ریحانة النّبي صلی اللّه عليه وآله وسلم

هوية الكتاب

بطاقة تعريف:البوحمیدي، محمد رضا، 1364

عنوان واسم المؤلف:ریحانة النّبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم)/ محمد رضا البوحمیدي.

تفاصيل المنشور:اصفهان: نورالحیات، 1401.

مواصفات المظهر:412 ص.

ISBN:1500000 ریال978-622-5985-09-4 :

حالة الاستماع:فیپا

لسان: العربية.

یادداشت:كتابنامه به صورت زیرنویس.

مشكلة:فاطمه زهرا (سلام اللّه عليها)، 8؟ قبل الهجرة - 11ق. -- خطب -- النقد والتعليق

مشكلة:Fatimah Zahra, The Saint -- Public speaking -- Religious aspects -- Islam -- Criticism and interpretation

مشكلة:فاطمه زهرا (سلام اللّه عليها)، 8؟ قبل الهجرة - 11ق. . خطبه فدك -- نقد و تفسیر

مشكلة:Fatimah Zahra, The Saint . Khotbeh Fadak -- Criticism and interpretation

مشكلة:خطبه فدك .شرح

المعرف المضاف:فاطمه زهرا (سلام اللّه عليها)، 8؟ قبل الهجرة - 11ق. . خطبه فدك . شرح

المعرف المضاف:Fatimah Zahra, The Saint . Khotbeh Fadak . Commentaries

ترتيب الكونجرس:BP27/22

تصنيف ديوي:297/973

رقم الببليوغرافيا الوطنية:9042314

ص: 1

اشارة

اطلاعات ركورد كتابشناسی:فیپا

ریحانه النبی 

المؤلف: محمدرضا البوحمیدی

منشورات : نورالحیات

الطبعة الاولی : 1444 ه. ق- 1401 ه.ش

تنضید الحروف: مهدی الآقابابایی

طبع فی 500 نسخه

ردمك: 4-09-5985-622-978

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

الاهداء

أُهدي كتابي هذا الی الأئمة الذین أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهیرا..

كما قال اللّه الحكیم :

(إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)

فإلیك یا سید الأنبیاء

وإلیك یا سید الاوصیاء

وإلیكِ یا سیدة النساء

وإلیك یا سید الأتقیاء « إمام المجتبی »

وإلیك یا سید الشهداء

... وإلیك یا حبیب أهل الأرض والسماء و یا انشوده الأولیاء یا بقیه اللّه فی أرضه و حجته علی خلقه «الحجه ابن الحسن(عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) »

فإلیكم نهدي هذه الصفحات المتواضعه ، فتقبّلوا منّا هذه البضاعه المزجاه

«وتصدّقوا علینا ، إنّ اللّه یجزي المتصدّقین»

ص: 4

فهرست

الاهداء... 4

المقدمه... 21

«المحاور السبعه لخطبه فاطمه الزهراء (عليها السلام) »... 23

المحور الأول : توحید اللّه و صفاته و هدف التكوین... 23

الاختلاف بين الحمد، والشكر، والثناء... 24

النعمه الحقيقيّه... 25

مفهوم الوحي والإلهام... 29

أقسام الإلهام... 30

توطئة لبيان الإلهامات الإلهيّة... 33

قصّة مصحف فاطمة (عليها السلام)... 34

التفاوت بين النعم، والآلاء، والمنن... 35

النعم الإلهيّة غير قابلة للإحصاء... 38

فوائد التدبّر في نعم اللّه تعالى... 39

نِعم اللّه لا يمكن مجازاتها... 40

النعم الإلهيّة عصيّة على التصوّر... 40

النعم الإلهيّه، والعباد... 41

مراتب الشكر... 44

تقوية الاُمور الفطريّة... 45

أدنی الشكر رؤیه النعمه من اللّه... 47

ص: 5

حقيقة التوحيد... 48

العلاقة بين التوحيد والإخلاص... 48

الاخلاص في العقيدة... 49

الإخلاص في العمل... 51

أنواع معرفة اللّه... 54

العلم الحضوريّ والعلم الحصوليّ... 54

الإدراك عن وعي، وعن غير وعي... 55

الفطرة التوحيديّة للإنسان... 56

نوعان من معرفة اللّه... 58

براهین معرفه اللّه... 61

بُرهَان النظم... 61

أسس برهان النظم:... 61

برهان النظم في الوحي الإلهي... 62

برهان الصدیقین... 63

هل انّ معرفة اللّه ممكنة... 64

دفع توهّم... 64

«الْمُمْتَنِعُ مِنَ الأَبْصَارِ رُؤْيَتُهُ، وَمِنَ الأَلْسُنِ صِفَتُهُ، وَمِنَ الأَوْهَامِ كَيْفِيَّتُه»... 64

الممتنع عن الابصار روئیته... 66

لم لايصل العقل إلى كُنه ذاته وصفاته؟... 70

النهي عن التشبيه في الروايات الإسلاميّة... 72

ص: 6

«و عن الاوهام كیفیّته»... 73

لماذا لا تتصوّره الأوهام؟ 73

الخلق من العدم 74

«...ابْتَدَعَ الأَشْيَاءَ لا مِنْ شَيْ ءٍ كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنْشَأَهَا بِلا احْتِذَاءِ أَمْثِلَةٍ امْتَثَلَهَا، كَوَّنَهَا بِقُدْرَتِهِ، وَذَرَأَهَا بِمَشِيَّتِه»... 74

الخلق بلا نموذج يُحتذَى... 75

«بدایه الكون في القرآن الكریم و روایات اهل البیت (عليهم السلام) و علم الحدیث»... 76

الروایات... 79

المشيئة الإلهيّة... 79

هدف الخلقة... 83

اللّه مختار على الإطلاق... 83

«...كَوَّنَهَا بِقُدْرَتِهِ، وَذَرَأَهَا بِمَشِيَّتِه، مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَى تَكْوِينِهَا، وَلاَ فَائِدَةٍ لَهُ فِي تَصْوِيرِهَا»... 83

العلّة الغائيّة لأفعال الإنسان... 84

العلّة الغائيّة لأفعال اللّه... 85

الهدف من خلق جهنّم... 89

أهداف الخلقة في كلام فاطمة الزهراء (عليها السلام)... 90

أهداف خلق الوجود في كلمات السيّدة الزهراء(عليها السلام)... 91

إنّ خلْقَ تمام الوجود هو من أجل الإنسان... 95

لم تُبيّن جميع الأهداف لنا... 96

ص: 7

المحور الثانی : التذكیر بمنزله الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) السامیه و صفاته و مسئولیاتنه واهدافه... 99

نور رسول اللّه هو أوّل المخلوقات... 101

عالم النور... 103

عالم المادّة هو شعاع من عالم النور... 105

التقديرات العلميّة والتقديرات العينيّة... 106

ارتباط البعثة مع التقديرات الحتميّة... 109

التوحيد أصيل والشرك عَرَضيّ... 112

التفسير المادّي لكثرة الأديان... 113

التفسير الإلهيّ لكثرة الأديان... 115

كيفيّة ظهور التحريفات... 116

التعدّدية الدينيّة؛ انحراف خطير... 117

الظلم والتعالي عاملان لإنكار الحقّ... 119

الحكمة، والموعظة، والجدال بالتي هي أحسن هي وسائل التعليم... 121

«ثم قبضه اللّه»... 122

المحور الثالث : كتاب اللَّه و فلسفة الأحكام... 126

العبوديّة لله؛ أوّل حقّ لله علينا... 128

إبلاغ الدين إلى أنحاء العالم كافّة واجب كفائيّ... 130

القرآن؛ هو المدّعي لحقّ اللّه... 132

«و بیناته الجالیه»... 138

«و فضائله المندوبة»... 142

ص: 8

سبب النّزول... 144

«و رخصه الموهوبه و شرایعه المكتوبه»... 146

«فجعل اللّه الایمان»... 146

العرض الحكيم لمسألة الإمامة... 147

الإيمان مطهّر للقلوب... 147

البراغماتيّة؛ انحراف خفيّ... 148

رماد في مهبّ الريح... 150

القوميّة؛ رجوع إلى الجاهليّة... 151

الصلاة تحطّم التكبّر... 152

التكبّر عدوّ العبوديّة... 153

التكبّر كان العامل من وراء طرد إبليس... 153

الطغيان على اللّه تعالى... 155

جذور الكفر... 157

التكبّر على مَنْ؟... 158

مفاسد التكبّر وعواقبه الوخيمة... 160

« و الزكاة تزكیه للنفس و نماءً فی الرزق »... 164

مفهوم الزكاة... 164

الإسلام واهتمامه بجميع أبعاد الإنسان... 164

سرّ تطهير الروح بالزكاة... 166

إنفاق المرء لما يحبّه... 168

ص: 9

«... وَالصِّيَامَ تَثْبِيتاً لِلإِخْلاصِ، وَالْحَجَّ تَشْيِيداً لِلدِّين ...»... 171

الصيام وسلامة البدن... 172

تجرّع الأثرياء لمرارة الجوع... 173

اشارتین:... 173

ا)...وُجُوهِ الصَّوْمِ... 173

ب)...أَدَبِ الصَّائِمِ... 176

أسرار الحجّ... 177

«وَالْحَجَّ تَشْيِيداً لِلدِّين»... 177

الحجّ تمرين العبوديّة... 177

منافع الحجّ التي لا تُحصَى ولا تُعد... 180

الحجّ تجلٍّ لعظمة الدين... 180

الحجّ بحر من الرحمة الإلهيّة... 181

اشارات:... 182

ا)...«حجه الوداع و حديث الغدير»... 182

ب)...اهمية الحج في الاسلام... 184

ج)...محرم قتل صیدا... 185

الإمامة؛ أمان من الفُرقة... 187

«وَالْعَدْلَ تَنْسِيقاً لِلْقُلُوبِ، وَطَاعَتَنَا نِظَاماً لِلْمِلَّةِ، وَإِمَامَتَنَا أَمَاناً مِنَ الْفُرْقَةِ »... 187

السعي نحو العدالة يؤلّف القلوب... 188

النظام القيميّ الواحد هو الشرط الثاني للوحدة... 190

ص: 10

الإدارة الواحدة هي الشرط الثالث للوحدة... 190

أهل البيت (عليهم السلام) هم المرجع العلميّ والتنفيذيّ للمجتمع... 191

اشارات... 194

ا... یقول سبحانه :(و إنّ هذا صراطي مستقیماً فاتّبعوه و لا تتّبعوا السُّبُلَ فتفرق بكم عن سبیله)... 194

ب... هل الإمامة من الاصول أم من الفروع؟... 194

متى بدأ البحث في الإمامة؟... 195

وَالْجِهَادَ عِزّاً لِلإِسْلامِ... 197

بعض الآراء حول أصل الحرب... 197

أصل الدفاع وما يجب الدفاع عنه... 200

الجهاد في سبيل اللّه، لا في سبيل الماء والتراب... 201

الصبر مفتاح الأجر... 204

«وَالصَّبْرَ مَعُونَةً عَلَى اسْتِيجَابِ الأَجْر» الصبر من المفردات المفتاحيّة في المعارف... 204

ليس الصابر منفعلاً ولا منظلماً... 204

أقسام الصبر الثلاثة... 205

المعنى التحليليّ للصبر... 206

الجهاد، معركة الصبر على الطاعة... 207

تبليغ الدين مصداق للصبر على الطاعة... 208

ميادين المقاومة... 209

ص: 11

النصر لا يكون إلاّ من عنده سبحانه... 211

الأمر بالمعروف مصلحة شاملة... 212

«...وَالأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعَامَّةِ» مقدّمات القرب من اللّه هي المصلحة الحقيقيّة... 212

فريضة ذات مصلحة شاملة... 214

الأمر بالمعروف مهمّش، لماذا؟... 214

تأثير تهتّك الثقافة الغربيّة... 215

ما هو التكليف إذن؟... 216

تكليف جهاز الشرطة المسلم... 217

مراحل الامر بالمعروف والنهی عن المنكر... 218

شكر الوالدين قرين شكر الباري عزّ وجلّ... 221

حقّ بلا قيد أو شرط... 222

مراتب صلة الرحم وأحكامها... 222

الممهّد لشكر اللّه... 223

القرب من اللّه، معيار القيم الإسلاميّة... 225

بعض الآراء حول فلسفة الحقوق الجزائيّة... 228

1. الانتقام 228

2. مجرّد الردع... 228

الاُسس الفلسفيّة للحقوق الجزائيّة من وجهة النظر الإسلاميّة... 229

أ) الاُسس المتّصلة بعلم الإلهيّات... 229

ص: 12

ب) الاُسس المتّصلة بمعرفة الإنسان... 230

فلسفة الحقوق الجزائيّة وفق الرؤية الإسلاميّة... 231

اختلاف الحدود والتعزيرات عن الديّات والقصاص... 232

القصاص حافظ للحياة... 233

الوفاء بالعهد، سلّم التكامل... 235

ضرورة الحياة الاجتماعيّة... 236

الواقعيّات هي جذور القيم... 236

الوفاء بالعهد، أكثر القيم عموميّة... 237

التجارة مع اللّه... 238

النفاق ثمرة نكث العهد... 239

أوامر اللّه، هي ألطافه... 240

الأمن في مجال البدن والنفس والمال ممهّد لسموّ الإنسان... 241

الحياة الاجتماعيّة ممهّدة للامتحان... 242

التشريعات الإلهيّة تقوّي سبيل الخير... 243

حفظ الأمن الفرديّ والاجتماعيّ واجب عقليّ وشرعيّ... 243

المُسْكِرات تُلوّث الجسم والروح... 244

حرمة القذف ضمان للأمن النفسيّ للمجتمع... 245

انعدام الأمن الماليّ يؤدّي إلى انعدام الأمن النفسيّ... 246

التوحيد، هو الطريق الوحيدة الموصلة إلى الحبيب... 248

الشرك هو عدوّ الوصول إلى الحبيب... 249

ص: 13

مراتب التوحيد والشرك... 249

التوحيد في النيّة، أعلى مراتب التوحيد... 250

لا يليق للعبد إلا العبوديّة... 252

الشرك التشريعيّ... 252

طاعة اللّه، حبل النجاة... 253

أمرُ فاطمة (عليها السلام) بالتقوى... 254

الحِكَم من وارء الأمر بالتقوى... 255

اعلموا واعملوا... 256

العلم ممهّد لخشية اللّه... 257

فاطمة (عليها السلام) تعرّف نفسها... 258

هذه التي تتكلّم معكم هي فاطمة (عليها السلام)... 259

فاطمة (عليها السلام) بنت أشدّ الأنبياء رأفة ورحمة... 260

فاطمة (عليها السلام) تذود عن الولاية... 262

أشفَق هادٍ... 263

فاطمة... 264

فاطمة (عليها السلام) مولعة بهداية الخلق... 265

علينا أن لا ننسى النعم... 265

لائحة بخدمات رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 266

فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) ورذائل أعدائه... 269

فاطمة تصف عليّاً (عليها السلام)... 270

ص: 14

توبيخ طلاب الراحة... 271

جريحُ حربِ اُحد... 272

عليّ هو سرّ خطبة فاطمة (عليها السلام)... 272

خصائص خليفة الرسول... 274

لايزال الشيطان حيّاً... 275

صولة النفاق... 276

قصّة سقيفة بني ساعدة... 278

أقسام الكفر... 278

القرآن هو مصدر سنّ القوانين في الإسلام... 281

الولاية معيار الإيمان... 284

لمحة عن مظلوميّة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)... 285

نبذة عن مظلوميّة عليّ وفاطمة (عليها السلام)... 286

قصّة غصب فدك... 287

الاحتجاج الأوّل لفاطمة (عليها السلام)... 288

الاحتجاج الثاني لفاطمة (عليها السلام)... 288

فدك ذريعة لتوضيح الاُمور... 289

السقيفة أداة لجرّ العالم الإسلاميّ إلى العلمانيّة... 290

الاحتجاج الثالث لفاطمة (عليها السلام)... 291

نبذة عن المباحث السابقة... 291

وَضْعُ حديث بما يخالف القرآن... 293

ص: 15

موعدنا يوم القيامة... 296

الهدف الأساسيّ لفاطمة(عليها السلام)... 297

لا ينبغي قطع طريق الحقّ... 297

عصارة المباحث السابقة... 298

أعظم خدمة للبشريّة... 298

الولاية، نظام للملّة ووقاية من الفُرقة... 301

الأخطاء التي لا يمكن تداركها... 303

فاطمة (عليها السلام) تخاطب الأنصار... 305

فاطمة (عليها السلام) تمنح الأنصار فرصة اُخرى... 307

المشاعر هي المحرّك الأساسيّ للثورات... 308

دفع شبهتين... 309

نداء: «هل من ناصر»؟ الذي أطلقته فاطمة (عليها السلام)... 310

لِمَ لا تقومون حاملين السلاح؟!... 311

تاريخ الأنصار... 311

إذن ما الذي حلّ بذلك التاريخ المشرق؟!... 313

السبيل المنتهية إلى الكفر... 314

آخر احتجاج... 316

ركون الاُمّة إلى الراحة مدعاة لغربة الحقّ... 316

إتمام فاطمة للحجّة على الناس... 317

عاقبة الزيغ عن الحقّ... 318

ص: 16

الإيمان الحقيقيّ... 319

فاطمة (عليها السلام) معيار رضا اللّه وغضبه... 321

المناط هو حال الأشخاص في الوقت الحاضر... 321

حيل الشيطان ضدّ فاطمة (عليها السلام)... 322

منتهى الحيل لإلغاء تأثير كلام الزهراء (عليها السلام)... 323

الأَيمَان الكاذبة، أوّل حيل إبليس... 325

نقد وتحليل لحديث أبي بكر... 327

هدية الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لفاطمة (عليها السلام)... 329

أحداث فدك المؤلمة... 330

1: العوامل السياسية في غصب فدك... 333

3: فدك و أئمة الهدى (عليهم السلام)... 337

4: محكمة تأريخية... 339

5: حدود فدك!... 343

استنتاج... 344

الإجماع الزائف ضدّ فاطمة (عليها السلام)... 345

الكشف عن مؤامرة خطيرة... 346

حيلة اُخرى حِيكت لفاطمة (عليها السلام)... 348

مناقشة هذا الإجماع المزعوم... 349

آيات خطبة الزهراء (عليها السلام)... 351

قوم ناكرون للجميل... 351

ص: 17

مباينة عليّ (عليه السلام) وقوعٌ في الفتنة... 352

ترك عليّ (عليه السلام) عودةٌ إلى الجاهليّة... 353

اقتراف الذنب إخلال بمنظومة المعرفة... 354

السرّ وراء اختيار فاطمة (عليها السلام) لهذه الآيات... 356

الذود عن الولاية على فراش المرض... 358

دافع الزهراء (عليها السلام) للحضور في الساحة... 358

الشكوى من انعدام النخوة وفقدان المروءة... 360

الدفاع الصريح عن الولاية... 362

ماذا لو أصبح علي (عليه السلام) حاكما؟... 363

الحاكم المثاليّ... 363

حكومة عليّ (عليه السلام) نموذج للحكومة الإسلاميّة... 365

عيب عليّ (عليه السلام) سجاياه الحسنة... 365

سيرة عليّ (عليه السلام) هي السبيل الوحيد لسعادة البشر... 367

عاقبة الاُمّة التي تترك عليّاً (عليه السلام)... 369

الاختيار المثير للعجب... 369

نتيجة الركون إلى أهل السقيفة... 371

الدرس المُستلهَم من السقيفة... 373

واقعة غصب الخلافة من وجهة نظر أهل البيت (عليهم السلام)... 375

الإنذار الأخير... 375

السواد الأعظم من الناس في عمليّة غصب الخلافة... 376

ص: 18

وصف المتحيّنين للفُرَص على لسان أئمّتنا (عليهم السلام)... 377

الآثار المشؤومة للواقعة... 379

الخطأ الذي لا يمكن تداركه... 381

محيي الإسلام في عصرنا... 381

صيغة الحكومة عند أهل السنّة... 382

آيتان حول الشورى:... 386

خلافة الخلفاء ومسألة الشورى:... 388

1 : السقيفة وخلافة أبي بكر:... 389

نقاش مع الخليفة:... 390

مأساة السقيفة:... 391

الخلفاء وتناسي الشورى:... 395

شورى سداسية أو لعبة سياسية؟:... 397

إجابة عن سؤال حول معنى الشورى في رسالة الإمام علي (عليه السلام) إلى معاوية... 399

إجابة عن سؤال:... 400

نصوص الخلافة والركون إلى الأمر الواقع... 401

تسنّم الإمام مقاليد الحكم بعد ربع قرن... 406

تسنّم الإمام مقاليد الحكم بعد ربع قرن:... 407

إغارة معاوية على البلاد الامنة... 411

ص: 19

ص: 20

المقدمه

قال اللّه الحكیم : ( اَللّٰهُ نُورُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ ) (1)

ما روی عنُ أَبَی عَبْدِ اَللَّهِ (عليه السلام) يَقُولُ: فِي قَوْلِ اَللَّهِ ( اَللّٰهُ نُورُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ) اَلْمِشْكَاةُ فَاطِمَةُ (عليها السلام) ( فِيهٰا مِصْبٰاحٌ اَلْمِصْبٰاحُ ) اَلْحَسَنُ وَ اَلْحُسَيْنُ ( فِي زُجٰاجَةٍ اَلزُّجٰاجَةُ كَأَنَّهٰا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ) كَأَنَّ فَاطِمَةَ (عليها السلام) كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ بَيْنَ نِسَاءِ أَهْلِ اَلْأَرْضِ.(2)

الحمد لله الذي لا یبلغ مدحته القائلون و لا یحصي نعمائه العادّون ولا یؤدي حقّه المجتهدون الذي لا یدركه بعد الهمم ، ولا یناله غوص الفطن الذی لیس لصفته حدٌ محدود و لا نعتٌ موجود ولا وقت معدود ولا اجل ممدود فطر الخلائق بقدرته و نشر الرّیاح برحمته و وتّد بالصّخور میدان أرضه.

أما بعد:

فإن القرآن هو مفتاح الكنز المكنون علی جناح طائر الوجود یشدوا ترانیم التوحید لیبث نسیم الحیاه في سماء تسطع بنجوم الارواح و ارض تزهوا بأزهار القلوب منادیا بصوت بلیغ (إن هو إلّا وحیٌ یوحی)(3) یقرع به سمع الوجود من الأزل الی الأبد...و أنّ أهل البیت (صلوات اللّه علیهم أجمعین) هم سفن النجاه في بحر الحیاة المتلاطم و هداه الطریق كما ورد عن النبّی(صلی اللّه عليه وآله وسلم) :«مثل أهل بیتي فیكم كمثل سفینة نوح ، من ركبها نجی ومن تخلف عنها هلك»و أنّ فاطمه الزهراء (عليها السلام) هي الصدیقه الكبری و علی معرفتها دارت القرون الاولی و انّها الحجه علی حجج اللّه و آیاتُهُ الكبری، عاشت «مظلومة و مغصوبة و محرومه و مهجوره» و لا زالت مظلومه ومهجوره حتی بیننا، ولهذا السبب فإنّ هذا الحقیر سعی في هذا الكتاب الذي بین یدیك _أیها القارئ الكریم _

أن یبین مختصراً من مظلومیتها و علمها و بلاغتها و عظمتها و مقامها و ....

ص: 21


1- . النور :35.
2- . تفسیر القمی، ج2 ، ص102.
3- . سورة النجم – الآیة 4.

فأرجوا من اللّه سبحانه أن یتقبل عملي و یتجاوز عن خطأي و زللي ، و یجعل أجري علیه نفع المؤمنین و هدایتهم به ولا یسعنی في هذا المقام إلّا أن اقدم جزیل شكري و تقدیري للأستاذ الفاضل السید محمد حسن العلوي «جمال الدین» ألذي أجهد نفسه و بذل سعیه في خدمه اهل البیت(عليهم السلام) ، كما لا انسی ان اقدم جزیل شكری وتقدیری لسائر اهل العلم و الفضل منهم سماحه الشیخ الحجتی و الشیخ حمادی والسید مناف الجزائری و الشیخ احمد حداد و الشیخ عبد المحمد السعدونی وسائر الاخوه والافاضل.

(إنّ الّذین آمنوا و عملوا الصالحات یَهدیهم ربهم بایمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النّعیم دعواهم فیها سبحانك اللّهم وَ تحیتهم فیها سلام و آخر دعواهم أنّ الحمد لله رب العالمین)

حررّه ببنانه و فاه به لسانه ، عبید ربه المتجلّی بفضله في مدینه المحمره«خرمشهر»

محمد رضا البوحمیدي

فی سنه 1437/8/6

ص: 22

«المحاور السبعه لخطبه فاطمه الزهراء (عليها السلام) »

اشارة

تتضمن هذه الخطبه الغراء التي قل نظیرها سبعه محاور و تدور حول سبعه مباحث ینشد كل منها هدف واضح ویجب دراسه كل منها بصوره مستقله.

المحور الأول : توحید اللّه و صفاته و هدف التكوین

اشارة

المحور الأول : توحید اللّه و صفاته و هدف التكوین(1)

«الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ، وَ لَهُ الشُّكْرُ عَلَى مَا أَلْهَمَ، وَ الثَّنَاءُ بمَا قَدَّمَ، مِنْ عُمُومِ نِعَمٍ ابْتَدَاهَا، وَ سُبُوغِ آلَاءٍ أَسْدَاهَا، وَ تمام مِنَنٍ وَالاهَا، جَمَّ عَنِ الْإِحْصَاءِ عَدَدُهَا، وَ نَأَى عَنِ الجزاءِ أَمَدُهَا، وَ تَفَاوَتَ عَنِ الْإِدْرَاكِ أَبَدُهَا، و ندبهم لإستزادها بالشكر لإتصالها، وَ اسْتَحْمَدَ إِلَى الْخَلَائِقِ بِإِجْزَالِهَا، وَ ثنی بِالنَّدْبِ إِلَى أَمْثَالِهَا.

وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وحده لا شریك له، كَلِمَةٌ جُعِلَ الْإِخْلَاصُ تَأْوِيلَهَا، وَ ضَمِنَ الْقُلُوبُ مَوْصُولَهَا، وَ انارَ فِي الْفِكَرِ مَعْقُولَهَا، الْمُمْتَنِعُ مِنَ الْأَبْصَارِ رُؤْيَتُهُ، وَ مِنَ الْأَلْسُنِ صِفَتُهُ، وَ مِنَ الْأَوْهَامِ كیفیته ابْتَدَعَ الْأَشْيَاءَ لَا مِنْ شَيْ ءٍ كَانَ قَبْلَهَا، وَ أَنْشَأَهَا بِلَا احْتِذَاءِ أَمْثِلَة [امتثلها]، كوّنها بقدرته و ذرأها بمشیته من غیر حاجه منه الی تكوینها ولا فائده في تصویرها الّا تثبیتاً لحكمته و تنبیهاً علی طاعته وَ إِظْهَاراً لِقُدْرَتِهِ، وَ تَعَبُّداً لِبَرِيَّتِهِ، وَ إِعْزَازاً تدعوتِهِ، ثُمَّ جَعَلَ الثَّوَابِ عَلَى طَاعَتِهِ، وَ وَضَعَ الْعِقَابَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، ذِيَادَةً لِعِبَادِهِ عَنْ نَقِمَتِهِ، وَ حِيَاشَةً لَهُمْ إِلَى جَنَّتِهِ.

ص: 23


1- . الزهراء سیدة نساء العالمین، ص 110.

الاختلاف بين الحمد، والشكر، والثناء

سوف ننهج في شرح خطبة السيّدة الزهراء (عليها السلام) نهجاً بحيث لا نسهب في البحث فيها فيأخذ منّا زمناً طويلاً، ولا نأخذ جانب الإجمال فلا نعطي الموضوع حقّه. نسأل اللّه تعالی أن يوفّقنا لأن نوضّح هذه الخطبة الشريفة باُسلوب وسط ومعتدل.

طبقاً لما تواترت عليه النقول فإنّ الخطبة المباركة للسيّدة الزهراء (عليها السلام) قد استُهلّت بهذه الكلمات: «الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ، وَلَهُ الشُّكْرُ عَلَى مَا أَلْهَمَ، وَالثَّنَاءُ بِمَا قَدَّم»1؛ حيث ابتدأت الجملة الاُولى بالحمد، والثانية بالشكر، والثالثة بالثناء. والفارق الذي يمكن ملاحظته إجمالاً بين هذه المصطلحات الثلاثة هو أنّ مفهوم الثناء أعمّ من مفهومي التعبيرين الآخرَين؛ حيث يستخدم الثناء في العربيّة كلّما اُريد المدح والإطراء، سواء أكان الممدوح عاقلاً أم غير عاقل، حيّاً أم جماداً، وسواء أكان على فعل اختياريّ أم غير اختياريّ، إذ يمكن استعمال تعبير الثناء في جميع تلك الموارد؛ أمّا الحمد فلا يُستعمل إلاّ عندما يكون الفعل المأتيّ به خيراً وقد صدر من فاعل مختار وذي شعور، سواء أعاد ذلك الفعل بالفائدة على الحامد أم لم يعد. وأمّا الشكر فهو أخصّ من الحمد؛ إذ هو الثناء على من جاء بفعل خير وقد عاد الأخير بالنفع على الشاكر.

الملاحظة الاُخرى فيما يتعلّق بالسبب في ترتيب هذه الألفاظ الثلاثة: الحمد، والشكر والثناء وأنّه لماذا جاء الحمد أوّلاً، ثمّ تلاه الشكر، فتبعه الثناء؟ نقول: لعلّ السبب في ذلك يعود إلى أنّه مادام المقام هو مقام حمد اللّه سبحانه وتعالى، وأنّ اللّه هو عين الحياة والعلم، وأنّ له أعلى مراتب الحياة والقدرة والعلم والاختيار، فإنّ على الإنسان بالطبع أن يحمده على أفعاله الحسنة والاختياريّة، إذ ليس لله فعل غير اختياريّ؛ وإنّ كلّ ما يصدر منه عزّ وجلّ من آثار الخير فهو باختياره، ولا يصدر منه عمل جبريّ على الإطلاق. إذن فلفظة الحمد تناسب مقام الثناء على اللّه جلّ وعلا. كما أنّ اللّه تعالى أيضاً قد استهلّ كلامه في القرآن الكريم بالحمد(1)

*سورة الحمد: (ألحمدُ لله رَبّ العالمین)

*سورة الكهف (الحمد لله الذي أنزل علی عبده الكتاب ... )

ص: 24


1- . دروس الاخلاق المصباح الیزدی.

*سورة سبأ (الحمد لله فاطر السماوات و الارض ... )

*سورة الانعام (الحمد لله الذي خلق السماوات والارض ... )

*سورة فاطر (الحمد لله الذي فاطر ... )(1)

النعمه الحقيقيّه

يُطرح هاهنا بحثان هما أيضاً لا يتّسمان بطابع عرفيّ، بل كلاهما من سنخ البحث التحليليّ العقليّ الذي بإمكانه تقديم الحلول لهذه الاختلافات. هناك اُمور في هذه العالم تشكّل بذاتها أهدافاً لنا، بمعنى أنّنا نسعى وراءها لأنّنا نحبّها بذاتها. وفي المقابل هناك الكثير من الأشياء تكون مطلوبة ولعلّها تعدّ مصدراً للمتعة واللذّة أيضاً، غير أنّها لا تمثّل هدفنا الأساسيّ؛ بل إنّنا نستخدمها كوسيلة لبلوغ أمر أسمى وأرفع. فهدف المريض من تناول الدواء، مثلاً، هو نيل السلامة. فهذه الجهود والمساعي ليست مطلوبة بذاتها بالنسبة له، بل هي مطلوبة بالغير؛ إذ أنّ المطلوب الذاتيّ هو السلامة. فجميع البشر يجعلون من بعض الاُمور مطلوباتهم الذاتيّة حتّى تصبح اُصولاً بالنسبة لهم. فبالنسبة للكفّار فإنّ نفس هذه الملذّات الدنيويّة هي مطلوبة بالذات؛ فهم أساساً يعيشون ليلتذّوا وليس لهم مراد آخر! أمّا بالنسبة للمؤمن فإنّ لذّة الدنيا ليست هي المطلوبة بالذات؛ لأنّه يعلم أنّ هذه الدنيا بأسرها ليست هي إلاّ مقدّمة وممرّ سفر؛ وأنّ المقصد يكمن في مكان آخر. فإن عمل المؤمن بمقتضى إيمانه فإنّه لن ينظر إلى أيّ شيء دنيويّ بعنوان كونه مطلوباً بالذات؛ فهو يطلب كلّ شيء في سبيل تلك النتيجة الأبديّة. فمطلوب المؤمن هو السعادة الأبديّة، ولا يكون لكلّ هذه الاُمور العابرة بالنسبة له إلاّ طابع الوسيلة.

إذن فقد توصّلنا هنا إلى لونين من النعم: نعمة بالذات، ونعمة بالتَّبَع؛ يعني إنّ النعمة الحقيقيّة للمؤمن هي بلوغ ذلك الكمال النهائيّ، أمّا باقي النعم فهي بالنسبة له نِعم بالتبع أو بالعرَض. وهذا التحليل له شاهد قرآنيّ في سورة الحمد. فكلّنا نقرأ سورة الحمد في اليوم والليلة عشر مرّات على أقلّ تقدير، ونقول فيها: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ

ص: 25


1- . التسنیم ، المجلد (1) ، ص 390.

أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)(1). فهل نطلب من اللّه في الصلاة أن يهدينا إلى سبيل أصحاب رؤوس الأموال الأمريكيّين؟! إنّ ممّا يدعوا إلى الأسف أنّ بعض الشخصيّات المرموقة يستدلّون بهذه الآية قائلين: أجل، إنّ جمع المال أمر حسن؛ فالثروة نعمة من اللّه، ونحن نقول في الصلاة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)! أي: علّمنا كيف نجمع الثروة؛ الحلال طبعاً! والحال أنّ القرآن نفسه قد عرّف مَن هم (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) حيث قال في موضع آخر: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ)(2)؛ فالذين أنعم اللّه عليهم هم أربعة أصناف من الناس: الأنبياء، والصدّيقون، والشهداء، والصالحون. ونحن نقول في الصلاة: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)؛ أي: اهدنا صراط هؤلاء الناس؛ وليس صراط الأثرياء، أو صراط أصحاب رؤوس الأموال الغربيّين، أو صراط الظَّلَمة؛ فصراط هؤلاء هو صراط العذاب والشقاء!

فالنعمة التي نسألها من اللّه تعالى في صلاتنا هي تلك النعمة النهائيّة والمطلوبة بالذات التي يطلبها المؤمن؛ أي سبيل اولئك الذين أوصلْتَهم إلى المقصد النهائيّ والذين يقسّمهم القرآن الكريم إلى أربعة أصناف. ثمّ يقول عزّ من قائل: هناك أشخاص يكونون في معيّة هؤلاء، وإنّ شرط هذه المعيّة هو طاعة اللّه ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم). فهذا المقام خاصّ بتلك الأصناف الأربعة من البشر، وإذا اُلهمنا نحن التوفيق من اللّه عزّ وجلّ، وشمّرنا عن سواعدنا، وضاعفنا الهِمَم في مجال طاعة اللّه وطاعة رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نكون قد نلنا اللياقة لتلك المعيّة. إذن فالنعمة هي ما منّ اللّه به على الأنبياء (عليهم السلام) وكلّ ما دون ذلك لا يُطلق عليه مصطلح النعمة إلاّ مجازاً. وانطلاقاً من هذه الرؤية فإنّ النعمة هي كلّ ما يبلغ بالإنسان إلى المحطّة النهائيّة، وفي المقابل فإنّ كلّ ما لا يوصل المرء إلى ذلك الهدف فهو عقيم ولا قيمة له، بل إنّه إذا شكّل مانعاً من الوصول إلى ذلك الكمال فهو نقمة حتّى وإن كان مدعاةً لمتعة الإنسان والتذاذه.

ص: 26


1- . سورة الحمد، الآيتان 6 و7.
2- . سورة النساء، الآية 69.

لقد عبّرت الأحاديث الشريفة عن الشيء الذي يوصِل الإنسان إلى الهدف النهائيّ بمصطلح «الولاية»؛ فقد جاء في الخبر أنّ المراد من «النعيم» في الآية الشريفة: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)(1) هو ولاية أهل البيت(عليهم السلام) (2). فهذه هي النعمة الحقيقيّة.

أمّا التحليل الآخر فإنّه يتعيّن أن نأخذ بنظر الاعتبار المحيط الذي استُخدمت فيه اللفظة. فمن خلال إطلاق آخر، فإنّه من المسلّم أنّ كلّ ما أعطاه اللّه لنا هو نعمة؛ فالهواء الذي نتنفّسه، والقدرة على إغماض العين وفتحها، بل وحتّى القدرة على الكلام كلّها من نعم اللّه علينا. إذن فكيف نقول: إنّ النعمة هي ذلك الهدف النهائيّ؟

وهنا أيضاً، وطبقاً للاصطلاح، فإنّه ينبغي أن نسمّي كافّة العطايا الإلهيّة نعماً شأنيّة؛ وهي الشيء الذي يمكن الإفادة منه للوصول إلى الكمال النهائيّ. فإن نحن أفدنا منها على النحو الصحيح، كانت نعمة ولكنّنا إذا أسأنا استخدامها، فإنّنا نكون قد بدّلنا النعمة الشأنيّة لله تعالى إلى نقمة وبلاء؛ نظير قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ)(3). إذ أنّ الغاية من عطاء اللّه لنا كلّ ما أعطانا هي استعمال تلك الاُمور للوصول إلى الكمال، أي إلى قربه عزّ وجلّ. إنّ كافّة نعم اللّه، من دون استثناء، هي أدوات من أجل بلوغ ذلك الهدف النهائيّ، إلى ذلك المجال الذي لا نعلم تحديداً أين هو، وجُلّ ما نعلمه هو أنّه: (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ)(4). ذلك الموضع الذي سألَتْه امرأة فرعون من ربّها بقولها: (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ)(5) فإنّ كلّ ما في هذا العالم هو تحت تصرّفنا من أجل أن نستعين به للوصول إلى ذلك المقام.

إذن فإنّ لدينا نعمة بالذات، ونعمة بالعرض. فالنعمة بالذات هي تلك التي تختصّ بأولياء اللّه تعالى؛ وهي ما يوصلنا إلى الكمال النهائيّ، والنعم بالعرض هي تلك الاُمور التي يمكن أن تشكّل مقدّمة للكمال. ومن زاوية اُخرى فإنّ لدينا نعمة شأنيّة ونعمة فعليّة. فالنعمة

ص: 27


1- . سورة التكاثر، الآية 8 .
2- . بحار الأنوار، ج10، ص209.
3- . سورة إبراهيم، الآية 28.
4- . سورة القمر، الآية 55.
5- . سورة التحريم، الآية 11.

الشأنيّة هي كلّ ما يمكننا استخدامه لبلوغ الكمال؛ بيد أنّنا قد نُسيء استعمالها أحياناً، فإن أحسنّا الإفادة من النعمة الشأنيّة واستعملناها في سبيل طاعة اللّه عزّ وجلّ فإنّنا أيضاً سنصبح مصداقاً للآية الشريفة التي تقول: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ). جعلَنا اللّه وإيّاكم من أهل هذه الآية الشريفة.(1)

ص: 28


1- دروس الاخلاق المصباح الیزدی.

السيّده المحدَّثه

مفهوم الوحي والإلهام
اشارة

«الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم»(1)؛ تبتدئ الخطبة الفدكيّة بهذه العبارة وقد قمنا بتوضيح جملتها الاُولى في حدود ما وفّقنا اللّه تعالى إليه. أمّا في الجملة الثانية فتقول الزهراء (عليها السلام) : «وله الشكر على ما ألهم»؛ أي إنّني أشكر اللّه وحده على ما ألهم. فما معنى الإلهام؟

كما هو الحال بالنسبة لكلمة «الوحي» فإنّ للفظة «الإلهام» في اللغة معنى عامّاً، أمّا في الشرع، ولاسيّما عند علماء علم الكلام والعقائد، فقد أصبحت مصطلحاً خاصّاً. فإنّه يستفاد من موارد استعمال لفظتي الوحي والإلهام في القرآن الكريم أنّهما ضرب من الإدراك (يكون أحياناً عن غير وعي، أو عن نصف وعي) لا يُكتسب عبر الأسباب العاديّة. وأقرب المعاني المطروحة في هذا المجال في معنى الوحي هو أنّه الإشارة السريعة. فعندما يُشار الى أحد أن يأتي بفعل فإنّه يُقال: اُوحي إليه. كما يقول عزّ من قائل بخصوص النبيّ زكريّا (على نبيّنا وآله وعليه السلام): (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً)(2)؛ يعني: إنّه أشار إلى الذين كانوا يتعبّدون هناك أن: اشتغلوا بالذكر والعبادة؛ فقد استُعملت هنا لفظة الوحي. وحتّى في الموارد التي تتغلغل فيها وساوس الشيطان إلى قلوب الأشخاص وتؤثّر فيها فقد استُعمل تعبير الوحي أيضاً: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ)(3)؛ أي: إنّ الشياطين يوحون إلى تلامذتهم، وأصدقائهم، والمرتبطين هم. ويقول عزّ وجلّ في موضع آخر أيضاً: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ)(4)؛ فعبّر هنا عن وسوسة الشيطان بالوحي أيضاً. فالإنسان يساوره أحياناً إحساس بأنّ عليه فعل شيء، أو يخطر في ذهنه أمر ما، إمّا أن يكون خيراً أو شرّاً؛ وقد استُعملت لمثل

ص: 29


1- . بلاغات النساء، ص27؛ وبحار الأنوار، ج29، ص220.
2- . سورة مريم، الآية 11.
3- . سورة الأنعام، الآية 121.
4- . سورة الأنعام، الآية 112.

هذه الموارد في أصل لغة العرب لفظة الوحي، فلعلّ الشيطان هو الذي يوحي إلينا أحياناً من دون أن نعلم. وحتّى بالنسبة للحيوانات، بل - بتعبير أدقّ - لجميع الموجودات فقد استُعمل تعبير الوحي كذلك: (وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً)(1). فكلمة الوحي في تلك الآيات قد استُخدمت بمعناها اللغويّ؛ فالوحي هنا يعني لوناً من ألوان الإدراك الذي يتحقّق في موجود معيّن من دون أن يكون له دور في اكتسابه، بل وقد لا يعلم هو نفسه بأنّه يمتلك هذا الشيء.

أمّا في اصطلاح العلماء، خصوصاً علماء الكلام، وكذا في عرف المتشرّعة، فإنّ معنى الوحي ينصرف إلى نوع من علاقة التعليم والتعلّم بين اللّه وأنبيائه؛ فهو تعالى يوحي لمن كان نبيّاً. فالوحي اصطلاحاً لا يُطلق إلاّ على الإدراك الإلهيّ الغير العاديّ الذي يلقيه اللّه تعالى على الأنبياء (عليهم السلام) ، إذ لا يُستخدم تعبير الوحي بهذا المعنى حتّى فيما يخصّ الأئمّة الأطهار (عليهم السلام).

وفي مقابل هذا المصطلح فإنّ لدينا مصطلح الإلهام، لكنّ الفارق بين الإلهام والوحي ليس واضحاً تماماً؛ فكلاهما يحكيان عن معنى الإدراك الذي لا يأتي بالاكتساب والذي يوجَد في العادة دفعة واحدة، لكنّ الإلهام في عرف المتشرّعة وخصوصاً الشيعة منهم قد تحوّل إلى مصطلح خاصّ وهو أنّه إدراك خاصّ يمنّ اللّه عزّ وجلّ به على أوليائه. فالإلهام هو ضرب من الإدراك يكون من سنخ الوحي إلاّ أنّه أضعف منه. وقد جاء في بعض الأحاديث في الفَرق بين الوحي والإلهام أنّ الملَك يشاهَد أثناء الوحي لكنّه لا يشاهَد في حالة الإلهام ولا يُحَسّ إلاّ بأثّره في القلب.

أقسام الإلهام

لقد ذكر القرآن الكريم نوعاً واحداً من الإلهام يشمل جميع البشر؛ إذ يقول الباري تبارك وتعالى في سورة الشمس بعد أن يُقسِم أحد عشر قَسَماً: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)(2)؛ أي ألهم نفس ابن آدم وروحه الفجور والتقوى. فجميع البشر يميّزون بين الخير والشر عبر قوّة إدراك قد أودعها اللّه تعالى فيهم، أو إنّهم يشعرون في قرارة أنفسهم بالميل إلى العمل

ص: 30


1- . سورة النحل، الآية 68.
2- . سورة الشمس، الآية 8 .

الصالح أو الطالح. فهم لم يكتسبوا ذلك الميل بأنفسهم ولا هم تعلّموه من أحد أيضاً؛ فهذا هو إلهام إلهيّ.

والإلهام يكون تارة من سنخ الإدراكات؛ بمعنى أنّ اللّه يُفهّم الإنسان أمراً ما، وتارة اُخرى من سنخ الميل؛ أي إنّ اللّه يُلهم المرء ميلاً نحو أمر معيّن. وكذا هو الحال بخصوص الوحي، إذ يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ)(1)؛ فاللّه يوحي لأوليائه فعل ذلك، فهنا لم يقل: «العلم بالخيرات»، بل قال: «فعل الخيرات»، فالظاهر أنّ عين الفعل هو الذي يوحَى؛ بمعنى أنّ الميل والنزوع إلى فعل الخير يوجَد في أولياء اللّه بعناية من اللّه تعالى. وإنّ لله من مثل تلك الاُمور الكثير؛ مثل: (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ)(2). فهذا هو فعل اللّه تبارك وتعالى. فعندما يؤمن المرء بقلبه، وينتفع من نعمة هداية اللّه، ويشكر اللّه عليها، فإنّ اللّه من جانبه سيؤجره على ذلك، وأجر اللّه للمؤمن هو أن يحبّب إلى قلبه الإيمان والعمل الصالح، فلا تميل نفسه، في المقابل، إلى الكفر والفسوق والعصيان. بل إنّه سيكره فعل المعصية أساساً.

ولعلّ في ترتيب هذه الكلمات الثلاث تنويهاً لمراتب الكُره. فكلّ المؤمنين يبغضون الكفر، ثمّ يأتي الفسق في الدرجة الثانية في الكراهية؛ فالمؤمن لا يحبّ أن يكون إنساناً متفلّتاً من القيود. فحينما يستحكم إيمان المؤمن، ويمسي أكثر انتفاعاً من نعمة الهداية الإلهيّة، فإنّ اللّه تعالى سيغدق عليه من العنايات ما يجعله يبغض الذنوب أيضاً. وكأنّ للذنب في شامّة المؤمن رائحة هي من النتانة بحيث تجعله ينفر منها. فهذه الاُمور هي من فعل اللّه عزّ وجلّ. فقد أودع سبحانه وتعالى في جميع البشر نوعين من الميول؛ فمن ناحية نحن جميعاً نحبّ أفعال الخير، وعندما يأتي امرؤ بفعل خير نفرح لذلك حتّى وإن لم يكن الأمر متعلّقاً بنا من قريب أو بعيد. فهذا هو جانب من فعل اللّه للإنسان حيث يقال: «ألهمه التقوى». ومن ناحية اُخرى فإنّنا نجد في أنفسنا ميلاً إلى كلّ لذّة، حتّى وإن كانت معصية. فالضعفاء في الإيمان من الناس لا يلتفتون إلى كون اللذّة حراماً أو حلالاً. فجميع البشر

ص: 31


1- . سورة الأنبياء، الآية 73.
2- . سورة الحجرات، الآية 7.

ابتداءً وبشكل طبيعيّ يحبّون هذه اللذائذ؛ لكنّه كلّما تقدّموا في طريق الإيمان فإنّ هذه الميول تتحدّد و تأخذ اتجاها معيّنا فلا يعودون يرغبون باللذائذ التي تتأتّى عن طريق المعاصي والخطايا. فعندما يعبدون ويأتون بالطاعات فإنّ الميل إلى الاُنس مع اللّه يتزايد ويقوى في وجودهم يوماً بعد آخر حتّى يصلوا إلى حدّ الشوق الجارف إلى عبادة الباري تعالى.

وفي مقابل الإلهمات العامّة هناك إلهامات خاصّة لا تكون إلاّ من نصيب من أحسن الانتفاع من الاُولى. والإلهامات الخاصّة يختصّ بها أولياء اللّه على الصعيدين النظريّ والعمليّ. فأولياء اللّه يفهمون اُموراً لا يدركها الآخرون. فأحياناً تهفوا نفوسهم إلى فعل أمر حتّى كأنّ مُناديا ينادي في وجود ذلك الوليّ: افعل هذا العمل الحسن! فهو يشعر فجأة بدافع قويّ لفعل هذا الأمر. فالأئمّة الأطهار (عليهم السلام) والسيّدة الزهراء (عليها السلام) كان لهم حظّ وافر من هذه الموهبة الإلهيّة.

كما أنّ رواياتنا قد استخدمت مصطلحاً آخر للإلهام وهو «التحديث». إذ أنّ واحداً من ألقاب الزهراء (عليها السلام) هو «المحدَّثة». وقد يُشتبه أحياناً فيُقال: محدِّثة ظنّاً بأنّه من باب نقلها (عليها السلام) للحديث، في حين أنّ كلمة «محدَّث» تُطلق على الشخص الذي تتحدّث معه الملائكة وتروي له الأحاديث. فجميع الأنبياء والأئمّة المعصومين(عليهم السلام) كانوا محدَّثين. فإنّ لله تعالى إلهامات لغير الأنبياء أيضاً؛ بل وحتّى لغير الأئمّة (عليهم السلام) كذلك؛ بمعنى أنّ هناك ملَكاً يتحدّث مع الإنسان بينما لا يرى هو هذا الملك. وهذا مقام يعطيه اللّه عزّ وجلّ للخواصّ من عباده (1)

و لعل القاري یسأل نفسه عن كون فاطمه (عليها السلام) محدثه ،تحدثها الملائكه؛

غیر انّ فاطمه لا تقل شأناً عن مریم البتول و لا عن امرأه الخلیل.

قال سبحانه : (إذ قالت الملائكه یا مریم إنّ اللّه اصطفاكِ و طهّرَكِ و اصطفاكِ علی نساء العالمین)(2)

وهذه امرأه ابراهیم تسمع صوت الملك، یقول سبحانه:(وامرأتُهُ قائمة فضحكت فبشّرنها بإسحاق وَ وَراء إسحاق یَعقوب)(3)

ص: 32


1- . دروس الاخلاق المصباح الیزدی.
2- . سورة آل عمران الآیة 42.
3- . سورة هود الآیة 71.

فاذا كانت مریم و امرأه الخلیل محدّثتین ففاطمة سیدة نساء العالمین أولی بأن تكون محدّثه.(1)

توطئة لبيان الإلهامات الإلهيّة

بعد الحمد لله على ما منّ به من النعم، تقول السيّدة الزهراء (عليها السلام) في خطبتها الشريفة: «وله الشكر على ما ألهم»؛ ويمكن هنا طرح احتمالين: أحدهما أنّ القصد من هذا الإلهام هو ذلك الإلهام العامّ الذي يشمِل اللّه به جميع البشر، بل وحتّى غير البشر أيضاً ولمّا كانت الزهراء (عليها السلام) هي واحدة من أفراد البشر وقد وُهبت هي أيضاً هذه النعمة فهي تشكر اللّه عليها؛ بالضبط كما نشكر اللّه على أن أعطانا عيناً. فاللّه تعالى قد أعطى نعمة العين للكثير من البشر، بيد أنّ هذا لا يمنع من أن نشكر اللّه عليها. لكن لعلّ الاحتمال الأقوى لذلك هو أنّها (عليها السلام) تشكر اللّه عزّ وجلّ على ما منّ به على هذه الاُسرة من الإلهامات الخاصّة، وتعبير الشكر في هذه الحالة هو أكثر مناسبة من الحمد؛ ذلك أنّ الجانب الملحوظ في الشكر هو الثناء على مَن أعطاني نعمة بشكل خاصّ. بالطبع إنّ المعنى الأوّل ليس هو بالخاطئ أيضاً، لكن يبدو أنّ المعنى الثاني هو أكثر مناسبة للمقام، وهذا ضرب من براعة الاستهلال؛ بمعنى أنّه لمّا كان من المقرّر أن تشير (عليها السلام) في هذه الخطبة إلى مواضيع قد ألهمها اللّه تعالى إيّاها، فهي (عليها السلام) تنوّه في مستهلّ كلامها بأنّ اللّه قد ألهمنا اُموراً وإنّني لأشكر اللّه بادئ ذي بدء على ما منّ به علينا من تلك النعم الخاصّة.

ص: 33


1- . ا ضواء علی عقائد الشیعة الامامیة للشیخ السبحاني ص 585.

قصّة مصحف فاطمة (عليها السلام)

اشارة

ومن جملة هذه الإلهامات تلك التي نتج عنها مصحف فاطمة (عليها السلام) . لقد ورد في الكثير من الأحاديث بأنّه في غضون تلك الأيّام القلائل التي تلت رحيل النبيّ الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث نزلت بهذه السيّدة الجليلة (عليها السلام) من عظيم المصائب وجليل الخطوب ما يستعصي عن الوصف فإنّ اللّه عزّ وجلّ كان يرسل جبرئيل (عليه السلام) ليتحدّث إلى فاطمة (عليها السلام) ويسلّيها علّه يثنيها عن التفكير المتواصل بما حلّ بها من المحن والمصائب. فقد كان جبرئيل يروي لها ما سيجري من اُمور وحوادث في المستقبل. ثمّ جمعت تلك الاُمور واُطلق عليها اسم «مصحف فاطمة»(عليها السلام). وقد نُقل في بعض الأخبار أنّه لم يكن في ذلك المصحف شيء من الحرام والحلال وكان يقتصر على التنبّؤات التي كان جبرئيل (عليه السلام) ينقلها للسيّدة الزهراء (عليها السلام) عمّا سيكون من الامور. وقد دوّنت (عليها السلام) ما كانت تُحدَّث به وجمعته بصورة كتاب.(1)

فالمصحف(2) هو الشيء المجموع. وقد ظنّ بعض الجهلة أنّ هذا المصحف هو في مقابل القرآن الكريم؛ أي إنّ القرآن هو مصحف النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإنّ السيّدة الزهراء (عليها السلام) هي الاُخرى لها مصحف في مقابل ذلك. فبعض التهم التي تُوجَّه إلى الشيعة هي القول: إنّ الشيعة يعتقدون بأنّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) كانت نبيّة أيضاً، وكان لها مصحف هو غير القرآن، وإنّ الشيعة يعتقدون بقرآن آخر خاصّ بهم! والحال أنّ هذا المصحف لم يكن إلاّ أحاديث جبرئيل تلك وقد جمعتها (عليها السلام) على هيئة كتاب. يقول أئمّتنا الأطهار (عليهم السلام) في العديد من الروايات: «نظرتُ في مصحف فاطمة...»(3) . وعلى أيّة حال فإنّ هذا المصحف هو من مصاديق الإلهامات

ص: 34


1- . بحار الأنوار، ج26، ص44.
2- . المصحف : من اصحف بمعنی ما جعل فیه الصحف و انّما سمّی المصحف مصحفاً : لانّه جعل جامعا للصحف المكتوبه بین الدفتتین ، و لم یكن الفظ علماً للقرآن في عصر نزوله و انّما صار علماً له بعد رحیل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . قال السیوطی : روی ابناشته فی كتاب المصاحف انه لما جمعوا القرآن فكتبوه فی الورق قال ابوبكر: التمسوا له اسما، فقال بعضهم : السفر و قال بعضهم: المصحف؛ فان الحبشه یسمونه المصحف قال: و كان ابوبكر اول من جمع كتاب اللّه و سماه المصحف. (السیوطی، الاتقان فی علوم القرآن، ج1، ص 185؛ مع الشیعه الامامیه، ص 240.
3- . الكافي، ج1، ص240؛ وبحار الأنوار، ج26، ص44.

التي خُصّت بها السيدة الزهراء (عليها السلام)، ولعلّ جملة: «وله الشكر على ما ألهم» هي من قبيل براعة الاستهلال لِما ستشير إليه (عليها السلام) أثناء خطبتها من الإلهامات.

بحر النعم الإلهيّه
التفاوت بين النعم، والآلاء، والمنن

«وَالثَّنَاءُ بِمَا قَدَّمَ؛ مِنْ عُمُومِ نِعَمٍ ابْتَدَأَهَا، وَسُبُوغِ آلاَءٍ أَسْدَاهَا، وَتَمَامِ مِنَنٍ أَولاَهَا، جَمَّ عَنِ الإِحْصَاءِ عَدَدُهَا، وَنَأَى عَنِ الْجَزَاءِ أَمَدُهَا، وَتَفَاوَتَ عَنِ الإِدْرَاكِ أَبَدُهَا»(1)

ابتدأت هذه الخطبة الشريفة بالحمد والشكر لله عزّ وجلّ والثناء عليه وقد أشرنا إلى الفرق بين تلك المفردات. تقول الزهراء (عليها السلام) مستطردة في كلامها: «والثناء بما قدّم»؛ أي: إنّني اُثني على اللّه عزّ وجلّ بما وضع بين أيدي عباده. والظاهر أنّ اختيار هذه اللفظة جاء مراعاةً للسجع مع ما سبقها من الجمل. فكلمة «قَدَّم» تعني: جعل الشيء قدّامك. فعندما يُراد القول في العربيّة: وضَع الشيء بين يديه أو تحت تصرّفه يُقال: قدّمه له. والثناء هو حمد مطلق؛ فيكون علی ما هو أعمّ من النعم التي منّ اللّه بها على الإنسان نفسه وتلك التي أعطاها لغيره من المخلوقات. ثمّ تسترسل (عليها السلام) في كلامها مبيّنة تلك النعم. وقد كان بإمكانها القول: «مِن نعم عامّة، وآلاء جمّة»، بيد أنّ التركيب الذي اختير هنا يفوق ذلك لطافةً بكثير. فعوضاً عن أن تحصي نفس النعم ثمّ تصفها بأنّها عامّة، فهي (عليها السلام) تستند بدايةً إلى هذا العموم في النعم فتقول: «من عموم نعم ابتدأها»؛ ومعناه: من النعم العامّة والشاملة التي وضعها في متناول المتنعّمين. فبعض نعم اللّه تعالى تكون من النمط الذي لابدّ للمتنعّم أوّلاً أن يحوز الشروط اللازمة لنيلها فيُنعم اللّه عليه بتلك النعمة تبعاً لذلك، أمّا النمط الآخر من النعم فهي تلك التي يُسبغها اللّه على المتنعّم قبل أن تتوفّر فيه شروط إدراكها. فاللّه سبحانه وتعالى يخلق للجنين رزقه ويودعه في صدر اُمّه وهو ما يزال في بطنها ولم يولَد بعد. والأعظم من ذلك تلك النعم التي يهيّئها اللّه عزّ وجلّ للإنسان قبل خلقه؛ فقبل أن يُخلق البشر كانت الأرض، والهواء، والنور، والحرارة، والمواد الغذائيّة موجودة، فقد هيّأ اللّه تلك

ص: 35


1- . بلاغات النساء، ص27؛ وبحار الأنوار، ج29، ص220.

النعم للإنسان قبل أن يخلقه. ونحن نقرأ في بعض الأدعية: «يَا مُبْتَدِئاً بِالنِّعَمِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا»(1)؛ أي: يا مبتدئاً بالنعم قبل أن يتوفّر الاستحقاق لها. بالطبع من الممكن أن يكون لعبارة «قبل استحقاقها» معنى آخر وهو أنّ الموجودات المختارة تستحقّ الثواب بعد الإتيان بأعمالها الاختياريّة، غير أنّ اللّه تعالى يبادر عباده بإعطاء النعم قبل أن يأتوا بما يستحقّون عليه تلك النعم من الأعمال الاختياريّة؛ كما في نعمة الهداية. ثمّ تقول البتول (عليها السلام) : «وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن أولاها».

إنّ بعض اللغات تفوق غيرها غنىً من حيث المفردات والتراكيب، فاللغة العربيّة مثلاً تتمتّع بمستوى رفيع من الغنى في المفردات إذا ما قيست باللغة الفارسيّة؛ لذا فقد توجد في مقابل كلمة فارسيّة واحدة بضع كلمات عربيّة معادلة بحيث يكون لكلّ منها خصوصيّات معيّنة. ونحن هنا أمام لفظتين هما: التقديم، والنعمة. ففي اللغة الفارسيّة توجد عندنا كلمة «تقديم» وهي في الأصل عربيّة، ويصعب العثور على ما يعادلها في اللغة الفارسيّة ممّا يكون مستخدَماً في الوقت الحاضر ويفيد نفس المعنى. كما أنّه ليس لدينا في الفارسيّة غير مفردة «نعمت» لبيان معنى «النعمة» وهي الاُخرى مستعارة من اللغة العربيّة. أمّا في اللغة العربيّة فتوجد ثلاث مفردات لهذا المعنى هي: «النعمة»، و«الإلى»، و«المنّة» حيث تُجمع بالترتيب على هذا النحو: «النعم»، و«الآلاء»، و«المنن» وتوجد بينها اختلافات ظريفة. فكلمة «النعم» تُطلق على كلّ النعم وكلّ شيء يلائم الطبع ولها معنى عامّ. أمّا بخصوص «الآلاء» فقد قالوا: هي تلك النعم التي تلبّي حاجة المتنعّم بالكامل. فاللّه عزّ وجلّ يُكثر في سورة الرحمٰن من القول: (فَبِأَيِّ ءَالاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)(2)، ويقول في موضع آخر: (فَاذْكُرُواْ ءَالاَءَ اللّهِ)(3)؛ فتلك هي النعم التي لوحظت فيها تلك الخصوصيّة. وإلى جانب تلك المفردات استخدمت السيّدة الزهراء (عليها السلام) مفردة «المنّة» وهي وجمعها «المنن» تطلَق على النعم الثمينة والنفيسة للغاية؛ ومن هذا المنطلق فقد استخدم الباري جلّ وعلا في كتابه الحكيم الفعل «منّ» بدلاً من «أنعم» في موارد خاصّة، مثل: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى

ص: 36


1- . بحار الأنوار، ج51، ص305.
2- . سورة الرحمن، الآيات 13 و16 و18.
3- . سورة الأعراف، الآيتان 69 و74.

الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً)(1)؛ فهو يبيّن نعمة وجود النبيّ من خلال تعبير «المنّ» وهذا يعني انّه: أنعم بنعمة عظيمة ثمينة.

فالزهراء (عليها السلام) استعملت في البدء لفظة النعم، ثمّ أتبعتها بالآلاء، فأردفتها بالمنن؛ أي إنّ كلّ مفردة تتلوا تكون أرقى من حيث المعنى. وهذه هي من مراتب فصاحة الكلام، حيث عندما يؤتَى بعدّة مفردات متشابهة فإنّه يُتَدرّج فيها من الضعيف إلى الأقوى فالأقوى؛ فإنّ إعطاء النعم قد بُيّن بمفردات شتّى، وهذا يدلّ بوضوح على مدى تسلّط المستخدِم لتلك المفردات على الكلام، والألفاظ والتراكيب!

«وسبوغ آلاء أسداها». لقد استخدمت هنا مادّة «السبوغ»، ليكون المعنى: إنّني اُثني على اللّه لِما أنعم به من وافر النعم الخاصّة. فالمراد من قوله تعالى: «أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ)(2) هو أنّه وضع في متناولكم الكثير الوافر من نعمه. «وتمام منن أولاها» أو «...والاها»، و«أَوْلى النعم» أي: أعطاها. وتتمتع هذه المفردة بمعاني كثيرة منها: «إنجاز العمل وإتمامه». وقد وردت في بعض النسخ بلفظة: «والاها»؛ والموالاة بمعنى الإتباع. فإن كانت بلفظة «والاها» فيمكن القول: لقد روعيت فيها التفاتة ظريفة وهي أنّه عندما يمنّ اللّه على أحد بنعمة فإنّه لا يكتفي بهذا المقدار، بل إنّه يُتبعها بإعطاء نعمة أكبر وأضخم.

«جمّ عن الإحصاء عددُها، ونأى عن الجزاء أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها»؛ فهذه النعم هي على جانب من الوفرة بحيث لا يتيسّر إحصاؤها، وإنّ زمانها ووقت انقضائها هو من الامتداد بحيث لا يُتصور الجزاءُ عليها، وإنّ أبَديّة تلك النعم واستمرارها تستلزم تخطّيها لحدود مداركنا. فقد ذكرت السيّدة الزهراء (عليها السلام) هنا ثلاث سمات للنعم الإلهيّة: أوّلها من منطلق الكمّ، حيث قالت: إنّ عددها يفوق ما يمكن إحصاؤه. وثانيها من حيث النوعية، فقالت: هي تتّصف بعدم إمكانيّة مقابلة معطيها بالمثل أو مجازاته. والثالثة من باب المحدوديّة، فهي تقول: إنّها غير متناهية. وسنقدّم في سياق بحثنا توضيحاً بخصوص هذه الأوصاف.

ص: 37


1- . سورة آل عمران، الآية 164.
2- . سورة لقمان، الآية 20.
النعم الإلهيّة غير قابلة للإحصاء
اشارة

إنّ قضيّة عدم قابليّة نعم اللّه للإحصاء: «جمّ عن الإحصاء عددها» هي من الاُمور التي لاقت تأكيداً شديداً في القرآن الكريم؛ فاللّه عزّ وجلّ يقول: (وَإِنْ تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا)(1). إنّني شخصيّاً لا أعتقد أنّ هناك مَن يساوره شكّ في أنّنا لا نستطيع إحصاء وحساب نعم اللّه بالتفصيل؛ غير أنّ هناك فرقاً بين قولنا على نحو العموم والإجمال: لا نستطيع، وبين أن نختبر أنفسنا قليلاً لنرى السبب في عدم قدرتنا على الإحصاء.

لقد خُلق الإنسان على شاكلة بحيث لا يكون لتصوّراته أثر كبير على عمله أو أحاسيسه النفسانيّة إلاّ عندما يدرك تفاصيلها ويتصوّرها. فكلّنا يعلم أنّ محبّة الأمّ هي محبّة اُسطوريّة وأنّ اللّه قد وهبها قدراً فائقاً منها. فتارةً نقول بشكل مجمل وعامّ: إنّ محبّة الاُمّ كبيرة ولا نستطيع الوفاء بحقّها، وهذا بالطبع كلام صحيح. لكنّنا إذا تأمّلنا قليلاً في بعض تفاصيل محبّة الاُمّ، فحينئذ سندرك أكثر مدى ما ينبغي الإحساس به من الخضوع أمامها. لنتأمّل في مقدار المشاقّ التي تعانيها الاُمّ من أجل طفلها في ليلة واحدة. فإن كانت هناك بضع اُمّهات نائمات بين مجموعة من الناس مع أطفالهنّ، واستيقظ أحد الأطفال باكياً، فإنّ اُمّ ذلك الطفل وليس غيرها ستهبّ من نومها. فإن رأت طفلها يشكوا - مثلاً - ألماً في بطنه، أو حروقاً في قدمه، أو غير ذلك فإنّها ستنهض فوراً من مكانها وتحاول جاهدة أن تُسكت طفلها وتهدّئ من روعه. فلو بقي الطفل مضطرباً خلال ليلة طويلة في الشتاء حتّى الصباح فلن تذوق الاُمّ طعم الراحة في تلك الليلة. فهي لا تتضايق ولا تملّ من إرضاعه، أو ملاطفته، ولا تبخل عليه بالشفقة والحنان، أو ...الخ. فمَن منّا على استعداد لأن يوصل ليله بصباحه في المعاناة من أجل العناية بطفل كلّ تلك العناية؟ فعندما يتصوّر المرء تلك الاُمور واحداً واحداً فسيتولّد عنده تصورّ وإدراك مختلف عن قيمة معاناة الاُمّ. فالاُمّ تتحمّل كلّ تلك المتاعب وتبدي كلّ تلك الشفقة من أجل طفلها الصغير على مدى سنوات عديدة.

وشكر اللّه عزّ وجلّ ينتج من إحساس معيّن. فالإنسان يشعر في بادئ الأمر بأنّ هناك دَينا في رقبته، وهذه من جملة المشاعر الإلهيّة الطاهرة التي أودعها الباري تعالى بشكل فطريّ في وجود الإنسان وهو إحساسه بأنّه مدين لمن أسدى إليه خدمة وشعوره بضرورة

ص: 38


1- . سورة النحل، الآية 18.

إثابة ذلك الشخص على خدماته بنحو من الأنحاء؛ مثلاً بالشكر اللسانيّ على الأقلّ. هذا الإحساس لا يتولّد في أنفسنا على النحو الصحيح إلاّ إذا أدركنا تفاصيل نِعم اللّه علينا. فمعرفتنا إجمالاً بأنّ اللّه قد أنعم علينا بسلامة البدن ليس بكاف. إذ علينا أن ندرك بالتفاصيل ما معنى سلامة البدن؟

فعين الإنسان لها عدّة أقسام يتألّف كلّ منها من ملايين الخلايا المختلفة. فإذا تضرّر أحد أقسام العين؛ كأن اُصيبت بالماء الأسود فكم عليه أن يتحمّل من المعاناة والنفقات من أجل علاجها؟ وسائر أعضاء البدن هي على هذا النحو أيضاً. وكذا الامر بالنسبة الی تسوّس واحد من تلك العظام الصغيرة المسمّاة بالأسنان والتي وضعها اللّه تعالى في فمنا من أجل مضغ الطعام، فمهما أنفق الإنسان عليه من المال فلن يعود إلى سابق عهده! إذن فكيف تثمّن تلك الاُمور؟! إنّنا لا ندري ما قيمتها حقيقة!

هذه هي النعم الموجودة. أيّ مقدّمات كان لابدّ من توفّرها من أجل إنتاج واحدة من تلك النعم؟ وما هي العوامل التی كان ينبغي أن تتكاتف بغية تشكيل هذه الأعضاء بالشكل الذي هي عليه الآن؟ فإنْ نحن فكّرنا بما هو موجود في بدننا فحسب فسندرك حينئذ مدى الدَّين الضخم الذي في رقبتنا تجاه ربّنا!

فوائد التدبّر في نعم اللّه تعالى

إنّ هذا اللون من التفكّر والتدبّر يفيض علينا فوائد جمّة. الفائدة الاُولى التي تُجنى منه هو إدراك المرء لمقدار ما يملكه. فسيفهم حينئذ كيف يقيّم أعضاءه البسيطة كالظفر والشعرة، ناهيك عن الأعضاء الأكثر أهمّية كالعين، والأذن، و...الخ. فلقد أعطانا اللّه كلّ تلك النعم بالمجّان. فالفائدة الاُولى التي يمكن أن نجنيها من هذا التدقيق هو أنّ الإنسان سيرى نفسه غارقاً في النعم ولا يعد نفسه فقيراً على الإطلاق.

والفائدة الاُخرى هي عدم جزع الإنسان حيال المصاعب التافهة. فعندما لا نكون ملتفتين إلى مقدار النعم التي أنعم اللّه بها علينا، فإنّنا سنواجه اللّه بآلاف الألوان من الجزع جرّاء صداع بسيط!

أمّا الفائدة الثالثة المستقاة من ذلك فهي أنّه عندما يشاهد المرء كلّ تلك النعم فسيتولّد لديه الدافع للشكر. فالذي تكون فطرته سليمة فإنّه يسعى إلى التشكّر ممّن يعطيه شيئاً أو

ص: 39

يسدي إليه خدمة. أفلا يبادر الإنسان إلى شكر ربّه إذا علم بمدى ما أنعم عليه من الفضل والنعم؟!

والفائدة الرابعة هي أنّ الشكر يؤدی الی زيادة النعم: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ)(1).

وأخيراً فإنّ هذا الشكر هو من موجبات سعادة الشاكر الأبديّة. فليس أنّ نعمته تزداد في الدنيا فحسب؛ بل إنّ اللّه سيرضى عنه وسيثيبه. ففضيلة العبادة المأتيّ بها بدافع الشكر هي أكبر بكثير من تلك العبادة المأتیّ بها بدافع الخوف. فبعد أن يقسّم الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) العبيد إلى ثلاثة أصناف، فإنّه يستدرك قائلاً: «...وَلَكِنِّي أَعْبُدُهُ شكراً لَه»، وفي رواية: «حبّاً له»(2).

نِعم اللّه لا يمكن مجازاتها

«ونأى عن الجزاء أمدها». إنّ النعم الإلهيّة هي ممّا لا يمكن قياسه بإحسان الآخرين للإنسان. فإن أهدى أحدهم للمرء كتاباً فبإمكان الأخير مقابلته بهديّة اُخرى مجازاةً على لطفه. لكن كيف يا ترى يمكن مجازاة النعم الإلهيّة؟! فإنّ كلّ ما نملك وما هو موجود فهو من اللّه عزّ وجلّ. فبأيّ شيء يمكننا مجازاته وشكره كي نقول: لقد مننتَ عليّ بمليارات النعم، وأنا اُقدّم لك في المقابل هذه الهديّة البسيطة؟! بل من أين نأتي بهذه الهديّة؟

النعم الإلهيّة عصيّة على التصوّر

وأخيراً فإنّ نعم اللّه لا تقتصر على هذه النعم الدنيويّة المحدودة والعابرة: «وتفاوتَ عن الإدراك أبدها». فإنّ لله جلّ وعلا نعماً أبديّة. لكن ما المراد من الأبديّة؟ إنّنا، أساساً، غير قادرين على تكوين تصوّر صحيح عن مفهوم الأبديّة. إذ أنّنا دوماً ندرك أمثال هذه المفاهيم عبر قيد منفيّ. فكلّما أردنا تصوّر الشيء الغير المتناهي فإنّه ينبغي لنا أن نتصوّر المتناهي في البداية، ثمّ نتصوّر حرف نفي فنلحقه به؛ فنقول حينئذٍ: إنّنا تصوّرنا الشيء الغير المتناهي! في حين أنّنا لم نتصوّر الغير المتناهي؛ بل تخيّلنا المتناهي ثمّ نفيناه. فأذهاننا عاجزة عن إدراك

ص: 40


1- . سورة إبراهيم، الآية 7.
2- . بحار الأنوار، ج67، ص18.

الغير المتناهي. وهذا هو الحال مع صفات اللّه تعالى. فإنّ عدم مقدرتنا على إدراك حقيقة صفات اللّه عزّ وجلّ يمكن تقريبها من باب أنّ صفات اللّه لا حدّ لها ولا حصر.

اللّهمّ تحنّن علينا بنفحة ممّا وهبت لأوليائك من المعرفة.

شكر النعم الإلهيّه
النعم الإلهيّه، والعباد

«وَنَدَبَهُمْ لاسْتِزَادَتِهَا بِالشُّكْرِ لاتِّصَالِهَا، وَاسْتَحْمَدَ إِلَى الْخَلائِقِ بِإِجْزَالِهَا، وَثَنَّى بِالنَّدْبِ إِلَى أَمْثَالِهَا»(1)

إنّ هذه الخطبه هي على درجه من الروعه والإمعان في الفصاحة والبلاغه حتّى إنّ المتخصّصين في هذا الفنّ ليقفون عاجزين عن بيان دقائق الالتفاتات الموجودة في هذه العبارات. فعندما يقرأ المرء هذه الخطبة يلتفت إلى أنّها تنطوي على جمال خاصّ. فالقسم الأوّل من الخطبة الذي يتضمّن الحمد لله والثناء عليه ينقسم بدوره إلى أربعة أقسام بُيِّن كلّ قسم منها في ثلاث جمل رُكّبت تركيباً خاصّاً من حيث السجع والنظم والوزن؛ إذ تقول الزهراء البتول (عليها السلام) في القسم الأوّل منها: «الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدّم»، وتُتبع ذلك في القسم الثاني بالقول: «من عموم نعم ابتدأها، وسبوغ آلاء أسداها، وتمام مِنن أولاها»، أمّا في القسم الثالث فتقول: «جمّ عن الإحصاء عددها، ونأى عن الجزاء أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها». ولقد قدّمنا شرحاً لهذه العبارات.

أمّا في القسم الرابع فتختتم الزهراء (عليها السلام) فقرة الحمد بثلاث جمل اُخريات تبيّن فيها من خلال السجع والقافية الخاصّين أيضاً- العلاقة التي تربط النعم الإلهيّة بالعباد. ففي العبارات السابقة بيّنت (عليها السلام)ما يختصّ بكثرة النعم الإلهيّة وكيفيّتها وطول أمدها وفي ذلك بيان

ص: 41


1- . بلاغات النساء، ص27؛ وبحار الأنوار، ج29، ص220.

لخصائص نفس النعم. أمّا في القسم الحاليّ فقد ركّزت على علاقة النعم بالخلائق وتعاطي المتنعمّين لها.

تقول فاطمة الزهراء (عليها السلام) : «وَنَدَبَهُمْ لاسْتِزَادَتِهَا بِالشُّكْرِ لاتِّصَالِهَا، وَاسْتَحْمَدَ إِلَى الْخَلائِقِ بِإِجْزَالِهَا، وَثَنَّى بِالنَّدْبِ إِلَى أَمْثَالِهَا»؛ فاللّه عزّ وجلّ يثير في الناس الدافع إلى الحمد من خلال إسباغ تلك النعم الجمّة وكأنّه بذلك يطالبهم بحمده عليها من خلال العمل. وعلاوة على ذلك فهو يدعوهم إلى مطالبته بالمزيد من أمثال تلك النعم.

في هذه الجمل الثلاث تشير الزهراء (عليها السلام) إلى بضع نقاط. النقطة الاُولى هي أنّ اللّه تعالى، مضافاً إلى إعطائه النعم لعباده ابتداءً، فقد دعاهم إلى شكر تلك النعم من أجل نيل المزيد منها، وهذا الباب بحدّ ذاته هو نعمة عظيمة تفوق غيرها من النعم. فعلى الرغم من أنّ اللّه عزّ وجلّ لم يقصّر بشيء عند إسباغه لتلك النعم ابتداءً؛ لكنّه، بالإضافة إلى ذلك، فقد فتح لعباده باباً آخر للاستزادة من تلك النعم، وهذا يحكي عن سنّة إلهيّة جديدة. فالسنّة الاُولى هي أنّ اللّه يعطي لمخلوقات هذا العالم كلّ ما يلزمهم لمعيشتهم. غير أنّه تحنّی عليهم بلطف أسمى في إجازته لهم بالإفادة من المزيد من النعم. إذ يمكن لحياة الإنسان أن تستمرّ بما يسدّ رمقه من يسير الطعام وليس ثمّة من ضرورة لأن يضع في متناوله تلك الأصناف من الفاكهة، والخضار، واللحوم، واللبن، والعسل، وأنواع النباتات المختلفة، فمواصلة الإنسان لحياته من دون تلك الاُمور أمر مقدور عليه. إذن تنوّع الغذاء هو بحدّ ذاته نعمة زائدة. وكذا الأمر في سائر المسائل؛ فبعض الأشياء تكون ضمن حدّ الضرورة واحتياج الإنسان فقط، غير أنّ هناك إمكانيّة استفادته من نعم اللّه تعالى بما يفوق ما تستدعيه حاجته وجنْي المزيد من اللذّة منها، أمّا السبيل إلى ذلك فهو أن يقْدر النعم التي منّ اللّه بها عليه حقّ قدرها. وهذه هي من السنن القطعيّة والتي لا تقبل الاستثناء في التدبير الإلهيّ. يقول القرآن الكريم في هذا الباب ما يقلّ نظيره فيما يماثله من بيانه لمختلف السنن الإلهيّة: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)(1). فالأذان هنا بمعنى الإعلان، وإنّ باب التفعّل يدلّ على قول الأذان بالمزيد من الصراحة والفصاحة والجزم؛ فكلمة «تأذّن» تعني: الإعلان الصريح والمؤكّد. ثمّ تبيّن الآية موضوع هذا الإعلان

ص: 42


1- . سورة إبراهيم، الآية 7.

عن طريق العبارة التالية: «لئن شكرتم لأزيدنّكم»؛ أي: لأزيدنّكم نعمة. وقد كان بمقدور اللّه عزّ وجلّ أن يقول: «إن شكرتم زادكم اللّه» نعمةً، بيد أنّه جلّ وعلا لم يصغ العبارة هكذا، بل استخدم في صياغتها جملة تعدّ في نظر الاُدباء جواب قَسَم، فقال: «لئن شكرتم»؛ وتقديرها: «واللّه لئن شكرتم»، كما أنّ جواب القسم جاء بلام التأكيد ونون التأكيد الثقيلة؛ ومن هنا فقد روعي تأكيد الكلام بالكامل، ليكون المعنى: إنّ هذه السنّة الإلهيّة لا تدع بتاتاً أيّ مجال للشبهة وهي سنّة قطعيّة لا استثناء فيها؛ مفادها أنّكم إذا شكرتم نعم اللّه جلّ وعلا فإنّ نعمتكم ستزداد حتماً وقطعاً. «ولئن كفرتم إنّ عذابي لشديد». فالباري عزّ وجلّ يهدّد ويتوعّد بأنّكم إن كفرتم فاعلموا أنّ عذاب اللّه شديد. وهو بالطبع لا يقول: لأعذبنّكم.

وبهذا البيان فإنّ اللّه في الحقيقة يدفع بالناس إلى طلب زيادة النعم، فإنّ بيان هذا الأمر يخلق في الناس دافعاً إلى المزيد من الشكر. ومن الحَسَن هنا أن نفتح باباً للاخوة من أجل الدراسة والبحث حول هذه المسألة؛ فالشكر هو عمل اختياريّ، وكلّ عمل اختياريّ يحتاج إلى أرضيّة فكريّة؛ أي إنّ المرء يحتاج إلى العلم والاطّلاع من أجل القيام بهذا العمل، ولكنّه لابدّ قبل العلم من توفّر أرضية للدافع؛ بمعنى أنّه يتعيّن توفّر دافع في الإنسان لإنجاز هذا العمل، وأن يميل قلبه إليه. فبمعزل عن العلم بالعمل لابدّ من إرادة القيام به، وإذا ضُمّ هذان الإثنان إلى بعضهما تحقّق الفعل الاختياريّ. فهناك اُمور كثيرة يعلم معظمنا أنّها حسنة إلاّ أنّنا لا نأتي بها لانعدام الدافع فينا لذلك، فالإنسان لا يقوم بما يعلم أنّه فعل حسن إلاّ إذا وُجد في داخله الدافع للقيام به. ومن هنا فإنّ من أعظم أدوار المربّي والمعلّم هو تقوية دوافع المتربّي من خلال السعي إلى إثارة العاطفة والمحبّة في داخله.

فمجرّد العلم بأنّ اللّه قد منّ علينا بنعم جمّة هو غير كاف لاستثارة دافع الشكر في أنفسنا، فالأمر يتطلّب شيئاً آخر، وهو ضرورة توفّر الرغبة والميل القلبيّين لأن نكون شاكرين. وهذا من العوامل التي أوجدها اللّه بشكل فطريّ في كيان الإنسان؛ فالإنسان مفطور بطبيعته على أن يشعر في قرارة نفسه بضرورة الخضوع في مقابل من علِم بأنّه قد أسدى إليه خدمة، والإحساس بأنّه مدين له، والسعي لمجازاته على ما أسبغ عليه من اللطف؛ فعلى أقّل تقدير يأتي بالشكر على لسانه، أما إذا لم يفعل ذلك فانّه يظلّ يراوده شعورٌ كمَن فقدَ شيئاً ولم يعثر عليه. قبل بضع سنوات وفي أثناء رحلة إلى أمريكا دُعيت إلى إلقاء محاضرة في إحدى الجامعات، لكنّ ضجّة وزحاماً ما لبثا أن استولَيا على الجامعة برمّتها

ص: 43

بعد إلقاء المحاضرة، وفي خضم ذلك التجمّع الغفير كان أحد الطلبة يصرّ إصراراً عجيباً على التقرّب منّي، فرجوت الأخوة المرافقين لي أن يسمحوا له بالتقرّب لنرى ما الذي يودّ قوله. فاقترب منّي مكتفياً بالقول: كنت أريد فقط أن أقول لك: شكراً جزيلاً. قال ذلك وذهب. فقد كان يشعر بنقص في داخله ولم يهدأ له بال إلاّ بالإعراب عن الشكر. هذه مسألة فطريّة؛ فالإنسان لا يستطيع أن يكون غير مبالٍ أمام من أحسن إليه. بالطبع هذا الأمر ليس من مختصّات الإنسان بل هوموجود في الحيوانات أيضاً، بل إنّ بعضها يفوق الإنسان بكثير في إظهاره للشكر. فهناك من الحيوانات التي إذا أعطاها المرء لقمة خبز أو قطعة عظم تظلّ مدّة مطأطئة رأسها ومتذلّلة أمامه! فهذا أمر مودَع من قبل اللّه في جميع الحيوانات، أمّا في الإنسان فلابدّ أن يمتاز هذا الأمر بالمزيد من الوعي.

في إحدى المرّات وفي أثناء مجلس عقد بخصوص الشكر قال قائد الثورة المعظّم (حفظه اللّه تعالى): ينبغي توفّر بضعة اُمور من أجل الشكر؛ أوّلها عِلم الإنسان بأنّ ما في يده نعمة، وثانيها أن يعلم بأنّ هذه النعمة هي من اللّه تعالى؛ فإن اعتقد بأنّ النعمة هي من نفسه فإنّه لن يشعر في داخله بالدافع إلى الشكر. فالإنسان لن يبادر إلى الشكر إلاّ إذا أحسّ بأنّ هذه النعمة هي من اللّه تعالى وأنّ اللّه قد أعطاه إيّاها عن علم وقصد؛ لا أنْ يظنّ أنّها قد وصلت إليه في سياق عمليّة جبريّة. فبعد أن يعلم أنّها نعمة، وأنّ اللّه هو الذي منّ عليه بها، عندئذ سيُضَمّ هذا الإحساس الفطريّ إلى ذلك فيبادر إلى الشكر. فهذا الإحساس الفطريّ بالاعتراف بالجميل هو الآخر قد خلقه اللّه في وجودنا وهو بحدّ ذاته نعمة تحتاج بدورها إلى شكر.

مراتب الشكر

إنّ مسألة الشكر هي على جانب من الأهمّية حتّى أنّ كبار المتكلّمين عدّوها من بديهيّات العقل ودليلاً على وجوب معرفة اللّه تعالى.

وإنّ للشكر مراتب أوّلها أن يقول المرء بلسانه: شكراً لله؛ الحمد لله. والمرتبة الثانية هي أن يحافظ على هذه النعمة فلا يضيّعها. فلو أنّ صديقاً أهداك هديّة ثمّ لاحظ أنّك أهملتها وضيّعتها، فإنّه سيعاتبك! فحفظ النعمة بحدّ ذاته يعدّ مرتبة ثانية للشكر؛ وهي تعني أن لا يستعمل الإنسان النعمة فيما لا يحبّه اللّه؛ فلا ينبغي استعمالها في أمر يصبّ في مصلحة العدوّ وفي مواجهة المنعِم! وبتعبير آخر: يجب أن لا تُستخدم النعمة في سبيل المعصيّه أمّا

ص: 44

آخر مراتب الشكر فهي أنّه إذا فَرضت النعمة علينا تكليفاً سواء أكان مستحبّاً أو واجباً- فلابدّ عندها من أدائه؛ فإن اُعطينا ثروة واُريد منّا أن ندفع بعضها للفقير فلا نقصرنّ في ذلك، فهذا أيضاً من الشكر لهذه النعمة. وتلك هي المراتب المختلفة للشكر.

قلنا إنّه مضافاً إلى العلم فإنّ عمليّة الشكر بحاجة إلى الدافع والميل والرغبة؛ فإنّ إحساسنا بكوننا مدينين وشعورنا بضرورة أداء ما في أعناقنا من دين إنّما هي اُمور أودعها اللّه في فطرة الإنسان؛ وهي في غاية الحسن! لكنّ هذا الأمر الفطريّ يضعُف تدريجيّاً جرّاء التهاون والإهمال ويفقد أثره فيزول ذلك الدافع المحفّز. على سبيل المثال فإنّ المبتلين بالتدخين يشكون في المرحلة الاُولى من تدخينهم من السعال عند ممارسته؛ إلاّ أنّهم يألفون الدخان شيئاً فشيئاً حتّى يصلوا إلى حدّ الإصابة بحالة من الاضطراب إذا تركوا التدخين. وهذا يمثّل تخريب الفطرة الإلهيّة المودعة في النفس! ففطرة اللّه كانت تقتضي السعال والاختناق عند دخول دخان السيجارة إلى الرئة؛ لكنّ الإنسان يخرّب تلك الفطرة بنفسه ويعطّلها عن العمل، بل إنّه يُحدث في نفسه أثراً معاكساً لها! فإنّ الاُمور تصل بالإنسان أحياناً، نتيجة الأنانية، وحبّ الذات، والنزوع المفرط نحو اللذّات، إلى فقدان روح الشكر وعرفان الجميل بالكامل وحلول حالة اللامبالاة محلّها! فأشخاص كهؤلاء لا يفكّرون إلاّ بمصالحهم القريبة ويسعون إلى استنزاف كلّ ما يستطيعون استنزافه من كلّ مَن هو في طريقهم. فعندما تلبَّى حوائجهم ينسون خدمات الآخرين وألطافهم. وبهذه الطريقة تنطفئ تلك الفطرة الموهوبة من اللّه تعالى. فاللّه هو الذي أعطى هذه الفطرة؛ لكنّ هذا الإنسان، بتصرّفاته المشينة تلك، يقوم بإضعافها، بل ويبدلها أحياناً إلى الضدّ!

تقوية الاُمور الفطريّة

وفي المقابل أيضاً فإنّ هناك من العوامل ما يساعد على تقوية هذا الإحساس والميل الفطريّ في المرء، حيث إنّه من الممكن تقوية الاُمور الفطريّة بعوامل خارجيّة. وهذه الإمكانيّة تتوفّر أيضاً في الاُمور الغريزيّة؛ فعندما يجوع المرء وتصل رائحة الشواء إلى مشامّه يقوى عنده الإحساس بالجوع. فهذا الإحساس هو شيء داخليّ، إلاّ أنّ رائحة الطعام الشهي تقوّيه. وكذا فإنّ الميل إلى النظر إلى الوجه الحسن موجود في باطن الإنسان، فإن هو لم يسيطر على نظراته ووقعت عينه بضع مرّات على الأجنبيّة فسيقوى هذا الميل في داخله، وستمسي حينئذ محاربة الشيطان أمراً صعباً. فالعامل الخارجيّ هنا هو الذي يقوّي

ص: 45

الإحساس الداخليّ. ولهذا فإنّ علينا أن نبذل قصارى الجهود في توفير العوامل الخارجيّة التي من شأنها أن تقوّي الاُمور الحسنة، وأن نسعى في المقابل إلى الابتعاد عمّا يقوّي عوامل المعصية. فكلّما قلّ وقوع نظر المرء على الأجنبيّات، ضعف الدافع إلى المعصية في نفسه.

فاللّه سبحانه وتعالى قد أوجد في أنفسنا الدافع إلى الشكر والحمد من خلال إعطائنا للنعم: «واستحمد إلى الخلائق بإجزالها»؛ حيث إنّه من خلال إعطاء المزيد من النعم قد هيّأ في داخل الإنسان الأرضيّة للحمد وإثارة هذا الإحساس. وكأنّه عزّ وجلّ يريدنا، عبر عمله هذا، أن نحمده ونثني عليه. لكنّه لم يكتف بذلك، بل: «وثنّى بالنَّدب إلى أمثالها»؛ فقد جاء بالمزيد؛ وهو أنّه دعى إلى الشكر، بل وأمر به أيضاً، بشكل علنيّ. فلو أنّ اللّه لم يأمرنا بالشكر أساساً لكان لزاماً علينا أيضاً، على أساس العامل الوجدانيّ والفطريّ المودَع فينا، أن نشكره؛ لكنّه لم يكتف بذلك فبادر مراراً وتكراراً إلى دعوة الناس إلى الشكر في قرآنه المجيد؛ كما في قوله: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ)(1)، بل إنّه جلّ شأنه يلوم علی أنّ المعترفين بالجميل والشاكرين هم قلّة من بين الناس: (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)(2).

إذن فإنّه علاوة على امتلاكنا للعامل الفطريّ للشكر وأنّ ضمائرنا تحثّنا على أن نكون شاكرين في مقابل نعم الباري تعالى فإنّه لابدّ في البدء من معرفة النعم الإلهيّة. ومن هذا المنطلق علينا أن نفهم أنّ بإمكان تلك العلوم التي تعرّفنا على نعم اللّه تبارك وتعالى أن تكون ذات أثر في تبيين تكاملنا. وعلى وجه الخصوص فإنّني اُوصي إخواني وأعزائي من طلبة العلوم الدينيّة أن يطالعوا في مجال فسلجة جسم الإنسان كي يدركوا أيّ مقدار من النعم قد أغدقه اللّه علينا. فمن بين العلوم الطبيعيّة التي تبعث أكثر من غيرها على أن يقدّر المرء حقّ النعم هو علم الحياة ووظائف الأعضاء المتعلّق بالإنسان.

فالسيّدة الزهراء (عليها السلام) تشير في هذه التوصيات الأخيرة إلى تلك الالتفاتات اللطيفة عبر تعابير هي من الناحية الأدبيّة، فضلاً عن الجانب النغميّ- غاية في الروعة وقمّة في الجمال. فترتيب العبارات في كلامها ينمّ عن منتهى الحكمة. فكلامها هذا له أثر تربويّ قويّ للغاية وبإمكان الإنسان أن يفهم من خلال تلك الجملات القليلة أيّ محلّ يشغله من الإعراب وأيّ

ص: 46


1- . سورة لقمان، الآية 14.
2- . سبا/13.

وظيفة له في الحضرة الإلهيّة، وأنّه لماذا يعطيه اللّه تعالى كلّ تلك النعم أساساً، ولماذا يذكّره بها أيضاً. فهو يذكّره بها كي يعلم أنّها من اللّه فتثير فيه، من خلال ذلك الإحساس الذي أودعه اللّه في كيانه، الدافع إلى الشكر فيكون شكره من موجبات زيادة نعمه ودوامها، وأن يفيد أكثر من نعم اللّه تلك فيكتسب بذلك اللياقة لنيل ما لا أمد له من نعمه تعالى في العالم الأبديّ.

هذا على الرغم من أنّ أيّ واحد من تلك الاُمور لا يُجدي اللّه أدنى نفع. فلو عكف البشر بأجمعهم طيلة ما اُعطوا من أعمار على شكر اللّه تعالى، فهل سيضيف ذلك الی اللّه شيئاً؟! فتعالى اللّه أن تتولّد فيه حالة من أثر فعل الآخرين. فمن نحن وما نحن كي نستطيع إيجاد حالة الرضا في اللّه عزّ وجلّ! فكلّ ذلك هو لطف منه من أجل أن تتوفّر فينا اللياقة لتلقّي رضاه، ورحمته، وقربه، ولعمري فإنّ في ذلك نعمة تفوق غيرها من النعم.(1)

أدنی الشكر رؤیه النعمه من اللّه

(مصباح الشریعه ) قال الصادق(عليه السلام) : في كل نفس من أنفاسك شكر لازم لك بل ألف و أكثر، و أدنی الشكر رؤیه النعمه من اللّه من غیر عله یتعلق القلب بها دون اللّه و الرضا بما أعطاه و ان لا تعصیه بنعمته و لا تخالفه بشیء من امره و نهیه بسبب نعمته ...الی ان قال (عليه السلام) : و لو كان عند اللّه عباده تعبّد بها عباده المخلصین أفضل من الشكر علی كل حال لأطلق لفظه فیهم من جمیع الخلق بها فلمّا لم یكن أفضل خصها من بین العبادات و خص اربابها فقال : و قیلٌ من عبادی الشكور و تمام الشكر اعتراف لسان السر خاضعاً لله تعالی بالعجز عن بلوغ أدنی شكره لأن التوفیق للشكر نعمه . حادثه یجب الشكر علیها و هی اعظم قدراً و أعجز وجوداً من النعمة الّتي من اجلها وقفت له فیلزمك علی كل شكر شكر اعظم منه الی ما لا نهایة له ...

ص: 47


1- . دروس الاخلاق المصباح الیزدی

حقيقة التوحيد

العلاقة بين التوحيد والإخلاص

«وَأَشْهَدُ أَنَّ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، كَلِمَةٌ جَعَلَ الإِخْلاَصَ تَأوِيلَهَا، وَضَمَّنَ الْقُلُوبَ مَوْصُولَهَا، وَأَنَارَ فِي الْفِكْرَةِ مَعْقُولَهَا»(1).

بعد الحمد والثناء على اللّه تعالى في هذه الخطبة الشريفة تأتي الشهادة بالتوحيد، وهذه هي سنّة النبيّ الأكرم والأئمّة الأطهار (عليهم السلام) في خطبهم حيث يستهلّون الخطبة بحمد اللّه وشكره، ثمّ يشهدون بعد ذلك بالتوحيد، ومن ثمّ يتطرّقون إلى ذكر ما ينوون بيانه من المباحث.

تقول سيّدتنا الزهراء (عليها السلام) : إنّ الشهادة بوحدانيّة اللّه جلّ وعلا هي كلمة لها باطن ولها ظاهر. فظاهرها هو أنّ نقول: أشهد أن اللّه واحد؛ بيد أنّ لهذا الظاهر حقيقةً لابدّ من إدراكها وتطبيقها على أرض الواقع. ووفقاً للتعبير الذي ساقته (عليها السلام) فإنّ تأويل هذه الشهادة هو الإخلاص. ثمّ تشير في الجملة الثانية إلى مسألة من شأنها أن تفتح باباً واسعاً في المعرفة الإلهيّة؛ فتقول (عليها السلام) : لقد أودع اللّه عزّ وجل في قلوب البشر لوناً من ألوان المعرفة به وبوحدانيّته. وفي الجملة الثالثة تنوّه بأنّ اللّه تبارك وتعالى قد جعل المعرفة العلميّة والذهنيّة التي تأتي عن طريق الفكر بالغة الوضوح والجلاء.

لقد تمّ التركيز في هذه الشهادة على بضع مسائل أساسيّة؛ أوّلها هي العلاقة بين التوحيد والإخلاص. والإخلاص هو جعل الشيء خالصاً ونقيّاً، أمّا في عرف اللغة والحوارات الدارجة اليوميّة فهو يعني عادة الإخلاص في العمل؛ بمعنى أن يتمتّع الإنسان بنيّة خالصة في أعماله لا يشوبها الرياء أو التظاهر. إلاّ أنّ اتّضاح هذا الارتباط والمعنى المراد في هذه الكلمات يحتاج إلى إلقاء المزيد من الضوء عليه.

التوحيد هو الاعتقاد بأنّ اللّه واحد، وهو باب التفعيل من «وَحَد». وباب التفعيل ينطوي على عدّة معان. فالمعنى الأوّل له هو ما يكون متعدّياً؛ ويعني جعل الشيء واحداً. غير أنّ التوحيد الذي يكون جزءاً من عقائدنا فهو اعتبار الشيء وعدّه واحداً؛ إذ أنّ «وَحّدَه» تعني:

ص: 48


1- . بلاغات النساء، ص27؛ وبحار الأنوار، ج29، ص220.

عدّه واحداً، علم كونه واحداً، وهذا معنی آخر من معاني باب التفعيل. وإنّني أودّ هنا أن اُؤكّد على الشبّان من طلبة العلوم الدينيّة حتی لايستخفّوا ولا يتسامحوا في تعلّم أدب اللغة! لأنّ الكثير من الأخطاء التي تُرتكَب في فهم الحديث والرواية ترجع إلى الضعف في الأدبيّات، وإنّ ما يؤسف له أنّه لم يعد يُقام لأدبيّات اللغة في الآونة الأخيرة كبير وزن. ففي زمان ما قبل الثورة قام أحد الأشخاص، وكان للأسف معمّماً، بتصنيف كتاب عن التوحيد أراد فيه التنظير للأفكار الماركسيّة من منطلق الأدب الإسلاميّ، وقد انطلق من هذه النقطة وهي: «إنّ التوحيد هو من باب التفعيل، وهو جعل الشيء واحداً. لكنّه لا معنى لأن نقول بخصوص الباري تعالى: نجعله واحداً؛ لأنّ اللّه هو واحد في الأساس. إذن ما ينبغي أن نوحّده هو الشيء الذي ليس هو بواحد في اصله و اساسه، والذي يشكو من الاختلاف والكثرة، بحيث يحتّم علينا السعي لإزالة كثرته، وهو المجتمع. ومن هنا فإنّه يتعيّن علينا أن نجعل المجتمع واحداً. إذن فالتوحيد، الذي هو جزء من عقائدنا الإسلاميّة، يعني السعي لتوحيد المجتمع، وهو يعني الاشتراكيّة. وهذا هو الإسلام أساساً!». هذا النمط من الكلام هو في الحقيقة تلاعب بالألفاظ ليس إلاّ وهو ما يلوح لنا كلّ يوم بحلّة جديدة ويتلوّن بلون مختلف على مرّ التاريخ والعصور، وقد يقع في هذا الفخ أحياناً أناس خيّرون يحملون نيات حسنة.

الاخلاص في العقيدة

على أيّة حال فليس معنى التوحيد هو جعل الشيء واحداً، هذا وإن استُعمل أحياناً بهذا المعنى. فإنّ التوحيد الذي هو من اُصول معتقداتنا هو عدّ اللّه واحداً.

بطبيعة الحال إنّ توحيد اللّه هو بحاجة إلى معرفته عزّ وجلّ؛ بمعنى أنّه لابدّ أن نكتشف وجود اللّه أوّلاً، ومن ثمّ نفهم صفاته التي من جملتها وحدانيّته. ويظن البعض عندما يُقال: إنّ ذات اللّه واحدة، أنّها ليست اثنتين أو أكثر، وأنّ الفرض الصحيح هو أنّ اللّه واحد، لكنّه إذا كان لنفس هذا الربّ أجزاء مختلفة فلا منافاة لذلك مع كونه واحداً! والحال أنّ عدم التجزّؤ يعتبر هو الآخر من معاني وحدانيّة اللّه تعالى.

قيل إنّ أعرابيّاً أصرّ في يوم معركة الجمل على لقاء أمير المؤمنين (عليه السلام) فأتوا به إليه، فقال له: ما معنى قولكم: إنّ اللّه واحد؟ فهاجمه الناس منكرين عليه هذا السؤال في هذا الظرف الحساس قائلين له: يا أعرابيّ! أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تحديات المعركة؟ فقال أمير

ص: 49

المؤمنين (عليه السلام) : «دعوه فإنّ الذي يريده الأعرابيّ هو الذي نريده من القوم»؛ أي: إنّنا نقاتل من أجل التوحيد. ثمّ شرَع (عليه السلام) يبيّن له بكلّ صبر وأناة قائلاً: «إنّ القول في أنّ اللّه واحد على أربعة أقسام...» وإنّ أحد معانيه هو أنّه غير متجزّئ إلى أجزاء... الخ.(1)

فعندما نقول: اللّه واحد، فلابدّ أن نعلم بأنّ لهذه الجملة باطنا، وعلينا أن نتوخّى الدقّة كي ندرك عمق هذا الموضوع، إذ يجب أن يمتاز توحيدنا بالعمق في مقام الفكر، والنظريّة، والعقيدة وأن لا نكتفي منه بفهم سطحيّ. هذا من جانب، ومن جانب آخر علينا أن نكون حذرين أيضاً لئلاّ يختلط توحيدنا في مقام العمل بالشرك؛ إذ أنّ توحيد أغلب المؤمنين ممزوج بضرب من ضروب الشرك. ولا عجب في ذلك! فالقرآن الكريم نفسه يقول: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ)(2). ولهذا الاختلاط مراتب. أمّا التوحيد الخالص فهو ما لم يمتزج معه أيّ لون من الوان الشرك؛ ولهذا فإنّ له مرتبة واحدة وهو لا يشبه المختلِط في تعدّد مراتبه. فإذا خالط التوحيدَ شيءٌ وإنْ قلّ فانّه يخرج عن خلوصه، وعندئذ ستصبح له آلاف المراتب. فالتوحيد الخالص هو ما لا يشوبه أيّ شرك على الإطلاق؛ لا في مقام العقيدة ولا على مستوى العمل. لكنّ خلوصنا، للأسف، هو ضعيف وهو في الغالب مشوب، ولذا علينا السعي إلى تقليل هذا الاختلاط وتقوية المادّة الأصليّة.

ومن ناحية اُخرى فإنّ الشرك الجليّ والواضح هو أحد مراتب الشرك أيضاً؛ وهو كالذي يعتقد به عبَدة الأصنام الذين يقولون بوجود عدّة آلهة. فنفي هذا النمط من الشرك ليس كافياً للوصول إلى مقام التوحيد الخالص، إذ علينا أن نعلم أيضاً أنّ ذات اللّه تعالى ليس لها أجزاء وهي غير مركّبة من عدّة أعضاء. وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال مفاده: إنّنا إذا اعتقدنا أنّ اللّه بسيط ولا تنطوي ذاته على أيّ شكل من أشكال التركيب، فهل سيكون توحيدنا كاملاً من حيث العقيدة؟ والجواب هو: طبقاً لكلام أمير المؤمنين (عليه السلام) فإنّ توحيدنا لم يكتمل بعد؛ إذ يقول(عليه السلام) في نهج البلاغة: «وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ الإِخْلاصُ لَهُ، وَكَمَالُ الإِخْلاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ، وَشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ

ص: 50


1- . التوحيد للصدوق، ص83 .
2- . سورة يوسف، الآية 106.

الصِّفَة»(1). ويمكننا توضيح هذه النقطة بهذا المثال، وهو عندما نقول: هذه الورقة بيضاء، فإنّ الورقة هي الموصوف والبياض هو صفة لها. وما ندركه نحن من معنى الصفة والموصوف هو أنّ الموصوف شيء، والصفة شيء آخر عارض على الموصوف. فنقول: الورقة هي جوهر جسمانيّ، وإنّ بياضها عرضيّ؛ لذا فإنّه يمكن أن تكون الورقة ورقة في حين أنّ لونها يتبدّل. إذن فاللون هو غير ذات الورقة. هذا ما نفهمه نحن في العادة من معنى الصفة والموصوف. لكنّه إذا قلنا: إنّ لله حياة، وعلما، وقدرة، و...الخ، فهل يعني ذلك أنّ اللّه هو شيء وأنّ حياته، وعلمه، وقدرته، ...الخ هي أشياء اخری؟! هل هذه الاُمور عارضة على اللّه تعالى؟! هل إنّ قدرته تشبه قدرتنا في إمكانيّة نقصانها أو زوالها؟! هناك الكثير من الذين نجحوا في اجتياز المرحلتين السابقتين من التوحيد لكنّهم لم يفلحوا في عبور هذه المرحلة الثالثة. لعلّ هذه النزعة، وهي الاعتقاد بانفصال صفات اللّه عن ذاته عزّ وجلّ، هي النزعة الغالبة بين صفوف إخواننا من أهل السنّة اليوم. ولعلّ أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الشخص الأوّل في العالم الإسلاميّ، بل ولربّما في عالم الفكر والرأي، الذي نطق بهذه العبارة بكلّ صراحة: «كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه»؛ والصفة هنا بالطبع هي الشيء الذي يغاير الموصوف والذات. فلا ينبغي إثبات شيء كهذا لله جلّ وعلا؛ بل يتعيّن نفيه عنه. فيجب علينا أن نقول: ليس لله صفة هي غير ذاته؛ فاللّه عالم، لكنّ علمه هو عين ذاته، وذاته عين علمه أيضاً. واللّه قادر، لكنّه عين قدرته. فاللّه هو ذات بسيطة ونحن ننتزع من هذه الذات عدّة مفاهيم؛ وهي مفهوم الذات، ومفهوم صفة العلم، ومفهوم صفة القدرة، و...الخ. انّ هذه الطريقة هي مصيدة ينصبها الذهن ليجتذب بها هذه المفاهيم.

الإخلاص في العمل

تحدّثنا لحدّ الآن حول الإخلاص في العقيدة. لكنّ للتوحيد، مضافاً إلى ذلك، مراتب طوليّة في العمل وهي أنّنا عندما نعرف اللّه تبارك وتعالى بهذه الصفات فلابدّ أن يكون سلوكنا مطابقاً لمقتضى تلك الصفات الإلهيّة؛ فمثلاً علينا الاعتقاد بأنّ منشأ جميع

ص: 51


1- . نهج البلاغة، الخطبة 1.

الموجودات هو اللّه عزّ وجلّ وما من موجود على الإطلاق يمكنه أن يتحقّق إلاّ من ناحية إرادة اللّه تعالى. فاللّه فقط هو القائم بذاته، وهو الذي خلق باقي الموجودات: (وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)(1)، ويُبيَّن هذا المعنى في أنماط مختلفة أحدها هو التوحيد الأفعاليّ. فلازم التوحيد الأفعاليّ هو اعتقاد المرء بأنّ منشأ جميع الخيرات هو اللّه جلّ شأنه. فالذي يعتقد بأنّ الخيرات كلّها من اللّه فلن يرجو غيره؛ واذا أراد أحد إلحاق الضرر بغيره فكيف يستطيع أن يقوم بهذا العمل؟ فانّ إلحاق الضرر بالآخرين يحتاج إلى قوّة، فمن أين له هذه القوّة؟ هذه القوّة هي أيضاً من اللّه. إذن فكلّ نفع أو ضرر إنّما هو متعلّق بإرادة اللّه عزّ وجلّ: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ)(2). لكنّ فهم هذه الرؤية لايخلو من بعض الصعوبة، أمّا الالتزام بها على الصعيد العمليّ فهو بالغ الصعوبة.

لقد تعوّدنا علی أن نقول: هذا عملي، وهذا عمل فلان! بل قد نقول أحياناً أيضاً: ليس لهذا الأمر صلة باللّه، أنت الذي قمت به! لكنّ القرآن يتحدّث معنا بلغة اُخرى؛ فهو يقول: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ)(3). فاللّه هو الذي يُجري السحاب، واللّه هو الذي يُنزل المطر بواسطة هذا السحاب، وهو الذي يُخرج النبات من الأرض، فكلّ ذلك هو فعل اللّه عزّ وجلّ. فهذا الكلام يمثّل ثقافة خاصّة تختلف عمّا نعرفه، ونتحدّث به، ونقرأه في الكتب، ونكتبه. والسرّ في هذا البيان هو أنّه تبارك وتعالى يريدنا أن نتذكّر دوماً أنّ جميع الأشياء متعلّقة باللّه. صحيح أنّ هناك فاعلين وسطاء ومتوسطين في المسألة، لكنّه لابدّ من معرفة الشخص الذي يكون أصل الوجود في قبضته، والذي صمّم هذا النظام الدقيق، والذي يستطيع أن ينهيه متى شاء. فإنْ حرّر مسؤول مرسوماً يخصكّ فهل يكون أملك ونظرك إلى القلم الذي يكتب المرسوم؟ وهل ستقول إذا كتبه: شكراً جزيلاً أيّها القلم؟ فالقلم هنا هو أداة ليس إلاّ، وإنّ يد الكاتب هي التي تكتب بواسطة هذا القلم. فالعالَم برمّته يمثّل مجموعة من الأسباب، وحتّى إذا كانت بعض تلك الأسباب تمتلك شعوراً واختياراً؛ إلاّ

ص: 52


1- . سورة الصافات، الآية 96.
2- . سورة يونس، الآية 107.
3- . سورة الأعراف، الآية 57.

أنّ مسبّب الأسباب هو شخص آخر، وما الآخرون إلاّ وسائط جزئيّة. فإن أدرك الإنسان ذلك على النحو الصحيح فسوف يعيش حالة لا يخاف معها من أيّ أحد. وقول الإمام الخمينيّ الراحل (رضوان اللّه تعالى عليه) عندما كان يقول: «اُقسم باللّه إنّني لم أخف طيلة حياتي من شيء قطّ» إنّما ينطلق من هذا الإدراك وهذا الفهم، فقد كان يعلم أنّه ما من شيء أو أمر في هذا العالم يمكنه أن يحدث من دون إذن اللّه تعالى وإرادته.

إذا أحبّ الإنسان شيئاً فهو لأجل حسنه وخيره؛ ومن هنا فإنّه لو أدرك أنّ كلّ ما هو حَسَن وخير في هذا الكون فهو من اللّه عزّ وجلّ وأنّ كلّ ما يملكه الناس هو عطيّة اللّه لهم، فعندها لن يُجيز لقلبه أن يتعلّق بغير اللّه تعالى؛ فهو سيرى أنّ كلّ أشكال الجمال هي منه، وهذا هو ما يُدعى بالتوحيد في العمل. فشخص كهذا لا يطيل صلاته من أجل الآخرين، بل لا يودّ أن يعرف الآخرون المنزلة التي هو فيها من منازل المعرفة والعبادة، وأيّ فعل خير قام به. انّه يبذل قصارى جهده حتّی لا يطّلع الآخرون على ما يفعل من الخير؛ ذلك أنّه يعلم أنّ اللّه يحبّ أن يكون عبده خالصاً له: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمحَيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(1)؛ قل: ليس فقط صلاتي وعبادتي، بل حتّى موتي وحياتي هي له عزّ وجلّ، وأنا لا أريد شيئاً لنفسي على الإطلاق. فهذا هو التوحيد الخالص في العمل. فالإسلام ما جاء إلاّ ليفهّم الإنسان هذه المعارف في البداية ثمّ ليربّيه على النحو الذي ينمو به في هذا الاتّجاه؛ حيث يرى يد اللّه في كلّ مكان، وأن يعمل في سبيل اللّه، وأن لا يقيم وزناً إلاّ لله، وأن لا يخاف إلاّ من اللّه، وأن لا يحبّ محبّة أصيلة غير اللّه، فإن كان كذلك فسيصدق عليه حينها أنّ توحيده توحيد خالص.

تقول مولاتنا الزهراء (عليها السلام) : «كلمة جعل الإخلاص تأويلها(2)؛ فشهادة أنّ لا إله إلاّ اللّه هي كلمة لها معنى ظاهر؛ إلاّ أنّ لها حقيقة تفوق ما يتبادر إلى الذهن عند سماعها لأوّل وهلة،

ص: 53


1- . سورة الأنعام، الآية 162.
2- .و یقول الامام علی: كمال توحیده الاخلاص له ،و كمال الاخلاص له نفی الصفات عنه؛ لیتضح من ذالك ان الاخلاص فی التوحید یتطلب تنزیهه عن كافه الصفات التی یتصف بها المخلوق و من هنا نعرف بانّ مراده ( ) لیس الصفات الكمالیه ، لانّ كافه الصفات الكمالیه من قبیل العلم و القدره و الحیاه و ما الی ذالك من الصفات الثابته له ، بل المراد الصفات التی تعرفنا علیها و هی صفات المخلوقین المشوبه بالنقص، و افضل دلیل علی ذالك ما أرده الامام علی : فی ذیل هذه الخطبه بشأن الملائكه فوصفهم بقوله ( لا یتوهمون ربهم بالتصویر و لا یجرون علیه صفات المصنوعین ) نفحات الولایه ، ص 52.

وهذه الحقيقة هي أن يخلص الإنسان لربّه بحيث لا يخلو ذهنه واعتقاده من شوائب الشرك فحسب بل أن يتطهّر عمله وسلوكه وأحاسيسه من كلّ ما سوى اللّه من الشوائب. وكأنّها (عليها السلام) أرادت القول: «هذا ما نحن عليه من مراتب التوحيد؛ فاختبروا أنتم أنفسكم لتروا إلى أيّ مدىً يكون حظّكم منه»، وحيث إنّ توحيدنا هو في الأعمّ الأغلب مشوب بالشرك فهي تؤكّد: «إنّني أشهد أنّ لا إله إلاّ اللّه، إلاّ أنّ هذه الشهادة لها باطن، وتأويل، وكنْه، وحقيقة، وهي خلوصها من شوائب الشرك على صعيدي الاعتقاد والعمل».

أنواع معرفة اللّه

العلم الحضوريّ والعلم الحصوليّ

«وَأَشْهَدُ أَنَّ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، كَلِمَةٌ جَعَلَ الإِخْلاَصَ تَأوِيلَهَا، وَضَمَّنَ الْقُلُوبَ مَوْصُولَهَا، وَأَنَارَ فِي الْفِكْرَةِ مَعْقُولَهَا».

لقد ميّزت السيّدة الزهراء (عليها السلام) الشهادة بالتوحيد بثلاث خصائص: أوّلها أنّها ليست مجرّد بيان لفظيّ، بل إنّ لها حقيقة هي غاية في العمق ولابدّ من الاجتهاد لبلوغها؛ وهذه الحقيقة هي الإخلاص. ثمّ تقول (عليها السلام): لقد أودع الباري جلّت آلاؤه قدرة الظفر بهذه الحقيقة في قلوب الناس، وبتعبير آخر: فطر القلوب على التوحيد. أمّا البيان العقليّ والتعقّلي لها، وهو ما يمكن تحقّقه في ذهن الإنسان وفكره، فهو الآخر قد جعله اللّه عزّ وجلّ نورانيّاً وواضحاً. وسأتناول البحث حول الجملتين الأخيرتين والفرق بينهما. ومن أجل إلقاء الضوء على البحث الذي أودّ طرحه لابدّ من بيان مقدّمتين.

المقدّمة الاُولى تتلخّص بأنّ العلم على نوعين؛ فنحن قد ندرك أحياناً وجود إحساس معيّن في أنفسنا، وهذا الإدراك هو عين وجود ذلك الإحساس في أرواحنا. فإدراكنا بالنسبة إلى الجوع، مثلاً، هو عين إحساسنا بالجوع. لكن أحياناً اُخرى يقال: إنّ الجوع هو عبارة عن حالة تنتاب البدن نتيجة خلوّ المعدة وهبوط مستوى الطاقة. في الحالة الأخيرة نحن لم نحسّ بالجوع ولا وجود للجوع في أنفسنا؛ لكنّنا، ومن خلال هذه المفاهيم، أدركنا المعنى العقليّ للجوع. إذن فالإحساس بالجوع هو نوع من الإدراك، أمّا تصوّر معنى الجوع فهو لون آخر من الإدراك. أمّا ما يقوله أهل المعقول في ذلك فهو: إنّ القسم الأوّل هو الإدراك

ص: 54

الحضوريّ، والقسم الثاني هو الإدراك الحصوليّ، وفي الإدراك الحضوريّ يكون المعلوم والعلم شيئاً واحداً.

الإدراك عن وعي، وعن غير وعي

المقدّمة الثانية هي أنّ العلم أو الإدراك ينقسم، من ناحية اُخرى، إلى قسمين أيضاً؛ فقسم يكون عن وعي وآخر عن غير وعي. فتارة يعلم المرء شيئاً وهو يعلم أنّه يعلم، وهذا ما يطلق عليه الإدراك عن وعي. وتارة اُخرى يعلم الشخص شيئاً لكنّه غير ملتفت إليه بتاتاً، حتّى تحدث ظروف معيّنة يفطن الإنسان عندها أنّه كان يعلم بذلك، وهذا هو الإدراك عن غير وعي.

كلّ منّا قد مرّ على مسامعه الحديث الشريف الذي يقول فيه النبيّ الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم): «كلّ مولود يولَد على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه»(1)؛ أيّ إنّ كلّ امرئ هو مخلوق على فطرة التوحيد إلاّ أنّ والديه هما اللذان يجعلانه يهوديّاً أو نصرانيّاً أو مجوسيّاً. كما وقد تكرّرت كثيراً في تراثنا الروائيّ عبارة: «فطَرَهم على التوحيد»(2)، وإنّ المفسّرين في ذيل الآية الشريفة: (فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)(3) يرون أنّ المراد من الفطرة في الآية هي فطرة التوحيد. وكذلك رأي علمائنا في باب معرفة اللّه حيث يعتبرون أنّ معرفة اللّه مسألة فطريّة. لكنّ السؤال هو: ما معنى أن يقال إنّ الإنسان هو عارف باللّه بالفطرة؟ فإذا لم يتعلّم امرؤ من الآخرين شيئاً، ولم يسمع اسم اللّه من أبويه، ولم يقرأ ذلك في كتاب، ففي هذه الحالة هل يا ترى سيصبح عارفاً باللّه بشكل عفويّ؟ هذه المسألة في رأيي قابلة للحلّ إذا أخذنا بنظر الاعتبار المقدّمات الآنفة الذكر. فإنّ لدينا معرفة عن غير وعي؛ أي هناك علم نحن غير ملتفتين إليه، والأمثلة على هذا النوع من الإدراكات في حياتنا اليوميّة كثيرة. والإدراك عن غير وعي هو الآخر ينقسم إلى قسمين: فقسم منه إدراك عن نصف وعي؛ وهو عندما يتذكّر المرء بالتنبيه البسيط فيلتفت إلى علمه. أمّا القسم الثاني فهو الإدراك عن غير

ص: 55


1- . بحار الأنوار، ج58، ص187.
2- . بحار الأنوار، ج64، ص44.
3- . سورة الروم، الآية 30.

وعي؛ وكأنّ الإنسان في حالة كهذه يكون قد نسي علمه ولا يمكنه الالتفات إلى وجود شيء كهذا في أعماق ذهنه إلاّ بشقّ الأنفس. فعلى سبيل المثال عندما يسمع الأطفال الصغار صوتاً تراهم يجولون بطرفهم هنا وهناك بحثاً عن مصدر الصوت. وإن أردنا بيان ذلك بالمصطلحات العقليّة نقول: إنّهم يبحثون عن علّة هذه الظاهرة؛ لأنّهم يعلمون أنّ هذا الصوت لا يصدر بلاسبب ولابدّ أن تكون له علّة، أمّا إذا سألت طفلاً له من العمر ثلاث سنوات: هل أنت معتقد بقانون العلّية؟ فإنّه لا يفهم هذا السؤال. فهذا هو نوع من الإدراك عن غير وعي، لكنّه بمحض أن يعثر المرء على مورده فإنّه يقوم بتطبيق ذلك الإدراك الكلّي على هذا المورد. فالإنسان يعلم بأصل العلّية؛ لكنّه غير واع بما يعلم.

الفطرة التوحيديّة للإنسان

مع بالغ الأسف فإنّنا نمرّ على بعض آيات القرآن الكريم مرور الكرام؛ فمثلاً يقول عزّ من قائل: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)(1)؛ أي: إذا سألت عبَدَة الأوثان هؤلاء: مَن خلق هذا الكون العظيم بكلّ تلك الأسرار والحِكَم؟ فسيقولون: لا شكّ أنّ الذي خلق هذا العالم يتمتّع بقدرة خارقة للعادة من جهة، وهو عالم من جهة اُخرى. لعلّهم لم يكونوا يفكّرون بهذه المسألة أساساً؛ لكنّه عندما يُطرح مثل هذا السؤال يلتفتون إلى عظمة هذا العالم وما فيه من الحِكَم فيقولون: لا يمكن لموجود غير ذي شعور أن يخلق كلّ ذلك، كما ويستحيل أن يحصل ذلك صدفة؛ فلا ريب أنّ الذي خلق هذا العالم هو موجود عالم وقادر. والقرآن الكريم كثيراً ما يطرح من هذا النمط من الأسئلة؛ وكمثال على ذلك الآية الشريفة: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)(2)؛ أي: اسألهم: من الذي يعطي و يلبي حاجة الشخص المضطرّ إذا دعاه وطلب منه؟ هذا النوع من الأسئلة موَجّه إلى فطرة الإنسان؛ أي إنّ الإنسان يعلم جوابها، لكنّه غير ملتفت إلى هذا العلم، فبعد أن يُطرح عليه السؤال ويتأمّل فيه فسيكون قادراً على الإجابة. وهذا هو ما يدعى الإدراك عن نصف وعي.

ص: 56


1- . سورة الزخرف، الآية 9.
2- . سورة النمل، الآية 62.

لكنّ الناس قد ينكرون أحياناً ما تنطوي عليه أعماق أذهانهم فلا يدركونه لما ران عليه من كثرة الغبار والرين؛ فكلّ واحد منّا، مثلاً، يعلم بوجود ذاته وهو يدرك أنّه موجود، لكنّه عندما يقول: «أنا»، فهل يقصد بذلك هذا البدن؟! فالبدن لا يعدو كونه مجموعة من الخلايا التي ليس لها شعور، وحتّى الخلايا الدماغيّة فهي تحمل طابع الأداة وليس لها إدراك بذاتها. في الحقيقة إنّها روح الإنسان التي تقول: «أنا»، وليس البدن سوى أداة بيد تلك الروح. في الواقع إنّها الروح التي تسمع، وترى، وتتّخذ القرارات، وتتكلّم، و...الخ. لكنّ البعض على الرغم من تمتّعهم بهذه الروح يقولون: ليس هناك وجود للروح أساساً!

لقد ثبت في العلوم العقليّة أنّ العلم بالنفس هو عين ذات النفس وهو لا ينفكّ عنها. وهذا هو المصداق البارز للعلم الحضوريّ حيث يصبح العلم والعالِم والمعلوم شيئاً واحداً؛ لكن، في الوقت ذاته، فإنّ المنكرين للروح يقولون: نحن، أساساً، لسنا سوى هذا البدن! فهل إنّه لا علم لهؤلاء بهذه الروح؟ لقد قلنا إنّ العلم بالنفس هو عين النفس، ومن المستحيل أن لا يكون لديهم هذا العلم؛ لكنّ هذا اللون من الإدراك هو على جانب من الضعف وحالة انعدام الوعي بحيث يلتبس الأمر عليهم فيعتقدون أنّ «أنا» تعني هذا البدن. وعندما يزكّي المرء نفسه وتقوى روحه فإنّه سيدرك تدريجيّاً أنّ هناك شيئاً إلى جانب البدن يسمّى الروح، وبتكامل الروح سيدرك جيّداً أنّه ليس للبدن أيّ علاقة باﻟ «أنا» وهو لا يعدو كونه آلة ووسيلة تحت تصرّف الروح. هناك آيات في القرآن الكريم تشير إلى هذه الحقائق؛ كقوله تعالى في سورة العنكبوت: (فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَّجَٰهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)(1)، والقرآن يذكر هذا المعنى بألوان شتّی من البيان.(2) كما وقد اُشير في الروايات أيضاً إلى هذا العلم الذي يكون عن نصف وعي أو عن غير وعي.

إذن فعندما نقول: إنّ الإنسان مفطور على التوحيد، فليس المراد من ذلك أنّنا نعلم عن وعي بوجود ربّ بمثل هذه الأوصاف؛ بل إنّ إدراكنا هو من النوع الذي يكون عن نصف وعي، وإنّنا لن نلتفت إلى أنفسنا فيزاح ذلك الستار الرقيق المسدَل على علمنا ويتحوّل إلى

ص: 57


1- . سورة العنكبوت، الآية 65.
2- . سورة الأنعام، الآية 63؛ وسورة لقمان، الآية 32.

حالة الوعي إلاّ عندما نُسأل: «من خلق السماوات والأرض». غير أنّ هذا الستار يكون أحياناً غاية في السُّمْك ولا يُزاح بهذه البساطة إلاّ أن تتحقّق ظروف استثنائيّة للغاية يعود بواسطتها الإنسان إلى رشده. فمثلاً عندما يكون المرء مسافراً في طائرة، وينتبه فجأة إلى أنّ الطائرة تعاني من عطل فنّي وهي معرّضة للسقوط. في مثل هذه الحالة بِمَن سيتعلّق رجاء الإنسان؟ ومَن الذي باستطاعته أن ينجيه من هذا المأزق؟ في هذه الحالة سيكتشف المرء دفعة واحدة أنّ أمله متعلّق بشيء ما، وأنّه ملتفت في أعماق قلبه إلى أحدٍ ما. وهذا هو عين ذلك الإدراك الذي أسميناه علماً حضوريّاً عن غير وعي. فهذا العلم لا يأتي عن طريق الاستدلال والتفكير؛ بل إنّ المرء يكتشف ويجد شيئاً ما. هاتان المقدّمتان يمكن الإفادة منهما في مباحث اُخرى أيضا ومن الممكن أن تشكّلا انطلاقة لأهل البحث والتحقيق.

نوعان من معرفة اللّه

ومع الأخذ بهاتين المقدّمتين في نظر الاعتبار نعود إلى الجملتين اللتين ذكرتهما الزهراء (عليها السلام) بعد الشهادة بالتوحيد: «وضمَّن القلوبَ موصولَها، وأنار في الفكرة معقولَها». فالسيّدة الزهراء (عليها السلام) هنا تؤمن بمقولتين فيما يتعلّق بالاعتقاد بالتوحيد: أوّلهما أنّه موصول، وثانيهما أنّه معقول. فالموصول يعني الواصِل أو المُستَلَم. فتارة نحن نحصل على حقيقة التوحيد ونصل إليها، وتارة اُخرى نتعقّلها فحسب؛ وبعبارة اُخرى: ففي مرحلةٍ يتمّ نيل هذه الحقيقة، وهو ما يُصطلح عليه بالعلم الحضوريّ، وفي مرحلة اُخرى يتمّ تعقّلها، وهو ما نصطلح عليه بالعلم الحصوليّ. فالعلم الحصوليّ يرتبط بالفكر والذهن، أمّا العلم الحضوريّ فيرتبط بالقلب. فالقلب هو مرحلة من مراحل روح الإنسان وساحة من ساحاته، ومن جملة وظائفه هي شهود الحقائق. فالقلب يرى؛ كما يقول عزّ وجلّ في سورة النجم: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ)(1)؛ فهو لا يقول: «ما كذب الفؤاد ما علم». فإذا تحقّقت في القلب حقيقة ما فإنّه يكون قد حصل عليها ونالها. والفعل الذي ينسب إلى القلب هنا هو في مقابل الفكر. بالطبع إنّ للقلب إطلاقات متعدّدة، بيد أنّ المراد من القلب في الغالب هو تلك الحيثيّة التي

ص: 58


1- . سورة النجم، الآية 11.

تتمتّع بإدراكات شهوديّة وحضوريّة وهي تجد الإحساسات والعواطف في داخلها؛ لا أنّها تعلم بمجرّد وجودها.

تقول سيّدتنا الزهراء (عليها السلام) : لقد أودع اللّه سبحانه وتعالى نيل التوحيد والحصول عليه في أعماق القلوب؛ وكأنّ التعبير الآخر الذي يكون من سنخ هذا المعنى هو: إنّ اللّه قد خلق القلوب على فطرة التوحيد. فإن كانت عين القلب مفتوحة، وليس من حجاب يحجبها فهي سترى بوضوح وجلاء. فاللّه سبحانه وتعالى يملك مثل هؤلاء العبيد، والنموذج البارز والناصع لهم هم حضرات المعصومين، وتخصّ بالذكر المعصومين الأربعة عشر (عليهم السلام) . نحن لا يساورنا أدنى شكّ في أنّ هؤلاء كان لهم علم باللّه حتّى في ساعة ولادتهم؛ بل كانوا يسبّحون اللّه حتّى في بطون اُمّهاتهم. ولعلّ هناك من أولياء اللّه تعالى مَن قد اكتسب في أيّام طفولته معرفة عالية باللّه عزّ وجلّ. فنحن لا نملك الحقّ في أن نخوض فيما لا نعلم ونزعم انّه: لا وجود لذلك، أو هو مستحيل! فثمّة الكثير من الاُمور التي نخالها مستحيلة لكنّ اللّه أحياناً يرينا أنّها ممكنة. فأحياناً يعلم الأشخاص العاديّون من الاُمور ما لا يعلمه الآخرون، بل ويبلغون أحياناً من الكمالات المعنويّة ما لم يصله الباقون، بل وتحصل لديهم من المكاشفات ما لا يُدرَى إن كان سيحصل مثلها للشيوخ من ذوي العلم والزهد ولو بعد سنين طوال! حيث (ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ).(1)

إذن فمعرفتنا بالتوحيد لها نمطان؛ الأوّل هو ما يوجود فی النفس(2). ففي هذا النمط يجد المرء حضور اللّه في قلبه بالضبط كما يجد المحبّة فيه. فوجود اللّه بالنسبة لاُناس كهؤلاء ليس قابلاً للشكّ على الإطلاق؛ كما نقرأ في دعاء عرفة: «أيكون لغيرك من الظهور ما ليس

ص: 59


1- . سورة المائدة، الآية 54.
2- . و قصّة الرجل المتحيّر المبتلى بالشك في معرفة اللّه، و الذي أرشده الإمام الصادق(عليه السلام) عن طريق الفطرة و الوجدان، سمعناها جميعا إذقال: يا ابن رسول اللّه، دلّني على اللّه ما هو؟! فقد أكثر علي المجادلون و حيّروني! فقال له الإمام(عليه السلام): «يا عبد اللّه، هل ركبت سفينة قطّ؟ قال: نعم. قال: فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك و لا سباحة تغنيك؟! قال: نعم! قال: فهل تعلّق قلبك هنالك أن شيئا من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟! قال: نعم. قال الصادق (عليه السلام): فذلك الشي ء هو اللّه القادر على الإنجاء حيث لا منجي، و على الإغاثة حيث لا مغيث». بحار الأنوار، ج 3، ص 41» الطبعة الجديدة.«الامثل فی تفسیر كتاب اللّه المنزل، ج 12 ، ص 450».

لك حتّى يكون هو المُظهِر لك»(1). فاللّه قد أعطانا جميعاً المرتبة الضعيفة من هذا اللون من الإدراك وهو عبارة عن الإدراك الفطريّ الذي يختبئ في أغلب الأحيان خلف حجاب وستار ولا يُدرَك جيّداً؛ لكنّه موجود ويظهر في الفرصة المناسبة. وهذا النوع من الإدراك هو الإدراك الذي يجده الانسان فی أعماقه والنمط الآخر من معرفة اللّه هو الإدراك المعقول. فعندما يدور الحديث عن معرفة اللّه ونريد أن نعرف اللّه من خلال الاستدلال فإنّ المراد هنا هو هذا النمط من المعرفة. ونتيجة لهذا الاستدلال تتولّد في أذهاننا قضيّة لها موضوع ومحمول ونحن ندرك العلاقة بين موضوعها ومحمولها. وهذا اللون من المعرفة تفصله عن إدراك ذات اللّه تعالى فاصلة كبيرة، فهذا المفهوم هو صنيعة أذهاننا. وحسب قول الإمام الباقر(عليه السلام): «كلّما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم»(2)؛ أي إنّ ما تصوغونه بأذهانكم - من المفاهيم العقليّة، والفلسفيّة، والعرفانيّة، و...الخ - كلّها صنيعة أذهانكم وكلّما أدركتموه بدقّة فإنّكم تدركون أحد مخلوقات أذهانكم. فمن أجل العثور على اللّه ومعرفته لابدّ أن يلقي هو نوراً في قلوبكم كي تتمتّعوا بالنظر إلى تجلٍّ من تجلّياته. إذن فإنّ لدينا إدراك هو ممّا يجده المرء وهو ما أوجده اللّه تعالى في قلوبنا: «ضمّن القلوب موصولها» وهو ما نكون أحياناً على علم به؛ فطوبى لمَن هم على هذه الشاكلة، أو الذين كانوا هكذا منذ البداية، كالأئمّة الأطهار (عليهم السلام) ، أو الذين نالوا ذلك العلم الشهوديّ فيما بعد عبر الرياضات والعمل بأحكام الشرع. وهذا العلم إنّما يتعلّق بالقلب وليس بالذهن والفكر. لكنّ الشكل العقليّ لهذا الإدراك وإثباته عن طريق العقل فهو من مختصّات الفكر: «وأنار في الفكر معقولها». وقد تلطّف اللّه جلّ وعلا فأقام على هذا النمط أيضاً من الأدلّة الواضحة التي لا يسع معها أيّ عاقل أن يتذرّع بافتقاده الدليل على وجود اللّه؛ ومن هذا المنطلق تقول مولاتنا الزهراء (عليها السلام) : «أنار في الفكر معقولها»؛ أي إنّ اللّه قد أودع معقوليّة التوحيد واضحة جليّة في عالم الفكر والذهن.(3)

ص: 60


1- . بحار الأنوار، ج64، ص142.
2- . بحار الأنوار، ج66، ص292.
3- . دروس الاخلاق المصباح الیزدی.
براهین معرفه اللّه
اشارة

1. بُرهَان النظم

2. برهان التغيّر والحركة

3 . برهان الوجوب والإمكان (الغنى والفقر)

4. برهان العلة والمعلول 5.برهان الصدّيقين

بُرهَان النظم
أسس برهان النظم:

يرتكز هذا البرهان في شكله الأول على ركيزتين أساسيتين، بحسب ما هو مصطلح يشكل صغرى وكبرى.

1. هنالك نظام دقيق ومحسوب يحكم عالم الوجود.

2. أينما وجدنا نظاماً دقيقاً ومحسوباً فمن غير الممكن أن يكون وليد الحوادث التصادفية، بل لابدّ أن يصدر عن علم وقدرة عظيمين.

والنتيجة هي أنّ هناك مبدأ علم وقدرة عظيم وراء نظام عالم الخلقة (سواء أطلقنا عليه اسم اللَّه أو وضعنا له إسما آخر) لأنّ التسمية لا تؤثر في مثل هذه البحوث.(1)

ص: 61


1- . نفحات القرآن، ج2 ، ص 41.
برهان النظم في الوحي الإلهي

برهان النظم في الوحي الإلهي(1)

إنّ الوحي الإلهي قد أعطى برهان النظم إهتماماً بالغاً، وهناك آيات كثيرة من القرآن تدعو الإنسان إلى مطالعة الكون وما فيه من النظم والإتقان حتى يهتدي إلى وجود اللّه تعالى وعلمه وحكمته.

نرى أنّ القرآن الكريم يلفت نظر الإنسان إلى السّير في الآفاق والأنفس ويقول:

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِى الآفاقِ وَ فِى أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)(2)

ويقول: (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِى السَّماواتِ وَ الأَرْضِ)(3)

ويقول: (إِنَّ فِى خَلْقِ السَّماواتِ وَ الأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(4)

ويقول: (أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِى أَنْفُسِهِمْ)(5)

ويقول ايضاً: (وَ فِى أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ)(6)

وقال علي (عليه السلام): «ألا ينظرون إلى صغير ما خلق؟ كيف أحكم خلقه وأتقن تركيبه، وفلق له السّمع والبصر، وسوّى له العظم والبشر، أُنظروا إلى النّملة في صغر جثّتها ولطافة هيئتها

ص: 62


1- . إنّ برهان النظم متفرّع على قانون العلّية، وأنّ كلّ حادثة فلها علّة محدثة لا محالة، وحينئذٍ يقع الكلام في صفات تلك العلّة، فهل يجب أن تكون عالماً وقادراً ومختاراً أو لا يجب ذلك؟ وبرهان النظم بصدد إثبات وجود هذه الصفات لعلّة الحوادث الكونية وفاعلها، وهذا ما يرتئيه القرآن الكريم والأحاديث الإسلامية في الدعوة إلى مطالعة الكون والتفكّر في آياته.
2- . فصلت: 53.
3- . يونس: 101.
4- . البقرة: 164.
5- . الروم: 8.
6- . الذاريات: 21.

لا تكاد تنال بلحظ البصر ولا بمستدرك الفكر، كيف دبّت على أرضها وصبّت على رزقها، تنقل الحبّة إلى جحرها وتعدّها في مستقرها، تجمع في حرِّها لبردها وفي ورْدِها لصَدَرها(1)... فالويل لمن أنكر المقدِّر وجحد المدبِّر ...»(2) وقال الامام الصادق (عليه السلام) في ما أملاه على تلميذه المفضّل بن عمر:

«أوّل العبر والأدلّة على الباري جلّ قدسه، تهيئة هذا العالم وتأليف أجزائه ونظمها على ما هي عليه، فإنّك إذا تأمّلت بفكرك وميّزته بعقلك وجدته كالبيت المبنيّ المعدّ فيه جميع ما يحتاج إليه عباده، فالسّماء مرفوعة كالسّقف، والأرض ممدودة كالبساط، والنجوم مضيئة كالمصابيح، والجواهر مخزونة كالذخائر، وكلّ شي ء فيه لشأنه معدّ، والإنسان كالمملَّك ذلك البيت، والمُخَوَّل جميع ما فيه، وضروب النبات مهيئة لمآربه، وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه.

ففي هذا دلالة واضحة على أنّ العالم مخلوق بتقدير وحكمة ونظام وملائمة، وانّ الخالق له واحد، وهو الّذي ألّفه ونظّمه بعضاً إلى بعض جلّ قدسه وتعالى جدّه».(3)

برهان الصدیقین

هذا البرهان يختلف عمّا تقدم من البراهين اختلافاً جوهرياً. فإنّ ما سبق من البراهين، يشترك في توسيط الخلق بين الإنسان والغيب. ولكن هذا البرهان لا واسطة فيه، وإنّما يتوجه مباشرة إلى مطالعة الوجود- بما هو وجود- ليصل في النتيجة إلى أن هناك وجوداً واجباً، ينبع وجوده من ذاته.(4)

وإنّما اختصّ العرفاء به، من بين سائر البراهين، لأنّهم قالوا: إنّ وجوده سبحانه أجلى من أن يستدلّ عليه بشي ء من الممكنات والمخلوقات، فلا حاجة إلى شي ء من هذه

ص: 63


1- . الصَدَر بالتحريك (على زنة الخبر) رجوع المسافر من مقصده، أي تجمع في أيّام التمكّن من الحركة لأيّام العجز عنها.
2- . نهج البلاغة، الخطبة 185، هذا وللإمام (عليه السلام) وصف رائع لخلقة النحل والخفّاش والطاووس يستدل به على وجود الخالق وقدرته وعلمه.
3- . بحار الأنوار: 3/ 62؛ محاضرات في الالهيات، ص 24.
4- . سيأتي في البحث في هذه البراهين الثلاثة بإسهاب في «الإلهيات»، فصل إثبات الصانع.

الوسائط، وقد قرروه بوجوه مختلفة تلاحظ في محلّها.(1) وفي بعض كلمات أهل بيت الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، إشار إلى هذا النوع من الإستدلال:

- يقول الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في دعاء الصباح: «يا من دلّ على ذاته بذاته».(2)

- يقول الإمام الشهيد الحسين بن علي (عليهما السلام) في مناجاته يوم عرفة:

«كيف يُسْتَدَلُّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟!

أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك؟! متى غبت حتّى تحتاجَ إلى دليل يدلّ عليك؟!

ومتى بَعُدتَ حتّى تكون الآثار هي الّتي توصل إليك؟!».

ثم يقول (عليه السلام) في آخر هذه المناجاة الشريفة الجليلة:

«يا من تجلّى بكمال بهائه ... كيف تخفى وأنت الظاهر؟!

أم كيف تغيب وأنت الرقيب الحاضر؟!»(3)

هل انّ معرفة اللّه ممكنة
دفع توهّم

«الْمُمْتَنِعُ مِنَ الأَبْصَارِ رُؤْيَتُهُ، وَمِنَ الأَلْسُنِ صِفَتُهُ، وَمِنَ الأَوْهَامِ كَيْفِيَّتُه»

تقول السيّدة الزهراء (عليها السلام) : إنّ اللّه تعالى قد أودع معرفة التوحيد وكذا عمليّة تلقّيه في قلوب الناس وجعل إدراكه بالعقل واضحاً وجليّاً في أذهان البشر وأفكارهم. هاتان الجملتان توحيان بأنّ معرفة اللّه هي معرفة واضحة وجليّة للغاية، بل وقد تُوهِم بأنّه بإمكان أيّ امرئ

ص: 64


1- . قد قرر هذا البرهان بوجوه: الأوّل- ما أشار إليه الشيخ الرئيس وهو معروف بالتقرير السينوي، لاحظ شرح الإشارات: 3/ 18 و 66. الثاني- ما أشار إليه صدر المتألهين والمعروف بالتقرير الصدرائي، لاحظ الأسفار: 6/ 13- 16. الثالث- ما ذكره الحكيم السبزواري في تعاليقه على الأسفار، لاحظ الموضع المذكور. الرابع- ما اعتمد عليه المؤسس العلامة الطباطبائي في تعاليقه على الأسفار (الموضع السابق) وأصول الفلسفة، ج 5.
2- . بحار الأنوار: 18/ 486 الباب 66، الطبعة الحجرية.
3- . الاقبال لابن طاووس ،«المتوفی عام 664ه »،339 ؛ نظریه المعرفه، ص264.

أن يتوصّل إلى إدراك حقيقة الباري تعالى بكلّ وضوح وشفافية. ولعلّ مولاتنا فاطمة (عليها السلام) قد أوردت الجمل القليلة التي تليها دفعاً لهذا التوهّم قائلة: صحيح أنّ اللّه قد جعل الإدراك العقليّ للتوحيد واضحاً، غير أنّ عين الإنسان عاجزة عن رؤية اللّه، ووهمه عاجز عن تصوره بالذهن، ولسانه عاجز عن وصفه بحقيقته.

منذ قديم الزمان والسجال قائم بين المتكلّمين حول كيفيّة معرفة اللّه، وأيّ لون من المعارف الإلهيّة ليس هو في متناول الإنسان. فالبعض من المستغرقين جدّاً في الظاهر والذين لا يمتلكون القدرة على التعمّق في الامور قد فهموا من بعض الآيات والروايات أنّ اللّه قابل للرؤية بالعين الحسّية! أمّا البعض الآخر فقال: لا يمكن رؤية اللّه في هذا العالم بالعين الحسّية، بيد أنّ ذلك ممكن في الآخرة! وقد صرّح بذلك بعض كبار علماء أهل السنّة.

لقد أوضحَت السيّدة الزهراء (عليها السلام) من خلال التعابير التي ساقتها أنّ اللّه تعالى قد تلطّف على عباده عندما أودع في عقولهم القدرة على معرفته معرفة واضحة وشفّافة. لكن لابدّ من الالتفات هنا إلى أنّنا تعوّدنا أن نربط ما عرفناه بحواسّنا؛ وحتّى عندما ندرك شيئاً بعقولنا فإنّنا ندرك أوّلاً المصداق الحسّي لذلك الشيء بواحدة من حواسّنا الظاهريّة أو الباطنيّة، ومن ثمّ نجرّد هذا الفهم الجزئيّ لنحصل بالنتيجة على مفهوم عامّ ومعقول له. إذن فإنّ إدراكنا العقليّ يعتمد، بشكل أو بآخر، على الحسّ؛ بمعنى أنّه لابدّ لنا أن ندرك الشيء بالحسّ في بداية الأمر، ثمّ من خلال تجريده وتعميمه- يتكوّن لدينا تصوّر عقلانيّ عن ذلك الشيء. لهذا فعندما يقال: «أنار في الفكر معقولها» فلعلّه سيقال إنّه: إذا كنّا ندرك اللّه بالعقل، فلابدّ أن نكون قد أدركناه سابقاً بالحسّ أو عبر الخيال والوهم ثمّ استخلصنا منه هذا الإدراك العقليّ من خلال التجريد. ومن أجل دفع مثل هذا التوهّم تقول الزهراء (عليها السلام) : إنّ اللّه غير قابل للإدراك لا من خلال الحواسّ (التي من أبرزها العين)، ولا عبر قوّة الوهم أو الخيال. والمقصود من قوّة الوهم أو الخيال هو تلك القوّة التي تكوّن في ذهن الإنسان صورة للشيء بعد إدراكه له، سواء أكان لذلك الشيء وجود في خارج الذهن أم لم يكن؛ فعلى سبيل المثال يمكن للإنسان أن يكوّن صورة في خياله عن حصان مجنّح والحال أنّه لا وجود لمثل هذا الحصان في خارج الذهن، غير أنّ قوّة الخيال أو قوّة الوهم أو ما يصطلَح عليه الوهم- تستطيع خلق مثل هذا التصوّر في الذهن. لكنّ اللّه سبحانه وتعالى ليس له حتّى هذه

ص: 65

الصورة الوهميّة. فإذا لم يكن لدينا أي إدراك حسّي أو وهميّ عن اللّه تعالى فإنّنا لا نستطيع أن نصفه بصفات معيّنة.

معظمنا (نحن البشر) عندما نسمع بأنّ اللّه غير قابل للرؤية بواسطة العين الحسّية، وأنّه ليس له مكان وزمان، وليس له أجزاء، و...الخ، فإنّ غاية ما يسعنا التوصّل إليه، إذا اجتهدنا في أن نكوّن له تصوّراً صحيحاً، هو أنّه شيء مبهم لا حدود له وهو أشبه بالنور الذي ينير الكون بأسره، خصوصاً عندما تطرق مسامعنا الآية الشريفة: (اللّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)(1). فهذا أقصى ما يمكننا تصوّره ب قوة وهمنا أو قوة مخيلتنا، بل قد لا نستطيع أن نُبعد هذه التصورات عن أذهاننا. فكلّما تبادرت هذه التصوّرات إلى أذهاننا فانّ علينا أن نقول: سبحان اللّه وننزّهه عز وجل عن مثل تلك الامور. فهذا التسبيح يعوّض عن هذا النقص في إدراكنا.

لماذا لا تبصره العيون؟(2)

الممتنع عن الابصار روئیته

الشي ء لا يكون مرئياً إلّابعد تحقّق شروط ضرورية هي:

ألف: أن يكون في مكانٍ وجهةٍ خاصةٍ.

ب: أن لا يكون في ظلمة، بل يشع عليه النور.

ج: أن يكون بينه وبين الرائي فاصلة معينة ومسافة مناسبة.

ومن الواضح أنّ هذه الشرائط من آثار الكائن الجسماني ومن خصائص الموجود المادّي لا الإله ذي الوجود الأسمى والأعلى من ذلك.

هذا مضافاً إلى أنّ كون اللَّه مرئياً لا يخلو من حالتين:

إمّا أن يكونَ كلّ وجودِه مرئياً.

وإمّا أن يكونَ بعض وجودِه مرئياً.

وفي الصورة الأُولى يكون اللَّه المحيط؛ مُحاطاً ومحدوداً.

ص: 66


1- . سوره النور ، الایه 35.
2- . دروس الاخلاق المصباح الیزدی.

وفي الصورة الثانية يكونُ الحق تعالى ذا أجزاء وأبعاض.

وكلا الأمرين لا يليقان باللَّه سبحانه فهو تعالى محيطٌ غير محاط به، مطلق غير مقيد، منزّه عن التركب والتبعّض.

على أنَّ ما قلناه يرتبط بالرؤية الحسيّة والبصرية، لا الرؤية القلبيّة، والشهود الباطنيّ الّذي يتحقّق للمرء بفضل الإيمان الكامل، واليقين الصادق فإنّ هذا القسمَ خارجٌ عن محطّ البحث، وإطار النقاش. ولا ريب في إمكان وقوعه بل وقوعه لأولياءِ اللَّه، وعبادة الصالحين المقربين.

قال ذعلب اليمانيّ- وهو من أصحاب الامام علي (عليه السلام) قلت للإِمام (عليه السلام) هل رأيتَ ربَّك يا أميرَ المؤمنيِن؟

قالَ الإمامُ (عليه السلام): «أفَأَعْبُدُ ما لا أرى».

فقال ذعلب: وكيف تراهُ؟

فقال (عليه السلام): «لَا تراهُ العُيُونُ بمشاهدة العَيانِ وَلكِنْ تدرِكهُ القُلُوب بِحَقائِقِ الإِيمانِ».(1)

إنّ الرؤية بالبصر علاوةً على كونِها ممتنعةً عقلًا، مرفوضةً من جانبِ القرآن الكريم، فقد صرّحَ القرآن الكريم بنفِي إمكان ذلك.

فعندما طَلَب النبيّ موسى (عليه السلام) من اللَّه (تحت إلحاحٍ وضغطٍ مِن قومه) أن يريه نفسَه ردّ عليه سبحانه بالنفي المؤكد المؤبد كما يقول: قائلًا: (رَبّ أرِنِي أَنْظُرُ إلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي).(2)

ويمكن أن يَسأَل أحد: إذا كانت رؤيةُ اللَّه بالبصر والعَين غير ممكنة فلماذا قال القرآن الكريم: (وُجُوهٌ يَوْمِئِذٍ ناضِرَةٌ* إلى رَبِّها ناظِرَةٌ).(3)

والجواب على ذلك هو: أنّ المقصود من النظر في الآية الكريمة، هو انتظار الرحمة الإلهية، لأنّ في الآية شاهدين على ذلك:

1: إن النظر في هذه الآية نُسِبَ إلى الوجوه وقال ما معناه: إنّ الوجوه المسرورة تنظرُ إليه.

ص: 67


1- . نهج البلاغة: الخطبة 179.
2- . الأعراف/ 143.
3- . القيامة/ 22- 23.

ولو كان المقصود هو رؤية اللَّه بالبصر لنُسِبَ النظر إلى العيون لا إلى الوجوه.

2: إن الكلام في هذه السورة عن فريقين: فريق يتمتّع بوجوهٍ مسرورةٍ مشرقةٍ وقد بيّن ثوابَها بقوله: «إلى رَبّها ناظِرَةٌ».

وفريق يتسم بوجوه حَزينة مكفهرّة وقد بيّن جزاءها وعقابها بقوله: «تَظُنُّ أنْ يُفْعَلَ بها فاقِرَةٌ».

والمقصود من الفقرة الثانية واضح وهو أنّ هذا الفريق يعلم بأنّه سيصيبه عذابٌ يفقر الظهر، ويكسره ولهذا فهو ينتظر مثل هذا العذاب الأليم.

وبقرينة المقابلة بين هذين الفريقين يمكن معرفة المقصود من الآية الأُولى وهو أنَّ أصحاب الوجوه المسرورة تنتظر رحمة اللَّه، فقوله تعالى: «إلى رَبّها ناظِرة» كنايةٌ عن انتظار الرَّحمة الإلهية، ولهذا النّوع من التكنية وذكر شي ء وإرادة شي ء آخر كنايةً نظائر في المحاورات العرفية فيقال فلانٌ عينه على يد فلان أي أنّه ينتظر إفضالهَ وإنعامه عليه.

وخلاصة القول؛ أنّه كما ينتظر أصحابُ الوجوهِ الحزينةِ عذاباً إلهيّاً، ينتظرُ أصحابُ الوجوهِ المسرورةِ رحمةً إلهيةً كُنّي بها بالنَظَر إليه جرياً على العادةِ المألوفةِ في المحاورات العرفيّة العربيّة، وبقرينة المقابلة التي هي من قوانين البلاغة وقواعدها.

هذا مضافاً إلى أنّه يجب أن لا يُكتفى في تفسير الآيات القرآنية بآيةٍ واحدةٍ بل لابدّ من استعراض ما يشابهُها من الآيات من حيثُ الموضوع، والتوصل إلى المفهوم الحقيقي بعد ملاحظة مجموعة تلك الآيات.

وفي مسألة الرُؤية لو لاحظنا كلّ الآيات المتعلّقة بها في القرآن الكريم، بالإضافةِ إلى الأحاديثِ الشريفةِ في هذا المجال لاتّضحَ عدمُ إمكان رؤية اللَّه تعالى في نظر الإسلام من دون غموضٍ.

وفي خاتمة المطاف تفسّر الرؤية الواردة في قصة موسى (عليه السلام) مع أصحابه، انّ موسى (عليه السلام) اختار من قومه سبعين رجلًا لميقات ربه لكي يشاهدوا نزول التوراة، فلمّا بلغوا الميقات اقترحوا عليه ان يريهم اللَّه سبحانه، يقول تعالى:

ص: 68

(وإذ قُلتم يا موسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى اللَّهَ جَهْرَةً)(1)، وقال سبحانه: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتابِ أن تُنَزِّلَ عَلَيْهِم كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنا اللَّه جَهْرةً فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ)(2) فلما أفاقوا بدعاء من نبيهم موسى (عليه السلام) اقترحوا عليه شيئاً آخر، فقالوا: إنك تسمع كلام اللَّه وتصفه لنا أدع ربك حتّى يريك نفسه فتنقله إلينا فأصرّوا وألَحّوا في ذلك، فطلب موسى (عليه السلام) بضغط وإِلحاح من قومه ان يريه اللَّه ذاته مع علمه بامتناع رؤيته، وقال: (رَبّ أَرِنِي أنْظُرْ إلَيْكَ) فوافاه الجواب: (قالَ لَنْ تَرانِي)(3)

فتبيَّن من ذلك انّ طلب موسى لم يكن من تلقاء نفسه بل كان إجابة لإِلحاح قومه المعروفين باللجاج والإصرار.(4)

«ومن الالسن صفته»
لا تشبيهٌ ولا تعطيل

لقد سلكت كلّ جماعةٍ طريقاً خاصّاً في البحث حول صفات اللَّه الذي يُعَدُّ من أعقد وأصعب مباحث معرفة اللَّه فوقعوا في ورطة الافراط والتفريط.

فالبعض قد غاصوا في دوّامة التعطيل إلى درجة أنّهم قالوا: إننا لا نفهم شيئا من صفات اللَّه تعالى سوى تلك المفاهيم السلبية، فمثلًا عندما نقول بأنّ اللَّه عالمٌ فإننا نفهم من ذلك نفي الجهل عنه، وعندما نقول بأنّه قادر فإننان نفهم منه نزاهته عن العجز، أمّا ماهيّة علم اللَّه وقدرته فإننا لا نفهم عنها شيئاً على الاطلاق، وهذه العقيدة تُدعى بعقيدة التعطيل (أي تعطيل معرفة الصفات).

ومن جهةٍ اخرى فقد غار آخرون في دوّامة التشبيه لدرجة بحيث لم يكتفوا فقط بوصف اللَّه تعالى بصفات الماهيّات الممكنة فقط، بل جسّموه وذكروا له يداً ورجلًا ووجهاً وما

ص: 69


1- . البقرة/ 55.
2- . النساء/ 153.
3- . الأعراف/ 143.
4- . من كتاب العقیده الاسلامیه، ص 84 .

شاكل ذلك، فقد أوجدوا في مخيّلتهم إلهاً كالإنسان بالضبط بجميع صفاته الظاهريّة والباطنية، إلهاً يمكن رؤيته ومشاهدته، وله مكان محدود وتعترضه حالات مختلفة! وبهذا فقد تورّطوا بأتعس أنواع الشرك.

ومن أجلِ أن نعلم إلى أيَّة درجةٍ سقطت هذه الجماعة في هاوية الكفر والشرك، يكفي أن نسمع المقالة المعروفة للمحقق الدوّاني بخصوص المشبّهة، حيث قال:

«اعتقد جماعة منهم بأنّ للَّه جسماً حقّاً، وهؤلاء بذاتهم ينقسمون إلى عدّة فئات، فئة تقول: إنّ جسمه مركّبٌ من لحمٍ ودم، وقالت فئة: بأنّه- تعالى- نور لامع كسبيكة الفضة البيضاء! وطول قامته سبعة أشبار من أشباره!.

وقالت جماعة اخرى: بأنّه يشبه الإنسان، وهم ينقسمون إلى عدّة فئات، فئة اعتقدت بأنّه فتىً في ريعان شبابه لم ينبت الشعر في وجهه بعد، وشعر رأسه مجعّدٌ قصير: والفئة الاخرى اعتقدت بأنّه رجلٌ كهلٌ ذو لحية بيضاء سوداء وغيرها من قبيل هذه الخرافات»(1).

وممّا يُفهم من الآيات القرآنية، فإنّ كلا المعتقدين- التعطيل والتشبيه- باطلان، لأنّ القرآن دعا الناس إلى معرفة اللَّه من جهة، وعرّف ذاته وصفاته المقدّسة في العديد من الآيات الشريفة ممّا يدلّ على إمكانية معرفة اللَّه الإجمالية وبطلان معُتقد التعطيل.

ومن جهةٍ اخرى فقد نزّه القرآن الذات المقدّسة من أي شبيه ومثل ونظير وكُف ء، ممّا يدلّ على بطلان مُعتقد التشبيه.

وعليه فالحق هو ذلك الطريق الدقيق الواقع بين هذين الأثنين. والذي يقول: بأنّ معرفة اللَّه الإجماليّة ليست ممكنة فقط بل لازمة أيضاً، أمّا معرفة اللَّه التفصيليّة، أي التوصل إلى حقيقة وكنه الصفات والذات الإلهيّة المقدّسة، والاحاطة العلميّة بها، فهي غير ممكنة.

لم لايصل العقل إلى كُنه ذاته وصفاته؟

لقد أشرنا سابقاً إلى دليل هذا الموضوع، ونذكره هنا بشي من التفصيل فنقول: إنّ النقطة الأساسيّة تكمن في نزاهة الذات الإلهيّة المقدّسة عن المحدودية من جهة، ومحدودّية عقولنا وعلومنا من جهة اخرى.

ص: 70


1- . بحار الانوار، ج 3، ص 289.

فاللَّه عز وجل وجودٌ لا نهاية له من جميع الجهات (كما أثبتنا ذلك في البحوث السابقة)، فذاته كصفاته غير محدودة وغير متناهية، ومن جهةٍ اخرى فنحن محدودون، وجميع مايتعلق بنا من علمنا وقدرتنا وحياتنا والمكان والزمان الذي نعيش فيه، محدود أيضاً.

وعلى هذا فكيف يمكننا مع هذه المحدوديّة أن نحيط بذلك الوجود اللامحدود وصفاته؟ وكيف يستطيع علمنا المحدود أن يخبر عن ذلك الوجود اللامحدود؟

أجل، إنّه بإمكاننا في عالم الفكر والتفكُّر أن نلمح شبحاً من بعيد، ونشير إجمالًا إلى ذاته وصفاته، أمّا الوصول إلى كُنه ذاته وصفاته، أي الاحاطة التفصيلية به، فهي غير ممكنة بالنسبة لنا- هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى فإنّ الوجود اللامتناهي ليس له مثيل أو نظير من كل ناحية، وفرد لا كفؤ له، فلو كان له كفؤ أو نظير لكان كلاهما محدودين (ورد تفسير هذا المعنى بصورة كاملة في أبحاث التوحيد في المجلد الثالث من هذا التفسير).

فكيف يمكننا أن ندرك وجوداً لا نعرف له كفؤاً ولانظيراً أبداً؟، وكل ما نراه من الممكنات هو غيره، وصفاته تتفاوت تماماً عن صفات واجب الوجود(1).

نحن لا نقول بأنّنا نجهل أصل وجوده- سبحانه- ولا نعرف شيئاً عن علمه وقدرته وإرادته وحياته، بل نقول بأنّ لدينا معرفة إجمالية عن جميع هذه الامور ولا يمكننا أن ندرك كُنهها وعمقها بتاتاً، وقد حارت عقول جميع عقلاء وحكماء العالم- دون استثناء- في هذا الطريق.

ص: 71


1- . إن لم يكُن عجباً فإننا لانستطيع أن نتصور حتى مفهوم (اللامتناهي) فإن قيل لنا كيف تستعملون كلمة (اللامتناهي) إذن؟ وتتحدثون عنها وعن أحكامها؟ فهل يمكن التصديق بدون التصوّر؟! في الاجابة عن ذلك نقول: إننا أخذنا هذا المصطلح من كلمتين هما( لا) أي النفي والعدم و( متناهي) أي بمعنى (المحدود)، أي أن نتصور هاتين الكلمتين منفصلتين عن بعضهما( لا ومتناهي) اولًا ثم نركبهما مع بعضهما لنشير بهما إلى موجودٍ لايسعه الخيال والتصور فنحصل منها على معنى إجمالي( تأمل جيداً).
النهي عن التشبيه في الروايات الإسلاميّة

بما أنّ منزلق التشبيه الخطر يواجه جميع السائرين في طريق معرفة اللَّه، فإننا نجد تحذيرات كثيرة وردت في الروايات الإسلامية في هذا المجال مع العلم أنّ كنوزاً وفيرة من العلم والحكمة والإرشادات الدقيقة وردت في الأحاديث الشريفة المرويّة عن أهل البيت (عليهم السلام) بهذا الصدد، وكنموذج منها ننقل عدّة روايات من الكافي:

1. قال أمير المؤمنين في خطبة الأشباح:

«وَأشهدُ أنَّ من ساواكَ بِشَى ءٍ مِنْ خَلقكَ فقَدْ عَدلَ بِكَ، وَالعادلُ بِكَ كافِرٌ بِما تَنَزَّلَتْ بِهِ مُحْكَماتُ آياتِكَ، وَنَطَقَتْ عَنْهُ شَواهِدُ حُجَجِ بيِّناتكَ، وَإنّكَ أنتَ اللَّهُ الَّذي لَمْ تَتَناهَ في العُقُولِ فَتَكُونَ في مَهَبِّ فِكرها مُكيَّفاً، وَلا في رَويَّات خَواطِرها فَتَكُونَ مَحدُوداً مُصَرَّفا»(1).

2. ورد في الحديث الشريف عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في هذا المجال توضيح جميل في جوابه لأحد المحدّثين باسم (أبو قرّة) عند سؤاله عن التوحيد، حيث قال أبو قرّة للإمام: إنا روينا أنّ اللَّه عزّ وجلّ قسم الرؤية والكلام بين اثنين فقسم لموسى (عليه السلام) الكلام ولمحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الرؤية، فقال أبو الحسن (عليه السلام): «فمن المبلغ عن اللَّه عزّ وجلّ إلى الثقلين الجن والأنس (لاتُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَهُو يُدرِكُ الأَبصارَ)؛ (وَلا يُحِيطُونَ بِه عِلْماً)؛ (وَلَيسَ كَمِثلِه شَي ء» أليس محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟ قال: بلى. قال: فكيف يجي رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند اللَّه وأنّه يدعوهم إلى اللَّه بأمر اللَّه ويقول: (لَاتُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُو يُدرِكُ الأَبصَارَ) ؛ (وَلَا يُحِيطُونَ بِه عِلمَاً) ؛ (وَلَيسَ كَمِثلِه شَئ) ثم يقول: أنا رأيته بعيني، وأحطت به علماً وهو على صورة البشر، أمّا تستحيون، ماقدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون ياتي عن اللَّه بشي، ثم ياتي بخلافه من وجه آخر!».

قال أبو قرّة: فانّه يقول: «وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةَ أُخْرَى» فقال أبو الحسن (عليه السلام): «إنّ بعد هذه الآية ما يدل على ماراى، حيث قال: «مَا كَذَبَ الفُؤادُ ما راى» يقول ما كذب فؤاد محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما رأت عيناهُ، ثم أخبر بما راى فقال: لقد راى من آيات ربه الكبرى، فآيات اللَّه عزّ وجلّ غير اللَّه: وقد قال: «وَلَا يُحِيطُونَ بِه عِلْماً»، فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العِلمَ ووقعت

ص: 72


1- . نهج البلاغة، الخطبة 91.

المعرفة»، فقال ابو قرّة: فتكذِّبُ بالروايات؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): «إذا كانت الروايات مخالفةً للقران كذَّبتُ بها وما أجمع المسلمون عليه أنّه لا يحاط به علمٌ ولا تدركه الأبصار، وليس كمثله شي ء»(1).

3. وفي هذا المحتوى ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنَّ اللَّهَ عَظيمٌ رَفيعٌ لايَقدِرُ العِبادُ عَلَى صِفَتِهِ وَلا يَبْلُغُونَ كُنهَ عَظَمَتِهِ، لاتُدرِكُهُ الأبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصارَ وَهُو اللَّطيفُ الخَبيرُ».(2)

«و عن الاوهام كیفیّته»
لماذا لا تتصوّره الأوهام؟

إذا كان المقصود من الإدراك الوهميّ هو تلك الصورة الخياليّة، فإنّها تستقي أساسها من الإدراكات الحسّية أيضاً. فعلى الرغم من انعدام وجود الحصان المجنّح في الخارج، إلاّ أنّنا قد شاهدنا حصاناً ورأينا أجنحة طيور، وقوّة الخيال تستطيع أن تصنع من تركيب صور تلك المحسوسات صورة حصان له أجنحة. لكننا إذا لم نكن قد شاهدنا أيّ حصان أو أيّ جناح طير فيما مضى فلن نستطيع حينئذ أن نتخيّل حصاناً مجنّحاً. إذن فرصيد هذه الإدراكات المجعولة والزائفة مستقىً من تلك الإدراكات الحسّية؛ ومن هنا فإنّه إذا لم يكن للإدراكات الحسّية سبيل إلى موطن من المواطن، لم يكن للإدراكات الوهميّة والخياليّة معنى يذكر في ذلك المجال.(3)

ما ورد عن باقرعلوم النبیین(عليه السلام)(4) :هل سمّی عالما و قادرا الّا انّه وهب العلم للعلماء والقدرة للقادرین وكل ما میزّتموه باوهامكم فی ادّق معانیه فهو مخلوق مصنوع مثلكم مردود الیكم والباری تعالی واهب الحیاة و مقّدر الموت لعل النمل الصغار تتوهم انّ لله زبانتین

ص: 73


1- . التوحيد للصدوق، ص 110 عن اصول الكافي.
2- . اصول الكافي، ج 1، ص 103؛ نفحات القرآ ن، ج 4، ص 21.
3- . دروس الاخلاق المصباح الیزدی.
4- . علم الیقین ، ص18.

فانّهما كمالها تتصور انّ عدمهما نقصان لمن لا یكونان لهو هكذا حال العقلاءفما یصنعون اللّه تعالی به والی اللّه المفزع .

وما ورد عن الامام الصادق (عليه السلام) :من شبه اللّه بخلقه فهو مشرك انّ اللّه تعالی لا یشبه شیِئا ولا یشبهه شیئا وكلما وقع فی الوهم فهو بخلافه.(1)

الخلق من العدم

«...ابْتَدَعَ الأَشْيَاءَ لا مِنْ شَيْ ءٍ كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنْشَأَهَا بِلا احْتِذَاءِ أَمْثِلَةٍ امْتَثَلَهَا، كَوَّنَهَا بِقُدْرَتِهِ، وَذَرَأَهَا بِمَشِيَّتِه».(2)

تقول مولاتنا الزهراء (عليها السلام): «ابْتَدَعَ الأَشْيَاءَ لاَ مِنْ شَيْ ءٍ كَانَ قَبْلَهَا»؛ فاللّه عندما خلق جميع مخلوقات العالم لم يحتج إلى مادّة أوّلية لخلقها؛ ذلك أنّه لو كانت تلك المادّة مخلوقة، لكانت واحدة من تلك المخلوقات. فهي (عليها السلام) تريد أن تقول: إنّ اللّه لم يخلق مجموع هذا الكون من مادّة اخرى، لأنّ احتياج هذا المجموع إلى مادّة اخرى يستلزم التسلسل؛ فلو جعلنا اللّه وفقاً لتصوّرنا الذهنيّ- في طرف والكون في طرف آخر، فإنّ عمليّة إيجاد هذا الكون لن تكون بحاجة إلى أيّ شيء عدا الإرادة الإلهيّة.

وأمّا ما جاء في كتاب اللّه من أنّ بعض الأشياء قد خُلقت من بعضها الآخر؛ نظير: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)(3) فلا ينافي كلام الزهراء (عليها السلام) ؛ لأنّها (عليها السلام) تقول: لم يخلق اللّه مجموع الأشياء من مادّة سابقة، وليس في ذلك ما ينافي أن تكون بعض الأشياء مخلوقة من بعضها الآخر؛ فاللّه ليس بحاجة إلى مادّة يشتغل عليها ليخلق تلك المجموعة.

أمّا مصدر هذه الشبهة فنابع ممّا في مخيّلتنا من فهم للفظة الصنع أو حتّى الخلق، وهو أنّه لابدّ من وجود شيء كي تُجرى عليه بعض التغييرات ليتحوّل إلى شيء آخر؛ فمن أجل صناعة الخاتم مثلاً فإنّه يتعيّن وجود الذهب الذي سيصنع الصائغ منه الخاتم عن طريق إذابته وصبّه في قالب وإجراء بعض العمليّات عليه، فنقول حينئذ: «صَنَع الخاتم». فعندما يقال: «اللّه صانع العالم» يتبادر إلى الذهن أنّه كانت هناك مادّة ما أجرى اللّه عليها بعض

ص: 74


1- . الشیخ الصدوق: كتاب التوحید ، ص 80.
2- . بلاغات النساء، ص27؛ وبحار الأنوار، ج29، ص220.
3- . سوره الانبیاء، الایه 30.

العمليّات والتغييرات فخلق منها العالم؛ فإن لم تكن هناك أيّ مادّة، فكيف لله أن يخلق العالم؟! لكنّ هذه أفكار خاطئة وساذجة. فبسبب ما ألفناه من أعمالنا وأفعالنا فإنّنا لا نستطيع أن ندرك بشكل صحيح أنّ شيئاً يمكن أن يوجَد من العدم المحض. ولا عجب في ذلك؛ لأنّنا لا نستطيع أن ندرك حقيقة ذات اللّه أيضاً. فلو أقمنا بنياننا على إنكار كلّ ما لا تدركه أفهامنا، لكان لزاماً علينا أن ننكر الكثير من الاُمور في هذا العالم المادّي نفسه.

الخلق بلا نموذج يُحتذَى

أمّا النقطة الاُخرى فهي أنّ الإنسان لا يمكنه فعل شيء من دون اُسوة ونموذج؛ وانطلاقاً من هذا التصوّر فإنّنا نتخيّل أنّه لابدّ من وجود صورة أبديّة وأزليّة يجعلها اللّه تعالى اُسوة ومثالاً له ليخلق الأشياء على أساسها! لكن علينا أن ندرك أنّ خلق اللّه لا يستند إلى احتذاء نموذج سابق. ووفقاً للفرضيّة الذهنيّة فإنّنا إذا جعلنا اللّه في طرف والعالم في طرف آخر فلن يبقى هناك شيء آخر لنقول: هذا هو النموذج المحتذى في عمليّة الخلقة. فإن قيل: إنّ الصور الذهنيّة هي النماذج المحتذاة في الخلقة! قلنا: هل هذه الصور هي مخلوقة أم خالقة؟ فإن كانت مخلوقة، فهي جزء من العالم، وإذا لم تكن مخلوقة فلابدّ أن تكون الإله بعينه، وإلاّ للزمت الكثرة في ذات اللّه وهذا محال. إذن ليس هناك أيّ نموذج لأيّ شيء قبل خلق اللّه للأشياء؛ ومن هنا تقول الزهراء (عليها السلام): «وَأَنْشَأَهَا بِلا احْتِذَاءِ أَمْثِلَةٍ امْتَثَلَهَا، كَوَّنَهَا بِقُدْرَتِهِ»؛ فاللّه لم يحتذِ بأمثلة اعتمدها ليخلق الخلق على أساسها؛ فما من مؤثّر في وجود هذا العالم غير القدرة الإلهيّة. ولقد قلنا في بحوثنا السالفة إنّ قدرة اللّه هي عين ذاته. إذن فلم يكن غير ذات اللّه المقدّسة، وهي التي وُجد جميع الكون بإرادتها.(1)

ص: 75


1- . دروس الاخلاق المصباح الیزدی.

«بدایه الكون في القرآن الكریم و روایات اهل البیت (عليهم السلام) و علم الحدیث»

اما القران الكریم

یقول سبحانه ( هو الذی خلق السماوات و الارض فی سته ایام ) سوره هود 11/(7)

و لا حاجه لبیان أن المقصود من كلمه «الیوم»فی هذه الآیه لیس هوالیوم العادی الذی هو مجموع اربع و عشرین ساعه لان الارض و السماء لم تكونا موجودتین حینئذ بل المقصود منه هو الزمان سواء كان قصیراً ام مدیداً جداً.(1)

أی أن اللّه سبحانه و تعالی خلق السماوات و الارض فی ست دورات متوالیه و أن استغرقت كل دوره من هذه الدورات ملایین او ملیارات السنیین.(2)

ویقول سبحانه : (أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ)(3)

لقد ذكر المفسّرون أقوالا كثيرة فيما هو المراد من «الرتق» و «الفتق»

المذكورين هنا في شأن السماوات و الأرض؟ و يبدو أنّ الأقرب من بينها ثلاثة تفاسير، و يحتمل أن تكون جميعا داخلة في مفهوم الآية(4).

1. إنّ رتق السّماء و الأرض إشارة إلى بداية الخلقة، حيث يرى العلماء أنّ كلّ هذا العالم كان كتلة واحدة عظيمة من البخار المحترق، و تجزّأ تدريجيّا نتيجة الإنفجارات الداخلية و الحركة، فتولّدت الكواكب و النجوم، و من جملتها المنظومة الشمسية و الكرة الأرضية، و لا يزال العالم في توسّع دائب.

2. المراد من الرتق هو كون مواد العالم متّحدة، بحيث تداخلت فيما بينها و كانت تبدو و كأنّها مادّة واحدة، إلّا أنّها انفصلت عن بعضها بمرور الزمان، فأوجدت تركيبات جديدة، و ظهرت أنواع مختلفة من النباتات و الحيوانات و الموجودات الأخرى في السّماء و الأرض،

ص: 76


1- . تفسیر الامثل ج 6 ، ص 470.
2- . تفسیر الامثل، ج 5 ، ص 71.
3- . سوره الانبیاء، الایه 30.
4- . الفخر الرازي، في التّفسير الكبير، و بعض المفسّرين الآخرين.

موجودات كلّ منها نظام خاص و آثار و خواص تختص بها، و كلّ منها آية على عظمة اللّه و علمه و قدرته غير المتناهية.(1)

3. إنّ المراد من رتق السّماء هو أنّها لم تكن تمطر في البداية، و المراد من رتق الأرض أنّها لم تكن تنبت النبات في ذلك الزمان، إلّا أنّ اللّه سبحانه فتق الإثنين، فأنزل من السّماء المطر، و أخرج من الأرض أنواع النباتات. و الرّوايات المتعدّدة الواردة عن طرق أهل البيت (عليهم السلام) تشير إلى المعنى الأخير، و بعضها يشير إلى التّفسير الأوّل (2).

لا شكّ أنّ التّفسير الأخير شي ء يمكن رؤيته بالعين، و كيف أنّ المطر ينزل من السّماء، و كيف تنفتق الأرض و تنمو النباتات، و هو يناسب تماما قوله تعالى: (أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا و كذلك ينسجم و قوله تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍ).

إلّا أنّ التّفسيرين الأوّل و الثّاني أيضا لا يخالفان المعنى الواسع لهذه الآية، لأنّ الرؤية تأتي أحيانا بمعنى العلم. صحيح أنّ هذا العلم و الوعي ليس للجميع، بل إنّ العلماء وحدهم الذين يستطيعون أن يكتسبوا العلوم حول ماضي الأرض و السّماء، و اتّصالهما ثمّ انفصالهما، إلّا أنّنا نعلم أنّ القرآن ليس كتابا مختصا بعصر و زمان معيّن، بل هو مرشد و دليل للبشر في كلّ القرون و الأعصار.

من هذا يظهر أنّ له محتوى عميقا يستفيد منه كلّ قوم و في كلّ زمان، و لهذا نعتقد أنّه لا مانع من أن تجتمع للآية التفاسير الثلاثة، فكلّ في محلّه كامل و صحيح و قد قلنا مرارا: إنّ استعمال لفظ واحد في أكثر من معنى ليس جائزا فحسب، بل قد يكون أحيانا دليلا على كمال الفصاحة، و إنّ ما نقرؤه في الرّوايات من أنّ للقرآن بطونا مختلفة يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى.

و أمّا فيما يتعلّق بإيجاد كلّ الكائنات الحيّة من الماء الذي أشير إليه في ذيل الآية، فهناك تفسيران مشهوران:

أحدهما: إنّ حياة كلّ الكائنات الحيّة- سواء كانت النباتات أم الحيوانات- ترتبط بالماء، هذا الماء الذي كان مبدؤه- المطر الذي نزل من السّماء.

ص: 77


1- . الميزان، ذيل الآية.
2- . يراجع تفسير الصافي، و نور الثقلين، ذيل الآية مورد البحث.

و الآخر: إنّ الماء هنا إشارة إلى النطفة التي تتولّد منها الكائنات الحيّة عادة.

و ما يلفت النظر أنّ علماء عصرنا الحديث يعتقدون أنّ أوّل انبثاقة للحياة وجدت في أعمال البحار، و ذلك يرون أنّ بداية الحياة من الماء. و إذا كان القرآن يعتبر خلق الإنسان من التراب، فيجب أن لا ننسى أنّ المراد من التراب هو الطين المركّب من الماء و التراب.

و الجدير بالذكر أيضا أنّه طبقا لتحقيقات العلماء، فإنّ الماء يشكّل الجزء الأكبر من بدن الإنسان و كثير من الحيوانات، و هو في حدود 70%! و ما يورده البعض من أنّ خلق الملائكة و الجنّ ليس من الماء، مع أنّها كائنات حيّة، فجوابه واضح، لأنّ المراد هو الموجودات الحيّة المحسوسة بالنسبة لنا.

و في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ رجلا سأله: ما طعم الماء؟ فقال الإمام أوّلا: «سل تفقّها و لا تسأل تعنّتا» ثمّ أضاف: «طعم الماء طعم الحياة! قال اللّه سبحانه: وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍ.

و خاصة عند ما يصل الإنسان إلى الماء السائغ بعد عطش طويل في الصيف، و في ذلك الهواء المحرق، فإنّه حينما تدخل أوّل جرعة ماء إلى جوفه يشعر أنّ الروح قد دبّت في بدنه، و في الواقع أراد الإمام أن يجسّد الارتباط و العلاقة بين الحياة و الماء بهذا التعبير الجميل.(1)

ص: 78


1- . الامثل فی تفسیر كتاب اللّه المنزل، ج 10، ص157.
الروایات

یقول الامام علي (عليه السلام) : «أنشأ الخلق انشاءً و ابتدأه ابتداءً بلا رویّةٍ أجالها و لا تجربةٍ استفادها ...

ثمّ انشأ سبحانه فتق الاجواء و شقّ الارجاء و سكاءك الهواء فأجری فیها ماءً متلاطماً تیارُهُ متراكماً».

آخر الفرضیات التي توصل الیها العلماء بشأن بدایة ظهور العالم ، هو انّ العالم برمته في البدایة كان بهیئة كتله غازیة عظیمة شبیه بالمائع كما یمكن الاصطلاح علیها باسم«الدخان»(1)

كما یقول اللّه سبحانه و تعالی في سورة فصلت الآیة 11 (ثُمّ استَوی إلی السّماء وَ هِیَ دُخان).

المشيئة الإلهيّة

تُستخدم في العربيّة ألفاظ مختلفة للتعبير عن خلق العالم كالإيجاد، والخلق، والإبداع، والإنشاء، والذرْء، وما إلى ذلك، وقد استُخدمت هنا لفظة «الذرء» في قولها (عليها السلام) : «وذرأها بمشيئته» وهي لفظة استعملها القرآن الكريم أيضاً في قوله: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجْنِّ وَالإِنْسِ)(2). لقد جعل بعض أرباب المعقول لكلّ من تلك الألفاظ مصطلحاً خاصّاً، وخصّصوا كلّ واحدة منها لفئة معيّنة من المخلوقات. وعلى الرغم من انتفاء الحاجة إلى المزيد من التوضيح بوجود المصطلح، وأنّ جعل الأخير هو أمر محبّذ من هذه الناحية، لكن ينبغي أن نعلم أن تلكم المصطلحات لا تطابق بالكامل ما أفادته الآيات والروايات وما جرى عليه العرف من تعابير لغويّة؛ من أجل ذلك فإنّه يتعيّن استخدام كلّ مصطلح في سياقه الخاصّ، وعندما يكون السياق عامّاً فإنّه ينبغي التركيز على المعنى اللغويّ.

ص: 79


1- - نفحات الولایة ، ج1 ، ص 84 – ص 83.
2- . سورة الأعراف، الآية 179.

بخصوص المشيئة الإلهيّة(1) وأنّ اللّه قد خلق العالم بمشيئته، فقد اُشبع هذا الموضوع بحثاً ولا يزال، ولن اُشير إلى هذا البحث إلاّ بإيجاز لأترك المجال إلى أهل الفضل لمتابعته وسبر غوره وتحرير الرسائل فيه إن أحبّوا.

السؤال الأوّل الذي لابدّ من الإجابة عليه هو: ما الفرق بين المشيئة والإرادة؟

والسؤال الثاني هو: هل المشيئة والإرادة هما من الصفات الذاتيّة لله أم من صفاته الفعليّة؟

أمّا السؤال الثالث فهو: ما هي العلاقة بين أسماء اللّه وذاته عزّ وجلّ؟

اعتبر بعض المتكلّمين، ولاسيّما الأشاعرة منهم، الإرادةَ من الصفات الذاتيّة لله تعالى وعدّوها من القدماء الثمانية، فقالوا: إرادة اللّه قديمة وهي غير علمه وغير ذاته عزّ وجلّ. أمّا البعض الآخر فقد صرّح، استناداً إلى أمثال الرواية القائلة: «خلق اللّه المشيئةَ بنفسها ثمّ خلق الأشياء بالمشيئة»(2)، بأنّه من المعلوم أنّ المشيئة مخلوقة.

لقد جاء في بعض الروايات أنّ اللّه قد خلق أسماءً لنفسه وخلق اسماً في ذاته فهو ليس بخارج عنها. ويتعيّن الالتفات إلى أنّ تعبير الخلق هنا ليس هو بمعناه العرفيّ أو ما يُصطلح عليه في الفلسفة، فهو لا يعني أنّ الاسم الذي جعله اللّه له هو مخلوق قال اللّه له: كن أيّها الاسم! فلو كان الأمر كذلك لتبادر إلى الأذهان السؤال التالي: بأيّ شيء أوجد اللّه هذا الاسم؟ وكوجه من الوجوه يمكنني القول: لعلّ من الأنسب أن نقول: إنّ تعبير الخلق الذي جاء بخصوص الاسم الخاصّ بذات اللّه هو بمعنى «الظهور».

وهناك تصوّر خاطيء آخر بخصوص خلق العالم عند بعض قدماء المفكّرين وهو قولهم: «إنّ إيجاد العالم من قِبل اللّه هو ضرب من الجبر؛ أي إنّه عزّ وجلّ لم يستطع إلاّ أن يخلق. فذات اللّه تقتضي الخلق وليس للإرادة والمشيئة في هذا الباب أيّ دور يذكر»؛ بمعنى أنّ عمليّة خلق العالم من قبل ذات اللّه تبارك وتعال هي قضيّة جبر، والعياذ باللّه. لكنّه في مقابل مثل هذا التصوّر الخاطئ توجد العديد من الآيات والروايات التي تؤكّد تأكيداً مبرماً على تعلّق كلّ شيء بمشيئة اللّه تعالى. فاللّه يعلّم رسوله قول «إن شاء اللّه» إذا أراد

ص: 80


1- . وقد جاء فی دعاء الامام زین العابدین(عليه السلام) :«.....وَمَضَتْ عَلى ارادَتِكَ الْأَشْيآءُ، فَهِىَ بِمَشِيَّتِكَ -دُونَ قَوْلِكَ -مُؤْتَمِرَةٌ، وَبِارادَتِكَ -دُونَ نَهْيِكَ- مُنْزَجِرَةٌ....» فاطمه الزهراء من المهد الی الحد، ج یكم ،ص 309.
2- . بحار الأنوار، ج4، ص145.

فعل شيء: (وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللّهُ)(1)، كما أنّ من آدابنا الدينيّة أن نقول «إن شاء اللّه» عند كلّ عمل نهمّ بالقيام به وأن نلقّن قلوبنا بأنّه ما من عمل يُنجَز بمعزل عن مشيئة اللّه تعالى؛ بل لقد استخدم القرآن الكريم أيضاً معنى لطيفاً في هذا الباب عند قوله: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللّهُ)(2)؛ أي: حتّى مشيئتكم فهي غير ممكنة من دون مشيئة اللّه عزّ وجلّ. فاللّه يؤكّد بشدّة على ضرورة معرفته بهذه الكيفيّة وهي أن نعتقد بأنّه ما من أمر أو شيء في هذا الكون يمكن أن يتحقّق بمنأى عن مشيئته وإرادته سبحانه وتعالى.

ولعلّ لفظتَي المشيئة والإرداة تعطيان معنيين متفاوتين إذا استُعملتا سويّة؛ لكنّه إذا استُخدمت كلّ واحدة في محلّ الاُخرى لأفادتا معنى واحداً. وعلى أيّة حال فإنّ هناك تأكيداً كبيراً على كلمة شاء، والقرآن يؤكّد من جانبه على ضرورة أن لا نَعدّ اللّه مغلول اليد. فحينما نظنّ أنّ القضاء حتميّ وأنّ العلّة تامّة فإنّنا نغفل عن وجود جانب آخر من العلّة ألا وهو مشيئة اللّه تعالى؛ فهو إذا شاء، تهدّم كلّ هذا البنيان. فلا ينبغي أن نعتقد في أيّ حال من الأحوال أنّ اللّه مغلول اليد وأنّه لم يعد هو الآخر قادراً على التغيير! فالإله المغلول اليد لن يكون إلهاً أصلاً. فهذا التعلّق بمشيئة اللّه موجود في جميع المخلوقات، سواء القديم منها أو الحادث، المجرّد منها أو المادّي. فوجود كلّ مخلوق مرتبط ارتباطاً وثيقاً بإرادة اللّه، بل هو بتعبير آخر- تحقق لإرادة اللّه عزّ وجلّ.

يقول القرآن الكريم: (إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(3) والجمود على هذه الألفاظ يقتضي القول: إنّه لابدّ بادئ ذي بدء من وجود أمر يكون متعلّقاً بالقضاء، وأنّه لابدّ أن يَعلَم اللّه أوّلاً، ثمّ يأذن، ليُعمِل بعد ذلك مشيئته ومن ثمّ إرادته فيصل الأمر إلى التقدير ومن ثمّ إلى القضاء. فإذا وصل الأمر إلى القضاء يكون قد بلغ تمامه. فالقضاء يعني إنهاء العمل؛ فعندما ينهي العمل، «يقول له كن فيكون» بمعنى أنّه يقول لذلك الموجود الذي شُمل بقضاء اللّه: كن! فيكون ويوجَد. وهذا بدوره يعني أنّ هناك قولاً لابدّ من صدوره من

ص: 81


1- . سورة الكهف، الآيتان 23 و24.
2- . سورة الإنسان، الآية 30؛ وسورة التكوير، الآية 29.
3- . سورة البقرة، الآية 117؛ وسورة آل عمران، الآية 47؛ وسورة مريم، الآية 35؛ وسورة غافر، الآية 68.

اللّه، وهو «كن»؛ فإذا اجتمعت كلّ هذه الشروط وُجِد ذلك الأمر. إذن ينبغي توفّر هذه الاُمور إلى جانب ذات اللّه. وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: هل هذه الأشياء هي عين اللّه أم هي غير اللّه؟ فاللّه ليس كلاماً. اللّه يقول: كن! وهذا الكلام إنّما يوجَد بقول اللّه تعالى. فإذا كان هذا الكلام إلهاً، ما كان حادثاً، بل لكان موجوداً منذ الأزل. وإذا كان مخلوقاً، لأمكن نقل القول إليه. أي عندما يريد اللّه خلق هذا الكلام فلابدّ أن يقول له أيضاً: كن! وهلمّ جرّاً، وهذا يستلزم التسلسل. لأنّه من أجل خلقٍ واحد يتعيّن على اللّه أنّ يقول: كن إلى ما لا نهاية وهذا هو مقتضى التمسّك باللفظ. لكنّنا إذا تدبّرنا في الأمر مليّاً لاكتشفنا أنّ اللّه يريد أن يقول لنا عبر بيانه هذا: إنّه ناهيك عن أنّ اللّه موجود وأنّه يريد إيجاد هذا الأمر، فإنّه لا حاجة لوجود شيء آخر؛ فالقرآن يقول: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الحَمِيدِ)(1)، ومعنى الآية هو أنّ اللّه يهدي بإذنه هو؛ فهل يعني ذلك يا ترى أنّ اللّه يوجِد في البدء هذا الإذن ومن ثمّ يوجِد الهداية بواسطتها؟ أم إنّ المقصود هو أنّ اللّه ليس بحاجة إلى إذن من أحد؟ وهذا كما لو سُئل أحدهم: بإذن مَن قمت بهذا الفعل؟ فيقول في جوابه: بإذني أنا! ومعناه: إنّني لست بحاجة إلى إذن من أحد كي أقوم بهذا الأمر؛ ولا يعني: أنّني بحاجة إلى إذني! وهذا التعبير مستعمل في الحوارات العرفيّة والعقلائية. فقولنا: إنّ اللّه يهدي بإذنه يعني إنّه ليس بحاجة إلى إذن من أحد.

أمّا معنى نصّ الحديث القائل: «خلق اللّه المشيئةَ بنفسها ثمّ خلق الأشياء بالمشيئة» فهو أنّ إيجاد المشيئة ليس بحاجة إلى خلق. فالقول بأنّ اللّه يخلق العالم بإذنه أو يهديه بإذنه لا يعني أنّ على اللّه حقيقةً- أن يوجِد إذناً ومن ثمّ ينجز عمله على ضوء هذا الإذن! بل هو يدلّ على حدّ فهمنا- على أنّ إيجاد المشيئة لا يحتاج إلى واسطة.

أمّا السؤال الآخر فهو: هل إنّ المشيئة والإرادة هما عين الذات أم خارجتان عنها؟ فإنّنا إذا أرجعنا المشيئة والإرادة إلى معنى المحبّة، فستكونان عين الذات. فالصفات الذاتيّة لا تنحصر بتلك المذكورة في كتب علم الكلام. فإن ادّعى أحدهم أنّ حبّ اللّه لذاته أو لآثار ذاته هو عين ذاته، وأنّ الإرادة والمشيئة تعطيان معنى الحبّ، فستكون الإرادة والمشيئة أيضاً من

ص: 82


1- . سورة إبراهيم، الآية 1.

صفات الذات. هذا وقد وردت الإرادة في القرآن الكريم بمعنى الحبّ أيضاً: (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ).(1)

تؤكّد مولاتنا الزهراء (عليها السلام) عبر هذه الكلمات على أمرين: الأوّل هو أنّ خلقة مجموع هذا العالم لم يكن من مادّة سابقة بل وجوده إبداعيّ؛ بمعنى أنّه خلقها على نحو الإبداع (لا بمعناه المصطلح). والثاني هو أنّ اللّه ليس مغلول اليد على الإطلاق وهو يمارس عمله دوماً طبقاً لمشيئته. فكلّ ما يخلق، سواء أكان قصير العمر أم لم تكن لعمره نهاية، فهو متعلّق بمشيئته سبحانه وتعالى أيضاً.

وصلّى اللّه على محمّد وآله.

هدف الخلقة

اللّه مختار على الإطلاق

«...كَوَّنَهَا بِقُدْرَتِهِ، وَذَرَأَهَا بِمَشِيَّتِه، مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَى تَكْوِينِهَا، وَلاَ فَائِدَةٍ لَهُ فِي تَصْوِيرِهَا»(2).

أنّ فاعليّة اللّه بالنسبة إلى أفعاله، التي من جملتها خلق العالم، اختياريّة؛ فكلّ شيء في هذا العالم إنّما يقع ضمن إطار إرادة اللّه ومشيئته؛ ومن هذا المنطلق نرى أنّ القرآن يصرّ إصراراً عجيباً على إناطة كلّ شيء بمشيئة الباري عزّ وجلّ، سواء في الاُمور التكوينيّة (من قبيل سعة الرزق وضيقه، وطول العمر وقصره)، أو في الاُمور التشريعيّة. في الامور التشريعية يؤكد القرآن علی انّ اصل التشريع لابدّ أن لا يكون إلاّ بإذن اللّه تبارك وتعالى ومشيئته؛ فهو يقول عند تحريم البعض لشيء وتحليلهم لشيء آخر: (قُلْ ءَاللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ)(3)، وكذا الامر بالنسبة للعمل بالتشريع أيضاً فإنه لابدّ أن يتعلّق

ص: 83


1- . سورة الأنفال، الآية 67.
2- . بلاغات النساء، ص27؛ وبحار الأنوار، ج29، ص220.
3- . سورة يونس، الآية 59.

بمشيئته سبحانه وتعالى، فيقول: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ)(1)، فحتّى إيمانكم هو غير خارج عن دائرة مشيئته عزّ وجلّ. فعلاوة على الموت والحياة فإنّ أفعالنا الاختياريّة أيضاً متعلّقة بإذن اللّه ومشيئته. وعلى هذا الأساس فإنّ النقطة المهمّة التي تؤكّد عليها تلك الكلمات القصار من هذه الخطبة الشريفة هي أنّ خلق هذا العالم هو بمشيئة اللّه تعالى؛ «ذرأها بمشيّته».

تُستخدم كلمة «ذرأ» في العادة في باب تكاثر الموجودات؛ كالتكاثر الذي يكون عن طريق التوالد والتناسل. فالقرآن الكريم يقول: (ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ)(2)؛ أي: إنّ اللّه هو الذي يوزّع الموجودات على سطح الأرض؛ والمراد من هذا القول هو: لا تظنّن أنّ أفعال الخلائق قد خرجت من يد اللّه بعد خلق الأبوين ولم تعد لها علاقة بإرادة اللّه ومشيئته بعد ذلك.

إنّ ظواهر الكون المختلفة لا تحدث إلاّ في سياق سُنن وضعها اللّه في هذا العالم، وقد يكون لبعضها كالمعجزات طرق خاصّة واستثنائيّة. فإذا كان تحقّق كلّ شيء في هذا العالم منوطاً بمشيئة اللّه تعالى ولم يكن للجبر أو القهر سبيل إلى فعل اللّه عزّ وجلّ، فإنّه يكون لله الاختيار التامّ والمطلق. فأفعال سائر الموجودات المختارة كالإنسان تشوبها نسبة من عوامل الجبر؛ لهذا فإنّه ليس كلّ شيء هو تحت تصرّفنا. فاختيارنا قد لا يشكّل من بين مجموع الأسباب والعلل الدخيلة في أفعالنا إلا واحداً في المائة. فاللّه هو الذي جعل تلك العوامل، وهي ليست تحت تصرّفنا، ومتّى شاء فهو قادر على سلبها. أمّا فيما يتعلق بفعل اللّه فالاختيار فيه يكون بتمام معنى الكلمة؛ إذ ليس هناك أيّ شرط أو قيد أو مانع يقف أمام فعل اللّه؛ ومن هنا فإنّ الاختيار الحقيقيّ هو لله فحسب.

العلّة الغائيّة لأفعال الإنسان

عندما نحلّل نحن البشر أفعالنا نجد أنّنا لا نقوم بفعل إلاّ عندما نشعر بالدافع إليه؛ فعلى سبيل المثال نحن باستطاعتنا أن نأكل الطعام وباستطاعتنا أن لا نأكل أيضاً؛ لكنّنا عندما

ص: 84


1- . سورة يونس، الآية 100.
2- . سورة الأنعام، الآية 136.

نجوع فإنّ حافزاً يتولّد فينا يدفعنا إلى تناول الطعام. فالفعل الاختياريّ يحتاج إلى عامل مؤثّر، كما أنّه لا يؤتَى به إلاّ إذا كانت نتيجته جلب منفعة، أو دفع مضرّة، أو تأمين حاجة، أو إزالة معاناة؛ وباختصار فلابدّ من وجود خير وراءه كي يهبّ المرء للقيام به. فطالما افتقرنا إلى ذلك الخير ووجدنا في أنفسنا الرغبة للحصول عليه فإنّنا نسعى في سبيله. فإنْ نحن طلبنا الطعام فلأنّ الشِبْع يمثّل خيراً بالنسبة لنا ونحن مفتقرون إليه؛ إذن فنحن نتناول الطعام كي نحسّ بالشبع؛ وبعبارة اُخرى فإنّ غايتنا هي السعي، من خلال الفعل الاختياريّ، للحصول على ما نحن محرومون منه. من هذا المنطلق فإنّ ما نضعه في الحسبان كي نبلغه عبر إنجاز عملٍ ما فهو هدفنا من هذا العمل وهو ما يُصطلح عليه في الفلسفة «العلّة الغائيّة». وهنا يذهب البعض إلى أنّ العلم بذلك الهدف هو العلّة الغائيّة، ويَعدّ البعض الآخر أنّ الاشتياق له هو العلّة الغائيّة. ولنقل ببساطة أكثر: «إنّ الرغبة إلى ذلك الهدف هي العلّة الغائيّة».

العلّة الغائيّة لأفعال اللّه

هنا قد يتبادر إلى الذهن سؤال: هل كان لله، عندما خلق الكون باختياره، هدف يصبوا إليه أم لا؟ فإن كان له هدف، فما هو ذلك الهدف؟ ما الشيء الذي هو فاقد له ليحاول الحصول عليه عبر القيام بهذا الفعل؟

يقول البعض في هذا الصدد: إنّ اللّه ليس له هدف أصلاً. بل إنّه من الخطأ أساساً أن ننسب لله هدفاً أو غرضاً أو علّة غائيّة. فالأغراض والأهداف هي غير مطروحة إلاّ فيما يخصّ المخلوقات. أمّا البعض الآخر فيقول: لقد خلق اللّه الكون كي تعمّ الفائدة الآخرين، لا أن يستفيد هو من ذلك. ولازم هذا القول أنّ اللّه يفتقر إلى رضا عباده أو كمالهم وهو يريد الوصول إلى ذلك. ومؤدَّى هذا الكلام أنّ اللّه هو محتاج!

أمّا الفلاسفة المسلمون فلهم في هذا الباب بحث مفصّل يمكن تلخيصه بما يلي: إنّ العلّة الغائيّة والعلّة الفاعليّة لله سبحانه وتعالى، بل لجميع المجرّدات، هما شيء واحد. لكن ما معنى هذا القول؟ فإذا قلنا: إنّ ذاته هي علّة غائيّة لذاته، فهل يعني هذا القول إنّه يفتقر إلى ذاته وهو يسعى للحصول عليها؟

ص: 85

في نظري فإنّ العلّة الغائيّة هي - في الحقيقة - الرغبة التي يشعر بها الموجود المختار تجاه تلك الغاية؛ وبتعبير أكثر شموليّة: هي محبّة الدافع لإنجاز الفعل الاختياريّ. غير أنّ المحبّة تختلف باختلاف الموجودات؛ فبالنسبة لله تعالى فإنّه من الممكن افتراض لون خاصّ من المحبّة تكون - حالها حال سائر صفاته الذاتيّة - عين ذاته. فاللّه يحبّ الحُسن والخير، وإنّ الخير المطلق هو عين ذاته؛ إذن فإنّ الشيء الذي يعكس مرتبة من خيره يكون مطلوباً من قِبله بالتَّبَع.

فتارة نحن نحبّ الشيء لنفسه، وتارة اُخرى نحبّه لانتسابه لشيء آخر. فعندما تحبّ شخصاً فإنّك تحبّ تصويره أيضاً، مع العلم أنّ التصوير لا يعدو كونه قصاصة ورق، لكنّك تحبّه لأنّه يُظهر حبيبك. فطالما أحببت ذلك الشخص فإنّك تحبّ تصويره، بل وكلّ ما ينتسب إليه تبعاً لذلك. فنحن نُقبّل أبواب وجدران حرم السيّدة المعصومة (عليها السلام) لأنّ تلك الأبواب والجدران منتسبة إلى المحبوب وهي - من هذه الناحية - مطلوبة لنا أيضاً. وهذه هي خاصّية المحبّة.

وما يكون - أصالةً - ذا قيمة بالنسبة لله تعالى انّما هي ذاته هو. وما من شيء على الإطلاق أكثر محبوبيّة من اللّه تعالى. فاللّه تبارك وتعالى يملك جميع الكمالات على نحو أشدّ وأكمل، وكلّ مقدار من الكمال يملكه الآخرون فهو مستقىً منه عزّ وجلّ؛ إذن فإنّ أكثر الأشياء محبوبيّة هي ذات اللّه عزّ وجلّ. ولمّا كان اللّه يحبّ ذاته أصالةً، فهو يحبّ آثارها أيضاً بالتبع. فكلّ شيء يكون أشدّ إظهاراً لله فهو أكثر مطلوبيّة له تعالى. فلماذا يكرّر الباري عزّ وجلّ في كتابه الحكيم قول: (وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرينَ)(1)، (يُحِبُّ التَّوَّابِينَ)(2)، (يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)(3)، ...الخ؟ لأنّ المتمتّعين بهذه الصفات يتمكّنون أكثر من غيرهم من أن يكونوا مرآةً ومظهراً لله عزّ وجلّ. فالإنسان الأكمل، ألا وهو النبيّ الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو أكثر من يحبّهم اللّه من عباده؛ ذلك أنّ وجوده وصفاته تفوق غيرها من الأشياء في إظهارها لله جلّ شأنه. فهو حبيب اللّه؛ لأنّ خيراته وكمالاته تفوق ما لغيره منها، وهو يستطيع أكثر من

ص: 86


1- . سورة آل عمران، الآية 146.
2- . سورة البقرة، الآية 222.
3- . سورة التوبة، الآية 108.

غيره إظهار صفات اللّه في الخلق. وكذا هو الحال بالنسبة إلى الأئمّة الأطهار وأنبياء اللّه وأوليائه كلّ بحسب مرتبته وكماله.

القضيّة الاُخرى التي تستحقّ العناية هنا هي أنّنا أحياناً نحبّ شيئاً لا يمكن الحصول عليه إلاّ بالقيام بالكثير من الخطوات؛ فمثلاً إذا أحبّ شابّ الزواج من ابنة عائلة ثريّة وذات حسب ونسب فسوف يرى أنّه يتعيّن عليه من أجل ذلك كسب المال، والحصول على عمل مشرّف، ونيل شهادة جامعيّة مرموقة، ولهذا تراه يصمّم على تأمين كلّ ذلك. فهو أصالةً لا يريد غير الزواج من تلك الفتاة، وما باقي الخطوات إلاّ مقدّمات لذلك. لذا تراه يبذل قصارى جهده لإنجاز كلّ ذلك لأنّها تشكّل مقدّمة للوصول إلى المعشوق. وكذا بالنسبة للراغب في زيارة بيت اللّه الحرام فهو يسعى في سبيل كسب الرزق الحلال لتأمين متطلّبات سفره ويبذل ما بوسعه لتوفير مقدّماته. فكلّ تلك المقدّمات مطلوبة، وكلّها محبوبة لكنّ مطلوبيّتها ومحبوبيّتها هي من أجل أمر هو أحبّ إلى القلب! فلولا هذا الأمر لما تجشّم المرء عناء القيام بكلّ تلك الأعباء. إذن فإنّ من الممكن حبّ شيئين أو بضعة أشياء طوليّاً؛ بحيث يكون حبّ أحدها بالأصالة، أمّا حبّ الباقي فيتّسم بالفرعيّة. فإنّ ما يُطلَب أصالةً في الحجّ هو زيارة بيت اللّه الحرام؛ لكنّ زيارة قبر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هي مرادة أيضاً. ولعدم وجود التزاحم بين هذين الأمرين يكون كلاهما مطلوبا؛ لكنّ أحدهما يكون فرعاً للآخر. فهما هدفان؛ لكنّهما لا يتمتّعان بنفس النسبة من المطلوبيّة، لأنّ لأحدهما صبغة ثانويّة.

فأوّل مطلوب لله سبحانه وتعالى هي ذاته التي لا تشكو من أيّ نقص أو عيب. كما أنّه لا يعاني من كونه وحيداً على الإطلاق؛ فهو وحيد منذ الأزل وإلى الأبد. لقد ورد في الزيارة الجامعة لأئمّة المؤمنين، وهي زيارة نفيسة للغاية وتستحقّ القراءة بتمعّن كبير، ما نصّه: «يَا ذَا الْقُدْرَةِ الَّتِي صَدَرَ عَنْهَا الْعَالَمُ... ابْتَدَعْتَهُ... وَلا لِوَحْشَةٍ دَخَلَتْ عَلَيْكَ إِذْ لا غَيْرُكَ، وَلا حَاجَةٍ بَدَتْ لَكَ فِي تَكْوِينِهِ، وَلا لاسْتِعَانَةٍ مِنْكَ عَلَى مَا تَخْلُقُ بَعْدَهُ، بَلْ أَنْشَأْتَهُ لِيَكُونَ دَلِيلاً عَلَيْكَ بِأَنَّكَ بَائِنٌ مِنَ الصُّنْع»(1).

ص: 87


1- . بحار الأنوار، ج99، ص167. استُخدم هنا مصطلح الصدور في التعبير عن خلق العالم؛ لذا فليكن في علم اولئك الذين يُشكلون على الفلاسفة بسبب قولهم إنّ العالم صادر عن اللّه، أنّ أمثال هذه التعابير جاءت في رواياتنا أيضاً.

فأفضل ما يرضي اللّه جلّ وعلا هو الالتفات إليه والعلم به، فهذه هي أعلى مراتب الابتهاج. فبعد الابتهاج بذاته فهو يبتهج بحيازته لأكمل المخلوقات التي يتصدّرها النبيّ الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثمّ السيدة الزهراء (عليها السلام) و امير المؤمنين (عليه السلام)، و من ثمّ سائر الأئمة (عليهم السلام) ليأتي من بعدهم الأقرب فالأقرب من عباده.

لقد خلق اللّه العالم لأنّه يحبّ أن تكون هناك مرايا تعكس ذاته. فإذا صحّ الحديث القدسيّ القائل: «يا أحمد! لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا عليّ لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما»(1) فإنّ تبريره القابل للفهم هو أنّه عندما يريد اللّه تعالى خلق أمثال ونظائر لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلابدّ من تحقّق سلسلة مترابطة لذلك. فصاحب الزمان (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) لم يكن ليأتي إلى الدنيا إلاّ بتوفّر أب كالإمام الحسن العسكريّ (عليه السلام) وأمّ كالسيّدة نرجس؛ وكذا الأمر يتسلسل حتی يصل إلى السيّدة الزهراء (عليها السلام). فلو لم تكن السيّدة الزهراء (عليها السلام) لم يكن للأئمّة (عليهم السلام) أن يوجدوا أصلاً، ولولا الأئمّة (عليهم السلام) لم يكن نور النبيّ الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ورسالته ليستمرّا ويبقيا. فبقاء الإسلام لم يكن إلاّ ببركة الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) وإنّ الخيط الناظم لتلك الذوات المقدّسة والموصل لها ببعضها هو السيّدة فاطمة الزهراء(عليها السلام)؛ ومن هنا يقول الباري تعالى: «لولا فاطمة لما خلقتكما».

إنّنا نعتقد على نحو القطع واليقين أنّ مقام النبيّ الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو أعلى من الجميع. فلا يمكن القول: إنّ وجود النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو فرع لوجود فاطمة الزهراء(عليها السلام)، لكنّه يمكن القول بأنّ هذه الثلّة هي ما يطلبه اللّه تعالى وهي مترابطة متماسكة مع بعضها البعض وأنّ السيّدة الزهراء(عليها السلام) هي التي يمكنها أن تشكّل الخيط الذي تنتظم عليه أجزاء تلك المجموعة مع بعضها.

ورجوعاً إلى ما طرحنا من مباحث، فإنْ نحن سُئلنا: لأيّ شيء خلق اللّه العالم؟ نقول: إنّ اللّه ليس بفاقد لأمر كي يصيب النفع بخلقه لهذا العالم؛ لكن المخلوق قد يكون هو المحتاج. فاللّه جلّت آلاؤه إذ يخلق التفاحة، فإنّه يخلق عطر التفّاح في إثرها أيضاً؛ لكنّه لا يمكن لعطر التفاح أن يتحقّق إلاّ إذا كانت هناك تفّاحة. ففي الحقيقة إنّ هذا العطر هو المحتاج إلى وجود جوهر يقوم به؛ فليست القضيّة أنّ اللّه هو المحتاج. فهذا الشرط هو

ص: 88


1- . مستدرك سفينة البحار، ج3، ص334.

شرط تحقّق المخلوق، وليس شرط إفاضته. هو شرط قابليّة القابل، لا شرط فاعليّة الفاعل. فليس ثمّة لله من حاجة؛ لكنّه خلق الكون لأنّه - أصالةً - يحبّ ذاته؛ ومن هذا الحبّ يتولّد بالتبع حبّ أكمل المخلوقات، ولمّا كان النبيّ الخاتم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو أكمل الموجودات وأقربها إلى اللّه تعالى، فإنّه يمكننا القول: إنّه عزّ وجلّ خلق العالم لأجل النبيّ الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؛ بالطبع إنّه يحبّ الأشياء بمقدار ما تتمتّع به من الخير. فهؤلاء مطلوبون بمقدار ما يدلّون عليه من حكمة اللّه، وعظمته، وعلمه، وما إلى ذلك. فاللّه يحبّ جميع مخلوقاته؛ لكن لِسعة الفجوة التي تفصلنا نحن عن النبيّ الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمّة الأطهار (عليهم السلام) وهي ممّا يستعصي على القياس، فإنّه لا يكون للعالم قيمة تُذكر في مقابل تلك الذوات المقدّسة. هذا الكلام ليس مجرّد مجاملة؛ بل هو ترجمة لأقوالهم (عليهم السلام) .

الهدف من خلق جهنّم

عندما يُتّخذ القرار لخلق موجود مختار فلابدّ أن تُهيّأ الأرضيّة بحيث تتوفّر أمامه إمكانيّة اختيار الصراط المستقيم من ناحية وانتخاب السبيل المعوجّة من ناحية اُخرى. فعلاوة على فتح طريق الوصول إلى المقامات العالية لابدّ من وجود طريق التسافل إلى الحضيض أيضاً كي يكون المناخ مناسباً للاختيار، فلا يستحقّ دخول الجنّة إلاّ من توفّرت له إمكانيّة دخول النار أيضاً. فلو اقتصر الأمر على سبيل واحدة لَما كان ثمّة معنىً للاختيار أساساً؛ وبناءً على ذلك يتعيّن وجود طريق تؤدّي إلى جهنّم أيضاً. وفي هذه الحالة يكون وجود هذا الطريق مطلوباً بالعَرَض. فلو لم يكن في المخطّط خلْقُ موجود مختار في هذا العالم لم يكن اللّه ليخلق النار أصلاً. لذا فإنّه عزّ وجلّ خلق جهنّم بالعَرَض من أجل أوليائه هؤلاء؛ ذلك أنّ بلوغهم مدارج الكمال لن يكون ممكناً إلاّ في ظلّ عباداتهم الاختياريّة، ومن أجل تحقّق تلك العبادات الاختياريّة لابدّ من وجود مفترق طريقين؛ إحداهما طريق اللّه والاُخرى طريق غير اللّه. ولمّا كانت طريق اللّه منتهية إلى الجنّة، تحتّم أن تنتهي طريق غير اللّه إلى نقطة معيّنة هي جهنّم. إذن فجهنّم هي مطلوبة بالعرض.(1)

ص: 89


1- . دروس الاخلاق المصباح الیزدی.
أهداف الخلقة في كلام فاطمة الزهراء (عليها السلام)

«...كَوَّنَهَا بِقُدْرَتِهِ، وَذَرَأَهَا بِمَشِيَّتِه، مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَى تَكْوِينِهَا، وَلاَ فَائِدَةٍ لَهُ فِي تَصْوِيرِهَا، إِلاَّ تَثْبِيتاً لِحِكْمَتِهِ، وَتَنْبِيهاً عَلَى طَاعَتِهِ، وَإِظْهَاراً لِقُدْرَتِهِ، وَتَعَبُّداً لِبَرِيَّتِهِ، وَإِعْزَازاً لِدَعْوَتِهِ، ثُمَّ جَعَلَ الثَّوَابَ عَلَى طَاعَتِهِ، وَوَضَعَ الْعِقَابَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، ذِيَادَةً لِعِبَادِهِ عَنْ نَقِمَتِهِ، وَحِيَاشَةً لَهُمْ إِلَى جَنَّتِه»(1).

في توضيحنا لفقرات خطبة السيّدة الزهراء (عليها السلام) وصلنا إلى حيث أكّدت (عليها السلام) بعبارة قصيرة أنّ اللّه سبحانه وتعالى يملك منتهى الاختيار، وأنّ كلّ شيء هو منقاد لمشيئته. وقد انتقلت إلى هذا المعنى بمناسبة التساؤل عن الهدف من وراء خلق هذا العالم. ولقد قدّمنا توضيحاً موجزاً لذلك، وقلنا: إذا كان المراد من الهدف هو ما يُطرح بخصوص أفعالنا الاختياريّة نحن البشر، فهو إنّما يصدق على الفاعل الذي يكون محتاجاً إلى هدف، والذي طالما لم يصل إلى ذلك الهدف ولم ينل ذلك الكمال فهو يقوم بذلك الفعل كي يوصله إليه، وهذا المعنى في حيازة الهدف لا يصحّ بالنسبة لله عزّ وجلّ. فاللّه ليس بحاجة إلى شيء؛ ومن هذا المنطلق تؤكّد السيّدة الزهراء (عليها السلام) : «ذَرَأَهَا بِمَشِيَّتِه، مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَى تَكْوِينِهَا، وَلاَ فَائِدَةٍ لَهُ فِي تَصْوِيرِهَا».

لكنّه من الممكن أن نتصوّر معنى تحليليّاً للهدف يكون صادقاً على اللّه تعالى أيضاً ويندرج في عداد صفاته الذاتيّة، وهو أن نقول: إنّ الهدف هو ما يحبّ الفاعل المختار تحقّقَه. في الحقيقة إنّ الدافع من وراء إنجاز الفعل بالنسبة للفاعل المختار هو الحبّ. والمحبّة تتعلّق بشيء بالذات تارةً، وبالتبع طوراً، وبالعرض حيناً، وقد عرضنا في المحاضرة الماضية توضيحاً لهذه المصطلحات. وجميع متعلّقات المحبّة تُعدّ أهدافاً بنحو من الأنحاء. فعلى سبيل المثال عندما يوجَّه السؤال إلى أهل العبادة والذكر: لماذا أنتم تعبدون؟ فستقول طائفة منهم: من أجل نيل ثواب الآخرة. فالهدف الأساسيّ لهؤلاء هو النعم الفردوسيّة، ولمّا كانت العبادة هي السبيل الموصل إلى تلك النعم فهم يحبّونها هي الاُخرى بالتبع. أمّا البعض

ص: 90


1- . بلاغات النساء، ص27؛ وبحار الأنوار، ج29، ص220.

الآخر فإنّهم يأنسون ويلتذّون بذكر اللّه: «بذكرك عاش قلبي»(1)؛ فحياة قلبي هي في الأساس مستمرّة بذكرك. فالعبادة بالنسبة لأفراد كهؤلاء هي نفسها مطلوبة بالذات. إذ أنّ لله عباداً لا يستمتعون بنعيم الجنّة إلاّ من جهة كونه من اللّه، وهم يحبّون هذا النعيم من أجل انتسابه إلى اللّه وكونه مظهراً من مظاهر لطفه عزّ وجلّ. فهذا هو الإمام زين العابدين (عليه السلام) يقول في احدی مناجاة خمس عشرة: «يا نعيمي وجنّتي ويا دنياي وآخرتي»(2)، فإنّ لله مثل هؤلاء العبيد أيضاً. فياليت حالاً كهذا ينتابنا ولو لبضع لحظات من أعمارنا.

على أيّة حال فكلّ تلك الأمور هي أهداف وإنّ الأهداف بالتبع تقع في طول الأهداف بالذات. فإذا لاحظنا أنّ القرآن الكريم يعرض لعدّة أهداف بالنسبة لخلق الإنسان فهو في الحقيقة يشير إلى الأهداف الطوليّة. وانطلاقاً من ذلك يمكننا القول: إنّ لله تعالى هدفاً بالذات، وهدفاً بالتبع، وهدفاً بالعرض في آن معاً، وقد مرّ توضيح ذلك في المحاضرة الفائتة. فعندما نُمعِن النظر في الآيات القرآنيّة وروايات أهل البيت (عليهم السلام) ، التي من جملتها هذه الخطبة الشريفة، نلاحظ أنّ اللّه عزّ وجلّ قد حدّد لأفعاله أهدافاً. وساُعرّج على مقاطع هذه الخطبة الشريفة التي تلوتها في مستهلّ الحديث كي نتعرّف على الأهداف التي ذكرتها مولاتنا الزهراء (عليها السلام) لخلقة العالم.

أهداف خلق الوجود في كلمات السيّدة الزهراء(عليها السلام)

تقول فاطمة الزهراء (عليها السلام): إنّ اللّه إذ خلق العالم لم تكن لديه حاجة إلى إيجاده؛ لا في أصل الإيجاد، ولا في تكميله وتصويره. ثمّ تستثني من ذلك اُموراً فتعرضها بعنوان الهدف من الخلقة فتقول: «إلاّ تثبيتاً» وهو استثناء منقطع؛ وذلك لأنّه ليس في هذه الاُمور أيضاً ما يعود على اللّه تعالى بالفائدة. فالاستثناء المنقطع يحكي غاية التأكيد؛ بمعنى أنّه: حتّى لو ذكرنا هدفاً لذلك فإنّه ليس من سنخ الأهداف التي تكون ناشئةً عن حاجة أو لازمةً لجلب فائدة؛ بل هي اُمور غايتها إسباغ الفوائد على الخلق. واستطراداً في كلامها تشير سيّدتنا الزهراء (عليها السلام) إلى بضعة موارد هي: «تثبيتاً لحكمته»؛ فإن كان ثمّة من يشكّ في حكمة اللّه عزّ

ص: 91


1- . بحار الأنوار، ج95، ص89، دعاء أبي حمزة الثماليّ.
2- . بحار الأنوار، ج91، ص147، مناجاة خمس عشرة.

وجلّ فسوف يفهم، لدى رؤيته لخلقه، وإدراكه لأسرار خلق كلّ واحد من موجوداته، مدى ظهور آثار حكمته عزّ وجلّ في ذلك.(1)

یقول الامام علی(عليه السلام) : «ألا ینظرون الی صغیر ما خلق ، كیف احكم خلقه و اتقن تركیبه ... والریاح و الماء ، فانظر الی الشمس و القمر ، و النبات و الشجر و ، الماء و الحجر ، و اختلاف هذا اللیل و النهار و تفجر هذه البحار و كثرة هذه الجبال و طول هذه القلال و تفرّق هذه اللغات و الالسن المختلفات ، فالویل لمن انكر المقدّر و جَحَدَ المدبّر ؛(2)

و یقول (عليه السلام): الذی ابتدع الخلق علی غیر مثال ٍامتثله ُو لا مقدارٍاحتذی علیه من خالق معبود كان قبله ،وأرانا من ملكوت قدرته و عجائب ما نطقت به آثار حكمته و اعتراف الحاجه من الخلق الی ان یقیمها بمساك قوته ما دلنا باضطرار قیام الحجه له علی معرفته ،فظهرت البدائع التی أحدثتها آثار صنعته و اعلام حكمته ، فصار كل ما خلق حجه له و دلیلاً علیه ( الخطبه91)

«وتنبيهاً على طاعته»؛ فحينما يشاهد المرء هذا الكون بكلّ ما اُودع فيه من الحكمة فسيلتفت إلى أنّ وراء هذا الوجود حساباً واستجواباً. فالقرآن الكريم يقول: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)(3). فعندما يطيلون التأمّل في أسرار هذه الخليقة يقولون: «رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ». أي حتّى وجودي أنا فهو ليس بعبث. فإذا لم يخلُ هذا العالم من المحاسبة فقد تجرّني بعض أعمالي إلى استحقاق نار جهنّم. فتكون نتيجة هذه التأمّلات والتفكير أن ينبروا إلى القول: «فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»؛ فإطالة التفكير والتأمّل في حِكَم اللّه جلّت آلاؤه تقود المرء إلى الالتفات إلى طاعة اللّه وتبعث في نفسه الدافع إلى ذلك.

ص: 92


1- دروس الاخلاق المصباح الیزدی
2- . نهج البلاغة خطبة 185
3- . سورة آل عمران ، 191.

«وإظهاراً لقدرته»(1) وهي تشبه عبارة «تثبيتاً لحكمته». وقد جاءت في بعض النسخ (التي يبدو رجحانها كما يظهر) عبارة «دَلاَلَةً عَلَى رُبُوبِيَّتِه» أيضاً؛ أي: إنّه خلق هذا الكون كي يُظهر ربوبيّته لعباده، حتّى يفهموا أنّ اختيار التصرّف في العالم هو بيده. ومن باب التقابل فعندما يكون هو «الربّ» نكون نحن «العبيد». ومن هذا المنطلق فإنّه يتعيّن علينا أداء فروض عبوديّتنا.

«وتعبّداً لبريّته». كلمة التعبّد تستعمل تارة بصورتها اللازمة واُخرى بالمتعدّية. فعندما تأتي بصورتها اللازمة تعطي معنى قيام المرء بالعبادة وممارسته إيّاها؛ أمّا عندما تكون متعدّية فتؤدّي معنى دعوة الآخرين إلى العبوديّة. ويظهر أنّ المراد هنا هو الصورة المتعدّية منها؛ ليكون المعنّى أنّ اللّه قد خلق هذا العالم بكلّ تلك الأسرار والحِكَم كي يدعو عباده إلى عبوديّته.(2)

ص: 93


1- یقول سبحانه : اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً!. وقد جاء في الحديث القدسي: «كنت كنزاً مخفياً فأجببت أن أعرف، فخلقت الخلق لكي أعرف»
2- . تنبیهان: 1.انّ الغایة التي خلق من اجلها الانسان هی العبادة ، و المراد من ذلك ان یكون الانسان عبداً لله ، و عبودیة الانسان لله تختلف عن عبودیّة لمن سواه ، فاللّه سبحانه و تعالی لا ینتفع من عبودیّة الانسان له ، بل تكون العبودیّة من اجل ان یتخلص الانسان من أسر الاغلال و القیود ، و من ثمَّ فإنّ حقیقة العبودیّة لله هی ان یكون الانسان حراً عن كل ما سواه و ان لا یتعلق بشیء غیره؛ و به یتضح انّ الغایة من جوده ان یكون عبداً ؛ یعني ان یكون قریباً من اللّه ، و لیس المقصود من هذا القرب، القرب المكاني ، لانّ اللّه لیس كمثله شیء بل هو القرب المعنوي. ما معني القرب المعنوي؟ معناه ان یتخلّق الانسان بأخلاق اللّه بصفاته و افعاله لهذا ورد في الحدیث الشریف :«تخلّقوا بأخلاق اللّه» و قد ورد في الحدیث الشریف عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم):انّ لله تسعة و تسعین خُلقاً مَن تخلق بها دخل الجنّة؛ و جاء في وصف رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأنّه :«كان خُلُقه القرآن»« وَ إنّك لعلی خُلُقٍ عظیم » كما جاء في وصف الامام الموحدین أمیرالمؤمنین علي ابن ابي طالب (عليه السلام) نفسه انّه القرآن الناطق؛ لانّ هذا القرآن الصامت المركون ما بین الدفتین تجسّد علما وعملاً و اخلاقاً في الوجود الاقدس لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم تجسد بعد ذلك في وجود اهل بیته (عليهم السلام). 2.و ما نلحظه في المنطق القرآنی انه لا یتوقف عند عباده وحسب ومن ثم لا یعدها الهدف النهائی لوجود الانسان بل یتخطاها الی مرحله اخری وهو یقول :(واعبد ربك حتی یاتیك الیقین ) فیجعل الیقین هو الهدف النهایي «بحث حول الامامه للسید كمال الحیدری، ص 65»

ثمّ تقول في الختام: «وإعزازاً لدعوته»(1)؛ أي عندما يرسل اللّه أنبياءه ويدعو الناس إلى صراط العبوديّة المستقيم فإنّ التفكّر في حكمة الخلقة وعظمتها يأتي بمثابة المساعد والمعزّز لدعوة الأنبياء. وقد اُشير في القرآن الكريم إلى أنّ اللّه عندما يرسل أنبياءه فإنّه يقيّض الأسباب التكوينيّة بشكل تكون معها دعوة الأنبياء أبلغ وأكثر تأثيراً.(2)

«ثُمَّ جَعَلَ الثَّوَابَ عَلَى طَاعَتِهِ، وَوَضَعَ الْعِقَابَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ»؛ ثمّ لم يكتف اللّه تعالى بوقوف الناس على تكاليفهم عبر مشاهدة عظمة هذا العالم وما ينطوي عليه من الحكمة وخضوعهم أمام خالقه، بل جعل لعباده بلطفه عاملاً معزّزاً آخر بقوله: إذا أدّيتم فروض العبوديّة فإنّ لكم عند اللّه الثواب الاُخرويّ، وإن عصيتم فإنّ العقاب بانتظاركم. وهذا أيضاً جرّاء رحمته تعالى؛ أي إنّ اللّه عزّ وجلّ من فرط رغبته بسلوك عباده سبيل الكمال وكسب الأهليّة لنيل كلّ تلك الألوان التي لا نهاية لها من الرحمة فإنّه قد وضع تلك العوامل كي تكون حافزاً أكبر لهم لانتهاج سبيل الطاعة والنزوح عن منطقة المعصية.

«ذِيَادَةً لِعِبَادِهِ عَنْ نَقِمَتِهِ، وَحِيَاشَةً لَهُمْ إِلَى جَنَّتِه». يُقال لغةً لمن يدفع العدوّ عن الأرض «ذائد». والسيّدة الزهراء (عليها السلام) تقول: إنّ اللّه تعالى قد جعل الثواب ووضع العقاب وبيّنهما للناس من أجل وقايتهم من الابتلاء بنقماته وسَوْقهم إلى فسيح جنّاته. فكلمة «حياشة» تقع من حيث المعنى في النقطة المقابلة لكلمة «ذيادة» وهي تعني السوق.

ص: 94


1- . انّ اللّه سبحانه و تعالی أحیاناً یصیب عباده بالبلایا و المصائب من موقع شمول رحمته و لطفه بهم لینیبوا الیه و یتضرعوا الیه و هذه الحقیقة هی ما یعبر عنها علماء الكلام و العقائد بقاعدة اللطف.... أي انّ اللّه سبحانه و تعالی و من اجل هدایة الانسان و تحریكه في خط الایمان یهیی المقدمات لهذا السلوك المعنوي و قد ورد في الرولیات الاسلامیّة انّ الناس قُبیل ظهور الامام صاحب الزمان(عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) سیبتلون بمشاكل عظیمة و بلایا فادحة و مؤلمة بحیث انهم یعیشون الیأس وانقطاع الأمل من كل شیء حتی ینتبه الناس الی ان عالم الاسباب عالم صغیر و تافه و یلتجأوا الی مسبب الاسباب؛ «الاقسام القرآنیه، ص 253»
2- . سورة الأعراف، الآية 94؛ وسورة الأنعام، الآية 42.
إنّ خلْقَ تمام الوجود هو من أجل الإنسان

لكن ثمّة سؤال يُطرح هنا وهو: في الوقت الذي لم يكن اللّه قد خلق الإنسان بعد كيف يمكن ان يُقال إنّه خلق العالم إظهاراً لحكمته؟ فلمن يريد إظهارها يا ترى؟ ومن الذي يريد الباري عزّ وجلّ، عبر خلقه للعالم، أن يسوقه نحو الثواب ويجنّبه العقاب؟ والجواب هو أنّ المقصود هنا هو بعض مصاديق الأشياء وليس العالم من حيث المجموع. بمعنى: أنّ مولاتنا (عليها السلام) قد قصدت كلّ العالم من دون الإنسان المختار، ثمّ قالت: لقد خلق العالم وأعمَلَ فيه كلّ هذه الأنماط من حكمته، وأظهر فيه ألوان قدرته، وما إلى ذلك كي تجدوا في أنفسكم حافزاً يدفعكم إلى طاعته وتكونوا مؤهّلين في ظلّ العبادة إلى نيل المزيد من رحمته. فمالم تمارسوا أصناف العبادة تلك فانّكم لن توفَّقوا أساساً إلى إدراك رحمته. فالملائكة لا يستطيعون إدراك الثواب الاخرويّ لأنّه خاصّ بالبشر، والملائكة سيكونون خدّام الناس في الجنّة. فثواب الجنّة لا يتّم الحصول عليه إلاّ جرّاء العمل الاختياريّ للإنسان. ومن هنا فإنّ اللّه عندما يريد دعوة الإنسان إلى عبادته فهو يقول: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)(1)؛ فليس معنى ذلك: اعبدوني كي أبتهج بعبادتكم! لأنّ مؤدّى هذا الكلام هو أنّ اللّه محتاج إلى عبادتنا! والحال أنّ اللّه غنيّ ومن المستحيل ان يكومن محتاجا. فلقد جاء في القرآن الكريم في غير موضع أنّه لو كفر جميع الإنس والجنّ من الأوّلين والآخرين باللّه فإنّه لن يلحق باللّه أيّ ضرر ولو بقدر رأس الدبّوس ولن ينقص منه شيء. ولهذا فإنّ كلّ تلك التشكيلات من إرسال الأنبياء والأولياء وكلّ ما يُلحق بذلك هي من أجل أن يتمكّن الناس عبر طاعتهم لله من أن يحوزوا الأهليّة لنيل المزيد من الثواب، والكمال، والرحمة فيتقرّبوا من اللّه أكثر فأكثر. فاللّه يحبّ إفاضة الرحمة؛ لكنّ السبيل الموصل إلى تلك الرحمة هي العبادة. فإنّ من باب المسامحة أن نقول: ينبغي الإتيان بالعمل في سبيل مرضاة اللّه، وأنّ علينا فعل ما يرضيه عزّ وجلّ؛ إذ إنّ المقصود من هذا القول هو أن نحوز اللياقة والأهليّة لأن يتعلّق بنا رضا اللّه سبحانه؛ فالتحوّل إنّما ينتابنا نحن لا هو.

ص: 95


1- . سورة الذاريات، الآية 56.
لم تُبيّن جميع الأهداف لنا

لم تُبيّن جميع الأهداف لنا(1)

لقد أوضحت السيّدة الزهراء (عليها السلام) في هذه الجمل القليلة الفلسفة العظيمة من وراء الخلقة، وقد تحدّثنا عنها في بضع محاضرات بشكل مقتضب. لكنّه لابدّ من الالتفات إلى ملاحظة مهمّة وهي أنّ اللّه عندما يروم القيام بفعل شيء فإنّه يضرب أحياناً مائة عصفور بحجر واحد فيحقّق مائة هدف في آن واحد؛ لكنّه أحياناً لا يُفصح لنا إلاّ عن واحد من تلك الأهداف الصغيرة. ومن أجل توضيح هذه النقطة لابدّ لي من عرض مقدّمة.

نحن عادة عندما نضع في حسابنا القيام بعمل ونستهدف منه هدفاً معيّناً فقد تكون لهذا العمل جملة من المستلزمات والآثار لا نكون ملتفتين إليها أصلاً. فعندما نتناول الطعام مثلاً يكون هدفنا الشبع، وإذا كنّا أكثر عقلاً بقليل فسيكون هدفنا من وراء تناولنا للطعام هو تنشيط القوى لممارسة العبادة. في حين أنّنا عندما نأكل الطعام ونمضغه في أفواهنا فإنّ

ص: 96


1- . في الوقت الذي لا یعترف المادّیون بهدف للخلق لأنهم یعتقدون انّ الطبیعة الفاقدة للشعور والهدف هی التي ابتدأت الخلق، و لهذا فأنّهم یؤیدون اللغویة و عدم الفائدة في مجموعة الوجود و یشیر القرآن المجید اشارات قصیرة عمیقة المعني جداً في آیات مختلفة الی وجود هدف معیّن من الخلق «و ما خلقنا السماء و الارض و ما بینهما باطلاً » «سوره ص لایه 27 ، تفسیر الامثل، ج10 ، ص139» 1:الهدف من خلقه العالم اللّه الذی خلق سبع سماواتٍ و من الأرض مثلهن یتنزل الأمر بینهن لتعلموا أن اللّه علی كل شیءٍ قدیر و أن اللّه قد احاط بكل شیءٍ علماً. سوه الطلاق الآیه 12 . 2: الهدف من خلقه النجوم هو الذی جعل الشمس ضیاءً و القمر نوراً لتعلموا عدد السنین و الحساب. ( یونس ، الآیه 5) 3: الهدف من خلقه الانسان « و ما خلقت الجن والأنس الا لیعبدون» سوه الذاریات، الآیه 56 4: الهدف من بعثه الانبیاء. لقد ارسلنا رسلنا بالبینات و انزلنا معهم الكتاب و المیزان لیقوم الناس بالقسط «سوره الحدید الایه 25» 5: الهدف من التكلیف ا) الهدف من الصلاه «سوره العنكبوت الایه 45» ب) الهدف من الصیام «سوره البقره الایه 183» ج ) الهدف من الحج «سوره الحج الایه 28» د) الهدف من القصاص «سوره البقره الایه 179» اهداف قیام امام حسین(عليه السلام)، ص16 .

عضلات فكوكنا تقوى بفعل الحركة أيضاً. فلو أغلق المرء فاه ولم يحرّكه أدنى حركة لمدّة من الزمن فسوف تضمر العضلات المحيطة بالفكّ وتتصلّب. إذن فتناول الطعام يقوّي فكوكنا أيضاً. لكنّ أكثر الناس لا يعلمون بهذا الأثر، وإن علموا به فإنّهم غير واعين له. فإن استطعنا حقّاً أن نحيط علماً بكلّ تلك الآثار النافعة، ووضعناها جميعاً في حساباتنا ساعة تناول الطعام فهل في ذلك من إشكال؟ إنّه ممّا لا شكّ فيه أنّه إذا علم المرء بكلّ أثر حسن يترتّب على فعله، ووضعه في حسابه، وابتغاه لدى القيام به فسيكون فعله أكثر كمالاً حتماً.

فقد يضرب اللّه تعالى بفعله أحياناً مائة عصفور بحجر واحد غير أنّه قد لا يصرّح لنا إلاّ بواحد من أهدافه الصغيرة تلك؛ ذلك أنّ هذا هو مقتضى الكلام مع أمثالنا؛ فإمّا أن تكون الأهداف الاُخرى لا يمكن بيانها أصلاً، أو أنّنا لن نفهمها أو لن نعيرها أهمّية في حال بيانها. فلأيّ شيء - مثلاً - خُلقت كلّ تلك السماوات والمجرّات بكلّ ما تحتويه من العظمة والروعة؟ فقد تفصل المجرّةَ عن الاُخرى آلاف السنين الضوئيّة، وقد تسبح في بعض تلك لمجرّات الملايين، بل المليارات من النجوم. إنّه سؤال جدّي يتبادر إلى الذهن: لأيّ شيء خُلقت هذه المنظومة العظيمة؟ فلو أرادوا أن يبيّنوا لنا جميع الأهداف الكامنة وراء خلقة هذه المجرّات فهل سيسعنا تصوّرها؟ ففي الزمان الذي كان فيه البشر يتصوّرون أنّ النجوم مسامير زينة رُصّعت بها السماء لم يكونوا أبداً ليفهموا هذه الأهداف. بل لو صرّحوا بذلك الآن لنا فلن نقوى على إدراكها أيضاً. يقول اللّه تبارك وتعالى في كتابه المجيد: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)(1)؛ أي لتهتدوا بها إذا ضللتم الطريق في ظلمات القفار والبحار. فلو شاء اللّه أن يبيّن لنا كلّ ما خُبِّئ في تلك النجوم من الحِكَم لما كانت عقولنا لتستوعبها. فهو جلّ شأنه ليس بجاهل كي لا يحيط علماً بآثارها؛ غير أنّ الأهداف المُفصَح عنها في الآيات والروايات هي بمقتضى الحال الذي نزلت فيه الآية والمخاطَب الذي يسمعها، وإلاّ فلو اراد عزّ وجلّ بيان جميع الحقائق لتطلّب ذلك الإطناب والإطالة أوّلاً، ولاستعصى على المخاطَب إدراكها ثانياً، وإن لم يدركها لم يسعه الإفادة والانتفاع منها. ومن هذا المنطلق فلا ينبغي أن نتصوّر أنّ الأهداف المبيَّنة هي على نحو الحصر وأنّ اللّه قد فعل هذا الفعل من أجل الهدف الفلانيّ فحسب. فالأهداف المعلَنة

ص: 97


1- . سورة الأنعام، الآية 97.

ليست هي إلاّ جانباً من كلّ الأهداف وهي تبيَّن لنا كي تكون سبباً في تربيتنا ومدعاةً لانتفاعنا من تلك النعم. فلمّا كان القرآن الكريم (هُدىً لِلنَّاسِ)(1)وأنّ علينا أن نتّخذه الهادي لنا فينبغي أن يقول ما نفهمه كي يكون ذا أثر فينا. فإنّ العلّة من بيان هدف صغير واحد من بين أهداف متعدّدة هو أحياناً من أجل أن يتحقّق الغرض من بيان هذه الآية لاُولئك المخاطَبين.

ص: 98


1- . سورة البقرة، الآية 185.

المحور الثانی : التذكیر بمنزله الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) السامیه و صفاته و مسئولیاتنه واهدافه

اشارة

المحور الثانی : التذكیر بمنزله الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) السامیه و صفاته و مسئولیاتنه واهدافه(1)

النصّ:

و أشهد أنّ أبي محمداً عبده و رسوله، إختاره و انتجبه قبل أن أرسله، و سمّاه قبل أن اجتبله، و اصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونةٌ و بستر الأهاويل مصونةٌ، و بنهاية العدم مقرونةٌ.

علماً من اللَّه تعالى بمائل (بمآل) الأمور، و إحاطة بحوادث الدهور، و معرفةً بمواقع المقدور.

ابتعثه اللَّه إتماماً لأمره و عزيمةً على إمضاء حكمه و إنفاذاً لمقادير حتمه.

فرأى الأمم فرقاً في أديانها، عُكفاً على نيرآنها، (و) عابدةً لأوثانها، مُنكرةً للَّه مع عرفانها.

فأنار اللَّه بمحمدٍ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ظُلمها، و كشف عن القلوب بهمها و جلّى عن الأبصار غممها.

و قام في الناس بالهداية و أنقذهم من الغواية و بصَّرهم من العماية.

و هداهم إلى الدين القويم و دعاهم إلى الطريق المستقيم، ثم قبضة اللَّه

إليه قبض رأفةٍ و اختيارٍ و رغبةٍ و إيثارٍ، فمحمدٌ (صلی اللّه عليه وآله وسلم)ه عن (مِنْ) تعب هذه الدار في راحةٍ، قد حُف بالملائكة الأبرار، و رضوان الرب الغفار، و مجاورة الملك الجبار.

صلّى اللَّه على أبي نبيِّه و أمينه على الوحي و صفيِّه و خيرته من الخلق و رضيِّه و السلام عليه و رحمة اللَّه و بركاته(2)

«...وَأَشْهَدُ أَنَّ أَبِي مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اخْتَارَهُ قَبْلَ أَنْ أَرْسَلَهُ، وَسَمَّاهُ قَبْلَ أَنِ اجْتَبَاهُ، وَاصْطَفَاهُ قَبْلَ أَنِ ابْتَعَثَهُ، إِذِ الْخَلاَئِقُ بِالْغَيْبِ مَكْنُونَةٌ، وَ بِسَتْرِ الأَهَاوِيلِ مَصُونَةٌ، وَبِنِهَايَةِ الْعَدَمِ مَقْرُونَة».(3)

ص: 99


1- الزهراء (عليها السلام) سید نساء العالمین، ص108.
2- الزهراء (عليها السلام) سید نساء العالمین، ص115.
3- . بلاغات النساء، ص27؛ وبحار الأنوار، ج29، ص220.

بعد الشهادة بالتوحيد وبصفات اللّه عزّ وجلّ، تأتي مولاتنا الزهراء (عليها السلام) في هذه الخطبة الشريفة على ذكر الشهادة بالرسالة. نحن لدينا اطّلاع على معاني الألفاظ «أرسل»، و«ابتعث» أو «بعث»؛ فالإرسال يعطي معنى البعث، والبعث يعني الإيقاظ والنشر، غير أنّ القرآن الكريم يستعمل أوصافاً اُخرى للأنبياء مضافاً إلى تلك، مثل «الاختيار» و«الاصطفاء»، و«الاجتباء» التي تتقدّم في الرتبة على الإرسال والبعث. فالقرآن الكريم يقول في موسى (عليه السلام): (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ)(1)؛ أي اخترتك للنبوّة. وقد استُخدمت لفظة الاصطفاء في حقّ الكثير من الأنبياء أيضاً؛ نظير: (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَىٰ ءَادَمَ وَنُوحاً وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)(2). كما وقد استُعمل الفعل «اجتبى» أيضاً في المجال ذاته؛ إذ يقول عزّ من قائل في سورة آل عمران: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللّهَ يجَتَبِي مِنْ رُّسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ)(3). والألفاظ المذكورة، وإن أعطت جميعها في الفارسيّة معنى الاختيار والانتخاب، غير أنّ المعاني المأخوذة في كلّ منها في اللغة العربيّة مختلفة. «فالاصطفاء» مأخوذ من «الصفو»، وهو تصفية الشيء وجعله زلالاً. أمّا «الاجتباء» فمأخوذ من الاستخلاص وسحب عصارة الشيء. وأخيراً «الاختيار» الذي هو من مادّة «الخير»؛ وهو انتقاء الشيء بعنوان كونه خيراً.

هذه الأوصاف قد استُعملت في حقّ النبيّ الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً، بيد أنّ هناك اُموراً قد لوحظت في هذه الخطبة نرى من المهمّ الالتفات إليها. فالسيّدة الزهراء(عليها السلام) تؤكّد هنا أنّ الاختيار والاصطفاء قد سبقا الإرسال والبعث. وقد يتبادر إلى الذهن من هذا الكلام للوهلة الاُولى أنّ النبيّ الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد بُعث بالنبوّة في الأربعين من عمره الشريف، لكنّ اللّه قد اختاره واصطفاه قبل ذلك الحين ببضع سنوات. إلاّ أنّ الجمل التالية توحي بغير ذلك. دعوني استعرض في بادئ الأمر العبارات التي تلوتها في مطلع المحاضرة ومن ثمّ أتطرّق إلى شرحها.

ص: 100


1- . سورة طه، الآية 13.
2- . سورة آل عمران، الآية 33.
3- . سورة آل عمران، الآية 179.

تقول مولاتنا الزهراء (عليها السلام): «أَشْهَدُ أَنَّ أَبِي مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اخْتَارَهُ قَبْلَ أَنْ أَرْسَلَهُ، وَسَمَّاهُ قَبْلَ أَنِ اجْتَبَاهُ»؛ إذ تُطلق كلمة التسمية على عمليّة تعيين شخص لإنجاز مهمّة ما. «وَاصْطَفَاهُ قَبْلَ أَنِ ابْتَعَثَهُ»؛ والابتعاث هو البعث الذي يكون بحساب ودقّة. كما أنّها (عليها السلام) تبيّن في هذه العبارة أنّ الاصطفاء كان قبل البعثة؛ لكن كم من الوقت قبله؟ هي تقول: عندما كانت المخلوقات في هذا العالم غيباً مستوراً وشيئا مكنوناً وحينما كانت تسترهم حُجب عجيبة وسُتر مهولة فكانوا محفوظين ومصونين بها. أمّا العبارة الأخيرة «بِنِهَايَةِ الْعَدَمِ مَقْرُونَة» فقد فسّرها من قام بشرح هذه الخطبة كما يلي: لقد كانت الموجودات معدومة منذ الأزل وهذا العدم قد امتدّ إلى زمان نشوء هذا الوجود، وقد كانوا يوجَدون في آخر مرحلة من مراحل العدم. غير أنّ هناك احتمالاً آخر يبدو لي أقوى من سابقه وهو أنّ المراد من النهاية هو التأكيد علي كونها معدوميّة؛ بمعنى أنّه لم يكن ثمّة أيّ شيء حينذاك. على أيّة حال فهي (عليها السلام) تقول: «لقد اختار اللّه النبيّ واصطفاه وسمّاه للرسالة في الوقت الذي كانت فيه الخلائق في ذلك الوضع، ومن ثمّ بعثه للرسالة في هذا العالم في زمان معيّن».

نور رسول اللّه هو أوّل المخلوقات

لقد طرقت مسامعنا بعض الروايات التي تحمل مفاهيم من قبيل أنّ أنوار النبيّ الأعظم والأئمّة الأطهار (عليهم السلام) قد خُلقت قبل خلق هذا العالم. فقد جاء في الخبر عن جابر بن عبد اللّه أنّه قال: قلت لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم): ما هو أوّل شي ءٍ خلقه اللّه تعالى ؟ فقال: «نور نبيّك يا جابر»(1). ولعلّ بالإمكان القول إنّ مضموناً كهذا، وهو أنّ مخلوقاً باسم النور قد وُجد قبل خلق هذا العالم المحسوس وهو متّحد مع الوجودات المقدّسة للرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمّة الأطهار (عليهم السلام) ، قد تجاوز حدّ التواتر، بل وقد ورد حتّى في كتب الحديث عند أهل السنّة. غير أنّ إدراك حقيقة هذا المبحث هو غاية في الصعوبة؛ فنحن نقبل به تعبّداً من دون أن نفهم كنهَه. يعتقد البعض من السطحيّين في الفكر أنّ هذا النور هو أشبه بنور المصباح أو نور الشمس؛ غير أنّ التأمّل في الرواية يُظهر أنّ هذا النور يختلف تماماً عن تلك الأنوار. فالنور المنسوب إلى الوجودات المقدّسة للنبيّ الكريم والأئمّة الطاهرين عليهم السلام هو شيء خُلقت الجنّة من أشعّته،

ص: 101


1- . بحار الأنورا، ج15، ص24.

كما وخُلقت الملائكة، واللوح، والقلم، وما إلى ذلك منه أيضاً. ويزداد الوضع صعوبة بالنسبة لنا عندما نسمع أنّ هذا النور كان له من العلم ما يفوق العلوم التي في حوزتنا الآن؛ بل إنّ علوم جميع ما بعده من المخلوقات هو مستقىً منه، بل وإنّ الملائكة قد تعلّموا تسبيح اللّه منه كذلك!

بالطبع في ذلك الحين لم يكن ثمّة مكان، أو فضاء، أو زمان؛ لأنّ هذا النور كان أوّل المخلوقات. فأيّ نور هو هذا؟ إنّ عقولنا غير قادرة على إدراك ذلك لكنّ الذي يطمئن بال المرء هو أنّ اللّه قد عرّف نفسه بالنور أيضاً بقوله: (اللّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)(1). فنحن نعلم، على نحو القطع واليقين، أنّ اللّه ليس هو نوراً حسّياً. فذلك النور الذي خلقه من نوره لابدّ أن يكون من سنخه، وليس من سنخ هذه الأنوار المادّية والحسّية. إنّنا ننزّه نور اللّه من النقائص فنقول: إنّ اللّه هو نور، لكنّه ليس له حجم أو زمان أو مكان، وليس هو بحاجة إلى جوهر يقوم به، ولا هو ممّا يقبل التجزئة أيضاً؛ ونحن لا نفهم كنهه، مثلما أنّنا لا نفهم نور رسول اللّه أيضاً، وكلّ ما نعرفه بشكل إجماليّ من خلال الأحاديث هو أنّه يوجد لله مخلوق كهذا. فكلّ ما يمكننا نحن قوله هو أنّ هذا النور هو على جانب من الطهارة بحيث لو أردنا العثور في عالمنا المادّي هذا على شيء يكون شبيهاً له، فلابدّ أن نقول: هو مثل النور، وكما أنّ إضاءة أيّ جسم في هذا العالم محتاجة إلى النور فإنّ موجودات هذا العالم هي بحاجة إلى ذلك الموجود بنفس تلك الدرجة؛ فلابدّ أن يشرق ذلك النور عليها كي تشرق وتُنوَّر؛ إذ: (وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا)(2). جاء في الخبر أنّ ذلك النور الذي ينسبه اللّه سبحانه وتعالى إليه هو نور أهل البيت (عليهم السلام) . فهذه اُمور قد ذكرت في الأحاديث ونحن نشكر اللّه آلاف المرّات على أن جعل أسماعنا تألف مثل هذه المعارف. فهذه المعاني هي على مستوى من العظمة والسموّ حتّى أنّ مئات من الفلاسفة والحكماء يكونون قاصرين عن إدراك حقيقتها؛ اللّهمّ إلاّ اُولئك الذين أراهم اللّه ذلك النور حضوريّاً، من أمثال عليّ (عليه السلام)

ص: 102


1- . سورة النور، الآية 35.
2- . سورة الزمر، الآية 69.

الذي اُزيحت الحجب والستر من أمام ناظره حتّى قال: «لو كُشف الغطاء ما ازددتُ يقيناً»(1)، وهذا يعني انه ينفي الغطاء عن نفسه.

عالم النور

تقول سيّدتنا الزهراء (عليها السلام) : إنّ نبيّ الإسلام (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد اختير قبل إيجاد هذا العالم. لكن ما معنى «قبل» هنا؟ هل المقصود من ذلك يا ترى هو أنّه إذا كان عمر هذا العالم مثلاً- مليار سنة فهو قد اختير على سبيل المثال- سنة واحدة قبل هذا المليار من السنين؟ جاء في بعض الروايات بخصوص بعض موجودات ذلك العالم ما مضمونه أنّها قد خُلقت قبل ألفي عام. فهل هذا النور هو على هذه الشاكلة أيضاً؟ هل المراد من السنة هنا هو تلك الفترة المقدرة ب يوماً، أم إنّ لها معياراً آخر؟ ما نعرضه هنا بعنوان الاحتمال نابع من أنّ فهمنا عادة من هذه «القبلية» و«البعدية» هو «القبلية» و«البعدية» الزمانيّتين؛ لكنّ السؤال هو: هل كان ثمّة زمان قبل أن تُخلق جميع هذه الخلائق؟ فليس من المستبعَد أنّ هذه «القبلية» لا علاقة لها بالزمان؛ لاسيّما وأنّ ارتباط ذلك النور لا يقتصر على الموجودات التي هي علي الحدود بين العدم و الوجود؛ بل إنّه يشرق على جميع الموجودات إلى يوم القيامة. فعندما تكون جميعها مخلوقة من ذلك النور فهي ليست منفصلة عنه بل إنّ هذا النور حاضر فيها جميعاً.

إنّ الإحاطة بجميع الموجودات والحوادث التي هي الآن في طور الحدوث في هذا العالم تحتاج إلى مقدرة علميّة فائقة وواسعة جدّاً؛ لكنّه إذا افترضنا أنّ هناك موجوداً معيّناً يشاهد ما مضى من الحوادث بالضبط كما يشهد ما يجري حاليّاً منها، فإنّه من الشاقّ علينا بمكان إدراك ذلك. إنّ اعتقادنا باللّه تبارك وتعالى لا يقتصر على أنّه يعلم الحوادث الماضية والحاليّة فحسب، بل إنّ كلاًّ من الماضي والحاضر والمستقبل حاضر بالنسبة له عزّ وجلّ بنفس القوّة والدرجة؛ فليست القضيّة أنّه إذا أتى اليومُ فإنّ اللّه لن يرى الأمس والغد. فعِلم اللّه ليس علماً حصوليّاً وصورة ذهنيّة حتّى نقول: هو يعلم ما الذي كان بالأمس؛ بل إنّ كلّ ماضي العالم وحاضره ومستقبله هو حاضر عند اللّه؛ إذ «ليس عند ربّك صباح ولا مساء».

ص: 103


1- . غرر الحكم، ص120.

ومن أجل تقريب المسألة إلى الذهن ضرب عظماؤنا مثلاً لطيفاً فقالوا: إذا كنتَ جالساً خلف شباك يمرّ من أمامه قطيع أباعر بحيث لا يمكنك أن ترى أكثر من بعير واحد في كلّ مرّة ومن أجل رؤية البعير التالي فلابدّ أن يمرّ الذي قبله، فإنّك في حالة كهذه لا تستطيع رؤية البعير الثاني إلاّ عندما يكون الأوّل قد مرّ ولم يكن الثالث قد أتى بعدُ؛ ولهذا فإنّك لا ترى الأوّل والثالث. لكنّك إنْ صعدت إلى سطح الدار حتّى أشرفت على الطريق فإنّك سترى جميع الأباعر دفعة واحدة وستكون جميعها حاضرة بالنسبة إليك على الرغم من أنّ الأباعر نفسها تصدق «القبلية» و «البعدية» بالنسبة اليها أثناء مسيرها في الطريق. وهذا شبيه بالعالم الذي نعيش فيه فنحن نقيسه بمقياس النافذة التي نراه من خلالها، حيث وفقاً لهذا المقياس فإنّه عندما يكون الثاني لا يكون الأوّل موجوداً ولا يكون الثالث قد أتى بعد؛ لكنّه هناك عالم آخر مشرف على هذا العالم. فإذا تصوّرنا أنّ لعالم المحسوسات حدوداً وسقفاً، وأنّنا إذا تخطّينا تلك الحدود صرنا في عالم آخر محيط بهذا العالم، عندها لن يكون للعالم المحيط ما للعالم المحاط به من التقدّم والتأخّر.

من المؤكّد أنّكم سمعتم أنّ هناك من أولياء اللّه مَن يعلم بما مضى وما سيأتي من الوقائع. ليس هذا فحسب، بل إنّهم يشهدونها أيضاً. وتفسير ذلك هو أنّ روح الإنسان هي موجود يسمو على هذا القالب المادّي ولقد منحه اللّه من القدرة ما يتيح له تخطّي عالَم المادّة، حتّى يصل إلى مرحلة يشبه فيها ذلك الشخص المشرف على الطريق من على سطح الدار، فيكون الماضي والحاضر والمستقبل بالنسبة له سواسية. يُنقل عن نفر من كبرائنا أنّ بعض أولياء اللّه قد وُفّقوا بعد رياضات مضنية وعبادات مجهدة من مشاهدة يوم عاشوراء. فأيّ قدرة هي تلك؟ ومن أين لهم ذلك؟ التعبير القريب إلى أذهاننا هو قولنا: إنّ ذلك في اللوح المحفوظ، أو لوح المحو والإثبات. هذا اللوح ليس هو كالألواح العاديّة؛ بل هو عالَم تجتمع فيه كلّ تلك الاُمور في وقت واحد. فالذي يستطيع أن يتّصل بذلك المكان فسيتمكّن من مشاهدة جميع الأحداث الموجودة هناك.

فإن كانت هذه الفرضيّة التي قرّبها عظماؤنا إلى الأذهان صحيحة، وهي لا تبدو مستبعدة أيضاً، فإنّه عندما تأتي مولاتنا الزهراء (عليها السلام) لتقول: لقد اختار اللّه سبحانه وتعالى أبي قبل أن يبعثه للرسالة عندما لم تكن مخلوقات هذا العالم قد وُجدت بعد، فباستطاعتنا القول: إنّ ذلك النور الذي خلقه اللّه قبل خلق الخلائق كان في عالم آخر غير عالم الدنيا

ص: 104

هذا الذي نعيش فيه. فذلك العالم محيط بكلّ ما في هذا العالم. فالزمن هو جزء من عالم المادّة، وإنّ ذاك العالم هو فوق الزمن، وهو محيط به.

عالم المادّة هو شعاع من عالم النور

هناك ملاحظة ظريفة في هذا الباب يمكن استظهارها من بعض الآيات القرآنيّة، وهي أنّ كلّ ما في العالم الجسمانيّ إنّما هو بفضل العالم الفوقانيّ وليس هو إلاّ شعاعاً منه. يقول اللّه عزّ وجلّ في محكم كتابه العزيز: (وَإِنْ مِّنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ)؛(1) فكلمة: «عندنا» تشير إلى ذاك العالم الذي هو عند اللّه وليس عندنا. فهو جلّ وعلا يقول: إنّ كلّ ما تشاهدونه في هذا العالم فإنّ خزائنه عند اللّه وهو تعالى لا يُنزل من تلك الخزائن إلى هذا العالم إلاّ ضمن حدود معيّنة.

لعلّ هناك المئات من الروايات الواردة في كتب كلا الفريقين تبحث في أصل هذا العالم، وأنا أنقل لكم، على سبيل المثال، رواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول فيها: «إِنَّ اللّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَحَدٌ وَاحِدٌ تَفَرَّدَ فِي وَحْدَانِيَّتِهِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ فَصَارَتْ نُوراً، ثُمَّ خَلَقَ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ مُحَمَّداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وَخَلَقَنِي وَذُرِّيَّتِي، ثُمَّ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ فَصَارَتْ رُوحاً فَأَسْكَنَهُ اللّهُ فِي ذَلِكَ النُّورِ وَأَسْكَنَهُ فِي أَبْدَانِنَا، فَنَحْنُ رُوحُ اللّهِ وَكَلِمَاتُه»(2)؛ ومن الطبيعيّ أنّ الكلمة الاُولى التي قالها اللّه هنا هي عبارة: «قال له كن». كما ويُعلم من صيرورة الكلمة الثانية (التي قالها اللّه) روحاً أنّ ذلك النور هو غير الروح المتعلّقة بالأبدان في هذا العالم؛ أي إنّ مقامه أسمى حتّى من مقام الروح الإنسانيّة. فلقد أسكن اللّه الروح في ذلك النور حتّى خُلقت أبداننا وعندها حلّت الروح في أبداننا. وبناءً على ذلك، فإنّ قولها (عليها السلام) : اختار اللّه النبيّ قبل أن تصل الخلائق في عالم الغيب إلى مرحلة الشهود، يعني في عالم هو فوق هذه العوالم وهو ما يطلق عليه «عالم النور».

ص: 105


1- . سورة الحجر، الآية 21.
2- . بحار الأنوار، ج26، ص291.

التقديرات العلميّة والتقديرات العينيّة

«... وَاصْطَفَاهُ قَبْلَ أَنِ ابْتَعَثَهُ، إِذِ الْخَلاَئِقُ بِالْغَيْبِ مَكْنُونَةٌ، وَبِسَتْرِ الأَهَاوِيلِ مَصُونَةٌ، وَبِنِهَايَةِ الْعَدَمِ مَقْرُونَةٌ، عِلْماً مِنَ اللّهِ تَعَالَى بِمَآيِلِ الأُمُورِ، وَإِحَاطَةً بِحَوَادِثِ الدُّهُورِ، وَمَعْرِفَةً بِمَوَاقِعِ الْمَقْدُور، ابْتَعَثَهُ اللّهُ تَعَالَى إِتْمَاماً لأَمْرِهِ، وَعَزِيمَةً عَلَى إِمْضَاءِ حُكْمِهِ، وَإِنْفَاذاً لِمَقَادِيرِ حَتْمِه».

التفسير اللفظيّ لهذه الجمل هو كالتالي: لقد اختار اللّه النبيّ الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل أن يبعثه، في وقت كانت الخلائق فيه مستورة في غيب العالم وتغشاها حُجب عجيبة ومقرونة بنهاية العدم؛ ذلك أنّ اللّه عالم بخواتيم الأمور ومحيط بحوادث الدهور وعارف بمواقع المقدّرات، فقد بعثه في مثل هذا العالم بغية إتمام أمره، وتنفيذ حكمه، وإنفاذ تلك المقدّرات الحتميّة.

تشير السيّدة الزهراء (عليها السلام) في هذه العبارات إلى مرحلتين: المرحلة الاولى هي تلك التي سبقت خلق المخلوقات ولم يكن هناك إنسان بعد. فإنّ اللّه تعالى كان قد اختار نبيّه واصطفاه في تلك المرحلة تحديداً ليكون خاتماً للأنبياء. أمّا المرحلة الثانية فهي في هذا العالم؛ فبعد أن خُلقت السماوات والمجرّات والمنظومة الشمسيّة والأرض وباتت الأرض مستعدّة لاستقبال الكائنات الحيّة للعيش على سطحها فقد مرّت آلاف السنين قبل أن يبعث اللّه الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالرسالة. فالزهراء (عليها السلام) تقول تعبيراً عن هذه المرحلة: لقد بعثه اللّه كي ينفّذ عمليّاً ما كان قد قدّره مسبقاً. إنّه ليس من غير المناسب في مثل هذه الليلة، وهي واحدة من ليالي القدر، أن نتحدّث عن التقديرات الإلهيّة ونقدّم توضيحاً عن مواقعها وأين كانت، وما ترمي إليه ولماذا كانت، وكيف أوصل اللّه تعالى تلك التقديرات إلى حيّز الإمضاء والتطبيق. ومن أجل أن لا يتّسع البحث كثيراً فإنّني استعرض هذا التوضيح على نحو مفهرَس.

الأصل في كلمة القدر والتقدير هو القياس. فقد جاء في الخبر عن الإمام الهادي (عليه السلام) ما مضمونه أنّ التقدير عبارة عن هندسة العالم. ففي عالمنا البشريّ عندما نهمّ بالتأسيس لمشروع ضخم فإنّنا نقوم في البداية بتحديد الهدف المبتَغَى من ذلك. فعمل كهذا يحتاج إلى معلومات؛ ومن هنا فإنّ مرحلة العلم هي أوّل المراحل اللازمة لمقدّرات العمل. وفي الخطوة

ص: 106

التالية نقوم بدراسة المقدّمات الضروريّة لهذا المشروع. فإذا أخذنا كلّ تلك الاُمور في نظر الاعتبار فسوف يتولّد لدينا تصوّر كامل عن تصميم المشروع وعندها سيتسنّى لنا، على غرار هذا التصوّر، وضع الخطّة اللازمة لتنفيذه. فخطّة التنفيذ تمثّل المرحلة النهائيّة لمراحل الإعداد حيث لا يبقى بعدها إلاّ التوكّل على اللّه والبدء بتنفيذ خطّة المشروع على أرض الواقع. بالطبع نحن نعلم أنّ اللّه سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى مثل هذه المراحل كي ينجز كلّ واحدة منها في زمن معيّن. فالزمن أساساً ليس له أيّ دخل في أفعال اللّه عزّ وجلّ. إنّنا نحن الذين نحتاج بسبب ما نعانيه من الضعف الوجوديّ- إلى التفكير بشكل تدريجيّ، والتشاور مع الآخرين كي نضع تصميماً لمشروع معيّن ومن ثمّ نعِدّ الخطّة اللازمة لتنفيذه عمليّاً. فلو أمكننا تصوّر كلّ تلك المراحل في آن واحد فلن نكون بحاجة إلى الزمن حينئذ؛ لكن على أيّة حال فإنّ تلك المراحل تكون من الناحية العقليّة- مترتّبة إحداها على الاخرى؛ بمعنى أنّه حتّى لو أمكننا تصوّر أنّ جميع تلك المراحل تتحقّق في آن واحد فسيكون لها تقدّم وتأخّر أيضاً؛ أي بمعزل عن التقدّم والتأخّر الزمانيّين فإنّ هناك نوعاً آخر من التقدّم والتأخّر. فمثلاً عندما ندير المفتاح في قفل الباب فإنّ اليد والمفتاح يدوران مع بعضهما؛ لكنّ اليد هي التي تدير المفتاح وإنّ لحركة اليد ودورانها تقدّماً وجوديّاً على حركة المفتاح.

قد يتبادر إلى الذهن هنا السؤال التالي: إذا لم يكن فعل اللّه تعالى محتاجاً إلى زمن وهو عزّ وجلّ قادر على أن يقول للشيء كن فيكون، فلماذا إذن يقول عزّ وجلّ بخصوص خلق العالم: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)؟(1)

كما قد ذكرتُ في محاضرة سابقة فإنّ ذلك العالم الذي لا يخضع للزمان محيط بهذا العالم. فما دمنا في عالم الزمان فإنّنا ندرك هذا التأخّر والتقدّم في الزمن؛ لكنّه بالنسبة لله تعالى وهو المحيط بهذا العالم فإنّ جميع تلك الاُمور حاضرة عنده في آن واحد. فالمخلوق هو الذي يولَد في ستّة أيام، أمّا الأمر الإلهيّ فلا تدرّج فيه فهو (يقول له كن فيكون). فهذا التدرّج هو من شؤون المخلوق وليس من شؤون الخالق.

فمولاتنا الزهراء (عليها السلام) تتحدّث عن مرحلتين فيما يتعلّق باصطفاء النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبعثته بالرسالة، وهي تستخدم للمرحلة الاولى تعابير من قبيل اصطفاه، واجتباه، وسمّاه، وللمرحلة

ص: 107


1- . سورة الأعراف، الآية 54.

الثانية كلمات من أمثال أرسله، وابتعثه، وما إلى ذلك. فالمرحلة الاولى هي مرحلة العلم، وهذا المعنى فيما يخصّ فعل اللّه جلّ وعلا يطلَق عليه «التقدير العلميّ»؛ وهو يعني أنّه حتّى في عالم علمه سبحانه فإنّ اللّه عزّ وجلّ يقدّر الأشياء ويقيسها من جهة أنّه ما هو الأمر الذي يجب أن يقع، وفي أيّ موطن، وما هي المدّة الزمنيّة التي يحتاجها لذلك، وكم يتعيّن أن يكون حجمه، وما هي الامور التي ستتعلّق به، والخ. فهذا ضرب من التقدير لكنّه يكون في عالم العلم. أما عندما تُعَدّ خطّة التنفيذ ويبدأ العمل، فستكون لهذا الجانب من العمل مراحل وهو ما يدعى ﺑ«التقدير العينيّ». تقول سيّدتنا الزهراء (عليها السلام) هنا: «عِلْماً مِنَ اللّهِ تَعَالَى بِمَآيِلِ الأُمُورِ، وَإِحَاطَةً بِحَوَادِثِ الدُّهُورِ، وَمَعْرِفَةً بِمَوَاقِعِ الْمَقْدُور»؛ فلمّا كان اللّه يعلم بعواقب الامور، ويحيط بجميع الحوادث، ويعرف مواقع تلك المقدّرات فقد عيّن منزلة وموقع النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ذلك العالم بعنوان كونه خاتماً للأنبياء. فالكلام حتّى هذه اللحظة يدور حول العلم والمعرفة وهو ما ينطبق على التقدير العلميّ. لكنّه عندما ينزل جبرئيل (عليه السلام) على النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيقول له: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ»(1)فلن يعود هناك كلام عن العلم، بل ستكون هذه مرحلة التنفيذ، وتطبيق الخطّة، وإنزال المشروع إلى مستوى العينيّة؛ ومن هذا المنطلق فإنّ السيّدة الزهراء (عليها السلام) تبيّن هذه المرحلة بهذه الكيفيّة: «ابتعثه اللّه تعالى إتماماً لأمره، وعزيمةً على إمضاء حكمه»؛ أي إنّ اللّه قد بعث نبيّه ليُتمّ الأمر، لأنّه كان مصمّماً على إمضاء الحكم الذي أصدره في عالم العلم وتنفيذه في عالم العين: «وإنفاذاً لمقادير حتمه»؛ فما لم تصل المقدّرات إلى مراحلها النهائيّة فهي قابلة للتغيير. وعمل المهندس يشبه هذا أيضاً؛ فعندما يصل العمل إلى تمامه وتوضع آخر لبنة في البنيان يكون العمل قد اُنجز بتمامه. والمقدّرات الحتميّة هي الامور التي لا تقبل التغيير، وقد اُشير في القرآن الكريم إلى بعضها؛ فمثلاً يقول عزّ من قائل: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(2)؛ فهي إرادة اللّه الحتميّة في أن يُبعث النبيّ في آخر الزمان ويُظهر دينه ويجعله الغالب على كافّة الأديان، أو يقول: (وَلَقَدْ

ص: 108


1- . سورة العلق، الآية 1.
2- . سورة التوبة، الآية 33.

كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)(1)؛ أي نحن كتبنا في التوراة وفي الزبور ونقولها في القرآن أيضاً إنّ الذين سيرثون الأرض هم الصالحون. فهذا قضاء محتّم. تقول مولاتنا فاطمة (عليها السلام) : لقد بعث اللّه النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالرسالة من أجل أن تتحقّق هذه المقدّرات الحتميّة، فلو لم يُبعث رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في هذا العالم فلن تصل تلك المقدّرات إلى مستوى الحتميّة. إذن تلاحظون أنّ سيّدتنا فاطمة (عليها السلام) قد تبنّت اسلوبين في التعبير: فالحديث قبل البعثة يدور حول المقدّرات المتعلّقة بعالَم علم اللّه؛ وهي المقدّرات العلميّة. أمّا بعد البعثة فقد دار الكلام عن المقدّرات الحتميّة: «إنفاذاً لمقادير حتمه». ومن هنا نستنتج أنّ لدينا نمطين من التقدير؛ أحدهما في عالم علم اللّه تعالى، وثانيهما في عالم العين، وقد ذُكرت لكلا النمطين الكثير من المصاديق في الآيات القرآنيّة وفي الروايات على حدّ سواء. وحيث تمرّ علينا في هذه الأيّام ليالي القدر أرى من الضروريّ الالتفات إلى هذه النقطة وهي أنّ طائفة من التقديرات هي تقديرات علميّة وهي المكتوبة في اللوح المحفوظ ولوح المحو والإثبات. وإنّ قسماً من هذه التقديرات العلميّة هو غير حتميّ والقسم الآخر حتميّ؛ فعلى سبيل المثال عندما يعيَّن لشخص ما أجَلُه فسيكون له أجَل حتميّ وأجَل معلَّق ومشروط. كأن يكون أجله مشروطاً بالصدقة؛ فإن أعطى الصدقة طال أجله وإن لم يعطها قصُر. فهذا يتعلّق بالتقديرات القابلة للتغيير. لكنّ اللّه يعلم ما إذا كان هذا المرء سيعطي الصدقة في النهاية أم لا وكم سيكون عمره بسبب ذلك. فهذا النمط من التقديرات يمثّل التقديرات العلميّة الحتميّة، وإنّ التقديرات التي تبلغ مرحلة الحتميّة فهي ستصل إلى مرحلة القضاء. إذن أصبح لدينا مرتبتان في عالم العلم، التقدير العلميّ والقضاء العلميّ. وكذا الأمر بالنسبة لعالم العين فإنّ له مرحلتين أيضاً؛ مرحلة مشروطة واخرى حتميّة، والمرحلة الأخيرة هي التي يتمّ إمضاؤها؛ والإمضاء هو انقضاء وتمام الأمر من دون رجعة.

ارتباط البعثة مع التقديرات الحتميّة

وهنا يرد سؤال مفاده: ما هي العلاقة بين اختيار النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبين كون اللّه عالماً بأنّه أيّ مقدّرات ستكون وكيف ينبغي أن تقع؟ ومن أجل الإجابة على هذا السؤال علينا أن نفهم الهدف من خلقة هذا العالم. لقد سبق لنا القول إنّ الهدف الأساسي لله عزّ وجلّ من خلق

ص: 109


1- . سورة الأنبياء، الآية 105.

عالم الوجود هو أكمل ما يمكن أن يوجد في عالم الخلقة من الموجودات وهو الوجود المقدّس للنبيّ الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبما أنّ نور هذه الشخصيّة متّحد مع أنوار المعصومين الأربعة عشر (عليهم السلام) فإنّ اُولئك المعصومين الأربعة عشر هم في الحقيقة- الغاية الأساسيّة من وراء الخلقة ثمّ يتلوهم أكثر الناس شبهاً بهم وهم أنبياء اللّه وأولياؤه وخالص المؤمنين، أمّا الباقون فهم عيال على وجود هؤلاء. لكنّ اللّه لا يشيح بوجهه حتّى عن هؤلاء العيال. ليس هؤلاء فحسب، بل إنّهم إذا لم يذكروا اللّهَ سوى لحظة واحدة فهو لن يغضّ الطرف عن تلك اللحظة وسيمهّد لهم الأرضيّة لكي ينادوا اللّه ويلجأوا اليه. فمن بين المليارات من البشر الذين يعيشون على مرّ العصور من الممكن أن توجد ثلّة من الناس الصالحين واللّه يعلم كم من الأجيال لابدّ أن تأتي وتذهب كي يظهر إنسان صالح. فإنْ عَلِم اللّه تعالى بإمكانيّة ولادة إنسان صالح بعد أربعة أجيال من الناس الكفرة فإنّه سيهيّئ الأرضيّة لولادة هذا الجيل الرابع واستمراره بالحياة حتّى يولَد ذلك الإنسان المؤهّل لاكتساب نور اللّه تعالى. فهذه من ألطاف اللّه ورحمته التي لا نهاية ولا نفاد لها.

فما الذي ينبغي فعله في مرحلة العلم كي يصير الناس من عباد اللّه والسائرين على طريق قربه؟ فلابدّ بادئ الأمر أن يودَع في وجودهم ما يلزم لهذا الغرض. إذن ينبغي أن يجعل اللّه لهم عقلاً يمكنهم بواسطته التمييز بين الخير والشرّ. لكنّ اللّه جلّ شأنه يعلم أنّهم بحاجة مضافاً إلى العقل- إلى هادٍ آخر. فلو توفّر مَن يتولّى تربيتهم فقد تتكوّن بينهم وبين اللّه علاقة تكون السبب في استحقاقهم للجنّة. أمّا إذا لم يرسل اللّه إليهم الأنبياء فلن تكون عقولهم بمفردها كافية لبلوغها. هذه الامور هي من المباحث المرتبطة بمرحلة العلم، وهذا هو ما يسمّى بالتقدير العلميّ. إذن فمنذ اللحظة الاولى لوضع التصميم الابتدائيّ للخلقة كان لابدّ من أن تؤخذ بعيني الاعتبار قضية مهمة وهي أن تكون لمخلوقات أصيلة أيضاً مرتبةٌ من مراتب الوجود من أجل أن تكوّن روابط مع الآخرين بغية هدايتهم إلى سواء السبيل؛ ومن هنا فإنّ من الضروريّ أن تكون لهذه المخلوقات الأصيلة مراتب متنزّلة تتمثّل في وجوداتهم الجسمانيّة، كما ويتحتّم أن يكونوا في هذا الوجود مثل باقي البشر وإلاّ فلن يكون باستطاعتهم التعاون معهم والأخذ بأيديهم. كما يجب أن يكون لهذا الدليل والهادي ارتباط وثيق باللّه عزّ وجلّ: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللّهَ يجَتَبِي مِن رُّسُلِهِ

ص: 110

مَن يَشَاءُ)(1)؛ فأنتم لم تنالوا الأهليّة اللازمة كي يطلعكم اللّه على الغيب؛ لكنّه يوجَد من بين البشر من يملك تلك الأهليّة، وقد شاءت إرادة الباري تعالى أن يختار هؤلاء ويُظهر لهم الغيب. فلابدّ أن يأتي هؤلاء الذين هم من سنخكم كي يأخذوا بأيديكم ويهدوكم. وهنا تتجلّى فلسفة النبوّة أيضاً، وتتّضح الإجابة على سؤال هو: لماذا يرسل اللّه تعالى الأنبياء من أجل هداية البشر؟ ولماذا يوحي لهؤلاء ولا يوحي إلى الآخرين؟ والغرض من هذه المقدّمة هو أنّه يتعيّن في التصميم الابتدائيّ للخلقة، ومن أجل أن يجد الناس الذين سيولَدون بالتدريج بعد مليارات من السنين الأهليّة والاستعداد لتلقّي ما لا نهاية له من أصناف الرحمة الإلهيّة ولا نفاد له من أشكال السعادة الاخرويّة، يتعيّن أن تؤخذ بعيني الاعتبار قضية النبوّة، وإلاّ فسيتعطّل وجود سائر البشر ولن يصلوا إلى الهدف المرجوّ من وجودهم وإنّ في ذلك نقضاً للغرض ومخالفة للحكمة.

لقد اتّضح إلى هنا التكليف الواجب العمل به في عالم العلم. فما الذي ينبغي فعله في عالم العين؟ فمن أجل أن ينَفّذ على أرض الواقع ما قام الباري عزّ وجلّ بتصميمه وإعداده فإنّه قد بعث النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) «إتماماً لأمره، وعزيمةً على إمضاء حكمه، وإنفاذاً لمقادير حتمه»(2)

ص: 111


1- . سورة آل عمران، الآية 179
2- دروس الاخلاق المصباح الیزدی

التوحيد أصيل والشرك عَرَضيّ

«... فَرَأَى الأُمَمَ فِرَقاً فِي أَدْيَانِهَا، عُكَّفاً عَلَى نِيرَانِهَا، عَابِدَةً لأَوْثَانِهَا(1)، مُنْكِرَةً لِلَّهِ مَعَ عِرْفَانِهَا، فَأَنَارَ اللّهُ بِمُحَمَّدٍ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ظُلَمَهَا، وَكَشَفَ عَنِ الْقُلُوبِ بُهَمَهَا، وَجَلَى عَنِ الأَبْصَارِ

ص: 112


1- . یقول الإمام علي (عليه السلام) في الخطبة رقم 26 من نهج البلاغة :«إنَّ اللّه بعث محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نذيراً للعالمين، وأميناً على التنزيل ...» ثم يذكر عشر خصال لعرب الجاهلية. 1: «وأنتم معشر العرب على شرِّ دين» فإنَّ عبادة الأصنام هي أسوأ خرافة، كيف يمكن للإنسان أن ينحت صنماً ثم يسجد ويركع إليه ويناجيه ويطلب منه الطلبات؟ والأسوأ من ذلك كله هو أنّه يضحّي بولده لهذه الأصنام، وعند الجوع يأكل أصنامه التي صنعها من التمر. 2: «وفي شر دارٍ» فهم كانوا في دارٍ لم يحكمها السلام أبداً، فنار الحرب كانت مستعرة دائماً، وكانوا يصرون على النزاع والمخاصمة ويورثون الأحقاد لأولادهم، وكان الموت مصير من لم يستطع الانتقام من خصمه، وكانوا يوصون أولادهم بالانتقام. 3 و 4: «مُنيخون بين حجارةٍ خُشنٍ وحيَّات صُمٍّ» أي كانوا فقراء يعيشون بين الاحجار الصلبة والخشنة والحيات الخطرة التي كانت صماء لا تسمع، «فكانت الأرض فراشكم والسماء غطاءكم». 5: «تشربون الكدر» أي ما كانوا يشربون ماءً زلالًا بل ماؤهم كان وسخاً دائماً. 6: «وتأكلون الجشب» أي مأكولاتهم ما كانت لذيذة بل متواضعة ولا تلذ. 7: «وتسفكون دماءكم» فان عدم الأمن والأمان كان هو الحاكم آنذاك. 8: «وتقطعون الأرحام» فما كانوا يرحمون أولادهم فضلًا عن غيرهم، إنّ وأد البنات كان من عاداتهم. 9: «الأصنام فيكم منصوبة» أي أنَّها كانت منصوبة للاحترام والتبجيل والعبادة ... 10: «والآثام بكم معصوبة» أي كانوا قد غرقوا في وحل الذنوب والعصيانمن مقال الإمام يستفاد أن الفقر كان هو السائد، سواء كان بمعناه الديني أو الثقافي أو السياسي أو الاقتصادي أو الأمني ... فبعث اللّه في هذا الوسط- الذي كان ميتاً بكامل معنى الكلمة- رسولًا مع باقة من العلم والمعرفة. عندها التقى عرب الجاهلية ومسلمو صدر الإسلام مع العلم والمعرفة وما مرّ زمن طويل حتى تزعموا عالم العلم، ووفّروا الأرضية للحركة العلمية في اوروبا. وخلال أربعة أو خمسة قرون استطاع المسلمون أن يرشدوا الاوربيين نحو العلم. ورغم أنَّ المسلمين تزعموا العلم وكانوا روّاد الحركة العلمية في العالم، إلّا أنَّهم تخلفوا حالياً عن عجلة الصناعة والتقنية، وهم يمدون أيديهم الآن إلى الدول الأوروبية لارسال خبراء ومستشارين رغم ما يترك هذا الأمر من مضار أخلاقية واجتماعية ودينية. وعلى العلماء في الوقت الحاضر أن يشدوا الشباب بماضيهم المنير وأن يعرّفوا هذا الجيل بما أقرّ به الاوربيون للمسلمين من علوم واختراعات وابتكارات علمية قبل النهضة الاوربية ... وبتدريسهم هذه المطالب في الجامعات والمراكز العلمية سوف يحرّضون الشبان نحو النشاط الاكبر والأكثر فاعلية « امثال القرآن ص: مائه خمسه واربعین »

غُمَمَهَا، وَقَامَ فِي النَّاسِ بِالْهِدَايَةِ، وَأَنْقَذَهُمْ مِنَ الْغَوَايَةِ، وَبَصَّرَهُمْ مِنَ الْعَمَايَةِ، وَهَدَاهُمْ إِلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ، وَ دَعَاهُمْ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيم».

تقول مولاتنا الزهراء (عليها السلام) مشيرة إلى الحكمة من وراء بعثة الأنبياء ولاسيّما النبيّ الخاتم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : لقد تمّ الإعداد لبعثة نبيّ الإسلام (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل خلق هذا العالم فقد خلق اللّه سبحانه وتعالى نوره وعيّنه لمهمّة ختم الرسل. وحينما اقتضت الحكمة الإلهيّة بَعَثه عزّ وجلّ في هذا العالم للنبوّة من أجل أن يطبّق على أرض الواقع ذلك التصميم الذي وضعه سبحانه للخلقة، خصوصاً خلقة الإنسان.

وحينما بُعث الرسول الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالرسالة واجه مشهداً عالميّاً كان العالم فيه بأسره يخوض في بحر الضلالة والجهالة والإبهامات. فالناس قد تشتّت مذاهبهم أشدّ ما يكون التشتّت واختلفت آلهتهم حتّى عكفت كلّ فرقة منهم على إله تعبده؛ وفي خضم ذلك شاب الإبهام طريقَ اللّه المستقيم ولم يعرف طالبوا الحقيقة سبيل السعادة القويم؛ ومن أجل هذا فقد بُعث النبيّ الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لينهض بتلك المهمّة الخطيرة المتمثّلة بهداية الناس إلى الصراط المستقيم الذي يضمن لهم سعادة الدنيا والآخرة. وهذه هي خلاصة ما أستُهلّت به المحاضرة من كلام الزهراء (عليها السلام) .

ونرى أن ما هو مناسب لهذا البحث هو تحليل قضيّة افتراق الناس في أساليب العبادة وظهور أديان ومذاهب شتّى ومتضادّة. وبعض ما يمكن أن يطرح في هذا الصدد من أسئلة هو: منذ متى ظهر هذا الافتراق في الدين؟ وكيف وُلدت تلك الأديان والمذاهب المختلفة؟ وما هي الحلول التي خطّط لها الباري تعالى من أجل رفع مثل هذه الخلافات؟ وأخيراً ما هو الدور الذي اضطلع به نبيّ الإسلام (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مواجهة تلك الأديان والمذاهب المختلفة؟

التفسير المادّي لكثرة الأديان

هناك نظريّتان تبحثان في كيفيّة ظهور و تأسيس الأديان المختلفة. النظريّة الاُولى هي النظريّة التي يتبنّاها علماء الاجتماع؛ فمؤسّسو هذا العلم عموماً كانوا يتصفون بنزعات مادّية ولازال أكثر علماء الاجتماع الي الآن يحملون هذه الميول. يقول مؤسّس علم الاجتماع السيّد اوجست كُنت: ينقسم تاريخ حياة البشر إلى ثلاثة عصور: العصر الأوّل هو عصر الأساطير والسحر والشعبذة والدين. فالبشر في ذلك العصر لم يكونوا قد نالوا النصيب

ص: 113

الكافي من العلم وما كانوا قادرين على تفسير وجود الظواهر المختلفة؛ ومن أجل ذلك فقد كانوا يستندون إلى عوامل ما وراء المادّة في تفسيرهم لها. أمّا العصر الثاني فهو عصر ظهور الفلسفة. فلقد عمد الفلاسفة إلى إسناد تلك الظواهر إلى الصور النوعيّة فقالوا: إنّ العالم يُدار بواسطة تلك العوامل الغيبيّة الكامنة في قلب هذا العالم. وقد كان ذلك حتّى تطوّرت العلوم التجريبيّة وأقصت الفلسفة جانباً، وكلّما ازداد تطوّر العلم اتّضح المزيد من الحقائق، حتّى أدركنا أنّه لم يكن للأرواح، ولا للآلهة، ولا للعوامل الفلكيّة، ولا لغيرها أيّ دور يذكر في هذا المجال. لقد وضع كُنت الدينَ جنباً إلى جنب مع السحر والشعبذة والأساطير واعتبرها جميعاً منبثقة من مقولة واحدة. وقد ترعرع سائر علماء الاجتماع في بيئة من هذا القبيل.

ومن جملة المسائل التي يطرحها علم الاجتماع هي منشأ ظهور الدين حيث يدور البحث في هذا المجال حول أنّه هل كان البشر في بادئ الأمر يدينون بدين واحد ثمّ تشعّب بعدها إلى أديان شتّى، أم كانت هناك في البداية أديان متعدّدة وقد تمّ دمجُها فيما بعد مع بعضها لتصبح ديناً واحداً أو بضعة أديان؟ في عهد ما قبل الثورة الإسلاميّة ألقى أحد المجدّدين في الفكر، والذي كان يُعرف أحياناً كخبير في الشؤون الإسلاميّة، محاضرة مطوّلة في جامعة طهران تحت عنوان «التحليل الاجتماعي للشرك». تلخّصت هذه المحاضرة في أنّ البشر كانوا يعيشون في بادئ الأمر ضمن قبائل مختلفة وكان أفراد كلّ قبيلة يكنّون لرئيسها الاحترام. وبعد موت رئيس القبيلة كانوا أحياناً يتّخذون له رمزاً أو تمثالاً ويحتفظون به في مكان معيّن كتعبير عن احترامهم وإجلالهم له. وبمرور الزمان تحوّلت تلك التماثيل إلى أصنام، وشيئاً فشيئاً صارت لتلك الأصنام آداب ومناسك تحوّلت فيما بعد تدريجيّاً إلى ديانة خاصّة. من أجل ذلك فقد كان في البدء أديان كثيرة حيث كانت لكلّ قبيلة ديانة خاصّة تدين بها. لكنّه بعد التطوّر الذي شهدته الحضارة البشريّة وكما حاولوا التقرّب من بعضهم البعض في الاُمور السياسيّة والاجتماعيّة حتّى ضُمَّت المدن الصغيرة في مدينة كبيرة واحدة واُدغمت المدن إلى بعضها لتصبح دولة، فقد سعوا إلى الاتّحاد على صعيد الدين أيضاً فدُمجت الديانات المختلفة مع بعضها. ومن هنا فإنّ الخطّ البيانيّ يتّجه من الكثرة إلى الوحدة. وهذا هو أحد تفاسير ظهور الأديان حيث يرى أنّ الأديان بدأت من الكثرة واتّجهت نحو الوحدة.

ص: 114

التفسير الإلهيّ لكثرة الأديان

السبيل الاخري لتفسير هذه الكثرة هي الرجوع إلى المصادر الإسلاميّة والوحي والقرآن الكريم. فلننظر إذن ماذا يقول القرآن في هذا المجال. إنّ كلام القرآن الكريم يقع في الطرف المقابل تقريباً من كلام علماء الاجتماع. فعلى أساس التعاليم القرآنيّة فإنّ النوع البشريّ قد ظهر بخلق آدم وحوّاء (عليهما السلام) وأنّ آدم (عليه السلام) كان نبيّاً وموحّداً يعبد اللّه سبحانه وتعالى. ومن الطبيعيّ أنّه عندما يبلّغ هذا النبيّ للتوحيد وعبادة اللّه الواحد في مجتمعه الصغير المتكوّن من اُسرته فسوف ينتهج هؤلاء، الذين خُلقوا حديثاً، ويختارون نهج والدهم. والقرآن الكريم يصرّح بهذا الأمر في قوله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ِ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ)(1)؛ كما وقد جاء في الحديث الشريف: «كانوا قبل نوح امة واحدة علي فطرة اللّه»(2)؛ أي إنّ جميع البشر كانوا بادئ الأمر موحّدين. ثمّ يشير العزيز القدير إلى أنّ الاختلاف قد نشب بين البشر تدريجيّاً حتّى بعث اللّه الأنبياء كي يطرحوا منهاجاً للحياة البشريّة ويبيّنوا للبشر طريق السعادة. لكنّ فريقاً منهم، وبدافع البغي والتعالي والعدوان، كانوا قد أشاعوا الاختلاف في نفس هذا الدين الواحد الذي أنزله اللّه تعالى. ولا زال هذا الأمر مستمرّاً إلى يومنا هذا. فلقد انبثقت في كلّ من الأديان الكبيرة المئات من الفرق؛ فمذهب البروتستانتيّة في الديانة المسيحيّة لوحده قد تشعّب إلى خمسمائة فرقة أصليّة، وكذا الأمر في سائر المذاهب. يقول القرآن الكريم إنّ العامل الوحيد الذي يثير هذه الاختلافات هو تكالب مؤسّسي هذه الفرق على السلطة وحرصهم علي التعالي والبغي وهي امور تعود إلى الهوى الذي يؤدي الي تأسيس هذه الفرق: (فَمَا اخْتَلَفُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ)(3). فالقرآن الكريم يرى أنّ دين الحقّ كان واحداً، وأنّ جميع الأنبياء جاءوا ليبلّغوا نفس هذا الدين؛ بالطبع من الممكن أن يأتي أحد الأنبياء بأحكام معيّنة تتناسب مع زمانه فيأتي مَن بعدَه

ص: 115


1- . سورة البقرة، الآية 213.
2- . بحارالانوار، ج 11، ص 10، باب معني النبوة و علة بعثة الأنبياء.
3- . سورة الجاثية، الآية 17.

لينسخ بعض تلك الأحكام؛ إلاّ أنّ القرآن الكريم يُرجع جميع هذه الأديان إلى أصل واحد، واُسس ثابتة ويطلق عليها جميعاً اسم الإسلام. وقد كانت وصيّة الأنبياء عند رحيلهم عن الدنيا لذويهم ومقرّبيهم: (فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ)(1). غير أنّ القرآن يعدّ هذه الاختلافات مقصودة ويرى أنّها ناشئة عن البغي، والطغيان، والتعالي، والتكالب على متاع الدنيا واللّهث خلف السلطة وما إلى ذلك. فلو أنّهم غضوا الطرف عن تلك الاُمور لما نشب الاختلاف. فقد بيّن الأنبياء سبيل الحقّ بكلّ وضوح بحيث يتسنّى لكلّ طالب حقيقة أن يبلغها. غير أنّ البعض قد عمد إلى تعكير صفو المياه وتحريف دين الحقّ عن طريق إثارة الشبهات وإلقاء البدع. إذن حسب رأي القرآن الكريم فإنّ الرسم البيانيّ للاختلافات في الأديان يسير من الوحدة نحو الكثرة.

كيفيّة ظهور التحريفات

من اللافت للانتباه أنّ هذه التحريفات لم تكن في أوّل نشوئها على الشاكلة التي نراها عليها اليوم. فعلى سبيل المثال نجد اليوم أنّ الاعتقاد بالتثليث في الربوبيّة (الأب، والابن، وروح القدس) يشكّل ركناً من أركان المسيحيّة، بينما لم يكن لهذه المسألة وجود في المسيحيّة عند بزوغها كما وأنّها لم تظهر دفعة واحدة. ففي بادئ الأمر كان أتباع اليهوديّة، ثمّ تلاهم أتباع النصرانيّة، يستخدمون تعابير مجازيّة، كزعمهم أنّهم أبناء اللّه وأحبّاؤه: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ اللّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ)(2)، فهذا التعبير هو تعبير شكليّ ومجازيّ. فقد قالت اليهود في عُزَيْر الذي عاد إلى الحياة بعد مضيّ مائة عام على موته: إنّه ابن اللّه: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ)(3). وقد كان أولى بالمسيحيّين أن يدّعوا مثل هذا الادّعاء بالنسبة للمسيح (عليه السلام) إذ لم يكن له أبٌ جسمانيٌّ. لكنّ هذه الادّعاءات المجازيّة اتّخذت شيئاً فشيئاً طابع الجدّية حتّى صارت ركناً من أركان الدين. وقد حارب القرآن الكريم قضيّة اتّخاذ اللّه للولد محاربة شديدة. كما أنّهم عدّوا - من ناحية اخرى - الاُصول

ص: 116


1- . سورة البقرة، الآية 132.
2- . سورة المائدة، الآية 18.
3- . سورة التوبة، الآية 30.

الحقيقيّة للدين مجازاً فصاروا يؤوّلونها حتّى حذفوها بالتدريج. لذا فإنّهم قد مارسوا التحريف في الدين من جانبين. وفي زماننا الحاضر توجد أيضا مثل هذه النزعات ولابدّ من توخّي اليقظة والحذر في هذا المجال.

إنّ تصوّرنا الابتدائيّ اليوم عن عبادة الأصنام هو أنّ عُبّادها يعتقدون بأنّ تلك الأصنام هي التي خلقت العالم؛ غير أنّ المسألة ليست بهذه البساطة. فأغلب المبتلين بالشرك كانوا يقرّون بشكل أو بآخر بوجود الخالق الواحد. فالقرآن الكريم يقول على لسان عبّاد الأوثان: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّهِ زُلْفَى)(1)؛ أي إنّهم كانوا يعتقدون بوجود اللّه بعنوان كونه خالق السماوات والأرض. كما أنّ بعض عبدة الأوثان كانوا يعتقدون بأنّ لله بنات يحبّهن كثيراً وهنّ الملائكة. فكانوا يقولون: بما أنّنا لا نستطيع الاتّصال بهنّ فنحن نحترم هذه الأصنام لكونها رموزا تشير الي الملائكة؛ وإذ أنّ تلك الملائكة تُسَرّ من عملنا فإنّهم يشفعون لنا عند اللّه! وقد قيل أيضاً بخصوص عبدة النار في إيران: إنّهم يقدّسون النار بعنوان كونها رمزا للقداسة من أجل أن يرضى اللّه عنهم بسبب ذلك، ولم يكونوا يعتقدون بأنّ نفس هذه النار التي يضرمونها بأيديهم هي التي خلقت السماوات والأرض. بالطبع لقد كان هناك من لا يعتقد أصلاً بأيّ خالق بل يؤمن بنمط من أنماط النزعة الطبيعيّة، حيث يقول هؤلاء: «هذه الطبيعة كانت منذ الأزل مع كلّ ما فيها من تحوّلات، غير أنّ بإمكان بعض الأشخاص أن يكون لهم دور مؤثّر في تلك التحوّلات!». فنمرود وفرعون كانوا من جملة من قالوا بربوبية أنفسهم؛ لكنّهم ما كانوا يقولون بأنّ للعالم خالقاً. وخلاصة القول فليس معنى العبادة أنّ المعبود هو ذات الخالق.

التعدّدية الدينيّة؛ انحراف خطير

قد يصادف المرء أشخاصاً يحملون مثل هذه المعتقدات لكنّه يلاحظ عليهم النُّبْل وحبّ الخير للآخرين. فبعض المرتاضين، على سبيل المثال، يمشون حفاة الأقدام حاملين معهم مكنسة ناعمة يكنسون بها الطريق أمام أقدامهم باستمرار لئلاّ يطأوا نملة تمرّ من أمامهم!

ص: 117


1- . سورة الزمر، الآية 3.

فهم إلى هذا الحدّ يحترمون الكائنات الحيّة. فعندما يشاهد المرء أمثال هؤلاء يتساءل بينه وبين نفسه: ألا يكون أشخاص كهؤلاء مع ما يتمتّعون به من صفاء الروح من أهل الجنّة؟

علينا أن نعلم أنّه إذا عاش الإنسان في ظروف معيّنة بحيث تيقّن أنّ الطريق المعوَج الذي يسلكه هو الطريق الصحيح من دون أن يحتمل خلاف ذلك فهو مُستضعَف وقد يغفر اللّه له، بشرط أن لا يكون قد قصّر في تشخيص الحقّ ويكون قد عمل ضمن حدود فهمه وإدراكه. بيد أنّ البعض يروّج للفكرة القائلة بأنّ عَبَدة الأوثان ليس أنّهم طاهرون فحسب، بل إنّهم من أهل الجنّة أيضاً. فدعاة مذهب التعدّدية في الدين يصرّحون بأنّه ليس هناك امتياز للشيعة على السنّة ولا للسنّة على الشيعة؛ وليس هناك فضيلة للمسلم على الوثنيّ ولا للوثنيّ على المسلم فإنّ «الطرق إلى اللّه بعدد أنفاس الخلائق». فكلّ واحد من تلك المذاهب يمثّل الصراط المستقيم، وإنّ لدينا عددا كبيرا من الصراط المستقيم و ليس صراطاً واحداً. فهذه الطائفة من عُبّاد الأصنام يحترمون الأصنام لاعتقادهم بتأثير هذا الاحترام في حياتهم. ورغم أنّ اعتقاداً كهذا هو اعتقاد خاطئ لكنّه لا يسوّغ لنا اتّهامهم بأنّهم يعبدون إلهاً آخر.

إنّ هذه هي إحدى النزعات الانحرافيّة. وكما أشرتُ سابقاً فإنّ مسألة التثليث في المسيحيّة قد ابتدأت كضرب من المجاملة وقول المجاز. وشيئاً فشيئاً عندما شاهدوا أنّه ليس لعيسى (عليه السلام) أب، قالوا: عيسى ابن اللّه. لكن لاحظوا الكيفيّة التي تعامل بها القرآن الكريم مع هذه القضيّة. إذ كان يمكنه القول: «إنّ لقب ابن اللّه الذي أطلقه النصارى على عيسى لم يكن إلاّ لقباً شكليّاً ومجازيا وما كانوا يقصدون من ورائه أنّ اللّه هو أبو عيسى في الواقع». فلو كان تعامل القرآن في هذا المجال بهذه الكيفيّة لتوطّدت علاقاتنا مع المسيحيّين أكثر ولتحقّقت التعدّدية الدينيّة أبكر. لكنّ القرآن يقول في هذا الصدد: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَداً)(1). فالقرآن يقول في مقام الاحتجاج: فلننطلق من أصل مشترك واحد وهو أن لا نعبد إلاّ اللّه: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ)(2)، لكنّه يقول باُسلوب قاطع وحازم في مجال محاربة العقيدة الفاسدة: إنّ كلامكم هذا هو على

ص: 118


1- . سورة مريم، الآيتان 90 و91.
2- . سورة آل عمران، الآية 64.

جانب من الخطأ والقبح بحيث إنّ العالم بأسره يكاد يخرّ وينهار بسببه. فهل يسعنا مع هذه المعصية العظيمة أن نقول: إنّ هذه العقيدة تمثّل صراطاً مستقيماً كما تمثّل عقيدتنا نحن صراطاً مستقيماً أيضاً؟!

فصحيح أنّ القرآن الكريم يقول: (إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَٰرَىٰ وَالصَّٰبِئِينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)(1)، لكنّ هذه الآية لا تعني أنّه حتّى وإنْ بقي هؤلاء على لجاجتهم ولم يؤمنوا بنبيّ الإسلام - بعد بعثته بالرسالة، وإتمام الحجّة عليهم، وتجلّي حقيقة أنّ الدين الحقّ هو دين نبيّ الإسلام، وأنّ أحكام دينهم قد نُسخت - فإنّه لا فرق أيضاً بينهم وبين المؤمنين. فالآية ترمي إلى القول: إنّ اللّه يثيب المتّبع لأيّ دين إذا كان قد عمل بواجبه عندما كان يُراد منه اتّباع هذا الدين، لكنّه إذا لم يعمل طبقاً لتكليفه في حينها، فإنّه لن يذوق طعم السعادة حتّى وإن كان يُلَقّب بألقاب ضخمة ورنّانة.

علينا أن ندرك ونلتفت إلى أنّه من أهمّ واجباتنا هي مسألة الحفاظ على أصل الدين، والمذهب، والمعتقدات وإنّ العبء الأكبر فيما يتعلّق بهذا الواجب يقع على كاهل علماء الدين.

الظلم والتعالي عاملان لإنكار الحقّ

تصف الزهراء (عليها السلام) في هذه الخطبة أحوال الزمان في فترة بعثة النبيّ الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالرسالة؛ لكنّه لمّا كانت بغيتها تبيين خصوصيّات النبيّ وسمات خليفته من بعده فقد اكتفت بالإشارة إلى ما كان سائداً من أنماط الرذائل الدينيّة حينها.

تقول سيّدتنا الزهراء (عليها السلام) : «فِرَقاً فِي أَدْيَانِهَا» ففي زمان بعثة النبيّ كانت أديان الناس متفرّقة ومذاهبهم شتّى، «عُكَّفاً عَلَى نِيرَانِهَا»؛ فجماعة كانت عاكفة على عبادة النار في المعابد المخصّصة لذلك، «عَابِدَةً لأَوْثَانِهَا»؛ وطائفة يؤمّون معابد الأصنام لعبادتها، «مُنْكِرَةً لِلَّهِ مَعَ عِرْفَانِهَا»؛ وفرقة أنكرت اللّه بعد أن عرفته. ولعلّ في هذه الجملة إشارة إلى المعرفة الفطريّة باللّه تبارك وتعالى الموجودة عند جميع البشر، أو قد يراد منها معنى أرقى وهو أنّ

ص: 119


1- . سورة البقرة، الآية 62.

هؤلاء الناس، وعلى الرغم ممّا كانوا يتمتّعون به من أشكال المعرفة الظاهريّة التي أتمّت الحجّة عليهم، فقد أنكروا اللّه. إنّ من الصعب على المرء أن يصدّق بفرض كهذا؛ وهو أن ينكر الإنسان شيئاً على الرغم من معرفته به. لكنّ هذا ليس ممّا يثير العجب كثيراً؛ فنحن نشاهد في حياتنا اليوميّة نماذج من هذا القبيل، فقد يتفلّت المرء أحياناً من قبول الحقيقة مخافة أن يُخدش كبرياؤه، أو من أجل الحصول على مكسب معيّن أو التهرّب من مسؤوليّة ما. وقد ذكر القرآن الكريم نماذج من هؤلاء؛ فعندما بُعث موسى وهارون (على نبيّنا وآله و (عليهما السلام)) بالنبوّة وذهبا إلى فرعون يدعوانه، وقالا له: إنّنا من جانب اللّه ربّ العالمين، التفت فرعون إلى الملأ فقال: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيرْي)(1)، قال موسى (عليه السلام): (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَٰؤُلاَءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)(2)؛ أي إنّك تعلم يقيناً أنّ هناك ربّا للسماوات والأرض وأنّه هو الذي أوجد هذه المعجزات. فأيّهما كان يقول الحقيقة؟ إنّ من المسَلّم به أنّ موسى (عليه السلام) لا ينطق بالكذب؛ أي إنّ فرعون كان يعلم بذلك. إذن فلماذا أنكر؟ يقول عزّ من قائل: (وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً)(3). فهناك عاملان هما اللذان يدفعان البشر إلى إنكار ما يعرفونه؛ أحدهما التطاول على حقوق الناس ظلماً وعدواناً، والآخر محاولة التعالي على الآخرين والتسلّط عليهم. فهذان الدافعان النفسيّان من شأنهما أن يقودا المرء إلى إنكار ما يعرفه. وقد يوجد هذان العاملان فينا نحن أيضا؛ فحينما لا يقنع المرء بحقوقه، ويحبّ أن يقول للآخرين، سواء عن غير وعي أو عن نصف وعي أو عن وعي كامل: إنّني أفضل منكم! فهو في الحقيقة- ينكر حقّ الآخرين.

يقول القرآن الكريم: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً)(4)؛ فالسعادة الاُخرويّة هي من نصيب من لا يصبوا إلى التعالي على عباد اللّه عزّ وجلّ. فجذور جميع المفاسد الاجتماعيّة تكمن في رغبة الإنسان في العلوّ على الناس، وهذه الصفة هي من موجبات فساد المرء وتعاسته. فأمير المؤمنين (عليه السلام) يقول في هذا

ص: 120


1- . سورة القصص، الآية 38.
2- . سورة الإسراء، الآية 102.
3- . سورة النمل، الآية 14.
4- . سورة القصص، الآية 83.

المجال: «إنّ حبّ الرجل أن يكون رباط حذائه أفضل من رباط حذاء غيره هو من طلب العلوّ».(1) فإنّ ما جعل من فرعون فرعوناً هي خصلة التعالي والتعجرف تلك؛ فالباري عزّ وجلّ يقول في محكم كتابه الكريم: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ).(2)فأصل جميع المفاسد هو في تلك الكلمة. فإذا لم نحبّ أن نكون فرعونيّين فما علينا إلاّ أن ننأى بأنفسنا عن السعي خلف العلوّ والتكبّر وأن نجتهد، عوضاً عن ذلك، في أداء ما علينا من واجبات. نستخلص من ذلك أنّ قول الزهراء (عليها السلام) : «مُنكِرَةً للهِ مَعَ عِرفَانِها» ينطلق من هذه النقطة وهي على الرغم من معرفة البعض باللّه فلو انهم ارادوا طاعة اللّه فانّ رغبتهم في التعالي لن يتمّ اشباعها.

الحكمة، والموعظة، والجدال بالتي هي أحسن هي وسائل التعليم

إذن فما الذي كان ينبغي للنبيّ فعله في ظروف كهذه؟ «فَأَنَارَ اللّهُ بِمُحَمَّدٍ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ظُلَمَهَا، وَكَشَفَ عَنِ الْقُلُوبِ بُهَمَهَا، وَجَلَى عَنِ الأَبْصَارِ غُمَمَهَا» فقد بدّل اللّه بمحمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الظلمات إلى نور، ورفع الإبهامات عن القلوب، وأزاح الحجُب القاتمة عن الأبصار. «وَقَامَ فِي النَّاسِ بِالْهِدَايَةِ، وَأَنْقَذَهُمْ مِنَ الْغَوَايَةِ، وَبَصَّرَهُمْ مِنَ الْعَمَايَةِ»؛ فالسلاح الوحيد الذي يمكن استخدامه من أجل هداية الناس هو بيان الحقائق. لقد استخدم النبي في هذه السبيل ثلاثة أصناف من الأسلحة، فقد أمره القرآن في هذا المجال بهذا الأمر: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(3)؛ فهو يأمره أوّلاً بأن يُشفع حديثه بالدليل المتقن كي لا يتسنّى للناس إنكار كلامه بسهولة. لكنّ هذا الاُسلوب غير كاف لوحده من أجل تربية الناس؛ ذلك أنّه أوّلاً: ليس لجميع الناس القدرة على التمييز بين الدليل الصحيح والغير الصحيح، وثانياً: قد تقبل أذهانهم بالدليل من دون أن تميل إليه

ص: 121


1- . عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: «إنّ الرجل ليُعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها أي تحت الآية: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً»، (تفسير نور الثقلين، ج4، ص144).
2- . سورة القصص، الآية 4.
3- . سورة النحل، الآية 125.

قلوبهم. لهذا فلابدّ من القيام بما من شأنه أن يحفّز دوافع الناس إلى القبول بالحقّ، والموعظة هي التي تتصدّى لهذا الدور الخطير. فالموعظة تحرّك الأحاسيس والعواطف وتحفّز لدى المرء الدافع للعمل بما يعلم والاجتهاد في سبيل فهم الحقيقة. فالموعظة تتعامل مع القلوب أمّا الاستدلال فيخاطب الأذهان والعقول. لكنّ الأمر لن ينتهي بالموعظة أيضاً. فقد تُطرح في مقابل الأدلّة المتقنة شبهات تجعل عمليّة القبول بالدليل عسيرة، وهذا ما يُبتلى به شبابنا اليوم أشدّ الابتلاء. فقد أدرك الأعداء أنّ المانع الوحيد الذي يقف أمام تقدّمهم وتسلّطهم الظالم على العالم هو الإسلام، وأنّ الرمز الذي يمثّل الإسلام في عصرنا الحاضر هو ولاية الفقيه؛ ولهذا فهم يسعون بشتّى الوسائل للنيل منها ومحوها من الوجود. لكن كيف يجب التعامل مع هذه المعضلة؟ فمن أجل محاربة هذه الظاهرة يتحتّم علينا طرح الشبهات والإجابة عليها بغية إقناع الطرف المقابل؛ وهذا هو ما يُدعى ب«الجدال». فالمراد من الآية: «وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» هو: ينبغي ان تطرح الشبهات، ثمّ تجيب عليها حتّى يقتنع المخاطب بكلامك. فقد لا يكون الجواب المعطى برهانيّاً لكنّه يكون مُقنعاً للطرف المقابل، وهذا هو الجدال بالتي هي أحسن.

فهذه الطرق الثلاثة هي التي يمكن من خلال الإفادة منها رفد الناس بالرؤية الصائبة أو إتمام الحجّة عليهم على الأقل. ولحدّ هذه اللحظة فإنّ كلامنا ما زال يدور حول أصل الإسلام وتوضيح الدور الأوّلي للنبيّ الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مواجهته للظلمات وبُهَم الشبهات؛ أمّا المسائل المتعلّقة بإدارة المجتمع الإسلاميّ وتنفيذ أحكام الإسلام الاجتماعيّة فإنّها تُطرح بعد أن يعتنق مجموعة من الناس الإسلام وبعد أن يعتقدوا بالأحكام الاجتماعيّة له. وحينئذ فقط يأتي الدور لطرح المباحث الاُخرى.(1)

«ثم قبضه اللّه»

« ثُمَّ قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ قَبْضَ رَأْفَةٍ وَ اخْتِيَارٍ وَ رَغْبَةٍ وَ إِيْثَارٍ فَمُحَمَّدٌ(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مِنْ تَعَبِ هَذِهِ الدَّارِ فِي رَاحَةٍ قَدْ حُفَّ بِالْمَلَائِكَةِ الْأَبْرَارِ وَ رِضْوَانِ الرَّبِّ الْغَفَّارِ وَ مُجَاوَرَةِ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ صَلَّى اللَّهُ عَلَى أَبِي ...

ص: 122


1- . دروس الاخلاق المصباح الیزدی.

بعد شهادة السيّدة الزهراء(عليها السلام) برسالة أبيها (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبيان الدور الذي نهض به في هداية الناس تقول: «ثُمَّ قَبَضَهُ اللّهُ إِلَيْهِ قَبْضَ رَأْفَةٍ وَاخْتِيَارٍ، وَرَغْبَةٍ وَإِيْثَارٍ». وقد ذهب بعض شُرّاح الخطبة الشريفة إلى أنّ الرغبة والإيثار في كلامها (عليها السلام) كانا من جانب النبيّ الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمعنى: انّ اللّه قد قبض روحه برأفة وهو قد نبذ الدنيا ورجّح الحياة عند اللّه على الحياة الدنيا؛ أي لم تكن ثمّة بوادر عدم الرضا عند أيٍّ من الطرفين. فاللّه عزّ وجلّ من جهة- أراد أخذه من عالم الدنيا وإنقاذه من ابتلاءاته، وهو أيضاً من جهة اخرى - كان راغباً في الإياب إلى اللّه مختاراً له. ثمّ تُضيف (عليها السلام) : فقد ارتاح أبي من تعب هذه الدنيا وهو محاط بملائكة اللّه الأبرار ومشمول برضوان الربّ الغفّار ليذهب إلى جوار الإله المتعال. ثمّ تصلّي بعد ذلك على أبيها بهذه الكيفيّة: «صَلَّى اللّهُ عَلَى أَبِي نَبِيِّهِ وَأَمِينِهِ عَلَى الْوَحْيِ وَصَفِيِّهِ وَخِيَرَتِهِ مِنَ الْخَلْقِ وَرَضِيِّهِ، وَالسَّلامُ عَلَيْهِ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُه».(1)

ویقول الامام علی(عليه السلام) : ولَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَى صَدْرِي. ولَقَدْ سَالَتْ نَفْسُهُ فِي كَفِّي، فَأَمْرَرْتُهَا عَلَى وَجْهِي. ولَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ وَالْمَلَائِكَةُ أَعْوَانِي، (2)

أشار الإمام (عليه السلام)إلى الفاجعة الأليمة لرحيل النّبي الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وضجيج الملائكة التي تكشف عن عظم هذا المصاب الجلل.

وتبدو هذه الحادثة أعظم خطورة حين تتزامن مع سائر الرزايا والأحداث والتي تكشف دراستها عن مدى عمق تلك الفاجعة.

ورأينا من الأفضل أن نترك العنان لقلم «الشهرستاني» أحد علماء القرن السادس صاحب كتاب الملل والنحل والمعروف بتعصبه للعامّة لنرى ما ذكره بهذا الخصوص فقد أشار إلى عشرة اختلافات مهمّة كلّ واحدة منها تعدّ مصيبة للعالم، وإن سعى لتبريرها تحت ذريعة اجتهاد الصحابة، ولكن تلك الأعمال كانت على درجة من

الوضوح في شناعتها بحيث تأبى التبرير بالاجتهاد أو الخطأ.

الاختلاف الأوّل في النزاع الذي حدث عند النّبي الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مرضه حيث روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس أنّ النّبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال حين اعتل:

ص: 123


1- . دروس الاخلاق المصباح الیزدی.
2- . الخطبه 197.

«إيتُونى بِدَواةٍ وقِرْطاس أكْتُبُ لَكُمْ كِتاباً لا تَضِلُّوا بَعْدي».

قال عمر:

«إنّ رسول اللَّه غلب عليه الوجع (وما يقوله خارج عن الوعي) حسبنا كتاب اللَّه».

فاشتد نزاع الصحابة فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم):

«قُومُوا عَنّي لا يَنْبَغى عِنْدي التَّنازُعُ».

قال ابن عباس بعد نقله لهذا الحديث:

«الرَّزِيَّةُ كُلُّ الرَّزِيَّهِ ما حالَ بَيْنَنا وبَيْنَ كِتابِ رَسُولِ اللَّهِ»(1).

ثم تطرق إلى الاختلاف الثاني في مرض رسول اللَّه أيضاً حين قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم):

«جَهِّزُوا جيشَ أُسامَةَ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ»

فقال البعض علينا إمتثال أمر النّبي، وكان أسامة خارج المدينة يتأهب للحركة نحوالشام للقضاء على فتنتهم، وقال البعض الآخر غلب الوجع على النّبي ولا نطيق مفارقته.

والاختلاف الثالث حين وفاة النّبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث قال عمر:

«مَنْ قالَ أَنَّ مُحَمّداً قَدْ ماتَ قَتَلْتُهُ بِسَيْفي هذا وإِنَّما رُفِعَ إلَى السَّماءِ كَما رُفِعَ عيسى (عليه السلام) ».

وقال أبوبكر: من كان يعبد محمّداً فإنّ محمّداً قد مات، ومن كان يعبد ربّ محمد فانّه حي لا يموت ثم تلى هذه الآية: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ ...»(2).

فقبل الناس منه وقال عمر: كأنّي لم أسمع هذه الآية إلّاالآن (3).

والاختلاف الرابع في موضع دفن النّبي حيث أراد المهاجرون دفنه في مكة، بينما أراد الأنصار دفنه في المدينة لأنّها دار الهجرة، ورغبت فئة ثالثة بدفنه في بيت المقدس حيث

ص: 124


1- . صحيح البخاري، كتاب العلم، ح 114 وكتاب المرضى، ح 5669.
2- . سورة آل عمران، الآية 144.
3- . جاء في تاريخ الطبري أنّه لما حضرت رسول اللَّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الوفاة، كان أبوبكر في موضع« سُخ» في أحد أطراف المدينة، وحين توفي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نهض عمر وقال: يظن بعض المنافقين أنّ رسول اللَّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد مات، واللَّه إنّه لم يمت وإنّما رفعه اللَّه إليه، كما غاب موسى عن قومه أربعين ليلة ثم عاد( وسوف يعود رسول اللَّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)) فلمّا علم أبوبكر ذهب إلى بيت النّبي فعلم بوفاة النّبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ورجع إلى المسجد وكان عمر ما زال يحدث الناس فقاطعه أبوبكر وقال ما ورد سابقاً.( تاريخ الطبري، ج 2، ص 442 حوادث سنة 11).

الأنبياء ثم اتفقوا جميعاً على دفنه في المدينة، ويعتقد البعض أنّ هدف عمر من هذا الكلام هو اشغال الناس حتى يحضر أبوبكر وتتمّ له الخلافة.

حيث روي عنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنّه قال:

«الأَنْبِياءُ يُدْفَنُونَ حَيْثُ يَمُوتُونَ»(1).

وبرز الاختلاف الخامس في الخلافة والذي عدّه الشهرستاني من أهم الخلافات حيث قال:

«اذْ ما سُلَّ سيفٌ فِي الْاسْلامِ عَلى قاعِدَة دِينيّة مِثْلَ ما سُلَّ عَلَى الْامامَةِ في كُلِّ زَمان».

ثم نقل قصّة سقيفة بني ساعدة وماحدث فيها من اختلافات وبالتالي بيعة أبي بكر.

واعتبر الخلاف السادس قضية فدك وأشار فيه إلى خطبة فاطمة الزهراء (عليها السلام) حيث طالبت بها كهبة من النّبي أو ميراث، فاحتج عليها أبوبكر بالحديث (الموضوع)

«نَحْنُ مَعاشِرَ الأَنْبِياءِ لا نُوَرِّثْ، ما تَرَكْناهُ صَدَقَةٌ».

ثم أشار إلى الاختلاف السابع بشأن مانعي الزكاة الذي اعتبرهم البعض كفرة بينما لم يكفرهم البعض الآخر والاختلاف الثامن نص أبوبكر على خلافة عمر حين وفاته فقال له الناس: «وَلَّيْتَ عَلَيْنا فظّاً غَليظاً» ؛ بينما استجاب له سائر الناس.

والاختلاف التاسع في الشورى التي نصبها عمر لتعيين الخليفة من بعده، والاختلاف العاشر الذي حدث على عهد أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بعد أن بايعته الأُمة على الخلافة، فأثار طلحة والزبير وعائشة، فتنة الجمل، ومعاوية، صفين، والخوارج، النهروان (2).

ص: 125


1- . ورد في المصادر الروائية لأهل البيت (عليهم السلام) أنّ عليّاً (عليه السلام) قال: إنّ أشرف موضع هو الموضع الذي قبض فيه اللَّه نبيّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)؛ ومن هنا دفن في بيته.( الكامل البهائي، ج 1، ص 285، تأليف عماد الدين الطبري).
2- . الملل والنحل للشهرستاني، ص 16- 19، طبعة دار الفكر بيروت، (بتلخيص)؛ (نفحات الولایه، ج7 ، ص 507)

المحور الثالث : كتاب اللَّه و فلسفة الأحكام

اشارة

النص:

ثُمَّ الْتَفَتَتْ (عليه السلام) إِلَى أَهْلِ الْمَجْلِسِ وَ قَالَتْ :

أَنْتُمْ عِبَادَ اللَّهِ نُصْبُ أَمْرِهِ وَ نَهْيِهِ، وَ حَمَلَةُ دِينِهِ وَ وَحْيِهِ، وَ أُمَنَاءُ اللَّهِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَ بُلَغَاؤُهُ إِلَى الْأُمَمِ.

وَ زَعِيمُ حَقٍّ لَهُ فِيكُمْ، وَ عَهْدٌ قَدَّمَهُ إِلَيْكُمْ.

وَ بَقِيَّةٌ اسْتَخْلَفَهَا عَلَيْكُمْ كِتَابُ اللَّهِ النَّاطِقُ، وَ الْقُرْآنُ الصَّادِقُ، وَ النُّورُ السَّاطِعُ، وَ الضِّيَاءُ اللَّامِعُ بَيِّنَةٌ بَصَائِرُهُ، مُنْكَشِفَةٌ سَرَائِرُهُ، مُنْجَلِيَةٌ ظَوَاهِرُهُ، مُغْتَبِطَةٌ بِهِ أَشْيَاعُهُ، قَائِدٌ إِلَى الرِّضْوَانِ أَتْبَاعُهُ مُؤَدٍّ إِلَى النَّجَاةِ اسْتِمَاعُهُ، بِهِ تُنَالُ حُجَجُ اللَّهِ الْمُنَوَّرَةُ، وَ عَزَائِمُهُ الْمُفَسَّرَةُ، وَ مَحَارِمُهُ الْمُحَذَّرَةُ، وَ بَيِّنَاتُهُ الْجَالِيَةُ وَ بَرَاهِينُهُ الْكَافِيَةُ، وَ فَضَائِلُهُ الْمَنْدُوبَةُ، وَ رُخَصُهُ الْمَوْهُوبَةُ وَ شرايعه شَرَائِعُهُ الْمَكْتُوبَةُ.

فَجَعَلَ اللَّهُ الْإِيمَانَ تَطْهِيراً لَكُمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَ الصَّلَاةَ تَنْزِيهاً لَكُمْ عَنِ الْكِبْر،ِ وَ الزَّكَاةَ تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ، وَ نَمَاءً فِي الرِّزْق، وَ الصِّيَامَ تَثْبِيتاً لِلْإِخْلَاصِ، وَ الْحَجَّ تَشْيِيداً لِلدِّينِ، وَ الْعَدْلَ تَنْسِيقاً لِلْقُلُوبِ، وَ طَاعَتَنَا نِظَاماً لِلْمِلَّةِ، وَ إِمَامَتَنَا أَمَاناً الفُرقة (لِلْفُرْقَةِ)، وَ الْجِهَادَ عِزّاً لِلْإِسْلَامِ، وَ الصَّبْرَ مَعُونَةً عَلَى اسْتِيجَابِ الْأَجْرِ، وَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعَامَّةِ، وَ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ وِقَايَةً مِنَ السُّخْطِ، وَ صِلَةَ الْأَرْحَامِ مَنْمَاةً لِلْعَدَدِ، وَ الْقِصَاصَ حَقْناً لِلدِّمَاءِ وَ الْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ تَعْرِيضاً لِلْمَغْفِرَةِ وَ تَوْفِيَةَ الْمَكَايِيلِ وَ الْمَوَازِينِ تَغْيِيراً لِلْبَخْسِ، وَ النَّهْيَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ تَنْزِيهاً عَنِ الرِّجْسِ، وَ اجْتِنَابَ الْقَذْفِ حِجَاباً عَنِ اللَّعْنَةِ وَ تَرْكَ السَّرِقَةِ إِيجَاباً لِلْعِفَّةِ وَ حَرَّمَ اللَّهُ(1) الشِّرْكَ إِخْلَاصاً لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ فَ (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ

ص: 126


1- . جاء في نسخة أخرى« حرم الشرك».

وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(1) وَ أَطِيعُوا اللَّهَ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَ نَهَاكُمْ عَنْهُ فَإِنَّهُ (إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماء)(2)

كتاب اللّه

«... ثُمَّ الْتَفَتَتْ إِلَى أَهْلِ الْمَجْلِسِ، وَقَالَتْ: أَنْتُمْ عِبَادَ اللّهِ نُصُبُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَحَمَلَةُ دِينِهِ وَوَحْيِهِ، وَأُمَنَاءُ اللّهِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَبُلَغَاؤُهُ إِلَى الأُمَمِ حَولَكُمْ، وَزَعِيمُ حَقٍّ له فِيكُمْ، وَعَهْدٌ قَدَّمَهُ إِلَيْكُمْ، وَبَقِيَّةٌ اسْتَخْلَفَهَا عَلَيْكُمْ، كِتَابُ اللّهِ النَّاطِقُ، وَالْقُرْآنُ الصَّادِقُ، وَالنُّورُ السَّاطِعُ، وَالضِّيَاءُ اللاّمِعُ، بَيِّنَةٌ بَصَائِرُهُ، مُنْكَشِفَةٌ سَرَائِرُهُ، مُتَجَلِّيَةٌ ظَوَاهِرُهُ، مُغْتَبِطَةٌ بِهِ أَشْيَاعُه، قَائِدٌ إِلَى الرِّضْوَانِ اتِّبَاعُهُ، مُؤَدٍّ إِلَى النَّجَاةِ اسْتِمَاعُهُ، بِهِ تُنَالُ حُجَجُ اللّهِ الْمُنَوَّرَةُ، وَعَزَائِمُهُ الْمُفَسَّرَةُ، وَمَحَارِمُهُ الْمُحَذَّرَةُ، وَبَيِّنَاتُهُ الْجَالِيَةُ، وَبَرَاهِينُهُ الْكَافِيَة»

تنقسم الخطبة المباركة لسيّدتنا الزهراء (عليها السلام) إلى بضعة أقسام عامّة، القسم الأوّل منها يتضمّن الحمد لله والثناء عليه والشهادة برسالة النبيّ الخاتم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع بيان الدور الذي نهض به (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في هداية الناس، وهو ما تمّ توضيحه لحدّ الآن. ثمّ توجّه (عليها السلام) خطابها إلى الناس لتعرّج، بعد توضيح المسؤوليّات الملقاة على عاتقهم، على بيان بعض أوصاف القرآن الكريم وجانب من أسراره العامّة، وهذا بمجموعه يشكّل القسم الثاني من الخطبة.

ص: 127


1- . سورة آل عمران، آية 102.
2- . سورة فاطر، آية 28. «الزهراء (عليها السلام) سید نساء العالمین، ص119.

العبوديّة لله؛ أوّل حقّ لله علينا

العبوديّة لله؛ أوّل حقّ لله علينا(1)

«أَنْتُمْ عِبَادَ اللّهِ نُصُبُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ». كان يمكن للزهراء (عليها السلام) عوضاً عن قولها: «عباد اللّه» أن تقول: «أيّها المؤمنون»، أو: «أيّها المهاجرون والأنصار»؛ لكنّها قالت: «عباد اللّه»، ولعلّ الالتفاتة من وراء هذا الاختيار هي تنبيه القوم بدايةً إلى مسؤوليّتهم المتمثّلة في العبوديّة قائلة لهم: يجب على العبد أن يكون مطيعاً لمولاه. فليست القضيّة أنّكم مستقلّون، وبوسعكم التصرّف وفقاً لرغباتكم، وتأمير من تشاءون من الخلق عليكم، بل يجب أن تنظروا فيما كلّفكم اللّه تعالى به.

«النُّصُب» هي جمع «نُصْب» وهو ما برز أمام العين، ونَصْب العلامة أيضاً مشتقّ من هذه المادّة حيث قد تكون له مآرب شتّى؛ فحيناً يتمثّل بعلامات المرور المنصوبة في الشوارع من أجل هداية مستخدمي الطرُق والشوارع إلى مقاصدهم، وطوراً تُستعمل في السباقات لإظهار خطّ النهاية؛ وقد استُخدمت في القرآن الكريم بهذا المعنى حيث يقول

ص: 128


1- . [في العبودية] قَالَ الصَّادِقُ (عليه السلام) الْعُبُودِيَّةُ جَوْهَرٌ كُنْهُهَا الرُّبُوبِيَّةُ فَمَا فُقِدَ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ وُجِدَ فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَ مَا خَفِيَ عَنِ الرُّبُوبِيَّةِ أُصِيبَ فِي الْعُبُودِيَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ أَيْ مَوْجُودٌ فِي غَيْبَتِكَ وَ فِي حَضْرَتِكَ وَ تَفْسِيرُ الْعُبُودِيَّةِ بَذْلُ الْكُلِّ وَ سَبَبُ ذَلِكَ مَنْعُ النَّفْسِ عَمَّا تَهْوَى وَ حَمْلُهَا عَلَى مَا تَكْرَهُ وَ مِفْتَاحُ ذَلِكَ تَرْكُ الرَّاحَةِ وَ حُبُّ الْعُزْلَةِ وَ طَرِيقَةُ الِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ النَّبِيُّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ وَ حُرُوفُ الْعَبْدِ ثَلَاثَةٌ عبد فَالْعَيْنُ عِلْمُهُ بِاللَّهِ وَ الْبَاءُ بَوْنُهُ عَمَّنْ سِوَاهُ وَ الدَّالُ دُنُوُّهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِلَا كَيْفٍ وَ لَا حِجَابٍ وَ أُصُولُ الْمُعَامَلَاتِ تَقَعُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ كَمَا ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ الْأَوَّلِ مصباح الشريعة ، ص8. وعن الصادق (عليه السلام) فی حقیقه العبودیه : الف: «أَنْ لَايَرَى الْعَبْدُ لِنَفْسِهِ فِيمَا خَوَّلَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ مُلْكاً لِانَّ الْعَبِيدَ لايَكُونُ لَهُمْ مُلْكٌ يَرَوْنَ الْمَالَ مَالَ اللَّهِ يَضَعُونَهُ حَيْثُ أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِهِ؛ ب: «وَ لَايُدَبِّرُ الْعَبْدُ لِنَفْسِهِ تَدْبِيراً؛ ج: «وَ جُمْلَةُ اشْتِغَالِهِ فِيمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعالى بِهِ وَ نَهاهُ عَنْهُ؛ ثم یقول «فَهذا أَوَّلُ دَرَجَةِ الْمُتَّقِينَ؛ ميزان الحكمه، باب 2451، حديث 11761( جلد 7، صفحه 12). والاترين بندگان، ص 17.

عزّ من قائل: (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ)(1)؛ أي إنّ شدّة انتشار الناس يوم القيامة وسرعة سيرهم توحي وكأنّهم يتسابقون نحو هدف معيّن.

ويمكن هنا طرح تعليلين لمخاطبة الزهراء (عليها السلام) للناس بالنصب: الأوّل هو كما أنّ هدف السباق يكون محطّ الأنظار وأنّ الناس يهرعون إليه، فإنّ أوامر اللّه ونواهيه قد اُنزلت عليكم فكأنّكم خطّ نهاية السباق بالنسبة لها؛ إذ يقول القرآن الكريم: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا)(2)، بمعنى أنّ أهل مكّة وضواحيها هم المخاطبون بالقرآن بالدرجة الاُولى. فعندما تقول (عليها السلام) : إنّكم نصب أوامر اللّه ونواهيه فهذا يعني: انّكم أوّل المخاطبين بهذه الأوامر والنواهي. أمّا الاحتمال الثاني فهو أنّ النُّصُب تعني العلامات الدالّة والهادية؛ ليكون المعنى: انّكم معالم أوامر اللّه ونواهيه؛ أي أنتم من يجب عليه إبلاغ أوامر ونواهي الباري تعالى إلى الآخرين؛ لكن يبدو أنّ الاحتمال الأوّل أقوى.

«حَمَلَةُ دِينِهِ وَوَحْيِهِ». وأنتم أيضاً حملة دين اللّه ووحيه. فقد نزل الوحي على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لكنّ النبيّ قد وضع محتويات الوحي بين أيديكم. فانتم حملة الدين، وإنّ في رقبتكم واجب حفظ هذه الأمانة.(3)

ص: 129


1- . سورة المعارج، الآية 43.
2- . سورة الشورى، الآية 7.
3- یقول اللّه سبحانه و تعالی :«إنّا عرضنا الأمانة علی السماوات و الارض و الجبال فَأبَین ان یحملنها و اشفقن منها وحملها الانسان انّه كان ظلوماً جهولا »سوره الاحزاب، الایه 72 . فما هی الامانه العظیمة التی خشیت السموات والارض والجبال ان یحملنها فی حین ان الانسان الضعیف والصغیر جداً حملها ؟ ما یقرب للنظر هو انّ المقصود من الامانه الالهیة الكبیره هذه هو المسوولیه والتكلیف المقلی علی عاتق الانسان حیث لا یتیسر ذلك الّا بوجود العقل و الحرّیة و الارادة «الاخلاق في القرآن ، ج3، ص 152» و یقول سبحانه : انّ اللّه یأمركم ان تؤدّوا الامانات الی أهلها ؛ سوره النساء، آلایه 58. و الصدیقة الطاهرة (عليها السلام) تذكرهم بهذه الامانة ؛ وجاء فی الحدیث عن الامام علی بن موسی الرضا (عليه السلام) انّه سئل عن تفسیر آیة عرض الامانه فقال : « الامانة الولایه ، من ادعاها بغیر حق كفر» « تفسیر البرهان ج3 ص:341 و الامثل ج13 ص:371»

«وَأُمَنَاءُ اللّهِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَبُلَغَاؤُهُ إِلَى الأُمَمِ حَولَكُمْ». فبالنسبة لهذا الدين الذي وُضع أمانة في أعناقكم يجب عليكم أوّلاً: أن تحفظوه بين أنفسكم؛ أي أن تطبّقوا أحكام الإسلام على أرض الواقع في مجتمعكم الإسلاميّ وتحافظوا على المُثُل الإلهيّة، وثانياً: أن تبلّغوه إلى الاُمم الاُخرى من حولكم.

ثمّ تتابع (عليها السلام) القول: لقد أودع النبيّ الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عندكم وديعة إلهيّة وترك فيكم ميراثاً عظيماً ألا وهو القرآن الكريم. فاعلموا أنّه يتعيّن عليكم الرجوع إلى كتاب اللّه في معرفة أمر اللّه ونهيه، وتشخيص ما أنتم مكلّفون به، واستظهار كيفيّة العمل بالدين وإبلاغه.

إبلاغ الدين إلى أنحاء العالم كافّة واجب كفائيّ

عندما نقول: نحن مكلّفون بقبول الإسلام والعمل به، يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: ما هو الإسلام؟ الإسلام هو التصديق والإيمان بحقّانية ما جاء به النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . فمن واجبنا الاعتقاد بتعاليم الإسلام العقائديّة، والعمل بأوامره العمليّة. لكنّنا بعد مضيّ 1400 سنة، وبعد كلّ ما قاساه الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأئمّتنا الأطهار (عليهم السلام) وعلماؤنا الأعلام من متاعب على طول أربعة عشر قرناً من الزمن، لازلنا غير عارفين بكلّ ما في أعناقنا من واجبات اجتماعيّة. فمعظمنا يعتقد بأنّه إذا تعلّم ما عليه من تكاليف فرديّة وعمل بها فلن يعود مسؤولاً. لكنّ هذا الطراز من التفكير يؤدّي إلى ضعف المجتمع وظهور حالة الهشاشة فيه. إذ بمعزل عن التكاليف الفرديّة فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من واجبنا أيضاً. ففضلاً عن عملنا نحن بأحكام الدين، علينا مراقبة عمل الآخرين بها أيضاً. فواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو واحد من ضروريّات الدين وفرع من فروعه، بحيث إنّ الشاكّ في وجوبه هو كالشاكّ في أصل الإسلام، وإنّ المنكِر له كالمنكِر لضرورة من ضروريّات الدين وهو ممّا يوجب الارتداد. لقد تمّ التأكيد بشدّة في القرآن الكريم وأحاديث أهل البيت(عليهم السلام) على هذه الفريضة حتّى عدّوها من أخطر فرائض الدين. يقول الإمام الباقر (عليه السلام): «إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تُقام الفرائض»(1). فهذه الفريضة هي أوّل واجب ملقىً علينا تجاه الآخرين، لكنّ تكليفنا لا ينتهي عند هذا الحدّ. فواجبنا الثاني

ص: 130


1- . الكافي، ج5، ص55.

هو إيصال هذه الأمانة، ألا وهي الإسلام، إلى أهلها؛ فاللّه يقول في كتابه العزيز: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)(1)؛ وأهلها هم كلّ من هو بحاجة إلى الإسلام. فالإسلام قد نزل لجميع البشر: (لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ)(2)، وهو رحمة أفاضها اللّه تعالى لتتنعّم بها البشريّة قاطبة.

إنّ لهذا الواجب سلسلة من المراتب؛ فالنبيّ الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد أبلغ الإسلام إلى معاصريه، وإنّ أهل مكّة ومن حولها قد أخذوا منه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأبلغوه إلى باقي البلدان. ثمّ تعهّد الأئمّة الطاهرون (عليهم السلام) بحمل الرسالة من بعد النبيّ ليوكلوا المهمّة في النهاية إلى العلماء وسائر الناس. وفي هذا العصر فإنّ الناس هم المسؤولون عن حمل هذه الأمانة وإيصالها إلى سائر البشر، وإنْ هم تقاعسوا في إيصالها إلى أهلها يكونون قد قصّروا في أداء الأمانة بل وخانوها أيضاً.

إنّنا غير واعين إلى حقيقة أنّ هذه المسؤوليّة ملقاة على كواهلنا نحن. بالطبع إنّ لهذه المسؤوليّة مراتب كمراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فعامّة الناس يتصوّرون أنّ إبلاغ الدين هو واجب العلماء؛ لكنّه ليست القضيّة أنّ شريحة من الناس قد عُيِّنوا لأداء واجب إبلاغ الدين وأنّه ساقط عن الآخرين، بل إنّ العلماء قد نهضوا بهذه المسؤوليّة طواعية وقضوا أعمارهم في هذا الطريق؛ لكنّه إذا لم يَفِ هذا المقدار بالغرض فإنّ الآخرين مسؤولون أيضاً. فإبلاغ الدين هو أشبه ما يكون بالجهاد؛ بمعنى أنّه إذا اضطلعت جماعة بالمسؤوليّة بما يفي بالحاجة والغرض فإنّها تسقط عن الباقين، وإلاّ فالكلّ مسؤول.

إنّني أوجّه سؤالي هنا إلى علماء الدين وأقول لهم: كم من الوقت شغلنا أنفسنا بالتفكير في هذا الموضوع، وهو أنّ من واجبنا السفر إلى أفريقيا، وأمريكا الجنوبيّة، وغيرهما من أجل تعريف أهاليها بالإسلام؟ هناك المليارات من البشر على وجه الأرض متعطّشون لمعرفة الحقيقة. فليس جميع هؤلاء أعداء للإسلام، ومستعمرين، وصهاينة. فهناك الكثيرون ممّن يتلقّى الدعوة السليمة بأذرع مفتوحة. أنا شخصيّاً ومن خلال الأسفار التي قمت بها إلى ما يقارب الأربعين بلداً في العالم أشهد أنّني لمست حقيقة أنّ الناس متعطّشون لمعرفة الحقيقة

ص: 131


1- . سورة النساء، الآية 58.
2- . سورة الأنعام، الآية 19.

لمس اليد، وإنّ عطشهم هذا يُثقل كاهلنا بمسؤوليّة أعظم وهي إرواء هذا العطش. السيّد مجتبى الموسويّ اللاريّ (حفظه اللّه تعالى وكثّر اللّه من أمثاله) منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وعلى رغم تحمّله أعباء المرض وغياب التمويل الماليّ، فإنّه يقيم تواصلاً مع أكثر من مائة بلد في العالم، ومراسلات بما يزيد على أربعين لغة مع أهلها. إنّ هذا المثال لهو حجّة لله علينا. للأسف فإنّنا نشكوا التقصير في هذا المجال. إنّني أوجّه خطابي لشبابنا الأعزّاء المقبلين بقلوبهم الطاهرة النقيّة على طلب العلم قائلاً لهم: اعلموا أنّ واجبنا يتخطّى تصحيح قراءة رجل قرويّ للحمد والسورة على الرغم من كونه واجباً أيضاً؛ لكنّ في أعناقنا واجباً أثقل وأخطر. فإنّ علينا تعلّم اللغات المختلفة، وتبيين المعارف الإسلاميّة المتقنة والمستدلّة وليس المباحث الذوقيّة والظنّية الضعيفة أحياناً- لشعوب العالم بما يفهمونه من لغة آخذين بنظر الاعتبار الأجواء الثقافيّة السائدة، لا أن يكون بياننا مجرّد ترجمة لما هو موجود. فمولاتنا الزهراء (عليها السلام) تقول في هذه الجملة القصيرة: إنّ من جانب- أن تحفظوا الأمانة الإلهيّة في أنفسكم فلا تضعُفوا ولا تهنوا، وعليكم من جانب آخر- تبليغ رسالة الإسلام إلى ما وراء حدود بلدانكم.

القرآن؛ هو المدّعي لحقّ اللّه

ثمّ تعرّج سيّدتنا الزهراء (عليها السلام) إلى دور القرآن الكريم في المجتمع الإسلاميّ. وهنا أودّ الإشارة إلى نقطة مهمّة؛ فلو أنّها قالت أوّلاً: اتّبعوا أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمّة المعصومين (عليهم السلام)، ما كانوا ليسمعوا كلامها. فهي قد قدّمت كلّ تلك المقدّمات واحتجّت بكلّ تلك الاحتجاجات من أجل إفهامهم أنّكم قد سلكتم الطريق الخطأ في إقصائكم لعليّ جانباً. فإنّ على رأس الاُمور التي من شأنها تمهيد الأرضيّة للاحتجاج والمساعدة في هداية الناس هو القرآن الكريم. لكنّها (عليها السلام) قد بيّنت هذا المعنى باسلوب هو غاية في الروعة والجمال. فقد كان بإمكانها أن تضع القرآن كمبتدأ وتقول: القرآن يحمل هذه الصفات. لكنّها قالت: إنّ لله عليكم حقّاً، وإنّ ثمّة شيئا بينكم يطالبكم بهذا الحقّ. فلقد استهلّت هذا الموضوع بالقول: «وَزَعِيمُ حَقٍّ لَكُمْ لِلَّهِ فِيكُمْ»؛ أي إنّ لله عليكم حقّاً أوّلاً، وإنّ هناك مَن يطالب بهذا الحقّ ثانياً. فليس باستطاعتكم القول: إنّنا لا نعلم حقّ اللّه؛ إذ أنّ لله عليكم حقّ الربوبيّة، وإنّكم، من باب

ص: 132

أنّكم عبيد، فإنّكم مسؤولون تجاهه. فهذا هو أوّل وأوضح حقّ يدركه الإنسان. بمعنى أنّني لست مِلك نفسي، وأنّ كلّ ما عندي فهو ملك لغيري. فهو ربّي ويجب علَيّ طاعته.

«وَعَهْدٌ قَدَّمَهُ إِلَيْكُمْ». توجد لكلمة «عهد» استعمالات شتّى، أحدها التعهّد والالتزام؛ أمّا تعبير: «عَهِدَ إليه» فهو تعبير خاصّ؛ فكلّ حرف إضافة إنّما يفيد معنى دقيقاً معيّناً، فعبارة «عَهِد إليه» تخلتف عن عبارة: «عَهِد له» أو «عَهِد في كذا». إذ ليس معنى العبارة: «عهدنا إلى آدم» في الآية الشريفة: «وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)(1)، هو عقد مُوقَّع بين طرفين، وإنّ أقرب المعاني إلى هذا المعنى هو معنى «الأمر». فعهد أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى مالك الأشتر يعني: أمر عليّ لمالك الأشتر. فالزهراء (عليها السلام) تقول: إنّ لله تعالى حقّاً، وإنّ ثمّة مِن بينكم مَن يتصدّى لهذا الحقّ، ولقد أصدر هذا المتصدّي أمراً لكم.

«وَبَقِيَّةٌ اسْتَخْلَفَهَا عَلَيْكُمْ». لقد استُخدمت كلمة «بقيّة» في القرآن الكريم أيضاً في قوله: (بَقِيَّتُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ)(2)، وإنّ أحد ألقاب إمام العصر (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) هو «بقيّة اللّه»؛ بمعنى أنّ باقي الأئمّة قد رحلوا عن الدنيا وإنّ الإمام الذي بقي لكم هو الوجود المقدّس لوليّ العصر (أرواحنا فداه). تقول مولاتنا (عليها السلام) هنا: مع أنّ النبيّ قد رحل عنكم، لكنّه قد ترك فيكم بقيّة. فهذه الصفات التي تذكرها (عليها السلام) للقرآن هي بمثابة خبر لمبتدأ متأخّر.

«كِتَابُ اللّهِ النَّاطِقُ». إنّ إسناد النطق إلى القرآن يختلف باختلاف الاعتبارات. فالقرآن يسمّى بالناطق من باب أنّ المرء إذا قرأه يفهم منه أموراً وكأنّ اللّه هو الذي يتحدّث إليه. لكنّ القرآن من جانب آخر- لا ينطق بنفسه ويحتاج إلى مبيّن لبيان بعض مباحثه؛ وإنّه من هذا المنطلق يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : «هذا كتاب اللّه الصامت وأنا كتاب اللّه الناطق»(3). فلا ينبغي الخلط بين هذين الاعتبارين. تقول السيّدة الزهراء(عليها السلام): لقد جعل اللّه

ص: 133


1- . سورة طه، الآية 115.
2- . سورة هود، الآية 86.
3- . وسائل الشيعة، ج27، ص34.

تعالى فيكم كتاباً ناطقاً يطالبكم بحقّ اللّه. فلو انكم أصغيتم للقرآن لفهمتم ما يطلبه منكم. فالقرآن يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَطيعُوا اللّهَ وَأَطيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)(1).

ثمّ تقول (عليها السلام) : «وَالْقُرْآنُ الصَّادِقُ، وَالنُّورُ السَّاطِعُ، وَالضِّيَاءُ اللاّمِعُ». وكلّ هذا الكلام الذي ساقته (عليها السلام) يمثّل مقدّمة للتمهيد للاستدلال بالقرآن الكريم.

«بَيِّنَةٌ بَصَائِرُهُ»؛ أي إنّ البصائر والرؤى التي يزوّدكم القرآن بها هي على درجة عالية من الوضوح.

«مُنْكَشِفَةٌ سَرَائِرُهُ». فصحيح أنّ هناك في القرآن مباحث خفيّة ومستورة لكن قد انكشفت تلك السرائر واُزيح الستار عنها وبإمكانكم الآن مشاهدة تلك الحقائق من دون حجاب والإفادة منها.

«مُتَجَلِّيَةٌ ظَوَاهِرُهُ، مُغْتَبِطَةٌ بِهِ أَشْيَاعُه». فالذين يتّبعون القرآن الكريم ويقتفون آثاره يعيشون حالة الغبطة والسرور.

«قَائِدٌ إِلَى الرِّضْوَانِ اتِّبَاعُهُ». فالمتّبعون للقرآن سوف يقودهم إلى رضوان اللّه تعالى.

«مُؤَدٍّ إِلَى النَّجَاةِ اسْتِمَاعُهُ». وحتّى الاستماع للقرآن الكريم يفضي إلى النجاة.

بِهِ تُنَالُ حُجَجُ اللّهِ الْمُنَوَّرَةُ، وَعَزَائِمُهُ الْمُفَسَّرَةُ(2)،

ص: 134


1- . سورة النساء، الآية 59.
2- . ونحن هنا نذكر نمذجا واحدا حتی تعرف المعنی ایها القاری الكریم : مسح الأرجل مكان غسلها. كلُّنا نَعلمُ بأنّ الوُضوء هو أحَدُ مقدمات الصلاة فإنّنا نقرأُ في سورة المائدة قوله تعالى: «يَا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُم إلى المرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلى الكَعْبَيْنِ». المائده /6 وللفظة «الأَيدي» وهي جمع «يد» التي جاءت في جملة «فَاغسِلُوا وجوهَكم وأيديَكم إلى المَرافِق» إستعمالاتٌ مختلِفةٌ في اللُّغة العربيّة فربما تُطلق ويراد منها الأصابع إلى الرسغ، وربما يُراد منها الأصابع إلى المرافق، وربما تُطلَق ويراد منها من رؤوس الأصابع إلى الكتف. هذا أوّلًا. وثانياً: حيث إنّ المقدار الواجب غسلُه في الوضوء هو ما بين رؤوس الأصابع والمرافق، لذلك استعمل القرآن الكريم لفظة «إلى المرافق» ليعرف المقدارَ الواجبَ غسلُه من هذين العضوين في الوضوء وعلى هذا الأساس فانّ كلمة «إلى» في قوله تعالى: «إلى المرافق» تبين مقدار «المغسول» من اليدين لا كيفيّة غسل اليدين (أي انّ الغَسل من الأعلى إلى الأسفل أو من الأسفل إلى الأعلى) بل كيفيّة الغَسل متروكةٌ للعُرف ولعادة الناس الذين يَغسلون الأعضاءَ والجوارح عادةً من الأعلى إلى الاسفل، وهو أمر موافق للطبيعة كذلك. وللمثال: إنّ الطبيب حينما يأمر بغَسل رجلي المريض الى الرُّكبة نجدهم يغسلونَهما من الأعلى إلى الأسفل. ولهذا فإنَّ الشيعةَ الإمامية تعتقد بأنّ غَسل الوَجه واليدين في الوضوء يجب ان يكون من الأعلى إلى الأسفل، ولا يصحّحون عكس ذلك. وثمّتَ مطلبٌ آخر في الوضوء وهي مسألة مسح الأرجل فإنّ الفقه الشيعي يقول: يجب المسح لا الغَسل، ويدلُّ على ذلك بإيجاز، ظاهرُ الآية السادسة من سورة المائدة التي تبيّن أن هناك وظيفتين في الوضوء إحداهما «غَسلٌ» والأُخرى «مسحٌ». والغَسل للوجه واليدين، والمسح للرأس وللرجلين. 1. «فاْغسِلُوا وجوهَكم وأيديكم إلى المرافق». 2. «وامسَحوا بِرءُوسِكَم وأرجلَكم إلى الكعبين». ولو أنّنا عرضنا هاتين الجملتين على أيّ عربي أصيل غير عارفٍ بمذهبٍ فقهيٍ خاصٍ، ولا مطّلع على موقف اجتهاديّ معيّن، وطلبنا منه. أن يبيّن المرادَ منها، لقال من دون تردّد: إنّ وظيفتنا وفق هذه الآية عملان، أحدهما: الغَسل وهو للوَجه واليدين، والآخر: المَسح وهو للرأس والرجلين. ومن حيث القواعد العربية فإنّ لفظة «أرجلكم» يجب أن تُعطف على كلمة «رءُوسِكم» فتكون النتيجة هي مسح الأرجل ولا يجوز عطفها على الجملة الأسبق وهي «واغسلوا ... وايديكم» التي تكون نتيجته غسل الأرجل لأنّ العطف على أيديكم يستلزم الفصل بين المعطوف وهو «أرجلكم» والمعطوف عليه وهو «وأيديكم» بجملة معترضة وهي «فَامسحُوا برءُوسِكم» وهو غير صحيحٍ من حيثُ القواعِدِ النَحوية العربيّة، ويوجب الإلتباس في المقصود. كما أنّه لا فرق في هذه المسألة بين قراءة «أرجلكم» بالجر أو النصب، فعلى كلتا القراءتين يجب عطف «أرجلكم» على «رءُوسكم» مع فارقٍ واحد وهو أن في الأوّل يكون العطفُ على اللَّفظ والظاهر، وفي الثاني يكون العطفُ على المحلّ. وبعبارة أُخرى؛ إذا عُطِفتِ أرجلكم على لفظ رءُوسِكم قُرئت بالجرّ، واذا عُطِفَت على المحلّ (وهو المَفعولية) قرِئَت بالنصب. والرّوايات المتواترة الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) تحكي عن أنّ «الوضوء» يتألّف من شيئين هما: «غسلتان» و «مسحتان» وقد روى الإمام الباقر (عليه السلام) في حديث بيّن فيه وضوءَ رسول اللَّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنّ النبيَّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كانَ يمسح على رِجليه.هذا والجديرُ بالذِكر أنّه لم يكن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) هم وحدهم الذين يمسحون على الأرجل عند الوضوء، بل كان فريق من الصحابة والتابعين يرَون هذا الرأي ويذهبون هذا المذهب أيضاً.«العقيدة الاسلامية، ص 334»

ص: 135

وَمَحَارِمُهُ الْمُحَذَّرَةُ»(1). فإنّ حجج اللّه تصل إليكم عن طريق القرآن، وإنّ عزائم القرآن (وهي الاُمور التي أوجبها اللّه عليكم) تُفسَّر لكم، وهو يحذّركم في المقابل من حرمات اللّه تعالى.

(وَبَيِّنَاتُهُ الْجَالِيَةُ، وَبَرَاهِينُهُ الْكَافِيَة»(2). فالدلائل الواضحة والبراهين الكافية القاطعة كلّها مبيَّنة في القرآن الكريم.وَمَحَارِمُهُ الْمُحَذَّرَةُ»(3). فإنّ حجج اللّه تصل إليكم عن طريق القرآن، وإنّ عزائم القرآن (وهي الاُمور التي أوجبها اللّه عليكم) تُفسَّر لكم، وهو يحذّركم في المقابل من حرمات اللّه تعالى.

(وَبَيِّنَاتُهُ الْجَالِيَةُ، وَبَرَاهِينُهُ الْكَافِيَة»(4). فالدلائل الواضحة والبراهين الكافية القاطعة كلّها مبيَّنة في القرآن الكريم.

ص: 136


1- . الفقه مبيّن للحدود الإلهيّة: إذا كان للحرم الإلهي حدود معينة كما في سائر موارد الحرم، فإنّ أحكام الحلال والحرام التي يبيّنها الفقه تعدّ حدوداً إلهيّة لهذا الحريم المقدّس، وإذا أراد الإنسان معرفة الحدود الإلهيّة والتعرّف على «الخطوط الحمراء» والنواهي الإلهيّة فيجب عليه تعلّم «الفقه». واللافت للنظر أنّ القرآن الكريم في العديد من الآيات بعد أن يتحدّث عن الأحكام المتعلّقة بأبواب من قبيل الصيام ، الطلاق ، الإرث ، الجهاد والظهار ، فإنّه يذكر عبارتين في هذا الصدد. الأولى: « «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ» ؛ أي أنّ ما ذكرناه من الأحكام هي حدود إلهيّة، والأخرى التهديد لمن يتعدّى ويتجاوز هذه الحدود والخطوط الحمراء أنّ عاقبته هي الخلود في نار جهنّم لأنّه يمثّل الظلم «وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» «وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا» . وقد ورد التعبير ب «الحدّ» للأحكام الإلهيّة في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث يقول: «إنّ اللَّه تَبارَك وتَعالى لَم يَدَع شَيئاً تَحتاجُ إليه الأمَّةُ إلّاأنزَلَه في كتابهِ وبَيَّنهُ لِرَسولِه وجَعَل لِكُلِّ شَي ءٍ حَدّاً وجَعَل عليه دَليلًا يَدُلُّ عليه وجَعَل على مَن تَعدّى ذلِك الحَدّ حَدّاً» الكافي، ج 1، ص 59، ح 2.«موسوعه الفقه الاسلامی المقارن، ج1 ، ص35»
2- . سطوع براهينه إنّ القرآن الكريم كتاب الهداية، نزل للناس أجمعين، ليبقى خالداً على جبين الدهر يرجع إليه كل من تحرّى الحقيقة، وارتاد الواقع، ولأجل ذلك اعتمد على البراهين اللامعة، لا على الأساليب المعقّدة الّتي كانت ولم تزل، رائجة بين الفلاسفة. فأخذ من المسلّمات برهاناً على النظريات، ومن المشاهدات دليلًا على الحقائق غير المحسوسة، كل ذلك ببيان واضح، لا يقبل الخدش والشك. ويستلذّ به الذوق، وتستسلم له العقول. وإليك نماذج من هذه البراهين: 1: قال تعالى: «قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ» سوره الكهف الایات 9-29 فلاحظ ما أحلى استدلاله على نَفْي الولد، بأنّه لو كان له وَلَدٌ كما يقول هؤلاء، فاللائق للاتخاذ ولداً، هم الأنبياء والمرسلون، الذين عبدوه، وخضعوا له، وائتمروا بأمره. 2: وقال تعالى: «وَ هُوَ الذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ». «سوره الروم الایه 27» إذا كان الخصم معترفاً بأنّ اللَّه هو الّذي بدأ الخلق ... إذن فالإعادة أهون من البدأة لأنّها من شي ء، وتلك لا من شي ء. 3: وقال تعالى: «وَ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ». «سوره الاعراف الایه 40 » فقد رتّب دخولهم الجنة على ولوج الجمل في خرم الأبرة. ولما كان ذلك أمراً ممتنعاً، كان ذاك أيضاً مثله. فقد أبدى امتناع دخولهم الجنة بهذا الشكل القياسي بكناية بديعة. 4: وقال تعالى: «إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ».« سوره الكوثر» فقد رتّب النتيجة على صغرى القياس مع حذف الكبرى لظهورها، وهي: أنّ من أعطاه اللَّه الكوثر- وهي مجموعة المكرّمات- فينبغي له أن يؤدّي شكره الواجب، بالإبتهال إلى اللَّه والمثول لديه بكل الوجود. 5: وقال تعالى: «وَ لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَ لَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ» سورة الأعراف: الآية 176. قياس استثنائي مركّب من قضيّة شرطية مضمونها: «وَ مَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَ سَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً» .سورة الإسراء: الآية 19. وأُخرى حملية استثنائية مضمونها: «وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْري فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى* قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَني أَعْمَى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيرًا* قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَ كَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى» سورة طه: الآيات 124- 126. 6: وقال تعالى: «فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الآفِلِينَ»«سوره الانعام الایه 76 الالهیات، ج3 ، ص294» الكبرى مطوية، أي وَكُلُّ آفلٍ غير مستحق للعبادة. 7: القرآن و نفي التثليث. إنَّ القرآن الكريم يذكر التثليث ويبطله بأوضح البراهين وأَجلاها، يقول: «مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلّارَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأكُلانِ الطَّعامَ». ( سوره المائده /75)وهذه الآية تبطل ألوهية المسيح وأُمه، التي كانت معرضاً لهذه الفكرة الباطلة، بحجة أن شأن المسيح شأنُ بقية الأنبياء وشأن الأم شأن بقية الناس، يأكلان الطعام. فليس بين المسيح وأُمه، وبين غيرهما من الأنبياء والرسل وسائر الناس أي فرق وتفاوت، فالكل كانوا يأكلون عندما يجوعون ويتناولون الطعام كلما أحسوا بالحاجة إليه. وهذا العمل منضماً إلى الحاجة إلى الطعام، آية المخلوقية. ولا يقتصر القرآن على هذا البرهان، بل يستدل على نفي ألوهية المسيح بطريق آخر، وهو قدرته سبحانه على إهلاك المسيح وأُمّه ومن في الأرض جميعاً، والقابل للهلاك لا يكون إلهاً واجب الوجود. يقول سبحانه: «لَقَدْ كَفَرَ الذِينَ قَالُوا إنّ اللّهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إنْ أرَادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ في الأَرضِ جَمِيعاً.«سورة المائدة: الآية 17. وفي هذه الآية وردت ألوهية المسيح وأبطلت من طريق قدرته سبحانه على إهلاكه، ويظهر من سائر الآيات أنَّ ألوهيته كانت مطروحة بصورة التثليث، قال سبحانه: «لَقَدْ كَفَرَ الذِينَ قَالُوا إنّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ الهٍ إلّاإلهٌ واحِدٌ».سوره المائده /73 . وعلى كل تقدير، فقدرته سبحانه على إهلاك المسيح (عليه السلام) أدل دليل على كونه بشراً ضعيفاً، وعدم كونه إلهاً، سواء أطرح بصورة التثليث أم غيره.«الالهیات، ج2 ، ص26»
3- . الفقه مبيّن للحدود الإلهيّة: إذا كان للحرم الإلهي حدود معينة كما في سائر موارد الحرم، فإنّ أحكام الحلال والحرام التي يبيّنها الفقه تعدّ حدوداً إلهيّة لهذا الحريم المقدّس، وإذا أراد الإنسان معرفة الحدود الإلهيّة والتعرّف على «الخطوط الحمراء» والنواهي الإلهيّة فيجب عليه تعلّم «الفقه». واللافت للنظر أنّ القرآن الكريم في العديد من الآيات بعد أن يتحدّث عن الأحكام المتعلّقة بأبواب من قبيل الصيام ، الطلاق ، الإرث ، الجهاد والظهار ، فإنّه يذكر عبارتين في هذا الصدد. الأولى: « «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ» ؛ أي أنّ ما ذكرناه من الأحكام هي حدود إلهيّة، والأخرى التهديد لمن يتعدّى ويتجاوز هذه الحدود والخطوط الحمراء أنّ عاقبته هي الخلود في نار جهنّم لأنّه يمثّل الظلم «وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» «وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا» . وقد ورد التعبير ب «الحدّ» للأحكام الإلهيّة في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث يقول: «إنّ اللَّه تَبارَك وتَعالى لَم يَدَع شَيئاً تَحتاجُ إليه الأمَّةُ إلّاأنزَلَه في كتابهِ وبَيَّنهُ لِرَسولِه وجَعَل لِكُلِّ شَي ءٍ حَدّاً وجَعَل عليه دَليلًا يَدُلُّ عليه وجَعَل على مَن تَعدّى ذلِك الحَدّ حَدّاً» الكافي، ج 1، ص 59، ح 2.«موسوعه الفقه الاسلامی المقارن، ج1 ، ص35»
4- . سطوع براهينه إنّ القرآن الكريم كتاب الهداية، نزل للناس أجمعين، ليبقى خالداً على جبين الدهر يرجع إليه كل من تحرّى الحقيقة، وارتاد الواقع، ولأجل ذلك اعتمد على البراهين اللامعة، لا على الأساليب المعقّدة الّتي كانت ولم تزل، رائجة بين الفلاسفة. فأخذ من المسلّمات برهاناً على النظريات، ومن المشاهدات دليلًا على الحقائق غير المحسوسة، كل ذلك ببيان واضح، لا يقبل الخدش والشك. ويستلذّ به الذوق، وتستسلم له العقول. وإليك نماذج من هذه البراهين: 1: قال تعالى: «قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ» سوره الكهف الایات 9-29 فلاحظ ما أحلى استدلاله على نَفْي الولد، بأنّه لو كان له وَلَدٌ كما يقول هؤلاء، فاللائق للاتخاذ ولداً، هم الأنبياء والمرسلون، الذين عبدوه، وخضعوا له، وائتمروا بأمره. 2: وقال تعالى: «وَ هُوَ الذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ». «سوره الروم الایه 27» إذا كان الخصم معترفاً بأنّ اللَّه هو الّذي بدأ الخلق ... إذن فالإعادة أهون من البدأة لأنّها من شي ء، وتلك لا من شي ء. 3: وقال تعالى: «وَ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ». «سوره الاعراف الایه 40 » فقد رتّب دخولهم الجنة على ولوج الجمل في خرم الأبرة. ولما كان ذلك أمراً ممتنعاً، كان ذاك أيضاً مثله. فقد أبدى امتناع دخولهم الجنة بهذا الشكل القياسي بكناية بديعة. 4: وقال تعالى: «إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ».« سوره الكوثر» فقد رتّب النتيجة على صغرى القياس مع حذف الكبرى لظهورها، وهي: أنّ من أعطاه اللَّه الكوثر- وهي مجموعة المكرّمات- فينبغي له أن يؤدّي شكره الواجب، بالإبتهال إلى اللَّه والمثول لديه بكل الوجود. 5: وقال تعالى: «وَ لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَ لَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ» سورة الأعراف: الآية 176. قياس استثنائي مركّب من قضيّة شرطية مضمونها: «وَ مَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَ سَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً» .سورة الإسراء: الآية 19. وأُخرى حملية استثنائية مضمونها: «وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْري فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى* قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَني أَعْمَى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيرًا* قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَ كَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى» سورة طه: الآيات 124- 126. 6: وقال تعالى: «فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الآفِلِينَ»«سوره الانعام الایه 76 الالهیات، ج3 ، ص294» الكبرى مطوية، أي وَكُلُّ آفلٍ غير مستحق للعبادة. 7: القرآن و نفي التثليث. إنَّ القرآن الكريم يذكر التثليث ويبطله بأوضح البراهين وأَجلاها، يقول: «مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلّارَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأكُلانِ الطَّعامَ». ( سوره المائده /75)وهذه الآية تبطل ألوهية المسيح وأُمه، التي كانت معرضاً لهذه الفكرة الباطلة، بحجة أن شأن المسيح شأنُ بقية الأنبياء وشأن الأم شأن بقية الناس، يأكلان الطعام. فليس بين المسيح وأُمه، وبين غيرهما من الأنبياء والرسل وسائر الناس أي فرق وتفاوت، فالكل كانوا يأكلون عندما يجوعون ويتناولون الطعام كلما أحسوا بالحاجة إليه. وهذا العمل منضماً إلى الحاجة إلى الطعام، آية المخلوقية. ولا يقتصر القرآن على هذا البرهان، بل يستدل على نفي ألوهية المسيح بطريق آخر، وهو قدرته سبحانه على إهلاك المسيح وأُمّه ومن في الأرض جميعاً، والقابل للهلاك لا يكون إلهاً واجب الوجود. يقول سبحانه: «لَقَدْ كَفَرَ الذِينَ قَالُوا إنّ اللّهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إنْ أرَادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ في الأَرضِ جَمِيعاً.«سورة المائدة: الآية 17. وفي هذه الآية وردت ألوهية المسيح وأبطلت من طريق قدرته سبحانه على إهلاكه، ويظهر من سائر الآيات أنَّ ألوهيته كانت مطروحة بصورة التثليث، قال سبحانه: «لَقَدْ كَفَرَ الذِينَ قَالُوا إنّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ الهٍ إلّاإلهٌ واحِدٌ».سوره المائده /73 . وعلى كل تقدير، فقدرته سبحانه على إهلاك المسيح (عليه السلام) أدل دليل على كونه بشراً ضعيفاً، وعدم كونه إلهاً، سواء أطرح بصورة التثليث أم غيره.«الالهیات، ج2 ، ص26»

ص: 137

وخلاصة كلام الزهراء (عليها السلام) في هذا القسم من الخطبة هو أنّ عليكم الالتفات أوّلاً إلى أنّكم مسؤولون، وأنّ مسؤوليّتكم غير محصورة في المسائل الفرديّة. إذ يتعيّن عليكم التعرّف على المسؤوليّة الملقاة على عاتقكم عن طريق القرآن، فإنّ القرآن قد أتمّ عليكم الحجّة.(1)

«و بیناته الجالیه»

«البينة» مأخوذة من «بان، يبين، بيانا و تبيانا» و هي كما قال «الراغب» في «المفردات» الدلالة الواضحة، عقلية كانت أو محسوسة، و سمي الشاهدان بينة لقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) «البينة على المدعى و اليمين على من أنكر»(2).

و قد استعمل في هذا المعنى (الدلالة الواضحة) في عشرات من الايات في القرآن الحكيم.

و قد استعمل بصورة المفرد في تسعة عشر موضعا من كتاب اللّه منها قوله تعالى (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ)(3).

و قوله تعالى (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)(4).

و بصورة الجمع «البينات» في اثنين و خمسين موضعا، منها قوله تعالى (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)(5) و قوله تعالى (وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَ ما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ)(6).

و المراد منها في جميع هذه الايات على كثرتها هو معناها اللغوي أي الأمر البين الواضح، سواء كان من المعجزات الباهرات، أو من الايات القرآنية، و الكلمات الإلهية، التي نزلت على الأنبياء و الرسل.

ص: 138


1- . دروس الاخلاق المصباح الیزدی.
2- . المفردات: مادة« بين».
3- . الأعراف: 73، 85.
4- . الأنفال: 42.
5- . الحديد: 25.
6- . البقرة: 99.

و استعمل أيضا سائر مشتقاتها من «المبينة» و «المبينات» و «المبين» و «المستبين» و غيرها في آيات كثيرة في هذا المعنى.

و من الجدير بالذكر انه لم يستعمل في شي ء من آيات الكتاب على كثرتها هذه الكلمة في معناها المصطلح في الفقه، بل استعمل- كما سيأتي- شهادة العدلين أو الرجلين أو شبه ذلك.

و من هنا وقع الكلام بينهم في ان لها حقيقة شرعية في شهادة العدلين من لدن زمن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو لم تثبت له ذلك، و انما ثبت كونها حقيقة في هذا المعنى في زمن الصادقين عليهما السّلام و من بعدهم من الأئمة (عليهم السلام)، أو لم يثبت شي ء من ذلك؟

الظاهر من كلمات القوم ان البينة كانت حقيقة في هذا المعنى من لدن عصره (صلی اللّه عليه وآله وسلم) و لذا استدلوا بالحديث المشهور منه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) «إنما أقضي بينكم بالبينات و الايمان» على حجية قول العدلين.

قال بعض المحققين: «تبادر هذا المعنى منها في لسان الشرع يرجع الى انصراف المفهوم الكلي الى بعض مصاديقه، و لذلك لم يحتمل احد من الفقهاء من قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) «البينة على المدعي و اليمين على من أنكر»(1) أو قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) «إنما أقضي بينكم بالبينات و الايمان»(2) ان يكون مراده (صلی اللّه عليه وآله وسلم) غير هذا المعنى(3) ولذالك قامت سيدة الاسلام (عليها السلام) بالمطالبة بحقها عن طريقين:

الأول هو كون فدك هدية الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لها، و الثاني هو أنها ميراثها من أبيها (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (بعد أن رُدّت دعوى الهدية).

استشهدت سيدة النساء في المرحلة الأولى بأمير المؤمنين «علي بن أبي طالب»(عليهما السلام). و «أم أيمن (رض)» عند الخليفة الأول، لكن الخليفة لم يقبل شهادتهما و لم يقر حقها بحجّة أن الدعوى لا تثبت إلا بشهادة رجلين أو رجلًا و امرأتين.

ثم رفض مسألة «الإرث» مدعياً أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال:

ص: 139


1- . المستدرك كتاب القضاء الباب 3 من أبواب أحكام الدعوى.
2- . الوسائل كتاب القضاء الباب 2 من أبواب كيفية الحكم الحديث 1.
3- . القواعد الفقهیه ج2 ص:48

«إنا معاشر الأنبياء لانُورث ما تركناه صدقة».

لكن و من خلال تحقيقٍ شاملٍ يتضح أن النظام الحاكم الغاصب قد ارتكب في عمله هذا أخطاء فاحشة، سنقوم بعرضٍ مختصرٍ لها و نتوكل الخوص في التفاصيل إلى محل آخر:

1: كانت فاطمة (عليها السلام) تملك فدك، أي أنها كانت «ذو اليد»، و في رأي القوانين الإسلامية و جميع القوانين المعروفة في الوسط العقلائي العالمي فإن «ذو اليد» لايحتاج إلى استشهاد أو تصديقٍ على ما يملكه إلا إذا أظهرت شواهد على بطلان ملكيته.

فمثلًا إذا ادّعى شخص ملكية دارٍ يسكن فيها، فلا يمكن إخراجها من يده ما لم يظهر دليل يُنافي إدعائه، كما لا حاجة في أن يشهد أحداً على ديمومة ملكيته، بل إن هذا التصرف (إن أراد إنجازه بنفسه أو يوكله لممثليه) لأفضل دليلٍ على صحة مالكيته.

2: إن شهادة فاطمة الزهرا (عليها السلام) لوحدها كانت كافية في هذه المسألة، لأنها معصومة بحكم الآية الشريفة:

(إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(1) ، و حديث الكساء المشهور الذي نقلته كتب العامة المعتبرة و كتب الصحاح، فأبعد اللَّه عز و جل القبح و الذنب عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام، و طهرهم من كلِّ معصية. فكيف يمكن أن يشكَّ أو يرتاب الآخرون بادعاء مثل هذا الشخص؟

3: إنّ شهادة الإمام علي (عليه السلام) لوحدها كانت كافية أيضاً، فهو يتحلى بمنزلة العصمة أيضاً، و آية التطهير و الروايات التي دلّ على هذا المعنى و فيرة، منها الحديث المشهور «الحق مع علىٍّ مع الحق، يدور معه حيثما دار»(2) الذي يكفينا دليلًا على عصمته (عليه السلام). إذا كيف يدور الحق حول محور وجود علىٍّ (عليه السلام)، لكن شهادته غير مقبولة؟

4: تعد شهادة «أم أيم» هي الأخرى كافيةً في إثبات الحق، فكما ينقله ابن أبي الحديد:

عندما جاءت فاطمة (عليها السلام) بأم أيمن للشهادة، قالت «أم أيمن» لألي بكر:

لا أشهد يا أبا بكر حتى أحتجّ عليك بما قال رسول اللَّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أنشدك باللَّه ألست تعلم أن رسول اللَّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال:

ص: 140


1- . سورة الاحزاب، آية 32.
2- . شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد، ج 16، ص 219.

«أم أيمن امرأة من أهل الجنة»

فقال أبوبكر: بلى.

إذن فكيف تُردُّ شهادتها بعد أن علموا مقامها و هي من أهل الجنة.(1)

5: إضافة إلى كلِّ ما سبق، يكتفي الحاكم بتوفر القرائن المختلفة «لحسيةً كانت أم الشبية بها» ليقوم بالفصل في الدعوى، فهل يا ترى أن مسألة «ذو اليد» من ناحية، و شهادة الشهود الذين تكفي شهادة كلٍّ منهما في إثبات و إحقاق الحق من ناحيةٍ أخرى، لا يوفران العلم و اليقين لدى الحاكم؟(2)

ص: 141


1- . شرح نهج البلاغه ابن أبي الحديد.
2- الزهراء (عليها السلام) سید نساءالعالمین، ص90.

«و فضائله المندوبة»

«و فضائله المندوبة»(1)

ص: 142


1- صلاة الليل في القرآن الكريم: ونلفت النظر هنا إلى عدّة آيات من القرآن الكريم ناظرة إلى هذا الموضوع: 1. يقول تبارك وتعالى في الآية 79 من سورة الإسراء: «وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً». إنّ مقام النبي الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عند اللَّه لا يدانيه مقام، ولكنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بإمكانه أن يرتفع بمقامه عند اللَّه مراتب أسمى ودرجات أعلى، أي المقام المحمود، وذلك من خلال الإتيان بصلاة الليل. سؤال: هل يختص المقام بالنبي الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟ الجواب: إنّ هذا المقام الكريم لا يختص بالنبي الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، بل يستطيع كل إنسان مؤمن أن يحصل على مراتب من هذا المقام المحمود بحسب قابليته ولياقته وبما يأتي به من عبادة خالصة وتوجه عميق وحضور قلب. 2. وترسم الآيات 15 إلى 18 من سورة الذاريات صورة عن ملامح صلاة الليل: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ* كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ* وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ». إنّ الاستغفار يعدّ ركناً مهمّاً وخصوصية في صلاة الليل، ولا يختص هذا الاستغفار بصاحبه بل بإمكانه أن يستغفر لنفسه ولغيره من المؤمنين، بل إنّ بعض المؤمنين يستغفرون ويدعون لجميع المسلمين والمؤمنين على امتداد المسار التاريخي للبشرية. 3. ونقرأ في الآية 6 من سورة المزّمّل أيضاً: «إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا». وقد ورد في الروايات الشريفة تفسير «ناشئة الليل» بصلاة الليل. صلاة الليل في الروايات: ذهب بعض القدماء إلى أننا لو قمنا بخلط مادة الكيمياء أو الأكسير بعنصر النحاس لأمكن تبديله إلى ذهب، وهذا الموضوع لم يكن سوى تصور وخيال يدور في أذهان القدماء ولم يتحقق في أرض الواقع بالرغم من سعيهم الحثيث في هذا السبيل، ولكنّ نتيجة ذلك أن وجد علم الكيمياء، فالكيمياء كلمة لاتينية، وطبعاً لو افترضنا وجود مثل هذه المادة الكيمياوية وقمنا بمسحها بالنحاس وانقلب النحاس إلى ذهب، فإنّ المشكلة لا تُحلّ بذلك، لأنّه عندما تتحول جميع عناصر النحاس إلى ذهب فإنّ قيمة الذهب وبسبب كثرته ووفرته ستكون بقيمة النحاس، بل ربّما تهبط لما دون ذلك، وسيكون النحاس نادر الوجود وغالي الثمن. ولكنّ علماء الدين يعتقدون بوجود مثل هذا الأكسير والعنصر الكيمياوي في عالم المعنويات بحيث إذا مسحنا به وجود الإنسان، فسوف يتبدل الإنسان إلى ذهب خالص، وأحد هذه العناصر الأكسيرية «صلاة الليل» ومن هنا فكل ما ورد عن صلاة الليل وما تحدّث العلماء عنها فهو قليل. فإنّ إضفاء النورانية والصفاء والمعنوية على القلب وحفظ الإنسان من التلوث بالخطايا، وجبران ما ارتكبه من ذنوب ومنح روح الإنسان شفافية وسكينة وطمأنينة كل ذلك يمثّل زاوية من بركات هذا الأكسير المعنوي الثمين. وقد أشرنا فيما سبق إلى ثلاث آيات من القرآن الكريم تتحدّث عن صلاة الليل، والآن نلفت النظر إلى ثلاثة أحاديث شريفة في هذا المجال. 1. يقول النبي الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في السبب الذي صار فيه النبي إبراهيم(عليه السلام) خليل اللَّه:«مَا اتَّخَذَ اللَّهُ ابْراهيمَ خَليلًا إِلَّا لِاطْعامِهِ الطَّعامَ وَصَلاتِهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيامٌ» . ميزان الحكمة، باب 2311، ح 10738. ينبغي على الإنسان استغلال وقت السحر للتوغل إلى أجواء المعنويات والتحليق في آفاق الملكوت والانفتاح على اللَّه تعالى، فبعد أن يأخذ له قسطاً من النوم في أول الليل، يتحرك على مستوى الابتهال إلى اللَّه والانفتاح عليه في هذا الوقت المبارك. 2. ويقول النبي الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حديث آخر:«إِنَّ الْعَبْدَ إِذا تَخَلّى بِسَيِّدِهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ وَناجاهُ اثْبَتَ اللَّهُ النُّورَ فِي قَلْبِهِ ... ثُمَّ يَقُولُ جَلَّ جَلالُهُ لِمَلائَكِتِهِ: يا مَلائِكَتي انْظُرُوا إِلى عَبْدي فَقَدْ خلى بِي فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ وَالْباطِلُونَ لاهُونَ، وَالْغافِلُونَ نِيامٌ، أَشْهِدُوا عَنّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ» .المصدر السابق، باب 2312، ح 10751 3. ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) بالنسبة لصلاة الليل وما يترتب عليها من بركات معنوية وأخروية:«ما مِنْ حَسَنَةٍ إلّاوَلَها ثَوابٌ مُبين فِي القرآنِ إلّاصلاةِ اللّيلِ فإنّ اللَّهَ عَزّ اسمُهُ لَم يُبيّن ثَوابَها لعَظمِ خَطَرِها قَالَ:«فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُمْ مِّنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» » .تفسير مجمع البيان، ج 8، ص 109، طبع بيروت. قد يقال: ما هي العلاقة بين الآية التي استدل بها الإمام الصادق (عليه السلام) وصلاة الليل؟ نقول: إنّ الآية المذكورة وردت بعد قوله تعالى: «تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ...» الواردة في صلاة الليل. والخلاصة، طبقاً لهذه الرواية فإنّه لا يعلم حتى المعصومون عليهم السلام، بمقدار ثواب صلاة الليل. نسأل اللَّه تعالى أن يوفقنا جميعاً للنهوض من فراش الراحة والنوم في أوقات السحر، والإتيان بصلاة الليل لتبديل وجودنا النحاسي إلى ذهب.«الأقسام القرآنية، ص 285».

و بالقرآن نعرف فضائله المندوبه مثل «صلاة اللیل »(1)

ص: 143


1- . ما جاء مضمون فی كتاب شرح خطبة حضرت زهراء ، ص 333.

«ورخصه الموهوبه »

ای وبا لقران ننال رخصه الموهوبه (1)

مثلا یقول سبحانه فی سوره البقره:

( اُحِلَ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ). (187)

سبب النّزول

روي أن الأكل كان محرّما في شهر رمضان بالليل بعد النوم، و كان النكاح حراما بالليل و النهار في شهر رمضان. و كان رجل من أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقال له مطعم بن جبير شيخا ضعيفا، و كان صائما، فأبطأت عليه أهله بالطعام فنام قبل أن يفطر، فلما انتبه قال لأهله: قد حرّم عليّ الأكل في هذه الليلة.

فلما أصبح حضر حفر الخندق فأغمي عليه، فرآه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فرقّ له.

و كان قوم من الشباب ينكحون بالليل سرّا في شهر رمضان، فأنزل اللّه هذه الآية فأحلّ النّكاح بالليل في شهر رمضان، و الأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر(2).

ص: 144


1- . من شرح خطبة الزهراء الزنجانی، ص334.
2- . مجمع البيان، في تفسير الآية.

رخصة في أحكام الصّوم

مرّ بنا في سبب نزول الآية أن النكاح كان محرّما في ليالي شهر رمضان إضافة إلى نهاره، و أن الأكل و الشرب كانا محرمين في الليل أيضا بعد النوم، و لعل ذلك كان اختبارا للجيل الإسلامي الأوّل و إعدادا له كي يتقبل أحكام الصوم الثابتة.

الآية الكريمة تتضمن أربعة أحكام إسلامية في حقل الصوم و الاعتكاف.

تقول أولا: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ (1) إِلى نِسائِكُمْ.

ثم تذكر الآية سبب الحكم فتقول: (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ، لَهُنَ).

و اللباس يحفظ الجسم من الحر و البرد و أنواع الأخطار من جهة، و يستر عيوب الجسم من جهة اخرى، أضف إلى أنه زينة للإنسان، و تشبيه الزوج باللباس يشمل كل هذه الجوانب.

الزوجان يحفظ كل منهما الآخر من الانحراف و العيوب، و يوفّر كل منهما سبل الراحة و الطمأنينة للآخر، و كل منهما زينة للآخر.

هذا التعبير يوضّح غاية الارتباط المعنوي بين الرجل و المرأة و مساواتهما في هذا المجال، فالتعبير جاء للرجل كما جاء للمرأة بدون تغيير.

ثم يبين القرآن سبب تغيير هذا القانون الإلهي و يقول: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ.

فاللّه سبحانه وسّع عليكم الأمر و خفّفه، و جعل فيه رخصة بلطفه و رحمته، كي لا تتلوثوا بالذنوب.

فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ.

و هذا الأمر لا يعني طبعا الوجوب، بل هو رخصة بعد المنع، أو هو بتعبير الأصوليين «الأمر عقيب الخطر»، و يدل على الجواز عبارة وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ إشارة إلى أن الاستفادة من هذه الرخصة الكائنة في مسير قوانين الخلقة و حفظ النظام و بقاء النسل لا مانع فيها(2)

ص: 145


1- . الرفث: هو الحديث المكشوف عن المسائل الجنسية، و استعير لمعنى الجماع كما في الآية.
2- . الامثل فی تفسیر كتاب اللّه المنزل، ج1 ،ص538.

«و رخصه الموهوبه و شرایعه المكتوبه»

ورُخَصُه - وهى المباحات - الموهوبة للعباد أن يأخذوا بها ، وشرائعُه ، ولعلّ المراد بها ما سوى ما تقدّم من الأحكام كالحدود والديات أو الأعم ، المكتوبةُ أي المفروضة الواجبة ، أو المكتوبة في اللوح ، أو في الجامعة ونحوهما . وفي بعض الروايات : «وبيّناته الجالية ، وجمله الكافية» ولعل المراد بالبيّنات حينئذٍ المحكمات ، وبالجمل المتشابهات ، ووصفُها بالكافية إشارةٌ إلى أنّ معرفة الراسخين في العلم بها كافٍ في فائدتها ، فلا يتوهّم عدم الفائدة فيها(1).

«فجعل اللّه الایمان»

«... فَجَعَلَ اللّهُ الإِيمَانَ تَطْهِيراً لَكُمْ مِنَ الشِّرْك ...»

تشير الصدّيقة الطاهرة (عليها السلام) في القسم الثاني من خطبتها الشريفة إلى المسؤوليّة الثقيلة الملقاة على عاتق مسلمي ذلك العصر، والتي يجب أن تتولاّها الأجيال القادمة أيضاً، ألا وهي المحافظة على القيم والمُثُل الإسلاميّة ضمن حدود المجتمع الإسلاميّ، وإبلاغ رسالة الإسلام إلى ما وراء تخوم دار الإسلام. ثمّ تقول: «إنّ ما يمهّد لكم الطريق للنهوض بهذه المهمّة هو التمسّك بالقرآن الكريم الذي بيّن اللّه عزّ وجلّ فيه ما يلزم لسعادتكم في الدنيا والآخرة». وفي ختام هذا القسم تستعرض(عليها السلام) عشرين عنواناً هي من أهمّ تعاليم القرآن الكريم بدءاً بعبارة: «فَجَعَلَ اللّهُ الإِيمَانَ تَطْهِيراً لَكُمْ مِنَ الشِّرْك» وانتهاءً بجملة: «وَحَرَّمَ اللّهُ الشِّرْكَ إِخْلاصاً لَهُ بِالرُّبُوبِيَّة».

يشير مستهلّ وختام هذه اللائحة من العناوين إلى موضوع هو غاية في الأهمّية وهو أنّ روح الإسلام في الحقيقة- إنّما تتجسّد في عبادة اللّه الواحد واجتناب أيّ شكل من أشكال الشرك، وما العناوين الاخرى المذكورة بين هذين العنوانين إلا الأسباب والوسائل التي يُستعان بها لبلوغ هذا الهدف. وهذا يقودنا إلى نتيجة مفادها أنّ الإنسان لن يبلغ السعادة من دون عنصر الإيمان.

ص: 146


1- . كشف المحجّة في شرح خطبة اللمّة ج 1 ، ص 386.

العرض الحكيم لمسألة الإمامة

النقطة الاخرى التي تسترعي الانتباه في انتقاء العناوين العشرين هي أنّ الزهراء (عليها السلام) لدى سردها لتلك العناوين التي يعرفها الجميع والتي تُعدّ من ضروريّات الدين، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحجّ، والجهاد- قد أقحمت عنوانين بين عنواني الحجّ والجهاد يتعلّقان بالإمامة، بحيث إنّنا إذا ألقينا نظرة سريعة إلى تلك العناوين نشعر وكأنّها ينقصها الترتيب. لكنّنا سرعان ما نكتشف بعد قليل من الدقّة والتمحيص أنّ إقحام هذين الأمرين بين بقيّة العناوين، التي تُعدّ جميعها من النصوص القرآنيّة ومن ضروريّات الدين، ينطوي على تدبير وحكمة بالغين. فأوّلاً: الزهراء (عليها السلام) أحجمت عن التطرّق إلى قضيّة الإمامة في مطلع كلامها كي لا يتولّد لدى الحاضرين ردّ فعل عكسيّ فيقولون: لقد جاءت تطرح قضيّتها الشخصيّة، كما أنّها لم تشأ إرجاء ذكر هذا الأمر إلى آخر الخطبة ففي هذه الحالة لن يُولَى الأهمّية المطلوبة. ثانياً: لعلّ في إقحام هذين العنوانين بين العناوين الاخرى تنبيه إلى أنّهما لا يقلاّن أهمّية عن الصلاة، والصيام، والزكاة، والحجّ، والجهاد. فهي (عليها السلام) تريد أن تقول: إذا كنتم تعرفون تلك المسائل وتقرّون وتعترفون بها، فكيف نسيتم هذه القضيّة التي تُعدّ أهمّ من غيرها من بعض الجهات؟!

الإيمان مطهّر للقلوب

«فَجَعَلَ اللّهُ الإِيمَانَ تَطْهِيراً لَكُمْ مِنَ الشِّرْك»؛ أي تطهيراً لقلوبكم من لوث الشرك. للوهلة الاولى يبدو هذا المعنى غاية في البساطة، فكلّ مسلم مُقِرّ بالقرآن يفهم أنّ الهدف من الإسلام هو إزالة الشرك من على وجه الأرض وإحلال المجتمع الإيمانيّ محلّه؛ غير أنّ التركيز على هذا المعنى والتذكير به هو من باب تنبيه المستمع إلى أنّ الكلام لا يدور حول قضيّة سياسيّة، واقتصاديّة، واجتماعيّة بحتة؛ بل إنّ أساس دعوة الأنبياء هو ما يرتبط بقلب الإنسان. فمع أنّ العادة جرت على طرح الإسلام في مقابل الشرك، والإيمان في مقابل الكفر، فإنّ مولاتنا (عليها السلام) لا تقول: «جعل الإسلام تطهيراً لكم من الشرك»، بل هي تؤكّد على قضيّة الإيمان. فالقرآن نفسه يفرّق بين الإيمان والإسلام ويعرّف الإيمان بأنّه العامل لسعادة الإنسان في قوله: (قَالَتِ الأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ

ص: 147

الإيمانُ في قُلُوبِكُم)(1). أي إنّ ما تقولونه فعلاً يتّصل باللسان، ولابدّ أن تتبعه مرحلة العمل أيضاً، أمّا الإيمان فيأتي بعد تلك المراحل. فالإيمان ينبغي أن يدخل إلى القلب ثمّ يسري من القلب إلى اللسان والأعضاء والجوارح. فمقرّ الإيمان الأساسيّ هو القلب.

ما يكون في مقابل الإيمان عادةً هو الكفر؛ غير أنّ الزهراء (عليها السلام) قد استخدمت لفظة الشرك في مقابل الإيمان. ويمكن هنا طرح تبريرين لهذا الاستعمال: الأوّل: هو أنّ المخاطَبين بدين الإسلام في الجزيرة العربيّة لم يكونوا من الملحدين الطبيعيّين المنكرين لله تعالى، ومن هنا فقد ورد في العديد من الآيات أنّك إذا سألتهم عن الذي خلق السماوات والأرض ليقولُنّ اللّه: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّه)(2). فهؤلاء كانوا يؤمنون بآلهة يتصوّرون أنّ لها تأثيراً في تدبير العالم، ومن هذه الناحية فإنّ عملهم كان شركاً في واقع الأمر. أمّا التبرير الثاني لهذا الاستعمال فهو أنّ الشرك المقصود هنا حسب تقديري الشخصيّ- هو الشرك الذي يكون عن غير وعي. وتوضيح ذلك هو أنّ الناس جميعاً يقبلون اللّه بالفطرة، وإن كانوا، في الظروف العاديّة، غير ملتفتين إلى اعتقادهم هذا، لكنّهم يتوجّهون إلى الباري تعالى في الحالات الاضطراريّة. إذن فأيّ اعتقاد آخر غير الاعتقاد باللّه يمثّل في الحقيقة شركاً؛ بمعنى أنّهم يقولون بآلهة مجعولة إلى جانب إلههم الفطريّ.

البراغماتيّة؛ انحراف خفيّ

يعتقد البعض أنّ القيمة الحقيقيّة يحدّدها العمل. وهذا هو ما يسمّى بالنزعة العمليّة التي لاقت رواجاً بين فلاسفة الغرب في القرن الأخير حيث اعتقدوا أنّ حقّانية الشيء إنّما تحدّدها فائدته في مقام العمل. يقول وليم جيمس، وهو عالم نفس أمريكيّ معروف: إنّ أنجع الطرق لعلاج الأمراض النفسانيّة هي العبادة؛ لكنّ دليله على ذلك هو فائدة العبادة في معالجة المصابين بالذُّهان. وهذه النزعة هي نزعة براغماتيّة مفادها أنّ حقّانية الشيء يتمّ إثباتها من خلال العمل بغضّ النظر عمّا إذا الشيء نفسه حقّاً أم باطلاً. فالبراغماتيّون

ص: 148


1- . سورة الحجرات، الآية 14.
2- . سورة لقمان، الآية 25؛ وسورة الزمر، الآية 38.

يقولون: حتّى لو كان الشيء كذباً لكنّه ثبتت فائدته من الناحية العمليّة فسيكون ذا قيمة حقيقيّة.

وهذا التوجّه ملحوظ عند أغلب الناس لكن مع بعض الشدّة والضعف. ولعلّه يلاحَظ بشدّة بالغة عند بعض الأشخاص المعروفين في بلدنا، كما أنّ الناس أيضاً يشجّعون على مثل هذه الميول. فأمثال هؤلاء لا يعيرون أيّ أهمّية لبطلان مباني عقيدة معيّنة أو نظريّة ما، وجُلّ ما يهتمّون به هو التقدّم على صعيد الحياة المادّية. الميل إلى هذا التوجّه هو طبيعيّ إلى حدّ ما. فنحن أبناء الطبيعة، وإنّ أوّل ما وقعت أعيننا عليه هو تلك الاُمور الطبيعيّة. فإدراك ما يكون وراء الطبيعة والتعلّق باُمور ليست هي ممّا يُدرَك حسّياً، هو أمر يتخطّى اُفق المذهب المادّي؛ والحال أنّ المذهب المادّي هو مقتضى طبيعتنا المادّية. هذه المشكلة كانت قائمة حتّى عند أقوام الأنبياء الماضين، نذكر من بينها قصّة بني إسرائيل التي تستحقّ حقّاً وقفة تأمّل واستلهام للعبر. فعندما هاجر بنو إسرائيل من مصر برفقة موسى(عليه السلام) صادفوا منطقة معتدلة الطقس تكسوها الخضرة فيها قوم يعكفون على أصنام لهم يعبدونها، وقد صنعوا لعبادتهم أصناماً جميلة، وكانت تتخلّل مراسم العبادة دبكة يحدث فيها الاختلاط والاُنس والطرب. فعندما شاهد بنو إسرائيل هذه المنطقة الحسنة الطقس، وتلك الأصنام الجميلة، والاحتفالات الجذّابة، جاءوا إلى موسى (عليه السلام) قائلين: (يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ)(1).

فالنزوع نحو الطبيعة والمحسوسات أمر عاديّ، وقد تحمّل الأنبياء أعباء كبيرة في توجيه أنظار البشر إلى ما وراء الطبيعة وإفهامهم أنّ اللّه تعالى ليس جسماً. وبطبيعة الحال فإنّ المسائل المعنويّة وقضايا ما وراء الطبيعة لن تفتح أبوابها بسهولة مع وجود هذه الروح وهذا النمط من التفكير. فإذا قيل لأمثال هؤلاء: إنّ اللّه سيثيبكم خيراً، فسيظنّون أنّ الثواب هو كثرة الأمطار وزيادة المحصول. فأمثال هؤلاء لا يشغلهم العالم الآخر وجنّة الباري عزّ وجلّ بشكل جدّي. فلو أنّ الإنسان ابتُلي فعلاً بالمحن والفقر والمرض وفقدان الهويّة الاجتماعيّة، وذاق حقّاً مرارة تلك المآسي، فأيّهما سيكون أكبر قيمة بالنسبة له، أنْ يعلم أنّ عاقبة كلّ تلك المصاعب والمشاقّ هي الجنّة التي يصفها اللّه تعالى بقوله: (لَهُمْ غُرَفٌ مِّن

ص: 149


1- . سورة الأعراف، الآية 138.

فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تجَرِي مِن تَحْتهِا الأَنْهَارُ)(1)، أم أنْ يُعطَى أصناف الفاكهة والأطعمة ويُفتَح له حساب مصرفيّ ضخم؟ فالذين هم على استعداد لتحمّل كلّ تلك المحن والمشاقّ طواعية ولا يطلبون بذلك غير وجه اللّه تعالى هم عملة نادرة للغاية.

رماد في مهبّ الريح

يجعل القرآن الكريم الأصالة للإيمان ولا يعطي أيّ قيمة للعمل الذي يخلو من الإيمان. لكنّه يصعب علينا جدّا التصديق بذلك، وقد سعى القرآن الكريم من جانبه جاهداً لإفهامنا هذا المعنى. فالقرآن يبالغ في إضفاء الطابع الحسّي على مسألة الكفر والشرك، ويبيّنها لنا بأمثلة مبسّطة كي نستوعبها بشكل جيّد. فهو يقول في سورة إبراهيم: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ)(2)؛ ويقصد بالأعمال تلك التي يعتقدون أنّها مدعاةٌ لسعادتهم فهي كذرّات الرماد في يوم عاصف تنثرها الرياح ولا تبقي منها أثراً، ولن تكون لديهم القدرة على جمعها ثانية والاحتفاظ بها. لماذا؟ ذلك أنّ أعمالهم لم تكن مبنيّة على اُسس إيمانيّة بل كانت نابعة من الكفر مرتكزة عليه. ويقول في موضع آخر: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يجَعَلِ اللّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ)(3)؛ أي إنّ مَثَلهم في ذلك مثل الغريق في بحر هذه صفته. فأيّ ظلمة ابتُلي بها هذا الشخص؟ كلّ هذه الظلمات إنّما تنشأ من انعدام الإيمان ومن الكفر والضلالة، فمهما أنجز من أفعال الخير فانّه لن ينفعه بشيء.

فالقرآن يلحّ في تكرار هذه الأمثلة ليقول لنا: القضيّة ليست كما تظنّون من أنّ مجرّد كون العمل حسناً فهو محقّق للسعادة. فالعمل الذي يقودكم نحو السعادة هو ذلك العمل الذي يربطكم باللّه عزّ وجلّ. وفي المقابل فإنّ العمل الذي تقومون به إرضاء لأنفسكم، أو جلباً

ص: 150


1- . سورة الزمر، الآية 20.
2- . سورة إبراهيم، الآية 18.
3- . سورة النور، الآية 40.

لثناء الآخرين، أو استمالةً لأصوات الناس في الانتخابات لن يعود عليكم بالنفع قطّ. لكنّ العمل المنجَز من منطلق الإيمان باللّه تعالى والمتّصل بالعالم الذي لا يفنى سوف يبقى إلى الأبد وهو الذي يمتلك القدرة على حلّ مشاكلكم: (مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ)(1).

يقول اللّه تبارك وتعالى: إذا كان العمل لمرضاتي فسأمنحه من البركة والقيمة ما يجعله باقيا إلى الأبد وينمو يوماً بعد يوم، ويزداد روعة وجمالاً. وعندما يأتي دور الإثابة فإنّني لن أنظر إلى صغائر أعمالكم، بل أجعل أفضل أعمالكم هو المقياس في الإثابة: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ)(2). فأنا اُثيب على الأعمال الصغيرة بعشرة أمثالها حيناً، وبسبعمائة ضعف حيناً آخر، ولا يمثّل هذا أعلى سقف في الإثابة: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّاْئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء)(3). أمّا إذا لم يرتبط العمل باللّه، بل انحصر في نطاق أنفسكم ومريديكم وجماعتكم وحزبكم، فسيبقى في هذا النطاق. وعلى الرغم من احتمال ترتّب الأثر عليه في الدنيا، لكنّه سيقال لكم يوم القيامة: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا)(4)، فقد أنجزتم عملكم في سبيل الدنيا، وجنيتم ربحه وتقاضيتم أجركم فيها.

القوميّة؛ رجوع إلى الجاهليّة

من الانحرافات الفكريّة في عصرنا الحاضر التي تُعدّ من جملة صنائع أيادي إبليس الماهرة هي إشاعة فكرة أنّ القيمة لا تكون إلاّ في السلوك، والقوميّة، والآباء، والأجداد، ولا ينبغي الحديث بعد الآن عن اللّه والإسلام وما إلى ذلك.

ص: 151


1- . سورة النحل، الآية 96.
2- . سورة العنكبوت، الآية 7.
3- . سورة البقرة، الآية 261.
4- . سورة الأحقاف، الآية 20.

ومن هنا ندرك السبب الذي دفع الصدّيقة الطاهرة (عليها السلام) ، عندما أرادت أن تبيّن محتوى الإسلام الحنيف، إلى الاستهلال بهذه العبارة: «فَجَعَلَ اللّهُ الإِيمَانَ تَطْهِيراً لَكُمْ مِنَ الشِّرْك» والختام بهذه الكلمات: «وَحَرَّمَ اللّهُ الشِّرْكَ إِخْلاصاً لَهُ بِالرُّبُوبِيَّة»؛ ذلك أنّ الدين يبدأ بهذا ويُختَم به وليس باقي الاًمور سوى آثار وبركات تترتّب عليه بإذن اللّه تعالى؛ فلا يمكن بحال من الأحوال عدّ هذه في مقابل تلك.

الصلاة تحطّم التكبّر

«... وَالصَّلاَةَ تَنْزِيهاً لَكُمْ عَنِ الْكِبْر ...»

تحصي مولاتنا الزهراء (عليها السلام) في القسم الثاني من هذه الخطبة الشريفة أسرار عدد من العناوين التي يطرحها القرآن الكريم. وقد أوردنا في المحاضرة الماضية توضيحاً مقتضباً للعنوان الأوّل ألا وهو الإيمان. أمّا العنوان الثاني الذي ذكرته الزهراء (عليها السلام) فهو الصلاة، حيث تقول: «وَالصَّلاَةَ تَنْزِيهاً لَكُمْ عَنِ الْكِبْر».

العلل المذكورة في هذه الكلمات لتلك العناوين لا تعطي معنى العلل التامّة للتشريع؛ وهذا يفسّر لنا تشابه هذه العلل تارة واختلافها تارة اُخرى مع ما ذُكر منها لنفس هذه العناوين في نهج البلاغة. أساساً إنّ السرّ في اختيار إحدى تلك العلل وذكرها هنا هو أحد أمرين؛ فإمّا أن تكون هذه العلّة هي الأبرز والأهمّ مقارنة بغيرها، أو أن تكون هي العلّة المتناسبة مع مقام البحث.

النقطة الاُخرى التي تستحقّ الذكر هي أنّ العلل التي تشترك فيها جميع العبادات، من قبيل التقرّب من اللّه، وكسب رضاه، والتثبيت، والتمرين على العبوديّة، وما إلى ذلك هي معلومة من ناحية، وإنّ تكرار سردها جميعاً مع كلّ واحد من تلك العناوين هو بعيد عن البلاغة من ناحية اُخرى.

ص: 152

التكبّر عدوّ العبوديّة

تقول سيّدتنا الزهراء (عليها السلام) : إنّ السرّ من وراء تشريع اللّه للصلاة على العباد وتأكيده عليها في كتابه العزيز هو إنقاذ الناس من براثن التكبّر. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا هو لماذا تعطى صفة الكبر هذا الحجم من الأهمّية إلى درجة أنّ اللّه تعالى يشرّع الصلاة من أجل التطهير منها، أو هي الخصوصيّة الأبرز للصلاة على أقلّ تقدير، على الرغم من وجود الكثير من الصفات المذمومة الاُخرى؟ والنقطة التي تسترعي الالتفات هنا هي أنّ طريق التقرّب إلى اللّه أساساً بل السبيل الوحيد لبلوغ السعادة الأبديّة يكمن في العبوديّة، وإنّ ما يتعارض مع هذا الهدف هو الإحساس بالكبر. فالعبوديّة تعني أنّني لا أملك أيّ شيء من نفسي: (عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ)(1)؛ أمّا المتكبّر فلسان حاله يقول: إنّني عظيم جدّاً ولن اُطأطئ رأسي لأيّ أحد مهما كان! فإذا تحوّلت هذه الصفة في النفس إلى ملَكة فسوف لن يكون المرء على استعداد لأن ينحني حتّى أمام الباري عزّ وجلّ. والحال أنّ الطريق الوحيدة لسعادة الإنسان هي خضوعه التامّ بين يدي اللّه تعالى. في زمان النبيّ الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عرض عليه جماعة من شيوخ قبائل العرب مقترَحاً مفاده أنّنا مستعدّون لقبول الإسلام ووضع أرواحنا وأموالنا تحت تصرّفك بشرط أن تعفينا من السجود في الصلاة، فليس من شأننا أن نمرّغ جباهنا في التراب. فقال لهم النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا خير في دين ليس فيه ركوع وسجود»(2)، فإذا رغبتم في الإسلام فعليكم القبول بسجوده أيضاً. فبعض الناس مستعدّون للتضحية بأنفسهم وأموالهم بشرط أن لا يسجدوا لله! فكم روح التكبّر والغرور متجذّرة في كيان هؤلاء!

التكبّر كان العامل من وراء طرد إبليس

وهذا هو عين المرض الذي كان يشكو منه إبليس والذي تسبّب في لعنه وطرده من رحمة الباري عزّ وجلّ بعد ستّة آلاف سنة من العبادة. فقد كان غارقاً في العبادة إلى درجة أنّه لم يكن يختلف عن باقي الملائكة في شيء، ولهذا فقد شمله الأمر الموجّه إلى الملائكة

ص: 153


1- . سورة النحل، الآية 75.
2- . بحار الأنوار، ج18، ص203.

بالسجود أيضاً، لكنّه رفض السجود قائلاً: (أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ)(1). فإذا أحببنا أن نترجم كلام إبليس باللغة المعاصرة نقول: «أمرُك هذا ليس له تبرير عقلائيّ! فالشخص الأقل قيمة هو الذي ينبغي أن يخضع للأكبر قيمة، وبما أنّني مخلوق من النار، والنار أشرف من التراب، فإنّني أشرف من آدم»! فقد ساق قياساً ورتّب استدلالاً غافلاً عن أنّ المسألة في الحقيقة هي طاعة لله وخضوع في مقابل عظيمٍ يستحيل افتراض من هو أعظم منه. هذا في حين أنّه لم يُنقل أنّ إبليس قد عصى ربّه ولو مرّة في غضون تلك الآلاف من السنين، لكنّه بعد كلّ تلك السنين أذنب ذنباً واحداً وهو أنّ اللّه تبارك وتعالى قال له: اسجد لآدم. فقال: لن أسجد. فكيف لهذا الذنب الواحد أن يوجب طرده من رحمة اللّه عزّ وجلّ، والتغاضي عن عبادته لستّة آلاف سنة؟ وإذا شئنا أن نعرض الشبهة بلغتنا العصريّة يتعيّن القول: أيّ عدالة هذه في أن يتغافل اللّه تعالى عن عبادة ستّة آلاف سنة بسبب ذنبِ ساعة؟ لكنّ فتاوانا ومقاييسنا في حساباتنا لمثل هذه الموارد تختلف عن تلك التي لله عزّ وجلّ. فكأنّ اللّه يقول له: هذا العصيان وهذا الاستنكاف من السجود هو مؤشّر على أنّك منذ اليوم الأوّل لم تكن مصمّماً من أعماق قلبك على امتثال أيّ أمر آمرك به.

فالإيمان هو أن يتعهّد المرء بأن يطيع اللّه بكلّ ما يأمره، وهو لن يكون مقبولاً إلاّ إذا اعتقد المرء بأنّ كلّ أمر إلهيّ هو واجب الامتثال من دون قيد أو شرط. فإن قال أحدهم: إنّني اُذعن لكلّ أوامر اللّه عزّ وجلّ لكنني استثني أمراً واحداً، فهذا غير مقبول، إذ أنّ الإسلام لا يقبل إيماناً فيه استثناء، ولابدّ للإيمان أن يكون مطلقاً. فقولهم: (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ)(2) هو بمثابة الكفر المطلق. فإذا علم الشخص بحقيقة من حقائق الإسلام ثمّ أنكرها، فهو كمَن أنكر الإسلام كلّه؛ ذلك أنّه إذا كان قد اعتنق الإسلام لوجه اللّه، فعليه أن يقبل هذه الحقيقة أيضاً؛ لأنّها أيضاً من اللّه. فإن لم يقبل بها، صار معلوماً حينها أنّه أساساً لم يؤمن بباقي الحقائق من أجل اللّه تعالى، بل لاُمور اُخرى؛ مثلاً لأنّ الإيمان بها لا يسبّب له ضرراً، أو لكونها سهلة، أو لا تخالف هواه، أو لسبب آخر. فشخص كهذا يفتقد روح الإيمان. ومن هنا فالأمر لا يخرج عن حالتين: إمّا أن يقبل ويؤمن بكلّ ما يقوله اللّه تعالى،

ص: 154


1- . سورة ص، الآية 76.
2- . سورة النساء، الآية 150.

أو لا يقبل؛ فالحالة الاُولى هي إيمان، والاُخرى هي كفر؛ فالإيمان الذي يشكّل نسبة 99 بالمائة هو مساو لذلك الذي نسبته صفر بالمائة.

الطغيان على اللّه تعالى

من الممكن أن يكون المرء تاركاً للصلاة ولم يمتثل لحكم اللّه حتّى مرّة واحدة في حياته؛ لكنّه يعترف خجِلاً من نفسه قائلا: إنّني متقاعس، وقد غلبتني الشهوة والغضب، لكنّ حكم اللّه واجب الامتثال، وإنّني خجل من نفسي وآمل أن اُوفّق إلى التوبة وأعوّض ما فات. فهذا ليس بالكفر. الكفر هو عندما يعترض الإنسان على حكم اللّه قائلاً: أيّ حكم هذا؟ أو أن يقول مثلاً: ما الفرق بين الصلاة قبل طلوع الشمس أو بعدها؟! فالذي يستدعي الكفر هو عدم القبول بحكم اللّه تعالى. أمّا إذا اعتقد المرء بالحكم الإلهيّ، لكنّه شعر بالخجل والتقصير فهذا، وإن كان عصياناً عظيماً، إلاّ أنّه لا يؤدّي إلى الكفر.

فمفاد قول إبليس: (لَمْ أَكُن لأِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ)(1) هو: لم يكن أيّ داع لأن توجّه الأمر لي بالسجود لآدم، وإنّ أمرك لم يكن عن تعقّل! ومن هنا فإنّه عندما وصل الأمر إلى هذا الحدّ، كان ردّ الباري عزّ وجلّ: (فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ)(2)، ليأتي قول القرآن بعد هذه الحادثة: (وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)(3)؛ أي: لقد كان يضمر في نفسه منذ البداية فكرة: أنّني لا أقبل بالامتثال لأيّ أمر إلهيّ! ولقد قال هنا عن تعجرُف أيضاً: لن أسجد! فالأمر لم يقتصر على عدم العمل بسجدة واحدة فحسب؛ بل إنّ كلامه هذا يفصح عن كفره. فقول البعض في أشعارهم ومواعظهم إنّ إبليس قد رمى به الدهر إلى هذا المصير لعدم امتثاله لسجدة واحدة هو غير حقيقيّ، فالقضيّة لم تكن مجرّد سجدة واحدة، لأنّ البعض قد يترك الصلاة لأعوام متمادية ثمّ يوفّق إلى التوبة ويؤوب إلى جادّة الصواب. إذن فاللعنة الأبديّة التي أصابت إبليس كانت بسبب تركه الإيمان.

ص: 155


1- . سورة الحجر، الآية 33.
2- . سورة الحجر، الآيتان 34 و35.
3- . سورة البقرة، الآية 34.

وقد توجد في أنفسنا نحن أيضاً بعض مراتب روح الطغيان هذه، والأمارة على ذلك هي أنّ الإنسان لا يطيق أقلّ إهانة له بل وقد يترك واجباً بسبب بعض التبرّم والانزعاج. فالناس متفاوتون في مقدار ما يحملونه في قلوبهم من خزين التكبّر، غير أنّ مقداراً قليلاً من هذه الصفة الذميمة يُعدّ خطيراً؛ خاصّة إذا علمنا أنّ هذه الصفة كالبذرة تنمو وتكبر لتستوعب تدريجيّاً تمام قلب الإنسان وهو أمر بالغ الخطورة.

نحن موافقون على أنّ طريق السعادة الأبديّة هو العبوديّة لله، وأنّ هدف الخلقة أساساً هو هذا أيضاً: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)(1)، وأنّ العبادة تمثّل منتهى التصاغر والتضاؤل بين يدي اللّه عزّ وجلّ. فإنّ ألدّ أعداء هذا الهدف هو التكبّر والغرور. ففي عالم الخلقة لم يبلغ أحد مقام سيّد المرسلين محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الفضيلة، لكنّه - مع ذلك - كان يستيقظ بعد منتصف الليل من رقاده ويخرّ لله ساجداً واضعاً جبينه على التراب، ويقول وهو يئنّ تأوّهاً ودموعه تجري على وجنتيه: «اللّهمّ لا تَكِلْني إلى نفسي»(2). فما هي درجة إدراكه لله عزّ وجلّ حتّى يتذلّل بهذا الشكل في حضرة الإله المتعال؟ إذن يتعيّن علينا أن ندرك هذا الصِّغَر والذلّة بين يدي اللّه تعالى كي نصل تدريجيّاً إلى مقام القرب الإلهيّ. ومن أجل الوصول إلى مثل هذا المقام علينا السعي منذ الخطوة الاولى إلى اجتثاث جذور الكبر من قلوبنا وشحنها بالتواضع. وإنّ أفضل السبل التي قيّضها اللّه لجميع البشر من أجل بلوغ هذا الغرض هي «الصلاة». فينبغي لنا أن نخرّ إلى التراب عدّة مرّات في اليوم واضعين أشرف عضو من أبداننا عليه لنجسّد منتهى الخضوع والتذلّل في أنفسنا؛ لماذا؟ «تَنْزِيهاً لَكُمْ عَنِ الْكِبْر»، لأنّه عزّ وجلّ يريد أن يربّيكم تربية توصلكم إلى ذلك المقام الرفيع الأمر الذي لا يحصل إلاّ في ظلّ التذلّل بين يدي العزيز الجبّار. فما دام في قلب المرء ولو ذرّة من الكبر، فهو لن يصل إلى ذلك المقام.

ص: 156


1- . سورة الذاريات، الآية 56.
2- . بحار الأنوار، ج18، ص204.

جذور الكفر

لقد ذُكر الكبر والحسد والحرص في روايات أهل البيت(عليهم السلام) بعنوان كونها اُصولاً للكفر؛ بمعنى أنّه إذا توفّرت تلك الصفات في قلب المرء فستكون كالبذور التي تخضرّ شيئاً فشيئاً ويصير لها ساق وأغصان وأوراق ثمّ تثمر وما ثمارها إلاّ الكفر! إذ أنّ من لوازم الكبر أن يقول المرء: «لا يتعيّن على الإنسان أن يقبل بكلّ ما يقول اللّه عزّ وجلّ لأنّ الإنسان له عقل. فالنبيّ قد طرح اُموراً قبل 1400 سنة بما ينسجم مع ظروف ذلك العصر وثقافته وقد كان بعضها صحيحاً وبعضها الآخر غير صحيح ويحتاج إلى عرضه للنقد والمناقشة»! وانطلاقاً من هذه الروح وتحت شعار قابليّة القرآن للنقد يصنّف البعض كتاباً ضدّ القرآن يقولون فيه: «لابدّ من طرح القرآن على طاولة النقد؛ فما وافق العلم منه فهو صحيح، وما لم يوافق عليه العلم فلابدّ من نبذه جانباً»! وما منشأ هذه الروح إلاّ الكبر. ولا أستبعد أبداً أنّنا لو تفحّصنا وتقصّينا بواطن جميع الشخصيّات التي كانت تمثّل أئمّة الضلال وأئمّة الكفر لوصلنا إلى نتيجة مفادها أنّ العامل الأساسيّ لانحرافهم كان التعجرف والكبر والغرور.

فإذا كان لهذه الصفة كلّ هذه الأهمّية، أليس من المناسب أن يشرّع اللّه عزّ وجلّ الصلاة تطهيراً من هذا الفساد واجتثاثاً لجذوره؟ فهذه الخاصّية البارزة للصلاة تفتقر إليها سائر العبادات. ولقد وردت في القرآن الكريم تعابير خاصّة فيما يتعلّق بالسجود؛ إذ يقول عزّ من قائل: (وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً)(1)، ولا يخطر في بالي تعبير مشابه لهذا ورد بخصوص أيّ عبادة اخرى. فالباري تعالى يقول أوّلاً: فليكن سجودكم في جوف الليل؛ ذلك أنّ ذهن الإنسان يكون أقلّ انشغالاً في الظلمة والخلوة والسكون. ويقول ثانياً: «لَيْلاً طَوِيلاً» وليس بضعة دقائق. أي: عليك ان تقضّي ليلاً طويلاً في السجود والتسبيح.

كان اُويس القرنيّ يقول في بعض الليالي: هذه الليلة ليلة سجود، فكان يقضّيها من أوّلها إلى آخرها في السجود. كما ونُقل عن أحوال المرحوم الشيخ حسن عليّ النخودكيّ أيضاً أنّه كان يقضّي ساعات طويلة في سجدة أو ركعة واحدة. إذ يروي أحد خدّام حرم الإمام عليّ بن موسى الرضا(عليهما السلام) : في إحدى الليالي التي كانت تهطل فيها الثلوج توجّهتُ إلى الحرم الطاهر سحراً لرفع أذان الصبح، فرأيته الشيخ النخودكيّ إلى جوار قبّة الحرم راكعاً وقد تراكم على

ص: 157


1- . سورة الإنسان، الآية 26.

ظهره حوالي أربعة أصابع من الثلج. فلمّا اقتربت ساعة الأذان أتمّ صلاته وقام فنفض عن نفسه الثلج وذهب. ولقد أعطى اللّه تعالى لهذا العبد الصالح من الكرامات بحيث إنّه كان يعالج أمراض الناس بحبّة الكشمش والتمر. فإذا علم هذا الشخص المفوّض أمره إلى لله إلى هذا الحدّ - أنّ اللّه يحبّ أن يقضي ليله راكعاً له أو ساجداً، فسوف يقول من فوره: سمعاً وطاعة! فما دمتَ يا إلهي تحبّ ذلك فسأسجد لك حتّى السحر! فيقول اللّه تعالى في جوابه: بما أنّك عبدي، فسأجعل شفاء المرضى على يدك. فأيّ معاملة هذه! ألا يستحقّ الأمر كلّ هذا؟ «وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً»؛ فكُنْ عبداً، وتصاغَر أمام اللّه من الليل حتّى الصباح، واسجد له، لأنّ السجود يمثّل أسمى صور التصاغر والتذلّل في حضرة الإله المتعال. ومن هنا نفهم أيّ كلام حكيم أطلقته الزهراء (عليها السلام) وأي أسرار مخبّأة في كلماتها.(1)

التكبّر على مَنْ؟

يقسّم علماء الأخلاق التكبّر إلى ثلاث أقسام:

1. التكبّر أمام اللَّه.

2. التكبّر مقابل الأنبياء.

3. التكبّر على خلق اللَّه.

والمراد من التكبّر مقابل اللَّه تعالى والّذي يُعد من أسوأ أنواع التكبّر وناشئاً من غاية الجهل هو أنّ الإنسان الضعيف يدّعي الإلوهية، وليس فقط أنّه لا يرى نفسه عبداً للَّه بل يسعى إلى دعوة الناس لعبادته أيضاً، أو يقول كما قال فرعون (... انَا رَبُّكُمُ الْاعْلَى)(2) أو يقول (... مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ الهٍ غَيْري ... )(3).

ومن البعيد جداً أن يرى الإنسان مثل «فرعون» الّذي حكم أرض مصر سنين متمادية أنه واقعاً «الربّ الأعلى» للناس وأنّه معبود الناس جميعاً حتّى لو كان على درجة شديدة من

ص: 158


1- دروس الاخلاق المصباح الیزدی
2- . سورة النازعات، الآية 24.
3- . سورة القصص، الآية 38.

قلّة العقل وقلّة الذكاء، إذن فالمراد حسب الظاهر أنّ فرعون وأمثاله ولغرض تحميق عامّة الناس واستحمار السُذّج منهم أن يدعوا هذا الأدّعاء لتثبيت أركان حكومتهم وسيطرتهم.

الشكل الآخر من التكبّر إمام اللَّه هو ما نجده من تكبّر إبليس وأتباعه حيث استكبروا ورفضوا إطاعة اللَّه تعالى من موقع الأفضلية لأنفسهم والاعتراض على الحكم الإلهي وأمره حيث قالوا: إنّ إبليس الّذي خلق من النار لا ينبغي له السجود لمخلوق من تراب كما تقول الآية على لسان إبليس: (... لَمْ اكُنْ لِاسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَاءٍ مَسْنُونٍ)(1)، أو تقول الآية: (... قَالَ انَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(2).

أجل فإنّ الحجاب العظيم للكبر والغرور قد يصل إلى درجة أن يحجب عقل الإنسان وبصيرته عن رؤية حقائق الامور وأنّه موجود ضعيف فيرى انه أعلم من اللَّه تعالى.

القسم الآخر للتكبّر هو التكبّر في مقابل الأنبياء والمرسلين الّذين أرسلهم اللَّه تعالى إلى أقوامهم كما نرى هذه الحالة في طوائف المستكبرين من الأقوام السالفة أمام أنبيائهم اذ رفضوا طاعة الأنبياء من موقع التكبّر والغرور وقالوا: (... أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا ... )(3) أي موسى وهارون، وتارة كانوا يقولون مثل مقولة قوم نوح (عليه السلام): (وَلَئِنْ اطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ انَّكُمْ إذاً لَخَاسِرُونَ)(4).

وتارة اخرى يتذرعون بذرائع طفولية ويقولون من موقع العناد واللجاجة: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَائَنَا لَوْلَا انْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنَا)(5).

القرآن الكريم يقول في سياق هذه الآيات الشريفة: (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي انْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً)(6).

ص: 159


1- . سورة الحجر، الآية 33.
2- . سورة الأعراف، الآية 12.
3- . سورة المؤمنون، الآية 47.
4- . سورة المؤمنون، الآية 34.
5- . سورة الفرقان، الآية 21.
6- . المصدر السابق.

القسم الثالث من أقسام التكبّر هو التكبر في مقابل عباد اللَّه بحيث يرى نفسه أعلى منهم ويرى الآخرين من موقع الحقارة والدنائة وأنّهم لا قيمة لهم أمامه وبالتالي فلا يرى للآخرين حقّاً عليه بل يتوقع من الآخرين أن يحترمونه ويعترفون بعظمته ويذعنون لأوامره ومطاليبه.

وهذا النوع من التكبّر له نماذج كثيرة في حياتنا الإجتماعية فلا حاجة للإطالة في شرحه وبيان مصاديقه وموارده، وقد يمتد هذا النوع من التكبّر ويصل إلى درجة في أعماق النفس إلى التكبّر في مقابل الأنبياء ثمّ التكبّر أمام اللَّه تعالى.

أجل فإنّ نار التكبّر والغرور تنشأ من التكبّر في مقابل عباد اللَّه عادة ثمّ يتدرج الإنسان ويتمادى في هذه الحالة حتّى يتكبّر أمام دعوة الأنبياء ويرفض إطاعتهم وبالتالي يصل به الأمر إلى التكبّر أمام اللَّه تعالى.(1)

مفاسد التكبّر وعواقبه الوخيمة

إن هذا الخلق الذميم كما سبقت الإشارة إليه له آثار مخربة جداً وعواقب وخيمة تعرض على روح الإنسان ومعتقداته وأفكاره، وكذلك تعرض على المجتمع البشري أيضاً بحيث يمكن القول انه ليس هناك جهة من جهات حياة الإنسان الفردية والإجتماعية تقع في أمان من عواقب هذه الصفة الأخلاقية السلبية، ويمكن الإشارة إلى عدّة موارد منها فيما يلي:

1: التلوث بالشرك والكفر

إنّ أوّل مفسدة وأخطرها هو أن يورث التكبّر صاحبه التلوث بالشرك والكفر، فهل لكفر إبليس وانحرافه من مسير التوحيد بل حتّى اعتراضه على حكمة اللَّه تعالى وأمره، له أصل ومصدر غير الكبر في نفس إبليس؟

وهل أنّ الفراعنة والنمروديين وغيرهم من الأقوام الطاغية الّذين رفضوا دعوة الأنبياء كان لهم دافع غير التكبّر؟

أنّ التكبّر لا يبيح للإنسان أن يستسلم ويذعن أمام الحقّ، لأن التكبّر والغرور هو في الحقيقة حجاب سميك على بصيرة الإنسان فيحجبه عن رؤية جمال الحقّ بل أحياناً يرى

ص: 160


1- . الاخلاق فی القرآن ج2 ص:36

ملائكة الحقّ على شكل موجود مخيف وموحش، وهذا من أعظم الضرر الّذي يلحق بالإنسان من جراء التكبّر، ولعلّه لهذا السبب ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) عندما سأله الراوي عن أقل درجة الإلحاد فقال له الإمام «إنَّ الْكِبْرَ ادْنَاهُ»(1).

2: الحرمان من العلم والمعرفة

وأحد العواقب المشؤومة للتكبّر هو أنّ الإنسان يحرم نفسه من العلم والمعرفة ويعيش حالة الجهل المركب دائماً لأن الإنسان إنّما يصل إلى حقيقة العلم والمعرفة فيما لو سعى لتحصيلها من أي شخص وأي طريق كما يبحث الشخص عن جوهرة ثمينة والحال أنّ المتكبّر لا يكون مستعداً لتحصيل العلوم والمعارف من الأشخاص الّذين يراهم دونه أو في مرتبته.

الأشخاص الّذين يتحرّكون في سبيل طلب العلم والمعرفة هم الّذي يعيشون التحرر في أفكارهم من القوالب النفسانية في حين أنّ صفة الكبر والغرور لا تسمح للإنسان أن يستوعب مطلباً مهماً.

ولهذا نقرأ في الحديث المعروف عن الإمام الكاظم (عليه السلام) في كلامه لهشام بن الحكم يقول:

«إنَّ الزَّرْعَ يَنْبُتُ فِي السَّهْلِ وَ لَايَنْبُتُ فِي الصَّفَا فَكَذَلِكَ الْحِكْمَةُ تَعْمُرُ فِي قَلْبِ الْمُتوَاضِعِ وَلَا تَعْمُرُ فِي قَلْبِ الْمُتَكَبِّرِ الْجَبَّارِ، لِانَّ اللَّهَ جَعَلَ التَّوَاضُعَ آلَة الْعَقْلِ وَجَعَلَ التَّكَبُّرُ مِنْ آلَةِ الْجَهْلِ»(2).

3: التكبّر المصدر الأساسي للكثير من الذنوب

لو تأملنا في حالات الأشخاص الّذين يعيشون الحسد، الحرص، بذاءة اللسان، والذنوب الاخرى لرأينا أنّ الأصل ومصدر جميع هذه الرذائل الأخلاقية تنشأ من صفة التكبّر، فهؤلاء لا يجدون في أنفسهم رغبة لرؤية من هو أفضل منهم، ولهذا فإنّ أيّة نعمة وموهبة وموفقية تكون من نصيب الآخرين فسوف يتعاملون معهم من موقع الحسد.

إن هؤلاء ولغرض توطيد أركان حالة الفوقية لشخصياتهم فإنّهم يحرصون على جمع الأموال والثروات.

ص: 161


1- . اصول الكافي، ج 2 ص 309، باب الكبر، ح 1.
2- . بحار الأنوار، ج 1 ص 153.

ولغرض إظهار العلو على الآخرين يبيحون لأنفسهم تحقيرهم ويلوثون ألسنتهم بأنواع البذاءة في الكلام والسبّ والشتم والهتك لإشباع هذه الحاجة والنقص في أنفسهم ولإطفاء هذه النار المستعرة في وجودهم.

ونقرأ في حديث عن أميرالمؤمنين قوله: «الْحِرْصُ وَالْكِبْرُ وَالْحَسَدُ دَوَاعٍ الَى تَقَحُّم الذُّنُوبِ»(1).

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام علي (عليه السلام) أيضاً أنّه قال: «التَّكَبُّرُ يُظْهِرُ الرَّذِيلَةَ»(2).

4: التكبّر مصدر النفرة والفرقة

إن من البلايا المهمة الّتي ترد على المتكبّرين هو الإنزواء الإجتماعي وتفرّق الناس من حولهم لأن شرف الإنسان وعزّته الذاتية لا تسمح له بالخضوع أمام الأشخاص المغرورين والمتكبّرين والانصياع لأوامرهم، ولهذا السبب فإنّ الناس وحتّى المقرّبين سوف يتحرّكون بعيداً عن هؤلاء المتكبّرين، وعلى فرض أنّ الآخرين يجدون أنفسهم مضطرين لمعاشرتهم

بسبب الروابط الإجتماعية وبعض الضرورات المعيشية فإنّهم يجدون في أنفسهم التنفر والكراهية لهؤلاء.

ونقرأ في حديث عن الإمام أميرالمؤمنين أنّه قال: «مَنْ تَكَبَّرَ عَلَى النَّاسِ ذَلَّ»(3).

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّ رسول اللَّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «امْقَتُ النَّاسِ الْمُتَكَبِّرُ»(4).

وفي حديث آخر عن الإمام علي(عليه السلام) أنّه قال: «ثَمَرَةُ الْكِبْرُ الْمَسَبَّةُ»(5).

وهذا المضمون ورد أيضاً في حديث عن الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: «لَيْسَ لِلْمُتَكَبِّرِ صَدِيقٌ»(6).

ص: 162


1- . نهج البلاغة، الحكمة 371.
2- . غرر الحكم، ح 523.
3- . بحار الأنوار، ج 74، ص 235.
4- . بحار الأنوار، ج 70، ص 231.
5- . غرر الحكم، ح 4614.
6- . المصدر السابق، ح 7162.

وقال أيضاً في حديث آخر: «مَا اجْتَلَبَ الْمَقْتَ بِمِثْلِ الْكِبْرِ»(1).

5: التكبّر سبب هدر المواهب الدنيوية

إن كلّ إنسان لا يكون موفقاً في حياته إلّاإذا استطاع جذب تعاون الآخرين وانسجامهم معه من موقع توطيد أواصر المحبة والتعاون المشترك بين الأفراد، أما الشخص الّذي يعيش الإنزواء ويسلك في حياته ومعيشته الوحدة فإمّا أن يفشل في اطار المعيشة الكريمة أو يكون له نصيب قليل من الموفقية في حركة الحياة، وبما أنّ التكبر يدفع بالإنسان إلى زاوية الإنزواء والعزلة فإنّ توفيقاته في حركة الحياة الإجتماعية ستكون قليلة بالتبع.

ونقرأ في حديث عن الإمام أميرالمؤمنين أنّه قال «بِكَثْرَةِ التَّكَبُّرِ يَكُونَ التَّلَفُ»(2)

أي تلف وهدر عوامل التوفيق وعناصر النجاح في الحياة.

ويمكن تفسير هذا الحديث بشكل آخر وهو أن يقال بأن الكثير من الحروب الدامية والنزاعات المدمرة تنشأ من حالة التكبّر والاستكبار، فالبعض يستلم زمام الامور في دول العالم ويريد أن يتحكم ويتسلط على الآخرين من موقع القوّة والقدرة وهذا بدوره يكون سبباً في حصول النزاعات الدموية الكثيرة فتهدر الطاقات وتُسفك الدماء الكثيرة في هذا الطريق وتتحول الديار إلى الخراب الشامل.

وأحياناً يتجلّى التكبّر من خلال القومية والعرقية حيث يرى البعض أنّهم أطهر عرقاً وأسمى قومية من الأقوام الاخرى وهذه النظرة المتعالية تمثل أحد الأسباب المهمة للحروب طيلة التاريخ البشري.

فالنظرة الفوقية والاستعلائية للجنس الآري هو أحد العلل المهمة في حدوث الحروب العالمية الّتي خلفت ملايين القتلى والمجروحين وأتلفت مليارات الثروات والأموال وخلّفت اضراراً لا تحصى.

وخلاصة الكلام أنّه: إذا درسنا الخسائر الّتي تتسبّب بواسطة التكبّر على روح وجسم الإنسان وفي حياته الفردية والإجتماعية لرأينا أنّه ليس هناك صفة من الصفات الذميمة تكون هدّامة ومخربة إلى هذه الدرجة الّتي تنتجها حالة التكبّر في الإنسان.(3)

ص: 163


1- . المصدر السابق، ح 7167.
2- . غرر الحكم، ح 7169.
3- . الاخلاق فی القرآن ج2 ص:47

« و الزكاة تزكیه للنفس و نماءً فی الرزق »

الزكاة تزكية للنفس والمال

«... وَالزَّكَاةَ تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ، وَنَمَاءً فِي الرِّزْق...»(1)

تذكر مولاتنا الزهراء (عليها السلام) في الشطر الثاني من خطبتها الشريفة الحكمة من وراء تشريع عدد من الاُمور البارزة في المعارف الإسلاميّة والقرآن الكريم، فتبتدئ بالإيمان ثمّ تذكر الصلاة ومن ثمّ تعرّج على قضيّة الزكاة.

القرآن الكريم أيضاً يذكر الصلاة والزكاة جنباً إلى جنب، ولعلّ في ذلك إلفاتا إلى أنّه كما يتعيّن على الإنسان أن يجتهد لتعزيز علاقته الباطنيّة والقلبيّة مع اللّه عبر أداء الصلاة، فإنّ عليه أيضاً أن يوطّد علاقته مع عباد اللّه التي تمثّل هي الاخرى رابطة مع اللّه عن طريقٍ غير مباشر؛ بمعنى أنّ في رقبة الإنسان واجباتٍ تجاه عباد اللّه ينبغي أن يؤدّيها طاعة لله تعالى.

مفهوم الزكاة

تشمل كلمة الزكاة في أصل الثقافة الدينيّة - سواء الإسلاميّة منها أو غير الإسلاميّة - كلّ إنفاق تكون الغاية منه طاعة اللّه عزّ وجلّ. لكنّها تُطلق في عرفنا على قسم من العبادات الماليّة ولا تتعلّق إلاّ بأشياء خاصّة؛ أمّا في أصل اللغة وفي صلب ثقافتنا الإسلاميّة العامّة فهي لا تختصّ بهذا الحكم؛ فالزكاة هي إنفاق المال على الآخرين.

الإسلام واهتمامه بجميع أبعاد الإنسان

انّ بعض الباحثين عن التكامل الروحيّ يركز اهتمامه على جانب من القيم الإسلاميّة والإلهيّة غافلا عن سائر أبعاد الوجود الإنسانيّ وباقي الأحكام والمُثُل الإسلاميّة. فالكثير من فرق المتصوّفة لا يرون التكامل إلاّ في التوجّه إلى اللّه، والذكر، والمراقبة، وعبادات من هذا القبيل ولا يعيرون اهتماماً يُذكر لمسائل اخرى كالجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإنفاق على الفقراء، وما إلى ذلك. فالمطّلعون على المعارف الإلهيّة والشيعيّة

ص: 164


1- . بحار الأنوار، ج29، ص223.

يدركون جيّداً أنّ الإسلام لا يقرّ هذا النمط من الرؤية الاُحاديّة الجانب. فلابدّ لنا - في هذا المضمار - أن نفتّش في أحوال نبيّنا الكريم وأئمّتنا الأطهار (صلوات اللّه عليهم أجمعين) ونعتقد اعتقاداً راسخاً بأنّ الطريق هو ما سلكوه، والنهج هو ما انتهجوه ونقول للمتصوّفة: إنّ الإنسان هو موجود متعدّد الأبعاد ولابدّ أن يتّجه سيره نحو اللّه في جميع أبعاده، وليس في البعد القلبيّ فقط؛ بالطبع إنّ جميع هذه القيم ترتبط - بشكل أو بآخر - مع قلب الإنسان، لكنّها تتشعّب عنه إلى فروع شتّى. فاهتمام المرء بفرع واحد من العبادات يجعل منه شخصاً اُحاديّ البعد، وإنّ الإنسان الذي يركّز اهتمامه على جانب واحد من العبادة يكون كالذي يهتمّ ببناء وتقوية عضو واحد من بدنه فيصبح كائناً غير موزون قد نمى أحد أعضائه دون الأعضاء الاخرى، وهذا الاسلوب لا يُرضي اللّه تعالى. فالإنسان كائن متعدّد الأبعاد ويتعيّن عليه أن يستغلّ جميع أبعاده في سبيل اللّه لينمو نموّاً موزوناً ومتناسقاً. ولعلّ في اختيار الزهراء (عليها السلام) لتلك العناوين المتعدّدة في خطبتها المباركة - التي يرتبط بعضها بالعبادات الفرديّة والبعض الآخر بالعبادات الاجتماعيّة، ويتّخذ بعضها طابع الإثبات والآخر طابع النفي - درساً لنا كي نعلم أنّ الإسلام لا يهتمّ ببعد واحد من الأبعاد الإنسانيّة. من أجل ذلك علينا أن نستغلّ كلّ ما أعطانا اللّه وما نشعر انّ بإمكاننا تهيئة الأرضيّة لنموّه وازدهاره لوجه اللّه وفي سبيله. فالأولياء الكُمّل كانوا يجهدون ما أمكنهم لأن يستعملوا في عباداتهم جميع أعضائهم.

إنّها لنظرة شموليّة أن نعتقد أنّ علينا إنفاق كلّ وجودنا وكياننا في سبيل العبوديّة لله عزّ وجلّ وأن نؤمن أنّه تعالى لم يخلق فينا شيئاً غير ذي فائدة أو شيئاً يشكّل عائقاً أمام عبادتنا له جلّ ثناؤه. وصحيح أنّه قد يقع تزاحم بين نشاطات الأعضاء المختلفة أو بين الجسد والروح، وفي حالة كهذه لابدّ أن نعمد إلى تعديل هذا التزاحم طبقاً لأوامر اللّه ونواهيه.

في هذه الخطبة الشريفة تذكر سيّدتنا الزهراء (عليها السلام) حكمتين للزكاة:

1 : تزكية النفس: أي إنّ الزكاة من شأنها أن تطهّر روح الإنسان وتزكّيها. وهنا قد يسأل سائل: كيف تكون الزكاة مطهرة للروح و سبباً في تنميتها ورشدها؟ نقول: كأنّ كلمة «الزكاة» - التي تنتمي إلى عائلة «التزكية» - كانت تُستعمل في أصل اللغة عندما يراد نزع زوائد شيء ما للمساعدة على نموّه ورشده، كتشذيب أغصان الشجرة حيث كان يطلق على هذه العمليّة «تزكية». فالإنسان بإعطائه الزكاة يُخرج جزءاً من ماله ليعطيه لغيره وهذا يماثل

ص: 165

تشذيب أغصان الشجرة وأوراقها الزائدة حيث يساعدها ذلك على نموّها وإيتائها ثمراً أفضل. فقولنا: الزكاة تؤدّي إلى زيادة الرزق هو أقرب إلى الاستيعاب والفهم من قولنا: إنّ الزكاة توجب تطهير الروح. فما السرّ في ارتباط إيتاء الزكاة بتطهير الروح يا ترى؟

سرّ تطهير الروح بالزكاة

ليس للامور الدنيويّة والمادّية المتوفّرة للإنسان أصالة وهي لا تتّخذ بالنسبة له إلاّ طابع الوسيلة. وعلى خلاف ما يتصوّره الماديّون ومنكرو وجود اللّه تعالى فإنّنا لم نُخلَق لنقتصر على التمتّع بلذائذ الدنيا، بل إنّ الحياة الدنيا برمّتها لا تمثّل في الحقيقة إلاّ طريق سفر ونحن فيه مسافرون، أمّا المقصد فهو في مجال آخر، ولا ينبغي لنا في هذا الطريق أن نتزوّد بأكثر ممّا نحتاجه للوصول إلى المقصود. فالدنيا نفسها ليست هدفاً بالأصالة. لكنّ اللّه عزّ وجلّ قد تلطّف علينا، فمن أجل حثّنا على السعي للإفادة من هذه الآلاء فإنّه قد جعل في الانتفاع منها لذّة ومتعة أيضاً. فلولا ما في تناول الطعام والشراب من لذّة لما اهتممنا بهما ولانقرضنا من الوجود، ولولا ما اُودع في الإنسان من الغريزة الجنسيّة لضعف الحافز لديه لتأسيس الاُسرة وإنجاب الأطفال. فقد أودع اللّه في وجودنا الميل إلى الملذّات المادّية والدنيويّة كي يحرّضنا على تأمين حياتنا المادّية من أجل أن نستخدم هذه الحياة كوسيلة لبلوغ السعادة الأبديّة. فإذا كنّا راغبين بنيل تلك السعادة الأبديّة ورضوان اللّه تعالى فما علينا إلاّ السير في هذا الطريق؛ أي أن نبقى في هذا العالم بمقدار ما قدّره اللّه تعالى لنا وأن نصارع مصاعب الحياة ومشاقّها كي ننعم بالتكامل المعنويّ في ظلّ طاعة الباري جلّ شأنه. فمن مقتضيات هذه الرؤية أنّنا سننظر إلى الحياة نظرة وسيلة لا هدف. وكلّما قوي هذا الاعتقاد في نفس المرء فإنّه سيتجلّى أكثر فأكثر في أعماله وتصرّفاته؛ فهو مثلاً سيتناول الطعام ليكتسب من الطاقة ذلك المقدار الذي يعينه على إنجاز واجباته فحسب ويتجنّب التخمة، أو أنّه لن يهتمّ كثيرا بلون اللباس، وارتداء الجديد كلّ يوم، والاعتناء المفرِط بكوْيِه، وما إلى ذلك؛ لأنّ المقصود من اللباس هو حماية المرء من برودة الجوّ وحرارته. بالطبع إنّ الزينة بحد ذاتها هي من متطلّبات الإنسان وإنّ كسوة البدن بما هو مطلوب من الثياب أمر واجب في الدين الإسلاميّ؛ أمّا أن يتركّز جلّ همّ الإنسان على

ص: 166

ملبسه، وتوفير أسباب زينته، وتصفيف شعره، وتحسين مظهر وجهه بحيث يأخذ ساعات من وقته فهو ممّا لا ينسجم مع تلك الرؤية.

وخلاصة الأمر فإنّ المرء في حياته الاجتماعيّة سيصل بالتدريج إلى نتيجة مفادها أنّه إذا رغب في تأمين ملذّاته فلابدّ أن يحوز المال، وهو لذلك سيسعى وراء كسب المال، وإذا كان ممّن يتحلّى بمقدار كاف من الإيمان فسوف يجتهد لأن يكون دخله من طُرق الحلال. كما أنّ الإنسان بطبعه لا يقنع بحدّ معيّن فهو سيبذل جهداً كبيراً ووقتاً كثيراً في سبيل كسب المال. لكنّ العناء الذي يتجشّمه في حصوله على هذا المال سوف يولّد في نفسه تعلّقاً شديداً به. فإذا تعلّق به سِيقت - أوّلاً - قواه الفكريّة والعاطفيّة ومشاعره وأحاسيسه إلى هذه الوجهة؛ حتّى إذا قيل له: أنفق ما اكتسبته على غيرك! فسيشقّ عليه ذلك كثيراً؛ بل سيكون إخراج خمس ماله وسائر واجباته الماليّة صعبا عليه للغاية. وهذا هو ما ينتاب الإنسان من تعلّق بامور الدنيا وهو غاية في الخطورة ومن شأنه، إذا استفحل في نفس المرء، أن يجرّه إلى الكفر، وقد جرّ الكثيرين إلى هذه العاقبة فعلاً. فالمال على أقلّ تقدير سيشغل ذهن الإنسان ويجعله يقضي الوقت، الذي يتحتّم عليه قضاؤه في العبادة والتكامل المعنويّ، في التخطيط لزيادة دخله. وهذا لعمري تلوّث للروح ونكبة لها وهو أكبر قاطع طريق بوجه تكامل الإنسان؛ فهو أشبه ما يكون بالطير المربوط برجله حجرٌ فكلّما ثقل الحجر شكّل مانعاً أكبر لطيرانه. فالطير يعرف فنّ الطيران ويمتلك الوسائل المُعَدّة له؛ غير أنّ الحجر هو الذي يعيقه من ذلك. فالإنسان يمتلك العقل والشعور والمعرفة، وقد شاهد تعاليم الأنبياء (عليهم السلام) ، وعلِم أنّ السعادة الأبديّة تكمن في الجنّة وأنّ الدنيا لا تعدو كونها لعبة: « (إِنَّمَا الحَيَوٰةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)(1)» لكنّه ينسى ذلك على صعيد العمل. فإضاعته لورقة ماليّة من شأنه أن يسلب النوم من عينيه ويشغل فكره أثناء الصلاة. كلّ هذه الاُمور هي علامات التعلّق بالدنيا. فهل سيتوفّر لمثل هذا لشخص حالٌ يعينه على العبادة يا ترى؟ وهل سيتمكّن من الاستيقاظ باكراً في السحر للوقوف بين يدي اللّه خاشعاً متضرّعاً مناجياً؟ اذن هذا التعلّق هو نوع من التلوّث الذي يصيب الروح.

ص: 167


1- . سورة محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، الآية 36.
إنفاق المرء لما يحبّه

ما السبيل يا ترى للتخلّص من هذا التلوّث والدنس؟ لقد بيّنت الآية الشريفة التالية علاج هذا الداء بقولها: (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ)(1)؛ فإذا رغبتم بالتطهّر فلابدّ من أن تعمدوا إلى الفائض والزائد وتشذّبوه، فتعطوا بعض ما جمعتم من أموالكم للآخرين، وإلا فإنّ التعلّق بها سيعيق عمليّة تقدّمكم ورقيّكم. فالتعلّق هو بمثابة الحجر المشدود إلى أرجلكم؛ فإذا أردتم الطيران فيتعيّن عليكم أن تفكّوا هذا الحجر. ومن هنا فقد أوجب اللّه تعالى دفع قسم من المال بعنوان الخمس والزكاة، غير أنّه ترك المجال مفتوحاً أيضاً لإنفاق المزيد من المال، هذا وإن كان على المرء أن يراعي الاعتدال في جميع الامور.

وعلى أيّ حال فإنّ الطريق المثلى للحدّ من التعلّقات الدنيويّة هي مساعدة الآخرين.

فالقرآن الكريم يقول: (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ) لا أن تنفقوا ممّا يسبّب لكم الإزعاج وتودّون التخلّص منه. بل إنّ القرآن يؤكّد على هذه النقطة بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيد)(2)؛ أي عليكم بالإنفاق من طيّب ما جنيتم من الأموال وممّا أخرجنا لكم من الأرض ولا تنفقوا من خبائث أموالكم التي لستم أنتم على استعداد للقبول بها إلاّ عن إغماض وإكراه.

إذن فالقلب يطهر من هذه الخبائث بإعطاء الزكاة. فهذا القرآن يخاطب النبيّ الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقوله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم).(3) فالتعلّقات الدنيويّة، التي تقف عقبة أمام حبّ الآخرة والاُنس مع اللّه والاستئناس بعبادته عزّ وجلّ، تزول بإيتاء الزكاة؛ ومن هذا المنطلق تقول مولاتنا (عليها السلام) : «... وَالزَّكَاةَ تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ»؛ أي جعل اللّه الزكاة تزكية وتطهيراً للقلب والروح.

ص: 168


1- . سورة آل عمران، الآية 92.
2- . سورة البقرة، الآية 267.
3- . سورة التوبة، الآية 103.

من الشائع في ثقافتنا القول: طهّر مالك بدفعك الخمس والزكاة؛ وذلك لأنّه مع وجود الحقوق الواجبة التي لله عزّ وجلّ ضمن أموالنا يصبح التصرّف في المال حراماً، والحرام نجس ينجّس المال ويجعله قذراً؛ ومن هنا يقال: طهّر مالك! وهذا تعبير صحيح أيضاً؛ لكنّ المسألة الأساسيّة هي تطهير روح الإنسان.

2 : ونماء في الرزق: فالفائدة الثانية للزكاة هي فائدة دنيويّة تتمثّل في توسيع الرزق في هذا العالم. فطاعة اللّه عزّ وجلّ ومراعاة الأحكام الإلهيّة تؤدي الى ان يفتح اللّه تبارك وتعالى بابَ رحمةٍ بوجه الإنسان ليس بمقدور الإنسان نفسه أن يحصي منافعها. فالقرآن يقول: (وَمَن يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يحَتَسِبُ).(1) فهذا هو الثواب الذي يثيب اللّه به عباده الأتقياء. وهذه هي إحدى علل زيادة الرزق بواسطة إعطاء الزكاة.

أمّا الدليل الآخر فهو ما توصّل إليه المؤمنون بتجربتهم العمليّة. فأنا شخصيّاً أعرف واحدا أهل العلم ممّن هو - حقيقةً - مظهر من مظاهر السخاء والكرم، فلم أرَ في حياتي مَن هو أكثر منه بسطة يدٍ في البذل والعطاء. كان هذ الرجل يقول: كلّما بذلتُ وأنفقت أكثر زاد رأس مالي بغير حساب، وكنموذج على ذلك فإنّ مائة من شياهي ولدت هذا العام توأمين. فكلّنا قد جرّب أنّ المال الذي ندفعه كزكاة نُعوَّض عنه ويفاض على أموالنا المزيد من البركة، من دون أن ندري لماذا.

ص: 169


1- . سورة الطلاق، الآيتان 2 و3.
التحليل العلميّ لآثار الزكاة

التحليل العلميّ لآثار الزكاة(1)

ومن الممكن توضيح هذا المعنى باسلوب علميّ بالنسبة لمن يهتمّ بالقضايا العلميّة ولا يعير كبير اهتمام للمسائل التعبدّية. فإنّ قدرة المستهلك على الانتفاع من المنتوج هي مسألة اقتصاديّة مهمّة وإنّ تطوّر المجتمع اقتصاديّاً هو رهن بها. فزيادة الإنتاج من دون توفر مستهلِك يشتريه لن يكون ذا فائدة لأصحاب رؤوس الأموال. فعلى صعيد الاقتصاد العالميّ مثلاً إذا اُريد نموٌّ ونهوضٌ بالاقتصاد فلابدّ من التفكير في البدء بسوق لتسويق المنتجات.

ص: 170


1- الزكاة؛ ركن مهم في المجتمع الإسلامي الزكاة من أهم الفرائض بعد الصلاة؛ فالكلام في الصلاة عن الرابطة بالخالق، وفي الزكاة عن الرابطة بخلق اللَّه. والواقع أن صدق الإنسان وجديته في موضوع الإرتباط بالخالق إنّما يثبت حين تكون رابطته قوية بالخلق، فيحيط بمشاكلهم ويسعى لحلها ويعبّر عن مواساته للمحتاجين والمساكين والمحرومين ويسعى بكلّ ما أوتي من قوّة لمساعدتهم، وبالطبع فإنّ أهم مظاهر ذلك هو أداء الزكاة، ومن هنا وكما أشير سابقاً فقد ذكرت الزكاة إلى جنب الصلاة في 37 آية من الآيات القرآنيّة. من جانب آخر فإنّ التمايز الطبقي يعدّ من أخطر الظواهر الاجتماعيّة في أن تكون هناك طبقة مرفهة مهيمنة على كلّ شي ء وأخرى محرومة تفتقر إلى أبسط المقومات الأساسيّة للحياة، الأمر الذي يترك آثاره السلبيّة على هذه الطبقة المعدمة، كما تعاني الطبقة المرفهة من بعض الضغوط بفعل ردود الفعل التي تمارسها تلك الطبقة وهذا ما يؤدّي بالتالي إلى سلب الأمن عن المجتمع. قال القرآن الكريم في الآية 195 من سورة البقرة: «وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» والمراد إذا أردتم النجاة من الهلكة فلا تنسوا الانفاق في سبيل اللَّه. وهي الحقيقة التي وردت إشارة لطيفة إليها في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)، حيثُ قال بعد تصنيفه أبناء المجتمع إلى عالم وجاهل وغنىّ وفقير: «وإذا بَخِلَ الْغَنِيُّ بِمَعْرُوفِهِ باعَ الْفَقيرُ آخِرَتَهُ بِدُنْياهُ» أي حين يبخل الأغنياء بالتفضل على الفقراء والمحرومين فإنّ هؤلاء المحرومين يبيعون آخرتهم بدنياهم وبالتالي يثورون ويحطمون جميع القوانين الاجتماعيّة. ومن جانب ثالث هنالك الصفات الرذيلة بالفعل وبالقوّة في أغلب الأفراد والتي لا يمكن استئصالها إلّابأداء الزكاة، قال القرآن الكريم: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ...» . سورة التوبة، الآية 103. نعم! هنالك تأثيرات عظيمة لأداء الزكاة في تهذيب النفس وتهذيب صفاته الإنسانيّة «نفحات الولایه، ج7 ، ص564»

كما أن الدول الرأسماليّة تسعى جاهدة، حتّى وإن كان عن طريق خداع شعوبها، أن ترفع من مستوى القدرة الشرائيّة لعامّة أفراد الشعب ولو مؤقّتاً. فالصناديق الماليّة وبطاقات الائتمان التي زاد عددها في هذا القرن إنّما تسهّل إعطاء القروض للناس لهذا الغرض، وهذا نوع من التكتيك من أجل أن يجني صاحب رأس المال هو الآخر المزيد من الربح. وعلى مستوى الاقتصاد العالميّ فإنّ الدول الصناعيّة المتقدّمة تسعى - تحت شعار المساعدات العلميّة والاقتصاديّة والثقافيّة والمصرفيّة وما إلى ذلك - إلى تأسيس مؤسّسات اقتصاديّة وصناديق نقد وتمنح الدول الاخرى قروضاً ماليّة ليس الهدف من ورائها الا تصريف منتجاتها وبضائعها. إذن فإنّ إحدى سبل النهوض باقتصاد المجتمع هو مساعدة الفقراء لكي يكتسبوا قدرة شرائيّة. فإن اكتسبوا تلك القدرة عاد نفع ذلك على المنتجين أيضاً. ومن هنا فإنّ إحدى فوائد الزكاة هي أنّها ترفع القدرة الشرائيّة للمعوزين في المجتمع، وبالنتيجة فإنّ تحرك السيولة النقديّة في شرايين المجتمع تؤدّي إلى النموّ في الاقتصاد. بطبيعة الحال فإنّ على من يمتلك أموالاً أكثر أن يعطي بعضها لمن يملك أقلّ منه. إذن فعن طريق التجربة من ناحية، والاستدلال العلميّ من ناحية اخرى، وعبر البيان القرآنيّ من ناحية ثالثة نفهم أنّ الإنفاق هو من السبل الكفيلة بتحسين الوضع الاقتصاديّ للمجتمع.(1)

«... وَالصِّيَامَ تَثْبِيتاً لِلإِخْلاصِ، وَالْحَجَّ تَشْيِيداً لِلدِّين ...»

«... وَالصِّيَامَ تَثْبِيتاً لِلإِخْلاصِ، وَالْحَجَّ تَشْيِيداً لِلدِّين ...»(2)

وصلنا في شرحنا للخطبة الفدكيّة إلى القسم الثاني الذي عرّجت مولاتنا الزهراء (عليها السلام) فيه إلى ذكر حكمة تشريع عدد من عناوين الأحكام والقيم الإسلاميّة، وقد تطرّقنا في الليالي الفائتة، بمقدار ما آتانا اللّه من وسع وتوفيق، إلى ذكر ما يخصّ الإيمان والصلاة والزكاة منها. وفي المقطع التالي تؤكّد الزهراء (عليها السلام) على إحدى حكم تشريع الصيام. ونودّ الإشارة هنا إلى أنّ هذه الحكم بالطبع لا تحصر علل هذه التشريعات فيها؛ بل لقد اختارت (عليها السلام) هنا ما هو أكثر أهمّية بما يناسب المقام.

إنّ للصيام ميزةً بارزة لا تتوفّر في غيره من العبادات وهي أنّ كون الصيام عملاً إمساكيّاً وعبادةً قوامها الترك لا يترك فيه مجالاًّ للرياء والسمعة. فالصائم لا يمكنه ان يرائي بصومه

ص: 171


1- . دروس الاخلاق المصباح الیزدی.
2- . بحار الأنوار، ج29، ص223.

بحدّ ذاته، إلاّ أن يتعمّد ذلك ويبادر إلى إظهاره بقوله: إنّني صائم، فهذه قضيّة اُخرى. فنفس الصيام هو عبارة عن ترك مجموعة من المفطرات، سواء أكان الشخص صائماً أو كان إمساكه لغرض آخر. اما العبادات الاُخرى فهي تختلف في هذا الجانب. فعندما يصلّي المرء يتبيّن من ظاهر عمله أنّه مشغول بالصلاة، وعندما يدفع الخمس أو يعطي الزكاة فسيعلم الشخص المستلم للمال على الأقل أنّ فلاناً أعطى مالاً. وكذا الحال بالنسبة للحجّ والجهاد وسائر العبادات الاخرى. أمّا فيما يتعلّق بالصوم فالوضع يختلف، وهو من هذا الجانب أقرب إلى الإخلاص من غيره. ومن هذا المنطلق فإنّ الذي يؤدّي هذه العبادة على مدى شهر كامل سيكون عمله هذا تمريناً على الإخلاص، إذ أنّ تكرار المرء لعمل معيّن كلّ يوم طوال شهر من الزمن يجعل منه مَلَكة. ولهذا فإنّ الصيام يثبّت الإخلاص في نفس ابن آدم، وهذه الفائدة تترتّب على الصيام أكثر من ترتّبها على سائر العبادات. من هنا يمكن القول: إنّه كما قالت السيّدة الزهراء (عليها السلام) فإنّ الحكمة البارزة للصيام هي «تثبيت الإخلاص»، على أنّ هذا الكلام لا يعني بالضرورة حصر فائدة الصيام بذلك.

الصيام وسلامة البدن

لقد ذكرت الأحاديث فوائد جمّة للصيام، منها البدنيّة، ومنها الصحّية، ومنها الاجتماعيّة، ومنها الأخلاقيّة. ولعلّ من أشهر تلك الأحاديث ما رُوي عن النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم): «صوموا تصحّوا»(1). فالصوم هو واحد من أفضل السبل للحفاظ على صحّة الجسم وسلامته؛ فهو ينظّم عمل الجهاز الهضميّ، ويدفع عن البدن سمومه، ويذيب الفائض من شحومه، ...الخ. فالصيام اليوم يُعدّ في الكثير من المراكز الصحّية العالميّة السبيل الأمثل للحفاظ على السلامة والعلاج الأنجع للكثير من الأمراض، وقد صُنّفت في هذا المجال مؤلّفات كثيرة.

ص: 172


1- . نهج الفصاحة، ص547.

تجرّع الأثرياء لمرارة الجوع

من منافع الصيام الاخرى التي تؤكّد عليها الروايات هي أنّ الأثرياء يتذوّقون بالصيام طعم الجوع. فالذين تكون حياتهم مؤمَّنة من جميع النواحي قد تعوّدوا على تناول الطعام على الدوام، ولذا فإنّهم لا يعطون لأنفسهم مهلة الإحساس بالجوع، ولن يفهموا معنى الجوع بحقيقته. لهذا فإنّ إحدى الحكم التي جعلها اللّه تعالى للصيام هي فهم الأثرياء لمعنى الجوع وإدراكهم لآلام الفقراء ولو يسيراً كي يعمدوا إلى تفقّدهم والنظر في أحوالهم. وهناك فوائد اُخرى للصيام غير أنّ الزهراء البتول (عليها السلام) اكتفت بذكر حكمة واحدة من حكم الصيام بما يتناسب مع مقتضى المقام.(1)

اشارتین:

ا)...وُجُوهِ الصَّوْمِ

1: عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيِّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِ (2) عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ(عليهما السلام) قَالَ: قَالَ لِي يَوْماً يَا زُهْرِيُّ مِنْ أَيْنَ جِئْتَ فَقُلْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ قَالَ فِيمَ كُنْتُمْ قُلْتُ تَذَاكَرْنَا أَمْرَ الصَّوْمِ فَاجْتَمَعَ رَأْيِي وَ رَأْيُ أَصْحَابِي عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الصَّوْمِ شَيْ ءٌ وَاجِبٌ إِلَّا صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَقَالَ يَا زُهْرِيُّ لَيْسَ كَمَا قُلْتُمْ الصَّوْمُ عَلَى أَرْبَعِينَ وَجْهاً فَعَشَرَةُ أَوْجُهٍ مِنْهَا وَاجِبَةٌ كَوُجُوبِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَ عَشَرَةُ أَوْجُهٍ مِنْهَا صِيَامُهُنَّ حَرَامٌ وَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْهَا صَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ صَامَ وَ إِنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَ صَوْمُ الْإِذْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ وَ صَوْمُ التَّأْدِيبِ وَ صَوْمُ الْإِبَاحَةِ وَ صَوْمُ السَّفَرِ وَ الْمَرَضِ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ فَسِّرْهُنَّ لِي قَالَ أَمَّا الْوَاجِبَةُ فَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى- الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ

ص: 173


1- . سورة الصافّات، الآية 102.
2- . بضم الزاى و سكون الهاء نسبة الى زهرة أحد أجداده و اسمه محمّد بن مسلم بن عبيد اللّه ابن عبد اللّه بن حارث بن شهاب بن زهرة بن كلاب و هو من علماء المخالفين و كان له رجوع الى سيد الساجدين. (آت) اقول: لنا تحقيق حول الرجل و مبلغه عند العامّة في كتاب تحف العقول، ص 274 فليراجع.

يَتَمَاسَّا إِلَى قَوْلِهِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ(1) وَ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فِيمَنْ أَفْطَرَ يَوْماً مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فِي قَتْلِ الْخَطَإِ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْعِتْقَ وَاجِبٌ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ- وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَ جَلَّ- فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً(2) وَ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَاجِبٌ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ- فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ(3) هَذَا لِمَنْ لَا يَجِدُ الْإِطْعَامَ كُلُّ ذَلِكَ مُتَتَابِعٌ وَ لَيْسَ بِمُتَفَرِّقٍ وَ صِيَامُ أَذَى حَلْقِ الرَّأْسِ وَاجِبٌ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ- فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ (4) فَصَاحِبُهَا فِيهَا بِالْخِيَارِ فَإِنْ صَامَ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَ صَوْمُ الْمُتْعَةِ وَاجِبٌ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ- فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ(5) وَ صَوْمُ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَاجِبٌ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ- وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً(6)- أَ وَ تَدْرِي كَيْفَ يَكُونُ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً يَا زُهْرِيُّ قَالَ قُلْتُ لَا أَدْرِي قَالَ يُقَوَّمُ الصَّيْدُ قِيمَةً قِيمَةَ عَدْلٍ ثُمَّ تُفَضُّ تِلْكَ الْقِيمَةُ عَلَى الْبُرِّ ثُمَّ يُكَالُ ذَلِكَ الْبُرُّ أَصْوَاعاً فَيَصُومُ لِكُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْماً وَ صَوْمُ النَّذْرِ وَاجِبٌ وَ صَوْمُ الِاعْتِكَافِ وَاجِبٌ وَ أَمَّا الصَّوْمُ الْحَرَامُ فَصَوْمُ يَوْمِ الْفِطْرِ وَ يَوْمِ الْأَضْحَى وَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ(7) وَ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ أُمِرْنَا بِهِ وَ نُهِينَا عَنْهُ أُمِرْنَا بِهِ أَنْ نَصُومَهُ مَعَ صِيَامِ شَعْبَانَ وَ نُهِينَا عَنْهُ أَنْ يَنْفَرِدَ الرَّجُلُ بِصِيَامِهِ (8) فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَشُكُّ فِيهِ النَّاسُ

ص: 174


1- . المجادله: 4.
2- . النساء: 92. « مُسَلَّمَةٌ»\ أى مدفوعة إلى أهل القتيل.
3- . المائدة: 89.
4- . البقرة : 196.
5- . البقرة : 196.
6- . المائده ك 95.
7- . أي لمن كان بمنى ناسكا.
8- .الظاهر أن مراده ما أومأنا إليه في الحديث السادس من الباب السابق و الراوي لم يتفطن لذلك و فهمه كما فهمه بعض الاصحاب كما أشرنا إليه سابقا فأجابه عليه السلام بما يظهر منه فساد وهمه.( آت)

فَقُلْتُ لَهُ جُعِلْتُ فِدَاكَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَامَ مِنْ شَعْبَانَ شَيْئاً كَيْفَ يَصْنَعُ قَالَ يَنْوِي لَيْلَةَ الشَّكِّ أَنَّهُ صَائِمٌ مِنْ شَعْبَانَ فَإِنْ كَانَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ أَجْزَأَ عَنْهُ وَ إِنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ لَمْ يَضُرَّهُ فَقُلْتُ وَ كَيْفَ يُجْزِئُ صَوْمُ تَطَوُّعٍ عَنْ فَرِيضَةٍ فَقَالَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا صَامَ يَوْماً مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ تَطَوُّعاً وَ هُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدُ بِذَلِكَ لَأَجْزَأَ عَنْهُ لِأَنَّ الْفَرْضَ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى الْيَوْمِ بِعَيْنِهِ وَ صَوْمُ الْوِصَالِ حَرَامٌ وَ صَوْمُ الصَّمْتِ حَرَامٌ وَ صَوْمُ نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ حَرَامٌ وَ صَوْمُ الدَّهْرِ حَرَامٌ(1)

وَ أَمَّا الصَّوْمُ الَّذِي صَاحِبُهُ فِيهِ بِالْخِيَارِ فَصَوْمُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَ الْخَمِيسِ وَ صَوْمُ الْبِيضِ (2) وَ صَوْمُ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَ صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَ صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَكُلُّ ذَلِكَ صَاحِبُهُ فِيهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ صَامَ وَ إِنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَ أَمَّا صَوْمُ الْإِذْنِ فَالْمَرْأَةُ لَا تَصُومُ تَطَوُّعاً إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا وَ الْعَبْدُ لَا يَصُومُ تَطَوُّعاً إِلَّا بِإِذْنِ مَوْلَاهُ وَ الضَّيْفُ لَا يَصُومُ تَطَوُّعاً إِلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص مَنْ نَزَلَ عَلَى قَوْمٍ فَلَا يَصُومُ تَطَوُّعاً إِلَّا بِإِذْنِهِمْ وَ أَمَّا صَوْمُ التَّأْدِيبِ فَأَنْ يُؤْخَذَ الصَّبِيُّ إِذَا رَاهَقَ (3) بِالصَّوْمِ تَأْدِيباً وَ لَيْسَ بِفَرْضٍ وَ كَذَلِكَ الْمُسَافِرُ إِذَا أَكَلَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ قَدِمَ

ص: 175


1- .« صوم الوصال» ذهب الشيخ في النهاية و أكثر الاصحاب الى أن صوم الوصال هو أن ينوى صوم يوم و ليلة الى السحر و ذهب الشيخ في الاقتصاد و ابن إدريس الى ان معناه أن يصوم يومين مع ليلة بينهما و انما يحرم تأخير العشاء الى السحر إذا نوى كونه جزءا من الصوم اما لو أخره الصائم بغير نية فانه لا يحرم فيها قطع به الاصحاب و الاحتياط يقتضى اجتناب ذلك و اما صوم الصمت فهو أن ينوى الصوم ساكتا و قد أجمع الاصحاب على تحريمه. و صوم الدهر حرمته اما لاشتماله على الايام المحرمة ان كان المراد كل السنة و إن كان المراد ما سوى الأيّام المحرمة فلعله انما يحرم اذا صام على اعتقاد أنّه سنة مؤكدة فانه يقتضى الافتراء على اللّه تعالى و يمكن حمله على الكراهة او التقية لاشتهار الخبر بهذا المضمون بين العامّة قال المطرزى في المغرب: و في الحديث أنّه عليه« بقية الحاشية في الصفحة الآتية»« بقية الحاشية من الصفحة الماضية» السلام سئل عن صوم الدهر فقال: لا صام و لا أفطر. قيل: إنّما دعا عليه لئلا يعتقد فرضيته و لئلا يعجز فيترك الإخلاص او لئلا يرد صيام أيّام لسنة كلها فلا يفطر في الأيّام المنهى عنها. و قال في موضع آخر من المغرب: و قوله: لا صام من صام الابد يعنى صوم الدهر و هو ان لا يفطر في الايام المنهى عنها انتهى. و قال الجزريّ في النهاية: و في الحديث انه سئل عمن يصوم الدهر فقال: لا صام و لا افطر اي لم يصم و لم يفطر كقوله تعالى: « فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى» و هو إحباط لاجره على صومه حيث خالف السنة. و قيل: هو دعاه عليه كراهة لصنيعه.( آت)
2- . رواه الصدوق في الفقيه، ص 169 بادنى اختلاف في اللفظ و زاد هاهنا« و الاثنين».
3- . أي إذا قارب الاحتلام.

أَهْلَهُ أُمِرَ بِالْإِمْسَاكِ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَ لَيْسَ بِفَرْضٍ (1) وَ أَمَّا صَوْمُ الْإِبَاحَةِ لِمَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِياً أَوْ قَاءَ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ فَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ وَ أَجْزَأَ عَنْهُ صَوْمُهُ وَ أَمَّا صَوْمُ السَّفَرِ وَ الْمَرَضِ فَإِنَّ الْعَامَّةَ قَدِ اخْتَلَفَتْ فِي ذَلِكَ فَقَالَ قَوْمٌ يَصُومُ وَ قَالَ آخَرُونَ لَا يَصُومُ وَ قَالَ قَوْمٌ إِنْ شَاءَ صَامَ وَ إِنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَ أَمَّا نَحْنُ فَنَقُولُ يُفْطِرُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعاً فَإِنْ صَامَ فِي السَّفَرِ أَوْ فِي حَالِ الْمَرَضِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَ يَقُولُ- فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ(2)

فَهَذَا تَفْسِيرُ الصِّيَامِ.

ب)...أَدَبِ الصَّائِمِ

1. عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَ بَصَرُكَ وَ شَعْرُكَ وَ جِلْدُكَ وَ عَدَّدَ أَشْيَاءَ غَيْرَ هَذَا وَ قَالَ لَا يَكُونُ يَوْمُ صَوْمِكَ كَيَوْمِ فِطْرِكَ.

2. عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ النَّضْرِ الْخَزَّازِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شِمْرٍ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی اللّه عليه وآله وسلم)- لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ يَا جَابِرُ هَذَا شَهْرُ رَمَضَانَ مَنْ صَامَ نَهَارَهُ وَ قَامَ وِرْداً مِنْ لَيْلِهِ (3)

وَ عَفَّ بَطْنُهُ وَ فَرْجُهُ وَ كَفَّ لِسَانَهُ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَخُرُوجِهِ مِنَ الشَّهْرِ فَقَالَ جَابِرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَحْسَنَ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يَا جَابِرُ وَ مَا أَشَدَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ.

3. عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ جَرَّاحٍ الْمَدَائِنِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: إِنَّ الصِّيَامَ لَيْسَ مِنَ الطَّعَامِ وَ الشَّرَابِ وَحْدَهُ ثُمَّ قَالَ قَالَتْ مَرْيَمُ- إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً أَيْ صَوْماً صَمْتاً وَ فِي نُسْخَةٍ أُخْرَى أَيْ صَمْتاً فَإِذَا صُمْتُمْ فَاحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ وَ غُضُّوا أَبْصَارَكُمْ وَ لَا تَنَازَعُوا وَ لَا تَحَاسَدُوا قَالَ وَ سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) امْرَأَةً تَسُبُّ جَارِيَةً لَهَا وَ هِيَ صَائِمَةٌ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 176


1- .روى الخبر الشيخ( ره) في التهذيب، ج 1 ، ص 303 عن المصنّف و زاد هاهنا« و كذلك الحائض اذا طهرت امسكت بقية يومها» و لكن ليس في النسخ التي رأيناها و لعله سقط من قلم النسّاخ الاولين بعد زمان الشيخ- رحمه اللّه.
2- .البقرة: 187. أى فعليه صوم عدة أيّام المرض أو السفر في أيّام أخر. و ارتفاع العدة على الابتداء.
3- . أي طائفة منه.

بِطَعَامٍ فَقَالَ لَهَا كُلِي فَقَالَتْ إِنِّي صَائِمَةٌ فَقَالَ كَيْفَ تَكُونِينَ صَائِمَةً وَ قَدْ سَبَبْتِ جَارِيَتَكِ إِنَّ الصَّوْمَ لَيْسَ مِنَ الطَّعَامِ وَ الشَّرَابِ قَالَ وَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَ بَصَرُكَ مِنَ الْحَرَامِ وَ الْقَبِيحِ وَ دَعِ الْمِرَاءَ وَ أَذَى الْخَادِمِ وَ لْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارُ الصِّيَامِ وَ لَا تَجْعَلْ يَوْمَ صَوْمِكَ كَيَوْمِ فِطْرِكَ.(1)

أسرار الحجّ

«وَالْحَجَّ تَشْيِيداً لِلدِّين»

انّ السمة الفرديّة والطابع الشخصيّ هو ا لذي ساد على العبادات المذكورة لحدّ الآن والحكم التي تؤكد عليها. ومن هذه النقطة فصاعداً تتحوّل الزهراء (عليها السلام) بشكل تدريجيّ إلى المسائل الاجتماعيّة.

إنّنا قلّما نفكّر بالقضايا الاجتماعيّة، وإنّ من بركات الثورة الإسلاميّة علينا هي طرحها للأحكام والقيم الاجتماعيّة في المجتمع وتعريفنا بالحكم الكامنة وراء معظم الأحكام الاجتماعيّة في الإسلام والواجبات الملقاة على عاتقنا في هذا المجال. ففي فترة ما قبل انتصار الثورة لم تكن مثل هذه المواضيع لِتُطرح في التجمّعات الدينيّة إلاّ نادراً. لهذا فإنّ من حقوق الإمام الراحل (رضوان اللّه تعالى عليه) على المجتمع الإسلاميّ عامّة وعلينا نحن الإيرانيّين خاصّة هي أنّه أحيا هذا الجانب من الإسلام في بلدنا.

الحجّ تمرين العبوديّة

إلى جانب الآثار الاجتماعيّة للحجّ ثمّة آثار فرديّة فيه أيضاً. ففي الحجّ يتمرّن الحاجّ على العبوديّة، إذ تتوفّر له في أيّام الحجّ - بعيداً عن كلّ الشؤون المادّية والمشاكل العائليّة والمدنيّة وما إلى ذلك - فرصة للاُنس مع خالقه وممارسة العبوديّة له تعالى. ولعلّ من أروع فوائد الحجّ هو هذا التمرين على العبوديّة.

ص: 177


1- . الكافی (ط...الاسلامیه)، ج4 ، ص88.

لكنّه من الأفضل أن يتقن الحاجّ، إلى جانب تعلّمه أحكام الحجّ، الحِكَم من وراء تلك الأحكام أيضاً. فهذا الأمر من شأنه أن يقوّي إيمان المرء ويقوده إلى إدراك أنّ اللّه لم يسنّ أحكام الإسلام جزافاً؛ ومن هذا المنطلق نرى أنّ القرآن الكريم من جانب، ورسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) من جانب آخر يبيّنون تلك الأحكام كلّما وجدوا الفرصة سانحة لذلك، وأكثر ما روي في هذا الجانب كان عن الإمام الرضا (عليه السلام)، إذ أنّ أغلب الروايات المدوّنة في كتاب «علل الشرائع» الذي يجمع علل الأحكام منقولة عنه(عليه السلام). لكن لا ينبغي أن تتولّد في الإنسان شيئا فشيئاً حالة يكون دافع امتثاله لأوامر اللّه تعالى وتعاليمه فيها منحصراً بما تنطوي عليه من منافع. فنحن قلّما نلتفت إلى هذا المعنى وهو أن نتعلّم الامتثال لأوامر اللّه تعبّداً من دون الالتفات إلى منافع الأحكام. فكلمة «التعبّد» مأخوذة من «العبد»؛ وهي تعني أن يكون سلوك المرء من منطلق عبوديّته. فعلى العبد أن يتمرّن على العمل وفقاً لحكم اللّه لكونه حكم اللّه؛ بل أن يلقّن نفسه أنّه حتّى وإن كان في تنفيذ حكم اللّه ضرر عليه فإنّ عليه القيام به لكونه طاعة لله. إذ من الواجب على العبد طاعة مولاه، فكلّ وجودنا وما لدينا ملك لله. وعندما يقول عزّ وجلّ لي: عليك في الساعة الفلانيّة أن تفعل بالجسم الذي أعطيتك أنا إيّاه كذا وكذا، فلابدّ أن يكون جوابي: سمعاً وطاعة! فكلّ ما لديّ هو ملكك وأنا أمتثل كلّ ما تأمرني به.

يقول المرحوم الشيخ علي أكبر التربتيّ: «سُنّ الحجّ من أجل سدّ هذا النقص في أنفسنا». فاللّه يأمرنا في الحجّ أن نقف ليلاً في الأرض الفلانيّة! فإذا سألتَ: لماذا؟ وما الخصوصيّة التي لهذه الأرض؟ فالجواب الوحيد الذي سيأتيك: إنّه حكم اللّه وعليك الامتثال له؟ وبمجرّد أن ينبلج الصبح فإنّه يتعيّن الانطلاق فوراً باتّجاه منى لا قبل هذا الحين ولا بعده. يجب عليك أن تطوف بالبيت، وتسعى بين الصفا والمروة و...الخ. وما من ردّ على السؤال عن الغاية من هذه الأعمال إلاّ القول: انّ اللّه قد أمر بذلك وعلينا الطاعة!

يقول المرحوم الشيخ التربتيّ: «إنّ أسمى خصوصيّات الحجّ هي التمرين على العبوديّة». وإنّ أنصع وأروع نماذج العبوديّة هي استعداد نبيّ اللّه إبراهيم لذبح ولده إسماعيل(عليهما السلام)، فإنّ ذبحنا للهدي يوم العيد إنّما هو تخليد لهذه الحادثة.

لقد رأى نبيّ اللّه إبراهيم(عليه السلام) في رؤيا مرتبطة بالوحي أنّه يذبح ولده إسماعيل (عليه السلام) ، ففهم من ذلك أنّه واجب يتعيّن عليه القيام به. فصارح ابنه إسماعيل (عليه السلام) بذلك قائلاً:

ص: 178

(يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)(1). أمّا السرّ في عدم تكليف اللّه تعالى لإبراهيم(عليه السلام) عبر الوحي الكلاميّ، وأنّه لم يرسل جبرئيل قائلاً: «يا إبراهيم اذبح ابنك»، بل جسّد ذلك له بالرؤيا، فلعلّه يعود إلى أنّه لو قال له: «أذبح ابنك» لتعلّق الحكم بالذبح ولتحتّم عليه حزّ رأسه كي يتحقّق الذبح؛ والحال أنّ هذا لم يكن أصل الحكم؛ بل كان الحكم أصلاً هو تمرير السكّين على نحر إسماعيل(عليه السلام). فلقد جُسِّد له هذا التكليف كي يظنّ أنّ الواجب المكلّف به هو الذبح الحقيقيّ؛ ومن هنا فإنّه عندما مرّر السكين على نحر إسماعيل(عليه السلام) جاءه الخطاب: (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا)(2)؛ فلقد فُسِّرت الرؤيا التي رأيتَها ولقد قمتَ بما اُنيط بك من تكليف. لقد كان هذا امتحاناً للنبيّ إبراهيم(عليه السلام) ليُعلم هل إنّه على استعداد لأن يذبح ابنه تنفيذاً لحكم اللّه تعالى أم لا.

وبهذا الامتحان أيضاً سوف يتبيّن كمال إسماعيل(عليه السلام) . فعندما أخبره والده عن التكليف الذي كلّفه اللّه تعالى به قال له: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)(3). وحينما أحسّ إسماعيل (عليه السلام) من أبيه الخوف من أنّه لن يصبر تحت وطأة السكّين، أضاف القول: (سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ). ولم ينس إسماعيل(عليه السلام) أن يقول: «إن شاء اللّه»؛ وهذا يعني: إنّني ليست مطمئنّاً من نفسي وأطلب العون من اللّه عزّ وجلّ. ولعمري فإنّ مقدار المعرفة والأدب اللذين تطفح بهما هذه العبارة المقتضبة هو من الشدّة بحيث يدفع المرء بعد مضيّ آلاف السنين على هذه الحادثة إلى الإعجاب بهذا الشابّ المؤدّب أشدّ الإعجاب!

كان نبيّ اللّه إبراهيم (عليه السلام) يعلم أنّ الأحكام الإلهيّة ليست جزافاً؛ فهو لم يسأل: «ما الذي جناه هذا الشابّ المسكين؟ ولماذا يتحتّم عليّ ذبحه؟ وإذا كان ممّن يجب قتله، فلماذا لا يتصدّى لهذا الأمر أحد غيري؟». فلا إبراهيم ولا إسماعيل(عليهما السلام) قد أبدَيا أي تردّد أو شكّ في المسألة. ومن هنا فإنّ من واجبنا أن نشدّ الرحال إلى تلك الأرض التي نفّذ إبراهيم الخليل (عليه السلام)

ص: 179


1- . سورة الصافّات، الآية 102.
2- . سورة الصافّات، الآية 105.
3- . سورة الصافّات، الآية 102.

فيها أمر اللّه بلا مناقشة كي نتذكّر هذه الواقعة، وتداعب مشامّنا هناك نسمة من عبير روح عبوديّة ذلك العبد الصالح، لنفهم أنّه هكذا ينبغي أن يكون العبد في مقابل مولاه.

منافع الحجّ التي لا تُحصَى ولا تُعد

ذكر القرآن الكريم للحجّ مصالح عدّة وأكّد على أنّه: (جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ)(1)، ومفادها أنّه لولا الكعبة لابتُلي أفراد الاُمّة الإسلاميّة بحالة من السبات وانعدام الحركة، فإنّها الكعبة التي تبعث الحيويّة والنشاط في روح المجتمع. فمن أجل تشويق الناس إلى أداء مراسم الحجّ يقول الباري عزّ وجلّ في سورة الحجّ: (لِيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَام)(2). فالقرآن الكريم يقول بمنافع لا تُحصى ولا تُعدّ للحجّ والروايات من جهتها قد بيّنت تلك المنافع بشكل جزئيّ أيضاً. على سبيل المثال فإنّ الناس القادمين من بلدان مختلفة سوف يتعارفون فيما بينهم، ويتبادلون المعلومات، ويلتفتون الى مصالحهم الاقتصاديّة، ويفهمون ما التجارة المفيدة لكلّ مكان من العالم، و...الخ.

الحجّ تجلٍّ لعظمة الدين

لكنّ الزهراء (عليها السلام) تطرح في هذه الخطبة الشريفة فائدة اُخرى للحجّ ممّا لو وُضعت جميع منافع الحجّ في كفّة ووُضعت هذه الفائدة في كفّة اُخرى لرجحت كفّة الأخيرة على سائر المنافع. فهي (عليها السلام) تقول: «وَالْحَجَّ تَشْيِيداً لِلدِّين»، والتشييد هو إقامة البناء على نحو محكم وجميل ورفع قواعده، و«شيّد البناء» أي بناه بشكل متقَن ورفيع وجميل. تقول مولاتنا (عليها السلام) : الحجّ يجعل من الدين بناءً رفيعاً وعالياً وجميلاً وعظيماً. ولعلّ المقصود من ذلك هو أنّه لولا تشريع الحجّ ولولا تكليف المسلمين كلّ عام بعقد مثل هذا الاجتماع العظيم والضخم لَما تجلّت اُبّهة الإسلام وعظمته لأهل العالم. ففي هذه المراسم يُستعرَض

ص: 180


1- . سورة المائدة، الآية 97.
2- . سورة الحجّ، الآية 28.

جلال الإسلام وعظمة الاُمّة الإسلاميّة وممّا لا شكّ فيه أنّ مشاهدة مثل هذه المناظر الرائعة من قبل غير المسلمين وحتّى نقلها ووصفها لهم تثير لديهم حالة من الدهشة الأمر الذي يدفعهم إلى التساؤل عن ماهيّة هذه الجاذبيّة التي تشدّ الناس كلّ هذا الانشداد إلى أرض جدْب لا فيها ماء ولا طقس حسن ولا تتوفّر فيها أسباب المتعة والراحة؟

الحجّ بحر من الرحمة الإلهيّة

من شدّة لطف اللّه تعالى بعباده فإنّه لا يبخل عليهم بأيّ وسيلة من الممكن أن تؤثّر فيهم وتجذبهم ولو خطوة واحدة نحو حضرته. فهو يفتح أمام الناس سبلاً من شأنها أن تحفّز في أنفسهم بشكل طبيعيّ التوجّه إلى اللّه والخضوع أمام جلاله وعظمته؛ لأنّ هذا التوجّه والخضوع هو العامل الوحيد الذي يدفع الإنسان إلى الترقّي روحيّاً ومعنويّاً ويوصله إلى ذلك المقام الذي خُلق من أجله.

فاللّه جلّ ذكره يخاطب إبراهيم الخليل (عليه السلام) بالقول: ادع الناس لأن يأتوا الى مكّة بأيّ وسيلة ممكنة وأن لا يتركوا الحجّ: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلَى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَميقٍ)(1)، لماذا؟ لأنّ هذه المراسم هي أفضل وسيلة من شأنها أن تولّد دافعاً عالميّاً لدى عامّة الناس. ولا يدور الحديث هنا عن شخص واحد أو شخصين. فالمرحوم العلامة الطباطبائيّ (قدس سره) يروي عن استاذه المرحوم السيّد القاضي (قدس سره) قوله: «قد يَبتلي اللّه أحياناً شخصاً بالمرض أو الفقر أو ما شاكلهما لسنة كاملة من أجل أن يتفوّه بعبارة «يا اللّه» ولو لمرّة واحدة، فقول «يا اللّه» مرة واحدة له من الأثر في سعادة المرء بحيث يستحقّ أن يقاسي الإنسان لأجله سنة من العذاب والمحنة». وبالطبع عندما يحظى جمع غفير مليونيّ من البشر بهذه البركات فإنّ ذلك يمثّل غاية في القيمة والنفاسة عند اللّه سبحانه وتعالى. فهذا العمل يعزّز من قوّة الدين إلى أبعد الحدود؛ بحيث إنّه إذا صادف في أحد الأعوام أن لا يتوفّر عدد كاف من الحجيج لأداء مناسك الحجّ ولا يحضر إلاّ نفر قليل لأداء مراسم الحجّ فإنّ اللّه يوجب على حاكم الشرع أن يبعث إلى الحجّ جماعة على نفقة

ص: 181


1- . سورة الحج، الآية 27.

بيت المال. فاللّه تعالى يهتمّ كلّ الاهتمام بأن يشمل برحمته حتّى الشخص الواحد الذي يضاف إلى الحجيج.

ومن العجيب أنّنا كلّما ذهبنا إلى الحجّ يشتدّ اشتياقنا إليه. لقد صادفت مرّةً رجلاً أمريكيّاً جديد العهد بالإسلام كان قد ذهب إلى مكّة المكرّمة لأداء الحجّ، فسألتُه: خلال هذه الرحلة أيّ مكان شعرتَ فيه بمتعة أكبر؟ قال: «لم ألتذّ بشيء أكثر من لذّتي بجلوسي أمام الكعبة وإطالة النظر إليها. فلقد كان هذا المنظر من اللذّة لي بحيث لم أكن على استعداد لأن استبدل به أيّ شيء آخر». ومن محاسن الصدف أنّ من مستحبّات أعمال المسجد الحرام هو النظر إلى الكعبة المشرّفة. فلقد أودع اللّه عزّ وجلّ في هذه الأحجار السوداء وهذه الأرض الجدب التي لا ماء فيها ولا عشب من الجاذبيّة ما يجعل القلوب تهوي إليها بغية أن ينال الرحمة الإلهيّة عدد أكبر من البشر. فهو جلّ شأنه يريد أن يجعل في الناس الأهليّة واللياقة لإدراك المزيد من رحمته.

إذن فالحكمة الرئيسيّة من الحجّ هي تشييد الدين؛ بمعنى أنّ الحجّ يُحكِم بناء الدين ويضفي عظمة إلى عظمته. فلولا الحجّ لكان بناء الدين بناءً ضعيفاً، هامدا، ساكناً، لا رمق فيه ولَمَا استفاد الناس منه، ولَغَفل الكثيرون عنه وعندئذ سيؤدّي إلى حرمانهم من عظيم البركات؛ في حين أنّ وجود الحجّ كان سبباً في جعل بناء الدين أكثر رفعة وعظمة وجذبا للقلوب نحوه كي تحظى بالمزيد من الرحمة الإلهيّة الواسعة.(1)

اشارات:

ا)...«حجه الوداع و حديث الغدير»

كان رسولُ اللَّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - كما يبدو في الأحاديث السالفةُ- يعرّف بخليفته ووصيه تارةً بصورةٍ كليّةٍ، وأُخرى بصورةٍمعيّنةٍ، أي بذكر اسم الخليفة والوصيّ بحيث يمثّلُ كلُ واحدٍ من تلك الأحاديث حجةً كاملةً وتامّةً لمن يطلبُ الحقيقة وهو شهيدٌ واعٍ. ولكن مع ذلك ولكي يُوصِلَ النبيُّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نداءَه إلى كلّ قاصٍ ودانٍ من المسلمين في ذلك اليوم، ويرفعَ كلّ إبهام وغموضٍ، ويدفع كلّ شكٍ أو تشكيكٍ في هذا المجال، توقّفَ عند قُفوله ومراجَعَته من حَجّة

ص: 182


1- . دروس الاخلاق المصباح الیزدی .

الوَداع في أرض تسمى بغدير خم، وأخبر من مَعَه من الحجيج بأنّه كُلِّف مِن جانب اللَّه تعالى بأن يُبلِّغ رسالة إليهم، وهي رسالة تحكي عن القيام بأمرٍ جدّ عظيم، بحيث إذا لم يُبلِّغها يكون كأنّه لم يُبَلّغ شيئاً من رسالته كما قال تعالى:

(يَا أَيُّها الرَّسُولُ بَلّغْ ما أُنزِلَ إليكَ مِن رَّبِكَ وإن لَم تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يعصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(1) و(2)

ثم رقى النبيُّ منبراً من أقتاب الإبل وحُدُوجها، وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مخاطباً الناس: «يوشك أنْ ادعى فأجيب فماذا أنتم قائلون؟»

قالوا: نَشهدُ أنّك قد بَلّغتَ ونَصحتَ وجَهَدتَ فجزاك اللَّهُ خيراً.

فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم): «ألَسْتم تَشهَدون أن لا إله إلّااللَّه وأنّ محمّداً عَبدُه ورسولهُ وان الساعة آتيةٌ لا ريبَ فيها؟»

قالوا: بَلى نَشْهدُ بذلك.

قالَ (صلی اللّه عليه وآله وسلم): «فإنّي فَرَطٌ (أي أسبقكُم) على الحوض (أي الكوثر)، فَانظُرُوا كيفَ تَخلِفوُني في الثَقَلَين؟»

فنادى مناد: وما الثَقَلان يا رَسولَ اللَّه؟

قالَ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الثَقَلُ الأكبر كتابُ اللَّه طَرَفٌ بيدِ اللَّهِ عزَّ وجَلَّ وطَرَفٌ بأيدِيكُمْ فتمَسَّكُوا به لا تَضِلُّوا، والآخَرالأصغَر عترتي، وإنّ اللطيفَ الخبيرَ نبّأني أَنَّهما لنْ يفترقا حتى يَردا عليَّ الحَوضَ، فلا تقدمُوهُما فتَهلكوا، ولا تقصِّروا عنْهما فَتَهْلَكُوا».

ثم أخذ بيد «عليّ» فَرفَعها حتى رؤي بياضُ آباطهما فعرفَه القومُ أجمعون فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم): «أيُّها الناسُ من أولى النّاس بالمؤْمِنين من أنفسِهِم؟»

قالوا: اللَّهُ ورسولهُ أعلمُ.

ص: 183


1- . المائدة/ 67.
2- . أشار المحدّثون والمفسِّرون المُسلمون إلى نُزُول هذه الآية في حَجّة الوداع، يومَ الغدير، انظر: كتابَ «الدرّ المنثور» للسيوطي 2/ 298، و «فتح القدير» للشوكاني 2/ 57؛ وكشف الغمة للإربلّيّ، ص 94؛ «ينابيع المودّة» للقندوزي، ص 120؛ المنار: 6/ 463 وغيرها.

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّ اللَّه مولايَ، وأنا مَولى المؤمِنِين، وأنا أولى بِهِمْ مِن أنفسهِمْ، فَمَن كنتُ مَولاه فَعَلِيٌ مولاهُ».

ثم قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «اللّهُمَّ والِ مِن والاهُ، وعادِ من عاداهُ، وأحِبَّ من أحَبَّهُ، وابْغَضْ مَن أبْغَضَهُ، وانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، واخْذُلْ من خَذَلهَ، وأدِرِ الحقَّ معه حيث دارَ، ألا فَلْيُبَلّغِ الشّاهِدُ الغائبَ».(1)

ب)...اهمية الحج في الاسلام

الحجُّ من أركان الإسلام المهمّة و من أكبر الفرائض الدينيّة.

و لقد عبّر القرآن الكريم عن الأهمية الفائقة للحج في عبارة قصيرة بليغة اذ قال: (وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) ثمّ قال معقّباً على ذلك: (وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)(2)

أي من ترك الحج فقد أضرّ بنفسه.

إنّ جملة «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ» بضميمة لفظة «كَفَرَ» الناظرة إلى من يَترك الحج الواجب عليه، تكشف عن الأهمية القصوى لفريضة الحجّ في الاسلام، و توضحها تماماً.

و المُلفت للنظر أنه روي في تفسير قوله تعالى في الآية الكريمة(3) من سورة الاسراء: (وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلًا).(4)

عن الامام الصادق (عليه السلام) أن أحد معاني هذه الآية هو تسويف الحج الواجب حتى يحل الأجل و يدرك المسوّفَ الموتُ، فإِنّ مثل هذا الشخص سيحشر يوم القيامة أعمى (5).

و قد جاء في حديث آخر: أن «من ترك الحج الواجب من دون عذر حُشِر يوم القيامة يهودياً أو نصرانياً».

ص: 184


1- . العقیده الاسلامیه ص:193
2- . سورة آل عمران( 3) الآية 97.
3- . الفصول المهمّة: 266.
4- . سورة الاسراء( 17)، الآية 72.
5- .هذا الحديث و غيره من الأحاديث الآتية نقلها المرحوم المحقق اليزدى في العروة الوثقى في كتاب الحج، و المرحوم الشيخ الحر العاملي و غيره في كتاب الوسائل و غيره من الكتب الحديثية المعروفة.

و في المقابل، ورد في الأحاديث الاسلامية لمن يحج من المثوبات العظيمة ما قلّ نظيره في عمل آخر من الأعمال.

فاننا نقرأ في حديث عن الامام الصادق (عليه السلام) :

«الحاج و المعتمر وفد اللَّه إن سألوه أعطاهم و إن دعوه أجابهم و ان شُفعوا شفعهم، ... و إن مات متوجهاً غفر اللَّه له ذنوبه».

كما و نقرأ في حديث آخر:

«إنّ الحج المبرُور لا يعدلُه شي ءٌ، و لا جزاء له إلّا الجنة»!

«و أن الحاج يكون كيوم ولدته امّه»!

و هذه أكبر موهبة، و أعلى مفخرة، و أعظم مثوبة.(1)

ج)...محرم قتل صیدا

لمّا أراد المأمون تزويج ابنته أُمّ الفضل من الإمام الجواد ثقل ذلك على العباسيين وقالوا له: ننشدك اللَّه أن تقيم على هذا الأمر الذي عزمت عليه من تزويج ابن الرضا؛ فانّا نخاف أن تخرج به عنّا أمراً قد ملّكناه اللَّه! وتنزع منّا عزّاً قد ألبسناه اللَّه! فقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً، وما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك من تبعيدهم والتصغير بهم، وقد كنّا في وهلة من عملك مع الرضا حتى كفى اللَّه المهمّ من ذلك- إلى أن قالوا: إنّ هذا الفتى وإن راقك منه هديه؛ فإنّه صبي لا معرفة له؛ فأمهله حتّى يتأدّب ويتفقّه في الدين ثمّ اصنع ما ترى.

قال المأمون: ويحكم إنّي أعرف بهذا الفتى منكم، وإنّ أهل هذا البيت علمهم من اللَّه تعالى وإلهامه، ولم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب من الرعايا الناقصة عن حدّ الكمال، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر حتّى يتبيّن لكم ما وصفت لكم من حاله. قالوا: رضينا.

فخرجوا واتّفق رأيهم على أنّ يحيى بن أكثم يسأله مسألة وهو قاضي الزمان فأجابهم المأمون على ذلك.

ص: 185


1- مناسك الحج، ص7.

واجتمع القوم في يوم اتّفقوا عليه، وأمر المأمون أن يفرش لأبي جعفر دست ففعل ذلك، وجلس يحيى بن أكثم بين يديه، وقام الناس في مراتبهم، والمأمون جالس في دست متّصل بدست أبي جعفر (عليه السلام).

فقال يحيي بن أكثم للمأمون: أتأذن لي يا أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر؟

فقال: استأذنه في ذلك.

فأقبل عليه يحيى وقال: أتأذن لي- جعلت فداك- في مسألة؟

فقال: «سل إن شئت».

فقال: ما تقول- جعلت فداك- في مُحْرم قتل صيداً؟

فقال أبو جعفر (عليه السلام): «في حلّ أو حرم؟ عالماً كان المحرم أو جاهلًا؟ قتله عمداً أو خطأ؟ حرّاً كان المحرم أو عبداً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدئاً كان بالقتل أو معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم غيرها؟ من صغار الصيد أم كبارها؟ مصرّاً كان على ما فعل أو نادماً؟ ليلًا كان قتله للصيد أم نهاراً؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحجّ كان محرماً؟».

فتحيّر يحيى وبان في وجهه العجز والانقطاع، وتلجلج حتّى عرف أهل المجلس أمره.

فقال المأمون: الحمد للَّه على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي، ثمّ قال لأبي جعفر (عليه السلام): اخطب لنفسك فقد رضيتك لنفسي وأنا مزوّجك أُمّ الفضل ابنتي.(1)

ولمّا تمّ الزواج قال المأمون لأبي جعفر: إن رأيت- جعلت فداك- أن تذكر الجواب فيما فصّلته من وجوه قتل المُحْرم الصيد لنعلمه ونستفيده.

فقال أبو جعفر (عليه السلام): «إنّ المحرم إذا قتل صيداً في الحل وكان الصيد من ذوات الطير وكان من كبارها فعليه شاة، فإن أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً؛ فإن قتل فرخاً في الحلّ فعليه حمل قد فطم من اللّبن، وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ، وإن كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة، وإن كان نعامة فعليه بدنة، وإن كان ظبياً فعليه شاة، فإن قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة، وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان إحرامه بالحج نحره بمنى، وإن كان إحرامه بالعمرة نحره بمكّة، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء، وفي العمد له المأثم وهو موضوع عنه

ص: 186


1- . الإرشاد، ص319- 321، إعلام الورى،ص 352 وللقصّة صلة فراجع.

في الخطأ، والكفّارة على الحرّ في نفسه، وعلى السيّد في عبده، والصغير لا كفّارة عليه وهي على الكبير واجبة، والنادم يسقط بندمه عنه عقاب الآخرة، والمصرّ يجب عليه العقاب في الآخرة».

فقال له المأمون: أحسنت يا أبا جعفر...(1)

الإمامة؛ أمان من الفُرقة

«وَالْعَدْلَ تَنْسِيقاً لِلْقُلُوبِ، وَطَاعَتَنَا نِظَاماً لِلْمِلَّةِ، وَإِمَامَتَنَا أَمَاناً مِنَ الْفُرْقَةِ »(2)

متابعةً للخطبة الغرّاء فقد ذكرت مولاتنا الزهراء (عليها السلام) ثلاثة عناوين اُخرى من تعاليم الدين، التي تُعدّ - في نظري - بيت قصيد الخطبة الفدكيّة.

تقول مولاتنا (عليها السلام) : لقد أمر اللّه عزّ وجلّ بالعدل كي تسود القلوب حالة من الانسجام والوفاق، وجعل طاعتنا أهل البيت(عليهم السلام) سبباً لانتظام الملّة.

ويختلف مصطلح «الملّة» عن مصطلح «ملّت» المعروف في الفارسيّة؛ حيث يعني الأخير تلك الجماعة من البشر التي تعيش حياة اجتماعيّة مشتركة في بقعة جغرافية واحدة وتجمع أفرادها عناصر عرقيّة، وهي تساوي مصطلح «nation» في الانجليزيّة و«شعب» في اللغة العربيّة. لكنّ مصطلح «الملّة» في العربيّة يعني شيئاً آخر، ألا وهو شريعة الحياة، ومنهج السلوكيّات والآداب والسنن التي تحكم المجتمع. إذ يقول القرآن الكريم على لسان النبيّ الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) : (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(3)؛ أي إنّني اتّبع شريعة جدّي إبراهيم (عليه السلام) في مقابل دين اليهود والنصارى.

ثمّ تقول الزهراء البتول (عليها السلام) : «وَإِمَامَتَنَا أَمَاناً مِنَ الْفُرْقَةِ»؛ أي وقاية من تفرّق الاُمّة؛ فهي (عليها السلام) تطرح في هذه العبارة ثلاث قضايا لا تُعدّ أيّ واحدة منها من قبيل العبادات

ص: 187


1- . الارشا د، ص322 ؛ «ا ضواءعلی عقائد الشیعه الامامیه، ص206.
2- . بحار الأنوار، ج29، ص223.
3- . سورة الأنعام، الآية 161.

والواجبات العباديّة التي قد تمّ الحديث عنها حتّى الآن، بل إنّ هذه القضايا الثلاث ترتبط ارتباطاً مباشراً بالمجتمع.

السعي نحو العدالة يؤلّف القلوب

ونقدّم هنا ما يبدو لنا توضيحاً لهذه النقاط: لقد اقتضت حكمة الباري عزّ وجلّ أن تربط الناس علاقات خاصّة وأن يعيشوا ضمن حياة اجتماعيّة مشتركة؛ خلافاً لبعض الحيوانات التي تعيش - غاية ما في الأمر - مع أزواجها.

فالحياة الاجتماعيّة مفيدة، بل ضروريّة، للبشر ومن المعلوم أنّ المرء لا يتسنّى له بلوغ الكمالات بمعزل عن الحياة الاجتماعيّة؛ بل قد لا يستطيع أساساً الاستمرار في الحياة على وجه الأرض من دونها. وفي ذات الوقت فإنّ لكلّ إنسان هويّة مستقلّة عن غيره، وهو يشعر بامتلاك وجود معزول ومتطلّبات مختلفة عمّا للآخرين. بل قد تتعارض متطلّباته أحياناً مع احتياجات الآخرين، وقد ينجرّ هذا التعارض إلى النزاعات والحروب أيضاً. وبالرجوع إلى المصادر الدينيّة فإنّنا نكتشف أنّ مصير الإنسان هو السفر إلى عالم آخر لا تأثير للعوامل الاجتماعيّة فيه؛ بحيث يقول القرآن الكريم في ذلك: (وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً)(1). فليس للعلاقات النسبيّة تأثير في ذلك اليوم: (فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ)(2) ، ولا للعوامل الاجتماعيّة والروابط بين الرئيس والمرؤوس دور هناك: (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ)(3) أمّا - من وجه من الوجوه - فإنّ ثمّة اجتماعا في ذلك اليوم أيضاً؛ لكنّ هذا الاجتماع لن يكون على أساس العوامل المذكورة في الدنيا. فالمناط يوم القيامة هو مراتب الإيمان؛ بمعنى أنّ الذين تتقارب درجات إيمانهم سوف يأنسون أكثر ببعضهم.

لكنّنا، على أيّة حال، نحتاج إلى البيئة الاجتماعيّة في الحياة الدنيا. أمّا السؤال المطروح هنا فهو: إذا كان لابدّ من هذا الاجتماع فأيّ موازين وملاكات تكون مناسبة له؟

ص: 188


1- . سورة مريم، الآية 95.
2- . سورة المؤمنون، الآية 101.
3- . سورة البقرة، الآية 166.

من الناحية التاريخيّة فإنّ للعوامل الطبيعيّة دوراً جوهريّاً في تشكيل المجتمعات البشريّة كما وقد يكون لبعض العوامل الثانويّة، كاللغة واللّهجة، دور في ذلك أيضاً؛ أمّا الملاك الذي ينبغي على أساسه بناء الحياة الاجتماعيّة المشتركة للإنسان فهو قطعاً ليس شيئاً ممّا ذُكر.

فقد يتشابه شخصان من حيث اللون والعرق واللغة وما إلى ذلك لكنّهما يختلفان في المعيشة والروحيّة والمصير اختلافاً كبيراً خاصّة إذا كان كلّ منهما يتديّن بدين معيّن أو ينتمي إلى مذهب مختلف. لذلك فإنّ اشتراكاً كهذا لا يمكن أن يجعل لهما مصيراً مشتركاً أو أن يربط مصيرهما معاً بالشكل الذي يكون له تأثير ملحوظ على سعادتهما وشقائهما الأبديّين. من هنا فإنّه من أجل توثيق الروابط بين أفراد مجتمعٍ مّا واستغلال هذه الروابط للوصول إلى السعادة الحقيقيّة فلابدّ من اُمور اُخرى. ولا نعلم أيّ عامل طبيعيّ من شأنه تأمين هذه المتطلّبات.

فمن أجل أن تتمكّن جماعة من البشر من تأسيس مجتمع وتتولّد بينهم وحدة - فلنُسَمّها وحدة المجتمع - فإنّ أوّل شرط لتحقّق ذلك هو عدم إحساسهم بأيّ شكل من أشكال العداوة والبغضاء تجاه بعضهم البعض. إذ من الممكن أن تؤدّي عوامل معيّنة إلى زرع العداوة حتّى بين الاخوة، بل قد يُقْدِم أخ على قتل أخيه أيضاً. فهناك عوامل نفسيّة شتّى تقف وراء الإحساس بالنفور من الآخرين، لكنّ العامل العامّ الذي من شأنه أن يثير بين أفراد المجتمع سوء الظنّ، ويقودهم إلى رفض التقارب والتواصل، والإحساس بالخوف من بعضهم هو عندما تتولّد في نفوسهم نيّات الإضرار بالآخرين وتضييع حقوقهم. فعندما يحسّ المرء أنّ أخاه يتحيّن الفرص لاغتصاب حقّه باستمرار فسيضمر تجاهه سوء الظنّ ويكون منتبها دوما حتى لا يلحق اخوه الضرر به. إذن فأوّل شرط بمقدوره أن يدفع أفراد المجتمع إلى التقارب وإقامة العلاقات فيما بينهم هو أن لا تقوى في نفوسهم روح الظلم للآخرين والتعدّي على حقوقهم، وأن يشعر كلّ فرد منهم بالرضا بحقّه. بالطبع إذا تولّدت عند أفراد المجتمع روح التعاون وإيثار الآخرين على النفس فسيصبح المجتمع مجتمعاً مثاليّاً. أمّا المراد من إحساس كلّ فرد بالرضا بحقّه فهو الرضا بتحقّق العدالة الاجتماعيّة. فإذا استتبّت العدالة في مجتمعٍ مّا فسيؤَمّن لكلّ فرد حقّه ولا يعتدي أحد على غيره الأمر الذي سيؤدّي إلى انسجام القلوب. إذن أوّل شرط في توفير بيئة ملائمة للوحدة الاجتماعيّة هي العدالة. ولعلّ هذا هو السبب الذي دعى سيّدتنا الزهراء (عليها السلام) إلى التأكيد بادئ ذي بدء على العدل

ص: 189

بقولها: «وَالْعَدْلَ تَنْسِيقاً لِلْقُلُوبِ»؛ ف- «التنسيق» يعني خلق الانسجام والوقوف أمام التوتّر والتشرذم. لهذا فإنّ الشرط الأوّل في تأسيس المجتمع المنشود هو انسجام قلوب أفراده وهو ما لا يحصل إلاّ إذا أمِن أفراد ذلك المجتمع من الظلم والحيف والتعدّي من قبل الآخرين.

النظام القيميّ الواحد هو الشرط الثاني للوحدة

لكن هل سيخلو المجتمع حقّاً من أيّة مشكلة إذا أحسّ الجميع بأنّه ما من أحد يقصد ظلم أحد؟ هنا قد تبرز على السطح مشكلة معرفيّة؛ بمعنى أنّه قد يختلف الناس في تشخيص الحسَن من القبيح، ويكون بينهم اختلاف فكريّ، أو منهجيّ، أو ذوقيّ، أو غير ذلك في حين أنّهم لا يضمرون نيّات الظلم تجاه بعضهم. فإن اشتدّ هذا العامل بحيث أصبحت في المجتمع عدّة أنماط من السلوكيّات، فلن يستطيع أفراده تكوين علاقات وطيدة فيما بينهم. لهذا لابدّ أن يحكم المجتمع قانون واحد؛ لأنّه إذا اعتبر شخص معاملةً صحيحة وعدّها آخر باطلة، أو إذا رأى أحدهم أنّ الفعل الفلانيّ قانونيّ ورأى آخر أنّه ليس كذلك فلن يتسنّى لمثل هذه المجموعة من الناس أن تتوحّد. فإذا رغب أفراد مجتمع في أن يعيشوا بانسجام ووئام فيتعيّن عليهم القبول – على الصعيد العمليّ - بقانون واحد؛ وهذا هو ما يطلَق عليه عنوان «الملّة». فإن اختلفت الملل، أي تضاربت مناهج الحياة والأنظمة القيميّة الحاكمة على المجتمع فلن يكون أفراد المجتمع متلاحمين مع بعضهم ولن يشكّلوا مجتمعاً واحداً؛ لذلك فإنّه يصار في المجتمعات المدنيّة عادة إلى السعي لسيادة قانون موحّد.

الإدارة الواحدة هي الشرط الثالث للوحدة

بعد تأمين العاملَين الفائتين يبرز عامل آخر جوهريّ ونهائيّ، ألا وهو مسألة الإدارة والتنفيذ. فإذا توفّر جهاز تنفيذي ّموحّد يستطيع تأمين تلك المسائل فإنّ الأركان الثلاثة لوحدة المجتمع ستكون مؤمَّنة؛ وحينها سينشأ مجتمع معقول يستفيد كلّ فرد من أفراده من الجميع في سبيل حياته الدنيويّة من جهة، وسعادته الاُخرويّة من جهة ثانية.

ص: 190

ففي البداية تُبيّن مولاتنا الزهراء (عليها السلام)، على نحو إرسال المسلّمات، الشرطَ الأوّل المتمثّل بالعدالة، فهو أصل عقلائيّ لا تنكره أيّ مدرسة أخلاقيّة ولا ينفيه أيّ إنسان سليم وعاقل في العالم. فقد يكون المرء ظالماً لكنّه يقرّ بالعدالة كأصل قيميّ. فالمفهوم العامّ للعدالة هو إعطاء كلّ امرئ ما يستحقّه. وهذه القضيّة هي على جانب من الوضوح بحيث إنّه إذا أراد أحد ضرب مثل بأصلٍ لا يقبل أيّ استثناء فإنّه يضرب العدالة مثلاً. فالعدالة هي أكثر قواعد العقل العمليّ عموميّة.

فإن كنّا - انطلاقاً من هذا التحليل – نصبوا إلى تشكيل مجتمع سليم والتنعّم بنعمة الحياة الاجتماعيّة فلابدّ أن نسعى في طريق تقوية هذه الروح لدى أفراد المجتمع؛ لكنّ هذا غير كاف أيضاً. فكثير هم الأشخاص الذين لا يحملون نيّات الظلم بأيّ أشكاله، لكنّهم في بعض المواقف التي لا يكون الحقّ فيها معهم يشعرون بأنّ الحقّ معهم وأنّ الآخرين يخطئون في حقّهم. والسبب في ذلك يعود إلى اختلاف في الآراء في تشخيص مصداق الحقّ، وما دام هذا الخلاف موجوداً فلن يكون هناك مجتمع موحّد ومنسجم؛ ذلك أنّ بذور الخلاف موجودة في مجتمع كهذا وكلّما سُقيت هذه البذور بمزيد من الماء ونُمّيت اشتدّت نسبة الخلاف والشتات والعداوة في المجتمع وتراجع تحقّق الهدف المرجوّ من الحياة الاجتماعيّة، ألا وهو التضامن المشترك وإفادة كلّ فرد من الآخرين.

أمّا المسألة الثالثة فهي إدارة شؤون المجتمع. فنحن، شئنا أم أبينا، لا يمكننا التعاطي مع جميع المشاكل بطريقة الحوار ولابدّ من وجود من يتمتّع بأهليّة أكثر وصلاحيّات أوسع من غيره كي يتّخذ القرارات النهائيّة. ومن هنا فإنّ وجود مدير واحد يسوق المجتمع إلى الهدف الصحيح هو الشرط النهائيّ لتشكيل مجتمع مطلوب ومثاليّ.

أهل البيت (عليهم السلام) هم المرجع العلميّ والتنفيذيّ للمجتمع

الأصل القيم المتمثل بالعدالة هو حكم عقلي لا مجال للمناقشة فيه. لكنه تبقى هناك مسألتان اُخريان عالقتان؛ الاولى: من هو المسؤول عن تعيين نظام قيمي صحيح وتثبيت الأحكام والقوانين؟ ومن الذي يجب أن يتصدى للتنفيذ وقيادة المجتمع؟ وهاهنا تطرح السيدة الزهراء (عليها السلام) قضية «طَاعَتَنَا...، وَإِمَامَتَنَا ...»؛ فهي تقول بنحو إرسال المسلم: من أجل أن يسود المجتمع قانون واحد ونظام قيمي منسجم يتعين عليكم طاعتنا والرجوع إلينا

ص: 191

عندالاختلاف، ثم تقول في نهاية المطاف: «وَإِمَامَتَنَا أَمَاناً مِنَ الْفُرْقَةِ» في المجتمع ومن تشتته وتشرذمه. وهذه الكلمات إنما تشكل المقدمة والتوطئة لطرح ما يدور في ذهنها (عليها السلام) من المسائل التالية.

فهل مسألة الإمامة يا ترى من المسائل القطعية المدعومة من وجهة النظر الإسلامية بدليل متقن؟ وهنا يكمن الخلاف الجوهري بين الشيعة والكثير من غيرهم. فمن بين طوائف المسلمين المختلفة هناك من يقبل بالمسألة الاولى، على الأقل من الناحية النظرية؛ بمعنى أنهم يعتقدون بأن النظام القيمي الصحيح بعد وفاة الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لابد أن يؤخذ من أهل البيت (عليهم السلام). إذ يقول بعض طوائف أهل السنة: نحن نقر بأن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: إن الإمامة من بعدي هي في اثني عشر رجلا من قريش وإن هؤلاء الاثني عشر هم أئمة أهل البيت (عليهم السلام). فهم يقبلون بأن المرجع الفكري والعلمي للامة الإسلامية هم آل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، بل إن من يتصف منهم بمزيد من الإنصاف يقول: حتى الخلفاء كانوا يقبلون بذلك والدليل هو لجوء الخلفاء إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) في حل الكثير من القضايا المستعصية واحترامهم لرأيه والعمل به. فأهل السنة أنفسهم يروون روايات جمة عن الخلفاء لاسيما الخليفة الثاني أنه قال: «لا أبقاني اللّه لمعضلة لم يكن لها أبو الحسن.(1)» وإن من المعروف أيضا قول عمربن الخطاب بما يقرب من سبعين مرة: «لولا علي لهلك عمر». فبعض طوائف أهل السنة يدعون أن الخليفة الأول والثاني كانوا يدعون المنصب السياسي وليس المنصب العلمي، وهذا يفسر رجوعهم لأهل البيت (عليهم السلام)في حل المعضلات العلمية.

إذن فالمسألة الاولى هي المرجعية العلمية وإن الزهراء (عليها السلام) عندما قالت: «وَطَاعَتَنَا نِظَاماً لِلْمِلَّةِ» كان من الممكن أن يقبلوا بسهولة أكبر أنه لابد لهم - من أجل الحصول على نظام سلوكي وقيمي مدون ومقبول عند اللّه - من الرجوع إلى أهل البيت(عليهم السلام) واتباعهم؛ لكن المسألة التي تحوز أهمية أكبر هي المسالة الثانية؛ وهي أنه: هل لابد ان يكون المسؤول التنفيذي الذي يمتلك صلاحية إصدار الأحكام الحكومية أن يكون من أهل البيت(عليهم السلام) أيضا أم لا؟ وهل يكون تعيينه عن طريق انتخاب الرعية؟ هذه المسألة هي موطن الخلاف الرئيسي بين الشيعة وسائر طوائف المسلمين، ونحن نعلم أن هناك شواهد كثيرة في القرآن الكريم

ص: 192


1- . بحار الأنوار، ج76، ص52.

وفي كتب الأحاديث وحتى في كتب أهل السنة الروائية على صحة قول الشيعة في هذا المجال.

على كل حال فلا مجال في نظرنا لأي شك أو ريب في أنه ناهيك عن أن أهل ابيت (عليهم السلام) معينون من قبل اللّه تعالى كمرجع علمي للامة، فإنهم لابد أن يتولوا المناصب التنفيذية أيضا لتتم إدارة شؤون المجتمع بواسطتهم بشكل مباشر. بطبيعة الحال لا يعني ذلك أن يوجد الإمام المعصوم(عليه السلام) في جميع أنحاء البلاد ليدير كل مدينة أو قرية بنفسه مباشرة، فذلك أمر مستحيل. فلو تواجد المسلمون في مناطق اخرى، فلابد أن تدار شؤونهم تحت سلطة الحكومة المركزية بأن يرسل الإمام إليهم من ينوب عنه في الحكم.

ما فعلته فاطمة الزهراء (عليها السلام) هنا هو أنها أولا: دست هذه الجمل وسط معارف الإسلام المسلمة. فمن جانب تحدثت عن الصلاة، والصوم، والحج ومن جانب آخر تكلمت عن الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما إلى ذلك. يتعين القول: لقد أعملت الزهراء (عليها السلام) قمة الحنكة في تهيئة الأذهان لاستقبال بيان مسألة الإمامة لتفهم الناس أن التكليف الأساسي الملقى على عاتقهم هو طاعتنا. ثانيا: إلى جانب طرح هذه المسألة فهي (عليها السلام)تشير إلى الحكمة من ورائها فتقول: إن المجتمع الإسلامي بحاجة إلى وحدة الفكر والتدبير، وإن عدم توفر هذه الوحدة من شأنه أن يضيع مصالح الامة الإسلامية. كما أنه إذا لم يكن ثمة نظام حاكم يدبر شؤون المجتمع على أرض الواقع، ويطبق القواعد العامة على الموارد الخاصة، ويتصدى لإعمال إدارة البلاد عندما تبرز الحاجة إلى ذلك فسينشأ الخلاف المؤدي إلى الهرج والمرج والفوضى أيضا. إذن فإن ما يمكنه حفظ المجتمع من الفرقة والتشتت هي الإدارة الواحدة التي يطلق عليها عنوان «الإمامة»، وقد جعل اللّه عز وجل هذه الإمامة فينا أهل البيت (عليهم السلام) .

هذه الملاحظة تحظى بأهمية بالغة ولابد - برأيي – من اعتبارها بيت قصيد الخطبة الفدكية. نسأل اللّه العلي القدير أن لا يفرق بيننا وبين أهل البيت(عليهم السلام) في الدنيا والآخرة.(1)

ص: 193


1- . دروس الاخلاق المصباح الیزدی .

اشارات

ا... یقول سبحانه :(و إنّ هذا صراطي مستقیماً فاتّبعوه و لا تتّبعوا السُّبُلَ فتفرق بكم عن سبیله)

ا... یقول سبحانه :(و إنّ هذا صراطي مستقیماً فاتّبعوه و لا تتّبعوا السُّبُلَ فتفرق بكم عن سبیله)(1)

فی تفسیر القمی :أخبرنا الحسن بن علی عن ابیه عن الحسین... عن ابی بصیر عن أبي جعفر (عليه السلام) فی قوله ( إنّ هذا صراطي مستقیماً فاتّبعوه و لا تتّبعوا السُّبُلَ فتفرق بكم عن سبیله)

قال: نحن السبیل فمن أبی فهذه السبیل فقد كفر.(2)

ونقرأ فی زیارت امام علی(عليه السلام) : اشهد یا امیر المؤمنین ،ان الشاكّ فیك ما آمن بالرسول الامین ،وانّ العادل بك غیرك عائد عن الدین القویم الذی ارتضاه لنا ربّ العالمین واكمله بولایتك یوم الغدیر واشهد انك المعنیّ بقول العزیز الرحیم:وان هذا صراطی مستقیماً فاتبعوه ولاتتبعوا السبیل فتفرقّ بكم عن سبیله (3)وتقول مولاتنا وامامتنا امانا من الفرقه.

ب... هل الإمامة من الاصول أم من الفروع؟

يتبيّن جواب هذا السؤال ممّا قيل في البحث السابق، لأنّ الآراء مختلفة في مسألة الإمامة، يقول «الفضل بن روزبهان» صاحب «نهج الحق» الذي يعتبر «احقاق الحق» رداً عليه، مايلي: «إنّ مبحث الإمامة عند الأشاعرة ليس من اصول الديانات والعقائد بل هي عند الأشاعرة من الفروع المتعلقة بأفعال المكلّفين»


1- . سورة الانعام ، الآیة 153.
2- . تفسیرالمیزان، ج7، ص385
3- . المفاتیح الجدیده ، ص188.

احقاق الحق، ج 2، ص 294؛ دلائل الصدق، ج 2، ص 4.(1). دلائل الصدق، ج 2، ص 8(2). اصول الكافي، ج 1، ص 200.

متى بدأ البحث في الإمامة؟

بعد رحيل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) جرى جدلٌ حول من يخلف النبي، فطائفة كانوا يعتقدون بأنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم ينصب احداً لخلافته، واوكل هذا الأمر إلى الأمة، بأنْ يجلسوا ويختاروا قائداً من بينهم، القائد الذي يمسك بزمام الحكم، ويحكم الناس باعتباره موكلًا من قبلهم، وإن لم يجر هذا الاختيار أبداً، بل إنّ مجموعة صغيرة من الصحابة قامت باختيار الخليفة في مرحلة، وفي

ص: 195


1- .كما أنّ سائر مذاهب أهل السنّة لا يختلفون مع الأشاعرة في ذلك، لأنّهم يعتبرونها من التكاليف العملية الموكولة إلى الناس، في حين أنّ الشيعة واتباع أهل البيت(عليهم السلام) ونفر قليل من أهل السنة كالقاضي البيضاوي وبعض من اتباعه يعتبرونها من اصول الدين
2- . والدليل هو أنّهم يعدون الإمامة منصباً إلهياً يجب أن يعين من قبل اللَّه تعالى، وأحد شروطهاالعصمة التي لا يعلمها إلّااللَّه، والإيمان بالائمة واجب كالايمان بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الباني الأول لقواعد الشريعة، إلّاأنّ هذا لا يعني أنّ الشيعة يعتبرون المخالفين لهم في قضية الإمامة كافرين، بل إنّهم يعتبرون جميع الفرق مسلمين، وينظرون إليهم على أنّهم اخوةٌ في الدين، وإن لم يقبلوا آراءَهم في مسألة الإمامة، ومردُّ ذلك لكونهم يقسمون اصول الدين الخمسة إلى قسمين، الاصول الثلاثة الاولى، التوحيد والنبوة والمعاد على أنّها اصول الدين، والإمامة والعدل بأنّها اصول المذهب. نختتم هذا الكلام بحديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليهما السلام)- الذي يعتبر ملهماً لاتباع أهل البيت(عليهم السلام)- في مسألة الإمامة: «إنّ الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعزّ المؤمنين، إنّ الإمامة اسُّ الإسلام النامي وفرعه السامي بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وتوفير الفي ء والصدقات وامضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والاطراف، الإمام يحلُّ حلال اللَّه، ويحرّم حرام اللَّه، ويقيم حدود اللَّه ويذبُ عن دين اللَّه، ويدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة»

المرحلة الاخرى اتخذ انتخاب الخليفة طابعاً تعينياً، وفي المرحلة الثالثة أُوكِلَ هذا الاختيار إلى مجلس من ستة أشخاص كلهم معينون.

ويطلق على اتباع هذا المنحى «أهل السّنة».

وفريق آخر كانوا يعتقدون بوجوب تعيين الإمام وخليفة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من قبل اللَّه تعالى، لأنّه يجب أن يكون مثل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) معصوماً من الزلل والخطأ، وذا علم خارق للعادة لكي يتحمل قيادة الأمة معنوياً ومادياً، ويحفظ أساس الإسلام، ويبيّن مشاكل الأحكام، ويشرح دقائق القرآن، ويعمل على استمرار الإسلام.

ويطلق على هذه الطائفة «الإمامية» أو «الشيعة»، وقد أخذت هذه الكلمة من الأحاديث المعروفة والصادرة عن النبي الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم).

فقد روي في تفسير الدر المنثور وهو من المصادر المعروفة لدى أهل السنّة عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري تعقيباً على الآية الكريمة: (اولئكَ هُم خَيرُ البَرِيّةِ»، أنّه قال: كنّا عند النبي فأقبل علي (عليه السلام) فقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «والذي نفسي بيده أنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة»، ونزلت: (انَّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ اولئكَ هُمْ خَيْرُ البَريَّةِ).(1)

فكان أصحاب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا أقبل علي، قالوا جاء خير البرية(2).

ويروي الحاكم النيسابوري وهو من علماء أهل السنة المعروفين في القرن الخامس الهجري هذا المعنى في كتابه المعروف شواهد التنزيل بطرق مختلفة عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد تجاوز عدد رواياته العشرين.

منها مانقله عن ابن عباس، لما نزلت آية: (انَّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ اولئكَ هُمْ خَيْرُ البَريَّةِ)، قال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام): «هم أنت وشيعتك»(3).

وجاء في رواية اخرى عن أبي بريدة: لما تلا النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هذه الآية، قال لعلي (عليه السلام): «هم أنت وشيعتك ياعلي»(4).

ص: 196


1- . البينة/ 7.
2- . تفسير در المنثور، ج 6، ص 379، ذيل الآية 7، من سورة البينة.
3- . شواهد التنزيل، ج 2، ص 357.
4- . المصدر السابق، ص 359.

كما ذكر هذا الحديث الكثير من علماء الإسلام لاسيما من أهل السنّة مثل ابن حجر في صواعقه ومحمد الشبلنجي في نور الأبصار.(1)

بناءً على شهادة هذه الروايات، فإنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو الذي إختار لأتباع علي (عليه السلام) ومحبيه هذه التسمية «الشيعة»، فهل يبقى مجال للعجب في انزعاج البعض من هذا الاسم ويعتبرونه شؤماً ونحساً، ويعدون حرف (الشين) الذي في مطلعه سبباً «للشر» و «الشؤم» وسائر الألفاظ التي تبتدئ بحرف الشين؟! على الرغم من أنّ حرف (السين) في مطلع اسم المذهب الآخر، تبترئ به كلمات من قبيل (السُمّ) و (السَرطان) و (السِلّ) و (السَفاحة) وغير ذلك.

إنّ هذه التعابير تعتبر بحق مثيرة للدهشة بالنسبة للباحث الذي يرغب في أن يسير في ظل البراهين المنطقية دائماً. والحال يمكن اختيار كلمات حسنة أو سيئة لكل حروف الهجاء بدون استثناء.

على أيّة حال فتاريخ ظهور الشيعة ليس بعد ارتحال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بل في حياته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، حين اطلق هذه الكلمة على محبي واتباع علي (عليه السلام) ، وكلُّ الذين يعتقدون بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنّه رسول اللَّه، يعرفون أنّه لا يتكلم عن الهوى، (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوى* إنْ هُوَ إِلَّا وَحيٌ يُوحى).(2)

وإذا ما قال لعلي (عليه السلام) : أنت وشيعتك المفلحون يوم القيامة فهذه حقيقة(3).

وَالْجِهَادَ عِزّاً لِلإِسْلامِ

اشارة

وَالْجِهَادَ عِزّاً لِلإِسْلامِ(4)

بعض الآراء حول أصل الحرب

يعتقد بعض المفكّرين والباحثين في موضوع الحرب أنّ الحرب تمثّل قانوناً عامّاً للوجود (والوجود عند هؤلاء بالطبع يساوي عالم المادّة). فهم يقولون في هذا المجال: إنّ أحد القوانين العامّة المسيطرة على عالم الوجود أساساً هو أصل التنازع؛ فالمدرسة الماركسيّة -

ص: 197


1- . الصواعق، ص 96؛ ونور الابصار، ص 70 و 101، ومن أجل المزيد من الاطلاع على رواة هذا الخبر والكتب التي ذُكر فيها راجعوا من احقاق الحق، ج 3، ص 287 وما بعدها والجزء 14، ص 258.
2- . النجم/ 3- 4.
3- . نفحات القرآن ج9 ،ص11.
4- . بحار الأنوار، ج29، ص223.

على سبيل المثال - تعتبر أنّ أصل التضادّ هو أحد الاُصول الفلسفيّة التي تحكم الكون. وليس بعيداً عن ذلك ما ذهب إليه المعتقدون بأنّ الحرب هي قانون الحياة قائلين: هناك قانون عامّ يهيمن على عالم الكائنات الحيّة يسمّى أصل التنازع (وهذه هي النزعة الداروِنيّة). حتّى إنّ بعض علماء الاجتماع، وانطلاقاً من هذه النزعة، فقد اعتمدوا أصل التنازع الداروِنيّ في علم الاجتماع فقالوا: هناك قانون جبريّ وعامّ يحكم كافّة المجتمعات البشريّة مفاده أنّه لابدّ من وجود الحرب والتنازع من أجل بقاء الأصلح والأكمل وإقصاء الآخرين.

وعلى النقيض من ذلك فهناك عقيدة تقول: الحرب هي مرض وأمر غير طبيعيّ لابدّ من اجتثاثه بالكامل. وقد شاعت مثل هذه العقيدة في قديم الزمان في الشريعة الهندوسيّة. فهؤلاء يعتقدون بوجوب عدم التعرّض لأيّ شيء، وعلى الناس أن لا يُفيدوا ممّا هو موجود في العالم إلاّ بمقدار الضرورة؛ وحتّى النباتات يجب أن لا تُستعمل بكثرة، وإنّ قتل الحيوان، وبطريق أولى الإنسان، غير جائز عندهم على الإطلاق. وبناءً عليه فإنّ كلّ مَن يسعى، بأيّ شكل من الأشكال، لإشعال حرب فإنّه يقوم بعمل خاطئ وغير أخلاقيّ.

أمّا الرأي الآخر الذي يُعدّ من اُسس حقوق الإنسان فيقول: الحرب أساساً أمر سيّئ جدّاً ولا ينبغي إشعال فتيلها إلاّ في موارد نادرة جدا. دُعاة هذا الرأي وضعوا بضعة قوانين عامّة لحقوق الإنسان أحدها هو أصل الحياة، فهم يعتقدون بأنّ من الحقوق التي ينبغي لجميع البشر التمتّع بها، مهما كانت الظروف ومهما بلغوا من الإجرام، هو حقّ الحياة؛ وبناءً على ذلك فلابدّ من الوقوف بوجه كلّ قوانين الإعدام وما هو على شاكلتها. أمثال هؤلاء يُسهبون في الكلام حول أمثال هذه المواضيع وكتابتها على الورق أمّا على أرض الواقع فإنّهم من أفظع الكائنات الموجودة على وجه الأرض إجراماً، بل إنّ جرائمهم قد بيّضت حتّى وجوه الحيوانات المتوحّشة.

ص: 198

ما هو رأي الإسلام في الحرب؟

لكن ما الذي يقوله الإسلام حول هذه الآراء؟ الدين الإلهيّ يأخذ وقائع المجتمع البشريّ بعين الاعتبار ويضع القوانين المناسبة على أساس تلك الوقائع كي يؤمّن بمجموع ذلك سعادة البشر. فالإسلام لا يوافق على عدم جواز التعرّض لأيّ كائن حيّ؛ بل إنّه يقول إذا حُرّمت لحوم بعض الحيوانات بلاسبب وجيه: (قُلْ ءَاللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ).(1) فاللّه قد خلقها من أجل منفعتكم وغذائكم. إذن فلتتناولوا ما حلّ لحمه من الحيوانات، لكن مع الاعتدال ووفقاً للضوابط. بل إنّ إحدى العبادات الإسلاميّة هي ذبح الاُضحيّة أيضاً.

فهذه الرؤية تقف في مقابل الرؤيتين السابقتين الإفراطيّة والتفريطيّة. وحتّى فيما يتعلّق بالحرب فالإسلام يصدر حكمه ضمن إطار رؤية واقعيّة؛ ذلك أنّ اللّه عزّ وجلّ هو الذي خلق الإنسان وهو أعلم بما خلق وما يتطلّبه مخلوقه. هو يعلم أنّ الناس، ومن خلال ما يوجد في رغباتهم من تضادّ، ستؤول بهم الاُمور إلى الحرب. فاذا قلنا على نحو مثاليّ: يتعيّن الوقوف بوجه كلّ حرب ودفاع عن النفس وإنّ كلّ ذلك مُدان، فانه قول لا ينسجم مع واقع الحياة البشريّة وسوف يصبّ في مصلحة الظَّلَمة في نهاية المطاف. فالإحجام عن الجهاد وعدم مجابهة هجمات العدوّ سوف يمهّد الأرضيّة للعدوّ ليرتكب ما يحلو له من الحماقات، واللّه لا يجيز مثل هذا التصرّف.

فلقد أخذ الإسلام هذه المسألة بعين الاعتبار وهي أنّ وجود طبيعة التعدّي في البشر ستؤدّي – شئنا أم أبينا - إلى النزاع والحرب ويتعيّن وضع ضوابط وقوانين لمثل هذه القضايا، وهذا هو الدور الأساسيّ الذي تنهض به الشريعة وهو أنّه بالنظر لتوفّر مقدّمات الانحراف في المجتمع فلابدّ من وضع قوانين، والسعي لتنفيذها كي يُقطع الطريق أمام أيّ انحراف أو يُحدّ منه إلى أدنى مستوى ممكن.

ص: 199


1- . سورة يونس، الآية 59.
الأهواء النفسانيّة تسيء لسمعة الإسلام

من جملة ألوان الفساد التي يُبتلى بها المجتمع البشريّ هو ارتكاب البعض لأصناف الجرائم والفجائع الإنسانيّة تحت شعار العمل بأحكام الدين الإسلاميّ، الأمر الذي يؤدّي إلى الإساءة لسمعة المسلمين. فقد ارتكبت سلسلة من سلاطين بلاد الإسلام على مرّ التاريخ باسم الجهاد في سبيل الإسلام جرائم شنيعة كانت عواقبها تأخير انتشار الإسلام في تلك البلدان لقرون من الزمن وتشويه صورة الإسلام في العالم. واليوم أيضاً تقوم أمثال حركة طالبان والقاعدة بنفس هذا الدور في جميع أنحاء العالم مطلقين على ما يقومون به عنوان التطبيق لأحكام الإسلام. ومن هنا يتعيّن علينا أن نطبّق حقيقة الجهاد كما جاء به الإسلام من دون أدنى زيادة أو نقصان، لا أن ننفّذ ما تمليه علينا أهواؤنا ونزواتنا مسمّين ذلك إسلاماً.

أصل الدفاع وما يجب الدفاع عنه

بشكل عامّ فإنّ الجميع يعلم أنّ الجهاد هو أحد فروع الدين وضروريّاته، فهذا الأمر هو من المسلّمات التي لا تتطلّب بحثاً. لكنّ المهمّ هو أنّ القرآن الكريم نفسه قد أشار إلى بعض الحِكَم من وراء تشريع الجهاد، حيث بالرجوع إلى هذه الحِكَم يمكننا الوقوف على الغاية من تشريع الجهاد أساساً من ناحية، والتعرّف على حدوده ولوازمه من ناحية اُخرى. هناك أصل لا يملك أيّ إنسان سليم الفطرة إنكاره وهو أصل «الدفاع»؛ يقول هذا الأصل: إذا هجم علينا العدوّ فلا يصحّ أن نجلس مكتوفي الأيدي ونستسلم لمن يريد إبادتنا. فما من فطرة تقبل بذلك. فإذا فُتح باب البحث مع اُولئك المنادين بحقوق الإنسان والمخالفين لأحكام الجهاد في الإسلام والقائلين: «ما دام الإسلام يقرّ بأحكام الجهاد فهو دين عنف!»، إذا فُتح باب البحث معهم فمن المستحسن الشروع بالبحث من هذه النقطة وهي أنّه ما من إنسان سليم الفطرة يمكنه تحريم الدفاع والقول: لا ينبغي الدفاع عن النفس. لكنّ السؤال المطروح هنا هو: عن أيّ شيء يتعيّن الدفاع؟ فهل الدفاع مقتصر على الدفاع عن النفس إذا تعرّضت للخطر، أم يتعيّن الدفاع عن العرض، والولد، وسائر المتعلّقات أيضاً؟ وإذا ارتفعنا إلى مستوى المجتمع فما هي الاُمور التي ينبغي للشعب الدفاع عنها؟ المتعارف – من الناحية العمليّة - لدى جميع سكّان المعمورة هو الدفاع عن الماء والتراب. ففي كلّ ثقافة يوجد أبطال تفتخر بهم شعوبهم وهم في العادة اُولئك الذين دافعوا ببسالة عن

ص: 200

مياه شعوبهم وأراضيهم. إذن بالإضافة إلى الدفاع عن النفس، فإنّ الدفاع عن الماء والتراب هو أيضاً محطّ قبول العقلاء. كما أنّ معظم الأقوام بل لعلّ جميعهم يقولون بوجوب الدفاع عن العرض أيضاً وإنْ بلغ حدّ الحرب والقتل، بل إنّ المقصّر في هذا الجانب سيُصنَّف في عداد المنحطّين والمتخاذلين، وهو مُدان وفقاً لثقافة ومنطق عقلاء العالم. بالطبع، كما قد أشرت مسبقا، فقد يدّعي البعض في مجال البيان والبنان غير ذلك؛ لكنّهم جميعاً يقبلون بذلك من الناحية العمليّة.

الجهاد في سبيل اللّه، لا في سبيل الماء والتراب

لكن هل الجهاد في الإسلام هو على هذه الشاكلة أيضاً؟

ليس ثمّة أدنى شكّ في أنّه إذا هجم أعداء الإسلام على المسلمين قاصدين إبادتهم أو الاستيلاء على أراضيهم فإنّ صدّهم عن ذلك سيمثّل تكليفاً واجباً من الناحية الشرعيّة. لكن ما نودّ قوله هو أنّ الجهاد الإسلاميّ هو أشرف وأعظم قيمة بكثير ممّا يعتقد به عقلاء العالم. فما يعتقد به هؤلاء لا يتجاوز حدّ الغريزة الموجودة حتّى عند الحيوانات؛ إذ أنّ معظم الحيوانات تدافع عن أوكارها بكلّ شراسة إذا هوجمت. فإنّ عدم دفاع المرء عن بيته أو وكره سيجعله أخسّ من الحيوان. إذن فليس في هذا النمط من الدفاع مفخرة. فالقضيّة الجوهريّة هي أنّ الجهاد الإسلاميّ هو جهاد في سبيل اللّه تبارك وتعالى، وإنّ الهدف الذي يضعه الإسلام للجهاد هو أسمى وأرفع بكثير من مجرّد حفظ النفس والمال.

انّ بداية ما نزل من القرآن نزل في الجهاد والذي تناول الجهاد الدفاعيّ هو ما جاء في سورة الحجّ، حيث يقول عزّ من قائل: (إِنَّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ * أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيز.)(1) كان المسلمون قبل ذلك الحين قد طلبوا الإذن

ص: 201


1- . سورة الحجّ، الآيات 38 - 40.

بالحرب، لكنّ الأمر الإلهيّ كان قد نزل يحثّهم على الكفّ عنها: (كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ)(1) ؛ إذ أنّ عددهم كان قليلاً ولم تكن لهم العدّة الكافية للحرب؛ فإن هم أقدموا على الحرب في حينها فإنّهم كانوا سيبادون عن بكرة أبيهم. فالآيات المذكورة من سورة الحجّ كانت أوّل مرّة يؤذَن فيها للمسلمين بالدفاع عن أنفسهم. لكنّنا نلاحظ أنّ اللّه عزّ وجلّ لم يقل في بيان الحكمة من هذا الإذن: «إذا لم تجاهدوا فستتعرّض أرواحكم للخطر وسيستولي الأغيار على مياهكم وأرضكم» بل قال: «إنّنا لو لم نعط الإذن بالدفاع فإنّ مصير مراكز العبادة سيكون التهديم والإبادة ( (وَلَوْلا دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّهِ كَثِيراً).) بطبيعة الحال كانت هذه هي الحكمة من تشريع الجهاد في جميع الأديان السماويّة؛ فالدفاع والجهاد لا يختصّان بالإسلام. فحكمة الجهاد الأساسيّة التي يستند إليها المنطق القرآنيّ هي المحافظة على اسم اللّه في الأرض وجعل الناس يتذكّرون اللّه عند وقوع أنظارهم على المعابد والمساجد؛ ذلك أنّ ذكر اللّه جلّ وعلا هو الحقيقة الوحيدة التي من شأنها أن تقود المرء إلى السعادة الأبديّة.

ثمّ يقول تعالى من بعد ذلك: بعد أن ينتصر في ساحة الحرب اولئك الذين أذِنّا لهم بالقتال ووعدناهم بالنصر فإنّ أوّل ما سيقومون به هو إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة؛ أي تطبيق دين اللّه في الأرض: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنكَرِ.)(2) فإنّ الاسم الذي يطلق على هذا النمط من الجهاد هو الجهاد في سبيل اللّه وليس القتال في سبيل الماء والتراب.

ص: 202


1- . سورة النساء الآية 77.
2- . سورة الحجّ، الآية 41.

الأنفس فداء للإسلام

كم تخلّفنا نحن عن هذه الثقافة! فلقد بلغ بنا الأمر في زماننا إلى حدّ أنّنا، ومن أجل الدفاع عن هذا الحكم، نلجأ إلى دليل تشترك فيه حتّى الحيوانات؛ أي الدفاع عن الماء والتراب والوطن. إذ حتّى الحيوانات تدافع عن أوطانها؛ فليس في هذا الأمر عظيمُ فخر واعتزاز. فالأهمّ من ذلك هو الدفاع عن القيم والمثل والدفاع عن الدين، فكلّ شيء ينبغي أن يقدَّم فداء للدين! لكنّ تغلغل الثقافة الغربيّة في ثقافتنا أدّى بنا، مع بالغ الأسف، إلى الهبوط بمسألة الجهاد - مع كلّ ما لها من عظمة وشرف - إلى مستوى الغريزة الحيوانيّة!

فمولاتنا فاطمة الزهراء (عليها السلام) تقول بالحرف الواحد: «وَالْجِهَادَ عِزّاً لِلإِسْلامِ». لكنّنا إن بالغنا في التكلّف والارتقاء بمستوى كلامنا فغاية ما سنقوله هو: الجهاد عزّاً للمسلمين. لكنّ الزهراء (عليها السلام) تقول: «وَالْجِهَادَ عِزّاً لِلإِسْلامِ»، أيّ إنّ الهدف الأساسيّ هو الإسلام، وما علينا جميعاً إلاّ أن نفدي أجسادنا في سبيل الإسلام. بل إنّه ما من شيء أساساً يمكن وضعه في مقابل الإسلام.

إذن فالجواب على السؤال الذي طرحناه وهو: «عن أيّ شيء يتعيّن الدفاع؟» هو أنّ علينا بالدرجة الاُولى الدفاع عن القيم والمثُل الإلهيّة، ومن ثُمّ يأتي دور الدفاع عن النفس، والمال، والعرض، والماء، والتراب، وما إلى ذلك. فأهمّ أنماط الدفاع هو الدفاع عن الدين الذي يقود إلى سعادة البشر جميعاً. فلولا الدين لكان الناس في مستوى الحيوانات، بل وقد يكونون أخسّ من الحيوانات أحياناً؛ إذ يقول عزّ وجلّ: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(1)؛ فاللّه تعالى لا يقول: إنّ شرّ الناس هم المعاندون لله، بل قال: إنّ هؤلاء هم شرّ الدوابّ. فعند غياب الإسلام فإنّ الامور ستؤول إلى هذه النتيجة. إذن فإنّ أعلى مراتب الدفاع هو ما تكون سعادة البشر كافّة رهناً به؛ وهو الدفاع عن الإسلام. إذن فالأصل هو الإسلام وإنّ قيمة المسلمين بإسلامهم. لكن هذه المسألة - مع بالغ الأسف - مغفول عنها في الكثير من أقوال المسلمين وكتاباتهم.

ص: 203


1- . سورة الأنفال، الآية 55.

الصبر مفتاح الأجر

«وَالصَّبْرَ مَعُونَةً عَلَى اسْتِيجَابِ الأَجْر»(1)

الصبر من المفردات المفتاحيّة في المعارف

انّ المفردات التي يكثر القرآن الكريم والروايات من تكرارها ويؤكد عليها محدودة نسبيّاً. إحدى هذه المفردات هي «الصبر» وهي تُعدّ من المفردات المفتاحيّة في المعارف الإسلاميّة. فاللّه سبحانه وتعالى يوصي نبيّه الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) دوماً بالصبر بقوله: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)(2)، و«فاصبر...»(3)، كما أنه عزّ وجلّ يوصي عموم الناس أيضاً بالصبر في مواطن كثيرة من كتابه العزيز؛ إذ يقول عزّ من قائل في سورة العصر: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ) . فهذه السورة تحتوي على أربع مفردات مفتاحية هي: الإيمان، والعمل الصالح، والحقّ، والصبر. إذن من الواضح أنّ موضوع الصبر ينطوي على أهمية كبيرة مما يدعو إلى ذكره إلى جانب الحقّ، والإيمان، والعمل الصالح.

ليس الصابر منفعلاً ولا منظلماً

للأسف فإنّ معاني بعض المفردات القرآنية لا تتمّ المحافظة عليها في عرفنا جيداً بل قد تعاني بعض التحريف أيضاً، ومن جملة هذه المفردات هي مفردة الصبر التي إذا أمعنّا النظر في استخداماتها في الآيات القرآنية وروايات أهل البيت (عليهم السلام) لوجدناها تختلف بعض الشيء عما هو مرتكز في أذهاننا. فنحن نتصوّر أنّ الصبر هو حالة الانفعال التي تنتاب الإنسان؛ أو بتعبير آخر: عدم إظهار ردّ فعل تجاه حوادث الدهر. فنحن نطلق على مَن يتلقى الصفعة على وجهه من دون أن يردّ عليها بمثلها انّه صابر! وعلى الرغم من أنّ الإنسان الذي لا يُبدي عظيم جزع وشديد فزع في مواجهة المصائب والنوازل هو لا شكّ من أهل الصبر، وأنّ هذه

ص: 204


1- . بحار الأنوار، ج29، ص223.
2- . سورة الأحقاف، الآية 35.
3- . سورة طه، الآية 130، وسورة الروم، الآية 60، وسورة القلم، الآية 48.

الصفة هي من المصاديق البارزة والصحيحة للصبر، بيد أنّ نطاق استخدام مصطلح الصبر هو أوسع بكثير من ذلك وأنّ مؤدّاه أعمق وأغنى من هذا المعنى.

كما أنّ الصبر لا يعني الانظلام والخنوع تحت وطأة الظلم والتعدّي، فالإسلام لا يحبّ أن يكون المرء منفعلاً في مقابل الظلم وسريع التسليم له. فقد جاء في الخبر بأسناد متعدّدة: «مَن قُتل دون مَظلِمته فهو شهيد»(1)؛ أي من تعرّض للظلم ثمّ قُتل دفاعاً عن نفسه وبغية رفع الظلم عنه فله حكم الشهيد. فالإسلام لا يحبّ الإنسان الخنوع الذليل المنفعل، بل يريد من المسلم أن يقاوم الظلم وأن ينتزع حقّه المغتصَب حتّى وإن دفع حياته ثمناً لذلك؛ لكنّ الأسمى والأرفع من ذلك هو الدفاع عن الإسلام، والاُمة الإسلامية وقيم الإسلام ومقدّساته، فهذا التكليف أسمى وأهمّ من الأوّل بكثير.

أقسام الصبر الثلاثة

من حسن الحظّ فإنّ التفاسير الواردة في الأحاديث تقف إلى حدّ ما بوجه هذه التحريفات والأخطاء. فقد ورد في حديث نبويّ شريف معروف: «الصبر ثلاثة: صبر عند المصيبة، وصبر عند الطاعة، وصبر عن المعصية.»(2) فالصبر عند المصيبة يعني أن لا يجزع المرء وأن يحافظ على رباطة جأشه إذا حلّت به شديدة أو نازلة. والصبر على الطاعة وحال أداء التكليف هو أن يبذل الإنسان جهده في أن يؤدّي ما عليه من تكليف على أحسن وجه. والصبر عن المعصية هو أن يقاوم الإنسان ما يتولّد في داخله من دافع إلى المعصية الذي يكون غالباً بصورة الشهوة والغضب. وقد ذكرت الأحاديث أقسام الصبر هذه وإنّ هذه التوصيات والتوجيهات تهيّئ الأرضية لنا كي نكتشف الوجه المشترك بينها. فالقرآن الكريم يذكر الصبر بشكل مطلق بقوله: «واصبر»، بينما تبيّن الروايات ثلاثة أقسام للصبر. فكيف لنا أن نفهم أيّ المصاديق هو مقصود القرآن الكريم من الصبر؟ بطبيعة الحال إننا لو درسنا وتفحّصنا موارد استعمال الصبر في القرآن الكريم لاستطعنا اكتشاف مصاديق تلك الأقسام

ص: 205


1- . الكافي، ج5، ص52.
2- . وسائل الشيعة، ج15، ص238.

الثلاثة؛ لكننا لو توصلنا إلى معنى تحليليّ للصبر تكون له جهة مشتركة بين الأقسام الثلاثة، لظفرنا بفهم أفضل لمفاد الآيات والروايات، وقد لا يخلو من نفع في مقام العمل أيضاً.

المعنى التحليليّ للصبر

التحليل الذي يمكن تقديمه هنا هو أنّ أعمالنا الاختياريّة بحاجة إلى مقدّمات. فالفعل الاختياريّ للإنسان يحتاج على الأقلّ إلى عاملين: أحدهما المعرفة، وثانيهما الدافع. لكن من حيث إنّ اللّه جلّ وعلا قد خلق هذا العالم على نحو بحيث نكون على الدوام عرضة للامتحان فليست القضيّة أنّه بمجرّد وقوفنا على حُسن فعلٍ مّا فإنّ الدافع لإنجازه سيتولّد في وجودنا فوراً. فلو كان الأمر كذلك فلن يُصار إلى تمييز الحَسَن عن القبيح أو إدراك قيمة الأعمال. فصحيح أنّنا قد نحيط علماً بحُسن فعل معيّن ونجد في أنفسنا الحافز للقيام به، غير أنّ دوافع معارضة قد تتولّد في أنفسنا أو تبرز بعض العراقيل والمشاكل التي تعيق إنجازه. فإن رغبنا في إنجاز هذا العمل فما علينا إلاّ إزاحة تلك العراقيل والموانع عن طريقه. فالزواج مثلاً هو أمر اختياريّ، لكن ليست المسألة أنّ المرء باستطاعته أن يتزوّج حال اتّخاذه قراراً بذلك، بل إنّ اتّخاذ مثل هذه الخطوة يتطلّب مقدّمات كثيرة. إذن فإن شئنا القيام بعمل صحيح من شأنه أن يقودنا إلى الكمال والسعادة ولا تكون عاقبته الحسرة والندامة (هذا وإنّ أهمّ أشكال الندامة هو ما يرتبط بالآخرة لأنّ ندم الدنيا يمكن تداركه) فعلينا الإحاطة بحسن العمل وكونه قيّماً أوّلاً، ومعرفة كيفيّة إنجازه ثانياً، وإزالة الموانع والعراقيل من طريقه ثالثاً. فقد يعلم المرء أنّ العمل الفلانيّ جيّد ومفيد، وأنّ الوسائل الكفيلة بإنجازه متوفّرة بشكل أو بآخر، لكن قد تظهر أحياناً عند الإقدام عليه بعض الموانع التي تعرقل أداءه، وهذه الموانع تنقسم إلى بضعة أقسام:

القسم الأوّل هي الموانع الداخليّة لدى الإنسان نفسه؛ وهي أن يتصوّر – على سبيل المثال – أنّ القيام بعمل كهذا قد يحرمه بعض الملذّات أو يكرهه على تجشّم المعاناة. فعادة عندما تكون عواطف الإنسان ومشاعره مواتية لفعل معيّن فإنّه سرعان ما يتّخذ القرار بإنجازه، لكنّه عندما تتضادّ أحاسيسه ومشاعره مع اتّخاذ مثل هذا القرار فستشكّل مانعاً داخليّاً يردعه عن القيام به.

ص: 206

القسم الثاني هي الموانع الخارجيّة البشريّة؛ كأن يسخر أرحام المرء وأقاربه من أدائه لفعل خير فيشكّلون بذلك مانعاً من القيام به. فهذا المانع يكون تأثيره من الخارج.

القسم الثالث هي المشاكل والأحداث التي تصرف الإنسان عن إنجاز العمل، كالابتلاء بالمرض أو بعض الحوادث الطبيعيّة.

وبناء عليه فإذا توصّلنا إلى نتيجة مفادها أنّ أمراً معيّناً لابدّ أن يُنجَز فيجب أن نُعدّ أنفسنا لمواجهة تلك الموانع ومقاومة العوامل الداخليّة والخارجيّة والمشاكل الاخرى، ويُطلق على هذا النمط من المقاومة اسم «الصبر». فالعامل الداخليّ – مثلاً - قد يتمثّل بالميول الشهوانيّة التي إذا جعلها الإنسان تحت قدميه عُدّ ذلك مصداقاً من مصاديق الصبر.

الجهاد، معركة الصبر على الطاعة

لكنّنا لم نتعوّد في محاوراتنا اليوميّة على اعتبار مقاومة تلك العوامل صبراً؛ فعلى سبيل المثال إذا استيقظ شخص بعد منتصف الليل مع شدّة نعاسه وسارع إلى غسل وجهه و يديه لطرد النوم من عينيه كي لا تفوته صلاة الليل فإنّنا لا نجد من يسمّي ذلك صبراً؛ لكنّه في الحقيقة مصداق بارز ل- «صبر عند الطاعة». كما أنّ المصداق الواضح لهذا النمط من الصبر هو الصبر والثبات في مقابل العدوّ في ساحة الوغى. فنحن اليوم نقف أمام أعداء يقول فيهم القرآن الكريم: إنّهم أعداء دينكم: (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ)(1) فالبعض يعتقد أنّهم لا يطمعون إلا بنفطنا، وإذا تمّ تأمين مصالحهم الاقتصاديّة فستُحلّ مشكلتنا معهم. وهذا التصوّر إنّما ينبع من روح الرضوخ والخوف التي تكمن حقيقتها في طلب الراحة والدعة. فأمثال هؤلاء يودّون العيش في راحة وطمأنينة ولا يريدون تعريض حياتهم للخطر. ومن أجل تبرير مواقفهم أمام الناس الذين يتّهمونهم بانعدام الغيرة ونكران الجميل فهم يقولون: «إنّكم لا تفقهون من السياسة شيئاً. فلابدّ من التطبيع والحوار مع أمريكا كي ندفع الأخطار عن بلادنا»! وهذا خلاف الصبر تماماً. فالصبر هو أن نثبت ونصمد بصلابة كالرجال. بالطبع لابدّ إلى جانب ذلك أن يكون لدينا خطّة متقنة وتدبير للامور، لكن عندما ندرك أنّه ثمّة عملٌ مّا ينبغي القيام به فلا يجوز أن نتهاون أو نتقاعس،

ص: 207


1- . سورة البقرة، الآية 217.

فهذه من العوامل التي تردع المرء عن أداء التكليف. ولا ننسى أن بحثنا يتناول موضوعاً قد ثَبُت فيه التكليف، وإلا فإنّ ولوج ميدان العمل من دون هدف محدّد وخطّة مسبقة الإعداد ليس بالأمر المعقول؛ (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ)(1)؛ فيجب علينا أن نستعدّ لطاعة اللّه ورسوله ووليّ الأمر. طبعاً قد يكون عذر البعض مقبولاً عند اللّه ورسوله في واقع الأمر، لكنّ اختلاق الأعذار والتحجّج عند البعض الآخر غالباً ما يكون منشؤه التقاعس والنزوع نحو الراحة والدعة.

فالفلسطينيّون واللبنانيّون ومن خلال توجيهات الإمام الراحل (رضوان اللّه تعالى عليه) قد وصلوا إلى قناعة مفادها أنّ المقاومة هي السبيل الوحيد للنجاة وقد تحوّلت المقاومة عندهم إلى ثقافة جديدة حتّى صارت شعار حزب اللّه في لبنان في الوقت الحاضر. وهذا أيضاً هو شكل من أشكال الصبر؛ وهو نفس الصبر الذي يتحدّث عنه القرآن الكريم بقوله: (وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ)(2)؛ أي من أجل إحقاق حقّكم عليكم بالمقاومة وتحمّل المكاره والمشاقّ في سبيلها.

تبليغ الدين مصداق للصبر على الطاعة

المصداق الآخر للصبر هو ميدان الدعوة الدينيّة. فإذا كان ثمّة مَن هو بحاجة إلى إبلاغه الدين، ويتأثّر إذا توفّر مَن يبلّغه من خلال المنطق الصحيح والاسلوب الذي يرضاه اللّه ويقرّه العقل، فينبغي حينئذ تحمّل أعباء هذا الطريق وولوج هذا المضمار. فسلوك طريق كهذا ينطوي - بما لا شكّ فيه - على عناء ومكاره، بل وقد يضطرّ السالك له أحياناً إلى مقاساة الجوع، والعطش، وتحمّل السلوك المشين الصادر من الآخرين، وما إلى ذلك. فلقد كانت عمليّة الدعوة الإسلاميّة تواجَهُ في الماضي بمشاكل جمّة؛ فشدّ الرحال من أجل إبلاغ الدين كان يمثّل بالنسبة للبعض جهاداً بكلّ ما في الكلمة من معنى. لكنّنا نشهد اليوم، ولله الحمد، تضاؤلاً ملحوظاً لهذه المشاكل. فقد نقل أحد الاُخوة (وهو الآن أحد المراجع الكبار في قمّ المقدّسة وقد كان في ذلك الحين أيضاً مدرّساً بارزاً في الحوزة العلميّة) عن

ص: 208


1- . سورة النساء، الآية 83.
2- . سورة العصر، الآية 3.

ذكريات التبليغ في شبابه فقال: ذهبت للتبليغ في شهر محرّم الحرام إلى إحدى القرى النائية وكان الفصل شتاءً فلم يُبدِ أحد أيّ استعداد للتعاون معي، بل إنّ أحداً لم يدعُني إلى بيته. إذن هكذا كان وضع الدعوة الإسلاميّة في إيران قبل انتصار الثورة الإسلاميّة (وهي البلد الشيعيّ الوحيد في العالم).

ميادين المقاومة

أمّا مجالات المقاومة فهي تلك الأقسام الثلاثة التي أكّدت عليها الروايات:

القسم الأوّل «صبر عن المعصية» وهو الثبات والمقاومة في مجابهة النفس والشيطان. وهنا لابدّ من الصمود بوجه النفس والشيطان بعنوان انّهما العوامل الداخليّة، ومقاومة الناس في الخارج الذين يمارسون على الإنسان ضغوطاً عبر التهديد والسخرية أو من خلال علاقات الصداقة وروابط المحبّة بعنوان أنّهم العوامل البشريّة الخارجيّة. والقسم الثاني هو ال- «صبر عند الطاعة» حيث يتعيّن على الإنسان أن يدع التقاعس جانباً ويكون جادّاً في أداء التكليف. بالطبع عليه هنا تأدية التكاليف الواجبة بالدرجة الاُولى والمستحبّة بالدرجة الثانية مراعاةً للأفضل فالأقلّ فضلاً. أمّا القسم الثالث فهو ال- «صبر عند المصيبة». فليكن في علمنا أنّ الحياة الدنيا لا تكون من دون مصاعب ومحن. فقد خلق اللّه عزّ وجلّ الدنيا محفوفة بالمصاعب. ليس هذا فحسب، بل لقد قال سبحانه وتعالى بنفسه: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَد)(1)، والكبد هو العذاب والمعاناة، وإنّه يصطلَح على مجموع هذه المحن والمصاعب وكذا الصبر عليها ومقاومتها ب- «المكابدة». فكم من الآلام والمعاناة يتحتّم على الاُمّ أن تتحمّلها في سبيل ولادة طفلها وتنشئته. فهو عزّ وجلّ يقول في حديث قدسيّ: «وَضَعْتُ الرَّاحَةَ فِي الْجَنَّةِ وَهُمْ الناس يَطْلُبُونَهَا فِي الدُّنْيَا فَلا يَجِدُونَهَا».(2) إذن نحن نطلب الراحة في الدنيا لكن من غير جدوى، فهي: «دار بالبلاء محفوفة»(3). والتجارب أثبتت أنّه ما من عمل مهمّ يمكن تنفيذه من دون مصاعب ومشاقّ. إذن ما على المرء إلا أن

ص: 209


1- . سورة البلد، الآية 4.
2- . بحار الأنوار، ج75، ص453.
3- . نهج البلاغة، الخطبة 226.

يلقّن نفسه بأنّه لابدّ من السعي الحثيث والجهد المتواصل من أجل بلوغ أيّ منصب أو مقام، حتّى وإن كان دنيويّاً؛ فإنّه

وما نيل المطالب بالتمنّي *** ولكن تؤخذ الدنيا غلابا(1)

فلا دوام لما يُستحصل بالحيلة والخداع وسرعان ما يفتضَح أمر مَن يستخدم هذه الأساليب ويمسي منبوذاً من قبل الناس.

لا يبلغ الرجل المدلّل مُنيةً *** فالعشق من دأب الرجال الكادحين(2)

والملفت هنا هو أنّ الصبر لا يفضي إلى النجاح في الامور الدنيويّة فحسب بل إنّه ينهض بدور حيويّ حتّى في نيل أفضل الاُمور المعنويّة والكمالات الإنسانيّة وكلّ ما يتعلّق بالهدف النهائيّ من خلقة الإنسان. فباستعراضنا للآيات القرآنيّة سندرك أنّ الصبر هو المفتاح لكلّ نجاح وموفقيّة. فاللّه تعالى كان قد نصر في واقعة بدر تلك الفئة القليلة العدّة والعدد من الحفاة، حين قال: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ).(3) ثمّ حثّهم على الثبات والمقاومة بقوله: إن أصابكم ضعف مددناكم بالملائكة: (بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ ءَالافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ).(4) فلا تظنّوا أنّ ملائكة اللّه الذين هرعوا لنجدتكم كانوا بهذا العدد فقط. فلم تكن مهمّة هؤلاء إلاّ فكّ العقدة التي أنتم فيها؛ لكنّكم إذا تحلّيتم بالصبر والتقوى ثمّ أصابكم بعض العجز فسوف نمدّكم بخمسة آلاف ملَك أيضاً، لكن بشرط أن تتحلّوا ب- «الصبر» و«التقوى»؛ «إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ».

وفيما يتّصل بنيل النجاحات الدنيويّة أيضاً فإنّه تعالى يشير إلى قصّة يوسف (عليه السلام) فيقول: (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(5) فالمقام الذي ناله

ص: 210


1- . للشاعر أحمد شوقي.
2- . في إشارة لبيت شعر بالفارسيّة لحافظ الشيرازيّ يقول فيه: نازپرورده تنعم نبرد راه به دوست عاشقی شيوه مردان بلاكش باشد
3- . سورة آل عمران، الآية 123.
4- . سورة آل عمران، الآية 125.
5- . سورة يوسف، الآية 90.

يوسف(عليه السلام) كان بسبب ما احتمله من صبر في مقاومة المعصية. هذا هو الأجر الدنيويّ فقط أمّا الأجر الاُخرويّ فمفروغ عنه. ويشير القرآن الكريم إلى هذا المضمون في عدد من الآيات وهو أنّ اقتران التقوى مع الصبر هو شرط الظفر في الدنيا وفي الآخرة معاً. والتقوى هي أن يمتلك الإنسان روح الاجتهاد في فهم ما عليه من تكليف شرعيّ والعمل به بعد فهمه؛ وذلك بطاعة اللّه ورسوله ووليّ الأمر، ومن ثمّ الصمود بوجه العدوّ ومقاومته من خلال التوكّل على اللّه سبحانه وتعالى.

النصر لا يكون إلاّ من عنده سبحانه

واستكمالاً للآيات التي تتناول واقعة بدر يقول عزّ من قائل: (وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)(1)؛ فلقد مددناكم بالملائكة فانتصرتم، لكن لا تتوهّموا أنّ الملائكة هم من نصركم. فنحن لم نرسل الملائكة إلاّ من أجل أن تطمئنّ قلوبكم؛ وإلاّ فما النصر إلاّ من عند اللّه القويّ المقتدر الحكيم.

فلا ينبغي للمؤمن أن يمدّ عينيه إلى غير يد اللّه تعالى، فلا يقصرّن في أداء الواجب من ناحية، ولا يخافنّ من شيء أبداً، فإن انتابه عجز أعانه اللّه تعالى عبر طرق اُخرى حتّى وإن كانت قوى غيبيّة. وحتّى في حال مدّنا بالقوى الغيبيّة فإنّه لا ينبغي أن نتصوّر أنّ الأمر بيد تلك القوى؛ بل إنّ أصل النصر والإعانة بيد اللّه وحده. إذن فلتتجه أعينكم إلى يد اللّه تعالى، ولا تتوكّلوا حتّى على الملائكة. فالإسلام يصبو إلى تنشئة اُناس كهؤلاء.

ص: 211


1- . سورة آل عمران، الآية 126.

الأمر بالمعروف مصلحة شاملة

«...وَالأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعَامَّةِ»(1) مقدّمات القرب من اللّه هي المصلحة الحقيقيّة

كثيراً ما نستخدم كلمة «المصلحة» في محاوراتنا العرفيّة، فتارة يكون استعمالها صحيحاً وتارة اخرى يكون خاطئاً ومنحرفاً. فالبعض مثلاً يعبّر عن كلّ كذب يجني منه بعض الفائدة انّه كذب للمصلحة. لكنّ السؤال هو: ما معنى المصلحة أساساً؟

يقال في علم الكلام والعقايد للشيعة إنّ أحكام الواجب والحرام تُشرَّع في شريعتنا وفقاً للمصالح والمفاسد؛ بحيث إنّه اُوجب كلّ ما فيه مصلحة وحُرّم كلّ ما فيه مفسدة. وهذا هو أشهر استعمال لكلمة «المصلحة» في ثقافتنا الدينيّة.

وعندما نقول: إنّه يتعيّن تأمين المصلحة واجتناب المفسدة فلابدّ لنا من مقدّمة وهي أنّ البشر وفقاً لمقتضيات ما جُبلوا عليه من الفطرة يسعون وراء الهدف الذي من شأنه أن يؤمّن ما يصبون إليه من سعادة وكمال نهائيّين. فحبّ أيّ امرئ لشيء معيّن ينبع من أنّ هذا الشيء سيؤمّن له كمالاً، أو لذّةً، أو منفعة. لكنّ البشر يختلفون كثيراً في اختيار الهدف الذي يسعون وراءه، وأصل الاختلاف يكمن بين المتديّنين والملحدين. فالمتديّنون يقبلون بأصل المعاد ويعتقدون بأنّ على المرء أن يثابر ويكدح في هذا العالم كي ينال السعادة الأبديّة. فنحن وإن كنّا نبحث بالفطرة عن الرفاهية والسعادة، لكنّنا لا نريد الرفاهية والسعادة المحدودتين والمؤقّتتين، بل نصبوا إلى السعادة الثابتة الدائميّة. وهذه هي عين الحقيقة التي يُطلق عليها السعادة. إذ يقول القرآن الكريم: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ * ... * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ)(2)، وهذا يعني أنّنا نفتّش عن السعادة الثابتة والأبديّة. إذ ليست السعادة المؤقّتة والمشوبة بالأمراض المزمنة والآلام المتواصلة سعادة، كما هو الحال في الإدمان على المخدّرات. فلقد أثبتت البحوث العقليّة أنّ سعادة الإنسان الحقيقيّة هي التي تكون مقرونة بكماله النهائيّ؛ أي إنّ الحقيقة الموجِبة للسعادة الأبديّة هي تلك التي

ص: 212


1- . بحار الأنوار، ج29، ص223.
2- . سورة هود، الآيات 106-108.

تؤدّي إلى الكمال النهائيّ للإنسان وما لم يصل الإنسان إلى الكمال النهائيّ فهو لم ينل السعادة الأبديّة.

فنحن نبذل الجهود من أجل الوصول إلى تلك السعادة الأبديّة، وإنّ هدفنا من كلّ ما نقوم به من أعمال هو الوصول إليها. إذن فكلّ ما يوجب - حقيقةً - بلوغ السعادة ينطوي على مصلحة؛ أي إنّ ذلك الفعل يستحقّ منّا إنجازه كي نصل إلى ذلك الهدف. فالمصلحة الحقيقيّة للإنسان هي الحقيقة التي تمثّل الوسيلة لبلوغ السعادة الأبديّة. لكنّ البشر لا يعتقدون جميعا بالمعاد، بل حتّى الذين يعتقدون به فإنّ هذا الأمر لا يخطر دوماً في أذهانهم وهم لا يقومون بكلّ أعمالهم من أجل الوصول إلى السعادة الأبديّة؛ بمعنى أنّ أهداف الناس عموماً هي أهداف مادّية ودنيويّة. وحتّى القرآن الكريم يقول: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَوٰةَ الدُّنْيَا) (1) ومن هنا فإنّ للمصلحة في عرف غير المتشرّعة من الناس مدلولاً أكثر عموميّة. ووفقاً لهذه الرؤية فإنّ المصلحة هي كلّ أمر يكون وسيلة للوصول إلى الهدف، سواء أكان هذا الهدف هو السعادة الحقيقيّة أو أيّ شكل من أشكال السعادة الدنيويّة.

فالناس عادة يفتّشون عن السعادة في هذه الحياة الدنيا ويعتبرون كلّ ما يجلب السعادة الدنيويّة مصلحة. ونتيجة للاختلاف في الأهداف فقد يكون الأمر ذا مصلحة في نظر أحدهم وليس ذا مصلحة في نظر الآخر. إذن فإنّ لدينا مصلحة حقيقيّة وهي ما يوصل الإنسان إلى السعادة الأبديّة (القرب من اللّه)، ومصلحة أعمّ وهي المصطلحة عرفاً؛ ذلك أنّ للناس عادة أهدافاً دنيويّة، وإنّ كلّ ما يلزمهم لبلوغ أهدافهم تلك سيصبح مصلحة بالنسبة لهم. فعلى سبيل المثال، فإنّ الكذب بالنسبة لمن دأبه التحايل على الآخرين سيشكّل مصلحة له!

كما أنّ لبعض الأفعال أيضاً مصلحةً متوسّطةً؛ فالذي يسافر ويتغرّب مثلاً من أجل الزيادة في طلب العلم يُعدّ سفره هذا ذا مصلحة متوسّطة له؛ ففي هذه الحالة إذا اتّخذ من صيرورته عالماً مقدّمة للوصول إلى السعادة الأبديّة وكان هدفه مرضاة اللّه سبحانه وتعالى فسيكون باستطاعته بلوغ المصلحة الحقيقيّة، وإلا لو كان هدفه من طلب العلم هو الدنيا فسيكون مصداقاً لقوله تعالى: (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ).(2)

ص: 213


1- . سورة الأعلى، الآية 16.
2- . سورة الحج، الآية 11.

أمّا الاستعمال الآخر لمصطلح المصلحة فهو عندما تتزاحم مقدّمتان ويكون – أحياناً – لإحداهما نفع وضرر وللاخرى نفع وضرر كذلك. في هذه الحالة يقوم مَن هم أهل لتقييم المصلحة بالمقارنة بين المقدّمتين للوصول إلى أكثرهما نفعاً وأسرعهما إيصالاً إلى الهدف، ويُستخدم في مثل هذه الحالات مصطلح «تشخيص المصلحة».

فريضة ذات مصلحة شاملة

المصلحة تكون تارة فرديّة وطوراً اجتماعيّة. فمن بين التشريعات الإلهيّة توجد تشريعات تشكّل مصلحة لعامّة الناس. وإنّ ما يحظى بأهمّية وبروز أكبر من بين تلك التشريعات هي فريضة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». وهذه حقيقة تقتضيها الفطرة البشريّة من ناحية، وتؤكّد عليها كافّة الأديان من ناحية اخرى. وإنّ التأكيد الذي ورد في القرآن الكريم والأحاديث على هذه القضيّة قد بلغ حدّاً يذهل العقول. ففي الآية التي نزلت لتعلن أوّل تشريع للجهاد الدفاعيّ يقول عزّ من قائل:( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ *...* الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الارْضِ أَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الامُورِ).(1)

الأمر بالمعروف مهمّش، لماذا؟

يتبادر إلى أذهان الكثير منّا سؤال لا نجد جواباً شافياً عليه وهو: ما سبب كون فريضة الأمر بالمعروف في مجتمعنا مهمّشة على الرغم من كلّ هذا التأكيد في القرآن الكريم عليها؟ فكم مرّة نأمر بالمعروف خلال اليوم الواحد وكم نشاهد من الأشخاص الذين يقومون بهذه الفريضة؟ ألسنا نوافق على أنّ هذه الفريضة هي من ضروريّات الدين؟ لماذا يستنكر الناس على من يحاول العمل بهذه الفريضة؟ ألسنا مسلمين؟ ألم نقرأ القرآن؟

القضيّة هي أنّ السلوكيّات الاجتماعيّة تتبع الثقافة الحاكمة والمهيمنة على المجتمع. فليست المسألة أنّ المرء باستطاعته دوماً وفي أيّ وقت وضمن أيّ مجتمع أن يعمل بكلّ ما

ص: 214


1- . سورة الحج، الآيات 39-41.

يراه صواباً. فالممتازون من الناس فقط هم الذين يستطيعون أن يسبحوا ضدّ التيار أو أن يتكلّموا، أو يكتبوا، أو يتحرّكوا بما يخالف الذوق السائد والثقافة المسيطرة على المجتمع. وأمثال هؤلاء غالباً ما يُتّهمون بالجنون وأمثاله. بل إنّ جميع الأنبياء (عليهم السلام) كانوا يعانون من هذه الظاهرة أيضاً. فالقيام بما يخالف الذوق العامّ يحتاج إلى إرادة صلبة جدّاً، ومن هنا يقال: إنّ أفراد المجتمع يتأثّرون بالثقافة المهيمنة على ذلك المجتمع. وحتّى حالاتنا النفسانيّة فهي تتأثّر، بشكل طبيعيّ، بالمنظومة القيميّة المهيمنة على المجتمع الذي نعيش فيه.

تأثير تهتّك الثقافة الغربيّة

والسؤال هنا: لماذا وصلت المنظومة القيميّة لمجتمعنا إلى هذا المستوى؟ لماذا لا يستسيغ الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ والجواب هو: إنّ ثقافتنا باتت متأثّرة بالثقافة الغربيّة الملحدة ولم تعد ثقافتنا ثقافة إسلاميّة محضة. ففي العالم الغربيّ المعاصر وُضعت جميع القيم في دائرة التشكيك والسؤال، وبدأت تظهر للوجود مدارس في فلسفة الأخلاق والقيم يدعو الاطّلاع عليها للتعجّب والدهشة. فقد ذهب فلاسفة معروفون إلى الاعتقاد بأنّ «الامور التي نعدّها حسنة، كالإنصاف والرأفة وما إلى ذلك، إنّما تُصنَّف ضمن لائحة أخلاق الضعف؛ وإنّ اُصول القيم تكمن في القوّة. فكلّما أمعنّا في ممارسة التعسّف كان أفضل. فمَن قال إنّ على الإنسان أن يكون رؤوفا ورحيماً ويقدّم الخدمة للآخرين؟!». بل إنّ إحدى المدارس الأخلاقيّة المعروفة تعتقد: «أنّ جميع القيم اعتباريّة. فإذا اتّفق أفراد المجتمع فيما بينهم في عصر من العصور على أنّ الأمر الفلانيّ حسَن، فقد تأتي ظروف مختلفة في زمان آخر تجعل من نفس هذا الأمر قبيحاً. فلا يوجد ميزان ثابت للحُسن والقبح، وإنّما هو أمر اعتباريّ يتغيّر بمرور الزمان. وبناء عليه فلا ينبغي أن نتقيّد كثيراً بالقول: لابدّ من ترك ما يراه الناس قبيحاً وإلى الأبد، إذ قد يصبح نفس هذا الشيء موضَة في المستقبل»

فالقيمة التي يقبلها اليوم العالم الغربيّ ويقرّها أكثر من أيّ شيء آخر هي «الحرّية». فهم يقولون: «الحرّية هي أن يصنع كلّ امرئ ما يشاء. وهذه هي أرقى أنواع القيم، ولا يقيّدها شيء سوى استثناء واحد وهو عدم التجاوز على حرّيات الآخرين، ليس غير»! وعلى هذا الأساس فقد اُسّست فلسفات أخلاقيّة وسياسيّة واجتماعيّة جمعت حولها الكثير

ص: 215

من المؤيّدين وأصبحت تُدرَّس في الجامعات الغربيّة. ومن هذا المنطلق فقد تمّ صياغة فلسفة سياسيّة وظيفتها تحديد واجبات الحكومة في هذا الصدد مفادها: «أنّ واجب الحكومة هو الوقوف أمام التجاوزات وانتهاك الأمن وليس لها أيّ وظيفة اخرى، كما أنّه ليس لجهاز الشرطة التدخّل إلا عندما تتعرّض حياة الناس وممتلكاتهم للخطر، وما سوى ذلك فإنّ الناس أحرار في أن يصنعوا ما يشاءون أمام الملأ خاصّة في الأعياد والحفلات»!

وشيئاً فشيئاً بدأت أمواج هذه الثقافات تصلنا عبر قنوات الراديو، والتلفزيون، والفضائيّات، والصحف، والمقالات، والسينما، وغيرها، وأمست تؤثّر فينا تدريجيّاً سواء شئنا أم أبينا حتّى وصل الأمر إلى أنّ ما نعتبره نحن أمراً بالمعروف ومن أرقى القيم بات يُعدّ من أقبح الأعمال، حتّى إنّه لَيُقال لمن يحاول أداء هذه الفريضة: «إنّ الحرّية هي أسمى القيم. أتريد التدخّل في حرّيات الآخرين»؟! وهذه هي الثقافة المهيمنة على العالم الغربيّ. فإذا سرت إلينا وإلى مجتمعاتنا بشتّى الوسائل فإنّها ستدخل إلى الكتب المدرسيّة أيضاً، وتُدَرّس في الجامعات، وتُبرَّر من قبل الأساتذة، فهل تنتظرون - والحال هذه - أن تكون النتيجة غير ما هي عليه الآن؟ بالطبع نحن نحمد اللّه على أنّنا لم نصل إلى هذه المرحلة بعد؛ لكنّ دخان هذه الثقافة بات يخيّم على أجواء مجتمعنا، فلم يعد من السهل أن يعمد المرء إلى نهي الناس عن فعل شيء أو تحريضهم عليه.

ما هو التكليف إذن؟

السؤال الآخر هو: ما تكليف المسلمين في هذه الحالة إذن؟ هل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي من وظائف فئة خاصّة من الناس أم هو واجب عامّ؟ كلّنا يعلم أنّ هذه الفريضة هي وظيفة عامّة حالها حال الصلاة والصوم؛ لكنّه في الموارد التي يُخاف من انجرار العمل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيها إلى المواجهة والإخلال بالأمن فإنّها تُترك للحاكم الشرعيّ. ففي قديم الزمان كانت تعيّن جماعة خاصّة لهذا الغرض ويجعل لأفرادها زيّ خاصّ يُعرفون به، وكان يقال لهم: انّهم محتسبون، وكان يطلق على هذا النمط من الأعمال «الحسبة». ثمّ آلت الامور في عصرنا المتحضّر إلى طرح مسألة قوّات حفظ الأمن وجهاز الشرطة في جميع البلدان وحُدّدت لهم مهمّات وواجبات خاصّة.

ص: 216

تكليف جهاز الشرطة المسلم

والسؤال المُلِحّ هنا هو: هل وظائف جهاز الشرطة في النظام الإسلاميّ تشبه ما حدّدوه له من وظائف في الأنظمة الكافرة، أم أنّها تختلف؟ يقول البعض في هذا الصدد: «لا ينبغي لجهاز الشرطة أن يتدخّل إلا لمواجهة الجريمة المنظّمة أو القضايا التي تؤدّي إلى الإخلال بالأمن. أمّا في المسائل الفرديّة فلابدّ من العمل الثقافيّ وليس لقوّات الشرطة التدخّل في هذه الامور»! ووجهة النظر هذه تتناغم مع رؤية الثقافة الغربيّة القائلة: «إنّ واجب قوّات الشرطة لا يتعدّى المحافظة على الأمن ولا ينبغي للشرطة التدخّل فيما لا علاقة له بالجانب الأمنيّ»! بمعنى أنّه يتعيّن المحافظة على أعلى مستوى ممكن من الحرّية الفرديّة.

ولابدّ من القول هنا إنّ غير المسلمين أو الغربيّين - بالطبع - لا ينكرون مسألة الأمر بالمعروف تماماً، فإنّهم يمارسون شكلاً من أشكال الأمر بالمعروف الخاصّ بهم. فهم يتقيّدون ببعض الامور بشدّة كنظافة الشوارع، ومراعاة قوانين المرور، وغيرها. لكنّ الفارق بين جهازي الشرطة الإسلاميّ والغربيّ هو أنّه وفقاً لرؤية جهاز الشرطة الإسلاميّ فإنّ مصالح ومفاسد المجتمع الإسلاميّ لا تنحصر في الأمن والمادّيات، فالمصالح المعنويّة بالنسبة لنا أهمّ من المصالح المادّية.

فعندما تقول مولاتنا الزهراء (عليها السلام) «: وَالامْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعَامَّةِ» فهي لا تعني تلك المصلحة التي يقول بها الغربيّون، لأنّهم لا يرون المصلحة إلا في المادّيات. بل إنّ أهمّ مصلحة هي الحفاظ على القيم الإسلاميّة وتطبيق أحكام الإسلام. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أجل محاربة المعاصي والانحرافات الفكريّة والعقائديّة هو أوجب بكثير من الأمر بالمعروف لإصلاح الشؤون المادّية؛ ذلك أنّ الانحرافات تهدّد السعادة الأبديّة للإنسان. فإن أراد امرؤ فعل شيء من شأنه أن يدخله النار الى الأبد ألا ينبغي لنا أن تحترق قلوبنا شفقة عليه؟! إذن فإنّ أهمّ أشكال المصلحة المأخوذة في تشريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي حفظ المصالح المعنويّة والدينيّة للمجتمع. ومن هنا يتحتّم على أجهزة الشرطة أن تحارب أيّ شكل من أشكال الفسق. إذ لا ينبغي أن يتجاهر الفُسّاق بفسقهم في المجتمع الإسلاميّ. بالطبع إذا أذنب أحدهم في الخفاء فانّه لا يجوز أن يُتَجسّس عليه وليس لأحد التدخّل في شؤونه الخاصّة؛ لكنّ ارتكاب الفسق في العلن وإفساد أفراد المجتمع يُعدّ من أكبر المفاسد ويتعيّن محاربته. وفي مثل هذه الامور إذا كانت

ص: 217

المفسدة ضمن الحدود التي تكون معها قابلة للحلّ بالطرق العاديّة المتعارفة فإنّ جميع أفراد المجتمع مكلّفون بمحاربتها، وحيثما تطلّب الأمر التعامل بالضرب والجرح وما إلى ذلك فلابدّ من تعيين أشخاص معينين لهذه المهمّة وهم الذين يُصطلح عليهم في مجتمعاتنا المعاصرة بالشرطة.(1)

مراحل الامر بالمعروف والنهی عن المنكر

ان الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر له ثلاث مراحل، إثنتان منها وظيفة عامة النّاس بنحو الواجب الكفائي، ومرحلة واحدة من وظائف الحكومة، والمراحل هي:

1: الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر بالقلب (أي أنْ يتأذى القلب من المخالفات والذنوب التي يرتكبها الآخرون، ويميل إلى الخير والصلاح، (وقال البعض أنّ المقصود من هذه المرحلة هو أن يظهر انزجاره أو ميله القلبيين بوجهه أو عمله بصورة قطيعة أو صلح للمرتكبين) وهذه وظيفة عامة الناس في قبال ترك الواجبات والإتيان بالمحرمات.

2: الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر باللسان، ويكون إبتداءً بالكلمات اللطيفة اللينة الحبيبة والوعظ والحكمة، ثم بالكلمات الحادّة الخشنة (وهي وظيفة عامة النّاس أيضاً).

3: الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر باليد، وبتعبير آخر اتخاذ الأجراءات العملية والقاسية أحياناً في قبال تاركي الواجبات ومرتكبي المحرمات سواءً عن طريق العقاب البدني أو الحبس أو الأعمال المشابهة الاخرى.

فإنّ هذه المرحلة من وظائف الحكومة الإسلامية ولا يمكن أن يسمح للناس بالقيام بها، لأنّ ذلك يؤدّي إلى وقوع الهرج والمرج وأنواع الفوضى الاخرى.

وهذا الأمر هو بالضّبط ما جاء بعنوان وظيفة الحسبة في الفقه الإسلامي وكلمات الفقهاء ومؤرخي الإسلام.

وبعد هذه الإشارة نرجع إلى الآيات القرآنيّة في هذا المضمون:

ص: 218


1- . دروس الاخلاق المصباح الیزدی.

1: (كُنْتُمْ خَيْرَ امَّةٍ اخْرِجَتْ لِلْنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللَّهِ).(1)

2: (وَلْتَكُنْ مِّنْكُمْ امَّةٌ يَدْعُونَ الَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).(2)

3: (لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ اهْلِ الْكِتَابِ امَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ* يُؤْمِنُونَ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَاولَئِكَ مِنَ الصَّالِحيِنَ).(3)

4: (وَالْمُؤمِنُونَ والْمُؤمِنَاتُ بَعْضُهُمْ اوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطيعُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ اولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ انَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).(4)

5: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤمِنِينَ).(5)

6: (الَّذِين انْ مَّكَّنّاهُمْ فِى الارْضِ أَقامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَامَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلهِ عَاقِبَةُ الامُورِ).(6)

7: (يَا بُنَىَّ اقِمِ الصَّلَاةَ وَأمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا اصَابَكَ انَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الامُورِ).(7)

ص: 219


1- . آل عمران/ 110.
2- . آل عمران/ 104.
3- . آل عمران/ 113- 114.
4- . التوبة/ 71.
5- . التوبة/ 112.
6- . الحج/ 41.
7- . لقمان/ 17.

الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في الروايات

نلاحظ في الروايات أيضاً تأكيداً كبيراً على هاتين الوظيفتين المهمتين، وتعتبرهما الضّامن لإجراء كلّ الفرائض الإلهيّة والسّبب الرئيس في الأمن والأمان وتحقيق العدالة.

1: ورد في حديث عن النّبيّ الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «مَنْ أمَرَ بالمعروفِ ونهى عن المنكرِ فهو خَليفَةُ اللَّه في أرضِهِ، وخليفةُ رسول اللَّهِ وخليفةُ كِتابِهِ»(1).

2: وفي حديث آخر عنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نلاحظ تعبيراً أوضح، حيث كان النّبيّ الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على المنبر فقام إليه رجل وقال: يا رسول اللَّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «مَنْ خير النّاس؟» فقال النّبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم): «آمَرَهُمْ بالمعروفِ وأنهاهُمْ عن المُنكر وأتقاهم للَّه وأرضاهم»(2).

3: وفي حديث آخر عن النّبيّ الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لتأمُرْنَّ بالمعروف ولَتَنْهُنَّ عَن المُنكر أو لَيَعُمَنَّكُمْ عذابُ اللَّه»(3).

4: وفي حديث معروف أيضاً عن علي (عليه السلام) قال: «وما أعمال البرّ كلِّها والجهاد في سبيل اللَّه عِنْدَ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر إلّاكنفثةٍ في بحرٍ لُجيّ»(4).

5: وأخيراً نقرأ عن الإمام الباقر (عليه السلام) بياناً لفلسفة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في كلام مختصر مفيد حيث يقول (عليه السلام) : «إنَّ الأمرَ بالمعروفِ والنّهيَ عَنْ المُنكر فريضةٌ عظيمةٌ بها تُقامُ الفرائِضُ وتأمنُ المذاهبُ وتحلُّ المكاسبُ وتُردُّ المظالم وتعمُرُ الأرضُ ويُنتَصَفُ من الاعداء ويَستَقيم الأمر»(5).

والأحاديث الواردة عن أئمّة الدين الإسلامي (عليهم السلام) في هذا المجال كثيرة جدّاً إلى درجة أنّها لو جمعت لصارت كتاباً مستقلًا.(6)

ص: 220


1- . تفسير مجمع البيان، ج 2، ص 484، ذيل الآية 104 من سورة آل عمران.
2- . المصدر السابق.
3- . وسائل الشّيعة، ج 11، ص 407، ح 12، الباب 3 من أبواب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
4- . نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 374.
5- . وسائل الشّيعة، ج 1، ص 395، الباب 1، ح 6.
6- . نفحات القرآن ج10 ص:212

«وَبِرَّ الوَالِدَينِ وِقَايَةً مِنَ السَّخَطِ وَصِلَةَ الأَرحَامِ مَنسَأَةً فِي العُمرِ وَمَنمَاةً لِلعَدَد»(1)

إذا أردنا أن نوضّح هذه الجمل بإيجاز فإنّ الزهراء (عليها السلام) تقول فيها: لقد أوجب اللّه عليكم برّ الوالدين ليقيكم من غضبه وسُخْطه، وأمركم بصلة أرحامكم وأقاربكم كي يكون ذلك مدعاة لإطالة أعماركم من جانب، وزيادة عددكم من جانب آخر. فموضوع هاتين الجملتين هو برّ الوالدين وصلة الرحم وهما موضوعان مرتبطان ببعضهما ارتباطاً وثيقاً.

شكر الوالدين قرين شكر الباري عزّ وجلّ

كلّنا يعلم بمدى الأهمّية الفائقة التي أولاها الإسلام لهاتين المسألتين. فاللّه سبحانه وتعالى وفي مواضع متعدّدة من كتابه العزيز يأمر بعبادته أوّلاً ثمّ يشفعه بأمر الإحسان إلى الوالدين: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)(2). وكأنّه يريد أن يقول: ما من تكليف بعد العبوديّة لله المتعال أوجب من تفقّد أحوال الوالدين والإحسان إليهما، وهذا التعبير هو من أعجب التعابير وأكثرها صراحة ومدعاة للحذر وأخذ الحيطة. كما ويقول عزّ وجلّ في آية مشابهة أيضاً: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ)(3). فلم يقل: اشكر لي واشكر لوالديك أيضاً، بل عطف «لوالديك» على «لي» وأشركهما في فعل أمر واحد. إذن فمن أمثال هذه الآيات والمئات من الأحاديث تتجلّى، بكلّ وضوح، الأهمّية التي أولاها الشارع المقدّس لهذا التكليف. هذا وقد ورد تعبير مشابه لكن بمستوى أدنى بقليل بخصوص الأرحام عندما قال عزّ من قائل: (وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ)(4)؛ أي: اتّقوا ذلك الربّ الذي تحلفون باسمه في علاقاتكم فتقولون عندما تسألون امرأً شيئاً: أستحلفك باللّه إلاّ فعلت كذا وكذا، أو الذي تذكرون اسمه لإثبات أمر مّا، إذن فاحرصوا على أداء حقّ الربّ الذي تقدّسونه إلى هذا الحدّ. ثمّ يُتبع ذلك بالقول: «وَالأَرْحَامَ»؛ أي: راعوا حقّ اللّه تعالى وكذا حقّ أرحامكم. فإنّ لهذا التقارن مدلولاً عميقاً.

ص: 221


1- . احتجاج، ج1، ص 99.
2- . سورة الإسراء، الآية 23.
3- . سورة لقمان، الآية 14.
4- . سورة النساء، الآية 1.

حقّ بلا قيد أو شرط

الملاحظة التي تسترعي الاهتمام لدى استقراء عشرات الروايات الواردة في هذا الجانب هي أنّ إيمان الوالدين، بل وحتّى إسلامهما، لم يوضع كشرط لبرّهما والإحسان إليهما. فحتّى إذا كان الأبوان كافرين فإنّ لهما حقّ الطاعة والإحسان على الولد؛ بالطبع إذا كان الأبوان مسلمين فسوف يكون لهما حقّ مضاعف، وإن كانا شيعيّين، لتضاعف حقّهما أكثر، وإذا كانا مُحسنَين في حقّ الأبناء زاد حقّهما عن ذلك؛ لكن بصرف النظر عن ذلك فمجرّد كونهما أبوين وأنّ الولد من نسلهما يوجب على الولد حقّاً لهما، وليس لكونهما مسلمين أو كافرين، عادلين أو فاسقين، عطوفين أو سيّئي الخلق أيُّ تأثير على هذا الحقّ، غاية ما في الأمر أنه ينبغي أن لا يطاعا في معصية اللّه تعالى.

مراتب صلة الرحم وأحكامها

فيما يخصّ صلة الرحم فهناك إجماع بين العلماء على حرمة قطع الرحم. والقطع هنا هو أن يعتزل المرء أرحامه بشكل يوحي وكأنّهم ليسوا أرحامه؛ فلا يبادلهم الزيارة، ولا يعاملهم باحترام، ولا يهديهم الهدايا، ولا تربطه بهم أيّ علاقة. فهذا هو قطعاً من المحرّمات، بل ويُعدّ من كبائر الذنوب. أمّا صلة الرحم فهي تجب بالمقدار الذي لا يصدق معه القطع؛ ذلك أنّ الأمرين غير منفكّين عن بعضهما.

فالمتيقَّن أنّ قطع الرحم محرّم، أمّا ما هو مصداق قطع الرحم؟ هنا يرى كافّة العلماء تقريباً أنّه أمر عرفيّ يختلف باختلاف ظروف الزمان والمكان ومرتبة القرابة. فالصلة بالأرحام الأكثر قرابة إلى الإنسان تقتضي ما لا تقتضيه الصلة بمن هم أبعد منهم، كما وأنّ الصلة بالأرحام الذين يعيشون في مدينة أو بلد آخر تكون على نحو آخر، فاتّصال هاتفيّ واحد قد يكون كافياً أحياناً في هذه الحالة. فلابدّ – على أيّة حال - أن تكون العلاقة بحيث يقال عرفاً أنّه لم يقطع صلته بأرحامه.

يُعدّ قطع الرحم من أكبر الكبائر، بل وقد ورد التأكيد أيضاً على أن يصل المرء أرحامه حتّى وإن قطعوه؛ إذ يقول الإمام السجّاد (عليه السلام) في هذا الصدد: «ما من خطوة أحبّ إلى اللّه عزّ

ص: 222

وجلّ من خطوتين؛ خطوة يسدّ بها المؤمن صفّاً في سبيل اللّه، وخطوة إلى ذي رحم قاطع»(1).

الممهّد لشكر اللّه

أمّا السؤال المطروح هنا فهو: ما السرّ وراء كلّ هذا التأكيد؟ والإجابة الموجزة التي يمكن تقديمها على هذا السؤال هي أنّ الإنسان يمتلك عاطفة فطريّة موهوبة من اللّه عزّ وجلّ تجاه أبويه عموماً واُمّه خصوصاً. وهذا الموضوع ليس بحاجة إلى طويل بحث فكلّ امرئ قد جرّب هذه العاطفة. والدليل الطبيعيّ على هذا الأمر واضح تماماً؛ فالوالدان هما سبب وجود الإنسان. فلولا حمل الاُمّ جنينها في رحمها تسعة أشهر، ولولا إرضاعها وتنشئتها لطفلها، ولولا جهود الأب في تربيته فكيف للولد أن يستمرّ في حياته؟ إذن فللوالدين على الولد حقّ الحياة. وبالإضافة إلى عاطفتهما فقد ربط اللّه عزّ وجلّ قلب الإبن بأبويه إلى درجة حبّه لهما. لكنّ المؤسف أنّ بعض الشباب - وتحت تأثير الثقافة الإلحاديّة التي فتحت الباب لبعض الأفكار الشيطانيّة لتنفذ إلى قلوبهم - يقولون: «شاء أبوانا أن يتمتّعا فأتينا نحن إلى هذه الدنيا. فأيّ حقّ لهما علينا»؟! فأمثال هؤلاء غير ملتفتين إلى هذا الجانب من القضيّة، وهو أنّ حياتنا رهن بوجود أبوينا. فقد بذلا لأجلنا من الجهود ما لم يبذله أحد، بل ولا يستطيع أحد قطّ أن يبذلها. فهذا الإمام زين العابدين (عليه السلام) يقول في رسالة حقوقه: «فحقّ أمّك فأن تعلم أنّها حملتك حيث لا يحمل أحد أحداً، وأطعمتك من ثمرة قلبها ما لا يطعم أحد أحداً... فرضيَتْ أن تَشبَعَ وتجوع هي، وتكسوك وتعرى، وترويك وتظمأ... وتلذّذك بالنوم بأرقها...»(2). فإنّ الذي يعامل إنساناً كهذا بجفاء من الصعب أن يُطلَق عليه عنوان الإنسان أوّلاً، وثانيا: هل لمثل هذا الإنسان أن يقيم وزناً لحقّ أيّ امرئ آخر؟ هل يمكن لشخص كهذا يا ترى أن يكون وفيّاً لزوجه أو صديقه؟ وإنّ إنساناً كهذا سيكون ناكراً حتّى لحقّ اللّه تعالى، ذلك أنّه قابَلَ بالجفاء حقّ أمّه الذي شاهده بأمّ عينيه، فكيف بحقّ اللّه الذي لم يشاهده، إذن من الأولى أن يغفل عنه.

ص: 223


1- . الخصال للصدوق، ج1، ص50.
2- . تحف العقول، ص263.

إذن فمن أفضل العوامل التي من شأنها أن تقود الإنسان إلى اللّه عزّ وجلّ وتوقظ في نفسه الدافع لعبادة اللّه، وعرفان الجميل، والشكر هي الالتفات إلى عواطف الأبوين وما في رقبة الإنسان تجاههما من حقوق. فاللّه جلّ شأنه يذكر شكر الأبوين إلى جانب شكره وكأنّ الشكرين من نوع واحد. فإن عرف المرء حقّ أبويه وجميلهما عليه فسيكون باستطاعته مراعاة حقّ اللّه تعالى؛ ذلك أنّ المرء إذا التفت إلى حجم الخدمات التي قدّمها له أبواه فستقوى لديه شيئاً فشيئاً روح الشكر والعرفان بالجميل، وسيفكّر في شكر اللّه سبحانه وتعالى. لكنّه إن تغافل عن حقّ أبويه قائلاً: ليتهما لم يفعلا هذه الفعلة! فإنّه سيواجه اللّه تعالى أيضاً بالقول: ليته لم يخلقني! من هنا ندرك أن شكر الوالدين والالتفات إلى الحقّ الإلهيّ الذي لهما علينا هو أفضل السبل إلى عبادتنا لله وتكاملنا. ومن هذا المنطلق فإنّ أفضل الطرق لنجاة المذنبين أيضاً هي أن يبدأوا من هذه النقطة؛ وهي خدمة الأبوين. فقد جاء رجل إلى النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال: يا رسول اللّه! لم أترك شيئاً من القبيح إلا وقد فعلته، فهل لي من توبة؟ فقال له: «هل بقي من والديك أحد»؟ فقال: نعم أبي. فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «اذهب وابرره». فلمّا ولّى قال النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لو كانت أمّه!»(1) .

أمّا سرّ كلّ هذا التأكيد على الأرحام أيضاً فيعود إلى أنّ النعم التي يغدقها اللّه جلّ وعلا على الإنسان بواسطة أرحامه هي على جانب من القيمة والنفاسة بحيث إنّ المرء يكون مستعدّاً لأن يشتريها بأبهض الأثمان. فبشكل طبيعيّ عندما يتعرّض أحد أفراد الاسرة إلى مشكلة،كأن يكون – مثلاً – بحاجة إلى نقله إلى المستشفى بعد منتصف الليل فإنّ سائر أفراد الاسرة سيهرعون لنجدته من دون أن يمنّوا عليه بذلك. بالطبع لهذه القاعدة استثناءات أيضاً؛ لكنّ حديثنا يتناول الأشخاص العاديّين والسليمي الفطرة. فقد ربط اللّه تعالى أمثال هؤلاء الناس بعاطفة الرحم والقرابة (التي تُعدّ شعاعاً من عاطفة الأب أو الأمّ تجاه أولادهما). فإذا اعتبر الإنسان أقاربه كالأجانب ولم يشكّل معهم علاقات فستبرد عواطفهم تجاهه شيئاً فشيئاً وسيقطعون رحمه، ونتيجة لذلك سيُحرَم الطرفان تدريجيّاً من هذه النعم؛ بمعنى أنّهم سيوصدون بأيديهم باب الرحمة التي فتحها اللّه لهم بشكل طبيعيّ. لهذا فإنّ مَن يغلق بيده باب الرحمة هذه التي تعود عليه بكلّ تلك الفائدة والنفع ويقطع هذه العلاقة الطبيعيّة الطاهرة الموهوبة من اللّه عزّ وجلّ فلن تعود لعواطفه مع الآخرين من جذور

ص: 224


1- . عدة الداعي، ص85.

وستكون صداقاته معهم شكليّة ومن أجل المصالح العابرة. ومن هذا المنطلق فبعد الآصرة التي تربط المرء بوالديه يأتي الدور إلى اولئك الذين تكون العلاقة الطبيعيّة للإنسان معهم أقوى وأوثق.

فلقد خلق اللّه تبارك وتعالى البشر من أجل أن يعرفوه ويدركوا ألطافه وآلاءه، ويتقرّبوا إليه بعبادته. فإذا سار المرء عكس هذا التيّار وسدّ تلك السبل التي شرّعها اللّه له من أجل أن يصبح عارفاً بالجميل، فاللّه بالطبع لن يرضى عنه. ومن هنا فإنّ الإحسان إلى الأبوين يمثّل حقيقة تحفظ الإنسان من سخط اللّه سبحانه «وَبِرَّ الوَالِدَينِ وِقَايَةً مِنَ السَّخَطِ».

لكنّه ممّا يؤسف له فإنّ هذه القيم باتت تتّجه نحو الإضمحلال في ثقافتنا المعاصرة، بل وباتت تُنسى أحياناً مع بالغ الأسف والحسرة. فالأبناء صاروا يعاملون آباءهم بفضاضة. لذا يتعيّن علينا أن نعود أدراجنا إلى ثقافتنا الإسلاميّة ونعمل على إحياء تلك القيم الدفينة.

القرب من اللّه، معيار القيم الإسلاميّة

تكمن هنا التفاتة علميّة وفلسفيّة تستحقّ التأمّل، فعندما تستعرض الزهراء (عليها السلام) الحِكَم من وراء سنّ التشريعات الإلهيّة فهي تتناول المنافع الدنيويّة لبعض تلك التشريعات؛ ومن جملة ذلك ما قالته حول صلة الرحم من أنّه إطالة للعمر وزيادة في عدد أفراد الاسرة. إذن فما هو الملاك والمناط للقيم الإسلاميّة؟ وهل إنّ ميزان القيم في الإسلام هي المصالح الدنيويّة؟

أساساً نحن خُلقنا للتقرّب إلى اللّه سبحانه وتعالى وهو مقام لا يُنال إلا في ظلّ العبوديّة له عزّ وجلّ. فعندما يقول الباري جلّت آلاؤه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(1) فهو من أجل أن نصل في ضوء العبادة إلى مقام نكون فيه أرفع حتّى من الملائكة أنفسهم. إذن فإنّ أصل القيم هي تلك الحقيقة التي تُقرّب الإنسان إلى اللّه تعالى. لكنّ أفعالنا تنقسم إلى قسمين: فالقسم الأوّل يرتبط بالقرب من اللّه بشكل مباشر كالصلاة؛ بمعنى أنّ تلك الأعمال هي أساساً من أجل ذكر اللّه، والخوف منه وخشيته وحبّه. فمن الواضح كون قيمة تلك الأفعال إنّما هي فيما لها من تأثير في التقرّب إلى اللّه عزّ وجلّ.

ص: 225


1- . سورة الذاريات، الآية 56.

لكنّ القسم الآخر من الأفعال، كالكرم، والرأفة، وصلة الرحم وما إلى ذلك فإنّ لها صنفين من القيم؛ الأوّل أخلاقيّ؛ بمعنى أنّها تهيّئ الإنسان وتُعِدّه للارتباط باللّه عزّ وجلّ. فالبخل هو غِلّ وسلاسل توثق يدي ابن آدم ورجليه فلا تتيح له فرصة السير نحو اللّه تبارك وتعالى؛ إذ يقول عزّ من قائل: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(1). فالشُحّ، والإمساك، والبُخل، والأنانية هي بمثابة سدود تعيق ارتباط المرء ببارئه. وإنّ تحطيم تلك السدود من شأنه أن يمهّد الأرضيّة لمثل هذا الارتباط والوصول إلى قرب اللّه جلّ وعلا. فهذا هو الصنف الأوّل من القيم وهو لا يؤدّي إلاّ إلى رفع المانع أو تقوية الأرضية. أمّا الصنف الثاني فإنّ هذه الأعمال المقوّية وعلى الرغم من أنّها لا تسهم بالارتباط باللّه بشكل مباشر لكن بإمكانها أن تشكّل وسيلة مباشرة للتقريب من اللّه تعالى، والسبيل إلى ذلك هو أن نلتفت إلى هذه النقطة وهي أنّ اللّه سبحانه يحبّ هذه الأعمال، وإنّنا - تأسيساً على ذلك - نقول: «اللّهمّ إنّني لا أقوم بهذا الفعل إلا لأنّك تحبّه».

فهذه الأعمال تمتلك بذاتها قيمة أخلاقيّة جيّدة؛ أي إنّها تُعِدّ الإنسان لبلوغ الكمال. فعندما يقال: إنّ اللّه لا يعذّب حاتم الطائيّ في جهنّم لأجل كرمه وعطائه، فهو يعني: على الرغم من أنّه لن يُدخله الجنّة إلى جوار الأنبياء (عليهم السلام) لكنّ أعماله كانت بحيث ساعدت على التقليل من عذابه، ومنحته مزيداً من الاستعداد للتقرّب إلى اللّه تعالى. أمّا إذا كان المرء مؤمناً وهو يقوم بهذه الأعمال طاعة لله فإنّ نفس هذه الأعمال ستصبح من صلب العبادة. وبناء عليه فإنّنا إنْ أحسنّا إلى والدينا ووصلنا أرحامنا بدافع العواطف فهو أمر حسن جدّاً ومن شأنه أن يُعدّنا لنيل قيم أسمى وبلوغ هدف الخلقة ألا وهو القرب من اللّه عزّ وجلّ؛ لكنّ نفس العمل لا يُعدّ عبادة. أمّا إذا أنجزنا نفس هذا العمل مرضاةً لله وطاعةً له فسيكون – حاله حال الصلاة تماماً - من العبادات التي تربطنا باللّه بشكل مباشر. إذن علينا أن نغتنم هذه النقطة ونجتهد في أن نجعل القصد من أعمالنا الحسنة عبادة اللّه تعالى؛ أي أن نقول: إلهي! إنّني أقوم بهذا العمل لأنّك تحبّه، لا لشيء آخر.

ص: 226


1- . سورة الحشر، الآية 9.

الأُسس الفلسفيّة للحقوق الجزائيّة في الإسلام

«... وَالْقِصَاصَ حَقْناً لِلدِّمَاء»(1)

وقد وصلنا إلى العبارة التي تقول فيها (عليها السلام) :«وَالْقِصَاصَ حَقْناً لِلدِّمَاء»؛ ومعناها أنّ اللّه عزّ وجلّ قد سنّ القصاص للحيلولة دون إراقة الدماء. ومن أجل توضيح هذه المسألة أودّ أن اُشير إلى إحدى المسائل المتعلّقة بفلسفة الحقوق.

إنّ من جملة المسائل المطروحة في المدارس الحقوقيّة المختلفة في العالم هي: ما هي الحكمة من تشريع القوانين الجزائيّة؟ وحيث إنّ بعض الحاضرين قد لا يكونون محيطين بهذه المباحث فلا بأس بتقديم مقدّمة للموضوع.

من المسلّمات أنّ البشر بحاجة إلى قانون من أجل حفظ مصالح الحياة الاجتماعيّة، وإنّ انعدام الضابط الذي ينظّم سلوك البشر يؤدّي إلى الإخلال في نظم حياتهم. فأصل هذه المسألة بديهيّ أو شبه بديهيّ ويندر العثور على مَن يشكّك فيه. لكنّ المشكلة لن تُحَلّ بمجرّد وضع القانون؛ ذلك أنّ القوانين بحدّ ذاتها لا تضمن تنفيذها. ولهذا فمن أجل تأمين المصلحة المنشودة من تلك القوانين يضطرّ المشرِّع إلى وضع قوانين اُخرى تكون مشرفة على القوانين السابقة قائلاً: «إذا خالف أحد تلك القوانين فلابدّ من معاقبته». أمّا إذا كانت الطائفة الثانية من القوانين – حالها حال الطائفة الاولى – مجرّد حبر على ورق فستواجه نفس الإشكال السابق. من هذا المنطلق لابدّ من توفّر ضامن قويّ لتنفيذ هذه المجموعة من القوانين كي تُفرض العقوبة على المتجاوز فرضاً.

فمن سمات الطائفة الاُولى من القوانين انّها لا تُفرض بالقوّة. فهي لا تتخطّى حدّ القول مثلا: المعاملة التجاريّة الفلانيّة باطلة، الارتشاء ممنوع، رفع أسعار السلع ممنوع، وهكذا. غير أنّ الطائفة الثانية تقول: إذا خالف أحد تلك القوانين فتجب معاقبته. وهذه العقوبة يجب أن تكون إجباريّة وتنفَّذ من قِبل قوّة قاهرة. بل إنّ من جملة أدلّة ضرورة الحكومة - أساساً - هي هذه المسألة. فإن افتقرت هذه القوانين إلى ما يضمن تنفيذها فلن تتعدّى حدّ المواعظ

ص: 227


1- . بحار الأنوار، ج29، ص223.

والنصائح الأخلاقيّة. إذن لابدّ أن تكون للحكومة سلطة تكفل تنفيذ القوانين الجزائيّة. وبهذه المقدمة تثبت ضرورة وجود القوانين الجزائيّة.

بعض الآراء حول فلسفة الحقوق الجزائيّة

1. الانتقام

لكن ما هي الحكمة من وراء وضع القوانين الجزائيّة؟ هل هذه القوانين هي قوانين ثابتة ياترى؟ وإلى أيّ حدّ يجب أن تكون متشدّدة، وإلى أيّ مدىً يتعيّن أن تكون متساهلة؟ هذه المسائل تتعلّق بفلسفة الحقوق الجزائيّة. فمن النظريّات المطروحة في باب فلسفة حقوق الجزاء هي أنّ الحكمة من وضع القوانين الجزائيّة هي الانتقام من المخالف؛ أي: عندما يقرّ المجتمع مجموعة من القوانين فإنّ المخالف لهذه القوانين يوجّه - في الحقيقة - إهانة للمجتمع، ومشرِّعي القانون، والمتصدّين لهذا الأمر ولمصالح الامّة، وهو الأمر الذي يثير سخط سائر أفراد المجتمع، ونتيجة لذلك يعمد اولئك الذين يؤمّن القانون مصالحهم إلى الانتقام من المخالف. ومن هنا فإنّ فلسفة الحقوق الجزائيّة هي الانتقام ممّن يخالف القانون.

2. مجرّد الردع

أمّا النظرية الاخرى فتقول: إنّ أهمّ حكمة لوضع القوانين الجزائيّة هي الردع؛ أي إن المخالف للقانون يعاقب كي يرتدع الآخرون فيحول ذلك دون شيوع الفساد في المجتمع. إذن فالغاية من القانون الجزائيّ أصلاً هي الوقوف أمام شيوع ظاهرة مخالفة القانون. فالعلّة من قول الإسلام مثلاً: اقطعوا يد السارق هي عندما يشاهد الناس يد السارق المقطوعة فانّه يزول من نفوسهم الدافع والمحفّز إلى السرقة.

هذه الاُسس ومثيلاتها من الأُسس المطروحة في هذا المجال لها لوازم وتبعات يمكن أن تشاهد اليوم في أجواء جامعات العالم ولا نستثني منها كلّيات الحقوق في جمهوريّتنا الإسلاميّة الثوريّة، حيث من نتائج أمثال هذه النظريّات خلْق اُناس يلقون بقوانين الإسلام وأحكامه وراء ظهورهم بل ويُظهرون مخالفتهم لها أحياناً. وكنموذج على ما قلنا كتب أحدهم مقالة في هذا الموضوع (من المؤكّد أنّ أكثركم سيعرفه لو نطقت باسمه ويندهش من

ص: 228

كتابة شخص كهذا لمثل هذا الكلام) يقول فيها: «الأصل في قوانين الجزاء هو الردع. ولهذا علينا في كلّ زمان أن نبحث عن السبل التي تكون أنجع من غيرها في الوقوف بوجه الذنب والجريمة. ففي زمان النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كانت الطريقة المثلى للحدّ من السرقة هي قطع يد السارق. لكنّ ظروف المجتمع قد اختلفت اليوم ومن الممكن أن تكون ثمّة طرق اُخرى للحيلولة دون شيوع ظاهرة السرقة؛ أي من الممكن تأمين فلسفة هذا القانون من طرق اخرى. إذن علينا أن نفكّر بالسبل والأساليب التي تكون أكثر تناسباً مع ثقافتنا وظروف مجتمعنا»! أقول هذا لتعلموا أنّ القضيّة بالغة الجدّية، فمنذ الأيّام الاولى للثورة كان هناك من يطلق مثل هذه النداءات ومن جملتهم جماعة المنافقين(1) التي كانت تعلن بشكل رسميّ وبكلّ صراحة عن مثل هذه الآراء.

الاُسس الفلسفيّة للحقوق الجزائيّة من وجهة النظر الإسلاميّة

أ) الاُسس المتّصلة بعلم الإلهيّات

السؤال المطروح هنا هو: ما هي فلسفة الحقوق الجزائيّة من وجهة نظر الإسلام حقّاً؟ إنّ كلّ ما هو مطروح في المدارس الفلسفيّة في العالم لا يأخذ بنظر الاعتبار سوى حياة الإنسان في هذه الدنيا وما لها من آثار ولوازم. فنحن لا نعثر اليوم في أيّ من مدارس فلسفة الحقوق في العالم على ما يشير الى اللّه أو الآخرة. فالأصل في هذه المدارس هو ضمان الأمن والرفاهية في الحياة الدنيا ولا شيء آخر على الإطلاق.

لكنّنا نمتلك - وفقاً للإسلام - فلسفة حقوق خاصّة بنا ولسنا مضطرّين للأخذ باُسس أيّ واحدة من المدارس الحقوقيّة في العالم. ولهذه المسائل اُسس يتعلّق بعضها بعلم الإلهيّات ويرتبط بعضها الآخر بمعرفة الإنسان.

إنّ أكثر اُصول الإسلام أساسيّة هو الاعتقاد باللّه الواحد وضرورة الامتثال لأوامره، وإنّ محلّ إثبات هذا الأصل هو علم الكلام والفلسفة؛ أمّا فيما يتعلّق باُسس الحقوق الإسلاميّة فيؤخذ هذا الأصل على أنّه أصل موضوع، وإنّ جميع الاُصول ترتبط به بشكل أو بآخر.

ص: 229


1- . جرت عادة الإيرانيّين على إطلاق هذه التسمية على ما يُعرف بمنظّمة مجاهدي خَلْق الإرهابيّة.
ب) الاُسس المتّصلة بمعرفة الإنسان

كذلك فإنّنا مالم نعرّف الإنسان ونتعرّف على أسباب كماله ونقصه، وسعادته وشقائه فلن يكون باستطاعتنا الخوض فيما يتعلّق بواجباته، وصلاحيّاته، وحقوقه. فبالنسبة لما يرتبط باُسس معرفة الإنسان فنحن لا نعتقد أنّ الإنسان هو مجرّد موجود تلده اُمّه ثمّ ينتهي به المطاف عند دفنه في قبره. فعمر الإنسان – في واقع الأمر - لا نهاية له، والحياة الدنيا لا تمثّل إلاّ جزءاً يسيراً من عمر ابن آدم وهي بمثابة الطور الجنينيّ الثاني له. فعندما تنعقد نطفة الإنسان يقضي فترة تسعة أشهر في بطن أمّه لا يملك خلالها أيّ اختيار من نفسه. ثمّ يقضي بعدها طوراً جنينيّاً آخر يستمرّ حوالي 90 سنة أو أقلّ من ذلك أو أكثر، ويتحتّم عليه في هذا الطور أن يبني نفسه بنفسه. وبعد هذه المرحلة تكون حياته الحقيقيّة قد بدأت للتوّ وهي ما يعبّر عنه القرآن الكريم بقوله: (يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)(1)، أو قوله: (وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ)(2). ومن هذا المنطلق فإنّ الحياة الدنيا هي مقدّمة لحياة الإنسان الأبديّة.

إنّ رؤية كهذه إلى الإنسان من شأنها أن تترك بصماتها على ما ينظّم حياته من أنظمة الحقوق، والأخلاق، والقيم، وما شابهها، كما أنّه لو اعتقد امرؤ بأنّ حياة الإنسان لا تتعدّى هذه الحياة الدنيا: (مَا هِيَ إلاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلاّ الدَّهْرُ)(3) فسيُلقي هذا الاعتقاد أيضاً بظلاله على نظام الحقوق، والأخلاق، والقيم، وما إلى ذلك.

حسب الرؤية الإسلاميّة فإنّ اللّه قد خلق البشر من أجل أن يصلوا إلى حيث الكمال، وهو ما لا يحصل إلا عن طريق الاختيار. وهذا يحتّم وجود سبيلين؛ أحدهما سبيل الكمال، والآخر سبيل السقوط. فقد خلق اللّه الإنسان في هذا العالم كي يواجه مفترق طريقين ويختار طريقه هو بنفسه. فمن خواصّ هذا العالم هو أنّ الإنسان يواجه فيه دوماً مفترق طريقين أو طرق عديدة، ويتعيّن عليه حينها ان ينتخب إمّا طريق الحلال وإمّا طريق الحرام.

ص: 230


1- . سورة الفجر، الآية 24.
2- . سورة العنكبوت، الآية 64.
3- . سورة الجاثية، الآية 24.

إذ يقول القرآن الكريم: ليست فلسفة وجود الإنسان في هذه الحياة الدنيا سوى ما ذكرنا: (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكمُ ْ أَحْسَنُ عَمَلاً)(1).

إذن كيف يهيّئ اللّه تعالى – والحال هذه – للناس مناخاً للتكامل؟ والجواب هو: لابدّ أن يهديهم ويعرّفهم بالحسن والقبيح من الأعمال والامور. فلولا هداية الباري عزّ وجلّ للناس فإنّ معظمهم، بل لعلّ جميعهم سيضلّون سبيلهم. ومن جملة ألوان الهداية الإلهيّة هي هذه القوانين التشريعيّة التي تبيّن أيّ الأعمال جائزة، وأيّها واجبة، وأيّها ممنوعة ومحرّمة.

فالأصل في رؤيتنا الكونيّة يتلخّص في أنّه إذا خالف امرؤ هذه القوانين فإنّه سيتعرّض للعقاب في العالم الآخر. فالدنيا هي دار امتحان، أمّا العقاب والثواب فإنّهما في العالم الآخر. لكنّ اللّه سبحانه وتعالى وانطلاقاً من رحمته الواسعة فقد سنّ سنّة اُخرى مفادها أنّ بعض الذنوب تكون بحيث إذا تعرّض مرتكبها إلى جزء من العقوبة في الدنيا، فسيكون ذلك سبباً للرحمة بالنسبة له وأحياناً بالنسبة للآخرين أيضاً. فالقرآن الكريم يقول: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ)(2). أمّا جواب الباري عزّ وجلّ على السؤال القائل: لماذا يجعل اللّه في الحياة الدنيا كلّ هذه المصائب والمحن؟ فهو: (لِيُذيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(3)؛ أي إنّنا نذيقهم بعض آثار ما اقترفوه في الحياة الدنيا لعلّهم، أو لعلّ الآخرين، يتّعضون فيقلعون عن ذنوبهم.

إذن فليست الحكمة من جعل اللّه تعالى عقوبة بعض الذنوب في الدنيا هي الانتقام من الآخرين، كما أنّها ليست لمجرّد ردعهم بل هي من أجل تنبيه المذنبين وغيرهم إلى مدى الضرر الذي يصيب المرء جرّاء عمله القبيح. فهذه العقوبة من شأنها أن تشكّل رادعاً لهم وللآخرين عن ارتكاب المعصية.

فلسفة الحقوق الجزائيّة وفق الرؤية الإسلاميّة

ومن هنا فإنّ فلسفة حقوق الجزاء في الإسلام تنبثق من المباني والاُسس القائلة: كما أنّ معاقبة المخالفين ستخفّف – من ناحية - من شدّة العقاب الذي سيواجهونه في الآخرة على

ص: 231


1- . سورة الملك، الآية 2.
2- . سورة الشورى، الآية 30.
3- . سورة الروم، الآية 41.

فعلتهم، فإنّهم – من ناحية اخرى - سيشاهدون ويشاهد الآخرون أيضاً الآثار السيّئة لهذا العمل فلا يعودون لمثله بعد ذلك: (نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ)(1).

فاللّه عزّ وجلّ ومن باب رحمته الواسعة يُري جانباً من نتائج الأعمال في هذا العالم كي يرتدع المسيء عند مشاهدة آثار سيّئاته ويتشجّع المحسن لفعل المزيد من الخير عند مشاهدة حسناته: (وَءَاتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِين)(2).

ووفقاً لهذه الرؤية الإلهيّة تتبيّن فلسفة حقوق الجزاء. لكنّ المنجذبين إلى الغرب والذين لا يستطيعون المقاومة أمام أفكار الغربيّين يطرحون اُسساً اخرى فيقولون: «إنّ فلسفة هذه القوانين تنحصر في الردع؛ إذن كيفما حصل الردع فهو حسن وليس من الضروريّ أن يكون عن طريق قوانين الجزاء الإسلاميّة!». أمّا نحن فنعتقد بضرورة تبيين فلسفة حقوق الجزاء حسب وجهة النظر الإسلاميّة عبر أخذ اُسس علم معرفة الوجود ومعرفة الإنسان بالحسبان، لا أن نقلّد الاُسس الغربيّة تقليداً أعمى وهي اُسس مرتكزة على المادّية ومحوريّة الفرد أو اللذّة.

اختلاف الحدود والتعزيرات عن الديّات والقصاص

ومن الضروريّ هنا أيضاً الالتفات إلى مقدّمة اخرى اُشير إليها على عجل. إذ يمكن تقسيم التجاوزات على القانون بشكل عامّ إلى قسمين: قسم يرتبط بحقوق الآخرين، وقسم يتّصل بحقوق اللّه تعالى؛ أي إنّ المرء بارتكابه للأخيرة سيخرج عن نطاق عبوديّة اللّه عزّ وجلّ، حتّى كأنّه يعلن الحرب على اللّه تبارك وتعالى. وبعبارة اخرى، فالمخالفة إمّا هي تجاوز على حقوق الناس، أو اعتداء على حقّ اللّه. فبالنسبة للمخالفات المتّصلة بحقّ اللّه فلقد وُضعت أحكام ثانويّة اُطلق عليها الحدود والتعزيرات. والمقصود من الثانويّة هنا هو أنّها أحكام ناظرة إلى أحكام اخرى وهذا هو مصطلح خاصّ. كما وسُمّيت الأحكام الموضوعة فيما يرتبط بحقوق الناس من مخالفات بالقصاص والديّات. فهذان البابان يشبه أحدهما الآخر إلاّ أنّ هناك فرقاً بين الاثنين. ففي القصاص إذا تنازل صاحب الحقّ عن حقّه

ص: 232


1- . سورة البقرة، الآية 66.
2- . سورة العنكبوت، الآية 27.

فإنّه لا يُنَفّذ الحكم. أمّا الأحكام الجزائيّة الخاصّة بالتجاوز على حقّ اللّه، كشرب الخمر والزنا على سبيل المثال، فالاعتداء فيها لم يَطَل حقّ أحد كي يتنازل عن حقّه ويعفو عن المذنب. وحتّى إذا عفى المعتدَى عليه عن المذنب فليس للقاضي أن يعفو عنه، بل عليه أن ينفّذ حكم اللّه تعالى. فحقّ اللّه يتمثّل بالمصالح العامّة للمجتمع الإسلاميّ وليس ثمّة مُدّعٍ خاصّ له. فاللّه في هذه الحالة هو الذي يصدر حكمه، وإنّ حكم اللّه قطعيّ. فكلام السيّدة الزهراء (عليها السلام) ناظر إلى المخالفات المتّصلة بالاعتداء على حقّ الناس وليس إلى جميع الأحكام الجزائيّة.

تقول مولاتنا فاطمة (عليها السلام) : «وَالْقِصَاصَ حَقْناً لِلدِّمَاء». فكلّنا على يقين بأنّه إذا طالب وليّ الدم بإعدام القاتل، وحُكم على الأخير في المحكمة بالإعدام، ونُفّذ هذا الحكم بحضور جمع من الناس فإنّ ذلك لا محالة سيحدّ من نسبة عالية من جرائم القتل. فعندما يعاقب مجرم مّا في إحدى المؤسّسات أو أحد أجهزة الدولة فستبقى تلك المؤسّسة أو ذلك الجهاز مصوناً من الجريمة لمدّة طويلة من الزمن. وكذا فإنّ جريمة قتل النفس البريئة ضمن البيئة الاجتماعيّة العريضة يُعدّ في نظر القرآن الكريم بمثابة قتل الناس جميعاً؛ إذ يقول عزّ وجلّ: (مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً)(1). فالجرح العميق الذي يسبّبه ذنب عظيم كهذا لا يمكن مداواته بإيداع المذنب في السجن.

القصاص حافظ للحياة

يتفوّه البعض بسفسطة في هذا المجال مفادها: «إنّ عقوبة الإعدام تتنافى مع كرامة الإنسان وحقّه في الحياة»! لكنّ هذا الكلام لا يعدو كونه كلاماً فارغاً فالكلّ يعلم أنّه لابدّ من أجل الحفاظ على أمن المجتمع من القصاص من القاتل فذلك سيحافظ على حياة الآخرين. يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ)(2). فلو كان لكم ذرّة من عقل (والخطاب لقائلي هذا القول) لفهمتم أنّ قانون القصاص إنّما شُرّع لحفظ أرواحكم. فإن كنتم تقيمون وزناً لحياة الإنسان فإنّ السبيل لحفظ

ص: 233


1- . سورة المائدة، الآية 32.
2- . سورة البقرة، الآية 179.

حياة الإنسان هو القصاص؛ ذلك أنه إذا لم يُقتل القاتل فسيُقتل في المستقبل المئات من الأبرياء وتُقترف الآلاف من الجرائم.

نعم، إنّ للإنسان كرامةً مادام مراعياً للحقوق. لكنّ الذي يعلن حرباً على اللّه عزّ وجلّ فهو أخسّ وأدنى قيمة حتّى من الحيوان؛ إذ يقول عزّ من قائل: (إِنَّ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ)(1)؛ أي: أخسّ المخلوقات. فأيّ كرامة لأمثال هؤلاء؟ فالذي يعلن الحرب على اللّه تعالى إنّما يعتدي على مصالح العباد جميعاً. فأيّ كرامة لمثل هذا الإنسان؟ وبناءً على ذلك فإن من يرى قيمة للحياة الآدميّة فلابدّ أن يدعم قانون القصاص، وما قول سيّدتنا الزهراء (عليها السلام) حينما قالت: وجعل «الْقِصَاصَ حَقْناً لِلدِّمَاء» إلا من هذا المنطلق.

الوفاء بالعهد، سلّم التكامل

«... وَالْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ تَعْرِيضاً لِلْمَغْفِرَةِ، وَتَوْفِيَةَ الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ تَغْيِيراً لِلْبَخْس»(2)

تقول فاطمة الزهراء (عليها السلام) : «وَالْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ تَعْرِيضاً لِلْمَغْفِرَةِ»؛ أي إنّ اللّه عزّ وجلّ قد أوجب عليكم الوفاء بالنذر كي يجعلكم عرضة لمغفرته. فحتّى لو لم يوجب اللّه علينا الوفاء بالنذر لكُنّا أدركنا بعقولنا أنّه يتعيّن علينا القيام بذلك؛ ولكن من أجل أن يمهّد الباري عزّ وجلّ لنا الأرضيّة للمزيد من غفران الذنوب، ونيل الكمالات، والقرب منه، والفوز بمحبتّه فإنّه قد أوجب علينا الوفاء بالنذر في إطار تكليف شرعيّ.

ثمّ تقول الزهراء (عليها السلام) أيضاً: «وَتَوْفِيَةَ الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ تَغْيِيراً لِلْبَخْس». وقد ذكرنا أنّ الإنسان إذا لم يلتزم بعهوده في المعاملات ولجأ إلى التطفيف في الميزان والغشّ في التجارة فسيكون موضع ذمّ جميع العقلاء وسيعدّون عمله هذا قبيحاً. لكنّه مضافاً إلى القبح العقليّ لعمليّة التطفيف فإنّ اللّه عزّ وجلّ قد حرّمه شرعاً وأنزل في بضعة مواطن من كتابه العزيز آيات في ذمّ التطفيف وإنقاص المكيال والميزان. ولشيوع هذه الظاهرة بين الناس في عهد نبيّ اللّه شعيب (على نبيّنا وآله وعليه السلام) فقد تصدّرت قائمة تعاليمه (عليه السلام) مسألة عدم

ص: 234


1- . سورة البيّنة، الآية 6.
2- . بحار الأنوار، ج29، ص223.

إنقاص المكيال ووزن السلع في موازين دقيقة؛ إذ يقول عزّ من قائل: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)(1). فاللّه جلّ وعلا يوصي شعيباً (عليه السلام) بأن يأمر قومه بأن لا يطفّفوا في الميزان وأن لا ينقصوا المكيال فإنّ ذلك من شأنه أن يهدم كيان المجتمع ويسلب ثقة بعض أفراده بالبعض الآخر، ويدفع اقتصاده إلى الفوضى والتخبّط. فإنّ استخدامكم للموازين الدقيقة في معاملات بيعكم هو خير لكم.

فعقولنا تدرك هذا المعنى، لكنّه علاوة على حكم العقل هذا فقد عمد الباري تعالى إلى تحريم التطفيف في الميزان في الشريعة بقوله: ناهيكم عن الأضرار الدنيويّة فإنّ ارتكاب مثل هذا الذنب يستوجب عقاباً اُخرويّاً، وذلك من أجل أن يثير فينا دافعاً أكبر لمراعاة هذه القيمة الاجتماعيّة الساميّة ويجعلنا مستحقّين للثواب في ضوء طاعة اللّه تبارك وتعالى.

الوفاء بالعهد، سلّم التكامل

«... وَالْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ تَعْرِيضاً لِلْمَغْفِرَةِ، وَتَوْفِيَةَ الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ تَغْيِيراً لِلْبَخْس»(2)

وصلنا في شرحنا للخطبة الفدكيّة إلى حيث قالت مولاتنا الزهراء (عليها السلام) : «وَالْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ تَعْرِيضاً لِلْمَغْفِرَةِ ، وَتَوْفِيَةَ الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ تَغْيِيراً لِلْبَخْس»، إذ تشير (عليها السلام) في هذا المقطع إلى ضرورة الوفاء بالنذر وكذا إلى اتّباع الطرق السويّة في البيع في مقابل التطفيف في المكيال والميزان متعرّضة إلى بيان الحكمة من تشريع هذين الحُكمين. وتوضيحاً لهاتين الجملتين لا بأس بعرض مقدّمة موجزة.

ص: 235


1- . سورة الأعراف، الآية 85.
2- . بحار الأنوار، ج29، ص223.

ضرورة الحياة الاجتماعيّة

إنّ العلّة في الارتباط عن وعي لأيّ موجودين ذوَي شعور هي كسب المنفعة، وتحقّق المصلحة، ونيل الكمال لكليهما أو على الأقلّ لأحدهما. ومن أبرز الأمثلة على ذلك هو ما يحصل بين البشر من علاقات اجتماعيّة تتحقّق في ظلّها الحياة المدنيّة والاجتماعيّة. فالحياة الاجتماعيّة تعود على الناس ببركات مادّية ومعنويّة كثيرة، ولولا هذا النمط من الحياة ولو أنّ البشر حبّذوا العيش بشكل منفرد فلن تتحقّق أيّ واحدة من تلك المنافع والمصالح. ويكفي من أجل الوقوف على هذه المنافع أن يستعرض الإنسان حياته بشكل إجماليّ. فمنذ اللحظة الاولى من حياة الإنسان وحتّى آخر عمره فإنّه يكون في حال إفادةٍ مستمرّة من وجود الآخرين؛ فإمّا أن يتعلّم منهم شيئاً، أو يلمّ به مرض فيحتاج إلى مراجعة طبيب، أو يتبادل مع الآخرين ما يحتاجه من متطلّبات معيشته، ...الخ. وكذا فإنّ المرء يحصل من حياته هذه على منافع معنويّة جمّة أيضاً؛ فلولا عيش الإنسان بشكل اجتماعيّ لما عرف الدين وتعلّم أحكامه، ولما ارتقى في سلّم المعنويّات تبعاً لذلك، ولضاعت عليه آخرته. إذن فإنّها الحياة الاجتماعيّة التي توفّر للإنسان منافع الدنيا من جهة، وتهبه خيرات الآخرة من جهة اُخرى. ومن ذلك ندرك أنّ الإنسان مضطرّ لتشكيل علاقات مع الآخرين.

الواقعيّات هي جذور القيم

بعد أن اعتقدنا بضرروة الحياة الاجتماعيّة لابدّ أن نعلم أنّ الركن الأساسيّ لهذه الحياة هو تأمين منافع موجودَين ذوَي شعور قد شكّلا علاقة تجمعهما، حيث لولا هذا الارتباط وتبادل المنفعة فلن تصمد الحياة الاجتماعيّة. وعلى هذا الأساس تنشأ سلسلة من القيم الاجتماعيّة التي ندركها جميعاً؛ لكنّنا في الأعمّ الأغلب لا نلتفت إلى سرّ نشوء هذه القيم. فقد نتصوّر أحياناً أنّ القيم هي اُمور عقليّة وبديهيّة؛ فنتخيّل أنّ حُسن الصدق، والعدل، وما إلى ذلك من القيم هو بسبب إدارك العقل البشريّ لحسنها بشكل بديهيّ. بل وقد يقال أحياناً: «إنّ إدراك حُسن هذه الامور فطريّ» وعادة ما تُساق مثل هذه التعابير. لكن لعلّ السرّ من وراء ظهور كلّ هذه القيم هو أنّها ممّا يؤَمّن مصالح الناس، وحسنها ينبع من أنّها إذا لم تُراعَ فستتعرّض مصالح البشر للخطر. وحسب ما يصطلح عليه طلبة العلوم الدينيّة

ص: 236

فإنّها سلسلة من الآراء المحمودة المبنيّة على سلسلة من الواقعيّات الحقيقيّة وهذه الحقائق تشكّل روح تلك القيم. ووفقاً للاصطلاح الفقهيّ فإنّ الأحكام تتبع المصالح والمفاسد.

الوفاء بالعهد، أكثر القيم عموميّة

الركن الذي تُبنى عليه الحياة الاجتماعيّة المدنيّة أو يتحقّق معه التحضّر يتمثّل بمجموعة من عهود ومواثيق يلتزم بها أفراد المجتمع فيما بينهم. فهم ينظّمون أعمالههم وفقاً لعقود، وهذه العقود إمّا أن تكون لفظيّة أو مكتوبة، وإمّا أن تكون غير مكتوبة، لكنّ جميع العقلاء يعلمون - بما اُوتوا من ذوق عقلائيّ - أنّه لابدّ من العمل بموجبها من أجل استمرار الحياة الاجتماعيّة. فعندما يقوم بضعة أشخاص بتبادل بعض السلع من أجل تلبية حاجاتهم فلابدّ أن يقيموا للوفاء بما تعهّدوا به وزناً وقيمة. فإذا بنى كلّ واحد منهم أمره على خداع الآخر فلن تدوم الحياة الاجتماعيّة وستتلاشى. فالذي يقول: «بعتُك»، فهو يعني: سلّمتُك السلعة سالمة من كلّ عيب، والذي يقول: «اشتريتُ منك» فهو يعني: إنّني أدفع لك الثمن كاملاً طبقاً للعقد الذي بيننا. فإذا كان في نيّة البائع - مثلاً - تسليم تسعمائة غرام بدلاً من كيلو غرام واحد، أو كان المشتري ينوي الإنقاص من قيمة المبيع فسوف يؤدّي ذلك إلى المشاجرة بينهما وتؤول الاُمور إلى الهرج والمرج ممّا لا يتيح للحياة الاجتماعيّة بالاستمرار. فإنّ أكثر العوامل أصالة وعموميّة في الحياة الاجتماعيّة هو التزام الناس بعقودهم ووفاؤهم بعهودهم، بل إنّ مراعاة هذه القيمة واجبة حتّى مع الكفّار والأعداء. فمن مصاديق هذا العهد هو أداء الأمانة. فقد أولى الإسلام هذه المسألة بالغ الأهميّة حتّى إنّ الإمام السجّاد (عليه السلام) يقول: «عليكم بأداء الأمانة فَوَالذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً لو أنّ قاتل أبي الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليهما السلام) ائتمنني على السيف الذي قتله به لأدّيته إليه»(1). فقوام الحياة الاجتماعيّة بالعهود، وإنّ نقْضَنا لما أبرمناه مع الآخرين من عهود يجرّ إلى تزلزل دعائم حياتنا الاجتماعيّة، وهو الأمر الذي يجعلنا نجني في المستقبل وبال ما زرعته أيدينا.

ص: 237


1- . الأمالي للصدوق، المجلس 43، ص246.

التجارة مع اللّه

العلاقة التي تنشأ نتيجة العقد المتبادل قد تتخطّى أحياناً حدّ العلاقة التي تربط الناس ببعضهم لتصل إلى مستوى العلاقة التي تربط الإنسان مع ربّه. فالمفاهيم التي نستخدمها في حقل الأخلاق والحقوق وأمثال ذلك تتولّد في بادئ الأمر بين الناس، لكنّنا نجرّدها ونوسّعها فيما بعد لتُستخدم فيما يختصّ باللّه وأوليائه أو بملائكته. فاللّه عزّ وجلّ يقول في كتابه العزيز: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)(1)؛ أي إنّني اُتاجر مع عبادي فأشتري منهم أنفسهم وأموالهم في مقابل الجنّة ثمناً لذلك. ومن الواضح أنّ اللّه ليس بحاجة إلينا كي يبرم معنا عقداً لنقدّم له شيئاً بموجبه؛ لكن من أجل أن يشقّ اللّه عزّ وجلّ لنا طريقاً إلى التربية والكمال، فإنّه يضع نفسه موضع الموجود الذي يتاجر مع الإنسان. أو يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمُ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)(2). فما هي تلك التجارة؟ يجيب تعالى بالقول: (تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ)(3). فاللّه سبحانه وتعالى يستخدم هذه المفاهيم ليحيي فينا الدافع لفعل الخير كي نكون من المستحقّين لرحمته. ففي هذه الآية الكريمة يضع اللّه جلّ شأنه نفسه موضع المشتري الراغب فيقول: «من منكم يبيعني نفسه وماله»؟

لكن قد ينعكس الوضع أحياناً ونكون نحن البادئين بالتعهّد. وثمّة لهذا التعهّد أنواع تحمل مفاهيم متشابهة ألا وهي: العهد، والقَسَم، والنذر. فكم هو قبيح أن نعاهد أحداً ثمّ ننكث عهدنا معه ونخلفه؟ فنحن بذلك نكون قد دسنا بأقدامنا على أكثر القيم الاجتماعيّة عموميّة ووضوحاً وعلى أفضل القيم العقليّة. وإنّنا - في الحقيقة - قمنا بالمعاملة ثم ألحقناها بالغشّ. إذن هو عمل شديد القبح لكنّه - على أيّة حال - شكل من أشكال المعاملة المتبادلة بين طرفين من نفس المستوى، فهو أيضاً يستطيع أن يقابلنا بالمثل ويُنزِل بنا ما أنزلنا به؛ إذ كما أنّنا بحاجة إليه فهو بحاجة إلينا أيضاً. لكنّ اللّه سبحانه وتعالى يُنزِل

ص: 238


1- . سورة التوبة، الآية 111.
2- . سورة الصف، الآية 10.
3- . سورة الصف، الآية 11.

نفسه منزلتنا ويستخدم، من أجل توثيق العلاقة معنا، مفاهيم بشريّة كي يقودنا إلى حيث الكمال ومراعاة القيم لنحظى عن هذا الطريق باستحقاق نيل رحمته وثوابه. فإذا عمدنا – والحال هذه – إلى التحايل عليه سبحانه وخداعه، فسيتضاعف قبح عملنا مئات الأضعاف بل آلافها. فحينما يروم المرء خداع شخص آخر فهو يحاول فعل ذلك خلسة لئلا يعلم المقابل بذلك، فإنْ علم كان ذلك مدعاة لخجل الشخص المخادع وحيائه. فكيف باللّه المتعال وهو الخبير ببواطننا والعليم بأعمالنا أكثر منّا! لهذا فإنْ أنا أبرمتُ مع ربّ ومولىً - لانهاية لعظمته - عقداً وعهداً مفاده: إنّك إذا فعلت لي الفعل الفلانيّ فساُنجز أنا العمل الكذائيّ، لكنّني كنت اُبيّت نيّة الغشّ والتحايل أو إنّني تساهلت فيما بعد في الوفاء بما وعدته به، فذلك غاية في القبح وإنّني أكون – في الواقع – قد دست على حظّي وسعادتي بفعلتي هذه. ومن هنا فإنّ خيانة اللّه تعالى هي أشدّ قبحاً من نكث الناس للعهود التي تعاهدوا بها فيما بينهم.

العبارتان اللتان ذكرتهما مولاتنا الزهراء (عليها السلام) ترتبطان بهذا الأصل العامّ. فالعبارة الاولى هي الوفاء بالنذر. فالنذر المشروط هو أن اُبرم مع اللّه عزّ وجلّ عقداً بأنّه: إذا قُضيتْ حاجتي فإنّني سأصوم ثلاثة أيّام، مثلاً. فإذا لم يلتزم الناذر بما تعهّد به فلن يغضّ اللّه تعالى النظر عن هذه الخيانة؛ ذلك أنّ اللّه تبارك وتعالى قد بنى أمره إمّا على أن يوفّر لنا أرضيّة السموّ والترقّي كي نظفر باستحقاق ثوابه، أو أن نهبط بأنفسنا بسوء اختيارنا فنكون مستحقّين لعقابه. فالإنسان هو ذلك الموجود الذي أعطاه اللّه كامل الاختيار؛ فإمّا أن يختار سبيل السموّ والرفعة، أو ينتخب طريق الانحطاط والسقوط. وبناء على ما تقدّم فإنّ على اللّه أن يوفّر الأرضيّة والمناخ المناسبين كي نقوم نحن بالاختيار.

النفاق ثمرة نكث العهد

أوّل عقوبة يعاقب اللّه تعالى بها الإنسان جرّاء نقضه لمثل هذه العهود هي أن يجعل إيمانه ضعيفاً، أو يبتليه – حسب التعبير القرآنيّ – بالنفاق. ولعلّ هذه هي أشدّ عقوبة يمكن إنزالها بالإنسان؛ ذلك أنّ الإيمان هو أنفَسُ جوهرة لدى الإنسان؛ إذ أنّ بمقدور الإيمان رفع ابن آدم إلى حيث عرش الرحمٰن. فإن سُلب منه الإيمان، فسيصبح أنزل من أيّ وضيع. والقرآن الكريم يشير إلى هذا المبحث بصراحة بالقول: (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ ءَاتَانَا

ص: 239

مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا ءَاتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُون)(1). إذن فالنفاق الذي تذكره الآية ليس هو نفاقَ ساعةٍ، بل إنّه سيبقى في قلوبهم إلى يوم القيامة. لماذا؟ لأنّهم أخلفوا الوعد مع اللّه. وأمّا إذا وفى المرء بعهده مع ربّه وعمل بموجبه فإنّه سيُثاب عليه؛ أي: مضافاً إلى ما سيناله من سعة في الرزق فإنّه إذا وفى بعهده مع اللّه وتصدّق فسوف يثاب على تصدّقه أيضاً. فأمثال هؤلاء سيعطَون - عوضاً عن النفاق - نوراً في قلوبهم، واستحقاقاً للمغفرة وتكامل الإيمان.

أوامر اللّه، هي ألطافه

كلّنا يفهم بما اُعطي من قريحة العقلاء أنّ على الأنسان أن يفي بما تعهّد به لأيّ أحد كان. وكلّما زادت أهمّية الطرف المتعاقَد معه تحتَّم على الإنسان إعطاء القضيّة أهمّية أكبر. وبناء على ذلك فإن كان الطرف المتعاقَد معه هو اللّه عزّ وجلّ فلن يكون للاهتمام بهذا الأمر من حدّ يحدّه، ولذا يتعيّن إعطاءَه أقصى درجة من الأهمّية. فإنّ شدّة قبح نقض العهد مع اللّه عزّ وجلّ توازي ما لله من عظمة، لأنّ العقل يعلم هذا المقدار وهو أنّ اللّه يستطيع أن يؤاخذنا يوم القيامة بهذا العقل نفسه، لكنّ اللّه تعالى لم يكتف بذلك، بل إنّه، بدافع رحمته التي لا نهاية لها ومن أجل أن يستنهض في أنفسنا حافزاً أكبر للعمل بمدركات عقولنا، فإنّه أصدر حكماً شرعيّاً بهذا الخصوص فقال: «الوفاء بالنذر واجب شرعيّ». وبهذه الطريقة فإنّه جلّ شأنه يحفّز فينا دافعاً أكبر للعمل من جانب، ويمهّد لنا الأرضيّة لاستحقاق رحمة لا مثيل لها من جانب آخر، وهي تلك الرحمة التي تُستحصل في ظلّ الامتثال لأوامره. تقول فاطمة الزهراء (عليها السلام) : «وَالْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ تَعْرِيضاً لِلْمَغْفِرَةِ»؛ أي إنّ اللّه عزّ وجلّ قد أوجب عليكم الوفاء بالنذر كي يجعلكم عرضة لمغفرته. فحتّى لو لم يوجب اللّه علينا الوفاء بالنذر لكُنّا أدركنا بعقولنا أنّه يتعيّن علينا القيام بذلك؛ ولكن من أجل أن يمهّد الباري عزّ وجلّ لنا الأرضيّة للمزيد من غفران الذنوب، ونيل الكمالات، والقرب منه، والفوز بمحبتّه فإنّه قد أوجب علينا الوفاء بالنذر في إطار تكليف شرعيّ.

ص: 240


1- . سورة التوبة، الآيات 75 – 77.

ثمّ تقول الزهراء (عليها السلام) أيضاً: «وَتَوْفِيَةَ الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ تَغْيِيراً لِلْبَخْس». وقد ذكرنا أنّ الإنسان إذا لم يلتزم بعهوده في المعاملات ولجأ إلى التطفيف في الميزان والغشّ في التجارة فسيكون موضع ذمّ جميع العقلاء وسيعدّون عمله هذا قبيحاً. لكنّه مضافاً إلى القبح العقليّ لعمليّة التطفيف فإنّ اللّه عزّ وجلّ قد حرّمه شرعاً وأنزل في بضعة مواطن من كتابه العزيز آيات في ذمّ التطفيف وإنقاص المكيال والميزان. ولشيوع هذه الظاهرة بين الناس في عهد نبيّ اللّه شعيب (على نبيّنا وآله وعليه السلام) فقد تصدّرت قائمة تعاليمه (عليه السلام) مسألة عدم إنقاص المكيال ووزن السلع في موازين دقيقة؛ إذ يقول عزّ من قائل: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)(1). فاللّه جلّ وعلا يوصي شعيباً (عليه السلام) بأن يأمر قومه بأن لا يطفّفوا في الميزان وأن لا ينقصوا المكيال فإنّ ذلك من شأنه أن يهدم كيان المجتمع ويسلب ثقة بعض أفراده بالبعض الآخر، ويدفع اقتصاده إلى الفوضى والتخبّط. فإنّ استخدامكم للموازين الدقيقة في معاملات بيعكم هو خير لكم.

فعقولنا تدرك هذا المعنى، لكنّه علاوة على حكم العقل هذا فقد عمد الباري تعالى إلى تحريم التطفيف في الميزان في الشريعة بقوله: ناهيكم عن الأضرار الدنيويّة فإنّ ارتكاب مثل هذا الذنب يستوجب عقاباً اُخرويّاً، وذلك من أجل أن يثير فينا دافعاً أكبر لمراعاة هذه القيمة الاجتماعيّة الساميّة ويجعلنا مستحقّين للثواب في ضوء طاعة اللّه تبارك وتعالى.

الأمن في مجال البدن والنفس والمال ممهّد لسموّ الإنسان

«... وَالنَّهْيَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ تَنْزِيهاً عَنِ الرِّجْسِ، وَاجْتِنَابَ الْقَذْفِ حِجَاباً عَنِ اللَّعْنَةِ، وَتَرْكَ السَّرِقَةِ إِيجَاباً لِلْعِفَّة»(2)

ص: 241


1- . سورة الأعراف، الآية 85.
2- . بحار الأنوار، ج29، ص223.

يعلم الاخوة أنّنا كنّا مسترسلين في تلاوة الخطبة الفدكيّة لمولاتنا الزهراء (عليها السلام) مقدّمين توضيحاً موجزاً لكلّ مقطع من مقاطعها. تبيّن الزهراء (عليها السلام) في هذا المقطع من خطبتها الشريفة الحِكَم من وراء قسم آخر من معارف الإسلام وتشريعاته.

لقد عرضنا في المحاضرة السابقة لمقدّمة مفادها أنّ اللّه تبارك وتعالى، وعلى أساس الرؤية الإسلاميّة والقرآنيّة، قد شاء أن يجعل حياة الإنسان في هذا العالم بحاجة إلى تكاتف الآخرين وتشكيل المجتمع، وأنّ الكمال الذي قدّره عزّ وجلّ لابن آدم إنّما يتحقّق في ظلّ حياة من هذا النمط.

الحياة الاجتماعيّة ممهّدة للامتحان

إنّ من حِكَم تأليف المجتمع هي أنّه على خلفيّة العلاقات التي تتكوّن بين مختلف أفراده فإنّ أرضيّة للتكاليف تتوفّر لهم الأمر الذي يهيّئ بيئة للامتحان والاختبار؛ إذ مالم يُمتحَن الإنسان فلن يُعلَم إلى أيّ حدّ يتّسم جوهره بالطهارة وإلى أيّ مدى هو يضمر إرادة الخير والعبوديّة لله تعالى. فالكمال الذي قدّره اللّه عزّ وجلّ للإنسان إنّما يُستحصل في ضوء أفعاله الاختياريّة، ومن هنا فلابدّ من أن تُهيّأ له أرضيّة خصبة للاختيار والامتحان. ففي الحياة الاجتماعيّة تتوفّر للإنسان في كلّ لحظة - وعلى خلفيّة ما يربط الناس فيها من علاقات اجتماعيّة - المئات من أرضيّات الامتحان؛ فمثلاً: إلى أيّ شيء يجوز أن ينظر، وإلى أيّ شيء لايجوز له أن ينظر؟ ما الذي ينبغي أن يسمع وما الذي لا ينبغي أن يسمع؟ بأيّ شيء يفكّر وبأيّ شيء لا يجوز التفكير؟ إلى أين يذهب وإلى أين لا يجوز الذهاب؟ فلولا الحياة الاجتماعيّة لما تهيّأت مثل هذه التكاليف، ولولا هذه التكاليف لما توفّر مناخ للاختيار، ولولا الأخير فلن يبلغ الإنسان ما ينبغي له بلوغه من درجات الكمال. فهدف خلقة الإنسان هو أن يختار الصراط المستقيم بنفسه. لكنّ الاختيار له جانبان، ولن يكون للاختيار معنى إلا إذا واجه المرء مفترق طريقين على الأقلّ. فصحيح أنّ اللّه قد طلب من ابن آدم سلوك الطريق السويّة والصراط المستقيم، بيد أنّه لابدّ من وجود الطريق المعوجّة أيضاً كي يتجنّبها. وفي الوقت ذاته فإنّ اللّه سبحانه لا يترك الإنسان وشأنه تماماً كي يقع في حبائل الشيطان. فمع أنّ كلاًّ من عوامل الشيطان وعوامل الرحمٰن موجودة وأنّ هناك توازنا بين الاثنين، لكنّ اللّه جلّت آلاؤه - ومن منطلق لطفه ورحمته، ومن باب أنّ الهدف الأساسيّ هو

ص: 242

الوصول إلى الرحمة لا إلى العذاب – يهيّئ وسائل من شأنها أن تعِين البشر على معرفة السبيل القويمة بنحوٍ أفضل فيُساقون إليها بنسبة أكبر ويُحال بينهم وبين جادّة الانحراف والضلال.

التشريعات الإلهيّة تقوّي سبيل الخير

لقد أشارت الزهراء (عليها السلام) في العبارات السابقة إلى بعض ما يسوق المرء إلى سبيل الخير، وهي تذكر هنا اُموراً اُخرى من شأنها أن تجرّ الإنسان إلى طريق الشرّ.

لقد جعل اللّه تعالى تقديراته وتدبيراته فيما يحول – ما أمكن - بين الإنسان ووقوعه في مهاوي الضلال ويجنّبه مسائل العبث والفساد، ومن جملة هذه التدبيرات هي منظومة التشريع. فقد بعث اللّه إلى البشر أنبياء ليبيّن لهم عن هذا الطريق الحلال والحرام كي يحيطوا علماً بما هو سيّئ وشرّ من الامور وما لها من سوء الآثار ليجتنبوها. بمعنى أنّ اللّه تعالى كما أنّه يهيّئ العوامل التي تقود البشر إلى جادّة الخير، فهو أيضاً يقيّض لهم العوامل التي تردعهم عن سلوك درب الشرّ. فجعل مثل هذه العوامل يفصح عن منتهى اللطف الإلهيّ؛ فلو اقتصر اللّه عزّ وجلّ على تبيين الحسَن والقبيح للبشر ثمّ سكت: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)(1) لكانت الحجّة على البشر قد تمّت وأرضيّة الاختيار قد مُهّدت؛ لكنّه جلّ وعلا يحبّ أن يختار العددُ الأكبرُ من الناس سلوكَ جادّة الخير ليصلوا إلى الكمال المطلوب، ومن هنا فهو يسعى لتقوية جانب الخير ويحذّر من الامور التي تُعِدّ لمناخ الشرّ.

حفظ الأمن الفرديّ والاجتماعيّ واجب عقليّ وشرعيّ

قد ترتبط مسائل الشرّ بشخص الإنسان فقط فتخرّبه هو وحده. فقد وهب اللّه الإنسان بدناً سليماً معافىً لم يتوصّل كبار الباحثين والعلماء بعدُ إلى أسراره حتّى بعد مضيّ قرون من الزمن. كما أنّه سبحانه وتعالى قد خلق روحاً وجعلها متعلّقة بهذا البدن وربطهما سويّة برباط وثيق بحيث يؤثّر كلّ منهما في الآخر؛ فإنّ بعض ما يصيب البدن من دنس وتلوّث يترك أثره على الروح أيضاً فيعيق عملها.

ص: 243


1- . سورة الإنسان، الآية 3.

فمضافاً إلى ضرورة بقاء الجانب الفرديّ من وجودنا (الجسم والروح) سالماً معافىً كي ينجز أعماله على النحو الصحيح، فإنّه لابدّ من أن تكون بيئة المجتمع بيئة سليمة صحّية يأمَن فيها أفراده على أعراضهم وكرامتهم كي يتمكّنوا من العيش. فإذا لم تكن البيئة الاجتماعيّة آمنة، سواء من الناحية المادّية أو الروحيّة، فلن يتسنّى للمرء التكامل فيها بما يكفي. فإنّ جُلّ جهد الإنسان في الأجواء غير الآمنة سوف يُبذل في المعارضات ومحاولة حفظ النفس والمال والكرامة. إذن فإنّ من سبل الفساد الاخرى هي الامور التي تفسد البيئة الاجتماعيّة وتسلب منها الأمن. وإنّ الجمل الثلاث الأخيرة التي ذكرتها مولاتنا (عليها السلام) ترتبط بالعوامل الرادعة.

المُسْكِرات تُلوّث الجسم والروح

لقد سنّ اللّه عزّ وجلّ من أجل سلامة بدن الإنسان تشريعات من جملتها تحريم المُسْكرات. فالعنب هو من نعم اللّه المحلّلة على البشر وهو غنيّ بالفوائد، والقرآن الكريم يكثر من ذكر بعض أنواع الثمار ومنها التمر والعنب، فيقول عزّ من قائل في محكم كتابه العزيز: (وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً)(1)؛ أي إنّنا مننّا عليكم بالتمر والعنب لكنّكم - انقياداً للشيطان واتّباعاً له - تصنعون من هذه النعم البالغة الحسن والفائدة المسكرات، هذا وإن كنتم تحصلون منها على رزق مفيد أيضاً. فالمسكرات تضرّ بالبدن من جهة، وتذهب بالعقل من جهة اخرى، وتسلب المجتمع أمنه من جهة ثالثة. فالروح السليمة والبدن السليم هما وسيلتان جعلهما اللّه تعالى من أجل أن يتحرّك الإنسان، ثمّ أتْبع ذلك بأمرنا بأن لا نفسد روحنا وبدننا بسوء إفادتنا من النعم الإلهيّة؛ هذا مضافاً إلى أنّه حتّى عقل الإنسان يدرك سوء هذا الفعل أيضاً. فلقد أمرنا اللّه تعالى عبر مزيد من التأكيد والتشديد أن لا نقترب من الخمر، فسنّ قانوناً بمثابة عاملٍ للردع مفاده: اجتنبوا الخمر لئلا تتدنّسوا وتتلوّثوا: «تَنْزِيهاً عَنِ الرِّجْسِ».

لقد جاءت عبارة: «النَّهْيَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ» معطوفة على الجمل السابقة؛ ليكون معناها أنّ اللّه قد أوجب الصلاة والزكاة والنهيَ عن شرب الخمر. لكن يبدو للوهلة الاُولى أنّ هناك عدم تناسب بين هذه العبارات. ويوجد احتمال ضعيف لتعليل ذلك وهو أنّه قد جرى

ص: 244


1- . سورة النحل، الآية 67.

بعض الحذف في النسخ، أمّا الاحتمال الآخر فهو أنّ الموضوع قد ينطوي على التفاتة أدبيّة تُعدّ من لطائف اللغة وجميل البيان وهي أنّ الناس يتفنّنون أحياناً في الكلام فيخرج عن سياقه العاديّ إلفاتاً للانتباه. فالقرآن الكريم – على سبيل المثال – يقول: (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً).(1) إذ كان لابدّ أن يقول جرياً على القاعدة: «ما حرّم ربّكم... ألا تشركوا باللّه ولا تعقّوا الوالدين» لكنّه قال متحوّلاً عن السياق العامّ للجملة: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً). فهذا التغيير في السياق هو من أجل لفت انتباه المخاطَب وإنّ له لطائفَ والقرآن الكريم يستخدم هذا الاسلوب في مواطن عديدة. فلعلّ مولاتنا (عليها السلام) أرادت هنا، إلفاتاً منها إلى موضوع جديد، أن تتحوّل في سياق الكلام من ذكر الواجبات والأوامر التي تقود المرء نحو الكمال إلى ذكر النهي عن المحرّمات.

حرمة القذف ضمان للأمن النفسيّ للمجتمع

قد تتعرّض كرامةُ الإنسان وعِرضُه للخطر تارة وقد يتعرّض ماله للخطر تارة اخرى. ومن هذا المنطلق تقول الزهراء البتول (عليها السلام) : «وَاجْتِنَابَ الْقَذْفِ حِجَاباً عَنِ اللَّعْنَةِ». والقذف هو اتّهام الآخرين بأعمال غير مشروعة. ومعناه اللغويّ يرادف «الرمي»، إذ يقول القرآن الكريم: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُواْ فىِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(2). هذا العمل هو من حيل الشيطان وألاعيبه وإنّ له تاريخاً طويلاً. فلقد نال البعضُ بهذه الحيل الشيطانيّة حتّى من نساء النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم). ولقد حرّم اللّه تعالى القذف وعيّن له في الشرع حدّاً خاصّاً للمحافظة بذلك على أعراض المجتمع فيأمنون - تبعاً لذلك – من اللعنات الإلهيّة.

ص: 245


1- . سورة الأنعام، الآية 151.
2- . سورة النور، الآية 23.

انعدام الأمن الماليّ يؤدّي إلى انعدام الأمن النفسيّ

وتقول الزهراء (عليها السلام) أيضاً بخصوص المال: «وَتَرْكَ السَّرِقَةِ إِيجَاباً لِلْعِفَّة». فلو أنّ المسائل الماليّة طبِّقت في المجتمع على نحو سليم، بأن يكسب كلّ امرئ المال عبر الطرق الشرعيّة، ويحفظه باسلوب صائب، وينفقه في المواطن الصحيحة فسوف يوفّر ذلك بيئة لسموّ وتكامل أفراد المجتمع. أمّا إذا لم تُراعَ هذه المسائل، وسُلبت العفّة في المال، واختلّ التوازن الماليّ الذي توجِده السلوكيّات الماليّة والاقتصاديّة السليمة في المجتمع فحينئذ لن تتهيّأ تلك البيئة الصالحة للرقيّ والنموّ. نحمد اللّه على أنّ هذه الامور لا توجد في مجتمعنا إلا قليلاً؛ لكن عندما يشاهد المرء هذا المقدار الموجود على قلّته يلتفت إلى آثاره السيّئة وما يجلبه من اختلال في الحالة الأمنيّة. فإذا انعدم الأمن الماليّ في مجتمعٍ مّا فسوف يثير ذلك قلقاً مستمرّاً لدى أفراده على أموالهم ويجعلهم دائمي التفكير في كيفيّة الحفاظ عليها وحراستها. هذا على الرغم من أنّ المال لا ينبغي أن يتعدّى كونه وسيلة تُستخدم في حالات الاضطرار والضرورة. فلو كان القرار أن يبذل المرء جهداً مضنياً في كسب المال ثمّ ينشغل ذهنه دوماً بسبل الحفاظ عليه فلن يبقى لديه مجال للعبادة وإنجاز واجباته الاجتماعيّة والمعنويّة.

تذكر السيّدة الزهراء (عليها السلام) - من باب المثال - هذه الموارد الثلاثة (انعدام الأمن على المستوى الفرديّ، وانعدام أمن الأعراض الاجتماعيّة، وانعدام الأمن في المال) بعنوان كونها من الموانع حيث قد لا يستطيع العقل بمفرده الالتفات إلى أنّها خطرة إلى هذه الدرجة. فعقل الإنسان يدرك خطر بعض المسائل ،كخطر أشكال الفساد الجنسيّ والاغتصاب بالقوّة مثلاً ويفهم أنّه لابدّ من فرض عقوبات قاسية على مرتكبي هذه الجرائم، لكنّه قد لا يشعر بكبير خطر إذا قذف أحد امرأةً بفعل قبيح. من المؤسف أنّ هذا الكلام البذيء يلقى رواجاً واسعاً في بعض المجتمعات المتخلّفة من الناحية الأخلاقيّة. أمّا الإسلام فهو يتعامل مع هذا الموضوع بتشدّد بالغ. فقد جاء في الخبر أنّه كان لأبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) صديق لا يكاد يفارقه وهو دوماً يظهر المودّة والولاء فيمجلسه. فصادف يوماً أن كان مع أبي عبد اللّه (عليه السلام) في الطريق فافتقد غلامه حتّى إذا وجده قال له: يا ابن الفاعلة، أين كنت؟ قال: فرفع أبو عبد اللّه (عليه السلام) يده فصكّ بها جبهة نفسه ثمّ قال: «سبحان اللّه تقذف أمّه! قد كنتُ أرى أنّ لك ورعاً فإذا

ص: 246

ليس لك ورع»! فقال: جُعلت فداك، إنّ أمّه سنديّة مشركة. فقال: «أمَا علمت أنّ لكلّ أمّة نكاحاً. تنحَّ عنّي». قال: فما رأيته يمشي معه حتّى فرّق الموت بينهما.(1)

فهذه الامور تراعَى في الإسلام بدقّة وإنّ لها من الأسرار المهمّة الكثير وهي تتمتّع ببالغ الأثر في تشكيل مجتمع سليم وتوفير مناخ لرقيّ أفراده معنويّاً. لكن للأسف فإنّه جرّاء اختلاط الثقافات وانتشار وسائل الاتّصال غير المناسبة وشيوع عامل جديد اسمه الهاتف الجوّال فقد أصاب بيئة مجتمعنا بعض التلوّث أيضاً. فهذه القضايا من شأنها أن تجرّ إلى تغيير أساسيّ في المناخ الذهنيّ والروحيّ للإنسان وتخلق - في نهاية المطاف – مجتمعاً لا يشبه المجتمع الإسلاميّ.

نسأل اللّه العليّ القدير ببركة السيّدة الزهراء (عليها السلام) أن يحفظ مجتمعنا من كلّ فساد أخلاقيّ وماليّ ويمهّد له الأرضيّة للرقيّ الأخلاقيّ على كافّة الصُّعُد لاسيّما بين طبقة الشباب.

التوحيد، عصارة الإسلام

في متابعتنا للخطبة الفدكيّة لمولاتنا الزهراء (عليها السلام) وصلنا إلى العبارة التي قالت (عليها السلام) فيها: «وَحَرَّمَ اللّهُ الشِّرْكَ إِخْلاصاً لَهُ بِالرُّبُوبِيَّة»(2). لقد ابتدأت (عليها السلام)هذا القسم من الخطبة بعبارة: «فَجَعَلَ اللّهُ الإِيمَانَ تَطْهِيراً لَكُمْ مِنَ الشِّرْكِ» واختتمته بجملة: «وَحَرَّمَ اللّهُ الشِّرْكَ إِخْلاصاً لَهُ بِالرُّبُوبِيَّة». ولعلّنا نستشفّ من هذا التنسيق والتنظيم في العبارات أنّ التوحيد هو مبدأ الدين ومنتهاه. فأوّل عمل قام به الأنبياء(عليهم السلام) هو محاربة الشرك وآخر مهمّة نهضوا بها هي اقتلاع جذور الشرك، وإنّ ما يوصل الإنسان إلى السعادة هو التوحيد، وما يجرّه إلى السقوط والتعاسة هو الشرك.

إنّ للتوحيد معانيَ عميقةً وغنيّةً ولطيفةً إذا نحن أدركناها بدقّة فسنفهم أنّ كلّ ما في الدين من أَلِفِه إلى يائِه ليس هو إلّا التوحيد. يقول المرحوم العلامة الطباطبائيّ (رضوان اللّه

ص: 247


1- . الكافي، ج2، ص324.
2- . بحار الأنوار، ج29، ص223.

عليه) في هذا الباب: «إذا جمعْنا الإسلام وضغطناه فسنحصل على التوحيد، وإذا بسطنا التوحيد وشرحناه فستخرج الشريعة بكلّ تفاصيلها من أعماقه». فالتوحيد هو أشبه ما يكون بالقرص المُدمَج الذي يضمّ الإسلام كلّه.

التوحيد، هو الطريق الوحيدة الموصلة إلى الحبيب

إنّ من النصوص القرآنيّة التي لا تقبل التأويل بتاتاً هي الآية الشريفة: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)(1) إذ أنّها تبيّن حصراً قاطعاً ومفهوماً واضحاً. ولا يعني قوله تعالى هذا أنّ اللّه بحاجة إلى عبادتنا، إذ أنّ الفعل الأساسيّ لله تبارك وتعالى وما يصدر من ذاته المقدّسة هو الإفاضة والرحمة والعطاء. ولعلّ هذا هو تعليل جعل صفة الرحمٰن صفة خاصّة لله عزّ وجلّ لأنّها تشمل كلّ كرم وعطاء. فكلّ مخلوق من مخلوقات اللّه جلّ شأنه يملك استعداداً خاصّاً لكمال معيّن. فشجرة الجوز مثلاً لها قابليّة النموّ إلى حجم معيّن، ونبتة الخيار لها قابليّة النموّ إلى حجم آخر. فلا يمكن أن نتوقّع من نبتة الخيار أن تنمو لتبلغ حجم شجرة الجوز. وكذا الحيوانات فلكلّ نوع منها حدود للنموّ. وحتّى الإنسان فإنّ له حدّاً معيّناً للنمو لا يمكن أن يتخطّاه. لكنّ الناس غالباً ما ينظرون إلى أشكال الرقيّ والكمال التي يتّصفون بها بمنظار مادّي؛ كالطول، والوزن، والنشاطات البدنيّة، والقدرة على رفع الأثقال، والقابليّة على أكلّ كمّيات كبيرة من الأطعمة، ...الخ. لكن علينا أن ندرك أنّ إنسانية الإنسان تكمن في روحه، وقدرة روح ابن آدم ليست هي ممّا يمكن قياسه. بل لابدّ أن نقول إجمالاً إنّ ظرفيّة روح الإنسان تقترب ممّا لا نهاية له أو تميل إلى ما لا نهاية؛ أي لا يمكننا تحديد حدّ معيّن لها. ونستطيع القول: إنّه يمكن لعلم الإنسان أن يبلغ حدّاً بحيث يعلم كلّ شيء، ويقدر على إنجاز كلّ عمل. لكنّ هذه الامور هي آثار ذلك الكمال الذي يستطيع أن يبلغه. فإذا أردنا أن نصوغ ذلك الكمال بعبارة موجزة، فلابدّ أن نقول، بما يتماشى مع التعبير القرآنيّ: «القرب من اللّه». فالإنسان باستطاعته أن يسمو ويترقّى حتّى يقترب من اللّه عزّ وجلّ: (عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ)(2). ومن أجل الوصول إلى ذلك المقام فليس ثمّة سوى

ص: 248


1- . سورة الذاريات، الآية 56.
2- . سورة القمر، الآية 55.

طريق واحدة ألا وهي الارتباط باللّه عزّ وجلّ اختياريّاً وهو ارتباط قوامه اعتقاد المرء بأنّ اللّه هو ربّه حقّاً وأنّ الإنسان عبده حقّاً. ويطلق على هذا الارتباط اسم «العبادة»، أو «العبوديّة». إذن عندما يُطرح السؤال التالي: لماذا خَلَقنا اللّه؟ فإنّه يتعيّن الإجابة: «من أجل العبوديّة»؛ بمعنى أنّنا إذا لم نعبد ونعمل وفقاً للعبوديّة فإنّنا لن نصل إلى ذلك المقام. والعبوديّة تكمن في تقوية علاقتنا مع اللّه تبارك وتعالى، وأن نعمل بما يقرّبنا إلى اللّه أكثر، ويزيد من اُنسنا به، وحبّنا له.

الشرك هو عدوّ الوصول إلى الحبيب

إنّ عدوّ ابن آدم الذي يحول بينه وبين بلوغ هذه المنزلة الرفيعة هو العامل الذي يؤدّي إلى زوال روح العبوديّة؛ ذلك أنّ العامل الوحيد الذي من شأنه أن يقود الإنسان نحو التسامي والرُقيّ وإيصاله إلى قرب اللّه تعالى هو «روح العبوديّة». فالركون إلى هذا العدوّ يُطلق عليه في الثقافة الإسلاميّة اسم «الشرك». وإطلاق كلمة الشرك على هذا العمل يستبطن لطيفة مفادها: أنّ فطرة الإنسان لا تستطيع نسيان وجود اللّه سبحانه وتعالى. فإذا لجأ الإنسان إلى غير اللّه فإنّه يجعل - في واقع الأمر – شريكاً له. فالشرك – على أيّة حال – هو ألدّ أعداء الإنسان، ومن هذا المنطلق فإنّ الشيطان يبذل قصارى جهده من أجل إبعاد ابن آدم عن العبوديّة لله الواحد وتقريبه من الشرك.

مراتب التوحيد والشرك

إنّ لكلٍّ من مقولتَي توحيد اللّه والشرك به مراتبَ تبدأ من فوق الصفر وتقترب ممّا لا نهاية له. فأحاديث أهل البيت (عليهم السلام) تجعل للإيمان وأمثاله مراتبَ؛ فقد جاء في بعض الأخبار – على سبيل المثال – أنّ «للإيمان سبعة أسهم»، وجاء في بعضها أيضاً أنّ «للإيمان عشر درجات». وهذه المقولات هي لتقريب المسألة إلى الذهن وإلاّ فإنّ لكلٍّ من هذه الأسهم والدرجات امتداداً وهي - من هذا الباب - قابلة للتقسيم أيضاً؛ فكلّ امتداد يمكن تقسيمه إلى ما لا نهاية. إذن فمراتب الإيمان والشرك كثيرة جدّاً؛ فالإيمان يبدأ من مجرّد اعتراف الإنسان بوجود اللّه ويستمرّ حتّى يصل إلى إيمانٍ كإيمان عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) مثلاً. لكنّ

ص: 249

المسافة بين الاثنين تشبه المسافة بين الصفر وما لا نهاية. وكذا الشرك فهو يبدأ من أقلّ شرك باللّه حتّى يبلغ منزلة أسفل السافلين: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ)(1). إذن فإنّ لدينا طريقاً نحو الأعلى باتّجاه اللّه وهو السير الصعوديّ وإنّ له مسيرةً طويلة ومراتبَ كثيرة جدّاً، وإنّ له طريقاً نحو الأسفل هو السير النزوليّ وهو يبدأ ممّا دون المكان الذي يوجد فيه الإنسان حتّى يصل إلى أسفل وأخسّ موضع: (أُوْلَئكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّة)(2). فالإنسان يقع بين هذين المسيرين اللذين لا نهاية لهما. أمّا الهدف من خلقتنا فهو ذلك المقام الرفيع، وهو مقام خلافة اللّه تعالى ومجالَسة النبيّ الأعظم والأئمّة الأطهار (عليهم السلام) ، وإنّ ألدّ أعداء ذلك المقام هو الشرك. فالقرآن الكريم يقول في هذا المجال: (لا تُشْرِكْ بِاللّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(3). فالظلم هو أن يغتصب امرؤ حقّ غيره. وهل من حقّ هو أسمى وأعظم من حقّ اللّه على عباده؟! فحقّ اللّه على عباده هو أن يسيروا نحوه كي يوصلهم إلى ما لا نهاية له من الكمال. وبعبارة أبسط: إنّ لله على عباده حقّاً وهو أن يعبدوه. وسَلْب هذا الحقّ من اللّه تعالى يعني عدم عبادته، وهو أعظم أشكال الظلم، وأفدح أنواع الحيف لحقّ من الحقوق؛ ومن هنا يقول الباري تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

التوحيد في النيّة، أعلى مراتب التوحيد

قلنا سلفاً إنّ لكلّ من الإيمان والشرك مراتبَ. لكنّنا إذا أمعنّا النظر فسوف نجد أنّ الدرجات الضعيفة من الإيمان تكون مصاحبة لبعض مراتب الشرك، لكنّه كلّما قَوِي أحد هذين الطرفين ضَعُف الطرف الآخر. فحيثما ضعف الإيمان فلابدّ أن يوجد الشرك. يقول عزّ من قائل: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ)(4)؛ فإيمان أكثر الناس يكون

ص: 250


1- . سورة التين، الآية 5.
2- . سورة البيّنة، الآية 6.
3- . سورة لقمان، الآية 13.
4- . سورة يوسف، الآية 106.

مشوبا بالشرك والسبب في ذلك هو ضعف إيمانهم. فكلّما قَوِي الإيمان ضَعُف الشرك وقلّ معه الرياء في العبادة.

فبعض الناس إنّما يقف إلى الصلاة كي يشاهده الآخرون! لكن ليس الجميع مرائين إلى هذا الحدّ. فبعضهم يصلّون بإخلاص، لكنّهم يفرحون إذا علم الآخرون بصلاتهم. وهذه أيضاً هي مرتبة من مراتب الشرك. فالخلوص في العبادة هو أن يكون الأمر بالنسبة للمرء سيّان، إنْ عَلِم الناس بصلاته أم لم يعلموا. فإذا أثّرت ردود أفعال الناس في سلوك المرء عُلِم حينئذ أنّه مبتلىً بمرتبة من مراتب الشرك.

كما أنّ للشرك مرتبةً اخرى ترتبط بالنيّة. فإنّنا نصلّي امتثالاً لأمر اللّه عزّ وجلّ؛ لكن لو قال اللّه لي: «الصلاة واجبة عليك، لكنّني لن اُدخلك الجنّة حتّى إذا صلّيت»! أو يقول: «حتّى إذا صلّيت فإنّني ساُدخلك النار» فهل سنصلّي عندئذ؟ فإذا كان جوابنا بالنفي، علمنا أنّنا لا نصلّي طاعة لأمر اللّه تعالى فقط، بل إنّ نيّتنا مشوبة بالخوف من العذاب أو الشوق إلى نيل الثواب وهذه أيضاً هي مرتبة من مراتب الشرك. فالنيّة الخالصة هي نيّة الإمام السجّاد (عليه السلام) إذ يقول: «لَئِنْ أَدْخَلْتَنِي النَّارَ لَأُخْبِرَنَّ أَهْلَ النَّارِ بِحُبِّي لَكَ»(1)و الذي يقول: «إِلَهِي... وَ عِزَّتِكَ وَ جَلَالِكَ لَوْ كَانَ رِضَاكَ فِي أَنْ أُقْطَعَ إِرْباً إِرْباً وَ أُقْتَلَ سَبْعِينَ قَتْلَةً بِأَشَدِّ مَا يُقْتَلُ بِهِ النَّاسُ لَكَانَ رِضَاكَ أَحَبَّ إِلَي».(2)

فالسبيل للوصول إلى أعلى درجة هيّأها اللّه للإنسان هي العبادة الخالصة: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّين)(3). فمن أجل بلوغ هذا المقام يتحتّم على الإنسان أن يتخلّص شيئاً فشيئاً من هذه الأشكال من الشرك الجليّ والظاهر كي يكتسب تدريجيّاً الاستعداد لاجتناب معانيه الأكثر ظرافة ليقول كما يقول عليّ (عليه السلام): «ما عبدتُك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنّتك لكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتُك»(4)، فهذا هو الدين الخالص.

ص: 251


1- . دعاء ابوحمزه الثمالي.
2- . بحارالأنوار ج:74 ص:26 حديث ليلة المعراج.
3- . سورة الزمر، الآية 11.
4- . بحار الأنوار، ج67، ص186.

بالطبع إنّما هي ألطاف عليّ (عليه السلام) وعناياته التي تعيننا على اجتناب الشرك؛ لكنّ السبيل الأساسيّة – على أيّة حال – هي أن يكون التفاتنا وتوجّهنا إلى اللّه وحده.

لا يليق للعبد إلا العبوديّة

إذا طُرح السؤال التالي: لماذا يتعيّن علينا ممارسة العبوديّة؟ فالجواب هو: لأنّنا عبيد. فإنْ لم يمارس العبدُ العبوديّةَ، فماذا سيصنع إذن؟ وإذا لم يعط المصباح النورَ فماذا سيفعل؟ فالإضاءة هي ذاتيّة للنور. فمتّى ما استطعنا الاستقالة من العبوديّة فليس من الضروريّ أن نمارسها بعدئذ، لكن ما دمنا عبيداً فلابدّ أن نعمل بمقتضى العبوديّة. والملفت هنا هو أنّ كمال عزّتنا مخبّأة في هذه العبوديّة وأن أقصى درجات اللذّة هي في العبوديّة. فقد كان المرحوم آية اللّه بهجت (رضوان اللّه تعالى عليه) يقول: «لو علم السلاطين ما في الصلاة من اللذّة لتركوا سلطانهم وهرعوا للصلاة». وقد أوصى المرحوم الميرزا حسن الشيرازيّ أن تُقضى عنه جميع صلواته. فاستفسر أحد المقرّبين منه عن علّة هذه الوصيّة فأجابه قائلاً: «أخشى أن تتنافى اللذّة التي كانت تنتابني أثناء الصلاة مع قصد القربة». إذن فإنّ لله أمثال هؤلاء العبيد أيضاً. لقد خلق اللّه هذا الدين كي نتعلّم طريق العبادة فنصل من خلالها إلى درجة القرب منه سبحانه وتعالى. إذن فالسبيل للقرب منه هو توحيده، وعدوّ هذا السبيل هو الشرك به. ومن هذا المنطلق تقول سيّدتنا الزهراء البتول (عليها السلام): «وَحَرَّمَ اللّهُ الشِّرْكَ إِخْلاصاً لَهُ بِالرُّبُوبِيَّة».

الشرك التشريعيّ

إنّ للشرك في الربوبيّة أنواعاً أحدها الشرك التشريعيّ. إذ يقول القرآن الكريم بخصوص اليهود والنصارى: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ)(1)؛ أي إنّ هؤلاء كانوا قد تورّطوا في مرتبة من مراتب الشرك بأن اتّخذوا علماءهم ورهبانهم أرباباً. وقد سُئل أبو عبد اللّه الصادق (عليه السلام) عن سبب سجود هؤلاء لعلمائهم فقال (عليه السلام) : «أما واللّه ما

ص: 252


1- . سورة التوبة، الآية 31.

دعوهم إلى عبادة أنفسهم ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم، ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً فعبدوهم من حيث لا يشعرون»(1). وهذا يُعدّ شركاً في الربوبيّة التشريعيّة. فالذي يسنّ قانوناً إلى جانب القانون الإلهيّ فهو مشرك، اللّهمّ إلاّ أن يكون سنُّه لهذا القانون بإذن اللّه تعالى. فقد جاء في الخبر أنّ اللّه قد فوّض لنبيّه الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وضع الكثير من الأحكام وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يسنّ تلك القوانين بنفسه. فأمثال هذه الموارد لا تُعدّ شركاً لأنّها تكون بتفويض وإذن من اللّه عزّ وجلّ. وكذا الحال إذا اُجيز الوليّ الفقيه بسنّ قانون مؤقّت في ظروف خاصّة فإنّه لا يُعدّ هذا من قبيل الشرك؛ ذلك أنّ الوليّ الفقيه مأذون من قبل المعصوم (عليه السلام) والمعصوم مأذون من قبل اللّه عزّ وجلّ؛ إذن فعمل الوليّ الفقيه هو بإذن اللّه أيضاً. وبناء عليه فلو انتخب الشعب بأكمله شخصاً لمنصب رئاسة الجمهوريّة فلن يتمتّع بالمشروعيّة ما لم ينصبه الوليّ الفقيه لهذا المنصب. ومن هذا المنطلق قال الإمام الراحل: «إذا أدلى جميع أفراد الشعب بأصواتهم لرئيس الجمهوريّة ولم ينصبه الوليّ الفقيه لهذا المنصب فهو طاغوت وطاعته محرّمة». فالحاكميّة والربوبيّة هي لله وحده؛ فإنْ أجاز تعالى لأحد من الناس بذلك اكتسب الأخير المشروعيّة، وإلا فلا: (قُلْ ءَاللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّه تَفْتَرُون)(2)؛ أي تفترون بالتحليل والتحريم من عند أنفسكم؟!

إذن فالتوحيد في العبادة هو السبيل الوحيدة المؤدّية إلى تلك المنزلة التي جعلها اللّه للإنسان؛ إذن لابدّ من الحذر من الشرك. ومن هذا المنطلق انطلقت مولاتنا الزهراء (عليها السلام) في قولها: «وَحَرَّمَ اللّهُ الشِّرْكَ إِخْلاصاً لَهُ بِالرُّبُوبِيَّة».

والسلام عليكم ورحمة اللّه

طاعة اللّه، حبل النجاة

(فَاتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، وَأَطِيعُوا اللّهَ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ وَابتَغُوا العِلْمَ وَتَمَسَّكُوا بِهِ فَإِنَّهُ إِنَّما يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ)

ص: 253


1- . بحار الأنوار، ج2، ص98.
2- . سورة يونس، الآية 59.

أمرُ فاطمة (عليها السلام) بالتقوى

بلغنا في بحثنا إلى آخر القسم الثاني من الخطبة حيث تستشهد فاطمة الزهراء (عليها السلام) فيه ببضع آيات من القرآن الكريم. الاستشهاد بهذه الآيات يعطي زخماً عمليّاً للعمل بهذه التعاليم والأوامر. فالمخاطَب قد يمرّ من أمام تلك الأوامر والتوجيهات مرور الكرام ولا يعيرها أيّة أهمّية، فلا يعدو الأمر بالنسبة له أكثر من مباحث قد ذُكرت لمجرّد الاطّلاع وقد استمع إليها. هذه الحالة أكثر ما تشاهَد لدى الأشخاص الذين تعوّدوا على التفلّت من القيود وكسر الأطواق، أو ما يُصطلح عليه اليوم ب- «التحرّر»، فهم يحرصون على أن لا يقيّد تحرّكاتِهم أيُّ قيد أو طوق! فلو اُعيد سرد هذه التعاليم والأوامر على أمثال هؤلاء عشر مرّات فلن تؤثّر فيهم أدنى تأثير، بل قد يملّون منها. فلا تكون هذه التعاليم والتوجيهات مؤثّرة إلا إذا وجد المخاطَب في نفسه الدافع للعمل بها. وبناء عليه فمن أجل أن يكون لهذه الكلمات أثرها المطلوب فلابدّ من الإشارة إلى ملاحظة تثير في النفوس هذا الدافع. فالإنسان لا يكون على استعداد لتقبّل ما يقيّد سلوكيّاته إلا إذا أحسّ أنّ خطراً عظيماً يهدّده إنْ هو امتنع عن القيام بذلك؛ بمعنى أنّ أعظم عامل من عوامل تحرّك الإنسان، خصوصاً ما يتعلّق بقبوله بتحجيم حركته وتقييدها، هو خوف الخطر. بل إنّ احتمال نيل المنفعة قد لا يكون له من أثر في الإذعان للتحديد والتقييد مثل ما للخشية من الضرر أو الخوف من الخطر. ومن هذا المنطلق فإنّ الطريقة الأنجع التي يستخدمها الأنبياء(عليهم السلام) في خلق الدافع لطاعة اللّه في الناس هي توجيه انتباههم إلى الأخطار؛ وبعبارة اخرى فإنّ الطريقة الأكثر اتّباعاً من قبل الأنبياء هي اعتماد الإنذار والتحذير، بل إنّ أحد الأسماء العامّة لكلّ نبيّ أساساً هو «النذير». إذ يقول اللّه في محكم كتابه العزيز: (وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ)(1)؛ أي إنّنا قد أرسلنا إلى كلّ اُمّة نبيّاً منذراً ليحذّرهم من الأخطار المحدقة بهم. بالطبع لقدكان كلّ نبيّ «بشيراً» أيضاً، لكنّ هذه التسمية لم تُستخدم للأنبياء بشكل مطلق. فلم يتمّ القول مثلاً: «وإن مِّن اُمّة إلاّ خلا فيها بشير». وهذا يدلّ على أنّ الإنسان يتأثّر من احتمال الخطر أكثر من تأثّره من رجاء المنفعة. بطبيعة الحال فإنّ العامل من وراء حركة الإنسان هو إمّا نيل منفعة أو دفع ضرر؛ لكنّ عامل دفع الضرر هو أقوى وأعمّ. فكلّ الناس – سواء كبيرهم أو

ص: 254


1- . سورة فاطر، الآية 24.

صغيرهم، رجلهم أو امرأتهم، فقيرهم أو غنيّهم - يحتاطون ويحذرون عندما يشعرون أنّ خطراً ما يتهدّدهم؛ أمّا المنفعة فعلى الرغم من أنّها تشكّل دافعاً للبعض لكنّها لا تمثّل دافعا قويّاً لدى البعض الآخر. ومن هذا المنطلق فنحن نجد في التعاليم والتربية الإسلاميّة أنّ هناك دوماً تركيزاً على مسألة التقوى. فالتقوى هي من مادّة الوقاية؛ وهي حفظ النفس من الخطر. وكلمة الحفظ – أساساً - إنّما تُستخدم حيث يشعر المرء بالخطر. فكأنّ كلمة التقوى تستبطن معنى الخشية والخوف. فنحن عندما نريد تفسير قوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً)(1) فسنستند في تفسيرنا أكثر على معنى الخوف فنقول: «خافوا من اليوم الذي لن يكون لأحد فيه نفع لآخر». بل إنّ البعض يترجم التقوى بمعنى: الخوف والخشية من اللّه.

الحِكَم من وارء الأمر بالتقوى

إنّ الركن الذي ترتكز عليه جميع الخطب هو الأمر بالتقوى، فلابدّ في خُطبتي صلاة الجمعة مثلاً من الأمر بالتقوى. وهذا التأكيد يرجع إلى أنّ الإنذار من الخطر يُعدّ أهمّ عامل في خلق الدافع للحركة لدى الإنسان. بالطبع إنّ الإنسان المؤمن والموحّد يعلم أنّ جميع الأخطار إنّما تنبع من القدرة الإلهيّة وأنّ التصرّف فيها جميعاً هو بيد اللّه تعالى؛ ومن هذا المنطلق يُقال: «اتّقوا اللّه». فكأنّ الصدّيقة الطاهرة (عليها السلام) وبعد أن بيّنت عصارة تعاليم الإسلام أرادت أن تحفّز في نفوس المخاطَبين الدافع للعمل بهذه التعاليم فأشارت في آخر مقطع من كلامها إلى هذه الآية الشريفة حيث قالت: (فَاتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)(2).

كما أنّه من السنن الاخرى المتّبعة في الإسلام هي أن يتلو الخطيب أثناء الخطابة وموعظة الناس آية من الذكر الحكيم. فعندما خطبت السيّدة الزهراء (عليها السلام) هنا في الناس، وبيّنت في خطبتها عصارة الإسلام، تلت في ختام هذا المقطع من الخطبة آية قرآنيّة، فهي بذلك تكون قد تلت القرآن أوّلاً، وحرّكت في نفوس الناس ذلك الدافع ثانياً، وراعت سنّة الأمر بالتقوى ثالثاً.

ص: 255


1- . سورة البقرة، الآيتان 48 و 123.
2- . سورة آل عمران، الآية 102 (بالطبع الآية الشريفة هنا حسب ما جاءت في سياق الخطبة وإلا فهي من دون الفاء في أوّلها).

اعلموا واعملوا

بعد أن يجد الإنسان في نفسه الدافع للقيام بعملٍ مّا فلابدّ له من دليل وهادٍ؛ أي شخص يدلّه على مواطن الخطر. ولعلّ هذا هو ما يعلّل إلحاق الزهراء (عليها السلام) ذكر الآية السابقة بقولها: «وَأَطِيعُوا اللّهَ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ»؛ أي: الآن وقد تولّد فيكم الدافع، ويفترض أنّكم ترغبون في أن تكونوا من أهل التقوى وتصونوا أنفسكم من المخاطر فإنّ السبيل إلى ذلك هو أن تمتثلوا لأوامر اللّه ونواهيه، وفي هذه الحالة ستصونون أنفسكم من الأخطار. ومن المناسب أن يُطرح هنا السؤال التالي: بماذا أمر اللّه تبارك وتعالى وعن ماذا نهى؟ إذن فبعد تحفيز الدافع للعمل والوقاية من الخطر لابدّ أن نعلم ما هي أوامر اللّه تعالى ونواهيه(1). تقول الزهراء (عليها السلام) هنا: «وَابتَغُوا العِلْمَ وَتَمَسَّكُوا بِهِ فَإِنَّهُ إِنَّما يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ»؛ وكأنّها أردات القول: «اعلموا واعملوا به»، بل إنّها تشير إلى جانب العمل بمزيد من التأكيد بقولها: «وتمسّكوا»؛ وهو تعبير يقال للإمساك بإحكام فيما يُخشى فقدانه وضياعه. فالتمسّك والاستمساك والاعتصام هي اصطلاحات لها نفس المعنى والمفهوم وإنّ مصداقها البارز يكون عندما يحسّ المرء أنّه على وشك السقوط في بئر أو وادٍ سحيق فيجد حبلاً متيناً أو عروة محكمة إذا أمسك فيها بقوّة حالَ ذلك بينه وبين السقوط. فهذه الحالة هي حالة الاعتصام، حيث يقول عزّ من قائل: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً)(2)، وهذه الآية تجسّم عين هذا المعنى تجسيماً؛ ومعناها أنّ اللّه قد أعدّ حبلاً يقي التمسّكُ به من السقوط في وادي جهنّم. فالاعتصام بحبل اللّه يعني إمساكه بقوّة. وشبيه بهذا التعبير ما جاء في آية الكرسيّ حيث قال تعالى: (فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا)(3)؛ فعندما يريد اللّه عزّ وجلّ أن يؤكّد على الحذر، ومجانبة الكفر، والكون من أهل الإيمان فإنّه يقول: «إذا فعلتم ذلك تكونون قد

ص: 256


1- . هنا يوجد اختلاف بسيط بين نسخ الخطبة الشريفة؛ فقد وردت في بعض النسخ عبارة: «واتّبعوا العلم»، لكنّه يبدو لي أنّ النسخة التي تضمّنت عبارة: «وابتغوا العلم» أصحّ.
2- . سورة آل عمران، الآية 103.
3- . سورة البقرة، الآية 256.

تمسّكتم بالعروة الوثقى»؛ بمعنى أنّه يفترض أن يفتّش الإنسان عن العروة الوثقى، ولا يمكن فرض حال كهذه إلا عندما يحسّ المرء بالخطر المحدق ويحتمل السقوط المهلك؛ السقوط إلى أسفل السافلين وأعماق جهنّم. وكأنّ اللّه يقول بذلك: هل ترغبون في أن أدلّكم على طريقة للتمسّك بقوّة بشيء ينجيكم من هذا السقوط؟ وهو أن تكفروا بالطاغوت أوّلاً، وأن تؤمنوا باللّه ثانياً. إنّه - من الناحية العمليّة - لابدّ من الاثنين معاً لكن لمّا كان الكفر بالطاغوت ينطوي على إزالة الفساد والرجس والظلمات فإنّه مقدّم على الإيمان باللّه. يقول اللّه تعالى: «إذا فعلتم ذلك تكونون قد تمسّكتم بعروة بالغة الوثاقة والإحكام»؛ فكلمة «الوثقى» هي صفة تفضيل للمؤنّث تعني الشيء الأوثق والأكثر مدعاة للاطمئنان، و«العروة الوثقى» هي المقبض الذي لا ينكسر أو لا ينفصم إطلاقاً. فاطمئنّوا إلى أنّ هذا الحبل لن يتمزّق أو يفلت أبداً. وكذا فقد قال النبيّ الأعظم في حقّ القرآن والعترة الطاهرين(عليهم السلام) : «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا»(1)؛ فقد استخدم كلمة التمسّك هنا أيضاً؛ ومعناه إنّكم لو تمسّكتم بهذين الأمرين ولم تفلتوهما فلن تضلّوا أبداً. لكنكّم إن لم تمسكوهما بإحكام فإنّكم ستُتركون وشأنكم. وتقول مولاتنا الزهراء في هذا المقام: «وَابتَغُوا العِلْمَ وَتَمَسَّكُوا بِهِ»؛ أي اذهبوا وتعلّموا ما أوجب اللّه عليكم من امور وما حرّم فإن علمتم بذلك فتمسّكوا بما علمتم به بكلّ قوّة.

العلم ممهّد لخشية اللّه

الآية الأخيرة التي ذكرتها الزهراء (عليها السلام) في هذا المقطع هي قوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ)(2)؛ أي: إنّني أذكر هذه التوجيهات والتعليمات هنا لأنّ خشية اللّه لا تحصل إلا في ضوء العلم. ولقد ذكرنا في بداية البحث أنّ الدافع للعمل يكون في ظلّ الإحساس بالخطر، والخوف، والخشية من اللّه. فإنّ هذا القدر من التأكيد على الخوف من اللّه هو من أجل أن يشعر الإنسان بأنّه إذا لم يطع اللّه عزّ وجلّ فسوف يعرّض نفسه للخطر

ص: 257


1- . بحار الأنوار، ج2، ص100.
2- . سورة فاطر، الآية 28.

وذلك كي يتولّد لديه الدافع لحماية نفسه. ومن هذا المنطلق يقول القرآن الكريم: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)(1). إذن يتعيّن على الإنسان أن يحفظ هذا الخوف وهذه الخشية ويقوّيهما في نفسه كي ينهض لطاعة اللّه. فإنّه لن ينهض لطاعة اللّه ويقبل بنصيحة الآخرين مالم يحسّ بالخطر يتهدّده، وهذا الإحساس بالخطر يدعى «الخشية» وهي ما يتولّد في ظلّ العلم: «إِنَّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ»، فمن أجل حصول هذه الخشية من اللّه لابدّ من اكتساب العلم.

وهنا ينتهي هذا القسم من الخطبة الشريفة. فإنْ وفّقنا اللّه تعالى فسنبدأ في المحاضرة القادمة – إن شاء اللّه – بطرح القسم الثالث من هذه الخطبة وهو مقصدها الأساسيّ.(2)

فاطمة (عليها السلام) تعرّف نفسها

نحن مستمرّون في بحثنا حول خطبة سيّدتنا فاطمة الزهراء (عليها السلام) حيث إنّ ذكر كلامها (عليها السلام) مطلوب من كلّ النواحي؛ إذ أوّلاً: إنّ كلامها هو نور بحدّ ذاته: «كلامكم نور».(3) ثانياً: إنّ من مقتضيات قاعدة المحبّة أن يُلِمّ المحبّ بما وصل إليه من كلام محبوبه ويحاول فهمه بشكل أفضل والاستفادة من مضامينه. ثالثاً: مضامين هذا الكلام تنير لنا نحن البشرَ دربَ الحياة، وتوضّح لنا معالم الطريق إلى السعادة الأبديّة، وهي الدواء الأنجع لعلاج أمراضنا الاجتماعيّة، فعلينا الإفادة من هذا الكلام وأن نولي اهتماماً كافياً بتوجيهات أهل البيت (عليهم السلام) وتعاليمهم.

ص: 258


1- . سورة النازعات، الآيتان 40 و 41.
2- . دروس الاخلاق المصباح الیزدی.
3- . زيارة الجامعة الكبيرة، بحار الأنوار، ج99، ص131.

هذه التي تتكلّم معكم هي فاطمة (عليها السلام)

(أَيُّهَا النَّاسُ! اعْلَمُوا أَنِّي فَاطِمَةُ وَأَبِي مُحَمَّدٌ (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، أَقُولُ عَوْداً وَبَدْءاً (عوداً على بدء)، وَلا أَقُولُ مَا أَقُولُ غَلَطاً، وَلا أَفْعَلُ مَا أَفْعَلُ شَطَطاً. (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)،(1) فَإِنْ تَعْزُوهُ وَتَعْرِفُوهُ تَجِدُوهُ أَبِي دُونَ نِسَائِكُمْ، وَأَخَا ابْنِ عَمِّي دُونَ رِجَالِكُمْ، وَلَنِعْمَ الْمَعْزِيُّ إِلَيْهِ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ، صَادِعاً بِالنِّذَارَةِ، مَائِلاً عَنْ مَدْرَجَةِ الْمُشْرِكِينَ، ضَارِباً ثَبَجَهُمْ، آخِذاً بِأَكْظَامِهِمْ، دَاعِياً إِلَى سَبِيلِ رَبِّهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة».(2)

فبعد حمد اللّه تعالى والثناء عليه وذكر آلاء هدايته التي منّ بها على الناس بواسطة نبيّه الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإشارة إلى أهمّ العناوين التي جاءت في تعاليم هذا النبيّ، تصل (عليها السلام) إلى القسم الثاني من الخطبة حيث توجّه خطابها إلى الناس مباشرة معرّفة نفسها في بادئ الأمر. وهذه القضيّة تحوز أهمّية من جهات مختلفة، وما علينا - من أجل الوقوف على أهمّيتها – إلا أن نتصوّر الموقف والأجواء التي اُلقيت فيها الخطبة ونجسّم المشهد بدقّة.

فالقضيّة أنّ هناك نبيّاً قد عاش في قومٍ مدّة 23 سنة تحمّل خلالها من المصائب والمحن الكثير. ففي فترة سكناه في مكّة، التي هي مسقط رأسه ووطنه الأصليّ، قد حُوصِر خلال عدد من السنين في وادٍ حتّى أنّ الماء والخبز لم يكن يصل إليهم إلا بشقّ الأنفس. ثمّ هاجر بعدها إلى المدينة المنوّرة حيث وجد أنصاراً. وشيئاً فشيئاً بدأ عدد المسلمين بالتزايد حتّى وصل حدّاً مكّنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من تشكيل مجتمع وتأسيس دولة. وقد انقضت على هذه الدولة سنوات تخلّلتها الحروب والنزاعات مع المخالفين من أمثال مشركي مكّة، واليهود، والنصارى، وغيرهم. وخلاصة الأمر فقد انقضت تلك السنوات الثلاث والعشرين على النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حاملة معها مختلف صنوف العذاب والمحن حتّى نُقل عنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قوله: «ما اُوذِي نبيّ مثل ما أوذيتُ».(3) الآن وقد رحل هذا النبيّ عن هذه الدنيا ولم يمض على مواراة جسده الثرى غير

ص: 259


1- . سورة التوبة، الآية 128.
2- . بحار الأنوار، ج29، ص223 - 224.
3- . بحار الأنوار، ج39، ص55.

بضعة أيّام ولم يخلّف من ذكرىً له غير بنت وحيدة. وقد طرق أسماعنا - بشكل أو بآخر – أنّه من حضيض أيّ ذلّ إلى ذُرى أي عزّ قد نُقل الناس في ذلك العصر بجهود هذا النبيّ الإلهيّ. فمولاتنا (عليها السلام) تكرّس جانباً من هذه الخطبة الشريفة لتوضيح هذا الموضوع كي يتهيّأ الناس ولو قليلاً لسماع ما تقوله، ويعوا أنّهم أمام مَن يقفون ومَن هو المتحدّث إليهم.

فلئلاّ يزعم زاعم فيما بعد قائلاً: «إنّنا لم نكن نعلم مَن هو المتحدّث، ولم نسمع سوى امرأة كانت تتكلّم من وراء ستار؛ ولذا لم نكترث للأمر كثيراً» فقد انبرت الزهراء (عليها السلام) بادئ ذي بدء إلى التعريف بنفسها قائلة: «أَيُّهَا النَّاسُ! اعْلَمُوا أَنِّي فَاطِمَةُ»؛ أيّها الناس! افهموا وعُوا مَن الذي يتحدّث إليكم؟ إنّها البنت الوحيدة التي خلّفها ذلك النبيّ الذي بذل جهوداً جبّارة لهدايتكم وعانى أشدّ المعاناة لأجلكم. إنّها تلك المرأة التي لا يضاهيها أحد في الاهتمام بالهدف الذي كان يصبو إليه أبوها والجهود المضنية التي بذلها في هذا الطريق وهي تريد أن تقتفي أثره وتسلك سبيله. إنّها الشخص الذي كان النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يحرص طوال حياته على أن يعرّفه لكم بشتّى السبل والوسائل، حتّى قال: «فاطمةُ بَضعَة منّي»؛(1) «إنّ اللّه تعالى يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها».(2) ففاطمة اليوم هي التي تتحدّث إليكم. ثمّ تقول: «وَلا أَقُولُ مَا أَقُولُ غَلَطاً» فما أقوله هو عين الصواب والحقيقة، «وَلا أَفْعَلُ مَا أَفْعَلُ شَطَطاً»؛ أي حاشا أن أفعل شيئاً عبثاً أو جزافاً، ففعلي يوافق الحكمة وأوامر اللّه والعقل موافقة كاملة.

لقد فعلت الزهراء (عليها السلام) بهذا التعريف فعلةً من شأنها أن تثير لدى مَن كان لا يعرفها من الحضور – هذا على فرض وجود مثل هذا الشخص – الإعجاب بكلامها وتدفعه - على أقلّ تقدير - إلى التحقيق في أمرها. وهذه هي أفضل السبل لإتمام الحجّة على الناس.

فاطمة (عليها السلام) بنت أشدّ الأنبياء رأفة ورحمة

مع بالغ الأسف فإنّ الدافع الذي دفع فاطمة الزهراء (عليها السلام) إلى بيان هذه الامور لم يُعرف كما ينبغي حتّى بين محبّيها. فلم يكن دافعها (عليها السلام) من ذلك يختلف عن دافع النبيّ الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في

ص: 260


1- . بحار الأنوار، ج21، ص279.
2- . عيون أخبار الرضا ، ج2، ص46.

إبلاغ الرسالة؛ فقد كان قلبه يحترق ألماً على كلّ فرد من أفراد قومه وكان شديد الحزن بسبب انتهاجهم سبيل الضلال وعدم نيلهم للسعادة! وعدم تشخيصهم لجادّة الحقّ! وسلوكهم سبيل الاعوجاج الذي يقودهم إلى عذاب أبديّ! فقد كان قلبه يتفطّر ألماً وشفقة عليهم حتّى خاطبه الباري المتعال بقوله: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ءَاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً)؛(1) أي: أتريد أن تُهلك نفسك غمّاً وحزناً لأنّهم لم يؤمنوا بهذا الحديث؟! فاللّه تبارك وتعالى يسلّي نبيّه الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؛ فهو (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مظهر رحمة اللّه الواسعة؛ وقد كان ينتابه الغمّ ويعتصره الألم إلى الحدّ الذي يقول اللّه سبحانه له: «إنّنا نحبّ أن تتألّم لذلك، لكن ليس إلى هذا الحدّ. أتريد أن تُهلك نفسك بسبب عدم إيمانهم»؟! إذن هذا هو الدافع الذي كان يدفع النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى دعوة الناس إلى الإسلام. وقد استهلّت فاطمة الزهراء (عليها السلام) خطبتها بذكر هذه الميزات التي امتاز بها النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كي تقول للناس: إنّني ابنة ذلك النبيّ؛ فإنْ أنا خاطبتكم فلأنّ قلبي مشفق عليكم، فلا أريد أن تضلّوا، بل أودّ أن تعرفوا الحقّ وتنالوا سعادة الدنيا والآخرة». وهذا هو ما قادها إلى تلاوة هذه الآية الكريمة: (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ).(2) فإنّ من الآداب الإسلاميّة أن تُتلى في الخطبة آيات من الذكر الحكيم. لكن لماذا اختارت (عليها السلام) هذه الآية بالذات؟ لقد اختارتها لتذكّر الناس بأنّهم أيَّ رجلٍ قد فقدوا، وأنّني الذكرى الوحيدة التي خلّفها فيكم، والتي تؤمن بالهدف الذي بُعث (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من أجله أكثر من أيّ شخص آخر، وتصرّ على اقتفاء أثره. وهذه الملاحظة لجديرة بالاهتمام حقّاً؛ فهذه الآية تنبّهنا إلى هذه القضيّة وهي: أيّ نعمة عظيمة قد منّ اللّه بها علينا وأيّ أثر كبير لهذه النعمة على عواقب اُمورنا. فإنّ معظم أشكال الانحراف وأنماط الضلال هي نتيجة لنسيان أنعم اللّه علينا وكفرانها. إنّه يتعيّن علينا أن نستلهم من نفس هذه الملاحظات العِبَر والدروس فنتفكّر فيما وهبنا اللّه تعالى في عصرنا من الآلاء، وكيف أنّ بعض الجاحدين قد أنكروا تلك النعم فهم يتعاملون معها وكأنّهم لم يشاهدوها ولم يعرفوها فهم لا يبادرون إلى شكرها.

ص: 261


1- . سورة الكهف، الآية 6.
2- . سورة التوبة، الآية 128.

على أيّة حال، فالآية تقول: أيّها الناس! افهموا وعوا أنّه قد جاءكم نبيّ هذه صفاته: فهو من أنفسكم وليس هو غريباً عنكم لا يعرف أحوالكم ولا يفهمكم. يشقّ عليه كثيراً أن ينالكم أيُّ ألم أو عذاب. أجل، لابدّ أن نعلم أنّه ما من فرد من هذه الاُمّة الإسلاميّة – سواء أكان في زمان الرسالة، أو في زماننا الحاضر أو في المستقبل – تصيبه محنة أو شدّة إلاّ ويحزنُ عليه نبيّنا الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حزن الأب على مصيبة ولده بل وأشدّ بمئات المرّات. بل إنّ النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يتألّم حتّى على حال المشركين؛ اولئك الذين عادوه بكلّ نذالة ولم يراعوا في حقّه أبسط قواعد الأخلاق والإنسانيّة. فأيّ قلب يستطيع أن يقاسي كلّ تلك المآسي والآلام ويتحمّل كلّ تلك المشاقّ والصعاب؟! نحن لا نستطيع بحال من الأحوال أن ندرك مدى الألم والعذاب الذي كان يقاسيه نبيّنا الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم). فاللّه عزّ وجلّ يقول له: «أتريد أن تُهلك نفسك»؟! إذن فاللّه وحده يعلم أيّ معاناة قد عاناها النبيّ، وهو جلّ وعلا - من هذا المنطلق - يسلّيه ويواسيه في القرآن بين الحين والآخر. تقول الزهراء (عليها السلام): هذه هي الصفة الاولى التي كان يتحلّى بها أبي.

أمّا صفته الثانية فهي أنّه كان يحرص أشدّ الحرص على هدايتكم: «حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ». فبعض الناس عندما يُعهد إليهم بمهمّة فإنّهم ينجزون منها بمقدار ما تمليه عليهم مسؤوليّتهم فحسب ثمّ يتركونها. أمّا الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلم يكن هكذا، فاللّه قد أرسل نبيّه برسالة إلى جميع البشر وكانت وظيفته تتلخّص في إبلاغ تلك الرسالة بشكل شفّاف وبليغ وواضح وعلى أتمّ وجه إلى المرسَل إليهم. لكنّ النبيّ قد أنفق كلّ عمره الشريف في سبيل أن يكون لهذه الرسالة أقصى درجات التأثير في اُمّته. كان حريصاً على أن تطبَّق هذه الأوامر الإلهيّة حتى يصبح الناس من أصحاب الجنّة ويُنتشَلون من نار جهنّم.

وأمّا الصفة الثالثة لأبي الزهراء (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهي رأفته ورحمته الشديدة بالمؤمنين. فعندما كان يؤمن قوم به ويجيبون دعوته كانت تغمر قلبَه تجاههم محبّة خاصّة فكان يعينهم ويساعدهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

فاطمة (عليها السلام) تذود عن الولاية

تقول مولاتنا الزهراء (عليها السلام) : «فَإِنْ تَعْزُوهُ وَتَعْرِفُوهُ تَجِدُوهُ أَبِي دُونَ نِسَائِكُمْ»؛ إذا كنتم تعرفون أبي وأهل بيته فستعلمون أنّه أبي وأنّني ابنته، فهو لم يكن أباً لأيّ واحدة من نسائكم.

ص: 262

فأنا الوحيدة التي تربطني مع هذا النبيّ نسبة البنوّة. وهي (عليها السلام) هنا تُلفت أيضاً إلى ملاحظة تريد أن تتناولها بمزيد من التفصيل في آخر الخطبة. ثمّ تقول: «وَأَخَا ابْنِ عَمِّي دُونَ رِجَالِكُمْ»؛ وإن كنتم تعرفون أبي فستعلمون أنّه أخو ابن عمّي وليس من بين رجالكم مَنْ تربطه به هذه القرابة، فعليٌّ فقط هو أخو الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم). بالطبع عندما يكون شخص ابن عمّ لشخص آخر يكون الثاني ابن عمّ الأوّل بالضرورة؛ لكنّ الزهراء تقول هنا: «النبيّ هو أخو ابن عمّي»، فالناس يعلمون أنّ النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عندما آخَى بين المسلمين اتّخذ عليّاً (عليه السلام) أخاه وقد كان عليّ (عليه السلام) معروفاً بين الناس بأنّه أخو النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

أمّا قصد فاطمة (عليها السلام) من ذكر كلّ هذه الامور وطرح كلّ هذه البحوث فهو إثبات حقّانيّة وإمامة عليّ (عليه السلام) أمام الملأ. فهذه الالتفاتة تدلّ على براعة استهلال لهذا المقصود. فهي تشير إلى هذه النقاط منذ البداية كي يفهم الناس مَن هو المتحدِّث إليهم أوّلاً، وأيّ موضوع سيطرحه عليهم ثانياً. ولهذا فهي تلمّح منذ هذه اللحظة بأنّ بحثنا يرتبط بابن عمّي عليّ (عليه السلام).

أشفَق هادٍ

وَلَنِعْمَ الْمَعْزِيُّ إِلَيْهِ (صلی اللّه عليه وآله وسلم). فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ، صَادِعاً بِالنِّذَارَةِ، مَائِلاً عَنْ مَدْرَجَةِ الْمُشْرِكِينَ، ضَارِباً ثَبَجَهُمْ، آخِذاً بِأَكْظَامِهِمْ، دَاعِياً إِلَى سَبِيلِ رَبِّهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة؛ تقول البتول (عليها السلام): إنّني أنسب نفسي إليه ونعم المنسوب إليه. فأنتم تعلمون أنّ هذا النبيّ لم يقصّر قيد أنملة في أداء التكليف. فهو الذي رفعكم من أخسّ وأحقر مراتب الحياة الاجتماعيّة إلى أوج العزّة والكرامة. وهو الذي قرن رسالته بالإنذار. فإنّ التنبيه إلى العواقب الوخيمة للعمل السيّئ في مقام الهداية لهو أكثر تأثيراً من التذكير بمنافع تركه. فمن أجل الوقوف أمام ظاهرة التدخين في المجتمع – على سبيل المثال – يمكن أن نقول: «توقّف عن التدخين كي تحافظ على بدنك سالماً نشيطاً»، فهذه طريقة من طرق الدعاية لمنع التدخين. أمّا الطريقة الاخرى فهي أن نقول: «إنّ من جملة مضارّ التدخين هي الإصابة بالسرطان، وأمراض جهاز التنفّس، واختلالات الجهاز الهضميّ». فتأثير الطريقة الثانية يفوق تأثير الاولى بكثير. ومن هنا فقد كان الأنبياء يولون الإنذار أهمّية بالغة. وهذه الطريقة

ص: 263

يطلق عليها «الإنذار». تقول الزهراء (عليها السلام) : عندما صدح النبيّ بالرسالة وأظهرها قرن إبلاغها بالإنذار والتحذير كي يكون أثرها في الناس أكبر ولئلاّ يتورّطوا بما تورّط به المشركون من سوء العاقبة. فلقد تذرّع (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بكلّ وسيلة ممكنة لإبلاغ الرسالة. فالمرء إذا أراد تحريض أحد للقيام بعمل مّا فإمّا أن يدفعه مِنْ خلفه أو يسحبه مِنْ ثيابه من أمامه. فلقد استخدم النبيّ كافّة السبل والوسائل المتاحة في الهداية ولم يألُ أيّ جهد في ذلك، فقد استنفر كلّ إمكاناته من أجل هدايتكم إلى سواء السبيل وإنقاذكم من الهلكات. وكانت طريقته هي ذات الطريقة التي أمره القرآن الكريم بها بقوله: (ادْعُ إِلَى سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة)؛(1) فقد كان يدعو الناس بالحكمة وبما هو يقينيّ وقطعيّ من الامور، وعبر وعظهم وإرشادهم، إلى الطريق التي رسمها اللّه تعالى له.

فذكر هذه الامور هي بمثابة المقدّمة كي يتذكّر الناس ما قدّمه النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من خدمات وليعلموا ما للنبيّ من حقّ عليهم، وأنّ التي تتحدّث الآن إليهم هي امرأة قد آلت على نفسها إلاّ أن تواصل هذا الدرب، وتهدي الناس إليه، وهي المشفقة عليهم إذ تراهم يزيغون عن الطريق التي رسمها لهم نبيّهم، وينسون ما حباهم اللّه عزّ وجلّ من الهداية بواسطة سيّد المرسلين محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم).

فاطمة (عليها السلام) تحصي خدمات الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

يَكْسِرُ الأَصْنَامَ، وَيَنْكُثُ الْهَامَ، حَتَّى انْهَزَمَ الْجَمْعُ وَوَلَّوُا الدُّبُرَ، حَتَّى تَفَرَّى اللَّيْلُ عَنْ صُبْحِهِ، وَأَسْفَرَ الْحَقُّ عَنْ مَحْضِهِ، وَنَطَقَ زَعِيمُ الدِّينِ، وَخَرِسَتْ شَقَاشِقُ الشَّيَاطِينِ، وَطَاحَ وَشِيظُ النِّفَاقِ، وَانْحَلَّتْ عُقَدُ الْكُفْرِ وَالشِّقَاقِ، وَفُهْتُمْ بِكَلِمَةِ الإِخْلاصِ فِي نَفَرٍ مِنَ الْبِيضِ الْخِمَاصِ، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ، مُذْقَةَ الشَّارِبِ، وَنُهْزَةَ الطَّامِعِ، وَقَبْسَةَ الْعَجْلانِ، وَمَوْطِئَ الأَقْدَامِ، تَشْرَبُونَ الطَّرْقَ، وَتَقْتَاتُونَ القَدَّ، أَذِلَّةً خَاسِئِينَ، تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِكُم.

ص: 264


1- . سورة النحل، الآية 125.

بلغنا في شرحنا للخطبة المباركة لسيّدتنا الزهراء (عليها السلام) إلى حيث وجّهت (عليها السلام) خطابها إلى الحاضرين معرّفة بنفسها. ويتبيّن من القرائن أنّ الناس كانوا قد اُعلموا مسبقاً بأنّها (عليها السلام) تهمّ بالمجيء إلى المسجد وتريد أن تخطب في الناس. ولقد اجتمع الناس ينتظرون قدومها. وحتّى النساء فقد كنّ مجتمعات خلف الستار إلى جانبها أيضاً. لكنّ الزهراء (عليها السلام) عندما بدأت بتوجيه الخطاب إلى الحضور قالت: «أَيُّهَا النَّاسُ! اعْلَمُوا أَنِّي فَاطِمَةُ وَأَبِي مُحَمَّدٌ (صلی اللّه عليه وآله وسلم)...».

لقد تمّ في ترتيب أقسام الخطبة وتسلسلها مراعاة ملاحظات تتعلّق بعلم النفس هي غاية في الدقّة واللطافة وإنّ مَن يحمل خبرة في هذه المسائل يستطيع أن يدرك رموز هذه الكلمات وسرّ هذا الترتيب أكثر من غيره.

فاطمة (عليها السلام) مولعة بهداية الخلق

كان غرض الزهراء(عليها السلام) من إلقائها هذه الخطبة هو إنقاذ الناس ممّا وقعوا فيه من خطأ؛ ذلك الخطأ الذي لا ريب أنّ الشيطان كان دخيلاً فيه، بل كان لبعض الأشخاص أيضاً أثر في إضلال الناس بشكل أو بآخر، خصوصاً وأنّ نصّ القرآن الصريح يشير إلى وجود منافقين بين صفوف المسلمين آنذاك. فلقد أحسّت فاطمة الزهراء (عليها السلام) خلال الأيّام القليلة التي بقيت فيها على قيد الحياة بعد أبيها (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنّه ثمّة واجب في رقبتها ويتعيّن عليها أداؤه ومحاولة توضيح ما اشتبه على الناس على الرغم من أنّها كانت تمرّ في طور نقاهةٍ من المرض. ومن هذا المنطلق فقد انْبَرَت (عليها السلام) بادئ ذي بدء تعرّف الناس بمقام الرسول الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتذكّرهم بالجهود المضنية التي تجشّمها (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في سبيل هداية الناس، لاسيّما أهل الجزيرة العربيّة.

علينا أن لا ننسى النعم

تذكّر فاطمة الزهراء (عليها السلام) الناسَ بهذه القضيّة وهي أنّه من أيّ حضيض وذلّة كان خاتم الأنبياء (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد انتشل الناس خلال مدّة رسالته وإلى أيّ عزّ ومجد قد رفعهم. لكنّ الناس كانوا يعلمون بما قاساه النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من معاناة في هذا المضمار؛ ذلك أنّه لم يكن قد مرّ على بعثته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ورحيله زمن طويل. بل من المؤكّد أنّ جيل الشباب أيضاً لم يكن غائباً عن

ص: 265

مجريات الأحداث التي واكبت نشوء المجتمع الإسلاميّ الحديث الوجود وما تحمّله آباؤهم وامّهاتهم من متاعب ومشاقّ كي يصل هذا المجتمع إلى ما هو عليه. غير أنّ الإنسان كثير النسيان وهو عندما ينسى أمراً يصبح كالذي لا يعلم به أساساً. فأحياناً يعلم الإنسان ببعض الاُمور ويلتفت إلى ما يعلم به ويفكّر به عن علم ووعي وإدراك، بيد أنّ غبار النسيان - أحياناً اخرى - يتراكم على معلومات المرء ويغطّيها. فإذا سُئل الإنسان - في مثل هذه الحالة - عمّا يعلم به فإنّه يستطيع الإجابة لكنّ علماً كهذا ليس له ذلك الأثر المطلوب على تصرّفات المرء وسلوكيّاته.

كانت أحداث صدر الإسلام وما أسمعه عنها تشكّل لغزاً بالنسبة لي منذ طفولتي؛ فكيف يتسنّى لاُناس حضروا مجالس النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وجلسوا عند منبره، وقاتلوا معه لسنين عديدة - كيف يتسنّى لهم أن يعاملوا البنت الوحيدة التي تركها فيهم هذا النبيّ بمثل هذه المعاملة؟! أو كيف يمكن - مع كلّ ما أوصى به النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - أن تحدث واقعة كربلاء، ويعامل المسلمون سبطَ رسولهم بهذه الفظاعة ولم يكن قر مرّ على رحيل النبيّ الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عهد طويل؟! في الواقع لم يكن بمقدوري أن أتصوّر أنّ شيئاً كهذا يمكن أن يحدث، حتّى انطلقت نهضة الإمام الخمينيّ الراحل (قدس سره). فعند مشاهدتي لمجريات الأحداث التي رافقت الثورة انحلّت بالنسبة لي معظم الألغاز وأدركت الى أيّ مدىً أنّ الإنسان كائن كثير النسيان حقّاً.

وعلى أيّة حال فما من سبيل لإيقاظ مثل هذا الشخص وإخراجه من حالة النسيان سوى سرد قصص الماضي وأحداثه على مسامعه وتذكيره بها كي يتحفّز في نفسه الدافع. فالعرب قد شاهدوا الوضع الذي كانوا عليه قبل الإسلام باُمّ أعينهم وأنّه إلى أيّ ذرىً من العزّة والشرف قد وصلوا ببركة الإسلام وبفضل قيادة نبيّ الإسلام (صلی اللّه عليه وآله وسلم). إذن كانوا يعلمون بذلك لكنّهم غافلون عنه.

لائحة بخدمات رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

تستعرض الزهراء (عليها السلام) هنا لائحة تضمّ بعض خدمات الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فتقول: «لقد منّ اللّه عليكم إذ أعزّكم بأبي». وهي (عليها السلام) تقتبس هذا الاسلوب في البيان من القرآن الكريم وتكثر من الاستشهاد بآيات الذكر الحكيم. فلقد استُخدم هذا الاسلوب في القرآن الكريم

ص: 266

بكثرة؛ إذ يقول عزّ من قائل في الآيتين 24 و25 من سورة الأنفال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّٰهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَينْ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) . فبعد أن تطرح الآيةُ موضوعَ طاعة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنّ طاعته مدعاة لحياة الإنسان، يتحوّل الكلام إلى لهجة التهديد بقوله تعالى: إذا خالفتم النبيّ فستتورّطون بفتنة عظيمة. ثمّ يتابع عزّ وجلّ فيقول من أجل أن يغرس في نفوس الناس الدافع لطاعة النبيّ: (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)؛(1) فلقد كنتم كالحمائم التي تخاف أن تتخطّفها الصقور حتّى آواكم اللّه ونصركم ورزقكم من الطيّبات، كلّ ذلك حتّى تشكروا أنعمه ومِنَنه عليكم. فعندما يقول الباري تبارك وتعالى: «لقد مننّا عليكم بهذه النعم حتّى تشكروا» فهو يريدنا أن نشكر كي نبلغ الكمال فنحظى بأهليّة نيل المزيد من الرحمات، فاللّه سبحانه وتعالى لا يناله من شكرنا نفع ولا يصيبه من كفرنا ضرر.

وكأنّ كلمات الزهراء (عليها السلام) جاءت تفسيراً لهذه الآيات، فهي تقول: لقد كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مولعاً بهداية الناس حتّى كأنّه كان يدفع الناس من خلفهم ويسحبهم من أمامهم؛ أي كان يبذل قصارى جهده في هداية الناس. فلم يقتصر عملُه على الدعوة، بل إنّه لم يألُ جهداً إلّا وبذله ولم يترك معونة إلّا وأسداها حتّى فتح مكّة وكسّر الأصنام وحطّم الجماجم: «حَتَّى انْهَزَمَ الْجَمْعُ وَوَلَّوُا الدُّبُرَ»؛ وتفرّق جمع الكفّار والمشركين وتشتّتوا ولاذوا بالفرار والهزيمة بعد أن كانوا قد ائتلفوا مع بعضهم على شنّ الحروب على الإسلام كحرب الأحزاب.

«حَتَّى تَفَرَّى اللَّيْلُ عَنْ صُبْحِهِ»؛ وهنا تستعير(عليها السلام) عبارة هي غاية في الجمال والبلاغة؛ إذ تشبّه الليل بستار أسود قاتم قد تمزّق وتفرّى فبان بياض الصبح من بين مِزَقِه. فلقد كانت الأيّام الاولى للبعثة النبويّة شديدة المحنة والقتامة على المسلمين الذين قاسوا فيها أشدّ أنواع العذاب

ص: 267


1- . سورة الأنفال، الآية 26.

والمعاناة حتّى لطُف اللّه بهم فمزّق ستار الليل المظلم عن صبح أمل أبلج. «وَأَسْفَرَ الْحَقُّ عَنْ مَحْضِهِ»؛ إذ لم يكن الحقّ حتّى ذلك الحين واضحاً، وإنّ هِمم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وجهوده المضنية هي التي هيّأت الأرضيّة لظهور الحقّ واضحاً وتجلّي أعماقه للناس. «وَنَطَقَ زَعِيمُ الدِّينِ»؛ وكأنّه لم يكن لدى النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل ذلك الحين ما يقوله؛ حيث لم يكن أحد ليكترث لكلامه. «وَخَرِسَتْ شَقَاشِقُ الشَّيَاطِينِ»؛ فقد كانت الشياطين تثير الضجيج والصخب كي لا يصل صوت الحقّ إلى الأسماع. وهذه التعابير تُعدّ غاية في الجمال، فكلمة «الشقاشق» هي جمع «شقشقة» وهي جلدة حمراء يخرجها الجمل من حلقه في حالة الغضب أو السُكر وينفخ فيها فتنتفخ فيهدر فيها، فتظلّ مدّة تتحرّك قرب فمه إلى أن يهدأ فيبتلعها ثانية، فسُمّيت هذه الجلدة «شقشقة». تقول (عليها السلام): في ذلك الزمن لم يكن صوت الحقّ يصل إلى مسامع أحد، بل - على العكس – كان هدير الشياطين هو الذي يملأ الفضاء، حتّى خمدت شقاشق الشياطين شيئاً فشيئاً وخرسوا فصدح صوت المنادي بالدين وعلا كلامه فصار مسموعاً ومفهوماً من قبل الناس.

«وَطَاحَ وَشِيظُ النِّفَاقِ»؛ فقد اُقصيت وطُردت عوامل النفاق بعد أن نفذت إلى صفوف المسلمين. «وَانْحَلَّتْ عُقَدُ الْكُفْرِ وَالشِّقَاقِ»؛ وهنا تشبّه مولاتنا الزهراء (عليها السلام) الكفر والعناد بما يطرأ على الأمر من عُقَد تعيق تقدّمه وانسيابه. فكأنّ مهمّة النبيّ الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) التبليغيّة كانت قد أصابتها عُقَد عصيّة على الحلّ، واستمرّ الحال على هذا المنوال حتّى انحلّت تلك العُقَد بالتدريج. «وَفُهْتُمْ بِكَلِمَةِ الإِخْلاصِ»؛ فعندما خرست الشياطين وسكت الناطقون باسمهم، نطق المنادي بنداء الإسلام، وبلغت دعوة النبيّ - شيئاً فشيئاً - أسماعكم فآمنتم. لكن كم كان عددكم حينذاك؟! «فِي نَفَرٍ مِنَ الْبِيضِ الْخِمَاصِ»؛ كنتم ضمن عدد قليل من نحيلي الأبدان الشاحبي الوجوه الذين تلتصق بطونهم بظهورهم من شدّة الهُزال؛ فهولاء هم الذين أصبحوا المسلمين المخلصين. «وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ»، وسبق أن أسلفتُ بأنّ هذه الكلمات هي بمثابة تفسير لآيات القرآن الكريم. فالسيّدة الزهراء (عليها السلام) تشير هنا إلى الآية المرقّمة 103 من سورة آل عمران التي تقول: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم

ص: 268

بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا)؛ فلقد كانت العلاقات بين القبائل العربيّة تسودها العداوة والبغضاء حتّى جاء الإسلام وزرع بينهم الاُلفة والمحبّة.

ثمّ تعود (عليها السلام) إلى استعمال التعابير الأدبيّة الرائعة من جديد فتقول مخاطبة الحاضرين: لقد كنتم «مُذْقَةَ الشَّارِبِ»؛ أي جرعة الماء التي يتسنّى لأيّ أحد شربها وابتلاعها. «وَنُهْزَةَ الطَّامِعِ»؛ مطمع كلّ طامع. «وَقَبْسَةَ الْعَجْلانِ»؛ وهي الشعلة التي يختطفها المستعجل من دون أن تحترق يده أو تنطفئ النار. فقد كنتم إلى هذه الدرجة من الضعف وعلى وشك الافول، ومع ذلك فقد استمرّت حياتكم حتّى آلت بكم الاُمور إلى ما أنتم عليه اليوم. «وَمَوْطِئَ الْأَقْدَامِ»؛ أقدام الآخرين. «تَشْرَبُونَ الطَّرْقَ»؛ فمشرَبُكم كان من مشرعة تبول في مائها الإبل ويلوّثها الوحل. «وَتَقْتَاتُونَ القَدَّ»؛ و«القدّ» يُقال لجلد وأمعاء الخروف بعد ذبحه حيث لا يقتات عليها سوى الفقير والمضطّر من شدّة الجوع. فقد كنتم مضطرّين لتناول جلد الخروف وأمعائه المجفّفة كغذاء. إذن هكذا كان حال حياتكم المادّية. أمّا من الناحية الاجتماعيّة فكنتم «أَذِلَّةً خَاسِئِينَ»؛ تشكون الذلّ والهوان فلا يكترث بكم أحد. «تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ»؛ وهي (عليها السلام) هنا تشير ثانية إلى الآية المرقّمة 26 من سورة الأنفال التي سبق أن تلوتها على مسامعكم.

فالزهراء (عليها السلام) تذكّر الناس بهذه الامور من أجل أن توقظ ضمائرهم ولو قليلاً ليلتفتوا إلى أنّهم أمام مَن يقفون لعلّ أحداً منهم يهتدي إلى سواء السبيل، وإلاّ فإنّ قضيّة فدك لم تكن سوى ذريعة لهداية الناس.

فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) ورذائل أعدائه

فَأَنْقَذَكُمُ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِمُحَمَّدٍ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بَعْدَ اللَّتَيَّا وَالَّتِي، وَبَعْدَ أَنْ مُنِيَ بِبُهَمِ الرِّجَالِ، وَذُؤْبَانِ الْعَرَبِ، وَمَرَدَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ، أَوْ نَجَمَ قَرْنٌ لِلشَّيْطَانِ، وَفَغَرَتْ فَاغِرَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قَذَفَ أَخَاهُ فِي لَهَوَاتِهَا، فَلا يَنْكَفِئُ حَتَّى يَطَأَ جَنَاحَها صِمَاخَهَا بِأَخْمَصِهِ، وَيُخْمِدَ لَهَبَهَا بِسَيْفِهِ، مَكْدُوداً فِي ذَاتِ اللّهِ،

ص: 269

وَمُجْتَهِداً فِي أَمْرِ اللّهِ، قَرِيباً مِنْ رَسُولِ اللّهِ، سَيِّدَ أَوْلِيَاءِ اللّهِ، مُشَمِّراً نَاصِحاً، مُجِدّاً كَادِحاً، لا تَأخُذُهُ في اللّهِ لَومَةُ لائِمٍ، وَأَنْتُمْ فِي رَفَاهِيَةٍ مِنَ الْعَيْشِ، وَادِعُونَ فَاكِهُونَ آمِنُونَ، تَتَرَبَّصُونَ بِنَا الدَّوَائِرَ، وَتَتَوَكَّفُونَ الأَخْبَارَ، وَتَنْكِصُونَ عِنْدَ النِّزَالِ، وَتَفِرُّونَ عِنْدَ الْقِتَال.

لقد أوضحت الزهراء (عليها السلام) - فيما سبق من مقاطع الخطبة – مدى أهمّية رسالة النبيّ وما قاساه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من صنوف المعاناة والعذاب في سبيل هداية الناس، فقالت: لقد كنتم تعيشون في ظروف بالغة القسوة؛ فوضْعُكم الاقتصاديُّ كان من الضعف بحيث لم يكن يتوفّر لديكم حتّى الماء الصالح للشرب وكنتم تقتاتون على أخسّ أنواع الأغذية. ولم تكونوا حينذاك ذوي جاه أو منزلة بين الناس، أمّا من الناحية الثقافيّة فقد كنتم تعيشون في منتهى الحقارة والمهانة.

فاطمة تصف عليّاً (عليها السلام)

«فَأَنْقَذَكُمُ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى» من هذا الوضع المشين «بِمُحَمَّدٍ (صلی اللّه عليه وآله وسلم)» أي بفضله «بَعْدَ اللَّتَيَّا وَالَّتِي»، فلم تكن عمليّة إنقاذكم بالأمر اليسير بل كانت حصيلة حوادث جمّة. ومن باب الإشارة إلى تفاصيل بعض تلك الحوادث تقول: لقد قاسى النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) منذ أن بُعث بالرسالة إلى أن أنقذكم شتّى صنوف المحن والشدائد؛ فمن جملتها أنّه: «مُنِيَ بِبُهَمِ الرِّجَالِ، وَذُؤْبَانِ الْعَرَبِ، وَمَرَدَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ» فقد حارب أشاوس الرجال وذئاب العرب والمتمرّدين من اليهود والنصارى الذين تكالبوا على قتاله. فكان لابدّ - من أجل إنقاذكم - من المقاومة والصمود بوجه جميع هؤلاء. ثمّ تستشهد (عليها السلام) بعد ذلك بالآية المرقّمة 64 من سورة المائدة فتقول: «كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ»، لكن كيف يطفئها؟ «أَوْ نَجَمَ قَرْنٌ لِلشَّيْطَانِ، وَفَغَرَتْ فَاغِرَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قَذَفَ أَخَاهُ فِي لَهَوَاتِهَا» فمتّى ما بزغ قَرْن الشيطان أو فغرت ذئاب المشركين أفواهها لافتراسكم قذف النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أخاه عليّاً (عليه السلام) في أفواه تلك الذئاب المفترسة. و«اللّهاة» هي الزائدة اللحميّة التي في نهاية الحلق. «فَلا يَنْكَفِئُ» لا يرجع أو يستسلم «حَتَّى يَطَأَ جَنَاحَها صِمَاخَهَا بِأَخْمَصِهِ» حتّى يسحقهم تحت قدميه «وَيُخْمِدَ لَهَبَهَا بِسَيْفِهِ، مَكْدُوداً فِي ذَاتِ اللّهِ، وَمُجْتَهِداً فِي أَمْرِ اللّهِ» فعندما ترتبط

ص: 270

القضيّة باللّه وبأمره فإنّ عليّاً (عليه السلام) لا يبخل بأيّ جهد أو طاقة، فيتحمّل كلّ مشقّة، ويتجشّم كلّ عناء وعذاب. وقد استخدم النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً عبارة: «في ذات اللّه» في بضع أحاديث قالها في حقّ أمير المؤمنين (عليه السلام). فقد روى الفريقان عنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنّه قال: «لا تَسُبُّوا عَلِيّاً فَإِنَّهُ مَمْسُوسٌ فِي ذَاتِ اللّه»،(1) وروي عنه أيضاً: «... فَإِنَّهُ خَشِنٌ فِي ذَاتِ اللّه»(2) ، والزهراء (عليها السلام) تقول هنا: «مَكْدُوداً فِي ذَاتِ اللّهِ»؛ أي كان يكدّ كدّاً في أمر اللّه. «قَرِيباً مِنْ رَسُولِ اللّهِ»، وهنا تؤكّد (عليها السلام) على صفة «القرابة» تحديداً، ذلك أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كانت له مع رسول اللّه قرابة نَسَبيّة بما أنّه ابن عمّه من جانب، وقرابة سببيّة من حيث كونه صهره من جانب آخر، فكانت هذه القرابة خاصّة بعليّ (عليه السلام).التفتوا جيّداً! عندما تريد الزهراء (عليها السلام) أن تقول للناس: كيف أنقذكم أبي من كلّ هذه المهالك؟ فإنّها تبدأ بوصف أمير المؤمنين (عليه السلام) فتقول: لقد أنقذكم أبي بواسطة الشخص الذي هذه صفاته: «سَيِّدَ أَوْلِيَاءِ اللّهِ، مُشَمِّراً» عن ساعديه مستعدّاً لكلّ خطب، «نَاصِحاً» طالباً لما فيه كلّ خير «مُجِدّاً كَادِحاً» في غاية الجدّ وأقصى درجات الفعاليّة «لا تَأخُذُهُ في اللّهِ لَومَةُ لائِمٍ» فلا يستطيع أن يمنعه من أمر اللّه أيّ لائم.

توبيخ طلاب الراحة

واستمراراً في كلامها توجّه السيّدة الزهراء (عليها السلام) خطابها إلى الجمع المحتشد في المسجد قائلةً لهم: لقد أسدى النبيّ بواسطة أخيه وابن عمّه عليّ (عليهما السلام) مثل هذه الخدمة إلى الإسلام وإليكم أيّها المسلمون. لكن ما الذي صنعتم أنتم في المقابل؟ «وَأَنْتُمْ فِي رَفَاهِيَةٍ مِنَ الْعَيْشِ» لا تفكّرون إلا براحتكم ورغد عيشكم، «وَادِعُونَ» متّكئون مستريحون «فَاكِهُونَ» مشتغلون بالمرح والمزاح والفكاهة «آمِنُونَ» لا تشعرون بأيّ خطر.

ص: 271


1- . بحار الأنوار، ج39، ص313.
2- . بحار الأنوار، ج21، ص385.

جريحُ حربِ اُحد

لقد ملأت أخبار معارك عليّ (عليه السلام) أطراف العالم وأكنافه فهي ليست ممّا يتطلّب شرحاً وتوضيحاً؛ لكن بما أنّ الزهراء (عليها السلام) قد أشارت إليها في خطبتها فإنّني أقول على نحو الإجمال إنّ عليّاً قد اُصيب، في حرب اُحد فقط، بثمانين جرحاً ما بين ضربة سيف وطعنة رمح، حتّى قالت النسوة اللواتي ضمّدنَ جراحه: كنّا نُدخل خرقة الضماد من طرف الجرح ونخرجها من الطرف الآخر فلا يبدي عليّ أيّ ألم بتاتاً. فأيّ صبر هو صبر عليّ! فالنبيّ كان قد سقط على أرض المعركة جريحاً ينادي الأصحاب بأسمائهم فرداً فرداً إنّني هاهنا وأطلب منكم أن تهبّوا لنجدتي! لكنّهم كانوا يفرّون من المعركة ناجين بأرواحهم! وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الواقعة بقوله: (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاكُمْ)؛(1) فلقد لذتم بالفرار والرسول خلفكم يناديكم وهو ساقط على الأرض. ففي تلك الواقعة لم يهبّ لنصرة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) غير عليّ (عليه السلام) وقد تكبّد من أجل إنقاذه ثمانين ضربة وطعنة.

أمّا أنتم فليس أنّكم لم تفعلوا شيئاً فحسب، بل كنتم «تَتَرَبَّصُونَ بِنَا الدَّوَائِرَ»؛ أي تنتظرون أن ينزل بنا البلاء، ويحلّ بنا ما يضرّنا. «وَتَتَوَكَّفُونَ الأَخْبَارَ»، و«توكَّفَ الخبر» توقَّعه وسأل عنه، وهي حالة مَن هرب من واقعة واختبأ وظلّ يراقب من بعيد إلى ماذا ستؤول الامور. فالزهراء (عليها السلام) تقول: كنتم تتوكّفون الخبر من بعيد وعليّ ساقط على الأرض وفي بدنه ثمانون ضربة سيف وطعنة رمح. «وَتَنْكِصُونَ عِنْدَ النِّزَالِ، وَتَفِرُّونَ عِنْدَ الْقِتَال»؛ فعندما يتعيّن عليكم التقدّم تنكصون على أعقابكم، وعندما تُدعَون إلى القتال والحرب تفرّون منها. فهكذا كان حالكم وهكذا كان وضع النبيّ وابن عميّ! حتّى نصر اللّه الإسلام في نهاية المطاف وأنقذكم.

عليّ هو سرّ خطبة فاطمة (عليها السلام)

من أجل أن نفهم ولو مقداراً معيّناً من هذا الكلام لابدّ أن نحاول تجسيم المشهد الذي اُلقيت فيه هذه الخطبة بشكل جيّد. كان قد مرّ على رحيل النبيّ الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما يناهز

ص: 272


1- . سورة آل عمران، الآية 153.

الشهرين عندما جاءت فاطمة الزهراء (عليها السلام) إلى المسجد لإلقاء خطبتها، حيث كان الناس لا يزالون مفجوعين بفقد النبيّ الذي منحهم هذه العزّة والسعادة. لم يترك النبيّ غير هذه البنت وهي قد أخبرت الناس بأنّها تريد أن تخطب فيهم، فاجتمعوا ليستمعوا إلى ما تريد قوله. فما الذي ينبغي قوله في ظروف من هذا القبيل؟ فلو كانت الظروف طبيعيّة، لكانت – جرياً على القاعدة – قد ذكرت أباها، وعزّت القوم بهذا المصاب الجلل وسألت اللّه لها ولهم الأجر وقدّمت لهم النصح. لكنّها قالت: «لقد كان أبي وزوجي يقاتلان لإنقاذكم، وأنتم تفرّون من ميدان النزال وتهنأون بنوم مريح»! بالطبع لم يكن هذا هو حال الجميع، فقد كان من بينهم مَن قاتل؛ لكن من الواضح أنّ حال أغلب المخاطبين كان هو ما أخبرتهم به. فعندما كانت تنعتهم بكلّ هذه النعوت لم ينبَرِ أحد منهم بالاعتراض والقول: «لماذا توجّهين إلينا هذه الإهانات؟ فكم قد تحمّلنا من العناء وحاربنا وجاهدنا مع أبيك ونصرناه، و...الخ» بل كان الجميع يلتزمون الصمت مصغين لما تقول. فلم يرْوِ راوٍ أنّ شخصاً من الحاضرين قد اعترض عليها؛ بل لقد ورد في بعض النقول أنّ المتصدّين للأمر قالوا لها: «صحيح ما تقولين، لكنّنا كنّا معذورين فيما فعلنا»! فإذا قام المرء بتجسيم هذا المشهد أمام ناظريه بدقّة فسيتبيّن له أنّ هدف الزهراء (عليها السلام) من إلقاء هذه الخطبة لم يكن فدكاً أو حفنةً من مال الدنيا.

بطبيعة الحال نحن نعتقد بأكثر من ذلك؛ نعتقد بأنّ المعصومين (عليهم السلام) مطّلعون – بشكل أو بآخر – على عواقبهم، لاسيّما وأنّ النبيّ كان قد أخبر فاطمة الزهراء (عليها السلام) أنّه: «أنتِ أوّل من يلحق بي من أهلي».(1) فقد كانت (عليها السلام) تعلم أنّ عمرها لن يدوم طويلاً بعد أبيها. فهل من المعقول - يا ترى - أن تسعى وراء الحصول على مال أو لقمة عيش وهي تعلم أنّه لم يبق من عمرها في هذه الدنيا سوى أيّام معدودات، وبدنها عليل قد أنهكه المرض، وقد رُضّ صدرها ولُطم خدّها وألمُ فراق أبيها يعتصر قلبها؟! إذن فما الغاية التي دفعت الزهراء (عليها السلام) - وهي على هذا الحال - إلى مخاطبة أصحاب أبيها - وفيهم الكثير من بني هاشم وقريش وأرحامها - بمثل هذه العبارات القاسية؟ لماذا تذكر خدمات أبيها وبعلها بكلّ تلك التفاصيل؟ فمن الواضح أنّ المسألة لا تقتصر على مزرعة اغتُصبت منها وتريد استرجاعها.

ص: 273


1- . بحار الأنوار، ج28، ص52.

فهل يُعقل أن يقوم مَن قال له رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أنتِ أوّل من يلحق بي من أهلي» بتحميل نفسه كلّ هذه المعاناة من أجل المطالبة بمزرعة؟! ثانياً: هل إنّ استرداد المزرعة يتطلّب توبيخ الناس بهذه الطريقة؟! فلعلّه توجد هناك طريقة أسهل من هذه بكثير؛ إذ كان بإمكانها (عليها السلام) أن تقول: «أنا بنت رسول اللّه. إذن احترموا رسول اللّه فيّ ولا تقطعوا لقمة عيشي»! فلعلّها لو تحدّثت بهذا الاسلوب لما أمعنوا في مخالفتها؛ بل كان سينضمّ إلى جانبها بعض المسلمين على الأقلّ قائلين: «إنّ هذا ليس شيئاً يُذكر. فلو كان من أموالنا لكُنّا تنازلنا عنه أيضاً». لكنّ استخدامها (عليها السلام) للغة التوبيخ يوحي - بما لا يقبل الشكّ - بأنّ هذه الواقعة لم تكن لمجرّد استرداد مزرعة، بل لقد كانت من أجل قضيّة اخرى.

كانت فاطمة الزهراء (عليها السلام) تشاهد مسيرة رسالة النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهدايته وهي تزيغ عن مسيرها الأصليّ وأنّ السبيل التي هيّئها اللّه تعالى بواسطة نبيّه الكريم من أجل سعادة البشر هي على وشك الانحراف. فخشيةُ فاطمة وقلقُها كانا من هذا الانحراف. لكنّه - ومن أجل أن تُثبتَ للجميع، في هذه البرهة القصيرة من الزمن، بأنّ الحقّ معها وأنّ الطريق التي سلكها الآخرون هي طريق خاطئة – كان لابدّ أن تفعل فعلةً يبقى خبرها يدوّي إلى أبد الآبدين. كان ينبغي أن تثبت أنّ عليّاً (عليه السلام) هو المؤهّل لخلافة النبيّ الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنّ الآخرين لا يملكون مثل هذه الصلاحيّة. ومن هذا المنطلق فقد طرحت قضيّة فدك لتبرهن للناس أنّ هؤلاء غير مؤهّلين للقضاء والحكم من ناحية، وليس لهم معرفة بالقرآن والمسائل الشرعيّة من ناحية اخرى، وليس لهم تاريخ مشرّف في عهد النبيّ وفي سوح النزال والوغى.

خصائص خليفة الرسول

لم يذكر أيّ من التواريخ أنّ أحداً من اولئك الزعماء المعروفين في ذلك الزمن كان قد أبدى بعضاً من الشجاعة أو قتل مشركاً أو جرحه. فلم يروِ راوٍ قطّ أنّ أحداً من هؤلاء قد ضرب بسيف في معركة اُحد! فهذا التاريخ وهذه المعلومات تثبت أنّ هؤلاء ليسوا جديرين بهذا المنصب؛ إذ لابدّ لمن يخلف رسول اللّه أن تكون له القدرة على تطبيق أحكامه (صلی اللّه عليه وآله وسلم). إذن كان يتعيّن على فاطمة (عليها السلام) أن تقدّم دليلاً عمليّاً على أنّ هؤلاء لا يملكون صلاحيّة تطبيق هذه الأحكام؛ ذلك أنّهم لا يحيطون علماً بها.

ص: 274

أليس أفراد هذا البيت هم اولئك الذين صاموا ثلاثة أيّام وتصدّقوا في كلّ يوم بخبز إفطارهم وقدّموه إلى يتيم وفقير وأسير واكتفوا بالإفطار على الماء؟ هل يحرص أمثال هؤلاء على إشباع بطون أطفالهم؟ إذن لم يكن كلّ ذلك إلا مقدّمة لتنبيه الناس إلى الخطأ الذي ارتكبوه وإفهامهم بأنّه حتّى لو فرضنا جدلاً بأنّه كان لابدّ من انتخاب أحد فإنّه يتعيّن أن يكون الانتخاب على اُسس ومعايير صحيحة. ومن هذا المنطلق فقد استهلّت (عليها السلام) كلامها بطريقة تستميل بها عواطف الناس من جهة، وتستنهض فيهم الإحساس بالمسؤوليّة من جهة اخرى. فقد روعِيَت في هذه الخطبة امور نفسيّة وروحيّة بالغة الدقّة بحيث كانت الغاية منها إعداد الناس لقبول الحقّ، لتكون مقدّمة لرسم النهج القويم للنبوّة والرسالة وتقديم المعايير الصحيحة للحاكم الإسلاميّ الذي يفترض أن يستمرّ في مسيرة النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ولم تشكّل مسألة فدك وأمثالها سوى ذريعة لطرح أمثال هذه المسائل.

بتوفيق من اللّه تعالى سنستمرّ في المحاضرات القادمة - إن شاء اللّه - بسرد تتمّة الخطبة الشريفة كي ننتفع أكثر من بركاتها.

لايزال الشيطان حيّاً

إذن نحن في صدد استلهام الدروس والعبر من التاريخ وأحداث صدر الإسلام للإفادة منها فيما سيحدث في المستقبل؛ فنحن نعلم أنّ هذه الأحداث تتكرّر من حيث الماهيّة وإنْ تغيّرت في الألوان والتفاصيل وهي ستحدث إنْ عاجلاً أم آجلاً. فقد جاء في الحديث النبويّ الشريف فيما يخصّ تكرّر تاريخ بني إسرائيل في الاُمّة الإسلاميّة: «لو أنّ أحدهم دخل جحر ضبّ لدخلتموه»(1) فاحتمال وقوع فتنة اُخرى هو احتمال قويّ جدّاً ووارد؛ ذلك أنّ الشيطان لا يزال حيّاً وهو لم يتراجع عن قسمه في إبادة بني آدم، وليس في نيّته الحنث بهذه اليمين. ومن جانب آخر فقد أصبح لديه رصيد ضخم من التجارب المتراكمة. فهو إن فَشِل في هذه الفتنة ولم تجر الامور فيها كما يشتهي فسوف يعمد إلى دراسة مواطن الضعف وتحليل مواضع الإشكال كي يتلافاها في المرّة القادمة ويتوَّج مشروعه بالنجاح.

ص: 275


1- . بحار الأنوار، ج21، ص257.

وحيث إنّ مرادنا من مطالعة هذه الخطبة هو الاستبصار من حوادث التاريخ، فإنّه ليس من الضروريّ ذكر الأسماء. فما يهمّنا هنا هو أن نفهم من لحن كلام سيّدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء (عليها السلام) ما هي الروح التي كان يمتلكها الناس وما هي الأجواء التي كانت مخيّمة على المجتمع في ذلك العصر. فناهيك عن الشواهد التاريخيّة التي هي قيّمة بحدّ ذاتها، فإنّ المرء يستطيع أن يفهم من لحن هذا الكلام إلى أيّ درجة يمكن أن يتغيّر ابن آدم، وأيّ مخاطر تتربّص له في مسيرة حياته. فنحن غير مصونين عن ذلك، بل من الممكن أن يأتي علينا يوم نرتكب فيه نفس هذه الأخطاء. إذن يتحتّم علينا التعرّف على جذور مثل هذه الأخطاء، فإن اكتشفنا أمثالها في أنفسنا فإنّه يتحتّم أن نعمد إلى اقتلاعها فوراً. هذا هو مبتغانا الأساسيّ من تحليل هذه الخطبة.

صولة النفاق

ذكرنا أنّنا وصلنا في شرح الخطبة الشريفة إلى سرد الزهراء (عليها السلام) لوقائع ما بعد رحيل النبيّ الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، إذ تقول (عليها السلام) : «فَلَمَّا اخْتَارَ اللّهُ لِنَبِيِّهِ دَارَ أَنْبِيَائِهِ، وَمَأْوَى أَصْفِيَائِهِ، ظَهَرَ فِيكُمْ حَسِيكَةُ النِّفَاق».(1) ولا ريب أنّها (عليها السلام) تقصد بهذا الكلام أشخاصاً بعينهم، لكن – كما قد أشرت سابقاً – ليس من الضروريّ هنا أن نعيّن المصاديق. تقول مولاتنا (عليها السلام): «عندما اختار اللّه عزّ وجلّ لنبيّه الكريم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ورحل عن هذه الدنيا ظهرت فيكم شوكة النفاق، وبرزت منكم عروقه كما تبرز الشوكة»؛ وهي تعابير عجيبة للغاية!

ثمّ تقول: «وَسَمَلَ جِلْبَابُ الدِّين»؛ والجلباب هو ما يُلبَس فوق الثياب؛ أي قد كان للدين جلباب جديد لكنّه اندرس وصار بالياً برحيل النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن الدنيا. «وَنَطَقَ كَاظِمُ الْغَاوِينَ، وَنَبَغَ خَامِلُ الأَقَلِّين الآفِلينَ»؛ فلقد كان فيكم ضالّون قد أخفوا ضلالهم ولم ينبسوا ببنت شفة عندما كان النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على قيد الحياة، لكنّهم – عندما رحل النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - انبروا بالكلام. ولم يكن هؤلاء سوى حفنة من الأذلّة الذين لا يُحسب لهم أيّ حساب.

ص: 276


1- . بحار الأنوار، ج29، ص225.

«وَهَدَرَ فَنِيقُ الْمُبْطِلِين»؛ والمبطلون هم الذين يتفوّهون بالكلام الفارغ أو الذين يتّصفون بالسلوك الخاطئ. تقول الزهراء (عليها السلام) : «لقد كان لأهل الباطل فيكم زعيم لم يكن يتفوّه بكلمة في حياة النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لكنّه بمجرّد وفاة النبيّ فقد انبرى يهدُر ويعربد كالجمل السكران. تخيّلوا الأجواء! هذا الخطاب إنّما يوجَّه لاولئك الذين كانوا إلى فترة وجيزة يصلّون خلف النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويُعَدّون تلامذته وأصحابه!

«فَخَطَرَ فِي عَرَصَاتِكُم»؛ والفعل: «خَطَرَ» يقال لمن يُفْرِط في إظهار السلطة. تقول الزهراء (عليها السلام) : «هذا الرجل المجهول، العديم الاعتبار، الذي هو من أهل النفاق والباطل صار يصول ويجول في ميدانكم بعد رحيل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)». بالطبع هذا الكلام لا يعني أنّهم جميعاً كانوا هكذا، بل إنّ المقصود هو بعضهم. «وَأَطْلَعَ الشَّيْطَانُ رَأْسَهُ مِنْ مَغْرَزِه»؛ فالشيطان الذي كان يختبئ فيما مضى في مكمنه قد أخرج رأسه منه الآن عندما رأى ما أنتم عليه كي يمتحنكم ويرى إن كانت الأرضيّة مناسبة لممارسة نشاطه أم لا! «هَاتِفاً بِكُم»؛ منادياً إيّاكم. «فَأَلْفَاكُمْ لِدَعْوَتِهِ مُسْتَجِيبِين» ولاتّباعه مستعدّين. «وَلِلْغِرَّةِ فِيهِ مُلاحِظِين»؛ فبمجرّد أن ناداكم أدرتم عيونكم ذات اليمين وذات الشمال مفتّشين عن المنادي ومتسائلين عمّا يقول. «ثُمَّ اسْتَنْهَضَكُمْ» دعاكم إلى التحرّك والنهوض عندما توسّم فيكم الاستعداد «فَوَجَدَكُمْ خِفَافاً» مستعدّين للحركة «وَأَحْمَشَكُمْ فَأَلْفَاكُمْ غِضَاباً»؛ أحبّ أن يرى إلى أيّ مدى يمكنه أن يحرّضكم؛ ففعل ما يثير فيكم بعض المشاعر. أي أحبّ أن يرى هل ستغضبون لمجرّد إثارته إيّاكم، وتضعون عقولكم جانباً وتتّبعون أحاسيسكم؟ فأيّ تعابير تلك التي ساقتها الزهراء (عليها السلام) تفهّمهم سوء الحال الذي هم عليه.

ثمّ تقول(عليها السلام) : «فَوَسَمْتُمْ غَيْرَ إِبِلِكُم» فأنتم بدلاً من أن تَسِموا إبلكم (حيث كانت عادة العرب أن تَسِم كلّ قبيلة إبلها بأن تكويها بعلامة خاصّة كي تميّزها عن إبل غيرها من القبائل) فقد وَسَمتم إبل غيركم، «وَأَوْرَدْتُمْ غَيْرَ شِرْبِكُم»؛ أي عندما استثاركم الشيطان واستنهضكم قمتم بإرواء إبلكم من غير المشرب المخصّص لها» وقد كان لكلّ قبيلة مكان خاصّ تشرب منه قطعانها الماء. فذلك هو ما أبديتم من ردود أفعال في غير محلّها في مقابل الشيطان. «هَذَا وَالْعَهْدُ قَرِيب» فلم يكن ردّ فعل كهذا متوَقَّعاً منكم؛ إذ لم يمض

ص: 277

على وفاة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) زمن طويل. فلازال العهد الذي قطعتموه مع النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) جديداً ولم تمض على واقعة الغدير أكثر من سبعين يوماً ونيّف! «وَالْكَلْمُ رَحِيبٌ، وَالْجُرْحُ» الذي أصابنا برحيل النبيّ «لَمَّا يَنْدَمِل» لم يلتئم بعدُ، «وَالرَّسُولُ لَمَّا يُقْبَر»، فقد خدعكم الشيطان وأثاركم فأصغيتم لما يقول والنبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يُدفَن بعد.

قصّة سقيفة بني ساعدة

لقد وردت في التاريخ في هذا الباب قصص لن أتناول تفاصيلها. لكنّ مجمل ما حدث والذي نقله كلّ المؤرّخين تقريباً هو أنّه بعد رحيل النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبينما كان عليّ (عليه السلام) منشغلاً بتغسيل جنازته وتجهيزه اجتمع حشد من الأنصار من قبيلة الخزرج في سقيفة بني ساعدة كي يجعلوا خلافة النبيّ في قبيلتهم. فعندما علمَتْ قبيلة الأوس بهذا الخبر أقبلوا إلى السقيفة أيضاً، ثمّ وصل الخبر إلى المهاجرين والتحق نفر منهم بجمع الأنصار، حتّى بلغ الأمر حدّ التضارب والعراك واستُلَّت السيوف، وكانت النتيجة هي غلبة المهاجرين ومبايعة الأنصار لهم لِما كان بين قبيلتي الأوس والخزرج من تنافس وخلاف فلم تذعن أيّ واحدة منهما للاخرى. ما نودّ أن نعرفه هنا أنّه لماذا وصل الأمر بأصحاب النبيّ إلى نسيان الميثاق الذي قطعوه على أنفسهم معه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)؟! وهل من الممكن - يا ترى - أن نتعرّض نحن اليوم إلى حادثة مشابهة؟

أقسام الكفر

تقول سيّدتنا الزهراء (عليها السلام) تعليلاً لما جرى: «ابْتِدَاراً زَعَمْتُمْ خَوْفَ الْفِتْنَة»؛ أي إنّ التبرير الذي سقتموه لفعلتكم العجولة هذه هو: «لقد خشينا اشتعال الفتنة بين المسلمين بعد رحيل النبيّ فهرعنا إلى تعيين خليفة له تجنّباً للفتنة»! وهنا تقتبس (عليها السلام) آية قرآنيّة عميقة المغزى للغاية فتقول: (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِين)؛(1) وهذه الآية تتناول قضيّة بعض المنافقين ممّن اتّخذوا الفرار من الفتنة ذريعةً لأفعالهم، فكان

ص: 278


1- . سورة التوبة، الآية 49.

جواب اللّه عزّ وجلّ لهم: «إنّكم أنتم الذين سقطتم في الفتنة». إذن فاطمة (عليها السلام) تقول لهم في مقطع سابق: «ظَهَرَ فِيكُمْ حَسِيكَةُ النِّفَاق»، ثمّ تقول لهم الآن: «إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِين».

وهنا لابدّ أن نعلم بأنّ الكفر لا يعني دائماً إنكار وجود اللّه وإنكار نبوّة النبيّ، فقد استُخدم مصطلح الكفر في القرآن الكريم بمعاني مختلفة. وقد جاء في الخبر أيضاً أنّ للكفر خمسة أنواع. فهناك تعدّد في معنى «الكفر» بحسب بُعدِه الفقهيّ، أو الكلاميّ، أو الأخلاقيّ. فمن مصاديق الكافر هو ذلك الذي ينكر كلّ ضروريّات الإسلام أو بعضها. وهذا الكفر هو الذي يكون في مقابل الإسلام. لكنّ الذي نطق بالشهادتين وأقرّ بأنّ كلّ ما جاء به نبيّ الإسلام (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وما قاله هو حقّ فهو مسلم تنطبق عليه جميع أحكام الإسلام. فالإسلام الظاهريّ يتمثّل بالنطق بالشهادتين والتسليم للحكومة الإسلاميّة. لكن من الممكن أن يكون لبعضهم هذا النوع من الإسلام وفي الوقت ذاته ينطبق عليهم قوله تعالى: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُم).(1) فهذا الكفر هو في مقابل الإيمان وليس في مقابل الإسلام. فالشخص الذي يسلّم بجميع ضروريّات الإسلام ثمّ ينكر حكماً من أحكام الإسلام مع علمه بأنّ اللّه هو الذي شرعّ هذا الحكم، فهو مسلم بالمعنى الأوّل ولا يقدح ذلك بطهارته، لكنّ اعتقاده هذا يمثّل كفراً في مقابل الإيمان، حتّى وإن أضمر هذا الاعتقاد في قلبه ولم يظهره على لسانه؛ فاللّه جلّ وعلا يقول في حقّ هؤلاء: (أُوْلٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً).(2) وإنّ أثر هذا الكفر يظهر في الآخرة لا في الدنيا. فنصاب الإيمان الذي من شأنه أن ينجي من عذاب الآخرة هو القبول بكلّ ما أنزله اللّه تبارك وتعالى، وإنّ إنكار بعضٍ منه هو بمثابة إنكار جميعه: (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ... * أُوْلٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً).(3) إذن فصريح القرآن الكريم يقول: (إذا قال أحدهم: إنّني أقبل بعض الإسلام ولا أقبل بعضه الآخر، فهو كافر)؛ وذلك لأنّ المناط فيما قبلناه وآمنّا به هو أنّ النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد جاء

ص: 279


1- . سورة الحجرات، الآية 14.
2- . سورة النساء، الآية 151.
3- . سورة النساء، الآيتان 150 و 151.

به عن اللّه سبحانه وتعالى ولمّا كان هذا المناط متوفّراً في كلّ ما أنزله اللّه تعالى، فإنّ إنكار المرء لأمر من هذه الاُمور يدلّ على أنّ قبوله ببقيّة الاُمور إنّما هو نابع من اتّباعه لهوى نفسه. ومن هذا المنطلق يقول القرآن الكريم: (أُوْلٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً). فهذا الكفر هو غير الكفر الذي يكون في مقابل الإسلام، فهو في مقابل الإيمان، وهذا الإيمان هو الذي يقود إلى النجاة في الآخرة. وللأسف فإنّه يحصل الخلط أحياناً بين هذين المصطلحين، وهما يمثّلان معنيَين من خمسة معاني ذكرَتها الروايات للكفر.

تريد فاطمة الزهراء (عليها السلام) أن تُحدث - عبر هذا الكلام - هِزّةً في نفوس الناس كي يلتفتوا إلى أعماق قلوبهم فيسألوا أنفسهم: هل إنّهم يقرّون بكلّ ما قاله اللّه وما يعلمون بأنّ اللّه قد قاله، أم أنّ هناك بعضاً ممّا يعلمون أنّ اللّه قد قاله لكنّهم لا يرغبون بالقبول به، وليعلموا بأنّهم إن كانت هذه حقيقتهم فإنّهم كافرون في واقع الأمر.

(أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ)(1)

نفهم من هذه التعابير أنّه كان لفاطمة الزهراء (عليها السلام) رؤية تختلف كلّ الاختلاف عن رؤية سائر المسلمين في عصر صدر الإسلام ومعظم المسلمين في عصرنا الحاضر. فما حصل هو أنّ مسلمي صدر الإسلام، وبذريعة منع حصول الاضطراب والاختلاف في الاُمّة الإسلاميّة، كانوا قد اجتمعوا ونصّبوا خليفة لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم). إذ لم يكن هؤلاء يرون في خلافة النبيّ أكثر من الرئاسة والحكومة، ولم يكن يدور في عقولهم سوى أنّه: «قد كان لدينا رئيس وقد رحل عن هذه الدنيا، وعلينا الآن السعي لتعيين رئيس من طائفتنا وقبيلتنا»! كانت هذه مجرّد رؤية سطحيّة. أمّا رؤية مولاتنا الزهراء (عليها السلام) فقد كانت تختلف كلّ الاختلاف عن هذه النظرة السطحيّة الساذجة.

وفقاً لظاهر الأمر فإنّ فكرة أن يكون الرئيس والحاكم منّا ليست ممّا يجرّ إلى الكفر. فبعيداً عن التشبيه، فإنّه إذا مات رئيس جمهوريّة وانبرى أحد الأحزاب أو إحدى الفئات بالقول: «نحن مَن يعيّن رئيس الجمهوريّة»، فلن يتّهمهم أحد بالكفر! كلّ ما في الأمر أنّ الناس سيصفونهم بأنّهم طلاب دنيا وهو إشكال أخلاقيّ ليس غير. لكنّ الزهراء (عليها السلام) تقول في القوم: «إنّ السبيل التي تسلكونها سوف تؤدّي بكم إلى الكفر، بل إنّ جهنّم محيطة بكم

ص: 280


1- . سورة التوبة، الآية 49.

الآن»! إذن هناك بون شاسع بين هذه الرؤية وبين النظرة السطحيّة التي كانت لسائر المسلمين حينذاك.

ثمّ تواصل الزهراء (عليها السلام) خطبتها بلحن أكثر حدّة فتقول: «فَهَيْهَاتَ مِنْكُمْ وَكَيْفَ بِكُمْ وَأَنَّى تُؤْفَكُونَ»؛ وكأنّها تصيح في الناس بأعلى صوتها: «أيّها الناس! إلى أين يأخذونكم؟! فهذا الطريق ينتهي إلى جهنّم»! فبعد بضعة أيّام من وفاة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليس أكثر تأتي ابنة الرسول، تلك المرأة التي لم تكن قبل ذلك الحين ممّن يخطب في الرجال، لتخطب في الناس منادية فيهم: «أَنَّى تُؤْفَكُونَ وَكِتَابُ اللّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُم»؛ هل تعون أيّ طريق يسلكون بكم؟! إنّهم يفرّقون بينكم وبين الحقّ، والقرآن في أيديكم»! فلم يكن هؤلاء يتصوّرون بأنّ عليهم الاستناد إلى كلام اللّه في أمرهم هذا. فهل يفكّر أحد في زماننا يا ترى بأنّ عليه من أجل تعيين رئيس للجمهوريّة أن يرجع إلى القرآن فينظر ما الذي يقوله في هذا الصدد؟! فالناس في صدر الإسلام قد تعاطوا مع الخلافة بهذه الصورة، فكانت كلّ طائفة من طوائف المسلمين في ذلك الزمن تحاول أن تجرّ النار إلى قرصها وتجعل زعيم الاُمّة المعيَّن من رجالها. لكنّ فئة مكوّنة من بضعة أشخاص وقفت في وجه هذا التحرّك ولم توافق عليه. والمراد من كلامنا هذا هو تحليل كيفيّة تعامل مختلف الأشخاص مع مجريات الأحداث.

القرآن هو مصدر سنّ القوانين في الإسلام

تنادي الزهراء (عليها السلام) بأعلى صوتها: «عيلكم بالقرآن الكريم، فانظروا ماذا يقول». إذن فرؤية فاطمة الزهراء (عليها السلام) كانت تتلخّص في أنّه قد تمّ التفكير بمرحلة ما بعد وفاة النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإعداد لها قبل وفاته بسبعين يوماً؛ ليس من قِبل الناس، بل إنّ اللّه هو الذي قد بتّ في هذه المسألة بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)(1). فكأنّ القوم كانوا قد نسوا أنّ النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، قبل سبعين يوماً فقط، قد جمع الناس وسط الصحراء في منتصف الظهيرة في جوّ لاهب فأخذ منهم البيعة لأمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام). والعجيب أنّ التاريخ لم ينقل أنّ أحداً من الحضور قد ذكر كلام النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم).

ص: 281


1- . سورة المائدة، الآية 67.

فعندما تكون الأرضيّة مُعدّة للشيطان فإنّه يجرّ الناس إلى الغفلة عن أصل الموضوع بهذه الكيفيّة. وهذا بالضبط ما حصل أيضاً في أحداث فتنة عام 2009م. فقد ظنّ البعض أنّ القضيّة لا تعدو كونها اختلافاً بين مرشّحين، غافلِين عن ماهيّة اليد التي كانت تحرّك تلك الأحداث من خلف الستار وما هي مآربها. فهؤلاء الذين اصيبوا بسطحيّة النظر وضيق الاُفق لم يتمعّنوا في الأمر ولم يسألوا أنفسهم: لماذا التحامل على الإسلام في الشعارات المرفوعة؟ وما الداعي إلى مهاجمة المشاركين في عزاء سيّد الشهداء (عليه السلام) ؟ ولماذا يُرفَع شعار «الجمهوريّة الإيرانيّة» بدلاً عن «الجمهوريّة الإسلاميّة»؟ ولماذا بادرت أمريكا بكلّ وَلَه وشغف إلى دعم هؤلاء؟ ولماذا تتعامل إسرائيل معهم بمنتهى الودّية؟ وجواباً على هذه الأسئلة يقول هؤلاء السذّج: «هذه هي الانتخابات، فأمثال هذه الاُمور تحصل في الانتخابات»! وعين هذه الرؤية كانت سائدة في صدر الإسلام أيضاً. فالبعض كان يقول: «لابدّ أن يكون خليفة النبيّ من قبيلتنا»! والبعض الآخر يقول: «إنّ قبيلتنا أولى منكم بالخلافة»! أمّا المهاجرون فقد قالوا: «نحن أرحام النبيّ وإنّنا أولى بالخلافة من غيرنا»! وقد أماط أمير المؤمنين عليّ ٌ(عليه السلام) اللثام عن هذا الانحراف في اليوم الذي جاءوه لاقتياده عنوةً لانتزاع البيعة منه حين قال لهم: «ألَستُم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لمكانكم من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأعطوكم المقادة وسلّموا لكم الإمارة؟! وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار؛ أنا أولى برسول اللّه...»(1) ، فهل من بين أرحام رسول اللّه من هو أقرب منّي إليه؟! إذن فأنا أقول بنفس المنطق الذي غلبتم به الأنصار: أنا الأولى بالخلافة. لكن لم يكن أحد ليصغي أو يكترث لكلام عليّ (عليه السلام)، فقد أجابه أحد هؤلاء النفر بتعبير قبيح: «ولكنّك حَدَث السنّ، فاترك الأمر لمشايخ القوم فهم أحْمَل لثقله، فإن عَمَّرك اللّه لَسَلّموا هذا الأمر إليك»!

فعندما تنادي فاطمة (عليها السلام) قائلة: «إلى أين تذهبون؟! لماذا نبذتم القرآن وراء ظهوركم؟» فهي لا تعني: لابدّ أن يغلب الأوسُ الخزرجَ أو الخزرجُ الأوسَ، فليس في ذلك مخالفة للقرآن الكريم، وإنمّا مخالفة القرآن هي عندما يُعمَل بخلاف ما يقول. فخشية فاطمة (عليها السلام) كانت من أن يُنبذ القرآن الكريم ولا يُعمَل به، وإنّ الداعي لندائها كان أنّه إذا استمرّ هذا

ص: 282


1- . بحار الأنوار، ج28، ص185.

النهج، وطوى النسيان - شيئاً فشيئاً - ما يقوله القرآن، وصِيغت لسلوكيّات الناس اُسس غير اُسسه، واستُلهمت القيم من غير القرآن الكريم فإنّ أثر الإسلام سيُمحى ولن يبقى من الإسلام شيء. كانت (عليها السلام) تشاهد زيغاً بدأ يلوح في الاُفق وروحه الكفر، وباطنُه إنكارُ «ما أنزل اللّه». ولقد ذكرتُ في المحاضرة السابقة أنّ هذا الكفر ليس هو الكفر الفقهيّ الذي يكون في مقابل الإسلام، بل هو الكفر الإيمانيّ، أي ما يقابل الإيمان؛ وهو أنّ شخصاً كهذا لا يعتقد ببعض أوامر اللّه من صميم قلبه. فهذا النمط من الكفر يورث الشقاء في الآخرة، لكنّه لا يوجب الكفر الدنيويّ بمعنى النجاسة والارتداد الفقهيّ وما إلى ذلك.

تقول مولاتنا الزهراء(عليها السلام) : «كِتَابُ اللّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُم» في أيديكم، «أُمُورُهُ ظَاهِرَةٌ، وَأَحْكَامُهُ زَاهِرَةٌ، وَأَعْلامُهُ بَاهِرَةٌ، وَزَوَاجِرُهُ لائِحَةٌ، وَأَوَامِرُهُ وَاضِحَة» فقد بيّن أوامره بوضوح كامل، «قَدْ خَلَّفْتُمُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِكُم، أَرَغْبَةً عَنْهُ تُرِيدُون» هل تريدون الإعراض عنه؟ والمعنى: إنّ سلوكيّات مجتمعٍ مّا إمّا أن تكون على أساس تعاليم القرآن الكريم وأوامره أو ترتكز على اُسس اخرى. فأمّا الإسلام فهو يرى أنّ القرآن الكريم هو مصدر أعمالنا وأساسها وأنّه يتعيّن علينا أن نعمل وفقاً لما يقوله، وإنّ وضْع مصدر آخر إلى جانبه يُعدّ شركاً. فإذا اعتمدنا أصوات الشعب، أو ميثاق الاُمم المتّحدة، أو أيّ شيء آخر بعنوان كونه مصدراً إلى جوار القرآن نكون قد ارتكبنا شركاً في التشريع. فقد قال الناس في ذلك الزمان: «سنحاول أن ننتخب بأنفسنا الشخصَ الذي نراه الأصلح والأنفع لنا» وأهملوا كتاب اللّه، وهذه كانت بداية الزيغ والانحراف عن القرآن الكريم. تقول(عليها السلام) : (أَرَغْبَةً عَنْهُ تُرِيدُونَ، أَمْ بِغَيْرِهِ تَحْكُمُون)؛ فهل تريدون – حقّاً – الإعراض عن القرآن؟ أم إنّكم تريدون أن تُحَكّموا غير القرآن عليكم؟! (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً)(1) فإنّكم بذلك تظلمون أنفسكم وتختارون سبيلاً يجافي الحقّ وإنّ الذي يغيّر موقع شيء ويأتي بشيء آخر مكانه بصورة ظالمة فبئس ما اختاره من بديل وعوض.

ص: 283


1- . سورة الكهف، الآية 50.

الولاية معيار الإيمان

ولعلّ في عبارة: «أَمْ بِغَيْرِهِ تَحْكُمُون» تلميحاً إلى الآية الشريفة التي تقول: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً)(1) وهي من أعجب آيات القرآن الكريم. فاللّه عزّ وجلّ يقسم فيها لنبيّه الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قائلاً: «قسماً بربّك إنّه ما من حقيقة غير هذه وهي أنّ المسلمين لن يؤمنوا إيماناً حقيقيّاً حتّى يرجعوا إليك ويحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ يسلّموا لما تقول من أعماق وجودهم وصميم قلوبهم، بل وأن لا يستشعروا حتّى في قلوبهم أيّ حرج أو انزعاج». إذ من النادر أن تُصدر المحكمة حكماً على شخص من دون أن يجزع وينزعج أو يقول: «الحمد لله الذي أظهر الحقّ»! فالقرآن الكريم يُتْبِع القسم بقوله: «ليس المؤمنون سوى اُولئك الذين يرجعون إليك في منازعاتهم، ويقبلون بحكمك أيّاً كان، بل ولا يستشعرون ضجراً أو تبرّماً منه حتّى في أعماق قلوبهم». فالإيمان الحقيقيّ هو أنّ يسلّم المرء في مقابل اللّه عزّ وجلّ ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تسليماً محضاً: (وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً).

إنّ الذين يقبلون اليوم بولاية الفقيه بهذه الصورة هم نادرون للغاية. فالمدّعون كثيرون أمّا في مقام العمل فإنّ الذين يمتثلون لكلّ ما يقوله الوليّ الفقيه هم قليلون. فعندما يُصدر الوليّ الفقيه حكماً يقول بعضهم: «فلنذهب ونتحدّث إليه علّه يرجع عن رأيه»! لكنك إذا كنت تقبل بولايته فستمتثل لكلّ ما يقوله من دون أدنى تلكّؤ أو تردّد. فولاية الفقيه تعني أنّ الفقيه هو خليفة النبيّ والإمام المعصوم، ويتعيّن علينا أن نسلّم تسليماً محضاً لكلّ ما يحكم به ونعتقد اعتقاداً راسخاً بأنّ هذا الأمر كأنّه صادر من الإمام المعصوم (عليه السلام). ومن هذا المنطلق جاء في الخبر: «فإذا حكَم بحُكمٍ ولم يقبله منه فإنّما بحكم اللّه استخفّ وعلينا ردّ والرادُّ علينا كالرادِّ على اللّه وهو على حدّ الشرك باللّه»(2) . وبطبيعة الحال فإنّ البحث في الولاية المطلقة للفقيه يأتي في حقل المسائل الحكوميّة وإنّ المسائل الشخصيّة ليست مجالاً لمناقشة الولاية.

ص: 284


1- . سورة النساء، الآية 65.
2- . بحار الأنوار، ج101، ص262.

ثمّ تقول الزهراء(عليها السلام) : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين).(1) أمّا علاقة هذه الآية بما قبلها من أقسام الخطبة فهي أنّه إذا اتّخذ المرء لفعله أساساً غير كلام اللّه تعالى وكلام نبيّه الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم)فقد خرج عن جادّة الإيمان وإنّ مآله لا محالة سيكون إلى الكفر. فالشيطان أحياناً قد يأتي الإنسانَ بمظهر المؤمن. إذن لابدّ أن نتوخّى الحذر الشديد، وأن نعرف معيار الحقّ والباطل وأن لا ننخدع بهذه المظاهر.

لمحة عن مظلوميّة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

نحن ندرك أيّ حال يكون عليه الناس عندما يفقدون شخصيّة عظيمة مفعمة بالبركة برحيلها عن الدنيا. لكنّ السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هنا هو: هل إنّ البشر بعد رحيل أعظم رحمة إلهيّة من بين ظهرانيهم قد أدّوا حقّ هذه الشخصيّة كما يجب؟ فالتاريخ يخبرنا - مع شديد الأسف - أنّ هذا التوقّع لم يتحقّق. ولابدّ لهذا النمط من سوء المعاملة أن يُدرس ويُناقَش من الناحية التاريخيّة ويُطرح على طاولة التحليل أيضاً.

إنّ من الأسباب التي أدّت إلى هذا الأمر هي أنّ النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان قد أمر قبل وفاته، وبأمر من اللّه عزّ وجلّ، بتشكيل جيش وقد أمَّر عليه اُسامة وأصرّ على خروج الناس من المدينة تحت إمرته، وقد كان هذا الأمر تمهيداً قد أعدّه اللّه تبارك وتعالى من أجل أن لا تقع الفتنة بعد رحيل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وذلك من أجل تثبيت خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام). لكنّ نفراً من القوم كانوا على اتّصال مستمرّ مع المركز وقد خطّطوا للعودة إلى المدينة بمجرّد وفاة النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد نفّذوا ما خطّطوا له فعلاً. وجرياً على القاعدة فإنّه كان لابدّ لمن بقي في المدينة - عند مشاهدتهم أنّ حالة النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليست على ما يرام وأنّها قد تكون اللحظات الأخيرة من عمره الشريف - أن يجتمعوا وأن تطغى عليهم حالة من الحزن والبكاء، كما حصل أيّام استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام). لكنّ السؤال الكبير الذي يُطرح هنا هو: لماذا لم يحصل ذلك؟!

لقد قُدّمت لذلك تفاسير مختلفة، فقال البعض على سبيل المثال: «لقد خشي المسلمون من وقوع الاختلاف بعد رحيل النبيّ وأن يؤدّي الفراغ الحاصل في منصب قيادة الامّة إلى ضعف المسلمين. ومن هنا فقد اجتمعوا واستعجلوا في تعيين خليفة رسول اللّه

ص: 285


1- . سورة آل عمران، الآية 85.

كي ينقذوا المجتمع من تبعات هذا الفراغ القياديّ»! وهذا هو من أكثر التفاسير المطروحة في حسن الظنّ؛ لكنّه من المستبعَد أن يحظى بالقبول؛ إذ لم يكن هناك – في الحقيقة – فراغ قياديّ أساساً. فمنذ سبعين يوماً فقط كان النبيّ قد رفع يد عليّ (عليه السلام) قائلاً: «مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَهٰذَا عَلِيٌّ مَوْلاه»؛(1) ؛ فأين الفراغ القياديّ؟! إذن لم يكن في هذه المسألة أيّ إبهام أو لبس. لكنّ هؤلاء إمّا أن يكونوا قد نسوا ذلك، أو كانت لديهم دوافع ونيّات اُخرى ولسنا هنا في صدد إصدار الحكم على سلوكهم، بل نريد أن نذكر ما وقع في ذلك الحين إجمالاً. فما حصل هو الآتي: لقد اجتمع نفر في سقيفة بني ساعدة وبايعوا أحد المهاجرين بالخلافة في حين أنّ جنازة النبيّ لا زالت ملقاة على الأرض بلا غسل ولا دفن!

نبذة عن مظلوميّة عليّ وفاطمة (عليها السلام)

ولنفترض أنّهم فعلوا ذلك عن حسن نيّة أو جرّاء نسيانهم، لكنّ الخبر عندما بلغ أمير المؤمنين سأل (عليه السلام) عن سبب انتهاج القوم هذه الطريقة في تعيين خليفة رسول اللّه، فكان الردّ: «يقولون: إنّنا من أرحام النبيّ»! فكان ردّه (عليه السلام) أنّه لا يوجد من هو أقرب منّي إلى رسول اللّه؟ فكيف يمكن أن لا يُطرح اسمي على الإطلاق؟! وقد تلت هذه الواقعة أحداثٌ لابدّ أنّها طرقت مسامعكم مراراً؛ فقد اجتمع الناس أمام باب أمير المؤمنين (عليه السلام) وقادوه بالإكراه إلى المسجد لانتزاع البيعة منه، وغير ذلك من الأحداث التي إن صحّ ما تناقلته كتب التاريخ عنها – وهو ما يبدو أنّه صحيح – فإنّها كانت حوادث شديدة ومريعة للغاية ولم يكن من المتوقّع على الإطلاق أن يقابِل المسلمون أهلَ بيت النبيّ (عليهم السلام) بهذه الكيفيّة.

في خضمّ هذه الأحداث كان أمير المؤمنين (عليه السلام) قد أتمّ الحجّة على الناس في المسجد، ولم يكتف بذلك بل أخذ يطَرْق أبوابهم فرداً فرداً ليذكّرهم بوصايا النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبالبيعة التي بايعوه بها. لكنّ الأمر قد انتهى إلى تثبيت خلافة الخليفة الأوّل. أمّا أهل بيت الرسول (عليهم السلام)، فما عدا الاحتجاجات التي اتمّوا بها الحجّة على الناس، فإنّهم لم يُقدِموا على أيّ عمل آخر ولم يُشهروا سيفاً تفادياً لشقّ عصى المسلمين وتجنّباً لسوء استغلال الأعداء للوضع. فلو

ص: 286


1- . الكافي، ج1، ص420.

أقدم أهل البيت(عليهم السلام) في ذلك الحين على خطوات عمليّة لكان قد انتهى الأمر ولم تكن لتمضي فترة طويلة حتّى يُمحى الإسلام ولا يبقى له أثر قطّ.

قصّة غصب فدك

بعد تثبيت الخلافة توجّه الجهاز الحكوميّ إلى الشؤون الحكوميّة. ووفقاً لبعض الأخبار فقد ابتدأوا بمجيئهم إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وقالوا له (لنقل من باب المشورة): «الخلافة قد ثُبّتت؛ لكن كيف ينبغي التصرّف بالأموال التي كانت في يد النبيّ إلى حين وفاته»؟! فأجابهم (عليه السلام) بإنّه ينبغي أن يُتصرّف بها كما كان النبيّ يتصرّف بها في حال حياته. قالوا: «فماذا عن أموال خيبر»؟ وكان السؤال عن هذه الأموال يمتاز بمزيّة خاصّة؛ إذ إنّ من جملة أحكام الإسلام أنّه إذا استسلم العدوّ في مقابل الحاكم الإسلاميّ تاركاً أمواله أو مسلّماً إيّاها له فإنّ تلك الأموال لا تُقَسّم بين المسلمين، بل إنّها تعود إلى شخص الحاكم أي النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خاصّة وإنّ له الخيار في أن يتصرّف فيها بما يرى فيه المصلحة. يقول اللّه تبارك وتعالى في الآية السادسة من سورة الحشر: (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلٰكِنَّ اللّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَنْ يَشَاءُ)؛ فهناك أموال قد أعادها اللّه إليكم من دون أن تجيّشوا في سبيل إعادتها جيشاً أو تدخلوا حرباً بل لقد سلّمها أصحابها إليكم طواعية. فمثل هذه الأموال تعود إلى اللّه وإلى رسوله وليس لسائر الناس فيها من حقّ. وإن شأن نزول هذه الآية هي قلاع خيبر والقرى المحيطة بها التي من جملتها قرية فدك.

إذن عندما جاء الخليفتان الأوّل والثاني إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) قائلين: «ما هو حكم هذه الأموال»؟ أجابهما (عليه السلام) بأنّه ينبغي أن تحكما فيها بما كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) سيحكم فيها أثناء حياته. قالا: «فماذا عن فدك»، وكانت فدك من جملة هذه الأموال التي وهبها النبيّ للزهراء (عليها السلام) وجميع الناس كانوا يعلمون بهذا الأمر وحتّى بعد وفاة النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان عامل الزهراء (عليها السلام) ووكيلها هو الذي يشتغل في رعاية شؤون هذه الأرض. أجابهما أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّ النبيّ هو الذي وهبها للزهراء وهي لها. قالا: «كلا، إنّها لبيت المال ولابدّ من إرجاعها إليه»! فذهبا وأخرجا عامل الزهراء (عليها السلام) من الأرض وتمّ الاستيلاء عليها. أمّا إخواننا من أهل السنّة فإنّهم يبرّرون هذه القضيّة بأنّ هذين كانا يعلمان بمصلحة الإسلام

ص: 287

في هذا الأمر، أو أنّهما كانا يعتقدان بأنّ تصرّفات النبيّ كانت معتبَرة في زمان حياته، أمّا بعد وفاته فإنّ لمَن يخلفه - كائناً من كان - حق ّالتصرّف بأيّ صورة يرى فيها المصلحة.

الاحتجاج الأوّل لفاطمة (عليها السلام)

لم تستمرّ حياة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بعد رحيل النبيّ الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أكثر من 75 أو 95 يوماً. وطبقاً لما نقلته كتب التاريخ – التي لعلّ شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة هو أكثرها جامعيّة في هذا المجال – فقد أقدمت (عليها السلام) على عدد من الخطوات. ففي مجلس ضمّ الخليفة الأوّل ومَن كان من المقرّر أن يكون الخليفة الثاني من بعده جاءت الزهراء (عليها السلام) وشكته بحضور جمع من الناس مستنكرة عليه إخراج عاملها من فدك فأجابها: «إنّها لبيت المال ونريد إنفاقها في مصالح المسلمين»! فأجابته بإنّك تعلم أنّ رسول اللّه جعلها لي نحلة وليس للآخرين حقّ فيها. فقالا لها: «كلا، إنّها من المال العامّ المتعلّق ببيت المال ونحن نرى أنّ من المصلحة أن تُصرف في مصالح الاُمّة الإسلاميّة. فإن ادّعيتِ أنّ هذه المزرعة لك فأتِ بشاهد على ذلك»! فكان ردّ الزهراء (عليها السلام) أنّه لو كان مال في يد مسلم وادّعيتُه أنا فهل ستطالبني أنا بالبيّنة أم ستطالب ذلك المسلم؟ فأنا ذات يدٍ وإنّ المدّعي على ذي يدٍ هو الذي ينبغي أن يُقدّم الشهود على مدّعاه. فقانون القضاء الإسلاميّ (بل قانون القضاء في جميع أنحاء العالم) ينصّ على أنّه إذا ادّعى شخص مالاً وهو في يد غيره وجب عليه تقديم البيّنة على ما يدّعيه. ولم تكتف (عليها السلام) بذلك بل إنّها، ومن أجل إتمام الحجّة، جاءت بعليّ (عليه السلام) واُمّ أيمن كشاهدين. لكنّهما قالا: «عليّ شاهد واحد أمّا اُمّ أيمن فهي امرأة ولا تكفي امرأة واحدة للشهادة»! وهنا أيضاً لابدّ أن نذكّر بأنّ من قواعد القضاء أنّه إذا كان أحد الشاهدين امرأة فإنّه يتعيّن عليها أن تحلف اليمين عوضاً عن الشاهد الآخر. لكنّهما ردّا عليها بكلام غير مناسب.

الاحتجاج الثاني لفاطمة (عليها السلام)

وقد حصل حوار آخر أيضاً بين شخص الخليفة الأوّل ومولاتنا الزهراء (عليها السلام) على انفراد إذ تحدّثت معه بشكل خاصّ وبدلاً من أن تتناول قضيّة أنّها ذات يدٍ وليس من الضروريّ أن تأتي ببيّنة وأنّها - مع ذلك - جاءت بعليّ (عليه السلام) كشاهد، فقد طرحت في هذه المرّة مسألة أنّ

ص: 288

النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان أحياناً يقبل بشهادة واحد من الصحابة الذين يثق بهم كثيراً عوضاً عن شهادتين، فكيف بي وقد جئتُك بعليّ واُمّ أيمن ولم تقبل بهما كشاهدين! فتأثّر الخليفة في مقابل هذا المنطق وكتب لها كتاباً يثبت تعلّق المِلْك بها. لكنّ شخصاً صادفها في الطريق وأخذ منها الكتاب ومزّقه وتجاسر عليها أيضاً. وقد مضى هذا الحدث أيضاً ولم يتمّ الوصول فيه إلى نتيجة حاله في ذلك حال مسألة الخلافة.

فدك ذريعة لتوضيح الاُمور

لقد تصوّر البعض أنّ قلق الزهراء (عليها السلام) كان مقتصراً على حرمانها من موارد فدك المادّية! وإنه لمنتهى الجفاء بحقّ الزهراء (عليها السلام) أن نفكّر بهذه الطريقة، فجميع أموال العالم تساوي قبضة من الرماد في نظر الزهراء (عليها السلام). إذن هذا لم يكن أصل الموضوع قطعاً، وإنّ ما كان يحزّ في نفوس أهل بيت الرسول (عليهم السلام) ويؤلمهم هو أنّ تلك التصرّفات كانت سبباً في سحق أحكام الإسلام التي صرّح بها القرآن الكريم، بالضبط كما نسي الناس البيعةَ التي أخذها منهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) حتّى كأنّ شيئاً لم يكن. فقد جاء في الخبر أنّه عندما نزلت الآية الشريفة: (وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ)(1) أعطى النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هذا المال لفاطمة (عليها السلام) ، لكنّ سلوك القوم بعد ذلك كان بشكل يخالف أمر الرسول الأعظم ونصّ القرآن الكريم. مضافاً إلى ذلك فإنّ قوانين القضاء الإسلاميّ باتت في معرض الزوال شيئاً فشيئاً. فإلى أين ستؤول الاُمور إذا استمرّ الوضع على هذا المنوال؟ فإن لم يواجَه هذا النهج الذي ابتدأ الآن فسوف يؤدّي إلى الكفر وحينذاك لن يبقى من الإسلام سوى أثر بعد عين. إذن فإنّ آل الرسول (عليهم السلام) كانوا قلقين من هذه الاُمور تحديداً. فهذا أمير المؤمنين (عليه السلام) يشير إلى نفس هذه النقطة في رسالة كتبها إلى عثمان بن حُنَيف يقول فيها: «كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلّته السماء فشحّت عليها نفوس قوم وسَخَت عنها نفوس قوم آخرين» إلى أن يقول: «وما أصنع بفدك وغير فدك»؟!(2) فالقضيّة كانت تتلخّص في مواجهة هذا التيّار السياسيّ

ص: 289


1- . سورة الإسراء، الآية 26.
2- . نهج البلاغة، الرسالة 45.

الحاكم، وإتمام الحجّة على الناس كي يفهموا بأنّ هؤلاء غير مؤهّلين للحكم، وإنّ المنصب الإلهيّ للخلافة لابدّ أن يكون من نصيب المعصوم (عليه السلام).

السقيفة أداة لجرّ العالم الإسلاميّ إلى العلمانيّة

لو أردنا أن نفسّر واقعة السقيفة بلغتنا المعاصرة وعبر المفردات المستخدمة في زماننا فلابدّ أن نقول: إنّ أوّل خطوة في العالم الإسلاميّ اتُّخذت باتّجاه تحويل المجتمع الإسلاميّ إلى العلمانيّة كانت في السقيفة؛ فالسقيفة كانت مشروعاً لفصل الدين عن السياسة. فالقوم ما كانوا يأبون أن يبادروا أحياناً إلى سؤال عليّ ابن أبي طالب (عليهما السلام) حول مسألة شرعيّة، بل لقد فعلوا ذلك فعلاً في عهد الخلفاء. كما أنّهم ما كانوا يأبون القول: «نحن لا نعلم حكم الإسلام، وعلينا أخذه منك»! لكنّهم كانوا يأبون أن يتسلّم آل بيت الرسول (عليهم السلام) مقاليد السلطة ويصدّرون الأحكام. فما معنى هذا التفكيك الذي يحصر الحكم والحكومة في نفر من الناس ويجعل تبيين أحكام الدين على عاتق نفر آخر منهم؟! فهذا لَعمري هو عين العلمانيّة وأساسها.

وحتّى في يومنا هذا فإنّه يوجد من يحمل نفس هذه الرؤية بالنسبة لتسلّم المناصب في هذا النظام القائم في هذه الجمهوريّة الإسلاميّة. فأمثال هؤلاء إمّا أنّهم لا يقبلون بأصل ولاية الفقيه، أو أنّهم يتعاملون مع هذا المنصب كمنصب شكليّ ولا يرون وجوب تنفيذ أحكام صاحبه وأوامره. فهم يزعمون أنّ فهمهم للاُمور يفوق فهمه بكثير، وأنّه هو الذي يجب عليه طاعتهم! فينبغي أن لا نعجَب من تعامل المسلمين مع ابنة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، إذ لو رجعنا بذاكرتنا سنتين إلى الوراء لشاهدنا وقائع من هذا الصنف؛ ولشاهدنا كيف تصرّف البعض مع المشتركين في عزاء سيّد الشهداء (عليه السلام) في يوم عاشوراء، ومن الذين أصدروا الأوامر بذلك، ومن كان الراضي عن هذا الفعل، ومن الذين يأبون إلى الآن أن يتبرّأوا ممّن قاموا بهذا العمل الشنيع ويدينوهم. بطبيعة الحال لابدّ أن نقرّ لشعبنا اليوم بأنّه أكثر فهماً وإدراكاً للامور من أهل ذلك العصر الذين غيّروا مسيرة التاريخ عبر بعض المغالطات الجزئيّة، وانخدعوا بحديثٍ موضوعٍ مفاده: «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث، ما تركناه صدقة».(1)

ص: 290


1- . عمدة القاري (للعيني)، ج14، ص163؛ وتفسير الرازي، ج9، ص21؛ وفتح القدير (للشوكاني)، ج3- ص322.

الاحتجاج الثالث لفاطمة (عليها السلام)

إذن فقد وصل الأمر في نهاية المطاف بقضيّة فدك إلى نسيان أنّها نحلة وأنّها هبة وهبها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لفاطمة (عليها السلام) وطُوي سجلّها كما طُوي سجلّ قضيّة الخلافة من قبل. كانت الزهراء (عليها السلام) تعلم أنّها لن تبقى في هذه الدنيا أكثر من أيّام قلائل، وكانت تحاول في غضون هذه البرهة القصيرة من الزمن أن تقوم بما من شأنه أن يقوّي دعائم الإسلام ويثبّتها أكثر. ومن هنا فقد سعت إلى طرح القضيّة من باب آخر وهو أنّه: «إذا لم توافق على كون فدك هبة من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فلا شكّ أنّك تقرّ بأنّها كانت ملكاً للنبيّ أساساً، فذلك ما صرّح به القرآن الكريم ولا يسعك إنكاره. فإن كان الأمر كذلك فإنّني ابنة النبيّ ووريثته. وبناء عليه فإنّه يجب أن تنتقل فدك إلى ملكيّتي».

وهنا قد وقع الكثيرون في إشكال فقالوا: «لقد التبس علينا الأمر حقّاً! فلم نفهم ماذا كانت فاطمة الزهراء (عليها السلام) تدّعي حول فدك هل كانت نِحلَة، أم إرثاً»؟ والجواب على ذلك هو أنّها (عليها السلام) ومن أجل مواجهة هذا النظام الذي لا يصلح للخلافة فقد انتهجت سبيلين؛ فهي قد طرحت - أوّلاً - مسألة كون فدك نِحلَة لتوضّح للناس أنّ هؤلاء إمّا أنّهم غير عارفين بأحكام اللّه، الأمر الذي يجعلهم غير صالحين لخلافة رسول اللّه أساساً، وإمّا أنّهم يخالفون حكم اللّه متعمّدين، وعندها فمن الأولى أن يثبت عدم أهليّتهم للخلافة. فإذا طُويت صفحة كونها نِحلة فقد سلكت (عليها السلام) سبيلاً آخر للوصل إلى مبتغاها فادّعت كونها تركة يمكن أن تورّث الكشف عن عدم أهليّة الخلفاء في كلام فاطمة (عليها السلام).

نبذة عن المباحث السابقة

يدور موضوع بحثنا حول خطبة مولاتنا فاطمة الزهراء (عليها السلام) المعروفة بالخطبة الفدكيّة. ومن أجل المحافظة على ترابط البحث نعرض هنا موجزاً عمّا أوردناه من المباحث السابقة. فالقصّة باختصار هي أنّ جماعة من المسلمين كانوا قد اجتمعوا بعد رحيل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعيّنوا خليفة له بذريعة أن لا تبقى الاُمّة من دون زعيم. ولم يُصغ أحد حينها لكلام المعارضين لهذه الطريقة فكانت الغلبة للطرف القائل: «الناس أنفسهم هم الذين يجب أن يعيّنوا خليفة للنبيّ»! وإنّ من جملة الأعمال التي قام بها الجهاز الحكوميّ منذ اليوم الأوّل

ص: 291

لتسلّم مقاليد الامور هي أنّه قام بغصب عقار كان النبيّ الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد أعطاه للزهراء (عليها السلام) في حياته بأمر من اللّه عزّ وجلّ وذلك بزعم أنّ هذه الأموال يجب أن توضع تحت تصرّف الحاكم! وقد اشتكت فاطمة الزهراء (عليها السلام) على هذا التصرّف عند الحاكم في حينها. وطبقاً لرواياتنا، بل وأحياناً روايات أهل السنّة أيضاً فإنّ الخليفة الأوّل قد كتب لها في إحدى المرّات كتاباً خطّياً يقرّ فيه لها بأحقّيتها في ملكيّة العقار، لكنّ أشخاصاً آخرين لم يتحمّلوا ذلك فعمدوا إلى أخذ هذا الصكّ منها وتمزيقه.

الملاحظة التي لا ينبغي أن تغيب عن الأذهان في هذا المضمار هي أنّ إصرار مولاتنا الزهراء (عليها السلام) على هذا الأمر، وخلافاً لما يظنّه بعض ضيّقي الأفق والسطحيّين في التفكير، لم يكن أبداً سعياً وراء مصالح مادّية، بل إنّها (عليها السلام) وبعد يأسها من رجوع الخلافة إلى مسيرها الصحيح باتت تشعر أنّ على عاتقها مسؤوليّة جسيمة وهي تبيين مسألتين لاولئك المعاصرين لها ولأجيال المستقبل أيضاً؛ الاُولى هي إفهام الجميع بأنّ هذا العمل الذي اُنجِز لم يكن بإجماع من المسلمين، والثانية هي أنّ الاختيار لم يقع على الشخص المناسب وأنّ الذين تسلّموا مقاليد الامور لا يتمتّعون بالأهليّة لذلك.

ولهذا الغرض فقد قصدت الزهراء (عليها السلام) المسجد الذي كان مقرّ الحكومة آنذاك عدّة مرّات ودار بينها وبين خليفة زمانها كلام. فقد اعترضت عليه في إحدى هذه المرّات بأنّ فدكاً هي مِلك قد أعطانيه أبي نِحْلَةً «نِحلَة أبي»(1) وقد كانت تحت تصرّفي في زمان حياته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحتّى بعد مماته، فبأيّ حقّ تغتصبها الآن منّي؟! فقيل لها: «لابدّ أن تقيمي البيّنة على ما تدّعينه»! وهذا الجواب يخالف اُصول القضاء الإسلاميّ؛ ذلك أنّه عندما يكون عقار تحت تصرّف شخص فإنّه يكون ذا يد عليه كما يُصطلَح عليه فقهيّاً وإذا ادّعاه شخص آخر فلا ينبغي للقاضي أن يطالب ذا اليد بالبيّنة، بل إنّ المدّعي هو من يجب عليه أن يأتي بالبيّنة؛ ذلك أنّ: «البيّنة على المُدّعِي»(2)، لكنّ المتصدّين لإدارة الجهاز الحكوميّ كانوا قد أصرّوا على موقفهم بالقول: «العقار في أيدينا في الوقت الحاضر فإن كان لديك أيّ اعتراض فإنّ عليك إقامة البيّنة»! فقدّمت الزهراء (عليها السلام) أمير المؤمنين (عليه السلام) واُمّ أيمن كشاهدين على مدّعاها.

ص: 292


1- . الاحتجاج، ج1، ص107.
2- . الكافي، ج7، ص361.

وطبقاً لسنّة النبيّ الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإنّه كان يقبل بشهادة الرجل الواحد بدلاً من الرجلين إذا كان مشهوراً بالصدق ولم يعرف أحد منه الكذب. فقد كان خزيمة بن ثابت من جملة من كان النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقبل بشهادته وحده عوضاً عن شاهدين حتّى لُقّب بأنّه«ذو الشهادتين». فكان حريّ بالقوم في هذه القضيّة وقد شهد رجل مثل عليّ بن أبي طالب (عليهما السلام) أن لا يبتغوا شاهداً آخر. لكنّهم لم يقبلوا بتلك الشهادة وفُضّت الجلسة من دون أن يقرّوا لفاطمة (عليها السلام) بما تدّعيه. ثمّ حدث أن جاءت فاطمة مرّة أو مرّتين اُخريين إلى الخليفة ودار بعض الكلام بينهما حتّى أنّه لم يتمكّن في إحداهما أن يقدّم جواباً متقناً فكتب لها صكّاً يثبت ملكيّتها للعقار لكنّ هذا الصكّ قد مُزّق.

فعادت الزهراء (عليها السلام) بعد ذلك وذهبت إلى المسجد لتواجههم بأنّكم إذا رفضتم كون فدك نِحلَة لي، فإنّني ابنة النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الوحيدة وإذا كان النبيّ قد ورَّث شيئاً فإنّه سيصل لي لا محالة، فاعطوني فدكاً بعنوان الإرث إذن. وهذه المسألة كانت في الواقع تمهيداً لإثبات عدم أهليّة هؤلاء المتصدّين للحكومة والقضاء بين الناس. فعندما ادّعت (عليها السلام) الإرث قالوا لها: «إنّ الأنبياء لا يورّثون. فقانون الإرث يسري على عامّة الناس فقط، أمّا النبيّ فإنّ أمواله تُصرف بعد فراقه الدنيا في سبيل اللّه».

وَضْعُ حديث بما يخالف القرآن

وكان قدومها إلى المسجد من أجل إلقاء الخطبة الفدكيّة بعد إعلام مُسبَق قد تلا تلك الأحداث. وقد نُصب في المسجد دونها ستار فقامت (عليها السلام) خلف الستار منشئة هذه الخطبة.

أمّا مقطع الخطبة الذي أودّ سرده اليوم في هذا المجلس فهو الذي اشتمل على استدلال السيّدة الزهراء (عليها السلام) على بطلان المدّعى القائل بأنّ الأنبياء لا يورّثون، فقد أرادت (عليها السلام) بهذه الكلمات أن تثبت أنّ هذا الزعم يخالف صريح القرآن الكريم ونصّه، وذلك عندما وجّهت خطابها للخليفة نفسه قائلة: «وَأَنْتُمُ الآنَ تَزْعُمُونَ أَنْ لا إِرْثَ لَنَا»(1)؛ بأيّ دليل تدّعون أنّني لا أرِث أبي؟! فالزهراء البتول (عليها السلام) تذكر هنا عدّة وجوه لهذا المدّعى ممّا يحكي عمّا تتمتّع به هذه الشخصيّة العظيمة والمعصومة من قوّة الاستدلال وعمق الرؤية. فإذا أمعنّا النظر بدقّة

ص: 293


1- . بحار الأنوار، ج29، ص235.

في عبارات هذه الخطبة الشريفة فستتجلّى لنا ما تنطوي عليه من قوّة البيان وعمق المعاني. تقول بضعة المصطفى (عليها السلام): «وَأَنْتُمُ الآنَ تَزْعُمُونَ أَنْ لا إِرْثَ لَنَا»؛ يعني: لو افترضنا جدلاً أنّ النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يهبني فدكاً، إذن فقد كانت من أمواله وأنا التي ينبغي أن أرثه بعد موته، فلماذا تظنّون أن لا إرْث لنا؟! ثمّ تتابع: «أَفَحُكْمَ الجاهِلِيَّةِ تَبْغُونَ»؛ أفتريدون أن تحكموا كما كان يحكم أهل الجاهليّة وتقولون: إنّ البنت لا ترث أباها؟ «وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ»، وهذه العبارات مقتبسة من القرآن الكريم(1)، وهو اُسلوب قد اتّبعته (عليها السلام) في مقاطع مختلفة من هذه الخطبة وقد اتّصفت معظم هذه الاقتباسات بكونها لاذعة وعميقة المغزى والمضمون. فالزهراء (عليها السلام) تريد أن تقول هنا: «إذا كنتم تزعمون أنّني لا أرث أبي لكوني اُنثى، فاعلموا أنّ هذا الحكم هو حكم عصر الجاهليّة وأنّ الإسلام قد نسخه».

«أَفَلا تَعْلَمُونَ؟! بَلَى قَد تَجَلَّى لَكُمْ كَالشَّمْسِ الضَّاحِيَةِ أَنِّي ابْنَتُهُ»(2). فقد تزعمون وتقولون: «نحن لا نعلم إن كُنتِ ابنة الرسول حقّاً»! فهل أنتم لا تعلمون ذلك حقّاً؟! كلاّ بل هي واضحة لكم كالشمس في رابعة النهار أنّني ابنة النبيّ الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم). إذن فهذا الاحتمال أيضاً لا أساس له من الصحّة.

«أَفَعَلَى عَمْدٍ تَرَكْتُمْ كِتَابَ اللّهِ وَنَبَذْتُمُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِكُم». لقد ورد في الكتب الروائيّة لأهل السنّة وكذا في كتب التاريخ أنّ الخليفة قال لها: إنّي سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث، ما تركناه صدقة»(3). ولعلّ الزهراء (عليها السلام) تشير في هذا المقطع من الخطبة إلى هذا الادّعاء، فهي تقول: هذه الرواية على خلاف القرآن الكريم. أيمكن أن يتفوّه النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بشيء مخالف للقرآن؟! فلقد نبذتم بقولكم هذا كتابَ اللّه وراء ظهوركم وتريدون أن تحكموا بما يخالف صريح القرآن إِذْ يَقُولُ: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ»(4). أولَم يكن داوود نبيّاً؟! فكيف تقول: إنّ الأنبياء لا يورّثون؟! «وَقَالَ فِيمَا اقْتَصَّ مِنْ خَبَرِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيّا إِذْ

ص: 294


1- . سورة المائدة، الآية 50.
2- . الاحتجاج، ج1، ص102.
3- . صحيح البخاري، ج4، ص42 (طبعة دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع / سنة 1401 ه، 1981م)؛ وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزليّ، ج16، ص239 (طبعة دار إحياء الكتب العربيّة / سنة 1962م).
4- . سورة النمل، الآية 16.

قَالَ: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوب)(1)؛ فهذا زكريّا (عليه السلام) أيضاً يسأل اللّه ولداً يرثه ويرث آل يعقوب (عليه السلام) . أولم يكن زكريّا نبيّاً أيضاً؟!

وقال: (وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ)(2). فالاحتمال الآخر أنّكم قد تزعمون: «إنّ الأنبياء يورّثون لكنّ الوارثين ينقسمون إلى طبقات، وما دامت الطبقة الاُولى موجودة فإنّ الطبقات التالية لا ترث». فلو كان الأمر كذلك، فمن هو أقرب للنبيّ منّي؟ وقال: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ)(3)، وقال: (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ)(4)، فقبل أن يُبلَّغ قانون الإرث كان قد اُوصي بأن يوصي الناس لأولادهم، ثمّ اُبلغ قانون الإرث بصورة إلزاميّة بعد ذلك. وتريد (عليها السلام) أن تقول هنا: «ليس ثمّة مَن هو أقرب منّي إلى النبيّ كي يشكّل مانعاً من أن أرِثَه ».

«وَزَعَمْتُمْ أَلاّ حُظْوَةَ لِي وَلا أَرِثُ إرْثَ مِنْ أَبِي وَلا رَحِمَ بَيْنَنَا، أَفَخَصَّكُمُ اللّهُ بِآيَةٍ أَخْرَجَ أَبِي مِنْهَا»؟! فإن قلتم: «صحيح أنّ الأنبياء في نظر القرآن يورّثون ولم يرد لهذا الحكم ناسخ، لكنّكِ أنتِ بالذات لا ترثين أباك»! بمعنى: أنّ آيات الإرث قد اختصّت بكم وهي لا تشمل أبي! في حين أنّ أيّاً من الآيات المذكورة آنفاً لم تستثن سيّد المرسلين (صلی اللّه عليه وآله وسلم). فالأحكام الحقوقيّة سواء فيما يتّصل بالنبيّ وبسائر الناس اللّهمّ إلاّ في أحكام استثنائيّة صرّح القرآن الكريم بأنّها خاصّة بالنبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، لكنّه يشترك مع الرعيّة في مقابل أحكام اللّه الاخرى.

«أَمْ هَلْ تَقُولُونَ: إِنَّ أَهْلَ مِلَّتَيْنِ لا يَتَوَارَثَانِ؟ أَوَلَسْتُ أَنَا وَأَبِي مِنْ أَهْلِ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ»؟ فقد تزعمون أيضاً: «أنّ الوارث لا يرث إلاّ إذا كان على دين مورّثه». أولستُ أنا على دين أبي؟! أم تقولون: «لا يرثُ مَن يدين بدين معيّن الذي يدين بدين آخر أساساً؛ أي إذا كان المورّث مسلماً مثلاً ووارثه مرتدّاً قد دخل الكفر فإنّه لا يرثه». فهل يعني هذا أنّني قد خرجت عن ملّة الإسلام؟! ألم أكن وأبي من أهل دين واحد؟! إذن فهذا الاحتمال لا وجه له أيضاً.

ص: 295


1- . سورة مريم، الآيتان 5 و 6.
2- . سورة الأنفال، الآية 75.
3- . سورة النساء، الآية 11.
4- . سورة البقرة، الآية 180.

«أَمْ أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِخُصُوصِ الْقُرْآنِ وَعُمُومِهِ مِنْ أَبِي وَابْنِ عَمِّي». إذن لا يبقى إلاّ احتمال واحد وهو أن تدّعوا: «إنّ للآيات المذكورة معاني اخرى وإنّ قراءتكم لها تختلف عن قراءتنا! وإنّكم تفهمون عموم القرآن وخصوصه أفضل من أبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وزوجي عليّ (عليه السلام)». وقد جاء في بعض النسخ أنّها (عليها السلام) ألحقت كلامها هذا بالقول: «فَدُونَكَهَا مَخْطُومَةً مَزمُومَةً مَرْحُولَةً تَلْقَاكَ يَوْمَ حَشْرِكَ». فكانت العرب إذا أرادت ترويض الناقة وضعت شيئاً في أنفها وربطت به لجامها. فكان يقال للشيء الموضوع في أنف الناقة «خطاماً»، وللناقة الموضوعِ في أنفها ذلك الشيء «مخطومةً»، كما أنّ العرب تقول للناقة المُعَدّة للركوب والرحيل «مرحولةً» وتقول للجامها «زماماً»، كما ويقال لتلك المُعَدّ زمامها والمربوطة به «مزمومة». إذن فالزهراء (عليها السلام) تخاطب الخليفة الأوّل بالقول: «خذ ناقة الخلافة هذه فهي مُعَدّة للركوب وليس من مزاحم لك عليها إطلاقاً، فجهازها مُعَدّ وزمامها في يدك، فخذها وانطلق بها حتّى يأتي اليوم الذي يأخذ اللّه تعالى فيه حقّي منك».

موعدنا يوم القيامة

عندما تصل الزهراء (عليها السلام) بكلامها إلى هذا المقطع تقول: «فَنِعْمَ الْحَكَمُ اللّهُ»؛ فأنا اُحَكِّم اللّه بيني وبينك. «وَالزَّعِيمُ مُحَمَّدٌ»، وأَجعلُ من أبي كفيلاً لي في هذه القضيّة ليدافع ويقيم الدعوى عنّي، «وَالْمَوْعِدُ الْقِيَامَةُ»؛ وسَاُرجِئ جلسة القضاء إلى يوم القيامة، وَعِنْدَ السَّاعَةِ (يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ)(1)؛ وهنا أيضاً تقتبس كلامها من كلام اللّه عزّ وجلّ حينما تقول: إنّ الذين يختارون سبيل الباطل سوف يخسرون يوم القيامة. «وَلا يَنْفَعُكُمْ إِذْ تَنْدَمُونَ» فإنّكم ستندمون حينئذ حيث لا ينفعكم الندم شيئاً. (وَلِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)(2)؛ (مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ)(3)؛ وهنا اقتباس آخر من آي الذكر الحكيم، تقول فيه: ستعلمون عن قريب من الذي سيُفتَضَح أمره ويحيق به عذاب أبديّ.

ص: 296


1- . سورة الجاثية، الآية 27.
2- . سورة الأنعام، الآية 67.
3- . سورة هود، الآية 39؛ وسورة الزمر، الآية 40.

فهي تهدّدهم بكونهم مشمولين بهذه الآية الكريمة وأنّ اللّه تعالى سيصدر يوم القيامة حكمه ضدّكم وعندها ستتورّطون بعذاب أبديّ.

الهدف الأساسيّ لفاطمة(عليها السلام)

واُؤكّد هنا من جديد على أنّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) كانت ترمي من كلّ ذلك إلى أن تُثْبِت للناس أنّ هؤلاء ليسوا جديرين بهذا المنصب لأنّهم لا يستطيعون حتّى أن يقضوا في خصومة بسيطة وفقاً لموازين القرآن الكريم وقواعده. فأنّى لهم أن يتولّوا منصب خلافة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهم لا يدرون من أيّ طرف من طرفَي الخصومة ينبغي المطالبة بالبيّنة؟! فإن كان ولابدّ أن تختاروا أحداً لمنصب الخلافة فيتعيّن – على أقلّ تقدير – أن يتمتّع من تختارونه بالأهليّة لذلك.

إذن فالهدف الأساسيّ من كلّ ما أظهرته (عليها السلام) من شفقة والغاية الجوهريّة من كلّ تلك المحاجّات هي أنّها (عليها السلام) أرادت أن ترسم لمن سيأتي بعد 1400 سنة على تلك الحادثة سبيلاً إلى تشخيص الحقّ ليفهم ويدرك إنْ كان هذا الانتخاب انتخاباً صائباً أم لا؛ وإلاّ فإنّ تلاًّ من الذهب لا يعادل في نظر المعصومين (عليهم السلام) كومةً من الرماد، وليس لمال الدنيا في أعينهم أيّ قيمة.

لا ينبغي قطع طريق الحقّ

إنّنا في الوقت الذي ندرك فيه تكليفنا بأنّه ينبغي أن يكون تعاملنا مع إخواننا من أهل السنّة تعاملاً ودّياً وحميماً وأنّ نطلب الخير لهم باستمرار، فإنّنا غير غافلين عن مسألة أنّه من جملة الخير الذي نطلبه لجميع إخواننا من المسلمين هو أنّه يتعيّن علينا السعي وبذل الجهود من أجل المحافظة على طريق الحقّ سالكةً مفتوحةً دوماً، وإذا صادف وجود أيّ اختلاف في الرأي فلابدّ - من أجل حلّه - من الرجوع إلى الوثائق والأسناد ذات العلاقة. فلابدّ من توفّر أجواء سليمة للبحث والمناقشة كي يتمكّن كلّ طالبٍ للحقّ من تشخيصه. فإنّ أشخاصاً من آل بيت الرسول (عليهم السلام) كانوا معارضين لهذا النمط من السلوكيّات والتصرّفات التي حصلت في ذلك الحين. فإن رغب أحد في معرفة أنّه: مع مَن كان الحقّ؟ فلابدّ له من

ص: 297

الرجوع إلى الوثائق والأسناد المتوفّرة من أجل دراستها ومناقشتها. فلو قمنا نحن بحجب تلك الوثائق عن الناس ولم ندع تلك الامور تطرق أسماع الآخرين كي يجيلوها في أذهانهم ويفكّروا بها مليّاً فإنّنا - في الواقع - نكون قد قطعنا طريق تشخيص الحقّ على الآخرين وإنّه سيأتي اليوم الذي سيشتكي فيه علينا نفس إخواننا السنّة عند ربّهم قائلين: «لو أنّكم كنتم قد بيّنتم لنا تلك الحقائق لما كنّا بقينا على ضلالتنا».

إذن فواجبنا الدينيّ يحتّم علينا أنّه في الوقت الذي نسعى فيه للحفاظ على مودّتنا واُخوّتنا مع جميع طوائف المسلمين وأن نطلب لهم الخير، وفي ذات الوقت الذي نسعى فيه للحيلولة دون إيجاد التوتّرات والعداوات والبغضاء بين المسلمين، فإنّه يجب علينا أن ندع باب البحث والتحقيق مفتوحاً على مصراعيه.

عصارة المباحث السابقة

تبدأ الخطبة بالعبارة التالية: «الْحَمْدُ للهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ، وَلَهُ الشُّكْرُ عَلَى مَا أَلْهَم». فالأنبياء والأولياء وعلماء الدين يستهلّون خطبهم بحمد اللّه والثناء عليه. لكنّ صفات اللّه تعالى ونعماءه التي تُستهلّ بها الخطبة تكون عادةً متناسبة مع الهدف الذي اُنشئت الخطبة من أجله. وفي هذه الخطبة المباركة أيضاً ذُكرت أوصاف خاصّة يمكن من خلال التأمّل فيها التوصّل إلى بعض الحِكَم من وراء تنظيم المقاطع المختلفة للخطبة. وعلى أقلّ تقدير فإنّ ذكرها يساعدنا أكثر على الوقوف على أهمّية الخطبة والهدف من إنشائها.

أعظم خدمة للبشريّة

بالإضافة إلى حمد اللّه عزّ وجلّ والثناء عليه فقد احتوت هذه الخطبة الشريفة على ثلاث مباحث جوهريّة توالت في إثر بعضها، ألا وهي التوحيد، والنبوّة، والمعاد التي هي - في الحقيقة - أساس الدين. فقد ذُكرت في بداية الخطبة، وبطراز خاصّ، الشهادةُ بوحدانيّة اللّه تعالى. فالتوحيد ينهض بدور أساسيّ وجوهريّ في سعادة البشر وإنّ الشهادة بالتوحيد تمثّل - في واقع الأمر - اعترافاً بهذه النعمة الإلهيّة العظيمة وهي أنّ اللّه جلّت آلاؤه قد منّ

ص: 298

علينا بأكثر عوامل السعادة أصالةً، ممّا لو لم يكن لما كانت باقي الامور ذات فائدة. وبطبيعة الحال فإنّ للتوحيد مراتب وشؤوناً مختلفة.

ولا يبتعد الاهتمام بهذه المسألة عن كونه مناسباً مع هدف الخطبة. فكان بإمكان السيّدة الزهراء (عليها السلام) أن تقول: «أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وحده لا شريك له». غير أنّ ذكر هذه الأوصاف والتأكيد على أنّ سعادة الإنسان مبنيّة على هذا الاعتقاد إنّما هي مقدّمة للمبحث الذي مفاده أنّ العمل الذي قام به أبي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من أجل المجتمع البشريّ، حيث أنقذهم من الشرك والضلالة وكافّة الشرور، كان عملاً جذريّاً وغاية في العظمة، وليس من الممكن مقارنته مع عمل أيّ إنسان آخر؛ ذلك أنّ الشيء الذي بذله (صلّى اللّه عليه وآله) للاُمّة ووضعه في متناولها هو أهمّ العوامل وأكثرها أصالة وجوهريّة لسعادة البشر قاطبة إلى يوم القيامة. إذن فالخدمة التي قدّمها الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للمجتمع البشريّ بشكل عامّ والامّة الإسلاميّة ومخاطَبي السيّدة الزهراء (عليها السلام) بشكل خاصّ كانت أنّه عرّفهم بالتوحيد وأنقذهم من الشرك والضلال.

من هنا فإنّ هذا المقطع من خطبة فاطمة الزهراء (عليها السلام) يمثّل مقدّمة لبيان قيمة ما قدّمه أبوها (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من خدمات. فأهمّية التوحيد تتجلّى من خلال هذه المقدّمة، لأنّه عندما يفهم المتلقّي أنّ النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد بذل مثل هذه الخدمة للبشريّة فإنّه سيدرك مقدار ما لفعله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من قيمة وما لمعاناته وجهوده في هذا المضمار من خطورة.

وقد تمّ التركيز في أثناء الشهادة بالتوحيد على صفتين إلهيّتين هما: الربوبيّة التكوينيّة لله تعالى؛ بمعنى أنّ اللّه قد تلطّف على البشر بنعمة الحياة، ونعمة الوجود وما يستلزمه الوجود من لوازم. فإنّ كلّ ما يعود إلى الامور التكوينيّة وما ينتفع الناس به يقع ضمن إطار هذه المجموعة؛ ومن جملة هذه النعم هي أنّه جلّ شأنه وفّر في البيئة المحيطة بالإنسان ما يناسبه من أجل نموّه وحياته. وهذا اللون من الربوبيّة يشمل جميع الكائنات والموجودات. أمّا ما يستقطب أهمّية أكبر بالنسبة للإنسان فهو الربوبيّة التشريعيّة وهداية البشر. إذ أنّ ما يوجب سعادة المرء في الدنيا والآخرة هو اكتشاف السبيل القويم للحياة وهي مهمّة كانت من نصيب الأنبياء (عليهم السلام) . ومن هذا المنطلق فقد عرّجت (عليها السلام) بعد الشهادة بالتوحيد على الشهادة بالرسالة مشيرة، في هذا المقام، إلى عظمة نعمة الأنبياء، خصوصاً النبيّ الخاتم (صلی اللّه عليه وآله وسلم). وهنا تذكر مولاتنا فاطمة (عليها السلام) الجهود والأعباء التي قاساها وتحمّلها الرسول الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في سبيل أداء

ص: 299

هذه الرسالة الإلهيّة وإيصال هذه الربوبيّة التشريعيّة لله عزّ وجلّ إلى حيّز العينيّة بالنسبة لأهل العالم. فلولا بعث اللّه سبحانه وتعالى للأنبياء، لاسيّما النبيّ الخاتم (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، لما تمكّن الناس من تشخيص الصراط المستقيم. ولولا هذه الهداية وهذه النعمة لبقي الناس في مستوى الحيوانات، بل وأخسّ منهم أيضاً؛ فالقرآن يصرحّ بأنّ بعض الناس هم أخسّ من البهائم: (أُوْلَٰئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ)(1)، ووفقاً لصريح القرآن الكريم أيضاً فإنّ: (شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ)(2). إذن فإنّ الذي يستطيع أن ينقذ الإنسان من قعر هذا الحضيض هو الموجودات المقدّسة المتمثّلة بالأنبياء عامّة وبخاتمهم خاصّة وما جاءوا به (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من تعاليم.

فتذكير الزهراء (عليها السلام) بهذه النقاط من شأنه أن ينبّه الناس إلى ما بذله أبوها من جهود ويقودهم إلى إدراك أنّه أيّ حقّ عظيم لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في رقابهم. إذن فذكر سمات الرسول الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وما كان لجهوده وأتعابه من تأثير على هداية الناس ونجاتهم من الضلالة يتناسب هو الآخر مع هدف الخطبة؛ فسيّدتنا فاطمة (عليها السلام) إنّما تذكر ذلك لتقول فيما بعد: «هذا الرجل الذي قدّم كلّ تلك التضحيات كان أبي؛ وهو الذي كان له حقّ عليكم، وأنا ابنته الوحيدة». ثمّ تقول: «فبعد أن أدّى أبي رسالته على أتمّ وجه فضّل اللّه تعالى أن يقبضه إلى جواره وجوار ملائكته المقرّبين على أن يبقيه في هذه الدنيا: «ثُمَّ قَبَضَهُ اللّهُ إِلَيْهِ قَبْضَ رَأْفَةٍ وَاخْتِيَارٍ، وَرَغْبَةٍ وَإِيْثَارٍ فَمُحَمَّدٌ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عَنْ تَعَبِ هَذِهِ الدَّارِ فِي رَاحَةٍ، قَدْ حُفَّ بِالْمَلائِكَةِ الأَبْرَارِ، وَرِضْوَانِ الرَّبِّ الْغَفَّارِ، وَمُجَاوَرَةِ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ». وهذا المقطع يذكّر بهذه الالتفاتة وهي أنّ اللّه عزّ وجلّ، وإن اقتضت مشيئته هداية الناس وإنقاذهم من الضلالة بواسطة أنبيائه (عليهم السلام) ، غير أنّ سنّة اللّه التكوينيّة لا تقتضي بقاء النبيّ بين ظهراني الناس إلى الأبد. فالنبيّ إنسان حاله حال سائر الناس وإنّ ظروف وقوانين الحياة في هذا العالم حاكمة ومهيمنة عليه أيضاً، وهو المبحث الذي يوليه القرآن الكريم تأكيداً واهتماماً أيضاً. فالنبيّ يحمل رسالة إلهيّة يتعيّن عليه إبلاغها إلى الناس، أمّا في المرحلة التالية فالناس هم الذين يتحتّم عليهم النهوض بمسؤوليّة المحافظة على هذه الرسالة الإلهيّة.

ص: 300


1- . سورة الأعراف، الآية 179.
2- . سورة الأنفال، الآية 55.

وفي أثناء المباحث الآنفة الذكر تشير الزهراء (عليها السلام) أيضاً إلى قضيّة أنّ النبيّ الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن خلال تبيينه سبيل السعادة وطريق الشقاء للناس فقد نبّههم إلى نتائج أعمالهم الأبديّة وأنذرهم بأنّ الحياة لا تقتصر على فترة العيش الدنيويّ القصيرة الأمد فتنتهي بانتهائها، بل إنّ أعماركم القصيرة هذه هي مقدّمة لنيل السعادة السرمديّة أو الشقاء الأبديّ.

وبهذه المقاطع من الخطبة قد تمّ تقرير هذه الاُصول الثلاثة المتمثّلة بالتوحيد، والنبوّة، والمعاد مع ذكر بعض الأوصاف الخاصّة بما يتناسب مع الهدف الذي ترمي إليه الخطبة.

الولاية، نظام للملّة ووقاية من الفُرقة

عندما تصل الزهراء (عليها السلام) إلى هذا المقطع من البحث تقوم بمتابعة خطبتها عبر توجيه خطابها إلى الحضور مباشرة. وهذا الاُسلوب في الكلام ينطوي – بحدّ ذاته – على طابع بلاغيّ وهو كفيل بأن يلفت انتباه المخاطب ويُفهِمه بأنّ للمتكلّم - من الآن فصاعداً - كلاماً خاصّاً معه.

تقول الزهراء (عليها السلام) هنا: «أيّها الناس! أنتم تعلمون مدى الجهود التي بذلها أبي والمعاناة التي قاساها في سبيل نشر دين اللّه سبحانه وتعالى وهدايتكم إلى الصراط المستقيم». فهي (عليها السلام) ترمي بتذكير الناس بميزات رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى انتشالهم من غياهب غفلتهم من جانب وإثارة عواطفهم من أجل أن تمهّد في نفوسهم الأرضيّة لقبول كلامها من جانب آخر، وهذا أيضاً من الأساليب البلاغيّة ومن الطرق التي يمكن استخدامها للتأثير على الآخرين. فمولاتنا (عليها السلام) أرادت بهذا الاُسلوب أن تنبّههم إلى أنّ الدور الآن في الحفاظ على تراث رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، المتمثّل بالقرآن الكريم والدين الإسلاميّ الحنيف، هو دوركم. وهي بهذه المناسبة تشير إلى بعض حِكَم الأحكام وفلسفة التشريعات الإلهيّة. وهذا المقطع يحمل التفاتة تُعَدّ هي الاخرى ذات تأثير على ما ستنتهي إليه الخطبة من استنتاج؛ ففي خضمّ سَرْد العلل من وراء تشريع بعض الأحكام كالصلاة، والزكاة، وغيرها تقول فاطمة الزهراء (عليها السلام): «وَطَاعَتَنَا نِظَاماً لِلْمِلَّةِ، وَإِمَامَتَنَا أَمَاناً مِنَ الْفُرْقَة». إذ أنّ لكلٍّ من الأحكام الإلهيّة توجد مصالح، وأنّ أحد تلك الأحكام هو طاعتنا أهل البيت (عليهم السلام) ؛ وذلك لقوله عزّ من قائل: (أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ

ص: 301

الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُم)(1) وإنّ لهذا التشريع الإلهيّ أيضاً حكمة مهمّة لا ينبغي الغفلة عنها وهي تنظيم ملّة الإسلام، أي الدين الإسلاميّ المقدّس. فلولا إمامتنا لم يكن دين الإسلام لينتظم. ولو احتمل أحدهم أنّ ذكر سائر الأحكام هو من باب المقدّمة من أجل تعيين منزلة الإمامة فلا يكون احتماله مستبعَداً؛ بمعنى أنّ ذكر كلّ هذه المجموعة هو من أجل معرفة هذا العنصر. فهي (عليها السلام) تريد أن تقول: «لقد أنزل اللّه عليكم هذا الدين وسلّمكم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هذه الأمانة وإنّ من واجبكم حفظ هذه الأمانة بأحسن ما يكون الحفظ». ولأجل ذلك فإنّها (عليها السلام) - بعد سردها لهذه الملاحظات وفي ختام هذا المقطع – تعرّج على وصيّة القوم بالتقوى؛ أي: ما دامت هذه المسؤوليّة ملقاة على عواتقكم فاعلموا أنّكم إن تهاونتم في حملها ولم تراعوا التقوى فستذهب جهود أبي وهذا الهدف الإلهيّ أدراج الرياح. فقد كان الهدف من الرسالة هو أن تتمكّنوا من وجدان سبيل السعادة لتكون ملّة الإسلام التي تهب الحياة هي الآمرة الناهية فيكم، فإذا لم تراعوا هذه المسائل فإنّه لن يمضي أكثر من جيل واحد حتّى لا يبقى من الإسلام إلا أثر بعد عين.

ومن أجل أن تثير (عليها السلام)في أذهان الناس قضيّة اخرى في نفس هذا السياق قد غابت عنهم فإنّها تتوجّه إليهم بالخطاب مرّة اخرى فتقول: «إذا كان أبي قد تحمّل شديد المعاناة وبذل قصارى الجهود من أجل هدايتكم فاعلموا أنّه لم يفعل هذا لوحده. فإنّ الشخص الذي كان ناصر أبي في كلّ المحن والشدائد والذي كان النبيّ الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يلجأ إليه في طلب النصرة والمعونة لحلّ كلّ معضلة كان هو ابن عمّي عليّ بن أبي طالب (عليهما السلام) ؛ «... وَبَعْدَ أَنْ مُنِيَ بِبُهَمِ الرِّجَالِ، وَذُؤْبَانِ الْعَرَبِ، وَمَرَدَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ «كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ»، أَوْ نَجَمَ قَرْنٌ لِلشَّيْطَانِ، وَفَغَرَتْ فَاغِرَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قَذَفَ أَخَاهُ فِي لَهَوَاتِهَا». فأنتم تعلمون أنّه لولا عليّ لما انتظم أمر الإسلام. إذن فكما أنّكم مدينون للنبيّ لتلّقيه الوحي من اللّه عزّ وجلّ وإبلاغه إليكم، فإنّكم مدينون لزوجي أيضاً لمساعيه من أجل ثبات هذا الدين».

ثمّ تقول: «وأنتم أيضاً قد اعتنقتم الإسلام ابتداءً في حياة النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثمّ نهضتم لنصرته، لكن أصابتكم الغفلة بمجرّد رحيله وسلكتم سبيل الانحطاط؛ «فَلَمَّا اخْتَارَ اللّهُ لِنَبِيِّهِ دَارَ أَنْبِيَائِهِ، وَمَأْوَى أَصْفِيَائِهِ، ظَهَرَ فِيكُمْ حَسِيكَةُ النِّفَاق». وحينذاك أخرج الشيطانُ - الذي كان

ص: 302


1- . سورة النساء، الآية 59.

كامناً لكم - رأسَه من جُحره خِلسةً ليتبيّن أحوال مجتمعكم فرآكم مهيّئين للضلالة؛ «أَطْلَعَ الشَّيْطَانُ رَأْسَهُ مِنْ مَغْرَزِهِ هَاتِفاً بِكُمْ، فَأَلْفَاكُمْ لِدَعْوَتِهِ مُسْتَجِيبِينَ، وَلِلْغِرَّةِ فِيهِ مُلاحِظِينَ، ثُمَّ اسْتَنْهَضَكُمْ فَوَجَدَكُمْ خِفَافاً، وَأَحْمَشَكُمْ فَأَلْفَاكُمْ غِضَاباً». ولقد بيّنت الصدّيقة الطاهرة (عليها السلام) هذا المبحث باُسلوب هو غاية في الأدب والبلاغة سبق أن قمت بتوضيحه بحدود فهمي وبما توفّر لديّ من وقت. فهذه الالتفاتة كانت الموطّئة للإشارة لهذا المبحث وهو: «لقد تهيّأت أرضيّة الزيغ عن مسير الإسلام منذ اليوم الأوّل لوفاة النبيّ الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولقد كان ذلك نتيجة غفلتكم وجهلكم وسباتكم الأمر الذي مكّن الشيطان من التسلّط عليكم وحرفكم عن الطريق القويم».

ومن الضروريّ - إذا سنحت لنا الفرصة يوماً - أن نتطرّق إلى هذه القضيّة ونتحدّث عنها وهي: كيف يتسنّى لاولئك الذين تحمّلوا كلّ تلك الأعباء والمحن أن ينقضوا ما قطعوا على أنفسهم مع رسول اللّه من عهد في نفس اليوم الذي فارق (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيه الدنيا وجنازته لم تزل مطروحة على الأرض لم تُجَهّز بعد؟! حقّاً إنّها لمسألة غامضة، تكتنفها الأسرار لكنّها في نفس الوقت تحمل دروساً وعبراً أيضاً. فهذا الامتحان غير مخصوص بهؤلاء القوم، إذ لعلّه يجري علينا أيضاً ببعض مراتبه ودرجاته. لاحظوا أنّنا عندما خطونا في الطريق الصحيح كيف أنّ اللّه قد منّ علينا بالهداية وتفضّل علينا بأن أمّر علينا قائداً حكيماً كي نعرف الطريق ولا نحيد عنه، لكن لا ينبغي أن ينتابنا الغرور فنظنّ أنّ سعادتنا أصبحت مضمونة! فمادام الإنسان حيّاً يستنشق هواء هذه الدنيا فإنّه عرضة للمخاطر. فحذار أن نغترّ بأنفسنا ونطمئنّ من مستقبلنا، بل علينا أن نلجأ إلى اللّه ونسأله حُسن العاقبة والحفظ في كلّ الأحوال والمراحل. بالطبع هذا بشرط أن لا نقصّر على صعيد العمل بما هو ضمن حدود فهمنا واستيعابنا.

الأخطاء التي لا يمكن تداركها

على أيّة حال فإنّ الزهراء البتول (عليها السلام) توكّد على هذه النقطة وهي: «لقد أصابتكم الآفات منذ اللحظة الاولى لرحيل أبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وإنّ منشأ تلك الآفات هي الغفلة».

فكلّنا يعلم أنّ الإنسان يمكن أن يخطأ أو يزلّ. فما عدا المعصومين (عليهم السلام) وبعض المتربّين في مدرستهم فإنّ جميع من سواهم تقريباً مبتلون بارتكاب الخطيئة والمعصية. لكنّ الخطأ

ص: 303

ينقسم - بشكل عامّ - إلى قسمين؛ فتارة قد يتهاون المرء فيرتكب خطأ، لكنّ خطأ كهذا يكون قابلاً للتدارك. فإذا ترك المرء صلاته حتّى خرج وقتها، لكنّه تاب بعدها توبة نصوحاً وقضاها فإنّ خطأه سوف يمحى. أمّا القسم الآخر من الخطأ فإنّه من النوع الذي إذا ابتدأ لا تكون فيه رجعة ويوصَد السبيل أمام تداركه. وفي مثل هذه الحالة لا يحرم المرء نفسه من البركات والرحمات فحسب بل سيقود ذلك إلى انحراف الآخرين وضلالهم أيضاً. من هذا المنطلق علينا نحن طلبة العلوم الدينيّة أن نلتفت إلى هذا الخطر المحدق أكثر من غيرنا. فلو تفوّه الأشخاص العاديّون بكلام خاطئ أو حتّى انتحلوا مذهباً منحرفاً فمن الممكن بعد أن يثوبوا إلى رشدهم ويلتفتوا إلى خطئهم أن يُشمَلوا بلطف اللّه عزّ وجلّ وعنايته فيتوبوا. أمّا إذا ألقى امرؤ شبهةً أو طرح موضوعاً غير مدروس أدّى إلى انحراف ضلالة أحد من الناس، وهو ما نشاهد نماذج غير قليلة منه في عالمنا المعاصر، فكيف يتسنّى له يا ترى أن يتدارك خطأه هذا؟! فإذا كتب شخص مقالة مضلّة وقرأها الآلاف في داخل البلاد وخارجها وأدّت إلى ضلالتهم، فكيف يمكن تقويم هذا الانحراف؟! فعندما تُبثّ شبهةٌ مّا ويصاب دين المرء جرّاءها بالفساد فلا يمكن الوثوق من إمكانيّة تدارك ما فسد. فإلقاء الشبهة أمر غاية في السهولة، أمّا جبران عواقبها فهو شديد الصعوبة. فكلّما اتّسعت رقعة هذا الزيغ والانحراف فإنّ ذنبه بالنسبة للمتسبّب به سيبقى ويتأصّل: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ»(1). وعلى العكس من ذلك إذا هدى شخص امرأ فسيشاركه في كلّ عمل خير يقوم به الأخير إلى يوم القيامة.

هذا على صعيد الفكر والعقيدة. أمّا على صعيد العمل فالأخطاء على نوعين أيضاً؛ فبعضها قابل للتدارك وبعضها الآخر غير قابل لذلك؛ فإذا اُنيطت بالمرء مسؤوليّة اجتماعيّة ثمّ قام - عوضاً عن خدمة أفراد المجتمع – بتضييع حقوقهم، أو بسنّ أو تنفيذ قانون خاطئ فكيف يمكنه جبران ذلك؟ فالصوت الذي نرميه في صندوق الانتخابات معناه أنّنا نسلّط شخصاً على رقاب العباد ولابدّ أن نعلم أنّنا سنكون شركاء فيما يناله هذا الشخص من ثواب أو عقاب على أعماله بنسبة ما لنا من دور في صعوده إلى سدّة الحكم. إذن يتعيّن علينا أن نتعامل مع مثل هذه الامور ببالغ الحساسيّة لاسيّما فيما يرتبط بنا نحن طلبة العلوم الدينيّة؛ أي فيما يتعلّق بالمسائل الفكريّة والعقائديّة. ينبغي أن نتوخّى الحذر الشديد من أن نقول أو

ص: 304


1- . سورة العنكبوت، الآية 13.

نكتب كلّ ما يتبادر إلى أذهاننا. كما علينا أن نشعر بالمسؤوليّة أيضاً؛ فلو طرأت على دين امرئ شبهة ضَعُف إيمانه بسببها فمَن هو المسؤول عن ذلك يا ترى؟ وكيف يمكن تدارك ذلك؟ فإن كتب أحدٌ مقالة تحتوي على شبهة ثمّ اكتشف خطأه وتدارك الأمر بكتابة جواب على ما كتبه، فهل سيؤثّر ذلك على المخاطَبين؟

وكأنّ الصدّيقة الزهراء (عليها السلام) أرادت بكلامها هذا الإشارة إلى هذه النقطة وهي: «لم يكن أثر غفلتكم أنّكم حُرِمتم من تصدّي القيادة الحكيمة والحقيقيّة لمقاليد الامور فحسب، بل إنّكم بغفلتكم هذه قد غيّرتم مسيرة الاُمّة الإسلاميّة وحرفتموها عن وُجهتها، فاغتنم الشيطان الفرصة واستغلّ غفلتكم كي يحرفكم عن خطّ الإسلام الصحيح»(1)

فاطمة (عليها السلام) تخاطب الأنصار

البحث الماضي

«ثُمّ رَمَت بطرفها نحو الأنصار فقالت: يَا مَعشَرَ النَّقِيبَةِ وَأَعْضَادَ الْمِلَّةِ، وَحَضَنَةَ الإِسْلامِ! مَا هَذِهِ الْغَمِيزَةُ فِي حَقِّي، وَالسِّنَةُ عَنْ ظُلامَتِي؟! أَمَا كَانَ رَسُولُ اللّهِ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أَبِي يَقُولُ: الْمَرْءُ يُحْفَظُ فِي وُلْدِهِ؟ سَرْعَانَ مَا أَحْدَثْتُمْ، وَعَجْلانَ ذَا إِهَالَةٍ، وَلَكُمْ طَاقَةٌ بِمَا أُحَاوِلُ، وَقُوَّةٌ عَلَى مَا أَطْلُبُ وَأُزَاوِلُ. أَتَقُولُونَ: مَاتَ مُحَمَّدٌ (صلی اللّه عليه وآله وسلم)».

موضوع بحثنا يدور حول الخطبة الفدكيّة للسيّدة الزهراء وقد ذكرنا أنّها (عليها السلام) بعد حمد اللّه عزّ وجلّ والثناء عليه والشهادة برسالة النبيّ الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسرد أوصافه وكمالاته فإنّها (عليها السلام) قد توجّهت بخطابها إلى الناس ببضعة مقاطع مستخدمة تعابير مختلفة ومذكّرة إيّاهم بما عليهم من واجبات وتكاليف. فقد قالت فيما قالت: «أَنْتُمْ عِبَادَ اللّهِ نُصْبُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَحَمَلَةُ دِينِهِ وَوَحْيِهِ، وَأُمَنَاءُ اللّهِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَبُلَغَاؤُهُ إِلَى الأُمَم»؛ فقد خاطبت الناس مستخدمة عنوان «عباد اللّه» قائلة لهم: «أنتم نُصب أمر اللّه تعالى ونهيه، وحَمَلة وحيه ودينه، واُمناؤه، وقد حمّلكم اللّه أمانة في أعناقكم أنتم مكلّفون بحفظها من جهة، وبإبلاغها إلى الآخرين من جهة اُخرى». ومرادها من هذا المقطع هو تبيين المسؤوليّة الملقاة على عاتق الناس فيما

ص: 305


1- . دروس الاخلاق المصباح الیزدی.

يتعلّق بحفظ أحكام الدين وإبلاغها إلى الأجيال القادمة، وهي مسؤوليّة جسيمة وخطيرة للغاية لا تكون في العادة محطّ اهتمام أحد. فالزهراء (عليها السلام) تؤكّد على هذه النقطة وتقول: «أُمَنَاءُ اللّهِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَبُلَغَاؤُهُ إِلَى الأُمَم». ثمّ تُتبِع هذا التذكير ببعض الأمثلة لهذه الأمانة والحِكَم من تشريعها وتختتم هذا المقطع بالقول: «فَاتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ».

ثمّ تستهلّ المقطع التالي بعبارة: «أَيُّهَا النَّاسُ! اعْلَمُوا أَنِّي فَاطِمَةُ وَأَبِي مُحَمَّدٌ (صلی اللّه عليه وآله وسلم)»؛ فهي تخاطب الحاضرين هذه المرّة أيضاً مستخدمة عنوان «أيّها الناس» معرّفة نفسها لكلّ من يصدق عليه عنوان «الناس» كي يعلم المخاطبون من هو المتحدّث إليهم وكيف ينبغي لهم أن يستمعوا لهذا الكلام ويتلقّوه. فهي (عليها السلام) تقول: «إنّني ابنة ذلك الرجل الذي أنقذكم من تعاسة وشقاء الدنيا والآخرة. فلقد كان وضعكم المعيشيّ من البؤس إلى درجة أنّكم لم تكونوا تملكون ماء صالحاً للشرب ولا طعاماً مناسباً للأكل، وكنتم تحيون حياة فقر وبؤس يقتل الأخ فيها أخاه. فرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو الذي انتشلكم من هذا الوضع المزري: «وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ... تَشْرَبُونَ الطَّرْقَ، وَتَقْتَاتُونَ القَدَّ، أَذِلَّةً خَاسِئِينَ، تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِكُم، فَأَنْقَذَكُمُ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِمُحَمَّدٍ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بَعْدَ اللَّتَيَّا وَالَّتِي». والأهمّ من ذلك هو أنّكم كنتم قوماً ضالّين تعبدون الأصنام ولا تعرفون دين الحقّ فعرّفكم باللّه الواحد وجاءكم بأفضل دين منه تعالى، وهداكم إلى أعلى مراتب الكمال الإنسانيّ. فليس هناك أحد في هذا العالم قد أسدى للبشريّة مثل هذه الخدمة. لقد تحمّل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عندما كان بين أظهركم أشدّ المحن وأقسى المعاناة وأصعبها ولم يكن له في خضمّها ناصر ومعين غير عليّ (عليه السلام). فبينما كنتم تتنعّمون في دعة من العيش وراحة بال كان عليّ (عليه السلام) يقذف بنفسه في أفواه الأفاعي المفغورة نصرة لدين اللّه، حتّى كانت نتيجة ذلك أن توطّدت دعائم الإسلام واستقرّ الدين بفضل جهاد النبيّ وعليّ (عليهما السلام) : «وَبَعْدَ أَنْ مُنِيَ بِبُهَمِ الرِّجَالِ، وَذُؤْبَانِ الْعَرَبِ، وَمَرَدَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ، أَوْ نَجَمَ قَرْنٌ لِلشَّيْطَانِ، وَفَغَرَتْ فَاغِرَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قَذَفَ أَخَاهُ فِي لَهَوَاتِهَا، فَلا يَنْكَفِئُ حَتَّى يَطَأَ جَنَاحَها صِمَاخَهَا بِأَخْمَصِهِ، وَيُخْمِدَ لَهَبَهَا بِسَيْفِهِ... وَأَنْتُمْ فِي رَفَاهِيَةٍ مِنَ الْعَيْشِ، وَادِعُونَ فَاكِهُونَ آمِنُونَ» فأصبتم ما أصبتم من الشرف والفخر». وكان بيانها (عليها السلام)

ص: 306

لأوصاف رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو من باب المقدّمة لبيان مسألة اخرى؛ إذ أرادت أن تُلحِق هذه المقدّمة بالقول: «فما دام النبيّ حيّاً كانت تلك الاُمور محطّ افتخار الجميع وقبولهم. ولكن ما الذي حلّ بكم بمجرّد أن رحل النبي عن هذه الدنيا؟ لقد ظهرت فيكم بعد رحيله ميول تنمّ عن نفاق: «ظَهَرَ فِيكُمْ حَسِيكَةُ النِّفَاق» وتغلّب عليكم الشيطان. فعوضاً عن حفظ عهدكم مع النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحراسة ما ائتمنكم عليه فإنّكم نسيتم كلّ شيء، وكأنّه لم يبق فيكم من الإسلام غير الاسم أمّا حقيقة الإسلام فنسيتموها». ثمّ تشير (عليها السلام) إلى خطأين فادحين ارتكبه هؤلاء القوم فتقول: «الخطأ الفادح الأوّل الذي ارتكبتموه هو أنّكم خالفتم عهد النبيّ وجنازته لا زالت مطروحةً على الأرض، أمّا الخطأ الثاني فهو أنّكم نبذتم أحكام الإسلام الواضحة خلف ظهوركم؛ فغصبتم أموالي وقلتم خلاف نصّ القرآن الصريح: إنّك ِلا ترثين أباك مدّعين أنّ الأنبياء لا وارث لهم»! وقد جاء في بعض الأخبار أنّ الزهراء (عليها السلام) قالت للمتصدّي لمنصب الخلافة: «يَا ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ! أَفِي كِتَابِ اللّهِ أَنْ تَرِثَ أَبَاكَ وَلا أَرِثَ أَبِي(1)»؟! ثمّ تقول موبّخة الناس استقباحاً منها لتلك الحركة التي قاموا بها وبنبرة غير المكترث: «فَدُونَكَهَا مَخْطُومَةً مَزمُومَةً مَرْحُولَةً تَلْقَاكَ يَوْمَ حَشْرِكَ» وهي عبارة تتضمّن تقريعاً عنيفاً للمخاطَبين.

فاطمة (عليها السلام) تمنح الأنصار فرصة اُخرى

«ثمّ رَمَت بطرفها نحو الأنصار». حتّى هذه اللحظة كان مخاطَبو فاطمة (عليها السلام) هم عامّة الناس. لكنّها في هذا المقطع، وطبقاً لما تناقلته الروايات المختلفة، فإنّها تلتفت بوجهها نحو الأنصار موجّهة الخطاب إليهم. وستتّضح من سياق الكلام الحكمة من هذا التوجيه للخطاب. فكأنّها وقد بلغت هذه النقطة من الخطبة قد أشاحت بوجهها عن المهاجرين ولسان حالها يقول لهم: «إنّكم قد أقدمتم على غصب الخلافة، إذن فخذوا ما استحوذتم عليه واغربوا بعيداً».

كان الأنصار يتمتّعون بمكانة مهمّة في العالم الإسلاميّ آنذاك. فهم الذين نصروا الدين الإسلاميّ بدعوتهم لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإيوائهم للمهاجرين عندما كانوا مشرّدين قد استولى

ص: 307


1- . بحار الأنوار، ج29، ص226.

مشركو مكّة على ممتلكاتهم وأخرجوهم من ديارهم. فعندما هاجروا إلى المدينة لم يكن لديهم من مأوى يلجأون إليه أو مصدر كسب يرتزقون منه، فكان أهل المدينة هم الذين آووهم وأشركوهم في أموالهم. وبعد ذلك آخى اللّه عزّ وجلّ عبر مراسم خاصّة بين المهاجرين والأنصار. هذا مضافاً إلى أنّه من دون نصرة الأنصار للمهاجرين لم يكن الأخيرون قادرين على التصدّي للمشركين في المعارك التي فرضوها على المسلمين. وهذا مقتضى الأسباب الظاهريّة. فدعم الأنصار كان - في الحقيقة - سبباً في انتشار الإسلام، وإنّ هذه الميزة التي تمتّع بها الأنصار هي التي دفعت الزهراء (عليها السلام) إلى أن توجّه آخر سهام خطابها إليهم علّهم يستيقظون من سباتهم.

وكما قد أسلفتُ مراراً وتكراراً فإنّ كلّ هذا الكلام وهذه الاحتجاجات كانت من أجل أن تخطو (عليها السلام) خطوة في سبيل هداية الناس وتسترعي انتباه الأجيال القادمة أو بعض من عاصرها إلى ما ارتكبه هؤلاء من أخطاء جسيمة فيتبيّنوا طريق الحقّ القويم. فهناك احتمال هو أقرب ما يكون إلى اليقين وهو أنّه لولا هذه الخطبة لما كنّا اليوم نعرف مَن هي فاطمة الزهراء (عليها السلام). فإنّ كلّ ما عرفه المسلمون بعد رحيل النبيّ الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الحقّ والحقيقة كان بفضل هذه الكلمات التي ألقتها بضعة الرسول (عليها السلام) فقد مثّلت نقطة الانطلاقة لذلك.

المشاعر هي المحرّك الأساسيّ للثورات

بعد أن يئست الزهراء (عليها السلام) من المهاجرين التفتت نحو الأنصار محاولة استمالة عواطفهم من خلال أصلٍ متّبَع في علم النفس؛ أي بمعزلٍ عن البحث المنطقيّ والاستدلاليّ مع المتصدّي لكرسيّ الخلافة فقد حاولت (عليها السلام) استثارة عواطف الأنصار علّهم يعون أنّه يتعيّن عليهم اتّباع أهل البيت (عليهم السلام) . هذا الاسلوب الذي انتهجته البتول (عليها السلام) في الخطاب يعلّمنا درساً عظيماً مفاده أنّ الحركات والثورات الاجتماعيّة لا تنطلق دائماً في ظلّ المنطق العقلانيّ القويّ؛ بل إنّ العامل الأساسيّ المحرّض لتلك الحركات هو - في الأعمّ الأغلب - المشاعر والأحاسيس. فالمشاعر والعواطف هي التي تتولّى صياغة الحركات وإشعال الثورات. فالزهراء (عليها السلام) حتّى هذه اللحظة كانت تخاطب الناس بكلام مستدَلّ، لكنّها تريد من الآن فصاعداً استثارة عواطفهم؛ ومن هذا المنطلق فقد قالت لهم: «يا معشر الأنصار! يا

ص: 308

مَن كانت نصرتهم سبباً في انتشار الإسلام. فأنتم الذين احتضنتم الإسلام وربّيتموه في ربوعكم. أنتم نقباء العالم الإسلاميّ. كيف تغفلون مثل هذه الغفلة بعد كلّ تلك الخدمة التي أسديتموها للإسلام؟! أين إحساسكم بالمسؤوليّة؟! أين وَلّى حماسكم وأين ذهبت عواطفكم؟! أما سمعتم أبي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «الْمَرْءُ يُحْفَظُ فِي وُلْدِهِ»؟ فحفظ احترام المرء بعد موته يكون في احترام ذرّيته. وهل تعرفون ذرّية للنبيّ غيري؟ ألا تعرفون كيف تردّون الجميل لذلك النبيّ الذي قدّم لكم كلّ تلك الخدمات؟ الآن وأبي ليس بين أظهركم ألا ينبغي احترام أبنائه؟ أين ذهبت عواطفكم الإنسانيّة؟

«يَا مَعشَرَ النَّقِيبَةِ» نخب المجتمع ومشاهيره «وَأَعْضَادَ الْمِلَّةِ» الذين صُنتم ملّة الإسلام وحفظتموها كساعد قويّ لها، «وَحَضَنَةَ الإِسْلامِ» الذين حضنوه كما تحضن الأمّ طفلها وتربّيه. يا مَن تملكون كلّ هذا الماضي المشرق ويا مَن كنتم العون والناصر لكلّ ما حقّقه الإسلام من تقدّم! «مَا هَذِهِ الْغَمِيزَةُ فِي حَقِّي» ما الذي أصابكم لتقابلوني بكلّ هذه اللامبالاة، «وَالسِّنَةُ عَنْ ظُلامَتِي» فأنتم تتفرّجون على ما يقع عليّ من ظلم من دون أن تحرّكوا ساكناً أو تنبسوا ببنت شفة! فهل أنتم نائمون يا ترى؟ ألستم الذين قدّموا للإسلام وللنبيّ كلّ تلك التضحيات؟! «أَمَا كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ أَبِي يَقُولُ: الْمَرْءُ يُحْفَظُ فِي وُلْدِهِ؟ سَرْعَانَ مَا أَحْدَثْتُمْ، وَعَجْلانَ ذَا إِهَالَةٍ» وهذا مثل عربيّ يُضرب عندما يراد أن يقال: سرعان ما انحرفتم عن جادّة الصواب وأخطأتم الطريق.

دفع شبهتين

واستباقاً لما قد يقول الأنصار من أنّه: «أجل لقد ظلموكِ؛ ولكن ليس في أيدينا حيلة» فقد قالت (عليها السلام): «وَلَكُمْ طَاقَةٌ بِمَا أُحَاوِلُ، وَقُوَّةٌ عَلَى مَا أَطْلُبُ وَأُزَاوِلُ» فإنّكم قادرون على تلبية ما أطلب، فما هو عذركم إذن؟ كيف يمكن الجمع بين وضعكم الحاليّ هذا مع سابق تضحياتكم؟!

ولئلا يقولوا أيضاً (بتعبيري الشخصيّ): «كان لأبيك حقّ علينا ما دام حيّاً فقد نصرناه لأنّه هدانا إلى سواء السبيل ومنحنا العزّة. أمّا الآن وقد رحل عن هذه الدنيا فنحن إنّما لا نمدّ إليك يد العون لأنّ أباك لم يعد موجوداً بيننا وقد انتفى بذهابه ما كان له من حقّ علينا»، أقول فقد قالت مولاتنا الزهراء (عليها السلام) تداركاً لهذا القول المفترَض: «أَتَقُولُونَ: مَاتَ مُحَمَّدٌ (صلی اللّه عليه وآله وسلم)» فهل

ص: 309

إنّ دليلكم على عدم نصرتكم لي هو: أنّنا لا ننصركِ لأنّ أباكِ لم يعد حيّاً؟ فإن كان هذا هو منطقكم فقد جاءكم الردّ في القرآن الكريم وشأن نزوله موجود أيضاً؛ ففي معركة اُحُد وبعد أن ترك المسلمون مضيق اُحد وجُوبِهوا بهجوم المشركين أصابهم ضعف شديد وتكبّدوا خسائر فادحة، حتّى أنّ النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نفسه قد اُصيب بجروح أيضاً. ومن أجل إضعاف معنويّات المسلمين أكثر فقد استخدم المشركون طريقة الحرب النفسيّة مشيعين أنّ النبيّ قد قُتل، في حين أنّه قد جُرح فقط. وعندها نزل قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ)(1) فلقد جاءكم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليعرّفكم بالدين ويبيّن لكم الصراط القويم كي تعملوا وفقاً لما جاءكم به. فقد أدّى ما على عاتقه من واجب وهداكم، وقد جاء الآن دوركم لتنهضوا بمهمّة المحافظة على دين اللّه عزّ وجلّ وتُحيُوا أحكامه وسُنَنه. فواجبكم هو إحياء قِيَم هذا الدين في الدنيا وأن لا تدعوها تأفل وتزول. وبناء عليه فإنّه ينبغي أن تقاوموا أعداء هذا الدين بمزيد من الصلابة والصمود كي لا يتعرّض الإسلام للخطر. هل تتذكّرون هذه الآية؟ هذه الآية مذكورة في نفس المصحف الذي تقرأونه يوميّاً في بيوتكم جهراً وإخفاتاً، بلحن ومن دون لحن، وبصور مختلفة. من المؤكّد أنّكم لم تنسوا قول القرآن: (أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) أي تركتم دينكم. أجل فلقد كان رحيل النبيّ الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مصاباً جلَلاً للغاية أصاب عالم الإنسانيّة. لكنّ رحيله لا يسوّغ لكم نبذكم لدينكم وترككم لأحكامه!

نداء: «هل من ناصر»؟ الذي أطلقته فاطمة (عليها السلام)

تستمرّ الزهراء (عليها السلام) في خطابها للأنصار مستخدمة تعبيراً آخر. لقد كان الأنصار يتكوّنون من قبيلتين رئيسيّتين هما الأوس والخزرج. وقد ذكر التاريخ أنّ جدّتهم العليا كانت تسمّى «قيلة»؛ ولهذا كان مجموع أفراد القبيلتين يُدعَون: «بني قيلة». لكنّهم انقسموا بعد موت قيلة إلى طائفتين عُرفت إحداهما ب- «الأوس» والثانية ب- «الخزرج».

ص: 310


1- . سورة آل عمران،الآیة 144.

لِمَ لا تقومون حاملين السلاح؟!

تخاطب الزهراء (عليها السلام) الأنصار بالقول: «إِيهاً (وهي كلمة تحذير) بَنِي قِيلَهَ! أَاُهْضَمُ تُرَاثُ أَبِي وَأَنْتُمْ بِمَرْأىً مِنِّي وَمَسْمَعٍ، وَمُنْتَدىً وَمَجْمَعٍ، تَلْبِسُكُمُ الدَّعْوَةُ، وَتْشَمَلُكُمُ الخِبْرَةُ، وَأَنْتُم ذَوُو العَدَدِ وَالعُدَّةِ، وَالأَدَاةِ وَالقُوَّةِ، وَعِنْدَكُمُ السِّلاحُ وَالْجُنَّة»؛ أي: «إنّي أوجّه لكم تحذيراً يا أبناء قيلة! فهل صحيح أنّ إرث أبي يُداس ويُسحَق وأنتم تنظرون وتسمعون وأنا في جمعكم وأنتم حاضرون؟! فلو كنتم لا تسمعون نداء استغاثتي التمستُ لكم عذراً؛ ولو كنتم لا تعلمون الحقّ مع مَن فقد تكونون معذورين أيضاً؛ ولو كنتم تعلمون وتعرفون لكنّكم غير قادرين على المعونة والنصرة فمن الممكن أيضاً أن أعذركم؛ لكنّ دعوتي قد طرقت مسامعكم وقد وعيتموها وأدركتموها جميعاً، وإنّ جمعكم لكثير، وأنتم تتمتّعون بالعُدّة والعدد، والقوّة والمدد، وبحوزتكم الأسلحة والدروع». ويُستشفّ من هذه التعابير أنّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) كانت تتوقّع من الأنصار نصرتها وقمع مَن سلبها حقّها حتّى بالسلاح إذا لزم الأمر.

«تُوَافِيكُمُ الدَّعْوَةُ فَلا تُجِيبُونَ، وَتَأْتِيكُمُ الصَّرْخَةُ فَلا تُغِيثُونَ» فعلى الرغم من أنّكم تسمعون دعوتي، لكنّكم لا تجيبونني، ومع أنّ صرخة استغاثتي عالية فإنّكم لا تغيثونني!

تاريخ الأنصار

«وَأَنْتُمْ مَوْصُوفُونَ بِالْكِفَاحِ» الشجاعة والبسالة، «مَعْرُوفُونَ بِالْخَيْرِ وَالصَّلاحِ، وَالنُّخَبَةُ الَّتِي انْتُخِبَتْ، وَالْخِيَرَةُ الَّتِي اخْتِيرَت» من بين المسلمين «لَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ».

وكما ذكرتُ فقد أرادت السيّدة الزهراء (عليها السلام) أن تستغلّ كلّ العوامل من أجل إرشاد الأنصار؛ أي أن تستفيد من المنطق العقليّ من جهة، والمنطق الشرعيّ من جهة اُخرى، والمنطق العاطفيّ من جهة ثالثة. فهذه المقاطع هي أشدّ ميلاً إلى طابع التحريض العاطفيّ للأنصار منها إلى غيره. فمن أجل تشجيعهم فإنّها (عليها السلام) تذكّرهم في سياق كلامها هذا بماضيهم وتسرد لهم خدماتهم التي قدّموها للإسلام.

ص: 311

«قَاتَلْتُمُ الْعَرَبَ، وَتَحَمَّلْتُمُ الْكَدَّ وَالتَّعَب». وحيث إنّ الأنصار عرب فإنّنا نفهم من هذا القول أنّ مسألة القوميّة لم تكن مطروحة آنذاك، بل المهمّ هو الحقّ والباطل. تقول فاطمة الزهراء (عليها السلام) هنا: «على الرغم من قلّة جماعتكم فقد نهضتم لقتال جحافل العرب المنحرفين والمعادين للإسلام وتحمّلتم في سبيل ذلك صنوف المشاقّ وألوان العناء».

«وَنَاطَحْتُمُ الأُمَمَ، وَكَافَحْتُمُ الْبُهَم» و«المناطحة» تُطلَق على العراك بين الحيوانات إذا كان بقرونها. تقول (عليها السلام): «لقد ناطحتم العرب المشركين المخالفين للإسلام وحاربتموهم وجهاً لوجه، وقاتلتم فحول العرب وشجعانهم بكلّ بسالة وإقدام».

«لا نَبْرَحُ أَوْ تَبْرَحُونَ، نَأْمُرُكُمْ فَتَأْتَمِرُونَ، حَتَّى إِذَا دَارَتْ بِنَا رَحَى الإِسْلام»؛ فما كان بعضنا ينفصل عن البعض الآخر، وما كنّا نذهب إذا لم تأتوا، لكن كلّ ذلك كان يدور في إطار الآمِر والمؤتمِر. فكنّا نأمركم وكنتم تمتثلون وتطيعون، حتّى دارت رَحى الإسلام بأيدينا.

«وَدَرَّ حَلَبُ الأَيَّامِ، وَخَضَعَتْ ثَغْرَةُ الشِّرْكِ، وَسَكَنَتْ فَوْرَةُ الإِفْكِ، وَخَمَدَتْ نِيرَانُ الْكُفْرِ، وَهَدَأَتْ دَعْوَةُ الْهَرْجِ، وَاسْتَوْسَقَ نِظَامُ الدِّين» وهنا تستخدم (عليها السلام) تعابير أدبيّة هي غاية في اللطف والجمال؛ فهي تشبّه ما مضى من الأيّام منذ صدر الإسلام وحتّى ذلك اليوم باُنثى الحيوان المرضع التي كان ضرعها جافّاً من اللبن حتّى إذا أنجبت وليدها امتلأ ضرعها ودرّ منه اللبن. إذ تقول بضعة المصطفى (عليها السلام): «لقد درّ حليب الأيّام غزيراً، وهدأت أصوات الشرك التي كانت تصمّ الآذان، وخمدت فورة الكذب والبهتان». بمعنى أنّ المشركين في بادئ الأمر كانوا يطلقون شتّى التهم وأنواع البهتان على المسلمين، بل وعلى شخص النبيّ الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وهو دأب شياطين الإنس والجنّ عندما تريد الغلبة على خصومها. تخاطب الزهراء (عليها السلام) الأنصار قائلة: «لقد أبليتم بلاءً حسناً في قتالكم طاعة للأوامر حتّى سكتت صرخات الشرك الصاخبة، وسكن فوران البهتان والكذب، وخمدت نيران الكفر، وهدأت دعوات مَن نادى بالفتنة والهرج والمرج، وانسجم نظام الدين. فهذه هي أعمالكم التي قمتم بها بإرشاد وهداية منّا. لقد تجشّمتم كلّ هذا العناء، وقاتلتم، وضحّيتم، حتّى أثمرت شجرة الإسلام، ودارت رحاه؛ أي استتبّ حكم الإسلام، واُسّست الدولة الإسلاميّة.

ص: 312

إذن ما الذي حلّ بذلك التاريخ المشرق؟!

«فَأَنَّى حُرْتُمْ بَعْدَ الْبَيَانِ، وَأَسْرَرْتُمْ بَعْدَ الإِعْلانِ، وَنَكَصْتُمْ بَعْدَ الإِقْدَام»؛ فبعد أن مضت ثلاثة وعشرون عاماً على هذا الأمر وتمكّنت دولة مقتدرة وعزيزة من تسلّم مقاليد الامور كيف ترجعون حيارى؟! لماذا أصبحتم في حيرة من أمركم لا تدرون ما تصنعون بعد أن تبيّن الحقّ واتّضح؟! وكيف تحوّلتم إلى العمل في الخفاء، وعقد الاجتماعات السرّية، وحياكة المؤامرات ضدّنا بعد دفاعكم عن الإسلام وعنّا أهل البيت في العلانية؟! ما الذي حصل لكم لتنكصوا وتتراجعوا بعد الإقدام ودخول ميدان النزال؟!

(وَأَشْرَكْتُمْ بَعْدَ الإِيمَانِ، بُؤْساً لِقَوْمٍ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ» «وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(1) وهذه من جملة تلك التعابير العنيفة جدّاً. فسيّدتنا الزهراء (عليها السلام) تخاطب المسلمين الذين كانوا أنصار الإسلام والذين قد أسْدَوا خدمات جليلة له، أو – كما تقول (عليها السلام) - الذين قام النظام الإسلاميّ أساساً على أكتافهم، تقول لهم: هل «أَشْرَكْتُمْ بَعْدَ الإِيمَانِ»؟! ومن الواضح أنّ هذا الشرك ليس هو من نوع عبادة الأوثان؛ ذلك أنّه لم يعبد أحد منهم الأصنام في ذلك الزمان. فهو من نوع الشرك الذي يقول فيه القرآن الكريم: ( اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ)؛(2) أي إنّ اليهود والنصارى اتّخذوا قادتهم وكبراءهم أرباباً لهم عوضاً عن اللّه عزّ وجلّ. بمعنى أنّ الإذعان لأوامر غير اللّه هو شرك تشريعيّ؛ فالقبول بحكومة لم تأت عن حقّ هو لون من ألوان الشرك، إذ يجب على الإنسان الموحّد أن لا يرى غير اللّه ربّاً وأن يطيع اللّه وحده. فإن أطاع غير اللّه من دون دليل وبشكل لم يؤدّ به إلى طاعة اللّه كان ذلك شكلاً من أشكال الشرك.

وفي متابعتها للخطبة تعود الزهراء (عليها السلام) مرّة اُخرى لاستخدام تعابير لاذعة لكنّها لا توجّه الخطاب بشكل صريح هذه المرّة، هذا وإن كان المصداق المقصود من الخطاب واضحاً. تقول (عليها السلام): «الويل لقوم نكثوا ميثاقهم مع اللّه عزّ وجلّ بعد أن عاهدوه». ثمّ تقتبس آية من

ص: 313


1- . سورة التوبة، الآية 13.
2- . سورة التوبة، الآية 31.

الذكر الحكيم تتحدّث عن الكفّار الذين عقدوا أيمانهم مع اللّه ورسوله ثمّ نقضوا عهدهم وعادوا إلى الكفر من جديد. هذا النمط من الاقتباسات هنا يرجع إلى العناصر المشتركة الموجودة في هذه التعبيرات؛ فالمشركون الذين تعهّدوا بطاعة اللّه ورسوله ثمّ نقضوا عهدهم هم نفس اُولئك الذين أخرجوا النبيّ من دياره وحملوا سيوفهم لحرب عَبَدة الحقّ. فالسيّدة الزهراء (عليها السلام) تريد أن تقول هنا: «لماذا تسكتون عن الذين شرّدوكم عن أرضكم وبدؤوكم بالحرب؟ هل تخافونهم؟ فإن كنتم مؤمنين فعليكم أن تخافوا من اللّه وحده. فمهما كان لدى هؤلاء من القدرة فإنّ عددكم أكبر منهم بكثير وإنّ الذين عمدوا إلى هذا العمل هم نفر قليل ليس غير، وبإمكانكم أن لا تتعاونوا معهم، هذا أوّلاً. ثانياً: كنتم تستطيعون أن توقفوهم عند حدّهم؛ فما دامت القوّة والسلاح بأيديكم، إذن بمقدوركم أن تستلّوا سيوفكم وتمنعوهم من فعل ذلك». وفي ذلك إشارة إلى ضرورة عدم الخوف من الطرف المقابل في مثل هذا الظرف، بل لابدّ من الذود عن الحقّ مهما كانت الظروف، وعندها فإنّ اللّه سيمدّنا بالعون والغلبة أيضاً.

السبيل المنتهية إلى الكفر

أستعرضُ هنا بشكل إجماليّ بعض النقاط البارزة التي يمكن أن نتّخذها درساً لنا في زماننا الحاضر أيضاً. أوّلاً علينا أن نعلم أنّ المسألة هي على جانب من الجدّية بحيث إنّه لن يكون للغفلة عنها مصير غير الشرك. فعلى الرغم من أنّ السيّدة الزهراء (عليها السلام) قد طرحت مسألة الإرث، غير أنّها لم تكن إلا ذريعة لتقول لهم: «لقد زغتم عن جادّة الإسلام، ونكثتم أَيمانكم مع اللّه ورسوله، ووطأتم أحكام اللّه تحت أقدامكم»، وفي كلامها (عليها السلام) إنذار بأنّه إذا تعاطى المرء مع مثل هذه المسائل الاجتماعيّة بحالة من اللامبالاة، ولم يبد حساسيّة تجاهها، وفضّل الدعة والراحة، فإنّ ذلك سيقوده إلى الشرك والخروج عن الدين، وإن لم يجرّه إلى الكفر الظاهريّ فسوف يؤول به حتماً إلى الكفر الباطنيّ.

ولو لم تحدث في الآونة الأخيرة تلك الأحداث المعروفة فقد نتصوّر أنّ في هذا الكلام بعض المبالغة، وأنّه لا معنى لطرح الشرك في موضوع غصب الإرث. لكن علينا أن نفهم أنّه عندما يتمّ التغاضي عن حكم قرآنيّ فمن الممكن أن يُتَغاضَى عن الحكم التالي أيضاً. فحينما يدوس المرء على العهد الذي عاهد به اللّه تعالى فأيّ ضمانة ستبقى لالتزامه بباقي

ص: 314

العهود والمواثيق؟ فجميع الذين تخاطبهم الزهراء (عليها السلام) اليوم كانوا قد بايعوا اللّه منذ سبعين يوماً فقط؛ حتّى قال تعالى: (يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)،(1) فقبل سبعين يوماً فقط كانوا قد بايعوا مَن نصّبه اللّه عزّ وجلّ؛ أي قطعوا عهداً على أنفسهم أن يحموه بأموالهم وأنفسهم ويعتبروه خليفة للنبيّ الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم). فعندما يُنسى عهد كهذا مع كلّ ما اكتنفه من مقدّمات وتحضيرات في يوم الغدير، فأيّ ضمانة ستظلّ يا ترى للالتزام بباقي العهود؟ وعندما ينحرف هذا المسير عن الحقّ فلن ينتهي إلاّ إلى السقوط؛ إذ حينما بدأ اُناس بتسلّق سفح جبل على نحو تدريجيّ على مدى ثلاثة وعشرين عاماً حتّى اقتربوا من قمّته وبلغوا ذروة العزّة والاقتدار والشرف لكنّهم نسوا كلّ ما اُسدي إليهم من خدمات في هذا المضمار فإنّ أوّل ما سيُعابون عليه هو كفران النعم الإلهيّة. فمخاطبو فاطمة (عليها السلام) كانوا اُناساً قد نالوا ببركة النبيّ الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الشرف الظاهريّ من جهة (أي بعد سابق الفضائح، والفقر، وقتل الإخوان، ووأد البنات، وأشكال ما كانوا غارقين فيه من الفساد فقد تحوّلوا إلى اُمّة شريفة أضحت أسوة لباقي الاُمم) والشرف الباطنيّ من جهة اخرى حتّى اُزيحت كتل ليل الشرك والكفر المظلم من قلوبهم وسطع نور الإيمان ونور معرفة اللّه وملائكته وأنبيائه في نفوسهم. فأي شرف يمكن أن يُتصوَّر فوق ذلك؟ وأيّ خدمة يمكن افتراضها تكون أجلّ ممّا قدّمه نبيّ الإسلام (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للعرب؟ واللّه قد واصل مَنّه عليهم في هذا الزمان أيضاً، فمن أجل بقاء هذه العزّة واستمرار هذا الشرف الظاهريّ والباطنيّ فقد دلّهم بعد رحيل النبيّ الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على من هو أشبه الناس بالنبيّ. فهل من المستساغ أن ينسوا كلّ تلك النعم قائلين: «أجل، لقد أنجز النبيّ كلّ تلك الخدمات. أمّا الآن وقد رحل عنّا فقد ولّت تلك الخدمات وإنّ من واجبنا نحن أن نعيّن رئيسا لهذه الاُمّة وأن نجعل الحاكميّة للشعب»؟! فأوّل عيب يمكن أن يُنسَب إلى هذا المسير هو أنّه كفران لآلاء اللّه سبحانه وتعالى من جانب، وكفران لنعمة نبيّه الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في عدم مراعاة أهل بيته (عليهم السلام) ونكث للعهد معه من جانب آخر، وكفران لنعمة أهل البيت ولاسيّما شخص أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي كان أفضل من يليق بمنصب الخلافة بعد النبيّ من جانب ثالث. فهل يصحّ أن يتمّ نسيان كلّ ذلك على خلفيّة بعض الأوهام أو المصالح المادّية؟ لقد علم هؤلاء أنّه بتسلّم عليّ (عليه السلام) لمقاليد الاُمور فإنّه سيقف سدّاً منيعاً

ص: 315


1- . سورة الفتح، الآية 10.

أمام سوء استغلالهم للمناصب، وسيعطّل كلّ أشكال الوساطات القائمة حول محور الرفاقة والقرابة والحزبيّة. لقد بدّد هؤلاء، نتيجة غفلتهم تلك، كلّ ما نالوه من عزّة وفخر في الدنيا والآخرة وما حظوا به من شرف الإنسانيّة. فأهمّ شرف يمكن أن يناله الإنسان هو التزامه بالعهد والميثاق. وإنّ أسمى قيمة اجتماعيّة معتبَرة عند جميع الاُمم والأقوام والأعراق هي الوفاء بالعهد. فلولا هذا الالتزام لألمّت بالمجتمع حالة من الفوضى. فهل يستحقّ اُناس كهؤلاء أن يكونوا أسياد العالم وقدوة تقتدي بها سائر الاُمم والشعوب؟! فالمشروع الإسلاميّ كان يصبو إلى تنشئة اُناس يكونون اُسوة للعالمين. لكنّ البعض وبسبب مآربهم المريضة، والبعض الآخر جرّاء ما يعانونه من جهالة وقلّة إدراك لم يَدَعوا هذه الشجرة تؤتي اُكُلها من أجل تأمين السعادة الأبديّة لجميع سكّان المعمورة.(1)

آخر احتجاج

ركون الاُمّة إلى الراحة مدعاة لغربة الحقّ

ثمّ تقول (عليها السلام) بعد ذلك: «أَلا وَقَدْ أَرَى أَنْ قَدْ أَخْلَدْتُمْ إِلَى الْخَفْضِ» أي الراحة،« وَأَبْعَدْتُمْ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْبَسْطِ وَالْقَبْضِ» أي أقصيتم من هو أهل لإصلاح الاُمور، ألا وهو أمير المؤمنين (عليه السلام)، «وَخَلَوْتُمْ بِالدَّعَةِ» فأصبحَتْ دأبكم «وَنَجَوْتُمْ مِنَ الضِّيقِ» المعاناة والشدّة «بِالسَّعَة» عبر اللامبالاة وطلب الراحة، «فَمَجَجْتُمْ مَا وَعَيْتُم» أي لفظتم ما ابتلعتم من أفواهكم فكأنّكم تقيّأتموه، «وَدَسَعْتُمُ الَّذِي تَسَوَّغْتُم» واستفرغتم ما شربتم من سائغ الشراب. ثمّ تقتبس (عليها السلام) الآية الثامنة من سورة إبراهيم مستشهدة بها حينما تقول: فَ- «إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ».

نلاحظ أنّ فاطمة (عليها السلام) توجّه من خلال كلامها إنذارات شديدة اللّهجة للحاضرين، وتستشهد بالآيات المتعلّقة بالكفّار والمشركين، وهي تريد أن تُلفِت من خلال ذلك إلى هذه النقطة وهي أنّ عاقبة أمركم ونهاية الطريق التي تسلكون هي الكفر والشرك، واعلموا أنّكم إن كفرتم أنتم ومن في الأرض جميعاً فإنّ اللّه غنيّ عنكم ولن ينال ذلك من كبريائه عزّ وجلّ

ص: 316


1- . دروس الاخلاق المصباح الیزدی.

قيد أنملة. فلا تظنّوا أنّ عملكم هذا سيُلحِق الضرر باللّه وأوليائه، بل إنّكم أنتم الذين سيحيق بهم الضرر والخسران.

إتمام فاطمة للحجّة على الناس

وصولاً إلى هذا المقطع تكون الزهراء (عليها السلام) – في الحقيقية – قد أتمّت ما كان في نيّتها من موعظة للناس، أمّا في المقطع التالي فإنّها تبيّن هدفها من كلّ هذه المواعظ والتذكير فتقول: «لا تظنّوا أنّني قد قلت ما قلت غير عارفة بكم أو أنّني أتوقّع منكم ما لا ينبغي توقّعه؛ بل إنّني على معرفة جيّدة بحالكم وأعلم جيّداً ما هو داؤكم، وأنّ كلماتي لا تؤثّر فيكم؛ لكنّني أردت أن أكشف عمّا يعتلج في صدري من سخط عليكم من ناحية، وأن اُتمّ عليكم الحجّة من ناحية اًخرى».

«أَلا وَقَدْ قُلْتُ مَا قُلْتُ عَلَى مَعْرِفَةٍ مِنِّي بِالْخَذْلَةِ الَّتِي خَامَرَتْكُمْ»أي على معرفة بأنّ خذلاننا وعدم الاكتراث بنا يخامر الآن وجودكم ويمتزج بكيانكم، «وَالْغَدْرَةِ الَّتِي اسْتَشْعَرَتْهَا قُلُوبُكُمْ» وأنّ قلوبكم مضمرة للمكر والحيلة بحقّنا، «وَلَكِنَّهَا فَيْضَةُ النَّفْسِ، وَنَفْثَةُ الْغَيْظِ، وَخَوْرُ الْقَنَاةِ، وَبَثَّةُ الصَّدْرِ، وَتَقْدِمَةُ الْحُجَّةِ» لكنّ ما قلتُه كان ممّا فاض به الصدر المكروب من الآلام والمآسي، وهو انفجار لما اعتلج فيه من الغضب والقلق، وإتمام للحجّة عليكم كي لا تقولوا يوماً: «لم نكن نعلم»! أو: «كنّا نظنّ أنّ هذا الأمر قد تمّ برضاك»!

«فَدُونَكُمُوهَا فَاحْتَقِبُوهَا دَبِرَةَ الظَّهْرِ، نَقِبَةَ الْخُفِّ، بَاقِيَةَ الْعَارِ، مَوْسُومَةً بِغَضَبِ اللّهِ وَشَنَارِ الأَبَد»؛ فهذه ناقة الخلافة، وهذا أنتم. فاركبوها! لكن اعلموا أنّ ظهر هذه الناقة مليء بالجروح وأقدامها مفعمة بالقروح ولا تستطيع أن توصلكم إلى مقصدكم، وستبقى وصمة عار هذا العمل تلاحقكم إلى الأبد. (مَوْصُولَةً بِنَارِ اللّهِ الْمُوقَدَةِ «الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ)(1) وسيؤدّي بكم هذا العمل إلى نار اللّه الموقدة التي تطّلع على القلوب

ص: 317


1- . سورة الهمزة، الآية 7.

والسرائر. وهنا أيضاً تشير السيّدة الزهراء (عليها السلام) إلى آية قد نزلت بشأن الكفّار والمشركين. «فَبِعَيْنِ اللّهِ مَا تَفْعَلُونَ» فأعمالكم هي أمام عين اللّه تعالى (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ( (1))وَأَنَا ابْنَةُ نَذِيرٍ «لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ)(2) فأنا ابنة ذلك الرجل الذي كان ينذركم من العذاب الإلهيّ الشديد. «فَاعْمَلُوا (إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)»؛(3) فافعلوا ما يروق لكم ونحن أيضاً سنفعل ما نريد، وانتظروا ونحن أيضاً منتظرون.

وهنا تختتم مولاتنا فاطمة الزهراء (عليها السلام) كلامها. لكن هناك من يردّ عليها وهي بدورها تجيب على هذا الردّ، ولعلّنا سنتطرّق إلى هذا المقطع في المحاضرة القادمة إن وفّقنا اللّه إلى ذلك. لكن ثمّة بضع ملاحظات يمكن أن تُستفاد من الجُمَل الأخيرة التي ساقتها البتول (عليها السلام) فلنقف عندها:

عاقبة الزيغ عن الحقّ

الملاحظة الاُولى هي الاقتباسات القرآنيّة التي استشهدت بها الزهراء (عليها السلام) والتي تشير إلى الكفر والشرك وهي تنطوي على تحذير للمسلمين مفاده: لا تظنّوا أنّ الذي آمن، وأقام الصلاة، وجاهد، وآتى الزكاة، وجاء بغير ذلك فقد ضُمنت سعادته، فقد تكون عاقبة المرء - كائناً من كان ومهما طالت المسافة التي قطعها في جادة الصواب - عاقبة خطيرة وينتهي إلى الكفر. وإنّ ما من شأنه أن يجرّ الإنسان إلى الكفر والشرك هو الخروج عن تلك الجادّة والانحراف عنها. فشخص كهذا لا يلتفت في بادئ الأمر إلى عِظم خطئه بسبب قربه من جادّة الحقّ؛ لكنّه كلّما أوغل في مسيره ابتعد أكثر عن جادّة الصواب حتّى يضيّع الطريق ولا يتمكّن من الإياب والعودة. فهذا هو أعظم خطر يهدّد حتّى المؤمنين والصالحين. فلا نظنّن أنّنا إذا قضينا عمراً في دراسة العلوم الدينيّة، والدعوة إلى اللّه، والعبادة، والجهاد، وما إلى ذلك فإنّه لا ضير علينا إذا ارتكبنا بعض الذنوب والمعاصي! فعلينا أن نحذر كلّ الحذر؛

ص: 318


1- . سورة الشعراء، الآية 227.
2- . سورة سبأ، الآية 46.
3- . سورة هود، الآيتان 121 و122.

فلعلّ نفس هذه المعصية هي التي ستفتح لنا باب الزيغ عن طريق الحقّ وعندها سيبتعد الإنسان العاصي عن اللّه عزّ وجلّ مع كلّ خطوة يخطوها في هذا السبيل إلى أن يتوغّل في وادي الكفر والضلال فلا يرى إلى جانبه من كانوا يحفّون به من الرفاق المؤمنين، بل سوف لا يجد في نفسه الميل إلى معاشرتهم أساساً، وعلى العكس فإنّه سيجد نفسه واقفاً في خطّ المواجهة مع المؤمنين وأهل الحقّ. فهذا الخطر يتهدّد كلّ إنسان، اللّهمّ إلا من لجأ إلى اللّه سبحانه وتعالى واستعاذ به فحفظه اللّه وأولياؤه ومدّوا له يد العون نتيجة هذا اللجأ والاستعاذة.

الإيمان الحقيقيّ

الملاحظة الاخرى التي تستحقّ الاهتمام هي المعاني والمصطلحات المختلفة للكفر والشرك. فعندما يقال: إنّ إصرار الإنسان على المعصية يجرّه إلى الكفر فهذا لا يعني أنّه سينكر اللّه ورسوله والمعاد؛ مع أنّ الأمر – بالطبع - قد يتطوّر إلى هذا الحدّ أحياناً؛ كما قد شاهدنا في زماننا كيف أنّ اُناساً كانوا من أهل العبادة والتقوى فآلت بهم الاُمور إلى التشكيك بكلّ شيء، بل لقد صرّحوا أيضاً بأنّه لا يتوفّر في أيدينا أيّ دليل عقليّ على وجود اللّه تعالى. لكنّه ليس من لوازم كلّ شكل من أشكال الكفر أن ينكر المرء وجود اللّه والنبيّ والدين بشكل صريح، بل إنّ للكفر معنيَين مهمّين لابدّ أن نضعهما في الحسبان باستمرار. فأحد معاني الكفر هو المعنى الفقهيّ وهو الكفر في مقابل الإسلام. فكلّ مَن نطق بالشهادتين فهو مسلم وإنّ ذلك كافٍ لصيانة نفسه وماله. فالإسلام الفقهيّ الظاهريّ يثبت بنطق الشهادتين الذي من لوازمه إجراء أحكام الإسلام على الشخص في الظاهر؛ فبدنه - على سبيل المثال - يكون طاهراً، والزواج منه جائزاً، وما إلى ذلك. لأنّ الكفر الموجب لنجاسة المرء هو إنكار الشهادتين أو كلّ ما يوجب إنكارهما؛ أي إنكار الضروريّات التي يعلم المنكِر أنّ إنكارها يقود إلى إنكار الرسالة.

أمّا المعنى الثاني فهو الكفر في مقابل الإيمان. وطبقاً لهذا المعنى فإنّ كلاًّ من الكفر والإيمان هو شأن قلبيّ، وإنّ نتيجة هذا الإيمان هي النجاة في الآخرة. فإذا آمن المسلم أنّ ما جاء به النبيّ من قِبل اللّه هو حقّ ولم يساوره شكّ في أيّ واحد من أحكام اللّه، فهو مؤمن حقيقيّ. لكنّه إذا لم يقبل في قرارة قلبه بحكم من أحكام اللّه عزّ وجلّ فسيكون مصداقاً

ص: 319

لقوله تعالى: (يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ)؛(1) أي نؤمن ببعض الاُمور ونكفر ببعضها، والقرآن الكريم يقول بحقّ هؤلاء: (أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً)(2)فالإيمان القلبيّ هو أن يؤمن المرء بما يقوله اللّه من أعماق قلبه سواء أعَلِم بحكم اللّه تفصيلاً أم لم يعلم به. فمن الممكن أن لا يعلم الإنسان حكم اللّه على نحو تفصيليّ لكنّه يعتقد بأنّ كلّ ما يقوله اللّه تعالى فهو حقّ. وإنّه في مثل هذه الموارد يُخفق البعض ولا يستطيعون أن يقبلوا قلبيّاً ببعض الأحكام. فأمثال هؤلاء هم في الحقيقة كفّار في الباطن؛ ذلك أنّهم لا يقبلون ببعض أحكام اللّه سبحانه. فالإيمان الحقيقيّ يكمن في القبول والإذعان أمام كلّ ما أنزله اللّه جلّت آلاؤه. فعندما تقول الزهراء(عليها السلام) : (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ)(3) فلابدّ أن نفهم أوّلاً أنّها (عليها السلام) لا تستشهد بآية من دون مناسبة، بل إنّ قصدها من هذا الاستشهاد هو: «إنّني أستشعر خطر الكفر يهدّدكم». وهذا الكفر هو الذي يكون في مقابل الإيمان؛ أي إنّكم بإصراركم على هذا الفعل لن تكونوا من أهل النجاة في الآخرة وإن كنتم في ظاهر الأمر في عداد المسلمين وكانت أرواحكم وأموالكم مصونة، وهكذا كان يعامَل المنافقون في صدر الإسلام. فالقرآن الكريم يصرّح في الكثير من الآيات بالقول: إنّ المنافقين لا إيمان لهم وهم يدّعون الإيمان مجرّد ادّعاء: (وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)،(4) لكن لم يذكر التاريخ أبداً أنّ النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان قد أخرجهم من المدينة، ذلك أنّ الإسلام الظاهريّ هو غير الكفر الباطنيّ.

وفيما يتعلّق بالاُمور المستحبّة فإنّه إذا علم الشخص أنّ العمل الفلانيّ أمر مستحبّ لكنّه لم يأت به قطّ، فلا يضرّ ذلك بإيمانه؛ لكنّه إذا قال: «أنا لا أقبل بهذا العمل المستحبّ»! فإنّ ذلك يشكّل كفراً باطنيّاً. فإذا كان إنكار عمل مستحبّ يؤدّي إلى الكفر، فما بالكم بإنكار أمر قد أخذ النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) البيعة عليه بحضور جميع المسلمين؟ ألا يوجب إنكاره الكفر؟! فإنّ ما ترمي إليه الزهراء (عليها السلام) هو هذا النمط من الكفر.

ص: 320


1- . سورة النساء، الآية 150.
2- . سورة النساء، الآية 151.
3- . سورة إبراهيم، الآية 8.
4- . سورة التوبة، الآية 107.

فاطمة (عليها السلام) معيار رضا اللّه وغضبه

أمّا الملاحظة الاخرى فتكمن في الالتفات إلى المبحث الذي نوّهتْ به بضعة المصطفى (عليها السلام) في ختام الخطبة. تقول (عليها السلام): «على الرغم من أنّني أعلم أنّ كلامي هذا لن يؤثّر فيكم، لكنّني أقول ما أقول نتيجة ما ضاق به صدري من فوران الغضب وما طفح فيه من المآسي والآلام». لكن لماذا تقول الزهراء ذلك؟ يظنّ البعض أنّ مراد الزهراء هو: «إنّني، وبسبب ما اعتلج في صدري من عظيم الألم والكرب، قد فقدتُّ السيطرة على نفسي فتفوّهت بما تفوّهت به تنفيساً لكربتي وتخفيفاً عن قلبي». لكنّنا نعتقد أنّ الزهراء (عليها السلام) هي أصلب بكثير من أن تقع تحت تأثير أحاسيسها وغمّها وهمّها فتفقد السيطرة على نفسها. إذن فالداعي من وراء قولها هذا هو أنّ المسلمين كانوا قد سمعوا من لسان النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مراراً وتكراراً قوله: «إنّ اللّه عزّ وجلّ يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها».(1) فمولاتنا الزهراء (عليها السلام) تريد أن تقول هنا بصراحة: «إنّني غاضبة عليكم، وإنّ غضبي هذا هو مؤشّر على غضب اللّه تعالى»، ومن أجل ذلك فقد أتْبَعت كلامها هذا بالقول: «إنّ عملكم هذا سيقودكم إلى جهنّم»، ذلك أنّ الذي يحلّ عليه غضب اللّه لا يكون له سبيل للنجاة من نار جهنّم. إذن فإنّ بيان هذا المعنى إنّما يصبّ في وادي إتمام الحجّة أيضاً. فكلامها هذا كان بمثابة السهم الأخير الذي أطلقته (عليها السلام) من أجل هداية هؤلاء القوم. فكلّ ذلك كان من دافع المحبّة التي تكنّها الزهراء تجاه الناس ورغبتها في نجاتهم، حتّى وإن لم تكن النتيجة غير إنقاذ شخص واحد فقط. ومن هنا فهي تقول في نهاية المطاف: «وَتَقْدِمَةُ الْحُجَّةِ»؛ أي لم يكن ما قلته إلاّ من أجل إقامة الحجّة وإتمامها عليكم.

المناط هو حال الأشخاص في الوقت الحاضر

وهناك ملاحظة اُخرى تسترعي اهتمامنا أيضاً ألا وهي أنّه على الرغم من أنّ الأنصار كانوا أوّل من نقض الميثاق مع رسول اللّه وهرع لتعيين الخليفة من بعده، لكنّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) تقول عندما توجّه الخطاب لهم: «إنّكم أنتم الذين نصرتم الإسلام، وبسيوفكم

ص: 321


1- . عيون أخبار الرضا، ج2، ص26.

انتصر دين الحقّ». ثمّ تقول بعد ذلك: «فما الذي دهاكم اليوم لتنكصوا على أعقابكم وتسمحوا بانحراف الإسلام والسلاح بأيديكم وإنّ بوسعكم النهوض حاملين السلاح لتقويم هذا الاعوجاج»؟! بمعنى أنّها (عليها السلام) في الوقت الذي توبّخ الأنصار قائلة: «إنّ عملكم هذا سيجرّكم إلى الكفر وشقاء الدنيا والآخرة» فإنّها لا تنكر صفاتهم الحسنة وماضيهم الوضّاء. وهذا يعني أنّه: لا عملكم القبيح هذا يدعو إلى نسيان سوابق فضائلكم، ولا ماضيكم المشرق ذاك يشكّل عذراً لما اقترفتم الآن من شنيع فعالكم. فالمرء يكون ممدوحاً ومحطّ ثناء إذا أتى بفعل خير في أيّ مرحلة من عمره، لكنّه إذا ارتكب الخطيئة في مرحلة اُخرى منه فسيكون محطّ توبيخ وتقريع، فلا يشكّل ماضيه عذراً لأخطائه في المستقبل، ولا توجب خطاياه المستقبليّة إنكار سابق فعاله الحسنة. فإن اُثني على شخص في زمنٍ مّا فلا يعني ذلك أنّه أصبح وليّاً من أولياء اللّه ولن يصيبه عيب أو نقص إلى أبد الآبدين، بل علينا نحن أيضاً أن نثني على الشخص ونمتدحه ما دام سائراً على النهج القويم، فإن زاغ عن هذا النهج وأضحى عاملاً لتضعيف القيم الأصيلة للإسلام والثورة عمدنا إلى تنحيته جانباً. فلا ينبغي أن نتصوّر أنّ ماضي الأشخاص يشكّل عاملاً لضمان مستقبلهم. وكذا إذا كان امرؤ عاصياً في مرحلة من عمره ثمّ تاب وآب إلى جادّة الصواب فلا ينبغي أن نرفضه ونحذفه. إذن فالميزان في الثناء على الأشخاص أو تقريعهم، أو في اختيارهم لمسؤوليّة معيّنة أو تنحيتهم عن هذا المنصب هو حالهم وضعهم في الوقت الحاضر.

حيل الشيطان ضدّ فاطمة (عليها السلام)

لقد انتهى بحثنا في هذا المحفل الشريف حول الخطبة الفدكيّة المباركة إلى حيث رمت الزهراء (عليها السلام) بطرفها – بعد إيراد خطبة طويلة – نحو الأنصار مذكّرة إيّاهم بالمسؤوليّة الملقاة على عاتقهم في تلك المرحلة الزمنيّة ألا وهي الدفاع عن أهل البيت (عليهم السلام) وحقوقهم، ومنذرة إيّاهم عبر الاستشهاد بآيات من الذكر الحكيم تتضمّن لهجة هي غاية في الشدّة.

من الممكن أن يتصوّر المرء طبيعة الجوّ الذي ساد المجلس بعد استماع الناس إلى كلمات فاطمة الزهراء (عليها السلام) التي امتازت في بضعة مواطن بشدّة اللّهجة وبإثارة أحاسيس الناس وعواطفهم، ولا ريب أنّ تهدئة الأجواء في ظروف كهذه تحتاج إلى فنّ ومهارة كبيرين. من هنا فقد انبرى المتصدّي لمقام الخلافة بالكلام باسلوب يمتاز بذكاء خاصّ

ص: 322

وبلهجة ملؤها المحبّة والتودّد لأهل البيت (عليهم السلام)، وهي ردّة فعل تدلّ حقيقةً على ما يمتاز به هؤلاء الأشخاص من نبوغ حادّ في مثل هذه المواقف. فإنّ الاُمور التي طرحها في جوابه للزهراء (عليها السلام) تحتاج – في الواقع – إلى إخضاعها لدراسة معمّقة من قبل علماء النفس؛ ذلك أنّه لم يكن بالإمكان التحدّث بأفضل من ذلك من أجل تهدئة الحاضرين. وسأتلو عليكم متابعة لبحثنا كلام المسمّى بالخليفة الأوّل كي تتعرّفوا على لحن قوله.

منتهى الحيل لإلغاء تأثير كلام الزهراء (عليها السلام)

فأجابها أبو بكر عبد اللّه بن عثمان وقال: يا بنت رسول اللّه! لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفاً كريماً رؤوفاً رحيماً وعلى الكافرين عذاباً أليماً وعقاباً عظيماً.

فلقد كانت كنيته أبا بكر واسمه عبد اللّه بن عثمان. لقد حاول أبو بكر بهذا الاسلوب أن يخمد ما يظهر أنّه فورة غضب الزهراء (عليها السلام) ويقول لها: عليك أن تحذي حذو أبيك في التعامل معنا برأفة ولا تتفوّهي بالكلمات اللاذعة والقاسية معنا. «إن عزوناه» إذا فتّشنا في نسب أبيك «وجدناه أباك دون النساء» أي دون سائر النساء؛ يعني بما أنّك تنتسبين إليه فأنت الأَولى في اتّباعه والتأسّي به منّا، «وأخا إلفك دون الأخلاء» فقد كان أخاً لزوجك من دون باقي الأصدقاء «آثره» آثر عليٌّ أباك «على كلّ حميم» صديق «وساعده في كلّ أمر جسيم». لكن هناك احتمال آخر وهو أن يكون الضمير راجعاً إلى النبيّ؛ فيكون المعنى أنّ النبيّ هو الذي آثر عليّاً على باقي الأصحاب وكان يقدّم له يد العون باستمرار. «لا يحبّكم إلاّ سعيد ولا يبغضكم إلاّ شقيّ بعيد» عن رحمة اللّه «فأنتم عترة رسول اللّه الطيّبون والخِيَرة المنتَجَبون، على الخير أدلّتنا وإلى الجنّة مسالكنا».

كانت غايته من هذا الكلام تهدئة ما انتاب الناس من حالة الغليان والاضطراب، التي تشير إلى أنّ تعامل الزهراء (عليها السلام) معهم كان تعامل الخصم مع خصمه وأنّهم أعداء أهل البيت (عليهم السلام) . «وأنتِ يا خيرة النساء وابنة خير الأنبياء صادقة في قولك، سابقة» للآخرين «في وُفور عقلك» فنحن نعترف بأنّ ما ذكرتيه لا يُعَدّ كلاماً واهياً «غير مردودةٍ عن حقّك» لا

ص: 323

يحقّ لأحد أن يسلُبكِ حقّكِ «ولا مصدودةٍ عن صدقكِ» ولا أحد يستطيع أن يكذّب أو ينكر قولكِ الحقّ.

كان كلامه إلى هذه العبارة يصبّ في إطار تلطيف الأجواء كي يشعر الناس بأنّ الجوّ يمتاز بالودّية، لكنّه عرّج بعد ذلك إلى الموضوع الأساسيّ. فالقضيّة هي أنّ السيّدة الزهراء (عليها السلام) وبعد قصّة انتخاب ما يُدعَى بالخليفة كانت قد أحاطت – من خلال بعض الكلمات المحكمة واللاذعة وفي أوقات متعدّدة - أداء جهاز الخلافة بدائرة من الشكوك، مُظهِرةً – بذريعة طرح قضيّة غصب فدك – عدم كفاءة المتصدّين للخلافة وأهليّتهم لهذه المهمّة وهو ما مرّ بيانه في المحاضرات السابقة.

أمّا الطرف المقابل فقد ابتدأ بعد هذه العبارات بسوق بعض الاستدلالات التي تُظهر أنّ عمله كان صائباً. يقول: «واللّه ما عدوتُ رأي رسول اللّه ولا عملتُ إلاّ بإذنه». فعندما هدأت الأجواء وأراد أن يثبت - بتصوّره - حقّانيته أقسم باللّه أنّه لم يُخالف رأي النبيّ، ولم يُقدم على أيّ عمل من دون إذنه! «والرائدُ لا يَكذِبُ أهْلَه» وهو مثل عربيّ مفاده: أنّ دليل القافلة لا يكذب على أصحابها. أمّا مراده فهو: أنّني الآن دليل هذه الاُمّة وقائدها، وأنا لا أكذب عليكم، وقد أقسم أيضاً بأنّ ما يقوله هو عين الصدق. «وإنّي اُشهد اللّه وكفى به شهيداً أنّي سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ذهباً ولا فضّة ولا داراً ولا عقاراً وإنّما نورّث الكتاب والحكمة والعلم والنبوّة وما كان لنا من طعمة فلوَلِيّ الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه» فنحن لا نورّث مالاً، وإن تركنا مالاً فإنّ لِمَن يتولّى ولاية الأمر من بعدنا صلاحيّة التصرّف فيه كما يرى. «وقد جَعَلْنا ما حاوَلْتِهِ في الكُراع والسلاح يقاتل بها المسلمون ويجاهدون الكفّار ويجالدون المرَدَة الفجّار» أي: لقد كرّسنا ما ذكرته (مزرعة فدك) ليُصرَف في إعداد الخيل والسلاح ليستفيد منها المسلمون في قتالهم مع كفّار الخارج ونزالهم مع مَرَدة الداخل. «وذلك بإجماع من المسلمين، لم أنفرد به» بهذا الحكم «وحدي ولم أستبدّ بما كان الرأي عندي» ولم أكن مستبدّاً في اتّخاذه.

ص: 324

لحدّ هذه المرحلة من النقاش قد تمّ لعب دورين؛ دور تهدئة الناس، ودور طرح هذا الموضوع وهو: أنّ عملي هذا كان منسجماً مع ما رأيتُ من تكليفي الشرعيّ، ثمّ إنّني لم أنفرد أو استبدّ في رأيي بل كان ذلك بإجماع المسلمين وموافقتهم أيضاً. أمّا النقطة الثالثة التي طرحها فهي: إنّني لو أردت غصب حقّك لأنفقتُ ما أخذته على نفسي، لكنّني قد وضعته في متناول المسلمين. بل إنّه قد تعدّى ذلك بالقول: إنّني أضع أموالي الخاصّة تحت تصرّفك تفعلين بها ما تشائين. ففدك هي مال المسلمين، أمّا أموالي الخاصّة فهي متعلّقة بي أنا: «وهذه حالي ومالي هي لكِ وبين يديكِ لا تُزوَى عنكِ ولا ندّخر دونك» فليس أحد يحول بينك وبينها ونحن لا ندّخرها لأنفسنا أيضاً، «وأنتِ سيّدة اُمّة أبيكِ والشجرة الطيّبة لبنيكِ، لا ندفع ما لك من فضلك، ولا يوضع في فرعك وأصلكِ، حكمك نافذ فيما ملكَتْ يدايَ» فنحن لا نمنعك ممّا جُعل وخُصّص لك، ولا نُنْقِص ما كان في أصلك ولا ما كان في فروع هذه الشجرة. وإنّ حكمك نافذ فيما هو تحت تصرّفي الشخصيّ من الأموال. «فهل ترين أن اُخالف في ذاك أباكِ» أي: هل تظنّين أنّني – الذي جعلتُ أموالي الخاصّة تحت تصرّفك – سأحول بينك وبين ما جعله أبوك لك؟! فإنّه يتعيّن عليّ، طبقاً للحديث الذي سمعته من أبيك، أن اُنفق ما تتحدّثين عنه في مصالح المسلمين!

الأَيمَان الكاذبة، أوّل حيل إبليس

بالنظر إلى النقاط الثلاث التي وردت في الردّ على كلام الزهراء البتول (عليها السلام) نرى من المناسب أن نلفت انتباه الحضور إلى بضع نقاط لا تخلو من فائدة في حياتنا أيضاً.

لقد زعم المتحدّث في القسم الأوّل من الجواب: أنّني مطيع ومحبّ لك، ومعارض لكلّ من عارضك. وقد أشهد اللّه على نفسه أنّه لا يستطبن أيّ عداوة تجاهها (عليها السلام) وأنّ ما فعله لا يخرج عن إطار العمل بالتكليف. وبغضّ النظر عن من هو الشخص الذي قال ذلك وفي أيّ ظرف قاله، فثمّة سؤال يُطرح هنا من باب كونه مبحثاً كلّياً وعامّاً وهو: لو أنّ أحدهم، وفي أثناء حدث اجتماعيّ معيّن، بيّن لنا طريقاً واتّخذ من القَسَم – من أجل جلب انتباهنا - سبيلاً لإثبات مدّعاه فما هو تكليفنا تجاهه؟ ومن أجل التفتيش عن جواب لذلك لابدّ أن نفهم أنّ المؤسّس لهذه الحيلة هو إبليس. فلقد قال لآدم وحواء (عليهما السلام): «أنا أنصحكما أن

ص: 325

تأكلا من الشجرة التي مُنعتما منها. ولا أقول ذلك إلاّ طلباً لخيركما وحرصاً عليكما». ومن أجل إقناعهما بما قال فقد أقسم على قوله: (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ)(1) فكان قسَم إبليس هذا مدعاة لاستمالة آدم وحواء إلى الأكل من الشجرة ووقع ما وقع. كانت هذه هي الحيلة الاولى التي استخدمها إبليس لإضلال البشر. وهذه القصّة لن تنتهي حيث إنّ تلامذة إبليس وأولياءه قد تعلّموا منه الدرس على أتمّ وجه. وقد استُخدم الاُسلوب في زمان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً، حيث يخاطب القرآن الكريم الرسول الأكرم بالقول: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)؛(2) أي عندما يأتيك المنافقون ويقولون: نشهد إنّك رسول اللّه، ويقسمون على أنّهم يؤمنون بك حقّاً، فلا تصدّقهم! فإنّهم يكذبون. ويُعلَم من ذلك أنّ المنافقين عندما علموا أنّهم سيُنبَذون من المجتمع إذا أظهروا المعارضة للنبيّ وسيُفتضَح أمرهم أكثر، فإنّهم قد عمدوا إلى التظاهر بالإيمان. يقول الباري عزّ وجلّ ردّاً عليهم: أجل، فاللّه يعلم إنّك رسول اللّه، لكنّه يشهد أيضاً إنّ هؤلاء كاذبون. ثمّ يقول بعد ذلك: (اتَّخَذُواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً)(3) فهؤلاء اتّخذوا من أيمانهم درعاً تقيهم من معارضتكم وهجماتكم. وهذا هو ذات الدرس الذي علّمه إبليس لأوليائه. فهل استمرّ استخدام أمثال هذه الحيل بعد ذلك التاريخ أيضاً؟ لقد شاهدنا في عصرنا مراراً كيف أنّ البعض يدّعي: »نحن سائرون على نهج الإمام الراحل (قدس سره)، وليس لنا من نهج غير هذا النهج، ولا نتفوّه بكلام يخالف كلامه. وإنّنا نقبل بولاية الفقيه، وسنبقى متمسّكين بهذا النهج حتّى النهاية». لكنّه تبيّن بعد حين أنّهم كاذبون؛ فلا هم يعترفون بخطّ الإمام الراحل (قدس سره) ولا هم يقرّون بولاية الفقيه، ولم تكن مزاعمهم إلا حيلة علّمهم الشيطان إيّاها وقد أجادوا تعلّمها واتّخذوها وسيلة لخداع شعبهم، ليصدّقهم النجباء والطيبّون من أبناء الشعب فيما يقولون. لكنّ أبناء شعبنا اليوم يمتازون بالذكاء والفطنة مضافاً إلى الطيبة والطهارة، فمن خلال ما تراكم لديهم من تجارب لم يعودوا يصدّقون ما يقوله هؤلاء بهذه البساطة. لكن ما زال ثمّة بعض البسطاء والسذّج

ص: 326


1- . سورة الأعراف، الآية 21.
2- . سورة المنافقون، الآية 1.
3- . سورة المنافقون، الآية2 .

من الناس ممّن ينطلي عليهم كلام أمثال هؤلاء. يقول القرآن الكريم في هذا المجال: «هؤلاء يتّخذون من أَيمانهم هذه درعاً تقيهم من هجماتكم. فاحذروا أن تنطلي عليكم حيلهم. فلو كانوا صادقين فيما يقولون لبانت مزاعمهم على أرض الواقع، فلو كانوا سائرين على نهج الإمام ونهجه حقّاً لتبيّنوا ما يقوله خليفته من بعده وعملوا بأوامره. ولو كانوا متّبعين لخطّ الإمام كما يدّعون إذن فلماذا يخالف سلوكُهم سلوكَه؟! ولو كانوا يقبلون بمبدأ ولاية الفقيه فلماذا لا يعملون بأوامر الوليّ الفقيه ونواهيه؟!

إذن يتعيّن علينا أن نستلهم هذا الدرس من هذه القصّة، وأن لا ننخدع بالأَيمان المغلّظة والادّعاءات الواهية لبعض من تبدو عليهم أمارات الصلاح، فلا نصدّق ادّعاءاتهم إلا إذا تُوّجت أقوالهم بالأفعال. بالطبع من الممكن للمرء في إطار القضايا الشخصيّة أن يتغاضى عن حقّه، لكن عندما يتعلّق الأمر بالدين، وبحقوق المجتمع، وبمصالح البلاد فلا ينبغي التغاضي والتسامح ببساطة. في مثل هذه الامور ينبغي على المرء أن يتيقّن وأن لا ينخدع بمجرّد الادّعاء والقَسَم وحسن الظاهر. لكن علينا أن لا ننسى أيضاً فنتورّط باتّهام كلّ من ادّعى الصلاح وفعل الخير بالكذب؛ فما دامت هناك أمارات عمليّة تؤيّد مدّعاه فيتعيّن علينا أن ندعمه ونقف إلى جانبه، وبمجرّد أن نكتشف فيه علامات الانحراف نتوقّف عن دعمه. هذا هو درس عامّ يعلّمنا أن لا نتعاطى مع الامور بسذاجة، فالتسامح ليس محبّذاً خصوصاً في المسائل الاجتماعيّة والامور الدينيّة، إذ لابدّ أن تكون للمرء في كلّ خطوة يخطوها في حياته حجّةٌ أمام اللّه تعالى.

نقد وتحليل لحديث أبي بكر

النقطة الثانية هي ادّعاؤه بأنّه سمع هذا الحديث عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم). وهنا نواجه هذا السؤال: ما هو تكليفنا تجاه من يدّعي مثل هذا الادّعاء؟ يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: (إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)،(1) ومن هنا فإنّه إذا لم يكن للخبر سند معتبر فلا قيمة له على الإطلاق. لكن على فرض أنّ الراوي هو محطّ ثقّة لكنّ مضمون حديثه لا ينسجم مع السياق القرآنيّ فماذا سنفعل عندئذ؟

ص: 327


1- . سورة الحجرات، الآية 6.

يقول نبيّنا الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في هذا المجال: «قد كثُرت علَيّ الكَذَّابة وستكثر... فإذا أتاكم الحديث فاعرضوه على كتاب اللّه وسنّتي فما وافق كتاب اللّه وسنّتي فخذوا به وما خالف كتاب اللّه وسنّتي فلا تأخذوا به».(1) إذن فهو (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يضع في أيدينا مقياساً لكشف صحّة الحديث. فهذا حديث قد رواه أحدهم لنا، ولنفترض أنّ الراوي صادق، لكن تعالوا ننظر ماذا يقول القرآن الكريم في الآية السادسة عشرة من سورة النمل: «وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ» وكذا في الآيتين الخامسة والسادسة من سورة مريم: (فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ)، أمّا هذا الراوي فيقول: «لقد سمعت النبيّ يقول: ما من نبيّ قد ترك إرثاً فالأنبياء لا يورّثون غير العلم». لكن هذا يخالف صريح القرآن الكريم من ناحية ويعارض التاريخ القطعيّ من ناحية اخرى.

وعلى فرض أنّ سند الحديث ومضمونه صحيحان فإنّه لا يُوصل إلى مراد الراوي أيضاً؛ ذلك أنّ الحديث يقول: «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث». إذ أن المعنى الصحيح للحديث بالرجوع إلى آيات القرآن الكريم يكون هكذا: نحن معاشر الأنبياء بما أنّنا أنبياء فإنّنا نورّث العلم والحكمة؛ إذن فهذه العلوم هي إرثنا فقدّروها حقّ قدرها. وبعبارة اخرى إنّ لكلّ شخص إرثاً بلحاظ شخصيّته الحقيقيّة، وإرثاً من نوع آخر بلحاظ شخصيّته الحقوقيّة. فالشخصيّة الحقوقيّة للأنبياء (أي مقام النبوّة) لا تترك للاُمّة إرثاً سوى العلم والحكمة، أمّا الشخصيّة الحقيقيّة للنبيّ – حالها في ذلك حال ساير الناس – فهي تورّث المال للزوج والأولاد.

وحتّى لو فرضنا جدلاً أنّ الرواية مرويّة عن النبيّ حقّاً وأنّ قصده (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من هذا القول هو أنّ المال الذي يتركه الأنبياء (عليهم السلام) لا يندرج تحت حكم الإرث، فإنّها أيضاً لا تحقّق الهدف الذي رمى الراوي إليه، ذلك أنّ الحديث يقول: لا يملك أحد صلاحيّة التصرّف بالأموال التي يتركها النبيّ إلا وليّ الأمر من بعده، وإنّ وليّ الأمر هو ذلك الشخص الذي عيّنه النبيّ بنفسه. فقد قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل سبعين يوماً فقط من هذه الحادثة: «مَن كنتُ مولاه فهذا عليّ

ص: 328


1- . بحار الأنوار، ج2، ص225.

مولاه»؛(1) إذن فإنّ أموال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) طبقاً لهذا الحديث تكون تحت تصرّف أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام).

إذن فإنّ جميع مساعي الزهراء (عليها السلام) كانت تصبّ في إفهام الطرف المقابل أنّ ما تفعلونه خطأ فادح وأنّكم بعملكم هذا تحرفون مسيرة الحكومة الإسلاميّة عن وجهتها الحقيقيّة(2).

هدية الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لفاطمة (عليها السلام)

سجلت صفحات التأريخ بعضاً من الهدايا المعنوية التي منحها الرسول الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لابنته فاطمه (عليها السلام) و التي فاقت كل واحدةٍ منها الأخرى، لا سيما تسبيحة الزهراء، هذا بالإضافة إلى هديةٍ ماديةٍ معنوية منحها (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لفاطمة (عليها السلام) بأمرٍ إلهي، كما نصّ على ذلك متن الرواية التالية:

جاء في الدر المنثور «للسيوطي» عن البزاز و أبي يعلى و ابن حاتم و ابن مردويه عن سعيد الخدري أنه قال:

«لما نزلت الآية (وآت ذا القربى حقه)(3)

دعا رسول اللَّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاطمة الزهراء (عليها السلام) و أعطاها فدكاً».(4)

و بالطبع (كما سيأتي شرحه في فصل- أحداث فدك المؤلمة) فإن منح فدك لفاطمة (عليها السلام) لم تكن مسألةً أو هديةً عادية، بل كانت سنداً و دعامةً لو لاية علي بن أبي طالب (عليهما السلام) و عاملًا في تقوية و تثبيت مقام هذه العائلة الكريمة، و من هذا المنطلق فهي تعدُّ هديةً معنوية.

ص: 329


1- . بحار الأنوار، ج37، ص115؛ وإقبال الأعمال، ص456؛ وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزليّ (طبعة مكتبة آية اللّه المرعشيّ النجفيّ في قمّ المقدّسة، سنة 1404 ه- . ق)، ج2، ص289.
2- . دروس الاخلاق المصباح الیزدی.
3- . سورة الإسراء، آية 26.
4- . الدُرّ المنثور في ذيل آية 26 من سورة الإسراء، و ميزان الاعتدال، ج 2، ص 288، و كنز العمّال، ج 2، ص 158.

و لكنَّ النظام الذي أدرك معنى هذه الهدية جيداً، سارع بعد رحيل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى انتزاعها من فاطمة الزهراء عليها السلام و ضمها إلى بيت المال مستنداً في ذلك إلى حديثٍ موضوع و حجةٍ باطلة. و هذه قصة طويلةٍ

مملوءةٍ بالعبر و الاحداث المؤلمة و الظالمة، و التي يمكن اعتبارها سنداً إسلامياً مهماً في تحليل تأريخ صدر الاسلام و الحوادث التي أعقبت رحيل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم). و نوكل الحديث إلى محله.

«إلهي»! أحينا ما أحييتنا على محبة و موالاة هذه السيدة و أبيها و بعلها و بنيها(عليهم السلام) و احشرنا في زمرتهم.

«يا رب» وفقنا في اتباع نهجهم، و الاهتداء بنور هدايتهم، و الاقتداء بسنتهم.

«و اجعلنا ممن يأخذ بحجزتهم، و يمكث في ظلهم، و يهتدي بهداهم».

«آمين يا رب العالمين»

أحداث فدك المؤلمة

تعد قصة «فدك» من أغمِّ القصص التي مرت بحياة فاطمة الزهراء (عليها السلام) خصوصاً، و أهل البيت عموماً، و تأريخ الإسلام بشكلٍ أوسعٍ و أعم، و التي حيكت أحداثها مع المؤامرات السياسية الوضعية، كما أنها منفذ لحل بعضٍ من ألغاز تأريخ صدر الإسلام.

فدك؛ ماذا كانت و أين كانت؟

ذكر كثير من المؤرخين و أرباب اللغة بأن «فدك» قرية بالحجاز- قريبة من خيبر- بينها و بين المدينة يومان، و قيل ثلاثة، (و كتب البعض أنها تبعد عن المدينة بمسافةٍ مقدارها 140 كيلومتر) أفاءها اللَّه على رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، و فيها عين فوارة و نخل كثير،(1) و تعد مركزاً مهماً لليهود في أرض الحجاز بعد خيبر.

و في كيفية انتقال هذه الأرض الخضراء المعمورة لرسول اللَّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فالمعروف هو أن الانتصار الذي حققه رسول اللَّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في فتح حصون خيبر أرعب أهل فدك المتعصبين،

ص: 330


1- . معجم البدان، مادة فدك.

فأرسلوا إلى رسول اللَّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يصالحهم على نصف «فدك»، فقبل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذلك منهم و أمضى ذلك الصلح، و بهذا فهي ممالم يوجف عليه بخيلٍ و لا ركاب.

و بما أن القرآن ينص على:

(وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَي ءٍ قَدِيرٌ(1)

)؛ (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (2)

لذا فهي خالصةً لرسول اللَّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، يصرف ما يأتيه منها في «أبناء السبيل» و أمثال ذلك.

نقل هذا الحديث كل من ياقوت الحموي في «معجم البلدان» و ابن منظور الأندلسي» في «لسان العرب» و آخرون كثيرون.

و أشار إلى ذلك أيضاً «الطبري» في تأريخه و «ابن الأثير» في كتاب «الكامل».(3) كما كتب الكثير من المؤرخين أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد منح ابنته الزهراء (عليها السلام) فدكاً في حياته.(4)

الدليل البين الذي يثبت هذه الحقيقة هو ما نقله المفسرون الكبار، منهم مفسر أهل السنة المعروف «جلال الدين السيوطي» في كتاب «الدر المنثور»، حيث نقل في ذيل الآية السادسة عشرة من سورة الإسراء حديثاً عن «أبي سعيد الخدري» يقول فيه:

«لما نزل قوله تعالىَ- و آتِ ذا القربى حقه أعطى رسول اللَّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاطمة فدكاً».(5)

ص: 331


1- . سورة الحشر، آية 6.
2- . سورة الحشر، آية 7.
3- . راجع كتاب« فدك» القيّم للسيد محمّد القزويني الحائري.
4- . لأنّها كانت ملكاً لرسول اللَّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم).
5- . الدُرّ المنثور، مجلد 4، ص 177. و كان مِمّن روى هذا الحديث من رواة العامّة هم« البزّاز» و« أبو يعلى» و« ابن مردويه» و« ابن أبي حاتم» عن أبي سعيد الخدري،( راجع كتاب الاعتدال، ج 2، ص 288 و كنز العمّال، ج 2، ص 158).

الدليل الحي الآخر الذي يعتبر سنداً مهماً في هذا الأمر- أو لهذا الادعاء- هو قول أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليهما السلام) في نهج البلاغه:

«بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قومٍ آخرين، و نعم الحكم اللَّه».(1)

يشير هذا الحديث بوضوحٍ إلى أن فدكاً كانت بيد عليٍّ و فاطمة (عليها السلام) في حياة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، لكن بعض الحكام البخلاء تعلقوا بها، فتخلى عليّ و زوجته (عليها السلام) عنها مجبرين. و من البديهي أنهم لم يكونوا موافقين لما حدث، و إلا فما معنى سؤال و طلب الأمير (عليه السلام) من اللَّه سبحانه و تعالى في أن يحكم بينه و بينهم.

نقل الكثير من علماء الشيعة أيضاً في كتبهم المعتبرة روايات تتعلق بهذه المسألة منهم: المرحوم الكليني «الكافي» و المرحوم «الصدوق» و المرحوم «محمّد ابن مسعود العياشي» في تفسيره، و «علي ابن عيسى الأربلي» في «كشف الغمة»، و آخرون في كتب الحديث و التأريخ و التفسير، لا يسع المقام لذكر هم.

الآن ... لنرى لماذا و بأيِّ دليل انتزعت الزهراء (عليها السلام) فدكها؟.

ص: 332


1- . نهج البلاغة،( رسالة 45 رسالته إلى« عثمان بن حنيف»).

1: العوامل السياسية في غصب فدك

لم تكن مسألة انتزاع «فدك» من الزهراء (عليها السلام) مسألة عادية لا تحمل إلّا الجانب المادي فحسب، بل إن جانبها الاقتصادي قد انصبَّ في قالب المسائل السياسية التي حكمت المجتمع الإسلامي بعد وفاة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، و في الحقيقة لا يمكن فصل مسألة «فدك» عن سائر أحداث ذلك العصر، و إنما هي حلقة من سلسلةٍ كبيرة، و ظاهرةٍ من وقائعٍ شاملةٍ و واسعة!

إنَّ لهذا الغصب التأريخي الكبير عواملًا نوردها في النقاط التالية:

1- يعتبر وجود «فدك» في حيازة آل بيت النبوة (عليه السلام) ميزةً كبيرة لهم، و هذا بحد ذاته دليل على علوِّ مقامهم عند اللَّه و قربهم الشديد من الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، خصوصاً ما نقلته كتب الشيعة و السنّة في الروايات التي ذكرناها آنفاً من أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) استدعى فاطمة (عليها السلام) بعد نزول الآية «و آتِ ذا القربى» و أعطاها فدكاً.

من الواضح أن وجود «فدك» في حيازة آل بيت محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) منذ البداية يكون مدعاةً لالتفاف الناس حولهم و البحث عن سائر آثار النبيِّ الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في هذه العائلة خصوصاً مسألة الخلاقة، و هذا الأمر لم يكن ليتحمله مؤيدو إنتقال الخلافة إلى الآخرين.

2- كانت هذه المسألة مهمة في بعدها الاقتصادي، كما هو أثرها الفعال في بعدها السياسي، لأن وقوع أمير المؤمنين (عليه السلام) و آله في مضيقةٍ اقتصادية يؤدي إلى تدهور وضعهم السياسي بنفس النسبة. بعبارةٍ أخرى فإنَّ حيازتهم على فدك يوفر لهم امتيازات تكون بمثابة المتكأ الذي تستند عليه مسألة الولاية كما فعلت أموال خديجة (عليها السلام) في انتشار الإسلام في بدء دعوة نبي الإسلام (صلی اللّه عليه وآله وسلم).

من المتعارف عليه في جميع أنجاء العالم أنه إذا أريد طمس شخصيةٍ كبيرة، أو تقييد دولةٍ ما لتعيش حالة الانزواء فإنه يُعمل على محاصرتها اقتصادياً، و قد نصَّ تأريخ الإسلام في قصة «شعب أبي طالب» عندما حوصر المسلمون من قبل المشركين حصاراً اقتصادياً شديداً.

فى تفسير سورة المنافقين، و في ذيل الآية

(لَئِنْ رَجَعْنا إلى الَمدينةِ لَيُخرجَنَّ الأَعَزُّ مِنْها الأَذَلَ) (1)

ص: 333


1- . سورة المنافقين، آية 1.

أُشير إلى مؤامرةٍ شبيهةٍ بهذه المؤامرة قد حاكها المنافقون، لكنَّ اللطف الإلهي أخمد نارها و هي في المهد، لذا فليس من العجب في شي ءٍ أن يسعى المخالفون إلى انتزاع هذه الثروة من آل بيت النبي الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، و إخلاء أيديهم و دفعهم بعيداً عن الساحة.

3- و إن هم و افقوا على أن فدك ميراث النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو هديته لا بنته فاطمة الزهراء (عليها السلام) و بالتالي تسليمها إليها فإن ذلك سيفتح الطريق لها في المطالبة بمسألة الخلافة. هذه النقطة يطرحها العالم السني المشهور «ابن أبي الحديد المعتزلي» في شرح «نهج البلاغة» بصورةٍ ظريفةٍ حيث يقول:

«سألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد، فقلت له:

أكانت فاطمة صادقة؟

قال: نعم، قلت: فلم لم يدفع إليها أبوبكر فدك و هي عنده صادقة؟

فتبسم، ثم قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه و حرمته وقلّة دعابته، قال: لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها لجاءت إليه غداً و ادعت لزوجها الخلافة، و زحزحته عن مقامه، و لم يكن يمكنه الاعتذار و المدافعة بشي ء، لأنه يكون قد سجل على نفسه أنها صادقة فيما تدعيه كائناً ما كان من غير حاجةٍ إلى بيِّنةٍ و لا شهود» و بعدها يضيف «ابن أبي الحديد» قائلًا:

«و هذا كلام صحيح، و إن كان أخرجه مخرج الدعابة و الهزل».(1)

إنَّ هذا الاعتراف الصريح الذي أدلى به اثنان من علماء أهل السنة، لشاهد حيّ على أنّ لقصة فدك جانباً سياسياً هاماً.

ولكي يتضح هذا المعنى سنقف في البحث التالي على مصير هذه القرية عبر تأريخ الإسلام منذ قرونه الأولى، و كيف أنها انتقلت من يدٍ إلى أخرى و كيف تباينت آراء الخلفاء بخصوصها.

ص: 334


1- . شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد، ج 4، ص 78.

2: فدك عبر العصور

كيف عادت فدك لأهل البيت (عليهم السلام)

يعد مسير فدك التأريخ من عجائب التأريخ الإسلامي فقد كان لكل من الخلفاء عبر العصور موقفاً خاصاً منها، فمنهم من قبضها و منهم من ردّها إلى أصحابها، و طال الأمد بها على هذا الحال إلى أن صبخت الأرض و ضاع منها نعيمها. و للتعرف على فصول النزاع الذي مرت به هذه القرية العامرة يكفينا الوقوف على النقاط التالية:

1- إنتقلت «فدك» كما نعلم إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد سقوط خيبر لأنه قبل الصلح مع اليهود. و طبقاً لآية الشريفة «وَ مَا أَفَاءَ اللَّه عَلَى رَسُولِه ...» فقد صارت كلها ملكاً شخصياً مختصاً برسول اللَّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم).

2- طبقاً للوثائق التأريخية المعتبرة فإنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) منح و بأمرٍ إلهي فدكاً إلى فاطمة الزهراء (عليها السلام) في حياته، و ذلك عند ما نزلت الاية الشريفة (و آتِ ذا القربى حقه). بهذه الصورة أصبحت في حيازة ابنة الرسول الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم).

3- اغتصبت هذه المعمورة في زمن الخليفة الأول، و ضُمَّت إلى أموال الدولة، و قد سعى هؤلاء الى الحفاظ على هذا الوضع.

4- ظل الوضع على هذا الحال إلى أن آلت الخلافة إلى الخليفة الأموي «عمر بن عبد العزيز» الذي كان أقرب لأهل البيت (عليه السلام) من غيره، حيث نقرأ في شرح نهج البلاغة: «لما وُلي عمر بن عبد العزيز ردَّ فدك على ولد فاطمة، و كتب إلى و اليه على المدينة أبي بكر عمرو بن حزم يأمره بذلك، فكتب إليه: إن فاطمة قد ولدت في آل عثمان، و آل فلان و آل فلان، فعلى من أردُّ منهم؟ فكتب إليه:

«أما بعد: فإني لو كتبت إليك آمرك أن تذبح شاةً لكتبت إليَّ: أجماء أم قرناء؟ أو كتبت إليك أن تذبح بقرةً لسألتني: ما لونها؟ فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقسمها في ولد فاطمة من عليٍّ (عليه السلام) والسلام».(1)

بهذا الشكل صارت «فدك» بيد أبناء فاطمة (عليها السلام) بعد أن دارت دورةً كبيرة تنقلت فيها بين هذا و ذاك.

ص: 335


1- . البلاذري: فتوح البلدان ، ص 38.

5- لم يمض وقت طويل حتى غصبها الخليفة الأموي «يزيد بن عبد الملك» ثانيةً.

6- بعد أن ولى الأمويون و استخلفهم العباسيون، أعاد الخليفة العباسي المعروف «أبو العباس السفاح» فدكاً إلى «عبداللَّه بن الحسن بن علي (عليهما السلام) باعتباره ممثل بني فاطمة (عليها السلام).

7- بعدها مباشرة قام «أبو جعفر العباسي» بانتزاعها من «بني الحسن» (أنهم ثاروا على بني العباس»

8- أعاد الخليفة «المهدي العباسي» ابن «أبو جعفر» فدكاً إلى أبناء فاطمة (عليها السلام).

9- قام الخليفة العباسي «موسى الهادي» بغصبها ثانيةً، و ظل الوضع على هذا الحال في زمن هارون الرشيد.

10- ولكي يُظهر علاقته الشديدة بأهل بيت الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) و أبناء عليٍّ و فاطمة (عليها السلام)، قام المأمون برد فدك إلى وُلد فاطمة (عليها السلام).

لقد ورد في التأريخ أن المأمون كتب إلى و اليه على المدينة «قثم بن جعفر» قائلًا:

«إنّه كان رسول اللَّه أعطى ابنته فاطمة فدكاً و تصديق عليها بها، و إنَّ ذلك كان أمراً ظاهراً معروفاً عند آله (عليهم السلام) ثم لم تزل فاطمة تدعي منه بما هي أولى من صدق عليه، و إنه قد رأى ردها إلى ورثتها و تسليمها إلى «محمّد بن يحيى بن الحسين بن زيد بن عليّ» ... و «محمّد بن عبداللَّه بن الحسين» ... ليقوما بها لأهلهما».

يقول ابن أبى الحديد:

«جلس المأمون للمظالم، فأول رقعةٍ وقعت في يده نظر فيها و بكى، و قال للذي على رأسه: ناد أين وكيل فاطمة؟ فقام شيخ عليه دراعة و عمامة و خفّ تعزي، فتقدم فجعل يناظره في فدك و المأمون يحتجُّ عليه و المأمور يحتج على المأمون، ثمَّ أمر أن يسجل لهم بها، فكتب السجل و قرى ء عليه، فأنفذه، فقام دعبل إلى المأمون فأنشده الأبيات التي أوّلها:

أصْبَحَ وَجْهُ الزّمانِ قدْ ضَحِكَا *** بِرَدِّ مَأمُونَ هاشِماً فَدَكاً(1)

و قد ذكر مؤلف كتاب «فدك» أن المأمون اعتمد على رواية أبي سعيدٍ الخدري بإعطاء النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فدكاً لفاطمة فقأم برد فدك على أبنائها.(2)

ص: 336


1- . شرح نهج البلاغة، ابن أبى الحديد، ج 16، ص 217.
2- . فدك، السيد محمّد حسن القزويني الحائري، ص 60.

11- أما «المتوكل العباسي» و بسبب الحقد الذي كان يضمره لأهل بيت النبوة (عليه السلام) ، قام بغصب فدك من أبناء فاطمة (عليها السلام) مجدداً.

12- أصدر ابن المتوكل و هو «المنتصر» أمراً برد فدك إلى الحسن و الحسين (عليه السلام) ثانيةً.

مما لا شك فيه أن تنقل الأرض من يدٍ لأخرى، و التلاعب بأمرها في كل يومٍ من قبل السياسيين الحاقدين سيسبب هلاكها و خرابها بسرعة، و هو عين ما حدث لفدك، فسرعان ما خربت عمارتها و تيبست أشجارها و جفت ثمارها!

على كل حال فإن هذه الانتقالات التي حصلت إنّما تدل على حقيقةٍ محسوسةٍ ملموسة، ألا و هي أنَّ الخلفاء كانوا شديدي الحساسية تجاه فدك، فتصرف و موقف كلّ منهم إنما هو نابع مما تقتضيه مصلحته السياسية.

و كل ذلك تأكيد على ما ذكرناه من أن لغصب فدك بعداً سياسياً أهم من بعده الاقتصادي، فمصلحتهم كانت تقتضي منهم أن يعملوا على إبعاد أهل بيت الرسالة (عليه السلام) عن المجتمع الإسلامي، و التقليل من شأنهم و مكانتهم، و إظهار العداء لهم تارةً، و التقرب و التودد إليهم تارة أخرى عن طريق ردِّ فدك إليهم و الذي تكرر لعدة مراتٍ عبر التأريخ.

إنّ أهمية فدك في أذهان عامة المسلمين محدودة، فما يذكره التأريخ هو أنّها لم تزل في أيديهم حتى كان في أيام المتوكل، و كان فيها إحدى عشرة نخلة غرسها رسول اللَّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بيده، فكان بنو فاطمة يأخذون ثمرها، فإذا قدم الحجّاج أهدوا لهم من ذلك التمر فيصلونهم، فيصير إليهم من ذلك مال جزيل جليل.(1)

3: فدك و أئمة الهدى (عليهم السلام)

من المسائل الملفتة للنظر هي عدم تدخل أيّ من الأئمة «بعد الغصب الأول» في أمر فدك، ابتداءً من أمير المؤمنين (عليه السلام) و مروراً بالأئمة من ولده بل إنّ بعض الخلفاء من أمثال «عمر بن عبدالعزيز» و «المأمون» اقترحوا ردّها على واحدٍ من أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و كان ذلك مدعاةً للحيرة و التساؤل عن سبب موقفهم هذا من فدك؟

ص: 337


1- . شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد، ج 16، ص 217.

لِمَ لم يرجع علىٌّ الحق إلى أهله عند ما كانت الدولة الإسلامية تحت سيطرته، أو لماذا (على سبيل المثال) لم يعطِ المأمون فدكاً إلى عليِّ بن موسى الرضا (عليهما السلام) خصوصاً و أنّه كان يظهر للإمام حبه العميق؟ و لماذا أعطاها لبعضٍ من حفدة زيد بن علي بن الحسين (عليه السلام) باعتباره ممثلًا عن «بني هاشم»؟

ونقول في الإجابة على هذا السؤال التأريخي المهم:

أما بالنسبة لأمير المؤمنين (عليه السلام)

فإنّه أفصح عن رأيه في أمرها في قوله المختصر الغزير المعنى و الذي قال فيه:

«بلى كانت في أيدينا فدك من كلِّ ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم، و سخت عنها نفوس قوم آخرين، و نعم الحكم اللَّه. و ما أصنع بفدكٍ و غير فدك، و النفس مظانّها في غدٍ جدث تنقطع في ظلمته آثارها ...»(1)

بين أميرالمؤمنين (عليه السلام) بصورةٍ عملية أن مطالبته بفدكٍ لم تكن لكونها منبعاً مصدراً اقتصادياً يسترزق منه، و أن هو و زوجته طالبا بها يوماً فلأنّها سبيل إلى تثبيت مسألة الولاية، و منع خطوط الانحراف من السيطرة على منصب خلافة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم). الآن و بعد أن مضى ما مضى، و بعد أن بقى لفدك جانبها الماديّ فقط، فما فائدة استردادها؟

و للعالم و المحقق الكبير السيد المرتضى كلام قيم بهذا الشأن حيث يقول:

«لما آلت الخلافة إلى عليِّ بن أبي طالب كُلِّم في رد فدك فقال: إنّي لأستحي أن أرُدَّ شيئاً منع منه أبوبكر و أمضاه عمر».(2)

إن هذا القول الحكيم يشير في الحقيقة إلى شهامة و عدم اعتناء الأمير (عليه السلام) بفدك كونها ثروة مادية و مصدر رزق من ناحية، و من ناحية أخرى فهو يعرف غاصبي الحق الأوائل.

أما لماذا لم يسلم الخلفاء الذين أظهروا و دهم لآل بيت النبوة (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فدك إلى الأئمة، و دفعوها إلى أحد أحفاد زيد بن علي مثلًا أو أشخاصاً غير معروفين باعتبارهم ممثلين لبني فاطمة (عليها السلام)؟

فانه يمكن أن يكون لهذا الأمر سببان:

ص: 338


1- . نهج البلاغة، الرسالة، 45.
2- . شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد، ج 16، ص 252.

1- لم يكن أئمة الهدى (عليه السلام) ليتقبلوا فدكاً، فحينها كان لذلك العمل

بعداً مادياً يطغى على بعده المعنوي، و ربما كان يحمل على أنه تعلق بثروةٍ دنيوية لا معنوية.

بتعبيرٍ آخر فإن تسلم الأئمة (عليهم السلام) لها في تلك الظروف يقلل من شأنهم، إضافة إلى أن ذلك سيمنعهم من القيام على خلفاء الجور، فكلما أرادوا مجاهدة الحكام انتزعت منهم فدك. (و هذا نفس ما رواه التأريخ من أن الخليفة العباسي «أبو جعفر» انتزع فدك من «بني الحسن» عندما ثار بعضهم عليه).

2- من ناحيةٍ أخرى كان الخلفاء يفضلون عدم تطور إمكانات الائمة (عليهم السلام) المادية، فكما هو معروف في قصة «هارون الرشيد» عند مجيئه للمدينة و احترامه الشديد للإمام «موسى بن جعفر» (عليهما السلام) بشكلٍ أذهل ذلك ابنه المأمون.

ولكن عند ما حان وقت الهدايا، أرسل الرشيد هدية متواضعةً للإمام (عليه السلام)، فتعجب المأمون من ذلك، و عندما سأل أباه عن السبب، قال الرشيد:

«أسكت لا أمّ لك! فإني لو أعطيته هذا ما ضمنته له، ما كنت آمنه أن يضرب وجهي غداً بمأة ألف سيفٍ من شيعته و مواليه، و فقر هذا و أهل بيته أسلم لي و لكم من بسط أيديهم و إغنائهم.»(1)

4: محكمة تأريخية

كما مر ذكر سابقاً نقل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ملكية فدكٍ إلى فاطمة الزهراء (عليها السلام) بعد أن نزلت الاية الشريفة و آتِ ذا القربى حقّه». و لم ينفرد مفسرو الشيعة في نقل هذه الرواية عن الصحابي المعروف «أبو سعيد الخدري» بل و اتفق معهم علماء الجمهور أيضاً و قد أوردنا إسناد هذه الرواية آنفا.

وضعت الحكومة التي استولت على الخلافة بعد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يدها على فدك، و أخرجت أبناء فاطمة (عليها السلام) منها نقل هذا الأمر كل من العالم السني المعروف «ابن حجر» في

ص: 339


1- . الاحتجاج الطبرسي، ص 167( و كان الرّشيد قد أعطى لغير الأمام خمسة آلاف دينارٍ و أعطى للامام مائتا دينارٍ فقط).

كتاب «الصواعق المحرقة» و «السمهودي» في «وفاء الوفاء» و «ابن أبي الحديد» في «شرح نهج البلاغة».

قامت سيدة الاسلام (عليها السلام) بالمطالبة بحقها عن طريقين:

الأول هو كون فدك هدية الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لها، و الثاني هو أنها ميراثها من أبيها (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (بعد أن رُدّت دعوى الهدية).

استشهدت سيدة النساء في المرحلة الأولى بأمير المؤمنين «علي بن أبي طالب» (عليهما السلام). و «أم أيمن (رض)» عند الخليفة الأول، لكن الخليفة لم يقبل شهادتهما و لم يقر حقها بحجّة أن الدعوى لا تثبت إلا بشهادة رجلين أو رجلًا و امرأتين.

ثم رفض مسألة «الإرث» مدعياً أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال:

«إنا معاشر الأنبياء لانُورث ما تركناه صدقة».

لكن و من خلال تحقيقٍ شاملٍ يتضح أن النظام الحاكم الغاصب قد ارتكب في عمله هذا عشرة أخطاء فاحشة، سنقوم بعرضٍ مختصرٍ لها و نتوكل الخوص في التفاصيل إلى محل آخر:

1- كانت فاطمة (عليها السلام) تملك فدك، أي أنها كانت «ذو اليد»، و في رأي القوانين الإسلامية و جميع القوانين المعروفة في الوسط العقلائي العالمي فإن «ذو اليد» لايحتاج إلى استشهاد أو تصديقٍ على ما يملكه إلا إذا أظهرت شواهد على بطلان ملكيته.

فمثلًا إذا ادّعى شخص ملكية دارٍ يسكن فيها، فلا يمكن إخراجها من يده ما لم يظهر دليل يُنافي إدعائه، كما لا حاجة في أن يشهد أحداً على ديمومة ملكيته، بل إن هذا التصرف (إن أراد إنجازه بنفسه أو يوكله لممثليه) لأفضل دليلٍ على صحة مالكيته.

2- إن شهادة فاطمة الزهرا (عليها السلام) لوحدها كانت كافية في هذه المسألة، لأنها معصومة بحكم الآية الشريفة:

(إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (1)

ص: 340


1- . سورة الاحزاب، آية 32.

و حديث الكساء المشهور الذي نقلته كتب العامة المعتبرة و كتب الصحاح، فأبعد اللَّه عز و جل القبح و الذنب عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين (عليهم السلام)، و طهرهم من كلِّ معصية. فكيف يمكن أن يشكَّ أو يرتاب الآخرون بادعاء مثل هذا الشخص؟

3- إنّ شهادة الإمام علي (عليه السلام) لوحدها كانت كافية أيضاً، فهو يتحلى بمنزلة العصمة أيضاً، و آية التطهير و الروايات التي دلّ على هذا المعنى و فيرة، منها الحديث المشهور «الحق مع علىٍّ مع الحق، يدور معه حيثما دار»(1) الذي يكفينا دليلًا على عصمته (عليه السلام). إذا كيف يدور الحق حول محور وجود علىٍّ (عليه السلام)، لكن شهادته غير مقبولة؟

2- تعد شهادة «أم أيمن» هي الأخرى كافيةً في إثبات الحق، فكما ينقله ابن أبي الحديد:

عندما جاءت فاطمة (عليها السلام) بأم أيمن للشهادة، قالت «أم أيمن» لألي بكر:

لا أشهد يا أبا بكر حتى أحتجّ عليك بما قال رسول اللَّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أنشدك باللَّه ألست تعلم أن رسول اللَّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال:

«أم أيمن امرأة من أهل الجنة»

فقال أبوبكر: بلى.

إذن فكيف تُردُّ شهادتها بعد أن علموا مقامها و هي من أهل الجنة.(2)

5- إضافة إلى كلِّ ما سبق، يكتفي الحاكم بتوفر القرائن المختلفة «لحسيةً كانت أم الشبية بها» ليقوم بالفصل في الدعوى، فهل يا ترى أن مسألة «ذو اليد» من ناحية، و شهادة الشهود الذين تكفي شهادة كلٍّ منهما في إثبات و إحقاق الحق من ناحيةٍ أخرى، لا يوفران العلم و اليقين لدى الحاكم؟

6- لم يكن حديث ميراث الأنبياء في الواقع كما صاغه و فسره الغاصبون، و إنما كان بشكلٍ و معنى آخرين، فمصادر الحديث تنقل الحديث بالشكل الاتي

«إن الأنبياء لم يُورثوا ديناراً و لا درهماً ولكن ورثوا العلم فمن أخذ منه أخذ بحظٍّ وافرٍ».(3)

ص: 341


1- . شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد، ج 16، ص 219.
2- . شرح نهج البلاغه ابن أبي الحديد.
3- . الكافى، ج 1، ص 34.

و هنا نستدل أن الحديث يقصد الإرث المعنوي الذي يورثه الانبياء، ولا علاقة له بالإرث المادي، و هذا هو مصداق الحديث المروي عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أن:

«العلماء ورثة الأنبياء».

خاصة عبارة «ما تركناه صدقة» فهي حتماً لم تكن موجودةً في الحديث مطلقاً، فهل يمكن أن يتحدث الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بما يخالف صريح القرآن؟ إنّ القرآن الكريم يشهد في مواضع متعددة على توريث الأنبياء أبناءهم، و تشير آياته الشريفة بوضوح إلى أن ميراثهم لم يقتصر على الميراث المعنوي فحسب، بل و شمل الجانب المادي أيضاً.

و قد استدلت سيدتنا فاطمة الزهراء (عليها السلام) بهذه الايات المباركة في خطبتها المعروفة التي ألقتها في المسجد النبوي الشريف بين جمع من المهاجرين و الأنصار، فلم ينكر عليها أحد منهم ما تقول، كل ذلك كان دليلًا على زيف الحديث الذي ادّعاه الخليفة.

7- إن صحَّ هذا الحديث، فكيف لم تعرف و لم تسمع به أي من نساء النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، حيث أرسلن إلى الخليفة من يطالب بسهمهنَّ من ميراث الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم).(1)

8- إن صح هذا الحديث، فلماذا أصدر الخليفة مباشرة حكماً أمر فيه برد فدك إلى فاطمة الزهراء (عليها السلام)، ذلك الحكم الذي سلبه الخليفة الثاني منها و مزقه.(2)

9- إذا كان لهذا الحديث واقعية، و كان لازماً تقسيم فدك على المستحقين باعتبارها صدقة، فلم استدعى الخليفة الثاني في زمان خلافته عليّاً (عليه السلام) و العباس- بعد فوات الأوان- و أبدى استعداده في تسليمهما فدك كما جاء في كتب تأريخ الاسلام المشهورة.(3)

10- ورد في كتب «الشيعة» و «السنة» المعتبرة أن سيدة الإسلام فاطمة الزهراء (عليها السلام) غضبت على الخليفتين الأول و الثاني بعد أن منعاها حقها- فدك،، و قالت لهما «لن أكلمكما بعد اليوم»(4)

و كان الأمر كما قالت إلى أن وافاها الأجل.

في حين تنقل المصادر الإسلامية المشهورة عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حديثه المشهور الذي قال فيه:

ص: 342


1- . معجم البلدان الحموى، ج 4، مادة فدك، ص 239 شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد، ج 6، ص 223.
2- . السيرة الحلبية في سيرة الأمين و المأمون، ج 3، ص 391.
3- . صحيح البخاري باب فضل الخمس و كتاب« الصواعق المحرقة» لابن حجر، ص 9.
4- . الإمامة و السياسة، ابن قتيبة، ص 14.

«من أحب ابتنى فاطمة فقد أحبني، و من أرضى فاطمة فقد أرضاني، و من أسخط فاطمة فقد أسخطني».(1)

فهل من الممكن بعدها أن تمنع فاطمة (عليها السلام) حقاً تطالب به، و يتمسك بحديثٍ يفتقد إلى الصحة و الصدق و الرجوع إليه في مقابل نص كتاب اللَّه الذي ينصُّ على توريث الأنبياء أبناءهم.

على كلِّ حال، لا يوجد أي مسوّغ في مسألة غصب فدك، و ليس لذلك الفعل دليل معقول.

مالكية الزهراء (عليها السلام) من ناحية.

الشهود العدول المعتبرون من ناحية أخرى.

شهادة القرآن المجيد من ناحيةٍ ثالثة.

و من ناحيةٍ رابعة نرى الروايات الإسلامية المختلفة كلها أدلة تصدق و تشهد بأحقية سيدة الإسلام في فدك.

إضافة إلى كلِّ ذلك فإنَّ آيات المواريث عموماً تنصّ على أن لجميع الناس الحق في تركة آباءهم و أمهاتهم و الأقربون. لذا لا يمكن التغاضي عن هذا الحكم الإسلامي مادام الدليل لم يقم على نفي تلك العمومات و هذا شاهد آخر.

5: حدود فدك!

إنّ فدك- كما ذكرنا آنفاً- هي في الظاهر قرية مخضرة مثمرة قريبة من خيبر، لم تخفَ حدودها على أحد، لكن الغريب ماورد في جواب الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) لهارون الرشيد عند ما سأله الأخير قائلًا:

«حُدَّ فدكاً حتى أردها إليك»

حيث أبى الإمام (عليه السلام)

لكن الرشيد ألحَّ عليه.

فقال (عليه السلام): لا آخذها إلّابحدودها.

قال هارون: و ما حدودها؟

ص: 343


1- . صحيح البخاري، باب فضل الخمس و كتاب« الصواعق المحرقة» لابن حجر، ص 9.

قال (عليه السلام): إن حدّدتها لم تردّها.

قال هارون: بحق جدك إلا فعلت؟

قال (عليه السلام): أما الحد الأول فعدَن، فتغير وجه الرشيد و قال: أيهاً، قال: و الحدّ الثاني سمرقند، فاربد وجهه، قال: و الحدّ الثالث أفريقية فاسودَّ وجهه، و قال: هيه، قال: و الرابع سيف البحر مما يلي الجزر و أرمينية.

قال الرشيد: فلم يبقَ لنا شي ء، فتحول إلى مجلسي.

قال الإمام (عليه السلام): قد أعملمتك أنني إن حددتها لم تردها، فعند ذلك عزم على قتله (1)-

فهذا الحديث دلالة واضحة على إرتباط قضية «فدك» «بالخلافة»، و يبين أن المهم في الأمر كان غصب خلافة رسول اللَّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم). و إذا أراد هارون أن يعيد فدك فان عليه أن يتخلى عن الخلافة، و هذا ما جعله يلتفت إلى أن الامام موسى بن جعفر (عليهما السلام) إذا شعر بالقوة سيزيله عن الخلافة، و لذلك عزم الرشيد على قتل الامام (عليه السلام).

استنتاج

إن قصة «فدك» المؤلمة التي تحكي أحداث قريةٍ صغيرةٍ عانت الكثير عبر تاريخ الإسلام، تشير بوضوح إلى المؤامرة الكبيرة التي هدفت إلى إبعاد أهل بيت النبوّة (عليهم السلام) عن منصب الخلافة الإسلامية و تجاهل مقام إمامتهم و ولايتهم، مؤامرة شملت مختلف الأبعاد.

لقد سعى السياسيون منذ البدء خصوصاً في عصر «بني أمية» و «بني العباس» أن يسدلوا الستار على أهل بيت النبوة (عليهم السلام)، و يسلبوهم كل ميزةٍ تؤدي إلى تفوقهم و انتصارهم، بل لم يتوانوا (عند لزوم الأمر) في الاستفادة من عنوان و اسم أهل البيت (عليهم السلام) في تحقيق مآربهم، في حين رفضوا ردَّ الحق إلى أصحابه!

نعلم جيداً أن حجم الدولة الإسلامية قد إتسع في عصر «بني أمية» و «بني العباس» كما زادت ثرواتها و كثرت ذخائر بيت المال بشكلٍ قلَّ مثيله في تأريخ العالم إن لم ينعدم، و رغم أن فدك لم تكن لتشكل رقماً في مقابل كلّ ذلك، إلا أن الدوافع الشيطانية لم تسمح لهم برد الحق إلى أصحابه، بل والكف عن مواصلة التلاعب بهذه القضية.

ص: 344


1- . بحار الانوار، ج 8 ص 106.

و في الحقيقة، تعتبر قصة فدك وثيقة تأريخية إسلامية تثبت مقام آل بيت النبّي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الرفيع من ناحية، و تشير إلى ظلامتهم من ناحيةٍ أخرى، وتكشف الغطاء عن المؤامرات التي حاكها الأعداء لهم من ناحيةٍ ثالثة.

اللّهمَّ اجعل محيانا محيا محمدٍ و مماتنا محمدٍ و آل محمدٍ(صلی اللّه عليه وآله وسلم) واحشرنا في زمرتهم و العن أعدائهم أجمعين.(1)

الإجماع الزائف ضدّ فاطمة (عليها السلام)

خلاصة البحث الماضي

وصلنا في شرحنا للخطبة الفدكيّة المباركة إلى حيث قالت الزهراء (عليها السلام) في مقام الاحتجاج لمن يدعى كونه الخليفة الأوّل وهو الذي استولى على مزرعة فدك: «إذا لم تقبل بكون فدك نحلة لي من أبي قد أعطانيها في حياته عملاً بالأمر الإلهيّ: (وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ»(2)، فاعترف على الأقلّ بكونها ملكاً لأبي انتقل لوارثيه بعد مماته، وحيث إنّه لا وارث له غيري فلابدّ أن تكون فدك ملكي الآن. فبأيّ ذريعة استوليت عليها؟ ثمّ التفتت نحو الأنصار وبعد أن سردت بعض فضائلهم لامتهم على عدم نصرتهم لجبهة الحقّ. ويمكن أن نخمّن أنّ جوّ المجلس أضحى متشنّجاً عندما وصلت (عليها السلام) إلى هذا المقطع من خطبتها. وهنا التفت الخليفة الأوّل إلى أنّ حالة من التوتّر قد خيّمت على المجلس ولابدّ من ترطيب الأجواء. فشرع بادئ ذي بدء بالثناء على البتول (عليها السلام) بالقول: «جميعنا ممتنّ لأبيك، وبما أنّك ابنته ووريثته، فنحن نكنّ لك المحبّة والمودّة، بل إنّني على استعداد لأن أهبك مالي الخاصّ. وإنّ وضع اليد على فدك لم يكن خارج نطاق ما ارتأيتُه من مصلحة الاُمّة، ولم أتفرّد في قراري هذا بل كان بإجماع من المسلمين كافّة. لكنّني اُقسم أنّني قد سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نورّث وما كان لنا من أموال فهي توضَع تحت تصرّف وليّ الأمر بعدنا. وقد رأيت من الصلاح إنفاق هذا العِقار على مصالح المسلمين وتأمين نفقات الجهاد».

ص: 345


1- الزهراء سيد نساء العالمين، ص 97.
2- . سورة الإسراء، الآية 26.

الكشف عن مؤامرة خطيرة

بطبيعة الحال فقد تأثّر بعض السذّج والذين يمتازون بسطحيّة الفكر من الناس بكلامه إلى حدّ ما، وهذا ما دفع الزهراء (عليها السلام) إلى متابعة حديثها قائلة: «سُبْحَانَ اللّهِ مَا كَانَ أَبِي رَسُول اللّهِ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عَنْ كِتَابِ اللّهِ صَادِفاً، وَلا لأَحْكَامِهِ مُخَالِفاً، بَلْ كَانَ يَتْبَعُ أَثَرَهُ وَيَقْفُو سُوَرَه»؛ عجباً! لم يكن أبي لينطق بما يخالف حكم اللّه. فقد اشتملت مهمّته على تبيين أحكام اللّه تعالى وكان هو يعمل بها أيضاً. «أَفَتَجْمَعُونَ إِلَى الْغَدْرِ اعْتِلالاً عَلَيْهِ بِالزُّور»؛ فهل تريدون عبر المكر والحيلة أن تنسبوا الخطأ إلى النبيّ لتبرّروا تصرّفاتكم؟! «وَهَذَا بَعْدَ وَفَاتِهِ شَبِيهٌ بِمَا بُغِيَ لَهُ مِنَ الْغَوَائِلِ فِي حَيَاتِه»؛ وهي جملة تحمل الكثير من الأسرار. إذ تقول فاطمة الزهراء (عليها السلام): «إنّ فعلكم هذا يشبه الغائلة التي نفّذتموها في زمان حياة النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ». وهي هنا تطرح القضيّة بشكل مجمل. غير أنّ شارحي الخطبة، ولاسيّما ابن أبي الحديد المعتزليّ، وهو من أهل السنّة، ينقل في هذا المورد عن أساتذته والمؤرّخين، الذين من جملتهم الواقديّ في كتابه «المغازي» حادثة تفصّل هذا الإجمال مفادها أنّ جماعة من المنافقين كانوا قد تآمروا لاغتيال النبيّ الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فكمنوا له ليلاً عندما كان يمرّ من طريق جبليّة مخطّطين لإفزاع ناقته كي تنفر وتلقي به (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الوادي. لكنّ النبيّ علم بالمؤامرة فباءت مساعيهم بالفشل. ووفقاً للقرائن المتوفّرة، لاسيّما النصّ الذي أورده الواقديّ في مغازيه، فإنّ قصد الزهراء(عليها السلام) من كلامها هذا هو مؤامرة اغتيال النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم). ومن هنا فهي تقول: إنّ ما تصنعونه بي اليوم أشبه ما يكون بالدسيسة التي حيكت لاغتيال النبيّ الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيّام حياته، فهذه الواقعة هي استمرار لتلك وأنتم لا تنوون من ذلك غير إقصائنا كي لا يبقى من هذا البيت ومن أهداف النبيّ الأعظم أثر يُذكر.

«هذَا كِتَابُ اللّهِ حَكَماً عَدْلاً، وَنَاطِقاً فَصْلاً» فإن لم تكونوا تبيّتون غرض سوء وأنّ التكليف قد التبس عليكم حقّاً فارجعوا إلى القرآن الكريم واعملوا بما يحكم به، فهو يَقُولُ: (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)(1) وهي (عليها السلام) ترمي بالاستشهاد بهذه الآية إلى القول: إذا كان ما تقوله - من أنّ الأنبياء لا يورّثون - صحيحاً فلابدّ أن يكون أنبياء اللّه (عليهم السلام) أنفسهم

ص: 346


1- . سورة مريم، الآية 6.

مطّلعين على هذه المسألة. فإن كان الأمر كذلك فلماذا يسأل نبيّ اللّه زكريّا (عليه السلام) اللّه تعالى الوارث؟ ثمّ تذكر (عليها السلام) آية اُخرى تنقض هذا الادّعاء بكلّ صراحة فتقول: (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ دَاوُدَ)(1). فلو كانت قضيّة عدم توريث الأنبياء قاعدة ثابتة فكيف يقول تعالى في كتابه العزيز: (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ دَاوُدَ)؟ وفي ذلك دليل ناصع على أنّ هذا الحديث غير صائب، أو – غاية ما في الأمر – أنّنا يمكن أن نعلّل قولك بأنّك أخطأت في سماع كلام رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فقد يكون الحديث هكذا: «إنّ العلماء ورثة الأنبياء. إنّ الأنبياء لم يوَرِّثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورّثوا العلم، فمَن أخذ منه أخذ بحظّ وافر»(2)؛ ومعناه أنّنا معاشر الأنبياء لا نترك لاُمَمنا مالاً بعنوان الإرث، بل إنّ اُممنا ترث منّا العلم. فالغاية من هذا الكلام هي تشجيع الناس على طلب ما تركه لهم أنبياؤهم من العلوم والمعارف، وهو لا يعني أنّه من حيث كون النبيّ فرداً من أفراد المجتمع وأنّه خاضع للأحكام الإلهيّة فهو لا يورّث أمواله لأبنائه كما يفعل سائر أفراد الاُمّة. إذن فلا يمكن أن يكون ما تزعم - من أنّ ما تركه النبيّ يكون تحت تصرّف وليّ الأمر من بعده - صحيحاً لأنّه يخالف صريح القرآن الكريم.

«وَبَيَّنَ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا وزّعَ مِنَ الأَقْسَاطِ، وَشَرَعَ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالْمِيرَاثِ، وَأَبَاحَ مِنْ حَظِّ الذُّكْرَانِ وَالإِنَاثِ مَا أَزَاحَ بِهِ عِلَّةَ الْمُبْطِلِينَ، وَأَزَالَ التَّظَنِّيَ وَالشُّبُهَاتِ فِي الْغَابِرِينَ» فلقد أنزل اللّه تعالى في كتابه آيات في الإرث وعيّن فيها سهم كلّ وارث وبيّن الاختلاف بين إرث الذكر والانثى. وهو يقول في كتابه: كلّ المسلمين يرثون من مورّثيهم. وبناء عليه فلا مجال للشبهة التي تطرحون وهي أنّ أباكِ لم يترك لكِ مالاً ترثينه وأنّ كلّ ما تركه يجب أن يُنفق على مصالح المسلمين. فحكم القرآن هذا لا يتضمّن الاستثناء وهو جارٍ على كلّ مسلم.

كَلاّ (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعانُ عَلَىٰ ما تَصِفُونَ)(3) وهي تقتبس هنا الآية الواردة في قصّة يوسف الصديق (عليه السلام)؛ حيث إنّه عندما ألقى إخوة يوسف (عليه السلام) به في غياهب البئر وجاءوا أباهم بقميص يوسف الملطّخ بالدماء قالوا له: لقد تركنا يوسف عند متاعنا فلمّا عدنا وجدنا أنّ الذئب قد أكله ولم يبق منه سوى

ص: 347


1- . سورة النمل، الآية 16.
2- . الكافي، ج1، ص34.
3- . سورة يوسف، الآية 18.

هذا القميص الملطّخ بالدماء. فقال نبيّ اللّه يعقوب (عليه السلام) : «كلّ ما تقولونه وتبيّنونه إنّما هو من تصويرات النفس والشيطان؛ أي إنّكم تكذبون عليّ وتريدون خداعي. لكنّني سأصبر صبراً جميلاً وسأستعين باللّه الواحد الأحد على ما تزعمون». فتلاوة مولاتنا الزهراء (عليها السلام) لهذه الآية على مسامعهم يعني قولها: كما قد كذب أبناء يعقوب (عليه السلام) على أبيهم فإنّكم تكذبون عليّ وتحوكون لي الحيل والمكائد لكنّه لابدّ أن أصبر في مثل هذه الأحوال حتّى يحكم اللّه بحكمه.

حيلة اُخرى حِيكت لفاطمة (عليها السلام)

لم يصل الخليفة بعد الكلمات الأخيرة التي أدلت بها بضعة الرسول (عليها السلام) إلى مبتغاه، فقد كان يبتغي من كلّ تلك الإطراءات والكلام المعسول بحقّ الزهراء البتول (عليها السلام) أن يهدّئ الأجواء المتوتّرة ليبلغ الى ما يصبو إليه من مآرب. لكنّ كلمات فاطمة (عليها السلام) قلبت الوضع من جديد وأدرك الناس حينها أنّ القضيّة هي غير ما يُدَّعى فالزهراء تقول: إنّكم تمارسون التحايل، وتختلقون الأكاذيب، وتريدون تكرار تلك المؤامرة التي حاولتم من خلالها قتل النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم). ياله من كلام عجيب!

ولمّا شاهد أنّ الأجواء قد انقلبت مرّة اُخرى انبرى بالكلام ثانية فقال: «صدق اللّهُ ورسولُه وصدقت ابنتُه» فلقد تلوت علينا آيات من القرآن الكريم وإنّ اللّه ورسوله صادقان فيما يقولان، كما وأنّك صادقة أيضاً باعتبارك ابنة ذلك الرسول. وتابع الكلام المعسول قائلاً: «أنتِ معدن الحكمة، وموطن الهدى والرحمة، وركن الدين، وعين الحجّة» وهي أوصاف عجيبة للغاية! بالطبع عندما تكون الغاية هي إطفاء غضب المقابل وإخماد سخطه فإنّه يقال له: «لا اعتراض لدينا على ما تقول، فإنّنا نكنّ لك كلّ الإخلاص والولاء». وانطلاقاً من هذا المنطلق بدأ بالقول: إنّني لا اكذّبك قطّ! وسطّر هذه الصفات العجيبة للزهراء (عليها السلام) ؛ فقد وصفها بركن الدين، والركن من البناء إنْ خُرِّب هَوى البناء برمّته؛ إذن فهو يقول لها: إنّك تمتلكين هذه المنزلة والمكانة من الدين وأنا مؤمن بذلك، «لا ادلي بجوابك، ولا أدفعك عن صوابك لا أُبَعِّد صوابكِ، ولا أُنكِر خطابك، هؤلاء المسلمون بيني وبينكِ قلّدوني ما تقلّدتُ، وباتّفاق منهم أخذتُ ما أخذتُ، غير مُكابر ولا مستبِدّ ولا مستأثر، وهم بذلك شهود»؛ لقد

ص: 348

ذكرتِ اُموراً لا اُكذّبها، لكنّني لن أعمد إلى الإجابة فلا اُريد الاستمرار في هذا البحث ولا الردّ على ما تقولينه، وسأترك الأمر من الآن فصاعداً إلى المسلمين كي يحكموا بأنفسهم. إنّني لم أتولّ هذا المنصب باختيار منّي، بل قلّدني إيّاه المسلمون. كما أنّ الاستيلاء على فدك لم يكن برأيي الشخصيّ بل كان باتّفاق جميع المسلمين! فلم أشأ أن أستبدّ برأيي أو أن أستأثر بشيء لنفسي. فالناس هم الحكم بيني وبينك، وأنا اُوافق على كلّ ما تُجمع عليه كلمة المسلمين! وإنّ الناس لشهود على أنّني لم أقم بهذا الأمر بمفردي.

في الحقيقة عندما لم يعثر الخليفة في مقابل آيات القرآن الكريم وكلام الصدّيقة الطاهرة (عليها السلام) على ردّ مقنع، ولم تكن الأجواء لتسمح بإطالة البحث في هذه المسألة أكثر من ذلك فقد رأى أنّ أنجع السبل للتخلّص من هذا المأزق هو وضع الزهراء (عليها السلام) في مواجهة المسلمين. ومن هنا فقد حاول الإيحاء بأنّه طالما أنّ جميع الناس قد وافقوا على كلّ ما حصل، فإنّ كلّ ما مضى من الأعمال فهو صحيح وصائب. ويشير أمير المؤمنين (عليه السلام) في بيانه لهذه القصّة إلى أنّ القوم ومن أجل غصب الخلافة وفدك منّا فقد استندوا إلى إجماع المسلمين قائلين: «إنّ اللّه لا يجمع اُمّتي على ضلال»(1)

مناقشة هذا الإجماع المزعوم

من المناسب هنا أن يتمّ إخضاع مسألة الإجماع المذكور إلى بحث وتحليل من بُعدها التاريخيّ كي يُكشف عن ماهيّة هذا الإجماع أوّلاً، وما يحمله من حجّية بخصوص هذه المسألة ثانياً، وأنّه لماذا لم ينطق أحد بشيء بعد الاستناد إلى هذا الإجماع ثالثاً.

فأمّا الإجماع على الخلافة فهو أشبه بالهزل منه بالجدّ. فواقعة السقيفة - التي ينقلها مؤرّخو أهل السنّة ومحدّثوهم أنفسهم - كانت قد ابتدأت بنزاع وقع بين طائفتين من الأنصار على الخلافة في السقيفة. وعندما علم نفر من المهاجرين (ممّن تسلّموا مقاليد الخلافة فيما بعد) بالأمر هرعوا من فورهم إلى السقيفة واشتبكوا مع القوم هناك. أمّا الخليفة الثاني فيروي الواقعة بالقول: «فارتفعت الأصوات وكثر اللغط فلمّا أشفقتُ من الاختلاف قلت لأبي بكر: اُبسط يدك أبايعك. فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون وبايعه الأنصار

ص: 349


1- . الإحتجاج علي أهل اللجاج للطبرسي، ج 1، ص 115؛ الخصال للشيخ الصدوق، ج 2، ص 549.

وانتهى الأمر ولم ينطق أحد بشيء بعدها»(1)! هذا هو «الإجماع» المزعوم. وقد رُوي عن الخليفة الثاني قوله أيضاً: «إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة... غير أنّ اللّه وقى شرّها»(2)! فلو كان الأمر محطّ اتّفاق المسلمين وإجماعهم، وأنّهم لم يختلفوا فيه، بل ولم يخطئوا فيه أيضاً، فما بال الخليفة الثاني يقول: «فلتةٌ وقى اللّه شرّها»! وكيف يقول يا ترى: «فلمّا أشفقتُ من الاختلاف قلت لأبي بكر: اُبسط يدك أبايعك»! فإن كانت القضيّة قضيّة إجماع كان لابدّ من جمع الآراء والإدلاء بالأصوات. وكان يتحتّم عليهم – على الأقلّ – أن يسألوا الآخرين عن آرائهم، ويمنحوا كلّ امرئ الفرصة لإبداء رأيه بحرّية. كيف يتمّ الحديث عن الإجماع وقد وصل الأمر في بدايته إلى سلّ السيوف من أغمادها فعمد هو إلى بسط يده إلى أبي بكر لمبايعته وقايةً من إراقة الدماء؟! ثمّ يقول بعدها بلسانه: كان ما قمنا به تصرّفاً غير مدروس؟! فلم يكن هؤلاء يمثّلون جميع الاُمّة. ألم يكن سلمان وأبو ذرّ والمقداد وعمّار والآخرون من الاُمّة؟! ولو افترضنا أنّ الإجماع كان قد حصل على الخلافة وعلى غصب فدك، فالسؤال هو: مَن هم الذين شاركوا بآرائهم في هذا الإجماع؟! أين الوثيقة التي تثبت أنّ الناس قد قالوا لهم: هلمّوا وقوموا بهذا الأمر؟ لقد استند الخليفة الأوّل بنفسه إلى حديث رواه عن النبيّ مفاده أنّ صلاحيّة التصرّف في الأموال التي أترُكها تكون لوليّ الأمر من بعدي. فحتّى لو صحّ هذا الحديث لتعيّن – على أساس البيعة التي أخذها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من المسلمين في غدير خمّ قبل سبعين يوماً فقط – جعلها تحت تصرّف عليّ (عليه السلام) لا أن يُخرِجوا وكيل عليّ والزهراء (عليهما السلام) من العِقار ويستولوا عليه!

وعلى أيّة حال فقد كانت هذه الواقعة، كما عبّرت عنها الزهراء (عليها السلام)، مؤامرة وغائلة خطيرة للغاية تشبه تلك التي حاكوها لقتل النبيّ فيما مضى. فلا ينبغي أن نغفل عن هذه النقطة وهي أنّ مولاتنا فاطمة (عليها السلام) قد استخدمت في حقّ هؤلاء مثل هذه العبارات، واستشهدت لذلك بآيات قد نزلت في الكفّار والمشركين والمنافقين، وأنّها شبّهت هذا التيّار بأبناء يعقوب (عليه السلام) كلّ ذلك كي يعرف ولو نفر من المسلمين حقيقة الإسلام ويشخّصوا سبيله القويم ويفهموا ممّن يجب أن يأخذوا معارف دينهم. فلو قال قائل إنّه: «لولا خطبة

ص: 350


1- . تاريخ الطبري، ج2، ص446 - 447.
2- . تاريخ الطبري، ج2، ص446؛ وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي، ج2، ص26 جاءت العبارة عن قول الخليفة الثاني هكذا: «... كانت فلتة وقى اللّه شرها».

فاطمة الزهراء (عليها السلام) هذه لما عُثر اليوم على أثر للتشيّع» لم يكن كلامه جزافاً. فبقاء التشيّع بل وحتّى التراث الذي ورثه أهل السنّة من معارف أهل البيت (عليهم السلام) هو رهن بهذه الخطبة الشريفة.

آيات خطبة الزهراء (عليها السلام)

قوم ناكرون للجميل

ثمّ التفتت ثانية إلى المسلمين وقالت لهم:

مَعَاشِرَ المُسْلِمِين الْمُسْرِعَةَ إِلَى قِيلِ الْبَاطِلِ، الْمُغْضِيَةَ عَلَى الْفِعْلِ الْقَبِيحِ الْخَاسِرِ أَفَلا تَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)(1)؛ (كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَا أَسَأْتُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَأَخَذَ بِسَمْعِكُمْ وَأَبْصَارِكُمْ، وَلَبِئْسَ مَا تَأَوَّلْتُمْ، وَسَاءَ مَا بِهِ أَشَرْتُمْ، وَشَرَّ مَا مِنْهُ اغْتَصَبْتُمْ، لَتَجِدُنَّ وَاللّهِ مَحْمِلَهُ ثَقِيلاً، وَغِبَّهُ وَبِيلاً، إِذَا كُشِفَ لَكُمُ الْغِطَاءُ، وَبَانَ مَا وَرَاءَهُ بإورائه الضَّرَّاءُ، وَبَدَا لَكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَحْتَسِبُوُنَ «وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ)؛(2) أي: يا معاشر المسلمين المسرعة إلى الكلام الباطل والمغضية بطرفها والمتسامحة عن الفعل القبيح والخاسر. ألا تتدبّرون في كلمات القرآن الكريم أم إنّ قلوبكم موصدة ومقفلة؟! لا بل إنّ قبيح فعالكم قد أظْلَمَ قلوبكم فسلبكم اللّه سمعَكم وأبصاركم. فبئسما فسّرتم به آيات الباري عزّ وجلّ، وما أسوأ ما أشرتم إليه من رأي! وأيّ عوضٍ سيّئ تلقّيتم نتيجة فعلتكم هذه! فباللّه اُقسم إنّ عبء عملكم هذا سيكون عليكم عظيماً، وثقله كبيراً، وستؤولون إلى أسوأ العواقب. وعندما يحين اليوم الذي يُكشف فيه الغطاء عن أعمالكم ويظهر ما خفي تحته من أفعالكم ستظهر لكم من اللّه تعالى من البلايا والشدائد ما لم تكونوا تحتسبون وسيخسر حينئذ أهل الباطل خسراناً شديداً.

ومن الجليّ - جرياً على القاعدة - فإنّه عندما يترك المتصدّي للخلافة الأمر إلى الناس ويقول: إنّني قد عملت برأيهم، فلابدّ أن يُبدي الناس - إذا كان لديهم شعور بالمسؤوليّة -

ص: 351


1- . سورة محمّد  ، الآية 24.
2- . سورة غافر، الآية 78.

معارضة لذلك لاسيّما وأنّ الزهراء (عليها السلام) قد اشتكت منهم غير مرّة بسبب عدم نصرتهم للحقّ. لكنّ الناس - مع ذلك كلّه - أصرّوا على التزام الصمت ولم ينبسوا ببنت شفة. ولهذا فقد توجّهت (عليها السلام) بخطابها إلى الناس معترضة على قبولهم بالكلام الباطل وغضّ الطرف والتسامح عن مخالفة الحقّ؟! قائلة لهم: اعلموا أنّكم ستتورّطون بتبعات وعواقب هذا العمل وستندمون يوماً على فعلتكم هذه حيث لن يجدي الندم نفعاً.

مباينة عليّ (عليه السلام) وقوعٌ في الفتنة

تحتوي هذه الجمل على التفاتات قيّمة لا تختصّ بذلك الزمن وأهله بل يمكننا نحن أيضاً أن نستلهم منها الدروس والعبر في زماننا هذا.

لقد اقتبست مولاتنا الزهراء (عليها السلام) في هذا المقطع عدداً من آيات القرآن الكريم. فإذا تصوّرنا الموقف وجدنا امرأة تقف في محكمة رسميّة مدّعية غصب مالها من غير سبب، وهي في صدد ذكر آيات من القرآن الكريم لإثبات مدّعاها، فبأيّ آية يمكنها أن تستشهد لذلك؟ وفقاً للقاعدة فإنّه يتعيّن عيلها أن تستشهد بآيات من قبيل: (لا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ)(1) أو قوله تعالى: (لا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ)(2) لكن لأيّ سبب تخاطبهم (عليها السلام) بالقول: «أأصبحتم كفّاراً وتركتم دين اللّه سبحانه وتعالى؟ أتريدون سلوك سبيل النار الخالدة»؟! من المسَلّم أنّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) لا تقول قولاً اعتباطيّاً أو من دون تمحيص وتأمّل، وإنّ الآيات التي تلتها خلال هذه الخطبة الشريفة عجيبة للغاية. فعندما أشارت في بداية الخطبة إلى واقعة السقيفة وتغيير وجهة الخلافة قالت: يزعم أهل السقيفة أنّهم عجّلوا في تعيين خليفة الرسول تفادياً لوقوع الفتنة وحدوث الفوضى في الاُمّة، لكن: (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ)؛(3) فهؤلاء هم أساساً في قلب الفتنة وإنّ جهنّم

ص: 352


1- . سورة النساء، الآية 29.
2- . سورة البقرة، الآية 188.
3- . سورة التوبة، الآية 49.

محيطة بهم من كلّ جانب. ثمّ تقول متابعةً: أتريدون بحكمكم هذا أن تبتغوا ديناً غير الإسلام؟! (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ).(1) فهذه الآية إنّما تنفع كجواب لاُولئك المنادين بالتعدّدية الدينيّة والقائلين بأنّ جميع الأديان حسنة ولا يهمّ بأيّها نتديّن، لكنّ بأيّ حجّة تقتبس الزهراء (عليها السلام) هذه الآية في مقام المطالبة بحقّها المغتصَب؟ ولماذا استشهدت بقوله تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)؟(2) أي: «أتريدون إحياء أحكام الجاهليّة؟! فأيّ حكم هو أفضل من حكم اللّه؟ أم تريدون التخلّي عن حكمه عزّ وجلّ»؟! فهل ادّعى القوم ذلك يا ترى؟ كلاّ، فلم يظهر ذلك من كلامهم إطلاقاً، بل كان أبو بكر يحاول جهده الحفاظ على احترام فاطمة، لكنّها (عليها السلام) كانت تردّ عليه ردوداً عنيفة لاذعة. فمن جملة الآيات التي استشهدت بها (عليها السلام) هي الآية التاسعة والثلاثون من سورة هود التي يقول فيها تعالى:

(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ)، والقرآن الكريم يستخدم هذا الاسلوب في القول حينما يخاطب الكفّار والمشركين. لكنّ الزهراء كانت تخاطب بنفس هذه اللّهجة اُناساً يقيمون الصلاة وشخصاً بايعه الناس خليفةً لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فأيّ حكمة من وراء ذلك يا ترى؟

ترك عليّ (عليه السلام) عودةٌ إلى الجاهليّة

وكذا الحال عندما تشتكي فاطمة (عليها السلام) من عدم نصرة المسلمين فنراها تقول، من باب التبرير: لعلّكم ظننتم أنّ الأمر قد انتهى برحيل النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنّكم تستطيعون بعد رحيله أن تفعلوا ما تشاءون، في حين أنّه: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ).(3) وهذه آية عجيبة تستحقّ الوقوف عندها والتأمّل في سبب

ص: 353


1- . سورة آل عمران، الآية 85.
2- . سورة المائدة، الآية 50.
3- . سورة آل عمران، الآية 144.

استشهاد فاطمة الزهراء (عليها السلام) بها في هذا المقام بالذات. يقول الباريّ عزّ وجلّ في هذه الآية: «أفينبغي أن تتخلّوا عن دين اللّه تعالى وتنكصوا على أعقابكم إذا مات رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو قُتل؟! إنّكم إن فعلتم ذلك فلن تضرّوا اللّهَ سبحانه في شيء، أمّا إذا شكرتم نعمة ربّكم فسيثيبكم اللّه على شكركم». تريد الزهراء (عليها السلام) من خلال ذكر هذه الآية في مجلس كهذا أن تقول: إذا ظننتم أنّكم غير مسؤولين عن الدفاع عنّا وحمايتنا بعد رحيل النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فستكونون مصداقاً لهذه الآية وعليكم أن تعلموا أنّكم بفعلتكم هذه لن تتسبّبوا بأيّ ضرر لله جلّ شأنه بل إنّكم أنتم الذين ستخسرون. ثمّ تُتبع ذلك بذكر قوله تعالى: (وَقَالَ مُوسَىٰ إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ)(1) فإنّكم إن كفرتم أيّها المسلمون وكلّ سكان المعمورة فلن تضرّوا اللّه قيد أنمُلة ولن ينال كبرياءَه أيُّ غبار. فلماذا تسوق بضعة الرسول (عليها السلام) هذه الآية في هذا الموطن بالذات؟ أكان في المجلس من ينوي التخلّي عن دينه يا ترى؟!

اقتراف الذنب إخلال بمنظومة المعرفة

وعندما طُرح بحث كون فدك إرثاً ورُدّ على الزهراء (عليها السلام) بالقول: إنّ الأنبياء لا يورّثون، قالت(عليها السلام) :

(بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ)؛(2) وهي تقصد بهذا القول: ليست القضيّة أنّ الأمر قد التبس عليكم وأنّكم حقّاً لا تعلمون أنّ النبيّ يورّث أيضاً، حاله في ذلك حال بقيّة الناس، بل إنّكم قد أعددتم هذا السيناريو بأنفسكم لتنفّذوا ما تحبّون على أرض الواقع، وما علَيّ إلاّ أن أصبر حتّى تتحقّق إرادة اللّه عزّ وجلّ.

وفي المقطع الذي ذكرناه اليوم من الخطبة تستشهد الصدّيقة الطاهرة (عليها السلام) بالآية الرابعة والعشرين من سورة محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، ومن ثمّ تقتبس مفاهيم الآية الرابعة عشرة من سورة المطفّفين وتوردها بصيغة الخطاب، والآية هي: (كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ

ص: 354


1- . سورة إبراهيم، الآية 8.
2- . سورة يوسف، الآية 18.

يَكْسِبُونَ) . فمن الحقائق التي يؤكّد عليها القرآن الكريم هي أنّ الأعمال القبيحة للإنسان تؤدّي به بشكل تدريجيّ إلى عدم إدراك الحقّ وضعف الإيمان حتّى ينتهي إلى الكفر؛ كما تصرحّ الآية الثالثة والعشرين من سورة الجاثية فتقول: (أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)؛ أي: إذا أصبح الهوى هو معبود المرء من خلال إذعانه لأهواء نفسه فإنّ اللّه سيعمي بصره ويصمّ سمعه ويضلّه إن كان من أهل العلم والفهم ويجعل على بصره غشاوة وفي سمعه وقراً. فمَن الذي يستطيع هداية مثل هذا الإنسان؟ إنّ شخصاً كهذا لا يكون قابلاً للهداية على الإطلاق. ومثل هذا المضمون موجود أيضاً في الآية الرابعة عشرة من سورة المطفّفين حيث يقول عزّ من قائل: (كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)؛ فإنّ سيّئات من كانوا يواجهون اللّه عزّ وجلّ بالخطايا والمعصية وقبائحهم قد تجمّعت كالصدأ في بواطنهم وتراكمت كالرين والطين على مرآة قلوبهم فلم تعد تعكس أيّ نور.

تخاطب الزهراء (عليها السلام) المسلمين قائلة: لقد اتّبعتم ما أملَتْه عليكم أهواؤكم ونزواتكم فجئتم بأعمال أدّت إلى اسوداد قلوبكم، ونتيجة لذلك لم تعودوا تدركون شيئاً. لكن سيكشف اللّه يوماً الغطاء عمّا خفي من أعمالكم ويُظهر ما لم تكونوا تحتسبون، وحينذاك ستفهمون أيّ خطيئة عظيمة اجترحتم: (فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)(1) والسؤال المُلِحّ هنا هو: ما الذي دفع الزهراء (عليها السلام) في مجلس كهذا إلى الاستشهاد بهذه الآيات التي يخاطب اللّه فيها الكفّار والمشركين؟ والسبب هو أنّها (عليها السلام) كانت تشاهد، بما اُوتيَتْ من البصيرة الثاقبة واطّلاعها على الحقائق، أنّ ما بدأ بالظهور من انحراف عن مسير الحقّ سوف لن ينتهي إلاّ إلى الكفر والشرك: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُواْ السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِؤُونَ)(2)

ص: 355


1- . سورة ق، الآية 22.
2- . سورة الروم، الآية 10.

لقد كنتُ على معرفة بطالب جامعيّ متديّن. وعندما ذهب هذا الطالب إلى لندن لطلب العلم سمع أنّ بعض أفران الخبز هناك تدهن الفرن بزيت الخنزير لتسهيل عمليّة إخراج الخبز منها. فأخذ يبحث عن فرن يستعمل الزيت النباتيّ كي يطمئنّ من حلّية الخبز الذي يتناوله. فهل تصدّقون أنّ هذا الشخص نفسه قد وصل به الأمر فيما بعد إلى إنكار أصل الدين والوحي والنبوّة وكلّ شيء. فليست القضيّة أنّ كلّ فاسق كان فاسقاً منذ البداية. بطبيعة الحال يوجد من هو فاسد من البداية، لكنّ القرآن الكريم يقول: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ)؛(1) فقد كان يوجد اُناس آتيناهم من النعم الجمّة والمعارف العميقة وقد كانوا صالحين منذ بداية أعمارهم ومستجابي الدعوة، لكنّهم بدأوا شيئاً فشيئاً بالميل والركون إلى أهوائهم حتّى أصبحوا كالكلاب. فلقد بلغ الأمر بالمسلمين - الذين قاتلوا مع النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وصاحبوه - أن توبّخهم الزهراء (عليها السلام) وتعنّفهم بهذه الصورة. لماذا؟ ذلك أنّها (عليها السلام) كانت ترى أنّه لن تكون لهذا الزيغ والانحراف عن الحقّ من عاقبة سوى الكفر. فإن نحن بنينا أمرنا على عدم الاكتراث لأحكام اللّه عزّ وجلّ وأصبحنا تدريجيّاً نميل إلى القول: «أجل، الإسلام والنزعة الإسلاميّة أمر جيّد، لكنّ زمان هذه المواضيع قد ولّى من غير عودة وقد حلّ محلّها زمان القوميّة والقيم الإنسانيّة»! فلا ننتظرنّ إلاّ عاقبة من هذا القبيل.

السرّ وراء اختيار فاطمة (عليها السلام) لهذه الآيات

لم يكن أحد بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليتمكّن من المحافظة على الإسلام إلا أن يكون أشبه الناس به (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإنّ اللّه جلّ وعلا قد مَنّ على المسلمين إذ خلق إنساناً كهذا وعرّفهم به؛ أمّا المسلمون فقد تخلّوا وابتعدوا عنه وقد شكّل هذا التصرّف نقطة الانطلاقة على طريق الباطل. ولهذا فقد وصل الأمر بهؤلاء المسلمين إلى قتل سبط الرسول الأعظم في كربلاء أبشع قتلة. فإنّ كون المرء مصلّياً وصائماً لا يشكّل بالضرورة دليلاً على كونه إنساناً صالحاً

ص: 356


1- . سورة الأعراف، الآيتان 175 و 176.

من جميع النواحي، بل لابدّ من النظر إلى عقائده. فإن قال: «أجل، لقد قال اللّه إنّ عليّاً هو الوليّ بعد رسول اللّه، لكنّنا نرى الصلاح في أن يتصدّى شخص آخر للخلافة»، فهذا يعني أنّه قد جعل نفسه في عرض وجود اللّه عزّ وجلّ! فهذا الإمام الصادق (عليه السلام) يقول فيمن يردّ حكم نائب المعصوم: «فإذا حَكَم بحُكْمنا فلم يقبله منه فإنّما استخفّ بحكم اللّه وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على اللّه، وهو على حدّ الشرك باللّه»،(1) فكيف يكون الردّ على كلام هذا الشخص مؤدّياً إلى الشرك باللّه؟ وذلك لأنّه يحكم بحكم اللّه تعالى، ومن هنا فإنّ الذي يخالف كلامه فهو يضع كلامه في عرض كلام اللّه ويقول: قانون اللّه قانون، وقانوني هو قانون أيضاً! وهذا هو معنى الشرك.

إذن فإنّ ما وجّهته فاطمة الزهراء (عليها السلام) من تهديدات وتوبيخات للقوم هو من أجل أن تقول لنا: حذار من الانفصال عن محور الحقّ. إذ أنّ عليّاً مع الحقّ والحقّ مع عليّ ،(2) فمباينة عليّ (عليه السلام) يعني الزيغ والانحراف وهي تقود في نهاية المطاف إلى الكفر. إذن علينا أن نقدِر نعمة الولاية حقّ قدرها. فلقد جهد علماؤنا الأعلام لمدّة 1400 سنةً للحفاظ على مذهب التشيّع من أجل أن يصل إلينا، ولقد أمَرَنا أئمّتنا الأطهار (عليهم السلام)

من أجل صيانة هذه النعمة والوقوف أمام الانحراف عن سبيل الحقّ بالقول: «عليكم بالرجوع إلى حَمَلة علومنا في زمان غيبتنا. فهؤلاء هم الحكّام عليكم ولهم الولاية عليكم أيضاً». فولاية الفقيه لم تصل إلى أيدينا بسهولة، وهي لا تعني المحبّة والاُلفة فحسب؛ فبعض أهل السنّة يقول: «إنّ معنى كلام النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عندما قال: «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه»(3) هو: مَن كان يحبّني وكنتُ أحبّه فليحبّ عليّاً أيضاً. ونحن نحبّ عليّاً». فكم عانى صاحب كتاب «العبقات» وصاحب كتاب «الغدير» وأمثالهما كي يثبتوا أنّ المراد من المولى ليس هو المحبّة فحسب، بل الولاية؛ بمعنى أنّ طاعة عليّ (عليه السلام) هي فرض عليكم.

وقد يبادر البعض في زماننا أيضاً إلى القول: إنّ ولاية الفقيه تعني أنّ علينا أن نحبّ الفقهاء. والحال أنّها تعني أنّ طاعة الوليّ الفقيه هي واجبة تماماً كطاعة المعصوم (عليه السلام). لذا

ص: 357


1- . الكافي، ج1، ص67.
2- . قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ» (بحار الأنوار، ج10، ص432).
3- . الكافي، ج1، ص420.

فإنّ من المناسب في المرحلة الاُولى أن نؤمن نحن بهذه المسألة، لنعمد في المرحلة الثانية إلى رفع ما علق في أذهان الآخرين من شبهات حولها. (1)

الذود عن الولاية على فراش المرض

دافع الزهراء (عليها السلام) للحضور في الساحة

بعد أن انتهت سيّدتنا فاطمة الزهراء (عليها السلام) من خطبتها غادرت المسجد متوجّهة إلى منزلها وهي ساخطة على الناس غير راضية عنهم. وقد اشتدّ في المنزل مرضها حتّى وافاها الأجل بسببه بعد بضعة أيّام. لكنّ جماعة من نساء المهاجرين والأنصار ذهبن لعيادتها في أيّام اشتداد مرضها، فكان أن اغتنمت (عليها السلام) الفرصة لإلقاء خطبة ثانية ولابدّ قبل البدء بشرح عبارات الخطبة من الالتفات إلى النقطة التالية وهي أنّ الزهراء (عليها السلام) قد سعت، على الرغم من مرضها الشديد، إلى اغتنام فرصة اجتماع نساء المهاجرين والأنصار لتبيين بعض الاُمور التي لم يكن بيانها بهذه الكيفيّة ممكناً في موضع آخر. ولم يتمّ التطرُّق في هذه الخطبة إلى شأن فدك وغصب الأموال بل قد انصبّ اهتمام الزهراء فيها على مسألة إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) وتغيير مسير الإمامة والولاية. في الحقيقة فإنّنا نستطيع القول: إنّ هذه الكلمة هي أفضل وأكمل وأنجع ما دافعت به الزهراء (عليها السلام) عن حياض الولاية والإمامة، وقد ذكرت في هذه العبارات القصيرة نسبيّاً (حيث من الواضح أنّ حالتها لم تكن لتسمح لها بإلقاء خطبة مطوّلة) مباحث هي غاية في العمق والشدّة وقمّة في إعطاء العبر والإنذار فكان من شأنها أن تهزّ القلوب المتأهّبة والمستعدّة.

إذن فقد كان قصدها (عليها السلام) الذود عن قضيّة الولاية والإمامة فيما تبقّى لها من عمرها الشريف وتبيين الحقائق أمام الملأ قدر المستطاع كي يدركوا خطورة ما اقترفته أيديهم وما سينتج عن هذا العمل من تبعات وتداعيات خطيرة. كما أنّ هناك بعداً أكثر عمقاً لهذه الخطوة التي قامت بها الزهراء (عليها السلام) وهو أنّ دفاعها عن حصون الإمامة وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكن من منطلق عاطفيّ أو اُسريّ أو استناداً إلى علاقتها الشخصيّة بزوجها وما إلى ذلك. صحيح أنّ الدفاع عن الزوج أمر مستحسَن؛ غير أنّ ما قامت به الزهراء (عليها السلام) كان يسمو على

ص: 358


1- . لمحاضرة سماحة آية اللّه مصباح اليزديّ (دامت بركاته) .

قضيّة الدفاع عن حقّ الزوج بكثير. فلمّا كانت الإمامة هي العلّة المُبقِية للإسلام، فإنّ الذود عن إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) يعني الدفاع عن الإسلام برمّته. فإنّنا نستطيع أن نقول بكلّ جرأة وصراحة: إنّه لولا الدور الذي نهض به عليّ بن أبي طالب (عليهما السلام) مع كلّ ما اكتنف هذا الدور من مظلوميّة ومحدوديّة، لَما بقي من الإسلام شيء، فما بالكم بحقّانية مذهب التشيّع ومعارف أهل البيت (عليهم السلام)! ومن هذا المنطلق يتعيّن القول في تحليل وتقييم ما قامت به الزهراء على فراش المرض وإلقائها لهذه الخطبة الغرّاء: إنّ القضيّة الاُولى التي تمّ تناولها في هذه الخطبة هي حماية الولاية والإمامة، والثانية هي الدفاع عن الإسلام. لكنّه ثمّة بعد آخر أكثر عمقاً لهذا التحرّك. فالمرء قد يخرج أحياناً إلى جبهات القتال والجهاد دفاعاً عن الإسلام، لكنّك إذا فتّشت في أعماق قلبه وجدت أنّ الخوف من النار، ورجاء الثواب، والشوق إلى الجنّة والحور والقصور هو الذي دفع به إلى الجهاد. فهل كان دفاع أئمّتنا المعصومين ولاسيّما شخص الزهراء(عليهم السلام) عن الإسلام مجرّد أداء لتكليف شرعيّ يا ترى، أم كان ينطوي على أمر أعمق؟ في الحقيقة كان البعد الأشدّ غوراً لهذا الموقف هو الرأفة بالناس والشفقة عليهم. فقد كانت الزهراء (عليها السلام) تعلم علم اليقين أنّ حرمان الناس من هذا الدين يعني ابتلاءهم بالتعاسة والشقاء في الدنيا، وتورّطهم بالعذاب الإلهيّ الأبديّ في الآخرة. ومن هنا فقد سعت إلى هداية الناس ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، فلقد تجسّد في كيان الزهراء (عليها السلام) جوهر وجود ذلك الرجل الذي يقول الباري سبحانه وتعالى في وصفه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ).(1) ولذا كانت الزهراء (عليها السلام)تحاول جهدها حتّى آخر نفس من أنفاسها أن تعرّف - ولو شخصاً واحداً - بالحقّ وتهديه إلى سواء السبيل وتنقذه من غياهب الضلالة والعناد وحبّ الدنيا. إذن فقد كان للزهراء (عليها السلام) لبيان هذه الحقائق - في الواقع - ثلاثة دوافع هي في طول بعضها؛ الأوّل هو قضيّة الدفاع عن الإمامة، والثاني هو الذود عن حياض الإسلام، والثالث هو الحرص على دين الناس والشفقة عليهم؛ فلقد كانت من الشفقة عليهم إلى درجة السعي لاغتنام أيّ فرصة من أجل هدايتهم.

ص: 359


1- . سورة التوبة، الآية 128.
الشكوى من انعدام النخوة وفقدان المروءة

«لمّا مرِضت فاطمة (عليها السلام) المرضة التي تُوفّيت فيها دخلت عليها نساء المهاجرين والأنصار يعُدْنها فقلن لها: كيف أصبحت من علّتك يا ابنة رسول اللّه؟». وكان باستطاعتها (عليها السلام) أن تجيب على سؤالهنّ عن حالها باختصار وتنهي الموضوع بكلّ بساطة، لكنّها اغتنمت الفرصة وأجابت عن سؤالهنّ عن أحوالها بخطبة: «فحمدت اللّه وصلّت على أبيها» كما هو متعارف في الخطب الإسلاميّة، «ثمّ قالت: أَصْبَحْتُ وَاللّهِ عَائِفَةً لِدُنْيَاكُنَّ، قَالِيَةً لِرِجَالِكُنَّ»؛ لقد أصبحت تاركة لدنياكنّ متنفّرة ومتذمّرة منها أشدّ التنفّر والتذمّر، وساخطة أعظم السخط على رجالكنّ (حيث إنّ المسؤوليّة الرئيسيّة لما وقع كانت في أعناق الرجال ولم تكن النسوة مسؤولات عن ذلك بشكل مباشر). «لَفَظْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ عَجَمْتُهُم» (وها هي (عليها السلام) تلجأ مرّة اُخرى إلى استخدام تعابير غاية في البلاغة يعجز اللسان عن إعطائها حقّها وبيان عمقها الأدبيّ). فالعرب إذا أرادوا اختبار سلامة التمرة قبل أكلها فإنّهم يعضّونها بأسنانهم لفحصها؛ ويقال لمن يفعل ذلك: إنّه «عَجَمَ» التمرة. فالزهراء (عليها السلام) تقول: لقد اختبرت رجالكنّ لأرى كيف هم، ففهمت من الاختبار الأوّل أنّهم فاسدون، فلَفَظْتهم من فمي؛ أي نبذتهم من فمي وطرحتهم. وإنّما يقال للفظ إنّه «لفظٌ» لأنّه عبارة عن هواء يخرج من الفم عن النطق. «وَسَئِمْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ سَبَرْتُهُم». فتارة لا ينظر المرء عند شراء الشيء إلاّ إلى ظاهره، لكنّه تارة اُخرى يقلّبه ويتفحّصه بدقّة كي يعلم جودته من عدمها فيقال: إنّه «سَبَرَه» وهو تفحّص أعماق الشيء. تقول فاطمة (عليها السلام): لقد سئمت رجالكنّ ومللتهم بعد أن اختبرتهم بتمعّن وتفحّص.

تنفرد كلّ لغة بتعابير خاصّة لبيان تنفّر المرء وملله من شيء معيّن، ومنها اللغة العربيّة التي تتضمّن هي الاُخرى ألفاظاً بليغة في هذا الجانب وقد استخدمت فاطمة الزهراء (عليها السلام) للإفصاح عن نفرتها وسأمها من رجال تلك النسوة تعابير قد استُخدم بعضها في القرآن الكريم أيضاً؛ فالباري عزّ وجلّ يستعمل كلمة «بعداً» في حقّ قوم عاد وثمود، عندما يقول:

ص: 360

(أَلا بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ( (1))أَلا بُعْداً لِّثَمُودَ)(2) وهي تعطي معنى اللعن؛ لأنّ الرجل إذا لُعِن فقد طُرد من رحمة اللّه تعالى، وهو نفس المعنى الذي تعطيه كلمة «بعداً». وقد تُستعمل للتعبير عن هذا المعنى تعابير اُخرى مشابهة لذلك الذي اختارته الزهراء (عليها السلام)هنا عندما قالت: «فَقُبْحاً لِفُلُولِ الْحَدِّ» أي قبحاً للسيف إذا كَلّ ولم يَعُد يقطع بعد أن كان حادّاً قاطعاً؛ ومعناه: كم هو قبيح أن نرى السيف قد أصبح كليلاً وغير قاطع عندما نكون بحاجة إليه للجهاد. وتابعت(عليها السلام) : «وَاللَّعِبِ بَعْدَ الْجِدّ»؛ أي قبحاً للمزاح في الأمر المهمّ والخطير بعد اتّخاذ قرار جدّي؛ ومعناه: إنّكم قد اتّخذتم الإسلام، الذي هو عامل حياتكم وسعادتكم في الدنيا والآخرة والذي يتعيّن عليكم التعامل معه بكلّ جدّ وحزم – اتّخذتموه لهواً ولعباً. «وَقَرْعِ الصَّفَاةِ» فالذي يرغب بأن يُفتح له الباب عليه قرع مطرقته، وإنّ من الحماقة بمكان قرع صخرة صمّاء بدلاً من الباب. تريد الزهراء (عليها السلام) القول: إنّ اللّه قد جعل لكم باباً من الرحمة وإنه ينبغي لكم قرع تلك الباب كي تنهال عليكم رحمته. لكنّكم وبدلاً من قرع باب رحمة اللّه رحتم تقرعون صخرة صمّاء لا تنفعكم بشيء، وعوضاً عن طرق باب العلم، والرحمة، والسعادة، فإنّكم لجأتم إلى من هو أشبه بالصخرة فلا يُفتح لكم بابه مهما طرقتموه «وَصَدْعِ الْقَنَاةِ» إنّ ذلك الرمح الذي شحذتموه في الماضي وكان يجب أن تستخدموه الآن قد فقد قدرته وكفاءته. «وَخَتلِ الآرَاءِ وَزَلَلِ الأَهْوَاء» فلقد أخطأتم في جميع آرائكم وأمعنتم في الانغماس في أهوائكم؛ فعوضاً عن السير في إثر الحقّ سرتم خلف أهوائكم، وبدلاً من إبدائكم للرأي الصواب رحتم تبدون الآراء الفاسدة. فأيّ رجاء أرجوه فيكم بعد اليوم؟

ثمّ تقول مقتبسة كلامها من الآية الثمانين من سورة المائدة: (وَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ). وقد امتازت الآيات التي استشهدت بها الزهراء (عليها السلام) في خطبتها بالشدّة واللّهجة اللاذعة والقاسية ممّا يحكي عن عمق فراستها (عليها السلام) واستشرافها لتبلور تيّار بدأت بوادره تظهر في السقيفة لكنّه استمرّ فيما

ص: 361


1- . سورة هود، الآية 60.
2- . سورة هود، الآية 68.

بعد. فاستشهادها (عليها السلام) بتلك الآيات يشير إلى أنّ هذه الحركة حتّى إذا لم تكن كفراً بالفعل فإنّ طبيعتها توحي بأنّها ستنتهي إلى الكفر لا محالة. فقد أرادت (عليها السلام) أن تقول باقتباسها لهذه الآية: «أيّ ذخيرة غير مباركة ادّخرها رجالكنّ لأنفسهم! إنّها ستكون سبباً لسخط اللّه عليهم سخطاً يخلّدهم في العذاب». ونحن نعلم أنّ الخلود في العذاب إنّما يكون للكافر، وأنّ المؤمن مهما عُذّب فإنّ عذابه يكون مؤقّتاً. نفهم من ذلك أنّ مولاتنا (عليها السلام) أرادت باقتباسها لهذه الآية أن تقول: «إنّ مرتكبي هذا العمل اُناس خارجون عن الدين، أو – على أقلّ تقدير – قد سلكوا طريقاً ينتهي بهم إلى الكفر».

«لا جَرَمَ لَقَدْ قَلَّدْتُهُمْ رِبْقَتَهَا»نتيجة لما أبداه هؤلاء من تصرّف فإنّني من جهتي قد وضعت حبل الخلافة حول رقبة هذا البعير. «وَحَمَّلْتُهُمْ أَوْقَتَهَا» ووضعت حملها الثقيل على ظهور هؤلاء القوم، «وَشَنَنْتُ عَلَيْهِمْ غَارَاتِهَا» ونهضت لمقارعتهم، «فَجَدْعاً، وَعَقْراً، وَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»؛ وهنا أيضاً تستفيد (عليها السلام) من تعابير هي ممّا يُستخدم في باب الدعاء على الشخص ولعنه، قد تكون بعضها غريبة على الأدب الفارسيّ. فمن عادة العرب أن يقولوا عندما يريدون الدعاء على أحد: «جدعاً»؛ أي جدع اللّه أنفك، و«عقراً» والعقر هو قطع إحدى قوائم البعير بالسيف أو غيره ليسقط، «وبعداً»؛ أي سلّط اللّه على هؤلاء القوم الظَّلَمة البعيدين عن رحمة اللّه منتهى الخزي والمذلّة.

الدفاع الصريح عن الولاية

ثمّ قالت: «وَيْحَهُمْ! أَنَّى زَعْزَعُوهَا عَنْ رَوَاسِي الرِّسَالَةِ، وَقَوَاعِدِ النُّبُوَّةِ وَالدَّلالَةِ، وَمَهْبِطِ الرُّوحِ الأَمِينِ، وَالطَّبِينِ بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّين»؛ الويل لهم! إذ زحزحوا حمل الخلافة عن مكانه وحرفوه عن مسيره وجعلوه في موضع لا يُؤْمَن عليه فيه ولا يصلح لاستقراره. وفي هذا القول دليل على أنّ غاية الزهراء (عليها السلام) من خطبتها السابقة كانت إثبات عدم أهليّة المتصدّين للخلافة لها، فقد أرادت إفهام الناس أنّ هؤلاء لا يصلحون لخلافة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بتاتاً، وحتّى لو افترضنا جدلاً بأنّ للناس الحقّ في انتخاب الإمام عليهم، فبئس الاختيار لهذا الذي اختاروه.

ص: 362

لقد شبّهت الزهراء البتول (عليها السلام) مقام الرسالة وشؤونها بالجبال الشُمّ حين قالت: «إن خلافة الرسول الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) منزلتها الجبال الشامخة للرسالة لكنّ القوم رموها في قعر واد سحيق. فهذا المنصب لا يستحقّه إلاّ اُولئك العارفون بمصالح الرعيّة في دينهم ودنياهم حقّ المعرفة. (أَلا ذٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ»(1) وهذا خسران بيّن واضح؛ فقد اختار اللّه عزّ وجلّ لتلك النعمة العظيمة موضعاً مناسباً ورفيعاً كي تنهلوا أنتم من معينها إلى أبد الآبدين وتعمروا بها ليس دنياكم فحسب بل وآخرتكم أيضاً، لكنّكم قد فرّطتم بهذا الفعل بدنياكم وآخرتكم معاً. فهل من خسران أكبر من هذا الخسران؟

ماذا لو أصبح علي (عليه السلام) حاكما؟

وقد بلغنا تلك العبارة التي تقول (عليها السلام) فيها: «وَمَا الَّذِي نَقَمُوا مِنْ أَبِي الْحَسَنِ (عليه السلام)؟ نَقَمُوا وَاللّهِ مِنْهُ نَكِيرَ سَيْفِهِ، وَقِلَّةَ مُبَالاتِهِ لِحَتْفِهِ، وَشِدَّةَ وَطْأَتِهِ، وَنَكَالَ وَقْعَتِهِ، وَتَنَمُّرَهُ فِي ذَاتِ اللّهِ ...».

الحاكم المثاليّ

بعد أن أتمّت فاطمة الزهراء (عليها السلام) في الأيّام الأخيرة من عمرها الحُجّة على الناس وعلى المتصدّين للخلافة من دون الوصول معهم إلى نتيجة أرادت في هذا المجلس أن تبيّن علّة تخلّي الناس عن أمير المؤمنين (عليه السلام). ومن أجل فهم العلّة من وراء ترك الناس لأمير المؤمنين (عليه السلام) ومبايعة غيره علينا بادئ ذي بدء تقديم هذه المقدّمة وهي: ما الذي تتوقّعه الرعيّة من الحاكم؟ ومن هو الحاكم المثاليّ؟

القسم الأوّل من الامور التي تطلبها الرعيّة من الحكومة هي اُمور عامّة يتوقّعها كلّ شعب - مهما كانت اتّجاهاته الفكريّة والعقائديّة - من زعيمه، ومنها تنفيذ القانون الذي أقرّه الشعب بشكل صحيح، والذي من لوازمه معاقبة الخارجين عن هذا القانون. فأفراد المجتمع ينتظرون من الحاكم محاكمة ومعاقبة مَن يتمرّد عمداً على القانون ويتجاوز على

ص: 363


1- . سورة الزمر، الآية 15.

حقوق الآخرين. كما وإنّ من مطالبات الشعب العامّة من حاكمه هو أن يكون الأخير رؤوفاً بعامّة الرعيّة وطالباً لخيرهم في الظاهر والباطن. ومنها أيضاً أن لا يفكّر الحاكم بنفسه وأن يفكّر جدّياً بتأمين مصالح المجتمع وخدمة الرعيّة، لا أن يسعى لكنز الثروة وجمع الامتيازات لنفسه.

هذا النمط من المطالبات يطالب به كلّ شعب من حكومته، ويكون الحاكم مثاليّاً بالنسبة لكافّة المجتمعات البشريّة إذا توفّرت فيه هذه الخصوصيّات. أمّا المجتمع الإسلاميّ فإنّه - مضافاً إلى ما سبق - ينتظر من حاكمه صيانة القيم الإسلاميّة وإشاعتها على صعيد المجتمع؛ أي أن يجعل الرعيّة تسير على صراط التوحيد القويم ويجتهد في أن لا يُبتلى أفراد الاُمّة بضروب البدع والآفات الفكريّة والانحرافات العقائديّة. فإذا انتهج الحاكم - في مقام العمل - سبيل التسامح واللامبالاة ولم يتعاط مع هذه القضايا بجدّية كبيرة فسينقسم الناس حيال ذلك إلى طائفتين عادةً؛ فالظلمة والمتجاوزون على حقوق العباد والذين يسيؤون التصرّف ببيت المال سيستبشرون ويرضون عن الحاكم إذا أمنوا من جانبه العقاب ولاحظوا منه انعدام الحزم في التعامل مع تجاوزاتهم. أمّا سائر الناس فإنّهم عندما يشاهدون الحيف الذي ينزل بهم والحقوق التي تضيع منهم فسيستاءون ولا يرضون عن هذا الحاكم. فحينما تؤمَّن مصالح المتنفّذين وأصحاب الثروات ورؤوس الأموال فإنّهم سيحاولون بشتّى الحيل والوسائل إقناع الآخرين وإلهاءهم عن مزاحمتهم وخلق المشاكل لهم؛ وهي أساليب تشاهَد في كلّ بلد من بلدان العالم، وقد لا يتسنّى العثور في هذه الدنيا على بلد لا تُستخدم فيه تلك الحيل والأساليب الشيطانيّة؛ ذلك أنّه لا يخلو بلد من وجود فئة من الخواصّ والنُّخب يلتفّون حول حاكمه الذي يكون بحاجة إلى آرائهم، ومساعداتهم الماليّة، وما يتمتّعون به من نفوذ وسلطة. ولهذا تكون أياديهم مطلقة في التصرّف ببيت المال كيفما شاءوا، ولكي لا تثور الشعوب عليهم فإنّهم يحاولون إلهاءها بكلّ الوسائل المتاحة. وهذا الوضع أضحى عاديّاً وطبيعيّاً في العديد من الحكومات والبلدان. أمّا الدين الإسلاميّ فهو لا يرضى بذلك.

ص: 364

حكومة عليّ (عليه السلام) نموذج للحكومة الإسلاميّة

لقد أعطى عليّ (عليه السلام) المثل الأعلى للحاكم الإسلاميّ، ولولا حكومته لما توفّر الآن في أيدينا اُنموذج للحكم الإسلاميّ الحقيقيّ.

عندما وجّه الصحفيّون الأجانب في فرنسا للإمام الخمينيّ الراحل (قدس سره) سؤالاً عن نمط الحكومة التي يعتزم تشكيلها إذا انتصر في مقارعته لشاه إيران ونجح في إسقاطه، أجاب سماحته: «سأشكّل حكومة مشابهة لحكومة عليّ (عليه السلام)». فالعدوّ والصديق في جميع أقطار العالم وأكنافه يعلم عن عدل عليّ (عليه السلام)، فلقد كانت حكومته اُنموذجاً يُحتذى على طول تاريخ البشريّة. فالحاكم العادل الحقيقيّ - حسب الرؤية الإسلاميّة - هو الرجل الذي يكون حازماً في تعامله مع المتعدّين، ولا يتّخذ مع الظلمة جانب اللين والمداهنة والتسامح، ولا يميل في حكمه إلى قومه وعشيرته وحزبه، ...الخ، بل يقيم الحقّ أينما كان. هذا هو نموذج الحكم الإسلاميّ المثاليّ.

لقد عرف الناس عليّاً (عليه السلام) حقّ المعرفة؛ فلقد شاهدوا عدم مفارقته لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) طرفة عين طيلة ثلاث وعشرين سنة من عمر الرسالة وخبروا سلوكه وتصرّفاته عن كثب. فلقد علم الجميع أنّ عليّاً لا يلين أمام الحقّ وفي مقابل الحكم الإلهيّ، وأنّ القريب والغريب عنده سواء عند إقامة الحقّ. إذن فالناس قد عرفوا عليّاً (عليه السلام) بهذه الصفات وعلموا أنّه ليس ممّن يسعهم خداعه أو استغلاله لأغراضهم.

عيب عليّ (عليه السلام) سجاياه الحسنة

تقول الزهراء (عليها السلام) في هذا المقطع: «إنّ العلّة من وراء عدم تأييد عامّة الناس لعليّ (عليه السلام) هو سجاياه الحسنة، وإلاّ فليس بوسع المرء العثور على أيّ عيب فيه». فأيّ امرئ كان يعرف الإسلام أكثر من عليّ (عليه السلام)؟ ومَن من الناس كان يفوق عليّاً (عليه السلام) عطفاً وشفقة على الضعفاء والأيتام والفقراء والأرامل؟ فالجميع كانوا يعلمون أنّ عليّاً (عليه السلام) لم يكن يتحمّل دمعة يتيم. لقد شاهدوا باُمّ أعينهم كيف أنّه (عليه السلام) كان يحفر الجداول ويزرع بساتين النخيل ثمّ يوقفها للفقراء من دون أن ينتفع هو منها، بل كان يبيت هو وأطفاله وعياله جياعاً بعد أن يدفعوا ما عندهم من قليل الطعام إلى سائل. فقد يقول قائل: إنّ هذه لصفات حسنة للغاية

ص: 365

وإنّ أيّ اُمّة ستحبّ زعيمها إذا اتّصف بهذه السجايا. إذن فلماذا أقصوا عليّاً (عليه السلام) عن مسند الخلافة؟

أجل فالناس كانوا قد عرفوا عليّاً (عليه السلام) حقّ المعرفة، غير أنّ خواصّ القوم كانوا يطلبون منه أن يحسب لهم حساباً خاصّاً يختلف عن عامّة الرعيّة، لكنّ عليّاً لم يكن من هذا الصنف من الرجال. فعليّ (عليه السلام) كان من ذلك النمط الذي عندما جاءه أخوه الفقير يطلب منه زيادة سهمه من بيت المال قرّب من يده حديدة مُحماة تذكيراً له بعذاب اللّه الأليم. إذن فلقد أحسّ القوم من عليّ (عليه السلام) أنّه ليس من الصنف الذي يسعهم التفاهم معه. فكانوا على استعداد لأن يتغاضوا عن كلّ حسنات عليّ (عليه السلام) وسجاياه الحميدة ويضعوا أيديهم بيد من يحسب لهم حساباً خاصّاً.

تقول فاطمة (عليها السلام) : «وما الذي نَقَموا من أبي الحسن(عليه السلام)» ؛ ما هو العيب الذي كان في عليّ (عليه السلام) كي ينفضّوا من حوله؟! ومن باب الاحترام فقد كانت (عليها السلام) تذكر أمير المؤمنين بكنيته. «نقموا واللّه منه نكير سيفه، وقلّة مبالاته لحتفه»؛ فإنّ العيب الذي أخذوه على عليّ (عليه السلام) هو أنّ أحداً لم يكن يصمد أمام سيفه في ساحة الوغى. فلقد شاهدوا كيف أنّه (عليه السلام) لا يخاف الخطر أو القتل عندما تحين ساعة النِزال. «وشدّة وطأته»؛ فقد كان يخطو بثبات وعزم، لا بتسامح ومداهنة. «ونكال وقعته»؛ فإن أنزل العقاب بأحد فإنّ ضربته تكون شديدة تلقّن درساً قاسياً. «وتنمّره في ذات اللّه»؛ وهذا تعبير بليغ وظريف للغاية وهو مشتقّ من «النمر»؛ فالعرب تعتقد بأنّ النمر يمتاز من بين السباع بصفة خاصّة وهي أنّه يكون دائم الغضب ومتأهّباً للنزال على الدوام. ومن هنا فإنّهم يطلقون صفة التنمّر على الرجل إذا كان دائم التأهّب للقتال ولا يُؤخَذ على حين غِرَّة. وعبارة «تنمّره في ذات اللّه» تعني أنّه عندما يتعلّق الأمر باللّه عزّ وجلّ يكون عليّ (عليه السلام) على أتمّ الاستعداد ويتعاطى مع التكاليف الإلهيّة بحزم كامل لا يلين. وهذا هو العيب الذي أخذه الناس على عليّ (عليه السلام) إذ ما كان لهم أن يطيقوا ذلك منه. فلقد حدث أن كان أمير المؤمنين (عليه السلام) مرّة على رأس سريّة في مهمّة خاصّة فلمّا رجعوا جاء بعضهم إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وشكوا إليه حزم عليّ (عليه السلام) وشدّته، فكان جواب النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لهم أن قال: «ارفعوا ألسنتَكم من شكاية عليّ فإنّه

ص: 366

خَشِن في ذات اللّه»؛(1) فعندما يتّصل الأمر باللّه جلّ شأنه وبحكمه فإنّه لا يُبدي (عليه السلام) من جانبه أيّ تهاون أو لين، وإذا تعلّق الموضوع بحقوق الرعيّة فلا يغضّ الطرف عن شيء قيد أنملة، بينما إذا ارتبطت المسألة بحقّه الشخصيّ فإنّك تراه يتغاضّى عن كلّ شيء.

سيرة عليّ (عليه السلام) هي السبيل الوحيد لسعادة البشر

«وَتَاللّهِ لَوْ مَالُوا عَنِ الْمَحَجَّةِ اللاّئِحَةِ وَزَالُوا عَنْ قَبُولِ الْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ لَرَدَّهُمْ إِلَيْهَا وَحَمَلَهُمْ عَلَيْهَا»؛ فواللّه لو انحرفت الاُمّة وزاغ الناس عن السبيل القويم لأرجعهم عليّ (عليه السلام) إلى جادّة الحقّ ولم يذرهم ينحرفون عنها. فالانحراف في الرأي أو النهج - سواء أكان عن سهو أو عن عمد - قد يصيب أيّ مجتمع وإنّها لفضيلة عظيمة تُسجَّل للحاكم إذا تمكّن من ردع المجتمع عن الزيغ عن سبيل الحقّ. «وَلَسَارَ بِهِمْ سَيْراً سُجُحاً»؛ و«السير السُّجُح» هو حركة البعير بهدوء بالغ بحيث لا يؤذي راكبه. فالإبل في ذلك الزمان كانت المركب المناسب الذي يستخدمه العرب في أسفارهم البعيدة. وعندما تنطلق القافلة فإنّ سائق الإبل هو الذي كان يتولّى تنظيم حركتها والحرص على عدم إيذائها لراكبيها، فيحثّها على الإسراع في السير إذا لزم الأمر الإسراع ويحدّ من سرعتها إذا كان الإبطاء ضروريّاً. تقول الزهراء (عليها السلام) في هذه الجملة: «لو أنّ عليّاً (عليه السلام) هو الذي أخذ بزمام الحكومة لساق قافلة إبل الاُمّة بحيث لا تتخلّف الرعيّة عن القافلة من ناحية، ولا يصابون بتعب السفر أو نصبه من ناحية اُخرى، وسيبلغون مقصدهم بكلّ يسر من ناحية ثالثة. «لا يَكْلُمُ حِشَاشُهُ»؛ فقد جرت العادة عند القدماء أن يجعلوا رباطاً في أنف البعير للسيطرة على حركته، فالراكب يوجّه البعير إلى الوجهة التي يشاء من خلال تحريك هذا الرباط. لكنّ البعض كانوا يسحبون الرباط بشدّة إذا أرادوا توجيه البعير فيجرحون بذلك أنفه، أو يركلون بأرجلهم فخذي البعير وجنبيه بعنف فيصاب فخذه بالكدمات والجروح لاسيّما في الأسفار الطويلة التي تستمرّ أيّاماً ويتواصل معها ركل جنبي البعير. قصد مولاتنا الزهراء (عليها السلام) من هذا التشبيه أنّه: لو أنّهم تركوا أزمّة إبل الخلافة لعليّ (عليه السلام) لساقها إلى المقصد بكلّ هدوء وسلاسة من دون أن

ص: 367


1- . إعلام الورى بأعلام الهدى، ص131.

يتسبّب في إيذائها إو إيذاء راكبيها: «وَلا يَكِلُّ سَائِرُهُ، وَلا يُمَلُّ رَاكِبُه»؛ فلا الإبل تتخلّف عن القافلة، ولا راكبها يصيبه الإعياء والضجر. «وَلأَوْرَدَهُمْ مَنْهَلاً نَمِيراً صَافِياً رَوِيّاً تَطْفَحُ ضَفَّتَاهُ، وَلا يَتَرَنَّقُ جَانِبَاهُ، وَلأَصْدَرَهُمْ بِطَاناً». فمصادر مياه الشرب كانت تحوز أهمّية بالغة عند العرب في ذلك الزمن. فقد كان سكّان البادية يعيشون في صحراء قاحلة وكان بالقرب من مقرّ كلّ قبيلة ينبوع ماء أو واحة تتجمّع فيها مياه الأمطار يستخدمها أفراد تلك القبيلة كمصدر للمياه. تقول فاطمة البتول (عليها السلام): «لو أنّ عليّاً تسلّم زمام الحكومة لسار بالناس بكلّ هدوء وطمأنينة ولأوصلهم في الموعد المناسب إلى ينبوع ماء ليس ماؤه بالملوّث بل هو صاف زلال على الدوام يتدفّق ويفور ويطفح من ضفّتيه فيشرب منه أفراد القافلة حتّى يرتووا. فإنّ عليّاً (عليه السلام) إذا قاد الاُمّة وتزعّمها فانّه لا يبقى في الاُمّة ضمآن».

«وَنَصَحَ لَهُمْ سِرّاً وَإِعْلاناً». سبق أن قلنا إنّ الزعيم المثاليّ هو ذلك الذي يكون رؤوفاً بالرعيّة بكلّ ما في الكلمة من معنى ولا يشغله شاغل غير خدمتهم في السرّ والعلانية؛ وعليّ (عليه السلام) كان كذلك. «وَلَمْ يَكُنْ يَتَحَلَّى مِنَ الْدُّنْيَا بِطَائِلٍ»؛ فمن صفات الحاكم المثاليّ الاُخرى هي عدم تفكيره بنفسه أو ادّخار شيء له. فعليّ (عليه السلام) كما تقول سيّدتنا الزهراء (عليها السلام) لم يكن يقتني شيئاً من فَضْل الدنيا وزينتها. «وَلا يَحْظَى مِنْهَا بِنَائِلٍ غَيْرَ رَيِّ النَّاهِلِ وَشُبْعَةِ الْكَافِلِ»؛ ولم يكن يمدّ يده إلى بيت المال إلا بمقدار جرعة ماء يروي بها ضمأه وقليل من الطعام يسدّ به رمقه. «وَلَبَانَ لَهُمُ الزَّاهِدُ مِنَ الرَّاغِبِ، وَالصَّادِقُ مِنَ الْكَاذِبِ» وعندها سيمتاز الزاهد الحقيقيّ عن طالب الدنيا ويتبيّن الذي يدّعي الحقّ من صاحب المزاعم الجوفاء الكاذبة. ثمّ تستشهد (عليها السلام) بقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)؛(1) فالسنّة الإلهيّة تقضي بأنّه إذا أصبح أهل البلدان (المجتمعات البشريّة) من أهل التقوى والإيمان (أي اعتقدوا بالمعتقدات الصائبة وتقيّدوا بالقيم) فسيُنزل عليهم اللّه في هذه الدنيا بركات من السماء والأرض. لكنّهم – مع الأسف – قد كذّبوا عوضاً عن

ص: 368


1- . سورة الأعراف، الآية 96.

الإيمان. ولهذا فإنّنا سنعاقبهم بما اجترحوا من السيّئات. يقول الباري عزّ وجلّ هنا: «إذا أصبح المجتمع من أهل التقوى» أي هذا الحكم وهذه السنّة ترتبط بالمجتمع لا بالفرد. فقد يكون في المجتمع بعض الصالحين، لكنّه إذا فسد المجتمع فإنّ اللّه سيُنزل العقاب بكلّ المجتمع.

(وَالَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَٰؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ)(1) كم هو جميل هذا الربط! فالزهراء (عليها السلام) تستشهد بالآية السابقة كقاعدة كلّية وتجعلها كُبرى القياس ثمّ تشير بعدها مستخدمة اسم الإشارة «هؤلاء» إلى مجتمع عصرها. بمعنى: حتّى هؤلاء القوم فإنّهم إذا ظلموا فستحيق بهم عواقب أعمالهم ولن يستطيعوا أن يُعجِزوا اللّه كي يكفّ عن تطبيق سننه. الإشارة إلى هذه الآية يحمل عبرة عميقة وضرباً من التنبّؤ بالمستقبل؛ ومعناها: استناداً إلى هذه الآية الشريفة فإنّ العذاب الإلهيّ سيحيق بأفراد هذا المجتمع لا محالة بسبب تخلّفهم عن حكم اللّه تعالى، وإهمالهم له، ونقضهم لبيعتهم.

عاقبة الاُمّة التي تترك عليّاً (عليه السلام)

الاختيار المثير للعجب

تقول الزهراء (عليها السلام) : «أَلا هَلُمَّ فَاسْمَعْ» وهي عبارة تُستعمل عند إظهار التعجّب من أمرٍ مّا «وَمَا عِشْتَ أَرَاكَ الدَّهْرُ عَجَبَا» وهو مثل عربيّ معناه: كلّما امتدّ عمرك أراك الدهر في كلّ يوم جديد شيئاً عجيباً. وشبيه بذلك ما يقال بالفارسيّة: لو لم يرَ المرء في كلّ يوم أمراً عجيباً أصابه العمى. «وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ» وهذه العبارة مقتبسة من الآية الخامسة من سورة الرعد. «لَيْتَ شِعْرِي إِلَى أَيِّ سِنَادٍ اسْتَنَدُوا» وهنا توجّه كلامها إلى نساء المهاجرين والأنصار قائلة: بأنّ رجالكم قد أساءوا الاختيار وأخطأوا السبيل. والأمر العجيب الذي تشير إليه الزهراء (عليها السلام) بشكل إجماليّ: ما هو الدليل والمعيار الذي استند إليه المهاجرون والأنصار في سلوكهم لهذه الطريق؟! هل كان المال هو السبب؟ فنحن نعلم أنّ أحداً لم يدفع لهم درهماً ولا ديناراً. هل كان الذين انتخبوهم ذوي شخصيّات مرموقة وشهرة

ص: 369


1- . سورة الزمر، الآية 51.

كبيرة بحيث إنّ الجميع يعرفهم ويحبّهم؟! فإنّنا نعلم أنّهم لم يكونوا من هذا القبيل من الناس. هل كان المنتخَبون من أهل العبادة والتقوى الفائقة ممّا جعلهم محبوبين عند العامّة حتّى سارعوا إلى اختيارهم؟ كلاّ، فإنّهم لم يُعرَفوا بهذا القدر من العبادة والتقوى. هل كان المختارون في السقيفة من الشجعان الأشاوس الذين تشهد لهم سوح الوغى بمختلف صور البسالة ويشار إليهم بالبنان لبطولاتهم؟ كلاّ، فلم يكن هذا الامتياز من نصيبهم أيضاً. ياللعجب! إذن ما السبب الذي دفع الناس بعد انقضاء بضع ساعات فقط على رحيل الرسول الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى اختيار هؤلاء؟!

يُنقل عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّ تبرير القوم لفعلتهم هو أنّ خلافاً قد وقع بين المهاجرين والأنصار، ولمّا كنّا نحن المهاجرين من قرابة النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بلده فقد جعلوا الخلافة فينا! لكنّه إذا كانت علّة الاختيار هي القرابة من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإنّني علاوة على كوني من أبناء بلده فإنّني ابن عمّه وزوج ابنته ومن عترته، فلِمَ لم يقع الاختيار علَيّ؟! فإن كان المناط في الانتخاب هي القرابة للنبيّ الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فمَن هو أقرب إليه منّي يا ترى؟! «إذا احتجّ عليهم المهاجرون بالقرب من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كانت الحجّة لنا على المهاجرين بذلك»(1) ، «أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول اللّه فأعطوكم المقادة وسلّموا إليكم الإمارة وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار».(2)

تقول مولاتنا الزهراء (عليها السلام): ليتني علمت ما هو السند الذي استندوا إليه في هذا الأمر. «وَإِلَى أَيِّ عِمَادٍ اعْتَمَدُوا وَبِأَيَّةِ عُرْوَةٍ تَمَسَّكُوا»؛ فإنّ الإنسان إذا شعر بقرب سقوطه من مكان مرتفع سارع للتشبّث بموضعٍ مّا والتمسّك بعروة وُثقى تنجيه من السقوط، لكنّ هؤلاء القوم الذين تمسّك الناس بهم لا يشكّلون عروة محكمة وُثقى. «وَعَلَى أَيَّةِ ذُرِّيَّةٍ أَقْدَمُوا وَاحْتَنَكُوا» وما هو المعيار الذي جعلهم يتّبعون هؤلاء القوم؟ وما الدليل الذي دفعهم إلى إعطاء ظهورهم لذرّية النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعترته وسيطروا عليهم؟! ثمّ تستشهد (عليها السلام) بآي من الذكر

ص: 370


1- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي، ج6، ص5.
2- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي، ج6، ص11.

الحكيم فتقول: «لَبِئْسَ الْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ( (1)«وَبِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً)(2)(3) أي بئس البدل الذي اتّخذه الظالمون. «اسْتَبْدَلُوا وَاللّهِ الذَّنَابَى بِالْقَوَادِمِ وَالْعَجُزَ بِالْكَاهِل» فعوضاً عن وقوع اختيارهم على مَن له قصب السبق في الإسلام في التقوى والشجاعة والبسالة وفي جميع الفضائل الاخرى فقد اختاروا مَن تخلّف عن أمثال هذه الاُمور ولم يمتز بأيّ فضيلة أو كمال، وبدلاً من أخذهم بالرأس فقد أخذوا بالذنَب.

(فَرَغْماً لِمَعَاطِسِ قَوْمٍ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)؛( (4)أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُون)؛(5) والمعاطس جمع «معطس» وهو موضع العطاس؛ وهو ما يقال للأنف إذا اُريد التعبير عنه بأدب. وقد جرت عادة العرب أن يقولوا لمن يريدون إذلاله وتحقيره بشدّة أو الإخبار عن هلاكه: «رغم أنفه»؛ أي: مُرِّغ أنفه في التراب. إذن فمعنى قولها (عليها السلام) هو: «فلتمرَّغ في التراب اُنوف من يحسبون أنّهم قد أحسنوا صنعاً في حين أنّهم من المفسدين غير أنّهم لا يدركون ذلك». «وَيْحَهُمْ (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدَىٰ فَمَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)،(6) تعود (عليها السلام) هنا للتمسّك بالقرآن فتقول متسائلة: «هل يجب اتّباع الشخص الذي يدلّ على طريق الحقّ ويهدي إليه أم إنّه ينبغي السير وراء من لا يعرف الطريق وهو نفسه يحتاج إلى دليل وهادٍ؟! فمَن هو الأولى بالاتّباع منهما؟

نتيجة الركون إلى أهل السقيفة

ثمّ تطرح البتول (عليها السلام) بعد ذلك أمراً عبر اُسلوب يشوبه الاستهزاء والسخرية، وهو فنّ من فنون البلاغة التي استخدمها القرآن الكريم أيضاً. فلقد جاء في الآية التاسعة والأربعين من

ص: 371


1- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي، ج6، ص5.
2- . سورة الحج، الآية 13.
3- . سورة الكهف، الآية 50.
4- . سورة الكهف، الآية 104.
5- . سورة البقرة، الآية 12.
6- . سورة يونس، الآية 35.

سورة الدخان أن أهل النار إذا أصابهم الظمأ وطلبوا الماء ناولهم زبانية جهنّم ماء حميماً يحرق أحشاءهم قائلين لهم: «ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ»؛ إشرب! فإنّك على جانب من العزّة والاحترام عندنا ممّا يجعلنا نقدّم لك هذا الماء المغليّ. فإذا قُدِّم للمرء ماء مغليّ يحرق أحشاءه ثمّ قيل له: «هنيئاً مريئاً! أيّ شراب لذيذ هذا! نحن نقدّم لك هذا الشراب احتراماً لك!» فإنّ لهذه الكلمات وقعاً على نفسه هو أشدّ إيلاماً وإحراقاً من الماء المغليّ نفسه. فليس هناك صنف من أصناف العذاب بما في ذلك العذاب النفسيّ إلاّ وهو موجود في نار جهنّم.

فالاُسلوب الساخر الذي تستخدمه الزهراء (عليها السلام) في هذه الخطبة يتّخذ هذه الحالة. فهي (عليها السلام) تقول: «أَمَا لَعَمْرِي لَقَدْ لَقِحَتْ فَنَظِرَةٌ رَيْثَمَا تُنتجُ ثُمَّ احْتَلبُوا مِلْ ءَ الْقَعْبِ دَماً عَبِيطاً وَذُعَافاً مُبِيداً»؛ هل أنتم فرحون جدّاً بأن استوليتم على ناقة الخلافة وامتطيتموها وأطلقتهم لها العنان مسرعين؟! فقرّوا عيناً بها! لكنّه قسماً باللّه إنّه لن يمضي وقت طويل حتّى تضع هذه الناقة الحبلى حملها، وحينئذ لن تحصلوا منها على لبن طازج فيه شفاء لكم كما تظنّون، بل ستحلبون من ضرعها وعاء طافحاً بدم عبيط، وسمّ زعاف يكون فيه هلاككم. (هُنَالِكَ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ)(1) وحينئذ سيخسر السالكون لسبيل الباطل. «وَيعرفُ التَّالُونَ غِبَّ مَا أسّسَ الأَوَّلُون» وسيعرف التالون لكم ما أسّستم لهم من سوء العاقبة. «وَأَبْشِرُوا بِسَيْفٍ صَارِم» فإنّي اُبشّركم أنّه لن تكون عاقبة أمركم إلاّ سيفاً قاطعاً لا يرحمكم؛ ولعلّها (عليها السلام) تشير بهذه العبارة إلى دولة بني اُميّة وأمثال الحجّاج الثقفيّ. «فَيَاحَسْرَتَى لَكُمْ وَأَنَّى بِكُم» فإلى أين تُؤخَذون وبأيّ عاقبة ستُبتلون؟! «وَقَدْ عَمِيَتْ عَلَيْكُم» فإنّ ما يخبّئه المستقبل لكم خفيّ مُبهم (لكنّني أرى بوضوح ما ستؤول إليه اُموركم وبأيّ ورطة ستقعون). (أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ)؛(2) فهل لي أن أجبركم على ما تكرهون؟ (فأنّى لي أن اُكرهكم على السير في الطريق التي رسمها لكم اللّه ورسوله)؟

ص: 372


1- . سورة الجاثية، الآية 27.
2- . سورة هود، الآية 28.

الدرس المُستلهَم من السقيفة

كما قد أسلفتُ فإنّه يمكن تقسيم كلام الزهراء (عليها السلام) هذا إلى ثلاثة أقسام: فهي (عليها السلام) توبّخ المهاجرين والأنصار في القسم الأوّل لتركهم عليّاً (عليه السلام). ثمّ تقدّم لعملهم هذا توضيحاً بقولها: «لقد تركتم عليّاً (عليه السلام) خوفاً من حزمه في الحكم وأحببتم أن يتصدّى للخلافة من يمكنكم التفاوض معه وتقسيم المصالح بينكم وبينه. فقد فتّشتم عمّن يتّصف باللين ولا يكون صارماً. وخلاصة القول فإنّ مشكلة عليّ (عليه السلام) هي صرامته في الأمر. وهذا من أعظم الدروس التي يمكننا استلهامها من هذه الواقعة التاريخيّة ومن خطبة الزهراء (عليها السلام) وتطبيقها على حياتنا الاجتماعيّة. فإنّنا إذ نفتخر من بين مليار ونصف مليار مسلم في العالم بأنّنا من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) علينا أن نبذل جهدنا للتشبّه بهم. علينا أن نعلم أنّ عليّاً (عليه السلام) لم يكن نهجه الركون إلى كلّ من يؤمّن له مصالحه على أحسن وجه ومداهنته والوصول إلى صيغة تفاهم معه. فلو تقصّيتم هذا المبدأ تاريخيّاً لوجدتّم أنّ كافّة الانحرافات التي ابتلي بها المسلمون في حياتهم السياسيّة الاجتماعيّة على مرّ التاريخ كانت بدايتها قصّة من هذا القبيل؛ وهي أنّ أشخاصاً لم يقنعوا بحقوقهم وكانت تحدوهم نيّات الخروج - ولو بعض الشيء - عن الاُطر التي رسمها لهم الدين الإسلاميّ الحنيف، وهو ما شكّل انطلاقة للفساد، والزيغ، وإراقة الدماء، والعداوات، وقتل المسلم لأخيه وغيرها من المفاسد. وفي المقابل فإنّه حيثما وُجد مَن دأبُه العمل ضمن الاُطر الإسلاميّة واجتناب اتّباع الهوى فإنّه يصيب خير الدنيا والفخر والشرف فيها، وينال الخير في الآخرة أيضاً.

فلو كان بالإمكان السفر - لفترة قصيرة - إلى مائة عام في المستقبل ثمّ العودة ثانية إلى عصرنا الحاليّ ودراسته وتحليله كقضيّة تاريخيّة لانكشفت لنا قضايا زماننا بالكامل. إذن لم يحن الوقت بعدُ لتحليل ما نعيشه من قضايا معاصرة. لكنّه عندما تنتهي القضيّة وتضع الحرب أوزارها يكون بمقدورنا الجلوس لاستعراض أحداثها وأن نسأل أنفسنا: ما الذي صنعناه؟ وما الذي صنعه الآخرون؟ وماذا كانت النتيجة؟

أنا شخصيّاً أعتقد أنّ الكثير ممّن جاءوا إلى كربلاء يوم الطفّ وشاركوا في قتل سيّد الشهداء (عليه السلام) لم يكونوا حينها يدركون جيّداً أبعاد الجريمة البشعة التي ارتكبوها. فبعض هؤلاء كانوا من قادة جيش عليّ (عليه السلام) في حرب صفّين، ومن اُولئك الذين حضروا لسنوات

ص: 373

طويلة مجالس عليّ (عليه السلام) وجلسوا تحت منبره واستمعوا لكلامه. فعمر بن سعد كان قبل أيّام قليلة من واقعة عاشوراء متردّداً فيما يصنع؟ فعندما عُرض عليه مُلك الريّ بات ليلته يذرع المكان جيئة وذهاباً متردّداً بين قبول هذا المنصب أو التورّط بعذاب اللّه عزّ وجلّ؛ أي إنّه كان يعلم بأبعاد القضيّة، لكنّ الكثيرين لم يكونوا يدرون ما يصنعون. وكذا الحال مع الذين اجتمعوا في السقيفة فإنّهم لم يكونوا يفهمون جسامة وخطر ما يرتكبون وأيّ عواقب سوء تنتظر فعلتهم هذه وأيّ مسؤوليّة ستُثقل كاهلهم نتيجة ذلك. تقول سيّدتنا فاطمة (عليها السلام): إنّكم الآن لا تدركون خطورة ما تفعلون؛ لكنّني اُخبركم بأنّ هذه الناقة حُبلى وستفهمون عن قريب أيّ خطأ جسيم قد اقترفتم.

إذن الدرس الذي ينبغي لنا استلهامه من هذه الواقعة هو أنّه عندما يتعلّق الأمر بالمسائل الاجتماعيّة ومصالح اُمّة من الاُمم فلا ينبغي المرور من أمامها مرور الكرام بل لابدّ من وزن الاُمور وتحليلها بدقّة، وإلاّ فلن يكون لنا أيّ شبه بعليّ وبآل عليّ (عليهم السلام). ويتحتّم علينا – في المسائل السياسيّة الاجتماعيّة على أقلّ تقدير – أن نتأمّل جيّداً في عواقب الاُمور ولا نفكّر بنتائجها العابرة وآثارها التافهة فقط. ويتعيّن علينا أن نفكّر - ما وَسِعَنا التفكير – بما سيحدث في اليوم التالي، أو في السنة القادمة، أو – إذا كنّا من أصحاب الهمم العالية – في القرن التالي. علينا أن نقوّي هذه الروح في أنفسنا وأن ندع التهاون والتسامح في أمثال هذه القضايا جانباً. لابدّ من التأكّد من أنّ الأمر الذي نهمّ بإنجازه يندرج في إطار تأدية التكليف الشرعيّ لتكون لدينا أمام اللّه تعالى حجّة للقيام به. ثمّ نعمد إلى إنجازه بكلّ حزم وصلابة ونثبت على موقفنا. علينا – في كلّ لحظة – أن ننظر فيما يريده اللّه جلّ شأنه منّا، فإن شمّرنا عن سواعدنا فينبغي في مقام العمل أن ندع التهاون والتسامح ومراقبة فلان والاستماع لكلام فلان جانباً؛ ذلك أنّ أمثال هذه الامور لا تنسجم مع مدرسة عليّ (عليه السلام) قطّ. فإن أحببنا أن نكون من شيعة عليّ (عليه السلام) ومن أتباعه حقّاً فعلينا أن نكون بعيدي النظر، في المسائل الاجتماعيّة على الأقلّ، وأن نزن الاُمور، ونتأمّل في عواقبها، ولا نتّبع أهواءنا ونزواتنا.

ص: 374

واقعة غصب الخلافة من وجهة نظر أهل البيت (عليهم السلام)

الإنذار الأخير

فعندما شعرت الزهراء (عليها السلام) بعد كلّ ما قدّمته من موعظة وبيّنته من حقائق أنّ كلامها لن يكون له وقع في نفوس الناس وأنّهم لن يحملوه على محمل الجدّ قرّرت (عليها السلام) أن تطلق آخر سهم بقي في جعبتها، ألا وهو الإنذار ممّا ينتظر عمل الإنسان من سوء العواقب الدنيويّة.

فمن بين الطرق المتَّبَعة في عمليّة الإرشاد والدعوة تأتي «البشارة» بعنوان كونها الطريقة المثلى والتي عادةً ما تُتَّبع في بادئ الأمر كي تسهم في جلب انتباه المخاطب. فرسل اللّه تعالى يكونون في البداية (رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ)(1) يذكّرون الناس بما يترتّب على الإيمان والعمل الصالح واتّباع الدين الحقّ من الآثار الحسنة. ثمّ تأتي الطريقة التالية في الأهمّية من حيث التأثير بعد البشارات والمتمثّلة بالإنذار من عذاب الآخرة. أمّا بالنسبة لضعيفي الإيمان فحتّى الإنذار من العذاب الاخرويّ لا يكون ذا أثر كبير فيهم؛ ومن هنا فإنّ آخر ما يؤثّر في أمثال هؤلاء هو الإنذار ممّا يمكن أن تتسبّب به المعصية من تبعات دنيويّة؛ ذلك أنّ أثر التخويف من مصائب الدنيا وأهوالها يكون أشدّ على ذوي الإيمان الضعيف من التخويف من عذاب الآخرة. وهذا ما جعل الزهراء (عليها السلام) تقول في ختام حديثها لنساء المدينة: «لقد حقّقتم ما صبوتم إليه وأنتم راضون فرحون بفعلكم، لكن اعلموا أنّه لن يمضي زمن طويل حتّى تحلبوا من هذه الناقة بدل اللبن الطازج دماً عبيطاً وسيُسَلّط عليكم من لا يرحمكم». إذ من المسلّم أنّه عندما ينتاب الاُمّة انحرافٌ مّا ويتولّى قيادة سفينتها اُناس يفتقدون الأهليّة العلميّة لذلك من جهة، ويفتقرون إلى اللياقة الأخلاقيّة والمعنويّة من جهة اُخرى، ولا يتمتّعون بالمشروعيّة من جانب اللّه عزّ وجلّ من جهة ثالثة فإنّ مصير هذه السفينة سيكون معروفاً.

ص: 375


1- . سورة النساء، الآية 165.

السواد الأعظم من الناس في عمليّة غصب الخلافة

هناك قرائن كثيرة تشير إلى أنّ الأكثريّة الساحقة من الناس في ذلك العصر كانوا يفتقرون إلى البصيرة في الاُمور الاجتماعيّة وكانوا مبتلين بسطحيّة التفكير، وسرعة الانخداع. فلعلّ الكثير ممّن ارتكبوا هذه الخطيئة العظمى لم يكونوا يدركون ما يصنعون، وكانوا يظنّون أنّها حرب قبليّة بين قبيلتين. فجُلّ ما كان يفكّر به الناس في ذلك العصر هو ما سيصيبونه من فائدة وربح جرّاء تلك الصراعات والنزاعات. ولربّما كانوا يعلمون إجمالاً بأنّهم يقترفون خطيئة، لكنّهم لم يكونوا يدركون فداحة العواقب المترتّبة على هذا العمل والمسؤوليّة الجسيمة التي سيتحمّلونها بسببه إلى يوم القيامة. لكن كان هناك - في نفس الوقت - أشخاص يمتازون بحدّة الذكاء والدهاء المفرط وقد لا يقلّ ذكاؤهم ودهاؤهم في انحرافهم واعوجاجهم عمّا يتمتّع به بعض الدهاة من ساستنا المعاصرين. فإنّ التأمّل في بعض الوثائق يوحي بأنّ هؤلاء كانت لهم اليد الطولى في حياكة المؤامرات ورسم الدسائس.

رغم قلّة عددهم فقد كانوا يضعون من الخطط ما يجعل الغالبيّة العظمى من الناس ينخدعون ويتّبعونهم.

إذن فنحن ندّعي أمرين: الأوّل هو أنّ هذا العمل كان غاية في الضخامة والخطورة وأنّ آثاره السيّئة ستستمرّ إلى يوم القيامة، وأنّ كلّ من وضع حجر الأساس لهذه القضيّة ولعب دوراً بارزاً فيها فهو شريك في هذا العمل. أمّا ادّعاؤنا الثاني فهو أنّ الأغلبيّة الساحقة من الناس في ذلك العصر لم يدركوا مدى خطورة هذا الفعل.

قد يقول قائل: إذا كانت الغالبيّة العظمى من الناس تجهل عاقبة هذا الفعل إذن فإنّ ذنبهم ليس عظيماً. ويتعيّن القول ردّاً على ذلك: لا ريب أنّ ذنب هذه الفئة لا يوازي ذنب تلك الثلّة القليلة التي تصدّت لهذا العمل، لكن – في الوقت نفسه – لا يعني ذلك أنّ هؤلاء لا يتحمّلون أيّ مسؤوليّة أو تقصير؛ ذلك أنّ القضيّة - أوّلاً - كانت على جانب من الوضوح بحيث لو تأمّل بها أيّ امرئ جيّداً وحلّلها تحليلاً منصفاً فسيصل إلى نتيجة مقنعة. فلو افترضنا أنّ البعض لم يكن يدرك أهمّية مسألة الخلافة، لكن ألم يبذل النبيّ الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الجهود في التعريف بأهل البيت (عليهم السلام) وتقديمهم على أنّهم اُناس معصومون لا سبيل إلى الخطأ إليهم وأنّ قولهم وفعلهم حجّة للآخرين ممّا لا يدع مجالاً لأيّ أحد لإنكار هذه الخصال فيهم؟ لقد كان رسول اللّه يقف يوميّاً بباب منزل عليّ وفاطمة (عليهما السلام) ويقول: «السلام

ص: 376

عليكم الصلاة يا أهل البيت، إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس..».(1) وبناء عليه فلو لم يكن اُناس ذلك العصر واعين بالفعل، كان بإمكانهم السؤال والتقصّي عن هذا الموضوع. فالعقل والنقل معاً يدلاّن على أنّه إذا كان بإمكان المرء السؤال والفحص عن قضيّة، ثمّ قصّر في ذلك فهو مسؤول قطعاً. كما أنّه يُقال للعالِم غير العامل في يوم القيامة: «أفلا عملت»؛ أي لماذا لم تعمل بعلمك؟ ويقال للجاهل: «أفلا تعلّمت»؛ أي لماذا لم تتعلم؟(2)

لقد نقل نساء المهاجرين والأنصار كلام الزهراء (عليها السلام) وشكاواها الكثيرة إلى رجالهنّ فأرسلوا إليها يعتذرون قائلين: نحن إنّما لم ندعمك ولم نقف إلى جانبك لأنّنا كنّا قد بايعنا شخصاً آخر. فلو أنّك سارعت قليلاً في طرح قضيّتك لكنّا وقفنا إلى جانبك! فأجابتهم (عليها السلام) : إنّ عذركم غير مقبول بتاتاً. فإن كان نقض البيعة قبيحاً إلى هذا الحدّ فلماذا نقضتم بيعة الغدير إذن؟!

وصف المتحيّنين للفُرَص على لسان أئمّتنا (عليهم السلام)

قد يعترض أحدهم بالقول: «هذا تفسيرك الشخصيّ للاُمور وهو نابع من التعصّب؛ أمّا تفسير الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) لها فيختلف»! فإنّ إحدى الشبهات التي تشاع اليوم ضدّ التشيّع هي: «إنّ ما ينسبه الشيعة لمخالفيهم هو كلام ملَفّق ليس له أيّ أساس من الصحّة بل حتّى أئمّتهم لا يقبلون به أيضاً»! وأنا أرى من المناسب أن أطرح هذه المسألة في هذه المحاضرة (وهي الأخيرة من هذه السلسلة خلال هذا العام حتّى حلول شهر رمضان القادم) وهي أنّ قضيّة كون زعماء حادثة غصب الخلافة يعدّون شركاء في كافّة الجرائم التي ارتُكبت وتُرتكَب بعد ذلك التاريخ هي من المسلّمات عند أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام) بل لقد اُشير إلى هذه القضيّة في الزيارات المأثورة عنهم أيضاً؛ أذكر هنا - على سبيل المثال -

ص: 377


1- . بحار الأنوار، ج35، ج223؛ ومسند الإمام أحمد بن حنبل، ج3، ص259 (طبعة دار صادر / بيروت)؛ والمستدرك للحاكم النيسابوري، ج3، ص159.
2- . عن الصادق(عليه السلام) في قوله تعالى: «فَلِلّهِ الْحُجَّةُ البَالِغَةُ» (سورة الأنعام، الآية 149): «إنّ اللّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة: أكنتَ عالماً؟ فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلّمت حتّى تعمل. فيخصمه وذلك الحجّة البالغة» (بحار الأنوار، ج1، ص178.)

مقاطع من الزيارة الجامعة لأئمّة المؤمنين التي نقلها المرحوم السيّد بن طاووس في «مصباح الزائر» والمرحوم الشيخ عبّاس القمّي في ملحقات «مفاتيح الجنان». إذ تطرح هذه الزيارة - من ناحية - تحليلات ترتكز على اُسس اجتماعيّة ونفسيّة لتاريخ ما بعد عصر الرسول الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتبيّن الدوافع والعوامل التي تقف وراء الانحرافات الحاصلة في ذلك الزمن، وتقدّم - من ناحية اُخرى – وصفاً لما ارتُكِب في ذلك العصر من أخطاء جسيمة وما نتج عنها من تبعات.

تقول هذه الزيارة إنّ الإيمان الحقيقيّ لم يدخل إلى قلوب البعض في زمان النبيّ الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بل كانت قلوبهم مملوءة بأقذار الشرك ومشحونة بأدران الكفر لكنّهم كانوا يتظاهرون بالإسلام. فعندما لحق المصطفى (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بربّه انتهجوا طريقة المباغتة وأخذوا المسلمين على حين غرّة واغتنموا فرصة غيابه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كي ينفّذوا مآربهم الدنيئة: «القلوب المُنتِنَة من قذر الشرك والأجساد المُشحَنَة من دَرَن الكفر، أضبّوا على النفاق وأكبّوا على علائق الشقاق. فلمّا مضى المصطفى (صلی اللّه عليه وآله وسلم) اختطفوا الغرّة وانتهزوا الفرصة». وهذا المقطع يدلّ على أنّ هذه الواقعة لم تحدث صدفة بل كان مخطَّطاً لها مسبقاً. ثمّ تقول الزيارة بعد قليل: «وأسرعوا لنقض البيعة» التي بايعوا بها في يوم الغدير «ومخالفة المواثيق المؤكَّدة» التي اُخِذت منهم. «فحُشر سِفْلَة الأعراب وبقايا الأحزاب إلى دار النبوّة والرسالة»فاجتمع الأراذل والأوباش من بقايا الأحزاب الذين ائتلفوا على ضرب الإسلام واجتثاث اُصوله بباب بيت الزهراء(عليها السلام) . «حتّى نقضوا عهد المصطفى في أخيه عَلَم الهدى» فقد وصلت بهم الوقاحة وانعدام الحياء إلى درجة نقض البيعة التي أخذها منهم النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأخيه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) «وجَرَحوا كبد خير الورى في ظلم ابنته واضطهاد حبيبته... وخذلوا بعلها... ونقضوا طاعته، وجحدوا ولايته... وقادوه إلى بيعتهم مُصلِتَةً سُيُوفَهَا مُقذِعَةً أسنَّتَها... يدعونه إلى بيعتهم التي عمّ شومها الإسلام»؛ فراحوا يسحبون عليّاً (عليه السلام) سحباً لأخذ البيعة لهم منه وسيوفهم مستلّة نحوه ورماحهم مُشرَعة في وجهه.

ص: 378

لقد طرح أهل البيت (عليهم السلام) هذه المسائل كي لا يتركوا مجالاً لنسيان هذه الحادثة وضياعها في خضمّ الشبهات. ومع ذلك فنحن نرى أنّ هناك من الشيعة من يطرح هذه الشبهات ويقول: هذه النُّقُول لا تتمتّع بالاعتبار. فالمسألة أساساً هي أنّ الناس في ذلك الحين أرادوا العمل بقواعد الديمقراطيّة، والنظر فيمن حصل على كمّ أكبر من الأصوات! فقد كتب أحد مَن يُصطلَح عليهم «الخبراء في الشؤون الإسلاميّة» ما يلي: لقد كان عليٌّ (عليه السلام) وصيّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لكنّ وصايته كانت بهذا المعنى: وهو أنّ النبيّ قد رشّحه لمنصب الخلافة وقال: حسب رأيي فإنّه خليفة جيّد، لكنّ الرأي النهائيّ لكم؛ فلكم أن تنتخبوا من تشاءون!

إنّ غايتي من استعراض هذه المقاطع من الزيارة هو إبراز موقف أهل البيت (عليهم السلام) من هذه البيعة وتلك الحادثة.

الآثار المشؤومة للواقعة

تقول الزيارة في مقطع آخر: «يدعونه إلى بيعتهم التي عمّ شومها الإسلام». ثمّ تحصي الزيارة بتعبيرات اُخرى النتائج المترتّبة على هذه البيعة المشؤومة بالقول: «عَقَّتْ سلمانَها، وطردتْ مقدادَها، ونفتْ جُندَبَها، وفتقتْ بطن عمّارها»؛ فمن نتائج هذه البيعة أنّها أودت بسلمان إلى العزلة مع ما كان يتمتّع به من مقام رفيع، ونفت أبا ذرّ، وشقّت بطن عمّار. ومع أنّ هذه الوقائع قد حصلت على مدى أعوام من الزمن إلاّ أنّ جميعها تُعدّ من نتائج وآثار تلك البيعة. «وسلّطتْ أولاد اللعناء على الفروج والدماء». ثمّ تعرّج على قصّة يوم الحرّة حيث اجتاح جيش يزيد بن معاوية المدينة وأباح كلّ شيء فيها: «وأغارت على دار الهِجرة يوم الحَرَّة وأبرَزَت بنات المهاجرين والأنصار للنَّكال والسُّورَة»؛ أي هتكوا حرمة بنات المهاجرين والأنصار باسم الإسلام! فالزيارة تَعتبِر جميع تلك الوقائع من نتائج تلك البيعة، وأنّ الذين أوجدوا هذا الانحراف في الاُمّة هم شركاء في كلّ تلك الذنوب والمعاصي.

وفي موضع آخر من الزيارة جاء ما نصّه: «يا مَوَاليَّ! فلو عاينكم المصطفى» ليت النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان موجوداً ليعاين ما فعلته اُمّته بكم «وسهام الأمّة مُغرَقَة في أكبادكم،

ص: 379

ورماحهم مشرَعَة في نحوركم، وسيوفها مُولَغَة في دمائكم، يشفي أبناءُ العواهر غليل الفسقِ من ورعكم وغيظَ الكفر من إيمانكم»، والمقطع الأخير هذا يشير إلى التفاتة مرتبطة بعلم النفس، وهي دافع أهل السقيفة من هذا الفعل. حيث تقول: إنّ العامل الرئيسيّ الذي قاد هؤلاء القوم إلى القيام بما قاموا به هو الحسد، فقد كانوا يحسدونكم على ما تتمتّعون به من الإيمان والنورانيّة في حين أنّهم يفتقرون إلى مثل هذه الكمالات. فقد كانوا اُناساً عديمي الإيمان تنطوي قلوبهم على آثار الكفر والنفاق. «وأنتم بين صريع في المحراب...»؛ وهنا تبدأ الزيارة بسرد أشكال وأصناف الظلم التي وقعت على أهل البيت (عليهم السلام) واحداً واحداً؛ بدءاً من أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي فلقوا هامته الشريفة، وسيّد الشهداء (عليه السلام) الذي رفعوا رأسه المبارك على الأسنّة، وسائر الأئمّة الذين قضوا مسمومين خلف قضبان السجون... الخ، كلّ ذلك تعدّه الزيارة من نتائج تلك البيعة.

وبشكل عامّ فإنّ الزيارة تشير إلى خمس ملاحظات بخصوص الأحداث التي وقعت في زمان فاطمة الزهراء (عليها السلام) سأستعرضها هنا بشكل متسلسل: أوّلاً: إنّ الذين تزعّموا عمليّة غصب الخلافة كانوا اُناساً متحيّنين للفرص قد فاجأوا الناس بغصبهم للخلافة. ثانياً: إنّهم قد نقضوا بيعتهم التي بايعوها قبل سبعين يوماً وإنّ الأعذار التي قدّموها في نقضهم لها غير مقبولة. ثالثاً: إنّ جماعة من سفلة الناس وأوباشهم قد هجموا على بيت النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، التي كان جبرئيل (عليه السلام) لا يدخلها من دون إذن، وأخذوا البيعة عنوةً من أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو عمل لا ينسجم حتّى مع الموازين غير الإسلاميّة. ثمّ تسرد الزيارة عشرة من الجرائم التي اقتُرِفت بعد ذلك الحين وتعتبرها من نتائج تلك البيعة: الاُولى: طرد أمثال سلمان وأبي ذرّ والمقداد الذين يُجمع المسلمون على أنّهم من أفضل المؤمنين. الثانية: تسلّط أولاد الزنا على أموال الناس وأعراضهم. الثالثة: وضع البِدَع وتغيير الأحكام. الرابعة: تخريب الكعبة. الخامسة: اجتياح المدينة وإباحتها. السادسة: هتك حرمة الفتيات المسلمات. السابعة: قتل أمير المؤمنين (عليه السلام). الثامنة: سمّ الإمام الحسن (عليه السلام) ورمي جنازته بالنبال. التاسعة: استشهاد سيّد الشهداء (عليه السلام). والعاشرة: قتل سائر الأئمّة الأطهار (عليهم السلام). فالزيارة ترى أنّ جميع تلك الجرائم البشعة هي من ثمار تلك البيعة المشؤومة.

ص: 380

الخطأ الذي لا يمكن تداركه

هذه الملاحظات تكشف لنا عن مدى أهمّية المسائل السياسيّة والاجتماعيّة. ومن هذا المنطلق فقد أشرنا مراراً وتكراراً إلى ضرورة أخذ ما يُنجَز من أعمال في حقل المسائل الاجتماعيّة بمزيد من الجدّية. فتدارك الأخطاء التي تُرتكَب على صعيد المسائل الفرديّة يكون سهلاً في الغالب، لكن ما هو السبيل إلى تدارك الخطايا التي تقود إلى فساد اجتماعيّ؟ فلو افترضنا أنّ الضالعين في إشاعة هذا الفساد أو إيجاد ذلك الزيغ قد انتبهوا يوماً إلى خطئهم وأرادوا تداركه، فكيف يتداركون ما اقترفه معاوية – مثلاً – من جرائم؟ أو ما ارتكبه الاُمويّون من فجائع؟ فإنّ ما يرتكب إلى يوم القيامة من جرائم مترتّبة على ما اقترفته أيديهم لا يمكن تداركه بأيّ حال من الأحوال؛ فلقد حَرَموا المليارات من البشر من حقوقهم المتمثّلة بالانتفاع من وجود الإمام الحقّ. فلقد كان من حقّ البشر كافّة أن ينتفعوا من معارف وعلوم قادةٍ ومربّين قد عيّنهم اللّه تعالى ليصلوا في ظلّ حكوماتهم وسياساتهم إلى الظفر بالعزّة والسعادة في الدنيا والآخرة. ومن هنا يتعيّن علينا أن نكون يقظين وواعين للواجبات الاجتماعيّة الملقاة على عواتقنا.

محيي الإسلام في عصرنا

لقد أحيى الإمام الخمينيّ الراحل (قدس سره) دفعة واحدة قسماً عظيماً من المسائل الإسلاميّة؛ أي مسائل الإسلام السياسيّة والاجتماعيّة التي مرّ عليها قرون من الزمن يغطّيها غبار النسيان والغفلة. فما الذي كان رأي علمائنا وفقهائنا قبل نصف قرن في المسائل السياسيّة والاجتماعيّة يا ترى؟ لقد كان التدخّل في المسائل السياسيّة تهمة لا تُغتفَر، وكان إذا قيل لعالم الدين إنّه سياسيّ فقد سقط من أعين الناس. إذن فالإمام الخمينيّ (قدس سره) هو الذي جعل من الخوض في ميدان السياسة من أوجب الواجبات حين قال: «حفظ النظام الإسلاميّ أوجب من الصلاة». فالإمام (قدس سره) بحقّ يشترك في كلّ ثواب يترتّب على هذا العمل إلى يوم القيامة. ونحن أيضاً بما اُوتينا من سعة وجوديّة نستطيع أن نلعب دوراً إيجابيّاً أو سلبيّاً في هذا المجال. فباستطاعتنا أن ننجز ما يجعل الناس تغترف من بركاته لمئات من السنين ونكون شركاء في كلّ ما يجنونه من الثواب. كما ونستطيع أيضاً عن طريق التعلّق

ص: 381

بالدنيا وملذّاتها الخسيسة أن نُخلِي كواهلنا من بعض واجباتنا فنحرم، بسبب إهمالنا وتكاسلنا، عدداً من البشر من نعمة الهداية، أو نؤدّي بهم – لا سمح اللّه – إلى سبيل الغيّ والضلالة فنشاركهم إلى يوم القيامة بكلّ ما يقترفون من ذنوب وآثام(1).

صيغة الحكومة عند أهل السنّة

قد تعرّفت على صيغة الحكومة عند الشيعة، وحان البحث عن صيغتها لدى أهل السنّة، وأنّهم يختلفون عن الشيعة في شكل الحكومة بعد رسول اللّه، في أمرين:

الأوّل: فيما يتعلّق بجوهرها وصلبها وأساسها، فانّ الخلافة عند الشيعة إمرة إلهية، واستمرار لوظائف النبوّة كلّها، سوى تلقّي الوحي الإلهي، والامام نفس الرسول في الصلاحيات والوظائف غير أنّه ليس بنبيّ ، لأنّ النبوّة أُوصدت وختمت بالرسول... فلا نبي ولا رسول بعده، ولكن الوظائف كلّها مستمرّة، فلأجل ذلك يجب أن يكون الإمام قائماً بوظائفه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المعنوية والمادية والعلمية والاجتماعية، ويسد الفراغات الحاصلة بوفاته، وقد عرفت قسماً منها، وكان الإمام علي وعترته الطاهرة على هذا الوصف فكانوا خلفاءً إلهيّين عيّنهم الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، لكن لم تسمح الظروف للقيام بجميع وظائفهم إلاّ لعلي بعد حرمانه من حقّه سنين متمادية، فلمّا استتبّت له الأُمور قام بنفس وظائف النبىّ، من غير فرق بين الاجتماعية منها والعلمية، وسد الفراغات الهائلة.

ولكن الخلافة عند أهل السنّة رئاسة دينية لتنظيم أُمور الأُمّة من تدبير الجيوش، وسد الثغور، وردع الظالم، والأخذ للمظلوم، وقسمة الفيء بين المسلمين، وقيادتهم في حجّهم وغزوهم.(2)

ولأجل اختصاص وظائف الإمام بهذه الأُمور السياسية لا تشترط فيه العصمة، ولا الإحاطة بالشرع أُصوله وفروعه، بل يكفي فيه المقدرة لتدبير الأُمور، وقطع كيد الأعداء، وتسهيل الحياة للأُمّة فعلى ذلك، فلا تتجاوز وظائفه عن الوظائف المخوّلة للحكومات

ص: 382


1- . لمحاضرة سماحة آية اللّه مصباح اليزديّ (دامت بركاته) .
2- . قد لخّص الماوردي مسؤوليات الإمام في عشرة، لاحظ الأحكام السلطانية، ص 15 - 16 .

الحاضرة، غير أنّه يجب أن يكون مؤمناً باللّه ورسوله وقائماً بالوظائف الفردية، ولا يعزل عن مقامه بالخروج عن الطاعة واقتراف المعصية حسب ما ذكروه في محلّه.(1)

وهذا الاختلاف بين الفريقين يرجع إلى تفسير جوهر الإمامة وحقيقتها، ويتفرّع على ذلك خلاف آخر، وهذا هو الّذي نذكره في الأمر التالي .

الثاني: انّ الإمام عند الشيعة يعيّن من جانب اللّه سبحانه ويبلّغ بواسطة الرسول، وأمّا الإمام عند أهل السنّة، فقد فوّض أمر انتخابه إلى الأُمّة على وجه الإجمال ولم تذكر خصوصياته على وجه التفصيل، والّذي يظهر من مجموع كلامهم، انّ الإمامة تنعقد عن طريق الشورى، واختيار أهل الحل والعقد أوّلا، وبتعيين الإمام السابق ثانياً، وبالغلبة ثالثاً.(2)

قال الماوردي: الإمامة تنعقد بوجهين:

أحدهما: باختيار أهل الحل والعقد .

والثاني: بعهد الإمام من قبل.(3)

وقال العضدي: إنّها تثبت بالنص من الرسول، وفي الإمام السابق بالإجماع، وتثبت ببيعة أهل العقد والحل.(4)

ثمّ إنّهم اختلفوا في عدد من تنعقد بهم الإمامة على مذاهب شتّى، فقالت طائفة: لا تنعقد الإمامة إلاّ بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد، ليكون الرضا به عامّاً.

وقالت طائفة: أقلّ ما تنعقد به منهم خمسة، بشهادة أنّ بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة وهم: عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة الجرّاح، واسيد بن حضير، وبشر بن سعد، وسالم مولى أبي حذيفة .

وقال آخرون: تنعقد بثلاثة، يتولاّها أحدهم برضا الاثنين، ليكونوا حاكماً وشاهدين، كما يصحّ عقد النكاح بولي وشاهدين .

وقالت طائفة أُخرى: تنعقد بواحد، لأنّ العباس قال لعلي: امدد يدك أُبايعك، فيقول الناس عم رسول اللّه بايع ابن عمّه فلا يختلف عليك اثنان، ولأنّه حكم وحكم الواحد نافذ.(5)

ص: 383


1- . التمهيد للباقلاني ، ص 181
2- . الأحكام السلطانية، ص 6 و شرح مقاصد الطالبيين في علم أُصول عقائد الدين، ص 272 .
3- . الأحكام السلطانية: 4
4- . شرح المواقف: 3 / 265
5- . الأحكام السلطانية: 4 .

إنّ هذا الاختلاف الهائل فيما تنعقد به الإمامة، ناجم عن القول بأنّ أمر الخلافة مفوّض إلى الأُمّة مع عدم النص على أصل التفويض ولا على خصوصياته. وهذا من عجيب الأمر، حيث إنّ النبىّ يفوّض ذلك الأمر الحيوي

إلى الأُمّة، ولا يتكلّم بأصل التفويض ولا خصوصياته، فيترك الأُمّة في حيرة.

وقد وقف على ذلك، الكاتب المصري الخضري، قال: لم يرد في الكتاب أمر صريح بشكل انتخاب خليفة لرسول اللّه، اللّهمّ إلاّ تلك الأوامر العامة الّتي تتأول الخلافة وغيرها، مثل وصف المسلمين بقوله تعالى: (وَأمْرُهُمْ شورى بَينَهُمْ).(1)

وكذلك لم يرد في السنّة بيان نظام لانتخاب الخليفة، إلاّ بعض نصائح تبعد عن الاختلاف والتفرّق، كأنَّ الشريعة أرادت أن تكل هذا الأمر للمسلمين حتّى يحلّوه بأنفسهم، ولو لم يكن الأمر كذلك لمهّدت قواعده وأُوضحت سبله، كما أُوضحت سبل الصلاة والصيام.(2)

إنّ ما ذكره الخضري لا يسمن ولا يغني من جوع، لأنّ الحكومة بعد النبي الأكرم كانت من عظائم الأُمور، فلا يخطر ببال أحد أن يكتفي الرسول بجميع تفاصيلها وخصوصياتها الّتي لم تمارسها الأُمّة ولا ذاقتها طوال حياته بآية الشورى، وهذا أشبه بالاكتفاء في إقامة الصلاة بالمجملات الواردة في نص الكتاب.

«كيف يخطر ببال أحد أن يهمل الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) القيادة السياسية للدولة الإسلامية الّتي أسّسها، وثبّت عناصرها، ومرتكزاتها، فلم يضع قاعدة معيّنة للخلافة كما زعموا، مع العلم بأنّ القيادة بالنسبة للدولة كالرأس من الجسد، وكالقلب من سائر الأعضاء والجوارح. أيهمل القيادة والرئاسة للدولة، ولا يتكلّم عنها بنفي أو إثبات؟ أيهملها ويتركها نهباً لأصحاب المطامع، والمطامح، والأهواء، ولشهوات أصحاب القوّة والفساد في الأرض؟ فتعود بذلك بعد موته، الجاهلية، وعبادة الطواغيت، بعد أن عانى وأصحابه ما عانوا من متاعب، ومشقّات، وما قدّموه من تضحيات غالية وعزيزة للخلاص من أوبائها وتحرير العباد من

ص: 384


1- . الشورى : 38
2- . محاضرات في تاريخ الأُمم الإسلامية: 2 / 161 .

فحشائها؟ أيتركها لتكون سبباً لإراقة الدماء وإزهاق الأرواح؟ وهو المرسل رحمة لا نقمة للعالمين، ونوراً وهدىً للحائرين والضالّين .

حاشاه حاشاه لقد وضع لأُمّته وبوحي من ربّه العليم الخبير كل قواعد وأُسس الحياة الإنسانية بمجالاتها الواسعة، ولم يهمل حتّى آداب الأكل والشرب ولبس النعال وحتّى آداب التبوّل والتبرّز، ووضّح لأُمّته معالم الحياة الرفعية الراقية وفي مقدّمتها الحياة السياسية، ورأسها المفكر وقلبها النابض، هو القيادة المعروفة في لغة القرآن والسنّة باسم - الإمامة و الخلافة - والملك والسلطان - وبذلك نزلت البشرى من عالم الغيب والشهادة بإكمال الدين، وإتمام النعمة، والرضى بالإسلام قال تعالى: (اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ و أتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً ).(1)و (2)

لو كانت صيغة الحكومة قائمة على أساس الشورى، وكانت هي طريقاً لتعيين الحاكم، كان من الضروري أن يقوم النبي بتوعية الأُمّة، وإيقافها بصورة واسعة على حدود الشورى وتفاصيلها وخطوطها العريضة، حتّى لاتتحيّر الأُمّة ولا تختلف في أمرها، ولكنّا رغم هذه الأهمية القصوى، لا نجد لهذه التوعية الضرورية أي أثر في الكتاب والسنّة في مجال انتخاب الحاكم. أجل إنّ مقتضى كون الدين الإسلامي ديناً خاتماً هو التعرّض لصلب الموضوع مُوكِلا شكله إلى نظر الأُمّة، حتّى يتماشى مع جميع العصور. ولا نعني من هذا أنّه يجب على الشارع إعطاء كل التفاصيل والخصوصيات الراجعة إلى الشورى، غير أنّ هناك أُموراً ترجع إلى جوهر الشورى وصميمها، فلا يصحّ للشارع أن يترك بيانها، إذاً هناك أسئلة تطرح نفسها في المقام لا يمكن الوقوف على أجوبتها، إلاّ عن طريق الشرع، وهي:

1 : من هم المشاركون في الشورى، فهل العلماء وحدهم، أو السياسيون وحدهم، أو الضبّاط والعساكر وحدهم، أو المختلط منهم؟

2 : من هم الذين يختارون أهل الشورى؟

ص: 385


1- . المائدة: 3
2- . الزيدية نظرية وتطبيق : 102 - 103 .

3 : لو اختلف أهل الشورى في شخص أو أمر، ما هو الملاك لتقديم رأي على آخر؟ إلى غير ذلك من الأسئلة المطروحة الّتي ترتبط بنظام الشورى المجمل، ولا يستطيع أحد أن يجيب عنها إلاّ رجماً بالغيب .

ثم إنّ القوم ربّما يعبّرون عن صيغة الحكومة باتّفاق أهل الحل والعقد، وهذه الكلمة أشد غموضاً من السابقة، إذ لا يعرف الإنسان من هم أهل الحل والعقد، وماذا يُحلِّون وماذا يعقِدون؟ أهم أصحاب الفقه والرأي الذين يرجع إليهم الناس فيما ينوبهم من حوادث؟ وهل هناك درجة معيّنة من الفقه والعلم إذا بلغها الإنسان صار من أهل الحل والعقد؟ ما هي تلك الدرجة؟ وبأي ميزان توزن؟ ولأجل هذه الإبهامات حول نظام الشورى أوّلا، وأهل الحل والعقد ثانياً، تنبّه بعض دكاترة العصر إلى وهن هذه النظرية .

قال الدكتور طه حسين: لو كان للمسلمين هذا النظام المكتوب - أي نظام الشورى - لعرف المسلمون في أيام عثمان ما يأتون من ذلك، وما يدعون، دون أن تكون بينهم فرقة أو اختلاف .

وقال الخطيب: إنّ كلمة أهل العقد والحل لأغمض غموضاً من كلمة الأفراد المسؤولين.(1)

كل ذلك يعرب عن أنّ مسألة نظام الشورى انّما اخترعها المتقمّصون للخلافة في أيام الأمويين .

آيتان حول الشورى:

إنّ القائلين بكون صيغة الحكم بعد رحلة الرسول الأعظم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو الشورى، استدلّوا بأمرين:

1 : الآيتان الواردتان حول الشورى .

2 : انّ خلافة الخلفاء تمّت بالشورى .

ونحن نبحث عن كلا الموضوعين بوجه موجز، ونحيل التفصيل إلى الموسوعات الكلامية، وإليك الآية الأُولى وتحليلها:

ص: 386


1- . الخلافة والإمامة : 271 .

1: (فَبِما رَحْمَة مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ واستَغْفِرْ لَهُمْ وشاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فإذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ. (1))

إنّ الاستدلال بها سببه الغفلة عن موردها ومضمونها، فإنّ الخطاب فيها موجّه إلى الحاكم الّذي فرضه سبحانه حاكماً على الأُمّة، فيأمره أن يشاور أفراد الأُمّة، فلا صلة للآية بالمدعى. فإنّ أقصى ما تفيده الآية هو أن لا يكون الحاكم الإسلامي الّذي تمّت سلطته، مستبدّاً في أعماله، وأمّا أنّ الإمام، يتعيّن عن طريق الشورى فالآية لا تدلّ عليه، والّذي يؤكّد ما قلناه إنّه يأمر النبىّ بعد المشاورة، بالتوكّل عند العزم، وأنّ له الرأي النهائي والأخير .

والحاصل: انّ الآية خطاب للحاكم الإسلامي وأنّ عليه المشورة أوّلا وأخذ التصميم النهائي ثانياً، وأمّا أنّ الحاكم الإسلامي يتعيّن من جانب الشورى، فالآية أجنبية عنه فانّ الخطاب في الآية للحاكم لا لغيره .

وأمّا الآية الثانية: أعني قوله سبحانه في صفات المؤمنين:(وأمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) (2) فهي تحثّ المؤمنين على المشورة في جميع الأُمور المرتبطة بهم، وأمّا أنّ أمر الخلافة والولاية، من الأُمور المرتبطة بهم فلا تظهر من الآية. والتمسّك بها في مثل هذا المقام المردّد بين كونه من أُمور المؤمنين أو ممّا يرجع إلى اللّه ونبيّه تمسّك بالعام عند الشبهة المصداقية.

وبعبارة أُخرى: انّ الإمامة لو كانت أمراً إلهيّاً، متوقّفاً على ولاية مفاضة من اللّه سبحانه إلى الولي يكون من الأُمور المربوطة باللّه ورسوله، وأمّا لو كانت إمرة عرفية وولاية شعبية تكون من الأُمور المتعلّقة بالمؤمنين، وفي مثله حيث الأمر مردّد لا يمكن التمسّك بالعموم وإثبات انّ الولاية من شؤون المؤمنين .

أضف إلى ذلك أنّه لو كان أساس الحكم في الإسلام هو الشورى لوجب على الرسول الأكرم بيان تفاصيلها وخصوصياتها وخطوطها العريضة. على ما عرفت تفصيلا .

ص: 387


1- . آل عمران : 159 .
2- . الشورى : 38 .

ولأجل عدم وجود أىّ إيضاح من قبل النبىّ حول النظام المذكور، التجأ الكاتب المصري إلى رفض أن يكون ذلك أساساً للحكم وانّما كانت تجربة من المسلمين بعد رحلة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم).

يقول الخطيب : «ينظر بعضهم إليه على أنّه (أي تعيين الإمام بالشورى) نواة صالحة لأوّل تجربة، وانّ الأيام كفيلة بأن تنميها وتستكمل ما يبدو فيها من نقص، فلم تكن الأحوال الّتي تمّت فيها هذه التجربة تسمح بأكثر ممّا حدث، إذ لم يكن من المستطاع - حينذاك الوقوف على رأي الأُمّة كلّها، فرداً فرداً - في من يخلف النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم)، وينظر بعض آخر إلى هذا الاسلوب بأنّه أُسلوب بدائي عالج أهم مشكلة في الحياة، وقد كان لهذا الاسلوب أثر في تعطيل القوى المفكّرة للبحث عن اسلوب آخر من أساليب الحكم الّتي جربتها الأُمم»(1)

ومعنى ذلك أنّ الرسالة العالمية الخاتمة لجميع الرسالات قد أهملت هذا الجانب المصيري في حياة الأُمّة، وانّه اهتمّ بكلّ صغير وكبير سوى هذا الأمر الخطير الّذي به يناط بقاء الإسلام واستمراره. علماً أنّ الظروف كانت مساعدة لوصول ذلك ولا مانع يعترض الطريق .

خلافة الخلفاء ومسألة الشورى:

هذا كلّه حول الدليل الأوّل وأمّا الدليل الثاني، وهو انّ خلافة الخلفاء تمّت عن هذا الطريق، فهو أوهن وأضعف من الأوّل، فمن قرأ تاريخ السقيفة وانتخاب الخلفاء الثلاثة يقف على أنّه لم يكن هناك أي مشورة ولا استشارة، وانّما تمّت خلافة الأوّل في جوّ إرهابي وفي محفل ساد فيه، السب والشتم والضرب، إلى غير ذلك من الأفعال الشنيعة الّتي لا تليق بمجلس كهذا .

كما أنّ خلافة الثاني تمّت بتنصيص من الخليفة الأوّل وانّه استبدّ بالأمر ولم يدع مجالا للأُمّة .

وأمّا خلافة الثالث فهي وإن كانت مصبوغة بصبغة الشورى، ولكن الخليفة هو الّذي عيّن أعضاء الشورى واستبدّ بالأمر وعيّن المرشحين للخلافة، بل كان ما قام به يؤدي إلى

ص: 388


1- . الخلافة والإمامة: 272 .

تعيّن الخليفة. ومثل ذلك لا ينطبق عليه شروط الشورى وانّما كان استبداداً في لباس الحرية .

وإن كنت في شك ممّا تلوناه عليك فلندرس تاريخ انتخاب الخلفاء عن كثب.

1 : السقيفة وخلافة أبي بكر:

اشارة

توفّي رسول اللّه وكان أبوبكر خارج المدينة فقام عمر بن الخطاب فقال: إنّ رجالا من المنافقين يزعمون أنّ رسول اللّه قد توفّي، وانّ رسول اللّه ما مات، ولكن ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل أنّه قد مات فو اللّه ليرجعنّ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما رجع موسى وليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مات، فما زال عمر يتكلّم حتّى أزبد شدقاه. فقال العباس: إنّ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يأسن كما يأسن البشر، وانّ رسول اللّه قد مات فادفنوا صاحبكم أيميت أحدكم إماتة ويُميته إماتتين؟! هو أكرم على اللّه من ذلك، فإن كان كما تقولون فليس على اللّه بعزيز أن يبحث عنه التراب فيخرجه إن شاء اللّه .

وما زال الجدال مستمرّاً بين عمر والعباس وشاركهم سائر المسلمين إلى أن نزل أبوبكر من السُّنح، فسمع مقالة عمر، فدخل البيت فكشف عن وجه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقبّله وقال: بأبي أنت وأُمّي طبت حيّاً وميّتاً والّذي نفسي بيده لا يذيقك اللّه الموتتين أبداً.(1) ثم خرج فقال: على رسْلِك يا عمر. فجلس عمر. فحمداللّه أبوبكر وأثنى عليه ثم قال: ألا من كان يعبد محمّداً فإنّ محمّداً قد مات، ومن كان يعبد اللّه فانّ اللّه حىّ لا يَمُوت وقال: (إنّكَ مَيِّتٌ وإنَّهُمْ مَيِّتُونَ)وقال: (وما مُحَمَّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبلِهِ الرُّسُلُ أفَإِنْ ماتَ أوْ قْتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً و سَيَجْزِي اللّهُ الشّاكرِينَ) . فقال عمر: واللّه ما هو إلاّ أن سمعت أبابكر تلاها فدهشت. حتّى وقعت إلى الأرض، وعرفت أنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد مات.(2)

ص: 389


1- . أين الوهابيون من موقف الخليفة هذا، حيث أخذ يخاطب النبي وهو ميّت، ويقبّله ويتبرّك به، ويقول له: بأبي أنت وأُمّي .
2- . السيرة النبوية: 2 / 655; الطبقات الكبرى: 2 / 268 - 269 .
نقاش مع الخليفة:

هناك تساؤلات تطرح نفسها ولعلّه كان عند الخليفة أجوبة لها أو أنّ القارئ، يتفطّن للإجابة عنها وهي:

1 : انّ موت النبي الأكرم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يكن فُجائيّاً، بل كان بعد مرض ألمّ به عدّة أيام، فكانت القرائن والشواهد تدلّ على أنّه قد دنا فراقه للأُمّة، وقد صرّح بذلك لغير واحد من أصحابه، آخرها طلبه للقلم والدواة وكتابة الصحيفة والوصية للأُمّة حتّى لا تضلّ الأُمّة من بعده، وقد حال الخليفة الثاني بين النبي وأُمنيته وقال ما قال.(1)

وعندئذ فكيف أذعن بأنّ النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما مات وإنّما غاب كغيبة موسى، وقد أصرّ على ذلك حتّى أزبد شدقاه ولم يكن بين الصحابة من يدافع عن تلك العقيدة، سوى نفسه؟!

فهل كان الخليفة موقناً بذلك جدّاً، أو أنّه كان له في تبنّي هذه الفكرة (لساناً لا قلباً) هدف سياسيّ يخبّئ فيه مصالحه أو مصالح الأُمّة؟

2 : هل كانت الغيبة سنّة رائجة بين جميع الأنبياء أو كانت من مختصّات بعض الأنبياء كالكليم ونحوه. ولو صحّ الثاني كما هو الحق فما هو الوجه في إلحاقه بالنادر؟

3 : نرى أنّ عم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) العباس، واجهه بما واجهه أبوبكر، وهو أنّ النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أكرم من أن يُميته سبحانه موتتين، مع أنّه لم يقتنع بكلامه، بل اقتنع بما ذكره أبوبكر!!

4 : انّه كان مصرّاً على الغيبة مادام أبو بكر غائباً عن المدينة، فلمّا نزل من السُّنح وأدلى بمقاله سرعان ما تراجع عن موقفه، وأىّ سرّ كان في هذا الرجوع السريع عن فكرة كان يستميت في الدفاع عنها؟!

5 : كيف يقتنع القارئ بأنّ الخليفة لم يكن ذاكراً قوله سبحانه: (إنَّك ميّت وإنّهم ميّتون)، وقوله سبحانه: (وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل)وغيرهما؟!

هذه الأسئلة لم نجد لها أجوبة شافية، ومن المحتمل جداً أن يكون وراء الكواليس شيئاً ما. وأن تكون أُطروحة الغيبة مناورة سياسية، الغاية منها منع المسلمين من اتّخاذ أىّ موقف في المسائل المصيرية للأُمّة حتّى يجيء أبوبكر من السُّنح ويجتمعا على رأي واحد. ولأجل

ص: 390


1- . صحيح البخاري: 1 / 22 كتاب العلم، و ج 2 / 14 .

ذلك تنازل عن موقفه بعد ما جاء أبوبكر من خارج البلد. فاتّخذوا موقفاً واحداً، تجاه المسائل المصيرية .

مأساة السقيفة:

كان علي بن أبي طالب وجمهور المهاجرين منهمكين فى تجهيز النبي فوقف الخليفتان على اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة للتداول في مسألة الخلافة. فقال عمر لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار ما هم عليه فدخلا ومعهما بعض المهاجرين كأبي عبيدة بن الجراح وكان خطيب الأنصار ونقيبهم سعد بن عبادة يخطب ويحث الأنصار على الأخذ بمقاليد الخلافة بحجّة أنّهم آووا النبي الأكرم عندما أخرجه قومه. وضحّوا في سبيل دعوته بكل غال ورخيص .

فلمّا أتمّ كلامه ابتدأ أبوبكر بالبحث والكلام فاستند إلى أنّ اللائق بالخلافة هو قوم النبي وقبيلته بحجّة أنّهم أوسط العرب داراً وأحسنهم أحساباً،ولم يكتف بذلك حتّى أخذ بيد عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح ورشحهما للبيعة .

ترى أنّ الطائفتين اتّخذوا في حل مشكلة الخلافة قواعد كانت سائدة في عصر الجاهلية، فالأنصارترى نفسها أحق بالخلافة لحمايتها النبي الأكرم وتقديم المأوى له، وأمّا هؤلاء الحاضرون من المهاجرين فاحتجّوا بمثل ما احتجّت به الأنصار وهو أنّ قريشاً أوسط داراً وأحسن نسباً .

ولم يكن هناك من يذكّرهم ويوقفهم على أنّ الإسلام عصف بهذه الأساليب من الاحتجاجات وحطّم أحكام الجاهلية(1) فلو كان هناك مشورة إسلامية كان عليهم أن يتفحّصوا عن أعلم القوم بالكتاب والسنّة وأكثرهم دراية بهما. وأسوسهم وأخشنهم في ذات اللّه وأسبقهم إلى الإيمان والإسلام. كما هوالوارد عن الكتاب والسنّة قال سبحانه: (الَّذِينَ

ص: 391


1- . لاحظ: في الوقوف على احتجاج الطائفتين: السيرة النبوية لابن هشام: 2 / 659، والطبقات الكبرى لابن سعد: 2 / 269، وتاريخ الطبري: 2 / 442 - 446 .

إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكَاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ للهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ).(1)

وقال النبي الأكرم لا تصلح الإمامة إلاّ لرجل فيه خصال ثلاث:

1 : ورع يحجزه عن معاصي اللّه .

2 : وحلم يملك به غضبه .

3 : وحسن الولاية على من يلي حتّى يكون كالأب الرحيم.(2)

وقال الإمام علي (عليه السلام) : «أيّها الناس إنّ أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه، وأعلمهم بأمر اللّه فإن شغب شاغب استعتب فإن أبى قوتل».(3)

وقال (عليه السلام) أيضاً عندما قال قائل : «إنّك على هذا الأمر يابن أبي طالب لحريص، فقلت: بل أنتم واللّه لأحرص وأبعد، وأنا أخصّ وأقرب، وانّما طلبت حقاً لي وأنتم تحولون بيني وبينه وتضربون وجهي».(4)

وقال الإمام السبط الطاهر الحسين بن علي (عليهما السلام) : «فما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب، الدائن بدين الحق، القائم بالقسط، الحابس نفسه على ذات اللّه».(5)

وأين هذه الملاكات والضوابط ممّا جاء في احتجاجات المهاجرين والأنصار، وكأنّهم لم يسمعوا قول اللّه سبحانه: (أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون).(6)

ما سمعت من الكلمات، كانت احتجاجاتهم وشعاراتهم في نادي السقيفة، وأمّا ما قاموا به من الأعمال المخزية أو ما صدر منهم من الضرب والسباب، فحدّث عنه ولا حرج. وبذلك تقف على أنّه لم تكن هنا أي مشورة، ولا تلاقح فكري وانّما كان أشبه بملعب يتسابق

ص: 392


1- . الحج: 41 .
2- . الكافي : 1 / 407.
3- . نهج البلاغة: قسم الخطب برقم 173 .
4- . نهج البلاغة: قسم الخطب برقم 172 .
5- . روضة الواعظين: 206
6- . الأنبياء : 105 .

فيه الجميع لأخذ كرة الخلافة بأىّ طريق حصل، وإن كنت في شك منها فاستمع لما نتلوه عليك من المصادر الموثقة .

هذا الحباب بن المنذر الصحابي البدري الأنصاري قد انتضى سيفه على أبي بكر وكان داعياً إلى قيادة الأنصار وقال: «واللّه لا يرد عليَّ أحد ما أقول إلاّ حطّمت أنفه بالسيف، أنا جُذيلها المحكّك (أصل الشجرة) وعُذيقها المرجَّب (النخلة المشتملة بالتمر) أنا أبو شبل في عرِّيسة الأسد، واللّه إن شئتم لنُعيدنَّها جَذعة.(1)

وهو بكلامه هذا يتهدّد كل من يحاول إخراج القيادة من الأنصار وإقرارها لغيرهم .

وها هو آخر (وهو سعد بن عبادة) يخالف مبايعة أبي بكر وينادي: «أنا أرميكم بكل سهم في كنانتي من نبل، وأخضب منكم سناني ورمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي وأُقاتلكم مع من معي من أهلي وعشيرتي».(2)

وها هو ثالث يتذمّر من تلك البيعة ويشب نار الحرب بقوله: «إنّي لأرى عجاجة لا يطفئها إلاّ الدم».(3)

وهذا هو سعد بن عبادة أمير الخزرج الّذي طلب أن تكون الخلافة في الأنصار يداس بالأقدام، وينزى عليه وينادى عليه بغضب: «اقتلوا سعداً قتله اللّه إنّه منافق أو صاحب فتنة»، وقد قام عمر على رأسه وهو يقول: لقد هممت أن أطأك حتّى تندر عضوك أو تندر عيونك.(4)

فإذا بقيس بن سعد يأخذ بلحية عمر ويقول: واللّه لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة! أو: لو خفضت منه شعرة ما رجعت وفي فيك جارحة.(5)

وهذا نفس عمر بن الخطاب يصف تلك المشاجرة بقوله: كثر اللغط وارتفعت الأصوات حتّى تخوّفت الاختلاف، فقلت: ابسط يديك يا أبابكر، فبسط يده، فبايعته، ثم بايعه

ص: 393


1- . شرح ابن أبي الحديد: 2 / 38 - 39 .
2- . الغدير: 7 / 76.
3- . الإمامة والسياسة: 1 / 11 ; تاريخ الطبري: 3 / 210 .
4- . مسند أحمد: 1 / 56 ; تاريخ الطبري: 3 / 210، وغيرهما .
5- . تاريخ الطبري: 3 / 210 ; السيرة الحلبية: 3 / 387 .

المهاجرون، ونزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة، فقلت: قتل اللّه سعد بن عبادة.(1)

إنّ الشورى الإسلامية حسب ما توحي كلمتها السامية، لا تنعقد إلاّ بدراسة الموضوع دراسة موضوعية واقعية، وأن تكون هناك حرّية في الرأي والنظر، ونزاهة في الكلام، ويقوم مندوب كل جماعة بإدلاء رأيه بدليل وبرهان، وربّما تتطلّب دراسة مثل ذلك الموضوع الحيوي عقد مجالس متعدّدة حتّى يصل من خلالها المسلمون إلى الأمثل فالأمثل في موضوع القيادة، وأمّا المجلس الّذي تسلّ فيه السيوف على المخالف، ويداس المقابل بالأقدام، فهذا أشبه، بميدان الحرب والقتال لا المفاهمة والمشاورة، بل أشبه...

هذا حال السقيفة وأمّا ما جرى بعد السقيفة فحدّث عنه ولا حرج، فقد خرج الخليفة من السقيفة مع من بايعوه، فلم يلاقوا أحداً في الطريق إلاّ وضعوا يده على يد الخليفة بيعة له.

ثمّ إنّ علياً وجماعة معه كانوا متخلّفين عن البيعة، ولمّا كان تخلّفه ومن معه من أصحابه إخلالا بالبيعة، بعث أبوبكر عمر بن الخطاب إلى بيت علي وفاطمة، ليتهدّدوا اللائذين به، الممتنعين عن مبايعته، وقال له: إن أبوا فقاتلهم، وأتى عمر إلى بيت فاطمة وهو يقول: واللّه لنحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة، فقالت فاطمة لمّا سمعت ذلك صائحة منادية: «يا أبت يا رسول اللّه ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة».(2)

ثمّ بعد هنّ وهنات أُخرج الإمام من بيته، وقادوه إلى البيعة كما يقاد البعير المخشوش، وسيق سوقاً عنيفاً، وقالوا له: بايع، فيقول: «إن أنا لم أفعل فمه؟»

فيقال: واللّه الّذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك، فقال علي: «إذن تقتلون عبداللّه وأخا رسول اللّه».(3)

ولم يكن الضغط منحصراً في علي، بل لمّا سمع الزبير ما جرى في السقيفة سلّ سيفه وقال: لا أغمده حتّى يبايع علي، فيقول عمر: عليكم الكلب، فيؤخذ سيفه من يده، ويضرب به الحجر فيكسر.(4)

ص: 394


1- . السيرة النبوية : 2 / 660 .
2- . تاريخ الطبري: 3 / 210; الإمامة و السياسة : 1 / 13 .
3- . الإمامة والسياسة: 1 / 13
4- . تاريخ الطبري: 3 / 199; الإمامة والسياسة: 1 / 11

هذه صورة إجمالية وضعناها أمام القارئ ليقف على مدى صحّة الشورى الّتي بنيت عليها خلافة الخليفة الأوّل، ثمّ هو عقد الخلافة بنفسه لعمر من دون أي مشاورة للمسلمين(1) كما فوّض الثاني أمر الخلافة إلى ستّة وقد استبدّ في تعيينهم من دون مشورة، وليس هذا شيئاً ينكر أو يشك فيه(2).

الخلفاء وتناسي الشورى

وقد بلغت فضاحة الأمر في السقيفة إلى حدّ يصفه عمر بقوله: كانت بيعة أبي بكر فلتة كفلتة الجاهلية وقى اللّه المسلمين شرّها. أو قال: كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمّت، وأنّها قد كانت كذلك إلاّ أنّ اللّه قد وقى شرّها، فمن بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين، فانّه لا بيعة له.(3)

الخلفاء وتناسي الشورى:

قد درسنا كيفية انعقاد الإمامة لأوّل الخلفاء هلمّ معي ندرس خلافة غيره، فسوف ترى أنّه لم يكن هناك أىّ مشورة ولا أىّ استفتاء شعبي، ولا أىّ ديمقراطية كما يدّعيها بعض الكتّاب المعاصرين .

روى المؤرّخون: انّه دعا أبوبكر عثمان بن عفان، فقال: اكتب عهدي، فكتب عثمان وأملى عليه: بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به أبوبكر بن أبي قحافة آخر عهده بالدنيا، نازحاً عنها، وأوّل عهده بالآخرة داخلا فيها، إنّي أستخلف عليكم عمر بن الخطاب....(4)

والإنسان عندما يقرأ هذه الصفحة من التاريخ، يقف على قيمة ما ذكره الإمام، عندما رفعوا السيف على رأسه ليبايع أبابكر، فقال: «احلب يا عمر حلباً لك شطره، أُشدد له اليوم

ص: 395


1- . سيأتي مصدره .
2- . سيأتي مصدره
3- . السيرة النبوية: 2 / 658; تاريخ الطبري: 2 / 446 .
4- . الإمامة والسياسة : 18; الكامل في التاريخ: 2 / 425 .

أمره، ليردّه عليك غداً، ألا واللّه لا أقبل قولك ولا أُبايع»(1) فواللّه، لقد تحقّق قول الإمام حيث ردّ عليه الأمر من بعد، كما عرفت .

وهذا عمر بن الخطّاب، فبعدما جرح ودنا أجله قال: سأستخلف النفر الذين توفّي رسول اللّه وهو عنهم راض، فأرسل إليهم فجمعهم وهم: علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفّان، وطلحة، والزبير بن العوّام، وسعد بن أبي وقّاص، وعبدالرحمن بن عوف، وكان طلحة غائباً .

فقال: يا معشر المهاجرين الأوّلين، إنّي نظرت في أمر الناس فلم أجد فيهم شقاقاً ولا نفاقاً فإن يكن بعدي شقاق ونفاق فهو فيكم، فتشاوروا ثلاثة أيّام، فإن جاءكم طلحة إلى ذلك وإلاّ فأعزم عليكم أن لا تتفرّقوا من اليوم الثالث حتّى تستخلفوا أحدكم.

ثم قال لصهيب: صلّ بالناس ثلاثة أيّام وأدخل هؤلاء الرهط بيتاً وقم على رؤوسهم، فإن اجتمع خمسة وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف...وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما... فان رضى ثلاثة رجلاً منهم وثلاثة رجلاً منهم، فحكّموا عبداللّه بن عمر، فإن لم يرضوا بحكم عبداللّه بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمن بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس.(2) .(1)

فلما دفن عمر جمعهم أبو طلحة ووقف على باب البيت بالسيف في خمسين من الأنصار، حاملي سيوفهم ثم تكلّم القوم وتنازعوا، فأوّل ما عمل طلحة أنّه أشهدهم على نفسه أنّه قد وهب حقّه من الشورى لعثمان، وذلك لعلمه أنّ الناس لا يعدلون به عليّاً وعثمان، وانّ الخلافة لا تخلص له وهذان موجودان فأراد تقوية أمر عثمان وإضعاف جانب علي (عليه السلام) بهبة أمر لا انتفاع له به ولا تمكّن له منه.

ولمّا رأى الزبير أنّ علياً قد ضعف، وانخذل بهبة طلحة حقّه لعثمان، دخلته حميّة النسب فوهب حقّه من الشورى لعلي. لأنّه ابن عمّته. وهي صفية بنت عبدالمطلب وأبو طالب خاله .

وقال سعد بن أبي وقاص: أنا قد وهبت حقّي من الشورى لابن عمي عبدالرحمن، وذلك لأنّهما من بني زهرة ولعلمه أنّ الأمر لا يتم له .

فلمّا لم يبق إلاّ الثلاثة. علي وعثمان وعبدالرحمن ولكل واحد صوتان وبما أنّ عمر بن الخطاب قال في وصيته لأبي طلحة الأنصاري: بأنّه إذا تساوت الآراء فرجّح الفئة الّتي فيها

ص: 396


1- . الإمامة والسياسة: 23; الكامل: 3 / 35 .
2- . تاريخ الطبري: 3 / 294 .

عبدالرحمن بن عوف. ومن المعلوم أنّ عبدالرحمن ما كان يميل إلى علي ويترك نفسه أو صهره عثمان، ولأجل ذلك قام بلعبة أُخرى يريد بها حرمان علي.

فقال عبدالرحمن لعلي وعثمان: أيّكما يخرج نفسه من الخلافة ويكون إليه الاختيار في الاثنين الباقيين؟ فلم يتكلّم منهما أحد، فقال عبدالرحمن: أُشهدكم انّني قد أخرجت نفسي من الخلافة على أن أختار أحدكما، فأمسكا، فبدأ بعلي(عليه السلام) وقال له: أُبايُعك على كتاب اللّه وسنّة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسيرة الشيخين: أبي بكر وعمر، فقال: بل على كتاب اللّه وسنّة رسوله واجتهاد رأيي، فعدل عنه إلى عثمان فعرض عليه ذلك، فقال: نعم، فعاد إلى علي(عليه السلام) فأعاد قوله، فعل ذلك عبدالرحمن ثلاثاً، فلمّا رأى أنّ علياً غير راجع عمّا قاله وأنّ عثمان يَنْعم له بالإجابة، صفق على يد عثمان، وقال: السلام عليك يا أميرالمؤمنين، فيقال: إنّ عليّاً (عليه السلام) قال له: واللّه ما فعلتها إلاّ لأنّك رجوت منه ما رجاه صاحبكما من صاحبه، دقَّ اللّه بينكما عطر «منشم» .

قيل: ففسد بعد ذلك بين عثمان وعبدالرحمن، فلم يكلّم أحدهما صاحبه حتّى مات عبدالرحمن.(1)

شورى سداسية أو لعبة سياسية؟:

إذا ألقيت نظرة على كيفية تشكيل الشورى وأعضائها أدركت أنّها كانت لعبة سياسية وكان الهدف منها تسليم الخلافة إلى عثمان ولكن بصبغة شرعية وقانونية. إذ لم تكن الظروف تسمح بتنصيبه أو الإيصاء به صريحاً. فدقَّ الخليفة باب الشورى حتّى يسدّ به أفواه المعترضين بالقدر الميسور. وكانت الغاية واضحة لدى المطّلعين على خبايا الأُمور. منهم أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب(عليهما السلام) حيث قال لعمّه العباس: «عُدل بالأمر عنّي يا عم» قال: وما عيبك؟! قال: «قرن بي عثمان، وقال عمر: كونوا مع الأكثر فإن رضي رجلان

ص: 397


1- . شرح ابن أبي الحديد: 1 / 188، الطبري: التاريخ 3، الجزري: الكامل 3 و «منشم» اسم امرأة عطّارة بمكة وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال تطيّبوا بطيبها، وكانوا إذا فعلوا ذلك كثرت القتلى، فكان يقال: أشأم من عطر منشم. لاحظ الصحاح للجوهري .

رجلا، ورجلان رجلا، فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمن بن عوف، فسعد لا يخالف ابن عمه (عبدالرحمن بن عوف) وعبدالرحمن صهر عثمان لا يختلفان».(1)

وقال ابن عباس: الرجل يريد أن يكون الأمر في عثمان.(2)

وقد نال الخليفة بغيته من خلال الأُمور التالية:

1 : إنّ الشخصيات المشاركة في الشورى فرضت من جانب الخليفة، وقد احتكر ذلك الحقّ لنفسه وسلبه عن الأُمّة - ولو كان الانتخاب بيد الأُمّة ربّما كان المصير على خلاف ما أراده .فأدخل في الشورى رجالا يسيرون على الخط الّذي رسمه الخليفة في نفسه .

وبرّر الخليفة حصر أعضاء الشورى فيهم بأنّ النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مات وهو راض عنهم، وهو تبرير تافه، فانّ النبي مات وهو راض عن غير هؤلاء أيضاً ولقد أثنى على عدّة من أصحابه، كأبي ذر الغفاري وعمّار بن ياسر وجابر بن عبداللّه الأنصاري، وأبي أيوب مضيّفه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وغيرهم، بيد أنّ هؤلاء لمّا كانوا لا يحقّقون مطامع الخليفة أعرض عنهم وأدلى بأسماء هؤلاء الذين يتجاوبون مع ما يريد .

2 : انتخب رجالا لعضوية الشورى كانوا مختلفي النزعة والهوى ولكن الجامع بين أغلبهم هو الانحراف عن علي(عليه السلام) وإضمار العداء له. فعند ذلك أصبح إقصاء علىّ أمراً محتوماً إن لم نقل انّ تعيين عثمان أضحى أمراً مفروضاً، وذلك لأنّ طلحة بن عبيداللّه كان معروفاً بعدائه لعلي وانحرافه عنه. فلأجل ذلك وهب حقّه لعثمان تضعيفاً لجانب علي .

إنّ سعد بن أبي وقاص كان ابن عم عبدالرحمن بن عوف وكلاهما من بني زهرة، فلا يميل إلى علي وفي الشورى واحد من عشيرته .

وعبدالرحمن بن عوف كان صهر عثمان. لأنّ أُمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط كانت زوجته وهي أُخت عثمان من أُمّه .

على هذا كانت القرائن تشهد على أنّ الخليفة كان يضمر حرمان علي من الخلافة. ولم يكن في الشورى منافس لعلي سوى عثمان، فطبيعة الحال كان يوحي بأنّ عثمان هو الّذي سيأخذ بمقاليد الحكم، إذ لم يكن لسائر الأعضاء الأربعة مكانة اجتماعية مثل علي وعثمان، بل لم يكن لهم إربة في الخلافة وإنّما أطمعهم فيها الخليفة للتوصّل إلى مأربه .

ص: 398


1- . شرح النهج: 1 / 191.
2- . شرح النهج: 1 / 189 .

3 : انّه لمّا كان من المحتمل أن تتساوى الأصوات بين علي وعثمان جعل الرجحان والتقديم للفئة الّتي فيها عبدالرحمن بن عوف، فكأنّه جعل صوته صوتين. وأمّا عبدالرحمن بن عوف (وهو ذلك الرجل الثري الذي ترك كمية هائلة من الذهب والفضة وقد كُسرت بالفؤوس عند تقسيمها) فهل يترك عثمان ويميل إلى علي وانّ الطيور على أشكالها تقع؟!

وبالتالي لم يفسد الخليفة على علي في هذه الواقعة فحسب، بل أفسده على علي بعد رحيل عثمان، حيث إنّ إدخال هؤلاء في الشورى أطمعهم في الخلافة وجعلهم يعتقدون في أنفسهم بأنّهم مؤهّلين لها، وأنّهم أعدال علي وأقرانه. ولأجل ذلك قاموا في وجه الإمام علي يدّعون الخلافة لأنفسهم تحت غطاء أخذ الثار لعثمان .

إنّ الامام أميرالمؤمنين (عليه السلام) قد أفصح بما يكنّه ضميره حول وصية الشورى، فقال في بعض خطبه:

«فياللّه وللشورى، متى اعترض الريب فيّ مع الأوّل منهم حتّى صرت أُقرن إلى هذه النظائر! لكنّي أسففت إذ أسفّوا، وطرت إذ طاروا; فصغا رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره مع هن وهن».(1)

إجابة عن سؤال حول معنى الشورى في رسالة الإمام علي (عليه السلام) إلى معاوية

هذا كلام علي في أواخر أيامه، فقد اعترض هو أيضاً في أيام الشورى وكذلك فعل أصحابه، فروى الطبري أنّ عبدالرحمن قال: أيّها الناس أشيروا علىّ في هذين الرجلين؟ فقال عمّار بن ياسر: إن أردت أن لا يختلف الناس فبايع علياً; فقال المقداد: صدق عمّار، وإن بايعت علياً سمعنا وأطعنا.

فقال عبداللّه بن أبي سرح: إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان; وقال عبداللّه بن أبي ربيعة المخزومي: صدق، إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا.

فشتم عمّارُ ابنَ أبي سرح وقال له: متى كنت تنصح الإسلام؟!

فتكلّم بنو هاشم وبنو أُميّة وقام عمّار وقال: أيّها الناس إنّ اللّه أكرمكم بنبيّه وأعزّكم بدينه، فإلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم؟!

ص: 399


1- . نهج البلاغة: قسم الخطب ، الخطبة 3 .

فقال رجل من بني مخزوم: لقد عدوت طورك يابن سمية وما أنت وتأمير قريش لأنفسها.

فقال سعد: يا عبدالرحمن أفرغ من أمرك قبل أن يفتتن الناس، فحينئذ عرض عبدالرحمن على علي (عليه السلام) العمل بسيرة الشيخين .

فقال: «بل أجتهد برأيي» فبايع عثمان بعد أن عرض عليه فقال: نعم، فقال علي (عليه السلام) : «ليس هذا بأوّل يوم تظاهرتم فيه علينا، فصبر جميل واللّه المستعان على ما تصفون، واللّه ما ولّيته الأمر إلاّ ليردّه إليك واللّه كل يوم في شأن».(1)

وبهذا تبيّن أنّ الشورى كانت نظرية بدون تطبيق، وكانت اسماً بلا مسمّى.

إجابة عن سؤال:

إذا لم تكن الشورى مبدأ للحكم في الإسلام ، فماذا يعني الإمام علي من قوله في رسالته إلى معاوية حيث يقول: «إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يردّ، إنّما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك للّه رضاً».(2)

نقول: إنّ ابن أبي الحديد أوّل من احتجّ بهذه الخطبة، على أنّ نظام الحكومة بعد وفاة النبىّ هو نظام الشورى، وتبعه البعض غفلة عن حقيقة المراد، وذلك لأنّ ملاحظة اسلوب الكلام، وما صدَّر به الإمام رسالته، أعني قوله: «إنّه بايعني الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان» تدلّ بوضوح على أنّ الإمام كان في مقام الاحتجاج بمسلَّم الخصم - أعني: معاوية - على قاعدة: «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم»، فإنّه خرج عن طاعة الإمام مع اعتناقه إمامة من تقدّم، فالإمام يحتجّ عليه بأنّه بايعني الذين بايعوا الثلاثة فما وجه البغي علىّ والطاعة لهم؟! ولو لم يكن في مقام الجدل وإفحام الخصم، لما كان لذكر خلافة الخلفاء في

ص: 400


1- . شرح النهج: 1 / 193 - 194 .
2- . الإمامة والسياسة: 23; ونهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 45 .

صدر الرسالة وجه، مع أنّ للإمام كلمات في تخطئة الشورى الّتي تمّت بها، أو بادّعائها خلافة الخلفاء، ومن تصفّح «نهج البلاغة» يقف عليها .

والعجب أنّ أحداً من المهاجرين والأنصار لم يستند في مأساة السقيفة، إلى نظام الشورى، بل استند كل من اللفيفين بأُمور لا تمت إلى هذا الأصل، فادّعى أبوبكر أنّ المهاجرين من أقوام النبىّ وعشيرته، واحتجّ الأنصار بأنّهم هم الذين آووا الرسول، وضحّوا بأنفسهم ونفائسهم لحراسته وحفظه، فانظر ماذا ترى! قاتل اللّه الأنانية، وحيّا اللّه الحقيقة وحماتها.

نصوص الخلافة والركون إلى الأمر الواقع

دلّت نصوص الخلافة الماضية، بوضوح على أنّ الإمام علياً كان هو الخليفة الشرعي والقائم بالأمر بعد الرسول، وانّه كان من واجب المسلمين الرجوع إليه فيما يمت إلى حياتهم السياسية والاجتماعية والدينية، غير أنّ رجالا بعد النبىّ تناسوا النصّ بعد تلبية النبىّ نداء ربّه، وانثالوا على أبي بكر، وبعده على عمر وعثمان، إلى أن عاد الحق إلى نصابه، ودار الأمر على مداره. وهناك سؤال يطرحه كلّ من يؤمن بتواتر النصوص ووضوح دلالتها، لما يشاهد المعارضة بينها وبين الأمر الواقع في السقيفة وما بعدها، وانثيال كثير من المهاجرين والأنصار إلى غير علي، فيقع في حيرة وتعجّب!! فيقول: لو كانت النصوص النبويّة على هذا المستوى، فلماذا أعرض عنها المسلمون؟ ولماذا لم يطلب الإمام حقّه الشرعي؟ ولماذا رضي بالأمر الواقع، ولم ينبس فيه ببنت شفة؟ وهذا هو الّذي نجيب عنه في المقام، فنقول:

إنّ المهم هو بيان السرّ الّذي دفع الإمام إلى ترك المطالبة بحقّه بالقوة والعنف، وأمّا إعراض المهاجرين والأنصار، أو في الحقيقة - إعراض الرؤوس منهم عن النص، وانثيال غيرهم إليهم، فليس هذا أمراً عجيباً، فقد أعرضوا عن كثير من النصوص، واجتهدوا اتجاهها كما تقدّم البحث عن موارده - . وإليك تشريح ما هو المهم:

إنّ الامام لم يسكت طول حياته عن بيان حقّه وإرشاد الناس إليه، بل أظهر عدم رضاه بالأمر الواقع وأنّه تعبير آخر عن غصب حقّه، يقف عليه كلّ من قرأ مأساة السقيفة في كتب التاريخ، فلا يفوتنّك قراءة طبقات ابن سعد، وتاريخ الطبري، والسيرة النبوّية لابن هشام، ولا العقد الفريد، ولا الإمامة والسياسة لابن قتيبة، فكلّها مفعمة بشكوى الإمام وعدم قبوله

ص: 401

بالأمر الواقع، غير أنّ التكليف حسب القدرة، - وبعدها - في ظلّ المصالح العامّة، فلم يكن للإمام قدرة على المطالبة بحقّه، وعلى فرض وجودها كانت المصلحة تكمن يومذاك في إدلاء الأمر إلى متقمّصيها وعدم المطالبة بها بالقهر والقوّة، وإليك ما يدل على ذينك الأمرين من خلال دراسة التاريخ :

1 :هذا ابن قتيبة يسرد تاريخ السقيفة، وما فيه من مآسي، يقول: إنّ علياً كرّم اللّه وجهه أُتي به إلى أبي بكر وهو يقول: «أنا عبداللّه وأخو رسول اللّه» فقيل له: بايع، فقال: «أنا أحقّ بهذا الأمر منكم، وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبىّ، وتأخذوه منّا أهل البيت غصبا! ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمد فيكم فسلّموا إليكم الإمارة، فإذن أحتجُّ عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار. نحن أولى برسول اللّه حيّاً وميتاً، فأنصفوا إن كنتم تؤمنون، وإلاّ فبوؤا بالظلم وأنتم تعلمون». فقال له عمر: إنّك لست متروكاً حتّى تبايع، فقال له علي: «احلب حلباً لك شطره، وشُدَّ له اليوم، يردده عليك غداً - ثمّ قال: - واللّه يا عمر لا أقبل قولك ولا ُبايعه» فقال أبوبكر: فإن لم تبايع فلا أُكرهك، فقال أبو عبيدة بن الجرّاح لعلي كرم اللّه وجهه: ياابن عم إنّك حديث السن وهؤلاء مشيخة قومك، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأُمور، ولا أرى أبابكر إلاّ أقوى على هذا الأمر منك وأشدّ احتمالا واستطلاعا، فسلِّم لأبي بكر فإنّك إن تعش ويطل لك بقاء، فأنت لهذا الأمر خليق وحقيق في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك. فقال علي كرم اللّه وجهه: «اللّه اللّه يا معشر المهاجرين لا تُخرجوا سلطان محمّد في العرب من داره، وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم، وتدفعون أهله عن مقامه في الناس، وحقّه، فواللّه يا معشر المهاجرين لنحن أحقّ الناس به لأنّا أهل البيت، ونحن أحقّ بهذا الأمر منكم، ما كان فينا القارئ لكتاب اللّه، الفقيه في دين اللّه، العالم بسنن رسول اللّه، المتطّلع لأمر الرعيّة، الدافع عنهم الأُمور السيّئة، القاسم بينهم بالسويّة، واللّه إنّه لفينا فلا تتّبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل اللّه فتزدادوا من الحقّ بعدا».(1)

فأىّ بيان أروع من هذا البيان، وأىّ بلاغ أصرح منه، فقد فنَّد خلافة المتقمّص ببيان فقده مؤهّلاتها وهي الأُمور التالية:

ص: 402


1- . الإمامة والسياسة: 1 / 11 - 12 .

«1 - ما كان فينا القارئ لكتاب اللّه، 2- الفقيه في دين اللّه، 3- العالم بسنن رسول اللّه، 4- المتطلّع لأمر الرعيّة، 5- الدافع عنهم الأُمور السيّئة، 6- القاسم بينهم بالسويّة» ومعنى ذلك انّ المتقمّص ومؤيديه فاقدون لهذه الصلاحيات .

2 : لمّا انتهت إلى أميرالمؤمنين أنباء السقيفة قال (عليه السلام) : «ما قالت الأنصار؟» قالوا: قالت منّا أمير ومنكم أمير، فقال: «فهلاّ احتججتم عليهم بأنّ رسول اللّه وصّى بأن يُحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم؟» قالوا: وما في هذا من الحجّة عليهم؟! فقال(عليه السلام) : «لو كانت الإمامة فيهم، لم تكن الوصيّة بهم - ثم قال: - فماذا قالت قريش؟» قالوا: احتجّت بأنّها شجرة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال(عليه السلام) : «احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرّة».(1)

وروى الرضي في المقام شعراً للإمام:

فإن كنت بالشورى ملكت أُمورهم *** فكيف بهذا والمشيرون غيّب

وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم *** فغيرك أولى بالنبي وأقرب(2)

3 : الإمام لم يكتف بهذه الجمل في بادئ الأمر، بل استمرّ على بيان الحق بأساليب مختلفة منها إحتجاجه بحديث الغدير في يوم الشورى سنة 23، قال عمرو بن واثلة: كنت على الباب يوم الشورى وعلي (عليه السلام) في البيت، فسمعته يقول: «لأحتجنَّ عليكم بما لا يستطيع عربيّكم ولا أعجميّكم تغيير ذلك - ثمّ قال: - أُنشدكم اللّه، أفيكم من وحّد اللّه قبلي؟» قالوا: لا... - إلى أن قال: - «فأُنشدكم باللّه، هل فيكم أحد قال له رسول اللّه: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، ليبلّغ الشاهد الغائب غيري؟» قالوا: اللّهمّ لا.(3)

4 :كما ناشد يوم الرحبة سنة 35، روى الأصبغ قال: نشد علي الناس في الرحبة: «من سمع النبي يوم غدير خم ما قال، إلاّ قام، ولا يقوم إلاّ من سمع رسول اللّه» يقول: فقام

ص: 403


1- . نهج البلاغة: الخطبة 67
2- . نهج البلاغة: قسم الحكم، برقم 190.
3- . الصواعق المحرقة: 75 ; المناقب للخوارزمي: 135 برقم 152 .

بضعة عشر رجلا، فيهم: أبو أيّوب الأنصاري، وسهل بن حنيف، وخزيمة بن ثابت، وعبداللّه بن ثابت الأنصاري... فقالوا: نشهد أنّا سمعنا رسول اللّه يقول: «ألا من كنت مولاه فعلي مولاه اللّهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وابغض من أبغضه، وأعن من أعانه».(1)

ولم تكن المناشدة، منحصرة بهذين الموردين، بل ناشد الإمام في غير واحد من المواقف الأُخرى كما ناشدت زوجته الصدّيقة الطاهرة بحديث الغدير، وبعده الحسنان السبطان، وعبداللّه بن جعفر وعمّار بن ياسر، حتّى ناشد به عدوّه عمرو بن العاص عند احتجاجه على معاوية.(2)

وهذه شواهد باهرة على عدم سكوته ولا رضاه بالأمر الواقع، بل استمرّ على هذا إلى أُخريات حياته، ويتّضح هذا بالرجوع إلى خطبته المعروفة الشقشقية الّتي ألقاها في آخر خلافته .

وأمّا عدم القيام بأخذ الحقّ بالقوة، فلأجل أنّ القيام فرع القدرة، ولم يكن يومذاك أىّ منعة وقدرة للإمام، ويكفي في ذلك كلامه في خطبته الأخيرة: «فسدلت دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه».(3)

ولو افترضنا وجود القدرة، لكن مصالح الإسلام كانت تكمن في المسالمة وإدلاء الأمر إليهم، يشير إليه الإمام تارة بالكناية وأُخرى بالتصريح، أمّا الأوّل فيقول: «أيّها الناس شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرِّجوا عن طريق المنافرة، وضعوا تيجان المفاخرة، أفلح من نهض بجناح، أو استسلم فأراح. هذا ماء آجن، ولقمة يغصّ بها آكلها، ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه .

ص: 404


1- . اسد الغابة: 3 / 307 و 5 / 205.
2- . راجع للوقوف على هذه المناشدات كتاب الغدير: 1 / 159 - 213
3- . نهج البلاغة: الخطبة 3 .

فإن أقل، يقولوا: حرص على الملك، وإن أسكت، يقولوا: جزع من الموت، هيهات بعد اللّتيَّا والّتي واللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أُمّه، بل اندمجت على مكنون علم لو بُحْتُ به، لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوىِّ البعيدة».(1)

وقد خطب بها الإمام لمّا قبض رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وخاطبه العباس وأبو سفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافة. وذلك بعد أن تمّت البيعة لأبي بكر في السقيفة، فيشير الإمام إلى ما لديه من العلم المكنون، وهو إشارة إلى الوصيّة الّتي خصّ بها (عليه السلام) وأنّه كان من جملتها الأمر بترك النزاع في مبدأ الاختلاف عليه.(2)

وقد أوضح ما ذكره مجملا في هذه الخطبة الّتي ألقاها بعد وفاة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بخطبته الّتي ألقاها بعد رجوع الناس إليه وصرّح بأنّ لمسالمته الخلفاء لأجل أخطار كانت تحدق بالمسلمين بعد موت النبىّ، فقال(عليه السلام) : «إنّ اللّه سبحانه بعث محمّداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نذيراً للعالمين، ومهيمناً على المرسلين، فلمّا مضى (عليه السلام) ، تنازع المسلمون الأمر من بعده، فواللّه ما كان يلقى في روعي، ولا يخطر ببالي، أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن أهل بيته، ولا أنّهم مُنحّوه عنّي من بعده! فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به علىّ أعظم من فوت ولايتكم الّتي إنّما هي متاع أيّام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما يتقشّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه».(3)

ورواه أبو الحسن علي بن محمّد المدائني عن عبداللّه بن جنادة، قال: قدمت من الحجاز أُريد العراق في أوّل إمارة علي (عليه السلام) ، فمررت بمكّة فاعتمرت، ثم قدمت المدينة فدخلت مسجد رسول اللّه، إذ نودي: الصلاة جامعة; فاجتمع الناس وخرج علي (عليه السلام) متقلّداً سيفه، فشخصت الأبصار نحوه، فحمداللّه وصلّى على رسوله، ثم قال: أمّا بعد، فلمّا

ص: 405


1- . نهج البلاغة: الخطبة 5 .
2- . شرح نهج البلاغة: 1 / 215 .
3- . نهج البلاغة: قسم الكتب برقم 62 .

قبض اللّه نبيّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قلنا: نحن أهله وورثته، وعترته، وأولياؤه دون الناس، لا ينازعنا سلطانه أحد، ولا يطمع في حقّنا طامع، إذ انبرى لنا قومنا، فغصبونا سلطان نبينا، فصارت الإمرة لغيرنا - إلى أن قال: - وأيم اللّه، لولا مخافة الفرقة بين المسلمين، وأن يعود الكفر ويبور الدين، لكنّا على غير ما كنّا لهم عليه، فوليَ الأمر ولاة لم يألوا الناس خيراً».(1)

كان الإمام (عليه السلام) يرى أنّ الدعوة إلى نفسه تؤدّي إلى تعرّض الإسلام إلى الأخطار المهلكة .

روى الزبير بن بكار، قال: روى محمد بن إسحاق أنّ أبابكر لمّا بويع افتخرت تيم بن مرة، قال: وكان عامة المهاجرين وجلّ الأنصار لا يشكون انّ عليّاً هو صاحب الأمر بعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال بعض بني هاشم شعراً مدح فيه الإمام وعاب المتقمّصين وقال:

ما كنت أحسِب أنّ الأمر منصرف *** عن هاشم ثمّ منها عن أبي حسن

أليس أوّل من صلّى لقبلتكم *** وأعلم الناس بالقرآن والسنن؟

وأقرب الناس عهداً بالنبىّ ومَن *** جبريل عون له في الغسل والكفن

ما فيه ما فيهم لا يمترون به *** وليس في القوم ما فيه من الحسن

ماذا الّذي ردّهم عنه فنعلمه؟ *** ها إنّ ذا غبننا من أعظم الغبن!

قال الزبير: فبعث إليه علي فنهاه، أمراً لا يعود وقال: لسلامة الدين أحبُّ إلينا من غيره .

تسنّم الإمام مقاليد الحكم بعد ربع قرن

فهذه الكلم والخطب عن عليٍّ تعرب عن إخلاصه للدين وحبّه لحفظ الوئام والسلام بين المسلمين، وانّه لولا خوف محق الدين لما ترك الأمر إلى الغير، ولقام بالسلاح والكراع على أخذ حقّه .

«ولولا مراعاة علىّ للأوضاع والظروف الّتي أحاطت بالإسلام في تلك الفترة من تاريخه، لحدثت تطوّرات في تاريخ الإسلام لانستطيع أن نقدّر مدى أثرها السيّئ على جهود الرسول والوصي والمخلصين من الصحابة،

ص: 406


1- . شرح نهج البلاغة: 1 / 307، والكلمتان متقاربتان .

ولكنّه أدرك ذلك، وأحصى ما سيجرّه تصلّبه في موقفه من الغنائم على المرتدّين والمنافقين الذين أضمروا الدمار للإسلام».(1)

كان الإمام ينظر إلى أنّ طوائف من العرب على عتبة الارتداد عن الإسلام، وانّ بين المسلمين في المدينة طابوراً خامساً يتحيّن الفرص للقضاء على الإسلام وإحياء الجاهلية، فلم ير بدّاً من التسليم للأمر الواقع ومماشاة الخلفاء، ورفع مشاكل المسلمين في المسائل المستجدّة والمستعصية والإجابة على أسئلة الوافدين إلى المدينة، وتعليم القرآن للفيف من المهاجرين والأنصار وأبنائهم، والإدلاء بالرأي الحق عند المشاورة، إلى غير ذلك من الأُمور الّتي استغرقت قرابة خمس وعشرين سنة من حياته، إلى عام 35 الّذي قتل فيه عثمان بمرأى ومسمع من المهاجرين والأنصار. وقد أحدث في الإسلام أُموراً أدَّت إلى الفتك به، وكان الخليفة الثاني متنبّئاً به، فقال له: لئن وليتها (الخلافة) لتحملنّ بني أبي معيط على رقاب الناس، فحمل بني أبيه على رقابهم، يخضمون مال اللّه خضم الإبل نبتة الربيع، فأدّى ذلك وغيره إلى قتله في عقر داره .

تسنّم الإمام مقاليد الحكم بعد ربع قرن:

كان الإمام قرابة ربع قرن جليس بيته، يشتغل ببعض الأُمور لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين، إلى أن قُتِل عثمان و انثال الناس على الإمام من كل جانب هاتفين: لا يصلح للخلافة إلاّ علي. فقال لهم: «دعوني والتمسوا غيري» .

روى الطبري نقلا عن محمّد بن الحنفية: كنت مع أبي، حين قتل عثمان فدخل منزله، فأتاه أصحاب رسول اللّه، فقالوا: إنّ هذا الرجل قد قتل، ولابدّ للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحداً أحقّ بهذا الأمر منك، ولا أقدم سابقة، ولا أقرب من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: «لا تفعلوا فانّي أكون وزيراً خير من أن أكون أميرا» فقالوا: واللّه ما نحن فاعلين حتّى نبايعك، فقال: «ففي المسجد، فإنّ بيعتي لا تكون خفياً، ولا تكون إلاّ عن رضا المسلمين»، قال سالم

ص: 407


1- . الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة: 28 .

بن أبي الجعد: فقال عبداللّه بن عباس: فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يشغب عليه، وأبى هو إلاّ المسجد. فلمّا دخل، دخل المهاجرون والأنصار، فبايعوه، ثم بايعه الناس.(1)

وفي رواية أُخرى: غشى الناس عليّاً، فقالوا: نبايعك، فقدترى ما نزل بالإسلام وما ابتلينا به من ذوي القربى، فقال علي: «دعوني والتمسوا غيري، فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه، وله ألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول» فقالوا: ننشدك اللّه، ألا ترى ما نرى، ألا ترى الإسلام ، ألا ترى الفتنة، ألا تخاف اللّه، فقال: «قد أجبتكم لما أرى، واعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتموني، فانّما أنا كأحدكم، إلاّ أنّي أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم».(2)

هذا ما يذكره الطبري، وأمّا الامام فهو يصف كيفية هجوم الناس على بيته لمبايعته فيقول: «فتداكّوا علىَّ، تداكّ الإبل الهيم يوم وِرْدِها، وقد أرسلها راعيها، وخُلعت مثانيها، حتّى ظننت أنّهم قاتلي، أو بعضهم قاتل بعض لديَّ».(3)

وفي خطبة أُخرى: «فما راعني إلاّ والناس كعرف الضبع إِلىَّ، ينثالون علىّ من كل جانب حتّى لقد وطئ الحسنان، وشقّ عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم».(4)

ولم تشهد ساحة الخلافة احتشاداً جماهيرياً إلى يومنا هذا، مثلما شهدته في ذلك الزمان، فقد اتّفق المهاجرون والأنصار، والتابعون لهم بإحسان على المبايعة، ولم يتخلّف إلاّ قليل من الناس لا يتجاوز عدد الأنامل. وقد جاء الطبري بأسمائهم يقول: بايعت الأنصار علياً إلاّ نفراً يسيراً، منهم: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلد، وأبو سعيد الخدري، ومحمّد بن مسلمة، والنعمان بن بشير، وزيد بن ثابت، ورافع بن خُديج، وفضالة بن عبيد، وكعب بن عجرة وكانوا عثمانية. فقال رجل لعبداللّه بن حسن: كيف أبى هؤلاء بيعة علي وكانوا عثمانية، فقال: أمّا حسّان، فكان شاعراً لايبالي ما يصنع، وأمّا زيد بن ثابت

ص: 408


1- . تاريخ الطبري: 3 / 450.
2- . تاريخ الطبري: 3 / 456.
3- . نهج البلاغة: الخطبة 54، تداكوا: ازدحموا، والهيم: العطاش، يوم وردها: يوم شربها، والمثاني: الحبال.
4- . نهج البلاغة: الخطبة 3، عُرْف الضبع: ما كثر على عنقها من الشعر، يضرب به المثل في الكثرة، ينثالون: يتتابعون، شقّ عطفاي: خدش جانباه من الاصطكاك .

فولاّه عثمان الديوان وبيت المال، فلمّا حصر عثمان قال: يا معشر الأنصار، كونوا أنصار اللّه - مرتين - فقال أبو أيوب: ما تنصره إلاّ إنّه كثر لك من العضدان(1)، فأمّا كعب بن مالك فاستعمله على صدقة «مُزِينة» وترك ما أخذ منهم له.(2)

قام الإمام بواجبه، وهمَّ بالإصلاح، وحوله حُسّاد حاقدون، وأعداء يترقّبون الفرص، وعمّال للخليفة يسألونه البقاء على مناصبهم، فعند ذلك حاقت به الأزمات والشدائد، وهو يصف ذلك بقوله: «فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة، ومرقت أُخرى، وقسط آخرون، كأنّهم لم يسمعوا كلام اللّه سبحانه يقول: ( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجعَلُها لِلَّذِينَ لا يُريدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَ لا فَسَاداً وَ العَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ)(3) بلى! واللّه لقد سمعوها ووعوها، ولكنّهم حَلِيَتْ الدنيا في أعينهم، وراقهم زِبْرجها. أما و الّذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة(4) ظالم، ولا سغب(5)مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنيا كم هذه أزهد عندي من عفطة عَنْز».(6)

فقد أشار الإمام بكلامه هذا إلى حروبه الثلاثة مع طوائف ثلاث، فالناكثون هم أصحاب الجمل، الذين لم يجدوا عند الإمام إلاّ الحقّ، فطلبوا منه من المناصب ما كان فوق شأنهم وأمانتهم فاجتمعوا في مكّة تحت غطاء المطالبة بدم عثمان مع أنّهم هم المحرّضون على قتله، وموَّلهم جماعة من بني أُميّة، ولم يكتفوا بذلك، وإنّما غرّوا وحرّضوا أُمّ المؤمنين عائشة، وأركبوها على الجمل يقطعون بها الفيافي والقفار، حتّى نزلوا البصرة، فقتلوا من شيعة علي ومحبّيه ما استطاعوا. فلمّا لاقوا عليّاً بجيوشهم أبوا إلاّ الحرب، فدارت الدوائر على الناكثين، فقتل رؤوس الفتنة، وأُرسلت أُمّ المؤمنين إلى المدينة بتكريم واحترام.

ص: 409


1- . العضاد: كل ما يحيط بالعضد من حلي وغيرها .
2- . تاريخ الطبري: 3 / 452 .
3- . القصص : 83 .
4- . الكظّة: البِطْنَة (ما يعتري الآكل عند امتلائه بالطعام) والمراد: استئثار الظالم بالحقوق .
5- . السغب: شدة الجوع
6- . نهج البلاغة: الخطبة 3 .

ولكن لم يقف الأمر على هذا الحد، فقام ابن آكلة الأكباد، الطليق ابن الطليق الّذي خَذَلَ عثمان، ولم ينصره، ثم انتحل دمه وطلب ثأره، فجمع حوله الهمج والرعاع، وتحالف مع عمرو بن العاص الّذي عزله عثمان عن ولاية مصر، فألّب عليه كل راع رآه في البادية، وساومه معاوية على ولاية مصر، فقابلهم الإمام في أرض صفين، وقد كادت الحرب تنتهي لصالح الحق والمسلمين لولا أنّهم رفعوا المصاحف على الرماح، وانطلت الحيلة على عسكر الإمام، وقالوا له: أجب القوم، فحذّرهم الإمام بأنّه مكر وخداع، والقوم ليسوا أهل قرآن وسنّة، فطلب منهم المهلة فما أجابوه، بل هدّدوا بإراقة دمه وقتاله إن لم يُوقف الحرب، ولم يسترجع قائده من ساحة القتال، حتّى أنّ الأشتر قائد القوات طلب منهم المهلة ولو بقدر فواق ناقة أو عدوة فرس، فما وافقوه، فاضطرّ الإمام إلى إيقاف الحرب، وإدلاء الأمر إلى الحكمين بشرط أن لا يخرجوا عن حكم الكتاب والسنّة، وكانت نهاية الأمر، عزل مندوب الإمام (أبو موسى الأشعري) خليفة المسلمين، ونصب عمرو بن العاص معاوية للخلافة، كل ذلك بمكر وخداع واحتيال على أبي موسى، فقام الحكمان ومن حولهما يشتتمان ويتسابّان .

ثمّ أُولئك الذين فرضوا قبول التحكيم على علي، ندموا على ذلك، وطفقوا يطالبونه بنقض الميثاق قبل حكم الحكمين، فخرجوا عن طاعة علي، وعن جيشه، فنزلوا حروراء ولم يرجعوا إلى الطاعة حتّى بعد ما دعاهم الإمام لإعادة الحرب على معاوية، لما ظهر لهم كون قول حكم الحكمين على خلاف الكتاب والسنّة، بل أصبحوا يطالبون عليّاً أن يتوب من كفره، كما هم تابوا من كفرهم، لأجل تحكيمه الرجال في أمر الدين، ولم يكتفوا بذلك، فصاروا كقطّاع الطريق يقتلون البريء، ويسفكون الدماء، فأوجدوا دهشة ورعباً في قلوب المسلمين، فلم يجد الإمام بدّاً من قتالهم، وإن كان قتالهم أمراً عظيماً، لأنّهم كانوا أصحاب الجباه السود، يصومون النهار ويقومون الليل، وفي الوقت نفسه هم المارقون، المعاندون للّه ورسوله، وفي حقّهم يقول الإمام:

«إنّي فقأت عين الفتنة، ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري، بعد أن ماج غيهبها(1)، واشتدّ كلبها».(2) و(3)

ص: 410


1- . الغيهب: الظلمة، وموجها: شمولها وامتدادها.
2- . الكلب - محركة - داء معروف يصيب الكلاب، فكل من عظه أُصيب به فجنّ ومات إن لم يبادر بالدواء .
3- . نهج البلاغة: الخطبة 93.

هذه حياة الإمام على وجه الإجمال، حياة من ولد في الكعبة ولم يسجد لصنم ورافق النبىّ منذ صباه في موطنه ومهجره، ولم يتخلّف عنه في غزوة من غزواته إلاّ غزوة تبوك، حيث خلّفه في المدينة لإدارة شؤونها في غيابه .

ومع الأزمات الّتي خلّفها عثمان وعمّاله، وسوّدوا بها وجه التاريخ، وقطعوا عرى الوحدة بين الخلافة والناس «استطاع أن يجعل من نظامه السياسي المثل الكامل للنظام السياسي للدولة الّتي أسّسها ورفع كيانها رسول اللّه، وأن يجعل من أعماله وأقواله في السلم والحرب، التجسيد الكامل للشريعة الإسلامية وأن يجعل من سلوكه وأخلاقه الصورة الكاملة لأخلاق الرسول وسلوكه، وبذلك ربط كل مسيرة عهده بمسيرة العهد النبوي الشريف، وثبّت للإسلام دعائمه، وأعاد إلى النفوس المؤمنة أمنها ويقينها بالرسالة الإسلامية الخالدة».(1)

إغارة معاوية على البلاد الامنة

قام الإمام بالخلافة، وتقلّدها بعد مقتل عثمان، وقد ترك ولاة يمتصّون دماء الناس، ولم يكن الإمام ممّن يساوم ويداهن ويترك الحق جانباً، وأوّل ما قام به، هو أنّه أزال الظلم عن الناس بإزالة العمّال والولاة الظالمين، الذين اكتنزوا الذهب والفضّة، وملكوا العقارات والمواشي، فعند ذلك قامت قيامة هؤلاء فهم بين ناكث، وقاسط، وضمّ إليهم أعداء يترقّبون الفرص للوثوب، والانتقام، لأنّه قتل آباءهم واستأصل شأفتهم في الحروب والغزوات، كلّ ذلك صار سبباً لانشغال الإمام بالحروب الداخلية. ولو كان الامام آخذاً مقاليد الخلافة بعد الرسول، بل حتّى بعد خلافة الشيخين لما وجد الانحراف عن الدين وتعاليمه في الحياة مجالا، ولكنّه - ياللأسف - أخذ بها والمجتمع مثقّل بالأزمات والانحرافات(2) .

ص: 411


1- . الزيدية نظرية وتطبيق: 19 .
2- .[2] الملل والنحل /ج6 ص193.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.