الفقه موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي من فقه الزهراء (علیها السلام) المجلد 2

هوية الكتاب

الفقه موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي من فقه الزهراء (علیها السلام)

المجلد الثاني : خطبتها علیها السلام في المسجد 1

المرجع الديني الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته)

ص: 1

اشارة

الطبعة الأولى

1439 ه 2018م

تهميش وتعليق:

مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر

كربلاء المقدسة

ص: 2

الفقه

من فقه الزهراء (علیها السلام)

المجلد الثاني

خطبتها علیها السلام في المسجد

القسم الأول

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الصِّدِيقَةُ الشَّهِيدَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الرَّضِيَةُ المَرْضِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الفَاضِلةُ الزَّكِيَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الحَوْراءُ الإِنْسِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُحَدَّثَةُ العَليمَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المَظْلومَةُ المَغْصُوبَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُضْطَهَدَةُ المَقْهُورَةُ

السَّلامُ عَليْكِ يا فاطِمَةُ بِنْتَ رَسُول اللهِ

وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ

البلد الأمين ص278. مصباح المتهجد ص711

بحار الأنوار ج97 ص195 ب12 ح5 ط بيروت

ص: 4

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين.

وبعد، فإن الدفاع كالهجوم - حقاً كان، كما في الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) والعلماء والصالحين من المؤمنين والمؤمنات.. أم باطلاً، كما في الطغاة والمجرمين - على سبعة أقسام، وإن أمكن التكثير أو التقليل منها بالاعتبارات المختلفة:

الأول: السياسي،بالتحرك وتوجيه الضغوط عبر محاور ومراكز ومؤسسات متخصصة لذلك وما أشبه، كجعل الشخص المناسب في المكان المناسب، أو التحرك لأجله في الحق وبالعكس فيالباطل.

والثاني: الاقتصادي، عبر الدعم المادي - بمختلف صوره - لجبهة الحق أو الباطل في الجانبين، أو الحظر الاقتصادي سواء على جبهة الحق، كما في محاصرة أهل مكة لأهل المدينة اقتصادياً، وكما في اغتصاب فدك، وفي عكسه على جبهة الباطل، كما قام به الرسول (صلی الله علیه و آله) بالنسبة إلى بعض القوافل التجارية لقريش

ص: 5

مقابلة لهم بالمثل(1).

والثالث: الاجتماعي بالمقاطعة الاجتماعية، كما فعله الرسول (صلی الله علیه و آله)(2) «وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا» (3)، وكما فعله بنو العباس - بالباطل - مع الأئمة الطاهرين (علیهم السلام).

والرابع: العسكري، بالسلاح، كما في حروب الرسول (صلی الله علیه و آله) الدفاعية - في جانب الحق - وعكسه في القوى المعادية لأهل الحق.والخامس: العاطفي، عبر الندبة والنوح والبكاء، كما قام به أهل البيت والأئمة (علیهم السلام) - في العديد من المواطن - خاصة الإمام السجاد (علیه السلام) بعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) (4)، وبذلك تمكنوا من إحقاق الحق وإزهاق الباطل.

والسادس: الثقافي، وذلك عبر القيام بنشر الوعي والعلم والثقافة بمختلف الوسائل، فأهل الحق ينشرون الفضيلة والتقوى والصدق ويقومون بإرشاد الناس للحقائق، وأهل الباطل ينشرون الفساد والكذب والخداع، قال تعالى: «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ»(5).

والسابع: الأجوائي(6) بتهيئة الأجواء الصالحة..بتزويج الشباب والشابات ومنع المخامر والمقامر والمباغي والملاهي والمراقص، واستبدالها بالبدائل الصالحة

ص: 6


1- راجع حول هذه المباحث كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم): ج1-2 للإمام المؤلف (قدس سره).
2- راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم): ج2 ص169-175 غزوة تبوك، تحت عنوان: المتخلفون عن تبوك.
3- سورة التوبة: 118.
4- راجع وسائل الشيعة: ج3 ص282 ب87 ح3658.
5- سورة الإسراء: 84.
6- قد يكون هذا القسم داخلاً في الدفاع السياسي أو غيره، ولكن ذكره من باب ذكر الخاص بعد العام لأهميته أو لغير ذلك مما هو مذكور في علم البلاغة.

والسليمة، أو الأجواء الفاسدة، كما يفعله المبطلون في كل زمان ومكان.والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) اتخذت أسلوب الدفاع والهجوم، لإحقاق الحق وإبطال الباطل، عبر:

1: العاطفة، كالبكاء ونحوه.

2: الثقافة، كما في خطبتها (علیها السلام) في المسجد، وفي مجمع النساء اللاتي جئن لعيادتها في البيت.

3: المقاطعة الاجتماعية:

في حياتها: حيث لم تأذن للشيخين في زيارتها (1)، وقالت (علیها السلام): «إليكم عني..»(2).

وبعد الوفاة: بالوصية بإخفاء مراسم التشييع والصلاة والدفن وإخفاء القبر الشريف(3).

4: التحرك لأجل إرجاع الحق لأهله عبر الخطبة وتوجيه الضغوط(4)وغيرها(5).

وفيما يلي نذكر خطبة الصديقة فاطمة الزهراء (علیها السلام) بأكملها، مع بعض

ص: 7


1- راجع بحار الأنوار: ج28 ص357 ب4 ح69 تبيين.
2- راجع الاحتجاج: ج1 ص109 احتجاج فاطمة الزهراء (علیها السلام) على القوم لما منعوها فدك وقولها لهم عند الوفاة بالإمامة.
3- راجع بحار الأنوار: ج43 ص214 ب7 ضمن ح44.
4- كما في طوافها (علیها السلام) على الأربعين من الصحابة.
5- وهذا من الدفاع السياسي والأجوائي حسب التقسيم المذكور، وقد يكون اقتصاديا أيضاً بالنسبة إلى مطالبتها (علیها السلام) بفدك، أما الدفاع العسكري فلم يكن ذلك بصالح الإسلام والمسلمين كما وصى بذلك الرسول (صلی الله علیه و آله).

ما يستنبط منها من الفروع والأحكام على النحو الذي فصلناه في مقدمة حديث الكساء(1).

هذا وقد أشرنا إلى بعض أدلة حجية الخطبة في المجلد الأول.

كما ذكرنا بعض ما يدل على كونها (صلوات الله عليها) مفروضة الطاعة على جميع الخلائق حتى الأنبياء (علیهم السلام)(2).

والله الموفق وهو المستعان.

قم المقدسة

محمد الشيرازي

1414ه

ص: 8


1- راجع موسوعة الفقه (من فقه الزهراء (علیها السلام)) المجلد الأول.
2- راجع (من فقه الزهراء (علیها السلام)) المجلد الأول.

خطبة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) في المسجد

خطبة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) في المسجد(1)

** احتجاج فاطمة الزهراء (علیها السلام) على القوم لما منعوها فدك(2)

بسم الله الرحمن الرحيم

روى عبد الله بن الحسن، بإسناده عن آبائه (علیهم السلام):

أنه لما أجمع(3) أبو بكر وعمر علىمنع فاطمة (علیها السلام) فدكاً (4)، وبلغها ذلك..

ص: 9


1- نقلنا هذه الخطبة الشريفة نصاً وتعليقاً من كتاب (عوالم العلوم ومستدركاتها) مجلد فاطمة الزهراء (علیها السلام) ج2 ص652- 697 الباب الخامس الحديث الأول، تحقيق ونشر مؤسسة الإمام المهدي (علیه السلام) قم المقدسة.
2- الاحتجاج للطبرسي: ج1 ص97-108، احتجاج فاطمة الزهراء (علیها السلام) على القوم لما منعوها فدك.
3- أجمع أبوبكر وعمر: أي أحكما النية والعزيمة عليه.
4- فدك من الكلمات التي يجوز فيها الصرف ومنع الصرف.

لاثت (1) خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها (2)..

وأقبلت في لمّة (3) من حفدتها (4) ونساء قومها..

تطأ ذيولها (5)، ما تخرم(6) مشيتهامشية رسول الله (صلی الله علیه و آله)، حتى دخلت

ص: 10


1- أي عصبته وجمعته، يقال: لاث العمامة على رأسه يلوثها لوثاً: أي شدها وربطها.
2- الجلباب، بالكسر: يطلق على الملحفة والرداء والإزار والثوب الواسع للمرأة دون الملحفة والثوب كالمقنعة تغطي بها المرأة رأسها وصدرها وظهرها، والأول أظهر.
3- اللمة - بضم اللام وتخفيف الميم - : الجماعة. قال في النهاية ج4 ص273: في حديث فاطمة (علیها السلام): (إنها خرجت في لُمة من نسائها تتوطأ ذيلها إلى أبي بكر فعاتبته) أي في جماعة من نسائها. قيل: هي ما بين الثلاثة إلى العشرة. وقيل: اللمة: المثل في السن والترب. وقال الجوهري في الصحاح: ج5 ص2026: الهاء عوض من الهمزة الذاهبة من وسطه، وهو مما أخذت عينه كسر ومد، وأصلها (فعلة) من الملائمة وهي الموافقة. انتهى. ويحتمل أن يكون بتشديد الميم. قال الفيروز آبادي في القاموس: ج4 ص177: اللمة بالضم: الصاحب والأصحاب في السفر، والمؤنس للواحد والجمع.
4- الحفدة، بالتحريك: الأعوان والخدم.
5- أي كانت أثوابها طويلة تستر قدميها، وتضع عليها قدمها عند المشي، وجمع الذيل باعتبار الأجزاء أو تعدد الثياب.
6- وفي بعض النسخ: من مشي رسول الله (صلی الله علیه و آله). والخرم: الترك والنقص والعدول. والمشية: بالكسر الإسم من مشى يمشي مشياً: أي لم تنقص مشيها (علیها السلام) من مشيه (صلی الله علیه و آله) شيئاً، كأنه هو بعينه. قال في النهاية: ج2 ص27: فيه ما خرمت من صلاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) شيئاً، أي ما تركت. ومنه الحديث: (لم أخرم عنه حرفاً) أي لم أدع.

على أبي بكر، وهو في حشد(1) من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة (2)، فجلست.. ثم أنّت أنةًأجهش(3) القوم لها بالبكاء، فارتج(4) المجلس..

ثم أمهلت هنيئة (5)..

ص: 11


1- والحشد، بالفتح وقد يحرّك: الجماعة. وفي الكشف: (إن فاطمة (علیها السلام) لما بلغها إجماع أبي بكر على منعها فدكاً، لاثت خمارها وأقبلت في لميمة من حفدتها ونساء قومها، تجرّ أدراعها، وتطأ في ذيولها، ما تخرم من مشية رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى دخلت على أبي بكر، وقد حشد المهاجرين والأنصار، فضرب بينهم بريطة بيضاء، وقيل: قبطية، فأنّت أنّة أجهش القوم لها بالبكاء، ثم أمهلت طويلاً حتى سكنوا من فورتهم، ثم قالت: أبتدئ بحمد من هو أولى بالحمد والطول والمجد، الحمد لله على ما أنعم...).
2- الملاءة، بالضم والمد: الريطة والإزار، ونيطت: بمعنى علّقت، أي ضربوا بينها (علیها السلام) وبين القوم ستراً وحجاباً. والريطة بالفتح: الملاءة إذا كانت قطعة واحدة ولم تكن لفقين، أو هي كل ثوب ليّن رقيق. والقبطية، بالكسر: ثياب بيض رقاق من كتان تتخذ بمصر، وقد يضم لأنهم يغيرون في النسبة. وفي رواية لابن أبي الحديد في شرح النهج، وصاحب كتاب (السقيفة وفدك): (فضرب بينها وبينهم ريطة بيضاء)، وقال بعضهم: قبطية، وقالوا: قُبطية، بالكسر والضم. والريطة: الإزار، والقبطية: ثياب منسوبة إلى القبط. وقال في معجم البلدان: ج4 ص306: القبط، بالكسر ثم السكون: بلاد القبط بالديار المصرية سميت بالجبل الذي كان يسكنه.
3- الجهش: أن يفزع الإنسان إلى غيره وهو مع ذلك يريد البكاء، كالصبي يفزع إلى أمه وقد تهيأ للبكاء، يقال: جهش إليه كمنع وأجهش..
4- الارتجاج: الاضطراب.
5- هنيئة: صبرت زماناً قليلاً.

حتى إذا سكن نشيج (1) القوم، وهدأت فورتهم(2)، افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه، والصلاة على رسوله..

فعاد القوم في بكائهم..

فلما أمسكوا، عادت في كلامها، فقالت (علیها السلام):

«الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدم(3)، من عموم نعم ابتداها، وسبوغ آلاء أسداها (4).. وتمام منن أولاها (5)..جمّ (6) عن الإحصاء عددها..

ونأى عن الجزاء أمدها (7)..

ص: 12


1- النشيج: صوت معه توجع وبكاء، كما يردد الصبي بكاءه في صدره.
2- وهدأت، كمنعت: أي سكنت. وفورة الشيء: شدته، وفار القدر: أي جاشت.
3- أي بنعم أعطاها العباد قبل أن يستحقوها. ويحتمل أن يكون المراد بالتقديم: الإيجاد والفعل من غير ملاحظة معنى الابتداء فيكون تأسيساً.
4- السبوغ: الكمال. والآلاء: النعماء، جمع ألى بالفتح والقصر، وقد تكسر الهمزة. وأسدى وأولى وأعطى بمعنى واحد.
5- أولاها: أي تابعها بإعطاء نعمة بعد أخرى بلا فصل.
6- وجمّ الشيء: أي كثر. والجمّ: الكثير، والتعدية ب (عن) لتضمين معنى التعدي والتجاوز.
7- الأمد، بالتحريك: الغاية المنتهى، أي بعُد عن الجزاء بالشكر غايتها. فالمراد بالأمد إما الأمد المفروض، إذ لا أمد لها على الحقيقة، أو الأمد الحقيقي لكل حد من حدودها المفروضة، ويحتمل أن يكون المراد بأمدها: ابتداؤها، وقد مر في كثير من الخطب ما بهذا المعنى. وقال في النهاية: (في حديث الحجاج، قال الحسن: ما أمدك؟ قال: سنتان من خلافة عمر، أراد أنه ولد لسنتين من خلافته، وللإنسان أمدان: مولده وموته) انتهى. وإذا حمل عليه يكون أبلغ، ويحتمل على بُعد أن يقرأ بكسر الميم. قال الفيروز آبادي: الأمد: المملو من خير وشر، والسفينة المشحونة.

وتفاوت عن الإدراك أبدها (1)..

وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها (2)..

واستحمد إلى الخلائق بإجزالها (3)،وثنى بالندب إلى أمثالها (4).

وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له..

كلمة جعل الإخلاص تأويلها (5)..

ص: 13


1- التفاوت: البعد. والأبد: الدهر. والدائم: القديم الأزلي، وبُعده عن الإدراك لعدم الانتهاء.
2- وندبهم: يقال ندبه للأمر،وإليه فانتدب: أي دعاه فأجاب. واللام في قولها (علیها السلام): (لاتصالها) لتعليل الندب، أي رغّبهم في استزادة النعمة بسبب الشكر، لتكون نعمة متصلة لهم غير منقطعة عنهم، وجعل اللام الأولى للتعليل، والثانية للصلة. وفي بعض النسخ: (لإفضالها) فيحتمل تعلقه بالشكر.
3- أي طلب منهم الحمد بسبب إجزال النعم وإكمالها عليهم، يقال: أجزلت له من العطاء أي أكثرت. وأجزلك النعم كأنه طلب الحمد أو طلب منهم الحمد حقيقة لإجزال النعم، وعلى التقديرين التعدية بإلى لتضمين معنى الانتهاء، أو التوجه، وهذه التعدية في الحمد شائع بوجه آخر، يقال: أحمد إليك الله، قيل: أي أحمده معك، وقيل: أي أحمد إليك نعمة الله بتحديثك إياها، ويحتمل أن يكون استحمد بمعنى تحمّد، يقال: فلان يتحمّد عليّ، أي يمتنّ، فيكون إلى بمعنى على، وفيه بُعد.
4- أي بعد أن أكمل لهم النعم الدنيوية، ندبهم إلى تحصيل أمثالها من النعم الأخروية، أو الأعم منها، ومن مزيد النعم الدنيوية. ويحتمل أن يكون المراد بالندب إلى أمثالها: أمر العباد بالإحسان والمعروف وهو إنعام على المحسن إليه وعلى المحسن أيضاً، لأنه به يصير مستوجباً للأعواض والمثوبات الدنيوية والأخروية.
5- المراد بالإخلاص: جعل الأعمال كلها خالصة لله تعالى وعدم شوب الرياء والأغراض الفاسدة، وعدم التوسل بغيره تعالى - مستقلا - في شيء من الأمور، فهذا تأويل كلمة التوحيد، لأن من أيقن بأنه الخالق والمدبر، وبأنه لا شريك له في الإلهية، فحق له أن لا يشرك في العبادة غيره، ولا يتوجه في شيء من الأمور إلى غيره.

وضمن القلوب موصولها (1)..وأنار في التفكر معقولها (2)، الممتنع من الأبصار رؤيته (3)، ومن الألسن صفته (4)، ومن الأوهام كيفيته.

ابتدع الأشياء لا من شيء (5) كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء (6) أمثلة امتثلها..

ص: 14


1- هذه الفقرة تحتمل وجوهاً: الأول: أن الله تعالى ألزم وأوجب على القلوب ما تستلزمه هذه الكلمة من عدم تركّبه تعالى وعدم زيادة صفاته الكمالية الموجودة وأشباه ذلك مما يؤول إلى التوحيد. الثاني: أن يكون المعنى جعل ما يصل إليه العقل من تلك الكلمة مدرجا في القلوب بما أراهم من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم، أو بما فطرهم عليه من التوحيد. الثالث: أن يكون المعنى لم يكلف العقول الوصول إلى منتهى دقائق كلمة التوحيد وتأويلها، بل إنما كلف عامة القلوب بالإذعان بظاهر معناها وصريح مغزاها وهو المراد بالموصول. الرابع: أن يكون الضمير في (موصولها) راجعا إلى القلوب، أي لم يلزم القلوب إلا ما يمكنها الوصول إليها من تأويل تلك الكلمة الطيبة، والدقائق المستنبطة منها، أو مطلقا. ولولا التفكيك لكان أحسن الوجوه بعد الوجه الأول، بل مطلقا.
2- أي أوضح في الأذهان ما يتعقل من تلك الكلمة، بالتفكر في الدلائل والبراهين، ويحتمل إرجاع الضمير إلى القلوب أو الفكر بصيغة الجمع، أي أوضح بالتفكر ما يعقلها العقول، وهذا يؤيد الوجه الرابع من وجوه الفقرة السابقة.
3- ويمكن أن يقرأ: (الأبصار) بصيغة الجمع والمصدر، والمراد بالرؤية: العلم الكامل والظهور التام.
4- الظاهر أن الصفة هنا مصدر، ويحتمل المعنى المشهور بتقدير.
5- أي بيان صفته. (لا من شيء): أي مادة.
6- احتذى مثاله: اقتدى به، و(امتثلها): أي تبعها. و(لم يتعد عنها): أي لم يخلقها على وفق صنع غيره.

كوّنها بقدرته، وذرأها بمشيته، من غير حاجة منه إلى تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها، إلا تثبيتاً لحكمته، وتنبيهاً (1) على طاعته، وإظهاراً لقدرته، وتعبداً لبريته(2)، وإعزازاً لدعوته(3)، ثم جعل الثواب على طاعته،ووضع العقاب على معصيته، ذيادة (4) لعباده من نقمته، وحياشة (5) لهم إلى جنته.

وأشهد أن أبي محمداً عبده ورسوله، اختاره قبل أن أرسله، وسمّاه قبل أن اجتباه(6)، واصطفاه قبل أن ابتعثه..

إذ الخلائق بالغيب مكنونة..

وبستر الأهاويل مصونة (7)، وبنهاية العدم مقرونة، علماً من الله تعالى

ص: 15


1- لأن ذوي العقول يتنبهون بمشاهدة مصنوعاته بأن شكر خالقها والمنعم بها واجب، أو أن خالقها مستحق للعبادة، أو بأن من قدر عليها يقدر على الإعادة والانتقام.
2- أي خلق البرية ليتعبّدهم، أو خلق الأشياء ليتعبّد البرايا بمعرفته والاستدلال بها عليه.
3- أي خلق الأشياء ليغلب ويظهر دعوة الأنبياء (علیهم السلام) إليه بالاستدلال بها.
4- الذود والذياد، بالذال المعجمة: السوق والطرد والدفع والإبعاد.
5- وحشت الصيد أوحشته: إذا جئته من حواليه لتصرفه إلى الحبال، ولعل التعبير بذلك لنفور الناس بطباعهم عما يوجب دخول الجنة.
6- في بعض النسخ: (قبل أن اجتبله) الجبل: الخلق، يقال جبلهم الله أي خلقهم، وجبله على الشيء: أي طبعه عليه. ولعل المعنى: أنه تعالى سماه لابتنائه قبل أن يخلقه، ولعل زيادة البناء للمبالغة تنبيهاً على أنه خلق عظيم. وفي بعض النسخ: بالحاء المهملة، يقال احتبل الصيد: أي أخذه بالحبالة، فيكون المراد به الخلق أو البعث مجازاً. وفي بعضها: (قبل أن اجتباه واصطفاه بالبعثة).
7- لعل المراد بالستر: ستر العدم، أو حجب الأصلاب والأرحام، ونسبته إلى الأهاويل لما يلحق الأشياء في تلك الأحوال من موانع الوجود وعوائقه. ويحتمل أن يكون المراد: أنها كانت مصونة عن الأهاويل بستر العدم، إذ هي إنما تلحقها بعد الوجود. وقيل: التعبير بالأهاويل من قبيل التعبير عن درجات العدم بالظلمات.

بمآيل الأمور(1)، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع الأمور(2).

ابتعثه الله إتماماً لأمره(3)، وعزيمة على إمضاء حكمه، وإنفاذاً لمقادير حتمه(4)، فرأى الأمم فرقاً في أديانها، عكفاً على نيرانها (5)، عابدة لأوثانها، منكرة لله مع عرفانها (6). فأنار الله بأبي محمد (صلی الله علیه و آله) ظلمها (7)، وكشف عن القلوب بهمها (8)، وجلى عن الأبصار غممها (9)، وقام في الناسبالهداية،

ص: 16


1- الأمور، على صيغة الجمع: أي عواقبها. وفي بعض النسخ: بصيغة المفرد
2- في بعض النسخ: (ومعرفة بمواقع المقدور) أي لمعرفته تعالى بما يصلح وينبغي من أزمنة الأمور الممكنة المقدورة وأمكنتها، ويحتمل أن يكون المراد بالمقدور: المقدّر، بل هو أظهر.
3- أي للحكمة التي خلق الأشياء لأجله.
4- الإضافة في (مقادير حتمه) من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة، أي مقاديره المحتومة.
5- يقال: عكف على الشيء، كضرب ونصر: أي أقبل عليه مواظباً ولازمه، فهو عاكف، ويجمع على (عُكّف) بضم العين وفتح الكاف المشددة، كما هو الغالب في فاعل الصفة، نحو شهد وغيّب، و(النيران): جمع نار وهو قياس مطرد في جمع الأجوف، نحو تيجان وجيران.
6- لكون معرفته تعالى فطرية، أو لقيام الدلائل الواضحة الدالة على وجوده سبحانه.
7- والضمير في (ظلمها) راجع إلى الأمم، والضميران التاليان له يمكن إرجاعهما إليها، وإلى القلوب والأبصار. والظُلَم، بضم الظاء وفتح اللام: جمع ظلمة، استعيرت هنا للجهالة.
8- البهم: جمع بُهمة، بالضم: هي مشكلات الأمور. و(جلوت الأمر): أوضحته وكشفته.
9- والغمم: جمع غمة، يقال: (أمر غمّة) أي مبهم ملتبس. قال الله تعالى: «ثم لا يكن أمركم عليكم غمة». قال أبو عبيدة: مجازها ظلمة وضيق، وتقول: غممت الشيء إذا غطيته وسترته، والغمامة: الغواية واللجاج، ذكره الفيروز آبادي.

فأنقذهم من الغواية، وبصرهم من العماية، وهداهم إلى الدين القويم، ودعاهم إلى الطريق المستقيم.

ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار، ورغبة وإيثار(1)، فمحمد (صلی الله علیه و آله) (2) من تعب هذه الدار في راحة، قد حف بالملائكة الأبرار، ورضوان الرب الغفار، ومجاورة الملك الجبار، صلى الله على أبي، نبيه وأمينه، وخيرته من الخلق وصفيه(3)، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.

- ثم التفتت (علیها السلام) إلى أهل المجلس وقالت -:أنتم عباد الله نصب أمره (4) ونهيه، وحملة دينه ووحيه، وأمناء الله على أنفسكم، وبلغاءه إلى الأمم(5)..

ص: 17


1- واختيار: أي من الله له ما هو خير له، أو باختيار منه (صلی الله علیه و آله) ورضا، وكذا الإيثار، والأول أظهر فيهما.
2- لعل الظرف متعلق بالإيثار بتضمين معنى الضنة أو نحوها. وفي بعض النسخ: (بمحمد)، وفي بعض النسخ: (محمد) بدون الباء، فتكون الجملة استينافية أو مؤكدة للفقرة السابقة أو حالية بتقدير الواو. وفي بعض النسخ القديمة: (فمحمد (صلی الله علیه و آله)) وهو أظهر. وفي رواية كشف الغمة: (رغبته بمحمد (صلی الله علیه و آله) عن تعب هذه الدار). وفي رواية أحمد ابن أبي طاهر: (أبي (صلی الله علیه و آله) عرّت هذه الدار) وهو أظهر، ولعل المراد بالدار: دار القرار، ولو كان المراد الدنيا تكون الجملة معترضة.
3- في بعض النسخ: (وأمينه على الوحي وصفيّه وخيرته من الخلق ورضيّه).
4- قال الفيروز آبادي: (النصب) بالفتح: العلم المنصوب، ويحرّك، و(هذا نصب عيني) بالضم والفتح، انتهى. أي نصبكم الله لأوامره ونواهيه وهو خبر الضمير، و(عباد الله) منصوب على النداء.
5- أي تؤدون الأحكام إلى سائر الناس، لأنكم أدركتم صحبة الرسول (صلی الله علیه و آله).

زعيم حق له فيكم(1).. وعهد قدمه إليكم..

وبقية (2) استخلفها عليكم:

كتاب الله الناطق، والقرآن الصادق، والنور الساطع، والضياء اللامع، بينةبصائره(3)، منكشفة سرائره(4)، منجلية ظواهره، مغتبطة (5) به أشياعه، قائداً إلى الرضوان أتباعه، مؤد إلى النجاة استماعه(6)، به تنال حجج الله المنورة، وعزائمه (7) المفسرة، ومحارمه المحذرة، وبيناته الجالية، وبراهينه الكافية،

ص: 18


1- في بعض النسخ: (وزعمتم حق لكم لله فيكم) أي زعمتم أن ما ذكر ثابت لكم، وتلك الأسماء صادقة عليكم بالاستحقاق، ويمكن أن يقرأ على الماضي المجهول. وفي إيراد لفظ الزعم إشارة بأنهم ليسوا متصفين بها حقيقة، وإنما يدعون ذلك كذبا، ويمكن أن يكون (حق لكم) جملة أخرى مستأنفة، أي زعمتم أنكم كذلك، وكان يحق لكم وينبغي أن تكونوا كذلك لكن قصرتم. وفي بعض النسخ: (وزعمتم حق له فيكم وعهد)، وفي كتاب المناقب القديم: (زعمتم أن لا حق لي فيكم عهداً قدمه إليكم) فيكون (عهدا) منصوبا بأذكروا أو نحوه. وفي الكشف: (إلى الأمم خولكم الله فيكم عهد).
2- عهد وبقية، (العهد): الوصية. و(بقية الرجل): ما يخلفه في أهله. والمراد بهما: القرآن، أو بالأول ما أوصاهم به في أهل بيته وعترته، وبالثاني: القرآن. وفي رواية أحمد ابن أبي طاهر: (وبقية استخلفنا عليكم) ومعناها: كتاب الله، فالمراد بالبقية: أهل البيت (علیهم السلام)، وبالعهد: ما أوصاهم به فيهم.
3- البصائر: جمع بصيرة، وهي الحجة.
4- انكشاف السرائر: وضوحها عند حملة القرآن وأهله.
5- الغبطة:أن يتمنى المرء مثل حال المغبوط من غير أن يريد زوالها منه، تقول: غبطته فاغتبط. والباء للسببية أي أشياعه مغبوطون بسبب اتباعه، وتلك الفقرة غير موجودة في سائر الروايات.
6- على بناء الإفعال أي تلاوته. وفي بعض نسخ الاحتجاج وسائر الروايات: (احتجاجه).
7- المراد بالعزائم: الفرائض.

وفضائله (1) المندوبة، ورخصه (2) الموهوبة، وشرائعه (3) المكتوبة.

فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم منالشرك، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس(4)..

ونماءً في الرزق(5)..

والصيام تثبيتاً للإخلاص(6)، والحج تشييداً للدين(7)، والعدل تنسيقاً

ص: 19


1- المراد بالفضائل: السنن.
2- المراد بالرخص: المباحات، بل ما يشمل المكروهات أيضا.
3- والشرائع ما سوى ذلك من الأحكام، كالحدود والديات، أو الأعم. أما (الحجج والبينات والبراهين): فالظاهر أن بعضها مؤكدة لبعض، ويمكن تخصيص كل منها ببعض ما يتعلق بأصول الدين لبعض المناسبات. وفي رواية ابن أبي طاهر: (وبيانه الجالية وجمله الكافية)، فالمراد بالبينات: المحكمات، وبالجمل: المتشابهات، ووصفها بالكافية لدفع توهم نقص فيه لإجمالها، فإنها كافية فيما أريد منها، ويكفي معرفة الراسخين في العلم بالمقصود منها فإنهم المفسرون لغيرهم. ويحتمل أن يكون المراد بالجمل: العمومات التي يستنبط منها الأحكام الكثيرة.
4- أي من دنس الذنوب، او من رذيلة البخل، إشارة إلى قوله تعالى: «تطهرهم وتزكيهم بها» سورة التوبة: 103.
5- إيماء إلى قوله تعالى: «وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون» سورة الروم: 39، على بعض التفاسير.
6- أي لتشييد الإخلاص وإبقائه، أو للإثباته وبيانه، ويؤيد الأخير أن في بعض الروايات: (تبييناً) وهذا تخصيص الصوم بذلك، لكونه أمراً عدمياً لا يظهر لغيره تعالى، فهو أبعد من الرياء وأقرب إلى الإخلاص، وهذا أحد الوجوه في تفسير الحديث المشهور: (الصوم لي وأنا أجزي به).
7- إنما خص التشييد به لظهوره ووضوحه، وتحمل المشاق فيه، وبذل النفس والمال، فالإتيان به أدل دليل على ثبوت الدين، أو يوجب استقرار الدين في النفس، لتلك العلل وغيرها مما لا نعرفه، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما ورد في الأخبار الكثيرة من أن علة الحج: التشرف بخدمة الإمام (علیه السلام) وعرض النصرة عليه وتعلم الشرائع منه، فالتشييد لا يحتاج إلى تكلف. وفي العلل ورواية ابن أبي طاهر: (تسلية للدين) فلعل المعنى تسلية للنفس بتحمل المشاق وبذل الأموال بسبب التقييد بالدين، أو المراد بالتسلية الكشف والإيضاح فإنها كشف الهم، أو المراد بالدين أهل الدين، أو أسند إليه مجازاً، والظاهر أنه تصحيف (تسنيه) وكذا في الكشف وفي بعض نسخ العلل، أي يصير سبباً لرفعة الدين وعلوه.

للقلوب(1)، وطاعتنا نظاماً للملة،وإمامتنا أماناً للفرقة، والجهاد عزاً للإسلام، والصبر معونة على استيجاب الأجر(2)، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة، وبر الوالدين وقاية من السخط(3)، وصلة الأرحام منسأة في العمر ومنماة للعدد(4)..

والقصاص حقناً للدماء، والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة..

وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس(5)، والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس(6)..

ص: 20


1- والتنسيق: التنظيم. وفي العلل: (مسكاً للقلوب) أي ما يمسكها. وفي القاموس: (المسكة، بالضم: ما يتمسك به وما يمسك الأبدان من الغذاء والشراب، والجمع: مُسَك كصرد، والمسك محرّكة: الموضع يمسك الماء). وفي رواية ابن أبي طاهر وكشف الغمة: (تنسكا للقلوب) أي عبادة لها، لأن العدل أمر نفساني يظهر آثاره على الجوارح.
2- إذ به يتم فعل الطاعات وترك السيئات.
3- أي سخطهما، أو سخط الله تعالى، والأول أظهر.
4- المنماة: اسم مكان أو مصدر ميمي، أي يصير سبباً لكثرة عدد الأولاد والعشائر، كما أن قطعها تذر الديار بلاقع من أهلها.
5- وفي سائر الروايات: (للبخسة) أي لئلا ينقص مال، من ينقص المكيال والميزان، إذ التوفية موجب للبركة وكثرة المال، أو لئلا ينقصوا أموال الناس فيكون المقصود: إن هذا أمر يحكم العقل بقبحه.
6- اي النجس، أو ما يجب التنزه عنه عقلا، والأول أوضح في التعليل، فيمكن الاستدلال على نجاستها.

واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة (1)، وترك السرقة إيجاباً للعفة (2)..وحرّم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبية، ف «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ»(3)، وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، فإنه «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ»(4).

- ثم قالت: -

أيها الناس، اعلموا أني فاطمة وأبي محمد (صلی الله علیه و آله)..

أقول عوداً وبدواً (5)..

ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً (6) «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ»(7)..

ص: 21


1- اي لعنة الله، أو لعنة المقذوف أو القاذف، فيرجع إلى الوجه الأخير في السابقة، والأول أظهر، إشارة إلى قوله تعالى: «ولعنوا في الدنيا والآخرة» سورة النور: 23.
2- أي للعفة عن التصرف في أموال الناس مطلقاً، أو يرجع إلى ما مر، وكذا الفقرة الثانية. وفي (كشف الغمة) بعد قوله للعفة: (والتنزه عن أكل أموال الأيتام والاستيثار بفيئهم إجارة من الظلم، والعدل في الأحكام إيناساً للرعية، والتبري من الشرك إخلاصاً للربوبية).
3- سورة آل عمران: 102.
4- سورة فاطر: 28
5- أي أولاً وآخراً، وفي رواية ابن أبي الحديد وغيره: (أقول عوداً على بدء) والمعنى واحد.
6- والشطط، بالتحريك: البعد عن الحق ومجاوزة الحد في كل شيء.
7- سورة التوبة: 128. (من أنفسكم): أي لم يصبه شيء من ولاة الجاهلية، بل عن نكاح طيب، كما روي عن الصادق (علیه السلام). وقيل: أي من جنسكم من البشر، ثم من العرب من بني إسماعيل. (عزيز عليه ما عنتم): أي شديد شاق عليه عنتكم وما يلحقكم من الضرر، بترك الإيمان أو مطلقا. (حريص عليكم): أي على إيمانكم وصلاح شأنكم. (بالمؤمنين رؤوف رحيم): أي رحيم بالمؤمنين منكم ومن غيركم، والرأفة: شدة الرحمة، والتقديم لرعاية الفواصل. وقيل: رؤوف بالمطيعين، رحيم بالمذنبين. وقيل: رؤوف بأقربائه، رحيم بأوليائه. وقيل: رؤوف بمن رآه، رحيم بمن لم يره، فالتقديم للاهتمام بالمتعلق.

فإن تعزوه(1) وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمي دون رجالكم، ولنعم المعزى (2) إليه (صلی الله علیه و آله).

فبلّغ الرسالة صادعاً (3) بالنذارة (4)..مائلاً عن مدرجة المشركين(5)، ضارباً ثبجهم..

آخذاً بأكظامهم(6)، داعياً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة(7).

ص: 22


1- عزوته إلى أبيه: أي نسبته إليه،أي إن ذكرتم نسبه وعرفتموه تجدوه أبي وأخا ابن عمي، فالأخوة ذكرت استطراداً، ويمكن أن يكون الانتساب أعم من النسب ومما طرأ أخيرا، ويمكن أن يقرأ (وأخا) بصيغة الماضي، وفي بعض الروايات: (فإن تعزروه وتوقروه).
2- المعزى: الانتساب.
3- الصدع: الإظهار، تقول: صدعت الشيء أي أظهرته، وصدعت بالحق: إذا تكلمت به جهارا، قال الله تعالى: «فاصدع بما تؤمر» سورة الحجر: 94.
4- والنذارة، بالكسر: الإنذار، وهو الإعلام على وجه التخويف.
5- والمدرجة: المذهب والمسلك، وفي كشف الغمة: (ناكبا عن سنن مدرجة المشركين) . وفي رواية ابن أبي طاهر: (مائلا عن مدرجة) أي قائما للرد عليهم، وهو تصحيف.
6- الثبج، بالتحريك: وسط الشيء ومعظمه. و(الكظم) بالتحريك: مخرج النفس من الحلق، أي كان (صلی الله علیه و آله) لا يبالي بكثرة المشركين واجتماعهم ولا يداريهم في الدعوة.
7- كما أمره سبحانه بقوله: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن» وقيل المراد بالحكمة: البراهين القاطعة وهي للخواص، وبالموعظة الحسنة: الخطابات المقنعة والعبر النافعة وهي للعوام، وبالمجادلة التي هي أحسن: إلزام المعاندين والجاحدين بالمقدمات المشهورة والمسلّمة، وأما المغالطات والشعريات فلا يناسب درجة أصحاب النبوات.

يجف الأصنام، وينكث الهام(1)، حتى انهزم الجمع وولوا الدبر، حتى تفرى الليل عن صبحه، وأسفر الحق عن محضه(2)، ونطق زعيم الدين(3)، وخرستشقاشق الشياطين(4)، وطاح وشيظ النفاق(5)، وانحلت عقد الكفر

ص: 23


1- في بعض النسخ: (يكسر الأصنام وينكث الهام)، النكث إلقاء الرجل على رأسه، يقال: طعنه فنكثه، و(الهام): جمع الهامة بالتخفيف فيهما وهي الرأس، والمراد قتل رؤساء المشركين وقمعهم وإذلالهم والمشركين مطلقا. وقيل: أريد به إلقاء الأصنام على رؤوسها، ولا يخفى بعده لا سيما بالنظر إلى ما بعده، وفي بعض النسخ: (ينكس الهام) وفي الكشف وغيره: (يجذ الأصنام) من قولهم: جذذت الشيء أي كسرته، ومنه قوله تعالى: «وجعلهم جذاذا» سورة الأنبياء: 58.
2- أي كشف الغطاء عن محضه وخالصه، والواو مكان (حتى) كما في رواية ابن أبي طاهر: (أظهره). و(تفرى الليل): أي انشق حتى ظهر ضوء الصباح. و(أسفر الحق) ويقال أسفر الصبح: أي أضاء.
3- زعيم القوم: سيدهم والمتكلم عنهم، والزعيم أيضا: الكفيل، والإضافة لامية ويحتمل البيانية.
4- خرس بكسر الراء، و(الشقاشق): جمع شقشقة بالكسر، وهي شيء كالرية يخرجها البعير من فيه إذا هاج، وإذا قالوا للخطيب: ذو شقشقة فإنما يشبه بالفحل، وإسناد الخرس إلى الشقاشق مجازي.
5- طاح فلان يطوح: إذا هلك أو أشرف على الهلاك وتاه في الأرض وسقط. و(الوشيط) بالمعجمتين: الرذل والسفلة من الناس، ومنه قولهم: (إياكم والوشايظ)، وقال الجوهري: الوشيظ: لفيف من الناس ليس أصلهم واحد، أو بنو فلان وشيظة في قومهم، أي هم حشو فيهم. و(الوسيط) بالمهملتين: أشرف القوم نسباً وأرفعهم محلاً، وكذا في بعض النسخ، وهو أيضا مناسب.

والشقاق، وفهتم بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماص(1)، وكنتم على شفاحفرة من النار(2)، مذقة الشارب، ونهزة الطامع(3)، وقبسة العجلان(4)، وموطئ الأقدام(5)، تشربون الطرق، وتقتاتون القد(6)، أذلة خاسئين، تخافون

ص: 24


1- يقال: فاه فلان بالكلام كقال أي لفظ به كتفوه، وكلمة الإخلاص: كلمة التوحيد، وفيه تعريض بأنه لم يكن إيمانهم عن قلوبهم. و(البيض): جمع أبيض، وهو من الناس خلاف الأسود. و(الخماص) بالكسر: جمع خميص، و(الخماصة): تطلق على دقة البطن خلقة وعلى خلوه من الطعام، يقال: فلان خميص البطن من أموال الناس، أي عفيف منها، وفي الحديث: (كالطير تغدو خماصا وتروح بطانا) والمراد بالبيض الخماص: إما أهل البيت (علیهم السلام) ويؤيده ما في كشف الغمة: (في نفر من البيض الخماص الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا). ووصفهم بالبيض، لبياض وجوههم، أو هو من قبيل وصف الرجل بالأغر، وبالخماص لكونهم ضامري البطون بالصوم وقلة الأكل، أو لعفتهم عن أكل أموال الناس بالباطل، أو المراد بهم من آمن من العجم كسلمان (رضوان الله عليه) وغيره، يقال لأهل فارس بيض، لغلبة البياض على ألوانهم وأموالهم، إذ الغالب في أموالهم الفضة، كما يقال لأهل الشام حمر، لحمرة ألوانهم وغلبة الذهب في أموالهم، والأول أظهر، ويمكن اعتبار نوع تخصيص في المخاطبين، فيكون المراد بهم غير الراسخين الكاملين في الإيمان، وبالبيض الخماص: الكمّل منهم.
2- شفا كل شيء: طرفه وشفيره، أي كنتم على شفير جهنم، مشرفين على دخولها، لشرككم وكفركم.
3- مذقة الشارب: شربته. والنهزة بالضم: الفرصة، أي محل نهزته، أي كنتم قليلين أذلاء يتخطفكم الناس بسهولة.
4- والقبسة بالضم: شعلة من نار يقتبس من معظمها، والإضافة إلى العجلان لبيان القلة والحقارة.
5- ووطئ الأقدام: مثل مشهور في المغلوبية والمذلة .
6- في بعض النسخ: (وتشربون الطرق وتقتاتون الورق). الطرق بالفتح: ماء السماء الذي تبول فيه الإبل وتبعر. و(الورق) بالتحريك: ورق الشجر. وفي بعض النسخ: (وتقتاتون القدّ) وهو بكسر القاف وتشديد الدال: سير يقدّ من جلد غير مدبوغ، والمقصود: وصفهم بخباثة المشرب وجشوبة المأكل لعدم اهتدائهم إلى ما يصلحهم في دنياهم ولفقرهم وقلة ذات يدهم وخوفهم من الأعادي.

أن يتخطفكم الناس من حولكم(1).

فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد (صلی الله علیه و آله) بعد اللتياوالتي(2)..

وبعد أن مني ببهم الرجال، وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب(3)..

«كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ» (4)..

أو نجم(5) قرن(6) الشيطان، أو فغرت(7) فاغرة (8) من المشركين قذف(9)

ص: 25


1- الخاسئ: المبعد المطرود. و(التخطف): استلاب الشيء وأخذه بسرعة، اقتبس من قوله تعالى: «واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون» سورة الأنفال: 26. وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (علیه السلام): إن الخطاب في تلك الآية لقريش خاصة، فالمراد بالناس سائر العرب، أو الأعم.
2- و(اللتيا) بفتح اللام وتشديد الياء: تصغير التي، وجوز بعضهم فيه ضم اللام، وهما كنايتان عن الداهية الصغيرة والكبيرة.
3- يقال: مُني بكذا، على صيغة المجهول أي ابتلي، و(بُهَم الرجال) كصُرد: الشجعان منهم لأنهم لشدة بأسهم لا يدرى من أين يؤتون، و(ذؤبان العرب): لصوصهم وصعاليكهم الذين لا مال لهم ولا اعتماد عليهم، و(المردة): العتاة المتكبرون المجاوزون للحد.
4- سورة المائدة: 64.
5- نجم الشيء، كنصر، نجوماً: ظهر وطلع.
6- المراد بالقرن: القوة، وفسّر قرن الشيطان بأمته ومتابعيه.
7- فغر فاه: أي فتحه، وفغر فوه: أي انفتح، يتعدى ولا يتعدى.
8- الفاغرة من المشركين: الطائفة العادية منهم، تشبيهاً بالحية أو السبع. ويمكن تقدير الموصوف مذكراً على أن يكون التاء للمبالغة.
9- القذف: الرمي ويستعمل في الحجارة، كما أن الحذف يستعمل في الحصا، يقال: (هم بين حاذف وقاذف).

أخاه في لهواتها (1)، فلا ينكفئ حتىيطأ جناحها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه(2). مكدوداً في ذات الله(3)، مجتهداً في أمر الله، قريباً من رسول الله، سيداً في أولياء الله(4). مشمراً (5) ناصحاً، مجداً كادحاً (6)، لا تأخذه في الله لومة لائم، وأنتم في رفاهية من العيش وادعون(7) فاكهون(8) آمنون، تتربصون بنا

ص: 26


1- اللهوات، بالتحريك: جمع لهاة، وهي اللحمة في أقصى سقف الفم. وفي بعض الروايات: (في مهواتها) بالميم والتسكين، الحفرة وما بين الجبلين ونحو ذلك، وعلى أي حال المراد أنه (صلی الله علیه و آله) كلما أراده طائفة من المشركين أو عرضت له داهية عظيمة بعث علياً (علیه السلام) لدفعها وعرّضه للمهالك، وفي رواية الكشف وابن أبي طاهر: (كلما حشوا ناراً للحرب، ونجم قرن للضلال)، قال الجوهري: حششت النار: أوقدتها.
2- في بعض النسخ: (فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه ويخمد لهبها بسيفه). (انكفأ) بالهمزة: أي رجع، من قولهم كفأت القوم كفاءً: إذا أرادوا وجهاً فصرفتهم عنه إلى غيره، فانكفئوا أي رجعوا. و(الصماخ) بالكسرة: ثقب الأذن والأذن نفسها، وبالسين كما في بعض الروايات لغة فيه، و(الأخمص): ما لا يصيب الأرض من باطن القدم عند المشي، و(وطئ الصماخ بالأخمص) عبارة عن القهر والغلبة على أبلغ وجه، وكذا إخماد اللهب بماء السيف استعارة بليغة شائعة.
3- المكدود: من بلغه التعب والأذى، و(ذات الله): أمره ودينه وكلما يتعلق به سبحانه. وفي كشف الغمة: (مكدوداً دؤوباً في ذات الله).
4- وفي بعض النسخ: (سيد أولياء الله) بالجر صفة لرسول الله (صلی الله علیه و آله)، أو بالنصب عطفاً على الأحوال السابقة، ويؤيد الأخير ما في رواية ابن أبي طاهر: (سيداً في أولياء الله).
5- والتشمير في الأمر: الجدّ والاهتمام فيه.
6- الكدح: العمل والسعي.
7- قال الجوهري: الدعة الخفض، تقول: منه ودع الرجل فهو وديع أي ساكن ووادع أيضاً، يقال: نال فلان المكارم وادعى من غير كلفة.
8- الفكاهة، بالضم: المزاح. وبالفتح: مصدر فكه الرجل بالكسر فهو فكه، إذا كان طيب النفس مزّاحاً، والفكه أيضاً: الأشر والبطر، وقرئ (ونعمة كانوا فيها فكهين) أي أشرين، و(فاكهين) أي ناعمين، والمفاكهة الممازحة. وفي رواية ابن أبي طاهر: (وأنتم في بلهنية وادعون آمنون). قال الجوهري: هو في بلهنية من العيش: أي سعة ورفاهية وهو ملحق بالخماسي بألف في آخره، وإنما صارت ياء لكسرة ما قبلها. وفي كشف الغمة: (وأنتم في رفهينة) وهي مثلها لفظاً ومعنى.

الدوائر(1)، وتتوكفون الأخبار(2)، وتنكصون عند النزال(3)، وتفرون من القتال.

فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه، ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حسكة(4) النفاق، وسمل (5) جلباب(6) الدين، ونطق كاظم(7) الغاوين، ونبغ(8) خامل(9)الأقلين(10)، وهدر(11) فنيق(12) المبطلين..

ص: 27


1- الدوائر: صروف الزمان وحوادث الأيام والعواقب المذمومة، وأكثر ما تستعمل الدائرة في تحول النعمة إلى الشدة، أي كنتم تنتظرون نزول البلايا علينا وزوال النعمة والغلبة عنا.
2- التوكف: التوقع، والمراد أخبار المصائب والفتن. وفي بعض النسخ: (تتواكفون الأخيار) يقال: واكفه في الحرب أي واجهه.
3- النكوص: الإحجام والرجوع عن الشيء، و(النزال) بالكسر: أن ينزل القرنان عن إبلهما إلى خيلهما فيتضاربا، والمقصود من تلك الفقرات أنهم لم يزالوا منافقين لم يؤمنوا قط.
4- وفي بعض النسخ (الحسيكة) وهي العداوة، قال الجواهري: قولهم في صدره على حسيكة وحساكة، أي ضغن وعداوة. وفي بعض الروايات: (حسكة النفاق) فهو على الاستعارة.
5- وسمل الثوب، كنصر: صار خلقا.
6- الجلباب، بالكسر: الملحفة، وقيل: ثوب واسع للمرأة غير الملحفة، وقيل: هو إزار ورداء، وقيل: هو كالمقنعة تغطي به المرأة رأسها وظهرها وصدرها.
7- والكظوم: السكوت.
8- نبغ الشيء، كمنع ونصر: أي ظهر، ونبغ الرجل إذا لم يكن في أرث الشعر ثم قال وأجاد.
9- الخامل: من خفي ذكره وصوته وكان ساقطا لا نباهة له.
10- والمراد بالأقلين: الأذلون، وفي بعض الروايات (الأولين). وفي كشف الغمة (فنطق كاظم، ونبغ حامل).
11- الهدير: ترديد البعير صوته في حنجرته.
12- الفنيق: الفحل المكرّم من الأبل الذي لا يركب ولا يهان لكرامته على أهله.

فخطر(1) في عرصاتكم.. وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه(2) هاتفاً (3) بكم.. فألفاكم(4) لدعوته مستجيبين..

وللغرة (5) فيه ملاحظين(6)..ثم استنهضكم(7) فوجدكم خفافاً (8)، وأحشمكم(9) فألفاكم غضاباً..

ص: 28


1- يقال: خطر البعير بذنبه، يخطر - بالكسر - خطراً وخطراناً: إذا رفعه مرة بعد مرة، وضرب به فخذيه، ومنه قول الحجاج لما نصب المنجنيق على الكعبة: خطارة كالجمل الفنيق أعددتها للمسجد العتيق شبّه رميها بخطران الفنيق.
2- مغرز الرأس، بالكسر: ما يختفي فيه، وقيل: لعل في الكلام تشبيهاً للشيطان بالقنفذ، فإنه إنما يطلع رأسه عند زوال الخوف، أو بالرجل الحريص المقدم على أمر، فإنه يمد عنقه إليه.
3- الهتاف: الصياح.
4- وألفاكم: أي وجدكم.
5- الغرة، بالكسر: الاغترار والانخداع، والضمير المجرور راجع إلى الشيطان.
6- وملاحظة الشيء: مراعاته، وأصله من اللحظ وهو النظر بمؤخر العين، وهو إنما يكون عند تعلق القلب بشيء، أي وجدكم الشيطان لشدة قبولكم للانخداع، كالذي كان مطمح نظره أن يغتر بأباطيله، ويحتمل أن يكون (للعزة) بتقديم المهملة على المعجمة. وفي الكشف: (وللعزة ملاحظين)، أي وجدكم طالبين للعزة.
7- النهوض: القيام. واستنهضه لأمر: أي أمره بالقيام إليه.
8- أي مسرعين إليه.
9- في بعض النسخ: (وأحمشكم). وأحمشت الرجل: أغضبته. وأحمشت النار: ألهبتها. أي حملكم الشيطان على الغضب، فوجدكم مغضبين لغضبه، أو من عند أنفسكم، وفي المناقب القديم: (عطافاً) بالعين المهملة والفاء، من العطف بمعنى الميل والشفقة، ولعله أظهر لفظا ومعنى.

فوسمتم (1) غير إبلكم، ووردتم(2) غير مشربكم(3)..

هذا والعهد قريب، والكلم(4) رحيب(5)..

والجرح(6) لما يندمل(7)..

والرسول (صلی الله علیه و آله) لمايُقبر(8)..

ابتداراً (9) زعمتم خوف الفتنة «أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ» (10).

فهيهات(11) منكم..

ص: 29


1- الوسم: أثر الكيّ، يقال: وسمته كوعدته، وسماً.
2- في بعض النسخ: (أوردتم) والورود: حضور الماء للشرب. والإيراد: الإحضار.
3- وفي بعض النسخ: (شربكم) والشرب بالكسر: الحظ من الماء، وهما كنايتان عن أخذ ما ليس لهم بحق من الخلافة والإمامة وميراث النبوة. وفي كشف الغمة: (وأوردتموها شربا ليس لكم).
4- الجرح.
5- الرحب، بالضم: السعة.
6- والجرح، بالضم: الاسم. وبالفتح: المصدر.
7- أي لم يصلح بعد.
8- قبرته: دفنته.
9- ابتداراً: مفعول له للأفعال السابقة، ويحتمل المصدر بتقدير الفعل. وفي بعض الروايات: (بداراً زعمتم خوف الفتنة) أي ادعيتم وأظهرتم للناس كذباً وخديعة إنا إنما اجتمعنا في السقيفة دفعاً للفتنة، مع أن الغرض كان غصب الخلافة عن أهلها، فهو عين الفتنة، والالتفات في (سقطوا) الموافقة مع الآية الكريمة، (ابتدر القوم): تسابقوا في الأمر.
10- سورة التوبة: 49.
11- هيهات: للتبعيد، وفيه معنى التعجب، كما صرح به الشيخ الرضي (رحمة الله) وكذلك كيف وأنى تستعملان في التعجب.

وكيف بكم وأنى تؤفكون(1)..

وكتاب الله بين أظهركم، أموره ظاهرة (2)، وأحكامه زاهرة (3)..

وأعلامه باهرة، وزواجره لائحة، وأوامره واضحة، وقد خلفتموه وراءظهوركم..

أرغبة عنه تريدون(4)، أم بغيره تحكمون..

«بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً»(5)، «ومن يتبغ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآْخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ[(6).

ثم لم تلبثوا إلاّ ريث(7) أن تسكن نفرتها (8)..

ص: 30


1- أفكه، كضربه: صرفه عن الشيء وقلبه. أي إلى أين يصرفكم الشيطان وأنفسكم والحال أن كتاب الله بينكم. و(فلان بين أظهر قوم وبين ظهرانيهم) أي مقيم بينهم محفوف من جانبيه أو من جوانبه بهم.
2- وفي كشف الغمة: (بين أظهركم، قائمة فرائضه، واضحة دلائله، نيرة شرائعه، زواجره واضحة، وأوامره لائحة، أرغبة عنه) .
3- والزاهر: المتلألئ المشرق.
4- تدبرون، خ ل.
5- سورة الكهف: 50. أي من الكتاب ما اختاروه من الحكم الباطل.
6- سورة آل عمران: 85.
7- ريث، بالفتح: بمعنى قدر، وهي كلمة يستعملها أهل الحجاز كثيرا، وقد يستعمل مع ما، يقال: لم يلبث إلاّ ريثما فعل كذا، وفي كشف الغمة هكذا: (لم تبرحوا ريثا). وقال بعضهم: هذا ولم تريثوا حتّها إلا ريث. وفي رواية ابن أبي طاهر: (ثم لم تريثوا أختها). وعلى التقديرين ضمير المؤنث راجع إلى فتنة وفاة الرسول (صلی الله علیه و آله). توضيح: (حتها) حت الورق من الغصن: نثرها، أي لم تصبروا إلى ذهاب أثر تلك المصيبة.
8- ونفرت الدابة، بالفتح: ذهابها وعدم انقيادها.

ويسلس(1) قيادها (2)..

ثم أخذتم تورون (3)وقدتها (4)..وتهيجون جمرتها (5)..

وتستجيبون لهتاف(6) الشيطان الغوي..

أنوار الدين الجلي..

وإهمال(7) سنن النبي الصفي..

تشربون (8) حسواً (9) في ارتغاء(10)..

ص: 31


1- والسلس، بكسر اللام: اللين المنقاد، ذكره الفيروز آبادي. وفي مصباح اللغة: (سلس سلساً من باب تعب: سهل ولان).
2- والقياد، بالكسر: ما يقاد به الدابة من حبل وغيره.
3- وفي الصحاح: ورى الزند يري ورياً، إذا خرجت تارة. وفي لغة أخرى: (وري الزند يري) بالكسر فيهما (وأوريته أنا) وكذلك وريته تورية، وفلان يستوري زناد الضلالة.
4- ووقدة النار، بالفتح: وقودها. ووقدها: لهبها.
5- الجمرة: المتوقد من الحطب، فإذا برد فهو فحم، والجمر بدون التاء جمعها.
6- والهتاف، بالكسر: الصياح، وهتف به: أي دعاه.
7- في بعض النسخ: (وإهماد النار): اطفاؤها بالكلية، والحاصل أنكم إنما صبرتم حتى استقرت الخلافة المغصوبة عليكم، ثم شرعتم في تهييج الشرور والفتن واتباع الشيطان وإبداع البدع وتغيير السنن.
8- في بعض النسخ: (تسرون) الإسرار: ضد الإعلان.
9- والحسو، بفتح الحاء وسكون السين المهملتين: شرب المرق وغيره، شيئاً بعد شيء.
10- والارتغاء: شرب الرغوة وهو زبد اللبن، قال الجوهري: الرغوة مثلثة زبد اللبن، وارتغيت: شربت الرغوة، وفي المثل: (يسرّ حسواً في ارتغاء) يضرب لمن يظهر أمراً ويريد غيره. قال الشعبي: لمن سأله عن رجل قبّل أم امرأته؟ قال: يسرّ حسواً في ارتغاء وقد حرمت عليه امرأته. وقال الميداني: قال أبو زيد والأصمعي: أصله الرجل يوتى باللبن فيظهر أنه يريد الرغوة خاصة ولايريد غيرها فيشربها، وهو في ذلك ينال من اللبن. يضرب لمن يريك أنه يعينك وإنما يجر النفع إلى نفسه.

وتمشون لأهله وولده في الخمرة (1)والضراء(2)، ويصير منكم على مثل حز(3) المدى(4)، ووخز(5) السنان في الحشا، وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا..

أفحكم الجاهلية تبغون «وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ»(6) أفلا تعلمون، بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية (7) أني ابنته.

أيها المسلمون، أأغلب على إرثي؟.

يا ابن أبي قحافة، أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي..

لقد جئت شيئاً فرياً (8)، أفعلى عمدتركتم كتاب الله ونبذتموه وراء

ص: 32


1- وفي بعض النسخ: (الخمر) بالتحريك: ما واراك من شجر وغيره، يقال: توارى الصيد عني في خمر الوادي. ومنه قولهم: دخل فلان في خمار الناس - بالضم - أي ما يواريه ويستره منهم.
2- الضراء، بالضاد المعجمة المفتوحة والراء المخففة: الشجر الملتف في الوادي، ويقال: لمن ختل صاحبه وخادمه: يدب له الضراء ويمشي له الخمر، وقال الميداني: قال ابن الأعرابي: الضراء ما انخفض من الأرض.
3- الحزّ، بفتح الحاء المهملة: القطع، أو قطع الشيء من غير إبانته.
4- المدى، بالضم: جمع مدية، وهي: السكين والشفرة.
5- الوخز: الطعن بالرمح ونحوه لا يكون نافذا، يقال: وخزه بالخنجر. وفي كشف الغمة: (ثم أنتم أولا تزعمون أن لا إرث إلي) فهو أيضا كذلك.
6- سورة المائدة: 50.
7- كالشمس الضاحية: أي الظاهرة البينة، يقال: فعلت ذلك الأمر ضاحية أي علانية.
8- أي أمراً عظيما بديعا، وقيل: أي أمرا منكرا قبيحا، وهو مأخوذ من الافتراء بمعنى الكذب. وأعلم أنه وردت الروايات المتظافرة كما ستعرف في أنها (علیها السلام) ادعت أن فدكا كانت نحلة لها من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلعل عدم تعرضها (علیها السلام) في هذه الخطبة لتلك الدعوى ليأسها عن قبولهم إياها. إذ كانت الخطبة بعد ما ردّ أبوبكر شهادة أمير المؤمنين (علیه السلام) ومن شهد معه وقد كان المنافقون الحاضرون معتقدين لصدقها فتمسكت بحديث الميراث لكونه من ضروريات الدين.

ظهوركم إذ يقول: «ووَرِثَ سُلَيْمَانُ داوُدَ»(1)، وقال - فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا - إذ قال: «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (علیهم السلام) يَرِثُنِي ويَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ»(2)، وقال: «وأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ»(3)، وقال: «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ»(4)، وقال: «إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ»(5).

وزعمتم أن لا حظوة (6) لي، ولا إرثمن أبي، ولا رحم بيننا..

ص: 33


1- سورة النمل: 16.
2- سورة مريم: 5-6.
3- سورة الأنفال: 75، سورة الأحزاب: 6.
4- سورة النساء: 11.
5- سورة البقرة: 180.
6- في بعض النسخ: (وزعمتم أن لا خظوة لي) الخظوة، بكسر الخاء وضمها وسكون الظاء المعجمة: المكانة والمنزلة، ويقال: (خظيت المرأة عند زوجها) إذا دنت من قلبه، وفي كشف الغمة: (فزعمتم أن لا حظ لي ولا إرث لي من أبيه، أفحكم الله بآية أخرج أبي منها، أم تقولون أهل ملتين لا يتوارثان، أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي (صلی الله علیه و آله) «أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون» إيهاً معاشر المسلمة أأبتزّ ارثيه، أآلله أن ترث أباك ولا أرث أبيه، لقد جئتم شيئا فريا، فدونكها مرحولة مخطومة مزمومة). وفي رواية ابن أبي طاهر: (ويهاً معشر المهاجرة أبتز إرث أبيه). قال الجوهري: إذا أغريته بالشيء قلت: ويهاً يا فلان وهو تحريض. انتهى. ولعل الأنسب هنا التعجب. والهاء في (أبيه) في الموضعين، و(إرثيه) بكسر الهمزة بمعنى الميراث، للسكت كما في سورة الحاقة: (كتابيه وحسابيه وماليه وسلطانيه) تثبت في الوقف وتسقط في الوصل، وقرئ بإثباتها في الوصل أيضا.

أفخصكم الله بآية أخرج أبي منها؟

أم هل تقولون إن أهل ملتين لا يتوارثان، أولست أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟

أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟

فدونكها (1) مخطومة (2) مرحولة (3)، تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله والزعيم محمد (صلی الله علیه و آله) (4) والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون (5)، ولاينفعكم إذ تندمون،و«لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ (6) وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ»(7)، (8) «مَنْ

ص: 34


1- الضمير راجع إلى فدك، المدلول عليها بالمقام والأمر بأخذها للتهديد.
2- الخطام، بالكسر: كل ما يوضع في أنف البعير ليقاد به.
3- والرحل، بالفتح للناقة: كالسرج للفرس، ورحل البعير كمنع: شدّ على ظهره الرحل، شبّهتها (علیها السلام) في كونها مسلمة لا يعارضه في أخذها أحد بالناقة المنقادة المهيأة للركوب.
4- في بعض النسخ: (والغريم) أي طالب الحق.
5- في بعض النسخ: (وعند الساعة ما تخسرون) كلمة ما مصدرية، أي في القيامة يظهر خسرانكم.
6- أي لكل خبر يريد العذاب، أو إلا يعاد به وقت استقرار ووقوع.
7- سورة الأنعام: 67.
8- سوف تعلمون أي عند وقوعه من يأتيه عذاب يخزيه، والاقتباس من موضعين: أحدهما سورة الأنعام، والآخر سورة هود في قصة نوح (علیه السلام) حيث قال: «إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم» فالعذاب الذي يخزيهم: الغرق. والعذاب المقيم: عذاب النار.

يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ»(1).

- ثم رمت بطرفها (2) نحو الأنصار فقالت -:

يا معشر (3) النقيبة(4)، وأعضاد(5) الملة، وحضنة الإسلام..

ما هذه الغميزة (6) في حقي..والسنة (7) عن ظلامتي(8)..

ص: 35


1- سورة هود: 39، سورة الزمر: 40.
2- الطرف، بالفتح: مصدر، طرفت عين فلان: إذا نظرت، وهو أن ينظر ثم يغمض، والطرف أيضا: العين.
3- المعشر: الجماعة.
4- في بعض النسخ: (الفتية) بالكسر: جمع فتى هو الشاب، والكريم السخي. وفي كشف الغمة: (يا معشر البقية، ويا عماد الملة، وحصنة الإسلام).
5- والأعضاد: جمع عضد، بالفتح: الأعوان، يقال: عضدته كنصرته لفظا ومعنى.
6- قال الجوهري: ليس في فلان غميزة، أي مطعن ونحوه، ذكره الفيروز آبادي، وهو لا يناسب المقام إلاّ بتكلف، وقال الجوهري: رجل غمز أي ضعيف. وقال الخليل في كتاب العين: الغمز، بفتح الغين المعجمة والزاء: ضعفة في العمل وجهلة في العقل، ويقال: سمعت كلمة فاغتمزتها في عقله: أي علمت أنه أحمق، وهذا المعنى أنسب. وفي الكشف: (ما هذه الفترة) بالفاء المفتوحة وسكون التاء وهو السكون وهو أيضا مناسب. وفي رواية ابن أبي طاهر: بالراء المهملة، ولعله من قولهم: غمر على أخيه أي حقد وضغن، أو من قولهم: غمر عليه، أي أغمي عليه، أو من الغمر بمعنى الستر، ولعله كان بالضاد المعجمة فصحف، فإن استعمال إغماض العين في مثل هذا المقام شائع.
7- مصدر وسن يوسن، كعلم يعلم، وسناً وسنةً: أول النوم، أو النوم الخفيف، والهاء عوض عن الواو.
8- الظلامة بالضم: كالمظلمة بالكسر، ما أخذه الظالم منك فتطلبه عنده، والغرض تهييج الأنصار لنصرتها أو توبيخهم على عدمها. وفي كشف الغمة بعد ذلك: (أما كان لرسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يحفظ).

أما كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) أبي يقول: المرء يحفظ في ولده. سرعان ما أحدثتم، وعجلان ذا إهالة (1)،ولكم طاقة بما أحاول، وقوة على ما أطلب وأزاول، أتقولون: مات محمد (صلی الله علیه و آله) فخطب (2) جليل، استوسع وهيه(3)، واستنهر فتقه(4)، وانفتق رتقه..

ص: 36


1- سرعان، مثلثة السين، وعجلان بفتح العين: كلاهما من أسماء الأفعال، بمعنى سرع وعجل، وفيهما معنى التعجب، أي ما أسرع وأعجل. وفي رواية ابن أبي طاهر: (سرعان ما أجدبتم فأكديتم) يقال: أجدب القوم أي أصابهم الجدب، وأكدى الرجل إذا قل خيره، والإهالة - بكسر الهمزة - الودك، وهو دسم اللحم. وقال الفيروزآبادي: قولهم سرعان ذا إهالة، أصله: إن رجلا كانت له نعجة عجفاء، وكانت رعامها يسيل من منخريها لهزالها، فقيل له: ما هذا الذي يسيل؟ فقال: ودكها، فقال السائل: سرعان ذا إهالة، ونصب (إهالة) على الحال، و(ذا) إشارة إلى الرعام، أو تمييز على تقدير نقل الفعل كقولهم: تصبب زيد عرقا، والتقدير سرعان إهالة هذه، وهو مثل يُضرب لمن يخبر بكينونة الشيء قبل وفاته، انتهى. والرعام، بالضم: ما يسيل من أنف الشاة والخيل، ولعل المثل كان بلفظ (عجلان) فاشتبه على الفيروزآبادي أو غيره، أو كان كل منهما مستعملاً في هذا المثل، وغرضها (صلوات الله عليها) التعجب من تعجيل الأنصار، ومبادرتهم إلى إحداث البدع وترك السنن والأحكام والتخاذل عن نصرة عترة سيد الأنام (صلی الله علیه و آله) مع قرب عهدهم به، وعدم نسيانهم ما أوصاهم به فيهم، وقدرتهم على نصرتها، وأخذ حقها ممن ظلمها، ولا يبعد أن يكون المثل إخبارا مجملا بما يترتب على هذه البدعة من المفاسد الدينية وذهاب الآثار النبوية.
2- الخطب، بالفتح: الشأن والأمر، عظم أو صغر.
3- الوهي، كالرمي: الشق والخرق، يقال: وهي الثوب إذا بلي وتخرق، واستوسع واستنهر: استفعل من النهر - بالتحريك - بمعنى السعة أي اتسع.
4- الفتق: الشق، والرتق ضده، وانفتق أي انشق، والضمائر المجرورات الثلاثة، راجعة إلى الخطب، بخلاف المجرورين بعدها، فإنهما راجعان إلى النبي (صلی الله علیه و آله).

وأظلمت الأرض لغيبته، وكسفت الشمس والقمر(1)، وانتثرت النجوم لمصيبته، وأكدت(2) الآمال، وخشعت الجبال، وأضيعالحريم(3)، وأزيلت الحرمة (4) عند مماته.

فتلك والله النازلة (5) الكبرى، والمصيبة العظمى..

لا مثلها نازلة، ولا بائقة (6) عاجلة، أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه في أفنيتكم(7)، وفي ممساكم ومصبحكم(8)، يهتف في أفنيتكم هتافاً (9) وصراخاً (10)، وتلاوة (11) وألحاناً (12)..

ص: 37


1- في بعض النسخ: (كسفت النجوم) وكسف النجوم: ذهاب نورها، والفعل منه يكون متعدياً ولازماً، والفعل كضرب، وفي رواية ابن أبي طاهر: (مكان الفقرة الأخيرة: واكتأبت خيرة الله لمصيبته). والاكتئاب: افتعال من الكآبة بمعنى الحزن. وفي كشف الغمة: (واستهر فتقه، وفقد راتقه، وأظلمت الأرض، واكتأبت لخيرة الله) إلى قولها (علیها السلام): (وأديلت الحرمة) من الإدالة بمعنى الغلبة. وفي البحار: (واستنهر فتقه).
2- يقال: أكدى فلان أي بخل أو قلّ خيره.
3- حريم الرجل: ما يحميه ويقاتل عنه.
4- الحرمة: ما لا يحل انتهاكه، وفي بعض النسخ: (الرحمة) مكان (الحرمة).
5- النازلة: الشديدة.
6- والبائقة: الداهية.
7- فناء الدار، ككساء: العرصة المتسعة أمامها.
8- الممسي والمصبح، بضم الميم فيهما: مصدران وموضعان من الإصباح والإمساء.
9- الهتاف، بالكسر: الصياح.
10- الصراخ، كغراب: الصوت أو الشديد منه.
11- التلاوة، بالكسر: القراءة.
12- الإلحان: الإفهام، يقال: ألحنه القول أي أفهمه إياه، ويحتمل أن يكون من اللحن بمعنى الغناء والطرب. قال الجوهري: اللحن واحد الألحان واللحون، ومنه الحديث: (اقرؤوا القرآن بلحون العرب) وقد لحن في قراءته: إذا طرب بها وغرّد وهو ألحن الناس إذا كان أحسنهم قراءة أو غناءً. انتهى. ويمكن أن يقرأ على هذا بصيغة الجمع أيضا، والأول أظهر. وفي كشف الغمة: (فتلك نازلة أعلن بها كتاب الله في قبلتكم ممساكم ومصبحكم هتافا هتافا، ولقبلة ما حل بأنبياء الله ورسله).

ولقبله ما حل بأنبياء الله ورسله، حكم فصل(1)، وقضاء حتم(2) «وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ (3) مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أفَإِنْ مَاتَ أَو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقَابِكُمْ(4) ومَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ»(5)، (6).

ص: 38


1- الحكم الفصل: هو المقطوع به الذي لا ريب فيه ولا مردّ له، وقد يكون بمعنى القاطع، الفارق بين الحق والباطل.
2- الحتم في الأصل: إحكام الأمر، و(القضاء الحتم): هو الذي لا يتطرق إليه التغيير.
3- خلت: أي مضت.
4- الانقلاب على العقب: الرجوع القهقرى، أريد به الارتداد بعد الإيمان.
5- سورة آل عمران: 144.
6- الشاكرون: المطيعون المعترفون بالنعم، الحامدون عليها، قال بعض الأماثل: واعلم أن الشبهة العارضة للمخاطبين بموت النبي (صلی الله علیه و آله) إما عدم تحتم العمل بأوامره وحفظ حرمته في أهله لغيبته، فإن العقول الضعيفة مجبولة على رعاية الحاضر أكثر من الغائب، وأنه إذا غاب عن أبصارهم ذهب كلامه عن أسماعهم ووصاياه عن قلوبهم، فدفعها ما أشارت إليه (صلوات الله عليها) من إعلان الله جل ثناؤه وإخباره بوقوع تلك الواقعة الهائلة قبل وقوعها، وأن الموت مما قد نزل بالماضين من أنبياء الله ورسله (علیهم السلام) تثبيتاً للأمة على الإيمان، وإزالة لتلك الخصلة الذميمة عن نفوسهم. ويمكن أن يكون معنى الكلام: أتقولون مات محمد (صلی الله علیه و آله) وبعد موته ليس لنا زاجر ولا مانع عما نريد، ولا نخاف أحدا في ترك الانقياد للأوامر وعدم الانزجار عن النواهي. ويكون الجواب ما يستفاد من حكاية قوله تعالى «أفإن مات أو قتل» الآية، لكن لا يكون حينئذ لحديث إعلان الله سبحانه وإخباره بموت الرسول (صلی الله علیه و آله) مدخل في الجواب إلا بتكلف. ويحتمل أن يكون شبهتهم عدم تجويزهم الموت على النبي (صلی الله علیه و آله) كما أفصح عنه عمر بن الخطاب، وسيأتي في مطاعنه، فبعد تحقق موته عرض لهم شك في الإيمان ووهن في الأعمال، فلذلك خذلوها وقعدوا عن نصرتها، وحينئذ مدخلية حديث الإعلان وما بعده في الجواب واضح. وعلى التقادير لا يكون قولها (صلوات الله عليها) : فخطب جليل، داخلاً في الجواب، ولامقولاً لقول المخاطبين على الاستفهام التوبيخي، بل هو كلام مستأنف لبث الحزن والشكوى، بل يكون الجواب ما بعد قولها: (فتلك والله النازلة الكبرى). ويحتمل أن يكون مقولا لقولهم، فيكون حاصل شبهتهم: أن موته (صلی الله علیه و آله) الذي هو أعظم الدواهي، قد وقع فلا يبالي بما وقع بعده من المحذورات، فلذلك لم ينهضوا بنصرها والانتصاف ممن ظلمها، ولما تضمن ما زعموه كون مماته (صلی الله علیه و آله) أعظم المصائب، سلّمت (علیها السلام) أولا في مقام الجواب تلك المقدمة، لكونها محض الحق، ثم نبهت على خطأهم في أنها مستلزمة لقلة المبالات بما وقع، والقعود عن نصرة الحق، وعدم إتباع أوامره (صلی الله علیه و آله) بقولها: أعلن بها كتاب الله، إلى آخر الكلام، فيكون حاصل الجواب: أن الله قد أعلمكم بها قبل الوقوع، وأخبركم بأنها سنة ماضية في السلف من أنبيائه (علیهم السلام) وحذركم الانقلاب على أعقابكم كيلا تتركوا اعمل بلوازم الإيمان بعد وقوعها، ولا تهنوا عن نصرة الحق وقمع الباطل، وفي تسليمها ما سلمته أولا دلالة على أن كونها أعظم المصائب مما يؤيد وجوب نصرتي، فإني أنا المصاب بها حقيقة وإن شاركني فيها غيري، فمن نزلت به تلك النازلة الكبرى فهو بالرعاية أحق وأحرى. ويحتمل أن يكون قولها (علیها السلام): (فخطب جليل) من أجزاء الجواب فتكون شبهتهم بعض الوجوه المذكورة أو المركب من بعضها مع بعض. وحاصل الجواب حينئذ: أنه إذا نزل بي مثل تلك النازلة الكبرى، وقد كان الله عزوجل أخبركم بها وأمركم أن لا ترتدوا بعدها على أعقابكم، فكان الواجب عليكم دفع الضيم عني والقيام بنصرتي، ولعل الأنسب بهذا الوجه ما في رواية ابن أبي طاهر، من قولها: (وتلك نازلة أعلن بها كتاب الله) بالواو دون الفاء، ويحتمل أن لا تكون الشبهة العارضة للمخاطبين مقصورة على أحد الوجوه المذكورة، بل تكون الشبهة لبعضهم بعضها، وللأخرى أخرى، ويكون كل مقدمة من مقدمات الجواب إشارة إلى دفع واحدة منها. أقول: ويحتمل أن لا تكون هناك شبهة حقيقة، بل يكون الغرض أنه ليس لهم في ارتكاب تك الأمور الشنيعة حجة ومتمسك إلا أن يتمسك أحد بأمثال تلك الأمور الباطلة الواهية التي لا يخفى على أحد بطلانها، وهذا شائع في الاحتجاج.

ص: 39

إيهاً (1) بني قيلة (2)..إيهاً (3) بني قيلة (4)..أأهضم (5) تراث (6) أبي، وأنتم بمرأى مني ومسمع(7)..

ومنتدى ومجمع(8)..

تلبسكم (9) الدعوة (10)، وتشملكم الخبرة (11)..

ص: 40


1- إيهاً، بفتح الهمزة والتنوين: بمعنى هيهات.
2- وبنو قيلة: الأوس والخزرج قبيلتا الأنصار، و(قيلة) بالفتح: اسم أم لهم قديمة، وهي قيلة بنت كامل.
3- إيهاً، بفتح الهمزة والتنوين: بمعنى هيهات.
4- وبنو قيلة: الأوس والخزرج قبيلتا الأنصار، و(قيلة) بالفتح: اسم أم لهم قديمة، وهي قيلة بنت كامل.
5- الهضم: الكسر، يقال: هضمت الشيء أي كسرته، وهضمه حقه واهتضمه: إذا ظلمه وكسر عليه حقه.
6- في بعض النسخ: (تراث أبيه) والتراث بالضم: الميراث، وأصل التاء فيه واو.
7- أي بحيث أراكم وأسمع كلامكم. وفي رواية ابن أبي طاهر: (منه) أي من الرسول (صلی الله علیه و آله). والمبتدأ في أكثر النسخ بالباء الموحدة مهموزاً، فلعل المعنى: أنكم في مكان يبتدأ منه الأمور والأحكام.
8- المنتدى، بالنون غير مهموز: بمعنى المجلس، وكذا في المناقب القديم، فيكون المجمع كتفسير له، والغرض الاحتجاج عليهم بالاجتماع الذي هو من أسباب القدرة على دفع الظلم، واللفظان غير موجودين في رواية ابن أبي طاهر.
9- تلبسكم، على بناء المجرد: أي تغطيكم وتحيط بكم.
10- الدعوة: المرة من الدعاء أي النداء.
11- الخبرة، بالفتح: من الخبرة بالضم، بمعنى العلم، أو الخبرة بالكسر بمعناه. والمراد بالدعوة نداء المظلوم للنصرة، وبالخبرة علمهم بمظلوميتها صلوات الله عليها، والتعبير بالإحاطة والشمول للمبالغة، أو للتصريح بأن ذلك قد عمهم جميعا، وليس من قبيل الحكم على الجماعة بحكم البعض أو الأكثر، وفي رواية ابن أبي طاهر: (الحيرة) بالحاء المهملة، ولعله تصحيف، ولا يخفى توجيهه.

وأنتم ذوو العدد والعدة، والأداة والقوة، وعندكم السلاح والجنة. توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكمالصرخة فلا تغيثون، وأنتم موصوفون بالكفاح(1)، معروفون بالخير والصلاح، والنخبة التي انتخبت(2)، والخيرة (3) التي اختيرت لنا أهل البيت.

قاتلتم العرب(4)، وتحملتم الكد والتعب، وناطحتم الأمم(5)، وكافحتم البهم(6)، لا نبرح أو تبرحون(7)، نأمركم فتأتمرون(8)، حتى إذا دارت بنارحى

ص: 41


1- الكفاح: استقبال العدو في الحرب بلا ترس ولا جنة، ويقال: فلان يكافح الأمور، أي يباشرها بنفسه.
2- في بعض النسخ: (النجبة التي انتجبت) النجبة، كهمزة: النجيب الكريم. وقيل: يحتمل أن يكون بفتح الخاء المعجمة أو سكونها، بمعنى المنتخب المختار، ويظهر من ابن الأثير أنها بالسكون تكون جمعا.
3- والخيرة: كعنبة، المفضل من القوم، المختار منهم.
4- في المناقب: (لنا أهل البيت قاتلتم وناطحتم الأمم وكافحتم البهم، فلا نبرح أو تبرحون، نأمركم فتأمرون).
5- أي حاربتم الخصوم ودافعتموهم بجدّ واهتمام كما يدافع الكبش قرنه بقرنه.
6- البهم: الشجعان، كما مر، ومكافحتها: التعرض لدفعها من غير توان أو ضعف.
7- أو تبرحون: معطوف على دخول النفي، فالمنفي أحد الأمرين، ولا ينتفي إلاّ بانتفائهما معاً، فالمعنى لا نبرح ولا تبرحون.
8- أي كنا لم نزل آمرين وكنتم مطيعين لنا في أوامرنا. وفي كشف الغمة: (وتبرحون) بالواو، فالعطف على مدخول النفي أيضا، ويرجع إلى ما مر. وعطفه على النفي إشعار بأنه قد كان يقع منه براح عن الإطاعة، كما في غزوة أحد وغيرها، بخلاف أهل البيت (علیهم السلام) إذ لم يعض لهم كلال عن الدعوة والهداية، بعيد عن المقام. وفي الكشف: (فباديتم العرب، وبادهتم الأمور) إلى قولها (حتى دارت لكم بنا رحى الإسلام، ودرّ حلب البلاد، وخبت نيران الحرب) يقال: بدهه بأمر أي استقبله، وبادهه: فاجأه. والأظهر ما في رواية ابن أبي طاهر من ترك المعطوف رأسا: (لا نبرح نأمركم) أي لم يزل عادتنا الأمر وعادتكم الائتمار. وفي المناقب: (لا نبرح ولا تبرحون نأمركم) فيحتمل أن يكون (أو) في تلك النسخة أيضا بمعنى الواو، أي لا نزال نأمركم ولا تزالون تأتمرون، ولعل ما في المناقب أظهر النسخ وأصوبها.

الإسلام(1)، ودرّ(2) حلب الأيام(3)..

وخضعت ثغرة (4) الشرك..

وسكنت فورة الإفك(5)..

وخمدت نيران (6) الكفر..

ص: 42


1- دوران الرحى: كناية عن انتظام أمرها، والباء للسببية.
2- ودرّ اللبن: جريانه وكثرته.
3- الحلب، بالفتح: استخراج ما في الضرع من اللبن، وبالتحريك: اللبن المحلوب، والثاني أظهر، للزوم ارتكاب تجوز في الإسناد أو في المسند إليه على الأول.
4- في نسخة (النعرة) بالنون والعين والراء المهملتين: مثال همزة الخيشوم والخيلاء والكبر، أو بفتح النون من قولهم: نعر العرق بالدم، أي فار، فيكون الخضوع بمعنى السكون، أو بالغين المعجمة، من نغرت القدر أي فارت. وقال الجوهري: نغر الرجل - بالكسر - أي اغتاظ. قال الأصمعي: هو الذي يغلي جوفه من اليغظ. وقال ابن السكيت: يقال ظل فلان يتنغّر على فلان: أي يتذمّر عليه. وفي أكثر النسخ: بالثاء المثلثة المضمومة، والغين المعجمة، وهي نقرة النحر بين الترقوتين، فخضوع ثغرة الشرك كناية عن محقه وسقوطه كالحيوان الساقط على الأرض، نظيره قول أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه): (أنا وضعت كلكل العرب) أي صدورهم.
5- الإفك، بالكسر: الكذب. وفورة الإفك: غليانه وهيجانه.
6- وخمدت النار: أي سكن لهبها ولم يطفأ جمرها، ويقال: (همدت) بالهاء: إذا طفى جمرها، وفيه إشعار بنفاق بعضهم، وبقاء مادة الكفر في قلوبهم. وفي رواية ابن أبي طاهر: (وباخت نيران الحرب) قال الجوهري: (باخ الحرب والنار والغضب والحمّى أي سكن وفتر).

وهدأت (1) دعوة الهرج(2)، واستوسق (3) نظام الدين..

فأنى(4) حزتم(5) بعد البيان، وأسررتم بعد الإعلان، ونكصتم (6) بعد الإقدام، وأشركتم بعد الإيمان، بؤساً لقوم نكثوا (7) أيمانهم من بعد عهدهم،

ص: 43


1- هدأت: أي سكنت.
2- الهرج: الفتنة والاختلاط، وفي الحديث: (الهرج: القتل).
3- أي اجتمع وانضم من الوسق، بالفتح، وهو ضم الشيء إلى الشيء، واتساق الشيء: انتظامه.
4- كلمة (أنى) ظرف مكان بمعنى أين، وقد يكون بمعنى كيف، أي من أين حزتم وما كان منشأه.
5- في نسخة: (جرتم) إما بالجيم من الجور وهو الميل عن القصد، والعدول عن الطريق، أي لماذا تركتم سبيل الحق بعد ما تبين لكم؟. أو بالحاء المهملة المضمومة، من الحور بمعنى الرجوع أو النقصان، قال: نعوذ بالله من الحور بعد الكور، أي من النقصان بعد الزيادة. وإما بكسرها من الحيرة.
6- النكوص: الرجوع إلى الخلف.
7- نكث العهد، بالفتح: نقضه. و(الأيمان) جمع اليمين، وهو القسم «ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين» سورة التوبة: 13. والمشهور بين المفسرين: أن الآية نزلت في اليهود الذين نقضوا عهدهم، وخرجوا مع الأحزاب، وهموا بإخراج الرسول (صلی الله علیه و آله) من المدينة، وبدؤوا بنقض العهد والقتال. وقيل: نزلت في مشركي قريش وأهل مكة حيث تقضوا أيمانهم التي عقدوها مع الرسول (صلی الله علیه و آله) والمؤمنين على أن لايعاونوا عليهم أعداءهم، فعاونوا بني بكر على خزاعة، وقصدوا إخراج الرسول (صلی الله علیه و آله) من مكة حين تشاوروا بدارالندوة، وأتاهم إبليس بصورة شيخ نجدي، إلى آخر القصة، فهم بدؤوا بالمعاداة والمقاتلة في هذا الوقت، أو يوم بدر، أو بنقض العهد. والمراد بالقوم الذين نكثوا أيمانهم في كلامها صلوات الله عليها: إما الذين نزلت فيهم الآية، فالغرض بيان وجوب قتال الغاصبين للإمامة ولحقها، الناكثين لما عهد إليهم الرسول (صلی الله علیه و آله) في وصيه (علیه السلام) وذوي قرباه وأهل بيته (علیهم السلام) كما وجب بأمره سبحانه قتال من نزلت الآية فيهم، أو المراد بهم الغاصبون لحق أهل البيت (علیهم السلام) فالمراد بنكثهم أيمانهم نقض ما عهدوا إلى الرسول (صلی الله علیه و آله) حين بايعوه من الانقياد له في أوامره والانتهاء عند نواهيه، وأن لا يضمروا له العداوة، فنقضوه وناقضوا ما أمرهم به.

«وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ (1) وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (2).

ألا وقد أرى(3) أن قد أخلدتم (4) إلىالخفض(5)..

وأبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض(6)..

وخلوتم (7) بالدعة (8)، ونجوتم بالضيق من السعة، فمججتم (9) ما

ص: 44


1- والمراد بقصدهم إخراج الرسول (صلی الله علیه و آله): عزمهم على إخراج من هو كنفس الرسول (صلی الله علیه و آله) وقائم مقامه بأمر الله وأمره عن مقام الخلافة، وعلى إبطال أوامره ووصاياه في أهل بيته (علیهم السلام) النازلة منزلة إخراجه (صلی الله علیه و آله) من مستقره، وحينئذ يكون من قبيل الاقتباس، وفي بعض الروايات: (لقوم نكثوا أيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول (صلی الله علیه و آله) وهم بدؤوكم أول مرة أتخشونهم) فقوله (لقوم) متعلق بقوله (تخشونهم).
2- سورة التوبة: 13.
3- الرؤية هنا بمعنى: العلم، أو النظر بالعين.
4- وأخلد إليه: ركن ومال.
5- الخفض، بالفتح: سعة العيش.
6- والمراد بمن هو أحق بالبسط والقبض: أمير المؤمنين (علیه السلام)، وصيغة التفضيل مثلها في قوله تعالى: «قل أذلك خير أم جنة الخلد» سورة الفرقان: 15.
7- خلوت بالشيء: انفردت به واجتمعت معه في خلوة.
8- الدعة: الراحة والسكون.
9- مج الشراب من فيه: رمى.

وعيتم(1)، ودسعتم (2) الذي تسوغتم(3)، ف «إِنْ تَكْفُرُوا (4) أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرضجَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ»(5).

ص: 45


1- وعيتم: أي حفظتم.
2- الدسع، كالمنع: الدفع والقيء، وإخراج البعير جرته إلى فيه.
3- ساغ الشراب يسوغ سوغاً: إذا سهل مدخله في الحلق، وتسوغه: شربه بسهولة.
4- وصيغة (تكفروا) في كلامها (علیها السلام) إما من الكفران وترك الشكر، كما هو الظاهر من سياق الكلام المجيد، حيث قال تعالى: «وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد * وقال موسى وإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد» سورة إبراهيم: 7-8. وإما من الكفر بالمعنى الأخص، والتغيير في المعنى لا ينافي الاقتباس، مع أن في الآية أيضا يحتمل هذا المعنى، والمراد إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا من الثقلين، فلا يضرّ ذلك إلا أنفسكم، فإنه سبحانه غني عن شكركم وطاعتكم، مستحق للحمد في ذاته، أو محمود تحمده الملائكة، بل جميع الموجودات بلسان الحال، فضرر الكفران عائد إليكم حيث حرمتم من فضله تعالى ومزيد إنعامه وإكرامه، والحاصل: إنكم إنما تركتم الإمام بالحق وخلعتم بيعته من رقابكم ورضيتم ببيعة أبي بكر لعلمكم بأن أمير المؤمنين (علیه السلام) لا يتهاون ولا يداهن في دين الله، ولا تأخذه في الله لومة لائم، ويأمركم بارتكاب الشدائد في الجهاد وغيره، وترك ما تشتهون من زخارف الدنيا، ويقسّم الفيء بالسوية، ولا يفضل الرؤساء والأمراء، وإن أبابكر رجل سلس القيادة ومداهن في الدين لإرضاء العباد، فلذا رفضتم الإيمان وخرجتم عن طاعته سبحانه إلى طاعة الشيطان ولا يعود وباله إلا إليكم. وفي كشف الغمة: (ألا وقد أرى والله أن قد أخلدتم إلى الخفض، وركنتم إلى الدعة، فمحجتم الذي أوعيتم، ولفظتم الذي سوغتم) يقال ركن إليه، بفتح الكاف وقد يكسر، أي مال وسكن. وفي رواية ابن أبي طاهر: (فعجتم عن الدين) وقال الجوهري: عجت بالمكان أعوج، أي أقمت به عجت غيري، يتعدى ولا يتعدى. وعجّت البعير: عطفت رأسه بالزمام، والعايج: الواقف، وذكر ابن الأعرابي: فلان ما يعوجّ من شيء، أي ما يرجع عنه.
5- سورة إبراهيم: 8.

ألا وقد قلت ما قلت هذا على معرفة مني بالجذلة (1)..

التي خامرتكم(2)..

والغدرة (3) التي استشعرتها (4) قلوبكم..

ولكنها فيضة النفس(5)..ونفثة الغيظ(6)..

وخور (7) القناة (8)..

وبثة الصدر(9)، وتقدمة الحجة (10)..

ص: 46


1- في بعض النسخ: (الخذلة) أي ترك النصر.
2- وخامرتكم:أي خالطتكم.
3- والغدر: ضد الوفاء.
4- واستشعره: أي لبسه، والشعار: الثوب الملاصق للبدن.
5- والفيض: في الأصل كثرة الماء وسيلانه، يقال: فاض الخبر: أي شاع، وفاض صدره بالسرّ أي باح به وأظهره، ويقال: فاضت نفسه: أي خرجت روحه، والمراد به هنا: إظهار المضمر في النفس لاستيلاء الهم وغلبة الحزن.
6- النفث بالفم: شبيه النفخ، وقد يكون للمغتاظ تنفس عال تسكيناً لحر القلب وإطفاءً لنائرة الغضب.
7- الخور، بالفتح والتحريك: الضعف.
8- والقنا: جمع قناة وهي الرمح، وقيل: كل عصا مستوية أو معوجّة قناة، ولعل المراد بخور القناة ضعف النفس عن الصبر على الشدة وكتمان الضر، أو ضعف ما يعتمد عليه في النصر على العدو، والأول أنسب.
9- البثّ: النشر والإظهار والهمّ الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثّه أي يفرّقه.
10- تقدمة الحجة: إعلام الرجل قبل وقت الحاجة قطعاً لاعتذاره بالغفلة. والحاصل: أن استنصاري منكم وتظلمي لديكم وإقامة الحجة عليكم لم يكن رجاءً للعون والمظاهرة، بل تسلية للنفس وتسكيناً للغضب وإتماماً للحجة لئلا تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين.

فدونكموها فاحتقبوها (1)، دبرة (2) الظهر، نقبة (3) الخف ..باقية العار(4)، موسومة (5) بغضب الجبار..

وشنار (6) الأبد، موصولة ب «نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (7)(علیهم السلام) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ»(8)، (9).

فبعين الله ما تفعلون(10).. «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ(11)

ص: 47


1- الحقب، بالتحريك: حبل يشد به الرجل إلى بطن البعير، يقال: أحقبت البعير أي شددته به، وكل ما شد في مؤخر رحل أو قتب فقد احتقب، ومنه قيل: (احتقب فلان الإثم) كأنه جمعه واحتقبه من خلفه. والأنسب في هذا المقام: أحقبوها بصيغة الإفعال، أي شدوا عليها ذلك وهيؤها للركوب، وفيما وصل إلينا من الروايات على بناء الافتعال.
2- الدبر، بالتحريك: الجرح في ظهر البعير، وقيل: جرح الدابة مطلقا.
3- والنقب، بالتحريك: رقة خف البعير.
4- العار الباقي: عيب لا يكون في معرض الزوال.
5- وسمته وسماً وسمةً: إذا أثرت فيه بسمة وكيّ.
6- الشنار: العيب والعار.
7- الموقدة: المؤججة على الدوام.
8- سورة الهمزة: 67.
9- الاطلاع على الأفئدة إشرافها على القلوب بحيث يبلغه ألمها كما يبلغ ظواهر البدن. وقيل: إن معناه أن هذه النار تخرج من الباطن إلى الظاهر، بخلاف نيران الدنيا. وفي كشف الغمة: (إنها عليهم مؤصدة) والمؤصدة: المطبقة.
10- أي متلبس بعلم الله أعمالكم ويطلع عليها كما يعلم أحدكم ما يراه ويبصره، وقيل في قوله تعالى: «تجري بأعيننا» سورة القمر: 14، إن المعنى تجري بأعين أوليائنا من الملائكة والحفظة.
11- والمنقلب: المرجع والمنصرف، و(أي) منصوب على أنه صفة مصدر محذوف، والعامل فيه ينقلبون، لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه، وإنما يعمل فيه ما بعده، والتقدير: سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون انقلاباً أي انقلاب.

يَنْقَلِبُونَ»(1)، وأنا ابنة «نَذِيرٌ لَكُمْ(2) بَيْنَيَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ»(3)، فاعملوا (4) إنا عاملون، «وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ»(5)».

فأجابها (6) أبو بكر عبد الله بنعثمان وقال:

ص: 48


1- سورة الشعراء: 227.
2- أي أنا ابنة من أنذركم بعذاب الله على ظلمكم، فقد تمت الحجة عليكم.
3- سورة سبأ: 46.
4- والأمر في (اعملوا) و(انظروا) للتهديد.
5- سورة هود: 122.
6- وفي دلائل الإمامة: ص39، قال: فأطلعت أم سلمة من بابها وقالت: ألمثل فاطمة (علیها السلام) يقال هذا؟ وهي الحوراء بين الإنس، والأنس للنفس، وبيت في حجور أمهات الأنبياء وتداولتها أيدي الملائكة، ونمت في المغارس الطاهرات، نشأت خير منشأ، وربيت خير مربى، أتزعمون أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) حرم عليها ميراثه ولم يعلمها، وقد قال الله تعالى: «وأنذر عشيرتك الأقربين»، أفأنذرها وجاءت تطلبه وهي خيرة النسوان، وأم سادة الشبان، وعديلة مريم ابنة عمران، وحليلة ليث الأقران. تمت بأبيها رسالات ربه، فوالله لقد كان يشفق عليها من الحر والقر، فيوسّدها يمينه ويدثّرها بشماله رويدا، فرسول الله (صلی الله علیه و آله) بمرأى لأعينكم وعلى الله تردون، فواهاً لكم وسوف تعلمون، أنسيتم قول رسول الله (صلی الله علیه و آله) (لعلي (علیه السلام)): أنت مني بمنزلة هارون من موسى، وقوله: إني تارك فيكم الثقلين، ما أسرع ما أحدثتم وأعجل ما نكثتم. فحرمت أم سلمة عطاءها تلك السنة. عنه وفاة الصديقة (علیها السلام) لابن المقرم: ص98. وفي شرح النهج: ج16 ص214: قال أبو بكر: وحدثني محمد بن زكريا، قال: حدثنا جعفر بن محمد بن عمارة بالإسناد الأول قال: فلما سمع أبوبكر خطبتها شق عليه مقالتها فصعد المنبر وقال: أيها الناس، ما هذه الرعبة إلى كل قالة! أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ألا من سمع فليقل، ومن شهد فليتكلم، إنما هو ثعالة شهيدة ذنبة، مرب لكل فتنة، هو الذي يقول: كروها جذعة بعد ما هرمت، يستعينون بالضعفة، ويستنصرون بالنساء، كأم طحال أحب أهلها إليها البغي، ألا إني لو أشاء أن أقول لقلت، ولو قلت لبحت، إني ساكت ما تركت، ثم التفت إلى الأنصار فقال: قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم، وأحق من لزم عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنتم، فقد جاءكم فآويتم ونصرتم، ألا إني لست باسطاً يداً ولا لساناً على من لم يستحق ذلك منا، ثم نزل، فانصرفت فاطمة (علیها السلام) إلى منزلها. قلت: قرأت هذا الكلام على النقيب أبي يحيى جعفر بن يحيى بن أبي زيد البصري، وقلت له: بمن يعرّض؟ فقال: بل يصرّح. قلت: لو صرّح لم أسألك. فضحك وقال: بعلي بن أبي طالب (علیه السلام). قلت: هذا الكلام كله لعلي (علیه السلام) يقوله!! قال: نعم، إنه الملك يا بني!! قلت: فما مقالة الأنصار؟ قال: هتفوا بذكر علي (علیه السلام) فخاف من اضطراب الأمر عليهم، فنهاهم. عنه البحار: ج8 ص128 ط حجرية.

يا بنت رسول الله، لقد كان أبوكِ بالمؤمنين عطوفاً كريماً، رؤوفاً رحيماً، وعلى الكافرين عذاباً أليماً، وعقاباً عظيماً.

إن عزوناه (1) وجدناه أباكِ دون النساء، وأخا إلفكِ دون الأخلاء(2)، آثره على كل حميم، وساعده في كل أمر جسيم.

لايحبكم إلاّ سعيد، ولا يبغضكم إلاّ شقي بعيد، فأنتم عترة رسول الله الطيبون، الخيرة المنتجبون، على الخير أدلتنا، وإلى الجنة مسالكنا. وأنتِ يا خيرة النساء، وابنة خير الأنبياء، صادقة في قولكِ، سابقة في وفور عقلكِ، غير مردودة عن حقكِ، ولا مصدودة عن صدقكِ، والله ما عدوت رأي رسول الله، ولا عملت إلابإذنه، والرائد لا يكذب أهله(3)، وإني أُشهد الله وكفى به شهيداً، أني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً ولا فضة،

ص: 49


1- عزوناه: نسبناه.
2- الأخلاء: مفرده الخليل وهو الصديق.
3- هذا مثل استشهد به في صدق الخبر الذي افتراه على النبي (صلی الله علیه و آله)، والرائد: من يتقدم القوم يبصر لهم الكلاء والماء ومساقط الغيث، حيث جعل نفسه لاحتماله الخلافة التي هي الرياسة العامة بمنزلة الرائد للأمة الذي يجب عليه أن ينصحهم ويخبرهم بالصدق.

ولا داراً ولا عقاراً، وإنما نورث الكتاب والحكمة والعلم والنبوة، وما كان لنا من طعمة فلولي الأمر بعدنا، أن يحكم فيه بحكمه. وقد جعلنا ما حاولته في الكراع(1) والسلاح، يقاتل بها المسلمون، ويجاهدون الكفار، ويجالدون (2) المردة الفجار، وذلك بإجماع من المسلمين(3)، لم أنفرد به وحدي، ولم أستبد(4) بما كان الرأي عندي، وهذهحالي ومالي، هي لكِ وبين يديكِ، لا تزوى(5) عنكِ، ولا ندخر دونكِ، وإنك وأنت سيدة أمة أبيكِ، والشجرة الطيبة لبنيكِ، لا ندفع ما لكِ من فضلكِ، ولا يوضع في فرعكِ وأصلكِ(6)، حكمكِ نافذ فيما ملكت يداي، فهل ترين (7) أن أخالف في ذاك أباكِ (صلی الله علیه و آله).

فقالت (علیها السلام):

«سبحان الله! ما كان أبي رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن كتاب الله صادفاً (8)..

ص: 50


1- الكُراع بضم الكاف: جماعة الخيل.
2- والمجالدة: المضاربة بالسيوف.
3- قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: ج16 ص221: إنه لم يرو حديث انتفاء الإرث إلاّ أبوبكر وحده. وله كلام في ذلك أيضا في ص227 و22 فراجع. وقال السيوطي في تاريخ الخلفاء: ص68: وأخرج أبو القاسم البغوي وأبوبكر الشافعي في فوائده وابن عساكر عن عائشة قالت: اختلفوا في ميراثه (صلی الله علیه و آله) فما وجدوا عند أحد من ذلك علما، فقال أبوبكر: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: إنا معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة.
4- واستبد فلان بالرأي: أي انفرد به واستقل.
5- ولا نزوي عنك: أي لا نقبض ولا نصرف.
6- أي لا نحط درجتك ولا ننكر فضل أصولكم وأجدادك وفروعك وأولادك.
7- وترين: من الرأي بمعنى الاعتقاد.
8- الصادف عن الشيء: المعرض عنه.

ولا لأحكامه مخالفاً..

بل كان يتبع أثره(1)، ويقفو (2) سوره(3)، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالاً(4) عليه بالزور(5)، وهذا بعد وفاته شبيه بما بغي (6) له من الغوائل (7) في حياته، هذا كتاب الله حكماً عدلاً، وناطقاً فصلاً، يقول: «يَرِثُنِي ويَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ»(8)، ويقول: «ووَرِثَ سُلَيْمَانُ داوُدَ»(9)..

وبين عزوجل فيما وزع (10) من الأقساط(11)..

وشرع من الفرائض والميراث، وأباح من حظ الذكران والإناث، ما أزاح (12) به علة المبطلين، وأزال التظني (13) والشبهات في الغابرين(14)، كلا

ص: 51


1- والأثر، بالتحريك وبالكسر: أثر القدم.
2- والقفو: الاتباع.
3- والسور، بالضم: كل مرتفع عال، ومنه (سور المدينة)، ويكون جمع سورة، وهي كل منزلة من البناء، ومنه سورة القرآن لأنها منزلة بعد منزلة، ويجمع على سُوَر بفتح الواو، وفي العبارة يحتملها، والضمائر المجرورة تعود إلى الله تعالى أو إلى كتابه، والثاني أظهر.
4- والاعتلال: إبداء العلة والاعتذار.
5- والزور: الكذب.
6- والبغي: الطلب.
7- والغوائل: المهالك والدواهي، أشارت (علیها السلام) بذلك إلى ما دبروا - لعنهم الله - من إهلاك النبي (صلی الله علیه و آله) واستيصال أهل بيته (علیهم السلام) في العقبتين وغيرهما.
8- سورة مريم: 6.
9- سورة النمل: 16.
10- والتوزيع: التقسيم.
11- والقسط، بالكسر: الحصة والنصيب.
12- والإزاحة: الإذهاب والإبعاد.
13- والتظني: إعمال الظن وأصله التظنن.
14- والغابر: الباقي، وقد يطلق على الماضي.

«بَلْ سَوَّلَتْ(1) لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ(2) وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ»(3)».

فقال أبو بكر: صدق الله ورسوله وصدقت ابنته، أنتِ معدن الحكمة، وموطن الهدى والرحمة، وركن الدين، وعين الحجة، لا أبعد صوابكِ، ولاأنكر خطابكِ(4)، هؤلاء المسلمون بيني وبينكِ قلدوني ما تقلدت، وباتفاق منهم أخذت ما أخذت غير مكابر(5)، ولا مستبد ولا مستأثر(6)، وهم بذلك شهود.

فالتفتت فاطمة (علیها السلام) إلى الناس وقالت:«معاشر المسلمين المسرعة (7) إلى قيل (8) الباطل، المغضية (9) على الفعل

ص: 52


1- والتسويل: تحسين ما ليس بحسن، وتزيينه وتحبيبه إلى الإنسان ليفعله أو يقوله، وقيل: هو تقدير معنى في النفس على الطمع في تمامه.
2- أي فصبري جميل، أو الصبر الجميل أولى من الجزع الذي لا يغني شيئاً. وقيل: إنما يكون الصبر جميلا إذا قصد به وجه الله تعالى وفعل للوجه الذي وجب، ذكره السيد المرتضى (رحمة الله).
3- سورة يوسف: 18.
4- خطابك - في قول أبي بكر - من المصدر المضاف إلى الفاعل، ومراده بما تقلدوا، ما أخذ فدك أو الخلافة أي أخذت الخلافة بقول المسلمين واتفاقهم، فلزمني القيام بحدودها التي من جملتها أخذ فدك للحديث المذكور..
5- المكابرة: المغالبة.
6- الاستبداد والاستيثار: الانفراد بالشيء.
7- في بعض النسخ: (معاشر الناس المبتغية المسرعة).
8- القيل: بمعنى القول، وكذا القال، وقيل: (القول في الخير، والقيل والقال في الشر)، وقيل: (القول مصدر، والقيل والقال اسمان له).
9- والإغضاء: إدناء الجفون، وأغضى على الشيء: أي سكت ورضي به.

القبيح الخاسر، أفلا تتدبرون «الْقُرْآنَ(1) أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفَالُها»(2)، كلا بل ران(3) على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم، فأخذ بسمعكم وأبصاركم..

ولبئس ما تأولتم(4)، وساء ما به أشرتم(5)..

وشر(6) ما منه اغتصبتم(7)، لتجدنوالله محمله(8) ثقيلاً، وغبه(9) وبيلاً(10) إذا كشف لكم الغطاء، وبان ما وراءه الضراء(11)، وبدا لكم من ربكم

ص: 53


1- روي عن الصادق والكاظم (علیهما السلام) في الآية أن المعنى: أفلا يتدبرون القرآن فيقضوا بما عليهم من الحق. وتنكير (القلوب) لإرادة قلوب هؤلاء ومن كان مثلهم من غيرهم .
2- سورة محمد (صلی الله علیه و آله): 24.
3- الرين: الطبع والتغطية، وأصله الغلبة.
4- التأول والتأويل: التصيير والإرجاع ونقل الشيء عن موضعه، ومنه تأويل الألفاظ أي نقل اللفظ عن الظاهر.
5- والإشارة: الأمر بأحسن الوجوه في أمر.
6- شرّ، كفرّ: بمعنى ساء.
7- في بعض النسخ: (اعتضتم) والاعتياض: أخذ العوض والرضا به، والمعنى: ساء ما أخذتم منه عوضاً عما تركتم.
8- المحمل: كمجلس، مصدر.
9- والغب، بالكسر: العاقبة.
10- في الأصل الثقل والمكروه، ويراد به في عرف الشرع: عذاب الآخرة، والعذاب الوبيل: الشديد.
11- الضراء، بالفتح والتخفيف: الشجر الملتف، كما مر. يقال: توارى الصيد مني في ضراء. و(الوراء) يكون بمعنى قّدام كما يكون بمعنى خلف، وبالأول فسّر قوله تعالى: «وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا» سورة الكهف: 79. ويحتمل أن تكون الهاء زيدت من النساخ، أو الهمزة فيكون على الأخير بتشديد الراء من قولهم: (ورّى الشيء تورية): أي أخفاه، وعلى التقادير فالمعنى: ظهر لكم ما ستره عنكم الضراء.

ما لم تكونوا تحتسبون(1)، «وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ»(2)، (3).

ثم عطفت على قبر النبي (صلی الله علیه و آله) وقالت(4):

قد كان بعدك أنباء وهنبثة (5) *** لو كنت شاهدها (6) لم تكثر الخطب (7)

إنا فقدناك فقد الأرض وابلها(8) *** واختل قومك فاشهدهم ولا تغب(9)

وكل أهل له قربى(10) ومنزلة (11) *** عند الإله على الأدنين (12) مقترب(13)

ص: 54


1- أي ظهر لكم من صنوف العذاب ما لم تكونوا تنتظرونه ولا تظنونه واصلاً إليكم ولم يكن في حسبانكم.
2- سورة غافر: 78.
3- المبطل: صاحب الباطل، من أبطل الرجل إذا أتى بالباطل.
4- في كشف الغمة: (ثم التفتت إلى قبر أبيها متمثلة بقول هند ابنة اُثاثة) ثم ذكر الأبيات.
5- الخطب، بالفتح: الأمر الذي تقع فيه المخاطبة، والشأن والحال.
6- قال في النهاية: الهنبثة: واحدة الهنابث، وهي الأمور الشداد المختلفة. والهنبثة: الاختلاط في القول، والنون زائدة، وذكر فيه أن فاطمة (علیها السلام) قالت بعد موت النبي (صلی الله علیه و آله): قد كان بعدك أنباء... إلى آخر البيتين، إلا أنه قال: فاشهدهم ولا تغبُ.
7- الشهود: الحضور.
8- في بعض النسخ: (فقد نكب) ونكب فلان عن الطريق، كنصر وفرح: أي عدل ومال.
9- الوابل: المطر الشديد.
10- الأدنين: هم الأقربون.
11- اقترب: أي تقارب. وقال في مجمع البيان: في اقترب زيادة مبالغة على قرب، كما أن في اقتدر زيادة مبالغة على قدر، ويمكن تصحيح تركيب البيت وتأويل معناه على وجوه: الأول: وهو الأظهر أن جملة (له قربى) صفة لأهل، والتنوين في (منزلة) للتعظيم، والظرفان متعلقان بالمنزلة لما فيها من معنى الزيادة والرجحان. و(مقترب خبر لكل، أي ذو القرب الحقيقي أو عند ذي الأهل كل أهل كانت له مزية وزيادة على غيره من الأقربين عند الله تعالى. والثاني: تعلق الظرفين بقولها: (مقترب) أي كل أهل له قرب ومنزلة من ذي الأهل فهو عند الله تعالى مقترب مفضل على سائر الأدنين. والثالث: تعلق الظرف الأول بالمنزلة، والثاني بالمقترب، أي كل أهل اتصف بالقربى بالرجل وبالمنزلة عند الله فهو مفضل على سائر الأدنين. والرابع: أن يكون جملة (له قربى) خبراً للكل، و(مقترب) خبراً ثانيا. وفي الظرفين يجري الاحتمالات السابقة، والمعنى: أن كل أهل نبي من الأنبياء له قرب ومنزلة عند الله ومفضل على سائر الأقارب عند الأمة.
12- القربى: في الأصل القرابة في الرحم.
13- المنزلة: المرتبة والدرجة، ولا تجمع.

أبدت (1) رجال لنا نجوى صدورهم(2) *** لما مضيت وحالت (3) دونك (4) الترب(5)

تجهمتنا (6) رجال واستخف بنا *** لما فقدت وكل الأرض مغتصب(7)

وكنت بدراً ونوراً يستضاء به *** عليك ينزل من ذي العزة الكتب

ص: 55


1- دون الشيء: قريب منه، يقال: دون النهر جماعة، أي قبل أن تصل إليه.
2- قال الفيروزآبادي: الترب والتراب والتربة: معروف، وجمع التراب: أتربة وتربان، ولم يسمع لسائرها بجمع، انتهى. فيمكن أن يكون بصيغة المفرد والتأنيث بتأويل الأرض كما قيل، والأظهر أنه بضم التاء وفتح الراء جمع تربة، قال في مصباح اللغة: التربة: المقبرة، والجمع ترب، مثل غرفة وغرف.
3- بدى الأمر بدواً: ظهر. وأبداه: أظهره.
4- النجوى: الاسم من نجوته إذا ساررته، ونجوى صدورهم: ما أضمروه من نفوسهم من العداوة ولم يتمكنوا من إظهاره في حياته (صلی الله علیه و آله). وفي بعض النسخ: (فحوى صدورهم) وفحوى القول: معناه، والمآل واحد.
5- حال الشيء بيني وبينك: أي منعني من الوصول إليك.
6- المغتصب: على بناء المفعول المغصوب.
7- التهجم: الاستقبال بالوجه الكريه.

وكان جبرئيل بالآيات يؤنسنا *** فقد فقدت وكل الخير محتجب(1)

فليت قبلك كان الموت صادفنا(2) *** لما مضيت وحالت دونك الكثب(3)

إنا رزينا (4) بما لم يرز ذو شجن (5) *** من البرية لاعجم (6) ولا عرب

ثم انكفأت(7) (علیها السلام) وأمير المؤمنين (علیه السلام) يتوقع(8) رجوعها إليه..

ويتطلع طلوعها (9) عليه، فلما استقرت بها الدار(10) قالت لأمير المؤمنين (علیه السلام): «يا ابن أبي طالب، اشتملت (11) شملة (12) الجنين(13)، وقعدت

ص: 56


1- المحتجب: على بناء الفاعل.
2- والكثب، بضمتين: جمع كثيب وهو التل من الرمل.
3- صادفه: وجده ولقيه.
4- الشجن، بالتحريك: الحزن.
5- وفي القاموس: العجم، بالضم والتحريك، خلاف العرب. انتهى ما قاله المجلسي (رحمة الله).
6- والرزء، بالضم مهموزاً: المصيبة بفقد الأعزة، و(رُزينا) على بناء المجهول.
7- والانكفاء: الرجوع. وفي نسخة قديمة لكشف الغمة منقولة من خط المصنف، مكتوباً على هامشها بعد إيراد خطبتها (صلوات الله عليها) ما هذا لفظه: وجدت بخط السيد المرتضى علم الهدى الموسوي (قدس الله روحه) أنه لما خرجت فاطمة (علیها السلام) من عند أبي بكر، حين ردّها عن فدك، استقبلها أمير المؤمنين (علیه السلام) فجعلت تعنّفه ثم قال: اشتملت... إلى آخر كلامها (علیها السلام).
8- وتوقّعت الشيء واستوقعته: أي انتظرت وقوعه.
9- وطلعت على القوم: أتيتهم، وتطلع الطلوع انتظاره.
10- أي سكنت كأنها اضطربت وتحركت لخروجها، أو على سبيل القلب وهذا شائع، يقال: استقرت نوى القوم، واستقرت بهم النوى، أي أقاموا.
11- اشتمل بالثوب: أي أداره على جسده كله.
12- والشملة، بالفتح: كساء يشتمل به، والشملة بالكسر: هيئة الاشتمال، فالشملة إما مفعول مطلق من غير الباب كقوله تعالى: «نباتا» أو في الكلام حذف وإيصال. وفي رواية السيد: (مشيمة الجنين): وهي محل الولد في الرحم، ولعله أظهر.
13- الولد ما دام في البطن.

حجرة (1) الظنين(2)..

نقضت قادمة (3) الأجدل(4)..

فخانك ريش الأعزل(5)، هذا ابن أبي قحافة يبتزني(6) نحيلة (7) أبي،

ص: 57


1- الحجرة، بالضم: حظيرة الإبل، ومنه حجرة الدار.
2- الظنين: المتهم. والمعنى: اختفيت عن الناس كالجنين، وقعدت عن طلب الحق، ونزلت منزلة الخائف المتهم، وفي رواية السيد: (الحجزة) بالزاي المعجمة. وفي بعض النسخ: (قعدت حجزة الظنين)، وقال في النهاية: الحجزة موضع شد الإزار، ثم قيل: للإزار، حجزة للمجاورة. وفي القاموس: الحجزة بالضم: معقد الإزار، ومن الفرس مركب مؤخر الصفاق بالحقو، وقال: شدة الحجز، كناية عن الصبر.
3- قوادم الطير: مقاديم ريشه، وهي عشر في كل جناح، واحدتها: قادمة.
4- الصقر.
5- الأعزل: الذي لا سلاح معه، قيل: لعلّها (صلوات الله عليها) شبّهت الصقر الذي نقضت قوادمه بمن لا سلاح له، والمعنى: تركت طلب الخلافة في أول الأمر قبل أن يتمكنوا منها ويشيدوا أركانها وظننت أن الناس لا يرون غيرك أهلا للخلافة، ولا يقدّمون عليك أحدا، فكنت كمن يتوقع الطيران من صقر منقوضة القوادم. ويحتمل أن يكون المراد أنك نازلت الأبطال، وخضت الأهوال، ولم تبال بكثرة الرجال، حتى نقضت شوكتهم، واليوم غلبت من هؤلاء الضعفاء والأرزال، وسلمت لهم الأمر ولا تنازعهم، وعلى هذا ربما كان في الأصل: خاتك، بالتاء المثناة الفوقانية. قال الجوهري: خات البازي واختات أي انقضّ ليأخذه، وقال الشاعر: يخوتون أخرى القوم خوت الأجادل، والخائنة: العقاب إذا انقضت فسمعت صوت انقضاضها، والخوات: دوي جناح العقاب، والخوّات بالتشديد: الرجل الجريء، وفي رواية السيد (نفضت) بالفاء، وهو يؤيد المعنى الأول.
6- والابتزاز: الاستلاب وأخذ الشيء بقهر وغلبة من البزّ بمعنى السلب.
7- فعلية بمعنى مفعول من النحلة، بالكسر، بمعنى الهبة والعطية عن طيبة نفس من غير مطالبة أو عوض.

وبلغة (1) ابنيَّ (2)، لقد أجهد (3) في خصامي(4)، وألفيته (5) ألدّ في كلامي(6)..

حتى حبستني قيلة (7) نصرها، والمهاجرة (8) وصلها (9)..

وغضت (10) الجماعة دوني طرفها (11)،فلا دافع ولا مانع(12)..

خرجت كاظمة (13)، وعدت راغمة(14)..

ص: 58


1- والبُلغة، بالضم: ما يبلغ به من العيش ويكتفى به. وفي أكثر النسخ: (بليغة) بالتصغير، فالتصغير في النحيلة أيضاً أنسب.
2- وابني: إما بتخفيف الياء فالمراد به الجنس، أو تشديدها على التثنية.
3- في بعض النسخ: (وأجهر) وإجهار الشيء: إعلانه.
4- والخصام: مصدر كالمخاصمة، ويحتمل أن يكون جمع خصم، أي أجهر العداوة أو الكلام لي بين الخصام والأول أظهر.
5- ألفيته: أي وجدته.
6- والألدّ: شديد الخصومة، وليس فعلا ماضيا، فإن فعله على بناء المجرد، والإضافة في (كلامي) إما من قبيل الإضافة إلى المخاطب أو إلى المتكلم، وفي للظرفية أو السببية. وفي رواية السيد: (هذا بني أبي قحافة) إلى قوله (لقد أجهد في ظلامتي وألدّ في خصامتي). قال الجزري: ويقال: جهد الرجل في الأمر، إذا جدّ وبالغ فيه، وأجهد دابته، إذا حمل عليها في السير فوق طاقتها.
7- قيلة، بالفتح: اسم أم قديمة لقبيلتي الأنصار، والمراد بنو قيلة. وفي رواية السيد: (حين منعتني الأنصار نصرها).
8- وموصوف المهاجرة الطائفة أو نحوها.
9- والمراد بوصلها: عونها.
10- غضه: حفظه، وفي النهاية: ج3 ص371 : غضّ طرفه أي كسره وأطرق ولم يفتح عينه.
11- وفي بعض النسخ: (الطرف) بالفتح: العين.
12- في رواية السيد بعد قولها (ولا مانع): (ولا ناصر ولا شافع خرجت كاظمة وعدت راغمة).
13- كظم الغيض: تجرعه والصبر عليه.
14- رغم فلان، بالفتح: إذا ذلّ وعجز عن الانتصاف ممن ظلمه، والظاهر من الخروج، الخروج من البيت وهو لا يناسب كاظمة، إلاّ أن يراد بها الامتلاء من الغيظ، فإنه من لوازم الكظم، ويحتمل أن يكون المراد الخروج من المسجد المعبّر عنه ثانيا بالعود كما قيل. وفي رواية السيد مكان (عدت): (رجعت).

أضرعت (1) خدك يوم أضعت(2) حدّك(3)..

افترست (4) الذئاب.. وافترشت التراب..ما كففت (5) قائلاً.. ولا أغنيت(6)..

ص: 59


1- ضرع الرجل، مثلثة: خضع وذلّ، وأضرعه غيره، وإسناد الضراعة إلى الخد لأن أظهر أفرادها وضع الخد على التراب، أو لأن الذل يظهر في الوجه.
2- إضاعة الشيء وتضييعه: إهماله وإهلاكه.
3- حدّ الرجل، بالحاء المهملة: بأسه وبطشه. وفي بعض النسخ بالجيم، أي تركت اهتمامك وسعيك، وفي رواية السيد: (فقد أضعت جدّك يوم أصرعت خدّك).
4- وفرس الأسد فريسته كضرب وافترسها: دقّ عنقها، ويستعمل في كل قتل، ويمكن أن يقرأ بصيغة الغائب، فالذئاب مرفوع. والمعنى قعدت عن طلب الخلافة، ولزمت الأرض مع أنك أسد الله والخلافة كانت فريستك، حتى افترسها وأخذها الذئب الغاصب لها، ويحتمل أن يكون بصيغة الخطاب، أي كنت تفترس الذئاب واليوم افترشت التراب. وفي بعض النسخ: (الذباب) بالبائين الموحدتين: جمع ذبابة، فيتعين الأول. وفي بعضها: (افترست الذئاب وافترستك الذئاب). وفي رواية السيد مكانهما: (وتوسدت الوراء كالوزغ، ومسّتك الهناة والنزغ) والوراء: بمعنى الخلف، والهناء: الشدة والفتنة، والنزغ: الطعن والفساد.
5- الكف: المنع.
6- الإغناء: الصرف والكف، يقال: أغن عني شرك، أي اصرفه وكفه، به فسّر قوله سبحانه «إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا» سورة الجاثية: 19. وفي رواية السيد: (ولا أغنيت طائلا) وهو أظهر. قال الجوهري: يقال هذا أمر لا طائل فيه، إذا لم يكن فيه غناء ومزية، انتهى. فالمراد بالغناء: النفع، ويقال: ما يغني عنك هذا، أي ما يجديك وما ينفعك.

طائلاً (1)..

ولا خيار لي، ليتني متّ قبل هنيئتي (2) ودون ذلتي(3)..

عذيري (4) الله منه (5) عادياً (6)، ومنكحامياً (7)، ويلاي (8) في كل

ص: 60


1- في بعض النسخ: (باطلا).
2- في بعض النسخ: (الهينة) بالفتح: العادة في الرفق والسكون، ويقال: امش على هنينك، أي على رسلك، أي ليتني مت قبل هذا اليوم الذي لابد لي من الصبر على ظلمهم، ولا محيص لي عن الرفق.
3- في بعض النسخ: (زلتي) والزلة بفتح الزاي: الإسم من قولك زللت في طين، أو منطق، إذا زلقت ويكون بمعنى السقطة، والمراد بها عدم القدرة على دفع الظلم، ولو كانت الكلمة بالذال المعجمة كان أظهر وأوضح كما في رواية السيد فإن فيها (وا لهفتاه ليتني متّ قبل ذلتي ودون هينتي عذيري الله منك عادياً ومنك حامياً).
4- العذير: بمعنى العاذر، كالسميع، أو بمعنى العذر كالأليم.
5- في بعض النسخ: (منك) أي من أجل الإساءة إليك وإيذائك، و(عذيري الله) مرفوعان بالابتدائية والخبرية.
6- عادياً: إما من قولهم: عدوت فلانا عن الأمر، أي صرفته عنه، أو من العدوان، بمعنى تجاوز الحدّ، وهو حال عن ضمير المخاطب، أي الله يقيم العذر من قبلي في إساءتي إليك حال صرفك المكاره ودفعك الظلم عني، أو حال تجاوزك الحدّ في القعود عن نصري، أي عذيري في هكذا خطاب: أنك قصرت في إعانتي والذب عني. أي بحسب الظاهر.
7- الحماية عن الرجل: الدفع عنه، ويحتمل أن يكون (عذيري) منصوبا كما هو الشائع في هذه الكلمة، والله مجرورا بالقسم، يقال: عذيرك من فلان، أي هات من يعذرك فيه. ومنه قول أمير المؤمنين (علیه السلام) حين نظر إلى ابن ملجم لعنه الله: عذيريك من خليلك من مراد. والأول أظهر.
8- قال الجوهري: ويل كلمة مثل ويح، إلا أنها كلمة عذاب، يقال: ويله وويلك وويلي، وفي الندبة: ويلاه، ولعله جمع فيها بين ألف الندبة وياء المتكلم. ويحتمل أن يكون بصيغة التثنية، فيكون مبتدأ والظرف خبره، والمراد به تكرر الويل. وفي رواية السيد: (ويلاه في كل شارق، ويلاه في كل غارب، ويلاه مات العمد، وذلّ العضد) إلى قولها (علیها السلام): (اللهم أنت أشد قوة وبطشا).

شارق(1)، ويلاي في كل غارب، مات العمد(2)، ووهن العضد..

شكواي (3) إلى أبي، وعدواي (4) إلى ربي..

اللّهم إنك أشد منهم قوة وحولاً (5)..

وأشد بأساً (6) وتنكيلاً (7)».فقال أمير المؤمنين (علیه السلام):

«لا ويل لكِ، بل الويل لشانئك(8)..

ثم نهنهي(9) عن وجدكِ (10) يا ابنة الصفوة (11) وبقية النبوة..

فما ونيتُ (12) عن ديني.. ولا أخطأتُ مقدوري..

ص: 61


1- الشارق: الشمس، أي عند كل شروق شارق وطلوع صباح كل يوم. قال الجوهري: الشرق المشرق والشرق: الشمس، يقال: طلع الشرق ولا آتيك، ما ذرّ شارق وشرقت الشمس تشرق شروقاً وشرقاً أيضا، أي طلعت، وأشرقت أي أضاءت.
2- العمد، بالتحريك وبضمتين: جمع العمود، ولعل المراد هنا ما يعتمد عليه في الأمور.
3- الشكوى: الاسم من قولك: شكوت فلاناً شكاية.
4- العدوى: طلبك إلى وال لينتقم لك ممن ظلمك.
5- الحول: القوة والحيلة والدفع والمنع، الكل هنا محتمل.
6- البأس: العذاب.
7- التنكيل: العقوبة، وجعل الرجل نكالاً وعبرة لغيرة.
8- أي العذاب والشر لمبغضك، والشناءة: البغض، وفي رواية السيد: (لمن أحزنك).
9- ونهنتُ الرجل عن الشيء فتنهنه: أي كففته وزجرته فكفّ.
10- الوجد: الغضب، أي امنعي نفسك عن غضبك. وفي بعض النسخ: (تنهنهي) وهو أظهر.
11- الصفوة، مثلثة: خلاصة الشيء وخياره.
12- الونى، كفتى: الضعف والفتور والكلال. والفعل كوقى يقي، أي ما عجزت عن القيام بما أمرني به ربي، وما تركت ما دخل تحت قدرتي.

فإن كنتِ تريدين البلغة (1)، فرزقكِ مضمون(2)، وكفيلكِ مأمون..

وما أعد لكِ (3) أفضل مما قطع عنكِ..

فاحتسبي (4) الله».فقالت: «حسبي الله»..

وأمسكت(5).

ص: 62


1- البلغة، بالضم: ما يكفي من العيش ولا يفضل.
2- والضامن والكفيل للرزق هو الله تعالى.
3- وما أعد لها: هو ثواب الآخرة.
4- الاحتساب: الاعتداد، ويقال لمن ينوي بعمله وجه الله تعالى: احتسبه. أي اصبري وادخري ثوابه عند الله تعالى. وفي رواية السيد: (فقال لها أمير المؤمنين (علیه السلام): لا ويل لك، بل الويل لمن أحزنك، نهنهي عن وجدك يا بنية الصفوة، وبقية النبوة، فما ونيت عن حظّك، ولا أخطأت مقدرتي، فقد ترى فإن ترزئي حقك فرزقك مضمون، وكفيلك مأمون، وما عند الله خير لك مما قطع عنك، فرفعت يدها الكريمة، وقالت: رضيت وسلّمت. قال في القاموس: رزأه ماله كجعله وعمله، رُزءً بالضم: أصاب منه شيئاً.
5- انتهى ما نقلناه من كتاب (عوالم العلوم ومستدركاتها) نصاً وتعليقاً.

بسم الله الرحمن الرحيم

روى عبد الله بن الحسن بإسناده عن آبائه (علیهم السلام):

اشارة

-------------------------------------------

استحباب الرواية ووجوبها

مسألة: يستحب مطلق الرواية: العقائدية، أو الفقهية، أو الأخلاقية، أو الآدابية، أو التاريخية، أو غيرها. وقد تجب لوجوب حفظ آثار النبوة والإمامة، وإن كانت في المستحبات أو المكروهات أو المباحات في الجملة.

فإن المعصومين (علیهم السلام) كانوا يحرضون أصحابهم على الرواية ونشر العلم والثقافة(1)، كما كانوا يتصدون بنحو واسع لذلك، وهذه الرواية من أهم مصاديقه.

وقد أشرنا إلى قسم من هذا المبحث في المجلد الأول من هذا الكتاب.

رواية هذه الخطبة

مسألة: تستحب رواية هذه الخطبة بصورة خاصة، حيث رواها العديد من المعصومين (عليهم الصلاة والسلام)(2).

ص: 63


1- راجع الكافي: ج1 ص52 باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسك بالكتب ح11، وفيه: عن المفضل بن عمر، قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السلام): «اكتب وبثّ علمك في إخوانك، فإن مت فأورث كتبك بنيك؛ فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلاّ بكتبهم».
2- فقد رواها العديد من الأئمة المعصومين (علیهم السلام)، راجع دلائل الإمامة: ص30 حديث فدك.

..............................

ومن الممكن أن تكون الرواية لهذه الخطبة - أحياناً - واجبة لما ذكرناه، سابقاً (1) ولدخولها تحت عناوين أخرى عديدة (2) تقتضي الوجوب أو الاستحباب.

وهذه الخطبة متلقاة بالقبول، وقد كان الأئمة الأطهار (علیهم السلام) والأعلام من الأخيار يتعاهدون هذه الخطبة ويتواصون بها ويعلّمونها أولادهم جيلاً بعد جيل(3).فهي مقبولة سنداً لتلقي الأصحاب والعلماء عصراً بعد عصر لها بالقبول، وهو دليل الاعتبار عقلائياً، وشهرتها الروائية كبيرة جداً(4).

ص: 64


1- في المقدمة بإيجاز وفي المجلد الأول بتفصيل.
2- كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل، وشمول أمثال: «وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ...» - سورة التوبة:122 - لها وهكذا.
3- فمثلاً ذكر ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: ج16 ص252 ف2: (فقال لي - أي زيد بن علي بن الحسين (علیه السلام) -: رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه - أي كلام فاطمة (علیها السلام) عند منع أبي بكر إياها فدك - عن آبائهم، ويعلّمونه أولادهم… وقد حدثني به أبي، عن جدي يبلغ به فاطمة (علیها السلام) على هذه الحكاية، وقد رواه مشايخ الشيعة وتدارسوه…)، انتهى.
4- قال العلامة المجلسي (قدس سره) في (بحار الأنوار): اعلم أن هذه الخطبة من الخطب المشهورة التي روتها الخاصة والعامة بأسانيد متظافرة... - بحار الأنوار: ج29 ص215 ب11 فصل نورد فيه خطبة خطبتها سيدة النساء فاطمة الزهراء (علیها السلام) -. وقال العلامة الإربلي: وقد أوردها المؤالف والمخالف … - كشف الغمة: ج1 ص480 فاطمة (علیها السلام)-. ومن الواضح أن عبارته (قدس سره) وعبارة العلامة المجلسي (قدس سره) وعبارة المرتضى(قدس سره) اللاحقة لاتقل إطلاقاً في الحجية العقلائية عن نقل ثقة عن ثقة. ............................. وقد سبق بعض كلام ابن أبي الحديد عن زيد بن علي بن الحسين (علیهم السلام)، كما قد نقل عن السيد المرتضى (قدس سره) قوله: وقد روي هذا الكلام على هذا الوجه من طرق مختلفة ووجوه كثيرة، فمن أرادها أخذها من مواضعها. وقال العلامة شرف الدين (قدس سره): السلف من بني علي وفاطمة (علیهما السلام) يروي خطبتها في ذلك اليوم لمن بعده، ومن بعده رواها لمن بعده حتى انتهت إلينا يداً عن يد، فنحن الفاطميون نرويها عن آبائنا، وآباؤنا يروونها عن آبائهم، وهكذا كان الحال في جميع الأجيال إلى زمن الأئمة (علیهم السلام) من أبناء علي وفاطمة (علیهما السلام)... - النص والاجتهاد، المورد 7 هامش ص 106107-. وقد رواها المسعودي، وابن طيفور في (بلاغات النساء)، وغيرهم في غيرها. وفي (عوالم العلوم ومستدركاته) مجلد فاطمة الزهراء (علیها السلام) ج2 ص698-700: قال المجلسي (رحمة الله): ثم اعلم أن هذه الخطبة من الخطب المشهورة التي روتها الخاصة والعامة بأسانيد متظافرة: قال عبد الحميد ابن أبي الحديد في شرح كتابه (علیه السلام) إلى عثمان بن حنيف عند ذكر الأخبار الواردة في فدك حيث قال: الفصل الأول فيما ورد من الأخبار والسير المنقولة من أفواه أهل الحديث وكتبهم لا من كتب الشيعة ورجالهم، وجميع ما نورده في هذا الفصل من كتاب أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في (السقيفة وفدك)، وأبو بكر الجوهري هذا عالم محدث كثير الأدب، ثقة ورع، أثنى عليه المحدثون، ورووا عنه مصنفاته وغير مصنفاته - ثم قال: - قال أبو بكر: حدثني محمد بن زكريا، عن جعفر بن محمد بن عمارة، عن أبيه، عن الحسن بن صالح، قال: حدثني ابن خالات من بني هاشم، عن زينب بنت علي ابن أبي طالب (علیه السلام)، قال: وقال جعفر بن محمد بن عمارة: حدثني أبي، عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه (علیه السلام). قال أبو بكر: وحدثني عثمان بن عمران العجيفي، عن نائل بن نجيح، عن عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي (علیه السلام). قال أبو بكر: وحدثني أحمد بن محمد بن زيد، عن عبد الله ابن محمد بن سليمان، عن أبيه، عن عبد الله بن الحسن، قالوا جميعاً: .............................. لما بلغ فاطمة (علیها السلام) إجماع أبي بكر على منعها فدكاً لاثت خمارها وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (صلی الله علیه و آله)، حتى دخلت على أبي بكر وقد حشد الناس من المهاجرين والأنصار، فضربت بينهم وبينها ريطة بيضاء، وقال بعضهم: قبطية، وقالوا: قبطية - بالكسر والضم - ثم أنّت أنّة أجهش لها القوم بالبكاء، ثم أمهلت طويلاً حتى سكنوا من فورتهم، ثم قالت: «ابتدأ بحمد من هو أولى بالحمد، والطول والمجد، الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر بما ألهم». وذكر خطبة طويلة جداً، قالت في آخرها: «فاتقوا الله حق تقاته وأطيعوه فيما أمركم به» - إلى آخر الخطبة - انتهى كلام ابن أبي الحديد. وقد أورد الخطبة علي بن عيسى الإربلي في كتابه (كشف الغمة)، قال: نقلتها من كتاب (السقيفة) تأليف أحمد بن عبد العزيز الجوهري من نسخة قديمة مقروءة على مؤلفها المذكور قرأت عليه في ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، روى عن رجاله من عدة طرق: أن فاطمة (علیها السلام) لما بلغها إجماع أبي بكر... إلى آخر الخطبة. وقد أشار إليها المسعودي في (مروج الذهب). وقال السيد المرتضى (رحمة الله) في (الشافي): أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عمران المرزباني، عن محمد ابن محمد الكاتب، عن أحمد بن عبيد الله النحوي، عن الزيادي، عن شرفي بن قطامي، عن محمد بن إسحاق، عن صالح بن كيسان، عن عروة، عن عائشة. قال المرزباني: وحدثني أحمد بن محمد المكي، عن محمد بن القاسم اليماني، عمن قال: حدثنا ابن عائشة، قالوا: لما قُبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) أقبلت فاطمة (علیها السلام) في لمة من حفدتها إلى أبي بكر... وفي الرواية الأولى قالت عائشة: لما سمعت فاطمة (علیها السلام) إجماع أبي بكر على منعها فدكاً لاثت خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمة من حفدتها ... ثم اتفقت الروايتان من ها هنا: ونساء قومها، وساق الحديث نحو ما مر إلى قوله: افتتحت كلامها بالحمد لله عزوجل والثناء عليه، والصلاة على رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ثم قالت: «لقد جاءكم رسول من أنفسكم»، إلى آخرها. قال: وسيأتي أسانيد أخرى سنوردها من كتاب أحمد بن أبي طاهر. وروى الصدوق (رحمة الله) بعض فقراتها المتعلقة بالعلل في الشرائع: عن ابن المتوكل، عن السعد آبادي، عن البرقي، عن إسماعيل بن مهران، عن أحمد بن محمد بن جابر، عن زينب بنت علي (علیها السلام) ... قال: وأخبرنا علي بن حاتم، عن محمد بن أسلم، عن عبد الجليل البقاطاني، عن الحسن بن موسى الخشاب، عن عبد الله بن محمد المعاوي، عن رجال من أهل بيته، عن زينب بنت علي (علیه السلام)، عن فاطمة (علیها السلام) (بمثله)... وأخبرني علي بن حاتم، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن عمارة، عن محمد بن إبراهيم المصري، عن هارون بن يحيى، عن عبيد الله بن موسى العبسي، عن حفص الأحمر، عن زيد بن علي، عن عمته زينب بنت علي، عن فاطمة (علیها السلام) .. وزاد بعضهم على بعض في اللفظ. قال: قد أوردت ما رواه في المجلد الثالث، وإنما أوردت الأسانيد هنا ليعلم أنه روى هذه الخطبة بأسانيد جمة. روى الشيخ المفيد (رحمة الله) الأبيات المذكورة فيها بالسند المذكور في أوائل الباب. وروى السيد ابن طاووس (رحمة الله) في كتاب (الطرائف) موضع الشكوى والاحتجاج من هذه الخطبة عن الشيخ أسعد بن شفروة في كتاب (الفائق)، عن الشيخ المعظم عندهم الحافظ الثقة بينهم أحمد بن موسى بن مردويه الأصفهاني في كتاب (المناقب)، قال: أخبرنا إسحاق بن عبد الله بن إبراهيم، عن شرفي بن قطامي، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة. ورواها الشيخ أحمد بن أبي طالب الطبرسي في كتاب (الاحتجاج): مرسلاً. كما ذكرنا عنه وذكر بعض فقراتها في (مكارم الأخلاق)، انتهى.

ص: 65

ص: 66

..............................

إضافةً إلى القرائن المقالية والمقامية الكثيرة الشاهدة لها: كنقل المخالفين لها مع توفر الدواعي على عدم النقل، وكقوّة المضمون في الكثير من مقاطعها، بل في كلها، وكتطابق مضمونها مع الأصول والقواعد(1).

ص: 67


1- قدسبق في المجلد الأول الحديث عن الجهة السندية للكثير من كلماتها (عليها الصلاة والسلام) فليراجع. ومن الواضح أن مجموع ما سبق يوجب اعتباراً عقلائياً أقوى بكثير من الوثاقة الحاصلة من (خبر الواحد).

..............................

رواية النساء

مسألة: يستحب الرواية للنساء، كما يستحب الرواية للرجال، للإطلاقات، ولأن هذه الخطبة روتها - في جملة رواتها - السيدة زينب (صلوات الله عليها) وقد نقلها عنها المعصوم (علیه السلام) (1).. إضافةإلى كون أقوالها(2) وأفعالها (علیها السلام) حجةً على ما بيناه في الجملة(3).

وهذا المورد من باب المصداق، وإن كانت له مزية، إلاّ أنها غير حاصرة؛ لكونه صغرى لكبرى كلية، وقد سبق البحث عن ذلك في الفصل الأول من الكتاب(4).

تحمل المميز

مسألة: يستفاد من هذه الرواية أيضاً: صحة تحمل المميز للرواية(5)، وجواز الاعتماد عليه إذا رواها بعد البلوغ؛ لأن السيدة زينب (عليها الصلاة

ص: 68


1- وقد روى هذه الخطبة أيضاً الإمام الحسن والإمام الحسين والإمام الباقر والإمام الصادق وغيرهم (علیهم السلام)، وكذلك روتها عائشة أيضاً - شرح نهج البلاغة: ج16 ص249 ف2، والعوالم: ج11 ص478 -.
2- أي السيدة زينب (علیها السلام).
3- راجع كتاب (السيدة زينب(علیها السلام) عالمة غير معلمة) للإمام الشيرازي (رحمة الله).
4- المجلد الأول من كتاب (من فقه الزهراء (علیها السلام)).
5- (وقت التحمل) - حسب اصطلاح علماء الدراية -: هو وقت سماع الإنسان للرواية أو مشاهدته للحدث، و(وقت الرواية): هو وقت نقله لما سمعه أو رآه سابقاً.

..............................

والسلام) كان عمرها - حين الخطبة - دون البلوغ، إذ أن بعض أسناد الخطبة ينتهي إليها (صلوات الله عليها) (1)، وإن كان لا يُقاس بهم (علیهم السلام) أحد.. فإنهم (علیهم السلام) قد زُقّوا العلم زقّاً(2)، وقال الإمام السجاد (علیه السلام) لها (علیها السلام): «وأنت - بحمد الله - عالمة غير مُعلّ-َمة، وفهِمة غير مُفهّمة»(3)، لكنهم (علیهم السلام) أسوة، وذلك هو الأصل.

فكونهم (علیهم السلام) لا يُقاس بهم أحد، يُراد به جانب الفضائل، لا في جانب الاشتراك في التكاليف والأحكام - بنحو الأصل - فتأمل.

ومنه يعلم حجية قول البالغ إذا حكى عما قبل البلوغ، أما لو روى وهو مميز فلا يبعد القول بالحجية أيضاً (4) لبناء العقلاء على ذلك، وللسيرة، ولغير ذلك.

أما في أمثال عكسه فلا، كما إذا سمع أو رأى في حال العقل ثم جُنّ أو ماأشبه ذلك.

ص: 69


1- راجع عوالم العلوم ومستدركاتها، مجلد فاطمة الزهراء (علیها السلام): ج2 ص700.
2- بحار الأنوار: ج45 ص138 ب39 ضمن ح1.
3- بحار الأنوار: ج45 ص164 ب39 ح7.
4- في الجملة.

أنه لما أجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة (علیها السلام) فدكاً

اشارة

أنه لما أجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة (علیها السلام) فدكاً (1)

-------------------------------------------

الدفاع عن الولاية

مسألة: يستحب، بل يجب - حسب اختلاف الموارد - الاهتمام بما يرتبط بولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) والأئمة المعصومين (علیهم السلام)، والذبّ عن حريمهم، فقد ورد أنه: «بُني الإسلام على خمس دعائم: على الصلاة والزكاة والصوم والحج وولاية أمير المؤمنين والأئمة من ولده (علیهم السلام)»(2).

ولذلك قامت السيدة الزهراء (صلوات الله عليها) بتلك الأعمال الجليلة، واتخذت تلك المواقف العسيرة والمصيرية في الدفاع عن الإمام (علیه السلام) حتى استشهدت في سبيل ذلك.

وهذا الأمر مما يلاحظ في مراتبه الأهم والمهم، فإن كان الأمر أهم جاز حتى الاستشهاد، وقد يجب أحياناً، كما لو توقف عليه حفظ بيضة الإسلام، وكمافي التصدي للبدع وما أشبه ذلك(3).

وإن كان بقاء الإنسان أهم بما هو هو، أو من حيث الآثار الأخرى التي ستترتب على وجوده لم يجز إلى هذا الحد.

وكذلك حال ما دون الاستشهاد كالجرح والضرب وما أشبه حسب ما تقتضيه القواعد العامة، وعلى ما يقتضيه باب التزاحم(4).

ص: 70


1- لفظ (فدك) مما يجوز فيه الصرف وعدم الصرف. فربما أخذ التنوين والكسر، وربما لم يقبلهما.
2- وسائل الشيعة: ج1 ص25 ب1 ح29.
3- راجع موسوعة الفقه: ج47-48 كتاب الجهاد.
4- راجع موسوعة الفقه: ج48 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

..............................

وتشخيص ذلك عائد إلى الفقيه، أو مرجع التقليد، أو شورى المراجع، أو إلى الفرد نفسه أحياناً، حسب اختلاف الموارد(1) على ما فصلناه في بعض الكتب(2).

الجهر بالحق

مسألة: يلزم بيان أن فدك كانت ملكاً للزهراء (صلوات الله عليها)، كما يجب الاعتقاد بذلك، على ما يستفاد من مطاوي الخطبة، ومن شدة اهتمام الزهراء (علیها السلام) بذلك، ولغير ذلك من الأدلة الكثيرة المذكورة في محالها، حيث أعطاها الرسول (صلی الله علیه و آله) في حياته بأمر من الله سبحانه كما ورد في متواتر الروايات(3)، وفي تفسير قوله تبارك وتعالى: «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ»(4).

فقد روي عن الإمام الصادق (علیه السلام): «لما نزلت هذه الآية «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ»(5) أعطى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فاطمة (علیها السلام) فدك». فقال أبان بن تغلب: رسول الله أعطاها؟. فغضب جعفر (علیه السلام) ثمقال: «الله أعطاها»(6).

ص: 71


1- مثلاً كونه موضوعاً صرفاً دون مضاعفات خارجية، أو مستنبطاً، أو في الشؤون العامة، وهكذا.
2- وقد تطرق الإمام المؤلف (قدس سره) لجوانب من هذا البحث في كتابه (الشورى في الإسلام)، وإلى جوانب منه في (الفقه: السياسة)، و(الفقه: الدولة الإسلامية)، وكتاب (البيع)، وغيرها.
3- راجع الكافي: ج1 ص543 باب الفيء والأنفال وتفسير الخمس وحدوده وما يجب فيه ح5، وراجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم): ج2 ص39-40 حوائط فدك.
4- سورة الإسراء: 26. وفي سورة الروم الآية 38: «فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ».
5- سورة الإسراء: 26.
6- تفسير فرات الكوفي: ص239 ومن سورة بني إسرائيل الإسراء ح322.

..............................

وعن أبى سعيد الخدري قال: (لما نزلت «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ»(1) - قال - دعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فاطمة (علیها السلام) فأعطاها فدك)(2).

الاجتماع على الباطل

مسألة: يحرم الاجتماع على الباطل بصورة عامة، ويحرم - من باب المقدمية - كل ما يعد لذلك، ويحرم حتى تكثير السواد لجبهة الباطل(3).

إيذاء أهل البيت (علیهم السلام)

مسألة: يحرم إيذاء أهل البيت (علیهم السلام) ومنعهم من حقوقهم، ويحرم التمهيد لذلك، ومن الواضح أن درجة الحرمة تختلف شدةً وضعفاً باختلاف المتعلق، فإيذاء حجة الله على الأرض أشدحرمة وعقوبة من إيذاء غيره دون إشكال، ولذلك ورد عنه (صلی الله علیه و آله): «فاطمة بضعة مني وأنا منها، فمن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله»(4).

وقال (صلی الله علیه و آله): «اللهم إن هؤلاء أهل بيتي وخاصتي وحامتي، لحمهم لحمي ودمهم دمي، يؤلمني ما يؤلمهم ويحزنني ما يحزنهم... »(5).

وقال تعالى: «الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ

ص: 72


1- سورة الإسراء: 26.
2- نهج الحق: ص358 مناوأة فاطمة (علیها السلام) وغصب فدك.
3- راجع (الفقه: المكاسب المحرمة)، و(الفقه: الواجبات والمحرمات).
4- علل الشرائع: ج1 ص186 ب149 ح2.
5- راجع المجلد الأول من كتاب (من فقه الزهراء (علیها السلام)).

..............................

وَأَعَدَّ لهمْ عَذَاباً مُهِيناً»(1).

حرمة الغصب ومصادرة الأموال

حرمة الغصب ومصادرة الأموال(2)

مسألة: يحرم الغصب ومصادرة الأموال والأراضي والعقارات والمزارع وغيرها،قال تعالى: «وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ»(3).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من أخذ أرضاً بغير حق، كُلّف أن يحمل ترابها إلى المحشر»(4).

وقال (صلی الله علیه و آله): «من خان جاره شبراً من الأرض، جعله الله في عنقه من تخوم الأرضين السابعة حتى يلقى الله يوم القيامة مطوّقاً، إلاّ أن يتوب ويرجع»(5).

ولا فرق في الغاصب بين الدولة والأفراد، سواء كانت لهم هيئة اجتماعية بأن كانوا بصورة تجمع، كالحزب والمنظمة والهيئة والجماعة، أم لا، ككل فرد فرد.

ومن غير فرق بين أن يكون الغاصب أو المغصوب منه رجلاً أو امرأة، كبيراً أو صغيراً.

وإن كانت الحرمة في الدولة والجماعة أشد؛ لتآزرهم وتعاونهم على

ص: 73


1- سورة الأحزاب: 57.
2- حول هذا المبحث راجع: (الفقه: الغصب)، و(الفقه: الاقتصاد)، و(الفقه: الحقوق)، و(الفقه: الدولة الإسلامية) للإمام المؤلف (قدس سره).
3- سورة البقرة: 188.
4- تهذيب الأحكام: ج6 ص294 ب92 ح26.
5- الأمالي للصدوق: ص427 المجلس66 ح1.

..............................

الباطل، قال تعالى: «وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ»(1)، ولعدم القدرة على استردادها - عادةً - إلاّ بصعوبة، حيث إن التجمع يوجب قوة في جانب الغاصب؛ ولأن الدولة والجماعة يُقتدى بها بما لا يُقتدى بالفرد، فهي - عادة - من أظهر مصاديق «من سنّ سنّة سيئة... »(2). وكذلك حال اغتصاب الحق.

الاهتمام بقضية فدك

مسألة: يستحب وقد يجب - كلٌ في مورده - الاهتمام بقضية فدك؛ لإرجاعها إلى أيدي أصحابها وإعمارها ومزيد الاهتمام بها، فإنها معلم من معالم الدين وشعيرة من الشعائر، قال تعالى: «وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ»(3).

ولما يترتب عليه من الآثار والنتائج العظيمة المادية والمعنوية، ومن المعلوم أن الفوائد المعنوية منها أهم من الفوائد المادية، كما احتج أمير المؤمنين (علیه السلام) لإثبات أن فدك ملك الزهراء (علیهاالسلام)(4)، وكما طالب الإمام الكاظم (علیه السلام) بفدك(5). هذا ويستفاد من بعض الروايات أن الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) تشكو لأبيها (صلی الله علیه و آله) في يوم القيامة أمر فدك(6).

ص: 74


1- سورة المائدة: 2.
2- الفصول المختارة: ص136.
3- سورة الحج: 32.
4- راجع وسائل الشيعة: ج27 ص293 ب25 ح33781.
5- راجع الكافي: ج1 ص543 باب الفي ء والأنفال وتفسير الخمس وحدوده وما يجب فيه ح5.
6- راجع عوالم العلوم ومستدركاتها، مجلد فاطمة الزهراء (علیها السلام): ج2 ص749.

بلغها ذلك

اشارة

-------------------------------------------

المطالبة بالحق وفضح الطغاة

المطالبة بالحق وفضح الطغاة (1)

مسألتان:

1: من الضروري فضح سياسة السلطات الجائرة ورجالاتها، وتربية الناس على ذلك، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»(2).

2: يجوز - بالمعنى الأعم - المطالبة بالحق، فيشمل المستحب والواجب أيضاً كل في مورده ولو كان الحق مادياً ودنيوياً.

ولا يخفى أن فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) كانت تهدف من موقفها وخطبتها - بالدرجة الأولى - هدفين هما أهم منالجانب المادي:

أحدهما: كشف القناع عن الحقيقة، وإثبات أن الحق في أمر الخلافة مع علي (عليه الصلاة والسلام) عبر الاستدلال والمطالبة بحقه (علیه السلام).

ثانيهما: نتائج معنوية وتاريخية عبر فضح الغاصبين إلى يوم القيامة، ورسم المقياس لمعرفة الحق عن الباطل، وتربية الأمة على التصدي للجور، وعدم السكوت عن الحق، والتضحية بكل غال ونفيس في سبيل ذلك.

ص: 75


1- حول جوانب هذا المبحث والبحوث اللاحقة راجع كتاب: (ممارسة التغيير لإنهاض المسلمين) و(الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام) و(السبيل إلى إنهاض المسلمين) و(الفقه: طريق النجاة)و(الفقه: الاجتماع) و(الفقه: الواجبات والمحرمات) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- غوالي اللآلي: ج1 ص432 المسلك الثالث ح131.

..............................

وقد حققت (علیها السلام) كلا الهدفين، بالإضافة إلى تحقق الجانب المادي بعد حين، كما يدل على ذلك ردّ جماعة من الحكام فدك وإن اغتصبها جماعة آخرون(1).

وقد كشفت (علیها السلام) القناع عن وجه الحقيقة، وأثبتت أن الحق لعلي أمير المؤمنين (علیه السلام)، وفضحت الغاصبين، ورسمت ميزان الحقيقة للأجيال، وأعطت خير نموذج للتصدي للجور والظلم.

وإضافة إلى ذلك، فقد كان لدفاعها(علیها السلام) عن حق الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) أثر في عمق التاريخ، حيث إن جماعة من ذرية علي (عليه الصلاة والسلام) وشيعته وصلوا إلى الحكم طول التاريخ الإسلامي، وإلى يومنا هذا، في قضايا مفصلة مذكورة في التواريخ(2).

الانتصار للحق

مسألة: يستحب نصرة الحق والانتصار له إذا أمكن.

وإنما يستحب الانتصار له إذا كان الأمر مستحباً، وإلاّ وجب، وفي الدعاء: «ووفّقنا ل... نصرة الحق وإعزازه»(3)، وقال علي (علیه السلام): «لو لم تتخاذلوا عن نصرة الحق لم تهنوا عن توهين الباطل»(4).

ص: 76


1- راجع المناقب: ج4 ص207 فصل في معالي أموره (علیه السلام)، بحار الأنوار:ج22 ص295 ب7 ح1.
2- راجع: (جهاد الشيعة)، (العراق بين الماضي والحاضر والمستقبل)، (الدول الشيعية في التاريخ) وغيرها.
3- الصحيفة السجادية: الدعاء رقم6 وكان من دعائه (علیه السلام) عند الصباح والمساء.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص70 ق1 ب1 ف14 في نصرة الحق ح983.

..............................

والظاهر أن فاطمة الزهراء (عليهاالصلاة والسلام) كان عليها جانب الوجوب؛ لأن نصرة علي أمير المؤمنين (علیه السلام) خاصة في المواطن الخطيرة من الواجبات المؤكدة، وقد قال الرسول (صلی الله علیه و آله): «وانصر من نصره واخذل من خذله»(1).

هذا بالإضافة إلى أن استرجاع فدك وفضح الذين غصبوها كان من أهم الواجبات، وكانت هي (علیها السلام) - لمكانتها من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبين المسلمين - أقدر من غيرها على ذلك.

مطالبة المرأة بحقها

مسألة: يجوز للمرأة المطالبة بحقها، جوازاً بالمعنى الأعم، الشامل للوجوب والاستحباب والإباحة، ولا فرق بين الرجل والمرأة في هذا الباب.

قال علي (علیه السلام): «طلب التعاون على إقامة الحق ديانة وأمانة»(2).

وفي الحديث: «ثلاث لا يستحيىمنهن... وطلب الحق وإن قلّ»(3).

وقال (علیه السلام): «أخسر الناس من قدر على أن يقول الحق ولم يقل»(4).

ولها أن تحضر مجلس القضاء وترفع الشكوى، إلى غير ذلك مما هو مذكور في أبواب الفقه، وإن لم ينفع ذلك فلها أن ترفع ظلامتها على رؤوس الأشهاد، كما قامت السيدة الزهراء (صلوات الله عليها) بذلك.

ص: 77


1- الإرشاد: ج1 ص176.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص69 ق1 ب1 ف14 في نصرة الحق ح977.
3- مستدرك الوسائل: ج16 ص260 ب34 ضمن ح19800.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص70 ق1 ب1 ف14 قولوا بالحق ولا تمسكوا عن إظهاره ح985.

..............................

التصدي للطغاة مطلقاً

مسألة: يستحب - وقد يجب - المطالبة بالحق وإن كان يعلم بعدم نجاحه في التوصل للحق وإحقاقه، وذلك لما فيه من فضح الظالم وأداء الواجب وإتمام الحجة، كما طالبت (صلوات الله عليها) بحقها وهي تعلم بأن القوم لا يعطونها حقها.

إضافة إلى أن إزعاج الظالم ومضايقته بالمطالبة بالحق والإلحاح عليه ولو ممن يعلم أنه لا يعطيه حقه -وما أكثرهم - سوف يردعه عن كثير من ظلمه؛ فإن الظالم لو رأى أنه غصب حق زيد ثم عمرو ثم بكر و... ولم يقم أحد بشيء تجرأ على الغصب أكثر فأكثر، أما لو ضايقه بالمطالبة زيدٌ وعمروٌ وبكر... فإنه سوف لا يقدم - عادة - على مراتب جديدة من الظلم، أو سيكون إقدامه أضعف كيفياً وأقل كمياً مما لو ترك على هواه.

فورية المطالبة بالحق

مسألة: يستحب المطالبة بالحق فوراً - وقد يجب - كما يستفاد ذلك من (وبلغها) و(لاثت خمارها)، وإنما يلزم التعجيل؛ لأن ترك الظالم وظلمه بحاله لحظة واحدة حرام، فإذا تمكن الإنسان من مطالبة الحق والانتصار له وجب فوراً ففوراً، فإن خير البر عاجله، قال تعالى: «وَسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ»(1).

ص: 78


1- سورة آل عمران: 133.

لاثت

اشارة

-------------------------------------------

وجوب الستر على المرأة

وجوب الستر على المرأة(1)

مسألة: يجب على المرأة أن تستر رأسها وجسمها، ولذلك (لاثت)(2) (علیها السلام) خمارها(3)واشتملت بجلبابها؛ فإن أعمالها ومواقفها (صلوات الله عليها) كلها معلولة لأوامر الله سبحانه ونواهيه - بالمعنى الأعم - كما ثبت ذلك بقائم البرهان.

والفعل - في أشباه المقام - دليل الرجحان، وخصوص المنع من النقيض يستفاد من القرائن والأدلة العامة.

حرمة إظهار الزينة

مسألة: يحرم على المرأة أن تظهر زينتها للأجانب من الرجال، وإنما أفردنا هذه المسألة باعتبار إمكان الحجاب وإظهار الزينة(4) لعدم التلازم بين الأمرين،

ص: 79


1- حول هذا المبحث والبحوث اللاحقة عن الحجاب والمرأة راجع: (الفقه: النكاح)، و(الفقه: الصلاة ج18 ص63)، و(الحجاب الدرع الواقي) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- اللوث: الطي، ولاث الشيء لوثاً: أداره مرتين، كما تدار العمامة والإزار - لسان العرب: ج2 ص185 مادة لوث -.
3- الخمار: ما تغطي به المرأة رأسها - لسان العرب: ج4 ص257 مادة خمر -. «وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ» - سورة النور: 31 - أي مقانعهن، جمع خمار وهي المقنعة - مجمع البحرين: ج3 ص292 مادة خمر -.
4- كما لو كانت ملابسها - التي بها تتحجب - جذابة زاهية، وكما لو زوقت وجهها بالاكتحال وغيره من المكياج - بناء على عدم وجوب ستر الوجه - فهي حينئذ محجبة قد أظهرت الزينة.

..............................

وقد قال سبحانه: «وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ»(1).

والمراد ب: «وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ»(2) إما مواضع الزينة كالمعصم والساق وغيرها، أو الزينة وهي على تلك المواضع، والمآل واحد، وربما يُعمّم للملابس الزاهية التي تعدّ زينة عرفاً وشبهها(3).والظاهر أن المنصرف من الزينة في قوله سبحانه: «وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ»(4) غير الشعر، فإن الشعر وإن كان زينة ويحرم إظهاره على المرأة، لكن المنصرف من الآية المباركة الزينة المتعارفة كالذهب ونحوه، فتأمل.

نعم، لا بأس بالقول بأن ملاك الآية المباركة موجود في الشعر أيضاً، ومن الواضح أن لوث الخمار يوجب التحفظ الأكثر.

ص: 80


1- سورة النور: 31.
2- سورة النور: 31.
3- وفي تفسير (تقريب القرآن إلى الأذهان) للإمام المؤلف (قدس سره): ج18 ص96: «وَلاَ يُبْدِينَ» أي لا يظهرن عن عمد «زِينَتَهُنَّ» المراد أما مواضع الزينة كالمعصم والأذن والرقبة والرجل، أو الزينة نفسها، وإذا صار اللفظ محتملاً وجب الاجتناب عن الأمرين تحصيلاً للبراءة عما علم إجمالاً تحريمه «إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا» أي من الزينة، والذي أراه ظاهراً من الآية أنه استثناء من الإبداء، يعني أن ما ظهر بغير اختيارهن ليس عليه بأس كما إذا هبت الريح فرفع العباءة وأبدت الزينة.
4- سورة النور: 31.

خمارها على رأسها واشتملت بجلبابها،

اشارة

-------------------------------------------

استحباب التخمر للمرأة

مسألة: ينبغي التخمّر وشبهه للمرأة(1) إذا أرادت الخروج من المنزل وإن لبست عباءتها، تأسياً(2)، ولأنه أستر كما لا يخفى، وربما هبت الريح فانكشف الستر، بينما الخمار يكون أوثق في الستر وعدم الكشف.

قال سبحانه: «وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ»(3).

وهذه الآية المباركة وإن لم تدل على مثل هذا الاستحباب(4) لكنها تدل على تعارف الخمار للنساء في زمن رسول الله (صلی الله علیه و آله) بل وقبله أيضاً، وعن أبي جعفر (علیه السلام): «استقبلشاب من الأنصار امرأة بالمدينة وكان النساء يتقنعن خلف آذانهن... »(5).

ص: 81


1- إضافة إلى أصل الحجاب الواجب، بل قد ورد استحباب التخمر بالنسبة إلى المرأة الميتة عند تكفينها، ففي دعائم الإسلام: ج1 ص232 ذكر الحنوط والكفن، عن جعفر بن محمد (علیه السلام)، أنه قال: «... وتخمر المرأة بخمار على رأسها».
2- أي بالصديقة الطاهرة (علیها السلام).
3- سورة النور: 31.
4- لأن المصب ستر الجيب.
5- وسائل الشيعة: ج20 ص192 ب104 ح25398. وفي تفسير (تقريب القرآن إلى الأذهان): ج18 ص96، عنه (علیه السلام): «استقبل شاب من الأنصار امرأة بالمدينة، وكانت النساء يتقنعن خلف آذانهن، فنظر إليها وهي مقبلة، فلما جازت نظر إليها ودخل في زقاق قد سماه لبني فلان، فجعل ينظر خلفها واعترض فشق وجهه عظم في الحائط أو زجاجة، فشق وجهه، فلما مضت المرأة نظر فإذا الدماء تسيل على ثوبه وصدره، فقال: والله لآتين رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولأخبرنه - قال - فأتاه، فلما رآه رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال له: ما هذا؟. فأخبره، فهبط جبرائيل بهذه الآية: «وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ» ».

..............................

شد الخمار على الرأس

مسألة: يرجّح شدّ المرأة الخمار على رأسها دون إطلاقه مسترسلاً، استظهاراً من كلمة: (لاثت) وذلك فيما لو كانت الثياب - مثلاً - ساترة للصدر والعنق..

وهو من مصاديق الإتقان، قال (علیه السلام): «رحم الله امرأً عمل عملاً فأتقنه»(1) وغيره.ويجب فيما إذا كان إطلاقه مسترسلاً سبباً لكشف العنق أو جانباً من الصدر، قال تعالى: «وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ»(2).

امتلاك الخمار

مسألة: ينبغي أن يكون للمرأة خمار أو شبهه في منزلها، وهذا ما قد يستظهر من الضمير في (خمارها) بضميمة أدلة التأسي، إضافة إلى أنه أدعى للتقيد بالستر.

ص: 82


1- راجع الكافي: ج3 ص263 باب النوادر ح45، وفيه: «إذا عمل أحدكم عملاً فليتقن».
2- سورة النور: 31.

..............................

التخمر في المنزل

مسألة: ينبغي لبس الخمار في المنزل ثم الخروج منه فإنه أكثر ستراً للرأس، وإن أمكن لها أن تلوث خمارها في خارج المنزل في مكان لا رجال فيه أو بحيث لا يرونها.

والظاهر أنه لا فرق بين أن تلوث المرأة خمارها بنفسها، أو أن يفعل ذلك بعض محارمها أو بعض نسائها.

لكن استحباب أن يقوم الإنسان بنفسه بكافة أعماله دون إرجاعها للغير في صورة الإمكان، حسب المستفاد من الروايات(1) يفيد الأول.

ص: 83


1- مثلاً: قوله (صلی الله علیه و آله): «ملعون من ألقى كله على الناس» - الكافي: ج5 ص72 باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة ح7 -. والروايات التي تفيد أن من أسباب الدخول للجنة عدم الاتكال في الحاجات على الناس، وهناك روايات عديدة تدل على أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان يقوم بأعماله بنفسه، وكذلك الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وفاطمة الزهراء (علیها السلام) كخصف النعل وقمّ البيت والكنس وحلب العنز وغير ذلك. ففي الحديث: «إنه (صلی الله علیه و آله) كان يعلف الناضج، ويعقل البعير، ويقمّ البيت، ويحلب الشاة، ويخصف النعل، ويرقّع الثوب، ويأكل مع خادمه، ويطحن عنه إذا أعيى، ويشتري من السوق، ولا يمنعه الحياء أن يعلّقه بيده، أو يجعله في طرف ثوبه فينقلب إلى أهله... » - المناقب: ج1 ص145-146 فصل في آدابه ومزاحه (صلی الله علیه و آله) -. كما ورد عنه (صلی الله علیه و آله): «خمس لا أدعهن حتى الممات: ...وحلب العنز بيدي ... » - الخصال: ج1 ص271 قول النبي (صلی الله علیه و آله) خمس لا أدعهن حتى الممات ح12 -.

..............................

لوث الخمار تحت الجلباب

مسألة: ربما يستفاد من التعبير عن فعلها (علیها السلام) ب «لاثت خمارها واشتملت بجلبابها»، أفضلية لوث الخمار تحت الجلباب كما هو المتعارف، لا فوقه وإن أمكن؛ إذ ذلك هو الأوثق في الستر.

وذلك نظراً لتعقب (لاثت) ب (اشتملت) والواو يدل على الترتيب في كثير من المواضع، وقد ذكر الفقيه الهمداني (قدس سره)(1) في قولهسبحانه وتعالى:

«فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ»(2): إن (الواو) دال عرفاً على الترتيب، وهذا غير بعيد، وإن قال الأدباء: بأن الواو

ص: 84


1- الشيخ آقا رضا بن الشيخ محمد الهادي الهمداني النجفي، ولد في همدان سنة 1250ه وقرأ مقدماته فيها ثم هاجر إلى النجف الأشرف وهو شاب وأقام فيها حتى نال مرتبة عالية من العلم وأصبح من المدرسين في عصره. درس أول أمره على الشيخ الأعظم الأنصاري(رحمة الله) في النجف، وعلى الميرزا المجدد السيد محمد حسن الشيرازي (رحمة الله) في النجف وسامراء وكان من خيرة تلاميذه. ترك كتباً عدة أهمها: كتاب (مصباح الفقيه) وهو شرح لكتاب شرائع الإسلام في عدة أجزاء، حاشية على رسائل الشيخ الأنصاري (رحمة الله)، حاشية على المكاسب لم تتم، رسالة في اللباس المشكوك، حاشية على (الرياض) غير كاملة، كتاب البيع مما حضره على الميرزا الشيرازي (رحمة الله)، كتابة دروسه على الميرزا أيضاً، أجوبة مسائل مختلفة، الرسالة العملية. مرض (رحمة الله) آخر أيامه بمرض الصدر وأقام في سامراء لطيب هوائها، ثم توفي فيها يوم الأحد 28 صفر سنة 1322ه، ودفن في رواق الإمامين العسكريين (علیهما السلام) وقبره مقابل قبر الطاهرة النقية التقية حكيمة خاتون (علیها السلام).
2- سورة المائدة: 6.

..............................

للجمع مطلقاً، حتى قال ابن مالك(1):

واعطف بواو سابقاً أو لاحقاً *** في الحكم أو مصاحباً موافقاً

فإنه وإن صح ذلك وضعاً إلاّ أن الانصراف(2) يفيد الترتيب.

وربما يقال: بأن استفادة الترتيب في تلك الأماكن نتيجة القرائن المقامية، ولكن لا يبعد أن تكون الواو لو خليت وطبعها أفادته، فتأمل.

تغطية كل الجسد

تغطية كل الجسد(3)

مسألة: يستحب أن يكون الحجاب الظاهري للمرأة مغطياً جميع بدنها، كما قد يدل عليه: (اشتملت) بل و(الجلباب) أيضاً، فلا تكتفي المرأة بالخمار عن تغطية الرأس ثانية بالعباءة ونحوها. والجلباب: هو الثوب الطويل الواسع الساتر لحجم البدن، ومن مصاديقه العباءة المتداولة في الحال الحاضر.

ص: 85


1- أبو عبد الله محمد بن عبد الله المشهور بابن مالك، نحوي ولد في جبّان من بلاد الأندلس عام 599ه. سمع من الشلويني، ثم ورد المشرق حاجاً ثم استوطن الشام، فسمع من السخاوي، وبحلب من ابن يعيش الحلبي، ثم تصدر لإقراء العربية في حلب مدة، فدمشق التي توطنها، كان يستشهد بالقرآن فإن لم يجد فأشعار العرب التي كان في استذكارها نسيج وحده. وضع أرجوزة في النحو في ثلاثة آلاف بيت تقريباً دعاها (الكافية الشافية) ولكن شهرته تقوم على مختصر هذه الأرجوزة المعروفة ب (ألفية ابن مالك) لاشتماله على ألف بيت، وله أيضاً (لامية الأفعال) و(شواهد التوضيح)، تعلم عليه ولده بدر الدين محمد المتوفى عام 686ه، وقام بتصنيف (شرح الألفية) و(شرح لامية الأفعال)، كما أن ابن عقيل أيضاً قام بشرح الألفية وكذلك السيوطي وغيرهم، توفي ابن مالك في دمشق في الثاني عشر من شعبان عام 672ه.
2- أي الانصراف العرفي.
3- راجع كتاب (الحجاب الدرع الواقي) للإمام المؤلف (قدس سره).

..............................

ويستظهر من الاقتصار على «... واشتملت بجلبابها» أن معنى الجلباب هو ما ذكر من الثوب الواسع المغطي لكل البدن، فلا يظهر من المرأة شيء من جسدها أو من حجمها.

لا ما قاله البعض: من أنه الخمار(1)، أو البعض: من أنه ثوب أوسع من الخمار دون الرداء تغطي به المرأة رأسها وصدرها أو شبه ذلك(2).وقد يكون ذلك واجباً، فإن الثوب الملاصق الضيق بحيث يظهر تقاطيع الجسد محرم، خاصة ما أظهر بعض الأعضاء.

وإنما نقول بحرمته؛ لأنه من المنكر عند المتشرعة، فالارتكاز والذهنية الدينية التي تلقوها خلفاً عن سلف تدل على تلقيهم ذلك من الشارع ومنعه عن مثله(3).

ص: 86


1- ويرد على هذا القول إضافة للاقتصار كونه مستلزماً للتكرار.
2- راجع لمعرفة الأقوال (لسان العرب): ج1 ص272 مادة (جلب)، ومنها: وقيل: هو الملحفة.
3- فتأمل.

وأقبلت

اشارة

-------------------------------------------

خروج المرأة من البيت

مسألة: يجوز - بالمعنى الأعم - خروج المرأة من البيت، سواء كانت متزوجة أم غير متزوجة في الجملة.

نعم، الفرق بين المتزوجة وغير المتزوجة أن المتزوجة تستأذن زوجها في الخروج في غير الواجب منه، وغير المتزوجة تملك نفسها، فإنه (صلی الله علیه و آله): «نهى أن تخرج المرأة من بيتها بغير إذن زوجها»(1).

وخروجها (علیها السلام) حيث (أقبلت) كان من مصاديق الخروج الواجب لكونه مقدمة الواجب كما أشرنا إليه.

ص: 87


1- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص6 باب ذكر جمل من مناهي النبي (صلی الله علیه و آله) ح4968.

في لمة

اشارة

-------------------------------------------

خروج المرأة مع غيرها

مسألة: ينبغي أن تخرج المرأة مع غيرها لا بمفردها - في الجملة - فإنه أكثر ستراً وحفظاً وصوناً لها من المخاطر.

وكذلك إذا كان الخروج لأمر خطير، أو كانت هي من الشخصيات الاجتماعية، حيث ورد في الرواية: «في لمة».

وقد يستظهر أنها (عليها الصلاة والسلام) كانت تتوسط جمع النساء لمكان (في).

ثم إن هذا أقرب إلى الوقار المطلوب في مثل هذا المقام؛ لأن الوقار في مثله يملأ عيون الخصوم وأذهانهم بهالة من القوة، ولأن الجماعة توجب الهيبة أو زيادتها، وسرعة قضاء الحاجة وتحقيق الهدف إن أمكن ذلك، وستكون أتم للحجة وأقطع للعذر وأوقع في النفس وأقوى في تسجيل الموقف.

الخروج منفرداً أو مع جماعة

مسألة: ينقسم خروج كبير القوم -كالحاكم والأمير والعالم والقاضي - منفرداً أو مع مجموعة من الناس، إلى الأحكام الخمسة:

1. فقد يجب، إذا توقف إحقاق الحق عليه في كلا الفرضين(1)، وقد

ص: 88


1- إذ قد يتوقف قبول الخصم للحق عل ذهاب القاضي أو العالم إليه منفرداً ونصحه،حيث إن الغرور أو الخوف من الشماتة وشبه ذلك كثيراً ما يدفع المرء لرفض الحق فيما إذا جوبه به أمام الناس، وقد يتوقف إحقاق الحق على ذهابه مع جمع فيما لو كان ممن لا تنفع معه إلا الرهبة والهيبة والضغط الاجتماعي مثلاً.

..............................

خرجت (علیها السلام) في «لمة من حفدتها ونساء قومها» إذ كان ذلك أدعى للهيبة وأقوى في التأثير.

2. وقد يستحب، إذا لم يكن الرجحان بحيث يمنع من النقيض، وبذلك وشبهه يعلّل خروج الرسول (صلی الله علیه و آله) والإمام علي (علیه السلام) وسائر المعصومين (علیهم السلام) أحياناً منفردين، وأحياناً مع جمع من الأصحاب أو الناس.

3. وقد يكره، إذا كان الخروج مع جمع سبباً لإثارة الكبر والعجب والخيلاءفي النفس بما لا يصل إلى حد الحرام، أو إذا كان الخروج منفرداً سبباً لاستصغار شأن العالم الديني مثلاً في بعض المناطق كذلك.

4. وقد يحرم، كما في عكس الصورة الأولى، وكما في خروج الحكام والطغاة مع جمع مما يسبب إرهاب الناس وأرباب الحوائج وذوي الحقوق فلا يعود بمقدورهم المطالبة والأخذ بحقهم.

5. والمباح: ما عدا ذلك.

ص: 89

من حفدتها ونساء قومها،

اشارة

-------------------------------------------

الخروج مع المعارف

مسألة: ينبغي أن يخرج الإنسان بصورة عامة - والمرأة بصورة خاصة - في أسفاره وكذلك في مهامه الخطيرة وشبه ذلك مع من يعرفه دون من لا يعرفه، كما يستفاد من خروجها (علیها السلام) مع «حفدتها ونساء قومها».

والفعل وإن لم يكن له جهة إلاّ أن دلالته على جامع الرجحان في أمثال المقام غير بعيد، أسوةً وملاكاً ولما سبق.

إضافة إلى إطلاقات الروايات الشريفة التي تفيد ذلك، مثل قوله (صلی الله علیه و آله): «الرفيق ثم الطريق»(1).

وما يقاربه، كقوله (صلی الله علیه و آله):

«ألا أنبئكم بشر الناس؟.

قالوا: بلى يا رسول الله.قال: من سافر وحده... »(2) الحديث.

ص: 90


1- مستدرك الوسائل: ج8 ص209 ب24 ح9272.
2- وسائل الشيعة: ج11 ص409-410 ب30 ح15126.

تطأ ذيولها،

اشارة

-------------------------------------------

الحجاب والساتر

مسألة: يحرم أن تخرج المرأة مكشوفة الساقين، ويكره أو يحرم أن تكون مكشوفة القدمين، وقد خرجت (صلوات الله وسلامه عليها) وهي «تطأ ذيولها» وهذه كناية عن أن الستر كان طويلاً جداً، وهو المطابق للاحتياط.

عباءة المرأة

مسألة: يستحب أن تكون عباءة المرأة بحيث تجر على الأرض فإنه أستر لها، وهذا مما يستثنى مما ورد في كون الثوب قصيراً ليكون أنقى وأبقى، حيث يستحب ذلك في الرجل حيث قال (علیه السلام) عندما رأى رجلاً يجر ثوبه: «يا هذا، قصّر منه فإنه أتقى وأبقى وأنقى»(1).

الستر الفضفاض

مسألة: يستحب أن يكون الستر فضفاضاً؛ لأنه أبعد عن الإثارة وأدعى للستر.

شدة التستر

مسألة: يستحب شدة التستر كما يستفاد من «تطأ ذيولها»؛ فإنه كناية عن شدة التستر.

ص: 91


1- مستدرك الوسائل: ج3 ص261 ب17 ح3534.

ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (صلی الله علیه و آله)

اشارة

-------------------------------------------

التأسي بالرسول (صلی الله علیه و آله) في كل شيء

مسألة: يستحب التأسي برسول الله (صلی الله علیه و آله) في كل الأمور حتى في كيفية المشي، وقد يجب التأسي - في موارد الوجوب -.

ولذا قال علي (علیه السلام): «فتأسى متأس بنبيه، واقتص أثره، وولج مولجه، وإلاّ فلا يأمن الهلكة»(1).

أما قوله (علیه السلام): «فلا يأمن الهلكة» - حيث يستظهر منه أن ذلك بالنسبة إلى الواجبات وترك المحرمات - فلا يتنافى مع الاستحباب المطلق حيث يفهم في سائر أعماله بالملاك، بالإضافة إلى الإطلاقات مثل قوله سبحانه:«فَبِهُداهُمُ

اقْتَدِهْ»(2).

وقال علي (علیه السلام): «أحبّ العباد إلى الله تعالى المتأسي بنبيه (صلی الله علیه و آله)»(3).

والصديقة الطاهرة (علیها السلام) كانت تمشي كمشية رسول الله (صلی الله علیه و آله) فإن الولد سرّ أبيه(4).

وهل يدل ذلك على استحباب التكلف في الإقتداء بحركات العظماء من الصالحين؟.

ص: 92


1- نهج البلاغة، الخطب: 160 ومن خطبة له (علیه السلام).
2- سورة الأنعام: 90.
3- نهج البلاغة، الخطب: 160 ومن خطبة له (علیه السلام).
4- انظر كشف الغمة: ج2 ص65.

..............................

احتمالان:

الأول: نعم؛ لأنه من التشبه ولو جزئياً، وهو من أسباب تقوية مكانة العظيم في الناس، مما يسبب تجذر الخير فيهم وسوقهم نحوه أكثر فأكثر، وما إلى ذلك.

الثاني: العدم، بل الراوي يحكي أمراً طبيعياً من حركتها (علیها السلام).ولا ينافي عدم دلالة هذه الجملة ها هنا على ذلك، القول بالاستحباب استناداً إلى الأدلة الأخرى، كما سبق من إطلاقات أدلة التأسي، وكونه مقدمة لسوق الناس للخير، وغير ذلك.

المشي بسكينة ووقار

مسألة: يستحب المشي على وقار وسكينة، كما يدل على ذلك بعض الروايات(1) مثل ما ورد من قوله (علیه السلام): «سرعة المشي تذهب ببهاء المؤمن»(2)، وقال (علیه السلام): «المشي المستعجل يذهب ببهاء المؤمن ويطفئ نوره»(3)، إلاّ إذا كان في أمر يستحب الإسراع إليه، وهذا يكون من باب قانون الأهم والمهم.

ووطأ الذيل ينتج عن طوله مع سرعة المشي، أو في صورة انشغال الذهن، ولعل الثاني ها هنا أقرب وأظهر.

ص: 93


1- قد ورد في الروايات: «وتخرج بسكينة ووقار»، «ثم امض إليهم بسكينة ووقار»، «والخروج بسكينة ووقار»، «الخروج بسكينة خاشعاً»، «ومن دخل بسكينة» وما أشبه، راجع ألامان من أخطار الأسفار: ص104 ب7 ف4.
2- وسائل الشيعة: ج11 ص456 ب63 ح15251.
3- تحف العقول: ص371 وروي عنه (علیه السلام) في قصار هذه المعاني.

حتى دخلت

اشارة

-------------------------------------------

دخول المرأة للمسجد

مسألة: يجوز للمرأة دخول المسجد(1)؛ لقول الراوي: «حتى دخلت (علیها السلام) »، ولغيره.

ولا يخفى أنه ربما يتنظّر في القول بأفضلية صلاة المرأة في بيتها(2) لأنا نجد أن رسول الله وعلياً (عليهما الصلاة والسلام) ما كانا يأمران النساء بالبقاء في البيوت للصلاة، وإنما كانت النساء يحضرن المسجد للصلاة خلف الرسول (صلی الله علیه و آله) وللاستماع إلى الخطبة..

وقد عين (صلی الله علیه و آله) امرأة للصلاة جماعة بالنساء(3)..وكذلك بالنسبة إلى علي (عليه الصلاة والسلام) كما يفهم من جملة من الروايات الواردة في حالاتهما (صلوات الله عليهما).

ص: 94


1- الجواز هنا بالمعنى الأعم.
2- راجع (العروة الوثقى) لليزدي: ج2 ص409 بعض أحكام المسجد،وفيه: (مسألة 2: صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد). ولكن في موسوعة الفقه: ج19 ص297 فصل في بعض أحكام المسجد، وفيه: (المسألة الثانية: قد تقدم أن صلاة المرأة في بيتها ليست أفضل من صلاتها في المسجد وإن ذكر جماعة ذلك، بل صلاتها في المسجد مثل صلاة الرجل في الفضل).
3- راجع تذكرة الفقهاء: ج4 ص236-237 استحباب الجماعة للنساء، وفيه: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد أمر أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث بن نوفل أن تؤم أهل دارها وجعل لها مؤذناً».

..............................

وما ورد من أن «خير مساجد نسائكم البيوت»(1) مع قطع النظر عن كونها مرسلة، قد يحمل - جمعاً بينها وبين عمل الرسول (صلی الله علیه و آله) والإمام علي (علیه السلام) وما أشبه ذلك - على كونه قضية خاصة في زمن خاص أو ظرف خاص، أو فيمن يخاف عليهن الافتتان أو شبه ذلك مما يدخل في باب التزاحم.

طرح القضايا في المسجد

مسألة: يستحب طرح القضايا الهامة في المسجد، لما فيه من إعطاء المحورية للمسجد في حياة الناس؛ ولأنه أقرب إلى عناية الله تعالى ولطفه، ولأنه بما يحمل من روحانية وتذكير بالخالق المتعال أدعى لقبول الحق والبُعد عنالباطل.

وقد كان الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) يصلي في المسجد، ويخطب فيه، ويوجه الناس في شؤون السلم والحرب والأخلاق والسياسة وغيرها(2)..

كما كان المسجد مركزاً لحل مشاكل الناس في عهده (صلی الله علیه و آله) وعهد أمير المؤمنين (علیه السلام) .. وهكذا.

طرح القضايا أمام الناس

مسألة: يستحب طرح القضايا المهمة أمام الناس، وقد يجب في الجملة؛ فإنه إرشاد للجاهل أو تنبيه للغافل، وأمر بالمعروف أو نهي عن المنكر، وتعليم أو تزكية، على اختلاف الموارد.

ص: 95


1- تهذيب الأحكام: ج3 ص252-253 ب25 ح14.
2- راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم): ج1-2 للإمام المؤلف (قدس سره).

..............................

وعموماً فإن الناس إذا وُضعوا في مجرى الأحداث التي تواجه الأمة، فكرياً أو سياسياً أو اقتصاديا أو ما أشبه ذلك، فإن حصانتهم أمام الباطل واستعدادهم للإيثار والتضحية في سبيل الله سبحانه يكون أكثر فأكثر، كما هو مفصل في علم الاجتماع والنفسوالأخلاق(1).

وقد قامت (علیها السلام) بكلا الأمرين، حيث طرحت ظلامتها في المسجد، وأمام الناس.

ويحتمل أن يكون خصوص الطرح في المسجد بما هو مسجد على سبيل الاستحباب، كما يحتمل أن يكون على سبيل الجواز.

والحاصل أن الجواز بالمعنى الأعم يستفاد من هذا الحديث، وإن كان الجواز بالمعنى الأخص إباحةً أو استحباباً أو وجوباً حسب الموازين العامة.

القضاء في المسجد

مسألة: يجوز الترافع والقضاء في المسجد، كما يفهم ذلك أيضاً من فعل الرسول (صلی الله علیه و آله) وفعل علي (عليه الصلاة والسلام)(2)، وللفقهاء في هذا مبحث مذكور في كتاب القضاء في الفقه(3).

ص: 96


1- راجع (الفقه: الاجتماع)، و(الفقه: الدولة الإسلامية)، و(الفقه: علم النفس)، و(الفضيلة الإسلامية) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- راجع بحار الأنوار: ج14 ص11 ب1 ح20، والبحار: ج59 ص167 ب61 ح2.
3- راجع موسوعة الفقه: ج84 ص120-122 (كتاب القضاء) للإمام المؤلف(قدس سره)، وفيه: (الظاهر عدم كراهة القضاء في المسجد، بل ما أجمل أن ينفذ حكم الله في بيت الله، وقد كان الرسول (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) يقضيان في المسجد - بحار الأنوار: ج14 ص11 ب1 ح20، .............................. والبحار: ج59 ص167 ب61 ح2 - وبيت الطشت ودكة القضاء في مسجد الكوفة مشهوران إلى اليوم، وتقدم قول علي (علیه السلام) لشريح أن يجلس في المسجد. وعن (الدعائم)، عن علي (علیه السلام)، قال: «دخلت المسجد فإذا برجلين من الأنصار يريدان أن يختصما إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله). فقال أحدهما لصاحبه: هلم نختصم إلى علي (علیه السلام) فجزعت من قوله. فنظر إليَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: انطلق واقض بينهما. قلت: وكيف اقضي بحضرتك يا رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟. قال: نعم فافعل. فانطلقت فقضيت بينهما، فما رفع إليَّ قضاء بعد ذلك اليوم إلاّ وضح لي» - مستدرك الوسائل: ج3 ص197 الباب11 آداب القاضي ح4 -. وكيف كان ففي المسألة أقوال: الأول: إنه مكروه مطلقاً، ذكره غير واحد، بل في (المستند) نقل عن (المعتمد) أن الأكثر قالوا بالكراهة، واختاره هو لمرسلة ابن أسباط: «جنبوا مساجدكم الشراء والبيع والمجانين والصبيان والأحكام والضالة والحدود ورفع الصوت» - وسائل الشيعة: ج3 ص507 ب27 من أحكام المساجد ح11 -. ومرسلة (الفقيه): «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم وشرائكم وبيعكم والضالة والحدود والأحكام) - وسائل الشيعة: ج3 ص508 أبواب أحكام المساجد ب27 ح4 -. وفي (الجواهر): استدل لذلك بالنبوي: «جنبوا المساجد صبيانكم ومجانينكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم»، قال: والحكومة تستلزم غالباً ذلك بل قد تحتاج إلى إحضار الصبيان والمجانين، بل قد تستلزم إدخال الحيض والمشركين ومن لا يتوقى النجاسة. الثاني: الاستحباب كما عن ظاهر (المقنعة) و(النهاية) و(المراسم) و(السرائر) للأسوة وبعض الروايات المتقدمة. الثالث: الجواز نظراً إلى تصادم الدليلين من غير مرجح فلا كراهة ولا استحباب، ونقل عن الشيخ (رحمة الله) في ظاهر خلافه ومبسوطه، وقال (المستند) في نقل هذا القول قيل بالإباحة. الرابع: التفصيل بين جعله محلاً للقضاء دائماً فالكراهة، دون غيره فلا كراهة فيه، اختاره (الشرائع) والعلامة، وذلك للجمع بين دليلي المنع والاستحباب.. لكن يرد على الكراهة أن النبي (صلی الله علیه و آله) والإمام (علیه السلام) لا يفعلان مستمراً المكروه، خصوصاً وهما أسوة والناس مأمورون باتباعهما، والتفصيل ينافي ظهور استمرارية فعل علي (علیه السلام)، فالأمر إما جائز للتصادم وإن كان بعيداً إذ كلا الدليلين آب عن ذلك، وإما مستحب والثاني أقرب صناعة، والأول شهرة. أما دخول الصبيان والمجانين والحيض والمشركين فاللازم التجنب استحباباً أو لزوماً، فليس هذا إشكالاً على أحد القولين وإلا يستشكل بالحيض والمشركين على القول بالكراهة أيضاً. أما من استدل على عدم الكراهة بفورية القضاء المستلزمة للقضاء في المسجد، ففيه أن الفورية عرفية هذا، كما أن من استدل للكراهة برواية جعفر بن إبراهيم: «إنما نصبت المساجد للقرآن» يرد عليه أن الحصر إضافي كما لا يخفى، وإشكال (المستند) على دكة القضاء بمنع ثبوتها أولاً وكونها دكة قضاء علي (علیه السلام) ثانياً، وكونها من المسجد في الصدر الأول ثالثاً، لا يخفى ما فيه لمن راجع التاريخ ولما ذكرناه، قال في (الجواهر): قد يقال إن القضاء من حيث كونه قضاءً لا كراهة فيه بل لا يبعد رجحانه. نعم، قد يقترن بما يرجح تركه في المسجد، أو يرجح فعله، وهو خارج عن محل البحث، وربما كان ذلك أولى بالجمع من غيره. انتهى.

ص: 97

..............................

ومن الواضح أن الترافع في المسجد ليس مخالفاً لمقتضى الوقف شرعاً، كما أن من البين أنه يجب أن لا يكون بحيث يعد هتكاً للمسجد عرفاً(1).

الاستفادة من مراكز الإعلام

مسألة: يجوز - بالمعنى الأعم الشامل للوجوب - الاستفادة من وسائل الإعلام ومراكز التجمع، للمطالبة بالحق وفضح الظالم وإرشاد الناس وبيان

..............................

ومن الواضح أن الترافع في المسجد ليس مخالفاً لمقتضى الوقف شرعاً، كما أن من البين أنه يجب أن لا يكون بحيث يعد هتكاً للمسجد عرفاً(2).

الاستفادة من مراكز الإعلام

مسألة: يجوز - بالمعنى الأعم الشامل للوجوب - الاستفادة من وسائل الإعلام ومراكز التجمع، للمطالبة بالحق وفضح الظالم وإرشاد الناس وبيان

..............................

ومن الواضح أن الترافع في المسجد ليس مخالفاً لمقتضى الوقف شرعاً، كما أن من البين أنه يجب أن لا يكون بحيث يعد هتكاً للمسجد عرفاً(3).

الاستفادة من مراكز الإعلام

مسألة: يجوز - بالمعنى الأعم الشامل للوجوب - الاستفادة من وسائل الإعلام ومراكز التجمع، للمطالبة بالحق وفضح الظالم وإرشاد الناس وبيانالحقيقة، كما استفادت فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) من المسجد، حيث كان المسجد أهم مركز للإعلام آنذاك، باعتباره مركزاً لتجمع مختلف الشخصيات

ص: 98


1- كأن يسبب ضوضاء غير متعارفة وشبه ذلك.
2- كأن يسبب ضوضاء غير متعارفة وشبه ذلك.
3- كأن يسبب ضوضاء غير متعارفة وشبه ذلك.

..............................

والتيارات الاجتماعية والمركز الرئيسي للرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) ولقيادة الأمة وغير ذلك.

دخول المرأة في مجمع الرجال

مسألة: يجوز للمرأة أن تدخل في مكان قد اجتمع فيه الرجال أو مع النساء، مع الحفاظ على الحجاب وسائر الشرائط.

إذ الأصل الإباحة، ولا دليل على الحرمة، بل كان هذا في زمن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مسجده وفي أسفاره وفي الحج..

كما أنه كان في أيام الفقهاء الكبار في مشاهد المعصومين (عليهم الصلاة والسلام)..

وكذلك في القدس الشريف.. وغير ذلك.

أما المحرّم منه فهو الاختلاط بلا حجاب أو ما أشبه ذلك مما أتى به الغرب إلى بلاد الإسلام واستقبله بعض منلا حريجة له في الدين.

ص: 99

على أبي بكر

اشارة

-------------------------------------------

الضغط مباشرة

مسألة: يرجح توجيه الضغط على الغاصب أو الظالم نفسه، أو الرجوع إليه رأساً لدى المطالبة بالحقوق وبالحق، إلاّ إذا كانت الفائدة في غير ذلك.

قال تعالى: «اذْهَبَا إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى»(1)..

ولذا بادرت فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) للذهاب إلى المسجد ومواجهة أبي بكر بنفسه.

ومن ذلك أيضاً كانت كتابات المعصومين (علیهم السلام) إلى الطغاة مباشرة، وقد كتب الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى معاوية:

«غرك عزك، فصار قصار، ذلك ذلّك، فاخش فاحش فعلك، فعلّك تهدى بهذا»(2).

وذلك إتماماً للحجة وفضحاً للظالم، كي لا يدعي عدم العلم ويلقي اللوم علىالآخرين - كما هي سيرة الظالمين خاصة في فترات الضعف والسقوط - وتحطيماً لشوكته وهيبته المصطنعة أمام الناس، ولغير ذلك(3).

ص: 100


1- سورة طه: 43.
2- المناقب: ج2 ص48 فصل في المسابقة بالعلم.
3- راجع حول هذه المباحث: (الفقه: طريق النجاة)، و(الفقه: الاجتماع)، و(الفقه: السياسة)، و(ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين)، و(الصياغة الجديدة) للإمام المؤلف (قدس سره).

وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم،

اشارة

-------------------------------------------

الفضح على رؤوس الأشهاد

مسألة: يستحب وقد يجب - إذا توقف الردع وشبهه عليه - فضح الظالمين على رؤوس الأشهاد، فإنه نوع من الضغط والتنفير الاجتماعي.

وملاكه يشمل الرجال أيضاً.

ولا فرق في ذلك بين المنبر والمحراب والكتاب والإذاعة والتلفزيون وغيرها من وسائل الإعلام.

ولو تحول هذا إلى منهج عام عند الناس، بأن التزم الكل بل حتى الأكثر، بل حتى جمع كثير من الناس، بفضح الظالم والتصدي لظلمه على رؤوس الأشهاد لما قامت للظالمين قائمة.

إتمام الحجة على الناس

مسألة: يستحب إتمام الحجة على الناس وقد يجب؛ لأنه حينئذ يجعل من الحشد شهوداً على كلام الطرفين، وذلك أبلغ في إقامة الدليل والانتصار للحق، قال سبحانه: «لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِحُجَّةٌ»(1).

ص: 101


1- سورة النساء: 165.

..............................

المطالبة بالحق بمحضر الغير

مسألة: يجوز - بالمعنى الأعم - المطالبة بالحق وكشف القناع عن ظلم الظالم، حتى عند من لا يتأتى منه أي عمل أو لا يعمل. ويشمله إطلاق قوله تعالى: «لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ»(1).

ومما يوضح الشمول: ما ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام) في بيان أحد مصاديق الآية الشريفة: «من أضاف قوماً فأساء ضيافتهم فهو ممن ظلم فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه»(2).

وربما يعد من مصاديق ذلك مطالبتها (صلوات الله عليها) بحقها وحق الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) في المسجد في حضور المهاجرين والأنصار وغيرهم، حيث لم يكن لكل الأفراد - لا بشرط الاجتماع - القيام بالمطلوب، والمراد نفي(الكلية) لا النفي الكلي، فتأمل.

الجهر بالحق لشتى الطبقات

مسألة: ينبغي بيان الحقيقة لمختلف طبقات الناس وأصنافهم، لا مجموعة خاصة منهم وإن كثرت أفرادها، نظراً لأن ذلك أكثر ضماناً لصدق الحديث عن التحريف والتواطي عليه أو النسيان أو التشكيك فيه.

وبذلك - وبجهات أخرى - تظهر الحكمة في إلقائها (علیها السلام) الخطبة في مجمع من المهاجرين والأنصار وغيرهم.

ص: 102


1- سورة النساء: 148.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص289 ب154 ح16329.

فنيطت دونها ملاءة،

اشارة

-------------------------------------------

الساتر بين الرجال والنساء

مسألة: قد يقال باستحباب وضع ساتر بين الرجال والنساء عند خطاب المرأة، إضافة لتحجب كل واحدة منهن.

وربما يستفاد ذلك من قوله تعالى: «وَإذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ»(1).

وإن كان الانصراف(2) يقتضي الحجاب أو الساتر بالمعنى الأخص لا الساتر إضافة للحجاب المتعارف.

ومنه يعلم استحباب ذلك في كل مكان اجتمع فيه النساء والرجال، كما في المسجد للصلاة، وفي قاعة الدرس، وفي الحسينيات، وغير ذلك، ولذا ورد في هذا الحديث: «فنيطت دونها ملاءة».

لكن ربما يقال:

بأنه لا يظهر أن ذلك كان على نحو الاستحباب إذ الفعل لا جهة له، بل ربما كان ذلك من الآداب، ولذا لم يكنفي مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ستر بين الرجال والنساء، وكذلك في المسجد الحرام لم يجعل ستر بين الرجال والنساء، بأن يقرر مثلاً على الرجال أن يطوفوا بجوار الكعبة وعلى النساء الطواف من بعيد

ص: 103


1- سورة الأحزاب: 53.
2- أي في الآية المباركة.

..............................

وبينهما ستر، أو بأن يقرر وقت للرجال وآخر للنساء، إلى غير ذلك مما هو واضح.

وربما يقال: بأنه يدل على الاستحباب بالنسبة إلى الشخصيات من النساء، ولذا ورد ذلك بالنسبة إلى عمل نساء النبي (صلی الله علیه و آله) بعد نزول آية الحجاب(1).

أما الاستحباب مطلقاً فالظاهرالعدم، للسيرة المستمرة في مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) في عصره الشريف وغيره بالنسبة إلى النساء، وكذلك بالنسبة إلى المسجد الحرام، وغير ذلك كما سبق.

ص: 104


1- وفي بحار الأنوار: ج22 ص185 ب2 في تفسير قوله تعالى: «وَإذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ» يعني فإذا سألتم أزواج النبي (صلی الله علیه و آله) شيئاً تحتاجون إليه فاسألوهن من وراء ستر. قال مقاتل: أمر الله المؤمنين أن لا يكلموا نساء النبي (صلی الله علیه و آله) إلا من وراء حجاب. «ذَلِكُمْ» أي السؤال من وراء حجاب «أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ» من الريبة ومن خواطر الشيطان «وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ» بمخالفة ما أمر به في نسائه ولا في شيء من الأشياء، انتهى.

فجلست، ثم أنّت أنّةً،

اشارة

-------------------------------------------

الجلوس في المسجد

مسألة: قد يعدّ من الآداب عند التواجد في المسجد الجلوس فيه، فهو أقرب للوقار ولرعاية حرمة المسجد ولو في الجملة.

كما يجوز القيام أو الاستلقاء فيه فيما إذا لم يكن هتكاً أو مزاحماً لما هو من شؤون المسجد، وإلاّ كان مكروهاً أو محرماً - حسب اختلاف الموارد - كما أن النوم في المسجد مكروه على المشهور، وقد ورد في هذا الحديث: أنها (صلوات الله عليها) جلست(1).

إسماع الصوت للرجال

مسألة: يجوز للمرأة أن تُسمع الرجل صوتها إذا حفظت الموازين الشرعية، بأن لم يكن هناك خوف فتنة، أو من الخضوع في القول مثلاً، قال سبحانه: « فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِمَرَضٌ»(2).

وقد كانت النساء يتكلمن مع الرسول (صلی الله علیه و آله) ومع أمير المؤمنين (علیه السلام) ومع الأئمة الطاهرين (علیهم السلام) ومع علماء الدين إلى عصرنا الحاضر، وعلى ذلك جرت سيرة المتشرعة عموماً، لكن يجب مراعاة الموازين الشرعية.

ص: 105


1- حول أحكام المسجد وآدابه راجع موسوعة الفقه: ج19 ص 118-298 كتاب الصلاة، وموسوعة الفقه: كتاب الآداب والسنن.
2- سورة الأحزاب: 32.

..............................

وما ذكر يدل على جواز ذلك، فإن المحظور هو الخضوع بالقول وما أشبه، فيجوز للنساء إلقاء الخطب وقراءة التعزية في المجالس النسوية وإن وصل صوتها إلى أسماع الرجال، كما يجوز تسجيل صوت قراءتها(1) مع مراعاة الجهات الشرعية(2).

سماع صوت المرأة

مسألة: يجوز للرجال أن يسمعوا صوت النساء مع مراعاة الموازين الشرعية، لأصالة الحل والإطلاقات والسيرةالمتصلة.

والفرق بين المسألتين(3) واضح.

البكاء على الميت

مسألة: يستحب الأنين والبكاء على الميت، كما بكت (علیها السلام) على أبيها (صلی الله علیه و آله)، وقد يكون بكاؤها (علیها السلام) وأنينها لفقد أبيها (صلی الله علیه و آله) ولغصب حق خليفته أمير المؤمنين علي (علیه السلام) ولما جرى عليها من مختلف أنواع الظلم.

وفي العروة الوثقى: (يجوز البكاء على الميت ولو كان مع الصوت، بل قد يكون راجحاً كما إذا كان مسكناً للحزن وحرقة القلب، بشرط أن لا يكون منافياً للرضا بقضاء الله، ولا فرق بين الرحم وغيره، بل قد مر استحباب البكاء على

ص: 106


1- وبيع أو توزيع تلك الأشرطة مع ملاحظة الموازين الشرعية.
2- راجع موسوعة الفقه: كتاب النكاح، المسألة 39.
3- أي (إسماع الصوت للرجال) و(سماع صوت المرأة).

..............................

المؤمن، بل يستفاد من بعض الأخبار جواز البكاء على الأليف الضال)(1).وقد ذكرنا في (الفقه): استحباب البكاء على المؤمن لتواتر الروايات بذلك قولاً وعملاً..

وما يقال من أن النبي (صلی الله علیه و آله) نهى عن البكاء مكذوب عليه(2).

رفع المرأة صوتها بالبكاء

مسألة: لا بأس في سماع الرجال الأجانب بكاء المرأة، كما لا بأس في أن ترفع صوتها بالبكاء.

كما دل على ذلك بكاؤها (علیها السلام) في البيت، حيث كان صوتها مسموعاً في المسجد(3).

وقد أوصى الإمام الباقر (علیه السلام) بأن تندبه النوادب في منى عشرسنين(4)، وهناك مجتمع الرجال والنساء كما هو واضح.

ص: 107


1- العروة الوثقى: ج2 ص130 مكروهات الدفن مسألة 1.
2- راجع موسوعة الفقه: ج15 ص161-168 كتاب الطهارة، في مستحبات قبل الدفن وحينه وبعده، الواحد والثلاثون.
3- بل في المدينة كلها، ففي الحديث: «... وأما فاطمة فبكت على رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى تأذى بها أهل المدينة. فقالوا لها: قد آذيتينا بكثرة بكائكِ. فكانت تخرج إلى المقابر - مقابر الشهداء - فتبكي حتى تقضي حاجتها ثم تنصرف»، راجع وسائل الشيعة: ج3 ص281 ب87 ح3655.
4- تهذيب الأحكام: ج6 ص358 ب93 ح146، وفيه: عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «قال لي أبي: يا جعفر، أوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادب تندبني عشر سنين بمنى أيام منى».

..............................

البكاء لفقد المعصوم (علیه السلام)

البكاء لفقد المعصوم (علیه السلام) (1)

مسألة: يستحب البكاء لفقد المعصوم (علیه السلام) كما بكت الزهراء (علیها السلام) على رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وكذلك يستحب البكاء عالياً في مصيبتهم (علیهم السلام)(2).ويستحب تشكيل مجالس للبكاء عليهم (عليهم الصلاة والسلام) فهو نوع من المواساة، ومن الانتصار للمظلوم، ومن سبل تثبيت محبة آل البيت (علیهم السلام) في قلوب الناس، وقد دل على ذلك كثير من الروايات. فعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال لفضيل: «تجلسون وتحدثون؟». قال: نعم جعلت فداك. قال: «إن تلك المجالس أحبها، فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله من أحيى أمرنا، يا فضيل من ذكرنا أو ذُكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر»(3).

بكاء المظلوم تظلماً

مسألة: يستحب بكاء المظلوم للتظلم بصوت عال، فإنه من غير الصحيح

ص: 108


1- حول هذا المباحث راجع كتاب ( الشعائر الحسينية) لآية الله الشهيد السيد حسن الشيرازي (قدس سره).
2- فقد روي عن ابن عباس، قال: خرجت أنا وعلي والنبي (صلی الله علیه و آله) في جنان المدينة. فمررنا بحديقة فقال علي (علیه السلام): «ما أحسن هذه الحديقة يا رسول الله؟!». فقال (صلی الله علیه و آله): «حديقتك في الجنة أحسن منها». ثم مررنا بحديقة فقال: «ما أحسن هذه يا رسول الله؟!»، حتى مررنا بسبع حدائق فقال النبي (صلی الله علیه و آله): «حدائقك في الجنة أحسن منها»، ثم ضرب بيده على رأسه ولحيته وبكى حتى علا بكاؤه. فقال: «ما يبكيك يا رسول الله؟». قال: «ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك حتى يفقدوني». الطرائف: ج2 ص427-428 شكاية علي بن أبي طالب (علیه السلام) عمن تقدمه.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص20 ب10 ح15532.

..............................

أن يسكت الإنسان على الظلم.

ولذا قال سبحانه:«لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَتُظْلَمُونَ» (1).

والبكاء إحدى طرق الضغط على الظالم وفضحه وإثارة العواطف ضده، ولذا بكى الإمام السجاد (علیه السلام) تلك المدة الطويلة(2)، وبكت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) حتى استشهدت(3). كما روي أنها (عليها أفصل الصلاة والسلام): «ما زالت بعد أبيها (صلی الله علیه و آله) معصّبة الرأس، ناحلة الجسم، منهدة الركن، باكية العين، محترقة القلب، يُغشى عليها ساعة بعد ساعة»، الحديث(4).

ومثل البكاء: الأنين سواء على الميت - كما سبق - أم على المظلوم، أم من المظلوم، وقد ورد في قصة يوم (أُحد) أن صفية (علیها السلام) كانت تأن وتحن على حمزة (علیه السلام) وكان ذلك بمحضر من الرجال، وكلما أنّت أنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأنينها، وكلما حنّت حنّ رسول الله (صلی الله علیه وآله) لحنينها(5).

وقد ورد: إنه لما انصرف رسول الله (صلی الله علیه و آله) من وقعة (أحُد) إلى المدينة سمع من كل دار قتل من أهلها قتيل نوحاً وبكاءً ولم يسمع من دار حمزة (علیه السلام) عمه، فقال: «لكن حمزة لا بواكي له»، فآلى أهل المدينة أن لا ينوحوا على ميت ولايبكوه حتى يبدؤوا بحمزة (علیه السلام) فينوحوا عليه ويبكوه(6).

ص: 109


1- سورة البقرة: 279.
2- بكى (علیه السلام) بعد أبيه الحسين (علیه السلام) أربعين سنة، راجع وسائل الشيعة: ج10 ص526 ب7 ح14035.
3- كشف الغمة: ج1 ص498 ذكر حالها (علیها السلام) بعد أبيها (صلی الله علیه و آله).
4- روضة الواعظين: ج1 ص150 مجلس في ذكر وفاة فاطمة (علیها السلام).
5- شرح نهج البلاغة: ج15 ص17 القول في مقتل حمزة بن عبد المطلب (علیه السلام).
6- وسائل الشيعة: ج3 ص284 ب88 ح3662.

أجهش القوم لها بالبكاء

اشارة

-------------------------------------------

البكاء لبكاء المظلوم

مسألة: يستحب أن يبكي الناس تفاعلاً مع بكاء المظلوم، فإنه مشاركة وجدانية وتألّم لألم المتألم(1)، بالإضافة إلى أنه يتضمن تأييداً للمظلوم ونصرة له.

قال علي (علیه السلام) في وصيته للحسن والحسين (علیهما السلام): «كونا للظالم خصماً وللمظلوم ناصراً»(2).

البكاء لبكاء المفجوع

مسألة: يستحب بكاء الناس لبكاء المفجوع بمصيبة، ولذا ورد استحبابالبكاء على الميت وإن لم يعرفه الإنسان(3).

ص: 110


1- وقد ورد في فضل زيارة الحسين (علیه السلام): «... أن فاطمة (علیها السلام) إذا نظرت إليهم ومعها ألف نبي وألف صديق وألف شهيد ومن الكروبيين ألف ألف يسعدونها على البكاء، وأنها لتشهق شهقة فلا تبقي في السماوات ملك إلاّ بكى رحمة لصوتها... » - كامل الزيارات: ص86-87 ب27 ح16 -.
2- نهج البلاغة، الرسائل: 47 ومن وصية له (علیه السلام) للحسن والحسين (علیهما السلام) لما ضربه ابن ملجم (لعنه الله).
3- راجع العروة الوثقى: ج2 ص130 مكروهات الدفن مسألة 1، وفيه: (يجوز البكاء على الميت... بل قد يكون راجحاً... ولا فرق بين الرحم وغيره، بل قد مر استحباب البكاء على المؤمن).

..............................

وقد بكى الرسول (صلی الله علیه و آله) وأن وحن لبكاء وأنين وحنين صفية(1).

فإن البكاء رحمة ورقة وعطوفة(2)،وكلها مطلوبة شرعاً حسب الروايات الكثيرة الواردة في التوادد والتراحم والرحمة والعطف وشبهها الشاملة بإطلاقها للمقام.

ص: 111


1- شرح نهج البلاغة: ج15 ص17 القول في مقتل حمزة بن عبد المطلب (علیه السلام).
2- وفي الحديث عنه (علیه السلام)، قال: «بكى رسول الله (صلی الله علیه و آله) عند موت بعض ولده. فقيل له: يا رسول الله، تبكي وأنت تنهانا عن البكاء؟! فقال: لم أنهكم عن البكاء، وإنما نهيتكم عن النوح والعويل، وإنما هي رقة ورحمة يجعلها الله في قلب من شاء من خلقه ويرحم من يشاء، وإنما يرحم من عباده الرحماء» - مستدرك الوسائل: ج2 ص460 ب74 ح2465 -. وعنه (علیه السلام) قال: «رخص رسول الله (صلی الله علیه و آله) في البكاء عند المصيبة، وقال: النفس مصابة، والعين دامعة، والعهد قريب» - دعائم الإسلام: ج1 ص225 ذكر التعازي والصبر وما رخص فيه من البكاء -.

فارتج المجلس،

اشارة

-------------------------------------------

افتتاح الحديث بما يهيئ النفوس

مسألة: يستحب أن يفتتح المتكلم أو الخطيب حديثه بما يهيئ النفوس ويعدّ الأذهان لتقبّل الكلام، على حسب مقتضيات البلاغة، ولذا نجد أنها (صلوات الله عليها) «أنت أنة أجهش القوم لها بالبكاء، فارتج المجلس».

فإنها (علیها السلام) فجرت في النفوس كوامن العواطف، وجعلت القوم في قصوى حالات الاستعداد النفسي والعاطفي للاستماع إلى حديثها وظلامتها.

فعلينا أن نتعلم من مدرستها (علیها السلام) حتى افتتاح الحديث، بل وتطعيمه بما يؤثر على الحضور والمستمعين أكبر الأثر، فإن ذلك كمال وفضيلة، ولا شك أن تربية الإنسان نفسه على الفضيلة والكمال من المستحبات، وقد قال سبحانه: «وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا»(1)، وقالتعالى: «اتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ»(2).

هذا بالإضافة إلى أنه كلما كان كلام الإنسان مشتملاً على عوامل تحريك العواطف وإثارة دفائن العقول يكون أقوى وقعاً في نفوس المستمعين، فيكون أقرب إلى قبولهم للمعروف وانتهائهم عن المنكر وفعلهم الخيرات، كل في مورده.

ص: 112


1- سورة الأعراف: 145
2- سورة الزمر: 55.

ثم أمهلت هنيئة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم،

اشارة

-------------------------------------------

الكلام في أفضل الأحوال

مسألة: ينبغي إيراد الكلام على مقتضى الحال، بل وفي أفضل الأحوال، ولذلك «أمهلت (علیها السلام) هنيئة»؛ فان البدء بالحديث والقوم في شدة البكاء وفورة الاهتياج مما يفقد كلمات المتكلم تأثيرها المطلوب، ويكون التفاعل معها حينئذ أقل.

فالإمهال عندئذ ضروري، ولكن بشرط أن لا يكون الفاصل طويلاً؛ لأن الكلام يفقد حرارته وموالاته بسبب الفصل الطويل، وهذا مما ينافي موازينالبلاغة.

فاللازم أن لا يكون متتابعاً جداً، وأن لا يكون متباعداً بعضه عن بعض، بل يكون طبق الأسلوب البلاغي حسب اختلاف المقامات(1)، ولذلك كان إمهالها (علیها السلام) (هنيئة) فقط.

ص: 113


1- راجع كتاب (البلاغة) للإمام المؤلف (قدس سره).

افتتحت الكلام بحمد الله

اشارة

-------------------------------------------

افتتاح الأعمال بذكر الله تعالى

مسألة: يستحب افتتاح كل أمر - ومنه الحديث والكلام، على المنبر كان أو تحته، لجمع أو لفرد، في أمر من أمور الدنيا أو الآخرة - بذكر الله وحمده عزوجل، قلباً ولساناً، بل عملاً، في كل مورد بحسبه.

ومعنى الافتتاح العملي أن يكون العمل من مصاديق ما يحبه الله تعالى ويريده شروعاً (وهو الافتتاح)، واستمراراً بأن يكون مورد رضا الله سبحانه وتعالى، وذلك مثل المشي إلى الحج(1).

أو يوضح بنظير المرور تحت القرآن الكريم عند إرادة السفر وما أشبه ذلك.

وقد ورد في الحديث: «كل أمر ذيبال لم يذكر فيه بسم الله فهو أبتر»(2).

والمراد: أنه أبتر عن الخير، فلا خير له في الدنيا ولا في الآخرة.

وسلب الخير عنه قد يكون مطلقاً في بعض الأعمال، وقد يكون في الجملة وبالنسبة في بعضها الآخر، على حسب نوعية العمل والنية وغير ذلك.

ص: 114


1- فمن مشى قاصداً الحج يكون قد افتتح عملياً بما هو ذكر لله تعالى، عكس من مشى قاصداً الصنم أو الحرام حيث يكون قد افتتح بذكر الشيطان، فيعم الذكر العملي أيضاً.
2- وسائل الشيعة: ج7 ص170 ب17 ح9032.

..............................

تعليم الناس على الافتتاح بالحمد

مسألة: يستحب تربية وتعليم الناس على الافتتاح بذكر الله (تقدست أسماؤه) للإطلاقات، ولما يستفاد من قولها وفعلها (صلوات الله عليها) ها هنا.

فإن افتتاح كبير القوم أو قائدهم، كلامه بشيء أو بأسلوب خاص، يكون تعليماً للذين يتبعونه.

وقد سبق القول بأن أقوالها وأفعالها (علیها السلام) كسائر المعصومين (علیهم السلام) ، نظراً لإحاطتهم والتفاتهم، وقد لوحظت فيها كل الجهات الممكنة والدلالات المحتملة، فتكون حجة ذات دلالة من جميع الجهات.

وقد ورد في الدعاء: «اللهم إني افتتح الثناء بحمدك»(1).

الافتتاح بذكر الله جهراً

مسألة: يستحب أن يكون الافتتاح بذكر الله تعالى جهراً، كما صدر ذلك من السيدة الزهراء (علیها السلام) .. وقد كان يمكن لها أن تذكر الله سبحانه سراًكما هو عادة بعض الناس.

وقد ورد استحباب الجهر ب (بسم الله الرحمن الرحيم) وأن ذلك من علائم المؤمن.

فقد قال الإمام الحسن العسكري (علیه السلام): «علامات المؤمن خمس: صلاة

ص: 115


1- إقبال الأعمال: ص58 فصل فيما نذكره من دعاء الافتتاح وغيره.

..............................

الإحدى والخمسين، وزيارة الأربعين، والتختم باليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم»(1).

وربما يقال: بأن من علل الدعوة لزيارة الأربعين، والتأكيد عليها في الروايات الشريفة إفادة أن الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) - الذي كان في غاية المظلومية في يوم عاشوراء من مختلف الحيثيات والأبعاد - كيف أعزه الله سبحانه وتعالى ولما يمض على استشهاده أربعون يوماً!.

تقديم الحمد بعد البسملة

مسألة: يستحب تقديم الحمد - بعد البسملة - على غيره في افتتاح الحديث بل كل أمر.فالحمد يكون مقدماً، سواء كرّره(2) أم أتى ثانياً بما يفيد معنى (الحمد) لا بلفظه(3)، وسواء كان بلفظ (الحمد لله) أم بما يشتق منه ك ( أحمد الله)، و(أنا حامد له)، أو ما أشبه ذلك من سائر الصيغ(4).

ولو انقطع الكلام عاد المرء إلى البدء بحمد الله مرة أخرى - كما هو المشاهد في خطبتها (علیها السلام) -.

ص: 116


1- تهذيب الأحكام: ج6 ص52 ب16 ح37.
2- بأن يقول: الحمد لله، الحمد لله.
3- كأن يقول: الحمد لله والشكر لله تعالى مثلاً.
4- توضيحه: قد يكون المراد أن الحمد وإن كان مكرراً أو بصيغ أخرى فإنه مقدم على سائر أنواع الثناء، فمثلاً تقول: الحمد لله، الحمد لله، وسبحان الله، والصلاة على رسول الله (صلی الله علیه و آله).

والثناء عليه، والصلاة على رسوله

اشارة

-------------------------------------------

اشتمال الافتتاح على الثناء

مسألة: يستحب اشتمال افتتاح الأعمال والأقوال على الثناء الجميل على الله سبحانه وتعالى، مضافاً إلى أصل ذكر اسمه حسنت أسماؤه، وحمده جلتآلاؤه.

فإن الثناء عبارة عن تثنية الشيء(1) وهو تأكيد، ولعلها (عليها الصلاة والسلام) كررت الحمد أو ما بمعنى الحمد، فإن الثناء يمكن أن يكون بالحمد أو بغيره مما يدل على تعظيم المحمود.

الصلاة على الرسول وآله الأطهار (علیهم السلام)

مسألة: يستحب الصلاة على النبي وآله (علیهم السلام) مطلقاً، وفي افتتاح الكلام خاصة.

ويدل على الاستحباب بالإضافة إلى فعلها (عليها الصلاة والسلام) ذي القرينة، قول الله سبحانه وتعالى: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً»(2).

ص: 117


1- كما سيأتي في بحث ( الثناء بما قدم).
2- سورة الأحزاب: 56.

..............................

وقد ورد في جملة من الروايات كيفية الصلاة على رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وأن يقال: «اللهم صل علىمحمد وآل محمد»(1)، أو ما أشبه ذلك مثل: (صلى الله)، ومثل: (رب صل) ونحوهما.واستفادة الاستحباب - إضافة إلى الأمر في الآية المباركة - بلحاظ القرائن الكثيرة.

ص: 118


1- راجع موسوعة الفقه: ج95 ص129 (كتاب الآداب والسنن)، وفيه: فصل في كيفية الصلاة على محمد وآله، عن ابن أبي حمزة، عن أبيه، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً»؟. فقال: «الصلاة من الله عزوجل رحمة، ومن الملائكة تزكية (بركة) ومن الناس دعاء وأما قوله عزوجل: «وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً» فإنه يعني التسليم له فيما ورد عنه». قال: فقلت له: فكيف نصلي على محمد وآله؟. قال: «تقولون: صلوات الله وصلوات ملائكته وأنبيائه ورسله وجميع خلقه على محمد وآل محمد، والسلام عليه وعليهم ورحمة الله وبركاته». قال: فقلت: فما ثواب من صلى على النبي (صلی الله علیه و آله) بهذه الصلوات؟. قال: «الخروج من الذنوب والله كهيئة يوم ولدته أمه». - معاني الأخبار: ص104 -. وعن كعب بن عجزة، قال: قلت: يا رسول الله، علمتنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك؟. فقال: «قولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد» - المجالس: ص232 -. وعن أبي عبد الله، أو أبي جعفر (علیهما السلام)، قال: «أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة الصلاة على محمد وأهل بيته» - قرب الإسناد: ص 9 - انتهى.

فعاد القوم في بكائهم

اشارة

-------------------------------------------

تجدد البكاء عند تجدد ذكر الفقيد

مسألة: المستفاد من إطلاق أو ملاك(1) قولهم (عليهم الصلاة والسلام): «يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا»(2) وجملة من الروايات الأخر، مثل ما في دعاء الندبة وغيره، بالإضافة إلى ما تقدم من حديث الرحمة والرأفة والحنان، وكلها مستحب بالأدلة العامة: استحباب تجدد البكاء عند تجدد ذكر الفقيد خاصة إذا كان معصوماً (علیه السلام).

وتجدد الذكر لا يلزم أن يكون بمحضر الناس، كما لا يلزم أن يكون باللفظ، بل يشمل حتى التوجه القلبي.

وتجدد البكاء قد يكون:

1: أشبه باللاختياري، لتفجرالعاطفة كما في هذا المورد «فعاد القوم في بكائهم» نظراً لعظمة المصاب وقرب وقوعه وسماع صوت ابنته (علیها السلام) بما تضمنه من رنة الأسى المرير، وبما كان يعكسه من لواعج الحزن الشديد.

2: وقد يكون اختيارياً بالتفكر في المصاب والسعي لإثارة العاطفة، وكلاهما مما يثاب عليه الإنسان.

ص: 119


1- الإطلاق على تقدير كون المراد ب ( يحزنون) الأعم من الحزن وإظهاره كما هو المستفاد عرفاً في أمثال المورد، والملاك على تقدير العدم.
2- وسائل الشيعة: ج14 ص508 ب66 ح19705.

فلما أمسكوا عادت في كلامها،

اشارة

-------------------------------------------

عدم قطع بكاء المفجوع

مسألة: ينبغي أن لا يقطع الإنسان بكاء الباكي، بل يمهله حتى يمسك، لما سبق، بالإضافة إلى أنه نوع من التأدب.

كما ورد مثل ذلك في استحباب الإصغاء إلى المتكلم وعدم قطع كلامه، على عكس ما هو المتداول عند الكثيرين خاصة أثناء الجدل، حيث يقطع البعض حديث الآخر دون رعاية لحرمته وحتى دون فهم كلامه ومراده.

بل يمكن جريان هذا الاستحباب في الفعل أيضاً - بالملاك - بأن لا يقطع الإنسان فعل إنسان آخر بشيء من عمل أو قول؛ فإنه نوع من التأدب واحترامالآخرين، ومن مصاديق ذلك ما ورد من كراهة أن يدخل الإنسان في سوم أخيه المؤمن(1).

مراعاة حال المستمع

مسألة: ينبغي مراعاة حال المستمع، ومن المراعاة ترك الخطاب فيما إذا لم يكن المستمع في وضع يتمكن فيه، أو يسهل عليه الاستماع لبكاء أو شبهه.

ص: 120


1- راجع من لا يحضره الفقيه: ج4 ص5 باب ذكر جمل من مناهي النبي (صلی الله علیه و آله) ح4968، وفيه: «نهى رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن أن يدخل الرجل في سوم أخيه المسلم».

..............................

وقد سبق نظير ذلك(1) ولا يبعد أن يكون سكوتها (صلوات الله عليها) لذلك ولما سبق جميعاً.

كما ينبغي مراعاة ما يحف بالكلاممن الأمور الخارجية، ومن ذلك أن يسكت الإنسان لقراءة غيره القرآن الكريم مثلاً، حيث ورد قوله سبحانه: «فَاسْتَمِعُوا له وَأَنْصِتُوا»(2). وقد ورد أن ابن الكوا قرأ القرآن وكان علي (عليه الصلاة والسلام) في القراءة في الصلاة، فسكت علي (علیه السلام) حتى إذا سكت فأتم (عليه الصلاة والسلام) قراءته، مع أن قراءته للقرآن كانت في مقام التعريض بالإمام (علیه السلام)، حيث قرأ - والإمام في سورة الحمد أثناء إمامته للجماعة أبان خلافته الظاهرية -: «وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإلى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ»(3) فسكت الإمام (علیه السلام)، فلما سكت ابن الكوا عاد الإمام (علیه السلام)، فلما عاد ابن الكوا سكت الإمام (علیه السلام)، فلما سكت اكتفى الإمام (علیه السلام) في الجواب بقوله تعالى: «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ»(4)، ثم أتم (علیه السلام) قراءته وصلاته ولم يعاقبه أدنى عقوبة على ذلك(5).

ص: 121


1- الفرق بين هذا وما سبق - الكلام في أفضل الأحوال - أن هذا لوحظ فيه جانب القابل، وذاك كان الملاحظ فيه جانب الفاعل، وبعبارة أخرى: ذاك كان بلحاظ تأثير الكلام، وهذا بلحاظ الجانب الإنساني من حيث مراعاة وضع المستمع، وفرق هذا عما سبقه مباشرة: إن هذا أعم مطلقاً أو من وجه، فليدقق.
2- سورة الأعراف: 204.
3- سورة الزمر: 65.
4- سورة الروم: 60.
5- وسائل الشيعة: ج8 ص367 ب34 ح10923.

فقالت (علیها السلام): «الحمد لله على ما أنعم،

اشارة

-------------------------------------------

العودة إلى حمد الله تعالى

مسألة: يستحب أن يعود الإنسان بعد قطع كلامه إلى حمد الله تعالى مرة ثانية؛ لأنه يعد ابتداءًً أيضاً.

والمراد بالابتداء ها هنا الابتداء النسبي، فلا تنافي بين هذه وبين ما سبق من «كل أمر ذي بال لا يذكر بسم الله فيه فهو أبتر»(1) على تقدير إرادة البسملة، وإلاّ - بأن أريد ما هو اسم لله تعالى - صدق على حمد الله لتضمنه اسم الله، إذ أحدهما كلي والآخر من مصاديقه.

والظاهر أنها (علیها السلام) حمدت مرتين، والثانية لوحدة نسق الكلام، ولعلّه يدل على استحباب التثنية. هذا و(الحمد): هو ذكر الله بالجميل على نعمه مطلقاً، فإنه واجب عقلاً وشرعاً، وإن لم يجب بهذه الصيغة، نعم يجب التقيد بها في الصلاة للدليل الشرعي.

و(الحمد) لا يختص بمجال النعمة على الشخص، بل هو الذكر والوصف بالجميل الاختياري(2) بقصد التعظيم على نعمهمطلقاً(3)، وقد يعمم حتى للابتداء بالثناء(4). أما (الشكر) فهو الثناء الجميل وإظهار الامتنان على ما أولاه من معروف وإحسان.

ص: 122


1- وسائل الشيعة: ج7 ص170 ب17 ح9032.
2- عكس المدح الذي يشمل الجميل غير الإرادي كمدح اللؤلؤ لجماله.
3- أي سواء تعلقت النعمة بالشخص نفسه أم بغيره.
4- راجع (أقرب الموارد).

وله الشكر على ما ألهم،

اشارة

-------------------------------------------

الشكر لله تعالى

الشكر لله تعالى(1)

مسألة: يستحب الشكر لله تعالى في ابتداء الكلام - خطابة كان، أم كتابة، أم حديثاً عادياً - بعد ذكر الله وحمده.

والشكر في الابتداء من باب المصداق.

كما قالت (علیها السلام): «وله الشكر على ما ألهم».

والإلهام: هو الإلقاء في الذهنوالروح، وهو نوع من التلقين(2).

وقد قال سبحانه: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأََزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ»(3).

والمراد بالكفر: كفران النعمة وعدم الشكر، لا الكفر في العقيدة، فإن الكفر:

قد يطلق على الكفر في العقيدة، كما لو جحد الخالق.

وقد يطلق على كفر النعمة.

وقد يطلق على ترك شيء مما أمر الله سبحانه وتعالى به كما في قوله:

ص: 123


1- حول هذا المبحث ونظائره راجع: ( الفقه: الآداب والسنن)، و(الفقه: الواجبات والمحرمات)، و(الفضيلة الإسلامية)، للإمام المؤلف (قدس سره).
2- (ألهمه الله خيراً) أي: ألقنه - مجمع البحرين: ج6 ص171 مادة لهم -.
3- سورة إبراهيم: 7.

..............................

«أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ»(1).

سواء كان الأمر على سبيل الاستحباب أو على سبيل الوجوب، مثل قوله سبحانه:

«وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إليه سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِالْعَالَمِينَ»(2).

وقد ورد في حديث الإمام الصادق (علیه السلام): «الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه»، منها الثلاثة التي سبقت(3).

ص: 124


1- سورة البقرة: 85.
2- سورة آل عمران: 97.
3- راجع الكافي: ج2 ص389 باب وجوه الكفر ح1.

والثناء بما قدم،

اشارة

-------------------------------------------

الثناء على الله تعالى

مسألة: يستحب الثناء على الله تعالى في الكلام - كما سبق - بعد الحمد والشكر، كما قامت هي (علیها السلام) بذلك، فإن كل أفعالها وأقوالها على أتم مقتضيات الحكمة.

والثناء - كما ذكرنا - بمعنى التثينة؛ لأن الإنسان يثني على الله سبحانه وتعالى ما ذكره أولاً (1) سواء كان الأول حمداً، أو مدحاً، أو شكراً، أو تمجيداً، أو ما أشبه ذلك.

أو: إن أوله ما تفضل به الله سبحانه من النعم على عبده.

ذكر متعلق الحمد وما يوجبه

مسألة: يستحب ذكر متعلق الحمد والشكر والثناء، وما يستوجبه ولوإجمالاً، تأسياً بها (سلام الله عليها) حيث قالت: «على ما أنعم»، و«على ما ألهم» و«بما قدم»؛ فإنه من التفصيل المطلوب في مقام المدح ونحو المدح، كما نرى أن المادح يذكر الأسماء المتعددة والخصوصيات المختلفة للممدوح.

ص: 125


1- قال في لسان العرب: ج14 ص115 مادة ثني: (ثنيت الشيء ثنياً، أي: عطفته، وثنى الشيء ثنياً: ردّ بعضه على بعض، وثنى الشيء: جعله اثنين، والثناء: ما يصف به الإنسان من مدح أو ذم، وخص بعضهم به المدح).

..............................

وكذلك المحزون يذكر شتى الصفات الحسنة ومختلف الخصال المستحسنة للمحزون عليه، وهكذا في كل مورد يكون المطلوب فيه إطالة الكلام(1).

ذكر الله تعالى وحمده عند تواتر المصائب

مسألة: يستحب ذكر الله تعالى وحمده وشكره والثناء عليه عند اشتداد البلاء وهجوم المصائب على الإنسان.

وذلك من أهم الدروس التي يجب أن نتعلمها من الصديقة الطاهرة (علیها السلام) حيث إنها (صلوات الله عليها) رغم ما نزل بها من عظيم المصاب وجليل الخطوب، حيث فقدت أباها خاتم النبيين (صلی الله علیه و آله)، وحيث هجم عبّادالسلطة على دارها وضربوها وكسروا ضلعها وأسقطوا جنينها وغصبوا حقها وحق بعلها سيد الأوصياء (علیه السلام)، رغم كل ذلك تبدأ تظلمها بحمد الله وشكره والثناء عليه.

وقد ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام): «إن رسول الله كان إذا ورد عليه أمر يسره قال: الحمد لله على هذه النعمة، وإذا ورد عليه أمر يغتم به قال: الحمد لله على كل حال»(2).

وإنما كان الحمد لله عند نزول المكاره - كما ورد: «الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه»(3) -؛ فلأن المكروه بالنسبة إلى الصالحين إما ترفيع درجة، وإما

ص: 126


1- راجع كتاب (البلاغة) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- وسائل الشيعة: ج3 ص247 ب73 ح3535.
3- راجع شرح نهج البلاغة: ج7 ص252، وفيه: ومن الكلام المشهور «سبحان من لا يحمد على المكروه سواه».

..............................

محو ذنب، هذا فيمن يقع منهم الذنب كغير المعصومين (علیهم السلام)، أما في المعصومين (علیهم السلام) فالمكاره كلها تسبب ترفيع درجاتهم ومزيد قربهم من الله تعالى.

توجه المظلوم إلى الله تعالى

مسألة: يستحب للمظلوم أن يتوجه إلى الله تعالى بقلبه، وأن يذكره بلسانه مطلقاً، وفي حين تمهيده الأسباب لرفع الظلم والضيم عنه. ومنه(1) الدعوى والمطالبة بالحق، فإن رفع الظلامة بيد الله سبحانه وتعالى أولاً وبالذات، وقد جعل الله سبحانه وتعالى لرفع الظلامة أسباباً تكوينية أمر بانتهاجها - كما أمر بمراجعة الطبيب عند المرض - باعتبار أنه تعالى جعل الدنيا دار بلاء وامتحان وأسباب ومسببات، وقد ورد في الحديث الشريف: «اعقلها وتوكل»(2) فهو سبحانه علة العلل.

وبذلك يظهر وجه استحباب التوجه حين مطالبة الحق، حيث إن القلوب بيد الله سبحانه وتعالى، ويمكن أن يكون التوجه لله سبباً لإلقائه سبحانه وتعالى الرأفة في قلب الخصم فيستجيب لدعوة المظلوم ويرفع ظلامته. فقد ورد: «قلب السلطان بين إصبعي الرحمان». كما روي :أن رجلاً جاء إلى الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) وسأله أن يتوسط لدى الوالي لإنجاز حاجته... ولما قضيت حاجته، جاء إلى الإمام (علیه السلام) متسائلاً: يا بن رسول الله، متى دخلتعليه؟. فقال (علیه السلام) - ما معناه - : «إني سألت الله الذي بيده القلوب، فألان قلب الوالي لقضاء حاجتك».

ص: 127


1- أي من تمهيد الأسباب.
2- مشكاة الأنوار: 319-320 ب8 ف7.

من عموم نعم

اشارة

-------------------------------------------

إفاضة الخير على الجميع

مسألة: يستفاد من «تخلقوا بأخلاق الله»(1) كبرى، وعموم نعم الله جل وعلا - على ما في هذا الحديث ومتواتر الروايات والآيات والعقل والوجدان - صغرى:

رجحان تعميم النعمة وإفاضة الخير على الجميع.

إضافة إلى إطلاقات البر والمعروف وقضاء الحوائج وغيرها.

وقولها (علیها السلام): (من) بيان ل (ما) في (والثناء بما قدم).

و(ما قدم) يحتمل أن يراد به ما أوجد، كما يحتمل أن يراد به معنى الابتداء، فهو جل وعلا بدأ بالإحسان، ونحن نثني عليه بالذكر الجميل.

ص: 128


1- بحار الأنوار: ج58 ص129 ب42 تتميم.

ابتداها،

اشارة

-------------------------------------------

الابتداء بالنعمة والإحسان

مسألة: يستحب الابتداء بالنعمة والإحسان قبل أن يطلب ذلك من الإنسان.

ويفهم ذلك مما تقدم في البحث الآنف، بالإضافة إلى أن الخير خير، والابتداء بالخير خير مضاعف، ذلك أنه في أصل الخير خير، وابتداؤه ابتداء بالإحسان وهو خير إضافي.

ولذا ورد في الأدعية: «يا مبتدءاً بالنعم قبل استحقاقها»(1).

ومن أسماء الله سبحانه (البديء والبديع)(2)، فهو سبحانه يبدأ بالنعم، وهو سبحانه بديع يبدع الأشياء لا من مثال سبقه فتعلم منه، فكل ما في الكون إبداع، من الذرة إلى المجرة، ومن الجوهر إلى العرض، ومن عالم الاعتباريات إلى عالم الحقائق والواقعيات، المادية منها والمجردة،عند القائل بها(3).

وهناك روايات عديدة تحض على الابتداء بالإحسان، قال (صلی الله علیه و آله): «اليد العليا خير من اليد السفلى»(4).

ص: 129


1- مستدرك الوسائل: ج6 ص310 ب19 ح6885.
2- تهذيب الأحكام: ج3 ص115 دعاء أول يوم من شهر رمضان.
3- أي بالمجردة، فإن الإمام الشيرايز (رحمة الله) يرى عدم وجود مجرد إلا الله عزوجل، انظر كتاب (الفقه: العقائد).
4- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص376 ومن ألفاظ رسول الله (صلی الله علیه و آله) الموجزة التي لم يسبق إليها ح5763.

وسبوغ آلاء

اشارة

-------------------------------------------

كمال النعم وتمامها

مسألة: يستحب إسباغ الآلاء، أي إتمامها وإكمالها.

والفرق بين العموم والإسباغ في الجملتين:

أن العموم بمعنى شمولية النعمة لزيد ولعمرو ولبكر مثلاً، أو نعم عديدة لزيد أي شمولية النعم للواحد.

أما السبوغ فعبارة عن الكمال والتمام، و(نعمة سابغة) أي كاملة وافية.وربما فسر إسباغ النعمة بتوسعتها(1).

وربما يعبر ب: تكثير النعمة كيفاً لكل واحد من المنعم عليهم.

وتسمى النعمة نعمة؛ لأن الإنسان ينعم بسببها، وتسمى آلاءً جمع إلى(2) لأنها تنتهي إلى الإنسان، فإن مادة (إلى) بمعنى الانتهاء وتعني هنا النعمة، وهو من إضافة الصفة للموصوف فهو بمعنى (آلاء سابغة).

ص: 130


1- قال في مجمع البحرين: ج5 ص11 مادة سبغ: إسباغ النعمة توسعتها، ومنه الدعاء: (أسبغ علينا نعمك) أي أفضها علينا سابقة واسعة، والتعدية بعلى لتضمنها معنى الإفاضة، و(إسباغ الوضوء): إتمامه وإكماله، و(الحمد لله سابغ النعم) أي: كاملها وتامها، انتهى. وقال في لسان العرب: ج8 ص432 مادة سبغ: شيء سابغ أي: كامل واف، و(سبغت النعمة): إتسعت، و(نعمة سابغة) و(أسبغ الله عليه النعمة): أكملها وأتمها ووسعها.
2- (إلى) بالقصر والفتح، وقد تكسر الهمزة - مجمع البحرين: ج1 ص29 مادة إلا -.

أسداها وتمام منن أولاها،

اشارة

-------------------------------------------

إسداء النعمة

مسألة: يستحب إسداء النعم إلى كل الناس حسب القدرة، حيث تقدم أنه يستحب التخلق بأخلاق الله سبحانه وتعالى، والإسداء هو الإيصال بيسر في مقابل الإيصال بعسر(1).

توالي إفاضة النعم

مسألة: يستحب التوالي في إفاضة النعم وتعاقبها، لما سبق.

كما يستحب أن يتجلى ذكر الإنسان نعم الله سبحانه وتعالى على لسانه وقلبه وجوارحه، فإن مركز ذكر النعمة اللسان والبدن والقلب، ولذا قال سبحانه: «اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً»(2).

فإن قسماً من الناس يعرف نعم الله سبحانه لكنه لا يذكرها بلسانه، ولا يظهر أثر النعمة على جوارحه، بصلاة أو صيام أو ركوع أو سجود أو ما أشبه

ص: 131


1- قد يستفاد ذلك من التأمل في كتب اللغة، فقد جاء في لسان العرب: ج14 ص375 مادة سدو: السدو - وهو مصدر الثلاثي المجرد -: السير اللين و(السادي) الذي فيه اتساع خطو مع لين، انتهى. وفي المجمع: (أسدى) أعطى.
2- سورة سبأ: 13.

..............................

ذلك، ومن الناس من يفعل كل ذلك، ومن الناس من يذكر النعم بلسانه فقط …وهكذا.

فإن المستحب ذكر النعم، كما ذكرتها الصديقة الطاهرة (علیها السلام) باللفظ، بالإضافة إلى ذكرها بقلبها وعملها بجوارحها (علیها السلام) كما هو دأبهم (صلوات الله عليهم أجمعين).

قولها (علیها السلام): «وتمام منن» حيث إن مننه تعالى تامة لا نقص فيها.

و(والى بين الشيئين) بمعنى: تابع، فنعمه سبحانه وتعالى التامة متوالية متلاحقة.

ص: 132

جم عن الإحصاء عددها،

اشارة

-------------------------------------------

إظهار العجز عن إحصاء النعم

مسألة: يستحب إظهار عجز الإنسان عن إحصاء نعم الله سبحانه، ومدى قصوره عن الإحاطة بجانب من مخلوقاته تعالى وهو النعم الإلهية.

لوضوح أن الإنسان محدود بحد صغير في نطاق ضيق، والنعم محدودة بحد كبير وفي إطار واسع حتى بالنسبة إلى إنسان واحد، فكيف بكل نعم الله سبحانه على كل الناس من أول الخلقة وإلى ما لا ينتهي من الجنة.

بل النعم قد يصدق عليها اللا متناهي اللا يقفي على امتداد الزمن، إذ لا انتهاء للآخرة(1) بمشيئته تعالى.

وربما يكون الأمر كذلك من الناحية الكمية(2) بل والكيفية(3) أيضاً.وقد ورد في الدعاء:

«وتقاصر وسع قدر العقول عن الثناء عليك، وانقطعت الألفاظ عن مقدار محاسنك، وحكت الألسن عن إحصاء نعمك، وإذا ولجت بطريق البحث عن نعتك بهرتها حيرة العجز عن إدراك وصفك»(4).

ص: 133


1- فالنعم مستمرة زماناً إلى ما لا نهاية.
2- فربما يكون أعداد النعم في عالم الآخرة متواترة مترادفة بحيث لا تتناهى كمراتب الأعداد.
3- فربما تكون مراتب النعم ودرجاتها متزايدة باستمرار لا متناه، كأن تزداد حلاوة العسل باستمرار، ويزداد برد الماء ورواؤه آناً بعد آن، وهكذا.
4- البلد الأمين: ص379 دعاء لمولانا أمير المؤمنين (علیه السلام) وهو المفضل على كل دعاء له (علیه السلام).

..............................

قولها (علیها السلام): «جم» أي كثر «عن الإحصاء عددها»؛ فإن نعم الله لايمكن إحصاؤها، فمثلاً في جسم الإنسان مليارات من الخلايا الحية مما لا يتمكن الإنسان من إحصائها، وفي كل خلية قشرة (غطاء خارجي) ولب ومركز قيادة (1).

تذكر لا نهائية النعم

مسألة: يستحب أن يتذكر الإنسان دوماً أن نعمه تعالى لا تعد ولا تحصى، وأن يشكر الله ويحمده على ذلك.

فإن تذكر أصل النعمة والشكر لها مستحب، وتذكر أنها لا تعد ولا تحصى مستحب آخر؛ لأنه نوع من الذكر ومن الشكر، وقد قال سبحانه: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ»(2).

ص: 134


1- وقد أحصى بعض علماء العلم الحديث أن في كل مركز قيادة لكل خلية ثلاثون ألف طابق - إذا ما شبهنا هذا المركز بعمارة ذات طوابق - تمر عبرها وبسببها كافة التفاعلات الكيماوية وغيرها.
2- سورة البقرة: 152.

ونأى عن الجزاء أمدها،

اشارة

-------------------------------------------

عدم إمكان الجزاء على النعم

مسألة: يستحب تذكير الناس دوماً بأن نعم الله سبحانه وما أفاضه على الخلق لا يمكن ولا يعقل جزاؤها؛ لأنه لو فرض إمكان أصل الجزاء منا له تعالى - وهو فرض محال؛ لأن الجزاء لا يكون إلاّ بما هو خارج عن ملك المجازي وحيطة قدرته، والحال أن كل موجود داخل في ملك الله سبحانه وحيطته - فهو أيضاً بنعمة أخرى؛ لأن كل ما للإنسان من جسم وروح وعقل وعاطفة وقدرة وإيمان، وكل ما في الكون بأجمعها، نعم الله سبحانه وتعالى، فكل حركة وكل شكر يستدعي شكراً جديداً إلى ما لا نهاية.

قال السيد الطباطبائي (رحمة الله) في قصيدته:

شكراً وأنا لي بلوغ ما وجب *** من شكره والشكر للشكر سبب

وبهذا المعنى ورد عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) في مناجات الشاكرين حيث يقول (عليه الصلاة والسلام):

«إلهي أذهلني عن إقامة شكرك تتابع طولك، وأعجزني عن إحصاء ثنائك فيضفضلك، وشغلني عن ذكر محامدك ترادف عوائدك، وأعياني عن نشر عوارفك توالي أياديك...

فآلاؤك جمة ضعف لساني عن إحصائها، ونعماؤك كثيرة قصر فهمي عن إدراكها، فضلاً عن استقصائها، فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إياك يفتقر

ص: 135

..............................

إلى شكر، وكلما قلت لك الحمد وجب عليَّ لذلك أن أقول لك الحمد... »(1).

قولها (علیها السلام): «ونأى» أي بعد.

فحياة الإنسان لا تسع لجزاء نعمه سبحانه، فأمد النعم قد أبعدها عن إمكان الجزاء، حيث إن نعم الله تواترت على الإنسان قبل خلقته في هذا العالم - مثلاً عالم الذر - وحين كان تراباً، ثم نطفة، فإنساناً كاملاً، ثم وهو في عالم الآخرة في الجنة.

ص: 136


1- الصحيفة السجادية الكاملة: ص307- 308 المناجاة السادسة، مناجاة الشاكرين، منشورات مؤسسة الأعلمي بيروت.

وتفاوت عن الإدراك أبدها،

اشارة

-------------------------------------------

العجز عن إدراك النعم

العجز عن إدراك النعم(1)

مسألة: يستحب ذكر الله سبحانه بهذا النحو الذي يشير إلى محدودية إدراك الإنسان من جهة، وإلى دوام نعم الله تعالى من جهة أخرى.

ببيان: إن (أبد)(2) نعم الله سبحانه لا تدرك، إذ أن النعم لا متناهية حيث أنها موصولة بجنة لا محدودة - لا يقفياً - من حيث الزمن (الكم المتصل غير القار) ومن حيث العدد(3) (الكم المنفصل) كما سبق.

بل وربما حتى من حيث المسافة، إذ يحتمل توسع الجنة باستمرار من هذا الحيث أيضاً، ونظيره ما في الحياة الدنيا، قال سبحانه: «وَالسَّمَاءَبَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ»(4).

ومن المعلوم أن الإدراك محدود خصوصاً في الدنيا، ولذا لا يتمكن من إدراك أبد النعم، فقد (تفاوت) أي تباعد تباعداً كبيراً(5) «عن الإدراك أبدها» أي أبد النعم ودوامها.

ص: 137


1- حول هذا المبحث ونظائره راجع الكتب الكلامية للإمام المؤلف (قدس سره)، ومنها :(القول السديد في شرح التجريد)، و(شرح المنظومة).
2- الأبد: الدوام والخلود، وبمعنى الدهر الطويل الذي ليس بمحدود.
3- أي عدد مصاديق النعم.
4- سورة الذاريات: 47.
5- تفاوت الشيئان تفاوتاً: أكثر تباعد ما بينهما - مجمع البحرين: ج2 ص214 مادة فوت -.

..............................

فلا يتمكن الإنسان من إدراكها، فإن القوة المدركة محدودة وذلك غير محدود بالقياس لتلك، والمحدود لا يستوعب غير المحدود استحالة عقلية كما أشرنا إلى ذلك.

وقد يكون السبب في محدودية القوة المدركة في الدنيا: سجنها في حيز الجسم.

فلربما توسعت المدارك الإنسانية في الآخرة بحيث تحيط بالنعم وشبهها، وهذا الأمر على مبنى تجرد الروح أظهر، فتأمل(1).

ص: 138


1- التأمل إشارة إلى ما ارتآه الإمام المصنف في كتابه (الفقه: العقائد) حيث قال بعدم وجود المجرد إلاّ الله عزوجل، فراجع.

وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها،

اشارة

-------------------------------------------

الاستزادة من النعم

مسألة: يستحب السعي للاستزادة من النعم بالشكر وغيره، حتى يتفضل الله سبحانه باتصال النعم بعضها ببعض، فإنه تعالى هو الذي «ندبهم» أي دعاهم «لاستزادتها بالشكر»، وإجابة دعوة الله تعالى راجحة(1) دون شك.

وقد وعد سبحانه بزيادة النعم وبتواصلها إثر الشكر وبسببه، قال تعالى: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ»(2).

وقال سبحانه: «وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ»(3).

وقال عزوجل في آية أخرى: «وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ»(4).

التحفظ على النعم

مسألة: يستحب التحفظ على النعم، فإن النعم إنما تحفظ بالشكر القولي والعملي، فللشكر فائدتان: فائدة حفظ النعم، وفائدة الاستزادة منها،

ص: 139


1- بالمعنى الأعم.
2- سورة إبراهيم: 7.
3- سورة لقمان: 12.
4- سورة العنكبوت: 6.

..............................

واستحباب التحفظ على الأصل - ما هو الموجود من النعم - يفهم من ندبه تعالى للاستزادة منها كما لا يخفى.

كما يستحب تشويق الناس بعضهم بعضاً للاستزادة من النعم، والتحفظ على ما عندهم منها، إذ تشمله إطلاقات كثير من الآيات والروايات، إضافةً إلى العقل، وبيان ندبه تعالى لذلك من طرق التشويق.

كما يستحب تعليم الآخرين طرق الاستزادة من النعم وحفظها، ويشمله قوله تعالى: «تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى»(1).

وهذا من غير فرق بين أن تكون النعمة مادية أو معنوية، ظاهرية أو باطنية، فإن الحمد والشكر يوجبان بقاء النعمة والاستزادة منها.

وجوب أصل الشكر وبعض مصاديقه

مسألة: يمكن القول بوجوب أصل الشكر لله تعالى، فمن أعرض عن شكره مطلقاً (2) كان آثماً، كما قد يجب بعض مصاديقه، لوجوب حفظ أو تحصيل بعض النعم لجهات عديدة.

فإنه من الشكر واجب ومنه مستحب، فإن كان مقدمة للواجب وجب، وإن كان مقدمة للمستحب استحب(3)، للتلازم بين المقدمة وذي المقدمة، كما قرر في بحث مقدمة الواجب ومقدمة الحرام(4).

ص: 140


1- سورة المائدة: 2.
2- بالقلب واللسان والجوارح دائماً.
3- ولو عقلاً.
4- راجع (الأصول) للإمام المؤلف (قدس سره).

..............................

وقد أرشد الله سبحانه للشكر حتى يستزيد الإنسان من نعمه تعالى. قال سبحانه: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ»(1). وستكون النعم عند الشكر متصلة بعضها ببعض بفضله تعالى.

والشكر - فيما عدا الواجب - مستحب مطلقاً.

كما أن الشكر بهذا اللفظ(2) مستحب، سواء كان بهذه الصيغة أم بسائرالصيغ، وسواء كان متعلقه لفظ الجلالة بذاته أم سائر صفاته، فيصح أن يقول: (شكراً لله)، أو(شكراً للخالق)، أو(الرازق)، أو(الحاكم)، أو(العالم)، أو(القائم)، أو(الدائم)، أو(الحي)، أو(القيوم)...

كما يصح أن يقول: (أشكر) أو(إني شاكر) أو ما أشبه ذلك من الألفاظ الكثيرة، من حيث التعلق ومن حيث صيغة الشكر.

وكذلك يصح أن يأتي بصيغة الجمع نحو: (إنا شاكرون) وما أشبه ذلك.

هذا كله في الشكر اللفظي.

وأما الشكر العملي: فبإطاعة الله سبحانه، قال تعالى: «اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً»(3).

وقال تعالى: «اشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ»(4) والمراد بالشكر هنا: الأعم.

ص: 141


1- سورة إبراهيم: 7.
2- أي بهذه المادة.
3- سورة سبأ: 13.
4- سورة البقرة: 152.

واستحمد إلى الخلائق بإجزالها، وثنى بالندب إلى أمثالها.

اشارة

-------------------------------------------

حمد الله واجب أم مستحب

مسألة: ينبغي حمد الله تعالى على نعمه، وعلى غيرها أيضاً.

ولولا القرينة لدل قولها: «استحمد» على الوجوب، إذ (استحمد) بمعنى: طلب منهم - جل شأنه - أن يحمدوه، لأنه أجزل عليهم النعم، والأصل في طلب العالي من الداني وجوب التلبية، خاصة إذا كان مشفوعاً بتعليل كتعليلها (علیها السلام)(1) إذ ذلك ملزم للحمد عقلاً.

ويمكن الالتزام بدلالته(2) على وجوب الطبيعة(3) المنطبقة على الواجب من الحمد(4) فيتحقق امتثالها بالإتيانبتلك المصاديق وتكون القرائن صارفة عن إرادة العموم(5)، فتأمل.

ونظيره قوله تعالى:

«فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (علیهم السلام) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ

ص: 142


1- في قولها (علیها السلام): «بإجزالها».
2- أي دلالة (استحمد).
3- وهي الكلي الطبيعي.
4- المراد: إن هناك مصاديق واجبة شرعاً تتضمن الحمد لله تعالى، كالصلاة المتضمنة لسورة الحمد - مثلاً - فينطبق كلي (الحمد) المطلوب على هذه المصاديق ويتحقق بها.
5- أي إرادة: إيجاب مطلق الحمد وكل أفراده، فعلى هذا تكون سائر أفراد الحمد المتحققة في غير الواجبات المعهودة مستحبة.

..............................

خَوْفٍ»(1).

و(الإجزال): عبارة عن الإكمال كما سيأتي، فهذه الجملة بالنسبة إلى الكيف، وإن أمكن غير ذلك، والجملة السابقة (2) بالنسبة إلى الكم، فشكره على حمده(3) يزيدها كما ويعطيها الديمومة زمناً.

وقد يفرق بين الحمد والشكر:

بأن (الحمد) أعم، إذ ليس فيه دلالة على نعمة واصلة إلى الحامد؛ لأنه ربما يحمد لكون المحمود له صفة حميدة.

بينما (الشكر) له هذه الدلالة،وقد سبق ذلك.

ثم لا يخفى أن الشكر والحمد مطلوبان لله تعالى لأجل الإنسان نفسه، لا لفائدة تعود إليه سبحانه، إذ هو تبارك وتعالى الغني المطلق، فهما كعبادته جل وعلا تزيد الإنسان تكاملاً وسمواً واقتراباً منه سبحانه، فطلبه ذلك مناً للطفه وكرمه وفضله وحكمته.

ويشير إلى ذلك ما ورد من قوله تعالى في الحديث القدسي:

«عبدي أطعني تكن مثلي أقول للشيء كن فيكون، وتقول للشيء كن فيكون»(4).

ص: 143


1- سورة قريش : 3-4.
2- «وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها».
3- أي معه.
4- راجع إرشاد القلوب: ج1 ص75 ب18، وفيه: روي أن الله تعالى يقول في بعض كتبه: «يا ابن آدم، أنا حي لا أموت أطعني فيما أمرتك أجعلك حياً لا تموت. يا ابن آدم، أنا أقول للشيء كن فيكون أطعني فيما أمرتك أجعلك تقول للشيء كن فيكون».

..............................

وقوله سبحانه: «وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ»(1).

وقوله تعالى: «أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَنَفْعاً»(2).

ونظائرها كثيرة، مما يدل على أن النفع والضرر يعود(3) للإنسان نفسه.

و( الإجزال) معناه: الإكمال والإتمام والإكثار(4)، يقال: (أجزلت له من العطاء) أي: أكثرت، فإن أصل النعمة يوجب الحمد والشكر، والإكثار من النعمة يستدعي مزيداً من الحمد والشكر.

فاللازم وجوباً أو استحبابا إيقاف الناس على ذلك، حتى يحمدوه ويشكروه سبحانه وتعالى أكثر، وبذلك يستجلبون خيراً أكثر بلطف الله سبحانه وتعالى.

وكما أنه سبحانه ندبهم للاستزادة منها في دار الدنيا، كذلك ندبهم إلى الحصول على أمثال نعم الدنيا فيالآخرة عبر الشكر والحمد، قال تعالى:

ص: 144


1- سورة يس: 61.
2- سورة المائدة: 76.
3- أي كل واحد منهما.
4- تستفاد هذه المعاني مما ذكره اللغويون لتوضيح معنى (جزل) أو موارد استعماله، فمثلا: (جزل) ككرم: صار ذا رأي جيد، و(الجزل): العاقل الأصيل الرأي - القاموس المحيط: ج3 ص348 مادة جزل - (جزل) و(حطباً جزلاً) أي: غليظاً قوياً، و(رجل جزل) أي: جيد الرأي، و(امرأة جزلة) أي: تامة الخلق، و(اللفظ الجزل): خلاف الركيك، و( الجزيل): العظيم، و(عطاء جزل وجزيل) أي: كثير - راجع لسان العرب: ج11 ص109 مادة جزل -.

..............................

«كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً»(1).

فالشكر والحمد أولاً يزيد نعم الدنيا، وثانياً يسبب نعم الآخرة، فهو تعالى قد ثنى دعوته وطلبه(2) ب «الدعوة إلى أمثالها» أي: أمثال تلك النعم والآلاء والمنن(3)، فالراجح - وجوباً أو استحبابا - ندب العباد ودعوتهم إلى الاستزادة منها.

وهذه هي نوع من التجارة مع الله سبحانه، نظير قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لهمُ الْجَنَّةَ»(4).ومن الواضح أنها تجارة رمزية، إذ لا نسبة بين الثمن والمثمن، إضافة إلى أن الكل ملك له تعالى(5).

ص: 145


1- سورة البقرة:25.
2- أي أضاف لطلبه الأول - وهو طلب الحمد في (استحمد) وطلب الشكر في الجملة السابقة - طلباً ثانياً هو الدعوة إلى الأمثال.
3- في قولها (علیها السلام): «من عموم نعم ابتدآها، وسبوغ آلاء أولاها، وتمام منن والاها».
4- سورة التوبة: 111.
5- أي : إن الثمن والمثمن والمشتري والمشترى كلها ملك لله تعالى، ولذلك كانت المعاملة رمزية مجازية.

وأشهد أن لا إله إلا الله

اشارة

-------------------------------------------

بحث حول كلمة التوحيد

مسألة: التعبير ب (أشهد) دون (أقرّ) أو (أعترف) أو ما أشبه ذلك، نظراً لأن (الشهادة) و(الشهود) هو أعلى مراحل الإدراك، ووجوده تعالى ووحدانيته من الوجدانيات والفطريات، فهو معلومة للإنسان بأجلى أنحاء المعرفة، وكذلك فيما هو بمنزلة ذلك(1).

وكلمة التوحيد (2) مركبة من عقد سلب وعقد إيجاب، فنفي الباطل والغير أولاً، ثم إثبات الحق المحض المطلق.

هذا ونفي الشريك يستلزم - لدى الدقة - نفي الجزء أيضاً(3) إضافة إلىأن التركيز على نفي الشريك لأنه الشائع في المعتقدات دون قسيمه(4).

ص: 146


1- قد يكون المراد الشهادة برسالة النبي (صلی الله علیه و آله) الثابتة بالبراهين الجلية، وكذلك الشهادة بولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) .
2- أي: لا إله إلا الله.
3- قد يكون هذا دفع دخل مقدر، وإجابة عن أنه لماذا لم تتضمن كلمة التوحيد نفي الأجزاء لله تعالى؟. حيث إن إثبات الواحدية يستلزم إثبات الأحدية أيضاً، إذ المركب لا يخلو إما أن يكون كلا جزئيه واجباً فلم يكن واحداً وهذا خلف، أو يكون كلاهما ممكناً فلا يعقل أن يكون المركب منهما واجباً، وهذا خلف، أو يكون أحدهما واجباً فعندئذ لا يكون المجموع واجباً - إذ النتيجة تتبع أخس المقدمتين - بل كان هذا الجزء واجباً وذاك كضم الحجر بجنب الإنسان ويكون التعبير بالجزئية باطلاً.
4- وهو نفي الجزء والتركب.

..............................

ثم إن وجوب الإيمان بالله تعالى فطري وعقلي، وما ورد من إيجاب ذلك إرشاد وإلفات.

وإن منكر وجوده تعالى كافر، فإن كان معتقداً به سبحانه فيما سبق ثم أنكر كان مرتداً، والمرتد فطري وملي، والبحث في ذلك كله موكول إلى مظانه(1).

والحكمة في ذكر ذلك كله - من أصول الدين ولواحقها والفروع وشطر وافر من الأخلاقيات - في خطبتها (علیها السلام) هي التعليم والتزكية والتأكيد والتركيز والتذكير وإتمام الحجة.فإن بأمثال هذه الخطبة منها ومن أبيها وبعلها وبنيها (عليهم صلوات المصلين) أثاروا عن الناس دفائن العقول(2)، وعلّموهم وزكّوهم(3).

وبأمثالها تركزت هذه المباني وثبتت وترسخت رغم كل الطوارئ والموانع والتشكيكات والشبهات.

وبأمثالها تمت الحجة على الناس: «لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ

ص: 147


1- راجع موسوعة الفقه: ج4 ص182-274 كتاب الطهارة، الثامن في نجاسة الكافر.
2- إشارة للحديث الوارد في بيان حكمة بعثة الأنبياء (علیهم السلام): «ويثيروا لهم دفائن العقول» نهج البلاغة، الخطب:1، ومن خطبة له (علیه السلام) يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم (علیه السلام).
3- إشارة إلى قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ» سورة الجمعة : 2.

..............................

حُجَّةٌ»(1).

وقد يكون لذلك أيضاً ما نجد من الشارع المقدس حيث قد سنّ واجباتومستحبات تمتد بامتداد حياة الإنسان كلها، من الولادة حتى الوفاة(2) بل من قبلهما ومن بعدهما أيضاً (3) وهي تتضمن الحديث عن الأصول والفروع والأخلاقيات وشبه ذلك.

فلذلك نجدها (علیها السلام) تحدثت عن ذلك كله في خطبتها، تزكيةً وتعليماً وتذكيراً وإتماماً للحجة، ويتضمن ذلك أيضاً بعد الأسوة.

ص: 148


1- سورة النساء: 165.
2- فمثلاً يستحب الأذان والإقامة في أذن الوليد.
3- كالأدعية الواردة قبل وحين الحمل، وكالأدعية التي تقرأ للميت والصلاة عليه وتلقينه.

وحده لا شريك له،

اشارة

-------------------------------------------

وحدانية الله وأحديته

مسألة: يجب وجوباً فطرياً وعقلياً(1) الاعتقاد بوحدانيته تعالى، وبأحديته أيضاً ف: (كما هو الواحد أنه الأحد ليس له الأجزاء لا أجزاء حد)(2).

فإن اللازم أن يعتقد الإنسان بالإله الواحد الفرد، الذي لا شريك له ولا جزء له، ومن اعتقد بشريك لله سبحانه كان مشركاً، أي: أشرك بالله غيره.

سواء جعل له من البشر ولداً أو والداً أو زوجة: «لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (علیهم السلام) وَلَمْ يَكُنْ له كُفُواً أَحَدٌ»(3).

أو إلهاً آخر، كما في الثنوية الذين يعتقدون بإلهين اثنين: إلهالخير وإله الشر، أو إله النور والظلمة، أو أكثر من ذلك، فإن هذا أيضاً مشرك، عليه أحكام الكفار كما هو مذكور في (الفقه)(4).

و(وحده) و(لا شريك له) تأكيد في تأكيد لمضمون (لا إله إلا الله) وكان التأكيد محبذاً، لشيوع الشرك وشدة تمسك طوائف عديدة به ولغير ذلك(5).

ص: 149


1- ذهب الإمام المؤلف (قدس سره) في (الأصول) إلى أن العقل حاكم أيضاً لا مدرك فقط، على أن العبارة هنا أعم من الإدراك والحكم.
2- أجزاء الحد: هي أجزاء المهية، أي الجنس والفصل، فليس له حتى التجزؤ العقلي.
3- سورة الإخلاص: 3-4.
4- راجع موسوعة الفقه: ج4 ص182-274 كتاب الطهارة، الثامن في نجاسة الكافر.
5- كأهمية الموضوع.

..............................

استحباب التلفظ بالشهادة

مسألة: يستحب التلفظ بالشهادة بوجوده ووحدانيته سبحانه وتعالى.

فإن المستحب استخدام مادة الشهادة مثل: (أشهد) أو (شهادتي) أو ما أشبه ذلك، وإن لم يكن هذا اللفظ بما هو هذا اللفظ - مادة وصيغة - واجباً، ولذا لو قال: (أعتقد بإله واحد) أو تلفظ بنظائر ذلك كان كافياً.

فأصل الإيمان بالله تعالى وبوحدانيته واجب، أما النطق بلفظ الشهادة فهو مستحب، إلاّ في مثل التشهد في الصلاةحيث دلّ الدليل على الوجوب، وكذلك الشهادة بسائر صفاته الثبوتية والسلبية، فإن أصل الاعتقاد بها واجب والتلفظ مستحب. حيث إن (التلفظ) له أثر تكويني ووضعي ونفسي وخارجي في كثير من الأحيان، وفي العديد من الأمور، إذ أنه نوع من (الإيحاء) و(التلقين) إضافة إلى مدخليته في تلوين المحيط وإعطاء صبغة معينة: «صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً»(1).

وهو (المظهر) الذي يبني عليه(2) العقلاء الكثير من شؤون حياتهم، غير مكتفين ب (المضمر والمخبر) فحسب، كما في العقود والإيقاعات التي قد يعد الكلام أحد المبرزات والأركان لها وحده فقط أو لا(3).

ص: 150


1- سورة البقرة: 138.
2- أي على المظهر.
3- أي مع غيره، ف (لا) نفي ل (فقط) والمقصود: إن العقلاء في العقود والإيقاعات يشترطون المبرز وهو، إما اللفظ فحسب - على مبنى البعض أو في بعض الموارد - أو اللفظ وغيره من سائر المبرزات كالإشارة والفعل مثلاً على سبيل البدل.

..............................

التأكيد في الاعتقاديات

مسألة: يستحب التأكيد في القضايا الاعتقادية، تأكيداً لفظياً أو معنوياً، كما قالت (سلام الله عليها): «لا إله إلا الله».. «وحده».. «لا شريك له».

وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) حينما وقف قائماً على باب الكعبة: «لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده»(1)، وكما نشاهد ذلك في كلمات كثيرة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وكلمات المعصومين (علیهم السلام).

والظاهر أن الضمير أيضاً كاف، كما ورد في القرآن الحكيم: «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ»(2) وما أشبه ذلك.

استحباب الابتداء بالشهادة

مسألة: يستحب تضمين بداية الخطبة أو الكلام - بل والعمل أيضاً - بالشهادة لله بالوحدانية.

فإن الابتداء في كل خطبة وكل كلام وكل عمل - تجارةً كان أم زراعةً أم سفراً أم غير ذلك - بالشهادة، سواء كان بنفس لفظ الشهادة أم بغيرها، مثل أن يقول: (لا إله إلا الله) مستحب، وموجبللمباركية ونزول الخيرات الإلهية وتوجه العنايات الربانية، وفي الحديث:

ص: 151


1- بحار الأنوار: ج21 ص105 ب26.
2- سورة محمد: 19.

..............................

«فإن ذكر الله سبحانه حسن على كل حال، فلا تسأم من ذكر الله»(1) فتشمله الإطلاقات ودليل الأسوة.

ويمتاز ابتداء الكلام بالعناية الأكثر إذ هو من أجلى المصاديق.

وكذلك الأمر في آخر الكلام أو العمل، في كثير من الأحيان، كما ورد: «فإن من كان آخر كلامه "لا إله لله إلا الله" دخل الجنة»(2).

وقال (علیه السلام): «كفارات المجالس أن تقول عند قيامك: سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين»(3).

وقال (صلی الله علیه و آله): «إن كفارة المجلس: سبحانك اللهم وبحمدك،لا إله إلاّ أنت ربّ تُبْ عليَّ واغفر لي»(4).

صبغة الله

مسألة: يستحب (تطعيم) و(ملأ) كافة جوانب الحياة ببيان الأمور الاعتقادية، وتحويل ذلك إلى سنة شاملة بحيث تتحول إلى جزء لا يتجزأ من حياة الناس، في المسجد والمدرسة والمعمل والمتجر والبيت وغيرها، فذكر وبيان وكتابة القضايا الاعتقادية ينبغي أن يملأ الخطب والكتب والصحف وحتى الجدران عبر لوحات صغيرة تتضمن كلمات منتخبة تذكر بأصول العقائد.

ص: 152


1- الكافي: ج2 ص497 باب ما يجب من ذكر الله عزوجل في كل مجلس ح6.
2- وسائل الشيعة: ج2 ص455-456 ب36 ح2634.
3- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص379 باب الأيمان والنذور والكفارات ح4335.
4- بحار الأنوار: ج72 ص467 ب95 ح17.

..............................

ولذلك نرى الصديقة الطاهرة (علیها السلام) تتطرق بدءً ووسطاً وختماً لتلك القضايا العقائدية، ونرى آل البيت (علیهم السلام) والعلماء الأبرار من بعدُ قد أدخلوها حتى في خطبة عقد النكاح: «الحمد لله الذي أحلّ العقد والنكاح، وحرّم الزنا والسفاح، والصلاة والسلام على محمد وآل بيته سادات أهل الخير والفلاح... ».

فإن هنالك مرحلتين:الأولى: أن يملأ الإنسان ذهنه وضميره بكلمة التوحيد - لفظاً ومضموناً - ونظائرها من الأمور الاعتقادية، وأن يطفح ذلك على لسانه دوماً بينه وبين نفسه، قال تعالى: «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ»(1).

الثانية: مرحلة تعامل الإنسان مع الآخرين في هذا البعد، عبر بيان ذلك للناس قولاً وكتابةً وغير ذلك، بحيث يصبح مظهر المجتمع مظهراً لكلمات التوحيد والشهادة بها وبالنبوة وما أشبه ذلك.

ويشير إلى هذا بأوفى بيان إعجازي، قوله تعالى: «صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً»(2)، فاللازم أن تتحول الشهادتان، بل الشهادات الثلاث، ونظائرها إلى (صبغة) عامة للمجتمع وشاملة لشتى ميادين الحياة.

ص: 153


1- سورة آل عمران: 191.
2- سورة البقرة: 138.

كلمةً جعل الإخلاص تأويلها،

اشارة

-------------------------------------------

الإخلاص في العقيدة والعمل

مسألة: يجب الإخلاص في الاعتقاديات، وكذا في الأعمال الجوانحية والجوارحية الأخرى في الجملة، فإن الإنسان يجب أن يعقد قلبه على الإيمان بأصول الدين مخلصاً غير مشوب ذلك بشيء(1)، بأن يقوم بأعماله العبادية مخلصاً لله، لا رياءً أو سمعةً، أو طمعاً في أجر دنيوي أو ماأشبه ذلك، إلاّ ما كان على نحو الداعي على الداعي(2)، فإذا لم يكن له إخلاص لم يقبل الله سبحانه منه، كما قال تعالى في قرآنه الحكيم: «وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ له الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ»(3).

ص: 154


1- يمكن توضيح تصور إمكان ووقوع الشرك في القضايا الاعتقادية عبر ذكر بعض الأمثلة: الإيمان بوحدانية الله تعالى لأنه كذلك لا لأجل أنه لولا الإيمان بوحدانيته سيدخل في النار، بحيث لولا هذا التخوف لما آمن بوحدانيته، وكذلك الأمر من حيث الطمع في الجنة في هذا المثال، وكذا في بقية الأمور الاعتقادية. وهناك مثال من نمط آخر: الإيمان برسالة الرسول (صلی الله علیه و آله) لأن الله سبحانه اتخذه رسولاً لا لأنه عربي أو لأنه من قبيلة كذا أو ما أشبه ذلك - مما يذهب إليه القوميون وأشباههم - ولو بنحو التشريك، أي يؤمن برسالته (صلی الله علیه و آله) لأن الله أرسله ولأنه كان عربياً. ويمكن التمثيل بنمط آخر وإن كان نادراً: الإيمان بأي واحدة من أصول الدين لما سبق، لا خوفاً من انكشاف عدم اعتقاده بها وعدم عقد قلبه عليها ولو عبر فلتات اللسان أو عبر أجهزة كشف الأفكار أو ما أشبه ذلك.
2- كمن يُستأجر للصلاة نيابةً عن ميت مقابل كذا من المال، فإن الأجرة لو اعتبرها داعياً لكي يقصد (الصلاة لله) صحّ وإلاّ فلا، والاستثناء في كلام المصنف (رحمة الله) منقطع كما لا يخفى.
3- سورة البينة: 5.

..............................

و(القيمة) صفة لمحذوف أي دين الطريقة القيمة، أو دين النفس القيمة، أو ما أشبه ذلك مما يمكن تقديرها لأن تكون (القيمة) صفة لها، فإن الموصوف إذا كان مذكراً والوصف مؤنثاً، أو بالعكس يقدر مثل هذا التقدير(1).أما بالنسبة إلى ما عدا الاعتقاديات والأعمال العبادية كالمعاملات والأعمال الشخصية وما أشبه، فإن كان مقروناً بالإخلاص كان سبباً للفضل والبركة.

وهناك رواية تفيد استحباب أن يجعل الإنسان كل أعماله حتى أعماله العادية وأفعاله الشخصية اليومية - كالأكل والشرب والمنام مثلاً - لله سبحانه وتعالى، فإذا أكل شيئاً أو شرب الماء، أكله و شربه بلحاظ أن الله سبحانه أمر أن يكون صحيح الجسم سليم الجسد ومتنعماً بنعم الله تعالى: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا»(2).

وفي الروايات: «إن لبدنك عليك حقاً»(3).

وكذلك إذا ذهب إلى دورة المياه، أو سافر للترفيه، أو باشر زوجته، وغير ذلك.

ص: 155


1- وفي تفسير (تقريب القرآن): ج3 ص205: دين القيمة أي دين الكتب القيمة - التي تقدم ذكرها - بمعنى أنه الدين المذكور في تلك الكتب. وفي تفسير (مجمع البيان): ج5 ص522: دين القيمة تقديره دين الملة القيمة؛ لأنه إذا لم يقدر ذلك كان إضافة الشيء إلى صفته وذلك غير جائز، لأنه بمنزلة إضافة الشيء إلى نفسه.
2- سورة الأعراف: 32.
3- راجع بحار الأنوار: ج67 ص128 ب51 ح14.

..............................

بل حتى المكروهات قد يمكن إتيانها لله سبحانه وتعالى إذا كانت محلاً لذلك(1) حيث ورد: «إن الله يحب أن يؤخذ برخصه، كما يحب أن يؤخذ بعزائمه»(2) فتأمل.

وأما في المحرمات بدون أن يكون لها جهة وجوب فلا، نعم إذا صار للمحرم جهة وجوب أهم كان كذلك، كما إذا عمل محرماً تقية أو خوف ضرر أكبر، كخوف الموت إذا لم يستعمل هذا الحرام - كأكل لحم الخنزير في المخمصة - كما قال سبحانه: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ»(3) مما فصل مبحثه في الفقه(4).

ثم لا يخفى أن مرجع ومآل الشهادة ب ( لا إله إلا الله) الإخلاص، والمراد بكون مرجعها الإخلاص: إما المرجعية الثبوتية أو التكوينية، فيكون كلامها (علیها السلام) إخباراً وقد يؤيده السياق، وإما أن يكون المراد هو: عليكم أن ترجعوها للإخلاص، فيكون كلامها(علیها السلام) إنشاءً في قالب الإخبار، فقد جعل سبحانه وتعالى تكويناً أو تشريعاً الإخلاص تأويلاً لكلمة (لا إله إلا الله).

وإذا كانت هذه الكلمة وهي أسّ الدين مرجعها إخلاص فوجوبه - في الجملة - بديهي.

وإذا لم يكن إله غير الله فمن الواضح أنه يجب عقلاً الإخلاص له.

ص: 156


1- بأن عارضها أهم مثلاً.
2- وسائل الشيعة: ج1 ص108 ب25 ح263، والوسائل: ج16 ص232 ب29 ح21441.
3- سورة البقرة: 173.
4- راجع موسوعة الفقه كتاب (القواعد الفقهية) قانون (الأهم والمهم).

..............................

قال علي (علیه السلام): «وكلمة الإخلاص فإنها الفطرة»(1).

وقال علي (علیه السلام): «وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه؛ لشهادة كل صفة أنها غير موصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة»(2)..

فيكون الإخلاص بمعنى الاعتقاد بأنه تعالى خالص من كل نقص وما أشبه، ويكون هذا الاعتقاد واجباً.

ص: 157


1- نهج البلاغة، الخطب: 110 ومن خطبة له (علیه السلام) في أركان الدين.
2- نهج البلاغة، الخطب: 1 ومن خطبة له (علیه السلام) يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم (علیه السلام) .

وضمن القلوب موصولها، وأنار في التفكر معقولها،

اشارة

-------------------------------------------

توحيد الله في أعماق القلوب

مسألة: يستحب أن يؤكد الإنسان على أن التوحيد ومعرفة الله سبحانه من الأمور الفطرية، فإن وجود الله سبحانه وتعالى ووحدانيته من الفطريات التي غرست في أعماق ذات الإنسان(1)، فقد تضمنها قلب كل فرد وقد وصلت بالقلب خلقة كبرهان ملازم، إلاّ أن الغبار قد يتراكم ليحجب الرؤية، فكان التذكير والتأكيد مطلوباً لذلك، فالتركيز على ذلك ينفع الإنسان نفسه وغيره أيضاً.

أما الإنسان نفسه فلأنه إيحاء، والإيحاء يوجب مزيداً من الجلاء ومراتب أعلى من الوضوح(2).

وأما لغيره، فلأنه هداية وإرشاد وإلفات إلى أن الفطرة مطابقة لما أمر الله سبحانه وتعالى من العقيدة القول والعمل، قال سبحانه: «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَالنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ»(3).

فالشهادة إذن موصولة بالقلوب ومغروسة فيها، من وصله فهو موصول، فإن الله سبحانه جعل فطرة الإنسان - في قلبه - بالشهادة على وحدانيته.

ص: 158


1- راجع الكافي: ج2 ص12 باب فطرة الخلق على التوحيد.
2- كما ثبت ذلك في علم النفس.
3- سورة الروم: 30.

..............................

ولما دخلت الشهادة في القلب أعطت نوراً لفكر الإنسان، فإن فكر الموحد له نور خاص كاشف عن الواقع، إذ يرى الأشياء كما هي لا كما يراها الطبيعي والثنوي ومن أشبههما.

وفي الرواية الشريفة: «ليس العلم بكثرة التعلم، إنما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد أن يهديه»(1).

وقال (علیه السلام): «العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء»(2).

وقولها (علیها السلام): «معقولها» لعلّ المراد أن ما يعقل من كلمة التوحيد من المراتب واللوازم، أي ما يمكن أن يتعقله الإنسان منها قد أعطاه الله للإنسان ومنحه إياه حيث أناره في تفكيره، فقد أفاض إلى الحد الذييتحملها العقل البشري وهو غاية اللطف والفضل.

وحيث إن للإنسان مركزين: مركزاً للعاطفة ومركزاً للتفكير، وبعبارة أخرى: قلب وعقل، فقد غرس الله تعالى أصول الدين فيهما، فقد ضمنها القلوب أي التوحيد الفطري، كما أنار بها العقول أي التوحيد النظري(3) كي لايكون للناس على الله حجة بعد ذلك.

ومنه يستفاد أهمية القلب والفكر، والتأكيد عليهما،خاصة في الاعتقادات كالتوحيد.

ص: 159


1- منية المريد: ص167 ب1 الخامس أن يكون عفيف النفس.
2- مصباح الشريعة: ص16 ب6.
3- أي: ما يثبت بالدليل والبرهان العقلي.

الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته،

اشارة

-------------------------------------------

امتناع رؤية الله تعالى ووصفه

مسألة: يجب الاعتقاد بأن الله تبارك وتعالى ليس بجسم، ولا يحلّ في جسم، وليس في جهة، وحكم من قال بكونه تعالى جسماً وادّعى الحلول مذكور في (الفقه)(1).

فإنه سبحانه وتعالى مجرد عن المادة والحيّز والجهة والمكان والزمان والمقدار ومضارعاتها، ولذلك يستحيل رؤيته(2).

وهذه من الصفات السلبية على ما ذكره العلماء في كتبهم الكلامية؛ لأنه تعالى ليس بمركب ولا جسم ولا مرئي ولا محل للحوادث ولا شريك له ولا فقر له في أية جهة من الجهات، وإذا كان الممكن غنياً في بعض الجهات غنىً مجازياً، فإنه تعالى غني بكل أبعادمعنى الغنى، فهو الغني بالذات وهو الغني المطلق، وغيره الفقير المطلق، وما له فهو بالعرض.

ثم إن رؤيته تعالى ممتنعة عن (الأبصار) لا (البصائر) كما ورد في الحديث عن أبي عبد الله (علیه السلام):

«جاء حبر إلى أمير المؤمنين (صلوات الله عليه). فقال: يا أمير المؤمنين، هل رأيت ربك حين عبدتَه؟.

ص: 160


1- راجع موسوعة الفقه: كتاب الطهارة، مبحث النجاسات.
2- كما تستحيل رؤية عدد من المخلوقات كالروح والعقل وما أشبه مما يسمى ب (المجردات)!.

..............................

قال: فقال علي (علیه السلام): ويلك ما كنت أعبد رباً لم أره!

قال: وكيف رأيته؟.

قال: ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان»(1).

أما اللسان فهو أيضاً لا يتمكن من وصف الله سبحانه؛ لأن مفردات اللغة محدودة، واللسان أيضاً محدود كماً وكيفاً، وصفاته تعالى غير محدودة ولا يمكن أن يستوعب المحدود غير المحدود، كما تقدم.

إضافةً إلى أن صفاته سبحانه عين ذاته، وكما لا يمكن إدراك كنه ذاتهفكذلك صفاته، وما يذكر في وصفه تعالى فهو إشارات وعلامات عامة لا غير، قال (علیه السلام): «فليس لكونه كيف، ولا له أين، ولا له حد، ولا يعرف بشيء يشبهه»(2).

ص: 161


1- بحار الأنوار: ج4 ص44 ب5 ح23، والبحار: ج41 ص1516 ب101 ح8.
2- التوحيد: ص173174 ب28 ح2.

ومن الأوهام كيفيته،

اشارة

-------------------------------------------

حرمة التفكر في ذات الله

مسألة: يكره التفكر في ذات الله وكيفيته، وقد يحرم، كما ورد في الروايات(1)، قال الصادق (علیه السلام): «إياكم والتفكر في الله، فإن التفكر في الله لايزيد إلاّ تيهاً، إن الله عزوجل لا تدركه الأبصار ولا يوصف بمقدار»(2).

وقال (علیه السلام): «تكلّموا في خلق الله ولا تكلموا في الله؛ فإن الكلام في الله لايزيد إلاّ تحيراً»(3).

والحرمة نظراً لأن ذلك كثيراً ما يسوق الإنسان إلى الافتراء على الله وإلى أنواع من الانحراف العقائدي(4).

ومع قطع النظر عن ذلك، فإن من الواضح أنه لا يصل فكر الإنسان - مهما أعمله - إلى إدراك كنه ذات اللهسبحانه وكيفيته، وقد ذكرنا في بعض مباحث هذا الكتاب وغيره ما ذكره العلماء في كتبهم الكلامية من أن الإنسان مهما كان ومهما تعالى وتكامل فإنه محدود، والمحدود لا يعقل أن يستوعب غير المحدود، بل إن المحدود الأصغر أو الأضيق لا يستوعب المحدود الأكبر أو الأوسع فكيف بغير المحدود؟!

ص: 162


1- راجع مستدرك الوسائل: ج12 ص247 ب22.
2- وسائل الشيعة: ج16 ص197 ب23 ح21334.
3- الكافي: ج1 ص92 باب النهي عن الكلام في الكيفية ح1.
4- كالقول بوحدة الوجود أو الموجود، والعقول العشرة، وأزلية المخلوقات، وما أشبه.

..............................

فلا يصل إلى كنه الله سبحانه وتعالى علم ولا ظن ولا وهم إطلاقاً على نحو الاستحالة، وإذا كان الإنسان عاجزاً عن معرفة كنه الروح - وهي إحدى مخلوقات الله تعالى - بل عن معرفة كنه النور(1) وكنه (الكهرباء) وما أشبه، فإنه عن معرفة الواجب جل وعلا أعجز.

وإنما يعرف بآثار الله سبحانه وتعالى أنه موجود وأن له الصفات الثبوتية وأنه منزه عن الصفات السلبية، مما يعبر عنه بالبرهان الإني...ولتقريب(2) ذلك نقول: إن الوهم والتصور إنما يتمكن أن يعرف الأشياء بالمشابهات، وحيث إنه لا مشابه لله تعالى فلا يعقل أن يعرف الوهم كيفيته سبحانه.

وها هنا نكتة لطيفة وهي تدرجها (علیها السلام) من الأدنى للأعلى:

ف (رؤيته) تعالى ممتنعة على (الأبصار).. بل (وصفه) ممتنع على (الألسنة) رغم قدرة الإنسان الأوسع على وصف ما يرى وبعض ما لا يرى(3)..

بل إن (الأوهام) يمتنع عليها أيضاً أن تنال (كيفيته) رغم ما للوهم من القدرة الهائلة.

ص: 163


1- كل ما قيل في تعريف النور وأشباهه فإنه (شرح الاسم) وليس ب (الحد) ولا ب (الرسم). فالنور عبارة عن فوتونات و... لكن ما هو كنه الفوتون؟. و(الذرة) مركبة من الكترون وبروتون وشحنة سالبة وموجبة و... ولكن ما هو كنه ذلك؟، وهكذا.
2- قوله (قدس سره): (لتقريب...) قد يكون إشارة إلى أن هذا بيان عرفي للمطلب، إذ لو فرض - وفرض المحال ليس بمحال - وجود شريك ومشابه له تعالى عن ذلك علواً وكبيراً لما أمكن للوهم أيضاً إدراكه تعالى لما أسلفه (قدس سره) من قاعدة المحدود واللا محدود فدقق.
3- كما يصف ما يدركه بالحواس الخمس وغيرها أحياناً.

ابتدع الأشياء لا من شي ء كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها،

اشارة

-------------------------------------------

استحباب التفكير في أفعال الله تعالى

مسألة: يستحب التفكير في أفعال الخالق جل وعلا ومخلوقاته، وكذلك في شؤونه سبحانه - في الجملة - ضمن الإطار الذي بينته الآيات والروايات، وعلى ضوء المنهج الذي رسمه القرآن والعترة (علیهم السلام)، وبنفس المقدار والحد الذي حددوه لنا.

قال تعالى: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ»(1).

وقال سبحانه: «هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ»(2).

وكذلك الآيات والروايات الأخرى:

قال الإمام الباقر (علیه السلام): «إياكم والتفكر في الله! ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظيم خلقه»(3).

ومنها كلماتها (عليها الصلاة والسلام) في هذه الخطبة «ابتدع... »، وما سبق وسيلحق.

ص: 164


1- سورة آل عمران: 190.
2- سورة الحشر: 23.
3- وسائل الشيعة: ج16 ص195 ب23 ح21327.

..............................

ومن الواضح أنهم (علیهم السلام) «الدعاة إلى الله، والأدلاء على مرضاة الله... والمظهرين لأمر الله ونهيه»(1).

وهذا أمر عقلي عقلائي في كل محدود جاهل يبحث عن مجهول، فعليه أن لا يتعدى الحدود التي رسمها له العالم، وأن يمشي على ضوء إرشاداته ووفق علاماته وهدايته، وإلاّ فالهلاك مصيره، كما ورد: «فالراغب عنكم مارق، واللازم لكم لاحق، والمقصر في حقكم زاهق، والحق معكم وفيكم ومنكم وإليكم، وأنتم أهله ومعدنه»(2).

والتفكير في ذلك(3) يعد مصداقاً لقوله تعالى: «إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ»(4).

وقوله سبحانه: «فَاذْكُرُونِيأَذْكُرْكُمْ»(5)، والذكر أعم من الذكر باللسان أو الجنان أو الذكر العملي، وذكره تعالى أعم من ذكر وحدانيته وصفاته وأفعاله.

وقد ألمعنا سابقاً إلى معنى الابتداع، إذ لم يكن هناك مثال سابق قد أخذ من ذلك المثال، كما هو الأكثر أو الدائم في الناس، حيث إنهم يرون ويسمعون وما أشبه ذلك أشياء سابقة، متخيلة أو متوهمة أو محسوسة أو معقولة، ثم

ص: 165


1- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص610 زيارة جامعة لجميع الأئمة (علیهم السلام) ح3213.
2- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص612 زيارة جامعة لجميع الأئمة (علیهم السلام) ح3213.
3- أي في أفعاله ومخلوقاته سبحانه.
4- سورة الرعد: 3، سورة الروم: 21، سورة الزمر: 42، سورة الجاثية: 13.
5- سورة البقرة: 152.

..............................

يعملون - والمراد بالعمل: الأعم من العمل الذهني والخارجي - أشياء جديدة، كالمصور يصور شيئاً رآه أو سمعه، أو من يقوم برسم ما يشابه ذلك الشيء أو ينتزع صورة إبداعية في الظاهر، ولكن في الحقيقة ليس ذلك ابتداعاً، وإنما هو جمع وتفريق وما أشبه ذلك، أو إنه يستمد مما هو مخزون في فطرته أو عقله أو وعيه الباطن(1).هذا ولا يخفى أن التفكر في الكون وعظمته وعظمة خالقه بالإضافة إلى دلالة جملة من الآيات والروايات عليه - كما سبق - يوجب توثيق الارتباط بالله سبحانه وتعالى، والاتصال بالله يسبّب استقامة التفكير وسموه وصقل الروح واستحكام النفس الملهمة بالتقوى وغلبتها على النفس الأمارة، وإيجاد معان متعالية أخرى في الإنسان، كالتوكل على الله والرضا بقضائه والتسليم لأمره، وما أشبه ذلك، وهذا من علل الدعوة للتفكر في مخلوقاته تعالى.

قال جل وعلا:

«أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِْبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (علیهم السلام) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (علیهم السلام) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (علیهم السلام) وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (علیهم السلام) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (علیهم السلام) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ»(2).

فإنه تعالى أحدث (الأشياء) كلها وابتدأ خلقها لا عن مادة موجودة سابقاً،

ص: 166


1- إضافة إلى أن كل شخص قد مر بعوالم سابقة كعالم الذر - مثلاً - ولا يعرف ما الذي شاهده أو سمعه هناك، بالإضافة إلى أن العالم مليء بالأصوات والذبذبات والأمواج وما أشبه، ولعل ما خطر بباله مما تصوره إبداعاً هو مما التقطه من تلك الذبذبات ونحوها.
2- سورة الغاشية: 17-22.

..............................

إذ لا يعقل أن تكون المادة أزلية؛ لأن كل متغير حادث، فإن المتغير لا يكون قديماً، كما أن القديم لا يكون متغيراً، على ما فصل في علم الكلام(1).

فالعلة المادية والعلة الصورية للشيء كلاهما مخلوقان له تعالى.

ويمكن الاستناد - في جملة الأدلة النقلية - إلى كلامها (علیها السلام) هذا: «ابتدع الأشياء» في إبطال أزلية العالم والعقول العشرة وما أشبه(2).

ولم يكن هناك مثال سابق حتى يخلق الله تعالى الأشياء على تلك الأمثلة مقتدياً بها، وربما يستشم أن الجملة الأولى(3) إشارة للعلة المادية، وهذه الجملة(4) إشارة للعلة الصورية.

ص: 167


1- ومن الأدلة على ذلك برهان الدور والتسلسل، راجع (القول السديد في شرح التجريد) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- فإن (الأشياء) جمع محلى بأل فيفيد العموم.
3- أي: «ابتدع الأشياء... ».
4- أي: «وأنشأها... ».

كونها بقدرته، وذرأها بمشيته،

اشارة

-------------------------------------------

قدرته تعالى

مسألة: يجب الاعتقاد بقدرته تعالى، والتفصيل مذكور في علم الكلام.

قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(1).

وقال سبحانه: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً»(2).

فإن التكوين كان بالقدرة لا بآلة حتى يكون من قبيل قطع الحطب بالمنشار، وإلاّ لعاد الكلام إلى خلق تلك الآلة وهكذا، فيتسلسل، والتفصيل في محله.

مشيئته تعالى

مسألة: يجب الاعتقاد بمشيئته تعالى وإرادته وأنه الفاعل المختار، على ما هو مذكور في علم الكلام.

قال سبحانه: «يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشاءُ»(3).

وقال تعالى: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُوَيَخْتَارُ»(4).

وقال سبحانه: «إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ»(5).

ص: 168


1- سورة البقرة: 20 و106 و109 و148 و259، ومواضع أخرى من القرآن.
2- سورة فاطر: 44.
3- سورة النور: 45.
4- سورة القصص: 68.
5- سورة هود: 107.

..............................

وقال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ»(1).

وقال عزوجل: «وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَداً (علیهم السلام) إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ»(2).

وقال سبحانه: «وَمَا تَشاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ»(3).

و(الذرء) الخلق، فكأنه يهب على الممكن نفحة الوجود ب (الذاريات)، فالفرق بين الخلق والذرء بالاعتبار(4).و(المشيئة) من (شاء) أي أراد، والمراد: الإرادة التي هي صفة الفعل، لا صفة الذات.

ص: 169


1- سورة الحج: 14.
2- سورة الكهف: 23-24.
3- سورة التكوير: 29.
4- وفي تفسير (تقريب القرآن) للإمام المؤلف (قدس سره): ج26 ص163: «وَالذَّارِيَاتِ» الواو للقسم، أي قسماً بالذاريات وهي الرياح التي تذروا التراب وغيره «ذَرْواً» مفعول مطلق للتأكيد. وفي (مجمع البيان): ج5 ص152: ذرت الريح التراب تذروه ذرواً، إذا طيرته وأذرته تذيره بمعناه. وفي (لسان العرب): ج14 ص282 مادة ذرو: ذرا: ذرت الريح التراب وغيره، تذروه وتذريه ذرواً وذرياً وأذرته وذرته: أطارته وسفته وأذهبته، وقيل: حملته فأثارته وأذرته، إذا ذرت التراب وقد ذرا هو نفسه... وفي التنزيل العزيز: «وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً»، يعني الرياح... وأذريت الشيء إذا ألقيته مثل إلقائك الحب للزرع. ذرأ: في صفات الله عزوجل، الذارئ، وهو الذي ذرأ الخلق: أي خلقهم، وكذلك البارئ، قال الله عزوجل: ولقد ذرأنا لجنهم كثيرا، أي: خلقنا.وقال عزوجل: خلق لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه. انتهى.

من غير حاجة منه إلى تكوينها،

اشارة

-------------------------------------------

الغني المطلق

مسألة: يجب الاعتقاد بأنه تعالى هو الغني المطلق، ولا يحتاج إلى أي شيء.

وتفصيل الكلام في علم الكلام.

قال سبحانه: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ»(1).

وقال تعالى: «وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُوالرَّحْمَةِ»(2).

وقال سبحانه: «فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ»(3).

وقال تعالى: «لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ»(4).

إفاضة الخير لذاته

مسألة: يستحب أن يفعل الإنسان الخير وإن لم يكن محتاجاً إليه، بل أن يفعل الخير لذاته بما هو هو، لا لما سيرجع منه إليه.

ص: 170


1- سورة البقرة: 267.
2- سورة الأنعام: 133.
3- سورة آل عمران: 97
4- سورة لقمان: 26.

..............................

والعبارة (1) عرفية، إذ المراد ب (الحاجة) الحاجة الظاهرية الدنيوية، وإلاّ فإن (الخير) مطلقاً له فائدة يحتاجها الإنسان، إما بنحو الأثر الوضعي الدنيوي أو بنحو الأجر الأخروي.

وذلك لما تقدم من استحباب تخلّق الإنسان بأخلاق الله سبحانه وتعالى حيثورد: «تخلقوا بأخلاق الله»(2)، وإن كان الأمر فيه تعالى امتناعاً وفي الإنسان إمكاناً (3).

أما ما في الحديث القدسي: «كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق لكي أُعرف»(4)؛ فإن محبة المعرفة لفائدة العارف(5) لا لفائدة المعروف(6)، كما أن ظهور الكنز واستخراجه نافع للمستخرج لا للكنز كما لا يخفى.

ص: 171


1- أي: (وإن لم يكن محتاجاً إليه).
2- بحار الأنوار: ج58 ص129 ب42 تتميم.
3- أي: الحاجة في الله سبحانه ممتنعة، أما في الإنسان فالحاجة لفعل الخير ممكنة ذاتاً.
4- بحار الأنوار: ج84 ص199 ب12 ضمن ح6 بيان.
5- أي: الخلق.
6- أي: الخالق.

ولا فائدة له في تصويرها،

اشارة

-------------------------------------------

الفرق بين الحاجة والفائدة

ويمكن القول في الفرق بين (الحاجة) و(الفائدة) حيث قالت (علیها السلام): «من غير حاجة... ولا فائدة»:

أن (الحاجة) تطلق بالنظر إلى القابل، والفائدة بالنظر إلى الفاعل، فالحاجة تنسب للمُعطى والمستفيد، والفائدة تنسب للمعطي والمفيد.

وربما يقال: بأن النسبة بينهما العموم من وجه، فقد يكون الإنسان محتاجاً لشيء وفيه فائدة له، وقد لا يكون مفيداً له، وقد يكون مستفيداً من شيء دون حاجة منه إليه.

وعلى هذا، فكما يستحب فعل الخير وإن لم تكن للإنسان حاجة إليه، كذلك يستحب فعله وإن لم تكن له فيه فائدة.

والله سبحانه وتعالى لا يستفيد من صور الأشياء، كما لا يستفيد من ذاتها وخلقها، فإن الشيء قد يفيد بذاته كالذهب، وقد يفيد بصورته كالأوراق النقدية، وقد يفيد بكليهما كالمصوغ من الذهب والمجوهرات.

ص: 172

إلاّ تثبيتاً لحكمته،

اشارة

-------------------------------------------

الحكمة الإلهية

مسألة: يجب الاعتقاد بأنه تعالى حكيم، والتفصيل في علم الكلام(1)، قال سبحانه: «يَا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»(2).

وقال تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ»(3).

وقال عزوجل: «عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ»(4).

الإشارة إلى علل الخلقة

1: تبين الحكمة وتثبيتها

مسألة: ومن المستحب - بل اللازم في الجملة - السعي لتبيين حِكَم أفعاله تعالى للناس على ضوء المستفاد منالآيات والروايات والعقل - بالقدر الذي يدركه - فإن ذلك يوجب تثبيت إيمان الناس واطمئنان قلوبهم ودفعاً لوساوس الشياطين وشبهات الملحدين.

ص: 173


1- راجع (القول السديد في شرح التجريد) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- سورة النمل: 9.
3- سورة الأنعام: 83 و128.
4- سورة الأنعام: 73.

..............................

وفي كلامها (علیها السلام) دلالة واضحة أكيدة على ذلك، إذ لما كان تبيين أو تثبيت الحكمة الإلهية إحدى علل الخلقة، كان السعي لبيانها لمن جهل بها أو غفل عنها ضرورياً عقلاً في الجملة، وهي من (دفائن العقول) التي بعث الأنبياء (علیهم السلام) ليثيروها(1).

ثم لا يخفى أن الاستثناء في كلامها (علیها السلام) منقطع.

وأصل تكوين الأشياء وتصويرها بتلك الصور والهيئات، كلاهما دليل على حكمته جل وعلا، فإن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه، وإفاضة الوجود على (الماهيات القابلة) من القادر الكريم وفي الوقت المعين وبمكتنفات معينة وبالإشكال المخصوصة، أكبر دليل على الحكمة اللا متناهية له جل وعلا، قال(علیه السلام): «وضعهم في الدنيا مواضعهم»(2).

وبمقدور الإنسان أن يتعرف على بعض الحكمة بالتدبر والتفكر والسير في الآفاق والأنفس، قال تعالى:

«سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ»(3).

هذا وفي بعض النسخ: «تبييناً لحكمته».

ومما سبق يعلم أن تبيين أو تثبيت الحكمة، ترجع فائدتها للإنسان نفسه لا له تعالى إذ هو الغني المطلق وقد سبق بيانه.

ص: 174


1- قال (علیه السلام): «ويثيروا لهم دفائن العقول» نهج البلاغة، الخطب: 1، ومن خطبة له (علیه السلام) يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم (علیه السلام).
2- نهج البلاغة، الخطب: 193، ومن خطبة له (علیه السلام) يصف فيها المتقين.
3- سورة فصلت: 53.

..............................

ومن الواضح أن (تبيين الحكم الإلهية) هو من بواعث تكامل الإنسان، كما أن العلل اللاحقة في كلامها (علیها السلام) كلها طرق وعوامل لمزيد من ذلك، كما سيأتي.

ومن الواضح أيضاً أن توغل الإنسان في العلوم الفلكية والفيزيائية والكيماوية وما أشبه يزيد الإنسان تكاملاً واقتراباً من أوجه الحكمةالمختلفة في صنع الأشياء.

ولذلك نجد أن الإنسان كلما ازداد علماً، ازداد تواضعاً أمام عظمة هذا الكون، وازداد إيماناً بالباري جل وعلا.

ص: 175

وتنبيهاً على طاعته،

اشارة

-------------------------------------------

2: الإرشاد إلى طاعته تعالى

مسألة: يجب تنبيه الناس وإرشادهم إلى طاعة أوامره تعالى، فإنها من العلل الغائية للخلقة، وهي السبب في السعادة الدنيوية والأخروية.

قال سبحانه:

«وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ»(1).

والإرشاد إلى طاعة الأوامر الاستحبابية مستحب، ومنها يعلم حكم التنبيه على إطاعته تعالى في المحرمات والمكروهات تركاً.

أما المباح فالإرشاد إليه ربما يعد على بعض الوجوه مستحباً(2)، قال (علیه السلام): «إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه»(3).

وقال (علیه السلام): «فصار الأخذ برخصه واجباً على العباد كوجوب مايأخذون بنهيه وعزائمه»(4).

وقولها (علیها السلام)(5) إشارة إلى قوله تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ

ص: 176


1- سورة الأعراف: 96.
2- أو واجباً، فدقق.
3- وسائل الشيعة: ج1 ص108 ب25 ح263، والوسائل: ج16 ص232 ب29 ح21441.
4- بحار الأنوار: ج17 ص5 ب13 ح3.
5- أي: «تنبيهاً لطاعته».

..............................

لِيَعْبُدُونِ» (1) حتى يطيعوا فيستحقوا الثواب الدائم.

والجملة السابقة(2) تشير إلى معرفته جل وعلا، وهذه الجملة - مسبوقة بتلك - ترشد إلى لزوم العمل على طبق تلك المعرفة(3).

وقد يكون المراد من هذه الجملة: التنبيه على أن كل شيء مطيع له، قال سبحانه: «قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ»(4).

وقال تعالى: «مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا»(5).وعلى الاحتمال الأول فهذه الجملة تتضمن إنشاء، وعلى هذا الاحتمال تتضمن إخباراً بالإطاعة التكوينية.

ص: 177


1- سورة الذاريات: 56.
2- أي: «تنبيهاً لحكمته».
3- أي: إن الخالق عندما يكون حكيماً في تكوينه وتشريعه كان من اللازم عقلاً الامتثال لأوامره ونواهيه.
4- سورة فصلت: 11.
5- سورة هود: 56.

وإظهاراً لقدرته،

اشارة

-------------------------------------------

3: إظهار قدرته عزوجل

مسألة: ابتداع الأشياء لا من شيء كان قبلها، وإنشاؤها بلا احتذاء أمثلة امتثلها، أكبر دليل على القدرة الذاتية اللا متناهية(1) للخالق جل وعلا.

ومن الطبيعي أن ظهور هذه القدرة وتجليها للناس أكثر فأكثر يسبب تعبدهم بأوامره وطلبهم رضاه تعالى، وهو من أسباب إعزاز دعوته، لذلك كان من الواجب - في الجملة - بيان القدرة الإلهية للناس، وهو مما يقرب المبين والمبين له إلى الله سبحانه وتعالى.

كما ينبغي لأولياء الله أن يظهروا قدرتهم للناس فيما إذا كان في ذلك دفع لتعديات الأشرار، قال تعالى: «وَأَعِدُّوا لهمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ»(2).

سواء كان في ذلك فائدة دينية أمفائدة دنيوية مشروعة، وسواء كانت ترجع الفائدة إلى نفس الإنسان أم إلى غيره، قال سبحانه: «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً»(3).

ص: 178


1- نظراً لدلالتها على الصدور من واجب الوجود، وهو لا يمكن إلاّ أن يكون لا متناهياً بقول مطلق، والتفصيل في الكتب الكلامية.
2- سورة الأنفال:60.
3- سورة البقرة: 201.

وتعبداً لبريته،

اشارة

-------------------------------------------

4: التعبد لله تعالى

مسألة: العبادة هي غاية الخضوع والتذلل، والتعبد هو: طلب العبادة(1).

وغاية الخضوع والتذلل لا يحق إلا لمن هو غاية في الرفعة والعظمة والجلال، فالواجب عبادته تعالى وحده، والامتثال لأوامره ونواهيه، وقد قال سبحانه: «وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ له الدِّينَ»(2).

ومن الواضح إن التعبد(3) - وهو منباب التفعل الذي يأتي أيضاً بمعنى المطاوعة والتكلف وتكرر الفعل والديمومة عليه(4)- في العبادات الواجبة واجب وشرط، وفي العبادات المستحبة شرط لها، أما في سائر الأمور، فإن من تعبد

ص: 179


1- قال في (لسان العرب):ج3 ص271 مادة عبد: (تعبد الله العبد بالطاعة أي استعبده. واستعبده من باب الاستفعال، المراد به طلب الفعل، إذ من معاني باب التفعل: طلب الفعل، ومن معانيه اتخاذ الفاعل أصل الفعل مفعولاً، فتعبدنا الله أي: اتخذنا عبيداً، ومن معانيه الصيرورة، فتعبد زيد أي: صار عبداً).
2- سورة البينة: 5.
3- المراد به في كلامه (قدس سره) هنا: الإتيان بالفعل بقصد القربة، وبعبارة أخرى: إتيان الفعل المأمور به لأنه مأمور به، وبعبارة ثالثة: الإتيان بالعبادة لأنه عبد لله.
4- المطاوعة: مثل كسرت الزجاج فتكسر، وعبدنا الله فتعبدنا، والتكلف مثل: تحلم زيد أي تكلف الحلم وعاناه ليحصل عليه، وتعبد زيد أي ضغط على نفسه وكلفها بالعبادة رغم الأهواء والشهوات فتعبدت، وتكرر الفعل والديمومة عليه مثل: تجرع الغصص، قال في (المجمع): ج3 ص95 مادة عبد: العبد المتعبد: الدائم على العبادة.

..............................

حصل على القرب والثواب الجزيل، ومن لم يتعبد لم يكن عليه إثم، وقد ورد في الروايات أن من المستحب أن يعمل الإنسان كل شيء لله سبحانه وتعالى كما تقدم الإلماع إليه.

فالعلة الغائية للخلقة هي: طلب عبادتهم، أو صيرورتهم عبيداً، أو ما أشبه، قال سبحانه: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ»(1) أي: ليعبدون باختيارهم - على بعض الاحتمالات - أو المراد مِن (يعبدون): لأدعوهم وأطلب منهم عبادتي، كما أشارت (علیها السلام) إليه بكلمة «تعبداً»، وقد يكونذلك دفعاً لشبهة الجبر(2).

والفرق بين «وتنبيهاً على طاعته» وبين «وتعبداً لبريته» - بناء على كون الجملة السابقة إخبارية - واضح(3).

وأما على كونها إنشائية فالفرق أن (التعبد) مرتبة أقوى من (الإطاعة) كما يظهر من معنى (العبادة) و(التعبد) فيما سبق.

إظهار العبودية لله تعالى

مسألة: يستحب إظهار العبودية لله تعالى في الجملة.

ومن المعلوم أن إظهار العبودية غير التعبد، فإن التعبد إنما هو بين الإنسان وبين ربّه، وإظهار العبودية عبارة عن إظهارها للناس، نعم هذا في غير ما يفضل

ص: 180


1- سورة الذاريات:56.
2- إذا كان بمعنى طلب العبادة كما سبق.
3- إذ تكون تلك إشارة للجانب التكويني، وهذه إشارة للجانب التشريعي.

..............................

أن يأتي الإنسان به سرّاً، والشارع قسّم الأمر إلى ما يستحب إظهاره وإلى ما يستحب إسراره.

وذلك لأن الإظهار تقوية لقلوب الناس، ودعوة لهم إلى الارتباط باللهسبحانه وتعالى، وإيجاد قدوة ومثال صالح لهم، ولذا أمر الشارع بصلاة الجماعة وشبهها(1)، وقال تعالى: «وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً»(2).

وجاء في معاهدة صلح الحديبية: «... وعلى أن يعبد الله بمكة علانية»(3).

وقد يكون الإسرار - أحياناً - أقرب إلى الإخلاص، ولذا نرى في أعمال الأنبياء والأئمة (عليهم الصلاة والسلام) كلا القسمين.

التربية على حالة العبودية

مسألة: يلزم تربية الناس على الحالة العبودية لله تعالى، وقد ورد: «لا اله إلاّ الله عبوديةً ورقاً»(4).

كما يستحب تربية الأطفال على ذلك أيضاً، حيث أمروا بالصلاة والصيام وما أشبه قبل البلوغ(5).

ص: 181


1- راجع موسوعة الفقه: ج23 ص377-391 كتاب الصلاة، فصل في الجماعة.
2- سورة الرعد: 22، سورة فاطر: 29.
3- بحار الأنوار: ج20 ص362 ب20 ح10.
4- الكافي: ج2 ص519 باب من قال (لا إله إلا الله حقاً حقاً) ح1.
5- راجع وسائل الشيعة: ج4 ص18 ب3 ح4397، وفيه: عن معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) في كم يؤخذ الصبي بالصلاة؟. فقال (علیه السلام): «فيما بين سبع سنين وست سنين». وراجع مستدرك الوسائل: ج7 ص391 ب16 ح8499، وفيه: «وأما صوم التأديب فإنه يؤمر الصبي إذا بلغ سبع سنين بالصوم تأديباً ليس بفرض».

..............................

وذلك لأن التربية على العبودية وتعليمها وتركيزها في النفوس - إضافة إلى كونها كمالاً ومرتبة سامية - مقدمة توفر الأرضية الصالحة لتجنب المعاصي وللالتزام بالأوامر الإلهية، فيجب في مورد الوجوب، ويستحب في مورد الاستحباب مطلق التربية والتعليم.

حرمة عبادة غير الله

مسألة: تحرم عبادة غير الله تعالى، منها عبادة الأصنام سواء كانت عبادتها بما هي هي، أو بدعوى أنها طريق إلى الله تعالى، كما في القرآن الحكيم: «مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفى»(1).

فإنه لا تجوز العبادة لغير الله سبحانه، سواء كان إنساناً أو نفساً أو ناراً أو ما أشبه ذلك من مختلف الأصنامالحجرية والبشرية وغيرها، بل لا تجوز العبادة حتى رياءً وسمعة كما ورد في النص والفتوى، قال سبحانه: «وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ له الدِّينَ»(2).

وقد ورد في الحديث: إن الله تعالى يقول للمرائي يوم القيامة: «أنا خير شريك، من أشرك معي غيري في عمل عمله لم أقبله إلاّ ما كان لي خالصاً»(3).

ص: 182


1- سورة الزمر: 3.
2- سورة البينة: 5.
3- وسائل الشيعة: ج1 ص61 ب8 ح131.

..............................

وفي رواية: «إن الله يقول: أنا خير شريك من عمل لي ولغيري فهو لمن عمل له دوني»(1).

وقال علي (علیه السلام): «اعملوا لله في غير رياء؛ فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى عمله يوم القيامة»(2).

نعم، إذا كانت العبادة لله سبحانه طمعاً في جنة أو خوفاً من نار، أو لحاجة دنيوية، كشفاء مريض أو دفع عدوأو الحصول على مال أو ما أشبه ذلك(3) فإنها صحيحة أيضاً، وتكون من مصاديق العبادة لله تعالى، وقد قال سبحانه: «وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ»(4).

وقال تعالى: «يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً»(5).

نعم الرتبة الأسمى من العبادة: هي عبادته جل وعلا لأنه أهل للعبادة، كما قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، لكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك»(6).

فإنه هو المنعم الحقيقي بل(7) الكمال المطلق.

ص: 183


1- مستدرك الوسائل: ج1 ص110-111 ب12 ح118.
2- نهج البلاغة، الخطب: 23، ومن خطبة له (علیه السلام) وتشتمل على تهذيب الفقراء بالزهد وتأديب الأغنياء بالشفقة.
3- مما كان بنحو الداعي على الداعي.
4- سورة الأنبياء: 90.
5- سورة السجدة: 16.
6- قصص الأنبياء للجزائري: ص211 ب11.
7- (بل) هذه للإضراب وبقصد الترقي كما لا يخفى.

وإعزازاً لدعوته،

اشارة

-------------------------------------------

5: إعزاز الدعوة

مسألة: (إعزازاً) أي: لأجل تقوية الدعوة وغلبتها(1)، ومنه يعلم رجحان ما يوجب إعزاز دعوته تعالى، ودعوته هي للإيمان به وتوحيده وعدله وللإيمان برسله وكتبه، إلى آخر أصول الدين وما يتفرع عنها.

وفي الصحيفة السجادية في وصفه (صلی الله علیه و آله): «إرادة منه لإعزاز دينك»(2).

وهذه الجملة والجمل السابقة يحتمل أن تكون تعليلاً لأصل الخلقة وتكوين الأشياء، ويحتمل أن تكون تعليلاً لنحوها وكيفيتها وخصوصيتها، أي لكون الخلقة لا من شيء كان قبلها وبلا احتذاء أمثلة، وكونها بالقدرة لا بالآلة... ففي هذا الإظهار الأتم للقدرة والإعزازالأكبر للدعوة، وهو أدعى لتعبد البرية والتنبية على الطاعة، وقد يكون الاحتمال الأول أقرب وأسرع تبادراً.

وإذا كان من علل الخلقة إرادته جل وعلا (إعزاز الدعوة) كان (إعزازها) عنواناً مستقلاً مصرحاً به يدور مداره كثير من الأحكام سلباً وإيجاباً.

وذكر (إعزاز الدعوة) تعليلاً للخلقة من باب ما يؤول إليه الشيء(3).

ص: 184


1- العزة: هي القوة والغلبة.
2- الصحيفة السجادية الكاملة: ص40 وكان من دعائه (علیه السلام) بعد هذا التحميد في الصلاة على رسول الله (صلی الله علیه و آله)، منشورات مؤسسة الأعلمي بيروت.
3- هذا دفع وحل مقدر فليدقق.

..............................

وفي بعض النسخ: «إعزازاً لأهل دعوته»(1)، فيدلّ على رجحان إعزاز حملة الدين كما هو واضح.

بيان العلل والأهداف

مسألة: ينبغي للإنسان بيان العلل والأهداف والغايات المترتبة على كل قرار يصدره، أو موقف يتخذه، أو منهج يرسمه.

سواء كان لعائلته أم لأصدقائه أم للتجمعات المحيطة به أم المتعاملة معه أم لمجتمعه.

وسواء كان في الشؤون الدينية أمالدنيوية، الاقتصادية أم السياسية، الاجتماعية أم غيرها.

إذ أن ذلك يوجب مزيداً من اعتماد الآخرين على الإنسان، إضافة على أنه تربية للناس على التفكر والتعقل والتدبر، وتقييم كل شيء بمنظار المنطق والدليل والحكمة، كما دعا إليه القرآن الكريم، وعدم الإتباع الأعمى كما كان دأب المشركين: «إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ»(2).

ثم إنه يوجب تصحيح الخطأ في قرار أو مسيرة الإنسان والحيلولة دون الاستبداد، إذ تعويد الناس على ذكر العلل يوجب نموهم فكرياً وتصديهم لإسداء النصح والمشورة ولذا كانت: «المشورة مباركة»(3).

ص: 185


1- كشف الغمة: ج1 ص482 خطبة فاطمة (علیها السلام).
2- سورة الزخرف: 23.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص45 ب24 ح15604.

..............................

و«أعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله»(1).و«من استبد برأيه هلك»(2).

و«الاستشارة عين الهداية»(3).

و«ما عطب من استشار»(4).

وما أشبه.

إضافة إلى أنه تأس وإقتداء بالمعصومين (علیهم السلام) في ذكرهم العلل التشريعية والتكوينية (5) كما ذكرت (علیها السلام) ها هنا العلة في خلق العالم، ومن قبله العلة في حمده تعالى وشكره، وستذكر (علیها السلام) العلة في بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) واختياره، والعلة في استخلاف القرآن عليهم، والعلة في اختيار علي (علیه السلام) دون غيره، ثم تطرقت لعلل جعل العديد من فروع الدين وأحكامه وغيرها.

وكما تطرق القرآن الكريم من قبل لبيان علل أو حِكَم الكثير من الأمور التكوينية أو التشريعية، وقد أشرنا إليه في مواطن من هذا الكتاب وغيره.

ص: 186


1- راجع غرر الحكم ودرر الكلم: ص442 ق6 ب4 ف1 شاور هؤلاء ح10080، وفيه: «من شاور ذوي العقول استضاء بأنوار العقول».
2- نهج البلاغة، قصار الحكم: 161.
3- نهج البلاغة، قصار الحكم: 211.
4- مستدرك الوسائل: ج8 ص342 ب20 ح9609.
5- راجع مثلاً كتاب (علل الشرائع).

..............................

الهدف تكامل الإنسان

وأخيراً فإن العلل الخمسة المذكورة في كلامها (علیها السلام) كلها مما يصب في طريق تكاملية الإنسان(1) واقترابه الأكثر إلى مصدر الكمال المطلق والحق المطلق، فهي تعود إلى الإنسان نفسه أولاً وأخيراً، قال تعالى: «إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ»(2).

فقد خلقهم لرحمته(3) كما ورد فيالحديث عن أبي عبد الله (علیه السلام): «فإن الله تعالى خلق خلقاً لرحمته»(4).

ص: 187


1- فمعرفة حكمة الله وقدرته وإطاعة أوامره والتعبد بها وإعزاز دعوته كلها تزيد الإنسان تكاملية، مادية ومعنوية، دنيوية وأخروية.
2- سورة هود: 119.
3- فإذا كان الناس يركضون وراء المال أو الشهرة أو الرئاسة أو حتى العلم - بما هو علم - فإنها جميعاً كمالات مجازية محدودة فانية «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (علیهم السلام) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِْكْرامِ» سورة الرحمن: 26-27 .أما معرفة الله وإطاعته فهو الكمال الحقيقي للإنسان. والعلم - كالعلوم الطبيعية والإنسانية وما أشبه - يكتسب قيمته الحقيقة الخالدة إذا كان في هذا الإطار كجسر للاقتراب من الحقيقة الخالدة وكطريق لاكتساب رضا الله تعالى، بما تقدمه العلوم من خدمة الإنسان الذي أمر الله سبحانه فطرة وعقلاً وشرعاً بإعطائه حقه والتعاون معه والإحسان إليه وإلا لكانت له قيمته مجازية محدودة يثيبه الله عليها دنيوياً و… والعلوم مع ذلك تكشف جانباً من عظمة الله وقدرته وحكمته في مخلوقاته.
4- قرب الإسناد: ص35.

ثم جعل الثواب على طاعته،

اشارة

-------------------------------------------

الإثابة على الإطاعة

مسألة: يستحب جعل الثواب على الإطاعة وعلى الالتزام بالقانون، من غير فرق بين رب العائلة والمعلّم والقائد وغيرهم، وربما وجب، فإنه إتباع لله سبحانه وتعالى ولسنة الرسل والأنبياء (علیهم السلام) .. وهو سيرة العقلاء(1)، حيث يجعلون الثواب على الطاعات سواء كانت الطاعات إيجابية أم سلبية، مثل جعل الثواب على ترككذا من الأعمال الضارة المنافية، كما ورد عنه (علیه السلام): «من ترك مسكراً مخافة الله أدخله الجنة وسقاه من الرحيق المختوم»(2) ومن ترك الكذب كان له من الثواب كذا، وما أشبه(3).

والثواب أعم مما يعطيه الله للإنسان في الدنيا أو في الآخرة، قال تعالى: «فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآْخِرَةِ»(4).

وجعل الثواب هو من حكمة الله، وهو من الطرق التي وضعها الله لتعبد البرية وجرّهم للطاعة - وهذا من غاية لطف الله وفضله - ومن أسباب إعزاز الدعوة، ومن مظاهر قدرة الله أيضاً.

ص: 188


1- في الجملة.
2- الكافي: ج6 ص404 باب مدمن الخمر ح1.
3- للتفصيل راجع كتاب (ثواب الأعمال) للشيخ الصدوق (قدس سره).
4- سورة آل عمران: 148.

ووضع العقاب على معصيته،

اشارة

-------------------------------------------

العقاب على مخالفة القانون

مسألة: من اللازم وضع العقاب على المعصية ومخالفة القانون، عقاباً مناسباً ومطابقاً للعدل، كما جعل اللهسبحانه العقاب على معصيته.

فإذا اعتبرنا أن (العقاب) يطلق - ولو توسعاً - على الأعم من المترتب على الحرام، استحب وضعه على المكروه أيضاً، كما ورد جملة من العقوبات على المكروهات مثل البناء رياءً، قال (صلی الله علیه و آله) : «من بنى بنياناً رياءً وسمعةً حمله يوم القيامة إلى سبع أرضين ثم يطوقه ناراً توقد في عنقه ثم يرمى به في النار»(1).

أو تربية الشعر على الرأس من دون (فرق)، أو أن المريض إذا لم يقرأ ثلاث مرات «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»(2) كان له كذا من العقاب.

إلى غير ذلك، مما يوجد في كتاب (عقاب الأعمال)(3)، للشيخالصدوق

ص: 189


1- وسائل الشيعة: ج5 ص339 ب25 ح6731.
2- أي سورة الإخلاص.
3- يعتبر هذا الكتاب دائرة معارف كبيرة في العلوم الإسلامية وأحكام الحلال والحرام، حيث لايستغني عنه أي فقيه أو عالم أو أديب؛ إذ فيه مطالب مفيدة وأبحاث قيمة. حيث أورد الشيخ الصدوق (رحمة الله) في هذا الكتاب روايات نفيسة عن أهل البيت (علیهم السلام) في بيان الأعمال الحسنة والقبيحة وجزاء كل منهما، كما ذكر الروايات التي تبين الأعمال الحسنة التي وعد الله بالثواب عليها والأعمال القبيحة التي أوعد بالعقاب عليها. وقد حظى هذا الكتاب كسائر كتب الشيخ الصدوق (رحمة الله) باهتمام العلماء والفقهاء إذ يعد من أهم الأصول الروائية. واعتمدوا عليه في كثير من الكتب الروائية الكبيرة كالكتب الأربعة وبحار الأنوار ووسائل الشيعة. يقول الشيخ الصدوق (رحمة الله) حول سبب تأليفه لهذا الكتاب: إن الذي دعاني إلى تأليف كتابي هذا ما روي عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: «الدال على الخير كفاعله»، وسميته (كتاب ثواب الأعمال) وأرجو أن لايحرمني الله ثواب ذلك فما أردت من تصنيفه إلا الرغبة في ثواب الله وابتغاء مرضاته سبحانه ولا أردت بما تكلفته غير ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله.

..............................

(قدس سره)(1) وغيره.فإطلاق العقاب عليها توسعي، وإن كان جمع من العلماء أولوا بعض هذه الروايات بما يرفع الاستغراب من وجود مثل تلك العقوبات على فعل هذه المكروهات، كما لو كان بقصد العناد أو تضمن إنكار إحدى الأصول.

ثم إن العقاب قد يكون عقاباً تكوينياً - في الدنيا - بنحو الأثر الوضعي أو الردع الاجتماعي؛ فإن المعاصي توجب عنت الإنسان وعطبه، قال تعالى: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ له مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى»(2).

إذ المعصية خلاف مسير الحياة وهي تصطدم بشبكة السنن الإلهية المحيطة بالإنسان، كمن يلقي نفسه من شاهق حيث تتكسر عظامه.

ص: 190


1- محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق، ولد سنة 305 ه في مدينة قم في أسرة علمية من أهل التقوى. وقد أدرك الشيخ الصدوق عشرين سنة من حياة والده وكان من كبار العلماء الأجلاء، فاكتسب خلال هذه المدة العلم والحكمة منه ومن سائر علماء قم. وكان الصدوق (رحمة الله) يعيش في عصر قريب من عصر الأئمة (علیهم السلام)، فقام بجمع روايات أهل البيت (علیهم السلام) فألف الكتب القيمة حيث أسدى للإسلام والتشيع خدمات جليلة يقل نظيرها. فمن مؤلفاته: من لا يحضره الفقيه، مدينة العلم، كمال الدين وتمام النعمة، التوحيد، الخصال، معاني الأخبار، عيون أخبار الرضا (علیه السلام)، الأمالي، المقنع في الفقه، الهداية بالخير. توفي (رحمة الله) سنة 381 ه بعد عمر حافل بالبركات.
2- سورة طه: 124.

..............................

وقد يكون تشريعياً، هذا بالإضافة إلى العقاب في الآخرة فإنه مقرر من الله للعصاة.

وقد ذهب البعض إلى أن الأعمالصالحة وطالحة هي كالنواة التي تثمر ما يجانسها، فكل عقاب وثواب في الآخرة هو ثمرة ما غرس في الدنيا.

وفي الحديث: «وان الله ليربي لأحدكم الصدقة كما يربي أحدكم ولده»(1).

وهذا بلحاظ تجسم الأعمال، فإن (الكذب) يتحول إلى عقرب تلدغ الإنسان - مثلاً - في الآخرة، وهكذا سائر المعاصي، فهناك علاقة تكوينية بين العمل وبين العقاب الأخروي، قال تعالى: «ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(2).

ص: 191


1- وسائل الشيعة: ج9 ص382-383 ب7 ح12292.
2- سورة العنكبوت: 55.

ذيادةً لعباده من نقمته،

اشارة

-------------------------------------------

حفظ العباد عن التعرض للنقمة الإلهية

مسألة: يجب ذيادة العباد وإبعادهم عن نقمته تعالى عقلاً ونقلاً، وتحقيقاً لغرض المولى جل وعلا، والروايات الدالة على ذلك كثيرة جداً، «فنعوذ بالله من غضب الله ونقمته»(1).

ومعنى الذيادة: الطرد والدفع والإبعاد، يقال: ذاد الإبل عن الحوض، أي: طرده عن الماء(2).

ففي المحرمات وترك الواجبات الذيادة واجبة؛ لأنها نوع من النهي عن المنكر والتعليم وتنبيه الغافل وإرشاد الجاهل وما أشبه ذلك.

وهذا(3) من غاية لطف الله بعبيده.

وللتوضيح نمثل: بأن يضع الأب عقوبةالحبس يوماً - مثلاً - على من أراد من أبنائه التوغل في غابة مجهولة خطيرة، فإن هذه العقوبة هي للحيلولة دون وقوعه في الخطر الأعظم، وكذلك الطبيب الذي يجري عملية جراحية منعاً لسريان السرطان إلى سائر الأعضاء.

ص: 192


1- بحار الأنوار: ج62 ص222 ب5 ح3.
2- وفي لسان العرب: ج3 ص167 مادة ذود: الذود، السوق والطرد والدفع، تقول: ذدته عن كذا، وذاده عن الشيء ذوداً وذياداً.
3- أي وضعه تعالى العقوبات ذيادة لعباده عن نقمته.

..............................

فالعقوبات الدنيوية المجعولة على ارتكاب المعاصي كشرب الخمر والزنا وشبههما مع اجتماع شرائطها الكثيرة(1) لدفع النقمة الكبرى التي ستنال العاصي في الآخرة(2).

هذا لو كان المراد من (العقاب) في كلامها (علیها السلام): العقوبات الدنيوية.

وأما لو كان المقصود منه في كلامها (علیها السلام) العقاب الأخروي، فإن التهديد به يردع الكثيرين عن ارتكاب المعاصي التي تؤدي إلى نقمته تعالى.

وهذا (3) هو ما يقتضيه الربط بينالعلة والمعلّل له(4).

ص: 193


1- وقد ذكر الإمام المؤلف (قدس سره) في (الفقه): إن إجراء بعض الحدود مشروط بأكثر من أربعين شرطاً، فراجع.
2- راجع كتاب (العقوبات في الإسلام) لآية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله).
3- إشارة إلى تفسير كلامها (علیها السلام) (وضع العقاب) بالتفسير الإثباتي لا الثبوتي، إذ (التهديد بالعقاب) - كما ذكر (قدس سره) - هو السبب للذيادة لا وجوده الحقيقي بنفسه.
4- العلة: (ذيادة لعباده عن نقمته) والمعلل له: (وضع العقاب على معصيته).

وحياشةً لهم إلى جنته ،

اشارة

-------------------------------------------

سوق العباد إلى الجنة

مسألة: يجب سوق العباد إلى الجنة على ما عرفت في البحث الآنف، قال تعالى: «وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ»(1).

وقال سبحانه: «سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ»(2).

و(حياشة) أي: سوقاً (3)؛ فإن الله تعالى يريد لعباده الجنة والنعيم والسعادة السرمدية، قال سبحانه: «إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ»(4).

والطريق إلى ذلك الإطاعة وتجنب المعاصي، فإن الكون دنياه وآخرته قررت بحيث أن المطيع مآله النعمة والجنة، والعاصي مآله النقمة والنار،كما تمت هندسة الكون بحيث أن الزارع يحصد غداً، ومن لا يزرع يبقى صفراً يداً، ومن يدرس يصبح طبيباً أو مهندساً أو ما أشبه، ومن لا يدرس يبقى جاهلاً.

وإن كثيراً من الناس لا يسوقه إلى الجنة وإلى النعيم المقيم إلاّ ما يراه من العقاب على المعصية فيرتدع، فيوفق للنعيم المقيم.

ص: 194


1- سورة آل عمران: 133.
2- سورة الحديد: 21.
3- وفي لسان العرب: ج6 ص290 مادة حوش: وحشت الإبل، جمعتها وسقتها.
4- سورة هود: 119.

..............................

التطرق لفلسفة الثواب والعقاب

مسألة: من اللازم بيان فلسفة الثواب والعقاب للناس، إذ ذلك يزيدهم إيماناً واعتقاداً والتزاماً. وحتى بالنسبة إلى الأبوين عند عقاب الطفل أو ثوابه، ويرجّح أن يذكر السبب حتى يكون تأثيره أكثر.

وهذا الأمر يجري في القوانين الوضعية أيضاً، فأية عقوبة تضعها شركة أو هيئة أو دولة - شرط أن تكون في إطار الشريعة(1) - ينبغي أن تذكر علتها وفلسفتها للناس.

ولذا أكثر في القرآن الحكيم منذكر الفلسفة، فإن القرآن الكريم ذكر فلسفة كثير من الأحداث والأحكام:

مثلاً قال جل وعلا في الصلاة: «وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي»(2)؛ فإن «لِذِكْرِي» فلسفة «أَقِمِ الصَّلاَةَ».

وقال سبحانه: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»(3)، ف «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» فلسفة هذا الحكم.

وقال تعالى: «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لهمْ»(4)، في فلسفة الحج.

ص: 195


1- كعقوبة الفصل من الشركة أو العزل من وظائف الدولة لو ارتشى أو تمآهل في قضاء حوائج المراجعين أو ما أشبه ذلك.
2- سورة طه: 14.
3- سورة البقرة: 183.
4- سورة الحج: 28.

..............................

وقال سبحانه: «وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ»(1) حيث إن فائدة الجهاد تعود إلى النفس.

قال (علیه السلام): «جاهدوا تورثوا أبناءكم عزاً»(2).وقال (علیه السلام): «جاهدوا تغنموا»(3) وهو فلسفة الجهاد.

وقال تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا»(4) حيث إن التطهير والتزكية فلسفة الزكاة.

وقال سبحانه: «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ»(5) حيث إن تفضيل الله سبحانه وإنفاق الأزواج سبب قوامية الرجال على النساء.

وقال في فلسفة الدعوة إلى عبادته تعالى وحده:

«وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ له الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»(6)..

إلى غير ذلك.

ص: 196


1- سورة العنكبوت: 6.
2- راجع وسائل الشيعة: ج15 ص15 ب1 ح19916، وفيه عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قال النبي (صلی الله علیه و آله): «اغزوا تورثوا أبناءكم مجداً».
3- الكافي: ج5 ص8 باب فضل الجهاد ح14.
4- سورة التوبة: 103.
5- سورة النساء: 34.
6- سورة القصص: 88.

وأشهد أن أبي محمداً عبده ورسوله،

اشارة

-------------------------------------------

الاعتقاد بنبوته (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يجب الاعتقاد بنبوة النبي الأعظم محمد (صلی الله علیه و آله) ورسالته، فإن من لم يعتقد بنبوة رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان كافراً وإن اعتقد بنبوة سابق الأنبياء (علیهم السلام)(1)، كما ذكرنا ذلك بالنسبة إلى الأئمة الطاهرين(علیهم السلام) حيث إن من أنكر أحدهم كان كمنكرهم جميعاً.

وأعظم برهان خالد على رسالته (صلی الله علیه و آله) هو القرآن الكريم حيث تفرد (صلی الله علیه و آله) دون سائر الأنبياء بمعجزة أبدية ظاهرة على مر الأجيال وذلك مقتضى خاتميته.

ثم إن الاعتقاد بنبوته ورسالته تعود فائدته إلى الإنسان نفسه «قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ»(2) إذ هو إضافة إلى كونه إدراكاً وعلماً لحقيقة كبرىو«العلم نور»(3) أن الاعتقاد مقدمة طبيعية للعمل بمناهجه التي توفر سعادة الدنيا والآخرة للإنسان.

والاعتقاد من عقد القلب فلا يكفي مجرد العلم بذلك، بل ينبغي عقد القلب عليه، قال تعالى: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ»(4) وكما يظهر ذلك من كلامها (علیها السلام) فيما سيأتي: «منكرة لله مع عرفانها».

ص: 197


1- راجع المقنعة: ص30 ب2.
2- سورة سبأ: 47.
3- بحار الأنوار: ج1 ص225 ب7 ح17.
4- سورة النمل: 14.

..............................

التلفظ بالشهادة الثانية

مسألة: يستحب التلفظ بالشهادة الثانية في مختلف الأحوال في الخطاب والخطبة وحين الانفراد والخلوة.

لما يترتب على ذلك من الثواب الأخروي، إضافة إلى كونه تلقيناً وإيحاءً وتكريساً لهذه الجملة ولمدلولاتها التضمنية والالتزامية في النفس أكثر فأكثر، وقد يكون لذلك التأكيد في الروايات الشريفة على التلفظ بكلمة التوحيد والصلوات على النبي محمد وآله (علیهم السلام) وسائر الأذكار والأدعية.

ثم إن التلفظ بهذه اللفظة بالنسبةإلى الرسول (صلی الله علیه و آله) مثل التلفظ بهذه اللفظة بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى كما تقدم، فيصح أن يقول: (إنه رسول الله) و(أشهد) و(نشهد) و(شهادتي) وما هو من هذا القبيل.

بل أصل التلفظ في الجملة واجب(1) ولا يكفي الاعتقاد فقط أو الإتباع فقط بدون التلفظ، فإن الإيمان مركزه القلب واللسان والجوارح كما ذكر في العلم الكلام، وكما ورد في الروايات: «تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان»(2).

واستحباب التلفظ بها - على ما سبق - إنما هو إذا لم تكن جهة وجوب، وإلاّ كما في موارد تنبيه الغافل وإرشاد الجاهل والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف وما أشبه، وجب بالمقدار الذي يحقق الغرض.

ص: 198


1- كما يتكرر في الصلاة وغيرها كثيراً.
2- نهج البلاغة، قصار الحكم: 227، وَسُئِلَ (علیه السلام) عَنِ الإِيمَانِ؟. فَقَالَ (علیه السلام): «الإِيمَانُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ، وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالأَرْكَان».

..............................

الشهادة بعبوديته (صلی الله علیه و آله) لله تعالى

مسألة: يستحب الشهادة بأنه (صلی الله علیه و آله) عبد لله تعالى، وقد يجب(1) وذلك لما سبق(2)، وإتباعاً لله سبحانه حيث قال تعالى: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً»(3).

وقال سبحانه: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ»(4).

وقال تعالى: «ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا»(5).

وقال سبحانه: «وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ»(6).

وقال تعالى: «وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ»(7).

وقال سبحانه: «ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً»(8).وقال تعالى: «إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ»(9).

ص: 199


1- كما في الصلاة.
2- في البحث السابق (يستحب التلفظ بالشهادة الثانية).
3- سورة الإسراء: 1.
4- سورة الكهف: 1.
5- سورة مريم: 2.
6- سورة ص: 17.
7- سورة ص: 41.
8- سورة الإسراء: 3.
9- سورة الصافات: 81 و111 و132.

..............................

وقال سبحانه: «لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ»(1).

وقال تعالى: «قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا»(2).

ونقرأ في الصلاة كل يوم: (أشهد أن محمداً عبده ورسوله).

وتقديم العبد؛ لأنه اعتراف بإله الكون، ولأن وصول النبي (صلی الله علیه و آله) إلى منتهى درجة العبودية لله تعالى هو الذي أهّله ليكون رسولاً، بل أفضل الرسل على الإطلاق، فهو (صلی الله علیه و آله) عبدٌ أولاً ورسولٌ ثانياً، وكفى بالإنسان فخراً وسمواً وكمالاً أن يكون عبداً خاشعاً خاضعاً لله تعالى.

الاعتقاد بالعبودية

مسألة: يجب الاعتقاد بأنه (صلی الله علیه و آله) عبد لله تعالى، وكذلك غيرهمن الأنبياء والأئمة (علیهم السلام)، ويحرم الغلو فيهم (علیهم السلام)، وذلك في قبال من يتوهم أنهم (علیهم السلام) شركاء لله سبحانه أو أبناؤه، قال تعالى: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ»(3).

وقال (علیه السلام): «يهلك فيَّ اثنان: محب غال ومبغض قال»(4).

ص: 200


1- سورة النساء: 172.
2- سورة مريم: 30.
3- سورة التوبة: 30.
4- شرح نهج البلاغة: ج20 ص220 قصار الحكم 478.

..............................

وقال (علیه السلام): «ولا تغلوا وإياكم والغلو كغلو النصارى، فإني بريء من الغالين»(1).

الشهادة الثانية

مسألة: يستحب أو يجب - كل في مورده - التشهد بالشهادة الثانية بعد ما شهد الإنسان بالشهادة الأولى.

ومنه يعرف الحكم في الشهادةالثالثة(2).

وفي الحديث: «إن المسافر إذا نزل ببعض المنازل يقول: " اللهم أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين"، ويصلي ركعتين... ويقول: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن علياً أمير المؤمنين، والأئمة من ولده أئمة أتولاهم وأبرء من أعدائهم"» الحديث(3).

التصريح بالنسب وإظهاره

مسألة: ينبغي التصريح بالنسب والتأكيد عليه وإظهاره، فيما إذا كان دخيلاً في تحقيق الغرض ومؤكداً ومؤيداً للكلام(4).

ص: 201


1- بحار الأنوار: ج4 ص303 ب4 ح 31.
2- وسيأتي البحث عن ذلك.
3- مستدرك الوسائل: ج8 ص231 ب43 ح9324.
4- ويشاهد ذلك في قول رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلي أمير المؤمنين (علیه السلام) والإمام الحسن والإمام الحسين وعلي بن الحسين وسائر الأئمة (علیهم السلام)، راجع: بحار الأنوار ج12 ص127 ب6 ح3.

..............................

قال علي (علیه السلام): «لا جمال كالحسب»(1)، كما قالت (صلوات الله عليها) :«وأشهد أن أبي محمداً... ».

فتصريحها بالنسب هنا يوجب تهييج العواطف وتحريكها لتقبل كلماتها (علیها السلام) .. إضافة إلى أنه يذكّرهم بكلماته (صلی الله علیه و آله) عن ابنته وحبيبته وبضعته، فيكون ذلك أدعى لقبول الحق منها.

والتصريح بالنسب أو إظهاره قد يجب في مواطن عديدة، كما في موارد من الإرث أو النكاح أو الرضاع أو ما أشبه ذلك، سواء بالنسبة إلى نفسه أم بالنسبة إلى الغير مما هو مذكور في (الفقه).

نشر فضائل الوالدين

مسألة: ينبغي للإنسان أن يتطرق لذكر فضائل والده وأن يقوم بنشرها، قال تعالى: «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً»(2)، وكذلك والدته، وسائر الأقرباء، بل مختلف المؤمنين، فهو حض وحث على الخير وتشويق عليه.

كما إن عكسه مكروه أو محرم.

قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَالْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ»(3).

ص: 202


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص409 ق6 ب1 ف5 ح9395. هذا إذا لم يقصد به التفاخر وما أشبه من الرذائل الأخلاقية كما هو واضح.
2- سورة البقرة: 83، سورة النساء: 36، سورة الأنعام: 151، سورة الإسراء: 23.
3- سورة النور: 19.

..............................

والأمر بالنسبة للوالدين والأرحام آكد؛ لأن نشر فضائلهم قد يعد نوعاً من صلة الرحم «وَأُولُوا الأَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ»(1).

إضافة إلى أنه نوع من مقابلة الإحسان بالإحسان وأداء لبعض حق الوالد على الولد.

بالإضافة إلى قوله تعالى: «وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ»(2) فإن الإغماض عن الفضائل وسترها وعدم ذكرها نوع من البخس.

هذا كله إذا لم يكن من التفاخر وما أشبه، قال تعالى:

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (علیهم السلام) أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (علیهم السلام) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (علیهم السلام) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (علیهم السلام) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ»(3).

ص: 203


1- سورة الأنفال: 75، سورة الأحزاب: 6.
2- سورة الأعراف: 85، سورة هود: 85، سورة الشعراء: 183.
3- سورة التكاثر: 1-4.

اختاره قبل أن أرسله،

اشارة

-------------------------------------------

فضائل الرسول (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يستحب أو يجب - كل في مورده - بيان فضائل الرسول (صلی الله علیه و آله) كما بيّنت (علیها السلام) في خطبتها.

وكذلك بالنسبة إلى سائر الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) وبالنسبة إلى العلماء والصالحين أيضاً.

الاختيار الإلهي للرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يجب أن يكون اختيار النبي (علیه السلام) من قبل الله تعالى وبتعيينه سبحانه، وكذلك الإمام (علیه السلام)، حيث قالت (علیها السلام): «اختاره وانتجبه» أي: لأن يكون (صلی الله علیه و آله) رسوله الأخير إلى البشر وأفضل الرسل على الإطلاق، وفي حديث عنه (صلی الله علیه و آله): «فلم أزل خياراً من خيار»(1).قولها (علیها السلام): «وانتجبه» من النجابة، وقد نجب نجابة: إذا كان فاضلاً نفيساً في نوعه، أي اصطفاه، وذلك قبل أن خلقه وفطره، وفي زيارة الجامعة: «خلقكم أنواراً فجعلكم بعرشه محدقين»(2) فإن النور تحول إلى إنسان، كما أن النار تحولت إلى الجان، وكما أن التراب تحول إلى البشر.

ص: 204


1- راجع تفسير الإمام العسكري (علیه السلام): ص662 في من لا يستجاب دعاؤه.
2- عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج2 ص275 زيارة أخرى جامعة للرضا علي بن موسى (علیه السلام) ولجميع الأئمة (علیهم السلام) ح1.

..............................

قال تعالى: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ»(1).

ومن الواضح إمكان تحول المادة إلى المادة، والمادة إلى الطاقة، وبالعكس، فقد اختاره الله وانتقاه (صلی الله علیه و آله) قبل أن يرسله، أي أنه تعالى أنتخب من عرف أنه خير البشرية على الإطلاق، للرسالة.

والعلم كاشف وليس بعلة؛ فإن النبي (صلی الله علیه و آله) كان سيخرج قمة القمم في مختلف الامتحانات الإلهية - حسب معرفته سبحانه وتعالى بعلم الغيب لذلك انتخبه هو (صلی الله علیه و آله) دون غيره ليحمّله أعظم الرسالات والمسؤوليات الكونية على الإطلاق وأعطاه من الامتيازات الاستثنائية ما أعطاه.

وهناك وجه آخر: هو امتحانه (جل وعلا) للنبي (صلی الله علیه و آله) ولكل من عداه في عوالم سابقة، فأبدى (صلی الله علیه و آله) أهليته على الإطلاق، وقد يشير إلى هذا الوجه ما ورد في زيارة السيدة الزهراء (علیها السلام): «يا ممتحنة، امتحنكِ الذي خلقكِ قبل أن يخلقكِ فوجدكِ لما امتحنكِ صابرة»(2) وتفصيل البحث في علم الكلام والحديث.

مواصفات خاصة للنبي (صلی الله علیه و آله) والإمام (علیه السلام)

مسألة: في قولها (علیها السلام): «اختاره وانتجبه» دليل على أن هنالك مواصفات استثنائية يجب أن تتوفر في النبي (صلی الله علیه و آله) والإمام (علیه السلام).

فقد اختاره (صلی الله علیه و آله) وانتقاه الله تعالى بما يحمل من مواصفات تؤهّله لكي يكون رسولاً لرب العالمين وحجةً على الناس أجمعين.

ص: 205


1- سورة فاطر: 11.
2- وسائل الشيعة: ج14 ص367-368 ب18 ح19405.

..............................

ففي نفس كلمة «اختاره وانتجبه» دلالة على ذلك، حيث وقع الاختيار من بين الكل عليه وهو سبحانه أحكم الحكماء(1) على أن تفرد الله تعالى بهذا العمل وقيامه به بالذات دليل على ذلك، حيث إن غيره لا يمكن أن يكتشف تلك الصفات الاستثنائية.

ومن هنا كان اعتراض الملائكة عليه سبحانه في قضية خلق آدم (علیه السلام)، قال تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ»(2).

ومن جملة تلك الصفات: العصمة(3) اللازمة عقلاً وشرعاً في النبي والإمام (علیهما السلام)(4)والتي لا يعرفها إلاّالله سبحانه وتعالى، وقد أشار إليه الإمام (عليه الصلاة والسلام) في قصة اختيار موسى (علیه السلام) حيث اختار سبعين رجلاً ومع ذلك كفروا: «وَاخْتَارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَ تُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا»(5).

ص: 206


1- إضافة إلى أن «انتجبه» - كما سبق - من: نجب نجابة، إذا كان فاضلاً نفيساً في نوعه.
2- سورة البقرة: 30.
3- العصمة: هي ما يمتنع المكلف معه من المعصية متمكناً منها ولا يمتنع منها مع عدمها. راجع الألفين: ص56 المائة الأولى.
4- راجع كتاب (القول السديد في شرح التجريد) للإمام المؤلف (قدس سره).
5- سورة الأعراف: 155.

..............................

وليس هذا نقصاً في موسى (علیه السلام) واختياره وإنما هو بيان لأن الذين كانوا خيرة القوم حسب مختلف الظواهر كانوا هكذا فكيف إذا كانوا غير الخيرة، أو كانوا غير مختارين من قبل النبي (علیه السلام) وهو أدرى الناس بما يمكن للبشر معرفته من خفايا النفس البشرية.

أما بالنسبة إلى الفقهاء أو الوكلاء والرجوع إليهم فهو بأمر الله سبحانه وتعالى أيضاً، قال تعالى: «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(1) فحيث لم تشترط فيهم العصمة ولم تكن فيهم ضرورية ولاواقعة، لذلك أوكل الله تعالى معرفة مصاديقهم إلى الناس أنفسهم أو إلى أهل الخبرة منهم(2).

فلا يقال: لماذا يلزم في النبي والإمام (علیهما السلام) العصمة دون وكلائهم في حال حياتهم أو بعد غيبتهم؟؛ فإن القياس مع الفارق الكبير.

ص: 207


1- سورة التوبة: 122.
2- راجع المسائل الإسلامية: ص72 أحكام التقليد، المسألة 3، الطبعة 36 عام 1421ه /2000م، مؤسسة المجتبى بيروت، وفيه: (يعرف المجتهد والأعلم بإحدى طرق ثلاث: الأولى: أن يتيقن الإنسان نفسه بذلك بأن يكون الشخص نفسه من أهل العلم ويتمكن من معرفة المجتهد والأعلم. الثانية: أن يخبر بذلك عالمان عادلان يمكنهما معرفة المجتهد والأعلم بشرط أن لا يخالف خبرهما عالمان عادلان آخران. الثالثة: أن تشهد جماعة من أهل العلم والخبرة ممن يقدرون على تشخيص المجتهد والأعلم ويوثق بهم، والأقوى هو كفاية إخبار شخص واحد - إذا كان ثقة - بذلك).

..............................

إضافة إلى عدم وجود القابلية لمقام العصمة في غير الأنبياء والأئمة (علیهم السلام)، إذ هو تعالى فياض حكيم يعطي فيضه ولطفه للقابل لاغير(1).

مواصفات وكلاء المعصومين (علیهم السلام) وأتباعهم

مسألة: ومما سبق نعرف أن الفقهاء والوكلاء والقضاة وأئمة الجماعة والخطباء ومن أشبههم، بل عموم أتباع المعصومين (علیهم السلام) وإن لم يكونوا معصومين إلاّ أن من الضروري أن يتحلوا بكثير من الصفات التي توفر درجة من السنخية والتجانس مع موكليهم وأئمتهم وقادتهم (علیهم السلام)، كما قال أمير المؤمنين (علیه السلام) : «ألا وإن لكل مأموم إمام يُقتدى به ويُستضيء بنوره، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طُعمه بقُرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّةوسداد»(2).

ثم إن من تلك الصفات: ما ذكر في القرآن الكريم وورد في الأحاديث الشريفة حكاية عن حال الأنبياء (علیهم السلام) أو وصفاً للمؤمنين، مثل قوله سبحانه: «إنه كان عبداً شكورا»(3).

ص: 208


1- بالإضافة إلى أن الدنيا دار امتحان، وكونها دار امتحان يقتضي وجود نبي (علیه السلام) أو إمام معصوم (علیه السلام) يكون بمثابة المنبع والمصدر الأساسي والرئيسي للتشريع، ووكلاء لهم بمثابة الجداول والفروع، لم يشترط فيهم ذلك ولم يتحقق، فالجمع بين كونها دنيا وبين «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَْبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَْسْوَدِ» - سورة البقرة: 187 - وبين إرادة الامتحان وغيرها يقتضي ذلك فدقق.
2- نهج البلاغة، الرسائل: 45 ومن كتاب له (علیه السلام) إلى عثمان بن حنيف وكان عامله على البصرة وقد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها.
3- سورة الإسراء: 3.

..............................

وقوله تعالى: «إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ»(1).

وقوله سبحانه: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لهمْ»(2).

وقوله تعالى: «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لهمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ»(3).

وقوله سبحانه: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِوَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ»(4) الآية.

وقوله تعالى: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (علیهم السلام) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ (علیهم السلام) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (علیهم السلام) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (علیهم السلام) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ»(5) الآية.

وقوله سبحانه: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ»(6).

وعنه (علیه السلام): «من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً على هواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه»(7).

ص: 209


1- سورة مريم: 54.
2- سورة آل عمران: 159.
3- سورة آل عمران: 159.
4- سورة الفتح: 29.
5- سورة المؤمنون: 1-5.
6- سورة آل عمران: 110.
7- تفسير الإمام العسكري (علیه السلام): ص300 رسالة أبي جهل إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) والجواب عنها.

..............................

وعن أبي عبد الله (علیه السلام): «ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثمان خصال: وقور عند الهزاهز، صبور عندالبلاء، شكور عند الرخاء، قانع بما رزقه الله، لا يظلم الأعداء، ولا يتحامل للأصدقاء، بدنه منه في تعب، والناس منه في راحة، إن العلم خليل المؤمن، والحلم وزيره، والصبر أمير جنوده، والرفق أخوه، واللين والده»(1).

وعن أمير المؤمنين (علیه السلام): «المؤمن... بشره في وجهه، وحزنه في قلبه، أوسع شيء صدراً، وأذل شيء نفساً... يكره الرفعة، ويشنأ السمعة، طويل الغمّ، بعيد الهمّ، كثير الصمت، ذكور، صبور، شكور، مغموم بفكره، مسرور بفقره، سهل الخليقة، لين العريكة... أصلب من الصلد، ومكادحته أحلى من الشهد، لا جشع ولا هلع، ولا عنف ولا صلف، ولا متكلف ولا متعمق... »(2).

وهذه الصفات وإن كانت عامّة إلاّ أن توفرها في الوكلاء آكد، كما لايخفى.

ص: 210


1- الأمالي للصدوق: ص592 المجلس86 ح17.
2- نهج البلاغة، قصار الحكم: 333.

وسماه قبل أن اجتباه،

اشارة

-------------------------------------------

التسمية قبل الولادة

مسألة: يستحب التسمية للشخص قبل الولادة، وقد ورد في الروايات استحباب تسمية المولود قبل أن يولد، حتى أنهم قالوا: إذا عرف أنه ولد سمي باسم الولد، أو أنثى فباسم الأنثى، أو مشكوك فباسم مشترك يصلح للذكر والأنثى.

وفي الحديث عن علي (علیه السلام): «سمّوا أولادكم قبل أن يولدوا، فان لم تدروا أذكر أم أنثى فسموهم بالأسماء التي تكون للذكر والأنثى، فإن أسقاطكم إذا لقوكم يوم القيامة ولم تسموهم يقول السقط لأبيه: ألا سميتني»(1).

ومن هذه الجهة سمى رسول الله (صلی الله علیه و آله) محسناً (علیه السلام) قبل أن يولد(2).

قولها (علیها السلام): «اجتبله» أي: خلقه، فقد سماه جل وعلا لملائكته وأنبيائه (علیهم السلام) قبل أنيخلقه(3)، أو أنه تعالى وضع له اسماً قبل أن يخلق مطلقاً(4).

ص: 211


1- الكافي: ج6 ص18 باب الأسماء والكنى ح2.
2- وسائل الشيعة: ج21 ص387 ب21 ح27372.
3- أي: قبل أن يخلقه في هذا العالم أي قبل ولادته، وإلاّ فإن نوره (صلی الله علیه و آله) قد خلق قبل سائر الأشياء. بحار الأنوار: ج25 ص21 ب1 ح37.
4- أي قبل خلقه جسمه وروحه ونوره.

واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة، وبنهاية العدم مقرونة،

اشارة

-------------------------------------------

من فضائله (صلی الله علیه و آله)

مسألة: ينبغي التركيز والتأكيد على اختيار الله جل وعلا واصطفائه للرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) ولسائر الرسل (علیهم السلام) وللأئمة (علیهم السلام) .. وبيان فلسفة ذلك أيضاً، كما سبق الإشارة إلى جانب منها، وكما سيأتي في كلامها (علیها السلام): «علماً من الله بمآل الأمور... ».

إذ إن ذلك إضافةً إلى تضمّنه توجيهاً وتربيةً، فإنه يزيد من شدة التفاف الناس حولهم وبهم (علیهم السلام).قولها (علیها السلام): «إذ» بيان لظرف الاصطفاء، فالقبلية زمنية ورتبية أيضاً، فقد اختاره (صلی الله علیه و آله) لا قبل البعثة فحسب، بل قبل الخلقة أيضاً.

وفي الحديث عن جابر بن عبد الله، قال: قلت لرسول الله: أول شيء خلقه الله ما هو؟.

فقال (صلی الله علیه و آله): «نور نبيك يا جابر، خلقه الله ثم خلق منه كل خير»(1).

ولا ينافي هذا ما ورد من أن «أول ما خلق الله عزوجل العقل»(2)؛ لأن العقل الأكمل هو النبي (صلی الله علیه و آله) ونوره عقل.

ص: 212


1- بحار الأنوار: ج15 ص24 ب1 ح43.
2- مكارم الأخلاق: ص442 ب12 ف3.

..............................

و«الأهاويل»: الأهوال، هذا تشبيه للعدم بالهول، أو يقال: إن الأهوال شرور والشرور أعدام، كما ذكروا في علم الكلام في بحث أن الوجود خير محض والعدم شر محض(1).

و«بنهاية العدم»: العدم ليس بشيءحتى يكون له ابتداء، وإنما هو كناية عن العدم المحض الذي لا شائبة له من الوجود حتى الوجود الذهني والانتزاعي والاعتباري.

وهذه الجمل الثلاثة يحتمل أن يكون المراد بها واحداً، فبعضها بيان للبعض الآخر من باب التفنن في التعبير، ويحتمل أن يكون المراد بها الإشارة إلى التسلسل الوجودات في العوالم المتتالية، أو إلى مراتب الوجود(2).

ص: 213


1- راجع (القول السديد في شرح التجريد) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- وربما يؤيد هذا الاحتمال الثاني قولها (علیها السلام): «مصونة، مكنونة» وعلى الاحتمال الأول قد تكون هذه التعابير مجازية.

علماً من الله تعالى بمآيل الأمور ، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع الأمور

اشارة

-------------------------------------------

علماً من الله تعالى بمآيل الأمور(1)، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع الأمور(2).

علمه تعالى

مسألة: يجب الاعتقاد بعلمه تعالى، «وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً»(3)، «وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»(4)والتفصيل في علم الكلام.

كما يجب الاعتقاد بأنه عزوجل يعلم الغيب: «وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ»(5).

ولا يخفى أن علمه سبحانه من صفات الذات كما هو مفصل في علم الكلام.

قال الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام): «علم الله لا يوصف منه بأين، ولا يوصف العلم من الله بكيف، ولا يفرد العلم من الله، ولا يبان الله منه، وليس بين اللهوبين علمه حدّ»(6).

ص: 214


1- وفي نسخة: «بما يلي الأمور».
2- وفي نسخة: «بمواقع الأمور».
3- سورة الطلاق: 12.
4- سورة البقرة: 29، سورة الأنعام: 101، سورة يس: 79، سورة الحديد: 3.
5- سورة هود: 123.
6- بحار الأنوار: ج4 ص86 ب2 ح22.

..............................

ما وصف الله به نفسه

مسألة: ينبغي أن يصف المرءُ ربّه بما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسله وأوصيائهم، ويحرم أن يصفه بغير صفاته، وقد قال (علیه السلام): «فمن وصف الله فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه، ومن عدّه فقد أبطل أزله»(1). والمراد توصيفه سبحانه بصفات الجسم ولوازم الجسم وما أشبه من صفات الممكنات(2) بل مطلق غير ما يصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسله. وخطبتها (علیها السلام) هي مما يرجع إليه في معرفة أوصافه وأسمائه جل وعلا.

و(مآئل) جمع مآل: ما يؤول ويرجع إليه الأمر(3)، أي إنما بعثه (صلی اللهعلیه و آله) لعلمه بعواقب الأمور، كعلمه بعاقبة كل فعل من أفعال البشر ومناهجهم، وعلمه بعاقبة بعثته للرسول (صلی الله علیه و آله) وعاقبة عدم بعثته وغير ذلك، كمن يعلم عاقبة من يمشي في غابة خطرة جاهلاً بمسالكها وأخطارها، وهو تعالى يعلم أيضاً المستجدات والمتغيرات التي تحدث للبشرية ولغيرها على مر الأعصار(4).

ص: 215


1- نهج البلاغة، الخطب: 152، ومن خطبة له (علیه السلام) في صفات الله جل جلاله وصفات أئمة الدين.
2- ولذا علل (علیه السلام) قوله ب «لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة الموصوف أنه غير الصفة وشهادتهما جميعاً بالتثنية الممتنع منه الأزل» - الكافي: ج1 ص140 باب جوامع التوحيد ح6 - وهذه حال صفات الممكن.
3- راجع لسان العرب: ج11 ص32 مادة (أول)، وفيه: الأول: الرجوع. آل الشيء يؤول أولاً ومآلا: رجع. وأول إليه الشيء: رجعه. وألت عن الشيء: ارتددت.
4- كمن يخطط المعركة وهو على علم تام بكافة الطوارئ والمستجدات التي ستواجه أفراد الجيش، فهو يرسم مختلف الحلول والبدائل لجيشه.

..............................

فهو سبحانه يضع منهجاً متكاملاً لشتى أبعاد الحياة البشرية وهو عالم بالعواقب، محيط بالمستجدات، عارف بموقع كل شيء وقدره، فهو يعلم الزمان والمكان والجهات والشرائط المكتنفة بكل حدث وحكم، فمن الطبيعي وجوب إتباع مناهجه ورسله عقلاً.

أما البشر فليس بمقدوره وضع القوانين والمناهج، إذ هم يجهلون كل ذلك، فهم يجهلون خفايا النفسالبشرية، ويجهلون خفايا الطبيعة، ويجهلون المستجدات الطارئة، ويجهلون تأثيرات القوانين على الأجيال القادمة، ويجهلون التزاحمات والتعارضات، ويجهلون ويجهلون...(1).

قال تعالى: «وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ له الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً»(2).

فمن يريد حياةً سعيدةً بهيجةً في الدنيا والآخرة لابدّ له من الإذعان لاختيار الله ومن إتباع مناهج من اصطفاه الله في كل رطب ويابس، قال تعالى: «وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ»(3).

وقال سبحانه: «يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ»(4).

وقال تعالى: «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا»(5).

ص: 216


1- راجع موسوعة الفقه: كتاب القانون، للإمام المؤلف (قدس سره).
2- سورة النساء: 115.
3- سورة الأنعام: 59.
4- سورة النساء: 26.
5- سورة النساء: 176.

..............................

وقال سبحانه: «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»(1).

استحضار إحاطته تعالى

مسألة: يستحب أن يستحضر الإنسان في ذهنه دوماً إحاطة الله سبحانه بكافة أفعاله وأقواله بل حتى خواطره، وقد ورد: «يا عالم الجهر والخفيات، ويا من لا يخفى عليه خواطر الأوهام وتصرف الخطرات»(2)، وأن يتذكر أن أزمّة الأمور كلها بيده(3)، وأن المقادير جميعاً تعود إليه، كما قال (صلی الله علیه و آله): «إن الله عزوجل قدّر المقادير ودبّر التدابير»(4).

وقد يجب ذلك.

وبإخطار ذلك دوماً في القلب وتأمله في العقل وتكراره باللسان سيحدث للإنسان حاله روحانية وملكة تقربه إلى مراتب الكمال وتجنبه مواطن الزلل والضلال.

التعبد المطلق

مسألة: يجب التعبد المطلق في قباله تعالى، وكذلك بالنسبة إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) والأئمة الطاهرين (عليهم أفضل الصلاة والسلام) حتى فيما جهل وجه الحكمة فيه، فلقد أصبح البعض ينكر - فوراً ودون روية وبلا رجوع لأهل الذكر - أي

ص: 217


1- سورة النور: 59.
2- بحار الأنوار: ج95 ص409 ب30 ضمن ح1.
3- راجع مفتاح الفلاح: ص106، وفيه: «وأزمة الأمور كلها بيدك».
4- بحار الأنوار: ج5 ص93 ب3 ح12.

..............................

حديث يبلغ مسامعه مما لا يفهم وجه العلة فيه، أو مما عارض مرتكزاته الذهنية، فكان مثله كمثل من يرفض نصائح الطبيب الحاذق لأنه لا يفهم وجه العلة، أو لأنه عارض مفهوماً ذهنياً لديه.

فإذا كان الله العالم بمآل الأمور والمحيط الحوادث والعارف بالمقدرات..قد اصطفاهم (علیهم السلام) ليكونوا الأدلاء عليه، والمرشدين إلى سعادة البشرية والعالمين بما كان وما يكون وما هو كائن، فكيف ينكر الإنسان حديثاً لمجرد معارضته لما توصل هو إليه، مع ضيق أفقه وقلة علمه وكثرة اشتباهه...؟! (1).ومما يوضح هذا المعنى أكثر: ما ذكره الإمام الصادق (علیه السلام) في بيان أن دية قطع أربع أصابع المرأة تساوي دية إصبعين منها، واستنكار ذلك الرجل قائلاً: إن هذا كان يبلغنا فنبرأ ممن قاله ونقول الذي جاء به شيطان! (2).

وقد قال (علیه السلام): «إنما الأمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيتبع، وأمر بيّن غيّه فيجتنب، وأمر مشكل يردّ علمه إلى الله وإلى رسوله»(3).

ص: 218


1- ونرى العلامة المجلسي (قدس سره) عند ما ذكر رواية في كتاب (السماء والعالم) عن الإمام الصادق (علیه السلام) تنفي ما أجمع عليه الفلكيون منذ زمن بطلميوس من كون الأرض هي المركز، وكون الأفلاك محيطة بالأرض كقشور البصل، فلم يرد المجلسي (قدس سره) الرواية رغم مخالفتها لعلم الهيئة ذلك الزمن، بل أرجع علمها إلى أهلها (علیهم السلام)، والآن قد ثبت صحة الرواية وخطأ علم الهيئة السابقة المتسالم عليه بين كافة علماء تلك الأعصار ولألوف السنين، وقد اعتبر السيد هبة الدين الشهرستاني (قدس سره) في كتابه القيم (الهيئة والإسلام) هذا الموقف من العلامة المجلسي (قدس سره) دليلاً على عظمته وسمو روحه.
2- راجع الكافي: ج7 ص299-300 باب الرجل يقتل المرأة والمرأة تقتل الرجل ح6.
3- تهذيب الأحكام: ج6 ص302 ب92 ح52.

ابتعثه الله إتماماً لأمره،

اشارة

-------------------------------------------

إتمام الأمر

مسألة: ينبغي للإنسان أن يتمّ كل أمر بدأ، وأن يتقنه، تخلقاً بأخلاقه تعالى(1)، ولقوله (صلی الله علیه و آله): «رحم الله امرئ عمل عملاً فأتقنه»(2).

والإتمام والإتقان شامل للكمّ المنفصل والمتصل، ومنه الاستمرار زمناً، وللكيف، ولسائر الجهات، فتأمل.

و«ابتعثه إتماماً لأمره» حيث إن أمره تعالى ابتداءً هو التكوين: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ له كُنْ فَيَكُونُ»(3)، ومنه تكوين الإنسان وغيره ممن وضع عليهم قلم التكليف(4).

و(إتمام الأمر) هو هدايته.

و(الابتعاث) من البعث؛ لأن زيادةالمبنى تدل على زيادة المعنى.

وببيان آخر: أمره تعالى هو ما سبق من العلل الخمسة المذكورة في كلامها (علیها السلام): «تثبيتاً لحكمته وتنبيهاً على طاعته و... » فببعثه النبي (صلی الله علیه و آله) يتم التثبيت

ص: 219


1- إشارة إلى قوله (علیه السلام): «تخلقوا بأخلاق الله»، بحار الأنوار: ج58 ص129 ب42 تتميم.
2- راجع وسائل الشيعة: ج3 ص230 ب60 ح3484، وفيه: «ولكن الله يجب عبداً إذا عمل عملاً أحكمه».
3- سورة يس: 82.
4- كالجن قال سبحانه: «إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا» سورة الجن: 1-2 - ومخلوقات أخرى لا نعرفها، قال تعالى: «وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً» سورة الإسراء: 70.

..............................

للحكمة والتنبيه على الطاعة وإظهار القدرة وتعبد البرية وإعزاز الدعوة وإتمام الأمر وهو مقتضى الحكمة، وعدمه نقض للغرض ولو في الجملة.

وبمعرفة ذلك يتضح السر في قوله تعالى في الحديث القدسي: «يا أحمد، لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا علي (علیه السلام) لما خلقتك، ولولا فاطمة (علیها السلام) لما خلقتكما»(1).

وقولها (علیها السلام): «إتماماً لأمره» يصلح للاستدلال به على ضرورة الإمامة والوصاية، نظراً لأن بعثته (صلی الله علیه و آله) لا يكمل الغرض منها ولا يتم الأمر إلاّ بذلك، ولذلك قال تعالى في يوم الغدير - يوم نصب أمير المؤمنين علي (علیه السلام) خليفةً منبعده -:

«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً»(2).

ويمكن الاستناد للجملتين اللاحقتين بضميمة.

ص: 220


1- عوالم العلوم: ج11ص26 ب3 ح1، تحقيق مؤسسة الإمام المهدي (علیه السلام).
2- سورة المائدة: 5.

وعزيمةً على إمضاء حكمه، وإنفاذاً لمقادير حتمه،

اشارة

-------------------------------------------

تنفيذ حكمه تعالى

مسألة: يجب إمضاء حكمه تعالى وتنفيذه، ولا يجوز العدول عن أحكامه، قال سبحانه: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ»(1). وقال تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»(2). وقال سبحانه: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ»(3).

«وعزيمة»: أي تصميماً(4) على تنفيذ حكمه بالخلق والهداية، فقد بعثه (صلی الله علیه و آله) لأجل أنه عزم على إمضاء ذلك الحكم وتحقيقه في الخارج.

التقدير الإلهي الحتمي

مسألة: من اللازم الاعتقاد بالقضاء والقدر الإلهي(5)، وتفصيل الكلام في علم الكلام.

وهذا لا ينافي اختيار الإنسان وقدرته؛ لأنه تعالى قدّر ذلك كما سيأتي.

ص: 221


1- سورة المائدة: 44.
2- سورة المائدة: 45.
3- سورة المائدة: 47.
4- عزمت على أمر: إذا أردت فعله وقطعت عليه، والعزم: ما عقدت عليه قلبك أنه فاعله. راجع لسان العرب: ج12 ص399 مادة عزم.
5- راجع بحار الأنوار: ج5 ص84 ب3.

..............................

قولها (علیها السلام): «لمقادير حتمه» أي لمقادير الحتمية(1) أو ما حتم.

والحتم بعد الحكم، فالثلاثة كما يقال في الإنسان: من الشوق والإرادة والتنفيذ، كتحريك العضلات - مثلاً - وهنا: حكم فعزم(2) فحتم، إذ قد يكون الحكم غير حتمي، أي لم يصل إلى العلية التامة، والبحث في هذا المقام مضطرب الآراء طويل الذيل نتركه لمظانه.

هذا ومن الواضح أن من مقاديره الحتمية قدرة الإنسان واختياره،قال تعالى: «وَهَدَيْنَاهُ

النَّجْدَيْنِ»(3)، وقال سبحانه: «فَأَلْهَمَهَا

فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا»(4)، فالجمع بين ذا وبين علمه بمآل الأمور وإرادته إتمام الأمر وشبهه هو إرساله هذا الرسول (صلی الله علیه و آله) ليكون حجة ودليلاً وهادياً، ذائداً لعباده عن نقمته، حائشاً لهم إلى جنته، قال تعالى: «رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى»(5)، وهدايته بالعقل والشرع والفطرة والغريزة وما أشبه.

وأخيراً ينبغي الإشارة إلى أنه ينبغي للمؤمن أن يكون ذا عزيمة وإصرار على إحقاق الحق وإبطال الباطل، فإن شر ما يصيب الفرد أو الأمة الوهن والتردد عند مواجهة الصعاب والعقبات التي تعترض طريق المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.

ص: 222


1- من باب إضافة الموصوف للصفة.
2- على إمضاء ذلك الحكم.
3- سورة البلد: 10.
4- سورة الشمس: 8.
5- سورة طه: 50.

..............................

قال علي (علیه السلام): «يا أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة من يسلكه»(1)، فكل ما حكم به الله، على الإنسان أن يجدّ لتحقيقه، فإنه سير في طريق الهدف الذي توخاه الله من الخلقة.

وقد ذكر في القرآن الكريم على سبيل المدح كلمة (العزم)، قال سبحانه:

«لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ»(2).

وعبر عن بعض الأنبياء (علیهم السلام) ب: «أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ»(3)..

إلى غير ذلك.

ص: 223


1- مستدرك الوسائل: ج12 ص194 ب4 ح13858.
2- سورة آل عمران: 186.
3- سورة الأحقاف: 35.

فرأى الأمم فرقاً في أديانها،

اشارة

-------------------------------------------

التفرق عن الحق

مسألة: يحرم التفرق عن الحق، فقد قال سبحانه: «وَاعْتَصِمُوا

بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا»(1)، وقال (صلی الله علیه و آله): «علي مع الحق، والحق مع علي، يدور معه حيثما دار»(2) إلى غير ذلك.

وقد ورد في تفسير الآية(3) : «إن الله تبارك وتعالى علم أنهم سيفترقون بعد نبيهم ويختلفون، فنهاهم عن التفرق كما نهى من كان قبلهم، فأمرهم أن يجتمعوا على ولاية آل محمد (علیهم السلام) ولا يتفرقوا»(4).

ويمكن الاستدلال له بآية: «وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ»(5)، وبدليل العقل الآتي على ذلك وعلى حرمة التنازع والاختلاف بما هو هو فيالجملة، أي فيما إذا سبّب ما لا يجوز من الفشل وذهاب الريح.

وهل يحرم النزاع إذا كان أحد الطرفين أو الأطراف ذا حق شخصي أو شبهه؟. الظاهر عدم ذلك بالنسبة إلى المحق، خاصة إذا كان ضرر التخلي عن حقه أكثر من ضرر التنازع، أما إذا انعكس الأمر كما لو تنازعا في دَين أو شبهه من الحقوق فقد يؤدي النزاع - لو لم يتخل ذو الحق عن حقه - إلى سفك الدماء

ص: 224


1- سورة آل عمران: 103.
2- شرح نهج البلاغة: ج18 ص72.
3- قوله تعالى: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا» سورة آل عمران: 103.
4- بحار الأنوار: ج36 ص20 ب27 ح14.
5- سورة الأنفال: 46.

..............................

وشبهه، أو إلى ذهاب الريح بدرجة تكون خسارتها أعظم مما يذهب من حقه الحالي، فالمسألة حينئذ تكون من كلي (الأهم والمهم)، ثم إن الآية تشمل المنازع غير المحق مطلقاً.

هذا بالإضافة إلى دلالة العقل على أن الاجتماع قوة، والتفرقة ضعف، وسر تقدم وتحطم الأمم هو ذلك، فإذا اجتمعت على الحق سلمت وسعدت دنياً وأخرىً، وإلاّ فلا.

كما يدل العقل أيضاً على أن الحق في كل مجال واحد لا يتعدد - اللهم إلاّ في مصاديق الكلي الواحد(1) - فمن خالفهذا الواحد كان باطلاً، فاللازم البحث والفحص والاستدلال حتى ينتهي الجميع إلى الواقع.

وفي الحديث عن علي (علیه السلام)، قال:

«سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: إن امة موسى (علیه السلام) افترقت بعده على إحدى وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية وسبعون في النار. وافترقت أمة عيسى (علیه السلام) بعده على اثنتين وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية وإحدى وسبعون في النار، وإن أمتي ستفترق بعدي على ثلاثة وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية واثنتان وسبعون في النار»(2).

ص: 225


1- كأداء الدين بدفع مال أو شيك أو بضاعة فيما إذا لم يكن شرط أحدهما ولو ضمناً أو ارتكازاً، أو كالسفر للحج بالطائرة أو السيارة أو السفينة أو ماشياً، وكالصلاة في أول الوقت أو ما بعده في الموسع، في هذا المكان أو غيره مما يجتمع فيه الشرائط، وكدفع الصدقة لهذا الفقير أو ذاك وهكذا.
2- بحار الأنوار: ج28 ص4 ب1 ح3.

..............................

وفي بعض الروايات عنه (علیه السلام) قال في آخره: «فقلت: يا رسول الله وما الناجية؟. فقال (صلی الله علیه و آله): المتمسك بما أنت عليهوأصحابك»(1).

نعم في صورة اختلاف الاجتهادات في الفروع الشرعية وعدم تيسر وصول الجميع للحق فيها يأتي ما روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «للمصيب أجران وللمخطئ أجر»(2).

فإن المصيب له أجر إصابة الواقع وأجر البحث والفحص، أما المخطئ - والمقصود به من لم يقصر في المقدمات بل يحاول جاداً الوصول إلى الحق إلاّ أنه لم يصب قصوراً - فله أجر البحث والفحص فقط، وهذا الحديث عقلي قبل أن يكون شرعياً.

قولها (علیها السلام): «فرقاً» أي ليست لهم وحدة في الدين، الأعم من الأصول والفروع.

الفحص عن حال الأمم

مسألة: يجب التفحص عن حال الأمم الأخرى ومعرفة انحرافاتها الفكرية والعملية وجوباً كفائياً مقدمةً للإرشاد والإصلاح، وهو ما يحقق في الجملةالأهداف المذكورة في كلماتها (علیها السلام) هذا، والكلام في وجوب الفحص عن الموضوعات مفصل ذكرناه في محله.

ص: 226


1- نهج الحق: ص331 تألم علي (علیه السلام) من الصحابة.
2- راجع الصراط المستقيم: ج3 ص236 ب15 فصل، وفيه: أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد».

عكفاً على نيرانها، عابدة لأوثانها،

اشارة

-------------------------------------------

عبادة النيران والأوثان

مسألة: تحرم عبادة النيران وسائر الأوثان بما هي هي، أو بدعوى أنها تقرّب الإنسان إلى الله زلفى، كما ورد في القرآن عن لسان المشركين قال تعالى: «مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفى»(1).

فإن عبادة غير الله سبحانه وتعالى محرمة(2) سواء كان ذلك الغير بشراً أو حيواناً كالبقر، أو نباتاً كالشجر، أو جماداً كالحجر والنار والماء، فإن كثيراً من هذه العبادات لا تزال موجودة في بعض البلاد كالهند والصين ونحوهما.

بل إن الكثير من الناس يعبدون ويطيعون أهوائهم من دون الله، كما قال تعالى: «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ»(3)وإطلاق كلامها (علیها السلام) يشمله، وربما يقال بأن الانصراف وبعض القرائن المقامية قد لا تسمح بذلك، فتأمل.

كما يمكن التعميم - توسعة مجازاً أو ملاكاً - بإرادة نيران العداوة والبغضاء لايحيدون عنها إلى الألفة والاجتماع والتعقل والصلاح.

ولا فرق في حرمة عبادة النار والوثن بين مختلف أنواع ما يطلق عليه عبادة عرفاً، كالصلاة والركوع والسجود وتقديم القربان وما أشبه ذلك، كما لا يجوز إذا قصد العبادة ولو بما لايعدّ عرفاً عبادة، أما صنع المجسمات والمعاملة عليها لا للعبادة فالظاهر جواز ذلك؛ لأن الأدلة منصرفة إلى ما كان المقصود منها العبادة

ص: 227


1- سورة الزمر: 3.
2- قال تعالى: «وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ» - سورة المدثر: 5 - أي عبادة الأوثان، كما في بعض التفاسير، راجع متشابه القرآن: ج2 ص158 باب فيما يحكم عليه الفقهاء.
3- سورة الفرقان: 43.

..............................

والتفصيل مذكور في الفقه(1).

وقد يكون السبب في تركيز السيدة الزهراء (علیها السلام) على هذا الانحراف العقائدي في المعبود أن عبادة النيران والأوثان - وهي كما قال تعالى: «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَياةً وَلاَنُشُوراً»(2)- يكشف عن الجهل بأكثر الحقائق بداهة وبأكبر الكمالات وأعظمها، بل الجهل بالكمال المطلق. وذلك إضافة إلى كونه نقصاً (3) يعدّ من أهم عوامل الجمود الفكري والتخلف الحضاري والعلمي، إذ الفرق واضح بين من إلهه مظهر الفقر والجهل والعجز، ومن إلهه مظهر الكمال والغنى والعلم المطلق، وذلك كمن يتخذ مقتداه وإمامه شخصاً سفيهاً أو حكيماً، مستبداً أو استشارياً، قاسياً أو رحيماً، فإن هذا الاتخاذ يؤثر بقدر وإن كان الفرد بطبيعته أو بتربيته الاجتماعية من نمط آخر. قال تعالى : «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ»(4) فهو ظلم للإنسان نفسه ولمجتمعه كما هو ظلم لعقله ولفطرته ووجدانه.

ص: 228


1- راجع موسوعة الفقه: كتاب المكاسب المحرمة ج1-2.
2- سورة الفرقان: 3.
3- إذا كان جهل الإنسان بالرياضيات والهندسة أو بقواعد علم النفس أو السياسة أو الاقتصاد وشبهها يعد نقصاً، فما بالك بالجاهل جهلاً مركباً بها كمن يتصور أن اثنين زائداً اثنين يساوي ثلاثة مثلاً، والأمر في من يتصور الخالق الرازق العالم المطلق هو تلك الأوثان الجاهلة العاجزة أسوأ والنقص فيه أعظم. وإذا كان الجهل بأسماء كبار الشخصيات العالمية والعلمية كالجهل بمكتشف القوة الجاذبية وبمخترع المصباح الكهربائي وشبهه نقصاً، فما بالك بالجهل بخالق الجاذبة والكهرباء وبخالق أديسون ونيوتن، وبخالق هذا الإنسان نفسه، وهكذا.
4- سورة لقمان : 13.

منكرة لله مع عرفانها،

اشارة

-------------------------------------------

إنكار الله رغم معرفته

مسألة: يحرم إنكاره جل وعلا، سواء كان بإنكار أصل وجوده، أم وحدانيته، أم بعض صفاته الثبوتية أو السلبية، كما: «قَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ»(1)، وكقول النصارى بأن له ولداً، قال تعالى: «وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً»(2).

وكالقول بالحلول والاتحاد والجبر وما أشبه ذلك، فلقد كانت الأمم حين بعثته (صلی الله علیه و آله) فرقاً كل واحدة منها تنكر شيئاً من ذلك، فهي «منكرة لله مع عرفانها» بالحقيقة،والمراد إما المعرفة الفطرية أو البرهانية.

أما من لا يعرفه جل وعلا - لشُبهة مثلاً - فالواجب عليه الفحص والبحث وجوباً عقلياً قبل أن يكون شرعياً في بعض الموارد(3)؛ وذلك لاحتمال الضرر العظيم في الدنيا والآخرة، ودفع الضرر المحتمل في الأمور الخطيرة واجب عقلاً، كمن يحتمل احتمالاً عقلائياً أن يكون في الطريق سبع أو لص يقتله أو ما أشبه

ص: 229


1- سورة المائدة: 64.
2- سورة مريم: 88-92.
3- إشارة إلى أن الوجوب الشرعي قد يتأتى في غير المنكر لأصل وجوده تعالى كالمنكر لصفاته مثلاً.

..............................

ذلك، فإن العقلاء يردعونه عن سلوك هذا الطريق. قال: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»(1).

ومعنى الإنكار مع العرفان ما ذكر في قوله سبحانه: «يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا»(2)..

وقوله تعالى: «يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَأَبْنَاءَهُمْ»(3)..

حيث إن كثيراً من المشركين كانوا يعرفون الله سبحانه وتعالى لكنهم كانوا تقليداً لآبائهم يعبدون الأصنام..

وقد أشير في القرآن الحكيم إلى هذا المطلب كراراً (4) فهم كما قال تعالى: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ»(5).

فإن المعرفة إذا لم تكن موضع العمل يسري الإنكار إلى السلوك لساناً وعملاً، بل وقلباً - بنائياً - أيضاً، فهم يعرفون علماً وينكرون عقداً قلبياً.

ص: 230


1- وسائل الشيعة: ج26 ص14 ب1 ح32382.
2- سورة النحل: 83.
3- سورة البقرة : 146، سورة الأنعام: 20.
4- سورة المائدة: 104، سورة يونس: 78، سورة الشعراء:74، سورة لقمان: 21، سورة الزخرف: 22، و...
5- سورة النمل: 14.

فأنار الله بأبي محمد (صلی الله علیه و آله) ظلمها،

اشارة

-------------------------------------------

إنارة الظلم

مسألة: لقد كان (صلی الله علیه و آله) شمساً مضيئة في أفق البشرية - بل كل العوالم الإمكانية - فقد كان ولا يزال هو (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (علیهم السلام) وسائط الفيض بين الخالق جل وعلا وبين كافة المخلوقات، كما ورد: «بيمنه رزق الورى، وبوجوده ثبتت الأرض والسماء»(1).

فمن الواجب السعي - عبر الكتب والمجلات والإذاعات وغيرها - لتوضيح الإشراقات الإلهية التي تجلت عبره (صلی الله علیه و آله) على البشرية بأجمعها، ودوره (صلی الله علیه و آله) الذي لا يضارع في إضاءة طرق الهداية، بل في الكشف عن مختلف الحقائق الدينية والدنيوية في شتى الحقول، وما له (صلی الله علیه و آله) من الفضل على الإنسانية في الأبعاد الحقوقية والأخلاقية والاجتماعية وغيرها، وفيأبعاد العلوم الوضعية أيضاً (2).

المصباح المنير

مسألة: يستحب - ويجب في موارد - تأسياً به (صلی الله علیه و آله) وتخلقاً بأخلاق الله تعالى(3)، ولدليل العقل أيضاً: أن يكون الإنسان كالمصباح المنير للمجتمع، ينير لهم سبل الرشاد، وفي كل حقل كيفما تمكن.

ص: 231


1- الدعاء والزيارة للإمام المؤلف (قدس سره): ص272 ف1 دعاء العديلة.
2- راجع كتاب ولأول مرة في تاريخ العالم: ج1-2 للإمام المؤلف (قدس سره).
3- لما ورد من «تخلقوا بأخلاق الله» بحار الأنوار: ج58 ص129 ب42 تتميم.

..............................

و(الظُلَم): جمع الظلمة، وهي قد تكون ظلمة الاعتقادات المخالفة للواقع، وقد تكون ظلمة الأعمال الباطلة، وكما تستر الظلمة الحقائق العينية الخارجية كذلك يستر الجهل الحقائق الفكرية والاعتقادية ويخفي الخير العملي، فيضيع الحق بين أقسام الباطل ويختلط العمل الصالح بالطالح.

وفي ذينك الموردين الإنارة واجبة وفي غير ذلك مستحبة؛ لأنها نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل، و... الشامل للواجب والمستحب والحراموالمكروه كل في مورده.

تفصيل أهداف البعثة

مسألة: ينبغي الاجتهاد(1) نحو البيان التفصيلي للغاية من بعثته (صلی الله علیه و آله) وأهدافها؛ فإن ذلك من العلل المعدّة لاقتراب الناس منها وسوقه نحوها وإرشادهم إليها، ذلك أن الناس لو عرفوا فوائد الشيء ومنافعه تفصيلاً، كانوا أسرع استجابةً وأشد ثباتاً وأقوى اندفاعاً، قال تعالى: «اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ»(2)..

وقال (صلی الله علیه و آله): «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(3)..

ص: 232


1- بالمعنى اللغوي وهو استفراغ الوسع. راجع لسان العرب: ج3 ص135 مادة جهد، وفيه: والاجتهاد والتجاهد: بذل الوسع والمجهود.. والجهاد: المبالغة واستفراغ الوسع في الحرب أو اللسان أو ما أطاق من شيء.
2- سورة الأنفال: 24.
3- مستدرك الوسائل: ج11 ص187 ب6 ح12701.

..............................

وقال(صلی الله علیه و آله): «إنمابعثت رحمة»(1).

المقياس في إتباع الرسول (صلی الله علیه و آله)

مسألة: الملاك لمعرفة من يسير بسيرته (صلی الله علیه و آله) ومن يهتدي بهديه ممن يدعي ذلك ويتظاهر به فقط: مدى إنارته لظلمات الجهل عبر دعوة الناس للتفكر والتدبر وفسح المجال لهم بذلك، وعبر المشورة وفتح باب نقد الحاكم إن أخطأ وما أشبه.

على عكس المستبدين الذين يحرمون قولاً وعملاً، أو عملاً لا قولاً - إغراءً بالجهل وخداعاً للعامة - كل ذلك بسلب الحرية من العلماء والمصلحين والكتاب والمفكرين وبسوق الناس لإطاعة الحاكم إطاعة عمياء، وفي القرآن الكريم:

«وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ»(2).

وكذلك مدى إنقاذه الناس من الغواية والضلالة، أو محاولة إضلالهم أكثر فأكثر بالتدليس والتلبيس والتحريف وما أشبه في عكسه.قال (علیه السلام): «إذا جالستم فجالسوا من يزيد في علمكم منطقه، ويذكّركم الله رؤيته، ويرغّبكم في الآخرة عمله»(3).

ص: 233


1- الاحتجاج: ج1 ص212 احتجاجه (علیه السلام) على اليهود من أحبارهم ممن قرأ الصحف والكتب في معجزات النبي (صلی الله علیه و آله).
2- سورة الأحزاب: 67.
3- إرشاد القلوب: ج1 ص77 ب18.

وكشف عن القلوب بهمها،

اشارة

-------------------------------------------

توضيح المعضلات

مسألة: ينبغي كشف البُهَم(1) عن القلوب وجوباً أو استحباباً، كل في مورده.

فالشبهات والمتشابهات والمشتبهات والإبهامات والمعضلات والمجهولات التي يجب على الإنسان الاعتقاد بطرف من أطرافها يلزم كشفها، وفي موارد المستحبات يستحب كشفها.

كما أن الأمر في الأعمال كذلك، فينبغي - بالمعنى الأعم - كشف مجهولاتها وشبهاتها أيضاً، وقد ذكروا في علم الأصول حكم الشبهات الوجوبية والتحريمية، البدوية وغيرها، كما ذكروا مسألة الفحص في الأحكام والموضوعات(2).

هذا ولا يخفى مدى أهمية (القلوب)في تبليغ رسالات الله، وأنه ينبغي الاهتمام بها لا بالمظاهر فقط، قال تعالى:

«يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ (علیهم السلام) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»(3).

ص: 234


1- البُهم بالضم: جمع البهمة وهو المجهول الذي لا يعرف، مجمع البحرين: ج6 ص20 مادة بهم.
2- راجع (الأصول) و(الوصائل في شرح الرسائل) للإمام المؤلف (قدس سره).
3- سورة الشعراء: 89.

..............................

وقال(صلی الله علیه و آله): «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم ونياتكم»(1).

وقال الصادق (علیه السلام): «بينا موسى بن عمران (علیه السلام) يعظ أصحابه إذ قام رجل فشق قميصه، فأوحى الله عزوجل إليه: يا موسى، قل له: لا تشق قميصك ولكن اشرح لي عن صدرك»(2).

ص: 235


1- جامع الأخبار: ص100 ف56.
2- الكافي: ج8 ص129 حديث نادر ح98.

وجلى عن الأبصار غممها،

اشارة

-------------------------------------------

إزاحة الستائر

مسألة: يستحب أو يجب إزاحة الستائر عن البصائر، إذ الظاهر أن المراد بالأبصار البصائر؛ لأن ذلك هو الذي قام به الرسول (صلی الله علیه و آله)، وهو بين واجب ومستحب.

أما هذا العضو الخارجي الذي يبصر به الإنسان فليس الحديث بصدده(1) والله العالم. وإن كان يجب علاج العين فيما إذا عميت أو أصيبت وأمكن علاجها أو يستحب، كل في مورده.

قال علي (علیه السلام): «فقد البصر أهون من فقدان البصيرة»(2).

قولها (علیها السلام): «غممها»، الغمة: الستر، ولذا يسمى السحاب الغمام؛ لأنه يستر ما في السماء منالنيرات(3)، فقد كانت القلوب - قبل الرسول (صلی الله علیه و آله) - جاهلة بالحقائق والأبصار لا ترى الدرب الصحيح نحو الحياة السعيدة.

وربما يقال في الفرق بين المقاطع الثلاثة:

إن المراد ب:

ص: 236


1- وذلك للقرائن المقامية وسياق كلامها (علیها السلام).
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص41 ق1 ب1 ف1 ح5.
3- وفي لسان العرب: ج12 ص444 مادة غمم: الغمام: الغيم الأبيض، وإنما سمي غماماً لأنه يغم السماء أي يسترها.

..............................

فأنار الله بأبي محمد (صلی الله علیه و آله) ظُلَمها»، أي المجهولات المطلقة.

و«كشف عن القلوب بُهمها»: المتشابهات والمشتبهات.

و«جلى عن الأبصار غُممها»: المجهولات بالعرض الساتر(1).

أو يقال: المراد بالظلم: ظلم العقيدة، وبالبهم: ما يتعلق بها (2)،وبالغمم: كل ما يرتبط بمسيرة الحياة(3).

أو يقال: الظلم ما يتعلق بمدركات القوة المتعقلة(4)، والبهم: ما يتعلق بالقوة المتوهمة(5)، والغمم: ما يتعلق بالقوة المتخيلة والحواس.

والله العالم.

ويحتمل أن تكون الجمل من باب التفنن في التعبير، فتأمل.

ص: 237


1- كالفطريات المستورة كما ورد: «ويثيروا لهم دفائن العقول»، نهج البلاغة، الخطب: 1، ومن خطبة له (علیه السلام) يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم (علیه السلام).
2- كتفاصيل المعاد والحشر والنشر وتفاصيل الخلقة وشبه ذلك.
3- كالسلوك والمعاشرة والعادات والتقاليد وسائر مناهج الحياة اليومية والعملية.
4- أي: الكليات.
5- كالحب والبغض والخوف والرجاء والحسد... الخ.

وقام في الناس بالهداية،

اشارة

-------------------------------------------

الهداية العملية

مسألة: هداية الناس إلى الواجب واجبة، وهدايتهم إلى المستحبات مستحبة، وكذلك في عكس الأمرين المحرمات والمكروهات(1).

أما الهداية إلى المباحات فمستحبة أيضاً، حيث إن المباحات أحكام الله سبحانه وتعالى، وبيان أحكام الله وهداية الناس إليها بين واجب ومستحب.

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): «لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن تكون لك حمر النعم»(2).

وفي بعض الروايات: «خير لك مما طلعت عليه الشمس»(3).

وفي بعضها: «خير لك من الدنيا ومافيها»(4).

قولها (علیها السلام) : «في الهداية»، أي إلى العقيدة الصحيحة والأخلاق الفاضلة والشريعة القويمة.

ويمكن القول بأن الجمل الثلاثة السابقة كانت تشير إلى الجانب النظري - الفكري والاعتقادي - وهذه تشير إلى الهداية العملية، فقد قام (صلی الله علیه و آله) عملياً بهداية الناس نحو ما يصلح دنياهم وأخراهم، فأوجد فيهم روح الجهاد والأمر

ص: 238


1- فالهداية لمعرفة المحرمات واجبة، ومعرفة المكروهات مستحبة وقد تجب أيضاً.
2- بحار الأنوار: ج21 ص3 ب22.
3- الكافي: ج5 ص28 باب وصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) في السرايا ح4.
4- بحار الأنوار: ج1 ص184 ب1 ح99.

..............................

بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر والمصابرة والمرابطة والتوكل على الله والتواضع والأخوة والحرية والشورى وما أشبه.

كما طبق (صلی الله علیه و آله) فيهم عملياً مناهج الإسلام الحيوية في مجالات: الاقتصاد، الزراعة، السياسة، الحكم، الحقوق الفردية والاجتماعية، وما أشبه(1).ومن الواجب علينا أن نحذو حذوه في كل ذلك، كالقيام بالهداية إلى العقيدة عملياً، بمعنى توفير المقومات والأجواء اللازمة التي تسوق الناس للاعتقاد السليم، وللمحافظة عليه(2).

ص: 239


1- يراجع حول تلك العناوين الكتب التالية للإمام المؤلف (قدس سره) من موسوعة (الفقه) : الحقوق، السياسة، الاقتصاد، الاجتماع، وكذلك (ولأول مرة في تاريخ العالم: ج1-2)، (من أوليات الدولة الإسلامية)، (حكومة الرسول (صلی الله علیه و آله) والإمام أمير المؤمنين (علیه السلام))، وكذلك (السياسة من واقع الإسلام) للمرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (دامه ظله).
2- مثلاً قام (صلی الله علیه و آله) ببناء خمسين مسجداً في المدينة وحولها، ونصب أئمة الجماعة من الرجال والنساء - كأم ورقة - للعديد منها، وعيّن من يعلّم القرآن الكريم، وهكذا.

فأنقذهم من الغواية، وبصّرهم من العماية،

اشارة

-------------------------------------------

الإنقاذ من الغواية

مسألة: يستحب أو يجب إنقاذ الناس من الغواية، بأي المعنيين فسرت(1)، تأسياً وإقتداءً به (صلی الله علیه و آله) حيث أنقذهم من الغواية(2) التي كانوا فيها، والضلالة الفكرية والاجتماعية والسياسية وغيرها والتحارب والفقر وما أشبه(3).

قال علي (علیه السلام): «في طاعة الهوى كل الغواية»(4).

والفاء للتفريع فقد «قام في الناسبالهداية» (ف) «أنقذهم من الغواية».

وفي بعض النسخ «وأنقذهم» والواو تفيد مطلق الجمع وهي لا تدل على الترتيب أو التفريع لكنها لا تنفيها أيضاً (5).

ومن المعلوم أن الهداية غير الإنقاذ؛ فإن الهداية: إراءة الطريق. والإنقاذ: الأخذ بيد الناس حتى الوصول إلى الهدف. فقد يقول المصلح للناس: (زوّجوا

ص: 240


1- إذ لها معنيان كما سيأتي منه (قدس سره).
2- الغي: الضلالة والخيبة، وغوى يغوي: انهمك في الجهل وهو خلاف الرشد، - مجمع البحرين: ج1 ص322 مادة غوي -.وفي لسان العرب: ج15 ص140 مادة غوي: الغي: الضلال والخيبة.
3- كوأد البنات وأكل الحشرات وشبه ذلك مما ستأتي الإشارة إليه في كلماتها (علیها السلام) اللاحقة.
4- مستدرك الوسائل: ج12 ص115 ب81 ضمن ح13668.
5- راجع (الألفية) لابن مالك وشروحها. وقد مر من الإمام المؤلف (قدس سره) احتمال أن تفيد الوار الترتيب ولو بمعونة بعض القرائن.

..............................

أولادكم مبكراً) وقد يهيأ أسباب الزواج ومقوماته حتى يتم.

فهذه الجملة إشارة للهداية بالمعنى الثاني(1).

وقد تكون الهداية زيادة عن الإنقاذ عن الغواية؛ لأن بينهما واسطة، قال تعالى: «وَلاَ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ»(2).

التبصير من العماية

مسألة: يستحب أو يجب تبصير الناس من العماية، عماية القلب والبصيرة والعمي في السلوك العملي للإنسان؛ لأن من لا يرى الحقائق هو أعمى، تشبيهاً للمعقول بالمحسوس، قال (علیه السلام): «شر العمى عمى القلب»(3).

ويمكن إرادتها (علیها السلام) من «الغواية»: الخيبة(4) فتكون غير العماية التي فسرت بالضلالة، ولو فسرت الغواية بالضلالة كانت الجملة الثانية من مصاديق الجملة الأولى(5) إذ الإنقاذ في كل شيء بحسبه(6).

ص: 241


1- المعنى الأول للهداية: إراءة الطريق، والمعنى الثاني: الإيصال للمطلوب.
2- سورة هود: 34.
3- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص403 ومن ألفاظ رسول الله (صلی الله علیه و آله) الموجزة التي لم يسبق إليها ح5868.
4- الخيبة: الخسران والحرمان. راجع لسان العرب: ج1 ص368 مادة خيب، وفيه: الخيبة: الحرمان والخسران... وخاب إذا خسر.
5- الجملة الأولى: «أنقذهم من الغواية»، والثانية: «بصرهم من العماية».
6- فالإنقاذ من الضلالة تارة يكون بمجرد أن يبصر الإنسان الضال، وتارة يكون بأكثر من ذلك.

وهداهم إلى الدين القويم،

اشارة

-------------------------------------------

الهداية للدين القويم

مسألة: من اللازم علينا أن نتأسى به (صلی الله علیه و آله) في العمل لأجل الدين القويم كما ورد في الحديث: «فتأس متأس بنبيه... وإلا فلا يأمن الهلكة»(1).

و«القويم» أي العدل المستقيم الذي له قوام وواقعية، لا ذلك الذي في ظاهره بريق لكنه خلو عن الحق والحقيقة فهو ك: «خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ»(2)، أو: «كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ»(3)، أو: « فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً»(4)، وهذا مما يفرق به بين الحق والباطل والهدى والضلال.

ولقد بذل (صلی الله علیه و آله) كل لجهد وأتعب نفسه الشريفة أشد التعب لهداية الناس إلى الدين القويم حتىنزل فيه قوله تعالى: «طه * مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى»(5).

ثم إن العمل لأجل الدين القويم حتى يتخذ الناس ذلك منهجاً وطريقاً، بين واجب ومستحب، كلٌ في مورده، مثل افتتاح المدارس وتأسيس المساجد وتجهيز الجيوش وتنظيم المنظمات وغير ذلك، كلٌ حسب الزمان والمكان والجهات المناسبة.

ص: 242


1- نهج البلاغة، الخطب: 160 ومن خطبة له (علیه السلام).
2- سورة المنافقون: 4.
3- سورة إبراهيم: 18.
4- سورة الرعد: 17.
5- سورة طه: 1-3.

ودعاهم إلى الطريق المستقيم.

اشارة

-------------------------------------------

انتهاج الطريق المستقيم

مسألة: ينبغي(1) الدعوة إلى الطريق المستقيم(2) وانتهاجه للوصول إلى المقاصد السامية، فإن العمل لأجل الوصول إلى الهدف، قد يكون بسبب طريق مستقيم وهو الصحيح، وقد يكون بطريق منحرف، أو بطريق متعرج وكلاهما خطأ.

فإن الأول: لا يوصل إلى الهدف وهونوع من الضلالة، إضافة إلى أنه يسبب المشاكل والصعوبات.

والثاني: يستلزم مئونة زائدة وطول الطريق والتعب والنصب.

مثلاً: من يريد الذهاب إلى النجف الأشرف من كربلاء المقدسة، فقد يذهب إلى بغداد ثم إلى الحلة ثم إلى النجف الأشرف، وقد يذهب من كربلاء المقدسة إلى النجف الأشرف بخط مستقيم. كما أنه قد يذهب بسيارة أو بأموال مغصوبة، وقد يذهب بطرق محللة شرعية.

ورسول الله (صلی الله علیه و آله) عمل لأجل الدين القويم والصراط المستقيم عبر الطريق المستقيم بكلا المعنيين، وهكذا يجب أو يستحب مثل ذلك، كل في مورده كما ذكرناه سابقاً.

ص: 243


1- أي يجب أو يستحب كل في مورده.
2- الاستقامة: الاعتدال والاستواء، واستقام الشعر: اتزن - راجع لسان العرب: ج12 ص499 مادة قوم -.

..............................

قال تعالى: «إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ»(1).

و: «لا يطاع الله من حيث يعصى».

فهذه الجملة منها (صلوات الله عليها) ترد مقولة: (الغاية تبرر الوسيلة)، كما أنها تشير إلى أقرب الطرق للنصر والتقدم.

فالتقوى من الله، والزهد في ملذاتالحياة، والصبر على الأذى، والتوكل على الله تعالى، وإغاثة الملهوف، ونصرة المظلوم، وإعطاء الخمس والزكاة، والعمل بأوامره تعالى من الحرية، والأخوة والشورى، وما أشبه، هي أسلم وأقرب الطرق لبناء أمة متكاملة وحضارة راقية، ولضمان سعادة الدنيا والأخرى وللانتصار على العدو، وللحيلولة دون الظلم والطغيان، قال تعالى: «وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً»(2). وقال سبحانه: «وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً»(3).

وقال تعالى: «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ له مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً»(4).

وقال (علیه السلام): «جاهدوا تورثوا أبناءكم عزاً»(5).

ص: 244


1- سورة المائدة: 27.
2- سورة آل عمران: 120.
3- سورة الجن: 16.
4- سورة الطلاق: 23.
5- راجع وسائل الشيعة: ج15 ص15 ب1 ح19916، وفيه عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قال النبي (صلی الله علیه و آله): «اغزوا تورثوا أبناءكم مجداً».

..............................

وقال (علیه السلام): «لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم»(1).

علي (علیه السلام) هو الصراط المستقيم

ثم لا يخفى أن الطريق والصراط المستقيم في قوله تعالى: «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ»(2) قد فسّر بولاية علي أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام)، فيكون المراد حينئذ: من قولها (علیها السلام): «هداهم إلى الدين القويم» دين الإسلام.

ومن قولها: «ودعاهم إلى الصراط المستقيم» ولاية علي وذريته (عليهم أفضل الصلاة والسلام).

وقالت (علیها السلام) بعد ذلك: «ثم قبضه الله إليه» أي بعد ما أمر (صلی الله علیه و آله) بالإسلام وبولاية علي (علیه السلام) حيث كمل الدين وتمت النعمةقبضه تعالى.

قال تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً»(3).

فعن ابن عباس قال: كان رسول الله يحكم وعلي (علیه السلام) بين يديه مقابله، ورجل عن يمينه ورجل عن شماله، فقال: «اليمين والشمال مضلة والطريق المستوي الجادة - ثم أشار (صلی الله علیه و آله) بيده - وإن هذا صراط علي مستقيم فاتبعوه»(4).

ص: 245


1- الكافي: ج5 ص56 باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ح3.
2- سورة الفاتحة: 6.
3- سورة المائدة: 3.
4- بحار الأنوار: ج35 ص366 ب16 ضمن ح6.

..............................

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في يوم الغدير: «معاشر الناس أنا صراط الله المستقيم الذي أمركم بإتباعه، ثم علي (علیه السلام) من بعدي، ثم وُلدي من صلبه أئمة (علیهم السلام) يهدون إلى الحق وبه يعدلون - ثم قرأ - «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ»(1) إلى آخرها، وقال (صلی الله علیه و آله) - فيَّ نزلت وفيهم نزلت»(2).وعن علي (علیه السلام) قال: «أنا صراط الله المستقيم وعروته الوثقى»(3).

وعن النبي (صلی الله علیه و آله) - في قول الله عزوجل: «صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ»(4) الآية - قال: «شيعة علي الذين أنعمت عليهم بولاية علي بن أبي طالب (علیه السلام) لم يغضب عليهم ولم يضلوا»(5).

وعن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «أوحى الله إلى نبيه (صلی الله علیه و آله): «فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»(6)، قال: إنك على ولاية علي (علیه السلام) ، وعلي (علیه السلام) هو الصراط المستقيم»(7).

ص: 246


1- سورة الفاتحة.
2- العدد القوية: ص177 خطبة النبي (صلی الله علیه و آله) يوم غدير خم.
3- تصحيح الاعتقاد: ص108 فصل في الصراط.
4- سورة الفاتحة: 7.
5- تفسير فرات الكوفي: ص51-52 ومن سورة فاتحة الكتاب ح10.
6- سورة الزخرف: 43.
7- الكافي: ج1 ص416-417 باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية ح24.

ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار، ورغبة وإيثار،

اشارة

-------------------------------------------

إنك ميت

مسألة: لا يجوز القول بأنه (صلی الله علیه و آله) لم يمت، كما قال بعض عند ارتحاله(1).

قال تعالى: «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ»(2).

وقال سبحانه: «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ»(3).

نعم، إنه لا فرق بين حياتهم وموتهم (علیهم السلام) كما ورد: «أشهد أنك حي شهيد ترزق عند ربك»(4).

رأفة الله برسوله (صلی الله علیه و آله) واختياره

«قبض رأفة» ربما يكون المراد منه: القبض لإرادة الرأفة به (صلی الله علیه و آله) في تلك الدار، وربما يكون المراد به قبضاً رؤوفياً، أي: قبضاً سهلاً مقترناً برأفته ولطفه تعالى، في قبال قبض أرواح العصاة والمردة وأشباههم حيث يقبضهم قبض غضب(5).

ص: 247


1- راجع شرح نهج البلاغة: ج10 ص184 ذكر خبر موت الرسول (صلی الله علیه و آله)، وفيه: (وقد اختلف الرواية في موته (صلی الله علیه و آله)، فأنكر عمر ذلك وقال: إنه لم يمت وأنه غاب وسيعود. فثناه أبو بكر عن هذا القول وتلا عليه الآيات المتضمنة أنه سيموت، فرجع إلى قوله).
2- سورة الزمر: 30.
3- سورة آل عمران: 185، سورة الأنبياء: 35، سورة العنكبوت: 57.
4- بحار الأنوار: ج98 ص171 ب18 ح22.
5- فالمراد: قبضه قبضاً يؤول إلى الرأفة، أو قبضاً مع رأفة، أو قبضاً هو عين الرأفة.

..............................

أو المراد قبضاً عن رأفة، أي: قبضاً ناشئاً من رأفته سبحانه به (صلی الله علیه و آله)، ويكون في قبال القبض برأفة أو عن رأفة: القبض بغضب أو عن غضب.

التنجب عن القبض بغضب

مسألة: ومن الواجب على الإنسان عقلاً وشرعاً أن يتجنب الابتلاء بذلك(1)، ولو تذكر الإنسان دوماً مدى شدة أهوال النزع لما حام حول المعاصي، ولكان دائم الحزن والهمّ، بل مبتعداً عما يحتمل أن يوجب سخط الخالق جل وعلا،قال علي (علیه السلام): «من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير»(2).

وقال (علیه السلام): «أكثروا ذكر الموت؛ فإنه ما أكثر ذكر الموت إنسان إلاّ زهد في الدنيا»(3).

«واختيار»: أي منه (صلی الله علیه و آله) كما في الروايات أنه (صلی الله علیه و آله) اختار لقاء الله سبحانه(4).

أو اختيار منه تعالى له (صلی الله علیه و آله)، أي: اصطفاء منه له.

أو اختيار من الله بين القبض وعدمه، لا أن أخذه كان من المحتوم عليه سبحانه وتعالى(5) وعلى هذا فهو كناية عن لطفه تعالى به (صلی الله علیه و آله).

ص: 248


1- أي قبض غضب، على ما فسر.
2- مستدرك الوسائل: ج2 ص103 ب17 ح1543.
3- بحار الأنوار: ج79 ص168 ب20 ضمن ح3.
4- راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم): ج2 ص297 للإمام المؤلف (صلی الله علیه و آله).
5- ربما يكون قولها (علیها السلام): «اختيار» لدفع شبهة الجبر، وقد يكون دفعاً للوجوب العقلي عليه تعالى، فدقق.

..............................

رغبته (صلی الله علیه و آله) في لقاء الله تعالى

«ورغبة»، أي: منه (صلی الله علیه و آله) أو من الله تعالى حيث رغب في لقاء حبيبه، والمراد برغبته تعالى الغاية، كما قالوا: (خذ الغايات واترك المبادئ).

«وإيثار»، أي: آثر (صلی الله علیه و آله) لقاءه، أو آثر الله سبحانه لقاءه (صلی الله علیه و آله).

الرغبة في ذلك

مسألة: ومن المستحب أن يربي الإنسان المؤمن نفسه بحيث يكون راغباً في لقائه تعالى مؤثراً لقاءه، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الموت ريحانة المؤمن»(1).

ولا يتيسر ذلك إلاّ بإطاعته تعالى وتجنب معاصيه، وكذلك بتلقين النفس والتوسل بالرسول (صلی الله علیه و آله) وآل بيته الأطهار (علیهم السلام) كي يكون مستعداً للموت. قال (علیه السلام): «استعد لسفرك وحصّل زادك قبلحلول أجلك»(2).

وقيل لأمير المؤمنين(علیه السلام): ما الاستعداد للموت؟. قال: «أداء الفرائض، واجتناب المحارم، والاشتمال على المكارم، ثم لا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه»(3).

وإذا أوجد الإنسان في نفسه الرغبة في لقائه تعالى كان ذلك من أسباب احترازه الأكثر عن معاصيه سبحانه، وجديته الأكثر لإطاعته، وسعيه الأكثر لاكتساب مرضاته، ومزيد من القرب منه، فيحس عندئذ بلذة كبرى من مناجاته

ص: 249


1- دعائم الإسلام: ج1 ص221 ذكر الأمر بذكر الموت.
2- كفاية الأثر: ص227 باب ما جاء عن الحسن (علیه السلام) ما يوافق هذه الأخبار.
3- مستدرك الوسائل: ج2 ص100-101 ب17 ح1534.

..............................

وبفرحة عظمى عند امتثال أوامره، وقد ينال نوعاً من الاطمئنان بأنه تعالى سيقبضه قبض رأفة ورحمة بدرجة أو بأخرى. قال تعالى: «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»(1)، وقال سبحانه: «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِيجَنَّتِي»(2).

التذكير بمناقبه (صلی الله علیه و آله)

مسألة: كما أن من المستحب أيضاً تذكير الناس بمناقبه (صلی الله علیه و آله) هذه، وأن الله تعالى قبضه قبض رأفة واختيار، ورغبة وإيثار.

ولعل من علل إشارتها (علیها السلام) إلى كيفية قبضه تعالى كمدحه (صلی الله علیه و آله)، أن ذلك يشجع الناس على التأسي به (صلی الله علیه و آله) في أعماله ومناهجه.

إضافة إلى أن ذكر هذه المنقبة للرسول(صلی الله علیه و آله) يوجب التفاف الناس حوله أكثر فأكثر، فإن الإنسان إذا عرف - مثلاً - أن فلاناً مقرب إلى الملك الفلاني يلتف حوله أكثر كي يقضي حاجته عند الملك بأحسن وجه، فكيف بالرسول (صلی الله علیه و آله) الذي هو سفير «الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ»(3)، وقد قال سبحانه وتعالى: «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ»(4).وقد يستفاد أيضاً من كلامها (علیها السلام) استحباب الرأفة والرغبة والإيثار، فتأمل.

ص: 250


1- سورة الرعد: 28.
2- سورة الفجر: 27-30.
3- سورة الحشر: 23.
4- سورة المائدة: 35.

فمحمد (صلی الله علیه و آله) من تعب هذه الدار في راحة،

اشارة

-------------------------------------------

تحمل الأذى في سبيل الله

مسألة: يستحب - وربما يجب - تحمل الأذى في سبيل الله جلت عظمته، تأسياً بالرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) .. وعدم الكلل والملل واليأس، وقد قال (صلی الله علیه و آله): «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت»(1).

وأي أذى أعظم وأشد وأشق من استهزاء المشركين به (صلی الله علیه و آله) وتكذيبهم له، ورميه بالسحر والجنون وما إلى ذلك.

إضافة إلى إيذائه (صلی الله علیه و آله) جسدياً برمي الحجارة والسلا(2) وماأشبه(3)، حتى أنه (صلی الله علیه و آله) كان يطوف فشتمه عقبة بن أبي معيط وألقى عمامته في عنقه وجره من المسجد! (4).

ص: 251


1- المناقب: ج3 ص247 فصل في مساواته يعقوب ويوسف (علیهما السلام).
2- وقد ذكر ابن أبي الحديد في شرح النهج: ج6 ص282-283 نسب عمرو بن العاص وطرف من أخباره: إن النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط وعمر بن العاص عهدوا إلى سلى جمل فرفعوه بينهم ووضعوه على رأس رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو ساجد بفناء الكعبة. فسال عليه فصبر ولم يرفع رأسه، وبكى في سجوده ودعا عليهم، فجاءت ابنته فاطمة (علیها السلام) وهي باكية فاحتضنت ذلك السلا فرفعته عنه فألقته وقامت على رأسه تبكي. فرفع (صلی الله علیه و آله) رأسه وقال: «اللهم عليك بقريش - قالها ثلاثاً ثم قال رافعاً صوته - إني مظلوم فانتصر»، قالها ثلاثاً، ثم قام ودخل منزله وذلك بعد وفاة عمه أبي طالب (علیه السلام) بشهرين.
3- راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم): ج 1-2 للإمام المؤلف (قدس سره).
4- المناقب: ج1 ص57 فصل فيما لاقى من الكفار في رسالته.

..............................

ولقد كانت أنواع الإزعاجات الإيذاءات في حد ذاتها وبما هي هي من أشد الإيذاءات وأشقها وأكثرها إيلاماً، فكيف لو قيست بالنسبة إليه (صلی الله علیه و آله) بما له من مكانة روحية ومعنوية وإلهية سامية جداً، حيث لا أكمل ولا أشرف منه إلاّ الله تعالى، فإنالفرد كلما كان أكثر كمالاً كان اتهامه بالتهم البذيئة أشق عليه وأقسى كما لا يخفى، ومع كل ذلك تحمل (صلی الله علیه و آله) وصبر، حتى «قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار... ».

وعلينا التأسي به (صلی الله علیه و آله) ففي الحديث الشريف: «أشد الناس بلاءً: الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل»(1).

وقد قال القرآن الحكيم: «يَا أَيُّهَا الإِنْسانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً»(2).

وقال (علیه السلام): «ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه»(3).

وفي الحديث: «أفضل الأعمال أحمزها»(4).

والمراد الأكثر صعوبة وأتعاباً؛ فإن كل ما كثر تعبه - بطبيعته - تكون نتائجه الدنيوية والأخروية أفضل وأكثر، حيث قرر سبحانه وتعالى تزايد المصاعب والمتاعب كماً وكيفاً كلما كانالهدف والمقصد أعلى مادياً أو معنوياً، فقد «حُفّت الجنة بالمكاره»(5).

ص: 252


1- راجع الكافي: ج2 ص252 باب شدة ابتلاء المؤمن ح1.
2- سورة الانشقاق: 6.
3- نهج البلاغة، الخطب: 3، ومن خطبة له (علیه السلام) وهي المعروفة بالشقشقية.
4- مفتاح الفلاح: ص45 ب1.
5- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج1 ص190 بيان ذم الرياء.

..............................

قال الشاعر(1):

تريدين لقيان المعالي رخيصة *** ولابد دون الشهد من إبر النحل

و:

(الجود يفقر والإقدام قتال)(2).

ثم إنه لا منافاة بين «أفضل الأعمال أحمزها»(3) وبين «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ»(4) إذ:

الأول: يفيد تحديد المقياس في قيمة الأعمال، وأن العمل مهما كان أصعب تكون نتائجه أفضل.

والثاني: يفيد عدم عسر الدين وأن الله تعالى قد شرع الأيسر فالأيسر،كما قال (صلی الله علیه و آله): «بعثت بالحنفيةالسمحة»(5) فهما في موضوعين لا في موضوع واحد حتى يكون بينهما التنافي.

ومن هنا فإن المؤمن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والمجاهد في سبيل الله والحافظ لحدود الله، كلما ازدادت متاعبه ومصاعبه، وكلما تزايد الضغط عليه لينثني عن مسيرته، كلما زاده ذلك يقيناً واطمئناناً وعزماً وثباتاً، قال تعالى:

ص: 253


1- أبو الطيب المتنبي (303- 354ه).
2- صدر البيت: (لولا المشقة ساد الناس كلهم) وهو لأبي الطيب المتنبي.
3- مفتاح الفلاح: ص45 ب1.
4- سورة البقرة: 185.
5- أعلام الدين: ص191 باب وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر.

..............................

«الَّذِينَ قَالَ لهمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ»(1).

وفي الحديث الشريف: «المؤمن أشد من زبر الحديد، إن الحديد إذا دخل النار لان، وإن المؤمن لو قتل ونشر ثم قتل لم يتغير قلبه»(2).

وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «المؤمن أشد من الجبل، والجبل يستقل منه بالفأس والمؤمن لا يستقل علىدينه»(3).

وختاماً؛ فإن ما تحمله الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) من المصاعب كان مما تنوء بحمله الجبال الرواسي إلاّ أن ذلك كله قد انقضى وأصبح (صلی الله علیه و آله) «من تعب هذه الدار في راحة»، وفي هذا درس لنا وتعليم بأن نتحمل المشاق والأذى في سبيل الله، فإنها منقضية زائلة ستلحقها راحة دائمة.

قال (علیه السلام): «صبروا أياماً قليلة فأعقبتهم راحة طويلة»(4).

ص: 254


1- سورة آل عمران: 173.
2- المحاسن: ج1 ص251 ب29 ح266.
3- تفسير العياشي: ج2 ص301 ومن سورة بني إسرائيل ح111.
4- نهج البلاغة، الخطب: 193- ومن خطبة له (علیه السلام) يصف فيها المتقين.

قد حف بالملائكة الأبرار، ورضوان الرب الغفار، ومجاورة الملك الجبار،

اشارة

-------------------------------------------

التعويض الإلهي

رغم وجود ثلة كبيرة من المؤمنين الأخيار الأبرار مع النبي (صلی الله علیه و آله) الذين كانوا يناصرونه ويؤازرونه ويضحون في سبيله بالنفس والنفيس، بما قل أن يوجد نظيره طوال التاريخ البشري، إلاّ أنه (صلی الله علیه و آله) قد عانى كثيراً من مجاورة المنافقين ومن الانتهازيين والمصلحيين والمرجفين والمتخاذلين والجبناء وأشباههم حواليه.

كما تشهد بذلك آيات قرآنية عديدة..

وكما يذكر التاريخ:

كخيانة البعض في معركة أحُد(1).

وكترصد المنافقين به (صلی الله علیه و آله) الدوائر كما في العقبة(2).وكقضية الدواة والكتف(3) وغيرها، فإنها كانت تلحق به (صلی الله علیه و آله) أكبر الأذى وأشد الأضرار، فعوضه الله تعالى عن ذلك بأمور عديدة، منها:

ما أشارت إليه ابنته الزهراء (صلوات الله عليها) ها هنا: «قد حف بالملائكة

ص: 255


1- راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم): ج1 ص241-242 غزوة أحد.
2- راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم): ج2 ص163-164 غزوه تبوك.
3- راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج6 ص51 ذكر أمر فاطمة (علیها السلام) مع أبي بكر، وفيه: لما حضرت رسول الله (صلی الله علیه و آله) الوفاة - وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب - قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ائتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعدي». فقال عمر - كلمة معناها -: إن الوجع قد غلب على رسول الله (صلی الله علیه و آله) - ثم قال - عندنا القرآن حسبنا كتاب الله!.

..............................

الأبرار»، فهم المحيطون به بعد مماته دون ما ينغصه(1).

ثم ترقت (علیها السلام) إلى تعويضآخر أسمى وأعلى: «ورضوان الرب الغفار» .. قال تعالى: «وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ»(2).

ثم ترقت (علیها السلام) إلى أمر آخر أسمى من ذلك: «ومجاورة الملك الجبار»، أي: رحمته الخاصة.

قولها (علیها السلام): «ورضوان الرب الغفار»، فالله راض عنه (صلی الله علیه و آله) فإن الإنسان إذا علم بأن الله سبحانه راض عنه كان في سرور وراحة نفسية لا يصل إليها الالتذاذ المادي الجسماني. وهذا مما يجده الإنسان من نفسه بوضوح، فمن يعيش في قصر بديع فيه مختلف أسباب الهناء المادي، لا يمكنه أن يلتذ بكل تلك النعم لو كان يعاني من مشكلة نفسية وبؤس روحي كما لو مات له عزيز، أو تعرض لتُهَم تحطّ من سمعته وكرامته، أو علم أن سيده ساخط عليه، بل قد تتحول حياته هذه إلى جحيم مهلك؛ فإن السعادة سعادة الروح أولاً ثم سعادة الجسم وكذلك الشقاء.

مجاورة الملك الجبار

قولها (علیها السلام): «ومجاورة الملك الجبار»، أي: مجاورة كراماته فالمراد الجوار

ص: 256


1- فإن الله سبحانه وتعالى يعوض عن كل مصيبة وابتلاء يبتلى به المؤمن بنعمة كبرى تكون متناسبة مع نوع البلاء والمصاب، فعلى المؤمن أن لا يتهرب من معاشرة الناس بغرض إرشاد من استطاع منهم تخلصاً من مشاكلهم وإذاهم؛ فإن الله سيعوضه أضعاف أضعاف ذلك بما لا يخطر على فكر بشر.
2- سورة التوبة: 72.

..............................

المعنوي، كما قال تعالى: «فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ»(1)..

وإلاّ فليس الله سبحانه جسماً، ولا له قرب أو بعد مكاني أو زماني، كما قرر في علم الكلام.

ولعل الإتيان بلفظ «الجبار»؛ لأنه سبحانه يجبر ما ورد عليه من الكفار والمنافقين، وقد قال العباس (علیه السلام) في يوم عاشوراء: «وأبشري برحمة الجبار»(2).

واختيار صفة «الملك» متجانسة تماماً مع صفة «الجبار»، فالنبي (صلی الله علیه و آله) حظى بأعلى درجة من القرب من المالك الحقيقي المطلق الذي بمقدوره أن يجبر ما أصابه بشكل مطلق.

وأي شيء أعظم وأعلى وأسمى من الوصول إلى مقام «فَكَانَ قابَ قَوْسَيْنِ» منه تعالى « أَوْ أَدْنَى» (3) من ذلك، فهذه الغاية من أرفع الغايات بل هي الآية القصوى والمقصد الأسمى، وإذا كان الجار تناله خيرات جاره عادة، فكيفبجوار الله سبحانه؟.

ومنه يعلم رجحان أن يكون الإنسان بحيث لو مات يحف بالملائكة الأبرار ورضوان الرب الغفار ومجاورة الملك الجبار، كما يعلم رجحان مجاورة العظماء، وقد سبق الكلام في ذلك كله(4).

ص: 257


1- سورة القمر: 55.
2- بحار الأنوار: ج45 ص40 ب37.
3- سورة النجم: 9.
4- راجع المجلد الأول من كتاب من فقه الزهراء (علیها السلام).

..............................

التذكير بمنزلة الأنبياء (علیهم السلام) والمؤمنين في الآخرة

مسألة: كما سبق من استحباب ذكر كيفية قبضه تعالى لروحه (صلی الله علیه و آله)، يستحب ذكر منزلته (صلی الله علیه و آله) في الآخرة، وأنه (صلی الله علیه و آله) قد: «حُفّ بالملائكة الأبرار... » وغير ذلك، وكذلك ذكر منزلة الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) في الجنة، ويستحب أيضاً ذكر مكانة المؤمن فيها وما أعد الله له من النعيم المقيم.

فإن التذكير بذلك يوجب مزيداً من رغبة الناس من الإيمان بالله سبحانه واليوم الآخر والالتزام بأوامره جل وعلا، فيكون من المستحب، بل قد يجب إذا توقف إيمان الناس على مثل ذلك.

والآيات والروايات التي تتعرض لوصف نعيم أهل الجنة كثيرة(1).

غفران الخطايا

مسألة: يستحب غفران خطايا الآخرين؛ لأنه من التخلق بأخلاق الله سبحانه وتعالى، كما ورد في الحديث(2) من استحبابه كأصل إلا ما خرج بالدليل.

وفي القرآن الحكيم: «وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ» (3).

ص: 258


1- راجع كتاب: (الجنة والنار في القرآن) للإمام المؤلف (قدس سره)، و(بحار الأنوار) مبحث الجنة والنار، و(كفاية الموحدين) وغيرها. قال الإمام الصادق (علیه السلام): «إن الجنة توجد ريحها من مسيرة ألف عام، وإن أدنى أهل الجنة منزلاً لو نزل به الثقلان الجن الإنس لوسعهم طعاماً وشراباً، ولا ينقص مما عنده شيء» - بحار الأنوار: ج8 ص120 ب23 ح11 -.
2- أي قوله: «تخلقوا بأخلاق الله» - بحار الأنوار: ج58 ص129 ب42 تتميم -.
3- سورة الشورى: 43.

..............................

وقال سبحانه : «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(1).

وفي الحديث أنه: قام رجل إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) وهو يخطب. فقال: يا أمير المؤمنين. صف لنا صفة المؤمن كأننا ننظر إليه؟. فقال(علیه السلام): «... يستر العيب، ويحفظ الغيب، ويقيل العثرة، ويغفر الزلة»(2).إضافة إلى ما للغفران من الأثر الوضعي على حياة الإنسان ومستقبله، ثم إنه يسبب محبوبية الإنسان مما يعينه على الوصول إلى أهدافه بشكل أيسر، إضافة إلى أنه يحافظ على سلامة جسمه وأعصابه كما هو ثابت في الطب وعلم النفس.

هذا ومن اللازم عدم الاغترار بغفاريته تعالى وعدم الاستناد إليها والاعتماد عليها في التجري(3) على المعاصي أو في تبرير ارتكابها، إذ هو تعالى: «شَدِيدُ الْعِقَابِ»(4) أيضاً.

بل الواجب أن يكون الإنسان بين الخوف والرجاء دائماً(5)، كما قال تعالى: «اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(6)، ولذا كانوا (علیهم السلام) يبكون من خشيته تعالى وترتعد فرائصهم خوفاً منه سبحانه(7).

ص: 259


1- سورة الجاثية: 14.
2- الكافي: ج2 ص229 باب المؤمن وعلاماته وصفاته ح1.
3- بالمعنى اللغوي.
4- سورة البقرة: 196و211، ومواضع أخرى من القرآن.
5- راجع بحار الأنوار: ج67 ص323 ب59.
6- سورة المائدة: 98.
7- راجع بحار الأنوار: ج41 ص11 ب101.

صلى الله على أبي،

اشارة

-------------------------------------------

الدعاء للأب

مسألة: يستحب الدعاء للأب، بل ولسائر الأقارب والأصدقاء والجيران والمؤمنين والمؤمنات، في حال الحياة وبعد الممات.

وقد روي عن مولاتنا فاطمة (صلوات الله عليها) أنها كانت تدعو للمؤمنين والمؤمنات ولا تدعو لنفسها، فقيل لها في ذلك، فقالت: «الجار ثم الدار»(1).

وفي الحديث:«إن دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب مستجاب، ويدرّ الرزق، ويدفع المكروه»(2).

وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «من دعا لأخيه المؤمن بظهر الغيب ناداه ملك من سماء الدنيا: يا عبد الله لك مائة ألف مثل ما سألت... »(3) الحديث.

وعن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «إن العبد ليكون بارّاً بوالديه فيحياتهما ثم يموتان فلا يقضي عنهما دَينهما ولا يستغفر لهما فيكتبه الله عزوجل عاقاً، وأنه ليكون عاقاً في حياتهما غير بارّ بهما فإذا ماتا قضى دَينهما واستغفر لهما فيكتبه الله عزوجل باراً»(4).

ص: 260


1- وسائل الشيعة: ج7 ص113 ب42 ح8885.
2- بحار الأنوار: ج90 ص383 ب26 ح1.
3- مستدرك الوسائل: ج5 ص245-426 ب40 ح5791.
4- الكافي: ج2 ص163 باب البر بالوالدين ح21.

..............................

وهذا مما يكشف عن الترابط الوثيق بين العالمين، وليس هناك إلاّ حجاب يحول دون أن نرى ونسمع ما يجري هناك، ولو وصل الإنسان إلى بعض مراتب الكمال الروحي لرفع عنه الحجاب، ولهذا البحث تفصيل نتركه لمظانه.

قولها (علیها السلام): «صلى الله على أبي نبيه»، إنشاء بلفظ الإخبار وهو دعاء، وكونه بلفظ الماضي للدلالة على قطعية الوقوع(1) إذ الماضي وضع حتى يدل على الزمان المنصرم.

الصلوات على النبي (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يستحب الصلاة على النبي (صلی الله علیه و آله) بعد ذكر اسمه الشريف.

والظاهر أن استحباب الصلوات عند ذكر اسمه ليس خاصاً بكلمة محمد (صلی الله علیه و آله) كما هو المشهور بين الناس، بل كل اسم من أسمائه، أو لقبه، أو كنيته، كأحمد والمصطفى وأبي القاسم وغير ذلك؛ لإطلاق أدلته وشمولحكمته، بل إذا ذكر الضمير الراجع إليه (صلی الله علیه و آله) أيضاً كان الحكم كذلك.

فعنه (صلی الله علیه و آله): «البخيل حقاً من ذُكرتُ عنده فلم يصلّ عليَّ»(2).

وعنه (صلی الله علیه و آله): «من صلى عليَّ في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له مادام اسمي في ذلك الكتاب»(3).

ص: 261


1- راجع كتاب (البلاغة) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- معاني الأخبار: ص246 باب معنى البخل والشح ح8.
3- بحار الأنوار: ج91 ص71 ب29 ح65.

..............................

وقال الإمام الرضا (علیه السلام): «من لم يقدر على ما يكفر به ذنوبه فليكثر من الصلاة على محمد وآله فإنها تهدم الذنوب هدماً»(1).

وعن أحدهما (علیهما السلام)، قال: «أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة الصلاة على محمد وعلى أهل بيته»(2).

وعن الصادق (علیه السلام): «ما من عمل أفضل يوم الجمعة من الصلاة علىمحمد وآله»(3).

وعن أبي الحسن العسكري (علیه السلام)، قال: «إنما اتخذ الله إبراهيم (علیه السلام) خليلاً لكثرة صلاته على محمد وأهل بيته»(4).

ص: 262


1- وسائل الشيعة: ج7 ص194 ب34 ح9093.
2- بحار الأنوار: ج91 ص49 ب29 ح9.
3- روضة الواعظين: ج2 ص392 مجلس في ذكر الأوقات وما يتعلق بها.
4- بحار الأنوار: ج91 ص54 ب29 ح23.

نبيه وأمينه، وخيرته من الخلق وصفيه،

اشارة

-------------------------------------------

الأمين المصطفى

مسألة: ينبغي إرشاد العباد إلى أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان أميناً وصفياً وخيرة الله من الخلق بقول مطلق، أي من جميع الأبعاد والحيثيات وفي كل الجهات، وأنه (صلی الله علیه و آله) كان المثل الأعلى في الأمانة، وأكمل من اصطفاهم الله، وخير خيرته على الإطلاق. ورغم أن ذكر بعض هذه الصفات(1) يغني عن ذكر الأخريات، إلاّ أن ذكر الجميع سبب لمزيد من التوضيح والتركيز، وذلك يوجب التفاف الناس حول الرسول (صلی الله علیه و آله) أكثر فأكثر.

ومنه يعرف استحباب مثل ذلك بالنسبة إلى سائر أولياء الله (علیهم السلام) بالملاك، وقد ورد في الزيارات: «سلام عليك يا أمين الله»(2)، و«السلام عليكيا أمين الله»(3).

عصمة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله)

مسألة: ربما يمكن الاستدلال ب «أمينه» و«خيرته من الخلق» الوارد في كلامها (علیها السلام) وفي أحاديث شريفة كثيرة، على عصمة الرسول (صلی الله علیه و آله).

ص: 263


1- النبي (صلی الله علیه و آله) أمين ومختار بالضرورة لذا يغني ذكره عن ذكرهما، أما ذكر الأمين والمختار فلا يغني عن ذكر النبي، إذ ليس كل أمين ومختار نبياً، لذا قال الإمام المؤلف (قدس سره): إن ذكر بعضها يغني عن ذكر الأخريات.
2- بحار الأنوار: ج83 ص105 ب41 ح8.
3- تهذيب الأحكام: ج6 ص6 ب3 ح2.

..............................

لأن الأمين بقول مطلق هو المعصوم، وكذلك الخيرة من الخلق، نظراً للإطلاق الأحوالي والأزماني(1)، وللانصراف في مثل المورد للفرد الأكمل، ولايحسن من القادر الحكيم نصب غير الأمين من كل الجهات، وغير المعصوم من مختلف الحيثيات نبياً وحجة على العباد(2).إضافة إلى الأدلة العقلية الدالة على ذلك كقدرته على نصب الأمين المطلق، وفياضيته، والحاجة إلى ذلك وعدم وجود المحذور، وما أشبه(3).

النبي الأمين (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يجب الاعتقاد بأنه (صلی الله علیه و آله) النبي الأمين على الوحي، قال تعالى: «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (علیهم السلام) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى»(4)، وإن ما جاء (صلی الله علیه و آله) به هو ما أمره تعالى بذلك لا يزيد ولا ينقص(5).

ص: 264


1- فالأمين له إطلاق من حيث الزمان فهو أمين في كل الأزمنة، وإطلاق من حيث الأحوال فهو أمين في كل الأحوال، في العسر واليسر وهكذا، واستفادة الإطلاقين أمر عقلائي عرفي في كل لفظة لم تكن هناك قرينة على تقييدها بزمن خاص أو جهة معينة.
2- خاصة مع ملاحظة أن قول وفعل وتقرير الرسول (صلی الله علیه و آله) والإمام (علیه السلام) يؤثر في حياة الناس وسلوكهم كما هو واضح، على أنه المرجع النهائي والمقياس الإلهي الأول والأخير، لا لفئة خاصة فحسب بل لكل البشرية على مر الأعصار.
3- راجع حول العصمة: كتاب (الألفين) للعلامة الحلي (قدس سره)، وكتاب (القول السديد في شرح التجريد): ص333 للإمام المؤلف (قدس سره).
4- سورة النجم: 3-4.
5- هذا وقد ورد في تفسير الآية المباركة عن ابن عباس:... فأنزل الله تبارك وتعالى: «وَالنَّجْمِ إِذَا هَوى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ» يعني: في محبة علي بن أبي طالب (علیه السلام)، « وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى» يعني: في شأنه، «إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى» بحار الأنوار: ج35 ص272 ب8 ح1.

..............................

فهو (صلی الله علیه و آله) الرابطوحلقة الوصل، وهو الوسيط الأمين بين الخالق والخلق، قال تعالى : «مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ»(1). وقال (علیه السلام): «أرسله (صلی الله علیه و آله) بالحق وائتمنه على الوحي»(2). وهذا (3) أكبر أقسام الأمانة؛ لأن السعادة البشرية في الدنيا والآخرة متوقفة عليه، بل أن عظمة الأمانة قد تكون لعظمة غايتها وفوائدها، وقد تكون لقيمتها الذاتية، وقد تكون لإضافتها وانتسابها للعظيم فاعلاً أو قابلاً، وهذه كلها مجتمعة في (الوحي) وهو الكتاب التشريعي الذي ائتمن الله رسوله (صلی الله علیه و آله) عليه كما لا يخفى.

قولها (علیها السلام): «وصفيّه» اصطفاه واختاره، فهو المصطفى فاعلاً أو قابلاً، كما ورد: «وأن محمداً عبده ورسوله، وأمينه وصفيه، وصفوته من خلقه، وسيد المرسلين، وخاتم النبيين، وأفضل العالمين»(4). وانتخاب الله تعالى له (صلی الله علیه و آله) دون سائرالخلق صفياً مع لحاظ علمه تعالى المطلق بكافة أبعاد النفس الإنسانية، وإحاطته بسلوكه العملي وشبه ذلك في كافة لحظات حياته (صلی الله علیه و آله) دليل على خلوصه (صلی الله علیه و آله) من كل نقص ونزاهته من كل عيب.

قولها (علیها السلام): «وخيرته من الخلق» اختاره ورضيه: ارتضاه. ولا يخفى أن مادتي (الاصطفاء والارتضاء) تدلان على أمرين، تقول: (صفي يصفو فهو صاف)، و(رضي يرضى فهو راض وذاك مرضي)، كما تقول: ذاك (مصطفى) وهذا (مرتضى).

ص: 265


1- سورة التكوير: 21.
2- شرح نهج البلاغة: ج16 ص40 ترجمة الحسن بن علي (علیه السلام) وذكر بعض أخباره.
3- أي الائتمان على الوحي.
4- تحف العقول: ص416 جوابه (علیه السلام) للمأمون في جوامع الشريعة لما سأله جمع ذلك.

والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.

اشارة

-------------------------------------------

الدعاء للأولياء والصالحين

مسألة: يستحب طلب الرحمة والبركة من الله تعالى للرسول (صلی الله علیه و آله) سراً وجهاراً، في مختلف الحالات والأوقات، وكذلك السلام عليه (صلی الله علیه و آله)(1)؛ فإن الله سبحانه وتعالى وعد بالإجابة حيث قال سبحانه : «ادْعُونِيأَسْتَجِبْ لَكُمْ»(2)، ومن المعلوم أن الدعاء للرسول (صلی الله علیه و آله) مستجاب خصوصاً من مثل الزهراء (علیها السلام)، بل روي عن علي (علیه السلام): «كل دعاء محجوب عن السماء حتى يُصلّى على محمد وآل محمد»(3).

وذلك(4) يوجب الخير بالنسبة إلى الداعي في الدنيا والآخرة بنحو الأثر الوضعي، وهو أيضاً نوع من الإيحاء والتلقين فيزيد الإنسان تعلقاً بالرسول (صلی الله علیه و آله) وآله الأطهار (علیهم السلام) وبسائر الصلحاء ويشده إليهم.

إضافة إلى ما لهذه الدعوات من تركيز المفاهيم والمعاني الروحية في الإنسان بشكل أعمق، بالإضافة إلى ما أشير إليه من أنه تعالى سيتفضل به على الرسول (صلی الله علیه و آله) وآله (علیهم السلام) وأتباعه من الكرامة المتزايدة.

ص: 266


1- راجع وسائل الشيعة: ج7 ص192 ب34.
2- سورة غافر: 60.
3- جامع الأخبار: ج61 ف28.
4- أي الصلاة والسلام على رسول الله (صلی الله علیه و آله).

..............................

إذ من الثابت أن الله سبحانه وتعالىجعل لكل شيء سبباً، فكما قرر تعالى من أسباب رفعة درجات المؤمنين وفي طليعتهم الرسل والأوصياء (علیهم السلام) تحمل الأذى في سبيله والصبر والاستقامة وما أشبه، كذلك لا يبعد أن يقرر سبحانه من أسباب رفعة الدرجات وزيادة المثوبة والبركة، دعوات الناس لهم (عليهم الصلاة والسلام).

و(البركة) معناها: الثبات والاستمرار(1).

قال تعالى: «تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً»(2). أي: ثابت ودائم.

ولا ثابت بالقول المطلق إلا الله سبحانه وتعالى؛ فإن كل شيء سواه ممكن وفي حال التغير والتبدل ولو ذاتاً - بناء على الحركة الجوهرية - أو في كافة أعراضه، بخلافه سبحانه حيث إن البركة الحقيقية فيه.

وما يقال: من أن في النعمةالفلانية بركة أو ما أشبه ذلك، يراد به الدوام النسبي والثبات بالقياس إلى الغير، على أن بركته عرضية مكتسبة أي أنها بالغير لا بالذات(3).

وفي الدعاء: «وارزقني السلامة والعافية، والبركة في جميع ما رزقتني»(4).

ص: 267


1- برك الإبل: أي جلس واستقر على الأرض. وفي لسان العرب: ج10 ص396 مادة برك: (وفي حديث الصلاة على النبي (صلی الله علیه و آله): وبارك على محمد وعلى آل محمد، أي: اثبت له وأدم ما أعطيته من التشرف والكرامة، وهو من برك البعير: إذا أناخ في موضعه فلزمه).
2- سورة الفرقان: 1.
3- ومن معاني البركة: النماء والزيادة. - راجع لسان العرب: ج10 ص395 مادة برك -.
4- بحار الأنوار: ج95 ص331 ب7 ضمن ح1.

..............................

و: «اللهم اجعلني من أهل الجنة التي حشوها البركة»(1).

و«السلام عليه»: دعاء له (صلی الله علیه و آله) بالسلامة في الآخرة، فإن السلامة حقيقة مشكّكة ذات مراتب ودرجات(2)، هذا بالإضافة إلى أن هذه اللفظة تستخدم للتحية والإكرام أيضاً.

ولعل الفرق بالإفراد في (الرحمة) والجمع في (البركات) في كلامها (علیها السلام) كما في القرآن الكريم: «رَحْمَتُاللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ»(3) بلحاظ اعتباره، حيث لوحظ في (الرحمة) الغامرية، قال تعالى: «رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ»(4)، فهي تغمر الإنسان فلا تعدد فيها، بخلاف (البركات) التي لوحظ فيها الانتساب للقابل، فبركة في العمر وبركة في المال وبركة في الرزق وما أشبه، وفي الآخرة أيضاً بركات واستمرارات لمختلف الشؤون والأبعاد بنحو اللا متناهي اللايقفي نظراً للخلود.

وبعبارة أخرى هناك نسبة للخالق ونسبة للمخلوق، فعندما تلاحظ النسبة للخالق فلا تعدد، وعندما تلاحظ النسبة للمخلوق يتعدد(5).

لا يقال: هو (صلی الله علیه و آله) في السلامة، سواء طلب أو لم يطلب، فهذا طلب للحاصل؟.

ص: 268


1- وسائل الشيعة: ج7 ص399 ب48 ح9683.
2- هذا الكلام من الإمام المصنف (قدس سره) إشارة لدفع إشكال سيأتي بيانه.
3- سورة هود: 73.
4- سورة الأعراف: 156.
5- وذلك كأشعة الشمس التي قد تنسب للشمس فهي واحدة، وقد تنسب للقابل كالشجر والحجر والمدر والإنسان والكرات الأخرى... فتكون متعددة.

..............................

لأنه يقال: للسلامة درجات ومراتب،وكونه (صلی الله علیه و آله) في مرتبة منها لا ينافي طلب أن يكون في مرتبة أرفع.

هذا بالإضافة إلى إمكان أن يكون المراد الاستمرار بامتداد الزمن، فإن السلامة تتجدد وتوجد آناً فآناً، كما قال (عليه الصلاة والسلام) في «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ»(1): «أدم لنا توفيقك الذي به أطعناك في ماضي أيامنا حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا»(2)؛ لأن الهداية في كل لحظة، فالهداية في اللحظة السابقة لا تنافي عدم الهداية في اللحظة الثانية وهكذا، فتأمل.

وفي الحديث عن علي (علیه السلام): «الصلاة على النبي (صلی الله علیه و آله) أمحق للخطايا من الماء للنار، والسلام على النبي (صلی الله علیه و آله) أفضل من عتق الرقاب»(3).

السلام على الأموات

مسألة: يستحب السلام على الأموات، سواء عند زيارة الإنسان للمقابر، أم في سائر الأوقات، وذلك يستلزم تذكير الإنسان بالعالم الآخر، وإزالة الحجب الفكرية والنفسية والشهوانية التي تحول دون أن يستعد الإنسان لهذا السفر الأبدي.

ص: 269


1- سورة الفاتحة: 6.
2- تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) : ص44 أعظم الطاعات ح20. وفي تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان ج1: (الهداية هو إرشاد الطريق، فإن الإنسان في كل آن يحتاج إلى من يرشده ويهديه وإن كان مهتدياً).
3- وسائل الشيعة: ج7 ص195 ب34 ح9096.

..............................

قال علي (علیه السلام) عندما أشرف على المقابر: «يا أهل التربة ويا أهل الغربة، أما الدور فقد سُكنت، وأما الأزواج فقد نُكحت، وأما الأموال فقد قُسّمت، فهذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم - ثم التفت (علیه السلام) إلى أصحابه فقال: - لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم: أن خير الزاد التقوى»(1).

وفي وصية لقمان لابنه: «يا بني... احضر الجنائز، وزُر المقابر، وتذكر الموت وما بعده من الأهوال فتأخذ حذرك»(2).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «زوروا موتاكم، وصلّوا عليهم، وسلمواعليهم فإن لكم فيها عبرة»(3).

فالسلام على الأموات يعد من أسباب هداية الإنسان، إضافة إلى ما ينتجه من اللطف الإلهي بالمرسل لهم السلام، وهو كاشف أيضاً عن شدة الترابط بين العالمَين كما سبق. ولذا نجد في أنواع السلام المقررة في الشريعة للأموات تذكيراً بالمبدأ والمعاد وما أشبه، كما ورد: «بسم الله الرحمن الرحيم، السلام على أهل لا إله إلا الله، مِن أهل لا إله إلا الله، يا أهل لا اله إلا الله، بحق لا إله إلا الله، كيف وجدتم قول لا إله إلا الله، مِن لا إله إلا الله، يا لا إله إلا الله، بحق لا إله إلا الله، اغفر لمن قال: لا إله إلا الله، واحشرنا في زمرة من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله علي ولي الله»(4).

ص: 270


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 130.
2- إرشاد القلوب: ص72 ب18.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج1 ص288 بيان زيارة القبور والدعاء للميت.
4- بحار الأنوار: ج99 ص301 ب6 ضمن ح31.

..............................

وعن أبي عبد الله (علیه السلام): «إذا بعدت عليك الشقة ونأت بك الدار فلتعل على أعلى منزلك، ولتصل ركعتين فلتؤم بالسلام إلى قبورنا؛ فإن ذلك يصل إلينا»(1).وعنه (علیه السلام): «إذا نظرت إلى المقابر فقل: السلام عليكم يا أهل المقابر من المؤمنين والمؤمنات، أنتم السلف نحن لكم تبع، ونحن على آثاركم واردون، نسأل الله الصلاة على محمد وآله محمد والمغفرة لنا ولكم»(2).

ذكر محاسن الأموات

مسألة: يستحب ذكر محاسن الميت، قال علي (علیه السلام): «اذكروا محاسن موتاكم»(3)، وفي حديث آخر: «لا تقولوا في موتاكم إلاّ خيراً»(4).

الترحم على الأموات

مسألة: يستحب الترحم على الأموات والدعاء لهم، ففي الحديث:

«الموتى يأتون في كل جمعة من شهر رمضان، فيقفون وينادي كل واحد منهم بصوت حزين باكياً: يا أهلاه، ويا ولداه، ويا قرابتاه، اعطفوا علينا بشيء يرحمكم الله، واذكرونا ولا تنسونابالدعاء، وارحموا علينا وعلى غربتنا؛ فإنا

ص: 271


1- مستدرك الوسائل: ج10 ص369 ب75 ح12199.
2- جامع الأخبار: ص168 ف134.
3- بحار الأنوار: ج72 ص239 ب66.
4- غوالي اللآلي: ج1 ص439 ب1 المسلك الثالث ح158.

..............................

قد بقينا في سجن ضيق، وغم طويل وشدة، فارحمونا ولا تبخلوا بالدعاء والصدقة لنا، لعل الله يرحمنا قبل أن تكونوا مثلنا. فوا حسرتاه قد كنا قادرين مثل ما أنتم قادرون، فيا عباد الله اسمعوا كلامنا ولا تنسونا؛ فإنكم ستعلمون غداً، فإن الفضول التي بأيديكم كانت بأيدينا، فكنا لا ننفق في طاعة الله، ومنعنا عن الحق فصار وبالاً علينا ومنفعة لغيرنا، اعطفوا علينا بدرهم أو رغيف أو بكسرة، ثم ينادون: ما أسرع ما تبكون على أنفسكم ولا ينفعكم كما نحن نبكي ولا ينفعنا، فاجتهدوا قبل أن تكونوا مثلنا»(1).

وفي بعض الأحاديث: «إن أرواح المؤمنين تأتي كل جمعة وينادي كل واحد منهم مثل هذا النداء»(2).

وعنه (صلی الله علیه و آله): «إن الرجل ليموت والداه وهو عاق لهما، فيدعو الله لهما من بعدهما فيكتبه الله منالبارين»(3).

وقال (صلی الله علیه و آله): «اهدوا لموتاكم». فقيل: وما هدية الأموات؟. قال: «الصدقة والدعاء»(4).

وقال (صلی الله علیه و آله): «ألا من أعطف لميت بصدقة فله عند الله من الأجر مثل أحُد، ويكون يوم القيامة في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظل العرش»(5).

ص: 272


1- مستدرك الوسائل: ج2 ص162-163 ب39 ح1697.
2- جامع الأخبار: ص169 ف134.
3- إرشاد القلوب: ج1 ص195 ب52.
4- مستدرك الوسائل: ج2 ص484 ب79 ح2524.
5- جامع الأخبار: ص169 ف134.

ثم التفتت (علیها السلام) إلى أهل المجلس وقالت:

اشارة

-------------------------------------------

المراد بالالتفات

مسألة: الظاهر أن المراد بالالتفات هنا التوجه لا النظر، خاصة بلحاظ ما سبق: «فنيطت دونها ملاءة»، وإن كان النظر جائزاً بشروط مذكورة في كتاب النكاح.

فإن الإنسان قد يخطب بلا توجه إلىجهة خاصة، وقد يخطب مع التوجه إليها، مع نظر ورؤية أم بدونها.

وكأنها (علیها السلام) كانت تتكلم بكلماتها السابقة وهي غير ملتفتة إلى جهة خاصة، نظراً لعدم المقتضي لذلك، باعتبار كون البداية حمداً لله تعالى وشكراً له وشهادة لله بالوحدانية ولمحمد (صلی الله علیه و آله) بالنبوة... فلما أرادت أن توجه الخطاب إليهم التفتت إلى جانبهم، فإن الالتفات يوجب توجه الصوت أكثر فأكثر، وإن كان بينها وبينهم ستر.

إضافة إلى أن في الالتفات بعد عدمه مزيداً من الالفات كما لا يخفى(1).

ص: 273


1- راجع كتاب (البلاغة) للإمام المؤلف (قدس سره).

أنتم عباد الله

اشارة

-------------------------------------------

عباد الله

مسألة: يستحب تنبيه الناس - دائماً - على أنهم عباد الله تعالى وذلك بأساليب شتى، منها الخطاب بتضمينه في مطلعه ونهايته، بل تحويل ذلك أو ما بمعناه، إلى مرتكز كلامي يكرر في رأس كل مقطع منه حسب مقتضى الحال(1).

وقولها (علیها السلام): «عباد الله» تذكير لهم بأنهم عبيد، ولابد أن يطيعوا أمر المولى، وإلاّ كانوا معرضين للعقاب؛ فإن التنبيه على ذلك يوجب الإيحاء النفسي للطرف على وجوب طاعته تعالى، وقد ورد في القرآن:

قوله تعالى: «عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ»(2).وقوله سبحانه: «إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ»(3).

وقوله عزوجل: «قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاَةَ»(4).

وقوله تعالى: «وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»(5).

ص: 274


1- كما نجد ذلك في الصلاة، حيث تتضمنه بدأ ووسطاً وختماً: (... رب العالمين ... إياك نعبد ... سبحانه ربي العظيم ... سبحان ربي الأعلى ... أشهد أن لا إله إلا الله ... أشهد أن محمداً عبده ... السلام علينا وعلى عباد الله ...)، وكذلك في القرآن الحكيم حيث لا يخلو - عادةً - من الإشارة إلى ذلك مرة واحدة أو مراراً عديدة، في كل صفحة.
2- سورة الإنسان: 6.
3- سورة الصافات: 40 و74 و128 و160.
4- سورة إبراهيم: 31.
5- سورة الإسراء: 53.

..............................

وقوله سبحانه: «ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ»(1).

وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ»(2).

وقوله سبحانه:«لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً»(3).

ونقرأ في كل يوم في الصلوات المفروضة والمستحبة: «أشهد أن محمداً عبده ورسوله»، و«السلام علينا وعلىعباد الله الصالحين»، كما نقرأ في الركعتين الأوليين: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ»(4) إلى غير ذلك.

وقد ورد كثيراً في الروايات: «اعلموا عباد الله»(5)، و«ابشروا عباد

الله»(6)، و«أوصيكم عباد الله»(7)، و«يا عباد الله»(8)، وما أشبه.

قال (صلی الله علیه و آله) في خطبته في حجة الوداع: «أوصيكم عباد الله بتقوى الله»(9).

وقال (صلی الله علیه و آله): «أحب عباد الله إلى الله أنفعهم لعباده»(10).

ص: 275


1- سورة الزمر: 16.
2- سورة الأعراف: 194.
3- سورة النساء : 172.
4- سورة الفاتحة: 5.
5- الكافي: ج8 ص75 كلام علي بن الحسين (علیه السلام) ح29.
6- وسائل الشيعة: ج10 ص245 ب1 ح13323.
7- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص515 باب صلاة العيدين ح1482.
8- تهذيب الأحكام: ج4 ص96 ب29 ح8.
9- تحف العقول: ص30 خطبته (صلی الله علیه و آله) في حجة الوداع.
10- بحار الأنوار: ج74 ص154 ب7 ح110.

..............................

وإذا كان على العبد - عرفاً - أنيطيع المولى المجازي، فبالضرورة يجب على العبد - عقلاً - أن يطيع المولى الحقيقي، إذ الإنسان عبد خاضع(1) ومملوك من جميع الجهات، في ذاته وأعراضه وحدوثه وبقائه و... لله تعالى.

مما ينبغي التذكير به

مسألة: ينبغي تذكير الناس بوظائفهم ومسؤولياتهم والأدوار الملقاة على عواتقهم، وما يتوقع منهم في حياتهم الفردية والعائلية والاجتماعية..

وأنهم من هم؟. و لِمَ هم؟ (2). وكيف كانوا؟. وإلى مَ صاروا؟. وما الذي سيكونون عليه؟ (3). والعلل الباعثة على ذاك التحول وهذا التغير؟. ومواصفات القيادة وما صنعته لهم وما أرادته منهم؟. والفلسفة في قراراتوآراء وأحكام القائد(4) والصفات الإيجابية والسلبية، وآثارها الدنيوية والأخروية؟ وهكذا.

وكل ذلك نجده بأروع تعبير وأدق مضمون، متجلياً في خطبتها (صلوات الله عليها) من أولها إلى آخرها. قال تعالى: «فَلْيَنْظُرِ الإِْنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ»(5).

ص: 276


1- إشارة إلى ما ذكر في كتب اللغة من أن (أصل العبودية: الخضوع والتذلل) - راجع لسان العرب: ج3 ص273 مادة عبد - وفيه: ومعنى العبادة في اللغة: الطاعة مع الخضوع، ومنه طريق معبد إذا كان مذللاً بكثرة الوطء... والمعبد: المذلل، والتعبد: التذلل، والتعبيد: التذليل.
2- إشارة للعلة الغائية لخلقهم.
3- أي الماضي والحاضر والمستقبل.
4- إذ يوجب ذلك مزيداً من اندفاع الناس لتنفيذ القرارات وإتباع الأحكام، كما ينمي حالة التدبر والتأمل فيهم، وقد سبق من الإمام المؤلف (قدس سره) تفصيل ذلك.
5- سورة الطارق: 5.

نصب أمره ونهيه،

اشارة

-------------------------------------------

مسؤوليات العباد

1: امتثال الأوامر والنواهي

مسألة: انتقلت (سلام الله عليها) من الحديث عن المرسل وغايته من الخلقة ومن البعثة، وعن الرسول (صلی الله علیه و آله) وما حققه من الأهداف، إلى الحديث عن المرسَل إليهم.

ويستفاد من كلمة «نصب أمره ونهيه» أن الهدف الأساسي المتوخى من العباد هو قيامهم بامتثال الأوامر والنواهي الإلهية، قال سبحانه: «فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا»(1)، فالمخاطبون من قبل الله تعالى بواسطة الأنبياء (علیهم السلام) يتحملون هذا الأمر العظيم، وقال سبحانه: «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها»(2).

هذا، وتفصيل بحث الخطاب ومن إليه الخطاب في علم الأصول، قال تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ»(3).قولها (علیها السلام): «نصب أمره ونهيه»، أي المنصوبون والمقامون(4) لتنفيذ أوامره ونواهيه، إلماعاً إلى لزوم أن يطيعوه تعالى في أمر الخلافة وغيرها، وإلاّ كانوا معرّضين لانتقامه وسخطه، كما أشارت إلى ذلك بعد كلام لها (علیها السلام).

ص: 277


1- سورة النور: 54.
2- سورة الجمعة: 5.
3- سورة إبراهيم: 4.
4- تقول: نصبه أي أقامه، وينصبون أي يقيمون.

وحملة دينه ووحيه،

اشارة

-------------------------------------------

2: حمل راية الدين والوحي

مسألة: يجب حمل وإعلاء راية الدين والوحي، فإن دينه تعالى اُنزل عليهم، قال سبحانه: «إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً»(1).

ومصداق الأمانة الأتم زمن ختم النبوة هو: رسالته (صلی الله علیه و آله) والتكليف بالأوامر والنواهي وولاية علي (علیه السلام)، كما في التفاسير(2).

ص: 278


1- سورة الأحزاب: 72.
2- راجع مستدرك سفينة البحار: ج7 ص207 عرض الأمانة على السماوات، وفيه: عن معاني الأخبار، عن المفضل، قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): «إن الله تبارك وتعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، فجعل أعلاها وأشرفها أرواح محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة بعدهم (صلوات الله عليهم)، فعرضها على السماوات والأرض والجبال فغشيها نورهم. فقال الله تبارك وتعالى للسماوات والأرض والجبال: هؤلاء أحبائي وأوليائي وحججي على خلقي وأئمة بريتي، ما خلقت خلقاً هو أحب إليَّ منهم، لهم ولمن تولاهم خلقت جنتي، ولمن خالفهم وعاداهم خلقت ناري، فمن أدعى منزلتهم مني ومحلهم من عظمتي عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين وجعلته من المشركين في أسفل درك من ناري، ومن أقر بولايتهم ولم يدع منزلتهم مني ومكانهم من عظمتي جعلته معهم في روضات جناتي، وكان لهم فيها ما يشاؤون عندي، وأبحتهم كرامتي، وأحللتهم جواري، وشفعتهم في المذنبين من عبادي وإمائي، فولايتهم أمانة عند خلقي، فأيكم يحملها بأثقالها ويدعيها لنفسه دون خيرتي، فأبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن من ادعاء منزلتها وتمني محلها من عظمة ربها... »، الحديث. وراجع أيضاً: معاني الأخبار ص108 باب معنى الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها أشفقن منها حملها الإنسان.

..............................

وقال تعالى: «عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ»(1).و(الدين) قد يكون أعم من الوحي، كما يكون الوحي كذلك، وقد تتغير النسبة بتغير الإعتبارات المختلفة، فالدين يشمل سيرته الطاهرة (صلی الله علیه و آله) والأحكام التكليفية(2) والأحكام الوضعية، وغيرها(3).

قال تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً»(4).

وفي الحديث عن أبي جعفر (علیه السلام) في تفسير قوله تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً» قال: «الولاية»(5). وفي الرضوي (علیه السلام)، عن آبائه (علیهم السلام) في تفسير الآية: «هو لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي أميرالمؤمنين»(6).

و(الوحي): أعم من القرآن، فيشمل الأحاديث القدسية وغيرها أيضاً، قال الشيخ المفيد (قدس سره)(7):

ص: 279


1- سورة النور: 54.
2- الواجبات والمحرمات والمندوبات والمكروهات والمباحات.
3- ربما يكون المراد من «وغيرها» ما ذكره الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) من قصص الأنبياء الماضين (علیهم السلام) ومواعظهم وحكمهم، وكذا أحداث الأمم الغابرة والأخبارات المستقبلة (ما كان وما يكون وما هو كائن)، فمن مسؤوليات المسلم إيصال المعلومات الصحيحة عن كل ذلك كما بينه (صلی الله علیه و آله) للناس.
4- سورة الروم: 30.
5- بحار الأنوار: ج3 ص277 ب11 ح2.
6- تفسير القمي: ج2 ص154 سورة الروم مكية.
7- أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السلام العكبري الملقب بالشيخ المفيد (رحمة الله). من أجل مشايخ الشيعة، وُلد (قدس سره) في عام 336ه بأطراف بغداد، في أسرة عريقة في التشيع معروفة بالإحسان والطهارة. وقد أنهى دراساته الابتدائية في أسرته ومسقط رأسه، ثم سافر إلى بغداد واشتغل بتحصيل العلم عند الأساتذة والعلماء ليصبح بعد ذلك المقدم في علم الكلام والفقه والأصول، وكان من تلامذة ابن عقيل. وفضله أشهر من أن يوصف انتهت رئاسة الإمامية إليه في وقته. من أساتذته: ابن قولويه القمي، والشيخ الصدوق، وابن وليد القمي، وأبو غالب الزراري، وابن الجنيد الإسكافي، وأبو علي الصولي البصري، وأبو عبد الله الصفواني. ومن تلامذته: السيد المرتضى علم الهدى، والسيد الرضي، والشيخ الطوسي، والنجاشي، وأبو الفتح الكراجكي، وأبو يعلى جعفر بن سالار. بلغت مؤلفات الشيخ المفيد طبقاً لما ذكر تلميذه البارز الشيخ الطوسي (رحمة الله) 200 مؤلف منها: المقنعة، الفرائض الشرعية، أحكام النساء، الكلام في دلائل القرآن، وجوه إعجاز القرآن، النصرة في فضل القرآن، أوائل المقالات، نقض فضيلة المعتزلة، الإفصاح، الإيضاح. توفي الشيخ المفيد (رحمة الله) في عام 413 ه ببغداد عن 75 عاماً قضاها بالعلم والعمل، ودفن في الحرم المطهر بجوار الإمام الجواد (علیه السلام) قريباً من قبر أستاذه ابن قولويه. وقد حظي بتعظيم الناس وتقدير العلماء والفضلاء. يذكر الشيخ الطوسي (رحمة الله) الذي حضر تشييعه: بأن يوم وفاته كان يوماً لا نظير له، لكثرة من حضر لأداء الصلاة على جنازته، والبكاء عليه من الصديق والعدو، حيث شيّعه ثمانون ألفاً وصلى عليه السيد المرتضى علم الهدى (رحمة الله).

..............................

(أصل الوحي هو الكلام الخفي، ثم قد يطلق على كل شيء قصد به إلى إفهام المخاطب على الستر له عن غيره، والتخصيص له بدون من سواه، وإذا أضيف إلى الله تعالى كان فيما يخص به الرسل - صلى الله عليهم أجمعين - خاصة دون من سواهم)(1).

هذا والكلام في الوحي وكيفيته وأقسامه وأنه هل يختص بالنبي (علیه السلام) أو لا، مفصل مذكور في علم الكلام.

ثم إنه ينبغي بيان ذلك للناس، أي أنهم حملة الدين والوحي، قال (صلی الله علیه و آله): «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»(2).

ص: 280


1- تصحيح الاعتقاد: ص120 فصل في كيفية نزول الوحي.
2- جامع الأخبار: ص119 ف75.

..............................

وفي الحديث عن أبي عبد الله (علیه السلام) - في خلق العالم - قال: «فقال الله لهم: من ربكم؟. فكان أول من نطق رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) والأئمة (علیهم السلام)، فقالوا: أنت ربنا. فحملهم العلم والدين - ثم قال للملائكة - هؤلاء حملة علمي وديني وأمنائي في خلقي وهم المسؤولون»(1).

كما أنه يلزم الاهتمام بالقرآن؛ فإن حمله(2) واجب كفائي، كما ألمعنا إليه في كتاب (الفقه: حول القرآن الحكيم)(3)، وسيأتي البحث عن ذلك إن شاء الله تعالى.

قال (صلی الله علیه و آله): «أشراف أمتي حملة القرآن»(4).

وقال (صلی الله علیه و آله): «حملةالقرآن عرفاء أهل الجنة»(5).

ص: 281


1- بحار الأنوار: ج3 ص334 ب14 ح43، والبحار: ج26 ص277 ب6 ح19.
2- أي حفظه ونشره وما أشبه.
3- راجع موسوعة الفقه: ج 98 كتاب (حول القرآن الكريم).
4- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص399 ومن ألفاظ رسول الله (صلی الله علیه و آله) الموجزة التي لم يسبق إليها ح5855.
5- الكافي: ج2 ص606 باب فضل حامل القرآن ح11.

وأمناء الله على أنفسكم،

اشارة

-------------------------------------------

3: وقاية النفس والائتمان عليها

مسألة: تجب وقاية النفس والحفاظ عليها من الأخطار والأقذار، الدنيوية والأخروية، كما قالت (علیها السلام): «وأمناء الله على أنفسكم»، أي أن الله جعل أنفسكم أمانة عندكم، فيشمله قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ لأَِماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ»(1)، فهم أمناء وهم الأمانة باعتبارين كالطبيب يطبب نفسه.

قال تعالى: «قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً»(2).

وقال سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ»(3).

وفي الحديث عنه (صلی الله علیه و آله): «أوصيك بنفسك ومالك خيراً»(4).

والمراد: إن الواجب عليكم أن لا تخونوا في الأمانة بمخالفة أوامر الله سبحانه، فإن الخيانة مع النفس أيضاًخيانة، وهي داخلة في عمومات الأدلة، بل الخيانة مع النفس من أشد الخيانات، وهي تؤدي إلى الخسارة الكبرى الأبدية له، ولأهله في كثير من الأحيان(5)، قال تعالى: «قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(6).

ص: 282


1- سورة المؤمنون: 8، سورة المعارج: 32.
2- سورة التحريم: 6.
3- سورة المائدة: 105.
4- الأنوار: ص290 سبب خروج النبي (صلی الله علیه و آله) بتجارة خديجة إلى الشام.
5- إذ خسارة النفس عبر الانسياق وراء الشهوات والأهواء كثيراً ما تؤدي إلى خسران الأهل أيضاً، فإن لسيرة الإنسان وتفكيره الأثر الكبير على أسرته كما لا يخفى.
6- سورة الزمر: 15.

..............................

أما حفظ أمانة الغير وأداؤها إليه فهي واجبة شرعاً كما قرر في محله(1)، قال سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلى أَهْلِها»(2).

وقال (علیه السلام): «عليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البر والفاجر»(3).

وقال (علیه السلام): «أصل الدينأداء الأمانة والوفاء بالعهود»(4).

مسائل أخرى

مسألة: ويمكن - في الجملة - استنباط مسائل عديدة أخرى من قولها (علیها السلام)، ك 1: وجوب حفظ النفس.

2: وحرمة الانتحار.

3: وحرمة الإضرار البالغ بالجسم أو الروح كإذهاب قوة أو قطع عضو أو ما أشبه، مما فصلناه في مبحث (لا ضرر).

قال تعالى: «وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ»(5).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»(6).

فإذا كانت النفس أمانة إلهية بيد الإنسان فلا يجوز له أي إفراط وتفريط فيها، كما لا يجوز أي تصرف فيها إلاّ بإذنه تعالى ولو بشكل عام، فدقق.

ص: 283


1- راجع موسوعة الفقه: ج 56 كتاب الوديعة.
2- سورة النساء: 58.
3- بحار الأنوار: ج100 ص92 ب1 ح6.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص86 ق1 ب2 ف5 قواعد الدين ح1407.
5- سورة البقرة: 195.
6- وسائل الشيعة: ج26 ص14 ب1 ح32382.

وبلغاءه إلى الأمم،

اشارة

-------------------------------------------

4: تبليغ وهداية الأمم

مسألة: يجب تبليغ رسالات الله إلى الناس، وهو أكبر مسؤولية تحمل أعباءها الأنبياء والرسل (علیهم السلام).

قال تعالى: «أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي»(1).

وقال سبحانه: «وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ»(2).

وقال تعالى: «الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ»(3).

وهو واجب كفاية على كل مكلف قادر على إرشاد الجاهل وتنبيه الغافل وبيان مسؤوليات الناس لهم، في الجملة(4).

قال سبحانه بالنسبة إلى نبيه (صلی الله علیه و آله): «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَاأُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ»(5)، وهو (صلی الله علیه و آله) أسوة فيجب إتباعه.

ص: 284


1- سورة الأعراف: 62و68.
2- سورة النور: 54، وسورة العنكبوت: 18.
3- سورة الأحزاب: 39.
4- قد يكون المراد ب (في الجملة) أن الإرشاد إلى المستحبات والأخلاقيات وشبهها مستحب إلاّ ما خرج من باب المقدمية أو شبهها كحفظ معالم الدين، أما الإرشاد في شؤون أصول الدين وفروعه الواجبة وما أشبه فواجب.
5- سورة المائدة: 67.

..............................

وفي الصحيفة السجادية، قال(علیه السلام) في وصفه (صلی الله علیه و آله): «وأدأب نفسه في تبليغ رسالتك، وأتعبها بالدعاء إلى ملتك، وشغلها بالنصح لأهل دعوتك»(1).

هذا بالإضافة إلى ما دل على وجوب تبليغ الدين أصوله وفروعه، فقد سبق أن: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»(2)، كما قاله الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله). نعم تختلف الرعية، فالحاكم مثلاً رعيته كل الشعب، بينما الرجل رعيته عائلته.

وإذا اجتمعت شرائط التبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أكثر ممن هو في دائرته فهو مكلف بذلك أيضاً، وفي القرآن الحكيم: «وَتَوَاصَوْابِالْحَقِّ

وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ»(3).

وقال تعالى: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ»(4).

وقال جل وعلا: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(5).

ص: 285


1- الصحيفة السجادية الكاملة: ص40 الدعاء رقم2، وكان من دعائه (علیه السلام) بعد هذا التحميد الصلاة على رسول الله (صلی الله علیه و آله).
2- جامع الأخبار: ص119 ف75.
3- سورة العصر: 3.
4- سورة التوبة: 71.
5- سورة آل عمران: 104.

..............................

ويحتمل كون ƒمن‚ في الآية نشوية(1) لا بمعنى البعض، وإن قال به جمع(2)، بقرينة قوله سبحانه فيآخرها: «وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» الظاهر في أن غيرهم لا يكون مفلحاً، فتأمل.

ولقد كان من أسرار الانتشار السريع الهائل للإسلام هو أن عامة المسلمين(3) اضطلعوا بمهمة تبليغ الإسلام في أقصى البلاد، وتحملوا في ذلك شتى الصعاب حتى اجتنوا أفضل الثمار.

عكس ما عليه الآن الكثير من المسلمين، حيث يتوهمون أن مهمة التبليغ هي مسؤولية فئة خاصة فحسب.

قولها (علیها السلام): «وبلغاؤه»، أي: أنتم مبلغون أحكام الله إلى سائر الأمم؛ لأنهم تحملوا الدين وعاصروا الرسول (صلی الله علیه و آله) وعرفوا سنته وقد أمرهم الله بذلك، قال تعالى: «فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(4).

ص: 286


1- أي ولتكن أمة ناشئة منكم أي مصدرها أنتم، كما في قوله تعالى: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ» سورة فاطر: 11.
2- راجع تفسير التبيان: ج2 ص548 في تفسير الآية الكريمة، وفيه: (من ههنا للتبعيض على قول أكثر المفسرين). وفي تفسير جوامع الجامع: ج1 ص315، وفيه: (قيل: إن من هنا للتبعيض... وقيل: إن من للتبيين). وفي تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان: ج4 ص19، وفيه: (أي يجب أن تكون منكم جماعة).
3- لا فرق في ذلك بين التاجر والعامل ورجل الدين والمزارع والجندي وغيره، راجع كتاب كيف انتشر الإسلام؟ للإمام المؤلف (قدس سره).
4- سورة التوبة: 122.

..............................

وفي كلامها (علیها السلام) هذا إشارة إلى أنكم إذا انحرفتم وأقررتم غصب الخلافة ستحملون وزر الانحرافالذاتي، ووزر إضاعة أمانة الله التي كلفكم بإبلاغها إلى سائر الأمم، قال سبحانه: «لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ»(1).

قولها (علیها السلام): «الأمم»، فإن كل جماعة لها لون خاص من قومية أو لغة أو لون أو ما أشبه ذلك تعد أمة من الأمم، وإن كان البشر مجموعاً أمة واحدة في قبال الملك والجن وأقسام الحيوانات، قال سبحانه: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ»(2).

وقال تعالى: «وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً»(3).

وهل يشمل وجوب البلاغ الأمم المتعقلة غير البشر - لدى الإمكان - سواء من الجن لأنهم مكلفون أيضاً، أو من الأمم الأخرى الساكنة في سائر الكرات والعوالم؟. احتمالان.

ففي الحديث عن الرضا (علیه السلام)، قال: «ولله عزوجل وراء ذلك سبعون ألف عالم أكثر من عدد الجنوالإنس»(4)، الحديث.

وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «... لعلّك ترى أن الله عزوجل إنما خلق هذا العالم الواحد، أو ترى أن الله عزوجل لم يخلق بشراً غيركم، بلى والله لقد خلق

ص: 287


1- سورة النحل: 25.
2- سورة الأنعام: 38
3- سورة الأعراف: 160.
4- بصائر الدرجات: ص492 ب14 ح7.

..............................

الله تبارك وتعالى ألف ألف عالم وألف ألف آدم... »(1) الحديث.

وعنه (علیه السلام): «هل أدلك على رجل قد مر منذ دخلت علينا في أربعة آلاف عالم؟»(2)، وفي بعض الروايات: «أربعة عشر ألف عالم»(3).

الأجيال القادمة

مسألة: يجب بلاغ الأجيال القادمة أيضاً، للإطلاق الأزماني في قولها (علیها السلام): «الأمم»، وشمول سائر الأدلة له عموماً، أو إطلاقاً، أو ملاكاً. فمن كانبمقدوره هداية الأجيال القادمة(4) وجب عليه ذلك وجوباً كفائياً.

فعن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «أيما عبد من عباد الله سن سنة هدى كان له أجر مثل أجر من عمل بذلك من غير أن ينقص من أجرهم شيء»(5).

كما يجب بلاغ الأمم المعاصرة من غير المسلمين ومن المخالفين، ولذا أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) إلى ملوك العجم والروم، كما أرسل إلى مختلف العشائر والقبائل(6).

ص: 288


1- الخصال: ج2 ص652 خلق الله عزوجل ألف ألف عالم وألف ألف آدم ح54.
2- بحار الأنوار: ج46 ص42 ب3 ح40.
3- دلائل الإمامة: ص91 ذكر شي ء من معجزاته (علیه السلام).
4- عبر حفظ كتب الأحاديث والتفاسير وغيرها، أو عبر تربية ثلة تقوم بتربية ثلة من جيل لاحق، أو عبر استخدام الأجهزة الحديثة حالياً أو ما أشبه.
5- وسائل الشيعة: ج16 ص173-174 ب16 ح21274.
6- راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم): ج2 ص20 تحت عنوان: النبي (صلی الله علیه و آله) يتفرغ لإبلاغ الرسالة، وص195 تحت عنوان: عام الرسل والوفود، للإمام المؤلف (قدس سره).

..............................

فإنه (صلی الله علیه و آله) أرسل في السنة السادسة حاطب بن بلتعة إلى المقوقس، ودحية بن خليقة الكلبي إلى قيصر، وعبد الله بن حذافة إلى كسرى،وعمرو بن أمية الضميري إلى النجاشي، وشجاع بن وهب إلى الحارث الغساني، وسليط بن عمرو العامري إلى هودة بن النخعي(1).

كما تجب معرفة طرق وأساليب أعداء الإسلام في صدهم عن انتشار الدعوة؛ فإن معرفة الداء نصف الدواء، وعليه يتوقف التبليغ والبلاغ في الجملة، قال تعالى: «وَأَعِدُّوا لهمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ»(2).

وكذلك تجب - في الجملة - معرفة لغات وعادات وتقاليد وخصوصيات الأمم الأخرى، بالقدر الذي يتوقف عليه التبليغ، فإن الحديث بلسان كل قوم يتوقف على ذلك إجمالاً، قال تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ»(3).

ولذا ترى أنهم (علیهم السلام) يعلمون جميع الألسن واللغات ويتكلمون بها، كما ورد عن علي أمير المؤمنين (علیه السلام)، والإمام الصادق (علیه السلام)، والإمام الكاظم (علیه السلام)، والإمام الرضا (علیه السلام)،وغيرهم(4).

ص: 289


1- راجع بحار الأنوار: ج22 ص250 ب5.
2- سورة الأنفال: 60.
3- سورة إبراهيم: 4.
4- راجع بحار الأنوار: ج26 ص190 ب14.

زعيم حق له فيكم

اشارة

-------------------------------------------

زعيم حق له فيكم(1)،

القرآن هو الزعيم

القرآن هو الزعيم(2)

مسألة: يجب جعل القرآن زعيماً في كافة شؤون الحياة، وزعيم القوم: رئيسهم وسيّدهم والمتآمر عليهم(3).

فإن النجاة بالعمل بالقرآن الحكيم، والاهتداء بهديه والامتثال لتعاليمه، وإلاّ فمن يقرأ القرآن ويعلم تفسيره وتجويده وما أشبه ذلك ثم لايعمل به لاينفعه القرآن، بل يكون القرآن عليه حجة ووبالاً.

قال سبحانه: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ له مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (علیهم السلام) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (علیهم السلام) قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى»(4).

ص: 290


1- وفي بعض النسخ: «وزعمتم حق لكم لله فيكم».
2- راجع حول هذا المبحث والمباحث اللاحقة: (الفقه: حول القرآن الحكيم)، و (التفسير الموضوعي للقرآن الكريم)، و(الفقه: الآداب والسنن)، و(الفقه: الواجبات والمحرمات)، للإمام المؤلف (قدس سره). وبعض البحوث الآتية تجدها في أماكنها المناسبة في موسوعة الفقه مثلاً: الاستماع للقرآن الكريم وشبهه تجده في (الفقه: حول القرآن الحكيم)، وهكذا غالب العناوين اللاحقة تراها في تفسير الآيات الكريمة المناسبة في تفسير (تقريب القرآن إلى الأذهان) للإمام المؤلف (قدس سره).
3- راجع (القاموس المحيط)، و(مجمع البحرين) مادة زعم، وقال في لسان العرب: ج12 ص266 مادة زعم: (زعيم القوم: رئيسهم وسيدهم، وقيل: رئيسهم المتكلم عنهم).
4- سورة طه: 124-126.

..............................

وقال (صلی الله علیه و آله): «رب تالٍ القرآن والقرآن يلعنه»(1).

وقال (صلی الله علیه و آله): «القرآن غنى لا غنى دونه ولا فقر بعده»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «إن هذا القرآن حبل الله، وهو النور البيّن، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه»(3).

وقال علي (علیه السلام): «سلوا الله الإيمان، واعملوا بموجب القرآن»(4).وقال (علیه السلام): «ليس لأحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن غنى»(5).

وقال (علیه السلام): «يأتي على الناس زمان لا يبقى من القرآن إلاّ رسمه، ولا من الإسلام إلاّ اسمه»(6).

بل إن من يعرف تفسير القرآن ولا يعمل به أكثر أو أشد عذاباً من الجاهل به، إذا كان جاهلاً مقصراً، أما الجاهل القاصر فلا عذاب عليه وإنما يجري امتحانه في يوم القيامة كما يستفاد من الروايات.

ص: 291


1- مستدرك الوسائل: ج4 ص249 ب7 ح4616.
2- وسائل الشيعة: ج6 ص168 ب1 ح7646.
3- وسائل الشيعة: ج6 ص168 ب1 ح7648.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص111 ق1 ب4 ف4 العمل بالقرآن ح1979.
5- نهج البلاغة، الخطب: 176، ومن خطبة له (علیه السلام) وفيها يعظ ويبين فضل القرآن وينهى عن البدعة.
6- نهج البلاغة: قصار الحكم 369.

..............................

زعيم حق

مسألة: يجب أن يكون الزعيم زعيم حق لا باطل، كما ينبغي أن يكون الزعيم في الناس لا خارجاً عنهم، كما قالت (علیها السلام): «فيكم».

وقولها (صلوات الله عليها): «زعيم حق»؛ لأن القرآن حق فهو زعيم بالحق، والزعيم بمعنى القائد(1).

وفي الحديث: «المؤمن زعيم أهل بيته»(2).

وقد يأتي بمعنى الكفيل(3)، قال تعالى: «وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ»(4).

وقال سبحانه: «سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ»(5).وقال (صلی الله علیه و آله): «أنا زعيم ببيت في الجنة... »، الحديث(6).

وله معان أخرى مذكورة في كتب اللغة(7).

ص: 292


1- وفي لسان العرب: ج12 ص266 مادة زعم: (وزعيم القوم: رئيسهم وسيدهم... والجمع زعماء، والزعامة: السيادة والرياسة).
2- بحار الأنوار: ج64 ص71 ب1 ح33.
3- وفي لسان العرب: ج12 ص266 مادة زعم: (والزعيم: الكفيل، زعم به يزعم زعماً وزعامة، أي كفل).
4- سورة يوسف: 72.
5- سورة القلم: 40.
6- مشكاة الأنوار: ص70 ب2 ف3.
7- وفي لسان العرب: ج12 ص265 مادة زعم: (قال ابن بري: الزعم قد يأتي بمعنى الكفالة والضمان... وبمعنى القول والذكر... وبمعنى الوعد... وبمعنى الظن).

..............................

«فيكم»، أي: القرآن في متناول أيديكم، وليس بعيداً بحيث لا يمكن الاسترشاد به، وقد نص على الخلافة في آيات عديدة (1)..

وعلى قصة فدك في سورة الحشر(2)..

وسورة الإسراء(3)..

وسورة الروم(4).و«له»: أي لله سبحانه.

ص: 293


1- كقوله تعالى: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ» سورة المائدة: 55، وغيرها من الآيات العديدة .
2- سورة الحشر: 6-7.
3- قال تعالى: «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ» - سورة الإسراء: 26 - ففي التفاسير أنها نزلت في إعطائه (صلی الله علیه و آله) فدك لفاطمة (علیها السلام).
4- قال تعالى: «فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ» - سورة الروم: 38 - ففي التفاسير أنها نزلت في إعطائه (صلی الله علیه و آله) فدك لفاطمة (علیها السلام).

وعهد قدمه إليكم،

اشارة

-------------------------------------------

القرآن عهد إلهي

مسألة: يجب الاعتقاد بأن القرآن الحكيم من الله تعالى وأنه عهده، قال تعالى: «تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ»(1).

وقال سبحانه: «تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ»(2).

كما يلزم التأكيد على ذلك؛ فإن جماعة من الكفار - منذ ذلك اليوم وإلى اليوم - يقولون: إن القرآن من صنع رسول الله (صلی الله علیه و آله)، بل «قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَْوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً»(3).

وفي آية أخرى: «إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّمُبِينٌ»(4).

والعهد: هو الأمر المؤكد الذي يلقى في عهدة الإنسان؛ فإن هناك فرقاً بين العهد والوعد، فالعهد هو ما يكون القلب مؤكداً عليه كل تأكيد، أما الوعد فليس كذلك(5).

ص: 294


1- سورة غافر: 2.
2- سورة الزمر: 1، سورة الجاثية: 2، سورة الأحقاف: 2.
3- سورة الفرقان: 5.
4- سورة النحل: 103.
5- وفي لسان العرب: ج3 ص311 مادة عهد: (العهد: الموثق).

..............................

وكذلك هناك فرق بين العقد والعهد(1)، ولذا يقال: (المعاهدات الدولية) دون (المعاقدات الدولية)، ويقال: (عقد البيع) دون (عهد البيع).قال سبحانه: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(2) ولم يقل: (أوفوا بالعهود)(3) وإن فسّره بعض المفسرين بذلك(4).

قولها (علیها السلام): «وعهد»؛ لأن الله عهد إليهم بالقرآن، قال تعالى: «لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ»(5) أي: فكيف لا تبينونه؟.

عدم تحريف القرآن

مسألة: يجب الاعتقاد بكون القرآن لم يزد فيه ولم ينقص منه شيئاً، ولم ينله يد التحريف إطلاقاً، وربما يستفاد ذلك من قولها (علیها السلام): «عهد قدمه إليكم

ص: 295


1- وفي تفسير مجمع البيان ج3 ص258 سورة المائدة: (والفرق بين العقد والعهد: إن العقد فيه معنى الاستيثاق والشد، ولا يكون إلا بين متعاقدين. والعهد قد ينفرد به الواحد، فكل عهد عقد، ولا يكون كل عقد عهداً). وفي تفسير (تقريب القرآن إلى الأذهان) في تفسير الآية المباركة: (أوفوا بالعقود، الجمع المحلى يفيد العموم، أي كل العقود، وعقود جمع عقد، وهو كل التزام وميثاق بين جانبين، فتشمل عقود الناس بعضهم مع بعض، والمعاهدات الدولية، والمواثيق التي بين الله وبين خلقه).
2- سورة المائدة: 1.
3- راجع للتفصيل كتاب موسوعة الفقه: كتاب البيع المجلد الأول ص 79-82 قسم المعاطاة، تحت عنوان: آية العقود.
4- راجع تفسير القمي: ج1 ص160 سورة المائدة. وتفسير العياشي: ج1 ص289 سورة المائدة ح5، وتفسير التبيان: ج3 ص414 سورة المائدة.
5- سورة آل عمران: 187.

..............................

وبقية... »، وإلاّ لم يكن (عهداً قدمه إلينا)، و(لا بقية استخلفه علينا).وقد صرّح بعدم تحريف القرآن كبار علماء الشيعة(1).

ص: 296


1- راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم): ج2 ص243-249، و(الفقه: حول القرآن الحكيم) للإمام المؤلف (قدس سره)، وسيأتي البحث عن ذلك بعد قليل. ومن المناسب أن نذكر هنا نص ما كتبه الإمام الشيرازي (قدس سره) في كتابه (ولأول مرة في تاريخ العالم) لأهميته وتتميماً للفائدة: الوحي وآخر آية من القرآن في (المناقب) عن ابن عباس، أنه قال: لما نزل قوله تعالى:«إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ» - سورة الزمر: 30 - قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ليتني أعلم متى يكون ذلك». هذا وهو (صلی الله علیه و آله) يعلم الغيب بإذنه تعالى ووحيه - فنزلت سورة النصر، فكان بعد نزولها يسكت رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين التكبير والقراءة ثم يقول: «سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه». فقيل له في ذلك؟. فقال: «أما أن نفسي نعيت إليَّ»، ثم بكى بكاءً شديداً. فقيل: يا رسول الله، أوتبكي من الموت وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال (صلی الله علیه و آله): «فأين هول المطلع، وأين ضيقة القبر، وظلمة اللحد، وأين القيامة والأهوال؟! - أراد النبي (صلی الله علیه و آله) الإلماع إلى الأهوال لا أنه (صلی الله علیه و آله) يبتلى بها - ثم قال: فعاش (صلی الله علیه و آله) بعد نزول هذه السورة عاماً). - راجع المناقب: ج1 ص234 فصل في وفاته (صلی الله علیه و آله) -. ثم نزلت آيات وآيات حتى إذا لم يبق على ارتحال رسول الله (صلی الله علیه و آله) من هذه الدنيا سوى سبعة أيام نزلت:«وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ» سورة البقرة: 281 فكانت هذه الآية - على بعض الروايات - هي آخر آية من القرآن الكريم نزل بها جبرائيل (علیه السلام) على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال له: «ضعها في رأس المائتين والثمانين من سورة البقرة» - تفسير شبر: ص 83 - كما أن أول آية من القرآن كان قد نزل بها جبرائيل (علیه السلام) على رسول الله (صلی الله علیه و آله) هي قوله تعالى: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» - سورة العلق: 1- الآيات. فأول آية من القرآن ابتدأ بأول يوم من البعثة النبوية الشريفة، وآخر آية من آيات القرآن اختتم .............................. الأيام الأخيرة لرسول الله (صلی الله علیه و آله)، وما بينهما من فترة كان نزول ما بين هاتين الآيتين، وتلك الفترة استغرقت مدة ثلاث وعشرين سنة. من جمع القرآن؟. وهنا ما يلفت النظر ويجلب الانتباه وهو قول جبرائيل للنبي (صلی الله علیه و آله) عند نزوله بالآية الأخيرة - كما في الرواية -: «ضعها في رأس المائتين والثمانين من سورة البقرة »، فإنه صريح في أن الله تعالى أمر نبيه (صلی الله علیه و آله) بجمع القرآن وبترتيبه ترتيباً دقيقاً حتى في مثل ترقيم الآيات، وقد فعل النبي (صلی الله علیه و آله) ذلك في حياته (صلی الله علیه و آله) كما أمره الله تعالى، ولم يكن (صلی الله علیه و آله) يترك القرآن متفرقاً حتى يجمع من بعده. وهل يمكن للرسول (صلی الله علیه و آله) مع كبير اهتمامه وكثير حرصه على القرآن الكريم أن لا يقوم بجمع القرآن وترتيبه! وأن يتركه مبعثراً في أيدي المسلمين ويوكل جمعه إليهم، مع أن الوحي أخبره بقوله: «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ » - سورة الزمر: 30 -. فهل يصح أن يكون (صلی الله علیه و آله) حريصاً على القرآن من جهة - حتى أنه (صلی الله علیه و آله) كان يأمر بحفظ القرآن والاهتمام به والتحريض على تلاوته والعمل به وخاصة في أيامه الأخيرة، حيث كان يقول مراراً: «إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً» - وأن لا يجمع القرآن ويتركه مبعثراً من جهة أخرى؟. بل أ ليس القرآن هو دستور الإسلام الخالد، ومعجزته الباقية على مر القرون والأعصار إلى يوم القيامة؟. ومعه هل يصح أن يتركه النبي (صلی الله علیه و آله) مبعثراً من دون أن يجمعه؟! أم كيف يأذن الله تعالى لنبيه (صلی الله علیه و آله) بأن لا يقوم بجمعه مع أنه تعالى يقول: «إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ» - سورة القيامة: 17 - ويقول تعالى أيضاً: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا له لَحَافِظُونَ» - سورة الحجر: 9 - فعلى النبي (صلی الله علیه و آله) إبلاغ القرآن مجموعاً ومرتباً إلى الناس كافة كما جمعه الله تعالى ورتبه. إذن فهذا القرآن الذي هو بأيدينا على ترتيبه وجمعه، وترقيم آياته، وترتيب سوره وأجزائه، هو بعينه القرآن الذي رتبه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وجمعه للمسلمين في حياته (صلی الله علیه و آله) بأمر من الله تعالى، لم يطرأ عليه أي تغيير وتحريف، أو تبديل وتعديل، أو زيادة ونقصان. .............................. ويؤيده ما روي عن تفسير علي بن إبراهيم، عن الإمام الصادق (علیه السلام)، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه أمر علياً (علیه السلام) بجمع القرآن وقال (صلی الله علیه و آله): «يا علي، القرآن خلف فراشي في المصحف والحرير والقراطيس فخذوه واجمعوه ولا تضيعوه كما ضيعت اليهود التوراة»، فانطلق علي (علیه السلام) فجمعه في ثوب أصفر ثم ختم عليه. - تفسير القمي: ج2 ص451 سورة الناس -. وفي (مجمع البيان) نقلاً عن السيد المرتضى (قدس سره) أنه قال: إن القرآن جمع في عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالشكل الذي هو اليوم بأيدينا. وقال بمقالته قبله الشيخ الصدوق (قدس سره) والشيخ المفيد (قدس سره). وقال بمقالته بعده شيخ الطائفة الشيخ الطوسي (قدس سره)، والمفسر الكبير الشيخ الطبري (قدس سره) المتوفى سنة 548، وباقي علمائنا الأبرار إلى يومنا هذا. وعن زيد بن ثابت، أنه قال: (كنا نجمع القطع المتفرقة من آيات القرآن ونجعلها بأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مكانها المناسب ولكن مع ذلك كانت الآيات متفرقة، فأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) أن يجمعها في مكان واحد وحذرنا من تضييعها). وعن الشعبي، أنه قال: جمع القرآن في عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) من قبل ستة نفر من الأنصار. وعن قتادة، أنه قال: سالت أنساً عن أنه من جمع القرآن في عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟. فقال: أربعة نفر من الأنصار ثم ذكر أسماؤهم. وعن علي بن رباح: إن علي بن أبي طالب (علیه السلام) جمع القرآن هو وأبي بن كعب في عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله). الشواهد الأخرى هذا بالإضافة إلى شواهد ومؤيدات أخرى تدل على أن القرآن الذي هو بأيدينا هو نفسه الذي جمع ورتب في عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) من غير زيادة ولا نقيصة. منها: تسمية سورة الحمد بسورة الفاتحة في عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله)، يعني أنها فاتحة القرآن مع أنها لم تكن السورة ولا الآيات الأولى التي نزل بها الوحي على رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فتسميتها بفاتحة الكتاب في عهده (صلی الله علیه و آله) يشير إلى أن الكتاب كان مجموعاً بهذا الشكل الموجود بأيدينا .............................. اليوم، وسورة الحمد فاتحته كما هو اليوم فاتحته أيضاً. ومنها: إن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يقول في حديث الثقلين المروي عن الفريقين متواتراً: «إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً»، فالكتاب المجموع والمرتب يخلفه رسول الله (صلی الله علیه و آله) في أمته لا الآيات المتفرقة، إذ لا يطلق عليها الكتاب وقد سبق الله تعالى رسوله (صلی الله علیه و آله) في هذا التعبير حيث أطلق مراراً وفي آيات متعددة كلمة (الكتاب) على القرآن، إشارة إلى أنه مجموع ومرتب عنده تعالى في اللوح المحفوظ - كما قال به بعض المفسرين - وأنه تعالى أطلع رسوله (صلی الله علیه و آله) على جمعه وترتيبه لديه وأمره بأن يجمع القرآن على ما هو مجموع في اللوح المحفوظ ويرتبه وفق ترتيبه، وفعل النبي (صلی الله علیه و آله) ذلك. ومنها: ما ورد من أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بختم القرآن في شهر رمضان وفي غيره من سائر الأيام، وبيان ما لختمه من الفضيلة والثواب حتى أن عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما قد ختموا القرآن عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) عدة مرات، ولولا أن القرآن مجموع ومرتب لم يكن لختم القرآن معنى؛ لأن الختم يقال لما يبدأ من أوله وينتهي بآخره. ومنها: روايات تأمر بعرض الأحاديث المروية عن الرسول (صلی الله علیه و آله) وعن أهل بيته (علیهم السلام) لمعرفة غثها من سمينها على القرآن الكريم، وتقول: ما وافق كتاب الله فقد قاله رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقاله أهل البيت (علیهم السلام)، وما خالف الكتاب فهو زخرف وباطل وأنهم لم يقولوه، فقد أحالتنا هذه الروايات إلى هذا القرآن الذي هو بأيدينا لمعرفة الحق من الباطل مما يدل على سلامته من كل زيادة ونقيصة وتبديل وتحريف، وإلا لم يصلح أن يكون مرجعاً لمعرفة الحق من الباطل. ومنها: ما ورد من أن القرآن كله كان مكتوباً موضوعاً بين المحراب والمنبر وكان المسلمون يكتبون منه. ومنها: ما ورد من أن جبرائيل (علیه السلام) كان يعرض القرآن على رسول الله (صلی الله علیه و آله) كل عام مرة، وعرضه عليه (صلی الله علیه و آله) في عامه الأخير مرتين. ومنها: ما روي من أن جماعة من الصحابة كانوا قد حفظوا القرآن كله في عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله). ولا يخفى ذلك على من راجع تفسير القرآن للعلامة البلاغي (قدس سره)، ولوالدي (رحمة الله) - آية الله العظمى السيد ميرزا مهدي الشيرازي (قدس سره) - كلمة حول ذلك طبعت في إحدى أعداد (أجوبة المسائل الدينية) في كربلاء المقدسة. هذا بالإضافة إلى أن هناك آيات وروايات تشير إلى أن القرآن نزل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) مرتين: مرة نزل بمجموعه على قلب رسول الله (صلی الله علیه و آله) كما قال تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» - سورة القدر: 1 - ومرة نزل عليه نجوماً ومتفرقاً عبر ثلاث وعشرين سنة في المناسبات والقضايا المتفرقة، والنبي (صلی الله علیه و آله)قد وعى قلبه القرآن الذي نزل عليه أولاً مجموعاً ومرتباً، فجمع القرآن الذي نزل عليه ثانياً نجوماً ومتفرقاً حسب جمع القرآن الأول، ورتبه وفق ترتيبه، وهو بعينه القرآن الذي هو اليوم بأيدينا. إلى غير ذلك مما يشير بمجموعه إلى أن هذا القرآن الذي هو اليوم بأيدينا هو القرآن الذي جمع بأمر من الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) في عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يزدد حرفاً ولم ينقص حرفاً، ولم يتغير شيء منه ولم يتبدل أبداً، كيف وقد قال تعالى: «لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ» - سورة فصلت: 42 -، انتهى.

ص: 297

ص: 298

ص: 299

وبقية استخلفها عليكم

اشارة

-------------------------------------------

القرآن خليفة الله في الأرض

مسألة: يجب أن يكون منهج التعامل مع القرآن الحكيم بحيث يعكس على جوانح الإنسان وجوارحه خلافته لله تعالى في الأرض.

كما يجب حفظ القرآن وتعظيمه واحترامه والاهتمام به(1).

إذ قولها: «استخلفها عليكم»، أي: اتخذها خليفة لنفسه.

وكما يجب تعظيم الله سبحانه وتوقيره، كذلك يجب تعظيم خليفته - وهو القرآن - وتوقيره والالتزام بأوامره ومناهجه.

ص: 300


1- راجع وسائل الشيعة: ج6 ص165 ب1، والوسائل: ج6 ص169 ب2، والوسائل: ج6 ص170 ب3، والوسائل: ج6 ص174 ب4، والوسائل: ج6 ص176 ب5، والوسائل: ج6 ص177 ب6، والوسائل: ج6 ص179 ب7، و...

..............................

ولا يخفى أن اتخاذ الخليفة لا ينحصر بحالة غياب المستخلف بل يكون مع وجوده أيضاً، كما في قوله تعالى: «إِنِّيجَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً»(1) فتأمل.

وقالت (صلوات الله عليها): «وبقية»... وفي القرآن الحكيم: «بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ»(2)؛ لأن القرآن الباقي من آثار الله، فقد وقع التحريف في سائر كتب الله(3). قال تعالى: «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ»(4).

وقد جعل الله سبحانه القرآن خليفته على الناس(5)، قال تعالى: «مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ»(6) كما جعل أهل البيت (علیهم السلام) خليفة عليهم.

وفي بعض النسخ: «وبقية استخلفنا عليكم»، فيكون المراد بالبقية: أهل البيت (عليهم أفضل الصلاة والسلام).ولعل باب الاستفعال من جهة دلالته على الطلب فالأمر مطلوب، فكأنه قال: (خلافة نشأت عن الطلب الإرادي)، أو (بقية مطلوب إقرار خلافتها)، وقد يأتي باب الاستفعال بمعنى الفعل المجرد(7).

ص: 301


1- سورة البقرة:30.
2- سورة هود: 86.
3- راجع كتاب ماذا في كتب النصارى؟ للإمام المؤلف (قدس سره).
4- سورة النساء: 46، سورة المائدة: 13.
5- قال في مجمع البحرين: ج5 ص51-55 مادة خلف: (الخليفة يقال ل:... المدبر للأمور من قبل غيره، والخليفة: السلطان الأعظم وكذلك من يقوم مقام الذاهب ويسد مسده، واللهم أنت الخليفة في السفر، أي: أنت الذي أرجوه وأعتمد عليه في غيبتي عن أهلي أن تلم شعثهم وتقوم اردهم...)، ويأتي بمعنى الوكيل والنائب كما ذكره بعض المفسرين في آية: «مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ» - سورة الحديد: 7 -.
6- سورة الحديد: 7.
7- راجع كتاب (البلاغة) للإمام المؤلف (قدس سره).

كتاب الله الناطق،

اشارة

-------------------------------------------

وصف القرآن بجميل الصفات

مسألة: يستحب أن يشفع التلفظ ب (القرآن) وكذا كتابته بوصف من أوصافه، كما قالت (علیها السلام): «كتاب الله الناطق والقرآن الصادق... ».

قال تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ»(1).

وقال سبحانه : «طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ»(2).

وقال تعالى: «ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ»(3).

وقال سبحانه: «تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِالْحَكِيمِ»(4).

وقال تعالى: «تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ»(5).

فإن ذكر الأوصاف الحسنة يوجب التحبيب والتوجيه نحو الشيء، كما أن ذكر الأوصاف السيئة بعكس ذلك يوجب التنفير عن الشيء.

ومن الواضح أن ذكر الأوصاف الإيجابية للشخص أو الشيء يوجب الالتفاف حوله أكثر فأكثر، وذكر السلبيات يستلزم انفضاض الناس وابتعادهم عنه.

واعتبار كون القرآن ناطقاً بلحاظ كونه في مقابل الكتاب التكويني لله

ص: 302


1- سورة الحجر: 87.
2- سورة النمل: 1.
3- سورة ق: 1.
4- سورة يونس: 1، سورة لقمان: 2.
5- سورة يوسف: 1، سورة الشعراء: 2، سورة القصص: 2.

..............................

سبحانه وتعالى، وهو ليس بهذه المنزلة؛ فإن القرآن كتاب الله التشريعي والكون كتاب الله التكويني، ولذا قال سبحانه وتعالى: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ»(1) على تقدير إرادة الكتابالتكويني - كما ذهب إليه البعض - فإنه احتوى على كل شيء له قابلية الوجود، فإن الله سبحانه وتعالى يمنح الوجود لمن تقضي الحكمة بوجوده أو يكون الأفضل وجوده(2) وإن كان يحتمل إرادة القرآن الكريم(3). فلذا لا منافاة بين أن يكون الكتاب ناطقاً وأن يكون صامتاً من جهتين، فقول أمير المؤمنين علي (علیه السلام): «أنا كتاب الله الناطق» في واقعة صفين حينما أمر معاوية برفع المصاحف على الرماح(4) إنما هو في مقابل القرآنالصامت الذي لا ينطق ولا يتكلم حسب المعنى المعهود المتعارف. هذا ومن المعلوم أن نطق كل شيء بحسبه؛ لأن النطق يفيد معنى البيان(5).

ص: 303


1- سورة الأنعام: 38.
2- ربما يكون مقصود الإمام المؤلف (قدس سره) ب : (لمن تقضي الحكمة بوجوده) ما هو خير محض، وب (أو يكون الأفضل وجوده) ما خيره أكثر، من الأقسام الخمسة المذكورة في علم الكلام.
3- وقد احتمل إرادة اللوح المحفوظ - راجع تفسير الجوهر الثمين: ج2 ص255، وتفسير شبر: ص132، وكنز الدقائق: ج4 ص321 -، واحتمل في بعض التفاسير إرادة الأعم من التكويني والتشريعي. وفي (تقريب القرآن إلى الأذهان) في تفسير الآية المباركة: (أي كتاب الكون، فإن الكون كتاب الله والموجودات كلماته).
4- راجع كشف الغمة: ج1 ص254 فأما حروبه في زمن خلافته (علیه السلام)، وفي إرشاد القلوب: ج2 ص249، قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «يابن أبي سفيان أنت تدعوني إلى العمل بكتاب الله وأنا كتابه الناطق».
5- قد يستفاد هذا من بعض كتب اللغة، فمثلاً قال في لسان العرب: ج10 ص354 مادة نطق: (وكتاب ناطق: بيِّن).

والقرآن الصادق،

اشارة

-------------------------------------------

صدق القرآن

مسألة: يجب الاعتقاد بأن القرآن صدق صادق مصدّق، حدوثاً وبقاءً(1)؛ فإن القرآن صادق في أحكامه وقصصه وفي كل ما ذكره تفصيلاً أو إجمالاً، وليس بالكذب ولا بالهزل حتى في كلمة من كلماته. قال تعالى: «وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ»(2).وقال سبحانه: «وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ»(3).

ويمكن الاستشهاد بهذه الجملة من خطبتها (علیها السلام) أيضاً على عدم تحريف القرآن، خاصة مع لحاظ ما سبق من كونه زعيم الحق فيكم، وكونه عهداً إليكم ومستخلفاً عليكم، ومع لحاظ (أل) العهدية في (القرآن) كما نعتقده.

فإن القرآن الذي بين أيدينا هو القرآن الذي أُنزل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) بلا زيادة حرف أو كلمة ولا نقيصة، بل ولا زيادة فتحة أو كسرة أو نقطة أو غيرها، كما أشرنا إلى ذلك في كتاب (الفقه: حول القرآن الحكيم)(4).

ص: 304


1- يظهر مما سيأتي أن المراد من (بقاء) الإشارة إلى عدم تحريفه وإنه لا ينحرف أبداً، قال تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا له لَحَافِظُونَ» سورة الحجر: 9.
2- سورة فاطر: 31.
3- سورة الأحقاف: 12.
4- راجع موسوعة الفقه: ج98 كتاب (حول القرآن الحكيم)، وكتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم): ج2 ص243-249 كما مر.

..............................

(و) هو (القرآن الصادق) وهاتان الجملتان(1) تبيان للجمل الثلاثة السابقة(2).

تحري الصدق

مسألة: يجب تحري الصدق واتخاذه شعاراً ودثاراً في الحياة، وفي مثل هذه الجملة تحريض على الصدق، قال سبحانه: «وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ»(3).

ومن الواضح أن الصدق في مورد الوجوب واجب، كما أنه في مورد الاستحباب مستحب، وأما الكذب فقد قال علي (علیه السلام): «لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يترك الكذب هزله وجده»(4).

وفي رواية: «لا يجد عبد حقيقة الإيمان حتى يدع الكذب هزله وجدّه»(5).

حيث إن ذكر خلاف الواقع في الهزل ليس محرماً، كما قال به جمع من الفقهاء(6).

ص: 305


1- أي (كتاب الله الناطق)، و(القرآن الساطع).
2- أي: (زعيم حق...)، و(عهد قدمه...)، و(بقية استخلفها...).
3- سورة الزمر: 33.
4- الكافي: ج2 ص340 باب الكذب ح11.
5- بحار الأنوار: ج69 ص262 ب114 ح41.
6- راجع (موسوعة الفقه): ج2 ص33 كتاب (المكاسب المحرمة)، وفيه: (مستثنيات الكذب مسألة: ثم إنه يستثنى من الكذب موضوعاً أو حكماً أمور: الأول: الهزل، والهزل ليس بكذب حتى في غير الإنشاء - إذا كانت قرينته - أما في الإنشاء فلخروجه موضوعاً مع القرينة، وأما في الأخبار فلخروجه حكماً. نعم قد يكون حراماً من جهة الإيذاء أو الإغراء أو ما أشبه، فالتفصيل بين الإنشاء فلا حرمة، والأخبار ففيه الحرمة غير ظاهر، إذ في الإنشاء إذا لم تكن قرينة مما ظاهره الأخبار، كقوله: هذا بطل، أيضاً يكون كذلك، ولذا لا يرمى المخبر هزلاً بأنه كاذب. نعم، لا إشكال في أن الأفضل تركه، كما في وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر، وخبر الخصال عنه (علیه السلام): «أنا زعيم بيت في أعلى الجنة، وبيت في وسط الجنة، وبيت في رياض الجنة، لمن ترك المراء ولو كان محقاً، ولمن ترك الكذب وإن كان هازلاً، ولمن حسن خلقه» - انظر بحار الأنوار: ج69 ص261 ب114 ح32 ط بيروت. وخبر الأصبغ عن علي (علیه السلام): «لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يترك الكذب هزله وجده» - وسائل الشيعة: ج12 ص250 ب140 ح16226 - إلى غيرها كأخبار حارث وسيف - وسائل الشيعة: ج12 ص250 ب140 ح16225 - وغيرهما. نعم، لا إشكال في حرمة الكذب هزلاً بالنسبة إلى من هو خلاف شأنه مثل المعصومين (علیهم السلام) حتى إذا كان من قسم الإنشاء فتأمل. ولا فرق فيما ذكرناه من القول أو الفعل أو الإشارة، كما أنه كذلك بالنسبة إلى الكذب الحرام. نعم قد لا يسمى اصطلاحاً هزلاً بل لطيفة أو مزاحاً كما فعله الرسول (صلی الله علیه و آله) مع علي (علیه السلام) في قصة جعل النواة أمامه وقوله (علیه السلام): «الذي أكل مع النواة» وشبيهه قوله (صلی الله علیه و آله): «جري ذيلاً كذيل العروس» بحار الأنوار: ج16 ص295 ب10 ح1، و «أركبك على ولد ناقة» بحار الأنوار: ج16 ص295 ب10 ح1 وفيه: «أنا حاملوك على ولد ناقة» وما أشبه. لكن الظاهر أن ما رووه - بطريق غير صحيح - من أنه (صلی الله علیه و آله) قال: «العجوز والشيخ والأسود لا يدخل الجنة» - بحار الأنوار: ج 16 ص295 ب10 ح1 - محل نظر؛ فإنه على ما رووا إيذاء وإن لم يكن كذباً، والرسول (صلی الله علیه و آله) معصوم عن مثله قطعاً.

ص: 306

والنور الساطع، والضياء اللامع،

اشارة

-------------------------------------------

النور الإلهي

مسألة: القرآن الكريم نور ساطع وضياء لامع بنفسه، إلاّ أن الأعمال والأقوال والمناهج غير السليمة لأتباعه تكون كالحجاب الساتر والغمام المتكاثر الذي يحجب أشعة الشمس، كما أن أقوالهم وأعمالهم لو كانت قويمة مستقيمة فإنها ستسمح لنوره بالسطوع. فكان من الواجب الحفاظ - قولياً وعملياً - على هذا النور الساطع والضياء اللامع، كي يتجلى على البشرية بأبهى الصور وأكمل الأنحاء، وأي ظلم بل جريمة - أكبر وأقسى عن إسدال الستائر على هذا النور الساطع الإلهي والضياء اللامع الرباني؟ وقد ورد: «إن القرآن حق ونور»(1).

كما ورد عنه (علیه السلام): «إنا أهل بيت عندنا معاقل العلم وضياء الأمر»(2).

القرآن نور وضياء

القرآن نور وضياء(3)

مسألة: يجب الاستنارة والاستضاءة بالقرآن الحكيم في ظلمات الحياة ومشاكلها، قال تعالى: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ له مَعِيشَةً ضَنْكاً »(4).

ص: 307


1- بحار الأنوار: ج33 ص155 ب16 ح421.
2- مستدرك الوسائل: ج17 ص339 ب14 ح21526.
3- وفي كتاب التوحيد للشيخ الصدوق: ص214 ب29: (وعلى سبيل التوسع قيل: إن القرآن نور؛ لأن الناس يهتدون به في دينهم كما يهتدون بالضياء في مسالكهم، ولهذا المعنى كان النبي (صلی الله علیه و آله) منيراً)، فتأمل.
4- سورة طه: 124.

..............................

وقال علي (علیه السلام): «الله الله في القرآن فلا يسبقنكم بالعمل بهغيركم»(1).

ولعل الجمع بين النور والضياء - مع لحاظ أن الضياء عادة يكون نابعاً من الذات، والنور عادة(2) يكون مكتسباً من الغير(3) - هو أن القرآن يضيء القلوب والأرواح والحياة، وأنه قد اكتسب نوره من الله سبحانه، وفي الأوصاف يكفي وجود نسبة ما، فلا يقال: إن الضياء في النفس، والنور في الغير (لا غير)، كما قال سبحانه: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً»(4) وألمعنا إلى ذلك فيما سبق.

وقد يقال: إن (الضياء) بلحاظ أن النورانية ذاتية له كما هي للشمس(5)، فهو نور بنفسه.

و(النور) بلحاظ اكتسابها ولو بجعلمنشأ الانتزاع(6) من الغير وهو البارئ جل وعلا.

وكلاهما لوحظ فيه كونه منيراً ومضيئاً للقلوب والأرواح والحياة، لمكان الوصف ب (الساطع) و(اللامع)(7)، فالقرآن نور لأنه ينير سبيل العقيدة والشريعة

ص: 308


1- نهج البلاغة، الرسائل: 47 ومن وصية له (علیه السلام) للحسن والحسين (علیهما السلام) لما ضربه ابن ملجم.
2- قيد (عادة) لقوله تعالى: «اللَّهُ نُورُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ» - سورة النور: 35 - فدقق.
3- راجع مجمع البحرين: ج1 ص272 مادة (ضوا).
4- سورة يونس: 5.
5- وكما أن الزوجية ذاتية للأربعة، والدسومة ذاتية للدهن.
6- كما في ذاتي باب البرهان وذاتي باب إيساغوجي (الكليات الخمس).
7- الساطع: اللامع المرتفع، واللامع: المضيء، لمع أي: أضاء - مجمع البحرين: ج4 ص345 مادة سطع، والمجمع: ج4 ص388 مادة لمع.

..............................

والدنيا والآخرة، وليس متحدداً في بقعة صغيرة بل هو ساطع يشرق على العالم. وأما (اللامع) فإنه يفهم من معنى التحرك أيضاً؛ فإن النور يأتي لمعه لمعة وموجاً موجاً (1).

وها هنا نقطة يجدر الإشارة إليها وهي: إن لكل شيء خلقه الله تعالى نوراً، بمعنى أن له - من داخله - دليلاً يرشدإليه، وقد جعله الله بحيث يكون بنفسه كاشفاً عن نفسه(2) وبتجلياته مرشداً إلى حقيقة ذاته.

والقرآن الكريم «نور ساطع، وضياء لامع»، فكاشفيته لذاته في أجلى درجات الوضوح، ودلالته على حقانيته وعلى استخلاف الله تعالى له و... بأشد وأكمل أنحاء الدلالة. فهو الفرد الأكمل لما ورد في الحديث الشريف: «إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نوراً»(3).

هداية الناس وإرشادهم

مسألة: ينبغي أن يكون الإنسان هادياً ومرشداً وسراجاً مضيئاً للمجتمع، فإن وصف القرآن الكريم بالنور والضياء إلماع إلى فضيلة هذين الأمرين وقيمتهما

ص: 309


1- قد تكون استفادة هذا المعنى بالنظر لموارد الاستعمال المختلفة التي يفيد بعضها ذلك - راجع لسان العرب: ج8 ص324 مادة لمع - وقد تكون للقرينة المقامية أو المتفاهم العرفي.
2- فمثلاً الأمواج الصوتية والتموجات الفكرية والإشعاعات والأشعة والإفرازات الكيماوية وغيرها كلها تكشف عن الشيء وتوضح خصوصياته ومواصفاته، بل وأحيانا حتى كنهه، فتأمل.
3- الكافي: ج2 ج54 باب حقيقة الإيمان واليقين ح4.

..............................

الكبيرة، وإلى فضيلة من وما يتحلى بهما(1) خاصة مع ملاحظة وصف النبي (صلی الله علیه و آله) ب : «كان خلقه القرآن»(2). وقال سبحانه: «وَجَعَلْنَا له نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ»(3). وقال تعالى: «وَسِرَاجاً مُنِيراً»(4).

وبالنسبة إلى الكفار ونحوهم يقول الله سبحانه وتعالى حكاية عنهم في المحشر: «يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً»(5).

فإن محل اكتساب النور الرباني هو الدنيا، أما الآخرة فإن الإنسان يحصد فيها ما كان قد زرعه في دنياه من نور وظلمة، كما ورد في الروايات:

«اتقوا الظلم؛ فإنه ظلمات يومالقيامة»(6).

وقال (علیه السلام): «الدنيا مزرعة الآخرة»(7).

فالنور والظلمة المعنويان(8) يصبحان في يوم القيامة نوراً وظلمة ماديين أيضاً، بمعنى أنهما يتجليان - فيما يتجليان - بهذا النحو من التجلي أيضاً.

ص: 310


1- التعدية بلحاظ إلغاء الخصوصية وفهم المناط عقلاً وعرفاً، وربما يقال: بأن كل أخبار من هذا القبيل يتضمن، أو يستلزم إنشاء من ذلك القبيل.
2- شرح نهج البلاغة: ج6 ص340 نبذ وأقوال في حسن الخلق ومدحه.
3- سورة الأنعام: 122.
4- سورة الأحزاب: 46.
5- سورة الحديد: 13.
6- الكافي: ج2 ص332 باب الظلم ح10.
7- غوالي اللآلي: ج1 ص267 ف10 ح66.
8- أي الفضائل والرذائل.

بينة بصائره، منكشفة سرائره، منجلية ظواهره،

اشارة

-------------------------------------------

البصائر البينة

مسألة: ينبغي أن تكون البصائر والحجج بينة وواضحة، وقد جعل الله سبحانه القرآن كذلك، وذلك إتماماً للحجة ومقدمةً للهداية.

ونرى ذلك بوضوح في الكتاب الحكيم، وفي كلمات الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) والأئمة المعصومين (علیهم السلام) وفي خطبة الصديقة فاطمة الزهراء (علیها السلام).

قال تعالى: «أَفِي اللَّهِ شَكّ فَاطِرِ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ»(1).وقال سبحانه: «وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ»(2).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا»(3).

قولها (علیها السلام): «بينة»، أي: واضحة ظاهرة، من البيان والظهور. و(البصائر): جمع (بصيرة) فعيل بمعنى الفاعل أي المبصرات، أي حججه وبراهينه ودلائله.

حجية ظواهر الكتاب

مسألة: ظواهر الكتاب حجة، ويدل على ذلك أدلة كثيرة مذكورة في مظانها (4)، وهذه الجمل وما سبقها وما سيلحقها من كلمات السيدة الزهراء (علیها السلام) من الأدلة على ذلك.

ص: 311


1- سورة إبراهيم: 10.
2- سورة البلد: 10.
3- المناقب: ج1 ص56 فصل فيما لاقى (صلی الله علیه و آله) من الكفار في رسالته، وفيه: (طارق المحاربي: رأيت النبي (صلی الله علیه و آله) في سويقة ذي الحجاز عليه حلة حمراء وهو يقول: «قولوا لا إله إلا الله تفلحوا»، وأبو لهب يتبعه ويرميه بالحجارة، وقد أدمى كعبيه وعرقويه وهو يقول: يا أيها الناس، لاتطيعوه فإنه كذاب)!.
4- راجع (الوصائل إلى الرسائل) بحث حجية ظواهر الكتاب، و(الأصول) للإمام المؤلف (قدس سره).

..............................

فكيف لا يكون حجةً مع أن بصائره بينة وظواهره منجلية؟.

وكيف لا يكون حجةً وهو الضياء الساطع والنور اللامع؟.

وكيف لا يكون حجةً مع أن به تنال حجج الله المنورة؟.

وكيف لا يكون حجةً مع أن به تنال شرائعه المكتوبة؟.

فظواهر القرآن حجةٌ مطلقاً.

وما ليس له ظاهر فليس حجة، مثل: المتشابه وفواتح السور ونحو ذلك، فإن علمه عند أهله (عليهم أفضل الصلاة والسلام).

وهناك التلازم بين الظهور وبين الحجية؛ لأن الظهور هو طريق فهم العقلاء مقاصد المتكلمين كما بيّن في (الأصول) مفصلاً(1).

و(السرائر): جمع (سريرة) من السرّ، فإن الأسرار الخفية من القرآن منكشفة لمن تدبر فيها واستعان بمن نزل القرآن في بيوتهم (عليهم أفضل الصلاة والسلام)، ولذلك كانت دعوته سبحانه للتدبر فيه: قال الله تعالى: «أَ فَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ»(2). وقال سبحانه:«لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ»(3).

فعمقه يظهر لمن تدبر فيه وليس من قبيل الطلاسم والغوامض والأحاجي والألغاز، كما يستعملها الكهان.

(منجلية): ظاهرة (ظواهره) فليس مثل الأشياء المستورة فلا غطاء عليه، وليس مثل كتب الفلسفة المعقدة بل هو كالشمس المشرقة في رابعة النهار.

ص: 312


1- راجع (الوصائل إلى الرسائل) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- سورة النساء: 82، سورة محمد: 24.
3- سورة النساء: 83.

مغتبطة به أشياعه،

اشارة

-------------------------------------------

من هم أشياع القرآن؟

مسألة: يصدق (أشياع القرآن) حقيقة على من شايعه مطلقاً، إذ المراد بالأشياع: الأتباع، والأتباع الحقيقيون وبقول مطلق: هم الذين يتبعون منهج قائدهم في كل صغيرة وكبيرة.

فيجب على الناس أن يجعلوا القرآن أمامهم وإمامهم، في الأصول والفروع، في السياسة والاقتصاد، وكافة مناحي الحياة، فإن المصداق الكامل لمشايع القرآن هو من كان كذلك، وإن أطلق أيضاً - من باب التسامح أو من باب الكلي المشكك - على من امتثل أوامره غالباً.

أما في المستحبات فالإتباع مستحب.

وكذلك بالنسبة إلى الرسول (صلی الله علیه و آله) والأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين).

وفي التاريخ:

إن المرأة التي طلب رسول الله (صلی الله علیه و آله) منها الرجوع إلى زوجها، قالت: يا رسول الله أ تأمرني؟.فقال (صلی الله علیه و آله): «لا، إنما أنا شافع»(1).

ص: 313


1- مستدرك الوسائل: ج15 ص32 ب36 ح17449.

..............................

قولها (علیها السلام): «مغتبطة به أشياعه»، فإن الناس يغبطون(1) أتباع القرآن، وما هم عليه من العلم والفضيلة والعزة وسائر الفضائل ومقومات الحياة السعيدة بسبب عملهم بالقرآن.

وفي الدعاء: «واجعلني من أشياعه وأتباعه»(2).

وفي الحديث عنه (صلی الله علیه و آله): «... اللهم اغفر لعليّ وذريته ومحبيه وأشياعه وأتباعه»(3).

هذا على قراءته بنحو اسم المفعول وهو الأظهر.

ويمكن أن يُقرأ على اسم الفاعل والمعنى حينئذ: فرحة ومسرورة به أشياعه(4).

ص: 314


1- غبطته: إذا تمنيت مثل ما له من غير أن تريد زواله منه.
2- بحار الأنوار: ج91 ص266 ب42 ح1.
3- بحار الأنوار: ج39 ص98 ب76 ضمن ح9.
4- من معاني الغبطة: الفرح والسرور وحسن الحال، راجع لسان العرب: ج7 ص358 مادة غبط .

قائداً إلى الرضوان أتباعه،

اشارة

-------------------------------------------

إتباع تعاليم القرآن

مسألة: يجب إتباع تعاليم القرآن في جميع جوانب الحياة؛ لأنه يقود إلى الجنة والرضوان، إضافة إلى أنه نوع شكر للمنعم، فيلزم - بحكم العقل - إتباعه.

نعم، الوجوب إنما هو في الواجبات، الأعم من أن يكون الفعل واجباً أو تركه.

أما إتباع القرآن في مستحباته فهو من المستحب كما هو واضح.

هذا وفي زيارة الجامعة: «بكم يسلك إلى الرضوان»(1)؛ فإنهم (علیهم السلام) عِدل القرآن(2).

و(الرضوان) هو أعلى مراتب الرضا، والمراد به: رضا الله سبحانه، أو رضاهم (أي: الرضا النفسي)..قال تعالى: «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (علیهم السلام) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً»(3).

ص: 315


1- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص616 زيارة جامعة لجميع الأئمة (علیهم السلام) ح3213.
2- وسائل الشيعة: ج27 ص33-34 ب5 ح33144.
3- سورة الفجر: 27-28.

..............................

حرمة إتباع غير القرآن

مسألة: يحرم إتباع غير القرآن، أو تقديمه على القرآن؛ لأنه القائد الإلهي الوحيد الذي يضمن السعادة في الدارين.

وإثبات الشيء وإن كان لا ينفي ما عداه بما هو هو، إلا أن القرائن المقامية وكذا السياق قد تفيد الحصر والنفي، كما في هذه الجملة من كلامها (علیها السلام). فالقرآن هو النور وما عداه الظلمة، أما الرسول (صلی الله علیه و آله) والعترة (صلوات الله عليهم أجمعين) فهم حملة القرآن ومفسروه، كما ورد في الأحاديث بمضامين شتى(1).

مسؤوليات القائد

مسألة: يجب أن يكون القائد بحيث يقود أتباعه إلى الرضوان وإلى السعادة وفي الحديث عنه (صلی الله علیه و آله) قال: «يا علي، سألت ربي فيك... أن يجعلك قائد أمتي إلى الجنةفأعطاني»(2).

وعن علي (علیه السلام)، قال: «وأنا قائد المؤمنين إلى الجنة»(3).

ص: 316


1- راجع بصائر الدرجات:ج1 ص38 ب19، والبصائر: ج4 ص194 ب7.
2- بحار الأنوار: ج40 ص71 ب91 ح106.
3- التوحيد: ص165 ب22 ح2.

مؤدٍ إلى النجاة استماعه،

اشارة

-------------------------------------------

الاستماع للقرآن الكريم

مسألة: يستحب الاستماع إلى تلاوة القرآن الكريم، قال سبحانه: «وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا له وَأَنْصِتُوا»(1)، وفي دعاء ختم القرآن عن الإمام زين العابدين (علیه السلام): «جعلته نوراً نهتدي به من ظُلَم الضلالة والجهالة بإتباعه، وشفاءً لمن أنصت بفهم التصديق إلى استماعه»(2).

وفي الحديث عن الإمام الصادق (علیه السلام): «يجب الإنصات للقرآن في الصلاة وغيرها، وإذا قُرء عندك القرآن وجب عليك الإنصات والاستماع»(3).

وإنما جاء تعالى بلفظين(4) لإمكان أنيستمع الإنسان وهو يتكلم بلا إنصات(5)، فاللازم الاستماع والإنصات معاً.

ص: 317


1- سورة الأعراف: 204.
2- الصحيفة السجادية الكاملة: الدعاء 42 وكان من دعائه (علیه السلام) عند ختم القرآن.
3- وسائل الشيعة: ج6 ص215 ب26 ح7767.
4- في قوله سبحانه: «وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا له وَأَنْصِتُوا» - سورة الأعراف: 204 - حيث الاستماع والانصات. وفي تفسير (تقريب القرآن إلى الأذهان): الإنصات هو السكوت، ومن المعلوم أن الإنصات أخص من الاستماع، فان الإنسان ربما يستمع إلى الكلام وهو يتكلم ولذا نص عليه، فإن الأدب أن يستمع الإنسان ولا يتكلم، وهذا الأمر للاستحباب ككثير من أوامر القرآن الكريم، كقوله: «فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً» - سورة النور: 33 - كما دلت على ذلك الأحاديث، انتهى.
5- الإنصات هو: الاستماع مع سكوت، أو توطين النفس على السماع مع السكوت، راجع التفاسير في تفسير الآية الشريفة، مثلاً: في تفسير مجمع البيان: ج4 ص418: (الإنصات: السكوت مع استماع، قال ابن الأعرابي: نصت وأنصت وانتصت: استمع الحديث وسكت). وراجع أيضاً مجمع البحرين: ج2 ص226 مادة (نصت) وغير ذلك. وفي لسان العرب: ج2 ص99 مادة (نصت): (الإنصات: هو السكوت والاستماع للحديث... أنصت ينصت إنصاتاً: إذا سكت سكوت المستمع).

..............................

ولذا ورد عنه (صلی الله علیه و آله): «العلم الإنصات، ثم الاستماع له، ثم الحفظ له، ثم العمل به، ثم نشره»(1).

أما وجوب الاستماع: فهو عند قراءةالإمام في الصلاة الجهرية حسب المسألة الفقهية المشهورة والتي ورد عليها الدليل، فتأمل.

و(استماعه): مصدر (استمع)، فإن أريد به المعنى المعهود من الاستماع، فقولها (علیها السلام): «مؤد إلى النجاة استماعه» بنحو المقتضي، إذ استماع الحق يسوق الإنسان نحو الالتزام به كثيراً مّا.

ولكن قد يراد به المعنى الكنائي وهو العمل، بأن يكون الاستماع كناية عن العمل، فمن عمل بالقرآن ينجو في الدنيا من المشاكل، وفي الآخرة من العذاب والعقاب، ويؤيد هذا المعنى موارد الاستعمال المتكثرة والآيات الشريفة(2).

ص: 318


1- راجع الكافي: ج1 ص48 باب النوادر ح4.
2- فمثلاً: فسرت «سَمَّاعُونَ لهمْ» - سورة التوبة: 47 - أي: مطيعون، و«غَيْرَ مُسْمَعٍ» - سورة النساء: 46 - أي: غير مجاب إلى ما تدعو إليه، و«فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى» - سورة الروم: 52 - أي : لا تقدر أن توفق الكفار لقبول الحق، و(أعوذ بك من دعاء لا يُسمع) أي : لا يستجاب ولا يعتد... وهكذا، راجع (مجمع البيان) و(تقريب القرآن إلى الأذهان) وغيرهما من التفاسير. وفي الكلام العربي: (استمع إلى فلان) أي: أطعه. وفي (لسان العرب): ج8 ص162 مادة سمع: (قوله تعالى: «إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا» أي ما تسمع إلا من يؤمن بها، وأراد بالإسماع ها هنا: القبول والعمل بما يسمع؛ لأنه إذا لم يقبل ولم يعمل فهو بمنزلة من لم يسمع..ومنه قولهم: (سمع الله لمن حمده) أي أجاب حمده وتقبله، يقال: (اسمع دعائي): أي أجب؛ لأن غرض السائل الإجابة والقبول.

..............................

التزاحم بين الاستماع والقراءة

مسألة: إذا تزاحم الاستماع للقرآن مع تلاوة الإنسان نفسه، فقد يكون المقدّم هو الأول في الجملة، بأن يترك القراءة ويستمع لما فيه من الاحترام الأكثر والتأثّر الأكثر أيضاً، فتأمل.

وقد سبق أن ذلك المنافق (ابن الكوا) لما قرأ القرآن وأمير المؤمنين علي (علیه السلام) في الصلاة، توقف الإمام (علیه السلام) عن القراءة حتى إذا انتهى عاد (علیه السلام) إلى القراءة، فلما قرأ ذلك المنافق القرآن مرة أخرى سكت الإمام (علیه السلام) ثم عاد إلى القراءة(1).

توجيه الآخرين نحو الاستماع

مسألة: يستحب تنبيه الآخرين على مطلوبية الاستماع إلى القرآن، خاصة إذا تلي في المجالس العامة كالفواتح وغيرها، هذا من الأمر المستحب، وقد قرر في

ص: 319


1- راجع مستدرك الوسائل: ج4 ص275 ب21 ح4687، وفيه: «كان علي بن أبي طالب (علیه السلام) يصلي وابن الكواء خلفه وأمير المؤمنين (علیه السلام) يقرأ. فقال ابن الكواء: «وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ» - سورة الزمر: 5 - فسكت أمير المؤمنين (علیه السلام) حتى سكت ابن الكواء، ثم عاد (علیه السلام) في قراءته حتى فعل ذلك ابن الكواء ثلاث مرات، فلما كان في الثالثة قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَيَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ» سورة الروم: 60.

..............................

باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: أن المعروف إذا كان مستحباً والمنكر إذا كان مكروهاً استحب الأمر بالأول والنهي عن الثاني(1)، وقد قالت (علیها السلام): «مؤدٍ إلى النجاة استماعه».

هذا والاستماع بما هو هو ينقسم إلى الأحكام الخمسة:

فالواجب: كالاستماع إلى الحقّ في موارد وجوبه.

والمستحب: كالاستماع إلى القرآن الكريم، وكقوله (علیه السلام): «من ترك الاستماع من ذوي العقول ماتعقله»(2) فتأمل، وقال (علیه السلام): «عوّد أذنك حسن الاستماع»(3).

والمكروه: كالاستماع إلى اللغو غير المحرم منه، قال تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ»(4).

وقال سبحانه: «وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ»(5).

وقال علي (علیه السلام): «ولا تصغ إلى ما لا يزيد في صلاحك استماعه؛ فإن ذلك يصدي القلوب ويوجب المذام»(6).

والحرام: كالاستماع للغناء والغيبة.

فقد «نهى (صلی الله علیه و آله) عن الغيبة والاستماع إليها، ونهى عن النميمة والاستماع

ص: 320


1- راجع موسوعة الفقه: ج48 ص173كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، المسألة2.
2- مستدرك الوسائل: ج11 ص207 ب8 ضمن ح12751.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص215 ق3 ب1 ف1 متفرقات ح4211.
4- سورة المؤمنون: 3.
5- سورة القصص: 55.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: ص215 ق3 ب1 ف1 متفرقات ح4211.

..............................

إليها»(1).

والمباح: غير ذلك.

وهل هناك فرق بين السماع والاستماع حكماً؟

ذكرنا تفصيله في الفقه(2).

كراهة الانشغال عن الاستماع

مسألة: يكره التكلم وكذا الانشغال بسائر الأعمال عن الاستماع للقرآن عند قراءته، اللهم إلاّ لضرورة أو أمر أهم(3).

والكراهة إنما تستفاد بمعونة الخارج، وإلاّ فلا تلازم بين كراهة الفعل واستحباب الترك أو العكس، كما ذكروا في مبحث المستحبات والمكروهات، وإن قيل بين الواجب والحرام نحو هذا التلازم(4)، فإذا وجب شيء حرم تركه، وإذا حرم شيء وجب تركه، وهذا ليس بمعنى حكمين في موضوع واحد، و إنماالحكم واحد فعلاً، وجوباً أو تحريماً، والآخر منتزع منه أو ظلّ له.

ص: 321


1- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص7 باب ذكر جمل من مناهي النبي (صلی الله علیه و آله) ح4968.
2- راجع موسوعة الفقه، كتاب المكاسب المحرمة: ج1 ص254.
3- إن صح التعبير.
4- العقلي، فدقق.

..............................

التدبر في القرآن الحكيم

التدبر في القرآن الحكيم(1)

مسألة: يستحب التدبر في الآيات القرآنية حين وإثر استماعها بل مطلقاً، قال تعالى: «أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفالُهَا»(2).

وقال علي (علیه السلام): «تدبروا آيات القرآن واعتبروا به فإنه أبلغ العبر»(3).

ولعلّ هذا من علل الحثّ على الاستماع - في الروايات - إذ بالتدبر في الكتاب ينال الإنسان العديد من حجج الله تعالى مما لا يكتشف في بادي النظر، وبالتدبر تنال مجموعة كبيرة من (عزائمه) وما لحقها مما ذكر في كلامها(علیها السلام) إلى قولها: «شرائعه المكتوبة».

ويتضح ذلك أكثر بملاحظة قضاء أمير المؤمنين (علیه السلام)، بل بملاحظة الموارد الكثيرة التي استند فيها المعصومون (علیهم السلام) إلى القرآن الكريم(4).

ص: 322


1- حول هذا المبحث وكثير من المباحث السابقة واللاحقة يراجع (الفقه: حول القرآن الحكيم)، وكتب التفاسير للإمام المؤلف (قدس سره)، وكتاب (خواطري عن القرآن) لآية الله المعظم الشهيد السيد حسن الشيرازي (قدس سره)، وكتاب (كيف نفهم القرآن؟) و(التدبر في القرآن) لآية الله السيد محمد رضا الشيرازي K، وغير ذلك.
2- سورة محمد: 24.
3- غرر الحكم ودرر الحكم: ص111 ق1 ب4 ف4 التدبير في القرآن ح1985.
4- مثلاً في قصة قطع يد السارق حيث استند الإمام الجواد (علیه السلام) إلى قوله تعالى: «وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً» - سورة الجن:18- راجع وسائل الشيعة: ج28 ص252-253 ب4 ح34690. وكذلك تحديد الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) أدنى مدة الحمل عبر الرجوع إلى آيتين من آيات القرآن: الآية الأولى هي: «وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاًدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ» سورة البقرة: 233. والآية الثانية: «وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً» - سورة الأحقاف: 15 - حيث إن عمر أمر برجم امرأة ولدت لستة أشهر! فنبهه علي (علیه السلام)... راجع وسائل الشيعة: ج21 ص382 ب17 ح27360. وكذلك إجابة الإمام الصادق (علیه السلام) لمن سأله وقال: عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟. قال (علیه السلام): «يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله قال عزوجل: «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» - سورة الحج: 78 - امسح عليه» . راجع تهذيب الأحكام: ج1 ص363 ب16 ح27.

..............................

وهناك الكثير ممن الأحكام الفقهية التي استند الفقهاء في استكشافها إلى التدبر في القرآن الكريم، كما يظهر ذلك من مراجعة كتب (الفقه) و(آيات الأحكام)(1)، كما أن هناك الكثير من البحوث الكلامية والأصولية بل والاجتماعية والاقتصادية(2) وغيرها التي استنبطت من (كتاب الله) عبر التدبر والتأمل والتفكر.هذا وقد ورد في روايات كثيرة الحض على ذلك، فمنها:

قوله (علیه السلام): «آيات القرآن خزائن فكلما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما

ص: 323


1- مثلاً قوله تعالى: «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» - سورة البقرة: 275 -، وقوله سبحانه: «إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ» - سورة النساء: 29 - وغيرهما حيث تدبروا في (البيع) وغيره. راجع للتفاصيل (المكاسب، البيع) للشيخ الأنصاري (قدس سره)، و(الفقه: البيع) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- مثلاً قوله تعالى: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا» - سورة الأنبياء: 22 -، و«إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا» - سورة المائدة: 55 -، و«لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ» - سورة الأحزاب: 33 - و«فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ» - سورة البقرة: 279 -، و«تِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ» - سورة آل عمران: 140 -، و«وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ» - سورة المائدة: 71 - و«لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ» - سورة البقرة: 256 -.

..............................

فيها»(1).

بل ربما أمكن القول باستفادة رجحان التدبر واستحبابه من هذه الجملة من خطبتها (علیها السلام): «مؤد إلى النجاة استماعه»؛ فإن الأمر بالاستماع يفيد ذلك عرفاً، مع لحاظ الفرق بين السماع والاستماع ولحاظ المقدمية.

بل قد يقال: بكون التدبر أكمل أفراد الاستماع، فتأمل.

هذا بالإضافة إلى ما ورد من قوله سبحانه: «أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفالُهَا»(2)، فتكون هذه الآية وشبهها مؤيدة لهذه الاستفادة العرفية.

القراءة بصوت حسن مؤثر

مسألة: يستحب قراءة القرآن بأحسنالأصوات وأشدها تأثيراً؛ فإنها أدعى للاتعاظ والاعتبار والخشوع.

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «حسّنوا القرآن بأصواتكم؛ فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً»(3).

وقال(صلی الله علیه و آله): «إن لكل شيء حلية، وحلية القرآن الصوت الحسن»(4).

وقال (صلی الله علیه و آله): «إن حسن الصوت زينة القرآن»(5).

ص: 324


1- مستدرك الوسائل: ج4 ص238 ب3 ح4592.
2- سورة محمد: 24.
3- وسائل الشيعة: ج6 ص212 ب24 ح7759.
4- الكافي: ج2 ص615 باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن ح9.
5- مستدرك الوسائل: ج4 ص273 ب20 ح4679.

..............................

وهذا كالبحث الآنف أيضاً مما يستفاد من كلماتها (علیها السلام) عرفاً أو مقدمية، مؤيداً بما ورد من «قراءة القرآن بألحان العرب»(1)، وما أشبه ذلك(2) من قراءتهم (عليهم الصلاة والسلام) القرآن بأصوات حسنة، فقد ورد:«إن علي بن الحسين (علیه السلام) كان أحسن الناس صوتاً، وكان يرفع صوته حتى يسمعه أهل الدار»(3).

و: «إن علي بن الحسين (علیه السلام) كان يقرأ فربما مر به المار فصعق من حسن صوته»(4).

و: «إن أبا جعفر (علیه السلام) كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان إذا قام في الليل وقرأ رفع صوته، فيمر به مار الطريق من الساقين وغيرهم فيقومون فيستمعون إلى قراءته»(5).

و: «كان (علیه السلام) أحسن الناس صوتاً بالقرآن، فكان إذا قرأ يحزن وبكى السامعون لتلاوته»(6).

ومنه يعرف أرجحية كل شيء من زمان أو مكان أو خصوصيات، أوجب الاستماع الأكثر أو مهّد الأرضية لذلك.

ص: 325


1- راجع الكافي: ج2 ص614 باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن ح3.
2- ك «اقرأ كما يقرأ الناس» - وسائل الشيعة: ج6 ص163 ب74 ح7630 -.
3- بحار الأنوار: ج46 ب70 ب5 ح45.
4- الكافي: ج2 ص615 باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن ح4.
5- مستطرفات السرائر: ص604.
6- المناقب: ج4 ص318 فصل في معالي أموره (علیه السلام).

به تنال حجج الله المنورّة،

اشارة

-------------------------------------------

استخراج الحجج من القرآن

مسألة: ينبغي استخراج الحجج من القرآن الحكيم، وجعله محوراً للردّ والاستدلال والحديث والحوار.

قال علي (علیه السلام): «إن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغشّ، والهادي الذي لا يُضلّ، والمحدث الذي لا يكذب»(1).

وقد ذكر العلماء: إنه يمكن استكشاف العديد من العلوم عبر القرآن الكريم، منها: علم المحاجة؛ لأن القرآن بيّن حججاً قوية و كثيرة، يمكن أن نتعلم منها مناهج الاحتجاج، وهي ترشد إلى مصاديق فريدة له أيضاً، سواء حججه في العقيدة أو في الشريعة، فإن كل أصل أو فرع ذكر في القرآن الكريم علّل بحجة وعقب بدليل - عادةً - مثل قوله تعالى: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌإِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا»(2).

وقوله سبحانه: «فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ»(3).

ص: 326


1- نهج البلاغة، الخطب: 176 ومن خطبة له (علیه السلام) وفيها يعظ ويبين فضل القرآن وينهى عن البدعة.
2- سورة الأنبياء: 22.
3- سورة البقرة: 258.

..............................

وقال تعالى في الصلاة: «أَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي»(1).

وفي الحج: «لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ»(2).

وفي الصوم: «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»(3).

وفي الزكاة: «تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ»(4)، إلى غيرها.

فغالب ما في القرآن معلّل ومستدل عليه بدليل عقلي فطري، تصريحاً أو تلميحاً أو تلويحاً (5) ولو في موضعآخر.

ص: 327


1- سورة طه: 14.
2- سورة الحج: 33.
3- سورة البقرة: 183.
4- سورة التوبة: 103.
5- فمثلاً: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» - سورة الفاتحة: 2-3 - فإن «رَبِّ الْعَالَمِينَ... » إلى آخره، يتضمن التعليل ل «الْحَمْدُ لِلَّهِ» فلماذا نحمد الله؟. لأنه « رَبِّ الْعَالَمِينَ»، ولأنه «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»، ولأنه «مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» أي: لأنه المبدأ لنا والمتفضل علينا، وبيده مصيرنا ومآلنا... وهكذا - . للتفصيل الأكثر راجع (الفقه: حول القرآن الحكيم) للإمام المؤلف (قدس سره)، و(كيف نفهم القرآن؟) لنجله الفاضل.

وعزائمه المفسّرة،

اشارة

-------------------------------------------

عزائم القرآن و فرائضه

مسألة: يجب اتخاذ القرآن المصدر الأول لنيل عزائم الله وفرائضه.

كما يجب اتخاذ السنة النبوية (صلی الله علیه و آله) وكلمات المعصومين (علیهم السلام) مصدراً للتفسير والإيضاح.

قال علي (علیه السلام): «تمسك بحبل القرآن وانتصحه، وحلّل حلاله وحرّم حرامه، واعمل بعزائمه وأحكامه»(1).

و(العزيمة) تتضمن معنى اللزوم، وتطلق على ما يلزم فعله أو يلزم تركه(2)، ولذا يقال: هو عزيمة أو رخصة؟، وتفسيرها بالأخص تفسير بالمصداق(3)، نعم إذا ذكرت في مقابلالمحارم أريد بها الواجبات فقط.

قولها (علیها السلام): «عزائمه» جمع عزيمة أي فرائضه.

و«المفسرة»: أي التي فسرها الرسول(صلی الله علیه و آله) وأوضح أنها عزائم وليست رخصاً؛ لأن القرآن يحتوي على الواجب والمستحب والحرام والمكروه والمباح، فالعزائم تحتاج إلى التفسير، وقد فسرها النبي(صلی الله علیه و آله) وآله الأطهار (علیهم السلام) بكلماتهم الوضاءة.

ص: 328


1- نهج البلاغة، الرسائل: 69 ومن كتاب له (علیه السلام) إلى الحارث الهمذاني.
2- العزيمة: الأمر المقطوع عليه بلا شبهة أو نسخ، والمراد بالأمر الأعم من الفعل والترك وغيرهما كما لا يخفى. مجمع البحرين: ج6 ص114 مادة عزم.
3- مثلاً تفسيرها ب: إرادة الفعل والقطع عليه.

..............................

وقد يكون المراد من «عزائمه المفسرة» المفسرة كنهاً، أي التي فسرها الرسول (صلی الله علیه و آله) وأوضح ماهيتها وحقيقتها؛ لأن القرآن الكريم يشير عادة إلى عناوين الواجبات لا إلى تفاصيلها، فمثلاً قوله تعالى: «أَقِمِ الصَّلاَةَ»(1)، فالصلاة عزيمة قرآنية أوضح الرسول (صلی الله علیه و آله) بأن المراد منها تكبير وركوع وسجود وتشهد و... بالنحو الخاص، حيث قال(صلی الله علیه و آله): «صلّوا كمارأيتموني أصلّي»(2).

وفي هذه الجملة إشارة لطيفة إلى ضرورة شفع الكتاب الكريم بالسنة، إذ «به تنال... عزائمه»، ولكن أية عزيمة؟.

وما هي؟.

هي: (المفسرة) بأقوال النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة الهداة (علیهم السلام).

ص: 329


1- سورة العنكبوت: 45.
2- بحار الأنوار: ج82 ص279 ب34.

ومحارمه المحذّرة،

اشارة

-------------------------------------------

ترك المحرمات

مسألة: يجب التقيد بترك ما ذكر في القرآن الكريم من المحرمات، كما يجب تحذير المجتمع من ارتكابها بمختلف أنواعها: القمار، شرب الخمر، الزنا، النزاع بالباطل، الغيبة، وغير ذلك.

قال تعالى: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ»(1).

وقال سبحانه: «وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً»(2).

وقال تعالى: «لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»(3).

وقال سبحانه: «لاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ»(4).

وقال (علیه السلام): «الإيمان لايكمل إلاّ بالكفّ عن المحارم»(5).

وقال (علیه السلام): «يا عباد الله، اتقوا المحرمات كلها»(6).

ص: 330


1- سورة المائدة: 90.
2- سورة الحجرات: 12.
3- سورة طه: 131.
4- سورة الأنفال: 46.
5- علل الشرائع: ج1 ص249 ب182 ح5.
6- بحار الأنوار: ج26 ص234 ب3 ح1.

..............................

وقال (علیه السلام): «من أشفق من النار اجتنب المحرمات»(1).

ولا يخفى أن هناك فرقاً بين جملة «أشياعه» وبين جملتي «به تنال عزائمه... ومحارمه»؛ لأن الأشياع هم الأتباع في الأعم من العزائم والمحارم وغيرهما، إذ القرآن مشتمل على القصص والتاريخ والعقائد وقضايا أخرى، فليس خاصاً بالعزائم والمحارم، وكون الأشياع مفيداً للعموم لا ينافي ذكر الخصوص؛ لأهمية الخصوص، وعلى الاصطلاح هذا من ذكر الخاص بعد العام.

التخصص في آيات الأحكام

مسألة: يستحب أن تتخصص ثلة في تفسير عزائمه وأحكامه وفي استكشاف المصاديق.كما يجب على الجميع بنحو الوجوب الكفائي تفسير عزائمه وأحكامه.

والاستحباب والوجوب يختلفان حسب اختلاف ما يفسر ويذكر، واستحباب التخصص ووجوبه تابع لكونه مقدمة لنيل العزائم والأحكام الأخرى.

قال تعالى: «فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(2).

ص: 331


1- روضة الواعظين: ج1 ص43 باب في فضل التوحيد.
2- سورة التوبة: 122.

..............................

الرجوع إلى المفسرين

مسألة: حيث إن غالب الناس ليس بمقدورهم عادة الوصول إلى عزائم الكتاب وفرائضه وما أشبه، لذلك كان من الواجب أن يبحثوا عمن يفسّر لهم عزائم الكتاب وأن يرجعوا إليه. ف (نيلها) أعم من كونه بالمباشرة أو بالواسطة.

والمفسرون الحقيقيون هم أهل البيت (عليهم أفضل الصلاة والسلام)، فقد ورد بأنهم (علیهم السلام) أعطوا تفسير القرآنالكريم وتأويله(1).

قال تعالى: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ»(2).

وقال (علیه السلام): «نحن نعلمه»(3)، وإلا فالتفسير بالرأي من أشد المحرمات، قال(صلی الله علیه و آله): «من فسّر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب»(4).

وقال (علیه السلام): «ليس شيء بأبعد من قلوب الرجال من تفسير القرآن»(5).

وعنه (علیه السلام): «من فسّر برأيه آية من كتاب الله فقد كفر»(6).

وقال (صلی الله علیه و آله): «من فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار»(7).

ص: 332


1- راجع بصائر الدرجات: ج4 ص194 ب7.
2- سورة آل عمران: 7.
3- وسائل الشيعة: ج27 ص196-197 ب13 ح33580.
4- العدد القوية: ص89 نبذة من أحوال الإمام الحجة (علیه السلام).
5- بحار الأنوار: ج89 ص100 ب8 ح72.
6- وسائل الشيعة: ج27 ص60 ب6 ح33195.
7- غوالي اللآلي ج4 ص104 الجملة الثانية ح154.

..............................

التحذير من المحرمات

مسألة: يستفاد كثيراً ما - حسب القرائن المقامية ومناسبة الحكم والموضوع - من الوصف بشيء مطلوبيته، والمقام من صغريات ذلك، فيستحب التحذير بعد بيان المحرمات لا مجرد ذكرها فقط، بل يجب ذلك في مورد يوجب التحذير الاجتناب، ولذا قال سبحانه: «لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(1).

وقال تعالى: «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ»(2).

والمراد: الأعم من المحرم فعله أو المحرم تركه؛ فإن الله سبحانه أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يكلف عسيراً، كما ورد في الحديث(3).

قولها (علیها السلام): «المحذّرة»، أي: التي تحذر الإنسان عن ارتكابها مما يوجب شر الدنيا والآخرة.

ص: 333


1- سورة التوبة: 122.
2- سورة النور: 63.
3- نهج البلاغة، قصار الحكم: 78.

وبيّناته الجالية , وبراهينه الكافية

اشارة

-------------------------------------------

وبيّناته الجالية(1), وبراهينه الكافية(2)،

الاعتماد على الأدلة الجلية

مسألة: في التحاور ينبغي الاستعانة ب (البينات الجلية) و(البراهين الكافية) - كما في القرآن الحكيم - فإن غير الجلي وغير الوافي من الأدلة قد يشعر الطرف بالعجز أو النقص، وقد يزيده تشكيكاً، ولا يكفي كونه برهاناً في مرحلة الثبوت، بل يجب أن يكون كافياً في مرحلة الإثبات أيضاً.

وكل ذلك في المورد المستحب مستحب، وقد يكون واجباً كما ذكرنا مثل ذلك في كثير من الجمل السابقة.

قال تعالى: «وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَابَيِّنَاتٍ»(3).

وقال سبحانه: «فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ»(4).

وقال عزوجل: «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ»(5).

ص: 334


1- وفي بعض النسخ: «وبيناته الجالية» راجع الاحتجاج: ص99 احتجاج فاطمة الزهراء (علیها السلام) على القوم لما منعوها فدك. وفي بعضها:«وتبيانه الجالية» راجع بلاغات النساء:ص28 كلام فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله).
2- وفي بعض النسخ: «وجمله الكافية» راجع بلاغات النساء: ص28 كلام فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله).
3- سورة يونس: 15، سورة مريم: 73، سورة الحج: 72، سورة سبأ: 43، سورة الجاثية: 25، سورة الأحقاف: 7.
4- سورة آل عمران: 97.
5- سورة الإسراء: 101.

..............................

كما ورد بالنسبة إليه (صلی الله علیه و آله): «والذي بعثه بالآيات المحكمة، والبراهين الواضحة»(1).

و(البينات) أي: الأدلة، ولعل الفرق بين (البرهان) و(البينة) أن البرهان هو الدليل، والدليل قد يكون بيناً وقد لا يكون بيناً، فهو في نفسه برهان وفي صفته بيّن، وإن عرفه البعض بأنه: الحجة الفاصلة البينة(2).

و(الجلية) أي: التي تجلو الحق،وهي الواضحة، وهي قيد توضيحي لا احترازي، وكذلك (الكافية).

و(براهينه): أدلته (الكافية) فليس فيها نقص أو عجز عن إثبات المراد، والبرهان هو الحجة على الشيء فقد يكون واضحاً فيسمى (بينة)، وقد يكون غامضاً، فتأمل.

ص: 335


1- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص250 من أراد الكعبة بسوء ح2325.
2- لسان العرب: ج13 ص51 مادة برهن، وأما القاموس المحيط: ج4 ص201 فقد ذكر البرهان - بالضم -: الحجة.

وفضائله المندوبة،

اشارة

-------------------------------------------

الدعوة إلى الفضائل

مسألة: يستحب - وربما وجب - الندب إلى فضائل الكتاب(1).

والمراد بها: الأعم من الواجبات والمستحبات (المندوبة) إليها والمدعوة إليها؛ فإن القرآن يدعو الناس إلى الإتيان بالفضائل.

ولعل المراد ب (الفضائل): المستحبات فقط، بقرينة ذكر الواجبات قبل ذلك في قولها: «عزائمه» وبقرينة ما يأتي من الرخص.

ولعل عدم ذكر المكروه؛ لأن تركه فضيلة أيضاً(2)، وإن قال الفقهاء: لا تلازم بين كون الفعل مكروهاً والترك مستحباً، وكذا بين استحباب الفعل وكراهة الترك.

فقد ذكرت (علیها السلام) الواجبات:«عزائمه»، والمحرمات: «محارمه»، والمستحبات وترك المكروهات: «فضائله»، والمباحات: «رخصه»، وربما أدرجت المكروهات في حيث رخص الله في فعلها على ما فيها من الكراهة.

ص: 336


1- فإن الإطلاقات الدالة على ذلك كثيرة، وفي قولها (علیها السلام): «المندوبة» دلالة على ذلك بلحاظ أدلة التأسي وغيرها.
2- وربما يكون الوجه: التفريق بين الفضيلة والاستحباب، فتأمل.

ورخصه الموهوبة،

اشارة

-------------------------------------------

التعرف على المباحات

مسألة: ينبغي أن يتعلم الإنسان ما رخص فيه الله، و يدل على ذلك - مطلقاً أو في الجملة - أو يؤيده: ذكرها في الكتاب و السنة، لوضوح إن الذكر لأجل المعرفة والعمل، قال تعالى: «إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى»(1).

وقولها (علیها السلام): «به تنال... رخصه الموهوبة» مما يفيد رجحان نيلها، ولربما توقف تجنب الحرام على ذلك، وربما منع ذلك من إدخال ما ليس من الدين فيه، ولما في ذلك من التسبيب لشكر المنعم جل وعلا، وقد أشارت (علیها السلام) إليه ب «الموهوبة».

و«رخصه الموهوبة» أي: التي وهبها الله سبحانه، فلم يلزم بها لا وجوباً ولا تحريماً.

ومن الممكن أن يراد بالرخص: الأعم من المباحات والمكروهات؛ لأن المكروه أيضاً رخصة، كما أشرنا إلى ذلك.قال علي (علیه السلام): «يا كميل، لا رخصة في فرض ولا شدة في نافلة»(2).

ص: 337


1- سورة طه: 3.
2- مستدرك الوسائل: ج1 ص145 ب24 ح219، والمستدرك: ج11 ص281 ب24 ح13019.

..............................

شمولية القانون

مسألة: يلزم أن يكون القانون شاملاً، متضمناً للمندوبات والمكروهات والمباحات أيضاً، لا أن يقتصر على الواجبات والمحرمات فحسب، وقد أشارت (علیها السلام) في الجمل السابقة إلى شمولية القرآن الكريم من هذا الحيث أيضاً.

فإن القانون الكامل هو الذي يشتمل على هذه الأحكام الخمسة، لوضوح أن الفعل يأمر به مع المنع من النقيض أو بدون منع منه مع الرجحان، وكذلك الترك في القسمين، وهناك مباح لا يرجح فعله ولا تركه.

وبعبارة أخرى:

المصلحة أو المفسدة قد تكون في الفعل، وقد تكون في الترك، وكل منهما قد تكون المصلحة فيه بحد الإلزام أو الرجحان فقط، فهذه أربعة أقسام، والخامس ما لا مصلحة أو مفسدة فيه.

وهنا بحوث أصولية وحكمية تراجع في مظانها.

وبذلك يظهر النقص في الدساتير التي لا تتطرق إلاّ للواجبات والمحرماتفقط(1).

ص: 338


1- راجع (الفقه: القانون) للإمام المؤلف (قدس سره).

وشرائعه المكتوبة ،

اشارة

-------------------------------------------

القرآن والأحكام الشرعية

مسألة: يجب استنباط الأحكام الشرعية من القرآن.

ولا يخفى أن الاستنباط قد يكون بالدلالة المطابقية، أو التضمنية، أو الإلتزامية، أو دلالة الاقتضاء، مثل الجمع بين آيتي: «وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاًدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ»(1)، وقوله تعالى: «وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً»(2)، حيث يعرف بجمعها: أن أقل الحمل ستة أشهر(3).

وقد يكون دلالة عرفية، خارجة من الدلالات المذكورة، كما ألمعنا إلى بعض ذلك في المباحث السابقة.

وجوب التقيد بشرائع الله

مسألة: يجب الالتزام بشرائع الله تعالى، أما العدول عنها إلى الشرائع الوضعية فمن المحرمات المؤكدة.

قال تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ»(4).

ص: 339


1- سورة البقرة: 233.
2- سورة الأحقاف: 15.
3- راجع وسائل الشيعة: ج21 ص382 ب17 ح27360.
4- سورة المائدة: 44.

..............................

وقال سبحانه: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»(1). وقال عزوجل: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ»(2).

فما يرى في هذا اليوم من كثرة القوانين الوضعية المخالفة للشرع المبين فهو من أشد المحرمات كقوانين الجمارك و...

و(الشرائع) جمع شريعة، وهي: السنة والطريقة. و«شرائعه المكتوبة»: أي التي كتبها الله على عباده وألزمهم بالسير على حذوها.

وقد يكون المراد بها هنا(3) الإرثوالقضاء والحدود وما أشبه، أو يكون المراد منها: الأعم الشامل لكل الأحكام الوضعية، كالبيع والرهن والإجارة والنكاح والطلاق وغيرها، من حيث الشرائط والموانع والصحة و...

ولقد تحدثت (صلوات الله وسلامه عليها) - حتى الآن - عن الباري جل وعلا وصفاته ونعمائه والخلقة والهدف منها، ثم تحدثت عن النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) وحكمة بعثته وعظيم فضله وهدايته (صلی الله علیه و آله)، وألفتتهم إلى ثقل مسؤوليتهم، وتحدثت عن القرآن الحكيم ومكانته ومحوريته ومواصفاته.

ثم انتقلت إلى هذا المقطع الذي بين بإيجاز مذهل واف: فلسفة جملة من أحكام العقيدة والشريعة، ومنها الإمامة كما سيجيء، فقالت (علیها السلام): «فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك»...

ص: 340


1- سورة المائدة: 45.
2- سورة المائدة: 47.
3- يبدو أن التقييد ب (هنا) لإفادة أن الشريعة لغة وعرفاً تطلق على الأعم، أي: على ما سنه الله وشرعه، ف(الشريعة) هي الدين، المنهاج، السنة... والتخصيص بما ذكر في المتن بملاحظة سياق كلامها (علیها السلام) وما سبقه من الجمل.

فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك،

اشارة

-------------------------------------------

فجعل(1) الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك،

تطهير الباطن

تطهير الباطن(2)

مسألة: يستحب تطهير الباطن عن النوايا الخبيثة، كما يستحب تطهيره عن الملكات الرذيلة، وربما وجب ذلك - عقلاً، أو شرعاً أيضاً - من باب المقدمية.

كما يجب تطهيره عن العقائد المنحرفة؛ فإن القلب يتنجس كما يتنجس البدن، ونجاسة الباطن على أنواع، فهناك نجاسة العقائد الفاسدة، ونجاسة الملكات الرذيلة، ونجاسة النوايا الخبيثة.

والبدن إذا تنجس بالقذارات الظاهرية كان تطهيره بالماء وشبهه(3)، كما أن بعض القذارات يكون تطهيرها وتنظيفها من الميكروبات بالمعقمات المادية.

أما القلب والباطن فتطهيره يتم بشكل آخر، فلو غسل من يحمل في قلبهالحقد أو الحسد بكل مياه الدنيا لم يطهر، بل اللازم استعمال مطهر خاص من نمط معين، لكل واحد من نجاسات الباطن، ولذا كان: «مرض القلب أعضل، وعلاجه أعسر، ودواؤه أعز، وأطباؤه أقل»(4).

ص: 341


1- وفي بعض النسخ: «ففرض» - راجع كشف الغمة: ج1 ص483 فاطمة (علیها السلام)، ودلائل الإمامة: ص32 حديث فدك، وبلاغات النساء: ص28 كلام فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله).
2- حول هذا المبحث راجع (الفضيلة الإسلامية)، و(الفقه: الآداب والسنن) للإمام المؤلف (قدس سره).
3- كطهارة باطن القدم بالأرض، وكالتطهير بالشمس والأحجار وما أشبه، راجع موسوعة الفقه: ج5 ص419-443، وج6 ص7-407 كتاب الطهارة مبحث المطهرات.
4- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج1 ص24.

..............................

وقال (صلی الله علیه و آله): «يكون الإيمان تطهيراً عن الشرك»(1).

وقال علي (علیه السلام): «فرض الله سبحانه الإيمان تطهيراً من الشرك»(2).

فالإيمان تطهير عن رجس الشرك والكفر بالله تعالى، وإنكار المبدأ والمعاد والرسالة والرسول (صلی الله علیه و آله) والخلافة والخليفة (علیه السلام)، وما إلى ذلك من العقائد.

ولذا قال سبحانه: «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ»(3).

وقال تعالى: «إِنَّهُمْ رِجْسٌ»(4).وقال سبحانه: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ»(5) - بناءً على إرادة نجاسة المشرك المعنوية لا النجاسة البدنية -.

كما أن تطهير القلب من الملكات الرذيلة إنما يتم بتنقيتها وتحليتها بالملكات الحسنة، وهذا مما يستدعي غالباً طول عناء.

أما تطهير القلب عن النوايا الخبيثة فبمجاهدة النفس لإخراج تلك النوايا عنه، ولذا قال (صلی الله علیه و آله): «فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة»(6)، وفي القرآن الحكيم: «إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»(7).

ثم إن القلب المتنجس يفرز آثاره السيئة من الأضرار على الإنسان نفسه،

ص: 342


1- جامع الأخبار: ص123 ف80.
2- نهج البلاغة، قصار الحكم: 252.
3- سورة الحج: 30.
4- سورة التوبة: 95.
5- سورة التوبة: 28.
6- وسائل الشيعة: ج10 ص313 ب18 ح13494.
7- سورة الشعراء: 89.

..............................

بالإضافة إلى الإضرار بغيره غالباً، وقد ورد عن علي (علیه السلام): «لله در الحسد ما أعدله، بدأ بصاحبه فقتله»(1).وقال(2):

اصبر على حسد الحسود *** فإن صبرك قاتله

فالنار تأكل نفسها *** إن لم تجد ما تأكله

فالحسود - مثلاً - يضرّ بنفسه، كما يلحق الأذى بالمحسود غالباً، نفسياً أو فكرياً أو مادياً.

والبخيل يضيق على نفسه ويفقد مكانته واحترامه، كما يمنع العطاء عن الغير.

والجبان يفقد كثيراً من فرص التقدم، كما يسبب الهزيمة للآخرين، إلى غير ذلك.

وفي الآخرة قال سبحانه: «نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ»(3).

ولا يخفى أن الإنسان يحاسب حتى على نياته - في الدنيا - إذا اطلع عليها غيره، ولذا من يعرف أن فلاناً يريد سرقته لا يصاحبه، أو يريد الفجور بنسائه فإنه يتجنبه، بل للنوايا السيئة أثرها الوضعي وإن لم يطلع عليها أحد، كما أشرنا إليه سابقاً.

ص: 343


1- شرح نهج البلاغة: ج1 ص316 فصل في ذم الحاسد والحسد.
2- الشاعر ابن المُعتَز عبد الله بن محمد (247-296ه).
3- سورة الهمزة: 6-7.

..............................

و(في الآخرة) أيضاً، قال سبحانه: «إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(1).

والتنزه عن النوايا الخبيثة والملكات الرذيلة قد يجب وقد يستحب، فمثلاً: يستحب التنزه عن الحسد الذي لا يظهر على الجوارح، ويجب التنزه عن الحسد المظهَر أو ما كان منه مقدمة للحرام(2)، فتأمل. وكذلك البخل غيرالظاهر فإن التنزه عنه فضيلة، أما البخل العملي الذي يؤدي إلى منع الحقوق المالية، كالخمس والزكاة وأداء الدَين والقيام بشؤون النفقة الواجبة وشبه ذلك فإنه حرام(3)، وهكذا الأمر بالنسبة إلى كثير من الصفات المذكورة في علم الأخلاق.

ص: 344


1- سورة البقرة: 284.
2- راجع موسوعة الفقه: ج93 كتاب المحرمات ص 103، وفيه: (الظاهر أن الحسد إذا لم يظهره الإنسان بيد ولا لسان لم يكن حراماً وإنما رذيلة نفسية ينبغي التخلص منها، ولذا قال سبحانه: «وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ» - سورة الفلق: 5 -، أما ما في صحيحة محمد بن مسلم، قال أبو جعفر (علیه السلام): «إن الرجل ليأتي بأدنى بادرة فيكفر، وإن الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب» - وسائل الشيعة: ج15 ص365 ب55 ح20754 -، وفي صحيحة معاوية بن وهب قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): «آفة الدين الحسد والعجب والفخر» - وسائل الشيعة: ج15 ص366 ب55 ح20758 - فالظاهر منهما ومن غيرهما الحسد الذي يظهر لا الحسد الذي لايظهر وإنما هي صفة نفسية، ويؤيده ما في رواية الرفع من أن الحسد مرفوع ما لم يظهر بيد ولا لسان - وسائل الشيعة: ج15 ص370 ب56 ح20771 - وقد ذكر الفقهاء وعلماء الأخلاق الحسد في كتاب الشهادات وفي بابه من كتب الأخلاق، والتفصيل مرجوع إليهما).
3- راجع موسوعة الفقه: ج93 كتاب المحرمات ص42، وفيه: (يحرم البخل في الجملة، وهو ما كان عن حق واجب، أما البخل عن المستحب فهو رذيلة وليس بحرام. قال سبحانه: «وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لهمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لهمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» - سورة آل عمران: 180 - وقد فسرت الآية في جملة من الروايات بمنع الزكاة، وفي صحيحة محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: «سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»؟. فقال: «يا أبا محمد، ما من أحد يمنع زكاة ماله شيئاً إلاّ جعل الله ذلك يوم القيامة ثعباناً من النار مطوقاً في عنقه ينهش من لحمه حتى يفزع من الحساب - قال - وهو قول الله عزوجل: «سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» يعني: ما بخلوا من الزكاة» - تفسير العياشي: ج1 ص207 من سورة آل عمران ح158 -.

..............................

علل الأحكام

مسألة: يستحب تطرق حملة راية التبليغ والإرشاد والهداية - سواء كانوا كتّاباً أو خطباءً أو مدرسين أو غير ذلك، بل كل من يأتي منه ذلك - لبيان فلسفة الأحكام والقوانين الإلهية الواردة في الكتاب والسنة، تأسياً بها (صلوات الله وسلامه عليها)، حيث أشارت (علیها السلام) إلى العلة في جملة مما أوجبه الباري (جل وعلا) أو ندب إليه من أصول الدين وفروعه وغيرهما، بل يجب ذلك أحياناً.

فإن القرآن والمعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) ذكروا وجه الحكمة أو العلة والفلسفة للكثير من المباحث والأحكام الإلهية، في الأصول والفروع والأخلاقيات والثواب والعقاب وغير ذلك، كما يظهر ذلك لمن تدبر القرآن الحكيم وكلمات الأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين)(1).

ص: 345


1- راجع مثلاً كتاب (علل الشرائع) للصدوق (قدس سره)، و(موسوعة الفقه): ج94-97 كتاب الآداب والسنن للإمام المؤلف (قدس سره)، وقد تطرق العلامة المجلسي (قدس سره) في (بحار الأنوار) للكثير من ذلك في كل موضوع مناسب.

..............................

وهذا يدل - بالإضافة إلى الكثير من الأدلة الأخرى المذكورة في مظانها (1) على أن الأحكام الشرعية والأصول والأخلاق إنما هي عقلية قبل أن تكون شرعية.

نعم، لا شك في أن جملة من الجزئيات داخلة في الكلي العام، ولا يعلم اندراجها في الخصوصية.

مثلاً: قراءة القرآن واجبة في الصلاة، لكن هذا الكلي ينطبق على الحمد والسورة، سواء في القيام أم الركوع أم السجود، والشارع رجح بعضها على بعض وقيّدها ببعض المصاديق، أما من جهة خصوصية في ذلك، بينها الشارع ولم تصل إلينا، أو لم يبينها وسيبينها الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) نظراً لاكتمال العقول عندئذ(2)، أو لا مطلقاً، أو من جهة أن العام يكتفى بفرد، إذ وجود الطبيعي يتحقق بتحقق أحد أفراده، ولم يخيرالشارع المكلف بأن يقرأ في القيام أو في الركوع أو في أي موضع شاء رعاية للتنسيق العام، أو لجهة أخرى، فالجمع بين أمور عديدة أوجب هذا الجزئي الخاص، إلى غير ذلك.

الإيمان بالله

مسألة: يجب الإيمان بالله عزوجل وجوباً فطرياً وعقلياً ويحرم الشرك به(3).

ص: 346


1- يستند استدلال المؤلف (قدس سره) إلى البرهان الإني كما لا يخفى.
2- فعن أبي جعفر الباقر (علیه السلام)، قال: «إذا قام قائمنا (علیه السلام) وضع يده على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم وكملت بها أحلامهم». الكافي: ج1 ص25 كتاب العقل والجهل ح21.
3- راجع (القول السديد في شرح التجريد): ص274 المقصد الثالث الصانع تعالى، و(شرح المنظومة) للإمام المؤلف (قدس سره).

..............................

ويستفاد الوجوب من قولها: «فجعل... » على التقدير الثاني بوضوح.

والمراد بجعل (الإيمان) حيث قالت (صلوات الله عليها): «فجعل الإيمان» إما الجعل التكويني؛ لأنه أمر مجعول لله سبحانه وتعالى، إذ هو من مخلوقاته حيث إنه ليس عدماً ولا قديماً(1) ومن الواضح عدم التنافي بين المجعولية وبين الاختيار.

وإما الجعل التشريعي - ويؤيده السياق - أي أنه شرع على الناس أن يؤمنوا به عزوجل ولا يكفروا به وأنهحرم الشرك، وهذا الأمر والنهي إرشاد إلى حكم العقل، قال (علیه السلام): «إن الله هو العدل، وإنما بعث الرسل ليدعوا الناس إلى الإيمان بالله ولا يدعوا أحداً إلى الكفر»(2).

هداية المشركين

مسألة: إذا كانت الغاية تطهير البشرية من الشرك، لقولها (علیها السلام):

«فجعل... تطهيراً لكم»، وقوله تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ»(3) كان من الواجب السعي لتحقيق هذه الغاية، أي السعي لهداية المشركين كلاً أو بعضاً هداية كاملة، كماً وكيفاً، حسب المقدور والميسور، (فإن الميسور لايسقط بالمعسور) (4)، و(ما لا يدرك كله لا يترك كله)(5).

ص: 347


1- فيكون معنى (جعل الله الإيمان) أي أوجده، أما معنى الجعل التشريعي فهو: الأمر به.
2- بحار الأنوار: ج11 ص39 ب1 ح39.
3- سورة الذاريات: 56.
4- قاعدة فقهية، راجع (موسوعة الفقه) كتاب القواعد الفقهية للإمام المؤلف (قدس سره).
5- قاعدة فقهية، راجع (موسوعة الفقه) كتاب القواعد الفقهية للإمام المؤلف (قدس سره).

..............................

والمراد بالمشركين: الأعم من الكافر الذي لا يعتقد بالله إطلاقاً، ومن المشرك الذي يجعل له سبحانه شريكاً، بقرينة المقام.

الطهارة من نجاسة الشرك

مسألة: إذا آمن المشرك طهر من نجاسة الشرك، كما قالت (علیها السلام): «تطهيراً».

فإن الكافر نجس نفساً، أو وجسماً أيضاً - على القولين(1) - فإذا آمن طهر جسمه وطهرت نفسه؛ لأن من المطهرات: الإسلام كما ذكره الفقهاء في كتاب الطهارة(2).

إبلاغ الأحكام

مسألة: يلزم إبلاغ الناس أن الإيمان طهارة والشرك رجس، على عكس ما مني بهبعض المسلمين من ضعف في النفس يحول بينهم وبين بيان كثير من الأحكام الشرعية، فإن الأحكام الإسلامية يجب إبلاغها للناس، كما أبلغت (عليها الصلاة والسلام) وفي ذلك تنفير من الشرك وتحبيب للإيمان، ففي مورد الوجوب يجب، وفي مورد الاستحباب يستحب، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

ص: 348


1- ذهب الإمام المصنف (قدس سره) إلى طهارة الكتابي جسماً، راجع موسوعة الفقه: ج4 ص182-204 كتاب الطهارة، والمسائل الإسلامية: ص89، المسألة114، الطبعة 36، عام 1421ه/2000م، مؤسسة المجتبى بيروت - لبنان.
2- راجع موسوعة الفقه: ج6 ص283-335 كتاب الطهارة، مبحث المطهرات: الثامن.

..............................

نعم يجب أن يكون بيان الأحكام مقروناً «بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ»(1)، مشفوعاً بالأدلة والشواهد والمقربات.

ولربما اقتضت الحكمة التدرجية أيضاً، فيما إذا كانت التدرجية الطريق نحو الإقناع وشبهه، لا من باب الجبن والخوف، كما قال تعالى: «الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ»(2).

التقدم الرتبي للإيمان

مسألة: الإيمان بالله مقدم في الرتبة على الصلاة والأحكام الفرعية الأخرى،قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ» (3) ولهذا ينبغي العمل - أولاً - على زرع الإيمان بالله في قلوب الناس وبذل الجهد في هذا السبيل.

وترى هذا المعنى واضحاً في خطبة الزهراء (علیها السلام) حيث قدمت (صلوات الله عليها) هذا البند على البنود الآتية، وقد ذكرنا أن الواو قد تدل على الترتيب إذا لم تكن قرينة على الخلاف، فتأمل.

والظاهر أن المراد بالإيمان هو الإيمان بأصول الدين كلها: التوحيد والنبوة والمعاد، إذ كل من لم يؤمن بأحد هذه الأصول يكون نجساً نفساً، أو وجسماً أيضاً، فمن لم يؤمن بالله يكون كافراً، وكذا من لم يعتقد بالنبوة أو بالمعاد، أما

ص: 349


1- سورة النحل: 125.
2- سورة الأحزاب: 39.
3- سورة النساء: 48و116.

..............................

من لا يعتقد بالولاية فلا يقبل منه الإيمان، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «علي أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين وإمام المسلمين، لا يقبل الله الإيمان إلاّ بولايته وطاعته»(1).

الكفر كالشرك

مسألة: الكفر كالشرك في الحكم، على ما يستفاد من كلامها (علیها السلام) أيضاً بقرينة الموضوع والحكم، فإنه قد يتصرف في الموضوع بسبب الحكم، وقد يتصرف في الحكم بسبب الموضوع، كما حقق في علم الأصول(2).

حكم المتردد والشاك

مسألة: المتردد والشاك(3) نجس أيضاً - على أحد المعنيين أو كليهما -

لا المنكر فحسب، كما دل عليه العقل والنقل، فقد قالت (علیها السلام): «جعل الله الإيمان تطهيراً»، والشاك كالمنكر ليس بمؤمن كما يشهد به اللغة والعرف، وأن الإيمان صفة ثبوتية وجودية وكلا المذكورين فاقد لها، فتأمل.

و قد قال (عليه الصلاة و السلام): «لا ترتابوا فتشكوا، ولا تشكوا فتكفروا»(4).

ص: 350


1- بحار الأنوار: ج38 ص90-91 ب61 ح3.
2- فها هنا (الإيمان) وهو أعم من طارد (الكفر والشرك) يكون قرينة على أن متعلق (تطهيراً) أعم من الشرك أيضاً.
3- في الإيمان بالله تعالى.
4- الكافي: ج1 ص45 باب استعمال العلم ح6، والكافي: ج2 ص399 باب الشك ح2.

..............................

وفي القرآن الحكيم: «فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ»(1).

إلى غير ذلك مما دل على هذا المبحث، كمالا يخفى على من راجع الكتب الكلامية والأحاديث المتواترة الواردة في هذا الباب(2).

قال علي (علیه السلام): «شر القلوب الشاك في إيمانه»(3).

وقال (علیه السلام): «أهلك شيء الشك والارتياب»(4).

وقال (علیه السلام): «الشك يفسد اليقين ويبطل الدين»(5).

وقال (علیه السلام): «الشك يحبط الإيمان»(6).وقال (علیه السلام): «الشك كفر»(7).

وقال (علیه السلام): «ما آمن بالله من سكن قلبه الشك»(8).

ص: 351


1- سورة التوبة: 45.
2- راجع موسوعة الفقه، كتاب الطهارة: ج3 ص523 من الطبعة الأولى، طبع قم.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص67 ق1 ب1 ف13 القلب المذموم ح912.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص71 ق1 ب1 ف15 ذم الشك ح1039.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص71 ق1 ب1 ف15 الشك يفسد اليقين ح1046.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: ص72 ق1 ب1 ف15 الشك يفسد الدين ح1051.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: ص72 ق1 ب1 ف15 الشك يوجب الشرك ح1058.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: ص87 ق1 ب2 ف6 أهمية الإيمان ح1464.

والصلاة تنزيهاً لكم

اشارة

-------------------------------------------

رجحان الصلاة

مسألة: الصلاة بمعناها الاصطلاحي(1) واجبة (2)، وبمعناها الأعم(3) راجحة مطلقاً. فإن الصلاة عطف وميل وتوجه نحو الله سبحانه و تعالى، وهي بين واجبة و بين مستحبة، أما حرمة الصلاة في بعض الأحيان مثل صلاة الجنب والحائض(4) وما أشبه، فلمقارن لها أوجب مرجوحيتها إلى حد المنع من النقيض، وأما كراهة الصلاة كالصلاة في الحمام(5)، وصلاة المسافر إذا اقتدى بإمام ليس بمسافرأو بالعكس(6)، فالمقصود أقل ثواباً كما هو المقرر في محله.

تنزيه النفس

مسألة: ينبغي تنزيه النفس من الرذائل، وبعض مراتبها واجب، كما لايخفى، قال تعالى: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (علیهم السلام) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (علیهم السلام) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (علیهم السلام) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا»(7).

ص: 352


1- وهو: الصلاة المفروضة ذات الأركان الخاصة.
2- أي في الجملة، إذا كان المعنى الاصطلاحي أعم من المفروضة وشمل النوافل أيضا.
3- وهو الدعاء وطلب نزول الرحمة الإلهية. وفي لسان العرب: ج14 ص464 مادة صلا: (الصلاة: الدعاء والاستغفار... والصلاة من الله الرحمة).
4- راجع موسوعة الفقه: ج10 و11 كتاب الطهارة، في أحكام الجنب والحائض.
5- راجع المسائل الإسلامية: ص237 المواضع التي تكره الصلاة فيها، المسألة: 959، الطبعة 36، عام 1421ه/2000م، مؤسسة المجتبى بيروت - لبنان.
6- راجع المسائل الإسلامية: ص334 المكروهات في صلاة الجماعة، المسالة: 1595.
7- سورة الشمس: 7-10.

عن الكبر،

اشارة

-------------------------------------------

التكبر

التكبر(1)

مسألة: تعليلها (علیها السلام) إقراره وجعله (جل وعلا) للصلاة بكونها منزهة عن الكبر، يفيد مرجوحية الكبر أو حرمته، وللحرمة درجات كالتكبر على الله (جل وعلا) وعلى رسله وأنبيائه وأوليائه (علیهم السلام) وعلى سائرالناس(2). وقد فصلنا ذلك في الفقه(3).

ص: 353


1- راجع (الفضيلة الإسلامية)، و(الفقه: الآداب والسنن)، و(الأخلاق الإسلامية)، للإمام المؤلف (قدس سره).
2- وربما يكون بعض مراتبه مكروهاً، أما هل يكون بعض مصاديقه مستحباً؟ كما قيل: (التكبر على المتكبر عبادة)، وقال بعضهم: (من التواضع التكبر على الأغنياء) - تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج2 ص243 - بحاجة إلى تأمل.
3- راجع موسوعة الفقه: ج93 كتاب المحرمات ص321، وفيه: (يحرم الكبر مطلقاً سواء كان على الله وآياته، أو على رسله (علیهم السلام) أو على الأئمة الطاهرين (علیهم السلام) أو على العلماء الراشدين الذين هم أمناؤهم، أو على المؤمن. قال سبحانه: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ» - سورة الأنعام: 93 - إلى غيرها من الآيات. وفي موثقة العلاء عن الصادق (علیه السلام)، قال: قال أبو جعفر (علیه السلام): «العز رداء الله والكبر إزاره، فمن تناول شيئاً منه أكبه الله في جهنم» - وسائل الشيعة: ج15 ص374 ب58 ح20782 - إلى غيرها من الروايات المتواترة في هذا الباب، بل حرمة التكبر من البديهيات. ومن أقسام الكبر الاستكبار عن الدعاء، فقد قال الباقر (علیه السلام) في صحيح زرارة: «إن الله عزوجل يقول: «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ» - سورة غافر: 60 - قال: هو الدعاء» - تفسير البرهان: ج4 ص101 ح1 - إلى غيرها من الروايات.

..............................

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إياكم والكبر! فإن إبليس حمله الكبر على ترك السجود لآدم (علیه السلام) »(1).

وقال (علیه السلام): «إن المتكبر ملعون... وإياكم والكبر؛ فإنه رداء الله عزوجل فمن نازعه رداءه قصمه الله»(2).

وقال (علیه السلام): «هلاك الناس في ثلاث: الكبر والحرص والحسد»(3).

وقال (علیه السلام): «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من الكبر»(4).

وإنما يكون الكبر في الله سبحانه وتعالى من صفات الجمال كما قال تعالى: «هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ»(5)؛ لأن الله سبحانهوتعالى هو الكبير المتعال وبقول مطلق، أما غيره فهو صغير فقير للغاية، بل قد يكون إطلاق الصغير والفقير عليه مسامحياً، إذ هو عين الفقر وصرف الربط والتعلق، فليس له من ذاته أي شيء على الإطلاق، ولا حق له في أن يتكبر، مهما كان له مال أو ولد أو حكومة أو عشيرة أو علم أو ما أشبه ذلك.

ص: 354


1- إرشاد القلوب: ص129 ب40.
2- دعائم الإسلام ج2 ص352 ف1 ح1297.
3- بحار الأنوار: ج75 ص111 ب19 ضمن ح6.
4- الكافي: ج2 ص310 باب الكبر ح6.
5- سورة الحشر: 23.

..............................

هذا بالإضافة إلى أن التكبر في الإنسان يجره إلى سيئات أخرى، والله سبحانه منزه عن كل سيئة.

قولها (علیها السلام): «والصلاة تنزيهاً لكم من الكبر»، حيث إن غفلة الإنسان عن الله سبحانه بنفسها تكبر، والغافل عنه - جهلاً أو تجاهلاً - متكبر حقيقة أو لباً(1)، والتكبر أساس للكثير من الرذائل، ولذا يظلم ويطغي ويفسد.

قال علي (علیه السلام): «التكبر يظهر الرذيلة»(2).

وقال (علیه السلام): «التكبر رأسالجهل»(3).

وقال (علیه السلام): «احذر الكبر؛ فإنه رأس الطغيان ومعصية الرحمان»(4).

وقال (علیه السلام): «الكبر داع إلى التقحم في الذنوب»(5).

وقد قال سبحانه: «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ»(6).

وقال تعالى: «فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ»(7)، حيث إن الكبر إذا صار ملكة في الإنسان فإنه يؤدي إلى المفاسد والموبقات.

كما إن الإنسان المتواضع حيث صار التواضع ملكة له يتقدم؛ فإن التواضع من أسس التقدم ومن أهم أسباب التحلي بالفضائل والمحاسن.

ص: 355


1- اللف والنشر مشوش، فالمتجاهل غافل حقيقة، والجاهل لباً أي أنه غافل عملياً.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص310 ق3 ب3 ف6 آثار التكبر ح7151.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص248 ق3 ب2 ف2 فضيلة التواضع ح5137.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص309 ق3 ب3 ف6 الكبر وذمه ح7122.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص310 ق3 ب3 ف6 آثار التكبر ح7152.
6- سورة البقرة: 10.
7- سورة الفتح: 26.

..............................

وفي الحديث الشريف عن موسى بنجعفر (علیه السلام) في وصيته لهشام: «يا هشام، إن الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا، فكذلك الحكمة تعمر في المتواضع ولا تعمر في المتكبر الجبار»(1).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «التواضع لا يزيد العبد إلاّ رفعة»(2).

وقال (علیه السلام): «التواضع رأس العقل»(3).

وقال (علیه السلام): «التواضع يرفع»(4).

وقال الشاعر(5):

تواضع تكن كالنجم لاح لعارض *** على صفحات الماء وهو رفيع

ولا تك كالدخان يعلو بنفسه *** إلى طبقات الجو وهو وضيع

والصلاة تذكير دائم بالله «رَبِّالْعالَمِينَ»(6) العالم بدخائل الإنسان، المطلع سمعاً وبصراً وعلماً عليه.

ثم إنه سبحانه «مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ»(7) وفي الصلاة أرقى صور التلقين والإيحاء النفسي، ولذا يتحول الإنسان المصلي من التكبر إلى التواضع، وتتكرر الصلاة كل يوم خمس مرات كي يستمر هذا الإيحاء.

ص: 356


1- مستدرك الوسائل: ج11 ص299 ب28 ح13088.
2- منية المريد: ص322 ب3 ف2.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص248 ق3 ب2 ف2 فضيلة التواضع ح5137.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص249 ق3 ب2 ف2 بعض آثار التواضع ح5158.
5- فرنسيس بن فتح الله بن نصر مرّاش (1252-1290ه) مولده ووفاته في حلب.
6- سورة الفاتحة: 2.
7- سورة الفاتحة: 4

..............................

بالإضافة إلى أن فيها الركوع وهو خضوع للرب العظيم، والسجود وهو غاية الخضوع للرب الأعلى.

إلى غير ذلك من فلسفة الصلاة التي ذكرنا بعضها في كتاب (عبادات الإسلام)(1).هذا وفي الحديث: «إنما الكبر من تكبر عن ولايتنا وأنكر معرفتنا»(2).

ص: 357


1- من تأليفاتات سماحة الإمام الشيرازي (أعلى الله مقامه) في كربلاء المقدسة، ويقع في 284صفحة قياس 20×14. وقد تناول سماحته فيه فروع الدين: الصلاة، الصوم، الزكاة، الخمس، الحج، الجهاد، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، التولي، التبري وفلسفتها وبعض أحكامها. طبع في النجف الأشرف - العراق، كما طبع في بيروت - لبنان. قامت مؤسسة الفكر الإسلامي بيروت - لبنان بطبعه للمرة الثالثة عام 1414ه/1993م. كما قامت بطبعه مكتبة الإمام الحسين (علیه السلام) - الكويت ضمن كتاب (هكذا الإسلام) عام 1399ه/1979م. ترجمه إلى اللغة الفارسية تحت عنوان: (فروع دين) الشيخ مصطفى زماني (رحمة الله) في 311 صفحة قياس 20×14، وقد طبع مكرراً في قم المقدسة، كما طبع في أربعة أجزاء مستقلة أيضاً. وترجمه أيضا إلى اللغة الفارسية تحت عنوان: (نقش عبادت در سازندكي انسان) العلامة السيد محمد باقر الفالي بتاريخ 1رجب 1403ه في 248 صفحة. كما ترجم الشيخ علي الكاظمي الفصل الأول منه تحت عنوان: (نماز)، طبع قم المقدسة. كما ترجم الشيخ مصطفى زماني (رحمة الله) الفصل الثاني منه تحت عنوان: (روزه).
2- مستدرك الوسائل ج12 ص35 ب60 ح13444.

والزكاة تزكية للنفس،

اشارة

-------------------------------------------

الزكاة راجحة مطلقاً

مسألة: الزكاة راجحة مطلقاً، وقد تكون واجبة كما في الأمور التسعة المذكورة في الفقه(1)، والزكاة المستحبة كما في التجارات(2).

وفي الحديث عن أبي الحسن (علیه السلام)، قال: «إنما وضعت الزكاة قوتاً للفقراء، وتوفيراً لأموال الأغنياء»(3).

وعن الإمام الرضا (علیه السلام): «إن علة الزكاة من أجل قوت الفقراء، وتحصين أموال الأغنياء»(4).

وقال (علیه السلام): «إنما وضعت الزكاة اختباراً للأغنياء»(5).وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إذا منعوا الزكاة منعت الأرض بركاتها»(6).

وقال علي (علیه السلام) في وصيته: «الله الله في الزكاة؛ فإنها تطفئ غضب ربكم»(7).

ص: 358


1- وهي: الحنطة والشعير والتمر والزبيب، والذهب والفضة، والإبل والبقر والغنم.
2- راجع موسوعة الفقه: ج29-32 كتاب الزكاة.
3- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص4 باب علة وجوب الزكاة ح1575.
4- وسائل الشيعة: ج9 ص12 ب1 ح11393.
5- غوالي اللآلي: ج1 ص370 ب1 المسلك الثاني ح74.
6- الكافي: ج2 ص374 باب في عقوبات المعاصي العاجلة ح2.
7- تهذيب الأحكام: ج9 ص177 ب6 ح14.

..............................

وهناك روايات كثيرة في ثواب إخراج الزكاة(1) وعقاب مانع الزكاة(2).

وقد يكون الزكاة المذكورة في القرآن الحكيم وكلمات المعصومين (علیهم السلام) - في ذي القرينة - يراد بها مطلق إعطاء المال الأعم من الخمس، فلا يقال: لماذا لم تذكر الخمس؟. وقد ورد في الأحاديث: «إن الخمس عوض من الزكاة»(3)،فالزكاة لغير السادة والخمس للسادة على تفصيل مذكور في الفقه، وقد ألمعنا إلى وجه هذا الفرق في كتاب (الفقه: الاقتصاد)(4)، و(الفقه: الزكاة)(5).

تزكية النفس

مسألة: لتزكية النفس مراتب بعضها واجب وبعضها مستحب، والتزكية ها هنا واجبة في الجملة، إذ لولا لزوم تزكية النفس لم تكن الزكاة واجبة، فتأمل.

وقد علّلت (علیها السلام) جعله سبحانه للزكاة بكونها تزكية للنفس، حيث إن الإنسان المزكي تتطهر نفسه عن درن البخل والشح وعن حب الدنيا أو شدته، قال سبحانه: «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(6).

ص: 359


1- راجع ثواب الأعمال: ص46 ثواب إخراج الزكاة ووضعها في موضعها.
2- راجع ثواب الأعمال: ص234 عقاب مانع الزكاة.
3- راجع وسائل الشيعة: ج9 ص514-515 ب1 ح12608، وفيه : «الذين لا تحل لهم الصدقة والزكاة عوضهم الله مكان ذلك بالخمس».
4- راجع موسوعة الفقه: ج108 كتاب الاقتصاد ص65.
5- راجع موسوعة الفقه: ج31 كتاب الزكاة ص248.
6- سورة الحشر: 9، سورة التغابن: 16.

..............................

فإن الحسنات بعضها آخذ بعنق بعض،وقد جعل الله تعالى لكل عمل صالح أثراً وضعياً وتكوينياً وأخروياً مجانساً له، وإذا صارت الزكاة والعطاء ملكة للإنسان ترققت النفس ولان القلب، والقلب اللين مبعث الخيرات ومنبع البركات ولذا ذم الله سبحانه وتعالى اليهود بقوله: «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ»(1).

وفي الحديث: «وما قست القلوب إلاّ لكثرة الذنوب»(2).

وقال (علیه السلام): «إن للمنافق أربع علامات: قساوة القلب، وجمود العين، والإصرار على الذنب، والحرص على الدنيا»(3).

وقال (علیه السلام): «ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب»(4).

ص: 360


1- سورة البقرة: 74.
2- روضة الواعظين: ج2 ص420 مجلس في الحث على مخالفة النفس والهوى.
3- الاختصاص: ص111 جزء فيه أخبار من روايات أصحابنا وغيرهم.
4- مستدرك الوسائل: ج12 ص93 ب76 ح13608.

ونماءً في الرزق،

اشارة

-------------------------------------------

إنماء الرزق

مسألة: إنماء الرزق والتوسع فيه مستحب عموماً، وقد يجب أحياناً كما لايخفى.

وقد ورد في الدعاء: «وعظّم ووسّع رزقي ورزق عيالي»(1).

و: «ووسّع رزقي وأدره عليَّ»(2).

و: «ووسّع رزقي أبداً ما أبقيتني»(3).

و: «ووسّع عليَّ في رزقي»(4).

وقد علّل كثير من المستحبات وبعض الواجبات بزيادة الرزق، كما ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام): «ألا أنبئكم بعد ذلك بما يزيد في الرزق؟» ... فقال (علیه السلام): «الجمع بينالصلاتين يزيد في الرزق، والتعقيب بعد الغداة والعصر يزيد في الرزق، وصلة الرحم تزيد في الرزق، وكسح الفنا يزيد في الرزق، ومواساة الأخ في الله عزوجل يزيد في الرزق، والبكور في طلب الرزق يزيد في الرزق، والاستغفار يزيد في الرزق، وقول الحق يزيد في الرزق، وإجابة المؤذن يزيد في الرزق، وترك الكلام في الخلاء يزيد في الرزق، وترك الحرص يزيد في الرزق،

ص: 361


1- بحار الأنوار: ج88 ص78 ب3 ح3.
2- مهج الدعوات: ص133 ومن ذلك دعاء لمولانا ومقتدانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) في الشدائد ونزول الحوادث وهو سريع الإجابة من الله تعالى.
3- جمال الأسبوع: ص312 ف31 الدعاء بعد هذه الصلاة.
4- الكافي: ج2 ص558 باب الدعاء للكرب والهم والحزن والخوف ح8.

..............................

وشكر المنعم يزيد في الرزق، واجتناب اليمين الكاذبة يزيد في الرزق، والوضوء على الطعام يزيد في الرزق، وأكل ما يسقط من الخوان يزيد في الرزق» (1).

وأما كونها(2) «نماء في الرزق» فهو بجهة غيبية، حيث إن الله سبحانه ينمي رزق المزكي،كما سبق عنه (علیه السلام):

«إنما وضعت الزكاة... توفيراً لأموال الأغنياء»(3).بالإضافة إلى السبب الظاهر، حيث إن العطاء يوجب تقارب الأغنياء والفقراء، وتآلفهم وتحاببهم وتعاونهم، والتعاون أساس كل فضيلة ومفتاح كل تقدم، هذا إضافة إلى أنها توجب تقوية القدرة الشرائية في الفقراء مما لا يخفى أثرها الاقتصادي، قال سبحانه: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا»(4). فالزكاة تطهير نفسي كما سبق، وتنمية في المال والمجتمع(5)، على عكس الربا حيث «يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ»(6) ومن فلسفة ذلك أن الربا يوجب الحقد والتنازع والطغيان(7).

ص: 362


1- وسائل الشيعة: ج15 ص347-348 ب49 ح20704.
2- أي الزكاة.
3- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص4 باب علة وجوب الزكاة ح1575.
4- سورة التوبة: 103.
5- الزكاة إما مصدر (زكي) إذا نمي؛ لأنها تستجلب البركة في المال وتنميه، وإما مصدر (زكا) إذا طهر؛ لأنها تطهر المال من الخبث، والنفس البخيلة من البخل - راجع مجمع البحرين: ج1 ص205 مادة زكا.
6- سورة البقرة: 276.
7- راجع كتاب (الاقتصاد بين المشاكل والحلول)، و(الفقه: الاقتصاد) للإمام المؤلف (قدس سره).

..............................

الاهتمام بالأمور الدنيوية

الاهتمام بالأمور الدنيوية (1)

مسألة: يستحب الاهتمام بالأمور الدنيوية عموماً، ومن مصاديقه إنماء الرزق، إلى جوار الاهتمام بالشؤون الأخروية.

والاستحباب إنما هو في المقدار المستحب، وإلاّ فالقدر الواجب واجب، وقد قال (عليه الصلاة والسلام): «ليس منا من ترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه»(2).

وقال (علیه السلام): «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً»(3)

وفي الحديث: «اجعلوا لأنفسكم حظاً من الدنيا»(4).

وقبل ذلك قال القرآن الحكيم: «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»(5).

الإنفاق

مسألة: يستحب الإنفاق مطلقاً؛ فإن جامع الملاك الموجود في الزكاة على قسميه جار في مطلق الإنفاق، هذا إن لم نقل بإرادة المعنى اللغوي منها، إضافة

ص: 363


1- راجع موسوعة الفقه: كتاب البيع، وكتاب الاقتصاد.
2- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص156 باب المعايش والمكاسب والفوائد والصناعات ح3568.
3- وسائل الشيعة: ج17 ص76 ب28 ح22026.
4- مستدرك الوسائل: ج8 ص223 ب38 ح9309.
5- سورة البقرة: 201.

..............................

إلى الآيات والروايات الدالة على فضيلة الإنفاق مطلقاً.

قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ»(1).

وقال سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ»(2).

وقال عزوجل: «وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ»(3).

وقال جل ثناؤه: «وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَىأَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ»(4).

وقال (علیه السلام): «إن من أخلاق المؤمن الإنفاق على قدر الإقتار»(5).

نعم، إذا عارضته جهة منفرة إلى حد المنع من النقيض يكون محرماً، أو لا إلى ذلك فيكون مكروهاً.

ص: 364


1- سورة البقرة: 254.
2- سورة البقرة: 267.
3- سورة الحديد: 10.
4- سورة المنافقون: 10.
5- الكافي: ج2 ص241 باب المؤمن وعلاماته وصفاته ح36.

والصيام تثبيتاً للإخلاص،

اشارة

-------------------------------------------

الصيام وفلسفته

مسألة: يستفاد من قولها (علیها السلام): «جعل... » ومن السياق: وجوب الصوم، فتكون اللام للعهد المقصود به المصداق الخاص.

وأما على كونها للجنس فيكون قولها (علیها السلام) دالاً على رجحانه عموماً.

فإن من الصيام ما هو واجب، ومنه ما هو مستحب، أما الصوم المحرم كيوم العيدين، أو المكروه كصوم يوم عاشوراء، فلعارض، وقد ذكرنا وجه ذلك في الفقه(1).

قولها (علیها السلام): «والصيام تثبيتاً للإخلاص»، فإن الإخلاص الذي في الصوم عميق جداً، إذ إن الإنسان يستطيع - عادة - أن يتظاهر بالصوم ويرتكب المفطرات سراً، فالإخلاص يثبت ويتقوى بالصيام، حيث يروض الإنسان نفسه بالامتناع عن المفطرات مع شدة الشوق إليها. ولعل هذا هو سر قوله سبحانهفي الحديث القدسي: «الصوم لي وأنا أجزي عليه»(2).

أي جزاؤه على الله سبحانه(3)، أو أن الله هو جزاؤه(4) كناية عن أنه

ص: 365


1- راجع موسوعة الفقه: ج37 كتاب الصوم ص63-116.
2- الكافي: ج4 ص63 باب ما جاء في فضل الصوم والصائم ح6.
3- إذا قرأت هكذا: «أجزي» أي: على المبني للمعلوم.
4- إذا قرأت هكذا: «اُجزى» أي: على المبني للمجهول.

..............................

سبحانه يحكم للصائم في الآخرة فيما يشاء، إذ مع امتناع الحقيقة فإن أقرب المجازات يكون هو المتعين.

هذا بالإضافة إلى سائر فوائد الصيام مما ذكر في القرآن الحكيم أو في السنة المطهرة، أو ثبت طبياً واجتماعياً، وغير ذلك.

قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»(1).

وقال (علیه السلام): «فرض الله...الصيام ابتلاء لإخلاص الخلق»(2).

الإخلاص في العبادة وغيرها

مسألة: يجب الإخلاص في العبادات، ويرجّح في غيرها، فإن الإخلاص في الواجبات التعبدية واجب تكليفاً، وشرط للصحة وضعاً، وفي المستحبات التعبدية شرط للصحة، حيث إذا لم يكن إخلاص لم تكن عبادة.

أما الإخلاص في سائر الأمور فهو من المرجحات.

ويمكن أن يقوم الإنسان بكل عمل - كالواجبات التوصلية والمباحات - بقصد القربة الخالصة له سبحانه وتعالى(3).

ص: 366


1- سورة البقرة: 183.
2- نهج البلاغة، قصار الحكم: 252.
3- راجع كتب الأخلاق كجامع السعادات، وقد سبق الإشارة إليه في هذا الكتاب.

..............................

والإخلاص لله تعالى - إضافةً لآثاره الأخروية - من أكبر عوامل التقدم والنهوض بالأمة واستنقاذها من واقعهاالمرّ، فإن المخلص يضحي بوقته وصحته وماله ونفسه لخدمة الإسلام والمسلمين، أما غير المخلص فتراه يضحي بمصالح الدين والأمة لأجل أن يعيش حياة مرفهة.

وقد ورد في زيارتهم (علیهم السلام): «السلام على الإمام التقي، المخلص الصفي»(1).

وعنه (علیه السلام): «وأما علامة المخلص فأربعة: يسلم قلبه، وتسلم جوارحه، وبذل خيره، وكف شره»(2).

وعنه (علیه السلام): «سادة أهل الجنة المخلصون»(3).

ص: 367


1- بحار الأنوار: ج97 ص375 ب5 ح9.
2- تحف العقول: ص21 ومن حكمه (صلی الله علیه و آله) وكلامه.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص197 ق2 ب2 ف7 في أهمية الإخلاص ح3904.

والحج تشييداً للدين

اشارة

-------------------------------------------

والحج تشييداً للدين(1)،

فريضة الحج والأهداف الربانية

مسألة: الحج منه واجب ومنه مستحب، وقد تطرأ الحرمة على الحج لسبب خارجي كحج الزوجة بدون إذن الزوج حجاً مستحباً، وكذلك حج العبد(2) وما أشبه ذلك(3).

وفي الحديث عن جعفر بن محمد (علیه السلام)، قال: «بني الإسلام على خمس دعائم: على الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وولاية أمير المؤمنين والأئمة من بعده (علیهم السلام)»(4).

وقد جعل الله الحج تشييداً للدين كما ذكرته (صلوات الله عليها) حيث إنه - بالإضافة إلى جوانبه العبادية والاقتصادية وغيرهما - يعد مؤتمراًعاماً لكل المسلمين، حيث يجتمعون ويتعارفون، ويعالج بعضهم مشاكل بعض، وتذوب بينهم الفوارق الإقليمية واللونية واللغوية وغيرها(5)؛ فإن الحج يوجب إيجاد أرضية أو تقوية حالة (الشورى)، قال تعالى: «وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ»(6).

ص: 368


1- وفي بعض النسخ: «والحج تسنية للدين». راجع علل الشرائع: ج1 ص248 ب182 ح2 .
2- أي بدون إذن مولاه.
3- راجع موسوعة الفقه: ج38-46 كتاب الحج، و(جامع مناسك الحج)، و(مناسك الحج) واستفتاءات في الحج، للإمام المؤلف (قدس سره).
4- وسائل الشيعة: ج1 ص25 ب1 ح29.
5- راجع مقدمة كتاب (الحاج في مكة والمدينة) للإمام المؤلف (قدس سره).
6- سورة الشورى: 38.

..............................

و(الحرية)، قال سبحانه: «يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ»(1).

و(الأمة الواحدة)، قال تعالى: «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً»(2).

و(الأخوة)، قال سبحانه: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ»(3).

و(شرائع الإسلام)، قال تعالى: «شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً»(4).

ولهذا فالجدير بالمسلمين أنيعيدوا إلى الحج فوائده المتوقعة، كما قال سبحانه: «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لهمْ»(5)، وذلك عبر رفع المنع عن كل من يريد الحج، بل إلغاء أي روتين يعرقل ذلك، وأن تكون مكة المكرمة والمدينة المنورة - على الأقل - محل أمن ومعقل حرية لإقامة كل الشعائر الإسلامية، ومركزاً للتلاقي والاختلاط بين كافة المسلمين(6). ومع الأسف فإنه اليوم أضحى إلى حد كبير - حيث جرد من كثير منافعه وغاياته - خلافاً لما قاله القرآن الحكيم، فإذا رجع الحج إلى واقعه الإسلامي كان العامل الأساسي في تقدم المسلمين إلى الإمام(7).

ص: 369


1- سورة الأعراف: 157.
2- سورة الأنبياء: 92، سورة المؤمنون: 52.
3- سورة الحجرات: 10.
4- سورة المائدة: 48.
5- سورة الحج: 28.
6- راجع كتاب (ليحج خمسون مليوناً كل عام) للإمام المؤلف (قدس سره).
7- حول هذه النقاط راجع للمؤلف (قدس سره) (لكي يستوعب الحج عشرة ملايين)، و(الحج بين الأمس واليوم والغد)، و(مؤتمرات الإنقاذ)، و(موسوعة الفقه: ج38-46 كتاب الحج)، و(ليحج خمسون مليوناً كل عام).

..............................

تشييد الدين

مسألة: يجب تشييد الدين(1) وتقويته، كما قال تعالى: «أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ»(2) في الواجبات.

ويستحب في المستحبات.

إذ إن استحكامه في فرائضه بالواجبات وفي مندوباته بإتيان المستحبات؛ لأن مثل الدين كبناء يحتاج إلى المواد الأساسية للبناء، بالإضافة إلى التجملية، فهو أيضاً بين واجب ومستحب.

هذا بالإضافة إلى ما للمستحبات من دور كبير في السوق نحو مزيد الالتزام بالواجبات، فهي مشيدة للدين ذاتاً وتسبيباً.

والحج من المقومات الأساسية للدين، وبه يستحكم الدين ويتعالى ويتسامى كما لا يخفى، والمستحب منه أيضاً من بواعث تشييد الدين كما سبق.

قال علي (علیه السلام): «فرض الله... الحج تقويةً للدين»(3).

وقال (علیه السلام): «خير الأعمالما أصلح الدين»(4).

ص: 370


1- تشييد البناء: إحكامه ورفعه - لسان العرب: ج3 ص244 مادة شيد -.
2- سورة الشورى: 13.
3- شرح نهج البلاغة: ج19 ص86 باب الحكم والمواعظ 249.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص156 ق1 ب6 ف4 خير الأعمال ح2934.

والعدل تنسيقاً للقلوب

اشارة

-------------------------------------------

والعدل تنسيقاً للقلوب(1)،

أنواع العدل والظلم

أنواع العدل والظلم(2)

مسألة: يجب العدل في موارده، كما هو مستحب في موارده مثل: تقسيم اللحظة والنظرة والبسمة والسلام والتكلم مع الجلساء، وتقسيم ما عدا الحقوق المقررة تقسيماً مستحباً بين الأولاد أو الزوجات أو ما أشبه، إلى غير ذلك من النظائر، كما يدل عليه جملة من الروايات، وكما حققه علماء الأخلاق والكلام والفقه.

وقد ورد في عهده (علیه السلام) إلى محمد بن أبي بكر (رحمة الله) حين قلده مصر:«وآس بينهم في اللحظة والنظرة»(3).

وفي الحديث: «العدل أحلى من الشهد، وألين من الزبد، وأطيب ريحاً من المسك»(4).

ص: 371


1- وفي بعض النسخ: «والعدل تسكيناً للقلوب» - راجع علل الشرائع: ج1 ص248 ب182 ح2 - وفي بعضها: «والحق تسكيناً للقلوب وتمكيناً للدين» - راجع دلائل الإمامة: ص33 حديث فدك - وفي بعضها: «والعدل تنسكاً للقلوب» - راجع بلاغات النساء: ص28 كلام فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) -.
2- راجع كتاب (العدل أساس الملك) للإمام المؤلف (قدس سره).
3- نهج البلاغة، الرسائل: 27 ومن عهد له (علیه السلام) إلى محمد بن أبي بكر (رضي الله عنه) حين قلده مصر، ونهج البلاغة، الرسائل: 46 ومن كتاب له (علیه السلام) إلى بعض عماله.
4- الكافي: ج2 ص147 باب الإنصاف والعدل ح15.

..............................

ومن البين أن العدل غير المساواة، وأن النسبة بينهما العموم من وجه.

وكما يجب العدل يحرم الظلم، وهو يشمل: ظلم النفس - روحاً وجسماً - وظلم العائلة، وظلم المجتمع، وظلم الحكومة(1)، وظلم الحيوان والنبات والطبيعة، وظلم الأجيال القادمة أيضاً، والظلم الاقتصادي والاجتماعي وغيرها. قال تعالى: «وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»(2).وقال سبحانه: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ»(3).

وقال تعالى: «يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ»(4).

وقال سبحانه: «وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا»(5).

وقال تعالى: «وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا»(6).

وقال سبحانه: «فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ»(7).

وقال تعالى: «يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامى ظُلْماً»(8).

ص: 372


1- قد يكون هذا من الإضافة للفاعل، وقد يكون من الإضافة للمفعول، أي: ظلم الحكومة للناس، أو ظلم الناس للحكومة.
2- سورة النحل: 118.
3- سورة العنكبوت: 68.
4- سورة لقمان: 13.
5- سورة الإسراء: 59.
6- سورة النحل: 41.
7- سورة البقرة: 279.
8- سورة النساء: 10.

..............................

وبكلمة جامعة: فإن «مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»(1)، ولكل من تلكالأنواع مباحث مفصلة في مظانها(2).

قولها (علیها السلام): «تنسيقاً للقلوب» فإن من أهم ثمار العدل تنظيم قلوب الناس، حيث يرى الناس أن الحاكم يساوي بين الناس ولا يقدم بعضاً على بعض عبثاً واعتباطاً، ولذلك فهم يتعاطفون مع الحاكم ويلتفون حوله، كما تتوثق به أواصر العلاقة بينهم أنفسهم، وبعضهم مع بعض، والمجتمع الذي تسود فيه روح التعاطف والتحابب، وتتصافى فيه القلوب يكون مجتمعاً مستقراً متكاتفاً متقدماً إلى الإمام.

من مصاديق العدل ومظاهره

مسألة: قد جعل الإسلام العدل من قواعده الأساسية، قال سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ»(3).

وقال تعالى: «وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ»(4).

وقال علي (علیه السلام): «العدلأقوى أساس»(5).

ص: 373


1- سورة البقرة: 229.
2- راجع للإمام المؤلف (قدس سره) (الفقه: الاجتماع)، و(الفقه: الحقوق)، و(الفقه: الدولة الإسلامية)، و(الفقه: المحرمات)، وغيرها.
3- سورة النحل: 90
4- سورة النساء: 58.
5- مستدرك الوسائل: ج11 ص318 ب37 ح13146.

..............................

وقال (علیه السلام): «العدل زينة الإمارة»(1).

ولذا لم يكن في الإسلام حدود جغرافية، ولا تمايز بالألوان واللغات والعشائر وما أشبه، بل «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»(2).

ولهذا السبب التفّ الناس حول الإسلام أيما التفاف، بعد أن رأوا العدالة في مختلف شؤون:

العبادية..

والاقتصادية: كالإرث والضرائب الأربعة فقط وحق حيازة المباحات والتجارة الحرة..

والسياسية: فلكل من جمع الشرائط أن يكون والياً مثلاً، من أية لغة أو قومية أو ما أشبه، وكذلك «يسعى بذمتهم أدناهم»(3) وغير ذلك..والجزائية.. وغيرها.

فكل الناس في ذلك شرع سواء، إلاّ فيما خرج بالدليل كبعض الأمور النابعة من مقتضى واقع الحال والعدل مثل: (تعدد الزوجات)، وأن «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ»(4)وما أشبه، حيث إن هذا الاختلاف - على ما بين في الشرع - هو مقتضى العدالة، والمساواة في أمثال هذه الموارد هو على خلاف العدالة، وذلك كالمساواة بين البقال والمهندس، أو الجاهل والعالم، في الاحترام

ص: 374


1- بحار الأنوار: ج75 ص91 ب16 ح96.
2- سورة الحجرات: 13.
3- تهذيب الأحكام: ج4 ص131 ب37 ح2، والتهذيب: ج6 ص140 ب61 ح1.
4- سورة النساء: 11.

..............................

وفي العطاء، أو بين الطفل الصغير وأخيه الأكبر في كمية الأكل، أو ما أشبه ذلك، وقد ذكرت فلسفة كل تلك الموارد في الكتب المعنية بهذا الشأن(1).

تأليف القلوب

مسألة: يستحب - وقد يجب - السعي لتنسيق القلوب وتأليفها وجمعها وتصافيها.

قال تعالى: «لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ»(2).

وقال عزوجل: «وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ»(3).

وذلك عبر تكريس التقوى في النفوس، وعبر تربية النفس والناس على الإغضاء عن السيئة، والعفو والصفح، وعلى سعة الصدر، وفي الحديث: «المؤمن مألوف، ولا خير فيمن لا يَألف ولا يُؤلف»(4).

هذا وفي الأحاديث أنه بهم (عليهم أفضل الصلاة والسلام) يؤلف الله بين القلوب، قال (علیه السلام): «بنا يؤلف الله بين قلوبهم بعد عدواة الفتنة»(5).

ص: 375


1- راجع للإمام المؤلف (قدس سره): (الفقه: الاقتصاد)، والفقه: الحقوق)، و(القول السديد في شرح التجريد)، و(شرح المنظومة)، وغيرها.
2- سورة الأنفال: 63.
3- سورة الأنفال: 46.
4- الكافي: ج2 ص102 باب حسن الخلق ح17.
5- بحار الأنوار: ج51 ص84 ب1 الرابع والثلاثون ضمن ح37.

..............................

وعبر عدم فسح المجال لرواج الغيبةوالتهمة والنميمة، وعبر سلسلة من البرامج العملية التي تقضي على التدابر والتحارب بين المؤمنين، كما فعل الإمام الصادق (علیه السلام) ذلك حيث دفع كمية من الأموال للبعض من أتباعه كي يصلح به أي نزاع مالي يحدث بين مؤمنَين(1).

ومن الواضح أن أحكام الله تعالى تابعة لمصالح ومفاسد في المتعلقات إلا نادراً (2)، وهي (صلوات الله وسلامه عليها) تشير ها هنا إلى أن المصلحة في إيجاب العدل - أو جزءها - هي تنسيق القلوب، وإذا كان كذلك كان الراجح، بل اللازم في بعض الأحيان السعي لتنسيقها عبر ما يزيد على العدل، كالإحسان مثلاً، وكما فيما سبق.

ص: 376


1- راجع الكافي: ج2 ص209 باب الإصلاح بين الناس ح4.
2- كما لو كانت المصلحة في نفس الأمر أو النهي، كما في قصة أمره تعالى بذبح إسماعيل (علیه السلام). راجع التفاسير في تفسير قوله تعالى: «فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» - سورة الصافات: 102 -.

وطاعتنا نظاماً للملة،

اشارة

-------------------------------------------

وجوب إطاعة أهل البيت (علیهم السلام)

مسألة: يجب إطاعة أهل البيت (عليهم أفضل الصلاة والسلام) وإعلام الناس بذلك، فإن الله سبحانه وتعالى جعلهم (علیهم السلام) هداة للخلق بعد النبي (صلی الله علیه و آله)، كما جعل الأنبياء والمرسلين(علیهم السلام) هداة للناس، وكذلك الأمر في أوصياء الأنبياء (علیهم السلام)، وفي الأحاديث أنه: «كان لكل نبي وصي»(1).

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أيها الناس، إن علياً إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم، وهو وصيي ووزيري وأخي وناصري، وزوج ابنتي وأبو ولدي، وصاحب شفاعتي وحوضي ولوائي، من أنكره فقد أنكرني، ومن أنكرني فقد أنكر الله، ومن أقر بإمامته فقد أقر بنبوتي، ومن أقر بنبوتي فقد أقر بوحدانية الله عزوجل. أيها الناس، من عصى علياً فقد عصاني، ومن عصاني فقد عصىالله»(2).

ولا يخفى أن الإيمان بوجوب إطاعة أهل البيت (علیهم السلام) إنما يكون بعد الاعتقاد بأن الله سبحانه وتعالى نصبهم حججاً على خلقه وأدلة لعباده.

و(أهل البيت) يشمل فاطمة الزهراء (علیها السلام) - بالإضافة إلى النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة الطاهرين (علیهم السلام) - وقد دلت على ذلك آية التطهير(3) وروايات

ص: 377


1- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص180 باب الوصية من لدن آدم (علیه السلام) ح5407.
2- بحار الأنوار: ج38 ص129 ب61 ح81.
3- قوله تعالى: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» - سورة الأحزاب: 33 -.

..............................

متواترة(1)، فهي (صلوات الله عليها) واجبة الطاعة، كوجوب طاعة الرسول(صلی الله علیه و آله) والأئمة الاثني عشر (عليهم الصلاة والسلام)(2).و(الملة): الطريقة والدين والشريعة(3)، أي ما شرعه الله سبحانه لعباده بواسطة أنبيائه (علیهم السلام) لإيصالهم للسعادة الدنيوية والأخروية، قال تعالى: «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ»(4) أي: دينه.

وقد استعملت في مطلق الشرائع والملل حتى الباطلة، قال تعالى: «حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ»(5)، أي: سنتهم وطريقتهم.

وقد تأتي بمعنى (الأمة) أيضاً(6).

و(النظام): بمعنى القوام، وبمعنى التأليف والجمع(7)..

ص: 378


1- راجع (عوالم العلوم ومستدركاته)، و(بحار الأنوار)، و(دلائل الصدق)، و(الغدير)، و(إحقاق الحق)، وغيرها من الكتب.
2- راجع (من فقه الزهراء (علیها السلام)) المجلد الأول، المقدمة.
3- وفي لسان العرب: ج11 ص631 مادة ملل: (والملة: الشريعة والدين... وقيل: هي معظم الدين... وملتهم: سنتهم وطريقتهم).
4- سورة الحج: 78.
5- سورة البقرة: 120.
6- وفي لسان العرب: ج11 ص631 مادة ملل: (وفي الحديث: «لا يتوارث أهل ملتين»، الملة : الدين، كملة الإسلام والنصرانية واليهودية).
7- قال في مجمع البحرين: ج6 ص176 مادة نظم: (النظام بالكسر: الخيط الذي ينظم به اللؤلؤ). وقال في لسان العرب: ج12 ص578 مادة نظم: (النظم: التأليف... وكل شيء قرنته بآخر أو ضممت بعضه إلى بعض فقد نظمته). وفي القاموس المحيط: ج4 ص181: (النظم التأليف وضم شيء إلى شيء آخر… ونظم اللؤلؤ: ألفه وجمعه في سلك فانتظم). وفي المنجد: ومنه نظم الشعر لتأليفه كلاماً موزوناً ومقفى. فعلى هذا يكون المراد بقولها (علیها السلام): «وطاعتنا نظاماً للملة» تشبيه الملة - أي الشريعة - باللآلي المنتثرة التي تكون إطاعتهم (علیهم السلام) سبباً لتأليف الدرر وجمعها على نظام بديع. هذا بالنسبة للمعنى الثاني الذي ذكره الإمام المؤلف (قدس سره)، وأما بالنسبة للمعنى الأول فقد جاء في مجمع البحرين: ج6 ص176 مادة نظم: (نظمت الأمر فانتظم أي أقمته فاستقام). وفي المنجد: (نظام الأمر قوامه). وفي لسان العرب: ج12 ص578 مادة نظم: (نظام كل أمر ملاكه... وليس لأمرهم نظام أي ليس له هدى ولا متعلق ولا استقامة). فعلى هذا يكون المراد بقولها (علیها السلام) : «نظاماً للملة» أن بإطاعتهم (علیهم السلام) يستقيم الدين ويستحكم، ولولا إطاعتهم لضعف واضمحل. قال (صلی الله علیه و آله): «إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض»، وسائل الشيعة: ج27 ص33-34 ب5 ح33144.

..............................

وكلا المعنيين محتمل هنا، ولكل منهما مرجحات، ويمكن أن يكون المراد به الجامع.

إطاعتهم (علیهم السلام) سبب للنظام

مسألة: من الضروري التنبيه على أن طاعتهم (علیهم السلام) هو الذي يوجب إيجاد وحفظ واستقرار النظام ودعوة الناس لذلك، فإن الملة والشريعة تحتاج إلى النظام بكلا معنييه، وطاعتهم (علیهم السلام) توجب جمع الملة وتأليفها وصونها عن التشتت والتناثر، كما توجب إقامة الملة والشريعة واستقامتها.

قال علي (علیه السلام): «والإمامة نظاماً للملة»(1).

ص: 379


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص176 ق2 ب1 ف3 ح3376، وفيه: «والإمامة نظاماً للأمة».

..............................

ومن المحتم بالبرهان أن نظام ملة الإسلام وشريعته هو أفضل الأنظمة على الإطلاق، بل لا قياس بينه وبين غيره(1).

وأما ما يكون بإطاعة غيرهم من (النظام) فإنما هو ظاهري ومحدود ومؤقت(2)، بل قد يكون أكثر إضراراً، ثمإنه (نظام) لمفردات ومصاديق وقوانين خاطئة في حد ذاتها غالباً.

وقد قال الشاعر:

ولو قلدوا الموصى إليه أمورها *** لزمت بمأمون على العثرات(3)

وقال: (ولو قدموا حظهم قدموكا).

وقال الرسول(صلی الله علیه و آله): «إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن تضلوا ما تمسكتم بهما، وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض»(4).

ص: 380


1- راجع موسوعة الفقه: كتاب القانون.
2- أشار المصنف (قدس سره) بقوله: (ظاهري) إلى عدم تجذر هذا النظام بل هو ك (الخشب المسندة)، وبقوله: (محدود) إلى عدم شموليته لشتى أبعاد الحياة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية...، وبقوله: (مؤقت) إلى عدم استمرار هذا النظام على مر الأعصار، أي أشار إلى العمق والسعة والامتداد الزمني، وقد أوضح الإمام المؤلف (قدس سره) الثغرات الكبيرة في الحضارة الغربية وفي عدة كتب، منها: كتاب (الغرب يتغير)، كما تطرق إلى ذلك في مواطن شتى من (الفقه: السياسة)، و(الفقه: القانون)، و(الفقه الحقوق)، و(الفقه: الاقتصاد)، و(الفقه: الدولة الإسلامية)، وغيرها.
3- من قصيدة دعبل الخزاعي التي قرأها عند الإمام الرضا (علیه السلام) ، راجع بحار الأنوار: ج49 ص246 ب17 ح13.
4- هذه الرواية من الأخبار المتواترة، وقد رواها الفريقان في مختلف كتبهم، راجع (الغدير) للعلامة الأميني (رحمة الله)، و(المراجعات) للمرحوم شرف الدين، وبحار الأنوار للمجلسي (قدس سره).

..............................

وقد ورد في تفسير قوله تعالى: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا»(1)، أي: ولاية علي وذريته (علیهم السلام)(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «وطاعتنا طاعة الله، ومعصيتنا معصية الله عزوجل»(3).

وقال (علیه السلام): «نحن قوم فرض الله طاعتنا في القرآن»(4).

وقال (علیه السلام): «إن الله تبارك وتعالى أوجب عليكم حبنا وموالاتنا وفرض عليكم طاعتنا»(5).

وقال (علیه السلام): «طاعتنا فريضة، وحبنا إيمان، وبغضنا كفر»(6).

حماية حماة الشريعة

مسألة: يجب إيجاد الشروط والظروف الموضوعية التي توفر الدعم والحماية لمن هم (علیهم السلام) بأقوالهم وسيرتهم السبب في نظام الشريعة؛فإن حمايتهم حماية للشريعة نفسها،قال تعالى: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى»(7).

فإنه يستفاد من كلامها (علیها السلام) أمران:

ص: 381


1- سورة آل عمران: 103.
2- راجع تفسير العياشي: ج1 ص194 من سورة آل عمران ح122و123.
3- بحار الأنوار: ج36 ص228 ب41 ح6.
4- وسائل الشيعة: ج9 ص532 ب1 ح12645.
5- مستدرك الوسائل: ج14 ص10 ب2 ح15958.
6- بحار الأنوار: ج26 ص252 ب5 ح24.
7- سورة المائدة: 2.

..............................

الأول: لزوم النظام للملة أولاً وبالذات، وهذا أمر عقلي قبل أن يكون شرعياً(1).

الثاني: إن هؤلاء المعصومين(علیهم السلام) هم الذين ينظمون الملة، وهذا شرعي من باب الأدلة النقلية الوفيرة، وعقلي من باب انطباق المواصفات اللازمة (علیهم السلام) دون غيرهم(2).

فإن ملة الإسلام تنتظم أمورها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتربوية والعسكرية والعائلية والمعاملية وغيرها بطاعة المعصومين (علیهم السلام)؛ وذلك لأن التشريعاتالإلهية والأحكام النبوية التي يتولونها توجب النظم وعدم الفوضى والخلل والاضمحلال.

و(الملة) بملاحظة مادتها قد تفيد معنى مل(3) بمعنى الملل؛ لأن الطريقة الوحيدة المتبعة توجب التكرار المسبب للملال غالباً، هذا من جهة اللفظ.

أما الواقع فإن الصحيح والمستقيم والحق هو الذي لا يمل وإن تكرر، ولذا لا يمل ضوء النهار وجريان الأنهار وغير ذلك من الأمور التكوينية على تكررها، وكذا الحال في الأمور التشريعية، فإنه لا يحيد أي عاقل عن الصحيح إلى غير الصحيح وإن تكرر الصحيح. نعم، من كان منحرفاً في ذاته ربما رجح الباطل.

ص: 382


1- راجع موسوعة الفقه: كتاب القانون.
2- راجع كتاب (الألفين) للعلامة الحلي (قدس سره).
3- على القول بأن المصدر مشتق من الفعل الأمر واضح، وأما على العكس فليس المقصود - كما هو واضح - الاشتقاق إذ هذا بلحاظ الصورة بل الجامع، وقد أشار الإمام المؤلف (قدس سره) إلى ذلك بكلمة (مادتها).

وإمامتنا أماناً للفرقة

اشارة

-------------------------------------------

وإمامتنا أماناً للفرقة(1)،

الاعتقاد بالإمامة

الاعتقاد بالإمامة (2)

مسألة: يجب الاعتقاد بإمامة أهل البيت (علیهم السلام) كما يجب إرشاد الناس لذلك، على ما يستفاد من (جعل الله…إمامتنا)، ولغير ذلك من الأدلة الكثيرة المذكورة في مظانها.

إذ جعل الإمامة أماناً، إنما هو بالجعل المركب، وجعلها هي بسيط، والإمامة غير الطاعة، فالإمامة مقدمة على الطاعة رتبةً كتقدم السبب على المسبب(3) فإذا لم يعتقد إنسان بإمامتهم (علیهم السلام) أتخذ لنفسه إماماً آخر، وهذا يوجب الفرقة كما لا يخفى، وقد حصل بالفعل بعد أن اتخذ الكثير من الناس أئمة غيرهم (علیهم السلام).

ولربما اعتقد شخص بالإمامة ولم يطع، أو أطاع ولم يعتقد، ولربما كانتالإمامة ولم توجد الإطاعة، أو بالعكس، فالنسبة بينهما عموم من وجه.

ص: 383


1- وفي بعض النسخ: «وإمامتنا لماً للفرقة» - راجع دلائل الإمامة: ص33 حديث فدك، وكشف الغمة: ج1 ص483 فاطمة (علیها السلام)، وفي بعضها: «وإمامتنا أمناً من الفرقة» - راجع بلاغات النساء: ص28 كلام فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) -.
2- حول مبحث الإمامة، راجع (نهج الحق وكشف الصدق) للعلامة الحلي (رحمة الله) و(المراجعات) و(العقبات) و(الغدير) و(دلائل الصدق) و (إحقاق الحق) وغيرها.
3- فإن الإمامة علة وجوب الإطاعة، ولا تخفى الدقة في تعبيره ب (كتقدم).

..............................

التفرق عن سبيل الله

مسألة: تحرم الفرقة والتفرق في الجملة، وقد يكره حسب الموارد المختلفة، قال سبحانه: «فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ»(1)، وقال جل وعلا: «لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ»(2)، إلى غير ذلك من الآيات والروايات.

قال (علیه السلام): «وإياكم والتفرق»(3)، وقال (علیه السلام) : «ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة»(4)، وقال (علیه السلام): «وإياكم والفرقة»(5).

ومن الواضح أن التفرق عن سبيل الله هو المحرم، أما التفرق في سبيل اللهوإلى الله، كما في «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ»(6) فهو المطلوب.

السعي لتحقيق فعلية حاكميتهم (علیهم السلام)

مسألة: يجب السعي لتحقيق فعلية سلطتهم وحاكميتهم (علیهم السلام) باعتبارها هي (الأمان من الفرقة)؛ فإن واقع الإمامة غير السلطة وبسط النفوذ والسيطرة، وتنبيه الناس وإرشادهم إلى الواقع من المقدمات لذلك، أي أنها من الأسباب

ص: 384


1- سورة الأنعام: 153.
2- سورة الشورى: 13.
3- نهج البلاغة، الرسائل: 11 ومن وصية له (علیه السلام) وصى بها جيشاً بعثه إلى العدو.
4- الإرشاد: ج2 ص41.
5- نهج البلاغة، الخطب: 127 ومن كلام له (علیه السلام) وفيه يبين بعض أحكام الدين ويكشف للخوارج الشبهة وينقض حكم الحكمين.
6- سورة البقرة: 213.

..............................

التي تؤدي إلى فعلية السلطة والحاكمية، فتحقق فعلية (الأمن من الفرقة).

قولها (علیها السلام): «وإمامتنا أماناً للفرقة» فإن هذا غير الإطاعة، فقد يطيع الإنسان شخصاً ولا يتخذه إماماً، فكان لابدّ من إضافة هذه الجملة: (إمامتنا) على الجملة السابقة.

ثم إن الإطاعة ليست بمفردها هي الضمان من الفرقة، إذ الفرقة عقائديةونفسية وعملية، والإطاعة قد تكون ضماناًُ من الأخيرة فقط، أما من يتخذهم (علیهم السلام) أئمة فإنهم (علیهم السلام) أمان من الفرقة، إذ الباطل دائماً يضرب بعض الناس ببعض ليسود، قال سبحانه: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَْرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً»(1).

وفي المثل الباطل: (فرّق تسد).

أما هم (علیهم السلام) فإنهم يعطون كل ذي حق حقه، ويتيحون الفرص للجميع على حسب قول علي (علیه السلام):

«الناس من جهة التمثال أكفاء *** أبوهم آدم والأم حواء»(2)

وكذلك يؤلفون بين القلوب ويجمعون الكلمة على التقوى، ويزرعون روح الأخوة الإيمانية والتعاون، وحين ذاك يكون الناس مأمونين من الاختلاف والتفرقة عملياً، كما أنهم يأمنون - بالاعتقاد بإمامتهم (علیهم السلام) - من التفرقة العقائدية.

وقد تقدم أنها (علیها السلام) أشارت إلى (الإمامة) التي من أصولالدين الخمسة،

ص: 385


1- سورة القصص: 4.
2- الديوان المنسوب إلى أمير المؤمنين (علیه السلام): ص24 الناس من جهة التمثال أكفاء.

..............................

ومن ذلك يظهر أن (الإمامة) بمعنى الرئاسة العامة الفعلية هي أمان فعلي من الفرقة - عكس رئاسة الغير - التي هي ليست أماناً من الفرقة.

أما (الإمامة) بمعنى ذلك المنصب الإلهي فهي بحد ذاتها مقتض للأمن من الفرقة، ويوضح ذلك بكلا شقيه الحال في الأنبياء والرسل (علیهم السلام)، فإذا اعتقد الناس بها - كما أمرهم الله تعالى به أمراً تشريعياً - واتخذوها الدليل والمرشد والمنهج الراسم لمسيرة حياتهم في شتى الأبعاد، كانت أماناً بالفعل.

ومن الواضح أن وكلاءهم (علیهم السلام) امتداد لهم، وإتباعهم وسلطتهم - بما هم وكلاء لهم - شعبة من إطاعتهم والاهتداء بهديهم (علیهم السلام).

قال (علیه السلام): «فإني قد جعلته عليكم حاكماً»(1).

وقال (عجل الله تعالى فرجه الشريف):«فللعوام أن يقلدوه»(2).

ص: 386


1- تهذيب الأحكام: ج6 ص218 ب87 ح6، والتهذيب: ج6 ص302 ب92 ح52.
2- وسائل الشيعة: ج27 ص131 ب10 ح33401.

والجهاد عزاً للإسلام

اشارة

-------------------------------------------

والجهاد عزاً للإسلام(1)،

الجهاد في سبيل الله

الجهاد في سبيل الله(2)

مسألة: يجب الجهاد في سبيل الله تعالى، والمراد بالجهاد ما ذكر في (الفقه) بأقسامه الثلاثة: الابتدائي والدفاعي والبغاة، لا جهاد النفس، إذ المنصرف منه ذلك وبقرينة قولها: «عزاً للإسلام».

وإن كان جهاد النفس أيضاً من الواجبات بل سماه رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الجهاد الأكبر»(3)، وقد يكون ذلك نظراً لأصعبيته من جهات عديدة، إذ يستمرطوال حياة كل فرد، ويواجه مختلف شهوات النفس: من حب المال والرئاسة، والرياء والسمعة، والكبر والعجب، وحفظ اللسان واليد والعين والسمع و...

قولها (علیها السلام): «والجهاد عزاً للإسلام»؛ لأن أعداء الإسلام يحاولون - باستمرار - النفوذ إلى داخل بلاد المسلمين، والسيطرة على مقدراتهم - بشكل أو بآخر - فالجهاد يكون وقاية أو علاجاً(4) رفعاً أو دفعاً، كما يكون سبباً لتقدم بلاد

ص: 387


1- وفي بعض النسخ: «وحبنا عزاً للإسلام» - راجع بلاغات النساء: ص28 كلام فاطمة (علیها السلام) بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) - فيدل على وجوب محبة أهل البيت (علیهم السلام) كما يدل على ذلك الآيات الشريفة ومتواتر الروايات، قال تعالى: «قُلْ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» سورة الشورى: 23.
2- راجع موسوعة الفقه: ج47-48 كتاب الجهاد.
3- الكافي: ج5 ص12 باب وجوه الجهاد ح3.
4- الوقاية في الجهاد الابتدائي، والعلاج في الجهاد الدفاعي.

..............................

الإسلام، ويكون سبباً لإرجاع المنحرف إلى الصراط المستقيم، إذ الجهاد ابتدائي ودفاعي وإصلاحي..

كما قال سبحانه: «وَإِنْ طَائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُما عَلَى الأُخْرى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّه»(1).

إعزاز الإسلام واجب

مسألة: كل ما يوجب عز الإسلام فهو واجب أو مستحب، فإذا كان وجوب الجهاد لأجل إعزاز الإسلام كان كل ما يوجب عزه راجحاً، وقد يصل إلى مرحلة الوجوب، باعتبار أن (العزة) ذات مراتب، بعضها واجب التحصيل وبعضها مندوب.

فمثلاً (شعائر الله) بعضها واجب وبعضها مستحب، على حسب مالها من المدخلية في (عز الإسلام) كأحد الملاكات، كما لا يخفى(2).

ص: 388


1- سورة الحجرات: 9.
2- أي أن (عز الإسلام) أحد الأسباب التي تقتضي الوجوب أو الاستحباب وليس الأمر منحصراً به، فلربما يجب الشيء لجهة أخرى.

والصبر معونة على استيجاب الأجر

اشارة

-------------------------------------------

والصبر معونة على استيجاب الأجر(1)،

الصبر

الصبر(2)

مسألة: يجب الصبر في موارد، ويستحب في موارد أخرى، كما سيأتي.

وحيث أطلقت (علیها السلام) (الصبر) شمل الصبر على أداء الواجبات، والصبر عن المحرمات، والصبر في النوازل والمصائب والمشاكل الشخصية والعائلية والاجتماعية بمختلف أبعادها، كما ورد في الحديث: «الصبر على ثلاثة أوجه: فصبر على المصيبة، وصبر عن المعصية، وصبر على الطاعة»(3).

ومن الواضح أن الصبر في هذه المواطن المذكورة بين واجب ومستحب، كالكثير من الأحكام الجوارحية والجوانحية الأخرى.

وإلى الأقسام الثلاثة من الصبر أشارت الآيات الكريمة:قال تعالى: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا»(4).

وقال سبحانه: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ»(5).

وقال تعالى: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ»(6).

ص: 389


1- وفي بعض النسخ: «والصبر معونة على الاستجابة» راجع دلائل الإمامة: ص33 حديث فدك .
2- راجع (الفضيلة الإسلامية) للإمام المؤلف (قدس سره)، وجامع السعادات) للمولى النراقي (قدس سره).
3- بحار الأنوار: ج74 ص422 ب15 ضمن ح40.
4- سورة طه: 132.
5- سورة القلم: 48، سورة الإنسان: 24.
6- سورة الكهف: 28.

..............................

وقال سبحانه: «فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ»(1).

وقال تعالى: «وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ»(2).

إلى غير ذلك من الآيات الشريفة.

وحيث إنها (علیها السلام) كانت في صدد بيان بعض الفروع المهمة التي لها مدخلية في قوة المجتمع واستقامته وتقدمه ذكرت الصبر؛ إذ «الصبر مفتاح الفرج»(3)، وسبب التقدم، ويدفع الإنسانعلى تحمل ما يوجب له الأجر في الدنيا والآخرة، قال سبحانه: «وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ»(4).

فإنه لا يتقدم متقدم في أي بعد من أبعاد الحياة - سواء كان فرداً أم أمة أم جماعة - إلاّ بالصبر، قال تعالى: «إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ»(5). ولذا قال علي (علیه السلام): «اعلموا أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس له»(6).

وفي الحديث: «ولا إيمان لمن لا صبر له»(7).

وقال (علیه السلام): «نعم عون الدين الصبر»(8).

ص: 390


1- سورة الأحقاف: 35.
2- سورة البقرة: 177.
3- شرح نهج البلاغة: ج20 ص307 الحكم المنسوبة 514.
4- سورة الشورى: 43.
5- سورة الأنفال: 65.
6- الخصال: ج1 ص315 خمسة لو رحل الناس فيهن ما قدروا على مثلهن ح96.
7- الكافي: ج2 ص89 باب الصبر ح4.
8- مستدرك الوسائل: ج17 ص347 ب1 ح21542.

..............................

وقال (علیه السلام): «أفضل العبادةالصبر»(1).

وقال (علیه السلام): «الزم الصبر؛ فإن الصبر حلو العاقبة، ميمون المغبة»(2).

ومن الواضح - بعد ذلك - أن الصبر حالة إيجابية، ولذا قال تعالى: «اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ»(3) وليس حالة سلبية؛ فإنه يعني الصبر على مشاق الطاعات كالصلاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر عن إتيان المحرمات.

أما الصبر في مشاق الحياة فهو يعني تحملها بجلد دون الانهيار تحت وطأتها «إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ»(4) فيما لا قدرة للإنسان على الخلاص منها - دائماً أو لفترة - كمرض ميئوس منه أو سجن لا مخلص للإنسان منه.

أما إذا كان له طريق للخلاص من المرض أو الفقر أو سجن الحاكم الجائر أو ما أشبه ذلك من مشاكلالحياة، فعليه أن يسعى للخلاص منه. ف: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ»(5).

وقال تعالى: «رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ»(6).

ص: 391


1- الإرشاد: ج1 ص302 ومن كلامه (علیه السلام) في وصف الإنسان.
2- غرر الحكم: ص284 ق3 ب2 ف7 جملة من فوائد الصبر ح6353.
3- سورة البقرة: 153.
4- سورة هود: 11.
5- سورة الرعد: 11.
6- سورة البقرة: 250.

..............................

لا أن يبقى الإنسان على الوضع الذي هو فيه - مما لا يريده الله سبحانه - مدعياً الصبر(1)، قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا»(2).

السعي لاستحقاق الأجر والثواب

مسألة: يجب - في الجملة - القيام بما يوجب استحقاق الأجر والثواب، وهو الذي اعتبرته (علیها السلام) العلةلجعله جل وعلا (الصبر).

و«استيجاب الأجر»، أي استحقاقه(3)، كما ورد في الدعاء:

«من غير استحقاق لاستماعك مني ولا استيجاب لعفوك عني»(4).

و: «وباعدتني عن استيجاب مغفرتك»(5).

وفي الصحيفة السجادية: «ولا يبرئ نفسه من استيجاب نقمتك»(6).

وقد يجيء باب الاستفعال بمعنى الفعأل المجرد(7) فيكون الصبر - على هذا -

ص: 392


1- راجع (الفضيلة الإسلامية) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- سورة النساء: 97.
3- استوجب الشيء استيجاباً: استحقه. راجع لسان العرب: ج1 ص793 مادة وجب.
4- المصباح للكفعمي: ص589 دعاء السحر لعلي بن الحسين (علیه السلام) رواه حمزة الثمالي.
5- بحار الأنوار: ج91 ص347 ب46 ح4.
6- الصحيفة السجادية الكاملة: ص170 الدعاء 39 وكان من دعائه (علیه السلام) في طلب العفو والرحمة.
7- راجع (البلاغة) للإمام المؤلف (قدس سره)، فيكون الاستيجاب بمعنى الوجوب، واستيجاب الأجر أي: وجوبه، والوجوب هو الثبوت واللزوم.

..............................

معونة على ثبوت الأجر ولزومه.

فإن العمل الصالح يحتاج إلى لزوم أجره وثبوته بنحو العلة المبقية، وكثير من الناس من يحبط عمله ب (الجزع) مثلاً.

فالصبر هو المعين على دوام الأجر وعدم حبطه، قال (علیه السلام): «من أعطي الصبر لم يحرم الأجر»(1).

وحيث إن (الأجر) بين ما يجب عقلاً تحصيله أو المحافظة عليه، وبين ما يستحب، كان إتيان وإنجاز ما يوجبه بين واجب ومستحب، فمثلاً:

الفقير الذي يكتسب لقوت يومه وقوت عياله يجب عليه العمل لاستيجاب الأجر الذي يوفر لهم المأكل والملبس، أما الزائد منه على قدر الضرورة فهو مستحب.

و(الأجر) قد ينصرف للأجر الإلهي، ولكنه لغة وعرفاً يطلق على الأجر الدنيوي منه والأخروي، وربما يستظهر من كلامها (علیها السلام) إرادة الأعم، وقد يؤيد ذلك بقرينة السياق، فتأمل.

ص: 393


1- وسائل الشيعة: ج7 ص28 ب2 ح8622.

والأمر بالمعروف مصلحة للعامة،

اشارة

-------------------------------------------

وجوب الأمر بالمعروف

وجوب الأمر بالمعروف(1)

مسألة: يجب الأمر بالمعروف في الجملة، فإن كان المعروف واجباً وجب، وإن كان مستحباً استحب إلاّ لو طرأ عليه عنوان ثانوي فقد يجب حينئذ.

قال تعالى: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ»(2).

وهو واجب كفائي، فإن قام به من فيه الكفاية وإلاّ وجب على الجميع.

وقوله تعالى: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ»(3) قد يفيد ضرورة تفرغ أو تخصص مجموعة لذلك، وكان ذلك من أسباب تفرغ رجال الدين للهداية والتبليغ على مر العصور.

ولا يبعد أن يراد ب (الأمر بالمعروف) هنا: الأعم منه ومن النهيعن المنكر، لإطلاق كل واحد منهما على الآخر إذا انفرد، فإن الأمر بالصلاة وكذلك النهي عن شرب الخمر كلاهما أمر بالمعروف توسعاً(4).

ص: 394


1- راجع موسوعة الفقه: ج48 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2- سورة آل عمران: 104.
3- سورة آل عمران: 104.
4- أي: أنه مجاز للتلازم بينهما، إذ كل نهي عن المنكر يستلزم عقلاً وعرفاً الأمر بضده، فالنهي عن شرب الخمر يستلزم الأمر بترك شربه.

..............................

وقد وصف سبحانه وتعالى الأمة بأنها «خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» (1)؛ لأنها اتصفت ب: «تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» (2)، ولا يخفى ما لجعل الأمر والنهي في سياق الإيمان بالله من الدلالة على أهميتها.

وفي الحديث:

«فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه، لعلمه بأنها إذا أديت وأقيمت استقامت الفرائض كلها، هيّنها وصعبها... »(3).

قال (علیه السلام): «غاية الدينالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(4).

وقال (علیه السلام): «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله، فمن نصرهما أعزه الله، ومن خذلهما خذله الله»(5).

وقال (علیه السلام): «الأمر بالمعروف أفضل أعمال الخلق»(6).

ص: 395


1- سورة آل عمران: 110.
2- سورة آل عمران: 110.
3- بحار الأنوار: ج97 ص79 ب1 ح37.
4- مستدرك الوسائل: ج12 ص185 ب1 ضمن ح13837.
5- الكافي: ج5 ص59 باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ح11.
6- مستدرك الوسائل: ج12 ص185 ب1 ح13837.

..............................

مراعاة المصلحة العامة

مسألة: تجب مراعاة المصلحة العامة، وإنما استفيد من هذه الجملة وجوب مراعاة المصلحة العامة - مع قطع النظر عن الأدلة العقلية والنقلية الأخرى الدالة على ذلك - لأنها (علیها السلام) جعلتها العلة الغائية لجعله سبحانه وتعالى (الأمر بالمعروف)، فقد أوجبه جل وعلا لأنه الطريق لمصلحة العامة، فلولا وجوبها لما ترشح الوجوب إلى الوسيلة والسبب، فتدبر. وغير خفي أن ذلك غير ما ذهبوا إليه من (المصالح المرسلة)(1).

فليست (المصلحة العامة) مشرّعة، بل إنها تنقح موضوع القواعد الأولية والثانوية، وقد أوضحنا في العديد من الكتب أن الشؤون العامة يكون المرجع فيها هو (شورى الفقهاء المراجع)(2).ومن البين أن مصلحة العامة على قسمين:

1. مصلحة لازمة تمنع النقيض.

2. ومصلحة ليست بتلك الدرجة.

فالمانعة من النقيض واجبة، والراجحة مستحبة.

ص: 396


1- راجع (الأصول)، و(الوصائل إلى الرسائل)، و(الفقه: القانون) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- يراجع حول هذا المبحث الكتب التالية: (موسوعة الفقه: كتاب البيع ج4و5)، و(الشورى في الإسلام)، و(الفقه: الدولة الإسلامية) للإمام المؤلف (قدس سره)، وكذلك (شورى الفقهاء المراجع) للشيخ ناصر الأسدي، و(شورى الفقهاء دراسة فقهية أصولية) لآية الله السيد مرتضى الشيرازي.

..............................

كما أنه يعلم مما تقدم أنه أعم مما ينهى عنه أو يأمر به.

قولها (صلوات الله عليها): «مصلحة للعامة»؛ لأن بالأمر بالمعروف تستقيم أمور العامة وتهتدي إلى سبل الرشاد، وبتركه تنحرف إلى ما يفسد دينهم ودنياهم.

ومن مصاديق ذلك ما أشارت إليه الرواية الشريفة: «لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم»(1).

ويظهر من الروايات الشريفة ومن التدبر الكامل في أبعاد القضايا أنهيخطئ من يتصور أن تركه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - سواء كان منكراً صادراً من الحكومة أم من آحاد الناس - يخلصه من المشاكل ويجعله بمنحي عن البلاء، فقد قال الإمام علي (علیه السلام): «واعلما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقربان من أجل، ولا ينقصان من رزق»(2).

ولو تخلص من بلاء لأوقعه الله في بلاء أشد ولو بعد حين، كما في الرواية الآنفة: «ليستعملن».

ص: 397


1- الكافي: ج5 ص56 باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ح3.
2- نهج البلاغة، الخطب: 156 ومن كلام له (علیه السلام) خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم، نهج البلاغة، قصار الحكم: 374.

..............................

بيان الأحكام

مسألة: يجب بيان الأحكام الشرعية للناس وجوباً كفائياً عموماً، ويمكن بيانها في الخطاب أيضاً، كما بينت الزهراء (علیها السلام) قسماً من الواجبات والمحرمات في خطبتها.

فإنها (عليها الصلاة والسلام) على حسب اقتضاء المقام بينت قسماً من الأحكام الشرعية للناس، وهي أسوة، والفعل - وكلامها من هذه الجهة من مصاديقه - في أمثال المقام دليل الرجحان الأعم من الوجوب والاستحباب.

قال (علیه السلام): «بينوا ما ذكره الله»(1).

وقال (علیه السلام): «بينوا للناس الهدى الذي أنتم عليه»(2).

وقال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُوَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ»(3).

وقال سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»(4).

ص: 398


1- بحار الأنوار: ج36 ص108 ب39 ح57.
2- تصحيح الاعتقاد: ص71 فصل في النهي عن الجدال.
3- سورة البقرة: 159.
4- سورة البقرة: 174.

وبر الوالدين وقاية من السخط

اشارة

-------------------------------------------

وبر الوالدين وقاية من السخط(1)،

البر بالوالدين

البر بالوالدين(2)

مسألة: البر بالوالدين - في الجملة - واجب على ما هو مفصل في الفقه، قال الله تعالى عن لسان النبي عيسى (علیه السلام): «وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا»(3).

وعن يحيى (علیه السلام) قال تعالى: «وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا»(4).

وربما يظهر منه أن البر في مقابل التجبر والشقاوة والمعصية، وحيث إن التجبر والعصيان محرم فالبر واجب، فتأمل.

هذا إضافة إلى وقوعه في سياق الصلاة والزكاة وكونه وصية الله سبحانه الظاهرة - لولا القرينة - في الوجوب.والآيتان - بمعونة استصحاب الشرائع السابقة، بل دلالة الروايات على ذلك - كفيلتان بالمطلوب، فتأمل. قال تعالى: «وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً»(5) ولشفع الإحسان بالوالدين ب «لا تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ» ولقوله: «قَضَى» أكبر الدلالة، كما لا يخفى.

ص: 399


1- وفي بعض النسخ: «السخطة» - راجع كشف الغمة: ج1 ص484 فاطمة (علیها السلام) -.
2- حول هذا المبحث يراجع: (الفقه: الواجبات والمحرمات)، و(الفقه: الآداب والسنن)، و(الفضيلة الإسلامية)، و(الأخلاق الإسلامية)، للإمام المؤلف (قدس سره).
3- سورة مريم: 32.
4- سورة مريم: 14.
5- سورة الإسراء: 23.

..............................

وقال سبحانه: «أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ»(1).

وقال تعالى: «وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ»(2).

نعم، من البر ما هو مستحب أيضاً وهو الزائد على القدر الواجب، وقد ذكر هذا المبحث مفصلاً في علمي الأخلاق(3) والفقه.

قال (علیه السلام): «بر الوالدينواجب وإن كانا مشركين»(4).

وقال (علیه السلام): «بر الوالدين أكبر فريضة»(5).

وقال (علیه السلام): «بر الوالدين وصلة الرحم يزيدان في الأجل»(6).

إسخاط الوالدين

مسألة: يحرم ما يوجب سخط الوالدين، أو سخط الله سبحانه وتعالى، أو كليهما؛ لأن الألف واللام في (السخط)(7) قد يكون عوضاً عن المضاف إليه وهو الله تعالى، أو الوالدين، أو كليهما، أي (وقاية من سخط الله أو الوالدين أو...) أو إنه للجنس مثلاً.

ص: 400


1- سورة لقمان: 14.
2- سورة العنكبوت: 8، سورة لقمان: 14، سورة الأحقاف: 15.
3- راجع جامع السعادات للمولى النراقي (قدس سره).
4- وسائل الشيعة: ج16 ص155 ب11 ح21229.
5- مستدرك الوسائل: ج15 ص178 ب68 ح17924.
6- بحار الأنوار: ج71 ص83 ب2 ضمن ح90.
7- في قولها (علیها السلام): «وقاية من السخط».

..............................

قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): «رضا الله مع رضا الوالدين، وسخط الله مع سخط الوالدين»(1).وقال (صلی الله علیه و آله): «يا علي، رضا الله كله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخطهما»(2).

وقال (علیه السلام): «فإن رضاهما رضاء الله، وسخطهما سخط الله»(3).

ولا يخفى أن جملة من العلماء ذهبوا إلى عدم وجوب طاعة الوالدين إلاّ فيما إذا أوجب عدم الطاعة أذاهما لا مطلقاً.

ثم المستثنى أيضاً ليس على إطلاقه، فلو تأذى الوالدان من تجارة الولد مثلاً ونهياه عن العمل مطلقاً، أو عن خصوص التجارة منه مثلاً، أو أمراه بطلاق زوجته خصوصاً إذا كان له منها أولاد، لا تجب عليه الطاعة حتى لو أدى ذلك إلى سخطهما وأذاهما وعدم رضاهما؛ لأن إطلاقات أدلة (الطاعة) و(البر) منصرفة عن أمثال ذلك(4).

ص: 401


1- روضة الواعظين: ص368 مجلس في ذكر وجوب بر الوالدين.
2- جامع الأخبار: ص83 ف40.
3- تفسير القمي: ج2 ص149 سورة العنكبوت.
4- راجع موسوعة الفقه: ج93 كتاب المحرمات ص259 وفيه: (ثم إنهما إذا تأذيا لعدم إطاعة الولد لهما، فالظاهر أنه إذا كان أمرهما يوجب هدم حياة الولد العادية لم تجب الطاعة وإلا وجبت؛ لانصراف النصوص عن مثل ذلك، فإذا قال الوالدان لولدهما: تزوج بالبنت الفلانية، أو لا تسافر في تجارتك الكذائية، أو افتح دكاناً في المحل الفلاني لا المحل الفلاني، أو طلّق زوجتك، أو ما أشبه ذلك، لم يجب على الولد الطاعة بل له المخالفة وجريه العادي لكن مع التأدب في الكلام والملايمة في التخلص، والبحث بالنسبة إلى حقوق الوالدين وعقوقهما طويل، والروايات في الأمرين كثيرة نكتفي منه بهذا القدر)، انتهى.

..............................

و(السخط) يعني: الغضب والكره(1).

هذا ويحتمل أن يكون المراد من (السخط) هو السخط التكويني(2)؛ لأن عدم برّ الوالدين يؤدي إلى انفصام المجتمع وتشققه وتفككه وكراهية بعضه لبعض، إذ الأبناء إذا لم يبروا آباءهم لم يبرهم أبناؤهم، بل كان ذلك مقتضياً لعدم تعاون إخوانهم وسائر أقاربهم معهم، وإذا انفصمت العائلة انفصم الاجتماع وتفكك(3)، وهو من أكبر أقسام السخط، ويؤيد الثاني: إن أغلب العلل عقلية، واللام هنا قد تكون للعهد الذهني،فتأمل.

ص: 402


1- وفي لسان العرب: ج7 ص312 مادة سخط: (السٌخط والسَخط: ضد الرضا... وسخط الشيء سخطاً: كرهه، وسخط أي غضب فهو ساخط، وأسخطه: أغضبه، تقول: أسخطني فلان فسخطت سخطاً... السَخط والسخط: الكراهية للشيء وعدم الرضا به).
2- فينبغي على هذا تفسير السخط ب (الكره) كما هو أحد معانيه لا (الغضب)، فتأمل.
3- راجع كتاب (العائلة) للإمام المؤلف (قدس سره).

وصلة الأرحام منسأة في العمر، ومنماة للعدد

اشارة

-------------------------------------------

وصلة الأرحام منسأة في العمر، ومنماة للعدد(1)،

صلة الأرحام

مسألة: تجب صلة الأرحام، وتستحب بعض درجاتها، كما تستحب في بعض الأرحام، أصلاً وفصلاً، قال تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَائَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «صلة الرحم تزيد في العمر»(3).

وقال (علیه السلام): «صلة الأرحام تزكي الأعمال»(4).

وقال (علیه السلام): «صلة الأرحام تثمر الأموال، وتنسئ في الآجال»(5).

وقال (علیه السلام): «صلة الرحمتزيد في الرزق»(6).

وكل من (الصلة)(7) و(الأرحام)(8)موضوعان عرفيان، بمعنى: إن العرف

ص: 403


1- وفي بعض النسخ: «وصلة الأرحام منماة للعدد وزيادة في العمر» راجع دلائل الإمامة: ص33 حديث فدك.
2- سورة النساء: 1.
3- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص368 باب النوادر وهو آخر أبواب الكتاب ح5762.
4- الكافي: ج2 ص150 باب صلة الرحم ح4، والكافي: ج2 ص152 باب صلة الرحم ح13.
5- مستدرك الوسائل: ج15 ص250 ب11 ضمن ح18143.
6- وسائل الشيعة: ج15 ص347 ب49 ح20704.
7- الصلة هنا بمعنى: البر - مجمع البحرين: ج5 ص492 مادة وصل.
8- الرحم: من يجمع بينك وبينه نسب - مجمع البحرين: ج6 ص70 مادة رحم - فيخرج بذلك الترابط السببي كأقارب الزوجة للزوج وبالعكس. وفي لسان العرب: ج12 ص232 مادة رحم -: (الرحم: القرابة، وذو الرحم هم القرابة، وخصها البعض بالقرابة من جهة الأب)، وقيدها بعض بنمط آخر: (المحارم الذين يحرم التناكح بينهم). والصحيح ما ذهب إليه المؤلف (رحمة الله)، والذي يبدو أن المعنى العرفي له: هو القرابة النسبية بمعنى كل ذي رحم وإن بعد ولكن إلى الحد الذي يسميه العرف رحماً. راجع سفينة البحار: مادة رحم.

..............................

هو المرجع في تشخيص ما هو صلة وما ليس بصلة، ومن هو رحم ومن ليس برحم.

نعم، لا يبعد الفرق بين الأرحام القريبة والبعيدة(1) وربما يحتمل أن الرحم البعيدة البعيدة جداً - ممايصدق عليها مع ذلك رحم لا كمثل القرابة معه في آدم وحواء (علیهما السلام) - يستحب صلتها وليست بواجبة.

قطع الرحم

مسألة: وكما تجب صلة الرحم يحرم قطعها، والكلام في القطع هو الكلام في صلة الرحم، من جهة الخصوصيات موضوعاً وحكماً، مضافاً ومضافاً إليه، وقد ذهب العديد من الفقهاء(2)- وهو المختار - إلى أن قطع الرحم ليست معصية فحسب بل هي من الكبائر أيضاً، قال تعالى: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (علیهم السلام) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ»(3).

ص: 404


1- أي في مراتب الاستحباب مثلاً.
2- ومنهم الشهيد (قدس سره) في (القواعد)، وراجع أيضاً موسوعة الفقه: ج93 كتاب المحرمات ص305، وفيه: (لا إشكال في أن قطع الرحم من الكبائر، وكل واحد من الرحم والقطع موضوعان عرفيان، وفي مورد الشك المرجع الأصول).
3- سورة محمد: 22-23.

..............................

وقال الصادق (علیه السلام): «لا يجد ريح الجنة عاق ولا قاطع رحم»(1).وقال (علیه السلام): «من قطع رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه»(2).

وقال (علیه السلام): «ما آمن بالله من قطع رحمه»(3).

السعي لطول العمر

السعي لطول العمر(4)

مسألة: يستحب أن يأتي الإنسان بما يؤدي إلى طول عمره من الأسباب والعوامل الجسمانية والنفسانية والغيبية، إذ قد ذكرت (علیها السلام) أن الله سبحانه جعل لصلة الرحم - الواجبة في الجملة والراجحة مطلقاً - طول العمر ثواباً وجزاءً، وقد تقدم وجه الاستدلال، وقد ورد: «وأن تطيل عمري وتمد في أجلي»(5)، و: «وأن تجعل فيما تقضي وتقدر أن تطيل عمري»(6)، و: «أسألك أن تطيل عمري فيطاعتك»(7)، و: «وأن تصلي على محمد وآل محمد وأن تطيل عمري»(8)، و: «وطول العمر وحسن الشكر»(9)، وما أشبه ذلك.

ص: 405


1- تهذيب الأحكام: ج8 ص113 ب5 ح39.
2- فضائل الأشهر الثلاثة: ص78 كتاب فضائل شهر رمضان ح61.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص407 ق6 ب1 ف2 قطع الرحم وذمه ح9327.
4- راجع موسوعة الفقه: كتاب المسائل المتجددة، للإمام المؤلف (رحمة الله).
5- العدد القوية: ص381 اليوم الثلاثون.
6- تهذيب الأحكام: ج3 ص115 دعاء أول يوم من شهر رمضان.
7- بحار الأنوار: ج94 ص358 ب3 ح1.
8- العدد القوية: ص381 اليوم الثلاثون.
9- تهذيب الأحكام: ج3 ص123 وداع شهر رمضان ح39.

..............................

ولما سُئل (صلی الله علیه و آله) عن السعادة؟. قال: «طول العمر في طاعة الله»(1).

أما سؤال علي (عليه الصلاة والسلام) (2) والزهراء (صلوات

الله عليها) من الله تعالى الموت - كما هو المشهور(3) فهوللتزاحم من باب قاعدة (الأهم والمهم) ولبيان المظلومية وغير ذلك.

هذا وقد قال تعالى مخاطباً اليهود: «قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (علیهم السلام) وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ»(4).

ثم إن تأثير صلة الرحم في طول العمر وزيادة العدد، يمكن أن يكون بالأسباب الغيبية، ويمكن أن يكون بالأسباب الظاهرية؛ فإن من يصل رحمه يكون مرتاح الوجدان، مطمئن الضمير، واطمئنان الضمير وسكون النفس يوجبان طول العمر، لتأثير كل من الروح والبدن في الآخر، كما ذكرناه في مبحث آخر من هذا الكتاب.

إضافة إلى أن صلة الرحم يوجب الحيلولة دون كثير من النزاعات - التي

ص: 406


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج1 ص92 بيان السبب الذي ينال به حسن الخلق على الجملة.
2- ربما يكون إشارة إلى قوله (علیه السلام): «اللهم إني قد مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم خيرا...» انظر بحار الأنوار: ج39 ص19 ب31.
3- راجع بحار الأنوار: ج43 ص177 ب7 ح15، وفيه: عن فضة: أن فاطمة الزهراء (علیها السلام) كانت تقول: «يا إلهي عجل وفاتي سريعاً». وفي علل الشرائع: ج1 ص43 ب38 ح1، عن نبي من الأنبياء (علیهم السلام) أنه قال: «سيدي قد ترى ضيق مكاني وشدة كربتي، فارحم ضعف ركني وقلة حيلتي، وعجل بقبض روحي ولا تؤخر إجابة دعائي».
4- سورة الجمعة :6-7.

..............................

تتولد وتتزايد من قطع الرحمواستمراره - ومن الواضح تأثير النزاعات على تحطيم الأعصاب وتدمير الصحة. وقد فصلنا البحث في كتاب (الآداب والسنن)(1)، وربما يشير إلى ذلك قوله (علیه السلام): «صلة الأرحام تحسن الخلق، وتسمح الكف، وتزيد في الرزق، وتنسئ في الأجل»(2).

وكذلك الأمر في تأثير صلة الرحم في تكاثر العدد لما سبق، والظاهر أنه لامانعة من الجمع بين الوجهين السابقين(3).

التكثير في النسل

التكثير في النسل(4)

مسألة: يستحب التناسل والتكثير من الأولاد، وقد اعتبرته (علیها السلام) النتيجة الثانية لجعله جل وعلا (صلة الرحم) وأمره بها، كما اعتبرته مشوقاً للناس وطريقاً لحضّهم على صلة الرحم؛فإن كثرة الأولاد مطلوبة للشارع كما هو واضح، وقد قال (صلی الله علیه و آله): «تناكحوا تناسلوا تكثروا؛ فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ولو بالسقط»(5).

وقال (صلی الله علیه و آله): «تزوّجوا الودود الولود»(6).

ص: 407


1- راجع موسوعة الفقه: ج94-97 كتاب الآداب والسنن.
2- بحار الأنوار: ج71 ص114 ب3 ح74.
3- أي القول بأن تأثير صلة الرحم في طول العمر وزيادة العدد لأسباب غيبية أو لأسباب ظاهرية.
4- راجع تفصيل هذا المبحث في كتاب (الفقه: النكاح)، و(الفقه: الآداب والسنن)، و(العائلة) للإمام المؤلف (قدس سره).
5- جامع الأخبار: ص101 ف58.
6- مستدرك الوسائل: ج14 ص178 ب15 ح16437.

..............................

وقال (صلی الله علیه و آله): «سوداء ولود خير من حسناء عقيم»(1).

وقال (صلی الله علیه و آله): «وخير النساء الودود الولود»(2).

وقال (علیه السلام): «تناكحوا تناسلوا»(3).

وقال (علیه السلام): «حصير ملفوف في زاوية البيت خير من امرأة لا تلد»(4).

وفي القرآن الكريم: «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (علیهم السلام) يُرْسِلِالسَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً (علیهم السلام) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً»(5). وقال تعالى: «ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ»(6).

وبالعكس من كل ذلك قطع الرحم فإنه يقصر العمر وينقص العدد، وربما أدى إلى اندثار أسر بكاملها.

قولها (علیها السلام): «منماة» لوضوح أن الأرحام إذا وصل بعضهم بعضاً ازدادوا تعاضداً وتعاوناً، وتنامى حالة التآلف والتعاون والتقارب بين الأرحام وتلك توجب كثرة النسل، إذ توفر الأرضية الطبيعية للزواج وتذلل العقبات التي تحول دونه، كما توجب اطمئنان العوائل والأسر بمستقبل أبنائهم فيحضهم ذلك على زيادة النسل، إلى غير ذلك من أسباب النمو العددي.

ص: 408


1- جامع الأخبار: ص101 ف58.
2- دعائم الإسلام: ج2 ص191 ف1 ح689.
3- مستدرك الوسائل: ج14 ص153 ب1 ح16346.
4- مستدرك الوسائل: ج14 ص176 ب14 ح16431.
5- سورة نوح: 10-12.
6- سورة الإسراء: 6.

..............................

أما ما يرى اليوم في بعض البلاد الإسلامية من الحث على قلة النسل فهو من حيل الاستعمار(1).

ص: 409


1- راجع كتاب (العائلة) للإمام المؤلف (قدس سره)، وفيه تحت عنوان (فكرة تحديد النسل من وراءها): قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «تناكحوا تناسلوا تكثروا»، وقال أيضاً: «تناكحوا تناسلوا تكثروا؛ فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ولو بالسقط»، والحديثان يتضمنان حكماً وإن كان على سبيل الاستحباب لكن خلافه كخلاف كل مستحب ومكروه لا يكون إلاّ في حالة الضرورة، فإن صلاة الليل مثلاً مستحبة ولا تسقط عن الاستحباب إلا لضرورة، وهكذا بقية المستحبات. ويدخل إكثار النسل ضمن هذه القاعدة، لكن ما يجري اليوم خلاف هذه الحقيقة تماماً، فقد أصبحت فكرة (إكثار النسل) فكرة غريبة على المسلمين وأحلوا محلها فكرة (تحديد النسل) التي كانت مستهجنة عند المسلمين حتى قبل سنين، فحتى في أشد فترات التأريخ بؤساً من التاريخ الإسلامي لم نشاهد من يدعو إلى هذه الأفكار المخالفة للعقل والفطرة. صحيح أنه كان بعض الحكام يقترفون المنكرات لكن كانت قوانين الإسلام جارية - عادة - في المجتمع، فكان الاقتصاد إسلامياً والمجتمع مسلماً، فلم تظهر في هذا المجتمع بوادر سلبية منحرفة. أما اليوم وبعد أن دخل الاستعمار الغربي بلادنا انقلب كل شيء... انقلب الحرام حلالاً... أصبح الغناء أمراً شائعاً... أصبح القمار أمراً مألوفاً... وأضحت الضرائب والمكوس والحدود الجغرافية ومصادرة الحريات والكبت والإرهاب والمنع عن الحج أموراً جائزة. وفي هذا الجو المنقلب على الإسلام أتتنا دعوة من الغرب تدعو المسلمين إلى تحديد النسل بحجة تدني المستوى الاقتصادي للأسرة، وهبوط مدخولات الدول التي لا تستطيع أن تفي بتعهداتها، من قبيل فتح المدارس وإنشاء المستشفيات، وما إلى ذلك من الخدمات الاجتماعية. أما هم فيشجعون أبناءهم على الزواج المبكر، ويشجعون التناسل والدعوة إلى الزواج والإنجاب، تبدأ مع تدريس الأولاد في الابتدائية وصاعداً. وهناك مخاوف كبيرة لدى العديد من قادة الغرب مفادها: إن الشعوب الأوربية في طريقها إلى الانقراض إذا بقي العد العكسي في معدلات نمو السكان. وهم يعرفون لماذا تنقرض شعوبهم؟. يعرفون السبب الكامن وراء تناقص السكان في أوربا... .............................. إن أهم سبب يكمن وراء ذلك هو الدعوة إلى تحديد النسل التي راجت أوروبا في الستينات، والتي زرعت في الذهنية الأوربية فكرة: إن إنجاب الأولاد هو عمل خاطئ، وظل الأوربيون يحملون هذه الفكرة حتى تضائل نسلهم. واليوم اكتشفوا أن الخطأ ليس في عملية الإنجاب بل في الدعوة إلى تحديد الإنجاب. واليوم ومع الأسف الشديد صدروا لنا هذه الدعوة بعد أن ذاقوا مساوءها، جاءوا بها إلى العالم الإسلامي ليدعوا المسلمين إلى تحديد النسل. وبعيداً عن الهالة التي أحاطوا بهذه الدعوة نستطيع أن نستقصي أهداف الغربيين منها، أنها من أجل دفع المسلمين إلى التضاؤل، فقد وجدوا في هذه الدعوة السلاح الفتاك القادر على أضعاف المسلمين بعد أن فشلت أسلحتهم الأخرى. نتساءل لماذا لا يطالبون اليهود في فلسطين المغتصبة بتحديد النسل؟. لماذا لانجد اليهود لا يعيرون أية أذن صاغية لهذه الدعوة؟. لماذا تشجع إسرائيل الإكثار من النسل، حتى أصبح من المناظر المألوفة - كما يذكر الصحفيون الذين زاروها - منظر النساء الحوامل وهن يجلن في الشوارع أو يعملن في المتاجر أو يدرسن في المدارس أو يشتغلن كشرطيات؟. لماذا تحرم إسرائيل الدعوة إلى تحديد النسل ونحن المسلمون نحللها، حتى البعض منا يعتبرها من الواجبات كالصوم والصلاة والعياذ بالله. إن قضية تحديد النسل دعوة سياسية هدفها تضعيف المسلمين ولا علاقة لها بالأمور الاقتصادية بالرغم مما يقولون. فنحن نتساءل: لماذا تحديد النسل؟. هل أن السنن الإلهية تغيرت في الكون؟. أم أن الطبيعة ومخلوقات الله تبدلت؟. أم أن أحكام الله سبحانه تختص بزمان دون آخر؟. أم لقلة أراضينا ومياهنا؟. أم لقلة مواردنا وإمكاناتنا؟. فالعالم الإسلامي يمتلك أراضي شاسعة صالحة للزراعة والعمارة ويمتلك مخزوناً كبيراً من المياه، ويزخر بالموارد والإمكانات التي لا تعد ولا تحصى. فمن غير الصحيح إطلاق أبواق تحديد النسل، إذ ليس هناك أي موجب لهذا العمل. مثلاً: العراق الذي كان يسمى ببلد السواد كانت نفوسه أكثر من أربعين مليون إنساناً في العهد العباسي حسب تقديرات بعض المؤرخين، واليوم لا يزيد عدد سكانه عن نصف هذا الرقم. وبلد كالسودان ربما كان باستطاعته أن يشبع القارة الإفريقية بأجمعها لما يملكه من أراض صالحة للزراعة وموارد مائية، وهكذا بقية البلاد الإسلامية التي تمتلك ثروة هائلة زراعية ومعدنية ونفطية. .............................. لكن إلى أين تذهب هذه الموارد؟. ولماذا تجمد تلك الثروات؟. هذا هو السؤال الذي يجب أن نجيب عنه. هذه هي المشكلة التي يجب حلها. وكل المشاكل هي نابعة من هذه المشكلة. فمشكلة التضخم السكاني، ومشكلة التفاقم الاقتصادي، ومشكلة التخلف الاجتماعي، ومشكلة فقدان الاعتبار السياسي، كل هذه المشاكل مصدرها مشكلة واحدة هي جور الحكام وظلمهم وتعسفهم ودكتاتوريتهم، وسيطرتهم على رقاب المسلمين، وتسييرهم لأمور البلاد حسب أهوائهم، وليس حسب الخطط السليمة ومصالح الشعوب. إن حاكماً واحداً في بلاد إسلامية هو صدام، سرق - حسب بعض الإحصاءات - من قوت الشعب 300 مليار دولار، مع قطع النظر عما دمره من ثروات الشعب في حروب عدوانية. فلو أضفنا إليه سرقات الحكام الآخرين على مدى التاريخ الحديث للبلاد الإسلامية فكم من ثروة المسلمين تبددت على أعتاب أهواء ونزوات هؤلاء الحكام؟. إن هناك من يسرق قوت الشعب، فكان لابد أن نقول له الحقيقة، ونواجهه بالمشكلة ونقول له: أنت سارق، وأن نطالبه بأن يرد أموال الناس إليهم، وليس أن نطالب الناس بأن يشدوا أحزمة الجوع على بطونهم، ونقول لهم: كفوا عن الزواج وكفوا عن التناسل، فليس هناك طعام تملئون به أفواه أبناءكم. إن قسماً كبيراً من ثروات البلاد الإسلامية ذهبت إلى بلاد الغرب، فقد دلت الإحصاءات أن خمس البشر يستهلكون أربعة أخماس ثروات العالم، وهم الذين يعيشون في الدول الصناعية، أما أربعة أخماس البشر وهم الفقيرة الذين يسمونهم بالعالم الثالث فهم لا يستهلكون سوى خمس ثروات الأرض. هنا تكمن الكارثة... فانعدام العدالة في الأرض وعدم تطبيق القوانين الإسلامية في التنمية، كقانون (من سبق) وقانون (الأرض لله ولمن عمرها)، ووجود الحكومات الخانقة وسيطرتها على الأمور، وكثرة الموظفين الكابتين لحريات الناس، وسوء التوزيع في الثروة، وانعدام صوت المعارضة، نسفت الشعوب الفقيرة وديست كرامتها. منعوا عنا الكلام... ثم منعوا عنا الطعام... ثم جاءوا اليوم ليقولوا لنا: كفى إنجاباً للأولاد. إن مشكلة النسل تعالج في الإسلام ضمن سياق النظام الإسلامي القائم على العدالة والتعددية: فبالعدالة يزيل الإسلام الفقر، ويزيل الحواجز بين الغني والفقير والحاكم والمحكوم. .............................. وبالتعددية يجعل للشعب صوتاً عالياً قادراً على الكلام بحرية. إن نظرة الإسلام إلى الإنسان تختلف عن نظرة الأنظمة، فبعض الأنظمة ترى في الإنسان عبأً ثقيلاً وترى في كل مولود جديد ضيفاً غير مرغوب فيه، ترى فيه فما جديداً يضاف إلى الأفواه التي تطالب بالطعام، هذا هو الإنسان في ظل بعض الأنظمة... أما في ظل الإسلام فالإنسان هو قوة حيوية ونشاط متوقد. فالقرآن الكريم يرى في الإنسان أقوى مخلوق على سطح الكرة الأرضية، ويرى فيه سر التقدم في الدنيا: «وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى» - سورة النجم: 36-41 -. ويرى الإسلام في كل مولود جديد رقماً يضاف إلى التقدم والرقي، وقد نسب إلى الإمام علي (علیه السلام) قوله: أتحسب أنك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر ويرى رسول الله (صلی الله علیه و آله) في كل ولادة رقماً جديداً للتفاخر أمام الأمم وحتى لو كان المولود سقطاً لم تكتب له الحياة، أليس هو القائل: «تناكحوا تناسلوا؛ فإني أباهي بكم يوم القيامة ولو بالسقط». فالمولود الجديد قد يكون عالماً أو مخترعاً أو مهندساً أو أي إنسان آخر يضيف إلى الحياة ساعداً جديداً للعمل، ويضيف للتاريخ قيمة وعبقرية جديدة. فالحياة لا تشيدها الأدوات والمكائن بل السواعد الهميمة. والحياة لا تديرها الكمبيوترات المتطورة ولا الأقمار الصناعية بل يديرها العقل الكامن في الإنسان، فكل مولود جديد هو عقل جديد،وهو ساعد جديد، وهو تقدم جديد، فلماذا هذا الخوف..؟. أليس الله سبحانه وعدنا ووعده حق وصدق: «نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ» - سورة الإسراء: 31 -، وقال جل ذكره: «وَأَنْكِحُوا الأَيَامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» - سورة النور: 32 -. فالزواج هو سبب لإزالة الفقر، والأبناء هم سبب للرزق، هذا في منطق الوجدان والقرآن والشريعة. أما الذين يرون عكس ذلك، يرون أن الزواج والأبناء سبب لتقليل الرزق يبتعدون كل البعد عن الله سبحانه والقرآن، وعن منطق العقل والحكمة)، انتهى.

ص: 410

ص: 411

ص: 412

والقصاص حقناً للدماء،

اشارة

-------------------------------------------

حق القصاص

مسألة: يجوز القصاص وليس هو بواجب، فهو (حق) أعطاه الله للمعتدى عليه أو لذويه، له أن يأخذ به، وله أن يعفو.

فالمراد بقولها (علیها السلام): «جعل الله القصاص» أي حق القصاص، بل قد يكون الأرجح ترك الأخذ بهذا الحق، ولذا قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ... فَمَنْ عُفِيَ له مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ»(1).

وقال عزوجل: «وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ له»(2).

قال الإمام الصادق (علیه السلام) في تفسيره للآية الشريفة: « «فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ له»(3) يكفر عنه من ذنوبهبقدر ما عفا عنه من جراح أو غيره»(4).

ص: 413


1- سورة البقرة: 178. وجاء في بعض التفاسير سبب ذكر كلمة (أخيه) - راجع التبيان: ج2 ص102 -. ثم إن التعبير بالأخ يوجب إثارة المحبة والرأفة وقد يدل على أن العفو أحب.
2- سورة المائدة : 45.
3- سورة المائدة : 45.
4- تهذيب الأحكام: ج10 ص179 ب13 ح15.

..............................

وجعل الله تعالى حق القصاص هو الذي (يحقن الدماء)، ولا يلزم جعل (وجوب القصاص) بل جعل الحق أولى بدرجات من جعل الوجوب، لما فيه من رعاية شتى مقتضيات باب التزاحم(1)، ولذا عبر تعالى ب: «تَصَدَّقَ»(2) في الآية الشريفة. وقد روي: «إن القصاص كان في شرع موسى (علیه السلام)، والدية حتماً كان في شرع عيسى (علیه السلام)، فجاءت الحنيفية السمحة بتسويغ الأمرين»(3). وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في وصيته للمسلمين: «أيها الناس أحيوا القصاص»(4).

و(القصاص) أعم من النفس والجوارحوالقوة(5) وإن كان في كلامها (علیها السلام) قد يقال بانصرافه للقتل نظراً ل (حقناً للدماء)، فتأمل.

فلسفة العقوبات الإسلامية

مسألة: من الضروري بيان فلسفة العقوبات في الإسلام للناس، حتى لايتهموا الإسلام بالغلظة والقساوة، كما أشارت إليها (علیها السلام)، وكما ورد في كثير من الروايات(6).

ص: 414


1- إذ كثيراً ما يرى أولياء الدم المصلحة - لأنفسهم أو لغيرهم - في العفو عن الجاني، وكثيراً ما يرون الأصلح بحالهم أخذ الدية، ولذا خيروا بين القصاص والدية والعفو.
2- سورة المائدة: 45.
3- غوالي اللآلي: ج1 ص387 ب1 المسلك الثالث ح18.
4- وسائل الشيعة: ج28 ص338 ب7 ح34900.
5- كمن أفقد شخصاً قوة الإنجاب أو الفكر أو ما أشبه.
6- راجع مثلاً: علل الشرائع: ج2 ص534 ب321، ج2 ص538 ب326، ج2 ص543 ب331، ج2 ص545 ب335.

..............................

فإن بعض الناس يتصورون أن بعض العقوبات قاسية من جهة أن الأفضل مثلاً في القاتل أن يُسجن أو تؤخذ منه الدية لا أن يُقتل، لكن هذه المزاعم غير تامة؛ فإن الإنسان إذا علم أن جزاء القتل هو السجن والغرامة لا القصاص بالمثل، فإنه عادة لا يعدل عن الجريمة، وخاصة إذا كان قادراً على التحايل والتلاعب بالقانون من خلال دفع الرشوة، واتخاذ المحامي بالباطل،وتخفيف مدة العقوبة وغير ذلك.

ولذلك قالت (علیها السلام): «والقصاص حقناً للدماء».

وقالوا: (قتل البعض إحياء للجميع)(1).

وقالوا: (القتل أنفى للقتل)(2).

وقال القرآن الكريم: «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»(3).

ومن أوضح الأدلة على ذلك، ما نشاهده عن ازدياد الجرائم في العالم الغربي، وهذا بحث طويل نكتفي منه بهذا القدر(4).

ص: 415


1- أحكام القرآن للجصاص: ج1 ص194.
2- فقه القرآن: ج2 ص402 باب قتل العمد وأحكامه.
3- سورة البقرة: 179.
4- للتفصيل حول فلسفة العقوبات في الإسلام راجع: (العقوبات في الإسلام) لآية الله العظمى السيد صادق الشيرازي K، وراجع للإمام المؤلف (قدس سره) موسوعة الفقه: ج87-88 كتاب الحدود والتعزيرات، وموسوعة الفقه: ج89 كتاب القصاص.

..............................

وجوب حقن الدماء

مسألة: حقن الدماء واجب، وإراقتها محرم، ففي الحديث: «زوال الدنيا أهون على الله من إراقة دم مسلم»(1).

وقال (علیه السلام): «من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة بين عينيه مكتوب: آيس من رحمة الله تعالى»(2).

وقال (علیه السلام): «من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه: آيس من رحمة الله»(3).

و(القصاص) المذكور في كلامها (علیها السلام) هو إحدى الطرق التي تؤدي إلى حقن الدماء.

فكل ما يؤدي - ولو تسبيباً - إلى إراقة الدم محرم، من غير فرق بين إراقة الدم كلياً كالقتل، أو جزئياً كما في قطع يد أو رجل أو فقأ عين أو جدع أنف أو صلم أذن أو ما أشبه ذلك.

ولا يخفى أن وجوب (حقن الدم) وحرمةإراقته من باب المثال، وإلاّ فمطلق إزهاق النفس حرام ولو بحرق أو غرق أو سمّ أو ما أشبه ذلك، وهكذا بالنسبة إلى إسقاط عضو عن الفعالية وإذهاب قوة.

ص: 416


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج1 ص85 باب العتاب.
2- بحار الأنوار: ج101 ص383 ب2 ح1.
3- غوالي اللآلي: ج2 ص333 باب الصيد وما يتبعه ح48.

..............................

نعم، لا يجوز القصاص بالمثل في بعض الموارد، مثلاً من أحرق إنساناً فإنه لا يحرق في قباله، كما أن من أغرق شخصاً فإنه لا يغرق كما أُغرق وهكذا، وقد ثبت هذا الاستثناء بالأدلة الخاصة المخصّصة لقوله سبحانه: «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ»(1)..

وقوله سبحانه: «وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا»(2)..

وما أشبه ذلك من العمومات التي لولا التخصيص لكانت شاملة لكل الأقسام(3).

ص: 417


1- سورة البقرة: 194.
2- سورة الشورى: 40.
3- راجع حول هذا المبحث (الفقه: القصاص)، و(الفقه: الحدود)، و(الفقه: الديات)، و(الفقه: القواعد الفقهية) للإمام المؤلف (قدس سره).

والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة

اشارة

-------------------------------------------

والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة(1)،

وجوب الوفاء بالنذر

مسألة: يجب الوفاء بالنذر(2) إذا اجتمعت فيه شروطه وفي مخالفته الكفارة، كما فصلناه في الفقه(3).

بخلاف النذر المنهي كما ورد: «أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) نهى عن النذر لغير الله، ونهى عن النذر في معصية أو قطيعة رحم»(4).

قال تعالى: «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً»(5).وهذا مما يشير إلى أن عدم الوفاء بالنذر يعرض الإنسان لشر ذلك اليوم.

وقال سبحانه: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ»(6).

وقال جل وعلا: «لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ»(7).

ص: 418


1- وفي بعض النسخ: «والوفاء بالنذور» راجع كشف الغمة: ج1 ص484 فاطمة (علیها السلام) . وفي بعضها: «والوفاء بالعهود تعرضاً للمغفرة» راجع دلائل الإمامة: ص33 حديث فدك.
2- راجع موسوعة الفقه: ج74-75 كتاب النذر.
3- راجع المسائل الإسلامية: ص588-591 أحكام النذر والعهد، المسألة 3095-3124، الطبعة 36، عام 1421ه /2000م، مؤسسة المجتبى بيروت - لبنان.
4- دعائم الإسلام: ج2 ص100ف3 ح319.
5- سورة الإنسان: 7. وقد صرح المفسرون من الفريقين بأن هذه الآيات نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين (علیهم السلام).
6- سورة النحل: 91.
7- سورة الحج: 29. واضح أن المورد لا يخصص الوارد.

..............................

وقال (علیه السلام): «كن منجزاً للوعد موفياً بالنذر»(1).

ولا يبعد أن يراد بالنذر في قولها (علیها السلام) الأعم من النذر واليمين(2) الاصطلاحيين، فإن (نذر) بمعنى الفرض والإيجاب(3)، و(اليمين):القسم وفيه الفرض، وهو - على قول(4)- مأخوذ من اليد اليمنى حيث إن المتحالفين كانا - غالباً - يضرب كل واحد منهما يمينه بيمين صاحبه فيتحالفان(5).

ومنه يعلم حال (العهد) أيضاً، فهو قسم من النذر بالمعنى الأعم...

وكان أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) المصداق الأجلى لمن يوفون بالنذر، قال تعالى: «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً»(6).

وكان وفائهم (علیهم السلام) به في المرتبة العليا، وكانوا هم الأولى بصدق هذه الصفة عليهم، كما في قصة نزول سورة «هَلْ أَتَى»(7) وغيرها.

ص: 419


1- مستدرك الوسائل: ج16 ص99 ب19 ح19271.
2- قال في مجمع البحرين: ج3 ص492 مادة نذر: (النذر لغة الوعد، وشرعاً: التزام المكلف بفعل أو ترك متقرباً).
3- قال في لسان العرب: ج5 ص201 مادة نذر: (نذرت، أنذر وأنذر نذراً: إذا أوجبت على نفسك شيئاً من عبادة أو صدقة أو غير ذلك).
4- والقول الثاني: إن اليمين مأخوذ من اليمن بمعنى البركة، والقول الثالث: من اليمين بمعنى القوة. - راجع مجمع البيان: ج2 ص90 ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم -.
5- ومن معاني اليمين: القوة والقدرة... والحلف والقسم - راجع لسان العرب: ج13 ص461 مادة يمن.
6- سورة الإنسان: 7.
7- وتسمى هذه السورة بسورة الإنسان، وهي مدنية رقمها 76 وعدد آياتها 31 آية.

..............................

قولها (علیها السلام): «والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة»، فإن الله سبحانه تفضل على من وفي بنذره بغفران ذنبه، ومن الممكن أن يكون ذلك عقلياً أيضاً، يراد به المغفرة الدنيوية والأثر الوضعي التكويني، فالنذر معناه الإيجاب، فمن أوجب على نفسه شيئاً إذا وفى به ستر في المجتمع ما سلف من أخطائه، فيكون نظير معنى قوله تعالى: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ»(1). ومما يؤيده قوله(صلی اللهعلیه و آله): «... وإذا نقضوا العهد سلّط الله عليهم عدوّهم»(2).

ولكن قد يقال: بأن الظاهر إرادة المعنى الأول في قولها (علیها السلام): «تعريضاً للمغفرة» ويمكن القول بإرادة كلا المعنيين فتكون اللام للجنس، ولا يلزم منه استعمال اللفظ في أكثر من معنى، كما لا يخفى.

هذا وقد ورد في بعض التفاسير: «يوفون بالنذر الذي اُخذ عليهم من ولايتنا»(3).

ص: 420


1- سورة الفتح: 2. وفي عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج1 ص202 ب15 ح1: قال (علیه السلام): «لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنباً من رسول الله (صلی الله علیه و آله)؛ لأنهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنماً، فلما جاءهم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم، وقالوا: «أَجَعَلَ الآْلِهَةَ إِلهاً وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ... » - سورة ص: 5-7 - فلما فتح الله عزوجل على نبيه (صلی الله علیه و آله) مكة قال لمحمد: «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (علیهم السلام) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ» عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى التوحيد فيما تقدم وما تأخر؛ لأن مشركي مكة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكة، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه، فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفوراً بظهوره عليهم». وراجع أيضاً قصص الأنبياء للجزائري: ص17 خاتمة في بيان عصمة الأنبياء (علیهم السلام) وتأويل ما يوهم خلافه.
2- الكافي: ج2 ص374 باب في عقوبات المعاصي العاجلة ح2.
3- بحار الأنوار: ج24 ص331 ب67 ح57.

..............................

وعنه (علیه السلام): «يوفون لله بالنذر الذي أخذ عليهم في الميثاق من ولايتنا»(1).

التعريض لمغفرة الله

مسألة: من اللازم أن يجعل الإنسان نفسه في معرض مغفرة الله سبحانه، وأن يتجنب المواطن التي تجعله في معرضغضبه تعالى(2).

فمصاحبة الأخيار والجلوس في مجالسهم والنية الصالحة وإن لم يمكنه تحقيقها خارجاً وشبه ذلك، مما يجعل الإنسان في معرض مغفرته جل وعلا، وفي الحديث الشريف: «إن لربّكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها»(3).

وقال تعالى: «وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ»(4).

وقال سبحانه: «وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً»(5).

ومن البين أن ما يوجب التعرض لمغفرة الله الواجبة واجب، وما يوجبه من المستحبات مستحب. و(الوفاء بالنذر) من الواجبات التي جعلها الله سبحانه (تعريضاً لمغفرته) فهو بيان منها (سلامالله عليها) لإحدى الطرق التي تقود إلى ذلك.

ص: 421


1- الكافي: ج1 ص434 باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية ح91.
2- فمثلاً قال الإمام الصادق (علیه السلام): «لا تجالسوا شراب الخمر؛ فإن اللعنة إذا نزلت عمت من في المجلس» - وسائل الشيعة: ج25 ص374 ب33 ح32162 -، وقال (علیه السلام): «لا تجالسوا لنا عائباً» بحار الأنوار: ج10 ص92 ب7 ح1، والبحار: ج68 ص174 ب64 ح8.
3- بحار الأنوار: ج68 ص221 ب66 ح30، والبحار: ج80 ص352 ب8 ح4.
4- سورة آل عمران: 133.
5- سورة البقرة: 268.

وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس

اشارة

-------------------------------------------

وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس(1)،

توفية المكيال والميزان

توفية المكيال والميزان(2)

مسألتان: يجب توفية المكيال والميزان، ويحرم مطلق البخس(3)، وقد عدّه (علیه السلام) من الكبائر حيث قال (علیه السلام): «واجتناب الكبائر وهي... البخس في المكيال والميزان»(4).

وفي حديث المسوخ قال (علیه السلام): «وأما الجري فمسخ؛ لأنه كان رجلاً من التجار وكان يبخس الناسبالمكيال والميزان»(5).

ولا يخفى أن المكيال والميزان في الآيات الشريفة(6) وفي كلامها (علیها السلام) من باب المثال، وإلاّ ففي المعدود والمذروع وما أشبه ذلك يكون الحكم كذلك.

ص: 422


1- وفي بعض النسخ: «للبخسة» - راجع كشف الغمة ج1 ص484 فاطمة (علیها السلام) -.وفي بعض النسخ: «ووفاء المكيال والميزان» - راجع دلائل الإمامة ص33 حديث فدك -.
2- حول هذه المباحث راجع من موسوعة الفقه: كتاب البيع، والاقتصاد، والواجبات والمحرمات.
3- البخس: النقص والظلم.
4- وسائل الشيعة: ج15 ص329 ب46 ح20660.
5- بحار الأنوار: ج62 ص227 ب5 ح9.
6- قال تعالى: «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» - سورة المطففين: 1-3 -، وقال سبحانه: «وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ» - سورة هود: 85 -.

..............................

وبالتلازم(1) يفهم أن كل بخس حرام، قال سبحانه: «وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ»(2) سواء كان البخس في الماديات أو في المعنويات، ويستثنى ما خرج بالخصوص أو بالانصراف. وقد يستند إلى هذه الآية ونظائرها في حقالتأليف والطبع والاختراع وأشباهها، فتأمل. وفي بعض الروايات في تفسير قوله تعالى: «وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزانَ»(3) قال (علیه السلام): «لا تبخسوا الإمام حقه ولا تظلموه»(4).

قولها (علیها السلام): «وتوفية»، فإن الكيل والوزن إذا أعطيا بالحق لا يكون هناك بخس في الأموال ونقص في الثروات؛ لأن المجتمع إذا جرى على عدم التوفية تحول الناس إلى لصوص، إذ النقص في المكيال والميزان نوع من السرقة، واللصوصية توجب بخس ثروات الأمة، حيث يتحول المجتمع عندئذ من مجتمع منتج متنافس تنافساً إيجابياً اقتصادياً إلى مجتمع متحايل يحاول أن يخدع بعضهم بعضاً، وحينئذ تنعدم الثقة وتتدنى نسبة التعاون إلى أدنى الدرجات، والمجتمع غير المتعاون لا يتقدم، ولا تنمو ثرواته، بل تتناقص وتتضاءل.

قال الإمام الباقر (علیه السلام): «وجدنا في كتاب رسول الله (صلی الله علیه و آله):... وإذا طفف الميزان والمكيال أخذهم الله بالسنين والنقص»(5).

ص: 423


1- أي التلازم في كلامها (صلوات الله عليها) بين «جعله تعالى توفية المكائيل والموازين» وبين «تغييراً للبخس».
2- سورة الأعراف: 85، سورة هود: 85، سورة الشعراء: 183.
3- سورة الرحمن: 9.
4- تفسير القمي: ج2 ص343 سورة الرحمن.
5- وسائل الشيعة: ج11 ص513 ب41 ح2.وسفينة البحار: مادة )كيل(.والأمالي للشيخ الصدوق ص308 المجلس51.وثواب الأعمال ص252 عقاب المعاصي.وتحف العقول ص51.

والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس،

اشارة

-------------------------------------------

حرمة شرب الخمر

مسألة: يحرم شرب الخمر ويجب النهي عنه، لإطلاقات أدلة النهي عن المنكر. ولقولها (علیها السلام): «والنهي... » على تقدير كون المراد به (نهيكم) لا (نهيه)، فتأمل(1).

نظراً لأن اللام قد يكون عوضاً عن المضاف إليه وهو ضمير الجمع، أو الضمير الراجع إليه تعالى، فيكون المعنى: جعل الله(2) نهيكم عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس(3).ويؤيده أن ما سبق وما سيلحق من الجمل - إلاّ ما خرج بقائم البرهان(4)- مصاديق فعل العبد(5).

ص: 424


1- قد يكون إشارة إلى أنه يمكن الاستدلال حتى لو أريد بالنهي نهيه تعالى، فدقق.
2- إذ هذه الجمل المتعاقبة كلها مفعول ل «فجعل الله» الوارد في مطلع كلامها (علیها السلام).
3- فيكون نهي الناس بعضهم بعضاً عن شرب الخمر وردعهم عنه هو المجعول والمقرر من قبله تعالى أي المأمور به من قبله، أي أنه أمر: بالنهي عن الشرب.
4- وهو: «إمامتنا… »، وهذا مما دل عليه الدليل العقلي والنقلي، فلا مناص من الالتزام بكونه فعله تعالى مباشرة، أما (النهي) فجائز الوجهين، فكان الأرجح نظراً للسياق إرادة (نهيكم) من كلامها (علیها السلام).
5- فالإيمان والصلاة والزكاة والصيام وما أشبه مما سبق، واجتناب القذف وترك السرقة مما سيأتي، وكان من الممكن أن تقول (علیها السلام): اجتناب شرب الخمر.

..............................

ويؤيده أيضاً - بل يدل عليه على ذلك التقدير - وجود (ففرض) في بعض النسخ بدل (فجعل)(1)، هذا ومن المحتمل أن يكون المراد باللام: الجنس أو العهد.

ثم إن المراد بالخمر: كل مسكر(2)وقد سميت الخمر خمراً لمخامرتها العقل لأنها تستره وتغطيه.

كما أن الحرمة تعم كل ما أوجب الاسكار ولو بالحقنة أو بالتدخين أو ما أشبه ذلك(3)، لما دل على حرمة كافة أنواع استعماله. قال (صلی الله علیه و آله): «ألا أيّها الناس أنهاكم عن كل مسكر»(4).

وقال (علیه السلام): «كل مسكر حرام»(5).

وقال (علیه السلام): «كل مسكر خمر»(6).

وقال (علیه السلام): «شرب الخمر أشر من ترك الصلاة»(7).

ص: 425


1- حيث قالت (علیها السلام) - على هذه النسخة -: «ففرض الله الإيمان... والنهي عن شرب الخمر»، فالنهي مفعول ل (فرض).
2- قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا حبيبة أبيها، كل مسكر حرام وكل مسكر خمر» - مستدرك الوسائل: ج17 ص58 ب11 ح20739 -، وفي مجمع البحرين: ج3 ص292 مادة خمر: الخمر فيما اشتهر بينهم: كل شراب مسكر ولا يختص بعصير العنب. وفي القاموس: ج2 ص23 مادة خمر: والعموم أصح...
3- راجع موسوعة الفقه: ج76 كتاب الأطعمة والأشربة، المسألة 22.
4- وسائل الشيعة: ج25 ص280 ب1 ح31910.
5- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص354 باب النوادر وهو آخر أبواب الكتاب ح5762.
6- تهذيب الأحكام: ج9 ص111 ب2 ح217.
7- بحار الأنوار: ج76 ص133 ب86 ح23.

..............................

وقال (علیه السلام): «... وشربالخمر وهو فخ الشيطان»(1).

وقال (علیه السلام): «وشرب الخمر مفتاح كل شر»(2).

وقال (علیه السلام): «ما بعث الله نبياً إلاّ بتحريم الخمر»(3).

وعنه (صلی الله علیه و آله): «لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبايعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه»(4).

قال تعالى: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»(5). وقال سبحانه: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ»(6).

وقال عزوجل: «إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْأَنْتُمْ مُنْتَهُونَ»(7).

ثم إن العلة معممة ومخصصة(8)،والملاك(9) مستفاد من جملة من الروايات

ص: 426


1- وسائل الشيعة: ج20 ص26 ب4 ح24938.
2- بحار الأنوار: ج76 ص140 ب86 ح48.
3- تهذيب الأحكام: ج9 ص102 ب2 ح181.
4- مستدرك الوسائل: ج17 ص75 ب23 ح20805.
5- سورة المائدة: 90
6- سورة البقرة: 219.
7- سورة المائدة: 91.
8- الظاهر أن المراد بالعلة (الاسكار)، وهي تعمم الحرمة لغير الشرب كالحقنة أيضاً.
9- الظاهر أن المراد بالملاك (ملاك كون الاسكار محرماً) فهو علة العلة.

..............................

بل بعض الآيات، مثل قوله سبحانه: «لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ»(1)؛ فإن من سكر لا يعلم ما يقول، سواء كان السكر بالشراب أم بالطعام، أم بغير ذلك من الطرق الموجبة لإدخال المسكر في البدن ولو بالتنفس.

وكذا قوله تعالى: «إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ»(2).

أما حرمة شرب حتى القطرة من الخمرفبالدليل الخاص(3).

قولها (علیها السلام): «والنهي عن شرب الخمر»، حيث إن شرب الخمر كان شائعاً في الجاهلية وقد حرمه الإسلام، وكانت بعض النفوس تحن إليه عوداً على ما كانوا عليه، ولذا خصصته الزهراء (علیها السلام) بالذكر، وإلاّ فهو كسائر محرمات الأكل والشرب كالميتة ولحم الخنزير والدم وما أشبه.

نعم، إن الخمر رأس كل شر، فقد قال الإمام الصادق (علیه السلام): «إن الخمر أم الخبائث ورأس كل شر، يأتي على شاربها ساعة يسلب لبّه فلا يعرف ربه، ولا يترك معصية إلاّ ركبها، ولا يترك حرمة إلاّ انتهكها، ولا رحماً ماسة إلاّ قطعها، ولا فاحشة إلاّ أتاها»(4).

ص: 427


1- سورة النساء : 43.
2- سورة المائدة: 91.
3- راجع موسوعة الفقه: ج76 كتاب الأطعمة والأشربة، المسألة 22.
4- وسائل الشيعة: ج25 ص317 ب12 ح31999.

..............................

وقال (علیه السلام): «وإنّ من شرب منها جرعة لعنه الله وملائكته ورسله والمؤمنون، وإن شربها حتى يسكر منها نزع روح الإيمان من جسده، وركبت فيهروح سخيفة خبيثة ملعونة»(1).

وقال (علیه السلام): «ولم تقبل صلاته أربعين يوماً، ويأتي شاربها يوم القيامة مسوداً وجهه، مدلعاً لسانه، يسيل لعابه على صدره»(2).

وقال (علیه السلام): «ينادي: العطش، العطش»(3).

وإن شرب الخمر رجس؛ لأنه يوجب السكر الذي هو مفتاح كل شر، والرجس بمعنى(4) ما يؤدي للموبقات(5).

المخدرات

مسألة: ومن ذلك يعلم حرمة استعمال المخدرات أيضاً الموجبة لذهاب العقل؛ لأن العلة عامة وإن كان المورد خاصاً.

وربما يمكن استفادة ذلك من قولها (علیها السلام): «تنزيهاً عن الرجس» إذ الرجس هو القذر، وقد روي بسندصحيح عن أبي الحسن الماضي (علیه السلام):

ص: 428


1- الكافي: ج6 ص399 باب شارب الخمر ح16.
2- تهذيب الأحكام: ج9 ص103 ب2 ح183.
3- الكافي: ج6 ص397 باب شارب الخمر ح8.
4- أي من معانيه.
5- في القاموس: ج2 ص219 مادة رجس: الرجس: العمل المؤدي إلى العذاب. وفي لسان العرب: ج6 ص95 مادة رجس: الرجس: القذر... النجس... وقد يعبر به عن الحرام والفعل القبيح والعذاب واللعنة والكفر.

..............................

«إن الله لم يحرم الخمر لاسمها، ولكن حرمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر»(1).

وكذلك ما علّل فيه حرمة الخمر بأن شاربها لا يعرف أمه وأخته و...(2). وأما غير الموجب لذهاب العقل منها (3) فحرمته منوطة بما إذا أضر ضرراً بالغاً (4).

اجتناب الرجس

مسألة: يجب تجنب الرجس، وذلك في مراتب منه وفي مصاديق كثيرة منه مما لاشك فيه، ولكن هل يمكن تأسيس الأصل في ذلك والالتزام بحرمة كل ما صدق عليه هذا العنوان بما هو هو؟.

لا يبعد ذلك، وربما أمكن الاستنادإلى كلامها (علیها السلام) لإثباته، والأمر بحاجة إلى مزيد من التأمل.

والمراد بالرجس: القذارة والخباثة(5)، فإن القذارة قد تكون مادية في النفس أو الجسد، وقد تكون معنوية، قال سبحانه وتعالى:

ص: 429


1- تهذيب الأحكام: ج9 ص112 ب2 ح221.
2- راجع الكافي: ج6 ص403 باب أن الخمر رأس كل إثم وشر ح7.
3- أي من المخدرات.
4- راجع موسوعة الفقه: ج76 كتاب الأطعمة والأشربة، المسألة 22.
5- الرجس بمعنى: القذر، النجس، الفعل القبيح... راجع لسان العرب: ج6 ص95 مادة رجس، وغيره، وفي القاموس: ج2 ص219 مادة رجس: (كل ما استقذر من عمل). ومن معانيه: (وسوسة الشيطان) كما في المنجد.

..............................

«فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ»(1).

وهذا رجس معنوي في قبال الرجس المادي في النفس الموجب للسكر، والرجس البدني كالتلوث بالقذارات الخارجية.

قال تعالى: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»(2)، فهم (علیهم السلام) منزهون عن الرجس بما للكلمة من معنى، كما دل على ذلك مختلف الروايات(3).وفي الدعاء: «أعوذ بالله من الرجس»(4).

هذا وقد فسر الرجس أيضاً بالشك.

قال (علیه السلام): «الرجس هو الشك»(5).

وبعمل الشيطان(6).

وبالنجس(7).

ص: 430


1- سورة الحج: 30.
2- سورة الأحزاب: 33.
3- راجع التفاسير في تفسير هذه الآية المباركة من سورة الأحزاب.
4- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص25 باب ارتياد المكان للحدث ح42.
5- بصائر الدرجات: ص206 ب11 ح13.
6- راجع تأويل الآيات: ص449 سورة الأحزاب.
7- راجع متشابه القرآن: ج2 ص158 باب فيما يحكم عليه الفقهاء.

واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة

اشارة

-------------------------------------------

واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة (1) ،

حرمة القذف والسب

مسألة: يحرم القذف وفيه الحدّ(2)، وتفصيل الكلام في الفقه(3).

والقذف هنا: يعم السب والفحش واللعن وما أشبه ذلك(4).

قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): «واعلموا أن القذف والغيبة يهدمان عمل ألفسنة»(5).

وقال (صلی الله علیه و آله): «القذف من الكفر، والكفر في النار»(6).

وقال (علیه السلام): «إن الكبائر أحد عشر... الشرك بالله عزوجل، وقذف المحصنة،... »(7).

ص: 431


1- وفي بعض النسخ: «اجتناب قذف المحصنة حجاباً عن اللعنة»، راجع دلائل الإمامة: ص33 حديث فدك. وفي بعض النسخ: «واجتناب قذف المحصنات حجباً عن اللعنة»، راجع علل الشرائع: ج1 ص248 باب علل الشرائع وأصول الإسلام ح2.
2- أي في الجملة.
3- راجع موسوعة الفقه: ج87-88 كتاب الحدود والتعزيرات.
4- القذف: السب، وقذف المحصنة أي سبّها - لسان العرب: ج9 ص277 مادة قذف -. قذف الرجل: رماه واتهمه بريبة، وقاذفة: راماه وشاتمة. المنجد. والمقذف: الملعن. القاموس: ج3 ص183 مادة قذف.
5- جامع الأخبار: ص158 ف120.
6- بحار الأنوار: ج100 ص249 ب4 ح37.
7- مستدرك الوسائل: ج11 ص361 ب46 ح13266.

..............................

وهل يراد بالقذف ما ارتبط بالعِرض أو مطلقاً؟.

فإن أصل القذف الرمي(1)، ثم استعمل فيما يرتبط بالعرض، لكن هل غلب على ما يرتبط بالعرض بالمعنى الأخص بحيث أصبح حقيقة تعينية فيه أم لا؟.

احتمالان، وإن كان المنصرف الأول(2)والإطلاق يقتضي الثاني، قال الشاعر(3):

ولست بقائل قذفاً ولكن *** لأمر ما تعبدك العبيد

وفي بعض النسخ(4) (قذعاً) مكان (قذفاً)، والقذع هو القذف والرمي بالفحش وسوء القول(5)، فإن الخليفة كان يجمع من الغلمان الخناثى ثم يبيت معهم من أول الليل إلى الصباح يتعاطون الفاحشة، وإلى ذلك أشار الشاعر في هذا البيت.

ص: 432


1- راجع لسان العرب: ج9 ص277 مادة قذف.
2- في مجمع البحرين: ج5 ص107 مادة قذف: (قذف المحصنة رماها بفاحشة). وفي القاموس: ج3 ص183 مادة قذف: (قذف المحصنة رماها بزنية). وفي لسان العرب: ج9 ص277 مادة قذف: (القذف رمي المرأة بالزنا أو ما كان في معناه). ويؤيد هذا المعنى النسخة الأخرى لكلامها (علیها السلام): «واجتناب قذف المحصنات» على ما نقله آية الله السيد محمد كاظم القزويني (رحمة الله) في كتابه (فاطمة الزهراء (علیها السلام) من المهد إلى اللحد).
3- هو دعبل الخزاعي (148-246ه).
4- أي: بعض نسخ الشعر.
5- وفي لسان العرب: ج8 ص262 مادة قذع: (القذع: الفحش، قذعه: رماه بالفحش وأساء القول فيه،وأقذع القول: أساءه، الهجاء المقذع: الذي فيه فحش وقذف وسب يقبح نشره، أقذع له: أفحش في شتمه).

..............................

وقال شاعر آخر(1):

ولا تبيت لهم خنثى تنادمهم *** ولا يرى لهم قرد له حشم

وذكرنا بعض التفصيل في كتاب(ممارسة التغيير)(2).

ثم إن هناك آثاراً وضعية للقذف خصوصاً الرمي بالفاحشة؛ وذلك لأن من قَذف قُذف فترجع اللعنة إليه كأثر وضعي تكويني لذلك، فمن الحكمة في فرض اجتناب القذف هي الحيلولة عن رجوع ضرره ولعنه إلى نفس القاذف.

قال سبحانه: «وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ»(3).

وقال علي (علیه السلام): «إني أكره لكم أن تكونوا سبابين»(4).

وقال (صلی الله علیه و آله): «سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه»(5).

وقال (صلی الله علیه و آله): «من سب علياً (علیه السلام) فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله عزوجل»(6).ولعل قولها (علیها السلام): «حجاباً عن اللعنة» إشارة إلى قوله سبحانه:

ص: 433


1- هو أبو فراس الحمداني (320-357ه).
2- راجع كتاب ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين: ص329-438.
3- سورة الأنعام: 108.
4- نهج البلاغة، الخطب: 206 ومن كلام له (علیه السلام) وقد سمع قوماً من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين.
5- الكافي: ج2 ص359-360 باب السباب ح2.
6- الأمالي للصدوق: ص97 المجلس21 ح2.

..............................

«إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»(1).

لا يقال: فلماذا نرى كلمات اللعن والسب أو ما أشبه في القرآن الحكيم، مثل قوله سبحانه:

«إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ»(2).

وكذلك سب الأشخاص مثل : «عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ»(3).

قال تعالى: «أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ»(4).

وقال سبحانه: «أُولئِكَ لهمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ»(5).

وقال عزوجل: «وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَىيَوْمِ الدِّينِ»(6).

وقال جل ثناؤه: «وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ»(7).

لأنه يقال: إذا كان النقص واقعياً ورجع الأمر إلى إرشاد الطرف أو إرشاد أهله وعشيرته أو الآخرين لزم، وهذا ليس من السباب في شيء، بل داخل في إرشاد الجاهل وتنبيه الغافل وإراءة الطريق للضال، فالمنع والجواز لهما موردان وهذان عقليان قبل أن يكونا شرعيين.

ص: 434


1- سورة النور: 23.
2- سورة الأنبياء: 98.
3- سورة القلم: 13.
4- سورة البقرة: 159.
5- سورة الرعد: 25.
6- سورة الحجر: 35.
7- سورة غافر: 52.

..............................

هذا بالإضافة إلى أن كلمات اللعن وشبهه الموجودة في القرآن الكريم كثيراً منها لا توجه إلى أسماء معينة مذكورة، بل إلى من يحمل تلك الصفات الرذيلة (1) أو الأمم السابقة،فالتركيز يكون على الصفات والأفكار والعقائد وأنواع السلوك والعمل، لا الأفراد بأنفسهم.

أما ما توجه إلى أسماء معينة كقوله تعالى: «تَبَّتْ يَدَا أَبِي لهبٍ وَتَبَّ»(2) فإنه يدخل في باب التزاحم والأهم وما أشبه كما لايخفى.

الاجتناب عن اللعنة

مسألة: يجب أن يبتعد الإنسان عن المواطن التي توجب له (اللعنة)(3) في

ص: 435


1- مثلا قوله تعالى: «فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ» سورة القلم: 8-13. وقوله سبحانه: «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرَارُ» - سورة إبراهيم: 28-29 -، وقوله تعالى: «وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» - سورة إبراهيم: 15-، وقوله سبحانه: «وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا» - سورة التوبة: 118-، وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ... وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ» - سورة التوبة: 107-، وقوله سبحانه: «فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لهمْ… وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ… فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ.. » - سورة الأعراف: 162- 169-، وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ» - سورة الأحزاب: 57 -.
2- سورة المسد : 1.
3- اللعنة لغة: تكون لمعاني مختلفة، (لعنه: أخزاه، وسبه، وأبعده، وطرده عن الخير، وعذبه، وأهلكه، ودعى عليه، وغيرها)، راجع لسان العرب: ج13 ص387 مادة (لعن)، المنجد، مجمع البحرين: ج6 ص309 مادة (لعن)، وغيرها.

..............................

الجملة، قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لهمْ سَعِيراً»(1).

واستظهار ذلك من كلامها (علیها السلام) نظراً للتلازم المتقدم الذي ذكرناه بين العلة والمعلول، والسبب والمسبب ونحوهما.

لكن لا يخفى أن اللعن ينصرف إلى معنى: الإبعاد والطرد من الرحمة أو الخير، والبُعد كما يكون في أصول الدين والفروع الواجبة، كذلك يكون في الأحكام والفروع المستحبة تركاً، والمكروهة فعلاً، ولذا ورد اللعن بمختلف معانيه في جملة من الروايات:

كقوله (علیه السلام): «ملعون، ملعون من نكح بهيمة»(2).

وقال (علیه السلام): «المنجم ملعون، والكاهن ملعون، والساحر ملعون، والمغنية ملعونة»(3).

وقال (علیه السلام): «ملعون من ظلمأجيراً أجرته»(4).

وقال (علیه السلام): «ملعون من سب والديه»(5).

وقال (علیه السلام): «من آذى الله فهو ملعون»(6).

وقال (صلی الله علیه و آله): «ناكح الكف ملعون»(7).

ص: 436


1- سورة الأحزاب: 64.
2- الكافي: ج2 ص270 باب الذنوب ح9.
3- وسائل الشيعة: ج17 ص143 ب24 ح22201.
4- مستدرك الوسائل: ج14 ص29 ب5 ح16018.
5- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج1 ص111باب ما جاء في المراء والمزاح والسخرية.
6- جامع الأخبار: ص147 ف110.
7- مستدرك الوسائل: ج14 ص356 ب23 ح16948.

..............................

وقال (صلی الله علیه و آله): «من لعب بالشطرنج ملعون»(1).

وقال (علیه السلام): «المحتكر ملعون»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «ملعون، ملعون من ضيّع من يعول»(3).وقال (علیه السلام): «معلون من جلس على مائدة يشرب عليها الخمر»(4).

وقال (صلی الله علیه و آله) : «ملعون، ملعون مبغض علي بن أبي طالب (علیه السلام)»(5).

وقال (صلی الله علیه و آله) : «ملعون ملعون من يظلم ابنتي فاطمة (علیها السلام)»(6).

وقال (صلی الله علیه و آله): «من أبغض عترتي فهو ملعون»(7).

وقال (علیه السلام): «ملعون ملعون من آذى جاره»(8).

وقال (علیه السلام): «ملعون، ملعون قاطع رحمه»(9).

وقال (علیه السلام): «شارب الخمرملعون»(10).

ص: 437


1- غوالي اللآلي: ج1 ص260 ف10 ح40.
2- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص266 باب الحكرة والأسعار ح3961.
3- الكافي: ج4 ص12 باب كفاية العيال والتوسع عليهم ح9.
4- تهذيب الأحكام: ج9 ص97 ب2 ح157.
5- وسائل الشيعة: ج16 ص280 ب41 ح21555.
6- بحار الأنوار: ج29 ص346 ب11 الثانية، والبحار: ج73 ص354 ب67 ح21.
7- جامع الأخبار: ص84 ف40.
8- وسائل الشيعة: ج16 ص280 ب41 ح21555.
9- مستدرك الوسائل: ج15 ص183 ب71 ح17942.
10- بحار الأنوار: ج62 ص166 ب2 ح4، والبحار: ج76 ص141 ب86 ضمن ح52.

..............................

كما ورد(1) عنه (علیه السلام): «من كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون»(2).

وقال (علیه السلام): «ملعون من ألقى كله على الناس»(3).

وقال (علیه السلام): «الجالس في وسط القوم ملعون»(4).

وقال (علیه السلام): «معلون من أخر العشاء إلى أن تشتبك النجوم»(5).

وقال (علیه السلام): «المنان على الفقراء ملعون في الدنيا والآخرة»(6).

وقال (علیه السلام): «ملعون من لم ينصح أخاه»(7).ومثل ما ورد من اللعن لمن أكل زاده وحده، أو نام في بيت وحده، أو ركب الفلاة وحده(8)، أو ما أشبه ذلك.

والمراد من (اللعنة) في قولها (علیها السلام): اللعنة التي تسببها المحرمات، وأما اللعن في أصول الدين أو في المكروهات فقولها (عليها الصلاة والسلام) قد تكون منصرفة عنهما (9).

ص: 438


1- ما سبق من الروايات كانت تدل على الحرمة، وما سيأتي على الكراهة.
2- وسائل الشيعة: ج16 ص94 ب95 ح21073.
3- تهذيب الأحكام: ج6 ص327 ب93 ح23.
4- بحار الأنوار: ج89 ص166 ب15.
5- وسائل الشيعة: ج4 ص201 ب21 ح4919.
6- إرشاد القلوب: ج1 ص194 ب52.
7- مستدرك الوسائل: ج9 ص122 ب132 ح10425.
8- راجع من لا يحضره الفقيه: ج4 ص359 باب النوادر وهو آخر أبواب الكتاب ح5762، وفيه قال (صلی الله علیه و آله): «يا علي، لعن الله ثلاثة: آكل زاده وحده، وراكب الفلاة وحده، والنائم في بيت وحده».
9- فاللعن في أصول الدين رتبة ودرجة أعلى، وفي المكروهات رتبة أدنى.

وترك السرقة إيجاباً للعفة

اشارة

-------------------------------------------

وترك السرقة إيجاباً للعفة(1)،

حرمة السرقة

مسألة: السرقة بمختلف أنواعها - سواء أدت إلى قطع اليد أم لم تؤد، وسواء كانت سرقة للأموال أم للحقوق، وسواء كانت من الأفراد أم الأمم، وكذلك من الأجيال القادمة مما ذكر مفصلاً في الفقه(2)- محرمة؛ فإنها تسبب الفوضى في المجتمع، وانعدام الأمن، والهرج والمرج، إضافة إلى كونها مصادرة لجهود الآخرين وحقوقهم، وإن جعل حدود العقوبات على أفرادها مختلفة حسب الحِكَم والمصالح المختلفة.

قال (علیه السلام): «ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن»(3).

وجوب التحلي بالعفاف

مسألة: يجب التحلي بالعفة، قال (علیه السلام): «عليك بلزوم العفة والورع»(4).

وقال (علیه السلام): «إن أفضل العبادة عفة البطن والفرج»(5).

ص: 439


1- وفي بعض النسخ: «ومجانبة السرقة» - راجع علل الشرائع: ج1 ص248 باب علل الشرائع وأصول الإسلام ح2، وكشف الغمة: ج1 ص484 فاطمة (علیها السلام) -.
2- راجع للإمام المؤلف (قدس سره) حول شتى هذه النقاط: (الفقه: الاقتصاد)، و(الفقه: الغصب)، و(الفقه: الحدود)، و(الفقه: والديات).
3- تهذيب الأحكام: ج6 ص371 ب93 ح195.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص297 ق3 ب3 ف3 ذم الطمع ح6691.
5- الكافي: ج2 ص79 باب العفة ح2.

..............................

وقال (علیه السلام): «العفة رأس كل خير»(1).

وفي الدعاء: «وارزقني العفة في بطني وفرجي»(2). والمراد بالعفة هنا: العفة عن (ما لا يحل) وهي العفة الواجبة؛ لأنه من العفة واجب ومنها مستحب.

والعفة معناها: كف النفس عن الشيء المشين والقبيح(3)، فإن كان الشيءالمشين محرماً كانت العفة واجبة، وإن كان مرغوباً عنه لا إلى المنع عن النقيض كانت العفة مستحبة.

أما العفة في قولها (علیها السلام) فمنصرفة للأمر الواجب للقرينة، فإن العفة حالة تقتضي حفظ اليد واللسان والبطن والفرج وسائر الجوارح، فإذا سرق إنسان خرق عفته، ومن المعلوم أن خرق العفة يؤدي إلى سائر الموبقات، ولذا ترى السارق لا يمتنع عادة من اغتصاب النساء وأكل الحرام، إلى غير ذلك. ومن المعلوم أن تفشي عدم العفة في المجتمع يهدم الاجتماع، ولعل لذلك قرر الشارع للسرقة عقوبة من أشد العقوبات إذا توفرت فيها جميع الشروط المذكور في الفقه - قال تعالى: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ»(4).

ص: 440


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص255 ق3 ب2 ف2 العفة ح5399.
2- المصباح للكفعمي: ص588 ف45 الليلة التاسعة.
3- جاء في كتب اللغة (العفة): الامتناع عن ما لا يحل (عن الحرام أو المحارم) وما لا يجمل (أي ما لا يحسن للمرء أن يأتي به)، وإنها: النزاهة عن القبائح، وذكروا من مصاديقها: كف النفس عن السؤال من الناس - راجع مجمع البيان: ج2 ص201، ولسان العرب: ج9 ص253 مادة عفف، والقاموس: ج3 ص176، وغيرها.
4- سورة المائدة: 38.

وحرم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبية

اشارة

-------------------------------------------

وحرم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبية (1) ،

الشرك الجلي والخفي

مسألة: يحرم الشرك الجلي، وكذلك يحرم الشرك الخفي أيضاً (2) في الجملة، قال تعالى: «لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ»(3).

وقال تعالى في الحديث القدسي: «يا عيسى، لا تشرك بي شيئاً»(4).

وقال عزوجل: «يا موسى، لا تشرك بي لا يحل لك الشرك بي»(5).

وهل المراد بالشرك هنا الشرك الجلي حتى يكون تأكيداً لما تقدم من قولها (علیها السلام): «فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك»، أو الشرك الخفي كالرياء ونحوه حتى يكون تأسيساً؟.

لا يستبعد الثاني؛ لأن الأصلالتأسيس، وإن كان المنصرف من لفظ (الشرك) المعنى السابق فيكون تأكيداً، لكن السياق قد يؤيد الشرك الخفي، إضافةً إلى كلمة (إخلاصاً) المقابلة للشرك الخفي، فهذه الكلمة والسياق وعدم التكرار تقاوم الانصراف البدوي، فتأمل.

ص: 441


1- وفي بعض النسخ: «والنهي عن الشرك إخلاصاً له تعالى بالربوبية» راجع دلائل الإمامة: ص33 حديث فدك
2- كالرياء؛ فإنه الشرك الخفي. راجع منية المريد: ص217 ب3 ف2.
3- سورة لقمان: 13.
4- الكافي: ج8 ص141 حديث عيسى ابن مريم (علیه السلام) ح103.
5- مستدرك الوسائل: ج12 ص159-160 ب97 ح13777.

..............................

كما يمكن التفريق بين هذا المقطع وذاك بالقول بأن المراد بالجعل في الكلام السابق التكوين، ويكون المراد بالتطهير أيضاً التكويني، والمراد ب (حرم): التشريع، فلا تكرار.

أو يقال: إن الأول إيجابي إذ (الإيمان) شيء وجودي، والثاني (الشرك) شيء سلبي باعتباره سلباً للإيمان(1).

أو يقال: بأنه مضاد للأول وكلاهما وجوديان من قبيل (الشجاعة والجبن)، ولذا استحق كل منهما الذكر، كغالب الأضداد سواء كان لها ثالث أم لا، ولا يهم الآن تحقيق ذلك.

ومن لا يشرك فإنه يخلص لله سبحانه بالإذعان له بالربوبية وحده.

ولعلّها (علیها السلام) كررت ذلكبلفظين - على القول بأنه تكرار - لشدة الاهتمام به، وهناك بعض الاحتمالات الآخر، والله سبحانه وأولياؤه (علیهم السلام) أعلم.

ثم إن التحريم ها هنا إرشادي، وعلى بعض الآراء مولوي(2).

ص: 442


1- أو يقال بالعكس؛ نظراً لأن التوحيد سلب الألوهية عما عدا الله، والشرك إثباتها لغيره أيضاً.
2- من الأقوال في ملاك الأوامر الإرشادية: كل ما استقل به العقل فهو إرشادي، وعلى هذا فتحريم الشرك إرشاد لحكم العقل. ومن الأقوال: إن الإرشادي هو كل ما لزم من اعتباره مولوياً الدور وشبهه، فعلى هذا فتحريم الشرك ها هنا مولوي، إذ لا يلزم من اعتباره مولوياً محال، فتأمل.

ف ƒ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ

اشارة

-------------------------------------------

ف ƒ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ (1)

مراتب التقوى

مسألة: التقوى لها معان ومراتب، وهي على ذلك تنقسم إلى ما هو واجب وما هو مستحب، ومنها ما يكون من درجات المقربين(2).

فإن التقوى قد تطلق ويراد بها (الخشية من الله تعالى وهيبته)، وعلى هذا فهي حالة نفسانية وملكة روحانية، وقد يراد بها معنى أدق من هذا(3).

وقد تطلق ويراد بها الإطاعة والعبادة(4) وهو الغالب، وهي على هذاليست شيئاً وراء إتيان الواجبات وترك المحرمات.

فقوله سبحانه: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ»(5)، وقوله تعالى: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ»(6) وما أشبه ذلك، مثل قوله تعالى: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا

ص: 443


1- إشارة إلى قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ» سورة آل عمران: 102.
2- قد يكون هذا عطفاً للخاص على العام نظراً لأهميته.
3- قد يكون المراد: تنزيه القلب عن التفكير في الذنب وهي درجة سامية جداً، وقد يكون المراد: التوقي عن كل ما يشغل القلب عن الله تعالى، بأن يكون القلب معموراً بذكر الله دوماً، وهي درجة أسمى وأعلى كما لا يخفى، وسيأتي بيانه من الإمام المؤلف (قدس سره) بعد قليل.
4- قال الإمام الصادق (علیه السلام) عندما سئل عن تفسير التقوى: «أن لا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يراك حيث نهاك» - وسائل الشيعة: ج15 ص239 ب19 ح20381 - في جواب من قال له: أوصني.
5- سورة التغابن: 16.
6- سورة آل عمران: 102.

..............................

الرَّسُولَ»(1) حيث إن الطاعة ليست شيئاً وراء الإتيان بالواجبات وترك المحرمات بل هذه مصاديقها، وكذلك هاهنا فليست التقوى على هذا المعنى أمراً وراء أداء الواجبات وترك المحرمات، لوضوح إنه ليس هناك أمران ونهيان، كما أنه ليس هناك واجبان ومحرمان وثوابان وعقابان، على ما ذكر مفصلاً في علمي الكلام والأصول(2).وفي الحديث عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ»(3)؟. قال (علیه السلام): «يُطاع فلا يعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر»(4).

وقال (صلی الله علیه و آله) في خطبة الغدير: «معاشر الناس، «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ»(5)»(6).

نعم للإطاعة والتقوى مراتب(7) بحسب الأمر والمتعلق وما أشبه، وقد تكون في المستحب والمكروه، لكن لا على سبيل اللزوم والمنع من النقيض وإنما

ص: 444


1- سورة النساء: 59، سورة المائدة: 92، سورة النور: 54، سورة محمد: 33، سورة التغابن: 12.
2- من مواطن هذا البحث : مبحث (الأوامر)، و(التجري والانقياد)، و(هل أن الأمر يقتضي النهي عن الضد؟)، و(مقدمة الواجب)، في علم الأصول. يراجع (الوصائل إلى الرسائل)، و(الأصول) للإمام المؤلف (قدس سره).
3- سورة آل عمران: 102.
4- مستدرك الوسائل: ج11 ص265 ب20 ح12952.
5- سورة آل عمران: 102.
6- بحار الأنوار: ج37 ص211 ب52 ح86.
7- الظاهر أن المراد: إن لها مراتب من حيث درجات الوجوب أو الرجحان وأشدية الطلب.

..............................

على سبيل الرجحان، بل من التقوىوالإطاعة أيضاً ما يرتبط بالمباحات(1) ل:

«إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه»(2).

و: «إن الله يغضب على من لا يقبل رخصته»(3)، وذلك في قبال من يوجب أو يحرم على نفسه بعض المباحات، قال سبحانه: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ»(4).

الاستزادة من التقوى

مسألة: حق التقوى هو العبودية المطلقة لله سبحانه وتعالى، أي العبودية التي لا تشوبها شائبة رياء أو سمعة أو عُجب، أو أي نوع من أنواع الأنانية، بل كما قال علي (علیه السلام): «ولكن وجدتك أهلاً للعبادةفعبدتك»(5).

وهي التي تتحقق بالرضا بقضاء الله على النحو الأتم، وبتذكره سبحانه وتعالى دوماً بحيث لا يغيب عن القلب والفكر أبداً، بل يجده الإنسان حاضراً ناظراً أبداً، كما نجد ذلك متجلياً في حياة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) وآله الأطهار (علیهم السلام)(6)، فهم معصومون من الغفلة عن ذكر الله،إضافة إلى عصمتهم من مجرد

ص: 445


1- وعلى هذا فيكون المراد من التقوى ها هنا: التوقي عن تحريم أو إيجاب ما أحله الله تشريعاً، لا الترقي عن مجرد ترك المباح أو فعله ولو استمراراً، كيف والفرض أنه مباح.
2- وسائل الشيعة: ج1 ص108 ب25 ح263، والوسائل: ج16 ص232 ب29 ح21441.
3- المناقب: ج4 ص414 فصل في آياته (علیه السلام).
4- سورة الأعراف: 32.
5- غوالي اللآلي: ج1 ص404 ب1 المسلك الثالث.
6- ومنه لم يترك أمير المؤمنين (علیه السلام) ذكر الله حتى حين أراد الحلاق قص شارب وطلب منه إطباق شفتيه.

..............................

التفكير في الذنب، بل في المكروه أيضاً.

ومن المستحب أن يسعى الإنسان للاستزادة من التقوى يوماً بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة، نظراً إلى قوله تعالى: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ»(1).

وحق التقوى له مراتب متصاعدة غير محدودة بحد، مما قد يعبر عنه باللامتناهي اللا يقفي، وحيث إن كثيراً من مراتبها مما يتعسر - بل مما يتعذر- على غالب الناس، قال تعالى في آية أخرى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ»(2).

فقوله تعالى: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ»(3) تشير إلى ما هو المبتغى والمراد الأسمى، و«مَا اسْتَطَعْتُمْ» تشير إلى ما على الإنسان أن يحققه، فلا يصح على هذا ما قيل من أن «مَا اسْتَطَعْتُمْ» ناسخة للآية الأخرى: «حَقَّ تُقَاتِهِ» بل أحداهما مكملة للأخرى(4).

ص: 446


1- سورة آل عمران: 102.
2- سورة التغابن: 16.
3- سورة آل عمران: 102.
4- راجع مجمع البيان: ج10 ص34، وفيه: (ولا تنافي بين هذا وبين قوله: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ» لأن كل واحد منهما إلزام لترك جميع المعاصي، فمن فعل ذلك فقد اتقى عقاب الله، لأن من لم يفعل قبيحاً ولا أخل بواجب فلا عقاب عليه، إلا أن في أحد الكلامين تبييناً أن التكليف لايلزم العبد إلا فيما يطيق، وكل أمر أمر الله به فلابد أن يكون مشروطاً بالاستطاعة، وقال قتادة: قوله: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» ناسخ لقوله: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ» وكأنه يذهب إلى أن فيه رخصة لحال التقية وما جرى مجراها مما يعظم فيه المشقة، وإن كانت القدرة حاصلة معه. وقال غيره: ليس هذا بناسخ، وإنما هو مبين لإمكان العمل بهما جميعاً وهو الصحيح)، انتهى.

..............................

ومن الواضح أن الله سبحانه وتعالى جعل للأشياء حدوداً، فالصلاة في كل يوم خمس مرات، والصوم في كل سنة شهراً، والحج في العمر مرة واحدة، وهكذا مما هو محدد في جانب الكمّ.

وكذلك الكثير مما هو محدد في جانب الكيف.

أما التقوى فإنه سبحانه لم يجعل لها حداً بل قال تعالى: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ»(1)؛ لأنه في كل حصة حصة من الحياة تقوى أو لا تقوى.

ثم التقوى أيضاً كما سبق على درجات، فهي ممتدة كماً إلى آخر نفس من أنفاس الحياة - وعدم الحد هنا نسبي - كما أنها في الكيف غير محدودة بنحو اللايقفي كما سبق.

قال تعالى: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى»(2).

وقال (علیه السلام): «إن خير الزاد التقوى»(3).

وقال (علیه السلام): «إن التقوى حقالله سبحانه عليكم»(4).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «نحن كلمة التقوى»(5).

ص: 447


1- سورة آل عمران: 102.
2- سورة المائدة: 2.
3- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص179-180 باب التعزية والجزع عند المصيبة ح535و536.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص269 ق3 ب2 ف5 فضيلتهما والترغيب فيهما ح5855.
5- بحار الأنوار: ج24 ص184 ب50 ح24.

وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‚

اشارة

-------------------------------------------

وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‚ (1)،

الموت على الإسلام

مسألة: الموت بما هو هو أمر غير اختياري، إلاّ أن الموت على صفة وحالة اختيارية اختياري، ولذلك يمكن أن يؤمر به أو ينهى عنه بهذا اللحاظ، ف (الموت على الإسلام) مأمور به، قال تعالى: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ»(2) يعني وجوب الاستمرار في الاعتقاد الحق إلى آخر لحظة من لحظات العمر. فالجملة السابقة(3) تشير إلى الجانب الكيفي، وهذه الجملة(4) إلى الامتداد الزمني، أي: اتقوا الله حق تقاته واستمروا على ذلك إلى حين الموت، والمسلم الحقيقي هو الذي يطيع الله في كل شيء، وفي كل لحظة من لحظات العمر، فلا يموت الإنسان إلاّ وهو في طاعة الله سبحانه.وفي الحديث: «وأعوذ بالله من شر عاقبة الأمور»(5).

وقال (علیه السلام): «أشد الناس ندماً عند الموت العلماء غير العاملين»(6).

ص: 448


1- سورة آل عمران: 102.
2- سورة آل عمران: 85.
3- أي: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ».
4- أي: «وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ».
5- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص402 ومن ألفاظ رسول الله (صلی الله علیه و آله) الموجزة التي لم يُسبق إليها ح5868.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: ص45 ق1 ب1 ف2 العلم بلا عمل ح173.

..............................

وقال (علیه السلام): «إياك أن ينزل بك الموت وأنت آبق عن ربك في طلب الدنيا»(1).

حسن العاقبة

مسألة: كل ما يؤدي إلى حسن العاقبة للإنسان فهو راجح ومطلوب، فإن كان في مرتبة المنع من النقيض كان واجباً، وإلاّ كان مستحباً، وذلك عقلي قبل أن يكون شرعياً، وإنما المصاديق غالباً مما يؤخذ من الشارع، لقصور العقل عن التوصل إلى كثير من جهاتهاأو تزاحماتها.

وقد قال سبحانه: «وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ»(2).وقال تعالى: «فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ»(3).

وقد ورد في الدعاء: «واجعل عاقبة أمري إلى غفرانك ورحمتك»(4).

و: «فاجعل عاقبة أمري إلى خير»(5).

و: «واختم لنا بالتي هي أحسن وأحمد عاقبة، وأكرم مصيراً»(6).

و: «اللهم إني أسألك حسن العاقبة»(7).

ص: 449


1- نهج البلاغة، الرسائل: 69 ومن كتاب له (علیه السلام) إلى الحارث الهمذاني.
2- سورة لقمان: 22.
3- سورة آل عمران: 137، سورة النحل: 36.
4- تهذيب الأحكام: ج3 ص115 دعاء أول يوم من شهر رمضان.
5- الإقبال: ص521 ب6 ومن الدعاء في يوم المباهلة.
6- بحار الأنوار: ج88 ص269 ب7 ح22.
7- فقه الرضا (علیه السلام): ص406 ب116.

..............................

الاقتباس من الكتاب

مسألة: يستحب الاقتباس من الكتاب العزيز في الحوار والخطاب، وقد أكثرالمعصومون (صلوات الله عليهم أجمعين) من إدراج آيات القرآن في كلماتهم، كما اقتدى بهم أتباعهم؛ لأن القرآن شفاء ونور وبلاغ، ولأنه جامع لعلوم الأولين والآخرين ولعلوم الدنيا والآخرة في مختلف المجالات و الأبعاد.

قال تعالى: «وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» (1).

وقال سبحانه: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ» (2).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله»(3).

وفي الحديث الشريف: «في القرآن شفاء من كل داء»(4).

وقال (علیه السلام): «داووا مرضاكم بالصدقة، واستشفوا له بالقرآن، فمن لم يشفه القرآن فلا شفاء له»(5).

وفي الدعاء: «وأن تجعل القرآن نورصدري، وتيسر به أمري»(6).

لذلك فقد استند إليه أتباعهم في شتى المنطلقات وفي شتى الأبعاد، كل حسب قابليته وفي دائرة أبعاده ومدار اهتمامه أو تخصصه وتوجهه.

ص: 450


1- سورة الأنعام: 59.
2- سورة النحل: 89.
3- بحار الأنوار: ج89 ص176 ب18 ح1.
4- مستدرك الوسائل: ج2 ص98 ب16 ح1526.
5- بحار الأنوار: ج59 ص262 ب88 ح18، والبحار: ج89 ص202-203 ب23 ح26.
6- العدد القوية: ص326 اليوم السادس والعشرون.

..............................

وليس ثمة كتاب سماوي أو أرضي اعتنى به أهل ملته وأتباعه مثل القرآن الحكيم، فإن علماء الإسلام - تبعاً لقادة الإسلام - أعطوه من الأهمية والعناية ما لم يُعطَ لكتاب قبله ولا ولن يُعطى لكتاب بعده، حسب معتقدنا من كونه الكتاب الوحيد المتفرد والمتميز بهذه الكيفية.

فقامت كل طائفة بدراسة فن من فنونه:

فقد اهتم جمع بمعرفة مخارج حروفه وعدد الآيات والكلمات والحروف والسكنات والحركات من الضمة والفتحة والكسرة وغير ذلك.

كما أن ألوف المسلمين - في زمن رسول الله (صلی الله علیه و آله) - كانوا يحفظون القرآن كله من أوله إلى آخره وإلى يومنا هذا.

واعتنى اللغويون: بمفرد مفرد منمفرداته.

ويعتني النحاة: بالمعرب والمبني والأسماء والأفعال والحروف منه، بل كان أصل تكونه وتأسيسه(1) بتوجيه وإرشاد الإمام علي بن أبى طالب (علیه السلام) على أبي الأسود الدؤلي لأجل التحفظ على صحة قراءة القرآن الكريم وإعرابه(2).

ص: 451


1- أي علم النحو.
2- ففي كتاب (الصراط المستقيم: ج1 ص220-221 ب7 ف19): وأما النحاة فظاهر وصفه (علیه السلام) لأبي أسود الدؤلي فإنه دخل عليه فرآه متفكراً، فقال له: فيما أنت تفكر؟. قال: «سمعت في بلدكم لحناً وأردت أن أضع في اللغة كتاباً». قال: فأتيته بعد أيام فألقى إليَّ صحيفة فيها: «الكلام كله ثلاثة: اسم وفعل وحرف، والأشياء ثلاثة: ظاهر ومضمر وغيرهما، فانح هذا النحو». وفي (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج1 ص20 القول في نسب أمير المؤمنين علي (علیه السلام) وذكر لمع يسيرة من فضائله): ومن العلوم علم النحو والعربية، وقد علم الناس كافة أنه - أي علياً (علیه السلام) - هو الذي ابتدعه وأنشأه وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعه وأصوله، من جملتها: «الكلام كله ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف»، ومن جملتها: «تقسيم الكلمة إلى معرفة ونكرة، وتقسيم وجوه الإعراب إلى الرفع والنصب والجر والجزم». وفي (كتاب كشف اليقين: ص58 ف3 ب1 المبحث الثاني العلم): وأما النحو فهو - أي علي(علیه السلام) - واضعه، قال لأبي الأسود الدؤلي: «الكلام كله ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف» وبين له وجوه الإعراب. وفي (كشف الغمة: ج1 ص133وأما تفصيل العلوم فمنه ابتداؤها وإليه تنسب): وإما النحو فقد عرف الناس قاطبة أن علياً (علیه السلام) هو الواضع الأول الذي اخترعه وابتدعه ونصبه علماً لأبي الأسود ووضعه.

..............................

واعتنى أهل الرسم والخط: برسوم كلماته وما يتعلق به من هذا النحو من الخطوط، والتي أنهاها بعضهم إلى أكثر من عشرين بما هو الدارج عند العرب والعجم، وأما سائر الخطوط في اللغات الأخرى فهي كثيرة.

واعتنى المفسرون: بألفاظه مفردات وجمل(1) سواء منها الألفاظ المشتركة التي تدل على أكثر من معنى أم الألفاظ ذات المعنى الواحد، وكذلك الكلي والجزئي، وذكروا المحكم والمتشابه، وأن المتشابه له احتمالان أو احتمالات، ورجحوا المحتمل على المحتمل استناداً إلى تفسير القرآن بالقرآن،أو تفسير القرآن بالأحاديث الشريفة، أو حسب القرائن المقامية والسياق والانصراف العرفي وما أشبه.

واعتنى علماء الكلام: بما في القرآن من الأدلة العقلية والشواهد البرهانية والفطرية مما هو كثير.

ص: 452


1- فقد ورد عن ابن عباس قال: (حدثني أمير المؤمنين (علیه السلام) في تفسير الباء من ƒبسم الله الرحمن الرحيم‚ من أول الليل إلى آخره) كشف اليقين: ص59 ف3 ب1 المبحث الثاني العلم.

..............................

كما إن المنطقيين: ذكروا الأدلة المستفادة من القرآن في الصناعات الخمس(1).

وكلتا الطائفتين ذكروا ما يستفاد من القرآن الحكيم من الأدلة على وحدانيته تعالى ووجوده وقدرته وعلمه وتنزيهه عما لا يليق به وما أشبه ذلك من صفاته الجمالية والجلالية. أما المتكلمون فقد ذكروا ذلك في باب أصول الدين، وأما المناطقة فقد ذكروا ذلك(2) في باب الحجة وما هو من شأن المنطق.

والأصوليون: تكلموا في العام والخاص، والنص والظاهر، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والمحكم والمتشابه، والأمر والنهي منه، وغيرذلك من الشؤون المرتبطة بأصول الفقه.

والفقهاء: استفادوا من القرآن الحلال والحرام والواجب والمستحب والمباح، والملاكات أصولاً وفروعاً.

كما أن جمعاً من الفقهاء ذكروا آيات الميراث وخصوصياتها وسموا ذلك بعلم الفرائض مما يرتبط بمختلف طبقات الوراث وأنصبتهم، وقد ألف جمع منهم كتباً خاصة ب (آيات الأحكام) وهي خمسمائة آية بل أكثر.

وعلماء الأدعية: ذكروا أدعية القرآن الحكيم وهي كثيرة، مع الشؤون المرتبطة بهذه الأدعية الواردة في الكتاب العزيز.

وجماعة تخصصوا بذكر قصص القرآن عن القرون السابقة والأمم البالية ونقل أخبارهم، وذكروا ما يتعلق بابتداء الكون والدنيا وبدايات الأشياء.

ص: 453


1- وهي: البرهان، الجدل، الخطابة، الشعر، المغالطة.
2- أي الأدلة والحجج والبراهين المستفادة من القرآن.

..............................

واستفاد المؤرخون منه مباحث كثيرة في كتاباتهم، واستفاد منه البعض في علم فلسفة التاريخ.

وقامت جماعة باقتباس الأمثال والحكم والمواعظ والعبر والترغيب والترهيب من القرآن الحكيم، وتطرقوا للوعد والوعيد، والتشويق والتحذير، والموت والنشر، والمعاد والحشر،والحساب والعقاب، والجنة والنار، والميزان والبرزخ وما أشبه ذلك من الروادع والزواجر مما يفيد أهل الوعظ والإرشاد والخطباء لتوجيه الناس إلى الله والدين والخير والآخرة.

كما أن جماعة من المعبرين للرؤيا استفادوا من القرآن الحكيم إشارات وعلامات، بالتأمل في أغوار قصة يوسف (علیه السلام) والبقرات السمان(1)..

ورؤيا صاحبي السجن(2)..

ورؤيا إبراهيم (علیه السلام)(3)..

ص: 454


1- إشارة إلى قوله تعالى: «وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأَُ أَفْتُونِي فِي رُءْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ» سورة يوسف: 43 . وقوله تعالى: «يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ» سورة يوسف: 46.
2- إشارة إلى قوله تعالى: «وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآْخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» سورة يوسف: 36. وقوله تعالى: «يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآْخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ» سورة يوسف: 41.
3- إشارة إلى قوله تعالى: «فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» سورة الصافات: 102 .

..............................

ورؤيا النبي (صلی الله علیه و آله)(1)..

ورؤيا المسلمين في قصة بدر(2)، وما أشبه ذلك.

وعلماء الفلك: استخرجوا من القرآن الحكيم ما يرتبط بعلمهم من المواقيت، والليل والنهار، والشمس والقمر، والبروج ونحوها، كما يشاهد ذلك في المراصد والاسطرلابات والكتب المعنية بهذا الشأن.

والشعراء والكتّاب: استفادوا من القرآن الحكيم في جمال اللفظ وبديعالنظم وحسن السياق، والمبادئ والمقاطع، والمطالع والمخارج، والتلون في الخطاب، والإسناد والإيجاز، وغير ذلك مما يرتبط بعلوم البلاغة من المعاني والبيان والبديع على مختلف شؤونها وشجونها(3).

وعلماء المناظرة: استفادوا من القرآن الحكيم أسلوب الحوار والجدال، وذلك من مخاطبة الله سبحانه وتعالى مع الناس أو الملائكة أو الجن، وكذلك في حوار الأنبياء (علیهم السلام) مع الأمم وغير ذلك مما يعلم أسلوب البيان والمحاورات للمنصف والمجادل وغير ذلك.

هذا بالإضافة إلى أنه يمكن الاستفادة من كثير من آيات القرآن الحكيم في علم النفس وعلم الاجتماع والاقتصاد والسياسة والحقوق والإدارة وغيرها،

ص: 455


1- إشارة إلى قوله تعالى: «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً» سورة الفتح: 27.
2- إشارة إلى قوله تعالى: «إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ» سورة الأنفال: 43.
3- راجع كتاب البلاغة للإمام المؤلف (قدس سره).

..............................

وقد استفاد عدد من العلماء من بعضها في تلك العلوم(1).إضافة إلى علوم أخرى كعلم طبقات الأرض، وعلم وظائف الأعضاء والعلوم التي ترتبط بشتى الصناعات وغيرها.

وفيه بحوث وإشارات إلى شتى أصناف المخلوقات المادية والمجردة، وقد قال سبحانه: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ»(2)، فإنه تعالى لم يفرط في الكتاب التكويني شيئاً قابلاً للخلق، كما أنه لم يفرّط في الكتاب التشريعي شيئاً مرتبطاً بشؤون الإنسان.

وإنا لم نقصد مما ذكرنا ها هنا إلا الإلماع؛ لأن السيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) ذكرت هنا آية قرآنية كريمة كشاهد على كلامها.

وإلاّ فالتفصيل يحتاج إلى مجلد ضخم مما هو خارج عن مبحث هذا الكتاب.

ص: 456


1- راجع موسوعة الفقه: (الفقه: علم النفس)، و(الفقه: الاجتماع)، و(الفقه: الاقتصاد)، و(الفقه: السياسة)، و(الفقه: القانون)، و(الفقه: الحقوق)، و(الفقه: الإدارة)، للإمام المؤلف (قدس سره).
2- سورة الأنعام: 38.

وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه،

اشارة

-------------------------------------------

إطاعة الباري تعالى

مسألة: تجب إطاعة الله تعالى(1) والاهتمام بأوامره ونواهيه وتحرم المعصية. قال سبحانه: «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ»(2).

وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ»(3).

وقال (علیه السلام): «أطيعوا الله حسب ما أمركم به رسله»(4).

وقال (علیه السلام): «جمال العبد الطاعة»(5).وقال (علیه السلام): «العزيز من اعتز بطاعة الله»(6).

هذا بالنسبة إلى الواجب فعلاً أو تركاً، وكذلك طاعة الله سبحانه وتعالى في القسم الراجح فعلاً وتركاً - وهي واجبة إن كان المقصود بها الالتزام باستحباب المستحب وكراهة المكروه، ومستحب إن كان المراد بها الامتثال

ص: 457


1- هذا الوجوب عقلي وفطري، والأمر هنا إرشادي.
2- سورة آل عمران: 32.
3- سورة الأنفال: 20.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص183 ق2 ب2 ف1 الترغيب في الطاعة ح3471.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص181 ق2 ب2 ف1 فضيلة طاعة الله تعالى ح3395.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: ص184 ق2 ب2 ف1 الطاعة عز ونصر وسلم ح3495.

..............................

العملي للأوامر الاستحبابية - بل تجري الطاعة في المباح(1) أيضاً، فإن المباح الأصلي غير المباح بعد التشريع، فلا يقال: إنه باق على الإباحة فليس بحكم شرعي(2) فتكون الأحكام حينئذ أربعة فقط، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في بعض كتبنا الأصولية.

وعلى هذا فإن «فيما أمركم به ونهاكم عنه» يكون تأكيداً لهذين المصداقين من الإطاعة وليس حصراً، وإناستشم منه عرفاً ذلك - فتأمل.

قولها (صلوات الله عليها): «وأطيعوا» تأكيد لما سبق، وتصريح بكل ما وجب وحرم، وشرح ل «اتقوا الله».

ص: 458


1- الإطاعة في المباح هي الالتزام بإباحته.
2- الإباحة مجعولة وليست عبارة عن عدم الجعل، فلنا حكم بالإباحة لا مجرد عدم الحكم بالحرمة والوجوب.

فإنه «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»

اشارة

-------------------------------------------

فإنه «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»(1).

الخشية من الله

مسألة: ينبغي إشراب الجنان الخشية من الله تعالى وقد تجب كل في مورده؛ لأن الخشية التي تصدّ الإنسان عن المعاصي واجبة، أما الخشية التي تدفع الإنسان نحو إتيان المستحبات وترك المكروهات فهي مستحبة شرعاً.

ومع قطع النظر عن جانب (المقدمية) فإنها في حد ذاتها حالة مطلوبة وصفة إيجابية وميزة متميزة للمؤمن، قال سبحانه: «فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ»(2).

ومن الواضح أن العلماء بالله سبحانه وتعالى هم الذين يخشون، أما الجاهل بالله سبحانه وتعالى فلا يخشاه، مثله - ولا مناقشة في المثال - مثل الجاهل بكون هذا أسداً أو أن الأسد مما يخاف منه فإنه لا يتجنبه، كما هو شان الأطفال والمجانين ونحوهما، ولذا قالالرسول (صلی الله علیه و آله): «إن المجنون حق المجنون: المتبختر في مشيته، الناظر في عطفيه، المحرك جنبيه بمنكبيه»(3)، وأما المجنون - عرفاً - الذي يقابل العاقل فقد قال (صلی الله علیه و آله) عنه: «وهذا المبتلى»(4).

ص: 459


1- سورة فاطر: 28
2- سورة المائدة: 44.
3- وسائل الشيعة: ج5 ص43 ب23 ح5854.
4- وسائل الشيعة: ج5 ص43 ب23 ح5854.

..............................

وذلك أن العقل من العقال(1)، فهو تلك القوة التي تردع الإنسان عن ارتكاب الضار والتقحم في الهلكات والإتيان بما لا يلائم، والمجنون هو الذي يقدم على الضار ويقتحم الهلكات دون سبب أو يأتي بغير الملائم من دون وجه، وأي جنون أعظم من ارتكاب معصيةالله؟. وأي جنون أكبر من التمهيد لدخول النار؟. أو الفوز بسخط الجبار؟، قال تعالى: «وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً»(2).

فأشارت (علیها السلام) إلى أهمية الخشية ولزومه، قال علي (علیه السلام): «سبب الخشية العلم»(3). وقال (علیه السلام): «الخشية ميراث العلم»(4).

وقال (علیه السلام): «غاية المعرفة الخشية»(5).

وقال (علیه السلام): «كان فيما أوحى الله تعالى جل ذكره إلى عيسى (علیه السلام): هب لي من عينيك الدموع، ومن قلبك الخشية، وأكحل عينيك بميل الحزن»(6).

ص: 460


1- راجع (لسان العرب: ج11 ص458 مادة عقل) وفيه: عاقل وهو الجامع لأمره ورأيه، مأخوذ من عقلت البعير إذا جمعت قوائمه. وقيل: العاقل الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها، أخذ من قولهم: قد اعتقل لسانه إذا حبس ومنع من الكلام... العقل عقلاً: لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك، أي يحبسه... واعتقل حبس... وأصل العقل مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلاً، وهو حبل تثني به يد البعير إلى ركبته فتشد به.
2- سورة الأحزاب: 36.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص63 ق1 ب1 ف11 الخشية غاية المعرفة ح787.
4- بحار الأنوار: ج2 ص52 ب11 ح18.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص63 ق1 ب1 ف11 الخشية غاية المعرفة ح788.
6- راجع مستدرك الوسائل: ج11 ص243 ب15 ح12874.

..............................

التنويه بمكانة العلماء

مسألة: تنبغي الإشارة تلميحاً أو تصريحاً بميزة ومكانة العلماء، وصفاتهم ومسؤولياتهم، وبيان أهمية العلم والعلماء في منظار الإسلام.

قال سبحانه: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ»(1).

وقال تعالى: «هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «إن العلماء ورثة الأنبياء»(3).

وقال (علیه السلام): «العلماء باقون ما بقي الدهر»(4).

وقال (علیه السلام): «أشراف الناس العلماء»(5).

وعن الإمام الصادق (علیه السلام):«فنحن العلماء»(6).

وذلك كله بالنسبة إلى العلوم الحقيقية، أما العلم المنحرف والعالم المنحرف فالأول باطل أو من مصاديق الجهل، والثاني ضالّ مضلّ كما في الحديث: «إذا فسد العالم فسد العالَم».

ص: 461


1- سورة المجادلة: 11.
2- سورة الزمر: 9.
3- الكافي: ج1 ص34 باب ثواب العالم والمتعلم ح1.
4- نهج البلاغة، قصار الحكم: 147.
5- إرشاد القلوب: ص198 ب53.
6- الكافي: ج1 ص34 باب أصناف الناس ح4.

..............................

قال (صلی الله علیه و آله): «العلماء رجلان: رجل عالم آخذ بعلمه فهذا ناج، ورجل عالم تارك لعلمه فهذا هالك، وإن أهل النار ليتأذون بريح العالم التارك لعلمه»(1).

قولها (سلام الله عليها): «فإنه إنما يخشى» لعلّ وجه الترابط(2) هو: إنكم حيث كنتم علماء بهذه الأمور التي ذكرتها فاللازم عليكم الخشية من الله تعالى والتي تتجلى في إتباع أوامره والارتداع عن نواهيه.والمراد بالعلماء: العلماء بالله وصفاته وأفعاله لمناسبة الحكم والموضوع، فإن الحكم يضيق ويوسع الموضوع، كما أن عكسه أيضاً صحيح، على ما ذكرناه في (الأصول).

***

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

قم المقدسة

محمد الشيرازي

1414ه

ص: 462


1- غوالي اللآلي: ج4 ص76 الخاتمة الجملة الثانية ح62.
2- حيث إنها (علیها السلام) عللت «أطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه» ب «فإنه إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ».

إلى هنا تم بحمد الله تعالى

المجلد الثاني من فقه الزهراء (علیها السلام)

وقد اشتمل على القسم الأول من الخطبة الشريفة

وسيأتي بعده المجلد الثالث (وهو القسم الثاني من الخطبة)

ويبتدأ بقولها (علیها السلام): ثم قالت: «أيها الناس اعلموا أني فاطمة».

نسأل الله سبحانه التوفيق والقبول

الناشر

ص: 463

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.