حجية مراسيل الثقات المعتمدة مراسيل الصدوق والطوسي نموذجا

هویة الکتاب

حجية مراسيل الثقات المعتمدة مراسيل الصدوق والطوسي نموذجا

تقريرات بحوث سماحة السيد مرتضى الحسيني الشيرازي

المقرر: السيد حازم الميالي الشيخ زيد الكاظمي

الطبعة الثانية

1439 ه 2018 م

منشورات: موسسة التقی الثقافیة

النجف الأشرف

7810001902 00964

m-alshirazi.com

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ

ص: 2

حجية مراسيل الثقات المعتمدة

مراسيل الصدوق والطوسي نموذجاً

تقريرات بحوث سماحة السيد مرتضى الحسيني الشيرازي

المقرر: السيد حازم الميالي الشيخ زيد الكاظمي

ص: 3

بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ

اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ

صدق الله العلي العظيم

ص: 4

اَللّهُمَّ کُنْ لِوَلِیِّکَ الْحُجَّةِ بْنِ الْحَسَنِ صَلَواتُکَ عَلَیْهِ وَعَلى آبائِهِ فی هذِهِ السّاعَةِ وَفی کُلِّ ساعَةٍ وَلِیّاً وَحافِظاً وَقائِداً وَناصِراً وَدَلیلاً وَعَیْناً حَتّى تُسْکِنَهُ أَرْضَکَ طَوْعاً وَتُمَتِّعَهُ فیها طَویلاً.

ص: 5

ص: 6

المقدمة المقرر

بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد وآله الطاهرين واللعنة على أعدائهم إلى يوم الدين.

إن من أعظم نعم الخالق سبحانه وتعالى على المسلمين وجود هذه الحوزات العلمية الشريفة في الواقع الإسلامي، والتي أخذت على عاتقها ومنذ أكثر من ألف عام مهمة الحفاظ على التراث العلمي للإسلام في مجال الشريعة والعقيدة والأخلاق، بفضل جهود آلاف العلماء الباحثين والدارسين والمحققين.

ومن أبرز مهام الحوزة العلمية الشريفة؛ هو قيامها باستنباط الأحكام الشرعية من الكتاب العزيز والسنة المطهرة. ولما كان الكتاب الكريم قطعي الصدور، فقد كان البحث يدور في الغالب حول فهم مضامين الآيات ودراسة مداليلها. وقد كتب العلماء في هذا المجال العديد من المصنفات التي كان لها الأثر الكبير في المجالين العلمي والعملي.

وأما المصدر الثاني من مصادر التشريع فهو السنة المطهرة، والتي تعني قول المعصوم وفعله وتقريره. وقد حظيت السنة الشريفة بقسط وافر من الدراسة والبحث لتكون الأحكام المستنبطة أقرب للإصابة ولكي تحقق براءة الذمة.

ص: 7

ويمكن القول إن طريق الاستنباط من السنة الشريفة هو الأعقد والأكثر تشعبا ووعورة، وذلك لأسباب عديدة منها:

الأول: كثرة النصوص الدينية الواصلة إلينا عن المعصومين (علیهم السلام) بما يفوق حجم الكتاب العزيز أضعافا مضاعفة لكونها شارحة له ومفسّرة ومفرعة.

الثاني: هذا الاختلاف الموجود في لسان بعض الروايات، وهل أن مردّ ذلك إلى مجرد اختلاف ظاهري يرتفع بالتدبّر عبر معرفة احكام الخاص والعام والمطلق والمقيّد، وعبرمعرفة وجوه الجمع العرفية كما صنع الشيخ الطوسي في التهذيب او الاستبصار، أو مردّه الى الاختلاف في نقل الرواة، الذي قد يعكس غفلته او نقله بالمضمون، أو هو اختلاف مقصود من قبل الإمام المتحدث في بعض المسائل لظرف كان يعيشه كالتقية والمدارة مثلا، أم هو نتيجة ظروف موضوعية عاشتها الأمة في زمن الإمام (علیه السلام) اقتضت صدور ذلك الحكم الخاص منه.

الثالث: ومن أبرز الاختلافات التي تميز بها الاستنباط السنتي عن الاستنباط القرآني؛ هو البحث المتعلق بالواسطة التي نقلت إلينا أحاديث المعصومين (علیهم السلام)، وهل يجب أن يكون الناقل عادلا أم يكفي أن يكون ثقة فقط او ممدوحا فحسب، وما هو الدليل على كل رأي وهل يكفي ارسال الثقة ام لابد من اسناده؟

ولا نبالغ إذا قلنا أن هذا البحث الأخير كان قد شغل الفقهاء طويلا وما يزال مثارا للأخذ والرد .. مما ولّد علما هامّا هو علم الدراية والرجال، تناول فيه العلماء الخبراء أحوال الرواة وسيرة كل واحد منهم وعلاقة الراوي بالمعصوم أو بأصحابه وهل كان من الثقات أو لا.

ص: 8

ومن المشاكل التي واجهت الفقهاء في طريق الأخذ عن الرواة الثقات، هو أن بعض هؤلاء الثقات كانوا قد دأبوا على نقل الأخبار عن المعصومين دون أن يذكروا سلسلة السند للاختصار او لوثوقهم بسلسلة السند، مما قد يجعلنا في شك من حجية هذه الروايات علينا اذ لم نتعرف بأنفسنا على سلامة الطريق - غير المعنعن - إلى المعصومين (علیهم السلام).

والذي يبرز أهمية دراسة حجية هذه الروايات من عدمها، هو أن عدد هذه الأحاديث الواردة عن المعصومين (علیهم السلام) والتي سمّيت فيما بعد (بالمراسيل) كبير جدا، حتى ليصل في كتاب من لا يحضره الفقيه وحده إلى حوالي (2500) حديثا.

وكان من بين العلماء الذين أدركوا تأثير هذا الكم الهائل من الأحاديث على الواقع الفقهي والعقدي والأخلاقي فيما لو ثبت اعتبارها، هو سماحة السيد الأستاذ آية الله مرتضى الشيرازي، الأمر الذي جعله يطيل الوقوف والتحقيق في إمكانية قبول مراسيل الثقات أو رفضها، وذلك في بحثه الخارج الشريف على القواعد الفقهية في النجف الاشرف، والذي استمر من (12محرم ولغاية 14صفر من عام 1433ه).

ومن النتائج التي توصل إليها بعد البحث والتحقيق القول بحجية مراسيل الثقات مع توفرها على شرطين وقيدين، معتمدا في ذلك على النظرة الفقهية الأصولية العرفية، ومبتعدا عن الدقة العقلية والمنطقيات الصرفة، في موضوع خاطبت فيه الشريعة أتباعها بما هم أناس عرفيون لا بما هم فلاسفة منطقيون، فقد قال الله تبارك وتعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ» (1).وكان لكاتب هذه السطور شرف تقرير هذا البحث الحيوي والمهم، والذي

ص: 9


1- سورة ابراهيم: 4.

رأيت فيه ثمرة علمية كبيرة سواء كانت نتيجته القول بحجية المراسيل أو بعدمها او التفصيل كما ذهب اليه السيد الاستاذ.

وكنت على تواصل مع سماحة السيد الأستاذ أثناء التقرير وبعده، فلم تخلو هذه الصفحات من لمساته وإضافاته وإفاضاته حتى آخر لحظة.

وفي الختام، أسأل الله تعالى دوام التوفيق لسماحة السيد الأستاذ، وأن تعمر حوزاتنا العلمية بأمثاله من العلماء والمحققين.

اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله وتذلّ بها النفاق وأهله وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة.

السيد حازم الميالي

النجف الاشرف

20 رجب الأصب 1435ه

ص: 10

الفصل الأول: حجية مراسيل الثقات المعتمَدة لديهم

اشارة

ص: 11

ص: 12

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

إنّ الغاية من وراء هذا البحث هي إثبات حجّية آلالاف(1)

من الأحاديث المرسلة عن الثقات(2)، وذلك من أجل الوصول إلى براءة الذمة في نسبة او حتى نفي نسبة هذا المقدار الكبير من الروايات المنسوبة للمعصومين (علیهم السلام) كي لا تكون النسبة تقوّلاً عليهم بغير علم، أو النفيُ نفياً لحجة عقلاً أو نقلاً.كل ذلك زائداً الآثار والأحكام الشرعية الفقهية، بل والنتائج الكلامية(3)

وايضاً الاصولية والتفسيرية التي تترتب عليها سلباً وايجاباً، إضافة الى الكثير من

ص: 13


1- إن المرسلات الواردة في كتاب (من لا يحضره الفقيه) للشيخ الصدوق تبلغ حوالي 2050 رواية، بينما يبلغ عدد أحاديث الكتاب المسندة 3900 حديثا وقيل 3913، ومجموع روايات "الفقيه" هي 5963، وقال الشيخ البهائي ان اكثر من ثلث روايات الفقيه مرسلة، قال في شرح الفقيه - عند قول الصدوق: وقال الصادق جعفر بن محمد: كل ماء طاهر حتى تعلم انه قذر -: « هذا الحديث من مراسيل المؤلف وهي كثيرة في هذا الكتاب، تزيد على ثلث الأحاديث الموردة فيه، وينبغي أن لا يقصر الاعتماد عليها عن الاعتماد على مسانيده...» كما ان المراد من "المرسل" ما لم يذكر فيه اسم الراوي بان قال: "قال الصادق (علیه السلام)" او "روى".
2- بالشروط الآتية.
3- بناء على القول بثبوت بعض المسائل الكلامية او لواحقها - كبعض تفاصيل عالم الذراو البرزخ او القيامة - بخبر الثقة.

المسائل الاخلاقية او التاريخية او الطبيّة او الأدبية وغيرها.

نعني بالأحاديث المرسلة الأحاديث المروية عن المعصومين (علیهم السلام) من دون ذكر سلسلة السند بأكملها(1)،

أي سواء أَسَقَطَ واحدٌ من سلسلة السند أو أكثر أم سقط كل السند، عن عمد أو سهو أو نسيان(2)،

كما تلحق بها "المهملة" أي ما توسط في سلسلة سندها راوٍ لم يذكروه بمدح ولا ذم، بينما الأحاديث المسندة هي الأحاديث التي تذكر فيها سلسلة الرواة وصولاً للمعصوم نفسه.

ولا كلام في أن الأحاديث من النوع الثاني مقبولة ومعتمدة لدى مشهور علماء الأصول(3)

إن كان رواتها ثقات ضابطين(4)، بينما دار النقاش بين العلماء في أن الروايات المرسلة عن الثقات هل هي حجة أو لا؟

عدد من الذين قالوا بحجية مراسيل الثقات

وليس من الغريب أن نطرح على طاولة البحث إمكانية القول بحجية مراسيل الثقات بقول مطلق او ببعض القيود، فإن هناك جملة من علمائنا الأعلام من أصوليين ومحدثين , ذهبوا إلى اعتبار مراسيل الثقات بقول مطلق أو بقيد أو أكثر(5).

ص: 14


1- فيما لم يروِ عن المعصوم (علیه السلام) مباشرة.
2- يراجع الوجيز للشيخ البهائي، ونهاية الدراية للسيد الكاظمي ص189 مطبعة الاعتماد، وهناك اقوال اخرى في تعريف الاسناد والارسال.
3- خلافاً لمثل السيد المرتضى، اذ لم يَرَ حجية خبر الواحد.
4- هذا في مرحلة المقتضي، واما في مرحلة المانع فلا بد من عدم معارضته بالأقوى وعدم مخالفته للأصول والقواعد و... على تفصيل.
5- تنبيه: إن المهم في موطن البحث امران: الأول: حجية مراسيل الثقات الذين عرفوا بأنهم لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة. ›› ‹‹ الثاني: حجية مراسيل الثقات التي اعتمدوا عليها ولو للقرائن المضمونية، وهذا أكثر إعضالاً من الأول وقد استدللنا عليه في مطاوي الكتاب بأدلة عديدة فلاحظ، ولاحظ الكلمات التي نقلناها عن الشيخ الطوسي وغيره بلحاظ هذين الأمرين وان مقصود من فصّل أو أطلق ايهما؟ وليتدبر في الكلمات بلحاظ هذين الأمرين فان الفصل بينهما فيما يفهم من كلمات بعضهم دقيق وإن كانت كلمات بعضهم ظاهرة الدلالة على أحدهما.

من القائلين بالحجّية مطلقاً

فمن الذين ذهبوا الى حجية مراسيل الثقات بقول مطلق من قدماء الاصحاب "احمد بن محمد بن خالد البرقي" و "ابوه محمد بن خالد" على ما نقل عنهما(1)

بمعنى انهم ذهبوا الى الحجية مطلقا إذا كان المرسل ثقة سواء كان المرسل جليلا من الفقهاء ام لا، صحابياً او لا، وسواء أ سَقَط راوٍ واحد او أكثر.

ومنهم الشيخ الطوسي(2)

على ما هو ظاهر عبارته في عدة الأصول، بل انه ادعى إجماع الفرقة المحقة على ذلك، قال: «فأما ما اخترته من المذهب فهو: أن خبر الواحد إذا كان وارداً من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة، وكان ذلك مروياً عن النبي » أو عن واحد من الأئمة (علیهم السلام)، وكان ممن لا يطعن في روايته، ويكون سديدا في نقله، و لم تكن هناك قرينة تدل على صحة ما تضمنه الخبر، لأنه إن كانت هناك قرينة تدل على صحة ذلك، كان الاعتبار بالقرينة، وكان

ص: 15


1- الرواشح السماوية (للميرداماد م1041): ص254، مبحث حجية المراسيل، اذ نقل ذلك عن احمد بن محمد بن خالد، وقال المحقق القمي في القوانين ج1 ص478: (نسبه ابن الغضائري الى احمد بن محمد بن خالد البرقي). وايضاً: أصول علم الرجال (للشيخ الداوري): ج1 ص409، اذ نقل ذلك عنهما معا.
2- هذا إذا فسرنا الاطلاق والتفصيل بما سبق «سواء كان المرسل جليلاً...» والّا فهو مفصّل، وعلى اية حال فالإطلاق والتفصيل اضافيان، فلاحظ ذلك في جملة مما نقلناه من الكلمات فقد يلحق المطلِق بالمفصِّل او بالعكس على حسب المقصود من الاطلاق. فلاحظ وتدبر.

ذلك موجبا للعلم - و نحن نذكر القرائن فيما بعد - جاز العمل به. و الّذي يدل على ذلك: إجماع الفرقة المحقة، فإني وجدتها مجمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم و دونوها فيأصولهم، لا يتناكرون ذلك و لا يتدافعونه (1)، حتى أن واحدا منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوه من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم على كتاب معروف، أو أصل مشهور، و كان راويه ثقة لا ينكر حديثه، سكتوا و سلموا الأمر في ذلك و قبلوا قوله، و هذه عادتهم و سجيتهم من عهد النبي » و من بعده من الأئمة (علیهم السلام)، و من زمن الصادق جعفر بن محمد (علیه السلام) الّذي انتشر العلم عنه و كثرت الرواية من جهته، فلو لا أن العمل بهذه الأخبار كان جائزا لما أجمعوا على ذلك و لأنكروه، لأن إجماعهم فيه معصوم لا يجوز عليه الغلط و السهو»(2).

أقول: الذي يُطعن في رواياته وليس سديداً في نقله، ليس بثقة فيصح القول بانه - اي الطوسي - ذهب الى حجية مراسيل الثقات مطلقا، على ان «السديد في النقل» هو الضابط، ولا يخفى اشتراطه في المسنِد ايضاً فلا فرق بينهما من هذه الجهة.

ولا ينافي هذا ما سننقله عنه مما ظاهره التفصيل فان ذلك في باب الترجيح، قال: «وإذا كان أحد الراويين مسنداً والآخر مرسلاً، نظر في حال المرسِل فإن كان ممن يعلم أنه لا يرسل إلا عن ثقة موثوق به، فلا ترجيح لخبر غيره على خبره»(3)

فتأمل.

ومنهم: الحر العاملي في خاتمة الوسائل كما هو ظاهر بعض كلماته ومنها ما

ص: 16


1- في الأصل: يتدافعون.
2- عدة الأصول: ج1 ص126.
3- العدة: ج1 ص146، فصاعداً - لاحظ تمام كلامه.

ذكره في الفائدة الثامنة، قال: «منها - اي القرائن - : كون الراوي ثقة، يؤمن منه الكذب، عادة. و ذلك قرينة واضحة على صحة الحديث، بمعنى ثبوته.و كثيرا ما يحصل العلم بذلك، حتى لا يبقى شك أصلا، و إن كان ثقة فاسد المذهب، كما صرح به الشيخ و غيره. خصوصا إذا انضم إلى ذلك جلالته في العلم و الفضل و الصلاح، و قد صرح بذلك صاحب المدارك، كما يأتي نقله. و هذا أمر وجداني يساعده الأحاديث المتواترة في الأمر بالعمل بخبر الثقة، و النهي عن العمل بالظن. و معلوم أن النسبة بين الثقة و العدل العموم و الخصوص من وجهٍ، كما ذكره الشهيد الثاني في بعض مؤلّفاته، في بحث استبراء الجارية. و الأحاديث المشار إليها عامة مطلقة فيما يرويه الثقة و يحكم بصحته، سواء رواه مرسلا أم مسندا، عن ثقة أو ضعيف، أو مجهول.

ومنها: كون الحديث موجودا في كتاب من كتب الأصول المجمع عليها، أو في كتاب أحد الثقات؛ لما أشرنا إليه من النصوص المتواترة، و قد عرفت بعضها في القضاء و لا يخفى: أن إثبات الحديث في الكتاب يقتضي زيادة الاعتماد.و من المعلوم قطعا أن الكتب التي أمروا (علیهم السلام) بالعمل بها كان كثير من رواتها ضعفاء و مجاهيل، و كثير منها مراسيل. و قد علم بالتتبع و النقل الصريح: أنهم ما كانوا يثبتون حديثا في كتاب معتمد حتى يثبت عندهم صحة نقله، و قد نصوا على استثناء أحاديث خاصة من بعض الكتب، و هو قرينة على ما قلنا...».إلى أن قال:«ومنها: كون بعض رواته من أصحاب الإجماع، و قد صح عنه، مطلقا، بمعنى أنه ثبت نقله له أعم من أن يكون مرسلا أو مسندا، عن ثقة، أو ضعيف، أو مجهول: لما تقدم من ذلك الإجماع الشريف، الذي قد علم دخول المعصوم فيه»(1).

ص: 17


1- وسائل الشيعة: ج 30 ص 243 - 245.

وقال في موضع آخر: « ...وكثيرا ما يعتمدون على طرق ضعيفة، مع تمكنهم من طرق أخرى صحيحة، كما صرح به صاحب المنتقى، وغيره. وذلك ظاهر في صحة تلك الأحاديث، بوجوه أُخر من غير اعتبار الأسانيد...»(1) لكن ظاهر هذا وثاقة الرواية.

وقال في موضع آخر: «الخامس عشر: أنه لو لم يجز لنا قبول شهادتهم في صحة أحاديث كتبهم، وثبوتها، ونقلها من الأصول الصحيحة، والكتب المعتمدة، وقيام القرائن على ثبوتها، لما جاز لنا قبول شهادتهم في مدح الرواة، وتوثيقهم. فلا يبقى حديث، صحيح، و لا حسن، و لا موثق، بل يبقى جميع أحاديث كتب الشيعة ضعيفة. و اللازم باطل، فكذا الملزوم. و الملازمة ظاهرة، و كذا بطلان اللازم. بل الأخبار بالعدالة أعظم، و أشكل، و أولى بالاهتمام من الإخبار بنقل الحديث من الكتب المعتمدة، فإن ذلك أمر، محسوس، ظاهر، و العدالة عندهم أمر، خفي، عقلي، يتعسر الاطلاع عليه. و هذا إلزام لا مفرّ لهم عنه، عند الإنصاف»(2).

وقال في موضع آخر: «فإن قلت: هب أن القرائن ظهرت عند القدماء، فكيف يجب على المتأخرين تقليدهم فيها؟ ثم إنهم قد يختلفون في إثباتها و نفيها، في بعض المواضع!. قلت: أكثر القرائن كما مر قد بقيت إلى الآن. و قد تجدد قرائن آخر. و ما لم يبق: فروايتهم له، و شهادتهم به، قرينة كافية، لأنه خبر واحد، محفوف بالقرينة، لثقة راويه وجلالته. واعترافهم بالقرائن: من جملة القرائن عندنا. ونفي بعضهم لها في بعض المواضع لا يضر، لأنه نفي غير محصور.و عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، و غايته عدم الظهور للنافي،

ص: 18


1- وسائل الشيعة: ج30 ص256 - 257.
2- وسائل الشيعة: ج30 ص261.

لاشتغاله بتحقيق غيره من العلوم، أو لكثرة تتبعه لكتب العامة و أحاديثهم خالية من القرائن أو غفلته عنها في ذلك الوقت»(1).

ومنهم: مجموعة من الاصوليين الذين ذهبوا الى ترجيح مرسل العدل على مسانيده كما نقله عنهم البهائي فيما سيأتي بعد قليل من كلامه.ومنهم: الشهيد الاول(2)

في غاية المراد في شرح نكت الارشاد اذ يقول: «وإرسال الثقة ليس بعيدا من القبول، خصوصا مع اعتضاد روايته بالعمل»(3) فإنّ "خصوصا" تأكيد لا تقييد، وايضا حكي عنه أن مراسيل الثقات من الأصحاب مقبولة ومعتمدة(4).

ومنهم: صاحب القوانين فان ظاهر كلامه - الآتي ضمن المفصّلين - وإن كان اشتراط أن يُعلم أنّ المرسل لا يرسل الا مع عدالة الواسطة، لكنه لدى التدبر لا يشترط الا وثاقة الواسطة خاصة بدليل آخر كلامه فانه صريح في ذلك، قال: «بل لأنه يفيد نوع تثبت إجمالي... » وقال: «فلا ريب أنه لا ينحصر الحجّة في خبر العدل وغرضنا إثبات حجيّة مثل هذه المراسيل لا إثبات أنّ أمثالها صحيحة في الاصطلاح والواسطة عادل»(5)، فتأمل(6).

ص: 19


1- وسائل الشيعة: ج30 ص275.
2- وقد نقله عنه تنقيح المقال: ج3 خاتمة الكتاب ص 99.
3- غاية المراد في شرح نكت الإرشاد: ج2 ص147، يقول بعد ذلك: «والراوي هو البزنطي وقد نصّوا على توثيقه».
4- بحوث في علم الرجال: ص269.
5- القوانين: ج1 ص 479.
6- إذ هو مفصّل بلحاظ اشتراط ان يكون ممن لا يرسل إلا عن ثقة ولذا ألحقناه بالمفصلين ونقلنا كلامه هناك.

من القائلين بالحجّية ببعض القيود

وأما الذين ذهبوا الى حجية مراسيل الثقات ببعض القيود:

فمنهم العلامة الحلي في النهاية، كما نقله عنه المحقق الداماد في "الرواشح السماوية"(1)

وقال الداماد تأكيداً لهذا الرأي: «إذ لو كان مرسله معلوم التحرز عن الرواية عن مجروح، كان لا محالة في قوة المسند عن الثبت الثقة». فقد أطلق من جهة الاكتفاء بالعلم إجمالاً بانه مُتحرّز عن الرواية عن مجروح مما يعنى انه لا يلزم - عنده - التحقيق في حال الراوي، رغم انّ ملاكات الجرح والتعديل قد تختلف اولاً، ومع احتمال اعتماده الحدس في توثيقه ثانيا، ولكن قد يلحق كلامه بمثل قول الشيخ الطوسي الآنف، فتدبر.ومنهم الشهيد في الذكرى(2)، ومنهم الشيخ البهائي الذي نقل انّ مجموعة من الأصوليين كانوا قد رجحوا مراسيل الثقات على مسانيده.

قال البهائي في شرح الفقيه، عند قول الصدوق: «وقال الصادق جعفر بن محمد (علیه السلام): كل ماء طاهر حتى تعلم انه قذر»، «هذا الحديث من مراسيل المؤلف وهي كثيرة في هذا الكتاب، تزيد على ثلث احاديث الموردة فيه، وينبغي أن لا يقصر الاعتماد عليها عن الاعتماد على مسانيده من حيث تشريكه(3)

بين النوعين

ص: 20


1- الرواشح السماوية: ص174 وفي طبعة ص255.
2- ذكرى الشيعة في احكام الشريعة: ج1 ص49، ونص ما قاله: والواحد مقبول بشروطه المشهورة، وشرط اعتضاده بقطعي: كفحوى الكتاب، أو المتواتر، أو عمومهما،أو دليل العقل، أو كان مقبولا، حتى عدّه الشيخ أبو جعفر «الاستبصار ج1 ص4» من المعلوم المخبر أو كان مرسله معلوم التحرّز عن الرواية عن مجروح. و لهذا قبلت الأصحاب مراسيل ابن أبي عمير، و صفوان ابن يحيى، و أحمد بن أبي نصر البزنطي لأنّهم لا يرسلون إلّا عن ثقة، أو عمل الأكثر - انتهي.
3- من اجل هذا القيد اعتبرناه مفصّلا وبلحاظ فهو مطلق؛ اذ الاطلاق والتفصيل اضافيان.

في كونه مما يفتى به ويحكم بصحته ويعتقد أنّه حجة بينه و بين ربه، بل ذهب جماعة من الاصوليين الى ترجيح مرسل العدل على مسانيده، محتجين بان العدل اذا قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) كذا، فانه يشعر بإذعانه بمضمون الخبر بخلاف ما لو قال حدثني فلان عن فلان انه قال كذا. وقد جعل اصحابنا , مراسيل ابن ابي عمير كمسانيده في الاعتماد عليها، لما علموا من عادته انه لا يرسل الا عن ثقة...»(1).

ومنهم صاحب القوانين قال الاقوى هو القول الثالث، قال:

«قانون، إذا أسند العدل الحديث إلى المعصوم (علیه السلام) ولم يلقه أو ذكر الواسطة مبهمة مثل أن يقول عن رجل أو عن بعض أصحابنا ويقال له المرسل ففيه خلاف بين العامّة والخاصّة فقيل بالقبول مطلقا وقيل بعدمه مطلقا وقيل بالقبول إن كان الرّاوي ممّن عرف أنه لا يرسل إلاّ مع عدالة الواسطة كمراسيل ابن أبي عمير.

والأوّل منقول عن محمّد بن خالد البرقيّ من قدماء أصحابنا و نسبه ابن الغضائري إلى ابنه أحمد أيضا.والثّاني أحد قولي العلامة (قدس سرّه) في التهذيب.

والثّالث قوله الآخر و ذهب الشيخ إلى قبوله إن كان الرّاوي ممّن عرف أنه لا يروي إلاّ عن ثقة مطلقا و إلاّ فيشترط أن لا يكون له معارض من المسانيد الصحيحة و يظهر من المحقّق (قدس سرّه) التوقف.

والأقوى هو القول الثّالث لا لأنّ ذلك تعديل الواسطة حتى يقال إنه على فرض تسليمه شهادة على عدالة مجهول العين و لا يصحّ الاعتماد عليه لاحتمال

ص: 21


1- نقلاً عن خاتمة مستدرك الوسائل، الفائدة الخامسة.

ثبوت الجارح كما تقدم بل لأنه يفيد نوع تثبّت إجمالي إذ غايته أنّ العدل يعتمد على صدق الواسطة و يعتقد الوثوق بخبره و إن لم يكن من جهة العدالة عنده أيضا و لا ريب أنّ ذلك يفيد ظنا بصدق خبره و هو لا يقصر عن الظن الحاصل بصدق خبر الفاسق بعد التثبّت و لذلك نعتمد على مسانيد ابن أبي عمير مثلا و إن كان المروي عنه المذكور ممن لا يوثّقه علماء الرجال فإن رواية ابن أبي عمير عنه يفيد الظن بكون المروي عنه ثقة معتمدا عليه في الحديث لما ذكر الشيخ في العدة أنه لا يروي و لا يرسل إلاّ عن ثقة ولما ذكره الكشي أنه ممّن اجتمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه ولما ذكروا أنّ أصحابنا يسكنون إلى مراسيله و غير ذلك و كذلك نظراؤه مثل البزنطي و صفوان بن يحيى و الحمّادين و غيرهم.

والحاصل أنّ ذلك يوجب الوثوق ما لم يعارضه أقوى منه.

وبالجملة حجيّة الخبر لا تنحصر في الصّحيح و خبر العدل بل المراد من اشتراط العدالة في قبول الخبر هو أنه شرط في قبوله بنفسه و أمّا من جهة ملاحظة التثبّت و الاعتضادات الخارجية فلا ريب أنّه لا ينحصر الحجّة في خبر العدل و غرضنا إثبات حجيّة مثل هذه المراسيل لا إثبات أنّ أمثالها صحيحة في الاصطلاح و الواسطة عادل»(1).

ومنهم صاحب الجواهر قال في مبحث سجود السهو: «ولا ريب في أنه أحوط إن لم يكن أقوى لمرسل ابن أبي عمير عن سفيان بن السمط عن الصادق (علیه السلام): «تسجد سجدتي السهو في كل زيادة تدخل عليك أو نقصان» وهو و إن كان مرسلا إلا أن المرسل ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه، فهو صحيح بناء على إرادة عدم قدح جهالة من بعده من هذه العبارة، وأيضا

ص: 22


1- القوانين: ج1 ص 478 - 47.

مراسيل ابن أبي عمير بحكم المسانيد، لأنه ممن لا يروي إلا عن الثقة، فسفيان ابن السمط حينئذ ثقة عنده و عند غيره من العصابة و إن كان مجهولا عندنا الآن، فتأمل»(1).

وقال في موضع اخر من الجواهر: «وعن الشيخ في العدة انه قال في حقه لا يروي إلا عن ثقة»(2)

ونظيره في مجلد 8 صفحة 131، و نظيره قوله عن البزنطي في مجلد 23 صفحة 185، وفي مجلد 28 صفحة 311، مما هو ظاهر في ان صاحبالجواهر يرى التزام الراوي بان لا يروي الا عن ثقة توثيقا للمروي عنه. فهو بهذا الاعتبار مطلِق(3)

فتدبر.

وقال الشيخ البهائي في شرح الفقيه على ما حكاه عنه الميرزا النوري في مستدرك الوسائل: «قد جعل اصحابنا مراسيل ابن ابي عمير كمسانيده في الاعتماد عليها، لما علموا ان من عادته انه لا يرسل الا عن ثقة» (4) والشاهد في عموم التعليل.

ومنهم الشهيد الثاني في الدراية قال: «والمرسل ليس بحجة مطلقا.... الا ان يعلم تحرزه عن الرواية عن غير الثقة»(5).

وقال النراقي في المستند في بحث الكر: «وشهادة جماعة انه - ابن ابي عمير - لا يرسل الا عن ثقة» ونسب ذلك ايضاً - اي حجية مرسل الثقة اذا عرف انه لا يروي الا عن ثقة - إلى الاردبيلي والى كاشف الرموز وصاحب الذخيرة وغيرهم، بل قيل:

ص: 23


1- جواهر الكلام: ج12 ص435.
2- جواهر الكلام: ج 1 ص96.
3- لنفس ما ذكرناه تعليقا على كلام الحلى في النهاية.
4- مستدرك الوسائل: ج3 ص718.
5- الدراية ص 48.

يظهر من الشهيد في الذكرى دعوى الاتفاق من الاصحاب على ذلك(1).

وقال المحقق الداماد في "الرواشح السماوية":« ... لا يختص الأمر بجماعة معدودة نقل الكشي إجماع العصابة على تصحيح ما يصح عنهم، بل كل من يثبت بشهادة النجاشي أو الشيخ أو الصدوق أو غيرهم من اضرابهم، انه في الثقة والجلالة بحيث لا يروي عن الضعفاء ولا يحمل الحديث إلا عن الثقات، فان مراسيله يجب أن تكون مقبولة »(2).

ومنهم الشيخ الانصاري(3)،

و منهم السيد الوالد(4) واخرون.

تفصيل آخر

وهناك تفصيل آخر ذهب إليه العديد من الأعلام وهو حجية المراسيل إذا إعتضدت بالشهرة.

ص: 24


1- اصول علم الرجال: ج1 ص410.
2- الرواشح السماوية: ص174 وفي طبعة ص255.
3- مما يشهد على الشيخ الانصاري بنى على حجية مراسيل الثقات تتبع استدلالاته في المكاسب فانه استدل في العديد من المسائل بالمراسيل، ومنها اعتباره رواية تحف العقول - لابن شبعة الحراني من اعلام القرن الرابع - الواردة في المعايش والمكاسب حجة و اعتماده عليها كضابط كما يظهر بتتبع موارد استناده لها، فراجع اول المكاسب المحرمة ثم مختلف موارد استناده لرواية تحف العقول لاحقاً، ومنها استناده اليها في المسألة السابعة: حفظ كتب الضلال، المكاسب: ج1 ص 86، ومنها استناده الى المراسيل في المسألة الثامنة عشرة « الكذب»، ومنها استناده اليها في مسألة التورية و تعبيره ب: « يدل» فلاحظ ص 150، بل لعل الشيخ ممن يقول بحجية مراسيل الثقات بقول مطلق، فتأمل. * راجع مصباح الفقاهة، المكاسب المحرمة ج35 ص7 =11 في قوله: الوجوه الدالة على عدم جواز التمسك بها - اي رواية تحف العقول ومنها انها مرسلة ثم مناقشته لتوهم انجبار ضعفها بعمل المشهور. وان ناقش بعض كلامه في مبحث "حجية تحف العقول" وحجية هذه الروايات بالذات.
4- حسب ما يجده المتتبع من سيرته العليمة في الفقه في الاجزاء المتأخرة واستدلالاته ومناقشاته، نعم ظاهر كلامه في الاصول عدم حجية الضعاف ومنها المراسيل الا لو اعتضدت بالشهرة ومنها الفتوائية، او ما اشبه فراجع: الاصول ج 2 ص 102. وكذلك ظاهر استدلالاته في الكثير من مجلدات الفقه الاولى، فتأمل.

قال الشهيد الاول في الذكرى في المسألة السادسة حكم من فقد الساتر: «واما المراسيل فاذا تأيدت بالشهرة صارت في قوة المسانيد»(1).

وقال السيد الوالد في الاصول(2)

نظير ذلك، كما ذهب الى ذلك ايضا السيد الروحاني فيما نقل عنه(3)

وغيرهما، فان القائلين باعتضاد الخبر الضعيف بشهرة الفتوى بمضمونها هم جماعة كثيرة كما افاده الشهيد الثاني في الدراية ص27.

بناء العقلاء على حجية مراسيل الثقات

من الممكن أن يُستدل للشهيد (قدس سرّه) في ما حكي عنه من ان مراسيل الثقات من الأصحاب مقبولة ومعتمدة" بأن الثقات من الأصحاب عندما يرسلون في كتبهم التي اعدت للأخذ بها، اما في مقام العمل بها او لأجل الاعتقاد بها والإذعان و الإيمان بمضمونها، ويكفي ظاهر حالهم في نسبة الخبرللمعصوم، كما يكفي كونهم في احد المقامين السابقين(4) فليس شأنهم شأن من يحكي قضايا تاريخية مجردة، وإنما أرسلوا هذه الروايات وهم في مقام إسنادها إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) والى المعصومين (علیه السلام) هذا أولاً، وثانياً فإنهم أرسلوها في مقام الفتوى والعمل أو الاعتقاد، مما يعني انهم أخذوا بمضامينها ووثّقوا الخبر والرواية بل والمخبر والراوي في الجملة، كما سيأتي.

وبناء العقلاء(5)

على عدم الإرسال إلا عن الثقات في مثل أحد هذين

ص: 25


1- ذكرى الشيعة: ج3 ص 22.
2- الاصول: ج2 ص102.
3- الفوائد الرجالية: ص88.
4- ولا مجال مع هذ القيد للإشكال بذلك اعم من المدعى.
5- فكيف بالعدول الاتقياء الورعين؟

المقامين، فكيف بكلا المقامين الخطيرين، كما انه على الاعتماد على ما يرسله الثقات في مثل أحد هذين المقامين فكيف بكلا هذين المقامين الخطيرين(1).

ومن أجل إلقاء مزيد من الضوء على المبنى العقلائي الذي نسب الى الشهيد نقول: إن العقلاء في كل ملّة ونِحلة يبنون على الاعتماد على مراسيل الثقات التى ظاهر حالهم الاعتماد عليها، إذا لم تبتل بالمعارض ولم تكن هناك قرينة على الخلاف(2).

فلو أن ثقة في علم الفلك أو الكيمياء أو الطب..إلخ، اخبرنا أن هناك كشفا علميا جديدا يخصّ مجاله، فإن سيرة العقلاء جارية على الاعتماد على خبره، بل لو لم نقبل منه إلا إذا ذكر لنا سلسلة السند، فسوف لن تتمكن معاهد وجامعات العالم من أن تواصل دراستها ونشاطها المألوفين، بل ان من العسر و الحرج - بل من اشد انواعه في الجملة - قصر الحجية في صورة متابعة سلسلة السند واحدا واحدا والتحقُّق من وثاقة وصدق الناقلين في كلِّ معلومة معلومة في آلاف المسائل التي يدرسها طلبة العلوم كلّ يوم في أرجاء العالم ؟ فتأمل(3)

بل قد يقال انه سوف تختل الحياة عندئذ.

والظاهر إن غاية ما يمكن أن نقف عليه للتحقق من صحة الخبر المرسَل هو أن يُسأل المرسِل عن المصدر الذي استقى منه، فإن أرجعنا إلى مجلة علمية معتمدة - مثلا - فعندها سنقبل ونكتفي، مع العلم أن بحوث المجلة العلمية هي أيضا مرسلة غالبا، وغاية الأمر ان نسأل عن كُتّابها ولكن دون السؤال عادة من أين أخذوا

ص: 26


1- وههنا تأمل سيأتي وجهه وجوابه بإذن الله.
2- والقيدان الاخيران غير خاصين بالمراسيل بل يعمان المسانيد وحتى الصحاح منها.
3- لجهات عديدة، منها: ان «لا حرج» غير مثبتة للحكم او للحجية، بل نافية فقط، وفيه: النقاش في المبنى كما ذهب اليها صاحب الجواهر والسيد الوالد واخرون، اضافة الى ان العسر والحرج هو "وجه" بناء العقلاء على حجية مرسيل الثقات وليس منشأً للحكم او مشرعاً للحجية، ومنها: انه أخص من المدعى، وفيه: كفاية ما سبقه وكون هذا كالحكمة له فتدبر. ومنها غير ذلك كما سيأتي.

معلوماتهم، بل يمكن أن نقول إن من يشكك ولا يقتنع، ويلحف فيالسؤال، فإنه يسمى عرفا وسواسيا ومشككا، اللهم الا في من يريد التوسع في البحث والاجتهاد فيه، وحاله كحال الخبر المسند عندئذ.

كما ان مما يؤكد ذلك: إن عامة الناس، بل حتى أفاضل الحوزة العلمية، من الورعين وأصحاب المقام العلمي، عندما يرجعون إلى وكيل خبير بفتاوى المرجع الديني، فإنهم لا يسألونه عن سلسلة سنده الى فتاوى مرجعه، مع أن الوكيل قد يكون أخذ قسما من الفتاوى من المرجع نفسه، بينما سمع القسم الآخر ممن يحيطون بالمرجع، من الوكلاء والمعتمدين والأساتذة، وعندما ينقل الوكيل الفتاوى إلى الناس فإنه لا يقول عن فلان عن فلان عن مرجع تقليدي، وعلى ذلك بناء العقلاء والمتشرعة وسيرتهم.

الإشكال باحتمال الإرسال عن الضعاف

ولكن وفي «بحوث في علم الرجال» استشكل على كلام الشهيد بإن هذا الكلام من مثل الشهيد عجيب، لان الثقة قد يسند عن الضعيف وقد يسند عن المجهول، فإذا كانت هذه حال مسانيده فما بالك بمراسيله! فليس كل ثقة ملتزماً بأن لا يروي إلا عن ثقة.

وفيه: قد يقال هناك فرق بين المقامين، فلا يقاس الإرسال بالإسناد. فإن الثقة عندما يذكر سلسلة السند وفيهم الضعاف والمجاهيل، فقد أحال الأمر على المروي إليه من القراء العلماء، أي أنه لم يأخذ بعهدته توثيق المخبرين أو الخبر، فكأنه يقول: هذه السلسلة أمامكم، ولكم أن تبحثوا عن تفاصيل رواتها، أما لو أرسل الرواية، فذلك يكشف عن انه اخذ بعهدته وثاقة المخبرين(1)، وإلا كان

ص: 27


1- وسيأتي الجواب عن احتمال اعتماده على حدسه واجتهاده في تصحيح الرواية بما هي رواية وخبر، والجواب عن احتمال اختلاف اجتهادنا في جرح الراوي وتعديله عن اجتهاده.

إغراءً بالجهل. إذن هناك فرق عرفي بين من أسند وذكر السلسلة فلا يتحمّل المسئولية، وبين من أرسل وحجب عنا الرواة فهو يتكفل توثيقهم فيما لو نقل الرواية معتمداً(1)

عليها.

الإشكال: بوجود احتمال الخلاف

فإن قلت: إن احتمال الخلاف في نظرنا - نحن المروي إلينا - سيظل موجودا، وذلك لان واحدا من الرواة أو أكثر من الموجودين في السند المحذوف قد يكونون ثقات في نظر المرسل، لكن قد لا نقول بوثاقتهم لو تناولنا احوالهم بالبحث والجرح والتعديل مباشرة، ومن المحتمل أيضا أن تكون هناك قرينة حفت بالرواية أفادت المرسل الاطمئنان بصحتها، بينما قد لا نعتمد على تلك القرينة(2) لو اطلعنا عليها.قلت: الجواب من وجوه تظهر في مطاوي البحوث الاتية(3)، ونقتصر هنا على أحدها وهو:

إن هذا الاحتمال في مراسيل الثقات هو في نظر العقلاء ملغى، وذلك يتضح بملاحظة ان بناء العقلاء على أصالة عدم الخطأ، فإن احتمال الخطأ أو الكذب في خبر الثقة وارد ومحتمل، ومع ذلك فإن خبره سيظل حجة لدى العقلاء والعرف، فيُرمّم حديثه عادة ويُلغى الخلاف بأصالة عدم الخطأ العقلائية، فكذلك المقام.

ص: 28


1- فان الحجية مقيدة ب «ما لو اعتمد عليها»، ولو دل على ذلك بقرائن الحال.
2- سيأتي الجواب عن خصوص هذا الاشكال في العنوان اللاحق «التفريق بين الحس والحدس» وفيما بعده من البحوث.
3- منها: الاطلاقات كما سيأتي بيان ذلك، ومنها: حجية رأي المجتهد بالنسبة للمجتهد الاخر، تخييرا او مطلقا لو لم يجتهد بالفعل او لم يعلم بالخلاف، كما سيأتي.

ولك أن تعبر عن ذلك بأصالة الصحة العقلائية، فإن العقلاء يبنون على الصحة رغم وجود الاحتمال في كون قول الثقة غير صحيح - لكذبه أو خطأه او اختلاف الاجتهادين - أحيانا، ويؤيد ذلك ما ورد عنهم (علیهم السلام): «احمل فعل أخيك على أحسنه» على كلامٍ وأخذ وردّ في المراد من الحديث، يترك لمحله.

وها هو المجتمع أمامنا يبيع ويشتري ويتعامل كل يوم بملايين المعاملات، اعتمادا على أصالة الصحة العقلائية، مع ان من المقطوع به أن يحوي السوق على الغش والغبن والتدليس والتمويه..إلخ، وايضا على اختلاف المباني في الحلال والحرام(1)،

ولكن العقلاء يلغون عادة احتمال الخلاف الحسي والحدسي.

بل أكثر من ذلك، فإنه قد يقال بإمكان التمسك بأصالة الصحة العقلائية حتى في حالة علمنا باختلاف مبنى المرسِل عن المبنى الذي نحن عليه لكن شرط أن لا نعلم حال «المصداق».

ومثاله: لو أن فقيها كان يفتي بجواز الغسل من الحدث الأكبر بالكر الذي يبلغ حجمه 27 م مكعب، وعلم فقيه آخر - يفتي بأن الكر لابد أن يكون 7/8 و42 م مكعب - بأن الفقيه الأول كان محدثا بالأكبر، فللثاني أن يصلي خلف الأول مع أنه من المحتمل أن يكون قد اغتسل من كر حجمه 27 م مكعب، وذلك اعتمادا على أصالة الصحة العقلائية(2)،

فتأمل.والحاصل: أن الثقة لو أرسل ناسبا كلاما للمعصوم، وكان معتمدا عليه وعاملا به من غير معارض(3)

فسوف يكون حجة في حقنا، ولسنا معذورين إن

ص: 29


1- كمن يرى الربا بضميمة طفيفة - كعلبة سجائر - محللا في مقابل من يراه محرما، وكمن يرى بطلان بيع الصبي ومن يرى صحته.
2- وهذه المسألة محل بحث ونقاش وأخذ ورد فتوكل لمظانها.
3- والقيدان الاخيران غير خاصين بالمراسيل بل يعمّان المسانيد وحتى الصحاح منها.

خالفنا، الا لو احرزنا الخلاف.

شبهة التفريق بين الإخبار الحسي والحدسي

هناك شبهة قد تكون قوية نوعا ما، يثيرها البعض في مجال حجية المراسيل مفادها:

لو أن الشيخ الطوسي - مثلا - أرسل ولم يذكر السند، ولكن اكتشفنا بوجه ما توثيقه الإجمالي للسند، فإنه يمكن القول بحجية مثل هذا الخبر، اعتمادا على بناء العقلاء على الأخذ بقول الثقة في توثيقه الاجمالي، كتوثيقه التفصيلي.

لكن المشكلة تكمن فيما لو احتملنا أن الشيخ الطوسي كان معتمدا في توثيقه لمرسلته على توثيق الخبر دون المخبر، أي أنه أعمل حدسه لا حسه، بمعنى أنه اعتمد على قرائن حفت بالرواية فَوَصَل من خلالها إلى الاطمئنان بالخبر، ولم يكن عنده اطمئنان بالمخبرين، فقد لا تولد لنا نفس تلك القرائن «فيما لو اطلعنا عليها» اطمئنانا.

وبالتالي فنحن لا ندري بالضبط: هل كان توثيق الشيخ الطوسي منطلقا من توثيق الراوي فنأخذ به لأنه حجة، أو أنه كان مستندا إلى توثيق الرواية، فلا يمكن الأخذ به، لأنه مجرد اجتهاد وإخبار عن حدس.

ويظهر الجواب عبر التطرق لتنقيح حال الكبرى(1):

من الأدلة على حجية الإخبار الحدسي

اشارة

اضافة إلى دعوى ان مبنى العقلاء على الأخذ بالاخبارات الحدسية حتى في الموارد المهمة في شؤون الدين والدنيا كما يشهد بها التتبع و الوجدان، والى دعوى إن سيرة المتشرعة قائمة على العمل بقول الثقة لو أرسل خبرا ولو كان

ص: 30


1- وسيأتي تنقيح الصغرى لاحقا، أي توثيق الشيخ الطوسي للتهذيبين والشيخ الصدوق ل من لا يحضره الفقيه.

حدسياً، ولكن إذا كان معتمدا عليه، لقرائن أفادته الاطمئنان أو القطع به(1)، اضافة الى ذلك فانه يمكن أن نقدم ثلاثة أدلة لإثبات حجية الإخبار الحدسي، وبالتالي فلو قطعنا أن الصدوق - مثلا - كان معتمدا في إرساله على قرائن أفادته الاطمئنان، فإنه يمكن الأخذ منه وسيكون قوله حجة علينا، اعتمادا على واحد أو أكثر من الأدلة الثلاثة التالية(2):

الدليل الأول: عمومية أدلة خبر الثقة

إن أدلة حجية خبر الواحد الثقة لا يقصر بعضها عن الشمول للأخبار الحدسية من الثقات العاديين، فكيف بمن كانوا من أجلاء الطائفة، وتخصيص دليل حجية خبر الواحد بالإخبار الحسي لا وجه تامّ له، فإن مثل قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ»(3) يشمل الخبر الحدسي بالإضافة إلى الحسي، وذلك لأنّ حذف المتعلق يفيد العموم(4)،

ولعموم "النبأ" اذ الظاهر صدقه على الأنباء الحدسية في الجملة(5)

خلافا لما ذهب اليه الشيخ الأنصاري من اختصاص النبأ بالخبر الحسي.

ص: 31


1- فصلنا هاتين الدعويين في موضع اخر، فلاحظ.
2- لا يخفى ان بعض الادلة على سبيل البدل كالدليل الاول والثالث، فلاحظ.
3- سورة الحجرات: 6.
4- اذ لم تخصص الاية ب « ان جاءكم فاسق بنبأ حسى»، ولا يخفى انه اذا قلنا بعدم صحة اطلاق النبأ على الحدسي او مجازيته، فلا وجه للاستناد الى قاعدة « حذف المتعلق يفيد العموم»، ومعه - أي مع القول بصحة الاطلاق - فلا حاجة اليها، فتدبر.
5- إذ يصدق على الحدسي القريب من الحس كما سيأتي. بل قد يقال بصدقة على مطلق الخبر الحدسي وقد يستدل عليه بقوله تعالى: «نبّأنا بتأويله» اذ الأنباء عن تأويل الرؤيا و تعبيرها حدسي لا حسي، وبقوله تعالى: «يستنبؤنك»، فتأمل.

ثم على فرض التنزّل، نقول انه يصح الاعتماد على عموم التعليل في الآية فإن إن من اعتمد على رأي خبير أو مجتهد جامع للشرائط وان لم يعلم مستند حكمه أو نقله، فإنه لا يعدّ إصابة بجهالة.

ومن الآيات الأخرى التي يمكن القول بأنها شاملة للخبر حتى وإن كان حدسيا، قوله تعالى: «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(1)، فإن المنذِر والمخبِر لو اطمأن بالحكم أو النبأ عن حدس واجتهاد فإن المنذَرين والسامعين منه سوف يرتبون الأثر، بل عليهم ذلك.وعلى هذا سيرة العقلاء والمتشرعة، وهذا هو ديدن المجتهدين الذين يخبرون عن حدس بعد أن يجمعوا بين المتعارضات وغيرها، فيخرجون بنتيجة يأخذها منهم المقلدون بعد ذلك، ومن الواضح انه يصدق بالحمل الشائع الصناعي على من عمل بمقتضى الرسالة العملية - وكثير منها فتاوى اجتهادية حدسية - انه عمل بما اُنذِر وحُذّر، كما يصدق على المجتهد انه انذر وحذّر.

والخلاصة: لا فرق في المنذِر سواء أخبر عن حسّ أو عن حدس، فإنذاره حجة.

نعم، قد يُعارض الإنذار الحدسي باجتهاد فقيه آخر وعندها سوف لن يؤخذ به، وهذا مطلب آخر، فحتى الخبر الحسي الحجة قد يعارض بخبر حسي آخر، وسوف يتساقطان إن كانت المعارضة مستقرة او يقال بالتخيير لولا المرجح - على المباني -.

ص: 32


1- سورة التوبة: 122.

الدليل الثاني: حجية الحدس القريب من الحس

اشارة

لو سلمنا أن مثل آية النبأ لا تشمل الإخبار الحدسي بدعوى عدم صدق «النبأ» على الأخبار الحدسي وعدم قبول عموم التعليل، وأنها خاصة بالإخبار الحسي، فإننا يمكن أن نلتزم بان الإخبار الحدسي عن حس قريب مشمول لأمثال آية النبأ.

توضيحه: أن الإخبارات بصورة عامة هي على ثلاث أصناف:

الأول: الإخبارات الحسية المحضة.

الثاني: الإخبارات الحدسية المحضة.

الثالث: الإخبارات الحدسية القريبة من الحس، وهذه ملحقة بالحسيّات في بناء العقلاء.

ومن اللطيف أن بعض الاخباريين التزم بحجية الخبر الحدسي القريب من الحس مع شدة ما عرف عن الاخباريين من رفض للحدسيات في مسائل الشريعة.

ومما يقرب ما ذكرناه نظائر المسألة والتي تشترك معها في الجامع: فإن هناك إشكالاً معروفاً مفاده: كيف يأخذ المجتهد بقول اللغوي(1)

- وكذلك النحوي والصرفي والبلاغي - ويعتبره حجة مع انهحدسي لا حسي. فأن اللغوي والنحوي و... كان قد اطلع على لغة العرب سماعا أو قراءة، فوجدهم يكررون ألفاظا أو عبارات معينة بطرق معينة، فاستنبط منها قواعد نحوية أو صرفية أو بلاغية، أي

ص: 33


1- هذا على مبنى المشهور الذي حُكي اجماع المتقدمين عليه، من كون قول اللغوي حجة من باب الظن الخاص. قال الميرزا النائيني في فوائد الاصول ج3ص142: «وان كان قد حكي الاجماع على اعتبار الظن الحاصل من قول اللغوي بالخصوص لا من باب الظن المطلق » وهذا الاجماع المحكي يكشف لا اقل عن الشهرة، وقال السيد الحكيم في حقائق الاصول ج2ص94: « نعم نسب الى المشهور حجية قول اللغوي بالخصوص في تعيين الاوضاع».

انه اجتهد وأعمل نظره، وكذلك اللغوي فانه لم يسمع الا الاستعمال، اما كونه حقيقة او مجازاً فهذا لا يكون الا بالحدس(1).

وقد أجاب السيد الحكيم عن ذلك بقوله: إن قول اللغوي حجة، لان ما يقوم به هو حدس قريب للحس، قال في حقائق الاصول: «والحدس القريب من الحس لا بأس بالاعتماد عليه ولذا بنوا على قبول الخبر المنقول بالمعني مع انه مما نحن فيه كما هو ظاهر»(2)

وايضا لعدم قادحية الحدس المتوسط لان الحسي انما يعتبر في المدلول المطابقي(3).

ونظيره أيضاً ما ذهب إليه بعض الرجاليين من أن قول الرجالي حجة من باب الحدس القريب للحس، وهو بذلك مشمول لآية النبأ، بناءً على ان حجية قول الرجالي هي من باب حجية خبر الواحد(4)،

وعليه فانه حجة حتى على المجتهد الآخر. وعلى هذا المبنى فان قول الرجالي ليس حجة من باب الفتوى أو قول أهل الخبرة حتى يقال(5)

أنه ليس بحجة على المجتهد الآخر.

بل أن المنسوب إلى المشهور هو أن كلمات الرجاليين حجة عندهم من باب كونها خبر الواحد، ومعناه أنهم ينظرون إلى توثيقات الرجالي والجرح والتعديل على أنها اخبارات عن حس أو عن حدس قريب من الحس.

ونضيف أيضا: انه لا مناص للذين يذهبون إلى حجية قول الرجالي من باب كونه خبر ثقة، إلا أن يقولوا بأن كلمات الرجاليين هي حدس عن حس

ص: 34


1- فصلنا الكلام عن ان اللغوي هل هو اهل خبرة بالوضع او اهل خبرة في الاستعمال فقط، في ملحقات كتاب الرشوة، فليراجع.
2- حقائق الاصول: ج2 ص 99.
3- راجع مستمسك العروة الوثقى: ج1 ص38 39 مضمون كلامه.
4- سيأتي ذكر ثمانية مباني لحجية قول الرجالى، فلاحظ.
5- أي على المبنى المشهور، اما المنصور فخلاف ذلك كما سيأتي بعد ثلاث صفحات تقريبا.

قريب وليست حساً محضا كما يدعون، وذلك لان أهم الأدوات التي يستعملها الرجالي في تقييم الراوي هي الجرح والتعديل، وهما مطلقاً، أوغالباً من الحدس القريب للحس لا الحس، وذلك لاستنادهما إلى "التعديل" أو "التوثيق" أو عكسهما، وكلها حدسية أو حدسية قريبة من الحس بالبيان التالي:

اما العدالة فنقول إن في العدالة مسلكين رئيسين هما:

الأول: العدالة هي: ملكة تعصم الإنسان عن ارتكاب الكبيرة وعن الإصرار على الصغيرة. وهذا يعني أن الرجالي يلاحظ احوال الراوي فاذا وجده قد التزم بتعاليم الشريعة يحكم بأنه عادل. وهذا في الحقيقة اجتهاد وحدس واضحان، لكنه حدس قريب من الحس، لأن "الملكة" كما هو واضح لا تُرى ولا تحسّ.

الثاني: العدالة هي الاستقامة على جادة الشريعة(1).

وقد ذهب السيد الخوئي - وهو من القائلين بالتعريف الثاني للعدالة - الى إن تعديلات الرجالي للرواة حجة لأنها من باب الحس لا الحدس، على اعتبار أن الرجالي يلاحظ بحواسه التزام الراوي المستمر بالشريعة.

وفيه: إن الرجالي يُعدّ مجتهدا ومُعملا لحدسه في توثيق الراوي حتى حسب هذا التعريف للعدالة، وذلك لأنه استند إلى استقراء ناقص، فانه لاحظ مثلا راويا فرآه صادقا طيلة الفترات السابقة(2)،

فحكم بأنه صادق حتى في هذه الرواية، ولكن من اين نعلم أنه لم يكذب في هذه المرة، وأنه لم يزل صادقا كما في المرات السابقة؟ فلا ريب ان ذلك مما يحدس به من ملاحظة اخباراته السابقة.

والحاصل: إن حكم الرجالي بأن الراوي عادل مستقيم على الجادة حتى في

ص: 35


1- سيأتي لاحقاً تفصيل الأقوال الستة في العدالة.
2- بل هي ليست مستغرقة وتامة عادة.

هذا الخبر، هو اجتهاد وحدس لكنه حدس مقبول؛ لأنه قريب من الحس، فهو حجة.

فإن قيل: هو استقراء معلل، فلا يضره أن يكون ناقصا.

كان الجواب: يمكن أن يكون معللا لو قلنا بالملكة(1)، ولكن من دون القول بها فإنه سيبقى استقراءً ناقصاً ولا يمكن القول عن حسٍ أن الراوي لم يكذب هنا أيضا.

إذن سواء قلنا بأن العدالة هي ملكة، أو قلنا هي استقامة، فلابد من القول بأن تعديلات الرجالي إنما هو من باب الحدس القريب للحس(2).وأما بالنسبة للوثاقة، فان الرجالي عندما يقول: فلان ثقة فالكلام هو الكلام اذ ان ذلك انما هو لأنه رآه سابقا قد أخبر بأخبار وتثبَّت منها حساً فرضاً فوجدها صحيحة، ولكن من اين ان الخبر الجديد الذي لا اعلم صحته عن حس، صحيح صادق؟

مناقشة مع بعض الاعلام حول توثيقات النجاشي

مناقشة مع بعض الاعلام حول توثيقات النجاشي(3)

ومما يرشد الى ما ذكرناه، انه ذهب جمع إلى انّ توثيقات النجاشي كلّها حسية، وذلك لاعتماده على السماع من كابر عن كابر، وبالتالي فهي حجة. وهنا إشكالان:

الأول: الظاهر ان توثيقاته او كثير منها على الاقل حدسية، حيث يقول الشيخ النجاشي: ان فلانا ثقة وكان حسن المنزلة عند آل محمد (علیهم السلام)، فان هذا

ص: 36


1- ولو قلنا بالاستقراء المعلل فانه حدسي ايضا اذ التعليل حدسي كما لا يخفى.
2- وسيأتي تفصيل وتحقيق ذلك.
3- وذلك مما يوضح ويؤكد ما ذكرناه من حجية التوثيقات والأخبار، الحدسية.

حدس عن حس قريب؛ فإنّ المشاهد المرئي مثلاً هو ان الامام (علیه السلام) قد قرب هذا الشخص واحترمه وأدنى مجلسه منه مثلاً، لكن لِمَ كان ذلك؟ هنا موطن الحدس؛ إذ قد يكون ذلك لعدالته هذا احتمال، وقد يكون لشجاعته او كرمه، وقد يكون تقية منه أو من غيره، أو غير ذلك من المحتملات الاخرى، فلا يثبت باحترامه "المرئي"، حسنُ حاله "الاعتباري" إلا بالحدس وانه لأجل صلاحه.

والحاصل: انه أليس مثل هذا التوثيق لشخص هو عن حدس واجتهاد؟

ثم من المؤكد أن النجاشي عندما قال: «فلان ثقة»، فأنه اعتمد على استقراء ناقص، إذ لاحظ أن الراوي لم يكذب سابقا فحكم أنه ثقة، ولكن ما الذي أدراه أنه لم يكذب في روايته هذه؟

وأيضا قول الشيخ الطوسي في العدة: فلان متهم في حديثه، فإنه من الحدس لا الحس. لان التهمة - التي نسبها لحديث الراوي - أمر غير محسوس اعتمد فيها على القرائن.

من هنا نستطيع القول أن الحدس واضح في تقييم الرجاليين.

الثاني: ان توثيقات وتجريحات النجاشي هي عادة مراسيل، وليست بالمسانيد وهذا ما سنوضحه في العنوان القادم.

والخلاصة في مناقشة المشهور: إن قولهم إن توثيقات الرجالي هي من باب النبأ وخبر الواحد الحسي غير صحيح، ولابد أن يكون قول الرجالي مبنياً على حدس قريب من الحس، فاذا صح ذلك انطبق هذا المبنى على المقام ايضا(1).

ص: 37


1- حجية توثيق الثقات لمراسيلهم متنا ومضمونا اي حجية توثيقهم، اي حجية توثيقهم للرواية بنفسها لا خصوص توثيق الراوي.

الدليل الثالث: حجية قول أهل الخبرة

لو تنزلنا وسلمنا أن توثيقات الصدوق والطوسي - مثلا - لمراسيلهم كانت حدسية بقول مطلق واجتهاداً محضا او كونها محتملة لذلك على الأقل، وانها ليست من نوع الحدس القريب من الحس او قلنا ان هذا ايضا ملحق بالحدس، إلا أنه يوجد عندنا وجه آخر يمكن من خلاله الاعتماد به على مراسيلهما، وهو إن قول الصدوق والطوسي يمكن القول بكونه حجة من باب حجية قول أهل الخبرة لا من باب النبأ وخبر الواحد، ومقتضى التحقيق هو ان قول اهل الخبرة حجة على الفقيه المجتهد ايضا وذلك(1):

أ - لأن الصدوق والطوسي يصدق على كلٍّ منهما أنه «فقيه» وأنه من «أهل الذكر» وأنه «نظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا»، بل هما في الحقيقة في أعلى درجات الخبروية والفقاهة والنظر والمعرفة، بالإضافة إلى أن كلا منهما قد ضمِن ما في كتبه واستند إلى رواياته المرسلة، وبالتالي فسوف تشمله كافة الأدلة الدالة على حجية قول أهل الخبرة.

ومما يجدر الالتفات إليه أن هذه الحجية غير مقيدة بالوثوق الشخصي، ولا تختص بمن حصل له اطمئنان برواية الطوسي أو الصدوق، بل ملاكها الوثوق النوعي، فحتى المجتهد الآخر لو لم يحصل له الوثوق الشخصي باعتبار هذه المرسلة التي بين يديه، فسوف تكون حجة عليه، لشمول تلك الادلة له، فتأمل(2).

ص: 38


1- ما سيأتي ادلة لإثبات الكبرى، فالصغرى تبعاً.
2- اذ قد يقال بانصراف تلك الادلة عن المجتهد و كون الخطاب في بعضها للمقلد او هو مردد، وكون الامر "لمَن لا يعلم" والمجتهد يعلم، فتأمل اذ اجبنا عن ذلك بالتفصيل في بحث اخر. فلاحظ مباحث الاجتهاد والتقليد - التقليد في مبادئ الاستنباط , كما تطرقنا لذلك ضمن مطاوي هذا الكتاب.

ب - إن العقلاء لا يبنون على أن قول أهل الخبرة حجة في حق العامي فقط، بل بناؤهم على انه حجة أيضا حتى على الفقيه الذي لم يجتهد في تلك المسألة بالفعل، ولو لعدم قدرته على إعمال الاجتهاد فيها كما في المقام، حيث لا طريق للفقيه لتحقيق حال الرواة نظراً لعدم ذكر السند.

بل ان بناء العقلاء وسيرتهم قائمة على أن قول أهل الخبرة هو حجة في حق أهل خبرة آخر تصدى بالفعل للاجتهاد في المسألة إلا أنه لم يصل إلى نتيجة لا سلبا ولا إيجابا.ومما يرشد الى ذلك ان الطبيب لو بحث عن تشخيص مرضه ولم يفلح، فله أن يراجع بعض أهل الخبرة ويعتمد على تشخيص أحدهم. ولو لم يفعل ذلك لتعرض لِلوّم والذم بل للعقاب لو كان الضرر بالغا او عدّ اغراءاً بالجهل بل مطلقا، فتأمل.

والنتيجة: إن الطوسي والصدوق - وهما في أعلى درجات الخبروية الرجالية والروائية والحديثية والتفسيرية، ويفوقان النجاشي، صاحب الخبرة الرجالية فقط - ما داما قد ذكرا هذه الرواية واستندا إليها فإنها ستكون حجة على المجتهد الآخر الذي لم تسنح له الفرصة كي يحقق أو حقق وبحث وفحص ولكنه لم يتوصل إلى نتيجة.

ج - بل نقول انه يصدق عليه حينئذ انه جاهل رجع لعالم لأنه جاهل بالفعل بالحمل الشائع الصناعي وإن كان عالماً بالقوة، وهذا الرجوع منجّز ومعذر(1)،

وقول العالم في حق الجاهل حجة كما هو واضح. إذن المجتهد الذي لم يُفعّل اجتهاده في هذه المسألة - لأي سبب كان - فهو جاهل بالفعل فتشمله

ص: 39


1- بل كاشف نوعي عن الواقع.

أحكامه ومنها جواز الرجوع لغيره.

ومما ينبغي الالتفات إليه أن النتيجة التي وصلنا إليها حتى الآن تختلف عما عليه المشهور نظريا، ولكنها توافق ما يقوم به بعض الفقهاء، بل الكثير منهم على مستوى العمل فان الواقع يشهد بأن الكثير منهم، مقلّد في الكثير من المسائل الرجالية والنحوية والصرفية والبلاغية والمنطقية ونظائرها، والتي يبتني عليها الاستنتاج النهائي للحكم الشرعي الفرعي، وذلك اما لأنه لا يمتلك الوقت الكافي ليحقق في كل مسألة مسألة من المسائل الدرائية والرجالية(1)

والمنطقية والبلاغية وغيرها، أو لأنه في ارتكازه العقلائي يرى صحة التقليد فيها وهو المطلوب، او لغير ذلك مما أشرنا له في مبحث الاجتهاد والتقليد(2).

بل يوجد من فحول الأصوليين والفقهاء من يقلّد غيره في بعض المسائل الفقهية ويكفينا الشيخ الاصفهاني مثالا على المجتهد المقلد لغيره في بعض المسائل الفقهية، وقد صرح هو بذلك كما نقل عنه أنه يقلد بعض معاصريه في العديد من مسائل الفقه، مما لا يسع وقته للنظر فيها.

بل يمكن القول أنه على هذا جرت سيرة المجتهدين قاطبة ولو في بعض العلوم، فحتى المتشددين من الفقهاء لو تفحصنا حاله فسنجد أنه في الواقع مقلد في بعض أو كثير من مبادئ الاستنباط، مع انه قد يُستند إلى أن النتيجة تتبع أخس المقدمات فإن المجتهد في الفقه أو القواعد الفقهية إذا كان مقلدا في مسألة أصولية أو رجالية أو نحوية بان كان قد أخذها مسلمة من مظانها، فانه في النتيجة مقلد كماذهب إليه بعض الاعلام(3)

فممّا لا شك فيه أن البحوث الفقهية أو الاصولية

ص: 40


1- هناك رأي آخر غير رأي السيد الأستاذ أعلاه يقول: قد يجد المجتهد الوقت الكافي للتحقيق في كل مسألة مسألة، راجع ج1 ج3 من كتاب "بحوث في مباني علم الرجال".
2- فصلنا الحديث عن ذلك في كتاب «الاجتهاد في مبادئ الاستنباط».
3- كالسيد الخوئي، في مصباح الأصول.

تبتني على مقدمات واستدلالات نحوية وصرفية وبلاغية ومنطقية ورجالية وكلامية، فهل اجتهد كل فقهائنا في كل مسألة مسألة في المواضيع المنطقية؟ خاصة ما يحتاج منها إلى إعمال نظر وتثبت، كشروط إنتاج الشكل الرابع(1)،

وكالموجّهات؟ بل إن المجتهدين في المنطق قليلون جدا(2)،

وكذلك الأمر في النحو والصرف والبلاغة، فإن المجتهدين في الغالب هم مقلدون في هذه العلوم لا مجتهدون، والمجتهدون في النحو - مثلا - قليلون جدا ومن اجتهد منهم يسمى إماماً وما أقلّ الأئمة في النحو ونظائره، من الفقهاء.

رجوع المجتهد لغيره

د - بل يمكن الوصول صناعيا الى نتيجة جديدة وان لم يقل بها أحد فيما نعلم: وهي أنه يمكن للمجتهد بالفعل في مسألة ما، أن يرجع لغيره في تلك المسألة بعينها ما لم يقطع بالخلاف(3)

و ذلك بنحو الحجية التخييرية.

فإن قلت: أليس هذا هو رجوع العالم للجاهل ؟

قلت: بل هو رجوع العالم للعالم - إن كان الآخر(4) مساويا له أو أعلم بقول مطلق أو أعلم في هذه المسألة - أي أعلم متجزياً - بالحمل الشايع الصناعي.

لايقال: ان الآخر جاهل بزعم مخالفه في الاجتهاد ؟

اذ يقال: الاحكام - ومنها الحجية - لا تدور مدار زعم هذا الطرف او ذاك بل تدور مدار عالم الثبوت والواقع، وذلك لان الاسماء موضوعة لمسمّياته

ص: 41


1- بل والاشكال الاربعة وشروطها وهي «مغكب» للشكل الاول، «خينكب» للثاني، «مغكاين» للثالث و «مينكغ او خينكاين» للشكل الرابع.
2- كالعلامة الحلي مثلاً.
3- لأن القطع - أي خصوص العلم بنظرنا - حجيته ذاتية.
4- أي من رجع له.

الثبوتية، فعدم رؤية هذا او ذلك عالما لاختلاف الاجتهادين، لا ينفى صدق العالم عليه ثبوتا و بالحمل الشائع الصناعي، سلّمنا لكن المدار في صدق الأسماء وموضوعات أحكام الشارع هو العرف، ولا شك ان العرف يرى كلاً منهما عالما و أهل ذكر و فقيها و أهل خبرة، و مقتضاه الحجية التخييرية كما سبق.

لا يقال: ذهن الفقيه مرآة للواقع والعرف.

إذ يقال: انه وان صح الا انه فيما لم يعلم التخالف كما في المقام، بل الفقيه بنفسه لو لاحظ ما ذُكِر، لرآى صدق العالم على الاخر عرفا، وان رآه - بما انه شخص - جاهلا(1)

فتأمل(2).هذا كله اضافة الى النقض بان غير المجتهد كثيرا ما يزعم ان المجتهد جاهل و مخطأ في هذه المسألة - وما اكثر الزاعمين ذلك في هذا الزمان - فهل يسوّغ ذلك له عدم التقليد؟ اللهم لو كان قاطعا فان حجيّة القطع ذاتية على مبنى كثير من المتأخرين.

ولا يجاب: بأن رأي غير المجتهد ونظره ليس بحجة.

إذ يجاب: بان الكلام في أنّ العنوان المأخوذ في الروايات موضوعاً للحجية هو عنوان ثبوتي او عرفي؟ وهذا غير مرتهن بنظر الشخص مجتهدا كان ام لا، اضافة الى ان المجتهد - كغير المجتهد - في صورة تعارض الرأيين، رأيه غير حجة على المبنى المعروف وان كنا لا نقبله.

والحاصل: إنّنا امّا أن نقول بشمول أدلة الحجية للاجتهادين المتخالفين او لا؟ فعلى الاول فالحجية التخييرية ثابتة واضحة، وعلى الثاني فحال الفقيه في

ص: 42


1- أي رأى الصدق العرفي، وان لم يرَ تحققه وصدقه بنظره.
2- لانحلال العالم وكونه جاهلا بالفعل بنظره في هذه المسألة، فتأمل؛ اذ ملاك الصدق بنظر العرف وكون نظره مرآة لنظرهم انما هو فيما لو لم يعلم نظرهم وانه مخالف لهم.

عدم حجية رأيه هو حال العامي، والمرجع الصدق العرفي، فتأمل.

والمستند في ذلك هو: أن أدلة الحجية شاملة لهذين الاجتهادين المتعارضين بوزان واحد في وقت واحد(1).

فإن رأي كل مجتهد حجة؛ للعمومات. فيمكن لكل مجتهد أن يعمل برأي مجتهد آخر لشمول العمومات لهما بوزان واحد، ودعوى كل منهما اختصاص ادلة الحجية به، هي دعوى من دون دليل ولا مرجح، كما فصلناه في مبحث اخر(2).

ولكن نقول: ان رجوع هؤلاء المجتهدين لمجتهد آخر او لأهل الخبرة، لا يعدّ تقليدا لهم فانه رجوع لأهل الخبرة وليس تقليداً، أو ان عدّ تقليداً فانه لا يقدح في صدق «المجتهد» على من اجتهد في ما ترتب عليها فقط، أي اجتهد في المسألة الأصولية والفقهية فقط دون مبادئ الاستنباط من المسائل الرجالية أو النحوية وشبهها والتي ابتنى استنباط الحكم الفقهي الفرعي في علته المُعِدَّة البعيدة، عليها.إذن رجوع المجتهدين للشيخ الصدوق وللشيخ الطوسي في توثيقهما للمراسيل لا يعدّ تقليدا بل هو رجوع لأهل الخبرة، بل لو فرض انه تقليد فانه مما لا يقدح في كونه مجتهداً في «المسألة الفقهية» وان ابتنت على المسألة الرجالية، كما فصلناه في مباحث «الاجتهاد والتقليد».

ويتضح ذلك أكثر بملاحظة انه لا بد من نفكك بين ثلاثة من العناوين:

الأول: عنوان النبأ او خبر الثقة، وهو حسي سماعي.

الثاني: عنوان قول اهل الخبرة، وهذا حدسي اجتهادي.

الثالث: عنوان الفتوى - الذي دل عليه مثل: «اجلس في المسجد وافت

ص: 43


1- أجبنا عن اشكال "عدم شمول ادلة الحجية للمتعارضين وتساقطهما" بالتفصيل وبوجوه ستة في كتاب «شورى الفقهاء» كما اضفنا للأجوبة هناك اجوبة اخرى اكثر في بعض مباحث الخارج.
2- يراجع اخر كتاب «شورى الفقهاء دراسة فقهية اصولية».

الناس» - ومن هذا العنوان نشأ الخلط في المقام.

والحاصل:

انه تارة ارجع للآخر مستفتياً فهو مفتٍ وانا مقلد، وتارة اخرى ارجع اليه مستخبرا وسائلا ايّاه لأنه من اهل الخبرة، لا لأنّه مُفتٍ. ومما يدل على الفرق انه لا تشترط في هذا الاخير ما يشترط في المفتي. وقد فصلنا الحديث عن ذلك مع الاجابة عما يورد عليه في مباحث "الاجتهاد والتقليد، مبادئ الاستنباط" فلاحظ.

تقليد أم رجوع؟

وبتعبير آخر أدق وأشمل انّ بعض المحققين اثار شبهة مفادها لو أننا اعتمدنا على مراسيل الشيخ الصدوق أو الطوسي من غير أن نحقق في السند - ولو لعدم القدرة - فإننا سنتحول إلى مقلدين، مع أن تقليد مجتهد لمجتهد آخر غير جائز قطعا.

وفي الجواب نقول: لابد أن نفكك بين نوعين من الرجوع:

الأول: رجوع مجتهد لمجتهد آخر من باب انه من أهل الخبرة، وهذا ليس بتقليد ولا إشكال فيه.

الثاني: رجوع مجتهد لمجتهد آخر بعنوان كونه مفتيا.. وهذا تقليد غير جائز.

والحاصل: ان عنوان التقليد يختلف عن عنوان الرجوع إلى أهل الخبرة، ويمكن القول بصحة رجوع الفقيه في مسألة إلى أهل الخبرة، بينما لا يصح له الرجوع في المسألة نفسها إلى "المفتي" بما هو مفتٍ، ويظهر ذلك بملاحظة الفرق بين المفتي واهل الخبرة فنقول:

الفرق بين المفتي وأهل الخبرة

هناك فروق واضحة بين "المفتي" وبين "أهل الخبرة"، منها:

1- تشترط العدالة في المفتي - رغم عدم دخلها(1) في الأقربية للواقع -

ص: 44


1- مطلقا أو في الجملة.

بينما لا يشترط ذلك في من يُعتمد عليه في مقدمات الاستنباط من أهل الخبرة، لذا صاروا يعتمدون على بني فضال مع انه ليس إمامياً، وما ذلك إلا لأنه من أهل الخبرة فقط.

2- تشترط في المفتي الحياة، دون أهل الخبرة.

3- تشترط في المفتي الذكورة، دون أهل الخبرة(1).

4- إن حجية رأي المفتي هي من باب التعبد في الجملة(2)،

أما حجية قول أهل الخبرة فليست من باب التعبد، بل لكاشفيته النوعية عن الواقع.

5- إن رأي المفتي هو حجة على المقلد ولو حصل له ظن بالخلاف، لأنه سيكون ظنا شخصيا لا دليل على حجيته، كما لا دليل على اسقاطه الحجج عن حجيتها.

أما الظن بالخلاف الحاصل لدى أحد من أهل الخبرة تجاه رأي أهل خبرة آخر فانه يخلّ بحجية رأي الآخر عليه حينئذ، هذا بحسب رأي المشهور، وأما بحسب ما نراه فإنه سوف لا يكون حجة تعيينية عليه بل حجة تخييرية كما فصلناه في محله، فتأمل؛ اذ قد يقال: انّ المفتي أخص مطلقا من اهل الخبرة، وقد اشترطت فيه شروط معينة بادلتها الخاصة ويوضحه الفرق عرفا وبالحمل الشائع بينهما، فتأمل.

وجه فرق المجتهد عن المقلد في جواز رجوعه لغير العادل

حيث سبق انه يمكن للمجتهد أن يرجع لأهل الخبرة مطلقا(3)،

دون المقلد

ص: 45


1- وكذا الحرية، وغيرها على المشهور او الأحوط في بعضها.
2- اذ اعتبر الشارع في حجية رأيه ما لا مدخلية له في الأقربية للواقع والاصابة.
3- فيما لم يجتهد فيه بالفعل، وفيما اجتهد ولم يصل الى رأي، بل وفيما اجتهد ووصل لكن بالظن المعتبر لا بالقطع لان حجيته ذاتية فلا يعقل على الطريقية تجويز العمل بقسيمه.

فانه لا يجوز له تقليد غير الجامع للشرائط.

فإنه لابد من إضافة ان وجه الجواز قد يكون أحد أمرين:الأمر الأول: إن العامي ليست بيده الضوابط، بينما المجتهد بيده الضوابط ويستطيع ان يشخص ما هو خلاف موازين الشريعة، من أقوال المخالِف، فلا يقع عادة في مفسدة المخالفة للواقع او الحجج العامة.

ولتوضيح ذلك نضرب مثالا في مبحث اصولي مهم، وهو مبحث انقلاب النسبة فانه لو كانت لدينا ثلاث روايات، وكان بين الروايتين الاوليين نسبة العموم والخصوص من وجه، وكذا الرواية الثالثة لو لوحظت بالنسبة للرواية الثانية فقط لكانت النسبة من وجه ايضا، فإذا لوحظت كلها في عرض واحد فالنسبة هي التباين الموردي، ولا يتقدم أحدها على الاخر، وهذا هو المبنى الأول وهو ملاحظتها كلها في عرض واحد.

وأما المبنى الآخر، فهو ان تلاحظ الرواية الثالثة بالنسبة للثانية - مثلا أولاً، فانه بعد ذلك قد تنقلب النسبة بين الثالثة والاولى فتكون هي العموم والخصوص المطلق فتقدم الثالثة على الاولى، والفقيه حيث ان بيده الملاكات في هذا المسألة وغيرها ولذا فانه عندما يسأل الفقيه الاخر في مسألة معينة، لا وقت له لتحريرها وتحقيقها كالكر مثلا، فحيث ان ملاكات المسألة وقواعدها العامة عنده فقد يقبل وقد لا يقبل، اضافة الى انه لا يمكن عادة أن يخدع، والامر بخلافه بالعامي.

الأمر الثاني: لو اجاز الشارع للمقلد الرجوع لغير الجامع للشرائط لبنى عليه حياته كما هو المشاهد في المقلِّد حيث انه يُسلم قيادَه لمرجِعه، وعندها

ص: 46

ستحصل مفسدة كبرى في رجوع المكلف للفاسق(1)، بينما سيكون الضرر أخفّ جداً - وقد تنعدم - فيما لو رجع المجتهد في مبادئ الاستنباط بل في نفس المسألة الفرعية لغير المستجمع للشرائط(2).

ص: 47


1- هذا في الفاسق الذي جهة فسقه ترتبط بمخالفة الواقع - ككونه كاذبا او غير متثبت - بل مطلقا فتدبر.
2- ولا يخفى ان العديد من الادلة على حجية مراسيل الثقات او مزيد توضيحها وبرهنتها والاجابة على الاشكالات الاخرى التي تثار عليها، قد ذكرناها في المباحث الاتية حول حجية مراسيل «الفقيه» و «التهذيبين»، فلاحظ وتدبر.

ص: 48

الفصل الثاني: تطبيقات لحجية مراسيل الثقات*

اشارة

وفيه مبحثان:

المبحث الأول: حجية مراسيل الشيخ الصدوق في الفقيه.

المبحث الثاني: حجية مراسيل الشيخ الطوسي في التهذيبين.

ص: 49

ص: 50

المبحث الأوّل: حجّية مراسيل الشيخ الصدوق في الفقيه

اشارة

مرت علينا مجموعة من الإشكالات المطروحة على القول بحجية مراسيل الثقات بصورة عامة وقد أجبنا عنها، وسنحاول هنا إقامة الدليل على إثبات حجية مراسيل الشيخ الصدوق (قدس سرّه) في كتابه «من لا يحضره الفقيه» بالخصوص، كما سيتضمن البحث الاجابة ضمنا على اشكالات اخرى قد تطرح على كلي القضية.

ولكن قبل ذلك لا بأس بالإشارة الى جواب نقضي على من لا يرى حجية مراسيل الثقات، يعم الكتب الاربعة ونظائرها، ويفيد توثيقاتها بوجه جديد وهو:

النقض بكون كل ما في الكتب الأربعة متواتراً

ذهب بعض الأعلام - ومنهم السيد الخوئي وغيره - إلى أن توثيقات النجاشي والطوسي وابن قولويه وأمثالهم هي أخبار حسية متواترة أو مستفيضة.

وكان مستندهم في ذلك أن النجاشي - مثلا - عندما كان يوثق راوياً، فتوثيقه يستند إلى أخبار متواترة أو مستفيضة وصلت إليه عبر كلّ أو معظم الكتب الرجالية التي صدرت من زمن الحسن بن محبوب، الذي هو من أصحاب

ص: 51

الإمام الكاظم والرضا(علیهما السلام)وقد روى عن الصادق (علیه السلام) بواسطة 60 راوياً إلى زمن الشيخ الطوسي أو النجاشي أو نظائرهما.

ومع قطع النظر عن المناقشة في مستند هذه الدعوى وانها مجرد استحسان لا دليل عليه، نقول: إن من يلتزم بمثل هذا عليه أن يلتزم بشكل أولى بتواتر أو لا أقل باستفاضة روايات الكتب الأربعة، ما دام المستند الذي ذكره متحققا فيها بشكل أقوى؛ إذ الكتب الاربعة لم تعتمد على مائة كتاب روائي فقط، بل على مئات الكتب «ومنها الأصول الأربعمائة» فمن قال بالتواتر لمجرد توفر أكثر من مائة كتاب رجالي بيد النجاشي كيف لا يقول بتواتر الكافي والاستبصار مع توفر مئات المصادر بأيديهما؟ وهذا ما صنعه الإخباريون.

ونحن لا نقبل باستفاضة أو تواتر إخبارات النجاشي وصولاً إلى الراوي، ولكن من يقبله لابد أن يقبل تواتر أو استفاضة أسانيد الكتب الأربعة.

توثيق الشيخ الصدوق ل «الفقيه»

من المناسب لنا - سواء أردنا إثبات حجية جميع ما جاء في كتاب الشيخ الصدوق بقول مطلق أو نفيه - أن نتمعن جيدا في ما قاله الشيخ نفسه إذ انه تعهد بتوثيق جميع ما جاء في كتابه «من لا يحضره الفقيه» في ديباجة الكتاب.

قال الصدوق: «بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به، واحكم بصحته، واعتقد أنه حجة بيني وبين ربي جلّ ذكره، وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة، عليها المعول، واليها المرجع، مثل كتاب حريز بن عبد الله السجستاني.... وبالغت في ذلك جهدي»(1).

ويتضح لمن تتبع مراسيل الشيخ الصدوق في كتابه "من لا يحضره الفقيه"

ص: 52


1- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص3، مقدمة الكتاب.

أنها على قسمين:

القسم الاول: المراسيل التي لم يذكر فيها اسم الراوي بل يبدؤها بتعبير: قال أبو عبد الله (علیه السلام) كذا وكذا.. أي ينسب الرواية إلى الإمام بحذف سلسلة السند بأكملها، وما أكثر ما فعل ذلك.

القسم الثاني: المراسيل التي ذكر فيها اسم الراوي لكنه لم يذكر لنا في المشيخة سنده إلى ذلك الراوي، إما لأنه نسي ذلك، أو لأنه لم تسنح له الفرصة الكافية لإضافة الإسناد إلى الكتاب، أو قد يكون وراء ذلك أسباب أخرى. وعلى أية حال فإن عدد الرواة الذين لم يذكر طريقه إليهم في المشيخة هم «120» رجلا بحسب التقي المجلسي.

ومن الممكن القول إن عبارة الشيخ الصدوق التي ذكرها في توثيق كتابه ستنفعنا لو قبلناها(1) في تصحيح كلا القسمين.

توثيق للرواية أم توثيق للرواة

ونطرح هنا هذا السؤال: هل أراد الشيخ الصدوق في عبارته في مقدمة كتابه توثيق الرواية أم توثيق الرواة؟

فإن أراد توثيق الرواية والمضمون، فعلى بعض المباني لا يكون حجة على سائر الفقهاء، لأنه سيكون مستندا إلى الحدس(2)، وستكون فتوى منه، وفتوى المجتهد ليست حجة في حق مجتهد آخر. لكن لو أن الصدوق يقصد من وراء عبارته توثيق الرواة، فسيكون حاله حال النجاشي والكشيوأشباههم، ممن تُعدّ توثيقاتهم حجة، فلا فرق بين توثيقه الشخصي أو الاجمالي «كما لو قال هؤلاء

ص: 53


1- اي قبلنا دلالتها - صغرى - على توثيق الرواة، او كبرى على صحة الرجوع الى توثيقه للروايات.
2- مضى سابقا بحث عن صحة اعتماد مجتهد على مجتهد اخر في الجملة كما بحثنا ذلك بالتفصيل في مباحث (الاجتهاد في مبادئ الاستنباط).

المائة ثقات».

اذن إن كان الشيخ الصدوق يقصد توثيق الرواة فقوله حجة وهم ثقات، اللهم إلا مع معارضته بالجرح من رجالي آخر، وذلك موضوع آخر.

قرائن توثيق الراوي أو الرواية فقط في كلام الصدوق

هناك قرائن تشير إلى أن مقصود الشيخ في مقدمته كان توثيق الرواية لا الرواة(1)، وهناك قرائن أخرى معاكسة (أي تفيد توثيقه الرواة).

وعلى أي تقدير فانّ من الواضح أن كتابه (من لا يحضره الفقيه) هو عبارة عن نصوص الروايات المعبرة عن فتواه، فهي رواية وهي فتوى في الوقت نفسه، وهذا يفيد توثيق المضمون والرواية، وأيضاً من غير نفي صحة السند ووثاقة الرواة(2).

فلنشر إلى كلا القسمين بتحليل كلام الصدوق المتقدم والتوقف عند مقاطع من عبارته:

توثيق الرواية

1 قوله: «قصدت إلى إيراد ما أفتي به» والظاهر أن مقصوده الرواية لا الراوي، من غير أن تنفي صحة السند - كما هو واضح - نعم من الممكن إرادته «ما افتى بصحة سنده و مضمونه» - أي: ما أفتي بصحة سنده إضافة الى مضمونه(3)

- لتفرّع الفتوى على المجموع عرفا، لكنه مستبعد أو غير ظاهر فيه.

ص: 54


1- أو (توثيق الرواية الأعم من كونه لتوثيق الرواة).
2- والحاصل ان القدر المسلم هو توثيق الرواية، وتوثيق الرواة مع الفتوى على طبقها يفيد ذلك أيضاً لكن هل تمّ دليل على توثيقه للرواة؟ هذا ما سيأتي في المتن بإذن الله تعالى.
3- اي ما أفتي بصحة سنده إضافة إلى مضمونه.

2 واما قوله: «وأعتقد أنه حجة بيني وبين ربي» فقد يقال هنا لعله يقصد أن "الخبر والرواية" حجة من حيث السند أيضاً.

ولكن قد يقال إن هذه العبارة أعمّ، أي أنّ حجية الخبر على الصدوق بينه وبين ربّه أعم من وثاقة المضمون فقط ومن وثاقة السند أيضاً، وبالتالي فالظاهر أنّ هذه العبارة لا يمكن الاستناد إليها لأنها أعم.اللهم إلا إذا استُظهر أن كلمة الحجية لو نسبت للخبر - كهذا الخبر حجة - كان ظاهرها توثيق السند عرفاً، فتأمل.

توثيق الرواة

اصطلاح الصحيح عند القدماء والمتأخرين

1- يُمكن القول أن عمدة الاستدلال على أن الشيخ الصدوق كان يقصد في مقدمته توثيق الراوي لا توثيق خصوص الرواية فقط، هو قوله: «وأحكم بصحته» أي أحكم بصحة ذلك الخبر وذلك بأحد وجهين:

الأول: ان الصدوق في قوله: «ما أفتي به» يوثق المضمون وهو من الحدس، وفي قوله: «وأحكم بصحته» يوثق الإسناد وهو من الحس. وفي قوله بعد ذلك مباشرة: «أعتقد

أنه حجة بيني وبين ربي» يجمع بينهما، فالقرينة هي: التناسق والتناسب والترقي المستظهر عرفاً من ذكر هذه الجمل الثلاثة متسلسلة، فتأمل.

الثاني: وهو العمدة لو تمّ دعوى ان المتبادر عرفاً من "الصحيح" لدى إطلاقه هو الصحيح سنداً، أو الصحيح سنداً ومضموناً، ولا يرفع اليد عنه إلا لو ثبت:

أ - ان للصدوق مصطلحاً خاصاً في الصحيح، كما اُدّعِى ان مصطلح

ص: 55

الصحيح لدى القدماء هو: «ما وثقوا بكونه من المعصوم (علیه السلام) أعم من ان يكون منشأ وثوقهم كون الراوي من الثقات أو امارات اخر، ويكونوا قطعوا بصدوره عنه (علیه السلام) أو يظنون»(1)

وقيل: «الصحيح عندهم قطعي الصدور»(2).

وذلك في مقابل مصطلح المتأخرين وهو حسب تعريف المحقق الثاني: «ما رواه العدل الإمامي عن العدل الإمامي، وهكذا متصلاً بالمعصوم (علیه السلام)».

وعرفه الشهيد الثاني: «ما اتصل سنده إلى المعصوم (علیه السلام) بنقل العدل الإمامي عن مثله في جميع الطبقات وان اعتراه شذوذ»(3)

وزاد بعض: «الضابط، من غير شذوذ ولا علة» وادعي أيضاً أن الصدوق بنى على ما بنوا عليه.

ب - ولو ثبت كثرة استعمال الصدوق لهذا المصطلح الجديد، حتى هجر المعنى المتبادر العرفي، لكن الأمر الثاني غير ثابت، وعهدة إثباته على مدعيه.بل وقد يتأمل في ثبوت المصطلح الأول كمصطلح عام مستقر عند عموم المتقدمين، ولعل أوّل من ادعى ذلك العلامة في "الخلاصة" ثم تبعه ابن داود وآخرون(4).

وعليه فالأصل هو إرادته من «واحكم بصحته» صحته سنداً ومضموناً، ومما يشهد لما ادعيناه من التبادر وفهم العرف ذلك، نقل السيد بحر العلوم(5) الاجماع على أن أحاديث الفقيه معدودة في الصحاح من غير خلاف من أحد كما سيأتي نقله، فتدبر جيداً.

ص: 56


1- الفوائد الرجالية للوحيد البهبهاني: ص 27.
2- المصدر.
3- نقله عنهما في (نهاية الدراية في شرح الوجيزة للشيخ البهائي) المحقق الكاظمي ص235.
4- وقد فصل المحدث النوري البحث عن ذلك في خاتمة المستدرك. فراجع.
5- وهو من متأخري المتأخرين اذ توفى 1212 هجري.

والنتيجة: إن قول الصدوق: «وأحكم بصحته» ظاهرٌ عرفاً في توثيقه للرواة وسلسلة السند، وهو لا يقصر عن توثيق النجاشي وأشباهه، اللهم إلا إذا عارضه معارض. إذن الشيخ الصدوق يوثق بالجملة جميع رواة كتابه وما فيه من حوالي "2050" رواية مرسلة.

المستظهر في المراد من "الكتب المشهورة"

2- قول الصدوق: «وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة» فان العبارة ظاهرة في ملاحظة جهة السند لا المتن، قال المجلسي الأول في شرحه على الفقيه عند تفسير قول الصدوق «وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة» : «والظاهر أن المراد بالشهرة التواتر»(1).

ولكن لابد من التدقيق أكثر في عبارة: «من كتب مشهورة» فإنه يوجد فيها احتمالات ثلاثة: "مشهورة روايةً" أو "مشهورة انتساباً" أو "مشهورة فتوى" ولعل الثاني هو المستظهر من العبارة وبه يتم المقصود(2)، توضيح ذلك:

الاول: أنها مشهورة شهرة روائية، وهذه الشهرة تنفع على مبنى من يقول إن الشهرة الروائية جابرة وكاسرة.

الثاني: ان هذه الكتب اشتهر انتسابها إلى مؤلفيها(3) في الأوساط العلمية وليست كتبا مجهولة او منبوذة او خاملة ولعل هذا المعنى هو الأظهر، وهذا دفع دخل منه فإن مثل كتب حريز أو كتب الحسن والحسين ابني سعيد أو غيرها من "الاصول الأربعمائة" ينبغي أن يُبحث عن سلسلة سند الصدوق أو الطوسي إليها، فإن لم تكن مسندة فلا حجية لها. وأما انتسابها أي الأصولالأربعمائة،

ص: 57


1- روضة المتقين ج1 ص14.
2- من ان جهة السند هي محط النظر.
3- وليست مجهولة من هذه الجهة.

إلى أصحابها فقد كان مشهورا آنذاك، فلا حاجة للتحقيق في انتسابها إليهم، مثلما أننا اليوم لو اشترينا كتاب الكافي فإنه ليست بنا حاجة إلى البحث عن سلسلة السند بيننا وبين الكليني لإثبات نسبة الكتاب إليه.

الثالث: انها مشهورة شهرة فتوائية وهذا أبعد الاحتمالات.

3 - قول الصدوق: «عليها المعول واليها المرجع» فإنه يستفاد أنها معتمد عليها فتوى وسنداً إذ التخصيص بأولهما خلاف الأصل وخلاف الظاهر فان التفكيك بينهما غير عرفي، فتأمل. وقال المجلسي الأول عند شرحه لهذه العبارة من الفقيه: «يعني كلها محل اعتماد الأصحاب»(1)

لكن اعتمادهم أعم إذ لا يكشف عن جهته، فتدبر.

4 - إن بعض تصريحات الصدوق تفيدنا بأنه كان يعتمد - كأصل - في كتبه وخاصة في "من لا يحضره الفقيه" على ملاحظة سلسلة السند في التوثيق وليس على قوة المضمون(2).

منها: فمن تصريحاته مثلا قوله الذي نقله عنه الشيخ الطوسي في ترجمة سعد بن عبد الله القمي: «وقد رويت عنه - أي سعد بن عبد الله - كل ما في "المنتخبات" مما أعرف طريقه من الرجال الثقات»(3) مما يعني أن هذا هو مسلك الشيخ الصدوق، ولو كان يعتمد على منهج التصحيح المضموني، لما كان هناك وجه لتقييده ب «مما اعرف طريقه...».

ولا يرد قول الصدوق في كتاب عيون أخبار الرضا: «وإنما أخرجت هذا الخبر في هذا الكتاب لأنه كان في كتاب الرحمة وقد قرأته عليه - ابن الوليد -

ص: 58


1- روضة المتقين: ج1 ص4.
2- أي مجردة عن لحاظ السند.
3- الفهرست للشيخ الطوسي ص102 وص135 من الطبعة الليزرية.

فلم ينكره ورواه لي» كما لا يرد نظائر هذا الكلام منه، إذ ظاهر هذا الكلام «وإنما...» ان هذا هو الاستثناء المؤكد للأصل لديه وهو الرواية عن الثقات، وكذلك التزامه بعدم الرواية عن ما انفرد به الضعيف كابي سمينه الدال على اعتماده على غيره لا عليه فلاحظ كلامه في نظائره كمحمد بن عيسى بن عبيد وغيره.

ومنها: ومن تصريحاته أيضاً قوله في أول كتاب المقنع: «وحذفت الأسانيد منه، لئلا يثقل حمله ولا يصعب حفظه ولا يملّ قاريه إذ كان ما أبينه فيه، في الكتب الأصولية موجوداً، مبيناً على المشايخ العلماء الفقهاء الثقات رحمهم الله»(1).

ولعل المستظهر منه إرادة توثيق سلسلة السند كلها(2):أ - لأن ذلك هو الذي يصلح وجهاً وجيهاً لحذف السند رغم الخسارة الناجمة عنه وذلك للاكتفاء بالتوثيق الإجمالي، بعبارة أخرى: لا يصلح ثقل الحمل و... سبباً وجيهاً للحذف، إذا لم تكن سلسلة السند كلها مبيّنة إذ ستكون خسارة فقدها أعظم من فائدة سهولة حمله... الخ.

ب - إضافة إلى انه لو كان المراد المشايخ المباشرين، دون سلسلة السند كلها، لكان الأولى أن يقول: «إذ كان مبيناً عندي...» لا «مبيناً على المشايخ..»، اضافة الى ظهور انه تعليل لقوله: «حذفت الاسانيد...».

ج - الظاهر من قوله: «في الكتب الأصولية موجوداً» وجوده في كتب أصحاب الأصول كابن أبي عمير وزرارة ونظائرهما، وظاهر قوله: «مبيناً على المشايخ العلماء الفقهاء الثقات» هو صحة سلسلة السند كلها أو قبول الطائفة

ص: 59


1- المقنع: ص 5.
2- لا المشايخ المباشرين فقط.

لها، ولعله دعوى بتسالم الفقهاء عليها أو تسالم جمع كبير معتنى به منهم.

وقال العلامة المجلسي في البحار: «ينزل أكثر أصحابنا كلامه - الصدوق - وكلام أبيه منزلة النص المنقول والخبر المأثور»(1).

وقال في مستدرك الوسائل ما ملخصه: «بان هذه العبارة متضمنة لمطالب:... ان ما فيه من الأخبار مسند كله... وان ما فيه من الأخبار مأخوذ من أصول الأصحاب التي هي مرجعهم وعليها معولهم وإليها مستندهم وفيها مباني فتاويهم... وان أرباب تلك الأصول ورجال طرقه إليها من ثقات العلماء»(2).

ومنها: وقال الصدوق في "الفقيه": «واما خبر صلاة يوم غدير خم والثواب المذكور فيه لمن صامه، فان شيخنا محمد بن الحسن رضي الله عنه كان لا يصححه ويقول: انه من طريق محمد بن موسى الهمداني وكان كذاباً غير ثقة، وكل ما لم يصححه ذلك الشيخ (قدس سرّه) ولم يحكم بصحته من الأخبار فهو عندنا متروك غير صحيح»(3).

قيل: وهذا القول من الصدوق ظاهر في اعتبار الوثاقة.

ولكن الظاهر ان مفاده عقد السلب لا عقد الإيجاب، أي أن كل ما كان رجاله غير ثقات فهو متروك غير صحيح، لا ان كل ما كان صحيحاً فصحته إنما هي لسنده، بل قد تكون لقيام القرائن "الأربعة" على صحته، بعبارة أخرى: لا ينتج رفع التالي في كلامه رفع المقدم، فتأمل.

ولا يرد عليه(4)

الإشكال بكونه لجهة انفراده به - أي انفراد محمد بن موسى

ص: 60


1- بحار الانوار: ج10 ص405.
2- خاتمة مستدرك الوسائل: ج1 ص189.
3- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص91، الحديث 1817 من النسخة الليزرية.
4- أي على الاستدلال بعدم تصحيح ابن الوليد رواية الغدير.

الهمداني - إذ لو ثبت ذلك، فانه مؤكد للأصل لديه وهو عدم الرواية إلا عن الثقات، واما نقله خبر الضعيف فلوجودخبر ثقةٍ على وفقه فعليه المعوّل لا على الضعيف، والحاصل: ان وجود خبر ثقة مطابق له هو الذي برّر له نقله عن الضعيف أيضاً لا لاعتماده عليه بما هو هو فنقله للضعيف مرآة لوجود الخبر عنده بطريق صحيح. فتدبر.

فإن قيل: إن كلامه هذا يدل على منهج توثيق المخبرين في خصوص رواياته عن سعد بن عبد الله، ولكن اثبات الشيء لا ينفي ما عداه، فلعله في بعضها انتهج توثيق المخبرين فكان حجة في حق المجتهد الآخر، بينما في بعضها الآخر قد انتهج توثيق الرواية، فهو ليس بحجة.

كان الجواب: إضافة إلى ما سبق من أن منهجه لو كان التصحيح المضموني لما كان هناك وجه للتقييد بالصحيح السندي، فتقييده بنقل الخبر الذي رواته ثقات في مورد، يصلح قرينة عرفية على مسلكه العام، إضافة إلى ذلك فانه عند تتبع سيرة الصدوق وبعض كلماته الأخرى ومنها هذه الكلمة نجد أن مسلكه العام هو هذا وأنه ينهج توثيق المخبرين كأصل.

5 بملاحظة السيرة العملية للشيخ الصدوق، فإننا عندما نتتبع كتبه فسوف نجده يعتمد كأصل على مسلك توثيق الرواة. وإن حصل وعثرنا على توثيق واحد من خلال المضمون، فإنه لا يقدح بالمسلك العام الذي انتهجه، بل يرفع اليد عن العام بالقدر الذي ثبت خروجه عنه.

هذا إضافة إلى ما سبق من قوله: «بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به وأحكم بصحته» والعبارة تكشف عن أن التوثيق توثيقٌ سندي، وقد سبق منا أن الأصل في الصحة ان تقوم على توثيق السند، فتأمل(1).

ص: 61


1- مع ذلك فان سيرة الصدوق وكلماته بحاجة إلى تتبع أكثر.

تواتر أكثر الروايات

6 وقد يستند إلى تواتر الروايات زمن الصدوق لإثبات ان تصحيحه سندي فقد قال السيد المرتضى(1):

إن أكثر أخبارنا متواترة(2)، وهذا يكشف - على فرض تماميته - عن أن الشيخ الصدوق لم يكن بحاجة إلى أن يتمسك بتصحيح الرواية عن طريق المضمون.وليس ما قاله السيد المرتضى ببعيد، ويتضح ذلك بملاحظة انه كلما قرب عهدنا بمرجع معين مثلاً أمكننا تحصيل التواتر على آرائه وأقواله، أو تحصيل القرائن السندية القطعية، أو الظنية بالظن المعتبر، على صحة السند، ويوضح ذلك: ان عدداً من الأئمة خاصة الصادقين (علیهم السلام) كانوا من المكثرين في الروايات، وان الرواة عنهم بالمئات بل بالألوف، إذ كان يحضر مجالس دروس الإمام الصادق مثلاً المئات من الرواة والفقهاء، حتى بلغ تلامذته أربعة آلاف وقيل عشرين ألفاً، ومن السهل بعد ذلك تحصيل التواتر - أو لا أقل القرائن السندية - على الرواية.

ص: 62


1- قاله في "التبانيات" ونقله عنه ايضاً "معالم الدين وملاذ المجتهدين ص 196، قال: (وقد أورد السيد على نفسه في بعض كلامه سؤالا هذا لفظه فإن قيل إذا سددتم طريق العمل بالأخبار فعلى أي شيء تعولون في الفقه كله وأجاب بما حاصله أن معظم الفقه يعلم بالضرورة من مذاهب أئمتنا (علیهم السلام) فيه بالأخبار المتواترة) كما نقله عنه المحقق الكاظمي في نهاية الدراية ص100 تحت عنوان التواتر اللفظي. ونص عبارة المرتضى كما في رسائل الشريف المرتضى / المجموعة الأولى اعداد السيد مهدي الرجائي ص26 هو: (...ليس كل ما رواه اصحابنا من الاخبار وأودعوه في كتبهم وان كان مستندا الى رواة معدودون من الاحاد، معدوداً في الحكم من اخبار الآحاد، بل أكثر هذه الاخبار متواتر موجب للعلم...)
2- وأضيف: ان ما لم يكن متواتراً منها فانه محتفّ بقرائن سندية تفيد القطع، أو الاطمئنان على الأقل، بسنده.

ويوضح ذلك أكثر "الأصول الأربعمائة" وتكرر وتعدد روايات المسألة الواحدة فيها.

كما يؤيده "الاعتبار"، فان مقتضى القاعدة ان يسعى الأئمة الأطهار إلى التبليغ والإنذار والهداية والإرشاد بأفضل الوجوه وأقواها في قطع العذر على العبد، وذلك عبر إيصال الخبر للمكلفين بطرق قطعية قدر المستطاع، ومنها: التواتر، ومنها: حفّه بما يوجب القطع السندي بصدوره كابراً عن كابراً، فتدبر وتأمل.

نعم، اليوم وفي مثل ظروفنا وبعد القرون التي فصلتنا عن عصر النص وبعد أن حصل ما حصل من مجريات الأحداث وتعاقب الحكام والدول فإن الحصول على أحاديثهم (علیهم السلام) بصورة متواترة أمر صعب، ولكن في زمن الشيخ الصدوق والشيخ الطوسي والسيد المرتضى لم يكن الأمر كذلك، علما أن كثيرا من تلك الأصول أدمجت مع كتاب الكافي الذي بين أيدينا.

نعم، غاية ما يقال: إن الأخبار في ذلك الوقت وان كان أكثرها متواترا أو محتفّاً بقرائن قطعية سندية إلا ان بعضها كان قطعيا لاحتفافه بأحد القرائن المضمونية وهي أربعة:

1 الموافقة للكتاب العزيز.2 الموافقة للسنة المعلومة.

3 الموافقة للأصول العقلية.

4 الموافقة للإجماع. وعليه: فان التوثيق يرجع حدسياً.

والجواب: اولاً «صغرى»: قلة ذلك، بما لا يخل بالأصل(1) فتأمل.

ص: 63


1- أصل التوثيق السندي.

ثانياً «كبرى»: بان موافقة المضمون لأحد الثلاثة الأولى، قرينة قطعية لا تتحمل الاجتهاد المخالف عادة، وان وجد فنادر.

وأما الموافقة للإجماع، فموارده معدودة يمكن حصرها، وحصر سوابقها ايضا، فما لم يكن منها، فهو حجة سنداً، وما كان منها فليلاحظ الفقيه مدى تمامية قرينيّة تلك على تصحيح المضمون. فان المهم إثبات صحة مراسيل الصدوق مما لم تكن قطعية المضمون لموافقتها للكتاب أو السنة المتواترة أو العقل القطعي إذ هذه ثابتة فلا حاجة في الالتزام بالحكم، للاستناد إلى خصوص المرسل(1)، فتدبر.

دعوى حجية روايات «الفقيه» على كلا الاحتمالين

ومع قطع النظر عن ذلك كله، فإن قول الرجالي حجة في حق المجتهد الآخر من باب الاطمئنان، والاطمئنان ليس قسيما للوسائل الأخرى المثبتة للحجية «كخبر الثقة وشهادة أهل الخبرة...إلخ» بل مقسم لها، فتوثيقه للخبر حجة، كتوثيقه للمخبر.

لكن هذا الجواب أخص من المدعى، إذ لا يفيد الحجية إلا في صورة الاطمئنان، إلا أن يدعى أنه يورث الاطمئنان النوعي فليس المدار على الشخصي منه، فيرجع الى احد الوجوه المبنائية الاخرى، فتأمل.

ونضيف: انه إذا "كانت العصابة قد أجمعت على تصحيح ما يصح عن ابن أبي عمير" لأنه لا يروي إلا عن ثقة، فيحق لنا أن نصحح ونعتمد مراسيل الشيخ الصدوق، وذلك لأن "الشيخ الصدوق" قد صرح أنه لا يذكر «إلا ما يفتي به» أي من خلال الحدس «ويحكم بصحته» الظاهر في انه أراد من خلال الحس(2)، وهذا

ص: 64


1- على انه معتضد بها وهي قرينة صحته.
2- فصلنا النقاش حول ذلك في موضع اخر.

تأكيد منه على توثيق كافة رواياته مضمونا وسندا، في حين إن ابن أبي عمير لم يصرح، إلا أن الأصحاب استنبطوا أنه لا يروي إلا عن ثقة(1)، فكيف نهجر مراسيلمن يصرح انه لا يروي إلا ما يحكم بصحته، بينما من لم يصرح انه لا يروي إلا الصحيح نتمسك بمراسيله ونعمل بها! وسيأتي بعد قليل(2) تحقيق ذلك.

آراء الشيخ البهائي وبحر العلوم والمحقق الداماد بمراسيل الفقيه

يرى الشيخ البهائي (قدس سرّه) أن مراسيل كتاب "من لا يحضره الفقيه" والبالغة حوالي 2050 ألفين وخمسين خبرا كلها حجة، وقد استدل على ذلك بوجوه كما انه نَقَل عن بعض أعلام الأصوليين ان مراسيل العدل أقوى من مسانيده.

بل ان الشيخ البهائي ذهب إلى أن مراسيل الشيخ الصدوق لا تقصر عن مراسيل ابن أبي عمير فقد قال في "شرح الفقيه" عند قول الصدوق: وقال الصادق جعفر بن محمد (علیه السلام): «كل ماء طاهر حتى تعلم انه قذر»، «هذا الحديث من مراسيل المؤلف وهي كثيرة في هذا الكتاب تزيد على ثلث الأحاديث الموردة فيه، وينبغي أن لا يقصر الاعتماد عليها عن الاعتماد على مسانيده من حيث تشريكه بين النوعين في كونه مما يفتي به ويحكم بصحته ويعتقد انه حجة بينه وبين ربه، بل ذهب جماعة من الأصوليين إلى ترجيح مرسل العدل على مسانيده محتجين بأن قول العدل "قال رسول الله كذا" يشعر بإذعانه بمضمون الخبر، بخلاف ما لو قال حدثني فلان عن فلان انه (صلی الله علیه و آله) قال كذا، وقد جعل أصحابنا مراسيل ابن أبي عمير كمسانيده في الاعتماد عليها لما علموا من عادته انه لا يرسل إلا عن

ص: 65


1- مع انه يمكن ان لا يكون مبناه ذلك بل صرف انه لا يروي الا الرواية الموثقة - أي ان يعتمد وثاقة الرواية - دون خصوص وثاقة الراوي، بل لو بني على عدم الرواية الا عن الثقة فمن اين توافق اجتهادنا الرجالي مع اجتهاده في التوثيق ؟ قد أجبنا على كلا الاشكالين في ما سيأتي، فلاحظ.
2- بعد حوالي صفحتين او اقل.

ثقة»(1)

وقد نقل ذلك عنه المحدث النوري في خاتمة المستدرك الفائدة الخامسة.

وقال المحقق الداماد في "الرواشح السماوية": «وإنما يتم إذا كان الإرسال بالإسقاط رأساً والإسناد جزماً كما لو قال المرسل: قال النبي أو قال الإمام، وذلك مثل قوله الصدوق في الفقيه: "قال (علیه السلام): «الماء يطِّهر ولا يطَّهر»" إذ مفاده الجزم أو الظن بصدور الحديث عن المعصوم (علیه السلام) فيجب ان يكون الوسائط عدولاً في ظنه وإلا كان الحكم الجازم بالإسناد هادماً لجلالته وعدالته»(2).

وقال: «وعلى هذا لا يختص الأمر بجماعة معدودة نقل الكشي إجماع العصابة على تصحيح ما يصح عنهم، بل كل من يثبت بشهادة النجاشي أو الشيخ أو الصدوق أو غيرهم من اضرابهم، انه في الثقةوالجلالة بحيث لا يروي عن الضعفاء ولا يحمل الحديث إلا عن الثقات، فان مراسيله يجب أن تكون مقبولة»(3).

وقال السيد بحر العلوم: «إن مراسيل الصدوق في الفقيه كمراسيل بن أبي عمير في الحجية والاعتبار، وأن هذه المزية من خواص هذا الكتاب، لا توجد في غيره من كتب الأصحاب»(4)، وتبنّى ذلك المحقق التفريشي في شرحه على "الفقيه" أيضاً.

بل نقل السيد بحر العلوم الإجماع فقال: «وأحاديثه - أي الفقيه - معدودة في الصحاح من غير خلاف ولا توقف من أحد حتى أن الفاضل المحقق الشيخ حسن بن الشهيد الثاني مع ما علم من طريقته في تصحيح الأحاديث، يعد حديثه من الصحيح عنده وعند الكل»(5).

ص: 66


1- خاتمة مستدرك وسائل الشيعة: ج5 ص 122 عنه.
2- الرواشح السماوية: ص174 وفي طبعة ص255.
3- الرواشح السماوية: ص174 وفي طبعة ص255.
4- الفوائد الرجالية السيد بحر العلوم: ج3 ص300.
5- الفوائد الرجالية للسيد بحر العلوم: ج3 ص299، راجع بقية كلامه.

مجموعة من الإشكالات على مراسيل الصدوق

اشارة

مجموعة من الإشكالات على مراسيل الصدوق(1)

الإشكال الأول: الفرق بين مراسيل ابن أبي عمير ومراسيل الصدوق

لقد أشكلوا(2)

على كلام البهائي المتقدم: «وقد جعل اصحابنا , مراسيل ابن ابي عمير كمسانيده في الاعتماد عليها...» بما يلي: أنه يوجد فرق بين المقامين، فإن العصابة كانوا قد طأطؤا رؤوسهم لمراسيل ابن أبي عمير، بينما لم يفعلوا ذلك مع مراسيل الصدوق.

الجواب: لنا ان نسأل عن وجه التسليم وسبب الطأطأة لابن أبي عمير، فهل النكتة في ذلك تعبدية تخص ابن أبي عمير أو عقلائية يمكن أن تشمل الصدوق؟ الظاهر انه لا وجه للاحتمال الاول بل ان نكتة ذلك عقلائية عقلية، ووجودها عند الصدوق أقوى أو مماثل، لما سبق(3).

لا يقال: «ظاهر كلام الأصحاب في مراسيل ابن أبي عمير بخصوصها، انها في الحقيقة صحاح مسانيد، معلومة الإسناد عنده إجمالاً، وان كانت أسانيدها قد فاتته على التفصيل، لحكايته المحكية في كتابي أبي عمرو الكشي وأبي العباس النجاشي»(4).

إذ يقال أولاً: لا دليل في حكايته المحكية - ولا في غيرها ظاهراً - على انه لا

ص: 67


1- او على الادلة التي اقيمت على حجيتها.
2- مثلاً صاحب (تكملة الرجال) وأيده على ذلك (مقباس الهداية)
3- من تصريحات الشيخ الصدوق ولما سبق من الوجه العاشر.
4- الرواشح السماوية ص257.

يروي إلا الصحاح المسانيد، فراجع حكايته في كتابي النجاشي والكشي إذ لا دليل فيها على تقيده برواية الصحاح، غاية الأمر عدم روايته عن المخالفين، خاصة إذا لاحظنا انه كان يحفظ أربعين جلداً فسماه نوادر. فلذلك توجد أحاديث متقطعة الأسانيد كما في رجال الكشي وقال النجاشي: «وقد صنف كتبا كثيرة... قال: صنف محمد بن أبي عمير أربعة وتسعين كتاباً منها... ».

ثانياً: وعلى فرض ان ابن أبي عمير صرح بتصحيح رواياته، فلا دليل على انه أراد الصحة باصطلاح المتأخرين - أي الصحة السندية - بل لعله أراد الصحة، باصطلاح المتقدمين - على ما قالوه من اصطلاحهم - أي الصحة المضمونية وهي أعم من الصحة السندية.

والحاصل: إن عباراته لا تزيد على عبارة الصدوق فلاحظ، اللهم إلا ان يثبت انه صرح ب "رواياتي كلها صحاح مسانيد عن ثقات" وليس ذلك بثابت.ثالثاً: الظاهر ان دعوى تصحيحه رواياته سنداً، بتوثيق رجالات إسناده، ما هو إلا حدس من المدعين لذلك، فان كان حجة فلتكن نظائره - كالحدس بتوثيق الصدوق رجالات إسناده في الفقيه - كذلك.

وبعبارة أخرى: دعوى تصحيحه رواياته تعود اما لاستقراء بعضها فوجدوها مسانيد فحكموا بان غيرها مثلها، وفيه: ان هذا حدسي(1).

واما حسن الظن به وانه لا يرسل إلا ما كان أسنده عن ثقات، ففيه: انه لا وجه له مع صحة نقل الروايات الموثوق بها وعدم منافاتها لحسن الظن به. أي انه مع حسن وصحة نقل كل من صحيح السند، وصحيح المضمون للقرائن، فلا معنى لسوق حسن الظن به إلى نقله صحيح السند دون قسيمه، بل حسن الظن

ص: 68


1- على انه غير متحقق اذ لم يكن من الممكن استقراء رواياته وقد تلفت كتبه كلها، فتدبر.

يقتضي عدم تركه الرواية الصحيحة المضمون، الثابتة وان كان ثبوتها لا من جهة صحة السند(1) وذلك تحفظا منه على الاحكام الشرعية وحفظا لها.

الإشكال الثاني: الفرق بين نحوي ارسالة ب: «روى عن» او «قال الامام»

قال بعض الأعلام(2):

لو أرسل الصدوق قائلا: "روي عن الإمام.."، فإن إرساله لا يكون حجة حينئذ، ولو قال: "قال الإمام". فإن إرساله سيكون حجة.

وذلك ببيان: أنه لو لم يكن طريق الشيخ الصدوق إلى الإمام صحيحا ومعتبرا لما جاز له أن ينسب الحديث للإمام، وإلا كان من الافتراء المحرم. وحيث نعلم من الخارج عدالة الشيخ الصدوق وورعه فإننا ننفي احتمال الافتراء.

وفيه: الظاهر أن مراسيل الصدوق المبدوءة ب "قال" و "روي" كلها حجة لما سبق من وجوه حجية مراسيل الثقات فإنها اعم من الوجهين، اما هذا التفصيل فلا وجه له وذلك لأن الخبر يكون حجة لأحد أمرين: 1 وثاقة المخبرين. 2 وثاقة الخبر.فلو كان الخبر في نظر المرسل معتبرا عنده للقرائن الحافة لجاز له نسبته للإمام، من غير أن يكون كاذبا أو مفتريا. والحاصل: أن المحقق الداماد والسيد الخوئي وغيرهما استدلوا بالأعم على الأخص وهو غير صحيح.

وسيأتي لاحقا بيان وجه عدم الفرق بين نحوي الارسال في ضمن الجواب عن من قال بالمساواة بين "قال" و "روي" .

ص: 69


1- وقد ذكرنا جوانب أخرى عن مراسيل ابن أبي عمير في موضع آخر فلاحظ.
2- ومنهم المحقق الداماد في الرواشح السماوية، ومنهم السيد الخوئي في إحدى دروات أصوله السابق، وان عدل عنه لاحقاً في مصباح الأصول.
الإشكال الثالث: رواياته حجة في الجملة، لا بالجملة

إن قول الصدوق: «وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعول واليها المرجع» قد يراد منه أن روايات تلك الكتب أغلبها عليها المعول، أي أنها حجة في الجملة لا بالجملة.

فإنه يجوز أن نطلق على كتاب معين أن عليه المعول عندما تكون أكثر رواياته صادقة، بالحمل الشايع الصناعي. ومادام الأمر كذلك فلا يمكن الالتزام بصحة واعتبار جميع ما في كتاب الشيخ الصدوق، إذ سنتوقف عند كل رواية رواية لنسأل: هل هذه فعلا عليها المعول أو لا، ولا دليل يدل على ذلك.

الجواب: للتخلص من هذا الإشكال علينا أن نثبت أنّ الشيخ يقصد أنها «عليها المعول» على نحو الاستغراق، وقد يتم ذلك بوجهين:

الاول: لقد كان الشيخ الصدوق في الواقع يوثق من خلال عبارته هذه آحاد الروايات وكل ما في الكتاب، أي بالجملة لا في الجملة. فلو كان المراد من قوله: «وجميع ما فيه مستخرج من كتب عليها المعول وإليها المرجع» هو أنّ عليها المعول في الجملة، لما صحّ قوله: «وجميع ما فيه» لأنه لو كانت تلك الكتب المشهورة حجة في الجملة لما أفادت حجية جميع ما نقله عنها، فإنه كان في مقام تثبيت وتصحيح كل رواية رواية انتزعها من تلك الكتب، وذلك يتوقف على حجيتها بالجملة لا في الجملة، وإلا لزم نقض الغرض ولو في الجملة، فتأمل(1).

ص: 70


1- اذ جميع ما في "من لا يحضره الفقيه" مستخرج من هذه الكتب المشهورة التي عليها المعوّل، لكن يصدق "على هذا الكتاب المعول واليه المرجع" مع الاعتماد عليه بنحو الاقتضاء دون الفعلية في كل خبر خبر، لوجود معارض او قصور دلالة او سند او غير ذلك، فتأمل؛ اذ الظاهر ان الصدوق بصدد توثيق جميع ما في "من لا يحضره الفقيه" بكونه مستخرجا من كتب عليها المعوّل لكي يعمل بها فلو لم تكن احاد الروايات كلها مما عليها المعول لما صح الاعتماد على "جميع ما استخرج مما هو في الجملة عليه المعول" فتأمل.

الثاني: إن ظاهر الجملة عرفا هو الاستغراق، وما يرشد الى ذلك ما لو قلنا: إن خبر الثقات عليها المعول وإليه المرجع، فإن المستفاد منه أن كل خبر ثقة عليه المعول، وليس بعضه، فإن إرادة البعض خلاف الظاهر، بل قد يقال بأنه مجاز من قبيل استعمال العام في بعض مصاديقه، وقد ذهب البعض إلى أن استعمال العام في بعض المصاديق مجاز(1) وحتى على فرض العدم فانه خلاف الأصل.

الإشكال الرابع: اعتماد الصدوق على أصول ضعيفة

من المصادر التي اعتمدها الشيخ الصدوق في كتابه "من لا يحضره الفقيه" هو كتاب "نوادر الحكمة" لمحمد بن أحمد بن يحيى، الذي استثنى ابن الوليد مجموعة من مشايخه غير الثقات، وكان عددهم 24 رجلا، وتبعه في ذلك الشيخ الصدوق، وكذلك اعتمد الصدوق على كتاب المحاسن للبرقي وعلى كتاب الحسن والحسين ابني سعيد، وهذه الكتب لا يمكن الاعتماد والتعويل عليها بالجملة بل في الجملة، بينما الصدوق قال: «وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعول واليها المرجع»، فيُنقض عليه بأن بعضها ليس عليها المعول بالجملة بل في الجملة، وبالتالي يكون كتابه "من لا يحضره الفقيه" عليه التعويل في الجملة لا بالجملة. وإذا أمكننا التخلص من هذا الإشكال بمراجعة كلّ سند سند، فماذا نفعل مع المراسيل؟

وهنا جوابان:

الأول: إن كل ما في كتاب "من لا يحضره الفقيه" حجة بحسب تصريح الصدوق إلا ما عُلم استثناؤه منه، وهنا بيت القصيد، فإن الشيخ قد استثنى

ص: 71


1- وقد يفصل بين ما لو أريد البعض على نحو بشرط لا فمجاز أو على نحو لا بشرط فحقيقة.

بنفسه غير الثقات، فيبقى الباقي على الأصل، فانه يقول جميعه عليه المعول ثم يستثني منه «24» رجلا. اذ انه يصرح أن من وثقه شيخه فإنه يوثقه ومن يجرحه يقبل تجريحه. وهذه قاعدة عقلائية في كل الاطلاقات والعمومات. فإن العام حجة في الباقي أي عندما يرد مخصص فإننا نرفع اليد عن العام بقدر المخصص لا أكثر ويظهر ذلك بملاحظة ان «أحلّ الله البيع» مطلق، وعندما ورد مخصص يتعلق بحرمة البيع الربوي فانه رغم كونه متصّلاً إلا اننا بقينا متمسكين بالإطلاق فيما عدا هذا الخاص. وعلى ذلك سيرة العقلاء وبناؤهم.الثاني: ان معنى قول الصدوق: «عليها المعول وإليها المرجع» أي بما هي هي، أي بغض النظر عن وجود معارض أو قرينة على الخلاف، أي أن بحثه عن المقتضي للحجية الذي يكون فعلياً مع عدم وجود المانع ويتضح ذلك أكثر بملاحظة الأمثلة الأتية:

المثال الاول: لو قلنا: خبر الثقة حجة، فنحن نقصد انه بما هو هو حجة، فلا ينقض علينا بعدم الأخذ بخبره عندما يعارضه خبر ثقة آخر اقوى او مطلقا - على المبنيين - او عندما نجده مخالفا للكتاب أو غير ذلك.

المثال الثاني: انه يصح بالحمل الشائع الصناعي من الشخص قوله إن معوّلي على المرجع الفلاني حتى لو كان في احتياطاته يرجع لغيره، او لو كان في النادر منها يرجع الى غيره(1).

المثال الثالث: لو قال شخص ان صرف الرضي او مدرسة الميرزا النائيني مثلا هي مرجعيتي الصرفية او الاصولية، فان ذلك لا يعني انه لا يرجع أبداً حتى في النادر من المسائل الى غير هذين الكتابين، وكذلك لا يعني انه في كافة المسائل

ص: 72


1- لتساويهما في العلمية او لعدم فتوى الاعلم بوجوب تقليد الاعلم، او لاستقلال عقله بذلك وقطعه به، او لغير ذلك.

الاصولية يرجع الى مدرسة الشيخ النائيني، فانه مادام يتّبع هذه المدرسة بشكل عام وان كان يخالفها في بعض المسائل، فانه يصدق عليه كون هذه المدرسة هي مرجعيّته.

وكذا لو قال ان مرجعيتي المدرسة الاصولية او الاخبارية فان ذلك لا يعني عدم رجوع كل منهما الى المدرسة الأخرى في بعض المسائل(1).

الإشكال الخامس: ليس كل ما في «الفقيه» عليه المعوّل

ومن الإشكالات أيضا على قول الصدوق: «وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعول واليها المرجع»، إنه أحيانا يذكر روايتين متعارضتين ولا يعقل أن يكون المعوّل عليهما معاً.والجواب: إنه يقصد في عبارته أن كل ما أفتي به عليه المعول إلا إذا عارضه معارض، وبعبارة اخرى: كلامه منصرف عن هذه الصورة غير ناظر لها بالبداهة(2).

الإشكال السادس: اختلاف العلماء في توثيقات الصدوق

لقد ادعى علمان من أشهر اعلام الرجال الاجماع على صحة احاديث الفقيه وهما السيد مهدي بحر العلوم في رجاله في ترجمة الشيخ الصدوق، قال: «خصوصا كتاب من لا يحضره الفقيه فانه احد الكتب الاربعة التي في الاشتهار والاعتبار كالشمس في رابعة النهار وأحاديثه معدودة في الصحاح، من غير

ص: 73


1- كما كان صاحب الحدائق فانه كان اخباريا ثم بعد ذلك على ضوء جلسات مطولة مع الوحيد البهبهاني ذاب الحاجز الكبير والفارق العميق بين الاخباريين والاصوليين كما يذكر ذلك بالتفصيل في مقدمة حدائقه لكن لعله بقيت بقايا في اصوله وفقهه.
2- وتتمة الأجوبة تلاحظ في ضمن الجواب عن الإشكال التاسع.

خلاف ولا توقف من أحد»(1).

وهذا يعني أن السيد بحر العلوم يدعي أن على ذلك الإجماع، أي مثلما أجمعت الطائفة على تصحيح كل ما ورد عن إبن أبي عمير.

والفاضل المحقق الشيخ الحسن بن الشهيد الثاني، والمعروف بتشدده في التوثيق، فإنه كان يعدّ أحاديث كتاب "من لا يحضره الفقيه" من الصحيح عنده وعند الكل(2). وهذا يعني أننا أمام اجماعين منقولين، وهما على الأقل يعدّان مؤيداً وقد يورثان - إذا انضما الى قرائن أخرى - الاطمئنان، حتى لو قلنا بان الاجماع المنقول ليس بحجة.

وقد أثير إشكال على السيد بحر العلوم وهو: من الغريب أن يدعي السيد بحر العلوم الإجماع على صحة ما في كتاب الصدوق والحال أننا نرى الخلاف موجوداً بين العلماء في رواياته.

والجواب(3) أولاً: لعل الإجماع المدعى كان متحققا في زمن السيد وما سبقه وقد حصل الاختلاف فيما بعد.

ثم انه على فرض التنزّل نقول:

ثانياً: يمكن أن نستكشف أمرا مهما من خلال كلام العلمين - بحر العلوم والشيخ الحسن - وهو أنهما رغم استقرائهما لم يجدا من يخالف توثيق روايات الكتاب، فمعنى ذلك أن كمّاً كبيراً من أعلام الطائفة كان يرى صحة الكتاب. وهنا سيختلف طبعا موقف من يرى الشهرة حجة عمن لا يرى ذلك، بين كون هذا دليلاً او مؤيداً لكن ذلك على الاقل بانضمامه لغيره قد يورث الاطمئنان

ص: 74


1- الفوائد الرجالية: ج3 ص 299.
2- كما يحكي السيد البحر العلوم عنه في رجاله ج3 ص299. نقلا عن كتاب (المنتقى).
3- بوجهين طوليين.

العقلائي كما سبق.

الإشكال السابع: دعوى توثيق الصدوق للخبر لا المخبر

لعل الشيخ الصدوق استند في توثيق هذه الروايات إلى قوة المضمون وليس إلى صحة السند، أي إلى الحدس لا الحس، ومن الواضح أن حدس الفقيه ليس حجة على فقيه آخر.

وجوابه: يتضح مما فصلنا الحديث عنه سابقا في «قرائن تفيد توثيق الصدوق للراوي» وما سبقه من البحث عن حجية الاخبار والتوثيقات الحدسية ويظهر مما يأتي ايضاً.

الإشكال الثامن: دعوى اعتماد الصدوق على الحدس
اشارة

سلّمنا أن الشيخ الصدوق وثق رواياته عن طريق توثيق السند لا المضمون، ولكن لعل توثيقه للرجال كان حدسيا فلا ينفع في حق المجتهد الآخر.

الجواب: إن الأصل في التوثيق والجرح والتعديل أن يكون حسيا لا حدسيا فيما أمكن أن يكون حسياً وإلا فهو عن حدس قريب من الحس، ونقصد بالأصل ظاهر الحال، ومثال ذلك: لو أخبرنا شخص بأن فلانا صادق اللهجة، فما هو المتبادر من كلامه؟ هل نقول إنه بنى على حدسه في ذلك فيما أمكن فيه الحس؟! نعم، لو أنه كان قد رأى الأب صادقا فقال إن ابنه صادق أيضا، أو رأى أحدهم قادماً من بيئة واقفية فقال إن هذا واقفي، لو فعل أحد الرجاليين هذا لكان ذلك حدسا بلا شك، لكن ذلك خلاف الأصل، بل قد يُلام قائله لو انكشف انه قال ذلك عن حدس دون نصب قرينة على ذلك.

والخلاصة: إن الأصل يقتضي أنه كلما كان هناك طريق حسي إلى التوثيق فالأصل فيه أن الإخبار عنه يكون عن حس لا عن حدس، وهذه هي سيرة

ص: 75

العقلاء وعليها سيرة المتدينين، هذا كله مع قطع النظر عما سبق من حجية التوثيق الحدسي.

الحدس والحس بين النجاشي والصدوق

ثم ان مما قد يورد على الذين يعتمدون على توثيقات النجاشي ويقولون انها عن حس وليست حدسا وينقض عليهم: ماذا تقولون عن قول النجاشي: «فلان ثقة»؟ أو لا يحتمل أنه اعتمد فيها على الحدس أيضا، إن الاحتمال وارد مثلما أنه وارد في الصدوق، ومع ذلك لا تتوقفون في العمل بتوثيقه. وكذلك الحال في توثيقات الكشي وابن محبوب من المتقدمين، وتوثيقات العلامة وابن طاووس من المتأخرين وما أشبههم.

بل نقول إن ظاهر كلامهم جميعا في قولهم "فلان ثقة" انه توثيق حدسي(1)،

إلا ان الحدس قد يكون ظاهراً وقد يكون خفياً. ومن حقنا أن نتساءل: لماذا اذن يؤخذ بتوثيق النجاشي دون تردد(2) في حينيهمل توثيق الصدوق الذي يقول عنه شيخ الطائفة شيخنا الطوسي: كان جليلا، حافظا

ص: 76


1- إذ الوثاقة هي (حالة) أو (ملكة) تُحدس من ظواهر أقواله الأخرى، بعبارة أخرى: ما يسمع ويرى منه ما هو إلا سلسلة إخبارات ثبت صدقها أما كون إخباراته الأخرى كذلك، فانه يعتمد على الاستقراء المعلل، وهو حدسي.
2- الى درجة ان يقول السيد الخوئي (قدس سرّه) في معجم رجال الحديث ما مضمونه: (لو تعارض تضعيف النجاشي لراوٍ مع توثيق الإمام المعصوم له بسند معتبر، فسوف يتعارضان ويتساقطان، ونرجع للأصول الأخرى)، وهذا غريب حتى مع قطع النظر عن أن كل أخبار النجاشي تقريبا مراسيل، فإنه كان يقول: (فلان ثقة)، ويكون أحيانا بين النجاشي وبين الراوي (300) عاما ! ولهذا فإن السيد الخوئي نفسه لم يستطع الالتزام بما قاله (من أن توثيق النجاشي يدفع توثيق الإمام فيتساقطان) وذلك عندما تناول بعض الرواة، مثل المعلى بن خنيس، الذي جرحه النجاشي بينما وثقه الإمام المعصومحسب الدليل المعتبر.

للأحاديث، بصيرا بالرجال، ناقدا للأخبار(1).

الإشكال التاسع: وجود الروايات المتناقضة

وهذا إشكال آخر على الشيخ الصدوق: وهو أنه قد يروي أحيانا روايتين متعارضتين، مما لا يمكن الفتوى بهما معا، فكيف يدعى صحة روايات كتبه كلها مراسيل ومسانيد؟

والجواب: أولاً: إن وجود خبرين متعارضين لا يضر بكلامه العام في توثيق روايات كتابه، لأن الشارع وكل من بيده الاعتبار او الامضاء عندما يعتبر خبر الواحد الثقة حجة، فإنه يلاحظه بما هو هو مع قطع النظر عن المعارضات، ولو حصل ووجدنا ما يعارضه فإنه يدخل في باب التعارض فإما الترجيح بالمرجحات واما التخيير أو التساقط.

ثانياً: لعل الشيخ الصدوق يرى وجه جمع بين ذينك الخبرين اللذين قد يراه غيره متناقضتين.

مثال: قوله (علیه السلام): «ثمن العذرة حرام». وقوله أيضا: «لا بأس ببيع العذرة».فإن ظاهرهما التناقض، ولكن لعلّ الناقل لهما يرى فيهما وجه جمع لا تناقضا، بحمل الرواية الأولى على عذرة الإنسان، والثانية على عذرة غير الإنسان، لمناسبات الحكم والموضوع أو غير ذلك(2).

والحاصل: انه لا يعلم كونهما متعارضين بنظره ليستشكل عليه، بنقله لهما، على تصحيحه كل ما ورد في كتابه(3).

ص: 77


1- رجال الشيخ: ص 495، الفهرست: ص 156.
2- ككون احدى القضيتين حقيقية والاخرى خارجية او كون كلتيهما خارجية.
3- هذا الاشكال (التاسع) يعود الى الإشكال الخامس. ويمكن التفرقة بينهما بوجه، فتدبر
الإشكال العاشر: الشيخ الصدوق مقلد لا مجتهد

أشكل البعض بإن الشيخ الصدوق مقلد في علم الرجال وليس بمجتهد، فلا حجية لتوثيقه رجال رواياته بالنسبة للمجتهد الآخر، والوجه في ذلك: أنه اعتمد في توثيقه وفي جرحه لرجال نوادر الحكمة على شيخه ابن الوليد، فالتزم بما التزم به شيخه، فإن ابن الوليد قد وثق «646»(1) شيخا ذكر أسماءهم في نوادر الحكمة واستثنى «24» رجلا كان قد جرحهم، وقلده الشيخ الصدوق في ذلك تماما.

ونجيب بثلاثة وجوه:

الأول - لا شك عند فطاحا علماء الرجال في أن الشيخ الصدوق كان خِرِّيت الفن في علم الرجال وأنه مجتهد بما للكلمة من معنى في هذا الحقل، لذا يُستغرب مثل هذا الاشكال على الشيخ الصدوق ويشهد لذلك قول شيخ الطائفة الشيخ الطوسي في الفهرست: «كان جليلا، حافظا للأحاديث، بصيرا بالرجال، ناقدا للأخبار». فإن قوله: «بصيرا بالرجال» يتعلق بالسند، وقوله: «ناقدا للأخبار» يتعلق بالمضمون.

الثاني - انه وان صح إن الشيخ الصدوق استند في توثيقاته وفي جرحه على كلام ابن الوليد، ولكن استناده على شيخه كان اعتمادا لا تقليدا(2)، والفرق بينهما كبير(3)،

فقد يعتمد المجتهد على مجتهد آخر، أما العامي فإنه يقلد(4).

ص: 78


1- وقيل هم 550 شخصا نظرا لاشتراك بعض الاسماء.
2- فصلنا في ملحقات بحث الرشوة ان المكلف على اقسام خمسة، وليس اما مجتهدا او مقلدا او محتاطا، يراجع كتاب (فقه الرشوة).
3- المشهور يمنع من تقليد مجتهد لمجتهد آخر في مسألة ما وقد بينا أنه لا توجد مشكلة في ذلك وأثبتنا أنهم عملا يقلدون بعضهم في بعض المفاصل.
4- حيث انه لا يعرف المباني ولا الموازين ولا ادلة ومباني من يأخذ عنه، فلو اخذ عنه فهو مقلد صرف عكس من يعرف كل ذلك أي المباني وادلتها وخصوص مباني هذا الرجالي ثم بعد كل ذلك يأخذ عنه توثيقه وجرحه.

والحاصل: إن أهل خبرة إذا استند إلى أهل خبرة آخر، فهو معتمد عليه لا مقلد(1).

وتوضيحه: إن العقلاء يبنون على أن أهل الخبرة يمكن أن يرجع إلى أهل خبرة آخر فيأخذ منه ويعتمد عليه من باب الاطمئنان لا التقليد، وأن ما فعله الشيخ الصدوق في اعتماده على شيخه هو نفس ما فعله النجاشي وغيره من الرجاليين في اعتمادهم على مشايخهم، فقد اعتمد النجاشي في توثيقاته على كلام شيوخه، فإنه مثلا سمع من شيخه أن فلانا ثقة فبحث في الخارج فلم يجد جارحا فوثقه(2) أو سمع انه عدل ضابط وهكذا، فلا دليل على أن الصدوق فعل أقل مما فعله النجاشي، فقد لاحظ توثيقات شيخه لهؤلاء الرواة(3) ولم يجد جارحا لهم فوثقهم، وكذلك لاحظ جرح شيخه للبعض ولم يجد معارضا لذلك فجرحهم(4).والحاصل: ان اعتماد اهل الخبرة البصير العارف على تحقيقات غيره، ليس

ص: 79


1- ومرجع الاعتماد إلى (الاطمئنان) الذي هو المقسم لوجه حجية قول الرجالي وغيره.
2- او اكتفى بتوثيق شيخه او عدد من شيوخه ونفيهم ان له جارحا، إذا اطمأن به، لاحظ مثلا توثيق: جعفر بن بشير وجعفر بن محمد بن سماعة وجعفر بن محمد بن اسحاق، فإضافة الى ان توثيقه ليس مسندا بل هو مرسل فان من الواضح انه اعتمد على بعض مشايخه في ذلك.
3- او بعضهم وحيث رأى اتحاد مبانيه مع مبانيه اكتفى بذلك عن البحث عن البعض الاخر، بل يكفي اتحاد المبنى ودرجة التثبت مطلقا.
4- وهذا ما حصل مع العديد من الاعلام - ومنهم السيد الخوئي على ما قيل - عندما كان يكتفي أحياناً بالنتائج التي يتوصل إليها طلبته في بعض البحوث والتدقيقات الرجالية، ولم يقل أحد أنه كان مقلدا فيها.

بالعزيز فيهم ولا يخدش ذلك بخبرويّته كما لا يخفى.

الثالث - لو سلمنا أن الشيخ الصدوق كان مقلدا، فإنه يكفينا توثيق ابن الوليد لأولئك الرواة، وهو رجالي لا يقل شأنا عن النجاشي، وعلى هذا يكون الصدوق قد قلد مجتهدا ولم يقلد مقلدا آخر، فهو ناقل عنه فيكون حاله في ذلك كما لو قلد النجاشي وأخذ التوثيق عنه. ويضاف للتوثيق أيضا أن الشيخ الصدوق ضم رأيه إلى رأي شيخه(1).

الإشكال الحادي عشر: عدم إيفاء الصدوق بوعده

ذكر صاحب الجواهر وتبعه المستمسك ومقباس الهداية(2): أن الصدوق لو بقي على وعده - أي: إلّا ما أفتي به وأحكم بصحته وأعتقد أنه حجة بيني وبين ربي - لتمّت حجية كتابه، لكنه رجع عن وعده ولم يلتزم به.

الجواب: إن عدم التزام الشيخ الصدوق بما تعهّد به مجرد دعوى لم تثبت علميا ولم يُقم عليها دليل. اللهم إلا ان يستدلوا بان الصدوق لم يعمل ببعض روايات من لا يحضره الفقيه، وقد أجبنا سابقا بأن العام يبقى على حجيته في الباقي بعد قيام القرينة على الاستثناء.

ونقول أيضا: لاشكّ عندكم في حجية قول النجاشي كرجالي، ووجه حجية قوله هو الحسّ لا الحدس، ولكن النجاشي اعتمد على الحدس في تضعيف الراوي عشرات المرات، مستندا إلى الغلو وشبهه مما يرتبط بالمضمون، كما لو قال راوٍ مثلا: قال الصادق (علیه السلام) ليس كمثلنا شيء. فهنا سيحكم النجاشي بغلو هذا

ص: 80


1- والحاصل: ان ذلك لا يخدش في الصدوق وخبرويته كما لو ان الطوسي نقل لنا ان النجاشي وثق مجموعة وانه اعتمد على توثيقاته فانه لا يقدح في التوثيقات ولا في الطوسي.
2- الجواهر: ج5ص30، المستمسك: ج2 ص257 258 ، مقباس الهداية: ج1 ص266.

الراوي، إذ لا يُعقل أن يصدر من الإمام مثل هذا الكلام.

والحاصل: ان التتبع يشهد بان النجاشي اعتمد مرارا عديدة على الحدس، ولكن اعتماده على الحدس لا يخل بحجية قوله في سائر الموارد المشكوك حالها وبقائها على الاصل من كون توثيقه او جرحه حسّيا.

ص: 81

المبحث الثاني: حجية مراسيل الشيخ الطوسي في التهذيبين

اشارة

ولعّل الألوف من الروايات سيتم توثيقها لو أثبتنا أن مراسيل الشيخ الطوسي حجة.

وممن أكدوا على حجية مراسيل الشيخ الطوسي في التهذيبين، الحر العاملي في الوسائل وكذلك الفاضل المقداد - وهو من أعاظم علمائنا المحققين - في كتابه "التنقيح الرائع" فعندما وصل المقداد إلى مسألة: "هل يجوز بيع كلب الماشية والحائط أو لا؟" قال: «قال الشيخ الطوسي في المبسوط: "روي جواز بيع كلب الماشية والحائط"، ومثله - أي الطوسي - لا يرسل إلا عن ثقة»(1)، أي ان مرسله بمنزلة المسند، كما اعتمد الكثير من الفقهاء على مرسلة ابي الصلاح الحلبي ومقنعة المفيد في جواز صلاة الغدير جماعة رغم انها من النوافل ولا تجوز فيها الجماعة الا بحجة ودليل(2)،

فتأمل.

ص: 82


1- التنقيح الرائع: ج2 ص7.
2- كما ذكر ذلك السيد العم في استفتاء له وذكر ان ممن: (التزم بذلك: العلامة في القواعد والمحقق الكركي في رسائله والشهيدان وصاحب المدارك والمحقق الشيخ على والشيخ البهائي وشيخ الشريعة في حاشية النخبة والسيد عبد الهادي الشيرازي في حاشية العروة).

أدلة الحرّ العاملي على حجية روايات التهذيبين

ولنبدأ بما استدل به الحر العاملي، ثم نثنّي بما نستظهر دلالته:أكد الحر العاملي على أن روايات التهذيبين حجة، منطلقا من كلمات الشيخ الطوسي نفسه، وذكر على ذلك أدلة(1):

الدليل الأول: قول الشيخ الطوسي نفسه: «إن كلّ حديث عملت به فهو مأخوذ من الأصول والكتب المعتمدة»(2).

لكن قد يعترض عليه بان قوله: «كل حديث عملت به فهو مأخوذ من الأصول والكتب المعتمدة» هو شهادة من الشيخ الطوسي على أن أحاديثه مأخوذة من الكتب المعتبرة وقوله حجة علينا، ولكن الشيخ لم يتعهد بصحة الطريق من هذه الأصول المعتمدة إلى المعصومين (علیهم السلام)، كما انه لا يعلم ان المراد ب «المعتمدة» المعتمدة سنداً إذ لعل المراد المعتمدة مضموناً.

والجواب: لعل في عبارة الطوسي «مأخوذ من الأصول والكتب المعتمدة» الكفاية، للدلالة على المطلوب لجهتين:

فمن جهة: ان ظاهر "المعتمدة" هو: المعتمدة مطلقا أي هو إشارة إلى إعتماد الأصحاب على هذه الروايات سنداً ومتناً، وحصر مفاد "المعتمدة" في الإعتماد الفتوائي لا دليل عليه بل ظاهر "الكتب المعتمدة" هو الاعتماد السندي، وإن كان مبنى الناقل هو صحة الاعتماد المضموني(3) والحاصل ان تخصيص "المعتمدة" بالإعتماد المضموني أو الفتوائي، خلاف القاعدة هذا من جهة(4).

ص: 83


1- يمكن تفكيكها الى ثلاثة ادلة، كما سيأتي.
2- الوسائل، خاتمة الوسائل ج 20 ص472.
3- كالشيخ الطوسي على ما صرح به في العدة.
4- من جهة رد دعوى توثيق المضمون، دون السند.

ومن جهة أخرى(1) فان النافع في مقام العمل(2)

ان تكون سلسلة السند من الشيخ الطوسي إلى الأصول ثم إلى الإمام معتمدة، أما إذا كان بعضها معتمدا فلا ينفع ولا تسمّى حينئذ "معتمدة" بقول مطلق ولا يصح بناء العمل عليها، فمن روى عن المرجع بسند من ستة أشخاص مثلا، ثلاثة منهم كانوا ثقات وثلاثة كانوا ضعافا أو مجهولين، فلا يصح منه القول عن روايته أنها معتمدة ولا يصح منه العمل عليها.

والحاصل: إن مطلع عبارة الشيخ الطوسي يؤكد هذا المعنى، فهو يقول: «كلّ حديث عملت به» والحديث الذي يعمل به شيخ الطائفة ينبغي أن يكون كلّ رجاله معتمدين لا بعضهم(3).فإن قلت: إن كلمة "المعتمدة" تدل على الاعتماد في الجملة لا بالجملة، فعندما يطلق على انه الكتاب انه معتمد فلا يعني ذلك أنه كذلك بحذافيره، فربما يقصد غالبيته.

قلت: الأصل في هذا التعبير كون هذا الكتاب بأجمعه معتمداً، والاستثناء يحتاج إلى دليل، فإن إطلاق اللفظ ظاهر في العموم وإرادة الخصوص مجاز على بعض المباني، وإن لم يكن مجازا فهو يحتاج لقرينة على إرادة الخصوص وهي غير موجودة.

الدليل الثاني: ما ذكره الحر العاملى(4)

ايضا من: «وقد صرح في كتاب

ص: 84


1- جهة رد دعوى عدم توثيق كل رجال السند وصولاً للإمام (علیه السلام).
2- حيث قال الطوسي (كل حديث عملت به) وحيث قصد القاء الحجة على الاخرين ايضا ليعملوا.
3- نعم لا يفي هذا بالجواب عن الإشكال الثاني.
4- ظاهر كلام الحر العاملي ان هذا متمم الدليل الاول، لكن يمكن عدّه دليلا مستقلا حسب ما بيّناه اعلاه، فتأمل.

العدة بأنه لا يجوز العمل بالاجتهاد(1)

ولا بالظن في الشريعة»(2).

واستفاد الحر هنا أن الشيخ الطوسي عمل بكل هذه الأخبار بالاجتهاد القطعي لا بالاجتهاد الظني(3)،

وأشار الحر إلى أنه ما دام الطوسي كان قاطعا بأن هذه الرواية صحيحة إذن هي حجة في حقي.

ولكن الظاهر أن هذا الكلام غير تام، وذلك لأن قطع المجتهد ليس حجة في حق المجتهد الآخر بحسب المشهور.

ولكن مع ذلك يمكن الدفاع عن الحر وذلك إذا قبلنا بالتفصيل التالي: وهو أنه يوجد فرق بين الاجتهاد الظني الذي لا يكون حجة على المجتهد الآخر ولا يصح له الأخذ به، وبين الاجتهاد القطعي الذي قد يقال ان بناء العقلاء على أن صاحب الخبرة القاطع يكون قوله حجة في حق الفقيه الآخر، إذا لم يكن أهل الخبرة هذا قطّاعا ولم يكن للمجتهد الثاني إجتهادٌ فعليٌ على الخلاف، ولا يحتمل أحد أن الشيخ الطوسي كان قطّاعا، والثابت عند الجميع أنه من أهل الخبرة وخرّيت هذا الفن، وعليه فلو قطع الشيخ الطوسي فإن قطعه حجة، ويدل على هذا التفصيل ملاحظة حال العقلاء في كل العلوم ، فلورأى طبيبٌ مثلا أن زميله الطبيب الآخر قطع بكون منشأ هذا المرض هو كذا استنادا لأدلة حدسية فسوف يبني على بحثه ويعتمد عليه. اللهم إلا لو قام لديه اجتهاد فعلي على الخلاف، فتأمل.

ص: 85


1- المقصود من الاجتهاد هنا الاجتهاد المرفوض كالقياس والاستحسان وما شاكل وقد يعمم للاجتهاد الظني وسيأتي.
2- الوسائل، مجلد 10 ص472. تحقيق منشورات ذوي القربى.
3- الاجتهاد له ثلاثة اطلاقات، الاول: الاجتهاد بمعني القياس والاستحسان وما شاكل.. وهو المرفوض. الثاني: الاجتهاد القطعي من قبيل قول الرجالى مثلا: (أنا أقطع بأن فلانا ثقة). الثالث: الاجتهاد الظني: من قبيل قوله مثلا: (بحسب الظاهر فإن فلانا ثقة).

ثم انه قد يقال بان التزام الطوسي بعدم تجويز العمل بالاجتهاد والظن في الشريعة، دليل على ان عمله بالأخبار لم يكن عن اجتهاد وحدس ولا عن ظن، بل عن نقل حسي ولا يكون ذلك إلا بتوثيقه رجال السند، دون الاجتهاد لتقوية المضمون بالقرائن. وفيه ما لا يخفى(1).

الدليل الثالث: «كثيرا ما يقول الشيخ الطوسي في التهذيب في الأخبار التي يتعرض لتأويلها ولا يعمل بها: "وهذا من أخبار الآحاد(2) التي لا تفيد علما ولا عملا"(3) فعلم أن كل حديث عمل به - الطوسي - فهو محفوف بقرائن تفيد العلم أو توجب العمل»(4).

أقول: ولكن الظاهر عدم كفاية عبارة الطوسي التي أستند إليها الحرّ العاملي في دليله هذا. فإن خبر الواحد لديه - الطوسي - مردود لأنه لا يفيد العلم، ومعنى ذلك أنه لا يعمل إلا بما يفيد العلم له لكن هل العلم بوثاقة المخبرين أم العلم بوثاقة الخبر؟، وستعود نفس المشكلة السابقة إذ العلم النابع من حدس "بقوة المضمون ووثاقة الرواية" حجةٌ عليه فقط وليس بحجة على المجتهد الآخر. وسيأتي أن الطوسي يقول: لو كانت توجد قرائن على مضمون الخبر فالحجية هي للقرائن وليس للخبر. والجواب هو ما سبق وسيأتي ايضا.

أدلة اخرى على ان الشيخ الطوسي وثّق كتابيه

إن خير ما يمكن أن يُحتج به على توثيق روايات الشيخ الطوسي في التهذيبين، سواء المرسلة منها أو المسندة التي اكتنف بعض رجالها بالضعف أو

ص: 86


1- لوضوح مناقضته لمبناه الذي أوضحه في العدة من الاعتماد على القرائن الأربعة.
2- يقصد من أخبار الآحاد الخبر الضعيف.
3- (لا تفيد علما) هو مقابل ما تفيد علما وهي الأدلة الاجتهادية القطعية، وقوله (ولا عملا) مقابل ما تفيد عملا، وهي الأصول العملية، والتي تسمى الأدلة الفقاهتية والأصح الفقهية.
4- خاتمة الوسائل ج10 ص472.

بالطعن، هو كلمات الشيخ الطوسي نفسه وهو يتحدث عن آليته في كتابيه، فلو عرفنا أن الشيخ الطوسي مثلا ومن خلال كلماته أنه لم يلتزم توثيق مرسلاته، أو لم يجد غضاضة في وجود الضعاف والمجاهيل في أسناده، لكفانا ذلك مؤونة البحث عن حجية أو عدم حجية مرويّاته، ولقلنا بضرس قاطع أن رواياته التي من هذا القبيل لا دليل على تماميتها سنداً(1)، أما لو وجدناه يؤكد بصريح العبارة، وبما لا لبس فيه أو تشكيك، أنه لا يرسل إلا عن الثقات، وأنه لا يسند إلا عمّن يجوز الاعتماد عليهم في نقل الأخبار، فإن ذلك سيكون دليلاواضحا على توثيقه الإجمالي لكافّة رجال أسانيده ورواياته فتكون مراسيله ومسانيده حجة، وهذا هو ديدن وطريقة العلماء في إصغائهم لصاحب الشأن أو لمؤلف الكتاب الذي يعكفون على دراسته والأخذ منه(2).

فعبارات الشيخ الطوسي اذن هي القول الفصل في توضيح مبناه الرجالي والدرائي في توثيق الأحاديث، فإذا عرفنا مبناه اندفعت الكثير من الشبهات التي قد تسقط صحة رواياته.

ولنستعرض بعض كلمات الشيخ الطوسي في هذا الحقل:

ص: 87


1- أي من جهته، مع قطع النظر عن تحقيق حال الرواية سنداً في المصادر الاخرى، او مضمونا عبر القرائن.
2- لقد كانت عبارات الشيخ الكليني في توثيق روايات كتابه الكافي واضحة، مما دفع الكثير من العلماء إلى القول بحجية كتاب الكافي عموما، ومن هؤلاء الميرزا النائيني كما ذكرنا سابقا، وبقيت حجية روايات الشيخ الطوسي في كتابيه (الاستبصار والتهذيب) موضع ريبة، ربما لأن عبارات الشيخ الطوسي وبالطريقة التي تعرض فيها غالبا عند التحقيق - تحتاج إلى تأمل، بسبب ما قد يكتنفها من غموض أو لعدم كونها في متناول اليد للبعض، لتناثرها في مواضع شتى من كتاب (العدة) وغيره، الأمر الذي دفعنا للقيام بجمع شتاتها و بعرضها من جديد في هذا البحث والتمعن فيها.

قال الشيخ الطوسي في كتاب التهذيب - الذي هو شرح استدلالي على كتاب أستاذه الشيخ المفيد المقنعة - موضحا منهجه في الكتاب و مبناه في الاستدلال:

«فأذكر مسألة مسألة، وأستدل عليها، إما من ظاهر القرآن، أو من صريحه، أو فحواه، أو دليله أو معناه. وإما من السنة المقطوع بها من الأخبار المتواترة أو الأخبار التي تقترن إليها القرائن التي تدل على صحتها. واما من إجماع المسلمين إن كان فيها، أو إجماع الفرقة المحقة. ثم أذكر بعد ذلك ما ورد من أحاديث أصحابنا المشهورة في ذلك. وأنظر فيما ورد بعد ذلك مما ينافيها أو يضادها وابيِّن الوجه فيها، إما بتأويل أجمع بينها، أو أذكر وجه الفساد فيها، إما من ضعف إسنادها أو عمل العصابة بخلاف متضمنها»(1).

وقال في كتاب العدة: «فأما ما اخترته من المذهب فهو: أن خبر الواحد إذا كان واردا من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة، وكان ذلك مروياً عن النبي (صلی الله علیه و آله) أو عن واحد من الأئمة(علیهم السلام) وكان ممن لا يطعن في روايته ويكون سديدا في نقله ولم تكن هناك قرينة تدل على صحة ما تضمنه الخبر، لأنه إن كان هناك قرينة تدل على الصحة كان الاعتبار بالقرينة وكان ذلك موجبا للعلم، جاز العمل به»(2)

وقال في كتاب العدة أيضاً: «فهذه القرائن كلها تدل على صحة متضمَّن أخبار الآحاد، ولا تدل على صحتها أنفسها، لما بيناه من جواز أن تكون الأخبار مصنوعة، وإن وافقت هذه الأدلة. فمتى تجرد الخبر عن واحد من هذه القرائن الأربعة كان خبرَ واحد محضا...، فإن لم يكن هناك خبر آخر يخالفه وجب العمل

ص: 88


1- مقدمة كتاب التهذيب للشيخ الطوسي.
2- العدة، مجلد1 ص126، تحقيق الشيخ الأنصاري، مطبعة ستاره.

به. لأن ذلك إجماع منهم على نقله. وإذا أجمعوا على نقله وليس هناك دليل على العمل بخلافه فينبغي أن يكون العمل به مقطوعا عليه»(1).

وقال في العدة أيضاً: «وإذا كان أحد الراويين مُسندا والآخر مرسلا، نُظر في حال المرسل فإن كان ممن يُعلم أنه لا يرسل إلا عن ثقة موثوق به فلا ترجيح لخبر غيره على خبره. ولأجل ذلك سوّت الطائفة بين ما يرويه محمد بن أبي عمير وصفوان بن يحيى وأحمد بن محمد بن أبي نصر وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنهم لا يروون ولا يرسلون إلا عمّن يوثق به، وبين ما أسنده غيرهم، ولذلك عملوا بمرسلهم إذا انفردوا عن رواية غيرهم. وأما إذا لم يكن كذلك، ويكون ممن يرسل عن ثقة وغيره فإنه يُقدم خبر غيره عليه. فأمّا إذا انفرد وجب التوقف في خبره إلى أن يدل دليل على وجوب العمل به»(2).

شرح بعض عبارات الشيخ الطوسي

قوله: « فأذكر مسألة مسألة، وأستدل عليها، إما من ظاهر القرآن، أو من صريحه، أو فحواه، أو دليله أو معناه».

«ظاهر القرآن»: مثل العمومات والاطلاقات، وأن الأمر يدل على الوجوب، والنهي يدل على الحرمة...إلخ.

«من صريحه»: صريح القرآن ما يدل على المقصود بالصراحة. ومثاله: "أحلّ الله البيع" فأحلّ نصٌ وصريح في الحلية، واما "البيع" فهو ظاهر في الإطلاق لكل بيع.

«فحواه»: مفهوم الموافقة، والمراد به الأولوية، ومثاله: " لا تبخس زيدا صاعاً من حقه " فمفهوم الموافقة أنه لا يجوز أن تبخسه طنا من حقه.

ص: 89


1- العدة: ج1 ص145 - 146، تحقيق الشيخ الأنصاري، مطبعة ستاره.
2- العدّة: ج1 ص386.

«دليله»: مفهوم المخالفة، كمفهوم الشرط من قبيل "إن جاءك زيد فأكرمه" فدليله: إن لم يجئك فلا تكرمه.

قوله: «وإما من السنة المقطوع بها من الأخبار المتواترة أو الأخبار التي تقترن بها القرائن التي تدل على صحتها».

«القرائن التي تدل على صحتها» دليل على كون هذه الأخبار معتمدة صحيحة لديه، لكن المشكلة أن الطوسي نفسه يصرح ويقول ليست هذه الأخبار حجة اسنادا بالضرورة وإنما قد تكون حجة مضمونا ومتناً.

قوله: «وإما من إجماع المسلمين إن كان فيها، أو إجماع الفرقة المحقة. ثم أذكر بعد ذلك ما ورد من أحاديث أصحابنا المشهورة في ذلك».

من هنا نعرف أن طريقة الشيخ عندما يذكر فتوى للمفيد أنه يستند على الآيات أولا، فإن لم يجدها اعتمد على الخبر المتواتر أو المقطوع به للقرائن، فإن لم يجده لجأ للإجماع إن وجد(1)،

ثم بعد ذلك يستند إلى الأخبار المشهورة وهي التي عليها المعول.

إذن هذه الروايات الموجودة في التهذيبين:

1 اما متواترة أو مقطوع بها بالقرينة أو مشهورة شهرة روائية، حسب الظاهر.

2 الشيخ الطوسي أفتى على طبق مضمونها.

وعليه: فان الفقيه الذي يبني على حجية الشهرة الروائية وأنها جابرة أو كاسرة للسند يمكنه الاعتماد على هذه الأحاديث المشهورة التي اعتمدها الشيخ الطوسي، كما ان من يبني على المسلك القائل بأن توثيق المضمون يكفي في

ص: 90


1- ولا مانعة جمع بينها

حجية الرواية، فله ان يعتمد على توثيقه للمضمون بالقرينة، أو يرجع لتلك القرائن مباشرة، واما من لا يرى أي المسلكين، فان علم حال الخبر وانه من أي الأقسام الثلاثة فبها وإلّا فحيث تردد الأمر اشتبهت الحجة باللاحجة عليه، فلا يصح له الاستناد(1)

اللهم إلا على بعض ما سبق وما سيأتي من الوجوه على حجية مرسل الثقة الذي اعتمد عليه، فتدبر جيداً.

وقوله: «وأنظر فيما ورد بعد ذلك مما ينافيها أو يضادها وأبيّن الوجه فيها، إما بتأويل أجمع بينها وبينها، أو أذكر وجه الفساد فيها، إما من ضعف إسنادها أو عمل العصابة بخلاف متضمنها». والذي يتابع التهذيب يرى أن الشيخ الطوسي قام بما يشبه المعجزة فيما يتعلق بالجمع بين الأخبار،فتلك الأخبار التي تبدو إما متعارضة أو متضادة قام بالجمع العرفي بينها وكثيراً ما جاء عليها بشاهد من الروايات ليخرجها - بأحد الوجهين - عن الجمع التبرّعي.

«أو أذكر وجه الفساد فيها» يعود للسند، أما في شقه الأول «إما من ضعف اسنادها» فواضح، واما في شقه الثاني «أو عمل العصابة بخلاف متضمّنها» فلاستظهار ان عمل العصابة بخلافها، موجب لإسقاط السند عن الحجية.

إذن الأصل عنده هو ما يكون إسنادها صحيحا وان المضعف هو مضعف للسند، وهذا قرينة على أن الأصل فيما يعتمد عليه من الأخبار ليس بسبب القرائن، ولكن لوثاقته السندية وان وجد غيره - كما هو كذلك - فبالقرينة، فتأمل.

وقال الشيخ الطوسي أيضا في العدة موضحا مبناه(2):

«فأما ما أخترته من المذهب فهو أن خبر الواحد إذا كان واردا من طريق

ص: 91


1- نعم حتى على مسلك عدم حجية الشهرة، فانها لا تسقط عن الفائدة بالمرة بل تصلح كمؤيد وقد تفيد الاطمئنان بالتعاضد مع غيرها والتراكم.
2- العدة ج1 ص126.

أصحابنا القائلين بالإمامة... جاز العمل به».

وهذا صريح في نفي ما نسب له من: ان الشيخ الطوسي يعتمد في توثيقه للرجال على أصالة العدالة وانه يفسرها بظهور الإسلام وعدم ظهور الفسق، أي يكفي في الرجل أن يكون مسلما لم يظهر فسقه، وما دام مبنانا على القول بالملكة فلا تنفعنا طريقة الطوسي هذه في التوثيق. بينما نجد الشيخ الطوسي يصرح وبكل وضوح أنه لا يعتمد إلا على روايات أصحابنا، أي على الرواة الإمامية، وبخصوص نقلهم عن الرسول المصطفى محمد وآله (علیهم السلام)، إذا كانوا ممن لا يُطعن في روايته، ويكون سديدا في نقله بان لم يكن كذابا ولا وضاعا ولا غير ضابطٍ، إضافة إلى شرط نفي القرينة على الصحة.

قوله: «فأما ما أفتي به من المذهب فهو إن خبر الواحد إذا كان واردا من طريق أصحابنا... جاز العمل به».

وهذا يعني أن الشيخ اشترط شروطا دقيقة في الخبر، ولم يعوّل فيه على اصالة العدالة خاصة بتفسيرها الفضفاض من "ظهور الإسلام وعدم ظهور الفسق" بل انه يرى ويعتمد على التوثيق بالمعنى الأخص، وسيأتي تنقيح حال هذه النسبة للطوسي وتحقيق معنى العدالة المشترطة لديه.

وقال الشيخ في العدة: «فهذه القرائن كلها تدل على صحة متضمَّن أخبار الآحاد، ولا تدل على صحتها أنفسها، لما بيناه من جواز أن تكون الأخبار مصنوعة وإن وافقت هذه الأدلة»(1).«هذه القرائن كلها يقصد الأربعة التي مرت وهي موافقة الكتاب أو السنة القطعية أو الإجماع أو العقل، مثل قاعدة الملازمة وان كل ما حكم به العقل فقد

ص: 92


1- العدة، ج1 ص146، تحقيق الشيخ الأنصاري، مطبعة ستاره.

حكم به الشرع.

إذن لو وجدت إحدى هذه الأربعة فإنها تدل على صحة متضمن أخبار الآحاد أي تدل على صحة مضمون الرواية المرسلة أو التي في إسنادها ضعاف أو مجاهيل بل حتى المسندة غير المتواترة، لكنها لا تدل على صحة الخبر نفسه فربما هي أخبار مصنوعة أي مختلقة، فلو أن أبا هريرة قال سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: "البيع حلال"، فهنا المضمون صحيح لأنه مطابق للقرائن لكن الخبر ربما يكون كاذبا، بمعنى انه لم يسمعه من رسول الله (صلی الله علیه و آله).

إن هذا يعني (في الاتجاه المقابل) أن الشيخ الطوسي لو أعتمد خبرا ولكن بدون ان يعضده بإحدى القرائن الأربعة فانه يدل على انه متواتر عنده أو لا أقل من كونه مشهوراً بنظره، فتأمل.

وعلى أية حال فان قوله: «فهذه القرائن كلها... لا تدل على صحتها أنفسها...»، يرد عليه: انه في بناء العقلاء ليس المضمون فقط يكون معتمدا عليه حينئذٍ(1)، بل تلك القرائن توجب الاطمئنان نوعاً بصدور مثل هذا الخبر، كما لو دخل إلينا شخص غير ثقة وكان في هالة من الهلع والخوف وشرود الذهن وقال والعرق يتصبب من وجهه: اخبرني زيد بان مجموعة من الذئاب الضارية تقترب من القرية بسرعة كبيرة، فإن العقلاء يبنون على صحة الخبر لا صحة المخبر به فقط ويلغون احتمال كون الخبر مصنوعاً، والحاصل: ان وجود قرائن تدل على صحة مضمون الخبر هي دليل على صحة الخبر نفسه في الجملة، فتأمل(2).

وصفوة القول: إذن الظن النوعي قائم على حجية خبر الثقة وعدم حجية قول غير الثقة، وهناك ظن نوعي آخر بحجية خبر غير الثقة الذي احتف

ص: 93


1- أي حين إذ وجدت تلك القرائن.
2- لان ذلك لدى العقلاء في الجملة لا بالجملة.

بشواهد صدقه.

وقوله: «فمتى تجرد الخبر عن واحد من هذه القرائن الأربعة كان خبرَ واحدٍ محضا، فإن لم يكن هناك خبر آخر يخالفه وجب العمل به».

إذن لو تجرد الخبر من القرائن الأربعة ولم يخالفه خبر آخر وجب العمل به.

وأضيف هنا: ان من اللازم الجمع بين كلمات الشيخ الطوسي، فقد ذكر هنا - أي في ص146 - شرطا واحدا(1)، لكن لابد أن نضُمّ هذا لكلامه السابق في صفحة 126، عندما ذكر هناك أربعة شروط وهي أن يكون: خبر الواحد واردا من طريق أصحابنا مرويا عن النبي (صلی الله علیه و آله) أو آلهالأطهار (علیهم السلام) وان يكون راويه ممن لا يطعن في روايته وان يكون سديدا في نقله(2)، إذن الشروط أربعة وهذا الخامس.

قوله: «لأن ذلك إجماع منهم على نقله» والمقصود أنه إذا كان خبر الواحد موجودا ولم يعارضه خبر آخر فهذا إجماع من العلماء على نقله فهو معمول به، لديهم وحجة عندهم فوجب العمل به.

معنى "الإجماع" لدى الشيخ الطوسي

وقد يسأل: وأي إجماع هذا والشيخ الطوسي يعتمد فيه على نقل كتاب واحد من كتب الأصول، ككتاب حريز أو ابن محبوب مثلا، بل أحيانا يقول الطوسي: دليلنا عليه إجماع الطائفة، بينما لا نجد الإجماع من الطائفة عليه!

والجواب: هناك أربعة توجيهات لعبارته «لأن ذلك إجماع منهم على نقله» ونظائرها:

ص: 94


1- ان لا يخالفه خبر.
2- إضافة إلى عدم قرينة تدل على صحة المضمون فهي ستة.

الاول: المراد بالإجماع هنا الإجماع اللغوي، ومعناه العزم، قال تعالى: "فأجمعوا أمركم"(1)

أي اعزموا عليه، فيكون معنى «إجماع منهم على نقله» عزم منهم على نقله، فالفقيه عزم على نقلها لكي يُستند إليها، بمعنى ان نقل الفقيه للرواية دون ذكر ما يخالفها، دليل على قبوله لها وإلا لما نقلها دون ردّ، فنقلها دون نقل مخالفها أوردها، كاشف عن القصد والعناية والعزم على نقلها مما يعني الاعتماد عليها.

ولا دليل عندنا على أن المعنى الاصطلاحي للإجماع كان غالبا على المعنى اللغوي في زمان الشيخ الطوسي بحيث أصبح حقيقة فقهائية، بل حتى لو كانت كلمة الإجماع منقولة من معناها اللغوي إلى المعنى الاصطلاحي في زمن الطوسي، إلا أنه يمكن استخدام اللفظ وإرادة المعنى اللغوي مع القرينة الصارفة إن هجر المعنى الأول، وإلا فالمعِّينة، والقرينة موجودة وهي أن الطوسي كتب هذه الكتب في وقت كان فيه علماء العامة يراقبون ما يصدر من علماء مدرسة أهل البيت (علیهم السلام)، فقوله: «عليه الإجماع» مع علمه بان لا إجماع ومع علمه بمراقبة سائر الأطراف لكلماته،دليل على أنه أراد المعنى اللغوي للإجماع وانه العزم، ولعله بهذا المعنى كان هو المعهود لديهم، فتأمل(2).

الثاني: ان يقال: ان ما فعله الشيخ الطوسي هو استقراء ناقص لكنه معلل أو كالمعلل؛ اذ لاحَظَ فيه آراء كبار العلماء في زمنه، ثم استعان بالحدس على أن

ص: 95


1- «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ». سورة يونس: 71.
2- لبعد ذلك التوجيه، ولان عزم البعض على النقل لا يوجب العمل به، عكس ما لو اريد الاجماع المصطلح - لطفاً او دخولاً او حدساً او غيرها، فتأمل.

هذا ما عليه جميع علماء الطائفة، فقال إن «ذلك إجماع منهم على نقله» كما لو أنك - رأيت كمحقق - أن الكتب الفقهية الموجودة في متناول يدك تجمع على رأي، فقلت: اجمعوا عليه، ولا يرد عليك انه لا إجماع لو عثر محقق آخر على رأي لمجتهد مغمور لم تدر به، أو لو وُجِد مجتهد لم يُبد رأيه بعد بل ان هذا الإجماع حجة لو لم يعثر على المخالف، وان احتمل. فتأمل.

الثالث: ان يقال ان هذا الإجماع الذي يدعيه الطوسي هو حكمي لا موضوعي. فبعد أن لاحظ الشيخ اتفاق عشرة من الأعاظم على هذا الرأي مثلا ادعى الإجماع، لأنه كان يرى اتفاق هذا المقدار من العلماء يحقق الإجماع أي الإجماع الذي هو حجة، لأن وجه حجية الإجماع هو اللطف أو التشرف أو شبه ذلك وقد يرى الفقيه ان الإجماع المصغر متوفر على هذا الوجه، فهو إذن حجة(1). وهذا أمر عقلائي ومقبول لدى عديد من العلماء، فإن هناك من يرى الشهرة كاشفة عن الحكم الشرعي بل ان صاحب الوسائل كان يرى أن اتفاق جماعة من الفقهاء على حكم يكفي في ثبوت صحته(2).الرابع: «إجماع منهم» أي ممن نقله على نقله، أي إجماع من النَقَلة، أي أن من نقلوا الخبر أجمعوا على نقله، وذلك بمعونة القرينة المقامية، لوضوح عدم نقل الكثيرين للرواية. ولعل هذا الوجه هو المتمم للوجه الأول. فتدبر.

ص: 96


1- وفرق هذا التوجيه عن التوجيه الثاني ان ذاك كان طريقياً أي بلحاظ انه يكشف عن ان رأي بقية الفقهاء هو ذلك، فيما يبين هذا ان الاجماع الحجة هو اجماع هؤلاء فقط فكما ان الاجماع الحقيقي هو حجة ببرهان اللطف او الدخول او غير ذلك فان الشيخ الطوسي قد يقول: ان هذا الاجماع المصغر حجة من باب اللطف او الدخول ايضا، و نحن قد لا نتفق مع هذا الرأي ولكن نريد ان نبين كيف ان الشيخ الطوسي ادعى الاجماع ولا اجماع، اذ المهم في الاجماع وهو من الادلة الاربعة ان يستند اليه لاستكشاف الرأي الشرعي، حدسا او لطفا او تشرفا فلو تحقق بالعشرة كفى.
2- وسائل الشيعة: ج30 ص247 الفائدة الثامنة.

وقوله: «وإذا أجمعوا على نقله وليس هناك دليل على العمل بخلافه فينبغي أن يكون العمل به مقطوعا عليه».

وقد تسأل: إن خبر الواحد لا يفيد القطع حتى مع تلك الشروط الستة (إماميا، غير مطعون به، سديداً، من أصحابنا عن النبي أو الإمام، لا يعارضه خبر) بل يفيد الظن، فكيف يقول يكون العمل به مقطوعا به؟

والجواب: ان كلامه دقيق، اذ يريد القطع بالحكم الظاهري، أي مقطوع بهذا الحكم الظاهري، فما دام ظاهر القرآن قائماً على «أحلّ الله البيع» فإن من حقي القول: أقسم بالله أن البيع حلال شرعاً، اذ ليس الكلام عن الواقع الثبوتي بل عن عالم الإثبات وما هو منجَّز في حقي أو ان شئت فقل، عن الوظيفة العملية.

وهناك قرينة على إفادة هذا المعنى، فقد قال: «فينبغي أن يكون العمل به مقطوعا به» يعني قطعا يوجب العمل به فهو لم يقل فإنه مصيب للواقع قطعا، بل قال العمل به مقطوع به.

والحاصل: ان الشيخ لم يكن في مقام الاصابة بل في مقام العمل.

بل نقول: ان خبر الثقة بتلك الشروط كثيراً ما يفيد القطع وكلمة «ينبغي» في كلامه تساعد على ذلك.

وقوله: «وإذا كان أحد الراويين مُسندا والآخر مرسلا، نُظر في حال المرسل فإن كان ممن يُعلم أنه لا يرسل إلا عن ثقة موثوق به فلا ترجيح لخبر غيره على خبره».

وهذه العبارة صريحة في أن المسند لا يتقدم على المرسل، شريطة أن يكون المرسل ملتزماً بان لا يرسل إلا عن ثقة، مما يعني أموراً:

ص: 97

الاول: المدار والضابطة عند الشيخ الطوسي كأصل هي وثاقة المخبرين، لا وثاقة الأخبار(1)، وعليه فلا يصحّ أن يقال بعد هذا لعلّ الشيخ الطوسي اجتهد في توثيق الخبر وبالتالي لا يكون حجة على المجتهد الآخر، لا يصح ذلك لأنه يعتمد كأساس خبر الثقة(2)،

وخبر الثقة حجة(3)،

فتأمل.الثاني: لا فرق أبدا عند الشيخ الطوسي وهو من أصحاب الفن ومن كبار علماء مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) وشيخ الطائفة، بين الخبر المسند عن ثقات مذكورين تفصيلا، وبين الخبر المرسَل الذي كان مبنى المرسِل عدم الارسال الا عن الثقات، ومن الواضح انه يريد الثقات لدى المرسل(4).

ومن هنا يمكن أن نجيب عن الشبهة التي أثيرت على الشيخ الطوسي ومفادها أن الأصل عنده هو عدالة الراوي، منطلقين من كلماته الصريحة ومن الآلية التي كان يتبعها في تنقية الروايات، والتي تشير بما لا يقبل الشك الى أن الأصل عند الشيخ الطوسي هو البحث عن وثاقة المخبر، مثلما أن الأصل عند السيد الخوئي هو ذلك. وبالتالي لا يصحّ من الفقيه قوله إنني لا يمكن أن اعتمد على توثيق الشيخ الطوسي لأنه ينطلق من إيمانه بأصالة العدالة، وسيأتي تفصيل ذلك.

والحاصل: ان الشيخ (قدس سرّه) دخل في مبحث تعارض الأخبار في قوله «وإذا

ص: 98


1- وثاقة الخبر تعني وثاقته لأمور تتعلق بمتنه ومضمونه لا سنده.
2- لا الخبر الموثوق.
3- والا كان يجب ان يضيف (فان كان ممن يعلم انه لا يرسل... او يعلم وثاقة المضمون لديه، فلا ترجيح).
4- ولا فرق عنده بين خبر ذكر فيه رجال السند الثقات وكانوا عشرين رجلا مثلا، وبين خبر كانت وثاقة المخبرين فيه مجملة، أي جاء فيه عن عشرين من الثقات أن الإمام قال كذا، سواء أَصرّح ب (من الثقات) أم لا، ما دام علم ان مسلكه الرواية عن الثقات.

كان أحد الراويين...» وذكر ان الإسناد لا يعد مزية على الإرسال ولا يرجح به.

قوله: «ولأجل ذلك سوّت الطائفة بين ما يرويه محمد بن أبي عمير وصفوان بن يحيى، وأحمد بن محمد بن أبي نصر، وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنهم لا يروون ولا يرسلون إلا ممن يوثق به، وبين ما أسنده غيرهم، ولذلك عملوا بمرسلهم إذا انفرد عن رواية غيرهم، وأما إذا لم يكن كذلك ويكون ممن يرسل عن ثقة وغيره فإنه يُقدم خبر غيره عليه» فالخبر المسند يُقدم على الخبر المرسل الذي لم يتقيد راويه - بحسب منهجيته - بالنقل عن الثقات فقط بل كان ممن يروي عن الضعاف أو المجاهيل.

وهذا المقطع موجود في بعض النسخ وغير موجود في البعض الآخر، والظاهر أنه كان موجودا لأن هذه الجملة هي مفهوم معاكس لصدر كلام الشيخ، فبعد أن قال الشيخ «إذا كان أحد الراويين مُسندا والآخر مرسلا، نُظر في حال المرسل فإن كان ممن يُعلم أنه لا يرسل إلا عن ثقة موثوق به فلا ترجيح لخبر غيره على خبره» قال: «وأما إذا لم يكن كذلك ويكون ممن يرسل عن ثقة وغيره فإنه يُقدم خبر غيره عليه» فقد ذكر القسيم الأول وحكمه، ثم ذكر القسيم المضاد وحكمه.ونحن هنا أمام أحد خيارين: فإما ان نقول إن الذي زاد هذه العبارة قد كذب فيها أو اخطأ في الزيادة، وإما أن الذي أنقصها كان قد نسي ذكرها، ولكن الظاهر - وهو الذي صرح به عدد من الفقهاء ومنهم السيد الوالد في مثل هذه الموارد - هو: «إن احتمال كذب الأول في النقل أو خطأه في الزيادة، أضعف من احتمال نسيان الثاني، ولو دار الأمر بين الزيادة والنقيصة، فالصحيح أن يقال إن تلك الزيادة صحيحة وراويها ليس بكاذب أو مخطئ، لأن احتمال الاشتباه

ص: 99

بالزيادة خاصة في جملة دقيقة متناسقة ضعيف جداً مقابل احتمال الاشتباه بالنقيصة» وقد فصلنا ذلك في بعض المباحث.

قوله: «فإذا انفرد وجب التوقف في خبره إلى أن يدل دليل على وجوب العمل به» يؤكد الشيخ أن الراوي إذا انفرد في روايته المرسلة(1)

فيجب التوقف في خبره.

إذن كيف يقال بعد هذا لعل الشيخ الطوسي يرسل عن ضعاف، والرجل يقول بصريح العبارة إن المرسل عن الضعاف يتوقف في خبره وهل يصح منه بعد قوله هذا أن يروي لنا عن ضعاف وأن يحرص على نقل تلك المراسيل غير الحجة إلى الأجيال من بعده؟! والأدهى من ذلك أن يعمل بها ويفتي في استنباطاته على ضوئها؟! اللهم لو قامت قرينة مضمونية، لكنها في التهذيبين على فرض وجودها مصرح بها، كما هو مبناه وقد نقلنا عبارته سابقاً.

ص: 100


1- ولم يكن ممن يتقيد بالرواية عن الثقات فقط.

الإشكالات المثارة على روايات التهذيبين

اشارة

الإشكالات المثارة على روايات التهذيبين(1)

الإشكال الأول: إحتمال تغاير الإستظهارين
اشارة

في مقابل الشيخ الحر العاملي والفاضل المقداد اللذين أكدا حجية مراسيل الشيخ الطوسي، فقد ذهب العديد من علماء الأصول والفقه إلى عدم حجية مراسيله، ومن هؤلاء تلميذ المقدس الاردبيلي وهو السيد فيض الله، في "حاشية المختلف" إذ اعترض على القول بحجية مراسيل الطوسي من جهة عدم حجية استظهاراته متنا علينا، وذلك لاحتمال أن يكون استظهارنا من الرواية مغايرا لاستظهار الشيخ الطوسي في مثل "جواز بيع كلب الماشية والحائط" وأشباهه، ومن الواضح أنه إذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال، وبالتالي فلا تصير استظهاراته حجّة علينا.

والجواب، أولاً حلاً : بإن الحجج على قسمين:

أ - برهانية. ب - ظاهرية.

ومن الواضح أن الحجج البرهانية أي القائمة على البرهان هي التي يبطل الاستدلال بها عند ورود الاحتمال، أما الحجج الظاهرية أي المبنية على الظواهر، فإن حجية الظاهر فيها مبنية على الظن النوعي لا الشخصي فلا يؤثر فيها الاحتمال، لأنها تتعايش مع احتمال الخلاف ولا يلزم فيها سدّ باب الاحتمالات بقول مطلق، هذا كبرويا.

وأما في البحث الصغروي فنقول: إن الحجج في باب الإطاعة والمعصية وفي باب علاقة العبيد بالموالي هي من قسم الحجج الظاهرية، كالعام والمطلق

ص: 101


1- اضافة الى ما اجبنا عنه ضمنا في طيات الكلام سابقاً فلاحظ.

والأمر «الظاهر في الوجوب»، والنهي «الظاهر في الحرمة»...إلخ، ويندر الاعتماد فيها على الحجج البرهانية، بل لو التزمنا بأن الاحتمال مخلٌ بالحجج في باب الإطاعة لاختلّ النظام؛ إذْ سنغلق عندئذ على الموالي باب حججهم. وحجية رأي الشيخ الطوسي في استظهاراته متنا وفي التزامه بصحة السند هي من قبيل حجية الظواهر، وليست من قبيل حجية البراهين، فلا يصحّ حينئذ الاستشكال بأنه من المحتمل أن الفقيه الآخر لو اطلع على الرواية لما استظهر ما استظهره الشيخ الطوسي، فإن مثل هذا الاحتمال لا يؤثر في نفى حجية استظهار الشيخ، من هذه الجهة.

وثانياً نقضاً ب :

أ - إن العام والمطلق والأمر والنهي هي حجج حتى مع احتمال الخلاف، ففي بناء العقلاء وسيرتهم لا يصحّ للفقيه أن يتعلل باحتمال الخلاف فيها حتى مع قوّته، فإنه حتى بعد الفحص يظلّ احتمالالخلاف موجودا بل قد يكون قويا، وذلك لضياع الكثير من الروايات التي قد تحوي المخصصات، أو المقيدات(1).

وإحتمال أن تكون إستظهارات الفقيه لو راجع الرواية مخالفة للشيخ الطوسي ليس أكثر من احتمال وجود مخصصات قد ضاعت علينا، ومع ذلك نجد الفقيه يلغي احتمال وجود المخصصات ويتمسك بالعام وسائر الظواهر، والأمر واضح في الأوامر والنواهي لكثرة ارتكاب التجوز فيها.

ب - إن الفاضل الحوزوي القريب جدا من الاجتهاد - الذي لم يجتهد بعد - يجوز له أن يقلد المجتهد، رغم ورود نفس الإشكال، إذ من المحتمل ومن الوارد

ص: 102


1- ككتاب مدينة العلم (الذي كان المفترض ان يكون خامس الكتب الأربعة) وكأكثر الأصول الأربعمائة إذ الموجود بالأيدي منها هو ثمانون على قول المكثرين.

جدا أن تكون استظهاراته بعد حصوله على الملكة مخالفة لكثير من فتاوى مرجعه، ومع ذلك فإن استظهارات مرجعه حجة عليه الآن واحتمال الخلاف لا يُلغي الحجية، ولا يجب عليه بذل جهد مضاعف ليحصل على الملكة فيعمل برأيه وان لم يوقعه ذلك في الحرج(1)،

فكذلك احتمال اختلاف استظهار الفقيه عن استظهار الشيخ الطوسي.

والحاصل: انه إذا كان احتمال مخالفته للطوسي فيما لو اطلّع هو بنفسه على الرواية، مخلا بحجية اسظهارات الطوسي، فهو مخل في الصورتين، أي سواء كان المعتمد على مجتهدا او من قارب الاجتهاد ، ولا فرق في بناء العقلاء بينهما.

ج - النقض بفتوى المجتهد بالنسبة لنفسه هو، فإن المجتهد الجامع يكون رأيه حجة رغم أنه يحتمل بينه وبين ربه أن رأيه سوف يتغير بعد مدة، فإن تغير المباني الفقهية أو تغير الاستظهار الفقهي كثير جدا، ومع ذلك فهو لا يُشكّل عائقا(2) أمام حجية رأي الفقيه قبل التغير.

صحة رجوع العالم بالقوة إلى العالم بالفعل

وثالثا: إن بناء العقلاء على صحة رجوع العالم بالقوة للعالم بالفعل، ولا شك أنه يصدق على رجوع المجتهد، للشيخ الطوسي، انه كذلك(3) مع وضوح

ص: 103


1- ولم نجد من افتى بوجوب تحصيله الملكة واجتهاده تعيينا إذا لم يكن حرجيا عليه.
2- او ان اعاد النظر في المسألة بدقة وتثبت أكثر، كما قال البعض بلزوم ذلك - على ما فصلناه في كتاب (الاجتهاد والتقليد).
3- هذا لو لم نقل بانه يصدق عليه رجوع الجاهل للعالم، لفر ض جهل المجتهد فعلاً برجال السند، وإن كان لإرسال الرواية وعجزه عن تحصيل العلم بحالهم ويؤكد ذلك كله وضوح ان الميرزا النائيني لو رجع الى العراقي او الاصفهاني فيما لم يجتهد فيه بالفعل او رجعا اليه، لما عده احد رجوعا من العالم للجاهل بل هو رجوع من العالم بالقوة في هذه المسألة الى العالم بالفعل، بل هو رجوع من الجاهل بهذه المسألة بالفعل - بالحمل الشائع - الى العالم بها.

ان الشيخ الطوسي هو مصداقلمن أناط بهم الأئمة (علیهم السلام) مهمة الإبلاغ عنهم إلى الناس والرواية عنهم لهم، فهو نظير من قال عنه الإمام الحسن العسكري (علیه السلام): «هذا أبو عمرو الثقة الأمين ثقة الماضي وثقتي في المَحْيا والممات، فما قاله لكم فعنّي يقوله وما أدّى إليكم فعنّي يؤدّيه»(1).

ويشمله اطلاق قوله (علیه السلام): «فانه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا»(2).

هذا اضافة الى انه قد جرت سيرة العديد من الفقهاء على أن يذكروا في رسائلهم العملية بعض الفتاوى على طبق رأي المشهور رغم أنهم يتوصلون في بحث الخارج إلى نتائج مغايرة، وقد يكون ذلك لاعتقادهم أن رأي الفقهاء الآخرين حجة مثلما أن رأيهم حجة فيما لم يطمأنوا بالخلاف فتأمل، ولنا أن نستدل على ذلك بان الأدلة الدالة على جواز الإفتاء تشملهم جميعا بوزان واحد(3).ومما يؤيد هذه النتيجة ما جاء في كتاب «تعليقة السيد علي القزويني على معالم الأصول»(4):

ذهب المشهور إلى أن المجتهد الذي اجتهد في حكم شرعي ثم

ص: 104


1- الكافي: ج 1 ص 329 ح 1 .
2- الوسائل / ح 41 / باب 11/ أحكام القضاء.
3- قد يقال ردا على كلام السيد الماتن: بأن هذا من باب الاحتياط لا الحجية - المقرر. الجواب: أولاً: قد يكون الاحتياط في ترك الاحتياط مطلقاً أو من جهة ومع ذلك يطلِقون، كما في مثال بلوغ الفتاة في سن الثالثة عشرة، ومثال حجم الكر بالأشبار فيما لو انحصر التطهير والتطّهر بالأقل - كما فصلناه في بحث الاجتهاد والتقليد - وغير ذلك. ثانياً: لو كان من باب الاحتياط لوجب ان تصاغ الفتوى بصيغة الأحوط، مع انهم أحياناً يطلقونها كفتوى وأحياناً يقولون المشهور كذا. ثالثاً: لعل بعض الموارد لا تكون فيها فتوى المشهور مطابقة للاحتياط. وفي بعض ما ذكر تأمل، فتأمل. وعلى أي فان ذلك لا يعدو كونه مؤيداً، والعمدة الأدلة وهي ما سبق ويلحق في المتن.
4- تعليقة على معالم الأصول ج7 ص346 - 347 ط: مؤسسة النشر الإسلامي،بتصرف، هي تعليقة غنية إلى أبعد الحدود وكثير من مسائلها محل ابتلاء.

تجددت له الواقعة لا يجب عليه أن يعيد النظر في كافة الأدلة السابقة إلا لو تغير اجتهاده الأول أو نسي حتى الحكم الحاصل من الاجتهاد الأول؟

وأما غير المشهور فلهم ثلاثة آراء:

الأول - «يجب على الفقيه تجديد النظر مطلقا» في كافة الأدلة المتعلقة بالمسألة التي يحتمل أن يتغير رأيه فيها فيما لو أعاد قراءة الأدلة من جديد.

الثاني - وقال المحقق الحلي: لو نسي الفقيه أدلته التي استند إليها فلا يجوز له أن يفتي على حسب فتواه السابقة، بل عليه أن يستحضر الأدلة من جديد ويراجعها مع مبانيها، وعن النهاية نسبته إلى قوم وحكي القول به عن الإمام والآمدي وفي كلام بعض الأفاضل نسبته إلى السيد العميدي وإلى العلامة في قواعده انه تفصيل حسن يقرب من قواعدهم الفقهية.

والمشهور لم يصيروا الى هذين الرأيين، والحق معهم نظرا لبناء العقلاء وإطلاق الادلة(1).

الثالث - هناك تفصيل أقوى(2)

يذكره الفاضل الجواد في شرحه على الزبدة وقد مال إليه، كما نفى البعد عنه في الزبدة، وهو: لو أن الفقيه ازدادت ملكته «بعد أن كثر اطلاعه على الأدلة والقواعد ووجوه دلالاتها وعلى الأشباه والنظائر ولاحظ مختلف أبواب الفقه وكثرت ممارسته فيجب عليه هنا أن يعيد الاجتهاد في بحوثه الماضية كلها، لاحتمال أنه لو نظر من جديد لتغيرت فتاواه.

والجواب عن الكل: ان هذا الاحتمال لا يقدح في حجية الظاهر وحجية الظنون النوعية ومنها الاجتهاد. نعم، لو قوي الاحتمال جدا بحيث ألغى الظن النوعي ببقائه على فتاواه السابقة فيما لو راجعها، وجبت المراجعة.

ص: 105


1- أي إطلاق ادلة حجية رأي الفقيه سواء أنسي الادلة ام لا وسواء احتمل تغيير رأيه ام لا.
2- لو لم نقل بما قاله المشهور، فانه أقوى من سابقيه.

ومن هنا يتضح حال الملاك والجامع، ومن فروعه: أن مثل الشيخ الطوسي لو وثّق مرسلة، فانه وان صح أن المجتهد يحتمل أنه لو راجع سلسلة السند بنفسه لما وافقه، ولكن هذا المقدار من الاحتمال لا ينفي الحجية؛ لشمول أدلتها النقلية ولعموم بناء العقلاء.

الإشكال الثاني: رواية الطوسي عن الرواة الضعاف

هناك إشكال يثيره بعض المحققين وهو: لقد ثبت لدينا أن الشيخ الطوسي يروي عن الضعاف أحيانا، فهو غير ملتزم بما قال، وبالتالي فسوف يشمله ذيل كلامه: «فإذا انفرد وجب التوقف في خبره إلى أن يدل دليل على وجوب العمل به او ملاكه.

الجواب: عن هذا الإشكال(1) الذي قد يثار أمام الكافي ومن لا يحضره الفقيه أيضاً، هو ما سبق من أن وجود بعض الاستثناءات لا يخل بحجية العام(2).

وهناك جواب آخر وهو: إن رواية هؤلاء العظماء عن الضعاف أحيانا يمكن أن يعود لواحد من هذه الوجوه:

الوجه الاول: لم يكن الشيخ الطوسي يرى ضعف هذا الراوي، وإن رأي النجاشي أو الكشي ضعفه فرضا، فمن أين لنا ان الشيخ الطوسي كان يرى ضعفه ومع ذلك عمل بروايته؟

بل نستطيع بالبرهان الإني أن نستكشف من اعتماد الطوسي على الخبر وبلحاظ مبناه من الاقتصار على وثاقة المخبرين إلا لو قامت قرينة على العكس،

ص: 106


1- بما لا يقدح بحجية سائر رواياته، بل بعض هذه الوجوه يفيد حجية حتى الروايةالتي في سندها ضعيف، أي حجية السند وتوثيق الراوي او حجية المتن والمضمون، فتدبر.
2- فما ثبت انه من المستثنى يخرج ولا فيبقى على الاصل.

أن نستكشف قوله بوثاقة الراوي، غاية الأمر أنه سيكون من مصاديق تعارض الجرح والتعديل، فالنجاشي مثلا يرى ضعفه والطوسي يرى وثاقته، هذا إذا كان اسمه مذكورا من غير ان نعلم حاله(1) واما لو لم يكن مذكورا فان احتمال جرحه من غيره لا يعارض ظهور توثيقه له، على الاصل.

ثم إن السيد الخوئي تبعاً لجمع من المتقدمين يقدم الجرح على التعديل في مثل هذا التعارض، لكن المستظهر عدم صحة تقديم الجرح على إطلاقه بل علينا أن نبحث عن نوع الجرح والتوثيق وخصوصياتهما؟ وهل الجرح مما يخفى على الموثق أو لا؟

فإذا كان الجرح مما يخفى على الموثق يتقدم عليه، أما لو لم يكن يخفى بان أمكن اطلاعه عليه عادة ومع ذلك وثّقه فلا بد من إعمال النظر في ما وثق به وما جرح به فقد يقدم هذا وقد يقدم ذاك.

الوجه الثاني: ثم على فرض أن يكون الشيخ الطوسي قد اعتمد في هذا الخبر على وثاقة الرواية لا الراوي، للقرائن الأربعة، فما دام عمل بالخبر وقد التزم أن لا يعتمد إلا علىالخبر الموثوق به، فنكتشف أن اعتماده على الخبر تابع لإحدى تلك القرائن الأربعة، فيكون المعوّل عليها.

وهذا وإن عاد إلى توثيق الرواية دون الراوي ولكن موارده قليلة وهي على أي تقدير منحصرة ومحددة فإن هذا الضعيف معتضد بخبر متواتر أو نظائره، وبالتالي فإن روايات الشيخ الطوسي إما صحيحة سندا أو صحيحة مضمونا بالقرائن الأربعة وهذا الأخير خلاف الأصل ولا يصار إليه إلا عند القرينة(2). فتأمل.

ص: 107


1- أي زائداً على تضعيف النجاشي وسكوت الطوسي.
2- وهي موجودة عادة.

الوجه الثالث: إن الشيخ الطوسي قد روى هذه الرواية عن الرجل في حالة استقامته، وان سلك بعد ذلك سبيلا آخر، كالواقفية والناووسية وأشباههم، والمعروف(1) إن ما قاله الراوي حال وثاقته يؤخذ به وهو حجة، وما ذكره حال ضلاله فلا.

هذا كله مع قطع النظر عما قاله المجلسي(2): انه وان صح أن في التهذيبين روايات سندها ضعيف أحيانا، لكن الشيخ في الفهرست ذكر أسانيده إلى تلك الأصول التي نقل عنها روايات التهذيبين. ومثال ذلك أنه في التهذيبين نقل روايات بسند ضعيف عن حريز لكنه ذكر في المشيخة عدة طرقلكتاب حريز. فمجرد ملاحظة ضعف السند لا يصحح لنا طرحه بل لا بد أن نراجع المشيخة اولاً، فإذا لم نجد طريقا صحيحا إليه - ولم يتم وجه اخر - طرحناه.

الإشكال الثالث: اعتماد الشيخ الطوسي على أصالة العدالة
اشارة

نسب بعض الأعلام المتقدمين والمتأخرين إلى الشيخ الطوسي وإلى

ص: 108


1- الذي عليه بناء العقلاء وأشارت إليه الروايات.
2- فائدة: للعلامة المجلسي تحقيقات دقيقة متنوعة تشاهد بوضوح ووفرة في كتاب (مرآة العقول) وفي مختلف مجلدات البحار. ولسنا مبالغين إذا قلنا انه أحد أبرز من ظلمهم التاريخ، فانه قدم خدمة جليلة للمذهب بل ان عطاءه لمدرسة اهل البيت عليهم السلام لا يضارعه إلا القليل بل لعله لا نظير له فقد حفظ الكثير من الروايات عن ان تضيع كما حفظ الكثير من كتبنا عن الضياع، كما كانت له تحقيقات عميقة ودقيقة ومتنوعة في مختلف الأبواب وشتى الأخبار. كما ان العلامة المجلسي عالم يمزج بين الأصولية والاخبارية فكأنه وسط بينهما، كما ان "أصوله" لو جمعت - كما يقول السيد العم دام ظله - من البحار لبلغت مجلدين ضخمين، اضافة الى بحوثه التفسيرية واللغوية والكلامية.

العلامة الحلي قولهم بأصالة العدالة، مما يعني عدم جدوى توثيقيهما(1) وبالتالي لا يكون كلامهما حجة لدى الفقهاء الذين لا يرون ذلك، فإن أصالة العدالة لا تحرز بها الوثاقة.

وقطع بعض العلماء بأن الطوسي وأمثاله اعتمدوا على أصالة العدالة في التوثيق، واحتمل ذلك البعض الآخر ولم يقطع به، لكنه قال إن الاحتمال مبطل للاستدلال، وبالتالي لا يكون توثيقهم حجة علينا. وجعل السيد الخوئي هذا الإشكال شاملا لمختلف الرجاليين الذين صححوا الروايات، فقال ما مضمونه: إن اعتماد ابن الوليد وغيره من المتقدمين فضلا عن المتأخرين على رواية شخص والحكم بصحتها لا يكشف عن وثاقة الراوي، لاحتمال كون الحاكم بصحته يعتمد على أصالة العدالة في ذلك(2).

ولقد بينا أن المراد من الصحة هناك الصحة سندا، وقلنا الصحيح عند الفقهاء القدماء وان كان أعم من الصحيح عند المتأخرين، إذ ان الصحيح لدى المتأخرين قسيم للخبر الحسن والموثق، وعند القدماء يراد من الصحيح ما ثبت صدوره من المعصوم (علیه السلام) ولكن ومع ذلك فان الصحيح عندهم - إلا من نص على خلاف ذلك كالطوسي في العدة - يراد به الصحة السندية، فراجع ما سبق.

معنى أصالة العدالة

لا بد من تحقيق المراد ب أصالة «العدالة» باختصار ثم التطرق بعد ذلك إلى

ص: 109


1- لا يخفى اختصاص الاشكال على فرض قبوله بما لو عدّلا شخصاً أي قالا انه عدل أو عادل، دون ما لو وثقاه بعبارات أخرى ك(ثقة) أو ما أشبه، إلا ان يدعى ان قولهم (ثقة) إنما كان اعتماداً على أصالة العدالة، وهو إضافة إلى ما سيأتي، ضعيف في حد ذاته جداً كما ان الإشكال يعم صورة (تصحيح الرواية) كما سيأتي في المتن.
2- معجم رجال الحديث ج1 ص74.

المباني والتعريفات المختلفة لنفس «العدالة»، فنقول: قد ذكرت معان عديدة لأصالة العدالة قديما وحديثا(1)،

نشير الى بعضها:منها (أولاً): إنها تعني الاكتفاء بالإيمان (كون الشخص مؤمناً) وعدم ظهور الفسق أو عدم إحرازه(2)، وقد نقل هذا التعريف السيد الخوئي ورتب عليه إن من يؤمن بهذا النوع من التعريف لأصالة العدالة يرى حجية كل رواية يرويها مؤمن لم يظهر منه فسق. ثم استشكل بان: «هذا لا يفيد من يعتبر وثاقة الراوي وحسنه في حجية خبره»(3).

ولكن لابد أن نميز بين عدم الظهور وظهور عدم الفسق(4)، فانه على الاول إذا كان هناك راوٍ شيعي ولم يظهر لنا فسقه(5) فهو عادل، وعليه ستكون العدالة على هذا المقياس واسعة جدا. وهذا المبنى هو المنسوب للشيخ الطوسي، مقابل من يقول بأن العدالة تعني الإيمان زائدا العلم بعدم الفسق.

ثم ان توثيق الشيخ الطوسي لرواته غير مجدٍ ما دام يتخذ مبنى عدم الظهور(6) وليس ظهور العدم.

ص: 110


1- ولا بد من التدقيق في ان التعاريف هل هي للعدالة أم لأصالة العدالة؟ وقد خلط البعض بينهما، فان العدالة صفة ثبوتية، واما اصالة العدالة فهي من عالم الاثبات باي معنى فسّر الاصل. هذا وسيذكر بعد صفحات معاني وأقوالاً ستة في العدالة فانتظر.
2- والعادل هو (من عرف ايمانه ولم يظهر منه فسق) وهذا تفسير للعدالة كما سيأتي، والأصل أمر لاحق متفرع عليه، إذ بعد تحقيق معناها يقال: ما هو الأصل في المسلم أو الإمامي، هل العدالة أو الفسق؟ فتدبر.
3- معجم رجال الحديث: ج1 ص74، وحسب النسخة الليزرية: ص70 -71.
4- وكذا بين عدم العلم والعلم بالعدم، مع اختلاف هذا المقياس عما في المتن، فتأمل.
5- او لم نعلم فسقه - حسب المقياس او التعبير الاخر.
6- او عدم العلم.

ومنها (ثانياً): انها تعني الاكتفاء بظاهر الإسلام أو الاكتفاء بمجرد الإسلام، أي بمجرد التشهد بالشهادتين، وسيتضح أن هذا مجرد توهم فلا يوجد من يقول بهذا الرأي.

وبناءً على هذا الرأي وسابقه فحتى لو صرح الشيخ الطوسي بإن هذه الرواية صحيحة الإسناد لما كان قوله حجة علينا لاحتمال اعتماده على أصالة العدالة في تصحيحه السند.

ويمكن الرد على المعنى الأول والثاني المزعوم للعدالة وتبرئة ساحة الشيخ الطوسي منهما بأجوبة ثلاثة:

الجواب الأول: انه لم يجعل الشيخ الطوسي المدار في توثيقاته المتعددة على العدالة ليقال إنها بهذا المعنى المرفوض، بل جعل المدار الوثاقة.ثم ان الضابط الذي اعتمده هو إحراز الوثاقة، لا مجرد عدم إحراز الكذب.

قال الشيخ في العدة: «فأما ما اخترته من المذهب فهو أن خبر الواحد إذا كان واردا من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة، وكان ممن لا يُطعن في روايته، ويكون سديدا في نقله»(1).

إذن هو لم يعتمد هنا على العدالة مطلقا بل صرح ب: «وكان سديداً في نقله»، وهي ظاهرة في الإيجاب والإحراز لا صِرف عدم ظهور الكذب وقال: «ممن لا يُطعن في روايته» وكلاهما ظاهر في أنه بعد الفحص لا قبله، وأنه لابد وأن يكون قد تتبع كلمات الآخرين وحالات الراوي حتى حقّ له مثل هذا القول ووصفه بهذه الصفة «كان ممن لا يُطعن في روايته».

وقال أيضا: «إذا كان أحدهما مسندا والآخر مرسلا، نُظر في حال

ص: 111


1- عدة الأصول ج2 ص126.

المرسل، فإن كان يُعلم أنه لا يرسل إلا عن ثقة موثوق به»(1) فقوله: «يعلم» صريح في انه كان يعتمد العلم بكونه ثقة، لا مجرد عدم العلم بخلافه او عدم ظهوره.

الجواب الثاني: إن القول بأن القوم كابن الوليد اعتمدوا أصالة العدالة في التعديل هو خلاف سيرتهم في علم الرجال، فعندما نتتبع سيرتهم نجدهم مشغولين بالتوثيق والتجريح، وانهم لا يقولون هذا "عادل" فقط عادة، بل ان مفرداتهم في علم الرجال تدور على التوثيق الخاص أو على الطعن الخاص، فهم يتطرقون بالتفصيل(2)

للفحص عن الراوي جرحا أو تعديلا ويوثقونه استنادا إلى ذلك، ولو كان مسلكهم أصالة العدالة لاكتفوا عند توثيق الراوي بقولهم: «مؤمن لم يظهر منه الفسق» بينما لم نجدهم يقولون ذلك. ومن الغريب بعد ذلك ان يحتمل السيد الخوئي ان يكون توثيقهم مستنداً لذلك.

قال في المعجم: «إن اعتماد ابن الوليد أو غيره من الأعلام المتقدمين فضلا عن المتأخرين على رواية شخص والحكم بصحتها لا يكشف عن وثاقة الراوي أو حسنه، وذلك لاحتمال أن الحاكم بالصحة يعتمد على أصالة العدالة، ويرى حجية كل رواية يرويها مؤمن لم يظهر منه فسق، وهذا لا يفيد من يعتبر وثاقة الراوي أو حسنه في حجية خبره»(3).

وهذه كتب الطوسي بين أيدينا نقرأ فيها توثيقاته المتعددة، فهو يقول مثلا عن إسماعيل بن فضل بن يعقوب: «ثقة من أهل البصرة»، وعن اسماعيل الكوفي يقول: «ثقة ممدوح له أصول رواها عن صفوان بن يحيى» ويقول عن

ص: 112


1- عدة الأصول ج2 ص154.
2- وباستفراغ الوسع حسب ما استطاعوا.
3- معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرجال: ج1ص71.

اسحاق بن جليل: «واقفي»، وعن أحمد بن محمد بن أبي نصرالبزنطي يقول: «ثقة جليل القدر»، اذن المقياس ليس هو العدالة وكيفية احرازها ولا هي محط النظر والبحث.

كما انه عندما يصل الشيخ إلى خلف بن خلف يقول عنه: «مجهول»، مع أن الأخير لم يكن كافرا بل هو مسلم، ولم يكن ذا انحراف عقائدي وإلا لقال واقفياً أو فطحياً أو ما شاكل، ولكن الوثاقة لم تثبت عنده فقال إنه مجهول.

اللهم إلا ان يقال: ان السيد الخوئي لم يتحدث عن "توثيق الراوي" استناداً إلى مجرد أصالة العدالة، بل كان حديثه عن "تصحيحهم للرواية" استناداً إلى تلك الأصالة، فتأمل.

وعلى أية حال فان البعض صرّح بان اعتماد العلامة والشيخ على أصالة العدالة في توثيق الرواة يمنع من قبول تعديله(1) ولعل البعض خلط بين العنوانين أو اعتبر أحدهما كاشفاً عن الآخر، فتدبر جيداً.

الجواب الثالث: لو فرض ان الطوسي اعتمد على العدالة كدليل على التوثيق، فان ذلك لا يمنع من يراها الملكة عن صحة الاعتماد عليه، ويتضح ذلك بتمهيد المقدمة التالية:

إن كلمة "العدالة" ليس لها معنى واحد، وإنما هي ذات معان عديدة(2)،

ص: 113


1- مثلاً قال بعضهم: (فان مختار الشيخ في العدالة: انها ظهور الإسلام، بل ظاهره دعوى كونه مشهوراً، فكيف يعتمد على تعديله من يقول بكون العدالة هي الملكة؟) كليات في علم الرجال: ص40، ومثلاً (قيل بان توثيقات العلامة يمكن التأمل في قبولها من ناحية انه يعتمد في بعض توثيقاته على أصالة العدالة، أي ان الأصل في كل إمامي لم يرد فيه تضعيف ولا توثيق هو العدالة، وحيث اننا لا نقبل الأصل المذكور فلا يصح لنا الاعتماد على توثيقاته) دروس تمهيدية في القواعد الرجالية ص 122، وراجع أيضاً تنقيح المقال للعلامة المامقاني، وغيره.
2- سواء قلنا بانه مشترك معنوي أم لفظي أم مجاز في بعضها، وليس هذا محل تحقيق ذلك.

وفي الحقيقة فإن هذه النقطة هي التي سببت الإشكالات، فإن العدالة التي يُشترط توفرها في الشاهدين غير العدالة التي ينبغي أن تتوفر في إمام الجماعة، والتي يجب أن تتوفر في هذين غير التي ينبغي أن توجد فيالراوي، وعدالة المجتهد والقاضي غير عدالة هؤلاء(1)، بل ان العدالة المشترطة في الراوي تعني الوثاقة، فحتى لو كان الراوي شاربا للخمر لكنه كان ثقة لا يكذب، فهو عادل بحسب المصطلح.

ولقد فرّق الشيخ الطوسي في معنى العدالة بين باب الشهادة وبين باب الرواة، بل لقد فسّر العدالة بالوثاقة، قال: «العدالة هي الوثاقة وإن كان فاسقا بفعل الجوارح». وما دام الأمر كذلك فلا يمكن أن يجري في حقه احتمال اعتماده أصالة العدالة، نعم ربما نحتمل ذلك في من لم يصرح ولكن من صرح بمسلكه فكيف نحتمل فيه العكس؟

التعريفات المختلفة للعدالة

الاول: العدالة هي ملكة إتيان الواجبات وترك المحرمات(2).

وعلى هذا فالعدالة أمر ايجابي لا سلبي مادامت ملكة. وعليه فيكون الأصل عند الشك فيها هو عدم العدالة لا العدالة، واما لو أريد بالأصل: الظاهر، ففيه انه ليست "ملكة إتيان الواجبات وترك المحرمات" بظاهر حال المسلم أو الإمامي لمجرد سلامة اعتقاده، كما لا يخفى، وهذا الجواب مشترك الورود على هذه الدعوى وعلى سائر التعاريف أيضاً، وهذا التعريف هو ما اعتمده العلامة في القواعد والتحرير وصرح به، وكذلك فعل الشهيد في الدروس والذكرى

ص: 114


1- وقد اشار السيد الوالد الى هذا التفصيل في (الفقه)، كما استدل السيد العم في (بيان الفقه) على ذلك بالروايات، فراجع.
2- أو ملكة تبعث صاحبها على الإتيان بالواجبات وتعصمه عن ارتكاب المحرمات (أو عن ارتكاب الكبيرة والإصرار على الصغيرة).

وبذلك يخرج العلامة عن ما توهمه البعض من اعتماده على اصالة العدالة.

الثاني: العدالة تعني الإتيان بالواجبات وترك المحرمات الناشئ عن ملكة، عكس الأول، لفارق ظريف(1)، والأصل عدمها، وهذا هو ما ذكره الطوسي في النهاية، كما اعتمده الصدوق والمفيد في المقنعة.

الثالث: العدالة هي الاستقامة على جادة الشرع، وهذا التعريف بنى عليه السيد حسن القمي والسيد الخوئي.

وستنفع أصالة العدالة لو كانت مجرد عدم فعل الذنوب اذ الأصل عدم فعلها فهو عادل، ولكنها تعني أيضا إتيان الواجبات، والأصل عدم الإتيان بها. إذن حتى على هذا الرأي فإن أصالة العدالة لا محللها من الإعراب(2)

بل لو جمدنا على ظاهر التعريف(3) فان الأصل عدم "الاستقامة على جادة الشرع"، لأن الاستقامة أمر وجودي.

الرابع: العدالة هي الإيمان أو الإسلام وعدم ظهور الفسق، وهذا ما انتخبه الطوسي في «الخلاف». وفي الحقيقة فإن هذا التعريف هو منشأ اللبس(4)،

فبعد ثبوت إسلامه يصح إجراؤها فان عدم ظهور الفسق كافٍ لإحرازها.

الخامس: كما قيل بان العدالة هي «ظاهر الإسلام»(5) ومجرد التشهد بالشهادتين، ومن الواضح ان مبنى الشبهة هو أحد هذين القولين الأخيرين.

ص: 115


1- فإحداهما من مقولة الفعل والاخر من مقولة الكيف - النفساني - .
2- أي لا يصح إجراؤها لإثبات ان الراوي عادل، بل الأصل عدم عدالته لتركّبها من أمرين أحدهما وجودي والأصل عدمه.
3- لا الى ما يؤول اليه.
4- وسيأتي ان الشيخ يتحدث عن خصوص عدالة (الشاهد) هنالك.
5- او الكون على ظاهر الاسلام.

السادس: العدالة هي حسن الظاهر وظهور الصلاح(1)،

بان يلازم - مثلاً - صلاة الجماعة والذكر والمزارات وصلة الأرحام كما دلت عليه صحيحة ابن يعفور، وهذا التعريف ذكره الشيخ الطوسي في «النهاية». وعلى هذا التعريف لا تجدي أصالة العدالة أيضا، لأن ظهور الصلاح أمر ايجابي والأصل في مثله العدم ويحتاج إلى إحراز.

ثم ان مزيداً من التحقيق قد يوصلنا إلى مطلب دقيق في العدالة المشترطة، وهو انه لا ينبغي ان ندور في الأبواب المختلفة «كباب شروط حجية قول الراوي وباب الشهادة و...» مدار لفظة العدالة وصدقها، بل يجب أن ندور مدار "العنوان" الذي ذكره الأئمة (علیهم السلام) في كل باب بحياله كشرط أو موضوع أو مانع أو رافع أو قاطع أو سبب أو غير ذلك.

ومن هنا قال السيد الوالد: «اللازم في كل باب مراجعة الأخبار الواردة في ذلك الباب لإثبات الحكم أو نفيه [أي: وجوب إحراز العدالة وعدمه] ...أو المراد من الموضوع الذي علق عليه الحكم، فمثلاً لو كان الحكم في باب الشهادة معلقاً على العدالة، وكان الحكم في باب صلاة الجماعة كذلك.. [الى ان يقول:] ... فان علينا التقيد بالروايات في كل باب باب وان لا نحمل أحد الأبواب على الآخر وإلا كان أشبه بالقياس، إلا لمن قطع بالمناط ومثل هذا الشخص يكون قطعه حجة عليه ولا ينفع في باب الاستدلال العلمي»(2) انتهى بتصرف.ونضيف لكلام السيد الوالد: انه إذا فسرتْ رواياتُ العدالة في بابٍ بتفسيرٍ وفي باب آخر فسّرت بتفسير آخر، فان الوجه في ذلك سيكون هو أحد الاحتمالات التالية:

ص: 116


1- وهل حسن الظاهر وظهور الصلاح (أمارة) على العدالة أو هو هي؟ احتمالان ولعلهما قولان.
2- الفقه، الاجتهاد والتقليد: ص 263.

الإحتمال الاول: أن تكون العدالة مقولة بالتشكيك على مراتب ودرجات، وقد فسّرت في إحدى الأبواب بمرتبة أشد وفي غيرها بمرتبة أخف، وذلك لاختلاف الموضوعات في الخطورة وغيرها، فإمامة الجماعة أهون من التصدي للقضاء في خصومة ما، وتولي أمور المسلمين واستنباط الأحكام الشرعية أشد منهما.

وذلك كما ان الإسلام له عدة تعريفات لأن له عدة مراتب، وكذلك الإيمان فان له عدة مراتب وتعريفات.

وكذلك الوثاقة المطلوبة في الإخبار، فإن درجة الوثاقة المطلوبة في الأخبار الخطيرة تختلف عنها في الإخبار العادية، ولذا نجد العقلاء احيانا يأخذون من الطفل إذا أخبر بأن فلانا واقف الآن على الباب بينما لا يعتمدون عليه في الأمور الخطيرة.

الإحتمال الثاني: أن تكون هناك معان متباينة وقد أطلقت عليها العدالة بنحو الاشتراك اللفظي، فالعدالة هنا بمعنى وهناك بمعنى آخر.

الإحتمال الثالث: ويحتمل أن تشير تلك التعاريف المختلفة في الروايات إلى معنى واحد، لكن الإمام تارة يذكر أمارة هنا على العدالة وفي الأبواب الأخرى أمارات أخرى، فيحدث تعارض ويتوهم الاختلاف(1).

ولكن هذا إنما يتم فيما لو ذكر في الروايات في الأبواب المختلفة لفظ العدالة.

ولكن في كثير من الروايات التي استند إليها الفقهاء في اشتراط العدالة لم تذكر لفظة العدالة وإنما ذكرت صفات معينة، من قبيل «إذا كان خيِّرا» و «عُرِف

ص: 117


1- ويحتمل كون العدالة موضوعة للجامع، وقد أريد في كل باب صنف، فلا بد من الرجوع للروايات لتحديده.

بالصلاح في نفسه»، و «إذا كان عفيفا صائنا لنفسه».. إلخ.

وفي مثل ذلك فان هنالك احتمالان بل رأيان:

الأول: فقد ذهب السيد الوالد وعدد اخر من الفقهاء إلى لزوم أن نتقيد بالموضوع الذي ذكرته الرواية من قبيل «إذا كان خيرا» و«إذا كان عفيفا صائنا لنفسه»..إلخ، أي يجب أن نتقيد بالمصطلح الشرعي وننيط الحكم مناطه، ومن الخطأ أن نفسر تلك العناوين بالعدالة ثم نبحث من جديد عن معنى العدالة وبعد ذلك نرتب الحكم على المستظهر من العدالة، بل الصحيح أن نجعل المدار في السعة والضيق وفي فهم موضوع ذلك الحكم هو نص كلام الإمام (علیه السلام) وما اخذه موضوعا للحكم.هذا اضافة الى عدم وضوح نسبة المفسِّر الى المفسَّر أي ما هي نسبته –المفسرِّ - مع تلك الصفة التي أخذها الإمام موضوعا، فمثلا ما هي النسبة بين «العدالة» من جهة وبين «عفيفا صائنا لنفسه» من جهة أخرى، اذ قد تكون النسبة هي العموم والخصوص المطلق او هي العموم والخصوص من وجه والظاهر اختلاف النسبة حسب ترجيح إحدى المعاني الستة السابقة للعدالة، بل حسب اختلاف الاستظهار لمعنى «عفيفاً صائناً لنفسه» من حيث الدلالة على الملكة وعدمها ومن حيث متعلَّق العفة والصون.. نعم لو احرز انها التساوي كان لذلك وجه.

الثاني: وفي مقابل ذلك قد يدعى اكتشاف المناط او تُدعّى العلامية وانّ «عفيفا صائنا» مشير إلى العدالة وهو ما بنى عليه جمع آخر من الفقهاء.

لكن لنا السؤال عن الدليل على ذلك؟ فانه خلاف الظاهر والاصل، وعهدة الدليل على المدعى، واما قطع البعض بذلك فان حجيته وان كانت ذاتية لكنها لا تجدي في مقام الاستدلال فكيف بمجرد الاطمئنان؟ وعلى أي فليس هذا

ص: 118

مقام تحقيق ذلك.

والحاصل: أن الشيخ الطوسي يرى تعدد المراد بالعدالة وتعدد مضامينها، وقد سبق قوله: «فأما من كان مخطئاً.. أو فاسقاً.. وكان ثقة.. لأن العدالة المطلوبة في الرواية حاصلة فيه» أي متحققة في الراوي الفاسق الذي هو ثقة في لهجته. هذا وأن هناك كلاما للشيخ الأنصاري يدل على اختلاف معاني العدالة، فراجعه.

العدالة تعني الوثاقة وزيادة لدى الشيخ الطوسي

لقد مر بنا أن الشيخ جعل المدار على الوثاقة في كتابيه التهذيبين بحسب ما جاء في العدة، ونضيف أيضا أنه وإن ذكر العدالة أحيانا فانّ ذلك لا يخل بما ذكرناه وذلك لان العدالة تتضمن الوثاقة بالمعنى المطلوب في الرواية من صدق اللهجة، فالعادل ينبغي أن يكون ثقة في كلامه، والوثاقة تعني صدق اللهجة وعدم الكذب، وعليه فالعادل ثقة وزيادة، والتوضيح الأكثر يتم عبر النقاط التالية:

الاولى: لقد اعتبر الشيخ المدار على الوثاقة، ولنضف لها العدالة بمعنى الاحتراز عن سائر المعاصي فذلك غير ضار، فإنها وثاقة وأكثر والوثاقة مما تحرز بأصالة العدالة(1).

الثانية: ان منهج الشيخ في كتبه الرجالية هو التعديل والجرح والتوثيق على ما هو المعروف في مسلك من يشترط وثاقة الراوي في حجية قوله ولم نعهد منه في رجاله الاستناد إلى أصالة العدالة في التوثيق. وهذا وإن كان استقراءً ناقصا إلا أنه

ص: 119


1- ومن المستبعد جدا استناده في قوله: (ثقة)، الى اصالة العدالة؛ اذ ظاهر هذه الكلمة الاحراز لا الرجوع الى الاصل.

أشبه بالاستقراء المعلل، لأنه يكشف عن منهجه العام.ومما يؤكد ذلك ان الشيخ الطوسي لو كان قد اعتمد على أصالة العدالة في مورد واحد لتشبث به المستشكلون، خصوصا الرجاليون المتتبعون أمثال السيد الخوئي، بينما نجده في معجم رجال الحديث لم يزد على القول ب: «لاحتمال ان الحاكم بالصحة(1)

يعتمد على أصالة العدالة»، وهذه قرينة قوية تفيد أن الشيخ الطوسي لم يعتمد على أصالة العدالة ولو في مورد واحد والّا لاحتُج بها.

الثالثة: إن احتمال استناد الشيخ الطوسي لأصالة العدالة منتف لوجه آخر ايضا، وهو انه عرَّف العدالة في بعض كتبه تعريفا يبتعد عن أصالة العدالة(2)، ففي بعضها، كالنهاية، قال: "هي فعل الواجبات وترك المحرمات عن ملكة"، وهذا يقتضي كون الأصل عنده عدم العدالة لأن الفعل عن ملكة أمر وجودي والأصل عدمه بل وكذا الترك عن ملكة فانه عدم مضاف، والعدم المضاف له حظ من الوجود والاصل عدمه فلا معني للقول بأن الأصل هو العدالة.

والظاهر: ان اللّبس والمشكلة انبثقت من التعريف الذي ذكره الطوسي في الخلاف، وهو أن العدالة تعني: «الإسلام وعدم ظهور الفسق»، وهذا ما تمسك به السيد الخوئي في المعجم، وصار سببا لدعوى جمع ودعواه أن المدار عند الرجاليين الأوائل قد يكون هو أصالة العدالة، وانه إذا كان الراوي مسلما، فما دام لم يظهر منه فسق فهو عادل فكيف لو انضم إلى ذلك قرائن مثل انه كان يجالس الأئمة (علیهم السلام)، وهذه الشبهة يمكن أن نجيب عليها بجوابين:

الجواب الاول: ان الشيخ الطوسي وإن عرف العدالة في «الخلاف» بهذا

ص: 120


1- وهو ما ذكره من قبل ب (ان اعتماد ابن الوليد وغيره من الاعلام المتقدمين فضلاً عن المتأخرين على رواية شخص والحكم بصحتها لا يكشف عن وثاقة الراوي وحسنه، لاحتمال...)
2- بذينك المعنيين المذكورين في الإشكال.

التعريف إلا أنه في علم الأصول وعلم الرجال وفي عدد من كتبه الأخرى لم يعتمد هذا التعريف، بل صرح بخلافه كما سبق.

الجواب الثاني: لو سلمنا أن الشيخ يأخذ بهذا التعريف للعدالة في علم الأصول والرجال ولكنه لا يجدي شيئا للمستشكلين، لأنه لم يُعرِّف العدالة بأنها الإسلام مع عدم الفسق، بل عرّفها بالإسلام مع عدم ظهور الفسق، ولو أنه قال مع عدم الفسق فيقوى كون الشيخ من القائلين بأصالة العدالة فعلا، لأن الفسق أمر وجودي حادث، وكلما شككنا به فالأصل عدمه فتأمل(1)، ولكن الشيخ قال إنها: «الإسلام مع عدم ظهور الفسق» والفرق بينهما كبير كما سيظهر، وهذا التعريفأخذه الشيخ من معتبرة العلاء بن سيابة اذ يسأل الراوي عمن يلعب بالحمام(2) وحكمه، فقال الإمام (علیه السلام): «لا بأس إذا كان لا يعرف بفسق». وبحسب هذه الرواية فإن المقياس هو أن لا يعرف بفسق، أي أن الفسق الثبوتي لم يجعل مقياسا وانما ما ظهر وعرف أو لم يظهر ولم يعرف من الفسق هو المقياس او جعل هذا طريقا لذاك و أمارة عليه.

محتملات معنى "ظهور الفسق"

ومن الضروري أن نسلط الضوء على معنى ظهور الفسق وقوله (علیه السلام): «لا يعرف بفسق» في الرواية الشريفة بحسب فقه الحديث(3) ليتضح ان الشيخ حتى لو

ص: 121


1- اذ اجراء الاصل موقوف على الفحص فلو فحص ولم يعثر على ما يدل على فسقه، فقد يقال ان بناء العقلاء على كون ذلك امارة نوعية على العدالة من غير حاجة لإجراء الاصل، فتأمل.
2- فانهم في مظان الشبهة حيث ان كثيرا منهم يتطلعون على اعراض الناس او يسرقون طيور الاخرين.
3- وأما المستشكل فانه قد توهم من هذه العبارة ما قد يدل بدويا على إمكانية الاعتماد على أصالة العدالة أو صِرف الاكتفاء بعدم ظهور الفسق من دون كونه طريقاً إلى ظهور عدم الفسق، إلا إن التحقيق يدل على خلاف ذلك.

اعتمد هذا المعنى فانه مساوق لمن يرى العدالة هي الملكة، فله الاعتماد على تعديل الطوسي والعلامة، رغم الاختلاف الظاهري في التعريف.

وهنا نقول إن الاحتمالات ستة(1):

الاول: المقصود من عدم ظهور الفسق ومن: «ان لا يعرف بفسقٍ»، الفسق الذي يظهر لمن عاشر الشخص معاشرة شخصية واطلع على خفايا أحواله في السر والعلن والسفر والحضر.

الثاني: أن المقصود هو عدم ظهور الفسق لأهله - زوجته وأولاده - والخدم اللصيقين به، ومن الواضح أن الظهور بالمعنى الأول أخص وأدق؛ اذ قد لا يظهر الفسق ونظائره للأهل، ولكن يظهر للصديق الحميم.

الثالث: عدم ظهور الفسق لمن عاشره معاشرة الأصدقاء المتعارفين.

الرابع: عدم ظهور الفسق لأهل محلته(2). كأن لم يظهر لهم انه ممن يتطلع على أعراض الناس، أو يسرق ويكذب وشبه ذلك.الخامس: المقصود عدم ظهور الفسق لمن عاصره ممن يعيش في بلدان أخرى(3).

وهذا الاحتمال هو الذي ينفع صاحب المعجم(4) على اعتبار أن الشيخ الطوسي لو كان يرى وثاقة الراوي عندما لم يظهر فسقه للآخرين الذين يعيشون في بلدان أخرى بعيدة عنه، فانه غير مفيد لمن يبني على ضرورة التحقق من وثاقة

ص: 122


1- تنشأ من ان الفاعل - الذي يظهر له الفسق او لا يظهر له - محذوف في الرواية أي غير مصرح به، فالمحتملات في المسألة في هذا الفاعل ستة.
2- وقد يلحق به عشيرته، فتأمل.
3- الفرض عدم الظهور لهم بما هم كذلك لا بما هم محققون قد استندوا لإحدى الدوائر السابقة.
4- أي لرفضه الاعتماد على أصالة العدالة - لو كان الشيخ قائلاً بها -..

الراوي بشكل أدق «عبر الطرق الأربعة السابقة أو عبر خصوص الثلاثة الأولى».

السادس: المقصود هو عدم ظهور الفسق لمن يعيشون من بعده في الأجيال والأزمنة اللاحقة.

ونقول: لا يشترط الأولان وان كانا صحيحين، ولا يكفي الأخيران، والمعول على الأوسطين بل ان الظاهر أن عدم الظهور بالمعنى الرابع هو المراد، وانه هو امارة العدالة أو هو هي دون لزوم تحقق إحدى الثلاثة المتقدمة وان اشتركت كلها في الامارية، بل هي اقوى فيها(1)

لكن لا حاجة اليها، بقرينة المقام وبقرينة صحيحة ابن يعفور المشهورة والتي يرشدهم فيها الإمام الى ان يسألوا أهل محلته وقريته.

والحاصل: ان الأول والثاني والثالث والرابع كلها تشترك في الامارية، بمعنى أنك لو عاشرت شخصا في واحدة من الدوائر الأربعة المذكورة ولم يظهر منه كذب فإن ذلك أمارة نوعية على الوثاقة كما انه لو لم يظهر منه فسق فانه يعدّ امارة نوعية محرزة للملكة، وليس ذلك أصلاً عدمياً، لكن المستظهر ارادة المعنى الرابع(2) بقرينة مناسبة الحكم والموضوع وانه يلعب بالحمام مما يجعله عرضة للتهمة في المحلة بانه ينظر الى اعراض الناس من فوق السطح.

ولو عدنا لعبارة الشيخ الطوسي لوجدناه يقول: الإسلام و"عدم ظهور الفسق"، ولم يقل و"عدم الفسق"، فعدم ظهور الفسق ولو لأهل محلته هو أمارة نوعية عقلائية كاشفة عن العدالة، وعليه فحتى من يرى الوثاقة والملكة يمكن أن يعتمد على ضابطة الشيخ أي على تعديله استنادا لعدم ظهور الفسق، فتأمل.

ص: 123


1- أي الثلاثة المتقدمة اقوى في الاماريّة.
2- أي لا يكون القول بوثاقته حينئذ من باب الأصل العدمي الذي لا ينفع من يشترط الملكة، بل هو يتفق مع من يرى إحراز الوثاقة بل والملكة شرطا.

نعم إذا رأى الشيخ الطوسي أن أصالة العدالة هي بمعنى الإسلام وعدم الفسق مستصحبا اياه، فسوف يرد الإشكال بعدم صحة الاعتماد على تعديله، لمن لا يرى هذا المبنى(1).

جواب يقطع الشك باليقين

ولنا جواب آخر يقطع الشك باليقين لإثبات أن الشيخ الطوسي لم يكن يقصد من العدالة القول بأصالة العدالة بمعنى أصالة عدم الفسق(2)

في عبارته في الخلاف: «الإسلام وعدم ظهور الفسق»، بل انه اما اقتصر على اعتبار الوثاقة أو انه اشترط العدالة وفسرها بالوثاقة.

قال (قدس سرّه) في كتابه العدة وهو يتحدث عن مراعاة العدالة في ترجيح أحد الخبرين على الآخر: «... فهو أن يكون الراوي معتقدا بالحق [فغير الشيعي ليس بعادل] ثقة في دينه، متحرجا من الكذب، غير متهم فيما يروي»(3).

قوله: «متحرجا من الكذب» و«غير متهم فيما يرويه» دليل على اشتراطه الوثاقة وبحثه عنها في الرواة.

وقال في نفس المصدر ص 152: «فأما من كان مخطئاً في بعض الأفعال أو

ص: 124


1- والحاصل ان الشيخ الطوسي لو كان يرى ان أصالة العدالة هي بمعنى الإسلام وعدم الفسق بما يشمل الدائرة والمعنى الخامس والسادس من المعاني المتقدمة، فان الإشكال بعدم صحة الاكتفاء بتوثيقاته (على فرض استنادها لأصالة العدالة بهذين المعنيين) سيكون تاماً. والمتحصل: انه حتى لو كان الشيخ الطوسي يرى ان العدالة هي بمعنى الإسلام وعدم ظهور الفسق بالمعنيين الثالث والرابع - فكيف بالأول والثاني - فان ذلك ينفع حتى لمثل السيد الخوئي، في الاعتماد على توثيقه المستند إلى اصالة العدالة بتلك المعاني (لو فرض هذا الاستناد).
2- أو بمعنى الدائرة الخامسة والسادسة.
3- كتاب عدة الأصول، مبحث العدالة ص149.

فاسقاً بأفعال الجوارح، وكان ثقة في روايته، متحرزاً فيها، فإن ذلك لا يوجب رد خبره» وهذه عبارة واضحة في التفكيك بين الفسق والوثاقة.

ثم قال: «ويجوز العمل به، لأن العدالة المطلوبة في الرواية حاصلة فيه» وهي الوثاقة، ثم أضاف: «وإنما الفسق بأفعال الجوارح» بأن كان يظلم زوجته أو يسرق أو يؤذي جاره..إلخ «يمنع من قبول شهادته، وليس بمانع من قبول خبره».وهذه عبارة واضحة وصريحة من الشيخ مفادها أن للعدالة عنده أكثر من معنى، وأن العدالة المطلوبة في باب الراوي غيرها في باب الشاهد.

الإشكال الرابع: تقييم الشهود بظاهر الإسلام

ومن الشبهات أو الإشكالات التي أثيرت على جواز الأخذ بتوثيقات الشيخ الطوسي، شبهة مشابهة للشبهة السابقة وهي قوله في الاستبصار في باب الشهادة: «لا يجب على الحاكم التفتيش عن بواطن الناس» كأن يبعث جواسيس أو ما شابه ليعرف مكنونات الصدور والأفعال وإنما «يجوز له أن يقبل شهادتهم إن كانوا على ظاهر الإسلام والأمانة، وان لا يعرفهم بما يقدح فيهم ويوجب تفسيقهم». فادعي هنا أن مسلك الشيخ وسيع وانه اعمّي وبالتالي فهو لا ينفع الفقهاء الذين يضيّقون ولا يكتفون بظاهر الإسلام والأمانة ويعتمدون التفتيش والإحراز.

وهنا جوابان:

الجواب الأول: وهو نظير الجواب السابق ويحذو حذوه.

فإن المقصود من "ظاهر الإسلام" هنا هو نفس المستظهر من المراتب أو الدوائر الست المارة في المقصود من "ظهور الفسق"، وهي باختصار:

1 المقصود كونه «على ظاهر الإسلام والامانة» لمن عاشر الشخص

ص: 125

معاشرة شخصية واطلع على خفايا أحواله في السر والعلن والسفر والحضر.

2 أن يظهر ذلك لأهله «زوجته وأولاده» والخدم اللصيقين به.

3 أن يظهر لمن عاشره معاشرة الأصدقاء المتعارفين.

4 أن يظهر لأهل محلته(1).

5 أن يظهر لمن عاصره ممن يعيش في بلدان أخرى.

6 أن يظهر لمن يعيشون من بعده في الأجيال والأزمنة اللاحقة.

والظاهر ان مراده هو الظهور بالمعنى الثالث أو الرابع فقط - وما سبقهما لا شك في كفايتهما - دون الظهور بالمعنى الخامس أو السادس(2)، بقرينة قوله: «لا يجب على الحاكم التفتيش عن بواطنالناس» فان التفتيش لا ينصرف إلى التفتيش عن حالهم لدى من يعيشون في بلدان أخرى أو عصور أخرى، فلا يجب أن يفتش عن حالهم ما داموا على ظاهر الإسلام والأمانة، أي عند أهل المحلة والعشيرة فكيف بما سبق، فتأمل(3).

وذلك هو ما تفيده عبارة الشيخ من بدايتها إلى نهايتها، خاصة إذا لاحظنا

ص: 126


1- او عشيرته.
2- والحاصل: الشيخ في عبارته يثبت وينفي، حيث يثبت احتمالين من الاحتمالات الست السابقة وينفي المعنيين - الخامس والسادس - لعدم عرفية التعبير بمثل ذلك عن ظهور حاله عند أهالي بلد آخر أو عصر آخر، ويحتمل نفيه أيضاً للمعنى الثاني (الظهور للأهل والخدم ونظائرهم) لأنه تفتيش لبواطن الناس لو حقق الحاكم منهم، والحاصل وضوح مراده من خلال ملاحظة عقد السلب والايجاب في كلامه، وخاصة لواننا لاحظنا القرينة الثانية وهي (الامانة)، ولعل مما يؤكد ذلك كله قول الشيخ (وان لا يعرفهم بما يقدح فيهم ويوجب تفسيقهم) فإن طريق المعرفة العرفي هو غير المعنى الخامس والسادس، وغيرهما يعد إمارة نوعية على العدالة.
3- لاحتمال (ظاهر الاسلام والامانة) من الهدى والسَّمت والمظهر والملبس والحركات والسكنات لكنه بعيد اذا انه وان احتمل كونها امارة على الاسلام لكنهما لا تعد عرفا امارة على الامانة.

كلمة "الأمانة"، فإن ظهور الأمانة هو ما يبدو في أهل المحلة والعشيرة وما سبق، دون ما لحق من المعنى الخامس والسادس.

وبعبارة أخرى فإن قوله: «إذا كانوا على ظاهر الإسلام والأمانة» يفيد الظهور المستقر في بناء العقلاء لا الظهور البدوي حتى للغرباء في الدائرة الخامسة والسادسة.

الجواب الثاني: ان الشيخ الطوسي ذكر هذا الضابط في باب الشهادة، ولم يذكره في باب شروط قبول وحجية خبر الرواة، بل انه صرح هناك باشتراط الوثاقة كما سبق نقله، فهو لا يعتمد على اصالة العدالة أبداً في توثيقات الرواة.

الإشكال الخامس: اعتماد الشيخ الطوسي على الأخبار الضعيفة

لقد صرح الشيخ الطوسي بعدم الاعتماد على أخبار الآحاد «التي لا تفيد علما(1)

ولا عملا»، لكننا رأيناه يعتمد عليها في التهذيبين، وبالتالي لا يمكن الاعتماد - كمبنى - على توثيقاته المجروحة من قبله هو، بمعنى عدم عمله بما التزمه من الضابط.الجواب: ان ما اعتمده فيهما هو المعتضد بالقرائن(2) فليست بالضعيفة اذن(3).

توضيحه: لقد أوضح الشيخ الطوسي بنفسه أنه لا يرى صحة الاعتماد على أخبار الآحاد الفاقدة لشروط الحجية، ويرى الاعتماد على أخبار الآحاد الواجدة لشروط الحجية، وهو يقصد في قوله: «التي لا تفيد علما ولا عملا»

ص: 127


1- يريد بالعلم مفاد الأدلة الاجتهادية، وبالعمل مفاد الأصول العملية.
2- أي الاربعة القطعية وقد فصلنا ذلك سابقا فراجع.
3- وقد سبق جواب اخر كبروي فراجع.

أخبار الآحاد غير المعتضدة بتلك القرائن.

قال (قدس سرّه) في الشروط التي يرى ضرورة توفرها في الخبر: «وأما ما اخترته من المذهب فهو أن خبر الواحد إذا كان... وكان ممن لا يُطعن في روايته ويكون سديدا في نقله... جاز العمل به».

وقال في موضع آخر: «فان لم يكن هناك خبر آخر يخالفه، وجب العمل به...».

وقال في موضع ثالث «..وأن لا يكون الأصحاب قد أعرضوا عنه وان لا يكون شاذا وان لا يكون على خلاف ما استقامت عليه طريقة الإمامية..إلخ ».

وهذا يعني عدم وجود تناقض بين كلامه الأصولي وعمله الفقهي.

الإشكال السادس: الشهيد الثاني ودعوى تناقضات الشيخ الطوسي
اشارة

لقد استغرب الشهيد الثاني بشدة من الشيخ الطوسي بدعوى أنه اضطربت أقواله وأفعاله، فقد ذكر في الدراية إشكالا عليه مفاده أن الطوسي تارة يعمل بالخبر الضعيف رغم علمه بضعفه، وأحيانا يطرح الصحيح رغم علمه بصحته، وأحيانا أخرى يخصص الصحيح بالضعيف، مع انه يصرح بأن أخبار الآحاد ليست حجة فهي لا تفيد علما ولا عملا.

والجواب: إن الشيخ الطوسي إنما يعمل بالضعيف او يخصص به الصحيح فيما لو اعتضد بقرائن حافة تفيد الوثوق بمضمونه، فليس الاستناد على الضعيف بما هو هو، بل على قطعية مضمونه، ولذا يخصص به الصحيح أحيانا، بعد أن يعتضد بموافقة الكتاب أو السنة أو الإجماع أو العقل.

ومن جهة أخرى فإن الشيخ يطرح الصحيح في حالتين:

ص: 128

1 لو عارضه صحيح أقوى منه لقوله (علیه السلام): «أوثقهما أو أعدلهما».2 لو خالف ما استقامت عليه الطريقة، أو لو كان شاذا أو أعرض عنه الأصحاب، وقد سبق نقل اقواله، وكل ذلك على القاعدة.

طريق المجلسي في تصحيح روايات التهذيبين

هناك طريق آخر ذكره الشيخ المجلسي في كتابه الأربعين لتصحيح روايات التهذيبين جاء فيه:

أولا: لقد روى الشيخ الطوسي بوسائط «منهم الشيخ المفيد» كافة كتب وروايات الشيخ الصدوق، فجميع الكتب التي كانت بحوزة الصدوق واعتمد عليها في من لا يحضره الفقيه أو غيره كلها للطوسي إليها طريق صحيح(1)، فالصدوق إما ناول أو أجاز وإما نقلها قراءة أو سماعا إلى تلامذته ومنهم المفيد، ثم الأخير بنفس الطريقة أوصلها إلى الطوسي.

ثانيا: إن طريق الطوسي للشيخ الصدوق لو كان صحيحا - وهو صحيح - ثم طريق الصدوق إلى ذلك الأصل لو كان صحيحا فإن أية رواية ينقلها الشيخ الطوسي في التهذيبين عن أصل من تلك الأصول الموجودة في مشيخة الفقيه للصدوق وكانت بسند ضعيف في التهذيبين فإنه بتزويج هذا السند بسند الصدوق تكون رواية صحيحة، وذلك ببركة أن الطوسي وإن نقل طريقا ضعيفا إلى ذلك الأصل إلا أن ذلك الأصل بنفسه كان موجودا عند الصدوق وقد نقله الأخير للطوسي فهو صحيح, شرط أن يكون طريق الصدوق للأصل صحيحا.

ص: 129


1- كتاب الأربعين للعلامة المجلسي: ح35، حيث لم أعثر على كتاب الأربعين للعلامة المجلسي، لذا فان النقل عنه كان بواسطة محكي كلامه في (القوانين)، حسب من نقل عنه ولعل كلامه يختلف عما ذكر كثيراً والمهم ان هذا الذي ذكرناه، وفصلناه بمحتملاته، وجهٌ جدير بالبحث والنقاش كما أشرنا إلى بعض النقاش في الهوامش.

ولقد كانت الطريقة المتداولة أن الأصل يراجعه الطوسي بنفسه، فلا يقول حدثنا وإنما ينقل عن الأصول. فكتاب الحسن بن محبوب مثلاً كان موجودا عند الشيخ الطوسي وقد راجعه بنفسه ونقل عنه مباشرة. وحينئذٍ فان كان هذا الأصل مشهورا فلا نحتاج إلى السند إليه، كالكافي الآن، فلا يسأل أحد ما سلسلة السند إلى الكافي، فالطوسي ثقة وهو قرأ بعينه من كتاب ابن محبوب، والكتاب شهير.

وهذا واضح، ولكن المجلسي أراد تصحيح الروايات في حالة عدم كون الأصل مشهورا لدى الطائفة، فقال: صحيح أن الأصل وصل إلى الطوسي بطريق ضعيف ولكن الأصل أيضا كان موجودا لدى الصدوق، ونقول: عندما كان الطوسي ينقل عن هذا الأصل في فهرسه كان يذكر ما هو طريقه إلى هذا الأصل، فذكر طريقه عن فلان عن فلان.. إلخ، فإذا تتبعناه فوجدناه ضعيفا لم يضر،وذلك لأن للصدوق طريق إليه صحيح، فقد وصل إذن بطريقين للطوسي ويكفي كون احدهما صحيحاً(1).

إذ قد يقال: ان طريق الطوسي إلى ذلك الأصل لو كان ضعيفاً، فلا يثبت به وجود الرواية كما نقلت إليه، في ذلك الأصل، فلا ينفع وجود نسخة أخرى صحيحة لدى الصدوق «ولدى الطوسي بالتبع».

والحاصل: انه لو ثبت من السند الضعيف، وجود الرواية في الأصل

ص: 130


1- وللتقريب للذهن نمثل بمن له الى مرجع تقليده طريقان لنقل كلامه، الطريق الاول منهما ضعيف ولكن الآخر صحيح، وقد سمع ذلك الشخص من كليهما خبراً عن المرجع، الا انه في مرحلة النقل، نقل عن الضعيف لعلة من العلل، فان هذا السند المنقول وان لم يكن تاما , لكن من خلال علمنا الخارجي بانه قد سمعه من طريق صحيح آخر, فان نقله سيكون صحيحاً، ولا بد من ملاحظة ان طريقة الشيخ الطوسي في التهذيبهين هي انه كان يراجع نفس الاصل لا انه ينقل شفويا عن فلان عن فلان.

الموجود لدى الصدوق لصحت الرواية، لكن ثبّت العرش؛ إذ ما دام سند الطوسي للرواية المدّعى انها موجودة في ذلك الأصل ضعيفاً، فلا يثبت أصل وجود الرواية في ذلك الأصل ليقال: ما دامت موجودة في ذلك الأصل وطريق الصدوق إليها صحيح، فهي صحيحة. فتأمل، وقد يدفع التأمل بما يأتي بعد قليل فتدبر وتأمل.

وبعبارة اخرى: هناك صورتان حصل الخلط بينهما، إحداهما وجود كلتا النسختين لدى الطوسي، وقد اكتفى بالنظر في النسخة غير الصدوقية، وهنا يصح تزويج السند، والأخرى: عدم وجود النسخة الصدوق عنده، بل نقل عن الاصل بواسطة ضعيفٍ أو ضعاف فلا يصح تزويج السند كما مضى بيانه في هامش سابق، فتأمل.

وأما احتمال تعدد النسخ، فانه منفي بالأصل، ولا يقدح به تعددها أحياناً إذ التعدد بحاجة إلى دليل فما دل عليه دليل فهو وإلا فالأصل عدمه(1).ولهذا الجواب تتمة تظهر من البحث الآتي.

الإشكال السابع: قد لا تكون نسخة الطوسي صحيحة

ومن الإشكالات التي أثيرت أيضا: من أين نعلم أن هذه النسخة التي نقل عنها الشيخ الطوسي كانت صحيحة، فإن النسخ كانت خطية، فيمكن أن تكون النسخة من هذا الأصل الموجودة عند الصدوق واعتمدها، تختلف بعض الاختلاف عن النسخة التي راجعها الطوسي ونقل عنها بسند ضعيف، فهذا

ص: 131


1- ويؤكد ذلك التفات أعلام الرجال إلى احتمال تعدد النسخ، ولذا ذكروا أحياناً تعددها - لو كان - فلو لم يذكروا التعدد، دل على إحرازهم عدمه، ومن ذلك نص الطوسي في الفهرست في ترجمة العلاء بن رزين على ان لكتابه نسخاً أربعة وان له إلى كل النسخ طريقاً خاصاً.

التعويض أو التزويج لا ينفع(1).

اللهم إلا من خلال طريق واحد وهو أن نجد نصّ هذه الرواية في نسخة الصدوق، ولكن حينئذ تكفينا نسخة الصدوق ولا فائدة في التهذيب.

والجواب، أولا: ان بناء العقلاء على الاعتماد على النسخ الخطية لأي كتاب ما لم يقم دليل على الخلاف، خاصة أن النسخ الخطية عادة هي أدق من هذه النسخ المطبوعة(2).

ثانياً: ويزداد الكلام أعلاه صحة وقوة إذا وقعت النسخة الخطية بيد خبير كالشيخ الطوسي، العالم باحتمال اختلاف النسخ فاذا وجدناه مع ذلك قد اعتمد على هذه النسخة، فإن اعتماده عليها دليل على انه لا يرى فرقا في الوثاقة بين النسختين. والجامع انه في مختلف حقول المعرفة فإن الخبير إذا وثّق نسخة، اعتمد عليها الناس بعد ذلك اللهم إلا لو ثبت الخلاف.

وبعبارة اخرى: ان الطوسي رغم وجود نسخة صدوقية مقروءة عليه أو مسموعة منه أو مناولة إياه إذا اعتمد على نسخة ثانية فانه يكشف عن أن هذه النسخة "الثانية" كانت معتمدة عنده، إلا فيما عُلم خطؤه - من قبلنا - أو كثر خطؤه بحيث يفقد الاعتماد النوعي عليه.

والنختم هذا الفصل بعبارة جامعة للشيخ الطوسي تدل على مسلكه العام(3):ثم

قال: «فما اخترته من المذهب وهو أن خبر الواحد إذا كان واردا من

ص: 132


1- بل ان هذا الإشكال عام يشمل كل النسخ الخطية والمطبوعة، ولم تمّ سَلَب الاعتماد عليها بالكلية إلا ما احرز قراءة التلميذ على الأستاذ كتابه أو الراوي على المروي له، أو سماعه منه، أو ما أشبه، مع تأكيده على صحة كل ما فيه.
2- فمثلاً لاحظ كتاب (الرسائل) المخطوطة فان خطؤها نادر عكس المطبوعة.
3- ويكشف منه انه لو ارسل معتمدا على المرسل فانه لا يكون الا بعد توفر تلك الضوابط في رجال السند و احرازه لوثاقته والا لما اعتمد.

طريق أصحابنا القائلين بالإمامة وكان ذلكمرويا عن النبي (صلی الله علیه و آله)، وعن أحد من الأئمة (علیهم السلام) وكان ممن لا يطعن في روايته ويكون سديداً في نقله ولم تكن هناك قرينة تدل على صحة ما تضمنه الخبر، لأنه ان كان هناك قرينة تدل على صحة ذلك كان الاعتبار بالقرينة، وكان ذلك موجبا للعلم. - ونحن نذكر القرائن فيما بعد - التي جاز العمل بها.

والذي يدل على ذلك: إجماع الفرقة المحقة، فاني وجدتها مجمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم ودونوها في أصولهم، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه حتى أن واحدا منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوه من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم على كتاب معروف، أو أصل مشهور، وكان راويه ثقة لا ينكر حديثه سكتوا وسلموا الأمر في ذلك وقبلوا قوله، وهذه عادتهم وسجيتهم»(1).

ص: 133


1- عدة الاصول: ج1 ص126 ط ج، 336 ط ق.

بحث موجز عن حجية روايات أصحاب الإجماع

إجماع الاصحاب على تصحيح ما يصح عن جماعة

لقد عّبر الشيخ الكشي - المعاصر للشيخ الكليني المتوفى 329 - في رجاله (اختيار معرفة الرجال)(1) عن مجاميع ثلاثة من أصحاب الأئمة الأربعة (من الإمام الباقر إلى الإمام الرضا (علیهم السلام)) بعبارات أضحت مثار البحث والتداول بين علماء الدراية والرجال والفقه والأصول (2) على مر الأزمان.

فقد أشار الى ستة من أصحاب الإمام الباقر (علیه السلام) والإمام الصادق (علیه السلام) بقوله: (تسمية الفقهاء من أصحاب أبي جعفر وأبي عبد الله 3. أجمعت العصابة على تصديق هؤلاء الأوّلين من أصحاب أبي جعفر (علیه السلام) وأصحاب أبي عبد الله (علیه السلام) وانقادوا لهم بالفقه فقالوا: أفقه الأوّلين ستّة: زرارة ومعروف بن خرّبوذ، وبريد، وأبو بصير الأسدي، والفضيل بن يسار، ومحمّد بن مسلم الطّائفي، قالوا: أفقه الستّة زرارة، وقال بعضهم مكان أبي بصير الأسدي، أبو بصير المرادي وهو ليث بن البختري.

كما أشار الى عن ستة من أصحاب الإمام الصادق (علیه السلام) بقوله: (تسمية الفقهاء من أصحاب أبي عبد الله (علیه السلام): أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء وتصديقهم لما يقولون، وأقرّوا لهم بالفقه من دون أُولئك الستّة الذين عددناهم وسمّيناهم وهم ستّة نفر: جميل بن درّاج، وعبد الله بن مسكان،

ص: 134


1- وهو الكتاب الرجالي الذي اختصره الشيخ الطوسي من كلام الشيخ النجاشي واسماه بهذا الاسم وانتخب منه الصحيح لديه فيكون الكتاب ذا امتياز في انه رأي لعالمين من علماء الرجال.
2- بالتبع.

وعبد الله بن بكير، وحمّاد بن عثمان، وحمّاد بن عيسى، وأبان بن عثمان. قالوا: وزعم أبو إسحاق الفقيه وهو ثعلبة بن ميمون أنّ أفقه هؤلاء جميل بن درّاج وهم أحداث أصحاب أبي عبد الله (علیه السلام).

كما عبّر عن ستة من أصحاب الإمام الكاظم والرضا(علیهما السلام)بقوله: (تسمية الفقهاء من أصحاب أبي إبراهيم وأبي الحسن 3: أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء وتصديقهم وأقرّوا لهم بالفقه والعلم، وهم ستّة نفر آخر دون ستّة نفر الذين ذكرناهم في أصحاب أبي عبد الله (علیه السلام): يونس بن عبد الرحمن، وصفوان بن يحيى بيّاع السابري، ومحمد بن أبي عمير، وعبد الله بن مغيرة، والحسن بن محبوب، وأحمد بن محمد بن أبي نصر، وقال بعضهم مكان الحسن بن محبوب، الحسنبن علي بن فضال، وفضالة بن أيّوب وقال بعضهم مكان فضالة بن أيوب: عثمان بن عيسى، وأفقه هؤلاء يونس بن عبد الرحمن وصفوان بن يحيى.

المعاني المحتملة في عبارة الشيخ الكشي:

إن المعاني المحتملة في قول الكشي في رجاله (أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصح عن هؤلاء وتصديقهم لهم وأقروا لهم بالفقه والعلم) هي ثلاثة:

الإحتمال الاول: ان العصابة والطائفة توثّق وتصدّق خصوص هؤلاء الأشخاص بأنفسهم، أي انّ مفاد هذه العبارة توثيقهم فقط، فهي بمثابة قول الرجالي: (ابن ابي عمير ثقة) مثلاً.

الإحتمال الثاني: انّ التصديق والتصديق هو للمحكي والمروي أي للرواية بلحاظ سلسلة إسنادها.

الإحتمال الثالث: ان المراد هو ان الرواية التي يرويها هؤلاء الجماعة

ص: 135

صحيحة، الأعم من كون الصحة لصحة الاسناد او لصحة المضمون والرواية بنفسها ولو حدسا بالقرائن.

توضيح ذلك:

الاحتمال الأول لعبارة الكشي

يحتمل ان يكون المستفاد من كلام الشيخ الكشي هو اجماع الاصحاب على توثيق ابن ابي عمير - مثلا - وعليه فالمراد من كل هذه العبارة انه ثقة، وحال توثيقه حال توثيق بقية الاشخاص عند القول بأنهم ثقات. فحينئذ فان مفاد هذه العبارة: ان ما صح الى ابن ابي عمير فانه يصح من جهته ويُصدّق، لانّ الاصحاب اجمعوا على وثاقته وعلى هذا فهم ساكتون عن توثيق من جاء في سلسلة السند بعد ابن ابي عمير وصولاً الى الامام المعصوم (علیه السلام).

ولكن قد يرد - مضافا لما سيأتي في نهاية البحث - على ذلك ان الكشي وهو خريت فن الرجال والخبير باصطلاحاته يستبعد ان يستخدم كل هذه العبارة من اجل إفادة توثيق هذه الجماعة فقط، بل كان ينبغي لو أراد هذا المعنى ان يقول: أنهم ثقات بالإجماع.

والحاصل: ان هذا الاحتمال بعيد من ظاهر اللفظ وبملاحظة دأبه في نوع التوثيق، كما ان المشهور استظهروا خلاف ذلك كما سيأتي.

الإحتمال الثاني والثالث لعبارة الكشي

ويحتمل أن يكون المستفاد من قوله: «تصحيح ما يصح عنهم» توثيق المحكي ومضمون الرواية فتكون مروياتهم - أي أصحاب الإجماع - معتبرة وصحيحة.وحينئذٍ: فإذا كان المقصود من الصحة انها صحيحة الإسناد، لنَفَعَ ذلك في

ص: 136

توثيق كافة مشايخ أصحاب الاجماع ومنهم مشايخ إبن أبي عمير وهم أربعمائة شيخاً، وهذا هو الإحتمال الثاني.

وأما إذا كان المراد من «تصحيح ما يصح عنهم» هو صحة المضمون والمحتوى والرواية بما هي فقط من دون نظر لخصوص صحة الاسناد(1)، اذ قد يكون احراز صحة المضمون ناشئا من القرائن المحتفّة بالخبر وان لم يكن من جهة السند تاما. وهذا هو الاحتمال الثالث.

أدلة أو مؤيدات ثمانية على ان المراد تصحيح الإسناد (الاحتمال الثاني)

وقد يستدل أو يستشهد على كون مراد الشيخ الكشي نقل الإجماع على تصحيح إسناد الروايات التي يرويها رجال الستة الثالثة والثانية بل والأولى، بمعنى أن أولئك الستة لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة ضابط عن ثقة ضابط وصولاً إلى المعصوم (علیهم السلام).

وذلك بالأدلة أو المؤيدات التالية:

أولاً: كما ان ظاهر قوله: «ما يصح» ما يصح عن هؤلاء هو ما صحت نسبته إليهم سنداً لا حدساً فكذلك قوله: «تصحيح» فتفيد ما صحت نسبته منهم الى من بعدهم.

وبعبارة أخرى: كما تشير «ما يصح» إلى السند وصولاً إلى هؤلاء الرواة فكذلك «تصحيح» تشير إلى السند من هؤلاء وصولاً إلى المعصوم (علیه السلام).

ثانياً: دعوى ان «تصحيح» يراد به الصحة السندية حتى لدى القدماء كما انها كذلك لدى المتأخرين. وقد فصل البحث عن ذلك المحدّث النوري في

ص: 137


1- أي لا تنفع هذه العبارة وهذا الاجماع المنقول في توثيق مشايخ أصحاب الاجماع.

خاتمة المستدرك وأنكر دعوى الشيخ البهائي في مشرق الشمسين وصاحب المعالم في منتقى الجمان، اختلاف اصطلاح المتقدمين على زمن السيد بن طاووس والعلامة الحلي عن اصطلاح المتأخرين وذهب إلى ان هذه دعوى لم يرد عليها أي دليل(1) بل ان المراد ب«صحيح» لدى الكل هو وثاقة السند، بفارق ان المتقدمين لم يشترطوا في الرواي ليكون حديثه صحيحاً كونه إمامياً فيما اشترط المتأخرون ذلك.

والحاصل: إن دعوى البهائي وصاحب المعالم من ان المدار في وصف الرواية بالصحة لدى المتقدمين هو الوثوق بالخبر والرواية ولو من جهة القرائن الخارجية، لا دليل عليها بل انهم يطلقون الصحيح غالباً على رواية الثقة إمامياً كان أو غيره، فتأمل.ثالثاً: إن الأصل(2) في اعتماد الرواية وتصحيحها هو التصحيح الحسي السندي وان احتمل التوثيق المضموني الحدسي؛ وذلك بدعوى قرب الكشي ونظائره من زمن النص وكون أكثر الأخبار متواترة(3)، وكثرة القرائن الحسية وتوفّرها ككون الرواية في أصل معروض على الإمام (علیه السلام) أو تكرره في أصول عديدة أو وجوده في أصل معتبر خاصة مع لحاظ وجود الأصول الأربعمائة ذلك الوقت في المتناول، فالحاجة للاجتهاد الحدسي لتوثيق الرواية - صادراً لا صدوراً(4) - كانت قليلة بل نادرة.

وذلك كله يورث الاطمئنان النوعي بأن قوله: «أجمع أصحابنا على

ص: 138


1- مع إضافة أصالة ثبات اللغة وثبات المصطلحات في كل فن.
2- بمعنى القاعدة.
3- كما صرح به السيد المرتضى في (أجوبة المسائل التباينات).
4- أي توثيق الرواية دون الرواة.

تصحيح...» ونظائره يراد به التصحيح الحسي دون الحدسي، فيكون حجة فتدبر.

رابعاً: إن «تصديقهم لما يقولون» عامة تشمل ما لو قال أحد أولئك الستة أو الاثنى عشر أو الثمانية عشر رواياً؛ «قال الإمام الصادق (علیه السلام) » فان تصديقهم في ذلك يساوق الإخبار الحسي دون الحدسي لظهور «قال فلان» في انه يخبر عنه عن حس، فتأمل(1).

خامساً: ما ذكره المحقق المحدث النوري من الاستحالة العرفية لتصحيحهم كل أحاديث أولئك الثمانية عشر راويا عن طريق القرائن الخارجية؛ لكثرة تلك الروايات جداً وتفرقها وتراميها فاستقراؤها جميعاً وهي بالألوف محال عادة(2) أو لا أقل من كونه مستبعداً جداً، عكس التصحيح عن طريق إحراز صحة الإسناد فانه أمر محصور منضبط سهل المنال نسبياً إذ من السهل معرفة مَن مِن الرواة ثقة من غيره فلما استقرأوا أحوال أصحاب الإجماع وجدوا أنهم لا يروون إلا عن الثقاة ولذا صححوا ما يصح عن أصحاب الإجماع مطلقاً(3) فتأمل(4).سادساً: إن ظاهر عطف «تصديقهم» على «تصحيح» هو عطف المباين على المباين، فأنه الأصل. والظاهر ان «تصديقهم» يعود إلى نقلهم هم وانهم صادقون فيه لا يكذبون وأن «تصحيح» يعود إلى صحة بقية السند إذ صِرف صدقهم في نقل رواية عن شخص وانهم سمعوها منه لا يكفي للاعتماد على الرواية والعمل بها بل لا بد من صحة بقية سلسلة السند ليصح الاعتماد ولذلك قال الكشي

ص: 139


1- إذ ذلك فيمن أحرز انه لا واسطة بينه وبين المروي عنه فتأمل.
2- أي مع دراسة كل رواية رواية وإثبات ان مضمونها مطابق للقواعد ثم الاخبار عن ذلك كله بهذه العبارة ونظائرها.
3- اما بالاستقراء التام أو الناقص لكن المعلل بان يحدس من كون ديدن الرواة عدم الرواية إلا عن ثقة عن ثقة وصولاً للمعصوم (علیه السلام) كونه بانياً على ذلك في كل رواياته.
4- من وجوهه: ان احراز تصحيحهم المضموني غير مستبعد عبر الاستقراء المعلل، فتأمل.

«أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصح عن هؤلاء وتصديقهم»، أو «التصحيح» يعود للسند والتصديق للمضمون، فتأمل.

سابعاً: إن قولهم «صحح الحديث» ظاهر في صحته سنداً من غير فرق بين القدماء والمتأخرين فكذلك قوله «اجمع أصحابنا على تصحيح... » فتأمل.

ثامناً: شهادة كلام الشيخ الطوسي في «العُدّة» على ذلك.

بل نقول: إن كلام الطوسي في العدة يصلح بنفسه دليلاً فانه نقل الإجماع على صحة سند ما يرويه محمد بن أبي عمير واضرابه.

نعم قد يقال ان نسبة كلامه مع كلام الكشي هي من وجه إذ لا يعلم ان مقصوده من «وغيرهم من الثقات» هو سائر أصحاب الإجماع ال 18 الذين ذكرهم الكشي، بل يحتمل إرادته أولئك الذين اُشتُهِر بين الأصحاب انهم لا يروون إلا عن ثقة وهم أحمد بن محمد عيسى وجعفر بن بشير البجلي ومحمد بن إسماعيل بن ميمون الزعفرائي وعلي بن الحسن الطاطري وبعض أو كل بني فضال.

قال في العدة: «سوّت الطائفة بين ما يرويه محمد بن أبي عمير وصفوان بن يحيى وأحمد بن محمد بن أبي نصر وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنهم لا يروون ولا يرسلون إلا ممن يوثق به وبين ما أسنده غيرهم ولذلك عملوا بمرسلهم إذا انفرد عن رواية غيرهم»(1).

فهو صريح إذ يقول «لا يرسلون إلا ممن(2) يوثق به».

ولئن احتمل كونه توثيقاً لمشايخهم المباشرين فان عبارته اللاحقة صريحة في

ص: 140


1- العُدّة ج1 ص386.
2- ولعل (ممن) ظاهرة في التوثيق الطولي المتسلسل فتأمل إذ لا ظهور بل مجرد استشعار.

توثيق كل سلسلة الرواة وصولاً إلى المعصوم (علیه السلام) إذ قال: «ولذلك عملوا بمرسلهم» وذلك لوضوح ان العملبمرسلهم متفرع على توثيق كافة رجال الإسناد دون مجرد توثيق الطبقة الأولى منهم، إضافة إلى حكمه بالتسوية بين مراسيلهم ومسانيد غيرهم فانه لا يكون إلا لما ذكر، فتدبر.

وحينئذ إن تمت تلك الشواهد عند الرجالي أو الأصولي والفقيه - تبعاً - فذاك وإلا فانّ الظاهر هو ان المعنى الثالث «أي: صحة الروايات الأعم من كونها لصحة الإسناد أو لصحة المضمون بالقرائن الخارجية وإن كان السند غير صحيح»، هو المحتّم دون الأول «وهو ان مفاد تلك العبارة ان أصحاب الإجماع صادقون في نقلهم عن الغير وان مفادها توثيقهم فقط».

المناقشة في الاحتمال الاول (وهو قصد صِرف وثاقة اللهجة)

والدليل علي المدعى:

أولاً: ظهور لفظ «الصحيح» بمشتقاته في المطابق للواقع أو ذو الأثر فانه مقابل الباطل أو الفاسد(1)، ولا يطلق «الصحيح» ويقصد به الصدق بل يوصف به الكلام دون المتكلم فيقال كلامه صحيح أي يطابق للواقع، ولو أرادوا كونه ثقة في نقله لقالوا هو صادق لا هو صحيح أو كلامه صحيح فان «كلامه صحيح» غير «هو ثقة».

والجامع انه لا يقال صحّ زيد(2) أي لا يوصف ب«صح» الفاعل بل الفعل والقول فقط.

ثانياً: إن ضم «صدق» إلى «صح» دليل آخر فإنه إذا قيل «صح وصدق» أريد به «صح كلامه» أي طابق الواقع و«صدق» أي لم يكذب فالأول صفة

ص: 141


1- أو التام في مقابل الناقص.
2- إلا لو أريد مقابل مرض، وهو لا يرتبط بالمقام.

للقول والثاني صفة للقائل.

ثالثاً: إن ظاهر الموصول في «تصحيح ما يصح عنهم» هو الرواية أي المحكي لا الحكاية بنفسها ألا ترى انه لو قيل كل ما قاله فلان فهو صحيح أو كل ما نقله فلان عن المرجع فهو صحيح أريد به ان مقوله صحيح أي ان ما نقله هو كما نقله. فتدبر.

فلا وجه لاحتمال ان المراد ب«تصحيح ما يصح عن جماعة» هو توثيقهم بانهم لا يكذبون وانهم ثقاة فان هذا الفهم غير عرفي بالمرة.

استظهار المشهور للاحتمال الثالث

ولذلك استظهر المشهور هذا المعنى(1) كما نقل الشهرة على ذلك الوحيد البهباني في فوائده الرجالية والمحقق الداماد في «الرواشح السماوية».كما ان أبا علي الحائري في منتهى المقال قال: «ان هذا هو المعنى هو الظاهر المنساق للذهن من هذه العبارة».

كما اختار هذا المعنى الشيخ البهائي والشهيد الثاني والتقي المجلسي والمحدث البحراني في الفوائد النجفية وآخرون.

كما انه ظاهر الجواهر(2) إذ قال: «وخبر حريز وإن كان مرسلا، إلا انه في السند حماد، وهو ممن اجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه، فلا يقدح ضعف من بعده».

فقوله: «فلا يقدح ضعف من بعده» صريح في انه استفاد تصحيح المضمون والرواية الأعم من التصحيح السندي أو المضموني ولذا لا يخل بصحتها عدم صحة السند فان نفي الأخص لا ينتج نفي الأعم.

ص: 142


1- وهو الصحة القدمائية (على ما نسب إليهم) وان المراد صحة المضمون الأعم من كونه لصحة السند أو للقرائن.
2- الجواهر ج2 ص316.

الفصل الثالث: الإهمال وكيفية معالجته*ملحق: قيمة صُحبة الأئمّة في رفع الإهمال

اشارة

ص: 143

ص: 144

البحث الأول: فرق الإهمال عن التضعيف

اشارة

إن كثيرا من الروايات(1)

الواردة في شؤون الكلام والفقه والتفسير والحديث والتاريخ وغيرها مبتلاة بمشكلة الإهمال، وسيدور البحث بإذن الله تعالى عن وجوه إخراج تلك الروايات أو الكثير منها عن الإهمال (صغرى)، وعن وجوه اعتبار الروايات المهملة وإن فرض بقاؤها مهملة (كبرى)، كما سيدور البحث في كلا البعدين المبنائي والتطبيقي.

وقبل الخوض في ذلك لابد من تمهيد مقدمة وهي:

إن الإهمال لا يعني التضعيف ولا يلازمه، وعليه فلا يصح لمن رأى إهمالا في سند روايةٍ، أن يطرحها مباشرة ويتركها وراءه ظهريا، وذلك لأن الإهمال يعني عدم العلم وهو مباين للعلم بالعدم، وفرق كبير بينه وبين التضعيف الذي هو العلم بحال الراوي من حيث الضعف.

دعوى مساواة غير محرز الحجية بمحرز عدمها:

لا يقال مآل هذا إلى ذاك من حيث النتيجة، وهي عدم الحجية؟

وبعبارة أخرى: إن عدم إحراز الوثاقة - مثلا - مساو لإحراز عدمها، من حيث كون كليهما(2)

ليسا بحجة؛ وذلك لان المقام من صغريات كبرى القاعدة

ص: 145


1- وهي بالمئات بل لعلها تبلغ الألوف.
2- أي المحرز كونه غير ثقة وغير المحرز كونه ثقة.

الكلية "إن الشك في الحجية هو موضوع عدم الحجية" فلا فرق بين أن تحرز عدم الحجية، وبين أن لا تحرز الحجية فكلاهما ليسا بحجة، ومن هنا فلا يمكن الاستناد إلى أيٍّ منها.

وعليه: فلا فرق بين كون الراوي مهملا وبين كونه مطعونا عليه أو مجروحاً، إذ كلاهما ليس بحجة؛ إما لإحراز عدم الحجية أو لعدم إحراز الحجية، وهذه الاشكال طرحه البعض في موطن آخر، فان تم هناك تم هنا، وعليه يكون المهمل كالمجروح حكماً.

الفرق بين عدم إحراز الحجية وإحراز عدمها

والجواب: هناك وجوه عديدة للإجابة عن هذا الاشكال نشير لإحدى هذه الوجوه - ولعله سنتعرض لاحقاً للأجوبة الأخرى - وهي:

هناك فرق كبير بين كون الراوي مهملا وبين كونه مجروحا، كما أن هناك فرقا في الكبرى الكلية: بين إحراز عدم الحجية وبين عدم إحراز الحجية.

توضيح ذلك: ان الصورة الأولى وهي «إحراز عدم الحجية» هي على نوعين:

الأول: ما لا يقبل الحجية بالمرة كالقياس أي ما لا اقتضاء له للحجية.

الثاني: ما ليس بحجة لكنه صالح لها أي لان يكون حجة، وذلك كخبر الضعيف أو المجروح أو المطعون فيه أو المتهم وما أشبه، فان هذا الخبر وإن احرزت عدم حجيته لكن له الصلاحية في حد ذاته لأن يكون حجة.

وبعبارة أخرى: هناك فرق ذاتي(1) بين الصورتين فان القياس لا يقبل الحجية أبدا لقصور ذاتي في المقتضى، أما «الخبر الضعيف» فانه لا مشكلة ذاتية فيه من

ص: 146


1- المراد ب(الذاتي) المعنى العرفي، لا ذاتي باب البرهان أو ذاتي باب الكليات.

حيث المقتضى - وهو كونه خبراً - بل المشكلة من حيث إضافته للضعيف أو المجروح ولذا نجد ان «الضعيف» لو عُدِّل من قبل رجالي آخر فان النتيجة ستكون التعارض وسنرجع الى مرجحات هذا الباب، من الاضبطيّة وغيرها، وإلى مثل: أنه إذا لو أحرزنا عدم الحجية لعارض خارجي كالجرح - حيث لا مشكلة ذاتية في الموضوع(1)

- فان التوثيق سيعارضه. عكس القياس الذي لا يصلح بوجه لأن يُعضَد بأمر.

واما الصورة الأخرى، وهي صورة «عدم إحراز الحجية» كما في الإهمال. والمهمل أحسن حالاً من سابقيه، إذ أن التوثيق لا يعارض بالإهمال، بل يتقدم عليه بدون تعارض في البين، وهذه ثمرة كبيرة جدا، وأما الثمرة الأخرى فهي ان قول الرجالي بان هذا الشخص مهمل - كما في الحسين بن عبد الله المالكي - وكونه بهذه الحيثية أي الإهمال قد يكون خطوة في طريق الحجية ولكن بشرط ضميمة سنذكرها لاحقا، وهذا هو أحد الفروق بين إحراز عدم الحجية كالمجروح وعدم إحراز الحجية كالمهمل.

ثمرة التفريق بين الإهمال والتضعيف

الثمرة المترتبة على التفريق بين الإهمال والتضعيف تظهر في موارد عديدة:

منها: أن المضعِّف والجارح يعارض المعدِّل، والتضعيف يعارض التعديل، ولكن الإهمال ليس كذلك فلو أن راوياً وجدناه مهملا في كتب الرجال، ثم وجدنا بعد ذلك أن العلاّمة في الخلاصةأو البهائي في الوجيزة أو شخصا آخر من المتأخرين أو متأخري المتأخرين يوثّقه، فلنا أن نأخذ بهذا التوثيق من دون ابتلائه بمعارض وكذلك لو أهمله كافة المتقدمين ووثقه أحدهم فإنه حجة(2)

عكس ما لو

ص: 147


1- أي موضوع الحجية وهو الخبر.
2- حققنا في موضع آخر عدم الفرق بين توثيقات المتقدمين والمتأخرين فلاحظ.

جرحه أحدهم ووثقه آخر فهما متعارضان.

والحاصل: أن الإهمال غير الجرح، فالإهمال يعني عدم العلم، بينما الجرح يعني العلم بالعدم، أي العلم بعدم الوثاقة مثلاً.

ويتضح ذلك أكثر بملاحظة أن الاستقراء الرجالي هو استقراء ناقص في كثير من الأحيان، وذلك من وجوه:

الوجه الأول: ان كتب المتقدمين هي خمسة(1) بل تسعة(2)، وأما كتب المتأخرين فكثيرة ومنها كتب العلامة وابن داوود وفهرست الشيخ منتجب الدين ومعالم العلماء(3) ثم كتب متأخري المتأخرين كمجمع الرجال للقهبائي «من أعلام القرن الحادي عشر الهجري» ومنهج المقال للاسترابادي المتوفى 1028ه وجامع الرواة للاردبيلي ونقد الرجال للتفريشي الذي ألفه عام 1015 وكذلك الوجيزة للبهائي والمجلسي وغيرهما، ثم منتهى المقال في أحوال الرجال لأبي علي الحائري المتوفى 1216 ثم كتب المعاصرين: كنهاية الدراية للسيد حسن الصدر المتوفى 1354 وغيره، ومتأخري المعاصرين ك: مستدركات علم رجال الحديث وغيره.إن غاية ما يحصل عند مراجعة كتب المتقدمين الرجالية - فكيف ببعضهم -

ص: 148


1- وهي: كتاب النجاشي والكشي ورجال الطوسي وفهرسته، ورجال البرقي (أحمد بن خالد البرقي) صاحب المحاسن المتوفى عام 280، أو هو تأليف أبيه (خالد) أو تأليف ابنه (عبد الله بن أحمد) وعلى أية حال فانه سابق زمناً على الشيخ الكليني المتوفى 329 إذ يروي الكليني عن عبد الله بن أحمد البرقي، ويحتمل كون مؤلف رجال البرقي هو ابن الحفيد أي (أحمد بن عبد الله بن أحمد بن خالد البرقي) الذي يروي عنه الشيخ الصدوق. فراجع قاموس الرجال وغيره.
2- بإضافة رسالة أبي غالب الزراري، ومشيخة الصدوق، ومشيخة الطوسي في التهذيب والاستبصار. ثم رجال ابن الغضائري - على ما فيه - وهو المتوفى 411.
3- حسب بعض المقاييس، فانهما من متأخري المتقدمين.

هو الاستقراء الناقص؛ وهو ليس بحجة بما هو هو، مع وجود مجالات أخرى عديدة للبحث قد تفي برفع الإهمال عن شخص ما - وكما سنطبق ذلك إن شاء الله تعالى - .

وبعبارة أخرى: إن التوثيق لا ينحصر باستقراء تلك الكتب الرجالية حتى مع استيعابها كافة وإنما لدينا مصادر أخرى للتوثيق، فبالإضافة إلى الكتب الرجالية المذكورة وغيرها، يمكن الرجوع إلى الفهارس(1)، والتي كان المحور فيها هو «الكتب» ويمكن الاعتماد عليها في ذلك، حيث تتطرق لأحوال رواة تلك الكتب وطرقهم.

ثم ان المصدر الآخر الذي يمكن الرجوع إليه هو كتب الفوائد، وهي كتب ملحقة ببعض الكتب الأخرى وقد تكون مستقلة، وفيها من الفوائد الدرائية والرجالية الشيء الكثير، وكثيرا ما تنجلي الغمة والضبابية عن الراوي بالاستعانة بها، كما في خاتمة المستدرك للمحدث النوري حيث يحتوي على بحوث رجالية قيمة، ومنتقى الجمان لصاحب المعالم، والرواشح السماوية للميرداماد جميعاً.

الوجه الثاني: أن كثيراً من الكتب الرجالية القديمة قد ضاعت أو تلفت، وكما ينقل ذلك اغا بزرك حيث يقول: إن ابن طاووس كان في مكتبته أكثر من 100 كتاب رجالي ولم يصل إلينا إلا القليل منها، ومن غير المعلوم استيعاب ما يوجد لدينا من كتب المتقدمين - من رجالية وفهارس وفوائد وحتى غيرها - لكافة الرجال أو لكافة قرائن توثيقاتهم أو جرحهم، والموجودة - احتمالاً على أقل

ص: 149


1- والفرق بين الفهرس وكتاب الرجال: ان المحور في علم الرجال هو الرجل نفسه، بينما في الفهارس المحور هو الكتاب ويتحدث بالمناسبة عن الراوي، كما في مشيخة الصدوق في من لا يحضره الفقيه، وفهرست الشيخ الطوسي، ورياض العلماء للمرحوم الافندي، ومعالم العلماء لابن شهر اشوب، والذريعة لاقا بزرك الطهراني ونظائرها.

الفروض - فيما ضاع أو تلف.

وعلى أية حال فالإهمال في كتب الرجال لا يلازم الجرح والطعن، وسيأتي انه توجد مصادر أخرى منسية لو حققنا فيها أكثر لانكشف حال كثير من الرواة تضعيفاً أو توثيقا(1).

البحث الثاني: من طرق توثيق الحديث المهمل

اشارة

إن المهمل في علم الرجال قد لا يبقى على إهماله، بل إن هناك طرقاً للوصول إلى توثيقه أو طعنه وسنذكر ههنا عشرين طريقاً بإذن الله تعالى، وعناوين هذه الطرق هي:

الأول: كتب التفاسير، كتفسير القمي والعياشي والتبيان ومجمع البيان والصافي والبرهان، بل حتى كتب تفاسير العامة كالطبري والرازي وغيرها، فإن في مطاوي كتب التفسير توجد الكثير الكثير من القرائن على توثيق أو تضعيف الراوي، بما هو أو بلحاظ حال رواياته، وهذا باب واسع جداً.

الثاني: كتب علم الكلام والعقائد وكتب الأديان والمذاهب مثل: دلائل الإمامة وإثبات الهداة للحر العاملي وإحقاق الحق والغدير والنص والاجتهاد من كتب المتأخرين وما سبقها من كتب المتقدمين كثير.

الثالث: كتب الفضائل مثل بصائر الدرجات وحلية الأبرار في فضائل محمد وآله الأطهار للسيد هاشم البحراني ومدينة المعاجز وينابيع المعاجز(2).

الرابع: كتب فضائل الأعمال ككتاب فضائل الأشهر الثلاثة للشيخ الصدوق وغيره.

ص: 150


1- محاضرة القواعد الفقهية السبت 8 جماي الاول1433ه في الصحن الحيدري الشريف, الدرس(85).
2- وهذه الثلاثة مما اعتمده الشيخ النمازي في تحقيقاته في (مستدركات علم رجال الحديث).

الخامس: كتب الزيارات ككامل الزيارات والمزار للمشهدي وغيرها.

السادس: كتب المجاميع والموسوعات مثل: «بحار الأنوار»، «مستدركات سفينة البحار» ومن كتب متأخري المعاصرين موسوعة الإمام الحسين (علیه السلام)(1) موسوعة الإمام الصادق (علیه السلام)(2) موسوعة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) (3).

السابع: كتب أخرى علمية منوعة مثل: كتاب طب الأئمة (علیهم السلام) وكتاب الشيعة وفنون الإسلام وفضائل الشيعة للشيخ الصدوق.

الثامن: كتب الرجال للمتقدمين بل وحتى المتأخرين(4).التاسع: كتب الفهارس، ك«الفهرست» للشيخ الطوسي وفهرست الشيخ منتجب الدين ومعالم العلماء لابن شهر آشوب ورياض العلماء للحاج عبد الله الافندي وغيرهم.

العاشر: كتب الفوائد، مثل الفوائد الرجالية للسيد بحر العلوم، والرواشح السماوية للسيد الميرداماد، وخاتمة مستدرك الوسائل للميرزا النوري، والذريعة إلى تصانيف الشيعة، وفوائد الشيخ علي الخاقاني.

الحادي عشر: كتب تواريخ المدن أو الشخصيات، وهذا الباب ليس بمطروق عادة، ولو أن شخصا من الرجاليين أو المؤرخين بذل جهدا في هذا الحقل عبر تتبع تواريخ المدن، لخرج الكثير من الرجال عن الإهمال إلى التوثيق أو الجرح، أما مطلقا أو في الجملة، إما من خلال أدلة قد يعثر عليها المتتبع، أو من

ص: 151


1- للشيخ محمد صادق الكرباسي وتقع في اكثر من سبعمائة مجلد.
2- للسيد محمد كاظم القزويني وتقع في أكثر من ستين مجلداً.
3- بإشراف السيد محسن الخاتمي وتقع في أكثر من ستين مجلداً.
4- ولا فرق في مبنانا بين المتقدين والمتأخرين ومتأخري المتأخرين بل والمعاصرين من حيث التوثيقات المنقولة عنهم كما سيأتي تفصيله لاحقاً بإذن الله تعالى.

خلال مجموعة من المؤيدات والتي مع تراكمها قد توجب الاطمئنان النوعي.

ومن هذه الكتب؛ تاريخ بغداد وتاريخ الكوفة وتاريخ مكة وتاريخ المدينة وتاريخ دمشق وتاريخ قم وكذلك تاريخ علماء خراسان وغيرها.

بحث تطبيقي: راويا تفسير الإمام العسكري (علیه السلام)

فائدة: إن الراويين لتفسير الإمام العسكري (علیه السلام)(1) كلاهما مهمل، وقد أملى عليهما الإمام (علیه السلام) تفسيره، وهذا الإهمال نشأ فيما نشأ من جهة الجهل بتاريخ المدن، وذلك لأن كلا من علي بن محمد بن سيار - وهو الذي قد روى دعاء الندبة أيضا - وكذا يوسف بن محمد بن زياد، هما من أهالي استراباد من جرجان، وهي مدينة بعيدة عن الحواضر العلمية ولذا لم يذكرهما الرجاليون من أمثال النجاشي وغيره، مما يوضح ذلك ما نجده عياناً في هذا الوقت، حيث ان من يعيش في مدينة النجف الأشرف، فانه عادة يعرف من يسكن فيها أو كثيراً منهم، ولكن معرفته بأهالي قم هي أقل كماً أو كيفاً وإن كان متتبعاً، وهكذا تتدرج المعرفة في التناقص كلما ذهبنا ابعد من ذلك، إلى مشهد مثلاً ثم إلى أفغانستان وهكذا وهذه مسألة طبيعية.والحاصل: ان الرواة الذين عاشوا في حواضر العلم والمدن القريبة والرئيسية كبغداد وقم وما أشبه فان هؤلاء كانوا في متناول الأيدي من جهة التوثيق والجرح؛ لان التعرف عليهم كان سهلا من قبل الرجاليين كالنجاشي وغيره ولذا تطرقوا لأحوال كثير من هؤلاء، وهذا بخلافه في أولئك الموجودين في المدن البعيدة فان التعرف عليهم أصعب واحتمال الغفلة(2) عن العديد منهم أقوى.

ص: 152


1- وهناك تفسير آخر للإمام العسكري (علیه السلام)، وارتأى البعض انه للإمام الهادي (علیه السلام) كما استظهره المحقق الطهراني وهو يقع في 120 مجلداً وهو صحيح ولكنه ليس بأيدينا.
2- بل واحتمال عدم وجود طريق إلى التعرف على العديد منهم.

الحسين بن أحمد المالكي

«الحسين بن أحمد المالكي» وهو الراوي لأحدى أهم مستندات قاعدة الإلزام وهي رواية: "فانه من دان بدين قوم لزمته أحكامهم" فإننا لا نجد ذكراً له في كتب الرجال أو الفهارس أو الفوائد، ولكن هذا لا يكفي للحكم بإهماله بقول مطلق، بل لابد من الرجوع إلى ما ذكرناه من تاريخ المدن - وإلى ما سيأتي من الطرق الأخرى - فلعل بها ينكشف حاله, وعند التتبع نجد إن «الحسن بن احمد المالكي» كان من أهل الري، وقد صرح الرجاليون كالنجاشي وغيره بوثاقته، وكذلك بوثاقة أبيه وجده، مما يعني كونه من أسرة فاضلة، وكان قد سافر من الري إلى بغداد واستقر فيها فترة من الزمن، وفيها التقى الشيخ النجاشي فتعرف عليه ووثقه، ولكن الآخر - على فرض وجوده(1)

- أي الحسين وهو أخ للحسن - كما قيل - فلم ينقل عنه انه سافر أو هاجر ولعله لذا بقي مهملا حيث انه لم يلتق بالنجاشي أو غيره، وهذا الأمر طبيعي جداً.

ومنه يظهر ان التتبع في تواريخ المدن يمكن أن يكون مصدرا من المصادر المهمة لإخراج بعض الرواة من الإهمال إلى وجه آخر من التوثيق أو الجرح، ويمكن معه أن تصحح العديد من رواياتنا من خلال السير في هذا الطريق، ويدل على ذلك أن بعض المتأخرين - كالشيخ النمازي في مستدركاته وغيره - قد استدركوا كثيرا مما لم يذكره المتقدمون من الرجاليين. وسيأتي في اخر المبحث كلام عنه مفصلا.

الثاني عشر: الإجازات والاستجازات كما في إجازتي العلامة الحلي لبني زهرة، وإجازة الشهيد الثاني لتلامذته واجازات الحر العاملي والعلامة المجلسي

ص: 153


1- وسيأتي بحثه بإذن الله.

إجازةً واستجازةً، وكذا السيد هاشم البحراني وغيرهم.

الثالث عشر: علم الأنساب وما كتب عن العشائر والأفخاذ والقبائل والمشجرات.

الرابع عشر: الكتب التي كتبت عن البيوتات الشيعية العلمية وذلك مثل ما كتبه أبو غالب الزراري المتوفى 368ه عن آل زرارة بن أعين ومثل مقاتل الطالبيين لأبي الفرجالأصفهاني فإنه عند الرجوع إليها فإن حال مجموعة من الرواة قد يستبين، وكذا كتاب العمدة وكتاب الفخري والمجدي فإن تلك الكتب ونظائرها تنفع في التحري عن المهملين، كما ان السيد بحر العلوم قام في رجاله بترجمة كثير من البيوتات الشيعية.

الخامس عشر: ملاحظة الروايات التي ينقلها الراوي من حيث المضمون، والأبواب الحديثية التي طرقها أولئك المهملون.

وهنا نقطة مهمة يجدر الالتفات إليها وهي ان المقصود ههنا ليس ما تكرر ذكره كثيرا من أن قوة المضمون دليل على وثاقة «الخبر» بغض النظر عن وثاقة المخبر، كما في نهج البلاغة ومضامينه التي هي دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق، ودعاء الصباح والزيارة الجامعة وتحف العقول، والصحيفة السجادية ونظائرها، فإن مضامينها تشهد بصحتها، لكن ذلك ليس هو المقصود الآن، وإنما الذي نريد أن نقوله: إن الراوي المهمل يمكن أن نوثقه من خلال تتبع وتقييم ودراسة مضامين رواياته وانطلاقا منها، فإن ملاحظة مضامين رواياته قد تفيد - كدليل أو كمؤيد - توثيق الرواية والراوي معاً؛ ولذا فقد يكون ذلك إحدى القرائن التي يمكن أن يعتمد عليها - جرحا أو تعديلا -، وهذا أمر يحتاج إلى تتبع واسع واستقراء شامل وإن كان قد قام بجوانب منه بعض علمائنا الأبرار جزاهم

ص: 154

الله خير جزاء المحسنين.

السادس عشر: ملاحظة طبقة الراوي، وانه عمن روى، ومن روى عنه، وهذا طريق معروف وقد يفيد الاطمئنان بوثاقة الراوي وقد يدفع عنه شبهة أو شكاً أو يؤكده، وعليه بناء العقلاء في الجملة أو بالجملة، ومما يقرب ذلك للذهن: ان من قدم إلى مدينة النجف الاشرف إذا وجد أن احد أعلامها - وهو لا يعرفه - يروى عنه الأجلاء والعدول والثقات، فان روايتهم عنه تعدّ قرينة نوعية على وثاقته خاصة إذا أكثروا، نعم قد لاتفيد الرواية مرة واحدة عنه ذلك وكذلك لو وجد إكثار الثقة الملتفت الفقيه(1)،

للرواية عن ذلك العالم أو الراوي.

والحاصل: ان دراسة طبقة الراوي قد تفيد الاطمئنان بوثاقته، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فان من يكثر الرواية عن المناكير والشذاذ ومن أشبه، فان ذلك يعد قرينة نوعية على تضعيفه مع قطع النظر عن ملاحظة القرائن الأخرى(2).

السابع عشر: ملاحظة أسرة الشخص، وهذه قرينة قد تساعد على توثيقه وتصلح كمؤيد وإن لم تصلح دليلاً، وعلى ذلك جرت سيرة العقلاء وبناؤهم، فإننا لو رأينا شخصا من أسرة كان كل أفرادها ثقات أو عدولا، فان النفس تركن إليه بصورة مبدئية وبنحو المقتضي(3).

ص: 155


1- أو لا بهذا القيد.
2- كما لو كان أحدهم قد أكثر الرواية عن الشيوعيين والعلمانيين والفسقة والفجرة لا لغرض الرد والشبهة.
3- وبحسب الصغرى التي اتخذناها كمثال: فإن الحسين بن احمد المالكي هو من هذا القبيل؛ وذلك أن الرجاليين صرحوا أن أخاه الحسن - على فرض أنهما أخوان واثنان - ثقة، وكذا الأب والجد فكلاهما ثقتان، وهذا الأمر في بناء العقلاء مما يورث الاطمئنان أو يعدّ من علله المعدة أو المؤيدات وعليه سيرتهم.

كما أن العكس هو كذلك، فلو كانت هنالك أسرة مشهورة بالفجور والفسق والكذب - والعياذ بالله - ثم رأيت أحد أفراد تلك الأسرة وأنت لا تعرفه شخصياً، فإنك تجد من نفسك التحفظ تجاهه، والحذر من الأخذ بكلامه، مبدئياً، وهذه مسألة وجدانية.

الثامن عشر: ملاحظة المبنى العقدي، وهو طريق مهم تترتب عليه الكثير من الثمار فان المبنى الاعتقادي(1)، والاتجاه الفكري للراوي وأيضاً للرجالي الذي ضعفه أو وثقه، كثيرا ما يكون قرينة على التوثيق أو التضعيف.

ومن أبرز الأمثلة على ذلك الشيخ النجاشي(2), فان تضعيفاته لعدد من أعاظم رواة المعارف مخدوشة لذلك، من قبيل تضعيفه محمد بن سنان(3)

ويونس بن ظبيان(4)

وداوود الرقي(5)،

وعمرو بن شمر(6)

والمفضل بن صالح(7)

والمفضل بن عمر(8)

وغيرهم، فإن الرواة الستة وبعضاً آخر مننظائرهم، قد جرى نقاش

ص: 156


1- العقَدَي هو الصحيح.
2- وهذه مجرد إشارة والتفصيل موكول إلى محله.
3- قال النجاشي عن (محمد بن سنان): (وهو رجل ضعيف جداً لا يعول عليه ولا يلتفت إلى ما تفرد به)، وفي المقابل فإن ممن وثق محمد بن سنان السيد ابن طاووس وصاحب الوسائل وغيرهما.
4- يونس بن ظبيان، عبر عنه النجاشي: (ضعيف جداً لا يلتفت إلى ما رواه، كل كتبه تخليط) لكن ظاهر الصدوقين توثيقه.
5- عبر عنه النجاشي (ضعيف جداً والغلاة تروي عنه).
6- قال عنه النجاشي (ضعيف جداً) ولكن روى عنه كامل الزيارات وتفسير القمي واعتمد عليه المفيد ووثّقه المحدث النوري.
7- قال النجاشي في أحوال (جابر بن يزيد): ( روى عنه جماعة غمز فيهم وضعفوا، منهم عمرو بن شمر ومفضل بن صالح ) وفي المقابل فقد وثّقه الوحيد البهبهاني في تعليقته، والميرزا النوري والشيخ النمازي.
8- قال عنه النجاشي: (مفضل بن عمر: فاسد المذهب مضطرب الرواية لا يعبأ به.. الخ).

طويل حولهم في علم الرجال وانه ما هو حالهم من حيث الوثاقة وعدمها، فانه من جهة ضعّفهم عدد من علماء الرجال، ومنهم الشيخ النجاشي الذي يرى البعض انه لو تعارض جرحه مع تعديل الشيخ الطوسي أو العكس لقدم ما يقوله النجاشي عليه في ذلك(1), ومن جهة أخرى فانه بالتتبع يظهر أن النجاشي ضعف عددا من الرواة ولم يكن مستنده في ذلك إلا رميه إياهم بالغلو استنادا إلى مضمون ما رووه وبناء على منحى عقدي خاص قد التزم به.

وموجز القول انه كلما رمى النجاشي شخصا بالغلو، فانه يجب أن يوضع على جرحه هذا علامة استفهام، والسر في ذلك أن الشيخ النجاشي كان تلميذا لعدد من مشايخ العامة ولعله كان يعيش في أجواء تقية وتحرز، كما لعله تأثر ببعض أقوالهم؛ ومن هنا نجد أن رأيه في مسألة الغلو يخالف رأي العديد من الأعاظم بل يخالف رأي مشهور المتأخرين.

وقد ناقش نسبة الغلو إلى هؤلاء عدد من الأعاظم ومنهم من متأخري المتأخرين: العلامة المجلسي والحر العاملي والمحدث النوري ومن المعاصرين السيد حسن الصدر الكاظمي في رجاله(2)،

ولسنا الآن بصدد تفصيل ذلك.

ولكن نقول كإشارة: اننا عند دراسة روايات هؤلاء الرواة الستة نجد أن أسمى أنواع المعارف العقدية والتوحيدية والولائية (الولوية) قد رويت من قبلهم، ولكن: لما كان مستوى الروايات المعرفي المنقول عن هؤلاء بمرتبة عالية فلم يكن النجاشي - على جلالته - ليتحمل مثلها، فقام بتضعيفهم لذلك، إذ أن «هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها» و «أن أمرنا صعب مستصعب»(3).

ص: 157


1- ولا نرى صحة ذلك على إطلاقه لبحث مبنائي في محله.
2- ومن متأخري المعاصرين في كتاب (بحوث في مباني علم الرجال).
3- كما في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (علیه السلام) وقد عقد الكافي الشريف بابا سماه (باب فيما جاء أن حديثهم صعب مستصعب) الكافي الشريف: ج1ص401 ط دار الإسلامية.

اذاً.. دراسة حال الرجالي المعدِّل أو الجارح ومبناه الاعتقادي وسبب تضعيف الراوي، كل ذلك مهم في عملية التوثيق او الجرح، وكذلك دراسة حال الراوي نفسه من خلال مروياته، فإنها قد تفيد التوثيق أو الجرح من هذه الجهة، وقد يسري ذلك الجرح إلى وثاقة اللهجة وقد لا يسري - حسب نوع ومحتوى روايته وكثرتها - ولذا فلو كان الراوي مجروحا في عقيدته - بان اتهم بالغلو مثلا - فان هذه التهمة أو النسبة قد تنتهي بالمتتبع إلى الاطمئنان بالصحة أو السقم. وهذه طريقة أخرى ومنهج مفيد في مقامنا في تحقيق حال الراوي والرواية.التاسع عشر: الرجوع إلى كتب التاريخ المختلفة، مثل ناسخ التواريخ(1)،

والكامل لابن الأثير، والطبري، فان المئات من الرواة قد نجد القرائن في تلك الكتب على توثيقهم أو تضعيفهم؛ ولذا فان مثل ابن الأثير والطبري مثلاً، رغم كونهم من العامة فإنه عند مراجعة تواريخهم قد يتجلى حال الراوي وينكشف انه من المخالفين أو غير ذلك، وهذا عامل مهم ومؤثر في معرفة حال الراوي وفي مبحث التقية وتشخيص مفرداتها وفي أجواء صدور الرواية وشبه ذلك.

العشرون: كتب الامم الأخرى والتي تتضمن الكثير من القرائن والشواهد على حال البلاد الإسلامية أو الجيوش الفاتحة أو غير ذلك، وهذا طريق هام غير مطروق ويحتاج إلى جهد كبير واسع متنوع الأبعاد، وقد اعتمد بعض محققي الرجاليين على كثير من هذه الطرق(2) كما ذكر كثيراً منها بعض المحققين

ص: 158


1- لعل كتاب ناسخ التواريخ يبلغ 110مجلدات أو أكثر لو طبع كله.
2- ومنهم الشيخ النمازي في كتابه التحقيقي (مستدركات علم رجال الحديث)، وقد ذكر في مقدمته الكثير من الكتب التي اعتمد عليها وهي متنوعة أشد التنوع بين كتب الحديث والرجال والتفسير والتأريخ وكتب الكلام أو الفضائل وحتى بعض كتب الطب. فراجعها.

الآخرين(1) فجزاهم الله خير جزاء المحسنين.

لكن قد يقول البعض: إن تحري كل ما ذكر يستوجب جهداً هائلاً وزمناً طويلاً، لأنه يتوقف على مراجعة كتب التاريخ المتعددة المذكورة وغيرها؟ وما أكثرها وما أصعب ذلك.

والجواب: إن ذلك وان استلزم الكثير من الجهد والعمر، إلا ان الأمر يستحق أكثر من ذلك، حيث أن الرواية الواحدة التي يستفاد منها حكم شرعي جدير ببذل أقصى الجهد للوصول إليها واحراز وثاقة رواتها أو وثاقتها، وعليه فإنه لو أمكن جرح الراوي أو توثيقه من خلال ذلك، فان احتمال أن يؤدي ذلك إلى اعتبار وحجية الرواية منجز، وهذه بحد ذاتها ثمرة كبيرة جداً.

ثم ان التطور التكنولوجي الحاصل عبر الأجهزة الحديثة المتوفرة وبعملية البحث السريع يسّر إستقراء كل هذه الكتب وبفترة قليلة نسبيا.

ثم ان ما يؤكد ذلك أن بعض الأعلام بذل جهدا كبيرا في جانب من هذه الجوانب وقد أثمر ذلك بفائدة عظيمة - وهو الشيخ النمازي في مستدركات علم رجال الحديث - حيث أن الكثير جداً من الرواة المهملين في مجموعة من الكتب الرجالية، استدركها وبيّن أحوال أولئك الرواة بأدلة أو مؤيدات لمتكن مذكورة في الكتب السابقة(2)، وهذا التحقيق والاستدراك كلّفه سنين من عمره، ولكنه قدم لمن جاء من بعده الخدمة الجليلة.

والحاصل: ان هذا المنهج يحتاج إلى المزيد من الاهتمام والتطوير والعناية وهذا بعض الكلام البدوي فيما يتعلق بذكر عناوين الطرق التي يمكن ان تدرس عبرها شخصيات الرواة المهملين.

ص: 159


1- ومنها في الكتاب القيم (بحوث في مباني علم الرجال).
2- مثل معجم رجال الحديث وما سبقه كجامع الرواة للاردبيلي، وتنقيح المقال للمامقاني وغيرها.

حجية الروايات التي في إسنادها مهمل أو أكثر

وأما حال الكبرى: فقد أسلفنا الحديث عنها مفصلاً إذ مضى الكلام حول الوجوه التي يمكن أن يستند إليها لتوثيق مراسيل الثقات، وانه يمكن أن نقول باعتبار وحجية تلك الروايات بتلك الوجوه، فإن ما سبق من الأدلة على حجية المراسيل - بحسب المصطلح - بقيودها يجري بعينه في الحديث المهمل ورجاله، فراجع ما ذكرناه(1).

ونضيف هنا: ما ذكره المحقق التستري في قاموس الرجال من: «أن الإجماع قائم على العمل بخبر رواته مهملون لم يذكروا بمدح أو قدح، والقدماء إنما يردون المطعونين»، ولا اقل من تمامية هذه النسبة للكثير من القدماء، لكن سبق أن بناء العقلاء على العمل بالمراسيل، ونضيف هنا أخبار المهملين أيضا. إذا اعتمد عليها الثقة ولم تبتل بالمعارض، فتأمل.

ص: 160


1- من أدلة نقلية ومن بناء عقلاء وكذا كلام الشيخ الطوسي في العدة وغيره. وقد تناول الأستاذ ذلك في محاضراته الممتدة من تأريخ (12محرم إلى 14صفر من عام 1433ه) في درسه الخارج للقواعد الفقهية.

بحث تطبيقي في توثيق عبد الله بن طاووس وحسين بن احمد المالكي

إحدى الروايات التي استدل بها على قاعدة الإلزام هي الرواية التي رواها الشيخ الصدوق بسنده عن الحسين بن احمد المالكي, قال: حدثنا عبد الله بن طاووس سنة 241 هجرية قال: قلت لأبي الحسن الرضا (علیه السلام): إن لي ابن أخ زوّجته ابنتي، وهو يشرب الشراب ويكثر ذكر الطلاق. فقال (علیه السلام): «إن كان من إخوانك فلا شيء عليه، وإن كان من هؤلاء فأَبِنها منه فانه عنى الفراق». قال قلت له: أليس قد روي عن أبي عبد الله (علیه السلام) انه قال: «إياكم والمطلقات ثلاثا في مجلس فإنهن ذوات الأزواج»؟ فقال (علیه السلام): «ذلك من أخوانكم لا من هؤلاء، انه من دان بدين قوم لزمته أحكامهم».

ويوجد في إسناد هذه الرواية المهمة راويان وقع الكلام فيهما، هما الحسين بن أحمد المالكي، وعبد الله بن طاووس.

عبد الله بن طاووس

أما عبد الله بن طاووس الراوي لهذه الرواية عن الامام الصادق (علیه السلام)، فهو لم يوثق ولم يضعف من قبل الرجاليين المتقدمين، لكن يمكن أن يوثق ابن طاوس بوجوه، سنشير إليها إشارة والى ما يرتبط بها من مباحث مبنائية.

الوجه الأول: أن العلامة المجلسي قد حسّن ابن طاووس في الوجيزة، ولا فرق على ما حققناه في محله(1) بين توثيقات المتأخرين والمتقدمين في الحجية، سواءً أقلنا بان وجه حجية قول الرجالي انه من أهل الخبرة ومن باب الحدس، أم كونه خبر الثقة ومن باب الحس أو الحدس القريب من الحس، أم أنه من باب الشهادة

ص: 161


1- كما مضى بعض الكلام عنه وسيأتي في البحث القادم تفصيل ذلك.

بالمعنى الأعم وقد فصلناه في موضع آخر.

الوجه الثاني: وهو وجه مبنائي مهم ونشير له إشارة ثم نفصله لاحقاً وهو أن القهبائي نقل عن الكشي أن عبد الله بن طاووس هو من أصحاب الإمام الرضا (علیه السلام) وذلك اما دليل على وثاقته، أو مؤيد على الأقل، ولكن كونه دليلا يعتمد على شروط سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى في المبحث الآتي.

الوجه الثالث: إن بعض روايات ابن طاووس قد نقلها أعاظم الأصحاب مستندين إليها كالرواية الدالة على قاعدة الإلزام والتي رواها الشيخ الصدوق بسنده عن الحسين بن احمد المالكي قال: حدثنا عبد الله بن طاووس سنة 241 هجرية قال:قلت لأبي الحسن الرضا (علیه السلام): إن لي ابن أخ زوّجته ابنتي، وهو يشرب الشراب ويكثر ذكر الطلاق. فقال (علیه السلام): «إن كان من إخوانك فلا شيء عليه، وان كان من هؤلاء فأبنها منه فانه عنى الفراق». قال قلت له: أليس قد روي عن أبيعبد الله (علیه السلام) انه قال: «إياكم والمطلقات ثلاثا في مجلس فإنهن ذوات الأزواج»؟ فقال (علیه السلام): «ذلك من أخوانكم لا من هؤلاء، انه من دان بدين قوم لزمته أحكامهم»(1).

الحسين بن أحمد المالكي

اشارة

أما الحسين بن أحمد المالكي ففيه مبحثان:

المبحث الأول: إزالة الطعن في الحسين المالكي

أشار البعض إلى وجه طعن في الحسين بن أحمد المالكي؛ وذلك لأنه روى عن شخص معروف بالغلو وقد ثبتت التهمة عليه، وهو «احمد بن هلال العبرتائي» إلا أن التحقيق عدم صلاحية ذلك للطعن عليه.

ص: 162


1- وسائل الشيعة: ج22 ص75، كتاب الطلاق أبواب مقدماته وشرائطه: ب 30 ح11.

توضيح ذلك إن مشكلة العبرتائي من عدة جهات:

الأولى(1): انه قد ورد فيه عن إمامنا العسكري (علیه السلام) الذم.

الثانية: إن الإمام صاحب العصر (علیه السلام) قد أمرنا بالبراءة منه(2).

الثالثة: إن محمد بن الحسن بن الوليد قد استثناه من كتاب نوادر الحكمة(3).

وإضافة إلى كل ذلك فإن الشيخ الطوسي ذكر في الفهرست انه كان غاليا متهماً في دينه، وقال في التهذيب(4):

انه مشهور بالغلو وباللعنة، ولذا فان المشكلة فيه ليست هي اتهامه بالغلو فقط، بل هناك ذم شديد في حقه ولعن وبراءة من قبل بعض الأئمة المعصومين (علیهم السلام)، ومن هنا فان رواية الحسين بن احمد المالكي عنه تعدُّ وجه طعن عليه؛ لأنه يروي عن شخص مذموم لعنه الإمام (علیه السلام).ولكن قد يجاب عن ذلك صغرى وكبرى:

أما صغرى فقد يقال: بتوثيق العبرتائي؛ وذلك بالاستناد إلى وجوه عديدة منها:

منها: انه وقع في إسناد كامل الزيارات.

ومنها: انه وقع في إسناد تفسير القمي.

ص: 163


1- على ما ذكره النجاشي، وان لم يصل إلينا هذا الذم.
2- كما نقله الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة.
3- كتاب نوادر الحكمة لمحمد بن احمد بن يحيى، ويتضمن حوالي 670 راوياً على حد إحصاء بعض المحققين، منهم 646 لم يستثنهم ابن الوليد وبالتالي هم ثقات وأما المستثنون فهم 24 أو 26 أو 27 لاشتراك بعضهم.
4- التهذيب كتاب الوصية.

ومنها: إضافة إلى أن عدد من كبار الاجلاء(1)

قد رووا عن العبرتائي، وعليه فان من يروي عنه فليس بمطعون عليه مادام هؤلاء الكبار قد رووا عنه.

ولذلك فان السيد الخوئي في المعجم(2) ذهب إلى وثاقته مستدلا على أن فساد الدين والمذهب لا ينفي وثاقة اللهجة وصدق اللسان والبيان.

ولكن ذلك غير تام في هذا المقام؛ وذلك لأن الأمر لو اقتصر على مجرد فساد مذهب الرجل لامكن أن يفكك بينه وبين وثوق لهجته، وبالتالي يمكن تصحيح الاستناد إليه، لكن الاشكال نشأ من أن هناك تبرؤاً صريحا من الإمام (علیه السلام) منه وممن لا يتبرأ منه، ومن الواضح ان الرواية عنه لا تنسجم مع هذا التبرُؤ، بل تعد مخالفة له عرفاً؛ حيث جاء في توقيع الإمام صاحب العصر (علیه السلام) إلى العمري قوله (علیه السلام) فيه: «ونحن نبرأ إلى الله تعالى من ابن هلال، لا رحمه الله، وممن لا يبرأ منه»، فهل ينسجم هذا مع الرواية عن هكذا شخص؟ فإن الرواية عنه ستكون نوع إدخال له في الدائرة العلمية، وتعطيه بعض الاعتبار والوجاهة بل من الوجداني أن هكذا تبري لو صدر الآن من مرجع تقليد بحق شخص فإن الناس المتشرعين سيبتعدون عنه ولا يستندون إليه ولا ينقلون عنه.

ثم ان في بقية كلام الإمام (علیه السلام)، ما يؤكد ذلك: «فأعِلم الاسحاقي وأهل بلده ما أعلمناك من حال هذا الفاجر وجميع من كان سألك وسأل عنه»، فالإمام (علیه السلام) نجده قد طلب الإعلام عنه وتعريته وفضحه وسلب شرعيته فكيف مع كل هذا وذاك، يمكن - حسب المتفاهم العرفي - أن يقال انه ثقة ويمكن الرواية عنه(3)؟!

ص: 164


1- مثل سعد بن عبد الله و محمد بن علي بن ابن محبوب و إبراهيم بن محمد الهمداني والحسن بن علي ومحمد بن يحيى العطار وغيرهم.
2- معجم رجال الحديث: ج3 ص153 - 154، احمد بن هلال: رقم 1008.
3- وإن أمكن ذلك عقلاً لكنه مستبعد جداً عرفاً.

وأما رواية الأجلاء عنه، فالظاهر أنها كانت قبل انحرافه، بل يكفي احتمال ذلك فإن الحجية بحاجة إلى إحراز، ولذا فالحق هو التفصيل بالرواية عنه قبل الانحراف، وعدمها بعد ذلك, نعم لوثبت - وليس بثابت - أن الأجلاء قد رووا عنه بعد اللعن والبراءة، فهنا ينبغي أن يتأمل ويقال: أن عملهم (أي الأجلاء) بالرواية عنه قرينة على أنهم قد فهموا من كلام الإمام (علیه السلام) عدم الردع عما لم يكن فيه إخلال بصدق لهجته - وهو شئون العقائد خاصة فانها تقع في دائرة الشك والشبهة ولزوم البراءة - .

ولكن ومع ذلك يمكن أن يقال: أن رواية هؤلاء الأجلاء بعد انحرافه لو ثبتت فلعلها لان تبري الإمام (علیه السلام) عنه وعن من لا يتبرأ منه لم يكن قد وصل إليهم، خاصة في ذلك الوقت وظروف التقية وصعوبة التواصل.

والخلاصة: إنه لا بد من إثبات أن رواية هؤلاء الأجلاء عنه كانت بعد اللعن والبراءة والانحراف أولاً، وان ذلك كان بعد بلوغ اللعن إليهم ثانياً، لتتم قرينية فهمهم. ولكن حتى لو ثبت هذان الأمران فانه يمكن أن يقال: أن هؤلاء الأجلاء قد اجتهدوا في صَرْفِ إطلاق كلام الإمام (علیه السلام) و «ما رأوا» ليس بحجة على المجتهد الآخر واللاحق الذي يمكن أن يكون له رأي آخر في المقام ويرى الانصراف بدوياً، فتأمل.

ونضيف: أننا نقول بالتفصيل بالرواية عنه، بين مرحلتي ما قبل وبعد لعن الإمام (علیه السلام) له أو تبرئه منه، إلا إذا كان هناك نص من الإمام (علیه السلام) بخلاف ذلك، كما هو الأمر في بني فضال فقد ورد فيهم: «خذوا ما رووا وذروا ما رأوا»؛ لأنهم - أي بني فضال - مع انحرافهم، فإنّ جري العادة على تجنب الرواة الرواية عنهم(1)ولا أقل من الشك في شمول أدلة حجية خبر الثقة لهم لاحتمال

ص: 165


1- ويشهد لذلك ما لو كان هناك مؤمن ثم كفر فان من المستنكر في أذهان المتشرعة نقل الرواية عنه مستندين إليه - سواء أ انحصر الطريق به أو لا - في المحافل العلمية وغيرها؟! فتأمل.

الانصراف احتمالاً عقلائياً ولكن الإمام (علیه السلام) خصص ذلك من خلال أمره بالأخذ عنهم روايةً دون ما رأوا.

ثم ان الحديث حول العبرتائي فيه كلام طويل نتركه لمحله، ولكن موطن الشاهد هنا أن رواية الحسين بن احمد المالكي عن العبرتائي لم يثبت أنها كانت بعد انحرافه وبعد صدور اللعنة عليه(1) فلا مطعنة عليه في ذلك.

وبتعبير آخر: أن حال راوينا كحال أولئك الأجلاء في روايتهم عن العبرتائي، وحيث لا مغمز عليهم في ذلك، فالأمر كذلك فيه.

المبحث الثاني: معالجة الإهمال في الحسين بن أحمد المالكيوتوجد هنا أربعة مباحث:
1: هل الحسين غير الحسن؟

المبحث الأول: هل الحسين بن احمد المالكي الوارد في الرواية هو غير الحسن بن أحمد المالكي؟

و الجواب قد يقال: بأنه هو هو وليس غيره(2)، وعلى فرض القول بالاتحاد وان الحسين هو الحسن فلا نحتاج إلى مزيد مؤنة لتوثيقه لأن الحسن موثق في علم الرجال, وهذا احتمال بدوي ولكنه قد يصل إلى دائرة الاستظهار بالتأمل في مجموعة القرائن الآتية.

وأما الوجه في ذلك، فهو أننا نلاحظ - مبدئيا - أن الحسين والحسن متشابهان في شكل الكتابة ومتقاربان وخاصة بلحاظ الخط الكوفي السابق وعدم

ص: 166


1- وعلى فرض ثبوت ذلك فانه لم يثبت بلوغه لعنه.
2- ولم نجد من طرح هذه القضية في كتب الرجال، وفي بحث المشتركات سيأتي بحث ذلك إن شاء الله تعالى.

التنقيط فيه، فيكون غاية الفرق بينهما - كتابة - ركزة خفيفة وخط صغير مما يجعل احتمال الخطأ في الكتابة أو الاستنساخ عقلائياً، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى: فانه عند مراجعة كتب علماء الرجال نجد أن الأعم الأغلب منهم قد أهملوا ذكر الحسين وذكروا الحسن فقط ووثقوه، ثم انه عند مراجعة الذين ذكروا الحسين نجدهم ذكروا بعض الخصوصيات التي تطابق خصوصيات الحسن، مثل كونه من مشايخ الصدوق (علیه السلام)، مع لحاظ ان الحسن كان من سكان الري ثم هاجر وسكن بغداد فمن الوارد أن يكون شيخا للصدوق بخلاف الحسين فانه لم يذكر في أحواله انه جاء إلى بغداد ولذا فان احتمال كونه شيخا للصدوق ضعيف إلا إذا كان هو هو.

وهذه القرائن قد يستظهر منها اتحاد الشخصين، أي: إنهما شخص واحد ويكون الالتباس من جهة النساخ أو القراءة أو غير ذلك. فتأمل.

ثم انه لو لم يفد ذلك الاطمئنان باتحادهما، فلا اقل من كونه موجباً للشك العقلائي في وجود راوٍ آخر باسم «الحسين»، ولكن هل نستطيع أن نستند إلى أصالة عدم وجود شخص آخر غير الحسن من خلال القواعد الأصولية العامة حسب بناء العقلاء عند الشك؟ استناداً إلى أن الشخص الأول وهو الحسن متيقن وجوده ولكن الثاني وهو الحسين مشكوك فيه، فنرجع إلى أصالة عدم وجود شخص آخر من باب استصحاب العدم الأزلي فيكون ذلك الاستصحاب دليلاً على كون الراوي هو الحسن؟

والجواب: إن استصحاب العدم الأزلي هو من قبيل الأصل المثبت فليس بحجة، وبالتالي فلا جدوى فيه؛ حيث أن إجراء أصالة عدم وجود الحسين يراد به إثبات أن الرواية قد رواها الحسن،لكن هذا لازم عقلي أو عرفي، والأصول

ص: 167

مثبتاتها - على المشهور - ليست بحجة، كما لا يصح استصحاب العدم النعتي(1).

اللهم إلا أن يقال: انه على مبنى البعض كالسيد السبزواري (علیه السلام): فان مثبتات الأصول حجة، ولكن هذا خلاف قول المشهور. هذا هو المبحث الأول بإيجاز.

2: هذه الرواية بالخصوص، عن الحسن
اشارة

المبحث الثاني: فيما لو قلنا بعدم الاتحاد بين الحسن والحسين، فهنا نقول: انه قد يستظهر بأن هذه الرواية بالخصوص هي عن الحسن لا الحسين، وان كانت نسخة الوسائل الحديثة والمطبوعة قد ذكرته باسم الحسين، ولكن مع ذلك كله قد يستظهر أن الرواية هذه هي عن الحسن، وأما الحسين المذكور في نسخة الوسائل الحديثة فلعله خطأ مطبعي.

الادلة على أن الرواية عن الحسن

أولا: ان النسخة المرجعية التي ينقل عنها صاحب الوسائل وهي عيون أخبار الرضا (علیه السلام) ومعاني الأخبار، هاتان النسختان ذكر فيهما الحسن لا الحسين، وعلى اقل الفروض فان بعض النسخ كذلك حيث لم نتتبع كل النسخ المصدرية، وخاصة اذا لاحظنا أن طبعة الوسائل الحديثة هذه كثيرة الأغلاط وان النسخ الخطية هي أدق من النسخ المطبوعة وهذا مؤيد قوي(2).

وقد يؤيد ذلك بأن العلامة المجلسي قال عن كتب الصدوق - وروايتنا

ص: 168


1- لم يكن الراوي لهذه الرواية في الأزل هو الحسين فليس الراوي لها بعد صدورها هو فيلزمه كون الراوي الحسن.
2- إذ عند مقابلة النسخة الحجرية للوسائل مع المطبوعة من هذه الكتب نجد الأولى - بالقرائن - نادرة الأخطاء.

منقولة عن كتابين من كتبه -: «إنها في الاشتهار لا تقل عن الكتب الأربعة والتي عليها المدار في هذه الاعصار», فقد يستظهر من هذه العبارة انه لو تعارضت النسخة الخطية المشهورة من العيون والمعاني مع نسخة الوسائل الحديثة فان تينك النسختين تتقدم على الوسائل، فتأمل(1).والأولى أن يقال ان احتمال الخطأ في المنقول عن المصدر هو دائماً أقوى من احتمال الخطأ في المصدر نفسه(2).

ثانيا: لان هذه الرواية بنفسها(3)

قد رواها الكشي عن طريق آخر عن الحسن بن احمد المالكي، وهي موجودة في رجاله، وسند الشيخ الكشي تام ولا اختلاف في نسخه فإن المنقول فيها هو عن الحسن لا الحسين، فان كل ذلك يورث الاطمئنان بان الراوي هو الحسن، سواء أكان الحسين له وجود (حسب الاحتمال الثاني) ام كان شخصاً متوهماً وليس إلا الحسن (حسب الاحتمال الأول).

ثالثا: إن بعض البحاثة المتتبعين من الخبراء بالنسخ الخطية(4) وهو خريت الفن والتحقيق والتتبع والبحث، ضبط الرواية عن الحسن لا الحسين.

وهذه القرائن قد يكتفى بأحدها، فكيف بها لو ضمت واعتضدت مع بعضها البعض فان ذلك يورث الاطمئنان ظاهراً، فتدبر.

ص: 169


1- إذ لا تثبت هذه الشهادة، كون النسخة التي بأيدينا كذلك، ثم ان المراد شهرتها بما هي هي لا كل كلماتها وألفاظها فتأمل.
2- فإنه في المنقول عن المصدر يضاف احتمال آخر للخطأ في النقل.
3- وهذه قرينة ناهضة وقوية فكيف لو ضمت للسابقة واللاحقة.
4- وهو العلامة المرحوم الشيخ جواد البلاغي وهو من مفاخر الإسلام والمذهب ومؤلف كتاب الهدى إلى دين المصطفى والذي قل نظير له فيما نعلم وكذا بقية كتبه القيمة وله رسالة في قاعدة الإلزام ومن راجعها وجد دقة الشيخ وقد ضبط الرواية عن الحسن.
3: قرائن على توثيق الحسين المالكي

المبحث الثالث: لو كان الحسين شخصا غير الحسن، وهذا البحث تنزلي فانه لو سلمنا بان هذه الرواية منقولة عن الحسين وانه شخص آخر غير الحسن، ولكن هل يوجد طريق آخر لتوثيق نفس الحسين (المفترض الوجود) أو لا يوجد؟

يمكن أن يقال: أن هناك قرائن ثلاثة وقد تعدّ أدلة بحسب اختلاف المبنى الرجالي والدرائي، وبضم بعضها إلى البعض الآخر قد نصل إلى توثيق الحسين، فمن كان مبناه الدرائيمسانخاً لهذه القرائن فالتوثيق تام لديه، وإلا فله أن يسلك طريق تراكم الاحتمالات وصولاً إلى الاطمئنان الشخصي فان تم لديه ذلك فبها وإلا فلا.

وقرائن توثيق الحسين هي:

الأولى: انه من مشايخ الصدوق، قد ذهب بعض العلماء الى أن كون الراوي شيخا للصدوق أو الكليني أو من أشبه فهو أمارة نوعية على الوثاقة، وأما على غير هذا المبنى فذلك قرينة ومؤيد.

الثانية: إن محمد بن همام هو من الرواة الذين رووا عن الحسين بن احمد المالكي - بناءً على كونه الحسين لا الحسن - «ومحمد بن همام» هو ذلك الذي يقول عنه النجاشي: "شيخ أصحابنا ومتقدمهم له منزلة عظيمة، كثير الحديث"، وأما الشيخ الطوسي فيقول عنه: "جليل القدر، ثقة، له روايات كثيرة".

ورواية محمد بن همام عنه - مع ما وصف به من قبل الرجاليين من كونه شيخ أصحابنا ومتقدمهم وان له منزلة عظيمة، من جهة، ومع وصفهم له بأنه كثير الرواية من جهة أخرى وبلحاظ انه مع ذلك لم يطعن عليه رجالي بأنه يروي عن الضعاف أو المجاهيل - تصلح كدليل أو مؤيد على الأقل بان المروي عنه ثقة.

ص: 170

وبعبارة أخرى: إن محمد بن همام مع علو منزلته وجلالة قدره وكونه شيخ الأصحاب يستبعد أن يروي بل لا ينبغي على القاعدة، أن يروي عن غير الثقة وخاصة في مثل هذه القضية المهمة والتي هي الأساس لقاعدة ذات تطبيقات كثيرة وهي قاعدة الإلزام ويؤكد ذلك انه لم يطعن عليه أحد بانه يروي عن الضعفاء، ولعل المستظهر أن رواية مثله لمثل هذه الرواية عن مثل ذلك الشخص تعد أمارة نوعية عندهم - عند العقلاء - على الوثاقة.

وحيث أن الاشياء تعرف بأمثالها كما تعرف أضدادها، فإنه يقربه ما لو أن احدهم قدم إلى مدينة النجف الاشرف فوجد أن اكبر مراجع الدين فيها مثلا يروي رواية مهمة ومحورية عن شخص ووجده يعتمد عليها، فان هذا يفيد ظناً نوعياً بان المروي عنه ثقة(1)

فتأمل.

ويضاف إلى ذلك كله عدم وجود المعارض في المقام، أي: عدم وجود قدح للحسين، فان ذلك بمجموعه يوجب الاطمئنان النوعي بأنه ثقة يعتمد عليه، ولو لم يقبل هذا كدليل فلا اقل من كونه قرينة مؤيدة.

الثالثة: إن مضمون نفس الرواية يدل على أن الراوي فقيه عارف معتقد، وقد سبق تفصيل ذلك(2)

فراجع.وهذه القرائن الثلاث لو اطمأن بها فهو، وإلا فإننا ننتقل إلى جواب آخر تنزلاً نطرحه في المبحث التالي.

ص: 171


1- إذ قد يفصل بين المقامات - مقامات النقل - وقد يجاب بأن الكلام عن دلالة هذا النقل بما هو صادر عنه على توثيق المروي عنه عرفاً.
2- المقصود أنه سبق تفصيله في مطاوي قاعدة الإلزام، حيث إن هذا البحث الرجالي مقتطع منه.
4: سند الكشي يكفي لتصحيح الرواية

المبحث الرابع: لو فرض أن راوي هذه الرواية هو الحسين لا الحسن، وفرض أننا لم نستطع توثيق الحسين، فانه يوجد طريق آخر لتصحيح الرواية وهو سند نفس الشيخ الكشي حيث انه معتبر وفيه الكفاية قال: «وجدت في كتاب محمد بن الحسن بن بندار القمي بخطه حدثني الحسن بن احمد المالكي قال حدثني عبد الله بن طاووس في سنة 238 ه قال سألت أبا الحسن الرضا (علیه السلام)...»(1)، فسند الشيخ الكشي مما يكتفى به، وان كان البعض قد شكك باستظهار «الوحيد» اتحادَ الرجلين، أي محمد بن الحسن بن بندار القمي مع محمد بن الحسن القمي.

فائدة: ومن كل ذلك يظهر انه لابد من التتبع والسبر أكثر في إسناد الروايات التي اعتبر بعض رواتها مهملاً.

والسبب في التوقف الطويل حول سند هذه الرواية والتي سبقتها والتي تليها(2) هو إنها الروايات الوحيدة العامة الدالة على قاعدة الإلزام بقول مطلق، ولو ثبتت لجرت قاعدة الإلزام بقول مطلق وعام وإلا ستختص قاعدة الإلزام بمواطن خاصة كالإرث والطلاق فتكون محدودة التطبيق كما ذهب إليه بعض الإعلام، ولذا فان البحث في هذه الروايات الثلاث هو بحث جوهري ومهم بدرجة كبيرة.

على أنه: سيأتي لاحقاً (3) بإذن الله تعالى: انه - فرضا - لو لم تتم هذه

ص: 172


1- اختيار معرفة الرقم 1123.
2- المراد الروايات الثلاثة المروية في باب الالزام حيث ان هذه المباحث الرجالية تطرق اليها السيد الأستاذ من خلال بحثه في قاعدة الالزام.
3- اي في ضمن مباحث السيد الاستاذ عن قاعدة الإلزام، ولم ندرجها في هذا الكتاب نظراً لان هذا الكتاب كتاب درائي - رجالى لا غير.

الروايات الثلاث فان القول باختصاص تلك الروايات ببابها، ليس بصحيح؛ حيث يوجد طريق آخر لإثبات كلية قاعدة الإلزام.

قيمة صحبة الأئمة (علیهم السلام) والرواية عنهم في التوثيق ورفع الإهمال

وهنا لا بد من البحث عن ان وصف الرجالي لشخص بكونه من أصحاب الإمام الرضا أو الإمام الصادق(علیهما السلام)وروايته عن أحدهم (علیهم السلام) هل يعد دليلا على وثاقته أم لا؟ او هل يمكن اعتباره من قرائن التوثيق؟ وهل به يرتفع الإهمال عن الراوي الذي لم يذكروه؟

قد يقال بذلك، ولكن بشرط عدم وجود جارح أو مضعّف له، وبشرط عدم وقوعه في دائرة شُبهة الانحرافات العامة عنهم (علیه السلام) - كالوقف وشبهه - بل بدون هذا الشرط إلا لو سرى إلى وثاقة اللهجة.

توضيحه: إن المستظهر ان هناك فرقا بين أصحاب الرسول (صلی الله علیه و آله) وأصحاب(1)

الأئمة (علیهم السلام)، فكون الرجل صحابياً للرسول لا يصلح دليلاً على توثيقه، بيد أن كونه من أصحاب الأئمة (علیهم السلام) - مع الشروط - يصلح قرينة على توثيقه، وذلك لسببين:

أولا: أن النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) حيث كان فاتحا وحاكما ومنتصرا، فان كثيراً من الناس اجتمعوا حوله طمعا في منصب أو مال أو رئاسة أو شهرة أو غير ذلك، أو خوفاً؛ ولذا فقد كثر المنافقون والانتهازيون وغيرهم, وتكفي سورة المنافقون شاهداً على ذلك، وهذا بعكسه في حال الأئمة (علیهم السلام) فإنهم كانوا في الأعم الأغلب بل ما يقرب من شبه المستغرق مضطهدين، بل كانوا أحياناً كثيرة تحت اشد أنواع المراقبة من السلطات الجائرة، ومع ذلك فان وصف الشخص بأنه

ص: 173


1- وهو تفصيل لم أجد من طرحه فيستدعي التدبر الأكثر.

صحابي للإمام الرضا (علیه السلام) - كما في راوي روايتنا - قد يعد قرينة نوعية عامة على توثيقه، فان المظلوم المضطهد المضيق عليه لا يلتف حوله المنافقون والمصلحيون والمنحرفون عادة، وذلك يوجب الوثوق النوعي مع توفر الشروط اللاحقة, هذا من جهة(1).

ثانياً: ومن جهة أخرى فانه قد ثبت أن أكثر أصحابه » قد انقلبوا على أعقابهم وارتدوا إلا القليل كما جاء في الخبر، وقال تعالى: «أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»، ومثل هذا الارتداد والانقلاب الجماعي لم ينقلفي أصحاب الإمام (علیه السلام)(2)، نعم من كانت حوله شبهة الوقف أو نظائرها جارية، فان وصفه بكونه من اصحابهم لا يجدي في توثيقه.

والمتحصل: إنه بناءً على هذا فان وصف الكشي مثلا أو أي رجالي آخر شخصا بأنه صحابي لإمام، بشرط عدم وجود القادح والمضعف له، ومع كون روايته موافقة للأصول والقواعد(3)، يعد إمارة نوعية على وثاقة الشخص أو الرواية «أي مع توفر ذلك الشرط» خاصة مع لحاظ ان تصريح أهل الرجال بذلك يشعر أو يدل على كونه ممن يعتد به ويعتنى بشأنه. واعتبروا لذلك بحالكم وحال العقلاء فإننا لو عرفنا أن الشخص الفلاني هو من أصحاب مرجع معين نعتقد به فان نفس هذا يوجب ركون النفس إليه مبدئياً، ثم إننا بعد التتبع لأحواله لو لم نجد القادح والجارح فان ذلك يولد الاطمئنان بحاله، فتأمل(4).

ص: 174


1- باستثناء فترة ولايته للعهد ومع ذلك فلا يعلم وصف شخص من تلك الحقبة بأنه من صحابته، خاصة مع قصرها - سنتان تقريبا من 201 ه الى 203 ه - ومع تجنب الامام أي أخذ ورد ونصب وعزل، فتأمل.
2- أي الامام الرضا (علیه السلام) بل سائر الأئمة إذ حتى الواقفية فإنها كانت تياراً ولم يكن انقلاباً جماعياً.
3- بل وحتى بدون هذا الشرط.
4- لدعوى أن للصحابي او (من اصحابه) اطلاقين: أخص وهو يفيد ماذكر، واعم وهو لايفيد، فتأمل.

الفصل الرابع: لا فرق بين توثيقات المتقدمين والمتأخرين

اشارة

ص: 175

ص: 176

يفصّل البعض بالقول بأن توثيقات المتقدمين كالنجاشي والطوسي والكشي حجة، وأما المتأخرين كالعلامة الحلي وابن داود والبهائي والمجلسي ومن أشبه، فليست كذلك.

ولكن الظاهر: انه لا فرق في بناء العقلاء في حجية التوثيق بين كونه صادراً من متقدم أو متأخر، بوجهين(1):

الوجه الأول: إن المتقدم من الرجاليين توثيقاته مبنية - في الأغلب إن لم يكن الكل - على الحدس كما هو الحق(2)،

على انه لو قلنا بأنها حسية، فإن كثيراً منها مراسيل(3)،

فلا يختلف والحال هذه عن اخبارات المتأخر.

فمثلا الشيخ الكشي كان معاصرا لجعفر بن محمد بن قولويه المتوفى 369 ه، ويفصله عن أصحاب الإمام الصادق (علیه السلام) قرنان أو أكثر، فالفاصل كبير جداً، وأما الشيخ النجاشي فهو بفاصل أكبر إذ انه توفي عام 450ه .

فلا فرق بين الإخبارين (المتقدم والمتأخر)، فانه لو كان الإخبار "حدسا" فهو بملاك كون الرجالي أهل الخبرة وهو متحقق في كليهما (المتقدم والمتأخر)، وإن كان "حسا" فكلما كان مرسلاً - كتوثيقات النجاشي أو طعونه - فلا يعتمد

ص: 177


1- إضافة إلى وجوه أخرى تظهر من مطاوي الجواب عن الاشكال القادم فتدبر.
2- وفصلناه في الفصل الأول من هذا الكتاب.
3- ذكرنا الجواب عن دعوى تواتر توثيقات النجاشي أو طعونه لسابقيه، في أوائل الكتاب.

عليها حسب المعروف سواء من المتقدم أو المتأخر، وكلما كان مسنداً فله ضوابطه الشاملة للفريقين.

الوجه الثاني: لما فصلناه من المباني الثمانية في حجية قول الرجالى، فنشير الى بعضها:1 ان نتيجة «الانسداد» على القول به مطلقة من حيث الأسباب، أي أن الظن من أي سبب حصل فهو حجة سواء أكان من كلام النجاشي أم المجلسي، فلا فرق.

2 وكذلك لو كان المبنى هو حجية قول الرجالي من باب كونه خبر ثقة فلا فرق أيضا بين المسندين والمرسلين.

3 وان كان المبنى الحجية من حيث كونه قول أهل الخبرة فكلاهما كذلك.

4 وان كان بالاطمئنان الشخصي فحالهما سيان أيضا.

إلى آخر ما ذكرناه هنالك وسيأتي بعض الكلام عنه بعد قليل بإذن الله تعالى.

والنتيجة: ان الذي يكتفي بتوثيقات مثل الشيخ النجاشي «المتقدم» لأحد تلك الوجوه، فعليه أن يكتفي كذلك بتوثيقات مثل العلامة المجلسي «المتأخر»، لنفس ذلك الوجه.

إشكال: رؤية المتقدمين أوضح لكثرة القرائن و..

وهنا يطرح اشكال مفاده إن الاختلاف بين توثيقات المتقدمين والمتأخرين يكمن في درجة الوضوح بينهما؛ لان المتقدمين كالنجاشي والكشي ومن قبلهم كالفضل بن شاذان مثلا وغيرهم، كانوا اقرب لزمن الرواة؛ ولذا فان الرؤية لديهم في الجرح والتعديل كانت على درجة كبيرة من الوضوح، وهذا بخلافه بالنسبة للعلامة المجلسي المتأخر عنهم بعدة قرون وكذا الشيخ البهائي وكذا من

ص: 178

سبقهما كابن طاووس و العلامة الحلي، فان تباعد الزمان كتباعد المكان كلاهما يوجبان ضبابية الرؤية وعدم الوضوح وذلك نظراً لخفاء بعض القرائن بمرور الزمن، وضياع بعض الكتب والمصادر.

وفي مقام الجواب نذكر وجوها ستة، بعضها صغروي وبعضها كبروي.

الجواب الأول: قد يكون الاختلاف في المبنى

الجواب الأول: - وهو جواب صغروي - إن الاختلاف بين المتقدم والمتأخر ليس راجعاً حصراً إلى صورة خفاء أو احتمال خفاء قرينة أو عدم وصول كتاب أو مطلق ما يؤثر في وضوح الرؤية نظراً لقرب أو بعد الزمن، وإنما كثيرا ما يكون الاختلاف بين المتقدم والمتأخر ناشئا من الاختلاف في «المباني»، وفي هذا لا يختلف قرب الزمن (للمتقدم) عن بعده (للمتأخر).

فمثلا الالتزام بوثاقة المشايخ غير المباشرين لابن قولويه في كامل الزيارات، لا فرق فيه بين قرب وبعد الزمن؛ لان المستند فيه هو عبارة ابن قولويه نفسه في مقدمة كتابه كامل الزيارات، فقد يستفيد فقيه من ذلك توثيق مشايخه المباشرين كصاحب المستدرك، بينما فقيه آخر قد يستظهر من نفس العبارة توثيق كافة المشايخ المباشرين وغير المباشرين كصاحب الوسائل، وذلك كله استناداً الى نفس العبارة الموجودة بعينها أمام الشيخ المجلسي والعلامة الحلي وأي رجالي آخر سواء تقدم أو تأخر.مثال آخر: هل كون الراوي من أصحاب الإمام الصادق (علیه السلام) أو الإمام الكاظم (علیه السلام)، يعدّ أمارة على التوثيق؟

ذهب البعض إلى ذلك - كونه أمارة على التوثيق -, ولكن العديد استشكلوا عليه، وقد ذكرنا سابقا بعض الأدلة على إن إطلاق الرجالي كالكشي

ص: 179

على شخص انه كان من أصحاب الإمام الرضا (علیه السلام) أو الصادق (علیه السلام) مع عدم وجود جارح هي أمارة نوعية على وثاقته، وهذا رأي اجتهادي لا يتأثر بوجود الشخص المجتهد في زمان معين.

والكلام نفسه في سائر المباحث المبنائية الأخرى في الجرح والتعديل:

ومنها: ما لو ترحم الإمام (علیه السلام) على شخص فهل يدل ذلك على وثاقته؟.

ومنها: أن تولية الإمام المعصوم ونصبه لشخص قيّما وواليا هل هو دليل على وثاقته؟

ومنها: هل إجازة الإمام لشخص للإفتاء دليل على وثاقة لهجته بقول مطلق؟

ومنها: هل مضمون الروايات التي استند إليها النجاشي في تضعيف عدد من الرجال؛ نظراً لرأيه المبنائي في مقياس الغلو، تام - صغرى وكبرى - أو لا؟

ان كل هذه مباحث مبنائية، غير مرتهنة بعامل الزمن.

والحاصل: إن سبب الكثير من الاختلافات في التوثيقات والطعونات هو الاختلافات المبنائية التي لا يؤثر فيها قرب الزمن او بعده على الإطلاق ولا يؤثر وضوح الرؤية الزمني وعدمه بهذا الاستنباط الحدسي، وذلك أن الوضوح المدعى إنما يتأثر بخفاء القرائن الحسية وكثرتها أو قلتها، ولكن هذه البحوث هي بحوث حدسية اجتهادية(1).

الجواب الثاني: قرب الزمان معارض بالتراكم المعرفي

الجواب الثاني: إنكار أصل الصغرى، حيث لا نسلم بكون وضوح الرؤية لدى النجاشي او الكشي او الطوسي هي بدرجة اكبر من وضوحها لدى ابن

ص: 180


1- وهذا جواب تنزلي في الواقع، ومرجعه إلى أن الدليل أخص من المدعى.

طاووس أو العلامة أو المجلسي او غيرهم من المتأخرين؛ وذلك لأنه وإن صح إن قرب الزمن قد يوفّر قرائن قد تكون خفيت علي المتأخرين ولكن هذا معارض بقرائن أخرى ربما خفيت عليهم، فان ذلك الفاصل الزمني الكبير عن الرواة المعدلَّين او المجروحين يقابله ما يعرف ب «التراكم المعرفي»؛ حيث انه بمرور الزمن قد تظهر قرائن أخرى لعلها خفيت على المتقدمين من النجاشي وغيره ولكنها ظهرت للمتأخرين؛ وذلك أن المجاميع العلمية من رجالية وروائية وتاريخية وفقهية وغيرها، - وهي المحصلة لذلك التراكم - قد توفرت بأيدينا وبأيدي المتأخرين كصاحب الوسائل ومستدركه وجامعأحاديث الشيعة والبحار(1)

وغيرها وككتب التواريخ وتاريخ المدن والموسوعات الرجالية وغيرها، فكل هذه لم تكن متوفرة كمجموعة متكاملة عند المتقدمين، ولا ريب ان كثيراً من القرائن يمكن ان يعثر عليها، مما تفيد توثيق الرواة او طعنهم أو تفيد توثيق أو طعن المضامين بما يعود لتوثيق الراوي أو طعنه، من خلال هذه المجاميع(2).

ولنذكر مثالين لذلك: أولا - إن من المؤيدات أو القرائن لتوثيق الراوي هي كثرة رواية الأصحاب عنه مثل إكثار الشيخ الكليني أو الطوسي أو الكشي الرواية عنه، إن هذا الإكثار سيكون له صلاحية التأييد أو الدليلية - على حسب درجته - ومع وجود تلك المجاميع الحديثية فانه يكون من السهل الوصول إلى مختلف روايات هذا الشخص قليلة كانت أو كثيرة، وكان ذلك من الصعوبة بمكان في ذلك الزمان فان تلك الإحاطة بروايات الراوي لعلها كانت متعسرة عند القدماء، هذا من جهة.

ص: 181


1- كما أن من سبق الكليني زمنا كالفضل بن شاذان، لم يتوفر لديه مثل الكافي.
2- فضلا عن جهاز الحاسوب (الكمبيوتر) الذي قد سهل الكثير من سبل الوصول إلى شتى القرائن على الباحثين الرجاليين من خلال الاطلاع على كل المصادر او اغلبها والتي ذكرت راويا معيناً.

ثانيًا - ومن جهة أخرى فان الإحاطة برواياته و التعرف على مضامينها قد يكون دليلا وشاهدا على تضعيف الراوي او توثيقه.

النتيجة: وعليه يكون البعد الزمني قد عُوِّض بالتراكم المعرفي لدى المتأخرين(1)

ولا اقل من التساوي بينهما أو التردد في مقام المعارضة بينهما(2)

وأما أن يقال بضرس قاطع أن الرؤية - من حيث المجموع - كانت أوضح لدى المتقدمين, فإننا نشكك في إطلاق ذلك.

وهذا الجواب الثاني صغروي أيضا كالاول.

تتمة هامة: لو كانت هنالك قرائن تفيد توثيق الراوي أو جرحه، لكان مقتضى القاعدة أن ينقلها الرجالي؛ لأنه في مقام الجرح والتعديل للرواة من خلال ذكر الشواهد والقرائن، ولذا فلابد من ذكر القرائن الدالة على ذلك سواءً أكانت تامة عند الرجالي أم لا؛ لان الرجالي ليس في مقامالإفتاء بالنسبة للمتأخرين، بل إن عليه أن يحاول أن يعضد اجتهاده بدليل أو قرينة وان يذكر القرائن على الخلاف كلها إذ لعل مبنى الآخرين غير مبناه فلعله يرى ما عدّه دليلاً أو مؤيداً غير ناهض أو العكس، ولعلها بالتعاضد - عنده - تفيد توثيقاً أو جرحاً عكس الآخر.

الجواب الثالث: درجة الوضوح ليست من المرجّحات

الجواب الثالث: - وهو جواب كبروي - إن كانت درجة الوضوح ليست من المرجحات المنصوصة، فانه على مبنى من لا يقول بتنقيح المناط(3) مثل السيد

ص: 182


1- والحاصل: أن مثل القهبائي أو النمازي وغيرهم، هو أكثر اطلاعاً من بعض الجهات، من مثل النجاشي لاطلاعه على الأقوال والآراء والقرائن بنحو أوسع وذلك للتراكم المعرفي الذي ذكرناه.
2- إضافة إلى إخراج كتب (مستدركات الرجال) للكثير من الرواة عن الإهمال أو المجهولية أو غيرها.
3- في مقابل الشيخ الانصاري القائل بتنقيح المناط في المرجحات.

الوالد والسيد الخوئي (قدس سرّه) وآخرين فانه لا يجوز التعدي من الروايات إلى غيرها كالمقام، ومن المرجحات المنصوصة إلى غير المنصوصة؛ لان المرجحات المذكورة هي الأفقهية والأعدلية والأورعية وشبهها، وهذه منصوصة ومحدودة، وليس منها «درجة الوضوح» فنبقى نحن وبناء العقلاء. فتأمل(1).

الجواب الرابع: على فرض الترجيح فانه في صورة التعارض

الجواب الرابع: لو فرض أننا قلنا بالتعدي من الروايات إلى أقوال الرجاليين ومن المرجحات المنصوصة إلى غيرها فنقول: انه يرد على ذلك أن الترجيح بالمرجحات وغيرها - بناءا على التعدي - إنما هو في صورة التعارض، وكلامنا ليس الكلام فيها، بل في إن توثيقات المتأخرين حالها حال توثيقات المتقدمين: كلاهما حجة، فعبد الله بن طاووس - وهو صغرى كلامنا - قد حسّنه المجلسي ولم يقدح فيه آخر حتى يكون هناك تعارض ويكون المقام من باب الترجيح بتلك المرجحات كي نرجع إليها.

الجواب الخامس: بناء العقلاء على حجّية الأعم

الجواب الخامس: انه لو كانت حجية قول الرجالي هي من باب بناء العقلاء، فان المرجع عندهم هو الخبروية وأهل الخبرة بملاك الخبروية، وليست درجة الوضوح شرطاً مقوماً(2)،

ويشهد لذلك أن العقلاء يرجعون إلى الطبيب لأنه من أهل الخبرة وقوله حجة عندهم من هذا الباب، وليس المقياس في الأخذ والرد هو درجة الوضوح لديه، نعم يشترط أن لا تكون الدرجة من الضعف -

ص: 183


1- إذ مرجع درجة الوضوح لو كان الى كثرة القرائن لديهم وضياعها لدينا لاندرج في (الأفقهية). وفيه تأمل من جهات، فتدبر.
2- ومرجحاً مسقطاً للآخر عن الحجية.

بحيث تسلب الاطمئنان النوعي.ونضيف: إننا لو قلنا إن قول الأعلم هو الحجة، فلو كانت درجة الوضوح لدى المفضول أكثر لديه منه، فإن المشهور لا يقولون بترجيح قول المفضول استناداً إلى درجة الاوضحية الأكثر لديه، على قول الأعلم(1).

الجواب السادس: «درجة الوضوح» مراتب لها جامع

الجواب السادس: - وهو جواب تنزلي - إذا قلنا إن ملاك الحجية هو «الوضوح» وانه مما يعول عليه العقلاء في بنائهم، فان ذلك الوضوح بكل درجاته حاله حال الوثاقة بدرجاتها كلها، فخبر الثقة حجة والخبر الموثوق بصدوره حجة أيضا، وهذه الحجية ثابتة لكل المراتب والدرجات، أي أن خبر الثقة حجة سواء كانت وثاقته من الدرجة العالية أو المتوسطة أو الدانية، والأمر نفسه في الوضوح؛ حيث ان من اتضحت لديه الرؤية فان رأيه حجة سواء كانت درجة الاتّضاح لديه عالية أو متوسطة أو دانية(2).

ويمكن القول(3)

إن درجة الوضوح لو كانت هي الملاك، لاقتضت حجية قول المتأخر في الجملة، فلا إطلاق لدعوى حجية قول المتقدم دون المتأخر، أو ترجيحه عليه؛ لوضوح ان المتأخر قد يكون أعلم أو أشد وأكثر تتبعاً أو غير ذلك، فتدبر.

ص: 184


1- وقد استثنينا صورة خاصة في مبحث الاحتياط فيما مضى وهي ما لو كان الأعلم في استظهاره ضعيفا وكالمتردد وكان استظهار المفصول قويا.
2- نعم في صورة التعارض يرجح الأفضل.
3- يمكن إرجاع الجواب السادس السابق إلى الخامس، ويكون (ويمكن القول...) هو الجواب السادس، فتدبر.

الفصل الخامس: الوجه في حجية قول كلٍّ من «الرجالي» و«الراوي»

اشارة

ص: 185

ص: 186

هناك بحث مبنائي، وثمرته توثيق المئات من الروايات(1)، وهو: تشخيص الوجه في حجية قول كل من «الرجالي» و«الراوي» و«المفتي» و«اللغوي» ونظائرهم؟

وموضع الكلام الآن هو وجه حجية قول الراوي والرجالي، فما هو وجه حجية قول النجاشي أو الكشي أو الطوسي من القدماء والفضل بن شاذان ممن تقدمهم أو العلامة الحلي وابن داوود ممن تأخر عنهم - على القول بها -؟

فنقول: هناك في حجية قول الراوي - وكذا الرجالي والمفتي واللغوي - مبان عديدة(2) أهمها:

المبنى الأول: الانسداد الكبير

فقد يقال بانسداد باب العلم والعلميّ في الرواة والروايات «أي في معرفة حال الرواة وفي تشخيص المعتبر من الروايات» وفي أقوال الرجاليين واللغويين وما أشبه، أي: أن كل ما يتعلق بمعرفة الحكم الشرعي فان الباب منسد فيه «لغة ورجالا ومضمونا للرواية وغيرها».

ص: 187


1- المرسلة والمهملة وحتى بعض المسندة التي تضمنت بعض الضعاف.
2- على اختلاف في هذه العناوين؛ فان بعض تلك المباني يجري في بعضها لا غير، فليلاحظ.

المبنى الثاني: الانسداد الصغير

اشارة

وقد يقال بانسداد باب العلم والعلميّ في بعض الطرق المؤدية إلى الأحكام الشرعية لا فيها جميعاً كالقول بأن ذلك الانسداد خاص ب«الرواة» بدعوى انه لا طريق لتوثيقهم إلا الظنون المطلقة لا النوعية الخاصة(1)، وان باب العلم مغلق بخصوص الرواة وحالاتهم، وكذا باب العلمي حتى عبرمثل توثيقات أمثال النجاشي والكشي؛ وذلك لان الفاصل بين الرجاليين القدماء(2)

وبين الإمام المعصوم (علیه السلام) من قرنين إلى ثلاثة قرون وأقل وأكثر، وتوثيقات النجاشي عادة هي مراسيل(3)، نعم الكشي في توثيقاته يعتمد على المسانيد(4)، والمسلك المشهور هو عدم حجية مراسيل الثقات، ولو ذهب الفقيه إلى ما ذهبنا إليه من القول بحجية تلك المراسيل - أي مراسيل الرجاليين - لقال ذلك في الروايات واستغنينا عن هذا البحث المطول اللهم إلا لدى التعارض.

وهذان المسلكان «الانسداد الكبير والصغير» لا تلازم بينهما، وذلك لأنه من الممكن أن يصير الفقيه إلى انفتاح باب العلم في الفروع، لكنه يرى مع ذلك انسداد باب العلم

ص: 188


1- لا يخفى أن للانسداد الصغير مصاديقا عديدة، منها: انسداد باب العلم بالرجال، ومنها: انسداد باب العلم بالفروع الفقهية، والنسبة بينهما هي العموم من وجه، فتدبر، ومنها غير ذلك.
2- الكشي معاصر لابن قولويه المتوفى 369 والنجاشي توفي 450 والطوسي توفي 460 والغضائري الأب توفي 411 والزراري (أبو غالب) توفي 368 والصدوق توفي 381 نعم البرقي الأب توفي 280.
3- إذ ان النجاشي مثلاً يقول: (فلان ثقة) وتوثيقه في كثير من الأحيان مرسل، كغيره غالباً.
4- إذ انه يروي عن فلان عن فلان عن فلان وينقل رواية أو غيرها ولربما أرسل كما في العباس بن صدقة ومن سبقه ولحقه.

في الرجال، وقد يعكس فلا تلازم أيضاً إذ قد يكون باب العلم في الرجال مفتوحاً لكنه لا يستلزم فتح الباب في الفقه على اطلاقه، لعدم وجود رواية في جملة من المسائل، أو لإرسال رواياتها او لابتلائها بالمعارض او شبه ذلك، كما انه قد أشرنا سابقا إلى أن هناك طرقا أخرى لتوثيق الخبر، وان ذلك لا ينحصر في وثاقة المخبر.

إن قيل: إن الانسداد الصغير يستلزم الانسداد الكبير؛ إذ أن طرقنا إلى الروايات هو نفس الرواة، فلو انسد باب العلم في الرواة انسد باب علمنا بالروايات؟

قلنا: لا تلازم؛ اذ قد يقال بانسداد باب العلم في الرواة، ولكن نقول، كما قال الشيخ والسيد المرتضى(1)

وآخرون، بانفتاح باب العلم بالروايات وذلك لتواتر أكثرها أو لوجود قرائن قطعيةحافة بتلك الروايات على ما فصّل في محله(2) وذكره الشيخ في «العدة» وآخرون، حيث أن كثيراً من الروايات معتضدة بواحدة من قرائن أربع تفيد العلم وقد أسلفنا البحث عنها، كما أن هناك طرقاً أخرى لتوثيق الرواية والخبر، منها قوة المضمون وغير ذلك.

تفريق بعض الأعلام بين الانسدادين

بعض الأعلام ذهب إلى التفريق بين نوعي الانسداد حيث قال: بأنه لو قلنا إن باب العلم في الفقه(3)

منسد فان الظنون المطلقة في اللغة وفي الرجال ستكون حجة(4).

أما لو قلنا إن باب العلم في الفقه منفتح ولكنه في الرجال واللغة منسدّ

ص: 189


1- قال السيد المرتضى في (التبّانيات): (ان أكثر اخبارنا متواترة). كما في معالم الدين وملاذ المجتهدين: ص 196.
2- قد مر الإشارة اليه في الفصل الثاني مبحث حجية مراسيل الصدوق تحت عنوان (تواتر اكثر الروايات) فراجع.
3- هذا مصداق آخر للانسداد الصغير كما لا يخفى.
4- وكذا لو قلنا بالانسداد الكبير.

فان الظنون المطلقة فيهما لا تكون حجة.

وجه التفريق بين الانسدادين

ولنذكر وجه التفريق أولا، وهو: أن باب العلم في الفقه ان كان منسداً فسيكون الظن المطلق في اللغة والرجال حجة لانحصار الطريق به وإنه يلزم من القول بعدم حجية علم الرجال وعدم الرجوع لهذا العلم العسر والحرج إن قلنا بالاحتياط، أو الخروج عن الدين ان قلنا بالبراءة، أو ترجيح المرجوح ان قلنا بالعمل بقسيم الظن في الطرف الآخر عكس ما لو كان باب العلم في الفقه منفتحاً؛ إذ يمكننا أن نتعرف ونصل إلى الأحكام الشرعية من غير طريق الرجالي فلا وجه - على هذا - لحجية الظنون المطلقة؛ إذ لا يلزم من العمل بالعلم والعلمي أحد تلك المحذورات كما هو واضح.

والحاصل ان حجية الظن المطلق كبدائله، كلها منفية، ومنها الاحتياط لاستلزامه العسر والحرج، ومنها القرعة إذ لا دليل على إطلاق العمل بها، ومنها البراءة، إذ يلزم من العمل بها الخروج عن الدين.. وهكذا وذلك لفرض انفتاح باب العلم.

ولكن الظاهر: أن هذا الوجه بهذا التفريق لا يفي بالمطلب، وانّ الفرق يظهر في موضع آخر.

توضيحه: انه لو أننا قلنا بالانسداد الكبير المطلق بما فيه الانسداد في الفقه فالأمر واضح وبالتالي ستكون الظنون الرجالية المطلقة حجة للزوم احدى التوالي الفاسدة السابقة لو لم نقل بالحجية، ولكننا سنتوقف عند الشق الثاني الذي ذكره إذ يقول إننا لو قلنا بانفتاح باب العلم في الفقه فمع انسداد باب العلم في الرجال فانه لا يقال بحجية الظنون المطلقة الرجالية إذ أننا لسنا

ص: 190

بحاجة إليها، لوجود المندوحة.

الاشكال في وجه التفريق بين الانسدادين

ولكن هذا الوجه وان تم في حد ذاته إلا أنه ليس بكامل وذلك لأنه ليست الحاجة واللاحاجة هي الملاك في الحجية واللاحجية ههنا بل ولا لزوم العسر والحرج، بل الملاك هو بناء العقلاء(1)، عند ملاحظة بنائهم فإننا نجدهم يرون أن الظنون المطلقة حجة عند الانسداد في علم الرجال، أي: ان الانسداد لو حصل في أي مكان فان ذلك ينتج عندهم حجية الظنون المطلقة(2)؛وذلك لان القسيم الآخر - وهو الوهم - لو رجح فانه ترجيح للمرجوح، والتمسك بالمرجوح وترجيحه قبيح عقلا، وفي المقابل، فان ترجيح الراجح حسن عقلا.

والحاصل: ان بناء العقلاء في أي باب حصل فيه الانسداد هو حجية الظن المطلق في ذلك الباب، وفي مقامنا فانه وان كان باب العلم في الفقه منفتحاً مع انسداد طريق معرفة رجال أسانيد روايات الأحكام بأن وكانت توجد طرق أخرى للفقه، إلا أن بناء العقلاء في نفس علم الرجال هو على التمسك بالظن المطلق الراجح عندئذٍ «لا الخاص لفرض القول بالانسداد»، لرجحانه على الطرف المقابل ولذا فمن هذه الجهة لا فرق.

ولكن الفرق يظهر في جهة أخرى، وذلك لأننا لو قلنا بانفتاح باب العلم بالأحكام من طرق أخرى، فان الظنون الرجالية وان لم نقل بحجيتها فيه إلا أنها ستكون مرجحة في الفقه، فإن الظنون الرجالية بتعاضدها مع غيرها وتراكمها قد توجد ظنا نوعيا ثانوياً يكون حجة عندئذ، لكونه أحد مصاديق انفتاح باب

ص: 191


1- نعم قد يكونان داعيين للعقلاء مقتضيين للبناء.
2- ومرجحيتها لذي طريقه - كما سيأتي.

العلم، فتأمل.

والمتحصل: أن انفتاح باب العلم في الفقه ينفي الحجية التامة للظنون المطلقة الرجالية الإنسدادية فيه، ولكنه لا ينفي الترجيح بها(1) فيه، فانها مما به الانفتاح ولو في الجملة وهذا هو الفرق، أي: الحجية لتلك الظنون بقول مطلق على الانسداد، والمرجحية على الانفتاح.

ثم انه على كلا المبنيين والتقديرين فان المسألة يمكن أن يستفاد منها بالنسبة إلى راوينا، أي: الحسين بن احمد المالكي(2)، فلو قلنا بالانسداد في الفقه فان ما ذكرناه من الظنون وما سنسوقه من قرائن حجة وبدون نقاش، وان لم نقل بالانسداد في الفقه بل في الرجال فقط، فان ما سقناه من قرائن سيكون مرجحا، ولكنه يحتاج إلى تعاضد وتراكم، أي: انه سيكون حجة «بشرط شيء» لا «لا بشرط».

والحاصل: انه لو صرنا إلى هذا المبنى «الانسداد» فستكون النتيجة هي حجية مطلق الظن وستكون أية قرينة من تلك التي ذكرناها مفيدة لهذا الظن وبالتالي فهي حجة، فتفيد إخراج الحسين بن احمد المالكي عن الإهمال، وكذلك الأمر في المئات من الرواة والألوف من الروايات الأخرى،فإنها بناء على هذا المسلك تكون حجة، وخاصة على المبنى الأصولي الذي ارتضاه بعض الأعلام(3)

حيث ارتأى أن نتيجة مقدمات الانسداد - سواء أقلنا بالكشف أم بالحكومة - مطلقة وليست مهملة من حيث أسباب الظن - لا من حيث المراتب والموارد - ولذا فان ذلك سيفيد حجية الظن من أي طريق حصل، حتى من تاريخ

ص: 192


1- فتدبر فانه دقيق.
2- قد مر البحث عن حسين بن احمد المالكي في المبحث الأول.
3- ومنهم السيد الخوئي في المصباح.

ابن عساكر المخالف مثلا وغيره(1).

المبنى الثالث: أهل الخبرة

وقد يقال بان الحجية هي من باب كونه - أي الرجالي وكذا قسيماه(2)

- من أهل الخبرة(3).

لكن الأمر في الرجالي والراوي والمفتي مختلف. أما المفتي، فان الظاهر أن كونه من أهل الخبرة هو ملاك حجيته اقتضاءاً(4)، إذ يعتمد على الحدس، وهو ملاك حجية قول أهل الخبرة.

وأما «الراوي» فقوله ليس بحجة من باب كونه من أهل الخبرة، وذلك لأنه يعتمد في إخباره على الحس من خلال السماع أو الرؤية أو المناولة؛ ولذا فالرجوع إليه هو لكون خبره خبر الثقة.

وأما «الرجالي»، فانه مختلَف فيه من جهة أن الرجوع إليه هل هو من باب كونه من أهل الخبرة او لا؟ حيث أن البعض يرى أن قوله هو من باب الحس لا الحدس، وأهل الخبرة ملاك الرجوع إليهم هو الحدس في الحدسيات لا الحس في الحسيات؛ ولذا فهما بابان مختلفان, لكن البعض الآخر يرى أن توثيقات الرجالي حدسية؛ إذ أن وثاقة الراوي لا تُرى ولا تُسمع بل يحدس بها من جملة ظواهر أقواله وأفعاله، والحاصل وجود الخلاف في أن قول الرجالي يعتمد على

ص: 193


1- القواعد الفقهية الاثنين10جمادى الاولى1433ه في الصحن الحيدري الشريف، الدرس(87).
2- اللغوي والراوي بل والمفتي.
3- وهنا دخلنا في باب الانفتاح وعالمه حيث كان المبنى الأول والثاني من باب الانسداد، وأما المباني الستة القادمة فكلها من الباب الآخر أي على الانفتاح.
4- قيدنا باقتضاءً إذ لابد من اجتماع سائر الشروط المعروفة فيه.

الحس او الحدس؟

والذي نراه هو أن قول الرجالي حجة من باب الحدس القريب الى الحس.

وأما الثمار المترتبة على هذا التفريق فهي ليست بالقليلة وستأتي الإشارة إليها ان شاء الله تعالى.

المبنى الرابع: خبر الثقة

ومنشأ الحجية هنا هو كون الرجوع إلى الراوي - وكذا الرجالي - هو من باب خبر الثقة أي كون روايته من مصاديق إخبار الثقة، فلأنه ثقة فان نقله للرواية يعتمد عليه.

وهنا لابد لنا من التأمل في هذين المبنيين، أي الثالث والرابع، فلو صرنا الى أحد هذين المبنيين, فان عددا من الثمار سوف تتفرع على ذلك, حيث نتساءل: هل الحياة شرط في حجية قول أهل الخبرة أو في حجية خبر الثقة(1) أو لا؟

والجواب كلا، وهذه ثمرة أولى.

وهل العدالة شرط أو لا؟

والجواب: إنها ليست بشرط أيضا، وهذه ثمرة ثانية.

وهل العدد شرط أو لا؟

ونجيب مرة أخرى ونقول كلا وهذه ثمرة ثالثة.

وأخيراً هل الإيمان شرط أو لا؟

والجواب كسابقاته: كلا، وهذه ثمرة رابعة(2).

ص: 194


1- كما لو أخبر ثم مات، كما في كل ما بأيدينا من كتب الماضين.
2- وكذا الذكورة وطهارة المولد والحرية والبلوغ.

ومن ذلك يظهر وجه عدم اشتراط هذه الشرائط في الرجالي ولا في الراوي ولا في اللغوي وإن اشترطت في المفتي.

والخلاصة: أن هذه الشروط الأربعة ونظائرها لا تجري على المبنى الثالث والرابع، بل تجري فقط - كلها أو بعضها(1)

- على المبنى الخامس وهو كون حجية قول الراوي من باب البينة(2)،

وتجري كلها على المبنى السابع الآتي.

المبنى الخامس: الشهادة والبينة

اشارة

المبنى الخامس: الشهادة والبينة (3)قال تعالى: «وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ»(4).

وههنا رأيان:

الأول: اشتراط العدد والعدالة في البيّنة، وهذا القول مبني على أن البينة لها حقيقة شرعية، وعليه فلو شهد شاهد عادل واحد فإنها شهادة لكنها ليست ببينة شرعا، وان كانت بينة عرفا.

الثاني: ان البينة لا يشترط فيها العدد، بل أن الشاهد العادل الواحد هو بينة أيضا(5)

وقد ذهب إلى هذا الرأي عدد من الفقهاء - ومنهم السيد الوالد (قدس سرّه) -،

ص: 195


1- اذ لا يشترط العدد في مطلق البينة بل في بعض أنواعها فقط على ماذهب إليه بعض الأعلام كالسيد الوالد.
2- محاضرة القواعد الفقهية، الثلاثاء 11جمادى الأولى 1433ه، الدرس (88)، في الصحن الحيدري الشريف.
3- ولا يخفى ان الشهادة أعم من البينة بحسب بعض اطلاقاتها، فلو قيل باشتراط شروط خاصة في البينة، فانه لا يستلزم ذلك اشتراطها في مطلق الشهادة فيمكن الالتزام بكون قول الرجالي والراوي واللغوي، شهادة دون كونها بينة، فلا يشترط فيها شروطها.
4- سورة الطلاق: 2.
5- واما الشهادة فقد قال صاحب الجواهر بانه (لا حقيقة شرعية لها قطعاً).

وهذا الرأي يستند إلى انه لا حقيقة شرعية ولا متشرّعية للبينة، بل هي باقية على معناها العرفي اللغوي، وقد استخدمها الشارع في الأعم ومنه قوله تعالى: «حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً»(1).

ولكن الشارع في بعض المواطن ضيق تلك الدائرة كما هو الحال في البينة في باب الزنا فقد جعلها محددة بأربعة رجال، وكذا في باب السرقة إذ قد قيدها بكونها شاهدين عادلين، فكلما لم يرد في البينة الواردة في لسان الشارع قيد إضافي، فانه يكتفى فيها بالعدل الواحد فيها.

والحاصل انه قد يقال: ان وجه حجية نقل الراوي للرواية وقوله، هو من باب البينة وكذا توثيق الرجالي أو تضعيفه.

لكن مما يناقش به هذا الوجه انه لو كانت حجية خبر الراوي وقول الرجالي من باب البينة للزم اعتبار اللفظ(2)

والإيمان والحياة والحرية والذكورة وكذا العدد على احد المبنيين, ولكن المشهور بل لعله إجماعي في بعضها على الأقل - عدم اشتراط تلك الشروط في الراوي والرجالي حتى العدد، فلو روى الراوي العدل - بل الثقة - الواحد رواية فانه يُكتفى بروايته.

إشكال: منافاة الحجية للحصر في رواية مسعدة

ولكن قد يستشكل على دعوى الحجية من باب قول أهل الخبرة أو خبر الثقة، (كبرىً)، وكون حجية قول الرجالي وخبر الراوي لأحد الوجهين (صغرىً)، بان هذا مناف للحصر الثابت في موثقة مسعدة بن صدقة، حيث

ص: 196


1- سورة البينة : 12.
2- ففي الشهادة يعتبر اللفظ.

يروي عن الإمام (علیه السلام): «كل شيء لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه»، ثم بعد ذلك يمثل الإمام (علیه السلام) بالثوب المشترى «وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته ولعله سرقه، أو المملوك يكون عندك ولعله حر قد باع نفسه أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة».

وكلام الإمام (علیه السلام) - كما هو واضح - وارد في الموضوعات، والأمثلة المسوقة من قبله دالة على ذلك، كما انه يستفاد من ظاهر الرواية ذلك أيضا «حتى تعلم انه حرام بعينه»، ف «انه» و«بعينه» تدل على أن الشبهة موضوعية وليست بحكمية.

والشاهد ان الإمام يصرح بانه يوجد طريقان لا ثالث لهما في الموضوعات:

الطريق الأول: «والأشياء كلها على ذلك حتى يستبين»، والمراد من «يستبين» هو العلم أي حتى يظهر(1)

لك وتعلم به.

الطريق الثاني: «أو تقوم به البينة»، وخبر الثقة - ومنه خبر الراوي وقول الرجالي - ليس ببينة(2) ولا هو مما قد استبان وظهر وعُلِم به, وكذلك قول المفتي(3)

ليس مستبيناً ولا ببينة وكذلك قول أهل الخبرة فهو الآخر ليس كذلك عادةً. والحاصل: ان الحصر الوارد في الرواية نافٍ لحجية غيرها.

ص: 197


1- فان يستبين استفعال من بان ويراد به بان وظهر لا طلبه.
2- أي طبيعيُّهما ليس كذلك، الا ما اجتمعت فيه شروط البينة أو افاد بالقرائن العلم.
3- لكنه خارج موضوعاً عن مورد الرواية.

ثم إنه لا ريب في أن رواية مسعدة موثقة وحجة(1).

أجوبة خمسة عن موثقة مسعدة

والجواب: يمكن أن يجاب عن هذا الإشكال وبخصوص هذه الموثقة بأحد وجوه خمسة «على سبيل البدل»:

أولا: أن الحصر في الرواية إضافي، بدليل أن «الإقرار» حجة مع انه ليس من الاستبانة وليس ببينة؛ فان إقرار الشخص أمام القاضي يؤخذ به وهو حجة نوعية بالرغم أن القاضي - ولا غيره - قد لا يحدث له علم من كلام المقر ّولا يستبين له ذلك كما أنه ليس من طبعه افادة العلم ولو اقتضاءاً. وكذلك «اليد»؛ فإنها حجة مع انها لا تفيد العلم كثيرا ما، فكم من الأيادي هي أيادي غاصبة وسارقة. وكذا الحال في «الاستصحاب» الجاري في الموضوعات و«القرعة» وغيرها.

ثانياً: أن قول الرجالي وخبر الراوي من مصاديق «يستبين»؛ لأنها استبانة عرفية.

ثالثاً: أن قوله من مصاديق البينة العرفية - بناءً على انه لا حقيقة شرعية أو

ص: 198


1- هناك وجوه لتوثيق مسعدة - بعضها على المبنى - : 1 روى عنه في تفسير القمي 2 وورد في إسناد كامل الزيارات 3 ووقع في 139 مورداً من الكتب الأربعة 4 وذكره الصدوق في مشيخة (الفقيه) في المعتمدين 5 كما أكثر الثقة الجليل الحميري في قرب الإسناد من الرواية عنه 6 ثم ان خصوص روايته هذه قد تلقاها الأصحاب بالقبول. ولا يضر بوثاقته (كونه عامياً) كما قال الطوسي أو (بترياً) كما قاله الكشي بل في المعجم (انه غير مسعدة بن صدقة العامي كما وصفه الشيخ، والبتري كما وصفه به الكشي). ولا يورد عليه اضطراب رواياته إذ هي على القاعدة، قال المجلسي الأول في روضة المتقين (الذي يظهر من إخباره في الكتب انه ثقة لأن جميع ما يرويه في غاية المتانة موافق لما يرويه الثقات، ولهذا عملت الطائفة بما رواه بل لو تتبعت وجدت أخباره أسد وأمتن من أخبار مثل جميل بن دراج وحريز) وقال العلامة المامقاني (ومن تتبع أخباره يحصل له العلم بانه أثبت من كثير من العدول).

متشرعية لها - فمتى ما اشترط الشارع العدد أو العدالة التزمنا بذلك وإلا فلا، وعلى هذا الجواب فان البينة تنطبق على قول الثقة وان كان فاسقا من جهات أخرى، فتأمل.

رابعاً: أن يقال بان خبر الراوي وان كان ظاهره انه إخبار عن موضوع من الموضوعات وهو تلفظ الإمام عليه السلام، أي: صدور هذا اللفظ من الإمام (علیه السلام) ، لكن خبره عن لفظ الإمام، لُبّا وجوهرا وعرفا وبالحمل الشايع الصناعي هو إخبار عن الحكم، وعليه يندرج قوله في باب الإخبار عن الأحكام فتشملها الأدلة العامة الدالة على حجية قول الثقة في ذلك.خامساً: انه لو صح هذا لسقطت أكثر الروايات التي استند إليها الفقهاء في الفقه عن الاعتبار، وذلك مما لا يلتزم به فقيه. بيان الملازمة: ان أكثر الروايات لا يوجد شاهدان عادلان في كل سلسلة إسنادها.(1)

المبنى السادس: الاطمئنان

اشارة

فقد ذهب البعض إلى أن وجه حجية خبر الراوي - وكذا الرجالي - هو «الاطمئنان»، وبذلك يجاب عن سلسلة من الإشكالات على كثير من الروايات المرسلة أو المهملة أو الموصوفة بالضعف بوجه من الوجوه.

والاطمئنان «كبرىً» هو حجة، لان المراد به ما هو متاخم للعلم، وكما أن العلم حجة فالاطمئنان كذلك بل هو علم عرفاً، إلا أن الفارق بينهما هو أن العلم حجيته ذاتية، والاطمئنان ليس كذلك؛ وذلك لوجود نسبة من احتمال الخلاف، إلا انه حجة في بناء العقلاء(2).

ص: 199


1- ومناقشة هذه الوجوه وجرحها أو تأييدها وتأكيدها تترك لمحلها.
2- وقد اشرنا الى ذلك لان البعض قد توهم ان الاطمئنان كالقطع حجيته ذاتية وليس هذا بصحيح فانه يحتاج لمتمم الكاشفية والجعل.

وأما «الصغرى» فانه قد يتساءل: ما هو المراد من الاطمئنان؟ وهل المراد منه ما كان شخصيا أو نوعيا؟ خاصة وان هذا المبحث سينفعنا في عامة المراسيل والمهملات.

والجواب هو: إن المراد من الاطمئنان هو الاطمئنان الشخصي - فإنه علم عرفاً - بل والنوعي لعموم بناء العقلاء له وان نوقش فيه، فلو حصل الاطمئنان الشخصي للفقيه(1)

بالرواية كفى ذلك وان كان سندها مهملا أو مرسلا أو غيره.

وذلك كالاطمئنان الحاصل من ملاحظة مضمون الرواية أو غير ذلك، كما في موثقة مسعدة لعدم اضطرابها ومطابقتها للقواعد وغير ذلك(2)، فتأمل(3).وكالخبر الضعيف الذي عمل به المشهور، فعلى رأي المشهور فان هذه الشهرة جابرة لذلك الضعف، رغم أن رأيهم أن الشهرة ليست بحجة في ذاتها إلا أنها جابرة، وصاحب الكفاية ارتضى هذا الرأي وعلله ب «أن انعقاد الشهرة - رغم عدم حجيتها الذاتية - على العمل بالخبر الضعيف يوجب الوثوق بالصدور، والوثوق الشخصي بالصدور حجة؛ لأنه علم عرفا فلا تشمله أدلة النهي عن الظن(4)»(5) وما نحن فيه من هذا القبيل أي الوثوق الشخصي بالصدور(6)،

فتأمل(7).

ص: 200


1- نعم قد يقيد ذلك بكون منشأ الاطمئنان عقلائياً، لا من مثل طيران الغراب والمنامات والقياس ومرجع هذا الى اشتراط اجتماع النوعين: الاطمئنان الشخصي والنوعي. فتأمل.
2- والاستثناء لا ينفي القاعدة بل يؤكدها. فتأمل.
3- إذ الاطمئنان الحاصل من ملاحظة المضمون نوعي. فتأمل فانه بدوره على نوعين. فتدبر.
4- كالآية: ( إن الظن لا يغني عن الحق شيئا) وما أشبه.
5- كفاية الأصول: ص 332.
6- وهنا يوجد كلام حول مقصود صاحب الكفاية وأن مراده هو الاطمئنان الشخصي أو النوعي؟ فراجع.
7- إذ قد يقال ان اعتضاد الخبر بالشهرة، يوجب الوثوق النوعي لا الشخصي، وإن كانت الشهرة في حد ذاتها غير معتبرة.

النسبة بين مبنى الاطمئنان وسوابقه

ولا بد من توضيح النسبة بين هذا الوجه و(المبنى) وبقية الوجوه السابقة: إذ قد يتوهم أن النسبة بين هذا الوجه وبين الوجوه السابقة هي العموم والخصوص المطلق؛ وذلك لان خبر الثقة قد يفيد الاطمئنان الشخصي وقد لا يفيده، وقول أهل الخبرة كذلك، فان من يقول بالحجية من باب خبر الثقة أو قول أهل الخبرة أو البينة، فانه يقول بالحجية مطلقا أفادت الاطمئنان أو لم تفد، وهذا هو وجه الاخصية مطلقا.

ولكن ذلك ليس بدقيق؛ لان هذا الوجه بالقياس إلى الوجوه السابقة ليس من مصاديق الجزئي والكلي، بل هو من مصاديق العلة المعدة بالنسبة للمُعد له؛ حيث ان خبر الواحد علة معدة لحصول الاطمئنان الشخصي وليس بعلة تامة، ثم الظاهر ان النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه؛ وذلك لا بلحاظ نفس العنوانين: «الاطمئنان الشخصي وخبر الواحد مثلاً» فانهما متباينان كما هو واضح واحدهما مما يقع في طريق الآخر كما سبق من كونه علة معدة وإنما بلحاظ المتعلَّق، أي بلحاظ ما تعلق به الاطمئنان الشخصي وهو المطمئَنُّ به، وما قام عليه خبر الثقة، فتكون النسبة بلحاظ المتعلَّق من وجه، أي بلحاظ التحقق، وذلك كسائر موارد ما كانت النسبة بينهما «من وجه».توضيحه: انه كلما قام خبر ثقة على أمر ما فانه قد يفيد الاطمئنان الشخصي وقد لا يفيد ذلك فمن حيث المتعلق خبر الثقة اعم من وجه،

ومن الجهة الأخرى فانه: كلما اطمأننت به اطمئنانا شخصيا فقد يكون خبر الواحد قائماً عليه وقد لا يكون كذلك فهذه صور أربعة.

الثمرة: وبها تظهر الثمرة وهي: أن كلاً من الاطمئنان الشخصي وخبر

ص: 201

الثقة حجة وان افترقا:

أما الاطمئنان فلأن المراد به هو المتاخم للعلم، وهو في بناء العقلاء - أي الاطمئنان - حجة بلا إشكال، وإن أشكل عليه بعض الأعاظم(1), إذ أنكر في بعض مواضع كتابه «حجية الاطمئنان الشخصي» ولكنه بنفسه عدل عن ذلك في مستمسكه وفي مورد آخر.

وأما خبر الثقة فانه إذا حصل الاطمئنان الشخصي من خبره وروايته فهو حجة دون شك، لكن حصول الاطمئنان الشخصي من الرواية ليس شرط حجيته ككافة الظنون النوعية.

فقد اتضح من ذلك: أن النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه وإن كلاً منهما حجة بحياله، فلو قام خبر الثقة على رواية فانه حتى لو لم يطمئن بها شخصيا فانها حجة، وبالعكس أي لو حصل الاطمئنان الشخصي لا من خبر ثقة فانه حجة كذلك، فمتى ما تحقق احدهما - أي: خبر الثقة أو الاطمئنان الشخصي - فهو حجة، وذلك لأنه في المورد الذي لا يوجد فيه الاطمئنان فانه مادام مشمولاً بأحد الظنون النوعية فإنه حجة(2).

ص: 202


1- السيد الحكيم (قدس سرّه) في المستمسك.
2- وسيأتي البحث إن شاء الله تعالى مستقبلا - في مبحث الاجتهاد والتقليد - حول (الاطمئنان الشخصي) وبعض مناشئه غير العرفية، وانه لو حصل منها الاطمئنان الشخصي فهل هي حجة أو لا ؟ وذلك مثل (الرؤيا) حيث ان البعض - حتى المتدينين - يتعاملون مع الرؤيا تعامل الحجة بل لعلها من أقواها عند بعضهم، وصاحب القوانين قدس سره يرى حجية الرؤيا في الجملة، والسيد العم دام ظله ينقل في بيان الفقه رواية صحيحة على ذلك، كما تطرق لذلك صاحب البحار تفصيلاً ولكن مع ذلك لم يذهب المشهور إلى حجية الرؤيا، والتفصيل موكول إلى محله وقد فصلنا وجوه عدم حجية المنامات والأحلام ووجوه القول ومناقشاتها في كتاب (فقه الرؤي دراسة فقهية واصولية في عدم حجية الاحلام).

والحاصل: إن عدم حصول الاطمئنان الشخصي لا يعني انتفاء الحجية عن المورد مطلقا، فقد يكون حجة من خلال كونه قول أهل الخبرة أو خبر الثقة أو البينة أو غير ذلك من الظنون الخاصة «النوعية».

تتمة: توهم البعض أن الاطمئنان الشخصي عادة غير حاصل في الفقه أو الرجال أو اللغة أو الحديث - كبحث صغروي - ولكن ذلك غير تام فإن ما نجده بالوجدان هو عكس ذلك في الكثير من المسائل إذ نجد أن الفقيه في علم الفقه أو الرجال أو الدراية كثيراً ما يحصل لديه الاطمئنان الشخصي، وليس المتحقق مجرد ظنون نوعية عامة، وهذا ما يظهر من ملاحظة كتب الفقهاء ومناقشاتهم، فإن من المشهور - بالرغم من كل الإشكالات والنقاشات التي يذكرونها - إنهم مطمئنون اطمئنانا شخصيا في الكثير ان لم يكن أكثر بحوثهم الرجالية أو فتاواهم الفقهية.

المبنى السابع: الفتوى

وقد يقال: إن حجية قول الراوي هي من باب الفتوى(1). وذلك لان الراوي يفتي على طبق الراوية، فإن الشيخ الصدوق في الفقيه والكليني في الكافي وغيرهما، يفتون بمضامين هذه الروايات.

والنتيجة على هذا المبنى: انه لو لم يفت الراوي على طبقها فليست بحجة وان رواها مسندةً.

ولكن هذا المبنى - كما لا يخفى - ضعيف؛ أولاً: لأنه لو كان قول الراوي حجة من باب الفتوى لاقتصرت حجية روايته على مقلديه دون المجتهدين، على

ص: 203


1- وقد استظهر المحقق المامقاني (قدس سرّه) ذلك - أي كون حجية قول الرجالي بالذات من باب الفتوى من كلام صاحب الفصول قدس سره، لكنه متأمل فيه.

المشهور الذي كاد أن يكون اجماعاً(1)،

أي لو كان وجه حجية قول الراوي هي كونه مفتيا لما كان حجة على سائر المجتهدين، والتالي باطل فالمقدم مثله؛ لأنه لا شك في أن قول الراوي حجة على المجتهدين، بل إن أول الحجج عليهم هي أقوال الرواة من أمثال زرارة وحمران ومن أشبه.وثانياً: يلزم من ذلك سقوط الروايات - أكثرها إن لم يكن شبه المستغرق منها - عن الحجية على عدد من الأقوال بل على المشهور؛ وذلك أن المشهور يشترطون في المفتي الحياة والعدالة والاجتهاد والإيمان والذكورة والحرية والبلوغ وطهارة المولد، وبعض هذه مجمع عليه فتوى أو احتياطاً، وهذه كلها ليست مشترطة في الراوي(2)،

فان المرأة أو العبد أو غير المجتهد لا يمكن أن يكون مفتيا ومرجعا، لكن يصح كونه راوياً، اللهم الا يدعى انصراف الاشتراط الى غير هذه الصورة، فتأمل.

وثالثاً: ان الفتوى هي حجة من باب الحدس، وأما خبر الراوي فهو حجة من باب الحس، فلا مجال لتوهّم كون مبنى أحدهما هو الآخر.

المبنى الثامن : وثاقة الرواية

المبنى الثامن(3): وثاقة الرواية

وقد يقال ان حجية قول الراوي هي من باب وثاقة الخبر أي المخبَر به واعتباره، وهذا الرأي لا يرى لوثاقة المخبِر الموضوعية، بل الموضوعية لوثاقة الخبر.

وبعبارة أخرى: إن حجية قول المخبر هي طريق لحجية الخبر من بين الطرق، كما انه لو لم يكن الخبر حجة في حد ذاته لجهة ما(4)

لم يكن قول المخبر حجة

ص: 204


1- وقد ناقشنا في ذلك في موضع آخر وإن الحجية التعينية هي المنتفية لا التخييرية الا لو علم بالخلاف.
2- القواعد الفقهية الأحد 16جمادى الأولى 1433 ه في الصحن الحيدري الشريف , الدرس (89).
3- نشير إليه باختصار وبمقدار العناوين فقط.
4- كمخالفته للكتاب، فالكلام مقيد بصورة امتناعه عن الحجية لا لا بشرطيته عنها وصِرف عدم الحجية لعدم الدليل عليها من جهة أخرى. فتدبر.

بالمرة ان ثبت به الصدور.

وبتعبير آخر: كون الخبر موثوقا به هو الذي عليه المدار وبه الاعتبار لا كون الخبر خبر ثقة.

ولا يتوهم ان أن الحجية لو كان مدارها على وثاقة المخبر به، فانه سيقع في مقابل المبنى الآخر: مدار الحجية على وثاقة الراوي.

إذ الصحيح: أن مدار الحجية على كليهما على سبيل البدل، إن لم يوجد معارض أو لم يتعارضا(1)،

وعلى هذا بناء العقلاء، فقد تكون وثاقة المخبِر هي التي عليها المعول، وذلك كما لو لم تكن في الخبر خصوصية - من حيث علو المضمون مثلاً - تفيدنا الوثوق به(2)؛

وذلك أن الأئمة (علیهم السلام) كانوا يكلمون الناس على قدر عقولهم، وكان بعض كلامهم بحسب سطوح عقول الناس البسيطة، ومن هنا فلم يكن كل كلامهم بمستوى واحد من حيث البلاغة والبعد العلمي(3).

والحاصل: انه في كثير من الأحيان لا طريق لنا لإحراز المضمون وصحته إلا بوثاقة المخبرين، لكن الأمر في بعض الأحيان على العكس؛ حيث أن الرواية قد تكون مرسلة - وهي ليست بحجة حسب مشهور المتأخرين - بيد أننا عن طريق قوة المضمون أو غيرها قد نصل إلى حجيتها واعتبارها.

والنتيجة: أن

وثاقة الرواية طريق ووثاقة الراوي طريق آخر - أي الوثوق بالمخبر والوثوق بالمخبر به - وذلك لعلو المضمون أو لاعتضاده بقرائن أخرى تؤيده فيورث المجموع الاطمئنان، وعليه فان المصب النهائي واحد وهو الخبر، ولكن الطريق إليه طريقان، ولهذا البحث تفصيل نكتفي في المقام بهذا المقدار من الكلام(4).

ص: 205


1- ولو تعارضا فله صور.
2- أو العكس.
3- ومن كلام أمير المؤمنين (علیه السلام) في موضع آخر (لكنني أسففت إذ أسفّوا وطرت إذ طاروا).
4- محاضرة القواعد الفقهية 17جمادى1 1433ه، الدرس (90)، في الصحن الحيدري الشريف.

الفهرس

المقدمة المقرر 7

الفصل الأول

حجية مراسيل الثقات المعتمَدة لديهم/11

عدد من الذين قالوا بحجية مراسيل الثقات 14

من القائلين بالحجّية ببعض القيود 20

تفصيل آخر 24

بناء العقلاء على حجية مراسيل الثقات 25

الإشكال باحتمال الإرسال عن الضعاف 27

الإشكال: بوجود احتمال الخلاف 28

شبهة التفريق بين الإخبار الحسي والحدسي 30

من الأدلة على حجية الإخبار الحدسي 30

الدليل الأول: عمومية أدلة خبر الثقة 31

الدليل الثاني: حجية الحدس القريب من الحس 33

مناقشة مع بعض الاعلام حول توثيقات النجاشي 36

الدليل الثالث: حجية قول أهل الخبرة 38

ص: 206

رجوع المجتهد لغيره 41

تقليد أم رجوع؟ 44

الفرق بين المفتي وأهل الخبرة 44

وجه فرق المجتهد عن المقلد في جواز رجوعه لغير العادل 45

الفصل الثاني

تطبيقات لحجية مراسيل الثقات/49

* المبحث الأوّل 51

حجّية مراسيل الشيخ الصدوق في الفقيه 51

النقض بكون كل ما في الكتب الأربعة متواتراً 51

توثيق الشيخ الصدوق ل «الفقيه» 52

توثيق للرواية أم توثيق للرواة 53

قرائن توثيق الراوي أو الرواية فقط في كلام الصدوق 54

توثيق الرواية 54

توثيق الرواة 55

اصطلاح الصحيح عند القدماء والمتأخرين 55

المستظهر في المراد من "الكتب المشهورة" 57

تواتر أكثر الروايات 62

دعوى حجية روايات «الفقيه» على كلا الاحتمالين 64

آراء الشيخ البهائي وبحر العلوم والمحقق الداماد بمراسيل الفقيه 65

ص: 207

مجموعة من الإشكالات على مراسيل الصدوق() 67

الإشكال الأول: الفرق بين مراسيل ابن أبي عمير ومراسيل الصدوق 67

الإشكال الثاني: الفرق بين نحوي ارسالة ب: «روى عن» او «قال الامام» 69

الإشكال الثالث: رواياته حجة في الجملة، لا بالجملة 70

الإشكال الرابع: اعتماد الصدوق على أصول ضعيفة 71

الإشكال الخامس: ليس كل ما في «الفقيه» عليه المعوّل 73

الإشكال السادس: اختلاف العلماء في توثيقات الصدوق 73

الإشكال السابع: دعوى توثيق الصدوق للخبر لا المخبر 75

الإشكال الثامن: دعوى اعتماد الصدوق على الحدس 75

الحدس والحس بين النجاشي والصدوق 76

الإشكال التاسع: وجود الروايات المتناقضة 77

الإشكال العاشر: الشيخ الصدوق مقلد لا مجتهد 78

الإشكال الحادي عشر: عدم إيفاء الصدوق بوعده 80

* المبحث الثاني 82

حجية مراسيل الشيخ الطوسي في التهذيبين 82

أدلة الحرّ العاملي على حجية روايات التهذيبين 83

أدلة اخرى على ان الشيخ الطوسي وثّق كتابيه 86

شرح بعض عبارات الشيخ الطوسي 89

معنى "الإجماع" لدى الشيخ الطوسي 94

الإشكالات المثارة على روايات التهذيبين 101

ص: 208

الإشكال الأول: إحتمال تغاير الإستظهارين 101

صحة رجوع العالم بالقوة إلى العالم بالفعل 103

الإشكال الثاني: رواية الطوسي عن الرواة الضعاف 106

الإشكال الثالث: اعتماد الشيخ الطوسي على أصالة العدالة 108

معنى أصالة العدالة 109

التعريفات المختلفة للعدالة 114

العدالة تعني الوثاقة وزيادة لدى الشيخ الطوسي 119

محتملات معنى "ظهور الفسق" 121

جواب يقطع الشك باليقين 124

الإشكال الرابع: تقييم الشهود بظاهر الإسلام 125

الإشكال الخامس: اعتماد الشيخ الطوسي على الأخبار الضعيفة 127

الإشكال السادس: الشهيد الثاني ودعوى تناقضات الشيخ الطوسي 128

طريق المجلسي في تصحيح روايات التهذيبين 129

الإشكال السابع: قد لا تكون نسخة الطوسي صحيحة 131

بحث موجز عن حجية روايات أصحاب الإجماع 134

إجماع الاصحاب على تصحيح ما يصح عن جماعة 134

المعاني المحتملة في عبارة الشيخ الكشي 135

الاحتمال الأول لعبارة الكشي 136

الإحتمال الثاني والثالث لعبارة الكشي 136

أدلة أو مؤيدات ثمانية على ان المراد تصحيح الإسناد (الاحتمال الثاني) 137

ص: 209

المناقشة في الاحتمال الاول (وهو قصد صِرف وثاقة اللهجة) 141

استظهار المشهور للاحتمال الثالث 142

الفصل الثالث

الإهمال وكيفية معالجته/143

*ملحق: قيمة صُحبة الأئمّة في رفع الإهمال 144

البحث الأول: فرق الإهمال عن التضعيف 145

دعوى مساواة غير محرز الحجية بمحرز عدمها 145

الفرق بين عدم إحراز الحجية وإحراز عدمها 146

ثمرة التفريق بين الإهمال والتضعيف 147

البحث الثاني: من طرق توثيق الحديث المهمل 150

بحث تطبيقي: راويا تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) 152

الحسين بن أحمد المالكي 153

حجية الروايات التي في إسنادها مهمل أو أكثر 160

بحث تطبيقي في توثيق عبد الله بن طاووس وحسين بن احمد المالكي 161

عبد الله بن طاووس 161

الحسين بن أحمد المالكي 162

المبحث الأول: إزالة الطعن في الحسين المالكي 162

المبحث الثاني: معالجة الإهمال في الحسين بن أحمد المالكي 166

1: هل الحسين غير الحسن؟ 166

ص: 210

2: هذه الرواية بالخصوص، عن الحسن 168

الادلة على أن الرواية عن الحسن 168

3: قرائن على توثيق الحسين المالكي 170

4: سند الكشي يكفي لتصحيح الرواية 172

قيمة صحبة الأئمة (علیهم السلام) والرواية عنهم في التوثيق ورفع الإهمال 173

الفصل الرابع

لا فرق بين توثيقات المتقدمين والمتأخرين/175

إشكال: رؤية المتقدمين أوضح لكثرة القرائن و.. 178

الجواب الأول: قد يكون الاختلاف في المبنى 179

الجواب الثاني: قرب الزمان معارض بالتراكم المعرفي 180

الجواب الثالث: درجة الوضوح ليست من المرجّحات 182

الجواب الرابع: على فرض الترجيح فانه في صورة التعارض 183

الجواب الخامس: بناء العقلاء على حجّية الأعم 183

الجواب السادس: «درجة الوضوح» مراتب لها جامع 184

الفصل الخامس

الوجه في حجية قول كلٍّ من «الرجالي» و«الراوي»/185

المبنى الأول: الانسداد الكبير 187

المبنى الثاني: الانسداد الصغير 188

ص: 211

تفريق بعض الأعلام بين الانسدادين 189

وجه التفريق بين الانسدادين 190

الاشكال في وجه التفريق بين الانسدادين 191

المبنى الثالث: أهل الخبرة 193

المبنى الرابع: خبر الثقة 194

المبنى الخامس: الشهادة والبينة 195

إشكال: منافاة الحجية للحصر في رواية مسعدة 196

أجوبة خمسة عن موثقة مسعدة 198

المبنى السادس: الاطمئنان 199

النسبة بين مبنى الاطمئنان وسوابقه 201

المبنى السابع: الفتوى 203

المبنى الثامن: وثاقة الرواية 204

الفهرس 206

ص: 212

كتب أخرى للمؤلف

1. أضواء على حياة الإمام علي (علیه السلام)، مطبوع.

2. التصريح باسم الإمام علي (علیه السلام) في القرآن الكريم، مطبوع.

3. لماذا لم يصرح باسم الإمام علي (علیه السلام) في القرآن الكريم؟، مطبوع.

4. استراتيجيات إنتاج الثروة ومكافحة الفقر في منهج الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام)، مطبوع.

5. شعاع من نور فاطمة الزهراء (عليها السلام)، دراسة عن القيمة الذاتية لمحبة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، مطبوع.

6. تجليات النصرة الإلهية للزهراء المرضية عليها السلام، مطبوع.

7. لمحات من حياة الإمام الحسن (علیه السلام)، مطبوع.

8. الإمام الحسين (علیه السلام) وفروع الدين، دراسة عن العلاقة الوثيقة بين سيد الشهداء(علیه السلام) وبين كل فرع فرع من فروع الدين، مطبوع.

9. شرعية وقدسية ومحورية النهضة الحسينية (علیه السلام)، مطبوع.

10. المرابطة في زمن الغيبة الكبرى، مطبوع.

11. السيدة نرجس (عليها السلام) مدرسة الأجيال، مطبوع.

12. دروس وعبر من الكلمات القصار من نهج البلاغة، مخطوط.

13. بحوث في العقيدة والسلوك، مجموعة محاضرات على ضوء الآيات

ص: 213

القرآنية الكريمة، ألقيت في الحوزة الزينبية وفي النجف الأشرف، مطبوع.

14. إضاءات في التولي والتبري، مطبوع.

15. دروس في أصول الكافي - الجزء الأول كتاب العقل والجهل، مخطوط.

16. كونوا مع الصادقين، بحوث تفسيرية في الآية الشريفة «كونوا مع الصادقين»، مطبوع.17. لمن الولاية العظمى؟ مطبوع.

18. توبوا إلى الله، مطبوع.

19. شرح دعاء الافتتاح، مخطوط.

20. بصائر الوحي في الإمامة، مطبوع.

21. سوء الظن في المجتمعات القرآنية، مطبوع.

22. مقتطفات قرآنية، مطبوع.

23. مناشئ الضلال ومباعث الانحراف، مطبوع.

24. ملامح النظرية الإسلامية في الغنى والثروة والفقر والفاقة، بحث عن هندسة اتجاهات الفقر والغنى في المجتمع، مطبوع.

25. مقاصد الشريعة و مقاصد المقاصد اللين والرحمة نموذجاً، مطبوع.

26. شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية بحث اصولي فقهي على ضوء الكتاب والسنة والعقل ، مطبوع

27. رسالة في قاعدة الإلزام، تقريرات دروس الخارج في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، مخطوط.

28. فقه التعاون على البر والتقوى، مطبوع.

29. فقه الخمس، تقرير دروس الخارج في الحوزة العلمية الزينبية،

ص: 214

مخطوط.

30. فقه المكاسب مباحث البيع، مخطوط.

31. فقه المكاسب المحرمة - حفظ كتب الضلال ومسببات الفساد، مطبوع.

32. فقه المكاسب المحرمة - مباحث الرشوة، مطبوع.

33. فقه المكاسب المحرمة - حرمة الكذب ومستثنياته، مطبوع.

34. فقه المكاسب المحرمة - رسالة في التورية موضوعاً وحكماً، مطبوع.

35. فقه المكاسب المحرمة - رسالة في الكذب في الإصلاح، مطبوع.

36. فقه المكاسب المحرمة - احكام اللهو واللغو واللعب وحدودها، مطبوع.

37. فقه المكاسب المحرمة - رسالتان في النجش والدراهم المغشوشة، مطبوع.38. فقه المكاسب المحرمة - مباحث النميمة، مخطوط.

39. رسالة في الحق والحكم التعريف والضوابط والاثار، مخطوط.

40. الاجتهاد في أصول الدين، مخطوط.

41. الأصول مباحث القطع، مخطوط.

42. الأوامر المولوية والإرشادية، مطبوع.

43. بحوث تمهيدية في الاجتهاد والتقليد، تقريرات دروس الخارج في الحوزة العلمية في النجف الاشرف، مطبوع.

44. التبعيض في التقليد، مخطوط.

45. تقليد الأعلم وحجية فتوى المفضول، مطبوع.

46. التقليد في مبادئ الاستنباط، مطبوع.

ص: 215

47. الحجة؛ معانيها ومصاديقها، مطبوع.

48. رسالة في أجزاء العلوم ومكوناتها، مطبوع.

49. رسالة في فقه مقاصد الشريعة، مخطوط.

50. فقه الرؤى، دراسة في عدم حجية الأحلام على ضوء الكتاب والسنة والعقل والعلم، مطبوع.

51. مباحث الأصول، التعادل والتراجيح، مخطوط.

52. مباحث الأصول، رسالة في الحكومة والورود، مخطوط.

53. المبادئ التصورية والتصديقية للفقه والأصول، مطبوع.

54. المبادئ والضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية، مخطوط.

55. رسالة في نقد الكشف والشهود، مخطوط.

56. نسبية النصوص والمعرفة... الممكن والممتنع، مطبوع.

57. نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة واللغة، مطبوع.

58. مدخل إلى علم العقائد، نقد النظرية الحسية، مطبوع.59. ملامح العلاقة بين الدولة والشعب، مطبوع.

60. معالم المجتمع المدني في منظومة الفكر الإسلامي، مطبوع.

61. الخط الفاصل بين الأديان والحضارات، مطبوع.

62. الحوار الفكري، مطبوع.

63. الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي، مطبوع.

64. قاعدة اللطف، مخطوط.

ص: 216

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.