الفقه موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي من فقه الزهراء (علیها السلام)
المجلد الرابع : خطبتها علیها السلام في المسجد 3
المرجع الديني الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته)
ص: 1
الطبعة الأولى
1439 ه 2018م
تهميش وتعليق:
مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر
كربلاء المقدسة
ص: 2
الفقه
من فقه الزهراء (علیها السلام)
المجلد الرابع
خطبتها علیها السلام في المسجد
القسم الثالث
ص: 3
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الصِّدِيقَةُ الشَّهِيدَةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الرَّضِيَةُ المَرْضِيَّةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الفَاضِلةُ الزَّكِيَةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الحَوْراءُ الإِنْسِيَّةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُحَدَّثَةُ العَليمَةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المَظْلومَةُ المَغْصُوبَةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُضْطَهَدَةُ المَقْهُورَةُ
السَّلامُ عَليْكِ يا فاطِمَةُ بِنْتَ رَسُول اللهِ
وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ
البلد الأمين ص278. مصباح المتهجد ص711
بحار الأنوار ج97 ص195 ب12 ح5 ط بيروت
ص: 4
الصلاة علی الصدیقة فاطمة الزهراء (علیها السلام)
اللّٰهُمَّ صَلِّ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَصَلِّ عَلَى الْبَتُولِ الطَّاهِرَةِ الصِّدِّيقَةِ الْمَعْصُومَةِ التَّقِيَّةِ النَّقِيَّةِ الرَّضِيَّةِ الْمَرْضِيَّةِ الزَّكِيَّةِ الرَّشِيدَةِ الْمَظْلُومَةِ الْمَقْهُورَةِ، الْمَغْصُوبَةِ حَقُّها، الْمَمْنُوعَةِ إِرْثُها، الْمَكْسُورَةِ ضِلْعُهَا، الْمَظْلُومِ بَعْلُهَا، الْمَقْتُولِ وَلَدُها، فاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِكَ، وَبَضْعَةِ لَحْمِهِ؛ وَصَمِيمِ قَلْبِهِ، وَفِلْذَةِ كَبِدِهِ، وَالنُّخْبَةِ مِنْكَ لَهُ، وَالتُّحْفَةِ خَصَصْتَ بِها وَصِيَّهُ، وَحَبِيبَةِ الْمُصْطَفىٰ، وَقَرِينَةِ الْمُرْتَضىٰ، وَسَيِّدَةِ النِّساءِ، وَمُبَشِّرَةِ الْأَوْلِياءِ، حَلِيفَةِ الْوَرَعِ وَالزُّهْدِ، وَتُفَّاحَةِ الْفِرْدَوْسِ وَالْخُلْدِ الَّتِي شَرَّفْتَ مَوْلِدَها بِنِساءِ الْجَنَّةِ، وَسَلَلْتَ مِنْها أَنْوارَ الْأَئِمَّةِ، وَأَرْخَيْتَ دُونَها حِجابَ النُّبُوَّةِ . اللّٰهُمَّ صَلِّ عَلَيْها صَلاةً تَزِيدُ فِي مَحَلِّها عِنْدَكَ، وَشَرَفِها لَدَيْكَ، وَمَنْزِلَتِها مِنْ رِضَاكَ، وَبَلِّغْها مِنَّا تَحِيَّةً وَسَلاماً، وَآتِنَا مِنْ لَدُنْكَ فِي حُبِّها فَضْلاً وَ إِحْسَاناً وَرَحْمَةً وَغُفْراناً إِنَّكَ ذُو الْعَفْوِ الْكَرِيمِ.
بحارالأنوار : ج 97 ص 200 ط بیروت
ص: 5
ص: 6
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
تنبع عظمة الصديقة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) من تلك الخصائص النادرة التي حباها الله بها فميزها عن غيرها، فكانت بحق سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين.
مضافاً إلى كونها وريثة سيد المرسلين وزوجة أمير المؤمنين وأم الشبلين الحسن والحسين (صلوات الله عليهم أجمعين)، فقد ورثت من أبيها البلاغة والفصاحة، ومن زوجها الجهاد والشجاعة.
وقد نهضت بالأمر يوم رأت إلى الحقلا يُعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه، على ما ورد بها من علل وأسقام افترستها بعد وفاة أبيها رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فأعلنتها صرخة مدوية في المسجد، صكت بها أسماع القوم لما غصبوا حق أمير المؤمنين (علیه السلام) في الخلافة ومنعوها نحلة أبيها وبلغة بنيها، فكشفت بذلك عن
ص: 7
سرائر النفوس وما انطوت عليه وما أضمرت، وكأنها تفرغ عن منطق أبيها (سلام الله عليها).
وهكذا فقد أغمض حق الزهراء (علیها السلام) جهاراً بحجة واهية وحديث مختلق (نحن معاشر الأنبياء لا نورث وما تركناه صدقة) ورد شهادة من شهد لها رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالجنة وكذلك شهادة زوجها وبنيها (علیهم السلام)، مضافاً إلى ما صنعوا بها من الضرب واللطم وكسر الضلع وإسقاط الجنين، و... فيا لله وما تأمر به النفس الأمارة.
ولكن أنى للحق أن يموت ما دام وراءه مطالب، فقد عرفت الأجيال أن الحق كان مع الزهراء (سلام الله عليها) وصدق دعواها وهي الصديقة الصادقة كما عرفوا أحقية أمير المؤمنين علي (علیه السلام) بالخلافة.
وهذا الكتاب، مضافاً إلى كونه شرحاً قيماً على تلك الخطبة المباركة التي ألقتها فاطمة الزهراء (علیها السلام)في المسجد، يمتاز بالصبغة الفقهية، فإن سماحة الإمام الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله مقامه) استنبط من تلك الخطبة الشريفة المئات من المسائل الشرعية الفقهية، فكان أول من كتب - بتوفيق من الله - في فقه الزهراء (سلام الله عليها) حيث ألف سبعة مجلدات بدءً من حديث الكساء ثم الخطبة الشريفة في المسجد ثم خطبتها في البيت، إلى الأحاديث المروية عنها (صلوات الله عليها)، وقد بلغ مجموع ما استنبطه من فقهها (عليها السلام) أكثر من ألفي مسألة.
ويعد هذه الاستنباطات من تلك المبتكرات العلمية التي يسجلها التاريخ باسمه الشريف.
وقد قال أحد كبار العلماء في قم المقدسة: إن السيد الشيرازي لو لم يكن له سوى (من فقه الزهراء (علیها السلام)) لكفاه فخراً.
ص: 8
كما رؤي الإمام الشيرازي (رحمة الله) في المنام(1) جالساً ومؤلفاته إلى جانبه، وكان فوق رأسه عدد من كتبه المختارة وكان النور ساطعاً من تلكالكتب على السيد الراحل، وبعد الدقة لوحظ أن تلك الكتب التي يسطع منها النور هي (من فقه الزهراء (علیها السلام)).
نعم كان الإمام الراحل من جملة العلماء الذين انبروا للدفاع عن ولاية أهل البيت وعن جدته الزهراء (علیها السلام) وظل هكذا إلى آخر حياته حيث أسلم روحه الطاهرة ليلة عبد الفطر من عام 1422ه- وهو يكتب كتاباً عن سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين.
إن مؤسسة المجتبى تتشرف بإصدار هذا الجزء في الذكرى السنوية الأولى لرحيل الإمام الشيرازي (رضوان الله عليه) سائلة المولى أن ينفع به كما نفع بغيره وأن يمنّ على سماحة الإمام المؤلف بالمغفرة والرضوان وعلو الدرجات وأن يحشره مع جدته الزهراء (سلام الله عليها)، والحمد لله أولاً وأخراً.
مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر
بيروت لبنان ص ب 5955 / 13 شوران
ص: 9
ص: 10
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.
أما بعد: فهذا الجزء الرابع من كتاب (من فقه الزهراء) صلوات الله وسلامه عليها، أسأل الله عزوجل التوفيق والقبول، إنه ولي ذلك.
قم المقدسة
محمد الشيرازي
ص: 11
ص: 12
-------------------------------------------
مسألة: قد يُتساءل أن فاطمة الزهراء (علیها السلام) لماذا استنصرت القوم مع علمها بعدم النصرة؟
والجواب: إن (الاستنصار) هنا راجح وقد يكون واجباً حتى مع اليأس من النصرة، إذ لا ينحصر الغرض منه في النصرة بل منه إتمام الحجة، قال تعالى: «لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل»(1).
ومنه: إرشاد الجاهل وتنبيه الغافل في ذلك الزمن وللأجيال الآتية.
ومنه: الردع عن الظلم الأكثر، إلى غيرها.
ومن هنا استنصر أمير المؤمنين (علیه السلام) في أمر الخلافة، فلما لم يجد ناصراً صبر كما وصاه رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ففي الحديث عن أمير المؤمنين (علیه السلام) حينما سئل: فما منعك يا بن أبي طالب حين بويع فلان وفلان أن تضرب بسيفك؟
وقال آخر: يا أمير المؤمنين لم لمتضرب بسيفك وتأخذ بحقك وأنت لم تخطب خطبة إلا وقلت فيها: «إني لأولى الناس بالناس ولا زلت مظلوماً منذ قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله)» فما منعك أن تضرب بسيفك دون مظلمتك؟
قال علي (علیه السلام): «اسمع يا فلان، فإنه لم يمنعني من ذلك الجبر ولا كراهية الباري تعالى(2) وإني لأعلم أن ما عند الله تبارك وتعالى خير لي من الدنيا
ص: 13
..............................
والبقاء فيها، ولكن يمنعني من ذلك أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونهيه إياي وعهده إليّ، فقد أخبرني رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما الأمة صانعة بعده ولم أكن حين عاينته أعلم به ولا أشد استيقاناً به مني قبل ذلك، بل أنا بقول رسول الله (صلی الله علیه و آله) أشد يقيناً مني بما عاينته وشهدته، فقلت: يا رسول الله وما تعهد إليّ إذا كان ذلك، فقال (صلی الله علیه و آله): إن وجدت أعواناً فانتدب إليهم وجاهدهم، وإن لم تجد أعواناً فكف يدك وأحقن دمك حتى تجد على إقامة كتاب الله وسنتي أعواناً،وأخبرني أنه سيخذلني الناس ويبايعون غيري وأخبرني أني منه بمنزلة هارون من موسى، وأن الأمة من بعدي سيصيرون بمنزلة هارون ومن تبعه والعجل ومن تبعه، إذ قال له: «يا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاَ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي» (1).
يعني إن موسى (علیه السلام) أمره حين استخلفه عليهم إن ضلوا فوجدت أعواناً عليهم فجاهدهم وإن لم تجد أعواناً فكف يدك واحقن دمك ولا تفرق بينهم، وإني خشيت أن يقول ذلك أخي رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويقول: لم فرقت بين الأمة ولم ترقب قولي وقد عهدت إليك إن لم تجد أعواناً أن تكف يدك وتحقن دمك ودماء أهل بيتك وشيعتك.
فلما قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) مال الناس إلى أبي بكر فبايعوه واستنصرتُ الناس فلم ينصروني غير أربعة: سلمان وأبوذر والمقداد والزبير بن العوام،
ص: 14
..............................
ولم يكن أحد من أهل بيتي أصول به وأتقوى به، أما حمزة فقتل يوم أحد، وأما جعفر قتل يوم موتة...» الحديث(1) .
ومن هذا الباب أيضا كان استنصار فاطمة الزهراء (علیها السلام).
مسألة: نصرة المظلوم واجب عقلي، فلا ينحصر وجوب الانتصار له في المسلم أو المؤمن، بل يجب على كل إنسان ذلك بحكم العقل والفطرة والوجدان.
وأما توجيهها (علیها السلام) الخطاب للمسلمين فلأنهم المخاطبون بالدرجة الأولى، ولتحملهم ضعفي(2)المسؤولية، سواء في قضية فدك أو غصب حق
ص: 15
ص: 16
..............................
الإمام (علیه السلام) في الخلافة، أو الاعتداء على الإمام (علیه السلام) أو عليها (علیها السلام) بالضرب وعلى دارها بالإحراق أو غير ذلك من كسر الضلع وإسقاط الجنين.
ومن ذلك يتضح أن الحكام من بني أمية وبني العباس والعثمانيين كلهم شركاء في استمرار هذه المظالم حيث كان بمقدورهم رد فدك وإرجاع الخلافة لأهلها. ومن ذلك يتضح أيضاً أن الدول المعاصرة والأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان أيضاً مسؤولة عن إرجاع فدك لأحفادها (صلوات الله عليها) إذ الحق لا يبطل بالتقادم وهذه ظلامة كبرى على مر التاريخ.
قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «أحسن العدل نصرة المظلوم»(1).
وعن البراء بن عازب قال: (أمرنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) بسبع ونهاها عن سبع، أمرنا بعيادة المريض،واتباع الجنائز، وإفشاء السلام، وإجابة الداعي، وتسميت العاطس، ونصرة المظلوم، وبر القسم...) الحديث(2).
ص: 17
..............................
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لرجل أتاه: ألا أدلك على أمر يدخلك الله به الجنة؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: أنل مما أنالك
الله، قال: فإن كنت أحوج ممن أنيله، قال: فانصر المظلوم..»(1).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «من لم ينصف المظلوم من الظالم عظمت آثامه»(2).
وقال (علیه السلام): «من لم ينصف المظلوم من الظالم سلبه الله قدرته»(3).وقال (علیه السلام): «لا ينتصر المظلوم بلا ناصر»(4).
ص: 18
-------------------------------------------
قولها (علیها السلام): (أاُغلب على إرثيه) ورد في مقام التعجب المضمّن معنى الاستنكار، أي كيف اُمنع من إرث أبي على خلاف كتاب الله؟!
والهاء للسكت، أي أنها علامة السكوت في آخر الكلام، والتي تلحق لبيان حركة أو حرف، ولذا يسكت بها في الوقف دون الوصل، وإن قرئ بإثباتها في الوصل أيضاً، مثل قوله سبحانه وتعالى: «فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَه * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ»(1).
أو إشارة إلى قطع الاستمرار في الكلام إلى هنا، وذلك لتلهف المتكلم بما لايتمكن من بيانه بالكلام، أو بما لا يسمح له المقام به، فأريد بذلك نحو من انطباق الكلام مع الواقع، كمافي قوله عزوجل: «ذلك ما كنا نبغ»(2) بحذف الياء حيث أريد حكايتها (3) للكلام، فإنه من شدة الشوق لم يتكلم بتمام الكلام، كما أن من الوارد أحياناً أن لا يتم الكلام لشدة الخوف أو الحزن أو غير ذلك من الحالات النفسية الطارئة.
ص: 19
..............................
وفي المقام قد يكون وقفها (علیها السلام) على (إرثيه) لغلبة الآلام عليها مما لاقته من القوم، كما يتوقف المتكلم عند انقطاع نفسه - لإرهاق أو تحرك زائد أو غير ذلك - إذ أنها (صلوات الله عليها) جاءت إلى المسجد متحاملة على نفسها، تعاني من جراحها وكسر ضلعها وسقط جنينها، وتتجلد رغم آلامها، فلعن الله ظالميها وغاصبي حقوقها وعذبهم عذاباً أليماً.
فقد روي: «أنها (علیها السلام) ما زالت بعد أبيها معصبة الرأس، ناحلة الجسم، منهدة الركن، باكية العين، محترقة القلب، يغشى عليها ساعة بعدساعة»(1).
ولعل المراد بالإرث هنا: الأعم من النحلة والإرث المصطلح، وقد سبق أن فدك كانت نحلة نحلها رسول الله (صلی الله علیه و آله) للزهراء(علیها السلام) في حياته، كما هو ثابت في التواريخ، وكما استدلت هي أيضاً بذلك في موطن آخر.
وأما إذا أريد بالإرث: خصوص الإرث بالمعنى المشهور، فهو - كما سبق - من باب التسليم لإثبات الحق بما يعترف به الخصم، فان الإنسان إن كان محقاً ولا يصل إلى حقه إلا بالطريق الذي يُلزم الخصم، أي بما يراه الخصم صحيحاً وإن كان الصحيح عنده غيره، صح سلوك ذلك الطريق، وهذا قد يكون من مصاديق «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم»(2) ومن باب
ص: 20
..............................
(إن سلمنا) كما في كلمات العلماء، ومثل قول النبي إبراهيم (علیه السلام) «هذا ربي»، قال تعالى: «فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي»(1).
قال الإمام الرضا (علیه السلام): «إن إبراهيم (علیه السلام) وقع على ثلاثة أصناف، صنف يعبد الزهرة وصنف يعبد القمر وصنف يعبد الشمس، وذلك حين خرج من السرب الذي أخفى فيه، «فلما جن عليه الليل رأى» الزهرة قال: «هذا ربي» على الإنكار والاستخبار.. «فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي»(2) على الإنكار والاستخبار... «فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر»(3) من الزهرة والقمر على الإنكار والاستخبار لا على سبيل الإخبار والإقرار» (4).
قولها (علیها السلام) قبل ذلك:«بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية». الضاحية بمعنى:الظاهرة البيّنة،لأن في وقت الضحى تكون الشمس أظهر شيء، والضحى وقت بين الصبح والظهر حين تقترب الشمس من نصف النهار.
وقولها (علیها السلام): «أني ابنته» فإنها (صلوات الله عليها) ذكرت انطباق الكبرى الكلية للإرث على الصغرى الشخصية والتي هي عبارة عن: أنها ابنة رسول الله(صلی الله علیه و آله).
ص: 21
-------------------------------------------
مسألة: توجيهها (علیها السلام) الخطاب لابن أبي قحافة مباشرة يفيد رجحان أو وجوب التوجه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نحو العقل المخطط والعامل الأول والسبب الرئيسي في الظلم، ومحاولة ردعه مباشرة، فإنه المعني بالأمر والنهي أولاً وبالذات.
قال تعالى: «اذهبا إلى فرعون إنه طغى»(1).
وقال الإمام الحسين (علیه السلام): «نحن أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة، ويزيد فاسق شارب الخمر وقاتل النفس، ومثلي لا يبايع لمثله ولكن نصبح وتصبحون أينا أحق بالخلافة والبيعة»(2).
ويرفع اليد عن هذا فيما لو كان التوجه لغيره أجدى وأنفع، أو كان التوجه له ذا خطر مرفوع بقاعدة (لاضرر) أو ما أشبه، فإنه حينئذ يرفع اليد عن التوجه للعامل الأساسي إلا إذا كان له - رغم الخطر - مصلحة ملزمة أكبر أو أهم.
والمصلحة والمفسدة تلاحظ بالقياس إلى الشخص الآمر وإلى أتباعه وإلى لوازم الأمر والنهي وإلى الآثار المستقبلية على الأجيال القادمة، وبالقياس إلى نوع المأمور به والمنهي عنه، وإلى المصالح العليا والعامة وما أشبه.
ص: 22
..............................
وذلك كله يعرف من الشرع ومن الذين عدهم الشرع مرجعاً في الحوادث الواقعة، فلو أراد ظالم غصب مال شخصٍ فإن نهيه عن المنكر واجب لو لم يستلزم ضرر الناهي بما لا يجوز تحمله كالقتل مثلاً.
لكن لو استلزم ذلك سجن الناهي لشهر مثلاً فهل يجب النهي عندئذ؟
المرجع في بعض الصغريات إلى الفقهاء، وفي بعضها إلى أهل الخبرة، وفي بعضها إليهما معاً، وفي بعضها إلى العرف، وفي بعضها إلى الشخص نفسه على تفصيل ذكرناه في الفقه.
وفي المقام كان فضح الظلم والعدوان في أقصى درجات الأهمية، لذلك وجهت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(علیها السلام) الخطاب للأول مباشرة، ولم يكن ليحل محله توجيه الخطاب لشخص آخر ابتداءً، فالخطر في مثل هذا الموقف كان مما لا يلغي وجوب الاقتحام، إضافة إلى أنه قد يقال بأنهم كانوا يتخوفون من إيذائها (علیها السلام) أكثر مما سبق منهم من الإيذاء العظيم، خوفاً من ردود الفعل الجماهيرية أو مزيد من فقدان الشرعية وإن آذوها (علیها السلام) قبل ذلك بضربها ولطمها وكسر ضلعها وإسقاط جنينها وغيرها، لأن خطبتها الفدكية كانت بعد قصة الدار، كما يظهر من التواريخ.
ص: 23
-------------------------------------------
مسألة: ينبغي أن يتطبع الإنسان - إن لم يكن طبعاً له - على الاستدلال المنطقي المعقول، خاصة على الخصم، أي «بالحكمة والموعظة الحسنة»(1) والمجادلة «بالتي هي أحسن»(2). وهذا ما يشاهد بوضوح في احتجاجات رسول الله (صلی الله علیه و آله) والأئمة الطاهرين (علیهم السلام)(3).
وقد يجب مثل هذا الأسلوب حسب المتعلق، فإذا كان المتعلق واجباً وجب، وإذا كان المتعلق مستحباً استحب.
وليس المراد بالمنطقي: البرهان فقط، بل يشمل الصناعات الخمس التي ذكرها المنطقيون في المنطق، فإن من الشعر والخطابة والجدل ما يكون في مورده استدلالاً منطقياً بالمعنى الأعم أيضاً.
قال الله تبارك وتعالى في كتابهمخاطبا لنبيه (صلی الله علیه و آله): «وجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»(4).
وقال عز من قائل: «ولا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»(5).
ص: 24
..............................
وقال الله تعالى: «ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ» الآية(1).
وقال تعالى حكاية عن إبراهيم (علیه السلام) أيضا لما احتج على عبدة الكوكب المعروف بالزهرة وعبدة الشمس والقمر جميعا بزوالها وانتقالها وطلوعها وأفولها وعلى حدوثها وإثبات محدث لها وفاطر إياها: «وكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ ولِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» إلى قوله تعالى «وتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ»(2) وغير ذلك من الآيات التي فيها الأمر بالاحتجاج.
وروي عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: «نحن المجادلون في دين اللهعلى لسان سبعين نبيا»(3).
كما ورد العديد من الروايات في بيان فضل مجادلة أهل الباطل والدفاع عن الحق، فعن أبي محمد الحسن بن علي العسكري (علیه السلام) قال: قال الحسن بن علي (علیه السلام): «فضل كافل يتيم آل محمد (علیه السلام) المنقطع عن مواليه الناشب في رتبة الجهل يخرجه من جهله ويوضح له ما اشتبه عليه على فضل كافل يتيم يطعمه ويسقيه كفضل الشمس على السها»(4).
وقال جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام): «علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته، يمنعوهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا، وعن أن
ص: 25
.............................
يتسلط عليهم إبليس وشيعته والنواصب، ألا فمن انتصب لذلك من شيعتنا كان أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرة، لأنه يدفع عن أديانمحبينا وذلك يدفع عن أبدانهم»(1).
وقال موسى بن جعفر (علیه السلام): «فقيه واحد ينقذ يتيما واحداً من أيتامنا المنقطعين عنا وعن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه أشد على إبليس من ألف عابد، لأن العابد همه ذات نفسه فقط، وهذا همه مع ذات نفسه ذوات عباد الله وإمائه ينقذهم من يد إبليس ومردته فلذلك هو أفضل عند الله من ألف ألف عابد وألف ألف عابدة»(2).
وقال علي بن محمد (علیه السلام): «لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم (علیه السلام) من العلماء الداعين إليه والدالين عليه والذابين عن دينه بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته ومن فخاخ النواصب لما بقي أحد إلا ارتد عن دين الله ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها أولئك هم الأفضلون عند الله عزوجل»(3).
وقال أبو محمد الحسن بن عليالعسكري (علیه السلام): قال علي بن أبي طالب (علیه السلام): «من قوى مسكينا في دينه ضعيفا في معرفته على ناصب مخالف فأفحمه، لقنه الله تعالى يوم يدلى في قبره أن يقول: الله ربي، ومحمد نبيي، وعلي وليي، والكعبة قبلتي، والقرآن بهجتي وعدتي، والمؤمنون إخواني، فيقول الله: أدليت
ص: 26
.............................
بالحجة فوجبت لك أعالي درجات الجنة، فعند ذلك يتحول عليه قبره أنزه رياض الجنة»(1).
وقال أبو محمد (علیه السلام) قالت فاطمة (علیها السلام) وقد اختصم إليها امرأتان فتنازعتا في شيء من أمر الدين، إحداهما معاندة والأخرى مؤمنة، ففتحت على المؤمنة حجتها فاستظهرت على المعاندة ففرحت فرحا شديدا، فقالت فاطمة (علیها السلام): إن فرح الملائكة باستظهارك عليها أشد من فرحك، وإن حزن الشيطان ومردته بحزنها عنك أشد من حزنها، وإن الله عزوجل قال للملائكة: أوجبوا لفاطمة بما فتحت على هذه المسكينة الأسيرة من الجنان ألفألف ضعف مما كنت أعددت لها، واجعلوا هذه سنّة في كل من يفتح على أسير مسكين فيغلب معاندا مثل ألف ألف ما كان له معدا من الجنان»(2).
وقال أبو محمد العسكري (علیه السلام) لبعض تلامذته لما اجتمع قوم من الموالي والمحبين لآل رسول الله (صلی الله علیه و آله) بحضرته، وقالوا: يا ابن رسول الله، إن لنا جارا من النصاب يؤذينا ويحتج علينا في تفضيل الأول والثاني والثالث على أمير المؤمنين(علیه السلام) ويورد علينا حججا لا ندري كيف الجواب عنها والخروج منها، قال: «مر بهؤلاء إذا كانوا مجتمعين يتكلمون فتسمع عليهم فيستدعون منك الكلام فتكلم وأفحم صاحبهم واكسر غرته وفل حده ولا تبق له باقية».
فذهب الرجل وحضر الموضع، وحضروا وكلم الرجل فأفحمه وصيره
ص: 27
.............................
لايدري في السماء هو أو في الأرض.
قالوا: فوقع علينا من الفرحوالسرور ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وعلى الرجل والمتعصبين له من الحزن والغم مثل ما لحقنا من السرور، فلما رجعنا إلى الإمام (علیه السلام) قال لنا: «إن الذي في السماوات من الفرح والطرب بكسر هذا العدو لله كان أكثر مما كان بحضرتكم، والذي كان بحضرة إبليس وعتاة مردته من الشياطين من الحزن والغم أشد مما كان بحضرتهم ولقد صلى على هذا الكاسر له ملائكة السماء والحجب والكرسي وقابلها الله بالإجابة فأكرم إيابه وعظم ثوابه ولقد لعنت تلك الملائكة عدو الله المكسور وقابلها الله بالإجابة فشدد حسابه وأطال عذابه»(1).
ص: 28
.............................
مسألة: ربما يفهم من كلامها (علیها السلام) أن الأصل الأولي هو المساواة في الحقوق والأحكام بين كافة أفراد المكلفين، ومن المصاديق الرجال والنساء، لذلك احتيج إلى الدليل على التفاوت والتبعيض والتفرقة.
وهذا المستفاد هو مقتضى القاعدة، فإن الأصل - كما ذكرناه في الفقه - هو المساواة بين الرجال والنساء في جميع الأحكام إلا ما خرج بالدليل، وليس أصل المقام مما خرج بالدليل، فكما يرث الرجل ترث المرأة أيضاً وان اختلف المقدار، والتنظير بلحاظ أصل الإرث لا الخصوصية كما هو واضح.
قال سبحانه: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»(1).
وقال تعالى: «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَوَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً»(2).
ص: 29
.............................
وقال عزوجل: «وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا»(1).
وقال سبحانه: «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً»(2).
مسألة: يستفاد من كلامها (علیها السلام) أيضاً: أن المساواة هي الأصل المحكم بين من بيده السلطة ومن لا سلطة له، وأن الحاكم يجب أن يخضع لكتاب الله، فقد قال عزوجل في القرآن الحكيم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَلِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»(3).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الناس كأسنان المشط سواء»(4).
وقال (صلی الله علیه و آله): «المؤمنون كأسنان المشط يتساوون في الحقوق بينهم، ويتفاضلون بأعمالهم»(5).
قولها (علیها السلام): «يا ابن أبي قحافة أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا ارث أبي»
ص: 30
.............................
أي: كيف يمكن التفرقة بين المسلمين حتى أن بعضهم يرث أباه وبعضهم لا يرثه.
ومؤدى كلامها (علیها السلام) أنه هل يوجد في كتاب الله كبرى كلية تقتضي - عند تطبيقها على المصداق - أن ترث أنت أباك، ومخصص لتلك الكبرى(1) أوكبرى أخرى(2) تقتضي عدم إرثي من أبي؟
ص: 31
-------------------------------------------
مسألة: قولها (علیها السلام): «لقد جئت شيئاً فرياً»، شهادة منها (علیها السلام) بارتكاب ابن أبي قحافة كبيرة من أكبر الكبائر وهي الافتراء على الله تعالى.
وشهادتها (صلوات الله عليها) حجة بلا شك، وذلك من جهات عديدة، منها: أنها (علیها السلام) من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا(1)، فإن اتهام الآخرين بما لم يفعلوه رجس ومناف للتطهير، وفي الحديث الشريف: «من شهد شهادة زور على أحد من الناس علق بلسانه مع المنافقين في الدرك الأسفل من النار»(2)، فشهادتها (علیها السلام) صادقة بدليل الكتاب الحكيم.
كما أن تعبيرها (علیها السلام) ب(لقد جئت) و(فرياً) دليل على أنه كان عالماً عامداً بمعصيته، إذ ظاهر إطلاق (الفرية) هو ذلك، كما أن ظاهر (جئت) باعتباره فعلاً مسنداً للفاعل هو القصد والاختيار.
ص: 32
.............................
مسألة: من المحرم عدم الاعتناء بشهادة المعصوم (علیه السلام) أو عدم قبولها، ولو رجع ذلك إلى إنكار الرسالة كان كفراً.
ومن البديهي أن الرسول (صلی الله علیه و آله) إذا اعتبر شهادة (خزيمة بن ثابت) بمنزلة شهادتين وسماه ذا الشهادتين في قصة مشهورة(1)، فإن شهادة بضعته (صلی الله علیه و آله) التي قال عنها: (إنَّ الله تعالى يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها)(2)، وهي (علیها السلام) من آية التطهير(3)، أقوى وأتم وأحرى بالقبول، فإن الإعراب عن شهادتها اغضاب لها ولله عزوجل بنص الحديث، ولا يعقل أن يغضب الله تعالى لباطل، بالإضافة إلى أنه تكذيب لقوله عزوجل في آية التطهير كما لا يخفى.
وفي الكافي عن معاوية بن وهب قال:كان البلاط حيث يصلى على الجنائز سوقا على عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) يسمى البطحاء يباع فيها الحليب والسمن والأقط وإن أعرابيا أتى بفرس له فأوثقه فاشتراه منه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم دخل ليأتيه بالثمن، فقام ناس من المنافقين فقالوا: بكم بعت فرسك؟
قال: بكذا وكذا.
قالوا: بئس ما بعت، فرسك خير من ذلك.
ص: 33
.............................
وإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) خرج إليه بالثمن وافيا طيبا، فقال الأعرابي: ما بعتك والله.
فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): سبحان الله، بلى والله لقد بعتني.
وارتفعت الأصوات فقال الناس: رسول الله يقاول الأعرابي، فاجتمع ناس كثير فقال أبو عبد الله (علیه السلام): ومع النبي (صلی الله علیه و آله) أصحابه إذ أقبل خزيمة بن ثابت الأنصاري، ففرج الناس بيده حتى انتهى إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: أشهد يا رسول الله لقد اشتريته منه.
فقال الأعرابي: أتشهد ولم تحضرنا؟وقال له النبي (صلی الله علیه و آله): أشهدتنا؟
فقال له: لا يا رسول الله ولكني علمت أنك قد اشتريت، أفأصدقك بما جئت به من عند الله ولا أصدقك على هذا الأعرابي الخبيث. قال فعجب له رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: يا خزيمة شهادتك شهادة رجلين»(1).
ص: 34
.............................
حرمة الافتراء والكذب مطلقا(1)
مسألة: يحرم الافتراء على الله والقرآن، بل مطلق الكذب، فقد قال سبحانه: «إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون»(2).
وقال تعالى: «فَمَنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ»(3).
وقال سبحانه: «انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً»(4).
وقال عزوجل: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ»(5).
وإذا اجتمع لفظ الافتراء والكذب كان معنى الافتراء: القطع، كما يقطع اللحم، فكأنه يقطع عرى الإيمان أويقطع حبل المودة أو «يقطعون ما أمر الله به أن يوصل»(6) أو بلحاظ الاقتطاع من شخصية المفترى عليه، فكما أن
ص: 35
.............................
السكين تقطع لحمه مادياً كذلك الفرية سكين تقطع شخصيته المعنوية.
قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «هلك من ادعى وخاب من افترى»(1).
وفي زيارة أمير المؤمنين (علیه السلام): «ولعن الله من افترى عليك»(2).
وقال أبو جعفر(علیه السلام): «يا أبا النعمان لا تكذب علينا كذبة فتسلب الحنيفية، ولا تطلبن أن تكون رأسا فتكون ذنبا، ولا تستأكل الناس بنا فتفتقر، فإنك موقوف لا محالة ومسئول فإن صدقت صدقناك وإن كذبت كذبناك»(3).
وعن أبي جعفر(علیه السلام) قال: «إن الكذب هو خراب الإيمان»(4).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال:«إن الكذاب يهلك بالبينات ويهلك أتباعه بالشبهات»(5).
وفي الحديث: «ذكر الحائك لأبي عبد الله (علیه السلام) أنه ملعون، فقال: إنما ذلك الذي يحوك الكذب على الله وعلى رسوله (صلی الله علیه و آله)»(6).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ولا سوأة أسوأ من الكذب»(7).
وقال(صلی الله علیه و آله): «إياكم و الكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور و الفجور يهدي إلى النار»(8).
ص: 36
وعن عبد الله بن مسعود عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «أربع من كن فيه فهو منافق، وإن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر»(1).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «الكذب على الله وعلى رسوله (صلی الله علیهو آله) من الكبائر»(2).
وعن الإمام الرضا (علیه السلام) قال: «سئل رسول الله (صلی الله علیه و آله) يكون المؤمن جبانا؟ قال: نعم، قيل: ويكون بخيلا، قال: نعم، قيل: ويكون كذابا، قال: لا»(3).
وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «أربى الربا الكذب»(4).
وقال رجل للنبي (صلی الله علیه و آله): المؤمن يزني؟
قال(صلی الله علیه و آله): «قد يكون ذلك».
قال: المؤمن يسرق؟
قال (صلی الله علیه و آله): «قد يكون ذلك».
قال: يا رسول الله المؤمن يكذب؟
قال: «لا، قال الله تعالى:
«إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لايُؤْمِنُونَ»(5)»(6).
ص: 37
.............................
مسألة: يستحب أو يجب إعلام الناس بأن الذي سُمي بالخليفة! قد خالف كتاب الله وجاء بشيء فري (افتراء وكذب)، كما صرحت (سلام الله عليها) بذلك، فإنه قد يستحب بيان ذلك وقد يجب، كل في محله، حسب القوانين العامة الأولية.
قولها (علیها السلام): (لقد جئت شيئاً فرياً)، أي: أمراً عظيماً منكراً، ولعله اقتباس من قوله سبحانه حيث حكى قصة قوم عيسى (علیه السلام) لمريم (علیها السلام): «لقد جئت شيئاً فرياً»(1).
ص: 38
-------------------------------------------
مسألة: إن ترك القوم لكتاب الله ونبذه وراء ظهورهم كان عن عمد وعلم وينبغي بيان ذلك، فإن عِدل الاستفهام في قولها (علیها السلام): (أفعلى عمد تركتم) محذوف(1)، لأن المقصود هو أنهم فعلوا ذلك عمداً، فحذف العدل لإفادة أن هذا العدل المذكور هو الواقع وهو المراد والمقصود دون غيره.
ومن البلاغة حذف العِدل، مثل قوله سبحانه وتعالى: «أمن هو قانت آناء الليل»(2)، وما أشبه مما ذكروه في باب الاستفهام(3).
والنبذ وراء الظهر: كناية عن عدم العمل.
وقد وردت روايات في ذم من نسي سورة فكيف بمن ترك العملبالقرآن.
عن الصادق (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) في حديث المناهي: أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «ألا ومن تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله يوم القيامة مغلولا يسلط الله عليه بكل آية منها حية تكون قرينه إلى النار إلا أن يغفر له»(4).
ص: 39
.............................
وروي عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: «من تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله تعالى وهو أجذم»(1).
وعن يعقوب الأحمر قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): جعلت فداك، إني كنت قرأت القرآن ففلت مني فادع الله عزوجل أن يعلمنيه، قال: فكأنه فزع لذلك فقال: «علمك الله هو وإيانا جميعا» قال: ونحن نحو من عشرة ثم قال: «السورة تكون مع الرجل قد قرأها ثم تركها فتأتيه يوم القيامة في أحسن صورة وتسلم عليه، فيقول: من أنت فتقول أناسورة كذا وكذا فلو أنك تمسكت بي وأخذت بي لأنزلتك هذه الدرجة فعليكم بالقرآن»(2).
وفي رواية أخرى عن يعقوب الأحمر قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): إن عليّ دينا كثيرا وقد دخلني ما كاد القرآن يتفلّت مني، فقال أبو عبد الله (علیه السلام): «القرآن القرآن إن الآية من القرآن والسورة لتجيء يوم القيامة حتى تصعد ألف درجة يعني في الجنة فتقول: لو حفظتني لبلغت بك هاهنا»(3).
وعن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: إن الرجل إذا كان يعلم السورة ثم نسيها أو تركها ودخل الجنة أشرفت عليه من فوق في أحسن صورة فتقول: تعرفني، فيقول: لا، فتقول: أنا سورة كذا وكذا لم تعمل بي وتركتني أما والله لو عملت بي لبلغت بك هذه الدرجة وأشارت بيدها إلى
ص: 40
.............................
فوقها»(1).
وعن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): «من نسي سورة من القرآن مثلت له في صورة حسنة ودرجة رفيعة في الجنة فإذا رآها قال: ما أنت ما أحسنك ليتك لي، فتقول: أما تعرفني، أنا سورة كذا وكذا لو لم تنسني لرفعتك إلى هذا المكان»(2).
مسألة: يستفاد من كلامها (علیها السلام) أن الساكت في المقام تارك لكتاب الله أيضاً، فالذي يسكت عن جور الجائر وظلمه وتخطيه أوامر القرآن ونواهيه، هو من مصاديق التارك للعمل بالكتاب، بل من مصاديق الضارب به عرض الحائط والنابذ له وراء ظهره، وذلك بدليل توجيهها الخطاب للجميع: (أفعلى عمد تركتم) رغم أن الغاصب المباشر كان الخليفة ومن مثله، والأكثر ربما لم يشاركوا بقول أو فعل، بل بمجردالسكوت وعدم الردع.
بل خطابها (علیها السلام) قد يشمل حتى من شارك في النهي عن هذا المنكر قولاً أو عملاً لكنه ليس بالقدر الواجب، إذ النهي القولي والعملي على درجات - شدة وضعفاً - وله زيادة ونقصان كماً.
ص: 41
.............................
قال تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ»(1).
وقال سبحانه: «فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ»(2).
وقال عزوجل: «لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا»(3).
وقال أبو عبد الله (علیه السلام) في حديث: «وليفعل الخير ما استطاع»(4).
وفي عهد أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى محمد بن أبي بكر: «أمره بتقوى الله... وبالإنصاف للمظلوم وبالشدةعلى الظالم»(5).
ص: 42
-------------------------------------------
إذ يقول: «وورث سليمان داود»(1)، وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا، إذ قال: «فهب لي من لدنك ولياً * يرثني ويرث من آل يعقوب»(2) وقال: «وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله»(3)، وقال: «يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين»(4) وقال: «إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين»(5).
مسألة: من مصاديق الحكمة: استخدام أسلوب (تراكم الأدلة) والالتجاء إلى عدد منها بل إلى التكثير منها، كما صنعت (سلام الله عليها)، ولذلك ولغيره فإن من المستحب ذكر عدة أدلة والاستناد إلى آيات مختلفة لإثبات الحق كما ذكرت (علیها السلام) خمساً من الآيات في هذاالمقطع من الخطبة الشريفة.
وذلك لسد ذريعة المبطل.
إذ من الممكن أن يناقش البعض في بعض الأدلة، فإذا كانت هنالك أدلة كثيرة فإنه لا يمكن عادة المناقشة في جميعها، إضافة إلى أن غير المعاند أيضاً قد لايقنعه دليل واحد قناعة تامة فيعضده الدليل الآخر.
ص: 43
.............................
ثم إن تعدد الأدلة نافع من الناحية الكيفية أيضاً بلحاظ كون الإيمان والعلم على المراتب والدرجات كما لا يخفى.
وقد يكون ذلك واجباً إذا توقف بيان الحق الواجب عليه(1).
مسألة: يجوز عند نقل مقاطع من آيات القرآن الحكيم، إسناد القول إلى الله تعالى وإسناده إلى القائل - فيما كان قولاً لقائل - إلا إذا كان موهماً(2)أو إهانة عرفاً أو ما أشبه.
والأرجح أن يسند القول لقائله بعد إسناده لله تعالى كما فعلت (صلوات الله عليها)، فإنه وإن كان من الصحيح أن تقول: «وقال» بدون إضافة «فيما اقتص من خبر يحيى»، إلا أن كون الآيات نقلاً، يجعل الأفضل ذكر أنه قول لقائل، لا أنه كلام ابتدائي من الله كما في مثل «وورث سليمان داود»(3) وما أشبه، وهذا نوع من البلاغة الرفيعة حيث إنها تقتضي أنواعاً من التفنن في الكلام مضافا إلى دقة المعنى.
ص: 44
.............................
مسألة: تدل هذه الآيات الكريمة على مجموعة من الأحكام في الأحوال الشخصية وغيرها، ومنها أن الأنبياء (علیهم السلام) يورّثون، وهي تكشف عن جوانب تاريخية أيضاً.
كما أن استدلالها بالآيات الكريمة يتضمن الإشارة إلى فلسفة تشريع الإرث، وإرثها هي (علیها السلام) من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، إذ «أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله»(1)، فكما أن هنالك أولوية تكوينية بينهم، كذلك كان التشريع، ولذلك قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً»(2).
وقال سبحانه: «وأنذر عشيرتك الأقربين»(3).
وقال تعالى: «وبالوالدين إحسانا»(4).و…
فكان الكتاب التشريعي مطابقاً مع الكتاب التكويني، فهو إذن ينبع عن مصلحة واقعية نفس أمرية(5) فلم يكن إرثها (علیها السلام) من رسول الله (صلی الله علیه و آله) محاباة أو
ص: 45
.............................
استثناء، بل هو مقتضى التشريع ومقتضى التكوين وهو مقتضى الوصية الإلهية: «يوصيكم الله»(1).
فمطالبتها بالإرث إذن ليست مطالبة مادية فحسب، بل هي امتثال لوصية الله جل وعلا، وهي متطابقة مع سنة الأنبياء (علیهم السلام) ومع دعواتهم ربهم، إذ يقول يحيى (علیه السلام): «فهب لي من لدنك ولياً * يرثني ويرث من آل يعقوب»(2).
والظاهر أن المراد بقوله: «وآل يعقوب» يعقوب وآله، كما هو متعارف في التعبير، مثل قوله تعالى: «وأغرقنا آلفرعون »(3) وقوله سبحانه: «وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ»(4) حيث المراد فرعون وآله، وكقوله تعالى: «إنَّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران»(5) حيث يراد إبراهيم وآله، وعمران وآله (علیهم السلام) إلى غير ذلك، نعم إذا كانت هنالك قرينة أو اجتمعا معاً يكون الآل غير ذي الآل مثل قولنا: (اللهم صل على محمد وآل محمد) وما أشبه ذلك.
قولها (علیها السلام): «إذ يقول: «وورث سليمان داود»(6)»، فإن ظاهر الإرث هو المادي لا المعنوي، فلا يصح القول بأن المراد: أن سليمان (علیه السلام) ورث داود (علیه السلام) النبوة من دون قرينة، فإن الإرث المعنوي مجاز يحتاج للقرينة، ثم إنه غير
ص: 46
.............................
تام في المقام إذ كان سليمان (علیه السلام) نبياً زمن داود (علیه السلام)، قال تعالى: «ففهمناها سليمان وكلا آتيناحكماً وعلماً»(1).
وحيث كان من المحتمل أن يستشكل البعض بذلك بالنسبة إلى هذه الآية المباركة جاءت (عليها الصلاة والسلام) بآيات أخر تأكيداً لدفع الشبهة، وإن كانت تلك الآية بمفردها كافية إذ الشبهة واهية إلى أقصى درجة.
قولها (علیها السلام): «وقال - فيما اقتص من خبر زكريا - إذ قال: «فهب لي من لدنك ولياً * يرثني ويرث من آل يعقوب»(2) فإن المراد إرث الأموال دون النبوة، لأن النبوة لا تورث، مضافاً إلى أن الاستعمال الحقيقي للإرث هو في المال وما عداه مجاز وهو بحاجة إلى الدليل، هذا بالإضافة إلى استشهادها (علیها السلام) بالآية المباركة في خصوص إرث الأموال وهي الصديقة المعصومة وكلامها حجة.
عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «لم يكن لزكريا يومئذ ولد يقوم مقامه ويرثه وكانت هدايا بني إسرائيل ونذورهم للأحبار وكان زكريا رئيساً للأحبار وكانت امرأة زكريا أخت مريمبنت عمران بن ماثان، وبنو ماثان إذا ذاك رؤساء بني إسرائيل وبنو ملوكهم وهم من ولد سليمان بن داود فقال زكريا: «فهب لي من لدنك ولياً * يرثني ويرث من آل يعقوب»(3)»(4).
ص: 47
.............................
لا يقال: أية فضيلة لأن يطلب الإنسان من الله سبحانه وتعالى وارثاً في الماديات، فاللازم أن يراد بهذه الآية المعنويات؟
لأنه يقال:
أولاً: إن المقام من السالبة بانتفاء الموضوع.
وثانياً: الفضيلة هي امتداد ذرية الإنسان فلا يكون أبتر، والتناسل هو مما تدعو إليه الفطرة والعقل والشرع، وبه حفظ النوع وقوامه، إضافة إلى أن (الإرث) من أهم عوامل دوام وتماسك وتفاعل (الأسرة)، و(الأسرة) هي اللبنة الأساسية الأولى في تكوين المجتمعات الإنسانية، وبتحطمها أو ضعفها تتحطم أو تضعف المجتمعات وتتفكك الأسر، وهو من أهم أمراض الغرب كما تنبه إلى ذلك علماؤهم(1).
وعلى هذا فالإرث أيضاً فضيلة فإنه نابع عن مصلحة واقعية، وهو بعض جزاءالإنسان وهو نتيجة سعيه كما أوضحنا ذلك في (الفقه: الاقتصاد)(2) عند البحث عن الآية الشريفة «وأن ليس للإنسان إلا ما سعى»(3) بعقديها السلبي والإيجابي، وهو أيضاً من عوامل تداوم وتكامل العائلة، ولعل لذلك كان طلب
ص: 48
.............................
زكريا (علیه السلام) - وهو نبي في أقصى درجة من الحكمة والعلم - «فهب لي من لدنك ولياً * يرثني ويرث من آل يعقوب»(1).
قولها (علیها السلام): «وقال: «وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله»(2)» فإنها (علیها السلام) لما استدلت بالآيتين السابقتين في خصوص الأنبياء (علیهم السلام)، أخذت تستدل بالآيات العامة حيث تشملها (عليها الصلاة والسلام) أيضاً بعمومها.
والاستدلال بآيتي سليمان (علیه السلام) وزكريا (علیه السلام) أفادأيضاً الرد على ما زعموه من الحديث المجعول: (نحن نعاشر الأنبياء لا نورث وما تركناه صدقة) فهو معارض للقرآن بصراحة.
وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه»(3).
وعن الإمام الصادق (علیه السلام) عن أبيه (علیه السلام) قال: «قرأت في كتاب علي (علیه السلام) أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: سيُكذب عليّ كما كذب على من كان قبلي، فما جاءكم عني من حديث وافق كتاب الله فهو حديثي، وأما ما خالف كتاب الله فليس من حديثي»(4).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله
ص: 49
.............................
فردّوه»(1).
قولها (علیها السلام): «وقال: «يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين»(2)»، هذا في الأولاد وإلاّ فإن الأنثى قد ترث أكثر من الذكر، وقد ترث مساوياً للذكر، وقد ترث أقل من الذكر، والحكم في الآية عن الأولاد حيث قال سبحانه: «في أولادكم»(3) ومعهم ترث الأنثى نصف ما يرثه الذكر.
ولا بأس بالإشارة هنا إلى عموم القاعدة في الرجل والمرأة، فان الأحكام والتكاليف الإسلامية عامة للجميع، وبالتساوي - كما سبق - إلا في موارد الاستثناء، مثل: كون إرثها نصف الإرث في الجملة، وديتها نصف الدية كذلك، وشهادتها نصف الشهادة في بعض الموارد، وإلا فقد ذكرنا في «الفقه»: إن إرثها أحياناً أكثر من إرث الرجل، وديتها أكثر من دية الرجل، كما في قتل الرجل الذمي على المشهور في ديته، وشهادتها أكثر من شهادة الرجل كما في الوصية حيث إن الشاهدة الواحدة توجب ربع الوصية، وليس كذلكالرجل، على المشهور.
قولها (علیها السلام): «وقال: «إن ترك خيراً» الآية (4)»، المراد بالخير: (المال) كما في التفاسير وغيرها (5)،فإنه خير ومن هنا وردت روايات تدل على استحباب
ص: 50
.............................
الغنى وكراهة الفقر.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «نعم العون على تقوى الله الغنى»(1).
وقال (علیه السلام): «نعم المال الصالح للعبد الصالح ونعم العون الدنيا على الآخرة»(2).
وفي الحديث عن الإمام الصادق (علیه السلام): «مات عقبة بن عامر الجهني وترك خيراً كثيراً من أموال ومواش وعبيد..»(3).وفي الحديث: عن شعيب العقرقوفي قال قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) شيء يروى عن أبي ذر (رحمة الله) أنه كان يقول: ثلاثة يبغضها الناس وأنا أحبها، أحب الموت وأحب الفقر وأحب البلاء، فقال (علیه السلام): «إن هذا ليس على ما يرون إنما عنى الموت في طاعة الله أحب إليّ من الحياة في معصية الله، والفقر في طاعة الله أحب إليّ من الغنى في معصية الله، والبلاء في طاعة الله أحب إليَّ من الصحة في معصية الله»(4) ومن هذا الحديث يعرف وجه الجمع بين روايات مدح الفقر وذمه.
أما حديث «أكثر أهل الجنة الفقراء» فقالوا هذا إخبار عن الواقع كما يقال أكثر أهل الدين الفقراء.
قال (علیه السلام): «الفقر هو الموت الأكبر»(5).
ص: 51
.............................
وفي وصية لقمان لابنه: «... ذقت المرارات كلها فلم أذق شيئاً أمر منالفقر»(1).
وقال (صلی الله علیه و آله): «ما أقبح الفقر بعد الغنى»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله): «كاد الفقر أن يكون كفراً»(3).
وفي الدعاء عن الإمام الصادق (علیه السلام): «وأعوذ بك من الفقر والوقر»(4).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «القبر خير من الفقر»(5).
قوله تعالى: «حقاً على المتقين»(6) أي: حق على المؤمنين الذين يخافون الله ويعملون بأوامره أن يوصوا بتنفيذ أوامر الله سبحانه في الإرث بالنسبة إلى الوالدين والأقربين، كما قال تعالى في المطلقات: «وللمطلقات متاع بالمعروفحقاً على المتقين»(7).
و«الأقربين» وإن كان شاملاً للوالدين أيضاً، إلا أن ذكرهم من باب الأهمية في الآية المباركة ذكراً للعام بعد الخاص.
ولا يخفى أنه يستفاد من هذا المقطع من كلامها (علیها السلام) واستدلالاتها أحكام
ص: 52
.............................
عديدة قد أشرنا إلى بعضها:
الأول: حرمة اتباع أحكام الجاهلية، قال تعالى: «أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ»(1).
الثاني: حرمة التفرقة بين مسلم ومسلم ممن يجعلهم الله سبحانه وتعالى تحت حكم عام، قال (علیه السلام): «الناس إلى آدم شرع سواء»(2).
الثالث: حرمة عدم العمل بأحكام القرآن حيث قالت (علیها السلام): (أفعلى عمد…) الخ، قال سبحانه: «ومنلم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون»(3).
الرابع: وجوب العمل بموازين الإرث كما قرره الله سبحانه وتعالى.
إلى غيرها من الأحكام.
ص: 53
مسائل: يجوز للمرأة المطالبة بإرثها، ويجوز لها «الجهر بالسوء من القول»(3) على من غصبها أرثها، لقوله تعالى:«إلا من ظلم»(4).
ويجوز لها تشكيل تجمع وقوى ضغط لاستحصال إرثها.
ويجوز لها كل ذلك دفاعاً عن غيرها ممن حرمن من الميراث.
والجواز هنا بالمعنى الأعم، إذ قد يجب ذلك إذا توقف حق واجب عليه، أو إذا كانت المعارضة مع محاولة إلغاء الحكم الإلهي بحقها في الإرث.
والوجوب في مورده، ليس خاصاً بالنساء، بل الرجال أيضاً كذلك، فإنه قسم من المطالبة بالحق الواجب، إرثاًأو غير إرث، امرأة أو رجلاً.
وفي الحديث: سئل (علیه السلام) عن رجل قبض صداق بنته من زوجها ثم مات، هل لها أن تطالب زوجها بصداقها، أو قبض أبيها قبضها؟
فقال (علیه السلام): «إن كانت وكلته بقبض صداقها من زوجها فليس لها أن تطالبه، وإن لم تكن وكلته فلها ذلك، ويرجع الزوج على ورثة أبيها بذلك، إلا
ص: 54
.............................
أن تكون صبية في حجره فيجوز لأبيها أن يقبض عنها»(1).
مسألة: يحرم القول بعدم الحظوة لها (صلوات الله عليها).
كما يحرم مطلق القول بالباطل، والمقام من مصاديق ذلك وإن كانت الحرمة أشد فيه، قال (علیه السلام): «فأما الحكم بالباطل فهو كفر»(2).وقال (علیه السلام): «لا خير في الصمت عن الحكمة، كما أنه لا خير في القول بالباطل»(3).
ولعل ذكرها (الحظوة) حتى تشمل (النحلة) أيضاً كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق.
ثم إن الحق والصواب هو في مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) والباطل في غيرهم.
عن بدر بن الوليد الخثعمي قال: دخل يحيى بن سابور على أبي عبد الله(علیه السلام) ليودعه فقال له أبو عبد الله (علیه السلام) : «أما والله أنّكم لعلى الحق، وإن من خالفكم لعلى غير الحق، والله ما أشك لكم في الجنة، وإني لأرجو أن يقر الله لأعينكم عن قريب»(4).
ص: 55
.............................
وعن محمد بن مسلم عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: «أما إنه ليس عند أحد من الناس حق ولا صواب إلا شيء أخذوه منا أهل البيت، ولا أحد منالناس يقضي بحق وعدل إلا ومفتاح ذلك القضاء وبابه وأوله وسننه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) فإذا اشتبهت عليهم الأمور كان الخطأ من قبلهم إذا أخطئوا والصواب من قبل علي بن أبي طالب (علیه السلام) إذا أصابوا»(1).
مسألة: يحرم القول بعدم إرثها (صلوات الله عليها) من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فإنه خلاف الكتاب والسنة والإجماع والعقل، نعم لا إجماع من العامة على ذلك، وإنما الإجماع من الشيعة، وهو كاف من جهة الكاشفية عن رأي المعصوم (علیه السلام)، ولمطابقته الكتاب والسنة والعقل، ولاحتفافه بالقرائن القطعية.
كما أن الأدلة الأربعة تدل على حرمة إبقاء فدك في أيدي غير المستحقين لها، وعلى ذلك فيلزم السعي لاستنقاذه منهم، إحقاقاً للحق وإرجاعاً له إلى أهله، وهو واجب كفائي، نعم ترك أمير المؤمنين (علیه السلام) فدك لما وليالناس لأمر أهم، مضافاً إلى كونه (علیه السلام) صاحب الحق وله ذلك، ففي الحديث عن محمد بن أبي عمير عن إبراهيم الكرخي قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) فقلت له: لأي علة ترك علي بن أبي طالب (علیه السلام) فدك لما ولي الناس؟
فقال (علیه السلام): «للاقتداء برسول الله (صلی الله علیه و آله) لما فتح مكة» حيث لم يسترجع
ص: 56
.............................
داره، وقال (صلی الله علیه و آله): «إنا أهل بيت لا نسترجع شيئاُ يؤخذ منا ظلماً، فلذلك لم يسترجع فدك لما ولي»(1).
وفي حديث آخر: عن علي بن الحسن بن علي بن فضال عن أبيه، عن أبي الحسن (علیه السلام) قال: سألته عن أمير المؤمنين لمَ لم يسترجع فدكاً لما ولي الناس؟ فقال: «لأنا أهل بيت لا نأخذ حقوقنا ممن ظلمنا إلا هو(2) ونحنأولياء المؤمنين إنما نحكم لهم ونأخذ حقوقهم ممن ظلمهم ولا نأخذ لأنفسنا»(3).
وفي شرح النهج: «قلت لمتكلم من متكلمي الإمامية.. وهل كانت فدك إلاّ نخلاً يسيراً وعقاراً ليس بذلك الخطير؟ فقال لي: ليس الأمر كذلك، بل كانت جليلة جداً، وكان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الآن من النخل، وما قصد أبو بكر وعمر بمنع فاطمة عنها إلا ألا يتقوى علي (علیه السلام) بحاصلها وغلتها على المنازعة في الخلافة، ولهذا اتبعا ذلك بمنع فاطمة وعلي (علیهما السلام) وسائر بني هاشم وبني المطلب حقهم في الخمس فإن الفقير الذي لا مال له تضعف همته»(4).
ص: 57
.............................
مسألة: يحرم منع البنت من الإرث بل منع كل أنثى من حقها فيه، بل من حقها مطلقاً، وكذلك منع كل أحد من إرثه ومن حقه مطلقاً قال (علیه السلام): «لئلا يتوى حق امرئ مسلم»(1).
وقال (علیه السلام): «لا يصلح ذهاب حق امرئ مسلم»(2).
وقال (علیه السلام): «لا يبطل حق امرئ مسلم»(3).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «اليمين الغموس التي توجب النار: الرجل يحلف على حق امرئ مسلم على حبس ماله»(4).
وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «من حبس حق امرئ مسلم وهو يقدر علىأن يعطيه إياه، مخافة من أنه إن خرج ذلك الحق من يده أن يفتقر كان الله عزوجل أقدر على أن يفقره منه على أن يغني نفسه بحبسه ذلك الحق»(5).
وعن جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من كتم شهادة أو شهد بها ليهدر بها دم امرئ مسلم أو ليزوي مال امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه ظلمة مد البصر، وفي
ص: 58
.............................
وجهه كدوح يعرفه الخلائق باسمه ونسبه، ومن شهد شهادة حق ليحيى بها حق امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه نور مد بصر، يعرفه الخلائق باسمه ونسبه» الحديث(1).
والمنع عن الإرث حكماً وموضوعاً، غير جائز شرعاً، فلا يجوز القول بذلك ولا العمل به، ولا يحق للدولة - ولا لأية جهة - أن تسن قانوناً تمنع بموجبه إرث الأرحام من بعضهم، كلاً أو جزءً، كمصادرةبعض الإرث باسم الضرائب، كما لا يحق لها سن قانون يلغي قاعدة حيازة المباحات أو يمنع وقف من يشاء لما يشاء من ممتلكاته وهكذا.
ثم إن الزيادة والنقيصة في الإرث محرم كذلك، قولاً وعملاً، وقد ذكرنا في (الفقه) أن الإرث حكم وليس حقاً، فلا يحق للمورّث أن يمنع إرثه عن الوارث، كما لا يحق للوارث أن لا يقبل الإرث حكماً، وإن جاز له أن يتركه بالإعراض موضوعاً، فان للإنسان أن يعرض عن ماله.
وقد ذكرنا في (الفقه)(2) أيضاً أن الإعراض مسقط للحق، كما أن حيازة المباحات بإثبات اليد عليها مثبت له.
قولها (علیها السلام): «وزعمتم أن لا حظوة لي». الحظوة عبارة عن: المكانة والمنزلة والحظ، وكأنها (عليها الصلاة والسلام) أرادت بذلك نفي قولهم: إن فدك ليس نحلة لها، أي: أنتم من تزعمون أن فدك ليست نحلة لي استناداً إلى عدم (حظوة) لي عنده (صلی الله علیه و آله).
ص: 59
.............................
قولها (علیها السلام): (ولا أرث من أبي)، أي زعمتم أني لا أرث من أبي(صلی الله علیه و آله) فدكا؟
ففي هاتين الجملتين ردت (عليها الصلاة والسلام) كلا الدعويين حتى إذا لم يقبلوا الدعوى الأولى منهما وهي: النحلة بدعوى من الشهود وشبهها، فلا مناص من قبولهم الدعوى الثانية: بأنها إرث، إذ كانت فدك ملكاً خاصاً للرسول (صلی الله علیه و آله) دون شك فهو - إن لم يهبها في حياته للزهراء (علیها السلام) حسب زعمهم - فلابد أن تكون إرثاً لها بعد وفاته، فالقضية مانعة الخلو على الاصطلاح المنطقي.
وقد كان من الشوائب ومن مطباتها: أنهم هكذا نسبوا الحديث إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأنه قال: (نحن معاشر الأنبياء) ولو كان اختراعهم للحديث بهذه الصورة (أنا لا أورث) لكان يتسوغ ردهم بالآيات العامة فقط دون الآيات الخاصة بالأنبياء، اللهم إلا بضميمة قرينة، فزادوا على أنفسهم المشكلة وفتحوا المجال لورود كلا الإشكالين هنا.
ومجمل الكلام: أن الصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها) احتجت عليهم في قصة فدك بسبع مراحل أو أكثر:
1: مرحلة: النحلة.2: مرحلة: دعواهم أنه لا إرث للأنبياء (علیهم السلام).
3: مرحلة: عمومات الإرث الشاملة لها (علیها السلام).
ص: 60
.............................
4: مرحلة: الاعتراض باستبطان كلامهم - بأحد وجوهه - أنه لا رحم بينها وبين أبيها.
5: مرحلة: دعواهم أن أباها (صلوات الله عليه) خارج عن عمومات الإرث في القرآن الحكيم.
6: مرحلة: ما يعرف بالدلالة الالتزامية لكلامهم بكونهم أعلم من رسول الله (صلی الله علیه و آله) (1) يعني: أن أباها (صلی الله علیه و آله) لم يقل باستثناء نفسه الشريفة عن العمومات، لكنهم كانوا أعلم! ولهذا أخرجوا الرسول (صلی الله علیه و آله) عن عمومات القرآن.
7: مرحلة: استبطان كلامهم - بوجه آخر - : أنها (علیها السلام) ووالدها (صلی الله علیه و آله) من أهل ملتين لا يرث بعضهما من بعض.وكل ذلك مخالف للكتاب والتاريخ والقواعد الفقهية والعقل والإجماع، وقد ردت بحجج عقلية ومنطقية وقرآنية.
ص: 61
-------------------------------------------
مسألة: يحرم الاعتقاد بعدم الرحم بين الرسول (صلی الله علیه و آله) وابنته فاطمة الزهراء(علیها السلام)، كما يحرم نفي الرحم عن الرحم مطلقاً، ومن مصاديقه نفي رحمية السبط كما قال شاعرهم:
بنونا بنو أبنائنا، وبناتنا *** بنوهن أبناء الرجال الأباعد
كما أنه يحرم أيضاً إثبات الرحم لمن ليس له، وقد ورد اللعن لمن دخل في النسب أو خرج عن النسب.
وفي حديث الأصبغ عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: «أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم وهو يقول لكم: ألا إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ولعنتي على من انتمى إلى غير أبيه، أو ادعى إلى غير مواليه...» الخبر(1).
وقال (صلی الله علیه و آله): «لعنالله من ادعى إلى غير أبيه، لعن الله من تولى غير مواليه، الولد لصاحب الفراش وللعاهر الحجر»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله): «ألا من دعى إلى غير أبيه فقد برئ الله منه»(3).
ص: 62
.............................
وقال (صلی الله علیه و آله): «لعن الله من انتمى إلى غير أبيه»(1).
ثم إن الحرمة ثابتة وإن لم يترتب أثر على الإثبات والنفي.
ولا يخفى أنهم لم ينفوا انتساب الزهراء (علیها السلام) إلى أبيها (صلی الله علیه و آله) وما كان بمقدورهم ذلك، وإنما ذكرت الزهراء (صلوات
الله عليها) لإتمام صور الاحتمالات النافية للإرث، ومن المعلوم أن هذا من أساليب الحوار والبلاغة، وقد ورد في القرآن الكريم: «وإنّا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلالمبين»(2) بل ورد حتى ما هو مستحيل الوقوع «لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا»(3)، إذ القضية الشرطية صادقة حتى مع استحالة المقدم.
ص: 63
-------------------------------------------
مسألة: يحرم تخصيص الآيات من دون مخصص، وكذلك تعميم الآيات في قبال التخصيص الموجود بدعوى القياس أو كشف الملاك الظني غير المعتبر، وهكذا بالنسبة إلى الإطلاق والتقييد، فكل من الأربعة محرمة عملاً وقولاً، القول في الحكم والعمل في الموضوع الخارجي.
وما أكثر القول في هذه الأزمنة، بمخصصات للكتاب دون مخصص قرآني أو روائي، أو بمعممات له، أو حتى بنواسخ للكتاب! وذلك لمجرد استحسانات، أو تبعية لمد الحضارة الغربية، أو الأهواء النفسية، أو رغبات المستبدين من الحكام!.
وقد ورد عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الحلال والحرام؟ فقال(علیه السلام): «حلال محمد (صلی الله علیه و آله) حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولايجيء غيره»(1).
وهذا غير تبدل الحكم بتبدل موضوعه كما لا يخفى. وتفصيل البحث في العام والخاص، والمطلق والمقيد وما أشبه في (الأصول).
قولها (علیها السلام): «أفخصكم الله بآية أخرج منها أبي؟» أي هل وردت آية خاصة بكم، أخرج الله بها أبي (صلی الله علیه و آله) من عموم أدلة الإرث؟
ص: 64
-------------------------------------------
وبعبارة أخرى: هل نزلت عليكم آية لا نعرفها في القرآن الكريم، بها قلتم بإخراج الرسول (صلی الله علیه و آله)؟
أم هل تقولون أهل ملتين لا يتوارثان؟
مسألة: يختلف حكم أهل ملتين عن أهل الملة الواحدة في الجملة، في الإرث وفي بعض الأحكام الأخر(1)، ويختلفحكمهما مطلقاً في البعض الآخر.
فإن الكافر لا يرث من المسلم، أما المسلم فهو يرث من الكافر، كما لايستبعد القول بإرث اليهودي من المسيحي، والمجوسي منهما، وهما من المجوسي، وما أشبه ذلك، إلا إذا حكّم قانون الإلزام في مورده، على تفصيل مذكور في (الفقه)(2).
قولها (علیها السلام): «أم هل تقولون أهل ملتين لا يتوارثان» المقصود في بعض الصغريات، لا الإطلاق، إذ ليس الكلام في مقام البيان من هذه الجهة كما هو واضح، فإن بعض أهل ملتين يتوارثان، فالمسلم يرث الكافر، دون العكس، كما هو مذكور في الفقه(3).
ص: 65
.............................
قال في (دعائم الإسلام): وعن جعفر بن محمد (علیه السلام) أنه قال: «المسلم يرث الكافر، والكافر لا يرث المسلم، والكفار يتوارثون بينهم ويرث بعضهم بعضا، فقيل له: فإن الناسيروون عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: «لا يتوارث أهل ملتين»، فقال أبو عبد الله (علیه السلام): «نرثهم ولا يرثوننا» قال: فجواب أبي عبد الله(علیه السلام) هذا هو تثبيت لقوله وما رواه الناس عن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، لأن قوله (صلی الله علیه و آله) «ولا يتوارث أهل ملتين» ليس بخلاف لما قاله أبو عبد الله (علیه السلام) «نرثهم ولا يرثوننا» لأن قول رسول الله (صلی الله علیه و آله) لا يتوارث أهل ملتين معناه لا يرث هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء، وكذلك قال أبو عبد الله (علیه السلام) إنما يرث المسلم الكافر ولايرث الكافر المسلم، ومعنى يتوارث وتقديره في اللغة يتفاعل، ويتفاعل لايكون إلا من فاعلين، لا يقال ذلك إذا فعله واحد دون واحد، لأنه إذا ضرب رجل رجلاً قيل: ضرب فلان فلاناً ولا يقال تضاربا حتى يضرب كل واحد منهما صاحبه(1).
ص: 66
-------------------------------------------
مسألة: يحرم الاعتقاد بأن الزهراء (سلام الله عليها) ليست مع الرسول(صلی الله علیه و آله) من ملة واحدة.. أو أنها (علیها السلام) لا تحذو حذوه (صلی الله علیه و آله) في كلي أو جزئي، أو أنها (علیها السلام) تقول بخلاف قوله (صلی الله علیه و آله) في أمر اعتقادي أو حكم فرعي، ومنه المقام.
وقد ذكرنا في البحث الآنف أنهم لم يقولوا بذلك، وإنما أرادت الزهراء (علیها السلام) أن تحصرهم في أطراف (منع الخلو) حتى تثبت عليهم الحجة أكثر فأكثر.
إضافة إلى أن هذا الكلام يتضمن التهويل عليهم، وإيضاح أن إنكارهم إرثها (علیها السلام) منه (صلی الله علیه و آله) في قوة إنكار بديهي من أوضح البديهيات، وهو: كونها (علیها السلام) وإياه (صلی الله علیه و آله) من أهل ملة واحدة.فلا مجال إذن لتلك الشبهة(1).
ص: 67
-------------------------------------------
مسائل: يحرم الاجتهاد في مقابل النص، كما يحرم الاجتهاد في مقابل الظاهر الذي قال المعصوم (علیه السلام) بأن المراد به كذا - فإن مآل ذلك إلى النص - والمقام من هذا القبيل(1).
كما يحرم الاجتهاد في قبال المبهم أو المجمل الذي أوضح المعصوم (علیه السلام) المراد به فإنهما بلحاظه مبيّن.
قال تعالى: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً»(2).
وقال سبحانه: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِوَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ»(3).
وقد ورد في تفسير هذه الآية المباركة قوله (علیه السلام): «يختار الله الإمام وليس لهم أن يختاروا»(4).
ص: 68
.............................
وفي الحديث أن أنس قال: سألت رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن معنى قوله: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ» فقال: «إن الله عزوجل خلق آدم من طين كيف شاء، ثم قال: «وَيَخْتَارُ» إن الله تعالى اختارني وأهل بيتي على جميع الخلق فانتجبنا فجعلني الرسول وجعل علي بن أبي طالب (علیه السلام) الوصي، ثم قال: «مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ» يعني ما جعلت للعباد أن يختاروا ولكني اختار من أشاء، فأنا وأهل بيتي صفوته وخيرته من خلقه، ثم قال: «سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ» يعني الله منزه عما يشركون به كفار مكة، ثم قال: «وَرَبُّكَ يَعْلَمُ» يعني يا محمد «مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ» من بغض المنافقين لك ولأهل بيتك «وما يعلنون» بألسنتهم من الحبلك ولأهل بيتك»(1).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) في حديث قال: «والله لنحبكم أن تقولوا إذا قلنا، وتصمتوا إذا صمتنا، ونحن فيما بينكم وبين الله عزوجل، ما جعل الله لأحد خيراً في خلاف أمرنا»(2).
وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «كلُّ شيء لم يخرج من هذا البيت فهو باطل»(3).
ص: 69
.............................
مسألة: وفيما عدا ذلك فإن الظواهر مما يمكن اختلاف الاجتهاد فيها بشروطه، وذلك جائز، بل يجب أحياناً، كما في الاجتهادات الفقهية المختلفة، سواء كان الحكم مستفاداً من الكتاب، أم السنة، أم الإجماع، أم العقل، مما يجدها المتتبع في المباحث الفقهية.
قال (علیه السلام): «علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع»(1).
وقال (علیه السلام): «فأما من كان من الفقهاء، صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه»(2).
وقال (علیه السلام): «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله»(3).
وقال (علیه السلام) في حديث طويلفي رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث؛ قال: «ينظران إلى من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا ردّ، والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله»(4).
ص: 70
.............................
مسألة: (للأعلمية) هنا عدة معان:
1: الأعلم بمعنى الأكثر علماً والأوسع معرفة.
2: الأعلم بمعنى الأعمق علماً أو الأشد علماً، فإن العلم حقيقة تشكيكية ذات مراتب.
والمعنى الأول بلحاظ الكم، وهذا بلحاظ الكيف.
3: الأعلم بمعنى الأنفذ علماً، أي يستخدم الأعلم ويراد به العلم المنتج والنافذ والمثمر، أي العلم الذي يرتب عليه أثره، وقد قال بعض المفسرين بأن المراد من: «الله أعلم حيث يجعل رسالته»(1) هو هذا المعنى فعلمه نافذ، أي علم فجعل.
وقولها (علیها السلام): «أم أنتم أعلم…» يشمل المعنى الأول والثاني، فان رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلياً أمير المؤمنين (علیه السلام) أعلم من سائر الناس كيفاً وكماً، أما الأنفذيةفإنه وإن كان الأمر بحيث لو أرادا لنفذ إلا أنه لا تلازم بين علمهما ونفوذه، وذلك لأنه مقتضى دار الامتحان، قال تعالى: «إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر»(2)، وعلمهم (علیهم السلام) في قصة فدك وأنها ملكها (علیها السلام) من ذلك المقام.
ص: 71
.............................
مسألة: يجب الاعتقاد بأن الرسول (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السلام) وأهل البيت المعصومين (علیهم السلام) أعلم الناس بالقرآن، وذلك من الواضحات، وقد دلت عليه الروايات المتواترة عند الفريقين.
فعن أبي سعيد الخدري، قال: سألت رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن قول الله جل شأنه: «قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ»(1) قال: «ذاك وصي أخي سليمان بن داود».فقلت له: يا رسول الله فقول الله عزوجل: «قل كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ»(2)؟
قال (صلی الله علیه و آله): «ذاك أخي علي بن أبي طالب (علیه السلام)»(3).
وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «إنا أهل بيت عندنا معاقل العلم وآثار النبوة وعلم الكتاب وفصل ما بين الناس»(4).
وقال الإمام الحسين (علیه السلام): «نحن الذين عندنا علم الكتاب»(5).
ص: 72
.............................
وجاء في زيارة أمير المؤمنين (علیه السلام): «السلام عليك يا من عنده علم الكتاب»(1).
مسألة: أعلميتهما (علیهما السلام) بخصوص القرآن وعمومه في كلامها (علیها السلام) تشمل: العلم بوجود العام ووجود الخاص في الكتاب، والعلم بوجود العام فيه والخاص في غيره، والعكس، والعلم بعدم أحدهما، والمقام من قبيل الرابع(2).
وقد قال الإمام الصادق (علیه السلام): «كان علي صاحب حلال وحرام وعلم بالقرآن ونحن على منهاجه»(3).
وقال (علیه السلام): «إن الله فرض طاعتنا في كتابه.. ولنا كرائم القرآن.. إن الله أعلمنا علماً لا يعلمه أحد غيره، وعلماً قد أعلمه ملائكته ورسله، فما علمته ملائكته ورسله فنحن نعلمه»(4).وقال (علیه السلام): «إن الله علّم نبيه (صلی الله علیه و آله) التنزيل والتأويل فعلمه رسول الله (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام)»(5).
ص: 73
.............................
مسألة: يجب تقديم قول أهل البيت (علیهم السلام) في تفسير القرآن وسائر الأحكام على قول غيرهم، فإن القرآن نزل في بيوتهم، وهم الأعلم كما في صريح الروايات الواردة عن الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله)، وهم (أهل الذكر) الذين أمر (الذكر) بسؤالهم(1)، وقد قال (علیه السلام): «نحن أهل الذكر»(2)، وهم (أولوا الأمر) الذين قال فيهم تعالى: «ولو ردوه إلى الرسول والى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم»(3).
كما يجب تقديم قولهم (علیهم السلام) مطلقاً في كل المجالات لعصمتهم (علیهم السلام).
فإن أقوال غيرهم - في تفسيرالقرآن - في مقابل أقوالهم (علیهم السلام) كالحجر في جنب الإنسان، وكالسراب في قبال عين الحياة، بل لا يجوز لغيرهم تفسير القرآن برأيهم.
قال أبو عبد الله (علیه السلام) لرجل من أهل الكوفة وسأله عن شيء: «لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبرئيل في دورنا ونزوله على جدي بالوحي والقرآن والعلم، فيستسقي الناس العلم من عندنا، فيهدونهم»(4).
ص: 74
.............................
وعن الإمام الرضا (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «قال الله جل جلاله: ما آمن بي من فسر برأيه كلامي، وما عرفني من شبهني بخلقي، وما على ديني من استعمل القياس في ديني»(1).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «من فسر القرآن برأيه فأصاب لم يؤجرفإن أخطأ كان إثمه عليه»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله): «من فسر القرآن برأيه فقد افترى على الله كذباً، ومن أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض، وكل بدعة ضلالة سبيلها إلى النار، قال عبد الرحمن بن سمرة: فقلت يا رسول الله أرشدني إلى النجاة، فقال(صلی الله علیه و آله): يا ابن سمرة إذا اختلفت الأهواء وتفرقت الآراء فعليك بعلي بن أبي طالب فإنه إمام أمتي وخليفتي عليهم من بعدي، وهو الفاروق الذي يميز به بين الحق والباطل، من سأله أجابه، ومن استرشده أرشده، ومن طلب الحق عنده وجده، ومن التمس الهدى لديه صادفه، ومن لجأ إليه آمنه، ومن استمسك به نجا، ومن اهتدى به هداه...، يا ابن سمرة إن علياً مني، روحه من روحي وطينته من طينتي، وهو أخي وأنا أخوه، وهو زوج ابنتي فاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وإن منه إماما أمتي وسيدا شباب أهل الجنة الحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين تاسعهم قائمهم يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراًوظلماً»(3).
ص: 75
.............................
قولها (علیها السلام): «أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي»؟.
إنما ذكرت أمير المؤمنين علياً (علیه السلام) بعد أبيها (صلی الله علیه و آله) لأن أعلمية الإمام (علیه السلام) كانت ثابتة حتى عندهم، حيث قال (صلی الله علیه و آله): «أقضاكم علي»(1).
وقال: «أعلمكم علي»(2).
وقال: «علي مع الحق والحق مع علي»(3).
إلى عشرات من أمثال هذه التصريحاتمن الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله).
بالإضافة إلى قول أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام): «علمني رسول الله ألف باب من العلم يفتح لي من كل باب ألف ألف باب»(4)، كما في بعض
ص: 76
.............................
الأحاديث. وإن كان المشهور: «كل باب منها يفتح ألف باب فذلك ألف ألف باب»(1).
ولا تعارض إذ العدد لا مفهوم له،وإثبات الشيء لا ينفي ما عداه، إضافة إلى وضوح أن ذلك على سبيل المثال فلا يراد بالعدد الحصر بل الكثرة، وليس (الألف ألف) بحاصر، ولا مبالغة فيه، فإن ذلك هو مقتضى الأدلة العقلية والنقلية، منها قوله (صلی الله علیه و آله): «أنا مدينة العلم وعلي بابها»(2) بلحاظ الإطلاق المعضود بالأدلة القطعية.
والعلوم لا تعد ولا تحصى والواضح أن «فوق كل ذي علم عليم»(3) حتى بالنسبة إلى النبي (صلی الله علیه و آله) نفسه، كما يحكيه القرآن: «وقل رب زدني علماً»(4)، على سبيل اللامتناهي اللايقفي.
ص: 77
-------------------------------------------
مسألة: تهديد الظالم وإنذاره واجب في الجملة، للآيات والروايات والعقل، وهذا ما صنعته الصديقة الطاهرة (عليها السلام) في مواطن شتى من الخطبة الشريفة، ومنها هذا المقطع: «فدونكها..» وهو تهديد، أي خذها، مثل قول تعالى: «اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»(1).
قال سبحانه: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ»(2).
وقال تعالى: «وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ»(3).
وقال سبحانه: «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ»(4).
وقال تعالى: «فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ»(5).
ص: 78
........................
وقال سبحانه: «وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ»(1).
وقال تعالى: «وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ»(2).
وقال عزوجل: «وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً»(3).
وقال سبحانه: «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ»(4).
وقال تعالى: «وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ»(5).
وقال تعالى: «وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً»(6).
وروى الشيخ الصدوق (رحمة الله) في كتاب (ثواب الأعمال وعقاب الأعمال) في باب عقاب من ظلم:
عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزوجل: «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ»(7)
ص: 79
........................
قال: «قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة»(1).
وقال الإمام الباقر (عليه السلام): «من ارتكب أحداً بظلم بعث الله عزوجل عليه من يظلمه بمثله أو على ولده أو على عقبه من بعده»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من عذر ظالماً بظلمه سلّط الله عليه من يظلمه، فإن دعا لم يستجب له ولم يأجره الله على ظلامته»(3).
وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إن في جهنم لجبلاً يقال له الصعداء، وإن في الصعداء لوادياً يقال له سقر، وإن في سقر لجبّاً يقال له هبهب، كلما كشف غطاء ذلك الجب، ضج أهل النار من حره، ذلك منازل الجبارين»(4).
قولها (عليها السلام): «فدونكها مخطومة مرحولة» الضمير يعود لفدك، لأن فدك تستعمل مؤنثاً ومذكراً كأسامي البلدان مطلقاً، مثلاً: العراق وإيران ومصر والباكستان، فانها قد تؤنث وقد تذكر، كما أن طهران وبغداد وكراچي وما أشبه قد تؤنث وقد تذكر.
ومخطومة: من الخطام - بالكسر - وهو الحبل الذي يوضع في أنف البعير ليقاد به، حيث إنه يسهل قياد البعير بسبب ذلك الحبل الذي في أنفه.
والرحل في الناقة: كالسرج للفرس، ورحل البعير.. كمنع، بمعنى: شد على ظهره الرحل، فقد شبهت (عليها الصلاة والسلام) فدك في كونها تحت تصرف
ص: 80
........................
غاصبي الخلافة بحيث لا يعارضهم في أخذها أحد، بالناقة المنقادة المهيأة للركوب.
فقولها (عليها السلام): «دونكها مخطومة مرحولة» تشير إلى إخبار غيبي بالذي سيحدث، وأن غصب فدك سوف لا يواجه بمقاومة ومعارضة قوية، بل إنه سيسيطر عليها كما يسيطر الراكب على الجمل المخطومة المرحولة، وهذا الإخبار المستقبلي قد تحقق كما لا يخفى.
ص: 81
-------------------------------------------
مسألة: هل يستفاد من (تلقاك يوم حشرك…) أن جزاء هذه المظلمة لايكون - بكامله - في الدنيا، عند الظهور، وبعد إحيائهما؟
وجهان:
من أن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه، والكلام ليس في مقام البيان من هذه الجهة.
ومن ظهور الكلام وعدم الدليل على جزاء كل عمل في الدنيا، بل الدليل على العدم، قال تعالى: «ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى»(1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «يؤتى يوم القيامة بإبليس مع مضل هذه الأمة في زمامين غلظمها مثل جبل أحد فيسحبان على وجوههما فينسد بهما باب من أبواب النار»(2).
وعن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عزوجل: «وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ»(3) قال: من زعم أنه إمام وليس بإمام»(4).
ص: 82
........................
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من ادعى الإمامة وليس من أهلها فهو كافر»(1).
وعن يونس بن ظبيان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا يونس من حبس حق المؤمن، أقامه الله عزوجل يوم القيامة خمسمائة عام على رجليه حتى يسيل عرقه أو دمه، وينادي مناد من عند الله هذا الظالم الذي حبس عن الله حقه فيوبّخ أربعين يوماً ثم يؤمر به إلى النار»(2).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «إن في جهنم رحى تطحن خمسا أفلا تسألون ما طحنها؟ فقيل له: فما طحنها يا أمير المؤمنين؟ قال: العلماء الفجرة، والقراء الفسقة، والجبابرة الظلمة، والوزراء الخونة، والعرفاء الكذبة، وإن في النار لمدينة يقال لها الحصينة، أفلا تسألوني ما فيها؟ فقيل: وما فيها يا أمير المؤمنين؟ فقال: فيها أيدي الناكثين»(3).
ص: 83
........................
مسألة: يستفاد من قولها (عليها السلام): (تلقاك) تجسم الأعمال، إذ المجاز خلاف الأصل، ومع الإمكان الثبوتي والظهور الإثباتي لا مجال للعدول عن الظاهر، والأدلة على تجسم الأعمال كثيرة، ومنها:
قوله سبحانه: «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمْ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ»(1) فما تجده هو نفس «مَا عَمِلَتْ» وهذا غير آثاره أو جزائه وتفصيل الكلام في محله.
قال تعالى: «فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(2).
وقال سبحانه: «الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(3).
وقال تعالى: «ومَا تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(4).
وقال سبحانه: «هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(5).
وقال تعالى: «يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ
ص: 84
........................
وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون» (1).قولها (عليها السلام): «تلقاك يوم حشرك» بمعنى أن فدك تلقى غاصبها يوم الحشر بمظلمتها، فإن كل إنسان سرق من أحد شيئاً أو نهب أو ظلم أحداً يأتي يوم القيامة مع تلك الظلامة، كما في الأحاديث(2).
قال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): «من خان جاره شبراً من الأرض جعله الله طوقاً في عنقه من تخوم الأرض السابعة حتى يلقى الله يوم القيامة مطوقا إلا أن يتوب ويرجع»(3).
وإنما خصت يوم الحشر بالذكر مع أن الآثار تكون في القبر أيضاً، لأن يوم الحشر هو يوم «الْجَزَاءَ الأَوْفَى»(4) مضافاً إلى اجتماع كل الخلائق وكل الناس ومعرفتهم المحق من المبطل، بينما في القبر لا يستكشف لجميع الناس عمل الإنسان عادة، وقد ذكرنا في بعض المواطن: أن الإنسان يرى عمل نفسه - أثراً وثمراً أو جزاءً - في أربعة مواضع أو أكثر، كلياً أو جزئياً: في دنياه وتاريخياً، في نفسه وسمعته وامتداده(5)، وفي قبره، وفي حشره، وفي المرحلة الأخيرة من الجنة أو النار «إن خيراً فخير أو شراً فشر»(6).
ص: 85
........................
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «في كتاب علي (عليه السلام): ثلاث خصال لا يموت صاحبهن أبداً حتى يرى وبالهن..» الحديث(1).
مسألة: يستحب - وقد يجب - تنبيه الخصم والظالم بيوم الحشر والقيامة والعذاب الأليم وإن كان عالماً بكل ذلك، لكن هل يستحب إن كان معانداً لا يرجى ارتداعه؟
ذكروا أن من شرائط الأمر المعروف والنهي عن المنكر احتمال التأثير، لكن هل هذا شرط الوجوب أو شرط مطلق الرجحان؟ قد يستظهر الأول لكن لزوم اللغوية قد يقتضي الثاني، فتأمل.
ولعل ما هو من قبيل «مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ»(2) وما قام به الأنبياء (عليهم السلام) وسيد الشهداء (عليه السلام) وغيرها يقتضي الرجحان، ويؤيد هذا ما سيأتي منها (صلوات الله عليها) حيث تقول: «ألا وقد قلت ما قلت على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم، والغدرة التي استشعرتها قلوبكم، ولكنها فيضة النفس… وتقدمة الحجة».
وما سبق من (وقد يجب) فيما إذا توقف واجب عليه، سواء كان واجباً
ص: 86
........................
إيجابياً كما في موارد الأمر بالمعروف، أم واجباً سلبياً كما في موارد النهي عن المنكر، وهذا ليس خاصاً بتنبيه الخصم والظالم، بل يعم كل موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما لا يخفى.
قولها (عليها السلام): «تلقاك يوم حشرك» قد يكون إشارة إلى الحشر الخاص مضافاً إلى الحشر العام، قال تعالى: «وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ»(1).
وقال سبحانه: «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً»(2).
وقال عزوجل: «وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ»(3).
ص: 87
-------------------------------------------
مسألة: (الحَكَم) بقول مطلق هو الله عزوجل، لأنه العالم المطلق، والقادر المطلق، والعادل المطلق، وهو الذي يعلم بكل خصوصيات وشرائط وظروف المتخاصمين، وبكل خصوصيات الدعوى وتشابكاتها، وبالحكم الدقيق لكل صورة من الصور، وهو الذي يقدر على الفصل والبت في الخصومة، وعلى إرجاع الأمر إلى نصابه، وذلك هو مقتضى عدله، ولذلك كله كان عزوجل (نعم الحَكَم) كما قالت (عليها السلام)، ولأن الله سبحانه وتعالى لا تضيع عنده مظلمة لأحد ولو بمقدار مثقال ذرة، كما قال سبحانه: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ»(1).
وقال تعالى: «اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ»(2).
وقال سبحانه: «إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ»(3).
وقال تعالى: «ذَلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»(4).
ص: 88
........................
وقال سبحانه: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِيَخْتَلِفُونَ»(1).
وقال تعالى: «فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ»(2).
وفي الحديث: «قال إعرابي: يا رسول الله من يحاسب الخلق يوم القيامة؟ قال (صلي الله عليه و آْله): الله عزوجل»(3).
وقد سُئل أمير المؤمنين (عليه السلام): كيف يحاسب الله الخلق على كثرتهم في حالة واحدة؟ فقال: «كما يرزقهم على كثرتهم في حالة واحدة»(4).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «اتقوا معاصي الله في الخلوات فإن الشاهد هو الحاكم»(5).
وقال (عليه السلام): «اتقوا معاصي الخلوات فإن الشاهد هو الحاكم»(6)
ص: 89
........................
مسألة: يستحب تنبيه الخصم والظالم بأن الله هو الحَكَم والزعيم هو محمد (صلي الله عليه و آْله)، وقد يجب ذلك، كما ذكرناه في البحث الآنف.
عن أبي سعيد قال: قال النبي (صلي الله عليه و آْله): «من كنت وليه فعلي وليه، ومن كنت إمامه فعلي إمامه، ومن كنت أميره فعلي أميره، ومن كنت نذيره فعلي نذيره، ومن كنت هاديه فعلي هاديه، ومن كنت وسيلته إلى الله تعالى فعلي وسيلته إلى الله عزوجل، فالله سبحانه يحكم بينه وبين عدوه»(1).
وقد ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال النبي (صلي الله عليه و آْله): «تحشر ابنتي فاطمة (عليها السلام) يوم القيامة ومعها ثياب مصبوغة بالدماء، تتعلق بقائمة من قوائم العرش تقول: يا أحكم الحاكمين، أحكم بيني وبين قاتل ولدي، قال علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): ويحكم لابنتي فاطمة ورب الكعبة»(2).
ومعنى أن الله هو الحَكَم أي أنه يحكم بين عباده بالعدل كما هو ضروري، ومقتضى الفطرة السليمة، وقد دل على ذلك القرآن الكريم إذ قال عزوجل:«ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ»(3).
ص: 90
........................
وقال تعالى: «وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ»(1).
وقال سبحانه: «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ»(2).
والسنة المطهرة، والإجماع من كافة المسلمين، والعقل.
مسألة: يستحب إيكال الأمر إلى الله والاعتماد عليه قلباً وقولاً وقالباً، كما قالت (عليها السلام):«فنعم الحَكَم الله» حيث قد أوكلت أمرها إليه سبحانه وتعالى. ومن معاني توكيل الأمر إلى الله سبحانه وتعالى: أن الإنسان يعمل ما بوسعه ويكل ما لا يقدر عليه بنفسه إلى الله عزوجل، مثلاً: الزارع عليه أن ينجز كل ما يتمكن من عمله من الحرث والزرع وتعهد الزرع بالسقاية والرعاية والمحافظة، أما ما هو خارج عن قدرته من الإنبات ونمو الزرع والبركة، ومن الطوارئ كبرد شديد مفاجئ أو حر كذلك أو آفة غير مترقبة أو جراد مهاجم من حيث لا يحتسب وشبه ذلك، فإن عليه أن يكله إلى الله تعالى.
وهذا بين واجب ومستحب، كل في مورده، ولذا قال النبي (صلي الله عليه و آْله): «اعقل وتوكل»(3)
ص: 91
........................
أما توكيل الأمر كله إلى الله بأن لا يأتي الإنسان بالأسباب الظاهرية، أو عكسه بأن يعتقد أن كل الأعمال من الإنسان نفسه وليس شيء مرتبطاً بالله سبحانه وتعالى كما قالت اليهود «يد الله مغلولة»(1)، فكلاهما خارج عن موازين العقل والشرع، والسيدة الزهراء (عليها السلام) أوكلت الأمر إلى الله مع قيامها بالدفاع والذب وإتمام الحجة وما أشبه.
قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): «الإيمان له أركان أربعة: التوكل على الله وتفويض الأمر إلى الله والرضا بقضاء الله والتسليم لأمر الله عزوجل»(2).
وعن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ليس شيء إلا وله حد».
قلت: جعلت فداك فما حد التوكل؟
قال: «اليقين».
قلت: فما حد اليقين؟
قال: «ألا تخاف مع الله شيئا»(3).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن الغنى والعز يجولان فإذا ظفرا بموضع التوكل أوطناه»(4).وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من أعطي ثلاثا لم يمنع ثلاثا، من أعطي الدعاء أعطي الإجابة، ومن أعطي الشكر أعطي الزيادة، ومن أعطي التوكل
ص: 92
........................
أعطي الكفاية» ثم قال: «أتلوت كتاب الله عزوجل «ومن يتوكل على الله فهو حسبه»(1) وقال: «لئن شكرتم لأزيدنكم»(2) وقال: «ادعوني أستجب لكم»(3)،»(4).
وقال لقمان لابنه: «يا بني إن الدنيا بحر عميق وقد هلك فيها عالم كثير فاجعل سفينتك فيها الإيمان بالله واجعل شراعها التوكل على الله واجعل زادك فيها تقوى الله عزوجل فإن نجوت فبرحمة الله وإن هلكت فبذنوبك»(5).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «خصلة من عمل بها كان من أقوى الناس» قيل: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: «التوكل على الله عزوجل»(6).
وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «التوكل من قوةاليقين»(7).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أقوى الناس إيمانا أكثرهم توكلا على الله سبحانه»(8).
وقال (عليه السلام): «في التوكل حقيقة الإيقان»(9).
ص: 93
........................
وقال (عليه السلام): «من وثق بالله توكل عليه»(1).
وقال (عليه السلام): «التوكل خير عماد»(2).
وقال (عليه السلام): «التوكل حصن الحكمة»(3).
وقال (عليه السلام): «التوكل أفضل عمل»(4).
وقال (عليه السلام): «صلاح العبادة التوكل»(5).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ينبغي لمن رضي بقضاء الله سبحانه أن يتوكل عليه»(6).وقال (عليه السلام): «التوكل كفاية»(7).
وقال (عليه السلام): «كل متوكل مكفي»(8).
وقال (عليه السلام): «من توكل على الله عزوجل كفي»(9).
وقال (عليه السلام): «أصل قوة القلب التوكل على الله»(10).
ص: 94
........................
وقال (عليه السلام): «من توكل على الله تسهلت له الصعاب»(1).
وقال (عليه السلام): «من توكل على الله أضاءت له الشبهات وكفي المؤنات وأمن التبعات»(2).
وقال (عليه السلام): «من توكل على الله ذلت له الصعاب وتسهلت عليه الأسباب وتبوأ الخفض والكرامة»(3).
مسألة: لا يصح منع المحق من الجهر بالحق، أو منع المظلوم من طرح ظلامته بدعوى (الوحدة وتوحيد الكلمة) أو (الانفتاح) أو ماأشبه، إذ «الحق أحق أن يتبع»(4) وللعقل والنقل المتواتر، ومنه أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل وغير ذلك، وتفصيل البحث في كتاب القضاء وغيره، حيث يجب على القاضي أن يستمع إلى الدعوى ثم يحكم بالعدل بحيث يعطي الحق لصاحبه.
وهذا ما صنعته السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بمواقفها وعملها وأقوالها وخطبها، ومنها هذه الخطبة، وهذا المقطع «وعند الساعة يخسرون المبطلون ولاينفعكم إذ تندمون…»(5).
ص: 95
........................
ولذلك كله يجب وجوباً كفائياً بيان أن خصوم الزهراء (عليها السلام) هم من المبطلين وسيخسرون عند قيام الساعة.
وفي الحديث: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) دخل يوما إلى مسجد الكوفة من الباب القبلي، فاستقبله نفر فيهم فتى حدث يبكي والقوم يسكتونه، فوقف عليهم أمير المؤمنين وقال للفتى: ما يبكيك؟
فقال: يا أمير المؤمنين إن أبي خرج مع هؤلاء النفر في سفر لتجارة فرجعوا ولم يرجع أبي، فسألتهم عنه فقالوا: مات، وسألتهم عن ماله؟ فقالوا: لم يخلف مالا، فقدمتهم إلى شريح فلم يقض لي عليهم بشيء غير اليمين، وأنا أعلم يا أمير المؤمنين أن أبي كان معه مال كثير.
فقال لهم أمير المؤمنين: ارجعوا فردهم معه ووقف على شريح فقال: ما يقول هذا الفتى يا شريح؟
فقال شريح: يا أمير المؤمنين إن هذا الفتى ادعى على هؤلاء القوم دعوى فسألته البينة فلم يحضر أحدا، فاستحلفتهم له.فقال أمير المؤمنين: هيهات يا شريح ليس هكذا يحكم في هذا.
فقال شريح: فكيف أحكم يا أمير المؤمنين فيه؟
فقال علي: أنا أحكم فيه ولأحكمن اليوم فيه بحكم ما حكم به أحد بعد داود النبي (عليه السلام)، ثم جلس في مجلس القضاء ودعا بعبد الله بن أبي رافع وكان كاتبه وأمره أن يحضر صحيفة ودواة، ثم أمر بالقوم أن يفرقوا في نواحي المسجد ويجلس كل رجل منهم إلى سارية وأقام مع كل واحد منهم رجلا وأمر بأن تغطى رؤوسهم وقال لمن حوله: إذا سمعتموني كبرت فكبروا.
ص: 96
........................
ثم دعا برجل منهم فكشف عن وجهه ونظر إليه وتأمله وقال: أتظنون أني لا أعلم ما صنعتم بأبي هذا الفتى، إني إذا لجاهل، ثم أقبل عليه فسأله؟
فقال: مات يا أمير المؤمنين.
فسأله عن كيف كان مرضه وكم مرض وأين مرض وعن أسبابه في مرضه كلها وحين احتضر ومن تولى تغميضه ومن غسله وما كفن فيه ومن حمله ومن صلى عليه ومن دفنه، فلما فرغ من السؤال رفع صوته: الحبس الحبس، فكبر وكبر من كان معه.
فارتاب القوم ولم يشكوا أن صاحبهم قد أقر.
ثم دعا برجل آخر فقال له مثل ما قال للأول.
فقال: يا أمير المؤمنين إنما كنت واحدا من القوم وقد كنت كارها للقتل وأقر بالقتل.
ثم دعاهم واحدا واحدا من القوم، فأقروا أجمعون ما خلا الأول وأقروا بالمال جميعا وردوه وألزمهم ما يجب من القصاص.
فقال شريح: يا أمير المؤمنين كيف كان حكم داود (عليه السلام) في مثل هذا الذي أخذته عنه؟
فقال علي (عليه السلام): مر داود (عليه السلام) بغلمان يلعبون وفيهم غلام منهم ينادونه: يا مات الدين، فيجيبهم.فوقف عليهم داود (عليه السلام) فقال: يا غلام ما اسمك؟
فقال: مات الدين.
قال: ومن سماك بهذا الاسم؟ قال: أمي.
ص: 97
........................
قال: أين أمك؟
قال: في بيتها.
قال: امض بين يدي إليها.
فمضى الغلام فاستخرج أمه، فقال لها داود: هذا ابنك؟
قالت: نعم.
قال: ما اسمه؟
قالت: مات الدين.
قال: ومن سماه بهذا الاسم؟
قالت: أبوه.
قال: وأين أبوه؟
قالت: خرج مع قوم في سفر لهم لتجارة فرجعوا ولم يرجع، فسألتهم عنه فقالوا: مات، وسألتهم عن ماله، فقالوا: مات وذهب ماله، فقلت: هل أوصاكم في أمري بشيء؟ فقالوا: نعم أوصانا وأعلمنا أنك حبلى فمهما ولدت من ولد فسميه مات الدين.
قال: وأين هؤلاء القوم؟
قالت: حضور.
قال: امضي معي إليهم.
فجمعهم وفعل في أمرهم مثل هذا الذي فعلته، وحكم بما حكمت وقال للمرأة: سمي ابنك (عاش الدين)(1).
ص: 98
-------------------------------------------
مسألة: ينبغي بيان أن الزعيم محمد (صلي الله عليه و آْله)، ومعنى ذلك أنه (صلي الله عليه و آْله) هو الضامن لبيان أحكام الله تعالى، والمنفذ لها في الدنيا وفي الآخرة، فهو الذي له الزعامة من قبل الله في يوم القيامة، فان أمور الآخرة أيضاً بنيت على الوسائط والمنفذين كما ورد بالنسبة إلى الملائكة، والأنبياء والمرسلين (عليهم السلام)، والأئمة المعصومين (عليهم السلام)، والشهداء والصالحين والولدان المخلدين وغير ذلك.
وكلي المطلب أن الرسول (صلي الله عليه و آْله) هو أفضل الخلائق على الإطلاق، وهو مرسَل لكل الخلائق على الإطلاق - إنساً وجنا وملكاً وما نعلم وما لا نعلم - وهو عين الله ويده في كل العوالم على الإطلاق، ومن المصاديق عالم الآخرة، يليه في كل ذلك مباشرة أمير المؤمنين ومولى الموحدين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إذ هو نفس رسول الله (صلي الله عليه و آْله) بنص الآية الشريفة: «وأنفسنا وأنفسكم»(1) ولعشرات الأدلة الأخرى.
قال رسول الله (صلي الله عليه و آْله) في حديث: «وجعل اسمي في القرآن محمدا فأنا محمود في جميع القيامة، في فصل القضاء، لا يشفع أحد غيري، وسماني في القيامة حاشرا يحشر الناس على قدمي، وسماني الموقف أوقف الناس بين يدي الله جل جلاله»(2)
ص: 99
........................
وقال رسول الله (صلي الله عليه و آْله) لعلي بن أبي طالب (عليه السلام): «إذا كان يوم القيامة يؤتى بك يا علي على نجيب من نور وعلى رأسك تاج قد أضاء نوره وكاد يخطف أبصار أهل الموقف، فيأتي النداء من عند الله جل جلاله: أين خليفة محمد رسول الله؟ فتقول: ها أنا ذا، قال: فينادي المنادي: يا علي أدخل من أحبك الجنة، ومن عاداك النار، فأنت قسيم الجنة وأنت قسيم النار»(1).
وقال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): «إذا كان يوم القيامة أتاني جبرئيل وبيده لواء الحمد وهو سبعون شقة، الشقة منه أوسع من الشمس والقمر، فيدفعه إلي فآخذه وأدفعه إلى علي بن أبي طالب».
فقال رجل: يا رسول الله وكيف يطيق علي على حمل اللواء وقد ذكرت أنه سبعون شقة الشقة منه أوسع من الشمس والقمر؟
فغضب رسول الله (صلي الله عليه و آْله) ثم قال: «يا رجل إنه إذا كان يوم القيامة أعطى الله عليا من القوة مثل قوة جبرئيل، ومن الجمال مثل جمال يوسف، ومن الحلم مثل حلم رضوان، ومن الصوت ما يداني صوت داود، ولولا أن داود خطيب في الجنان لأعطي علي مثل صوته، وإن عليا أول من يشرب من السلسبيل والزنجبيل، وإن لعلي وشيعته من الله عزوجل مقاما يغبطه به الأولون والآخرون»(2).
ص: 100
........................
وفي بعض النسخ: (والغريم)، والمراد: طالب الحق، يعني أنك - يا ابن أبي قحافة - تقابل رسول الله (صلي الله عليه و آْله) في يوم القيامة ويطالبك بما فعلت، لأنك أخذت حقه إذ قال (صلي الله عليه و آْله): «من آذاها فقد آذاني»(1) ولأنك عصيت أمره وخالفت قراره حيث منحني فدك فغصبتها.
قولها (عليها السلام): «والموعد القيامة» أي أن الميعاد بيننا وبينك يوم القيامة، حيث نلتقي هناك ونتخاصم بين يدي الله سبحانه وتعالى وبحضور الرسول (صلي الله عليه و آْله) بل وبحضور الأشهاد كافة، فإن الناس في يوم القيامة حيث تكون أبصارهم حديداً يرون من مسافات بعيدة هذا الموقف والملايين من أمثال هذه المواقف، قال تعالى: «فبصرك اليوم حديد»(2).
ص: 101
-------------------------------------------
مسألة: النهي عن المنكر بالقلب وباللسان وبسائر الجوارح له درجات، ولا ينتقل للأشد إلا مع عدم كفاية الأضعف في الجملة، كما لا يكتفى بالأضعف مع القدرة على الأشد والحاجة إليه وعدم كفاية الأدنى منه.
وهي (صلوات الله عليها) حيث تعذر عليها النهي عن المنكر الجوارحي (كاليد مثلاً) في مورد كان يقتضيه حيث لم يرتدع القوم بدونه، اكتفيت بالنهي القولي، مضافاً إلى القلبي، وحيث أمكن لها الأشد من مراتبه قامت به وكان منه هذه الجمل هاهنا: «وعند الساعة يخسر المبطلون…».
قال المحقق (رحمة الله): «ومراتب الإنكار ثلاث: بالقلب وهو يجب وجوباً مطلقاً، وباللسان، وباليد، ويجب دفع المنكر بالقلب أولاً، كما إذا عرف أن فاعله ينزجر بإظهار الكراهة، وكذا إن عرف أن ذلك لا يكفي وعرف الاكتفاء بضرب من الإعراض والهجر وجب واقتصر عليه.
ولو عرف أن ذلك لا يرفعه انتقل إلى الإنكار باللسان مرتباً للأيسر من القول فالأيسر.
ولو لم يرتفع إلا باليد، مثل الضرب وما شابهه جاز ولو افتقر إلى الجراح أو القتل هل يجب؟ قيل نعم، وقيل لا إلا بإذن الإمام (عليه السلام) وهو الأظهر»(1).
ص: 102
........................
وقد ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام): «إذا ترك امرئ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذن بوقاع من الله جل اسمه»(1).
وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «ويل لقوم لا يدينون الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(2).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «غاية الدين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(3).
وقال (عليه السلام): «من نهى عن المنكر أرغم أنوف الفاسقين»(4).
وقال (عليه السلام): «إذا رأى أحدكم المنكر ولم يستطع أن ينكره بيده ولسانه وأنكره بقلبه وعلم الله صدق ذلك منه فقد أنكره»(5).
وقال (عليه السلام): «... فمنهم المنكر للمنكر بقلبه ولسانه ويده فذلك المستكمل لخصال الخير، ومنهم المنكر بلسانه وقلبه التارك بيده فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير ومضيع خصلة، ومنهم المنكر بقلبه والتارك بيده ولسانه فذلك الذي ضيّعأشرف الخصلتين من الثلاث وتمسك بواحدة، ومنهم تارك لإنكار المنكر بلسانه وقلبه ويده فذلك ميت الأحياء»(6).
ص: 103
........................
قولها (عليها السلام): «وعند الساعة يخسر المبطلون»، فإن المبطل وإن كان يخسر في الدنيا أيضاً، ويخسر في القبر وفي عالم البرزخ، إلا أن الخسارة الكبرى في الحشر وعند قيام الساعة وذلك بحضور الناس والأشهاد وهي أمضّ، حيث إن في الدنيا الحق والباطل مختلطان كثيراً ما، وفي القبر لا يرى الخسارة إلا نفس الإنسان وبعض الملائكة، وربما بعض البشر، إضافة إلى أن في الدنيا والقبر خسارة جزئية ونسبية وبعض العقاب، أما في الساعة فتظهر الخسارة الكبرى وأمام كل الناس، أو يقال: إن الساعة هي (الموعد الأصلي) للمستقبل النهائي، وبها تحديد المصير والحشر إلى جهنم وبئس المهاد، فكان الأنسب النسبة إليها دون جهنم، فتأمل.
أما ما سبقها في البرزخ وقبله فهو مجرد رشحات ونماذج.
وفي بعض النسخ: (وعند الساعة ما تخسرون)، وعليه تكون (ما) مصدرية أي (في القيامة خسرانكم)، ويحتمل كون (ما) موصولة والفعل محذوف اكتفاء بالدال عليه، أي (وعند الساعة تجدون أو تشاهدون الذي تخسرونه) وهو مشير إلى تجسم الأعمال أيضاً.
ولعلها (صلوات الله عليها) أشارت إلى قوله سبحانه في سورة الزمر: «قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين * لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون»(1).
وقوله تعالى في سورة الشورى: ]وَتَرَى
الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاالْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ
ص: 104
........................
يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ ءامَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ»(1).
وفي تفسير هذه الآية روى علي بن إبراهيم القميS: ««وترى الظالمين» آل محمد حقهم «لما رأوا العذاب» وعلي (عليه السلام) هو العذاب في هذا الوجه «يقولون هل إلى مرد من سبيل» فنوالي علياً (عليه السلام) «وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل» لعلي (عليه السلام) «ينظرون» إلى علي «من طرف خفي وقال الذين آمنوا» يعني آل محمد وشيعتهم «إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إنّ الظالمين» آل محمد حقهم «في عذاب مقيم» قال (عليه السلام): والله يعني النصاب الذين نصبوا العداوة لعلي وذريته (عليهم السلام)»(2).
ولعل المراد من (الساعة) في قولها (عليها السلام): أعم من المحشر والنار كما ربما يكون ظاهر الآية المباركة. والخلاصة: لقد حددت (صلوات الله عليها) في هذه الجمل القصيرة كافة ما يرتبط بالقضية: فالحَكَم هو الله جل وعلا، والقاضي والزعيم هو رسوله (صلي الله عليه و آْله)، ومكان القضاء وزمانه هو يوم القيامة، إذ (الموعد) مصدر ميمي يأتي للمكان والزمان، والنتيجة هي (وعند الساعة يخسر المبطلون) والخاسر هو ابن أبي قحافة وحزبه، ورد فعلهم سيكون الندم، والجزاء الإلهي هو «فسوف تعلمون من يأتيهعذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم»(3).
ص: 105
-------------------------------------------
مسألة: الدنيا دار عمل وجزاء في الجملة، وليست دار حساب كذلك، أما الآخرة فهي دار حساب وجزاء(1) دون عمل، ولذلك قالت (عليها السلام): «ولا ينفعكم إذ تندمون»، وقد ورد في الحديث: «اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل»(2).
وقال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): «الدنيا مزرعة الآخرة»(3).
نعم دل الدليل شرعاً وعقلاً على أن الله تعالى يمتحن في الآخرة عباده القاصرين الذين لم تبلغهم الحجة اللازمة في الدنيا، فتكون الآخرة محل عمل في الجملة(4)، كما أن الدنيا مكان حساب وجزاء في الجملة، كما يفصح عن ذلك إقرار الشارع تشريعاً والتحقق في الجملة تكويناً للحدود والديات والقصاص والمعاملات وما أشبه
ص: 106
........................
وفي الحديث قال الإمام الرضا (عليه السلام): «ما من فعل فعله العباد من خير وشر إلا ولله فيه القضاء، قال الراوي: فما معنى هذا القضاء؟ قال (عليه السلام): الحكم عليهم بما يستحقونه على أفعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة»(1).
وأوحى الله عزوجل لموسى (عليه السلام): «إن الدنيا دار عقوبة عاقبت فيها آدم عند خطيئته»(2).
وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «في كتاب علي (عليه السلام) ثلاث خصال لا يموت صاحبهن أبداً حتى يرى وبالهن: البغي وقطيعة الرحم واليمين الكاذبة يبارز الله بها»(3).
وعن أبي عبد الله قال (عليه السلام): «إن في كتاب علي (عليه السلام) أن آكل مال اليتامى ظلماً سيدركه وبال ذلك في عقبه من بعده في الدنيا، فإن الله عزوجل يقول: «وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً»(4).
وأما في الآخرة فإن الله عزوجل يقول: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً»(5)»(6)
ص: 107
........................
وعن أبي عبد الله (عليه السلام): «ما من مؤمن يخذل مؤمناً أخاه وهو يقدر على نصرته إلا خذله الله في الدنيا والآخرة»(1).
مسألة: لا تقبل التوبة والندم في يوم القيامة، بل يجب التوبة بشرائطها في دار الدنيا، قال عزوجل: «وَلَيْسَت التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أوْلَئِكَ أعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً ألِيماً»(2).
وقال سبحانه وتعالى لفرعون: «ءالآن وقد عصيت قبلُ وكنت من المفسدين»(3).
أما من احتمل أن أهل النار لو تابوا إلى الله لتاب عليهم فخلاف ظاهر الآيات والروايات، ولا يجمع مع قولها (عليها السلام) «ولا ينفعكم إذ تندمون» مضافاً إلى أنه لو سُلّم صحة الكبرى فيرد عليه:
أولاً: إن الندم أعم من التوبة، إذ رب نادم غير مصمم على الترك بل عازم عليه، كما في قوله تعالى:«ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه»(4).
وكما يشعر به قوله تعالى: «إنها كلمة هو قائلها»(5).
ص: 108
........................
وكما قال ابن أبي قحافة في مرضه: «ليتني كنت تركت بيت فاطمة لم أكشفه»(1).
وكما قال: «ليتني في ظلة بني ساعدة ضربت يدي على أحد الرجلين فكان هو الأمير وكنت الوزير، عنى عمر وأبا عبيدة»(2).
وكما قال: (ليتني كنت بعرة) أو (شعرة)(3)
ص: 109
ص: 111
ص: 112
ص: 114
........................
وثانياً: إن كلام الصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها) خاص وذاك عام.
وثالثاً: قد يراد عدم النفع في الجملة، فتأمل.
ورابعاً: إنهم لا يوفقون للتوبة.
وفي الحديث عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: رأيت أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه السلام) وهو خارج من الكوفة، فتبعته من ورائه حتى إذا صار إلى جبانة اليهود ووقف في وسطها ونادى: يا يهود، يا يهود، فأجابوه من جوف القبور: لبيك لبيك مطلاع، يعنون بذلك يا سيدنا.
فقال: كيف ترون العذاب؟
فقالوا: بعصياننا لك كهارون فنحن ومن عصاك في العذاب إلى يوم القيامة.
ص: 115
........................
ثم صاح صيحة كادت السماوات ينقلبن، فوقعت مغشياً على وجهي من هول ما رأيت، فلما أفقت رأيت أمير المؤمنين (عليه السلام) على سرير من ياقوتة حمراء على رأسه أكليل من الجوهر وعليه حلل خضر وصفر ووجهه كدارة القمر، فقلت: يا سيدي هذا ملك عظيم!
قال: نعم يا جابر إن ملكنا أعظم من ملك سليمان بن داود (عليه السلام)، وسلطاننا أعظم من سلطانه.
ثم رجع (عليه السلام) ودخلنا الكوفة، ودخلت خلفه إلى المسجد فجعل يخطو خطوات وهو يقول: لا والله لا فعلتَ، لا والله لا كان ذلك أبداً!
فقلت: يا مولاي لمن تكلم ولمن تخاطب وليس أرى أحداً؟
فقال (عليه السلام): يا جابر كشف لي عن برهوت فرأيت شنبويه وحبتر وهما يعذبان في جوف تابوت في برهوت، فنادياني:يا أبا الحسن يا أمير المؤمنين ردنا إلى الدنيا نقر بفضلك ونقر بالولاية لك.
فقلت: لا والله لا فعلت، لا والله لا كان ذلك أبداً، ثم قرأ هذه الآية: «ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون»(1) يا جابر وما من أحد خالف وصي نبي إلا حشره الله أعمى يتكبكب في عرصات القيامة»(2).
قولها (عليها السلام): «ولا ينفعكم إذ تندمون» إذ قد سبق أن ندامة الإنسان في الآخرة لا تنفع، نعم الندامة في الدنيا تنفع وذلك للانقلاع والتدارك، قال سبحانه: «رب ارجعون * لعليّ أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو
ص: 116
........................
قائلها»(1).
وربما يظهر من تعبيرها (صلوات الله عليها) ب- (إذ) دون (إذا) أو (لو) أنهم سيندمون فإن إذ طرفية، لكن ندمهم غير نافع، مضافاً إلى عدم عزمهم على الترك، بل العود لو عادوا.
عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: «قال جابر لأبي جعفر (عليه السلام): جعلت فداك يا بن رسول الله، حدثني بحديث في فضل جدتك فاطمة (عليها السلام) إذا أنا حدثت به الشيعة فرحوابذلك.
قال أبو جعفر (عليه السلام): حدثني أبي عن جدي عن رسول الله (صلي الله عليه و آْله) قال: «إذا كان يوم القيامة نصب للأنبياء والرسل منابر من نور فيكون منبري أعلى منابرهم يوم القيامة ثم يقول الله: يا محمد اخطب.
فاخطب بخطبة لم يسمع أحد من الأنبياء والرسل بمثلها.
ثم ينصب للأوصياء منابر من نور، وينصب لوصيي علي بن أبي طالب (عليه السلام) في أوساطهم منبر من نور، فيكون منبره (منبر علي) أعلى منابرهم.
ثم يقول الله: يا علي اخطب.
فيخطب بخطبة لم يسمع أحد من الأوصياء بمثلها.
ص: 117
........................
ثم ينصب لأولاد الأنبياء والمرسلين منابر من نور فيكون لابنيّ وسبطيّ وريحانتيّ أيام حياتي منبر (منبران) من نور.
ثم يقال لهما: اخطبا، فيخطبان بخطبتين لم يسمع أحد من أولاد الأنبياء والمرسلين بمثلهما.
ثم ينادي المنادي (مناد) وهو جبرئيل (عليه السلام): أين فاطمة بنت محمد، أين خديجة بنت خويلد، أين مريم بنت عمران، أين آسية بنت مزاحم، أين أم كلثوم، أين أم يحيى بن زكريا؟
فيقمن، فيقول الله تبارك وتعالى: يا أهل الجمع لمن الكرم اليوم؟
فيقول محمد وعلي والحسن والحسين وفاطمة: (لله الواحد القهار).
فيقول الله جل جلاله (تعالى): يا أهل الجمع إني قد جعلت الكرم لمحمد وعلي والحسن والحسين وفاطمة، يا أهل الجمع طأطئوا الرؤوس وغضوا الأبصار، فان هذه فاطمة تسير إلى الجنة، فيأتيها جبرئيل بناقة من نوق الجنة مدبجة الجنبين، خطامها من اللؤلؤ المحقق الرطب، عليها رحل من المرجان، فتناخ بين يديها، فتركبها.فيبعث إليها مائة ألف ملك فيصيروا على يمينها، ويبعث إليها مائة ألف ملك يحملونها على أجنحتهم حتى يصيروها (يسيروها) على باب الجنة، فإذا صارت عند باب الجنة تلتفت!.
فيقول الله: يا بنت حبيبي ما التفاتك وقد أمرت بك إلى جنتي (الجنة)؟
فتقول: يا رب أحببت أن يعرف قدري في مثل هذا اليوم.
ص: 118
........................
فيقول الله تعالى: يا بنت حبيبي ارجعي فانظري من كان في قلبه حب لك أو لأحد من ذريتك خذي بيده، فأدخليه الجنة.
قال أبو جعفر (عليه السلام): والله يا جابر إنها ذلك اليوم لتلتقط شيعتها ومحبيها كما يلتقط الطير الحب الجيد من الحب الرديء، فإذا صار شيعتها معها عند باب الجنة، يلقي الله في قلوبهم أن يلتفتوا، فإذا التفتوا يقول الله: يا أحبائي ما التفاتكم وقد شفعت فيكم فاطمة بنت حبيبي؟
فيقولون: يا رب أحببنا أن يعرف قدرنا في مثل هذا اليوم!
فيقول الله: يا أحبائي ارجعوا وانظروا من أحبكم لحب فاطمة، انظروا من أطعمكم لحب فاطمة، انظروا من كساكم لحب فاطمة، انظروا من سقاكم شربة في حب فاطمة، انظروا من رد عنكم غيبة في حب فاطمة، خذوا بيده وادخلوه الجنة.
قال أبو جعفر (عليه السلام): والله لا يبقى في الناس إلا شاك أو كافر أو منافق، فإذا صاروا بين الطبقات نادوا كما قال الله تعالى: «فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم»(1).. فيقولون: «فلو أنّ لنا كرّة فنكون من المؤمنين»(2).
قال أبو جعفر(عليه السلام): هيهات هيهات، منعوا ما طلبوا،«ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وانهم لكاذبون»(3)، (4).
ص: 119
-------------------------------------------
مسألة: إن الأخبار المستقبلية لابد وأن يكون لها محل استقرار وتقرر وثبوت وظهور، مثلاً: إذا قال: بأن زيداً سوف يقدم، فان قدومه بعد غد - مثلاً- هو مستقر هذا الخبر والنبأ. وهكذا.
ولا يختص ذلك بالمستقبلية، بل والماضية أيضاً، والحالية كذلك كما لايخفى.
فكل نبأ صادق له مستقر زماني ومكاني إذا كان المخبر عنه من غير المجردات، وإلا كان له مستقر حقيقي وإن كان دون زمان ومكان وشبههما، ولكل نبأ مستقر في إحدى العوالم الأربعة في عدد منها أو فيها كلها(1)، أما الخبر الكاذب فليس له مستقر عيني كما لا يخفى، والأمور الاعتبارية لها ظرف تقررها كما فصلناه في (الأصول).
والظاهر أن المنصرف من آية «لكل نبأ مستقر»(2) هو الأخبار الصادقة، ولو قصد الأعم كان المراد من المستقر الأعم من المستقر العيني وغيره.
ص: 120
-------------------------------------------
مسألة: يظهر من اقتباسها (عليها السلام) ذلك من الآية الشريفة: «فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم»(1)، الحكم بكفر الذين انقلبوا على أعقابهم، قال تعالى: «أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم»(2)، وقد سبق أن المراد بالكفر هل هو موضوعي أو حكمي.
وفي الآية إشارة إلى الإيلام النفسي والجسدي، فإن الخزي إيلام نفسي، والعذاب إيلام جسدي.
قولها (عليها السلام): «وسوف...» أي سوف تعلمون عند وقوع مستقر العذاب من يأتيه عذاب يخزيه، فإن العذاب يخزي الإنسان نفساً، ويؤلمه جسماً.
وقد اقتبست (عليها الصلاة والسلام) كلامها هذا من مواضع من القرآن الحكيم، والخطاب في كلها إلى الكفار الذين وقفوا بوجه الأنبياء (عليهم السلام)، فالذي وقف بوجه فاطمة (عليها السلام) كأنما وقف بوجه رسول الله (صلي الله عليه و آْله) وسائر الأنبياء (عليهم السلام):
أحدها: سورة الزمر خطاباً للرسول الأعظم (صلي الله عليه و آْله): «قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون * من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم»(3).
ص: 121
........................
والآخر: سورة هود في قصة نوح (على نبينا وآله وعليه السلام) حيث قال: «وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون * فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم»(1).
فالعذاب الذي أخزاهم في الدنيا هو الذلة في الغرق، والعذاب الذي يقيم عليهم في الآخرة هو النار «وبئس المصير»(2).
والمراد من العلم في (فسوف تعلمون) في المقام هو علم حق اليقين أو عين اليقين في الآخرة عند مشاهدة العذاب، أو المراد تجدون، إذ أن ظالميها (عليها السلام) كانوا عالمين بالجزاء الإلهي وشدة عقابه فلا دلالة في قولها (عليها السلام) على عدم علمهم كما لايخفى.
وفي سورة هود قال تعالى في قصة شعيب (على نبينا وآله وعليه السلام): «قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط * ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل، سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب»(3).
ص: 122
-------------------------------------------
مسألة: الظاهر أنه ليس المراد ب- (ثم رمت بطرفها نحو الأنصار) النظر إليهم، بل المراد النظر إلى جهتهم، فإن النظر وإن كان جائزاً إذا كان بدون ريبة وشهوة إلى مثل الوجه وما أشبه ذلك، من الطرفين على رأي المشهور بين الفقهاء، لكن الظاهر في المقام أن المراد أنها (عليها السلام) رمت بطرفها من وراء الستر نحو جهة الأنصار، أي المكان الذي علمت أن الأنصار كانوا مستقرين فيه، فإنه المستفاد من كونها (عليها السلام) جلست خلف الستر منذ بداية الخطبة.
وعلى هذا فلا يستند إلى هذا الكلام (ثم رمت) في جواز النظر وحدوده، بل الاستناد بالأدلة الأخرى(1).
مسألة: التعددية الإيجابية، والتمييز على إثرها بشعار أو عمل بين فريقين من المؤمنين جائز، وذلك التنافس المطلوب، ولا ينافي الأخوة الإسلامية والأمة الواحدة كما لا يخفى.
ومن مصاديقه ما يفهم من كلامها (عليها السلام) من أن المهاجرين والأنصار كانوا يجلسون متمايزين جماعة هنا وجماعة هناك.
ص: 123
........................
وقد ذكرنا في بعض الكتب الفقهية: أن الرسول الأعظم (صلي الله عليه و آْله) جعل المسلمين على حزبين - وذلك لحفظ التعدديةوإيجاد التنافس البناء -:
حزب المهاجرين.
وحزب الأنصار.
وكان لكل حزب تجمعه وخصوصياته، وإن لم يكونوا مختلفين في شتى الأحكام والطقوس الإسلامية العبادية والمعاملية والقضائية والعسكرية وغيرها، بل كانوا أخوة مؤمنين.
وهناك رواية ذكرها (جامع المقاصد) و(المسالك) و(الجواهر) وغيرهم يظهر منها أن المسلمين عرفوا بهذا اللفظ في زمان رسول الله (صلي الله عليه و آْله).
وفي كتاب (السبق والرماية)(1) حيث قال (صلي الله عليه و آْله) في قصة مذكورة: (أنا مع الحزب الذي فيه ابن الأدرع) (2).
لكن الحزب في الإسلام ليس بالمفهوم الغربي الذي هو قائم على أساس البرلمان الذي بيده التشريع، إذ التشريع خاص بالله سبحانه وتعالى، والرسول والأئمة الطاهرون (عليهم السلام) هم المبلغون لتلك الأحكام وهم (عليهم السلام) أوعية مشيئة الله عزوجل(3).
ص: 124
........................
نعم للفقهاء التطبيق، وكذلك الاستنباط من الكتاب والسنة والإجماع والعقل، ولذا ذكرنا في بعض الكتب أن البرلمان هو(للتأطير) لا للتشريع(1).
إذن فتقسيم الرسول (صلي الله عليه و آْله) المسلمين إلى قسمين: مهاجرين وأنصار كان لإيجاد التنافس الإيجابي في إطار الشرع لا خارجه، وكان للتسارع والتسابق نحو الخير والفضيلة كما هو أوضح من أن يخفى.
وقد تأسى (صلي الله عليه و آْله) في ذلك بالقرآن الكريم حيث تكررت هذه الألفاظ فيها، ووردت أكثر من مرة، وكان ذلك من حكمة رسول الله (صلي الله عليه و آْله) المستقاة من الوحي الإلهي، لأن التعددية توجب التنافس بينهما، قال سبحانه وتعالى: «فاستبقوا الخيرات»(2).
وقال عزوجل: «وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين»(3).
وحتى أنه سبحانه جعل الجنة في مضمار المنافسة والمسابقة فقال عز من قائل: «وفي ذلك فليتنافس المتنافسون»(4).
بل إن حكمة الرب في الكون قائمة على ذلك، كما قال تعالى: «إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا»(5).
ص: 125
........................
فالتقسيم والتشقيق والتعددية سنة إلهية ينبغي صبها في التعاون والتكامل والتنافس الإيجابي حسب المقرر شرعاً.وفي التاريخ نشاهد مواطن عديدة أن الرسول (صلي الله عليه و آْله) كان (يوازن) بين المجموعتين، وكان يلتجأ تارة إلى هذه في قبال تلك - عندما تعدل عن الحق - وكذلك العكس، كما ورد في قصة تكلمه (صلي الله عليه و آْله) عند احتضاره، فإنه (صلي الله عليه و آْله) عندما رد عليه عمر بقوله الجارح: (إن الرجل ليهجر) (1) أخرجه النبي (صلي الله عليه و آْله) مع
ص: 126
ص: 127
ص: 128
ص: 129
........................
جماعته من غرفته وأمر أن يأتوا بالأنصار فذكر لهم ما أراد أن يذكر للمهاجرين وإن لم يكتبه(1).
وقد يسأل سائل: لماذا لم يخرج النبي (صلي الله عليه و آْله) القائل وجماعته فقط ويتكلم مع بقية المهاجرين ويوصي لهم بما أراد ويكتبها؟
الجواب: لأنهم كانوا سيكررون دعوى الرجل (إنه ليهجر) خوفاً أو طمعاً أو عصبية، وكان ذلك مما يجعلهم أن يعمموا دعواهم في سائر أوامره ونواهيه (صلي الله عليه و آْله) ويسعوا في إسقاطها عن الحجية. إضافة إلى ما يتضمنه ذلك من التأديب ومن تكريس واقع التعددية الهادفة التي تستقي قيمتها من محاولة الوصول للحق لا لوأده، حيث أخرجهم الرسول (صلي الله عليه و آْله) وطلب الأنصار.
ص: 130
........................
قولها (عليها السلام): (ثم رمت بطرفها نحو الأنصار)، الطرف: مصدر طرفت عين فلان إذا نظرت، وهو أن ينظر ثم يغمض، كما يطلق الطرف أيضاً على العين نفسها، فإنها (عليها الصلاةوالسلام) كانت توجه خطابها - عموماً - لمن غصب حقها مباشرة، ومن الطبيعي أن يكون المهاجرون أيضاً مورد هذا الخطاب حيث آزروه على اغتصاب الخلافة وفدك.
ص: 131
مسألة: ينبغي - في الجملة - توجيه الخطاب لخصوص جمع، رغم توجيهه من قبل لمن يعمهم، فإنه أحرى بالتأثير وأوقع في القلب ومن مصاديق «فذكّر»((2) و(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
ولذلك ولغيره، وجهت (عليها السلام) الخطاب للأنصار بعد أن شملتهم بخطابها السابق: (أيها المسلمون) وغيره، فقالت: (يا معشر الفتية).
المعشر: عبارة عن الجماعة.
والفتية: جمع فتى وهو الشاب، وقد يطلق على الإنسان الكريم.
فقد أرادت (صلوات الله عليها) استثارة حمية الأنصار وغيرتهم في مقابل المهاجرين لعلهم يقولون شيئاً من الحق، ويتخذون موقفاً ضد الباطل، لكن الخوف والرعب كان قد استولى عليهم نتيجة الإرهاب الشديد الذي ساد بعد استشهاد الرسول الأعظم (صلي الله عليه و آْله) والذي كان التخطيط له قد جرى من قبل الخليفة وجماعته قبل وفاة الرسول (صلي الله عليه و آْله) حيث تواطؤوا على ذلك..
ص: 132
........................
وقد روي عن رسول الله (صلي الله عليه و آْله) قوله: «إن أهلبيتي سيلقون بعدي من أمتي قتلاً وتشريداً وإن أشد أقوام لنا بغضاً بنو أمية وبنو المغيرة وبنو مخزوم»(1).
ولهذا ابتدؤوا بعقد الرايات لعكرمة بن أبي جهل وعمومته الحارث بن هشام وغيرهم من بني مخزوم على بلاد اليمن..
وسموا خالد بن الوليد المخزومي الفاسق الذي قال فيه النبي (صلي الله عليه و آْله): «اللهم إني أبرأ إليك مما فعله خالد»(2) سيف الله، وسلطوه على مشتهياته من فروج المسلمين ودمائهم وأموالهم(3)
ص: 133
ص: 134
ص: 135
......................
وسموا أبا عبيدة الجراح(1) المجروح أمين الأمة وجعلوه مشيراً لهم..
وأرضوا أبا سفيان بتفويض إمارة الشام ولده يزيد(2)، ووجهوا أسامة مع
ص: 136
........................
من كان في جيشه من الذين خافوا فتنتهم، مظهرين له إبقاءه على إمارته ليسكت عن مخالفتهم حتى إذا انتهى إلى نواحي الشام عزلوه واستعملوا مكانه يزيد بن أبي سفيان، فما كان بين خروج أسامةورجوعه إلى المدينة إلاّ نحواً من أربعين يوماً، فلما قدم المدينة قام على باب المسجد ثم صاح: يا معشر المسلمين عجباً لرجل استعملني عليه رسول الله (صلي الله عليه و آْله) فتآمر علي وعزلني(1).
فغصب الخلافة كان تواطؤ بين الذين تصدّوا للغصب وبين آخرين كبعض بني تميم وبني عدي وطوائف من قريش والسرّ في أن بني مخزوم وبني أمية وغيرهم من صناديد قريش لم يتصدوا لغصبها بأنفسهم وإنما حملوا ابن أبي قحافة على ذلك، لعدم سابقيتهم في الإسلام وسرعة توجه التهمة إليهم بمعاداة أمير المؤمنين علي (صلي الله عليه و آْله) وأهل بيته، بل بمعاداة الأنصار أيضاً، فحملوا ابن أبي قحافة على أكتاف الناس رغماً لعلي (عليه السلام) ولهم(2).
وقد ورد في الحديث عن الإمام العسكري (عليه السلام) حيث سأله أحد أصحابه أن أحد المخالفين طرح عليه هذه الشبهة أن فلاناً وفلاناً هل أسلما طوعاً أو كرهاً، فقال (عليه السلام): «لم لم تقل له: بل أسلما طمعاً، وذلك بأنهما كانا يجالسان اليهود ويستخبرانهم عما كانوا يجدون في التوارة وفي سائر الكتب المتقدمة الناطقة بالملاحم من حال إلى حال، من قصة محمد (صلي الله عليه و آْله) ومن عواقب أمره، فكانت اليهود تذكر أن محمداً يسلط على العرب كما كان بخت نصر سلط على بني إسرائيل، ولابد له من الظفر بالعرب كما ظفر بخت نصر ببني إسرائيل».
ص: 137
........................
ثم قال (عليه السلام): «فأتيا محمداً فساعداه على شهادة أن لا إله إلا الله وبايعاه طمعاً في أن ينال كل واحد منهما من جهته ولاية بلد إذا استقامت أموره واستتبت أحواله، فلما آيسا من ذلك تلثما وصعدا العقبة مع عدة من أمثالهما من المنافقين على أن يقتلوه(صلي الله عليه و آْله) فدفع الله تعالى كيدهم وردهم بغيظهم لم ينالوا خيراً، كما أتى طلحة والزبير علياً (عليه السلام) فبايعاه وطمع كل واحد منهما أن ينال من جهته ولاية بلد، فلما آيسا نكثا بيعته وخرجا عليه» الحديث(1).
مسألة: من أساليب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: شفع الدليل العقلي بالإثارة العاطفية، وتحريك العواطف نحو الالتزام بالحق أو الدفاع عن المظلوم، وقد ثبت ذلك في (علم النفس) أيضاً، وربما كان من ذلك قوله تعالى: «وإنك لعلى خلق عظيم»(2)، وقوله سبحانه: «فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين»(3).
وهذا (4) هو ما صنعته فاطمة الزهراء (عليها السلام) حيث استثارت همم الأنصار بقولها: «يا معشر النقيبة أو الفتية» تحريكاً للفتوة فيهم، وبقولها: «وأعضاد
ص: 138
........................
الملة…» تذكيراً لهم بماضيهم المشرق.
لا يقال: كيف خاف أولئك الذين آووا ونصروا كما في القرآن الحكيم(1) وبذلوا النفس والنفيس في سبيل الرسول (صلي الله عليه وآْله) والإسلام؟
لأنه يقال: من الواضح أن الناس يرهبون حكومات الانقلاب دائماً، فإن الحكومة العسكرية عادة تنسف الناس مالاً وعرضاً ودماً، وفي حياة الرسول (صلي الله عليه و آْله) كان (صلي الله عليه و آْله) هو قطب الرحى وعمود الخيمة الذي يستندون إليه وإلى حكومته وكانت به استقامتهم وصبرهم وصمودهم، فلما توفي (صلي الله عليه و آْله) وتحولت الحكومة إلى حكومة عسكرية إرهابية وتعرضوا لامتحان عسير، سقطوا في الامتحان وتراجعوا حتى عن الدفاع بالكلام إلا القليل منهم.
وكان ذلك كما أخبر جل وعلا: «أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم»(2). وكما جرى على مر التاريخ بالنسبة إلى الكثير من الأقوام، حيث قال تعالى: «فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين»(3)، و…
وبالنسبة إلى الكثير من الأفراد حتى من امتلك الاسم الأعظم كما في قصة بلعم بن باعوراء(4) حيث قال سبحانه:
ص: 139
........................
«واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين»(1).
وتلك هي سنة الله في الحياة: «ألم * أحسب الناس أن يتركوا أنيقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين»(2).
هذا مضافاً إلى أن العديد ممن كانوا يدعون الإسلام كانوا يبغضون أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) لأجل هلاك آبائهم وإخوانهم وأولادهم بيده (عليه السلام) في غزوات النبي (صلي الله عليه و آْله) حتى روي أنه لم يكن بيت من قريش إلا ولهم عليه دعوى دم أراقه في سبيل الله(3)، فإن المشركين عندما كانوا يهاجمون رسول الله (صلي الله عليه و آْله) حتى يقتلوه كان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) هو الذي يدافع عن الرسول (صلي الله عليه و آْله) ويقتل المشركين.
وكان العديد منهم يحسدون أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) على ما آتاه الله من فضله، خصوصاً بنو أمية وبنو المغيرة وبنو مخزوم ومن أشبه.
قال تعالى: «أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله»(4).
وفي الحديث الشريف: «يعني بالناس ههنا أمير المؤمنين والأئمة»(5)
ص: 140
........................
مسألتان: استعداء طائفة من المؤمنين على طائفة أخرى محرم، قال تعالى: «فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ»(1). وقال سبحانه: «وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ»(2). وقال عزوجل: «إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء»(3).
وقال تعالى: «فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ»(4).
والاستنصار بطائفة على طائفة أخرى دفاعاً عن الحق والمظلوم واجب، قال تعالى: «وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيء إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»(5). ولذلك استنصرت فاطمة الزهراء (عليها السلام) الأنصار على المهاجرين كما هو أبين من الشمس.
بل قال تعالى: «وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ»(6).
ص: 141
مسألة: المشتق حقيقة فيما انقضى عنه المبدأ بلحاظ حال التلبس، فإطلاقها (عليها السلام) (أعضاد الملة) عليهم حقيقة بهذا اللحاظ، ومجاز لو أريد الحال الحاضر - أي حال الخطاب -.
أو يقال(3): إن هذا الإطلاق وأشباهه مبني على الحال الغالب وليس على المفردات كلها، وهم كانوا كذلك في طابعهم العام وإن لم ينصروها (عليها السلام) في فدك.
أو يقال: إن هذه كانت صفتهم إلى الخطاب، أما بعده فسقطوا عنها لتخليهم عنها (عليها السلام) في فدك، وعن الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) في الخلافة وسائر ما يتعلق بها.
والذي يدل على ذلك قولها (عليها السلام) فيما سيأتي: «فأنى حزتم بعد البيان، وأسررتم بعد الإعلان، ونكصتم بعد الإقدام، وأشركتم بعد الإيمان».
وقد ورد عن رسول الله (صلي الله عليه و آْله): «من أصبح لا يهتم بأمر المسلمين فليس من المسلمين، ومن شهد رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجب فليس من المسلمين»(4).
ص: 142
........................
قولها (عليها السلام): «وأعضاد الملة»، الأعضاد: جمع عضد،وهو عبارة عن: الأعوان، ولذا يقال: عضده بمعنى: نصره إي صار عضداً له.
و«الملة»: الأمة التي على طريقة واحدة.
قولها (عليها السلام): «وأنصار الإسلام» فإنهم كانوا ينصرون الإسلام في صلاته وصيامه وحجه وجهاده وزكاته وسائر شؤونه، فيقال: أنصار الإسلام باعتبار المبدأ والدين، كما يقال: أنصار المسلمين أو أنصار زيد وعمرو باعتبار الفرد أو الأفراد.
وفي الحديث: إن جابراً كان يتوكأ على عصاه وهو يدور في سكك الأنصار ومجالسهم ويقول: علي خير البشر فمن أبى فقد كفر، يا معشر الأنصار أدبوا أولادكم على حب علي (عليه السلام) فمن أبى فانظروا في شأن أمه(1).
وعن ابن عباس قال: خرج رسول الله (صلي الله عليه و آْله) ذات يوم وهو آخذ بيد علي ابن أبي طالب وهو يقول: «يا معشر الأنصار، يا معشر بني هاشم، يا معشر بني عبد المطلب، أنا محمد رسول الله، ألا إني خلقت من طينة مرحومة في أربعة من أهل بيتي: أنا وعلي وحمزة وجعفر» الحديث(2).
وفي بعض النسخ (وحضنة الإسلام) فإنهم احتضنوا نواة الإسلام في المدينة قبل مجيء الرسول (صلي الله عليه و آْله) وبعده، ولكن في قصة الامتحان في الخلافة تغيرت المعادلة
ص: 143
........................
وفي كتاب كتبه أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى معاوية: «... إن رسول الله (صلي الله عليه و آْله) قبضه الله إليه ونحن أهل بيته أحق الناس به، فقلنا: لا يعدل الناس عنا ولا يبخسونا حقنا، فما راعنا إلا والأنصار قد صارت إلى سقيفة بني ساعدة يطلبون هذا الأمر، فصار أبو بكر إليهم وعمر فيمن تبعهما، فاحتج أبو بكر عليهم بأن قريشاً أولى بمقام رسول الله (صلي الله عليه و آْله) منهم، لأن رسول الله (صلي الله عليه و آْله) من قريش وتوصل بذلك إلى الأمر دون الأنصار، فإن كانت الحجة لأبي بكر بقريش، فنحن أحق الناس برسول الله (صلي الله عليه و آْله) ممن تقدمنا، لأننا أقرب من قريش كلها إليه وأخصهم به»(1).
مسألة: عضد الملة ونصرة الإسلام من الواجبات، ومن الواضح أن الإسلام الذي ارتضاه الله للناس هو مشروط بولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) حيث كمل الدين وأتمت النعمة بولايته (عليه السلام) وعند ذلك رضي الله الإسلام ديناً لنا، قال تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينا»(2).
عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني عن أبي جعفر الثاني عن أبيه عن جده (عليهم السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): قال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): «إن الله خلق الإسلام فجعل له عرصة وجعل له نورا وجعل له حصنا وجعل له ناصرا، فأما
ص: 144
........................
عرصته فالقرآن، وأما نوره فالحكمة، وأما حصنه فالمعروف، وأما أنصاره فأنا وأهل بيتي وشيعتنا، فأحبوا أهل بيتي وشيعتهم وأنصارهم، فإنه لما أسري بي إلى السماء الدنيا فنسبني جبرئيل (عليه السلام) لأهل السماء استودع الله حبي وحب أهل بيتي وشيعتهم في قلوب الملائكة فهو عندهم وديعة إلى يوم القيامة، ثم هبط بي إلى أهل الأرض فنسبني إلى أهل الأرض فاستودع الله عزوجل حبي وحب أهل بيتي وشيعتهم في قلوب مؤمني أمتي، فمؤمنو أمتي يحفظون وديعتي في أهل بيتي إلى يوم القيامة، ألا فلو أن الرجل من أمتي عبد الله عزوجل عمره أيام الدنيا ثم لقي الله عزوجل مبغضا لأهل بيتي وشيعتي ما فرج الله صدره إلا عن النفاق»(1).
وعن مجاهد عن ابن عباس قال: لما زوج رسول الله (صلي الله عليه و آْله) عليا (عليه السلام) فاطمة (عليها السلام) تحدثن نساء قريش وغيرهن وعيرنها وقلن: زوجك رسول الله (صلي الله عليه و آْله) من عائل لا مال له.
فقال لها رسول الله (صلي الله عليه و آْله): «يا فاطمة أما ترضين أن الله تبارك وتعالى اطلع اطلاعة إلى الأرض فاختار منها رجلين: أحدهما أبوك والآخر بعلك، يا فاطمة كنت أنا وعلي نورين بين يدي الله عزوجل مطيعين من قبل أن يخلق الله آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق آدم قسم ذلك النور جزءين جزء أنا وجزء علي».
ثم إن قريشا تكلمت في ذلك وفشا الخبر فبلغ النبي (صلي الله عليه و آْله) فأمر بلالا فجمع الناس وخرج إلى مسجده ورقي منبرهيحدث الناس بما خصه الله تعالى من
ص: 145
........................
الكرامة وبما خص به عليا وفاطمة (عليها السلام) فقال: «يا معشر الناس إنه بلغني مقالتكم وإني محدثكم حديثا فعوه واحفظوه مني واسمعوه فإني مخبركم بما خص به أهل البيت وبما خص به عليا (عليه السلام) من الفضل والكرامة وفضله عليكم، فلا تخالفوه فتنقلبوا على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين، معاشر الناس إن الله قد اختارني من خلقه فبعثني إليكم رسولا واختار لي عليا خليفة ووصيا، معاشر الناس إني لما أسري بي إلى السماء وتخلف عني جميع من كان معي من ملائكة السماوات وجبرئيل والملائكة المقربين ووصلت إلى حجب ربي دخلت سبعين ألف حجاب بين كل حجاب إلى حجاب من حجب العزة والقدرة والبهاء والكرامة والكبرياء والعظمة والنور والظلمة والوقار، حتى وصلت إلى حجاب الجلال فناجيت ربي تبارك وتعالى وقمت بين يديه وتقدم إلي عز ذكره بما أحبه وأمرني بما أراد، لم أسأله لنفسي شيئا في علي (عليه السلام) إلا أعطاني ووعدني الشفاعة في شيعته وأوليائه، ثم قال لي الجليل جل جلاله: يا محمد من تحب من خلقي؟
قلت: أحب الذي تحبه أنت يا ربي.
قال لي جل جلاله: فأحب عليا، فإني أحبه وأحب من يحبه.
فخررت لله ساجدا مسبحا شاكرا لربي تبارك وتعالى.
فقال لي: يا محمد، علي وليي وخيرتي بعدك من خلقي، اخترته لك أخا ووصيا ووزيرا وصفيا وخليفة وناصرا لك على أعدائي، يا محمد وعزتي وجلالي لا يناوي عليا جبار إلا قصمته، ولا يقاتل عليا عدو من أعدائي إلا هزمته وأبدته، يا محمد إني اطلعت على قلوب عبادي فوجدت عليا أنصح
ص: 146
........................
خلقي لك وأطوعهم لك، فاتخذه أخا وخليفة ووصيا وزوّجه ابنتك فإني سأهب لهما غلامين طيبين طاهرين تقيين نقيين، فبي حلفت وعلى نفسي حتمت أنه لايتولين عليا وزوجته وذريتهما أحد من خلقي إلا رفعت لواءه إلى قائمة عرشي وجنتي وبحبوحة كرامتي وسقيته من حظيرة قدسي، ولا يعاديهم أحد ويعدل عن ولايتهم يا محمد إلا سلبته ودي وباعدته من قربي وضاعفت عليهم عذابي ولعنتي..
يا محمد إنك رسولي إلى جميع خلقي وإن عليا وليي وأمير المؤمنين وعلى ذلك أخذت ميثاق ملائكتي وأنبيائي وجميع خلقي من قبل أن أخلق خلقا في سمائي وأرضي محبة مني لك يا محمد ولعلي ولولدكما ولمن أحبكما وكان من شيعتكما ولذلك خلقتهم من خليقتكما.
فقلت: إلهي وسيدي فاجمع الأمة عليه، فأبى علي وقال: يا محمد إنه المبتلى والمبتلى به وإني جعلتكم محنة لخلقي أمتحن بكم جميع عبادي وخلقي في سمائي وأرضي وما فيهن، لأكمل الثواب لمن أطاعني فيكم وأحل عذابي ولعنتي على من خالفني فيكم وعصاني وبكم أميز الخبيث من الطيب، يا محمد وعزتي وجلالي لولاك ما خلقت آدم، ولولا علي ما خلقت الجنة، لأني بكم أجزي العباد يوم المعاد بالثواب والعقاب، وبعلي وبالأئمة من ولده أنتقم من أعدائي في دار الدنيا، ثم إلي المصير للعباد والمعاد، وأحكمكما في جنتي وناري فلا يدخل الجنة لكما عدو ولا يدخل النار لكما ولي، وبذلك أقسمت على نفسي
ص: 147
........................
ثم انصرفت فجعلت لا أخرج من حجاب من حجب ربي ذي الجلال والإكرام إلا سمعت في النداء ورائي: يا محمد قدم عليا، يا محمد استخلف عليا، يا محمد أوص إلى علي، يا محمد واخ عليا، يا محمد أحب من يحب عليا، يا محمد استوص بعلي وشيعته خيرا.
فلما وصلت إلى الملائكة جعلوا يهنئونني في السماوات ويقولون: هنيئا لك يا رسول الله بكرامة لك ولعلي.
معاشر الناس علي أخي في الدنيا والآخرة ووصيي وأميني على سري وسر رب العالمين ووزيري وخليفتي عليكم في حياتي وبعد وفاتي، لا يتقدمه أحد غيري، وخير من أخلف بعدي، ولقد أعلمني ربي تبارك وتعالى أنه سيد المسلمين وإمام المتقين وأمير المؤمنين ووارثي ووارث النبيين ووصي رسول رب العالمين وقائد الغر المحجلين من شيعته وأهل ولايته إلى جنات النعيم بأمر رب العالمين، يبعثه الله يوم القيامة مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون، بيده لوائي لواء الحمد يسير به أمامي وتحته آدم وجميع من ولد من النبيين والشهداء والصالحين إلى جنات النعيم حتما من الله محتوما من رب العالمين، وعد وعدنيه ربي فيه ولن يخلف الله وعده وأنا على ذلك من الشاهدين»(1).
ص: 148
مسألتان: يحرم الغمز من قناة الحق، كما يحرم الضعف عن الدفاع عن الحق إن أدى إلى تضييعه، وتتأكد الحرمة إذا كان حقاً متعلقاً بأولياء الله الصالحين، فكيف بحق سيدة نساء العالمين (عليها السلام).
فإن الحرمة كما تتأكد بلحاظ الزمان (كالمعصية في شهر الصيام أو ليلة القدر أو يوم الجمعة) والمكان (كشرب الخمر في المسجد وشبهها) كذلك تتأكد بلحاظ المنسوب إليه، مثلاً اتهام شخص عادي محرم، واتهام المؤمن العالم أشد حرمة، واتهام رسول الله (صلي الله عليه و آْله) وآل بيته الأطهار (عليهم السلام) أشد بمراتب وقد يوجب الكفر والارتداد، حسب الموازين المذكورة لهما في الأصول والفقه، وقد قال الإمام الحسين (عليه السلام) عندما وقف على مصرع ولده الأكبر (عليه السلام): «ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول، وانهملت عيناه بالدموع»(2).
ومن هنا أفتى الفقهاء بأنه من زنى في شهر رمضان نهاراً أقيم عليه الحد وعوقب زيادة عليه لانتهاكه حرمة شهر رمضان(3)، وكذلك الحكم في شارب الخمر في شهر رمضان(4)، وكل من فعل شيئاً من المحظورات إن كان عليه حد
ص: 149
........................
أقيم عليه وعزر لانتهاكه حرمة شهر الصيام.
ومن زنى في حرم الله وحرم رسوله (صلي الله عليه و آْله) أو في حرم إمام (عليه السلام) حد للزنا وعزر لانتهاكه حرمة حرم الله وأوليائه (عليهم السلام) وكذلك من فعل شيئاً يوجب عليه حداً في مسجد أو موضع عبادة وجب عليه مع الحد التعزير(1).
ويغلظ عقاب من أتى محظوراً في ليالي الجمع وأيامها وليالي العبادات وأيامها كليلة النصف من شعبان وليلة الفطر ويومه، ويوم سبعة وعشرين من رجب، وخمسة وعشرين من ذي القعدة، وليلة سبع عشرة من ربيع الأول ويومه، وليلة الغدير ويومه، وليلة عاشوراء ويومه(2).
وقال (رحمة الله) أيضاً: من نكح امرأة ميتة كان الحكم عليه الحكم في ناكح الحية سواء، وتغلظ عقوبته لجرأته على الله عزوجل في انتهاك محارمه والاستخفاف بما عظم فيه الزجر ووعظ به العباد(3).
ومعنى الغميزة: أن يشيروا بأن لا حق لها إن كانت بمعنى الطعن، أو معناها: الضعف عن المطالبة بحقها وهو الأنسب للقرينة المقامية وبقرينة (والسِنة). فالتقاعس عن الحق محرم وله أثره الوضعي في الدنيا قبل الآخرة.
وقد قال الرسول (صلي الله عليه و آْله) في دعائه يوم غدير خم لأمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام): «اللهم انصر من نصره، واخذل من خذله»(4)، وهو يشمل كل
ص: 150
........................
أهل البيت (عليه السلام) إلى الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) (1)، ودعاء الرسول (صلي الله عليه و آْله) مستجاب قطعاً كما نشاهد ذلك تاريخياً بالنسبة إلى الذين خذلوا أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) وأهل البيت (عليهم السلام) أو نصروهم.
وقد استنصر أمير المؤمنين (عليه السلام) المهاجرين والأنصار فلم ينصروه، وفي احتجاجه (عليه السلام) مع القوم قال: «يا معاشر المهاجرين والأنصار، الله الله لا تنسوا عهد نبيكم إليكم في أمري، ولا تخرجوا سلطان محمد (صلي الله عليه و آْله) من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعر بيوتكم، ولا تدفعوا أهله عن حقه ومقامه في الناس، فوالله معاشر الجمع إن الله قضى وحكم، ونبيه أعلم وأنتم تعلمون بأنا أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم، أما كان القارئ منكم لكتاب الله الفقيه في دين الله، المضطلع بأمر الرعية، والله إنه لفينا لا فيكم، فلا تتبعوا الهوى فتزدادوا من الحق بعدا، وتفسدوا قديمكم بشر من حديثكم».
فقال بشير بن سعد الأنصاري الذي وطأ الأرض لأبي بكر، وقالت جماعة من الأنصار: يا أبا الحسن لو كان هذا الأمر سمعته منك الأنصار قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف فيك اثنان.
فقال علي (عليه السلام): «يا هؤلاء كنت أدع رسول الله (صلي الله عليه و آْله) مسجى لا أواريه وأخرج أنازع في سلطانه، والله ما خفت أحداً يسمو له وينازعنا أهل البيت فيه ويستحل ما استحللتموه، ولا علمت أن رسول الله (صلي الله عليه و آْله) ترك يوم غدير خم
ص: 151
........................
لأحد حجة ولا لقائل مقالاً، فانشد الله رجلاً سمع النبي (صلي الله عليه و آْله) يوم غدير خم يقول: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، أن يشهد الآن بما سمع».
قال زيد بن أرقم: فشهد اثنا عشر رجلاً بدرياً بذلك، وكنت ممن سمع القول من رسول الله (صلي الله عليه و آْله) فكتمت الشهادة يومئذ، فدعا علي (عليه السلام) عليّ، فذهب بصري، قال: وكثر الكلام في هذا المعنى وارتفع الصوت، وخشي عمر أن يصغي الناس إلى قول علي (عليه السلام) ففسخ المجلس وقال: إن الله يقلب القلوب، ولا تزال يا أبا الحسن ترغب عن قول الجماعة، فانصرفوا يومهم ذلك(1).
وبشكل عام لا يجوز التقاعس عن نصرة أهل الحق مطلقاً، بل نصرتهم واجبة، وعدمها لها أثره الوضعي، لكنه كالكلي المشكك وبالنسبة إلى غيرهم (عليهم السلام) في مرتبة دون مرتبتهم (عليهم الصلاة والسلام) حسب اختلاف الموضوع ودرجاته
ص: 152
........................
مسألة: ليس (الزمان) من مسقطات الحق، فإن الحق القديم لا يبطله شيء كما ورد، على خلاف ما تذهب إليه القوانين الوضعية في عدد من الحقوق، وقد خطب أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة فقال: «ألا وإن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شيء، ولو وجدته وقد تزوج به النساء وفرّق في البلدان لرددته إلى حاله، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عنه الحق فالجور عليه أضيق»(1).
فإذا كانت ظلامتها (عليها السلام) لا تزال قائمة - كما هو كذلك في العديد من القضايا ومنها فدك وغصب الخلافة - فإن الضعف عن الدفاع عنها والسِنة عن ظلامتها محرم على عامة الناس في هذا الزمن أيضاً.
فقولها (عليها السلام): «ما هذا الغميزة عن حقي» وإن لم يشمل الأجيال اللاحقة خطاباً مباشراً إلا أنه يشملهم ملاكاً وضرورة.
ص: 153
-------------------------------------------
مسألة: الظاهر أن مثل هذا العتاب يقتضي الحرمة، بقرينة المقام وغيره.
قولها (عليها السلام): «والسِنة عن ظلامتي» السِنة: هي النعاس وأول النوم، قال سبحانه: «لا تأخذه سنة ولا نوم»(1)، كأنهم بعدم اعتنائهم بظلامتها وقضيتها (صلوات الله عليها) في حالة نوم ونعاس، كمن هو كذلك حيث لا يسمع ولا يرى ولا يجيب.
والظلامة: بالضم كالمظلمة، بمعنى ما يأخذه الظالم فتطلبه عنده، فإنهم لم يساعدوها (عليها الصلاة والسلام) في استرجاع فدك وخلافة أمير المؤمنين علي (عليه السلام).
روي أن فاطمة (عليها السلام) جاءت إلى أبي بكر بعد وفاة رسول الله (صلي الله عليه و آْله) فقالت: يا أبا بكر من يرثك إذا مت؟
قال: أهلي وولدي.
قالت: فما لي لا أرث رسول الله (صلي الله عليه و آْله)؟
قال: يا بنت رسول الله إن النبي لا يورث! ولكن أنفق على من كان ينفق عليه رسول الله وأعطي ما كان يعطيه.
ص: 154
........................
قالت: والله لا أكلمك بكلمة ما حييت، فما كلمته حتى ماتت(1).
وقد أخبرها (عليها السلام) رسول الله (صلي الله عليه و آْله) بما يجري عليها من الظلم، حيث روى جابر بن عبد الله الأنصاري قال: دخلت فاطمة (عليها السلام) على رسول الله (صلي الله عليه و آْله) وهو في سكرات الموت، فانكبت عليه تبكي، ففتح عينه وأفاق ثم قال (صلي الله عليه و آْله): «يا بنية أنت المظلومة بعدي وأنت المستضعفة بعدي، فمن آذاك فقد آذاني، ومن غاظك فقد غاظني، ومن سرك فقد سرني، ومن برك فقد برني، ومن جفاك فقد جفاني، ومن وصلك فقد وصلني، ومن قطعك فقد قطعني، ومن أنصفك فقد أنصفني، ومن ظلمك فقد ظلمني، لأنك مني وأنا منك وأنت بضعة مني وروحي التي بين جنبي».
ثم قال (صلي الله عليه و آْله): «إلى الله أشكو ظالميك من أمتي» ثم دخل الحسن والحسين 3 فانكبا على رسول الله (صلي الله عليه و آْله) وهما يبكيان ويقولان: «أنفسنا لنفسك الفداء يا رسول الله» فذهب علي (عليه السلام) لينحيهما عنه، فرفع رأسه إليه ثم قال: «يا علي دعهما يشماني وأشمهما، ويتزودان مني وأتزود منهما، فإنهما مقتولان بعدي ظلما وعدوانا، فلعنة الله على من يقتلهما» ثم قال: «يا علي وأنت المظلوم المقتول بعدي وأنا خصم لمن أنت خصمه يوم القيامة»(2).
وعن عكرمة عن عبد الله بن العباس قال: لما حضرت رسول الله (صلي الله عليه و آْله) الوفاة بكى حتى بلت دموعه لحيته، فقيلله: يا رسول الله ما يبكيك؟ فقال: «أبكي لذريتي وما تصنع بهم شرار أمتي من بعدي، كأني بفاطمة ابنتي وقد
ص: 155
........................
ظلمت بعدي وهي تنادي: يا أبتاه يا أبتاه فلا يعينها أحد من أمتي»، فسمعت ذلك فاطمة (عليها السلام) فبكت فقال لها رسول الله (صلي الله عليه و آْله): «لا تبكين يا بنية» فقالت: «لست أبكي لما يصنع بي من بعدك ولكن أبكي لفراقك يا رسول الله» فقال لها: «أبشري يا بنت محمد بسرعة اللحاق بي فإنك أول من يلحق بي من أهل بيتي»(1).
وروي عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «ما رئيت فاطمة (عليها السلام) ضاحكة قط منذ قبض رسول الله (صلي الله عليه و آْله) حتى قبضت»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «البكاءون خمسة: آدم ويعقوب ويوسف وفاطمة بنت محمد وعلي بن الحسين (عليهم السلام)، فأما آدم فبكى على الجنة حتى صار في خديه أمثال الأودية، وأما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره، وحتى قيل له «تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ»(3)، وأما يوسف فبكى على يعقوب حتى تأذى به أهل السجن فقالوا: إما أن تبكي الليل وتسكت بالنهار وإما أن تبكي النهار وتسكت بالليل، فصالحهم على واحد منهما، وأما فاطمة فبكت على رسول الله (صلي الله عليه و آْله) حتى تأذى بها أهل المدينة فقالوا لها قد آذيتنا بكثرة بكائك، وكانت تخرج إلى مقابر الشهداء فتبكي حتى تقضي حاجتهاثم تنصرف، وأما علي بن الحسين فبكى على الحسين عشرين سنة أو أربعين سنة وما وضع بين يديه طعام إلا بكى حتى قال له مولى
ص: 156
-------------------------------------------
له: جعلت فداك إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: «إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون»(1) إني لم أذكر مصرع بني فاطمة (عليهم السلام) إلا خنقتني لذلك عبرة»(2).
أما كان رسول الله أبي يقول: «المرء يحفظ في ولده»(3)؟
مسألة: يستحب الاستشهاد بكلام الرسول (صلي الله عليه و آْله) وإن كان بمضمونه مَثَلٌ سائر، فإن إسناده إليه (صلي الله عليه و آْله) أولى وأفضل، لكونه (صلي الله عليه و آْله) حجة دون الأمثال، كما استشهدت (عليها السلام) بقوله (صلي الله عليه و آْله): «المرء يحفظ في ولده». ومن ذلك يعرف أن المثل إذا استشهد به المعصوم (عليه السلام) صار حجة وأمكن التمسك بإطلاقه أو عمومه إلا إذا لم يكن(عليه السلام) في مقام البيان من تلك الجهة كما لا يخفى.
قال الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) لابنته سكينة (عليها السلام): «هيهات لو ترك القطا لنام»(4).
ص: 157
........................
وفي رواية أنه (عليه السلام) قالها لأخته العقيلة زينب (عليها السلام) (1).
وفي الرواية: «الناس على دين ملوكهم»(2).
وفي الرواية: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة»(3).
وفي الرواية: «الناس بالناس»(4).
وعن رسول الله (صلي الله عليه و آْله): «إذا لم تستح فافعل ما شئت»(5).
وعنه (صلي الله عليه و آْله): «إنّ العرقَ دساس»(6).
وعنه (صلي الله عليه و آْله): «الجار ثم الدار»(7).
وعنه (صلي الله عليه و آْله): «الحرب خدعة»(8).وعنه (صلي الله عليه و آْله): «سيد القوم خادمهم»(9).
وعنه (صلي الله عليه و آْله): «خير الأمور أوسطها»(10).
وعنه (صلي الله عليه و آْله): «ربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه»(11).
ص: 158
........................
وعنه : «العجلةُ من الشيطان»(1).
وعنه (صلي الله عليه و آْله): «عند جهينة الخبر اليقين»(2).
مسألة: يجب حفظ المرء في ولده في الجملة، للأدلة الدالة على بعض المصاديق، ولكون قوله (صلي الله عليه و آْله): «المرء يحفظ في ولده» إنشاء بصيغة إخبار كقوله (عليه السلام): «يعيد صلاته»، وقد يستحب ذلك، فالوجوب في مورده(3) والاستحباب كذلك.
ومعنى (حفظ المرء في ولده) إيصال حقه إليهم ورعاية الاحترام اللائق بهم لنسبتهم به، إلى غير ذلك من الأمور المادية والمعنوية.
قال (عليه السلام): «أو ما علمت أن حرمة رحم رسول الله (صلي الله عليه و آْله) حرمة رسول الله، وأن حرمة رسول اللهحرمة الله تعالى»(4).
ومن هنا أخذ يخاطب الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء ويقول: «أما بعد، فانسبوني فانظروا من أنا، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي، ألست ابن بنت نبيكم وابن وصيه وابن عمه وأول المؤمنين، المصدق لرسول الله بما جاء به من عند ربه..»(5).
ص: 159
........................
هذا والعجب أن عائشة كانت تطالب بحرمة رسول الله (صلي الله عليه و آْله) فيها، وفاطمة الزهراء (سلام الله عليها) وأهل بيته الطاهرون (عليهم السلام) لم يراع في حقهم حرمة رسول الله(صلي الله عليه و آْله).
وفي الحديث: إن بعد حرب جمل لما عزم أمير المؤمنين (عليه السلام) على المسير إلى الكوفة، أنفذ إلى عائشة يأمرها بالرحيل إلى المدينة، فتهيأت لذلك، وأنفذ الإمام معها رعاية لها أربعين امرأة ألبسهن العمائم والقلانس وقلدهن السيوف وأمرهن أن يحفظنها ويكن عن يمينها وشمالها ومن ورائها، فجعلت عائشة تقول في الطريق: اللهم افعل بعلي بن أبي طالب بما فعل بي، بعث معي الرجال(1) ولم يحفظ بي حرمة رسول الله (صلي الله عليه و آْله)، فلما قدمن المدينة معها ألقين العمائم والسيوف ودخلن معها، فلما رأتهن ندمت على ما فرطت بذم أمير المؤمنين (عليه السلام) وسبه، وقالت: جزى الله ابن أبي طالب خيراً، فلقد حفظ فيّ حرمةرسول الله(صلي الله عليه و آْله) (2).
قولها (عليها السلام): «أما كان رسول الله (صلي الله عليه و آْله) أبي يقول: المرء يحفظ في ولده»، فإن فاطمة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) استدلت بنمطين من الاستدلال:
النمط الأول: أنها (عليها السلام) مع الحق، والحق معها، وأنها مظلومة، فاللازم الانتصار لها وأخذ ظلامتها من الخصم وردها إليها.
النمط الثاني:أنها ابنة رسول الله (صلي الله عليه و آْله)، واللازم أن يحفظ رسول الله (صلي الله عليه و آْله) فيها، حيث قال: «المرء يحفظ في ولده»، فإن حفظ الأولاد وقضاء حوائجهم
ص: 160
........................
والقيام بأمورهم هو عبارة أخرى عن حفظ الوالد.
و(في) هنا بمعنى: النسبة على قول، مثله مثل قول المتكلمين: (الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية) أي: بالنسبة للواجبات العقلية.
أو أن (في) بمعنى: الظرفية المتسعة، فان الظرف له اتساع يصدق مع كل من الظرفية الحقيقية والمجازية وهنا الظرفية مجازية.
هذا وقد ورد التأكيد الكبير على لزوم إكرام ذرية رسول الله (صلي الله عليه و آْله).
قال النبي (صلي الله عليه و آْله): «أنا شافع يوم القيامة لأربعة أصناف ولو جاءوا بذنوب أهل الدنيا: رجل نصر ذريتي، ورجل بذل ماله لذريتي عند الضيق، ورجل أحب ذريتي باللسان والقلب، ورجل سعى في قضاء حوائج ذريتي إذا طردوا أو شردوا»(1).وقال (صلي الله عليه و آْله): «من أحبني و أحب ذريتي أتاه جبرئيل إذا خرج من قبره فلا يمر بهول إلا أجازه إياه»(2).
وقال (صلي الله عليه و آْله): «معاشر الناس إن عليا والطاهرين من ذريتي وولدي وولده هم الثقل الأصغر، والقرآن الثقل الأكبر، وكل واحد منهما منبئ عن صاحبه وموافق له، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، ألا إنهم أمناء الله في خلقه وحكامه في أرضه، ألا وقد أديت، ألا وقد أسمعت، ألا وقد بلغت، ألا وقد أوضحت»(3).
ص: 161
........................
وقال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): «أربعة أنا لهم شفيع يوم القيامة: المكرم لذريتي، والقاضي لهم حوائجهم، والساعي لهم في أمورهم عند ما اضطروا إليه، والمحب لهم بقلبه و لسانه»(1).
وفي الحديث: «إنّ الحسين بن عليّ (عليه السلام) أتى عمر بن الخطاب وهو على المنبر يوم الجمعة، فقال له: انزل عن منبر أبي. فبكى عمر، ثم قال: صدقت يا بني، منبر أبيك لا منبر أبي، فقال عليّ (عليه السلام) ما هو واللّه عن رأيي، فقال: صدقت واللّه ما اتّهمتك يا أبا الحسن، ثم نزل عن المنبر فأخذه فأجلسه إلى جانبه على المنبر فخطب الناس وهو جالس على المنبر معه، ثم قال: أيّها الناس سمعت نبيّكم (صلي الله عليه و آْله) يقول: احفظوني في عترتي وذريتي، فمن حفظني فيهم حفظه اللّه، ألا لعنة اللّه على من آذاني فيهم،ثلاثا»(2).
وفي تفسير العياشي(3) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
«إن الله ليحفظ ولد المؤمن إلى ألف سنة، وأن الغلامين كان بينهما وبين أبويهما سبعمائة سنة»
ص: 162
........................
مسألة: لا فرق بين الذكر والأنثى في وجوب أو استحباب محفوظيتهما في أولادهما، فإن قوله (صلي الله عليه و آْله): «يحفظ المرء في ولده» يشمل الرجل والمرأة، إذ المراد بالمرء: الإنسان، ولو كان المراد به ما هو جمع الرجل لكان الشمول بالملاك، وكان ذكره من باب الغالب، ومن الواضح أن (الولد) يطلق على الذكر والأنثى.
قال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): «خير أولادكم البنات»(1).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته، وسنة هدى سنها فهي يعمل بها بعد موته، وولد صالح يستغفر له»(2)، فإن الولد يشملهما كما لايخفى.
وقال (صلي الله عليه و آْله): «إنّ الولد الصالح ريحانة من رياحين الجنة»(3).
وقال (صلي الله عليه و آْله): «من سعادة المرء المسلم: الزوجة الصالحة، والمسكن الواسع، والمركب الهنيء، والولد الصالح»(4).وقال (صلي الله عليه و آْله): «من سعادة المرء الخلطاء الصالحون والولد البار»(5).
ص: 163
........................
مسألة: من الحقوق التي ينبغي مراعاتها حق الأجيال القادمة، على تفصيل ذكرناه في بعض الكتب الاقتصادية بالنسبة إلى حيازة المباحات وما أشبه.
فإن هناك فرقاً واضحاً بين ما لو أنها (عليها السلام) قالت: (أما قال رسول الله)، وبين قولها (عليها السلام): «أما كان رسول الله أبي يقول» فإن الثاني دال على الاستمرار دون الأول.
وقد كان (صلي الله عليه و آْله) يهتم بحقوق الأجيال القادمة أيضاً، خاصة بلحاظ أن (الولد) يشمل أبناء الأبناء أيضاً(1)، وبمسؤولية المجتمع تجاه الجيل الجديد ممن توفي آباؤهم بل حتى في حال حياة الآباء، خاصة إذا قلنا بأن (المرء يحفظ في ولده) دال بإطلاقه على حالتي الحياة والممات، إلا أن يقال بالانصراف، فتأمل.
هذا مضافاً إلى كثرة الروايات والآيات الواردة في مطلق الذرية مما يدل على لزوم الاهتمام بهم.
قال تعالى حكاية عن امرأة عمران: «وَإِنِّي
سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّيأُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ »(2).
ص: 164
........................
وقال سبحانه: «هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ»(1)
وقال تعالى: «وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ»(2).
وقال سبحانه: «وأصلح لي في ذريتي»(3).
وفي الدعاء: «أعيذ بك نفسي وأهلي وذريتي من الشيطان الرجيم»(4).
وأيضا: «اللهم إني أستودعك نفسي وأهلي ومالي وذريتي ودنياي وآخرتي» الدعاء(5).
ص: 165
مسألة: يلزم على المؤرخين أن يعدّوا خطبتها (عليها السلام) مصدراً أساسياً ومعتمداً للأحداث التاريخية التي جرت في تلك الفترة، كما يلزم الانطلاق في (زاوية الرؤية) من المقاييس التي أعطتها (عليها السلام) في هذه الخطبة: من تقييم للأحداث أو للأشخاص.
فإن الحق ما قالوه، والصواب ما بينوه (صلوات الله عليهم أجمعين).
وفي زيارة الجامعة: «الحق معكم وفيكم ومنكم وإليكم وأنتم أهله ومعدنه»(2).
وقال (عليه السلام): «سلم من صدقكم وهدي من اعتصم بكم»(3).
وقال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): «.. فليوال علي بن أبي طالب وذريته من بعده فهم الأئمة وهم الأوصياء أعطاهم الله علمي وفهمي، لا يدخلونكم في باب ضلال، ولا يخرجونكم من باب هدى، لا تعلموهم فهم أعلم منكم»(4).
وقال(صلي الله عليه و آْله):«لا تعلموهم ولا تتقدموهم ولا تتخلفوا عنهم فإنهم مع الحق
ص: 166
........................
والحق معهم لا يزايلونه»(1).
عن حذيفة بن أسيد قال سمعت رسول الله (صلي الله عليه و آْله) يقول، وسأله سلمان عن الأئمة فقال: «الأئمة بعدي عدد نقباء بني إسرائيل تسعة من صلب الحسين ومنا مهدي هذه الأمة، ألا إنهم مع الحق و الحق معهم فانظروا كيف تخلفوني فيهم»(2).
وعن عمران بن حصين قال: خطبنا رسول الله (صلي الله عليه و آْله) فقال معاشر الناس إني راحل عن قريب ومنطلق إلى المغيب، أوصيكم في عترتي خيرا، فقام إليه سلمان فقال: يا رسول الله أليس الأئمة بعدك من عترتك، فقال: نعم الأئمة بعدي من عترتي بعدد نقباء بني إسرائيل تسعة من صلب الحسين ومنا مهدي هذه الأمة فمن تمسك بهم فقد تمسك بحبل الله لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم واتبعوهم فإنهم مع الحق والحق معهم حتى يردوا علي الحوض»(3)
ص: 167
........................
مسألة: الإحداث في الدين محرم، والإسراع في الإحداث محرم آخر، لأن الفترة الزمانية والفاصل الزماني بين الإحداث المتأخر وبين الإحداث المسارع إليه أيضاً من مصاديق الإثم، ولما سبق أيضاً في الأجزاء السابقة، ويمكن استفادة الحرمة للمسارعة نحو الباطل من كلامها (عليها السلام) ههنا: «سرعان ما أحدثتم» بلحاظ كونها (عليها السلام) في مقام الذم والقدح والعتاب، فليتأمل.
سُئل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن السنة والبدعة وعن الجماعة وعن الفرقة؟
فقال (عليه السلام): «السنة ما سن رسول الله (صلي الله عليه و آْله)، والبدعة ما أحدث من بعده، والجماعة أهل الحق وإن كانوا قليلاً، والفرقة أهل الباطل وإن كانوا كثيراً»(1).
وقال (صلي الله عليه و آْله): «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد»(2).
وقال (عليه السلام): «من تبسم في وجه مبتدع فقد أعان على هدم دينه»(3).
وقال (عليه السلام): «من مشى إلى صاحب بدعة فوقره فقد مشى في هدم الإسلام»(4).
وقال (صلي الله عليه و آْله): «وشر الأمور محدثاتها وكلبدعة ضلالة»(5).
ص: 168
........................
وقال (صلي الله عليه و آْله): «اتبعوا ولا تبتدعوا»(1).
وروي عن العالم (عليه السلام) أنه قال: «كل بدعة ضلالة وكل ضلالة إلى النار»(2).
وفي الحديث: «إنّ قليلا من سنّة خير من كثير بدعة، ألا وإنّ كلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار»(3).
وقال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): «إنّ عند كل بدعة تكون من بعدي يكاد بها الإيمان وليا من أهل بيتي موكلا به يذب عنه ينطق بإلهام من الله ويعلن الحق وينوره ويرد كيد الكائدين ويعبر عن الضعفاء فاعتبروا يا أولي الأبصار وتوكلوا على الله»(4).
قولها (عليها السلام): «سرعان ما أحدثتم»، سرعان: اسم فعل بمعنى: سرع، وفيه معنى التعجب، أي: ما أسرع ما أحدثتم في الدين وتركتم طريقة سيد المرسلين (صلي الله عليه و آْله) في ترك أهل بيته وخذلانهم (عليهم السلام) وعدم الدفاع عن المظلوم وفي التواني عن الأخذ بالحق الذي قرره أبي (صلي الله عليه و آْله) لي.
ص: 169
-------------------------------------------
مسألة: يستحب حفظ الأمثال التي استعملها المعصومون (عليهم السلام) واستخدامها وتداولها في شتى المحافل المناسبة، وبهذا القصد، فإنه نوع من إحياء أمرهم (عليهم السلام) فيما لو تعنون كذلك، إضافة إلى أن استخدام الأمثال في الخطاب يجعله أكثر تأثيراً، كما قالت (سلام الله عليها): «ذا إهالة».
وكذلك كان سائر الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) يستخدمون الأمثال في الجملة، قال أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) كما في الخطبة الشقشقية:
شتان ما يومي على كورها *** ويوم حيان أخي جابر (1)
وقال الإمام الحسين (عليه السلام):
فما إن طبنا جبن ولكن *** منايانا ودولة آخرينا (2)
إلى غير ذلك مما يجده المتتبع في كلماتهم (صلوات الله عليهم أجمعين).
وإنما كان استخدام الأمثال راجحاً لأنه أدعى للتأثير - كما سبق - وأقرب إلى القبول، إذ الناس عندما يعتادون شيئاً، يؤثر فيهم ذلك الشيء تأثيراً أسرع وأبلغ، بخلاف مجرد ذكر الواقع من دون المؤثرات، فإن تأثيره ليس بتلك المنزلة في كثير من الأحيان.
ص: 170
........................
قال تعالى: «وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ»(1).
وقال سبحانه: «كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ»(2).
وقال عزوجل: «وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاّ الْعَالِمُونَ»(3).
وقال تعالى: «وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»(4).
قولها (عليها السلام): «وعجلان ذا إهالة»، عجلان: اسم فعل بمعنى: عجل، وفيه معنى التعجب، أي: ما أعجل ترككم الإسلام وترككم للانتصار للمظلوم على الظالم.
والإهالة: عبارة عن الودك، وهو الدسومة في اللحم، قال الفيروز آبادي: قولهم: (سرعان ذا إهالة) أصلها: إن رجلاً كانت له نعجة عجفاء وكان رغامها(5) يسيل من منخريها لهزالها، فقيل له: ما هذا الذي يسيل؟ فقال: ودكها، فقال السائل: سرعان ذا إهالة، ونصب إهالة على الحال، وذا إشارة إلى الرغام أي ما أسرع هذا الحيوان في سيلان رغامه وماء أنفه (بل دسم لحمه) أو ما أسرع دسومته في السيلان والجريان - على تقديري الحال والتمييز -.
وهذا مثل يضرب لمن يسرع في الشيء الذي ليس له، فإن فدك لم تكن
ص: 171
........................
لأولئك الذي غصبوها، وقد أسرعوا في غصبها، كما إن الحيوان لم يكن له ودك يخرج من أنفه.
والظاهر أن مقصودها (صلوات الله وسلامه عليها) التعجب المزيج بالاستنكار، من مسارعة الأنصار وتعجيلهم ومبادرتهم إلى ترك سنة رسول الله (صلي الله عليه و آْله) في عدم نصرة ابنته، مع قرب عهدهم به.
ولا تخفى دقة تشبيه حالتهم بالنعجة العجفاء التي يسيل ماء أنفها من الضعف والهزل والمرض ويتصور صاحبها - أو هكذا يحلو له أن يصور للآخرين - إنها معافاة سليمة سمينة بحيث تسيل دسومتها من أنفها.
فهكذا كان حال خلافتهم وسلطتهم، فهي عجفاء مريضة هزيلة قبيحة المنظر وإن حاول أصحابها تصويرها سمينة سليمة، فالعملية كلها تدليس وخداع لا أكثر.
ص: 172
-------------------------------------------
مسألة: يجب نصرة أهل البيت (عليهم السلام) فيما يحاولون وما يطلبون ويزاولون، فإن الله سبحانه وتعالى أوجب نصرتهم، وحرم خذلانهم، وكل من النصرة والخذلان يعود نفعه إلى الناصر والخاذل.
وقد قال الرسول (صلي الله عليه و آْله): «منصور من نصره ومخذول من خذله»(1).
وقال تعالى: «قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى»(2).
وقال سبحانه: «مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ»(3).
كما قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(4).
وقال سبحانه: «وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً»(5).
وقد ذكرنا في بعض الكتب أن الذين نصروهم نُصِروا في الدنيا قبل الآخرة، والذي خذلوهم خُذِلوا في الدنيا قبل الآخرة.
وذلك مع ملاحظة معادلة (الامتداد الدنيوي) في ذريته وسمعته وتاريخه،
ص: 173
........................
إذ النصرة والخذلان لا يدوران مدار اللحظة، وليسا آنيين حتى في مثل الجيش المنتصر والجيش المنخذل، فإن المقياس ليس في النصر التكتيكي بل المقياس العقلائي هو النصر الاستراتيجي(1)، أما في الآخرة فالأمر واضح.
وفي حديث احتجاج بعض الأصحاب مع أبي بكر في أمر الخلافة «ثم قام أبو أيوب الأنصاري، فقال: اتقوا عباد الله في أهل بيت نبيكم وارددوا إليهم حقهم الذي جعله الله لهم، فقد سمعتم مثل ما سمع إخواننا في مقام بعد مقام لنبينا (صلي الله عليه و آْله) ومجلس بعد مجلس يقول: أهل بيتي أئمتكم بعدي، ويومئ إلى علي (عليه السلام) ويقول: هذا أمير البررة، وقاتل الكفرة، مخذول من خذله، منصور من نصره، فتوبوا إلى الله من ظلمكم إياه إن الله تواب رحيم ولا تتولوا عنه مدبرين، ولا تتولوا عنه معرضين.
قال الصادق (عليه السلام): فأفحم أبو بكر على المنبر حتى لم يحر جواباً، ثم قال: وليتكم ولست بخيركم، أقيلوني أقيلوني، فقال له عمر بن الخطاب: انزل عنها يا لكع إذا كنت لا تقوم بحجج قريش لم أقمت نفسك هذا المقام، والله لقد هممت أن أخلعك وأجعلها في سالم مولى أبي حذيفة» الحديث(2)
ص: 174
........................
مسألة: يلزم التحريض على العصيان المدني وعلى النهضة الشعبية ضد الحكومة الجائرة كلاً أو ضد قرار جائر منها، لو لم يكن لإحقاق الحق طريق آخر، وهذا ما صنعته فاطمة الزهراء (عليها السلام) في مطاوي هذه الخطبة.
ومن الوسائل لذلك بعث الروح في الأفراد والفئات وإعادة ثقتهم بأنفسهم وتعريفهم بأن بمقدورهم ذلك لو أرادوا، كما قالت (عليها السلام): «ولكم طاقة بما أحاول وقوة على ما أطلب وأزاول».
قال (عليه السلام): «من أعان أخاه المؤمن على سلطان جائر أعانه الله على إجازة الصراط عند زلزلة الأقدام»(1).
وقال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): «مجالسة الموتى مفسدة للقلوب، فقيل له: يا رسول الله وما مجالسة الموتى؟ قال: مجالسة كل ضال عن الإيمان وجائر في الأحكام»(2).
وقال أبو جعفر (عليه السلام): «من مشى إلى سلطان جائر فأمره بتقوى الله ووعظه وخوفه كان له مثل أجر الثقلين من الجن والإنس ومثل أعمالهم»(3).
وقال (عليه السلام): «من قواصم الظهر سلطان جائر يعصي الله وأنت تطيعه»(4)
ص: 175
........................
وقال (عليه السلام): «لا دين لمن دان بولاية إمام جائر ليس من الله»(1).
وقال (عليه السلام): «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر»(2).
وقال (عليه السلام): «من آثر رضى رب قادر فليتكلم بكلمة عدل عند سلطان جائر»(3).
وقال (عليه السلام): «من دخل على إمام جائر فقرأ عليه القرآن يريد بذلك عرضاً من عرض الدنيا لعن القارئ بكل حرف عشر لعنات ولعن المستمع بكل حرف لعنة»(4).
وقال (عليه السلام): «إن شر الناس عند الله إمام جائر ضل وضل به»(5).
وفي الحديث القدسي قال تعالى: «لأعذبن كل رعية دانت بإمام جائر وإن كانت في نفسها برة تقية، ولأرحمن كل رعية دانت بإمام عادل مني، وإن كانت في نفسها غير برة تقية»(6)
ص: 176
........................
مسألتان: القدرة من شرائط التكليف عقلاً، وأما شرعاً فإن الله سبحانه وتعالى تفضلاً منه ورحمة لم يكتف في تشريع التكاليف بإناطتها بالقدرة العقلية فقط، بل لم يوجه التكليف عادة إلا مع توفر القدرة العرفية وعدم حصول العسر والحرج الكثيرين وهكذا الضرر.
قال تعالى: «وما جعل عليكم في الدين من حرج»(1).
وقال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): «لا حرج لا حرج»(2).
وقال أبو جعفر (عليه السلام): «لم يجعل الله تبارك وتعالى في الدين من
حرج»(3).
وقال تعالى: «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر»(4).
وقال سبحانه: «ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به»(5).
والسؤال هو هل أنه من الممكن أن الله يحمل المرء ما لا طاقة له به؟ فإن تحميل الإنسان ما لا طاقة له به خلاف العدل، والله عادل بالضرورة، فما معنى هذا الطلب؟
ص: 177
........................
والجواب: أن المراد نهاية الطاقة مما يكون عسراً وحرجاً لا أصل الطاقة، فالطلب هو طلب عدم تحميل ما هو عسر وحرج، وإذا لاحظنا التكاليف الإلهية نرى النادر منها - كالجهاد - عسرياً أو حرجياً، وذلك لمصلحة العبد نفسه أو لضرورة وحكمة أهم، إذ ضرر عدم الجهاد أكبر وأكثر.
قال في (متشابه القرآن): قوله تعالى: «لا تكلف نفس إلا وسعها»(1) الوسع دون الطاقة.
قال الشاعر:
كلفتها الوسع في سيري لها أصلاً *** والوسع منها دون الجهد والرخد
وفي هذا دلالة على بطلان قول المجبرة من أن الله تعالى يكلف العبد ما لا قدرة له عليه(2).
سُئل الإمام الرضا (عليه السلام) فقيل له: هل يكلف الله العباد ما لا يطيقون؟ فقال (عليه السلام): «الله أعدل من ذلك»(3).
وفي التفسير: قوله سبحانه: «ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به» أي ما يشتد تكليفه من العبادات المتعبة، يقال والله ما أستطيع النظر إليك ولا أطيق الاكتحال برؤيتك مع أنه يراه(4).
ولعل الفرق بين القوة والطاقة: أن الطاقة تطلق على القوى الكامنة في
ص: 178
........................
الإنسان نفسه، بخلاف القوة فإنها أعم، إذ قد تكون في غيره بسبب عشيرة أو سلاح أو مال أو جاه أو ما أشبه ذلك، وقد قال النبي لوط (عليه الصلاة والسلام): «لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد»(1).
ولا يخفى أن القوة اللازمة لنصرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وأخذ حقها من الغاصبين كانت موجودة في القوم، مضافاً إلى أن ذلك من باب الجهاد الذي يجب على الإنسان تحمل الضرر فيه وما أشبه.
وفي حديث المناشدة قال (عليه السلام): «أنشدكم بالله أتعلمون أن الله عزوجل أنزل في سورة الحج «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا واسْجُدُوا واعْبُدُوا رَبَّكُمْ وافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»(2) إلى آخر السورة فقام سلمان فقال: يا رسول الله من هؤلاء الذين أنت عليهم شهيد وهم شهداء على الناس الذين اجتباهم ولم يجعل عليهم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم»؟
قال (صلي الله عليه و آْله): «عنى بذلك ثلاثة عشر رجلا خاصة دون هذه الأمة».
فقال سلمان: بينهم لنا يا رسول الله؟
فقال (صلي الله عليه و آْله): «أنا وأخي علي وأحد عشر من ولدي».
قالوا: اللهم نعم.
قال (عليه السلام): «أنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله (صليالله عليه و آْله) قام خطيبا ولم يخطب بعد ذلك، فقال: يا أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي
ص: 179
........................
أهل بيتي فتمسكوا بهما لا تضلوا فإن اللطيف الخبير أخبرني وعهد إليّ أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».
فقام عمر بن الخطاب وهو شبه المغضب فقال: يا رسول الله أكل أهل بيتك؟
قال: «لا ولكن أوصيائي منهم أولهم أخي ووزيري وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن ومؤمنة بعدي هو أولهم، ثم ابني الحسن، ثم ابني الحسين، ثم تسعة من ولد الحسين، واحد بعد واحد حتى يردوا علي الحوض، شهداء لله في أرضه وحججه على خلقه وخزان علمه ومعادن حكمته، من أطاعهم فقد أطاع الله، ومن عصاهم فقد عصى الله».
فقالوا كلهم: نشهد أن رسول الله (صلي الله عليه و آْله) قال ذلك(1)
ص: 180
........................
مسألة: يحرم (تبرير) عدم التصدي للطغاة ب-(عدم القدرة) أو (قوة الحكومة) أو (التخويف من بطشها) في كثير من الحالات، حيث إن القدرة موجودة، وكان من مصاديق ذلك كثير من الأنصار والمهاجرين الذي ألجمهم الخوف وأقعدهم عن نصرة الحق، ولذلك قالت (صلوات الله عليها) إتماما للحجة عليهم وإرشاداً للأجيال القادمة: «ولكم طاقة بما أحاول».
وعند دراسة نفسية المجتمعات البشرية على مر التاريخ نكتشف أن الكثير من الذي تعللوا في عدم الدفاع عن الحق بعدم المقدرة على التصدي للحكومة، كاذبون أو مخادعون، قال تعالى: «بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره»(1).
قال (عليه السلام): «إذا دعاك الرجل لتشهد له على دَين أو حق لم ينبغ لك أن تقاعس عنه»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «أيما مؤمن منع مؤمنا شيئا مما يحتاج إليه وهو يقدر عليه من عنده أو من عند غيره أقامه الله يوم القيامة مسودا وجهه مزرقة عيناه مغلولة يداه إلى عنقه فيقال: هذا الخائن الذي خان الله ورسوله ثم يؤمر به إلى النار»(3).
ص: 181
........................
وعن الصادق (عليه السلام) قال: «من رأى أخاه على أمريكرهه فلم يرده عنه وهو يقدر عليه فقد خانه»(1).
وقال (عليه السلام): «من سأله أخوه المؤمن حاجة من ضر فمنعه من سعة وهو يقدر عليها من عنده أو من عند غيره حشره الله يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه حتى يفرغ الله من حساب الخلق»(2).
وقال (عليه السلام): «ما من مؤمن يخذل أخاه وهو يقدر على نصرته إلا خذله الله في الدنيا و الآخرة»(3).
وقال (عليه السلام): «أيما مؤمن سأل أخاه المؤمن حاجة وهو يقدر على قضائها فرده بها سلط الله عليه شجاعا في قبره ينهش أصابعه»(4).
وقال (عليه السلام): «أيما مؤمن أتى أخاه في حاجة فإنما ذلك رحمة من الله ساقها إليه وسببها له فإن قضى حاجته كان قد قبل الرحمة بقبولها وإن رده عن حاجته وهو يقدر على قضائها فإنما رد عن نفسه رحمة من الله عزوجل ساقها إليه وسببها له وذخر الله عزوجل تلك الرحمة إلى يوم القيامة حتى يكون المردود عن حاجته هو الحاكم فيها إن شاء صرفها إلى نفسه وإن شاء صرفها إلى غيره»(5).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «أيما رجل مسلم أتاه رجل مسلم في حاجة
ص: 182
........................
وهو يقدر على قضائها فمنعه إياها عيره الله يوم القيامة تعييرا شديدا وقال له: أتاك أخوك في حاجة قد جعلت قضاها في يدك فمنعته إياها زهدا منك في ثوابها وعزتي لا أنظر إليك في حاجة معذبا كنت أو مغفورا لك»(1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «أيما رجل من شيعتنا أتاه رجل من إخواننا فاستعان به في حاجة فلم يعنه وهو يقدر، ابتلاه الله عزوجل بأن يقضي حوائج عدو من أعدائنا يعذبه الله عليه يوم القيامة»(2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لم يدع رجل معونة أخيه المسلم حتى يسعى فيها ويواسيه إلا ابتلي بمعونة من يأثم ولا يؤجر»(3).
وعن أبي الحسن (عليه السلام) قال: «من قصد إليه رجل من إخوانه مستجيرا به في بعض أحواله فلم يجره بعد أن يقدر عليه فقد قطع ولاية الله عزوجل»(4).
وعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «أيما رجل من أصحابنا استعان به رجل من إخوانه في حاجة ولم يبالغ فيها بكل جهد فقد خان الله ورسوله والمؤمنين» قال أبو بصير: قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): ما تعني بقولك والمؤمنين؟ قال: «من لدن أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى آخرهم»(5).وعن أبي جميلة قال:سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:«من مشى في حاجة
ص: 183
........................
أخيه ثم لم يناصحه فيها كان كمن خان الله ورسوله وكان الله خصمه»(1).
وعن أبي الحسن الثالث (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال النبي (صلي الله عليه و آْله): «لا تخب راجيك فيمقتك الله ويعاديك»(2).
هذا كله بالنسبة إلى المؤمن العادي فكيف بأهل البيت (عليهم السلام) والتقاعس عن حقهم.
مسألة: يستفاد من كلامها (عليها السلام) هذا: أن الحاضرين في المسجد آنذاك (إلا من خرج بالدليل) عاصون آثمون حينما سمعوا بظلامتها وكانوا قادرين على دفعها فلم يفعلوا.
وحيث إن هذه المعصية من الكبائر بل من أكبرها وأشدها(3) لذلك فإن هذا الموقف منهم وتخاذلهم عن نصرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وأهل البيت (عليهم السلام) أسقط من كان عادلا منهم عن العدالة كما هو واضح.فكل ما يشترط فيه العدالة لا حق لهم فيه(4) ولا حجية لقولهم فيه(5)، أما
ص: 184
........................
ما يكفي فيه الوثاقة فمن ثبتت وثاقته يكون حاله كما في بني فضال حيث سألوا: كيف نعمل بكتبهم وبيوتنا منها ملاء، فقال (عليه السلام): «خذوا بما رووا وذروا ما رأوا»(1)، وكذا ما ورد في كتب ابن أبي العزاقر بعد ما ذم وخرجت فيه اللعنة(2) على تفصيل مذكور في محله.
ولا يكتفي في عدالة الشخص بمعرفة حاله قبل هذه القضية إلا إذا علم أنه لم يكن من الساكتين والمتخاذلين، قال (عليه السلام): «السكوت عند الضرورة بدعة»(3)، ولو شك فهل أن وقوعه طرفاً للعلم الإجمالي قادح في استصحاب حاله أم لا، رغم كونه من شبهة الكثير في الكثير؟ فتأمل.
وقد ورد في الحديث الشريف: قال سليم ثم أقبل (عليه السلام) على سلمان فقال: «إن القوم ارتدوا بعد رسول الله (صلي الله عليه و آْله) إلا من عصمة الله بآل محمد»(4).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «إن الناس كلهم ارتدوابعد رسول الله (صلي الله عليه و آْله) غير أربعة»(5).
وهكذا في مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) حيث ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ارتد الناس بعد قتل الحسين (عليه السلام) إلا ثلاثة»(6).
ص: 185
........................
قولها (عليها السلام): «ولكم طاقة بما أحاول»، أي: بما أريد من استرجاع فدك لأن الأنصار كانوا أقوياء(1) فكان عليهم أن يواجهوا ابن أبي قحافة ويشمروا سواعدهم لاسترجاع فدك، ولو فعلوا ذلك لردت فدك، إلا أنهم سكتوا ولم يتصدوا للدفاع.
قولها (عليها السلام): «وقوة على ما أطلب وأزاول» يقال: (زاوله) أي: مارسه وعمل لإصلاحه مثلاً، فان فاطمة (عليها الصلاة والسلام) كانت تزاول مسؤولية كبرى ومهمة خطيرة في محاولتها استرجاع فدك، والأنصار كانت لهم قوة على مساعدتها في استرجاع حقها المغتصب.
علماً بأن (فدك) لم تكن مجرد قطعة أرض بل كانت (رمزاً) للحقيقة، وكاشفاً عن كل من جبهتي الحق والباطل، أي كان لها جانب طريقي وموضوعي، ولذلك حد الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) حدود فدك بحدود الدولة الإسلامية. روى علي بن أسباط قال: سئل موسى بن جعفر (عليه السلام) عن حدود فدك؟ فقال: «حدها الأول عرش مصر، والحد الثاني دومة الجندل، والحد الثالثتيماء، والحد الرابع جبال أحد من المدينة»(2).
ومن هنا يعلم أن «ما أطلب» ليس مقتصراً على فدك، بل سائر الحقوق المضيعة أيضاً، ومنها الخلافة المغتصبة، ويفهم ذلك بالقرائن المقامية والمقالية الأخرى، وإن كان الظاهر المطالبة بفدك فحسب.
ص: 186
-------------------------------------------
مسألة: استعراض أدلة الخصم في مقام الرد جائز، بل راجح وربما وجب، قال تعالى: «وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ»(1).
وقال سبحانه: «وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ»(2).
وقال تعالى: «وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ»(3).
وقال عزوجل: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا»(4).وقال سبحانه: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَيَهْتَدُونَ»(5).
ص: 187
.............................
وقال تعالى: «وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ»(1).
وقال عزوجل: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ»(2).
وكما ذكرت الصديقة الطاهرة (علیها السلام) في هذه الخطبة عدداً من استدلالاتهم أو من دوافعهم، ومنها: «أتقولون مات محمد»؟
ولا يخفى أن الجواب محذوف وهذا من قبيل قوله سبحانه: «أَمَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوالألْبَابِ»(3)، وما أشبه ذلك كما ذكره البلغاء(4).
أي: أتقولون إن محمداً (صلی الله علیه و آله) مات وانتهى الأمر، أي فسقط التكليف عنا، أهذا هو الصحيح، كلا وألف كلا، إذ أن تكاليف الإسلام تكاليف دائمة، سواء مات الرسول (صلی الله علیه و آله) أم بقي على قيد الحياة، فإذا كانت حجتكم للتواني والتكاسل أن الرسول (صلی الله علیه و آله) قد مات وانقطع أمره فهذا خطأ بين، لأن أوامر الرسول (صلی الله علیه و آله) لا تنقطع بموته.
ص: 188
.............................
قال الإمام الصادق (علیه السلام): «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة ولأن عندنا صحيفة طولها سبعون ذراعاً وما خلق الله حلالا ولا حراماً إلا فيها ... حتى أرش الخدش وما سواها، والجلدة ونصفالجلدة»(1).
وفي الخبر: «إن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يخبر عن وفاته بمدة ويقول قد حان مني خفوق من بين أظهركم، وكانت المنافقون يقولون: لئن مات محمد لنخرب دينه، فلما كان موقف الغدير قالوا: بطل كيدنا، فنزلت:«اليوم يئس الذين كفروا»(2) الآية»(3).
وعن الإمام الباقر (علیه السلام) قال في قوله: «قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله»(4) «الآية نزلت فيهم، وذلك حيث اجتمعوا فقالوا لئن مات محمد لم نسمع لعلي (علیه السلام) ولا لأحد من أهل بيته»(5).
وفي تفسير القمي: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين، قالوا: يا رسول الله ما الثقلان، قال: كتاب الله وعترتي أهلبيتي، فانه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يراد عليّ الحوض كإصبعيّ هاتين، وجمع بين سبابتيه، ولا أقول كهاتين، وجمع بين سبابته والوسطى فتفضل هذه
ص: 189
.............................
على هذه» فاجتمع قوم من أصحابه وقالوا: يريد محمد أن يجعل الإمامة في أهل بيته، فخرج أربعة نفر منهم إلى مكة ودخلوا الكعبة وتعاهدوا وتعاقدوا وكتبوا فيما بينهم كتاباً: إن مات محمد أو قتل أن لا يردوا هذا الأمر في أهل بيته أبداً، فانزل الله على نبيه في ذلك «أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَنَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ»(1) الحديث(2).
وعن سليمان بن خالد قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن قول الله:«إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ»(3) قال: «فلان، قوله: «ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَرابِعُهُمْ»(4) فلان وفلان وابن فلان أمينهم، حين اجتمعوا فدخلوا الكعبة فكتبوا بينهم كتابا إن مات محمد أن لا يرجع الأمر فيهم أبدا»(5).
قال العلامة المجلسي (رحمة الله): أبو فلان أبو عبيدة(6).
وفي الحديث أن بعض أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) الذين ارتدوا بعده قالوا: قد قال محمد في مسجد الخيف ما قال(7) وقال هاهنا ما قال وإن رجع إلى المدينة يأخذنا بالبيعة له - أي لعلي (علیه السلام) - فاجتمعوا أربعة عشر نفرا وتآمروا على قتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقعدوا في العقبة، وهي عقبة هرشى بين الجحفة والأبواء،
ص: 190
.............................
فقعدوا سبعة عن يمين العقبة وسبعة عن يسارها لينفروا ناقة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فلما جن الليل تقدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) في تلكالليلة العسكر فأقبل ينعس على ناقته، فلما دنا من العقبة ناداه جبرئيل: يا محمد إن فلانا وفلانا وفلانا قد قعدوا لك.
فنظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: «من هذا خلفي».
فقال حذيفة اليماني: أنا يا رسول الله حذيفة بن اليمان.
قال: سمعت ما سمعت.
قال: بلى.
قال: فاكتم.
ثم دنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) منهم فناداهم بأسمائهم.
فلما سمعوا نداء رسول الله (صلی الله علیه و آله) فروا ودخلوا في غمار الناس وقد كانوا عقلوا رواحلهم فتركوها ولحق الناس برسول الله (صلی الله علیه و آله) وطلبوهم وانتهى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى رواحلهم فعرفهم.
فلما نزل قال (صلی الله علیه و آله): «ما بال أقوام تحالفوا في الكعبة إن مات محمد أو قتل ألا يردوا هذا الأمر في أهل بيته أبدا».
فجاءوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فحلفوا أنهم لم يقولوا من ذلك شيئا ولم يريدوه ولم يكتموا شيئا من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فأنزل الله «يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا» أن لا يردوا هذاالأمر في أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) «وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا» من قتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) «وَما نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَ الآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الأَرْضِ
ص: 191
.............................
مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ»(1) فرجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة وبقي بها محرم والنصف من صفر لا يشتكي شيئا ثم ابتدأ به الوجع الذي توفي فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله).
قولها (علیها السلام): «أتقولون مات محمد (صلی الله علیه و آله)» فيه إشارة وتذكير أيضاً بالآية الشريفة: «أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم»(2).
مسألة: يختص جواز استعراض أدلة الخصم بما لم يوجب الإضلال، كما هوواضح، وذلك كما لو كان السائل - أو الجمهور - بحيث لو طرحت عليه الشبهة لأثرت فيه دون أن يقتنع بعدها بالجواب أو الأجوبة، وقد أمرنا الأئمة أن لا نكلم الناس إلا على قدر عقولهم(3)، وقال (صلی الله علیه و آله): «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم»(4)، ولو كان القراء أو المستمعون مختلفين من هذه الجهة لوحظ ذلك أيضاً، أو الأهم أو ما أشبه.
ومثله حكم كتب الضلال حيث قال الفقهاء بحرمة حفظها والتكسب بها إلا للردّ، قال في المقنعة: «ولا يحل كتب الكفر وتجليده الصحف إلا لإثبات الحجج في فساده، والتكسب بحفظ كتب الضلال وكتبه على غير ما ذكرناه
ص: 192
.............................
حرام»(1).
قال الشيخ (رحمة الله) في المكاسب: «حفظ كتب الضلال حرام في الجملة، بلا خلاف كما في التذكرة والمنتهى، ويدل عليه مضافاً إلى حكم العقل بوجوب قطعمادة الفساد، والذم المستفاد من قوله تعالى: «ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله»(2) والأمر بالإعراض عن قول الزور، وقوله (علیه السلام) فيما تقدم من رواية تحف العقول: إنما حرم الله تعالى الصناعة التي هي حرام كلها التي يجيء منها الفساد محضاً، إلى آخر الحديث. بل قوله (علیه السلام) قبل ذلك: أو يقوى به الكفر والشرك من جميع وجوه المعاصي أو باب يوهن به الحق، إلى آخره»(3).
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن الله غافر كل ذنب إلا من أحدث دينا أو اغتصب أجيرا أجره أو رجل باع حرا»(4).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: كان رجل في الزمن الأول طلب الدنيا من حلال فلم يقدر عليها، وطلبها من حرام فلم يقدر عليها، فأتاه الشيطان فقال له: يا هذا إنك قد طلبت الدنيا من حلال فلم تقدر عليها فطلبتها من حرامفلم تقدر عليها، أفلا أدلك على شيء تكثر به دنياك ويكثر به تبعك؟
فقال: بلى.
ص: 193
.............................
قال: تبتدع دينا وتدعو إليه الناس.
ففعل، فاستجاب له الناس فأطاعوه فأصاب من الدنيا، ثم إنه فكر فقال: ما صنعت ابتدعت دينا ودعوت الناس إليه وما أرى لي توبة إلا أن آتي من دعوته إليه فأرده عنه.
فجعل يأتي أصحابه الذين أجابوه فيقول: إن الذي دعوتكم إليه باطل وإنما ابتدعته.
فجعلوا يقولون: كذبت هو الحق ولكنك شككت في دينك فرجعت عنه.
فلما رأى ذلك عمد إلى سلسلة فوتد لها وتدا ثم جعلها في عنقه وقال: لا أحلها حتى يتوب الله عليّ.
فأوحى الله عزوجل إلى نبي من الأنبياء: قل لفلان: وعزتي وجلالي لو دعوتني حتى تنقطع أوصالك ما استجبت لك حتى ترد من مات على ما دعوته إليه فيرجع عنه»(1).وعن الثمالي: قال سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ»(2)، قال: «عنى الله بها من اتخذ دينه رأيه من غير إمام من أئمة الهدى»(3).
وعن سماعة بن مهران، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قلت له: قول الله تبارك وتعالى: «مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ
ص: 194
.............................
النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً»(1). فقال: «من أخرجها من ضلال إلى هدى فقد أحياها، ومن أخرجها من هدى إلى ضلال فقد قتلها»(2).
وعن الصادق (علیه السلام) عن أبيه (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من دعي إلى ضلال لم يزل في سخط الله حتى يرجع منه»(3).
مسألة: يحرم تبرير التقاعس(4) بموت القائد أو غيابه، أو بعدم قيام الآخرين بالدور المناط بهم، كما نجد كثيراً من الناس يتعلل لعدم العمل بأن العالم الفلاني أو التجمع الفلاني لم يقم بواجبه من الإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما أشبه أفأقوم بهما أنا؟، بل لو كان الأمر واجباً كفائياً ولم يقم من فيه الكفاية لوجب على الشخص أن يؤديه فكيف بالواجب العيني.
قال (علیه السلام): «إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله»(5).
ص: 195
.............................
وخطب أمير المؤمنين (علیه السلام) الناس فحمد الله وأثنى عليه وذكر ابن عمه محمدا (صلی الله علیه و آله) فصلى عليه ثم قال: «أما بعد فإنه إنما هلكمن كان قبلكم بحيث ما عملوا من المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار عن ذلك، فإنهم لما تمادوا في المعاصي نزلت بهم العقوبات فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقربان أجلا ولا يقطعان رزقا، فإن الأمر ينزل من السماء إلى الأرض كقطر المطر إلى كل نفس ما قدر الله من زيادة ونقصان فإن أصابت أحدكم مصيبة في أهل ومال ونفس ورأى عند أخيه عقوبة فلا يكونن عليه فتنة ينتظر إحدى الحسنيين إما داع إلى الله فما عند الله خير له وإما الرزق من الله فإذا هو ذو أهل ومال والبنون لحرث الدنيا والعمل الصالح لحرث الآخرة وقد يجمعهما الله لأقوام»(1).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «من ترك إنكار المنكر بقلبه ويده ولسانه فهو ميت الأحياء»(2).
وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: «إن أول ما تقلبون إليه من الجهاد: الجهاد بأيديكم، ثم الجهاد بقلوبكم، فمن لم يعرف قلبه معروفا ولم ينكر منكرا نكس قلبه فجعل أسفلهأعلاه فلا يقبل خيرا أبدا»(3).
وروي أن رجلا جاء إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: أخبرني ما أفضل الأعمال؟
فقال (صلی الله علیه و آله): «الإيمان بالله».
ص: 196
.............................
قال: ثم ماذا؟
قال: «ثم صلة الرحم».
قال: ثم ماذا؟
قال: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».
فقال الرجل: فأي الأعمال أبغض إلى الله؟
قال: «الشرك بالله».
قال: ثم ماذا؟
قال: «قطيعة الرحم».
قال: ثم ماذا؟
قال: «الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف»(1).
وعن أحدهما (علیهما السلام) أنهقال: «ويل لمن لا يدين الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(2).
ص: 197
-------------------------------------------
مسألة: يستفاد من كلامها (علیها السلام) هاهنا وما سيأتي من تصريحاتها: إن وفاته (صلی الله علیه و آله) (خطب جليل استوسع وهيه…) في شتى الجهات: تكوينياً وتشريعياً، لهذا العالم ولسائر العوالم، سياسياً واجتماعياً، وفكرياً وعملياً، حالياً ومستقبلياً و…
وذلك للإطلاق وحذف المتعلق، وللقرائن والتصريحات اللاحقة منها(علیها السلام)، والألفاظ المشككة(3) في مثل المقام تحمل على أعلى المراتب.
وقد ورد في زيارته (صلی الله علیه و آله) يوم السبت بعد الاسترجاع ثلاثاً: «أصبنا بك يا حبيب قلوبنا، فما أعظم المصيبة بك، حيث انقطع عنا الوحي وحيث فقدناك فإنا لله وإنا إليهراجعون»(4).
روي بالأسانيد عن علي بن أبي طالب (علیه السلام) أنه قال: «قدم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) حبر من أحبار اليهود فقال: يا رسول الله قد أرسلني إليك قومي وقالوا إنه عهد إلينا نبينا موسى بن عمران وقال إذا بعث بعدي نبي اسمه محمد وهو عربي فامضوا إليه واسألوه أن يخرج لكم من جبل هناك سبع نوق حمر الوبر
ص: 198
.............................
سود الحدق، فإن أخرجها لكم فسلموا عليه وآمنوا به واتبعوا النور الذي أنزل معه، فهو سيد الأنبياء ووصيه سيد الأوصياء وهو منه كمثل أخي هارون مني.
فعند ذلك قال (صلی الله علیه و آله): الله أكبر قم بنا يا أخا اليهود.
قال: فخرج النبي (صلی الله علیه و آله) والمسلمون حوله إلى ظاهر المدينة وجاء إلى جبل فبسط البردة وصلى ركعتين وتكلم بكلام خفي وإذا الجبل يصر صريرا عظيما فانشق وسمع الناس حنين النوق.
فقال: اليهود مد يدك، فإنا نشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله (صلیالله علیه و آله) وأن جميع ما جئت به صدق وعدل، يا رسول الله فأمهلني حتى أمضي إلى قومي وأخبرهم ليقبضوا عدتهم منك ويؤمنوا بك.
قال: فمضى الحبر إلى قومه بذلك ففروا بأجمعهم وتجهزوا للمسير وساروا يطلبون المدينة ليقضوا عدتهم، فلما دخلوا المدينة وجدوها مظلمة مسودة بفقد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد انقطع الوحي من السماء وقد قبض (صلی الله علیه و آله) وجلس مكانه أبو بكر، فدخلوا عليه وقالوا: أنت خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟
قال: نعم.
قالوا: أعطنا عدتنا من رسول الله (صلی الله علیه و آله).
قال: وما عدتكم؟
قالوا: أنت أعلم منا بعدتنا إن كنت خليفته حقا، وإن لم تكن خليفته فكيف جلست مجلس نبيك بغير حق لك ولست له أهلا؟
فقام وقعد وتحير في أمره ولم يعلم ماذا يصنع، وإذا برجل من المسلمين قد قام وقال: اتبعوني حتى أدلكم على خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله).
ص: 199
.............................
قال: فخرج اليهود من بين يدي أبي بكر وتبعوا الرجل حتى أتوا إلى منزلفاطمة الزهراء (علیها السلام) فطرقوا الباب وإذا الباب قد فتح وخرج إليهم علي وهو شديد الحزن على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلما رآهم قال: أيها اليهود تريدون عدتكم من رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟
قالوا: نعم.
فخرج معهم إلى ظاهر المدينة إلى الجبل الذي صلى عنده رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلما رأى مكانه تنفس الصعداء وقال: بأبي وأمي من كان بهذا الموضع منذ هنيئة ثم صلى ركعتين وإذا بالجبل قد انشق وخرجت النوق وهي سبع نوق.
فلما رأوا ذلك قالوا بلسان واحد: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأن ما جاء به النبي (صلی الله علیه و آله) من عند ربنا هو الحق وأنك خليفته حقا ووصيه ووارث علمه، فجزاه الله وجزاك عن الإسلام خيرا، ورجعوا إلى بلادهم مسلمين موحدين»(1).
مسألة: يستحب إلفات الناس إلى أن موت الرسول (صلی الله علیه و آله) خطب جليل، استوسع وهنه… فإن بيان وفياتالمعصومين(علیهم السلام) وآثارها كبيان أفراحهم ومواليدهم داخل في قوله(علیه السلام): «إن الله تبارك وتعالى اطلع إلى الأرض فاختارنا واختار لنا شيعة ينصرونا ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا»(2)، وهو من
ص: 200
.............................
المشاركة الوجدانية المحبوبة عقلاً قبل أن تكون محبوبة شرعاً.
قال الإمام الرضا (علیه السلام): «من تذكر مصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت فيه القلوب»(1).
وفي الخصال عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «تزاوروا في بيوتكم، فإن ذلك حياة لأمرنا، رحم الله عبداً أحيى أمرنا».(2)
وقال (علیه السلام) في وصف شيعة علي أمير المؤمنين (علیه السلام):«المتباذلون في ولايتنا، المتحابون في مودتنا، المتزاورون لإحياء أمرنا»(3).
وهكذا من الراجح تذكير الناس بوفاة الأئمة المعصومين (علیهم السلام) وشهادتهم، وكذلك شهادة فاطمة الزهراء (علیها السلام)، وهكذا بالنسبة إلى القادة العلماء وما ينجم عنها من الخسائر الكبيرة، وذلك من مصاديق (التعظيم) ومن أسباب التفاف الناس حول مبادئهم أكثر فأكثر، ومن علل تمسك الناس بالأحياء منهم أكثر فأكثر، وقد ورد في زيارة عاشوراء: «مصيبة ما أعظمها وأعظم رزيتها في الإسلام وفي جميع السماوات والأرض»(4).
فعن الهروي قال: سمعت الإمام الرضا (علیه السلام) يقول: «رحم الله عبداً
ص: 201
.............................
أحيى أمرنا، فقلت له: فكيف يحيى أمركم؟ قال: يتعلم علومنا ويعلمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسنكلامنا لاتبعونا»(1).
وقال (علیه السلام): «حببونا إلى الناس ولا تبغضونا إليهم»(2).
وقال (علیه السلام): «رحم الله من حببنا إلى الناس ولم يكرهنا إليهم»(3).
مسألة: يستحب الاهتمام بذكرى وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) وتخليد ذكراه.
وكذلك بالنسبة إلى سائر المعصومين (عليهم الصلاة والسلام).
بل وكذلك ذويهم كالسيدة زينب (عليها الصلاة والسلام) وأبي طالب (علیه السلام) وحمزة (علیه السلام) ومن أشبههم، فإن قوله (صلی الله علیه وآله): «المرء يحفظ في ولده»(4) يجري في القربى أيضاً، وانما جاء ذكر (الولد) من باب المثال الأظهر والمصداق الأوضح.
ويؤيده بل يدل عليه قوله سبحانه: «وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله»(5).
وفي الحديث عن الأزدي عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «تجلسون وتتحدثون قال: قلت: جعلت فداك نعم، قال: إن تلك المجالس أحبها، فأحيوا أمرنا، إنه
ص: 202
.............................
من ذكرنا أو ذكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح ذبابة غفر الله ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر»(1).
وقال أبو جعفر (علیه السلام): «رحم الله عبداً حبس نفسه علينا، رحم الله عبداً أحيى أمرنا»(2).وعن أبي عبد الله (علیه السلام) في وصاياه لشيعته: «فإن في لقاء بعضهم بعضاً حياة لأمرنا» ثم قال: «رحم الله عبداً أحيى أمرنا»(3).
وعن الإمام الباقر (علیه السلام): «إنما شيعة علي المتباذلون في ولايتنا، المتحابون في مودتنا، المتزاورون لإحياء أمرنا» الحديث(4).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام): «اقرأ موالينا السلام وأوصهم بتقوى الله العظيم.. وأن يتلاقوا في بيوتهم فإن لقاءهم حياة لأمرنا» ثم رفع يده فقال: «رحم الله من أحيى أمرنا»(5).
وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «نفس المهموم لظلمنا تسبيح، وهمه لنا عبادة»(6).
قولها (علیها السلام): «فخطب جليل استوسع وهنه» (الخطب): الشأن،
ص: 203
.............................
و(جليل):أي عظيم، و(استوسع) بمعنى: اتسع، و(الوهن) عبارة عن: الضعف.
أي: إن الوهن والضعف الذي نجم عن وفاة الرسول (صلی الله علیه و آله) قد توسع واتسع، حتى عم الضعف صفوف المسلمين.
قولها (علیها السلام): «واستنهر فتقه» الإستنهار: استفعال من النهر بالتحريك، بمعنى: السعة أي: اتسع.
و(الفتق) عبارة عن الشق وهو ضد الرتق، كأنه ثوب اتسع فتقه فصعب رتقه مرة ثانية.
مسألة: مسيرة الانحراف في الأمم تبدأ بخطوة ثم تتسع، وهكذا في الفرد.
ولعل استخدامها (علیها السلام) صيغة (الاستفعال) في الفعلين للتنبيه على قاعدة عامة في مسيرة الأمم المنحطة، من جهة أن من طبيعة الوهن أن يتسع، ومن طبيعة الفتق أن يتزايد، فكأنهما يطلبان مزيداً من الوهن والفتق، مثل: (استخرج) بمعنى: طلب الخروج، ومثل: (استنسر) في قول الشاعر:
(ان البغات بأرضنا تستنسر).أي: تطلب أن تكون نسراً، فإن الأصل في الاستفعال الطلب، فهو إشارة إلى سنة اجتماعية وقاعدة هامة في علم النفس الاجتماعي، فإن التخاذل في الأمم ما إن يبدأ حتى يتسع ويتزايد، والفتن ما إن تلوح حتى تتكاثر ويعضد بعضها بعضاً، والمعاصي كذلك، فقد ورد أن السيئات بعضها آخذ بعنق بعض،
ص: 204
.............................
وهكذا، فإن أمواج الفساد الخلقي في الأمم وسائر المحرمات كالربا والنفاق والتخاذل عن نصرة المظلوم و... تبدأ ضعيفة ثم تتسع وتمتد باطراد، فهي كالأمراض المعدية إلا أن يقف بوجهها عامل قوي.
ومما لا شك فيه أن وقفتها (علیها السلام) ضد هذه التموجات قد كبح من انطلاقتها الهائلة إلى حد كبير، وكذلك كانت ثورة الإمام الحسين (علیه السلام)، وإلا لما بقي من الإسلام حتى الاسم، ولعم الظلم كل الكون بأقبح صورة حتى مجاهيل المستقبل.
ويستشعر من استخدامها (صلوات الله عليها) صيغة الاستفعال بالمعنى الذي ذكر: أن فيه تلميحاً إلى تضاعف حجم مسؤوليتهم مع علمهم بأن الفتقة في استنهار، والوهن في توسع، وبذلك فإن تخليهم عنالدفاع عن خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله): الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) - وهو(1) الطريق الوحيد للتعويض عن خلأ فقد الرسول (صلی الله علیه و آله) ولجبر الكسر ورتق الفتق - يحمّلهم كافة المضاعفات السلبية والمعاصي المستقبلية التي تنتج عن موقفهم هذا.
قولها (علیها السلام): «وانفتق رتقه» الرتق ضد الفتق، كما يخاط الثوب المفتوق، وانفتق أي: صار مرة ثانية منفتقاً بعد أن رتق، فالرسول (صلی الله علیه و آله) رتق الاجتماع رتقاً صحيحاً، بعد ما كانوا في الجاهلية منفتقين ثم بموت الرسول (صلی الله علیه و آله) انفتق ذلك الرتق ورجعوا إلى جاهليتهم الأولى.
ص: 205
.............................
مسألة: هناك بعدان من الأبعاد الاجتماعية والعقائدية والسياسية والاقتصادية وغيرها، التي أشارت (علیها السلام) إليهما بهاتين الجملتين: (استنهر فتقه وانفتق رتقه):
1: إن الرسول (صلی الله علیه و آله) رتق كثيراً مما كان منفتقاً في المجتمع وأدى ما عليه بأحسن ما يمكن.
2: إن على خليفته (صلی الله علیه و آله) المنصوص عليه بأمر من الله عزوجل أن يرتق ما بقي من الفتق أو ما سيحصل منه، فإن قصر فترة عمره (صلی الله علیه و آله) الشريف وكثرة المشاكل والحروب وعدم قابلية القابل في الكثيرين «إنك لا تهدي من أحببت»(1) وكثرة المنافقين والفتن لم تسمح بأن يحول كل مثالب المجتمع إلى محاسن، ولذلك أمره الله تعالى بأن يعين من يواصل المسيرة الإلهية الإصلاحية بقوله: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغترسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين»(2).
هذا مضافاً إلى الفتق الذي سيحدث بعده (صلی الله علیه و آله)، فإنه بحاجة إلى من يكون بمنزلة نفس النبي (صلی الله علیه و آله) لكي يرتقه رتقاً صحيحاً.
وهي (علیها السلام) تشير إلى هذين البعدين في خطبتها الشريفة، فقد استنهر
ص: 206
.............................
واتسع ما كان منفتقاً، وقد انفتق ما رتقه (صلی الله علیه و آله).
وفي الدعاء: «اللهم اشعب بهم الصدع، وارتق بهم الفتق، وأمت بهم الجور، وأظهر بهم العدل، وزين بطول بقائهم الأرض»(1).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) في نهج البلاغة: «فصدع بما أمر به وبلغ رسالات ربه فلمّ الله به الصدع ورتق به الفتق وألف به الشمل بين ذوي الأرحام بعد العداوة الواغرة في الصدور والضغائن القادحة فيالقلوب»(2).
وفي نهج البلاغة أيضا: «إن الله بعث محمدا (صلی الله علیه و آله) نذيرا للعالمين، وأمينا على التنزيل، وأنتم معشر العرب على شر دين، وفي شر دار مُنيخون، بين حجارة خشن وحيات صم، تشربون الكدر وتأكلون الجشب وتسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة والآثام بكم معصوبة»(3).
وفيه أيضا: «إن الله سبحانه بعث محمدا وليس أحد من العرب يقرأ كتابا ولا يدعي نبوة، فساق الناس حتى بوأهم محلتهم وبلغهم منجاتهم فاستقامت قناتهم واطمأنت صفاتهم»(4).
وفيه أيضاً: «ابتعثه بالنور المضيء والبرهان الجلي والمنهاج البادي والكتاب الهادي، أسرته خير أسرة وشجرته خير شجرة، أغصانها معتدلة وثمارها متهدلة، مولده بمكة وهجرته بطيبة، علا بها ذكره وامتد منها صوته،أرسله
ص: 207
.............................
بحجة كافية وموعظة شافية ودعوة متلافية، أظهر بها الشرائع المجهولة وقمع به البدع المدخولة وبين به الأحكام المفصولة»(1).
وقال (علیه السلام): «فبعث الله محمدا (صلی الله علیه و آله) بالحق ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته، بقرآن قد بينه وأحكمه ليعلم العباد ربهم إذ جهلوه وليقروا به بعد إذ جحدوه وليثبتوه بعد إذ أنكروه، فتجلى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه بما أراهم من قدرته وخوفهم من سطوته وكيف محق من محق بالمثلات واحتصد من احتصد بالنقمات»(2).
وروي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال عند توجههما(3) إلى مكة للاجتماع مع عائشة في التأليبعليه، بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه: «أما بعد فإن الله عزوجل بعث محمدا (صلی الله علیه و آله) للناس كافة وجعله رحمة للعالمين، فصدع بما أمر به، وبلغ رسالة ربه، فلمّ به الصدع ورتق به الفتق وآمن به السبل وحقن به الدماء وألف به بين ذوي الإحن والعداوة والوغر في الصدور والضغائن الراسخة في القلوب، ثم قبضه الله إليه حميدا لم يقصر في الغاية التي إليها أدى الرسالة ولأبلغ شيئا كان في التقصير عنه القصد، وكان من بعده ما كان من التنازع في الإمرة، فتولى أبو بكر وبعده عمر ثم تولى عثمان، فلما كان من أمره ما كان أتيتموني فقلتم: بايعنا، فقلت: لا أفعل، قلتم: بلى، فقلت: لا وقبضت يدي
ص: 208
.............................
فبسطتموها ونازعتكم فجذبتموها وحتى تداككتم علي كتداكك الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها حتى ظننت أنكم قاتلي وأن بعضكم قاتل بعض وبسطت يدي فبايعتموني مختارين وبايعني في أولكم طلحة والزبير طائعين غير مكرهين، ثم لم يلبثا أن استأذناني في العمرة والله يعلم أنهما أرادا الغدرة، فجددت عليهما العهد في الطاعة وأن لا يبغياالأمة الغوائل فعاهداني ثم لم يفيا لي ونكثا بيعتي ونقضا عهدي فعجبا لهما من انقيادهما لأبي بكر وعمر وخلافهما لي ولست بدون أحد الرجلين ولو شئت أن أقول لقلت: اللهم اغضب عليهما بما صنعا وأظفرني بهما»(1).
ص: 209
-------------------------------------------
وأظلمت الأرض لغيبته، وكسفت الشمس والقمر(1)، وانتثرت النجوم لمصيبته
مسألة: ينبغي تشكيل لجان من ذوي الخبرة والاختصاص في الفلك وعلم طبقات الأرض(2) وغيرهما للقيام بمحاولة الرصد العلمي للارتباط التكويني بين عالم التشريع وعالم التكوين، وبين ظواهر من عوالم التكوين تطرقت الروايات إلى بيان أنها معلولة أو ملازمة لوقائع معينة اجتماعية أو فكرية أو قلبية أو ما أشبه، كتأثير صلة الرحم في سعة الرزق وتأجيل الأجل وما أشبه(3).
وكبكاء السماء والأرض لموت المؤمن، حيث ورد في غير المؤمنين: «فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ»(4).
وكالأمور المذكورة في هذه الخطبة الشريفة التي وقعت بعد وفاة الرسول (صلی الله علیه و آله) من ظلمة الأرضوكسوف الشمس والقمر واندثار النجوم.
وكشق القمر للرسول (صلی الله علیه و آله) (5).
والحمرة في الأفق لقتل الإمام الحسين (علیه السلام) (6).
ص: 210
.............................
وغير ذلك.
فإن هذه الوقائع الكونية قد دل عليها القرآن الكريم أو الأحاديث الصحيحة دون شك، إلا أن دفع شبهات المكذبين الذين لا يؤمنون بالغيب والذين يشككون ضعاف الإيمان واجب، ومن طرقه التطرق لإثبات كل ذلك بالطرق العلمية.
أما ما ورد من قول النبي (صلی الله علیه و آله): (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله) الخ . حسب ما يرويه البعض في قصة موت إبراهيم (صلوات الله عليه) فيلزم البحث السندي والدلالي لتعارضها مع ما ذكر، فإنه لا شك في انكساف الشمس وانخساف القمر في وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) وكذلك كسفت الشمس لقتل الإمام الحسين (علیه السلام).
قال العلامة المجلسي(رحمة الله):(بيان، قوله (صلی الله علیه و آله): «آيتان» أي علامتان من علامة وجوده وقدرته وعلمه وحكمته (لا ينكسفان لموت أحد) أي لمحض الموت بل إذا كان بسبب سوء فعال الأمة واستحقوا العذاب والتخويف أمكن أن ينكسفا لذلك كما في شهادة الحسين (علیه السلام) فإنها كانت بفعل الأمة الملعونة فاستحقوا بذلك التخويف والعذاب بخلاف وفاة إبراهيم (علیه السلام) فإنه لم يكن بفعلهم)(1).
وقال (رحمة الله) في موضع آخر: (بيان: «لموت أحد» أي لمحض الموت لأنه من فعله سبحانه فلا يغضب به على عباده إلا أن يكون بسبب فعلهم فيغضب عليهم لذلك كواقعة الحسين (علیه السلام))(2).
ص: 211
.............................
ومن الممكن أن تكون تلك الرواية من باب التقية.
لا يقال: إذا كان الكسوف والخسوف يقعان نتيجة نظام كوني دقيق وحركات كونية بالغة الدقة كما ذكره أهلالنجوم والفلك، فأي ربط لهما بالذنوب - كما في الروايات - أو بموت العظماء كما في هذه الأحاديث؟
لأنه يقال: من الممكن أن الله سبحانه وتعالى - هو الخالق الحكيم القادر - نظم الكون وفقاً لهذه الأحداث لأنه كان يعلم بعلمه الأزلي أوقات الذنوب والعظائم من الأمور فكانت الهندسة للكون بحيث يتطابق زمن الخسوف والكسوف مع وقوع الذنوب الكثيرة أو موت العظماء، فلا منافاة بين العلة الواقعية والعلة الظاهرية(1).
.............................
وقال (علیه السلام): «صلة الأرحام تزكي الأعمال، وتنمي الأموال، وتدفع البلوى، وتيسر الحساب، وتنسئ في الأجل»(1).
وقال (علیه السلام): «صلة الأرحام وحسن الجوار زيادة في الأموال»(2).
عن علي بن رئاب قال: سمعت أبا الحسن الأول (علیه السلام) يقول: «إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة وبقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها وأبواب السماء التي كان يصعد أعماله فيها» الحديث(3).
وقال (علیه السلام): «إذا مات المؤمن بكت عليه بقاع الأرض التي كان يعبد الله عزوجل فيها والباب الذي كانيصعد منه عمله وموضع سجوده»(4).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «ما من مؤمن يموت في أرض غربة يغيب فيها بواكيه إلا بكته بقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها وبكته أبواب السماء التي كان يصعد فيها عمله»(5).
في الأمالي للشيخ الطوسي بسنده عن عمار بن أبي عمار قال: (أمطرت
ص: 213
.............................
السماء يوم قتل الحسين (علیه السلام) دما عبيطا) (1).
وعن زرارة قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): «يا زرارة إن السماء بكت على الحسين أربعين صباحا بالدم، وإن الأرض بكت أربعين صباحا بالسواد، وإن الشمس بكت أربعين صباحا بالكسوف والحمرة، وإن الجبال تقطعت وانتثرت، وإن البحار تفجرت، وإن الملائكة بكتأربعين صباحا على الحسين (علیه السلام) وما اختضبت منا امرأة ولا ادهنت ولا اكتحلت ولا رجلت حتى أتانا رأس عبيد الله بن زياد، وما زلنا في عبرة بعده وكان جدي إذا ذكره بكى حتى تملأ عيناه لحيته وحتى يبكي لبكائه رحمة له من رآه، وإن الملائكة الذين عند قبره ليبكون فيبكي لبكائهم كل من في الهواء و السماء من الملائكة، ولقد خرجت نفسه (علیه السلام) فزفرت جهنم زفرة كادت الأرض تنشق لزفرتها، ولقد خرجت نفس عبيد الله بن زياد ويزيد بن معاوية فشهقت جهنم شهقة لولا أن الله حبسها بخزانها لأحرقت من على ظهر الأرض من فورها ولو يؤذن لها ما بقي شيء إلا ابتلعته، ولكنها مأمورة مصفودة، ولقد عتت على الخزان غير مرة حتى أتاها جبرئيل فضربها بجناحه فسكنت وأنها لتبكيه وتندبه وأنها لتتلظى على قاتله، ولولا من على الأرض من حجج الله لنقضت الأرض وأكفأت بما عليها، وما تكثر الزلازل إلا عند اقتراب الساعة، وما من عين أحب إلى الله ولا عبرة من عين بكت ودمعت عليه (علیه السلام) وما من باك يبكيه إلا وقد وصل فاطمة (علیها السلام) وأسعدها عليه ووصل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأدى حقنا، وما من عبد يحشر إلاوعيناه باكية إلا
ص: 214
.............................
الباكين على جدي الحسين (علیه السلام) فإنه يحشر وعينه قريرة والبشارة تلقاه والسرور بين على وجهه والخلق في الفزع وهم آمنون، والخلق يعرضون وهم حداث الحسين (علیه السلام) تحت العرش وفي ظل العرش لا يخافون سوء يوم الحساب، يقال لهم: ادخلوا الجنة، فيأبون ويختارون مجلسه وحديثه، وإن الحور لترسل إليهم أنا قد اشتقناكم مع الولدان المخلدين فما يرفعون رؤوسهم إليهم لما يرون في مجلسهم من السرور والكرامة، وإن أعداءهم من بين مسحوب بناصيته إلى النار ومن قائل ما لنا من شافعين ولا صديق حميم وإنهم ليرون منزلهم وما يقدرون أن يدنوا إليهم ولا يصلون إليهم، وإن الملائكة لتأتيهم بالرسالة من أزواجهم ومن خدامهم على ما أعطوا من الكرامة، فيقولون: نأتيكم إن شاء الله، فيرجعون إلى أزواجهم بمقالاتهم فيزدادون إليهم شوقا إذا هم خبروهم بما هم فيه من الكرامة وقربهم من الحسين (علیه السلام) فيقولون: الحمد لله الذي كفانا الفزع الأكبر وأهوال القيامة ونجانا مما كنا نخاف، ويؤتون بالمراكب والرحال على النجائب فيستوون عليهاوهم في الثناء على الله والحمد لله والصلاة على محمد وآله حتى ينتهوا إلى منازلهم»(1).
وقصة الحمرة وبكاء السماء والأرض وما أشبه روته العامة أيضا: ففي صحيح مسلم في تفسير قوله تعالى «فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالأَرْضُ»(2) قال: (لما قتل الحسين بن علي (علیه السلام) بكت السماء وبكاؤها حمرتها)(3).
ص: 215
.............................
وروى الثعلبي في تفسير هذه الآية: (أن الحمرة التي مع الشفق لم يكن قبل قتل الحسين (علیه السلام))(1).
وروى الثعلبي أيضا يرفعه قال: (مطرنا دما بأيام قتل الحسين (علیه السلام))(2).
وفي تاريخ النسوي قال أبو قبيل:(لما قتل الحسين بن علي (علیه السلام) كسفت الشمس كسفة بدت الكواكب نصف النهار حتى ظننا أنها هي)(3). وروى أبو نعيم في دلائل النبوة، والنسوي في المعرفة: قالت نصرة الأزدية: (لما قتل الحسين أمطرت السماء دما وحبابنا وجرارنا صارت مملوة دما)(4).
قولها (علیها السلام): «وأظلمت الأرض لغيبته»، الظلام قد يطلق على المعنوي(5)، وقد يطلق على المادي، وكذلك النور قال سبحانه: «الله نور السماوات والأرض»(6).
قال المفسرون: إن النور هو الظاهر بنفسه المظهر لغيره، فالنور الحقيقي هو الله الظاهر بنفسه المظهر لكل ما عداه من كتم العدم، أو يقال: هو جل اسمه نور معنوي للسماوات والأرض، أوخالق لنورهما.
ص: 216
.............................
فالتفسير بأنه المنور(1) لا انحصار به بعد إمكان جعله معنوياً أيضاً، فتأمل.
والمراد بالظلمة ههنا: المعنوية - ولا تبعد المادية أيضا - فكما أن الإنسان يبصر الأمور التكوينية بحاسة الباصرة بسبب النور، كذلك يبصر بحسه الباطني الأشياء الواقعية بسبب أنوار الله المعنوية، وأهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) هم أنوار الله تعالى، كما ورد في زيادة الجامعة: «خلقكم الله أنواراً فجعلكم بعرشه محدقين حتى منّ علينا بكم»(2).
وهل المراد أنهم (علیهم السلام) كانوا أنواراً ظاهرة ثم صاروا أنواراً واقعية في هذا العالم، أو أنهم كانوا هناك أيضاً أنواراً واقعية ثم تفضل الله بهم علينا؟ احتمالان.
ويحتمل إرادة الظلمة - في قولها (علیها السلام) - المقابلة للنورالمراد به أشعة نورانية من نمط آخر(3).
قولها (علیها السلام): «وانتثرت النجوم لمصيبت» ظاهره: إرادة المعنى الحقيقي بأن انتثرت النجوم بسبب وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأنها تراءت للناظرين متناثرة كما رئيت متناثرة في موت بعض العلماء، أو غير ذلك من المعاني.
وفي بعض النسخ: (وكسفت النجوم) وهو كما سبق ظاهر في الحقيقة.
أو المراد أنها تدكرت وانكدرت بسبب موت الرسول (صلی الله علیه و آله) فإنه (صلی الله علیه و آله) كان نوراً للأرض وللسماء بجعل الله سبحانه.
ص: 217
-------------------------------------------
مسألة: إن الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) هو أمل الكون بأجمعه وقد أرسله الله عزوجل «رحمة للعالمين»(1).
قولها (علیها السلام): «وأكدت الآمال»، يقال: أكدى فلان أي: بخل أو قل خيره.
فمعنى إكداء الآمال هنا: أن الآمال انقطعت بفقد الرسول (صلی الله علیه و آله) لأنه (صلی الله علیه و آله) كان موضع أمل الآملين.
ثم إنها (علیها السلام) ذكرت قولها (أكدت الآمال) في وسط ذكرها لمجموعة من الحوادث السماوية والطوارئ الكونية على الكرة الأرضية، مما قد يستظهر منه أن المراد بالآمال ليس (الآمال) البشرية فحسب، بل (الآمال الكونية) التي كانت معقودة به (صلی الله علیه و آله) إذ كان وجوده خيراً وبركة لكافة العوالم، وبوفاته (صلی الله علیه و آله) انقطع منها ما كان منوطاً بحياته وإن بقي ما هو معلق على أصل وجوده وما استمر بأهل بيته الطاهرين(علیهم السلام).
قولها (علیها السلام): «وخشعت الجبال» فكما أن الإنسان يخشع أمام العظيم من الأمور، كذلك سائر المخلوقات والحقائق الكونية والتي من أظهرها في الأرض الجبال، فإنها تخشع من خشية الله وهيبة أوليائه.
قال سبحانه: «فقال لها وللأرض أئتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا
ص: 218
.............................
طائعين»(1).
وقال تعالى: «لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله»(2).
وقال سبحانه: «تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً»(3).
وخشوع الجبل إما ضعف صلابته كما قال سبحانه بالنسبة إلى آثار القيامة:
قال تعالى: «وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْأَحَداً»(4).
وقال سبحانه: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاَ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلاَ أَمْتاً * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ له وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَ هَمْساً»(5).
وقال تعالى: «إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً»(6).
ص: 219
.............................
وقال سبحانه: «وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ»(1).
وقال تعالى: «وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ»(2).
وقال سبحانه: «يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلا»(3).وقال تعالى: «وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ»(4).
وقال سبحانه: «وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ»(5).
وإما احتمال تأثره، فمن الواضح أن الكون كله قابل للتأثر.
قال تعالى: «فأبين أن يحملنها وأشفقن منها»(6).
وقال سبحانه: «يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض»(7).
وقال تعالى: «وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم»(8).
وقال سبحانه: «وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا
ص: 220
.............................
فَاعِلِينَ»(1).
وقال تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ له مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّوَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا له مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ»(2). وقال سبحانه: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ»(3).
ويدل على تأثر الكون وتفاعله وفهمه، متواتر الآيات والروايات - تواتراً إجمالياً - ومنها: شهادة جلود الإنسان عليه في يوم القيامة، قال تعالى: «قالوا لجلودهم لم شهدتم علينا»(4).
وقال سبحانه: «حَتَّى إِذا ما جاءُوها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ»(5).
وشهادة بقاع الأرض للإنسان بالصلاة عليها وما أشبه.
وخطاب الزمن للإنسان: (أنا يوم جديد وغداً عليك شهيد).
قال لقمان: «يا بني إن كل يوم يأتيك يوم جديد، يشهد عليك عند رب كريم»(6).
ص: 221
.............................
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ما من يوم يمر على ابن آدم إلا قال له ذلك اليوم: يا ابن آدم أنا يوم جديد وأنا عليك شهيد فقل فيّ خيرا وأعمل فيّ خيرا، أشهد لك به يوم القيامة فإنك لن تراني بعده أبدا»(1).
وعن جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام) عن أبيه (علیه السلام) قال: «إن الليل إذا أقبل نادى مناد بصوت يسمعه الخلائق إلا الثقلين: يا ابن آدم إني خلق جديد، إني على ما فيّ شهيد، فخذ مني، فإني لو قد طلعت الشمس لم أرجع إلى الدنيا، ثم لم تزدد فيّ حسنة ولم تستعتب فيّ من سيئة، وكذلك يقول النهار إذا أدبر الليل»(2).
وقال الإمام الصادق (علیه السلام) في حديث: «فيقولون لله يا رب هؤلاء ملائكتك يشهدون لك، ثم يحلفون بالله ما فعلوا من ذلك شيئا وهو قول الله «يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ له كَمايَحْلِفُونَ لَكُمْ»(3)، وهم الذين غصبوا أمير المؤمنين (علیه السلام) فعند ذلك يختم الله على ألسنتهم وينطق جوارحهم فيشهد السمع بما سمع مما حرم الله ويشهد البصر بما نظر به إلى ما حرم الله وتشهد اليدان بما أخذتا وتشهد الرجلان بما سعتا فيما حرم الله ويشهد الفرج بما ارتكب مما حرم الله»(4).
وعن الصادق (علیه السلام) في حديث أنه قال: «صلوا من المساجد في بقاع مختلفة
ص: 222
.............................
فإن كل بقعة تشهد للمصلي عليها يوم القيامة»(1).
وعن أبي جعفر (علیه السلام) أن علي بن الحسين (علیه السلام) كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة كما كان يفعل أمير المؤمنين (علیه السلام) كان له خمسمائة نخلة وكان يصلي عند كل نخلة ركعتين»(2).وعن أبي ذر عن النبي (صلی الله علیه و آله) في وصيته له: «يا أبا ذر ما من رجل يجعل جبهته في بقعة من بقاع الأرض إلا شهدت له بها يوم القيامة، وما من منزل نزله قوم إلا وأصبح ذلك المنزل يصلي عليهم أو يلعنهم، يا أبا ذر ما من صباح ولا رواح إلا وبقاع الأرض ينادي بعضها بعضا: يا جارة هل مر بك اليوم ذاكر لله أو عبد وضع جبهته عليك ساجدا لله تعالى، فمن قائلة لا ومن قائلة نعم، فإذا قالت نعم اهتزت وانشرحت وترى أن لها الفضل على جارتها»(3).
وعن عبد الله بن علي الزراد قال سأل أبو كهمس أبا عبد الله (علیه السلام) فقال: يصلي الرجل نوافله في موضع أو يفرقها؟ قال: «لا، بل هاهنا وهاهنا فإنها تشهد له يوم القيامة»(4)، قال الصدوق (رحمة الله) : (يعني أن بقاع الأرض تشهد له)(5).
ص: 223
-------------------------------------------
مسألة: إن النبي (صلی الله علیه و آله) كان الحافظ الأشد لكل الحرمات، ومن المعلوم أن بفقده (صلی الله علیه و آله) حصل الضياع للحرمات، وقد كان شعاره (صلی الله علیه و آله) حفظ الحرمة، كما أمر بالنداء في يوم فتح مكة:
اليوم يوم المرحمة *** اليوم تحفظ الحرمة
بدل قول المنادي:
اليوم يوم الملحمة *** اليوم تسبى الحرمة (1)
ومن هذا يفهم - عرفاً - لزوم حفظ الحريم، من غير فرق بين أن يكون حريماً إنسانياً، أو حريم الأرض والبئر وما أشبه، مما ذكر في مختلف الكتب، ككتاب إحياء الموات، وكتاب النكاح في باب الحقوق، وغير ذلك، وقد ألمعنا إلى جملة منها في (الفقه: الحقوق)(2).قولها (علیها السلام): «وأضيع الحريم» يحتمل فيه ثلاثة معان:
1: إن وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) سبب ضياع حريمه، أي أهل بيته وذلك بظلم القوم لهم.
ص: 224
.............................
2: إنه سبب ضياع حريم المسلمين بل وغيرهم أيضاً ممن كانوا يتمتعون بحمايته، لأن الرسول (صلی الله علیه و آله) كان يحفظ ويحمي حرم الناس بأجمعهم من المسلمين وغيرهم.
3: إنه سبب ضياع الأعم من ذلك أي كل حرمة من حرم الإسلام وحرم المسلمين وغيرهما (1)، فإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان شديد الحماية والحراسة لكل حرمة.
لكن المنصرف الأول، والإطلاق يقتضي الثالث، وإن كان لا يبعد الثاني أيضاً.
عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «لله عزوجل في بلاده خمس حُرم: حرمة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وحرمة آل رسول الله (علیهم السلام)، وحرمة كتاب الله عزوجل، وحرمة كعبة الله، وحرمةالمؤمن»(2).
وقال (علیه السلام): «إن لله تبارك و تعالى حرمات: حرمة كتاب الله وحرمة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وحرمة بيت المقدس وحرمة المؤمن»(3).
وقال (علیه السلام): «إن لله عزوجل في الأرض حرمات: حرمة كتاب الله وحرمة رسول الله وحرمة أهل البيت وحرمة الكعبة وحرمة المسلم وحرمة المسلم وحرمة المسلم»(4).
ص: 225
.............................
وفي يوم عاشوراء عندما وقف الإمام الحسين (علیه السلام) على ولده علي الأكبر (علیه السلام) قال: «قتل الله قوما قتلوك، ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول، وانهملت عيناه بالدموع ثم قال: على الدنيا بعدك العفاء»(1).
وفي دعاء الندبة المروي عن الإمام الحجة (علیه السلام): «لم يمتثل أمررسول الله (صلی الله علیه و آله) في الهادين بعد الهادين والأمة مصرة على مقته، مجتمعة على قطيعة رحمه، وإقصاء ولده، إلا القليل ممن وفى لرعاية الحق فيهم، فقُتل من قتل، وسبي من سبي، وأقصي من أقصي، وجرى القضاء لهم بما يرجى له حسن المثوبة» الدعاء»(2).
وعن الحسن بن عطية قال: كان أبو عبد الله (علیه السلام) واقفا على الصفا، فقال له عباد البصري: حديث يروى عنك، قال: «وما هو»، قال: قلت: حرمة المؤمن أعظم من حرمة هذه البنية، قال: «قد قلت ذلك، إن المؤمن لو قال لهذه الجبال أقبلي أقبلت»! قال: فنظرت إلى الجبال قد أقبلت، فقال لها: «على رسلك إني لم أردك»(3).
وقال (علیه السلام): «حرمة المؤمن الفقير أعظم عند الله من سبع سماوات وسبع أرضين والملائكة والجبال وما فيها»(4).
وقال (علیه السلام): «حرمة المؤمنميتا كحرمته حيا»(5).
ص: 226
.............................
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «مكة حرم الله والمدينة حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) والكوفة حرمي لا يريدها جبار بحادثة إلا قصمه الله» (1).
وعن زرارة بن أعين عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) المدينة ما بين لابتيها صيدها، وحرم (علیه السلام) ما حولها بريداً في بريد أن يختلى خلاها أو يعضد شجرها إلا عودي الناضح»(2).
وقال (علیه السلام):«حريم قبر الحسين (علیه السلام) خمس فراسخ من أربعة جوانب القبر»(3). وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «حريم المسجد أربعون ذراعا، والجوار أربعون دارامن أربعة جوانبها»(4). وروي: «أن حريم المسجد أربعون ذراعاً من كل ناحية»(5). وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «حريم النخلة طول سعفها»(6).
وعن الصادق (علیه السلام) عن أبيه (علیه السلام): «أن عليا (علیه السلام) كان يقول: حريم البئر العادية خمسون ذراعا، إلا أن يكون إلى عطن أو إلى الطريق فيكون أقل من ذلك خمسة وعشرين ذراعا، وحريم البئر المحدثة خمسة وعشرون ذراعا»(7).
وقال (علیه السلام): «حريم النهر حافتاه وما يليها»(8).
ص: 227
مسألة: يستحب بيان أن الحرمة أزيلت عند ممات الرسول (صلی الله علیه و آله).
ولا يخفى أن الحريم غير الحرمة، إذ الحرمة ذاتية والحريم عرضية وبالتبع(2)، مثلاً: حرمة الإنسان ذاتية، أما حرمة ذويه باعتباره عرضية، فلهم حرمة حريم ذلك الإنسان المحترم، وربما اجتمعت الذاتية والعرضية بالاعتبارين.
وللكعبة مثلاً حرمة، أما مكة فهي من الحريم، فتأمل، وهكذا.
فهي (علیها السلام) أشارت إلى أمرين نجما عن وفاته (صلی الله علیه و آله): إضاعة الحريم، وهتك الحرمة.
والظاهر أن المراد ب- (أزيلت الحرمة) أن القوم أزالوا حرمة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهتكوها (علیها السلام) وضربوا بها عرض الجدار، بناء على كون المراد بالحرمة المعنى الخاصأو العام، أما لو أريد بها المعنى الأعم(3) فإن الإزالة في بعدها التكويني عندئذٍ تسند لجاعل(4) سببيته (صلی الله علیه و آله) لتلك الحرمة التكوينية.
هذا وجملتها هذه بلحاظ أن الحرمة عبارة عما لا يحل انتهاكه، تقرب أن يكون المراد ب- (أزيلت الحرمة) في الجملة السابقة المعنى الأوسط.
ص: 228
.............................
قال علي بن الحسين (علیه السلام) في حديث: «إن الله تعالى مسخ هؤلاء لاصطياد السمك فكيف ترى عند الله عزوجل حال من قتل أولاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهتك حريمه، إن الله تعالى وإن لم يمسخهم في الدنيا فإن المعد لهم من عذاب الآخرة أضعاف عذاب المسخ»(1).
وفي وصية النبي (صلی الله علیه و آله) عند قرب وفاته: «معاشر الأنصار، ألا فاسمعوا ومن حضر، ألا إن فاطمة بابها بابي وبيتها بيتي، فمن هتكهفقد هتك حجاب الله» قال عيسى - راوي الحديث -: فبكى أبو الحسن (علیه السلام) طويلا وقطع بقية كلامه وقال: هُتك والله حجاب الله، هُتك والله حجاب الله، هُتك والله حجاب الله يا أمه صلوات الله عليها»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله) أيضاً في وصيته عند قرب وفاته: «واعلم يا علي أني راض عمن رضيت عنه ابنتي فاطمة، وكذلك ربي وملائكته، يا علي ويل لمن ظلمها، وويل لمن ابتزها حقها، وويل لمن هتك حرمتها، وويل لمن أحرق بابها، وويل لمن آذى خليلها، وويل لمن شاقها وبارزها، اللهم إني منهم بريء، وهم مني براء»(3).
وقد دخلت أم سلمة على فاطمة (علیها السلام) فقالت لها: كيف أصبحت عن ليلتك يا بنت رسول الله؟
ص: 229
.............................
قالت: «أصبحت بين كمد وكرب، فقد النبي وظلم الوصي، هُتك والله حجابه، من أصبحت إمامته مقبضة مقتضبة على غير ما شرع الله في التنزيل، وسنها النبي (صلی الله علیه و آله) في التأويل،ولكنها أحقاد بدرية وترات أحدية كانت عليها قلوب النفاق مكتمنة»(1).
مسألة: الحريم والحرمة هل هما حق أم حكم؟
الظاهر: أن بعض المصاديق حق كحريم الدار، وبعضها حكم كحرمة هتك المؤمن.
قال (علیه السلام): «من استهان بحرمة المسلمين فقد هتك ستر إيمانه»(2).
وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «من هتك ستر مؤمن هتك الله ستره يوم القيامة»(3).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إن أمرنا مستور مقنع بالميثاق فمن هتك علينا أذله الله»(4).
وفي الحديث: «ومن هتك حجاب غيرهانكشفت عورات بيته»(5).
ص: 230
.............................
وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «لو لم يكن للحساب مهولة إلا حياء العرض على الله عزوجل وفضيحة هتك الستر على المخفيات لحق للمرء ألا يهبط من رؤوس الجبال ولا يأوي إلى عمران ولا يأكل ولا يشرب ولا ينام إلا عن اضطرار متصل بالتلف، ومثل ذلك يفعل من يرى القيامة بأهوالها وشدائدها قائمة في كل نفس ويعاين بالقلب الوقوف بين يدي الجبار، حينئذ يأخذ نفسه بالمحاسبة كأنه إلى عرصاتها مدعو وفي غمراتها مسؤول، قال الله عزوجل: «وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ»(1)»(2).
ص: 231
.............................
مسألة: يجب السعي على مر الأزمان لإعادة ما أمكن إعادته مما أضيع من حريم الرسول (صلی الله علیه و آله) ومما أزيل من حرمته (صلی الله علیه و آله).
وفي الجانب التكويني يمكن إعادة مازال ولو في الجملة عبر الدعاء وما أشبه لتعجيل الظهور، فإن به (عجل الله تعالى فرجه الشريف) تشرق الأرض بنور ربها، وتعود المياه إلى مجاريها.
وفي الدعاء: «اللهم عجل فرجه وأيده بالنصر وانصر ناصريه واخذل خاذليه»(1).
وفي دعاء العهد: «اللهم أرني الطلعة الرشيدة والغرة الحميدة، واكحل بصري بنظرة مني إليه، وعجل فرجه وسهل مخرجه، اللهم اشدد أزره وقوّ ظهره وطوّل عمره، اللهم اعمر بهبلادك وأحي به عبادك»(2).
وفي دعاء للإمام الجواد (علیه السلام) في قنوته: «وأنت اللهم بعبادك وذوي الرغبة إليك شفيق وبإجابة دعائهم وتعجيل الفرج عنهم حقيق»(3).
ص: 232
-------------------------------------------
مسألة: قد سبق أن من الجائز - بالمعنى الأعم الشامل للوجوب -: القسم لبيان أهمية الأمر، وهنا قد أقسمت (علیها السلام) لبيان شدة المصيبة.
ومن هذا القبيل تكرار القسم في القرآن الحكيم.
كما أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين عليّاً (عليه الصلاة والسلام) كانا يحلفان في موارده، كما نرى ذلك في كلامهما (علیهما السلام).
أما ما ورد من كراهة القسم، مثل قوله سبحانه وتعالى: «ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم»(1) فالمراد به الاستخفاف باسم الله سبحانه وتعالى، بأن يكون اسم الله معرضاً لليمين بدون أن يكون هناك أهمية توجب ذلك.
أو المراد الأعم من ذلك ومن القسم كاذباً.
أو القسم من دون أهمية فيالموضوع، أو ما أشبه.
عن أبي عبد الله (علیه السلام) في قول الله عزوجل: «وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ»(2) قال: «إذا دعيت لصلح بين اثنين فلا تقل علي يمين ألا أفعل»(3).
ص: 233
.............................
وعن أبي جعفر (علیه السلام) في قوله تعالى: «ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمانِكُمْ»(1)، قال: «يعني الرجل يحلف أن لا يكلم أخاه و ما أشبه ذلك أو لايكلم أمه»(2).
وعن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى لا إله غيره «وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا» قال: «هو قول الرجل لا والله، وبلى والله»(3).وفي الحديث القدسي: «يا عيسى لا تحلف باسمي كاذبا فيهتز عرشي غضبا»(4).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا علي لا تحلف بالله كاذبا ولا صادقا من غير ضرورة، ولا تجعل الله عرضة ليمينك فإن الله لا يرحم ولا يرعى من حلف باسمه كاذبا»(5).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إذا أدّعي عليك مال ولم يكن له عليك، فأراد أن يحلّفك، فإن بلغ مقدار ثلاثين درهما فأعطه ولا تحلف، وإن كان أكثر من ذلك فاحلف ولا تعطه»(6).
ص: 234
.............................
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «اجتمع الحواريون إلى عيسى (علیه السلام) فقالوا: يا معلم الخير أرشدنا، فقال: إن موسى نبي الله (علیه السلام) أمركم أن لا تحلفوا بالله كاذبين، وأنا آمركم أن لا تحلفوا باللهكاذبين ولا صادقين»(1).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «بيعوا ولا تحلفوا، فإن اليمين ينفق السلعة ويمحق البركة»(2).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لا تحلفوا إلا بالله، ومن حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض، ومن حلف له بالله فلم يرض فليس من الله في شيء»(3).
وقال (صلی الله علیه و آله): «لا تحلفوا بآبائكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولاتحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون»(4).
مسألة: يستحب بيان أن موت الرسول (صلی الله علیه و آله) هي النازلة الكبرى والمصيبة العظمى وتأكيد ذلك.
فإن مثل هذه التأكيدات تبيّن قَدَر النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله)وقيمته ولو بقدر، مما يسبب التفاف الناس حوله أكثر فأكثر، فإن من عادة الناس أن يلتفوا حول
ص: 235
.............................
العظماء، وكل ما ازدادوا معرفة بعظمتهم كان التفافهم حولهم أكثر، وكلما التف الناس حول الرسول (صلی الله علیه و آله) أكثر كانوا بمنجىً ومأمن من مشاكل الدنيا وعذاب الآخرة ف- «ما سألتكم من أجر فهو لكم»(1).
قال (علیه السلام): «من أصيب بمصيبة فليذكر مصابه بالنبي (صلی الله علیه و آله) فإنه من أعظم المصائب»(2).
وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «يا علي من أصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها من أعظم المصائب»(3).
وقال (صلی الله علیه و آله): «إذا أصبتم بمصيبة فاذكروا مصيبتي فإنهاأعظم المصائب»(4).
وعن الشعبي، عن صعصعة بن صوحان قال: فلما بلغ عليا (علیه السلام) موت الأشتر قال: «إنا لله و إنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين، اللهم إني أحتسبه عندك فإن موته من مصائب الدهر، فرحم الله مالكا، فقد وفى بعهده وقضى نحبه ولقي ربه، مع أنا قد وطنا أنفسنا على أن نصبر على كل مصيبة بعد مصابنا برسول الله (صلی الله علیه و آله) فإنها أعظم المصائب»(5).
وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «إن الله ليكتب الدرجة العالية في الجنة فلا يبلغها عبده فلا يزال يتعهد بالبلاء حتى يبلغها وإذا أصبتم بمصيبة فاذكروا مصيبتي فإنها
ص: 236
.............................
أعظم المصائب»(1).
وأنشأ أمير المؤمنين (علیه السلام):
الموت لا والدا يبقي و لا ولدا *** هذا السبيل إلى أن لا ترى أحدا
هذا النبي ولم يخلد لأمته *** لو خلد الله خلقا قبله خلدا
للموت فينا سهام غير خاطئة *** من فاته اليوم سهم لم يفته غدا (2)
وقالت فاطمة الزهراء (علیها السلام):
إذا مات يوما ميت قلّ ذكره *** وذكر أبي مذ مات والله أزيد
تذكرت لما فرق الموت بيننا *** فعزيت نفسي بالنبي محمد
فقلت لها إن الممات سبيلنا *** ومن لم يمت في يومه مات في غد(3)
وهذا لا ينافي الاهتمام الأكثر بعزاء الإمام الحسين (علیه السلام) فإن ذلك بأمرهم (صلوات الله عليهم أجمعين).
كما لا ينافي الأخبار التالية أيضا:
قال لقمان: «يا بني إن أشد العدم عدم القلب، وإن أعظم المصائب مصيبة الدين، وأسنى المرزئة مرزأته»(4).
ص: 237
.............................
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام):«أعظم المصائب الجهل»(1).
وقال (علیه السلام): «المصيبة بالدين أعظم المصائب»(2).
وقال (علیه السلام): «أعظم المصائب و الشقاء الوله بالدنيا»(3).
مسألة: (كشف الحقيقة) واجب في الجملة، ويكفي في التأثير احتماله عقلائياً ولو في المستقبل للأجيال القادمة، وذلك من وجوه ذكرهم (صلوات الله عليهم) لبعض العلامات المبهمة لما قبل الظهور.
وأما ما ذكرته (علیها السلام) ههنا فتأثيره كان فعلياً ومستقبلياً.
قال الشهيد الثاني (رحمة الله) في (شرح اللمعة) في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (وتجويز التأثير، بأن لا يكون التأثير ممتنعاً، بل ممكنا بحسب ما يظهر له من حاله، وهذايقتضي الوجوب ما لم يعلم عدم التأثير وإن ظن عدمه، لأن التجوز قائم مع الظن، وهو حسن)(4).
وقال المحقق الأردبيلي (رحمة الله): (نعم لا يبعد استحبابه مع احتمال التأثير مع ظن عدمه، إن كان مسقطاً للوجوب، لاحتمال حصول نفع، فتأمل)(5).
ص: 238
.............................
وقال المحقق السبزواري (رحمة الله): (هل يعتبر مجرد التجويز وإن كان احتمال التأثير بعيداً، أو عدم غلبة الظن أو العلم بعدم التأثير، ظاهر بعض عباراتهم يقتضي الأول، وظاهر بعضها الثاني، ولعل نظر الأول على الآية) (1).
والتفصيل في الفقه(2).
عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «يكون في آخر الزمان قوم ينبع فيهمقوم مراءون ينفرون وينسكون، حدثاء سفهاء، لا يوجبون أمرا بمعروف ولا نهيا عن منكر إلا إذا أمنوا الضرر، يطلبون لأنفسهم الرخص والمعاذير» إلى أن قال: «هنالك يتم غضب الله عليهم فيعمهم بعقابه»(3).
وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «من مشى إلى سلطان جائر فأمره بتقوى الله ووعظه وخوفه كان له مثل أجر الثقلين من الجن والإنس ومثل أعمالهم»(4).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة إذا عملت الخاصة بالمنكر سرا من غير أن تعلم العامة، فإذا عملت الخاصة بالمنكر جهارا فلم تغير ذلك العامة استوجب الفريقان العقوبة من الله عزوجل»(5).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن المعصية إذا عمل بها العبد سرا لم تضر إلا
ص: 239
.............................
عاملها، فإذا عمل بها علانية ولم يغير عليه أضرت بالعامة» قال جعفر بن محمد (علیه السلام): «وذلك أنه يذل بعمله دين الله ويقتدي به أهل عداوة الله»(1).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «ما أقر قوم بالمنكر بين أظهرهم لا يغيرونه إلا أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده»(2).
وعن أبي جعفر (علیه السلام) في حديث قال: «أوحى الله إلى شعيب النبي (علیه السلام) أني معذب من قومك مائة ألف، أربعين ألفا من شرارهم وستين ألفا من خيارهم فقال (علیه السلام): يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ فأوحى الله عزوجل إليه: داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي»(3).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) عن أبيه عن جده علي بن الحسين (علیهم السلام) قال: «قال موسى بن عمران(علیه السلام): يا رب من أهلك الذين تظلهم في ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك؟ فأوحى الله إليه: الطاهرة قلوبهم والتربة أيديهم الذين يذكرون جلالي إذا ذكروا ربهم» إلى أن قال: «والذين يغضبون لمحارمي إذا استحلت مثل النمر إذا حرد»(4).
ص: 240
.............................
مسألة: (ذكر الحقيقة) أمر، والتأكيد عليها أمر ثان، والبرهنة عليها أمر ثالث، والكل واجب في الجملة.
وهذا ما فعلته (علیها السلام) في هذه الجمل المتلاحقة وفي طول الخطبة، فإنها (علیها السلام) تارة اكتفت بالأول وأخرى ضمت إليه الثاني وثالثةً ثلّثت.
قولها (علیها السلام): «فتلك والله النازلة الكبرى» النازلة أي التي تنزل من السماء، كما قال أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام): في كل يوم ينزل البلاء إلى الأرض كقطر المطر(1).
والمعنى: أن الحوادث تقع في صفوف البشر بصورة مستمرة، فهذا يموت وهذا يقتل وهذا يسقط في هوة وهذا يغرق وهذا يحترق بيته وهذا يفتقر وما أشبه ذلك، ولكن موت رسول الله (صلی الله علیه و آله) أكبر من كل تلك النوازلوالمصائب إذ أن كل مصيبة تخصّ فرداً أو أفراداً أو شعباً أو شعوباً، أما موت رسول الله (صلی الله علیه و آله) فمصيبة تعم كل العالمين لأنه (صلی الله علیه و آله) في حياته كان رحمة للعالمين، وبموته حرم العالمون من رحمة وجوده الشريف، وإن كان (صلی الله علیه و آله) بعد موته أيضاً كحياته رحمة للناس حيث يستغفر لهم وإن الله ببركته يتفضل عليهم، إلى غير ذلك.
قولها (علیها السلام): (والمصيبة العظمى) فإن الناس أصيبوا بمصيبة كبيرة لا يعرف مداها إلا الله سبحانه وتعالى.
ص: 241
.............................
وفي الحديث: قال (علیه السلام): «إن البلاء أسرع إلى المؤمن التقي من المطر إلى قرار الأرض»(1).
وفي صحيفة الرضا (علیه السلام) عن الإمام الرضا (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام): «إن في كتاب علي(علیه السلام): أن أشد الناس بلاء النبيون ثم الوصيون، ثم الأمثل فالأمثل، وإنما يبتلى المؤمن على قدر أعماله الحسنة، فمن صحّ دينه وحسن عمله اشتد بلاؤه، ومن سخف دينه وضعف عمله قلّ بلاؤه، وإن البلاء أسرع إلى المؤمن التقي من المطر إلى قرار الأرض، وذلك أن الله عزوجل لم يجعل الدنيا ثواباً لمؤمن ولا عقوبة لكافر»(2).
وعن سلمان بن غانم قال: سألني أبو عبد الله (علیه السلام): «كيف تركت الشيعة»؟
فقلت: تركت الحاجة فيهم والبلاء أسرع إليهم من الميزاب السريع في ماء المطر.
فقال: «الله المستعان» ثم قال: «أيسرك الأمر الذي أنت عليه أم مائة ألف»؟
قلت: لا والله، ولا جبال تهامة ذهبا.
فقال: «من أغنى منك ومن أصحابك، ما على أحدكم ولو ساح في الأرض يأكل من ورق الشجر ونبت الأرض حتى يأتيهالموت»(3).
ص: 242
.............................
قال تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ»(1).
وفي الحديث القدسي قال الله تعالى لعيسى بن مريم (علیهما السلام): «ثم إني أوصيك يا ابن مريم البكر البتول بسيد المرسلين وحبيبي منهم، أحمد صاحب الجمل الأحمر والوجه الأقمر المشرق بالنور، الطاهر القلب، الشديد البأس، الحيي المتكرم، فإنه رحمة للعالمين وسيد ولد آدم عندي»(2).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن الله تبارك وتعالى بعثني رحمة للعالمين»(3).
وقال (صلی الله علیه و آله): «إنماأنا رحمة مهداة»(4).
وقد روي أنه: قام رسول الله (صلی الله علیه و آله) على الصفا ونادى في أيام الموسم: يا أيها الناس إني رسول الله رب العالمين، فرمقه الناس بأبصارهم، قالها ثلاثا.
ثم انطلق (صلی الله علیه و آله) حتى أتى المروة، ثم وضع يده في أذنه ثم نادى ثلاثا بأعلى صوته: يا أيها الناس إني رسول الله، ثلاثا.
فرمقه الناس بأبصارهم، ورماه أبو جهل (قبحه الله) بحجر فشج بين عينيه، وتبعه المشركون بالحجارة، فهرب (صلی الله علیه و آله) حتى أتى الجبل فاستند إلى موضع يقال له: المتكأ، وجاء المشركون في طلبه، وجاء رجل إلى علي بن أبي طالب (علیه السلام) وقال: يا علي قد قتل محمد.
ص: 243
.............................
فانطلق (علیه السلام) إلى منزل خديجة (علیها السلام) فدق الباب، فقالت: خديجة من هذا؟
قال: أنا علي.
قالت: يا علي ما فعل محمد؟قال: لا أدري، إلا أن المشركين قد رموه بالحجارة، وما أدري أحي هو أم ميت، فأعطيني شيئا فيه ماء وخذي معك شيئا من هيس وانطلقي بنا نلتمس رسول الله (صلی الله علیه و آله) فإنا نجده جائعا عطشانا.
فمضى (علیه السلام) حتى جاز الجبل وخديجة (علیها السلام) معه، فقال علي: يا خديجة استبطني الوادي حتى أستظهره، فجعل ينادي: يا محمداه، يا رسول الله، نفسي لك الفداء، في أي واد أنت ملقى؟
وجعلت خديجة تنادي: من أحس لي النبي المصطفى، من أحس لي الربيع المرتضى، من أحس لي المطرود في الله، من أحس لي أبا القاسم؟
وهبط عليه جبرئيل (علیه السلام) فلما نظر إليه النبي (صلی الله علیه و آله) بكى وقال: ما ترى ما صنع بي قومي، كذبوني وطردوني وخرجوا عليّ!.
فقال: يا محمد ناولني يدك، فأخذ يده فأقعده على الجبل، ثم أخرج من تحت جناحه درنوكا من درانيك الجنة منسوجا بالدر والياقوت وبسطه حتى جلل به جبال تهامة، ثم أخذ بيد رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى أقعده عليه ثم قال له جبرئيل: يا محمد أتريد أن تعلم كرامتك على الله؟
قال: نعم.قال: فادع إليك تلك الشجرة تجبك.
ص: 244
.............................
فدعاها، فأقبلت حتى خرت بين يديه ساجدة.
فقال: يا محمد مرها ترجع.
فأمرها، فرجعت إلى مكانها.
وهبط عليه إسماعيل حارس السماء الدنيا فقال: السلام عليك يا رسول الله، قد أمرني ربي أن أطيعك، أفتأمرني أن أنثر عليهم النجوم فأحرقهم؟
وأقبل ملك الشمس فقال: السلام عليك يا رسول الله، أتأمرني أن آخذ عليهم الشمس فأجمعها على رؤوسهم فتحرقهم؟
وأقبل ملك الأرض فقال: السلام عليك يا رسول الله، إن الله عزوجل قد أمرني أن أطيعك، أفتأمرني أن آمر الأرض فتجعلهم في بطنها كما هم على ظهرها؟
وأقبل ملك الجبال فقال: السلام عليك يا رسول الله، إن الله قد أمرني أن أطيعك، أفتأمرني أن آمر الجبال فتنقلب عليهم فتحطمهم؟
وأقبل ملك البحار فقال: السلام عليك يا رسول الله، قد أمرني ربي أن أطيعك، أفتأمرني أن آمر البحار فتغرقهم؟
فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله):قد أمرتم بطاعتي؟
قالوا: نعم.
فرفع رأسه إلى السماء ونادى:
إني لم أبعث عذابا، إنما بعثت رحمة للعالمين، دعوني وقومي فإنهم لايعلمون.
ص: 245
.............................
ونظر جبرئيل (علیه السلام) إلى خديجة (علیها السلام) تجول في الوادي فقال: يا رسول الله ألا ترى إلى خديجة، قد أبكت لبكائها ملائكة السماء، ادعها إليك فأقرئها مني السلام وقل لها: إن الله يقرئك السلام وبشرها أن لها في الجنة بيتا من قصب لا نصب فيه ولا صخب، لؤلؤا مكللا بالذهب.
فدعاها النبي (صلی الله علیه و آله) والدماء تسيل من وجهه على الأرض وهو يمسحها ويردها، قالت: فداك أبي وأمي، دع الدمع يقع على الأرض.
قال: أخشى أن يغضب رب الأرض على من عليها.
فلما جن عليهم الليل انصرفت خديجة (علیها السلام) ورسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) ودخلت به منزلها، فأقعدته على الموضع الذي فيه الصخرة وأظلته بصخرة من فوق رأسه وقامت في وجهه تستره ببردها، وأقبلالمشركون يرمونه بالحجارة فإذا جاءت من فوق رأسه صخرة وقته الصخرة، وإذا رموه من تحته وقته الجدران الحيط، وإذا رمي من بين يديه وقته خديجة (علیها السلام) بنفسها وجعلت تنادي: يا معشر قريش ترمى الحرة في منزلها، فلما سمعوا ذلك انصرفوا عنه وأصبح رسول الله (صلی الله علیه و آله) وغدا إلى المسجد يصلي»(1).
ص: 246
-------------------------------------------
مسألة: النكرة في سياق النفي أو النهي تفيد العموم(1)، على ما ذكرناه في الأصول(2).
فإن كلَّ ما نزل على البشر من المصائب لم يكن بمنزلة موت الرسول (صلی الله علیه و آله) في الأهمية، وكذلك ما سيحل على البشر بعد الرسول (صلی الله علیه و آله) وإلى يوم القيامة.
قولها (علیها السلام): «لا مثلها نازلة» فإن تلك النوازل صغار بالنسبة إلى هذه النازلة وهي موت رسول الله (صلی الله علیه و آله).
قولها (علیها السلام): «ولا بائقة عاجلة» البائقة: الداهية والطامّة، والمراد بالعاجلة: في هذه الدنيا في مقابل المحشر الذي هو بائقة آجلة،ففي البوائق العاجلة في الدنيا لا شبيه لموت الرسول (صلی الله علیه و آله) إطلاقاً.
وربما يكون (بائقة عاجلة) في قبال مصيبةٍ كفاجعة الطف، أو ما قبلها: كمقتل أمير المؤمنين (علیه السلام)، فإن الفاصل بين استشهادهما (صلوات الله عليهما) كان ثلاثين سنة، وباعتبار كونه (علیه السلام) نفس رسول الله (صلی الله علیه و آله) يتضح المعنى أكثر.
قال الراوي في بيان ما وقع في مقتل أمير المؤمنين (علیه السلام): فاصطفقت أبواب الجامع، وضجت الملائكة في السماء بالدعاء، وهبت ريح عاصف سوداء
ص: 247
.............................
مظلمة، ونادى جبرئيل (علیه السلام) بين السماء والأرض بصوت يسمعه كل مستيقظ: «تهدمت والله أركان الهدى، وانطمست والله نجوم السماء وأعلام التقى، وانفصمت والله العروة الوثقى، قُتل ابن عم محمد المصطفى، قُتل الوصي المجتبى، قُتل علي المرتضى، قُتل والله سيد الأوصياء، قتله أشقى الأشقياء»(1).
هذا وقد تآمر القوم على قتل علي(علیه السلام) في مواطن عديدة منها ليلة العقبة حينما تآمروا على قتل رسول الله (صلی الله علیه و آله).
قال الإمام العسكري (علیه السلام): «لقد رامت الفجرة الكفرة ليلة العقبة قتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) على العقبة، ورام من بقي من مردة المنافقين بالمدينة قتل علي بن أبي طالب (علیه السلام) فما قدروا على مغالبة ربهم، حملهم على ذلك حسدهم لرسول الله (صلی الله علیه و آله) في علي (علیه السلام) لما فخم من أمره وعظم من شأنه، من ذلك أنه لما خرج من المدينة وقد كان خلفه عليها قال له: إن جبرئيل أتاني قال لي: يا محمد إن العلي الأعلى يقرئك السلام ويقول لك: يا محمد إما أن تخرج أنت ويقيم علي أو يخرج علي وتقيم أنت، لابد من ذلك، فإن عليا قد ندبته لإحدى اثنتين لا يعلم أحد كنه جلال من أطاعني فيهما وعظيم ثوابه غيري.
فلما خلفه أكثر المنافقون الطعن فيه فقالوا: مله وسئمه وكره صحبته.
فتبعه علي (علیه السلام) حتى لحقه وقد وجد مما قالوا فيه، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما أشخصك عن مركزك؟
قال: بلغني عن الناس كذا وكذا.
ص: 248
.............................
فقال له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.
فانصرف علي (علیه السلام) إلى موضعه، فدبروا عليه أن يقتلوه، وتقدموا في أن يحفروا له في طريقه حفيرة طويلة قدر خمسين ذراعا ثم غطوها بحصر رقاق ونثروا فوقها يسيرا من التراب بقدر ما غطوا وجوه الحصر وكان ذلك على طريق علي (علیه السلام) الذي لابد له من سلوكه، ليقع هو ودابته في الحفيرة التي قد عمقوها، وكان ما حوالي المحفور أرضا ذات حجارة، دبروا على أنه إذا وقع مع دابته في ذلك المكان كبسوه بالأحجار حتى يقتلوه.
فلما بلغ علي (علیه السلام) قرب المكان لوى فرسه عنقه وأطاله الله فبلغت جحفلته أذنه وقال: يا أمير المؤمنين قد حفر هاهنا ودبر عليك الحتف، وأنت أعلم لا تمر فيه.
فقال له علي (علیه السلام): جزاك الله من ناصح خيرا كما تدبر تدبيري فإن الله عزوجل لا يخليك من صنعه الجميل، وسار حتى شارف المكان فتوقف الفرس خوفا من المرور على المكان، فقال علي (علیه السلام): سر بإذن الله سالما سوياعجيبا شأنك بديعا أمرك، فتبادرت الدابة، فإذا الله عزوجل قد متن الأرض وصلبها ولأم حفرها وجعلها كسائر الأرض، فلما جاوزها علي (علیه السلام) لوى الفرس عنقه ووضع جحفلته على أذنه ثم قال: ما أكرمك على رب العالمين، جوزك على هذا المكان الخاوي.
فقال أمير المؤمنين (علیه السلام): جازاك الله بهذه السلامة عن تلك النصيحة التي نصحتني، ثم قلب وجه الدابة إلى ما يلي كفلها والقوم معه، بعضهم كان أمامه
ص: 249
.............................
وبعضهم خلفه، وقال: اكشفوا عن هذا المكان، فكشفوا عنه فإذا هو خاو ولايسير عليه أحد إلا وقع في الحفيرة.
فأظهر القوم الفزع والتعجب مما رأوا، فقال علي (علیه السلام) للقوم: أتدرون من عمل هذا؟
قالوا: لا ندري.
قال علي (علیه السلام): لكن فرسي هذا يدري، يا أيها الفرس كيف هذا ومن دبر هذا؟
فقال الفرس: يا أمير المؤمنين إذا كان الله عزوجل يبرم ما يروم جهال الخلق نقضه أو كان ينقض ما يروم جهال الخلق إبرامه فالله هو الغالب والخلق هم المغلوبون، فعل هذا يا أمير المؤمنينفلان وفلان وفلان إلى أن ذكر العشرة بمواطاة من أربعة وعشرين هم مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في طريقه، ثم دبروا هم على أن يقتلوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) على العقبة والله عزوجل من وراء حياطة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وولي الله لا يغلبه الكافرون، الحديث»(1).
عن عبد الله بن الفضل الهاشمي قال: قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام): يا ابن رسول الله كيف صار يوم عاشوراء يوم مصيبة وغم وجزع وبكاء دون اليوم الذي قبض فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله) واليوم الذي ماتت فيه فاطمة(علیها السلام) واليوم الذي قتل فيه أمير المؤمنين (علیه السلام) واليوم الذي قتل فيه الحسن (علیه السلام) بالسم؟
ص: 250
.............................
فقال: «إن يوم قتل الحسين (علیه السلام) أعظم مصيبة من جميع سائر الأيام، وذلك أن أصحاب الكساء الذين كانوا أكرم الخلق على الله تعالى كانواخمسة، فلما مضى عنهم النبي (صلی الله علیه و آله) بقي أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين (علیهم السلام)، فكان فيهم للناس عزاء وسلوة، فلما مضت فاطمة (علیها السلام) كان في أمير المؤمنين والحسن والحسين (علیهم السلام) للناس عزاء وسلوة، فلما مضى منهم أمير المؤمنين (علیه السلام) كان للناس في الحسن والحسين (علیهما السلام) عزاء وسلوة، فلما مضى الحسن (علیه السلام) كان للناس في الحسين عزاء وسلوة، فلما قتل الحسين (علیه السلام) لم يكن بقي من أهل الكساء أحد للناس فيه بعده عزاء وسلوة فكان ذهابه كذهاب جميعهم، كما كان بقاؤه كبقاء جميعهم، فلذلك صار يومه أعظم الأيام مصيبة».
قال عبد الله بن الفضل الهاشمي: فقلت له: يا ابن رسول الله فلم لم يكن للناس في علي بن الحسين (علیه السلام) عزاء وسلوة مثل ما كان لهم في آبائه (علیهم السلام)؟
فقال: «بلى، إن علي بن الحسين كان سيد العابدين وإماما وحجة على الخلق بعد آبائه الماضين ولكنه لم يلق رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولم يسمع منه وكان علمه وراثة عن أبيه عن جده عنالنبي (صلی الله علیه و آله) وكان أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين (علیهم السلام) قد شاهدهم الناس مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في أحوال في أن يتوالى، فكانوا متى نظروا إلى أحد منهم تذكروا حاله من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقول رسول الله (صلی الله علیه و آله) له وفيه، فلما مضوا فقد الناس مشاهدة الأكرمين على الله عزوجل ولم يكن في أحد منهم فقد جميعهم إلا في فقد الحسين (علیه السلام) لأنه مضى في آخرهم، فلذلك صار يومه أعظم الأيام مصيبة».
ص: 251
.............................
قال عبد الله بن الفضل الهاشمي: فقلت له: يا ابن رسول الله فكيف سمت العامة يوم عاشوراء يوم بركة؟
فبكى (علیه السلام) ثم قال: «لما قتل الحسين (علیه السلام) تقرب الناس بالشام إلى يزيد فوضعوا له الأخبار وأخذوا عليها الجوائز من الأموال، فكان مما وضعوا له أمر هذا اليوم وأنه يوم بركة ليعدل الناس فيه من الجزع والبكاء والمصيبة والحزن إلى الفرح والسرور والتبرك والاستعدادفيه، حكم الله بيننا وبينهم»(1).
ص: 252
-------------------------------------------
مسألة: الظاهر أن هنالك ترابطاً ثبوتياً وإثباتياً بين كتاب الله التشريعي وكتابه التكويني.
والمصداق الأجلى لذلك: الترابط بين القرآن الناطق(1) والصامت، و«لن يفترقا»(2) يشير فيما يشير إلى ذلك أيضا.
وقولها (علیها السلام): «أعلن» من الشواهد على ذلك.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أيها الناس إني فرطكم وأنتم واردون عليّ الحوض، ألا وإني سائلكم عن الثقلين فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يلقياني، وسألت ربي ذلك فأعطانيه، ألا وإني قد تركتهما فيكمكتاب الله وعترتي أهل بيتي، ولا تسبقوهم فتفرقوا، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم»(3).
وقال (صلی الله علیه و آله): «إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»(4).
ص: 253
.............................
وعن جابر قال: قال أبو جعفر (علیه السلام): دعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) أصحابه بمنى فقال: يا أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين أما إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، ثم قال: أيها الناس إني تارك فيكم حرمات الله: كتاب الله وعترتي والكعبة البيت الحرام»، ثم قال أبو جعفر (علیه السلام): «أما كتاب الله فحرفوا(1)، وأما الكعبة فهدموا، و أما العترة فقتلوا، وكل ودائع الله فقد تبروا»(2).وعن الصادق (علیه السلام) عن أبيه عن جده علي بن الحسين عن أبيه (علیهم السلام) قال: «سئل أمير المؤمنين (علیه السلام) عن معنى قول رسول الله (صلی الله علیه و آله): إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، فقيل له: من العترة؟ فقال: أنا والحسن والحسين والأئمة التسعة من ولد الحسين تاسعهم مهديهم وقائمهم، لا يفارقون كتاب الله ولايفارقهم حتى يردوا على رسول الله (صلی الله علیه و آله) حوضه»(3).
وقال (علیه السلام): «عليكم بالقرآن، فإنه الشفاء النافع، والدواء المبارك، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه» ثم قال: «أتدرون من المتمسك به، الذي يتمسكه ينال هذا الشرف العظيم، هو الذي يأخذ القرآن وتأويله عنا أهل البيت وعن وسائطنا السفراء عنا إلى شيعتنا»(4).
وعن سليم بن قيس قال: خرج علينا علي بن أبي طالب (علیه السلام) ونحن في
ص: 254
.............................
المسجد فاحتوشناه فقال: «سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن القرآن فإن في القرآن علم الأولين والآخرين، لم يدع لقائل مقالا، ولا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم وليسوا بواحد ورسول الله (صلی الله علیه و آله) كان واحدا منهم، علمه الله سبحانه إياه وعلمنيه رسول الله(صلی الله علیه و آله) ثم لا يزال في عقبه إلى يوم تقوم الساعة ثم قرأ: «وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ»(1)، فأنا من رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة، والعلم في عقبنا إلى أن تقوم الساعة، ثم قرأ: «وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ»(2)، ثم قال: كان رسول الله عقب إبراهيم ونحن أهل البيت عقب إبراهيم وعقب محمد (صلی الله علیه و آله)»(3).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «نحن أهل البيت لا يقاس بنا أحد، فينانزل القرآن وفينا معدن الرسالة»(4).
وقال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله): «يا عليّ مثلك في أمّتي مثل«قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»(5)، فمن أحبّك بقلبه فكأنّما قرأ ثلث القرآن، ومن أحبّك بقلبه وأعانك بلسانه فكأنّما قرأ ثلثي القرآن، ومن أحبّك بقلبه وأعانك بلسانه ونصرك بيده فكأنّما قرأ القرآن كلّه»(6).
ص: 255
.............................
وقال النبي (صلی الله علیه و آله): في حديث: «بما تعجبون، إن القرآن أربعة أرباع، فربع فينا أهل البيت خاصة، وربع في أعدائنا، وربع حلال وحرام، وربع فرائض وأحكام، وإن الله أنزل في علي (علیه السلام) كرائم القرآن»(1).
وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «إنالله جعل ولايتنا أهل البيت قطب القرآن وقطب جميع الكتب، عليها يستدير محكم القرآن وبها نوهت الكتب، ويستبين الإيمان، وقد أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يقتدى بالقرآن وآل محمد، وذلك حيث قال في آخر خطبة خطبها: إني تارك فيكم الثقلين الثقل الأكبر والثقل الأصغر، فأما الأكبر فكتاب ربي وأما الأصغر فعترتي أهل بيتي، فاحفظوني فيهما فلن تضلوا ما تمسكتم بهما»(2).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حديث: «أخي ووزيري ووارثي ووصيي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي، ثم ابني الحسن والحسين ثم تسعة من ولد الحسين واحد بعد واحد، القرآن معهم وهم مع القرآن، لا يفارقونه ولايفارقهم حتى يردوا عليّ الحوض»(3).
ص: 256
.............................
مسألة: من اللازم سبر أغوار شدة ارتباط الرسول (صلی الله علیه و آله) بالقرآن الكريم، وبصورة عامة استكشاف عمق العلاقة التشريعية والتكوينية بين العترة المطهرة (علیهم السلام) والكتاب المبين، عبر دراسة الأبعاد الجلية والخفية في عبارات وإشارات ولطائف وحقائق القرآن الكريم(1).
وقولها (علیها السلام): «أعلن» من مصاديق ذلك، والإعلان كان في آيات عديدة. حيث قال سبحانه: «إنك ميت وانهم ميّتون»(2).
وقال تعالى: «وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن متّ فهم الخالدون»(3).وقال سبحانه: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ»(4).
وقال تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ»(5).
وذكر البعض بأن المسلمين كانوا يتوقعون البقاء والخلود في الحياة الدنيا لما رأوا من معاجز الرسول (صلی الله علیه و آله) ووجاهته عند الله سبحانه وتعالى، لكن الله أعلن
ص: 257
.............................
أن كل شيء هالك إلا وجهه وأعلن أن الرسول (صلی الله علیه و آله) ميت أيضاً بصورة خاصة.
ولعل كلامها (علیها السلام) تعريض بالذين أنكروا موت الرسول (صلی الله علیه و آله) وبيان لأن هذا القائل لا يعرف حتى أوضح الآيات في كتاب الله سبحانه(1).
حيث ورد: أنه لمّا قبض رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) أقبل عمر بن الخطاب يقول: واللّه ما مات محمّد وإنّما غاب كغيبة موسى عن قومه!، و إنّه سيظهربعد غيبته، فما زال يردّد هذا القول ويكرّره حتى ظنّ الناس أنّ عقله قد ذهب، فأتاه أبو بكر وقد اجتمع الناس عليه يتعجّبون من قوله، فقال: اربع على نفسك يا عمر من يمينك التي تحلف بها، فقد أخبرنا اللّه عزّوجلّ في كتابه، فقال: يا محمّد «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ»(2). فقال عمر: وإنّ هذه الآية لفي كتاب اللّه يا أبا بكر! فقال: نعم. فقال: نعم، أشهد باللّه لقد ذاق محمّد الموت(3).
وقال ابن أبي الحديد:
روى جميع أصحاب السيرة أنّ رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) لمّا توفّي كان أبو بكر في منزله بالسّنح، فقام عمر بن الخطاب فقال: ما مات رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ولا يموت حتّى يظهر دينه على الدّين كلّه!، و ليرجعنّ فليقطّعنّ أيدي رجال وأرجلهم ممّن أرجف بموته، ولا أسمع رجلا يقول مات رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) إلا ضربته بسيفي، فجاء أبو بكر وكشف عن وجه رسول اللّه (صلی الله علیه و آله)، وقال: بأبي وأمّي طبت حيّا وميّتا، واللّه لا يذيقك اللّه الموتتين أبدا، ثم خرج والناس حول عمر وهويقول
ص: 258
.............................
لهم: إنّه لم يمت، ويحلف، فقال له: أيّها الحالف على رسلك، ثم قال: من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات، ومن كان يعبد اللّه، فإنّ اللّه حيّ لايموت، قال اللّه تعالى :«إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ»(1)، وقال: «أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ»(2)..
قال عمر: فو اللّه ما ملكت نفسي حيث سمعتها أن سقطت إلى الأرض، و قد علمت أنّ رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قد مات(3).
وفي البحار: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لما نزلت هذه الآية «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ»(4)، قلت: يا رب أيموت الخلائق ويبقى الأنبياء، فنزلت: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ»(5)»(6).وعن ابن عباس والسدي: لما نزل قوله تعالى: «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ»(7)، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ليتني أعلم متى يكون ذلك» فنزلت سورة النصر، فكان يسكت بين التكبير والقراءة بعد نزولها فيقول: «سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه» فقيل له في ذلك، فقال: «أما إن نفسي نعيت إليّ» ثم بكى بكاء شديدا، فقيل: يا رسول الله أو تبكي من الموت وقد غفر الله
ص: 259
.............................
لك «ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ»(1) قال: «فأين هول المطلع وأين ضيقة القبر وظلمة اللحد وأين القيامة والأهوال» فعاش بعد نزول هذه السورة عاما)(2).
وفي تفسير فرات بن إبراهيم عن نوف البكالي عن علي بن أبي طالب (علیه السلام) قال: «جاءت جماعة من قريش إلىالنبي (صلی الله علیه و آله) فقالوا: يا رسول الله انصب لنا علما يكون لنا من بعدك لنهتدي ولا نضل كما ضلت بنو إسرائيل بعد موسى بن عمران، فقد قال ربك: «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ»(3) ولسنا نطمع أن تعمر فينا ما عمر نوح في قومه وقد عرفت منتهى أجلك ونريد أن نهتدي ولانضل.
قال (صلی الله علیه و آله): إنكم قريبو عهد بالجاهلية وفي قلوب أقوام أضغان وعسيت إن فعلت أن لا تقبلوا ولكن من كان في منزله الليلة آية من غير ضير فهو صاحب الحق.
قال: فلما صلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) العشاء وانصرف إلى منزله سقط في منزلي نجم أضاءت له المدينة وما حولها وانفلق بأربع فلق انشعبت في كل شعبة فلقة من غير ضير.
قال نوف: قال لي جابر بن عبد الله: إن القوم أصروا على ذلك وأمسكوا، فلما أوحى الله إلى نبيه أن ارفع ضبع ابن عمك قال: يا جبرئيل أخاف
ص: 260
.............................
من تشتت قلوب القوم فأوحى الله إليه: «يا أيهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَمِنَ النَّاسِ»(1) فأمر النبي (صلی الله علیه و آله) بلالا أن ينادي بالصلاة جامعة، فاجتمع المهاجرون والأنصار فصعد المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: يا معشر قريش لكم اليوم الشرف صفوا صفوفكم، ثم قال: يا معشر العرب لكم اليوم الشرف صفوا صفوفكم، ثم قال: يا معشر الموالي لكم اليوم الشرف صفوا صفوفكم، ثم دعا بدواة قرطاس فأمر فكتب فيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا إله إلا الله محمد رسول الله، قال: شهدتم؟
قالوا: نعم.
قال: أفتعلمون أن الله مولاكم؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: أفتعلمون أنني مولاكم؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: فقبض على ضبع علي بن أبي طالب (علیه السلام) فرفعه للناس حتى تبين بياض إبطيه ثم قال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، ثم قال: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله، فأنزل الله تعالى: «وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌيُوحى»(2) فأوحى إليه: «يا أيهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْ-كَ
ص: 261
.............................
مِنْ رَبِّكَ»(1).
وفي تفسير القمي: «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ» يعني أمير المؤمنين (علیه السلام) ومن غصبه حقه، ثم ذكر أيضا أعداء آل محمد ومن كذب على الله وعلى رسوله وادعى ما لم يكن له فقال «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءهُ» يعني بما جاء به رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الحق وولاية أمير المؤمنين (علیه السلام)، ثم ذكر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) فقال: «وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِه» يعني أمير المؤمنين (علیه السلام) «أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ»(2).
وفي تفسير القمي أيضا:
«وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإنمت فهم الخالدون»(3) فإنه لما أخبر الله نبيه بما يصيب أهل بيته بعده وادعاء من ادعى الخلافة دونهم اغتم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأنزل الله عزوجل: «وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة» أي نختبرهم «وإلينا ترجعون» فأعلم ذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه لابد أن يموت كل نفس»(4).
وعن يعقوب الأحمر قال:
ص: 262
.............................
دخلنا على أبي عبد الله (علیه السلام) نعزيه بإسماعيل، فترحم عليه ثم قال: «إن الله عزوجل نعى إلى نبيه (صلی الله علیه و آله) نفسه فقال «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ»(1) وقال «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ»(2)، ثم أنشأ يحدث فقال: إنه يموت أهل الأرض حتى لا يبقى أحد، ثم يموت أهل السماء حتى لا يبقىأحد إلا ملك الموت وحملة العرش وجبرئيل وميكائيل، قال: فيجيء ملك الموت حتى يقوم بين يدي الله عزوجل، فيقال له: من بقي، وهو أعلم، فيقول: يا رب لم يبق إلا ملك الموت وحملة العرش وجبرئيل وميكائيل، فيقال: قل لجبرئيل و ميكائيل فليموتا، فيقول الملائكة عند ذلك: يا رب رسولاك وأميناك، فيقول: إني قد قضيت على كل نفس فيها الروح الموت، ثم يجيء ملك الموت حتى يقف بين يدي الله عزوجل فيقال له: من بقي، وهو أعلم، فيقول: يا رب لم يبق إلا ملك الموت وحملة العرش، فيقول: قل لحملة العرش فليموتوا، قال: ثم يجيء كئيبا حزينا لا يرفع طرفه، فيقال له: من بقي، فيقول: يا رب لم يبق إلا ملك الموت، فيقال له: مت يا ملك الموت، فيموت، ثم يأخذ الأرض بيمينه والسماوات بيمينه ويقول: أين الذين كانوا يدعون معي شريكا، أين الذين كانوا يجعلون معي إلها آخر»(3).
وفي حديث وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال (علیه السلام): «فنزل ملك الموت فقال له جبرئيل: يا ملك الموت احفظ وصية الله في روح محمد (صلی الله علیهو آله)، وكان جبرئيل عن
ص: 263
.............................
يمينه وميكائيل عن يساره وملك الموت آخذ بروحه (صلی الله علیه و آله) فلما كشف الثوب عن وجه رسول الله نظر إلى جبرئيل فقال له: عند الشدائد تخذلني، فقال: يا محمد «إنك ميت وإنهم ميتون»، «كل نفس ذائقة الموت» فروي عن ابن عباس أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ذلك المرض كان يقول: ادعو إليّ حبيبي، فجعل يدعى له رجل بعد رجل، فيعرض عنه، فقيل لفاطمة: امضي إلى علي، فما نرى رسول الله (صلی الله علیه و آله) يريد غير علي، فبعثت فاطمة إلى علي (علیه السلام) فلما دخل فتح رسول الله (صلی الله علیه و آله) عينيه وتهلل وجهه ثم قال: إليّ يا علي، إليّ يا علي، فما زال (صلی الله علیه و آله) يدنيه حتى أخذه بيده وأجلسه عند رأسه ثم أغمي عليه، فجاء الحسن والحسين (علیهما السلام) يصيحان ويبكيان حتى وقعا على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأراد علي (علیه السلام) أن ينحيهما عنه، فأفاق رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم قال: يا علي دعني أشمهما ويشماني وأتزود منهما ويتزودان مني أما إنهما سيظلمان بعديويقتلان ظلما، فلعنة الله على من يظلمهما، يقول ذلك ثلاثا، ثم مد يده إلى علي (علیه السلام) فجذبه إليه حتى أدخله تحت ثوبه الذي كان عليه ووضع فاه على فيه وجعل يناجيه مناجاة طويلة حتى خرجت روحه الطيبة (صلی الله علیه و آله) فانسل علي (علیه السلام) من تحت ثيابه وقال: أعظم الله أجوركم في نبيكم، فقد قبضه الله إليه، فارتفعت الأصوات بالضجة والبكاء، فقيل لأمير المؤمنين (علیه السلام): ما الذي ناجاك به رسول الله (صلی الله علیه و آله) حين أدخلك تحت ثيابه؟ فقال: علمني ألف باب يفتح لي كل باب ألف باب»(1).
ص: 264
.............................
مسألة: يستحب - تأسياً بها (علیها السلام) ولغيره أيضاً - أن يتبع لفظ الجلالة «الله» بما يدل على التعظيم مثل: (جل ثناؤه) كما قالت (علیها السلام)، أو (عزوجل) أو (تبارك وتعالى) أو غير ذلك.
وهكذا بالنسبة إلى عظماء الدين كالأنبياء والأئمة (عليهم الصلاة والسلام) فيقال بالنسبة إلى النبي: (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبالنسبة إلى الأئمة: (عليهم الصلاة والسلام)، وبالنسبة إلى الأنبياء السابقين: (صلوات الله عليه) بعد الصلاة على الرسول (صلی الله علیه و آله) فتقول مثلاً: (على نبيّنا وآله عليه الصلاة والسلام) كما ورد بذلك الخبر.
فعن معاوية بن عمار قال: ذكرت عند أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) بعض الأنبياء فصليت عليه، فقال: «إذا ذكر أحد من الأنبياء فابدأ بالصلاة على محمد وآله ثم عليه صلى الله على محمد وآله وعلى جميع الأنبياء»(1).والظاهر أن ما ذكرناه ليس خاصاً باسم الجلالة، وإنما يعم كل أسماء الله سبحانه وتعالى كالرّب والقدّوس وما أشبه ذلك، بل ينبغي التعظيم بعد ذكر ضميره جل اسمه أيضاً، مثلاً يقال: (فانه جل ثناؤه قال كذا)، وهكذا في سائر الضمائر، وفي دعاء كميل: «وأنت جل ثناؤك قلت مبتدءً»(2)، إلى غير ذلك مما لا يخفى على من راجع الأدعية وكلماتهم (صلوات الله عليهم أجمعين).
ص: 265
.............................
وهكذا بالنسبة إلى الضمير العائد إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الطاهرين(علیهم السلام).
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «البخيل حقا من ذكرت عنده فلم يصل علي»(1).
وقال (صلی الله علیه و آله): «إنّ البخيل كل البخيل الذي إذا ذكرت عنده لم يصل علي»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله) في حديث:«ومن ذكرت عنده فلم يصل علي فلم يغفر له فأبعده الله»(3).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إذا ذكر النبي (صلی الله علیه و آله) فأكثروا الصلاة عليه، فإنه من صلى على النبي صلاة واحدة صلى الله عليه ألف صلاة في ألف صف من الملائكة، ولم يبق شيء مما خلقه الله إلا صلى على العبد لصلاة الله وصلاة ملائكته، فمن لم يرغب في هذا فهو جاهل مغرور قد برئ الله منه ورسوله وأهل بيته»(4).
وعن ابن القداح عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من صلى عليّ صلى الله عليه وملائكته فمن شاء فليقل ومن شاء فليكثر»(5).
وعن محمد بن مسلم عن أحدهما (علیهما السلام) قال: «ما في الميزان شيء أثقل
ص: 266
.............................
من الصلاة على محمد وآل محمد، وإن الرجل لتوضع أعماله في الميزان فيميل به فيخرج النبي (صلی الله علیه و آله) الصلاة عليه فيضعها في ميزانه فيرجح به»(1).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ارفعوا أصواتكم بالصلاة عليَّ فإنها تذهب بالنفاق»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله): «الصلاة عليَّ وعلى أهل بيتي تذهب بالنفاق»(3).
وقال الإمام الرضا (علیه السلام) في حديث: «من لم يقدر على ما يكفر به ذنوبه فليكثر من الصلاة على محمد وآله فإنها تهدم الذنوب هدما»(4).
وقال (علیه السلام): «الصلاة على محمد وآله تعدل عند الله عزوجل التسبيحوالتهليل والتكبير»(5).
وعن عبد العظيم الحسني (علیه السلام) قال: سمعت علي بن محمد العسكري (علیه السلام) يقول: «إنما اتخذ الله عزوجل إبراهيم خليلا لكثرة صلاته على محمد وأهل بيته صلوات الله عليهم»(6).
وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: «الصلاة على النبي (صلی الله علیه و آله) أمحق للخطايا من الماء للنار، والسلام على النبي (صلی الله علیه و آله) أفضل من عتق رقاب»(7) الحديث.
ص: 267
.............................
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «وجدت في بعض الكتب: من صلى على محمد وآل محمد كتب الله له مائة حسنة، ومن قال: صلى الله على محمد وأهل بيته، كتب الله له ألف حسنة»(1).وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «سمع أبي رجلا متعلقا بالبيت وهو يقول اللهم صل على محمد، فقال له أبي (علیه السلام): لا تبترها لا تظلمنا حقنا، قل: اللهم صل على محمد وأهل بيته»(2).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من أراد التوسل إلي وأن تكون له عندي يد أشفع له بها يوم القيامة فليصل على أهل بيتي ويدخل السرور عليهم»(3).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من صلى علي ولم يصل على آلي لم يجد ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام»(4).
وعن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذات يوم لأمير المؤمنين (علیه السلام): ألا أبشرك؟
قال: بلى.
إلى أن قال: أخبرني جبرئيل أن الرجل من أمتي إذا صلى عليّ وأتبعبالصلاة على أهل بيتي فتحت له أبواب السماء وصلّت عليه الملائكة سبعين
ص: 268
.............................
صلاة وإنه لمذنب خطأ ثم تحات عنه الذنوب كما يتحات الورق من الشجر ويقول الله تبارك وتعالى لبيك عبدي وسعديك، يا ملائكتي أنتم تصلون عليه سبعين صلاة وأنا أصلي عليه سبعمائة صلاة، وإذا صلى عليّ ولم يتبع بالصلاة على أهل بيتي كان بينها وبين السماوات سبعون حجابا ويقول الله تبارك وتعالى: لا لبيك ولا سعديك، يا ملائكتي لا تصعدوا دعاءه إلا أن يلحق بالنبي عترته، فلا يزال محجوبا حتى يلحق بي أهل بيتي»(1).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ما من قوم اجتمعوا في مجلس فلم يذكروا اسم الله عزوجل ولم يصلوا على نبيهم إلا كان ذلك المجلس حسرة ووبالا عليهم»(2).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «ما اجتمع في مجلس قوم لم يذكروا اللهعزوجل ولم يذكرونا إلا كان ذلك المجلس حسرة عليهم يوم القيامة» ثم قال: قال أبو جعفر (علیه السلام): «إنّ ذكرنا من ذكر الله وذكر عدونا من ذكر الشيطان»(3).
وعن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «ما جلس قوم يذكرون الله عزوجل إلا ناداهم مناد من السماء قوموا فقد بدلت سيئاتكم حسنات وغفرت لكم جميعا، وما قعد عدة من أهل الأرض يذكرون الله عزوجل إلا قعد معهم عدة من الملائكة»(4).
ص: 269
-------------------------------------------
مسألة: التكرار مطلوب في الجملة، وذلك للتركيز ولبيان الأهمية وما أشبه، وقد يجب كتكرار الحمد في الركعتين وما أشبه.
قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا»(1).
وقال سبحانه: «لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا»(2).
وقال تعالى: «وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأصِيلاً»(3).
وقال سبحانه: «لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً»(4).
وقال تعالى: «وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأصِيلاً»(5).وقال سبحانه: «فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا»(6).
ص: 270
.............................
وعن إسماعيل بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) قوله عزوجل: «اذكروا الله ذكرا كثيرا» ما حده؟ قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) علم فاطمة (علیها السلام) أن تكبر أربعا وثلاثين تكبيرة وتسبح ثلاثا وثلاثين تسبيحة وتحمد ثلاثا وثلاثين تحميدة فإذا فعلت ذلك بالليل مرة وبالنهار مرة فقد ذكرت الله كثيرا»(1).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «ما من شيء إلا وله حد ينتهي إليه إلا الذكر، فليس له حد ينتهي إليه، فرض الله عزوجل الفرائض فمن أداهن فهو حدهن، وشهر رمضان فمن صامه فهو حده، والحج فمن حج فهو حده، إلا الذكر فإن الله عزوجل لم يرض منه بالقليل ولم يجعل له حدا ينتهي إليه، ثم تلا هذه الآية:«يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا» فقال: لم يجعل الله عزوجل له حدا ينتهي إليه»، قال (علیه السلام): «وكان أبي (علیه السلام) كثير الذكر، لقد كنت أمشي معه وإنه ليذكر الله، وآكل معه الطعام وإنه ليذكر الله، ولقد كان يحدث القوم وما يشغله ذلك عن ذكر الله، وكنت أرى لسانه لازقا بحنكه يقول: لا إله إلا الله، وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتى تطلع الشمس، ويأمر بالقراءة من كان يقرأ منا، ومن كان لا يقرأ منا أمره بالذكر»(2).
وروى أبو حمزة الثمالي عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنه قال: «أتى النبي (صلی الله علیه و آله)
ص: 271
.............................
رجل فقال: يا رسول الله لقيت من وسوسة صدري شدة وأنا رجل معيل مدين محوج، فقال له: كرر هذه الكلمات: توكلت على الحي الذي لا يموت، والحمد لله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا، قال: فلم يلبثالرجل أن عاد إليه فقال: يا رسول الله أذهب الله عني وسوسة صدري وقضى ديني ووسع رزقي»(1).
وقال (صلی الله علیه و آله) في وصيته لأمير المؤمنين (علیه السلام): «وعليك يا علي بصلاة الليل» وكرر ذلك ثلاث دفعات(2).
وفي دعاء الموقف لعلي بن الحسين (علیه السلام): «اللهم ارحم موقفي وزد في عملي وسلم لي ديني وتقبل مناسكي»(3) وكرر قولك: اللهم أعتقني من النار.
إلى غير ذلك من مصاديق التكرار مما هو كثير.
هذا وقد ذكر الفقهاء والمحدثون أبواباً عديدة فيما يستحب التكرار فيه، منها:
باب استحباب إعداد الإنسان كفنه وجعله معه في بيته وتكرار نظرهإليه(4).
باب استحباب رش القبر بالماء مستقبلا من عند الرأس دورا ثم على وسطه وتكرار الرش أربعين يوما كل يوم مرة (5).
ص: 272
.............................
باب استحباب تكرار الحمد وقراءتها سبعين مرة على الوجع(1).
باب استحباب الإكثار من تكرار التسبيح في الركوع والسجود والإطالة فيهما مهما استطاع حتى الإمام مع احتمال من خلفه للإطالة(2).
باب استحباب تكرار الشهادتين(3).
باب استحباب الدعاء بطلب الخيرة وتكرار ذلك(4).
باب استحباب تكرار الحج والعمرة بقدر القدرة(5).باب استحباب تكرار التسميت ثلاثا عند توالي العطاس من غير زيادة(6).
باب استحباب تكرار التلبية في الإحرام سبعين مرة فصاعدا(7).
باب استحباب تكرار زيارة الحسين (علیه السلام) بقدر الإمكان(8).
باب استحباب تكرار التوبة والاستغفار كل يوم وليلة من غير ذنب ووجوبه مع الذنب(9).
إلى غيرها.
ص: 273
.............................
مسألة: يستحب تلاوة القرآن في الصباح والمساء، فإن هذه الأوقات مفتاح باقي الأوقات، إلى المساء، وإلى الصباح، ولذا وردت أدعية عديدة يفتتح بها الصباح والمساء، وهما من مظاهر قدرة الله وتحويله وتدبيره وتصرفه، ومن الواضح استحباب قراءة القرآن في كل وقت إلا أن في بعضها آكد.
عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «ما يمنع التاجر منكم المشغول في سوقه إذا رجع إلى منزله أن لا ينام حتى يقرأ سورة من القرآن فتكتب له مكان كل آية يقرؤها عشر حسنات ويمحى عنه عشر سيئات»(1).
وعن بشر بن غالب الأسدي عن الحسين بن علي (علیه السلام) قال: «من قرأ آية من كتاب الله عزوجل في صلاته قائما يكتب له بكل حرف مائة حسنة، فإذا قرأها في غير صلاة كتب الله له بكل حرفعشر حسنات، وإن استمع القرآن كتب الله له بكل حرف حسنة، وإن ختم القرآن ليلا صلت عليه الملائكة حتى يصبح، وإن ختمه نهارا صلت عليه الحفظة حتى يمسي، وكانت له دعوة مجابة وكان خيرا له مما بين السماء إلى الأرض» قلت: هذا لمن قرأ القرآن فمن لم يقرأه؟ قال: «يا أخا بني أسد إن الله جواد ماجد كريم إذا قرأ ما معه أعطاه الله ذلك»(2).
ص: 274
.............................
وعن جابر قال: سمعت أبا جعفر (علیه السلام) يقول: «من قرأ المسبحات كلها قبل أن ينام لم يمت حتى يدرك القائم وإن مات كان في جوار محمد النبي (صلی الله علیه و آله)»(1).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من قرأ «قل هو الله أحد» مائة مرة حين يأخذ مضجعه غفر الله له ذنوب خمسينسنة»(2).
وعن أبي الحسن (علیه السلام) قال: «من قرأ آية الكرسي عند منامه لم يخف الفالج إن شاء الله، ومن قرأها في دبر كل فريضة لم يضره ذو حمة» وقال: «من قدم «قل هو الله أحد» بينه وبين جبار منعه الله عزوجل منه، يقرأها من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فإذا فعل ذلك رزقه الله عزوجل خيره ومنعه من شره» وقال: «إذا خفت أمرا فاقرأ مائة آية من القرآن من حيث شئت ثم قل: اللهم اكشف عني البلاء، ثلاث مرات»(3).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «من قرأ مائة آية يصلي بها في ليلة كتب الله عزوجل له بها قنوت ليلة، ومن قرأ مائتي آية في غير صلاة لم يحاجه القرآن يوم القيامة، ومن قرأ خمسمائة آية في يوم وليلة في صلاة النهار والليل كتب الله عزوجل له في اللوح المحفوظ قنطارا من الحسنات، والقنطار ألف ومائتا أوقية، والأوقية أعظم منجبل أحد»(4).
ص: 275
.............................
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من قرأ «ألهيكم التكاثر» عند النوم وقي فتنة القبر»(1).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «من قرأ إذا أوى إلى فراشه «قل يا أيها الكافرون» و«قل هو الله أحد» كتب الله عزوجل له براءة من الشرك»(2).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من قرأ عشر آيات في ليله لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ خمسين آية كتب من الذاكرين، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين، ومن قرأ مائتي آية كتب من الخاشعين، ومن قرأ ثلاثمائة آية كتب من الفائزين، ومن قرأ خمسمائة آية كتب من المجتهدين، ومن قرأ ألف آية كتب له قنطار، القنطار خمسة عشر ألف مثقال من ذهب، المثقال أربعة وعشرون قيراطا، أصغرها مثل جبل أحد، وأكبرهاما بين السماء و الأرض»(3).
من أدعية الصباح والمساء
عن الصادق (علیه السلام) قال: «قل حين تصبح ثلاثا وحين تمسي ثلاثا: أستودع الله العلي الأعلى الجليل العظيم ديني ونفسي وأهلي ومالي وولدي وإخواني المؤمنين وجميع ما رزقني ربي وجميع من يعنيني أمره»(4)، الدعاء.
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قال النبي (صلی الله علیه و آله) في حديث الإسراء وهو طويل: «وعلمتني الملائكة قولاً أقوله إذا أصبحت وأمسيت: (اللَّهُمَّ إِنَّ ظُلْمِي
ص: 276
.............................
أصبح مُسْتَجِيراً بِعَفْوِكَ، وَذَنْبِي أَصْبَحَ مُسْتَجِيراً بِمَغْفِرَتِكَ، وَذُلِّي أَصْبَحَ مُسْتَجِيراً بِعِزَّتِكَ، وَفَقْرِي أَصْبَحَ مُسْتَجِيراً بِغِنَاكَ، وَوَجْهِيَ الْبَالِيَ الْفَانِيَ أَصْبَحَ مُسْتَجِيراً بِوَجْهِكَ الدَّائِمِ الْبَاقِي الَّذِي لا يَفْنَى) وأقول ذلك إذا أمسيت»(1).وعن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «إذا أصبحت فقل: (اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي سَهْماً وَافِراً فِي كُلِّ حَسَنَةٍ أَنْزَلْتَها مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَاصْرِفْ عَنِّي كُلَّ مُصِيبَةٍ أَنْزَلْتَهَا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، و عَافِنِي مِنْ طَلَبِ مَا لَمْ تُقَدِّرْ لِي مِنْ رِزْقٍ، وَمَا قَدَّرْتَ لِي مِنْ رِزْقٍ فَسُقْهُ إِلَيَّ فِي يُسْرٍ مِنْكَ وعَافِيَةٍ آمِينَ) ثلاث مرات»(2).
وعن إسماعيل بن الفضل قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها»(3)، فقال (علیه السلام): «فريضة على كل مسلم أن يقول قبل طلوع الشمس عشر مرات وقبل غروبها عشر مرات: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ وَ هُوَ حَيّ لا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قال: فقلت: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، ويميت ويحيي)؟ فقال: يا هذا لا شك في أن الله يحيي ويميت ويميت ويحيي ولكن قل كما أقول»(4).
ص: 277
.............................
أقول: فريضة بمعنى تأكد الثواب وثبوت الاستحباب وتقديره، فإن الفرض يأتي بمعنى السَن والسنة والتقدير أيضا (1).
وعن الإمام الصادق (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) قال:
«فقد النبي (صلی الله علیه و آله) رجلاً من الأنصار، فقال له: ما غيّبك عنا؟
فقال: الفقر يا رسول الله وطول السقم.
فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): ألا أعلمك كلاماً إذا قلته ذهب عنك الفقر والسقم؟
فقال: بلى يا رسول الله.
قال (صلی الله علیه و آله): إذا أصبحت وأمسيت فقل:
(لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ العلي العظيم، تَوَكَّلْتُ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذُ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً).
قال الرجل: فوالله ما قلته إلا ثلاثة أيام حتى ذهب عني الفقروالسقم»(2).
وعن صفوان عمن ذكره عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قلت له: علمني شيئاً أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت.
فقال: «قل: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَلَا يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ غَيْرُهُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ ك-َمَا يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ يُحْمَدَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ كَمَا هُوَ أَهْلُهُ، اللَّهُمَّ أَدْخِلْنِي فِي
ص: 278
.............................
كُلِّ خَيْرٍ أَدْخَلْتَ فِيهِ مُحَمَّداً وَآلَ مُحَمَّدٍ، وَأَخْرِجْنِي مِنْ كُلِّ سُوءٍ أَخْرَجْتَ مِنْهُ مُحَمَّداً وَآلَ مُحَمَّدٍ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ)»(1).
وعن داود الرقي قال: «دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) فقال لي: يا داود ألا أعلمك كلمات إن أنت قلتهن كل يوم صباحا ومساء ثلاث مرات آمنك الله مما تخاف؟
قلت: نعم يا ابن رسول الله.
قال: قل: (أصبحت بذمة الله وذمم رسله وذمة محمد (صلی الله علیه و آله) وذمم الأوصياء (علیهم السلام) آمنت بسرهم وعلانيتهم وشاهدهم وغائبهم وأشهد أنهم في علم الله وطاعته كمحمد صلى الله عليهوآله والسلام عليهم).
قال داود: فما دعوت إلا فلجت على حاجتي»(2).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إذا أمسيت قل: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِنْدَ إِقْبَالِ لَيْلِكَ وَإِدْبَارِ نَهَارِكَ وَحُضُورِ صَلَوَاتِكَ وَأَصْوَاتِ دُعَائِكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ) وادع بما أحببت»(3).
ص: 279
-------------------------------------------
يهتف في أفنيتكم هتافاً وصراخاً، وتلاوة وألحاناً (1)
مسألة: يجوز تلاوة القرآن هتافاً وصراخاً، وتلاوة وألحاناً، ويفهم منه رجحان كل تلك الصور فإن حديثها هذا ليست حكايةً عن حالة خارجية فحسب، ولا إخباراً عن قضية تاريخية فقط، بل هو تقرير أيضاً، ومن الرسول (صلی الله علیه و آله) أيضاً حيث كان ذلك - كما أخبرت (علیها السلام) - يجري بمحضره الشريف وبمرآه ومسمعه، أو المنقول لديه.
فالهتاف: ذات صوت، أو الصياح دون الصراخ، ويقال أيضاً فيمن يسمع صوته ولا يرى شخصه(2).
والصراخ: فوقه، فإنه الصياح الشديد(3).
والتلاوة: الترتيل في القراءة، لا المد الطويل في الكلمات ولا القرب المشين، والترتيل هو التأني فيهاوالتمهل وتبيين الحروف والحركات (4).
والألحان: عبارة عن مختلف الألحان والأنغام والإيقاعات - شرط أن لاتكون غناءً - كما نشاهد ذلك في القرّاء في يومنا هذا حيث تختلف ألحانهم في القراءة من الجميل إلى الأجمل، ومن البطيء إلى السريع، وهكذا (5).
ص: 280
.............................
ويقال: ألحن الناس إذا كان أحسنهم قراءة.
وللألحان معنى آخر هو الإفهام، فإنه يقال: ألحنه القول: أي أفهمه إياه.
والأول أقرب بقرينة السياق.
أو المراد اللحن الذي هو الطريق الخاص بإنسان أو بأمة، وقد ورد في الحديث: «اقرؤوا القرآن بألحان العرب»(1).
والمراد أن القرآن كان يُقرأ في تلك الأفنية، في الليالي والنهار، بصوت عال أو بصوت أعلى، وبتلاوة في مقابل القراءة كالتكلم أو بلا تلاوة،وبألحان أو بغيرها.
لكن من اللازم ملاحظة أن يكون الهتاف والصراخ في موردهما، وإلا فإن الهتاف والصراخ قد يكونان مرجوحين لبعض الأسباب الخارجية.
عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: من قرأ «إنا أنزلناه في ليلة القدر» يجهر بها صوته كان كالشاهر سيفه في سبيل الله، ومن قرأها سرا كان كالمتشحط بدمه في سبيل الله، ومن قرأها عشر مرات مرت له على نحو ألف ذنب من ذنوبه»(2).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «اقرءوا القرآن بألحان العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكبائر، فإنه سيجي ء من بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء والنوح، قلوبهم مفتونة وقلوب من يعجبه شأنهم»(3).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إني أخاف عليكم استخفافا بالدين وبيع الحكم
ص: 281
.............................
وقطيعة الرحم وأن تتخذوا القرآنمزامير»(1).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «أعرب القرآن فإنه عربي»(2).
وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «لكل شيء حلية وحلية القرآن الصوت الحسن»(3).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «كان علي بن الحسين (علیه السلام) أحسن الناس صوتا بالقرآن وكان السقاءون يمرون فيقفون ببابه يسمعون قراءته»(4).
وفي قصة قوم يونس (علیه السلام) لما رأوا آثار العذاب جاؤوا إلى عالمهم وكان اسمه روبيل، فقال لهم: (إذا رأيتم ريحا صفراء أقبلت من المشرق فعجوا الكبير منكم والصغير بالصراخ والبكاء والتضرع إلى الله والتوبة إليه وارفعوا رؤوسكم إلى السماء وقولوا: ربنا ظلمنا أنفسنا وكذبنا نبينا وتبنا إليك من ذنوبناوإن لم تغفر لنا ولا ترحمنا لنكونن من الخاسرين المعذبين فاقبل توبتنا وارحمنا يا أرحم الراحمين، ثم لا تملوا من البكاء والصراخ والتضرع إلى الله حتى تتوارى الشمس بالحجاب ويكشف الله عنكم العذاب) (5).
وقال ابن عباس: (بينا أنا راقد في منزلي إذ سمعت صراخا عظيما عاليا من بيت أم سلمة وهي تقول: يا بنات عبد المطلب اسعدنني وابكين معي فقد قتل سيدكن، فقيل: ومن أين علمت ذلك؟ قالت: رأيت رسول الله الساعة في المنام
ص: 282
.............................
شعثا مذعورا فسألته عن ذلك، فقال: قتل ابني الحسين وأهل بيته فدفنتهم، قالت: فنظرت فإذا بتربة الحسين الذي أتى بها جبرئيل من كربلاء، وقال (صلی الله علیه و آله): إذا صارت دما فقد قتل ابنك فأعطانيها النبي فقال اجعليها في زجاجة فليكن عندك فإذا صارت دما فقد قتل الحسين (علیه السلام)، فرأيت القارورة الآن صارت دما عبيطا يفور)(1).
قولها (علیها السلام): «أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه» أي: أعلن القرآن عن هذه المشكلة والفادحة التي هي موت رسول الله (صلی الله علیه و آله).
قولها (علیها السلام): «في أفنيتكم» من فناء الدار، على وزن كساء: العرصة المتسعة أمام البيت، حيث إنهم كانوا يقرؤون القرآن أمام دورهم كما يقرؤون القرآن في الأماكن الأخرى من دورهم وغيرها.
قولها (علیها السلام): «في ممساكم ومصبحكم» الممسى والمصبح، بضم الميم فيهما: مصدران بمعنى الإصباح والإمساء، فإنهم كانوا يقرؤون القرآن صباحاً ومساءً، وحيث إن المراد بالمساء كل الليل فالمراد بالمصبح كل النهار في معناه اللغوي لا الاصطلاحي الذي هو في مقابل العصر.
ص: 283
-------------------------------------------
مسألة: هل يستفاد من كلامها (علیها السلام) هذا حجية الشرائع السابقة واستصحابها، أم أنه استدلال بالأخص على الأعم، وبالقضايا التكوينية على التشريعية، هذا هو الأظهر، ولا وجه لإلغاء الخصوصية هنا.
نعم الظاهر حجية ما علم بأنه منها (1) إلا ما خرج بالدليل وثبت نسخه، كما ذكرنا ذلك في (الأصول) (2).
قال المحقق (رحمة الله) في الشرائع، في استحباب النكاح: (وربما احتج المانع بأن وصف يحيى (علیه السلام) بكونه حصوراً يؤذن باختصاص هذا الوصف بالرجحان، فيحمل على ما إذا لم تتق النفس، ويمكن الجواب بأن المدح بذلك في شرع غيرنا لا يلزم منه وجوده فيشرعنا)(3).
أقول: وذلك للدليل الخاص.
وقال في الجواهر: (ودعوى أن الأصل بقاء الشرائع السابقة إلا ما دل الدليل على نسخه، فإن شرعنا ليس ناسخاً لجميع ما في الشرائع السابقة، بل المجموع من حيث هو مجموع، للقطع ببقاء كثير منها كأكل الطيبات ونكاح
ص: 284
.............................
الحلال والعبادات الثابتة في جميع الملل، وأيضاً فوروده في كتابنا الذي هو في شرعنا من دون إشارة إلى نسخه دليل على بقائه، وإلا لم يحسن مدحه عندنا، يدفعها أن الكتاب العزيز والسنة المتواترة الدالين على استحباب النكاح في شرعنا مطلقاً يثبت بهما النسخ ويخرج بهما عن مقتضى الأصل) (1).
ص: 285
.............................
مسألة: يستحب وربما وجب التطرق لأحوال سائر الأنبياء والرسل في مختلف شؤونهم ومراحل حياتهم من الولادة والوفاة والسيرة والسلوك، وكيفية معاشرتهم مع الناس وفي حياتهم العائلية والاجتماعية وغيرهما، لأنهم أسوة وسلوة، فالإنسان يتعلم منهم ويتزكى ويتطبع على مكارم الأخلاق، ومنها الصبر والتصبر، والرضا بقضاء الله وقدره، وذلك من علل إشارتها (علیها السلام) إلى هذا الجانب.
كما ورد ذلك في القرآن الكريم والروايات الشريفة.
قال تعالى: «فاقصص القصص لعلهم يتفكرون»(1).
وعن الصادق (علیه السلام) قال: «كان آدم (علیه السلام) إذا لم يأته جبرئيل اغتم وحزن، فشكا ذلك إلى جبرئيل فقال: إذا وجدت شيئا من الحزنفقل: لا حول ولا قوة إلا بالله»(2).
وقال ابن عباس: (كان موسى (علیه السلام) رجلا غيورا لا يصحب الرفقة لئلا ترى امرأته)(3).
وفي الحديث: «كان موسى (علیه السلام) إذا صلى لم ينفتل حتى يلصق خده
ص: 286
.............................
الأيمن بالأرض وخده الأيسر»(1).
وعن أبي الحسن الأول (علیه السلام) قال: «كان يحيى بن زكريا (علیه السلام) يبكي ولا يضحك، وكان عيسى ابن مريم (علیه السلام) يضحك ويبكي وكان الذي يصنع عيسى (علیه السلام) أفضل من الذي كان يصنع يحيى (علیه السلام)»(2).
وعن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) قال: «كان عيسى ابن مريم (علیهما السلام) يقول لأصحابه: يا بني آدم اهربوا من الدنيا إلى الله وأخرجواقلوبكم عنها، فإنكم لاتصلحون لها ولا تصلح لكم، ولا تبقون فيها ولا تبقى لكم، هي الخداعة الفجاعة، المغرور من اغتر بها، المغبون من اطمأن إليها، الهالك من أحبها وأرادها فتوبوا إلى الله بارئكم»(3).
وعن علي (علیه السلام) قال: «كان إبراهيم أول من أضاف الضيف، وأول من شاب فقال: ما هذه؟ فقيل: وقار في الدنيا ونور في الآخرة»(4).
وفي الحديث: «كان إبراهيم (علیه السلام) مضيافا»(5).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «كان إبراهيم (علیه السلام) غيورا، وجدع الله أنف من لا يغار»(6).
ص: 287
.............................
وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «كان نوح إذا أمسى وأصبح يقول: أمسيت أشهد أنه ما أمسى بي من نعمة في دينأو دنيا فإنها من الله وحده لا شريك له، له الحمد علي بها كثيراً والشكر كثيرا، فأنزل الله: «إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً»(1) فهذا كان شكره»(2).
وقال (علیه السلام): «ولما كان يوسف (علیه السلام) في السجن دخل عليه جبرئيل فقال: إن الله ابتلاك وابتلى أباك وإن الله ينجيك من هذا السجن، فاسأل الله بحق محمد وأهل بيته أن يخلصك مما أنت فيه، فقال يوسف: اللهم إني أسألك بحق محمد وأهل بيته إلا عجلت فرجي وأرحتني مما أنا فيه، قال جبرئيل (علیه السلام): فأبشر أيها الصديق فإن الله تعالى أرسلني إليك بالبشارة بأنه يخرجك من السجن إلى ثلاثة أيام ويملكك مصر وأهلها، تخدمك أشرافها ويجمع إليك إخوتك وأباك، فأبشر أيها الصديق أنك صفي الله وابن صفيه، فلم يلبث يوسف (علیه السلام) إلا تلك الليلة حتى رأى الملك رؤيا أفزعته فقصها على أعوانه فلم يدروا ما تأويلها، فذكر الغلام الذي نجا من السجن يوسف فقال له: أيها الملك أرسلني إلى السجن فإن فيه رجلا لم ير مثله حلما و علما وتفسيرا»(3) الحديث.
وفي تفسير العياشي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إذا سافر أحدكم فقدم من سفره فليأت أهله بما تيسر ولو بحجر، فإن إبراهيم (علیه السلام) كان إذا ضاق أتى قومه وأنه ضاق ضيقة فأتى قومه فوافق منهم أزمة فرجع كما ذهب،
ص: 288
.............................
فلما قرب من منزله نزل عن حماره فملأ خرجه رملا أراد أن يسكن به من زوجته سارة، فلما دخل منزله حط الخرج عن الحمار وافتتح الصلاة فجاءت سارة ففتحت الخرج فوجدته مملوءً دقيقا فاعتجنت منه واختبزت ثم قالت لإبراهيم: انفتل من صلاتك فكل، فقال لها: أنى لك هذا؟ قالت: من الدقيق الذي في الخرج، فرفع رأسه إلى السماء فقال: أشهد أنك الخليل»(1).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «بكى شعيب من حب الله عزوجل حتى عمي، فرد الله عزوجل عليه بصره، ثم بكى حتىعمي فرد الله عليه بصره، ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره، فلما كانت الرابعة أوحى الله إليه: يا شعيب إلى متى يكون هذا أبدا منك، إن يكن هذا خوفا من النار فقد أجرتك، وإن يكن شوقا إلى الجنة فقد أبحتك، فقال: إلهي وسيدي أنت تعلم أني ما بكيت خوفا من نارك ولا شوقا إلى جنتك ولكن عقد حبك في قلبي فلست أصبر أو أراك، فأوحى الله جل جلاله إليه: أما إذا كان هكذا فمن أجل هذا سأخدمك كليمي موسى بن عمران»(2).
وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «أوحى الله إلى شعيب النبي (علیه السلام) أني معذب من قومك مائة ألف، أربعين ألفاً من شرارهم وستين ألفاً من خيارهم، فقال (علیه السلام): يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ فأوحى الله عزوجل إليه: داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي»(3).
ص: 289
.............................
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «أوحى الله إلى موسى بن عمران: يا موسىأتدري لم انتخبتك من خلقي واصطفيتك لكلامي؟ فقال: لا يا رب، فأوحى الله إليه أني اطلعت على الأرض فلم أجد أشد تواضعا لي منك، فخر موسى ساجدا، وعفر خديه في التراب تذللا منه لربه عزوجل، فأوحى الله إليه: ارفع رأسك يا موسى ومر يدك على موضع سجودك وامسح بها وجهك وما نالته من بدنك فإنه أمان من كل سقم وداء وآفة وعاهة»(1).
وفي الحديث القدسي: قال الله سبحانه لداود (علیه السلام): «أحببني وحببني إلى خلقي، قال: يا رب أنا أحبك فكيف أحببك إلى خلقك؟ قال: اذكر أيادي عندهم فإنك إذا ذكرت ذلك لهم أحبوني»(2).
وفي تفسير العياشي عن الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) أنه سئل أكان سليمان (علیه السلام) محتاجا إلى علم آصف بن برخيا يعني حتى أحضر له عرش بلقيس؟
فقال (علیه السلام): «إن سليمان لم يعجز عن معرفة ما عرفه آصف لكنه (علیه السلام) أحب أن يعرف أمته منالجن والإنس أنه الحجة من بعده وذلك من علم سليمان (علیه السلام) أودعه آصف بأمر الله ففهمه الله ذلك لئلا يختلف في إمامته ودلالته كما فهم سليمان (علیه السلام) في حياة داود (علیه السلام) لتعرف إمامته ونبوته من بعده لتأكيد الحجة على الخلق»(3).
ص: 290
.............................
وروي: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يصوم الإثنين والخميس، فقيل له: لم ذلك؟ فقال (صلی الله علیه و آله): «إن الأعمال ترفع في كل إثنين وخميس فأحب أن ترفع عملي وأنا صائم»(1).
وفي الحديث: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) كثيرا ما يوصي أصحابه بذكر الموت فيقول: أكثروا ذكر الموت فإنه هادم اللذات حائل بينكم وبين الشهوات»(2).
وعن ابن عباس قال: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يجلس على الأرضويأكل على الأرض ويعتقل الشاة ويجيب دعوة المملوك»(3).
وعن أبي ذر قال: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يجلس بين ظهراني أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى النبي (صلی الله علیه و آله) أن يجعل مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكانا من طين فكان يجلس عليها ونجلس بجانبيه»(4).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقسم لحظاته بين أصحابه ينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسوية»(5).
إلى غيرها من الروايات والآيات الواردة في أحوال الأنبياء (علیهم السلام) وقصصهم.
ص: 291
.............................
مسألتان: يستحب لتعزية المصاب بيان الأشباه والنظائر(1)، كما يستحب ذلك لتكريس إيمان الناس بالحق في شؤون المبدأ والمعاد وغيرهما والمصادر وغيرها.
وقد ذكرت (علیها السلام): «ولقبله ما حل…» فإنه إشارة لما ورد على سائر الأنبياء (علیهم السلام).
فإن ذكر الأشباه والنظائر في كل الموارد توجب القوة بالنسبة إلى المشبّه به والنظير سواء في البراهين أم في المحاسن أم في المساوئ أم ما أشبه ذلك.
وقد عد البعض أن من ملاكات الأعلمية: الأعرفية بالأشباه والنظائر، وذلك لأنها قد تكشف عن الجامع والملاك..
قال في العروة: (المراد من الأعلم من يكون أعرف بالقواعد والمداركللمسألة وأكثر إطلاعاً لنظائرها...)(2)
وقد ورد الأشباه والنظائر بعبارات مختلفة في كلمات الفقهاء(3) في مختلف
ص: 292
.............................
الأبواب الفقهية.
ولما سبق ولغيره نجد في القرآن الحكيم - وفي كلمات البلغاء - كثيراً من هذا القبيل..
قال سبحانه: «كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذّبوا بآياتنا فأخذهم اللهبذنوبهم والله شديد العقاب»(1).
وقال تعالى: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»(2).
وقال سبحانه: «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَ-امِ كَ-يْفَ نُنْشِ-زُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى
ص: 293
.............................
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(1).
إلى غير ذلك.
وعلى هذا يستفاد عدم الخصوصية في هذا الباب بالنسبة إلى الأنبياء والرسل (علیهم السلام)، وإن كانوا هم المصداق الأظهر وإلا فسائر الأوصياءوالصالحين هم كذلك أيضاً، والاستثناء يكون فيما علم فيه الاختصاص.
قولها (علیها السلام): «ولقبله ما حل بأنبياء الله ورسله» أي: إن الموت حل قبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأنبياء الله ورسله (صلوات الله عليهم أجمعين).
والفرق بين النبي والرسول، أن الرسول (ذو الرسالة)، فهو النبي الذي يؤمر بالتبليغ، بينما النبي يمكن أن يكون خاصاً بنفسه من دون أمر بالتبليغ إذ هو (المنبأ)، فبينهما عموم مطلق.
واللام في (لقبله) للتأكيد، يعني: أن موته (صلی الله علیه و آله) شيء مؤكد.
ص: 294
-------------------------------------------
مسألة: يستحب بيان أن الموت حكم فصل وقضاء حتم.
قال عزوجل: «نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين»(1).
وقال تعالى: «ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولايستقدمون»(2).
فإن الموت حكم إلهي تكويني يفصل بين الدنيا والآخرة، كما يفصل بين الحق والباطل - في أحد المعنيين(3)- كما أنه قضاء محتوم لا مرّد له، حتى بالنسبة إلى أنبياء الله والرسل (علیهم السلام) فكيف بغيرهم؟ بل «كل شيء هالك إلا وجهه»(4)، فإن كل الكون سيفنى حتى يبقى الله وحده كما ذكر ذلك في الكتب الكلامية استناداً إلى الآيات والروايات.
قال تعالى: «كل من عليها فان *ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام»(5).
وقال سبحانه: «كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة»(6).
ص: 295
.............................
وقال تعالى: «كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون»(1).
وقال سبحانه: «أينما تكونوا يدرككم الموت»(2).
وقال عزوجل: «قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم»(3).
وقال تعالى: «فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين»(4).
وقال سبحانه: «أم كنتم شهداء إذ حضريعقوب الموت»(5).
قولها (علیها السلام): «حكم فصل» أي: أن الموت حكم من الله سبحانه وتعالى مقطوع به على أحد الوجهين.
قولها (علیها السلام): «وقضاء حتم» أي: أن الله سبحانه وتعالى قضى موت الناس قضاءً حتماً لا مردّ له، فهو من عالم اللوح المحفوظ لا المحو والاثبات فتأمل.
سئل علي بن الحسين (علیه السلام) عن النفختين كم بينهما؟ قال: «ما شاء الله» فقيل له: فأخبرني يا ابن رسول الله كيف ينفخ فيه؟ فقال: «أما النفخة الأولى فإن الله يأمر إسرافيل فيهبط إلى الأرض ومعه الصور وللصور رأس واحد
ص: 296
.............................
وطرفان وبين طرف كل رأس منهما ما بين السماء والأرض.
قال: فإذا رأت الملائكة إسرافيل وقد هبط إلى الدنيا ومعه الصور قالوا: قد أذن الله في موت أهل الأرض وفي موت أهل السماء.
قال: فيهبط إسرافيل بحظيرة بيتالمقدس ويستقبل الكعبة فإذا رأوه أهل الأرض قالوا قد أذن الله في موت أهل الأرض.
قال: فينفخ فيه نفخة فيخرج الصوت من الطرف الذي يلي أهل الأرض فلا يبقى في الأرض ذو روح إلا صعق ومات ويخرج الصوت من الطرف الذي يلي أهل السماوات فلا يبقى في السماوات ذو روح إلا صعق ومات إلا إسرافيل...
قال: فيقول الله لإسرافيل: يا إسرافيل مت، فيموت إسرافيل، فيمكثون في ذلك ما شاء الله، ثم يأمر الله السماوات فتمور ويأمر الجبال فتسير وهو قوله «يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً * وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً»(1) يعني تبسط و«تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ»(2) يعني بأرض لم تكسب عليها الذنوب بارزة ليس عليها جبال ولا نبات كما دحاها أول مرة ويعيد عرشه على الماء كما كان أول مرة مستقلا بعظمته وقدرته، قال: فعند ذلك ينادي الجبار جل جلاله بصوت من قبله جهوري يسمع أقطار السماوات والأرضين «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ»(3) فلا يجيبه مجيب، فعند ذلك يقول الجبار مجيبا لنفسه «لِلَّهِ الْواحِدِالْقَهَّارِ» وأنا قهرت
ص: 297
.............................
الخلائق كلهم وأمتهم، إني أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي ولا وزير لي وأنا خلقت خلقي بيدي وأنا أمتّهم بمشيتي وأنا أحييهم بقدرتي»(1).
وفي تفسير القمي: قوله «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ»(2) عن عبيد بن زرارة قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «إذا أمات الله أهل الأرض لبث كمثل ما خلق الخلق ومثل ما أماتهم وأضعاف ذلك، ثم أمات أهل السماء الدنيا ثم لبث مثل ما خلق الخلق ومثل ما أمات أهل الأرض وأهل السماء الدنيا وأضعاف ذلك، ثم أمات أهل السماء الثانية ثم لبث مثل ما خلق الخلق ومثل ما أمات أهل الأرض وأهل السماء الدنيا والسماء الثانية وأضعاف ذلك، ثم أمات أهل السماء الثالثة ثم لبث مثل ما خلق الخلق ومثل ما أمات أهل الأرض وأهل السماء الدنيا والسماء الثانية والسماء الثالثة وأضعاف ذلك، في كل سماء مثلذلك وأضعاف ذلك، ثم أمات ميكائيل ثم لبث مثل ما خلق الخلق ومثل ذلك كله وأضعاف ذلك، ثم أمات جبرئيل ثم لبث مثل ما خلق الخلق ومثل ذلك كله وأضعاف ذلك، ثم أمات إسرافيل ثم لبث مثل ما خلق الخلق ومثل ذلك كله وأضعاف ذلك، ثم أمات ملك الموت ثم لبث مثل ما خلق الخلق ومثل ذلك كله وأضعاف ذلك ثم يقول الله عزوجل: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ» فيرد على نفسه «لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» أين الجبارون، أين الذين ادعوا معي إلها، أين المتكبرون ونخوتهم ثم يبعث الخلق»(3).
ص: 298
.............................
وفي حديث: يقول عزوجل: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ» ثم ينطق أرواح أنبيائه ورسله وحججه فيقولون: «لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ»(1).
قال أبو عبد الله (علیه السلام): «إن قوما أتوا نبيا لهم فقالوا: ادع لنا ربك يدفع عنا الموت، فدعا لهم، فرفع الله عنهم الموت وكثروا حتى ضاقت بهمالمنازل وكثر النسل وكان الرجل يصبح فيحتاج أن يطعم أباه وأمه وجده وجدته ويوصيهم ويتعاهدهم، فشغلوا عن طلب المعاش، فأتوا فقالوا: سل ربك أن يردنا إلى آجالنا التي كنا عليها، فسأل ربه عزوجل فردهم إلى آجالهم»(2).
عن أبي عبيدة قال: قلت لأبي جعفر (علیه السلام) جعلت فداك حدثني بما أنتفع به؟ فقال: «يا أبا عبيدة ما أكثر ذكر الموت إنسان إلا زهد في الدنيا»(3).
وسئل رسول الله (صلی الله علیه و آله) أي المؤمنين أكيس؟ قال: «أكثرهم ذكرا للموت وأشدهم استعدادا له»(4).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «أكثروا ذكر الموت ويوم خروجكم من القبور وقيامكم بين يدي الله عزوجل، تهون عليكم المصائب»(5).
ص: 299
.............................
وفي الأمالي للشيخ الطوسي: فيما كتب أمير المؤمنين (علیه السلام) لمحمد بن أبي بكر: «عباد الله إن الموت ليس منه فوت، فاحذروا قبل وقوعه، وأعدوا له عدته، فإنكم طرد الموت، إن أقمتم له أخذكم، وإن فررتم منه أدرككم، وهو ألزم لكم من ظلكم، الموت معقود بنواصيكم والدنيا تطوى خلفكم، فأكثروا ذكر الموت عند ما تنازعكم إليه أنفسكم من الشهوات، وكفى بالموت واعظا، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) كثيرا ما يوصي أصحابه بذكر الموت فيقول: أكثروا ذكر الموت فإنه هادم اللذات، حائل بينكم وبين الشهوات»(1).
وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «اذكروا هادم اللذات» فقيل: وما هو يا رسول الله؟ فقال: «الموت فما ذكره عبد على الحقيقة في سعة إلا ضاقت عليه الدنيا، ولا في شدة إلا اتسعت عليه، والموت أول منزل من منازل الآخرة وآخر منزل من منازل الدنيا، فطوبى لمن أكرم عند النزول بأولها وطوبى لمنأحسن مشايعته في آخرها، والموت أقرب الأشياء من بني آدم وهو يعده أبعد فما أجرأ الإنسان على نفسه وما أضعفه من خلق، وفي الموت نجاة المخلصين وهلاك المجرمين ولذلك اشتاق من اشتاق إلى الموت وكره من كره»(2).
وفي الحديث: تبع أمير المؤمنين (علیه السلام) جنازة فسمع رجلا يضحك، فقال: «كأن الموت فيها على غيرنا كتب، وكأن الحق فيها على غيرنا وجب، وكأن الذي نرى من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون نبوئهم أجداثهم ونأكل تراثهم قد نسينا كل واعظ وواعظة ورمينا بكل جائحة وعجبت لمن نسي الموت
ص: 300
.............................
وهو يرى الموت ومن أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير»(1).
وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «أفضل الزهد في الدنيا ذكر الموت، وأفضل العبادة ذكر الموت، وأفضل التفكر ذكر الموت، فمن أثقله ذكر الموت وجد قبره روضة من رياضالجنة»(2).
وقال رجل لأبي ذر(رحمة الله): ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة فتكرهون أن تنتقلوا من عمران إلى خراب، قيل له: فكيف ترى قدومنا على الله، قال أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه، قيل: فكيف ترى حالنا عند الله؟ قال: اعرضوا أعمالكم على كتاب الله تبارك وتعالى يقول: «إِنَّ الأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ»(3) قال الرجل: فأين رحمة الله؟ قال: «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ»(4)، (5).
وقيل لأمير المؤمنين (علیه السلام) ما الاستعداد للموت؟ فقال: «أداء الفرائض واجتناب المحارم والاشتمال على المكارم ثم لا يبالي أوقع على الموت أو وقع الموت عليه، والله ما يبالي ابن أبي طالب أوقع على الموت أم وقع الموت عليه»(6).
ص: 301
.............................
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «لم يخلق الله عزوجل يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت»(1).
عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: «لما أراد الله تبارك وتعالى قبض روح إبراهيم (علیه السلام) أهبط الله ملك الموت فقال: السلام عليك يا إبراهيم.
قال: وعليك السلام يا ملك الموت، أداع أم ناع؟
قال: بل داع يا إبراهيم، فأجب.
قال إبراهيم: فهل رأيت خليلا يميت خليله؟
قال: فرجع ملك الموت حتى وقف بين يدي الله جل جلاله فقال: إلهي قد سمعت ما قال خليلك إبراهيم.
فقال الله جل جلاله: يا ملك الموت اذهب إليه وقل له: هل رأيت حبيبا يكره لقاء حبيبه، إن الحبيب يحب لقاء حبيبه»(2).
وروي: إن شابا من الأنصار كان يأتي عبد الله بن عباس وكان عبد الله يكرمهويدنيه، فقيل له: إنك تكرم هذا الشاب وتدنيه وهو شاب سوء، يأتي القبور فينبشها بالليالي!.
فقال عبد الله بن عباس: إذا كان ذلك فأعلموني.
ص: 302
.............................
قال: فخرج الشاب في بعض الليالي يتخلل القبور، فأعلم عبد الله بن عباس بذلك، فخرج لينظر ما يكون من أمره ووقف ناحية ينظر إليه من حيث لايراه الشاب، قال: فدخل قبرا قد حفر ثم اضطجع في اللحد ونادى بأعلى صوته: يا ويحي إذا دخلت لحدي وحدي ونطقت الأرض من تحتي فقالت: لامرحبا بك ولا أهلا، قد كنت أبغضك وأنت على ظهري فكيف وقد صرت في بطني، بل ويحي إذا نظرت إلى الأنبياء وقوفا والملائكة صفوفا فمن عدلك غدا من يخلصني ومن المظلومين من يستنقذني ومن عذاب النار من يجيرني، عصيت من ليس بأهل أن يعصى، عاهدت ربي مرة بعد أخرى فلم يجد عندي صدقا ولا وفاء.
وجعل يردد هذا الكلام ويبكي، فلما خرج من القبر التزمه ابن عباس وعانقه ثم قال له: نعم النباش، نعم النباش ما أنبشك للذنوب والخطايا، ثم تفرقا(1).
ص: 303
.............................
مسألة: يلزم الإيمان بالقضاء والقدر على ما ورد في الآيات والروايات، وقد أشرنا إلى ذلك في بعض المباحث الكلامية(1).
فإن القضاء بمعنى الانتهاء لغة وعرفا.
ويكون تكوينياً وتشريعيا.
فالتكويني مثل قوله تعالى: «فقضاهن سبع سماوات»(2) وقوله سبحانه: «فإذا قضيت الصلاة»(3) .
والتشريعي مثل قوله عزوجل: «وقضى ربك ألاّ تعبدوا إلا إياه»(4) فإن هذا بمعنى الانتهاء التشريعي، أي انتهى الأمر بهذه الصيغة، ومنه يسمّى القاضي قاضياً.
والقدر: لغةً وعرفاً بمعنى واحد، وهو التقدير بجعل الحدود للشيء، قالسبحانه: «وقدَّر فيها أقواتها»(5).
وقال تعالى: «إنا كل شيء خلقناه بقدر»(6).
ص: 304
.............................
وقد ذكرنا في كتاب (العقائد) (1):
أنه لا إشكال في أن غير أفعال الإنسان(2) ومن أشبهه من الملائكة والحور والجن والشياطين والحيوانات، تتعلق بالقضاء والقدر، فالقول: بأن الأشياء بقدر الله وقضائه يراد بذلك التكويني بأسبابها ومقدماتها وشرائطها وما أشبه ذلك سواء كانت وجودات أو أعداما، إيجاداً أو إعداماً.
أما بالنسبة إلى الأفعال الاختيارية للإنسان ومن أشبه، فالمراد بالقضاء والقدر: أن الله سبحانه وتعالى قدّر هذا التقدير وحكم بهذا الحكم، مثلاً: قدّر في الصلاة المصلحة وفي شرب الخمر المفسدة وحكم بالأول إيجاباً وبالثاني سلباً، كما أن الله عزّ وجل قدّر أن يكونالإنسان مختاراً.
عن هشام بن سالم قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): (إن الله إذا أراد شيئاً قدّره، فإذا قدّره قضاه، فإذا قضاه أمضاه)(3).
ص: 305
-------------------------------------------
«وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين»(1).
مسألة: الاستفهام في الآية الشريفة استنكاري، والآية تدل على قبح وحرمة أن ينقلب الإنسان عن الحق إلى الباطل، وإذا فعل ذلك فإنه يضر نفسه ولا يضر الله سبحانه وتعالى شيئاً.
قال تعالى: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ»(2).
وعن ابن عباس: أنّ عليّا (علیه السلام) كان يقول في حياة رسول اللّه (صلی الله علیه و آله): «إنّ اللّه تعالى يقول «وَما مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلىأَعْقابِكُمْ»(3)، واللّه لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا اللّه، واللّه لئن مات أو قتل لأقاتلنّ على ما قاتل عليه حتى أموت، لأنّي أخوه وابن عمّه ووارثه، فمن أحقّ به منّي»(4).
ص: 306
.............................
وفي التفسير: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»(1) قال هو مخاطبة لأصحاب رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) الذين غصبوا آل محمّد حقّهم وارتدّوا عن دين اللّه «فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» نزلت في القائم (علیه السلام) وأصحابه الذين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم (2).
وعن أحمد بن همّام قال: أتيت عبادة بن الصامت في ولاية أبي بكر فقلت: يا أبا عمارة كان الناس على تفضيل أبي بكر قبل أن يستخلف.
فقال: يا أبا ثعلبة إذا سكتناعنكم فاسكتوا ولا تبحثوا، فو اللّه لعلي بن أبي طالب كان أحقّ بالخلافة من أبي بكر كما كان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) أحقّ بالنبوّة من أبي جهل، قال: وأزيدك إنّا كنّا ذات يوم عند رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) فجاء عليّ (علیه السلام) وأبو بكر و عمر إلى باب رسول اللّه (صلی الله علیه و آله)، فدخل أبو بكر ثم دخل عمر ثم دخل عليّ (علیه السلام) على إثرهما فكأنّما سفي على وجه رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) الرماد، ثم قال: «يا عليّ أيتقدّمانك هذان وقد أمّرك اللّه عليهما»، قال أبو بكر: نسيت يا رسول اللّه، وقال عمر: سهوت يا رسول اللّه.
فقال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله): «ما نسيتما ولا سهوتما، وكأني بكما قد استلبتما ملكه وتحاربتما عليه، وأعانكما على ذلك أعداء اللّه وأعداء رسوله، وكأني بكما قد تركتما المهاجرين والأنصار بعضهم يضرب وجوه بعض بالسيف على
ص: 307
.............................
الدنيا، ولكأني بأهل بيتي وهم المقهورون المتشتّتون في أقطارها، وذلك لأمر قد قضي».ثم بكى رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) حتى سالت دموعه، ثم قال: «يا عليّ، الصبر.. الصبر، حتى ينزل الأمر ولا قوّة إلا باللّه العليّ العظيم، فإنّ لك من الأجر في كلّ يوم ما لا يحصيه كاتباك، فإذا أمكنك الأمر فالسيف السيف.. فالقتل القتل حتى يفيئوا إلى أمر اللّه وأمر رسوله، فإنّك على الحقّ ومن ناواك على الباطل، وكذلك ذريّتك من بعدك إلى يوم القيامة»(1).
قولها (علیها السلام): «قد خلت» أي: سبقت ومضت الرسل (علیهم السلام) من قبل الرسول (صلی الله علیه و آله) وماتوا. «أفإن مات» موتاً طبيعياً «أو قتل» قتلاً غير طبيعي.
وقد ذكرت الصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها) هذه الآية في الردّ على من أنكر موت رسول الله (صلی الله علیه و آله) حيث تظاهر بذلك لأهدافه الخاصة - كما سبق - ، وربما كان بعض الصحابة يستعظم موته (صلی الله علیه و آله)، وربما زعم البعض أنه (صلی الله علیه و آله) لن يموت، كما هو عادة بعض الناس بالنسبة إلى العظماء، ولهذا قالوا: إن موسى (علیه السلام) لم يمت، وقالوا: إن أمير المؤمنين علياً (علیه السلام) لميمت(2)، وقالوا: إن الإمام الحسين (علیه السلام) لم يمت، وقالوا: إن الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) لم يمت(3)، وهكذا (4).
ص: 308
............................
مسألة: قد يراد بالرجعي من يرجع إلى الفطرة والسنة، أو من يرجع إلى أحكام الكتاب العزيز، وقد يراد به من يرجع إلى جذوره التاريخية ليستمد منها الخبرة والعزم لانطلاقة أقوى.
وهذه الرجعية - بالمعاني الثلاثة -محمودة ومطلوبة شرعاً وعقلاً.
قال تعالى: «إن إلى ربك الرجعى»(1).
وقال سبحانه: «وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون»(2).
وقال تعالى: «وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون»(3).
أما الرجعية بالمعنى المذموم فهي التي أشار إليها القرآن الكريم بقوله ههنا: «أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم»(4) فالرجعي هو من ينقلب على القيم ويرجع إلى الظلمات بعد أن اُخرج منها إلى النور، والرجعي هو من يرجع
ص: 309
.............................
إلى أهواء النفس والشهوات ومن يرجع إلى الشيطان وأصدقاء السوء.
«انقلبتم على أعقابكم» كناية عن الرجوع القهقرى، أريد به الارتداد بعد الإيمان، لأن الإنسان الذي يريد أن يمشي إلى خلفه يضع عقبيه أولاً، والله سبحانهوتعالى لا يتضرر بسبب الارتداد وإنما يتضرر المرتد نفسه.
قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسمع عليم»(1).
وعن أبي سعيد الخدري عن أبيه عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: «أتزعمون أن رحم نبي الله لا تنفع قومه يوم القيامة، بلى والله، إن رحمي لموصولة في الدنيا والآخرة، ثم قال: «يا أيها الناس أنا فرطكم على الحوض فإذا جئت وقام رجال يقولون يا نبي الله أنا فلان بن فلان، وقال آخر يا نبي الله أنا فلان بن فلان، وقال آخر يا نبي الله أنا فلان بن فلان، فأقول: أما النسب فقد عرفت ولكنكم أحدثتم بعدي وارتددتم القهقرى»(2).
ص: 310
.............................
مسألة: الرسالة الإسلامية لا تموت بموت الرسول (صلی الله علیه و آله).
فإن الحصر في الآية الشريفة يشير إلى أن محمداً (صلی الله علیه و آله) كان رسولاً فحسب من هذه الجهة، فلئن مات الرسول فان (الرسالة) لم تمت و(المرسل) هو الله الدائم القائم، فلا عذر لأحد في التخلي عن تعاليمه وأوامره (صلی الله علیه و آله) بالاستناد إلى أنه قد مات وانتهى كل شيء، لذلك فإن (الانقلاب) عليه (صلی الله علیه و آله) هو انقلاب على الله، وهذا مما لن يضر الله شيئاً بل يضر المنقلبين أنفسهم.
ومن ذلك يظهر أن الحصر في (وما محمد إلا رسول) بالقياس إلى كونه المصدر الأوّل والأخير.
قال الإمام الصادق (علیه السلام): «حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجيء غيره»(1).
وكأنها (علیها السلام) أرادت بذلك أن تقول: هل تقولون إن محمداً (صلی اللهعلیه و آله) مات وبعد موته ليس لنا زاجر ولا مانع عمّا نريده، فنفعل ما نشاء ولا نخاف أحداً في ترك الانقياد للأوامر كما كنا نهابه في حال حياته؟! ولذا فعلتم ما فعلتم من غصب الخلافة واغتصاب فدك وما أشبه ذلك، لكن يلزم أن تعلموا أنكم لن تضروا الله بهذه المعاصي وإنما تضرون أنفسكم، وإن الشاكر الذي يشكر نعم الله سبحانه وتعالى ويبقى على الانقياد لأوامره ونواهيه ولا يخالف الكتاب والسنة سيكون مورد ثواب الله سبحانه وتعالى وجزائه.
ص: 311
.............................
مسألة: تجب الاستقامة على الحق.
والذين يستمرون على الصراط المستقيم هم المجزيون بثواب الله سبحانه وهم الشاكرون، لأن الاستقامة على الحق نوع شكر لله تعالى، إذ من مصاديقه(1) استعمال كل نعمة في موردها، سواء بالقلب أم اللسان أم الجوارح، وإن كان العمل الجوارحي أصعب.
قال سبحانه: «اعملوا آل داود شكراً»(2).
فإن أصل معرفة نعم الله سبحانه وتعالى قد لا يحتاج إلى جهد بدني ولاجهد مالي ولا ما أشبه، كما أن التلفظ بالشكر فقط ليس بحاجة إلى مثل هذه الأمور عادة، وإنما الشكر العملي بحاجة إلى مختلف الجهود.
وجزاء الله سبحانه وتعالى إنما هو للشاكرين الذي يشكرون نعمه سواء في حياة النبي (صلی الله علیه و آله) أم بعد مماته.روى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى «أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ»(3): يعني بالشاكرين صاحبك علي بن أبي طالب (علیه السلام) والمرتدين
ص: 312
.............................
على أعقابهم الذين ارتدوا عنه»(1).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: تدرون مات النبي أو قتل، إن الله يقول: «أفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ»(2) فسم قبل الموت إنهما سمتاه»، فقلنا إنهما وأبويهما شر من خلق الله(3).
وقال سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله: «أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ»(4) القتل أم الموت؟ قال: «يعني أصحابه الذين فعلوا مافعلوا»(5).
ص: 313
-------------------------------------------
مسألة: يجوز نسبة إنسان أو جماعة إلى الأم، فيما إذا لم يكن من باب تعيير المؤمن ونحوه.
وقد كان هؤلاء معروفين ببني قيلة، نسبة إلى أمهم، حيث كانت لها مكانة اجتماعية. ومن هنا يقال للسادة: بنو الزهراء (صلوات الله عليها) لأنها (عليها الصلاة والسلام) كانت قمة القمم وفي عداد أمير المؤمنين علي (علیه السلام) بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله).
والعدول عن النسبة للأب إلى النسبة للأم قد يكون استجلاباً للرحمة واستدراراً للعاطفة، أو استثارة للغيرة والحمية، أو لأجل تكريس التعظيم، أو لخصلة إنسانية أخرى في المنسوب أو السامعين أو غيرهم، وذلك تبعاً لما تميزت به الأم من صفة أو حالةٍ تذكر الناس وتؤثر فيهم، ولما يتداعى في الأذهان من تلك النسبة.
قال تعالى حكاية عن هارون (علیه السلام): «يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولابرأسي»(1) حيث خص الأم استعطافاً وترقيقاً.
وقال الإمام علي بن الحسين (علیه السلام): «إني ما أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني لذلك عبرة»(2).
ص: 314
.............................
ولما أخذت أم الشاب المقتول بكربلاء عمود خيمته حملت على القوم وهي تقول:
أنا عجوز سيدي ضعيفة *** خاوية بالية نحيفة
أضربكم بضربة عنيفة *** دون بني فاطمة الشريفة (1)
وعن جعفر (علیه السلام) عن أبيه (علیه السلام) قال: «لما ولي عمر بن عبد العزيز أعطانا عطايا عظيمة، قال فدخل عليه أخوه فقال له: إن بني أمية لا ترضى منك بأن تفضل بني فاطمة عليهم، فقال: أفضلهم لأني سمعت حتى لا أبالي أن أسمع أو لا أسمع، أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان يقول إنما فاطمة شجنة مني، يسرنيما أسرها، ويسوؤني ما أساءها فأنا أتبع سرور رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأتقي مساءته»(2).
هذا وكان ما صدر من عمر بن عبد العزيز مثل ما صدر من المأمون العباسي، وذلك للسيطرة على الأمور فإن الناس قد عرفوا بعض منزلة أهل البيت (علیهم السلام) ومالوا إليهم.
وعن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «كنت عند زياد بن عبيد الله وجماعة من أهل بيتي فقال يا بني علي ويا بني فاطمة ما فضلكم على الناس، فسكتوا، فقلت: إن من فضلنا على الناس أنا لا نحب أنا من أحد سوانا وليس أحد من الناس لا يحب أنه منا إلا أشرك»(3).
ص: 315
.............................
وفي الشعر:
ومهما ألام على حبهم *** بأني أحب بني فاطمة
بني بنت من جاء بالمحكمات *** وبالدين والسنة القائمة
ولست أبالي بحبي لهمو *** سواهم من النعم السائمة
وقال:
لمن ذا من بني الزهراء أبكي *** بدمع هامر ودم غزير
أللمسموم بالأحقاد أبكي *** أم المقتول ذي النحر النحير
وقال:
بكم يا بني الزهراء تمت صلاتنا *** ولولاكم كانت خداجا بها بتر
بكم يكشف البلوى ويستدفع الأذى *** كما بأبيكم كان يستنزل القطر
وقال:
أحببتكم يا بني الزهراء محتسبا *** وحب غيري حب غير محتسب
لا حاجة لي إلى خلق و لا أرب *** إلا إليكم وحسبي ذاك من أرب
ما طاب لي مولدي إلا بحبكم *** يا طيبون ولولا ذاك لم يطب
أنتم بنو المصطفى والمرتضى نجب *** من كل منتجب سمي بمنتجب
أنتم بنو شاهد النجوى من الغيب *** أنتم صاحب الآيات والعجب
أنتم بنو خير من يمشي على قدم *** بعد النبي مقال الحق لا كذب
ص: 316
.............................
وقد يكون العكس، حيث يعيّر بعض الناس بالأم، كما قالت الصديقة الصغرى زينب الكبرى (علیها السلام) لابن زياد: «ثكلتك أمك يا بن مرجانة»(1).
وقال ابن حماد:
سعى في قتله الرجس ابن هند *** ليشفي منه أحقادا و وغما
وأطمع فيه جعدة أم عبس *** ولم يوف بها فسقته سما (2)
قال الإمام الصادق (علیه السلام):
«تاسوعاء يوم حوصر فيه الحسين (علیه السلام) وأصحابه رضي الله عنهم بكربلاء واجتمع عليه خيل أهل الشام وأناخوا عليه وفرح ابن مرجانة وعمر بن سعد بتوافر الخيل وكثرتها واستضعفوا فيه الحسين (علیه السلام) وأصحابه رضي الله عنهم وأيقنوا أنه لا يأتي الحسين ناصر ولا يمده أهل العراق، بأبي المستضعف الغريب»(3).
وقال محمد بن أبي طالب: (ثم رفع زيد صوته يبكي وخرج وهو يقول: ملك عبد حرا، أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة وأمرتم ابن مرجانة حتى يقتل خياركم ويستعبد أشراركم رضيتم بالذل فبعداً لمن رضي)(4).
ص: 317
.............................
وفي زيارة عاشوراء: «ولعن الله بني أمية قاطبة، ولعن الله ابن مرجانة»(1).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «لا يموت ابن هند حتى يعلق الصليب في عنقه»(2).
وفي التاريخ: انه قدم معاوية المدينة فجلس في أول يوم يجيز من يدخل عليه من خمسة آلاف إلى مائة ألف، فدخل عليه الحسن بن علي (علیه السلام) في آخر الناس، فقال: أبطأت يا أبا محمد، فلعلك أردت تبخلني عند قريش فانتظرت يفنى ما عندنا، يا غلام أعط الحسن مثل جميع ما أعطينا في يومنا هذا، يا أبا محمد وأنا ابن هند، فقال الحسن (علیه السلام): «لا حاجة لي فيها يا أبا عبد الرحمن ورددتها وأنا ابن فاطمة بنت محمد رسول الله (صلی الله علیه و آله)»(3).
إلى غير ذلك مما هو مشهور في أساليب البلغاء.
ص: 318
.............................
مسألة: تخصيص الخطاب بشخص أو جهة بعد تعميمه أو عموميته كما في قولها (علیها السلام): «إيهاً بني قيلة» يضاعف المسؤولية ويكشف عن شدة الطلب وتأكده، أو عن تعدد المطلوب(1)، وسيكون عقاب العاصي أشد، إلا لو كان من باب طرفية الخطاب(2).
قولها (علیها السلام): «إيهاً بني قيلة» إيهاً - بفتح الهمزة والتنوين - بمعنى: إليكم أخاطب، وقد تكون بمعنى هيهات ويكون المعنى حينئذٍ: من البعيد منكم أن اهضم أرث أبي وأنتم بمرأى مني ومسمع.
وبنو قيلة: هما قبيلتا الأنصار الأوس والخزرج، وقيلة - بفتح القاف - اسم أم لهم في قديم الزمان كانت تسمى قيلة وهي قيلة بني كاهل فإنهممتشعبون منها.
ص: 319
-------------------------------------------
مسألة: يستحب وقد يجب أن يكرر المظلوم طلبه.
فإن في التكرار احتمال التأثير أولاً، ثم نشر الظلامة ثانياً، وغرسها في أعماق الأنفس ثالثاً، ثم ردع الظالمين في المستقبل عن ظلمهم حيث يعرفون أن خبر ظلمهم ينتشر ويفتضحون رابعاً، إلى غير ذلك من الفوائد المذكورة للتكرار في كتب البلاغة وما أشبه.
وقد روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: «إن زين العابدين (علیه السلام) بكى على أبيه أربعين سنة صائما نهاره، قائما ليله، فإذا حضر الإفطار جاءه غلامه بطعامه وشرابه فيضعه بين يديه فيقول: كل يا مولاي، فيقول: قتل ابن رسول الله جائعا، قتل ابن رسول الله عطشانا، فلا يزال يكرر ذلك ويبكي حتى يبل طعامه من دموعه ويمزج شرابه بدموعه فلم يزل كذلك حتى لحق بالله عزوجل»(1).
وقد كان يكرر رسول الله (صلی الله علیهو آله) من قوله: «نفذوا جيش أسامة»(2).
روى ابن أبي الحديد في شرح النهج: أنّ رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) في مرض موته أمّر أسامة بن زيد بن حارثة على جيش فيه جلّة المهاجرين والأنصار، منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجرّاح وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير، وأمره
ص: 320
.............................
أن يغير على مؤتة حيث قتل أبوه زيد، وأن يغزو وادي فلسطين، فتثاقل أسامة وتثاقل الجيش بتثاقله، وجعل رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) في مرضه يثقل ويخف ويؤكّد القول في تنفيذ ذلك البعث، حتّى قال له أسامة: بأبي أنت وأمّي أتأذن لي أن أمكث أيّاما حتّى يشفيك اللّه تعالى.
فقال: اخرج وسر على بركة اللّه.
فقال: يا رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) إن أنا خرجت وأنت على هذه الحال خرجت وفي قلبي قرحة منك.
فقال: سر على النصر والعافية.
فقال: يا رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) إنّي أكره أن أسأل عنك الركبان.فقال: أنفذ لما أمرتك به.. ثم أغمي على رسول اللّه (صلی الله علیه و آله)، وقام أسامة فتجهز للخروج، فلمّا أفاق رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) سأل عن أسامة والبعث، فأخبر أنّهم يتجهّزون، فجعل يقول: أنفذوا بعث أسامة، لعن اللّه من تخلّف عنه.. وكرر ذلك)(1).
وقد ورد التكرار في كثير من الأدعية. روي: أن الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) كان يصلي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح ثم يعقّب حتى تطلع الشمس ويخر لله ساجداً فلا يرفع رأسه من الدعاء والتمجيد حتى يقرب زوال الشمس وكان يدعو كثيراً فيقول: «اللهم إني أسألك الراحة عند الموت والعفو عند الحساب» ويكرر ذلك(2).
ص: 321
.............................
مسألة: في انتهاك الحرمة وإضاعةالحق، الحرمة تشتد بلحاظ: المنتهك، والمنتهك حرمته، ونوع الحق، لذلك فإن هضمها (علیها السلام) تراث أبيها (صلی الله علیه و آله) كان من أشد المحرمات.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) عند ما قرب وفاته: «يا علي أني راض عمن رضيت عنه ابنتي فاطمة وكذلك ربي وملائكته، يا علي ويل لمن ظلمها، وويل لمن ابتزها حقها، وويل لمن هتك حرمتها، وويل لمن أحرق بابها، وويل لمن آذى خليلها، وويل لمن شاقها وبارزها، اللهم إني منهم بريء وهم مني براء»(1).
وفي الحديث عن الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: «فإذا حق رسول الله (صلی الله علیه و آله) أعظم من حق الوالدين وحق رحمه أيضا أعظم من حق رحمهما، فرحم رسول الله (صلی الله علیه و آله) أيضا أعظم وأحق من رحمهما، فرحم رسول الله (صلی الله علیه و آله) أولى بالصلة وأعظم في القطيعة، فالويل كل الويل لمن قطعها، فالويل كل الويل لمن لم يعظم حرمتها، أو ما علمت أن حرمة رحم رسول الله (صلی الله علیه و آله) حرمة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأنحرمة رسول الله (صلی الله علیه و آله) حرمة الله تعالى وأن الله أعظم حقا من كل منعم سواه، وإن كل منعم سواه إنما أنعم حيث
ص: 322
قيضه له ذلك ربه ووفقه له»(1).
.............................
مسألة: يحرم منع أي الشخص من إرثه، أو اقتطاع قدر من الإرث بعنوان الضريبة وغير ذلك، ولا يسوغ ذلك العذر باحتياج الدولة أو ما أشبه كما فعل غاصبوها (علیها السلام).
وفي تفسير القمي(رحمة الله): (وقال الله: «كَلا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ»(2) أي لا تدعوهم، وهم الذين غصبوا آل محمد حقهم وأكلوا أموال اليتامى وفقراءهم وأبناء سبيلهم، ثم قال: «وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمّاً»
أي وحدكم «وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبّاًجَمّاً»(3) تكنزونه ولا تنفقونه في سبيل الله)(4).
وقال رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله): «يا عليّ كيف أنت إذا رأيت أزهد الناس في الآخرة، ورغبوا في الدنيا، وأكلوا التراث أكلا لمّا ، وأحبّوا المال حبّا جمّا واتّخذوا دين اللَّه دغلا، ومال اللَّه دولا؟ قال: قلت: أتركهم وما اختاروا، وأختار اللَّه ورسوله والدار الآخرة وأصبر على مصائب الدنيا ولأواتها حتى
ص: 323
.............................
ألقاك إن شاء اللَّه. فقال: هديت، اللّهمّ افعل به ذلك»(1).
وعموماً فإنه يحرم أن يهضم أي إنسان حقه، فعلى الهاضم أن يعرف أن وراءه العقاب، وعلى المهضوم أن يطالب برفع ظلامته - إلا مع المصلحة الأهم -، ولذا قال سبحانه: «لا تَظْلِمون ولا تُظْلَمون»(2).
وفي دعاء مكارم الأخلاق للإمامالسجاد (عليه الصلاة والسلام): «واجعل لي يداً على من ظلمني، ولساناً على من خاصمني، وظفراً بمن عاندني، وهب لي مكراً على من كايدني، وقدرة على من اضطهدني، وتكذيباً لمن قصبني، وسلامة ممن توعدني»(3).
وفي هذا الدعاء أيضا قال (عليه الصلاة والسلام): «اللهم صل على محمد وآله ولا اُظْلَمنَّ وأنت مطيق للدفع عني ولا أَظْلمَنَّ وأنت القادر على القبض مني»(4).
قولها (علیها السلام): «أاُهضم تراث أبي؟» الهضم عبارة عن الكسر وعدم الرعاية، أي: لا يراعى حقي في إرث والدي، فإن التراث بمعنى: الميراث، وأصل التاء فيه الواو، فإن الواو تقلب إلى التاء كما قال الأدباء، والمراد بالتراث: فدك، وقد ذكرنا سابقاً أن فاطمة الزهراء (علیها السلام) أرادت الإرث الحقيقي في مقابل قولهم، أو الإرث بالمعنى الأعم مما يتركه الوالد لأولاده سواء في حياته أو بعد مماته، حيث كانت فدك نحلة.
ص: 324
-------------------------------------------
مسألة: يستحب للمظلوم أن يطالب الناس بمساعدته وأن يشحذ الهمم لها، وقد يجب ذلك، لحرمة تقبل المظلومية والبقاء عليها في الجملة.
فإذا ظُلم شخص وعلم المظلوم أنه لو استعان ببعض الأفراد لتمكن من دفعه أو رفعه لزم ذلك.
قال أمير المؤمنين (علیه السلام) في خطبة له: « أيها الناس إني ابن عم نبيكم وأولاكم بالله ورسوله فاسألوني ثم اسألوني»(1).
وعن أبي الحسن موسى بن جعفر (علیه السلام) قال: أنه سأل أباه (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: «فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى»(2) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا أيها الناس اتبعوا هدى الله تهتدوا وترشدوا، وهو هداي وهداي هدى علي بن أبي طالب(علیه السلام) فمن اتبع هداه في حياتي وبعد موتي فقد اتبع هداي ومن اتبع هداي فقد اتبع هدى الله ومن اتبع هدى الله فلا يضل و لا يشقى»(3).
وعن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) أنّه خطب ذات يوم وقال: «أيّها الناس أنصتوا لما أقول رحمكم اللّه، أيّها الناس بايعتم أبا بكر وعمر وأنا
ص: 325
.............................
والله أولى منهما وأحقّ منهما بوصيّة رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) فأمسكت، وأنتم اليوم تريدون تبايعون عثمان، فإن فعلتم وسكت واللّه ما تجهلون فضلي ولا جهله من كان قبلكم، ولولا ذلك قلت ما لا تطيقون دفعه».
فقال الزبير: تكلّم يا أبا الحسن.
فقال عليّ (علیه السلام): «أنشدكم باللّه هل فيكم أحد وحّد اللّه وصلّى مع رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قبلي؟
أم هل فيكم أحد أعظم عند رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) مكانا منّي؟
أم هل فيكم أحد من كان يأخذ ثلاثة أسهم سهم القرابة وسهم الخاصّة وسهمالهجرة غيري؟
أم هل فيكم أحد جاء إلى رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) باثنتي عشرة تمرة غيري؟
أم هل فيكم أحد من قدّم بين يدي نجواه صدقة لما بخل الناس ببذل مهجته غيري؟
أم هل فيكم أحد أخذ رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) بيده يوم غدير خمّ وقال من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه، وليبلّغ الحاضر الغائب، فهل كان في أحد غيري؟
أم هل فيكم من أمر اللّه عزوجل بمودّته في القرآن حيث يقول:«قُلْ لا أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى»(1)، هل قال من قبل لأحد غيري؟
أم هل فيكم من غمّض عيني رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) غيري؟
ص: 326
.............................
أم هل فيكم من وضع رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) في حفرته غيري؟
أم هل فيكم من جاءته آية التنزيه مع جبرئيل (علیه السلام) وليس في البيت إلا أنا والحسن والحسين وفاطمة،فقال جبرئيل (علیه السلام): السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته، ثم قال: يا محمّد ربّك يقرئك السلام ويقول لك: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»(1) الآية، هل كان ذلك اليوم غيري؟
أم هل فيكم من ترك بابه مفتوحا من قبل المسجد لما أمر اللّه، حتى قال عمر: يا رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) أخرجتنا وأدخلته، فقال: اللّه عزوجل أدخله وأخرجكم، غيري؟
أم هل فيكم من قاتل وجبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله غيري؟
أم هل فيكم من له سبطان مثل سبطي الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنّة، ابنا أحد غيري؟
أم هل فيكم من قال له النبيّ (صلی الله علیه و آله): أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبيّ بعدي، غيري؟
أم هل فيكم من قال (صلی الله علیه و آله) في حقّه يوم خيبر لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه ورسوله ويحبّه اللّه ورسوله كرّار غير فرّار يفتح على يده بالنصر، فأعطاها أحدا غيري؟
أم هل فيكم من قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) يوم الطائر المشويّ: اللّهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكلمعي، فأتيت أنا معه، هل أتاه أحد غيري؟
ص: 327
.............................
أم هل فيكم من سمّاه اللّه عزوجل وليّه غيري؟
أم هل فيكم من طهّره اللّه من الرجس في كتابه غيري؟
أم هل فيكم من زوّجه اللّه بفاطمة بنت رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) غيري؟
أم هل فيكم من باهل به النبيّ (صلی الله علیه و آله) غيري؟
قال: فعند ذلك قام الزبير وقال: ما سمعنا أحدا قال أصحّ من مقالك، وما نذكر منه شيئا، ولكن الناس بايعوا الشيخين ولم نخالف الإجماع!
فلمّا سمع ذلك نزل (علیه السلام) وهو يقول: «وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً»(1)»(2).
مسألة: يحرم خذلان المظلوم وعدم إحقاق حقه مطلقاً سواء كان بمرأى من المظلوم ومسمع ومنتدى ومجمع أم لم يكن.لكن الحرمة في هذا المورد أشد وإن كانت الحرمة ثابتة على كل من يقدر على رفع الظلم عن الناس سواء كان قريباً أم بعيداً فيما إذا كان من موازين النهي عن المنكر ودفع المنكر حسب المذكور في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(3) وكون الحرمة أشد فيما لو كان بمرأى ومسمع.. الخ يستفاد من أدلة عديدة ومنها قولها (علیها السلام) هذا.
ص: 328
.............................
وفي نهج البلاغة: ومن كلام له (علیه السلام): «لم تكن بيعتكم إياي فلتة وليس أمري وأمركم واحدا، إني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم، أيها الناس أعينوني على أنفسكم وأيم الله لأنصفن المظلوم ولأقودن الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحق وإن كان كارها»(1).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «منأصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع رجلا ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم»(2).
وعن موسى بن جعفر (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من أصبح لا يهتم بأمر المسلمين فليس من الإسلام في شيء، ومن شهد رجلا ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس من المسلمين»(3).
مسألة: لا فرق في الحرمة المذكورة بين رؤية الظلم أو السماع به، فالمرأى يكون بالرؤية، والمسمع بالسماع، فإن جماعة من الصحابة لم يروا الظلم وإنما سمعوه وكانوا قادرين على دفعه وإرجاع الحق إلى أهله، لكنهم تقاعسوا عن ذلك خوفاً أو طمعاً أو لعدم المبالاة أو لغير ذلك.
ص: 329
.............................
قال الإمام الحسين (علیه السلام):«من سمع واعيتنا أهل البيت ثم لم يجبنا كبه الله على وجهه في نار جهنم»(1).
وعن عمرو بن قيس المشرقي قال: دخلت على الحسين (علیه السلام) أنا وابن عم لي وهو في قصر بني مقاتل، فسلمنا عليه، فقال له ابن عمي: يا أبا عبد الله هذا الذي أرى خضاب أو شعرك، فقال: «خضاب والشيب إلينا بني هاشم يعجل» ثم أقبل علينا فقال: «جئتما لنصرتي» فقلت: إني رجل كبير السن كثير الدين كثير العيال وفي يدي بضائع للناس ولا أدري ما يكون وأكره أن أضيع أمانتي، وقال له ابن عمي مثل ذلك، قال لنا: «فانطلقا فلا تسمعا لي واعية ولا تريا لي سوادا، فإنه من سمع واعيتنا أو رأى سوادنا فلم يجبنا ولم يعنا كان حقا على الله عزوجل أن يكبه على منخريه في النار»(2).
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) قال:
«أنا ورسول الله (صلی الله علیه و آله)على الحوض ومعنا عترتنا، فمن أرادنا فليأخذ بقولنا وليعمل بأعمالنا، فإنا أهل البيت لنا شفاعة، فتنافسوا في لقائنا على الحوض، فإنا نذود عنه أعداءنا ونسقي منه أولياءنا، ومن شرب منه لم يظمأ أبدا وحوضنا مترع فيه مثعبان ينصبان من الجنة، أحدهما تسنيم والآخر معين، على حافتيه الزعفران وحصباه الدر والياقوت، وإن الأمور إلى الله وليست إلى العباد ولو كانت إلى العباد ما اختاروا علينا أحدا ولكنه يختص برحمته من يشاء من عباده، فاحمد الله على ما اختصكم به من النعم وعلى طيب المولد، فإن ذكرنا
ص: 330
.............................
أهل البيت شفاء من الوعك والأسقام ووسواس الريب، وإن حبنا رضى الرب، والآخذ بأمرنا وطريقتنا معنا غدا في حظيرة القدس، والمنتظر لأمرنا كالمتشحط بدمه في سبيل الله، ومن سمع واعيتنا فلم ينصرنا أكبه الله على منخريه في النار، نحن الباب إذا بعثوا فضاقت بهم المذاهب، نحن باب حطة وهو باب الإسلام من دخله نجا ومن تخلف عنه هوى، بنا فتح الله وبنا يختموبنا «يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ» (1) وبنا ينزل الغيث فلا يغرنكم بالله الغرور، لو تعلمون ما لكم في الغناء بين أعدائكم وصبركم على الأذى لقرت أعينكم، ولو فقدتموني لرأيتم أمورا يتمنى أحدكم الموت مما يرى من الجور والعدوان والأثرة والاستخفاف بحق الله والخوف، فإذا كان كذلك ف-«اعْتصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا»(2) وعليكم بالصبر والصلاة والتقية، واعلموا أن الله تبارك وتعالى يبغض من عباده المتلون فلا تزولوا عن الحق وولاية أهل الحق، فإنه من استبدل بنا هلك ومن اتبع أثرنا لحق ومن سلك غير طريقنا غرق، وإن لمحبينا أفواجا من رحمة الله وإن لمبغضينا أفواجا من عذاب الله، طريقنا القصد وفي أمرنا الرشد، أهل الجنة ينظرون إلى منازل شيعتنا كما يرى الكوكب الدري في السماء، لايضل من اتبعنا ولا يهتدي من أنكرنا ولا ينجو من أعان علينا عدونا، ولا يعان من أسلمنا، فلا تخلفوا عنا لطمع دنيا بحطام زائل عنكم، وأنتم تزولون عنه، فإنه من آثر الدنيا علينا عظمت حسرته وقال الله تعالى:
ص: 331
.............................
«يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ»(1) سراج المؤمن معرفة حقنا وأشد العمى من عمي من فضلنا وناصبنا العداوة بلا ذنب إلا أن دعوناه إلى الحق ودعاه غيرنا إلى الفتنة فآثرها علينا، لنا راية من استظل بها كنته ومن سبق إليها فاز ومن تخلف عنها هلك ومن تمسك بها نجا، أنتم عمار الأرض الذين استخلفكم فيها لينظر كيف تعلمون فراقبوا الله فيما يرى منكم وعليكم بالمحجة العظمى فاسلكوها، لا يستبدل بكم غيركم «سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالأرْضُ أعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ»(2) فاعلموا أنكم لن تنالوها إلا بالتقوى ومن ترك الأخذ عمن أمر الله بطاعته قيض الله له شيطاناً فهو له قرين، ما بالكم قد ركنتم إلى الدنيا ورضيتم بالضيم وفرطتم فيما فيه عزكم وسعادتكم وقوتكم على من بغى عليكم، لا من ربكم تستحيون ولا لأنفسكم تنظرون وأنتم في كل يوم تضامون، ولا تنتبهون من رقدتكم ولا تنقضي فترتكم، أما ترون إلى دينكم يبلى وأنتم في غفلةالدنيا، قال الله عز ذكره: «وَلاتَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ»(3).
وربما يكون في قولها (علیها السلام): «وأنتم بمرأى مني ومسمع» إشارة أخرى(4) إلى أنه: لا مجال للتهرّب بإنكار العلم والاطلاع.
ص: 332
.............................
هذا وقد قال أمير المؤمنين (علیه السلام) بالنسبة إلى المرأة المعاهدة!: «ولقد بلغني أن العصبة من أهل الشام كانوا يدخلون على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فيهتكون سترها ويأخذون القناع من رأسها والخرص من أذنها والأوضاح من يديها ورجليها وعضديها والخلخال والمئزر عن سوقها فما تمتنع إلا بالاسترجاع والنداء يا للمسلمين فلا يغيثها مغيث ولا ينصرها ناصر، فلو أن مؤمنا مات دون هذا أسفا ما كان عندي ملوما بلكان عندي بارا محسنا»(1).
ص: 333
.............................
مسألتان: من له المجمع تكون مسؤوليته أكبر، وحرمة خذلانه أشد، كما يلزم توفير وتأسيس (المجمع) و(التجمع) للاهتمام بالحقوق والواجبات وما أشبه إن لم يكن موجوداً.
وقد ذكرنا بعض التفصيل في كتاب (إنشاء الجمعيات) (1).
فإن القوة مع الجماعة، ولذا ورد: «يد الله مع الجماعة»(2) وفي بعض الروايات: «على الجماعة»(3).
ويستنبط ذلك(4) أيضاً من قوله تعالى: «وتعاونوا»(5).
فالصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها) نبهتهم على أنهم مجتمعين يتمكنون من استنقاذ حقها، وعلى هذا فلا يمكنهمالاعتذار بالإنفراد وعدم التمكن حينئذٍ.
هذا وفي الحديث: «الاثنان جماعة»(6).
وفي حديث آخر عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «المؤمن وحده حجة، والمؤمن وحده جماعة»(7).
ص: 334
.............................
وغير خفي أن (للمنتدى) و(المجمع) ألواناً وأشكالاً ومراتب، يختلف كل ذلك باختلاف الأزمان والأعراف والأفراد وغير ذلك(1).
وكان لبني قيلة من أنواع المجمع التجمع القبلي، وتجمع الأنصار، وربما كان غيره أيضاً.
قولها (علیها السلام): «وانتم بمرأى مني ومسمع» أي: بحيث أراكم وأسمع كلامكم(2)، فكيف يتجرّأ ابن أبي قحافة على أن يسلبني تراثي والحالأنكم تعلمون أني أراكم وأسمع كلامكم(3) والمراد قربهم منها (صلوات الله عليها) وقربها منهم.
قولها (علیها السلام): «ومنتدى ومجمع» المنتدى: محل الاجتماع، ويقال له: النادي أيضاً بلحاظ أن بعضهم ينادي بعضاً، والمجمع: مصدر ميمي يمكن أن يراد به المكان الذي يجتمع فيه، أي لكم مكان يجتمع فيه، ويمكن أن يراد به الاجتماع أي لكم اجتماع وتجمع يمكنه أن يتصدى للدفاع والنصرة.
ص: 335
-------------------------------------------
مسألة: يلزم دفع أو رفع عذر القاصر في معرفة التكاليف وغيره ممن يدَّعي أو سيدّعي ذلك(1)، وربما يكون ذلك هو السر في تصريحها (علیها السلام) بأن الدعوة قد لبستهم والخبرة شملتهم، حتى تكون الحجة عليهم أتم.
فلا يقولون في المستقبل: إن الحجة لم تصل إلينا ولم نكن نعرف ما تطلبونه، أو لم نكن ندري بأن التكليف شامل لنا والخطاب موجه إلينا، أو لدفع هذا التوهم في الحال.
قال تعالى: «قل فلله الحجة البالغة»(2).
مضافاً إلى أنه يجب على الإنسان أن يبحث عن تكاليفه، فلا يكفيه أن يقول: كنت جاهلاً، إذ على الجاهل أن يتعلم.
روي عن هارون عن ابن زياد قال: سمعت جعفر بن محمد (علیه السلام) وقد سئل عن قوله تعالى «فَلِلَّهِ الْحُجَّةُالْبالِغَةُ» فقال: «إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: أكنت عالما، فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت، وإن قال: كنت جاهلا، قال له: أفلا تعلمت حتى تعمل، فيخصمه، وذلك الحجة البالغة»(3).
ص: 336
.............................
وفي تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) قال : «دخل جابر بن عبد الله الأنصاري على أمير المؤمنين (علیه السلام) فقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «يا جابر قوام هذه الدنيا بأربعة، عالم يستعمل علمه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم، وغني جواد بمعروفه، وفقير لا يبيع آخرته بدنيا غيره، ثم قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «فإذا كتم العالم العلم أهله، وزها الجاهل في تعلم ما لابد منه وبخل الغني بمعروفه وباع الفقير دينه بدنيا غيره حل البلاء وعظم العقاب»(1).
وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «اطلبوا العلم ولو بالصين، فإن طلبالعلم فريضة على كل مسلم»(2).
نعم خرج من ذلك القاصر فقط، لأن الحجة لم تصله ولم يتمكن في حال قصوره من الفحص عن الحجة، بل قالوا: إن من المحال تكليف القاصر - بما هو قاصر - والمراد المرتبة الرابعة من مراتب التكليف على ما ذهب إليه الآخوند (رحمة الله)(3) وذلك لضرورة الاشتراك في التكليف.
قولها (علیها السلام): «تلبسكم الدعوة» فكأن دعوتها (علیها السلام) أحاطت بهم كاللباس الذي يحيط ببدن الإنسان، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس، ويحتمل أن يكون حقيقة، وربما كانت العبارة نوع اقتباس من قوله تعالى: «وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه»(4) ولا داعي للحمل على المجاز بعد إمكان الحقيقة بل
ص: 337
.............................
توصل العلم الحديث إلى ما قد يدل علىذلك(1).
قولها (علیها السلام): «وتشملكم الخبرة» أي: إن خبرتكم وعلمكم بمظلوميتي وبمغصوبية حقي شامل لجميعكم، فليس هناك من لا يعلم ذلك، فكيف تسكتون وأنتم تسمعون دعوتي وتعرفون حق المعرفة حقي؟
مسألتان: قد يجب - على رؤوس الأشهاد - الإعلان عن المسؤوليات الجماعية أولاً، وعن التخاذل الاجتماعي - لو حدث - ثانياً، وذلك من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا مجال لدعوى التشهير والغيبة وما أشبه كما هو أوضح من أن يخفى.
قال الإمام الصادق (علیه السلام) عن أبيه (علیه السلام): «ثلاثة ليست لهم حرمة: صاحب هوى مبتدع والإمام الجائر والفاسق المعلن الفسق»(2).
وعلى هذا فإن من اللازم حرية الصحافة وذلك لتراقب المسؤولين والحكام والأمة وتحاسبهم على أفعالهم،وذلك تأسياً بها (صلوات الله عليها) حيث حاسبت الناس والمسؤولين على رؤوس الأشهاد.
قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «الملوك حكام على الناس والعلم حاكم عليهم»(3).
ص: 338
.............................
وفي الأحاديث التحذير عن جور الحكام، قال الإمام الصادق (علیه السلام): «إذا أمسكت الزكاة هلكت الماشية، وإذا جار الحكام في القضاء أمسك القطر من السماء، وإذا خفرت الذمة نصر المشركون على المسلمين»(1).
وقال الإمام زين العابدين (علیه السلام): «الذنوب التي تحبس غيث السماء جور الحكام»(2).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «إنّي سمعت رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) يقول: يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيلقى في جهنّم فيدور فيها كما تدورالرّحى»(3).
وقال (علیه السلام): «إنّ شرّ النّاس عند اللّه إمام جائر ضلّ وضلّ به»(4).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «أربعة لا تقبل لهم صلاة: الإمام الجائر، والرجل يؤم القوم وهم له كارهون، والعبد الآبق من مولاه من غير ضرورة، والمرأة تخرج من بيت زوجها بغير إذنه»(5).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «أقبح شيء جور الولاة»(6).
وقال (علیه السلام): «السلطان الجائر والعالم الفاجر أشد الناس نكاية»(7).
ص: 339
.............................
وقال (علیه السلام): «زمان الجائر شر الأزمنة»(1).
وقال (علیه السلام): «سبع أكول حطوم خير من وال ظلوم غشوم»(2).
وقال (علیه السلام): «شر الأمراء من ظلم رعيته»(3).
وقال (علیه السلام): «ولاة الجور شرار الأمة وأضداد الأئمة»(4).
وقال (علیه السلام): «إذا ملك الأراذل هلك الأفاضل»(5).
وقال (علیه السلام): «إذا استولى اللئام اضطهد الكرام»(6).
وقال (علیه السلام): «دولة اللئاممذلة الكرام»(7).
وقال (علیه السلام): «دول الفجار مذلة الأبرار»(8).
ص: 340
-------------------------------------------
وأنتم ذوو العدد والعدة(1)، والأداة والقوة، وعندكم السلاح والجُنة
مسألة: من له العدد والعدة، والأداة والقوة، والسلاح والجُنة، تكون مسؤوليته أكبر، كما هو واضح.
وكلامها (علیها السلام) هذا (2) من حيث الأسباب والأدوات، بينما العدد من حيث الأفراد، والكلام السابق بلحاظ الانتماء.
ولعل ذكر العدد هنا باعتبار أن كونهم في مجمع غير كونهم ذا عدد، فالعدد إشارة إلى الكم، والمجمع إلى الكيف، إذ لا يستلزم أحدهما الآخر، فقد يكون الشخص منتمياً إلى مجمع صغير لا عدد له، أما الأنصار فكانوا ينتمون إلى مجمع وهو قوة، كما قالت (علیها السلام): «وأنتم بمرأى مني ومسمع ومنتدى ومجمع» وكانوا ذوي عدد معتد به.فكلامها (صلوات الله عليها) إشارة إلى:
1: إن لهم مجمعاً، وهو بلحاظ الانتماء.
2: إن لهم كثرة الأفراد.
3: إنهم يمتلكون السلاح والقوة.
فمسؤوليتهم أكثر وأكبر.
ص: 341
.............................
وقد روي أنه أقام النبي (صلی الله علیه و آله) بقباء يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسس مسجده وصلى يوم الجمعة في المسجد الذي في بطن الوادي وادي رانوقا، فكانت أول صلاة صلاها بالمدينة، ثم أتاه غسان بن مالك وعباس بن عبادة في رجال من بني سالم فقالوا: يا رسول الله أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة، فقال: «خلوا سبيلها فإنها مأمورة» يعني ناقته(1).
ومن هنا كانت مسؤولية العلماء أكثر وأكبر أيضا، قال عيسى (علیه السلام): «ويلكم علماء السوء، الأجر تأخذون والعمل تضيّعون»(2).وفي تحف العقول عن النبي عيسى (علیه السلام): «ويلكم يا علماء السوء ألم تكونوا أمواتا فأحياكم فلما أحياكم متم، ويلكم ألم تكونوا أميين فعلمكم فلما علمكم نسيتم، ويلكم ألم تكونوا جفاة ففقهكم الله فلما فقهكم جهلتم، ويلكم ألم تكونوا ضلالا فهداكم فلما هداكم ضللتم، ويلكم ألم تكونوا عميا فبصركم فلما بصركم عميتم، ويلكم ألم تكونوا صما فأسمعكم فلما أسمعكم صممتم، ويلكم ألم تكونوا بكما فأنطقكم فلما أنطقكم بكمتم، ويلكم ألم تستفتحوا فلما فتح لكم نكصتم على أعقابكم، ويلكم ألم تكونوا أذلة فأعزكم فلما عززتم قهرتم واعتديتم وعصيتم، ويلكم ألم تكونوا مستضعفين «فِي الأرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ»(3) فنصركم وأيدكم فلما نصركم استكبرتم وتجبرتم،
ص: 342
.............................
فيا ويلكم من ذل يوم القيامة كيف يهينكم ويصغركم، ويا ويلكم يا علماء السوء إنكم لتعملون عمل الملحدين وتأملون أمل الوارثين وتطمئنونبطمأنينة الآمنين وليس أمر الله على ما تتمنون وتتخيرون، بل للموت تتوالدون وللخراب تبنون وتعمرون وللوارثين تمهدون»(1).
وفي البحار: «ويلكم علماء السوء الأجرة تأخذون والعمل لا تصنعون، يوشك رب العمل أن يطلب عمله وتوشكوا أن تخرجوا من الدنيا إلى ظلمة القبر، كيف يكون من أهل العلم من مصيره إلى آخرته وهو مقبل على دنياه وما يضره أشهى إليه مما ينفعه»(2).
مسائل: من الواجب تأهيل الناس والتجمعات وإعدادهم نفسياً وإزالة حاجز الخوف وإعادة الثقة إلى أنفسهم بمقدرتهم على النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، وهذا هو ما صنعته الصديقة الطاهرة (علیها السلام) ..
إذ قد يكون وجه الحكمة في تطرقها (علیها السلام) إلى مصاديق قدرة الأنصار ومقوماتها وأركانها (ومنتدى ومجمع، وأنتم ذوو العدد والعدة...) هو إلفاتهم إلى ما قد غفلوا عنه(جميعاً أو بعضاً) من المقدرة على التصدي للظالم، ولإزالة الرهبة والرعب من قلوبهم، فإن الناس والجماعات عادة تتخاذل عن نصرة الحق لأسباب منها الخوف الكاذب والانهزامية، وضعف الثقة بالذات والقدرات
ص: 343
.............................
وهذا من أكبر الدروس التي علينا تعلمها منها (علیها السلام).
وفي الشعر المنسوب إلى أمير المؤمنين (علیه السلام):
دواؤك فيك وما تشعر *** وداؤك منك وما تنظر
وتحسب أنك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر
وأنت الكتاب المبين الذي *** بأحرفه يظهر المضمر(1)
وعن الحسن بن علي (علیه السلام) أنه دعا بنيه وبني أخيه فقال: «إنكم صغار قوم ويوشك أن تكونوا كبار قوم آخرين فتعلموا العلم فمن لم يستطع منكم أن يحفظه فليكتبه وليضعه في بيته»(2).
وقال العلامة (قدس سره) في الألفين: «أنواع الشجاعة ثمانية:الأول: كبر النفس وهو الاستهانة باليسار والاقتصار على حمل الكرامة والهوان وتنزيه النفس عن الدناءات.
الثاني: النجدة وهو ثقة النفس عند المخاوف بحيث لا يخامرها جزع.
الثالث: عظم الهمة وهي فضيلة للنفس بها يحتمل سعادة الجسد وضدها حتى الشدائد التي تعرض عند الموت.
الرابع: الصبر وهي فضيلة بها تقوى النفس على احتمال الآلام ومقاومتها على الأهوال، والفرق بينه وبين الصبر الذي في العفة أن هذا يكون على الأمور
ص: 344
.............................
الهائلة وذلك على الشهوات الهائجة.
الخامس: الحلم وهو فضيلة للنفس تكسبها الطمأنينة فلا تكن سبعية ولايحركها الغضب بسهولة وسرعة.
السادس: السكون وهو قوة للنفس تعسر حركتها عند الخصومات وفي الحروب التي يذب بها عن الحرائم أو عن الشريعة لشدتها.
السابع: الشهامة وهو الحرص على الأعمال العظام للأحدوثة الجميلة.
الثامن: الاحتمال وهو قوة للنفس تستعمل آلات البدن في الأمور الحسيةبالتمرين وحسن العادة»(1).
وهذا لا ينافي ما ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام) من قوله: «الثقة بالنفس من أوثق فرص الشيطان»(2).
لأن المراد به ما قاله (علیه السلام) في حديث آخر: «لا ترخصوا لأنفسكم فتذهب بكم الرخص مذاهب الظلمة»(3). وما أشبه، أي ترك النفس وعدم محاسبتها.
قال (علیه السلام): «حاسبوا أنفسكم تأمنوا من الله الرهب و تدركوا عنده الرغب»(4).
وقال (علیه السلام): «قيدوا أنفسكم بالمحاسبة و أملكوها بالمخالفة»(5).
ص: 345
.............................
هذا وقد يكون كلامها (صلوات الله عليها) (1) لتكون الحجة عليهم أبلغ وأتم، ولا يمتنع الجمع(2).
وغير خفي أن هذا المقطع من كلامها (علیها السلام) إشارة إلى مصاديق مقومات الدفاع عن المظلوم.
والحاصل أنه كلما تمكن الإنسان من الدفاع عن المظلوم وجب عليه الدفاع، ومن مصاديق ذلك: أن تبلغهم الحجة ولهم العدد والعدة، إلى آخر ما تقدم.
ثم إن بيان مقومات الدفاع بين واجب ومستحب - كل في مورده - كما إذا كان الإنسان غافلاً عن ذلك أو غير واعٍ أو ما أشبه، وربما كان البيان للتأكيد ونحوه.
مسألة: كما تستكشف السنن الكونية والاجتماعية من آيات الذكر الحكيم التي تتطرق إلى ذكر المصاديق فتعتبر مرآة للكلي، كذلك يمكن استكشاف كلياتالسنن الاجتماعية والكونية من كلماتها (علیها السلام) وكلمات سائر المعصومين (علیهم السلام).
والمقام من هذا القبيل، فإن المقياس ليس فقط كون الطرف ذا عدد وعدة وأداة وقوة وسلاح وجُنة، كما كانت الأنصار في هذه القضية.
قال تعالى في قصة يوم حنين: «إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ
ص: 346
.............................
شَيْئاً»(1).
نعم كونهم كذلك مسوغ لتقريعهم بعدم النصرة، فهم عاصون بعدمها من جهته.
كما إن اللازم - من جهة أخرى - أن لا يغتر المرء بها ويخدع، فإن العبرة بقوة الروح ومضاء العزيمة وليس بالكثرة والقوة والبأس إذ «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ»(2).
كما إن التاريخ المشرق والتجارب الماضية لا تصلح ملاكاً نهائياً، فإنها من المقتضيات وليست علة تامة، ولذلك كانوا كما قالت (علیها السلام):«وأنتم موصوفون بالكفاح...» كما سيأتي.
ومن هنا ورد التأكيد على حسن العاقبة والتحذير عن سوئها.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لا يزال المؤمن خائفا من سوء العاقبة، لا يتيقن الوصول إلى رضوان الله حتى يكون وقت نزع روحه وظهور ملك الموت له»(3).
وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «خير الأمور خيرها عاقبة»(4).
وعن جعفر بن محمد (علیه السلام) عن أبيه (علیه السلام) أن عليا (علیه السلام) قال: «إن حقيقة
ص: 347
.............................
السعادة أن يختم للمرء عمله بالسعادة، وإن حقيقة الشقاء أن يختمللمرء عمله بالشقاء»(1).
وقال (علیه السلام): «لكل امرئ عاقبة حلوة أو مرة»(2).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «خير الأمور أعجلها عائدة، وأحمدها عاقبة»(3).
وعن أحمد بن سهل قال: سمعت أبا فروة الأنصاري وكان من السائحين يقول: قال عيسى بن مريم (علیه السلام):
«يا معشر الحواريين بحق أقول لكم إن الناس يقولون إن البناء بأساسه، وأنا لا أقول لكم كذلك».
قالوا: فما ذا تقول يا روح الله؟
قال (علیه السلام): «بحق أقول لكم إن آخر حجر يضعه العامل هو الأساس».
قال أبو فروة: إنما أراد خاتمة الأمر(4).
وفي الدعاء: «اللهم صل على محمدوآل محمد واجعلني معهم في الدنيا والآخرة واجعل عاقبة أمري إلى غفرانك ورحمتك يا أرحم الراحمين»(5).
ص: 348
.............................
مسألة: يجوز إشهار السلاح بوجه الحاكم الجائر دفاعاً عن المظلومين والمضطهدين بشروط الجهاد المذكورة في بابه(1).
ويجوز استخدامه أيضاً من باب النهي عن المنكر لو لم يرتدع الحاكم إلا به(2)، فإذا لم ينفع النهي بالقول وشبهه فإن نصرة المظلوم واجبة بأية كيفية مشروعة.
هذا كله مع مراعاة قاعدة الأهم والمهم التي قد تقتضي أحياناً عدم النصرة بالشكل الخاص، كما لو كان استخدام السلاح يستلزم مفسدة أعظم، كما نرى ذلك في مثل هذه الأزمنة في العلاقة بين الدول وشعوبها، فاللازم النهي عبر الضغوط الدبلوماسية والإعلام والمسيرات السلمية وشبهها، لا بالطرقالعنفية كما فصلناه في محله(3).
قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «لا عاقبة أسلم من عواقب السلم»(4).
وقال (علیه السلام): «إياك والعنف»(5).
ص: 349
.............................
وقال (علیه السلام): «أما علمتم أن إمارة بني أمية كانت بالسيف والعنف والجور، وأن إمامتنا بالرفق والتألف والوقار والتقية وحسن الخلطة والورع والاجتهاد، فرغبوا الناس في دينكم وما أنتم فيه»(1).
وقال علي (علیه السلام): «رأس السخف العنف»(2).
وقال (علیه السلام): «راكب العنفيتعذر عليه مطلبه»(3).
وقال (علیه السلام): «من ركب العنف ندم»(4).
وفي الحديث: «إن الله يسير ويحب اليسير ويعطي على اليسير ما لا يعطي على العنف»(5).
وقالوا: المؤمن إذا وعظ لم يعنف وإذا وعظ لم يأنف(6).
ومن هنا كانت سياسة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكذلك أمير المؤمنين (علیه السلام) على اللين والسلم واللاعنف، على عكس من غصب الخلافة فكانت سياستهم العنف والظلم، قال ابن عباس: «بعث أبو بكر عمر بن الخطاب إلى علي (علیه السلام) حين قعد عن بيعته وقال ائتني به بأعنف العنف!»(7).
ص: 350
.............................
وورد في قصة أبي ذر أنه: «كتب عثمان إلى معاوية أن احمل أباذر على ناب صعبة وقتب، ثم ابعث معه من ينجش به نجشا عنيفا حتى يقدم به عليّ، قال: فحمله معاوية على ناقة صعبة عليها قتب ما على القتب إلا مسح، ثم بعث معه من يسيره سيرا عنيفا.
قال: وخرجت معه فما لبث الشيخ إلا قليلا حتى سقط ما يلي القتب من لحم فخذيه وقرح، فكنا إذا كان الليل أخذت ملائي فألقيتهما تحته، فإذا كان السحر نزعتها مخافة أن يروني فيمنعوني من ذلك»(1).
مسألة: إذا اقتضى الأمر فإنه تجوز بل تجب الاستفادة من السلاح بالشروط المذكورة، في نصرة الزهراء (علیها السلام) وأهل البيت (علیهم السلام) والدفاع عنهم (صلوات الله عليهم أجمعين) على امتداد الأزمنة.
بل وكذلك في نصرة غيرهم من المظلومين على ما تقدم.
ولذلك لم يستخدموا السلاح حيث كان مزاحما بالأهم كما لم تتوفر الشرائط في غالب المعصومين (علیهم السلام).وبشكل كلي فإن استعمال السلاح يلزم فيه توفر شرائط الاستعمال من مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الجهاد في سبيل الله أو ما أشبه ذلك مما ذكر في كتابيهما (2).
ص: 351
.............................
عن أبي جعفر (علیه السلام) في حديث قال: «فأنكروا بقلوبكم والفظوا بألسنتكم وصكوا بها جباههم ولا تخافوا في الله لومة لائم، فإن اتعظوا وإلى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم، هنالك فجاهدوهم بأبدانكم وأبغضوهم بقلوبكم غير طالبين سلطانا ولا باغين مالا ولا مريدين بالظلم ظفرا حتى يفيئوا إلى أمر الله ويمضوا على طاعته»(1).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «من ترك إنكار المنكر بقلبه ولسانهويده فهو ميت بين الأحياء»(2).
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه قال: إني سمعت عليا (علیه السلام) يقول يوم لقينا أهل الشام: «أيها المؤمنون إنه من رأى عدوانا يعمل به ومنكرا يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكره بلسانه فقد أجر وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى وقام على الطريق ونور في قلبه اليقين»(3).
وقال الشريف الرضي (رحمة الله): وقد قال (علیه السلام) في كلام له يجري هذا المجرى: «فمنهم المنكر للمنكر بقلبه ولسانه ويده فذلك المستكمل لخصال الخير، ومنهم المنكر بلسانه وقلبه التارك بيده فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير
ص: 352
.............................
ومضيع خصلة، ومنهم المنكر بقلبه والتارك بيده ولسانه فذلك الذي ضيع أشرف الخصلتين من الثلاث وتمسكبواحدة، ومنهم تارك لإنكار المنكر بلسانه وقلبه ويده فذلك ميت الأحياء، وما أعمال البر كلها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا كنفثة في بحر لجي وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقربان من أجل ولا ينقصان من رزق وأفضل من ذلك كلمة عدل عند إمام جائر»(1).
وعن أبي جحيفة قال: سمعت أمير المؤمنين (علیه السلام) يقول: «إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم ثم بألسنتكم ثم بقلوبكم، فمن لم يعرف بقلبه معروفا ولم ينكر منكرا قلب فجعل أعلاه أسفله»(2).
وقال الإمام الحسن بن علي العسكري (علیه السلام) في تفسيره عن آبائه (علیهم السلام) عن النبي (صلی الله علیه و آله) في حديث: «لقد أوحى الله إلى جبرئيل وأمره أن يخسف ببلد يشتمل على الكفار والفجار، فقال جبرئيل: يا رب أخسف بهم إلا بفلان الزاهد ليعرف ما ذا يأمره الله فيه، فقال: اخسف بفلان قبلهم، فسأل ربه، فقال: يا رب عرفني لم ذلك وهو زاهد عابد؟ قال: مكنت لهوأقدرته فهو لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر وكان يتوفر على حبهم في غضبي، فقالوا: يا رسول الله فكيف بنا ونحن لا نقدر على إنكار ما نشاهده من منكر؟ فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليعمنكم عذاب الله، ثم قال: من رأى منكم منكرا فلينكر بيده إن استطاع فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع
ص: 353
.............................
فبقلبه فحسبه أن يعلم الله من قلبه أنه لذلك كاره»(1).
قولها (علیها السلام): «وأنتم ذوو العدد والعدة..» فأعدادكم كثيرة ولستم قليلين، وعدتكم للحرب مهيأة ولستم بدون عدة واستعداد، وأمثال هذا التعبير أعم مما كان بالذات وما كان بالقياس إلى الغير كما هو واضح، وربما قيل بأخذ النسبة في المفهوم(2) فتأمل.قولها (علیها السلام): «والأداة والقوة..» أي عندكم أداة الدفاع وفي أبدانكم القوة الكافية لنصرة المظلوم.
قولها (علیها السلام): «وعندكم السلاح والجنة»، السلاح: ما يحارب به كالسيف والرمح وما أشبه، والجنة: الوقاية أي ما يحافظ به الإنسان على نفسه أمام سلاح العدو.
ص: 354
-------------------------------------------
مسألة: عدم إجابة دعوة المظلوم حرام.
وذلك فيما إذا كانت الإجابة واجبة، إذ قد لا تجب، كما لو ظُلم شخص بقدر درهم فإنه لا يجب على كل إنسان أن ينقذ درهمه من الظالم، على ما ذكره جمع من الفقهاء، وإن كان قد يختلف حال الشخص المظلوم بالنسبة إلى الدرهم، فقد يجب، وقد لا يجب.
وعلى أي فليس الأمر على إطلاقه، فمن الموارد ما هو منصرف، نعم في ما نحن فيه تجب الدعوة وإجابتها كما هو واضح.
قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «أحسن العدل نصرة المظلوم»(1).
وعن البراء بن عازب قال: «نهى رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن سبع، وأمر بسبع، نهانا أن نتختم بالذهب، وعن الشرب في آنية الذهب والفضة،وقال: من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة، وعن ركوب المياثر، وعن لبس القسي، وعن لبس الحرير والديباج والإستبرق، وأمرنا (صلی الله علیه و آله) باتباع الجنائز، وعيادة المريض، وتسميت العاطس، ونصرة المظلوم، وإفشاء السلام، وإجابة الداعي، وإبرار القسم»(2).
ص: 355
.............................
وقد ورد في أسماء يوم التاسع من ربيع الأول المبارك: «ويوم نصرة المظلوم»(1).
وعن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لرجل أتاه: «ألا أدلك على أمر يدخلك الله به الجنة».
قال: بلى يا رسول الله.
قال: «أنل مما أنالك الله».
قال: فإن كنت أحوج ممن أنيله؟
قال: «فانصر المظلوم».
قال: وإن كنت أضعف ممن أنصره؟
قال: «فاصنع للأخرق، يعني أشرعليه».
قال: فإن كنت أخرق ممن أصنع له؟
قال: «فأصمت لسانك إلا من خير، أما يسرك أن تكون فيك خصلة من هذه الخصال تجرك إلى الجنة»(2).
وورد في صفات المؤمن عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «المؤمن له قوة في دين وحزم في لين وإيمان في يقين» إلى أن قال: «ينصر المظلوم ويرحم المسكين»(3).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إياكم ودعوة المظلوم فإنها ترفع فوق السحاب حتى ينظر الله عزوجل إليها فيقول ارفعوها حتى أستجيب له وإياكم ودعوة
ص: 356
.............................
الوالد فإنها أحد من السيف»(1).
وعن سماعة عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «كان أبي يقول: اتقوا الظلم فإن دعوة المظلوم تصعد إلى السماء»(2).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أربعة لا ترد لهم دعوة حتى تفتح لهم أبواب السماء وتصير إلى العرش، الوالد لولده والمظلوم على من ظلمه والمعتمر حتى يرجع والصائم حتى يفطر»(3).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن دعوة المسلم المظلوم مستجابة وليعن بعضكم بعضا»(4).
وفي الحديث القدسي أوحاه الله إلى عيسى بن مريم: «وإياك ودعوة المظلوم فإني آليت على نفسي أن أفتح لها بابا من السماء بالقبول وأن أجيبه ولو بعد حين»(5).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام):«أنفذ السهام دعوة المظلوم»(6).
وقال (علیه السلام): «إن دعوة المظلوم مجابة عند الله سبحانه لأنه يطلب حقه والله تعالى أعدل من أن يمنع ذا حق حقه»(7).
ص: 357
.............................
وقال (علیه السلام): «من لم ينصف المظلوم من الظالم عظمت آثامه»(1).
وقال (علیه السلام): «اتقوا دعوة المظلوم فإنه يسأل الله حقه والله سبحانه أكرم من أن يُسأل حقا إلا أجاب»(2).
وقال (علیه السلام): «ما أقرب النصرة من المظلوم»(3).
مسألة: يحرم عدم إجابة دعوة السيدة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) وكذلك سائر المعصومين (علیهم السلام)، وحرمة عدم إجابة دعوتهم واستنصارهم مغلّظة من جهات:
منها: إن الظلم الواقع بحقهم كبير في جميع مراتبه، ولو فرض كونه ضئيلاً في مصداق فرضاً فإنه كبير أيضاً، إذ الظلم يزداد قبحاً ويشتد حرمة كلما ازداد المظلوم عظمة ومكانة ومنزلة، فضرب زيد مثلاً حرام وضرب عالم وولي من أولياء الله أشد حرمة، وضرب الصديقة الطاهرة (علیها السلام) من أعظم المحرمات وأشد المنكرات التي يهتز لها الكون وتضطرب لها السماوات والأرضين.
ومنها: إنهم (علیهم السلام) أولوا الأمر الذين أمر الله الناس بطاعتهم ونهى عن مخالفتهم، فعدم تلبية استغاثتهم محرمة من هذه الجهة أيضاً، ولا مجال لتوهم
ص: 358
.............................
الطريقية المحضة أبداً (1).
ومنها: إنهم (علیهم السلام) أولياء النعم ووسائط الفيض، وشكر المنعم واجب، والإغاثة من مصاديقه، ففرق بينهم وبين غيرهم، وإن كان الكلي صادقاً بالنسبة إلى المصداقين، والحاصل إن فيهم أموراً، منها:
المظلومية - بمراتبها - والولاية والشكر، بينما في غيرهم أمر واحد وهو المظلومية.
وقد ورد في زياراتهم (صلوات الله عليهم):
«يا ساداتي بكم يمسك الله السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وبكم ينزل الغيث ويكشف الكرب ويغني المعدم ويشفي السقيم»(2).
و«من أراد الله بدأ بكم، وبكم يبين الله الكذب، وبكم يباعد الله الزمان الكلب، وبكم فتح الله وبكم يختم، وبكم يمحو ما يشاء وبكم يثبت، وبكم يفك الذل من رقابنا، وبكم يدرك الله ترة كل مؤمن تطلب، وبكم تنبت الأرض أشجارها، وبكمتخرج الأشجار أثمارها، وبكم تنزل السماء قطرها ورزقها، وبكم يكشف الله الكرب، وبكم ينزل الله الغيث، وبكم تسبح الأرض التي تحمل أبدانكم، وتستقل جبالها على مراسيها»(3).
ص: 359
.............................
و«بكم ينفس الهم، وبكم يكشف الكرب، وبكم يباعد نائبات الزمان الكلب، وبكم فتح الله، وبكم يختم، وبكم ينزل الغيث، وبكم ينزل الرحمة، وبكم يمسك الأرض أن تسيخ بأهلها، وبكم يثبت الله جبالها على مراسيها»(1).
وفي زيارة الجامعة: «بكم فتح الله، وبكم يختم، وبكم ينزل الغيث، وبكم «يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ»(2)، وبكم ينفس الهم وبكم يكشف الضر»(3).
وأمير المؤمنين علي (علیه السلام) قال: «قلت: يا رسول الله (صلی الله علیه وآله) أمنا آل محمد المهدي أم من غيرنا؟ فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لا بل منا، يختم الله به الدين كما فتح بنا، وبنا ينقذون من الفتن كما أنقذوا من الشرك، وبنا يؤلف الله بين قلوبهم بعد عداوة الفتنة إخوانا، كما ألف بينهم بعد عداوة الشرك إخوانا في دينهم»(4).
قولها (علیها السلام): «توافيكم الدعوة فلا تجيبون» بمعنى أن الدعوة تصلكم فهي من الموافاة.
ص: 360
-------------------------------------------
مسألة: يحرم عدم إغاثة المظلوم.
ولا يخفى أن الإغاثة أخص من الإجابة، إذ ربما يدعوه ويطلبه لأجل أن يكون شوكة له في مقابل الظالم فيكون إجابة وليس بإغاثة، وربما غرق في البحر فيطلبه فيكون إغاثة، ولذا ذكرتهما الزهراء (عليها الصلاة والسلام) معاً فتكون الأولى(1) في قبال الإغاثة.
عن أبي عبد الله (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «كل معروف صدقة، والدال على الخير كفاعله، والله عزوجل يحب إغاثة اللهفان»(2).
وقال (علیه السلام) في حديث: «الذنوب التي تنزل البلاء ترك إغاثة الملهوف، وترك معاونة المظلوم، وتضييع الأمر بالمعروف والنهي عنالمنكر»(3).
وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: «من كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب»(4).
ص: 361
.............................
وعلي (علیه السلام) عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «من أغاث لهفانا من المؤمنين أغاثه الله يوم لا ظل إلا ظله وآمنه يوم الفزع الأكبر وآمنه من سوء المنقلب، ومن قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى الله له حوائج كثيرة من إحداها الجنة، ومن كسا أخاه المؤمن من عري كساه الله من سندس الجنة وإستبرقها وحريرها ولم يزل يخوض في رضوان الله ما دام على المكسو منها سلك، ومن أطعم أخاه من جوع أطعمه الله من طيبات الجنة، ومن سقاه من ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم ريه، ومن أخدم أخاه أخدمه الله من الولدان المخلدين وأسكنه مع أوليائه الطاهرين، ومن حمل أخاه المؤمن رجلة حمله الله على ناقة من نوقالجنة وباهى به على الملائكة المقربين يوم القيامة، ومن زوج أخاه المؤمن امرأة يأنس بها وتشد عضده ويستريح إليها زوجه الله من الحور العين وآنسه بمن أحب من الصديقين من أهل بيته وإخوانه وآنسهم به، ومن أعان أخاه المؤمن على سلطان جائر أعانه الله على إجازة الصراط عند زلزلة الأقدام، ومن زار أخاه المؤمن إلى منزله لا لحاجة منه إليه كتب من زوار الله وكان حقيقا على الله أن يكرم زائره»(1).
وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «إن الله يحب إراقة الدماء وإطعام الطعام وإغاثة اللهفان»(2).
وقال (علیه السلام): «زكاة السلطان إغاثة الملهوف»(3).
ص: 362
.............................
وقال (علیه السلام): «ما من رجل رأى ملهوفا في طريق بمركوب له قد سقط وهو يستغيث ولا يغاث فأعانه وحملهعلى مركوبه إلا قال الله عزوجل كددت نفسك وبذلت جهدك في إغاثة أخيك هذا المؤمن لأكدن ملائكة هم أكثر عددا من خلائق الإنس كلهم من أول الدهر إلى آخره، وأعظم قوة كل واحد منهم ممن يسهل عليه حمل السماوات والأرضين ليبنوا لك القصور والمساكن ويرفعوا لك الدرجات فإذا أنت في جناتي كأحد ملوكها الفاضلين»(1).
وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال: «ما حصل الأجر بمثل إغاثة الملهوف»(2).
وقال (علیه السلام): «من أفضل المعروف إغاثة الملهوف»(3).
وفي حديث آخر: «أفضل المعروف إغاثة الملهوف»(4).
وقال (علیه السلام): «فعل المعروف وإغاثة الملهوف وإقراء الضيوف آلةالسيادة»(5). وقال (علیه السلام): «من كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف»(6).
وقال (علیه السلام): «ما حصل الأجر بمثل إغاثة الملهوف»(7).
وقال (علیه السلام): «إن الله تعالى يحب إغاثة اللهفان»(8).
ص: 363
.............................
مسألة: من المحرمات الكبيرة عدم إغاثة الصديقة الطاهرة (سلام الله عليها) وكذلك سائر المعصومين (علیهم السلام).
وقد ورد أنه لما فجع الإمام الحسين (علیه السلام) بأهل بيته وولده ولم يبق غيره وغير النساء والذراري نادى: «هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟ هل من موحد يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله بإغاثتنا؟» فارتفعت أصوات النساء بالعويل»(1).
ويأتي هنا ما ذكرناه في المسألة السابقة وقد ذكرنا أن في المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) تجتمع الولاية ووجوب إغاثة المظلوم ووجوب شكر المنعم.
قولها (علیها السلام): «وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون» أي: أني أصرخ بكم في رد ظلامتي لكنكم لا تغيثوني وهذا من أشد الكبائر.
ومنه يعرف أنها (علیها السلام) لمتكتف بمجرد الدعوة والطلب، بل أوصلت الأمر إلى أعلى درجات الاستنجاد وهو الصراخ بالقوم وذلك «ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم»(2).
قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «لا ينتصر المظلوم بلا ناصر»(3).
ص: 364
.............................
وقال (علیه السلام): «من لم ينصف المظلوم من الظالم سلبه الله قدرته»(1).
وقال (علیه السلام): «أحسن العدل نصرة المظلوم»(2).
مسألة: الظاهر من استخدامها (علیها السلام) المضارع في الجملتين: الاستمرارية في الدعوة والاستنجاد، واستمرارهم في عدم الإجابة والإغاثة.وهذا يؤكد على مسؤولية الأجيال جيلاً بعد جيل.
عن الصادق جعفر بن محمد (علیه السلام) قال: «من جالس لنا عائبا أو مدح لنا قاليا أو وصل لنا قاطعا أو قطع لنا واصلا أو والى لنا عدوا أو عادى لنا وليا فقد كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم»(3).
وقد ورد في إكمال الدين عن الشيخ (قدس الله روحه) أنه أمر أن يدعو بهذا الدعاء في غيبة القائم (علیه السلام)، وفيه:
«اللهم ولا تجعلني من خصماء آل محمد، ولا تجعلني من أعداء آل محمد، ولا تجعلني من أهل الحنق والغيظ على آل محمد، فإني أعوذ بك من ذلك فأعذني وأستجير بك فأجرني، اللهم صل على محمد وآل محمد واجعلني بهم فائزا عندك في الدنيا والآخرة ومن المقربين»(4).
ص: 365
.............................
وفي تفسير القمي: إن الله عزوجل ذكر الذين تولوا أمير المؤمنين (علیهالسلام) وتبرءوا من أعدائه فقال:«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ»(1) ثم ذكر أعداء آل محمد : «وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ * تَرْهَقُها قَتَرَةٌ»(2) أي فقر من الخير والثواب «أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ»»(3).
وفي تفسير الإمام العسكري (علیه السلام): «ألا وإن الراضين بقتل الحسين (علیه السلام) شركاء قتله، ألا وإن قتلته وأعوانهم وأشياعهم والمقتدين بهم برآء من دين الله، وإن الله ليأمر ملائكته المقربين أن يتلقوا دموعهم المصبوبة لقتل الحسين (علیه السلام) إلى الخزان في الجنان فيمزجونها بماء الحيوان فتزيد عذوبتها، ويلقونها في الهاوية ويمزجونها بحميمها وصديدها وغساقها وغسلينها فتزيد في شدة حرارتها وعظيم عذابها ألف ضعفها تشدد على المنقولين إليها من أعداء آل محمد عذابهم»(4).
وفي التفسير: «أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ»(5) قال: أصحاب أمير المؤمنين (علیهالسلام) «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا» قال: الذين خالفوا أمير المؤمنين (علیه السلام) «هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ»(6) قال: المشأمة أعداء آل محمد (علیهم السلام) «عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ»(7) أي مطبقة»(8).
ص: 366
-------------------------------------------
مسألة: يستحب بيان فضائل الآخرين ومحاسن أخلاقهم كما قالت (علیها السلام): «وأنتم موصوفون..» الخ.
فإنه داخل في روايات مدح المؤمن، ومصداق لقوله سبحانه: «وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ»(1)، وإن كانت سلباً إلا أنها عرفاً تشمل الإيجاب أيضاً، هذا مضافاً إلى أنه نوع تحريض وحث على النصرة كما سيأتي.
قال تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أخرجت للناس تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ»(2).
وفي نهج البلاغة قال (علیه السلام) في مدح الأنصار: «هم والله ربّوا الإسلام كما يربّى الفلو مع غنائهم بأيديهم السياط وألسنتهم السلاط»(3).
وروي في الديوان أبياته (علیهالسلام) في مدح همدان:
جزى الله همدان الجنان فإنهم *** سمام العدى في كل يوم خصام
لهمدان أخلاق ودين يزينهم *** ولين إذا لاقوا وحسن كلام
متى تأتهم في دارهم لضيافة *** تبت عندهم في غبطة وطعام
ص: 367
.............................
ألا إن همدان الكرام أعزّة *** كما عزّ ركن البيت عند مقام
أناس يحبون النبي و رهطه *** سراع إلى الهيجاء غير كهام
إذا كنت بوابا على باب جنة *** أقول لهمدان ادخلوا بسلام (1)
ومنه في مدح أصحابه (علیه السلام):
قومي إذا اشتبك القنا *** جعلوا الصدور لها مسالك
اللاّبسون دروعهم *** فوق القلوب لأجل ذلك (2)
مسألة: يستحب للمظلوم أن يذكر فضائل من يستنصره حثاً له على النصرة، فإنه ادعى لاثارة الحميّة والغيرة، والشهامة والمروءة فيه.
وهذا أيضاً من مصاديق ما تقدم، كما سبق أشباهه في بندين من بنود هذاالمبحث.
ومنها ما ورد من مدح الأصحاب في الحرب، كما مدح أمير المؤمنين (علیه السلام) أصحابه في حرب صفين فقال:
يا أيّها السّائل عن أصحابي *** إن كنت تبغي خبر الصواب
أنبئك عنهم غير ما تكذاب *** بأنّهم أوعية الكتاب
ص: 368
.............................
صبر لدى الهيجاء و الضراب *** فسل بذاك معشر الأحزاب (1)
وقال (علیه السلام) في مدح قبائل من عسكره:
الأزد سيفي على الأعداء كلّهم *** وسيف أحمد من دانت له العرب
قوم إذا فاجئوا أوفوا وإن غلبوا *** لا يحجمون ولا يدرون ما الهرب
قوم لبوسهم في كلّ معترك *** بيض رقاق وداودية سلب
البيض فوق رؤوس تحتها اليلب *** وفي الأنامل سمر الخطّ والقضب
البيض تضحك والآجال تنتحب *** والسمر ترعف والأرواح تنتهب
وأي يوم من الأيّام ليس لهم *** فيه من الفعل ما من دونه العجب
الأزد أزيد من يمشي على قدم *** فضلا وأعلاهم قدرا إذا ركبوا
والأوس والخزرج القوم الذين هم *** آووا فأعطوا فوق ما وهبوا
يا معشر الأزد أنتم معشر أنف *** لا يضعفون إذا ما اشتدّت الحقب
وفيتم ووفاء العهد شيمتكم *** ولم يخالط قديما صدقكم كذب
إذا غضبتم يهاب الخلق سطوتكم *** وقد يهون عليكم منهم الغضب
يا معشر الأزد إنّي من جميعكم *** راض وأنتم رؤوس الأمر لا الذنب
لن تيأس الأزد من روح ومغفرة *** واللّه يكلؤكم من حيث ما ذهبوا
طبتم حديثا كما قد طاب أوّلكم *** والشوك لا يجتنى من فرعه العنب
ص: 369
.............................
والأزد جرثومة إن سوبقوا سبقوا *** أو فوخروا فخروا أو غولبوا غلبوا
أو كوثروا كثروا أو صوبروا صبروا *** أو سوهموا سهموا أو سولبوا سلبوا
صفوا فأصفاهم المولى ولايته *** فلم يشب صفوهم لهو ولا لعب
هينون لينون خلقا في مجالسهم *** لا الجهل يعروهم فيها والصخب
الغيث إمّا رضوا من دون نائلهم *** والأسد ترهبهم يوما إذا غضبوا
أندى الأنام أكفا حين تسألهم *** وأربط الناس جأشا إن هم ندبوا
وأيّ جمع كثير لا تفرقه *** إذا تدانت لهم غسّان والندب
فاللّه يجزيهم عمّا أتوا وحبوا *** به الرسول وما من صالح كسبوا (1)
وقال الإمام الحسين (علیه السلام) ليلة عاشوراء: «أما بعد فإني لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي، ولاأهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني خيرا»(2).
ص: 370
.............................
مسألة: ينبغي الدقة في التعبير، فهناك فرق بين (الموصوف) وبين (المتّصف) والصديقة (علیها السلام) قد عبرت بموصوفون بالكفاح لا متصفون بالكفاح.
فإن الموصوف بالشيء أعم من المتصف به كما لا يخفى.
عن أبي بصير قال سمعت أبا جعفر (علیه السلام) يقول: «كان أبوذر رحمه الله يقول: يا مبتغي العلم إن هذا اللسان مفتاح خير ومفتاح شر، فاختم على لسانك كما تختم على ذهبك وورقك»(1).
وجاء رجل إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله أوصني، فقال: «احفظ لسانك».
قال: يا رسول الله أوصني.
قال: «احفظ لسانك».
قال: يا رسول الله أوصني.قال: «احفظ لسانك ويحك وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم»(2).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «المرء مخبوء تحت لسانه»(3).
ص: 371
.............................
وقال (علیه السلام): «دليل عقل الرجل قوله»(1).
وقال (علیه السلام): «يستدل على عقل كل امرئ بما يجري على لسانه»(2).
وقال (علیه السلام): «جميل القول دليل وفور العقل»(3).
وقال (علیه السلام): «عود لسانكحسن الكلام تأمن الملام»(4).
وقال (علیه السلام): «التروي في القول يؤمن الزلل»(5).
وقال (علیه السلام): «التثبت في القول يؤمن العثار والزلل»(6).
وقال (علیه السلام): «من تفقد مقاله قل غلطه»(7).
وقال (علیه السلام): «الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به فإذا تكلمت به صرت في وثاقه»(8).
وقال (علیه السلام): «اللسان سبع إن خليّ عنه عقر»(9).
وقال (علیه السلام): «احذروااللسان فإنه سهم يخطئ»(10).
ص: 372
.............................
وقال (علیه السلام): «ضبط اللسان ملك وإطلاقه هلك»(1).
وقال (علیه السلام): «زلة اللسان أنكى من إصابة السنان»(2).
وقال (علیه السلام): «زلة اللسان تأتي على الإنسان»(3).
وهكذا ينبغي الدقة في جميع الأمور، كل بحسبه.
حيث ورد أنه «وقف علي (علیه السلام) على خياط فقال: يا خياط ثكلتك الثواكل، صلب الخيوط ودقق الدروز وقارب الغرز، فإني سمعت رسول الله(صلی الله علیه و آله) يقول: يحشر الله الخياط الخائن وعليه قميص ورداء مما خاط وخان فيه، واحذروا السقاطات فإن صاحبالثوب أحق بها ولا تتخذ بها الأيادي تطلب المكافأة»(4).
مسألة: ظاهر جريان المشتق على ذات، اتصافها به في ظرف الإسناد.
وحيث إن الموصوف أعم من المتصف، لذلك فإن إطلاقها (علیها السلام) «موصوفون بالكفاح» عليهم بلحاظ الحال لا يقتضي صدق الكفاح عليهم بالفعل، فليدقق.
والتفصيل في الأصول (5).
ص: 373
.............................
مسألة: يستحب أن يكون الإنسان موصوفاً بالكفاح في سبيل الله، إضافة إلى استحباب أن يكون متصفاً به.
والكفاح هو المواجهة أي فعلية النزال والمبارزة، سواء بالحرب أم بغير الحرب، يقال: فلان يكافح الأمور، أي يباشرها بنفسه، والمكافحة:المضاربة والمدافعة تلقاء الوجه.
وقد يكون هذا واجباً بشروطه وحسب النتائج، فإن كانت النتيجة واجبة كان واجباً وإن كانت النتيجة مستحبة كان مستحباً.
قال النبي (صلی الله علیه و آله):«غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها»(1).
وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «للجنة باب يقال له: باب المجاهدين، يمضون إليه فإذا هو مفتوح وهم متقلدون بسيوفهم والجمع في الموقف والملائكة ترحب بهم، فمن ترك الجهاد ألبسه الله ذلا وفقرا في معيشة ومحقا في دينه، إن الله عزوجل أغنى أمتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها»(2).
وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعث سرية فلما رجعوا قال: مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس، وقال (صلی الله علیه و آله): أفضل الجهاد من
ص: 374
.............................
جاهد نفسه التي بين جنبيه»(1).
قولها (علیها السلام): «وأنتم موصوفون بالكفاح» الكفاح عبارة عن: المكافحة والمجالدة والمواجهة باستقبال العدو في الحرب أو غيرها، يقال: فلان يكافح الأمور بمعنى: يباشرها بنفسه، فالمعنى أنكم شجعان ومع ذلك لا تدافعون عني ولا تردون ظلامتي.
مسألة: الشهرة على قسمين:
1: قسم مبغوض.
وهو ما ورد فيه الذم وورد في عكسه وهو (الخمول) المدح.
قال أمير المؤمنين (علیه السلام) لكميل بن زياد: «تبدل ولا تشهر، ووار شخصك ولا تذكر، وتعلم واعمل، واسكت تسلم»(2).
وقال (علیه السلام): «إن في الخموللراحة»(3).
وعن الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) قال: «عزت السلامة حتى لقد خفي مطلبها، فإن يكن في شيء فيوشك أن يكون في الخمول، فإن طلبت في خمول فلم توجد فيوشك أن تكون في الصمت، فإن طلبت في الصمت فلم توجد فيوشك أن تكون في التخلي، فإن طلبت في التخلي فلم توجد فيوشك أن تكون
ص: 375
.............................
في كلام السلف الصالح، والسعيد من وجد في نفسه خلوة يشغل بها»(1).
وقال (علیه السلام): «لا يتم عقل امرئ مسلم حتى تكون فيه عشر خصال: الخير منه مأمول والشر منه مأمون، يستكثر قليل الخير من غيره ويستقل كثير الخير من نفسه، لا يسأم من طلب الحوائج إليه، ولا يمل من طلب العلم طول دهره، الفقر في الله أحب إليه من الغنى، والذل في الله أحب إليه من العز في عدوه، والخمول أشهى إليه منالشهرة» الحديث(2).
2: قسم محبوب.
وهو ما أشار إليه نبي الله الخليل (علیه السلام): «وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ» (3).
في كشف الغمة عن ابن مردويه في قوله تعالى: «وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ»(4) عن أبي عبد الله جعفر بن محمد (علیه السلام) قال: «هو علي بن أبي طالب (علیه السلام) عرضت ولايته على إبراهيم (علیه السلام) فقال: اللهم اجعله من ذريتي ففعل الله ذلك»(5).
وعلى هذا فإنه يستحب أن يكون الإنسان معروفاً بالخير والصلاح، وأن يسعى لذلك لا حباً للشهرة ورياءً وسمعة، بل ليكون أسوة للآخرين فإن ذلك
ص: 376
.............................
من طرق الهداية، والفارق: النية.
عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال:«ثلاثة لم يسأل الله عزوجل بمثلهم، أن تقول: اللهم فقهني في الدين وحببني إلى المسلمين واجعل لي لسان صدق في الآخرين»(1).
وفي التعقيب: «اللهم صل على محمد وآل محمد، وفقهني في الدين، وحببني إلى المسلمين، واجعل لي لسان صدق في الآخرين، وارزقني هيبة المتقين»(2).
وفي الدعاء: «اللهم حببني إلى جميع خلقك»(3).
وأيضاً: «يا من يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، أنت حكمت فلك الحمد محمودا مشكورا، فعجل يا مولاي فرجهم وفرجنا بهم، فإنك ضمنت إعزازهم بعد الذلة، وتكثيرهم بعد القلة، وإظهارهم بعد الخمول»(4).
وفي الزيارات: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي أَوْلِيَائِكَ»(5).وهناك فرق بين الخير والصلاح، لأن الإنسان قد يكون خيِّراً ولا يكون صالحاً لشيء ما، فالصلاح غير الخير، كما ربما يكون العكس، بأن يكون صالحاً ولا يكون خيّراً، وبعبارة أخرى المنصرف من الخير ما هو بالقياس إلى الغير،
ص: 377
.............................
ومن الصلاح ما هو بلحاظ الذات.
نعم الصلاح من جميع الحيثيّات يلازم الخيّريّة.
لا يقال: فإذا كان هؤلاء هكذا فلماذا تقاعسوا عن نصرة الزهراء (عليها الصلاة والسلام).
لأنه يقال: إنهم خافوا السيف، ومن المعلوم أن الحكومات الانقلابية والدكتاتورية والمستبدة ترعب الناس بالسلاح، ولم يكن هؤلاء استثناء من ذلك، فقد غلب الخوف - والطمع في بعضهم - طباعهم الأولية.
فمعنى كلامها (عليها الصلاة والسلام): الأمر في طبيعته الأولية وإن كان في طبيعته الثانوية قد عرض عليهم ما أدّى إلى خذلانهم وتقاعسهم عن النصرة.
أو يجاب: بأن معروفية الشخص بصفة غير اتصافه بها وكونه كذلك فعلاً، وكذلك الموصوفية غير الاتصاف كما سبق.
ص: 378
-------------------------------------------
مسألة: يستحب أن يسعى الإنسان ليكون من النخبة المنتخبة والخيرة المختارة.
والفرق بين الانتخاب والاختيار: أن الانتخاب أخذ الشيء الجيد، أما الاختيار فهو من: خار، وخار قد أشرب فيه معنى اليسر والسهولة، وليس هذا المعنى حاصلاً في النخبة المنتخبة.
أو يقال: الاختيار يتضمن معنى التفضيل(1) دون الانتخاب.
قولها (علیها السلام): «التي انتخبت.. التي اختيرت» إشارة لمقام الإثبات بعد مقام الثبوت، إذ أن النخبة قد تنتخب وقد لا تنتخب، كما أن الخيرة قد تختار وقد لاتختار، وبذلك ذكرت الزهراء (صلوات الله عليها) في كل منهما اللفظين، هذا إن لم نقل بأنها بهذا الانتخاب أضحت نخبة وبهذاالاختيار صارت خيرة لا انها كانت نخبة وخيرة فانتخبت واختيرت.
قولها (علیها السلام): «معروفون بالخير والصلاح»، أي لستم من الأشرار، بل تعرفون في المجتمع بأنكم خيرون وصالحون ومصلحون.
قولها (علیها السلام): «والنخبة التي انتخبت» أي: أنكم انتخبتم من قبل النبي (صلی الله علیه و آله) في الدفاع عنه وعن أهل بيته (علیهم السلام) وعن دينه.
ص: 379
.............................
والخيرة من القوم: المختار منهم، وقد يقال: إن الاختيار قبل الانتخاب.
يقال: اختاره فانتخبه، فكأن الاختيار للشأنية والانتخاب للفعلية، وإن كان يجوز أن يطلق كل واحد منهما على الآخر كالظرف والجار والمجرور في اصطلاح الأدباء.
ورسول الله (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الأطهار (علیهم السلام) هم خيرة الخلق.
في الزيارة: «السلام عليك يا محمدبن عبد الله، السلام عليك يا خيرة الله»(1).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من سره أن ينظر إلى القضيب الياقوت الأحمر الذي غرسه الله عزوجل بيده ويكون متمسكا به فليتول عليا والأئمة من ولده، فإنهم خيرة الله عزوجل وصفوته وهم المعصومون من كل ذنب وخطيئة»(2).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لما خلق الله الخلق اختار العرب فاختار قريشا واختار بني هاشم فأنا خيرة من خيرة»(3).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «نحن جنب الله ونحن صفوة الله ونحن خيرة الله»(4).
ص: 380
.............................
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أنت يا علي وولدك خيرة الله منخلقه»(1).
وعن الإمام جعفر بن محمد (علیه السلام) قال: «نحن خيرة الله من خلقه وشيعتنا خيرة الله من أمة نبيه»(2).
وقال ابن أبي قحافة للصديقة الطاهرة (علیها السلام): «لا يحبكم إلا العظيم السعادة، ولا يبغضكم إلا الرديء الولادة، أنتم عترة اللّه الطّيبون، وخيرة اللّه المنتجبون»(3).
ص: 381
-------------------------------------------
مسألة: لقتال المشركين شروط وآداب مذكورة في الفقه(1).
قال أمير المؤمنين علي (علیه السلام) خطابا للصديقة الطاهرة فاطمة (علیها السلام) عند توجّهه إلى قتال المشركين:
قرّبي ذا الفقار فاطم منّي *** فأخي السيف كلّ يوم هياج
قرّبي الصّارم الحسام فإنّي *** راكب في الرجال نحو الهياج
ورد اليوم ناصحا ينذر الناس *** جيوش كالبحر ذي الأمواج
وردوا مسرعين يبغون قتلي *** وأبيك المحبوّ بالمعراج
وخراب الأوطان وقتل الناس *** وكلّ إذا أصبح لاجي
سوف أرضي المليك بالضرب ما *** عشت إلى أن أنال ما أنا راج
من ظهور الإسلام أو يأتي الموت *** شهيدا من شاخب الأوداج (2)
لا يقال: لم ذكرت (علیها السلام) العرب فقط ولم تذكر الروم مع أنهم قاتلوا الروم أيضاً، في حرب (مؤتة)ونحوها؟
لأنه يقال: لأن أغلب حروبهم كانت في مواجهة العرب المشركين فهذا من باب التغليب.
ص: 382
.............................
أو يقال: حيث إن العرب كانوا مظهر الشجاعة والفروسية في ذلك اليوم، جاء ذكرهم، وإن كان المراد الأعم من ذلك، ومن هنا قال أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام): «والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت»(1).
وفي يوم عاشوراء قال عمرو بن سعد لقومه: (الويل لكم أتدرون لمن تقاتلون؟ هذا ابن الأنزع البطين، هذا ابن قتال العرب، فاحملوا عليه من كل جانب) (2).
وقد يقال: المراد بالعرب: الشجعان، كما سبق من قول علي (عليه الصلاة والسلام)، لا أن المراد في مقابل العجم، أي: إنكم كنتم بهذه المنزلة من الشجاعة فكيف تجبنون الآن.
ص: 383
-------------------------------------------
مسألة: حيث إن سياق كلامها (علیها السلام) سياق الثناء المدح لا سياق النقل التاريخي المجرد فيستفاد - على ذلك - من قولها: «وتحملتم الكد والتعب» رجحان بل استحباب أو وجوب تحمل الكد والتعب للإسلام، هذا لو لاحظنا مصب الحديث.
وإلا فقد يستحب تحمل الكد والتعب حتى في مثل إدارة العائلة وما أشبه، بل لعل الزهراء (عليها الصلاة والسلام) أرادت الأعم كما هو صفة المكافح الخيّر الصالح، فكل موضوع قد يقتضي مثل هذه الصفات كل بحسبه، سواء في النزال أم في الجدال أم في الإدارة أم في الإعالة أم في غيرها.
قولها (علیها السلام): «وتحملتم الكد والتعب» والفرق بينهما أن التعب أعم من الكد، فإن الكد هو التعب الكثير، بينما التعب يقال للقليل أيضاً.وقد ورد في باب المؤمن وعلاماته وصفاته عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنه قال: «نفسه منه في عناء والناس منه في راحة، أتعب نفسه لآخرته فأراح الناس من نفسه»(1).
وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما فتح مكة أتعب نفسه في عبادة الله عزوجل والشكر لنعمه في الطواف بالبيت وكان علي (علیه السلام) معه،
ص: 384
.............................
فلما غشيهم الليل انطلقا إلى الصفا والمروة يريدان السعي، قال: فلما هبطا من الصفا إلى المروة وصارا في الوادي دون العلم الذي رأيت غشيهما من السماء نور فأضاءت لهما جبال مكة وخشعت أبصارهما، قال: ففزعا لذلك فزعا شديدا، قال: فمضى رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى ارتفع عن الوادي وتبعه علي (علیه السلام) فرفع رسول الله (صلی الله علیه و آله) رأسه إلى السماء فإذا هو برمانتين على رأسه، قال: فتناولهما رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأوحى الله عزوجل إلى محمد (صلی الله علیهو آله): يا محمد إنها من قطف الجنة فلا يأكل منها إلا أنت ووصيك علي بن أبي طالب، قال: فأكل رسول الله (صلی الله علیه و آله) أحدهما وأكل علي (علیه السلام) الأخرى» الخبر(1).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «إن أفضل الناس عند الله من أحيا عقله وأمات شهوته وأتعب نفسه لصلاح آخرته»(2).
وعن عبد الله بن الحسن بن الحسين قال:
(أعتق علي (علیه السلام) في حياة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ألف مملوك مما مجلت يداه وعرق جبينه ولقد ولي الخلافة وأتته الأموال فما كان حلواه إلا التمر ولا ثيابه إلا الكرابيس)(3).
وروي: «أنه (علیه السلام) كان يستقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة حتى مجلت يده ويتصدق بالأجرة ويشد على بطنه حجرا»(4).
ص: 385
.............................
وورد: «لقد طحنت فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى مجلت يداها وطب الرحى في يدها»(1).
وعن علي (علیه السلام) أنه قال لرجل من بني سعد: «ألا أحدثك عني وعن فاطمة، إنها كانت عندي وكانت من أحب أهله إليه وأنها استقت بالقربة حتى أثر في صدرها وطحنت بالرحى حتى مجلت يداها وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها وأوقدت النار تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر شديد، فقلت لها: لو أتيت أباك فسألتيه خادما يكفيك ضر ما أنت فيه من هذا العمل.
فأتت النبي (صلی الله علیه و آله) فوجدت عنده حداثا، فاستحت فانصرفت.
قال: فعلم النبي (صلی الله علیه و آله) أنها جاءت لحاجة.
قال: فغدا علينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونحن في لفاعنا، فقال: السلام عليكم.
فسكتنا واستحيينا لمكاننا.
ثم قال: السلام عليكم، فسكتنا.ثم قال: السلام عليكم، فخشينا إن لم نرد عليه أن ينصرف، وقد كان يفعل ذلك يسلم ثلاثا فإن أذن له وإلا انصرف.
فقلت: وعليك السلام يا رسول الله ادخل، فلم يعد أن جلس عند رؤوسنا، فقال: يا فاطمة ما كانت حاجتك أمس عند محمد؟
قال: فخشيت إن لم نجبه أن يقوم.
ص: 386
.............................
قال: فأخرجت رأسي فقلت: أنا والله أخبرك يا رسول الله، إنها استقت بالقربة حتى أثرت في صدرها وجرت بالرحى حتى مجلت يداها وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فقلت لها: لو أتيت أباك فسألتيه خادما يكفيك ضر ما أنت فيه من هذا العمل؟
قال: أفلا أعلمكما ما هو خير لكما من الخادم، إذا أخذتما منامكما فسبحا ثلاثا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وكبرا أربع وثلاثين، قال: فأخرجت (علیها السلام) رأسها فقالت: رضيت عن الله ورسوله، ثلاث دفعات»(1).
ص: 387
-------------------------------------------
مسألة: قد يقال بانصراف كلامها (علیها السلام): «ناطحتم الأمم و… » إلى المناطحة العسكرية.
ولكن يحتمل إرادة الأعم من المناطحة في ظرف الحرب والسلم، فيشمل حتى المناطحة بالمجادلة بالتي هي أحسن وبالكلمة الطيبة، ويشمل حتى مثل موقف جعفر الطيار(علیه السلام) وسائر المسلمين في الحبشة(1) ومثل موقفهم وصمودهم في شعب أبي طالب (علیه السلام) (2)، وعلى أي فإن مناطحة الأمم ومكافحة البهم بين واجب ومستحب.
فإذا كان هنالك من فيه الكفاية وقام بالأمر، كانت المناطحة والمكافحة بالنسبة إلى من هو فوق الكفاية مستحباً.
إلى غير ذلك من المسائل الفقهيةالمذكورة في كتاب الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(3).
وقد كتب أمير المؤمنين (علیه السلام) في جواب معاوية: «من عبد الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى معاوية بن أبي سفيان، أما بعد فقد أتانا كتابك بتنويق
ص: 388
.............................
المقال وضرب الأمثال وانتحال الأعمال تصف الحكمة ولست من أهلها وتذكر التقوى وأنت على ضدها» إلى أن قال (علیه السلام): «وأما تهديدك لي بالمشارب العربية والموارد المهلكة فأنا عبد الله علي بن أبي طالب أبرز إلي صفحتك كلا ورب البيت ما أنت بأبي عذر عند القتال ولا عند مناطحة الأبطال» (1).
وفي (تفسير القمي): «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُواالَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى»(2)، فإنه كان سبب نزولها أنه لما اشتدت قريش في أذى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأصحابه الذين آمنوا بمكة قبل الهجرة أمرهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يخرجوا إلى الحبشة وأمر جعفر بن أبي طالب أن يخرج معهم، فخرج جعفر ومعه سبعون رجلا من المسلمين حتى ركبوا البحر فلما بلغ قريشا خروجهم بعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد إلى النجاشي ليردهم إليهم…
فوردوا على النجاشي وقد كانوا حملوا إليه هدايا، فقبلها منهم، فقال عمرو بن العاص: أيها الملك إن قوما منا خالفونا في ديننا وسبوا آلهتنا وصاروا إليك فردهم إلينا.
فبعث النجاشي إلى جعفر، فجاء فقال: يا جعفر ما يقول هؤلاء؟
فقال جعفر: أيها الملك وما يقولون؟
ص: 389
.............................
قال: يسألون أن أردكم إليهم.
قال: أيها الملك سلهم أعبيد نحن لهم؟قال عمرو: لا بل أحرار كرام.
قال: فاسألهم ألهم علينا ديون يطالبوننا بها؟
فقال: لا ما لنا عليكم ديون.
قال: فلكم في أعناقنا دماء تطالبوننا بذحول؟
فقال عمرو: لا.
قال: فما تريدون منا، آذيتمونا فخرجنا من بلادكم.
فقال عمرو بن العاص: أيها الملك خالفونا في ديننا وسبوا آلهتنا وأفسدوا شباننا وفرقوا جماعتنا، فردهم إلينا لنجمع أمرنا.
فقال جعفر: نعم أيها الملك خالفناهم، بعث الله فينا نبيا أمرنا بخلع الأنداد وترك الاستقسام بالأزلام وأمرنا بالصلاة والزكاة وحرم الظلم والجور وسفك الدماء بغير حقها والزنا والربا والميتة والدم وأمرنا «بِالْعَدْلِ وَ الإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى»(1) ونهانا «عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ»(2).
فقال النجاشي: بهذا بعث الله عيسى ابن مريم (علیه السلام).
ثم قال النجاشي: يا جعفر هل تحفظمما أنزل الله على نبيك شيئا؟
قال: نعم، فقرأ عليه سورة مريم، فلما بلغ إلى قوله: «وَهُزِّي إِلَيْكِ
ص: 390
.............................
بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً»(1).
فلما سمع النجاشي بهذا بكى بكاء شديدا وقال: هذا والله هو الحق.
وقال عمرو بن العاص: أيها الملك إن هذا مخالف لنا فرده إلينا.
فرفع النجاشي يده فضرب بها وجه عمرو ثم قال: اسكت، والله لئن ذكرته بسوء لأفقدنك نفسك.
فقام عمرو بن العاص من عنده والدماء تسيل على وجهه وهو يقول: إن كان هذا كما تقول أيها الملك فإنا لا نتعرض له»(2).
وفي الخرائج و الجرائح: (روي عن ابن مسعود قال: بعثنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى أرض النجاشي ونحن ثمانون رجلا ومعنا جعفر بن أبي طالب، وبعثت قريش خلفنا عمارة بن الوليد وعمرو بن العاص مع هدايا فأتوه بها فقبلها وسجدوا له فقالوا: إن قومامنا رغبوا عن ديننا وهم في أرضك فبعث إلينا.
فقال لنا جعفر: لا يتكلم أحد منكم أنا خطيبكم اليوم.
فانتهينا إلى النجاشي، فقال عمرو وعمارة: إنهم لا يسجدون لك.
فلما انتهينا إليه زبرنا الرهبان أن اسجدوا للملك، فقال لهم جعفر: لانسجد إلا لله.
فقال النجاشي: وما ذلك؟
قال: إن الله بعث فينا رسوله وهو الذي بشر به عيسى اسمه أحمد، فأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا وأن نقيم الصلاة وأن نؤتي الزكاة وأمرنا بالمعروف
ص: 391
.............................
ونهانا عن المنكر.
فأعجب النجاشي قوله.
فلما رأى ذلك عمرو قال: أصلح الله الملك إنهم يخالفونك في ابن مريم.
فقال النجاشي لجعفر: ما يقول صاحبك في ابن مريم؟
قال: يقول فيه قول الله: هو روح الله وكلمته أخرجه من العذراء البتول التي لم يقربها بشر.
فتناول النجاشي عودا من الأرض فقال: يا معشر القسيسين والرهبان مايزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذا.
ثم قال النجاشي لجعفر: أتقرأ شيئا مما جاء به محمد؟
قال: نعم.
قال: اقرأ، وأمر الرهبان أن ينظروا في كتبهم.
فقرأ جعفر «كهيعص»(1) إلى آخر قصة عيسى (علیه السلام) فكانوا يبكون.
ثم قال النجاشي: مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أحمل نعليه اذهبوا أنتم سيوم أي آمنون، وأمر لنا بطعام وكسوة وقال: ردوا على هذين هديتهما)(2).
ص: 392
.............................
في البحار: أن في سنة ثمان من نبوة رسول الله (صلی الله علیه و آله) تعاهد قريش وتقاسمت على معاداة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وذلك أنه لما أسلم حمزة وحمى النجاشي من عنده من المسلمين وحامى رسول الله (صلی الله علیه و آله) عمه أبو طالب وقامت بنو هاشم وبنو عبد المطلب دونه وأبوا أن يسلموه، فشا الإسلام في القبائل واجتهد المشركون في إخفاء ذلك النور ويأبى الله إلا أن يتم نوره، فعرفت قريش أنه لا سبيل إلى محمد (صلی الله علیه و آله)، اجتمعوا على أن يكتبوا فيما بينهم على بني هاشم وبني عبد المطلب: أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم، فكتبوا صحيفة في ذلك وكتب فيها جماعة وعلقوها بالكعبة، ثم عدوا على من أسلم فأوثقوهم وآذوهم واشتد البلاء عليهم وعظمت الفتنة فيهم وزلزلوا زلزالا شديداً، و أبدت قريش لبني عبد المطلب الجفاء وثار بينهم شر وقالوا: لا صلح بيننا وبينكم، ولا رحم إلا على قتل هذا الصابئ.
فعمد أبو طالب فأدخل الشعب ابنأخيه وبني أبيه ومن اتبعهم، فدخلوا شعب أبي طالب.
وآذوا النبي (صلی الله علیه و آله) والمؤمنين أذى شديدا وضربوهم في كل طريق وحصروهم في شعبهم وقطعوا عنهم المارة من الأسواق، ونادى مناد الوليد بن المغيرة في قريش: أيما رجل منهم وجدتموه عند طعام يشتريه فزيدوا عليه.
فبقوا على ذلك ثلاث سنين، حتى بلغ القوم الجهد الشديد، حتى سمعوا أصوات صبيانهم يتضاغون أي يصيحون من الجوع من وراء الشعب، وكان
ص: 393
.............................
المشركون يكرهون ما فيه بنو هاشم من البلاء حتى كره عامة قريش ما أصاب بني هاشم وأظهروا كراهيتهم لصحيفتهم القاطعة الظالمة حتى أراد رجال أن يبرؤوا منها.
وكان أبو طالب يخاف أن يغتالوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليلا أو سرا، وكان النبي(صلی الله علیه و آله) إذا أخذ مضجعه أو رقد جعله أبو طالب بينه وبين بنيه خشية أن يقتلوه.
وكان يصبح قريش وقد سمعوا أصوات صبيان بني هاشم من الليل يتضاغون من الجوع فيجلسون عند الكعبة فيسألبعضهم بعضا فيقول الرجل لأصحابه: كيف بات أهلك البارحة؟ فيقولون: بخير، فيقول: لكن إخوانكم هؤلاء الذين في الشعب باتت صبيانهم يتضاغون من الجوع، فمنهم من يعجبه ما يلقى محمد ورهطه ومنهم من يكره ذلك.
فأتى من قريش على ذلك من أمرهم في بني هاشم سنتين أو ثلاثا حتى جهد القوم جهدا شديدا لا يصل إليهم شيء إلا سرا و مستخفى به ممن أراد صلتهم من قريش، حتى روي أن حكيم بن حزام خرج يوما و معه إنسان يحمل طعاما إلى عمته خديجة بنت خويلد وهي تحت رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الشعب إذ لقيه أبو جهل فقال: تذهب بالطعام إلى بني هاشم والله لا تبرح أنت ولا طعامك حتى أفضحك عند قريش، فقال له: أبو البختري بن هشام بن الحارث تمنعه أن يرسل إلى عمته بطعام كان لها عنده، فأبى أبو جهل أن يدعه، فقام إليه أبو البختري بساق بعير فشجه ووطئه وطئا شديدا وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأصحابه فيشمتوا بهم.
ص: 394
.............................
وحتى روي أن هشام بن عمرو بنربيعة أدخل على بني هاشم في ليلة ثلاثة أحمال طعام، فعلمت بذلك قريش فمشوا إليه فكلموه في ذلك، فقال: إني غير عائد لشيء يخالفكم، ثم عاد الثانية فأدخل حملا أو حملين ليلا وصادفته قريش وهموا به، فقال أبو سفيان: دعوه رجل وصل رحمه، أما إني أحلف بالله لو فعلنا مثل ما فعل كان أجمل بنا ووفق الله هشاما للإسلام يوم الفتح(1).
وورد أيضا: أنه كان من معجزاته (صلی الله علیه و آله) أن قريشا كلهم اجتمعوا وأخرجوا بني هاشم إلى شعب أبي طالب ومكثوا فيه ثلاث سنين إلا شهرا، ثم أنفق أبو طالب وخديجة جميع مالهما ولا يقدرون على الطعام إلا من موسم إلى موسم، فلقوا من الجوع والعري ما الله أعلم به وأن الله قد بعث على صحيفتهم الأرضة، فأكلت كل ما فيها إلا اسم الله، فذكر ذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأبي طالب، فما راع قريشا إلا وبني هاشم عنق واحد قد خرجوا من الشعب، فقالوا: الجوع أخرجهم، فجاءوا حتى أتوا الحجر وجلسوا فيه وكان لا يقعد فيه صبيان قريش، فقالوا: يا أبا طالب قد آن لك أن تصالح قومك.قال: قد جئتكم مخبرا، ابعثوا إلى صحيفتكم لعله أن يكون بيننا وبينكم صلح فيها.
فبعثوا إليها وهي عند أم أبي جهل وكانت قبل في الكعبة فخافوا عليها السراق فوضعت بين أيديهم وخواتيمهم عليها.
ص: 395
.............................
فقال أبو طالب: هل تنكرون منها شيئا؟
قالوا: لا.
قال: إن ابن أخي حدثني ولم يكذبني قط أن الله قد بعث على هذه الصحيفة الأرضة فأكلت كل قطيعة وإثم وتركت كل اسم هو لله فإن كان صادقا أقلعتم عن ظلمنا، وإن يكن كاذبا ندفعه إليكم فقتلتموه.
فصاح الناس: أنصفتنا يا أبا طالب.
ففتحت ثم أخرجت فإذا هي مشربة كما قال (صلی الله علیه و آله) فكبر المسلمون وامتقعت وجوه المشركين.
فقال: أبو طالب أتبين لكم أينا أولى بالسحر والكهانة.
فأسلم يومئذ عالم من الناس، ثم رجع أبو طالب إلى شعبة ثم عيرهم هشام بن عمرو العامري بما صنعوا ببنيهاشم(1).
هذا وقد ذكرت الصديقة الطاهرة (عليها الصلاة والسلام) في خطبتها «الأمم»، لأنهم ناطحوا المشركين واليهود والنصارى والمجوس، حيث كان بعض المجوس في اليمن أيضاً.
والبهم: عبارة عن الشجعان الذين لا يعرف قدر شجاعتهم، ولا يدرى من أين يؤتون؟ أعن اليمين أم عن الشمال أم الأمام أم الخلف؟ كالشيء المبهم الذي لا يدرى معناه ومغزاه.
قولها (علیها السلام): «وناطحتم الأمم» حيث شبهتهم (عليها الصلاة والسلام)
ص: 396
.............................
بالكبش الذي يناطح الكبش الآخر، كناية عن شدة المجالدة وظهورها، فإن المناطحة عبارة عن محاربة كبشين بقرونهما، وهذا كناية عن محاربة الخصوم بجد واهتمام.
قولها (علیها السلام): «وكافحتم البهم»، وقد سبق معنى الكفاح.
ص: 397
-------------------------------------------
مسألة: من الواجب إتباع الرسول (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الطاهرين (علیهم السلام) وعدم التقدم عليهم والتأخر عنهم.
فإن هذه الجملة في أحد وجوهها تفيد نفس المعنى الوارد في أدعية شهر شعبان: «المتقدم لهم مارق والمتأخر عنهم زاهق»(1).
ويمكن أن تكون إخبارا في مقام الإنشاء(2).
فالواجب أن يهندس المرء حياته على طبق المخطط الذي وضعه أهل البيت (علیهم السلام) للحياة، فإنهم وسائط الفيض والتشريع كما ورد: «إرادة الربفي مقادير أموره تهبط إليكم وتصدر من بيوتكم» (3).
فإن من الواجب أو المستحب - كل بحسبه - أن يكون الإنسان طوع أوامرهم المولوية والإرشادية (عليهم الصلاة والسلام)، فكلّما تحرّكوا تحرّك، وكلما سكنوا سكن.
قال سبحانه: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ»(4).
ص: 398
.............................
وقال تعالى: «أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ»(1) وهذا نوع من الإطاعة.
عن أبي محمد العسكري (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) عن الباقر (علیه السلام) قال: «أوصى النبي (صلی الله علیه و آله) إلى علي والحسن والحسين (علیهم السلام) ».
ثم قال في قول الله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِيالأَمْرِ مِنْكُمْ»(2) قال: «الأئمة من ولد علي وفاطمة إلى أن تقوم الساعة»(3).
وعن بريد العجلي عن أبي جعفر (علیه السلام) في قول الله تبارك وتعالى:
«فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً»(4) فجعلنا منهم الرسل والأنبياء والأئمة فكيف يقرون في آل إبراهيم وينكرون في آل محمد (علیهم السلام).
قلت: فما معنى قوله: «وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً» قال: «الملك العظيم أن جعل فيهم أئمة من أطاعهم أطاع الله ومن عصاهم عصى الله فهو الملك العظيم»(5).
ص: 399
.............................
وعن جابر الأنصاري قال: سألت النبي (صلی الله علیه و آله) عن قوله: «يا أيها الذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ» عرفنا الله ورسوله، فمن أولي الأمر؟ قال: «هم خلفائي يا جابر وأئمة المسلمينبعدي، أولهم علي بن أبي طالب (علیه السلام) ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر وستدركه يا جابر فإذا لقيته فأقرئه مني السلام، ثم الصادق جعفر بن محمد ثم موسى بن جعفر ثم علي بن موسى ثم محمد بن علي ثم علي بن محمد ثم الحسن بن علي ثم سميي وكنيي حجة الله في أرضه وبقيته في عباده ابن الحسن بن علي، الذي يفتح الله على يده مشارق الأرض ومغاربها، ذاك الذي يغيب عن شيعته غيبة لا يثبت على القول بإمامته إلا من امتحن الله قلبه بالإيمان»(1).
وعن أبان أنه دخل على أبي الحسن الرضا (علیه السلام) قال: فسألته عن قول الله «يا أيها الذين آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ» فقال: «ذلك علي بن أبي طالب صلوات الله عليه» ثم سكت فلما طال سكوته قلت: ثم من؟ قال: «ثم الحسن (علیه السلام)» ثم سكت، فلما طال سكوته قلت: ثم من؟ قال: «الحسين (علیه السلام)» قلت: ثم من؟ قال: «ثم علي بن الحسين (علیه السلام)»وسكت، فلم يزل يسكت عن كل واحد حتى أعيد المسألة فيقول حتى سماهم إلى آخرهم (علیهم السلام)(2).
ص: 400
.............................
وعن عمرو بن سعيد قال: سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن قوله «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ» قال: قال: «علي بن أبي طالب والأوصياء من بعده»(1).
قولها (علیها السلام): «فلا نبرح أو تبرحون» (أو) بمعنى: إلاّ، أي: لا نبرح إلا أن تبرحوا أنتم أيضاً، بمعنى: إنكم تأتمرون بأوامرنا وتزجرون بنواهينا.
ومن المحتمل أن يكون معنى «لا نبرح أو تبرحون»: لا نغضب أو تغضبون أي إلا أن تغضبوا أنتم أيضاً.
وبعبارة أخرى: لو كان ماضيه (بَرِحَ) بمعنى زال عن مكانه كان المعنى الأول هو المراد، ولو كان ماضيه (بَرَحَ) كان المعنى الثاني هو المراد، والأول هوالظاهر خاصة بقرينة ما بعده.
ص: 401
-------------------------------------------
مسألة: تجب إطاعة وامتثال أهل البيت (علیهم السلام) في أوامرهم الوجوبية، إذ قد تكون الأوامر إرشادية أو استحبابية، كما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في قصة زواج امرأة حيث سألته: أتأمرني يا رسول الله، فقال: لا إنما أنا شافع.
كما أنه تجب إطاعتهم حتى في الأوامر العادية إذا قالوها على سبيل الطلب والجدّ، وليس غيرهم كذلك، كما إذا طلبوا من أحد السفر أو فتح محل أو بيع أو شراء أو زواج أو ما أشبه ذلك، فهذا من خصائص الولاية.
عن أبي حمزة عن مأمون الرقي قال: كنت عند سيدي الصادق (علیه السلام) إذ دخل سهل بن حسن الخراساني، فسلم عليه ثم جلس فقال له: يا ابن رسول الله لكم الرأفة والرحمة وأنتم أهل بيت الإمامة، ما الذي يمنعك أن يكون لك حق تقعد عنه وأنت تجد من شيعتك مائة ألف يضربون بين يديك بالسيف؟فقال له (علیه السلام): «اجلس يا خراساني رعى الله حقك» ثم قال: «يا حنفية اسجري التنور»، فسجرته حتى صار كالجمرة وابيض علوه، ثم قال: «يا خراساني قم فاجلس في التنور».
فقال الخراساني: يا سيدي يا ابن رسول الله لا تعذبني بالنار، أقلني أقالك الله.
قال: «قد أقلتك».
ص: 402
.............................
فبينما نحن كذلك إذ أقبل هارون المكي ونعله في سبابته، فقال: السلام عليك يا ابن رسول الله.
فقال له الصادق (علیه السلام): «ألق النعل من يدك واجلس في التنور».
قال: فألقى النعل من سبابته ثم جلس في التنور، وأقبل الإمام يحدث الخراساني حديث خراسان حتى كأنه شاهد لها، ثم قال: «قم يا خراساني وانظر ما في التنور».
قال: فقمت إليه فرأيته متربعا فخرج إلينا وسلم علينا!.
فقال له الإمام (علیه السلام): «كم تجد بخراسان مثل هذا»؟فقلت: والله ولا واحدا.
فقال (علیه السلام): «لا والله ولا واحدا، أما إنا لا نخرج في زمان لا نجد فيه خمسة معاضدين لنا نحن أعلم بالوقت»(1).
وعن معمر بن خلاد قال: سأل رجل فارسي أبا الحسن الرضا (علیه السلام) فقال: طاعتكم مفترضة؟ فقال: «نعم» فقال كطاعة علي بن أبي طالب (علیه السلام)؟ فقال: «نعم»(2).
وفي زيارة الأئمة بالبقيع (علیهم السلام): «وأشهد أنكم الأئمة الراشدون المهتدون وأن طاعتكم مفروضة وأن قولكم الصدق وإنكم دعوتم فلم تجابوا وأمرتم فلم تطاعوا»(3).
ص: 403
.............................
وأيضا: «وأعطاكم راية الحق التي من تقدمها ضل ومن تخلف عنها ذل، وفرضطاعتكم ومودتكم على كل أسود وأبيض من عباده»(1).
وأيضاً: «بأبي أنتم وأمي، لقد رضعتم ثدي الإيمان، وربيتم في حجر الإسلام، واصطفاكم الله على الناس، وورثكم علم الكتاب، وعلمكم فصل الخطاب، وأجرى فيكم مواريث النبوة، وفجر بكم ينابيع الحكمة، وألزمكم بحفظ الشريعة، وفرض طاعتكم ومودتكم على الناس»(2).
وفي زيارة الجامعة: «وقرن طاعتكم بطاعته»(3).
وإنما ذكرت الزهراء (علیها السلام) في هذا المقطع من خطبتها الشريفة، الأمر دون النهي لأن الأمر في أمثال هذا المقام يشمل النهي أيضاً، كما ألمعنا إلى ذلك في مثله من البنود السابقة.
قولها (علیها السلام): «نأمركم فتأتمرون» أي: تقبلون أوامرنا، فلماذا الآن انتكصتم عن مناصرتنا وعن إطاعتنا؟!
ص: 404
-------------------------------------------
حتى إذا دارت بنا (1) رحى الإسلام
محورية أهل البيت (علیهم السلام)
مسألة: لقد دارت بأهل البيت (علیهم السلام) رحى الإسلام حدوثاً، وهي دائرة بهم (علیهم السلام) استمراراً أيضاً، وذلك:
أولاً: لأن البقاء فرع الحدوث، والشيء يعلل بأولى علله أيضاً حقيقة.
وثانياً: لأنهم (علیهم السلام) علل قريبة للبقاء، كما هم (علیهم السلام) علل بعيدة أيضاً، فإن وجودهم وكلماتهم ومواقفهم وآثارهم ومناهجهم وما تركوه من تراث فكري وأدبي وجهادي - بل حتى قبورهم ومراقدهم الشريفة - لا تزال هي التي تدور عليها وبها رحى الإسلام، وعلى أي حال لولاهم (علیهم السلام) لم يقم للإسلام عود ولا استقام له عمود.
نعم إن الإسلام كان دين الأنبياء (علیهم السلام) قبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) لكن ذلك الإسلام شوّهته الجاهلية حتى لم يبق منه إلا كأنوارالحُباحِب(2) الصغيرة في الليالي المظلمة المدلهمة.
أو يقال: بأن المراد ب- (الإسلام) في كلامها (علیها السلام) هو الإسلام بالمعنى المصطلح، لا بالمعنى الأعم(3)، فيكون المراد المعنى الحقيقي من (حتى إذا دارت).
ص: 405
.............................
قولها (علیها السلام): «حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام» هو كناية عن استقرار الأمر للإسلام وانتظام أموره على يد أهل البيت (علیهم السلام).
عن عبد الله بن جندب أنه كتب إليه الرضا (علیه السلام): «أما بعد فإن محمدا (صلی الله علیه و آله) كان أمين الله في خلقه، فلما قبض (صلی الله علیه و آله) كنا أهل البيت ورثته، فنحن أمناء الله في أرضه، عندنا علم البلايا والمنايا وأنساب العرب ومولدالإسلام»(1).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الإسلام عريان فلباسه الحياء، وزينته الوقار، ومروءته العمل الصالح، وعماده الورع، ولكل شيء أساس وأساس الإسلام حبنا أهل البيت»(2).
وقال أبو جعفر (علیه السلام): «بني الإسلام على خمس: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم شهر رمضان والولاية لنا أهل البيت، فجعل في أربع منها رخصة ولم يجعل في الولاية رخصة، من لم يكن له مال لم تكن عليه الزكاة، ومن لم يكن له مال فليس عليه حج، ومن كان مريضا صلى قاعدا وأفطر شهر رمضان، والولاية صحيحا كان أو مريضا أو ذا مال أو لا مال له فهي لازمة»(3).
وعن أبي جعفر (علیه السلام) أنه قال: «إن الجنة لتشتاق ويشتد ضوؤها بمجيء آل محمد (علیهم السلام) وشيعتهم، ولو أن عبدا عبد الله بين الركن والمقام حتى تتقطع أوصاله وهولا يدين الله بحبنا وولايتنا أهل البيت ما قبل الله منه»(4).
ص: 406
-------------------------------------------
مسألة: قد سبق أنهم (علیهم السلام) وسائط الفيض، والنعم في أصلها وفي مراتبها ودرجاتها وكمها وكيفها تكون بهم وعبرهم، وهذا كله بإرادة الله وأمره. وقد أشارت (علیها السلام) إلى بعض تلك المراتب حيث قالت: «ودر حلب الأيام» أي بنا.
فإن البركة المعنوية تتوفر بسببهم (عليهم الصلاة والسلام) فقط، والبركة المادية تكون بسبب مناهجهم التي أوجبت وحدة الأمة وتعاونها وتقدمها في مختلف أبعاد الحياة، كما قالت (علیها السلام):«وطاعتنا نظاماً للملة، وإمامتنا أمامناً من الفرقة»(1).
قولها (علیها السلام): «ودر حلبالأيام» درّ اللبن عبارة عن جريانه بكثرة، والحلب: استخراج ما في الضرع من اللبن، أي: بسبب إطاعتكم لأوامرنا ظهرت لكم النتائج الحسنة من الخير والنعمة والألفة وغير ذلك.
ومن هنا فإن ولايتهم (عليهم أفضل الصلاة والسلام) هي الأساس في كل خير، ولم يبعث الله نبياً إلا بها.
عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «ولايتنا ولاية الله التي لم يبعث نبيا قط إلا بها»(2).
ص: 407
.............................
وعن عبد الأعلى قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «ما من نبي جاء قط إلا بمعرفة حقنا وتفضيلنا على من سوانا»(1).
وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: سمعته يقول: «والله إن في السماء لسبعين صفا من الملائكة لو اجتمع أهل الأرض كلهم يحصون عدد كل صف منهم ما أحصوهموإنهم ليدينون بولايتنا»(2).
وعن أبي الحسن (علیه السلام) قال: «ولاية علي (علیه السلام) مكتوبة في جميع صحف الأنبياء ولم يبعث الله رسولا إلا بنبوة محمد (صلی الله علیه و آله) ووصيه علي (علیه السلام)»(3).
وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن الله عزوجل نصب عليا (علیه السلام) علما بينه وبين خلقه فمن عرفه كان مؤمنا، ومن أنكره كان كافرا، ومن جهله كان ضالا، ومن عدل بينه وبين غيره كان مشركا، ومن جاء بولايته دخل الجنة، ومن جاء بعداوته دخل النار»(4).
وعن أبي يوسف البزاز قال: تلا أبو عبد الله (علیه السلام) هذه الآية: «فاذكروا آلاء الله»(5)، قال: «أتدري ما آلاء الله»؟ قلت: لا، قال: «هي أعظم نعم الله علىخلقه وهي ولايتنا»(6).
ص: 408
.............................
وعن أبي حمزة قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى: «ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين»(1)، قال: «تفسيرها في بطن القرآن يعني من يكفر بولاية علي (علیه السلام) وعلي هو الإيمان»(2).
وعن زرارة قال: كنت عند أبي جعفر (علیه السلام) فقال لي رجل من أهل الكوفة: سله عن قول أمير المؤمنين (علیه السلام): «سلوني عما شئتم ولا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به» قال: فسألته، فقال: «إنه ليس أحد عنده علم شيء إلا خرج من عند أمير المؤمنين (علیه السلام) فليذهب الناس حيث شاؤوا فوالله ليأتين الأمر هنا وأشار بيده إلى صدره»(3).
ولا بأس ههنا بالاستطراد والإشارة، بمناسبة ذكرها (علیها السلام) للأيام، إلى بحث عابر حول اليوم والساعة والزمن بشكل عام، فنقول:
لقد اختلفوا في الزمان من قديم الأيام أنه ما هو؟
فهل هو مقدار حركة الفلك؟
أم هو أمر اعتباري؟
أم غير ذلك؟
ص: 409
.............................
وقد عده بعضهم: البعد الرابع للجسم.
وليس الكلام الآن في ذلك، بل الكلام في أنه هل الساعة(1) - وهي من مصاديق الزمن - خارجة عن الجسم، أو داخلة فيه، أو شيء ثالث لم يصل إليه علم البشر؟
فأنصار الأول يقولون: إنه شيء حقيقي لا يختلف فيه نفران يكونان في مكان واحد فرضاً، مثله مثل المكان الذي هو كذلك، وإنما الاختلاف بالحس - بالطول والقصر في المريض والصحيحونحوهما - وإن كان الواقع شيئاً واحداً مثل يدي الإنسان يدخلهما في إناء ماء فاتر بعد أن يخرج إحدى يديه من ماء حار والأخرى من ماء بارد، حيث تحسّ اليد الأولى بالبرودة والثانية بالحرارة مع أن الماء واحد، فالاختلاف ليس بالحقيقة وإنما هو في الإحساس، وكذلك اثنان يشاهدان شيئاً واحداً أحدهما يراه شبحاً لضعف عينه والثاني يراه بكامل هيئته لقوتها، وهكذا الحال في كل الحواس الخمس، بل والروح أيضاً حيث إن أحدهما يفرح والآخر يترح بشيء واحد، بل إن هذا يأتي أيضاً في نفر واحد في حالين ولو متقاربي الزمان، فالجائع يلتذ بالطعام التذاذا كبيراً، وبعد شبعه لا يلتذ بنفس ذلك الطعام بل ربما اشمأزّ منه.
وأنصار الثاني يقولون: إن الساعة شيء في داخل الإنسان، فإذا أسرعت في الحركة رأى الإنسان الزمان قصيراً، وإذا أبطأت رآه طويلاً، فالمريض والصحيح والصغير والكبير ومن في الترح ومن في الفرح ومن ينتظر ومن لا ينتظر
ص: 410
.............................
يرون الزمان بشكل متعاكس طولاً وقصراً،حيث إن المريض يرى أن ليله لا ينقضي بخلاف الصحيح وهكذا.
وبعض المكاشفات عن حال الأموات دل على نفس هذه الحالة فيهم أيضاً، حيث إن الميت الذي كان في السعادة مرت عليه ألف سنة وكأنها ساعة، والذي كان في الشقاء مرّت عليه الساعة وكأنها ألف سنة.
ولعل ما ورد من الدعاء: «يا مبدل الزمان»(1) يكون إشارة إلى ذلك، وإن كان ظاهره غيره من تبديله حالة إلى حالة.
ونحوه قوله (علیه السلام): «إذا تغير السلطان تغير الزمان» (2).
وقوله (علیه السلام): «إذا فسد الزمان ساد اللئام» (3).
وما ورد من أن الله يقضي بسرعة الفلك في ظل حكومة الجائر وبطوله في ظل حكومة العادل، فعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إن الله عزوجل جعل لمن جعل له سلطانا مدة من ليالي وأيام وسنينوشهور، فإن عدلوا في الناس أمر الله عزوجل صاحب الفلك أن يبطئ بإدارته فطالت أيامهم ولياليهم وسنوهم وشهورهم، وإن هم جاروا في الناس ولم يعدلوا أمر الله عزوجل صاحب الفلك فأسرع إدارته وأسرع فناء لياليهم وأيامهم وسنيهم وشهورهم، وقد وفى تبارك وتعالى لهم بعدد الليالي والأيام والشهور»(4).
ص: 411
.............................
ومنه يعرف معنى من معاني قول رسول الله (صلی الله علیه و آله):«لا تعادوا الأيام فتعاديكم» (1) حيث إن عداوة الأيام بمعنى ما في الأيام على سبيل المجاز، فإن نفس الأيام لا تعادى، بل توجب انعكاس العداوة إلى النفس، فالساعة النفسية تمر ثقيلة كالذي في مرض أو ما أشبه ذلك، هذا وقد ورد تأويل الرواية بالمعصومين (علیهم السلام).
عن الصقر بن أبي دلف عن الإمام أبي الحسن الهادي (علیه السلام) قال: قلت: يا سيدي حديث يروى عن النبي (صلی الله علیه و آله) لا أعرف معناه، فقال:«وما هو»؟
قلت: قوله (صلی الله علیه و آله): «لا تعادوا الأيام فتعاديكم» ما معناه؟
فقال: «نعم، الأيام نحن ما قامت السماوات والأرض، فالسبت اسم رسول الله (صلی الله علیه و آله) والأحد اسم أمير المؤمنين (علیه السلام) والاثنين الحسن والحسين (علیهما السلام) والثلاثاء علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد (علیهم السلام) والأربعاء موسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وأنا (علیهم السلام) والخميس ابني الحسن (علیه السلام) والجمعة ابن ابني (علیه السلام) وإليه يجتمع عصابة الحق وهو الذي يملؤها قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما، وهذا معنى الأيام فلا تعادوهم في الدنيا فيعادوكم في الآخرة» (2).
وعن سلمة بن محرز قال: سمعت أبا جعفر (علیه السلام) يقول: «إن من علم ما أوتينا تفسير القرآن وأحكامه وعلم تغير الزمان وحدثانه»(3).
ص: 412
مسألة: يجب إخضاع الشرك وإخماده.
وربما يستفاد من كلامها (علیها السلام) هذا أن من مقاصد الشريعة (ومن الواجبات): إخضاع الإعلام الضال والمضل والدعايات المنحرفة، فإنها من مصاديق نعرة الشرك، فإن الشرك قبل الإسلام كانت له نعرة(2) وجلبة وضوضاء وهدير وصخب يغطّي الآفاق وفي مختلف أبعاد الحياة، وإنما أخضعها رسول الله (صلی الله علیه و آله) حيث أسلم الناس ولحق الشرك بزوايا الخمول.
فالواجب هو إخماد الشرك كلياً، فإن لم يمكن فلا أقل من إخضاعه وإسكات نعرته وصرخته، فإذا لم يتمكن الإنسان من إخماده وتمكن من إخضاع نعرته وجب عليه ذلك، فإن الشرك كلما كان أقل وكلما كان علو صوته وارتفاعه أخف كان أفضل.
عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال:«وأكبر الكبائر الشرك بالله» (3).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «اجتنبوا السبع الموبقات، الشرك بالله» إلى أن قال:«وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات»(4).
ص: 413
.............................
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يتعوذ في كل يوم من ست، من الشك والشرك والحمية والغضب والبغي والحسد» (1).
وعن أبي محمد (علیه السلام) قال: «الشرك في الناس أخفى من دبيب النمل على المسح الأسود في الليلة المظلمة» (2).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام): «أن رجلا من خثعم جاء إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: أي الأعمال أبغضإلى الله؟ فقال: الشرك بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: قطيعة الرحم، قال: ثم ماذا؟ قال: الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف» (3).
وقد روي عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» قيل: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: «الرياء» قال: «يقول الله عزوجل يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا هل تجدون عندهم ثواب أعمالكم»(4).
وروي عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: «قال الله عزوجل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء فهو للذي أشرك» (5).
وعن المفضل بن عمر الجعفي قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «فضل أمير المؤمنين ما جاء به النبي (صلی الله علیه و آله) أخذ به، وما نهى عنه انتهى عنه،
ص: 414
.............................
جرى له من الفضل ما جرى لمحمد (صلی الله علیه و آله) ولمحمد الفضل على جميع من خلق الله، المتعقب عليه في شيء من أحكامه كالمتعقب على الله وعلى رسوله، والراد عليه في صغيرة أو كبيرة على حد الشرك بالله، كان أمير المؤمنين باب الله الذي لايؤتى إلا منه وسبيله الذي من سلك بغيره هلك، وكذلك جرى على الأئمة الهدى واحدا بعد واحد، جعلهم الله أركان الأرض أن تميد بأهلها والحجة البالغة من فوق الأرض ومن تحت الثرى»(1).
وفي بعض النسخ من الخطبة الشريفة: ثغرة، أي «وخضعت ثغرة الشرك» (وجمعها ثغور) وهي بمعنى: المنفذ والمكان الذي يخاف منه هجوم العدو، أي قد خضعت الثغرة التي كان منها يدخل الشرك.
أو بمعنى نقرة النحر بين الترقوتين، فخضوعها كناية عن سقوط الشرك كالحيوان الساقط على الأرض.
وفي بعضها: (نعرة) وهي إما تقرأ (نُعَرَة) على وزن (هُمَزَة) وكذلك (نُعْرة)، ومعناها: الخيشوم والكبر والخيلاء.أو تقرأ (نَعْرة) فتكون بمعنى فَوْرة الشرك وفورانه، أو بمعنى: صرخة وهو ما مشينا عليه.
وغير خفي أن كلامهم (عليهم الصلاة والسلام أجمعين) يوزن بالمثاقيل، فإن كل كلمة منه يكمن ورائها سر في انتخابها دون غيرها من الكلمات..
وههنا نجدها (عليها الصلاة والسلام) تقول: «وخضعت ثغرة الشرك» ولم تقل
ص: 415
.............................
أزيلت أو أعدمت بل خضعت فحسب.
وهكذا الجمل اللاحقة «وسكنت فورة الإفك» و«خمدت نيران الكفر» فإن خمدت النار، بمعنى سكن لهبها ولم يطفأ جمرها..
وما أدقه من تعبير ومن وصف لحالة الكفار والمشركين عندئذ إذ إنهم لم يفنوا بل استسلموا وخضعوا.
ص: 416
-------------------------------------------
مسألة: يحرم الإفك ويجب إسكان فورته، فإن الإفك هو الكذب وهو محرّم بمختلف أقسامه، سواء كان كذباً في التوحيد أم النبوة أم المعاد أم غير ذلك، وسواء كان كذباً في الأحكام والأخلاق والآداب ونحوها أم في الشؤون الشخصية، نعم لحرمته مراتب ودرجات.
وإذا لم يتمكن الإنسان من إخماد أصل الإفك وتمكن من إخماد فورته بأن لا يكون له اشتعال وجولان وجب بالقدر الممكن.
قولها (علیها السلام): «وسكنت فورة الإفك»، فورته: غليانه، فإن الجاهلية كانت مسرحاً للكذب في العقيدة والعمل، ولما جاء الإسلام تبدل الكذب إلى الصدق في كل شيء.
روي عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (علیه السلام) في قوله تعالى: «إِفْكٌ افْتَراهُ»(1) قال: «الإفك الكذب»(2).وفي زيارة لمولانا أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه): «السلام عليك يا داحض الإفك ومبطل الشرك ومزيل الشك»(3).
ص: 417
.............................
وفي الغرر: «أقبح شيء الإفك»(1).
وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «كان علي بن الحسين (علیه السلام) يقول لولده: اتقوا الكذب الصغير منه والكبير، في كل جد وهزل، فإن الرجل إذا كذب في الصغير اجترأ على الكبير، أما علمتم أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: ما يزال العبد يصدق حتى يكتبه الله صديقا، وما يزال العبد يكذب حتى يكتبه الله كذابا»(2).
وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «إن الله عزوجل جعل للشر أقفالا وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، والكذب شرمن الشراب»(3).
وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «إن الكذب هو خراب الإيمان»(4).
وقال (علیه السلام): «إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار»(5).
ص: 418
-------------------------------------------
مسألة: يجب إخماد نيران الكفر.
كما أن النار المادية تحرق الأجسام كذلك الكفر هو نار تحرق الماديات والمعنويات، فإن الكفر يسبب تكالب الناس على المادة ويوجب إشعال الحروب والثورات ويؤدي إلى القتل وسفك الدماء وما أشبه ذلك، فالواجب على الإنسان إخماد نيرانه، وإذا تمكن من إزالة أصل الكفر في مكان وجب، وإذا لم يتمكن وتمكن من إخماد نيرانه - ولو بقدر - وجب حسب القدرة.
قال تعالى: «وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الآْخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً»(1).
قولها (علیها السلام): «وخمدت نيران الكفر» خمود النار عبارة عن سكون لهيبها، أي: أن حروب الجاهلية خمدت ببركة الإسلام ونشره.
فمعنى (نيران الكفر) إما النيرانالتي ولّدها الكفر، فتكون الحروب إحدى الأمثلة والمصاديق، أو معناها (نيران هي الكفر) فالمعنى خمود الكفر نفسه، وذلك نظراً لكون الإضافة لامية أو بيانية.
وكان من إرهاصات ولادة النبي (صلی الله علیه و آله) أن خمدت نيران فارس، قال الإمام الصادق (علیه السلام): «أصبحت الأصنام على وجوهها، وارتجس إيوان كسرى وسقط
ص: 419
.............................
منه أربع عشرة شرافة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، ولم يبق سرير لملك إلا أصبح منكوسا والملك مخرسا لايتكلم يومه ذلك، وانتزع علم الكهنة، وبطل سحر السحرة ولم تبق كاهنة في العرب إلا حجبت عن صاحبها»(1).
وعن يونس بن عبد الرحمن: أن الرضا (علیه السلام) كان يأمر بالدعاء لصاحب الأمر بهذا الدعاء، إلى أن يقول: «وجدد به ما امتحى من دينك، وبدل من حكمك حتى تعيد دينك به وعلى يديه جديدا غضا محضا صحيحا لا عوج فيه ولابدعة معه وحتى تنير بعدله ظلم الجور وتطفئ به نيران الكفر»(2).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «ليس بين الإيمان والكفر إلا قلة العقل»(3).
وعن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قلت له: أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله عزوجل.
قال: «الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه: فمنها كفر الجحود، والجحود على وجهين، والكفر بترك ما أمر الله، وكفر البراءة، وكفر النعم، فأما كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية وهو قول من يقول لا رب ولا جنة ولا نار، وهو قول صنفين من الزنادقة يقال لهم الدهرية وهم الذين يقولون: «وما يهلكنا إلا الدهر»(4)، وهو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان على غير تثبت
ص: 420
.............................
منهم ولا تحقيق لشيء مما يقولون، قالالله عزوجل: «إن هم إلا يظنون»(1) أن ذلك كما يقولون، وقال: «إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون»(2) يعني بتوحيد الله تعالى، فهذا أحد وجوه الكفر.
وأما الوجه الآخر من الجحود على معرفة وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنه حق قد استقر عنده، وقد قال الله عزوجل: «وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا»(3)، وقال الله عزوجل: «وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين»(4)، فهذا تفسير وجهي الجحود.
والوجه الثالث من الكفر: كفر النعم، وذلك قوله تعالى يحكي قول سليمان (علیه السلام): «هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم»(5)، وقال: «لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد»(6)، وقال: «فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولاتكفرون»(7).
والوجه الرابع من الكفر: ترك ما أمر الله عزوجل به، وهو قول الله عزوجل: «وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم
ص: 421
.............................
من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون * ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم»(1)، فكفرهم بترك ما أمر الله عزوجل به ونسبهم إلى الإيمان ولم يقبله منهم ولم ينفعهم عنده فقال: «فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون»(2).
والوجه الخامس من الكفر: كفر البراءة، وذلك قوله عزوجل يحكي قول إبراهيم (علیه السلام): «كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاءأبدا حتى تؤمنوا بالله وحده»(3)، يعني تبرأنا منكم، وقال يذكر إبليس وتبرئته من أوليائه من الإنس يوم القيامة: «إني كفرت بما أشركتمون من قبل»(4)، وقال: «إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا»(5)، يعني يتبرأ بعضكم من بعض»(6).
ص: 422
-------------------------------------------
مسألتان: يحرم الهرج ويجب تهدئة الدعوة له.
وهو عبارة عن الفتنة واختلاط الأمور، وتداخل الحق والباطل، والصحيح والفاسد، والصالح والطالح، ونحو ذلك.
قال الفيروزآبادي: (هرج الناس يهرجون: وقعوا في فتنة واختلاط وقتل)(1).
وقالت (علیها السلام) في خطبتها لنساء المهاجرين والأنصار وذلك لما اشتد بها العلة وجئن لعيادتها: «ثم طيبوا عن أنفسكم أنفسا وطأمنوا للفتنة جأشا وأبشروا بسيف صارم وهرج شامل واستبداد من الظالمين، يدع فيئكم زهيدا وزرعكم حصيدا، فيا حسرتى لكم وأنى بكم وقد عميت قلوبكم عليكم» الخطبة(2).
وفي منية المريد عن المفضل بن عمر قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السلام):«اكتب وبث علمك في إخوانك فإن مت فأورث كتبك بنيك، فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبهم»(3).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لا تقوم الساعة حتى يقوم قائم الحق منا، إذا صارت الدنيا هرجا مرجا، وهو التاسع من صلب الحسين»(4).
ص: 423
.............................
وقال النبي (صلی الله علیه و آله) لابنته فاطمة (علیها السلام): «سوف يخرج الله من صلب الحسين تسعة من الأئمة أمناء معصومون، ومنا مهدي هذه الأمة، إذا صارت الدنيا هرجا ومرجا، وتظاهرت الفتن وتقطعت السبل، و أغار بعضهم على بعض، فلا كبير يرحم صغيرا ولا صغير يوقر كبيرا، فيبعث الله عزوجل عند ذلك مهدينا، التاسع من صلب الحسين، يفتح حصون الضلالة وقلوبا غفلاء، يقوم بالدين في آخر الزمان كما قمت به في أول الزمان ويملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا»(1).قولها (علیها السلام): «وهدأت دعوة الهرج» وهذا مما يشمل عامة الناس في حال عدم الأمن والسلامة.
وهدأت أي: سكنت، وقد سبق أنه لعلها (عليها الصلاة والسلام) أشارت بهذه الجمل إلى أن شيئاً من تلك الحالة الجاهلية كانت باقية فيهم، وذلك لتعبيرها (صلوات الله عليها) بالخضوع والسكون ونحوهما.
مسألة: يلزم الاجتناب عن سيئات المجتمع الجاهلي، حيث تشير الصديقة الكبرى (علیها السلام) في هذا المقطع والذي سبقه إلى مجموعة من مواصفات المجتمع الجاهلي هي:
1: الشرك.
2: الإفك، وهو الكذب.
ص: 424
.............................
3: الكفر.
4: الهرج.
وهي مواصفات ترتبط بالعقيدة والسلوك معاً، وتكشف الحالة الفردية والحالة الاجتماعية للناس.
وبعبارة أخرى: ذكرت الصديقة الطاهرة (علیها السلام) علاقتهم بالخالق وعلاقتهم بالخلق، ففي علاقتهمبالخالق كانوا مشركين وكفاراً، وفي العلاقة بالخلق كان الكذب هو الحاكم في طريقة تعامل بعضهم مع بعض، وكان الهرج هو السيد.
وهي صفات مترابطة يؤثر بعضها في البعض الآخر، فإن سيادة الكذب المتبادل في المجتمع من العلل المعدة للهرج (وهو الفتنة، واختلاط الأمور، والقتل) وإن من يشرك بالخالق غيره - وهو من أكبر الأكاذيب - يهون عليه الكذب على المخلوق من أصدقائه ومجتمعه.
في دعائم الإسلام: عن أبي جعفر محمد بن علي (علیه السلام) أنه قال: «خطب رسول الله يوم فتح مكة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إن الله قد أذهب نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها، ألا إنكم من ولد آدم وآدم من طين، ألا إن خير عباد الله عند الله أتقاكم، إن العربية ليست بأب والد ولكنها لسان ناطق، فمن قصر به عمله لم يبلغ به حسبه، ألا إن كل دم في الجاهلية أو إحنة فهي تحت قدمي إلى يوم القيامة»(1).
ص: 425
.............................
مسألة: هنالك أربع مسؤوليات - في قبال ما ورد في المسألة السابقة - تقع على عاتق كل مصلح، وهي:
1: التصدي للشرك، الجلي والخفي منه.
2: التصدي للإفك والكذب.
3: التصدي للكفر.
4: التصدي للهرج والفتنة.
فالواجب على كل داعية أن يضع التصدي لهذه الأربعة نصب عينيه دائماً.
وقد أشارت الصديقة الطاهرة (علیهم السلام) في هذا المقطع إلى سبعة أدوار ومهام:
1: دارت بهم رحى الإسلام.
2: در بهم حلب الأيام، وهذا من مسؤوليات كل مصلح أن يسعى لتقدم وازدهار أمته.
3: خضعت بهم نعرة الشرك.
4: سكنت بهم فورة الإفك.
5: خمدت بهم نيران الكفر.
6: هدأت بهم دعوة الهرج.
7: استوسق بهم نظام الدين، على ما سيأتي.
ص: 426
.............................
مسألة: على المصلح أن يضع في باله أن دار الدنيا حيث كانت دار امتحان وابتلاء، وأسباب ومسببات، وقانون: «كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء»(1)، وقانون: «وهديناه النجدين»(2)، لذلك ليس من الممكن عادة أن يقضي الإنسان في فترة قصيرة على كل جذور الفساد (العقيدي والعملي) سواء حكم دولة أو أدار عائلة أو أسس منظمة أو نقابة أو حزباً.
وإذا عرف الإنسان ذلك تحلى بالصبر، ولم يمنعه من القيام بواجباته وجود بعض الثغرات والنواقص والأخطاء التي لا يمكنه تجنبها، فإن البعض لا يسعى لقيام دولة إسلامية متعللاً بأنها ربما تقع فيما بعد بأيد غير أمينة، أو لأننا ربما لا نستطيع من تطبيق الإسلام كاملاً، أو ما أشبه ذلك.
ولكنه يقال: أو ليس الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) قد أقام دولةالإسلام وهو يعلم ب-«أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم»(3)؟
أو ليس قد أقامها وهو يعلم بما قام وسيقوم به أمثال خالد في تعديه على أهل اليمن؟
إلى غير ذلك.
ص: 427
.............................
ومن البيّن الفرق بين التقصير في التصدي للمنكرات والنواقص، وبين اليأس عن العمل لوجود عدد منها قهراً ودون مقدرة للمرء على القضاء عليها.
قال تعالى: «لست عليهم بمصيطر»(1).
وقال سبحانه: «إنك لا تهدي من أحببت»(2).
وقال تعالى: «ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون»(3).
وقال سبحانه: «ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلمبالمفسدين»(4).
وقال تعالى: «ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لايبصرون»(5).
ص: 428
-------------------------------------------
مسألتان: يجب أن يستوسق نظام الدين، ويجب اتباع أهل البيت (علیهم السلام) حتى ينتظم ويستوسق أمره، فإن كل دعوى للاستيساق بواسطة غيرهم باطلة، وهي ككل دعوة باستيساق الأمر من دون الأنبياء (علیهم السلام) ومناهجهم.
والاستيساق بأن تكون شتى الأمور والقضايا الدينية منتظمة ومجتمعة ومتكاملة وعلى وئام تام، فإن الدين جملة واحدة لا يصلح بعضها إلا ببعض، وكل نقص في هذا النظام خبال للإنسان وإنحراف عن الإنسانية، فاللازم أن يهتم الإنسان حتى يستوسق هذا النظام بجميع أجزائه وخصوصياته.
قال تعالى: «أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما اللهبغافل عما تعملون»(1).
وقال سبحانه: «إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً»(2).
وقولها (علیها السلام): «واستوسق نظام الدين» بهم (علیهم السلام) في كل بعديه:
1: النظري عقيدة ومنهاجاً.
ص: 429
.............................
2: والعملي: سلوكاً وممارسة.
كما قال تعالى: «اليوم أكملت لكم دينكم»(1).
وقال (صلی الله علیه و آله): «لضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين»(2)، إلى غير ذلك.
مسألة: من مقتضيات استيساق نظام الدين، عدم الإفراط أو التفريط.
فإن من ترهبن أو أسرف أو ما أشبه ليس نظام دينه مستوسقاً ومتسقاً.
قال تعالى: «وكذلك جعلناكم أمة وسطا»(3).
وعن بريد العجلي قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ»(4) فقال: «نحن الأمة الوسطى ونحن شهداء لله على خلقه وحججه في أرضه»(5).
وعن أبي جعفر (علیه السلام) في قول الله تعالى «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» قال أبوجعفر(علیه السلام): «منا شهيد على كل زمان، علي بن أبي طالب (علیه السلام) في زمانه، والحسن
ص: 430
.............................
(علیه السلام) في زمانه، والحسين (علیه السلام) في زمانه، وكل من يدعومنا إلى أمر الله»(1).
وعن عمر بن حنظلة قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» قال: «هم الأئمة (علیهم السلام) »(2).
وعن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر (علیه السلام) يقول: «نحن نمط الحجاز» فقلت: وما نمط الحجاز؟ قال: «أوسط الأنماط، إن الله يقول: «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً» قال ثم قال: إلينا يرجع الغالي وبنا يلحق المقصر»(3).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن الله لم يكتب علينا الرهبانية إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله»(4).
وفي الحديث: «لا رهبانية في الإسلام»(5).
وعن علي (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ليس فيأمتي رهبانية ولاسياحة ولا زم يعني سكوت»(6).
ص: 431
مسألة: يحرم الحيرة بعد البيان ووصول الحجة، خاصة فيما يرتبط بهم وبحقوقهم (علیهم السلام)، فإنه من الحيرة والشك في أصول الدين وما يرتبط بأصول الدين، ومن الواضح أن ذلك من أشد المحرمات.
أما الحيرة في فروع الدين فإنها وإن كانت محرمة، إلا أنها ليست بتلك المنزلة، فالفرق بينهما هو الفرق بين أصول الدين وفروعه، وقد قال أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام): «لا ترتابوا فتشكوا ولا تشكوا فتكفروا»(2).
والريب هو: أول مراتب الشك، والشك هو عبارة عن: الإيغال في الترديد، ومن أوغل في الترديد لابد وأن ينتهي به الأمر إلى الكفر.
لا يقال: الحيرة والشك أمر غير اختياري.إذ يقال: كثير من موارده اختياري، والكثير منها اختياري باختيارية المقدمات وبعد ذلك لابد من صرف الذهن ورفع الشك والحيرة.
وربما يكون (حرتم) في قولها (علیها السلام): «فأنى حرتم بعد البيان» إشارة إلى الحيرة العملية، أي إنما سلكتم سلوك الحائر وإن لم تكونوا حيارى حقيقة.
هذا كله على نسخة (حرتم)، وفي بعض النسخ (جُرتم) من الجور أي كيف
ص: 432
.............................
ولماذا جرتم وظلمتمونا بعد أن بان حقنا لكم؟
عن الحسين بن الحكم قال: كتبت إلى العبد الصالح (علیه السلام) أخبره أني شاك وقد قال إبراهيم (علیه السلام) رب أرني كيف تحيي الموتى وأني أحب أن تريني شيئا، فكتب (علیه السلام): «إن إبراهيم كان مؤمنا وأحب أن يزداد إيمانا وأنت شاك والشاك لا خير فيه» وكتب: «إنما الشك ما لم يأت اليقين فإذا جاء اليقين لم يجز الشك، وكتب إن الله عزوجل يقول: «وما وجدنا لأكثرهم منعهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين»(1) قال: نزلت في الشاك»(2).
وعن محمد بن مسلم قال: كنت عند أبي عبد الله (علیه السلام) جالسا عن يساره وزرارة عن يمينه فدخل عليه أبو بصير فقال: يا أبا عبد الله ما تقول فيمن شك في الله؟ فقال: «كافر يا أبا محمد» قال: فشك في رسول الله؟ فقال: «كافر» قال: ثم التفت إلى زرارة فقال: «إنما يكفر إذا جحد»(3).
وعن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: «الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم»(4)، قال: «بشك»(5).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إن الشك والمعصية في النار ليسا منا ولا إلينا»(6).
ص: 433
.............................
وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «الريب كفر»(1).
وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «لا ينفع مع الشك والجحود عمل»(2).
وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «من شك أو ظن فأقام على أحدهما أحبط الله عمله إن حجة الله هي الحجة الواضحة»(3).
وعن محمد بن مسلم عن أحدهما (علیهما السلام) قال: قلت: إنا لنرى الرجل له عبادة واجتهاد وخشوع ولا يقول بالحق فهل ينفعه ذلك شيئا؟
فقال: «يا محمد إنما مثل أهل البيت مثل أهل بيت كانوا في بني إسرائيل كان لا يجتهد أحد منهم أربعين ليلة إلا دعا فأجيب، وإن رجلا منهم اجتهد أربعين ليلة ثم دعا فلم يستجب له، فأتى عيسى بن مريم (علیه السلام) يشكوا إليه ما هو فيه ويسأله الدعاء له، قال: فتطهر عيسى وصلى ركعتين ثم دعا الله عزوجل، فأوحى الله عز وجل إليه: يا عيسى إن عبدي أتاني من غير الباب الذي أوتى منه، إنه دعاني وفي قلبه شك منك، فلو دعاني حتى ينقطع عنقهوتنتثر أنامله ما استجبت له، قال: فالتفت إليه عيسى (علیه السلام) فقال: تدعو ربك وأنت في شك من نبيه، فقال: يا روح الله وكلمته قد كان والله ما قلت، فادع الله لي أن يذهب به عني، قال: فدعا له عيسى (علیه السلام) فتاب الله عليه وقبل منه وصار في حد أهل بيته»(4).
ص: 434
.............................
وفي تفسير العياشي عن زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام): «وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم»(1). يقول: «شكا إلى شكهم»(2).
وعن الصادق (علیه السلام) عن أبيه (علیه السلام) قال: «إن الله عزوجل جعل عليا علما بينه وبين خلقه ليس بينه وبينهم علم غيره، فمن تبعه كان مؤمنا ومن جحده كان كافرا، ومن شك فيه كان مشركا»(3).وروي: «إذا خطر ببالك في عظمته وجبروته أو بعض صفاته شيء من الأشياء فقل: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وعلي أمير المؤمنين، إذا قلت ذلك عدت إلى محض الإيمان»(4).
ص: 435
-------------------------------------------
مسألة: يحرم الإسرار بعد الإعلان في الجملة، خاصة فيما يرتبط بهم وبحقوقهم (علیهم السلام).
فإن الواجب على الإنسان أن يصدع بالحق إذا لم تكن هناك تقية ملزمة، وهؤلاء كانوا صادعين بالحق ثم أسروا طمعاً في الدنيا، ولم تكن تقية توجب ذلك، لأنه كانت فيهم القوة والمنعة والعدد والعدة، وإنما رغبوا إلى الدنيا، ولذا أسرّوا الواقع وأعلنوا نقيضه.
ثم إنه حتى لو لم تكن فيهم القوة والمنعة والعدد والعدة، فإن التقية كانت منهم محرمة مع وجود أمر الإمام (علیه السلام) المفترض الطاعة بعدمها وبضرورة رفع الراية والمطالبة بالحق، ولذلك كان منها (علیها السلام) العتاب أيضاً(1).ثم إنه لا كلام في أن هذا (الإسرار) محرم مطلقاً(2)، إنما الكلام في أن ذكرها (علیها السلام) الإسرار بعد الإعلان هل هو من باب كونه مصداقاً من مصاديقه الخارجية التي وقعت إذ كانوا كذلك، أم تخصيصه بالذكر لأنه أشد حرمة من الإسرار بما هو هو؟
ص: 436
.............................
لا يبعد الثاني، خاصة في مثل المقام.
قال تعالى: «وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ»(1).
وعن جابر عن أبي جعفر (علیه السلام): قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من كتم شهادة أو شهد بها ليهدر لها بها دم امرئ مسلم أو ليزوي مال امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه ظلمة مد البصر وفي وجهه كدوح تعرفه الخلائق باسمه ونسبه، ومن شهد شهادة حق ليحيي بها حق امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه نور مد البصر تعرفه الخلائق باسمه ونسبه» ثم قال أبو جعفر (علیه السلام): «ألا ترى أنالله تبارك وتعالى يقول: «وأقيموا الشهادة لله»(2)،»(3).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «عليكم بلزوم العفة والأمانة، فإنهما أشرف ما أسررتم وأحسن ما أعلنتم وأفضل ما ادخرتم»(4).
وقال (علیه السلام): «إن التقوى منتهى رضى الله من عباده وحاجته من خلقه، فاتقوا الله الذي إن أسررتم علمه وإن أعلنتم كتبه»(5).
ص: 437
-------------------------------------------
مسألة: يحرم النكص بعد الإقدام في الجملة، خاصة فيما يرتبط بهم وبحقوقهم (علیهم السلام).
فإن اللازم على الإنسان أن يكون مقداماً، لا أن يكون ناكصاً على عقبيه.
النكوص: الإحجام والرجوع عن الشيء، نكص أي رجع القهقرى.
وهؤلاء توقّفوا عن التقدم بل رجعوا القهقرى، فبينما كانوا لا يبالون بالحياة ويتقدمون إلى سوح الجهاد، ويبذلون كل شيء في سبيل الله سبحانه وتعالى، صاروا يرجعون إلى الخفض والدعة والعيش الرغيد، ولذا تركوا مناصرة الحق وانساقوا مع التيار المنحرف.
ولا يبعد القول بأشدية حرمة النكوص بعد الإقدام من النكوص الابتدائي نظراً لما يحدثه من الوهن ولغير ذلك.
قال تعالى: «فكنتم على أعقابكم تنكصون»(1).
قال أمير المؤمنين (علیه السلام) في نهج البلاغة: «اللهم أيما عبد منعبادك سمع مقالتنا العادلة غير الجائرة، والمصلحة في الدين والدنيا غير المفسدة، فأبى بعد سمعه لها إلا النكوص عن نصرتك، والإبطاء عن إعزاز دينك، فإنّا نستشهدك عليه يا أكبر الشاهدين شهادة، ونستشهد عليه جميع من أسكنته أرضك وسماواتك، ثم أنت بعد، المغني عن نصره والآخذ له بذنبه»(2).
ص: 438
-------------------------------------------
مسألة: يحرم الشرك بعد الإيمان.
والمراد بالشرك هنا: الشرك الخفي، لا الشرك الجلي، لأنهم لم يتخذوا وثناً ولا صنماً ولا ناراً شريكاً لله سبحانه، وإنما رفضوا أحكام الله سبحانه وصاروا بذلك مشركين شركاً خفياً.
وبتعبير آخر: مقتضى المقابلة في كلامها (علیها السلام) بين الشرك والإيمان أنهم لم يكونوا - بعدها - مؤمنين، وإن كانوا مسلمين، إذ لم تقل (علیها السلام) أشركتم بعد الإسلام.
فإن الإسلام يتحقق بالشهادتين وهم أنكروا الشهادة الثالثة - ولو عملياً - فكانوا مشركين وغير مؤمنين عملياً، ونظرياً أيضا إذا أنكروا مضافاً إلى ذلك أدلة الإمامة، فكان شركهم بالقياس إلى أصل الامامة وأيضاً بلحاظ إنكار بعض أحكام الله ومنها إرث الزهراء (علیها السلام) من أبيها رسول الله (صلی الله علیه و آله).
عن جميل بن دراج قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عزوجل:«قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم»(1)، فقال لي: «ألا ترى أن الإيمان غير الإسلام»(2).
ص: 439
.............................
وعن سفيان بن السمط قال: سأل رجل أبا عبد الله (علیه السلام) عن الإسلام والإيمان ما الفرق بينهما؟ فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، ثم التقيا في الطريق وقد أزف من الرجل الرحيل، فقال له أبو عبد الله (علیه السلام): «كأنه قد أزف منك رحيل» فقال: نعم، فقال: «فالقني في البيت» فلقيه فسأله عن الإسلام والإيمان ما الفرق بينهما؟ فقال: «الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس: شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصيام شهر رمضان فهذا الإسلام» وقال: «الإيمان هذا الأمر مع هذا، فإن أقر بها ولم يعرف هذا الأمر كان مسلماوكان ضالا»(1).
وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «الإسلام يحقن به الدم وتؤدى به الأمانة وتستحل به الفروج والثواب على الإيمان»(2).
وعن سماعة قال:قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): أخبرني عن الإسلام والإيمان أهما مختلفان؟ فقال: «إن الإيمان يشارك الإسلام، والإسلام لا يشارك الإيمان» فقلت: فصفهما لي؟ فقال: «الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله والتصديق برسول الله(صلی الله علیه و آله)، به حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث، وعلى ظاهره جماعة الناس، والإيمان الهدى وما يثبت في القلوب من صفة الإسلام وما ظهر من العمل به، والإيمان أرفع من الإسلام بدرجة، إن الإيمان يشارك الإسلام في الظاهر والإسلام لا يشارك الإيمان في الباطن وإن اجتمعا في القول والصفة»(3).
ص: 440
.............................
وعن عبد الرحيم القصير قال: كتبتمع عبد الملك بن أعين إلى أبي عبد الله (علیه السلام) أسأله عن الإيمان ما هو؟ فكتب إلي مع عبد الملك بن أعين: «سألت رحمك الله عن الإيمان، والإيمان هو الإقرار باللسان وعقد في القلب وعمل بالأركان، والإيمان بعضه من بعض، وهو دار وكذلك الإسلام دار، والكفر دار، فقد يكون العبد مسلما قبل أن يكون مؤمنا، ولا يكون مؤمنا حتى يكون مسلما، فالإسلام قبل الإيمان وهو يشارك الإيمان، فإذا أتى العبد كبيرة من كبائر المعاصي أو صغيرة من صغائر المعاصي التي نهى الله عزوجل عنها كان خارجا من الإيمان، ساقطا عنه اسم الإيمان، وثابتا عليه اسم الإسلام، فإن تاب واستغفر عاد إلى دار الإيمان، ولا يخرجه إلى الكفر إلا الجحود والاستحلال أن يقول للحلال هذا حرام وللحرام هذا حلال ودان بذلك، فعندها يكون خارجا من الإسلام والإيمان داخلا في الكفر، وكان بمنزلة من دخل الحرم ثم دخل الكعبة وأحدث في الكعبة حدثا فأخرج عن الكعبة وعن الحرم فضربت عنقه وصار إلى النار»(1).
وعن سماعة بن مهران قال: سألته عنالإيمان والإسلام، قلت له: أفرق بين الإسلام والإيمان؟ قال: «فأضرب لك مثله» قال: قلت: أورد ذلك، قال: «مثل الإيمان والإسلام مثل الكعبة الحرام من الحرم، قد يكون في الحرم ولايكون في الكعبة، ولا يكون في الكعبة حتى يكون في الحرم، وقد يكون مسلما ولايكون مؤمنا، ولا يكون مؤمنا حتى يكون مسلما»(2).
ص: 441
.............................
مسألة: يمكن استفادة سنة من سنن الله في المجتمع وقاعدة اجتماعية ونفسية من كلامها (صلوات الله عليها) وهي: إن الحيرة والكتمان والنكوص والشرك حقائق أربع متلازمة، بل فوق ذلك: إن الحيرة بعد البيان هي عادة منشأ الشرور اللاحقة، فإنها هي منشأ النكوص بعد الإقدام، والإسرار بعد الإعلان، والشرك بعد الإيمان.
وهذا ما يلاحظ بالوجدان، ويظهر من ابتدائها (علیها السلام) بالحيرة بعدالبيان.
فتلزم محاربة الحيرة أشد الحرب، فإنها المنفذ الذي ينفذ منه الشيطان، والمدخل الذي يدخل منه أعداء الدين وقوى الاستعمار لتحطيم عزم الأمة وإرادتها.
وهكذا فإن إثارة الشبهات تعد من هذا المنظار من أشد المحرمات، وفي المقابل إجابة الشبهات وتثبيت الإيمان من أكبر الطاعات:
وقد ورد في زيارة الإمام الحسين (علیه السلام): «وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة»(1).
وعن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) رجل راوية لحديثكم يبث ذلك في الناس ويشدده في قلوبهم وقلوب شيعتكم ولعل عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرواية، أيهما أفضل؟ قال: «الراوية لحديثنا يشد به قلوب شيعتنا
ص: 442
.............................
أفضل من ألف عابد»(1).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «من كان من شيعتنا عالما بشريعتنا فأخرج ضعفاء شيعتنا من ظلمة جهلهم إلى نور العلم الذي حبوناه به، جاء يوم القيامة وعلى رأسه تاج من نور، يضيء لأهل جميع العرصات، وعليه حلة لا يقوم لأقل سلك منها الدنيا بحذافيرها، ثم ينادي مناد: يا عباد الله هذا عالم من تلامذة بعض علماء آل محمد، ألا فمن أخرجه في الدنيا من حيرة جهله فليتشبث بنوره ليخرجه من حيرة ظلمة هذه العرصات إلى نزه الجنان، فيخرج كل من كان علّمه في الدنيا خيرا،أو فتح عن قلبه من الجهل قفلا،أو أوضح له عن شبهة»(2).
وقال علي (علیه السلام): «من قوى مسكينا في دينه، ضعيفا في معرفته، على ناصب مخالف فأفحمه، لقنه الله يوم يدلى في قبره أن يقول: الله ربي ومحمد نبيي وعلي وليي والكعبة قبلتي والقرآن بهجتي وعدتي والمؤمنون إخواني، فيقول الله: أدليت بالحجة فوجبت لك أعالي درجات الجنة فعند ذلك يتحولعليه قبره أنزه رياض الجنة»(3).
وقالت فاطمة الزهراء (علیها السلام) وقد اختصم إليها امرأتان، فتنازعتا في شيء من أمر الدين، إحداهما معاندة والأخرى مؤمنة، ففتحت على المؤمنة حجتها فاستظهرت على المعاندة ففرحت فرحا شديدا، فقالت فاطمة (علیها السلام): «إن فرح الملائكة باستظهارك عليها أشد من فرحك، وإن حزن الشيطان ومردته بحزنها
ص: 443
.............................
أشد من حزنها، وإن الله تعالى قال لملائكته: أوجبوا لفاطمة بما فتحت على هذه المسكينة الأسيرة من الجنان ألف ألف ضعف مما كنت أعددت لها واجعلوا هذه سنة في كل من يفتح على أسير مسكين فيغلب معاندا مثل ألف ألف ما كان معدا له من الجنان»(1).
وقال أبو محمد العسكري (علیه السلام): «حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء (علیها السلام) فقالت:إن لي والدة ضعيفة وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء وقد بعثتني إليك أسألك، فأجابتها فاطمة (علیها السلام) عن ذلك، فثنت فأجابت، ثم ثلثت إلى أن عشرت فأجابت، ثم خجلت من الكثرة، فقالت: لا أشق عليك يا ابنة رسول لله.
قالت فاطمة (علیها السلام): هاتي وسلي عما بدا لك، أرأيت من اكتري يوما يصعد إلى سطح بحمل ثقيل وكراه مائة ألف دينار يثقل عليه؟
فقالت: لا.
فقالت: اكتريت أنا لكل مسألة بأكثر من مل ء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤا، فأحرى أن لا يثقل عليّ، سمعت أبي (صلی الله علیه و آله) يقول: إن علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدهم في إرشاد عباد الله حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلة من نور، ثم ينادي منادي ربنا عزو جل: أيها الكافلون لأيتام آل محمد (صلی الله علیه و آله) الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمتهم هؤلاء تلامذتكم والأيتام الذين
ص: 444
.............................
كفلتموهم ونعشتموهم فاخلعوا عليهم خلع العلوم في الدنيا، فيخلعون علىكل واحد من أولئك الأيتام على قدر ما أخذوا عنهم من العلوم، حتى إن فيهم يعني في الأيتام لمن يخلع عليه مائة ألف خلعة، وكذلك يخلع هؤلاء الأيتام على من تعلم منهم، ثم إن الله تعالى يقول: أعيدوا على هؤلاء العلماء الكافلين للأيتام حتى تتموا لهم خلعهم وتضعفوها لهم، فيتم لهم ما كان لهم قبل أن يخلعوا عليهم ويضاعف لهم وكذلك من يليهم ممن خلع على من يليهم، وقالت فاطمة(علیها السلام): يا أمة الله إن سلكة من تلك الخلع لأفضل مما طلعت عليه الشمس ألف ألف مرة وما فضل فإنه مشوب بالتنغيص والكدر»(1).
وقال الحسن بن علي (علیه السلام): «فضل كافل يتيم آل محمد (علیه السلام) المنقطع عن مواليه الناشب في رتبة الجهل يخرجه من جهله ويوضح له ما اشتبه عليه، على فضل كافل يتيم يطعمه ويسقيه كفضل الشمس على السها»(2).
وقال الحسين بن علي (علیه السلام): «من كفل لنا يتيما قطعته عنا محنتنا باستتارنا فواساه من علومنا التي سقطت إليه حتى أرشده قال الله عزوجل:أيها العبد الكريم المواسي أنا أولى بالكرم، اجعلوا له يا ملائكتي في الجنان بعدد كل حرف علمه ألف ألف قصر وضموا إليها ما يليق بها من سائر النعم»(3).
وقال محمد بن علي الباقر (علیه السلام): «العالم كمن معه شمعة تضيء للناس، فكل من أبصر شمعته دعا له بخير، كذلك العالم مع شمعة تزيل ظلمة الجهل
ص: 445
.............................
والحيرة فكل من أضاءت له فخرج بها من حيرة أو نجا بها من جهل فهو من عتقائه من النار، والله يعوضه عن ذلك بكل شرة لمن أعتقه ما هو أفضل له من الصدقة بمائة ألف قنطار على غير الوجه الذي أمر الله عزوجل به، بل تلك الصدقة وبال على صاحبها لكن يعطيه الله ما هو أفضل من مائة ألف ركعة بين يدي الكعبة»(1).
وقال جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام): «علماء شيعتنا مرابطون بالثغر الذي يلي إبليس وعفاريتهيمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا وعن أن يتسلط عليهم إبليس وشيعته النواصب، ألا فمن انتصب لذلك من شيعتنا كان أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرة، لأنه يدفع عن أديان محبينا وذلك يدفع عن أبدانهم»(2).
وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «من كان همه في كسر النواصب عن المساكين من شيعتنا الموالين لنا أهل البيت يكسرهم عنهم ويكشف عن مخازيهم ويبين عوراتهم ويفخم أمر محمد وآله (صلوات الله عليهم) جعل الله همة أملاك الجنان في بناء قصوره ودوره يستعمل بكل حرف من حروف حججه على أعداء الله أكثر من عدد أهل الدنيا أملاكا، قوة كل واحد تفضل عن حمل السماوات والأرض، فكم من بناء وكم من نعمة وكم من قصور لا يعرف قدرها إلا رب العالمين»(3).
ص: 446
.............................
وقال موسى بن جعفر (علیه السلام): «فقيه واحد ينقذ يتيما من أيتامنا المنقطعين عنا وعن مشاهدتنا بتعليمما هو محتاج إليه أشد على إبليس من ألف عابد، لأن العابد همه ذات نفسه فقط وهذا همه مع ذات نفسه ذات عباد الله وإمائه لينقذهم من يد إبليس ومردته، فذلك هو أفضل عند الله من ألف ألف عابد وألف ألف عابدة»(1).
وقال الإمام الكاظم (علیه السلام): «من أعان محبا لنا على عدو لنا فقواه وشجعه حتى يخرج الحق الدال على فضلنا بأحسن صورته ويخرج الباطل الذي يروم به أعداؤنا ودفع حقنا في أقبح صورة حتى ينبه الغافلين ويستبصر المتعلمون ويزداد في بصائرهم العالمون بعثه الله تعالى يوم القيامة في أعلى منازل الجنان ويقول: يا عبدي الكاسر لأعدائي الناصر لأوليائي المصرح بتفضيل محمد خير أنبيائي وبتشريف علي أفضل أوليائي ويناوي من ناواهما ويسمي بأسمائهما وأسماء خلفائهما ويلقب بألقابهم فيقول ذلك ويبلغ الله جميع أهل العرصات فلا يبقى كافر ولا جبار ولا شيطان إلا صلى على هذا الكاسر لأعداء محمد (صلی الله علیه و آله) ولعن الذين كانوا يناصبونه في الدنيا من النواصب لمحمد وعلي صلوات اللهعليهما»(2).
وقال علي بن موسى الرضا (علیه السلام): «يقال للعابد يوم القيامة نعم الرجل كنت، همتك ذات نفسك وكفيت الناس مئونتك فادخل الجنة، ألا إن الفقيه من أفاض على الناس خيره وأنقذهم من أعدائهم ووفر عليهم نعم جنان الله وحصل
ص: 447
.............................
لهم رضوان الله تعالى ويقال للفقيه: يا أيها الكافل لأيتام آل محمد الهادي لضعفاء محبيهم ومواليهم قف حتى تشفع لكل من أخذ عنك أو تعلم منك، فيقف فيدخل الجنة ومعه فئاما وفئاما وفئاما حتى قال عشرا وهم الذين أخذوا عنه علومه وأخذوا عمن أخذ عنه وعمن أخذ عمن أخذ عنه إلى يوم القيامة فانظروا كم فرق بين المنزلتين»(1).
وقال محمد بن علي الجواد (علیه السلام): «من تكفل بأيتام آل محمد المنقطعين عن إمامهم المتحيرين في جهلهم الأسراء في أيدي شياطينهم وفيأيدي النواصب من أعدائنا فاستنقذهم منهم وأخرجهم من حيرتهم وقهر الشياطين برد وساوسهم وقهر الناصبين بحجج ربهم ودليل أئمتهم ليفضلون عند الله تعالى على العباد بأفضل المواقع بأكثر من فضل السماء على الأرض والعرش والكرسي والحجب على السماء، وفضلهم على هذا العابد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء»(2).
وقال علي بن محمد (علیه السلام): «لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم (علیه السلام) من العلماء الداعين إليه والدالين عليه والذابين عن دينه بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته ومن فخاخ النواصب لما بقي أحد إلا ارتد عن دين الله ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها أولئك هم الأفضلون عند الله عزوجل»(3).
ص: 448
.............................
وعن أبي محمد عن أبيه (علیه السلام) قال: «تأتي علماء شيعتنا القوامون بضعفاء محبينا وأهل ولايتنايوم القيامة والأنوار تسطع من تيجانهم على رأس كل واحد منهم تاج بهاء قد انبثت تلك الأنوار في عرصات القيامة ودورها مسيرة ثلاثمائة ألف سنة فشعاع تيجانهم ينبث فيها كلها فلا يبقى هناك يتيم قد كفلوه ومن ظلمة الجهل أنقذوه ومن حيرة التيه أخرجوه إلا تعلق بشعبة من أنوارهم فرفعتهم إلى العلو حتى يحاذي بهم فوق الجنان ثم ينزلهم على منازلهم المعدة في جوار أستاديهم ومعلميهم وبحضرة أئمتهم الذين كانوا يدعون إليهم ولا يبقى ناصب من النواصب يصيبه من شعاع تلك التيجان إلا عميت عينه وصمت أذنه وأخرس لسانه وتحول عليه أشد من لهب النيران فيتحملهم حتى يدفعهم إلى الزبانية فتدعوهم إلى سواء الجحيم»(1).
إلى غيرها من الروايات.
ص: 449
مسألة: يستفاد من كلامها (علیها السلام) جواز وربما وجوب مقاتلة أولئك القوم الذين خرجوا على إمام زمانهم ونقضوا البيعة ونصبوا غير من نصبه الله ورسوله(صلی الله علیه و آله).
بل كلامها (علیها السلام) تحريض أكيد على مقاتلتهم: «ألا تقاتلون قوماً..».
ومنه يعلم بضميمة الحديث المتفق عليه بين الفريقين: «إن الله يرضى لرضى فاطمة ويغضب لغضبها»(2): أن رضى الله كان في مقاتلتهم وسخطه كان في الخذلان.
وهل يستفاد من كلامها (علیها السلام) عمومية جواز مقاتلة القوم الذين نقضوا أيمانهم، أم هو مختص بالمقام، فتأمل.
وفي بعض النسخ: «بؤساً لقوم».ومن الجلي أن (البؤس) أعم من البؤس الأخروي والدنيوي، فهم بنقض البيعة خسروا دنياهم وآخرتهم، والبؤس هو الشدة والفقر، أي اشتداد الحاجة والافتقار، والشدة أعم من الشدة الأمنية والسياسية والإدارية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها.
ص: 450
.............................
فالمستفاد من كلامها (علیها السلام) أن نكثهم الأيمان بالنسبة إلى ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) نجم عنه كل ما حدث من الحروب والمحن والمشاكل والأزمات.
وكلامها (علیها السلام) إشارة إلى قوله تعالى: «أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»(1).
قال سبحانه: «وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ»(2).
وقال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَإِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً»(3).
وعن موسى بن جعفر (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من نكث بيعة أو رفع لواء ضلالة أو كتم علما أو اعتقل مالا ظلما أو أعان ظالما على ظلمه وهو يعلم أنه ظالم فقد برئ من الإسلام»(4).
وقال علي (علیه السلام): «من نكث بيعته لقي الله وهو أجذم لا يد له»(5).
ص: 451
.............................
وعن علي بن جعفر عن أخيه موسى (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من فارق جماعة المسلمين فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، قيل: يا رسول الله وما جماعة المسلمين؟ قال: جماعة أهل الحق وإن قلوا»(1).قال النبي (صلی الله علیه و آله): «ثلاث موبقات، نكث الصفقة وترك السنة وفراق الجماعة، وثلاث منجيات تكف لسانك وتبكي على خطيئتك وتلزم بيتك»(2).
قال سلمان وعبد الله بن العباس قالا: «توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم توفي فلم يوضع في حفرته حتى نكث الناس وارتدوا وأجمعوا على الخلاف، واشتغل علي (علیه السلام) برسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى فرغ من غسله وتكفينه وتحنيطه ووضعه في حفرته»(3).
وعن العالم موسى بن جعفر (علیه السلام) في حديث: «وإذا قيل لهؤلاء الناكثين للبيعة في يوم الغدير «لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ» بإظهار نكث البيعة لعباد الله المستضعفين فتشوشون عليهم دينهم، و تحيرونهم في مذاهبهم»(4).
ص: 452
.............................
مسألة: من أكبر المحرمات وأشدها نكث بيعة الله وبيعة الرسول (صلی الله علیه و آله) وبيعة الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام).
فإن القوم كانوا قد حلفوا وعاهدوا بالاستمرار مع الرسول (صلی الله علیه و آله) وبايعوه على ذلك، وكانت تلك مبايعة مع الله عزوجل، فإن يد الله فوق أيديهم، قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أجْراً عَظِيماً» (1).
وربما تكون إحدى الوجوه في قوله تعالى:«يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» (2)أن أسلوب البيعة كان عبارة عن أن الرسول (صلی الله علیه و آله) يرفع يده إلى أعلى، وكانوا يمرّون يدهم بيده (صلی الله علیه و آله) أخذاً من الأصابع وانتهاءً إلى آخر الكف، وذلك على ما يظهر منالتواريخ.
ونكث البيعة كان بالعكس من ذلك، بأن يمر المبايع يده من آخر الكف طرف الزند إلى الأصابع نكثاً للبيعة وكأنه تخلص عن البيعة وتفرّغ عنها.
والمحتمل في هذا المقطع من كلامها (صلوات الله عليها) في القوم الذين نكثوا أيمانهم أمران:
ص: 453
.............................
الأول: أنهم حكماً هم اليهود الذين نقضوا عهدهم مع الرسول (صلی الله علیه و آله) وعاضدوا الأحزاب وهموا بإخراج الرسول (صلی الله علیه و آله) من المدينة.
الثاني: أنهم حكماً هم مشركو قريش وكفار مكة قبل الهجرة وبعدها أيضاً(1)، وهذا أظهر بلحاظ انطباق كلامها (علیها السلام) بكامله عليهم، فهي(علیها السلام) تحرض الناس على قادة الانقلاب ضد النبي (صلی الله علیه و آله) ومخططي السقيفة، فإنهم نقضوا أيمانهم من بعدعهدهم، وهموا بإخراج الرسول (صلی الله علیه و آله) من قبل، وهم قد بدؤوكم - أيها المسلمين - أول مرة، أي زمن النبي (صلی الله علیه و آله) في قضايا عديدة منها قضية (ودباب دحرجوها) (2) في العقبة. أو إنهم قد بدؤوكم - أيها الأوس والخزرج - أول مرة عندما جاؤوا للمدينة لمقاتلتكم.
وهذه المرة الثانية حيث تعرضوا لوصي النبي (علیه السلام)، ف- (أول مرة) بلحاظ الصنف لا العدد(3).
عن بكير بن عبيد الله الطويل وعمار بن أبي معاوية قالا: حدثنا أبو عثمان البجلي مؤذن بني قصي، قال بكير: أذن لنا أربعين سنة، قال: سمعت عليا (علیه السلام) يقول يوم الجمل: «وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي
ص: 454
.............................
دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَلَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ» ثم حلف حين قرأها أنه ما قوتل أهلها منذ نزلت حتى اليوم، قال بكير: فسألت عنها أبا جعفر (علیه السلام)، فقال: «صدق الشيخ هكذا قال علي (علیه السلام) هكذا كان»(1).
ومن كلام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) حين دخل البصرة وجمع أصحابه فحرضهم على الجهاد وكان مما قال: «عباد الله انهدوا إلى هؤلاء القوم، منشرحة صدوركم بقتالهم، فإنهم نكثوا بيعتي وأخرجوا ابن حنيف عاملي بعد الضرب المبرح والعقوبة الشديدة وقتلوا السبابجة ومثلوا بحكيم بن جبلة العبدي وقتلوا رجالا صالحين ثم تتبعوا منهم من نجا يأخذونهم في كل حائط وتحت كل رابية ثم يأتون بهم فيضربون رقابهم صبرا، ما لهم قاتلهم الله أنى يؤفكون، انهدوا إليهم وكونوا أشداء عليهم والقوهم صابرين محتسبين تعلمون أنكم منازلوهم ومقاتلوهم ولقد وطنتم أنفسكم على الطعن الدعسي والضرب الطلحفي ومبارزة الأقران، وأي امرئ أحس من نفسه رباطة جأش عند اللقاء ورأى من أحد من إخوانه فشلافليذب عن أخيه الذي فضل عليه كما يذب عن نفسه فلو شاء الله لجعله مثله»(2).
وعن الإمام الصادق (علیه السلام) في قوله تعالى: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لايَشْعُرُونَ»(3)، قال:
ص: 455
.............................
«ما قوتل أهل هذه يعني البصرة إلا بهذه الآية، وقرأ أمير المؤمنين يوم البصرة: «وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ»(1).
ثم قال: لقد عهد إليّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: يا علي لتقاتلن الفئة الناكثة والفئة الباغية والفرقة المارقة، إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون»(2).
قالت فمن قاتل الأقوام إذ نكثوا *** فقلت تفسيره في وقعة الجمل
ص: 456
-------------------------------------------
مسألة: يحرم إخراج الرسول (صلی الله علیه و آله)، فإن إخراجه (صلی الله علیه و آله) من أشد المحرّمات، كما فعله المشركون من أهل مكة.
بل يحرم إخراج كل أحد عن وطنه وملكه.
قال أبو عبد الله (علیه السلام): «لما بويع أبوبكر واستقام له الأمر على جميع المهاجرين والأنصار بعث إلى فدك من أخرج وكيل فاطمة بنت رسول الله (علیها السلام) منها»(1).
كما يحرم إخراج المسلم عن أي من البلاد الإسلامية، إذ لا حدود جغرافية في الإسلام، والبلاد الإسلامية بلد واحد، والمسلم حر في أن يعيش في أي منها، فلا جواز ولا إقامة ولا تأشيرة ولا غيرها من بدع الاستعمار.
قال المفسرون في قوله تعالى «وَإِذْيَمْكُرُ بِكَ»(2): (إنها نزلت في قصة دار الندوة وذلك أن نفرا من قريش اجتمعوا فيها وهي دار قصي بن كلاب وتآمروا في أمر النبي (صلی الله علیه و آله) فقال عروة بن هشام: «نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ»(3).
وقال أبو البختري: أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه.
ص: 457
.............................
وقال أبو جهل: ما هذا برأي، ولكن اقتلوه بأن يجتمع عليه من كل بطن رجل فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد فترضى حينئذ بنو هاشم بالدية.
فصوب إبليس هذا الرأي وكان قد جاءهم في صورة شيخ كبير من أهل نجد وخطأ الأولين.
فاتفقوا على هذا الرأي وأعدوا الرجال والسلاح، وجاء جبرئيل فأخبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فخرج إلى الغار وأمر عليا (علیه السلام) فبات على فراشه، فلما أصبحوا وفتشوا عن الفراش وجدوا عليا وقد رد الله مكرهم وقالوا: أين محمد؟ قال: لا أدري،فاقتصوا أثره وأرسلوا في طلبه، فلما بلغوا الجبل ومروا بالغار رأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو كان هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث (صلی الله علیه و آله) فيه ثلاثة أيام ثم قدم المدينة)(1).
وقد روي عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: «من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب الجنة وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد (صلی الله علیه و آله)»(2).
ص: 458
.............................
مسألة: يحرم الهم بإخراج الرسول (صلی الله علیه و آله).
والهم بالشيء هو العزم عليه وقصده وإرادته.
فإن الهم بإخراج الرسول (صلی الله علیه و آله) يرتبط بأصول الدين والمعتقدات، والنية فيما يخالف أصول الدين محرمة، حتى إذا لم نقل في باب النية بحرمة مطلق نية الحرام، فإن النية فيما يخالف الأحكام الشرعية الفرعية - بدون الإتيان بها - ليست من المحرمات وإن كانت مذمومة، كما ذكر في بحث التجرّي في الأصول(1).
وهناك بعض الفرق بين النية وبين الهمّ بالشيء، فإن الهم بالشيء: العزمعليه وقصده وإرادته فتأمل.
عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «من هم بخير فليعجله ولا يؤخره، فإن العبد ربما عمل العمل فيقول الله تبارك وتعالى: قد غفرت لك ولا أكتب عليك شيئا أبدا، ومن هم بسيئة فلا يعملها، فإنه ربما عمل العبد السيئة فيراه الله سبحانه فيقول: لا وعزتي وجلالي لا أغفر لك بعدها أبدا»(2).
ص: 459
.............................
قال أبو عبد الله (علیه السلام): «ملعون من ترأس ملعون من هم بها ملعون من حدث نفسه بها»(1).
وعن زرارة عن أحدهما (علیهما السلام) قال: «إن الله تبارك وتعالى جعل لآدم في ذريته من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بحسنة وعملها كتبت له بها عشرا، ومن هم بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه سيئة، ومن همبها وعملها كتبت عليه سيئة»(2).
وعن أبي بصير عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إن المؤمن ليهم بالحسنة ولا يعمل بها فتكتب له حسنة، وإن هو عملها كتبت له عشر حسنات، وإن المؤمن ليهم بالسيئة أن يعملها فلا يعملها فلا تكتب عليه»(3).
وعن بكير عن أبي عبد الله (علیه السلام) أو عن أبي جعفر (علیه السلام): «إن الله تعالى قال لآدم (علیه السلام): يا آدم جعلت لك أن من هم من ذريتك بسيئة لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت عليه سيئة، ومن هم منهم بحسنة فإن لم يعملها كتبت له حسنة، وإن هو عملها كتبت له عشرا»(4)، الحديث.
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إذا هم العبد بالسيئة لم تكتب عليه وإذا هم بحسنة كتبت له»(5).
ص: 460
.............................
مسألة: يجوز مقاتلة من هم بإخراج الرسول (صلی الله علیه و آله)، والجواز بالمعنى الأعم. وإنما قلنا بالجواز بالمعنى الأعم، لأنه قد يكون واجباً، وقد يكون مستحباً، كل في مورده، حسب ما ألمعنا إليه في بحوث آنفة، وتفصيل الكلام في كتاب الجهاد(1).
عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «الجهاد أفضل الأشياء بعد الفرائض»(2).
وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: قال أمير المؤمنين (صلوات
اله عليه): «أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه وسوغهم كرامة منه لهم ونعمة ذخرها، والجهاد هو لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجنته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل وشمله البلاء وفارق الرضا وديث بالصغار والقماءة، وضرب على قلبه بالأسداد وأديل الحق منه بتضييع الجهاد وسيم الخسف ومنع النصف، ألا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا وسرا وإعلانا وقلت لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم، فو الله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوافتواكلتم وتخاذلتم حتى شنت عليكم الغارات وملكت عليكم الأوطان، هذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار وقتل حسان بن حسان البكري وأزال خيلكم عن مسالحها وقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها
ص: 461
.............................
ما تمنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام ثم انصرفوا وافرين ما نال رجلا منهم كلم ولا أريق له دم، فلو أن امرأ مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما بل كان عندي به جديرا، فيا عجبا عجبا والله يميث القلب ويجلب الهم من اجتماع هؤلاء على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، فقبحا لكم وترحا حين صرتم غرضا يرمى يغار عليكم ولا تغيرون وتغزون ولا تغزون ويعصى الله وترضون، فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم هذه حمارة القيظ أمهلنا حتى يسبخ عنا الحر، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم هذه صبارة القر أمهلنا حتى ينسلخ عنا البرد، كل هذا فرارا من الحر والقر، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون فأنتم والله من السيف أفر، يا أشباه الرجال ولا رجال، حلوم الأطفال وعقول ربات الحجال، لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم معرفة والله جرت ندما وأعقبتذما، قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحا وشحنتم صدري غيظا وجرعتموني نغب التهمام أنفاسا وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان حتى لقد قالت قريش إن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب، لله أبوهم وهل أحد منهم أشد لها مراسا وأقدم فيها مقاما مني لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين وها أنا قد ذرفت على الستين ولكن لا رأي لمن لا يطاع»(1).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «إن الله فرض الجهاد وعظّمه وجعله نصره وناصره، والله ما صلحت دنيا ولا دين إلا به»(2).
هذا وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من خرج على علي (علیه السلام) فهو في النار»(3).
ص: 462
-------------------------------------------
مسألة: يجوز مقاتلة ومقابلة من بدأ بالقتال أول مرة، أما مقاتلة من لم يبدأ بقتال فهي مشروطة بما ذكر في كتاب الجهاد(1) في إطار قوله تعالى: «وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ» (2).
والإسلام - كما هو واضح في حروب الرسول (صلی الله علیه و آله) وحروب أمير المؤمنين علي والإمام الحسن والإمام الحسين (صلوات الله عليهم أجمعين) - يؤكد على أن لا يبدأ بقتال الكفار والمشركين ومن أشبههم، وذلك حتى تكون عليهم الحجة البالغة، فإن البادي بالقتال هو الذي قد تسقط حجته ببدئه بالقتال.
وقد بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) في وقعة بدر إلى قريش وقال: «يا معاشر قريش إني أكره أن أبدأكمفخلوني والعرب وارجعوا»(3).
وقال (صلی الله علیه و آله) لأصحابه: «لا تبدوهم بالقتال»(4).
وقد ورد في وقعة الجمل: أنه لما تواقف الجمعان قال أمير المؤمنين علي (علیه السلام): «لا تقاتلوا القوم حتى يبدءوكم، فإنكم بحمد الله على حجة وكفكم عنهم حتى يبدءوكم حجة أخرى، وإذا قاتلتموهم فلا تجهزوا على جريح، فإذا
ص: 463
.............................
هزمتموهم فلا تتبعوا مدبرا ولا تكشفوا عورة ولا تمثلوا بقتيل وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا ولا تدخلوا دارا ولا تأخذوا من أموالهم شيئا ولاتهيجوا امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم فإنهن ضعفاء القوى والأنفس والعقول، ولقد كنا نؤمر بالكف عنهن وإنهن لمشركات وإن كان الرجل ليتناول المرأة بالهراوة والجريدة فيعير بهاوعقبه من بعده»(1).
وورد في قتال الخوارج أنه: لما واقفهم علي (علیه السلام) بالنهروان قال: «لا تبدءوهم بقتال حتى يبدءوكم، فحمل منهم رجل على صف علي (علیه السلام) فقتل منهم ثلاثة، فخرج إليه (علیه السلام) فضربه فقتله»(2).
وفي الكافي: عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه: أن أمير المؤمنين (علیه السلام) كان يأمر في كل موطن لقينا فيه عدونا فيقول: «لا تقاتلوا القوم حتى يبدءوكم فإنكم بحمد الله على حجة وترككم إياهم حتى يبدءوكم حجة لكم أخرى، فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا لهم مدبرا، ولا تهجزوا على جريح، ولا تكشفوا عورة، ولاتمثلوا بقتيل»(3).
وفي نهج البلاغة: من وصيته (علیه السلام) لعسكره قبل لقاء العدو بصفين: «لاتقاتلوهم حتى يبدءوكم، فإنكم بحمد الله على حجة وترككم إياهم حتى يبدءوكمحجة أخرى لكم عليهم، فإذا كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مدبرا
ص: 464
.............................
ولا تصيبوا معورا ولا تجهزوا على جريح ولا تهيجوا النساء بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم فإنهن ضعيفات القوى والأنفس والعقول، إنا كنا لنؤمر بالكف عنهن وإنهن لمشركات وإن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالفهر أو الهراوة فيعير بها و عقبه من بعده»(1).
وعن حبة العرني قال: لما انتهينا إليهم رمونا، فقلنا لعلي (علیه السلام): يا أمير المؤمنين قد رمونا، فقال: «كفوا» ثم رمونا فقال لنا (علیه السلام): «كفوا»، ثم الثالثة فقال: «الآن طاب القتال احملوا عليهم»(2).
وفي أخبار يوم الجمل روى أبو مخنف قال: «لما تزاحف الناس يوم الجمل والتقوا قال علي (علیه السلام) لأصحابه: لا يرمين رجل منكم بسهم ولا يطعن أحدكم فيهم برمح حتى أحدث إليكموحتى يبدءوكم بالقتال وبالقتل»(3).
وقال الشيخ المفيد: وروي عن علي بن الحسين (علیه السلام) أنه قال: «لما أصبحت الخيل تقبل على الحسين (علیه السلام) رفع يديه وقال: (اللهم أنت ثقتي في كل كرب ورجائي في كل شدة وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من كرب يضعف عنه الفؤاد وتقل فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو أنزلته بك وشكوته إليك رغبة مني إليك عمن سواك ففرجته وكشفته، فأنت ولي كل نعمة وصاحب كل حسنة ومنتهى كل رغبة) قال: فأقبل القوم يجولون حول بيت الحسين (علیه السلام) فيرون الخندق في ظهورهم والنار تضطرم في الحطب والقصب
ص: 465
.............................
الذي كان ألقي فيه، فنادى شمر بن ذي الجوشن بأعلى صوته: يا حسين أتعجلت بالنار قبل يوم القيامة؟ فقال الحسين (علیه السلام): من هذا كأنه شمر بن ذي الجوشن، فقالوا: نعم، فقال له: يا ابن راعية المعزى أنت أَوْلى بِها صِلِيًّا، ورام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهمفمنعه الحسين (علیه السلام) من ذلك، فقال له: دعني حتى أرميه فإن الفاسق من أعداء الله وعظماء الجبارين وقد أمكن الله منه، فقال له الحسين (علیه السلام): لا ترمه فإني أكره أن أبدأهم بقتال»(1).
ص: 466
-------------------------------------------
مسألة: يحرم الخوف من أعداء الله تعالى في الجملة.
والمراد به: الخوف المنتهي إلى الجبن والتقاعس عن العمل، أما الخوف القلبي - الخارج عن الاختيار - فليس حراماً، كما هو واضح.
أو المراد به: الخوف الناتج عن الشرك، أي الخوف من منطلق رؤية قدرة بإزاء الله تعالى.
ومن هنا كان الفرار عن الزحف محرماً.
قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «الفرار من الزحف من الكبائر»(1).
وفي كتاب صفين: أن عليا (علیه السلام) لما رأى ميمنته يوم صفين قد عادت إلى مواقفها ومصافها وكشف من بإزائها حتى ضاربوهم في مواقفهم ومراكزهم أقبل حتى انتهى إليهم فقال: «إني قد رأيت جولتكم وانحيازكم عنصفوفكم تحوزكم الجفاة الطغاة وأعراب أهل الشام وأنتم لهاميم العرب والسنام الأعظم وعمار الليل بتلاوة القرآن وأهل دعوة الحق إذا ضل الخاطئون فلولا إقبالكم بعد إدباركم وكركم بعد انحيازكم وجب عليكم ما وجب على المولي يوم الزحف دبره وكنتم فيما أرى من الهالكين، ولقد هون علي بعض وجدي وشفا بعض هياج صدري أني رأيتكم بأخرة حزتموهم كما حازوكم وأزلتموهم عن مصافهم
ص: 467
.............................
كما أزالوكم تحوزونهم بالسيوف ليركب أولهم آخرهم كالإبل المطردة الهيم فالآن فاصبروا أنزلت عليكم السكينة وثبتكم الله باليقين وليعلم المنهزم أنه مسخط لربه وموبق لنفسه، وفي الفرار موجدة الله عليه والذل اللازم وفساد العيش وأن الفار لا يزيد في عمره ولا يرضي ربه، فموت الرجل محقا قبل إتيان هذه الخصال خير من الرضى بالتلبس بها والإقرار عليها»(1).
وعن أبي الحسن (علیه السلام) في قوله تعالى:«إلا متحرفا لقتال أومتحيزا إلى فئة»(2)، قال: «متطردا يريد الكرة عليهم، ومتحيزا يعني متأخرا إلى أصحابه من غير هزيمة، فمن انهزم حتى يجوز صف أصحابه فقد باء بغضب من الله»(3).
وفي احتجاجات أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) قال: «لقد علم المستحفظون من أصحاب النبي محمد (صلی الله علیه و آله) أنه ليس فيهم رجل له منقبة إلا وقد شركته فيها وفضلته، ولي سبعون منقبة لم يشركني فيها أحد منهم» إلى أن قال: «وأما الثانية والستون فإني كنت مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في جميع المواطن والحروب وكانت رايته معي، وأما الثالثة والستون فإني لم أفر من الزحف قط، ولم يبارزني أحد إلا سقيت الأرض من دمه» الحديث.(4).
وفي علل الشرائع عن محمد بن سنان: أن الرضا (علیه السلام) كتب إليه فيما كتب
ص: 468
.............................
عن جواب مسائله: «حرم الله عز وجل الفرار من الزحف لما فيه من الوهن في الدين والاستخفاف بالرسل والأئمة العادلة وترك نصرتهم على الأعداء والعقوبة لهم على إنكار ما دعوا إليه من الإقرار بالربوبية وإظهار العدل وترك الجور وإماتة الفساد، ولما في ذلك من جرأة العدو على المسلمين، وما يكون في ذلك من السبي والقتل وإبطال دين الله تعالى وغيره من الفساد»(1).
وروى العياشي عن أبي الحسن الرضا (علیه السلام) أنه ذكر في قول الله تعالى: «إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه»(2) عبادة الأوثان وشرب الخمر وقتل النفس وعقوق الوالدين وقذف المحصنات والفرار من الزحف وأكل مال اليتيم»(3).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال سمعته يقول: «الكبائر سبع، قتل المؤمن متعمدا وقذف المحصنة والفرار من الزحف والتعرب بعد الهجرة وأكلمال اليتيم ظلما وأكل الربا بعد البينة وكل ما أوجب الله عزوجل عليها النار» وقال: «إن أكبر الكبائر الشرك بالله»(4).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) في حديث قال: «وأما الفرار من الزحف فقد أعطوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) على البيعة طائعين غير كارهين ثم فروا عنه وخذلوه»(5).
ص: 469
.............................
وعن عمران بن حصين قال: لما تفرق الناس عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في يوم أحد جاء علي (علیه السلام) متقلدا سيفه حتى قام بين يديه، فرفع رسول الله (صلی الله علیه و آله) رأسه فقال له: «ما بالك لم تفر مع الناس» فقال: «يا رسول الله أرجع كافرا بعد إسلامي» الخبر(1).
وفيه نزل جبرائيل قائلا: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي، وقال للنبي(صلی الله علیه و آله): «يا رسول الله لقد عجبت الملائكة من حسن مواساة علي لك بنفسه» فقال النبي (صلی الله علیه و آله): «ما يمنعه من ذلك وهو مني وأنا منه» ورجع بعض الناس لثبات علي (علیه السلام) ورجع عثمان بعد ثلاثة أيام فقال النبي (صلی الله علیه و آله): «لقد ذهبت بها عريضا»(2).
مسألة: ينبغي للإنسان أن يكون شجاعاً، فإذا لم يكن لقن نفسه بذلك، فإن من الثابت في علم النفس التأثير الكبير للإيحاء النفسي على الإنسان، سواء كان في الخير أم الشر، وسواء كان عدالة أم ظلماً، كرماً أم بخلاً، شجاعة أم جبناً، أم غير ذلك من الصفات، وتأثير التلقين والإيحاء لا يقتصر على القلب والجوانح، بل يشمل الجوارح أيضاً (3).
ص: 470
.............................
ولعل من أسباب تكرار الصلاة كل يوم خمس مرات بركوعها وسجودها وسائر أجزائها وشرائطها، استمرار الإيحاء النفسي حتى تتلون النفس باللون الذي يرتضيه الله عزوجل، قال تعالى: «صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة»(1).
عن عبد الله بن عباس قال قام رسول الله (صلی الله علیه و آله) فينا خطيبا فقال في آخر خطبته: «جمع الله لنا عشر خصال لم يجتمعن لأحد قبلنا ولا تكون لأحد غيرنا، العلم والحلم والحكم واللب والنبوة والفتوة والشجاعة والصدق والصبر والطهارة والعفاف، فنحن كلمة التقوى وسبيل الهدى والمثل الأعلى والحجة العظمى والعروة الوثقى والحق الذي أمر الله في المودة «فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ»(2) »(3).
وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «إن الله تبارك وتعالى اصطفاني واختارنيوجعلني رسولا وأنزل علي سيد الكتب، فقلت: إلهي وسيدي إنك أرسلت موسى إلى فرعون فسألك أن تجعل معه أخاه هارون وزيرا تشد به عضده وتصدق به قوله، وإني أسألك يا سيدي وإلهي أن تجعل لي من أهلي وزيرا تشد به عضدي، فجعل الله لي عليا وزيرا وأخا وجعل الشجاعة في قلبه وألبسه الهيبة على عدوه وهو أول من آمن بي وصدقني وأول من وحد الله معي وإني سألت ذلك ربي
ص: 471
.............................
عزوجل فأعطانيه، فهو سيد الأوصياء، اللحوق به سعادة والموت في طاعته شهادة واسمه في التوراة مقرون إلى اسمي وزوجته الصديقة الكبرى ابنتي وابناه سيدا شباب أهل الجنة ابناي وهو وهما والأئمة بعدهم حجج الله على خلقه بعد النبيين وهم أبواب العلم في أمتي من تبعهم نجا من النار ومن اقتدى بهم «هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ»(1)، لم يهب الله عزوجل محبتهم لعبد إلا أدخله الله الجنة»(2).
وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «اعلم أن الله عزوجل يحب الشجاعة ولوعلى قتل حية»(3).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: أتي النبي (صلی الله علیه و آله) بأسارى فأمر بقتلهم خلا رجل من بينهم، فقال الرجل: بأبي أنت وأمي يا محمد كيف أطلقت عني من بينهم؟ فقال: أخبرني جبرئيل عن الله عزوجل أن فيك خمس خصال يحبه الله عزوجل ورسوله الغيرة الشديدة على حرمك والسخاء وحسن الخلق وصدق اللسان والشجاعة، فلما سمعها الرجل أسلم وحسن إسلامه وقاتل مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) قتالا شديدا حتى استشهد»(4).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «الشجاعة زين»(5).
ص: 472
.............................
وقال (علیه السلام): «الشجاعة عز حاضر»(1).وقال (علیه السلام): «زكاة الشجاعة الجهاد في سبيل الله»(2).
وفي الشعر المنسوب إليه (علیه السلام) قال:
أنا الصّقر الذي حدّثت عنه *** عتاق الطير تنجذل انجذالا
وقاسيت الحروب أنا ابن سبع *** فلمّا شبت أفنيت الرجالا
فلم تدع السيوف لنا عدوّا *** ولم يدع السخاء لديّ مالا (3)
ص: 473
-------------------------------------------
مسألة: تجب الخشية من الله تعالى، وقد تكون واجباً نفسياً لا صرف المقدمية فتأمل.
ولا يخفى أن الأصل في الخطابات القرآنية كونها للعموم، وإن كانت موجهة حين نزولها لأفراد أو فئات خاصة فإنها عادة من باب أظهر المصاديق وما أشبه، والمقام من هذا القبيل.
وإذا لم تكن الخشية من الله موجودة أو متمكنة في قلب الإنسان فاللازم إيجاد تلك الخشية في قلبه بتذكر عقاب الله سبحانه وتعالى، وشدة بأسه لمن يعصيه، حتى تتلوّن نفسه بالخشية.
قال سبحانه: «يدعوننا رغباً ورهباً»(1).
وقال تعالى: «انما يخشى الله من عباده العلماء»(2).
وقال جل ثناؤه: «فلا تخشوا الناسواخشون»(3).
وفي الحديث القدسي: «يا موسى اجعلني حرزك وضع عندي كنزك من الصالحات وخفني ولا تخف غيري إلي المصير»(4).
ص: 474
.............................
وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «إن من العبادة شدة الخوف من الله»(1).
وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «يا إسحاق خف الله كأنك تراه وإن كنت لا تراه فإنه يراك، وإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك ثم برزت له بالمعصية فقد جعلته من أهون الناظرين عليك»(2).
وعن الهيثم بن واقد قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «من خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء»(3).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال:«المؤمن لا يخاف غير الله ولا يقول عليه إلا الحق»(4).
وعن أبي ذر (رحمة الله) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا أبا ذر يقول الله تعالى: لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين، فإذا أمنني أخفته يوم القيامة وإذا خافني آمنته يوم القيامة..
يا أباذر لو أن رجلا كان له مثل عمل سبعين نبيا لاحتقره وخشي أن لاينجو من شر يوم القيامة»..
إلى أن قال: قال (صلی الله علیه و آله): «يا أباذر إن لله ملائكة قياما في خيفته ما يرفعون رءوسهم حتى ينفخ في الصور النفخة الأخيرة فيقولون جميعا سبحانك وبحمدك ما عبدناك كما ينبغي لك أن تعبد فلو كان لرجل عمل سبعين صديقا لاستقل
ص: 475
.............................
عمله من شدة ما يرى يومئذ»(1).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال:
«من عرف الله خافه، ومن خاف الله حثهالخوف من الله على العمل بطاعته والأخذ بتأديبه، فبشر المطيعين المتأدبين بأدب الله والآخذين عن الله أنه حق على الله أن ينجيه من مضلات الفتن»(2).
إلى غير ذلك من الآيات والروايات الكثيرة بهذا الصدد.
ص: 476
-------------------------------------------
مسألة: ينبغي بيان أن الخشية من الله تعالى من شرائط الإيمان ولوازمه، كما قالت (سلام الله عليها): «إن كنتم مؤمنين».
فإن من الواضح أن غير المؤمن لا يخشى منه عزوجل، وإلا لآمن به وأحلّ حلاله وحرّم حرامه، فإن الصفات القلبية تظهر آثارها على الجوارح، قال أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام): «ما أضمر أحدكم شيئاً إلا وأظهره الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه»(1).
ولا يخفى أن ما ذكره (صلوات الله عليه) إنما هو من باب المثال أو أظهر المصاديق وأجلاها، وإلا فالنوايا تظهر أيضاً على الجوارح الأخرى كاليد والرجل وإشارات العين، وما أشبه ذلك.
قولها (علیها السلام): «ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم…» إشارة إلى أنالأنصار(2) قد حاربوا كفار مكة من قبل والمتوقع منهم أن يقوموا اليوم بمحاربة المنافقين ويدافعوا عن خلافة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وخليفته، وعن فدك وابنته (صلی الله علیه و آله)، وقد نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم، فإنهم جمعوا بين شيئين النكث للأيمان ونقض العهد، كما هموا بإخراج الرسول (صلی الله علیه و آله) من مكة المكرمة.
ص: 477
.............................
قولها (علیها السلام): «وهم بدؤوكم أول مرة» لأن أهل مكة هم الذين جاؤوا إلى المدينة ليحاربوا المسلمين.
قولها (علیها السلام): «أتخشونهم» أي لخوفكم منهم لا تقدمون على محاربتهم واسترداد الحق منهم.
قولها (علیها السلام): «فالله أحق أن تخشوه»، ومعنى أحق: أصل الحق لا التفضيل، إذ لا يخاف من البشر ولا يُخشى من سائر الممكنات أبداً في قبال الله عزوجل، لأن أزمة الأمور طراً بيده سبحانه وتعالى، فالتفضيل هنا جرد عنمعناه، كما في غيرها من الآيات والروايات التي ورد فيها شبه ذلك، قال سبحانه: «أولى لك فأولى ` ثم أولى لك فأولى»(1).
وقال عزوجل: «قل الله يهدي للحق، أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدّي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون»(2).
```
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
قم المقدسة
محمد الشيرازي
ص: 478
إلى هنا تم بحمد الله تعالى
المجلد الرابع من كتاب (من فقه الزهراء (علیها السلام))
وقد اشتمل على القسم الثالث من الخطبة الشريفة
وسيأتي بعده المجلد الخامس وهو (تتمة الخطبة)
ويبتدئ بقولها (علیها السلام) :
«ألا وقد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض»
مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر
بيروت - لبنان ص.ب: 5955 / 13 شوران
ص: 479