الضغط والقهر المشروع وغيره 296
الحكم الإسلامي قبل الظهور 301
خلافة الأئمة الطاهرين 302
روايات في الفقر 305
هل الظلم ينافي الرحمة الإلهية؟ 306
لماذا لا يستجاب الدعاء؟ 312
مسائل عن الهرج والمرج 316
حرمة ما يوجب الهرج 318
الهرج من الكبائر 320
شمولية الهرج والمرج 322
الاستبداد من أعظم المحرمات 327
النسبة بين الظالم والمستبد 329
الاستبداد والاقتصاد 330
مما يحرم على الحكام 333
المقاومة السلمية 336
من قُتل دون الفيء 337
حرمة تحطيم الاقتصاد 338
تنويع مصادر الدخل 339
ص: 407
استحباب التحسر على الأمة 341
من طرق الهداية 345
التحسر على المؤمنين 347
إضلال النفس والغير 349
قدرتهم (عليهم السلام) على الإجبار والإكراه 354
الحرية الأصل 357
دور النساء 359
النقل بالمضمون 360
بين الرجال والنساء 362
الاعتذار عن ترك الواجب 367
روايات في الاعتذار 368
سيدة نساء العالمين 371
مريم سيدة نساء عالمها 374
الاستمرار على الباطل 377
نقض بيعة الظالم 384
طرد القوم ولوازمه 386
من يشاققها 386
الوقوف أمام الظالم وصحبه 387
طرد الظالم 390
إعراضها عن القوم 392
من التعذير الباطل 393
مسائل في التقصير 396
الأمر بالمعروف وشرط التأثير 399
كشف حقيقة القوم 401
الفهرس 403
ص: 408