فقه الرؤى
دراسة فقهية وأصولية في عدم حجية الأحلام على ضوء الكتاب والسنة والعقل والعلم
تقرير أبحاث السيد مرتضى الحسيني الشيرازي
المقرر : الشيخ جعفر الفتلاوي
الطبعة الأولى
1435ه - 2014 م
مؤسسة التقى الثقافية / النجف الأشرف
ص: 1
الطبعة الأولى
1435ه - 2014 م
مؤسسة التقى الثقافية / النجف الأشرف
ص: 2
بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ
غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ
صدق الله العلي العظيم
ص: 3
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
يعتبر فقه الأحلام والمنامات بحسب الكتاب والسنة والعقل من البحوث المهمة والمستحدثة التي قلّما تطرق لها الباحثون والعلماء اللهم الّا استطراداً ضمن وريقات أو أسطر بمناسبة ما, لكن السيد الأستاذ توسّع في البحث وتناوله من جميع الجوانب وطرح كل الأدلة المطروحة والمفترضة وناقشها وأجاب عنها، وذلك لمسيس الحاجة إلى ذلك؛ نظراً لأن الأحلام هي من الظواهر العامة في البشرية، ونظراً لأن الكثير من الناس وفيهم بعض المثقفين والطلبة المبتدئين يعتبرون - نظريا أو حسب الممارسة والسلوك - الأحلام حجة ودليلاً، ونظراً لأنّ بعض كبار الأعلام - كصاحب الفصول والقوانين - أبديا رأياً هاماً في الموضوع وقد توقف عنده السيد الأستاذ طويلاً، ونظراً لأن البعض أساء استخدام هذا الأمر الموهوم الحجية كي يدعي بدعاوى ما أنزل الله بها من سلطان.وهذا الكتاب تقريرٌ لسلسلة دروس الأستاذ آية الله السيد مرتضى الحسيني الشيرازي ضمن سلسلة أبحاث الخارج حول أدلة وجوب الاجتهاد في أصول الدين، فبعد استعرض الأدلة المعروفة من الكتاب والسنة والعقل والإجماع التي أقيمت على ذلك وبعد إشباعها بحثاً ومناقشة وتقييماً, وصل الأمر إلى التطرق إلى بعض ما ذكر كدليل أو ما يحتمل كونه دليلاً وحجة في مباحث
ص: 5
الاجتهاد في أصول الدين، فذكر أولاً الكشف والشهود الذي استند إليه البعض في مباحث أصول الدين، وهل يصلح أن يكون حجة في أصول الدين أو في الأحكام الشرعية أم لا؟ ثم عرج على الأحلام والمنامات وهل تصلح أن تكون من الحجج في أصول الدين أو فروعه أو في الأحكام الشرعية أو في القضايا العامة أو القضايا الشخصية ؟ وبعد أن ناقش المسألة بالأدلة الأربعة, مقدماً دليل العقل لغاية ستتضح من خلال البحث، خلص إلى عدم صلاحية الأحلام والمنامات للاحتجاج بها مطلقا, وأنها لا تصلح كدليل يحتج به على الغير، بل لا تعّد دليلاً وحجة حتى لنفس الرائي, بشهادة الكتاب والسنة والإجماع والعقل والعلم.
ثم تطرق الأستاذ في الخاتمة إلى بعض أصول علم الأحلام وضوابطهاوناقشها عقلاً ونقلاً، وقد اقتطفت مبحث فقه الأحلام خاصة من هذه السلسلة، فكانت هذا الكتاب الذي بين يديك أيها القارئ الكريم.
جعفر الفتلاوي
ص: 6
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد وآله الطاهرين، واللعنة على أعدائهم إلى يوم الدين.
يدور الكلام في هذا البحث حول دعوى حجية الأحلام والرؤى والمنامات وأدلتها والأجوبة عليها، ولا بد أن نحدد موضوع البحث ومفرداته أوّلاً, وأن نحدد نطاقه ودوائره ثانياً،ثم نبحث عن الأدلة التي قيلت وسيقت، أو يمكن أن تقال وتساق على حجية المنامات مطلقاً، أو في الجملة، وندرس مدى صحتها،وما يمكن أن يورد عليها ومدى صحة مناقشاتها.
والأحلام, والمنامات(1)،والطيف(2), وهو تعبير عرفي دارج لكنه فصيح، فهذه مفردات خمسة.
وأما النسبة بين بعضها والبعض الآخر فستأتي تفصيلاً بإذن الله تعالى, أما النسبة إجمالاً فإن بين بعضها والبعض الآخر التباين، كما بين الرؤيا والأضغاث، وبين بعضها والبعض الآخر العموم والخصوص المطلق، كالأحلام والرؤيا.
وأما دوائر البحث فهي ستة:
الدائرة الأولى: هي حجية الأحلام(3) في أصول الدين، كشأن النبوة والإمامة وما يتعلق بأصول الدين كالنيابة(4)، أو ما سبق ذلك رتبة من تجسيم الله وعدمه، أو عدله من ظلمه، وجبره أو تفويضه، وما أشبه.
الدائرة الثانية: هي حجية الأحلام في فروع الدين.
الدائرة الثالثة: ويمكن أن تلحق بالثانية, وهي: حجية الأحلام في الأحكام الفقهية التكليفية والوضعية، من واجب أومحرم أو مستحب أو مكروه أو مباح,فهل يثبت استحباب أمرٍ مثلاً بالأحلام؟ هل تثبت بها الملكية أو
ص: 8
الزوجية أو نظائرها(1)؟
الدائرة الرابعة: هي حجية الأحلام في الشؤون العامة كصلح أو حرب، أو تصويت، فهل التصويت في الانتخابات حسن أو قبيح، ضار باستقرار البلد وازدهاره أو نافع وهكذا؟ أي: هل أنَّ الأحلام حجة في تشخيص موضوعات الشؤون العامة أم لا ؟
الدائرة الخامسة: هي حجية الأحلام في المتوسط بين الشؤون العامة والشؤون الخاصة، كما في شأن القضاء، فهل لشخص أن يشهد على آخر بالسرقة مثلاً لمنامٍ رآه؟ بل حتى القاضي، فإن القاضي على رأي مشهور له أن يعمل بعلمه(2)، فهل رؤياه حجة لو أورثته الاطمئنان(3) أو ليست بحجة؟ كما لو رأى في المنام أنّ زيداً هو السارق أو الجارح أو القاتل وهكذا.
وهل الحلم حجة في مطلق الأمورالحسبية؟ كما لو رأى في المنام أنّ القيّم على الوقف خائنٌ، أو رأى أن هذا القيم أمين فلم يحقق عنه تحقيقاً عرفياً عُقلائياً، فهل يستطيع أن يستند إلى منامه في جعل هذا قيماً على الصغار أو الأوقاف؟
الدائرة السادسة: هي حجية المنامات في الشؤون الخاصة وفي الموضوعات الصرفة، فلو رأى في المنام أن الذي سرقه هو زيد فهل له المقاصة منه؟ إذ حسب
ص: 9
رأي العديد من الفقهاء(1) فإن المسروق منه له المقاصة لو لم يستطع استرجاع أمواله بالطرق المعهودة، ولم يترتب محذور.
هذه هي دوائر البحث بين أحكام وموضوعاتٍ تترتب عليها الأحكام، ومنها: ما هو ملحق بها، مثل المنامات في الشؤون المستقبلية أو ما أشبه.
هل هذه المسألة أصولية أم فقهية أم كلامية؟
بإيجاز نقول: إنْ كان البحث عن حجية المنامات في أصول الدين فهي من المبادئ التصديقية لعلم الكلاموالعقائد على رأي،وعلى الرأي المنصور هي من مسائله كما فصلناه في كتاب (رسالة في أجزاء العلوم ومقوماتها) والمطبوع بعضه في مقدمة كتاب (المبادئ التصورية والتصديقية للفقه والأصول) وأما إن كان البحث عن حجية المنامات في فروع الدين أو في الأحكام الشرعية فهي مسألة أصولية، كالشهرة مثلاً، فإنه عندما نبحث عن حجيتها وعدمها فهل هذه مسألة أصولية؟
الظاهر أنها مسألة أصولية بناءً على أن موضوع علم الأصول - حسب ما ارتضيناه - هو «الحجة القريبة المشتركة في الفقه»(2).
فأي شيء انطبق عليه هذا الضابط(3) فهو مسألة أصولية، من كتاب
ص: 10
وسنة وإجماع وعقل وشهرة ومنامات وما أشبه.
وهنا لابد أن نشير إلى أنه لا فرق في المسألة الأصولية - أي في كونها أصولية - بين أن تكون نتيجتهاالإيجاب كما في خبر الثقة،فهي مسألة أصولية وقد انتهينا فيها إلى الإيجاب، أو السلب كما إذا انتهينا إلى أن الشهرة ليست بحجة فهي مسألة أصولية، كما انتهى إلى ذلك جمع إلى سلب الحجية عنها، فالأحلام وبحث حجيتها في الفقه مسألة أصولية وإن انتهينا إلى عدم الحجية، كما انتهى المشهور شهرة عظيمة - بل كادت أن تكون إجماعية - إلى ذلك.
أما السيد البروجردي فقد ارتأى أن موضوع علم الأصول هو «الحجة في الفقه»(1) والأمر على هذا التعريف أيضاً واضح.
وأما صاحبا القوانين والفصول(2) فقد انتخبا أن موضوع علم الأصول هو الأدلة الأربعة بذواتها، وهذا رأي, أو أنها الأدلة الأربعة من حيث الدليلية(3)، وهذا رأي آخر.
وقد أشكل على خبر الواحد وأجيب عنه بما نجيب به عن بحث الأحلام بأن: خبر الواحد - كخبر زرارة مثلاً - ليسمن الأدلة الأربعة، فكيف أدرجت حجية خبر الثقة في الأصول على هذين التعريفين؟
وأحد وجوه التفصي، هو: هي أن خبر الثقة لوحظ كونه حاكياً عن السنة(4)، وأن السنة التي هي موضوع علم الأصول يراد بها الأعم من
ص: 11
حاكيها، فهل الأحلام حاكية عن السنة وحجة فيها أم لا؟
والحاصل: أن المسألة قد تكون من المبادئ التصديقية لعلم الكلام، وقد تكون لعلم الفقه مسألةً أو مبدأً تصديقياً.
وأما ما يتعلق بالموضوعات الخارجية من شؤون عامة أو خاصة فإن البحث فيها في كل حقل ملحق ببابه، ففي الشؤون العامة - مثلاً - تلحق حجية الأحلام بأبوابها الخاصة، فحجية الأحلام في السياسة أو الاقتصاد أو الحقوق وغيرها ملحقة بأبوابها، وأما حجية الأحلام في القضاء والشهادات فإنها قاعدة فقهية على فرضها,فتأمل.
ولنكتف بهذا المقدار من البحث، وننتقل إلى الأدلة.
ص: 12
ص: 13
ص: 14
أما الأدلة التي استدل أو التي يمكن أن يستدل بها على حجية المنامات فهي: العقل والعلم والكتاب والسنة:
ولنبدأ بالعقل على خلاف الترتيب الطبيعي لجهات(1), فإنه قد استدل بالعقل على حجية المنامات بدليلين:
إن الأحلام كثيراً ما تصيب فهي حجة، وهذا هو المتداول على الألسن كثيراً، وهو أيضاً ما أشار إليه صاحب القوانين بوجهٍ(2)، وسيأتي إن شاء الله.
إن الأحلام كثيراً ما تفيد القطع،والقطع حجيته ذاتية,وهذا أيضاً كثيراً ما يستند إليه، وقد شاهدت بعض الأعلام يناقش بعض هؤلاء الذين يستندون في مسألة اعتقادية إلى الأحلام، فيقولله: إن قطعك حجة لك(3) لكنه ليس حجة
ص: 15
بالنسبة للآخرين، فنقول:كلا, ليس قطعه حجة حتى بالنسبة له, أي: إن القطع الحاصل من المنامات ليس بحجة(1)، وتوضيحه سيأتي.
وسنبدأ بالإجابة على الدليل الثاني،فنقول: إن البحث سيقع ضمن سبعة عناوين، بعضها نقاشات صغروية وبعضها كبروية, والكبرى الكلية هي: (إن القطع حجيته ذاتية), وسنتناول مفردة (القطع) ومفردة (الحجية)،وما المراد منها، وكذلك مفردة (ذاتية)،وما المراد من الذاتي، وكلُّ سيشكِّل جواباً، وسيكون البحث بين صغروي وكبروي، والنتيجة النهائية أن هذا القطع غير معتنى به وليس كاشفاً، وقد لا يكون معذّراً و...
الأجوبة عن الدليل الثاني(2):
إن القطع ليس مؤمناً من العقاب بقول مطلق، وكون الإنسان قاطعاً ليس ملاك براءة الذمة، وليس ملاك إعفائهمن استحقاق العقاب، وهذه مسألة مهمة جداً لعل الكثير يغفلون عنها عند الابتلاء بأمثال هؤلاء، وبتعبير آخر: ليس القطع صك(3) أمان للقاطع من العقاب، وذلك فيما لو قصّر في المقدمات, والكثير منهم كذلك، أي: مقصرون في المقدمات.
والحاصل: أنه لو لم تثبت حجية المنامات بأدلة أخرى، فأن القطع لا يصلح مستنداً للقاطع لإعفائه من العذاب والعقاب, ويتضح ذلك بملاحظة
ص: 16
النظائر، فإن الكافر الحربي لو قطع، فهل قطعه يعفيه من العقاب؟ كلا، لو كان مقصراً في المقدمات، والإرهابي الوهابي لو قطع - كما أن بعضهم قاطع بالفعل بوجوب قتل الشيعة، بل أي مسلم غيرهم؛ إذ يرون كل مسلم يتبرك بالأضرحة والمشاهد وشبهها مشركاً، وهم عامة المسلمين إلا السلف والوهابيين - فهل يعفيه قطعه بكفر المسلمين عامة من العقاب لو قتل بعضهم، فيما لو كان مقصراً في المقدمات، كما هم عادة مقصرون؟
والوجه في كونهم مقصرين، هو: إن باب العلم وطريق التحقيق مفتوح، لكنه أغلق عينه ودفن عقله، ولم يبحث عنالحجج التي أقامها الآخرون، وتعبد بقول آبائه أو أساتذته,وقال كما قال الكافرون: «إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ»(1).
وحاصل الجواب الأول: أنه لو فر ض كونه قاطعاً فإن قطعه لا يؤمنه، ولا يعفيه من العقاب مع تقصيره في مناشئ قطعه، فللغير أن يناقشه في المقدمات، ويثبت تقصيره في المقدمات، وأنه لا حجية للمنامات في أصول الدين أو في فروعه، أو الأحكام الشرعية أو ما أشبه ذلك، فلا أساس لقطعه.
وبعبارة أخرى: إن مجمل البحث فيما لو قال: إني قاطع وكان قاطعاً بالفعل، فأنه وإن لم يصح فرضاً خطابه إلا أنه يصح عقابه، فلنا أن نعاقبه وللمولى أن يعاقبه، والعقاب هو بيت القصيد؛ إذ الحجة واللاحجة لِمَ تُرام ولِمَ تقصد وتراد؟ إنما هي للأمن من العذاب،بل نقول: لنا خطابه بأنّ هذه لا تؤمنك من العقاب, فتأمل(2).
ص: 17
الجواب الثاني(1): القطع العقلائي وغير العقلائي
ونشير لهذا الجواب باختصار، وهو أن القطع على قسمين:
الأول: القطع العقلائي.
الثاني:القطع غير العقلائي.
وأساس الخطأ هو أن كثيراً من الناس يخلط بين المطلبين.
وتوضيحه: أن القطع قد يكون عقلائياً، وهو ما كان ناشئاً من العلل والمناشئ المؤسَّسة عقلاً أو الممضاة عقلائياً،وقد يكون غير عقلائي، وذلك ككل قطع نشأ من مناشئ لا يعترف بها العقلاء ولا الشرع، وهذا القسم الثاني مما لا يرتب عليه العقلاء الأثر؛ وذلك مثل كثير من القرويين البسطاء(2) الذين يقطعون من قول ساحر القرية إن ههنا سحراً، وإن هنالك يوجد جن أو إنه تلبس بفلان و... وما أشبه ذلك، ومن الواضح أن الملايين من الناس - لبساطتهم وبُعدهم عن معرفة تعقيدات الحياة والخدع والألاعيب الموجودة - يقطعون من مناشئ غير عقلائية،فهذا هو القطع من النوع الثاني، ولا يخفىأننا لا ننكر أصل وجود الجن أو السحر(3)؛وإنما الكلام في تفسير كل مرض - كما
ص: 18
هو المألوف - بالجن أو بالسحر وما أشبه ذلك، فالإشكال في الصغريات والمصاديق والتطبيقات، وليس في أصل وجود الجن والسحر.
وكذا الوسواسي المبتلى بداء الوسوسة، فإنه من هذا القبيل؛ لذا نجد أنَّ العقلاء لا يعتنون بوسوسته ولا يرتبون عليه الأثر.
ويتضح هذا أكثر ببيان الرأي، فإنّه على قسمين: رأي عقلائي يرتب العقلاء عليه الأثر، ورأي غير عقلائي لا يرتب عليه العقلاء الأثر، والرأي العقلائي هو رأي أهل الخبرة، كرأي الطبيب في مسائل الطب،أما رأي غير أهل الخبرة، فكالإنسان العامي المحض في مسألة طبية تخصّصِية، فإنه حتى لو قطع فإن العقلاء لا يرتبون الأثر على قطعه في ما احتاج إلى الخبرة، ولو رتبوا لاتهموا بالسفه كما هو واضح.
إذن، فالقطع يختلف في منشئه بين كونه عقلائياً أو غير عقلائي.
وما قيل من كون الأحلام قد تورث القطع، والقطع حجيته ذاتية والذاتي غير قابل للجعل ولا للرفع لأنه:
ذاتيُّ شيء لم يكن معلّلا *** وكان ما يسبقه تعقُّلا
وكان أيضاً بيّن الثبوتِ له *** وعَرَضِيّه اعرفن مقابله(1)
فالذاتي لا يختلف ولا يتخلف كما هو مقرر في محله(2), فإذا كانت
ص: 19
المنامات قد توجب القطع أحيانا كثيرة فإن حجيتها إذن في هذه الصورة ذاتية؟ فقد أجبنا عن ذلك بجوابين(1).
الجواب الثالث(2): خلط بين ما بالعرض وما بالذات
إن هذا من مصاديق خلط ما بالعرض بما بالذات.
وقبل توضيح ذلك نقرأ عبارة صاحب الفصول، لأنه وقع - كما يبدو - في الجملة في هذا المعضل، أي: إنه خلط بين ما بالعرض وما بالذات حيث يقول: «وأما تنظير ذلك»(3) ومقصوده من (ذلك) هو ما سبق من اتباع القطع أو الظنالناشئ من غير قول المعصوم8 أو فعله أو تقريره، فإن البعض أشكل على انحصار صدق الإطاعة والمعصية في موافقة الخطاب اللفظي ومخالفته، بل يعم اللفظي وغيره...والتعويل على هذه الطريقة - أي: الإطاعة نظرأ للملاك لا الخطاب - كالتعويل على الرؤيا,كلاهما لا دليل عليه.
فأجاب صاحب الفصول عن هذا الإشكال، بقبوله أن الرؤيا أو المنامات إن أفادت القطع فهي حجة.
وهنا موضع إشكالنا على صاحب الفصول؛ إذ نقول: كلا، بل حتى لو أفادت المنامات القطع فهي ليست بحجة، وقد وقع الخلط هنا بين ما بالعرض وما بالذات كما سيتضح بعد أن نكمل عبارة الفصول.
ص: 20
قال صاحب الفصول: «وأما تنظير ذلك بالرؤيا المقطوع بصحتها وصدقها فعدم(1) حجيتها» عدم حجية هذه الرؤيا «لعدم دليل عليها فاسدة»(2) أي: إن الرؤيا القطعية حجة(3) رغم أن صاحبالفصول يرى أن الرؤيا ليست بحجة؛ إذ قال في موضع آخر: «إنا كما نجد على الأحكام أمارات نقطع بعدم اعتبار الشارع إياها طريقاً إلى معرفة الأحكام مطلقاً، وإن أفاد الظن الفعلي بها، كالقياس والاستحسان والسيرة الظنية والرؤيا وظن وجود الدليل والقرعة»(4) .
إذن، بعد ضم كلامي صاحب الفصول بعضها للبعض يتضح أنه مفصِّل، وأنه يرى أنّ الرؤيا إن أفادت الظن فليست بحجة، وان أفادت القطع فهي حجة.
لكن الحق:أن المنامات وان أفادت القطع لكنها ليست بحجة؛ وذلك لأن الحجة هو القطع وليس المنام. نعم، ههنا علاقة مصححة للتجوز بوصف هذا بصفة ذاك، لكن الصدق والوصف ليس حقيقياً.
توضيح ذلك: إنه إذا قلنا: (الميزاب جارٍ) فإن ههنا مجازاً صححته علاقة الظرف والمظروف؛ إذ الجاري هو الماء الذي في الميزاب وليس الميزاب بنفسه،
ص: 21
وكذا لو قلنا: (زيد قائمٌ أبوه) فإن القائم هو الأب وليس زيداً،فالوصف بحال المتعلق لا بحال الموصوف.
والحاصل: أن المنام حتى لو أورث القطع فإنه ليس هو الحجة؛ بل القطع هو الحجة، فلا يصح القول: إن المنام هو حجة في أية صورة من الصور(1)، فهذا الذي نسلبه منه.
ومن الأدلة على ذلك أن النسبة بين المنام والقطع هي العموم والخصوص من وجه، فذاتيُّ أحدهما لا يكون ذاتياً للأخر بلا شك؛ إذ ذاتي أحد الأمرين الذين بينهما العموم والخصوص من وجه ليس ذاتياً للأخر، فمثلاً: ذاتي الإنسان هو النطق، والنسبة بين الإنسان والأبيض هي من وجه، فهل يصح القول: (بعض الأبيض إنسان) إذ النسبة من وجه ثم نقول: (وكل إنسان ناطق)(2) أو نقول: ذاتيُّه النطق ثم نثبت بذلك النطق للطائر الأبيض؟ لا يصح ذلك؛لأن النسبة من وجه(3).
إذن فالذاتي لشيء لا يكون ذاتياًلشيء آخر نسبته معه من وجه، والمقام من هذا القبيل؛ إذ بعض المنامات قطعية، فمادة الاجتماع هو المنام المورث للقطع، لكن لنا مادتا افتراق، فبعض المنامات لا تورث القطع وبعض ما يورث القطع ليس بمنام، كالضروريات والبديهيات والمتواترات وغيرها، فإذا كانت
ص: 22
حجية القطع ذاتية, تنزلاً إذ لا نرى أن القطع حجيته ذاتية(1)، فلنفرض أن القطع حجيته ذاتية(2) لكن ليس القطع عين المنام، فلا هو مرادف له مفهوماً، ولا هو مساوٍ له مصداقاً؛بل النسبة هي العموم والخصوص من وجه،فإذا أورث المنامُ القطعَ فالعبرة بالقطع؛ لأن حجيته ذاتية لا المنام، غاية الأمر أن العلاقة هي علاقة السببية والمسببية، فمصحح إطلاق الحجة على المنام تجوزاً هو علاقة السببية والمسببية، لكنه لا يزيد على كونه مجازاً، فليتدبر به.
ويتضح ذلك أكثر بملاحظة (الكهانة)، فهل يصح لصاحب الفصول وغيره أن يقول: إن الكهانة على قسمين: حجة وغير حجة؟كلا، رغم أنها تورث القطع أحياناً، فلو أورثت القطع فإن القطع هو الحجة، وأما الكهانة فهي سبب أو معدّ لوجود تلك الحجة بالذات.
وكذلك الرمل والإسطرلاب وقراءة الكف والفنجان والتنجيم وغير ذلك من هذه الأمور,فإن بينها وبين القطع عموماً من وجه، فما ثبت لأحدهما لا يثبت للآخر إلا مجازاً.
ولابد من أن نصوغ القضية بصورة قياس من الشكل الأول؛ ليتضح الحال فيها، ويتبين الخلط والاشتباه أكثر فأكثر، فإن القياس الذي يمكن أن يشكّله صاحب الفصول أو غيره هو من الشكل الأول، بأن يقال: الأحلام قد تورث القطع، والقطع حجيته ذاتية، فالأحلام حجيتها ذاتية.
ص: 23
وظاهر الأمر هو أن شروط القياس متوفرة، لكن واقع الأمر عدم توفرها؛ فإن شرط إنتاج الشكل الأول هو: كون الصغرى موجبة مع كلية الكبرى،وهذا هو المتوفر،لكن سائر الشروط غير متوفرة، من حيث إن الحد الأوسط لم يتكرر؛ إذ هناك شروط صورية في الشكل الأول ترتبط بالهيئة، وهناك شروط ترتبط بالمادة.
توضيحه: إن القياس هو إن الأحلام قدتورث القطع، فهذا هو المحمول في الصغرى، لكن الموضوع في الكبرى هو (القطع), والمفروض تكرر الحد الأوسط، لكنه لم يتكرر(1). نعم، لو كانت الأحلام قطعاً، والقطع حجيته ذاتية فالأحلام حجيتها ذاتية، لصح ما يقولون، لكن الأحلام ليست بقطع،مثل: الكهانة فإنها ليست بقطع(2)، وخبر الواحد ليس قطعاً،بل حتى المتواتر فإنه ليس قطعاً, بل هو موجب للقطع، إذن المشكلة هي عدم تكرر الحد الأوسط.
ولمزيد التوضيح نذكر هذا المثال اللطيف المعروف:فإنه عندما يقال: (في الجدران فئران(3)، وللفئران آذان) فهل يصح أن نقول: للجدران آذان؟ كلا،
ص: 24
مع أن إنتاج الشكل الأول بديهي؛ وذلك لأن الحد الأوسط لم يتكرر، إذ قلنا: (في الجدران فئران،وللفئران آذان) فالحد الأوسط - الفئران - لم يتكرر، ففي الصغرى قيل فئران (في الجدران فئران) وفي الكبرى قيل للفئران (للفئران آذان)(1) فلم يتكرر الحد الأوسط(2)،فإذا كان القياس هكذا فلا ينتج.
والحاصل: إنه حتى لو فرض أن المنامات أورثت القطع فليست بحجة، إنما الحجة أمر آخر تصادف أن تطابق معها في بعض الأحيان واسمه القطع(3)،أو غاية الأمر كانت هي المقتضي له.
وأما الثمرة فهي ثمرة علمية دقية، وأخرى عملية، أما العلمية: فهي كما سبق من أن الأحلام وإن أورثت القطع فإنها ليست هي الحجة، بل القطع هو الحجة, وأما الثمرة العملية فتظهر عند التفكيك بينهما - أي بين الأحلام والحجية - فإنه يظهرلنا بذلك وجه جديد لزلزلة وزحزحة قطع القاطع من الأحلام، إذ نقول له: إن الأحلام أمر، والقطع أمر آخر، والنسبة بينهما من وجه, ثم نقول له: هَبْ أن القطع حجيته ذاتية لكن من أين نشأ قطعك؟ فإذا
ص: 25
قال: من الأحلام, قلنا: إن الأحلام ليست لها حجية، لا عقلائياً ولا شرعياً - كما سيأتي إثباته لاحقاً - إذا عرف منشأ قطعه، وأنه ليس بحجة شرعاً ولا عقلاً زال قطعه، وهذا علاج ناجع في كثير من الأحيان.
والحاصل:إن الثمرة تظهر بالتفكيك فالتشكيك فالنفي(1).
الجواب الرابع(2): القطع الحاصل من الأحلام قطع متزلزل
إن القطع الناشئ من الأحلام هو من سنخ القطع المتزلزل، الذي لم يبتنِ على ركن وثيق، فلا يعتني به العقلاء أولاً, ولا يصمد عند المعارضة ثانياً؛ وذلك كما في الناظر إلى الخطين المتوازيين، فإنه يراهما في النهاية يلتقيان, وهذا من خطأ الباصرة كما هو واضح، لكن الإنسان الذي لم يسبقله أن أُلِفتَ إلى هذا، فإنه يكون - عادة - قاطعاً بأنهما يلتقيان بعد مسافة في مرمى البصر, لكن هذا القطع هو من سنخ القطع المتزلزل غير المبتني على أساس وثيق، في مقابل القطع المستقر المبتني على أساس وثيق، كالحاصل من البراهين.
ثم إن فائدة هذا البحث عامة، وليست منحصرة في بحث المنامات؛ إذ ينفع في مباحث اختلاف الأديان؛ إذ أليس المسيحي قاطعاً بآلهة ثلاثة؟
إن الكثير منهم قاطع بذلك! بل يرانا على جهل مركب، وأن مداركنا محدودة، فهل تنقطع حجتنا لو قال: إن حجية القطع ذاتية وأنه قاطع؟ وكذلك عابد البقر والوثن وما أشبه.. كلا، إذ الأجوبة سيالة في كل الحقول، وكذلك
ص: 26
الأمر في مبحث الكشف والشهود، فإن ذلك ينفعنا؛ لأن مَنْ كُشف له بتوهمه، فهل له أن يقول: الكشف حجة ذاتية لأنه أورث القطع والقطع حجيته ذاتية؟ كلا، إذ يقال له: لو فرض أن الكشف أورث القطع، فإن هذا القطع حجة وليس الكشف(1)، كما لو فرض أن طيران الغراب وجريانالميزاب أوجب القطع، فإن ذاك القطع على فرضه حجة، وليس جريان الميزاب ولا طيران الغراب.
والحاصل: إن القطع سنخان: سنخ هو القطع غير المستقر، وهو الذي لم يبتنِ على أساس وثيق كالأحلام والكهانة وما أشبه، فيشمله قوله تعالى: «فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ»(2) ولك أن تتصور شخصاً بنى بنياناً قوياً على أرض رملية، فإنه ممن لم يبنِ على أساس وثيق،وكذلك القاطع الذي كان مبنى قطعه هو الكهانة أو الشعر أو الخطابة، فهذا القطع وإن كان بظاهره قطعاً، لكن واقعه مبني على أساس غير وثيق، وكذلك الأحلام.
ولذلك كله نجد أنه لم تبتنِ حضارةٌ على الأحلام(3)، ولم يبتنِ دين على الأحلام، ولا ابتنى علم من العلوم على الأحلام،ولو فرض وجود حضارة بدوية(4) في قرية من قرى العصور الوسطى بنيت على الأحلام، فإن العقلاء
ص: 27
يرون هذا البنيان بنياناً غير وثيق، ويرون سنخهذا القطع سنخاً متزلزلاً لا يمكن الركون إليه، بل هو «كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ»(1).
وعليه، فلا يصح الاحتجاج بقطع الألوف من الناس الحاصل لهم من الأحلام،كما احتج البعض بأن الألوف من الناس شاهدوا في المنام كذا وقد قطعوا به؛ إذ نقول بناءً على ما تقدم: إن القطع على سنخين: سنخ مستقر وآخر غير مستقر، وإن الأحلام من السنخ غير المستقر، الذي لم يبتنِ على أساس وثيق، عقلي أو شرعي أو عقلائي، فكيف يصح الاحتجاج بقطع الألوف من الناس، الذي ابتنى على الأحلام، وإنهم منه قاطعون؟ فليكونوا قاطعين! فإننا إذا وجدنا الألوف من الجهلة بالطب قد قطعوا بأمر طبي، فهل يصلح ذلك حجة؟ وكذلك إذا وجدنا الألوف من الجهلة قد قطعوا من الأحلام أو نظائرها بأن النظرية النسبية باطلة أو صحيحة، فإن قطعهم لا قيمة له، فإنه في منطق العقلاء لا يعتنى بهذا القطع غير المبتني على الأسسالعلمية.
وبتعبير آخر: هل قطع الألوف حجة على غيرهم؟ الجواب كلا,إذ غاية الآمر أن الإجماع حجة لو حصل, لا قطع الألوف أو مئات الألوف فرضاً.
وبعبارة أخرى: إن التخريج الوحيد هو أن الإجماع حجة، والإجماع يعني إجماع عامة العلماء أو المؤمنين بمختلف ألوانهم من علماء وغيرهم، أما
ص: 28
إجماع الألوف من الناس من أي دين ومذهب كانوا على خلاف أغلب العلماء، بل على خلاف ما قارب إجماع العلماء فإنه ليس إلا تسمية للشيء باسم ضده!(1).
القطع المتزلزل يَسقُط بمعارضة المستقر له(2):
سبق أن القطع على سنخين: قطع متزلزل مبني على أساس غير وثيق، وقطع مستقر مبني على أساس وثيق عقلي، أو علمي، أو شرعي على سبيل الاجتماع أو البدل(3).
ومن مصاديق سنخ القطع غير المستقر: التقليد الأعمى والاتباعللآباء والأحلام والفنجان وشبهها، فإن هذه لا قيمة لها عند العقلاء أولاً، وثانياً فإنه لو فرض أن لها قيمة عند العقلاء - تنزلاً - فإنها ساقطة مطروحة لمعارضتها بالأقوى.
وتوضيح ذلك: إن القطع حقيقة تشكيكية ذات درجات وذات مراتب، فلو عورض بقطع أقوى زال وجداناً في غالب الأحيان,ولو فرضنا أنه لم يتزحزح ولم ينعدم فإنه يسقط عن الحجية(4) عندئذٍ، ككل حجة عورضت بحجة أقوى، فإنها تسقط بمعارضة الحجة الأقوى لها؛ وذلك كخبر الثقة
ص: 29
المعارض بخبر الثقات على الخلاف، أو المعارض بخبر ثقة أكثر ضابطية منه.
والقطع الحاصل من الأحلام أسوأ مما مثلنا به، فإنه من قبيل قطع العامي الصّرف فيما يحتاج إلى خبروية، كقطعه في أمر طبي من غير استناد إلى تحليل علمي فإن هذا القطع لو فرض أنه حجة، فإنه لو عورض بقطع خبير كطبيب متخصص، فإنه لا شك عند العقلاء بأن هذا القطع هو الراجح، وذاك هو المرجوح، وأن التمسك بالمرجوح قبيح مع وجود الراجح، فكذلك القطع الحاصلمن الأحلام، فإن هذه الأنواع من القطع التي تُدّعى معارَضة بقطع كافة العلماء من أهل الخبرة والاختصاص، سواءً في حقل العقيدة أم الشريعة وما أشبه، ولا شك أنه عند المعارضة تسقط هذه عن الحجية في قبال تلك.
الجواب الخامس(1): اختلاط الحجة باللاحجة
إنه نظراً لكثرة الدعاوى الكاذبة في الرؤيا، أو في حصول القطع بها يحصل الاختلاط بين الحجة واللاحجة.
ويتضح ذلك بأن نذكر القياس الذي يمكن أن يشكل استدلالاً لهم، ثم نذكر وجه الإشكال الخامس، فإن القياس هكذا كان: الأحلام قد تورث القطع، والقطع حجيته ذاتيةٌ، فالأحلام عندئذٍ حجة ذاتاً.
وفي الإشكال الخامس سنناقش الصغرى في القياس، وهي: (الأحلام قد تورث القطع) بإشكالين صغرويين وجدانيين:
ص: 30
لا شك في أن كثيراً ممن يدعون أنهم رأوا الأحلام كاذبون، وإن كان بعضهم صادقاً, فإن الكثير ممن يدعي الرؤيةللأحلام هو ممن يجر النار إلى قرصه، وممن يكون في دائرة التهمة، بل حتى مَنْ لا يكون في دائرة التهمة فلا شك أن كثيراً منهم كاذبون في دعواهم أنهم رأوا كذا وكذا في المنام.
لا شك في أن كثيراً ممن يدعون الرؤيا والأحلام، ويدعون القطع منها هم كاذبون في دعوى القطع، وإن كانوا صادقين في دعوى الرؤيا، لكن هل هو قاطع بمؤدى المنام وأن تفسيره هو هذا؟ إن الكثير منهم كاذب.
والحاصل: إن الكذب تارة يكون في أصل ادعائه أنه رأى، وتارة يكون كاذباً في دعواه حصول القطع له من رؤياه بتفسيرها ومعناها، فإن تفسير الأحلام يحتاج إلى خبرة، بل حتى أهل الخبرة حقاً نجدهم عادة غير قاطعين بالتعبير، بل إن يظنون إلا ظناً.
إذن، فهاتان الصغريان كلتاهما مبتلاة بكذب الكثيرين من يدعي الرؤيا وحصولها له، ومن يدعي حصول القطع لديه من الرؤيا.
ويترتب على ذلك أنه لا حجية لدعاوى الرؤيا أو لدعاوى القطع بها،نظراً لاختلاط الحجة باللاحجة(1)؛إذ لا نعلم ما هو الحجة، وما هو غير الحجة، وذلك كخبرين أحدهما لثقة والآخر لفاسق، لكن لا نعلم أن هذا الخبر المكتوب ههنا صَدَرَ من الفاسق أو من الثقة، فلا حجية له.
ص: 31
ويتضح ذلك أكثر بملاحظة باب القضاء وعالم السياسة، فإنه لا شك في باب القضاء بأن الكثير من الناس يكذبون كي يجروا النار إلى قرصهم وما أكثرهم، بل قد يتعاضد الكَذَبة على أن هذا سارق أو ليس بسارق، خلافاً للواقع، لمصالح قبلية أو حزبية أو عائلية أو اقتصادية أو غيرها؛ إذ يدفعهم الحرص على مصلحة القبيلة أو الحزب لشهادة الزور.
وكذلك ما أكثر الكذب في عالم السياسة، مع أن السياسي عندما يتكلم فإنه يتكلم بضرس قاطع، دون أن يبدي أي شك وشبهة، وهكذا الأمر في سائر الحقول, فليس الكذب إذن نادراً أو قليلاً، بل ما أكثره في مختلف الحقول.
والأمر في الشرائع كذلك، فما أكثر الكاذبين في دعاواهم سماع الروايات التي ينسبونها إلى رسول الله(صلی الله علیه و آله) كأبي هريرة وغيره، فإنهم يروون الروايةبضرس قاطع، ومع ذلك نجد أن الكثير من الناس يصدقهم.
إذا اتضح ذلك نقول:إن وجود العلم الإجمالي ب:
أ: كذب الكثيرين ممن يدعون الرؤيا في شؤون العقيدة أو الشريعة، أو شؤون الأحكام الشرعية أو ما أشبه، وإن لم نعلم أن هذا بالذات كاذب في دعواه الرؤيا.
ب: ووجود العلم الإجمالي بأن الكثيرين ممن رأوا، فإن دعواهم القطع إثر ذلك كاذبة؛ إذ إنه ليس بقاطع، وإنما هو ظان فقط، لكنه لكي يؤكد كلامه يقول أنا قاطع؛ إذ إنني رأيت في الرؤيا كذا، ومفادها كذا، مع أنه لم يظن إلا ظناً. قال تعالى: «إِنْ نَظُنُّ إِلاَ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ»(1). وقال تعالى: «وَمَا
ص: 32
لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَ يَظُنُّونَ »(1).
أقول: إنَّ هذا العلم الإجمالي(2) يُسقِط الرؤيا عن الحجية حتى على فرض حجيتها اقتضاءً، فكيف لو لم تكن حجة اقتضاءً، كما سيأتي بيانه لاحقاً.ويدل على ذلك قوله تعالى: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً»(3)، فإنه كثيراً ما يكون الشخص قاطعاً بالحق(4) لكنه يجحده، بل يُظهر نفسه بمظهر القاطع بالخلاف، لكن الواقع هو أن المال حرّكه، أو الشهرة غرته، أو حب الرياسة أو الشيطان حاد به عن الجادة، فجحد ما استيقنته نفسه، قال تعالى: «فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ * فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً(5)
قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً»(6).
إذن نقول: هناك إشكالان، فلا يعلم - على أقل الفروض - أن هذا صادق في دعواه أنه رأى، ثم لو فرض أنه رأى شيئاً فلا يعلم أنه صادق في دعواه القطع، وإنما هي محاولة لإثبات معتقده بأية طريقة.
ص: 33
ويتفرع على ذلك أنه حيث ظهر أن الرؤيا مبتلاة - كغيرها - بكثرة الكذبة والدجالين، وأن العلم الإجمالي بالخلاف موجود، فإن الطريق لمعرفة الحق سيكون هو الفحص كأمر عقلائي، فعلينا أن نفحص في مدى صدق هذه الدعوى لو كانت حجة فرضاً, وإنه كاذب في دعواه أنه رأى، ثم في دعواه حصول القطع له منها(1)،أو لا؟
لكن قد يسأل كيف نفحص؟ إذ إنه يدعي أمراً وجدانياً، وأنه رأى كذا وأنه قاطع؟
والجواب: هو أن طريق الفحص هو مما تعرّض له العقلاء والشارع، وهو (المقاييس الموضوعية) فإنها التي يرجع إليها لتمييز الكاذب من الصادق، والمقاييس متعددة نشير هنا إلى أحدها، وهو: العرض على الكتاب والسنة، فإنهما المرجع والحجة المرجعية، وهما المرجع حتى في الحجة العقلائية كخبر الثقة، فكيف بغير العقلائية كالأحلام؟
توضيحه: إن خبر الثقة حجة بلا كلام، لكن لوجود العلم الإجمالي بكثرة الكَذَبَة على رسول الله(صلی الله علیه و آله) فلابد من عرض الخبر على الكتاب والسنة، وقد قالرسول الله(صلی الله علیه و آله) في حجة الوداع(2): «كثرت عليّ الكِذابة» أو (الكذّابة) وكلاهما صحيح، فالكِذابة مصدر مثل لزاماً في قوله تعالى: «فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً»(3) والتاء للمبالغة، أي: كثر علي الكَذِب، ويمكن أن تقرأ الكذّابة،
ص: 34
أي: الكذابون (وستكثر) في المستقبل،وكلام الرسول(صلی الله علیه و آله) أعم من الكذب بدعوى سماع كلام منه(صلی الله علیه و آله) في اليقظة أو في المنام، أي: دعوى رؤية الرسول(صلی الله علیه و آله) في المنام، وأنه قال له: اتبع فلاناً أو لا تتبعه مثلاً: «فمن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» إذن ما الحل وما هو المرجع والمقياس؟
المقياس هو: «فإذا أتاكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله وسنتي، فما وافق كتاب الله وسنتي فخذوا به، وما خالف كتاب الله وسنتي فلا تأخذوا به»(1).
ثم إن المقاييس متعددة، ففي كلعلم توجد مقاييس ومرجعيات لتمييز الغث من السمين، والرطب من اليابس، والحق من الباطل،وحول الرؤيا بالذات سنذكر مجموعة من المقاييس بإذن الله تعالى في ختام البحث عند التطرق للروايات.
والحاصل: إن الرؤيا لو كانت حجة فلها ضوابط، والظاهر أن الأعم الأغلب، بل شبه المستغرق من هؤلاء الذين يدعون الرؤيا في الشؤون العقدية أو الشرعية لا يعرفون هذه الضوابط، لا على حسب الروايات ولا على حسب العلم الحديث، كعلم النفس وعلم وظائف الأعضاء وغيرهما، وكما توجد مقاييس في كل علم في الطب والفلسفة والأصول، كذلك الأحلام كعلم - على فرضه - له مقاييس فما هي؟ وهذا بحث سيأتي تفصيله لاحقاً، وإن للأحلام مقاييس وضوابط داخلية وخارجية، وإن أحدى المقاييس الخارجية: العرض
ص: 35
على الكتاب والسنة.
ثم إن فائدة هذا البحث لا تقتصر على بحث المنامات، بل البحث سيال؛إذ يجري في الكشف والشهود أيضاً, فمثلاً: المدعي للكشف - كابن عربي - لا بد أن يُفحص ويُحقّق عن أنه هل رأى كشفاً أمراً أم لا؟ هذا أولاً، ثم يفحص في مدى صحة تفسيره لكشفه، وهل هو كاذب في دعوى الكشف والشهود أو الرؤيا، وفي القطعالحاصل له منه؟ فلا بد من الفحص والرجوع في ذلك للضوابط العامة العقلائية والشرعية.
والبحث سيال في سائر العلوم، فكل من يدعي القطع, من سياسي أو اقتصادي وغيرهما, بأن هذا الحل لهذه المشكلة هو كذا بالقطع والجزم والدراسات العلمية! فلا بد من الفحص والتثبت من أنه ليست هناك عوامل خارجية أخرى، غير التشخيص الحقيقي، دفعته لإظهار هذا الرأي، أو لاتخاذ هذا الموقف، فلابد من الرجوع للضوابط والمقاييس.
وسيأتي في بحث الروايات أنه بالاستقراء لكل الآيات الكريمة(1) والكثير من الروايات الشريفة نجد أنها خاصة برؤى الأنبياء، كرؤيا يوسف ورؤيا النبي (صلى الله عليه وآله وعلى جميع الأنبياء والمرسلين الصلاة والسلام) «وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ»(2) على كلام في هذه الآية وما هو المقصود منها, وكذلك «إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ»(3) فمنامات الأنبياء هي الحجة أولاً،
ص: 36
وتفسير الأنبياء للمنامات هيالحجة ثانياً،أما غيرها فهي مورد الكلام، كرؤيا غير النبي وكان معّبرُها غير النبي.
وأما خبر العادل فإنه في الحسيات يؤخذ به، وكلامنا في الحدسيات، فإن تعبير الرؤيا حدسي لا حسي، فهذا يحتاج إلى أهل خبرة كامل محيط بعلم التعبير، وليس إلا الأنبياء؛ وذلك لأن للرؤيا ضوابطها، لكنها ليست بأيدينا، فهي كعلم التنجيم، فإنه كان علماً حقيقياً موجوداً بضوابطه وحدوده عند الأنبياء والأوصياء، لكن الضوابط غير موجودة بأيدينا، فلذا قد يخطئ المنجم وقد يصيب،والمنامات كذلك؛ لأن الضوابط فُقد بعضها وتشابه المراد ببعضها الآخر، واختلط بعضها بغيره لحكمة من الله سيأتي بحثها لاحقاً(1).
الجواب السادس(2): عدم حجية القطع عبر تحليل معاني الحجية الثلاثة
يتضمن هذا الجواب مناقشة الكبرى وهي: إن (القطع حجيته ذاتية), ويتوقف تحقيقه على بيان المراد من الحجية، فإن المعاني المحتملة للحجية متعددة:
الأول: الكاشفية،فيكون المراد من دعوى أن القطع حجيته ذاتية أي: كاشفيته ذاتية، والذاتي لا يختلف ولا يتخلّف(3) ولا يُعلّل، وهو غير قابل
ص: 37
للجعل(1) وغير قابل للرفع.
الثاني: إن منجزيته أو معذريته ذاتية، وسوف نطبقها على الأحلام والكشف والشهود وغيرها لنرى أي معنى هو المراد وأيها هو الصحيح؟
الثالث:إن المراد بالحجية لزوم الإتباع، وإنه ذاتي للقطع.
توضيح ذلك: إن الحجية تارة يراد بها المنجزية والمعذرية، كما هو رأي الاخوند(2)، وتارة يراد بها الكاشفية أو الانكشاف(3) كما هو رأي جملة منالأعلام(4)، وتارة يراد بها لزوم الإتباع، وهناك معانٍ أخرى فصلنا البحث فيها في كتاب (الحجة معانيها ومصاديقها)، فلنتوقف عند كل معنى، لنرَ هل الحجية بذلك المعنى ذاتية للقطع أم لا؟
أما المعنى الأول للحجية وهو المنجزية والمعذرية، فإن الحق هو أن المنجزية والمعذرية ليست ذاتية للقطع؛ لأن القطع أعم من الجهل المركب، والذاتي لا يختلف ولا يتخلف، فإذا وجدنا تخلفه فسنعرف بالبرهان الإني بأنه ليس ذاتياً له(5).
ص: 38
توضيح ذلك: إن القطع يشمل فردين:
أحدهما:القطع المطابق للواقع، أي: المصيب، وهو المسمى في لسان الروايات والآيات بالعلم، بل وهو المتبادر إلى الأذهان العرفية من العلم.
ثانيهما:القطع غير المطابق للواقع، أي: الجهل المركب؛وما أكثرالجاهلين القاطعين على خلاف الواقع؟ فنسأل: هل القطع غير المطابق للواقع منجز أو معذر؟ والجواب كلا، فلا هو منجز ولا هو معذر حتى لو كان قاصراً، وإذا لم يكن هذا النوع - القطع المخالف للواقع - منجزاً ولا معذراً، استحال أن تكون المنجزية والمعذرية ذاتية لجنسه، وهو مطلق القطع الأعم من المطابق والمخالف، فتدبر جيداً.
أما أنه - أي: القطع غير المطابق للواقع - ليس بمنجز فواضح؛ لأن المنجز يعني ما يوجب استحقاق العقاب على مخالفته؛ لكون مخالفته مخالفة للحكم الواقعي، وذلك منحصر بصورة الإصابة إذا خالف, والفرض أن الكلام في الجهل المركب،أي: القطع غير المصيب، فالقطع غير المصيب ليس بمنجز وإلا كان خلفاً، لأنا افترضا أن موضوع البحث هو القطع غير المصيب، أي: غير المطابق للواقع، فوصفه بالمنجز يعني افتراض أنه مصيب، هذا خلف.
لكن النكتة الدقيقة هي في بيان وجه أن القطع ليس بمعذر أيضاً، ولعل الكثير يعتبر كونه معذراً بديهياً، ولكن سنثبت - بإذن الله - خلاف ذلك، وأن القطع المخالف للواقع - أي: الجهل المركب - ليس بمعذر؛ وإنما المعذر لدى القطع بالخلاف هو أمر آخر، وهوالجهل الموجود في ضمنه، فهو المعذر لو كان قاصراً، أما لو كان مقصراً فليس بمعذور، وليس قطعه معذراً كما هو واضح، لكن لنتوقف عند أفضل الصور، وهي: كونه جاهلاً غير مقصر في المقدمات،
ص: 39
فإن القطع بالخلاف عندئذٍ أيضاً ليس معذراً، بل الجهل الكامن فيه هو المعذر.
توضيح ذلك:إن القطع بالخلاف يتركب من أمرين: الأول: هو الجهل بالواقع ثبوتاً، والثاني: هو القطع بالخلاف إثباتاً، والذي يعذر العبد عند المولى هو جهله بالواقع قصوراً، سواء أضيف إليه قطعه بالخلاف أم لم يضف، فذاك كالحجر بجنب الإنسان،أي: إنه سواء أضيف القطع بالخلاف للجهل بالواقع أم لم يُضف، فإنك معذور لو كنت جاهلاً قاصراً في المقدمات، كما أنك لست بمعذور لو كنت مقصراً، سواءٌ أكان جهلك جهلاً بسيطاً فإنك معاقب عندئذ(1)،أم كان جهلك جهلاً مركباً فإنك معاقب أيضاً، إذن القطع أجنبي عن الإعذار؛ إنما سبب الإعذار الذي يدور مداره العذر والإعذار وجوداً وعدماً،أي: العلة التامة له هو الجهل القصوري.والحاصل: إن المنجزية بالنسبة للقطع في ضمن أحد فرديه - أي: في ضمن الجهل المركب - ليست بذاتية ولا عرضية، وأما المعذرية فإنها أجنبية عن القطع، والجزم إنما الملاك سلباً وإيجاباً هو الجهل القصوري بذاته، سواء أضيف له الجزم والبت بالخلاف أم لا.
فإذا اتضح ذلك يتضح أن المعذرية والمنجزية ليست ذاتية للقطع الأعم من الفردين؛ إذ قد انفكت عن أحدهما، فلا يعقل أن تكون ذاتية للجنس، بل هي ذاتية لأحد نوعيه، وهو العلم الخارج عن محل الكلام (2).
ص: 40
وهذا هو الشق الأول من الجواب على تقدير إرادة المنجزية والمعذرية من الحجية، وهذا بحث سيال وهام جداً، لأن المركوز في أذهان الطلبة، بل حتى بعض الأصوليين أن القطع لا يمكن النيل من مقامه الشامخ! لكن البرهان يسوقنا إلى أن القطع بما هو لا قيمة له بالمرة، ولا يسوى شيئاً! إنما كلالقيمة للعلم(1)،أما القطع الأعم من العلم ومن الجهل المركب, بما هو قطع وبما هو جزم فلا محورية له لا في التنجيز ولا في الإعذار، فليتأمل جيداً.
وقد نسلم بذلك، لكنه معذِّر في صورة القصور لا التقصير، فنقول تنزلاً: إنه لو فرض أن القطع بالخلاف معذر بما هو هو، ولأنه قطع كما هو المتداول في الأذهان وبعض الكتب، فإنه حتى لو سلمنا ذلك،لكن نقول: إنما يكون معذراً لو لم يقصر في المقدمات، أما إذا كان مقصراً فليس بمعذور، والأمر واضح إذا طرحت القضية بنحو القضية الحقيقية، بل نقول: إن الأمر كذلك في القضية الخارجية، ونقصد بها في المقام:توجيه الخطاب للطرف الآخر في أحد الأزمنة الثلاثة(2)،أي: إننا لا نفقد الحجة لو قال الطرف الآخر: إنني قاطع من الأحلام أو من الكشف والشهود، أي: لا تنقطع حجتنا معه؛ إذ لنا
ص: 41
أن نقول له: القطع - كقضية حقيقية - على قسمين،فأنت(1) إن لم تكن مقصراً في المقدمات فمعذور، وإن كنت مقصراً فلست بمعذور، فمن أين يثبت أنك غير مقصر في المقدمات، وفي البحث عن الحقيقة وفي فحص الأدلة المضادة؟ فلا بد أن تثبت لنا أنك غير مقصر في المقدمات، ليكون ذلك مدخلاً إلى بحث موضوعي عن المقدمات التي أدت إلى قطعه، وكثيراً ما يجدي هذا الأسلوب في إزالة قطعه تكويناً، فتأمل.
ثم إن المدار المدار ليس على الجزم، بل الإصابة، والإصابة لا يتكفل بها القطع؛ لأن النسبة العموم من وجه، فلابد من مرجع آخر.
وهناك جواب فني علمي، وهو: إن القاطع لا يجديه ولا ينفعه أن يقال إنه معذور، بل إنه لا يقبل ذلك ويرفضه؛ لأنه يدعي أنه مصيب وأن قطعه مطابق للواقع، فإن أولئك الذين كانوا يعتقدون بهيئة بطليموس في الأفلاك، وإنها كقشور البصل في العهود السابقة، كانوا كلهم قاطعين، ولم يعتبروا قطعهم معذراً، بل كانوا يعتبرونه منجزاً، وهنا نناقش هذاالقاطع نقاشاً دقيقاً(2) ونقول له: كونك جازماً هو مما تحيط به خبراً لأنها حالة وجدانية، مثل شجاعة الإنسان أو جبنه، فإن الإنسان يعرف ذلك من نفسه في كثير من الأحيان، فكونك جازماً هو مما أحطت به خبراً، ولا يمكننا التوغل في داخلك في ما لا يُعرف إلا من قبلك، لكنك تدعي أن هذا علم فمن أين ذلك ؟ أي: تدعي أن الجزم متمصدق في عنوان العلم وليس في الجهل المركب، فنسألك:
ص: 42
أليس العلم هو الصورة الحاصلة في الذهن مطابقةً للواقع؟ أي: إن العلم ليس مجرد الصورة الذهنية، بل أخذ في قوام مفهومه مطابقتها للواقع، فهناك أمر آخر يتقوم به العلم إضافة إلى الجزم، أي: إن العلم هو جزم وإصابة، وأما جزمك فوجداني، ولكن من أين تثبت الإصابة؟ فالإصابة ليست مما لا يعلم إلا من قبلك، فقولك: (هذا جزم مطابق للواقع مصيب) يحتاج إلى إثبات،فإذا قال مثلاً: رؤياي مطابقة للواقع، يقال له: سلمنا أنك رأيت، وسلمنا أنك جازم بالمفاد أيضاً لكن من أين تثبت الإصابة؟ فإن الإصابة أمرمنتزع من مطابقة الصورة الذهنية للواقع الخارجي، فهذه المطابقة متقومة بالطرفين, والواقع الخارجي ليس في حيطة وجوده ولا الإصابة لتقومها بطرفين أحدهما خارج وجوده، إذن لا بد له من الدليل، وليس قطعك هو الدليل بأية صورة من الصور حتى لك؛ إذ نسبة القطع مع المطابقة للواقع هي العموم والخصوص من وجه.
وهنا يستقل العقل بلزوم وجود ضوابط مرجعية تثبت بها المطابقة فنرجع إليها، وعليه فإن القطع لم يكن مما يحتج به بالمرة(1),وليست حجيته بمعنى كاشفيته عن الواقع ذاتية أو لازمة له بالمرة.
وصفوة القول: إن مَنْ يقول: القطع حجيته ذاتية يقال له: القطع ليست حجيته ذاتية، بل ولا حتى عرضية، بل هو أجنبي عن الحجية، بمعنى المنجزية والمعذرية، بالمرة.(2)
ص: 43
المعنى الثاني(1): الكاشفية (2)
المعنى الثاني للحجية: هو الكاشفية، فعندما نقول: القطع حجة قد يراد أنه كاشف.
وقد اتضح في مطاوي الكلام عدم صحة هذه الدعوى، أي: عدم صحة وصف مطلق القطع الجزمي بالكاشفية،بل إن أحد نوعيه - و هو العلم - هو الكاشف عن الواقع، أما القطع بقول مطلق فليس بكاشف، غاية الأمر أنه متوهم الكاشفية؛ وذلك لوضوح أن النسبة بين القطع وبين الكاشفية هي العموم والخصوص من وجه(3)؛ إذ قد تكون كاشفية ولا قطع، ككثير من أخبار الآحاد المطابقة للواقع ثبوتاً من غير أن تورث القطع، وقد يكون قطع ولا كاشفية، مثل القاطع بأن الله جسم، فإنه ليس كاشفاً عن الواقع؛ إذ هو على خلاف الواقع، وكذا القاطع أن الآلهة ثلاثة، أو القاطع بعدم الخرق والالتيام، كما قطعوا في الفلسفة السابقةوالطبيعيات السابقة(4)، حيث كانوا(5) قاطعين أن
ص: 44
الأفلاك كقشور البصل، فلا يمكن خرقها ثم التيامها،وعلى ذلك بنى الكثير من الفلاسفة بعض أركان فلسفتهم(1)، حيث بنوا قاعدة العقول العشرة على قاعدة الأفلاك التسعة(2)، فإن العلم الفلكي القديم كان يرى أن الأفلاك تسعة، فأصبحت هذه القضية القاعدة لنظرية فلسفية اعتبروها برهانية، ثم عندما تزلزل الأساس تزلزل المؤسس عليه، كما قالوا: إن الواحد لا يصدر منه إلا الواحد(3)، وعندما سُألوا: كيف صدرت هذه الكثرات من الله؟ فلسفوها بالأفلاك التسعة، وأن الله قد صدر منه العقل الأول فقط، ثم إن العقل الأول صدر منه العقل الثاني والفلك الأول وهكذا.
وهنا يقال لهم: الواحد - وهوالعقل الأول - كيف صدر منه اثنان؟ فأجابوا بجواب مضحك: وهو أن العقل الأول(4) له جهتان: فبجهة تعقله لذاته يصدر منه الفلك الأول، وبجهة تعقله لخالقه يصدر منه العقل الثاني، وهذا يعني أنهم جعلوا الجهات الاعتبارية منشئاً لوجود حقيقي، ولو قالوا:هي جهتان حقيقيتان! قلنا:كيف صدر الكثير من الواحد!، بل لنا أن نجري على منوال كلامهم فنقول: فكذلك لله تعالى أن يتعقل تعقلين فيصدر منه شيئان!!
والحاصل: إنهم بنوا نظريتهم على الأفلاك التسعة،ولأن الأفلاك تسعة
ص: 45
وقفوا عند العقول العشرة فلسفياً! اللهم إلا البعض(1)، إذ تفطن لهذا المحذور فذهب إلى أن العقول كثيرة(2) وليست عشرة، ومع ذلك يبقى عليهم جوهر الإشكال، وهو بطلان تعليل صدور الكثرات عن الواحد بما ذكروه من تعدد الجهات، وبطلان المبنى الفلكي لذلك, لكن ليس ههنا موضع مناقشتهم حول ذلك ونظائره أخذاً ورداً، بلنقتصر على محل الشاهد في مبحثنا، وهو أنه قد يوجد قطع ولا توجد كاشفية.
وكذلك فإن الكثير من العامة كثيراً ما يحصل لهم القطع من القياس، وهلم جرا.
وكذلك الحال في الكثير ممن يرى الأحلام، أو ممن تحصل له المكاشفة حسب ادعائه، فإنه قد يحصل له القطع بالفعل، ولكن هل يصح له أن يحتج علينا(3) بأنني قد حصل لي القطع، والقطع حجيته ذاتية؟
والجواب:كلا، وذلك لأن الحجية بمعنى الكاشفية ليست ذاتية للقطع بالبداهة، لانفكاكها في كثير من الصور - إذ النسبة هي العموم من وجه أو العموم المطلق - فكيف يعقل القول بذاتية الحجية بمعنى الكاشفية للقطع؟
وبعبارة أخرى(4):لابد لنا - لكي تتضح حقيقة الحال - من التوقف عند الكبرى، وعند كلمة الحجية الواردة فيها، كحد أوسط في القياس(5)، فنقول
ص: 46
للقاطع: ما هو معنى حجة؟ ثم ما هو معنى حجيته ذاتية، بيّن لنا؟ وله أن يختار أحد الاحتمالات أو الأقوال التالية:
الاحتمال الأول: أن يكون المراد من الحجية: المنجزية والمعذرية،أي: إن المنجزية والمعذرية ذاتية للقطع, وقد أجبنا عن هذا في البحث السابق.
الاحتمال الثاني: أن يقول(1): إن القطع حجيته ذاتية، أي: إن كاشفيته ذاتية، أي: إنه يتكلم عن أمر تكويني، على عكس من يقول(2): إن حجيته ذاتية تعني أن منجزيته ومعذريته ذاتية، فإنه يتكلم عن مسألة كلامية ترتبط بشؤون الآخرة؛إذ إن معنى منجز أنه موجبٌ لاستحقاق العقاب، ومعذر يعني أنه يعطي العذر للعبد في مقابل مولاه، فهو معذور فلا يعاقب، لكن الوجه الثاني يتكلم عن حقيقة تكوينية، فإنه وإن لم يعتقد بالآخرة فرضاً أو قطع النظر عن العقاب واستحقاقه، فإنه يقول: إن القطع حجيته - أي: كاشفيته عن الواقع - هيكذا، فهو يتكلم عن مسألة من علم الطبيعيات(3)، ومن الظواهر التكوينية الخارجية، وذلك كزوجية الأربعة لها؛ إذ لا تنفك عنها، فنقول: سبق أن النسبة بين القطع وبين الكاشفية هي العموم والخصوص من وجه، فقد يكون قطعٌ ولا تكون كاشفية عن الواقع، كما في الجهل المركب، فإنه لو قطع الآن أنه ليل، وكان الواقع أنه النهار، فهل هذا كاشف عن الواقع، أو هو متوهم الكاشفية عن الواقع؟
ص: 47
لا ريب أنه غير كاشف، وإلا للزم التناقض في نفس الواقع، فقطعه ليس كاشفاً عن الواقع، بل هو كاشف عن جهله بالواقع، فالقطع قد يكون ولا تكون كاشفية؛ إذ لا واقع مطابَق له.
وقد تكون كاشفية ولا قطع، كما في خبر الواحد الظني المصيب في كثير من الأحيان، بأن حصل للسامع ظن من الخبر، لكنه في علم الله كان مطابقاً للواقع، فهو ظن له الكاشفية، أي: لا قطع، لكن الكاشفية موجودة، والكشف كشف تام في واقعه، وإن تصور أنه كشف ناقص، وقد يجتمعان كما في العلم، فإنه قطع مطابق للواقع، وهذا واضح.
وما كانت النسبة بينهما العموممن وجه فليس أحدهما ذاتياً للأخر؛ لأن الذاتي لا يتخلف، كالنسبة بين الزوجية والأربعة، فلا يعقل أن تكون من وجه، بل كلما كانت الأربعة لزمتها الزوجية؛ لأنها تنتزع من حاق ذاتها، فالذاتي لا يختلف ولا يتخلف.
ويمكن أن نشكل لهذا القائل قياساً يتضح به وجه الإشكال عليه، فالقاطع من القياس أو الأحلام أو الكشف والشهود، أو ما ظاهره البرهان لكن واقعه كان مغالطة وسفسطة، قد يقول: إني قاطع، وكل قاطع فقطعه كاشف عن الواقع.
وهنا نتوقف ونقول: هذه الكبرى الكلية باطلة، أي: كل قاطع فقطعه كاشف عن الواقع، ليس كذلك، وإنما الموجبة الجزئية صحيحة، أي: بعض القاطعين قطعهم كاشف عن الواقع، وهذا صحيح، فإن بعض القاطعين قطعهم مصيب وكاشف عن الواقع.
وعليه، فإذا جعلها قضية جزئية فإن الشكل الأول لا ينتج؛ لأن شرط
ص: 48
إنتاجه موجبة الصغرى وكلية الكبرى.
وإذا جعلها كلية فهي باطلة؛ إذ ليس كل قاطع فإن قطعه مطابق للواقع ومصيب وكاشف، والحاصل: أنه لا يستطيع القول: إني قاطع وحيث إني قاطع فقطعي كاشف عن الواقع، بل ليقل:قطعي محتمل الكاشفية عن الواقع(1)، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، فأية حجية لهذا الاحتمال؛ إذ يحتمل أن لا يكون كاشفاً، فلِمَ تمسكت بهذا الطرف دون ذلك الطرف؟
لكن السيد الوالد6 في الأصول ذكر رأي المشهور ودافع عنه، لكن بتخريج خاص به، وسنناقش تخريجه ورأي المشهور بظاهره معاً، قال: «ليس القطع كاشفاً إلا في مورد الإصابة»(2) وهذا صحيح، بل هو بديهي، فإذا أصاب فهو كاشف وإلا فهو جهل مركب وليس كاشفاً، بل هو عين الخطأ: ثم قال:«وأما في غيره» في غير مورد الإصابة «فهو جهل مركب» وهذا صحيح، إلا أن تخريجه «فقولهم إن الكشف ذاتي له» للقطع «يراد به في نظره» وهذا هو التخريج وقد ذكره البعض دفاعاً عن المشهور، حيث رأوا خطأ كلامهم بالوجدان والبداهة؛ إذ الكشف ليس ذاتياً للقطع؛ لأن النسبة من وجه كما تقدممن أنه قد يتخلف، بأن يوجد قطع ولا كشف؛ إذ لا إصابة ولا مطابقة، لذا فإن السيد الوالد يخرِّج كلامهم بنقل البحث من عالم الثبوت إلى عالم
ص: 49
الإثبات، حيث قال:«فقولهم إن الكشف ذاتي له يراد به في نظره» أي: في نظر القاطع، فإنه يراه ذاتياً وكاشفاً.
وهنا نقول: لو قبلنا هذا التخريج فرضاً، وأنه هو مقصودهم - رغم إنه خلاف الظاهر(1) - فإنه يرد عليه: أن النظر لا يغير من الواقع شيئاً، فإن النظر من عالم الإثبات، وهو لا يغير عالم الثبوت، فلو قلنا: هذا غني وعنينا إنه غني بنظري، فإن ذلك لا يحل مشكلته إذا احتاج إلى المال.
والحاصل: إن النظر لا يغير من الواقع شيئاً، وسيتضح ذلك لاحقاً أكثر.
وبتعبير آخر:إن ذلك مجاز إذا أريد بالكاشف متوهم الكاشفية، وبذاتية الكاشفية له إنه متوهمهما, وهذا ليس من شأن الأصولي، فإنه ليس شأنه في البحوث الدقيقة أن يستخدم عبارات مجازية.
ثم إن الوالد6 في موضع آخر استدلبنفس استدلالهم، لكنه ركبه على تخريجه، فقال: «وحيث إن القطع كشف بنظر القاطع في ذاته»(2) فأضاف كلمة «بنظر القاطع» إذ المشهور قالوا «القطع كشف في ذاته» فوجّه كلامهم ب«القطع كشف بنظر القاطع في ذاته» لكن الظاهر عدم صحة كلامهم قبل التخريج، وعدم صحة الاستدلال بعد التخريج.
ص: 50
مناقشة كلام المشهور((1) :
إن كان مقصود المشهور أن القطع كاشف عن الواقع في ذاته، فإنه غير صحيح نظراً للانفكاك؛ إذ النسبة من وجه كما سبق، وإن كان المقصود ذلك التخريج فإنه غير صحيح أيضاً، فلنذكر دليل السيد الوالد6 عنهم ليتضح من ثَمّ وجه النقاش فيه، حيث قال: «لا يعقل فيه الجعل أصلاً لا إيجاباً»(2) بأن يجعل القطع كاشفاً «ولا سلباً» بأن تسلب الكاشفية عن القطع, وهذه صفة الذاتي، فإنه لا يعقل فيه الجعل ولا الرفع، فإن زوجية الأربعة - مثلاً - لاتعطى لها؛ لأن ذلك يعني أنها كانت منفكة وغير ثابتة قبل الإعطاء، وهذا لا يعقل.
والحاصل: إن الذاتي لا يعطى للشيء، بل إنه يوجد بوجوده، فإذا وجدت الأربعة وجدت الزوجية قهراً، إما إعطاؤها للأربعة مما يسمى بالجعل المركب فليس بممكن، كما لا يمكن سلبها عنها.
وعليه، فإنه إذا لوحظت نسبة الكشف إلى القطع فهل يمكن فيه الجعل إيجاباً أو سلبا؟ حسب رأي المشهور لا يعقل؛ لأنه ذاتي (لا إيجاباً) بأن يجعل الكشف للقطع (ولا سلباً) بأن يسلب الكشف عن القطع (لا بسيطاً) بأن يجعل بنفسه(3) (ولا مركباً) أن يجعل هذا لهذا.
توضيحه: إن الجعل على قسمين: جعل بسيط وهو إيجاد الشيء, وجعل
ص: 51
مركب وهو إيجاد شيء لشيء، فإنه تارة يوجد الخالقُ الإنسانَ فهذا جعل بسيط، وجعل الجواهر جعل بسيط، لكن جعل صفات للجواهر هو جعل مركب، بأن يجعل الإنسان عالماً، فجعل الشيء ذا صفةٍ هو جعل مركب.وعليه،فهل الكشف(1) يجعل جعلاً بسيطاً أو مركباً؟
الجواب: لا هذا ولا ذاك؛ إذ لا يمكن أن يجعل الكشف بنفسه خارجاً، أي: في الهواء بتعبير عرفي؛ لأنه ليس جوهراً، فلا يمكن أن يوجد الكشف بجعل بسيط في العراء؛ لأنه من الصفات القائمة بالغير، فلا يمكن جعله بذاته، كما لا يمكن أن يجعل القطع بالجعل المركب، بأن يوجد القطع أولاً ثم يمنح الكشف؛ لأن هذا غير معقول في الذاتي، فلا يمكن إعطاؤه أو سلبه، فهذا توضيح كلامه «وحيث إن القطع كشف بنظر القاطع في ذاته لا يعقل فيه الجعل أصلاً»(2) ويشرح كلمة (أصلا) ب(لا إيجاباً ولا سلباً) أي: لا وضعاً ولا رفعاً (لا بسيطاً ولا مركباً) أي: لا بذاته ولا لشيء آخر، (لا استقلالاً ولا تبعاً)، والتبعي يتعلق بالانتزاعيات، والفرق بين البسيط والمركب وبين الاستقلالي والتبعي أن البسيط يتعلق بالجواهر،أما المركب فيتعلق بالأعراض بلحاظ إيجادها لموضوعاتها، أما التبعي فيقصد به ما كان من الانتزاعيات، كزوجية الأربعة(لا استقلالاً) بأن يوجد البرتقال بنفسه ثم توجد فرديته بالتبع، أي: إنه عندما خلق الله تعالى البرتقالة انتزعت منها الفردية بالتبع وقهراً.
لكن لماذا لا يعقل جعل الكشف للقطع سلباً ولا إيجاباً ولا استقلالاً ولا
ص: 52
تبعاً ولا بسيطاً ولا مركباً؟ وذلك: «لضرورية ثبوت الشيء لنفسه، فإذا أوجد المولى القطع وجد الانكشاف تلقائياً(1)»(2) كما أنه لو أوجد الأربعة فإنه توجد الزوجية تلقائياً.
لكن هذا الدليل غير تام، أما إذا حذفنا قيد (بنظره)بأن قالوا: الكشف ذاتي للقطع ثبوتاً وفي الواقع, فلما تقدم من أنه ليس ثبوت الشيء لنفسه؛ إذ الكشف أمر والقطع أمر آخر، والنسبة بينهما من وجه، فليس هو هو حتى يقال كيف يجعل هذا لنفسه؟ مثل أن يجعل الإنسان إنساناً، أو المشمش مشمشاً كما قال ابن سينا: «ما جعل الله المشمش مشمشاً، ولكن أوجده»(3)، فإنهإشارة لامتناع الجعل المركب فيه(4)، والمشمش كناية عن الجواهر مطلقاً وبوجهٍ الأعراض(5)، فما جعل الله المشمشية للمشمش؛ لأن المشمشية عين المشمشة، فلا يمكن التفكيك بينهما؛ إذ قولنا: إن الله جعل المشمش مشمشاً بالجعل المركب يعني أنه أوجد المشمش، ولم يكن حين أوجده مشمشماً مشمشاً، ثم جعله مشمشماً بعد أن أوجده, وهذا غير معقول؛ لأنه سلب الشيء عن ذاته حين وجوده؛ إذ لو أوجده بالجعل البسيط فهو هو، فكيف يوجده بجعل تركيبي تأليفي لاحقاً؟
ص: 53
وأما إن قالوا: ذاتي بنظر القاطع، كما وجّهه السيد الوالد6 فنقول:الذاتي الخارجي الواقعي لا يناط بعالم الإثبات وبنظر الشخص وتوهمّه، فقوله(قدس سرّه): «لا إيجاباً ولا سلباً» يرد عليه: أن هذا هو حكم الذاتي الحقيقي لا المتوهم، فإن الذاتي المتوهم يمكن جعله للشيء؛ لأنه عرضي واقعاً، مثل البياض، فإنه عرضي للحائط، لكن لو قطع شخص أنه ذاتي فهل لا يمكن لخالق الإنسان أو بانيالحائط أن يجعل الحائط أبيض؟ وهل لا يمكنه أن يسلب بياضه عنه بأن يصبغه بالأسود؟ كلا، فإن نظر الناظر لا يؤثر في خلقة الخالق أو بناء الباني, كما هو واضح.
ويرد على «لضرورية ثبوت الشيء لنفسه»:أن ثبوت الشيء لنفسه ضروري(1) لا ثبوت متوهم الشيئية للشيء،فلو توهم أن ذلك الشيء إنسان والحال أنه كان عموداً، فإن ثبوت الإنسانية لهذا ليس ضرورياً، بل قد يكون ممتنعاً كما في المثال.
وبتعبير جامع:إنَّ ثبوت الشيء لنفسه(2) ضروري، أما ثبوت متوهم الإنسانية لمتوهم العمودية، أو متوهم الإنسانية للعمود، أو الإنسانية لمتوهم العمود، - وهذه ثلاث صور - فهذه ليست ضرورية بالمرة، بل غاية الأمر أنها متوهمة الضرورية.
ويرد على «فإذا أوجد المولى القطع وجد الانكشاف تلقائياً»(3) أنه كلا، بل إذا أوجد المولى القطع - الأعم من الجهل المركب - في نفس العبد وجدتوهُّم
ص: 54
الانكشاف عنده تلقائياً, لا أنه وجد الكشف والانكشاف تلقائياً إلا بنحو المجاز.
أما المحقق اليزدي فإنه - أيضاً - يخالف المشهور، كما نخالف المشهور في قولهم: إن القطع حجيته ذاتية،ولكننا نتفق معه في جهة ونختلف في جهة،ونص عبارته في حاشيته على الرسائل: «منشأ الشبهة»(1) التي وجدت في كلام الشيخ الأنصاري؛ إذ قال ما مضمونه: لا ريب في وجوب متابعة القطع ما دام موجوداً؛ لأنه كاشف عن الواقع وطريق إليه بنفسه(2)، ووجه الإشكال على الشيخ واضح، إذ نقول: الصحيح هو أنه متوهم الكاشفية عن الواقع, أما إذا أراد التعليل ب «لأنه كاشف» فيجب أن يخصصه بأحد فردي القطع وهو العلم، وليس مطلق القطع الأعم من الجهل المركب.أما المحقق اليزدي فيستشكل بهذه الصيغة حيث يقول: «والظاهر أن منشأ الشبهة في عدم قابلية القطع لجعل الشارع إثباتاً ونفياً بمعنى الحجية - على ما هو مذهب المصنف - عدم امتياز جهة الكاشفية وجهة الحجية»(3) إذ إن صاحب العروة يفسر الحجية بمعنى لزوم الاتباع، فيقول الكاشفية أمر ولزوم الاتباع أمر
ص: 55
آخر، فقد تكون كاشفية ولا يكون لزوم اتباع، (فأثبت) (1) الشيخ الأنصاري «ما هو من لوازم الجهة الأولى» أي: كاشفية القطع، ولوازمه عدم قبول الجعل أو الرفع «للجهة الثانية» وهي الحجية بمعنى لزوم الاتباع، فتصور أن لزوم الاتباع - أيضاً - ثابت لا يمكن رفعه، وأين أحدهما من الآخر؟
الأركان الأربعة(2) في كلام السيد اليزدي:
ويمكن توضيح عبارة السيد اليزديببيان آخر، وهو(3):إن هناك أربعة أركان وعناوين:
الأول: عنوان القطع، الثاني: عنوان الكاشفية، الثالث: عنوان الحجية، أي: لزوم الاتباع، الرابع: عنوان إمكان الجعل وعدمه، فيقول السيد اليزدي: إن الشيخ خلط بين ما هو من صفة الثاني، أي: الكاشفية، وما هو من صفة الثالث، أي: لزوم الإتباع، فإن (إمكان الجعل وعدمه) ليس صفة للثالث بنظر المحقق اليزدي، بل هو صفة للثاني؛ إذ لا يعقل جعل الكاشفية للقطع.
ووجه الإشكال عليه قد اتضح حيث نقول:إنَّ إمكان الجعل وعدمه ليس صفة حتى للثاني وهو الكاشفية؛ لأن النسبة هي من وجه، كما اتضح إشكال آخر على السيد اليزدي وهو إشكال مشهور، وهو أن السيد اليزدي لو التزم أن
ص: 56
القطع كاشف عن الواقع - كما التزم - فلا بد له أن يقول بلزوم الاتباع على الطريقية للقطع، وهو مورد بحث المشهور،فليتدبر فيما ذكر فإنه دقيق وعمدة نقاشنا مع المشهور والمحقق اليزدي هو ذلك، ونكتفي بهذا القدر.
موجز الرأي المنصور(1):
ونشير في الختام للرأي المنصور بإيجاز دون تفصيل, فنقول: الظاهر هو أن الكاشفية بالنسبة للقطع، إما هي عينه أو هي ذاتيّه، إن أريد بالقطع خصوص العلم، ومثاله المرآة الكاشفة للحقائق، فإن الكشف إما عينها أو ذاتيها, ولا نتوقف عند تحقيق ذلك الآن، بل نسوقهما بعصا واحدة؛ لأنهما من حيث الأحكام المقصودة في المقام متحدة, فالكاشفية هي إما عين العلم أو هي ذاتي العلم، لا مطلق القطع وهو الرأي المنصور،فإذا كان الأمر كذلك فتتفرع عليه أحكام أربعة:
الأول: إن الكاشفية لا يمكن أن ترفع وتسلب عن العلم ما دام موجوداً؛ إذ الذاتي لا يمكن سلبه عن ذي الذات ما دام ذو الذات موجوداً، كما لا يمكن سلب الشيء عن نفسه بناءً على العينية، ما دام الشيء موجوداً، وإلا للزم التناقض.
الثاني: لا يمكن جعل الكاشفية بالجعل البسيط؛ لأن الكاشفية من الأمور الانتزاعية، ولا يمكن أن تجعل الأمور الانتزاعية بحيالها، أي: بمفردها بما هي هي؛ إذ لا وجود لها إلا بوجود منشأانتزاعها.
ص: 57
الثالث: إن الكاشفية لا يمكن أن تجعل للقطع، إن أريد به العلم قطعاً، بنحو الجعل المركب، أي: الجعل التأليفي؛ لأن القول بالجعل المركب يستلزم إمكان انفكاك الذاتي عن ذي الذات - إن لم يجعله له - أو إمكان سلب الذات عن نفسها، وكلاهما محال.
الرابع: إن الكاشفية يمكن أن تجعل للعلم بالجعل التبعي، بأن يوجد المولى أو المتكلم العلم في نفس الطرف الآخر، فإذا أوجده فقد وجدت الكاشفية بالتبع، فهذه أحكام أربعة للقطع، إن أريد به العلم.
وأما إن أريد بالقطع غير العلم، أي: أريد بالقطع فرده الآخر، أي: الجهل المركب، فهنا أيضا أحكام:
الأول: إن الكاشفية للقطع المساوي للجهل المركب لا يمكن أن تجعل له بالجعل المركب؛ لأنها ضده؛ لأن الفرض أنه جهل مركب، فكيف تُجعل له كاشفيته عن الواقع، هذا خلف؟
الثاني: كما لا يمكن أن تجعل بالجعل البسيط؛لنفس العلة السابقة من الانتزاعية.
الثالث: كما أن الكاشفية مرتفعة عنه بالذات، فلا مجال لرفعها من باب السالبة بانتفاء الموضوع, وهذا واضح, فهذه تتمة موجزة دقيقة للبحثالثاني.
المعنى الثالث(1): لزوم الاتباع
الاحتمال الثالث في معنى الحجية، وهو أكثرها لصوقاً بالأصول
ص: 58
وبالفقه(1) وهو أن يقال(2): معنى الحجية أو المراد منها هو لزوم الاتباع، فالقطع حجيته ذاتية أي: لزوم اتباعه ذاتي، أي: إن وجوب أن يسير على ضوء قطعه ذاتي لقطعه, فإذا كان قاطعاً بأن هذه نار فيلزمه أن يجتنبها، وإذا قطع أن الصلاة واجبة فعليه أن يطيع أمرها ويلتزم بها, فيقال القطع ذاتيُّه الحجية، أي: ذاتيّه لزوم الاتباع.
ويرد عليه إشكالات: رابعها: ما ذكره المحقق اليزدي وهو جواب تنزلي(3).وأما أولها(4) فهو: إن لزوم الاتباع ذاتي للعلم فقط، وليس ذاتياً لمطلق القطع الشامل للعلم وللجهل المركب, ولا ذاتياً لخصوص القطع المخالف للواقع، فلو قال: أنا قاطع، وكان كذلك فرضاً، فإن هذا القطع قد يكون علماً، وقد يكون جهلاً مركباً، ونحن ندعي عدم ذاتية الحجية للقطع الجامع، وعدمها عن القطع المخالف للواقع بالخصوص، أما العلم فلا شك في أنه لازم الاتباع.
ص: 59
وأما هذا الذي يدعي أنه رأى في الحلم كذا فقطع بكذا, فإن هذا القطع حيث لا يُعلم(1) أنه مطابق للواقع، أو ليس مطابقاً للواقع فهو مردد بينهما، فلا دليل على لزوم اتباعه لصرف أنه قطع، بل لا بد من الفحص لنرى أنه من مقولة العلم ليكون لازم الاتباع، أم من مقولة الجهل المركب لنردعه عنه.
ولتنقيح المطلب لابد من التحقيق عن الحاكم بلزوم اتباع القطع بقول مطلق, فهل هو العقل؟ هذا احتمال, أم هم العقلاء؟ وهذا احتمال ثانٍ, أم هو عقل المكلف الذي رأى المنام مثلاً؟ أي: عقل آحاد المكلفين بما اكتنف بها من مؤثرات؟ احتمال ثالث, على بعض المباني.
ولابد من إشارة توضيحية للشق الثالث لغرابته لدى البعض، وإنكاره فلسفياً فنقول:هل لآحاد المكلفين عقل غير العقل الكلي؟ذلك إن كثيراً من الناس قد يرفض أمراً ويستدل على ذلك بأن عقلي لا يقبله أو لا يتحمله، فنسأل: ما المقصود بعقلي؟
وهذا البحث قد فصلته في كتاب الضوابط(2) ولا مجال للتوسع فيه الآن، وهو بحث مبنائي(3) لكن نشير إلى أصل المطلب إشارة: فعندما أقول (عقلي
ص: 60
جزم بكذا أو حكم بكذا أو اكتشف كذا) فهنا احتمالات:الأول: إن العقل المودع في كل واحد منا، هو شعاع من العقل كشعاع نور الشمس من الشمس، أي: إنه يوجد عقل كوني يسميه الفلاسفة العقل الفعال، وعقلي شعاع منه.
الثاني: إن عقلي هو حصة من العقل لا شعاع منه, فيكون مثل ماء ملون بعضه بالأبيض وبعضه بالأخضر، فإن الماء الأخضر حصة من الماء، وليس شعاعاً منه.
الثالث: هو إن العقل له مصاديق، أحدها موجود فيّ أنا, وذلك مثل قولك: هذا كتاب، فإنه كتاب من الكتب وليس هو حصة ولا هو شعاعاً، وهناك احتمالات أخرى(1)، وتفصيل هذه الاحتمالات كمبنى وأدلتها ومناقشتها نتركه لمحله، لكن على كل الاحتمالات سنستنتج النتيجة النهائية في المقام كبناء على فرض قبول أي منها, فأنه عندما يقال: إن القطع حجيته ذاتية، وتفسر الحجية بلزوم الاتباع, فنقول: من هو الحاكم بلزوم اتباع القطع؟ هل هو العقل(2)؟ أو عقلي؟ أو العقلاء؟
فنبحث هذه الاحتمالات:
ص: 61
الاحتمال الأول: العقل ليس حاكماً في الجزئيات (1)
أما العقل، فهنا جوابان على المبنيين:
أما الأول: فإنّه على مبنى المشهور الذين يقولون إن العقل(2) حاكم في الكليات فقط ولا يحكم في الجزئيات، فإن العقل هو المدرك للكليات فقط، ولا شأن له بقطع المكلف، فالعقل لا يُلزِمه باتباع هذا القطع؛ لأنه ليس له شأن بالجزئيات. وعليه، فلا يصح القول: إني قاطع من هذا الحلم أو المكاشفة، فالعقل يحكم بلزوم اتباع قطعي, إذ إن هذه قضية مصداقية جزئية - أي: قطعي بهذا ولزوم اتباعي - والعقل لا يتدخل في الجزئيات، فليس الحاكم هو العقل، غاية الأمر أن (عقلي) هو الحاكم(3) لا العقل الكلي أو المطلق, هذا على حسب رأي المشهور.وأما الجواب الثاني((4): فإنَّه على ما نرى من أن العقل حاكم في الجزئيات أيضاً، وليس حاكماً أو مدركاً للكليات فقط؛ إذ نرى العقل حاكماً في الكليات والجزئيات ومدركاً لهما، فالصور أربعة، فنقول: إن العقل لا يمكن أن يخطئ، فإنه تلك الجوهرة النورانية التي خلقها الله حجة باطنة(5)، فإذا قلنا: إن العقل يدرك الجزئيات وإنه مصيب دوماً، فإنه لو رأى أن قطعي مخالف للواقع فلا
ص: 62
يمكن أن يحكم عليّ: بأن اتبِّع قطعك, وذلك كما لو قطع شخص بأن هذا كافر حربي وأراد قتله وكان من الأولياء.
والحاصل: إنه على المشهور المنصور من أن العقل يدرك الحقائق، وأنه لا يخطئ في إدراكه لها؛ ولذا جعله الله الحجة الباطنة، فلو قلنا: إن العقل يدرك الجزئيات وأدرك أن قطعي مخالف للواقع فكيف يدفعني للمنكر لمجرد إني أخطأت؟ وكيف يقول لي: اقتله؟ إن ذلك غير معقول, غاية الأمر أن يسكت إذ رآه قاطعاً ورأى أنه - أيالعقل - لا يستطيع منعه فرضاً.
والحاصل: إن غاية الأمر أن العقل يكون مقيداً إذا رآه قاطعاً، ورأى أنه لا يستطيع أن يزحزح قطعه فرضاً، لكنه لا يشجعه على الإثم أبداً لمجرد أنه قد أخطأ وجهل جهلاً مركباً, فالعقل ليس هو الآمر باتباع القطع المخالف للواقع، أو القطع المطلق الأعم من الموافق والمخالف، وهذا بحث دقيق فليتدبر فيه.
وتدل على الرأي المنصور الآيات والروايات والعقل والوجدان والفطرة، فإذا رأيتم شخصاً يريد أن يلقي ابنكم في البئر لأنه قاطع أنه مجرد تمثال أو لعبة، فهل تقول له أرمه في البئر لمجرد أنه قاطع بحسن ووجوب إلقائه فيه؟ فهل يصنع ذلك عاقل؟ قطعاً لا, لأن أمر العقل غير مرتهن بجهل الطرف الآخر، ولا يعقل أن يُسلِّم العقل قياده للطرف الآخر الجاهل جهلاً مركباً، فيأمره باتباع قطعه المخالف للواقع.
هذا هو الشق الأول وهو بيت القصيد في رد المبنى المعروف من لزوم اتباع القطع مطلقاً، ومبنانا هو أن العقل يحكم بلزوم اتباع العلم فقط، ولا يحكم بلزوم اتباع الجهل المركب
- أي القطع المخالف للواقع - كما لا يحكم بلزوم اتباع
ص: 63
المقسَم، وهو القطع المطلق الأعم من العلم والجهلالمركب.(1)
يمكن أن يقال: إن الحاكم بلزوم اتباع مطلق القطع هو العقلاء.
ولقد اتضح الجواب عن هذا مما سبق، فإن العقلاء لا يحكمون بلزوم اتباع القطع بقول مطلق، كما أنهم في الجزئيات إذا رأوا القاطع مخطئاً يردعونه، ولا ينساقون معه، كما لا يحرضونه على العمل على طبق قطعه المخالف للواقع معتذرين أنه قاطع رغم علمهم أنه على جهل مركب، ويظهر ذلك بملاحظة المثال المتقدم في سقوط الطفل في البئر، أو بملاحظة أنه لو قطع شخص بأن هذا ماء وهو نار فأراد أن يرمي بنفسه فيه، فإن العقلاء لا يقولون له اقذف نفسك فيه، ولا يشجعونه على اقتفاء أثر خطئه كما هو واضح, واعتبروا حالكم مع كل خاطئ بنحو الجهل المركب؛ إذ لا شك أنكم ستحاولون ردعه، فإن لم تستطيعوافستسكتون لا أنكم تشجعونه على ذلك!
وبعبارة أخرى: إن النتيجة تتبع أخس المقدمتين، كما تتبع أخص المقدمتين، أي: إنها تتبع الأخس الأخص، والمقدمتان هما: (إني عالم بالواقع) وهذه الصغرى, و(العلم بالواقع(2) يجب اقتفاء أثره ويجب اتباعه)
ص: 64
وهذه هي الكبرى، والمهم أن العقلاء إذا رأوا خللاً في إحدى المقدمتين ثبوتاً فإنهم لا يأمرون باتباع هذا القطع؛ لأن النتيجة تتبع أخس المقدمتين.
أما(1)عقل كل شخص شخص،فنقول: إنه بصفائه وتجرده عن الملوثات ليس هو الحاكم، إنما الحاكم هو قوة أخرى فلنسمها كما سماها البعض القوة المتوهمة، بل لنسمها كما أسماها أمير المؤمنين(علیه السلام) ب(النكراء)(2)فإنه(علیه السلام) صرح بأن في داخلنا قوة أخرى غير العقل، لكن الناس يخلطون بينها وبين العقل.
والحاصل: إنه توجد فينا قوة دافعة تبعثنا أو تزجرنا, فهل هي العقل أم هي قوة ثانية غير العقل؟ كما أن الشهوات تبعث الإنسان نحو فعل معصية أو ترك طاعة، فليس كل بعث داخلي إيجابياً، فإن الشهوات تبعث الإنسان نحو القبيح والمحرم، فليس كلما بعثك هاجس أو باعث داخلي فإنه رباني، بل قد يكون شيطانياً أو شهوانياً, إذن فهذا البعث لاتباع القطع - المقسم - قد يكون من العقل، وقد يكون من القوة الشبيهة بالعقل.
ص: 65
وعليه، لا يصح الاستدلال - كما يفعل الكثيرون - بأن هذا لا ينسجم مع عقلي،كما يردّ البعضُ بعضَ الروايات بدعوى أن هذه الرواية لا تنسجم مع عقلي؛ إذ يقال له: أي عقل هو الذي لا يقبل هذا؟ خاصة وأن تمييز الناس بين العقلين هو أدق من الفتيل والنقير, فهل هذا الحاكم أو الرافض هو العقل أو هو النكراء؟ وإذا كان هو العقل فهل العقل النقي أو الملوث المحجوب؟
وقد جاء في الكافي الشريف عن الإمام الصادق(علیه السلام)(1)، «قلت له: ما العقل؟ قال: ما عُبِد به الرحمن واكتسب به الجنان» وهنا نجد أن الإمام(علیه السلام) عرّف العقل بالأثر، فبالبرهان الإني سنكتشف بأن ما لم يعبد به الرحمن فليس بعقل، بل هو شيء ثانٍ، ومنه يظهر أنه ليس العقل هو الحاكم بعبادة عُزَير أو الابن وروح القدس أو ما أشبه،وليس العقل هو الحاكم بارتكاب المحرمات، بل «العقل ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان» فهذا هو مقياس العقل بالبرهان الإني، الذي يعني الانتقال من الأثر للمؤثر «قلت :فالذي كان في معاوية» إذ إن معاوية كان يعرف المعادلات، وكيف يدخل؟ وكيف يخرج؟ وكيف يسيطر؟ أفليس بعاقل إذن؟ «قال الإمام(علیه السلام) : تلك النكراء» فالذي يبعثه لترسيخ سلطته ولو بسفك الدماء ليس هو العقل، وإن تصور أنه العقل لمشابهته له؛ لأنه يفكر ويحلل ويحقق ويدبّر، بل: «تلك النكراء تلك الشيطنة وهي شبيهة بالعقل» إذن هنا قوة ثانية في الإنسان شبيهة بالعقل.
وما أكثر ما يختلط الأمر علىالإنسان,إذن كيف نميز بين القوتين؟
ص: 66
الجواب: نميز بينهما بالآثار، وهو تمييز في الجملة لا بالجملة، وهناك طرق أخرى، والعبد الفقير فصل حول هذا في كتاب الضوابط.
إذن (تلك النكراء) أي: هي قوة منكرة شنيعة، والنكراء هي الأمر النُكُر أو النُكْر وكلاهما صحيح، أي: المنكر (تلك الشيطنة وهي شبيهة بالعقل) أي: في إنها حالة للنفس أو حالّة فيها وقوة محركة لها.
ثم إن التباين بين العقل والنكراء هو في شيئين:
الأول: في الذات، فهما جوهران أو شعاعان أو حصتان.
وثانيا: في الغايات، فهذا يدعو للخير وذاك يدعو للشر.
سبق أن القطع إذا فسرت حجيته بلزوم الاتباع، فليس القطع مما يحكم العقل أو العقلاء، أو عقل المكلف بلزوم اتباعه بقول مطلق، بل إنما يحكم بلزوم اتباع العلم فقط، ونضيف: إنه ليس القطع - أي: البت والجزم النفساني - ملاكاً لحكم العقل أو العقلاء بلزوم الاتباع؛ وذلك لعدم المقتضي للحجية، فإن البت والجزم صفة نفسية لا ترتبط بما هي هيبالواقع، فلا مقتضي لجعلها حجة، وهذا برهان آخر بالإضافة لما سبق.
وتوضيحه: إنه إذا كان القطع مطابقاً للواقع - أي: كان علماً - فإن الملاك لحجيته موجود، وهو مرآتيته للواقع، وكاشفيته عن الواقع، أما إذا أغمضنا النظر عن جهة الإصابة والمطابقة ولاحظنا القطع بما هو هو،أي: بما هو صفة نفسية، مثل الجُبن أو الشجاعة، أي: لاحظنا صِرف كونه جزماً، فإنه لا مقتضي لجعله حجة، بمعنى لزوم الاتباع؛ لأن الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في المتعلقات، وليست الصفات النفسية ملاكاً وسبباً ومنشئأ للمصلحة الخارجية
ص: 67
في المتعلق، كي يأمر الشارع في القطع الطريقي بوجوب اتباع جزم المكلف بما هو جزم، فإنه بما هو هو أجنبي عن المصلحة في المتعلقات؛ إذ فرض قطع النظر فيه عن جهة الإصابة, فليتدبر.
تلخص مما سبق في حاصل الجواب الثالث, أنه لا مقتضي لحكم العقل بوجوب اتباع القطع، أي: الجزم بما هو هو، وأن العقل لا يحكم ولا العقلاءولا عقل الشخص إذا صفا عن الشوائب(1).
أما الجواب الآخر(2): فهو جواب المحقق اليزدي، إذ إنه يجري مجرى المشهور لكنه يفارقهم في منتصف الطريق, وأما نحن فقد فارقناهم في بداية الطريق, إذ قلنا: إنَّ القطع بما هو جزم وصفة نفسانية معرّاة عن جهة المطابقة لا يجب اتباعه، ولا مقتضي لإيجاب اتباعه، أما المحقق اليزدي فإنه التزم بأن القطع يجب اتباعه، وفسر الحجية بلزوم الاتباع، وقال: العقل يحكم بلزوم اتباع القطع، ثم فارق المشهور في وجود المانع، فقد قبل وجود المقتضي لكنه لم يقبل عدم المانع، وبتعبير آخر: إنه ارتأى أن القطع مقتضٍ للحجية، وللشارع أن يسلبها عنه بأن يقول: هذا القطع لا تتبعه، فالقطع ليس علةتامة للزوم
ص: 68
الاتباع(1).
ولنقرأ نص عبارته لأهميتها مع توضيحها من دون الإشارة إلى بعض وجوه مناقشتنا لها(2) ، وهي كما في حاشيته على الرسائل(3): «والحاصل أن القطع حجة يجب متابعته» فقد فسر الحجية بلزوم المتابعة «بحكم العقل المستقل» فهو يعتبره من الأحكام العقلية المستقلة.
ولكن الظاهر:أن خلطاً حدث ههنا، فإن الحكم العقلي المستقل هو وجوب اتباع العلم لا القطع، لكن لشدة ملابسة أحدهما بالآخر تُوهِم أن المستقل هو هذا لا ذاك (المولوي أو الإرشادي) إذ هنا خلاف، هل أنَّ العقل له مولوية بالنسبة لآحادنا أو إنما هو مرشد؟ فذهب البعض إلى أن العقل لا مولوية له؛ إذ لا علو له على الإنسان ولا استعلاء، فأوامره إنما هي إرشاد للمنفعة، وزواجره ونواهيه إنما هي إرشاد للمضرة، فلذا نجد السيداليزدي قد ردّد الأمر فقال: «بحكم العقل المستقل المولوي أو الإرشادي».
ولكن الرأي المنصور هو ان حكومة العقل مولوية؛ لتحقق الشرطين(4): العلو والاستعلاء, فإنه عالٍ؛ إذ إن أعلى وأفضل ما في الإنسان هو عقله، وهو أسمى ما فيه، فالعلو متحقق، والاستعلاء موجود أيضاً؛ لأن العقل يتكلم من موضع الفوقية والقوة، فيقول: امش على هذا الدرب يا
ص: 69
صاحبي,ثم لمزيد بعثه أو زجره يعلل له بمثل: كي(1) لا تدخل النار مثلاً، إذن فعند السيد اليزدي يجب اتباع القطع، لكنه قيده ب «ما لم يمنع الشارع عن العمل به أو يرخص العمل بغيره من دليل تعبدي أو أمارة»(2) فالمشهور يقولون: إن القطع حجيته ذاتية، فالحجية معلول للقطع بنحو المعلول التام للعلة التامة، فلا يمكن الانفكاك بينها، أما السيد اليزدي فيقول حجيته اقتضائية، فيمكن أن ترفع.
ثم لو قطع الأصبع الرابع تعود إلى عشرين؛ إذ دية قطع ثلاثة أصابع ثلاثون، ولو قطع الرابع ترجع إلى عشرين، ورغم أن الراوي قال للإمام: كنا نقول الذي يأتي به شيطان، فكان ذلك قطعاً باطلاً بنظره، لكن الإمام(علیه السلام) مع ذلك ردعه، وأن هذاحكم رسول الله(صلی الله علیه و آله)(1).
وأما المحقق اليزدي فقد ذكر الظن الناشئ من القياس زمن الانسداد، قال «ومنها:منع العمل بالقياس الوارد في الشرع بالأخبار المتواترة مع حكم العقل المستقل بوجوب العمل بالظن في زمان انسداد باب العلم بمقدماته المذكورة في بابه بناء على الحكومة، فقد أشكل عليهم الأمر في إخراج القياس في الغاية ووقعوا في حيص وبيص، وتكلّفوا في الجواب بأجوبة كثيرة بعيدة أو ممنوعة، والتحقيق في الجواب هو ما اختاره المصنف هناك من أنّ موضوع حكم العقل بوجوب العمل بالظنّ مختصّ بغير مورد القياس ممّا قد ثبت من الشارع منع العمل به بالخصوص»(2) ولعل عذره أنه أراد الاستشهاد على أن للشارع المنع عن العمل بحكم العقل المستقل المولوي أو الإرشادي، أو جعل طريق في قباله, فكما منع عن العمل بالظن القياسي رغم استقلال العقل به زمن الانسداد، كذا له المنع عن العمل بالقطع،فيرفع العقل يده عن حكمه بوجوب متابعته. وقد
ص: 71
أجاب بعد صفحتين عن إشكال لزوم التناقض وغيره,فتأمل.
المثال الثاني: ما ذكره الأصوليون(1) من عدم منجزية العلم الإجمالي إذا كان أحد طرفيه، أو أحد أطرافه خارجاً عن دائرة الابتلاء، حسب رأي كثير من الأعلام، فرغم أن العلم الإجمالي موجود إلا أن الشارع رخص في الاقتحام.
المثال الثالث: ما ذكره المشهور(2) من عدم منجزية العلم الإجمالي إن كانت الأطراف غير محصورة، وان كانت كلها في دائرة الابتلاء، فمع أن العلم موجود لكن الشارع لم يعتبره منجزاً (3).
المثال الرابع: ما ذكره السيد اليزدي من العلم في زمن الانفتاح، قال المحقق اليزدي: «ومنها:جواز جعل الطرق والأمارات في زمان انفتاح باب العلم قطعاً، ولم ينكره أحد»(4)، فرغم انفتاح باب العلم أجاز الشارع اتباع الطرق
ص: 72
والأمارات الظنية، فيظهر منه أن العلم حجيته غير ذاتيه؛ لأن الشارع جعل له بديلاً، وسوّغ الإعراض عنه، دفعاً أو رفعاً.
ونضيف لكلامه:إنه ورد أن الأمام(علیه السلام) أمر البعض بالرجوع للرواة(1) رغم إمكان رجوعهم للإمام مباشرة، فمع أن الإمام موجود وكان باستطاعة المكلف أخذ العلم القطعي منه مباشرة لكنه(علیه السلام) أرجعه للراوي، مع أن جواب الراوي يفيد الظن عادة؛ إذ قد يكون مخطئاً في فهم كلام الإمام(علیه السلام)، وقد يكون قد خلطفي الأسانيد(2) أو لغير ذلك, فالإمام رغم انفتاح باب العلم أمر بالرجوع للراوي.
وكذا الحال في الموضوعات فإن كثيراً من المكلفين كان يستطيع أن يسأل الإمام عن الطهارة والنجاسة، كطهارة هذا المسجد ونجاسته، لكنه(علیه السلام) لم يوجب عليهم السؤال حتى في موارد عدم لزوم الحرج وعدم مزاحمة الإمام، ومنه يتضح أن الإسلام جعل بديلاً للقطع؛ إذ رخص العمل بغير القطع من
ص: 73
دليل تعبدي أقامه في مقابل القطع، أو ظني نزّله منزلته، فإذا كانت حجية القطع ذاتية فلا يمكن أن يجعل له بديلاً، كالأمارة التي تفيد الظن، ثم كيف يتمسك بالمرجوح مع وجود الراجح؟ لكن الشارع قد صنع ذلك لحِكَمٍ ليس المقام مقام بيانها، فتأمل(1).
المثال الخامس: علم القاضي حسب رأي البعض غير المشهور(2)، فإن القاضي لو علم فلا يحق له أن يعمل برأيه ما دامت البينة على خلافه، وأما الرأي الآخر فإن القاضي لو علم فأنه مخير بين العمل بعلمه وبين العمل بالبينة، وهناك رأي آخر وهو ما قاله اليزدي: «أو جعل طريق آخر في قباله»(3) وإن لم يمثل بهذا.
المثال السادس: ما ذكره المحقق اليزدي من علم الإمام(علیه السلام) ، حيث قال(4):«ومنها: إن الإمام(علیه السلام) كان لا يحكم بعلم الإمامة في كثير من الموارد، بل بما يحصل له بالأسباب الظاهرية» ثم استشهد بقوله(صلی الله علیه و آله): «إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان»، واستشهد بمعاملته(صلی الله علیه و آله) للمنافقين معاملة المسلمين وناقش فيه في الحاشية.
ص: 74
أقول:ونضيف له:إن الإمام(علیه السلام) كان يعلم أنه سيقتل لو أكل السم، لكنه لم يعمل بمقتضى علمه، كما أنه عالمبأشياء كثيرة بحقائقها لكنه كان لا يعمل بعلمه، بل بالبينة - كما قال - وقد قال الرسول(صلی الله علیه و آله): «إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان»(1) وهي مرجوحة بالقياس لعلمه(صلی الله علیه و آله) إذ كثيراً ما كان الشهود يكذبون أو يخطأون، لكنه لم يكن يقضي بعلمه وهو يعلم «فأيما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنما قطعت له به قطعة من النار»(2) وهذا يعني أن الآخذ غير حقه ليس له أن يتشبث بحكم رسول الله(صلی الله علیه و آله) له، ويدعي أن هذا أصبح ملكي، كلا بل إنه لم ينتقل بحكم الرسول(صلی الله علیه و آله) إلى ملكك، لأن الرسول(صلی الله علیه و آله) مأمور بالظاهر.
إذن فقد امتنع الرسول(صلی الله علیه و آله) عن العمل بعلمه في باب القضاء، بل كان يعمل - حسب الرواية - بالبينة المرجوحة واليمين المرجوح قطعاً بحسب مقياس الإصابة واللاإصابة. هذا كلام السيد اليزدي مع زيادة توضيح له، إذن فالقطع ليست حجيته ذاتية، بل هي قابلة للردع والمنع.
يقول رغم ذلك لا أمرك به، بل أمرك بالخلاف (ولهذه الدعوى شواهد) ويذكر بعض ما ذكرناه(1) وقال في موضع آخر : «لأن دليل المنع عن العمل بقطعه حاكم على دليل نفس الحكم، فيعتقد بزعمه أن الشارع رفع اليد عن الحكم الواقعي في حقه، فيرتدع بردعه لا محالة»(2).
والحديث حول ما قاله(قدس سرّه) جرحاً وتعديلاً، وحول سائر الأدلة والمناقشات طويل نكتفي منه بهذا المقدار.
وهذه الأجوبة عن كبرى: أنَّ القطع حجيته ذاتية ومعاني الحجية، جوابعلمي طرف الخطاب فيه هم العلماء(3), إذ كان نقاشاً مع المحقق القمي وصاحب الفصول ممن نقلنا كلماتهم, ولكن حيث إن الأحلام والقطع الحاصل منها كثيراً ما تحدث للعوام، بل حتى للمثقفين وللجامعيين فإنه قد يكون عالماً أكاديميا لكنه من هذه الجهة بسيط ساذج، إذن ينبغي أن نجيب بأجوبة تنفع العامة وتقنعهم أيضاً, فنقول:
الجواب السابع(4): القطع علمي وغير علمي
إن القطع على قسمين:القطع العلمي والقطع غير العلمي,وهذا الجواب يختلف عن الجواب الرابع، حيث إننا هناك قلنا: إن القطع على قسمين: قطع عقلائي وقطع غير عقلائي، أما الآن فنقسم القطع بتقسيم آخر، وهو إنه على
ص: 76
قسمين: علمي وغير علمي، فذاك الجواب كان محوره العقلاء، وهذا محور التقسيم فيه هو العلم، والفرق بينهما بيّن، فإن العلم غير العقل؛ إذ العلم صفة زائدة على العقل، فقد يكون عاقلاً ولا يكون عالماً بالطب أو الفلك، أو علم الأحلام ومعادلات وضوابطالكشف والشهود مثلاً، فهذا إشكال جديد وهو: إن هذا القطع الحاصل من الأحلام ليس علمياً(1).
ولمزيد التوضيح نمثل بأن الأرض بيضية,كما ثبت علمياً,لكن القول: إنَّ الأرض مكعبة مستطيلة ليس خلاف العقل؛ إذ العقل لا يأبى أن يخلق الله الأرض بأي شكل شاء، أو يكون قد خلقها بأي شكل، لكنه خلاف العلم وخلاف الواقع الخارجي.
والحاصل:إنه توجد أشياء خلاف العقل، وأشياء خلاف العلم، كما توجد أمور يدركها العقل بنفسه، وأمور تحتاج إلى العلم في إدراكها ومعرفتها.
ضوابط علم الأحلام(2):
إن كل علم وكل فن له ضوابط، فإن لم يعرف المرء تلك الضوابط أخطأ وارتطم في الجهل المركب، وكان قطعه الحاصل غير حجة؛ بمعنى أنه غير معذور إن لم يصب، وأنه غير كاشف نوعاً أيضاً، إلى أخر ما ذكرناه في معنى الحجية.
ص: 77
والحاصل:إن علم التأويل له ضوابط، وليس للإنسان أن يقتحم في تأويل الآيات القرآنية بدون معرفة ضوابط التأويل، كما ليس له أن يقتحم في تفسير القرآن بدون معرفة ضوابط التفسير، فإن ذلك ليس عقلائياً ولا شرعياً، فمثلاً: لو تعارض التأويل مع التفسير فما هو الحكم؟ (1) وكذلك علم الدراية والرجال، فإن لعلم الدراية ضوابط وقواعد، وكذلك لعلم الرجال، فمَنْ اقتحم في أحوال الرجال بغير معرفة أصول علم الرجال فقد أخطأ، وما أكثر ما سيقع في الخطأ إذ كان منهجه غير علمي، مثلاً: ما هي ضوابط الحديث المتواتر أو المتسامَع أو المتظافِر(2) أو المستفيض؟ وما هي وجوه حجية كل منها؟إن لكل ذلك ضوابط وقواعد.
وكذلك علم الأصول والمنطق والفقه وهكذا، فمن اقتحم في الآيات والأحاديث بدون أن يعرف ضوابط الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص والمطلق والمقيد، وكذلك الحاكم والوارد وماأشبه كالتخصص، فأن عمله وتعمُّله غير علمي حينئذٍ، كذلك علم الأحلام, لو كان علماً أو كان فناً، والظاهر أنه مزيج منهما ومن الرمي بالغيب كما سيأتي، فإنَّ له ضوابط، لكن المشكلة إن هذه الضوابط قد خفيت علينا، وذلك كضوابط علم النجوم حيث قد خفيت.
وعلى هذا نقول:إن القطع الحاصل من الأحلام خلاف العلم، كما هو
ص: 78
خلاف العقل,(1) ولنذكر ههنا كلام بعض فلاسفة الغرب في تعريف العقل العلمي(2)، فإن العديد من فلاسفة الغرب فسروا الروح العلمية أو العقل العلمي ب(العقل المنظم الواضح الذي لا يسلِّم بصدق الحكم إلا بعد تحقيقه والتدقيق فيه وإقامة البرهان عليه) (3), أما العقل غير العلمي فهو غير المنضبط الذي يحصل له القطع بلا تحقيق وتدقيق،وبدون سؤال عن البرهان والأدلة والبحث عن الإشكالات والأجوبة.
وموجز القول: إن علم الأحلام - على فرض قبول كونه علماً من العلوم أو كونه علماً وفناً - له ضوابط وله لغة خاصة وشفرة مميزة، ودوال لها مدلولات، وهناك مؤشرات يتوهم منها خلاف ظاهرها، ومَن لم يعرف هذه الضوابط فسوف يضل في تفسيره ضلالاً بعيداً، فقد يقطع من الحلم بنقيض معناه.
وحسب التحقيق فإن هذه الضوابط ليست إلا عند الأنبياء والأئمة(علیهم السلام)، وأما الضوابط المذكورة في كتب الأحلام فإنها غير منضبطة ولا ضابطة، فليست بضوابط بالمرة,هذا كله إضافة إلى أن هذه الضوابط عليكم لا لكم أولا؛ لأن الأحلام قد تفسر بنقيضها, وثانياً: لأن الأحلام قد تفسر بتفسيرات متناقضة,
ص: 79
فمن أين يثبت أنَّ هذا الحلم تفسيره هو هذا لا النقيض؟
ولابد لبرهنة ذلك من الاستشهاد بأمثلة وشواهد من أشهر كتب تفسير الأحلام، فإن أهل الاختصاص هم أخبر (1) ممن لا يعرف أصلاً الضوابط، فلنقتبسبعض تعابير وتفسيرات خبراء الأحلام من أحد أشهر الكتب في علم الأحلام، ويقول مؤلفه في المقدمة إنه اقتبسه من مجموعة من الكتب، منها: كتاب العلامة المجلسي، وكتاب العلامة الطبرسي، وكتاب محسن آل عصفور، وكتاب محمد تقي التستري، وكتاب محمد بن سيرين، وكتاب عبد النبي النابلسي وغيرها، كما يقول عن الإمام الصادق(علیه السلام) وإنه جمعها من كتب التفسير والحديث وما أشبه, وهذا الكتاب يعد من اضبط الكتب في علم المنامات عندهم.
إن الأحلام كثيراً ما تفسر بنقيضها،فلنضرب بعض الأمثلة لذلك:
المثال الأول: تفسير العداوة حسب هذا الكتاب(2) «عداوة: مَنْ رأى أنه يعادي رجلا فأنه يودُّه» أي: إن العداوة تفسر بالنقيض تماماً، ولم يذكر خلافاً في هذا التفسير «ويصحبه ويفشو أمره» أي: أمر صحبته ومودته له، أو يظهر
ص: 80
أمره «ويظهر منه ما كان يكتمه» لعل قصده:يظهر سر من أسراره أو يقصد ما يكتمه من كامن المحبة، وذلك نظير ما يذكره علماء النفس من أن الإنسانعندما يظهر العداء لشخص، فإنه يكون في قلبه وواقعه شديد الولاء والحب له، فيفسرون كثيراً من مظاهر العداء بعمق الولاء، ثم يقول: «وإن رأى أن إنساناً أظهر له عداوة فإنه يصادقه» لكن العامي لا يعرف حتى هذه المعادلات الأولية فيفسر الحلم بحسب ظاهره.
المثال الثاني: (الوكيل) (1) إذا رأى إنسان في المنام أن فلاناً وكيلاً للأمام أو وكيل أحد المراجع، أو رؤي له أنه وكيل، يقول في الكتاب: «وكيل:هو رجل يكتسب لنفسه ذنوباً» ولم ينقل في هذا خلافاً، فإذا رأيت(2) رجلاً وكيلاً لآخر فهذا يعني أنه مذنب، وأنه عاصٍ، فيجب أن يُردَع، ولا يعني حسب ظاهره أنه وكيل له.
إن كثيراً من المفردات التي تفسر في علم الأحلام إنما تفسر بتفسيرات متناقضة أو متضادة، وإذا كان ذلك كذلك فمن أين يثبت أن هذه الرؤيا تعني هذا المعنى لا ضده؟ والحال أن كليهما مذكور على حد سواء كمعنى منمعاني هذه الرؤيا، والحاصل:إن التعبيرات والضوابط مما لا يؤدي الكثير منها إلى محصَّل.
ص: 81
فلو رأى شخص أنه واقف في عرفات، فإن له بحسب علماء الأحلام تفسيرات متضادة، إذ يقولون: إن الوقوف في عرفة قد يرمز إلى خروج الإنسان من شر إلى خير، وهنا نجد أنه يوجد نوع من التناسب بين التعبير والرؤيا، لكنهم في نفس الوقت يقولون: إن هذه الرؤيا ترمز إلى تنزل رتبة هذا الإنسان من خير إلى خير أدون منه، وهنا لا نجد تناسباً أبداً، فما هو الضابط إذن لنعرف أن هذه الرؤيا تفسر بهذا أو بذاك؟
كما قد فسر الوقوف في عرفة بتفسيرات أخرى أيضا متقابلة, منها على سبيل المثال(1) إنه «لو كان عاصياً قبلت توبته، وإن كان له سر مكتوم ظهر» وهذا كثيراً ما يكون سلبياً. وعليه، فلو كان عاصياً وله سر مكتوم فهذه الرؤيا ترمز إلى أيهما؟ لا يعلم ذلك.
المثال الآخر: (النار)، فإنهاتفسر بالمتناقض، فقد تفسر بالبشارة، وقد تفسر بالإنذار من خطر محدق، أي: تفسر ببشارة بأمر مفرح، أو إنذار من أمر مُقِرح، بل قالوا: (نار: بشارة وإنذار وحرب وعذاب وسلطان وحبس) كما فسروها ب: (خسارة وذنوب) وفسرت بمناقضه وهي (البركة)وأيضاً البشارة والسلطان كما سبق، فالنار أيها؟ فلو رأى شخص أنه دخل ناراً أو لمسته نار، فهل هي خسارة وذنوب، أو هي بركة وبشارة وسلطان؟ كلاهما محتمل وبوزان واحد.
ص: 82
وحسب ما يدعي هذا الكاتب ويرسله عن الإمام الصادق(علیه السلام)
بأن النار تؤول على أوجه كثيرة متناقضة أو متضادة، مثلاً: تفسر من جهة ب: (فتن وفساد وخصومات وغضب سلطان وعقوبة) فلو رأى أن ناراً اشتعلت في البلد فذلك يدل على أحد طرفي النقيض، فإما أن الفتن والفساد والخصومات وغضب السلطان والعقوبة ستملأ هذا البلد، وإما أن تدل دلالة معاكسة تماماً، فإن النار من جهة أخرى حسب كلامهم تدل على (العلم والحكمة) فلو اشتعلت نار في بلد فقد يدل ذلك على أن العلم سيملأ أرجاء هذا البلد، ولذا قالوا: (علم وحكمة وطريق الهدى) وكذلك فإن النار تفسر ب(مصيبة وفزع وأمراض مختلفة ومال حرام) وفي المقابل تفسر(برزق(1) ومنفعة)(2)، إذن فهذه
ص: 83
الضوابط الموجودة بأيدينا في حد ذاتها مؤدياتها متقابلة، فأية حجية تبقى لهذه الأحلام؟
لو رأى شخص في المنام أن له نيابة عن الإمام الحجة(عجل الله تعالی فرجه الشریف) أو أحدالمعصومين(علیهم السلام) أو عن حاكمٍ أو عن مرجعٍ, أو رؤي له أن له النيابة عنهم، فما هو تفسير هذه النيابة؟
يوجد هنا تفسيران متناقضان تماماً، أحدهما: سلبي، والآخر: إيجابي، وعليه: فمِن أين نعرف أنَّ هذه الرؤيا حسنة، بل قد تكون سيئة؟
قال بعض المعبرين: «نيابة عن الحاكم أو المتولي أو صاحب أمر، تدل على اتباع سنة الصالحين أو اقتفاء أثر المبتدعين»(1) فكلاهما ممكن، فلو رؤي أنه نائب عن المعصوم(علیه السلام) فقد يدل ذلك على أنه صاحب بدعة أو متبع لمبتدع، ويقتفي أثره، فمن أين نعرف أنَّ هذا الرؤيا تدل على هذا المعنى في هذا الشخص، بل قد تدل على نقيضه؛ لأن كليهما محتمل بنحو وبوزان واحد من
ص: 84
حيث الرؤيا؟
لو رأى في المنام أنه يوصى إليه، أو رؤي له أنه يوصى له، فما تفسيره؟
هناك تفسيرات متخالفة، منها: أنه بالفعل يكون كما رأى أو رؤي له، لكن هذا تفسير من بين ستة تفسيرات، والتفسير الثاني: إن هذا يرمز إلى أنه بلغ الأربعين وتجاوزها، فمَنْ قال:إنه لو رؤي أن الإمام أوصى إليه بشيء أن المعنى الأول هو المراد؟ قال البعض: «من رأى أنه يوصى إليه دل على ستة أوجه: أن يكون ما يخبر به حقاً... أو يكون قد مضى من عمره أربعون سنة» وعلى المعنى الأخير فإن الرؤيا هنا كناية عن هذا المعنى الحيادي، الذي لا ربط له بالحق أو الباطل.
والمتتبع لكتب المنامات يجد الأمثلة أكثر من أن تحصى على أن الرؤيا قد فسروها بتفسيرات متناقضة أو متضادة أو متخالفة.
والحاصل في الجواب السابع:
أولاً:إن الأحلام لا ضوابط نوعية لها، أي: لا ضوابط موجودة بأيدينا، منها.
ثانياً: إن الضوابط التي ادّعوها لا توصل إلى شيء في كثير من الأوقات حتى حسب ما لديهم؛ وذلك لأنها ترمز إلى النقيضين أو الضدين في وقت واحد.
ثالثاً: إنها تفسر بضدها أو نقيضها من غير ضابط مرجعي، فكيف يحتج بها أو يلجأ إليها؟ وكلامنا هنا في مصداق الرؤى، وليس لدينا فيه
ص: 85
إجماع،والأمثلة التي أجمع أهل الخبرة - بنحو القضية الحقيقية - على تفسير معناها بأمر واحد فقط قليل جدا ، من بين المئات من المفردات والرؤى،أي: التي اقتصروا فيها على معنى واحدبنحو القضية الحقيقية,ثم المشكلة في تطبيق الكبرى على الصغرى، وفي تفسير رؤيا هذا وذاك، وهنا الخلاف قائم حتى فيما اتفق عليه،والمعبرون ببابك.
لا يقال: آراء الفقهاء أيضاً قد تتناقض؟ إذ يقال:لا يصح النقض بتناقض رأيين لفقيهين أو منامين لشخص أو شخصين؛إذ الكلام عن تناقض تفسير المنام الواحد، فإنه كتناقض رأي الفقيه الواحد، كما لو قال: هذا حلال، وقال: هو حرام، فإنه يسقط عن الحجية في نظر العقلاء وبنائهم.
والحاصل: إنه عندما يقال: خبر الثقة حجة فلأنه حجة نوعية، فلي أن احتج على الطرف الآخر به، إلا لو قارعني بخبر ثقة آخر مضاد، فهنا نلاحظ المرجحات،لكن لو قال الثقة: هذا حرام، وناقض نفسه في نفس المقام بأن قال: حلال - مع وحدة جهات التناقض - ففي بناء العقلاء لا يعتمد على قوله في هذه القضية قطعاً، بل يقولون: إما أنه أخطأ، أو أن أحدهما كان تقية أو شبه ذلك.
وإطلاقات الأدلة لا تشمل هذا المورد: لو ناقض الثقة نفسه, وهنا (الحلم) ننزله - فرضاً - منزلة خبر الثقة، فإنه حيث فسّر بطريقتينمتناقضتين من غير مرجح، فإنه لا يعبأ به. نعم، لو كان مرجح بأن نقل الأول عن الإمام الصادق(علیه السلام) والآخر عن زرارة فنقول: هذا كلام الإمام، وذاك كلام زرارة، أما لو نقل الوجهين مثلاً في النار أو غيرها عن الإمام الصادق(علیه السلام)
أو عن نفس
ص: 86
المعبر فلا يعلم - كقضية حقيقية - أيهما هو المراد؟ وأما بنحو القضية الخارجية فما هي مكملات الضوابط لنعرف أن هذا هو المراد أو ذاك؟ هذا هو ما قد خفي علينا فهنا تقع الحيرة. هذا أولاً.
وثانياً: نتنزل عن هذا الجواب ونفرض أنهما طريقان شملتهما أدلة الحجية، لكن الأصل - حسب رأي مجموعة من أعلام الأصوليين - في الطريقين المتناقضين التساقط، وإنما يلجأ إلى التخيير ببركة الأدلة الثانوية، أي: الروايات كما فصل في الأصول, فإن الأصل الأولي - عقلاً - في الطريقين المتناقضين هو التساقط، لكن نرفع اليد عنه في خصوص الروايات, فنقول بالتخيير للأدلة الخاصة، وهي روايات: «إذن فتخير»(1)
لكن هذه الأدلة غير موجودة في شأن الأحلام، فلا يمكن التمسك بها بأي وجه من الوجوه.
الجواب الثامن(2): الذي يرى المنام لا يكون قاطعاً بل قد يكون خائفاً
وهو جواب صغروي تشخيصي مهم، ويحلل واقع الكثيرين، وهو: انه كثيراً ما يحدث الخلط بين القطع الحاصل من الأحلام حتى لو فرض أنه حجة تنزلاً(3)، وبين غيره كالخوف؛ إذ كثيراً ما يكون الذي رأى المنام مثلاً خائفاً لا قاطعاً ؛ إذ كثيراً ما يخوّفونه، فلأنه خائف يُظهر أنه قاطع.
توضيحه: إن بعض الشخص كثيراً ما يحصل له الخوف من كلام
ص: 87
الكاهن، أو من يستخدم الفنجان أو الرمل والإسطرلاب، أو قارئ الكف أو معبّر الأحلام، دون أن يحصل له قطع، بل لأنّه خائف يظهر أنه قاطع لخوفه واقعاً.
والنقاش هنا صغروي، كتشخيص موضوعي للذين يرون الأحلام(1)، ويتضح ذلك أكثر بملاحظة مثالين خارجيين:
العلم الذي يسميه البعض من الحكماء ب(العلم العنائي) من جملة أقسام ستة ذكرها في (المنظومة) (2) وهو العلم الموجِد للمعلول، فإن العلم كاشفٌ وليس موجِداً، فلو علمت أن هذا جدار، وإن الجدار لونه هكذا، فإن العلم غير موجد للجدران أو لِلَّون، بل كاشف عنه، لكن يقول بعض الحكماء - ولنا فيه نقاش - إن من أنواع العلم هو العلم العنائي، كما يقول في المنظومة:
وكتوهّمٍ
لسقطةٍ على جذعٍ
عنايةً
سقوطٌ حصلا(3)
ويقصد بذلك: أن الواقف على جذع شجرة لو تخيل أنه سيقع، فإن هذا التخيل والتوهم سيكون سبباً لوقوعه، وكذلك الذي يمشي في طريق ضيق في جبل، فإن الواثق من نفسه والذي لا يتخيل باستمرار السقوط، ولا يلقن نفسه
ص: 88
بذلك فإنه لا يسقط، أما الخائف من السقوط فإنه سوف يسقط، وهذا ما يسميه بعض الحكماء(1) بالعلمالعنائي، ولكن إطلاق العلم عليه ليس دقيقاً،بل الدقيق هو أن التخيل المتواصل، والإيحاء الذاتي يُسبّبان فقدان التوازن، والعلم أمر والتخيل والإيحاء أمران آخران.
والحاصل: إن الشخص الذي يتخيل السقوط ليس قاطعاً بالسقوط، بل يتخيل السقوط، والتخيل أمر والقطع بالسقوط أمر آخر، لكن هذا التخيل سيؤدي إلى السقوط.
وكذلك مَنْ يرى الأحلام ويقول: إنه قاطع إن معناها كذا وكذا، فإنه ليس في واقع الأمر في كثير من الأحيان قاطعاً - كما يرشدنا إلى ذلك علم النفس أيضاً - بل هو خائف؛ إذ إنهم يخوفونه من أنه إذا لم يتبع الرؤيا فإن بلاءً سينزل عليه، ثم إن كثرة خوفه قد تولد في نفسه بالتدريج القطع بما خاف منه!
كما نجده عند بعض الوهابية والسلفية، فإنهم كانوا يخوفون أتباعهم من مجرد الحديث إلى الشيعي وفتح الحوار معه،وكانوا يلقون في قلبهم الرعب من مجرد فتح الحوار مع الشيعي، وإنه يسبّب الفقر ويسبب ذهاب البركة من عمرك؛ ولذا نجد الكثير منهم يخافون من النقاش مع الشيعي، فهو - إذن - خوف وليس قطعاً، وواقعههو أنه خائف وليس قاطعاً.
وما سبق تشخيص صغروي لكثير من الحالات، وليس بنحو الكبرى الكلية، وإن كلهم من هذا القبيل، لكن معرفة ذلك تنفع أكبر النفع في
ص: 89
استكشاف طريقة علاج الطرف الأخر، وأنه قد لا ينفع معه النقاش العلمي، إنما الذي ينفع أن تعرف إن هذا خائف، فتعالج خوفه بأساليب علم النفس، وعندئذٍ تصل إلى النتيجة.
الجواب التاسع(1): عدم حجية قطع القطاع
هذه أجوبة ثمانية قد مرّت، ويوجد جواب تاسع مبنائي يتعلق بقطع القطّاع، وله بحث في الأصول مفصل، ومنه(2): مَنْ حصل له القطع من الطرق غير الطبيعية، فإنه ليس بحجة.
وقد رأى الشيخ عدم الفرق بين قطع القطاع وغيره(3)، وخالفه في ذلك السيد اليزدي صاحب العروة وآخرون(4).ولهذا المبحث المبنائي مجال آخر فنوكله لمظانه.
ص: 90
التحقيق في أقسام الأحلام(1):
إن الأحلام والمنامات - وكذا الكشف والشهود، والتنجيم ونظائرها - يدور أمرها بين ما لا يكون هناك مقتضٍ لجعلها حجة، وبين ما لا دليل على كونه حجة - وإن فرض المقتضي له ثبوتاً - وبين ما وجد المانع عن العمل به، وإن فرض وجود المقتضي:
الأول: فيما لو كان خطؤها أكثر من إصابتها، أو مساوياً.
الثاني: جارٍ وتام حتى لو كانت إصابتها أكثر.
الثالث(2): معلّل بالعلم الإجمالي بكذب أو خطأ الكثير منها حداً يدرجها في الشبهة المحصورة، من قبيل شبهة الكثير في الكثير.
وبعبارة أخرى: حتى لو فرض وجود المقتضي،نظراً لأغلبية الإصابة فرضاً، ووجود الدليل على حجيتها، فحيث اختلطت الحجة باللاحجة، من غير وجود ما يميزها، امتنع العمل بالحجة منها؛ وذلك كخبر الثقة لو اختلط بغيره،كما لو فرض وجود سبعين خبر لزرارة، وثلاثين خبر لآخر غير ثقة، ثماختلطت أسانيدها بحيث تعذر التمييز.
ويظهر وجه الأول والثالث، فالثاني بالتبع، لدى ملاحظة وجه الخطأ وعدم الإصابة في المنامات، ثم لدى معرفة وجه الخطأ في تعبيرها وفهم ما ترمز إليه.
ص: 91
أما وجه عدم الإصابة في المنامات بما هي - أي: وجه كون كثير منها بما هو هو كاذباً - فيظهر بمراجعة الروايات الواردة في المقام، مما يُقِرُّ به كافة معبري الأحلام أيضاً، ومما دل العلم الحديث على أغلب صوره، وهي:
فمنها: ما نقله الشيخ الصدوق بإسناده عن علي بن الحكم، عن أبان بن عثمان، قال: حدثني محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن محسن بن أحمد الميثمي، عن أبان بن عثمان، عن أبي بصير، عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: «سمعته يقول: إن لإبليس شيطاناً يقال له هُزع يملأ ما بين المشرق والمغرب في كل ليلة، يأتي الناس في المنام»(1).حيث دلت بظاهرها على أن بعض الأحلام هي مما يلقيها هذا الشيطان في نفس النائم، واحتمال كون المراد صِرف إتيانه النيام والعبث بهم بعيد، فتأمل(2).
ومنها: ما رواه أيضاً في البحار، عن تفسير العياشي، عن أبي بصير عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «رأت فاطمة في النوم كان الحسن والحسين ذبحا أو قتلا، فأحزنها ذلك، قال: فأخبرت به رسول الله(صلی الله علیه و آله) فقال: يا رؤيا، فتمثلت بين
ص: 92
يديه، قال: أرأيت فاطمة هذا البلاء؟ قالت: لا، فقال: يا أضغاث، أنت أرأيت فاطمة هذا البلاء؟ قالت: نعم يا رسول الله، قال: فما أردت بذلك؟ قالت: أردت أن أحزنها، فقال لفاطمة: اسمعي ليس هذا بشيء» (1).
وهي صريحة في أن ما يراه النائم قد يريه إياه ما يسمى ب(أضغاث أحلام) وقد يريه ما يسمى ب(الرؤيا).
الأولى: قد يستظهر أن الرؤيا والأضغاث هما نوعان من أنواع الطاقة الخفيةالسالبة والموجبة، فكما توجد أنواع من الطاقة اكتشفها العلم الحديث، كالطاقة الكهربائية، والكهرومغناطيسية وغيرها، وأنواع الأشعة، كأشعة الليزر والأشعة فوق البنفسجية، كذلك لا تزال توجد أنواع كثيرة لم يكتشفها العلم، وهذان منها، ومن الواضح أن كلاً من الطاقة والمادة يمكن تحويلها إلى الأخرى, كما يمكن الإحساس بها ببعض الحواس في بعض الحالات،كما أنها تؤثر على الإنسان من حيث يدري أو لا يدري.
الثانية: لهذه الرؤيا التي رأتها الصديقة الزهراءB وجوه من التوجيه، ذكرها السيد الوالد في كتاب (من فقه الزهراءB) المجلد السادس، فراجع.
وقد يضاف لها: إن الأمر كان من باب التعليم - أي: تصديقها ظاهراً للرؤيا، وما جرى من الحديث بينها وبين أبيها عن ذلك - فإن كثيراً من أفعالهم تعلل بذلك، وأما حزنها فقد يعلل بأن المعصومين لهم القدرة على تحييد علمهم الواقعي عن إيقاف تأثير مفعول علومهم الظاهرية وتأثيراتها، والله العالم.
ص: 93
ومنها: ما رواه عن الدر المنثور (ووردت بذلك أكثر من رواية): وأخرج ابن أبي شيبة، عن عوف بن مالكالأشجعي، قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): الرؤيا على ثلاثة: تخويف من الشيطان ليحزن به ابن آدم، ومنه الأمر يحدث به نفسه في اليقظة فيراه في المنام، ومنه جزء من ستة وأربعين جزأ من النبوة»(1).
وهذه الرواية صريحة في وجود عاملين من عوامل خطأ الرؤيا وكذبها، وهما: الشيطان وحديث النفس؛ إذ من الثابت علمياً وتجريبياً وبالوجدان أن ما يحدِّث به الإنسان نفسه ينطبع في منطقة اللاوعي، أو الوعي الباطن واللاشعور، ثم يتجلى بصُوَرٍ، ومنها: تجليه على شكل رؤيا في المنام.
هناك عدة احتمالات لقوله(علیه السلام): (جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) ستأتي، ومنها: إن الأنبياء كما لهم طرق للاطلاع على الغيب وأنباء السماء، مثل عمود النور والنقر في الأسماع والنكت في القلب وغيرها، كذلك فإن الرؤيا من الطرق، فالحديث عن رؤياهم لا رؤيا عامة الناس، وعلى أي فلا يعلم كون المقصود رؤيا عامة الناس، وعلى فرضه فيرد عليه ما سبق من اختلاط الحجة باللاحجة فيما نراه منالمنامات، وستأتي وجوه أخرى أيضاً بإذن الله تعالى.
ص: 94
الوجه الآخر للخطأ في (الأحلام) هو الخطأ في تعبيرها بسبب ما يقوم به المخ من التصرف فيها بأنحاء مختلفة.
توضيحه:إن عدم الإصابة في الأحلام قد لا يكون لكون منشئها باطلاً، وكونها غير مطابقة للواقع بالمرة، بل قد يكون منشأ الخطأ في كثير من الأحيان هو الخطأ في التعبير والتفسير، مع ضميمة أنه لا ضوابط مرجعية تامة يمكن الرجوع إليها للتمييز بين التعبير الخاطئ والتعبير المصيب.
وتوضيح ذلك(1): لقد ثبت من الناحية العلمية أن معظم البالغين الذين ينامون بمعدل ثماني ساعات يومياً، يرون - كمعدل - ثلاث إلى خمس مرات أحلاماً، وكل فترة تستغرق من خمس دقائق إلى ثلاثين دقيقة، فإذا كان الشخص يرى في كل ليلة - كحد أعلى - خمس مرات، وفي كل مرة نصف ساعة، فإنه سيكون مشغولاً برؤية الأحلام بمعدل ساعتين ونصف في ضمن الساعات الثمانية, لكن مايتذكره الإنسان لاحقاً هو النادر.
ثم إن الكثير جداً من هذه الأحلام هو إما من قبيل إلقاءات الشيطان، أو من حديث النفس، أو من عوامل جسمية معينة، كما قد يكون بعضها من إلقاءات الملك، أو مما تشاهده النفس في الملأ الأعلى كما سيجيء أيضاً.
والحاصل: إن تلك الأحلام الكثيرة في هذه الفترة الطويلة، إما مبتلاة
ص: 95
بالخطأ في الأصل، أو بالخطأ في الفصل،أي: في التفسير والتعبير، وذلك نظراً لتدخل المخ بأنحاء شتى كما سيجيء.
إن ما يقوم به المخ من التصرفات في المعلومات والمتخيلات والمتوهمات والأحلام لهو على أنحاء:
1- الإحلال.
2 - الترميز.
3 - التركيب.
4 - تزويج الصورة بالمعتقد.
5 - التكثيف أو التضخيم أو التبسيط.
وسنذكر بعض الأمثلة المبتلى بها من عقائدية وفقهية على ذلك.
إن ما يقوله العلماء - مع إضافة وتوضيح منّا - ومع الجمع بين أقوال المعبرين من جهة، وعلماء النفس ومتخصصي المخ من جهة مع بعض الإضافات هو أنه عند رؤية الأحلام - ولتكن مصيبة - فإن المخ يتدخل فيتصرف في هذه الرؤى بأنحاء شتى.
وهذه المسألة شديدة الابتلاء، ودراسة ما يقوم به المخ يفسّر لنا جانباً كبيراً من هذه الظاهرة الغيبية المشهودة لنا، فإن المخ تارة يقوم بعملية الإحلال، وأخرى يقوم بعملية الترميز، وثالثة يقوم بعملية التركيب، وتارة رابعة يقوم بعملية التكثيف أو التضخيم أو التبسيط، وهناك أنواع أخرى، لكن نقتصر على هذا المقدار، ومجموع ذلك يشكل الوجه الأساسي للخطأ في تعبير الأحلام، من دون وجود ضابط مرجعي.
ص: 96
فإن الإنسان قد يرى في المنام الشيء على ما هو عليه، لكن المخ يتدخل فيتصرف، وذلك كما في الرؤية الحسية، فإن العين ترى لكن المخ يتدخل ويتصرف ويصحح أو يحرّف ويغيّر.
والتصرف الأول للمخ هو (الإحلال) وذلك على وجوه: فإنه قد يُحِلَّ شخصاً محل شخص، أو يحل فكرة محل فكرة، أو يحل معتقَداً محل معتقد، أو يحل إحساساً محل إحساس، أو شيئاً محل شيء، أو بالتركيب بينها بأن يحل فكرة محل شخص، أو يحل إحساساً محل معتقد، وهكذا، فالصور كثيرة جداً بما يملأأحلام الناس بوجوه الخطأ، وسوف نقتصر على ذكر ثلاثة أمثلة يرتبط بعضها بالجانب العقدي:
وبه يظهر الوجه والسبب الكامن وراء ما نجده من أن كثيراً من الناس من المذاهب المختلفة يرون رؤى متناقضة على طبق معتقداتهم، مثلاً: المخالف قد يرى فعلاً في المنام أن أبا بكر هو الخليفة لرسول الله(صلی الله علیه و آله) ، والدليل أنه بعد تشيعه يذكر أنه كان يرى تلك الأحلام، ثم يرى أحلاماً مناقضة تطابق اعتقاده الحالي، فلا داعي له والحال هذه للكذب، فما تفسير ذلك علمياً؟
التفسير العلمي هو:أن المخ يقوم بعملية (الإحلال) أي: إنه يجسّد المعنى أو الفكرة أو المنصب في شخص آخر غير مَنْ هو له، فههنا معتقد صحيح هو الإمام مثلاً، لكنه أحله في شخص أجنبي، فالربط ربط خاطئ، والإحلال إحلال خاطئ، فإن وجود الإمام لا شك فيه، ووجود شخص اسمه أبو بكر مثلاً لا شك تاريخياً في وجوده أيضاً، لكن التصرف من المخ إنما هو بربط هذا بهذا، وإحلال هذا
ص: 97
المعتقد في قالب ذلك الشخص، وما أكثر الأمثلة التي هي من هذا النمط.
كما أنه كثيراً ما يقوم المخ بإحلال إحساس أو عاطفة محل إحساس أو عاطفة أخرى، كالمحبة والبغض أو الصداقة والعداوة، فقد يرى الرجل في منامه أن ابن عمه عدو له، أو يرى زوجته على غير ما يرتضيه أو العكس، أو يرى العدو هو الصديق، خاصة في الغرب، فيرى مثلاً الصهيوني صديقاً له محسناً إليه، لكن واقع الأمر هو أن المخ قام بعملية إحلال عاطفة محل عاطفة أخرى، أو إحساس محل إحساس آخر، فهذه الزوجة المؤمنة الطيعة صوّرها المخ على أنها عدوة، بمعنى أنه أحلّ هذا الإحساس أو الصفة - أي العداوة - في هذا القالب، فيكون الخطأ قد نشأ من ههنا، وهناك من الأمثلة ما يملأ كتب المعبرين، فلا نحتاج إلى مزيد استدلال على ذلك.
أن يقوم المخ بإحلال شيخ العشيرة أو الأب أو مرجع التقليد أو الأخ، ومن أشبه ممن يرتبط بالإنسان محل الأعضاء، فالرأس يعبر به عن شيخ العشيرة أو مرجع التقليد أو الأب، واليد اليمنىهي كناية عن الأخ: «سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ»(1).
ص: 98
النحو الثاني(1): الترميز
فإنه كثيراً ما يقوم المخ بترميز معنى بما يضاده شكلاً, أي: إن علاقة التضاد تكون هي الحاكمة، فيقوم المخ بالترميز لما يضاده، وذلك مثل ما يذكره المعبرون من أن شخصاً لو رأى أن إبهام قدمه قد قطعت فإن تعبيره هو أنه سيصل من جفاه من أقربائه، فالمعنى معاكس تماماً لظاهر الحلم المتجسد، فإن إبهام الرِّجل فسرت بأحد أقربائه، وقطعها فسر بوصله بعد جفائه، فهذا من تصرفات المخ في الكثير من الحالات، مع ضميمة أن المشكلة الأساسية هي أنه لا ضابطة مرجعية للتمييز والتصحيح.
النحو الثالث من أنحاء التصرف هو:التركيب؛ إذ يقوم المخ بعملية التركيب أيضاً، وهذا يفسر الخطأ في الكثير من التفسيرات والتعبيرات للرؤى، فإن كثيراً من الناس قد يتعرض لسرقة ما فيرى في المنام أن فلاناً هو السارق، والحال أن السارق شخص آخر،لكن المخ قد تدخل، إذ إن فكرة السرقة موجودة في سجِلّات المخ، وزيد مثلاً غير السارق أيضاً له صورة في الحافظة، فيقوم المخ بعملية تركيب السرقة على زيد، فيتصور الرائي أن الرؤيا حق، وهو لا يعلم أن هذا من تصرفات ودعابات القوة المتخيلة(2) وتخريبها؛ إذ ركبت شيئاً على شيء آخر.
وقد يكون زيد بن عمر، ومع وجود شك للرائي في نَسَبه فقد يرى في
ص: 99
المنام أنه ابن بكر، فهنا كثير ما يكون المخ قد تدخل في التركيب، فركب هذا الأب على هذا الابن، والأمثلة كثيرة جداً.
النحو الرابع(1): تزويج الصورة بالمعتقد
النحو الآخر من أنحاء تصرف المخ(2)في الرؤى مما يجعلها غير منضبطة إطلاقاً - وهذا القسم أيضاً كثير، ولم أجد في استقراء ناقص علماء النفس أو الأعصاب يذكرونه، لكنه وحسب التتبع الخارجي وحسب ملاحظة تفسيرات المعبرين أيضاً نجد أن هذه الصورة أيضاً متحققة بالوجدان - هي: أنَّ المخ كثيراً ما يركب المعتقدات والثقافات على تعبير الرؤيا, وإليكم ثلاثة أمثلة من تعبيرهم:
المثال الأول: (الفأرة) إذ إن المعبرين القدامى عادة يفسرون الفأرة بالمرأة الفاسقة, وهنا موطن سؤال: أليست ثقافة الأمم التي تحتقر المرأة بذاتها هي التي أوجبت انتخاب هذا التفسير؟ ولم لا تفسر الفأرة بالرجل الفاسق أو العدو الفاسق وما أشبه؟ فليكن هذا موطن سؤال على أقل تقدير!
المثال الثاني: (التمساح) إذ عبر به المعبرون عن الشرطي، فإذا رأى شخص تمساحاً قد هاجمه فذلك معناه أن شرطياً قد يهاجمه! وتعليلهم هو (إن
ص: 100
شر ما في البحر الذي لا يأمنه عدو ولا صديق هو التمساح) وعليه سيكون تجسيد التمساح البري هو الشرطي، ومن الواضح تركيب المعتقَد على التعبير ههنا، فإن المعبِّر كان يعيش في دولةاستبدادية دكتاتورية، وكان شرطتها فاسقين ظلمة، ففسر ذلك المظهر الحيواني بهذا المظهر البشري، لكن لا اطراد لذلك كما هو واضح، ففي دولة العدل كدولة رسول الله(صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين(علیه السلام) وشرطة الخميس، بل حتى في الدول المعتدلة ليس الأمر كذلك، بل ليس كل شرطي كذلك، فإن كثيراً من الشرطة هم الذين يحفظون الأمن والاستقرار في البلد.
والحاصل: إن الثقافة كثيراً ما تتدخل في التفسير، وهذا يفسر وجهاً هاماً من وجوه اختلاف المعبرين، فإن نفس الرؤيا إذا تطرح على معبر فإنه يفسرها بلون من الثقافة والتفكير والعقيدة، وإذا تطرح على الآخر فإنه يفسرها بلون آخر من الثقافة والفكر والمعتقد.
وكذلك فسروا (الدولفين) بتفسير سلبي، وإن رؤيته تدل على ما دل عليه التمساح! مع أنه أين الدلفين من التمساح؟ لكن مَنْ تكون ثقافته على حسب ما أدى إليه العلم من إن الدولفين صديق الإنسان، فإن التعبير قد يختلف لديه طبيعياً.
المثال الثالث: إنهم عبروا عن سمرة اللون باختلاف النسب، وهذه هي ثقافة الرجل الأبيض، أو على الأقل يشك في أن وجه التعبير هو ذلك, إذ يرى سمرة الوجهأمراً سلبياً، فيفسره بتفسير سلبي، فمَنْ رؤي أنه اسمر اللون فهذا يدل على أن في نسبه خللاً، ولعله لو كان المفسر أسمر اللون لفسره بالعكس.
ص: 101
النحو الخامس(1): التكثيف والتبسيط
وكذلك الأمر في التكثيف والتضخيم أو التبسيط، وذلك كمَنْ يرى أنه يرتقي جبلاً من ذهب، فلعل تفسيره أنه يحصل على هدية مقدارها كيلو من الذهب، لكن المخ يضخم الذي سيحصل عليه، والشواهد من هذا القبيل كثيرة، فلنكتف بهذا القدر.
والخلاصة: إن وجه عدم الإصابة تارة يكون هو أن الرؤيا في حد ذاتها قد خلقت من منشأ شيطاني، أو من حديث النفس، فيكون أصل وجودها باطلاً، وتارة تكون الرؤيا ناشئة من منشأ رحماني, لكون النفس عندما صعدت إلى الملأ الأعلى - كما سيأتي في الرواية - شاهدت الحقيقة، لكن عند رجوعها قد يتدخل المخ فيتصرف، فيحول الحقيقة ويحرفها، مثلاً: قد يكون رأى في المنام أن سلمان المحمدي هو حواري الرسول(صلی الله علیه و آله) في الملأ الأعلى، لكن المخ في رجعة الروح من الملأ الأعلى قديتصرف ويتدخل، فيصور له أن الذي رآه هو أبو هريرة، وأنه هو حواري رسول الله(صلی الله علیه و آله).
وهذا يفسر بعض ما يدعيه بعض الناس من أنه رأى أن فلاناً هو الوكيل، أو المنصوب من قبل المعصوم(علیه السلام) فلعله رأى شيئاً لكن تفسيره بتجسيده في هذا الشخص هو من دعابات وتصرفات القوة المتخيلة أو المخ, فهذا وجه من الوجوه.
ولابد من ملاحظة أن المخ هو الذي يتصرف تلك التصرفات الباطلة أو
ص: 102
العبثية وليس العقل، على تفسيرات العقل المختلفة حيث ذكرنا له خمسة عشر تفسيراً(1).
لكن هل العقل يخطئ أيضاً أو لا؟ فذلك يستدعي مقاماً آخر، فلذا لم نأتِ باسم العقل،بل الحديث عن المخ والدماغ، فعندما يحصل خلل في العَصَبون(2) والنواقل العصبية(3) في المخ، فإن المعلومات تصل معكوسة تماماً، وذلك كما يرى الأحول الواحداثنين، فهذه ليست مشكلة العقل، بل هي مشكلة المخ؛ لأن المفروض في الأشعة الصادرة من الجسم(4) والمنعكسة على العينين أن تلتقي معكوسةً في نقطة واحدة في المخ، فيندمجان فترى الواحد واحداً، لكن لو حدث خلل في المخ فإن الشعاعين لا يلتقيان في نقطة واحدة؛ ولذا يرى الواحد اثنين، فالمشكلة إذن هي في المخ.
مثال آخر: وهو لو أن شخصاً يضع يده في الماء البارد فالفاتر، وآخر يضعها في الحار فالفاتر، فإن الثاني يحس أن الفاتر باردٌ، والأول يحس أن الفاتر حاراً, والمشكلة هنا هي في خطأ الإحساس ونواقل المعلومات الكيماوية،
ص: 103
وليست المشكلة في العقل، وإنما العقل يتدخل ليصحح بعض ما فسح له فيه المجال.
ثم إن ما يقوله العلماء الجدد في هذا المجال هو الصحيح؛ لأن الفلاسفة يدّعون أن ذلك هو من تصرف القوة المتخيلة، ويسمونها دعابات القوةالمتخيلة, ويستندون في ذلك إلى مجرد التفكير التجريدي فيما يرتبط بالأمر الميداني الحسي المتعلق بعلوم، كعلم الكيمياء والفيزياء والفلك والطب، مع أن هذه القضايا ليست مما تعرف بصِرف التعقل والتفكير، بل هي قضايا تجريبية.
أما العلم الحديث فقد توصل بالرصد والمشاهدة والتجربة إلى أن المتصرف هو المخ، ومسارات الطاقة والنواقل العصبية و... ويستندون للتجارب والأجهزة الحديثة التي ترصد النبضات الكهربية والأمواج والأشعة وغيرها، وليس مهماً الآن تحقيق صغرى الموضوع؛ إذ المهم جامع أن هناك قوة تتصرف في الأحلام وتغيرها، سواء أكانت المخ أم القوة المتخيلة والمتوهمة أم غيرها.
وسيأتي ما يحل ما بقي من الإشكالات، وسنتطرق إلى الضوابط المرجعية التي ذكروها للتعبير، فكما يوجد عندنا في الفقه أصول الفقه، كذلك لهم للأحلام أصول الأحلام، لكنه علم مختصر جداً، وما ذكروه من الأصول يقارب العشرين أصلاً، وسنذكر عدداً من أهمها، وسنرى أنها أوهى من بيت العنكبوت وأوهن، وأن هذه الضوابط غير منضبطة بالمرة بوضوح.
العمل بالأحلام مصداق الجهالة:قال الله سبحانه وتعالى: «أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ»(1).
ص: 104
إن العمل بالأحلام حيث إنه لا يعلم المصيب منها من المخطئ، مثل الكشف والشهود، وحيث إنه لا ضوابط مرجعية منضبطة يرجع إليها لتمييز الصحيح من الخطأ والمصيب من غير المصيب، لذا فإن العمل بها يعدُّ مصداقاً لقوله تعالى: «أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ»(1) والعلة معمِّمة ومخصصة فإن «إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا»(2) وإن كان مورده خاصاً، لكن العلة عامة «أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ».
ص: 105
ص: 106
ص: 107
ص: 108
لقد استدل القائلون بحجية الأحلام بالآيات والروايات، وسنتطرق لكل الآيات، وعمدة الروايات بالبحث بالوافي بإذن الله تعالى,في هذا الفصل ولاحقه,فنقول: أما الآيات الواردة في الأحلام فقد وردت في عشرة موارد، بعضها تتحدث عن الأحلام بالصراحة، وبعضها فسرت بالأحلام لكن بمعونة بعض الروايات، وسنذكر الآن فهرس الآيات، وسنتوقف قليلاً عند بعضها، والتوسع الأكثر يترك لأبحاثكم وتدبركم.
أما الآيات غير الصريحة فلعلها خمسة:
منها:ما جاء في سورة يونس: «الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ»(1)، فما هو المراد ب (لهم البشرى) ؟ توجد عدة احتمالات:
منها: إن المراد هو الرؤيا المبشِّرة الصالحة يراها المؤمن لنفسه أو ترى له، كما ورد في بعض الروايات, ومنها: إنه يبشر عند الموت بالجنة؛ إذ تبشره الملائكة ب«أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَابْشِرُوا بِالْجَنَّةِ»(2) ومنها: البشارة التي وردت في القرآن الكريم على أعمالهم الصالحة، وسنتكلم على خصوص احتمال أن المراد منها الرؤيا.
ومنها:ما جاء في سورة الروم: «وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
ص: 109
وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ»(1)، فمنامكم تعني النوم، والنوم يتضمن المنامات والأحلام.
ومنها: ما جاء في سورة المجادلة: «إِنَّمَا النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا» (2)والمراد: ما يلقيه الشيطان في قلب المؤمن في المنام ليحزنه، على تفسير.
ومنها:ما جاء في سورة النبأ: «وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً»(3).
وأما الآيات الصريحة فقد وردت في ستة موارد:في سورة يوسف الآية 4و5، والآية21، والآية 36 إلى 49، وهذه كلها تتحدث عن نبي الله يوسف(علیه السلام).
وفي سورة الإسراء: «وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِيأَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ»(4) والخطاب للرسول(صلی الله علیه و آله)، وفي هذه الرؤيا تفسيرات ثلاثة كما سيأتي.
سورة الصافات: «يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ»(5) والخطاب من إبراهيم(علیه السلام) موجهاً لأبنه إسماعيل(علیه السلام).
ص: 110
سورة الفتح: «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ»(1).
ونبدأ بسورة يوسف، فقد روي عن ابن عباس: أن الرؤيا كانت ليلة الجمعة في ليلة القدر(2).
فهناك خصوصيات مكتنفة بالرؤى الصادقة، وهنا مجال طويل للتوقف، لكن نقتصر على بيت القصيد والزُبدة فقط: يقول تعالى: «إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ *قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»(3).
أما الجواب العام عن مجمل الآيات، فهو: إن الآيات القرآنية الصريحة لا يمكن الاحتجاج بها على حجية الأحلام؛ لأنها إنما وردت في رؤى للأنبياء، أو في رؤى عبّرها أنبياء، ولا نقاش في أن رؤيا النبي هي من أنواع الوحي، وأنه لا
ص: 111
يخطئ، ولا نقاش في أن تعبير النبي مطابق للواقع، كما لا نقاش في حجية مطلق أفعال وأقوال وتقارير الأنبياء والأوصياء، وإنما الكلام في رؤى الناس التي يعبرها المعبرون.
والحاصل: إنه لا يصح ولا يمكن الاحتجاج بالأخص - وهو رؤى الأنبياء أو ما عبّره الأنبياء - على الأعم، وهو حجية رؤانا التي يعبرها المعبر العادي، وهذا جواب مشترك.
أما الجواب الخاص فهو أنه توجد في الآية دلالة على اختصاص هذه العطية بيوسف النبي - وبسائر الأنبياء(علیهم السلام) بالأدلة الأخرى - قال تعالى: «وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ» ويجتبيك هو فعل الله، فهو اصطفاء إلهي، كما قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ»(1) وليس ذلك باختيارنا، وأما قوله:«وَيُعَلِّمُكَ» فهذا تدخل الهي آخر مباشر، فهو علم غيب أعطاه الله ليوسف(علیهم السلام) ،ولا نقاش فيه كما هو واضح.
بل قد يقال:إن في هذه الآية دلالة على عكس مُدعاهم؛ إذ ظاهرها أن الله أعطى بعض أنبيائه علوماً غيبية, منها: علم تعبير الأحلام، مما لعله يفيد أن الطريق ليس طريقاً مادياً عادياً يطرقه الناس، بل ينبغي أن يتدخل فيه الله، وهذا ما أشار له قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ» فهو بتعليم إلهي مباشر، وليس مما يحصل عليه الإنسان بنفسه، ولا أقل أن ذلك - قدرة
ص: 112
الإنسان على الحصول عليه بنفسه - مما لا دليل عليه، فظاهرالآية أنه منحة إلهية مباشرة، وأنه لم يخضع للضوابط الطبيعية، فهذه الآية كقوله تعالى: «وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ»(1)،فتأمل.
والحاصل:إنه لو تدخل الله تدخلاً غيبياً وعلّم نبيه علوم الغيب وعلم التعبير، فإن ذلك لا يصلح دليلاً على قدرة غير النبي على التعبير وصحة تعبيره، بل نقول:إنه في ثلاثة موارد فإن الآيات التي تتحدث عن يوسف(علیهم السلام) تربط معرفته بالأحلام بالتعليم الإلهي الغيبي المباشر:
الآية الأولى: «وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ»، و«من» سواء أكانت لبيان الجنس، أي: يعلمك تأويل الأحاديث، أم للتبعيض، أي: يعلمك بعض تأويل الأحاديث,فإن ذلك لا يضر بما نحن بصدده, والاجتباء هو بفعل إلهي مباشر، وكذلك: «وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ» فإنه بتعليم إلهي مباشر، وكذلك: «وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ» فهذه الثلاثة - يجتبيك ويعلمك ويتم نعمته - كلها بوزان واحد.الآية الثانية: «وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ»(2) فهذا النص (لنعلمه) واضح، وليس تعلّماً, «وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ»(3) ولعل المستظهر أن الله تعالى ربط تعليمه تأويل الأحاديث - كتمكينه في الأرض - بالهيمنة الإلهية وغلبة الله سبحانه وتعالى.
ص: 113
الآية الثالثة: «لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي»(1).
وهكذا نجد في كل الآيات تأكيداً وإصراراً على أن علمه بتأويل الأحاديث منحة إلهية مباشرة, وهنا حديث مطول ونكتفي بهذا المقدار.
والخلاصة:إن هذه الآيات - وما سيأتي - مرتبطة بالأنبياء رؤيا أو تعبيراً, ظاهر الآيات وصريح عدد من الروايات أنّها خاصة بالأنبياء، وأن رؤيا الأنبياء وحي.
لقد سبق أن بعض الآيات ظاهرة في أن علم تأويل المنامات منحة إلهية خاصة بالأنبياء أو ببعضهم، وليست مما يحصل بالطرق الطبيعية، وهناك روايات تفيد ذلك: ففي بحار الأنوار عن قصص الراوندي بإسناده، عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «لما أمر الملك بحبس يوسف(علیه السلام) في السجن ألهمه الله تأويل الرؤيا»(2).
إذن كان ذلك بإلهام إلهي مباشر، فلو ثبت لنا أن شخصاً، بدليل آيةٍ أو روايةٍ، ألهمه الله تأويل الرؤيا فإن كلامه حجة، لكن غير الأنبياء لا دليل لنا من آية أو رواية على أن الله ألهمهم أو بعضهم تعبير الرؤيا.
غاية الأمر أن تدعى شهادة الاستقراء، فلو استقرأنا وتتبعنا فوجدنا تعبيرات بعضهم صحيحة، فأن هذا الاستقراء يبقى ناقصاً، ولا يمكن أن يرقى
ص: 114
إلى رتبة الاستقراء المعلل، فلا يكون حجة بأي وجه من الوجوه؛ إذ لا دليل على الجامع المشترك الذي نريد أن نثبت به حجية سائر تعبيراته، بل نترقى ونقول: إنه حتى من نقل عنه مكرراً أن تعبيراته كانت دقيقة وصحيحة، بل ومذهلة وهو(ابن سيرين) فإنه لا يُعلم ذلك، بل إن أكثرها مراسيل، ثم إنها دعاوى؛ إذ ما الدليل على مطابقة ما فسره وعبر عنه للواقع؟ ولعله يأتي مزيد بيان لذلك.
والحاصل: إن الرواية المتقدمة تثبت أن الله ألهم يوسف(علیه السلام) تعبير الرؤى، وهذه الرواية خاصة بيوسف(علیه السلام).
وهناك رواية أخرى عامة لجميع الأنبياء (صلی الله علیه و آله): ففي مجالس ابن الشيخ، عن والده إلى آخر السند, يقول: عن الرضا(علیه السلام) عن أبيه، عن جده، عن آبائه، عن علي(صلی الله علیه و آله) قال:«رؤيا الأنبياء وحي»(1).
وعلى ذلك فإن الضابط العام هو أن رؤيا الأنبياء وحي،أما رؤيا غيرهم فليست بوحي، ولا منشأ لحجيتها من آية أو رواية(2).
وبعبارة أخرى: الروايات واضحة في أن الحجية هي لرؤى الأنبياء، وأما ما عدا ذلك فمشكوك في حجيته، والشك في الحجية موضوع عدم الحجية.
ثم إننا لا نستدل بمفهوم الوصف أو اللقب كي يقال اللقب والوصف لا مفهوم لها؛ بل إننا نستدل بالظهور العرفي؛فإنه عندما تعطى هذه الجملة « رؤيا الأنبياء وحي» للعرف فما الذي يفهمه؟ مثلاً: لو كانت هناك طوائف من الناس
ص: 115
وقلنا: (قول الطبيب حجة في مسائل الطب) فإن هذه الجملة ظاهرة بقرينة المقام وبمناسبات الحكم والموضوع بنفي ما عداها، فلا يصح الإشكال بأن الوصف(1) أو اللقب لا مفهوم له، وإنه لا ينفي حجية قول غير الطبيب في الطب مما احتاج إلى الخبرة الطبية، إضافة إلى أن قولهم «مفهوم الوصف ليس بحجة»(2) لا يعني النفي المطلق، بل نفي الإطلاق، وهذه مسألة دقيقة، فإن الأصولي يريد أن ينفي دلالة الوصف بنفسه على نفي ثبوت كلي الحكم لموضوعه الفاقد، ولا يريد نفي ثبوته له ولو بالإطلاق المقامي، أو مناسبات الحكم والموضوع أو شبه ذلك,فتدبر جيداً, وهذا مبحوث في محله, على أنه يكتفى بالشك، فإن الشك في الحجية موضوع عدم الحجية، وقد ثبت أن رؤيا الأنبياء رؤياهم حجة، ومن عداهم مشكوك فيه فليس بحجة.
إن الآيات لم ترد في شؤون الدين، ولا في مقام تشريع الأحكام الكلية، بل هي غالباً في الإخبار عن أمرٍ مستقبلي، وبعضها قضية خاصة شخصية .
والجامع الثالث الذي نلاحظه في الآيات - وهو جامع هام - هو أن هذه الآيات طراً لا تتحدث عن أصول الدين إطلاقا، كما أنها لا تتحدث عن تشريع الأحكام الكلية الإلهية أبداً، فليست واردة في هذا المورد ولا في ذاك المورد، فلتكن رؤى غير الأنبياء حجة - فرضاً - لكن حجيتها ليست في دائرة أمور
ص: 116
العقيدة ولا الشريعة.
والحاصل: إن هذه الآيات لا تتحدث عن حجية الرؤى في تشريع الحكم الكلي الإلهي، ولا تتحدث عن حجية الرؤى في الشؤون العقدية، بل إنها تتحدث عن حجية الرؤى في الجملة؛ إذ تتحدث عن الرؤيا في شان الإخبارات المستقبلية وشبهها، فلنلاحظ الآيات الشريفة من جديد: فإن الموارد الثلاثة في قصة يوسف(علیه السلام) لا تتحدث عن شؤون العقيدة أو الشريعة،فقد جاء في إحداها: «قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُالطَّيْرُ مِنْهُ»(1) ففسرها النبي يوسف(علیه السلام) بنجاة الأول وصَلبْ الثاني, فهي إخبار مستقبلي عن قضية شخصية لا ترتبط بشؤون العقيدة أو الشريعة «نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ» أي: المحسنين في تعبير الرؤيا على احتمال، والاحتمال الآخر المحسنين للسجناء(2)، وقد جمعهما يوسف(علیه السلام): «قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ» أي: إلى ما يؤول إليه، فهو مخبر عن أمر لا منشئ لحكم، فهذه الآيات كلها في مقام الإخبار، وليست في مقام الإنشاء لحكم إلهي كلي.
وأما الآيات الأخرى فترتبط بالملك؛ إذ رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، ورأى ما رأى في منامه، فعبرها نبي الله يوسف(علیه السلام) بما كشف عن المستقبل.
ص: 117
وكذلك الآية الأخرى: «إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ» فهي رؤيا كاشفة عن أحداث مستقبلية،فكانت الكواكب كناية عن أخوته، والشمس والقمر كناية عن أبويه، حيث سجدوا له سجود كرامة لا سجود عبادة(1)، كما يسجد البعض عند دخول المشاهد المشرفة شكراً لله على ما وفقهم من زيارة مشاهد أوليائه، وقد ذكر الشهيد الثاني وآخرون استحبابها(2)،وسيأتي حال بقية الآيات الشريفة بإذن الله تعالى.
والحاصل: إنه في الجملة يمكن أن تكون الرؤى مرآة للمستقبل، لكن أين هذا من أن تكون الرؤى من مصادر التشريع، ومن ثبوت الوجوب والحرمة بها؟ وأين هذا من أن أصول الدين تثبت بالرؤى، مثل: إن هذا إمام، أو ما يرتبط بأصول الدين مثل: إن هذا نائب من قبل الإمام؟
إذن فهذه الآيات الكريمة وكذلك الروايات الشريفة ليست في مقام بيان مرجعية الأحلام في التشريع الإلهي الديني، ولا مرجعيتها في شؤون العقيدة،بل إنها تنفي ذلك كما مضى وسيأتي بأدلة أخرى، بل المرجعية - فيما ثبتت لها المرجعية - هي فيشؤون الإخبارات وشبهها، والمقصود ب(شبهها) موردان سيأتيان في آيتين كريمتين بإذن الله تعالى.
وهذا الجامع الثالث تصرح به رواية صحيحة وهامة جداً, تقطع دابر كل
ص: 118
مدعٍ لحجية الأحلام في شؤون العقيدة أو الشريعة والحلال والحرام, والرواية هي في أعلى درجات الصحة على حسب بعض المباني، وهي معتبرة على كل المباني، والرواية وردت في الكافي الشريف(1): (عن علي بن إبراهيم القمي، عن أبيه) وكلاهما فوق أن يْوثّق؛ أما هو فشأنه واضح، أما والده (إبراهيم بن هاشم) فعلى حسب تعبير بعض علماء الرجال فإنه فوق أن يوثق، إضافة إلى إكثار علي بن إبراهيم من الرواية عنه، ووروده في إسناد كامل الزيارات، وأنه رويت عنه (6414) رواية في الكتب الأربعة, ولعله ليس له نظير في كثرة الرواية عنه، بل هذه بنفسها تصلح قرينةشافية لتوثيقه, إضافة إلى جهات أخرى لا داعي للإطالة، فقد ادعى السيد ابن طاووس الإجماع على توثيقه (عن ابن أبي عُمير) وهو من أصحاب الإجماع.
(عن ابن أذينة) وهو ثقة بلا كلام؛فقد وثقه الشيخ الطوسي، كما عبّر النجاشي عنه بتعبير يفوق التوثيق حيث يقول عنه: «شيخ أصحابنا البصريين ووجههم له كتاب...»(2) وله أكثر من (482) رواية في الكتب الأربعة, إذن فالسند لا كلام فيه.
(عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: ما تروي هذه الناصبة) أي: في شؤون الصلاة، كما سيظهر من الرواية نفسها (فقلت جعلت فداك، في ماذا؟ فقال:
ص: 119
في أذانهم وركوعهم وسجودهم؟ فقلت: إنهم يقولون: إن أبي بن كعب رآه في النوم) أي: رأى الرسول(صلی الله علیه و آله) في النوم وأخبره أن الصلاة كذا وكذا (فقال (علیه السلام): كذبوا فإن دين الله أعز من أن يرى في النوم).
فهذه الرواية صحيحة السند، صريحة الدلالة على أن دين الله أعز، أي: أمنع وأعلى شأناً، وأرفع من أن يرى في النوم، فليس النوم من مصادر التشريع، بل إن مصادر التشريع هيالأربعة المعروفة ولا غير, ولم يذكر فقيه من الفقهاء، ولا أصولي ولا إخباري ولا محدث أن من مصادر التشريع هو الأحلام, كما لم تذكره رواية من الروايات كمصدر من مصادر التشريع, بل نفى بعض صحاح الروايات أن تكون الأحلام من مصادر التشريع.
بل نقول:إنه لو كان(1) لبان؛ لكثرة الابتلاء بالأحلام على مر التاريخ؛ إذ إن كل إنسان قد يرى طول عمره المئات، بل الألوف، بل ربما مئات الألوف من الأحلام, فالمسألة كثيرة الابتلاء جداً، وكثيراً ما يرى الناس أحلاماً في شؤون العقيدة أو الشريعة, لكن مصادر التشريع أربعة لا غير، وهذه الرواية صريحة في المقام(2).
ص: 120
ولابد من التحقيق والبحث عن العلة الغائية أو (الرسالة) التي تحملها هذه الآيات الشريفة، وإنه لِمَ ذكر الله تعالى بعض منامات الأنبياء وبعض تعبيراتهم، وما هو ربطها بنا؟ وما هي العلة الغائية لذلك؟ فإذا ظهرت فإنه سيظهر وجه جديد للجواب في تنقيح وجوه عدم حجية الأحلام.
ولنُعد صياغة السؤال ببيان آخر,فنقول: ما هي الحكمة من إيجاد الله سبحانه وتعالى الأحلام والمنامات إن لم نقل إنها حجة؟ فما الحكمة من خلط الغث بالسمين، والرطب باليابس، وعدم إعطاء ضوابط كلية نوعية لتمييز الصحيح من الأحلام والسقيم (1),فقد أوجد الداء ولم يمنحنا الدواء، إن صح هذا التعبير، أما لو قلنا: إنها حجة ولها ضوابط، فالأمر سهل، فهنا داء وهناك دواء، لكن بناءً على عدم الحجية فما هي الحكمة المتصورة في الأحلام؟وببيان وجه الحكمة، استناداً للآيات الشريفة ثم بالروايات، سيتضح جواب آخر لنا عن كلام صاحب القوانين(2) أيضاً، إذ إنه استدل بروايتين على أن ترك الاعتماد عليها مشكل, وببيان فلسفة وحكمة الأحلام يظهر أحد
ص: 121
الأجوبة عن الروايتين(1), وسنجيب عن روايتي صاحب القوانين لاحقاً بأجوبة عديدة، بإذن الله تعالى، فنقول: إن المستفاد من الآيات الشريفة هو أن الحكمة من الأحلام هي أمور ثلاثة,على سبيل البدل, هي: أولاً: الفتنة والامتحان، وثانياً: البشرى والتثبيت، وثالثاً: التحزين والتثبيط, فهذه أهداف ثلاثة أو غايات أو علل، أو قل رسالة الأحلام التي تحملها، فهذه الثلاثة هي العلة الغائية حسب ما هو المستفاد من الآيات الشريفة, والآيات الثلاثة هي: الآية الأولى: يقول الله تعالى في سورة الإسراء:«وَمَا جَعَلْنَاالرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً»(2) .
الآية الثانية في سورة يونس: «الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ»(3).
والآية الثالثة في سورة المجادلة: «إِنَّمَا النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا»(4) .
ص: 122
والحاصل: إن الغاية من الأحلام وخلط غثها بسمينها، ورطبها بيابسها من غير إيجاد مرجعية للتمييز عندنا، هي الفتنة والامتحان، والبشرى والتثبيت، ولعلها من صغريات قوله تعالى: «يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ»(1)،والتحزين والتثبيط عن عمل الخير(2), أما الهدف الأول فهو:
يقول الله تعالى في سورة الإسراء: «وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً»(3)، وهذه الآية تشير إلى غاية من غايات الرؤى، وإن كان بصيغة التعليل لرؤيا معينة, فإن الفتنة والامتحان حكمة إلهية عامة في الكون، فمن غايات المرض - مثلاً - الفتنة، والله تعالى يُمرِض عبيده لِحكَم شتى منها: ليزيدهم من الدرجات، ومنها: ليحط عمَنْ عصى منهم بعض الأوزار، ومنها: الامتحان والاختبار، فهل يصبر ويتقي أم يجزع ولا يتورع؟ والفقر - أيضاً - من هذا القبيل، وكذلك المشاكل الاجتماعية والسياسية، والبلايا والرزايا، ومنها: الزلازل والآفات السماوية والأرضية، فإنها من هذا القبيل، وكذلك الأحلام فإنها حلقة من سلسلة، ومفردة ومصداق لقانونٍ إلهي عام
ص: 123
اسمه الفتنة والامتحان مما تشير له الآية القرآنية المتقدمة.
والحاصل: إن من العلل الغائية للأحلام على مر التاريخ هي الفتنة والامتحان,قال تعالى: «إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ»(1) أي: إنه يوجد ما يبعث الاضطراب كي يتميز ثابت القدم ومستقر الإيمان من مستودع الإيمان، وقال تعالى: «لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ»(2)، فالرؤيا كسائر الرؤى، الهدف منها أو من أهدافها، أما كلها أو لبعضها، هو الفتنة والامتحان، لكي تظهر سرائر الناس وحقائقهم، وذلك نظير المدير إذا أراد اختبار موظف وأمانته، فإنه لابد أن يوقعه في الفتنة، فيضع - مثلاً - تحت تصرفه أموالاً كبيرة، ويتظاهر أنه لا يعرف إن خان في الأمانة، فهذه فتنة الهدف منها استكشافه، وفلسفة الأحلام الامتحان؛ ولذا كان فيها صادق وكاذب، والحاصل: إننا ننكر أنها حجة، ولكن لا نقول إنه لا صادق فيها لكي ينقض علينا ببعض الأحلام الصادقة، بل قد جعل الله الصدق أحياناً، والكذب أحياناً للامتحان.والبرهان الإنّى ادلّ دليل على كون الأحلام صغرى هذه الكبرى فإن الأحلام إذن تعدّ من أهم ابتلاءات الناس وامتحاناتهم، إذ نجد الكثير من الناس يمشي وراء الرؤيا في أمر اعتقادي، أو في أمر شرعي رغم كونها على خلاف الضوابط العقلية والشرعية والعقلائية, بينما يجب على المكلف أن يمشي على ما سنّه تعالى، وعلى ضوء أوامره وتعاليمه، وقد قال الله تعالى: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ»(3) ولم يقل جل اسمه: اسألوا أهل الأحلام والمعبرين، فذلك
ص: 124
امتحان ليميز الله الخبيث من الطيب.
وحتى رؤيا النبي(صلی الله علیه و آله) فإن من فلسفتها امتحان الناس بحسب الظاهر، لقوله تعالى: «وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ»(1)، أي: وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس،إذن هناك واقع خارجي عيني هو الشجرة الملعونة، وهي بنو أمية، وهي فتنة للناس، وهنالك في عالم النفس - أيضاً - سببُ فتنةٍ آخر وهو الرؤىوالأحلام.
وهناك احتمالات في هذه الآية الشريفة (2):
الأول: «وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا» المراد بها الرؤية لا الرؤيا، فإن الرؤية تطلق عادة على ما يُرى بالعين حساً، والرؤيا على ما يرى في المنام، وهذه القاعدة العامة، إلا أن تدل قرينة على الخلاف، وحيث إن السورة افتتحت بالرؤية: «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى»(3) وحيث إن النبي رأى بالعين المجردة حقائق في الليل، ثم أخبر بها في النهار، لذا تُجوِّز عن الرؤية بالرؤيا, وعلى هذا فلا ربط للآية بمبحث الأحلام، فتأمل.
الثاني: أن يراد منها الرؤى والأحلام، كما هو ظاهر الرؤيا، ويكون المراد
ص: 125
من الرؤيا في قوله تعالى:«وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ» هو رؤيا النبي(صلی الله علیه و آله) في المنام أنهم سيدخلون المسجد الحرام آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين، ثم - ولغاية الامتحان والفتنة - لم تتحقق ظاهراً هذه الرؤيا؛ لأن النبي(صلی الله علیه و آله) في عامها صُدّ وعقد صلح الحديبية، فحصلت بلبلة واضطراب وتشكيك لدى البعض بنبوة النبي(صلی الله علیه و آله) وكان عمر بن الخطاب ممن استشكل على الرسول(صلی الله علیه و آله)(1) وأنه ألم تقل إنا سندخل المسجد الحرام؟ فأجاب النبي(صلی الله علیه و آله): إنه قال: إنهم سيدخلون ولكنه لم يحدد دخولهم بهذه السنة، إذن هذه الرؤيا كان الغرض منها الامتحان.
الثالث: والظاهر أنه المنصور والروايات تدل عليه، وهو: إن النبي رأى في المنام قردة, وفي رواية رأى ذلك في غفوة(2)حصلت له وهو على المنبر, فرأى قردة تنزو على منبره فساءه ذلك فاغتم له، والروايات العديدة تدل على هذا المعنى:
منها: ما جاء في تفسير القمي:«قال نزلت لما رأى النبي(صلی الله علیه و آله) في نومه كأن قروداً تصعد منبره فساءه ذلك, وغمه غماً شديداً، فأنزل الله «وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً» أي: ليعمهوا فيها أي: يتحيروا ويترددوا «وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ»، كذا نزلت،وهم بنو أمية»(3) . ووجه الحكمة
ص: 126
والربط في إنزال الله الآية على النبي(صلی الله علیه و آله)
عندما اغتم غماً شديداً، هو أن الله يذكره بالفلسفة من الخلقة ل «يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ» فإن النبي(صلی الله علیه و آله) اغتم جداً إذ رأى أن جهوده يصادرها مجموعة من الجبابرة والطغاة، فأنزل الله هذه الآية الكريمة، وأن هذه الرؤيا والفتنة هي على مقتضى القاعدة مطابقة للفلسفة الكلية للخلقة، فإنه لم يخلقنا سدى، ولم يخلقنا عقلاً بلا شهوة، أو شهوة بلا عقل، بل خلقنا من المزيج ليبلونا، فذلك كله هو مفردة من معادلة الامتحان والابتلاء.
منها(1): العياشي عن الإمامالباقر(علیه السلام) أنه سأل عن قوله تعالى: «وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ» فقال: إن رسول الله(صلی الله علیه و آله)
رأى رجالاً من بني تيم وعدي على المنابر يردُّون الناس عن الصراط القهقرى) وهذه إشارة للأول والثاني، (قيل: والشجرة الملعونة؟ فقال: هم بنو أمية) فالشجرة الملعونة بنو أمية، وما سبقها بنو تيم وعدي.
وفي رواية أخرى(2) عنه(صلی الله علیه و آله) أنه رأى رجالاً من نار على منابر من نار يردون الناس على أعقابهم القهقرى.
وفي رواية أخرى في الكافي: «أصبح رسول الله(صلی الله علیه و آله) يوماً كئيباً حزيناً، فقال له الإمام علي(علیه السلام): ما لي أراك يا رسول الله كئيباً حزيناً؟ فقال: وكيف لا أكون كذلك، وقد رأيت في ليلتي هذه إن بني تيم وبني عدي وبني أمية يصعدون منبري هذا، يردون الناس عن الإسلام القهقرى، فقلت: يا رب، في حياتي أم
ص: 127
بعد موتي فقال بعد موتك» (1).
والروايات في هذا الحقل متعددة نكتفي بهذا المقدار.
ومن ذلك وغيره يظهر أن الله قد يشرع أي يفتح - أمام الناس باب ضلال كما شرع لهم باب هدى «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا»(2) لكي يميز الخبيث من الطيب؛ ولذا نجد أن الكثير من الناس يضلون بهذه الأحلام، فيتبعون هذا أو ذاك من غير حجة إلهية تسوّغ لهم هذا الاتباع، كما أن كثيراً من الناس قد يبني على الأحلام في الأحكام، أو في باب القضاء والشهادات، فيتهم شخصاً بأنه السارق لرؤيا رآها، فهذا امتحان وابتلاء، ومن الواضح أن الرؤى تحت سيطرة الله، فلله جل اسمه أن يحول دون أن يرى عبده ما يسبب سوء ظنّه بالمؤمنين، لكن الله يفعل ذلك ليختبر عبده.
ومن جهات اختباره: أنه هل يلتزم بالضوابط العامة، وأن الرؤيا ليست بحجة، أم يبني على حجيتها رغم عدم وجود الدليل عليها، بل مع وجود الدليل على العدم؟ والحديث حول هذه الآية طويل نكتفي بهذا المقدار.
والنتيجة هي: إنه عندما تتضح الأهداف والغايات فستوضع عندئذٍ الأحلام في إطارها الصحيح؛ لأن الإنسان إذا لم يعرف الهدف فقد يخطئ في موقع الأحلام وتعبيرها، وتوهم حجيتها أو احتمالحجيتها،أما إذا عرف أن إطارها الفتنة، فسيتضح له: أن الفتنة أين والحجية أين؟ والفتنة أين وصحة الاحتجاج بها أين؟
ص: 128
الهدف الثاني: والغاية الأخرى من الأحلام هي: البشرى والتثبيت, وهو ما تتضمنه أو تشير إليه الآية الثانية في سورة يونس:«الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ»(1) ثم إن الرواية الواردة على طبق هذه الآية قد استدل بها المحقق القمي(2) على مشكلية عدم الاعتماد على المنامات، وسيظهر وجه عدم وجود مشكل في البين، بعد بيان الإطار العام للأحلام,بإذن الله تعالى.
والحاصل: إن الهدف الثاني هو التبشير بعمل صالح يعمله والتثبيت، وذلك كمَنْ ينوي أن يبني مسجداً فيرى في المنام مثلاً أن ملكاً زاره أو احتضنه، فإن هذه الرؤيا تبشره بالخير، وتشجعه على أن يبادر لبناءالمسجد أو الحسينية أو المدرسة أو كفالة اليتيم ونحوها، أو أن يرى في المنام كريم أهل البيت(علیهم السلام) فيستبشر من ذلك أن القروض المتراكمة التي تحول دون إكمال هذا المشروع الخيري سيبعث الله من يسددها, فهذه رؤيا مبشّرة تحضه وتحركه على العمل الصالح والاستمرار وتدعوه لأن يثبُت أكثر.
وهنا نقول: أين التشريع من مؤازرة التشريع؟
وبعبارة أخرى: الهدف الثاني من الرؤى هو أن تكون عضداً وسنداً لما ثبت من الشرع كونه عملاً صالحاً، وبهذا يندفع الاحتجاج على حجية الرؤى بأننا نرى كثيراً من الرؤى الصالحة ونبني عليها؛ إذ ذلك وإن صح، إلا أنه في
ص: 129
هذا الإطار، وهو أن العمل الصالح المسلّم صلاحه لو رؤيت رؤيا تبشِّر بإنجازه أو تشجع عليه، فذاك على وفق القاعدة، ولا كلام فيه.
فهذا هو الإطار الثاني للرؤيا، وهو تثبيت المؤمنين على ما ثبت كونه عملاً صالحاً، فهذا أين والحجية أين؟ ولذا فإن من المستغرب من صاحب القوانين أن يقول(1): (مع أن تركالاعتماد) أي: على الرؤى (مطلقاً حتى فيما لو لم يخالفه شيء أيضاً مشكل، سيما إذا حصل الظن بصحته، وخصوصاً لمن كان أغلب رؤياه صادقة، سيما بملاحظة ما رواه...إلى أن يقول.. في الصحيح عن معمر بن خلّاد عن الإمام الرضا(علیه السلام) قال: إن رسول الله(صلی الله علیه و آله) إذا أصبح قال لأصحابه: هل من مبشرات؟ يعني به الرؤيا).
فنقول: إن عمل النبي(صلی الله علیه و آله) لا شك في حجيته،لكن العمل وهذا السؤال لا جهة له،فما هو وجه سؤاله؟ هل لأن الرؤيا حجة مطلقاً ؟ أم كان السؤال عن خصوص (المبشرات) التي تشجع الناس على الجهاد والحركة والنشاط، والعطاء والعمل الصالح، فالغرض هو أن يشجع أصحابه بسماعهم رؤيا مبشرة بنصر أو تقدم, خاصة وأنه سيكون هو المعبِّر أو المقرر والممضي للتعبير.
إضافة إلى أن مادة (المبشرات) تدل على إرادة ما أحرز صلاحه وحسنه،
ص: 130
والسؤال عن المبشر به، وسيأتي في البحث القادم بيان ذلك، وتتمة الجواب على صاحب القوانين، ووجه دفاع عنه أيضاً.والحاصل: إن المبشرات ليست من مصادر التشريع، بل إنما تبشر بأمر سار حسن يحصل للإنسان، من ولد صالح أو توفيق أو بركة في رزق أو غير ذلك.
وفي هذه الآية الشريفة احتمالات متعددة:
الأول:إن المراد ب«لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»(1) البشارة القرآنية بثواب جزيل على العمل الصالح(2), ذكره البعض لكن لم أجد به رواية.
الثاني: إن المؤمن عند الموت تبشره الملائكة(3) «أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ»(4) وتدل عليه بعض الروايات، وعلى هذا الاحتمال فإنه لا ربط للآية بالمقام.
وجاء في تفسير العياشي عن الباقر(علیه السلام) : (إنما أحدكم حين يبلغنفسه ههنا ينزل عليه ملك الموت، فيقول له: أما ما كنت ترجوه فقد أعطيته) إذ كان يرجو المغفرة والرحمة والجنة (وأما ما كنت تخافه) النار والعذاب (فقد أمنت منه، ويفتح له باب إلى منزله من الجنة، ويقال له: انظر إلى مسكنك من الجنة،
ص: 131
وانظر:هذا رسول الله وأمير المؤمنين والحسن والحسين (علیهم السلام) رفقاؤك، وهو قول الله تعالى الذين امنوا وكانوا يتقون..)(1).
الثالث: وهو الذي يدل عليه عدد من الروايات،هو الرؤيا الصالحة التي يراها المؤمن، ففي تفسير الصافي: «الكافي والفقيه عن النبي، وكذا في القمي «لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» هي الرؤيا الحسنة يراها المؤمن فيبشَّر بها في دنياه، وزاد في من لا يحضره الفقيه: وأما قوله«وَفِي الآخِرَةِ» فإنها بشارة المؤمن عند الموت يبشر بها عند موته أن الله قد غفر لك ولمن يحملك إلى قبرك»(2) أي: مشيعيك.
وفي الكافي رواية رائعة طريفة عنالباقر(علیه السلام) في هذه الآية «لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» (يبشرهم بقيام القائم(علیه السلام) وبظهوره) ولعل المراد عند لحظات الاحتضار، فإن كل مؤمن يتمنى ذلك، فتبقى حسرة في قلبه حتى لحظات الاحتضار؛ لذا فإن الملائكة يبشرونه بأن الإمام سيظهر(3) (وبقتل أعدائهم، وبالنجاة في الآخرة، والورود على محمد وآله الصادقين على الحوض)(4).
ثم إنه لا مانعة جمع بين كل هذه التفاسير، سواء أكانت اللام في البشرى للجنس، والأمر واضح عندئذٍ،أم كانت للعهد الذهني، فإن المراد والمعهود في
ص: 132
أذهانهم(علیهم السلام) هو كل ذلك،وقد ذكروا مصاديق للبشرى في كل مناسبة، بل والعهد الحضوري أيضاً، كحضور كل تلك البشارات لدى رب العزة والجلالة، بل لديهم(علیهم السلام)بوجهٍ.
إذن، فهذا هو الهدف الآخر من الرؤى، وهو البشارة والتثبيت، فلا ربط للرؤى بالحجية في أصول الدين، ولا في فروع الدين والشريعة، بل صِرف البشارة على ما هو من العقائدالصحيحة، أو الفروع الثابتة، أو الأعمال الصالحة, فإن الرؤيا لو طابقتها فإنها مبشرة ولا غير.
وبعبارة أخرى:البشرى في رتبة المحمول، فلا تنفع ما هو في رتبة الموضوع من إنه صالح أو طالح, كما أنه لا يصح التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فإذا لم نعلم أن هذا حسن أم سيء فلا يصح التمسك ب (لهم البشرى) على أنه حسن، فهو بشارة،فلو أخبر أنه سيولد له ولد فإنها بشارة، لكن هل ولده سيكون صالحاً أم طالحاً؟ هذا مما لا تتكفله لفظة البشارة.
أما الهدف الثالث من الأحلام، والحكمة من إيجادها في الأنفس لدى المنام، فهو: التحزين والتثبيط, يقول تعالى: «إِنَّمَا النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا»(1). وفي هذه الآية احتمالان:
الأول: إن المراد من النجوى هو التناجي، أي: الحديث بين اثنين سراً، بحيث لا يسمعهما ثالث، وعلى هذا التفسير فلا ربط للآية بالمقام.
ص: 133
الثاني: إن المراد من النجوى هو ما يلقيه الشيطان في مخيلة النائم من الأحلام المحزنة أو المخيفة,وهنا ترتبط القضية بالمقام، وتدل على كلا المعنيين روايات، ومنها: ما جاء في تفسير مجمع البيان: عن النبي(صلی الله علیه و آله) قال: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما، فإن ذلك يحزنه»(1)، وهذا هو المعنى الأول.
قال الفيض الكاشاني: «وقيل: إن المراد بالآية أحلام المنام التي يراها الإنسان في نومه فتحزنه»(2), ثم نقل عن الكافي الشريف: عنه(علیه السلام) قال: «إذا رأى الرجل منكم ما يكره في منامه فليتحول عن شقه الذي كان عليه نائماً، وليقل: «إِنَّمَا النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ» ثم ليقل: عذت بما عاذت به ملائكة الله المقربون، وأنبياؤه المرسلون، وعباده الصالحون من شر مارأيت، ومن شر الشيطان الرجيم» (3). وهذا هو المعنى الثاني.
وبضم الطائفتين من الروايات بعضها إلى بعض يظهر أن المراد بالآية هو الأعم، وإن كل طائفة من الروايات ذكرت مصداقاً من المصاديق، وحول هذه الآية وتلك الآيات بحوث عديدة، لكن لا يهمنا الآن التطرق لها.
إذن، فهذه هي الغايات والأهداف الثلاثة للأحلام،و ثالثها: ما يحزنه كأن يرى في منامه ما يفسر بأن أحد أقربائه سيموت، ولم يكن حتى في لوح
ص: 134
المحو والإثبات كذلك، فإن هذا من عمل الشيطان المسمى هزع يريد به تحزينه، فإن عمل الشيطان في الدنيا والآخرة(1) هو إيذاء الإنسان،أي: إنه يريد أن يفسد على الناس آخرتهم ودنياهم بتحزينهم، وقد يخوِّفهم، كما لو كان الإنسان في حالة جهاد أو بذل جهد لتأسيس مؤسسة خيرية، فيرى في المنام ما يخيفه فيعبره أنه سوف يفتقر، أو تقطع أعضاؤه إن أقدم، فهذه من الشيطان. لكن أين التحزين والتخويف من الحجية؟وستأتي مناقشتنا مع صاحب القوانين، ومناقشة الروايتين اللتين استدل بهما.
ونرجع الآن للآيات التي ابتدأنا البحث بها، وقد انتقلنا(2) إلى هذه الرواية لارتباطها بآية «لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»(3) فهذه الجهة الفنية اقتضت تقديم بحث هذه الرواية بالذات، وإلا فمقتضى القاعدة أن تبحث الروايات بعد الفراغ عن الآيات بأجمعها.
الآية الأولى: في سورة الصافات، وهي قوله تعالى: «فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنْ الصَّابِرِين»(4) .
ص: 135
والآية الثانية: قوله تعالى:«لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ»(1).
وفي قوله تعالى: «فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ» احتمالان:
الأول: إن المراد من (أن إسماعيل بلغ مع أبيه السعي) هو: بلغ أن يسعى معه في قضاء حوائجه، ويشد من أزره، حيث كان قد بلغ الثالثة عشرة من العمر.
الثاني: بلغ أن يسعى لطاعة الله وعبادته، ولعله على هذا يكون كناية عن بلوغه سن التكليف(2).
والكلام في هذه الآية طويل, لكن موطن الشاهد هو أن إبراهيم(علیه السلام) عمل بمقتضى الأمر في الرؤيا، وكان هذا الأمر على خلاف حكم شرعي عقلي عقلائي قطعي، وهو تحريم قتل النفس المحترمة، فحيث إن إبراهيم(علیه السلام) استند إلى الرؤيا في تحليل، بل إيجاب قتل النفس المحترمة، فإن الرؤيا حجة إذن.
وهناك على هذا الاستدلال عدةأجوبة، جوابان تقدما، فنشير إليهما إشارة فقط وجوابان آخران:
إن هذه قضية شخصية، فهي خاصة بنبينا إبراهيم(علیه السلام) وتلك الأخرى(3)
ص: 136
خاصة بنبينا محمد(صلی الله علیه و آله) ، وقد مضى أن منام الأنبياء حجة، ونقلنا رواية (نوم النبي وحي) هناك غيرها، ولا كلام في ذلك.
ومن الواضح أنه لا يمكن الاستدلال بالخاص على العام، كما لو قلت: جعلت زيداً وكيلاً، فلا يحق للآخرين أن يقولوا: فنحن وكلاء إذن! فالقضية شخصية وليست كلية.
إنَّ القضية - بالإضافة إلى كونها شخصية - هي قضية جزئية، ف(شخصية) أي: ترتبط بالشخص، وإن خصوص هذا أحلامه حجة، فأي ربط لذلك بالآخرين؟ وهي جزئية، أي: هي قضية خارجية في واقعة معينة أُمِر فيها النبي إبراهيم(علیه السلام) بأمرٍ، وليس في هذه الآية أو تلك الآية، أيّة دلالة على أن الرؤيا مصدر لتشريع الأحكام الشرعية الكلية،بل هي مما يرتبط بشخص خاص في واقعة خاصة، فهذه الرؤيا لهذا الشخص في هذا الموضوع الخاص حجة، فما ربطها بباقي الرؤى؟
إن خصوص هاتين الرؤيين: «لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ» و«إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ» قد أمضاهما الله وصدقهما، بالإضافة إلى قضية أن رؤيا النبي حجة، ففي الآيتين دلالة واضحة على صدق وحجية الرؤيين، فأي ربط لذلك بحجية رؤانا بقول مطلق، ففي قوله: «إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ» نجد أن الله تعالى يقرر هذا الكلام ويمضيه بقوله: «فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ» أي: إنه أمر إلهي حسب ما تلقاه الطرفان،
ص: 137
والله لم ينكر ذلك، بل أمضاه، فهو أمر إلهي في هذه القضية, بل إن تتمة الآية صريحة في أمضاء الله تعالى وتصحيحه للرؤيا، حيث قال: «فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ» أي: صرعه لجبينه ليذبحه «وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا» فهذه رؤيا خاصة أرادمنه الله أن يصدقها، وصرح في ذلك بكتابه، فأي ربط لذلك بالرؤى التي لم يتدخل الله مباشرة في الحكم بصحتها وإمضائها، وكذلك الحال في الآية الأخرى في سورة الفتح «لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ» فقد صرح الله تعالى بأن هذه الرؤيا هي بالحق، وقد صدقه عليها.
والحاصل: إنه حتى لو لم تكن رؤى الأنبياء(صلی الله علیه و آله) حجة بقول مطلق - وقد سبق أنها حجة بقول مطلق - فإن خصوص هاتين الرؤيين، قد أُمضيتا بصريح الآية الشريفة، وعليه فإنه إذا حصلت رؤيا تدخل الله غيبياً فيها وقال: إنّ هذه الرؤيا حجة فلا كلام في ذلك!
فهذه أجوبة ثلاثة واضحة على الآيتين، وأما الجواب الرابع فهو ما ذكره صاحب مجمع البيان.
وهو جواب مجمع البيان، ولعله حيث لم تخطر بباله الأجوبة الثلاثة المتقدمة أو لم يقبلها، لذا انتقل إلى جواب آخر غير تام في ما يبدو في النظر, حيث اعتمد على اجتهاد عقلي، وسنوضحه ببيان أوفى من بيانه إن شاء الله.
قال مع إضافة وتوضيح منا: الرؤيافي المنام ليست مصدراً للتشريع بأي وجه من الوجوه لا في نبي ولا في غيره، فلا يمكن أن يكون إبراهيم(علیه السلام) قد استند للرؤيا المنامية لذبح ابنه،أي: لارتكاب محرم في الشريعة بدعوى أن الرؤيا قد
ص: 138
حلّلته وأوجبته, ولكن ومن جهة أخرى نرى أن إبراهيم(علیه السلام) قد التزم بالرؤيا، وعمل بها وصدقته الآية, فما الحل؟ فأراد صاحب مجمع البيان الجمع بين الحقين (حرمة الاستناد في التشريع للرؤيا من جهة، والتزام إبراهيم(علیه السلام) بالعمل بالرؤيا من جهة ثانية) باستظهار أن الله في اليقظة كان قد أوحى إلى إبراهيم(علیه السلام) بأن يذبح ابنه، وأما في المنام فقد ذكّره بذلك، فقد التزم وعمل بالوحي الذي نزل عليه في اليقظة، وأما الرؤيا فكانت صِرف مذِّكر.
هذا توجيه وتوضيح كلام مجمع البيان بتصرف، وأما نص عبارته(1) فهو:(والأولى أن يكون الله تعالى قد أوحى إليه في حال اليقظة، وتعبده أن يمضي ما يأمره به في حال نومه) أي: إنه في حال نومه ذكَّره بما أمره به حال اليقظة, وكان الأفضل أن يقول بدل تعبده (ذكّره)، وقوله (في حال نومه)متعلقة بقوله تعبده(2)، ودليله أنه من جهة أن منامات الأنبياء صحيحة قطعاً، ومن جهة أخرى فإن المنامات لا تكون مشرِّعة ،فنجمع بينهما بأن نقول: إن المنام كان مذكِّراً، فهو صحيح لكنه لم يكن مشرعاً، وقال: (إن منامات الأنبياء لا تكون إلا صحيحة، ولو لم يأمره بذلك في حال اليقظة لما كان يجوز له أن يعمل على ما يراه في المنام)(3) لأنه ليس مشرعاً، فمنامه إذن مذكِّر ومنبِّه، ومشير إلى الأمر الذي أتاه في اليقظة, وذلك هو ما يستنبط عقلاً من الجمع بين الأدلة، وبعبارة أوضح وأدق: حيث إن منامات الأنبياء صحيحة
ص: 139
لكنها ليست مشرعة بلا شك، فلا بد أن تكون مذكِّرة.
ونجيب عن كلام مجمع البيان(1) بثلاثة وجوه اتضحت كلها مماتقدم:
الأول: إن قوله: «ولو لم يأمره بذلك في حال اليقظة لما كان يجوز أن يعمل على ما يراه في المنام»(2) مخالف للروايات العامة الدالة على أن رؤيا الأنبياء وحي، والوحي لا شك في جواز، بل وجوب اتباعه، و هو مصدر التشريع.
الثاني: إن بعض الروايات الخاصة - في إحدى الآيتين - تصرح بأن الأمر كان في المنام، كما جاء في تفسير قوله تعالى: «لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ» حيث ورد عن الصادق(علیه السلام) قال: «سبب نزول هذه السورة وهذا الفتح العظيم أن الله عز وجل أمر رسوله في النوم»(3) إذن(4) لم يكن مذكِّراً، بل هو أمر في النوم «أن يدخل المسجد الحرام ويطوف ويحلق مع المحلقين، فأخبر أصحابه وأمرهم بالخروج......إلى أخر الرواية)(5).الثالث: إنه مخالف لظاهر الآية، فلو فرض أن هناك أصلاً وقاعدة في نظر صاحب مجمع البيان، كما هو الصحيح، وهو: إن المنامات ليست بحجة، فهذه
ص: 140
الآية تكون مخصصة له - أي لعدم حجية المنامات - باستثناء منامات الأنبياء(1)، فلاحظ قوله تعالى: «فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ»(2)، فإن ظاهر الآية هو أن الأمر في (افعل ما تؤمر) هو ما رآه في المنام (إني أرى في المنام) وأنه الباعث للامتثال، وليس هناك أمراً خفياً آخر، كما أنه لا وجه - ظاهراً - لإخفاء الأجلى والتمسك بالأضعف، فلو كان إبراهيم(علیه السلام) قد أمر باليقظة ثم ذُكّر في المنام(3) فمن الغريب أن يتمسك بالأضعف وهو الرؤيا، ويترك الأجلى وهو الوحي، ولكان الأنسب أن يقول لأبنه:أوحي إلي في اليقظة أن أذبحك(4).
إذن، فظاهر الآية أن الأمر في المنام، وكذلك الآية الأخرى: «لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ» فإن ظاهرها أن هذه الرؤيا كانت حقاً(5)، فصدقها الله فهي حجة, إذن نقول: حتى لو لم تكن عندنا تلك الروايات ففي ظهور الآية كفاية لتخصيص القاعدة العامة في خصوص الأنبياء خاصة، وإنها على القاعدة من عصمة الأنبياء بقول مطلق.
ص: 141
ص: 142
ص: 143
عمدة الروايات التي يمكن أن يستدل بها على حجية الأحلام هي ثلاثة روايات، وهي كثيرة الدوران على ألسن البعض، فلو ناقشناها وأوضحنا المراد منها فإن الموضوع سيكون واضحاً بعد كل ما سبق، وضوح الشمس بإذن الله تعالى، منها: روايتان ذكرهما صاحب القوانين وسنتوقف عندهما، وبدأنا براوية معمر بن خلّاد؛ لأن الغاية الثانية من غايات الأحلام كانت البشارة والتثبيت على حسب الآيات، فبدأنا بها لربطها بمبحثنا ربطاً فنياً.
وقبل البدء نشير إلى أمرين:
الأول: إن صاحب القوانين يعبّر في المقام ب(الاعتماد) و(ترك الاعتماد)(1) وهنا نلاحظ أنه لم يستخدم المصطلحات الفنية الأصولية؛ إذ المفروض أن يتحدث عن الحجية وعدم الحجية ولعل وجهه أن البحث جديد لم يُوفَّ حقه؛ لذا لم يكن حتى في مصطلحاته على مقتضىالقواعد الفنية(2)، وسنتوقف عند هذه الكلمة لاحقاً.
الثاني: إن صاحب القوانين حيث استخدم كلمة الاعتماد وعدم الاعتماد، فما هو مراده منهما؟ فهل الاعتماد لديه يساوق الحجية؟ هذا احتمال, أم أنه يريد من الاعتماد ترتيب الأثر ولو من باب الاحتياط، هذا احتمال آخر.
ص: 144
وبعبارة أخرى: هل يريد صرف البناء القلبي والاعتماد النفسي، أم البناء العملي والاعتماد على الأحلام في مقام العمل وإن لم يسنده للشارع؟ فإنه إذ يقول (مع إن ترك الاعتماد) فهل المقصود عدم اعتبارها حجة، أو المقصود عدم ترتيب الأثر مطلقاً على الأحلام (مطلقاً حتى فيما لو لم يخالفه شيء) أي: لو لم يعارض نصاً (مشكل) وسيتضح أنه ليس بمشكل بالمرة.
وأما دليله فهو روايتان: الأولى ستأتي، أما الرواية الثانية فننقل السند كاملاً لأن صاحب القوانين يذكر بعض السند: في روضة الكافي: عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن معمر بن خلاد، عن الرضا(علیه السلام) قال: «إن رسولالله(صلی الله علیه و آله) كان إذا أصبح قال لأصحابه: هل من مبشرات؟ يعني به الرؤيا»(1) وهذه الرواية كما يقول صاحب القوانين صحيحة(2)، وكما صرح به المجلسي أيضاً في مرآة العقول(3)، وكما يشهد به تتبع رجالها(4).
كما وردت في معناها روايات أخر, فإن الروايات عن المبشرات متعددة،
ص: 145
منها في البحار، ومنها ما في الكافي: بسنده, قال رجل لرسول الله(صلی الله علیه و آله)
في قول الله عز وجل «لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» قال: هي الرؤيا الحسنة يرى المؤمن فيبشر بها في دنياه)(1).
والروايات المستقلة أو في ضمنتفسير هذه الآية كثيرة، فلا حاجة إلى التوقف في سندها، وبعضها صحاح.
وفي رواية أخرى في الكافي: عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن سعد بن أبي خلف(2),عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «الرؤيا على ثلاثة وجوه: بشارة من الله للمؤمن» (3)، فينبغي الاعتماد عليها حسب كلام صاحب القوانين (وتحذير من الشيطان) ولعلها مصحفة، والصحيح تخويف من الشيطان، وإن أمكن تفسيرها بالتحذير من الشيطان، أي: تحذيره من عمل الخير (وأضغاث أحلام).
والحاصل: إنه لا مجال للمناقشة السندية في الرواية التي نقلها صاحب القوانين، وإنما تناقش دلالةً فنقول:
ونجيب عنه بعدة أجوبة:
ص: 146
إنَّ المبشّر أمر والمشرِّع أمر آخر,وأين هذا من ذاك؟
فإن الرواية تقول: إن النبي(صلی الله علیه و آله) كان إذا أصبح سأل أصحابه (هل من مبشرات) فهل قال (هل من مشرعات؟)
والبينونة بينهما كبيرة وواضحة، ويؤكدها أن النبي(صلی الله علیه و آله) هو مصدر التشريع، فهل يعقل أن يسأل الناس: هل من مشرعات؟
فإن من غير المعقول أن يسأل الناس: هل عندكم مصدر للتشريع جديد، أو دليل جديد على تشريع جديد؟ وهل نزل على أحدكم الوحي؟ فهذا واضح البطلان، إذن المبشر أمر والمشرع أمر آخر, فلا وجه للاعتماد على الرؤيا في الدين، سواء في شؤون العقيدة أم شؤون الشريعة.
وبعبارة أخرى: المبشر يغاير المشرِّع ثبوتاً، وهذا واضح، فإن المشرِّع منشئ، أما المبشِّر فهو مخبر؛ لأن البشارة تعني الإخبار بشيء سارٍ، أي: بما يسرّ، إذن البشارة أخص مطلقا من الخبر(1)، والخبر قسيم للإنشاء، فلا يعقل أن تكون البشارة مُنشِئة، هذا أولاً.
وثانياً: إن الكلام عن المبشر وليس عن الحجة أو الأمارة، فإن النبي(صلی الله علیه و آله) قال:(هل من مبشرات) ولم يقل (هل من حجج على الإحكام)؟
والحاصل: إنه لم يسأل عن مُنشِئات الأحكام ومشرعاتها، فإنه المنشئ لها، أو الناقل لها عن الله. كما أنه لم يسأل عن الحجج عن الأحكام؛ إذ لم يقل: هل لكم حجج جديدة على الأحكام، التي أنزلها الله تعالى عليَّ،
ص: 147
ونقلتها لكم عن الله! إذن المبشر أمر والمشرِّع ثبوتاً - أي: المنشئ - أمر، والحجج والأمارات إثباتاً أمر آخر(1).
ويوضحه ملاحظة تغاير المبشر عن المفتي، فأين (هل من فتوى) من (هل من مبشر)؟ فإنهما أمران مستقلان تماماً. نعم، قد تكون الفتوى بدلالتها الإلتزامية مبشرة(2)، لكن الفتوى أمر والبشارة أمر آخر. وكذلك القضاء والشاهد، فلو سأل سائل: هل من شاهد؟ فأين هل من شاهد من هل من مبشر؟
وكذلك هل من مبشر هي غير هل من حجة على الحكم؟ فإن الفاسق قد يبشر بالخبر السار، لكن هذا لا يقتضي حجية كلامه، كما لو بشر أن طلائع الجيش المدافع عن البلد في قبال الغزاة قداقتربت، فهو مبشر(3) بلا شك ويصدق عليه بالحمل الشايع الصناعي، لكن ذلك لا يلازم الحجية؛ إذ «إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا» (4). نعم، قد تستفاد حجية خصوص كلامه هذا -
ص: 148
أي: كاشفيته - من قرائن أخرى، كالقرينة المقامية، ومناسبات الحكم والموضوع وغيرها، لكن الكلام عن خبره بنفسه، وعن البشارة بما هي هي.
وبتعبير أوضح: لو قال النبي(صلی الله علیه و آله) هل من أخبار سارة - وهذه ترجمة ل:(هل من مبشرات) - فأخبر فاسق بخبر سارٍ، فهل يدل ذلك على حجيته، أم يجب الرجوع إلى الضوابط؟
إذن، فهذا هو الجواب الأول على استدلال كلام صاحب القوانين(1).
لا شك في وجود المبشرات ككبرى كلية إجمالاً، لكن نقول: إن وجود المبشرات ككبرى كلية لا يقتضي كون هذه الرؤيا المصداقية من المبشرات، وإلا لكان من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
والحاصل: إنه نسلم وجود المبشرات لكن الأحلام على ثلاثة أقسام: منها: مبشرات، ومنها: محذِّرات أو مخوفات، ومنها: فتن وامتحانات، لكن البحث عن المصاديق, وإن هذه الرؤيا التي رآها هذا الشخص هل هي من المبشرات(2)؟ بل هل هي رؤيا صادقة مبشرة، أو هي من أضغاث الأحلام كما في روايات أخرى؟ أو هي من حديث النفس، فإن الإنسان أحياناً يحدث نفسه بالفتح العلمي أو العملي، فيرى في المنام الفتح أو ما يعبره بالفتح(3), لكن من
ص: 149
قال: إنما رآه واستبشر به لم يكن من حديث النفس، بل كان من المبشرات، ومما قذفه الله في قلبه وألهمه إياه(1)، فالتمسك بهذه الكبرى لإثبات الصغريات إنما هو تمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فلا وجه للتمسك بهذه الرواية لإثبات الصغريات، كما هو ظاهر كلام القوانين؛ إذ إنه يريد التمسك بالرواية لإثبات الصغريات، لأن الكلام عن الاعتماد، والاعتماد ليس على الكبرى الكلية، فذاك الإيمان بها بأن نؤمن بأن هناك مبشرات من الرؤى، إنما كلامه في الاعتماد بأن نعتمد على هذه الرؤيا وتلك وتلك، فيقول: لا يمكن أن لا نقول بالاعتماد لوجود هذه الرواية(2)، فنقول: الرواية كبرىكلية، ونقاشنا في الصغريات
ص: 150
الجزئية في محور الاعتماد عليها وعدمه، وهو المحور الذي يدور البحث حوله.
ما سبق من أن الأحلام لو فرض أنها حجة، لكن قد اختلطت باللا حجة, بعبارة أخرى: سلمنا وتنزلنا أن المبشرات تساوق الحجج، وأن الشارع إجمالاً يقول: إن ههنا حجة، لكن المشكلة أن هذه الحجة اختلطت باللاحجة، فإن ذلك من قبيل شبهة الكثير في الكثير, وتقدم تفصيله فلا نطيل.
أما الجواب الرابع عن صاحب القوانين فهو: ان دعواه تستبطن تقدم الشيء على نفسه، بل الدور، أي: إن الاعتماد على الأحلام استنادا إلى هذه الرواية - المبشرات - يستبطن التقدم والدور لو استند إليها في مجال التشريع إنشاءً، أو في عالم التكوين، باعتبارها موجدة للمصلحة،أو استند إليها باعتبارها منشئة لمنصب ككونه نائباً عن المعصوم(علیه السلام) أو وصياً أو قاضياً أو وكيلاً.
وتوضيحه:الأحلام المبشرة إما أن يقال: إنّها في عالم التكوين موجِدة للمصلحة، أو يقال: إنّها في عالم التشريع منشئات للأحكام، فنقول على كلا التقديرين هنا دور، ويتضح الدور ببيان مبسط، فإن المبشرات من أصناف
ص: 151
المخبِرات، فإن البشارة إخبار بما يسر، والإخبار يستبطن وجود مخبر عنه في الرتبة السابقة، فلو كان موجداً له وللمصلحة في متن الواقع للزم تقدم الشيء على نفسه، ولكان دورياً.
وبعبارة أخرى: البشارة هي الإخبار بما يسر، وهذا يعني وجود ما يسر في رتبة سابقة، فلو كان هو الموجد لما يسر لكان الشيء متقدماً على نفسه، وللزم الدور. هذا في عالم التكوين، وأما في عالم التشريع فإن الأمر في الإنشاء كذلك، فإن البشارة لو كانت الإخبار عن حكم تشريعي فينبغي أن يكون هناك حكم تشريعي في رتبة سابقة، فلو كانت الأحلام موجدة للأحكام التشريعية في الوقت نفسه كان ما هو مقدم رتبة على الشيء معلولاً له،وللزم الدور، فتأمل(1).
اللهم إلا أن يقال: هي بظاهرها إخبار لكن أريد بها الإنشاء، لكنه إضافة إلى أنه لا دليل عليه،يرد عليه العديد من الأجوبة السابقة في كلا الفصلين فلاحظ.
وبعبارة أخرى:كون الشيء مبشراً أو خبراً، وكونه منشئاً أو موجداً في
ص: 152
الوقت نفسه، يستلزم تقدم الشيء على نفسه؛ لأن الخبر يتوقف على كون المخبر عنه متحققاً في رتبة سابقة - لا في زمن سابق؛ إذ قد يكون الخبر عن المستقبل - إذ رتبة المخبر عنه متقدمة على رتبة الخبر؛ فإن الخبر خبر عن المخبر عنه، إذن الخبر بذاته يقتضي تقدم المخبر عنه عليه، فكيف يكون موجداً له، والحال أن الموجَد متأخر عن الموجِد زمناً ورتبة، وهذا واضح.
وببيان آخر: كونه خبراً يتوقف علىتحقق مضمونه في مرتبة سابقة؛ لأن الخبر انعكاس وحكاية، فكيف يكون الخبر موجداً لمضمونه؟ فليزم من ذلك تقدم الشيء على نفسه.
وبعبارة أخرى: كونه خبراً يتوقف على وجود المخبر عنه في رتبة سابقة, فلو توقف وجود المخبر عنه على الخبر دار، كما هو مفروض الكلام، وإن المبشرات مشرعات ومنشئات، كما هو لازم كلام صاحب القوانين.
والحاصل: إن الخبر كالمرآة؛فالمرآة بما هي مرآة مرآتيتها تقتضي كون المنكشف بها في رتبة سابقة موجوداً، فلو كانت المرآة هي الموجدة للشيء للزم محذوران: الأول: تقدم الشيء على نفسه، والثاني: الدور(1), فليتدبر.
والدور الذي ذكرناه يمكن فنياً أن يشكل عليه،لكن يمكن إعادة صياغته
ص: 153
بطريق ثانٍ بحيث لا يستشكل عليه.
أما كون الشيء متقدماً رتبة ومتأخراً فلأن الخبر حكاية، وليسمنشئاً إلا إذا انسلخ عن الخبرية، كالإخبار في مقام الإنشاء كقوله(علیه السلام): «يعيد صلاته»(1) لكنه انسلخ عن الخبرية فهو إنشاء صرف، وأما أن يبقى إخباراً ويكون إنشاءً في الوقت نفسه فإنه لا يمكن ذلك؛ إذ الخبرية حكاية تقتضي تقدم المخبر عنه، والإنشاء إيجاد يقتضي تأخر الموجَد، اللهم إلا على دعوى أن تعدد الجهة يكفي،لكن كيف يكفي تعدد الجهة الاعتباري في التعدد الحقيقي؛إذ الحكاية والإيجاد أمران حقيقيان مختلفان بالذات؟فتأمل .
إنَّ
القضية المذكورة في الرواية قضية مهملة، والمهملة في حكم الجزئية، فلا يمكن الاستدلال بها؛ إذ لم تذكر الرواية كبرى كلية يستند إليها في انطباقها على مصاديقها، وإرجاع مصاديقها إليها، بل ذكرت قضية مهملة.
توضيحه: إن الرسول(صلی الله علیه و آله) سأل: (هل من مبشرات) ولا يتوفر هذا على أدوات العموم ولا الإطلاق، فهي قضية مهملة، وإذا كان يراد لهذه القضية أن تكون كلية فكان ينبغي أن يقال (المبشراتحجة) أو (المبشرات يعتمد عليها)، أو يقال (الأحلام مبشرات) أو ما أشبه، أي: أن تستخدم إحدى أدوات العموم أو الإطلاق، أما ما في الرواية فقضية مهملة صرفة.
توضيح ذلك بالمثال: إنه تارة يقول الشارع «وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ»(2) فالبيع
ص: 154
مفرد محلى بال يفيد العموم، لكن لو لم يقل ذلك، بل قال: (هل من بيع) فإنه سؤال عن تحقق بيع ما أو تحقيقه(1)، وهذا لا يكشف عن إعطائه الشرعية لكلي البيوع، ولا يتضمن تحديد ضوابط ومقاييس وملاكات الحلية أو الحرمة، والأمر في (هل من مبشرات) كذلك؛ إذ لا إطلاق وإنما هي قضية مهملة، فلا تنفع في تثبيت الكبرى الكلية.
مثال آخر لو قال: هل من جواب؟ فإن ذلك لا يدل على أن القائل يرى حجية كل جواب سيقال.
وهذا إشكال على صاحب القوانين، وهو: إنه لا يعلم بأن ذيل الرواية هومن أصل الرواية، والرواية هي عن معمر بن خلاد عن الإمام الرضا(علیه السلام): «إن رسول الله(صلی الله علیه و آله)
كان إذا أصبح قال لأصحابه: هل من مبشرات؟ يعني به الرؤيا»(2)، فهل (يعني به الرؤيا) شرح من الإمام لكلام الرسول(صلی الله علیه و آله) فيستند إليه، أو هو شرح من الراوي وهو معمّر بن خلاد؟
لا يعلم ذلك, فيحتاج إلى مزيد تأمل لإثبات هذا أو ذاك، وعلى الأقل هذه الكلمة مجملة، وإنها صادرة من الإمام أو من معمر؛ إذ يحتمل أن معمر فسّر بما فهمه من كلام الإمام الرضا(علیه السلام) وأن مقصوده الرؤيا, فالاحتمال موجود، وإذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال. نعم، يقرب في الذوق والنظر أنه من تتمة كلام الإمام(علیه السلام) لكن لعل ذلك لا يرقى لمستوى الاستظهار,
ص: 155
فليتدبر(1), ولو تم هذا الاجمال في ذيل الرواية فلا حجية للرواية.
الظاهر إن هذا الكلام له لوازم لا يمكن أن يلتزم بها صاحب القوانين نفسه، من حيث ترتيب الأحكام والآثارالشرعية على الأحلام، فمثلاً: نسأل صاحب القوانين لو أن شخصاً رأى في المنام أن الإمام حكم عليه بأن يطلق زوجته، أو أن يترك تجارته، أو أن يهاجر عن بلده،فهل يلتزم صاحب القوانين بنفوذ هذا الحكم أو حجيته؟ وكذلك لو أن شخصاً نذر لو أنه رزق مولوداً لفعل كذا، ثم رأى في المنام أنه رزق مولوداً(2)،أو ادعى شخص آخر أنه رأى في المنام ذلك، فهل يلتزم صاحب القوانين بأن نذره قد انعقد، وأنه يجب عليه أن يفي بنذره، وأنه لو لم يفعل أثم وكانت عليه الكفارة؟
الظاهر إنه لا يلتزم،وعلى الأقل في صورة الشك في المؤدى؛ إذ تارة يحصل القطع من نقل الحلم أو الرؤيا، فيدخل ذلك في البحث المعروف وهو الحجية الذاتية للقطع وهذا ليس بحثنا، وإنما ننقض فيما لو شك, فهل يرتب صاحب القوانين الآثار الشرعية على ذلك؟ الظاهر إنه لا يرتب الأثر، ولا أي
ص: 156
فقيه حتى على مسلكهالانسدادي.
توضيح ذلك: إنه على الانفتاح فإن الظنون النوعية حجة حتى في صورة الشك، فلو أخبره ثقة أنه ولد له مولود فشك فالحجة تامة عليه، وعليه الوفاء بنذره؛ لأن الظنون النوعية حجة حتى في صورة الشك على المشهور المنصور, بل حتى في صورة الظن الشخصي بالخلاف(1)،هذا في الظنون النوعية، كالبينة في الموضوعات وكخبر الثقة في الأحكام والمحمولات، لكن في الرؤيا لو لم يحصل له قطع فشك هل يلتزم أحد بالحجية؟ الظاهر: لا, حتى صاحب القوانين القائل بالانسداد فإنه يرى أنَّ الظنون المطلقة حجة ، وهي نفس الظنون النوعية الخاصة؛ لكن لأنه لم يتم عليها دليل لديه اعتبرها حجة من باب الظن المطلق، ولكنه لا يريد بالظن المطلق مطلق الظن حتى الحاصل من طيران الغراب وجريان الميزاب,فتأمل.
وقد قيدنا النقض بصورة الشك ليتضح أن الأحلام ليس لها المرجعية حتى في نظره في هذه الصورة، بل نقول: إن صاحب القوانين لو رأى مطلق الظن حجة لا خصوص الظنون المطلقة حجةلأنه قائل بالانسداد، ولكن مع ذلك لو أورث المنام ظناً فهنا سيعمل به، ولكن لا لأنه منام، بل لأنه أورث الظن، كما لو أورث طيران الغراب وجريان الميزان الظن.
إذن حتى القائل بالانسداد لا يمكنه في صورة الشك الشخصي أن يرتب الآثار, ولم نجد فقيها يلتزم بترتيب الآثار في هذه الصورة،وأما في صورة الظن فليس له أن يرتب الآثار إلا فيما لو كان من الظنون العقلائية كما سبق,وهذا
ص: 157
مسلّم لكن له أن يرتب الآثار من حيث هو ظن لا لكونه مناماً أو غيره, فتأمل.
قد يقال: إنه قد يكون المراد بالمبشرات في الرواية ليست الأحلام، بل: المبشرات الخارجية والاجتماعية؛ لأن النبي(صلی الله علیه و آله) كان في معارك دائمة، وغزوات وحروب، وانطلاقة دينية شعبية كبيرة، فيكون المقصود من (هل من مبشرات) أي: هل أسلم ناس جدد؟ هل من بشائر على الفتح؟ هل من مبشرات عن حال الغزاة؟ إذ كانت هناك أكثر من ثمانين معركة وغزوة خلال عشر سنوات، بمعدل كل شهر ونصف غزوة أو معركة، والمعركة تطول في بعض الأحيان أياماً أو أكثر، فكان النبي(صلی الله علیه و آله)
في حالة حركةوجهاد وتقدم، فهل (من مبشرات) يحتمل كون المراد بها: مبشرات اجتماعية أو دينية دعوية أو غير ذلك، ولا دليل على كون المراد بها الأحلام(1).
نعم، لو وجدت رواية صحيحة السند فسرت سؤال النبي(صلی الله علیه و آله)
عن المبشرات بالرؤيا فنرفع اليد عن هذا الإشكال(2).
ص: 158
قد يقال: إن المبشرات أعم من كونها أدلة، ومن كونها مؤيدات، والأعم لا يكون دليلاً على الأخص, وذلك مثل أقوال الحكماء والأمثال المعروفة والأشعار، فإنها تصلح كمؤيدات ولاتصلح كأدلة(1)، فهل قوله(صلی الله علیه و آله) (هل من مبشرات) يدل على كون المبشرات دليلاً، أو مؤيداً؟ كلاهما محتمل، وذلك كما لو سأل أحد (هل من أقوال للحكماء في المقام؟) فإن ذلك أعم من أن يريد بذلك الاستدلال بها أو التأييد أو الاستبشار، وكذا لو قال: هل من أشعار؟ أو هل من أمثال؟
وبتعبير آخر: قوله (صلی الله علیه و آله) (هل من مبشرات) صحيح صادق على كلا تقديري كون المبشرات أدلة أو كونها مؤيدات.
الجواب العاشر(2): النسبة بين المبشرات والأحلام من وجه
إن النسبة بين المبشرات وبين الأحلام هي العموم والخصوص من وجه، فإن بعض الأحلام مبشرات، وبعضها محذرات أو مخوفات، وبعضها باطلة، كما أن بعضها صحيحة، والمبشرات بعضها أحلام وبعضها ليست بأحلام، كما أن بعضها مطابق وبعضها غير مطابق، فالنسبة هي العموم والخصوص من وجه, والحجية لو ثبتت لأحد الأمرين الذين بينهما عموم من وجه فإنها لا
ص: 159
تتعدى للأمر الآخر كما هو واضح،كما أن الحكم لو ثبت لموضوع نسبته مع الآخر من وجهفإنه لا يسري إليه وإلى سائر أفراده، فمثلاً: لو قال: (خبر الثقة حجة) وكانت النسبة بين خبر الثقة وخبر المهندس هي من وجه، فإن قوله: خبر الثقة حجة لا يقتضي كون خبر المهندس بقول مطلق حجة؛ لأن المهندس قد يكون ثقة في خبره وقد لا يكون, فالمحور هو الوثاقة لا العنوان الآخر الذي هو الطبابة أو الهندسة وما أشبه، وفي هذه الرواية جعل المحور المبشرات لا الأحلام، والنسبة بينهما من وجه، فالمدار على المبشرية لا على كونه رؤيا أو لا، وأين هذا من ذاك؟ وهذا منشأ خلط واضح في المقام، وكذا الأمر في الحكم كما لو قال: أكرم العادل، وكانت النسبة بين العادل والعالم من وجه، فإن الحكم لا يتعدى للعالم، وإن لم يكن عادلاً، بل المحور هو العادل، وكونه عالماً في هذه القضية هو كالحجر بجنب الإنسان، وكذلك كونه حلماً هو كالحجر بجنب موضوع الحجية على فرضها, وهو المبشرات.
والحاصل:إنه عليه تكون الموضوعية والمحورية للمبشرات، فيكون المستظهر عرفاَ من ذلك أنها كناية عن حسن انتظار البشائر والتفأل بها خيراً، وإحياء الأمل في النفس, لا كاشفية المبشرات وحجيتها وشبه ذلك، فإنهاأجنبية عن النظر إلى هذه الجهة(1)، ولو تم هذا فبه يندفع الإشكال اللاحق أيضاً وهو: قد يقال: إنَّ المبشرات في (هل من مبشرات) عنوان مشير حصرياً إلى الرؤى والأحلام، وبتعبير آخر: إن النسبة بين العنوانين وإن كانت من وجه إلا أنه بالقرينة المقامية الخاصة، أو بقرينة سائر الروايات أريد بالمبشرات خصوص
ص: 160
الأحلام، فتدل على حجيتها(1) بقول مطلق.
لكن يرد عليه:
أولاً: ما سبق من استظهار كنائية (هل من مبشرات) وعدم نظرها لجهة الكاشفية,حتى لو أيد (هل من مبشرات).
ثانياً: هذه دعوى تحتاج إلى إثبات وعهدتها على مدعيها، وقد سبق بعض الكلام عن ذلك، وله تتمة(2) فانتظر وتأمل.
ثالثاً: سلمنا - فرضاً - بأن المرادمن المبشرات هو الأحلام، وإنها عنوان مشير إليها، ولا موضوعية له في حد ذاته بمعزل عن الأحلام، بل ذكر بلحاظ جنبة الطريقية،فنقول: لو سلمنا ذلك فقد يقال: إن تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية، فإنه إذا كان المنام بما هو منام حجة فلا وجه لأن يذكر عنوان آخر، وهو المبشر إلا وجود خصوصية في تلك الصفة وهي المبشرية، فيدور الحكم مدارها إذن، ولو على نحو التشريك(3)، ولا أقل من احتمال ذلك, فتأمل.
هذه هي الرواية الأولى التي استدل بها صاحب القوانين مع بعض الإشكالات عليها، ويكفينا تمامية إشكال واحد، وإنما نحشد الإشكالات
ص: 161
ترويضاً للذهن، ولفائدة كل إشكال في حد ذاته، ولكي يكون كل إشكال مقنعاً لطرفٍ، فلعل شخصاً لا يقبل الإشكال الأول فيقبل الثاني أو بالعكس، وآخر يرفضهما فيقتنع بالثالث، والظاهر أنه لا مناص من التسليم بأحد هذه الأجوبة.
الدليل الثاني لصاحب القوانين: هو رواية حسنة وردت في روضة الكافي،عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم - والرواية حسب ما ارتأه صاحب القوانين حسنة، وأيضا عدّها في مرآة العقول حسنة(1) - عن أبي عبد الله(علیه السلام) : «سمعته يقول: رأي المؤمن ورؤياه في آخر الزمان على سبعين جزءا من أجزاء النبوة(2)»(3).
ووجه الاستدلال بالرواية: أن رأي المؤمن أي: اجتهاده أو نظره أولاً، وثانياً: رؤياه، هما من أجزاء النبوة، فقد قرنت الرواية الرؤيا بالرأي، فكما أن الرأي حجة فالرؤيا حجة كذلك, فالرواية تقول: رأيه ورؤياه على سبعين
ص: 162
جزءا من أجزاء النبوة.إذن فهو إنباء غيبي فهي حجة، فرأيُه بتسديد إلهي، ومنامُه بإلقاءٍ وقذفٍ في القلب.
لكن الظاهر أن هذه الرواية لا يصح الاستدلال بها لوجوه عديدة تبلغ ستة عشر وجهاً ترد على الاستدلال بهذه الرواية،ولكل وجه فائدة مستقلة في حد ذاته فتدبر، وهذه الوجوه اعتمدنا في أكثرها على التدبر في العديد من مفردات هذه الرواية، وذلك مثل التدبر في كلمة رأي ورؤيا، وكلمة المؤمن وكلمة آخر الزمان، وكلمة النبوة، فانه تظهر بذلك وجوه تبلغ ستة عشر وجهاً للإشكال على الاستدلال.
إن الرواية قيدت بآخر الزمان، وآخر الزمان لا يعلم ما المراد به؟ فإنه حسب التتبع له ثلاثة معاني فأيها المراد؟ وقد ذكر العلامة المجلسي أحدها بعنوان الاحتمال فقال(1): «قيل: إنما يكون هذا في زمان الإمام القائم(عجل الله تعالی فرجه الشریف) »(2) إذن العلامة المجلسي يتخلص من هذا الإشكال ضمناً بقوله (قيل: إنما يكون هذا في زمانالإمام القائم عج) وإنه في زمان الإمام تكون الرؤيا حجة، أما ما قبل ذلك فليست بحجة، ولعله لا يتبنى هذا ال(قيل) ولكنه يريد أن يشكك بالاستدلال بذلك،ولا أقل من احتماله، فلا دليل على الحجية في غيره,هذا إضافة إلى أجوبته الأخرى.
ص: 163
ونؤكد كلام العلامة المجلسي بمزيد توضيح وإضافات فنقول: من خلال التتبع السريع للروايات المذكورة في البحار وجدت أنّ لآخر الزمان ثلاثة معاني، أو ثلاثة أطلاقات:
الأول: أن يراد به ما يشمل زمان النبي(صلی الله علیه و آله) فنازلا(1) ,أي: فما بعده.
الثاني: أن يراد به ما قبل ظهور الإمام المنتظر(عجل الله تعالی فرجه الشریف), فإن آخر الزمان تارة ينسب إلى بدء الخليقة، فيشمل زمان النبي فنازلاً، وتارة يراد به ما يقابل عصر الرسول والأئمة الأثني عشر حتى فترة طويلة من الغيبة الكبرى، فيراد به ما يقرب من عهد الظهور.
الثالث: أن يراد به ما بعد الظهور، كما أشار العلامة المجلسي إليه بعنوان قيل، لكن توجد بعض الروايات الدالة عليه، ولنشِر إلى بعضها ،مكتفين بالإشارة.
فمن الروايات الدالة على أن آخر الزمن أعم من زمن النبي(صلی الله علیه و آله) فنازلاً,ما ورد عند نقل كلام اليهود عن صفة النبي المبعوث في آخر الزمان, والروايات متعددة، ومنها ما في البحار(2)،ومنها ما جاء في «كقوله تعالى لآدم: لولا عبدان أريد أن اخلقهما في آخر الزمان لما خلقتك»(3)، والمقصود محمد وعلي(صلوات الله عليهما)، هذا الإطلاق الأول.
أما الإطلاق الثاني، وهو ما قبل الظهور المبارك، ففيه روايات كثيرة فلا
ص: 164
حاجة لذكر دليل.
وأما الإطلاق الثالث على خصوص ما قبل يوم القيامة، أي: ما بعد الظهور بزمن طويل جداً، فمنه ما في رواية تفسير القمي في تفسير آية: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قال: «إذا كان قبل يوم القيامة في آخر الزمان انهدم ذلك السد، وخرج يأجوج ومأجوج إلى الدنيا وأكلوا الناس»(1).والحاصل: ثبّت العرش ثم انقش، فما معنى آخر الزمان؟ فلعل المراد هو:إنه في فترة ما بعد الظهور - أي آخر الزمن - يكون الرأي والرؤيا جزءاً من سبعين جزء من النبوة، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.
ثم لو سلمنا بأن المراد بآخر الزمان ليس ما بعد الظهور، بل هو ما قبل الظهور حصراً، لكن الشبهة مصداقية ههنا(2), إذ من أين نعرف أن هذا الوقت وهذه الأزمنة هي من حصص ومفردات ومصاديق آخر الزمن، فلعل آخر الزمن الذي يسبق الظهور سيأتي بعد ألف سنة، أو أقل أو أكثر حسب مشيئة الله، فلا يعلم أننا الآن في آخر الزمن حتى حسب الإطلاق الثاني لآخر الزمن(3). نعم، لو تحققت إحدى العلامات المسلم كونها من علائم آخر
ص: 165
الزمن، وتحققنا من المصداق وأنه أحدها، أي: تحققنا من العلاميةوالمصداق، عندئذ يثبت أن هذا الزمن هو آخر الزمان, فمن العلامات مثلاً خروج دابةٍ من الأرض تكلمهم، فهذه لو تحققت فسنحرز أننا في آخر الزمن، وكذلك الدجال، أو نزول عيسى المسيح(علیه السلام) من السماء، فقد جاء في تفسير القمي عن الإمام الباقر(علیه السلام): «إن الله قادر على أن ينزل آية، وسيريكم في آخر الزمان آيات منها دابة الأرض»(1) فلو رأينا دابة وأحرزنا أنها دابة الأرض لأحرزنا أن هذا هو آخر الزمن، وعندئذٍ تكون رؤى المؤمن مشمولة لهذه الرواية (والدجال، ونزول عيسى ابن مريم، وطلوع الشمس من مغربها) (2) وأما العلامات التي يدعى تحققها الآن، مثل: الروايات عن الزوراء وهي بغداد، أو عن دمشق وحرستا أو غيرها، فإنه حتى بعد فرض ثبوت صحتها وعلاميتها فإنه لا يعلم مصداقية هذا المصداق للمقصود في الرواية، فلعل الأحداث التي تحصل في بغداد أو حرستا أو غيرها ستتكرر مراراً عديدة طوال ألوف السنين، ويكون المقصود هو ذلك الذي سيأتي لاحقاً، أو لعلها تحدث بخصوصيات أخرى.والحاصل: إنه لا مثبت لنا إجمالاً حتى الآن أننا في آخر الزمن، ولو تتبع متتبع وأثبت الكبرى مع مصداقية المصداق فسنرفع اليد عن هذا الجواب، ونكتفي بالجواب السابق والأجوبة اللاحقة(3)، لكن ذلك دونه خرط القتاد.
ص: 166
الجواب الثالث: موضوع الحجية هو رؤيا المؤمن(1)
إن موضوع الحجية حسب هذه الرواية هو رؤيا المؤمن، فرأي المؤمن ورؤياه هو موضوع الإنباء الغيبي في آخر الزمان، وإنه على سبعين جزء من أجزاء النبوة، وبعبارة أخرى: سلمنا أن موضوع الحجية أو النبوة هو الرؤيا، لكن عندما نضم هذه الرواية إلى سائر الروايات سيظهر لنا أن هناك أنواعاً أخرى من الأحلام، مثل: ماعبرت عنه الروايات بحديث النفس أو إلقاء الشيطان أو أضغاث أحلام، فما يحدث للمؤمن - بضم هذه الرواية إلى غيرها - ليس الرؤى فقط، التي يكنى بها عن الصادق منها، بل أيضاً أضغاث الأحلام، أي: أخلاط الأحلام، وأيضاً حديث النفس، وكذلك ما يلقيه الشيطان في القوة المتخيلة.
وعليه نقول: إنه ثبِّت العرش ثم انقش، فمن أين يثبت أنَّ ما رآه هو رؤيا وليست أضغاث أحلام؟ فإن الرواية تقول: رؤيا المؤمن هي كذا وكذا، لكن الذي رأيته في المنام ما هو؟ هل هو رؤيا أو أضغاث أحلام؟ ويعود محذور التمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ إذ كيف نتمسك بهذه الرواية لإثبات النوع الذي رآه؟
ص: 167
الجواب الرابع: إن حجية الرؤيا اقتضائية(1)
ثم لو سلمنا أن هذه الرواية تدل على حجية الرؤى، ورفعنا اليد عن إشكال التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، ورفعنا اليد عن إشكال آخر الزمن وسائر الإشكالات، فنقول:إن غاية ما تفيده هذه الرواية هو الحجية الاقتضائية للرؤيا، ولا تكونعلة تامة لإثبات حجيتها(2)؛ إذ هي معلّقة على عدم وجود المعارض, فلو وجد معارض فلا، ولنستند الآن لنفس هذه الرواية دون اللجوء إلى سائر الروايات, وذلك كما لو تعارضت رؤييان، فما الحكم؟ فإن الرواية تقول: رأي المؤمن ورؤياه على سبعين جزء من أجزاء النبوة، ولكن لو تعارضت رؤييان لمؤمنين فما هو الحكم؟ فهل الرواية ناظرة لصورة المعارضة؟
على حسب رأي بعض الأصوليين ومنهم السيد الخوئي(3) فإن أدلة الحجية غير ناظرة لصورة المعارضة بالمرة، وإن أدلة الحجية لا تشمل المتعارضين، وإن كنا لا نقبل هذا المبنى, كما فصلت الحديث عن ذلك في أخر كتاب شورى الفقهاء، فعلى حسب هذا الرأي فإن أدلة الحجية لا تنظر إلى المتعارضين ولا تشملهما.
ثم إنه حتى لو قلنا: إن أدلة الحجية تشمل المتعارضين, لكنها وإن شملت المتعارضين اقتضاءً إلا أنها حيثابتليت في مرحلة المانع بالمعارض، فإن مبنى الكثير من الأصوليين إنها تسقط بذلك عن الحجية.
ص: 168
والفرق بين الرأي الأول والثاني هو أن الأول لا يرى الاقتضاء، والثاني يرى المانع، فالأول يقول: أدلة الحجية غير ناظرة، ولا تشمل المتعارضين حتى ابتداءً، أما الرأي الثاني فيرى الأدلة شاملة لهما، إلا أن التعارض مانع يسقطهما عن الحجية,أي: إنه حتى لو شملت أدلة الحجية المتعارضين ابتداءً إلا أنّ الحجية تسقط عن الحجية بالمعارضة.
وقد خرجنا عن ذلك في الخبرين بالدليل الخاص وهو «إذن فتخير» ويبقى ما عداه على أصل التساقط(1).
هذا كله إذا تعارضت رؤييان، والإشكال وارد بعينه فيما لو تعارضت رؤيا مع رأي؛ لأن الرواية تقول (رأي المؤمن ورؤياه)، فلو تعارضت رؤيا المؤمن مع رأي الفقيه(2) فإنه لا شك في أرجحية رأي الفقيه على الرؤيا عقلاً وعقلائياً، وبالنظر إلى مجموع الروايات، فلو قال الفقيه: إن هذهالرؤيا ليست بحجة بذاتها أو؛ لأنها تعارض أصول المذهب، أو تعارض الأصول العقلية أو غير ذلك، فإن رأي الفقيه هو المرجع بلا كلام، وأما بالنظر إلى هذه الرواية فقط فلو تعارضا كما هو كذلك - إذ قد يدعي أحدهم كذا وكذا من وصاية وما شابه، لكن كان رأي الفقيه على الخلاف - فأقل ما يقال: إن هذه الرؤيا على فرض وجودها تسقط عن الحجية لمعارضتها ليس لرأي الفقيه الواحد، بل لمعارضتها لرأي جمهرة عظيمة من الفقهاء، بل كافة الفقهاء.
ص: 169
الجواب الخامس: إطلاقات المؤمن والمراد منه (1)
ونتوقف في هذا الجواب عند فقه كلمة (رأي المؤمن) فنقول:ما المراد بالمؤمن؟ فهل المراد سلمان وأشباهه، أو المراد أي مؤمن عادي؟ وعلى كلا التقديرين سيتم الجواب على سبيل البدل.
أما التقدير الأول، وهو: أن يراد بالمؤمن الأخص،فإذا كان هذا هو المراد من هذه الرواية، أو كان على الأقل محتملاً، فإنه سيكون مسقطاً لها عن الدلالة على حجية رؤيا عامة الناس، بل وأكثر خواصهم؛ وذلك لأنللمؤمن إطلاقات، ومنها: إطلاقه على الفرد الأكمل من المؤمنين، فينحصر في أمثال سلمان وأمثال السيد بحر العلوم والشيخ الأنصاري، فإذا رأى أمثالهم رؤيا وبنى عليها فإنه هو مصداق للرواية.
وأما ما يدل على أن المؤمن قد يطلق ويراد به المعنى الأخص فهو الآيات والروايات، فإنه كثيراً ما يراد بالمؤمن هذا الإطلاق، بل لعل بعض الروايات ظاهرها الحصر، ففي البحار نقلاً عن الخصال بسنده(2) عن عبد الله بن سنان، قال: (ذكر رجلٌ المؤمنَ عند أبي عبد الله(علیه السلام) ، قال: إنما المؤمن) فهل هذه تفيد الحصر كما هو ظاهرها، وهو مبنى جواب آخر سيأتي؟ لكنا نتنزل ونقول: إنه أحد الإطلاقات (الذي إذا سخط لم يخرجه سخطه من الحق، والمؤمن الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل، والمؤمن الذي إذا قدر لم يتعاط ما ليس له) وهذا أندر من النادر، وعليه: فليكن هناك مؤمن من هذا القبيل ثم فليرَ الرؤيا
ص: 170
ويبني عليها، فإنه سيكون هناك وجه للحجية عندئذٍ.
والروايات بهذا المضمون كثيرةوبعضها معتبر، ويكفي أنها مستفيضة إن لم تكن متواترة، ففي الكافي عن أبي جعفر الباقر(علیه السلام) قال: «إنما المؤمن الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في أثم ولا باطل، وإذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحق، والذي إذا قدر لم تخرجه قدرته إلى التعدي إلى ما ليس له»(1), بل وكذلك الآيات الشريفة، ومنها: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا»(2) ومن الواضح أن المؤمن هو الذي في عمق قلبه لا تعرض له ريبة بالله ورسوله أبداً(3) فكيف بمن لا تعرضه الريبة في مختلف القضايا المتعلقة بالشريعة أو العقيدة؟ فلعله أندر من الكبريت الأحمر «وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ»، ومنها قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْإِيمَانَاً»(4) وغيرها.
لا يقال:إن الإطلاق على الأخص وإن صح فإنه لقرينة، فإن عدمت حمل على الأعم, كما هو مقتضى الإطلاق؟
إذ يقال:قد يدعى الوضع التعيّني في المعنى الأخص من دون هجر المعنى الأعم, فهو مشترك لفظي على ذلك ، فلابد من قرينة معينة وإلا لكان مجملاً.
والحاصل: إن المؤمن على الأقل له إطلاقات، وهذا الإطلاق كثير
ص: 171
الدوران في الآيات والروايات،بل قد ورد بعضها بصيغة الحصر كما ظهر، فالظاهر الوضع التعيني لاحقاً، فمن أين نثبت أن المراد بالمؤمن في الرواية الأعم؟
وعلى أي حال، فإن استفيد من هذه الآيات والروايات أن الأصل الثانوي في إطلاق المؤمن هو هذا فالأمر واضح، وإلا فسيكون للمؤمن إطلاقات، وهو مشترك بينها، ومنها: المؤمن الكامل المتصف بهذه الصفات، فلا يعلم إرادة الرواية لما يراه غير الكُمّل من المؤمنين، فتأمل(1).وأما التقدير الثاني، وهو: أن يراد بالمؤمن الأعم(2)، ولكن مع ذلك لنا أن نقول:إن المؤمن بالحمل الشايع الصناعي لا يطلق إلا على مَنْ كان مؤمناً بالفعل حتى في أدنى إطلاقاته، وأما مَنْ لم يكن مؤمناً بالفعل - وإن كان مؤمناً
ص: 172
سابقاً أو لاحقاً(1) - فإن إطلاق المؤمن عليه مجاز بالمسامحة.
ويوضحه أن العادل - مثلاً - له تفسيران:
الأول: المستقيم على جادة الشرع حسب رأي السيد حسن القمي والسيد الخوئي وآخرين(2)، وعليه فينبغي أنتلاحظ حالته، فإن كان مستقيماً الآن على جادة الشرع فهو عادل، وإلا فليس بعادل، وإن كان طول عمره مستقيماً.
المعنى الثاني وهو المشهور(3): إن العدالة هي ملكة تعصم الإنسان عن اقتحام الكبائر، والإصرار على الصغائر، فينبغي أن تكون الملكة موجودة الآن، فإن كان ذا ملكة سابقاً وفقدها فليس بعادل.
والمؤمن إن أريد به نظير المعنى الأول للعدالة فإن إطلاقه - أي المؤمن - على مَنْ فقد إيمانه ولو آناً في معصية مجازٌ، وعليه فمن أين يُعلم أنّ هذا الناقل للرؤيا مؤمن(4)؟ إذ إن الإمام علّق الحجية - أي النبوة(5) - على المؤمن، فمن أين يُعرف أنَّ هذا الإنسان حين رأى الرؤيا لم يكن أبواه ساخطين عليه، أو ليس إمامه ساخطاً عليه؟ إن ذلك مما يحتاج إلىإثبات(6).
ص: 173
وقد يستدل على ذلك بما رواه في البحار: «ليس كل مسلم مؤمناً, ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يزني الزاني وهو مؤمن»(1)، وهناك روايات أخرى في هذا الحقل.
لكن قد يقال: إنَّ هذه الروايات خاصة بما هي في دائرة الحدود، أي: ما يستوجب الحد،وقد يقال: هي أعم, وتحقيق ذلك سنداً ودلالة يترك لمحله, وعلى أية حال، فإن الموضوع لابد أن يثبت(2) ، أي: لابد من إثبات أنه مؤمن بالحمل الشايع الصناعي حين رؤيته الرؤيا، إن ذلك بحاجة إلى دليل(3) .
ثم إن هذه الأجوبة على سبيل البدل, فإن اقتنع الباحث بها بأجمعها فبها ونعمت، وإن لم يقتنعببعضها فلا يضر ذلك بسائرها شيئاً(4).
سبق في الجواب الخامس أن للمؤمن إطلاقات، ومن إطلاقاته المعنى الأخص، بل الأخص من الأخص، أي الكُمّل من أمثال سلمان وما أشبه.
ص: 174
وهناك إطلاقات أخرى للمؤمن تتسع دوائرها لتشمل أخيراً مختلف المؤمنين من عامة الناس.
وسنتحدث على كلا تقديري إرادة المعنى الأخص، أو الأعم، فنقول:
التقدير الأول: أن نستظهر أن المراد من المؤمن في الرواية هم الكُمّل منهم بمعونة القرينة الآتية, وعليه فسوف لا تكون هذه الرواية دليلاً على حجية رؤى الناس والمؤمنين عامة، إلا النادر من خيرة الأولياء الصالحين.
التقدير الثاني:أن نتنزل ونقول: إنَّ المراد من المؤمن في هذه الرواية المعنى الأعم, لا الأخص ولا إنها مجملة، ومرددة بين الأعم والأخص كي ينتج ذلك عدم ثبوت الحجية للأعم عندئذ، وذلكيعني أنه في صور أربعة لا تثبت الحجية لرؤى عامة المؤمنين:
الأولى: أن نستظهر اختصاص المؤمن بالأخص بالوضع التعيني مع هجر المعنى الأول.
الثانية:إطلاقه على الأخص من دون هجر المعنى الأول، فهو مجمل.
الثالثة:أن نستظهر انصراف المؤمن للأخص.
الرابعة: أن نشك في المراد؛ بسبب قرينة مقامية حافة، فيشك عندئذٍ في تحقق بعض مقدمات الحكمة، فلا ينعقد الإطلاق، وسنتكلم على التقديرين الأخيرين.
أولاً: أن نصير إلى التقدير الأول: فإنه بمعونة قرينة مناسبة الحكم والموضوع قد يستظهر من (المؤمن) المعنى الأخص من الأخص، أي الكُمّل من الأولياء الصالحين، وذلك بقرينة النبوة الواردة في المحمول - رأي المؤمن ورؤياه
ص: 175
على سبعين جزء من أجزاء النبوة - فإن مقام النبوة مقام شامخ شريف فوق مستوى التصور، فمن المناسب أن يعطى جزء من هذا المقام, لو أعطي كما هو ظاهر الرواية، وهذا الجزء لا تصدق عليه النبوة المصطلحة كما هو واضح, لكنهمع ذلك شامخ منيع؛ لأنه جزء من هذا المقام الرفيع، أي أن يعطى ويمنح لمن يقارب مقام الأنبياء لا غير، أي: لمن يكون تالي تلوهم في الرتبة مما يمكن لغير المعصوم أن يرتقي إليه.
ويتضح ذلك أكثر بملاحظة بعض نظائر روايتنا، ومنها ما ورد في الكافي الشريف، عن أبي عبد الله(علیه السلام) أنه قال: «المؤمنةُ أعزُ من المؤمن، والمؤمنُ أعزُ من الكبريت الأحمر، فمن رأى منكم الكبريت الأحمر؟»(1) فهل المراد بالمؤمن هنا الملايين من المؤمنين نظراً لأن (المؤمن) من المطلقات ك(أحل الله البيع) وك(أكرِم المؤمن) والمؤمن مفرد محلى باللام، فيقتضي ذلك أن يفيد العموم، أي الإطلاق؟ كلا، بل لابد من المصير إلى أن المراد بالمؤمن هو أفراد خاصين جداً؛ وذلك بقرينة مناسبة المحمول - أعز من الكبريت الأحمر - إذ يظهر منه إرادة الأخص من الأخص وهو المؤمن أعز، والكبريت الأحمر هو تلك المادة المدعاة التي كان يبحث عنها الناس من الملوك فنازلاً، والتي زعموا أنها لو طُليت بها المعادن الرخيصة كالنحاس والحديد لتحولت إلى ذهب،والمسماة قديماً بالإكسير، فالمراد بالمؤمن في هذه الرواية - قطعاً - هو الأخص من الأخص، أي: المؤمن حقاً حقاً بقرينة المحمول ومناسبة الحكم والموضوع.
وكذلك الأمر في المقام، فإنه تارة يقال: (أكرم المؤمن) فإن الإكرام
ص: 176
يتناسب مع كونه مؤمناً ولو من الدرجة الأدنى، أما قوله: «رأي المؤمن ورؤياه على سبعين جزءا من أجزاء النبوة» فإن هذا المقام الشامخ بأجزائه مهما فُسِّرت وبأي نحو فُسِّرت، فإنها تصلح قرينة على أن المراد من المؤمن في الرواية مَنْ يقارب تلك المرتبة من الكُمّل.
ثم إنه إن اطمأن الفقيه إلى هذه القرينة فبها، وإن رآها تورث الإجمال فسيكون الاستدلال أيضاً تاماً، فإنه شك في قرينية الموجود، فحيث إن هذا أمر محتمل القرينية متصل، فلا يعلم انعقاد الإطلاق عندئذ، فلا تكون إلا منامات الكُمّل من الأولياء حجة، فتأمل.
ضرورة تحقق الإيمان وإحرازه(1):
ثانياً: أن نصير إلى التقدير الثاني، وأن المراد بالمؤمن المعنى المطلق، أي: كل مؤمن، فنقول: لا يتمالاستدلال(2) أيضاً لوجهين:
أحدهما: يتعلق بالرائي.
والآخر: يتعلق بالآخرين.
أما ما يتعلق بالرائي بالنسبة إلى نفسه، فنقول: إنَّ هذه الرؤيا التي رآها هذا الشخص إذا أراد أن يَحرز أنها من أجزاء النبوة، فينبغي أن يكون هو في حد ذاته عالماً من نفسه بأنه في حالة الرؤيا كان مؤمناً؛ لأن المؤمن هو الموضوع أو
ص: 177
جزء الموضوع ، وبالدقة متعلق الموضوع وبالمسامحة الموضوع،إذ الموضوع هو رأي المؤمن ورؤياه، فعليه أن يكون محرزاً كونه مؤمناً في هذه الحالة، لكي يحرز أن رؤياه مشمولة للرواية, فلا تكون رؤياه حجة، ولا من أجزاء النبوة لو عرف(1) من نفسه الفسق، وأنه ليس ذا ملكة أو ليس على جادة الشرع (2)حين إذ رأى المنام، كما لو نام - مثلاً - على غير ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام)، أو على غيرالتبري ممن يجب التبري منه، أو وهو مسخط لربه أو لوالديه, وعليه فإن كثيراً من الرؤى - إن لم يكن شبه المستغرق - تفقد حجيتها، فلا يصح لكل مَنْ رأى رؤيا أن يقول: إن رؤياه حجة حتى لنفسه استناداً لهذه الرواية. نعم، لو أحرز أنه كان مؤمناً حال رؤياه لما ورد الإشكال من هذه الجهة.
وأما بالنسبة إلى غيره فينبغي على الغير أن يحرز كونه مؤمنا في حالة الرؤيا أيضا(3).
إن قلت: الإحراز بالاستصحاب, كما في إمام الجماعة ومرجع التقليد والقاضي وغيرهم ممن تشترط فيهم العدالة, فحيث إنه بالأمس كان عادلاً فنستصحب عدالته، فتجوز الصلاة خلفه، ويجوز تقليده، ويمضي قضاؤه وهكذا، فكذلك نستطيع استصحاب إيمانه في محل الكلام، لكي يكون مشمولاً لهذه الرواية إثباتاً؟
ص: 178
قلت: الظاهر العدم؛ وذلك لأن الأصل مثبت؛ لأن النبوة ليست من الآثار الشرعية للإيمان، أما جواز الصلاة خلفه فهو من الآثار الشرعية، فلنا أن نستصحب عدالته، وكذلك الأثر الشرعيلاستصحاب عدالته هو إمضاء شهادته وقضائه، وجواز تقليده، أما أن نستصحب إيمانه لنثبت أن ما رآه هو نبوة, فهذا أثر عقلي أو عادي، والرواية كاشفة لا مشرعة ومنشئة كي يقال: إنَّ الأثر أثر شرعي، إذ غاية الأمر أن الرواية تكشف عن واقع خارجي، وأن رأي المؤمن مرآة، فكيف تستصحب الإيمان لتثبت أن هذا الواقع الخارجي هكذا، وإنه نبوءة(1).
هذا هو الجواب الخامس مع تتمته، ودفع بعض الدخل حوله، وليتدبر فيه وفي سائر الأجوبة(2).
إنّ
إضافة الرؤيا إلى المؤمن تفيد أن حيثية الإيمان ذات مدخلية في كون رؤياه من انباءات الغيب، فهذه الحيثية معتبرة، أي: الظاهر أنها حيثية تقييدية كما يقال, أي: من حيث هو مؤمن,وذلك كما يقال: رأي الطبيب أو المهندس حجة، أي: من حيث هو طبيب أو مهندس، وهنا ومع قطع النظر عنالإشكال السابق، نقول: ما الدليل على أن هذا الرأي أو الرؤيا قد صدرت منه حيث هو مؤمن لا من حيث هو مسخّر، كما سيأتي تفصيله، فإن كثيراً من
ص: 179
الرؤى تحدث للأفراد من حيث هو مسخر بالتنويم المغناطيسي وغيره، كما سيأتي إثباته علمياً وخارجياً, فرأيه من حيث هو مؤمن نبوءة، أما رأيه من حيث هو مسخّر فليس رأياً له بما هو مؤمن، بل بما هو مسخّر، كما أن رؤياه لسيت رؤيا المؤمن بما هو مؤمن، بل بما هو بشر معرض للاحتمالات المختلفة.
وبعبارة أخرى: إن تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية، فحيث قيل: رأي المؤمن فهذا يوضح أن حيثية الإيمان لها المدخلية كلاً أو جزءاً، أي: كونه مؤمناً هو جزء العلة(1) لكون رؤياه نبوة، أو كونه مؤمناً هو جزء العلة كي يمنحه الله هذه الموهبة والعطية، وهي النبوءة الغيبية، وذلك مثل (أطع كلام الطبيب) أو (التزم بتعليمات المهندس) أي: من حيث هو مهندس، وإلا فإن الطبيب أو المهندس، لا من حيث طبابته أو هندسته، لو أبدى رأياً في غير حقل تخصصه فإنه لا حجية لكلامه.ويتضح ذلك أكثر بملاحظة بعض الأمثلة التي بنى الفقهاء عليها, فالبينة تقبل شهادتها - أي العادل ، بل العادلان - في بعض الصور، لكن العادل لا تقبل شهادته إلا من حيث جهة عدالته، فلو فقدها أو لو لم تحرز حين الشهادة فلا، فلو كان في مظان التهمة فلا تقبل شهادته إلا بعد التحقيق، كما لو كان متهماً بأنه يجر النار إلى قرصه في هذه الشهادة أو لسبب آخر، فهنا حيث إنه لم يحرز أن شهادته هي من حيثية عدالته(2) فيجب الفحص، وكذلك عندما يقال: (رأي الفقيه حجة) فيجب أن نحرز أن هذا الرأي من حيثية فقهه، فلو لم يكن كذلك(3) فلا حجية لقوله، وكذا لو قيل: (رأي الخبير حجة)، وكذا لو شككنا
ص: 180
في أن هذا الرأي هل صدر منه من حيثية فقهية أو من حيثية أخرى؟ ويتضح ذلك بالتدبر في المسألة التالية: فهل قول الفقيه في الموضوعات الصرفة حجة؟ المشهور يرون أن رأي الفقيه بما هو فقيه فيالموضوعات الصرفة ليس بحجة(1)، وإنما يكون حجة لو كان أهل خبرة، فقوله بما هو أهل خبرة حجة لا بما هو فقيه، أي: إن دائرة الفتوى غير الموضوعات الصرفة، بل إنما هي في الأحكام الشرعية وفي الموضوعات المستنبطة, فإذا أبدى الفقيه رأياً في الموضوع الصِرف، وشككنا أنه كان من حيث فقاهته أو خبرويته، مع ذهابنا إلى أن الفقيه في الموضوع الصرف ليس رأيه بحجة، فهنا لا مجال للتمسك بحجية قول أهل الخبرة لإثبات المدعى(2)، مثلاً: في الموت السريري، كما لو مات مخه وكان قلبه حياً فهل هو ميت أم لا؟
ومثال آخر: إن من شروط ذكاة السمك موته خارج الماء، لكن ما هو حال الأسماك التي تصاد في العالم؟ أي: ما هو مؤدى التحقيق الخارجي عنها، وهل هي عادة تموت في الشباك داخل الماء فهي محرمة، أو تموت بعدإخراجها إلى السفينة؟
فهذه مسألة خارجية وموضوع صِرف، والناس عادة يسألون الفقيه، فلو أن الفقيه أبدى فيها رأياً، وشككنا أنه أبداه من حيث هو فقيه فلا حجية لرأيه،
ص: 181
أي: ليس لازم الاتباع لكون الموضوع صرفاً، أو من حيث إنه أهل خبرة فلا بد أن نحرز أنه أهل خبرة، وأنه أبدى الرأي من هذه الجهة, ولا يمكن التمسك بقوله قبل الإحراز. إذن ينبغي أن تحرز الحيثية لإثبات الحجية.
وفي ما نحن فيه نقول: هل أنه رأى الرؤيا من حيث هو مؤمن، أو من حيث هو مسخر بالتنويم المغناطيسي كما هو وارد، بل هو ثابت, أو من حيث هو بشر يتعرض لضغط البيئة، فإن ضغط البيئة وحالات الجسد تصنع للقوة المتخيلة أحلاماً؟ فهذا احتمال وارد وعقلائي, إذن يجب إحراز الحيثية لترتيب الحجية وكونها نبوءة, وينبغي التدبر في هذا البحث، وخاصة أن بعض الروايات صحاح أو معتبرات على الأقل ومتعددة، فينبغي استفراغ الوسع في فقهها(1).
إنَّ النسبة بين قوله: «دين الله أعز من أن يرى في النوم»(2) و«رأي المؤمن ورؤياه»(3) هي العموم من وجه، فتسقط عن الحجية في مادة الاجتماع.
فإن هذه الرواية معارضة برواية أخرى صحيحة تقدمت، وهي «إن دين الله أعز من أن يرى في النوم» وإذا تعارضت الأدلة على حجية شيء وتكافأت(4) فلا تثبت حجيته، فلو قام دليل على حجية خبر الواحد من غير معارض فهو
ص: 182
حجة, لكن لو قام على نفي حجيته دليل آخر فإنه لا تثبت حجيته عندئذٍ؛ لتعارض الحجتين في مرتبة سابقة، وعلى ذلك بناء العقلاء، فإنه إذا جاء شخص من قبل المولى ونقل قوله عن زيد بأن (كلامه كلامي) ثم جاء شخص آخر بنفس المستوى من الوثاقة، وأنكر ذلك فإنه لا يثبت قول المولى عن زيد أن كلامه كلامه؛ لأن الشك في الحجية موضوع عدم الحجية, وبتعارض الدليلين الدال أحدهما على السلب والآخر على الإيجابلا يسلم لنا الدليل على حجية هذا.
وفي المقام نقول: إن الروايتين تعارضتا، فمن جهةٍ وَرَدَ «رأي المؤمن ورؤياه في آخر الزمن على سبعين جزءا من أجزاء النبوة» - لو فرض أنها تدل على الحجية ولم نناقش بما مضى وبما سيجيء أيضاً من أن الحجية شيء والنبوة شيء آخر - ومن جهةٍ وَرَدَ: «دين الله أعز من أن يرى في النوم» فيتساقطان، فنبقى على أصالة عدم حجية الرؤيا، وما أشبهها.
إن قلت:إن رواية: «رأي المؤمن ورؤياه في آخر الزمن» أخص مطلقاً من رواية «دين الله أعز»؛ لأنها خصصت بالمؤمن وهذا وجه أخصية الأول، ووجه الأخصية الثاني أنها قيدت بآخر الزمن(في آخر الزمن) أما تلك الرواية فهي أعم من الجهتين «دين الله أعز من أن يرى في النوم» أي: سواء أكان في آخر الزمن أم لا، وسواء أكان الرائي مؤمناً أم غير مؤمن. إذن تلك الرواية أخص مطلقاً من جهتين.
قلت: كلا، النسبة هي العموم والخصوص من وجه، فيتعارضان في مادة الاجتماع، وهي رؤيا المؤمن في شؤون الدين، وأما مادة الافتراق من تلك الجهة ووجه الأعمية فيها، فهو إن رأي المؤمن ورؤياه أعم من أن تكون في شؤون
ص: 183
الدين وغيره، على عكس تلكالأخص من هذه الجهة، لكنها أعم من جهة أخرى؛ إذ لم تقيد بالمؤمن ولا بآخر الزمن.
فهذه الرواية - (رأي المؤمن ورؤياه) - من تينك الجهتين أخص،أي: من جهة قيد المؤمن وقيد آخر الزمن، لكنها أعم من جهة أخرى؛ إذ لم تقيد بالدين, عكس تلك حيث قيدت ب(دين الله) ولم تقيد بالمؤمن أو بآخر الزمن، لكن هذه الرواية تقول رأي المؤمن ورؤياه سواء أكان في الدين أم غيره، كالإخبارات المستقبلية التي يبتلى بها الناس كثيراً جداً، فهذه على سبعين جزءاً من أجزاء النبوة.
فالحاصل إنه في مادة الاجتماع تتعارض الروايتان وهو بيت القصيد, أي: إن رأي المؤمن ورؤياه في آخر الزمن في شؤون الدين هو مادة اجتماع الروايتين، فلو تعارضا في مادة الاجتماع سقطت الرؤيا عن الحجية لو كان المستند هو هذا، هذا أولاً.
وثانياً: بل قد لا تصل النوبة للمعارض نظراً للحكومة والناظرية,بل نقول:لنا أن نضمِّن الجواب السابع ثلاثة أجوبة على نحو الترتب فنقول:
أولاً: هذه الرواية معارضة برواية أخرى معتبرة أيضاً، وهي قوله(علیه السلام) «إن دين الله أعز من أن يرى في النوم» فإنالنسبة بينهما من وجه، فيتعارضان في مادة الاجتماع، وهي رؤيا المؤمن فيما يرتبط بدين الله في المنام(1)، فيتساقطان على مسلك من يرى التساقط لو تعارضت الحجتان، فكيف بالمسلك الذي لا
ص: 184
يرى شمول أدلة الحجية حتى ابتداءً للمتعارضين.
لسان رواية (أعز) آبٍ عن التخصيص(1):
أما ثانياً: فنقول: بل حتى لو كانت النسبة من وجه، فإن تلك الرواية - أي: «إن دين الله أعز من أن يرى في النوم» - تتقدم على هذه الرواية؛ وذلك لأظهريتها.
توضيح ذلك:إن لسان «إن دين الله أعز من أن يرى في النوم» آبٍ عن التخصيص، أما تلك الرواية فليست بهذه المثابة فإن «رأي المؤمن ورؤياه في آخر الزمن على سبعين جزءا» قابلة للتخصيص بأن يقال: رأي المؤمن في غير شؤون الدين على سبعين جزءا(2).والحاصل: إنه حتى لو كانت النسبة من وجه ففي مادة الاجتماع تتقدم رواية (أعز) على رواية (النبوءة) لأن هذه أقوى في مدلولها وأظهر، بل هذه نص لأنها آبية عن التخصيص(3)، أما تلك فظاهر لمكان الإطلاق، وهذا هو المقياس العام الذي أوجب تقديم الخاص على العام؛ وذلك لأنه أظهر في مفاده، وكذا المقيد يقدم على المطلق لأظهريته، فكيف بالنص والظاهر؟
ص: 185
وثالثاً: هناك وجه آخر بمعزل عن الوجهين الأولين بأن نقول بالناظرية والشارحية؛ إذ ربما يقال:إنّ هذين الحديثين إذا ضم أحدهما إلى الآخر فإنه عرفاً يفهم شارحية هذا لذاك وموضحيته له(1)، فهو نظير قوله تعالى «كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ»(2)، و(كتب) أقوى من أُوجب عليكم الصيام، وأوجبتُ عليك الصيام أضعف في الدلالة من قولهكتبت، أي كتبته ووثقته وسجلته، فإنه عندما نضمه إلى «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»(3) فإن العرف يرى شارحية هذا لذاك، أي: الحكومة أو الناظرية، والنتيجة ستكون: كتب عليكم الصيام فيما لو لم يكن ضرر عليكم،فالرواية شارحة، ولا تلاحظ النسبة بين الشارح والمشروح.
وفي ما نحن فيه: لو ضممنا إحداهما للأخرى فإننا نرى بوضوح ناظرية اعز لرواية نبوءة، وأن النتيجة: هي رأي المؤمن ورؤياه في آخر الزمن على سبعين جزءا من أجزاء النبوة في غير شؤون الدين، وذلك ببركة ضميمة أن دين الله أعز من أن يرى في النوم.
فهذه وجوه ثلاثة على سبيل البدل في الوجه السابع، فأيٌّ منها استظهره الفقيه فإنه وافٍ بالمقصود، ولا مانعة جمع بين بعضها وبين غيره، كما في الثاني والثالث(4), فليتدبر.
ص: 186
هذه الرواية كبعض نظائرها رغماعتبارها، بل صحة بعضها إلا أنها تسقط عن الحجية حسب مدعاهم، لإعراض المشهور، بل المجمع عليه تقريباً عنها، والشهرة على حسبِ مبنىً مشهورٍ كاسرةٌ وجابرة، وكلامنا الآن في كاسريتها خاصة، فإن هذه الروايات كانت موجودة في المتناول، وبعض معتبراتها توجد في الكافي الشريف، هذا من جهة.
ومن جهة ثانية: فإن الأحلام يكثر الابتلاء بها، وليست مسألة شاذة كي يقال: إن الفقهاء أعرضوا عن التطرق للقول بحجيتها لشذوذها، وعدم سؤال الناس إياهم عنها، وعدم ابتلائهم بأنفسهم بها.
فمن ضمِّ هاتين الجهتين نكتشف أن الفقهاء أعرضوا بلا شك عن هذه الروايات، مما يكشف عن خلل في دلالتها على المدعى في نظرهم، حتى لو لم يكشف عن وجود خلل في السند.
والقاعدة المعروفة هي: كلما ازداد الحديث صحة ازداد وهناً بأعراض المشهور عنه(1)، والقاعدة عقلائية، فإن الحديث إذا كان صحيحاً، بل في أعلى درجات الصحة، ومع ذلك رأينا أعاظم الفقهاء الأتقياء على مرالتاريخ أعرضوا عنه، مع كونه بمشهدهم ومع كونهم أتقياء مجتهدين، وإن عملهم وتخصصهم وهمهم الأول هو البحث عن الأدلة الشرعية، فإن ذلك يكشف عن وجود خلل(2) في هذه الرواية سنداً أو دلالة.
ص: 187
وبعبارة أخرى: بناء العقلاء ليس على الاعتماد على الخبر الذي أعرض عنه كافة، بل حتى مشهور أهل الخبرة رغم كونه بمرآهم ، واعتبروا من حالكم في العرف، فإنه لو وصل إليكم خبر بطريق حسن أو موثق أو صحيح عن مرجع التقليد إنه قال كذا أو أفتى بكذا، ثم رأيتم أعاظم أصحاب ذلك المرجع من مختلف التوجهات والألوان والأشكال قد أعرضوا عن ذلك الخبر وخالفوه، فإن ذلك يكشف عن أنهم لا يرون صحة نسبة هذا الخبر وهذه الفتوى له، وعدم صدورها، أو أنهم لا يرون تمامية الدلالة.
وموجز القول: إن هذا الخبر معرض عنه، فإن الفقهاء على مر التاريخ لم يبنوا على حجية الأحلام، بل بنوا على عدمها في جواب من سألهم، كالمفيد والعلامة، إذ صرّحا بالعدم،أو بإعراضهم جميعاً عن ذكر الأحلام فيالفقه والأصول كحجة من الحجج.
ثم إن هذا الوجه - كبعض ما سبقه أو يلحقه - مشترك بين هذه الرواية وسائر الروايات، مثل رواية «من رآني في منامه فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل [لايتخيّل] بي»(1) فإن الفقهاء لم يستفيدوا من ذلك حجية هذه الرؤيا، كما سيأتي توضيحه أكثر.
لو فرض ورفعنا اليد عن الإشكالات السابقة بأجمعها، وقلنا: إن الرواية - أي: (سبعين جزءاً من أجزاء النبوة) - صحيحة وتامة الدلالة فرضاً، ولم يعرض المشهور عنها، أو عن حدود دلالتها لكن يجب الفحص عن معنى
ص: 188
النبوة في الرواية؟
والتحقيق هو: إن النبوءة تعني الإخبار والإنباء، لكن هذا الإنباء عن ماذا؟ أهو عن لوح المحو والإثبات؟ هذا احتمال,أو هو إنباء عن اللوح المحفوظ؟ هذا احتمال آخر، فإذا جرى الاحتمالان فلا يعلم صدق هذه الرؤيا، أي: لا يعلم تحققها خارجاً, فلو رأى في المنام مثلاً أنه سيموت غداً وسلمنا - فرضاً - أنها نبوءة بطريق إلهيبالإلهام، أو بالقذف في مخيلته في المنام، لكن: لله المشيئة من قبل ومن بعد، ولعله يدفع صدقة أو يصل رحمه فيُنسَأ في أجله(1)، وهذا هو مسرح (البداء) المعروف، فتدبر.
ويوضح ذلك ويؤكده نفس حال الأنبياء(علیهم السلام) على عظمتهم، فنبينا(صلی الله علیه و آله)
أحياناً كان يخبر ثم يظهر أنه من لوح المحو، كما أخبر أن هذا الحطَّاب سيموت غداً(2)، وكذلك عيسى(علیه السلام) أخبر أن هذه العروس ستقتلها الأفعى فتموت ثم لم
ص: 189
يحدث(1)، ولم يكن الكلام كذباً ولاخطأً، وإنما كان إنباء عما هو مسجل في لوح المحو والإثبات(2)، وبذلك يظهر أنه لو ترقّينا وقلنا: إن المنام نبوة لكن لعلها نبوءة عن لوح المحو والإثبات، فلا يحرز إصابتها للواقع على فرض تمامية دلالتها، وهو بيت القصيد, فقد تتخلف نظرا لأن المنبأ عنه لعله من لوح المحو والإثبات، وهكذا في نظائر هذا المثال(3).
ص: 190
إنه حتى لو بنينا على حجية وتمامية هذه الرواية(1)، وإنها تدل على حجية الرؤى، لكن نقول: لا تلازم بين دلالة الرواية على حجية الرؤى وبين فعليتها(2)، وبتعبير آخر: إنه لا تلازم بين إنشاء الحجية وبين تنجزها، وبتعبير عرفي أوضح: إن إثبات الحجية للرؤى - استناداً
لهذه الرواية - هو الخطوة الأولى في الطريق، فينبغي أن تلحقها خطوات أخرى: بأن نبحث عن الضوابط، وأن نبحث عن القيود والشروط، فهل هي حجة مطلقاً أو بقيود وشروط؟
وبتعبير رابع: إن دلالة هذه الرواية على حجية الرؤى يستدعي البحث عن شروط الحجية، فإن إثبات الحجية لا ينفي وجود شروط ووجود موانع.
توضيح ذلك: إن خبر الثقة حجة لقوله تعالى: «فلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْلَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(3) ولغيره، فهذه هي الخطوة الأولى في طريق إثبات الحجية. ثم يلزم البحث عن مدى وجود شروط أخرى لحجية هذا النافر المحذِّر، وعند البحث نكتشف وجود شروط أخرى مذكورة، إما في الآيات والروايات، أو قد بُنِي عليها لبناء العقلاء.
فمن الشروط مثلاً الضابطية، فإن بناء العقلاء عليه، فينبغي أن يكون الثقة ضابطاً، وإلا لو كان غير ضابط فخبره ليس حجة، مع أن هذا الشرط لم
ص: 191
يصرح به في الآية الشريفة، وكذلك في مرجع التقليد، فإن أدلة حجية فتواه لا تنفي وجود شروط وقيود، كالحرية والذكورة والحياة والعدالة والأعلمية، فتوى أو احتياطا , إذن وجود دليل على الحجية يستدعي البحث عن شرائط الحجية ولا ينفيها، فهو لا بشرط عن تلك الشرائط.
وعليه فنقول في المقام: إنه سلمنا أن هذه الرواية تدل على أن رؤى المؤمن في آخر الزمن نبوءة لكن ما هي الشروط؟
والجواب: هناك شروط عديدة دلتعليها بعض الروايات المعتبرة، لكن الكثيرين بما أنهم عوام لا يعرفون هذه المعادلات، ولا يفكرون فيها، بل لا يحتملونها، وأما الخواص فلم تسنح لبعضهم الفرصة للبحث والتنقيب.
ومن الروايات هذه الرواية المعتبرة المذكورة في الكافي(1):(عن العدة(2) ،
ص: 192
عن أحمد بن محمد بن خالد) أي: البرقي وقد وثقه النجاشي، لكن المشكلة أنه يروي عن الضعفاء، لكن هذا السند ليس فيه ضعفاء، فالمشكلة غير موجودة، وعبارةالنجاشي والطوسي: «كان ثقة في نفسه غير أنه أكثر الرواية عن الضعفاء واعتمد المراسيل»(1) فهنا لا ضعفاء ولا إرسال.
(عن أبيه) وأبوه وهو محمد بن خالد وثقه الطوسي(2) .
(عن النضر بن سويد) يقول عنه النجاشي:«ثقة صحيح الحديث»(3) ، (عن
درست بن أبي منصور) فيه كلام لكن السيد الخوئي في المعجم وثّقه(4) ، كما أنه روى عنه بعض أصحاب الإجماع، مثل ابن أبي عمير والبزنطي، (عن أبي بصير) وهو مشترك بين جماعة لكن المنصرف من إطلاق أبي بصير على التحقيق هو أحد اثنين(5) كلاهما ثقة، فإما هو يحيى بن القاسم أو ليث البختري، إذن فالسند معتبر على عدد من المباني على الأقل, إضافة إلى أن
ص: 193
مضمون الرواية على مقتضى القاعدة،بالإضافة إلى وجود روايات أخرى تعضدها.
( قال:قلت لأبي عبد الله (عليه سلام الله): جعلت فداك، الرؤيا الصادقة والكاذبة مخرجهما من موضع واحد) وصيغة الكلام لعلها إخبار يتضمن نوعاً من الاستفهام(1) (قال: صدقت) في معنى كلام الإمام أكثر من احتمال,و ليس هذا محل بيان ذلك، ونقتصر على بيت القصيد (أما الكاذبة المختلفة فإن الرجل يراها في أول ليلِهِ في سلطان المردة الفسقة، وإنما هي شيء تخيّل إلى الرجل وهي كاذبة مخالفة لا خير فيها، وأما الصادقة) ففيها قيود ويذكر الإمام(علیه السلام) ههنا أربعة شروط، كما توجد شروط أخرى، قد نذكرها في وقت آخر ، وما أندر تحقق مجموع الشروط خاصة رابعها؟ (إذا رآها بعد الثلثين من الليل مع حلول الملائكة)أي: حلول نزول الملائكة، ولعله مصحف «مع نزول الملائكة» (وذلك قبل السحر فهي صادقة لا تخلف إن شاء الله) وقوله(علیه السلام): إن شاء الله، تؤكد جوابنا السابق في البداء، فإنها وإن كانت نبوءة لكن لعلها منلوح المحو والإثبات، فقوله: (إن شاء الله) نستند لها لإثبات ذاك الجواب أيضاً, هذا وجه.
ووجه آخر إنه: «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ»(2) فهو القاهر جل اسمه،
ص: 194
وهنا بحث عقائدي عن اللوح المحفوظ ولوح المحو والإثبات يترك لمحله.
(إلا أن يكون جُنُباً) فهنا قيد آخر، وأنه حتى لو كان بعد ثلثي الليل فإن هذه الرؤيا قد لا تكون صادقة مطلقاً أو في الجملة. (أو يكون على غير طهر) بأن نام بلا وضوء، فكان محدثاً بالأصغر، فالرؤيا قد تتخلف أو تختلف عندئذٍ. (أو لم يذكر الله عز وجل حقيقة ذكره) وهذا الشرط نادر التحقق، فإذا فقدت الرؤيا أحد الشروط المتقدمة، (فإنها تختلف وتبطئ على صاحبها) والمستظهر أن تبطئ هو عطف مباين على مباينه، كما هو الأصل في العواطف، وليس عطفاً تفسيرياً، وعليه: فإنها قد تختلف(1) أولاً، وقد تبطئ على صاحبها ثانياً، وإن لم تختلف.إذن، فهناك ضوابط لحجية الرؤيا على فرض القول بحجيتها، ومع ذلك فمن الغريب أن يتصور الناس أنه لو قيل: إنّ الرؤيا قد تكون نبوءة وتصيب أحياناً فيمكن التشبث بكل رؤيا في كل شيء(2).
ص: 195
قد يقال: إن (رأي المؤمن ورؤياه...) هي قضية مهملة وليست مطلقة؛ إذ المفرد المضاف لا يفيد العموم، بل الذي يفيد العموم هو:
أ: الجمع المضاف، كقولك: (أبناء زيد حكماء) عكس قولك (ابن زيد حكيم) فلو كان له أبناء لما دلّ على كون الأكثر من الواحد حكيماً.
ب: أو النكرة في سياق النفي أو النهي، كما لو قال: (لا رجل في الدار) أو (لا تضرب أحداً).ج: أو الجمع المحلى بأل، فإنه يفيد العموم بالوضع.
د: أو المفرد المحلى بأل، فإنه يفيد العموم بمقدمات الحكمة.
ولا شيء منها متحقق في قوله: (رأي المؤمن ورؤياه).
لكن قد يقال: إن إضافة الرأي والرؤيا للمؤمن مشعرة بالتعليل؛ إذ به بيان الوجه، فحيثما كان كانت(1).
لكن فيه: إن الإشعار بالعلية لا يكون دليلاً عليها، إضافة إلى ما سبق من أن الملاك لو كان هو (المؤمن) لكان المراد به الكامل، أو كان مجملاً.. الخ، أو ما صدر منه من حيثية إيمانه..الخ.
وقد يقال: إن الظاهر ثبوت الحكم للجنس أي: جنس الرؤيا والرأي،
ص: 196
أي: الرؤيا بما هي هي، فهو ك(تمرة خير من جرادة)(1) أو أكرم خادم العالم؛ إذ يستفاد منه أكرم كل خادم له لا خصوص أحدهم.
وفيه: أنه على فرضه يدل علىالعموم بمقدمات الحكمة أو بحكم العقل, على الخلاف، لا بالوضع، فلابد من إحراز كون المولى في مقام البيان، ودفع احتمال وجود قدر متيقن في مقام التخاطب، ثم لو أحرز هذا ودفع ذاك فرضاً، فإنه يتقدم عليه كل ما دل على العموم بالوضع كجميع أدلة الأحكام والموضوعات، كخبر الثقة والبينة, فتأمل.
إن ثبوت كون رؤيا المؤمن من أجزاء النبوة لا يقتضي حجيته على الغير؛ إذ هناك فرق بين النبوة والرسالة، ولم يرد في الحديث أن رؤيا المؤمن على سبعين جزءاً من أجزاء الرسالة، والمُجدِي في مقام الاحتجاج هو الرسالة لا النبوة، أي: ما أرسل به إلى غيره من عامة الناس، أو خصوص بعضهم، لا ما أنبئ به فقط دون أن يؤمر بإبلاغه.
وبعبارة أخرى: النبوة بما هي هي أمر لازم، وليس متعدياً إلا لو أمر الله بإبلاغها.
ويوضحه (القطع) فإن كونه حجة ذاتاً - أو كون العلم فقط هو الحجة
ص: 197
الذاتية - لا يستلزم كونه حجة على الغير، بل هو حجة للقاطع فقط، فلو فرض أن الرؤيا نبوة فهي حجة للرائي،لكن ما الدليل على حجيتها على غيره؟
كما يدل عليه أن النبي بما هو نبي لم يكن مكلفاً بإبلاغ الغير بما أُنبأ به، بل إنما وجب عليه الإنباء لو أمر بالرسالة. كما يوضحه قوله تعالى: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ(1) وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ»(2)، و«يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ...»(3)، «مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى...»(4)، «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ»(5)، «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ»(6) «مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ...»(7)، «يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ»(8)، «وَمَا آتَاكُمْالرَّسُولُ فَخُذُوهُ...»(9) .
وأما ما ذكر فيه (النبي) فلأنه المبنى والمقتضِي لوجوب الإطاعة؛ لا لأنه الجزء الأخير من العلة في الاحتجاج؛ ولذا نجد إلحاق الرسالة بالنبوة كما في
ص: 198
قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللهِ...»(1)، فتأمل.
وهو ما أجاب به العلامة المجلسي بقوله: «لكن هذه الأخبار ليست بصريحة في وجوب العمل به(2) إذ لعله مع العلم بكونه منهم(علیهم السلام)لم يجب العمل به؛ إذ مناط الأحكام الشرعية العلوم الظاهرة، كما أن النبي(صلی الله علیه و آله) والأئمة(علیهم السلام) كانوا يعرفون كفر المنافقين، وفسق الفاسقين، ونجاسة أكثر الأشياء، لكن الظاهر أنهم لم يكونوا مأمورين بالعمل بهذا العلم، بل كانوا يستندون في تلك الأحكام إلى الأمورالظاهرة من المشاهدة وسماع البينة»(3) .
أقول: وفرق هذا عن الجواب السابق أنه يزيد عليه بأنه لا حجية - بمعنى وجوب العمل والاتباع - للمنامات حتى في حق الرائي، أما الجواب السابق فقد بنى على فرض قبول حجيته في حق الرائي، إلا أنه ليس حجة في حق غيره.
ثم إن مما يؤكد كلام العلامة المجلسي أدلة حصر الأدلة والأمارات مثل: «إنما اقضي بينكم بالبينات والأيمان..»(4)، و«الأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البينة»(5) مما تفيد نفي ما عداها ولا يخرج عنها إلا
ص: 199
بدليل, ولا تكفي بعض الروايات الضعيفة سنداً أو المجملة المراد دلالةً، أو المعرَض عنها بحسب ما كاد أن يكون إجماعاً، للخروج عن هذا الأصل، بل يؤكد كلامه: مثل «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ»(1)، و «أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُواالرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ»(2)، و«اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس»(3), مما تدل على حجية المذكورات فيها، وتفيد بالدلالة الإلتزامية - عرفاً - نفي ما عداها(4)، فتأمل.
وقد يؤيد كلامه: بأن الحجج الشرعية ليس تأسيسية، بل هي إمضائية تأكيدية، والشارع جرى في طرق إطاعته وحججه على مراده وفق ما جرى عليه العقلاء، وليس منها الأحلام، هذا هو الأصل والخروج عنه بحاجة إلى دليل، وصِرف ورود أن الرؤيا نبوة لا يصلح دليلاً على وجوب الجري على طبقها؛ إذ يكفي في بناء العقلاء وفي حكم العقل مثل ذلك لتأسيس طريق جديد غير عقلائي, بل إن إتمام الحجة لا يتم بمثل ذلك.
ويمكن الجواب عن بعض ما قد يورد على ذلك, بما ذكر في الأجوبة السابقة.
وقد يورد على الاستدلال بهذه الرواية أنها مضطربة المتن؛ إذ قوله (رأي
ص: 200
المؤمن...) إن أريد به اجتهاده المطابق للقواعد والأصول، فهو حجة مطلقاً، لا في آخر الزمن فقط(1)، وإن أريد به غير المطابق لها - كالرأي القياسي وكرأي غير أهل الخبرة - فإنه ليس حجة مطلقاً حتى في آخر الزمن.
وبعبارة أخرى: موضوع حجية الرأي هو (الفقيه) أو (أهل الخبرة) لا (المؤمن)، فإن حيثية الإيمان ترتبط بالثواب والدرجات، ولا ترتبط بحجية الإنباء إلا من حيث الاعتصام عن الكذب، ووثوق اللهجة، لكنها غير كافية فيما يحتاج إلى الخبرة أو الاجتهاد على أن الاعتصام عن الكذب غير متوقف على الإيمان بخصوصه.
وقد يجاب: بأن (المؤمن) أريد به جهة الطريقية لا الموضوعية، أي أريد به: من حيث إنه مؤمن،فلو أبدى رأياً فإنه لا يقوله إلا لو كان مستجمعاً لشرائط الحجية، كأن يكون مجتهداً فيما احتاج للاجتهاد، أو أهل خبرةفيما احتاج للخبروية، وككونه عن الأدلة لا عن القياس والاستحسان والمصالح المرسلة وشبهها، فإيمانه طريق إحراز ذلك كله.
لكن يرد عليه: أن ظاهر الرواية مرحلة الثبوت لا الإثبات؛ لظهور كون (على جزء...) مترتبة على كونه (رأي المؤمن) والأسماء موضوعة لمسمياتها الثبوتية، فتأمل.
على أنه لو أريد ذلك لما دل على حجية رؤيا المؤمن في آخر الزمن بقول مطلق، إلا لو استجمع الشرائط، فاللازم البحث عنها وإنها ما هي ؟
ثم هل أنه عرفها فاستجمعها أو لا؟وقد سبق ما ينفع هذا, كما قد يجاب
ص: 201
بأن المراد شق ثالث، وهو كونه بما هو هو كذلك ، أي: ثبوت الحكم لهذه الطبيعة، فيكشف عن كونه طريقاً نوعياً، لكن في خصوص آخر الزمن, فتأمل(1).
إن كون (الرؤيا) نبوءة وصحيحة مطابقة للواقع، لا يستلزم كون تعبيرها كذلك، فإن صحة الرؤيا أمر وحجية التعبير أمر آخر.بيان ذلك: إن للأحلام لغة خاصة، ولمفرداتها معاني تختلف كثيراً عن مؤدياتها الظاهرية، بل وقد تتناقض مع ظواهرها، فصحة الرؤيا ثبوتاً لا يستلزم حجية تعبيرها إثباتاً.
وقد نقل العلامة المجلسي في البحار(2) تأويلات للأحلام عن بعضهم، ونذكر نماذج منها من غير تصحيح لها؛ إذ قد تكون صحيحة(3) وقد لا تكون، إضافة إلى أنها مجرد دعاوى لا دليل عليها من عقل أو نقل، وموطن الشاهد: أنه لا يعلم مطابقة ظاهر الرؤيا لباطنها، والمسلم أن ظواهرها رموز لا تتطابق مع ما يظهر منها في أكثر الأحيان.
والحاصل: إن الاستدلال بها ونظائرها إنما هو من باب الإلزام على نفي التطابق بنظرهم غالباً، وعلى ثبوت التعبير بالمغاير على سبيل البدل عندهم؛ لتعدد ما يذكرونه من المعاني وندرة ما يطابق منها الظاهر, لا على صحة هذا
ص: 202
التعبير أو ذاك.
شواهد تدل على رمزية لغة الأحلامومجهوليتها(1):
فمنها: إنه قد يرى في المنام الشيء لشخصٍ لكنه يرمز به إلى تحققه لولده، أو قريبه أو سَمِيِّه, فقد نقلوا أن النبي(صلی الله علیه و آله) رأى في المنام متابعة أبي جهل له، فكانت لابنه عكرمة، فلما أسلم عكرمة قال(صلی الله علیه و آله) - حسب ما رووه -: هو هذا، ورأى لأُسيد بن العاص ولاية مكة، فكانت لابنه عتاب إذ ولّاه(صلی الله علیه و آله) مكة(2)، ولئن لم يثبت النقل، فإن الجامع والكلي(3) لا ريب فيه في ما يعبرون بها الأحلام.
ومنها: ما نقل عن ابن سيرين من أنه عبّر رؤيا (الرجل يخطب على المنبر) ب: إنه إن لم يكن من أهله فسيصلب، وإن كان من أهله فسيصبح سلطاناً.
ومنها: إن النكاح يفسر بالتجارة، والتجارة تفسر بالنكاح.
ومنها: إن الطاعون يفسر بالحرب، وبالعكس.
ومنها: إن الخوف يعبر بالأمنتفسيراً للضد بضده؛ قالوا: لقوله تعالى: «وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً»(4).
ومنها: إن البكاء إذا لم تكن معه رنّة يفسر بالفرح، والضحك يفسر
ص: 203
بالحزن، إلا أن يكون تبسماً.
ومنها: قولهم: من رأى القيامة قامت في موضع فإن العدل يبسط في ذلك المكان، فإن كانوا ظالمين انتقم منهم، وإن كانوا مظلومين انتصروا.
ومنها: إنه لو رأى لسان المرأة قد قطع، فإنه يدل على سترها وحيائها.
ومنها: ما نقلوه عن النبي(صلی الله علیه و آله) أنه قال: «رأيت أمرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت مِهيعة، فتأوّلتها إن وباء المدينة نقل إلى مِهيعة، وهي الجحفة»(1) .
ومنها: إن المرأة العجوز هي الدنيا، فإن كانت شعثة قبيحة فلا دين ولا دنيا(2) .
والحاصل: إنه أجمع المعبرون - إجمالاً - على تفسير الرؤى بخلاف ظاهرها، إما بمخالف مضاد أو مناقضأو مقارب أو مشاكل، كما أن التجربة دلت على أن أكثر الأحلام - إن لم يكن شبه المستغرق منها - لا يطابق ظاهرها باطنها.
ولا يهمنا الآن التطرق إلى ذكر السبب في ذلك وإنه هل هو: تصرفات القوة المتخيلة ودعاباتها أو اضطراباتها، أو سوء مزاج الدماغ، أو أحوال البدن ومزاجه، أو كدورة النفس أو نظائر ذلك مما قالوه(3) أو أن (نحوَ وجود)
ص: 204
الأحلام - كلاً أو بعضاً - هو على هذا الشاكلة، أي: إن جعلها تكويناً وإيجادها ووضعها كان كي تكون الرؤى دالة دلالات متغايرة متخالفة رمزية ومجهولة(1)، ولا يشترط في الواضع التكويني أن يطابق جعله التكويني لوضعه الاعتباري - أي وضع الألفاظ لمعانيها - أو لوضع الحكيم أو الحكماء الاعتباري أو تعهدهم، على الخلاف في وضع الألفاظ.
إنما المهم المتحصل من كل ذلك هو: أن كون الرؤيا نبوءة لو انضمإلى كون المعبر نبياً أو وصياً، أو تالي تلوهم حقاً كسلمان المحمدي، كان التعبير حجة(2) عندئذٍ.
إنه قد يقال: إنّ رواية «رأي المؤمن ورؤياه في أخر الزمن على سبعين جزءاً من أجزاء النبوة» مقيدة بما ذكر في روايات أخرى، كموضوع لما هو من أجزاء النبوة.
فمنها: ما روي عن النبي(صلی الله علیه و آله) في قوله تعالى:« «لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ» قال: الرؤيا الصالحة يبشر بها المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، فمن رأى ذلك فليخبر بها وادّاً...»(3).
ص: 205
وهو ما رواه في الكافي، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن أبي جميلة، عن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «قال رجل لرسولالله(صلی الله علیه و آله)... في قول الله عز وجل: «لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» قال: هي الرؤيا الحسنة يرى المؤمن فيبشر بها في دنياه»(1).
وما جاء في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: «لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ» قال:«البشرى في الحياة الدنيا الرؤيا الحسنة يراها المؤمن، وفي الآخرة عند الموت»(2).
فإن ضمت الرواية الأولى إلى تلك الرواية ينتج: رأي المؤمن ورؤياه الصالحة، في آخر الزمن.. أو رؤياه الحسنة على الرواية الثانية والثالثة. وذلك واضح على القول بأن العام والخاص والمطلق والمقيد المثبتين، يقيِّد أحدهما الآخر.
وأما على عدم القول به فلا، إلا بدعوى شهادة مناسبات الحكم والموضوع بذلك، وأن العرف الملقى إليهم الكلام يفهمون من التقييد بالصالحة أو الحسنة نفي ما عداها، ويفهمون من ضمهما ذلك؛ ولأن الأصل في القيود الاحترازية، فتأمل(3).
ص: 206
وبناءً على تمامية ما ذكر يقال: إنه لا بد من إحراز كونها رؤيا صالحة أو حسنة لإحراز كونها نبوة، ولا عكس، فلا جدوى من التمسك برواية (رأي المؤمن ورؤياه) لكن قد يقال: إن تلك منقحة لموضوع هذه، فتأمل(1).
ومنها: ما رواه في الاختصاص: قال الصادق(علیه السلام) : «إذا كان العبد على معصية الله عز وجل وأراد الله به خيراً، أراه في منامه رؤيا تردعه فينزجر بها عن تلك المعصية، وإن الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءاً من النبوة»(2) إذ وردت في العبد العاصي الذي أراد الله به خيراً، وعلم أنه ينزجر بالرؤيا.
لكن الاستناد إلى هذه لتقييد تلك أضعف من سابقه، فإن المورد لا يخصص الوارد(3)، خاصة مع ظهور (وإن الرؤيا الصادقة) في أنها تعليل بالكلي الأعمالمنطبق على ما سبقه(4).
ومنها: ما ورد في جامع الأخبار: في كتاب التعبير عن الأئمة(علیهم السلام): «إن رؤيا المؤمن صحيحة لأن نفسه طيبة ويقينه صحيح، وتخرج فتتلقى من الملائكة، فهي وحي من الله العزيز الجبار...»(5) والعلة معمِّمة ومخصِّصة،
ص: 207
فتخصص رواية (رأي المؤمن ورؤياه...) بما إذا كان يقينه صحيحاً، وكانت نفسه طيبة(1).
كما يؤِّيد هذا الخبر ما تقدم من أن المراد بالمؤمن في رواية (رأي المؤمن ورؤياه) هو المعنى الأخص، أي: الكامل من المؤمنين، لا الأعم من إطلاقاته.
وأضغاث أحلام»(1) .
ونظيرها ما في كتاب التبصرة لعليبن بابوية(2): عن سهل بن أحمد(3)، عن محمد بن محمد بن الأشعث(4)، عن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر(5)، عن أبيه، عن آبائه(علیهم السلام) ، قال:«قال رسول الله(صلی الله علیه و آله):الرؤيا ثلاثة: بشرى من الله، وتحذير من الشيطان، والذي يحدث به الإنسان نفسه فيراه في منامه(6)» (7).
وقد تعددت الروايات من طرق الخاصة والعامة بهذا المضمون، مما يفيد الاطمئنان النوعي والشخصي بالصدور. فإن ظاهر القسمة القاطعة للشركة(8) في الروايتين يقيد إطلاق (رأي المؤمن ورؤياه..) بكونه في خصوص (البشرى والمبشرات) بل ظاهر الحصر في الثلاثة يفيد أجنبية الرؤيا عن التشريع والمشرَّعات، كما سبقبيانه أيضاً.
ولعله من مجموع ما ذكر يحصل الاطمئنان بأن رواية (رأي المؤمن ورؤياه) مقيدة بهذه الروايات، إن لم تكن هذه الروايات ناظرة لها وشارحة ومفسرة،
ص: 209
فتدبر.
ثم إن هناك أجوبة أخرى - إضافة لهذه الأجوبة الستة عشرة - تظهر بالتدبر فلنكتف بهذا القدر، ولله الحمد أولاً وأخراً وظاهراً وباطناً.
وقد يستند في حجية الأحلام إلى رواية: «من رآني فقد رآني فإن الشيطان لا يتخيل بي»(1) .
والجواب من وجوه:
الجواب الأول: الرواية ضعيفة خبراً(2)
ما ذكره السيد المرتضى، حيث قال: «فإن قيل: فما تأويل ما يروى عنه(صلی الله علیه و آله) : مَنْ رآني فقد رآني فإن الشيطان لا يتخيل بي، وقد علمنا أن المحق والمبطل والمؤمن والكافر قد يرون النبي(صلی الله علیه و آله) في النوم، ويخبر كل واحدمنهم بضد ما يخبر به، الآخر فكيف يكون رائياً له في الحقيقة مع هذا؟ قلنا: هذا خبر واحد ضعيف من أضعف أخبار الآحاد، ولا معول على مثل ذلك....» (3).
لا يقال: إن هذه الرواية معتبرة؛ إذ قد وردت هذه الرواية في: العيون(4)
ص: 210
والأمالي للصدوق(1)، عن محمد بن إبراهيم الطالقاني(2)، عن ابن عقده(3)، عن علي بن الحسن بن فضال(4)، عن أبيه(5)، عن أبي الحسن الرضا(علیه السلام)... ولقد حدثني أبي، عن جدي، عن أبيه(علیهم السلام): إن رسول الله(صلی الله علیه و آله) قال: من رآني في منامه فقد رآني؛ لأن الشيطان لا يتمثل في صورتي ولا في صورة أحد من أوصيائي، ولا في صورة أحد من شيعتهم، وأن الرؤيا الصادقة جزء من سبعينجزءاً من النبوة».
وهذا الحديث معتبر على بعض المباني.
إذ يقال: لعل الوجه في قول المرتضى: «هذا خبر واحد ضعيف من أضعف أخبار الآحاد» هو أحد وجهين: الأول: لأن خبر الواحد قد يراد به(6): الخبر الضعيف الساقط عن الاعتبار، إما لاشتمال متنه على ما يوجب سقوطه عن الاعتبار كاضطرابه، أو لمخالفة مضمونه للأصول والقواعد، أو لضعف رواته مع عدم كونه مجبوراً بالشهرة.
وهذا الخبر ساقط عن الاعتبار؛ لإعراض المشهور عنه، ولمخالفة مضمونه للقواعد؛ إذ الحجج الشرعية معروفة محددة منحصرة، ولمخالفته
ص: 211
للوجدان، كما قال السيد المرتضى: «وقد علمنا أن المحق والمبطل والمؤمن والكافر قد يرون النبي في النوم، ويخبر كل واحد منهم بضد ما يخبر به الآخر», فتأمل.
والحاصل: إن الملاك في حجية خبر الواحد هو وثاقة الخبر لا وثاقة المخبر، أي: وثاقة الرواية وليسالمقياس وثاقة الراوي، وفي المقام لا وثاقة للخبر وللرواية، وإن فرض وثاقة المخبرين.
الثاني: أو لأن خبر الواحد لا يكون حجة إلا إذا أفاد القطع(1)، وإلا كان مشمولاً لقوله تعالى «إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً»(2) وذلك على مبنى العديد من القدماء.
وبذلك يظهر أن إشكال البعض على السيد المرتضى بان بعض طرق هذا الخبر معتبرة، غير وارد على مبناه، ومبنى من يرى المقياس وثاقة الخبر.
الجواب الثاني: تعليق الحكم على ثبوت الموضوع(3)
إن الرواية علقت الحكم - فقد رآني - على ثبوت الموضوع ووجوده الحقيقي لا على الاعتقاد بثبوته؛ وذلك لظهور أن الأسماء موضوعة لمسمياتها الثبوتية، لا المسميات المتوهَّمة أو المعتقَدة، ولو كان اعتقاد الرؤية هو الموضوع لكان يقال: (من اعتقد أنه رآني فقد رآني) وليس (من رآني فقدرآني).
وبعبارة أخرى: إن تمامية الاستدلال بالرؤيا وحجيتها استناداً إلى هذا
ص: 212
الرواية - على تقدير تمامية سندها ودلالتها - متوقفة على تحقق متعلَّق الموضوع، وذلك ليس بمعلوم.
توضيح ذلك: إن الموضوع هو (من رآني) ومتعلَّقه هو رؤية النبي في المنام، فإذا كان النبي(صلی الله علیه و آله) هو المرئي حقاً تحقَّق (من رآني).
لكن: لا يوجد دليل على أن هذا الشخص - النائم - قد رآه(صلی الله علیه و آله)
في المنام؛ إذ لعله اعتقد اعتقاداً غير مطابق للواقع أنه رآه، أي: إنه توهم أنه قد رآه، وخُيَّل إليه ذلك، ولم يكن قد رآه في المنام حقيقة، فكما أن القوة المتخيلة قد تُصَوِّر للشخص أنه رأى في اليقظة أشياء، لكنه لم يرها بعينه ولم يسمعها بأذنه، بل أوهمته المتخيلة أنه قد رآها أو سمعها(1)، فكذلك قد تُوهِمُه القوة المتخيلة أنه رأى في المنام أشياء مع أنه لم يرها في منامه، بل اخترعتها القوة المتخيلة، وإن شئت قلت: كذبت عليهفي إيهامه أنه رأى ولم يرَ.
وهناك وجه آخر(2): وهو أنه لا ريب في وجود التنويم المغناطيسي، والظاهر إن أكثر مَنْ يقولون إنهم رأوا النبي أو الإمام قد جعل فلاناً وصياً أو نصبه نائباً خاصاً، لم يروا النبي في المنام أبداً كي يقال: إنه ينطبق عليهم (مَنْ رآني في منامه، فقد رآني)، بل إنهم وقعوا تحت تأثير تنويم مغناطيسي،
ص: 213
وأُوهِموا أنهم رأوه في المنام(1).
توضيح ذلك: إن النوم المغناطيسي هو حالة شبيهة بالنوم الحقيقي, وفي التنويم المغناطيسي تخضع إرادة المنوَّم إلى إرادة المنوِّم، فيمكنه أن يوجِد في ذهنه صوراً وأفكاراً ومعتقدات على خلاف إرادته الأولية؛ إذ يصبح المنوَّم مستجيباً للإيحاء أو أكثر استجابة له، كما قد يمر المنوَّم بدرجات مختلفة من الخيال والتفكيروالوعي والإدراك والتذكر, لكنها كلها تكون تحت سيطرة المنوِّم ورقابته وتعديله، وتدخلاته من حذف وقصقصة أو إضافة ودبلجة، كما يمكنه أن يأمره بفعل فيسلب بذلك إرادته واختياره.
كما أن بإمكان المنوِّم إيجاد تغييرات في وظائف الجسم وأجهزته: كالتغيرات في ضغط الدم وجريانه ودورته ودورانه، ومدى الإحساس بالبرودة والحرارة، وقد يكون التنويم المغناطيسي مسكناً للألم أو موجباً للنشوة، أو سبباً لتأجيج الحقد والقوة الغضبية، أو القوة الشهوية أو شبه ذلك، كما يستخدم بعض الأطباء التنويم المغناطيسي كمخدِّر، فيبقى المريض مسترخياً مرتاحاً طوال العملية الجراحية(2)، كما ساعد التنويم المغناطيسي أحياناً في معالجة مرضى كانوا يشتكون من آلام المفاصل، أو الجلطة الدماغية أو حتى
ص: 214
السرطان.
وقد يتم التنويم عن قرب، وقد يكون عن بُعد، كما قد تستخدم فيه العقاقير سريعة المفعول أو البطيئة وقد لا تستخدم، وقد يتم التنويمبأوامر مباشرة، وقد يكون بطريقة غير مباشرة.
وهناك نوع من التنويم المغناطيسي يسمى بالتنويم الذاتي، حيث يقوم المرء فيه بتنويم نفسه لأجل هندسة مرحلة لاحقة من عمره(1) أو لغير ذلك.
وبذلك يتضح أن المنوَّم مغناطيسياً قد يلقنه ويوحي إليه المنوِّم بأنه ذهب إلى الصين، والحال أنه لم يذهب، أو إنه رأى في يقظته أو منامه كذا، والحال أنه لم ير، لكنه يعتقد جازماً أنه قد رأى في يقظته أو منامه ذلك.
والظاهر إن الذين يدعون أنهم رأوا في المنام رسول الله(صلی الله علیه و آله) وهو يأمرهم باتّباع فلان، أو يُعرِّفه على أنه وصيه، واقعون تحت تأثير تنويم مغناطيسي أوهمهم ذلك، فاعتقدوا أنهم رأوه(صلی الله علیه و آله)
في المنام، لكنهم لم يروه أبداً، فلا ينطبق عليهم قوله (صلی الله علیه و آله) (من رآني فيمنامه...) إذ إنه لم يره في منامه أبداً.
ص: 215
إنه لا تلازم بين كونه(صلی الله علیه و آله) هو المرئي والمشاهَد، وإن من رآه فقد رآه، وبين كون الكلام الذي يسمعه الرائي ويتصوره صادراً من الرسول(صلی الله علیه و آله) ، صادراً بالفعل منه(صلی الله علیه و آله) أي: كونه كلامه، ولو كان المراد أن كل كلام يسمعه النائم ويُتَصوَّر أنه من الرسول(صلی الله علیه و آله) ، صادر من الرسول حقاً لكان ينبغي أن يقال: (من رآني فقد رآني ومن سمع كلامي، فقد سمع كلامي)، أو (ومن اعتقد أنه سمع كلامي فقد سمع كلامي).
ويدل على ذلك ما نشهده بالعيان في عالم الحس، من أنه قد يرى الشخص شيئاً وكان كما رآه، ثم يسمع صوتاً فيظنه منه مع أنه ليس منه، بل من مجاوِرِه، أو يكون صدى مما يقابله أو غير ذلك، والأمر في المنام كذلك، بل هو أظهر وأجلى.
ولذا قال السيد المرتضى: «فقد نجد كثيراً من النيام يسمعون حديث من يتحدث بالقرب منهم، فيعتقدون أنهم يرون ذلك الحديث في منامهم»(1).والحاصل: إن رؤياه قد تكون مركبة من مجموع رؤيته (صلی الله علیه و آله)وسماع صوتٍ من شخصٍ قريب منه، أو صوت تُحدِثُه القوة المتخيلة أو صوت يوجده الشيطان أو المنوِّم مغناطيسياً، فتربط مخيلة النائم بين الأمرين، فيظن أنَّ الصوت صادرٌ من الرسول(صلی الله علیه و آله) ، فتأمل.
سلمنا أن المرئي هو(صلی الله علیه و آله) وأن الكلام كلامه، ولكن نقول: إنه لا دليل على
ص: 216
كون مداليل كلماته في المنام هي مراداته بالإرادة الجدية، بل لعلها مرادات بالإرادة الاستعمالية فحسب، وذلك لحكمة لا نعلمها, ولاختلاف لغة الأحلام عن اللغة المعهودة ورمزيتها كما سبق.
وعليه: فقد يكون المراد هو ذو القيد، وقد أُطلق في ظاهر اللفظ، أو الخاص وقد عمم، أو المجاز، أو المعنى الكنائي، أو المنسوخ، لحكمةٍ ما، أو غير ذلك.
ولا يوجد دليل على أن الضوابط العقلائية التي أمضاها الشرع، من أصالة الحقيقة والعموم وشبهها، الحاكمة في ظواهر الألفاظ في عالم اليقظة، هي ضوابط عقلائية ممضاة شرعاًفي عالم المنام أيضاً(1).
إن بناء الأحلام على (المتشابهات)، وإذا كانت المتشابهات مما لا يمكن الاحتجاج بها في أعلى الحجج، وهو القرآن الكريم(2)، فما بالك بها في أضعف الحجج، وهو المنامات على فرض كونها حجة؟
قال تعالى: «مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ
ص: 217
تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ»(1).بل نقول: إن الفارق بين الكتاب(2) والأحلام هو أن متشابهات الكتاب محدودة محصورة معينة، أما متشابهات الأحلام فغير محدودة ولا معينة، ثم إن متشابهات الكتاب لها مرجعية محددة واضحة هي محكماته وروايات أهل البيت(علیهم السلام) ، أما متشابهات الأحلام فلا مرجعية لها(3).
وفرق هذا الجواب عن سابقه أن غاية الأول عدم الثبوت - وإن كان مآله إلى عدم الحجية - ومفاد الثاني ثبوت العدم.
الجواب السادس: الرواية لا توافق كتاب الله(4)
إن هذا الحديث إن أريد به حجية ولزوم اتباع كل ما قاله المعصوم في المنام، فإنه مشمول لما رواه في الكافي: عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني(5)، عن أبي عبد الله(علیه السلام) أنه قال: «قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): إن على كلِّ حق حقيقة وعلى كلِّ صوابنوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه»(6).
ص: 218
ولزوم اتباع ما قاله المعصوم في المنام مما لا نجد له أصلاً في القرآن الكريم، فلا إحراز لكونه موافقاً لكتاب الله هذا أولاً.
وثانياً: بل هو مخالف للكتاب؛ لظهور حصره تعالى الطرق إلى الأصول والفروع والشريعة والعقيدة بأمثال: «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ»(1)
و«أَفَلا تَعْقِلُونَ»(2) ،أو «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ»(3)،و«الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاًسُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»(4)، و«فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»(5)، و«فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ»(6)، و«أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ»(7)،و«وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
ص: 219
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ»(1)، و «لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(2) .
ولا نجد في آية واحدة إرجاعاً إلى المنامات في الشؤون الاعتقادية أو الشرعية(3).
إن هذا الحديث لو أريد به حجية ولزوم اتباع قول ما يعتقده النائم أنه المعصوم في منامه، فإنه مما لا يمكن لفقيه الالتزام به أبداً فيما لو خالف حكماً شرعياً أو مسألة كلامية، أو أسّس لأصل، أو لحكم جديد لم يرد في الآيات والروايات.
أرأيت أنه يمكن القول بجواز شرب الخمر أو الزنا، أو بحرمة صلاة الصبح، لو فرض أنه رأى في المنام مَن اعتقد أنه الرسول فأمره بالأولين، ونهاه عن الأخير؟
أو ترى أنه يمكن الالتزام بصحة مثل ما لو رأى في المنام أن الرسول يخبره - فرضاً - بأن الله ظالم أو جسم، أو أنه لا معادَ أو شبه ذلك؟
وقد جاء في الرواية: عن الحسين بن إبراهيم بن ناتانه (4)، عن علي بن
ص: 220
إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن إبراهيم الكرخي(1)، قال: «قلت للصادق جعفر بن محمدC: إن رجلاً رأى ربه عز وجل في منامه فما يكون ذلك؟ قال ذلك رجل لا دين له، إن اللهتبارك وتعالى لا يرى في اليقظة ولا في المنام، ولا في الدنيا ولا في الآخرة (2)»(3).
وعلى ضوء هذه الرواية نقول لمن قال: إنه رأى الرسول(صلی الله علیه و آله)
أو الإمام(علیه السلام) في المنام وهو يأمره بمعصية، كالظلم والسرقة والغصب والغيبة والتهمة، أو ينهاه عن طاعة، كالعدل والإحسان والبر والصدقة والصلاة والتعاون على البر والتقوى وما إلى ذلك، أو لمن قال: إنه رأى الرسول (صلی الله علیه و آله) في المنام وهو يقول له أن علياً(علیه السلام) ليس هو الخليفة الأول، أو أن التبري ليس من فروع الدين، نقول له - كما قال الإمام(علیه السلام)
في الرواية -: «هذا رجل لا دين له» إن الرسول(صلی الله علیه و آله) لا يأمر بالمحرم، ولا يخالف الشرع في اليقظة ولا في المنام، ولا في الدنيا ولا في الآخرة.
وكذا نقول لمن أدعى: أن الإمامة أو الوصاية والخلافة والنيابة الخاصة تثبت بالمنام، وأنه رأى في المنام الرسول(صلی الله علیه و آله) أو الإمام المنتظر(عجل الله تعالی فرجه الشریف) ينص على كون فلان نائباً خاصاً له، نقول: (هذا رجلٌ لا دينَ له)، إذ (لله الحجةالبالغة) وقال
ص: 221
الإمام(صلی الله علیه و آله): «والله لأمرنا أبين من هذه الشمس»(1)، و«عن النبي(صلی الله علیه و آله) وقد سئل عن الشهادة، قال: هل ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد أو دع(2)»(3) وليس المنام حجة الله البالغة أبداً، وليس أبين من الشمس أبداً(4).
وقد يقال: إن مصب النفي والإثبات في (مَنْ رآني فقد رآني) هو رؤيته(صلی الله علیه و آله) فيما لو دار أمره بين كونه هو أوكون الشيطان متجسداً في صورته، فإن شأن المعصوم(علیه السلام)
أجل من أن يتصور الشيطان في صورته.
لكن ذلك لا ينفي إمكان أن يتمثل غير الشيطان في صورته، ألا ترى: أن
ص: 222
بعض الواقفة صنع صورة تشبه من بعيد الإمام الكاظم(علیه السلام) في القضية المعروفة؟ وأنه يمكن لأي ممثل أن يمثل هيئة وشمائل أحد المعصومين(علیهم السلام) ، قريبة كانت أو بعيدة عن الواقع؟ وأنه توجد الكثير من الصور المرسومة على أنها النبي أو الإمام(علیه السلام)، مما لا تطابقه، وليس يمتنع في حكم الله التكويني ذلك، بل الممتنع - حسب الرواية - فقط هو تمثل الشيطان في صورة النبي والإمام.
والحاصل:
إن الحصر إضافي، فبالإضافة إلى احتمال كون المرئي هو الشيطان متمثلاً بصورة المعصوم، ورد (من رآني فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي) لا بلحاظ إمكان تمثل غير المعصوم به، وإلا لكان التعليل بالأعم لإثبات الأخص، وهو مما لا يصدر من حكيم، فكيف بسيد الحكماء ؟ وكان ينبغي أن يقال: فإن شيئاً لا يتمثل بي أبداً.
وعليه: فيمكن أن يكون ما زُعِم في المنام أنه النبي، ليس بالنبي، كما ليس ب (الشيطان متصوراً بصورته)؛ إذ (فإن الشيطان لا يتمثل بي) بل هو شخصآخر يشبه النبي(صلی الله علیه و آله) أو المعصوم(علیه السلام)
فتصوره هو، أو هو من دعابات القوة المتخيلة، أو غير ذلك.
إن حجية هذه الرؤيا خاصة بما لو لم تعارض برؤيا أخرى؛ لأن أدلة الحجية لا تشمل المتعارضين إقتضاءً على رأي، أو إن شملتهما إقتضاءً فإنها تسقط بالمعارضة عقلاً، ولا دليل نقلي على التخيير إلا في الخبرين، وقد مضى نظيره وتفصيله.
ص: 223
إنها منصرفة إلى ما كان مؤداها غير شؤون العقيدة والشريعة، فتختص بالمبشرات والمنذرات؛ وذلك نظراً لرواية «إن دين الله أعز من أن يرى في النوم»(1).
فإن ضم إحدى الروايتين إلى الأخرى يفيد أنه لا يمكن أن يرى النائم الرسول أو أحد المعصومين وهو يأمره أو ينهاه في أمر من أمور الشريعة أو العقيدة، كأن يأمره باتباع فلان وكونه وصياً، مما لم يثبت بالأدلة الشرعية العامة؛ وذلك «لأن دين الله أعزمن أن يرى في النوم».
ولولا هذا الجمع العرفي - ظاهراً - للزم طرح الروايتين, ولا مجال لدعوى أخصية (من رآني...) لأن النسبة من وجه أولاً، ولأن كون لسان «إن دين الله أعز...» آبياً عن التخصيص لا يترك مجالاً لدعوى أظهرية الأخص.
وقد مضى في الرواية السابقة ما ينفع المقام ويتمم الكلام فلاحظ.
إنه لو فرض صحة كل رؤيا يُرى(صلی الله علیه و آله) فيها، وإنها رؤيا له(صلی الله علیه و آله) ، وفرض تسليم كون الكلام كلامه، فإنه لا يكفي ذلك في حجية ظواهر ألفاظها؛ وذلك لما فصلناه من أن للأحلام لغةً خاصة بها، وإن الكلمات والصور والهيئات والحالات يُرمز بها في عالم الأحلام إلى ما يغاير ظواهرها في عالم الأعيان، وفي أوضاع اللغات.
والحاصل: إن الحجية فرع ثبوت كونه(صلی الله علیه و آله) هو المتكلم، وفرع ثبوت
ص: 224
إرادته إرادة جدية لظاهر الكلمات، كما يراد منها في عالم اليقظة، ولم يثبت أي منهما.
وبعبارة أخرى: الحجية متوقفة على ثبوت الصدور وصحة التعبير, وصحة التعبير غير محرزة إلا إذا كان النبي(صلی الله علیه و آله) أو الإمام(علیه السلام) هو المفسّروالمعبّر.
إنه على فرض ثبوت الصدور وصحة التعبير، ومطابقة ظواهر الألفاظ في عالم المنام لظواهرها في عالم اليقظة من حيث المعنى المراد، فيرد عليه ما سبق نقله عن العلامة المجلسي من «إن مناط الأحكام الشرعية هو العلوم الظاهرة...»(1)
فراجع.
ما سبق أيضاً من أن هذا الحديث ونظائره قد أعرض عنه مشهور الفقهاء والأصوليين، والأخباريين والمحدثين والمفسرين، شهرة عظيمة كادت أن تبلغ حد الإجماع، بمعنى أنهم لم يعتبروا رؤية أحد المعصومين في المنام مصدراً من مصادر التشريع، ولا دليلاً ملزماً على الحكم الشرعي من وجوب وحرمة. والشهرة كاسرة في بناء العقلاء خاصة إذا كانت بهذه الدرجة من العموم والقوة والوضوح.
وقد ورد في الحديث: «خذ بما اشتهربين أصحابك ودع الشاذ النادر»(2)
ص: 225
، «فإن المجمع عليه لا ريب فيه (1)»(2) ، وقد سبق نظير هذا الجواب وتفصيله.
إنه على فرض الحجية صدوراً وتعبيراً، فإن ما يُخبَر به في المنام لا دليل على أنه خارج دائرة البداء؛ إذ يحتمل كونه مما يخبر به عن لوح المحو والإثبات، فلا يعلم تحققه خارجاً وقد مرّ نظيره وتمامه(3).
ص: 226
ص: 227
ص: 228
حيث إن المعبرين (1) التفتوا إلى أن الأحلام كثيراً ما تكون مخطئة، والتفتوا إجمالاً أو تفصيلاً إلى أن تعبير الأحلام قد لا يطابق الواقع لذا حاولوا تجاوز هذه الإشكالية، فوضعوا أصولاً لتعبير الأحلام، فهي بزعمهم كأصول الفقه لدينا، فلنر(2) هل هي منضبطة أو لا؟ فإن كانت منضبطة فيكون ذلك وجهاً(3) لحجية الأحلام في الجملة فقط(4)، أما لو لم تكن منضبطة بالمرة، ولم يكن عليها دليل تام، فلا وجه - حتى بنحو الاقتضاء - لمرجعيتها وحجيتها.
والضوابط التي ذكروها، هي:
الأصل الأول هو المطابقة للكتاب، فقد عدّوها من الأصول المرجعية للتعبير؛ ولذا نجد كثيراً منهم يفسرون كثيراً من الأحلام بانطباق تلك المفردة، أو مجموعة المفردات على مفردة أو آية من القرآن الكريم.
مثلاً: لو رأى شخص في المنام خشبة، فإنهم يفسرونها بوجود منافق في
ص: 229
تلك المنطقة التي رأى فيها خشبة، لقوله تعالى: «كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ»(1).
ولو رأى الإنسان بيضة في المنام، فقد فسروها بإنها تعني المرأة؛ لأن القرآن يقول: «كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ»(2).
وعليه، فلو رأى الأعزب بيضة، فإن ذلك يعني أنه سيتزوج مثلاً، وإذا كان متزوجاً فإنه سيتزوج مرة ثانية!
وقالوا: ولو رأى ناراً فإنها تفسر باشتعال حرب في تلك المنطقة، لقوله تعالى: «كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَااللهُ»(3) وهكذا.
الأصل الثاني عندهم: أن كلام الموتى حجة، فإذا أخبرك ميت بشيء ، أو أفتى بشيء فأنه حجة كما قالوا؛ لأن تلك الدار دار حق، وقد انقطع فيها الامتحان، فلا ينطق الأموات إلا بالصدق، فكلما أخبر به الميت فهو حق.
الأصل الثالث: حال الرائي والمكتنفات به وخصوصياته من معتقَدٍ أو صفة أو حالة أو فعل أو غير ذلك.
مثلاً يقال: إن ابن سيرين جاءه شخص فقال له: إنه رأى نفسه يؤذّن؟
ص: 230
فقال له: إنك لص فاتقِ الله.
و جاءه شخص آخر فقال له: أنه رأى نفسه يؤذّن؟ فقال له: إنك ستحج بيت الله الحرام.
وعندما سأل عن الوجه في ذلك دَمَج بين أصلين، وعلّله بآيتين، الأصل الأول والثالث الماضيين, فقال: أما من عبرت رؤياه بأنه لص فلأن حاله وشمائله لم تكن شمائل الصالحين، بلكان مظهره مظهر المنحرفين عن الجادة، فتذكرت قوله تعالى: «ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ»(1)، وأما الآخر فكانت شمائله شمائل الصلاح فتذكرت قوله تعالى: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ»(2) فعبرتها وأولتها أنه سيحج.
أو - كما يصرحون - بأن شرب الخمر أو امتلاكها إذا رآها المؤمن فأنه يعني مالاً حراماً سيناله، أما لو كان الرائي كافراً يستحل الخمر فذاك يعني رزقاً حلالاً سيصله؛ لاختلاف حالتي الرائي؛ فذاك عنده حرام وهذا عنده حلال، ففسرت الرؤيا على طبق الحالتين.
الاشتقاقات اللغوية للمفردات التي يراها الرائي في المنام, فمثلاً: لو أن شخصاً رأى في المنام (النعناع) فذلك يعبر حسب تصريحهم استنادا إلى هذا
ص: 231
الأصل: بأنَّ شخصاً سيموت فيالعائلة؛ لأن النعناع يتضمن حرفين من حروف (نعي) فيعبر بالنعي(1)، وإذا رأى شخص في المنام أن فلاناً (كافر) فذاك يعني أنه يستر أموالاً كثيرة له ويخفيها؛ لأن الكفر يعني الستر، ولو رأى في المنام (السفرجل) فذاك يعني أنه على سفر، وتطبيقاً على أصولهم التي نسوا أن يطبقوها: أنه ستكون سفرته سفرة جليلة؛ إذ السفر مكوّن من مقطعين (سفر) و(جل) أي سفرٌ جلّ، أي: إن أمامه سفراً جليلاً !!.
الأشعار والأمثال العربية أو الفارسية أو الهندية، والقصص التاريخية المتداولة في ذاك البلد، فأنها تفسر كثيراً ما رؤيا ذاك الرائي.
فهذه خمسة من الأصول التي ذكروها، وبعضها بظاهره مغرٍ, مثل مطابقة الكتاب, خاصة مع الاستشهاد بمثل القصة التي نقلناها عن ابن سيرين، فإنه كلام معسول لطيف يبدو مطابقاً للقواعد، أو مثل: إن الميت لا يتكلم إلا بالحق.
لكن الحق هو أن هذه الأصول كلها أوهن، وأوهى من بيت العنكبوت، وذلك لعدة أجوبة:
فأما قولهم: إن الميت في دار حق، وإنه لا ينطق إلا بالصدق، حيث
ص: 232
يقول: (إن ما يقوله الموتى حق، لأنهم في دار الحق لا يقولون إلا الصدق)، فله أجوبة عديدة:
منها: السؤال عن دليل هذه الدعوى؟ أي: أنه من أين تثبت هذه الكبرى الكلية، وهي: إن الميت لا ينطق إلا بالحق، فإنه كلام خطابي جميل، لكنه لا دليل عليه أبداً, بل نقول: إنه خلاف نص القرآن الذي يعتبرونه أصلاً من أصولهم, فإن القرآن الكريم في أكثر من آية يصرح أن الموتى يكذبون، مثلاً في سورة الأنعام: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَعَنْهُ»(1)
فإن الكفار كانوا ينأون ويبتعدون عن اتباع الرسول «وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ»(2) والحديث كما هو واضح عن الكفار.
ثم يأتي الكلام عن مصيرهم يوم القيامة: «وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ»(3) فإن الكفار عندما يوقفون على حافة النار يقولون: يا ليتنا نرد ويا ليتنا لا نكذب بآيات ربنا، لكن الله يقول هؤلاء كاذبون: «بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون»(4)
فإن الكفار يعلمون أنهم لو رجعوا
ص: 233
إلى الدنيا لكرروا أفعالهم بنفسها، لكنهم الآن حيث يرونالعذاب عياناً يقولون ما قالوا(1).
والحاصل: إن الله تعالى يصرح بأنهم كاذبون على الله مباشرة، وهو العالم بحالهم، فكيف بهذا المسكين الذي يرى الميت في المنام؟ وكيف لا يكذب الكافر أو الفاسق عليه؟
وكذلك قوله تعالى: «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمْ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ»(2) .
والمقصود ب «شركاؤكم» الأصنام، ومن كنتم تعبدونهم كشركاء لله «ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ(3) إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ»(4) فإنهم يكذبون في مقابل الله جل وعلا، فرغم أنهم كانوا يعبدونالصنم(5) إلا أنهم يقسمون على كذبهم: «اُنْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ»(6)، ولعل الوجه في التعبير بالكذب على أنفسهم هو أنهم لا يستطيعون الكذب على
ص: 234
الله، فكأنه يريد أن يخدع نفسه؛ إذ لا يستطيع أن يخدع الله.
إذن، فهذه القاعدة لا دليل عليها بالمرة، بل هي مجرد استحسان، بل هي خلاف صريح القرآن الدال على أن الميت يكذب.
إضافة إلى أننا إذا أردنا أن نفسر ذلك فلسفياً نقول: إن الشاكلة لا تتغير بالموت، بل تبقى: «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ»(1)، فالفاسق هنا فاسق هناك أيضا؛ إذ إن جوهره فاسق، ولو فسح له المجال فإنه يكذب، والمؤمن كذلك. وكذلك الكذاب والصادق.
والحاصل: إنه لا تتغير طبائع الإنسان بالموت، بل يبقى على ما هو عليه، مع أنه يكفينا أن هذا خلاف نصالقرآن، فلا نتوقف عنده طويلاً.
أما الأصل الآخر، وهو تفسير الأحلام بالقرآن الكريم فمردود من وجوه عديدة:
الوجه الأول: إن هذا الأصل المدعى لا دليل عليه من كتاب أو سنة، فمثلاً: في علم الأصول عندما نقول: خبر الواحد حجة، فإن علينا إقامة الدليل على ذلك، فنقول مثلاً قوله تعالى: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ»(2) أو «إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا»(3)، وليس الاستدلال بالمفهوم
ص: 235
وإنما بالتعليل، فغير الفاسق لا يحتاج إلى تبيُّن إذا تمسكنا بمفهوم الوصف وليس، لكن نتمسك بالتعليل: «أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ»(1)، فإذا كان الخبرُ خبرَ غير الفاسق فلا توجد إصابة قوم بجهالة،ولا ندم حينئذٍ نوعاً.
والحاصل: إنه ليس كلما ادعيت حجيته تكون حجة بصرف الدعوى؛ لأن الحجية ليست ذاتية له - إلا في مثل القطع على المشهور، والعلم على المنصور - فلا بد من دليل، فأي دليل على هذا الأصل؟
إنه لا دليل من القرآن ولا السنة المباركة على أن مفردة الخشب إذا رؤيت في المنام فإنها ترمز إلى نفس المعنى المراد منها في القرآن الكريم، سواء أكان الرائي مسلماً أم كافراً أم منكراً.
الوجه الثاني: إنه لا دليل على هذا الأصل من العقل أيضاً، بل العقل يكشف لنا عدم صحة هذا الأصل؛ لأن هذه الدعوى مآلها إلى أن الله جل وعلا قد حكم على خلقه بأن لا يرى راءٍ رؤيا إلا أن تكون مطابقة للكتاب، فإن هذا هو مآل هذه الدعوى عندما يفسر البيض أو النار أو الخشب بمعناها المراد في القرآن الكريم.
والحاصل: إن ذلك يعني أن الله قد حكم حكماً تكوينياً بأنه لا يرى راءٍ خشباً إلا ويكون ذلك الخشب رمزاً دالا على نفس معنى المفردة، التي وردت فيالكتب.
ص: 236
ولكن ليس ذلك من سنة الله جل وعلا في ذلك ولا في نظائره، ويشهد لذلك الاستقراء المعلل، و ملاحظة ما يشارك الأحلام في الجامع أو يكون أقوى منها فيه.
وتوضيح ذلك: لو أن شخصاً ادعى أن أحلام اليقظة مطابقة للآيات القرآنية، فكل شخص حلم في اليقظة فإنه يفسره بالمفردة المطابقة له من القرآن، فهل يقبل منه عاقل ذلك؟ بل نترقى ونقول إن السحب - وهي ظاهرة تكوينية - تتشكل بإشكال شتى، وقد تنطبع منها حروف أو إشكال، كالدب والفيل مثلاً، فهل يصح أن يقال: إن هذا السحاب قد خلقه الله، وله حكمة حتماً فيها وفي تشكلها، وعليه: فإن هذه السحابة عندما مرت على هذه المنطقة بشكل فيل أو أسد أو فأرة فإن هذا يرمز إلى نفس معنى المفردة الموجودة في القرآن الكريم ودلالتها؟ فهل يقبل متشرع عاقل ذلك؟ وكذلك أمواج البحر فإن لها تشكلات، وكذلك النحت الموجود في الطبيعة، وهو فعل الله بتسبيب حركة الرياح والمياه والشلالات، والأمطار على مدار ملايين السنين.والحاصل: إنه لو صح ذلك في مورد(1) لصح في كافة الموارد، فلو اعتمدت فهي كبرى كلية جارية في كل مكان، بل نقول: إنه هل يمكن أن تفسر أفعال الإنسان الإرادية، بل غير الإرادية بمفردات القرآن؟
من الواضح أن الجواب بالنفي، فمثلاً: بعض الناس ترمش عينهم اليمنى
ص: 237
أو اليسرى، والعوام يفسرونهما بتفسيرين مختلفين سلباً أو إيجاباً، فهل يقبل عاقل أن يفسّر ذلك بآية قرآنية، بدعوى أن هذه الرمشة غير اختيارية، فهي من صنع الله،والله هو الخالق للقرآن، ولهذه الحركة أيضاً، فهذه مطابقة لتلك حتماً،فنقول: لو رمشت عينه اليمنى فذلك دليلُ يمن وخير بركة وبشارة في الطريق؛ لأن الله يقول: «وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ»(1)؟
إن هذا كلام لا يرتضيه العقلاء، فكيف تقبلون ذلك في الأحلام، ولا تقبلون ذلك في كافة النظائر، بل ما هو أقوى منها مما كان فعل الله مباشرة؟ أو حتى نبضات القلب، فهل يمكن أن يستدل الإنسان بمشابهة رسم تخطيطالقلب لرسم خط قرآني، فيقول: إن ذلك يدل على كذا؟
إن مثل هذا الكلام مما لا وجه له من الصحة بالمرة باستقراء عالم التكوين وعالم التدوين.
وهذا مثال آخر، وهو الرسوم, فلو أن طفلاً صنع خطوطاً بلا معنى، فخرج منها عفواً رسم يشبه شكلاً من الأشكال أو كلمة من الكلمات، فهل لشخص أن يُفسر ذلك بالقرآن الكريم؟.
من أين نثبت أنّ الله تعالى ألزم نفسه بأن أي طفل أو كبير صنع شيئاً لابد أن يكون نابعا من القرآن الكريم(2)؟
ص: 238
إن ذلك مما لا يمكن الالتزام به، وهو أوهى وأوهن من بيت العنكبوت.
إن قلت:إن القرآن هو مصدر العلوم، كما هو مصدر الفيوضات والخير كله؟
قلت: نعم، لكن من يفسره هوالإمام(علیه السلام) : «وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ»(1) ، وليس كل من هبّ ودبّ, ولا بد في المفسّر من الإحاطة بعالم التدوين وعالم التكوين، ورموزهما وإشاراتهما وقواعدهما كلها.
ثم إنه لو رأى المعصوم(علیه السلام) المنامات، فلأن المعصوم رؤياه حجة بلا كلام، فيمكن أن يقال:إن رؤيا المعصوم(علیه السلام)
تطابق القرآن، مثل: «وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ»(2)
حيث رأى(صلی الله علیه و آله) أن قردة تنزو على منبره، ففسرت في أحد تفسيري الآية ببني أمية(3) .
فالكلام لو كان في رؤيا المعصوم(علیه السلام) فإنه يصح القول: إن كتاب الله معصوم من الخطأ، وهذا رسول الله(صلی الله علیه و آله)
فأحلامه معصومة من الخطأ أيضاً، ويمكن أن يقال: إن كل حلم له(صلی الله علیه و آله)
يفسر بآية مشابهة، ومع ذلك لا دليل على أن تفسير مفردات رؤياه يكون بمفردات القرآن، كما هو المدعى، وعلى كل
ص: 239
حال، فإن علم ذلك بأيديهم(علیهم السلام)
فقط.إذن من أصولهم: تفسير الرؤيا بمطابقتها للقرآن الكريم، ولكن لم يدل دليل على ذلك أبداً، بل الدليل على العدم.
ولكن لعلهم اقتبسوا ذلك من المبحث الأصولي الشهير(1): إن الخبرين المتعارضين يرجّح أحدهما بمطابقته للكتاب، فقالوا بمثل ذلك في الأحلام، بل إن أصلها صححوه بالمطابقة، لكن أين ما دل عليه الدليل مما لم يدل عليه؟ بل أين ما دل الدليل على عدمه مما دل الدليل على تحققه؟ بل أين العقلائي من غيره؟
ثم نقول:إن السير في الأفاق وفي الأنفس(2) يكشف لنا أنه لم تجرِ عادة الله سبحانه على ذلك، ولم تكن هذه سنة من سننه, فإن لله سنناً في الحياة، وهذه السنن إما صُرِّح بها في القرآن أو الروايات، أو ساقنا إليها العقل أو العلم والتجربة والاستقراء المعلل، وهذه الأربعة ليست موجودة في المنامات.
بمعنى أنه لم يدل الكتاب ولا السنة ولا العقل ولا التجربة،والاستقراء
المعلل على أن سنة الله قد جرت على أن كل ما رؤي في المنام، فإنه إن كان حقاً يكون تفسيره مطابقاً لتلك المفردة المشابهة التي وردت في الكتاب، وحيث إنه تعرف الأشياء بأشباهها كما تعرف بأضدادها: فإن هناك سنناً إلهية مذكورة في القرآن، منها قوله تعالى: «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ»(3)، فهذه سنة
ص: 240
إلهية، و «فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً»(1),والسنن كثيرة، وهي إما مذكورة في القرآن أو السنة، وإما أنها اكتشفت عن طريق التتبع والاستقراء المعلل، وإلا لما كانت حجة، وأما مطابقة الأحلام للكتاب فقد ثبت اختلافها وتخالفها، فأية سنة يمكن ادعاؤها مع ذلك؟
الوجه الثالث: إن هذا الضابط الذي ذكروه - كنظائره - من الوهن والضعف، بحيث إنهم لم يستطيعواالالتزام به، مما يكشف عن ضعف هذا الضابط حتى في نظر مَنْ يقول به.
فإذا رأينا الفقيه مثلاً لا يلتزم بحجية خبر الثقة في الفقه يكشف ذلك عن أن قوله في الأصول: )خبر الثقة حجة) لم يكن مؤصّلاً عنده، أو لم تكن حدوده واضحة لديه، حتى يميز بين خبر الثقة الذي ينبغي أن يتمسك به وغيره.
وبالتتبع نجد أن كل أصل ذكروه لم يلتزموا به في تطبيقاتهم على مصاديق الأحلام، بل إنهم عدّوه مجرد وجه من الوجوه المحتملة لتعبير المنام، ويكفي أن نذكر مثالا واحداً لذلك: فقد سلف تعبيرهم: أن البيض يفسر بالمرأة، وعليه فإنه إذا رؤي في المنام فأنه يكشف مثلاً عن أن الرجل سيتزوج، لقوله تعالى: «كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ»(2)
لكن عندما نرجع إلى تعبيراتهم عن البيض مصداقياً نجدهم يفسرون البيض بالولد الشريف! مع أن الآية تتحدث عن البنات:
ص: 241
«كَأَنَّهُنَّ»، فلا التزام لهم إذن بما أصّلوه، مما يدل على أن هذا الضابط عندهم لم يكن أصلاً حقيقة.كما فسروا البيض بالذهب والفضة بوجه استحساني، وهو أن بياضه يدل على الفضة، وصفاره يدل على الذهب!
كما فسروا البيض بالقبر؛ لأن البيض فيه قشر وفيه شيء مستبطن فيه!
إذن، أية مرجعية للقرآن الكريم في تعبير الأحلام، والحال أن وجوها عديدة متكثرة بأدنى مناسبة تذكر للشيء الواحد؟ فأين النساء والبنات من البنين؟ وأينها من الذهب والفضة والقبور وغير ذلك؟ ولا وجه لترجيح أحدها إلا فراسة المعبر(1)، وهي أمر غير منضبط بالمرة، فلا ضابط مرجعي إذن، بل القضية أصبحت ذوقية!
أما في الأصول فهناك ضوابط نوعية يتحاكم إليها، مثلاً: خبر الثقة حجة، فلكل من المتخالفين اجتهاداً أن يحتج به على الآخر، لكننا إذا قلنا: إن خبر الثقة ذوقي فإذا اقتضت فراستك كونه حجة فهو حجة، وإذا كانت فراستك على أنه ليس بحجة فهو ليس بحجة، ألا يلزم من ذلك الفوضى في علم الأصول والفقه؟
وذلك هو الحال في الأحلام تماماً!
الوجه الرابع: ونتوقف فيه عندالضابط نفسه، فنقول: إن هذا الضابط غير ضابط؛ وذلك نظراً لاختلاف الآيات المرجعية؛ إذ تارةً نبحث عن نسبة
ص: 242
هذا الضابط بالقياس إلى بقية الضوابط، وتارةً نتوقف عند نفس الضابط.
فلو فرض أنّ هناك علاقة الاقتضاء بين المفردات القرآنية، وبين ما يرى في المنام - وهو واضح البطلان؛ إذ ليست هناك علاقة عليّة ومعلولية أو اقتضائية، ولا دل دليل من العقل أو النقل على ذلك - لكن المشكلة هي أن الآيات المرجعية مختلفة، فلو كانت الآيات المرجعية في كل موضوع آية واحدة لتم هذا الكلام في الجملة، لكن الآيات المرجعية مختلفة، والمفردة الواحدة قد تقع في سياقات مختلفة تفيد فوائد مختلفة، فكيف يصح إرجاع المفردة في تعبيرها إلى ورودها في آية، والحال أنه قد وردت في كثير من الأحيان في آيات أخرى في سياق مضاد أو مختلف؟
ويكفي أن نستدل على ذلك بأحد النماذج، والذي يعد من مسائل الأحلام تطبيقاً لكلياتها وأصولها: فمثلاً: فسروا النار في المنام بوقوع حرب، لقوله تعالى: «كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِأَطْفَأَهَا اللهُ»(1). لكن يرد عليهم: أن النار وردت في سياقات أخرى إيجابية، أو في سياقات سلبية، لكن لها دلالات أخرى، مثلاً قوله تعالى: «أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا»(2)، فإذا كان المرجع الآيات فإن هذه الآية تدل على البركة والخير والخصب والرخاء.
أو الآية: «يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ»(3) فلو كانت النار تفسر - كسائر المنامات - بالآيات، فلو طبقت على هذه الآية لكان مفاد رؤية النار في
ص: 243
المنام الاستقرار والأمن والسلام في البلاد، ولدلّت هذه الرؤيا على قدوم موسم البرد مبكراً مثلاً وما أشبه.
وكذلك الآية القرآنية الأخرى: «نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ»(1)، فالنار لو فسرت بهذه الآية فيكون المعنى أن هذا الشخص هومن أهل جهنم، ولا دلالة لها على حدوث حرب في الدنيا.
والحاصل: إن الآيات المرجعية المُدّعاة مختلفة، فالضابط غير منضبط بحد ذاته، وإذا كان كذلك فما هو الضابط لتفسير هذه النار المشاهدة في المنام بتلك الآية، لا بهذه الآية أو العكس، مع أن كلها ممكن؟
إن قلت: نضم بقية الضوابط؟
قلت: الكلام يجري فيها كما يجري ههنا، فإنها متخالفة في ذاتها - كما سيأتي - ومتعارضة مع سائر الضوابط، كما سيأتي.
ه - العرش في كلامهم غير ثابت(2)
الوجه الخامس: إن هذا كله مبني على فرض كون هذه الرؤيا صحيحة في أصلها، مطابقة للواقع في جوهرها، وحصر المشكلة في تعبيرها، ولكن من أين لنا أن نعرف أنّ هذه الرؤيا ليست من إلقاءات الشيطان، أو من حديث النفس، أو ليست من ضغط المحيط والبيئة، أو من بعض العوامل الجسمية؟
فإذا كانت كذلك فهي خاطئة من أصلها، إنما لو كانت صحيحة فرضا
ص: 244
بأن لم تكن من هذه الأربعة، وكانت مما شاهدتها النفس في الملأ الأعلى، فعندئذ نسأل عن تفسيرها، ونقول: إن هذه قد تفسر بالقرآن الكريم مثلاً، لكن ثبِّت العرش ثم انقش، وهذا إشكال عام وسيال.
إذن هذا الأصل غير تام(1).
والإشكالات على هذا الأصل كالأصول الأخرى مشتركة، لكن سنخص كل واحد منها بإشكال جديد.
وأما الإشكالات المشتركة فهي: إن كون هذا أصلاً وشاخصاً ودليلاً هو مدعى بلا دليل، فمن أين يثبت أن الرؤيا تعبّر وتفسّر أو تترجم بالجذر اللغوي لتلك الكلمة، أو بمعنى تلك الكلمة أو مضادها؟
إن ذلك مما لم يدل عليه كتاب ولا سنة ولا عقل ولا علم.
ومن أين يثبت أنَّ هناك علاقة العلّية أو الاقتضاء بين الكلمات وبين الرؤى؟
فهذا أول الكلام.
كما أن الوجوه الخمسة الأخرى التي ذكرناها تصلح كأجوبة أيضاً، فإنها سيالة، ومنها: إن هذا فرع ثبوت صحة الرؤيا بالأساس، أما لو كانت أضغاث أحلام فهي باطلة بالمرة، كما قال الرسول(صلی الله علیه و آله) لفاطمة: «ليس هذا بشيء»(1) .
ومنها: إن الضابط في حد ذاته غير منضبط، وإنه قد يقتضي الشيء ونقيضه.
إذن فالإشكالات مشتركة، لكن نذكرإشكالا جديداً وبه فائدة جديدة، وهو إشكال لطيف(2)، فنقول: الضوابط المرجعية التي ذكروها يرد عليها - إضافة إلى الإشكال السابق - أنها متهاترة في حد ذاتها، ويضرب بعضها بعضاً(3),فإن هذه الأصول - التي يذكرونها - هزيلة بالقياس إلى ما يذكر في علم
ص: 246
الأصول، بل حتى لا بالقياس إليه؛ إذ هي هزيلة جداً في حد ذاتها .
توضيح ذلك: إن ما يذكر في علم الأصول من أصول فإنها منضبطة أولاً، وغير متضاربة ثانياً، ولو وجد تضارب مبدئي فإن هنالك ضوابط تحل التضارب، مثلاً (خبر الثقة حجة) و(الاستصحاب حجة) فلو تعارضا فنرجع للضابط المرجعي للضوابط، فإنه لو تعارض خبر الثقة مع الاستصحاب فهناك ضابط يفيد أن الاستصحاب محكوم بخبر الثقة، وخبر الثقة حاكم عليه أو وارد(1)، فهذا ضابط مرجعي للضوابط.
كذلك لو تعارض خبرا ثقتين، فإنهناك ضوابط مرجعية مذكورة في الروايات والأصول، كمقبولة عمر بن حنظلة:«عن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً،وإن كان حقاً ثابتاً له؛ لأنه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: Nيُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِM.
قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران إلى من كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله، وعلينا رد والراد علينا الراد على الله، وهو على حد الشرك بالله.
قلت: فإن كان كل رجل اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما، واختلفا فيما حكما، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟
ص: 247
قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما، وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم بهالآخر، قال: قلت: فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر؟
قال: فقال: ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه، وإنما الأمور ثلاثة: أمر بين رشده فيتبع، وأمر بين غيّه فيجتنب، وأمر مشكل يرد علمه إلى الله وإلى رسوله، قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات، وهلك من حيث لا يعلم.
قلت: فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟
قال: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به،
ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة،قلت جعلت فداك، أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة، ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامة والآخر مخالفاً لهم بأي الخبرين يؤخذ؟
قال: ما خالف العامة ففيه الرشاد.فقلت: جعلت فداك، فإن وافقهما الخبران جميعاً.
قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل، حكامهم وقضاتهم، فيترك ويؤخذ بالآخر.
قلت: فإن وافق حكامهم الخبرين جميعاً؟
ص: 248
قال: إذا كان ذلك فارجه، حتى تلقى إمامك فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات»(1).
ولو تساو الخبران من كلتا الجهتين، أو كل الجهات فأيضاً هناك ضوابط مرجعية، كالتساقط عقلاً على رأي، وروايات التخيير: (إذن فتخير) أو التوقف كما سبق، فالأمر في علم الأصول منضبط، كضوابط وكمرجع لدى اختلاف الضوابط، أما في الأحلام فالضوابط غير منضبطة أوّلاً، ولا توجد مرجعية عند تضارب الضوابط ثانياً.
فمثلاً: الكفر فسّروه بالستر، فنقول: إن من ضوابطكم علم اللغة وأن يُرجع للمفردة ومعناها وجذرها وضدها اللغوي، كما أن من الضوابط القرآن الكريم، لكن هذه الضوابط متخالفة في مختلف الرؤى والمنامات، فمثلاً: لو لاحظنا معنى الكفر اللغوي فإنه الستر،والستر معنى حيادي، بمعنى أنه قد يكون إيجابياً، كما لو ستر ماينبغي أن يستر كستر العرض، وقد يكون سلبياً كما لو ستر الحق، إذن الجذر اللغوي للكفر حيادي يحتمل الطرفين، لكن المعنى المصطلح للكفر سلبي ، إذ إنه يعني إنكار المبدأ أو المعاد أو ما بينهما، فهل نرجع إلى المعنى اللغوي، أو إلى المعنى الاصطلاحي في تفسير هذه الرؤيا؟
ثم هل نرجع إلى المعنى اللغوي، أم نرجع إلى الآيات الشريفة؟ فإن الآيات الشريفة أحياناً تفسر بهذا المعنى، وأحياناً تفسر بذاك المعنى - على فرض صحة تفسير الأحلام بها - مثلاً: قال بعض المعبرين: إن الكفر معناه سلبي إن رجعنا للقرآن الكريم، إذ يقول تعالى: «قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ»(2)، فنقول:
ص: 249
حسناً، لكن توجد آية أخرى في المقابل تقول: «كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ»(1)، والكفار تعني الزرّاع(2) ، فلِمَ فسرت هذه الكلمة بهذا المعنى لا ذاك المعنى؟
ثم نأتي إلى جذر الكلمة اللغوي، فإن الكفر يتركب من الكاف والفاء،والكف معناه ايجابي؛ إذ يفيد كف الأذى على حسب أصولهم - نقلناها سابقاً - فلو فسرنا الكفر بمرجعية لغوية لوجدنا أن المرجعية اللغوية مختلفة، ولو فسرناه بمرجعية قرآنية لوجدنا الآيات المدعى تفسيرها به مختلفة، ولو لاحظنا المجموع لوجدنا الاختلاف(3).
وختاماً: فإن مناقشة مثل هذه الأصول - كأصول الكشف والشهود - هو مما يحز في النفس: أن نصل لمستوى مناقشة أصول هي أوهَى وأوهن من بيت العنكبوت.
لكن المشكلة هي أن هذه البحوث حيث لم تطرح، ولم تبحث بشكل وافٍ لذا نرى الكثير من الناس يبني عليها، من المتدينين وغيرهم، وربما تجد بعض الطلاب يتحير في طريقة الجواب عن مثل تلك الدعاوي والشبهات، والأدلة أو الضوابط، فكان لابد من بحث ذلك، قطعاً لدابر أمثال تلك التوهمات.
ص: 250
الأصل الآخر عندهم: ملاحظة دين ومذهب ومعتقد وأفكار مَنْ رأى في المنام شيئاً، فإن حال الرائي من حيث المعتقد والمذهب والفكر يفسر أحلامه, ولنقرأ بعض عباراتهم ثم نناقشها:
قال البعض: (على المعبر أن يراعي ديانة الرائي، بل مذهبه العقائدي والفقهي, فشرب الخمر مثلاً مال حرام للمسلم, لكنها لمن يستحلها رزق).
فالكافر لو رأى أنه يشرب الخمر فينبغي أن يعبر أنه سيحصل على رزق حلال، عكس ما لو رأى المسلم ذلك.
(وكذلك أكل الميتة, ورؤيا الله تعالى دليل على بدعة الرائي وضلاله عند من لا يعتقد بالرؤيا في الدنيا والآخرة، لقوله تعالى «لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ»(1)
لكن المؤمن بالمذاهب الكلامية المؤمنة بإمكان رؤية الله في الآخرة يكون تأويل رؤياه على خلاف ذلك)(2)، إلى آخر كلامهم.
ولكن:يرد على هذا الضابط ما ورد سابقاً من الوجوه فلا نكرر,لكن نضيف وجهين:
إن هذا الضابط مخالف لصريح بعض الروايات في المثال الذي ذكروه(3)،
ص: 251
ففي مجالس الصدوق:«قال: قلت للصادق جعفر بن محمدC: إن رجلاً رأى ربّه عز وجل في المنام فما يكون ذلك؟ قال: ذلك رجل لا دين له، إن الله تبارك وتعالى لا يرى في اليقظة ولا في المنام ولا في الدنيا ولا في الآخرة»(1).
فمقتضى ترك الإمام(علیه السلام) الاستفصال عدم مدخلية نوع دين الراوي, حيث إن هذا الضابط لو كان صحيحاً، وأن حال الرائي يفسر الرؤيا تفسيراً حسناً أو سيئاً، لكان على الإمام(علیه السلام)
أن يسأل أن هذا الرائي هل هو مؤمن مسلم أم لا؟ فإن كان مسلماً فهو ضال؛ لأنه رأى ما يخالف معتقده، وإن كان ممن لا يعتقد بوجود الله سبحانه وتعالى، أو بتجرده مثلاً فرؤيته له حسنة، لكن الإمام(علیه السلام)
أطلق القول بواضح العبارة.
وسيتضح وجه هذا الجواب أكثر من الجواب الثاني.
إذن: ليس حال الرائي ملاكاً في تفسير الرؤيا، بل الإمام(علیه السلام) اعتبر هذهالرؤيا باطلة مطلقاً.
وهذا
جواب لطيف، وبه يظهر وجه الخطأ لديهم، وهو أن هنالك عوالم ثلاثة، قد حدث لهؤلاء الخلط بينها:
الأول: عالم العين والواقع الخارجي.
الثاني: عالم الوعي الظاهر، الذي يسمى بمنطقة الوعي والإدراك والشعور والإحساس.
ص: 252
الثالث: عالم اللاوعي، ويسمى بالوعي الباطن أيضاً.
ونقطة الخلط في هذا الضابط أن الذي يصح أن يقال في الجملة: هو أن المعتقد المرتكز في الذهن حيث إنه كامن في عالم اللاوعي واللاشعور، فإنه يؤثر في تولد رؤى وصور مجانسة في المنام، أي: في عالم ثانٍ هو عالم الأحلام، فحيث إنه كان يعتقد بجسمانية الله فإن هذا الاعتقاد يتجلى ويتشكل بشكل رؤيا معينة، فلأنه يعتقد أن الله يُرى، يرى في المنام ما يتوهمه أنه يرى الله، ولذا أجاب الإمام(علیه السلام)
بأنه لا دين له, أما لو لم يكن يعتقد أن الله جسماني فقد لا يتجلى له بهذه الصورة، وقد يتجلى ولكن بسبب آخر هو إلقاءات الشيطان لا المعتقد.والحاصل: إن هناك نوعاً من الترابط بين عالم اللاوعي وعالم الأحلام والمنامات, كما أن هناك ترابطاً بين عالم الوعي وعالم اللاوعي، ولكن لا ربط للمعتقد بعالم العين، وهنا نقطة الخلط، فإن الضابط يريد أن يؤسس لقاعدة تفسر ما سيقع في الخارج، أو ما وقع في الخارج، أو يفسر أوامر المولى الثبوتية بمعتقده، ولكن لا ربط بين هذين العالمين؛ إذ ما يقع في الخارج أمر والمعتقد أمر آخر، إنما الترابط هو بين المعتقد والرؤيا في الجملة.
فإذا أردنا أن نطبق أدوات علم النفس، فإن هذه الرؤيا قد تكشف عن معتقد كامن فيه، أو غريزة أو شهوة أو حقد تجاه شخص تجلى بشكل عاصفة مثلاً، لكن ذلك لا يكشف عن الواقع الخارجي الثبوتي، فلا ربط لهذا بذاك.
وبتعبير أدق: اللاوعي المذهبي يؤثر في تجسد ما هو كامن في ذاته، لكنه لا يؤثر في صناعة الواقع الخارجي، أو في كشفه عنه، فلا ربط للرؤيا بالكاشفية عن الخارج، وإن كان لها ربط في الجملة بالكاشفية عن المعتقد.
ص: 253
الضابط الآخر الذي ذكروه: هو الأمثال والأشعار وما أشبه, يقول في ذلك صاحب الكتاب: وكذلك معرفة الأمثال العربية والشعبية والأشعار المتداولة؛ لأن كل ذلك يقبع في باطن المخيلة، ويشكل أدوات تستفيد منها الرؤى عندما تتجسد في الذهن.
و يرد عليه - إضافة إلى ما سبق - ان الأمثال والأشعار والقصص الشعبية ونظائرها لا حجية لها في حد ذاتها، فكيف تكون مرجعاً يحتج به لتفسير الأحلام ويتمسك به؟ فإن الأصل غير ثابت، فكيف يثبت به الفرع؟ إذ يريدون القول: إن الرؤيا حجة(1) لأنها تستند إلى أمثال وأشعار موجودة في مخيلته, فنقول:
أولاً: ثبّت العرش ثم النقش، فإن هذه الأشعار ليست بحجة في حد ذاتها، فكيف تكون حجة في تعبيرها؟ اللهم إلا لو صدرت من المعصوم(علیه السلام) ، هذه كبرى.
ثانياً: من أين لنا أن نثبت أنّ هذا الرائي محيط بهذه الأشعار؟ وهذه صغرى.
فإن هذا المعبر يبدو أنه يفترض أن هذا الرائي علامة الدهر، وقد أحاطخبراً بالأشعار والأمثال كلها(2)، فكل ما رآه في المنام مما يطابق شعراً من الأشعار، فإنه يعبّر ويفسر بذاك الشعر المُنشأ قبل ألف سنة مثلاً؟
ص: 254
ولكن هل وجدتم معبراً يسأل الرائي أولاً عن أنه يحفظ الأشعار أو لا؟ وهل أنه قد سَمَع خصوص هذا الشعر لكي يفسر رؤياه به؟
بعبارة أخرى:إن كثيراً من الناس - وخاصة العوام - هم ممن لم يطلع على تلك الأشعار أو أكثرها، فكيف يفسر هذا بذاك، بدعوى أنها مما تقبع في المخيلة ومنطقة اللاوعي أو الوعي الباطن؟
وثالثاً: إن الأشعار قد تكون متخالفة، خاصة في أشعار الفِرَق المتنازعة، فأية حجية تبقى لها بعد ذلك؟
هذا كله بالإضافة إلى الأجوبة المشتركة.
وهنا لا بد أن نشير إلى قضية مهمة، ترتبط بعلم الأصول بشكل عام، وبهذا البحث بشكل خاص, وهي: إن علم الأصول ينبغي أن يستجيب للتحدياتالمستجدة، وإنه إنْ لم يستجب لها بالمستوى المطلوب حدث الإرباك والخلل والانحراف لدى الكثيرين.
ونضرب لذلك أربعة أمثلة لم يستجب لها علم الأصول بالشكل الكافي؛ لذا رأينا الانحراف قد تسرب إلى الكثير من المثقفين، وحتى لبعض رجال الدين:
المثال الأول: القياس، فإن من المسلّمات عندنا بطلانه، ولأنه من المسلّمات فقد أهمل علم الأصول في الأحقاب الأخيرة بحثه بشكل مستوعب،
ص: 255
ولذلك أضحى بعض رجال العلم غير محصن تجاه الشبهات المستجدة التي تروم إثبات حجية القياس، ولذلك نجد في الجامعات، بل الحوزات - إثر موج الحداثة الجديد - أن بعض العلماء ذهب إلى حجية القياس، وقد تصفحت أخيراً كتاباً من حوالي (700) صفحة(1) يحاول كاتبه فيه إثبات حجية القياس؟ لماذا؟
السبب هو أنه لم يبحث ذلك بشكل مستوعب في (الرسائل)، ف (الكفاية) ف (درس الخارج) فلم يتعرف هذا الطالب أو ذاك على وجوه الرد، فتأثر بفكر أبناء العامة والفكر العالميالجديد، ولذا نجد البعض لا يمتلك حصانة علمية تجاه القياس.
ولنضرب بعض الأمثلة المبسطة: فمثلاً: ما هو فرق القياس عن التمثيل الذي هو من أنواع الحجج الثلاثة المطروحة في المنطق؟ فإن القياس الفقهي يعادل التمثيل المنطقي(2)، فما الفرق بينهما؟ ولِمَ يكون في المنطق حجة(3)؟ وفي الفقه ليس بحجة(4)؟ إن الكثير عندما يطرح عليه ذلك يتحير!
ص: 256
وأيضاً: ما فرق القياس عن تنقيح المناط؟ وما فرق القياس عن إلغاء الخصوصية؟ وكيف نضمن عدم الوقوع في القياس من بوابه تنقيح المناط، أو إلغاء الخصوصية, أو عدم القول بالفصل؟إن ذلك بحاجة إلى بحوث مستوعبة كبروية وصغروية.
والغريب أن المؤلف المذكور يرمي الفقهاء كلهم بأنهم يقيسون لكنهم لا يسمونه قياساً، بل يسمونه تنقيح مناط أو إلغاء خصوصية ونحوهما!!.
فلأن هذا البحث لم يستفرغ فيه الوسع مع وجود تحدٍّ مستجد، ومع وجود حركة علمية وفكرية جادة للآخرين، ومع لحاظ أن علوم رجل الدين ليست ذاتية، وليست حصانته ذاتية، فإن التموجات الفكرية الأخرى قد تؤثر عليه.
المثال الثاني: الكشف والشهود، فإنه منهج ولغة عالمية تبناها العُرفاء، وبعض الفلاسفة وبعض جامعات الغرب، فكان ينبغي لعلم الأصول ولعلم الكلام التصدي العلمي المستوعب.
وهذه المسألة - كسابقتها ولواحقها - كلامية لو أريد بها إثبات أمر من أمور العقيدة والكلام، وهي أصولية لو أريد بها إثبات حجيتها في الفقه، فلو أريد بالكشف أو بالقياس إثبات صفة لله تعالى فإنه يندرج في مسائل علم الكلام، وأنه كما أن البشر كذا فالله كذا ، وكما نُرى فالله يُرى مثلاً.
وإن أريد بالقياس أو الكشفوالشهود إثبات مسألة فقهية بواسطته، وإنه حجة من الحجج فهو مسألة أصولية.
ص: 257
المثال الثالث: بحث الهرمنيوطيقا, فإنه بحث عالمي مستجد مهم تغلغلَ إلى الأوساط العلمية، وقد لاحظت شخصياً بعض أساتذة بحث الخارج قد تأثر بها في الجملة، واستعمل بعض مصطلحاتها في بحثه(1) من حيث لا يدري، ولو أُلفِتَ لرجع؛ لأنه سليم المعتقد كما أعرفه، لكن المشكلة هي أن المسألة مسألة مستجدة مهمة ذات أبعاد متعددة لم تبحث بشكل جيد(2).
المثال الرابع: الأحلام - وهي مورد بحثنا - وهي كثيرة الابتلاء جداً، والناس - من عامة وخاصة - يبنون عليها قليلاً أو كثيراً بنحوٍ أو آخر، فلا يكفي والحال هذه أن نقول: إن الأحلام ليست حجة وانتهى الأمر؛ ذلك أن هناك تموجاً كبيراً للأحلام حتى في صفوف بعض الخطباء والعلماء، فإن الكثير منهم يبني عليها في قوله أو فعلهولو في الجملة، فينبغي أن يبحث هذا في الأصول بحثاً جيداً، وإن خرجنا بنتيجة وضوح بطلانه أو بطلان القياس.
والحاصل: إن علم الأصول ينبغي أن يستجيب للتحديات خاصة في هذه المسائل الأربع، هذا أولاً.
وثانياً(3): لأن عَلَماً من الأعلام كصاحب القوانين توقف في المسألة، وما
ص: 258
ذلك إلا لأن المسألة لم تبحث جيداً، فقال: «فالاعتماد مشكل سيما إذا خالف الأحكام الشرعية الواصلة إلينا، مع أن ترك الاعتماد مطلقاً حتى فيما لو لم يخالفه شيء أيضاً مشكل..»(1).
كما أن بعض الأعلام - كصاحب الفصول - فصّل كما سبق، بل إن مشهور المتأخرين على مبناهم(2) ينبغي أن يفصلوا بين نوعي الأحلام: ما أورث القطع وغيره، مما تقدم نفيه سابقاً.
ثالثاً: هناك آيات عديدة حول الأحلام، وهناك العشرات من الروايات حول الرؤى، فمن الجدير أن تبحث الروايات سنداً، وأن تبحث الروايات والآياتدلالة، وما الذي تريد أن تقوله؟ وأن الرسالة التي تحملها لنا ما هي؟
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين، واللعنة على أعدائهم إلى يوم الدين.
ص: 259
* القرآن الكريم, كتاب الله المجيد.
* نهج البلاغة, المختار من كلام أمير المؤمنين(علیه السلام)، لجامعه الشريف الرضي محمد بن الحسين بن موسى.
1 - الأصول، تأليف: السيد محمد الحسيني الشيرازي، الناشر: دار المهدي والقرآن الحكيم، الطبعة: الخامسة، التاريخ: 1422ه . ق.
2 - الأمالي، للشيخ الصدوق أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي، تحقيق قسم الدراسات الإسلامية، مؤسسة البعثة، قم، الطبعة: الأولى 1417 ه . ق .
3 - الأوامر المولوية والإرشادية، تأليف: السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، دار العلوم, الطبعة: الأولى 1431ه.
4 - أوثق الوسائل في شرح الرسائل الكتاب، المؤلف: ميرزا موسى تبريزي، الناشر: محمد علي التبريزي الغروي، 28 جمادي الأولى 1397.
5 - بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار(علیهم السلام)،
تأليف: العلامة المولى الشيخ محمد باقر المجلسي(قدس سرّه)، مؤسسة الوفاء بيروت - لبنان، الطبعة: الثانية المصححة 1403 ه -1983 م .
6 - بحوث في علم الأصول، تقريرات السيد محمد باقر الصدر، تأليف: آية الله السيد محمود الهاشمي الشاهرودي، الناشر : مؤسسة دائرة المعارف الفقه الاسلامي، الطبعة: الثالثة، 1426 ه - 2005 م.
7 - بداية الوصول في شرح كفاية الأصول، تأليف: الشيخ محمّد طاهر آل
ص: 260
الشيخ راضي، أشرف على طبعة وتصحيحه: محمّد عبد الحكيم الموسوي البكاء، الناشر: أسرة آل الشيخ راضي، الطبعة: الأولى 1425 ه . ق - 2004 م.
8 - التبيان في تفسير القرآن، المؤلف: شيخ الطائفة أبى جعفر محمد بن الحسن الطوسي، تحقيق وتصحيح: أحمد حبيب قصير العاملي، الناشر: مكتب الإعلام الاسلامي، الطبعة : الأولى، تاريخ النشر: رمضان المبارك 1209 ه. ق.
9 - تسديد الأصول، تأليف: الشيخ محمد المؤمن القمي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، الطبعة: الأولى 1419 ه .
10 - التعليقات على الشواهد الربوبية، تأليف: المحقق السبزواري، الناشر: المركز الجامعي للنشر،مشهد، سنة الطبع: 1360 ه . ش، الطبعة: الثانية.
11 - تعليقة على معالم الأصول، تأليف: السيد علي الموسوي القزويني، تحقيق: حفيده السيد علي العلوي القزويني، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، الطبعة: الأولى، التاريخ: 1422 ه . ق.
12 - تفسير الصافي، تأليف: المولى محسن الملقب ب- (الفيض الكاشاني)، صححه وقدم له وعلق عليه العلامة الشيخ حسين الأعلمي، منشورات مكتبه الصدر طهران، الطبعة الثانية: 1416.
13 - تفسير العياشي، تأليف: محمد بن مسعود العياشي، تحقيق: الحاج السيد هاشم الرسولي المحلاتي، الناشر: المكتبة العلمية الإسلامية، طهران.
14 - تفسير القمي، لأبي الحسن علي بن إبراهيم القمي، صححه وعلق عليه وقدم له: السيد طيب الموسوي الجزائري، مؤسسة دار الكتاب للطباعة والنشر، قم، الناشر: مؤسسة دار الكتاب للطباعة والنشر، الطبعة: الثالثة، 1404.
15 - تقريب القرآن إلى الأذهان، تأليف: السيد محمد الحسيني الشيرازي(أعلى الله درجاته)، الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، 1424 ه -2003 م.
ص: 261
16 - تقريرات آية الله المجدد الشيرازي، للمولى علي الرّوزدري، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث،قم المشرّفة، الطبعة: الأولى، 1409 ه .
17 - تهذيب الأحكام، تأليف: الشيخ الطوسي، تحقيق وتعليق: السيد حسن الموسوي الخرسان، الطبعة: الثالثة، سنة الطبع: 1364 ش، الناشر: دار الكتب الإسلامية - طهران.
18 - الجديد في الحكمة، تأليف: ابن كمونة، الناشر: جامعة بغداد، الطبعة: الثانية، سنة الطبع: 1402 ه . ق.
19 - الحاشية على أُصول الكافي، تأليف: السيّد بدر الدين بن أحمد الحسيني العاملي، جمعها ورتّبها السيّد محمّد تقيّ الموسوي، تحقيق: علي الفاضلي، الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر، الطبعة: الأُولى، 1424 ق - 1382 ش.
20 - الحاشية على كفاية الأصول، طرح لمباني الحاج آقا حسين الطباطبائي البروجردي في الأصول، للشيخ بهاء الدين الحجتيالبروجردي،الناشر: مؤسسة أنصاريان، قم المقدسة، الطبعة الأولى، رمضان 1412.
21 - حاشية فرائد الأصول، لليزدي، الناشر: دار الهدى، الطبعة: الأولى، قم، سنة الطبع: 1426 ه . ق.
22 - الحجة معانيها ومصاديقها، تأليف: السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، طبع مؤسسة التقى, الطبعة الأولى 1432ه, توزيع ونشر دار العلوم.
23 - الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، لصدر الدين محمد الشيرازي،الطبعة: الثالثة، سنة الطبع: 1981 م، الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت.
24 - خاتمة مستدرك الوسائل، تأليف: الشيخ حسين النوري الطبرسي، تحقيق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم ، الطبعة : الأولى
ص: 262
رجب 1415 ه .
25 - خلاصة الأقوال في معرفة الرجال، تأليف: العلامة الحلي أبي منصور الحسن بن يوسف بن المطهر الأسدي، تحقيق: فضيلة الشيخ جواد القيومي، الطبعة: الأولى، المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي، التاريخ: عيد الغدير 1417، مؤسسة نشر الفقاهة.
26 - الخلاف، تأليف: شيخ الطائفةأبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، التاريخ : جمادى الآخرة 1407 ه .
27 - الدر المنثور في التفسير بالمأثور، تأليف: جلال الدين السيوطي، الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان.
28 - درر الفوائد في الحاشية على الفرائد، تأليف: الآخوند الخراساني، مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، الطبعة الأولى، 1410 ه -1990 م، طهران.
29 - الذريعة إلى تصانيف الشيعة، تأليف: الشيخ آقا بزرگ الطهراني، دار الأضواء، بيروت، الطبعة الثالثة، 1403 ه . 1983 م .
30 - رجال النجاشي،فهرست أسماء مصنفي الشيعة المشتهر برجال النجاشي، مما جمعه الشيخ أبو العباس أحمد بن علي بن أحمد بن العباس النجاشي الأسدي الكوفي، الناشر: مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة،التحقيق: الحجة السيد موسى الشبيري الزنجاني، الطبعة: الخامسة، سنة الطبع : 1416.
31 - رسائل فقهية، المؤلف: الشيخ مرتضى الأنصاري، تحقيق: لجنة التحقيق، الطبعة: الأولى، ربيع الأول1414.
32 - روضة الواعظين ، تأليف: الشيخ زين المحدثين محمد بن الفتال
ص: 263
النيسابوري،منشورات الرضي، قم.
33 - مستطرفات السرائر، لمؤلفه الشيخ أبي عبد الله محمد بن أحمد بن إدريس العجلي الحلي، تحقيق وتقديم: السيّد محمّد مهدي السيّد حسن الموسوي الخرسان عفي عنه، إعداد: مكتبة الروضة الحيدرية، نشر: العتبة العلوية المقدسة، النجف الأشرف، الطبعة: الأولى: 1429ه - 2008 م.
34 - شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، المؤلف: المحقق الحلي، تعليق: السيد صادق الشيرازي، الناشر: انتشارات استقلال، طهران - ناصر خسرو، حاج نايب، الطبعة: الثانية، 1983 م 1403ه.
35 - شرح المنظومة، تأليف: المحقق السبزواري، تصحيح وتعليق: حسن زادة آملي، الطبعة: الأولى،طهران، سنة الطبع:1369م - 1379 ه . ش.
36 - شرح تبصرة المتعلمين، تأليف: الشيخ ضياء الدين العراقي، تحقيق: الشيخ محمد الحسون، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة، الطبعة: الأولى، التاريخ: شعبان المعظم 1414ه ق.
37 - الضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية، تأليف: السيد مرتضى الحسيني الشيرازي.
38 - عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية، للشيخ محمد بن علي بن إبراهيم الأحسائي المعروف بابن أبي جمهور،تحقيق: الحاج آقا مجتبى العراقي، الطبعة الأولى: 1403 ه - 1983م، مطبعة سيد الشهداء، قم.
39 - كتاب العين، لأبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق: الدكتور مهدي المخزومي، الدكتور إبراهيم السامرائي، الناشر: مؤسسة دار الهجرة، الطبعة: الثانية في إيران ، تاريخ النشر : 1409 ه .
40 - عيون أخبار الرضا(علیه السلام)، للشيخ أبي جعفر الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، صححه وقدم له وعلق عليه: العلامة الشيخ حسين
ص: 264
الأعلمي، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1404 ه - 1984 م .
41 - الفتوحات المكية، تأليف: محيي الدين بن عربي، تحقيق وتقديم: د. عثمان يحيى، تصدير ومراجعة: د. إبراهيم مدكور، المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية بالتعاون مع معهد الدراسات العليافي السوربون، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1392 ه -1972 م .
42 - فرائد الأصول، للشيخ مرتضى الأنصاري، إعداد: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، قم، مجمع الفكر الإسلامي ، 1419 ق - 1377. الطبعة: الأولى، شعبان المعظم 1419 ه . ق.
43 - الفردوس الأعلى، تأليف: الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء، وعليه تعليقات نفيسة بقلم: السيد محمد علي القاضي الطباطبائي، صححه واهتم بنشره: السيد محمد حسين الطباطبائي، الطبعة: الثانية، 1372 ه -1953م .
44 - الفصول الغروية في الأصول الفقهية، تأليف: الشيخ محمد حسين بن عبد الرحيم الطهراني الحائري، الناشر: دار إحياء العلوم الاسلامية، تاريخ النشر: 1363 ه . ش - 1404 ه . ق، قم .
45 - فقه الصادق، تأليف: السيد محمد صادق الحسيني الروحاني، مدرسة الإمام الصادق(علیه السلام)، الطبعة: الثالثة، رجب 1412، المطبعة : العلمية .
46 - الفهرست، تأليف: شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، تحقيق: مؤسسة نشر الفقاهة، المحقق: فضيلة الشيخ جواد القيومي، طبع ونشر: مؤسسة نشر الفقاهة،الطبعة الأولى، التاريخ: شعبان المعظم 1417.
47 - قوانين الأصول، تأليف: الميرزا القمي، الناشر: المكتبة العلمية الإسلامية، طهران، الطبعة: الثانية، سنة الطبع: 1378 ق.
48 - الكافي ، تأليف ثقة الإسلام أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي،صححه وعلق عليه: علي أكبر الغفاري ، الناشر: دار الكتب
ص: 265
الإسلامية، طهران، الطبعة: الثالثة، 1388.
49 - كشف الرموز في شرح المختصر النافع، تأليف: زين الدين أبي علي الحسن بن أبي طالب ابن أبي المجد اليوسفي، المعروف بالفاضل والمحقق الآبي، تحقيق: الشيخ علي بناه الاشتهاردي، الحاج آغا حسين اليزدي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، سنة الطبع: ذي الحجة 1408.
50 - كفاية الأصول، تأليف: الآخوند الشيخ محمد كاظم الخراساني، تحقيق: مؤسسة آل البيت(علیهم السلام) لإحياء التراث، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: ربيع الأول 1409.
51 - كمال الدين وتمام النعمة ، للشيخ الجليل الأقدم الصدوق أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويهالقمي، صححه وعلق عليه: علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة،محرم الحرام: 1405 .
52 - المبسوط في فقه الإمامية، تأليف: شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي، صححه وعلق عليه: السيد محمد تقي الكشفي، الناشر: المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية، سنة الطبع : 1387، المطبعة: المطبعة الحيدرية - طهران.
53 - مجمع البيان في تفسير القرآن، تأليف: أمين الإسلام أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي، تحقيق وتعليق: لجنة من العلماء والمحقّقين الأخصائيين، نشر مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت، الطبعة الأولى 1415 ه 1995 م.
54 - مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان، للفقيه المحقق المولى أحمد الأردبيلي، صححه ونمقه وعلق عليه وأشرف على طبعه: الحاج آقا مجتبى العراقي والحاج شيخ علي بناه الاشتهاردي والحاج آقا حسين اليزدي الأصفهاني،
ص: 266
منشورات: جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة، التاريخ: جمادى الأولى 1406ه .
55 - مجموعة مصنفات شيخ الإشراق،تأليف: شيخ الإشراق، تصحيح: هنري كرين، وسيد حسن نصر، ونجف قلي حبيبي، الطبعة: الثانية، طهران، سنة الطبع: 1375 ه . ش.
56 - مختلف الشيعة، تأليف: أبي منصور الحسن بن يوسف بن المطهر الأسدي، تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة،الطبعة : الأولى، التاريخ: ربيع المولود 1412 ه.
57 - مرآة العقول في شرح اخبار آل الرّسول، تأليف: العلاّمة المولى محمد باقر المجلسي، الطبعة الثانية، 1404 ه ق - 1363 ه ش، الناشر: دار الكتب الإسلامية.
58 - مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، تأليف: الحاج ميرزا حسين النوري الطبرسي، تحقيق: مؤسسة آل البيت(علیهم السلام) لإحياء التراث، الطبعة: المحققة الأولى: 1408 ه - 1987.
59 - مستدرك سفينة البحار، للشيخ علي النمازي الشاهرودي، تحقيق وتصحيح: الحاج الشيخ حسن بن علي النمازي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة .
60 - مستند الشيعة في أحكام الشريعة، تأليف: المولى أحمد بن محمد مهدي النراقي، تحقيق: مؤسسة آلالبيت(علیهم السلام)لإحياء التراث، الطبعة: الأولى، ربيع الأول 1415 ه.
61 - مصباح الأصول، تقرير بحث السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، لمؤلفه: السيد محمد سرور الواعظ الحسيني البهسودي، منشورات: مكتبة الداوري، قم - إيران، المطبعة : العلمية - قم، الطبعة: الخامسة، 1417 ه . ق.
62 - المعجم الفلسفي، تأليف: جميل صليبا، الناشر: الشركة العالمية
ص: 267
للكتاب، بيروت، سنة الطبع: 1414 ه . ق.
63 - معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة، للسيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، الطبعة: الخامسة طبعة منقحة ومزيدة ، السنة 1413 ه -1992 م.
64 - مفاتيح الأصول، تأليف: محمد بن علي الطباطبائي المجاهد، الناشر: مؤسسة آل البيت، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: 1296 ق.
65 - مقالات الأصول، تأليف: الشيخ ضياء الدين العراقي، تحقيق: الشيخ محسن العراقي، السيد منذر الحكيم، الناشر: مجمع الفكر الاسلامي، الطبعة: المحققة الأولى، 1414 ه ق .
66 - ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار، تأليف: العلامة المولى الشيخمحمد باقر المجلسي، تحقيق: السيد مهدي الرّجائي، نشر: مكتبة آية الله المرعشي - قم، التاريخ: 1406ه.
67 - من لا يحضره الفقيه،تأليف: الشيخ الأقدم الصدوق أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفّاري، منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية في قمّ المقدّسة، الطبعة الثانية.
68 - المناهل، تأليف: سيد محمد بن علي الطباطبائي المجاهد، الناشر: مؤسسة آل البيت، قم - إيران، الطبعة: الأولى.
69 - منتهى الأصول، تأليف: حسن بن علي أصغر الموسوي البجنوردي، الناشر: مؤسسة العروج، طهران، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: 1380 ش.
70 - منتهى الدراية في توضيح الكفاية، تأليف: السيد محمد جعفر الجزائري المروج، الطبعة:السادسة 1415 ه، الناشر: مؤسسة دار الكتاب (الجزائري) للطباعة والنشر، قم.
71 - الموسوعة الشاملة في تفسير الأحلام طبقاً للقرآن والسنة وروايات أهل
ص: 268
البيت عليهم السلام، الطبعة الرابعة.
72 - نهاية الحكمة، تأليف: السيد محمد حسين الطباطبائي، صححه وعلق عليه: الشيخ عباس علي الزارعي السبزواري، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، الطبعة: الرابعة عشرة المنقحة، التاريخ 1417ه .
73 - النهاية في غريب الحديث والأثر، المؤلف: مجد الدين ابن الأثير، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي، محمود محمد الطناحي، الطبعة: الرابعة، سنة الطبع: 1364 ش. الناشر: مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع، قم - ايران.
74 - النّور الساطع في الفقه النافع، لمؤلفه الشيخ علي نجل الشيخ محمد رضا نجل الهادي من آل كاشف الغطاء، مطبعة الآداب، النجف الأشرف، 1383 - 1963.
75 - وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تأليف: الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت(علیهم السلام) لإحياء التراث - قم المشرفة، الطبعة: الثانية - جمادي الآخرة 1414ه .ق.
76 - وسيلة الوصول إلى حقائق الأصول، تقرير السيد أبو الحسن الإصفهاني، للميرزا حسن السيادتي السبزواري، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، الطبعة: الأولى، التاريخ:صفر المظفّر 1419.
ص: 269
المقدمة 7
الكلام في دعوى حجية الأحلام 7
موضوع البحث: 7
دوائر البحث الستة: 8
مسألة حجية الأحلام أصولية أو فقهية: 10
الفصل الأول 13
الاستدلال على حجية المنامات بالعقل 13
أدلة حجية المنامات 15
الأول: الأحلام تصيب 15
الثاني: الأحلام تفيد القطع وحجية القطع ذاتية 15
الأجوبة عن الدليل الثاني: 16
الجواب الأول: القطع ليس مؤمّناً من العقاب 16
الجواب الثاني: القطع العقلائي وغير العقلائي 18
الجواب الثالث: خلط بين ما بالعرض وما بالذات 20
النسبة بين الأحلام والقطع عموم من وجه: 22
اختلال شروط الشكل الأول في القياس: 23
الثمرة العلمية والعملية للتفكيك: 25
الجواب الرابع: القطع الحاصل من الأحلام قطع متزلزل 26
قطع الألوف من الناس وأحلامهم ليس حجة: 28
ص: 270
القطع المتزلزل يَسقُط بمعارضة المستقر له: 29
الجواب الخامس: اختلاط الحجة باللاحجة 30
إشكالان على الجواب الخامس: 30
الأول: كثرة الكذب في دعاوى الرؤيا 31
الثاني: كثرة الكذب في دعوى القطع 31
لزوم الفحص و العرض على الكتاب والسنة: 34
مقياس شرعي عقلائي لتمييز الحق من الباطل: 35
الجواب السادس: عدم حجية القطع عبر تحليل معاني الحجية الثلاثة 37
معاني حجية القطع: 38
المعنى الأول: المنجزية والمعذرية 38
المعنى الثاني: الكاشفية 44
توجيه السيد الوالد (قدس سرّه) لكلام المشهور: 49
مناقشة كلام المشهور : 51
مناقشة السيد اليزدي للشيخ الأنصاري: 55
الأركان الأربعة في كلام السيد اليزدي: 56
موجز الرأي المنصور: 57
المعنى الثالث: لزوم الاتباع 58
لزوم الاتباع ليس ذاتياً للقطع: 59
ليس العقل هو الحاكم بلزوم اتباع القطع لاعقل المكلف ولاعقل العقلاء : 60
الاحتمالات في الحاكم بلزوم اتباع القطع: 61
الاحتمال الأول: العقل ليس حاكماً في الجزئيات 62
ص: 271
الاحتمال الثاني: العقلاء لا يحكمون بلزوم اتباع القطع الخاطئ 64
عدم حكم العقل بلزوم اتباع القطع الخاطئ: 65
القوة المشابهة للعقل: 66
القطع بمعنى الجزم لا مقتضي لحجيته: 67
القطع حجة بمعنى وجوب اتباعه لكن للشارع الردع عنه: 68
أمثلة لمدعى صاحب العروة: 70
الأول: القياس 70
الثاني: عدم منجزية العلم الإجمالي إذا خرج عن الابتلاء 72
الثالث: عدم منجزية العلم الإجمالي في أطراف غير محصورة 72
الرابع: اتباع بعض الظنون زمن الانفتاح 72
الخامس: عمل القاضي بالبينة رغم العلم 74
السادس: علم الإمام(علیه السلام) 74
السابع: الأحلام والكشف والشهود 75
الجواب السابع: القطع علمي وغير علمي 76
ضوابط علم الأحلام: 77
القطع الحاصل من الأحلام غير علمي: 78
أمثلة من كتب تفسير الأحلام: 80
الأول: تفسير الأحلام بنقيضها 80
الثاني: للأحلام تفسيرات متناقضة أو متضادة 81
الثالث: تعبير الوقوف بعرفات 82
الرابع: تعبير النار 82
ص: 272
الخامس: تعبير النيابة عن الإمام أو الحاكم 84
السادس: تعبير (أنه يوصى إليه) 85
الجواب عن شبهة أن تناقض تعبير الأحلام هو كتناقض الاجتهادات: 86
الجواب الثامن: الذي يرى المنام لا يكون قاطعاً بل قد يكون خائفاً 87
أولاً: العلم العنائي 88
ثانياً: التخويف من الشيعة 89
الجواب التاسع: عدم حجية قطع القطاع 90
التحقيق في أقسام الأحلام: 91
من وجوه الخطأ والكذب في المنامات: 92
أ - شيطان يسمى هُزع: 92
ب - مخلوق يسمى أضغاث: 92
فائدتان: 93
ج - حديث النفس: 94
فائدة: 94
د - تصرفات المخ وتدخلاته: 95
أنحاء تصرفات المخ ومداعباته: 96
النحول الأول: الإحلال وأنواعه 97
النوع الأول: احتلال المواقع والإحلال في المنصب 97
النوع الثاني: احتلال الأحاسيس وإحلالها 98
النوع الثالث: الإحلال في الأعضاء 98
النحو الثاني: الترميز 99
ص: 273
النحو الثالث: التركيب 99
النحو الرابع: تزويج الصورة بالمعتقد 100
النحو الخامس: التكثيف والتبسيط 102
المخ هو المتصرف لا العقل: 102
العمل بالأحلام مصداق الجهالة: 104
الفصل الثاني 107
الاستدلال على حجية الأحلام بالآيات القرآنية 107
الاستدلال بالآيات غير الصريحة: 109
الاستدلال بالآيات الصريحة: 110
الأجوبة على الاستدلال بالآيات على حجية الأحلام: 111
رؤيا الأنبياء (صلی الله علیه و آله) وتعبيرهم هي الحجة: 111
دلالة الآية على أن (تأويل الرؤى) عطية إلهية: 112
علم تأويل المنامات منحة إلهية للأنبياء(صلی الله علیه و آله): 114
مورد الآيات الإخبار عن أمرٍ مستقبلي: 116
رواية صحيحة صريحة في عدم حجية الأحلام في دين الله: 118
رسالة الأحلام وعلتها الغائية 121
العلة الغائية للأحلام: 121
الغاية الأولى: الفتنة والامتحان 123
المحتملات في معنى آية «وما جعلنا الرؤيا»: 125
الغاية الثانية: البشرى والتثبيت 129
المحتملات في آية (لهم البشرى في الحياة الدنيا): 131
ص: 274
الغاية الثالثة: التحزين والتثبيط 133
الاستدلال بآيتين على حجية الأحلام: 135
الأجوبة على الاستدلال بالآيتين: 136
الجواب الأول: القضية شخصية خاصة بالنبي(علیه السلام) 136
الجواب الثاني: القضية جزئية خاصة بمحلها 137
الجواب الثالث: حجية هاتين الرؤيين دون غيرهما 137
الجواب الرابع: ما ذكره صاحب مجمع البيان 138
الجواب عن كلام صاحب مجمع البيان: 140
الفصل الثالث 143
الاستدلال بالروايات الشريفة على حجية الأحلام 143
الرواية الأولى: الاستدلال بصحيحة معمر بن خلاد 144
الرواية الثانية: الاستدلال بقوله (صلی الله علیه و آله) (هل من مبشرات) 145
الأجوبة على الاستدلال برواية (هل من مبشرات): 146
الجواب الأول: المبشِّر غير المشرِّع وغير الحجة 147
الجواب الثاني: إنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية 149
الجواب الثالث: خلط الحجة باللاحجة 151
الجواب الرابع: لزوم تقدم الشيء على نفسه 151
الجواب الخامس: الرواية بحكم الجزئية 154
الجواب السادس: عدم العلم بكون (يعني به الرؤيا) من كلامه(علیه السلام) 155
الجواب السابع: عدم الالتزام بترتيب الأثر الشرعي على الرؤيا 156
الجواب الثامن: مجهولية المراد ب (المبشرات) 158
ص: 275
الجواب التاسع: المبشرات أعم من الدليل والمؤيِد 159
الجواب العاشر: النسبة بين المبشرات والأحلام من وجه 159
الرواية الثالثة: الاستدلال برواية هشام بن سالم 162
الجواب عن الاستدلال برواية هشام بن سالم: 163
الجواب الأول: المراد من آخر الزمان 163
الجواب الثاني: لا يعلم أن هذا هو آخر الزمان 165
الجواب الثالث: موضوع الحجية هو
رؤيا المؤمن 167
الجواب الرابع: إن حجية الرؤيا اقتضائية 168
الجواب الخامس: إطلاقات المؤمن والمراد منه 170
تتمة الجواب الخامس: تعدد إطلاقات المؤمن 174
مناسبة الحكم والموضوع تفيد إرادة الأخص من (المؤمن): 175
ضرورة تحقق الإيمان وإحرازه: 177
استصحاب الإيمان أصل مثبت: 178
الجواب السادس: حيثية الإيمان دخيلة في الرؤيا 179
الجواب السابع: النسبة بين الروايتين عموم من وجه 182
النسبة من وجه فيتعارضان : 184
لسان رواية (أعز) آبٍ عن التخصيص: 185
الحديث شارح وحاكم : 186
الجواب الثامن: رواية (أعز) معرَض عنها 187
الجواب التاسع: احتمال كون النبوة عن لوح المحو والإثبات 188
الجواب العاشر: الكلام في ضوابط الحجية 191
ص: 276
من ضوابط وشروط مطابقة الرؤيا للواقع: 192
الجواب الحادي عشر: (رأي المؤمن ورؤياه) قضية مهملة 196
الجواب الثاني عشر: عدم التلازم بين النبوة ولزوم الاتباع 197
الجواب الثالث عشر: مناط الأحكام الشرعية هو الحجج الظاهرة 199
الجواب الرابع عشر: الرواية مضطربة المتن 200
الجواب الخامس عشر: صحة الرؤيا أمر وحجية التعبير أمر آخر 202
شواهد تدل على رمزية لغة الأحلام ومجهوليتها: 203
وجوه اختلاف ظاهر الرؤيا عن معناها: 204
الجواب السادس عشر: تقييد موضوع الرواية بالرؤيا الصالحة 205
أ التقييد بالرؤيا الصالحة 205
ب - التقييد بالرؤيا الحسنة 206
ج - التقييد بالعاصي الذي ينزجر 207
د - التقييد بالنفس الطيبة واليقين الصحيح 207
ه - التقييد بالصالحين والصالحات 208
و القسمة والحصر في روايات (الرؤيا ثلاثة وجوه...) 208
الرواية الرابعة: الاستدلال برواية (فإن الشيطان لا يتخيل بي) 210
الأجوبة عن الاستدلال بالرواية : 210
الجواب الأول: الرواية ضعيفة خبراً 210
الجواب الثاني: تعليق الحكم على ثبوت الموضوع 212
التنويم المغناطيسي يخلق الأحلام و يوهم النائم بها: 213
حقائق عن التنويم المغناطيسي: 214
ص: 277
الجواب الثالث: عدم وجود تلازم بين الصوت والصورة 216
الجواب الرابع: لا دليل على كون كلامه (صلی الله علیه و آله) مراداً بالإرادة الجدية 216
الجواب الخامس: الأحلام من المتشابهات 217
الجواب السادس: الرواية لا توافق كتاب الله 218
الجواب السابع: عدم إمكان الالتزام بمضمون الرواية 220
الجواب الثامن: الحصر في (مَنْ رآني) إضافي 222
الجواب التاسع: الأحلام حجة مع عدم المعارضة 223
الجواب العاشر: انصراف الرؤى إلى غير شؤون العقيدة والشريعة 224
الجواب الحادي عشر: عدم حجية ظواهر رموز وألفاظ الأحلام 224
الجواب الثاني عشر: مناط الأحكام الشرعية هو العلوم الظاهرة 225
الجواب الثالث عشر: إعراض المشهور عن الرواية 225
الجواب الرابع عشر: الرؤيا داخلة في دائرة البداء 226
الفصل الرابع 227
أصول تعبير الأحلام في الميزان 227
ضوابط وأصول تعبير الأحلام: 229
الأصل الأول: تفسير الأحلام بالقرآن 229
الأصل الثاني: كلام الميت صادق مطلقاً 230
الأصل الثالث: حالات الرائي ومذهبه أو دينه 230
الأصل الرابع: الاشتقاقات اللغوية 231
الأصل الخامس: الأشعار والأمثال والقصص 232
مناقشة أصول وضوابط تعبير الأحلام: 232
ص: 278
الأول: (الميت لا ينطق إلا بالصدق) يكذبّه القرآن الكريم 232
الثاني: (تفسير مفردات الأحلام بالقرآن) لا دليل عليه 235
أ - لا دليل على هذا الأصل من الكتاب أو السنة 235
ب - لا دليل على هذا الأصل من العقل 236
النقض بأحلام اليقظة وأشكال السحب والجبال وحركة القلب و.. 237
ج - عدم التزامهم بالضوابط لوهنها 241
د - اختلاف الآيات المرجعية 242
ه - العرش في كلامهم غير ثابت 244
الثالث: تفسير الأحلام باللغة 245
الرابع: تفسير الأحلام على طبق حال الرائي ومذهبه وفكره 251
الأول: مخالفة هذا الضابط لنص رواية 251
الثاني: الخلط بين عوالم العين واللاوعي وعالم الإدراك والشعور 252
الخامس: من الضوابط الأمثال والأشعار 254
فائدة: تجاوب علم الأصول مع التحديات المستجدة 255
الأول: القياس 255
الثاني: الكشف والشهود 257
الثالث: الهرمنيوطيقا 258
الرابع: الأحلام 258
قائمة المصادر والمراجع 260
فهرس المحتويات 270
ص: 279