الفقه موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي من فقه الزهراء (علیها السلام)
المجلد الثاني : خطبتها علیها السلام في المسجد 1
المرجع الديني الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته)
ص: 1
الطبعة الأولى
1439 ه 2018م
تهميش وتعليق:
مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر
كربلاء المقدسة
ص: 2
الفقه
من فقه الزهراء (علیها السلام)
المجلد الثاني
خطبتها علیها السلام في المسجد
القسم الأول
ص: 3
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الصِّدِيقَةُ الشَّهِيدَةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الرَّضِيَةُ المَرْضِيَّةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الفَاضِلةُ الزَّكِيَةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الحَوْراءُ الإِنْسِيَّةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُحَدَّثَةُ العَليمَةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المَظْلومَةُ المَغْصُوبَةُ
السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُضْطَهَدَةُ المَقْهُورَةُ
السَّلامُ عَليْكِ يا فاطِمَةُ بِنْتَ رَسُول اللهِ
وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ
البلد الأمين ص278. مصباح المتهجد ص711
بحار الأنوار ج97 ص195 ب12 ح5 ط بيروت
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين.
وبعد، فإن الدفاع كالهجوم - حقاً كان، كما في الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) والعلماء والصالحين من المؤمنين والمؤمنات.. أم باطلاً، كما في الطغاة والمجرمين - على سبعة أقسام، وإن أمكن التكثير أو التقليل منها بالاعتبارات المختلفة:
الأول: السياسي،بالتحرك وتوجيه الضغوط عبر محاور ومراكز ومؤسسات متخصصة لذلك وما أشبه، كجعل الشخص المناسب في المكان المناسب، أو التحرك لأجله في الحق وبالعكس فيالباطل.
والثاني: الاقتصادي، عبر الدعم المادي - بمختلف صوره - لجبهة الحق أو الباطل في الجانبين، أو الحظر الاقتصادي سواء على جبهة الحق، كما في محاصرة أهل مكة لأهل المدينة اقتصادياً، وكما في اغتصاب فدك، وفي عكسه على جبهة الباطل، كما قام به الرسول (صلی الله علیه و آله) بالنسبة إلى بعض القوافل التجارية لقريش
ص: 5
مقابلة لهم بالمثل(1).
والثالث: الاجتماعي بالمقاطعة الاجتماعية، كما فعله الرسول (صلی الله علیه و آله)(2) «وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا» (3)، وكما فعله بنو العباس - بالباطل - مع الأئمة الطاهرين (علیهم السلام).
والرابع: العسكري، بالسلاح، كما في حروب الرسول (صلی الله علیه و آله) الدفاعية - في جانب الحق - وعكسه في القوى المعادية لأهل الحق.والخامس: العاطفي، عبر الندبة والنوح والبكاء، كما قام به أهل البيت والأئمة (علیهم السلام) - في العديد من المواطن - خاصة الإمام السجاد (علیه السلام) بعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) (4)، وبذلك تمكنوا من إحقاق الحق وإزهاق الباطل.
والسادس: الثقافي، وذلك عبر القيام بنشر الوعي والعلم والثقافة بمختلف الوسائل، فأهل الحق ينشرون الفضيلة والتقوى والصدق ويقومون بإرشاد الناس للحقائق، وأهل الباطل ينشرون الفساد والكذب والخداع، قال تعالى: «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ»(5).
والسابع: الأجوائي(6) بتهيئة الأجواء الصالحة..بتزويج الشباب والشابات ومنع المخامر والمقامر والمباغي والملاهي والمراقص، واستبدالها بالبدائل الصالحة
ص: 6
والسليمة، أو الأجواء الفاسدة، كما يفعله المبطلون في كل زمان ومكان.والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) اتخذت أسلوب الدفاع والهجوم، لإحقاق الحق وإبطال الباطل، عبر:
1: العاطفة، كالبكاء ونحوه.
2: الثقافة، كما في خطبتها (علیها السلام) في المسجد، وفي مجمع النساء اللاتي جئن لعيادتها في البيت.
3: المقاطعة الاجتماعية:
في حياتها: حيث لم تأذن للشيخين في زيارتها (1)، وقالت (علیها السلام): «إليكم عني..»(2).
وبعد الوفاة: بالوصية بإخفاء مراسم التشييع والصلاة والدفن وإخفاء القبر الشريف(3).
4: التحرك لأجل إرجاع الحق لأهله عبر الخطبة وتوجيه الضغوط(4)وغيرها(5).
وفيما يلي نذكر خطبة الصديقة فاطمة الزهراء (علیها السلام) بأكملها، مع بعض
ص: 7
ما يستنبط منها من الفروع والأحكام على النحو الذي فصلناه في مقدمة حديث الكساء(1).
هذا وقد أشرنا إلى بعض أدلة حجية الخطبة في المجلد الأول.
كما ذكرنا بعض ما يدل على كونها (صلوات الله عليها) مفروضة الطاعة على جميع الخلائق حتى الأنبياء (علیهم السلام)(2).
والله الموفق وهو المستعان.
قم المقدسة
محمد الشيرازي
1414ه
ص: 8
خطبة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) في المسجد(1)
** احتجاج فاطمة الزهراء (علیها السلام) على القوم لما منعوها فدك(2)
بسم الله الرحمن الرحيم
روى عبد الله بن الحسن، بإسناده عن آبائه (علیهم السلام):
أنه لما أجمع(3) أبو بكر وعمر علىمنع فاطمة (علیها السلام) فدكاً (4)، وبلغها ذلك..
ص: 9
لاثت (1) خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها (2)..
وأقبلت في لمّة (3) من حفدتها (4) ونساء قومها..
تطأ ذيولها (5)، ما تخرم(6) مشيتهامشية رسول الله (صلی الله علیه و آله)، حتى دخلت
ص: 10
على أبي بكر، وهو في حشد(1) من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة (2)، فجلست.. ثم أنّت أنةًأجهش(3) القوم لها بالبكاء، فارتج(4) المجلس..
ثم أمهلت هنيئة (5)..
ص: 11
حتى إذا سكن نشيج (1) القوم، وهدأت فورتهم(2)، افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه، والصلاة على رسوله..
فعاد القوم في بكائهم..
فلما أمسكوا، عادت في كلامها، فقالت (علیها السلام):
«الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدم(3)، من عموم نعم ابتداها، وسبوغ آلاء أسداها (4).. وتمام منن أولاها (5)..جمّ (6) عن الإحصاء عددها..
ونأى عن الجزاء أمدها (7)..
ص: 12
وتفاوت عن الإدراك أبدها (1)..
وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها (2)..
واستحمد إلى الخلائق بإجزالها (3)،وثنى بالندب إلى أمثالها (4).
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له..
كلمة جعل الإخلاص تأويلها (5)..
ص: 13
وضمن القلوب موصولها (1)..وأنار في التفكر معقولها (2)، الممتنع من الأبصار رؤيته (3)، ومن الألسن صفته (4)، ومن الأوهام كيفيته.
ابتدع الأشياء لا من شيء (5) كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء (6) أمثلة امتثلها..
ص: 14
كوّنها بقدرته، وذرأها بمشيته، من غير حاجة منه إلى تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها، إلا تثبيتاً لحكمته، وتنبيهاً (1) على طاعته، وإظهاراً لقدرته، وتعبداً لبريته(2)، وإعزازاً لدعوته(3)، ثم جعل الثواب على طاعته،ووضع العقاب على معصيته، ذيادة (4) لعباده من نقمته، وحياشة (5) لهم إلى جنته.
وأشهد أن أبي محمداً عبده ورسوله، اختاره قبل أن أرسله، وسمّاه قبل أن اجتباه(6)، واصطفاه قبل أن ابتعثه..
إذ الخلائق بالغيب مكنونة..
وبستر الأهاويل مصونة (7)، وبنهاية العدم مقرونة، علماً من الله تعالى
ص: 15
بمآيل الأمور(1)، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع الأمور(2).
ابتعثه الله إتماماً لأمره(3)، وعزيمة على إمضاء حكمه، وإنفاذاً لمقادير حتمه(4)، فرأى الأمم فرقاً في أديانها، عكفاً على نيرانها (5)، عابدة لأوثانها، منكرة لله مع عرفانها (6). فأنار الله بأبي محمد (صلی الله علیه و آله) ظلمها (7)، وكشف عن القلوب بهمها (8)، وجلى عن الأبصار غممها (9)، وقام في الناسبالهداية،
ص: 16
فأنقذهم من الغواية، وبصرهم من العماية، وهداهم إلى الدين القويم، ودعاهم إلى الطريق المستقيم.
ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار، ورغبة وإيثار(1)، فمحمد (صلی الله علیه و آله) (2) من تعب هذه الدار في راحة، قد حف بالملائكة الأبرار، ورضوان الرب الغفار، ومجاورة الملك الجبار، صلى الله على أبي، نبيه وأمينه، وخيرته من الخلق وصفيه(3)، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.
- ثم التفتت (علیها السلام) إلى أهل المجلس وقالت -:أنتم عباد الله نصب أمره (4) ونهيه، وحملة دينه ووحيه، وأمناء الله على أنفسكم، وبلغاءه إلى الأمم(5)..
ص: 17
زعيم حق له فيكم(1).. وعهد قدمه إليكم..
وبقية (2) استخلفها عليكم:
كتاب الله الناطق، والقرآن الصادق، والنور الساطع، والضياء اللامع، بينةبصائره(3)، منكشفة سرائره(4)، منجلية ظواهره، مغتبطة (5) به أشياعه، قائداً إلى الرضوان أتباعه، مؤد إلى النجاة استماعه(6)، به تنال حجج الله المنورة، وعزائمه (7) المفسرة، ومحارمه المحذرة، وبيناته الجالية، وبراهينه الكافية،
ص: 18
وفضائله (1) المندوبة، ورخصه (2) الموهوبة، وشرائعه (3) المكتوبة.
فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم منالشرك، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس(4)..
ونماءً في الرزق(5)..
والصيام تثبيتاً للإخلاص(6)، والحج تشييداً للدين(7)، والعدل تنسيقاً
ص: 19
للقلوب(1)، وطاعتنا نظاماً للملة،وإمامتنا أماناً للفرقة، والجهاد عزاً للإسلام، والصبر معونة على استيجاب الأجر(2)، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة، وبر الوالدين وقاية من السخط(3)، وصلة الأرحام منسأة في العمر ومنماة للعدد(4)..
والقصاص حقناً للدماء، والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة..
وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس(5)، والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس(6)..
ص: 20
واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة (1)، وترك السرقة إيجاباً للعفة (2)..وحرّم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبية، ف «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ»(3)، وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، فإنه «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ»(4).
- ثم قالت: -
أيها الناس، اعلموا أني فاطمة وأبي محمد (صلی الله علیه و آله)..
أقول عوداً وبدواً (5)..
ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً (6) «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ»(7)..
ص: 21
فإن تعزوه(1) وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمي دون رجالكم، ولنعم المعزى (2) إليه (صلی الله علیه و آله).
فبلّغ الرسالة صادعاً (3) بالنذارة (4)..مائلاً عن مدرجة المشركين(5)، ضارباً ثبجهم..
آخذاً بأكظامهم(6)، داعياً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة(7).
ص: 22
يجف الأصنام، وينكث الهام(1)، حتى انهزم الجمع وولوا الدبر، حتى تفرى الليل عن صبحه، وأسفر الحق عن محضه(2)، ونطق زعيم الدين(3)، وخرستشقاشق الشياطين(4)، وطاح وشيظ النفاق(5)، وانحلت عقد الكفر
ص: 23
والشقاق، وفهتم بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماص(1)، وكنتم على شفاحفرة من النار(2)، مذقة الشارب، ونهزة الطامع(3)، وقبسة العجلان(4)، وموطئ الأقدام(5)، تشربون الطرق، وتقتاتون القد(6)، أذلة خاسئين، تخافون
ص: 24
أن يتخطفكم الناس من حولكم(1).
فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد (صلی الله علیه و آله) بعد اللتياوالتي(2)..
وبعد أن مني ببهم الرجال، وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب(3)..
«كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ» (4)..
أو نجم(5) قرن(6) الشيطان، أو فغرت(7) فاغرة (8) من المشركين قذف(9)
ص: 25
أخاه في لهواتها (1)، فلا ينكفئ حتىيطأ جناحها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه(2). مكدوداً في ذات الله(3)، مجتهداً في أمر الله، قريباً من رسول الله، سيداً في أولياء الله(4). مشمراً (5) ناصحاً، مجداً كادحاً (6)، لا تأخذه في الله لومة لائم، وأنتم في رفاهية من العيش وادعون(7) فاكهون(8) آمنون، تتربصون بنا
ص: 26
الدوائر(1)، وتتوكفون الأخبار(2)، وتنكصون عند النزال(3)، وتفرون من القتال.
فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه، ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حسكة(4) النفاق، وسمل (5) جلباب(6) الدين، ونطق كاظم(7) الغاوين، ونبغ(8) خامل(9)الأقلين(10)، وهدر(11) فنيق(12) المبطلين..
ص: 27
فخطر(1) في عرصاتكم.. وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه(2) هاتفاً (3) بكم.. فألفاكم(4) لدعوته مستجيبين..
وللغرة (5) فيه ملاحظين(6)..ثم استنهضكم(7) فوجدكم خفافاً (8)، وأحشمكم(9) فألفاكم غضاباً..
ص: 28
فوسمتم (1) غير إبلكم، ووردتم(2) غير مشربكم(3)..
هذا والعهد قريب، والكلم(4) رحيب(5)..
والرسول (صلی الله علیه و آله) لمايُقبر(8)..
ابتداراً (9) زعمتم خوف الفتنة «أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ» (10).
فهيهات(11) منكم..
ص: 29
وكيف بكم وأنى تؤفكون(1)..
وكتاب الله بين أظهركم، أموره ظاهرة (2)، وأحكامه زاهرة (3)..
وأعلامه باهرة، وزواجره لائحة، وأوامره واضحة، وقد خلفتموه وراءظهوركم..
أرغبة عنه تريدون(4)، أم بغيره تحكمون..
«بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً»(5)، «ومن يتبغ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآْخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ[(6).
ثم لم تلبثوا إلاّ ريث(7) أن تسكن نفرتها (8)..
ص: 30
ثم أخذتم تورون (3)وقدتها (4)..وتهيجون جمرتها (5)..
وتستجيبون لهتاف(6) الشيطان الغوي..
أنوار الدين الجلي..
وإهمال(7) سنن النبي الصفي..
تشربون (8) حسواً (9) في ارتغاء(10)..
ص: 31
وتمشون لأهله وولده في الخمرة (1)والضراء(2)، ويصير منكم على مثل حز(3) المدى(4)، ووخز(5) السنان في الحشا، وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا..
أفحكم الجاهلية تبغون «وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ»(6) أفلا تعلمون، بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية (7) أني ابنته.
أيها المسلمون، أأغلب على إرثي؟.
يا ابن أبي قحافة، أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي..
لقد جئت شيئاً فرياً (8)، أفعلى عمدتركتم كتاب الله ونبذتموه وراء
ص: 32
ظهوركم إذ يقول: «ووَرِثَ سُلَيْمَانُ داوُدَ»(1)، وقال - فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا - إذ قال: «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (علیهم السلام) يَرِثُنِي ويَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ»(2)، وقال: «وأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ»(3)، وقال: «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ»(4)، وقال: «إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ»(5).
وزعمتم أن لا حظوة (6) لي، ولا إرثمن أبي، ولا رحم بيننا..
ص: 33
أفخصكم الله بآية أخرج أبي منها؟
أم هل تقولون إن أهل ملتين لا يتوارثان، أولست أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟
أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟
فدونكها (1) مخطومة (2) مرحولة (3)، تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله والزعيم محمد (صلی الله علیه و آله) (4) والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون (5)، ولاينفعكم إذ تندمون،و«لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ (6) وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ»(7)، (8) «مَنْ
ص: 34
يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ»(1).
- ثم رمت بطرفها (2) نحو الأنصار فقالت -:
يا معشر (3) النقيبة(4)، وأعضاد(5) الملة، وحضنة الإسلام..
ما هذه الغميزة (6) في حقي..والسنة (7) عن ظلامتي(8)..
ص: 35
أما كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) أبي يقول: المرء يحفظ في ولده. سرعان ما أحدثتم، وعجلان ذا إهالة (1)،ولكم طاقة بما أحاول، وقوة على ما أطلب وأزاول، أتقولون: مات محمد (صلی الله علیه و آله) فخطب (2) جليل، استوسع وهيه(3)، واستنهر فتقه(4)، وانفتق رتقه..
ص: 36
وأظلمت الأرض لغيبته، وكسفت الشمس والقمر(1)، وانتثرت النجوم لمصيبته، وأكدت(2) الآمال، وخشعت الجبال، وأضيعالحريم(3)، وأزيلت الحرمة (4) عند مماته.
فتلك والله النازلة (5) الكبرى، والمصيبة العظمى..
لا مثلها نازلة، ولا بائقة (6) عاجلة، أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه في أفنيتكم(7)، وفي ممساكم ومصبحكم(8)، يهتف في أفنيتكم هتافاً (9) وصراخاً (10)، وتلاوة (11) وألحاناً (12)..
ص: 37
ولقبله ما حل بأنبياء الله ورسله، حكم فصل(1)، وقضاء حتم(2) «وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ (3) مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أفَإِنْ مَاتَ أَو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقَابِكُمْ(4) ومَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ»(5)، (6).
ص: 38
ص: 39
إيهاً (1) بني قيلة (2)..إيهاً (3) بني قيلة (4)..أأهضم (5) تراث (6) أبي، وأنتم بمرأى مني ومسمع(7)..
ومنتدى ومجمع(8)..
تلبسكم (9) الدعوة (10)، وتشملكم الخبرة (11)..
ص: 40
وأنتم ذوو العدد والعدة، والأداة والقوة، وعندكم السلاح والجنة. توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكمالصرخة فلا تغيثون، وأنتم موصوفون بالكفاح(1)، معروفون بالخير والصلاح، والنخبة التي انتخبت(2)، والخيرة (3) التي اختيرت لنا أهل البيت.
قاتلتم العرب(4)، وتحملتم الكد والتعب، وناطحتم الأمم(5)، وكافحتم البهم(6)، لا نبرح أو تبرحون(7)، نأمركم فتأتمرون(8)، حتى إذا دارت بنارحى
ص: 41
الإسلام(1)، ودرّ(2) حلب الأيام(3)..
وخضعت ثغرة (4) الشرك..
وسكنت فورة الإفك(5)..
وخمدت نيران (6) الكفر..
ص: 42
وهدأت (1) دعوة الهرج(2)، واستوسق (3) نظام الدين..
فأنى(4) حزتم(5) بعد البيان، وأسررتم بعد الإعلان، ونكصتم (6) بعد الإقدام، وأشركتم بعد الإيمان، بؤساً لقوم نكثوا (7) أيمانهم من بعد عهدهم،
ص: 43
«وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ (1) وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (2).
ألا وقد أرى(3) أن قد أخلدتم (4) إلىالخفض(5)..
وأبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض(6)..
وخلوتم (7) بالدعة (8)، ونجوتم بالضيق من السعة، فمججتم (9) ما
ص: 44
وعيتم(1)، ودسعتم (2) الذي تسوغتم(3)، ف «إِنْ تَكْفُرُوا (4) أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرضجَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ»(5).
ص: 45
ألا وقد قلت ما قلت هذا على معرفة مني بالجذلة (1)..
التي خامرتكم(2)..
والغدرة (3) التي استشعرتها (4) قلوبكم..
ولكنها فيضة النفس(5)..ونفثة الغيظ(6)..
وبثة الصدر(9)، وتقدمة الحجة (10)..
ص: 46
فدونكموها فاحتقبوها (1)، دبرة (2) الظهر، نقبة (3) الخف ..باقية العار(4)، موسومة (5) بغضب الجبار..
وشنار (6) الأبد، موصولة ب «نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (7)(علیهم السلام) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ»(8)، (9).
فبعين الله ما تفعلون(10).. «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ(11)
ص: 47
يَنْقَلِبُونَ»(1)، وأنا ابنة «نَذِيرٌ لَكُمْ(2) بَيْنَيَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ»(3)، فاعملوا (4) إنا عاملون، «وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ»(5)».
فأجابها (6) أبو بكر عبد الله بنعثمان وقال:
ص: 48
يا بنت رسول الله، لقد كان أبوكِ بالمؤمنين عطوفاً كريماً، رؤوفاً رحيماً، وعلى الكافرين عذاباً أليماً، وعقاباً عظيماً.
إن عزوناه (1) وجدناه أباكِ دون النساء، وأخا إلفكِ دون الأخلاء(2)، آثره على كل حميم، وساعده في كل أمر جسيم.
لايحبكم إلاّ سعيد، ولا يبغضكم إلاّ شقي بعيد، فأنتم عترة رسول الله الطيبون، الخيرة المنتجبون، على الخير أدلتنا، وإلى الجنة مسالكنا. وأنتِ يا خيرة النساء، وابنة خير الأنبياء، صادقة في قولكِ، سابقة في وفور عقلكِ، غير مردودة عن حقكِ، ولا مصدودة عن صدقكِ، والله ما عدوت رأي رسول الله، ولا عملت إلابإذنه، والرائد لا يكذب أهله(3)، وإني أُشهد الله وكفى به شهيداً، أني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً ولا فضة،
ص: 49
ولا داراً ولا عقاراً، وإنما نورث الكتاب والحكمة والعلم والنبوة، وما كان لنا من طعمة فلولي الأمر بعدنا، أن يحكم فيه بحكمه. وقد جعلنا ما حاولته في الكراع(1) والسلاح، يقاتل بها المسلمون، ويجاهدون الكفار، ويجالدون (2) المردة الفجار، وذلك بإجماع من المسلمين(3)، لم أنفرد به وحدي، ولم أستبد(4) بما كان الرأي عندي، وهذهحالي ومالي، هي لكِ وبين يديكِ، لا تزوى(5) عنكِ، ولا ندخر دونكِ، وإنك وأنت سيدة أمة أبيكِ، والشجرة الطيبة لبنيكِ، لا ندفع ما لكِ من فضلكِ، ولا يوضع في فرعكِ وأصلكِ(6)، حكمكِ نافذ فيما ملكت يداي، فهل ترين (7) أن أخالف في ذاك أباكِ (صلی الله علیه و آله).
فقالت (علیها السلام):
«سبحان الله! ما كان أبي رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن كتاب الله صادفاً (8)..
ص: 50
ولا لأحكامه مخالفاً..
بل كان يتبع أثره(1)، ويقفو (2) سوره(3)، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالاً(4) عليه بالزور(5)، وهذا بعد وفاته شبيه بما بغي (6) له من الغوائل (7) في حياته، هذا كتاب الله حكماً عدلاً، وناطقاً فصلاً، يقول: «يَرِثُنِي ويَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ»(8)، ويقول: «ووَرِثَ سُلَيْمَانُ داوُدَ»(9)..
وبين عزوجل فيما وزع (10) من الأقساط(11)..
وشرع من الفرائض والميراث، وأباح من حظ الذكران والإناث، ما أزاح (12) به علة المبطلين، وأزال التظني (13) والشبهات في الغابرين(14)، كلا
ص: 51
«بَلْ سَوَّلَتْ(1) لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ(2) وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ»(3)».
فقال أبو بكر: صدق الله ورسوله وصدقت ابنته، أنتِ معدن الحكمة، وموطن الهدى والرحمة، وركن الدين، وعين الحجة، لا أبعد صوابكِ، ولاأنكر خطابكِ(4)، هؤلاء المسلمون بيني وبينكِ قلدوني ما تقلدت، وباتفاق منهم أخذت ما أخذت غير مكابر(5)، ولا مستبد ولا مستأثر(6)، وهم بذلك شهود.
فالتفتت فاطمة (علیها السلام) إلى الناس وقالت:«معاشر المسلمين المسرعة (7) إلى قيل (8) الباطل، المغضية (9) على الفعل
ص: 52
القبيح الخاسر، أفلا تتدبرون «الْقُرْآنَ(1) أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفَالُها»(2)، كلا بل ران(3) على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم، فأخذ بسمعكم وأبصاركم..
ولبئس ما تأولتم(4)، وساء ما به أشرتم(5)..
وشر(6) ما منه اغتصبتم(7)، لتجدنوالله محمله(8) ثقيلاً، وغبه(9) وبيلاً(10) إذا كشف لكم الغطاء، وبان ما وراءه الضراء(11)، وبدا لكم من ربكم
ص: 53
ما لم تكونوا تحتسبون(1)، «وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ»(2)، (3).
ثم عطفت على قبر النبي (صلی الله علیه و آله) وقالت(4):
قد كان بعدك أنباء وهنبثة (5) *** لو كنت شاهدها (6) لم تكثر الخطب (7)
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها(8) *** واختل قومك فاشهدهم ولا تغب(9)
وكل أهل له قربى(10) ومنزلة (11) *** عند الإله على الأدنين (12) مقترب(13)
ص: 54
أبدت (1) رجال لنا نجوى صدورهم(2) *** لما مضيت وحالت (3) دونك (4) الترب(5)
تجهمتنا (6) رجال واستخف بنا *** لما فقدت وكل الأرض مغتصب(7)
وكنت بدراً ونوراً يستضاء به *** عليك ينزل من ذي العزة الكتب
ص: 55
وكان جبرئيل بالآيات يؤنسنا *** فقد فقدت وكل الخير محتجب(1)
فليت قبلك كان الموت صادفنا(2) *** لما مضيت وحالت دونك الكثب(3)
إنا رزينا (4) بما لم يرز ذو شجن (5) *** من البرية لاعجم (6) ولا عرب
ثم انكفأت(7) (علیها السلام) وأمير المؤمنين (علیه السلام) يتوقع(8) رجوعها إليه..
ويتطلع طلوعها (9) عليه، فلما استقرت بها الدار(10) قالت لأمير المؤمنين (علیه السلام): «يا ابن أبي طالب، اشتملت (11) شملة (12) الجنين(13)، وقعدت
ص: 56
وبلغة (1) ابنيَّ (2)، لقد أجهد (3) في خصامي(4)، وألفيته (5) ألدّ في كلامي(6)..
حتى حبستني قيلة (7) نصرها، والمهاجرة (8) وصلها (9)..
وغضت (10) الجماعة دوني طرفها (11)،فلا دافع ولا مانع(12)..
خرجت كاظمة (13)، وعدت راغمة(14)..
ص: 58
أضرعت (1) خدك يوم أضعت(2) حدّك(3)..
افترست (4) الذئاب.. وافترشت التراب..ما كففت (5) قائلاً.. ولا أغنيت(6)..
ص: 59
طائلاً (1)..
ولا خيار لي، ليتني متّ قبل هنيئتي (2) ودون ذلتي(3)..
عذيري (4) الله منه (5) عادياً (6)، ومنكحامياً (7)، ويلاي (8) في كل
ص: 60
شارق(1)، ويلاي في كل غارب، مات العمد(2)، ووهن العضد..
شكواي (3) إلى أبي، وعدواي (4) إلى ربي..
اللّهم إنك أشد منهم قوة وحولاً (5)..
وأشد بأساً (6) وتنكيلاً (7)».فقال أمير المؤمنين (علیه السلام):
«لا ويل لكِ، بل الويل لشانئك(8)..
ثم نهنهي(9) عن وجدكِ (10) يا ابنة الصفوة (11) وبقية النبوة..
فما ونيتُ (12) عن ديني.. ولا أخطأتُ مقدوري..
ص: 61
فإن كنتِ تريدين البلغة (1)، فرزقكِ مضمون(2)، وكفيلكِ مأمون..
وما أعد لكِ (3) أفضل مما قطع عنكِ..
فاحتسبي (4) الله».فقالت: «حسبي الله»..
وأمسكت(5).
ص: 62
بسم الله الرحمن الرحيم
-------------------------------------------
مسألة: يستحب مطلق الرواية: العقائدية، أو الفقهية، أو الأخلاقية، أو الآدابية، أو التاريخية، أو غيرها. وقد تجب لوجوب حفظ آثار النبوة والإمامة، وإن كانت في المستحبات أو المكروهات أو المباحات في الجملة.
فإن المعصومين (علیهم السلام) كانوا يحرضون أصحابهم على الرواية ونشر العلم والثقافة(1)، كما كانوا يتصدون بنحو واسع لذلك، وهذه الرواية من أهم مصاديقه.
وقد أشرنا إلى قسم من هذا المبحث في المجلد الأول من هذا الكتاب.
مسألة: تستحب رواية هذه الخطبة بصورة خاصة، حيث رواها العديد من المعصومين (عليهم الصلاة والسلام)(2).
ص: 63
..............................
ومن الممكن أن تكون الرواية لهذه الخطبة - أحياناً - واجبة لما ذكرناه، سابقاً (1) ولدخولها تحت عناوين أخرى عديدة (2) تقتضي الوجوب أو الاستحباب.
وهذه الخطبة متلقاة بالقبول، وقد كان الأئمة الأطهار (علیهم السلام) والأعلام من الأخيار يتعاهدون هذه الخطبة ويتواصون بها ويعلّمونها أولادهم جيلاً بعد جيل(3).فهي مقبولة سنداً لتلقي الأصحاب والعلماء عصراً بعد عصر لها بالقبول، وهو دليل الاعتبار عقلائياً، وشهرتها الروائية كبيرة جداً(4).
ص: 64
ص: 65
ص: 66
..............................
إضافةً إلى القرائن المقالية والمقامية الكثيرة الشاهدة لها: كنقل المخالفين لها مع توفر الدواعي على عدم النقل، وكقوّة المضمون في الكثير من مقاطعها، بل في كلها، وكتطابق مضمونها مع الأصول والقواعد(1).
ص: 67
..............................
مسألة: يستحب الرواية للنساء، كما يستحب الرواية للرجال، للإطلاقات، ولأن هذه الخطبة روتها - في جملة رواتها - السيدة زينب (صلوات الله عليها) وقد نقلها عنها المعصوم (علیه السلام) (1).. إضافةإلى كون أقوالها(2) وأفعالها (علیها السلام) حجةً على ما بيناه في الجملة(3).
وهذا المورد من باب المصداق، وإن كانت له مزية، إلاّ أنها غير حاصرة؛ لكونه صغرى لكبرى كلية، وقد سبق البحث عن ذلك في الفصل الأول من الكتاب(4).
مسألة: يستفاد من هذه الرواية أيضاً: صحة تحمل المميز للرواية(5)، وجواز الاعتماد عليه إذا رواها بعد البلوغ؛ لأن السيدة زينب (عليها الصلاة
ص: 68
..............................
والسلام) كان عمرها - حين الخطبة - دون البلوغ، إذ أن بعض أسناد الخطبة ينتهي إليها (صلوات الله عليها) (1)، وإن كان لا يُقاس بهم (علیهم السلام) أحد.. فإنهم (علیهم السلام) قد زُقّوا العلم زقّاً(2)، وقال الإمام السجاد (علیه السلام) لها (علیها السلام): «وأنت - بحمد الله - عالمة غير مُعلّ-َمة، وفهِمة غير مُفهّمة»(3)، لكنهم (علیهم السلام) أسوة، وذلك هو الأصل.
فكونهم (علیهم السلام) لا يُقاس بهم أحد، يُراد به جانب الفضائل، لا في جانب الاشتراك في التكاليف والأحكام - بنحو الأصل - فتأمل.
ومنه يعلم حجية قول البالغ إذا حكى عما قبل البلوغ، أما لو روى وهو مميز فلا يبعد القول بالحجية أيضاً (4) لبناء العقلاء على ذلك، وللسيرة، ولغير ذلك.
أما في أمثال عكسه فلا، كما إذا سمع أو رأى في حال العقل ثم جُنّ أو ماأشبه ذلك.
ص: 69
أنه لما أجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة (علیها السلام) فدكاً (1)
-------------------------------------------
مسألة: يستحب، بل يجب - حسب اختلاف الموارد - الاهتمام بما يرتبط بولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) والأئمة المعصومين (علیهم السلام)، والذبّ عن حريمهم، فقد ورد أنه: «بُني الإسلام على خمس دعائم: على الصلاة والزكاة والصوم والحج وولاية أمير المؤمنين والأئمة من ولده (علیهم السلام)»(2).
ولذلك قامت السيدة الزهراء (صلوات الله عليها) بتلك الأعمال الجليلة، واتخذت تلك المواقف العسيرة والمصيرية في الدفاع عن الإمام (علیه السلام) حتى استشهدت في سبيل ذلك.
وهذا الأمر مما يلاحظ في مراتبه الأهم والمهم، فإن كان الأمر أهم جاز حتى الاستشهاد، وقد يجب أحياناً، كما لو توقف عليه حفظ بيضة الإسلام، وكمافي التصدي للبدع وما أشبه ذلك(3).
وإن كان بقاء الإنسان أهم بما هو هو، أو من حيث الآثار الأخرى التي ستترتب على وجوده لم يجز إلى هذا الحد.
وكذلك حال ما دون الاستشهاد كالجرح والضرب وما أشبه حسب ما تقتضيه القواعد العامة، وعلى ما يقتضيه باب التزاحم(4).
ص: 70
..............................
وتشخيص ذلك عائد إلى الفقيه، أو مرجع التقليد، أو شورى المراجع، أو إلى الفرد نفسه أحياناً، حسب اختلاف الموارد(1) على ما فصلناه في بعض الكتب(2).
مسألة: يلزم بيان أن فدك كانت ملكاً للزهراء (صلوات الله عليها)، كما يجب الاعتقاد بذلك، على ما يستفاد من مطاوي الخطبة، ومن شدة اهتمام الزهراء (علیها السلام) بذلك، ولغير ذلك من الأدلة الكثيرة المذكورة في محالها، حيث أعطاها الرسول (صلی الله علیه و آله) في حياته بأمر من الله سبحانه كما ورد في متواتر الروايات(3)، وفي تفسير قوله تبارك وتعالى: «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ»(4).
فقد روي عن الإمام الصادق (علیه السلام): «لما نزلت هذه الآية «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ»(5) أعطى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فاطمة (علیها السلام) فدك». فقال أبان بن تغلب: رسول الله أعطاها؟. فغضب جعفر (علیه السلام) ثمقال: «الله أعطاها»(6).
ص: 71
..............................
وعن أبى سعيد الخدري قال: (لما نزلت «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ»(1) - قال - دعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فاطمة (علیها السلام) فأعطاها فدك)(2).
مسألة: يحرم الاجتماع على الباطل بصورة عامة، ويحرم - من باب المقدمية - كل ما يعد لذلك، ويحرم حتى تكثير السواد لجبهة الباطل(3).
مسألة: يحرم إيذاء أهل البيت (علیهم السلام) ومنعهم من حقوقهم، ويحرم التمهيد لذلك، ومن الواضح أن درجة الحرمة تختلف شدةً وضعفاً باختلاف المتعلق، فإيذاء حجة الله على الأرض أشدحرمة وعقوبة من إيذاء غيره دون إشكال، ولذلك ورد عنه (صلی الله علیه و آله): «فاطمة بضعة مني وأنا منها، فمن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله»(4).
وقال (صلی الله علیه و آله): «اللهم إن هؤلاء أهل بيتي وخاصتي وحامتي، لحمهم لحمي ودمهم دمي، يؤلمني ما يؤلمهم ويحزنني ما يحزنهم... »(5).
وقال تعالى: «الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ
ص: 72
..............................
وَأَعَدَّ لهمْ عَذَاباً مُهِيناً»(1).
حرمة الغصب ومصادرة الأموال(2)
مسألة: يحرم الغصب ومصادرة الأموال والأراضي والعقارات والمزارع وغيرها،قال تعالى: «وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ»(3).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من أخذ أرضاً بغير حق، كُلّف أن يحمل ترابها إلى المحشر»(4).
وقال (صلی الله علیه و آله): «من خان جاره شبراً من الأرض، جعله الله في عنقه من تخوم الأرضين السابعة حتى يلقى الله يوم القيامة مطوّقاً، إلاّ أن يتوب ويرجع»(5).
ولا فرق في الغاصب بين الدولة والأفراد، سواء كانت لهم هيئة اجتماعية بأن كانوا بصورة تجمع، كالحزب والمنظمة والهيئة والجماعة، أم لا، ككل فرد فرد.
ومن غير فرق بين أن يكون الغاصب أو المغصوب منه رجلاً أو امرأة، كبيراً أو صغيراً.
وإن كانت الحرمة في الدولة والجماعة أشد؛ لتآزرهم وتعاونهم على
ص: 73
..............................
الباطل، قال تعالى: «وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ»(1)، ولعدم القدرة على استردادها - عادةً - إلاّ بصعوبة، حيث إن التجمع يوجب قوة في جانب الغاصب؛ ولأن الدولة والجماعة يُقتدى بها بما لا يُقتدى بالفرد، فهي - عادة - من أظهر مصاديق «من سنّ سنّة سيئة... »(2). وكذلك حال اغتصاب الحق.
مسألة: يستحب وقد يجب - كلٌ في مورده - الاهتمام بقضية فدك؛ لإرجاعها إلى أيدي أصحابها وإعمارها ومزيد الاهتمام بها، فإنها معلم من معالم الدين وشعيرة من الشعائر، قال تعالى: «وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ»(3).
ولما يترتب عليه من الآثار والنتائج العظيمة المادية والمعنوية، ومن المعلوم أن الفوائد المعنوية منها أهم من الفوائد المادية، كما احتج أمير المؤمنين (علیه السلام) لإثبات أن فدك ملك الزهراء (علیهاالسلام)(4)، وكما طالب الإمام الكاظم (علیه السلام) بفدك(5). هذا ويستفاد من بعض الروايات أن الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) تشكو لأبيها (صلی الله علیه و آله) في يوم القيامة أمر فدك(6).
ص: 74
-------------------------------------------
المطالبة بالحق وفضح الطغاة (1)
مسألتان:
1: من الضروري فضح سياسة السلطات الجائرة ورجالاتها، وتربية الناس على ذلك، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»(2).
2: يجوز - بالمعنى الأعم - المطالبة بالحق، فيشمل المستحب والواجب أيضاً كل في مورده ولو كان الحق مادياً ودنيوياً.
ولا يخفى أن فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) كانت تهدف من موقفها وخطبتها - بالدرجة الأولى - هدفين هما أهم منالجانب المادي:
أحدهما: كشف القناع عن الحقيقة، وإثبات أن الحق في أمر الخلافة مع علي (عليه الصلاة والسلام) عبر الاستدلال والمطالبة بحقه (علیه السلام).
ثانيهما: نتائج معنوية وتاريخية عبر فضح الغاصبين إلى يوم القيامة، ورسم المقياس لمعرفة الحق عن الباطل، وتربية الأمة على التصدي للجور، وعدم السكوت عن الحق، والتضحية بكل غال ونفيس في سبيل ذلك.
ص: 75
..............................
وقد حققت (علیها السلام) كلا الهدفين، بالإضافة إلى تحقق الجانب المادي بعد حين، كما يدل على ذلك ردّ جماعة من الحكام فدك وإن اغتصبها جماعة آخرون(1).
وقد كشفت (علیها السلام) القناع عن وجه الحقيقة، وأثبتت أن الحق لعلي أمير المؤمنين (علیه السلام)، وفضحت الغاصبين، ورسمت ميزان الحقيقة للأجيال، وأعطت خير نموذج للتصدي للجور والظلم.
وإضافة إلى ذلك، فقد كان لدفاعها(علیها السلام) عن حق الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) أثر في عمق التاريخ، حيث إن جماعة من ذرية علي (عليه الصلاة والسلام) وشيعته وصلوا إلى الحكم طول التاريخ الإسلامي، وإلى يومنا هذا، في قضايا مفصلة مذكورة في التواريخ(2).
..............................
والظاهر أن فاطمة الزهراء (عليهاالصلاة والسلام) كان عليها جانب الوجوب؛ لأن نصرة علي أمير المؤمنين (علیه السلام) خاصة في المواطن الخطيرة من الواجبات المؤكدة، وقد قال الرسول (صلی الله علیه و آله): «وانصر من نصره واخذل من خذله»(1).
هذا بالإضافة إلى أن استرجاع فدك وفضح الذين غصبوها كان من أهم الواجبات، وكانت هي (علیها السلام) - لمكانتها من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبين المسلمين - أقدر من غيرها على ذلك.
مسألة: يجوز للمرأة المطالبة بحقها، جوازاً بالمعنى الأعم، الشامل للوجوب والاستحباب والإباحة، ولا فرق بين الرجل والمرأة في هذا الباب.
قال علي (علیه السلام): «طلب التعاون على إقامة الحق ديانة وأمانة»(2).
وفي الحديث: «ثلاث لا يستحيىمنهن... وطلب الحق وإن قلّ»(3).
وقال (علیه السلام): «أخسر الناس من قدر على أن يقول الحق ولم يقل»(4).
ولها أن تحضر مجلس القضاء وترفع الشكوى، إلى غير ذلك مما هو مذكور في أبواب الفقه، وإن لم ينفع ذلك فلها أن ترفع ظلامتها على رؤوس الأشهاد، كما قامت السيدة الزهراء (صلوات الله عليها) بذلك.
ص: 77
..............................
مسألة: يستحب - وقد يجب - المطالبة بالحق وإن كان يعلم بعدم نجاحه في التوصل للحق وإحقاقه، وذلك لما فيه من فضح الظالم وأداء الواجب وإتمام الحجة، كما طالبت (صلوات الله عليها) بحقها وهي تعلم بأن القوم لا يعطونها حقها.
إضافة إلى أن إزعاج الظالم ومضايقته بالمطالبة بالحق والإلحاح عليه ولو ممن يعلم أنه لا يعطيه حقه -وما أكثرهم - سوف يردعه عن كثير من ظلمه؛ فإن الظالم لو رأى أنه غصب حق زيد ثم عمرو ثم بكر و... ولم يقم أحد بشيء تجرأ على الغصب أكثر فأكثر، أما لو ضايقه بالمطالبة زيدٌ وعمروٌ وبكر... فإنه سوف لا يقدم - عادة - على مراتب جديدة من الظلم، أو سيكون إقدامه أضعف كيفياً وأقل كمياً مما لو ترك على هواه.
مسألة: يستحب المطالبة بالحق فوراً - وقد يجب - كما يستفاد ذلك من (وبلغها) و(لاثت خمارها)، وإنما يلزم التعجيل؛ لأن ترك الظالم وظلمه بحاله لحظة واحدة حرام، فإذا تمكن الإنسان من مطالبة الحق والانتصار له وجب فوراً ففوراً، فإن خير البر عاجله، قال تعالى: «وَسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ»(1).
ص: 78
-------------------------------------------
وجوب الستر على المرأة(1)
مسألة: يجب على المرأة أن تستر رأسها وجسمها، ولذلك (لاثت)(2) (علیها السلام) خمارها(3)واشتملت بجلبابها؛ فإن أعمالها ومواقفها (صلوات الله عليها) كلها معلولة لأوامر الله سبحانه ونواهيه - بالمعنى الأعم - كما ثبت ذلك بقائم البرهان.
والفعل - في أشباه المقام - دليل الرجحان، وخصوص المنع من النقيض يستفاد من القرائن والأدلة العامة.
مسألة: يحرم على المرأة أن تظهر زينتها للأجانب من الرجال، وإنما أفردنا هذه المسألة باعتبار إمكان الحجاب وإظهار الزينة(4) لعدم التلازم بين الأمرين،
ص: 79
..............................
وقد قال سبحانه: «وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ»(1).
والمراد ب: «وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ»(2) إما مواضع الزينة كالمعصم والساق وغيرها، أو الزينة وهي على تلك المواضع، والمآل واحد، وربما يُعمّم للملابس الزاهية التي تعدّ زينة عرفاً وشبهها(3).والظاهر أن المنصرف من الزينة في قوله سبحانه: «وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ»(4) غير الشعر، فإن الشعر وإن كان زينة ويحرم إظهاره على المرأة، لكن المنصرف من الآية المباركة الزينة المتعارفة كالذهب ونحوه، فتأمل.
نعم، لا بأس بالقول بأن ملاك الآية المباركة موجود في الشعر أيضاً، ومن الواضح أن لوث الخمار يوجب التحفظ الأكثر.
ص: 80
-------------------------------------------
مسألة: ينبغي التخمّر وشبهه للمرأة(1) إذا أرادت الخروج من المنزل وإن لبست عباءتها، تأسياً(2)، ولأنه أستر كما لا يخفى، وربما هبت الريح فانكشف الستر، بينما الخمار يكون أوثق في الستر وعدم الكشف.
قال سبحانه: «وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ»(3).
وهذه الآية المباركة وإن لم تدل على مثل هذا الاستحباب(4) لكنها تدل على تعارف الخمار للنساء في زمن رسول الله (صلی الله علیه و آله) بل وقبله أيضاً، وعن أبي جعفر (علیه السلام): «استقبلشاب من الأنصار امرأة بالمدينة وكان النساء يتقنعن خلف آذانهن... »(5).
ص: 81
..............................
مسألة: يرجّح شدّ المرأة الخمار على رأسها دون إطلاقه مسترسلاً، استظهاراً من كلمة: (لاثت) وذلك فيما لو كانت الثياب - مثلاً - ساترة للصدر والعنق..
وهو من مصاديق الإتقان، قال (علیه السلام): «رحم الله امرأً عمل عملاً فأتقنه»(1) وغيره.ويجب فيما إذا كان إطلاقه مسترسلاً سبباً لكشف العنق أو جانباً من الصدر، قال تعالى: «وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ»(2).
مسألة: ينبغي أن يكون للمرأة خمار أو شبهه في منزلها، وهذا ما قد يستظهر من الضمير في (خمارها) بضميمة أدلة التأسي، إضافة إلى أنه أدعى للتقيد بالستر.
ص: 82
..............................
مسألة: ينبغي لبس الخمار في المنزل ثم الخروج منه فإنه أكثر ستراً للرأس، وإن أمكن لها أن تلوث خمارها في خارج المنزل في مكان لا رجال فيه أو بحيث لا يرونها.
والظاهر أنه لا فرق بين أن تلوث المرأة خمارها بنفسها، أو أن يفعل ذلك بعض محارمها أو بعض نسائها.
لكن استحباب أن يقوم الإنسان بنفسه بكافة أعماله دون إرجاعها للغير في صورة الإمكان، حسب المستفاد من الروايات(1) يفيد الأول.
ص: 83
..............................
مسألة: ربما يستفاد من التعبير عن فعلها (علیها السلام) ب «لاثت خمارها واشتملت بجلبابها»، أفضلية لوث الخمار تحت الجلباب كما هو المتعارف، لا فوقه وإن أمكن؛ إذ ذلك هو الأوثق في الستر.
وذلك نظراً لتعقب (لاثت) ب (اشتملت) والواو يدل على الترتيب في كثير من المواضع، وقد ذكر الفقيه الهمداني (قدس سره)(1) في قولهسبحانه وتعالى:
«فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ»(2): إن (الواو) دال عرفاً على الترتيب، وهذا غير بعيد، وإن قال الأدباء: بأن الواو
ص: 84
..............................
للجمع مطلقاً، حتى قال ابن مالك(1):
واعطف بواو سابقاً أو لاحقاً *** في الحكم أو مصاحباً موافقاً
فإنه وإن صح ذلك وضعاً إلاّ أن الانصراف(2) يفيد الترتيب.
وربما يقال: بأن استفادة الترتيب في تلك الأماكن نتيجة القرائن المقامية، ولكن لا يبعد أن تكون الواو لو خليت وطبعها أفادته، فتأمل.
تغطية كل الجسد(3)
مسألة: يستحب أن يكون الحجاب الظاهري للمرأة مغطياً جميع بدنها، كما قد يدل عليه: (اشتملت) بل و(الجلباب) أيضاً، فلا تكتفي المرأة بالخمار عن تغطية الرأس ثانية بالعباءة ونحوها. والجلباب: هو الثوب الطويل الواسع الساتر لحجم البدن، ومن مصاديقه العباءة المتداولة في الحال الحاضر.
ص: 85
..............................
ويستظهر من الاقتصار على «... واشتملت بجلبابها» أن معنى الجلباب هو ما ذكر من الثوب الواسع المغطي لكل البدن، فلا يظهر من المرأة شيء من جسدها أو من حجمها.
لا ما قاله البعض: من أنه الخمار(1)، أو البعض: من أنه ثوب أوسع من الخمار دون الرداء تغطي به المرأة رأسها وصدرها أو شبه ذلك(2).وقد يكون ذلك واجباً، فإن الثوب الملاصق الضيق بحيث يظهر تقاطيع الجسد محرم، خاصة ما أظهر بعض الأعضاء.
وإنما نقول بحرمته؛ لأنه من المنكر عند المتشرعة، فالارتكاز والذهنية الدينية التي تلقوها خلفاً عن سلف تدل على تلقيهم ذلك من الشارع ومنعه عن مثله(3).
ص: 86
-------------------------------------------
مسألة: يجوز - بالمعنى الأعم - خروج المرأة من البيت، سواء كانت متزوجة أم غير متزوجة في الجملة.
نعم، الفرق بين المتزوجة وغير المتزوجة أن المتزوجة تستأذن زوجها في الخروج في غير الواجب منه، وغير المتزوجة تملك نفسها، فإنه (صلی الله علیه و آله): «نهى أن تخرج المرأة من بيتها بغير إذن زوجها»(1).
وخروجها (علیها السلام) حيث (أقبلت) كان من مصاديق الخروج الواجب لكونه مقدمة الواجب كما أشرنا إليه.
ص: 87
-------------------------------------------
مسألة: ينبغي أن تخرج المرأة مع غيرها لا بمفردها - في الجملة - فإنه أكثر ستراً وحفظاً وصوناً لها من المخاطر.
وكذلك إذا كان الخروج لأمر خطير، أو كانت هي من الشخصيات الاجتماعية، حيث ورد في الرواية: «في لمة».
وقد يستظهر أنها (عليها الصلاة والسلام) كانت تتوسط جمع النساء لمكان (في).
ثم إن هذا أقرب إلى الوقار المطلوب في مثل هذا المقام؛ لأن الوقار في مثله يملأ عيون الخصوم وأذهانهم بهالة من القوة، ولأن الجماعة توجب الهيبة أو زيادتها، وسرعة قضاء الحاجة وتحقيق الهدف إن أمكن ذلك، وستكون أتم للحجة وأقطع للعذر وأوقع في النفس وأقوى في تسجيل الموقف.
مسألة: ينقسم خروج كبير القوم -كالحاكم والأمير والعالم والقاضي - منفرداً أو مع مجموعة من الناس، إلى الأحكام الخمسة:
1. فقد يجب، إذا توقف إحقاق الحق عليه في كلا الفرضين(1)، وقد
ص: 88
..............................
خرجت (علیها السلام) في «لمة من حفدتها ونساء قومها» إذ كان ذلك أدعى للهيبة وأقوى في التأثير.
2. وقد يستحب، إذا لم يكن الرجحان بحيث يمنع من النقيض، وبذلك وشبهه يعلّل خروج الرسول (صلی الله علیه و آله) والإمام علي (علیه السلام) وسائر المعصومين (علیهم السلام) أحياناً منفردين، وأحياناً مع جمع من الأصحاب أو الناس.
3. وقد يكره، إذا كان الخروج مع جمع سبباً لإثارة الكبر والعجب والخيلاءفي النفس بما لا يصل إلى حد الحرام، أو إذا كان الخروج منفرداً سبباً لاستصغار شأن العالم الديني مثلاً في بعض المناطق كذلك.
4. وقد يحرم، كما في عكس الصورة الأولى، وكما في خروج الحكام والطغاة مع جمع مما يسبب إرهاب الناس وأرباب الحوائج وذوي الحقوق فلا يعود بمقدورهم المطالبة والأخذ بحقهم.
5. والمباح: ما عدا ذلك.
ص: 89
-------------------------------------------
مسألة: ينبغي أن يخرج الإنسان بصورة عامة - والمرأة بصورة خاصة - في أسفاره وكذلك في مهامه الخطيرة وشبه ذلك مع من يعرفه دون من لا يعرفه، كما يستفاد من خروجها (علیها السلام) مع «حفدتها ونساء قومها».
والفعل وإن لم يكن له جهة إلاّ أن دلالته على جامع الرجحان في أمثال المقام غير بعيد، أسوةً وملاكاً ولما سبق.
إضافة إلى إطلاقات الروايات الشريفة التي تفيد ذلك، مثل قوله (صلی الله علیه و آله): «الرفيق ثم الطريق»(1).
وما يقاربه، كقوله (صلی الله علیه و آله):
«ألا أنبئكم بشر الناس؟.
قالوا: بلى يا رسول الله.قال: من سافر وحده... »(2) الحديث.
ص: 90
-------------------------------------------
مسألة: يحرم أن تخرج المرأة مكشوفة الساقين، ويكره أو يحرم أن تكون مكشوفة القدمين، وقد خرجت (صلوات الله وسلامه عليها) وهي «تطأ ذيولها» وهذه كناية عن أن الستر كان طويلاً جداً، وهو المطابق للاحتياط.
مسألة: يستحب أن تكون عباءة المرأة بحيث تجر على الأرض فإنه أستر لها، وهذا مما يستثنى مما ورد في كون الثوب قصيراً ليكون أنقى وأبقى، حيث يستحب ذلك في الرجل حيث قال (علیه السلام) عندما رأى رجلاً يجر ثوبه: «يا هذا، قصّر منه فإنه أتقى وأبقى وأنقى»(1).
مسألة: يستحب أن يكون الستر فضفاضاً؛ لأنه أبعد عن الإثارة وأدعى للستر.
مسألة: يستحب شدة التستر كما يستفاد من «تطأ ذيولها»؛ فإنه كناية عن شدة التستر.
ص: 91
-------------------------------------------
مسألة: يستحب التأسي برسول الله (صلی الله علیه و آله) في كل الأمور حتى في كيفية المشي، وقد يجب التأسي - في موارد الوجوب -.
ولذا قال علي (علیه السلام): «فتأسى متأس بنبيه، واقتص أثره، وولج مولجه، وإلاّ فلا يأمن الهلكة»(1).
أما قوله (علیه السلام): «فلا يأمن الهلكة» - حيث يستظهر منه أن ذلك بالنسبة إلى الواجبات وترك المحرمات - فلا يتنافى مع الاستحباب المطلق حيث يفهم في سائر أعماله بالملاك، بالإضافة إلى الإطلاقات مثل قوله سبحانه:«فَبِهُداهُمُ
اقْتَدِهْ»(2).
وقال علي (علیه السلام): «أحبّ العباد إلى الله تعالى المتأسي بنبيه (صلی الله علیه و آله)»(3).
والصديقة الطاهرة (علیها السلام) كانت تمشي كمشية رسول الله (صلی الله علیه و آله) فإن الولد سرّ أبيه(4).
وهل يدل ذلك على استحباب التكلف في الإقتداء بحركات العظماء من الصالحين؟.
ص: 92
..............................
احتمالان:
الأول: نعم؛ لأنه من التشبه ولو جزئياً، وهو من أسباب تقوية مكانة العظيم في الناس، مما يسبب تجذر الخير فيهم وسوقهم نحوه أكثر فأكثر، وما إلى ذلك.
الثاني: العدم، بل الراوي يحكي أمراً طبيعياً من حركتها (علیها السلام).ولا ينافي عدم دلالة هذه الجملة ها هنا على ذلك، القول بالاستحباب استناداً إلى الأدلة الأخرى، كما سبق من إطلاقات أدلة التأسي، وكونه مقدمة لسوق الناس للخير، وغير ذلك.
مسألة: يستحب المشي على وقار وسكينة، كما يدل على ذلك بعض الروايات(1) مثل ما ورد من قوله (علیه السلام): «سرعة المشي تذهب ببهاء المؤمن»(2)، وقال (علیه السلام): «المشي المستعجل يذهب ببهاء المؤمن ويطفئ نوره»(3)، إلاّ إذا كان في أمر يستحب الإسراع إليه، وهذا يكون من باب قانون الأهم والمهم.
ووطأ الذيل ينتج عن طوله مع سرعة المشي، أو في صورة انشغال الذهن، ولعل الثاني ها هنا أقرب وأظهر.
ص: 93
-------------------------------------------
مسألة: يجوز للمرأة دخول المسجد(1)؛ لقول الراوي: «حتى دخلت (علیها السلام) »، ولغيره.
ولا يخفى أنه ربما يتنظّر في القول بأفضلية صلاة المرأة في بيتها(2) لأنا نجد أن رسول الله وعلياً (عليهما الصلاة والسلام) ما كانا يأمران النساء بالبقاء في البيوت للصلاة، وإنما كانت النساء يحضرن المسجد للصلاة خلف الرسول (صلی الله علیه و آله) وللاستماع إلى الخطبة..
وقد عين (صلی الله علیه و آله) امرأة للصلاة جماعة بالنساء(3)..وكذلك بالنسبة إلى علي (عليه الصلاة والسلام) كما يفهم من جملة من الروايات الواردة في حالاتهما (صلوات الله عليهما).
ص: 94
..............................
وما ورد من أن «خير مساجد نسائكم البيوت»(1) مع قطع النظر عن كونها مرسلة، قد يحمل - جمعاً بينها وبين عمل الرسول (صلی الله علیه و آله) والإمام علي (علیه السلام) وما أشبه ذلك - على كونه قضية خاصة في زمن خاص أو ظرف خاص، أو فيمن يخاف عليهن الافتتان أو شبه ذلك مما يدخل في باب التزاحم.
مسألة: يستحب طرح القضايا الهامة في المسجد، لما فيه من إعطاء المحورية للمسجد في حياة الناس؛ ولأنه أقرب إلى عناية الله تعالى ولطفه، ولأنه بما يحمل من روحانية وتذكير بالخالق المتعال أدعى لقبول الحق والبُعد عنالباطل.
وقد كان الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) يصلي في المسجد، ويخطب فيه، ويوجه الناس في شؤون السلم والحرب والأخلاق والسياسة وغيرها(2)..
كما كان المسجد مركزاً لحل مشاكل الناس في عهده (صلی الله علیه و آله) وعهد أمير المؤمنين (علیه السلام) .. وهكذا.
مسألة: يستحب طرح القضايا المهمة أمام الناس، وقد يجب في الجملة؛ فإنه إرشاد للجاهل أو تنبيه للغافل، وأمر بالمعروف أو نهي عن المنكر، وتعليم أو تزكية، على اختلاف الموارد.
ص: 95
..............................
وعموماً فإن الناس إذا وُضعوا في مجرى الأحداث التي تواجه الأمة، فكرياً أو سياسياً أو اقتصاديا أو ما أشبه ذلك، فإن حصانتهم أمام الباطل واستعدادهم للإيثار والتضحية في سبيل الله سبحانه يكون أكثر فأكثر، كما هو مفصل في علم الاجتماع والنفسوالأخلاق(1).
وقد قامت (علیها السلام) بكلا الأمرين، حيث طرحت ظلامتها في المسجد، وأمام الناس.
ويحتمل أن يكون خصوص الطرح في المسجد بما هو مسجد على سبيل الاستحباب، كما يحتمل أن يكون على سبيل الجواز.
والحاصل أن الجواز بالمعنى الأعم يستفاد من هذا الحديث، وإن كان الجواز بالمعنى الأخص إباحةً أو استحباباً أو وجوباً حسب الموازين العامة.
ص: 97
..............................
ومن الواضح أن الترافع في المسجد ليس مخالفاً لمقتضى الوقف شرعاً، كما أن من البين أنه يجب أن لا يكون بحيث يعد هتكاً للمسجد عرفاً(1).
مسألة: يجوز - بالمعنى الأعم الشامل للوجوب - الاستفادة من وسائل الإعلام ومراكز التجمع، للمطالبة بالحق وفضح الظالم وإرشاد الناس وبيان
..............................
ومن الواضح أن الترافع في المسجد ليس مخالفاً لمقتضى الوقف شرعاً، كما أن من البين أنه يجب أن لا يكون بحيث يعد هتكاً للمسجد عرفاً(2).
مسألة: يجوز - بالمعنى الأعم الشامل للوجوب - الاستفادة من وسائل الإعلام ومراكز التجمع، للمطالبة بالحق وفضح الظالم وإرشاد الناس وبيان
..............................
ومن الواضح أن الترافع في المسجد ليس مخالفاً لمقتضى الوقف شرعاً، كما أن من البين أنه يجب أن لا يكون بحيث يعد هتكاً للمسجد عرفاً(3).
مسألة: يجوز - بالمعنى الأعم الشامل للوجوب - الاستفادة من وسائل الإعلام ومراكز التجمع، للمطالبة بالحق وفضح الظالم وإرشاد الناس وبيانالحقيقة، كما استفادت فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) من المسجد، حيث كان المسجد أهم مركز للإعلام آنذاك، باعتباره مركزاً لتجمع مختلف الشخصيات
ص: 98
..............................
والتيارات الاجتماعية والمركز الرئيسي للرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) ولقيادة الأمة وغير ذلك.
مسألة: يجوز للمرأة أن تدخل في مكان قد اجتمع فيه الرجال أو مع النساء، مع الحفاظ على الحجاب وسائر الشرائط.
إذ الأصل الإباحة، ولا دليل على الحرمة، بل كان هذا في زمن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مسجده وفي أسفاره وفي الحج..
كما أنه كان في أيام الفقهاء الكبار في مشاهد المعصومين (عليهم الصلاة والسلام)..
وكذلك في القدس الشريف.. وغير ذلك.
أما المحرّم منه فهو الاختلاط بلا حجاب أو ما أشبه ذلك مما أتى به الغرب إلى بلاد الإسلام واستقبله بعض منلا حريجة له في الدين.
ص: 99
-------------------------------------------
مسألة: يرجح توجيه الضغط على الغاصب أو الظالم نفسه، أو الرجوع إليه رأساً لدى المطالبة بالحقوق وبالحق، إلاّ إذا كانت الفائدة في غير ذلك.
قال تعالى: «اذْهَبَا إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى»(1)..
ولذا بادرت فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) للذهاب إلى المسجد ومواجهة أبي بكر بنفسه.
ومن ذلك أيضاً كانت كتابات المعصومين (علیهم السلام) إلى الطغاة مباشرة، وقد كتب الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى معاوية:
«غرك عزك، فصار قصار، ذلك ذلّك، فاخش فاحش فعلك، فعلّك تهدى بهذا»(2).
وذلك إتماماً للحجة وفضحاً للظالم، كي لا يدعي عدم العلم ويلقي اللوم علىالآخرين - كما هي سيرة الظالمين خاصة في فترات الضعف والسقوط - وتحطيماً لشوكته وهيبته المصطنعة أمام الناس، ولغير ذلك(3).
ص: 100
-------------------------------------------
مسألة: يستحب وقد يجب - إذا توقف الردع وشبهه عليه - فضح الظالمين على رؤوس الأشهاد، فإنه نوع من الضغط والتنفير الاجتماعي.
وملاكه يشمل الرجال أيضاً.
ولا فرق في ذلك بين المنبر والمحراب والكتاب والإذاعة والتلفزيون وغيرها من وسائل الإعلام.
ولو تحول هذا إلى منهج عام عند الناس، بأن التزم الكل بل حتى الأكثر، بل حتى جمع كثير من الناس، بفضح الظالم والتصدي لظلمه على رؤوس الأشهاد لما قامت للظالمين قائمة.
مسألة: يستحب إتمام الحجة على الناس وقد يجب؛ لأنه حينئذ يجعل من الحشد شهوداً على كلام الطرفين، وذلك أبلغ في إقامة الدليل والانتصار للحق، قال سبحانه: «لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِحُجَّةٌ»(1).
ص: 101
..............................
مسألة: يجوز - بالمعنى الأعم - المطالبة بالحق وكشف القناع عن ظلم الظالم، حتى عند من لا يتأتى منه أي عمل أو لا يعمل. ويشمله إطلاق قوله تعالى: «لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ»(1).
ومما يوضح الشمول: ما ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام) في بيان أحد مصاديق الآية الشريفة: «من أضاف قوماً فأساء ضيافتهم فهو ممن ظلم فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه»(2).
وربما يعد من مصاديق ذلك مطالبتها (صلوات الله عليها) بحقها وحق الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) في المسجد في حضور المهاجرين والأنصار وغيرهم، حيث لم يكن لكل الأفراد - لا بشرط الاجتماع - القيام بالمطلوب، والمراد نفي(الكلية) لا النفي الكلي، فتأمل.
مسألة: ينبغي بيان الحقيقة لمختلف طبقات الناس وأصنافهم، لا مجموعة خاصة منهم وإن كثرت أفرادها، نظراً لأن ذلك أكثر ضماناً لصدق الحديث عن التحريف والتواطي عليه أو النسيان أو التشكيك فيه.
وبذلك - وبجهات أخرى - تظهر الحكمة في إلقائها (علیها السلام) الخطبة في مجمع من المهاجرين والأنصار وغيرهم.
ص: 102
-------------------------------------------
مسألة: قد يقال باستحباب وضع ساتر بين الرجال والنساء عند خطاب المرأة، إضافة لتحجب كل واحدة منهن.
وربما يستفاد ذلك من قوله تعالى: «وَإذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ»(1).
وإن كان الانصراف(2) يقتضي الحجاب أو الساتر بالمعنى الأخص لا الساتر إضافة للحجاب المتعارف.
ومنه يعلم استحباب ذلك في كل مكان اجتمع فيه النساء والرجال، كما في المسجد للصلاة، وفي قاعة الدرس، وفي الحسينيات، وغير ذلك، ولذا ورد في هذا الحديث: «فنيطت دونها ملاءة».
لكن ربما يقال:
بأنه لا يظهر أن ذلك كان على نحو الاستحباب إذ الفعل لا جهة له، بل ربما كان ذلك من الآداب، ولذا لم يكنفي مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ستر بين الرجال والنساء، وكذلك في المسجد الحرام لم يجعل ستر بين الرجال والنساء، بأن يقرر مثلاً على الرجال أن يطوفوا بجوار الكعبة وعلى النساء الطواف من بعيد
ص: 103
..............................
وبينهما ستر، أو بأن يقرر وقت للرجال وآخر للنساء، إلى غير ذلك مما هو واضح.
وربما يقال: بأنه يدل على الاستحباب بالنسبة إلى الشخصيات من النساء، ولذا ورد ذلك بالنسبة إلى عمل نساء النبي (صلی الله علیه و آله) بعد نزول آية الحجاب(1).
أما الاستحباب مطلقاً فالظاهرالعدم، للسيرة المستمرة في مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) في عصره الشريف وغيره بالنسبة إلى النساء، وكذلك بالنسبة إلى المسجد الحرام، وغير ذلك كما سبق.
ص: 104
-------------------------------------------
مسألة: قد يعدّ من الآداب عند التواجد في المسجد الجلوس فيه، فهو أقرب للوقار ولرعاية حرمة المسجد ولو في الجملة.
كما يجوز القيام أو الاستلقاء فيه فيما إذا لم يكن هتكاً أو مزاحماً لما هو من شؤون المسجد، وإلاّ كان مكروهاً أو محرماً - حسب اختلاف الموارد - كما أن النوم في المسجد مكروه على المشهور، وقد ورد في هذا الحديث: أنها (صلوات الله عليها) جلست(1).
مسألة: يجوز للمرأة أن تُسمع الرجل صوتها إذا حفظت الموازين الشرعية، بأن لم يكن هناك خوف فتنة، أو من الخضوع في القول مثلاً، قال سبحانه: « فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِمَرَضٌ»(2).
وقد كانت النساء يتكلمن مع الرسول (صلی الله علیه و آله) ومع أمير المؤمنين (علیه السلام) ومع الأئمة الطاهرين (علیهم السلام) ومع علماء الدين إلى عصرنا الحاضر، وعلى ذلك جرت سيرة المتشرعة عموماً، لكن يجب مراعاة الموازين الشرعية.
ص: 105
..............................
وما ذكر يدل على جواز ذلك، فإن المحظور هو الخضوع بالقول وما أشبه، فيجوز للنساء إلقاء الخطب وقراءة التعزية في المجالس النسوية وإن وصل صوتها إلى أسماع الرجال، كما يجوز تسجيل صوت قراءتها(1) مع مراعاة الجهات الشرعية(2).
مسألة: يجوز للرجال أن يسمعوا صوت النساء مع مراعاة الموازين الشرعية، لأصالة الحل والإطلاقات والسيرةالمتصلة.
والفرق بين المسألتين(3) واضح.
مسألة: يستحب الأنين والبكاء على الميت، كما بكت (علیها السلام) على أبيها (صلی الله علیه و آله)، وقد يكون بكاؤها (علیها السلام) وأنينها لفقد أبيها (صلی الله علیه و آله) ولغصب حق خليفته أمير المؤمنين علي (علیه السلام) ولما جرى عليها من مختلف أنواع الظلم.
وفي العروة الوثقى: (يجوز البكاء على الميت ولو كان مع الصوت، بل قد يكون راجحاً كما إذا كان مسكناً للحزن وحرقة القلب، بشرط أن لا يكون منافياً للرضا بقضاء الله، ولا فرق بين الرحم وغيره، بل قد مر استحباب البكاء على
ص: 106
..............................
المؤمن، بل يستفاد من بعض الأخبار جواز البكاء على الأليف الضال)(1).وقد ذكرنا في (الفقه): استحباب البكاء على المؤمن لتواتر الروايات بذلك قولاً وعملاً..
وما يقال من أن النبي (صلی الله علیه و آله) نهى عن البكاء مكذوب عليه(2).
مسألة: لا بأس في سماع الرجال الأجانب بكاء المرأة، كما لا بأس في أن ترفع صوتها بالبكاء.
كما دل على ذلك بكاؤها (علیها السلام) في البيت، حيث كان صوتها مسموعاً في المسجد(3).
وقد أوصى الإمام الباقر (علیه السلام) بأن تندبه النوادب في منى عشرسنين(4)، وهناك مجتمع الرجال والنساء كما هو واضح.
ص: 107
..............................
البكاء لفقد المعصوم (علیه السلام) (1)
مسألة: يستحب البكاء لفقد المعصوم (علیه السلام) كما بكت الزهراء (علیها السلام) على رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وكذلك يستحب البكاء عالياً في مصيبتهم (علیهم السلام)(2).ويستحب تشكيل مجالس للبكاء عليهم (عليهم الصلاة والسلام) فهو نوع من المواساة، ومن الانتصار للمظلوم، ومن سبل تثبيت محبة آل البيت (علیهم السلام) في قلوب الناس، وقد دل على ذلك كثير من الروايات. فعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال لفضيل: «تجلسون وتحدثون؟». قال: نعم جعلت فداك. قال: «إن تلك المجالس أحبها، فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله من أحيى أمرنا، يا فضيل من ذكرنا أو ذُكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر»(3).
مسألة: يستحب بكاء المظلوم للتظلم بصوت عال، فإنه من غير الصحيح
ص: 108
..............................
أن يسكت الإنسان على الظلم.
ولذا قال سبحانه:«لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَتُظْلَمُونَ» (1).
والبكاء إحدى طرق الضغط على الظالم وفضحه وإثارة العواطف ضده، ولذا بكى الإمام السجاد (علیه السلام) تلك المدة الطويلة(2)، وبكت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) حتى استشهدت(3). كما روي أنها (عليها أفصل الصلاة والسلام): «ما زالت بعد أبيها (صلی الله علیه و آله) معصّبة الرأس، ناحلة الجسم، منهدة الركن، باكية العين، محترقة القلب، يُغشى عليها ساعة بعد ساعة»، الحديث(4).
ومثل البكاء: الأنين سواء على الميت - كما سبق - أم على المظلوم، أم من المظلوم، وقد ورد في قصة يوم (أُحد) أن صفية (علیها السلام) كانت تأن وتحن على حمزة (علیه السلام) وكان ذلك بمحضر من الرجال، وكلما أنّت أنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأنينها، وكلما حنّت حنّ رسول الله (صلی الله علیه وآله) لحنينها(5).
وقد ورد: إنه لما انصرف رسول الله (صلی الله علیه و آله) من وقعة (أحُد) إلى المدينة سمع من كل دار قتل من أهلها قتيل نوحاً وبكاءً ولم يسمع من دار حمزة (علیه السلام) عمه، فقال: «لكن حمزة لا بواكي له»، فآلى أهل المدينة أن لا ينوحوا على ميت ولايبكوه حتى يبدؤوا بحمزة (علیه السلام) فينوحوا عليه ويبكوه(6).
ص: 109
-------------------------------------------
مسألة: يستحب أن يبكي الناس تفاعلاً مع بكاء المظلوم، فإنه مشاركة وجدانية وتألّم لألم المتألم(1)، بالإضافة إلى أنه يتضمن تأييداً للمظلوم ونصرة له.
قال علي (علیه السلام) في وصيته للحسن والحسين (علیهما السلام): «كونا للظالم خصماً وللمظلوم ناصراً»(2).
مسألة: يستحب بكاء الناس لبكاء المفجوع بمصيبة، ولذا ورد استحبابالبكاء على الميت وإن لم يعرفه الإنسان(3).
ص: 110
..............................
وقد بكى الرسول (صلی الله علیه و آله) وأن وحن لبكاء وأنين وحنين صفية(1).
فإن البكاء رحمة ورقة وعطوفة(2)،وكلها مطلوبة شرعاً حسب الروايات الكثيرة الواردة في التوادد والتراحم والرحمة والعطف وشبهها الشاملة بإطلاقها للمقام.
ص: 111
-------------------------------------------
مسألة: يستحب أن يفتتح المتكلم أو الخطيب حديثه بما يهيئ النفوس ويعدّ الأذهان لتقبّل الكلام، على حسب مقتضيات البلاغة، ولذا نجد أنها (صلوات الله عليها) «أنت أنة أجهش القوم لها بالبكاء، فارتج المجلس».
فإنها (علیها السلام) فجرت في النفوس كوامن العواطف، وجعلت القوم في قصوى حالات الاستعداد النفسي والعاطفي للاستماع إلى حديثها وظلامتها.
فعلينا أن نتعلم من مدرستها (علیها السلام) حتى افتتاح الحديث، بل وتطعيمه بما يؤثر على الحضور والمستمعين أكبر الأثر، فإن ذلك كمال وفضيلة، ولا شك أن تربية الإنسان نفسه على الفضيلة والكمال من المستحبات، وقد قال سبحانه: «وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا»(1)، وقالتعالى: «اتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ»(2).
هذا بالإضافة إلى أنه كلما كان كلام الإنسان مشتملاً على عوامل تحريك العواطف وإثارة دفائن العقول يكون أقوى وقعاً في نفوس المستمعين، فيكون أقرب إلى قبولهم للمعروف وانتهائهم عن المنكر وفعلهم الخيرات، كل في مورده.
ص: 112
-------------------------------------------
مسألة: ينبغي إيراد الكلام على مقتضى الحال، بل وفي أفضل الأحوال، ولذلك «أمهلت (علیها السلام) هنيئة»؛ فان البدء بالحديث والقوم في شدة البكاء وفورة الاهتياج مما يفقد كلمات المتكلم تأثيرها المطلوب، ويكون التفاعل معها حينئذ أقل.
فالإمهال عندئذ ضروري، ولكن بشرط أن لا يكون الفاصل طويلاً؛ لأن الكلام يفقد حرارته وموالاته بسبب الفصل الطويل، وهذا مما ينافي موازينالبلاغة.
فاللازم أن لا يكون متتابعاً جداً، وأن لا يكون متباعداً بعضه عن بعض، بل يكون طبق الأسلوب البلاغي حسب اختلاف المقامات(1)، ولذلك كان إمهالها (علیها السلام) (هنيئة) فقط.
ص: 113
-------------------------------------------
مسألة: يستحب افتتاح كل أمر - ومنه الحديث والكلام، على المنبر كان أو تحته، لجمع أو لفرد، في أمر من أمور الدنيا أو الآخرة - بذكر الله وحمده عزوجل، قلباً ولساناً، بل عملاً، في كل مورد بحسبه.
ومعنى الافتتاح العملي أن يكون العمل من مصاديق ما يحبه الله تعالى ويريده شروعاً (وهو الافتتاح)، واستمراراً بأن يكون مورد رضا الله سبحانه وتعالى، وذلك مثل المشي إلى الحج(1).
أو يوضح بنظير المرور تحت القرآن الكريم عند إرادة السفر وما أشبه ذلك.
وقد ورد في الحديث: «كل أمر ذيبال لم يذكر فيه بسم الله فهو أبتر»(2).
والمراد: أنه أبتر عن الخير، فلا خير له في الدنيا ولا في الآخرة.
وسلب الخير عنه قد يكون مطلقاً في بعض الأعمال، وقد يكون في الجملة وبالنسبة في بعضها الآخر، على حسب نوعية العمل والنية وغير ذلك.
ص: 114
..............................
مسألة: يستحب تربية وتعليم الناس على الافتتاح بذكر الله (تقدست أسماؤه) للإطلاقات، ولما يستفاد من قولها وفعلها (صلوات الله عليها) ها هنا.
فإن افتتاح كبير القوم أو قائدهم، كلامه بشيء أو بأسلوب خاص، يكون تعليماً للذين يتبعونه.
وقد سبق القول بأن أقوالها وأفعالها (علیها السلام) كسائر المعصومين (علیهم السلام) ، نظراً لإحاطتهم والتفاتهم، وقد لوحظت فيها كل الجهات الممكنة والدلالات المحتملة، فتكون حجة ذات دلالة من جميع الجهات.
وقد ورد في الدعاء: «اللهم إني افتتح الثناء بحمدك»(1).
مسألة: يستحب أن يكون الافتتاح بذكر الله تعالى جهراً، كما صدر ذلك من السيدة الزهراء (علیها السلام) .. وقد كان يمكن لها أن تذكر الله سبحانه سراًكما هو عادة بعض الناس.
وقد ورد استحباب الجهر ب (بسم الله الرحمن الرحيم) وأن ذلك من علائم المؤمن.
فقد قال الإمام الحسن العسكري (علیه السلام): «علامات المؤمن خمس: صلاة
ص: 115
..............................
الإحدى والخمسين، وزيارة الأربعين، والتختم باليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم»(1).
وربما يقال: بأن من علل الدعوة لزيارة الأربعين، والتأكيد عليها في الروايات الشريفة إفادة أن الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) - الذي كان في غاية المظلومية في يوم عاشوراء من مختلف الحيثيات والأبعاد - كيف أعزه الله سبحانه وتعالى ولما يمض على استشهاده أربعون يوماً!.
مسألة: يستحب تقديم الحمد - بعد البسملة - على غيره في افتتاح الحديث بل كل أمر.فالحمد يكون مقدماً، سواء كرّره(2) أم أتى ثانياً بما يفيد معنى (الحمد) لا بلفظه(3)، وسواء كان بلفظ (الحمد لله) أم بما يشتق منه ك ( أحمد الله)، و(أنا حامد له)، أو ما أشبه ذلك من سائر الصيغ(4).
ولو انقطع الكلام عاد المرء إلى البدء بحمد الله مرة أخرى - كما هو المشاهد في خطبتها (علیها السلام) -.
ص: 116
-------------------------------------------
مسألة: يستحب اشتمال افتتاح الأعمال والأقوال على الثناء الجميل على الله سبحانه وتعالى، مضافاً إلى أصل ذكر اسمه حسنت أسماؤه، وحمده جلتآلاؤه.
فإن الثناء عبارة عن تثنية الشيء(1) وهو تأكيد، ولعلها (عليها الصلاة والسلام) كررت الحمد أو ما بمعنى الحمد، فإن الثناء يمكن أن يكون بالحمد أو بغيره مما يدل على تعظيم المحمود.
مسألة: يستحب الصلاة على النبي وآله (علیهم السلام) مطلقاً، وفي افتتاح الكلام خاصة.
ويدل على الاستحباب بالإضافة إلى فعلها (عليها الصلاة والسلام) ذي القرينة، قول الله سبحانه وتعالى: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً»(2).
ص: 117
..............................
وقد ورد في جملة من الروايات كيفية الصلاة على رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وأن يقال: «اللهم صل علىمحمد وآل محمد»(1)، أو ما أشبه ذلك مثل: (صلى الله)، ومثل: (رب صل) ونحوهما.واستفادة الاستحباب - إضافة إلى الأمر في الآية المباركة - بلحاظ القرائن الكثيرة.
ص: 118
-------------------------------------------
مسألة: المستفاد من إطلاق أو ملاك(1) قولهم (عليهم الصلاة والسلام): «يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا»(2) وجملة من الروايات الأخر، مثل ما في دعاء الندبة وغيره، بالإضافة إلى ما تقدم من حديث الرحمة والرأفة والحنان، وكلها مستحب بالأدلة العامة: استحباب تجدد البكاء عند تجدد ذكر الفقيد خاصة إذا كان معصوماً (علیه السلام).
وتجدد الذكر لا يلزم أن يكون بمحضر الناس، كما لا يلزم أن يكون باللفظ، بل يشمل حتى التوجه القلبي.
وتجدد البكاء قد يكون:
1: أشبه باللاختياري، لتفجرالعاطفة كما في هذا المورد «فعاد القوم في بكائهم» نظراً لعظمة المصاب وقرب وقوعه وسماع صوت ابنته (علیها السلام) بما تضمنه من رنة الأسى المرير، وبما كان يعكسه من لواعج الحزن الشديد.
2: وقد يكون اختيارياً بالتفكر في المصاب والسعي لإثارة العاطفة، وكلاهما مما يثاب عليه الإنسان.
ص: 119
-------------------------------------------
مسألة: ينبغي أن لا يقطع الإنسان بكاء الباكي، بل يمهله حتى يمسك، لما سبق، بالإضافة إلى أنه نوع من التأدب.
كما ورد مثل ذلك في استحباب الإصغاء إلى المتكلم وعدم قطع كلامه، على عكس ما هو المتداول عند الكثيرين خاصة أثناء الجدل، حيث يقطع البعض حديث الآخر دون رعاية لحرمته وحتى دون فهم كلامه ومراده.
بل يمكن جريان هذا الاستحباب في الفعل أيضاً - بالملاك - بأن لا يقطع الإنسان فعل إنسان آخر بشيء من عمل أو قول؛ فإنه نوع من التأدب واحترامالآخرين، ومن مصاديق ذلك ما ورد من كراهة أن يدخل الإنسان في سوم أخيه المؤمن(1).
مسألة: ينبغي مراعاة حال المستمع، ومن المراعاة ترك الخطاب فيما إذا لم يكن المستمع في وضع يتمكن فيه، أو يسهل عليه الاستماع لبكاء أو شبهه.
ص: 120
..............................
وقد سبق نظير ذلك(1) ولا يبعد أن يكون سكوتها (صلوات الله عليها) لذلك ولما سبق جميعاً.
كما ينبغي مراعاة ما يحف بالكلاممن الأمور الخارجية، ومن ذلك أن يسكت الإنسان لقراءة غيره القرآن الكريم مثلاً، حيث ورد قوله سبحانه: «فَاسْتَمِعُوا له وَأَنْصِتُوا»(2). وقد ورد أن ابن الكوا قرأ القرآن وكان علي (عليه الصلاة والسلام) في القراءة في الصلاة، فسكت علي (علیه السلام) حتى إذا سكت فأتم (عليه الصلاة والسلام) قراءته، مع أن قراءته للقرآن كانت في مقام التعريض بالإمام (علیه السلام)، حيث قرأ - والإمام في سورة الحمد أثناء إمامته للجماعة أبان خلافته الظاهرية -: «وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإلى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ»(3) فسكت الإمام (علیه السلام)، فلما سكت ابن الكوا عاد الإمام (علیه السلام)، فلما عاد ابن الكوا سكت الإمام (علیه السلام)، فلما سكت اكتفى الإمام (علیه السلام) في الجواب بقوله تعالى: «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ»(4)، ثم أتم (علیه السلام) قراءته وصلاته ولم يعاقبه أدنى عقوبة على ذلك(5).
ص: 121
-------------------------------------------
مسألة: يستحب أن يعود الإنسان بعد قطع كلامه إلى حمد الله تعالى مرة ثانية؛ لأنه يعد ابتداءًً أيضاً.
والمراد بالابتداء ها هنا الابتداء النسبي، فلا تنافي بين هذه وبين ما سبق من «كل أمر ذي بال لا يذكر بسم الله فيه فهو أبتر»(1) على تقدير إرادة البسملة، وإلاّ - بأن أريد ما هو اسم لله تعالى - صدق على حمد الله لتضمنه اسم الله، إذ أحدهما كلي والآخر من مصاديقه.
والظاهر أنها (علیها السلام) حمدت مرتين، والثانية لوحدة نسق الكلام، ولعلّه يدل على استحباب التثنية. هذا و(الحمد): هو ذكر الله بالجميل على نعمه مطلقاً، فإنه واجب عقلاً وشرعاً، وإن لم يجب بهذه الصيغة، نعم يجب التقيد بها في الصلاة للدليل الشرعي.
و(الحمد) لا يختص بمجال النعمة على الشخص، بل هو الذكر والوصف بالجميل الاختياري(2) بقصد التعظيم على نعمهمطلقاً(3)، وقد يعمم حتى للابتداء بالثناء(4). أما (الشكر) فهو الثناء الجميل وإظهار الامتنان على ما أولاه من معروف وإحسان.
ص: 122
-------------------------------------------
الشكر لله تعالى(1)
مسألة: يستحب الشكر لله تعالى في ابتداء الكلام - خطابة كان، أم كتابة، أم حديثاً عادياً - بعد ذكر الله وحمده.
والشكر في الابتداء من باب المصداق.
كما قالت (علیها السلام): «وله الشكر على ما ألهم».
والإلهام: هو الإلقاء في الذهنوالروح، وهو نوع من التلقين(2).
وقد قال سبحانه: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأََزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ»(3).
والمراد بالكفر: كفران النعمة وعدم الشكر، لا الكفر في العقيدة، فإن الكفر:
قد يطلق على الكفر في العقيدة، كما لو جحد الخالق.
وقد يطلق على كفر النعمة.
وقد يطلق على ترك شيء مما أمر الله سبحانه وتعالى به كما في قوله:
ص: 123
..............................
«أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ»(1).
سواء كان الأمر على سبيل الاستحباب أو على سبيل الوجوب، مثل قوله سبحانه:
«وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إليه سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِالْعَالَمِينَ»(2).
وقد ورد في حديث الإمام الصادق (علیه السلام): «الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه»، منها الثلاثة التي سبقت(3).
ص: 124
-------------------------------------------
مسألة: يستحب الثناء على الله تعالى في الكلام - كما سبق - بعد الحمد والشكر، كما قامت هي (علیها السلام) بذلك، فإن كل أفعالها وأقوالها على أتم مقتضيات الحكمة.
والثناء - كما ذكرنا - بمعنى التثينة؛ لأن الإنسان يثني على الله سبحانه وتعالى ما ذكره أولاً (1) سواء كان الأول حمداً، أو مدحاً، أو شكراً، أو تمجيداً، أو ما أشبه ذلك.
أو: إن أوله ما تفضل به الله سبحانه من النعم على عبده.
مسألة: يستحب ذكر متعلق الحمد والشكر والثناء، وما يستوجبه ولوإجمالاً، تأسياً بها (سلام الله عليها) حيث قالت: «على ما أنعم»، و«على ما ألهم» و«بما قدم»؛ فإنه من التفصيل المطلوب في مقام المدح ونحو المدح، كما نرى أن المادح يذكر الأسماء المتعددة والخصوصيات المختلفة للممدوح.
ص: 125
..............................
وكذلك المحزون يذكر شتى الصفات الحسنة ومختلف الخصال المستحسنة للمحزون عليه، وهكذا في كل مورد يكون المطلوب فيه إطالة الكلام(1).
مسألة: يستحب ذكر الله تعالى وحمده وشكره والثناء عليه عند اشتداد البلاء وهجوم المصائب على الإنسان.
وذلك من أهم الدروس التي يجب أن نتعلمها من الصديقة الطاهرة (علیها السلام) حيث إنها (صلوات الله عليها) رغم ما نزل بها من عظيم المصاب وجليل الخطوب، حيث فقدت أباها خاتم النبيين (صلی الله علیه و آله)، وحيث هجم عبّادالسلطة على دارها وضربوها وكسروا ضلعها وأسقطوا جنينها وغصبوا حقها وحق بعلها سيد الأوصياء (علیه السلام)، رغم كل ذلك تبدأ تظلمها بحمد الله وشكره والثناء عليه.
وقد ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام): «إن رسول الله كان إذا ورد عليه أمر يسره قال: الحمد لله على هذه النعمة، وإذا ورد عليه أمر يغتم به قال: الحمد لله على كل حال»(2).
وإنما كان الحمد لله عند نزول المكاره - كما ورد: «الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه»(3) -؛ فلأن المكروه بالنسبة إلى الصالحين إما ترفيع درجة، وإما
ص: 126
..............................
محو ذنب، هذا فيمن يقع منهم الذنب كغير المعصومين (علیهم السلام)، أما في المعصومين (علیهم السلام) فالمكاره كلها تسبب ترفيع درجاتهم ومزيد قربهم من الله تعالى.
مسألة: يستحب للمظلوم أن يتوجه إلى الله تعالى بقلبه، وأن يذكره بلسانه مطلقاً، وفي حين تمهيده الأسباب لرفع الظلم والضيم عنه. ومنه(1) الدعوى والمطالبة بالحق، فإن رفع الظلامة بيد الله سبحانه وتعالى أولاً وبالذات، وقد جعل الله سبحانه وتعالى لرفع الظلامة أسباباً تكوينية أمر بانتهاجها - كما أمر بمراجعة الطبيب عند المرض - باعتبار أنه تعالى جعل الدنيا دار بلاء وامتحان وأسباب ومسببات، وقد ورد في الحديث الشريف: «اعقلها وتوكل»(2) فهو سبحانه علة العلل.
وبذلك يظهر وجه استحباب التوجه حين مطالبة الحق، حيث إن القلوب بيد الله سبحانه وتعالى، ويمكن أن يكون التوجه لله سبباً لإلقائه سبحانه وتعالى الرأفة في قلب الخصم فيستجيب لدعوة المظلوم ويرفع ظلامته. فقد ورد: «قلب السلطان بين إصبعي الرحمان». كما روي :أن رجلاً جاء إلى الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) وسأله أن يتوسط لدى الوالي لإنجاز حاجته... ولما قضيت حاجته، جاء إلى الإمام (علیه السلام) متسائلاً: يا بن رسول الله، متى دخلتعليه؟. فقال (علیه السلام) - ما معناه - : «إني سألت الله الذي بيده القلوب، فألان قلب الوالي لقضاء حاجتك».
ص: 127
-------------------------------------------
مسألة: يستفاد من «تخلقوا بأخلاق الله»(1) كبرى، وعموم نعم الله جل وعلا - على ما في هذا الحديث ومتواتر الروايات والآيات والعقل والوجدان - صغرى:
رجحان تعميم النعمة وإفاضة الخير على الجميع.
إضافة إلى إطلاقات البر والمعروف وقضاء الحوائج وغيرها.
وقولها (علیها السلام): (من) بيان ل (ما) في (والثناء بما قدم).
و(ما قدم) يحتمل أن يراد به ما أوجد، كما يحتمل أن يراد به معنى الابتداء، فهو جل وعلا بدأ بالإحسان، ونحن نثني عليه بالذكر الجميل.
ص: 128
-------------------------------------------
مسألة: يستحب الابتداء بالنعمة والإحسان قبل أن يطلب ذلك من الإنسان.
ويفهم ذلك مما تقدم في البحث الآنف، بالإضافة إلى أن الخير خير، والابتداء بالخير خير مضاعف، ذلك أنه في أصل الخير خير، وابتداؤه ابتداء بالإحسان وهو خير إضافي.
ولذا ورد في الأدعية: «يا مبتدءاً بالنعم قبل استحقاقها»(1).
ومن أسماء الله سبحانه (البديء والبديع)(2)، فهو سبحانه يبدأ بالنعم، وهو سبحانه بديع يبدع الأشياء لا من مثال سبقه فتعلم منه، فكل ما في الكون إبداع، من الذرة إلى المجرة، ومن الجوهر إلى العرض، ومن عالم الاعتباريات إلى عالم الحقائق والواقعيات، المادية منها والمجردة،عند القائل بها(3).
وهناك روايات عديدة تحض على الابتداء بالإحسان، قال (صلی الله علیه و آله): «اليد العليا خير من اليد السفلى»(4).
ص: 129
-------------------------------------------
مسألة: يستحب إسباغ الآلاء، أي إتمامها وإكمالها.
والفرق بين العموم والإسباغ في الجملتين:
أن العموم بمعنى شمولية النعمة لزيد ولعمرو ولبكر مثلاً، أو نعم عديدة لزيد أي شمولية النعم للواحد.
أما السبوغ فعبارة عن الكمال والتمام، و(نعمة سابغة) أي كاملة وافية.وربما فسر إسباغ النعمة بتوسعتها(1).
وربما يعبر ب: تكثير النعمة كيفاً لكل واحد من المنعم عليهم.
وتسمى النعمة نعمة؛ لأن الإنسان ينعم بسببها، وتسمى آلاءً جمع إلى(2) لأنها تنتهي إلى الإنسان، فإن مادة (إلى) بمعنى الانتهاء وتعني هنا النعمة، وهو من إضافة الصفة للموصوف فهو بمعنى (آلاء سابغة).
ص: 130
-------------------------------------------
مسألة: يستحب إسداء النعم إلى كل الناس حسب القدرة، حيث تقدم أنه يستحب التخلق بأخلاق الله سبحانه وتعالى، والإسداء هو الإيصال بيسر في مقابل الإيصال بعسر(1).
مسألة: يستحب التوالي في إفاضة النعم وتعاقبها، لما سبق.
كما يستحب أن يتجلى ذكر الإنسان نعم الله سبحانه وتعالى على لسانه وقلبه وجوارحه، فإن مركز ذكر النعمة اللسان والبدن والقلب، ولذا قال سبحانه: «اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً»(2).
فإن قسماً من الناس يعرف نعم الله سبحانه لكنه لا يذكرها بلسانه، ولا يظهر أثر النعمة على جوارحه، بصلاة أو صيام أو ركوع أو سجود أو ما أشبه
ص: 131
..............................
ذلك، ومن الناس من يفعل كل ذلك، ومن الناس من يذكر النعم بلسانه فقط …وهكذا.
فإن المستحب ذكر النعم، كما ذكرتها الصديقة الطاهرة (علیها السلام) باللفظ، بالإضافة إلى ذكرها بقلبها وعملها بجوارحها (علیها السلام) كما هو دأبهم (صلوات الله عليهم أجمعين).
قولها (علیها السلام): «وتمام منن» حيث إن مننه تعالى تامة لا نقص فيها.
و(والى بين الشيئين) بمعنى: تابع، فنعمه سبحانه وتعالى التامة متوالية متلاحقة.
ص: 132
-------------------------------------------
مسألة: يستحب إظهار عجز الإنسان عن إحصاء نعم الله سبحانه، ومدى قصوره عن الإحاطة بجانب من مخلوقاته تعالى وهو النعم الإلهية.
لوضوح أن الإنسان محدود بحد صغير في نطاق ضيق، والنعم محدودة بحد كبير وفي إطار واسع حتى بالنسبة إلى إنسان واحد، فكيف بكل نعم الله سبحانه على كل الناس من أول الخلقة وإلى ما لا ينتهي من الجنة.
بل النعم قد يصدق عليها اللا متناهي اللا يقفي على امتداد الزمن، إذ لا انتهاء للآخرة(1) بمشيئته تعالى.
وربما يكون الأمر كذلك من الناحية الكمية(2) بل والكيفية(3) أيضاً.وقد ورد في الدعاء:
«وتقاصر وسع قدر العقول عن الثناء عليك، وانقطعت الألفاظ عن مقدار محاسنك، وحكت الألسن عن إحصاء نعمك، وإذا ولجت بطريق البحث عن نعتك بهرتها حيرة العجز عن إدراك وصفك»(4).
ص: 133
..............................
قولها (علیها السلام): «جم» أي كثر «عن الإحصاء عددها»؛ فإن نعم الله لايمكن إحصاؤها، فمثلاً في جسم الإنسان مليارات من الخلايا الحية مما لا يتمكن الإنسان من إحصائها، وفي كل خلية قشرة (غطاء خارجي) ولب ومركز قيادة (1).
مسألة: يستحب أن يتذكر الإنسان دوماً أن نعمه تعالى لا تعد ولا تحصى، وأن يشكر الله ويحمده على ذلك.
فإن تذكر أصل النعمة والشكر لها مستحب، وتذكر أنها لا تعد ولا تحصى مستحب آخر؛ لأنه نوع من الذكر ومن الشكر، وقد قال سبحانه: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ»(2).
ص: 134
-------------------------------------------
مسألة: يستحب تذكير الناس دوماً بأن نعم الله سبحانه وما أفاضه على الخلق لا يمكن ولا يعقل جزاؤها؛ لأنه لو فرض إمكان أصل الجزاء منا له تعالى - وهو فرض محال؛ لأن الجزاء لا يكون إلاّ بما هو خارج عن ملك المجازي وحيطة قدرته، والحال أن كل موجود داخل في ملك الله سبحانه وحيطته - فهو أيضاً بنعمة أخرى؛ لأن كل ما للإنسان من جسم وروح وعقل وعاطفة وقدرة وإيمان، وكل ما في الكون بأجمعها، نعم الله سبحانه وتعالى، فكل حركة وكل شكر يستدعي شكراً جديداً إلى ما لا نهاية.
قال السيد الطباطبائي (رحمة الله) في قصيدته:
شكراً وأنا لي بلوغ ما وجب *** من شكره والشكر للشكر سبب
وبهذا المعنى ورد عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) في مناجات الشاكرين حيث يقول (عليه الصلاة والسلام):
«إلهي أذهلني عن إقامة شكرك تتابع طولك، وأعجزني عن إحصاء ثنائك فيضفضلك، وشغلني عن ذكر محامدك ترادف عوائدك، وأعياني عن نشر عوارفك توالي أياديك...
فآلاؤك جمة ضعف لساني عن إحصائها، ونعماؤك كثيرة قصر فهمي عن إدراكها، فضلاً عن استقصائها، فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إياك يفتقر
ص: 135
..............................
إلى شكر، وكلما قلت لك الحمد وجب عليَّ لذلك أن أقول لك الحمد... »(1).
قولها (علیها السلام): «ونأى» أي بعد.
فحياة الإنسان لا تسع لجزاء نعمه سبحانه، فأمد النعم قد أبعدها عن إمكان الجزاء، حيث إن نعم الله تواترت على الإنسان قبل خلقته في هذا العالم - مثلاً عالم الذر - وحين كان تراباً، ثم نطفة، فإنساناً كاملاً، ثم وهو في عالم الآخرة في الجنة.
ص: 136
-------------------------------------------
العجز عن إدراك النعم(1)
مسألة: يستحب ذكر الله سبحانه بهذا النحو الذي يشير إلى محدودية إدراك الإنسان من جهة، وإلى دوام نعم الله تعالى من جهة أخرى.
ببيان: إن (أبد)(2) نعم الله سبحانه لا تدرك، إذ أن النعم لا متناهية حيث أنها موصولة بجنة لا محدودة - لا يقفياً - من حيث الزمن (الكم المتصل غير القار) ومن حيث العدد(3) (الكم المنفصل) كما سبق.
بل وربما حتى من حيث المسافة، إذ يحتمل توسع الجنة باستمرار من هذا الحيث أيضاً، ونظيره ما في الحياة الدنيا، قال سبحانه: «وَالسَّمَاءَبَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ»(4).
ومن المعلوم أن الإدراك محدود خصوصاً في الدنيا، ولذا لا يتمكن من إدراك أبد النعم، فقد (تفاوت) أي تباعد تباعداً كبيراً(5) «عن الإدراك أبدها» أي أبد النعم ودوامها.
ص: 137
..............................
فلا يتمكن الإنسان من إدراكها، فإن القوة المدركة محدودة وذلك غير محدود بالقياس لتلك، والمحدود لا يستوعب غير المحدود استحالة عقلية كما أشرنا إلى ذلك.
وقد يكون السبب في محدودية القوة المدركة في الدنيا: سجنها في حيز الجسم.
فلربما توسعت المدارك الإنسانية في الآخرة بحيث تحيط بالنعم وشبهها، وهذا الأمر على مبنى تجرد الروح أظهر، فتأمل(1).
ص: 138
-------------------------------------------
مسألة: يستحب السعي للاستزادة من النعم بالشكر وغيره، حتى يتفضل الله سبحانه باتصال النعم بعضها ببعض، فإنه تعالى هو الذي «ندبهم» أي دعاهم «لاستزادتها بالشكر»، وإجابة دعوة الله تعالى راجحة(1) دون شك.
وقد وعد سبحانه بزيادة النعم وبتواصلها إثر الشكر وبسببه، قال تعالى: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ»(2).
وقال سبحانه: «وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ»(3).
وقال عزوجل في آية أخرى: «وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ»(4).
مسألة: يستحب التحفظ على النعم، فإن النعم إنما تحفظ بالشكر القولي والعملي، فللشكر فائدتان: فائدة حفظ النعم، وفائدة الاستزادة منها،
ص: 139
..............................
واستحباب التحفظ على الأصل - ما هو الموجود من النعم - يفهم من ندبه تعالى للاستزادة منها كما لا يخفى.
كما يستحب تشويق الناس بعضهم بعضاً للاستزادة من النعم، والتحفظ على ما عندهم منها، إذ تشمله إطلاقات كثير من الآيات والروايات، إضافةً إلى العقل، وبيان ندبه تعالى لذلك من طرق التشويق.
كما يستحب تعليم الآخرين طرق الاستزادة من النعم وحفظها، ويشمله قوله تعالى: «تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى»(1).
وهذا من غير فرق بين أن تكون النعمة مادية أو معنوية، ظاهرية أو باطنية، فإن الحمد والشكر يوجبان بقاء النعمة والاستزادة منها.
مسألة: يمكن القول بوجوب أصل الشكر لله تعالى، فمن أعرض عن شكره مطلقاً (2) كان آثماً، كما قد يجب بعض مصاديقه، لوجوب حفظ أو تحصيل بعض النعم لجهات عديدة.
فإنه من الشكر واجب ومنه مستحب، فإن كان مقدمة للواجب وجب، وإن كان مقدمة للمستحب استحب(3)، للتلازم بين المقدمة وذي المقدمة، كما قرر في بحث مقدمة الواجب ومقدمة الحرام(4).
ص: 140
..............................
وقد أرشد الله سبحانه للشكر حتى يستزيد الإنسان من نعمه تعالى. قال سبحانه: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ»(1). وستكون النعم عند الشكر متصلة بعضها ببعض بفضله تعالى.
والشكر - فيما عدا الواجب - مستحب مطلقاً.
كما أن الشكر بهذا اللفظ(2) مستحب، سواء كان بهذه الصيغة أم بسائرالصيغ، وسواء كان متعلقه لفظ الجلالة بذاته أم سائر صفاته، فيصح أن يقول: (شكراً لله)، أو(شكراً للخالق)، أو(الرازق)، أو(الحاكم)، أو(العالم)، أو(القائم)، أو(الدائم)، أو(الحي)، أو(القيوم)...
كما يصح أن يقول: (أشكر) أو(إني شاكر) أو ما أشبه ذلك من الألفاظ الكثيرة، من حيث التعلق ومن حيث صيغة الشكر.
وكذلك يصح أن يأتي بصيغة الجمع نحو: (إنا شاكرون) وما أشبه ذلك.
هذا كله في الشكر اللفظي.
وأما الشكر العملي: فبإطاعة الله سبحانه، قال تعالى: «اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً»(3).
وقال تعالى: «اشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ»(4) والمراد بالشكر هنا: الأعم.
ص: 141
-------------------------------------------
مسألة: ينبغي حمد الله تعالى على نعمه، وعلى غيرها أيضاً.
ولولا القرينة لدل قولها: «استحمد» على الوجوب، إذ (استحمد) بمعنى: طلب منهم - جل شأنه - أن يحمدوه، لأنه أجزل عليهم النعم، والأصل في طلب العالي من الداني وجوب التلبية، خاصة إذا كان مشفوعاً بتعليل كتعليلها (علیها السلام)(1) إذ ذلك ملزم للحمد عقلاً.
ويمكن الالتزام بدلالته(2) على وجوب الطبيعة(3) المنطبقة على الواجب من الحمد(4) فيتحقق امتثالها بالإتيانبتلك المصاديق وتكون القرائن صارفة عن إرادة العموم(5)، فتأمل.
ونظيره قوله تعالى:
«فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (علیهم السلام) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ
ص: 142
..............................
خَوْفٍ»(1).
و(الإجزال): عبارة عن الإكمال كما سيأتي، فهذه الجملة بالنسبة إلى الكيف، وإن أمكن غير ذلك، والجملة السابقة (2) بالنسبة إلى الكم، فشكره على حمده(3) يزيدها كما ويعطيها الديمومة زمناً.
وقد يفرق بين الحمد والشكر:
بأن (الحمد) أعم، إذ ليس فيه دلالة على نعمة واصلة إلى الحامد؛ لأنه ربما يحمد لكون المحمود له صفة حميدة.
بينما (الشكر) له هذه الدلالة،وقد سبق ذلك.
ثم لا يخفى أن الشكر والحمد مطلوبان لله تعالى لأجل الإنسان نفسه، لا لفائدة تعود إليه سبحانه، إذ هو تبارك وتعالى الغني المطلق، فهما كعبادته جل وعلا تزيد الإنسان تكاملاً وسمواً واقتراباً منه سبحانه، فطلبه ذلك مناً للطفه وكرمه وفضله وحكمته.
ويشير إلى ذلك ما ورد من قوله تعالى في الحديث القدسي:
«عبدي أطعني تكن مثلي أقول للشيء كن فيكون، وتقول للشيء كن فيكون»(4).
ص: 143
..............................
وقوله سبحانه: «وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ»(1).
وقوله تعالى: «أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَنَفْعاً»(2).
ونظائرها كثيرة، مما يدل على أن النفع والضرر يعود(3) للإنسان نفسه.
و( الإجزال) معناه: الإكمال والإتمام والإكثار(4)، يقال: (أجزلت له من العطاء) أي: أكثرت، فإن أصل النعمة يوجب الحمد والشكر، والإكثار من النعمة يستدعي مزيداً من الحمد والشكر.
فاللازم وجوباً أو استحبابا إيقاف الناس على ذلك، حتى يحمدوه ويشكروه سبحانه وتعالى أكثر، وبذلك يستجلبون خيراً أكثر بلطف الله سبحانه وتعالى.
وكما أنه سبحانه ندبهم للاستزادة منها في دار الدنيا، كذلك ندبهم إلى الحصول على أمثال نعم الدنيا فيالآخرة عبر الشكر والحمد، قال تعالى:
ص: 144
..............................
«كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً»(1).
فالشكر والحمد أولاً يزيد نعم الدنيا، وثانياً يسبب نعم الآخرة، فهو تعالى قد ثنى دعوته وطلبه(2) ب «الدعوة إلى أمثالها» أي: أمثال تلك النعم والآلاء والمنن(3)، فالراجح - وجوباً أو استحبابا - ندب العباد ودعوتهم إلى الاستزادة منها.
وهذه هي نوع من التجارة مع الله سبحانه، نظير قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لهمُ الْجَنَّةَ»(4).ومن الواضح أنها تجارة رمزية، إذ لا نسبة بين الثمن والمثمن، إضافة إلى أن الكل ملك له تعالى(5).
ص: 145
-------------------------------------------
مسألة: التعبير ب (أشهد) دون (أقرّ) أو (أعترف) أو ما أشبه ذلك، نظراً لأن (الشهادة) و(الشهود) هو أعلى مراحل الإدراك، ووجوده تعالى ووحدانيته من الوجدانيات والفطريات، فهو معلومة للإنسان بأجلى أنحاء المعرفة، وكذلك فيما هو بمنزلة ذلك(1).
وكلمة التوحيد (2) مركبة من عقد سلب وعقد إيجاب، فنفي الباطل والغير أولاً، ثم إثبات الحق المحض المطلق.
هذا ونفي الشريك يستلزم - لدى الدقة - نفي الجزء أيضاً(3) إضافة إلىأن التركيز على نفي الشريك لأنه الشائع في المعتقدات دون قسيمه(4).
ص: 146
..............................
ثم إن وجوب الإيمان بالله تعالى فطري وعقلي، وما ورد من إيجاب ذلك إرشاد وإلفات.
وإن منكر وجوده تعالى كافر، فإن كان معتقداً به سبحانه فيما سبق ثم أنكر كان مرتداً، والمرتد فطري وملي، والبحث في ذلك كله موكول إلى مظانه(1).
والحكمة في ذكر ذلك كله - من أصول الدين ولواحقها والفروع وشطر وافر من الأخلاقيات - في خطبتها (علیها السلام) هي التعليم والتزكية والتأكيد والتركيز والتذكير وإتمام الحجة.فإن بأمثال هذه الخطبة منها ومن أبيها وبعلها وبنيها (عليهم صلوات المصلين) أثاروا عن الناس دفائن العقول(2)، وعلّموهم وزكّوهم(3).
وبأمثالها تركزت هذه المباني وثبتت وترسخت رغم كل الطوارئ والموانع والتشكيكات والشبهات.
وبأمثالها تمت الحجة على الناس: «لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ
ص: 147
..............................
حُجَّةٌ»(1).
وقد يكون لذلك أيضاً ما نجد من الشارع المقدس حيث قد سنّ واجباتومستحبات تمتد بامتداد حياة الإنسان كلها، من الولادة حتى الوفاة(2) بل من قبلهما ومن بعدهما أيضاً (3) وهي تتضمن الحديث عن الأصول والفروع والأخلاقيات وشبه ذلك.
فلذلك نجدها (علیها السلام) تحدثت عن ذلك كله في خطبتها، تزكيةً وتعليماً وتذكيراً وإتماماً للحجة، ويتضمن ذلك أيضاً بعد الأسوة.
ص: 148
-------------------------------------------
مسألة: يجب وجوباً فطرياً وعقلياً(1) الاعتقاد بوحدانيته تعالى، وبأحديته أيضاً ف: (كما هو الواحد أنه الأحد ليس له الأجزاء لا أجزاء حد)(2).
فإن اللازم أن يعتقد الإنسان بالإله الواحد الفرد، الذي لا شريك له ولا جزء له، ومن اعتقد بشريك لله سبحانه كان مشركاً، أي: أشرك بالله غيره.
سواء جعل له من البشر ولداً أو والداً أو زوجة: «لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (علیهم السلام) وَلَمْ يَكُنْ له كُفُواً أَحَدٌ»(3).
أو إلهاً آخر، كما في الثنوية الذين يعتقدون بإلهين اثنين: إلهالخير وإله الشر، أو إله النور والظلمة، أو أكثر من ذلك، فإن هذا أيضاً مشرك، عليه أحكام الكفار كما هو مذكور في (الفقه)(4).
و(وحده) و(لا شريك له) تأكيد في تأكيد لمضمون (لا إله إلا الله) وكان التأكيد محبذاً، لشيوع الشرك وشدة تمسك طوائف عديدة به ولغير ذلك(5).
ص: 149
..............................
مسألة: يستحب التلفظ بالشهادة بوجوده ووحدانيته سبحانه وتعالى.
فإن المستحب استخدام مادة الشهادة مثل: (أشهد) أو (شهادتي) أو ما أشبه ذلك، وإن لم يكن هذا اللفظ بما هو هذا اللفظ - مادة وصيغة - واجباً، ولذا لو قال: (أعتقد بإله واحد) أو تلفظ بنظائر ذلك كان كافياً.
فأصل الإيمان بالله تعالى وبوحدانيته واجب، أما النطق بلفظ الشهادة فهو مستحب، إلاّ في مثل التشهد في الصلاةحيث دلّ الدليل على الوجوب، وكذلك الشهادة بسائر صفاته الثبوتية والسلبية، فإن أصل الاعتقاد بها واجب والتلفظ مستحب. حيث إن (التلفظ) له أثر تكويني ووضعي ونفسي وخارجي في كثير من الأحيان، وفي العديد من الأمور، إذ أنه نوع من (الإيحاء) و(التلقين) إضافة إلى مدخليته في تلوين المحيط وإعطاء صبغة معينة: «صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً»(1).
وهو (المظهر) الذي يبني عليه(2) العقلاء الكثير من شؤون حياتهم، غير مكتفين ب (المضمر والمخبر) فحسب، كما في العقود والإيقاعات التي قد يعد الكلام أحد المبرزات والأركان لها وحده فقط أو لا(3).
ص: 150
..............................
مسألة: يستحب التأكيد في القضايا الاعتقادية، تأكيداً لفظياً أو معنوياً، كما قالت (سلام الله عليها): «لا إله إلا الله».. «وحده».. «لا شريك له».
وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) حينما وقف قائماً على باب الكعبة: «لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده»(1)، وكما نشاهد ذلك في كلمات كثيرة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وكلمات المعصومين (علیهم السلام).
والظاهر أن الضمير أيضاً كاف، كما ورد في القرآن الحكيم: «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ»(2) وما أشبه ذلك.
مسألة: يستحب تضمين بداية الخطبة أو الكلام - بل والعمل أيضاً - بالشهادة لله بالوحدانية.
فإن الابتداء في كل خطبة وكل كلام وكل عمل - تجارةً كان أم زراعةً أم سفراً أم غير ذلك - بالشهادة، سواء كان بنفس لفظ الشهادة أم بغيرها، مثل أن يقول: (لا إله إلا الله) مستحب، وموجبللمباركية ونزول الخيرات الإلهية وتوجه العنايات الربانية، وفي الحديث:
ص: 151
..............................
«فإن ذكر الله سبحانه حسن على كل حال، فلا تسأم من ذكر الله»(1) فتشمله الإطلاقات ودليل الأسوة.
ويمتاز ابتداء الكلام بالعناية الأكثر إذ هو من أجلى المصاديق.
وكذلك الأمر في آخر الكلام أو العمل، في كثير من الأحيان، كما ورد: «فإن من كان آخر كلامه "لا إله لله إلا الله" دخل الجنة»(2).
وقال (علیه السلام): «كفارات المجالس أن تقول عند قيامك: سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين»(3).
وقال (صلی الله علیه و آله): «إن كفارة المجلس: سبحانك اللهم وبحمدك،لا إله إلاّ أنت ربّ تُبْ عليَّ واغفر لي»(4).
مسألة: يستحب (تطعيم) و(ملأ) كافة جوانب الحياة ببيان الأمور الاعتقادية، وتحويل ذلك إلى سنة شاملة بحيث تتحول إلى جزء لا يتجزأ من حياة الناس، في المسجد والمدرسة والمعمل والمتجر والبيت وغيرها، فذكر وبيان وكتابة القضايا الاعتقادية ينبغي أن يملأ الخطب والكتب والصحف وحتى الجدران عبر لوحات صغيرة تتضمن كلمات منتخبة تذكر بأصول العقائد.
ص: 152
..............................
ولذلك نرى الصديقة الطاهرة (علیها السلام) تتطرق بدءً ووسطاً وختماً لتلك القضايا العقائدية، ونرى آل البيت (علیهم السلام) والعلماء الأبرار من بعدُ قد أدخلوها حتى في خطبة عقد النكاح: «الحمد لله الذي أحلّ العقد والنكاح، وحرّم الزنا والسفاح، والصلاة والسلام على محمد وآل بيته سادات أهل الخير والفلاح... ».
فإن هنالك مرحلتين:الأولى: أن يملأ الإنسان ذهنه وضميره بكلمة التوحيد - لفظاً ومضموناً - ونظائرها من الأمور الاعتقادية، وأن يطفح ذلك على لسانه دوماً بينه وبين نفسه، قال تعالى: «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ»(1).
الثانية: مرحلة تعامل الإنسان مع الآخرين في هذا البعد، عبر بيان ذلك للناس قولاً وكتابةً وغير ذلك، بحيث يصبح مظهر المجتمع مظهراً لكلمات التوحيد والشهادة بها وبالنبوة وما أشبه ذلك.
ويشير إلى هذا بأوفى بيان إعجازي، قوله تعالى: «صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً»(2)، فاللازم أن تتحول الشهادتان، بل الشهادات الثلاث، ونظائرها إلى (صبغة) عامة للمجتمع وشاملة لشتى ميادين الحياة.
ص: 153
-------------------------------------------
مسألة: يجب الإخلاص في الاعتقاديات، وكذا في الأعمال الجوانحية والجوارحية الأخرى في الجملة، فإن الإنسان يجب أن يعقد قلبه على الإيمان بأصول الدين مخلصاً غير مشوب ذلك بشيء(1)، بأن يقوم بأعماله العبادية مخلصاً لله، لا رياءً أو سمعةً، أو طمعاً في أجر دنيوي أو ماأشبه ذلك، إلاّ ما كان على نحو الداعي على الداعي(2)، فإذا لم يكن له إخلاص لم يقبل الله سبحانه منه، كما قال تعالى في قرآنه الحكيم: «وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ له الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ»(3).
ص: 154
..............................
و(القيمة) صفة لمحذوف أي دين الطريقة القيمة، أو دين النفس القيمة، أو ما أشبه ذلك مما يمكن تقديرها لأن تكون (القيمة) صفة لها، فإن الموصوف إذا كان مذكراً والوصف مؤنثاً، أو بالعكس يقدر مثل هذا التقدير(1).أما بالنسبة إلى ما عدا الاعتقاديات والأعمال العبادية كالمعاملات والأعمال الشخصية وما أشبه، فإن كان مقروناً بالإخلاص كان سبباً للفضل والبركة.
وهناك رواية تفيد استحباب أن يجعل الإنسان كل أعماله حتى أعماله العادية وأفعاله الشخصية اليومية - كالأكل والشرب والمنام مثلاً - لله سبحانه وتعالى، فإذا أكل شيئاً أو شرب الماء، أكله و شربه بلحاظ أن الله سبحانه أمر أن يكون صحيح الجسم سليم الجسد ومتنعماً بنعم الله تعالى: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا»(2).
وفي الروايات: «إن لبدنك عليك حقاً»(3).
وكذلك إذا ذهب إلى دورة المياه، أو سافر للترفيه، أو باشر زوجته، وغير ذلك.
ص: 155
..............................
بل حتى المكروهات قد يمكن إتيانها لله سبحانه وتعالى إذا كانت محلاً لذلك(1) حيث ورد: «إن الله يحب أن يؤخذ برخصه، كما يحب أن يؤخذ بعزائمه»(2) فتأمل.
وأما في المحرمات بدون أن يكون لها جهة وجوب فلا، نعم إذا صار للمحرم جهة وجوب أهم كان كذلك، كما إذا عمل محرماً تقية أو خوف ضرر أكبر، كخوف الموت إذا لم يستعمل هذا الحرام - كأكل لحم الخنزير في المخمصة - كما قال سبحانه: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ»(3) مما فصل مبحثه في الفقه(4).
ثم لا يخفى أن مرجع ومآل الشهادة ب ( لا إله إلا الله) الإخلاص، والمراد بكون مرجعها الإخلاص: إما المرجعية الثبوتية أو التكوينية، فيكون كلامها (علیها السلام) إخباراً وقد يؤيده السياق، وإما أن يكون المراد هو: عليكم أن ترجعوها للإخلاص، فيكون كلامها(علیها السلام) إنشاءً في قالب الإخبار، فقد جعل سبحانه وتعالى تكويناً أو تشريعاً الإخلاص تأويلاً لكلمة (لا إله إلا الله).
وإذا كانت هذه الكلمة وهي أسّ الدين مرجعها إخلاص فوجوبه - في الجملة - بديهي.
وإذا لم يكن إله غير الله فمن الواضح أنه يجب عقلاً الإخلاص له.
ص: 156
..............................
قال علي (علیه السلام): «وكلمة الإخلاص فإنها الفطرة»(1).
وقال علي (علیه السلام): «وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه؛ لشهادة كل صفة أنها غير موصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة»(2)..
فيكون الإخلاص بمعنى الاعتقاد بأنه تعالى خالص من كل نقص وما أشبه، ويكون هذا الاعتقاد واجباً.
ص: 157
-------------------------------------------
مسألة: يستحب أن يؤكد الإنسان على أن التوحيد ومعرفة الله سبحانه من الأمور الفطرية، فإن وجود الله سبحانه وتعالى ووحدانيته من الفطريات التي غرست في أعماق ذات الإنسان(1)، فقد تضمنها قلب كل فرد وقد وصلت بالقلب خلقة كبرهان ملازم، إلاّ أن الغبار قد يتراكم ليحجب الرؤية، فكان التذكير والتأكيد مطلوباً لذلك، فالتركيز على ذلك ينفع الإنسان نفسه وغيره أيضاً.
أما الإنسان نفسه فلأنه إيحاء، والإيحاء يوجب مزيداً من الجلاء ومراتب أعلى من الوضوح(2).
وأما لغيره، فلأنه هداية وإرشاد وإلفات إلى أن الفطرة مطابقة لما أمر الله سبحانه وتعالى من العقيدة القول والعمل، قال سبحانه: «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَالنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ»(3).
فالشهادة إذن موصولة بالقلوب ومغروسة فيها، من وصله فهو موصول، فإن الله سبحانه جعل فطرة الإنسان - في قلبه - بالشهادة على وحدانيته.
ص: 158
..............................
ولما دخلت الشهادة في القلب أعطت نوراً لفكر الإنسان، فإن فكر الموحد له نور خاص كاشف عن الواقع، إذ يرى الأشياء كما هي لا كما يراها الطبيعي والثنوي ومن أشبههما.
وفي الرواية الشريفة: «ليس العلم بكثرة التعلم، إنما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد أن يهديه»(1).
وقال (علیه السلام): «العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء»(2).
وقولها (علیها السلام): «معقولها» لعلّ المراد أن ما يعقل من كلمة التوحيد من المراتب واللوازم، أي ما يمكن أن يتعقله الإنسان منها قد أعطاه الله للإنسان ومنحه إياه حيث أناره في تفكيره، فقد أفاض إلى الحد الذييتحملها العقل البشري وهو غاية اللطف والفضل.
وحيث إن للإنسان مركزين: مركزاً للعاطفة ومركزاً للتفكير، وبعبارة أخرى: قلب وعقل، فقد غرس الله تعالى أصول الدين فيهما، فقد ضمنها القلوب أي التوحيد الفطري، كما أنار بها العقول أي التوحيد النظري(3) كي لايكون للناس على الله حجة بعد ذلك.
ومنه يستفاد أهمية القلب والفكر، والتأكيد عليهما،خاصة في الاعتقادات كالتوحيد.
ص: 159
-------------------------------------------
مسألة: يجب الاعتقاد بأن الله تبارك وتعالى ليس بجسم، ولا يحلّ في جسم، وليس في جهة، وحكم من قال بكونه تعالى جسماً وادّعى الحلول مذكور في (الفقه)(1).
فإنه سبحانه وتعالى مجرد عن المادة والحيّز والجهة والمكان والزمان والمقدار ومضارعاتها، ولذلك يستحيل رؤيته(2).
وهذه من الصفات السلبية على ما ذكره العلماء في كتبهم الكلامية؛ لأنه تعالى ليس بمركب ولا جسم ولا مرئي ولا محل للحوادث ولا شريك له ولا فقر له في أية جهة من الجهات، وإذا كان الممكن غنياً في بعض الجهات غنىً مجازياً، فإنه تعالى غني بكل أبعادمعنى الغنى، فهو الغني بالذات وهو الغني المطلق، وغيره الفقير المطلق، وما له فهو بالعرض.
ثم إن رؤيته تعالى ممتنعة عن (الأبصار) لا (البصائر) كما ورد في الحديث عن أبي عبد الله (علیه السلام):
«جاء حبر إلى أمير المؤمنين (صلوات الله عليه). فقال: يا أمير المؤمنين، هل رأيت ربك حين عبدتَه؟.
ص: 160
..............................
قال: فقال علي (علیه السلام): ويلك ما كنت أعبد رباً لم أره!
قال: وكيف رأيته؟.
قال: ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان»(1).
أما اللسان فهو أيضاً لا يتمكن من وصف الله سبحانه؛ لأن مفردات اللغة محدودة، واللسان أيضاً محدود كماً وكيفاً، وصفاته تعالى غير محدودة ولا يمكن أن يستوعب المحدود غير المحدود، كما تقدم.
إضافةً إلى أن صفاته سبحانه عين ذاته، وكما لا يمكن إدراك كنه ذاتهفكذلك صفاته، وما يذكر في وصفه تعالى فهو إشارات وعلامات عامة لا غير، قال (علیه السلام): «فليس لكونه كيف، ولا له أين، ولا له حد، ولا يعرف بشيء يشبهه»(2).
ص: 161
-------------------------------------------
مسألة: يكره التفكر في ذات الله وكيفيته، وقد يحرم، كما ورد في الروايات(1)، قال الصادق (علیه السلام): «إياكم والتفكر في الله، فإن التفكر في الله لايزيد إلاّ تيهاً، إن الله عزوجل لا تدركه الأبصار ولا يوصف بمقدار»(2).
وقال (علیه السلام): «تكلّموا في خلق الله ولا تكلموا في الله؛ فإن الكلام في الله لايزيد إلاّ تحيراً»(3).
والحرمة نظراً لأن ذلك كثيراً ما يسوق الإنسان إلى الافتراء على الله وإلى أنواع من الانحراف العقائدي(4).
ومع قطع النظر عن ذلك، فإن من الواضح أنه لا يصل فكر الإنسان - مهما أعمله - إلى إدراك كنه ذات اللهسبحانه وكيفيته، وقد ذكرنا في بعض مباحث هذا الكتاب وغيره ما ذكره العلماء في كتبهم الكلامية من أن الإنسان مهما كان ومهما تعالى وتكامل فإنه محدود، والمحدود لا يعقل أن يستوعب غير المحدود، بل إن المحدود الأصغر أو الأضيق لا يستوعب المحدود الأكبر أو الأوسع فكيف بغير المحدود؟!
ص: 162
..............................
فلا يصل إلى كنه الله سبحانه وتعالى علم ولا ظن ولا وهم إطلاقاً على نحو الاستحالة، وإذا كان الإنسان عاجزاً عن معرفة كنه الروح - وهي إحدى مخلوقات الله تعالى - بل عن معرفة كنه النور(1) وكنه (الكهرباء) وما أشبه، فإنه عن معرفة الواجب جل وعلا أعجز.
وإنما يعرف بآثار الله سبحانه وتعالى أنه موجود وأن له الصفات الثبوتية وأنه منزه عن الصفات السلبية، مما يعبر عنه بالبرهان الإني...ولتقريب(2) ذلك نقول: إن الوهم والتصور إنما يتمكن أن يعرف الأشياء بالمشابهات، وحيث إنه لا مشابه لله تعالى فلا يعقل أن يعرف الوهم كيفيته سبحانه.
وها هنا نكتة لطيفة وهي تدرجها (علیها السلام) من الأدنى للأعلى:
ف (رؤيته) تعالى ممتنعة على (الأبصار).. بل (وصفه) ممتنع على (الألسنة) رغم قدرة الإنسان الأوسع على وصف ما يرى وبعض ما لا يرى(3)..
بل إن (الأوهام) يمتنع عليها أيضاً أن تنال (كيفيته) رغم ما للوهم من القدرة الهائلة.
ص: 163
-------------------------------------------
مسألة: يستحب التفكير في أفعال الخالق جل وعلا ومخلوقاته، وكذلك في شؤونه سبحانه - في الجملة - ضمن الإطار الذي بينته الآيات والروايات، وعلى ضوء المنهج الذي رسمه القرآن والعترة (علیهم السلام)، وبنفس المقدار والحد الذي حددوه لنا.
قال تعالى: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ»(1).
وقال سبحانه: «هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ»(2).
وكذلك الآيات والروايات الأخرى:
قال الإمام الباقر (علیه السلام): «إياكم والتفكر في الله! ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظيم خلقه»(3).
ومنها كلماتها (عليها الصلاة والسلام) في هذه الخطبة «ابتدع... »، وما سبق وسيلحق.
ص: 164
..............................
ومن الواضح أنهم (علیهم السلام) «الدعاة إلى الله، والأدلاء على مرضاة الله... والمظهرين لأمر الله ونهيه»(1).
وهذا أمر عقلي عقلائي في كل محدود جاهل يبحث عن مجهول، فعليه أن لا يتعدى الحدود التي رسمها له العالم، وأن يمشي على ضوء إرشاداته ووفق علاماته وهدايته، وإلاّ فالهلاك مصيره، كما ورد: «فالراغب عنكم مارق، واللازم لكم لاحق، والمقصر في حقكم زاهق، والحق معكم وفيكم ومنكم وإليكم، وأنتم أهله ومعدنه»(2).
والتفكير في ذلك(3) يعد مصداقاً لقوله تعالى: «إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ»(4).
وقوله سبحانه: «فَاذْكُرُونِيأَذْكُرْكُمْ»(5)، والذكر أعم من الذكر باللسان أو الجنان أو الذكر العملي، وذكره تعالى أعم من ذكر وحدانيته وصفاته وأفعاله.
وقد ألمعنا سابقاً إلى معنى الابتداع، إذ لم يكن هناك مثال سابق قد أخذ من ذلك المثال، كما هو الأكثر أو الدائم في الناس، حيث إنهم يرون ويسمعون وما أشبه ذلك أشياء سابقة، متخيلة أو متوهمة أو محسوسة أو معقولة، ثم
ص: 165
..............................
يعملون - والمراد بالعمل: الأعم من العمل الذهني والخارجي - أشياء جديدة، كالمصور يصور شيئاً رآه أو سمعه، أو من يقوم برسم ما يشابه ذلك الشيء أو ينتزع صورة إبداعية في الظاهر، ولكن في الحقيقة ليس ذلك ابتداعاً، وإنما هو جمع وتفريق وما أشبه ذلك، أو إنه يستمد مما هو مخزون في فطرته أو عقله أو وعيه الباطن(1).هذا ولا يخفى أن التفكر في الكون وعظمته وعظمة خالقه بالإضافة إلى دلالة جملة من الآيات والروايات عليه - كما سبق - يوجب توثيق الارتباط بالله سبحانه وتعالى، والاتصال بالله يسبّب استقامة التفكير وسموه وصقل الروح واستحكام النفس الملهمة بالتقوى وغلبتها على النفس الأمارة، وإيجاد معان متعالية أخرى في الإنسان، كالتوكل على الله والرضا بقضائه والتسليم لأمره، وما أشبه ذلك، وهذا من علل الدعوة للتفكر في مخلوقاته تعالى.
قال جل وعلا:
«أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِْبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (علیهم السلام) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (علیهم السلام) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (علیهم السلام) وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (علیهم السلام) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (علیهم السلام) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ»(2).
فإنه تعالى أحدث (الأشياء) كلها وابتدأ خلقها لا عن مادة موجودة سابقاً،
ص: 166
..............................
إذ لا يعقل أن تكون المادة أزلية؛ لأن كل متغير حادث، فإن المتغير لا يكون قديماً، كما أن القديم لا يكون متغيراً، على ما فصل في علم الكلام(1).
فالعلة المادية والعلة الصورية للشيء كلاهما مخلوقان له تعالى.
ويمكن الاستناد - في جملة الأدلة النقلية - إلى كلامها (علیها السلام) هذا: «ابتدع الأشياء» في إبطال أزلية العالم والعقول العشرة وما أشبه(2).
ولم يكن هناك مثال سابق حتى يخلق الله تعالى الأشياء على تلك الأمثلة مقتدياً بها، وربما يستشم أن الجملة الأولى(3) إشارة للعلة المادية، وهذه الجملة(4) إشارة للعلة الصورية.
ص: 167
-------------------------------------------
مسألة: يجب الاعتقاد بقدرته تعالى، والتفصيل مذكور في علم الكلام.
قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(1).
وقال سبحانه: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً»(2).
فإن التكوين كان بالقدرة لا بآلة حتى يكون من قبيل قطع الحطب بالمنشار، وإلاّ لعاد الكلام إلى خلق تلك الآلة وهكذا، فيتسلسل، والتفصيل في محله.
..............................
وقال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ»(1).
وقال عزوجل: «وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَداً (علیهم السلام) إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ»(2).
وقال سبحانه: «وَمَا تَشاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ»(3).
و(الذرء) الخلق، فكأنه يهب على الممكن نفحة الوجود ب (الذاريات)، فالفرق بين الخلق والذرء بالاعتبار(4).و(المشيئة) من (شاء) أي أراد، والمراد: الإرادة التي هي صفة الفعل، لا صفة الذات.
ص: 169
-------------------------------------------
مسألة: يجب الاعتقاد بأنه تعالى هو الغني المطلق، ولا يحتاج إلى أي شيء.
وتفصيل الكلام في علم الكلام.
قال سبحانه: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ»(1).
وقال تعالى: «وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُوالرَّحْمَةِ»(2).
وقال سبحانه: «فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ»(3).
وقال تعالى: «لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ»(4).
مسألة: يستحب أن يفعل الإنسان الخير وإن لم يكن محتاجاً إليه، بل أن يفعل الخير لذاته بما هو هو، لا لما سيرجع منه إليه.
ص: 170
..............................
والعبارة (1) عرفية، إذ المراد ب (الحاجة) الحاجة الظاهرية الدنيوية، وإلاّ فإن (الخير) مطلقاً له فائدة يحتاجها الإنسان، إما بنحو الأثر الوضعي الدنيوي أو بنحو الأجر الأخروي.
وذلك لما تقدم من استحباب تخلّق الإنسان بأخلاق الله سبحانه وتعالى حيثورد: «تخلقوا بأخلاق الله»(2)، وإن كان الأمر فيه تعالى امتناعاً وفي الإنسان إمكاناً (3).
أما ما في الحديث القدسي: «كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق لكي أُعرف»(4)؛ فإن محبة المعرفة لفائدة العارف(5) لا لفائدة المعروف(6)، كما أن ظهور الكنز واستخراجه نافع للمستخرج لا للكنز كما لا يخفى.
ص: 171
-------------------------------------------
ويمكن القول في الفرق بين (الحاجة) و(الفائدة) حيث قالت (علیها السلام): «من غير حاجة... ولا فائدة»:
أن (الحاجة) تطلق بالنظر إلى القابل، والفائدة بالنظر إلى الفاعل، فالحاجة تنسب للمُعطى والمستفيد، والفائدة تنسب للمعطي والمفيد.
وربما يقال: بأن النسبة بينهما العموم من وجه، فقد يكون الإنسان محتاجاً لشيء وفيه فائدة له، وقد لا يكون مفيداً له، وقد يكون مستفيداً من شيء دون حاجة منه إليه.
وعلى هذا، فكما يستحب فعل الخير وإن لم تكن للإنسان حاجة إليه، كذلك يستحب فعله وإن لم تكن له فيه فائدة.
والله سبحانه وتعالى لا يستفيد من صور الأشياء، كما لا يستفيد من ذاتها وخلقها، فإن الشيء قد يفيد بذاته كالذهب، وقد يفيد بصورته كالأوراق النقدية، وقد يفيد بكليهما كالمصوغ من الذهب والمجوهرات.
ص: 172
-------------------------------------------
مسألة: يجب الاعتقاد بأنه تعالى حكيم، والتفصيل في علم الكلام(1)، قال سبحانه: «يَا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»(2).
وقال تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ»(3).
وقال عزوجل: «عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ»(4).
مسألة: ومن المستحب - بل اللازم في الجملة - السعي لتبيين حِكَم أفعاله تعالى للناس على ضوء المستفاد منالآيات والروايات والعقل - بالقدر الذي يدركه - فإن ذلك يوجب تثبيت إيمان الناس واطمئنان قلوبهم ودفعاً لوساوس الشياطين وشبهات الملحدين.
ص: 173
..............................
وفي كلامها (علیها السلام) دلالة واضحة أكيدة على ذلك، إذ لما كان تبيين أو تثبيت الحكمة الإلهية إحدى علل الخلقة، كان السعي لبيانها لمن جهل بها أو غفل عنها ضرورياً عقلاً في الجملة، وهي من (دفائن العقول) التي بعث الأنبياء (علیهم السلام) ليثيروها(1).
ثم لا يخفى أن الاستثناء في كلامها (علیها السلام) منقطع.
وأصل تكوين الأشياء وتصويرها بتلك الصور والهيئات، كلاهما دليل على حكمته جل وعلا، فإن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه، وإفاضة الوجود على (الماهيات القابلة) من القادر الكريم وفي الوقت المعين وبمكتنفات معينة وبالإشكال المخصوصة، أكبر دليل على الحكمة اللا متناهية له جل وعلا، قال(علیه السلام): «وضعهم في الدنيا مواضعهم»(2).
وبمقدور الإنسان أن يتعرف على بعض الحكمة بالتدبر والتفكر والسير في الآفاق والأنفس، قال تعالى:
«سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ»(3).
هذا وفي بعض النسخ: «تبييناً لحكمته».
ومما سبق يعلم أن تبيين أو تثبيت الحكمة، ترجع فائدتها للإنسان نفسه لا له تعالى إذ هو الغني المطلق وقد سبق بيانه.
ص: 174
..............................
ومن الواضح أن (تبيين الحكم الإلهية) هو من بواعث تكامل الإنسان، كما أن العلل اللاحقة في كلامها (علیها السلام) كلها طرق وعوامل لمزيد من ذلك، كما سيأتي.
ومن الواضح أيضاً أن توغل الإنسان في العلوم الفلكية والفيزيائية والكيماوية وما أشبه يزيد الإنسان تكاملاً واقتراباً من أوجه الحكمةالمختلفة في صنع الأشياء.
ولذلك نجد أن الإنسان كلما ازداد علماً، ازداد تواضعاً أمام عظمة هذا الكون، وازداد إيماناً بالباري جل وعلا.
ص: 175
-------------------------------------------
مسألة: يجب تنبيه الناس وإرشادهم إلى طاعة أوامره تعالى، فإنها من العلل الغائية للخلقة، وهي السبب في السعادة الدنيوية والأخروية.
قال سبحانه:
«وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ»(1).
والإرشاد إلى طاعة الأوامر الاستحبابية مستحب، ومنها يعلم حكم التنبيه على إطاعته تعالى في المحرمات والمكروهات تركاً.
أما المباح فالإرشاد إليه ربما يعد على بعض الوجوه مستحباً(2)، قال (علیه السلام): «إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه»(3).
وقال (علیه السلام): «فصار الأخذ برخصه واجباً على العباد كوجوب مايأخذون بنهيه وعزائمه»(4).
وقولها (علیها السلام)(5) إشارة إلى قوله تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ
ص: 176
..............................
لِيَعْبُدُونِ» (1) حتى يطيعوا فيستحقوا الثواب الدائم.
والجملة السابقة(2) تشير إلى معرفته جل وعلا، وهذه الجملة - مسبوقة بتلك - ترشد إلى لزوم العمل على طبق تلك المعرفة(3).
وقد يكون المراد من هذه الجملة: التنبيه على أن كل شيء مطيع له، قال سبحانه: «قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ»(4).
وقال تعالى: «مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا»(5).وعلى الاحتمال الأول فهذه الجملة تتضمن إنشاء، وعلى هذا الاحتمال تتضمن إخباراً بالإطاعة التكوينية.
ص: 177
-------------------------------------------
مسألة: ابتداع الأشياء لا من شيء كان قبلها، وإنشاؤها بلا احتذاء أمثلة امتثلها، أكبر دليل على القدرة الذاتية اللا متناهية(1) للخالق جل وعلا.
ومن الطبيعي أن ظهور هذه القدرة وتجليها للناس أكثر فأكثر يسبب تعبدهم بأوامره وطلبهم رضاه تعالى، وهو من أسباب إعزاز دعوته، لذلك كان من الواجب - في الجملة - بيان القدرة الإلهية للناس، وهو مما يقرب المبين والمبين له إلى الله سبحانه وتعالى.
كما ينبغي لأولياء الله أن يظهروا قدرتهم للناس فيما إذا كان في ذلك دفع لتعديات الأشرار، قال تعالى: «وَأَعِدُّوا لهمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ»(2).
سواء كان في ذلك فائدة دينية أمفائدة دنيوية مشروعة، وسواء كانت ترجع الفائدة إلى نفس الإنسان أم إلى غيره، قال سبحانه: «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً»(3).
ص: 178
-------------------------------------------
مسألة: العبادة هي غاية الخضوع والتذلل، والتعبد هو: طلب العبادة(1).
وغاية الخضوع والتذلل لا يحق إلا لمن هو غاية في الرفعة والعظمة والجلال، فالواجب عبادته تعالى وحده، والامتثال لأوامره ونواهيه، وقد قال سبحانه: «وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ له الدِّينَ»(2).
ومن الواضح إن التعبد(3) - وهو منباب التفعل الذي يأتي أيضاً بمعنى المطاوعة والتكلف وتكرر الفعل والديمومة عليه(4)- في العبادات الواجبة واجب وشرط، وفي العبادات المستحبة شرط لها، أما في سائر الأمور، فإن من تعبد
ص: 179
..............................
حصل على القرب والثواب الجزيل، ومن لم يتعبد لم يكن عليه إثم، وقد ورد في الروايات أن من المستحب أن يعمل الإنسان كل شيء لله سبحانه وتعالى كما تقدم الإلماع إليه.
فالعلة الغائية للخلقة هي: طلب عبادتهم، أو صيرورتهم عبيداً، أو ما أشبه، قال سبحانه: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ»(1) أي: ليعبدون باختيارهم - على بعض الاحتمالات - أو المراد مِن (يعبدون): لأدعوهم وأطلب منهم عبادتي، كما أشارت (علیها السلام) إليه بكلمة «تعبداً»، وقد يكونذلك دفعاً لشبهة الجبر(2).
والفرق بين «وتنبيهاً على طاعته» وبين «وتعبداً لبريته» - بناء على كون الجملة السابقة إخبارية - واضح(3).
وأما على كونها إنشائية فالفرق أن (التعبد) مرتبة أقوى من (الإطاعة) كما يظهر من معنى (العبادة) و(التعبد) فيما سبق.
مسألة: يستحب إظهار العبودية لله تعالى في الجملة.
ومن المعلوم أن إظهار العبودية غير التعبد، فإن التعبد إنما هو بين الإنسان وبين ربّه، وإظهار العبودية عبارة عن إظهارها للناس، نعم هذا في غير ما يفضل
ص: 180
..............................
أن يأتي الإنسان به سرّاً، والشارع قسّم الأمر إلى ما يستحب إظهاره وإلى ما يستحب إسراره.
وذلك لأن الإظهار تقوية لقلوب الناس، ودعوة لهم إلى الارتباط باللهسبحانه وتعالى، وإيجاد قدوة ومثال صالح لهم، ولذا أمر الشارع بصلاة الجماعة وشبهها(1)، وقال تعالى: «وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً»(2).
وجاء في معاهدة صلح الحديبية: «... وعلى أن يعبد الله بمكة علانية»(3).
وقد يكون الإسرار - أحياناً - أقرب إلى الإخلاص، ولذا نرى في أعمال الأنبياء والأئمة (عليهم الصلاة والسلام) كلا القسمين.
..............................
وذلك لأن التربية على العبودية وتعليمها وتركيزها في النفوس - إضافة إلى كونها كمالاً ومرتبة سامية - مقدمة توفر الأرضية الصالحة لتجنب المعاصي وللالتزام بالأوامر الإلهية، فيجب في مورد الوجوب، ويستحب في مورد الاستحباب مطلق التربية والتعليم.
مسألة: تحرم عبادة غير الله تعالى، منها عبادة الأصنام سواء كانت عبادتها بما هي هي، أو بدعوى أنها طريق إلى الله تعالى، كما في القرآن الحكيم: «مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفى»(1).
فإنه لا تجوز العبادة لغير الله سبحانه، سواء كان إنساناً أو نفساً أو ناراً أو ما أشبه ذلك من مختلف الأصنامالحجرية والبشرية وغيرها، بل لا تجوز العبادة حتى رياءً وسمعة كما ورد في النص والفتوى، قال سبحانه: «وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ له الدِّينَ»(2).
وقد ورد في الحديث: إن الله تعالى يقول للمرائي يوم القيامة: «أنا خير شريك، من أشرك معي غيري في عمل عمله لم أقبله إلاّ ما كان لي خالصاً»(3).
ص: 182
..............................
وفي رواية: «إن الله يقول: أنا خير شريك من عمل لي ولغيري فهو لمن عمل له دوني»(1).
وقال علي (علیه السلام): «اعملوا لله في غير رياء؛ فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى عمله يوم القيامة»(2).
نعم، إذا كانت العبادة لله سبحانه طمعاً في جنة أو خوفاً من نار، أو لحاجة دنيوية، كشفاء مريض أو دفع عدوأو الحصول على مال أو ما أشبه ذلك(3) فإنها صحيحة أيضاً، وتكون من مصاديق العبادة لله تعالى، وقد قال سبحانه: «وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ»(4).
وقال تعالى: «يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً»(5).
نعم الرتبة الأسمى من العبادة: هي عبادته جل وعلا لأنه أهل للعبادة، كما قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، لكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك»(6).
فإنه هو المنعم الحقيقي بل(7) الكمال المطلق.
ص: 183
-------------------------------------------
مسألة: (إعزازاً) أي: لأجل تقوية الدعوة وغلبتها(1)، ومنه يعلم رجحان ما يوجب إعزاز دعوته تعالى، ودعوته هي للإيمان به وتوحيده وعدله وللإيمان برسله وكتبه، إلى آخر أصول الدين وما يتفرع عنها.
وفي الصحيفة السجادية في وصفه (صلی الله علیه و آله): «إرادة منه لإعزاز دينك»(2).
وهذه الجملة والجمل السابقة يحتمل أن تكون تعليلاً لأصل الخلقة وتكوين الأشياء، ويحتمل أن تكون تعليلاً لنحوها وكيفيتها وخصوصيتها، أي لكون الخلقة لا من شيء كان قبلها وبلا احتذاء أمثلة، وكونها بالقدرة لا بالآلة... ففي هذا الإظهار الأتم للقدرة والإعزازالأكبر للدعوة، وهو أدعى لتعبد البرية والتنبية على الطاعة، وقد يكون الاحتمال الأول أقرب وأسرع تبادراً.
وإذا كان من علل الخلقة إرادته جل وعلا (إعزاز الدعوة) كان (إعزازها) عنواناً مستقلاً مصرحاً به يدور مداره كثير من الأحكام سلباً وإيجاباً.
وذكر (إعزاز الدعوة) تعليلاً للخلقة من باب ما يؤول إليه الشيء(3).
ص: 184
..............................
وفي بعض النسخ: «إعزازاً لأهل دعوته»(1)، فيدلّ على رجحان إعزاز حملة الدين كما هو واضح.
مسألة: ينبغي للإنسان بيان العلل والأهداف والغايات المترتبة على كل قرار يصدره، أو موقف يتخذه، أو منهج يرسمه.
سواء كان لعائلته أم لأصدقائه أم للتجمعات المحيطة به أم المتعاملة معه أم لمجتمعه.
وسواء كان في الشؤون الدينية أمالدنيوية، الاقتصادية أم السياسية، الاجتماعية أم غيرها.
إذ أن ذلك يوجب مزيداً من اعتماد الآخرين على الإنسان، إضافة على أنه تربية للناس على التفكر والتعقل والتدبر، وتقييم كل شيء بمنظار المنطق والدليل والحكمة، كما دعا إليه القرآن الكريم، وعدم الإتباع الأعمى كما كان دأب المشركين: «إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ»(2).
ثم إنه يوجب تصحيح الخطأ في قرار أو مسيرة الإنسان والحيلولة دون الاستبداد، إذ تعويد الناس على ذكر العلل يوجب نموهم فكرياً وتصديهم لإسداء النصح والمشورة ولذا كانت: «المشورة مباركة»(3).
ص: 185
..............................
و«أعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله»(1).و«من استبد برأيه هلك»(2).
و«الاستشارة عين الهداية»(3).
و«ما عطب من استشار»(4).
وما أشبه.
إضافة إلى أنه تأس وإقتداء بالمعصومين (علیهم السلام) في ذكرهم العلل التشريعية والتكوينية (5) كما ذكرت (علیها السلام) ها هنا العلة في خلق العالم، ومن قبله العلة في حمده تعالى وشكره، وستذكر (علیها السلام) العلة في بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) واختياره، والعلة في استخلاف القرآن عليهم، والعلة في اختيار علي (علیه السلام) دون غيره، ثم تطرقت لعلل جعل العديد من فروع الدين وأحكامه وغيرها.
وكما تطرق القرآن الكريم من قبل لبيان علل أو حِكَم الكثير من الأمور التكوينية أو التشريعية، وقد أشرنا إليه في مواطن من هذا الكتاب وغيره.
ص: 186
..............................
وأخيراً فإن العلل الخمسة المذكورة في كلامها (علیها السلام) كلها مما يصب في طريق تكاملية الإنسان(1) واقترابه الأكثر إلى مصدر الكمال المطلق والحق المطلق، فهي تعود إلى الإنسان نفسه أولاً وأخيراً، قال تعالى: «إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ»(2).
فقد خلقهم لرحمته(3) كما ورد فيالحديث عن أبي عبد الله (علیه السلام): «فإن الله تعالى خلق خلقاً لرحمته»(4).
ص: 187
-------------------------------------------
مسألة: يستحب جعل الثواب على الإطاعة وعلى الالتزام بالقانون، من غير فرق بين رب العائلة والمعلّم والقائد وغيرهم، وربما وجب، فإنه إتباع لله سبحانه وتعالى ولسنة الرسل والأنبياء (علیهم السلام) .. وهو سيرة العقلاء(1)، حيث يجعلون الثواب على الطاعات سواء كانت الطاعات إيجابية أم سلبية، مثل جعل الثواب على ترككذا من الأعمال الضارة المنافية، كما ورد عنه (علیه السلام): «من ترك مسكراً مخافة الله أدخله الجنة وسقاه من الرحيق المختوم»(2) ومن ترك الكذب كان له من الثواب كذا، وما أشبه(3).
والثواب أعم مما يعطيه الله للإنسان في الدنيا أو في الآخرة، قال تعالى: «فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآْخِرَةِ»(4).
وجعل الثواب هو من حكمة الله، وهو من الطرق التي وضعها الله لتعبد البرية وجرّهم للطاعة - وهذا من غاية لطف الله وفضله - ومن أسباب إعزاز الدعوة، ومن مظاهر قدرة الله أيضاً.
ص: 188
-------------------------------------------
مسألة: من اللازم وضع العقاب على المعصية ومخالفة القانون، عقاباً مناسباً ومطابقاً للعدل، كما جعل اللهسبحانه العقاب على معصيته.
فإذا اعتبرنا أن (العقاب) يطلق - ولو توسعاً - على الأعم من المترتب على الحرام، استحب وضعه على المكروه أيضاً، كما ورد جملة من العقوبات على المكروهات مثل البناء رياءً، قال (صلی الله علیه و آله) : «من بنى بنياناً رياءً وسمعةً حمله يوم القيامة إلى سبع أرضين ثم يطوقه ناراً توقد في عنقه ثم يرمى به في النار»(1).
أو تربية الشعر على الرأس من دون (فرق)، أو أن المريض إذا لم يقرأ ثلاث مرات «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»(2) كان له كذا من العقاب.
إلى غير ذلك، مما يوجد في كتاب (عقاب الأعمال)(3)، للشيخالصدوق
ص: 189
..............................
(قدس سره)(1) وغيره.فإطلاق العقاب عليها توسعي، وإن كان جمع من العلماء أولوا بعض هذه الروايات بما يرفع الاستغراب من وجود مثل تلك العقوبات على فعل هذه المكروهات، كما لو كان بقصد العناد أو تضمن إنكار إحدى الأصول.
ثم إن العقاب قد يكون عقاباً تكوينياً - في الدنيا - بنحو الأثر الوضعي أو الردع الاجتماعي؛ فإن المعاصي توجب عنت الإنسان وعطبه، قال تعالى: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ له مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى»(2).
إذ المعصية خلاف مسير الحياة وهي تصطدم بشبكة السنن الإلهية المحيطة بالإنسان، كمن يلقي نفسه من شاهق حيث تتكسر عظامه.
ص: 190
..............................
وقد يكون تشريعياً، هذا بالإضافة إلى العقاب في الآخرة فإنه مقرر من الله للعصاة.
وقد ذهب البعض إلى أن الأعمالصالحة وطالحة هي كالنواة التي تثمر ما يجانسها، فكل عقاب وثواب في الآخرة هو ثمرة ما غرس في الدنيا.
وفي الحديث: «وان الله ليربي لأحدكم الصدقة كما يربي أحدكم ولده»(1).
وهذا بلحاظ تجسم الأعمال، فإن (الكذب) يتحول إلى عقرب تلدغ الإنسان - مثلاً - في الآخرة، وهكذا سائر المعاصي، فهناك علاقة تكوينية بين العمل وبين العقاب الأخروي، قال تعالى: «ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(2).
ص: 191
-------------------------------------------
مسألة: يجب ذيادة العباد وإبعادهم عن نقمته تعالى عقلاً ونقلاً، وتحقيقاً لغرض المولى جل وعلا، والروايات الدالة على ذلك كثيرة جداً، «فنعوذ بالله من غضب الله ونقمته»(1).
ومعنى الذيادة: الطرد والدفع والإبعاد، يقال: ذاد الإبل عن الحوض، أي: طرده عن الماء(2).
ففي المحرمات وترك الواجبات الذيادة واجبة؛ لأنها نوع من النهي عن المنكر والتعليم وتنبيه الغافل وإرشاد الجاهل وما أشبه ذلك.
وهذا(3) من غاية لطف الله بعبيده.
وللتوضيح نمثل: بأن يضع الأب عقوبةالحبس يوماً - مثلاً - على من أراد من أبنائه التوغل في غابة مجهولة خطيرة، فإن هذه العقوبة هي للحيلولة دون وقوعه في الخطر الأعظم، وكذلك الطبيب الذي يجري عملية جراحية منعاً لسريان السرطان إلى سائر الأعضاء.
ص: 192
..............................
فالعقوبات الدنيوية المجعولة على ارتكاب المعاصي كشرب الخمر والزنا وشبههما مع اجتماع شرائطها الكثيرة(1) لدفع النقمة الكبرى التي ستنال العاصي في الآخرة(2).
هذا لو كان المراد من (العقاب) في كلامها (علیها السلام): العقوبات الدنيوية.
وأما لو كان المقصود منه في كلامها (علیها السلام) العقاب الأخروي، فإن التهديد به يردع الكثيرين عن ارتكاب المعاصي التي تؤدي إلى نقمته تعالى.
وهذا (3) هو ما يقتضيه الربط بينالعلة والمعلّل له(4).
ص: 193
-------------------------------------------
مسألة: يجب سوق العباد إلى الجنة على ما عرفت في البحث الآنف، قال تعالى: «وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ»(1).
وقال سبحانه: «سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ»(2).
و(حياشة) أي: سوقاً (3)؛ فإن الله تعالى يريد لعباده الجنة والنعيم والسعادة السرمدية، قال سبحانه: «إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ»(4).
والطريق إلى ذلك الإطاعة وتجنب المعاصي، فإن الكون دنياه وآخرته قررت بحيث أن المطيع مآله النعمة والجنة، والعاصي مآله النقمة والنار،كما تمت هندسة الكون بحيث أن الزارع يحصد غداً، ومن لا يزرع يبقى صفراً يداً، ومن يدرس يصبح طبيباً أو مهندساً أو ما أشبه، ومن لا يدرس يبقى جاهلاً.
وإن كثيراً من الناس لا يسوقه إلى الجنة وإلى النعيم المقيم إلاّ ما يراه من العقاب على المعصية فيرتدع، فيوفق للنعيم المقيم.
ص: 194
..............................
مسألة: من اللازم بيان فلسفة الثواب والعقاب للناس، إذ ذلك يزيدهم إيماناً واعتقاداً والتزاماً. وحتى بالنسبة إلى الأبوين عند عقاب الطفل أو ثوابه، ويرجّح أن يذكر السبب حتى يكون تأثيره أكثر.
وهذا الأمر يجري في القوانين الوضعية أيضاً، فأية عقوبة تضعها شركة أو هيئة أو دولة - شرط أن تكون في إطار الشريعة(1) - ينبغي أن تذكر علتها وفلسفتها للناس.
ولذا أكثر في القرآن الحكيم منذكر الفلسفة، فإن القرآن الكريم ذكر فلسفة كثير من الأحداث والأحكام:
مثلاً قال جل وعلا في الصلاة: «وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي»(2)؛ فإن «لِذِكْرِي» فلسفة «أَقِمِ الصَّلاَةَ».
وقال سبحانه: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»(3)، ف «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» فلسفة هذا الحكم.
وقال تعالى: «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لهمْ»(4)، في فلسفة الحج.
ص: 195
..............................
وقال سبحانه: «وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ»(1) حيث إن فائدة الجهاد تعود إلى النفس.
قال (علیه السلام): «جاهدوا تورثوا أبناءكم عزاً»(2).وقال (علیه السلام): «جاهدوا تغنموا»(3) وهو فلسفة الجهاد.
وقال تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا»(4) حيث إن التطهير والتزكية فلسفة الزكاة.
وقال سبحانه: «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ»(5) حيث إن تفضيل الله سبحانه وإنفاق الأزواج سبب قوامية الرجال على النساء.
وقال في فلسفة الدعوة إلى عبادته تعالى وحده:
«وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ له الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»(6)..
إلى غير ذلك.
ص: 196
-------------------------------------------
مسألة: يجب الاعتقاد بنبوة النبي الأعظم محمد (صلی الله علیه و آله) ورسالته، فإن من لم يعتقد بنبوة رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان كافراً وإن اعتقد بنبوة سابق الأنبياء (علیهم السلام)(1)، كما ذكرنا ذلك بالنسبة إلى الأئمة الطاهرين(علیهم السلام) حيث إن من أنكر أحدهم كان كمنكرهم جميعاً.
وأعظم برهان خالد على رسالته (صلی الله علیه و آله) هو القرآن الكريم حيث تفرد (صلی الله علیه و آله) دون سائر الأنبياء بمعجزة أبدية ظاهرة على مر الأجيال وذلك مقتضى خاتميته.
ثم إن الاعتقاد بنبوته ورسالته تعود فائدته إلى الإنسان نفسه «قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ»(2) إذ هو إضافة إلى كونه إدراكاً وعلماً لحقيقة كبرىو«العلم نور»(3) أن الاعتقاد مقدمة طبيعية للعمل بمناهجه التي توفر سعادة الدنيا والآخرة للإنسان.
والاعتقاد من عقد القلب فلا يكفي مجرد العلم بذلك، بل ينبغي عقد القلب عليه، قال تعالى: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ»(4) وكما يظهر ذلك من كلامها (علیها السلام) فيما سيأتي: «منكرة لله مع عرفانها».
ص: 197
..............................
مسألة: يستحب التلفظ بالشهادة الثانية في مختلف الأحوال في الخطاب والخطبة وحين الانفراد والخلوة.
لما يترتب على ذلك من الثواب الأخروي، إضافة إلى كونه تلقيناً وإيحاءً وتكريساً لهذه الجملة ولمدلولاتها التضمنية والالتزامية في النفس أكثر فأكثر، وقد يكون لذلك التأكيد في الروايات الشريفة على التلفظ بكلمة التوحيد والصلوات على النبي محمد وآله (علیهم السلام) وسائر الأذكار والأدعية.
ثم إن التلفظ بهذه اللفظة بالنسبةإلى الرسول (صلی الله علیه و آله) مثل التلفظ بهذه اللفظة بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى كما تقدم، فيصح أن يقول: (إنه رسول الله) و(أشهد) و(نشهد) و(شهادتي) وما هو من هذا القبيل.
بل أصل التلفظ في الجملة واجب(1) ولا يكفي الاعتقاد فقط أو الإتباع فقط بدون التلفظ، فإن الإيمان مركزه القلب واللسان والجوارح كما ذكر في العلم الكلام، وكما ورد في الروايات: «تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان»(2).
واستحباب التلفظ بها - على ما سبق - إنما هو إذا لم تكن جهة وجوب، وإلاّ كما في موارد تنبيه الغافل وإرشاد الجاهل والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف وما أشبه، وجب بالمقدار الذي يحقق الغرض.
ص: 198
..............................
مسألة: يستحب الشهادة بأنه (صلی الله علیه و آله) عبد لله تعالى، وقد يجب(1) وذلك لما سبق(2)، وإتباعاً لله سبحانه حيث قال تعالى: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً»(3).
وقال سبحانه: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ»(4).
وقال تعالى: «ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا»(5).
وقال سبحانه: «وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ»(6).
وقال تعالى: «وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ»(7).
وقال سبحانه: «ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً»(8).وقال تعالى: «إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ»(9).
ص: 199
..............................
وقال سبحانه: «لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ»(1).
وقال تعالى: «قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا»(2).
ونقرأ في الصلاة كل يوم: (أشهد أن محمداً عبده ورسوله).
وتقديم العبد؛ لأنه اعتراف بإله الكون، ولأن وصول النبي (صلی الله علیه و آله) إلى منتهى درجة العبودية لله تعالى هو الذي أهّله ليكون رسولاً، بل أفضل الرسل على الإطلاق، فهو (صلی الله علیه و آله) عبدٌ أولاً ورسولٌ ثانياً، وكفى بالإنسان فخراً وسمواً وكمالاً أن يكون عبداً خاشعاً خاضعاً لله تعالى.
مسألة: يجب الاعتقاد بأنه (صلی الله علیه و آله) عبد لله تعالى، وكذلك غيرهمن الأنبياء والأئمة (علیهم السلام)، ويحرم الغلو فيهم (علیهم السلام)، وذلك في قبال من يتوهم أنهم (علیهم السلام) شركاء لله سبحانه أو أبناؤه، قال تعالى: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ»(3).
وقال (علیه السلام): «يهلك فيَّ اثنان: محب غال ومبغض قال»(4).
ص: 200
..............................
وقال (علیه السلام): «ولا تغلوا وإياكم والغلو كغلو النصارى، فإني بريء من الغالين»(1).
مسألة: يستحب أو يجب - كل في مورده - التشهد بالشهادة الثانية بعد ما شهد الإنسان بالشهادة الأولى.
ومنه يعرف الحكم في الشهادةالثالثة(2).
وفي الحديث: «إن المسافر إذا نزل ببعض المنازل يقول: " اللهم أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين"، ويصلي ركعتين... ويقول: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن علياً أمير المؤمنين، والأئمة من ولده أئمة أتولاهم وأبرء من أعدائهم"» الحديث(3).
مسألة: ينبغي التصريح بالنسب والتأكيد عليه وإظهاره، فيما إذا كان دخيلاً في تحقيق الغرض ومؤكداً ومؤيداً للكلام(4).
ص: 201
..............................
قال علي (علیه السلام): «لا جمال كالحسب»(1)، كما قالت (صلوات الله عليها) :«وأشهد أن أبي محمداً... ».
فتصريحها بالنسب هنا يوجب تهييج العواطف وتحريكها لتقبل كلماتها (علیها السلام) .. إضافة إلى أنه يذكّرهم بكلماته (صلی الله علیه و آله) عن ابنته وحبيبته وبضعته، فيكون ذلك أدعى لقبول الحق منها.
والتصريح بالنسب أو إظهاره قد يجب في مواطن عديدة، كما في موارد من الإرث أو النكاح أو الرضاع أو ما أشبه ذلك، سواء بالنسبة إلى نفسه أم بالنسبة إلى الغير مما هو مذكور في (الفقه).
مسألة: ينبغي للإنسان أن يتطرق لذكر فضائل والده وأن يقوم بنشرها، قال تعالى: «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً»(2)، وكذلك والدته، وسائر الأقرباء، بل مختلف المؤمنين، فهو حض وحث على الخير وتشويق عليه.
كما إن عكسه مكروه أو محرم.
قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَالْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ»(3).
ص: 202
..............................
والأمر بالنسبة للوالدين والأرحام آكد؛ لأن نشر فضائلهم قد يعد نوعاً من صلة الرحم «وَأُولُوا الأَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ»(1).
إضافة إلى أنه نوع من مقابلة الإحسان بالإحسان وأداء لبعض حق الوالد على الولد.
بالإضافة إلى قوله تعالى: «وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ»(2) فإن الإغماض عن الفضائل وسترها وعدم ذكرها نوع من البخس.
هذا كله إذا لم يكن من التفاخر وما أشبه، قال تعالى:
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (علیهم السلام) أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (علیهم السلام) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (علیهم السلام) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (علیهم السلام) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ»(3).
ص: 203
-------------------------------------------
مسألة: يستحب أو يجب - كل في مورده - بيان فضائل الرسول (صلی الله علیه و آله) كما بيّنت (علیها السلام) في خطبتها.
وكذلك بالنسبة إلى سائر الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) وبالنسبة إلى العلماء والصالحين أيضاً.
مسألة: يجب أن يكون اختيار النبي (علیه السلام) من قبل الله تعالى وبتعيينه سبحانه، وكذلك الإمام (علیه السلام)، حيث قالت (علیها السلام): «اختاره وانتجبه» أي: لأن يكون (صلی الله علیه و آله) رسوله الأخير إلى البشر وأفضل الرسل على الإطلاق، وفي حديث عنه (صلی الله علیه و آله): «فلم أزل خياراً من خيار»(1).قولها (علیها السلام): «وانتجبه» من النجابة، وقد نجب نجابة: إذا كان فاضلاً نفيساً في نوعه، أي اصطفاه، وذلك قبل أن خلقه وفطره، وفي زيارة الجامعة: «خلقكم أنواراً فجعلكم بعرشه محدقين»(2) فإن النور تحول إلى إنسان، كما أن النار تحولت إلى الجان، وكما أن التراب تحول إلى البشر.
ص: 204
..............................
قال تعالى: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ»(1).
ومن الواضح إمكان تحول المادة إلى المادة، والمادة إلى الطاقة، وبالعكس، فقد اختاره الله وانتقاه (صلی الله علیه و آله) قبل أن يرسله، أي أنه تعالى أنتخب من عرف أنه خير البشرية على الإطلاق، للرسالة.
والعلم كاشف وليس بعلة؛ فإن النبي (صلی الله علیه و آله) كان سيخرج قمة القمم في مختلف الامتحانات الإلهية - حسب معرفته سبحانه وتعالى بعلم الغيب لذلك انتخبه هو (صلی الله علیه و آله) دون غيره ليحمّله أعظم الرسالات والمسؤوليات الكونية على الإطلاق وأعطاه من الامتيازات الاستثنائية ما أعطاه.
وهناك وجه آخر: هو امتحانه (جل وعلا) للنبي (صلی الله علیه و آله) ولكل من عداه في عوالم سابقة، فأبدى (صلی الله علیه و آله) أهليته على الإطلاق، وقد يشير إلى هذا الوجه ما ورد في زيارة السيدة الزهراء (علیها السلام): «يا ممتحنة، امتحنكِ الذي خلقكِ قبل أن يخلقكِ فوجدكِ لما امتحنكِ صابرة»(2) وتفصيل البحث في علم الكلام والحديث.
مسألة: في قولها (علیها السلام): «اختاره وانتجبه» دليل على أن هنالك مواصفات استثنائية يجب أن تتوفر في النبي (صلی الله علیه و آله) والإمام (علیه السلام).
فقد اختاره (صلی الله علیه و آله) وانتقاه الله تعالى بما يحمل من مواصفات تؤهّله لكي يكون رسولاً لرب العالمين وحجةً على الناس أجمعين.
ص: 205
..............................
ففي نفس كلمة «اختاره وانتجبه» دلالة على ذلك، حيث وقع الاختيار من بين الكل عليه وهو سبحانه أحكم الحكماء(1) على أن تفرد الله تعالى بهذا العمل وقيامه به بالذات دليل على ذلك، حيث إن غيره لا يمكن أن يكتشف تلك الصفات الاستثنائية.
ومن هنا كان اعتراض الملائكة عليه سبحانه في قضية خلق آدم (علیه السلام)، قال تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ»(2).
ومن جملة تلك الصفات: العصمة(3) اللازمة عقلاً وشرعاً في النبي والإمام (علیهما السلام)(4)والتي لا يعرفها إلاّالله سبحانه وتعالى، وقد أشار إليه الإمام (عليه الصلاة والسلام) في قصة اختيار موسى (علیه السلام) حيث اختار سبعين رجلاً ومع ذلك كفروا: «وَاخْتَارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَ تُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا»(5).
ص: 206
..............................
وليس هذا نقصاً في موسى (علیه السلام) واختياره وإنما هو بيان لأن الذين كانوا خيرة القوم حسب مختلف الظواهر كانوا هكذا فكيف إذا كانوا غير الخيرة، أو كانوا غير مختارين من قبل النبي (علیه السلام) وهو أدرى الناس بما يمكن للبشر معرفته من خفايا النفس البشرية.
أما بالنسبة إلى الفقهاء أو الوكلاء والرجوع إليهم فهو بأمر الله سبحانه وتعالى أيضاً، قال تعالى: «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(1) فحيث لم تشترط فيهم العصمة ولم تكن فيهم ضرورية ولاواقعة، لذلك أوكل الله تعالى معرفة مصاديقهم إلى الناس أنفسهم أو إلى أهل الخبرة منهم(2).
فلا يقال: لماذا يلزم في النبي والإمام (علیهما السلام) العصمة دون وكلائهم في حال حياتهم أو بعد غيبتهم؟؛ فإن القياس مع الفارق الكبير.
ص: 207
..............................
إضافة إلى عدم وجود القابلية لمقام العصمة في غير الأنبياء والأئمة (علیهم السلام)، إذ هو تعالى فياض حكيم يعطي فيضه ولطفه للقابل لاغير(1).
مسألة: ومما سبق نعرف أن الفقهاء والوكلاء والقضاة وأئمة الجماعة والخطباء ومن أشبههم، بل عموم أتباع المعصومين (علیهم السلام) وإن لم يكونوا معصومين إلاّ أن من الضروري أن يتحلوا بكثير من الصفات التي توفر درجة من السنخية والتجانس مع موكليهم وأئمتهم وقادتهم (علیهم السلام)، كما قال أمير المؤمنين (علیه السلام) : «ألا وإن لكل مأموم إمام يُقتدى به ويُستضيء بنوره، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طُعمه بقُرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّةوسداد»(2).
ثم إن من تلك الصفات: ما ذكر في القرآن الكريم وورد في الأحاديث الشريفة حكاية عن حال الأنبياء (علیهم السلام) أو وصفاً للمؤمنين، مثل قوله سبحانه: «إنه كان عبداً شكورا»(3).
ص: 208
..............................
وقوله تعالى: «إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ»(1).
وقوله سبحانه: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لهمْ»(2).
وقوله تعالى: «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لهمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ»(3).
وقوله سبحانه: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِوَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ»(4) الآية.
وقوله تعالى: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (علیهم السلام) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ (علیهم السلام) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (علیهم السلام) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (علیهم السلام) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ»(5) الآية.
وقوله سبحانه: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ»(6).
وعنه (علیه السلام): «من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً على هواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه»(7).
ص: 209
..............................
وعن أبي عبد الله (علیه السلام): «ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثمان خصال: وقور عند الهزاهز، صبور عندالبلاء، شكور عند الرخاء، قانع بما رزقه الله، لا يظلم الأعداء، ولا يتحامل للأصدقاء، بدنه منه في تعب، والناس منه في راحة، إن العلم خليل المؤمن، والحلم وزيره، والصبر أمير جنوده، والرفق أخوه، واللين والده»(1).
وعن أمير المؤمنين (علیه السلام): «المؤمن... بشره في وجهه، وحزنه في قلبه، أوسع شيء صدراً، وأذل شيء نفساً... يكره الرفعة، ويشنأ السمعة، طويل الغمّ، بعيد الهمّ، كثير الصمت، ذكور، صبور، شكور، مغموم بفكره، مسرور بفقره، سهل الخليقة، لين العريكة... أصلب من الصلد، ومكادحته أحلى من الشهد، لا جشع ولا هلع، ولا عنف ولا صلف، ولا متكلف ولا متعمق... »(2).
وهذه الصفات وإن كانت عامّة إلاّ أن توفرها في الوكلاء آكد، كما لايخفى.
ص: 210
-------------------------------------------
مسألة: يستحب التسمية للشخص قبل الولادة، وقد ورد في الروايات استحباب تسمية المولود قبل أن يولد، حتى أنهم قالوا: إذا عرف أنه ولد سمي باسم الولد، أو أنثى فباسم الأنثى، أو مشكوك فباسم مشترك يصلح للذكر والأنثى.
وفي الحديث عن علي (علیه السلام): «سمّوا أولادكم قبل أن يولدوا، فان لم تدروا أذكر أم أنثى فسموهم بالأسماء التي تكون للذكر والأنثى، فإن أسقاطكم إذا لقوكم يوم القيامة ولم تسموهم يقول السقط لأبيه: ألا سميتني»(1).
ومن هذه الجهة سمى رسول الله (صلی الله علیه و آله) محسناً (علیه السلام) قبل أن يولد(2).
قولها (علیها السلام): «اجتبله» أي: خلقه، فقد سماه جل وعلا لملائكته وأنبيائه (علیهم السلام) قبل أنيخلقه(3)، أو أنه تعالى وضع له اسماً قبل أن يخلق مطلقاً(4).
ص: 211
-------------------------------------------
مسألة: ينبغي التركيز والتأكيد على اختيار الله جل وعلا واصطفائه للرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) ولسائر الرسل (علیهم السلام) وللأئمة (علیهم السلام) .. وبيان فلسفة ذلك أيضاً، كما سبق الإشارة إلى جانب منها، وكما سيأتي في كلامها (علیها السلام): «علماً من الله بمآل الأمور... ».
إذ إن ذلك إضافةً إلى تضمّنه توجيهاً وتربيةً، فإنه يزيد من شدة التفاف الناس حولهم وبهم (علیهم السلام).قولها (علیها السلام): «إذ» بيان لظرف الاصطفاء، فالقبلية زمنية ورتبية أيضاً، فقد اختاره (صلی الله علیه و آله) لا قبل البعثة فحسب، بل قبل الخلقة أيضاً.
وفي الحديث عن جابر بن عبد الله، قال: قلت لرسول الله: أول شيء خلقه الله ما هو؟.
فقال (صلی الله علیه و آله): «نور نبيك يا جابر، خلقه الله ثم خلق منه كل خير»(1).
ولا ينافي هذا ما ورد من أن «أول ما خلق الله عزوجل العقل»(2)؛ لأن العقل الأكمل هو النبي (صلی الله علیه و آله) ونوره عقل.
ص: 212
..............................
و«الأهاويل»: الأهوال، هذا تشبيه للعدم بالهول، أو يقال: إن الأهوال شرور والشرور أعدام، كما ذكروا في علم الكلام في بحث أن الوجود خير محض والعدم شر محض(1).
و«بنهاية العدم»: العدم ليس بشيءحتى يكون له ابتداء، وإنما هو كناية عن العدم المحض الذي لا شائبة له من الوجود حتى الوجود الذهني والانتزاعي والاعتباري.
وهذه الجمل الثلاثة يحتمل أن يكون المراد بها واحداً، فبعضها بيان للبعض الآخر من باب التفنن في التعبير، ويحتمل أن يكون المراد بها الإشارة إلى التسلسل الوجودات في العوالم المتتالية، أو إلى مراتب الوجود(2).
ص: 213
-------------------------------------------
علماً من الله تعالى بمآيل الأمور(1)، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع الأمور(2).
مسألة: يجب الاعتقاد بعلمه تعالى، «وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً»(3)، «وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»(4)والتفصيل في علم الكلام.
كما يجب الاعتقاد بأنه عزوجل يعلم الغيب: «وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ»(5).
ولا يخفى أن علمه سبحانه من صفات الذات كما هو مفصل في علم الكلام.
قال الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام): «علم الله لا يوصف منه بأين، ولا يوصف العلم من الله بكيف، ولا يفرد العلم من الله، ولا يبان الله منه، وليس بين اللهوبين علمه حدّ»(6).
ص: 214
..............................
مسألة: ينبغي أن يصف المرءُ ربّه بما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسله وأوصيائهم، ويحرم أن يصفه بغير صفاته، وقد قال (علیه السلام): «فمن وصف الله فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه، ومن عدّه فقد أبطل أزله»(1). والمراد توصيفه سبحانه بصفات الجسم ولوازم الجسم وما أشبه من صفات الممكنات(2) بل مطلق غير ما يصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسله. وخطبتها (علیها السلام) هي مما يرجع إليه في معرفة أوصافه وأسمائه جل وعلا.
و(مآئل) جمع مآل: ما يؤول ويرجع إليه الأمر(3)، أي إنما بعثه (صلی اللهعلیه و آله) لعلمه بعواقب الأمور، كعلمه بعاقبة كل فعل من أفعال البشر ومناهجهم، وعلمه بعاقبة بعثته للرسول (صلی الله علیه و آله) وعاقبة عدم بعثته وغير ذلك، كمن يعلم عاقبة من يمشي في غابة خطرة جاهلاً بمسالكها وأخطارها، وهو تعالى يعلم أيضاً المستجدات والمتغيرات التي تحدث للبشرية ولغيرها على مر الأعصار(4).
ص: 215
..............................
فهو سبحانه يضع منهجاً متكاملاً لشتى أبعاد الحياة البشرية وهو عالم بالعواقب، محيط بالمستجدات، عارف بموقع كل شيء وقدره، فهو يعلم الزمان والمكان والجهات والشرائط المكتنفة بكل حدث وحكم، فمن الطبيعي وجوب إتباع مناهجه ورسله عقلاً.
أما البشر فليس بمقدوره وضع القوانين والمناهج، إذ هم يجهلون كل ذلك، فهم يجهلون خفايا النفسالبشرية، ويجهلون خفايا الطبيعة، ويجهلون المستجدات الطارئة، ويجهلون تأثيرات القوانين على الأجيال القادمة، ويجهلون التزاحمات والتعارضات، ويجهلون ويجهلون...(1).
قال تعالى: «وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ له الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً»(2).
فمن يريد حياةً سعيدةً بهيجةً في الدنيا والآخرة لابدّ له من الإذعان لاختيار الله ومن إتباع مناهج من اصطفاه الله في كل رطب ويابس، قال تعالى: «وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ»(3).
وقال سبحانه: «يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ»(4).
وقال تعالى: «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا»(5).
ص: 216
..............................
وقال سبحانه: «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»(1).
مسألة: يستحب أن يستحضر الإنسان في ذهنه دوماً إحاطة الله سبحانه بكافة أفعاله وأقواله بل حتى خواطره، وقد ورد: «يا عالم الجهر والخفيات، ويا من لا يخفى عليه خواطر الأوهام وتصرف الخطرات»(2)، وأن يتذكر أن أزمّة الأمور كلها بيده(3)، وأن المقادير جميعاً تعود إليه، كما قال (صلی الله علیه و آله): «إن الله عزوجل قدّر المقادير ودبّر التدابير»(4).
وقد يجب ذلك.
وبإخطار ذلك دوماً في القلب وتأمله في العقل وتكراره باللسان سيحدث للإنسان حاله روحانية وملكة تقربه إلى مراتب الكمال وتجنبه مواطن الزلل والضلال.
مسألة: يجب التعبد المطلق في قباله تعالى، وكذلك بالنسبة إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) والأئمة الطاهرين (عليهم أفضل الصلاة والسلام) حتى فيما جهل وجه الحكمة فيه، فلقد أصبح البعض ينكر - فوراً ودون روية وبلا رجوع لأهل الذكر - أي
ص: 217
..............................
حديث يبلغ مسامعه مما لا يفهم وجه العلة فيه، أو مما عارض مرتكزاته الذهنية، فكان مثله كمثل من يرفض نصائح الطبيب الحاذق لأنه لا يفهم وجه العلة، أو لأنه عارض مفهوماً ذهنياً لديه.
فإذا كان الله العالم بمآل الأمور والمحيط الحوادث والعارف بالمقدرات..قد اصطفاهم (علیهم السلام) ليكونوا الأدلاء عليه، والمرشدين إلى سعادة البشرية والعالمين بما كان وما يكون وما هو كائن، فكيف ينكر الإنسان حديثاً لمجرد معارضته لما توصل هو إليه، مع ضيق أفقه وقلة علمه وكثرة اشتباهه...؟! (1).ومما يوضح هذا المعنى أكثر: ما ذكره الإمام الصادق (علیه السلام) في بيان أن دية قطع أربع أصابع المرأة تساوي دية إصبعين منها، واستنكار ذلك الرجل قائلاً: إن هذا كان يبلغنا فنبرأ ممن قاله ونقول الذي جاء به شيطان! (2).
وقد قال (علیه السلام): «إنما الأمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيتبع، وأمر بيّن غيّه فيجتنب، وأمر مشكل يردّ علمه إلى الله وإلى رسوله»(3).
ص: 218
-------------------------------------------
مسألة: ينبغي للإنسان أن يتمّ كل أمر بدأ، وأن يتقنه، تخلقاً بأخلاقه تعالى(1)، ولقوله (صلی الله علیه و آله): «رحم الله امرئ عمل عملاً فأتقنه»(2).
والإتمام والإتقان شامل للكمّ المنفصل والمتصل، ومنه الاستمرار زمناً، وللكيف، ولسائر الجهات، فتأمل.
و«ابتعثه إتماماً لأمره» حيث إن أمره تعالى ابتداءً هو التكوين: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ له كُنْ فَيَكُونُ»(3)، ومنه تكوين الإنسان وغيره ممن وضع عليهم قلم التكليف(4).
و(إتمام الأمر) هو هدايته.
و(الابتعاث) من البعث؛ لأن زيادةالمبنى تدل على زيادة المعنى.
وببيان آخر: أمره تعالى هو ما سبق من العلل الخمسة المذكورة في كلامها (علیها السلام): «تثبيتاً لحكمته وتنبيهاً على طاعته و... » فببعثه النبي (صلی الله علیه و آله) يتم التثبيت
ص: 219
..............................
للحكمة والتنبيه على الطاعة وإظهار القدرة وتعبد البرية وإعزاز الدعوة وإتمام الأمر وهو مقتضى الحكمة، وعدمه نقض للغرض ولو في الجملة.
وبمعرفة ذلك يتضح السر في قوله تعالى في الحديث القدسي: «يا أحمد، لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا علي (علیه السلام) لما خلقتك، ولولا فاطمة (علیها السلام) لما خلقتكما»(1).
وقولها (علیها السلام): «إتماماً لأمره» يصلح للاستدلال به على ضرورة الإمامة والوصاية، نظراً لأن بعثته (صلی الله علیه و آله) لا يكمل الغرض منها ولا يتم الأمر إلاّ بذلك، ولذلك قال تعالى في يوم الغدير - يوم نصب أمير المؤمنين علي (علیه السلام) خليفةً منبعده -:
«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً»(2).
ويمكن الاستناد للجملتين اللاحقتين بضميمة.
ص: 220
-------------------------------------------
مسألة: يجب إمضاء حكمه تعالى وتنفيذه، ولا يجوز العدول عن أحكامه، قال سبحانه: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ»(1). وقال تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»(2). وقال سبحانه: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ»(3).
«وعزيمة»: أي تصميماً(4) على تنفيذ حكمه بالخلق والهداية، فقد بعثه (صلی الله علیه و آله) لأجل أنه عزم على إمضاء ذلك الحكم وتحقيقه في الخارج.
مسألة: من اللازم الاعتقاد بالقضاء والقدر الإلهي(5)، وتفصيل الكلام في علم الكلام.
وهذا لا ينافي اختيار الإنسان وقدرته؛ لأنه تعالى قدّر ذلك كما سيأتي.
ص: 221
..............................
قولها (علیها السلام): «لمقادير حتمه» أي لمقادير الحتمية(1) أو ما حتم.
والحتم بعد الحكم، فالثلاثة كما يقال في الإنسان: من الشوق والإرادة والتنفيذ، كتحريك العضلات - مثلاً - وهنا: حكم فعزم(2) فحتم، إذ قد يكون الحكم غير حتمي، أي لم يصل إلى العلية التامة، والبحث في هذا المقام مضطرب الآراء طويل الذيل نتركه لمظانه.
هذا ومن الواضح أن من مقاديره الحتمية قدرة الإنسان واختياره،قال تعالى: «وَهَدَيْنَاهُ
النَّجْدَيْنِ»(3)، وقال سبحانه: «فَأَلْهَمَهَا
فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا»(4)، فالجمع بين ذا وبين علمه بمآل الأمور وإرادته إتمام الأمر وشبهه هو إرساله هذا الرسول (صلی الله علیه و آله) ليكون حجة ودليلاً وهادياً، ذائداً لعباده عن نقمته، حائشاً لهم إلى جنته، قال تعالى: «رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى»(5)، وهدايته بالعقل والشرع والفطرة والغريزة وما أشبه.
وأخيراً ينبغي الإشارة إلى أنه ينبغي للمؤمن أن يكون ذا عزيمة وإصرار على إحقاق الحق وإبطال الباطل، فإن شر ما يصيب الفرد أو الأمة الوهن والتردد عند مواجهة الصعاب والعقبات التي تعترض طريق المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
ص: 222
..............................
قال علي (علیه السلام): «يا أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة من يسلكه»(1)، فكل ما حكم به الله، على الإنسان أن يجدّ لتحقيقه، فإنه سير في طريق الهدف الذي توخاه الله من الخلقة.
وقد ذكر في القرآن الكريم على سبيل المدح كلمة (العزم)، قال سبحانه:
«لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ»(2).
وعبر عن بعض الأنبياء (علیهم السلام) ب: «أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ»(3)..
إلى غير ذلك.
ص: 223
-------------------------------------------
مسألة: يحرم التفرق عن الحق، فقد قال سبحانه: «وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا»(1)، وقال (صلی الله علیه و آله): «علي مع الحق، والحق مع علي، يدور معه حيثما دار»(2) إلى غير ذلك.
وقد ورد في تفسير الآية(3) : «إن الله تبارك وتعالى علم أنهم سيفترقون بعد نبيهم ويختلفون، فنهاهم عن التفرق كما نهى من كان قبلهم، فأمرهم أن يجتمعوا على ولاية آل محمد (علیهم السلام) ولا يتفرقوا»(4).
ويمكن الاستدلال له بآية: «وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ»(5)، وبدليل العقل الآتي على ذلك وعلى حرمة التنازع والاختلاف بما هو هو فيالجملة، أي فيما إذا سبّب ما لا يجوز من الفشل وذهاب الريح.
وهل يحرم النزاع إذا كان أحد الطرفين أو الأطراف ذا حق شخصي أو شبهه؟. الظاهر عدم ذلك بالنسبة إلى المحق، خاصة إذا كان ضرر التخلي عن حقه أكثر من ضرر التنازع، أما إذا انعكس الأمر كما لو تنازعا في دَين أو شبهه من الحقوق فقد يؤدي النزاع - لو لم يتخل ذو الحق عن حقه - إلى سفك الدماء
ص: 224
..............................
وشبهه، أو إلى ذهاب الريح بدرجة تكون خسارتها أعظم مما يذهب من حقه الحالي، فالمسألة حينئذ تكون من كلي (الأهم والمهم)، ثم إن الآية تشمل المنازع غير المحق مطلقاً.
هذا بالإضافة إلى دلالة العقل على أن الاجتماع قوة، والتفرقة ضعف، وسر تقدم وتحطم الأمم هو ذلك، فإذا اجتمعت على الحق سلمت وسعدت دنياً وأخرىً، وإلاّ فلا.
كما يدل العقل أيضاً على أن الحق في كل مجال واحد لا يتعدد - اللهم إلاّ في مصاديق الكلي الواحد(1) - فمن خالفهذا الواحد كان باطلاً، فاللازم البحث والفحص والاستدلال حتى ينتهي الجميع إلى الواقع.
وفي الحديث عن علي (علیه السلام)، قال:
«سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: إن امة موسى (علیه السلام) افترقت بعده على إحدى وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية وسبعون في النار. وافترقت أمة عيسى (علیه السلام) بعده على اثنتين وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية وإحدى وسبعون في النار، وإن أمتي ستفترق بعدي على ثلاثة وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية واثنتان وسبعون في النار»(2).
ص: 225
..............................
وفي بعض الروايات عنه (علیه السلام) قال في آخره: «فقلت: يا رسول الله وما الناجية؟. فقال (صلی الله علیه و آله): المتمسك بما أنت عليهوأصحابك»(1).
نعم في صورة اختلاف الاجتهادات في الفروع الشرعية وعدم تيسر وصول الجميع للحق فيها يأتي ما روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «للمصيب أجران وللمخطئ أجر»(2).
فإن المصيب له أجر إصابة الواقع وأجر البحث والفحص، أما المخطئ - والمقصود به من لم يقصر في المقدمات بل يحاول جاداً الوصول إلى الحق إلاّ أنه لم يصب قصوراً - فله أجر البحث والفحص فقط، وهذا الحديث عقلي قبل أن يكون شرعياً.
قولها (علیها السلام): «فرقاً» أي ليست لهم وحدة في الدين، الأعم من الأصول والفروع.
مسألة: يجب التفحص عن حال الأمم الأخرى ومعرفة انحرافاتها الفكرية والعملية وجوباً كفائياً مقدمةً للإرشاد والإصلاح، وهو ما يحقق في الجملةالأهداف المذكورة في كلماتها (علیها السلام) هذا، والكلام في وجوب الفحص عن الموضوعات مفصل ذكرناه في محله.
ص: 226
-------------------------------------------
مسألة: تحرم عبادة النيران وسائر الأوثان بما هي هي، أو بدعوى أنها تقرّب الإنسان إلى الله زلفى، كما ورد في القرآن عن لسان المشركين قال تعالى: «مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفى»(1).
فإن عبادة غير الله سبحانه وتعالى محرمة(2) سواء كان ذلك الغير بشراً أو حيواناً كالبقر، أو نباتاً كالشجر، أو جماداً كالحجر والنار والماء، فإن كثيراً من هذه العبادات لا تزال موجودة في بعض البلاد كالهند والصين ونحوهما.
بل إن الكثير من الناس يعبدون ويطيعون أهوائهم من دون الله، كما قال تعالى: «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ»(3)وإطلاق كلامها (علیها السلام) يشمله، وربما يقال بأن الانصراف وبعض القرائن المقامية قد لا تسمح بذلك، فتأمل.
كما يمكن التعميم - توسعة مجازاً أو ملاكاً - بإرادة نيران العداوة والبغضاء لايحيدون عنها إلى الألفة والاجتماع والتعقل والصلاح.
ولا فرق في حرمة عبادة النار والوثن بين مختلف أنواع ما يطلق عليه عبادة عرفاً، كالصلاة والركوع والسجود وتقديم القربان وما أشبه ذلك، كما لا يجوز إذا قصد العبادة ولو بما لايعدّ عرفاً عبادة، أما صنع المجسمات والمعاملة عليها لا للعبادة فالظاهر جواز ذلك؛ لأن الأدلة منصرفة إلى ما كان المقصود منها العبادة
ص: 227
..............................
والتفصيل مذكور في الفقه(1).
وقد يكون السبب في تركيز السيدة الزهراء (علیها السلام) على هذا الانحراف العقائدي في المعبود أن عبادة النيران والأوثان - وهي كما قال تعالى: «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَياةً وَلاَنُشُوراً»(2)- يكشف عن الجهل بأكثر الحقائق بداهة وبأكبر الكمالات وأعظمها، بل الجهل بالكمال المطلق. وذلك إضافة إلى كونه نقصاً (3) يعدّ من أهم عوامل الجمود الفكري والتخلف الحضاري والعلمي، إذ الفرق واضح بين من إلهه مظهر الفقر والجهل والعجز، ومن إلهه مظهر الكمال والغنى والعلم المطلق، وذلك كمن يتخذ مقتداه وإمامه شخصاً سفيهاً أو حكيماً، مستبداً أو استشارياً، قاسياً أو رحيماً، فإن هذا الاتخاذ يؤثر بقدر وإن كان الفرد بطبيعته أو بتربيته الاجتماعية من نمط آخر. قال تعالى : «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ»(4) فهو ظلم للإنسان نفسه ولمجتمعه كما هو ظلم لعقله ولفطرته ووجدانه.
ص: 228
-------------------------------------------
مسألة: يحرم إنكاره جل وعلا، سواء كان بإنكار أصل وجوده، أم وحدانيته، أم بعض صفاته الثبوتية أو السلبية، كما: «قَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ»(1)، وكقول النصارى بأن له ولداً، قال تعالى: «وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً»(2).
وكالقول بالحلول والاتحاد والجبر وما أشبه ذلك، فلقد كانت الأمم حين بعثته (صلی الله علیه و آله) فرقاً كل واحدة منها تنكر شيئاً من ذلك، فهي «منكرة لله مع عرفانها» بالحقيقة،والمراد إما المعرفة الفطرية أو البرهانية.
أما من لا يعرفه جل وعلا - لشُبهة مثلاً - فالواجب عليه الفحص والبحث وجوباً عقلياً قبل أن يكون شرعياً في بعض الموارد(3)؛ وذلك لاحتمال الضرر العظيم في الدنيا والآخرة، ودفع الضرر المحتمل في الأمور الخطيرة واجب عقلاً، كمن يحتمل احتمالاً عقلائياً أن يكون في الطريق سبع أو لص يقتله أو ما أشبه
ص: 229
..............................
ذلك، فإن العقلاء يردعونه عن سلوك هذا الطريق. قال: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»(1).
ومعنى الإنكار مع العرفان ما ذكر في قوله سبحانه: «يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا»(2)..
وقوله تعالى: «يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَأَبْنَاءَهُمْ»(3)..
حيث إن كثيراً من المشركين كانوا يعرفون الله سبحانه وتعالى لكنهم كانوا تقليداً لآبائهم يعبدون الأصنام..
وقد أشير في القرآن الحكيم إلى هذا المطلب كراراً (4) فهم كما قال تعالى: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ»(5).
فإن المعرفة إذا لم تكن موضع العمل يسري الإنكار إلى السلوك لساناً وعملاً، بل وقلباً - بنائياً - أيضاً، فهم يعرفون علماً وينكرون عقداً قلبياً.
ص: 230
-------------------------------------------
مسألة: لقد كان (صلی الله علیه و آله) شمساً مضيئة في أفق البشرية - بل كل العوالم الإمكانية - فقد كان ولا يزال هو (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (علیهم السلام) وسائط الفيض بين الخالق جل وعلا وبين كافة المخلوقات، كما ورد: «بيمنه رزق الورى، وبوجوده ثبتت الأرض والسماء»(1).
فمن الواجب السعي - عبر الكتب والمجلات والإذاعات وغيرها - لتوضيح الإشراقات الإلهية التي تجلت عبره (صلی الله علیه و آله) على البشرية بأجمعها، ودوره (صلی الله علیه و آله) الذي لا يضارع في إضاءة طرق الهداية، بل في الكشف عن مختلف الحقائق الدينية والدنيوية في شتى الحقول، وما له (صلی الله علیه و آله) من الفضل على الإنسانية في الأبعاد الحقوقية والأخلاقية والاجتماعية وغيرها، وفيأبعاد العلوم الوضعية أيضاً (2).
مسألة: يستحب - ويجب في موارد - تأسياً به (صلی الله علیه و آله) وتخلقاً بأخلاق الله تعالى(3)، ولدليل العقل أيضاً: أن يكون الإنسان كالمصباح المنير للمجتمع، ينير لهم سبل الرشاد، وفي كل حقل كيفما تمكن.
ص: 231
..............................
و(الظُلَم): جمع الظلمة، وهي قد تكون ظلمة الاعتقادات المخالفة للواقع، وقد تكون ظلمة الأعمال الباطلة، وكما تستر الظلمة الحقائق العينية الخارجية كذلك يستر الجهل الحقائق الفكرية والاعتقادية ويخفي الخير العملي، فيضيع الحق بين أقسام الباطل ويختلط العمل الصالح بالطالح.
وفي ذينك الموردين الإنارة واجبة وفي غير ذلك مستحبة؛ لأنها نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل، و... الشامل للواجب والمستحب والحراموالمكروه كل في مورده.
مسألة: ينبغي الاجتهاد(1) نحو البيان التفصيلي للغاية من بعثته (صلی الله علیه و آله) وأهدافها؛ فإن ذلك من العلل المعدّة لاقتراب الناس منها وسوقه نحوها وإرشادهم إليها، ذلك أن الناس لو عرفوا فوائد الشيء ومنافعه تفصيلاً، كانوا أسرع استجابةً وأشد ثباتاً وأقوى اندفاعاً، قال تعالى: «اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ»(2)..
وقال (صلی الله علیه و آله): «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(3)..
ص: 232
..............................
وقال(صلی الله علیه و آله): «إنمابعثت رحمة»(1).
مسألة: الملاك لمعرفة من يسير بسيرته (صلی الله علیه و آله) ومن يهتدي بهديه ممن يدعي ذلك ويتظاهر به فقط: مدى إنارته لظلمات الجهل عبر دعوة الناس للتفكر والتدبر وفسح المجال لهم بذلك، وعبر المشورة وفتح باب نقد الحاكم إن أخطأ وما أشبه.
على عكس المستبدين الذين يحرمون قولاً وعملاً، أو عملاً لا قولاً - إغراءً بالجهل وخداعاً للعامة - كل ذلك بسلب الحرية من العلماء والمصلحين والكتاب والمفكرين وبسوق الناس لإطاعة الحاكم إطاعة عمياء، وفي القرآن الكريم:
«وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ»(2).
وكذلك مدى إنقاذه الناس من الغواية والضلالة، أو محاولة إضلالهم أكثر فأكثر بالتدليس والتلبيس والتحريف وما أشبه في عكسه.قال (علیه السلام): «إذا جالستم فجالسوا من يزيد في علمكم منطقه، ويذكّركم الله رؤيته، ويرغّبكم في الآخرة عمله»(3).
ص: 233
-------------------------------------------
مسألة: ينبغي كشف البُهَم(1) عن القلوب وجوباً أو استحباباً، كل في مورده.
فالشبهات والمتشابهات والمشتبهات والإبهامات والمعضلات والمجهولات التي يجب على الإنسان الاعتقاد بطرف من أطرافها يلزم كشفها، وفي موارد المستحبات يستحب كشفها.
كما أن الأمر في الأعمال كذلك، فينبغي - بالمعنى الأعم - كشف مجهولاتها وشبهاتها أيضاً، وقد ذكروا في علم الأصول حكم الشبهات الوجوبية والتحريمية، البدوية وغيرها، كما ذكروا مسألة الفحص في الأحكام والموضوعات(2).
هذا ولا يخفى مدى أهمية (القلوب)في تبليغ رسالات الله، وأنه ينبغي الاهتمام بها لا بالمظاهر فقط، قال تعالى:
«يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ (علیهم السلام) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»(3).
ص: 234
..............................
وقال(صلی الله علیه و آله): «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم ونياتكم»(1).
وقال الصادق (علیه السلام): «بينا موسى بن عمران (علیه السلام) يعظ أصحابه إذ قام رجل فشق قميصه، فأوحى الله عزوجل إليه: يا موسى، قل له: لا تشق قميصك ولكن اشرح لي عن صدرك»(2).
ص: 235
-------------------------------------------
مسألة: يستحب أو يجب إزاحة الستائر عن البصائر، إذ الظاهر أن المراد بالأبصار البصائر؛ لأن ذلك هو الذي قام به الرسول (صلی الله علیه و آله)، وهو بين واجب ومستحب.
أما هذا العضو الخارجي الذي يبصر به الإنسان فليس الحديث بصدده(1) والله العالم. وإن كان يجب علاج العين فيما إذا عميت أو أصيبت وأمكن علاجها أو يستحب، كل في مورده.
قال علي (علیه السلام): «فقد البصر أهون من فقدان البصيرة»(2).
قولها (علیها السلام): «غممها»، الغمة: الستر، ولذا يسمى السحاب الغمام؛ لأنه يستر ما في السماء منالنيرات(3)، فقد كانت القلوب - قبل الرسول (صلی الله علیه و آله) - جاهلة بالحقائق والأبصار لا ترى الدرب الصحيح نحو الحياة السعيدة.
وربما يقال في الفرق بين المقاطع الثلاثة:
إن المراد ب:
ص: 236
..............................
فأنار الله بأبي محمد (صلی الله علیه و آله) ظُلَمها»، أي المجهولات المطلقة.
و«كشف عن القلوب بُهمها»: المتشابهات والمشتبهات.
و«جلى عن الأبصار غُممها»: المجهولات بالعرض الساتر(1).
أو يقال: المراد بالظلم: ظلم العقيدة، وبالبهم: ما يتعلق بها (2)،وبالغمم: كل ما يرتبط بمسيرة الحياة(3).
أو يقال: الظلم ما يتعلق بمدركات القوة المتعقلة(4)، والبهم: ما يتعلق بالقوة المتوهمة(5)، والغمم: ما يتعلق بالقوة المتخيلة والحواس.
والله العالم.
ويحتمل أن تكون الجمل من باب التفنن في التعبير، فتأمل.
ص: 237
-------------------------------------------
مسألة: هداية الناس إلى الواجب واجبة، وهدايتهم إلى المستحبات مستحبة، وكذلك في عكس الأمرين المحرمات والمكروهات(1).
أما الهداية إلى المباحات فمستحبة أيضاً، حيث إن المباحات أحكام الله سبحانه وتعالى، وبيان أحكام الله وهداية الناس إليها بين واجب ومستحب.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): «لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن تكون لك حمر النعم»(2).
وفي بعض الروايات: «خير لك مما طلعت عليه الشمس»(3).
وفي بعضها: «خير لك من الدنيا ومافيها»(4).
قولها (علیها السلام) : «في الهداية»، أي إلى العقيدة الصحيحة والأخلاق الفاضلة والشريعة القويمة.
ويمكن القول بأن الجمل الثلاثة السابقة كانت تشير إلى الجانب النظري - الفكري والاعتقادي - وهذه تشير إلى الهداية العملية، فقد قام (صلی الله علیه و آله) عملياً بهداية الناس نحو ما يصلح دنياهم وأخراهم، فأوجد فيهم روح الجهاد والأمر
ص: 238
..............................
بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر والمصابرة والمرابطة والتوكل على الله والتواضع والأخوة والحرية والشورى وما أشبه.
كما طبق (صلی الله علیه و آله) فيهم عملياً مناهج الإسلام الحيوية في مجالات: الاقتصاد، الزراعة، السياسة، الحكم، الحقوق الفردية والاجتماعية، وما أشبه(1).ومن الواجب علينا أن نحذو حذوه في كل ذلك، كالقيام بالهداية إلى العقيدة عملياً، بمعنى توفير المقومات والأجواء اللازمة التي تسوق الناس للاعتقاد السليم، وللمحافظة عليه(2).
ص: 239
-------------------------------------------
مسألة: يستحب أو يجب إنقاذ الناس من الغواية، بأي المعنيين فسرت(1)، تأسياً وإقتداءً به (صلی الله علیه و آله) حيث أنقذهم من الغواية(2) التي كانوا فيها، والضلالة الفكرية والاجتماعية والسياسية وغيرها والتحارب والفقر وما أشبه(3).
قال علي (علیه السلام): «في طاعة الهوى كل الغواية»(4).
والفاء للتفريع فقد «قام في الناسبالهداية» (ف) «أنقذهم من الغواية».
وفي بعض النسخ «وأنقذهم» والواو تفيد مطلق الجمع وهي لا تدل على الترتيب أو التفريع لكنها لا تنفيها أيضاً (5).
ومن المعلوم أن الهداية غير الإنقاذ؛ فإن الهداية: إراءة الطريق. والإنقاذ: الأخذ بيد الناس حتى الوصول إلى الهدف. فقد يقول المصلح للناس: (زوّجوا
ص: 240
..............................
أولادكم مبكراً) وقد يهيأ أسباب الزواج ومقوماته حتى يتم.
فهذه الجملة إشارة للهداية بالمعنى الثاني(1).
وقد تكون الهداية زيادة عن الإنقاذ عن الغواية؛ لأن بينهما واسطة، قال تعالى: «وَلاَ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ»(2).
مسألة: يستحب أو يجب تبصير الناس من العماية، عماية القلب والبصيرة والعمي في السلوك العملي للإنسان؛ لأن من لا يرى الحقائق هو أعمى، تشبيهاً للمعقول بالمحسوس، قال (علیه السلام): «شر العمى عمى القلب»(3).
ويمكن إرادتها (علیها السلام) من «الغواية»: الخيبة(4) فتكون غير العماية التي فسرت بالضلالة، ولو فسرت الغواية بالضلالة كانت الجملة الثانية من مصاديق الجملة الأولى(5) إذ الإنقاذ في كل شيء بحسبه(6).
ص: 241
-------------------------------------------
مسألة: من اللازم علينا أن نتأسى به (صلی الله علیه و آله) في العمل لأجل الدين القويم كما ورد في الحديث: «فتأس متأس بنبيه... وإلا فلا يأمن الهلكة»(1).
و«القويم» أي العدل المستقيم الذي له قوام وواقعية، لا ذلك الذي في ظاهره بريق لكنه خلو عن الحق والحقيقة فهو ك: «خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ»(2)، أو: «كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ»(3)، أو: « فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً»(4)، وهذا مما يفرق به بين الحق والباطل والهدى والضلال.
ولقد بذل (صلی الله علیه و آله) كل لجهد وأتعب نفسه الشريفة أشد التعب لهداية الناس إلى الدين القويم حتىنزل فيه قوله تعالى: «طه * مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى»(5).
ثم إن العمل لأجل الدين القويم حتى يتخذ الناس ذلك منهجاً وطريقاً، بين واجب ومستحب، كلٌ في مورده، مثل افتتاح المدارس وتأسيس المساجد وتجهيز الجيوش وتنظيم المنظمات وغير ذلك، كلٌ حسب الزمان والمكان والجهات المناسبة.
ص: 242
-------------------------------------------
مسألة: ينبغي(1) الدعوة إلى الطريق المستقيم(2) وانتهاجه للوصول إلى المقاصد السامية، فإن العمل لأجل الوصول إلى الهدف، قد يكون بسبب طريق مستقيم وهو الصحيح، وقد يكون بطريق منحرف، أو بطريق متعرج وكلاهما خطأ.
فإن الأول: لا يوصل إلى الهدف وهونوع من الضلالة، إضافة إلى أنه يسبب المشاكل والصعوبات.
والثاني: يستلزم مئونة زائدة وطول الطريق والتعب والنصب.
مثلاً: من يريد الذهاب إلى النجف الأشرف من كربلاء المقدسة، فقد يذهب إلى بغداد ثم إلى الحلة ثم إلى النجف الأشرف، وقد يذهب من كربلاء المقدسة إلى النجف الأشرف بخط مستقيم. كما أنه قد يذهب بسيارة أو بأموال مغصوبة، وقد يذهب بطرق محللة شرعية.
ورسول الله (صلی الله علیه و آله) عمل لأجل الدين القويم والصراط المستقيم عبر الطريق المستقيم بكلا المعنيين، وهكذا يجب أو يستحب مثل ذلك، كل في مورده كما ذكرناه سابقاً.
ص: 243
..............................
قال تعالى: «إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ»(1).
و: «لا يطاع الله من حيث يعصى».
فهذه الجملة منها (صلوات الله عليها) ترد مقولة: (الغاية تبرر الوسيلة)، كما أنها تشير إلى أقرب الطرق للنصر والتقدم.
فالتقوى من الله، والزهد في ملذاتالحياة، والصبر على الأذى، والتوكل على الله تعالى، وإغاثة الملهوف، ونصرة المظلوم، وإعطاء الخمس والزكاة، والعمل بأوامره تعالى من الحرية، والأخوة والشورى، وما أشبه، هي أسلم وأقرب الطرق لبناء أمة متكاملة وحضارة راقية، ولضمان سعادة الدنيا والأخرى وللانتصار على العدو، وللحيلولة دون الظلم والطغيان، قال تعالى: «وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً»(2). وقال سبحانه: «وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً»(3).
وقال تعالى: «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ له مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً»(4).
وقال (علیه السلام): «جاهدوا تورثوا أبناءكم عزاً»(5).
ص: 244
..............................
وقال (علیه السلام): «لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم»(1).
ثم لا يخفى أن الطريق والصراط المستقيم في قوله تعالى: «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ»(2) قد فسّر بولاية علي أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام)، فيكون المراد حينئذ: من قولها (علیها السلام): «هداهم إلى الدين القويم» دين الإسلام.
ومن قولها: «ودعاهم إلى الصراط المستقيم» ولاية علي وذريته (عليهم أفضل الصلاة والسلام).
وقالت (علیها السلام) بعد ذلك: «ثم قبضه الله إليه» أي بعد ما أمر (صلی الله علیه و آله) بالإسلام وبولاية علي (علیه السلام) حيث كمل الدين وتمت النعمةقبضه تعالى.
قال تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً»(3).
فعن ابن عباس قال: كان رسول الله يحكم وعلي (علیه السلام) بين يديه مقابله، ورجل عن يمينه ورجل عن شماله، فقال: «اليمين والشمال مضلة والطريق المستوي الجادة - ثم أشار (صلی الله علیه و آله) بيده - وإن هذا صراط علي مستقيم فاتبعوه»(4).
ص: 245
..............................
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في يوم الغدير: «معاشر الناس أنا صراط الله المستقيم الذي أمركم بإتباعه، ثم علي (علیه السلام) من بعدي، ثم وُلدي من صلبه أئمة (علیهم السلام) يهدون إلى الحق وبه يعدلون - ثم قرأ - «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ»(1) إلى آخرها، وقال (صلی الله علیه و آله) - فيَّ نزلت وفيهم نزلت»(2).وعن علي (علیه السلام) قال: «أنا صراط الله المستقيم وعروته الوثقى»(3).
وعن النبي (صلی الله علیه و آله) - في قول الله عزوجل: «صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ»(4) الآية - قال: «شيعة علي الذين أنعمت عليهم بولاية علي بن أبي طالب (علیه السلام) لم يغضب عليهم ولم يضلوا»(5).
وعن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «أوحى الله إلى نبيه (صلی الله علیه و آله): «فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»(6)، قال: إنك على ولاية علي (علیه السلام) ، وعلي (علیه السلام) هو الصراط المستقيم»(7).
ص: 246
-------------------------------------------
مسألة: لا يجوز القول بأنه (صلی الله علیه و آله) لم يمت، كما قال بعض عند ارتحاله(1).
قال تعالى: «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ»(2).
وقال سبحانه: «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ»(3).
نعم، إنه لا فرق بين حياتهم وموتهم (علیهم السلام) كما ورد: «أشهد أنك حي شهيد ترزق عند ربك»(4).
«قبض رأفة» ربما يكون المراد منه: القبض لإرادة الرأفة به (صلی الله علیه و آله) في تلك الدار، وربما يكون المراد به قبضاً رؤوفياً، أي: قبضاً سهلاً مقترناً برأفته ولطفه تعالى، في قبال قبض أرواح العصاة والمردة وأشباههم حيث يقبضهم قبض غضب(5).
ص: 247
..............................
أو المراد قبضاً عن رأفة، أي: قبضاً ناشئاً من رأفته سبحانه به (صلی الله علیه و آله)، ويكون في قبال القبض برأفة أو عن رأفة: القبض بغضب أو عن غضب.
مسألة: ومن الواجب على الإنسان عقلاً وشرعاً أن يتجنب الابتلاء بذلك(1)، ولو تذكر الإنسان دوماً مدى شدة أهوال النزع لما حام حول المعاصي، ولكان دائم الحزن والهمّ، بل مبتعداً عما يحتمل أن يوجب سخط الخالق جل وعلا،قال علي (علیه السلام): «من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير»(2).
وقال (علیه السلام): «أكثروا ذكر الموت؛ فإنه ما أكثر ذكر الموت إنسان إلاّ زهد في الدنيا»(3).
«واختيار»: أي منه (صلی الله علیه و آله) كما في الروايات أنه (صلی الله علیه و آله) اختار لقاء الله سبحانه(4).
أو اختيار منه تعالى له (صلی الله علیه و آله)، أي: اصطفاء منه له.
أو اختيار من الله بين القبض وعدمه، لا أن أخذه كان من المحتوم عليه سبحانه وتعالى(5) وعلى هذا فهو كناية عن لطفه تعالى به (صلی الله علیه و آله).
ص: 248
..............................
«ورغبة»، أي: منه (صلی الله علیه و آله) أو من الله تعالى حيث رغب في لقاء حبيبه، والمراد برغبته تعالى الغاية، كما قالوا: (خذ الغايات واترك المبادئ).
«وإيثار»، أي: آثر (صلی الله علیه و آله) لقاءه، أو آثر الله سبحانه لقاءه (صلی الله علیه و آله).
مسألة: ومن المستحب أن يربي الإنسان المؤمن نفسه بحيث يكون راغباً في لقائه تعالى مؤثراً لقاءه، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الموت ريحانة المؤمن»(1).
ولا يتيسر ذلك إلاّ بإطاعته تعالى وتجنب معاصيه، وكذلك بتلقين النفس والتوسل بالرسول (صلی الله علیه و آله) وآل بيته الأطهار (علیهم السلام) كي يكون مستعداً للموت. قال (علیه السلام): «استعد لسفرك وحصّل زادك قبلحلول أجلك»(2).
وقيل لأمير المؤمنين(علیه السلام): ما الاستعداد للموت؟. قال: «أداء الفرائض، واجتناب المحارم، والاشتمال على المكارم، ثم لا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه»(3).
وإذا أوجد الإنسان في نفسه الرغبة في لقائه تعالى كان ذلك من أسباب احترازه الأكثر عن معاصيه سبحانه، وجديته الأكثر لإطاعته، وسعيه الأكثر لاكتساب مرضاته، ومزيد من القرب منه، فيحس عندئذ بلذة كبرى من مناجاته
ص: 249
..............................
وبفرحة عظمى عند امتثال أوامره، وقد ينال نوعاً من الاطمئنان بأنه تعالى سيقبضه قبض رأفة ورحمة بدرجة أو بأخرى. قال تعالى: «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»(1)، وقال سبحانه: «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِيجَنَّتِي»(2).
مسألة: كما أن من المستحب أيضاً تذكير الناس بمناقبه (صلی الله علیه و آله) هذه، وأن الله تعالى قبضه قبض رأفة واختيار، ورغبة وإيثار.
ولعل من علل إشارتها (علیها السلام) إلى كيفية قبضه تعالى كمدحه (صلی الله علیه و آله)، أن ذلك يشجع الناس على التأسي به (صلی الله علیه و آله) في أعماله ومناهجه.
إضافة إلى أن ذكر هذه المنقبة للرسول(صلی الله علیه و آله) يوجب التفاف الناس حوله أكثر فأكثر، فإن الإنسان إذا عرف - مثلاً - أن فلاناً مقرب إلى الملك الفلاني يلتف حوله أكثر كي يقضي حاجته عند الملك بأحسن وجه، فكيف بالرسول (صلی الله علیه و آله) الذي هو سفير «الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ»(3)، وقد قال سبحانه وتعالى: «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ»(4).وقد يستفاد أيضاً من كلامها (علیها السلام) استحباب الرأفة والرغبة والإيثار، فتأمل.
ص: 250
-------------------------------------------
مسألة: يستحب - وربما يجب - تحمل الأذى في سبيل الله جلت عظمته، تأسياً بالرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) .. وعدم الكلل والملل واليأس، وقد قال (صلی الله علیه و آله): «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت»(1).
وأي أذى أعظم وأشد وأشق من استهزاء المشركين به (صلی الله علیه و آله) وتكذيبهم له، ورميه بالسحر والجنون وما إلى ذلك.
إضافة إلى إيذائه (صلی الله علیه و آله) جسدياً برمي الحجارة والسلا(2) وماأشبه(3)، حتى أنه (صلی الله علیه و آله) كان يطوف فشتمه عقبة بن أبي معيط وألقى عمامته في عنقه وجره من المسجد! (4).
ص: 251
..............................
ولقد كانت أنواع الإزعاجات الإيذاءات في حد ذاتها وبما هي هي من أشد الإيذاءات وأشقها وأكثرها إيلاماً، فكيف لو قيست بالنسبة إليه (صلی الله علیه و آله) بما له من مكانة روحية ومعنوية وإلهية سامية جداً، حيث لا أكمل ولا أشرف منه إلاّ الله تعالى، فإنالفرد كلما كان أكثر كمالاً كان اتهامه بالتهم البذيئة أشق عليه وأقسى كما لا يخفى، ومع كل ذلك تحمل (صلی الله علیه و آله) وصبر، حتى «قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار... ».
وعلينا التأسي به (صلی الله علیه و آله) ففي الحديث الشريف: «أشد الناس بلاءً: الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل»(1).
وقد قال القرآن الحكيم: «يَا أَيُّهَا الإِنْسانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً»(2).
وقال (علیه السلام): «ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه»(3).
وفي الحديث: «أفضل الأعمال أحمزها»(4).
والمراد الأكثر صعوبة وأتعاباً؛ فإن كل ما كثر تعبه - بطبيعته - تكون نتائجه الدنيوية والأخروية أفضل وأكثر، حيث قرر سبحانه وتعالى تزايد المصاعب والمتاعب كماً وكيفاً كلما كانالهدف والمقصد أعلى مادياً أو معنوياً، فقد «حُفّت الجنة بالمكاره»(5).
ص: 252
..............................
قال الشاعر(1):
تريدين لقيان المعالي رخيصة *** ولابد دون الشهد من إبر النحل
و:
(الجود يفقر والإقدام قتال)(2).
ثم إنه لا منافاة بين «أفضل الأعمال أحمزها»(3) وبين «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ»(4) إذ:
الأول: يفيد تحديد المقياس في قيمة الأعمال، وأن العمل مهما كان أصعب تكون نتائجه أفضل.
والثاني: يفيد عدم عسر الدين وأن الله تعالى قد شرع الأيسر فالأيسر،كما قال (صلی الله علیه و آله): «بعثت بالحنفيةالسمحة»(5) فهما في موضوعين لا في موضوع واحد حتى يكون بينهما التنافي.
ومن هنا فإن المؤمن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والمجاهد في سبيل الله والحافظ لحدود الله، كلما ازدادت متاعبه ومصاعبه، وكلما تزايد الضغط عليه لينثني عن مسيرته، كلما زاده ذلك يقيناً واطمئناناً وعزماً وثباتاً، قال تعالى:
ص: 253
..............................
«الَّذِينَ قَالَ لهمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ»(1).
وفي الحديث الشريف: «المؤمن أشد من زبر الحديد، إن الحديد إذا دخل النار لان، وإن المؤمن لو قتل ونشر ثم قتل لم يتغير قلبه»(2).
وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «المؤمن أشد من الجبل، والجبل يستقل منه بالفأس والمؤمن لا يستقل علىدينه»(3).
وختاماً؛ فإن ما تحمله الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) من المصاعب كان مما تنوء بحمله الجبال الرواسي إلاّ أن ذلك كله قد انقضى وأصبح (صلی الله علیه و آله) «من تعب هذه الدار في راحة»، وفي هذا درس لنا وتعليم بأن نتحمل المشاق والأذى في سبيل الله، فإنها منقضية زائلة ستلحقها راحة دائمة.
قال (علیه السلام): «صبروا أياماً قليلة فأعقبتهم راحة طويلة»(4).
ص: 254
-------------------------------------------
رغم وجود ثلة كبيرة من المؤمنين الأخيار الأبرار مع النبي (صلی الله علیه و آله) الذين كانوا يناصرونه ويؤازرونه ويضحون في سبيله بالنفس والنفيس، بما قل أن يوجد نظيره طوال التاريخ البشري، إلاّ أنه (صلی الله علیه و آله) قد عانى كثيراً من مجاورة المنافقين ومن الانتهازيين والمصلحيين والمرجفين والمتخاذلين والجبناء وأشباههم حواليه.
كما تشهد بذلك آيات قرآنية عديدة..
وكما يذكر التاريخ:
كخيانة البعض في معركة أحُد(1).
وكترصد المنافقين به (صلی الله علیه و آله) الدوائر كما في العقبة(2).وكقضية الدواة والكتف(3) وغيرها، فإنها كانت تلحق به (صلی الله علیه و آله) أكبر الأذى وأشد الأضرار، فعوضه الله تعالى عن ذلك بأمور عديدة، منها:
ما أشارت إليه ابنته الزهراء (صلوات الله عليها) ها هنا: «قد حف بالملائكة
ص: 255
..............................
الأبرار»، فهم المحيطون به بعد مماته دون ما ينغصه(1).
ثم ترقت (علیها السلام) إلى تعويضآخر أسمى وأعلى: «ورضوان الرب الغفار» .. قال تعالى: «وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ»(2).
ثم ترقت (علیها السلام) إلى أمر آخر أسمى من ذلك: «ومجاورة الملك الجبار»، أي: رحمته الخاصة.
قولها (علیها السلام): «ورضوان الرب الغفار»، فالله راض عنه (صلی الله علیه و آله) فإن الإنسان إذا علم بأن الله سبحانه راض عنه كان في سرور وراحة نفسية لا يصل إليها الالتذاذ المادي الجسماني. وهذا مما يجده الإنسان من نفسه بوضوح، فمن يعيش في قصر بديع فيه مختلف أسباب الهناء المادي، لا يمكنه أن يلتذ بكل تلك النعم لو كان يعاني من مشكلة نفسية وبؤس روحي كما لو مات له عزيز، أو تعرض لتُهَم تحطّ من سمعته وكرامته، أو علم أن سيده ساخط عليه، بل قد تتحول حياته هذه إلى جحيم مهلك؛ فإن السعادة سعادة الروح أولاً ثم سعادة الجسم وكذلك الشقاء.
قولها (علیها السلام): «ومجاورة الملك الجبار»، أي: مجاورة كراماته فالمراد الجوار
ص: 256
..............................
المعنوي، كما قال تعالى: «فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ»(1)..
وإلاّ فليس الله سبحانه جسماً، ولا له قرب أو بعد مكاني أو زماني، كما قرر في علم الكلام.
ولعل الإتيان بلفظ «الجبار»؛ لأنه سبحانه يجبر ما ورد عليه من الكفار والمنافقين، وقد قال العباس (علیه السلام) في يوم عاشوراء: «وأبشري برحمة الجبار»(2).
واختيار صفة «الملك» متجانسة تماماً مع صفة «الجبار»، فالنبي (صلی الله علیه و آله) حظى بأعلى درجة من القرب من المالك الحقيقي المطلق الذي بمقدوره أن يجبر ما أصابه بشكل مطلق.
وأي شيء أعظم وأعلى وأسمى من الوصول إلى مقام «فَكَانَ قابَ قَوْسَيْنِ» منه تعالى « أَوْ أَدْنَى» (3) من ذلك، فهذه الغاية من أرفع الغايات بل هي الآية القصوى والمقصد الأسمى، وإذا كان الجار تناله خيرات جاره عادة، فكيفبجوار الله سبحانه؟.
ومنه يعلم رجحان أن يكون الإنسان بحيث لو مات يحف بالملائكة الأبرار ورضوان الرب الغفار ومجاورة الملك الجبار، كما يعلم رجحان مجاورة العظماء، وقد سبق الكلام في ذلك كله(4).
ص: 257
..............................
مسألة: كما سبق من استحباب ذكر كيفية قبضه تعالى لروحه (صلی الله علیه و آله)، يستحب ذكر منزلته (صلی الله علیه و آله) في الآخرة، وأنه (صلی الله علیه و آله) قد: «حُفّ بالملائكة الأبرار... » وغير ذلك، وكذلك ذكر منزلة الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) في الجنة، ويستحب أيضاً ذكر مكانة المؤمن فيها وما أعد الله له من النعيم المقيم.
فإن التذكير بذلك يوجب مزيداً من رغبة الناس من الإيمان بالله سبحانه واليوم الآخر والالتزام بأوامره جل وعلا، فيكون من المستحب، بل قد يجب إذا توقف إيمان الناس على مثل ذلك.
والآيات والروايات التي تتعرض لوصف نعيم أهل الجنة كثيرة(1).
..............................
وقال سبحانه : «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(1).
وفي الحديث أنه: قام رجل إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) وهو يخطب. فقال: يا أمير المؤمنين. صف لنا صفة المؤمن كأننا ننظر إليه؟. فقال(علیه السلام): «... يستر العيب، ويحفظ الغيب، ويقيل العثرة، ويغفر الزلة»(2).إضافة إلى ما للغفران من الأثر الوضعي على حياة الإنسان ومستقبله، ثم إنه يسبب محبوبية الإنسان مما يعينه على الوصول إلى أهدافه بشكل أيسر، إضافة إلى أنه يحافظ على سلامة جسمه وأعصابه كما هو ثابت في الطب وعلم النفس.
هذا ومن اللازم عدم الاغترار بغفاريته تعالى وعدم الاستناد إليها والاعتماد عليها في التجري(3) على المعاصي أو في تبرير ارتكابها، إذ هو تعالى: «شَدِيدُ الْعِقَابِ»(4) أيضاً.
بل الواجب أن يكون الإنسان بين الخوف والرجاء دائماً(5)، كما قال تعالى: «اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(6)، ولذا كانوا (علیهم السلام) يبكون من خشيته تعالى وترتعد فرائصهم خوفاً منه سبحانه(7).
ص: 259
-------------------------------------------
مسألة: يستحب الدعاء للأب، بل ولسائر الأقارب والأصدقاء والجيران والمؤمنين والمؤمنات، في حال الحياة وبعد الممات.
وقد روي عن مولاتنا فاطمة (صلوات الله عليها) أنها كانت تدعو للمؤمنين والمؤمنات ولا تدعو لنفسها، فقيل لها في ذلك، فقالت: «الجار ثم الدار»(1).
وفي الحديث:«إن دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب مستجاب، ويدرّ الرزق، ويدفع المكروه»(2).
وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «من دعا لأخيه المؤمن بظهر الغيب ناداه ملك من سماء الدنيا: يا عبد الله لك مائة ألف مثل ما سألت... »(3) الحديث.
وعن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «إن العبد ليكون بارّاً بوالديه فيحياتهما ثم يموتان فلا يقضي عنهما دَينهما ولا يستغفر لهما فيكتبه الله عزوجل عاقاً، وأنه ليكون عاقاً في حياتهما غير بارّ بهما فإذا ماتا قضى دَينهما واستغفر لهما فيكتبه الله عزوجل باراً»(4).
ص: 260
..............................
وهذا مما يكشف عن الترابط الوثيق بين العالمين، وليس هناك إلاّ حجاب يحول دون أن نرى ونسمع ما يجري هناك، ولو وصل الإنسان إلى بعض مراتب الكمال الروحي لرفع عنه الحجاب، ولهذا البحث تفصيل نتركه لمظانه.
قولها (علیها السلام): «صلى الله على أبي نبيه»، إنشاء بلفظ الإخبار وهو دعاء، وكونه بلفظ الماضي للدلالة على قطعية الوقوع(1) إذ الماضي وضع حتى يدل على الزمان المنصرم.
مسألة: يستحب الصلاة على النبي (صلی الله علیه و آله) بعد ذكر اسمه الشريف.
والظاهر أن استحباب الصلوات عند ذكر اسمه ليس خاصاً بكلمة محمد (صلی الله علیه و آله) كما هو المشهور بين الناس، بل كل اسم من أسمائه، أو لقبه، أو كنيته، كأحمد والمصطفى وأبي القاسم وغير ذلك؛ لإطلاق أدلته وشمولحكمته، بل إذا ذكر الضمير الراجع إليه (صلی الله علیه و آله) أيضاً كان الحكم كذلك.
فعنه (صلی الله علیه و آله): «البخيل حقاً من ذُكرتُ عنده فلم يصلّ عليَّ»(2).
وعنه (صلی الله علیه و آله): «من صلى عليَّ في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له مادام اسمي في ذلك الكتاب»(3).
ص: 261
..............................
وقال الإمام الرضا (علیه السلام): «من لم يقدر على ما يكفر به ذنوبه فليكثر من الصلاة على محمد وآله فإنها تهدم الذنوب هدماً»(1).
وعن أحدهما (علیهما السلام)، قال: «أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة الصلاة على محمد وعلى أهل بيته»(2).
وعن الصادق (علیه السلام): «ما من عمل أفضل يوم الجمعة من الصلاة علىمحمد وآله»(3).
وعن أبي الحسن العسكري (علیه السلام)، قال: «إنما اتخذ الله إبراهيم (علیه السلام) خليلاً لكثرة صلاته على محمد وأهل بيته»(4).
ص: 262
-------------------------------------------
مسألة: ينبغي إرشاد العباد إلى أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان أميناً وصفياً وخيرة الله من الخلق بقول مطلق، أي من جميع الأبعاد والحيثيات وفي كل الجهات، وأنه (صلی الله علیه و آله) كان المثل الأعلى في الأمانة، وأكمل من اصطفاهم الله، وخير خيرته على الإطلاق. ورغم أن ذكر بعض هذه الصفات(1) يغني عن ذكر الأخريات، إلاّ أن ذكر الجميع سبب لمزيد من التوضيح والتركيز، وذلك يوجب التفاف الناس حول الرسول (صلی الله علیه و آله) أكثر فأكثر.
ومنه يعرف استحباب مثل ذلك بالنسبة إلى سائر أولياء الله (علیهم السلام) بالملاك، وقد ورد في الزيارات: «سلام عليك يا أمين الله»(2)، و«السلام عليكيا أمين الله»(3).
مسألة: ربما يمكن الاستدلال ب «أمينه» و«خيرته من الخلق» الوارد في كلامها (علیها السلام) وفي أحاديث شريفة كثيرة، على عصمة الرسول (صلی الله علیه و آله).
ص: 263
..............................
لأن الأمين بقول مطلق هو المعصوم، وكذلك الخيرة من الخلق، نظراً للإطلاق الأحوالي والأزماني(1)، وللانصراف في مثل المورد للفرد الأكمل، ولايحسن من القادر الحكيم نصب غير الأمين من كل الجهات، وغير المعصوم من مختلف الحيثيات نبياً وحجة على العباد(2).إضافة إلى الأدلة العقلية الدالة على ذلك كقدرته على نصب الأمين المطلق، وفياضيته، والحاجة إلى ذلك وعدم وجود المحذور، وما أشبه(3).
..............................
فهو (صلی الله علیه و آله) الرابطوحلقة الوصل، وهو الوسيط الأمين بين الخالق والخلق، قال تعالى : «مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ»(1). وقال (علیه السلام): «أرسله (صلی الله علیه و آله) بالحق وائتمنه على الوحي»(2). وهذا (3) أكبر أقسام الأمانة؛ لأن السعادة البشرية في الدنيا والآخرة متوقفة عليه، بل أن عظمة الأمانة قد تكون لعظمة غايتها وفوائدها، وقد تكون لقيمتها الذاتية، وقد تكون لإضافتها وانتسابها للعظيم فاعلاً أو قابلاً، وهذه كلها مجتمعة في (الوحي) وهو الكتاب التشريعي الذي ائتمن الله رسوله (صلی الله علیه و آله) عليه كما لا يخفى.
قولها (علیها السلام): «وصفيّه» اصطفاه واختاره، فهو المصطفى فاعلاً أو قابلاً، كما ورد: «وأن محمداً عبده ورسوله، وأمينه وصفيه، وصفوته من خلقه، وسيد المرسلين، وخاتم النبيين، وأفضل العالمين»(4). وانتخاب الله تعالى له (صلی الله علیه و آله) دون سائرالخلق صفياً مع لحاظ علمه تعالى المطلق بكافة أبعاد النفس الإنسانية، وإحاطته بسلوكه العملي وشبه ذلك في كافة لحظات حياته (صلی الله علیه و آله) دليل على خلوصه (صلی الله علیه و آله) من كل نقص ونزاهته من كل عيب.
قولها (علیها السلام): «وخيرته من الخلق» اختاره ورضيه: ارتضاه. ولا يخفى أن مادتي (الاصطفاء والارتضاء) تدلان على أمرين، تقول: (صفي يصفو فهو صاف)، و(رضي يرضى فهو راض وذاك مرضي)، كما تقول: ذاك (مصطفى) وهذا (مرتضى).
ص: 265
-------------------------------------------
مسألة: يستحب طلب الرحمة والبركة من الله تعالى للرسول (صلی الله علیه و آله) سراً وجهاراً، في مختلف الحالات والأوقات، وكذلك السلام عليه (صلی الله علیه و آله)(1)؛ فإن الله سبحانه وتعالى وعد بالإجابة حيث قال سبحانه : «ادْعُونِيأَسْتَجِبْ لَكُمْ»(2)، ومن المعلوم أن الدعاء للرسول (صلی الله علیه و آله) مستجاب خصوصاً من مثل الزهراء (علیها السلام)، بل روي عن علي (علیه السلام): «كل دعاء محجوب عن السماء حتى يُصلّى على محمد وآل محمد»(3).
وذلك(4) يوجب الخير بالنسبة إلى الداعي في الدنيا والآخرة بنحو الأثر الوضعي، وهو أيضاً نوع من الإيحاء والتلقين فيزيد الإنسان تعلقاً بالرسول (صلی الله علیه و آله) وآله الأطهار (علیهم السلام) وبسائر الصلحاء ويشده إليهم.
إضافة إلى ما لهذه الدعوات من تركيز المفاهيم والمعاني الروحية في الإنسان بشكل أعمق، بالإضافة إلى ما أشير إليه من أنه تعالى سيتفضل به على الرسول (صلی الله علیه و آله) وآله (علیهم السلام) وأتباعه من الكرامة المتزايدة.
ص: 266
..............................
إذ من الثابت أن الله سبحانه وتعالىجعل لكل شيء سبباً، فكما قرر تعالى من أسباب رفعة درجات المؤمنين وفي طليعتهم الرسل والأوصياء (علیهم السلام) تحمل الأذى في سبيله والصبر والاستقامة وما أشبه، كذلك لا يبعد أن يقرر سبحانه من أسباب رفعة الدرجات وزيادة المثوبة والبركة، دعوات الناس لهم (عليهم الصلاة والسلام).
و(البركة) معناها: الثبات والاستمرار(1).
قال تعالى: «تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً»(2). أي: ثابت ودائم.
ولا ثابت بالقول المطلق إلا الله سبحانه وتعالى؛ فإن كل شيء سواه ممكن وفي حال التغير والتبدل ولو ذاتاً - بناء على الحركة الجوهرية - أو في كافة أعراضه، بخلافه سبحانه حيث إن البركة الحقيقية فيه.
وما يقال: من أن في النعمةالفلانية بركة أو ما أشبه ذلك، يراد به الدوام النسبي والثبات بالقياس إلى الغير، على أن بركته عرضية مكتسبة أي أنها بالغير لا بالذات(3).
وفي الدعاء: «وارزقني السلامة والعافية، والبركة في جميع ما رزقتني»(4).
ص: 267
..............................
و: «اللهم اجعلني من أهل الجنة التي حشوها البركة»(1).
و«السلام عليه»: دعاء له (صلی الله علیه و آله) بالسلامة في الآخرة، فإن السلامة حقيقة مشكّكة ذات مراتب ودرجات(2)، هذا بالإضافة إلى أن هذه اللفظة تستخدم للتحية والإكرام أيضاً.
ولعل الفرق بالإفراد في (الرحمة) والجمع في (البركات) في كلامها (علیها السلام) كما في القرآن الكريم: «رَحْمَتُاللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ»(3) بلحاظ اعتباره، حيث لوحظ في (الرحمة) الغامرية، قال تعالى: «رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ»(4)، فهي تغمر الإنسان فلا تعدد فيها، بخلاف (البركات) التي لوحظ فيها الانتساب للقابل، فبركة في العمر وبركة في المال وبركة في الرزق وما أشبه، وفي الآخرة أيضاً بركات واستمرارات لمختلف الشؤون والأبعاد بنحو اللا متناهي اللايقفي نظراً للخلود.
وبعبارة أخرى هناك نسبة للخالق ونسبة للمخلوق، فعندما تلاحظ النسبة للخالق فلا تعدد، وعندما تلاحظ النسبة للمخلوق يتعدد(5).
لا يقال: هو (صلی الله علیه و آله) في السلامة، سواء طلب أو لم يطلب، فهذا طلب للحاصل؟.
ص: 268
..............................
لأنه يقال: للسلامة درجات ومراتب،وكونه (صلی الله علیه و آله) في مرتبة منها لا ينافي طلب أن يكون في مرتبة أرفع.
هذا بالإضافة إلى إمكان أن يكون المراد الاستمرار بامتداد الزمن، فإن السلامة تتجدد وتوجد آناً فآناً، كما قال (عليه الصلاة والسلام) في «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ»(1): «أدم لنا توفيقك الذي به أطعناك في ماضي أيامنا حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا»(2)؛ لأن الهداية في كل لحظة، فالهداية في اللحظة السابقة لا تنافي عدم الهداية في اللحظة الثانية وهكذا، فتأمل.
وفي الحديث عن علي (علیه السلام): «الصلاة على النبي (صلی الله علیه و آله) أمحق للخطايا من الماء للنار، والسلام على النبي (صلی الله علیه و آله) أفضل من عتق الرقاب»(3).
مسألة: يستحب السلام على الأموات، سواء عند زيارة الإنسان للمقابر، أم في سائر الأوقات، وذلك يستلزم تذكير الإنسان بالعالم الآخر، وإزالة الحجب الفكرية والنفسية والشهوانية التي تحول دون أن يستعد الإنسان لهذا السفر الأبدي.
ص: 269
..............................
قال علي (علیه السلام) عندما أشرف على المقابر: «يا أهل التربة ويا أهل الغربة، أما الدور فقد سُكنت، وأما الأزواج فقد نُكحت، وأما الأموال فقد قُسّمت، فهذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم - ثم التفت (علیه السلام) إلى أصحابه فقال: - لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم: أن خير الزاد التقوى»(1).
وفي وصية لقمان لابنه: «يا بني... احضر الجنائز، وزُر المقابر، وتذكر الموت وما بعده من الأهوال فتأخذ حذرك»(2).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «زوروا موتاكم، وصلّوا عليهم، وسلمواعليهم فإن لكم فيها عبرة»(3).
فالسلام على الأموات يعد من أسباب هداية الإنسان، إضافة إلى ما ينتجه من اللطف الإلهي بالمرسل لهم السلام، وهو كاشف أيضاً عن شدة الترابط بين العالمَين كما سبق. ولذا نجد في أنواع السلام المقررة في الشريعة للأموات تذكيراً بالمبدأ والمعاد وما أشبه، كما ورد: «بسم الله الرحمن الرحيم، السلام على أهل لا إله إلا الله، مِن أهل لا إله إلا الله، يا أهل لا اله إلا الله، بحق لا إله إلا الله، كيف وجدتم قول لا إله إلا الله، مِن لا إله إلا الله، يا لا إله إلا الله، بحق لا إله إلا الله، اغفر لمن قال: لا إله إلا الله، واحشرنا في زمرة من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله علي ولي الله»(4).
ص: 270
..............................
وعن أبي عبد الله (علیه السلام): «إذا بعدت عليك الشقة ونأت بك الدار فلتعل على أعلى منزلك، ولتصل ركعتين فلتؤم بالسلام إلى قبورنا؛ فإن ذلك يصل إلينا»(1).وعنه (علیه السلام): «إذا نظرت إلى المقابر فقل: السلام عليكم يا أهل المقابر من المؤمنين والمؤمنات، أنتم السلف نحن لكم تبع، ونحن على آثاركم واردون، نسأل الله الصلاة على محمد وآله محمد والمغفرة لنا ولكم»(2).
مسألة: يستحب ذكر محاسن الميت، قال علي (علیه السلام): «اذكروا محاسن موتاكم»(3)، وفي حديث آخر: «لا تقولوا في موتاكم إلاّ خيراً»(4).
مسألة: يستحب الترحم على الأموات والدعاء لهم، ففي الحديث:
«الموتى يأتون في كل جمعة من شهر رمضان، فيقفون وينادي كل واحد منهم بصوت حزين باكياً: يا أهلاه، ويا ولداه، ويا قرابتاه، اعطفوا علينا بشيء يرحمكم الله، واذكرونا ولا تنسونابالدعاء، وارحموا علينا وعلى غربتنا؛ فإنا
ص: 271
..............................
قد بقينا في سجن ضيق، وغم طويل وشدة، فارحمونا ولا تبخلوا بالدعاء والصدقة لنا، لعل الله يرحمنا قبل أن تكونوا مثلنا. فوا حسرتاه قد كنا قادرين مثل ما أنتم قادرون، فيا عباد الله اسمعوا كلامنا ولا تنسونا؛ فإنكم ستعلمون غداً، فإن الفضول التي بأيديكم كانت بأيدينا، فكنا لا ننفق في طاعة الله، ومنعنا عن الحق فصار وبالاً علينا ومنفعة لغيرنا، اعطفوا علينا بدرهم أو رغيف أو بكسرة، ثم ينادون: ما أسرع ما تبكون على أنفسكم ولا ينفعكم كما نحن نبكي ولا ينفعنا، فاجتهدوا قبل أن تكونوا مثلنا»(1).
وفي بعض الأحاديث: «إن أرواح المؤمنين تأتي كل جمعة وينادي كل واحد منهم مثل هذا النداء»(2).
وعنه (صلی الله علیه و آله): «إن الرجل ليموت والداه وهو عاق لهما، فيدعو الله لهما من بعدهما فيكتبه الله منالبارين»(3).
وقال (صلی الله علیه و آله): «اهدوا لموتاكم». فقيل: وما هدية الأموات؟. قال: «الصدقة والدعاء»(4).
وقال (صلی الله علیه و آله): «ألا من أعطف لميت بصدقة فله عند الله من الأجر مثل أحُد، ويكون يوم القيامة في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظل العرش»(5).
ص: 272
-------------------------------------------
مسألة: الظاهر أن المراد بالالتفات هنا التوجه لا النظر، خاصة بلحاظ ما سبق: «فنيطت دونها ملاءة»، وإن كان النظر جائزاً بشروط مذكورة في كتاب النكاح.
فإن الإنسان قد يخطب بلا توجه إلىجهة خاصة، وقد يخطب مع التوجه إليها، مع نظر ورؤية أم بدونها.
وكأنها (علیها السلام) كانت تتكلم بكلماتها السابقة وهي غير ملتفتة إلى جهة خاصة، نظراً لعدم المقتضي لذلك، باعتبار كون البداية حمداً لله تعالى وشكراً له وشهادة لله بالوحدانية ولمحمد (صلی الله علیه و آله) بالنبوة... فلما أرادت أن توجه الخطاب إليهم التفتت إلى جانبهم، فإن الالتفات يوجب توجه الصوت أكثر فأكثر، وإن كان بينها وبينهم ستر.
إضافة إلى أن في الالتفات بعد عدمه مزيداً من الالفات كما لا يخفى(1).
ص: 273
-------------------------------------------
مسألة: يستحب تنبيه الناس - دائماً - على أنهم عباد الله تعالى وذلك بأساليب شتى، منها الخطاب بتضمينه في مطلعه ونهايته، بل تحويل ذلك أو ما بمعناه، إلى مرتكز كلامي يكرر في رأس كل مقطع منه حسب مقتضى الحال(1).
وقولها (علیها السلام): «عباد الله» تذكير لهم بأنهم عبيد، ولابد أن يطيعوا أمر المولى، وإلاّ كانوا معرضين للعقاب؛ فإن التنبيه على ذلك يوجب الإيحاء النفسي للطرف على وجوب طاعته تعالى، وقد ورد في القرآن:
قوله تعالى: «عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ»(2).وقوله سبحانه: «إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ»(3).
وقوله عزوجل: «قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاَةَ»(4).
وقوله تعالى: «وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»(5).
ص: 274
..............................
وقوله سبحانه: «ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ»(1).
وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ»(2).
وقوله سبحانه:«لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً»(3).
ونقرأ في كل يوم في الصلوات المفروضة والمستحبة: «أشهد أن محمداً عبده ورسوله»، و«السلام علينا وعلىعباد الله الصالحين»، كما نقرأ في الركعتين الأوليين: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ»(4) إلى غير ذلك.
وقد ورد كثيراً في الروايات: «اعلموا عباد الله»(5)، و«ابشروا عباد
الله»(6)، و«أوصيكم عباد الله»(7)، و«يا عباد الله»(8)، وما أشبه.
قال (صلی الله علیه و آله) في خطبته في حجة الوداع: «أوصيكم عباد الله بتقوى الله»(9).
وقال (صلی الله علیه و آله): «أحب عباد الله إلى الله أنفعهم لعباده»(10).
ص: 275
..............................
وإذا كان على العبد - عرفاً - أنيطيع المولى المجازي، فبالضرورة يجب على العبد - عقلاً - أن يطيع المولى الحقيقي، إذ الإنسان عبد خاضع(1) ومملوك من جميع الجهات، في ذاته وأعراضه وحدوثه وبقائه و... لله تعالى.
مسألة: ينبغي تذكير الناس بوظائفهم ومسؤولياتهم والأدوار الملقاة على عواتقهم، وما يتوقع منهم في حياتهم الفردية والعائلية والاجتماعية..
وأنهم من هم؟. و لِمَ هم؟ (2). وكيف كانوا؟. وإلى مَ صاروا؟. وما الذي سيكونون عليه؟ (3). والعلل الباعثة على ذاك التحول وهذا التغير؟. ومواصفات القيادة وما صنعته لهم وما أرادته منهم؟. والفلسفة في قراراتوآراء وأحكام القائد(4) والصفات الإيجابية والسلبية، وآثارها الدنيوية والأخروية؟ وهكذا.
وكل ذلك نجده بأروع تعبير وأدق مضمون، متجلياً في خطبتها (صلوات الله عليها) من أولها إلى آخرها. قال تعالى: «فَلْيَنْظُرِ الإِْنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ»(5).
ص: 276
-------------------------------------------
مسألة: انتقلت (سلام الله عليها) من الحديث عن المرسل وغايته من الخلقة ومن البعثة، وعن الرسول (صلی الله علیه و آله) وما حققه من الأهداف، إلى الحديث عن المرسَل إليهم.
ويستفاد من كلمة «نصب أمره ونهيه» أن الهدف الأساسي المتوخى من العباد هو قيامهم بامتثال الأوامر والنواهي الإلهية، قال سبحانه: «فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا»(1)، فالمخاطبون من قبل الله تعالى بواسطة الأنبياء (علیهم السلام) يتحملون هذا الأمر العظيم، وقال سبحانه: «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها»(2).
هذا، وتفصيل بحث الخطاب ومن إليه الخطاب في علم الأصول، قال تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ»(3).قولها (علیها السلام): «نصب أمره ونهيه»، أي المنصوبون والمقامون(4) لتنفيذ أوامره ونواهيه، إلماعاً إلى لزوم أن يطيعوه تعالى في أمر الخلافة وغيرها، وإلاّ كانوا معرّضين لانتقامه وسخطه، كما أشارت إلى ذلك بعد كلام لها (علیها السلام).
ص: 277
-------------------------------------------
مسألة: يجب حمل وإعلاء راية الدين والوحي، فإن دينه تعالى اُنزل عليهم، قال سبحانه: «إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً»(1).
ومصداق الأمانة الأتم زمن ختم النبوة هو: رسالته (صلی الله علیه و آله) والتكليف بالأوامر والنواهي وولاية علي (علیه السلام)، كما في التفاسير(2).
ص: 278
..............................
وقال تعالى: «عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ»(1).و(الدين) قد يكون أعم من الوحي، كما يكون الوحي كذلك، وقد تتغير النسبة بتغير الإعتبارات المختلفة، فالدين يشمل سيرته الطاهرة (صلی الله علیه و آله) والأحكام التكليفية(2) والأحكام الوضعية، وغيرها(3).
قال تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً»(4).
وفي الحديث عن أبي جعفر (علیه السلام) في تفسير قوله تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً» قال: «الولاية»(5). وفي الرضوي (علیه السلام)، عن آبائه (علیهم السلام) في تفسير الآية: «هو لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي أميرالمؤمنين»(6).
و(الوحي): أعم من القرآن، فيشمل الأحاديث القدسية وغيرها أيضاً، قال الشيخ المفيد (قدس سره)(7):
ص: 279
..............................
(أصل الوحي هو الكلام الخفي، ثم قد يطلق على كل شيء قصد به إلى إفهام المخاطب على الستر له عن غيره، والتخصيص له بدون من سواه، وإذا أضيف إلى الله تعالى كان فيما يخص به الرسل - صلى الله عليهم أجمعين - خاصة دون من سواهم)(1).
هذا والكلام في الوحي وكيفيته وأقسامه وأنه هل يختص بالنبي (علیه السلام) أو لا، مفصل مذكور في علم الكلام.
ثم إنه ينبغي بيان ذلك للناس، أي أنهم حملة الدين والوحي، قال (صلی الله علیه و آله): «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»(2).
ص: 280
..............................
وفي الحديث عن أبي عبد الله (علیه السلام) - في خلق العالم - قال: «فقال الله لهم: من ربكم؟. فكان أول من نطق رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) والأئمة (علیهم السلام)، فقالوا: أنت ربنا. فحملهم العلم والدين - ثم قال للملائكة - هؤلاء حملة علمي وديني وأمنائي في خلقي وهم المسؤولون»(1).
كما أنه يلزم الاهتمام بالقرآن؛ فإن حمله(2) واجب كفائي، كما ألمعنا إليه في كتاب (الفقه: حول القرآن الحكيم)(3)، وسيأتي البحث عن ذلك إن شاء الله تعالى.
قال (صلی الله علیه و آله): «أشراف أمتي حملة القرآن»(4).
وقال (صلی الله علیه و آله): «حملةالقرآن عرفاء أهل الجنة»(5).
ص: 281
-------------------------------------------
مسألة: تجب وقاية النفس والحفاظ عليها من الأخطار والأقذار، الدنيوية والأخروية، كما قالت (علیها السلام): «وأمناء الله على أنفسكم»، أي أن الله جعل أنفسكم أمانة عندكم، فيشمله قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ لأَِماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ»(1)، فهم أمناء وهم الأمانة باعتبارين كالطبيب يطبب نفسه.
قال تعالى: «قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً»(2).
وقال سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ»(3).
وفي الحديث عنه (صلی الله علیه و آله): «أوصيك بنفسك ومالك خيراً»(4).
والمراد: إن الواجب عليكم أن لا تخونوا في الأمانة بمخالفة أوامر الله سبحانه، فإن الخيانة مع النفس أيضاًخيانة، وهي داخلة في عمومات الأدلة، بل الخيانة مع النفس من أشد الخيانات، وهي تؤدي إلى الخسارة الكبرى الأبدية له، ولأهله في كثير من الأحيان(5)، قال تعالى: «قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(6).
ص: 282
..............................
أما حفظ أمانة الغير وأداؤها إليه فهي واجبة شرعاً كما قرر في محله(1)، قال سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلى أَهْلِها»(2).
وقال (علیه السلام): «عليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البر والفاجر»(3).
وقال (علیه السلام): «أصل الدينأداء الأمانة والوفاء بالعهود»(4).
مسألة: ويمكن - في الجملة - استنباط مسائل عديدة أخرى من قولها (علیها السلام)، ك 1: وجوب حفظ النفس.
2: وحرمة الانتحار.
3: وحرمة الإضرار البالغ بالجسم أو الروح كإذهاب قوة أو قطع عضو أو ما أشبه، مما فصلناه في مبحث (لا ضرر).
قال تعالى: «وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ»(5).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»(6).
فإذا كانت النفس أمانة إلهية بيد الإنسان فلا يجوز له أي إفراط وتفريط فيها، كما لا يجوز أي تصرف فيها إلاّ بإذنه تعالى ولو بشكل عام، فدقق.
ص: 283
-------------------------------------------
مسألة: يجب تبليغ رسالات الله إلى الناس، وهو أكبر مسؤولية تحمل أعباءها الأنبياء والرسل (علیهم السلام).
قال تعالى: «أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي»(1).
وقال سبحانه: «وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ»(2).
وقال تعالى: «الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ»(3).
وهو واجب كفاية على كل مكلف قادر على إرشاد الجاهل وتنبيه الغافل وبيان مسؤوليات الناس لهم، في الجملة(4).
قال سبحانه بالنسبة إلى نبيه (صلی الله علیه و آله): «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَاأُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ»(5)، وهو (صلی الله علیه و آله) أسوة فيجب إتباعه.
ص: 284
..............................
وفي الصحيفة السجادية، قال(علیه السلام) في وصفه (صلی الله علیه و آله): «وأدأب نفسه في تبليغ رسالتك، وأتعبها بالدعاء إلى ملتك، وشغلها بالنصح لأهل دعوتك»(1).
هذا بالإضافة إلى ما دل على وجوب تبليغ الدين أصوله وفروعه، فقد سبق أن: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»(2)، كما قاله الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله). نعم تختلف الرعية، فالحاكم مثلاً رعيته كل الشعب، بينما الرجل رعيته عائلته.
وإذا اجتمعت شرائط التبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أكثر ممن هو في دائرته فهو مكلف بذلك أيضاً، وفي القرآن الحكيم: «وَتَوَاصَوْابِالْحَقِّ
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ»(3).
وقال تعالى: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ»(4).
وقال جل وعلا: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(5).
ص: 285
..............................
ويحتمل كون من في الآية نشوية(1) لا بمعنى البعض، وإن قال به جمع(2)، بقرينة قوله سبحانه فيآخرها: «وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» الظاهر في أن غيرهم لا يكون مفلحاً، فتأمل.
ولقد كان من أسرار الانتشار السريع الهائل للإسلام هو أن عامة المسلمين(3) اضطلعوا بمهمة تبليغ الإسلام في أقصى البلاد، وتحملوا في ذلك شتى الصعاب حتى اجتنوا أفضل الثمار.
عكس ما عليه الآن الكثير من المسلمين، حيث يتوهمون أن مهمة التبليغ هي مسؤولية فئة خاصة فحسب.
قولها (علیها السلام): «وبلغاؤه»، أي: أنتم مبلغون أحكام الله إلى سائر الأمم؛ لأنهم تحملوا الدين وعاصروا الرسول (صلی الله علیه و آله) وعرفوا سنته وقد أمرهم الله بذلك، قال تعالى: «فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(4).
ص: 286
..............................
وفي كلامها (علیها السلام) هذا إشارة إلى أنكم إذا انحرفتم وأقررتم غصب الخلافة ستحملون وزر الانحرافالذاتي، ووزر إضاعة أمانة الله التي كلفكم بإبلاغها إلى سائر الأمم، قال سبحانه: «لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ»(1).
قولها (علیها السلام): «الأمم»، فإن كل جماعة لها لون خاص من قومية أو لغة أو لون أو ما أشبه ذلك تعد أمة من الأمم، وإن كان البشر مجموعاً أمة واحدة في قبال الملك والجن وأقسام الحيوانات، قال سبحانه: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ»(2).
وقال تعالى: «وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً»(3).
وهل يشمل وجوب البلاغ الأمم المتعقلة غير البشر - لدى الإمكان - سواء من الجن لأنهم مكلفون أيضاً، أو من الأمم الأخرى الساكنة في سائر الكرات والعوالم؟. احتمالان.
ففي الحديث عن الرضا (علیه السلام)، قال: «ولله عزوجل وراء ذلك سبعون ألف عالم أكثر من عدد الجنوالإنس»(4)، الحديث.
وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «... لعلّك ترى أن الله عزوجل إنما خلق هذا العالم الواحد، أو ترى أن الله عزوجل لم يخلق بشراً غيركم، بلى والله لقد خلق
ص: 287
..............................
الله تبارك وتعالى ألف ألف عالم وألف ألف آدم... »(1) الحديث.
وعنه (علیه السلام): «هل أدلك على رجل قد مر منذ دخلت علينا في أربعة آلاف عالم؟»(2)، وفي بعض الروايات: «أربعة عشر ألف عالم»(3).
مسألة: يجب بلاغ الأجيال القادمة أيضاً، للإطلاق الأزماني في قولها (علیها السلام): «الأمم»، وشمول سائر الأدلة له عموماً، أو إطلاقاً، أو ملاكاً. فمن كانبمقدوره هداية الأجيال القادمة(4) وجب عليه ذلك وجوباً كفائياً.
فعن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «أيما عبد من عباد الله سن سنة هدى كان له أجر مثل أجر من عمل بذلك من غير أن ينقص من أجرهم شيء»(5).
كما يجب بلاغ الأمم المعاصرة من غير المسلمين ومن المخالفين، ولذا أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) إلى ملوك العجم والروم، كما أرسل إلى مختلف العشائر والقبائل(6).
ص: 288
..............................
فإنه (صلی الله علیه و آله) أرسل في السنة السادسة حاطب بن بلتعة إلى المقوقس، ودحية بن خليقة الكلبي إلى قيصر، وعبد الله بن حذافة إلى كسرى،وعمرو بن أمية الضميري إلى النجاشي، وشجاع بن وهب إلى الحارث الغساني، وسليط بن عمرو العامري إلى هودة بن النخعي(1).
كما تجب معرفة طرق وأساليب أعداء الإسلام في صدهم عن انتشار الدعوة؛ فإن معرفة الداء نصف الدواء، وعليه يتوقف التبليغ والبلاغ في الجملة، قال تعالى: «وَأَعِدُّوا لهمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ»(2).
وكذلك تجب - في الجملة - معرفة لغات وعادات وتقاليد وخصوصيات الأمم الأخرى، بالقدر الذي يتوقف عليه التبليغ، فإن الحديث بلسان كل قوم يتوقف على ذلك إجمالاً، قال تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ»(3).
ولذا ترى أنهم (علیهم السلام) يعلمون جميع الألسن واللغات ويتكلمون بها، كما ورد عن علي أمير المؤمنين (علیه السلام)، والإمام الصادق (علیه السلام)، والإمام الكاظم (علیه السلام)، والإمام الرضا (علیه السلام)،وغيرهم(4).
ص: 289
القرآن هو الزعيم(2)
مسألة: يجب جعل القرآن زعيماً في كافة شؤون الحياة، وزعيم القوم: رئيسهم وسيّدهم والمتآمر عليهم(3).
فإن النجاة بالعمل بالقرآن الحكيم، والاهتداء بهديه والامتثال لتعاليمه، وإلاّ فمن يقرأ القرآن ويعلم تفسيره وتجويده وما أشبه ذلك ثم لايعمل به لاينفعه القرآن، بل يكون القرآن عليه حجة ووبالاً.
قال سبحانه: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ له مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (علیهم السلام) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (علیهم السلام) قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى»(4).
ص: 290
..............................
وقال (صلی الله علیه و آله): «رب تالٍ القرآن والقرآن يلعنه»(1).
وقال (صلی الله علیه و آله): «القرآن غنى لا غنى دونه ولا فقر بعده»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله): «إن هذا القرآن حبل الله، وهو النور البيّن، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه»(3).
وقال علي (علیه السلام): «سلوا الله الإيمان، واعملوا بموجب القرآن»(4).وقال (علیه السلام): «ليس لأحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن غنى»(5).
وقال (علیه السلام): «يأتي على الناس زمان لا يبقى من القرآن إلاّ رسمه، ولا من الإسلام إلاّ اسمه»(6).
بل إن من يعرف تفسير القرآن ولا يعمل به أكثر أو أشد عذاباً من الجاهل به، إذا كان جاهلاً مقصراً، أما الجاهل القاصر فلا عذاب عليه وإنما يجري امتحانه في يوم القيامة كما يستفاد من الروايات.
ص: 291
..............................
مسألة: يجب أن يكون الزعيم زعيم حق لا باطل، كما ينبغي أن يكون الزعيم في الناس لا خارجاً عنهم، كما قالت (علیها السلام): «فيكم».
وقولها (صلوات الله عليها): «زعيم حق»؛ لأن القرآن حق فهو زعيم بالحق، والزعيم بمعنى القائد(1).
وفي الحديث: «المؤمن زعيم أهل بيته»(2).
وقد يأتي بمعنى الكفيل(3)، قال تعالى: «وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ»(4).
وقال سبحانه: «سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ»(5).وقال (صلی الله علیه و آله): «أنا زعيم ببيت في الجنة... »، الحديث(6).
وله معان أخرى مذكورة في كتب اللغة(7).
ص: 292
..............................
«فيكم»، أي: القرآن في متناول أيديكم، وليس بعيداً بحيث لا يمكن الاسترشاد به، وقد نص على الخلافة في آيات عديدة (1)..
وعلى قصة فدك في سورة الحشر(2)..
وسورة الإسراء(3)..
وسورة الروم(4).و«له»: أي لله سبحانه.
ص: 293
-------------------------------------------
مسألة: يجب الاعتقاد بأن القرآن الحكيم من الله تعالى وأنه عهده، قال تعالى: «تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ»(1).
وقال سبحانه: «تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ»(2).
كما يلزم التأكيد على ذلك؛ فإن جماعة من الكفار - منذ ذلك اليوم وإلى اليوم - يقولون: إن القرآن من صنع رسول الله (صلی الله علیه و آله)، بل «قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَْوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً»(3).
وفي آية أخرى: «إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّمُبِينٌ»(4).
والعهد: هو الأمر المؤكد الذي يلقى في عهدة الإنسان؛ فإن هناك فرقاً بين العهد والوعد، فالعهد هو ما يكون القلب مؤكداً عليه كل تأكيد، أما الوعد فليس كذلك(5).
ص: 294
..............................
وكذلك هناك فرق بين العقد والعهد(1)، ولذا يقال: (المعاهدات الدولية) دون (المعاقدات الدولية)، ويقال: (عقد البيع) دون (عهد البيع).قال سبحانه: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(2) ولم يقل: (أوفوا بالعهود)(3) وإن فسّره بعض المفسرين بذلك(4).
قولها (علیها السلام): «وعهد»؛ لأن الله عهد إليهم بالقرآن، قال تعالى: «لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ»(5) أي: فكيف لا تبينونه؟.
مسألة: يجب الاعتقاد بكون القرآن لم يزد فيه ولم ينقص منه شيئاً، ولم ينله يد التحريف إطلاقاً، وربما يستفاد ذلك من قولها (علیها السلام): «عهد قدمه إليكم
ص: 295
..............................
وبقية... »، وإلاّ لم يكن (عهداً قدمه إلينا)، و(لا بقية استخلفه علينا).وقد صرّح بعدم تحريف القرآن كبار علماء الشيعة(1).
ص: 296
ص: 297
ص: 298
ص: 299
-------------------------------------------
مسألة: يجب أن يكون منهج التعامل مع القرآن الحكيم بحيث يعكس على جوانح الإنسان وجوارحه خلافته لله تعالى في الأرض.
كما يجب حفظ القرآن وتعظيمه واحترامه والاهتمام به(1).
إذ قولها: «استخلفها عليكم»، أي: اتخذها خليفة لنفسه.
وكما يجب تعظيم الله سبحانه وتوقيره، كذلك يجب تعظيم خليفته - وهو القرآن - وتوقيره والالتزام بأوامره ومناهجه.
ص: 300
..............................
ولا يخفى أن اتخاذ الخليفة لا ينحصر بحالة غياب المستخلف بل يكون مع وجوده أيضاً، كما في قوله تعالى: «إِنِّيجَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً»(1) فتأمل.
وقالت (صلوات الله عليها): «وبقية»... وفي القرآن الحكيم: «بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ»(2)؛ لأن القرآن الباقي من آثار الله، فقد وقع التحريف في سائر كتب الله(3). قال تعالى: «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ»(4).
وقد جعل الله سبحانه القرآن خليفته على الناس(5)، قال تعالى: «مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ»(6) كما جعل أهل البيت (علیهم السلام) خليفة عليهم.
وفي بعض النسخ: «وبقية استخلفنا عليكم»، فيكون المراد بالبقية: أهل البيت (عليهم أفضل الصلاة والسلام).ولعل باب الاستفعال من جهة دلالته على الطلب فالأمر مطلوب، فكأنه قال: (خلافة نشأت عن الطلب الإرادي)، أو (بقية مطلوب إقرار خلافتها)، وقد يأتي باب الاستفعال بمعنى الفعل المجرد(7).
ص: 301
-------------------------------------------
مسألة: يستحب أن يشفع التلفظ ب (القرآن) وكذا كتابته بوصف من أوصافه، كما قالت (علیها السلام): «كتاب الله الناطق والقرآن الصادق... ».
قال تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ»(1).
وقال سبحانه : «طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ»(2).
وقال تعالى: «ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ»(3).
وقال سبحانه: «تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِالْحَكِيمِ»(4).
وقال تعالى: «تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ»(5).
فإن ذكر الأوصاف الحسنة يوجب التحبيب والتوجيه نحو الشيء، كما أن ذكر الأوصاف السيئة بعكس ذلك يوجب التنفير عن الشيء.
ومن الواضح أن ذكر الأوصاف الإيجابية للشخص أو الشيء يوجب الالتفاف حوله أكثر فأكثر، وذكر السلبيات يستلزم انفضاض الناس وابتعادهم عنه.
واعتبار كون القرآن ناطقاً بلحاظ كونه في مقابل الكتاب التكويني لله
ص: 302
..............................
سبحانه وتعالى، وهو ليس بهذه المنزلة؛ فإن القرآن كتاب الله التشريعي والكون كتاب الله التكويني، ولذا قال سبحانه وتعالى: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ»(1) على تقدير إرادة الكتابالتكويني - كما ذهب إليه البعض - فإنه احتوى على كل شيء له قابلية الوجود، فإن الله سبحانه وتعالى يمنح الوجود لمن تقضي الحكمة بوجوده أو يكون الأفضل وجوده(2) وإن كان يحتمل إرادة القرآن الكريم(3). فلذا لا منافاة بين أن يكون الكتاب ناطقاً وأن يكون صامتاً من جهتين، فقول أمير المؤمنين علي (علیه السلام): «أنا كتاب الله الناطق» في واقعة صفين حينما أمر معاوية برفع المصاحف على الرماح(4) إنما هو في مقابل القرآنالصامت الذي لا ينطق ولا يتكلم حسب المعنى المعهود المتعارف. هذا ومن المعلوم أن نطق كل شيء بحسبه؛ لأن النطق يفيد معنى البيان(5).
ص: 303
-------------------------------------------
مسألة: يجب الاعتقاد بأن القرآن صدق صادق مصدّق، حدوثاً وبقاءً(1)؛ فإن القرآن صادق في أحكامه وقصصه وفي كل ما ذكره تفصيلاً أو إجمالاً، وليس بالكذب ولا بالهزل حتى في كلمة من كلماته. قال تعالى: «وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ»(2).وقال سبحانه: «وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ»(3).
ويمكن الاستشهاد بهذه الجملة من خطبتها (علیها السلام) أيضاً على عدم تحريف القرآن، خاصة مع لحاظ ما سبق من كونه زعيم الحق فيكم، وكونه عهداً إليكم ومستخلفاً عليكم، ومع لحاظ (أل) العهدية في (القرآن) كما نعتقده.
فإن القرآن الذي بين أيدينا هو القرآن الذي أُنزل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) بلا زيادة حرف أو كلمة ولا نقيصة، بل ولا زيادة فتحة أو كسرة أو نقطة أو غيرها، كما أشرنا إلى ذلك في كتاب (الفقه: حول القرآن الحكيم)(4).
ص: 304
..............................
(و) هو (القرآن الصادق) وهاتان الجملتان(1) تبيان للجمل الثلاثة السابقة(2).
مسألة: يجب تحري الصدق واتخاذه شعاراً ودثاراً في الحياة، وفي مثل هذه الجملة تحريض على الصدق، قال سبحانه: «وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ»(3).
ومن الواضح أن الصدق في مورد الوجوب واجب، كما أنه في مورد الاستحباب مستحب، وأما الكذب فقد قال علي (علیه السلام): «لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يترك الكذب هزله وجده»(4).
وفي رواية: «لا يجد عبد حقيقة الإيمان حتى يدع الكذب هزله وجدّه»(5).
حيث إن ذكر خلاف الواقع في الهزل ليس محرماً، كما قال به جمع من الفقهاء(6).
ص: 305
ص: 306
-------------------------------------------
مسألة: القرآن الكريم نور ساطع وضياء لامع بنفسه، إلاّ أن الأعمال والأقوال والمناهج غير السليمة لأتباعه تكون كالحجاب الساتر والغمام المتكاثر الذي يحجب أشعة الشمس، كما أن أقوالهم وأعمالهم لو كانت قويمة مستقيمة فإنها ستسمح لنوره بالسطوع. فكان من الواجب الحفاظ - قولياً وعملياً - على هذا النور الساطع والضياء اللامع، كي يتجلى على البشرية بأبهى الصور وأكمل الأنحاء، وأي ظلم بل جريمة - أكبر وأقسى عن إسدال الستائر على هذا النور الساطع الإلهي والضياء اللامع الرباني؟ وقد ورد: «إن القرآن حق ونور»(1).
كما ورد عنه (علیه السلام): «إنا أهل بيت عندنا معاقل العلم وضياء الأمر»(2).
..............................
وقال علي (علیه السلام): «الله الله في القرآن فلا يسبقنكم بالعمل بهغيركم»(1).
ولعل الجمع بين النور والضياء - مع لحاظ أن الضياء عادة يكون نابعاً من الذات، والنور عادة(2) يكون مكتسباً من الغير(3) - هو أن القرآن يضيء القلوب والأرواح والحياة، وأنه قد اكتسب نوره من الله سبحانه، وفي الأوصاف يكفي وجود نسبة ما، فلا يقال: إن الضياء في النفس، والنور في الغير (لا غير)، كما قال سبحانه: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً»(4) وألمعنا إلى ذلك فيما سبق.
وقد يقال: إن (الضياء) بلحاظ أن النورانية ذاتية له كما هي للشمس(5)، فهو نور بنفسه.
و(النور) بلحاظ اكتسابها ولو بجعلمنشأ الانتزاع(6) من الغير وهو البارئ جل وعلا.
وكلاهما لوحظ فيه كونه منيراً ومضيئاً للقلوب والأرواح والحياة، لمكان الوصف ب (الساطع) و(اللامع)(7)، فالقرآن نور لأنه ينير سبيل العقيدة والشريعة
ص: 308
..............................
والدنيا والآخرة، وليس متحدداً في بقعة صغيرة بل هو ساطع يشرق على العالم. وأما (اللامع) فإنه يفهم من معنى التحرك أيضاً؛ فإن النور يأتي لمعه لمعة وموجاً موجاً (1).
وها هنا نقطة يجدر الإشارة إليها وهي: إن لكل شيء خلقه الله تعالى نوراً، بمعنى أن له - من داخله - دليلاً يرشدإليه، وقد جعله الله بحيث يكون بنفسه كاشفاً عن نفسه(2) وبتجلياته مرشداً إلى حقيقة ذاته.
والقرآن الكريم «نور ساطع، وضياء لامع»، فكاشفيته لذاته في أجلى درجات الوضوح، ودلالته على حقانيته وعلى استخلاف الله تعالى له و... بأشد وأكمل أنحاء الدلالة. فهو الفرد الأكمل لما ورد في الحديث الشريف: «إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نوراً»(3).
مسألة: ينبغي أن يكون الإنسان هادياً ومرشداً وسراجاً مضيئاً للمجتمع، فإن وصف القرآن الكريم بالنور والضياء إلماع إلى فضيلة هذين الأمرين وقيمتهما
ص: 309
..............................
الكبيرة، وإلى فضيلة من وما يتحلى بهما(1) خاصة مع ملاحظة وصف النبي (صلی الله علیه و آله) ب : «كان خلقه القرآن»(2). وقال سبحانه: «وَجَعَلْنَا له نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ»(3). وقال تعالى: «وَسِرَاجاً مُنِيراً»(4).
وبالنسبة إلى الكفار ونحوهم يقول الله سبحانه وتعالى حكاية عنهم في المحشر: «يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً»(5).
فإن محل اكتساب النور الرباني هو الدنيا، أما الآخرة فإن الإنسان يحصد فيها ما كان قد زرعه في دنياه من نور وظلمة، كما ورد في الروايات:
«اتقوا الظلم؛ فإنه ظلمات يومالقيامة»(6).
وقال (علیه السلام): «الدنيا مزرعة الآخرة»(7).
فالنور والظلمة المعنويان(8) يصبحان في يوم القيامة نوراً وظلمة ماديين أيضاً، بمعنى أنهما يتجليان - فيما يتجليان - بهذا النحو من التجلي أيضاً.
ص: 310
-------------------------------------------
مسألة: ينبغي أن تكون البصائر والحجج بينة وواضحة، وقد جعل الله سبحانه القرآن كذلك، وذلك إتماماً للحجة ومقدمةً للهداية.
ونرى ذلك بوضوح في الكتاب الحكيم، وفي كلمات الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) والأئمة المعصومين (علیهم السلام) وفي خطبة الصديقة فاطمة الزهراء (علیها السلام).
قال تعالى: «أَفِي اللَّهِ شَكّ فَاطِرِ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ»(1).وقال سبحانه: «وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ»(2).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا»(3).
قولها (علیها السلام): «بينة»، أي: واضحة ظاهرة، من البيان والظهور. و(البصائر): جمع (بصيرة) فعيل بمعنى الفاعل أي المبصرات، أي حججه وبراهينه ودلائله.
مسألة: ظواهر الكتاب حجة، ويدل على ذلك أدلة كثيرة مذكورة في مظانها (4)، وهذه الجمل وما سبقها وما سيلحقها من كلمات السيدة الزهراء (علیها السلام) من الأدلة على ذلك.
ص: 311
..............................
فكيف لا يكون حجةً مع أن بصائره بينة وظواهره منجلية؟.
وكيف لا يكون حجةً وهو الضياء الساطع والنور اللامع؟.
وكيف لا يكون حجةً مع أن به تنال حجج الله المنورة؟.
وكيف لا يكون حجةً مع أن به تنال شرائعه المكتوبة؟.
فظواهر القرآن حجةٌ مطلقاً.
وما ليس له ظاهر فليس حجة، مثل: المتشابه وفواتح السور ونحو ذلك، فإن علمه عند أهله (عليهم أفضل الصلاة والسلام).
وهناك التلازم بين الظهور وبين الحجية؛ لأن الظهور هو طريق فهم العقلاء مقاصد المتكلمين كما بيّن في (الأصول) مفصلاً(1).
و(السرائر): جمع (سريرة) من السرّ، فإن الأسرار الخفية من القرآن منكشفة لمن تدبر فيها واستعان بمن نزل القرآن في بيوتهم (عليهم أفضل الصلاة والسلام)، ولذلك كانت دعوته سبحانه للتدبر فيه: قال الله تعالى: «أَ فَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ»(2). وقال سبحانه:«لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ»(3).
فعمقه يظهر لمن تدبر فيه وليس من قبيل الطلاسم والغوامض والأحاجي والألغاز، كما يستعملها الكهان.
(منجلية): ظاهرة (ظواهره) فليس مثل الأشياء المستورة فلا غطاء عليه، وليس مثل كتب الفلسفة المعقدة بل هو كالشمس المشرقة في رابعة النهار.
ص: 312
-------------------------------------------
مسألة: يصدق (أشياع القرآن) حقيقة على من شايعه مطلقاً، إذ المراد بالأشياع: الأتباع، والأتباع الحقيقيون وبقول مطلق: هم الذين يتبعون منهج قائدهم في كل صغيرة وكبيرة.
فيجب على الناس أن يجعلوا القرآن أمامهم وإمامهم، في الأصول والفروع، في السياسة والاقتصاد، وكافة مناحي الحياة، فإن المصداق الكامل لمشايع القرآن هو من كان كذلك، وإن أطلق أيضاً - من باب التسامح أو من باب الكلي المشكك - على من امتثل أوامره غالباً.
أما في المستحبات فالإتباع مستحب.
وكذلك بالنسبة إلى الرسول (صلی الله علیه و آله) والأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين).
وفي التاريخ:
إن المرأة التي طلب رسول الله (صلی الله علیه و آله) منها الرجوع إلى زوجها، قالت: يا رسول الله أ تأمرني؟.فقال (صلی الله علیه و آله): «لا، إنما أنا شافع»(1).
ص: 313
..............................
قولها (علیها السلام): «مغتبطة به أشياعه»، فإن الناس يغبطون(1) أتباع القرآن، وما هم عليه من العلم والفضيلة والعزة وسائر الفضائل ومقومات الحياة السعيدة بسبب عملهم بالقرآن.
وفي الدعاء: «واجعلني من أشياعه وأتباعه»(2).
وفي الحديث عنه (صلی الله علیه و آله): «... اللهم اغفر لعليّ وذريته ومحبيه وأشياعه وأتباعه»(3).
هذا على قراءته بنحو اسم المفعول وهو الأظهر.
ويمكن أن يُقرأ على اسم الفاعل والمعنى حينئذ: فرحة ومسرورة به أشياعه(4).
ص: 314
-------------------------------------------
مسألة: يجب إتباع تعاليم القرآن في جميع جوانب الحياة؛ لأنه يقود إلى الجنة والرضوان، إضافة إلى أنه نوع شكر للمنعم، فيلزم - بحكم العقل - إتباعه.
نعم، الوجوب إنما هو في الواجبات، الأعم من أن يكون الفعل واجباً أو تركه.
أما إتباع القرآن في مستحباته فهو من المستحب كما هو واضح.
هذا وفي زيارة الجامعة: «بكم يسلك إلى الرضوان»(1)؛ فإنهم (علیهم السلام) عِدل القرآن(2).
و(الرضوان) هو أعلى مراتب الرضا، والمراد به: رضا الله سبحانه، أو رضاهم (أي: الرضا النفسي)..قال تعالى: «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (علیهم السلام) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً»(3).
ص: 315
..............................
مسألة: يحرم إتباع غير القرآن، أو تقديمه على القرآن؛ لأنه القائد الإلهي الوحيد الذي يضمن السعادة في الدارين.
وإثبات الشيء وإن كان لا ينفي ما عداه بما هو هو، إلا أن القرائن المقامية وكذا السياق قد تفيد الحصر والنفي، كما في هذه الجملة من كلامها (علیها السلام). فالقرآن هو النور وما عداه الظلمة، أما الرسول (صلی الله علیه و آله) والعترة (صلوات الله عليهم أجمعين) فهم حملة القرآن ومفسروه، كما ورد في الأحاديث بمضامين شتى(1).
-------------------------------------------
مسألة: يستحب الاستماع إلى تلاوة القرآن الكريم، قال سبحانه: «وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا له وَأَنْصِتُوا»(1)، وفي دعاء ختم القرآن عن الإمام زين العابدين (علیه السلام): «جعلته نوراً نهتدي به من ظُلَم الضلالة والجهالة بإتباعه، وشفاءً لمن أنصت بفهم التصديق إلى استماعه»(2).
وفي الحديث عن الإمام الصادق (علیه السلام): «يجب الإنصات للقرآن في الصلاة وغيرها، وإذا قُرء عندك القرآن وجب عليك الإنصات والاستماع»(3).
وإنما جاء تعالى بلفظين(4) لإمكان أنيستمع الإنسان وهو يتكلم بلا إنصات(5)، فاللازم الاستماع والإنصات معاً.
ص: 317
..............................
ولذا ورد عنه (صلی الله علیه و آله): «العلم الإنصات، ثم الاستماع له، ثم الحفظ له، ثم العمل به، ثم نشره»(1).
أما وجوب الاستماع: فهو عند قراءةالإمام في الصلاة الجهرية حسب المسألة الفقهية المشهورة والتي ورد عليها الدليل، فتأمل.
و(استماعه): مصدر (استمع)، فإن أريد به المعنى المعهود من الاستماع، فقولها (علیها السلام): «مؤد إلى النجاة استماعه» بنحو المقتضي، إذ استماع الحق يسوق الإنسان نحو الالتزام به كثيراً مّا.
ولكن قد يراد به المعنى الكنائي وهو العمل، بأن يكون الاستماع كناية عن العمل، فمن عمل بالقرآن ينجو في الدنيا من المشاكل، وفي الآخرة من العذاب والعقاب، ويؤيد هذا المعنى موارد الاستعمال المتكثرة والآيات الشريفة(2).
ص: 318
..............................
مسألة: إذا تزاحم الاستماع للقرآن مع تلاوة الإنسان نفسه، فقد يكون المقدّم هو الأول في الجملة، بأن يترك القراءة ويستمع لما فيه من الاحترام الأكثر والتأثّر الأكثر أيضاً، فتأمل.
وقد سبق أن ذلك المنافق (ابن الكوا) لما قرأ القرآن وأمير المؤمنين علي (علیه السلام) في الصلاة، توقف الإمام (علیه السلام) عن القراءة حتى إذا انتهى عاد (علیه السلام) إلى القراءة، فلما قرأ ذلك المنافق القرآن مرة أخرى سكت الإمام (علیه السلام) ثم عاد إلى القراءة(1).
مسألة: يستحب تنبيه الآخرين على مطلوبية الاستماع إلى القرآن، خاصة إذا تلي في المجالس العامة كالفواتح وغيرها، هذا من الأمر المستحب، وقد قرر في
ص: 319
..............................
باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: أن المعروف إذا كان مستحباً والمنكر إذا كان مكروهاً استحب الأمر بالأول والنهي عن الثاني(1)، وقد قالت (علیها السلام): «مؤدٍ إلى النجاة استماعه».
هذا والاستماع بما هو هو ينقسم إلى الأحكام الخمسة:
فالواجب: كالاستماع إلى الحقّ في موارد وجوبه.
والمستحب: كالاستماع إلى القرآن الكريم، وكقوله (علیه السلام): «من ترك الاستماع من ذوي العقول ماتعقله»(2) فتأمل، وقال (علیه السلام): «عوّد أذنك حسن الاستماع»(3).
والمكروه: كالاستماع إلى اللغو غير المحرم منه، قال تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ»(4).
وقال سبحانه: «وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ»(5).
وقال علي (علیه السلام): «ولا تصغ إلى ما لا يزيد في صلاحك استماعه؛ فإن ذلك يصدي القلوب ويوجب المذام»(6).
والحرام: كالاستماع للغناء والغيبة.
فقد «نهى (صلی الله علیه و آله) عن الغيبة والاستماع إليها، ونهى عن النميمة والاستماع
ص: 320
..............................
إليها»(1).
والمباح: غير ذلك.
وهل هناك فرق بين السماع والاستماع حكماً؟
ذكرنا تفصيله في الفقه(2).
مسألة: يكره التكلم وكذا الانشغال بسائر الأعمال عن الاستماع للقرآن عند قراءته، اللهم إلاّ لضرورة أو أمر أهم(3).
والكراهة إنما تستفاد بمعونة الخارج، وإلاّ فلا تلازم بين كراهة الفعل واستحباب الترك أو العكس، كما ذكروا في مبحث المستحبات والمكروهات، وإن قيل بين الواجب والحرام نحو هذا التلازم(4)، فإذا وجب شيء حرم تركه، وإذا حرم شيء وجب تركه، وهذا ليس بمعنى حكمين في موضوع واحد، و إنماالحكم واحد فعلاً، وجوباً أو تحريماً، والآخر منتزع منه أو ظلّ له.
ص: 321
..............................
التدبر في القرآن الحكيم(1)
مسألة: يستحب التدبر في الآيات القرآنية حين وإثر استماعها بل مطلقاً، قال تعالى: «أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفالُهَا»(2).
وقال علي (علیه السلام): «تدبروا آيات القرآن واعتبروا به فإنه أبلغ العبر»(3).
ولعلّ هذا من علل الحثّ على الاستماع - في الروايات - إذ بالتدبر في الكتاب ينال الإنسان العديد من حجج الله تعالى مما لا يكتشف في بادي النظر، وبالتدبر تنال مجموعة كبيرة من (عزائمه) وما لحقها مما ذكر في كلامها(علیها السلام) إلى قولها: «شرائعه المكتوبة».
ويتضح ذلك أكثر بملاحظة قضاء أمير المؤمنين (علیه السلام)، بل بملاحظة الموارد الكثيرة التي استند فيها المعصومون (علیهم السلام) إلى القرآن الكريم(4).
ص: 322
..............................
وهناك الكثير ممن الأحكام الفقهية التي استند الفقهاء في استكشافها إلى التدبر في القرآن الكريم، كما يظهر ذلك من مراجعة كتب (الفقه) و(آيات الأحكام)(1)، كما أن هناك الكثير من البحوث الكلامية والأصولية بل والاجتماعية والاقتصادية(2) وغيرها التي استنبطت من (كتاب الله) عبر التدبر والتأمل والتفكر.هذا وقد ورد في روايات كثيرة الحض على ذلك، فمنها:
قوله (علیه السلام): «آيات القرآن خزائن فكلما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما
ص: 323
..............................
فيها»(1).
بل ربما أمكن القول باستفادة رجحان التدبر واستحبابه من هذه الجملة من خطبتها (علیها السلام): «مؤد إلى النجاة استماعه»؛ فإن الأمر بالاستماع يفيد ذلك عرفاً، مع لحاظ الفرق بين السماع والاستماع ولحاظ المقدمية.
بل قد يقال: بكون التدبر أكمل أفراد الاستماع، فتأمل.
هذا بالإضافة إلى ما ورد من قوله سبحانه: «أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفالُهَا»(2)، فتكون هذه الآية وشبهها مؤيدة لهذه الاستفادة العرفية.
مسألة: يستحب قراءة القرآن بأحسنالأصوات وأشدها تأثيراً؛ فإنها أدعى للاتعاظ والاعتبار والخشوع.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «حسّنوا القرآن بأصواتكم؛ فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً»(3).
وقال(صلی الله علیه و آله): «إن لكل شيء حلية، وحلية القرآن الصوت الحسن»(4).
وقال (صلی الله علیه و آله): «إن حسن الصوت زينة القرآن»(5).
ص: 324
..............................
وهذا كالبحث الآنف أيضاً مما يستفاد من كلماتها (علیها السلام) عرفاً أو مقدمية، مؤيداً بما ورد من «قراءة القرآن بألحان العرب»(1)، وما أشبه ذلك(2) من قراءتهم (عليهم الصلاة والسلام) القرآن بأصوات حسنة، فقد ورد:«إن علي بن الحسين (علیه السلام) كان أحسن الناس صوتاً، وكان يرفع صوته حتى يسمعه أهل الدار»(3).
و: «إن علي بن الحسين (علیه السلام) كان يقرأ فربما مر به المار فصعق من حسن صوته»(4).
و: «إن أبا جعفر (علیه السلام) كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان إذا قام في الليل وقرأ رفع صوته، فيمر به مار الطريق من الساقين وغيرهم فيقومون فيستمعون إلى قراءته»(5).
و: «كان (علیه السلام) أحسن الناس صوتاً بالقرآن، فكان إذا قرأ يحزن وبكى السامعون لتلاوته»(6).
ومنه يعرف أرجحية كل شيء من زمان أو مكان أو خصوصيات، أوجب الاستماع الأكثر أو مهّد الأرضية لذلك.
ص: 325
-------------------------------------------
مسألة: ينبغي استخراج الحجج من القرآن الحكيم، وجعله محوراً للردّ والاستدلال والحديث والحوار.
قال علي (علیه السلام): «إن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغشّ، والهادي الذي لا يُضلّ، والمحدث الذي لا يكذب»(1).
وقد ذكر العلماء: إنه يمكن استكشاف العديد من العلوم عبر القرآن الكريم، منها: علم المحاجة؛ لأن القرآن بيّن حججاً قوية و كثيرة، يمكن أن نتعلم منها مناهج الاحتجاج، وهي ترشد إلى مصاديق فريدة له أيضاً، سواء حججه في العقيدة أو في الشريعة، فإن كل أصل أو فرع ذكر في القرآن الكريم علّل بحجة وعقب بدليل - عادةً - مثل قوله تعالى: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌإِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا»(2).
وقوله سبحانه: «فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ»(3).
ص: 326
..............................
وقال تعالى في الصلاة: «أَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي»(1).
وفي الحج: «لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ»(2).
وفي الصوم: «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»(3).
وفي الزكاة: «تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ»(4)، إلى غيرها.
فغالب ما في القرآن معلّل ومستدل عليه بدليل عقلي فطري، تصريحاً أو تلميحاً أو تلويحاً (5) ولو في موضعآخر.
ص: 327
-------------------------------------------
مسألة: يجب اتخاذ القرآن المصدر الأول لنيل عزائم الله وفرائضه.
كما يجب اتخاذ السنة النبوية (صلی الله علیه و آله) وكلمات المعصومين (علیهم السلام) مصدراً للتفسير والإيضاح.
قال علي (علیه السلام): «تمسك بحبل القرآن وانتصحه، وحلّل حلاله وحرّم حرامه، واعمل بعزائمه وأحكامه»(1).
و(العزيمة) تتضمن معنى اللزوم، وتطلق على ما يلزم فعله أو يلزم تركه(2)، ولذا يقال: هو عزيمة أو رخصة؟، وتفسيرها بالأخص تفسير بالمصداق(3)، نعم إذا ذكرت في مقابلالمحارم أريد بها الواجبات فقط.
قولها (علیها السلام): «عزائمه» جمع عزيمة أي فرائضه.
و«المفسرة»: أي التي فسرها الرسول(صلی الله علیه و آله) وأوضح أنها عزائم وليست رخصاً؛ لأن القرآن يحتوي على الواجب والمستحب والحرام والمكروه والمباح، فالعزائم تحتاج إلى التفسير، وقد فسرها النبي(صلی الله علیه و آله) وآله الأطهار (علیهم السلام) بكلماتهم الوضاءة.
ص: 328
..............................
وقد يكون المراد من «عزائمه المفسرة» المفسرة كنهاً، أي التي فسرها الرسول (صلی الله علیه و آله) وأوضح ماهيتها وحقيقتها؛ لأن القرآن الكريم يشير عادة إلى عناوين الواجبات لا إلى تفاصيلها، فمثلاً قوله تعالى: «أَقِمِ الصَّلاَةَ»(1)، فالصلاة عزيمة قرآنية أوضح الرسول (صلی الله علیه و آله) بأن المراد منها تكبير وركوع وسجود وتشهد و... بالنحو الخاص، حيث قال(صلی الله علیه و آله): «صلّوا كمارأيتموني أصلّي»(2).
وفي هذه الجملة إشارة لطيفة إلى ضرورة شفع الكتاب الكريم بالسنة، إذ «به تنال... عزائمه»، ولكن أية عزيمة؟.
وما هي؟.
هي: (المفسرة) بأقوال النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة الهداة (علیهم السلام).
ص: 329
-------------------------------------------
مسألة: يجب التقيد بترك ما ذكر في القرآن الكريم من المحرمات، كما يجب تحذير المجتمع من ارتكابها بمختلف أنواعها: القمار، شرب الخمر، الزنا، النزاع بالباطل، الغيبة، وغير ذلك.
قال تعالى: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ»(1).
وقال سبحانه: «وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً»(2).
وقال تعالى: «لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»(3).
وقال سبحانه: «لاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ»(4).
وقال (علیه السلام): «الإيمان لايكمل إلاّ بالكفّ عن المحارم»(5).
وقال (علیه السلام): «يا عباد الله، اتقوا المحرمات كلها»(6).
ص: 330
..............................
وقال (علیه السلام): «من أشفق من النار اجتنب المحرمات»(1).
ولا يخفى أن هناك فرقاً بين جملة «أشياعه» وبين جملتي «به تنال عزائمه... ومحارمه»؛ لأن الأشياع هم الأتباع في الأعم من العزائم والمحارم وغيرهما، إذ القرآن مشتمل على القصص والتاريخ والعقائد وقضايا أخرى، فليس خاصاً بالعزائم والمحارم، وكون الأشياع مفيداً للعموم لا ينافي ذكر الخصوص؛ لأهمية الخصوص، وعلى الاصطلاح هذا من ذكر الخاص بعد العام.
مسألة: يستحب أن تتخصص ثلة في تفسير عزائمه وأحكامه وفي استكشاف المصاديق.كما يجب على الجميع بنحو الوجوب الكفائي تفسير عزائمه وأحكامه.
والاستحباب والوجوب يختلفان حسب اختلاف ما يفسر ويذكر، واستحباب التخصص ووجوبه تابع لكونه مقدمة لنيل العزائم والأحكام الأخرى.
قال تعالى: «فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(2).
ص: 331
..............................
مسألة: حيث إن غالب الناس ليس بمقدورهم عادة الوصول إلى عزائم الكتاب وفرائضه وما أشبه، لذلك كان من الواجب أن يبحثوا عمن يفسّر لهم عزائم الكتاب وأن يرجعوا إليه. ف (نيلها) أعم من كونه بالمباشرة أو بالواسطة.
والمفسرون الحقيقيون هم أهل البيت (عليهم أفضل الصلاة والسلام)، فقد ورد بأنهم (علیهم السلام) أعطوا تفسير القرآنالكريم وتأويله(1).
قال تعالى: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ»(2).
وقال (علیه السلام): «نحن نعلمه»(3)، وإلا فالتفسير بالرأي من أشد المحرمات، قال(صلی الله علیه و آله): «من فسّر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب»(4).
وقال (علیه السلام): «ليس شيء بأبعد من قلوب الرجال من تفسير القرآن»(5).
وعنه (علیه السلام): «من فسّر برأيه آية من كتاب الله فقد كفر»(6).
وقال (صلی الله علیه و آله): «من فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار»(7).
ص: 332
..............................
مسألة: يستفاد كثيراً ما - حسب القرائن المقامية ومناسبة الحكم والموضوع - من الوصف بشيء مطلوبيته، والمقام من صغريات ذلك، فيستحب التحذير بعد بيان المحرمات لا مجرد ذكرها فقط، بل يجب ذلك في مورد يوجب التحذير الاجتناب، ولذا قال سبحانه: «لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(1).
وقال تعالى: «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ»(2).
والمراد: الأعم من المحرم فعله أو المحرم تركه؛ فإن الله سبحانه أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يكلف عسيراً، كما ورد في الحديث(3).
قولها (علیها السلام): «المحذّرة»، أي: التي تحذر الإنسان عن ارتكابها مما يوجب شر الدنيا والآخرة.
ص: 333
مسألة: في التحاور ينبغي الاستعانة ب (البينات الجلية) و(البراهين الكافية) - كما في القرآن الحكيم - فإن غير الجلي وغير الوافي من الأدلة قد يشعر الطرف بالعجز أو النقص، وقد يزيده تشكيكاً، ولا يكفي كونه برهاناً في مرحلة الثبوت، بل يجب أن يكون كافياً في مرحلة الإثبات أيضاً.
وكل ذلك في المورد المستحب مستحب، وقد يكون واجباً كما ذكرنا مثل ذلك في كثير من الجمل السابقة.
قال تعالى: «وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَابَيِّنَاتٍ»(3).
وقال سبحانه: «فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ»(4).
وقال عزوجل: «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ»(5).
ص: 334
..............................
كما ورد بالنسبة إليه (صلی الله علیه و آله): «والذي بعثه بالآيات المحكمة، والبراهين الواضحة»(1).
و(البينات) أي: الأدلة، ولعل الفرق بين (البرهان) و(البينة) أن البرهان هو الدليل، والدليل قد يكون بيناً وقد لا يكون بيناً، فهو في نفسه برهان وفي صفته بيّن، وإن عرفه البعض بأنه: الحجة الفاصلة البينة(2).
و(الجلية) أي: التي تجلو الحق،وهي الواضحة، وهي قيد توضيحي لا احترازي، وكذلك (الكافية).
و(براهينه): أدلته (الكافية) فليس فيها نقص أو عجز عن إثبات المراد، والبرهان هو الحجة على الشيء فقد يكون واضحاً فيسمى (بينة)، وقد يكون غامضاً، فتأمل.
ص: 335
-------------------------------------------
مسألة: يستحب - وربما وجب - الندب إلى فضائل الكتاب(1).
والمراد بها: الأعم من الواجبات والمستحبات (المندوبة) إليها والمدعوة إليها؛ فإن القرآن يدعو الناس إلى الإتيان بالفضائل.
ولعل المراد ب (الفضائل): المستحبات فقط، بقرينة ذكر الواجبات قبل ذلك في قولها: «عزائمه» وبقرينة ما يأتي من الرخص.
ولعل عدم ذكر المكروه؛ لأن تركه فضيلة أيضاً(2)، وإن قال الفقهاء: لا تلازم بين كون الفعل مكروهاً والترك مستحباً، وكذا بين استحباب الفعل وكراهة الترك.
فقد ذكرت (علیها السلام) الواجبات:«عزائمه»، والمحرمات: «محارمه»، والمستحبات وترك المكروهات: «فضائله»، والمباحات: «رخصه»، وربما أدرجت المكروهات في حيث رخص الله في فعلها على ما فيها من الكراهة.
ص: 336
-------------------------------------------
مسألة: ينبغي أن يتعلم الإنسان ما رخص فيه الله، و يدل على ذلك - مطلقاً أو في الجملة - أو يؤيده: ذكرها في الكتاب و السنة، لوضوح إن الذكر لأجل المعرفة والعمل، قال تعالى: «إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى»(1).
وقولها (علیها السلام): «به تنال... رخصه الموهوبة» مما يفيد رجحان نيلها، ولربما توقف تجنب الحرام على ذلك، وربما منع ذلك من إدخال ما ليس من الدين فيه، ولما في ذلك من التسبيب لشكر المنعم جل وعلا، وقد أشارت (علیها السلام) إليه ب «الموهوبة».
و«رخصه الموهوبة» أي: التي وهبها الله سبحانه، فلم يلزم بها لا وجوباً ولا تحريماً.
ومن الممكن أن يراد بالرخص: الأعم من المباحات والمكروهات؛ لأن المكروه أيضاً رخصة، كما أشرنا إلى ذلك.قال علي (علیه السلام): «يا كميل، لا رخصة في فرض ولا شدة في نافلة»(2).
ص: 337
..............................
مسألة: يلزم أن يكون القانون شاملاً، متضمناً للمندوبات والمكروهات والمباحات أيضاً، لا أن يقتصر على الواجبات والمحرمات فحسب، وقد أشارت (علیها السلام) في الجمل السابقة إلى شمولية القرآن الكريم من هذا الحيث أيضاً.
فإن القانون الكامل هو الذي يشتمل على هذه الأحكام الخمسة، لوضوح أن الفعل يأمر به مع المنع من النقيض أو بدون منع منه مع الرجحان، وكذلك الترك في القسمين، وهناك مباح لا يرجح فعله ولا تركه.
وبعبارة أخرى:
المصلحة أو المفسدة قد تكون في الفعل، وقد تكون في الترك، وكل منهما قد تكون المصلحة فيه بحد الإلزام أو الرجحان فقط، فهذه أربعة أقسام، والخامس ما لا مصلحة أو مفسدة فيه.
وهنا بحوث أصولية وحكمية تراجع في مظانها.
وبذلك يظهر النقص في الدساتير التي لا تتطرق إلاّ للواجبات والمحرماتفقط(1).
ص: 338
-------------------------------------------
مسألة: يجب استنباط الأحكام الشرعية من القرآن.
ولا يخفى أن الاستنباط قد يكون بالدلالة المطابقية، أو التضمنية، أو الإلتزامية، أو دلالة الاقتضاء، مثل الجمع بين آيتي: «وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاًدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ»(1)، وقوله تعالى: «وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً»(2)، حيث يعرف بجمعها: أن أقل الحمل ستة أشهر(3).
وقد يكون دلالة عرفية، خارجة من الدلالات المذكورة، كما ألمعنا إلى بعض ذلك في المباحث السابقة.
مسألة: يجب الالتزام بشرائع الله تعالى، أما العدول عنها إلى الشرائع الوضعية فمن المحرمات المؤكدة.
قال تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ»(4).
ص: 339
..............................
وقال سبحانه: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»(1). وقال عزوجل: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ»(2).
فما يرى في هذا اليوم من كثرة القوانين الوضعية المخالفة للشرع المبين فهو من أشد المحرمات كقوانين الجمارك و...
و(الشرائع) جمع شريعة، وهي: السنة والطريقة. و«شرائعه المكتوبة»: أي التي كتبها الله على عباده وألزمهم بالسير على حذوها.
وقد يكون المراد بها هنا(3) الإرثوالقضاء والحدود وما أشبه، أو يكون المراد منها: الأعم الشامل لكل الأحكام الوضعية، كالبيع والرهن والإجارة والنكاح والطلاق وغيرها، من حيث الشرائط والموانع والصحة و...
ولقد تحدثت (صلوات الله وسلامه عليها) - حتى الآن - عن الباري جل وعلا وصفاته ونعمائه والخلقة والهدف منها، ثم تحدثت عن النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) وحكمة بعثته وعظيم فضله وهدايته (صلی الله علیه و آله)، وألفتتهم إلى ثقل مسؤوليتهم، وتحدثت عن القرآن الحكيم ومكانته ومحوريته ومواصفاته.
ثم انتقلت إلى هذا المقطع الذي بين بإيجاز مذهل واف: فلسفة جملة من أحكام العقيدة والشريعة، ومنها الإمامة كما سيجيء، فقالت (علیها السلام): «فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك»...
ص: 340
تطهير الباطن(2)
مسألة: يستحب تطهير الباطن عن النوايا الخبيثة، كما يستحب تطهيره عن الملكات الرذيلة، وربما وجب ذلك - عقلاً، أو شرعاً أيضاً - من باب المقدمية.
كما يجب تطهيره عن العقائد المنحرفة؛ فإن القلب يتنجس كما يتنجس البدن، ونجاسة الباطن على أنواع، فهناك نجاسة العقائد الفاسدة، ونجاسة الملكات الرذيلة، ونجاسة النوايا الخبيثة.
والبدن إذا تنجس بالقذارات الظاهرية كان تطهيره بالماء وشبهه(3)، كما أن بعض القذارات يكون تطهيرها وتنظيفها من الميكروبات بالمعقمات المادية.
أما القلب والباطن فتطهيره يتم بشكل آخر، فلو غسل من يحمل في قلبهالحقد أو الحسد بكل مياه الدنيا لم يطهر، بل اللازم استعمال مطهر خاص من نمط معين، لكل واحد من نجاسات الباطن، ولذا كان: «مرض القلب أعضل، وعلاجه أعسر، ودواؤه أعز، وأطباؤه أقل»(4).
ص: 341
..............................
وقال (صلی الله علیه و آله): «يكون الإيمان تطهيراً عن الشرك»(1).
وقال علي (علیه السلام): «فرض الله سبحانه الإيمان تطهيراً من الشرك»(2).
فالإيمان تطهير عن رجس الشرك والكفر بالله تعالى، وإنكار المبدأ والمعاد والرسالة والرسول (صلی الله علیه و آله) والخلافة والخليفة (علیه السلام)، وما إلى ذلك من العقائد.
ولذا قال سبحانه: «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ»(3).
وقال تعالى: «إِنَّهُمْ رِجْسٌ»(4).وقال سبحانه: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ»(5) - بناءً على إرادة نجاسة المشرك المعنوية لا النجاسة البدنية -.
كما أن تطهير القلب من الملكات الرذيلة إنما يتم بتنقيتها وتحليتها بالملكات الحسنة، وهذا مما يستدعي غالباً طول عناء.
أما تطهير القلب عن النوايا الخبيثة فبمجاهدة النفس لإخراج تلك النوايا عنه، ولذا قال (صلی الله علیه و آله): «فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة»(6)، وفي القرآن الحكيم: «إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»(7).
ثم إن القلب المتنجس يفرز آثاره السيئة من الأضرار على الإنسان نفسه،
ص: 342
..............................
بالإضافة إلى الإضرار بغيره غالباً، وقد ورد عن علي (علیه السلام): «لله در الحسد ما أعدله، بدأ بصاحبه فقتله»(1).وقال(2):
اصبر على حسد الحسود *** فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل نفسها *** إن لم تجد ما تأكله
فالحسود - مثلاً - يضرّ بنفسه، كما يلحق الأذى بالمحسود غالباً، نفسياً أو فكرياً أو مادياً.
والبخيل يضيق على نفسه ويفقد مكانته واحترامه، كما يمنع العطاء عن الغير.
والجبان يفقد كثيراً من فرص التقدم، كما يسبب الهزيمة للآخرين، إلى غير ذلك.
وفي الآخرة قال سبحانه: «نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ»(3).
ولا يخفى أن الإنسان يحاسب حتى على نياته - في الدنيا - إذا اطلع عليها غيره، ولذا من يعرف أن فلاناً يريد سرقته لا يصاحبه، أو يريد الفجور بنسائه فإنه يتجنبه، بل للنوايا السيئة أثرها الوضعي وإن لم يطلع عليها أحد، كما أشرنا إليه سابقاً.
ص: 343
..............................
و(في الآخرة) أيضاً، قال سبحانه: «إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(1).
والتنزه عن النوايا الخبيثة والملكات الرذيلة قد يجب وقد يستحب، فمثلاً: يستحب التنزه عن الحسد الذي لا يظهر على الجوارح، ويجب التنزه عن الحسد المظهَر أو ما كان منه مقدمة للحرام(2)، فتأمل. وكذلك البخل غيرالظاهر فإن التنزه عنه فضيلة، أما البخل العملي الذي يؤدي إلى منع الحقوق المالية، كالخمس والزكاة وأداء الدَين والقيام بشؤون النفقة الواجبة وشبه ذلك فإنه حرام(3)، وهكذا الأمر بالنسبة إلى كثير من الصفات المذكورة في علم الأخلاق.
ص: 344
..............................
مسألة: يستحب تطرق حملة راية التبليغ والإرشاد والهداية - سواء كانوا كتّاباً أو خطباءً أو مدرسين أو غير ذلك، بل كل من يأتي منه ذلك - لبيان فلسفة الأحكام والقوانين الإلهية الواردة في الكتاب والسنة، تأسياً بها (صلوات الله وسلامه عليها)، حيث أشارت (علیها السلام) إلى العلة في جملة مما أوجبه الباري (جل وعلا) أو ندب إليه من أصول الدين وفروعه وغيرهما، بل يجب ذلك أحياناً.
فإن القرآن والمعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) ذكروا وجه الحكمة أو العلة والفلسفة للكثير من المباحث والأحكام الإلهية، في الأصول والفروع والأخلاقيات والثواب والعقاب وغير ذلك، كما يظهر ذلك لمن تدبر القرآن الحكيم وكلمات الأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين)(1).
ص: 345
..............................
وهذا يدل - بالإضافة إلى الكثير من الأدلة الأخرى المذكورة في مظانها (1) على أن الأحكام الشرعية والأصول والأخلاق إنما هي عقلية قبل أن تكون شرعية.
نعم، لا شك في أن جملة من الجزئيات داخلة في الكلي العام، ولا يعلم اندراجها في الخصوصية.
مثلاً: قراءة القرآن واجبة في الصلاة، لكن هذا الكلي ينطبق على الحمد والسورة، سواء في القيام أم الركوع أم السجود، والشارع رجح بعضها على بعض وقيّدها ببعض المصاديق، أما من جهة خصوصية في ذلك، بينها الشارع ولم تصل إلينا، أو لم يبينها وسيبينها الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) نظراً لاكتمال العقول عندئذ(2)، أو لا مطلقاً، أو من جهة أن العام يكتفى بفرد، إذ وجود الطبيعي يتحقق بتحقق أحد أفراده، ولم يخيرالشارع المكلف بأن يقرأ في القيام أو في الركوع أو في أي موضع شاء رعاية للتنسيق العام، أو لجهة أخرى، فالجمع بين أمور عديدة أوجب هذا الجزئي الخاص، إلى غير ذلك.
..............................
ويستفاد الوجوب من قولها: «فجعل... » على التقدير الثاني بوضوح.
والمراد بجعل (الإيمان) حيث قالت (صلوات الله عليها): «فجعل الإيمان» إما الجعل التكويني؛ لأنه أمر مجعول لله سبحانه وتعالى، إذ هو من مخلوقاته حيث إنه ليس عدماً ولا قديماً(1) ومن الواضح عدم التنافي بين المجعولية وبين الاختيار.
وإما الجعل التشريعي - ويؤيده السياق - أي أنه شرع على الناس أن يؤمنوا به عزوجل ولا يكفروا به وأنهحرم الشرك، وهذا الأمر والنهي إرشاد إلى حكم العقل، قال (علیه السلام): «إن الله هو العدل، وإنما بعث الرسل ليدعوا الناس إلى الإيمان بالله ولا يدعوا أحداً إلى الكفر»(2).
مسألة: إذا كانت الغاية تطهير البشرية من الشرك، لقولها (علیها السلام):
«فجعل... تطهيراً لكم»، وقوله تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ»(3) كان من الواجب السعي لتحقيق هذه الغاية، أي السعي لهداية المشركين كلاً أو بعضاً هداية كاملة، كماً وكيفاً، حسب المقدور والميسور، (فإن الميسور لايسقط بالمعسور) (4)، و(ما لا يدرك كله لا يترك كله)(5).
ص: 347
..............................
والمراد بالمشركين: الأعم من الكافر الذي لا يعتقد بالله إطلاقاً، ومن المشرك الذي يجعل له سبحانه شريكاً، بقرينة المقام.
مسألة: إذا آمن المشرك طهر من نجاسة الشرك، كما قالت (علیها السلام): «تطهيراً».
فإن الكافر نجس نفساً، أو وجسماً أيضاً - على القولين(1) - فإذا آمن طهر جسمه وطهرت نفسه؛ لأن من المطهرات: الإسلام كما ذكره الفقهاء في كتاب الطهارة(2).
مسألة: يلزم إبلاغ الناس أن الإيمان طهارة والشرك رجس، على عكس ما مني بهبعض المسلمين من ضعف في النفس يحول بينهم وبين بيان كثير من الأحكام الشرعية، فإن الأحكام الإسلامية يجب إبلاغها للناس، كما أبلغت (عليها الصلاة والسلام) وفي ذلك تنفير من الشرك وتحبيب للإيمان، ففي مورد الوجوب يجب، وفي مورد الاستحباب يستحب، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
ص: 348
..............................
نعم يجب أن يكون بيان الأحكام مقروناً «بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ»(1)، مشفوعاً بالأدلة والشواهد والمقربات.
ولربما اقتضت الحكمة التدرجية أيضاً، فيما إذا كانت التدرجية الطريق نحو الإقناع وشبهه، لا من باب الجبن والخوف، كما قال تعالى: «الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ»(2).
مسألة: الإيمان بالله مقدم في الرتبة على الصلاة والأحكام الفرعية الأخرى،قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ» (3) ولهذا ينبغي العمل - أولاً - على زرع الإيمان بالله في قلوب الناس وبذل الجهد في هذا السبيل.
وترى هذا المعنى واضحاً في خطبة الزهراء (علیها السلام) حيث قدمت (صلوات الله عليها) هذا البند على البنود الآتية، وقد ذكرنا أن الواو قد تدل على الترتيب إذا لم تكن قرينة على الخلاف، فتأمل.
والظاهر أن المراد بالإيمان هو الإيمان بأصول الدين كلها: التوحيد والنبوة والمعاد، إذ كل من لم يؤمن بأحد هذه الأصول يكون نجساً نفساً، أو وجسماً أيضاً، فمن لم يؤمن بالله يكون كافراً، وكذا من لم يعتقد بالنبوة أو بالمعاد، أما
ص: 349
..............................
من لا يعتقد بالولاية فلا يقبل منه الإيمان، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «علي أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين وإمام المسلمين، لا يقبل الله الإيمان إلاّ بولايته وطاعته»(1).
مسألة: الكفر كالشرك في الحكم، على ما يستفاد من كلامها (علیها السلام) أيضاً بقرينة الموضوع والحكم، فإنه قد يتصرف في الموضوع بسبب الحكم، وقد يتصرف في الحكم بسبب الموضوع، كما حقق في علم الأصول(2).
مسألة: المتردد والشاك(3) نجس أيضاً - على أحد المعنيين أو كليهما -
لا المنكر فحسب، كما دل عليه العقل والنقل، فقد قالت (علیها السلام): «جعل الله الإيمان تطهيراً»، والشاك كالمنكر ليس بمؤمن كما يشهد به اللغة والعرف، وأن الإيمان صفة ثبوتية وجودية وكلا المذكورين فاقد لها، فتأمل.
و قد قال (عليه الصلاة و السلام): «لا ترتابوا فتشكوا، ولا تشكوا فتكفروا»(4).
ص: 350
..............................
وفي القرآن الحكيم: «فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ»(1).
إلى غير ذلك مما دل على هذا المبحث، كمالا يخفى على من راجع الكتب الكلامية والأحاديث المتواترة الواردة في هذا الباب(2).
قال علي (علیه السلام): «شر القلوب الشاك في إيمانه»(3).
وقال (علیه السلام): «أهلك شيء الشك والارتياب»(4).
وقال (علیه السلام): «الشك يفسد اليقين ويبطل الدين»(5).
وقال (علیه السلام): «الشك يحبط الإيمان»(6).وقال (علیه السلام): «الشك كفر»(7).
وقال (علیه السلام): «ما آمن بالله من سكن قلبه الشك»(8).
ص: 351
-------------------------------------------
مسألة: الصلاة بمعناها الاصطلاحي(1) واجبة (2)، وبمعناها الأعم(3) راجحة مطلقاً. فإن الصلاة عطف وميل وتوجه نحو الله سبحانه و تعالى، وهي بين واجبة و بين مستحبة، أما حرمة الصلاة في بعض الأحيان مثل صلاة الجنب والحائض(4) وما أشبه، فلمقارن لها أوجب مرجوحيتها إلى حد المنع من النقيض، وأما كراهة الصلاة كالصلاة في الحمام(5)، وصلاة المسافر إذا اقتدى بإمام ليس بمسافرأو بالعكس(6)، فالمقصود أقل ثواباً كما هو المقرر في محله.
مسألة: ينبغي تنزيه النفس من الرذائل، وبعض مراتبها واجب، كما لايخفى، قال تعالى: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (علیهم السلام) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (علیهم السلام) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (علیهم السلام) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا»(7).
ص: 352
-------------------------------------------
..............................
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إياكم والكبر! فإن إبليس حمله الكبر على ترك السجود لآدم (علیه السلام) »(1).
وقال (علیه السلام): «إن المتكبر ملعون... وإياكم والكبر؛ فإنه رداء الله عزوجل فمن نازعه رداءه قصمه الله»(2).
وقال (علیه السلام): «هلاك الناس في ثلاث: الكبر والحرص والحسد»(3).
وقال (علیه السلام): «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من الكبر»(4).
وإنما يكون الكبر في الله سبحانه وتعالى من صفات الجمال كما قال تعالى: «هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ»(5)؛ لأن الله سبحانهوتعالى هو الكبير المتعال وبقول مطلق، أما غيره فهو صغير فقير للغاية، بل قد يكون إطلاق الصغير والفقير عليه مسامحياً، إذ هو عين الفقر وصرف الربط والتعلق، فليس له من ذاته أي شيء على الإطلاق، ولا حق له في أن يتكبر، مهما كان له مال أو ولد أو حكومة أو عشيرة أو علم أو ما أشبه ذلك.
ص: 354
..............................
هذا بالإضافة إلى أن التكبر في الإنسان يجره إلى سيئات أخرى، والله سبحانه منزه عن كل سيئة.
قولها (علیها السلام): «والصلاة تنزيهاً لكم من الكبر»، حيث إن غفلة الإنسان عن الله سبحانه بنفسها تكبر، والغافل عنه - جهلاً أو تجاهلاً - متكبر حقيقة أو لباً(1)، والتكبر أساس للكثير من الرذائل، ولذا يظلم ويطغي ويفسد.
قال علي (علیه السلام): «التكبر يظهر الرذيلة»(2).
وقال (علیه السلام): «التكبر رأسالجهل»(3).
وقال (علیه السلام): «احذر الكبر؛ فإنه رأس الطغيان ومعصية الرحمان»(4).
وقال (علیه السلام): «الكبر داع إلى التقحم في الذنوب»(5).
وقد قال سبحانه: «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ»(6).
وقال تعالى: «فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ»(7)، حيث إن الكبر إذا صار ملكة في الإنسان فإنه يؤدي إلى المفاسد والموبقات.
كما إن الإنسان المتواضع حيث صار التواضع ملكة له يتقدم؛ فإن التواضع من أسس التقدم ومن أهم أسباب التحلي بالفضائل والمحاسن.
ص: 355
..............................
وفي الحديث الشريف عن موسى بنجعفر (علیه السلام) في وصيته لهشام: «يا هشام، إن الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا، فكذلك الحكمة تعمر في المتواضع ولا تعمر في المتكبر الجبار»(1).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «التواضع لا يزيد العبد إلاّ رفعة»(2).
وقال (علیه السلام): «التواضع رأس العقل»(3).
وقال (علیه السلام): «التواضع يرفع»(4).
وقال الشاعر(5):
تواضع تكن كالنجم لاح لعارض *** على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تك كالدخان يعلو بنفسه *** إلى طبقات الجو وهو وضيع
والصلاة تذكير دائم بالله «رَبِّالْعالَمِينَ»(6) العالم بدخائل الإنسان، المطلع سمعاً وبصراً وعلماً عليه.
ثم إنه سبحانه «مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ»(7) وفي الصلاة أرقى صور التلقين والإيحاء النفسي، ولذا يتحول الإنسان المصلي من التكبر إلى التواضع، وتتكرر الصلاة كل يوم خمس مرات كي يستمر هذا الإيحاء.
ص: 356
..............................
بالإضافة إلى أن فيها الركوع وهو خضوع للرب العظيم، والسجود وهو غاية الخضوع للرب الأعلى.
إلى غير ذلك من فلسفة الصلاة التي ذكرنا بعضها في كتاب (عبادات الإسلام)(1).هذا وفي الحديث: «إنما الكبر من تكبر عن ولايتنا وأنكر معرفتنا»(2).
ص: 357
-------------------------------------------
مسألة: الزكاة راجحة مطلقاً، وقد تكون واجبة كما في الأمور التسعة المذكورة في الفقه(1)، والزكاة المستحبة كما في التجارات(2).
وفي الحديث عن أبي الحسن (علیه السلام)، قال: «إنما وضعت الزكاة قوتاً للفقراء، وتوفيراً لأموال الأغنياء»(3).
وعن الإمام الرضا (علیه السلام): «إن علة الزكاة من أجل قوت الفقراء، وتحصين أموال الأغنياء»(4).
وقال (علیه السلام): «إنما وضعت الزكاة اختباراً للأغنياء»(5).وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إذا منعوا الزكاة منعت الأرض بركاتها»(6).
وقال علي (علیه السلام) في وصيته: «الله الله في الزكاة؛ فإنها تطفئ غضب ربكم»(7).
ص: 358
..............................
وهناك روايات كثيرة في ثواب إخراج الزكاة(1) وعقاب مانع الزكاة(2).
وقد يكون الزكاة المذكورة في القرآن الحكيم وكلمات المعصومين (علیهم السلام) - في ذي القرينة - يراد بها مطلق إعطاء المال الأعم من الخمس، فلا يقال: لماذا لم تذكر الخمس؟. وقد ورد في الأحاديث: «إن الخمس عوض من الزكاة»(3)،فالزكاة لغير السادة والخمس للسادة على تفصيل مذكور في الفقه، وقد ألمعنا إلى وجه هذا الفرق في كتاب (الفقه: الاقتصاد)(4)، و(الفقه: الزكاة)(5).
مسألة: لتزكية النفس مراتب بعضها واجب وبعضها مستحب، والتزكية ها هنا واجبة في الجملة، إذ لولا لزوم تزكية النفس لم تكن الزكاة واجبة، فتأمل.
وقد علّلت (علیها السلام) جعله سبحانه للزكاة بكونها تزكية للنفس، حيث إن الإنسان المزكي تتطهر نفسه عن درن البخل والشح وعن حب الدنيا أو شدته، قال سبحانه: «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(6).
ص: 359
..............................
فإن الحسنات بعضها آخذ بعنق بعض،وقد جعل الله تعالى لكل عمل صالح أثراً وضعياً وتكوينياً وأخروياً مجانساً له، وإذا صارت الزكاة والعطاء ملكة للإنسان ترققت النفس ولان القلب، والقلب اللين مبعث الخيرات ومنبع البركات ولذا ذم الله سبحانه وتعالى اليهود بقوله: «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ»(1).
وفي الحديث: «وما قست القلوب إلاّ لكثرة الذنوب»(2).
وقال (علیه السلام): «إن للمنافق أربع علامات: قساوة القلب، وجمود العين، والإصرار على الذنب، والحرص على الدنيا»(3).
وقال (علیه السلام): «ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب»(4).
ص: 360
-------------------------------------------
مسألة: إنماء الرزق والتوسع فيه مستحب عموماً، وقد يجب أحياناً كما لايخفى.
وقد ورد في الدعاء: «وعظّم ووسّع رزقي ورزق عيالي»(1).
و: «ووسّع رزقي وأدره عليَّ»(2).
و: «ووسّع رزقي أبداً ما أبقيتني»(3).
و: «ووسّع عليَّ في رزقي»(4).
وقد علّل كثير من المستحبات وبعض الواجبات بزيادة الرزق، كما ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام): «ألا أنبئكم بعد ذلك بما يزيد في الرزق؟» ... فقال (علیه السلام): «الجمع بينالصلاتين يزيد في الرزق، والتعقيب بعد الغداة والعصر يزيد في الرزق، وصلة الرحم تزيد في الرزق، وكسح الفنا يزيد في الرزق، ومواساة الأخ في الله عزوجل يزيد في الرزق، والبكور في طلب الرزق يزيد في الرزق، والاستغفار يزيد في الرزق، وقول الحق يزيد في الرزق، وإجابة المؤذن يزيد في الرزق، وترك الكلام في الخلاء يزيد في الرزق، وترك الحرص يزيد في الرزق،
ص: 361
..............................
وشكر المنعم يزيد في الرزق، واجتناب اليمين الكاذبة يزيد في الرزق، والوضوء على الطعام يزيد في الرزق، وأكل ما يسقط من الخوان يزيد في الرزق» (1).
وأما كونها(2) «نماء في الرزق» فهو بجهة غيبية، حيث إن الله سبحانه ينمي رزق المزكي،كما سبق عنه (علیه السلام):
«إنما وضعت الزكاة... توفيراً لأموال الأغنياء»(3).بالإضافة إلى السبب الظاهر، حيث إن العطاء يوجب تقارب الأغنياء والفقراء، وتآلفهم وتحاببهم وتعاونهم، والتعاون أساس كل فضيلة ومفتاح كل تقدم، هذا إضافة إلى أنها توجب تقوية القدرة الشرائية في الفقراء مما لا يخفى أثرها الاقتصادي، قال سبحانه: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا»(4). فالزكاة تطهير نفسي كما سبق، وتنمية في المال والمجتمع(5)، على عكس الربا حيث «يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ»(6) ومن فلسفة ذلك أن الربا يوجب الحقد والتنازع والطغيان(7).
ص: 362
..............................
الاهتمام بالأمور الدنيوية (1)
مسألة: يستحب الاهتمام بالأمور الدنيوية عموماً، ومن مصاديقه إنماء الرزق، إلى جوار الاهتمام بالشؤون الأخروية.
والاستحباب إنما هو في المقدار المستحب، وإلاّ فالقدر الواجب واجب، وقد قال (عليه الصلاة والسلام): «ليس منا من ترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه»(2).
وقال (علیه السلام): «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً»(3)
وفي الحديث: «اجعلوا لأنفسكم حظاً من الدنيا»(4).
وقبل ذلك قال القرآن الحكيم: «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»(5).
مسألة: يستحب الإنفاق مطلقاً؛ فإن جامع الملاك الموجود في الزكاة على قسميه جار في مطلق الإنفاق، هذا إن لم نقل بإرادة المعنى اللغوي منها، إضافة
ص: 363
..............................
إلى الآيات والروايات الدالة على فضيلة الإنفاق مطلقاً.
قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ»(1).
وقال سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ»(2).
وقال عزوجل: «وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ»(3).
وقال جل ثناؤه: «وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَىأَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ»(4).
وقال (علیه السلام): «إن من أخلاق المؤمن الإنفاق على قدر الإقتار»(5).
نعم، إذا عارضته جهة منفرة إلى حد المنع من النقيض يكون محرماً، أو لا إلى ذلك فيكون مكروهاً.
ص: 364
-------------------------------------------
مسألة: يستفاد من قولها (علیها السلام): «جعل... » ومن السياق: وجوب الصوم، فتكون اللام للعهد المقصود به المصداق الخاص.
وأما على كونها للجنس فيكون قولها (علیها السلام) دالاً على رجحانه عموماً.
فإن من الصيام ما هو واجب، ومنه ما هو مستحب، أما الصوم المحرم كيوم العيدين، أو المكروه كصوم يوم عاشوراء، فلعارض، وقد ذكرنا وجه ذلك في الفقه(1).
قولها (علیها السلام): «والصيام تثبيتاً للإخلاص»، فإن الإخلاص الذي في الصوم عميق جداً، إذ إن الإنسان يستطيع - عادة - أن يتظاهر بالصوم ويرتكب المفطرات سراً، فالإخلاص يثبت ويتقوى بالصيام، حيث يروض الإنسان نفسه بالامتناع عن المفطرات مع شدة الشوق إليها. ولعل هذا هو سر قوله سبحانهفي الحديث القدسي: «الصوم لي وأنا أجزي عليه»(2).
أي جزاؤه على الله سبحانه(3)، أو أن الله هو جزاؤه(4) كناية عن أنه
ص: 365
..............................
سبحانه يحكم للصائم في الآخرة فيما يشاء، إذ مع امتناع الحقيقة فإن أقرب المجازات يكون هو المتعين.
هذا بالإضافة إلى سائر فوائد الصيام مما ذكر في القرآن الحكيم أو في السنة المطهرة، أو ثبت طبياً واجتماعياً، وغير ذلك.
قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»(1).
وقال (علیه السلام): «فرض الله...الصيام ابتلاء لإخلاص الخلق»(2).
مسألة: يجب الإخلاص في العبادات، ويرجّح في غيرها، فإن الإخلاص في الواجبات التعبدية واجب تكليفاً، وشرط للصحة وضعاً، وفي المستحبات التعبدية شرط للصحة، حيث إذا لم يكن إخلاص لم تكن عبادة.
أما الإخلاص في سائر الأمور فهو من المرجحات.
ويمكن أن يقوم الإنسان بكل عمل - كالواجبات التوصلية والمباحات - بقصد القربة الخالصة له سبحانه وتعالى(3).
ص: 366
..............................
والإخلاص لله تعالى - إضافةً لآثاره الأخروية - من أكبر عوامل التقدم والنهوض بالأمة واستنقاذها من واقعهاالمرّ، فإن المخلص يضحي بوقته وصحته وماله ونفسه لخدمة الإسلام والمسلمين، أما غير المخلص فتراه يضحي بمصالح الدين والأمة لأجل أن يعيش حياة مرفهة.
وقد ورد في زيارتهم (علیهم السلام): «السلام على الإمام التقي، المخلص الصفي»(1).
وعنه (علیه السلام): «وأما علامة المخلص فأربعة: يسلم قلبه، وتسلم جوارحه، وبذل خيره، وكف شره»(2).
وعنه (علیه السلام): «سادة أهل الجنة المخلصون»(3).
ص: 367
مسألة: الحج منه واجب ومنه مستحب، وقد تطرأ الحرمة على الحج لسبب خارجي كحج الزوجة بدون إذن الزوج حجاً مستحباً، وكذلك حج العبد(2) وما أشبه ذلك(3).
وفي الحديث عن جعفر بن محمد (علیه السلام)، قال: «بني الإسلام على خمس دعائم: على الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وولاية أمير المؤمنين والأئمة من بعده (علیهم السلام)»(4).
وقد جعل الله الحج تشييداً للدين كما ذكرته (صلوات الله عليها) حيث إنه - بالإضافة إلى جوانبه العبادية والاقتصادية وغيرهما - يعد مؤتمراًعاماً لكل المسلمين، حيث يجتمعون ويتعارفون، ويعالج بعضهم مشاكل بعض، وتذوب بينهم الفوارق الإقليمية واللونية واللغوية وغيرها(5)؛ فإن الحج يوجب إيجاد أرضية أو تقوية حالة (الشورى)، قال تعالى: «وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ»(6).
ص: 368
..............................
و(الحرية)، قال سبحانه: «يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ»(1).
و(الأمة الواحدة)، قال تعالى: «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً»(2).
و(الأخوة)، قال سبحانه: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ»(3).
و(شرائع الإسلام)، قال تعالى: «شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً»(4).
ولهذا فالجدير بالمسلمين أنيعيدوا إلى الحج فوائده المتوقعة، كما قال سبحانه: «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لهمْ»(5)، وذلك عبر رفع المنع عن كل من يريد الحج، بل إلغاء أي روتين يعرقل ذلك، وأن تكون مكة المكرمة والمدينة المنورة - على الأقل - محل أمن ومعقل حرية لإقامة كل الشعائر الإسلامية، ومركزاً للتلاقي والاختلاط بين كافة المسلمين(6). ومع الأسف فإنه اليوم أضحى إلى حد كبير - حيث جرد من كثير منافعه وغاياته - خلافاً لما قاله القرآن الحكيم، فإذا رجع الحج إلى واقعه الإسلامي كان العامل الأساسي في تقدم المسلمين إلى الإمام(7).
ص: 369
..............................
مسألة: يجب تشييد الدين(1) وتقويته، كما قال تعالى: «أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ»(2) في الواجبات.
ويستحب في المستحبات.
إذ إن استحكامه في فرائضه بالواجبات وفي مندوباته بإتيان المستحبات؛ لأن مثل الدين كبناء يحتاج إلى المواد الأساسية للبناء، بالإضافة إلى التجملية، فهو أيضاً بين واجب ومستحب.
هذا بالإضافة إلى ما للمستحبات من دور كبير في السوق نحو مزيد الالتزام بالواجبات، فهي مشيدة للدين ذاتاً وتسبيباً.
والحج من المقومات الأساسية للدين، وبه يستحكم الدين ويتعالى ويتسامى كما لا يخفى، والمستحب منه أيضاً من بواعث تشييد الدين كما سبق.
قال علي (علیه السلام): «فرض الله... الحج تقويةً للدين»(3).
وقال (علیه السلام): «خير الأعمالما أصلح الدين»(4).
ص: 370
أنواع العدل والظلم(2)
مسألة: يجب العدل في موارده، كما هو مستحب في موارده مثل: تقسيم اللحظة والنظرة والبسمة والسلام والتكلم مع الجلساء، وتقسيم ما عدا الحقوق المقررة تقسيماً مستحباً بين الأولاد أو الزوجات أو ما أشبه، إلى غير ذلك من النظائر، كما يدل عليه جملة من الروايات، وكما حققه علماء الأخلاق والكلام والفقه.
وقد ورد في عهده (علیه السلام) إلى محمد بن أبي بكر (رحمة الله) حين قلده مصر:«وآس بينهم في اللحظة والنظرة»(3).
وفي الحديث: «العدل أحلى من الشهد، وألين من الزبد، وأطيب ريحاً من المسك»(4).
ص: 371
..............................
ومن البين أن العدل غير المساواة، وأن النسبة بينهما العموم من وجه.
وكما يجب العدل يحرم الظلم، وهو يشمل: ظلم النفس - روحاً وجسماً - وظلم العائلة، وظلم المجتمع، وظلم الحكومة(1)، وظلم الحيوان والنبات والطبيعة، وظلم الأجيال القادمة أيضاً، والظلم الاقتصادي والاجتماعي وغيرها. قال تعالى: «وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»(2).وقال سبحانه: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ»(3).
وقال تعالى: «يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ»(4).
وقال سبحانه: «وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا»(5).
وقال تعالى: «وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا»(6).
وقال سبحانه: «فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ»(7).
وقال تعالى: «يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامى ظُلْماً»(8).
ص: 372
..............................
وبكلمة جامعة: فإن «مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»(1)، ولكل من تلكالأنواع مباحث مفصلة في مظانها(2).
قولها (علیها السلام): «تنسيقاً للقلوب» فإن من أهم ثمار العدل تنظيم قلوب الناس، حيث يرى الناس أن الحاكم يساوي بين الناس ولا يقدم بعضاً على بعض عبثاً واعتباطاً، ولذلك فهم يتعاطفون مع الحاكم ويلتفون حوله، كما تتوثق به أواصر العلاقة بينهم أنفسهم، وبعضهم مع بعض، والمجتمع الذي تسود فيه روح التعاطف والتحابب، وتتصافى فيه القلوب يكون مجتمعاً مستقراً متكاتفاً متقدماً إلى الإمام.
..............................
وقال (علیه السلام): «العدل زينة الإمارة»(1).
ولذا لم يكن في الإسلام حدود جغرافية، ولا تمايز بالألوان واللغات والعشائر وما أشبه، بل «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»(2).
ولهذا السبب التفّ الناس حول الإسلام أيما التفاف، بعد أن رأوا العدالة في مختلف شؤون:
العبادية..
والاقتصادية: كالإرث والضرائب الأربعة فقط وحق حيازة المباحات والتجارة الحرة..
والسياسية: فلكل من جمع الشرائط أن يكون والياً مثلاً، من أية لغة أو قومية أو ما أشبه، وكذلك «يسعى بذمتهم أدناهم»(3) وغير ذلك..والجزائية.. وغيرها.
فكل الناس في ذلك شرع سواء، إلاّ فيما خرج بالدليل كبعض الأمور النابعة من مقتضى واقع الحال والعدل مثل: (تعدد الزوجات)، وأن «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ»(4)وما أشبه، حيث إن هذا الاختلاف - على ما بين في الشرع - هو مقتضى العدالة، والمساواة في أمثال هذه الموارد هو على خلاف العدالة، وذلك كالمساواة بين البقال والمهندس، أو الجاهل والعالم، في الاحترام
ص: 374
..............................
وفي العطاء، أو بين الطفل الصغير وأخيه الأكبر في كمية الأكل، أو ما أشبه ذلك، وقد ذكرت فلسفة كل تلك الموارد في الكتب المعنية بهذا الشأن(1).
مسألة: يستحب - وقد يجب - السعي لتنسيق القلوب وتأليفها وجمعها وتصافيها.
قال تعالى: «لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ»(2).
وقال عزوجل: «وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ»(3).
وذلك عبر تكريس التقوى في النفوس، وعبر تربية النفس والناس على الإغضاء عن السيئة، والعفو والصفح، وعلى سعة الصدر، وفي الحديث: «المؤمن مألوف، ولا خير فيمن لا يَألف ولا يُؤلف»(4).
هذا وفي الأحاديث أنه بهم (عليهم أفضل الصلاة والسلام) يؤلف الله بين القلوب، قال (علیه السلام): «بنا يؤلف الله بين قلوبهم بعد عدواة الفتنة»(5).
ص: 375
..............................
وعبر عدم فسح المجال لرواج الغيبةوالتهمة والنميمة، وعبر سلسلة من البرامج العملية التي تقضي على التدابر والتحارب بين المؤمنين، كما فعل الإمام الصادق (علیه السلام) ذلك حيث دفع كمية من الأموال للبعض من أتباعه كي يصلح به أي نزاع مالي يحدث بين مؤمنَين(1).
ومن الواضح أن أحكام الله تعالى تابعة لمصالح ومفاسد في المتعلقات إلا نادراً (2)، وهي (صلوات الله وسلامه عليها) تشير ها هنا إلى أن المصلحة في إيجاب العدل - أو جزءها - هي تنسيق القلوب، وإذا كان كذلك كان الراجح، بل اللازم في بعض الأحيان السعي لتنسيقها عبر ما يزيد على العدل، كالإحسان مثلاً، وكما فيما سبق.
ص: 376
-------------------------------------------
مسألة: يجب إطاعة أهل البيت (عليهم أفضل الصلاة والسلام) وإعلام الناس بذلك، فإن الله سبحانه وتعالى جعلهم (علیهم السلام) هداة للخلق بعد النبي (صلی الله علیه و آله)، كما جعل الأنبياء والمرسلين(علیهم السلام) هداة للناس، وكذلك الأمر في أوصياء الأنبياء (علیهم السلام)، وفي الأحاديث أنه: «كان لكل نبي وصي»(1).
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أيها الناس، إن علياً إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم، وهو وصيي ووزيري وأخي وناصري، وزوج ابنتي وأبو ولدي، وصاحب شفاعتي وحوضي ولوائي، من أنكره فقد أنكرني، ومن أنكرني فقد أنكر الله، ومن أقر بإمامته فقد أقر بنبوتي، ومن أقر بنبوتي فقد أقر بوحدانية الله عزوجل. أيها الناس، من عصى علياً فقد عصاني، ومن عصاني فقد عصىالله»(2).
ولا يخفى أن الإيمان بوجوب إطاعة أهل البيت (علیهم السلام) إنما يكون بعد الاعتقاد بأن الله سبحانه وتعالى نصبهم حججاً على خلقه وأدلة لعباده.
و(أهل البيت) يشمل فاطمة الزهراء (علیها السلام) - بالإضافة إلى النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة الطاهرين (علیهم السلام) - وقد دلت على ذلك آية التطهير(3) وروايات
ص: 377
..............................
متواترة(1)، فهي (صلوات الله عليها) واجبة الطاعة، كوجوب طاعة الرسول(صلی الله علیه و آله) والأئمة الاثني عشر (عليهم الصلاة والسلام)(2).و(الملة): الطريقة والدين والشريعة(3)، أي ما شرعه الله سبحانه لعباده بواسطة أنبيائه (علیهم السلام) لإيصالهم للسعادة الدنيوية والأخروية، قال تعالى: «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ»(4) أي: دينه.
وقد استعملت في مطلق الشرائع والملل حتى الباطلة، قال تعالى: «حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ»(5)، أي: سنتهم وطريقتهم.
وقد تأتي بمعنى (الأمة) أيضاً(6).
و(النظام): بمعنى القوام، وبمعنى التأليف والجمع(7)..
ص: 378
..............................
وكلا المعنيين محتمل هنا، ولكل منهما مرجحات، ويمكن أن يكون المراد به الجامع.
مسألة: من الضروري التنبيه على أن طاعتهم (علیهم السلام) هو الذي يوجب إيجاد وحفظ واستقرار النظام ودعوة الناس لذلك، فإن الملة والشريعة تحتاج إلى النظام بكلا معنييه، وطاعتهم (علیهم السلام) توجب جمع الملة وتأليفها وصونها عن التشتت والتناثر، كما توجب إقامة الملة والشريعة واستقامتها.
قال علي (علیه السلام): «والإمامة نظاماً للملة»(1).
ص: 379
..............................
ومن المحتم بالبرهان أن نظام ملة الإسلام وشريعته هو أفضل الأنظمة على الإطلاق، بل لا قياس بينه وبين غيره(1).
وأما ما يكون بإطاعة غيرهم من (النظام) فإنما هو ظاهري ومحدود ومؤقت(2)، بل قد يكون أكثر إضراراً، ثمإنه (نظام) لمفردات ومصاديق وقوانين خاطئة في حد ذاتها غالباً.
وقد قال الشاعر:
ولو قلدوا الموصى إليه أمورها *** لزمت بمأمون على العثرات(3)
وقال: (ولو قدموا حظهم قدموكا).
وقال الرسول(صلی الله علیه و آله): «إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن تضلوا ما تمسكتم بهما، وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض»(4).
ص: 380
..............................
وقد ورد في تفسير قوله تعالى: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا»(1)، أي: ولاية علي وذريته (علیهم السلام)(2).
وقال (صلی الله علیه و آله): «وطاعتنا طاعة الله، ومعصيتنا معصية الله عزوجل»(3).
وقال (علیه السلام): «نحن قوم فرض الله طاعتنا في القرآن»(4).
وقال (علیه السلام): «إن الله تبارك وتعالى أوجب عليكم حبنا وموالاتنا وفرض عليكم طاعتنا»(5).
وقال (علیه السلام): «طاعتنا فريضة، وحبنا إيمان، وبغضنا كفر»(6).
مسألة: يجب إيجاد الشروط والظروف الموضوعية التي توفر الدعم والحماية لمن هم (علیهم السلام) بأقوالهم وسيرتهم السبب في نظام الشريعة؛فإن حمايتهم حماية للشريعة نفسها،قال تعالى: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى»(7).
فإنه يستفاد من كلامها (علیها السلام) أمران:
ص: 381
..............................
الأول: لزوم النظام للملة أولاً وبالذات، وهذا أمر عقلي قبل أن يكون شرعياً(1).
الثاني: إن هؤلاء المعصومين(علیهم السلام) هم الذين ينظمون الملة، وهذا شرعي من باب الأدلة النقلية الوفيرة، وعقلي من باب انطباق المواصفات اللازمة (علیهم السلام) دون غيرهم(2).
فإن ملة الإسلام تنتظم أمورها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتربوية والعسكرية والعائلية والمعاملية وغيرها بطاعة المعصومين (علیهم السلام)؛ وذلك لأن التشريعاتالإلهية والأحكام النبوية التي يتولونها توجب النظم وعدم الفوضى والخلل والاضمحلال.
و(الملة) بملاحظة مادتها قد تفيد معنى مل(3) بمعنى الملل؛ لأن الطريقة الوحيدة المتبعة توجب التكرار المسبب للملال غالباً، هذا من جهة اللفظ.
أما الواقع فإن الصحيح والمستقيم والحق هو الذي لا يمل وإن تكرر، ولذا لا يمل ضوء النهار وجريان الأنهار وغير ذلك من الأمور التكوينية على تكررها، وكذا الحال في الأمور التشريعية، فإنه لا يحيد أي عاقل عن الصحيح إلى غير الصحيح وإن تكرر الصحيح. نعم، من كان منحرفاً في ذاته ربما رجح الباطل.
ص: 382
الاعتقاد بالإمامة (2)
مسألة: يجب الاعتقاد بإمامة أهل البيت (علیهم السلام) كما يجب إرشاد الناس لذلك، على ما يستفاد من (جعل الله…إمامتنا)، ولغير ذلك من الأدلة الكثيرة المذكورة في مظانها.
إذ جعل الإمامة أماناً، إنما هو بالجعل المركب، وجعلها هي بسيط، والإمامة غير الطاعة، فالإمامة مقدمة على الطاعة رتبةً كتقدم السبب على المسبب(3) فإذا لم يعتقد إنسان بإمامتهم (علیهم السلام) أتخذ لنفسه إماماً آخر، وهذا يوجب الفرقة كما لا يخفى، وقد حصل بالفعل بعد أن اتخذ الكثير من الناس أئمة غيرهم (علیهم السلام).
ولربما اعتقد شخص بالإمامة ولم يطع، أو أطاع ولم يعتقد، ولربما كانتالإمامة ولم توجد الإطاعة، أو بالعكس، فالنسبة بينهما عموم من وجه.
ص: 383
..............................
مسألة: تحرم الفرقة والتفرق في الجملة، وقد يكره حسب الموارد المختلفة، قال سبحانه: «فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ»(1)، وقال جل وعلا: «لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ»(2)، إلى غير ذلك من الآيات والروايات.
قال (علیه السلام): «وإياكم والتفرق»(3)، وقال (علیه السلام) : «ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة»(4)، وقال (علیه السلام): «وإياكم والفرقة»(5).
ومن الواضح أن التفرق عن سبيل الله هو المحرم، أما التفرق في سبيل اللهوإلى الله، كما في «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ»(6) فهو المطلوب.
مسألة: يجب السعي لتحقيق فعلية سلطتهم وحاكميتهم (علیهم السلام) باعتبارها هي (الأمان من الفرقة)؛ فإن واقع الإمامة غير السلطة وبسط النفوذ والسيطرة، وتنبيه الناس وإرشادهم إلى الواقع من المقدمات لذلك، أي أنها من الأسباب
ص: 384
..............................
التي تؤدي إلى فعلية السلطة والحاكمية، فتحقق فعلية (الأمن من الفرقة).
قولها (علیها السلام): «وإمامتنا أماناً للفرقة» فإن هذا غير الإطاعة، فقد يطيع الإنسان شخصاً ولا يتخذه إماماً، فكان لابدّ من إضافة هذه الجملة: (إمامتنا) على الجملة السابقة.
ثم إن الإطاعة ليست بمفردها هي الضمان من الفرقة، إذ الفرقة عقائديةونفسية وعملية، والإطاعة قد تكون ضماناًُ من الأخيرة فقط، أما من يتخذهم (علیهم السلام) أئمة فإنهم (علیهم السلام) أمان من الفرقة، إذ الباطل دائماً يضرب بعض الناس ببعض ليسود، قال سبحانه: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَْرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً»(1).
وفي المثل الباطل: (فرّق تسد).
أما هم (علیهم السلام) فإنهم يعطون كل ذي حق حقه، ويتيحون الفرص للجميع على حسب قول علي (علیه السلام):
«الناس من جهة التمثال أكفاء *** أبوهم آدم والأم حواء»(2)
وكذلك يؤلفون بين القلوب ويجمعون الكلمة على التقوى، ويزرعون روح الأخوة الإيمانية والتعاون، وحين ذاك يكون الناس مأمونين من الاختلاف والتفرقة عملياً، كما أنهم يأمنون - بالاعتقاد بإمامتهم (علیهم السلام) - من التفرقة العقائدية.
وقد تقدم أنها (علیها السلام) أشارت إلى (الإمامة) التي من أصولالدين الخمسة،
ص: 385
..............................
ومن ذلك يظهر أن (الإمامة) بمعنى الرئاسة العامة الفعلية هي أمان فعلي من الفرقة - عكس رئاسة الغير - التي هي ليست أماناً من الفرقة.
أما (الإمامة) بمعنى ذلك المنصب الإلهي فهي بحد ذاتها مقتض للأمن من الفرقة، ويوضح ذلك بكلا شقيه الحال في الأنبياء والرسل (علیهم السلام)، فإذا اعتقد الناس بها - كما أمرهم الله تعالى به أمراً تشريعياً - واتخذوها الدليل والمرشد والمنهج الراسم لمسيرة حياتهم في شتى الأبعاد، كانت أماناً بالفعل.
ومن الواضح أن وكلاءهم (علیهم السلام) امتداد لهم، وإتباعهم وسلطتهم - بما هم وكلاء لهم - شعبة من إطاعتهم والاهتداء بهديهم (علیهم السلام).
قال (علیه السلام): «فإني قد جعلته عليكم حاكماً»(1).
وقال (عجل الله تعالى فرجه الشريف):«فللعوام أن يقلدوه»(2).
ص: 386
الجهاد في سبيل الله(2)
مسألة: يجب الجهاد في سبيل الله تعالى، والمراد بالجهاد ما ذكر في (الفقه) بأقسامه الثلاثة: الابتدائي والدفاعي والبغاة، لا جهاد النفس، إذ المنصرف منه ذلك وبقرينة قولها: «عزاً للإسلام».
وإن كان جهاد النفس أيضاً من الواجبات بل سماه رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الجهاد الأكبر»(3)، وقد يكون ذلك نظراً لأصعبيته من جهات عديدة، إذ يستمرطوال حياة كل فرد، ويواجه مختلف شهوات النفس: من حب المال والرئاسة، والرياء والسمعة، والكبر والعجب، وحفظ اللسان واليد والعين والسمع و...
قولها (علیها السلام): «والجهاد عزاً للإسلام»؛ لأن أعداء الإسلام يحاولون - باستمرار - النفوذ إلى داخل بلاد المسلمين، والسيطرة على مقدراتهم - بشكل أو بآخر - فالجهاد يكون وقاية أو علاجاً(4) رفعاً أو دفعاً، كما يكون سبباً لتقدم بلاد
ص: 387
..............................
الإسلام، ويكون سبباً لإرجاع المنحرف إلى الصراط المستقيم، إذ الجهاد ابتدائي ودفاعي وإصلاحي..
كما قال سبحانه: «وَإِنْ طَائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُما عَلَى الأُخْرى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّه»(1).
مسألة: كل ما يوجب عز الإسلام فهو واجب أو مستحب، فإذا كان وجوب الجهاد لأجل إعزاز الإسلام كان كل ما يوجب عزه راجحاً، وقد يصل إلى مرحلة الوجوب، باعتبار أن (العزة) ذات مراتب، بعضها واجب التحصيل وبعضها مندوب.
فمثلاً (شعائر الله) بعضها واجب وبعضها مستحب، على حسب مالها من المدخلية في (عز الإسلام) كأحد الملاكات، كما لا يخفى(2).
ص: 388
الصبر(2)
مسألة: يجب الصبر في موارد، ويستحب في موارد أخرى، كما سيأتي.
وحيث أطلقت (علیها السلام) (الصبر) شمل الصبر على أداء الواجبات، والصبر عن المحرمات، والصبر في النوازل والمصائب والمشاكل الشخصية والعائلية والاجتماعية بمختلف أبعادها، كما ورد في الحديث: «الصبر على ثلاثة أوجه: فصبر على المصيبة، وصبر عن المعصية، وصبر على الطاعة»(3).
ومن الواضح أن الصبر في هذه المواطن المذكورة بين واجب ومستحب، كالكثير من الأحكام الجوارحية والجوانحية الأخرى.
وإلى الأقسام الثلاثة من الصبر أشارت الآيات الكريمة:قال تعالى: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا»(4).
وقال سبحانه: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ»(5).
وقال تعالى: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ»(6).
ص: 389
..............................
وقال سبحانه: «فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ»(1).
وقال تعالى: «وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ»(2).
إلى غير ذلك من الآيات الشريفة.
وحيث إنها (علیها السلام) كانت في صدد بيان بعض الفروع المهمة التي لها مدخلية في قوة المجتمع واستقامته وتقدمه ذكرت الصبر؛ إذ «الصبر مفتاح الفرج»(3)، وسبب التقدم، ويدفع الإنسانعلى تحمل ما يوجب له الأجر في الدنيا والآخرة، قال سبحانه: «وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ»(4).
فإنه لا يتقدم متقدم في أي بعد من أبعاد الحياة - سواء كان فرداً أم أمة أم جماعة - إلاّ بالصبر، قال تعالى: «إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ»(5). ولذا قال علي (علیه السلام): «اعلموا أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس له»(6).
وفي الحديث: «ولا إيمان لمن لا صبر له»(7).
وقال (علیه السلام): «نعم عون الدين الصبر»(8).
ص: 390
..............................
وقال (علیه السلام): «أفضل العبادةالصبر»(1).
وقال (علیه السلام): «الزم الصبر؛ فإن الصبر حلو العاقبة، ميمون المغبة»(2).
ومن الواضح - بعد ذلك - أن الصبر حالة إيجابية، ولذا قال تعالى: «اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ»(3) وليس حالة سلبية؛ فإنه يعني الصبر على مشاق الطاعات كالصلاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر عن إتيان المحرمات.
أما الصبر في مشاق الحياة فهو يعني تحملها بجلد دون الانهيار تحت وطأتها «إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ»(4) فيما لا قدرة للإنسان على الخلاص منها - دائماً أو لفترة - كمرض ميئوس منه أو سجن لا مخلص للإنسان منه.
أما إذا كان له طريق للخلاص من المرض أو الفقر أو سجن الحاكم الجائر أو ما أشبه ذلك من مشاكلالحياة، فعليه أن يسعى للخلاص منه. ف: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ»(5).
وقال تعالى: «رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ»(6).
ص: 391
..............................
لا أن يبقى الإنسان على الوضع الذي هو فيه - مما لا يريده الله سبحانه - مدعياً الصبر(1)، قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا»(2).
مسألة: يجب - في الجملة - القيام بما يوجب استحقاق الأجر والثواب، وهو الذي اعتبرته (علیها السلام) العلةلجعله جل وعلا (الصبر).
و«استيجاب الأجر»، أي استحقاقه(3)، كما ورد في الدعاء:
«من غير استحقاق لاستماعك مني ولا استيجاب لعفوك عني»(4).
و: «وباعدتني عن استيجاب مغفرتك»(5).
وفي الصحيفة السجادية: «ولا يبرئ نفسه من استيجاب نقمتك»(6).
وقد يجيء باب الاستفعال بمعنى الفعأل المجرد(7) فيكون الصبر - على هذا -
ص: 392
..............................
معونة على ثبوت الأجر ولزومه.
فإن العمل الصالح يحتاج إلى لزوم أجره وثبوته بنحو العلة المبقية، وكثير من الناس من يحبط عمله ب (الجزع) مثلاً.
فالصبر هو المعين على دوام الأجر وعدم حبطه، قال (علیه السلام): «من أعطي الصبر لم يحرم الأجر»(1).
وحيث إن (الأجر) بين ما يجب عقلاً تحصيله أو المحافظة عليه، وبين ما يستحب، كان إتيان وإنجاز ما يوجبه بين واجب ومستحب، فمثلاً:
الفقير الذي يكتسب لقوت يومه وقوت عياله يجب عليه العمل لاستيجاب الأجر الذي يوفر لهم المأكل والملبس، أما الزائد منه على قدر الضرورة فهو مستحب.
و(الأجر) قد ينصرف للأجر الإلهي، ولكنه لغة وعرفاً يطلق على الأجر الدنيوي منه والأخروي، وربما يستظهر من كلامها (علیها السلام) إرادة الأعم، وقد يؤيد ذلك بقرينة السياق، فتأمل.
ص: 393
-------------------------------------------
وجوب الأمر بالمعروف(1)
مسألة: يجب الأمر بالمعروف في الجملة، فإن كان المعروف واجباً وجب، وإن كان مستحباً استحب إلاّ لو طرأ عليه عنوان ثانوي فقد يجب حينئذ.
قال تعالى: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ»(2).
وهو واجب كفائي، فإن قام به من فيه الكفاية وإلاّ وجب على الجميع.
وقوله تعالى: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ»(3) قد يفيد ضرورة تفرغ أو تخصص مجموعة لذلك، وكان ذلك من أسباب تفرغ رجال الدين للهداية والتبليغ على مر العصور.
ولا يبعد أن يراد ب (الأمر بالمعروف) هنا: الأعم منه ومن النهيعن المنكر، لإطلاق كل واحد منهما على الآخر إذا انفرد، فإن الأمر بالصلاة وكذلك النهي عن شرب الخمر كلاهما أمر بالمعروف توسعاً(4).
ص: 394
..............................
وقد وصف سبحانه وتعالى الأمة بأنها «خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» (1)؛ لأنها اتصفت ب: «تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» (2)، ولا يخفى ما لجعل الأمر والنهي في سياق الإيمان بالله من الدلالة على أهميتها.
وفي الحديث:
«فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه، لعلمه بأنها إذا أديت وأقيمت استقامت الفرائض كلها، هيّنها وصعبها... »(3).
قال (علیه السلام): «غاية الدينالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(4).
وقال (علیه السلام): «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله، فمن نصرهما أعزه الله، ومن خذلهما خذله الله»(5).
وقال (علیه السلام): «الأمر بالمعروف أفضل أعمال الخلق»(6).
ص: 395
..............................
مسألة: تجب مراعاة المصلحة العامة، وإنما استفيد من هذه الجملة وجوب مراعاة المصلحة العامة - مع قطع النظر عن الأدلة العقلية والنقلية الأخرى الدالة على ذلك - لأنها (علیها السلام) جعلتها العلة الغائية لجعله سبحانه وتعالى (الأمر بالمعروف)، فقد أوجبه جل وعلا لأنه الطريق لمصلحة العامة، فلولا وجوبها لما ترشح الوجوب إلى الوسيلة والسبب، فتدبر. وغير خفي أن ذلك غير ما ذهبوا إليه من (المصالح المرسلة)(1).
فليست (المصلحة العامة) مشرّعة، بل إنها تنقح موضوع القواعد الأولية والثانوية، وقد أوضحنا في العديد من الكتب أن الشؤون العامة يكون المرجع فيها هو (شورى الفقهاء المراجع)(2).ومن البين أن مصلحة العامة على قسمين:
1. مصلحة لازمة تمنع النقيض.
2. ومصلحة ليست بتلك الدرجة.
فالمانعة من النقيض واجبة، والراجحة مستحبة.
ص: 396
..............................
كما أنه يعلم مما تقدم أنه أعم مما ينهى عنه أو يأمر به.
قولها (صلوات الله عليها): «مصلحة للعامة»؛ لأن بالأمر بالمعروف تستقيم أمور العامة وتهتدي إلى سبل الرشاد، وبتركه تنحرف إلى ما يفسد دينهم ودنياهم.
ومن مصاديق ذلك ما أشارت إليه الرواية الشريفة: «لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم»(1).
ويظهر من الروايات الشريفة ومن التدبر الكامل في أبعاد القضايا أنهيخطئ من يتصور أن تركه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - سواء كان منكراً صادراً من الحكومة أم من آحاد الناس - يخلصه من المشاكل ويجعله بمنحي عن البلاء، فقد قال الإمام علي (علیه السلام): «واعلما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقربان من أجل، ولا ينقصان من رزق»(2).
ولو تخلص من بلاء لأوقعه الله في بلاء أشد ولو بعد حين، كما في الرواية الآنفة: «ليستعملن».
ص: 397
..............................
مسألة: يجب بيان الأحكام الشرعية للناس وجوباً كفائياً عموماً، ويمكن بيانها في الخطاب أيضاً، كما بينت الزهراء (علیها السلام) قسماً من الواجبات والمحرمات في خطبتها.
فإنها (عليها الصلاة والسلام) على حسب اقتضاء المقام بينت قسماً من الأحكام الشرعية للناس، وهي أسوة، والفعل - وكلامها من هذه الجهة من مصاديقه - في أمثال المقام دليل الرجحان الأعم من الوجوب والاستحباب.
قال (علیه السلام): «بينوا ما ذكره الله»(1).
وقال (علیه السلام): «بينوا للناس الهدى الذي أنتم عليه»(2).
وقال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُوَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ»(3).
وقال سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»(4).
ص: 398
البر بالوالدين(2)
مسألة: البر بالوالدين - في الجملة - واجب على ما هو مفصل في الفقه، قال الله تعالى عن لسان النبي عيسى (علیه السلام): «وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا»(3).
وعن يحيى (علیه السلام) قال تعالى: «وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا»(4).
وربما يظهر منه أن البر في مقابل التجبر والشقاوة والمعصية، وحيث إن التجبر والعصيان محرم فالبر واجب، فتأمل.
هذا إضافة إلى وقوعه في سياق الصلاة والزكاة وكونه وصية الله سبحانه الظاهرة - لولا القرينة - في الوجوب.والآيتان - بمعونة استصحاب الشرائع السابقة، بل دلالة الروايات على ذلك - كفيلتان بالمطلوب، فتأمل. قال تعالى: «وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً»(5) ولشفع الإحسان بالوالدين ب «لا تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ» ولقوله: «قَضَى» أكبر الدلالة، كما لا يخفى.
ص: 399
..............................
وقال سبحانه: «أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ»(1).
وقال تعالى: «وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ»(2).
نعم، من البر ما هو مستحب أيضاً وهو الزائد على القدر الواجب، وقد ذكر هذا المبحث مفصلاً في علمي الأخلاق(3) والفقه.
قال (علیه السلام): «بر الوالدينواجب وإن كانا مشركين»(4).
وقال (علیه السلام): «بر الوالدين أكبر فريضة»(5).
وقال (علیه السلام): «بر الوالدين وصلة الرحم يزيدان في الأجل»(6).
مسألة: يحرم ما يوجب سخط الوالدين، أو سخط الله سبحانه وتعالى، أو كليهما؛ لأن الألف واللام في (السخط)(7) قد يكون عوضاً عن المضاف إليه وهو الله تعالى، أو الوالدين، أو كليهما، أي (وقاية من سخط الله أو الوالدين أو...) أو إنه للجنس مثلاً.
ص: 400
..............................
قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): «رضا الله مع رضا الوالدين، وسخط الله مع سخط الوالدين»(1).وقال (صلی الله علیه و آله): «يا علي، رضا الله كله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخطهما»(2).
وقال (علیه السلام): «فإن رضاهما رضاء الله، وسخطهما سخط الله»(3).
ولا يخفى أن جملة من العلماء ذهبوا إلى عدم وجوب طاعة الوالدين إلاّ فيما إذا أوجب عدم الطاعة أذاهما لا مطلقاً.
ثم المستثنى أيضاً ليس على إطلاقه، فلو تأذى الوالدان من تجارة الولد مثلاً ونهياه عن العمل مطلقاً، أو عن خصوص التجارة منه مثلاً، أو أمراه بطلاق زوجته خصوصاً إذا كان له منها أولاد، لا تجب عليه الطاعة حتى لو أدى ذلك إلى سخطهما وأذاهما وعدم رضاهما؛ لأن إطلاقات أدلة (الطاعة) و(البر) منصرفة عن أمثال ذلك(4).
ص: 401
..............................
و(السخط) يعني: الغضب والكره(1).
هذا ويحتمل أن يكون المراد من (السخط) هو السخط التكويني(2)؛ لأن عدم برّ الوالدين يؤدي إلى انفصام المجتمع وتشققه وتفككه وكراهية بعضه لبعض، إذ الأبناء إذا لم يبروا آباءهم لم يبرهم أبناؤهم، بل كان ذلك مقتضياً لعدم تعاون إخوانهم وسائر أقاربهم معهم، وإذا انفصمت العائلة انفصم الاجتماع وتفكك(3)، وهو من أكبر أقسام السخط، ويؤيد الثاني: إن أغلب العلل عقلية، واللام هنا قد تكون للعهد الذهني،فتأمل.
ص: 402
مسألة: تجب صلة الأرحام، وتستحب بعض درجاتها، كما تستحب في بعض الأرحام، أصلاً وفصلاً، قال تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَائَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله): «صلة الرحم تزيد في العمر»(3).
وقال (علیه السلام): «صلة الأرحام تزكي الأعمال»(4).
وقال (علیه السلام): «صلة الأرحام تثمر الأموال، وتنسئ في الآجال»(5).
وقال (علیه السلام): «صلة الرحمتزيد في الرزق»(6).
وكل من (الصلة)(7) و(الأرحام)(8)موضوعان عرفيان، بمعنى: إن العرف
ص: 403
..............................
هو المرجع في تشخيص ما هو صلة وما ليس بصلة، ومن هو رحم ومن ليس برحم.
نعم، لا يبعد الفرق بين الأرحام القريبة والبعيدة(1) وربما يحتمل أن الرحم البعيدة البعيدة جداً - ممايصدق عليها مع ذلك رحم لا كمثل القرابة معه في آدم وحواء (علیهما السلام) - يستحب صلتها وليست بواجبة.
مسألة: وكما تجب صلة الرحم يحرم قطعها، والكلام في القطع هو الكلام في صلة الرحم، من جهة الخصوصيات موضوعاً وحكماً، مضافاً ومضافاً إليه، وقد ذهب العديد من الفقهاء(2)- وهو المختار - إلى أن قطع الرحم ليست معصية فحسب بل هي من الكبائر أيضاً، قال تعالى: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (علیهم السلام) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ»(3).
ص: 404
..............................
وقال الصادق (علیه السلام): «لا يجد ريح الجنة عاق ولا قاطع رحم»(1).وقال (علیه السلام): «من قطع رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه»(2).
وقال (علیه السلام): «ما آمن بالله من قطع رحمه»(3).
السعي لطول العمر(4)
مسألة: يستحب أن يأتي الإنسان بما يؤدي إلى طول عمره من الأسباب والعوامل الجسمانية والنفسانية والغيبية، إذ قد ذكرت (علیها السلام) أن الله سبحانه جعل لصلة الرحم - الواجبة في الجملة والراجحة مطلقاً - طول العمر ثواباً وجزاءً، وقد تقدم وجه الاستدلال، وقد ورد: «وأن تطيل عمري وتمد في أجلي»(5)، و: «وأن تجعل فيما تقضي وتقدر أن تطيل عمري»(6)، و: «أسألك أن تطيل عمري فيطاعتك»(7)، و: «وأن تصلي على محمد وآل محمد وأن تطيل عمري»(8)، و: «وطول العمر وحسن الشكر»(9)، وما أشبه ذلك.
ص: 405
..............................
ولما سُئل (صلی الله علیه و آله) عن السعادة؟. قال: «طول العمر في طاعة الله»(1).
أما سؤال علي (عليه الصلاة والسلام) (2) والزهراء (صلوات
الله عليها) من الله تعالى الموت - كما هو المشهور(3) فهوللتزاحم من باب قاعدة (الأهم والمهم) ولبيان المظلومية وغير ذلك.
هذا وقد قال تعالى مخاطباً اليهود: «قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (علیهم السلام) وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ»(4).
ثم إن تأثير صلة الرحم في طول العمر وزيادة العدد، يمكن أن يكون بالأسباب الغيبية، ويمكن أن يكون بالأسباب الظاهرية؛ فإن من يصل رحمه يكون مرتاح الوجدان، مطمئن الضمير، واطمئنان الضمير وسكون النفس يوجبان طول العمر، لتأثير كل من الروح والبدن في الآخر، كما ذكرناه في مبحث آخر من هذا الكتاب.
إضافة إلى أن صلة الرحم يوجب الحيلولة دون كثير من النزاعات - التي
ص: 406
..............................
تتولد وتتزايد من قطع الرحمواستمراره - ومن الواضح تأثير النزاعات على تحطيم الأعصاب وتدمير الصحة. وقد فصلنا البحث في كتاب (الآداب والسنن)(1)، وربما يشير إلى ذلك قوله (علیه السلام): «صلة الأرحام تحسن الخلق، وتسمح الكف، وتزيد في الرزق، وتنسئ في الأجل»(2).
وكذلك الأمر في تأثير صلة الرحم في تكاثر العدد لما سبق، والظاهر أنه لامانعة من الجمع بين الوجهين السابقين(3).
التكثير في النسل(4)
مسألة: يستحب التناسل والتكثير من الأولاد، وقد اعتبرته (علیها السلام) النتيجة الثانية لجعله جل وعلا (صلة الرحم) وأمره بها، كما اعتبرته مشوقاً للناس وطريقاً لحضّهم على صلة الرحم؛فإن كثرة الأولاد مطلوبة للشارع كما هو واضح، وقد قال (صلی الله علیه و آله): «تناكحوا تناسلوا تكثروا؛ فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ولو بالسقط»(5).
وقال (صلی الله علیه و آله): «تزوّجوا الودود الولود»(6).
ص: 407
..............................
وقال (صلی الله علیه و آله): «سوداء ولود خير من حسناء عقيم»(1).
وقال (صلی الله علیه و آله): «وخير النساء الودود الولود»(2).
وقال (علیه السلام): «تناكحوا تناسلوا»(3).
وقال (علیه السلام): «حصير ملفوف في زاوية البيت خير من امرأة لا تلد»(4).
وفي القرآن الكريم: «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (علیهم السلام) يُرْسِلِالسَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً (علیهم السلام) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً»(5). وقال تعالى: «ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ»(6).
وبالعكس من كل ذلك قطع الرحم فإنه يقصر العمر وينقص العدد، وربما أدى إلى اندثار أسر بكاملها.
قولها (علیها السلام): «منماة» لوضوح أن الأرحام إذا وصل بعضهم بعضاً ازدادوا تعاضداً وتعاوناً، وتنامى حالة التآلف والتعاون والتقارب بين الأرحام وتلك توجب كثرة النسل، إذ توفر الأرضية الطبيعية للزواج وتذلل العقبات التي تحول دونه، كما توجب اطمئنان العوائل والأسر بمستقبل أبنائهم فيحضهم ذلك على زيادة النسل، إلى غير ذلك من أسباب النمو العددي.
ص: 408
..............................
أما ما يرى اليوم في بعض البلاد الإسلامية من الحث على قلة النسل فهو من حيل الاستعمار(1).
ص: 409
ص: 410
ص: 411
ص: 412
-------------------------------------------
مسألة: يجوز القصاص وليس هو بواجب، فهو (حق) أعطاه الله للمعتدى عليه أو لذويه، له أن يأخذ به، وله أن يعفو.
فالمراد بقولها (علیها السلام): «جعل الله القصاص» أي حق القصاص، بل قد يكون الأرجح ترك الأخذ بهذا الحق، ولذا قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ... فَمَنْ عُفِيَ له مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ»(1).
وقال عزوجل: «وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ له»(2).
قال الإمام الصادق (علیه السلام) في تفسيره للآية الشريفة: « «فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ له»(3) يكفر عنه من ذنوبهبقدر ما عفا عنه من جراح أو غيره»(4).
ص: 413
..............................
وجعل الله تعالى حق القصاص هو الذي (يحقن الدماء)، ولا يلزم جعل (وجوب القصاص) بل جعل الحق أولى بدرجات من جعل الوجوب، لما فيه من رعاية شتى مقتضيات باب التزاحم(1)، ولذا عبر تعالى ب: «تَصَدَّقَ»(2) في الآية الشريفة. وقد روي: «إن القصاص كان في شرع موسى (علیه السلام)، والدية حتماً كان في شرع عيسى (علیه السلام)، فجاءت الحنيفية السمحة بتسويغ الأمرين»(3). وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في وصيته للمسلمين: «أيها الناس أحيوا القصاص»(4).
و(القصاص) أعم من النفس والجوارحوالقوة(5) وإن كان في كلامها (علیها السلام) قد يقال بانصرافه للقتل نظراً ل (حقناً للدماء)، فتأمل.
مسألة: من الضروري بيان فلسفة العقوبات في الإسلام للناس، حتى لايتهموا الإسلام بالغلظة والقساوة، كما أشارت إليها (علیها السلام)، وكما ورد في كثير من الروايات(6).
ص: 414
..............................
فإن بعض الناس يتصورون أن بعض العقوبات قاسية من جهة أن الأفضل مثلاً في القاتل أن يُسجن أو تؤخذ منه الدية لا أن يُقتل، لكن هذه المزاعم غير تامة؛ فإن الإنسان إذا علم أن جزاء القتل هو السجن والغرامة لا القصاص بالمثل، فإنه عادة لا يعدل عن الجريمة، وخاصة إذا كان قادراً على التحايل والتلاعب بالقانون من خلال دفع الرشوة، واتخاذ المحامي بالباطل،وتخفيف مدة العقوبة وغير ذلك.
ولذلك قالت (علیها السلام): «والقصاص حقناً للدماء».
وقالوا: (قتل البعض إحياء للجميع)(1).
وقالوا: (القتل أنفى للقتل)(2).
وقال القرآن الكريم: «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»(3).
ومن أوضح الأدلة على ذلك، ما نشاهده عن ازدياد الجرائم في العالم الغربي، وهذا بحث طويل نكتفي منه بهذا القدر(4).
ص: 415
..............................
مسألة: حقن الدماء واجب، وإراقتها محرم، ففي الحديث: «زوال الدنيا أهون على الله من إراقة دم مسلم»(1).
وقال (علیه السلام): «من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة بين عينيه مكتوب: آيس من رحمة الله تعالى»(2).
وقال (علیه السلام): «من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه: آيس من رحمة الله»(3).
و(القصاص) المذكور في كلامها (علیها السلام) هو إحدى الطرق التي تؤدي إلى حقن الدماء.
فكل ما يؤدي - ولو تسبيباً - إلى إراقة الدم محرم، من غير فرق بين إراقة الدم كلياً كالقتل، أو جزئياً كما في قطع يد أو رجل أو فقأ عين أو جدع أنف أو صلم أذن أو ما أشبه ذلك.
ولا يخفى أن وجوب (حقن الدم) وحرمةإراقته من باب المثال، وإلاّ فمطلق إزهاق النفس حرام ولو بحرق أو غرق أو سمّ أو ما أشبه ذلك، وهكذا بالنسبة إلى إسقاط عضو عن الفعالية وإذهاب قوة.
ص: 416
..............................
نعم، لا يجوز القصاص بالمثل في بعض الموارد، مثلاً من أحرق إنساناً فإنه لا يحرق في قباله، كما أن من أغرق شخصاً فإنه لا يغرق كما أُغرق وهكذا، وقد ثبت هذا الاستثناء بالأدلة الخاصة المخصّصة لقوله سبحانه: «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ»(1)..
وقوله سبحانه: «وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا»(2)..
وما أشبه ذلك من العمومات التي لولا التخصيص لكانت شاملة لكل الأقسام(3).
ص: 417
مسألة: يجب الوفاء بالنذر(2) إذا اجتمعت فيه شروطه وفي مخالفته الكفارة، كما فصلناه في الفقه(3).
بخلاف النذر المنهي كما ورد: «أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) نهى عن النذر لغير الله، ونهى عن النذر في معصية أو قطيعة رحم»(4).
قال تعالى: «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً»(5).وهذا مما يشير إلى أن عدم الوفاء بالنذر يعرض الإنسان لشر ذلك اليوم.
وقال سبحانه: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ»(6).
وقال جل وعلا: «لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ»(7).
ص: 418
..............................
وقال (علیه السلام): «كن منجزاً للوعد موفياً بالنذر»(1).
ولا يبعد أن يراد بالنذر في قولها (علیها السلام) الأعم من النذر واليمين(2) الاصطلاحيين، فإن (نذر) بمعنى الفرض والإيجاب(3)، و(اليمين):القسم وفيه الفرض، وهو - على قول(4)- مأخوذ من اليد اليمنى حيث إن المتحالفين كانا - غالباً - يضرب كل واحد منهما يمينه بيمين صاحبه فيتحالفان(5).
ومنه يعلم حال (العهد) أيضاً، فهو قسم من النذر بالمعنى الأعم...
وكان أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) المصداق الأجلى لمن يوفون بالنذر، قال تعالى: «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً»(6).
وكان وفائهم (علیهم السلام) به في المرتبة العليا، وكانوا هم الأولى بصدق هذه الصفة عليهم، كما في قصة نزول سورة «هَلْ أَتَى»(7) وغيرها.
ص: 419
..............................
قولها (علیها السلام): «والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة»، فإن الله سبحانه تفضل على من وفي بنذره بغفران ذنبه، ومن الممكن أن يكون ذلك عقلياً أيضاً، يراد به المغفرة الدنيوية والأثر الوضعي التكويني، فالنذر معناه الإيجاب، فمن أوجب على نفسه شيئاً إذا وفى به ستر في المجتمع ما سلف من أخطائه، فيكون نظير معنى قوله تعالى: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ»(1). ومما يؤيده قوله(صلی اللهعلیه و آله): «... وإذا نقضوا العهد سلّط الله عليهم عدوّهم»(2).
ولكن قد يقال: بأن الظاهر إرادة المعنى الأول في قولها (علیها السلام): «تعريضاً للمغفرة» ويمكن القول بإرادة كلا المعنيين فتكون اللام للجنس، ولا يلزم منه استعمال اللفظ في أكثر من معنى، كما لا يخفى.
هذا وقد ورد في بعض التفاسير: «يوفون بالنذر الذي اُخذ عليهم من ولايتنا»(3).
ص: 420
..............................
وعنه (علیه السلام): «يوفون لله بالنذر الذي أخذ عليهم في الميثاق من ولايتنا»(1).
مسألة: من اللازم أن يجعل الإنسان نفسه في معرض مغفرة الله سبحانه، وأن يتجنب المواطن التي تجعله في معرضغضبه تعالى(2).
فمصاحبة الأخيار والجلوس في مجالسهم والنية الصالحة وإن لم يمكنه تحقيقها خارجاً وشبه ذلك، مما يجعل الإنسان في معرض مغفرته جل وعلا، وفي الحديث الشريف: «إن لربّكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها»(3).
وقال تعالى: «وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ»(4).
وقال سبحانه: «وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً»(5).
ومن البين أن ما يوجب التعرض لمغفرة الله الواجبة واجب، وما يوجبه من المستحبات مستحب. و(الوفاء بالنذر) من الواجبات التي جعلها الله سبحانه (تعريضاً لمغفرته) فهو بيان منها (سلامالله عليها) لإحدى الطرق التي تقود إلى ذلك.
ص: 421
توفية المكيال والميزان(2)
مسألتان: يجب توفية المكيال والميزان، ويحرم مطلق البخس(3)، وقد عدّه (علیه السلام) من الكبائر حيث قال (علیه السلام): «واجتناب الكبائر وهي... البخس في المكيال والميزان»(4).
وفي حديث المسوخ قال (علیه السلام): «وأما الجري فمسخ؛ لأنه كان رجلاً من التجار وكان يبخس الناسبالمكيال والميزان»(5).
ولا يخفى أن المكيال والميزان في الآيات الشريفة(6) وفي كلامها (علیها السلام) من باب المثال، وإلاّ ففي المعدود والمذروع وما أشبه ذلك يكون الحكم كذلك.
ص: 422
..............................
وبالتلازم(1) يفهم أن كل بخس حرام، قال سبحانه: «وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ»(2) سواء كان البخس في الماديات أو في المعنويات، ويستثنى ما خرج بالخصوص أو بالانصراف. وقد يستند إلى هذه الآية ونظائرها في حقالتأليف والطبع والاختراع وأشباهها، فتأمل. وفي بعض الروايات في تفسير قوله تعالى: «وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزانَ»(3) قال (علیه السلام): «لا تبخسوا الإمام حقه ولا تظلموه»(4).
قولها (علیها السلام): «وتوفية»، فإن الكيل والوزن إذا أعطيا بالحق لا يكون هناك بخس في الأموال ونقص في الثروات؛ لأن المجتمع إذا جرى على عدم التوفية تحول الناس إلى لصوص، إذ النقص في المكيال والميزان نوع من السرقة، واللصوصية توجب بخس ثروات الأمة، حيث يتحول المجتمع عندئذ من مجتمع منتج متنافس تنافساً إيجابياً اقتصادياً إلى مجتمع متحايل يحاول أن يخدع بعضهم بعضاً، وحينئذ تنعدم الثقة وتتدنى نسبة التعاون إلى أدنى الدرجات، والمجتمع غير المتعاون لا يتقدم، ولا تنمو ثرواته، بل تتناقص وتتضاءل.
قال الإمام الباقر (علیه السلام): «وجدنا في كتاب رسول الله (صلی الله علیه و آله):... وإذا طفف الميزان والمكيال أخذهم الله بالسنين والنقص»(5).
ص: 423
-------------------------------------------
مسألة: يحرم شرب الخمر ويجب النهي عنه، لإطلاقات أدلة النهي عن المنكر. ولقولها (علیها السلام): «والنهي... » على تقدير كون المراد به (نهيكم) لا (نهيه)، فتأمل(1).
نظراً لأن اللام قد يكون عوضاً عن المضاف إليه وهو ضمير الجمع، أو الضمير الراجع إليه تعالى، فيكون المعنى: جعل الله(2) نهيكم عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس(3).ويؤيده أن ما سبق وما سيلحق من الجمل - إلاّ ما خرج بقائم البرهان(4)- مصاديق فعل العبد(5).
ص: 424
..............................
ويؤيده أيضاً - بل يدل عليه على ذلك التقدير - وجود (ففرض) في بعض النسخ بدل (فجعل)(1)، هذا ومن المحتمل أن يكون المراد باللام: الجنس أو العهد.
ثم إن المراد بالخمر: كل مسكر(2)وقد سميت الخمر خمراً لمخامرتها العقل لأنها تستره وتغطيه.
كما أن الحرمة تعم كل ما أوجب الاسكار ولو بالحقنة أو بالتدخين أو ما أشبه ذلك(3)، لما دل على حرمة كافة أنواع استعماله. قال (صلی الله علیه و آله): «ألا أيّها الناس أنهاكم عن كل مسكر»(4).
وقال (علیه السلام): «كل مسكر حرام»(5).
وقال (علیه السلام): «كل مسكر خمر»(6).
وقال (علیه السلام): «شرب الخمر أشر من ترك الصلاة»(7).
ص: 425
..............................
وقال (علیه السلام): «... وشربالخمر وهو فخ الشيطان»(1).
وقال (علیه السلام): «وشرب الخمر مفتاح كل شر»(2).
وقال (علیه السلام): «ما بعث الله نبياً إلاّ بتحريم الخمر»(3).
وعنه (صلی الله علیه و آله): «لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبايعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه»(4).
قال تعالى: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»(5). وقال سبحانه: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ»(6).
وقال عزوجل: «إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْأَنْتُمْ مُنْتَهُونَ»(7).
ثم إن العلة معممة ومخصصة(8)،والملاك(9) مستفاد من جملة من الروايات
ص: 426
..............................
بل بعض الآيات، مثل قوله سبحانه: «لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ»(1)؛ فإن من سكر لا يعلم ما يقول، سواء كان السكر بالشراب أم بالطعام، أم بغير ذلك من الطرق الموجبة لإدخال المسكر في البدن ولو بالتنفس.
وكذا قوله تعالى: «إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ»(2).
أما حرمة شرب حتى القطرة من الخمرفبالدليل الخاص(3).
قولها (علیها السلام): «والنهي عن شرب الخمر»، حيث إن شرب الخمر كان شائعاً في الجاهلية وقد حرمه الإسلام، وكانت بعض النفوس تحن إليه عوداً على ما كانوا عليه، ولذا خصصته الزهراء (علیها السلام) بالذكر، وإلاّ فهو كسائر محرمات الأكل والشرب كالميتة ولحم الخنزير والدم وما أشبه.
نعم، إن الخمر رأس كل شر، فقد قال الإمام الصادق (علیه السلام): «إن الخمر أم الخبائث ورأس كل شر، يأتي على شاربها ساعة يسلب لبّه فلا يعرف ربه، ولا يترك معصية إلاّ ركبها، ولا يترك حرمة إلاّ انتهكها، ولا رحماً ماسة إلاّ قطعها، ولا فاحشة إلاّ أتاها»(4).
ص: 427
..............................
وقال (علیه السلام): «وإنّ من شرب منها جرعة لعنه الله وملائكته ورسله والمؤمنون، وإن شربها حتى يسكر منها نزع روح الإيمان من جسده، وركبت فيهروح سخيفة خبيثة ملعونة»(1).
وقال (علیه السلام): «ولم تقبل صلاته أربعين يوماً، ويأتي شاربها يوم القيامة مسوداً وجهه، مدلعاً لسانه، يسيل لعابه على صدره»(2).
وقال (علیه السلام): «ينادي: العطش، العطش»(3).
وإن شرب الخمر رجس؛ لأنه يوجب السكر الذي هو مفتاح كل شر، والرجس بمعنى(4) ما يؤدي للموبقات(5).
مسألة: ومن ذلك يعلم حرمة استعمال المخدرات أيضاً الموجبة لذهاب العقل؛ لأن العلة عامة وإن كان المورد خاصاً.
وربما يمكن استفادة ذلك من قولها (علیها السلام): «تنزيهاً عن الرجس» إذ الرجس هو القذر، وقد روي بسندصحيح عن أبي الحسن الماضي (علیه السلام):
ص: 428
..............................
«إن الله لم يحرم الخمر لاسمها، ولكن حرمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر»(1).
وكذلك ما علّل فيه حرمة الخمر بأن شاربها لا يعرف أمه وأخته و...(2). وأما غير الموجب لذهاب العقل منها (3) فحرمته منوطة بما إذا أضر ضرراً بالغاً (4).
مسألة: يجب تجنب الرجس، وذلك في مراتب منه وفي مصاديق كثيرة منه مما لاشك فيه، ولكن هل يمكن تأسيس الأصل في ذلك والالتزام بحرمة كل ما صدق عليه هذا العنوان بما هو هو؟.
لا يبعد ذلك، وربما أمكن الاستنادإلى كلامها (علیها السلام) لإثباته، والأمر بحاجة إلى مزيد من التأمل.
والمراد بالرجس: القذارة والخباثة(5)، فإن القذارة قد تكون مادية في النفس أو الجسد، وقد تكون معنوية، قال سبحانه وتعالى:
ص: 429
..............................
«فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ»(1).
وهذا رجس معنوي في قبال الرجس المادي في النفس الموجب للسكر، والرجس البدني كالتلوث بالقذارات الخارجية.
قال تعالى: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»(2)، فهم (علیهم السلام) منزهون عن الرجس بما للكلمة من معنى، كما دل على ذلك مختلف الروايات(3).وفي الدعاء: «أعوذ بالله من الرجس»(4).
هذا وقد فسر الرجس أيضاً بالشك.
قال (علیه السلام): «الرجس هو الشك»(5).
وبعمل الشيطان(6).
وبالنجس(7).
ص: 430
مسألة: يحرم القذف وفيه الحدّ(2)، وتفصيل الكلام في الفقه(3).
والقذف هنا: يعم السب والفحش واللعن وما أشبه ذلك(4).
قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): «واعلموا أن القذف والغيبة يهدمان عمل ألفسنة»(5).
وقال (صلی الله علیه و آله): «القذف من الكفر، والكفر في النار»(6).
وقال (علیه السلام): «إن الكبائر أحد عشر... الشرك بالله عزوجل، وقذف المحصنة،... »(7).
ص: 431
..............................
وهل يراد بالقذف ما ارتبط بالعِرض أو مطلقاً؟.
فإن أصل القذف الرمي(1)، ثم استعمل فيما يرتبط بالعرض، لكن هل غلب على ما يرتبط بالعرض بالمعنى الأخص بحيث أصبح حقيقة تعينية فيه أم لا؟.
احتمالان، وإن كان المنصرف الأول(2)والإطلاق يقتضي الثاني، قال الشاعر(3):
ولست بقائل قذفاً ولكن *** لأمر ما تعبدك العبيد
وفي بعض النسخ(4) (قذعاً) مكان (قذفاً)، والقذع هو القذف والرمي بالفحش وسوء القول(5)، فإن الخليفة كان يجمع من الغلمان الخناثى ثم يبيت معهم من أول الليل إلى الصباح يتعاطون الفاحشة، وإلى ذلك أشار الشاعر في هذا البيت.
ص: 432
..............................
وقال شاعر آخر(1):
ولا تبيت لهم خنثى تنادمهم *** ولا يرى لهم قرد له حشم
وذكرنا بعض التفصيل في كتاب(ممارسة التغيير)(2).
ثم إن هناك آثاراً وضعية للقذف خصوصاً الرمي بالفاحشة؛ وذلك لأن من قَذف قُذف فترجع اللعنة إليه كأثر وضعي تكويني لذلك، فمن الحكمة في فرض اجتناب القذف هي الحيلولة عن رجوع ضرره ولعنه إلى نفس القاذف.
قال سبحانه: «وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ»(3).
وقال علي (علیه السلام): «إني أكره لكم أن تكونوا سبابين»(4).
وقال (صلی الله علیه و آله): «سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه»(5).
وقال (صلی الله علیه و آله): «من سب علياً (علیه السلام) فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله عزوجل»(6).ولعل قولها (علیها السلام): «حجاباً عن اللعنة» إشارة إلى قوله سبحانه:
ص: 433
..............................
«إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»(1).
لا يقال: فلماذا نرى كلمات اللعن والسب أو ما أشبه في القرآن الحكيم، مثل قوله سبحانه:
«إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ»(2).
وكذلك سب الأشخاص مثل : «عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ»(3).
قال تعالى: «أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ»(4).
وقال سبحانه: «أُولئِكَ لهمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ»(5).
وقال عزوجل: «وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَىيَوْمِ الدِّينِ»(6).
وقال جل ثناؤه: «وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ»(7).
لأنه يقال: إذا كان النقص واقعياً ورجع الأمر إلى إرشاد الطرف أو إرشاد أهله وعشيرته أو الآخرين لزم، وهذا ليس من السباب في شيء، بل داخل في إرشاد الجاهل وتنبيه الغافل وإراءة الطريق للضال، فالمنع والجواز لهما موردان وهذان عقليان قبل أن يكونا شرعيين.
ص: 434
..............................
هذا بالإضافة إلى أن كلمات اللعن وشبهه الموجودة في القرآن الكريم كثيراً منها لا توجه إلى أسماء معينة مذكورة، بل إلى من يحمل تلك الصفات الرذيلة (1) أو الأمم السابقة،فالتركيز يكون على الصفات والأفكار والعقائد وأنواع السلوك والعمل، لا الأفراد بأنفسهم.
أما ما توجه إلى أسماء معينة كقوله تعالى: «تَبَّتْ يَدَا أَبِي لهبٍ وَتَبَّ»(2) فإنه يدخل في باب التزاحم والأهم وما أشبه كما لايخفى.
..............................
الجملة، قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لهمْ سَعِيراً»(1).
واستظهار ذلك من كلامها (علیها السلام) نظراً للتلازم المتقدم الذي ذكرناه بين العلة والمعلول، والسبب والمسبب ونحوهما.
لكن لا يخفى أن اللعن ينصرف إلى معنى: الإبعاد والطرد من الرحمة أو الخير، والبُعد كما يكون في أصول الدين والفروع الواجبة، كذلك يكون في الأحكام والفروع المستحبة تركاً، والمكروهة فعلاً، ولذا ورد اللعن بمختلف معانيه في جملة من الروايات:
كقوله (علیه السلام): «ملعون، ملعون من نكح بهيمة»(2).
وقال (علیه السلام): «المنجم ملعون، والكاهن ملعون، والساحر ملعون، والمغنية ملعونة»(3).
وقال (علیه السلام): «ملعون من ظلمأجيراً أجرته»(4).
وقال (علیه السلام): «ملعون من سب والديه»(5).
وقال (علیه السلام): «من آذى الله فهو ملعون»(6).
وقال (صلی الله علیه و آله): «ناكح الكف ملعون»(7).
ص: 436
..............................
وقال (صلی الله علیه و آله): «من لعب بالشطرنج ملعون»(1).
وقال (علیه السلام): «المحتكر ملعون»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله): «ملعون، ملعون من ضيّع من يعول»(3).وقال (علیه السلام): «معلون من جلس على مائدة يشرب عليها الخمر»(4).
وقال (صلی الله علیه و آله) : «ملعون، ملعون مبغض علي بن أبي طالب (علیه السلام)»(5).
وقال (صلی الله علیه و آله) : «ملعون ملعون من يظلم ابنتي فاطمة (علیها السلام)»(6).
وقال (صلی الله علیه و آله): «من أبغض عترتي فهو ملعون»(7).
وقال (علیه السلام): «ملعون ملعون من آذى جاره»(8).
وقال (علیه السلام): «ملعون، ملعون قاطع رحمه»(9).
وقال (علیه السلام): «شارب الخمرملعون»(10).
ص: 437
..............................
كما ورد(1) عنه (علیه السلام): «من كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون»(2).
وقال (علیه السلام): «ملعون من ألقى كله على الناس»(3).
وقال (علیه السلام): «الجالس في وسط القوم ملعون»(4).
وقال (علیه السلام): «معلون من أخر العشاء إلى أن تشتبك النجوم»(5).
وقال (علیه السلام): «المنان على الفقراء ملعون في الدنيا والآخرة»(6).
وقال (علیه السلام): «ملعون من لم ينصح أخاه»(7).ومثل ما ورد من اللعن لمن أكل زاده وحده، أو نام في بيت وحده، أو ركب الفلاة وحده(8)، أو ما أشبه ذلك.
والمراد من (اللعنة) في قولها (علیها السلام): اللعنة التي تسببها المحرمات، وأما اللعن في أصول الدين أو في المكروهات فقولها (عليها الصلاة والسلام) قد تكون منصرفة عنهما (9).
ص: 438
مسألة: السرقة بمختلف أنواعها - سواء أدت إلى قطع اليد أم لم تؤد، وسواء كانت سرقة للأموال أم للحقوق، وسواء كانت من الأفراد أم الأمم، وكذلك من الأجيال القادمة مما ذكر مفصلاً في الفقه(2)- محرمة؛ فإنها تسبب الفوضى في المجتمع، وانعدام الأمن، والهرج والمرج، إضافة إلى كونها مصادرة لجهود الآخرين وحقوقهم، وإن جعل حدود العقوبات على أفرادها مختلفة حسب الحِكَم والمصالح المختلفة.
قال (علیه السلام): «ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن»(3).
..............................
وقال (علیه السلام): «العفة رأس كل خير»(1).
وفي الدعاء: «وارزقني العفة في بطني وفرجي»(2). والمراد بالعفة هنا: العفة عن (ما لا يحل) وهي العفة الواجبة؛ لأنه من العفة واجب ومنها مستحب.
والعفة معناها: كف النفس عن الشيء المشين والقبيح(3)، فإن كان الشيءالمشين محرماً كانت العفة واجبة، وإن كان مرغوباً عنه لا إلى المنع عن النقيض كانت العفة مستحبة.
أما العفة في قولها (علیها السلام) فمنصرفة للأمر الواجب للقرينة، فإن العفة حالة تقتضي حفظ اليد واللسان والبطن والفرج وسائر الجوارح، فإذا سرق إنسان خرق عفته، ومن المعلوم أن خرق العفة يؤدي إلى سائر الموبقات، ولذا ترى السارق لا يمتنع عادة من اغتصاب النساء وأكل الحرام، إلى غير ذلك. ومن المعلوم أن تفشي عدم العفة في المجتمع يهدم الاجتماع، ولعل لذلك قرر الشارع للسرقة عقوبة من أشد العقوبات إذا توفرت فيها جميع الشروط المذكور في الفقه - قال تعالى: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ»(4).
ص: 440
مسألة: يحرم الشرك الجلي، وكذلك يحرم الشرك الخفي أيضاً (2) في الجملة، قال تعالى: «لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ»(3).
وقال تعالى في الحديث القدسي: «يا عيسى، لا تشرك بي شيئاً»(4).
وقال عزوجل: «يا موسى، لا تشرك بي لا يحل لك الشرك بي»(5).
وهل المراد بالشرك هنا الشرك الجلي حتى يكون تأكيداً لما تقدم من قولها (علیها السلام): «فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك»، أو الشرك الخفي كالرياء ونحوه حتى يكون تأسيساً؟.
لا يستبعد الثاني؛ لأن الأصلالتأسيس، وإن كان المنصرف من لفظ (الشرك) المعنى السابق فيكون تأكيداً، لكن السياق قد يؤيد الشرك الخفي، إضافةً إلى كلمة (إخلاصاً) المقابلة للشرك الخفي، فهذه الكلمة والسياق وعدم التكرار تقاوم الانصراف البدوي، فتأمل.
ص: 441
..............................
كما يمكن التفريق بين هذا المقطع وذاك بالقول بأن المراد بالجعل في الكلام السابق التكوين، ويكون المراد بالتطهير أيضاً التكويني، والمراد ب (حرم): التشريع، فلا تكرار.
أو يقال: إن الأول إيجابي إذ (الإيمان) شيء وجودي، والثاني (الشرك) شيء سلبي باعتباره سلباً للإيمان(1).
أو يقال: بأنه مضاد للأول وكلاهما وجوديان من قبيل (الشجاعة والجبن)، ولذا استحق كل منهما الذكر، كغالب الأضداد سواء كان لها ثالث أم لا، ولا يهم الآن تحقيق ذلك.
ومن لا يشرك فإنه يخلص لله سبحانه بالإذعان له بالربوبية وحده.
ولعلّها (علیها السلام) كررت ذلكبلفظين - على القول بأنه تكرار - لشدة الاهتمام به، وهناك بعض الاحتمالات الآخر، والله سبحانه وأولياؤه (علیهم السلام) أعلم.
ثم إن التحريم ها هنا إرشادي، وعلى بعض الآراء مولوي(2).
ص: 442
مسألة: التقوى لها معان ومراتب، وهي على ذلك تنقسم إلى ما هو واجب وما هو مستحب، ومنها ما يكون من درجات المقربين(2).
فإن التقوى قد تطلق ويراد بها (الخشية من الله تعالى وهيبته)، وعلى هذا فهي حالة نفسانية وملكة روحانية، وقد يراد بها معنى أدق من هذا(3).
وقد تطلق ويراد بها الإطاعة والعبادة(4) وهو الغالب، وهي على هذاليست شيئاً وراء إتيان الواجبات وترك المحرمات.
فقوله سبحانه: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ»(5)، وقوله تعالى: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ»(6) وما أشبه ذلك، مثل قوله تعالى: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
ص: 443
..............................
الرَّسُولَ»(1) حيث إن الطاعة ليست شيئاً وراء الإتيان بالواجبات وترك المحرمات بل هذه مصاديقها، وكذلك هاهنا فليست التقوى على هذا المعنى أمراً وراء أداء الواجبات وترك المحرمات، لوضوح إنه ليس هناك أمران ونهيان، كما أنه ليس هناك واجبان ومحرمان وثوابان وعقابان، على ما ذكر مفصلاً في علمي الكلام والأصول(2).وفي الحديث عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ»(3)؟. قال (علیه السلام): «يُطاع فلا يعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر»(4).
وقال (صلی الله علیه و آله) في خطبة الغدير: «معاشر الناس، «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ»(5)»(6).
نعم للإطاعة والتقوى مراتب(7) بحسب الأمر والمتعلق وما أشبه، وقد تكون في المستحب والمكروه، لكن لا على سبيل اللزوم والمنع من النقيض وإنما
ص: 444
..............................
على سبيل الرجحان، بل من التقوىوالإطاعة أيضاً ما يرتبط بالمباحات(1) ل:
«إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه»(2).
و: «إن الله يغضب على من لا يقبل رخصته»(3)، وذلك في قبال من يوجب أو يحرم على نفسه بعض المباحات، قال سبحانه: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ»(4).
مسألة: حق التقوى هو العبودية المطلقة لله سبحانه وتعالى، أي العبودية التي لا تشوبها شائبة رياء أو سمعة أو عُجب، أو أي نوع من أنواع الأنانية، بل كما قال علي (علیه السلام): «ولكن وجدتك أهلاً للعبادةفعبدتك»(5).
وهي التي تتحقق بالرضا بقضاء الله على النحو الأتم، وبتذكره سبحانه وتعالى دوماً بحيث لا يغيب عن القلب والفكر أبداً، بل يجده الإنسان حاضراً ناظراً أبداً، كما نجد ذلك متجلياً في حياة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) وآله الأطهار (علیهم السلام)(6)، فهم معصومون من الغفلة عن ذكر الله،إضافة إلى عصمتهم من مجرد
ص: 445
..............................
التفكير في الذنب، بل في المكروه أيضاً.
ومن المستحب أن يسعى الإنسان للاستزادة من التقوى يوماً بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة، نظراً إلى قوله تعالى: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ»(1).
وحق التقوى له مراتب متصاعدة غير محدودة بحد، مما قد يعبر عنه باللامتناهي اللا يقفي، وحيث إن كثيراً من مراتبها مما يتعسر - بل مما يتعذر- على غالب الناس، قال تعالى في آية أخرى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ»(2).
فقوله تعالى: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ»(3) تشير إلى ما هو المبتغى والمراد الأسمى، و«مَا اسْتَطَعْتُمْ» تشير إلى ما على الإنسان أن يحققه، فلا يصح على هذا ما قيل من أن «مَا اسْتَطَعْتُمْ» ناسخة للآية الأخرى: «حَقَّ تُقَاتِهِ» بل أحداهما مكملة للأخرى(4).
ص: 446
..............................
ومن الواضح أن الله سبحانه وتعالى جعل للأشياء حدوداً، فالصلاة في كل يوم خمس مرات، والصوم في كل سنة شهراً، والحج في العمر مرة واحدة، وهكذا مما هو محدد في جانب الكمّ.
وكذلك الكثير مما هو محدد في جانب الكيف.
أما التقوى فإنه سبحانه لم يجعل لها حداً بل قال تعالى: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ»(1)؛ لأنه في كل حصة حصة من الحياة تقوى أو لا تقوى.
ثم التقوى أيضاً كما سبق على درجات، فهي ممتدة كماً إلى آخر نفس من أنفاس الحياة - وعدم الحد هنا نسبي - كما أنها في الكيف غير محدودة بنحو اللايقفي كما سبق.
قال تعالى: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى»(2).
وقال (علیه السلام): «إن خير الزاد التقوى»(3).
وقال (علیه السلام): «إن التقوى حقالله سبحانه عليكم»(4).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «نحن كلمة التقوى»(5).
ص: 447
-------------------------------------------
وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (1)،
مسألة: الموت بما هو هو أمر غير اختياري، إلاّ أن الموت على صفة وحالة اختيارية اختياري، ولذلك يمكن أن يؤمر به أو ينهى عنه بهذا اللحاظ، ف (الموت على الإسلام) مأمور به، قال تعالى: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ»(2) يعني وجوب الاستمرار في الاعتقاد الحق إلى آخر لحظة من لحظات العمر. فالجملة السابقة(3) تشير إلى الجانب الكيفي، وهذه الجملة(4) إلى الامتداد الزمني، أي: اتقوا الله حق تقاته واستمروا على ذلك إلى حين الموت، والمسلم الحقيقي هو الذي يطيع الله في كل شيء، وفي كل لحظة من لحظات العمر، فلا يموت الإنسان إلاّ وهو في طاعة الله سبحانه.وفي الحديث: «وأعوذ بالله من شر عاقبة الأمور»(5).
وقال (علیه السلام): «أشد الناس ندماً عند الموت العلماء غير العاملين»(6).
ص: 448
..............................
وقال (علیه السلام): «إياك أن ينزل بك الموت وأنت آبق عن ربك في طلب الدنيا»(1).
مسألة: كل ما يؤدي إلى حسن العاقبة للإنسان فهو راجح ومطلوب، فإن كان في مرتبة المنع من النقيض كان واجباً، وإلاّ كان مستحباً، وذلك عقلي قبل أن يكون شرعياً، وإنما المصاديق غالباً مما يؤخذ من الشارع، لقصور العقل عن التوصل إلى كثير من جهاتهاأو تزاحماتها.
وقد قال سبحانه: «وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ»(2).وقال تعالى: «فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ»(3).
وقد ورد في الدعاء: «واجعل عاقبة أمري إلى غفرانك ورحمتك»(4).
و: «فاجعل عاقبة أمري إلى خير»(5).
و: «واختم لنا بالتي هي أحسن وأحمد عاقبة، وأكرم مصيراً»(6).
و: «اللهم إني أسألك حسن العاقبة»(7).
ص: 449
..............................
مسألة: يستحب الاقتباس من الكتاب العزيز في الحوار والخطاب، وقد أكثرالمعصومون (صلوات الله عليهم أجمعين) من إدراج آيات القرآن في كلماتهم، كما اقتدى بهم أتباعهم؛ لأن القرآن شفاء ونور وبلاغ، ولأنه جامع لعلوم الأولين والآخرين ولعلوم الدنيا والآخرة في مختلف المجالات و الأبعاد.
قال تعالى: «وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» (1).
وقال سبحانه: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ» (2).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله»(3).
وفي الحديث الشريف: «في القرآن شفاء من كل داء»(4).
وقال (علیه السلام): «داووا مرضاكم بالصدقة، واستشفوا له بالقرآن، فمن لم يشفه القرآن فلا شفاء له»(5).
وفي الدعاء: «وأن تجعل القرآن نورصدري، وتيسر به أمري»(6).
لذلك فقد استند إليه أتباعهم في شتى المنطلقات وفي شتى الأبعاد، كل حسب قابليته وفي دائرة أبعاده ومدار اهتمامه أو تخصصه وتوجهه.
ص: 450
..............................
وليس ثمة كتاب سماوي أو أرضي اعتنى به أهل ملته وأتباعه مثل القرآن الحكيم، فإن علماء الإسلام - تبعاً لقادة الإسلام - أعطوه من الأهمية والعناية ما لم يُعطَ لكتاب قبله ولا ولن يُعطى لكتاب بعده، حسب معتقدنا من كونه الكتاب الوحيد المتفرد والمتميز بهذه الكيفية.
فقامت كل طائفة بدراسة فن من فنونه:
فقد اهتم جمع بمعرفة مخارج حروفه وعدد الآيات والكلمات والحروف والسكنات والحركات من الضمة والفتحة والكسرة وغير ذلك.
كما أن ألوف المسلمين - في زمن رسول الله (صلی الله علیه و آله) - كانوا يحفظون القرآن كله من أوله إلى آخره وإلى يومنا هذا.
واعتنى اللغويون: بمفرد مفرد منمفرداته.
ويعتني النحاة: بالمعرب والمبني والأسماء والأفعال والحروف منه، بل كان أصل تكونه وتأسيسه(1) بتوجيه وإرشاد الإمام علي بن أبى طالب (علیه السلام) على أبي الأسود الدؤلي لأجل التحفظ على صحة قراءة القرآن الكريم وإعرابه(2).
ص: 451
..............................
واعتنى أهل الرسم والخط: برسوم كلماته وما يتعلق به من هذا النحو من الخطوط، والتي أنهاها بعضهم إلى أكثر من عشرين بما هو الدارج عند العرب والعجم، وأما سائر الخطوط في اللغات الأخرى فهي كثيرة.
واعتنى المفسرون: بألفاظه مفردات وجمل(1) سواء منها الألفاظ المشتركة التي تدل على أكثر من معنى أم الألفاظ ذات المعنى الواحد، وكذلك الكلي والجزئي، وذكروا المحكم والمتشابه، وأن المتشابه له احتمالان أو احتمالات، ورجحوا المحتمل على المحتمل استناداً إلى تفسير القرآن بالقرآن،أو تفسير القرآن بالأحاديث الشريفة، أو حسب القرائن المقامية والسياق والانصراف العرفي وما أشبه.
واعتنى علماء الكلام: بما في القرآن من الأدلة العقلية والشواهد البرهانية والفطرية مما هو كثير.
ص: 452
..............................
كما إن المنطقيين: ذكروا الأدلة المستفادة من القرآن في الصناعات الخمس(1).
وكلتا الطائفتين ذكروا ما يستفاد من القرآن الحكيم من الأدلة على وحدانيته تعالى ووجوده وقدرته وعلمه وتنزيهه عما لا يليق به وما أشبه ذلك من صفاته الجمالية والجلالية. أما المتكلمون فقد ذكروا ذلك في باب أصول الدين، وأما المناطقة فقد ذكروا ذلك(2) في باب الحجة وما هو من شأن المنطق.
والأصوليون: تكلموا في العام والخاص، والنص والظاهر، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والمحكم والمتشابه، والأمر والنهي منه، وغيرذلك من الشؤون المرتبطة بأصول الفقه.
والفقهاء: استفادوا من القرآن الحلال والحرام والواجب والمستحب والمباح، والملاكات أصولاً وفروعاً.
كما أن جمعاً من الفقهاء ذكروا آيات الميراث وخصوصياتها وسموا ذلك بعلم الفرائض مما يرتبط بمختلف طبقات الوراث وأنصبتهم، وقد ألف جمع منهم كتباً خاصة ب (آيات الأحكام) وهي خمسمائة آية بل أكثر.
وعلماء الأدعية: ذكروا أدعية القرآن الحكيم وهي كثيرة، مع الشؤون المرتبطة بهذه الأدعية الواردة في الكتاب العزيز.
وجماعة تخصصوا بذكر قصص القرآن عن القرون السابقة والأمم البالية ونقل أخبارهم، وذكروا ما يتعلق بابتداء الكون والدنيا وبدايات الأشياء.
ص: 453
..............................
واستفاد المؤرخون منه مباحث كثيرة في كتاباتهم، واستفاد منه البعض في علم فلسفة التاريخ.
وقامت جماعة باقتباس الأمثال والحكم والمواعظ والعبر والترغيب والترهيب من القرآن الحكيم، وتطرقوا للوعد والوعيد، والتشويق والتحذير، والموت والنشر، والمعاد والحشر،والحساب والعقاب، والجنة والنار، والميزان والبرزخ وما أشبه ذلك من الروادع والزواجر مما يفيد أهل الوعظ والإرشاد والخطباء لتوجيه الناس إلى الله والدين والخير والآخرة.
كما أن جماعة من المعبرين للرؤيا استفادوا من القرآن الحكيم إشارات وعلامات، بالتأمل في أغوار قصة يوسف (علیه السلام) والبقرات السمان(1)..
ورؤيا صاحبي السجن(2)..
ورؤيا إبراهيم (علیه السلام)(3)..
ص: 454
..............................
ورؤيا النبي (صلی الله علیه و آله)(1)..
ورؤيا المسلمين في قصة بدر(2)، وما أشبه ذلك.
وعلماء الفلك: استخرجوا من القرآن الحكيم ما يرتبط بعلمهم من المواقيت، والليل والنهار، والشمس والقمر، والبروج ونحوها، كما يشاهد ذلك في المراصد والاسطرلابات والكتب المعنية بهذا الشأن.
والشعراء والكتّاب: استفادوا من القرآن الحكيم في جمال اللفظ وبديعالنظم وحسن السياق، والمبادئ والمقاطع، والمطالع والمخارج، والتلون في الخطاب، والإسناد والإيجاز، وغير ذلك مما يرتبط بعلوم البلاغة من المعاني والبيان والبديع على مختلف شؤونها وشجونها(3).
وعلماء المناظرة: استفادوا من القرآن الحكيم أسلوب الحوار والجدال، وذلك من مخاطبة الله سبحانه وتعالى مع الناس أو الملائكة أو الجن، وكذلك في حوار الأنبياء (علیهم السلام) مع الأمم وغير ذلك مما يعلم أسلوب البيان والمحاورات للمنصف والمجادل وغير ذلك.
هذا بالإضافة إلى أنه يمكن الاستفادة من كثير من آيات القرآن الحكيم في علم النفس وعلم الاجتماع والاقتصاد والسياسة والحقوق والإدارة وغيرها،
ص: 455
..............................
وقد استفاد عدد من العلماء من بعضها في تلك العلوم(1).إضافة إلى علوم أخرى كعلم طبقات الأرض، وعلم وظائف الأعضاء والعلوم التي ترتبط بشتى الصناعات وغيرها.
وفيه بحوث وإشارات إلى شتى أصناف المخلوقات المادية والمجردة، وقد قال سبحانه: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ»(2)، فإنه تعالى لم يفرط في الكتاب التكويني شيئاً قابلاً للخلق، كما أنه لم يفرّط في الكتاب التشريعي شيئاً مرتبطاً بشؤون الإنسان.
وإنا لم نقصد مما ذكرنا ها هنا إلا الإلماع؛ لأن السيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) ذكرت هنا آية قرآنية كريمة كشاهد على كلامها.
وإلاّ فالتفصيل يحتاج إلى مجلد ضخم مما هو خارج عن مبحث هذا الكتاب.
ص: 456
-------------------------------------------
مسألة: تجب إطاعة الله تعالى(1) والاهتمام بأوامره ونواهيه وتحرم المعصية. قال سبحانه: «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ»(2).
وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ»(3).
وقال (علیه السلام): «أطيعوا الله حسب ما أمركم به رسله»(4).
وقال (علیه السلام): «جمال العبد الطاعة»(5).وقال (علیه السلام): «العزيز من اعتز بطاعة الله»(6).
هذا بالنسبة إلى الواجب فعلاً أو تركاً، وكذلك طاعة الله سبحانه وتعالى في القسم الراجح فعلاً وتركاً - وهي واجبة إن كان المقصود بها الالتزام باستحباب المستحب وكراهة المكروه، ومستحب إن كان المراد بها الامتثال
ص: 457
..............................
العملي للأوامر الاستحبابية - بل تجري الطاعة في المباح(1) أيضاً، فإن المباح الأصلي غير المباح بعد التشريع، فلا يقال: إنه باق على الإباحة فليس بحكم شرعي(2) فتكون الأحكام حينئذ أربعة فقط، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في بعض كتبنا الأصولية.
وعلى هذا فإن «فيما أمركم به ونهاكم عنه» يكون تأكيداً لهذين المصداقين من الإطاعة وليس حصراً، وإناستشم منه عرفاً ذلك - فتأمل.
قولها (صلوات الله عليها): «وأطيعوا» تأكيد لما سبق، وتصريح بكل ما وجب وحرم، وشرح ل «اتقوا الله».
ص: 458
-------------------------------------------
فإنه «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»(1).
مسألة: ينبغي إشراب الجنان الخشية من الله تعالى وقد تجب كل في مورده؛ لأن الخشية التي تصدّ الإنسان عن المعاصي واجبة، أما الخشية التي تدفع الإنسان نحو إتيان المستحبات وترك المكروهات فهي مستحبة شرعاً.
ومع قطع النظر عن جانب (المقدمية) فإنها في حد ذاتها حالة مطلوبة وصفة إيجابية وميزة متميزة للمؤمن، قال سبحانه: «فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ»(2).
ومن الواضح أن العلماء بالله سبحانه وتعالى هم الذين يخشون، أما الجاهل بالله سبحانه وتعالى فلا يخشاه، مثله - ولا مناقشة في المثال - مثل الجاهل بكون هذا أسداً أو أن الأسد مما يخاف منه فإنه لا يتجنبه، كما هو شان الأطفال والمجانين ونحوهما، ولذا قالالرسول (صلی الله علیه و آله): «إن المجنون حق المجنون: المتبختر في مشيته، الناظر في عطفيه، المحرك جنبيه بمنكبيه»(3)، وأما المجنون - عرفاً - الذي يقابل العاقل فقد قال (صلی الله علیه و آله) عنه: «وهذا المبتلى»(4).
ص: 459
..............................
وذلك أن العقل من العقال(1)، فهو تلك القوة التي تردع الإنسان عن ارتكاب الضار والتقحم في الهلكات والإتيان بما لا يلائم، والمجنون هو الذي يقدم على الضار ويقتحم الهلكات دون سبب أو يأتي بغير الملائم من دون وجه، وأي جنون أعظم من ارتكاب معصيةالله؟. وأي جنون أكبر من التمهيد لدخول النار؟. أو الفوز بسخط الجبار؟، قال تعالى: «وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً»(2).
فأشارت (علیها السلام) إلى أهمية الخشية ولزومه، قال علي (علیه السلام): «سبب الخشية العلم»(3). وقال (علیه السلام): «الخشية ميراث العلم»(4).
وقال (علیه السلام): «غاية المعرفة الخشية»(5).
وقال (علیه السلام): «كان فيما أوحى الله تعالى جل ذكره إلى عيسى (علیه السلام): هب لي من عينيك الدموع، ومن قلبك الخشية، وأكحل عينيك بميل الحزن»(6).
ص: 460
..............................
مسألة: تنبغي الإشارة تلميحاً أو تصريحاً بميزة ومكانة العلماء، وصفاتهم ومسؤولياتهم، وبيان أهمية العلم والعلماء في منظار الإسلام.
قال سبحانه: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ»(1).
وقال تعالى: «هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ»(2).
وقال (صلی الله علیه و آله): «إن العلماء ورثة الأنبياء»(3).
وقال (علیه السلام): «العلماء باقون ما بقي الدهر»(4).
وقال (علیه السلام): «أشراف الناس العلماء»(5).
وعن الإمام الصادق (علیه السلام):«فنحن العلماء»(6).
وذلك كله بالنسبة إلى العلوم الحقيقية، أما العلم المنحرف والعالم المنحرف فالأول باطل أو من مصاديق الجهل، والثاني ضالّ مضلّ كما في الحديث: «إذا فسد العالم فسد العالَم».
ص: 461
..............................
قال (صلی الله علیه و آله): «العلماء رجلان: رجل عالم آخذ بعلمه فهذا ناج، ورجل عالم تارك لعلمه فهذا هالك، وإن أهل النار ليتأذون بريح العالم التارك لعلمه»(1).
قولها (سلام الله عليها): «فإنه إنما يخشى» لعلّ وجه الترابط(2) هو: إنكم حيث كنتم علماء بهذه الأمور التي ذكرتها فاللازم عليكم الخشية من الله تعالى والتي تتجلى في إتباع أوامره والارتداع عن نواهيه.والمراد بالعلماء: العلماء بالله وصفاته وأفعاله لمناسبة الحكم والموضوع، فإن الحكم يضيق ويوسع الموضوع، كما أن عكسه أيضاً صحيح، على ما ذكرناه في (الأصول).
***
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
قم المقدسة
محمد الشيرازي
1414ه
ص: 462
إلى هنا تم بحمد الله تعالى
المجلد الثاني من فقه الزهراء (علیها السلام)
وقد اشتمل على القسم الأول من الخطبة الشريفة
وسيأتي بعده المجلد الثالث (وهو القسم الثاني من الخطبة)
ويبتدأ بقولها (علیها السلام): ثم قالت: «أيها الناس اعلموا أني فاطمة».
نسأل الله سبحانه التوفيق والقبول
الناشر
ص: 463