كيف تُقبِل القلوب، ولماذا تُدبِر؟
تأليف
الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي
تقديم
معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية
الطبعة الأُولىٰ: 1438ﻫ
العدد: 1000 نسخة
جميع الحقوق محفوظة للمؤلِّف
ص: 1
كيف تُقبِل القلوب
ولماذا تُدبِر؟
تأليف
الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي
تقديم
معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية
ص: 2
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد حثَّت النصوص من القرآن الكريم والروايات الشريفة عن أهل بيت العصمة (علیهم السلام) علىٰ طلب العلم وتحصيله، ومن جملة تلك النصوص قوله تعالىٰ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ 1 خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ 2 اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ 3 الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ 4 عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ 5﴾ (العلق: 1 - 5).
وهذه السورة علىٰ قول أكثر المفسِّرين أوَّل ما نزل علىٰ النبيِّ (صلی الله علیه و آله)، وتدلُّ بوضوح علىٰ أنَّ أفضل النعم التي منحها الله للإنسان هي نعمة العلم.
وقال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ 9﴾ (الزمر: 9).
وفي هذه الآية استفهام استنكاري، استنكاراً للمساواة بين العالم وغير العالم.
وروي في كتاب المحاسن عن ابن محبوب، عن عمرو بن أبي المقدام، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «اُغْدُ عالماً أو متعلِّماً، وإيّاك أن تكون لاهياً متلذِّذاً»(1).
ص: 3
وفي حديث آخر: «وإياك أن تكون من الثلاثة متلذِّذاً»(1).
وفي أمالي الصدوق عن الأصبغ بن نباتة، قال: قال أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (علیه السلام): «تعلَّموا العلم، فإنَّ تعلّمه حسنة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وهو عند الله لأهله قربة، لأنَّه معالم الحلال والحرام، وسالك بطالبه سبيل الجنَّة، وهو أنيس في الوحشة، وصاحب في الوحدة، وسلاح علىٰ الأعداء، وزين الأخلّاء، يرفع الله به أقواماً يجعلهم في الخير أئمَّة يُقتدىٰ بهم، تُرمَق أعمالهم، وتُقتَبس آثارهم، وترغب الملائكة في خلَّتهم، يمسحونهم بأجنحتهم في صلاتهم، لأنَّ العلم حياة القلوب، ونور الأبصار من العمىٰ، وقوَّة الأبدان من الضعف، يُنزل الله حامله منازل الأبرار، ويمنحه مجالسة الأخيار في الدنيا والآخرة، بالعلم يُطاع الله ويُعبَد، وبالعلم يُعرَف الله ويُوحَّد، وبالعلم تُوصَل الأرحام، وبه يُعرَف الحلال والحرام، والعلم إمام العقل، والعقل تابعه، يلهمه الله السعداء، ويُحرمه الأشقياء»(2).
وكلّنا يعرف صعوبة طلب العلم بكلِّ أصنافه في الأزمنة الماضية وما يتطلَّبه من جهد ومال وتعب، لكن بالعلم ذاته أصبح طلب العلم متيسِّراً لكلِّ إنسان وإن كان حبيساً في بيته، لأيِّ علَّة أو سبب.
إنَّ معهد تراث الأنبياء في النجف الأشرف هو من المشاريع الرائدة في هذا المجال، والتي صيَّرت الدراسة الحوزوية التمهيدية في متناول أيدي جميع الناس بمختلف شرائحهم، لكي يرتقوا بعد ذلك في سُلَّم العلم، وليأخذوا حظّاً وافراً من العلوم التي تُصيِّرهم بعد ذلك أهلاً للانخراط في الحوزات العلمية، أو أن يبقوا في مجتمعاتهم كشريحة
ص: 4
مثقَّفة متديِّنة متفقِّهة، تعرف أُصول دينها وفروعه، كي يُورِّثوها لأجيالهم جيلاً بعد جيل، وليحسنوا تربيتهم وتقويمهم.
ومن الجدير بالذكر أنَّ المعهد أُنشئ قبل عدَّة أشهر فقط، وقد تجاوز عدد الطلبة المسجّلين فيه (850) طالباً من مختلف دول العالم من الصين وأمريكا وأُوروبا وبلاد المغرب العربي وغيرها.
فالمعهد أُوجِد من أجل تسهيل مهمَّة طلب العلم، لمن لا يستطيع الوصول إلىٰ منهله ومرتعه: النجف الأشرف، ولا يعني هذا الاستغناء به تماماً، بل المعهد وما يبثّه من دروس ومحاضرات إنَّما يُمثِّل الخطوة الأُولىٰ في مجال طلب العلم، وعلىٰ من أراد الاستمرار أن يسعىٰ لأكثر من هذا.
إنَّ من أولويات المعهد - بالإضافة إلىٰ الدراسات الحوزوية الإلكترونية - هو نشر وطباعة البحوث والمؤلَّفات العلمية لطلبة وأساتذة الحوزة العلمية في النجف الأشرف، لما في ذلك من خدمة عظيمة نُقدِّمها لطالبي المعرفة في كلِّ مكان.
ومن هذا المنطلق يسرّنا أن نُقدِّم لكم باكورة أعمالنا، وهو كتاب (كيف تُقبِل القلوب ولماذا تُدبِر؟)، من تأليف سماحة الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي، فإنَّه وبعد أن تمَّ تسجيل هذا الكتاب في ثلاثين حلقة صوتية، وتمَّ بثّها في القنوات المختلفة للمعهد، رأينا من المناسب أن يُنشَر الكتاب ورقياً، مرفقاً معه قرصٌ مدمج بالحلقات الصوتية، ليتسنّىٰ لمن يُحِبُّ القراءة أو الاستماع ما يُحِبُّ.
راجين من المولىٰ عزَّ اسمه القبول، والأخذ بعين الرضا.
معهد تراث الأنبياء
للدراسات الحوزوية الإلكترونية
ص: 5
ص: 6
إلىٰ من أقبلت القلوب - قلوب المحبّين - إليها..
إلىٰ من فُطِمَت وفَطَمت شيعتها من النار..
إلىٰ من فُطِمَ مبغضوها من حبِّها، فأدبرت قلوبهم عنها..
إلىٰ المظلومة المهتضمة..
مكسورة الضلع..
محنيَّة الظهر..
مولاتي الزهراء..
اقبلي عمل عبدكِ الرقّ..
* * *
ص: 7
ص: 8
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلّىٰ الله علىٰ سيِّدنا محمّد وآله الطيِّبين الطاهرين.
كثيرةٌ هي الآلات التي أودعها الله تعالىٰ لدىٰ الإنسان، وكثيرةٌ هي أدوارها في الحياة، وهي علىٰ كثرتها وتنوّعها لا تخلو من حالات متضادَّة تمرُّ عليها، بحسب اختلاف الظروف الموضوعية والملابسات الآنية، فقد تقوىٰ وقد تضعف، وقد تصحو وقد تمرض، وقد تلين وقد تقسو.
فظهرك المستقيم، مهما استقام، فإنَّ القوس آتيك بلا ثمن.
ونظرك الذي يُقرِّب لك البعيد، لن يُمهِلك كثيراً حتَّىٰ يُخفي عليك الواضحات.
وسمعك الذي يُميِّز لك صوتاً من بين ألف صوت، لن تطول أيّامه حتَّىٰ يُشوِّش عليك أوضح الأصوات.
فأعضاؤك تبدأ من الضعف، وتقوىٰ، ثمّ تقوىٰ، إلىٰ أن تصل إلىٰ أوج قوَّتها، ثمّ تبدأ تهدم نفسها!
والمفارقة هنا، هي أنَّه يمكن للإنسان أن يتنبَّأ - ولو في الجملة - بقوَّة تلك الأعضاء وزمن ضعفها، وقد يستطيع أن يُرجِعَ لها قوَّتها بعد ضعفها بعلاج ونحوه.
ص: 9
ولكن هناك عضواً لدى الإنسان، ما كان له أن يستقرَّ علىٰ حالٍ واحدة، فالتغيّر سمته الثابتة، والتقلّبات تعصف به باستمرار، بحيث يصعب التنبّؤ بحالة له، وأصعب منها علاجه لو مرض.
إنَّه ذلك العضو الذي شبَّهته الروايات الشريفة بريشة معلَّقة في مهبِّ الريح، تُحرِّكها من جانب إلىٰ آخر(1).
إنَّه يعيش حالات متضادَّة كثيرة، فقد يكون أزهراً، وقد يكون مظلماً، وقد يكون مفتوحاً، وقد يكون مغلقاً، وقد يكون مستقيماً، وقد يكون منكوساً، وقد يكون محلَّ إيمان، وقد يكون جحر كفر ونفاق.
إنَّه القلب.
ومن أغرب الحالات المتضادَّة التي تمرُّ به وأخطرها عليه، هي حالات الإقبال والإدبار!
قلبك، قد يُقبِلُ على شيء ما، فيُحِبُّه حبّاً جمّاً، يُعميك عن معايبه، ويشغلك ذكرُه عن ذكر غيره، ولكنَّه قد يُدبِر عن نفس ذلك الشيء، بسبب كلمة أو موقف أو ظرف ما، فيجعلك تكرهه كدم أسنانك، أو قاتل أبيك.
فما هي أسباب إدبار القلب؟
وكيف تجعل قلبك مقبلاً؟
كيف تكسب محبَّة الناس؟
وكيف تتجنَّب ما يُنفِّرهم عنك؟
هذه الأوراق تُجيبك عن هذه الأسئلة وغيرها، بالاستعانة بنور آيات الكتاب العزيز وعبق عطر أحاديث أهل بيت العصمة الطاهرين.
ص: 10
كانت بداية هذه الأوراق ثلاث محاضرات أُلقيت في النجف الأشرف، كانت بعنوان: كيف تعرف منزلتك عند الله تعالىٰ، وكيف تكسب محبَّته؟
ولكن عندما أردت تدوينها، وجدت أنَّ هذا العنوان ينحلُّ إلىٰ عناوين جانبية وفرعية كثيرة، فصار الموضوع أوسع ممَّا بدأ به وبدا عليه، فنتج ما بين يديك.
إنَّ في أحشاء هذا الكتاب مضامين عديدة:
كيف تعرف منزلتك عند الله تعالىٰ؟
وما هي الطرق التي يمكن من خلالها كسب مودَّة الناس واقتناص محبَّتهم؟
كيف تجعل من نفسك محبوباً لدىٰ الناس؟
وكيف تتجنَّب منفِّرات القلوب؟
لماذا تعيش قلوبنا حالات الإدبار مع الله جلَّ وعلا؟
وكيف نجعل منها قلوباً مقبلة عليه تعالىٰ؟
وغيرها من العناوين الاجتماعية والنفسية والأخلاقية والسلوكية، ممَّا نحتاجه في تعاملاتنا اليومية.
إنَّها الحياة، ذات المصاعب والمصائب، تحتاج إلىٰ قلب مقبل علىٰ الله تعالىٰ، يُحِبُّه الناس ويودّونه، حتَّىٰ تخف عليه وطأة الآلام، ويُزاح عنه الرين والآثام.
كلماتٌ، استوحت فكرتها من جلاء صدأ القلوب، فإنَّ القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد، وإن جلاءها حديث أهل البيت (علیهم السلام) .
وقد أُتيح لهذه الكلمات أن تكون برنامجاً صوتياً يُبَثُّ عبر برامج
ص: 11
التواصل الاجتماعي، وبرعاية من معهد تراث الأنبياء للدراسة الحوزوية الإلكترونية.
وبعد أن تمَّ بثُّه، اقترح الأخ العزيز سماحة الشيخ حسين الترابي مدير المعهد أن نطبع الكتاب ونُرفِق معه قرصاً صوتياً مدمجاً بالبرنامج، وهي فكرة جميلة كجمال قلبه، فشكر الله سعيه، وزاده علماً وفهماً.
والشكر أوَّلاً وآخراً لربِّ العزَّة والجلال، ومنه أطلب التوفيق والقبول.
ورجائي من إخوتي أن لا ينسوني ووالديَّ من دعواتهم، وأن يمنّوا عليَّ بملاحظاتهم عبر معرِّف برنامج (telegram) التالي:Husseinalasadi@).
فإن تجد عيباً فسُدَّ الخللا *** فجَلَّ من لا عيب فيه وعلا
حسين عبد الرضا الأسدي
النجف الأشرف
مساء الخميس (18/ محرَّم الحرام/ 1438ﻫ)
(20 / 10 / 2016م)
ص: 12
عندما نطالع الروايات الشريفة نجد أنَّ هناك العديد من السبل التي توصل الإنسان إلىٰ الدين والتديّن، فالتقوىٰ طريق، والإيمان آخر، والعمل الصالح ثالث، وحسن الخلق رابع، وهكذا...
ومن جملة تلك الطرق هو طريق الحبِّ والمحبَّة والمودَّة، يقول الإمام الباقر (علیه السلام): «الإيمان حبٌّ وبغضٌ»(1).
ويقول الإمام الصادق (علیه السلام) - لمَّا سُئِلَ عن الحبِّ والبغض، أَمِن الإيمان هو؟ -: «وهل الإيمان إلَّا الحبّ والبغض؟»(2).
وعنه (علیه السلام): «هل الدين إلَّا الحبّ؟! إنَّ الله (عزوجلّ) يقول: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ [آل عمران: 31]»(3).
ويقول الإمام الباقر (علیه السلام): «الدين هو الحبُّ، والحبُّ هو الدين»(4).
بل نجد أنَّ المحبَّة والمودَّة من أقوىٰ الروابط الاجتماعية بين أفراد المجتمع، فالمحبَّة تصنع عرىٰ وثيقة للعلاقات الاجتماعية تتجاوز العلاقات النسبية والمصلحية والقبلية والقومية وغيرها، وهذا الوجدان والواقع شاهدان علىٰ ذلك.
ص: 13
وما ذكرناه واضح ولا يحتاج إلىٰ تكلّف عناء.
وحتَّىٰ تتَّضح نظرة الدين الشمولية لعنصر المودَّة والحبّ، نتكلَّم في عدَّة فصول...
* * *
ص: 14
ص: 15
ص: 16
ينبغي لنا أن نلتفت إلىٰ قضيَّة مهمَّة جدّاً، وهي:
أنَّ المودَّة والمحبَّة مركزها القلب والمشاعر، وبالتالي فهي غير محسوسة بالحواسّ الظاهرة، بل هي أمر معنوي، نعم لها آثار عديدة تظهر علىٰ سلوكيات الفرد.
من هنا، احتجنا إلىٰ علامات محدِّدة نستطيع من خلالها معرفة الحبِّ والمودَّة الحقيقية من الأُخرىٰ الوهمية، سواء كان الحبُّ والمودَّة في علاقتنا مع الله تعالىٰ، أو مع بقيَّة أفراد المجتمع.
إنَّ الروايات الشريفة والواقع يعطيان لنا عدَّة طرق نستطيع من خلالها أن نقيس مقدار حبِّنا الحقيقي أو الوهمي لأيِّ مخلوق أو لأيِّ شيء كان، وكذا نعرف مقدار حبّ ذلك الموجود لنا، ومن تلك الطرق:
يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «سلوا القلوب عن المودّات، فإنَّها شواهد لا تقبل الرشا»(1).
بمعنىٰ أنَّ من يريد أن يعرف - مثلاً - مقدار حبّ الإمام المهدي (علیه السلام) له، فله أن ينظر إلىٰ قلبه ليرىٰ كم يحبّ هو الإمام، وبنفس ذلك المقدار من الحبِّ يجد الإمام يحبّه.
ومن هنا قال الإمام الرضا (علیه السلام) للحسن بن جهم لمَّا قال له:
ص: 17
جُعلت فداك، أشتهي أن أعلم كيف أنا عندك؟ فقال له الإمام (علیه السلام): «اُنظر كيف أنا عندك»(1).
بل ورد أنَّه من أراد منكم أن يعلم كيف منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله منه عند الذنوب(2).
وعن الإمام الصادق (علیه السلام): «من أراد أن يعرف كيف منزلته عند الله، فليعرف كيف منزلة الله عنده، فإنَّ الله يُنزِّل العبد مثل ما يُنزِّل العبد الله من نفسه»(3).
وعن أمير المؤمنين (علیه السلام): «من أحبَّ أن يعلم كيف منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإنَّ كلَّ من خُيِّر له أمران: أمر الدنيا وأمر الآخرة، فاختار أمر الآخرة علىٰ الدنيا فذلك الذي يُحِبُّ الله، ومن اختار أمر الدنيا فذلك الذي لا منزلة لله عنده»(4).
فشهادة القلب طريق لمعرفة المودَّة - إلهيَّة كانت أو اجتماعية - وصدقها.
طبعاً هذا ربَّما يكون له علاقة بعالم الذرِّ، حيث أجابت بعض الأرواح النداء الإلهي فآمنت، واستكبرت أُخرىٰ. وحيث تآلفت بعض الأرواح وتنافرت أُخرىٰ.
من هنا ورد أنَّه جاء رجل إلىٰ عليٍّ وكلَّمه فقال في عرض الحديث: إنّي أُحبّك، فقال له عليٌّ: «كذبت»، قال: لِمَ يا أمير المؤمنين؟ قال: «لأنّي لا أرىٰ قلبي يحبّك، قال النبيُّ (صلی الله علیه و آله): إنَّ الأرواح كانت تَلاقىٰ في الهواء
ص: 18
فتشام، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف»، فلمَّا كان من أمر عليّ ما كان، كان ممَّن خرج عليه(1).
وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «إنَّ ائتلاف قلوب الأبرار إذا التقوا وإن لم يُظهِروا التودّد بألسنتهم كسرعة اختلاط قطر السماء علىٰ مياه الأنهار، وإنَّ بُعد ائتلاف قلوب الفجّار إذا التقوا وإن أظهروا التودّد بألسنتهم كبُعد البهائم من التعاطف وإن طال اعتلافها علىٰ مذود واحد»(2).
يقول الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله): «من أحبَّ شيئاً أكثر ذكره»(3).
وعن الإمام عليٍّ (علیه السلام): «من أحبَّ شيئاً لهج بذكره»(4).
وهذا أمر وجداني، فالعاشق يحاول أن يجد أيَّة مناسبة ولو من بعيد ليبدأ بتلاوة كلمات الثناء وقصائد العشق في محبوبه! وإذا لم يجد مناسبة لذلك تصنَّعها وبذل في سبيلها وقته وجهده.
من هنا، يمكن لنا أن نتلمس قوَّة حبِّنا لله تعالىٰ من خلال كثرة ذكره خصوصاً إذا نام الناس وهدأت الأصوات وأُطفئت الأنوار.
روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) - فيما أوحىٰ الله تعالىٰ إلىٰ موسىٰ (علیه السلام): «كذب من زعم أنَّه يحبّني فإذا جنَّه الليل نام عنّي، أليس كلُّ محبٍّ يحبُّ خلوة حبيبه؟! ها أنا ذا يا بن عمران مطَّلع علىٰ أحبّائي، إذا جنَّهم
ص: 19
الليل حوَّلت أبصارهم من قلوبهم، ومثَّلت عقوبتي بين أعينهم، يخاطبوني عن المشاهدة، ويُكلِّموني عن الحضور»(1).
وكثرة ذكر الله تعالىٰ كما تكشف عن حبِّك له، كذلك تورثك اطمئناناً تعيش به في الحياة تشقُّ أمواجها وبلواها بقدم ثابتة. حسب قوله تعالىٰ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ 28﴾ (الرعد: 28).
يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «أصدق الإخوان مودّةً أفضلهم لإخوانه في السرّاء والضرّاء مواساةً»(2).
وهذا أمر وجداني واقعي أيضاً، فإذا لم ينفعني من يدَّعي محبَّتي عند شدَّتي، فمتىٰ سأرجو نفعه!؟ فالمرء كثير بأخيه - كما يقول الإمام الصادق (علیه السلام) (3) -، وإذا لم يكن أخوك معك عندما تكون وحدك فأيَّة أُخوَّة هذه!؟
يقول الإمام عليّ (علیه السلام): «في الضيق والشدَّة يظهر حسن المودَّة»(4).
من هنا، فرض الإسلام علىٰ المؤمن حقوقاً لإخوته المؤمنين ترتكز علىٰ المواساة في الضيق والشدَّة, ففرض علىٰ المؤمن أن يقضي حاجة أخيه المؤمن، وإذا استطاع أن يقضيها له من دون أن يسأله قضاء حاجته وجب عليه ذلك من باب صدق الأُخوَّة، يقول الإمام عليّ (علیه السلام): «لا يُكلِّف أحدكم أخاه الطلب إذا عرف حاجته»(5).
ص: 20
وعن سعيد بن الحسن: قال أبو جعفر (علیه السلام): «أيجئ أحدكم إلىٰ أخيه فيُدخِل يده في كيسه فيأخذ حاجته فلا يدفعه؟»، فقلت: ما أعرف ذلك فينا، فقال أبو جعفر (علیه السلام): «فلا شيء إذاً...»(1).
من هنا ورد التحذير من عدم قضاء حاجة الأخ مع القدرة عليها، يقول الإمام الكاظم (علیه السلام): «من قصد إليه رجل من إخوانه مستجيراً به في بعض أحواله فلم يجره بعد أن يقدر عليه فقد قطع ولاية الله (عزوجلّ) »(2).
ولقد كان المسلمون يعيشون حالة من المواساة لا نظير لها، وإن لم تكن هي الحالة الوحيدة في الساحة، ولكن كانت المواساة صفة يمكن تلمّسها في العديد من مواقف المسلمين المؤمنين. وكلّنا سمع بالمسلمين الثلاثة الذين أُصيبوا في واحدة من المعارك، فجاء أحدهم بماء لأحدهم فأرسله إلىٰ الثاني ولم يشرب، وهكذا الثاني إلىٰ الثالث، فأرجعه إلىٰ الأوَّل فوجده ميِّتاً، فقام إلىٰ الثاني فوجدهم ماتوا كلّهم(3).
وحقّاً: (الجود بالنفس أقصىٰ غاية الجود...).
وقد مدح القرآن الكريم الذين يواسون إخوانهم المؤمنين، فقال جلَّ من قائل: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ﴾ (الحشر: 9).
فمن عشق شيئاً أعشىٰ بصره وأمرض قلبه، فلا يرىٰ في الوجود من يستحقُّ الوجود إلَّا معشوقه! فهذا مجنون ليلىٰ لمَّا قال له أبوه: (فليت شعري، ما أراها ممَّن يوصف بالحسن والجمال، وقد بلغني أنَّها
ص: 21
فوهاء(1)، قصيرة جاحظة العينين، شهلة(2)، سمجة، فعد عن ذكرها ولك في قومك من هي خير لك منها. فلمَّا سمع ثلبه فيها أنشأ يقول:
يقول لي الواشون ليلىٰ قصيرةٌ *** فليت ذراعاً عرضُ ليلىٰ وطولُها
وإنَّ بعينيها لعمرك شهلةً *** فقلتُ كرامُ الطير شُهْلٌ عيونُها
وجاحظةٌ فوهاء لا بأس إنَّها *** مُنىٰ كبدي كلُّ نفس وسُولُها
فدقَّ صلابَ الصخر رأسك سرمداً *** فإنّي إلىٰ حين الممات خليلُها(3)
ومن هنا روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «حبُّك للشيء يُعمي ويُصِم»(4).
وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنَّه قال: «عين المحبِّ عمياء عن عيب المحبوب، وأُذُنه صمّاء عن قبح مساويه»(5). وفعلاً:
وعين الرضا عن كلِّ عيب كليلة *** ولكن عين السخط تُبدي المساويا
إنَّك ترىٰ في الحياة أُناساً ليس لهم همٌّ إلَّا إبراز المعايب والمثالب، ولا يرون إلَّا النصف الفارغ من الكأس، وإلَّا الجانب المظلم من الأرض، فلا تقع أعينهم علىٰ شيء إلَّا أبرزوا فيه ما لا يُعَدُّ من العيوب، وإلَّا دقَّقوا النظر ليروا أدقّ التفاصيل ليُظهِروا فيه عيباً ما، ويتناسون أنَّ في كلِّ الأُمور جوانب مشرقة مهما كان فيها من ظلام.
فمن الناس من لا ينظر إلىٰ جودة المعلومة التي تُكتَب، إنَّما ينظر إلىٰ خطأ
ص: 22
نحوي صدر منك غفلةً، أو رداءة الخطِّ، أو عدم تلوين العنوان، وهكذا، وهناك من لا يتأمَّل في تعبك وعنائك عندما أتممت بناء بيتك، وإنَّما يبحث عن خطأ فني في البناء، أو اختلاف قياس في السطوح، وهكذا.
في حين أنَّ تربويات الدين ترسم لنا خطّاً واضحاً في ضرورة النظر إلىٰ جانبي الحياة، المظلم منها والمشرق، وأن نتغاضىٰ عن المظلم ما أمكننا ذلك، وأن نهتمَّ بالجوانب المشرقة، لما لها من أثر إيجابي في الحياة وتسهيل الأُمور وعدم تعقيدها. وما ألطف ما ورد من أنَّ النبيَّ عيسىٰ (علیه السلام) مرَّ مع الحواريين علىٰ جيفة، فقال الحواريون: ما أنتن ريح هذا الكلب!؟ فقال عيسىٰ (علیه السلام): «ما أشدّ بياض أسنانه!»(1).
ولذا ترىٰ أنَّ المؤمنين لا يعترضون - ولو من طرف خفيٍّ - علىٰ قضاء الله تعالىٰ الذي يجري عليهم مهما كان، فإنَّهم آمنوا بأنَّ الله تعالىٰ - حيث إنَّه لا عداوة شخصية له مع أحد، بل هو تعالىٰ يحبُّ عباده ويريد لهم الخير، وهو لا يفعل إلَّا ما هو خير للعبد في عاجل الدنيا أو آجل الآخرة - مهما ابتلاهم فهو في صالحهم، وروَّضوا أنفسهم علىٰ الرضا بقضاء الله تعالىٰ، فلو مات للمؤمن ولد استرجع وحمد الله تعالىٰ، ولو خسر مالاً ارتاح من همِّه ولم يَهُمّ بأكثر من ذلك، وسواء كان الجوُّ بارداً أو حارّاً، وسواء كان العبد غنيّاً أو فقيراً، صحيحاً أو مريضاً، هو في حالة واحدة مع الله تعالىٰ ولا يرىٰ هذه الأحوال إلَّا خيراً له، ولذا تراه مرتاح البال مطمئنَّ الروح، وليس له همٌّ إلَّا أن يُرضي الله تعالىٰ.
ومن هنا، جاء التحذير من اليأس والاعتراض علىٰ طول غيبة الإمام المهدي (علیه السلام)، فإنَّ طول الغيبة إن لم يكن بسببنا فهو لصالحنا. ولذا ورد في دعاء الغيبة: «اللّهُمَّ فَثَبِّتْنِي عَلىٰ دِينِكَ، وَاسْتَعْمِلْنِي بِطاعَتِكَ، وَلَيِّنْ قَلْبِي لِوَلِيِّ أَمْرِكَ،
ص: 23
وَعافِنِي مِمَّا امْتَحَنْتَ بِهِ خَلْقَكَ، وَثَبِّتْنِي عَلىٰ طاعَةِ وَلِيِّ أَمْرِكَ، الَّذِي سَتَرْتَهُ عَنْ خَلْقَكَ، فَبِإِذْنِكَ غابَ عَنْ بَرِيَّتِكَ، وَأَمْرَكَ يَنْتَظِرُ، وَأَنْتَ العالِمُ غَيْرُ المُعَلَّمِ بِالوَقْتِ الَّذِي فِيهِ صَلاحُ أَمْرِ وَلِيِّكَ فِي الإِذْنِ لَهُ بِإِظْهارِ أَمْرِهِ وَكَشْفِ سِرِهِ، فَصَبِّرْنِي عَلىٰ ذلِكَ حَتَّىٰ لا أُحِبَّ تَعْجِيلَ ما أَخَّرْتَ، وَلا تَأْخِيرَ ما عَجَّلْتَ، وَلا أَكْشِفُ ما سَتَرْتَ، وَلا أَبْحَثُ عَمَّا كَتَمْتَ، وَلا أُنازِعَكَ فِي تَدْبِيرِكَ، وَلا أَقُولَ: لِمَ؟ وَكَيْفَ؟ وَما بالُ وَلِيِّ الأَمْرِ لا يَظْهَرُ وَقَدْ امْتَلاَتِ الأَرْضُ مِنَ الجَوْرِ؟! وَأُفَوِّضَ أُمُورِي كُلَّها إِلَيْكَ»(1).
وهذا هو ما جعل صبر السيِّدة زينب (علیها السلام) يعجز عن وصفه البلغاء، لمَّا قال ابن زياد لها: كيف رأيتِ صنع الله بأهل بيتكِ؟ فقالت: «ما رأيت إلَّا جميلاً، هؤلاء قوم كُتِبَ عليهم القتل فبرزوا إلىٰ مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاجّ وتُخاصم، فانظر لمن الفلج، هبلتك أُمُّك يا ابن مرجانة...»(2).
فعلىٰ المؤمن أن يكون علىٰ حالٍ واحدةٍ من الرضا مع الله تعالىٰ، ليُثبِت حبّه لدينه، وحبّه لربِّه، ولا يكون مثل ذلك الذي قيل فيه:
يتمنّىٰ المرء في الصيف الشتا *** فإذا جاء الشتا أنكرهُ
لا بذا يرضىٰ ولا يرضىٰ بذا *** قُتِلَ الإنسان ما أكفرهُ
إنَّ الإنسان حيث إنَّه معرَّض للخطأ، وحيث إنَّه لا يرىٰ أخطاءه دائماً، بل ربَّما يُخطئ وهو يظنُّ أنَّه يحسن صنعاً، فقد احتاج كلُّ واحد منّا إلىٰ مرآة صافية تحكي له ما يصدر عنه بصدقٍ وأمانة، والروايات
ص: 24
الشريفة تؤكّد أنَّ تلك المرآة الصافية ينبغي أن يُمثِّلها المؤمن(1)، هذا من جانب.
ومن جانب آخر، أنت إذا أحببت شخصاً لا بدَّ أنَّك تحبُّ أن تراه علىٰ خير دائماً، ولا تحبُّ أن ترىٰ منه شيئاً خاطئاً، لأنَّ ذلك يُقلِّل من شأن المحبوب، وهو ما لا تحبُّه لمحبوبك، وهذا ما يؤسِّس لمبدأ النصيحة، وهو ما تؤكّده الروايات الشريفة.
يقول الإمام الصادق (علیه السلام): «المؤمن أخو المؤمن يحقُّ عليه نصيحته»(2).
طبعاً هذا لا يخالف النقطة السابقة، من أنَّك لا ترىٰ من محبوبك إلَّا جميلاً، لأنَّ ذلك لا ينافي نصحه لو أخطأ، ونحن لا نريد من تلك النقطة أن يكون الإنسان مثالياً لا يرىٰ واقع الخطأ من المحبوب، كلَّا، وإنَّما نريد أنَّه يتجاوز عن الأخطاء التي تصدر من المحبوب باتِّجاه محبوبه، ولكن في نفس الوقت، يجب علىٰ المحبوب أن ينظر بعين ثاقبة إلىٰ تصرّفات محبوبه، ويحاول أن يجعلها لا تتجاوز الصحيح. ولذلك يقول الإمام عليّ (علیه السلام): «ما أخلص المودَّة من لم ينصح»(3).
ويقول (علیه السلام): «امحض أخاك النصيحة، حسنةً كانت أو قبيحةً»(4).
وهذه النصيحة ستكون سبباً من أهمّ أسباب توارث المودَّة والحبِّ، كما يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «النصح يُثمِر المحبَّة»(5).
من هنا جاءت التربويات والإرشادات المعصومية بضرورة استماع
ص: 25
النصيحة ولو كانت مؤذية ومؤلمة، فإنَّ الدواء قد يكون مُرّاً ولكن نتيجته الشفاء والعافية، فعن أبان، عن أبي العديس، عن صالح، قال: قال أبو جعفر (علیه السلام): «يا صالح، اتَّبع من يُبكيك وهو لك ناصح، ولا تتَّبع من يُضحِكك وهو لك غاش، وستردون علىٰ الله جميعاً فتعلمون»(1).
وينبغي أن لا ننسىٰ أنَّ للنصيحة آداباً لا بدَّ من الحفاظ عليها وعدم تجاوزها، وخلاصة تلك الآداب ما ذكره الإمام السجّاد (علیه السلام) في رسالة الحقوق: «حقُّ المستنصح أن تؤدّي إليه النصيحة، وليكن مذهبك الرحمة له والرفق به، وحقُّ الناصح أن تُلين له جناحك وتُصغي إليه بسمعك، فإن أتىٰ الصواب حمدت الله (عزوجلّ)، وإن لم يوافق رحمته، ولم تتَّهمه وعلمت أنَّه أخطأ، ولم تؤاخذه بذلك إلَّا أن يكون مستحقّاً للتهمة فلا تعبأ بشيء من أمره علىٰ حالٍ»(2).
إنَّ صدق الحبِّ يعني فيما يعنيه أن يكون الشخص علىٰ علاقة وثيقة بمن يحبُّ، وأن يعمل علىٰ التقرّب إلىٰ محبوبه بأيَّة وسيلة ممَّا يرضاه المحبوب، ولذا كان الحبُّ الخالي من الطاعة حبّاً كاذباً، يقول الشاعر:
تعصي الإله وأنت تُظهِر حبَّه *** هذا لعمري في الفعال بديعُ
لو كان حبُّك صادقاً لأطعته *** إنَّ المحبَّ لمن يحبُّ مطيعُ
إذن، من علامات صدق المودَّة أن تحبَّ مَنْ وما يحبُّه حبيبك، وهذا ما أكَّدته الروايات الشريفة، وهي عديدة في هذا المجال، نذكر منها:
عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إنَّ داود (علیه السلام) قال في ما يخاطب ربَّه (عزوجلّ): يا
ص: 26
ربِّ، أيُّ عبادك أحبُّ إليك، أُحِبُّه بحبِّك؟ قال: يا داود، أحبُّ عبادي إليَّ: نقيُّ القلب، نقيُّ الكفّين، لا يأتي إلىٰ أحد سوءاً، ولا يمشي بالنميمة، تزول الجبال ولا يزول، وأحبَّني، وأحبَّ من يُحِبُّني، وحبَّبني إلىٰ عبادي. قال: يا ربِّ، إنَّك لتعلم أنّي أُحِبُّك، وأُحِبُّ من يُحِبُّك، فكيف أُحبِّبك إلىٰ عبادك؟ قال: ذكِّرهم بآياتي وبلائي ونعمائي»(1).
وعن عبد الله بن الفضل الهاشمي، قال: كنت عند الصادق جعفر بن محمّد (علیهما السلام) إذ دخل المفضَّل بن عمر، فلمَّا بصر به ضحك إليه، ثمّ قال: «إليَّ يا مفضَّل، فوَربّي إنّي لأُحِبُّك وأُحِبُّ من يُحِبُّك. يا مفضَّل، لو عرف جميع أصحابي ما تعرف ما اختلف اثنان...»(2).
وعن بشير الدهّان، قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام) لمحمّد بن كثير الثقفي: «ما تقول في المفضَّل بن عمر؟»، قال: ما عسيت أن أقول فيه؟ لو رأيت في عنقه صليباً وفي وسطه كستيجاً لعلمت أنَّه علىٰ الحقِّ بعد ما سمعتك تقول فيه ما تقول. قال: «رحمه الله، لكن حجر بن زائدة وعامر بن جذاعة أتياني فشتماه عندي، فقلت لهما: لا تفعلا، فإنّي أهواه، فلم يقبلا، فسألتهما وأخبرتهما أنَّ الكفَّ عنه حاجتي، فلم يفعلا، فلا غفر الله لهما، أمَا إنّي لو كرمت عليهما لكرم عليهما من يكرم عليَّ، ولقد كان كثير عزَّة في مودَّته لها أصدق منهما في مودَّتهما لي حيث يقول:
لقد علمت بالغيب أنّي أخونها *** إذا هو لم يكرم علىٰ كريمها
ص: 27
أمَا إنّي لو كرمت عليهما، لكرم من يكرم عليَّ»(1)، وفي رواية أُخرىٰ أنَّه (علیه السلام) قال: «... أمَا والله لو أحبّاني لأحبّا من أُحِبُّ»(2).
لذا ورد في بعض أدعية تعقيبات الصلاة: «... واجعل عيني باكية لخشيتك، واجعلني أُحِبُّك وأُحِبُّ من يُحِبُّك، واجعلني أسجد في مواطن صدق ترضيك عنّي، إنَّك علىٰ كلِّ شيء قدير...»(3).
ومن هنا نجد روايات الفريقين ذكرت أنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان يكرم صديقات خديجة (علیها السلام) بعد وفاتها ويُرسِل إليهنَّ بالهدايا حبّاً لها، وكان هذا سبباً كافياً ليجعل بعض نسائه (صلی الله علیه و آله) تغار من خديجة وهي في قبرها.
فقد روي أنَّ عجوزاً دخلت علىٰ النبيِّ (صلی الله علیه و آله) فألطفها، فلمَّا خرجت سألته عائشة فقال: «إنَّها كانت تأتينا في زمن خديجة، وإنَّ حسن العهد من الإيمان»(4).
وعن عائشة، قالت: ما غرت علىٰ امرأة ما غرت علىٰ خديجة، ولقد هلكت قبل أن يتزوَّجني بثلاث سنين لمَّا كنت أسمعه يذكرها، ولقد أمره ربُّه (عزوجلّ) أن يُبشِّرها ببيت من قصب في الجنَّة، وإن كان ليذبح الشاة ثمّ يهديها إلىٰ خلائلها(5).
وعنها، قالت: ما غرت علىٰ نساء النبيِّ (صلّىٰ الله عليه [وآله] وسلَّم) إلَّا علىٰ خديجة، وإنّي لم أدركها، قالت: وكان رسول الله (صلّىٰ
ص: 28
الله عليه [وآله] وسلَّم) إذا ذبح الشاة فيقول: «أرسلوا بها إلىٰ أصدقاء خديجة»، قالت: فأغضبته يوماً فقلت: خديجة، فقال رسول الله (صلّىٰ الله عليه [وآله] وسلَّم): «إنّي قد رُزِقْتُ حبَّها»(1).
وفي الصحيح عن عائشة: كان رسول الله (صلّىٰ الله عليه [وآله] وسلَّم) إذا ذبح الشاة يقول: «أرسلوا إلىٰ أصدقاء خديجة»، فقالت: فذكرت له يوماً، فقال: «إنّي لأُحِبُّ حبيبها»(2).
هذه بعض الطرق التي يمكن من خلالها معرفة المودَّة ومقدارها!
* * *
ص: 29
ص: 30
ص: 31
ص: 32
إنَّ قلوب الناس ملك لهم، ولا يمكنك أن تدخل إلىٰ حرم قلوبهم عنوة من دون مبرِّر وسبب واستئذان، تماماً كما لا يمكنك أن تدخل إلىٰ بيت أحدهم من دون إذنه، بل يجب عليك أن تطرق الباب بكلِّ أدب، فإن أذن لك وإلَّا رحلْتَ.
وحيث إنَّ المودَّة مركزها القلب، فإذا أردت أن تملك قلب أحدهم ومودَّته فلا بدَّ لك أن تدخل علىٰ قلبه، وتجلس علىٰ أريكة المودَّة من عرش روحه، لتنال بذلك ودَّه ومحبَّته.
والسؤال المهمّ هنا: كيف يمكنني أن أدخل إلىٰ قلبك؟ هل من طرق وسبل يمكنني من خلالها فعل ذلك؟
والجواب: أنَّ الدين يُعطي نظريته النفسية والاجتماعية لذلك، ويُبيِّن الكثير من الطرق المناسبة لذلك، ويمكن أن نمنهج تلك الطرق بالتالي:
أوَّلاً: طرق بين العبد وربِّه.
ثانياً: طرق وأعمال بين الإنسان والإنسان الآخر.
وهذه بدورها نوعان:
النوع الأوَّل: طرق مجّانية!
النوع الثاني: طرق تحتاج إلىٰ بذل ولو قليلاً.
ولنتكلَّم عن هذه الطرق علىٰ التوالي: ...
* * *
ص: 33
وقد ذكرت الروايات الشريفة العديد من هذه الطرق، وأهمّها:
إنَّ الله تعالىٰ هو مالك القلوب، ولو أراد أن يميل بالقلوب لك فلا شيء يمكنه أن يمنعه، فهذا النبيُّ موسىٰ (علیه السلام) يقول له الله (عزوجلّ): ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ (طه: 39).
والروايات تُحدِّثنا الأعاجيب عن هذه المحبَّة الملقاة من الله تعالىٰ علىٰ نبيِّه موسىٰ (علیه السلام)، يقول الإمام الباقر (علیه السلام): «... فلمَّا وضعت أُمُّ موسىٰ بموسىٰ (علیه السلام) نظرت وحزنت واغتمَّت وبكت وقالت: يُذبَح الساعة، فعطف الله قلب الموكِّلة بها عليه، فقالت لأُمِّ موسىٰ: ما لكِ قد اصفرَّ لونكِ؟ فقالت: أخاف أن يُذبَح ولدي، فقالت: لا تخافي، وكان موسىٰ لا يراه أحد إلَّا أحبَّه، وهو قول الله (عزوجلّ): ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾، فأحبَّته القبطية الموكَّلة به...
وكان لفرعون قصر علىٰ شطِّ النيل متنزَّه، فنظر من قصره - ومعه آسية امرأته - إلىٰ سواد في النيل ترفعه الأمواج وتضربه الرياح حتَّىٰ جاءت به علىٰ باب قصر فرعون، فأمر فرعون بأخذه، فأُخِذَ التابوت ورُفِعَ إليه، فلمَّا فتحه وجد فيه صبياً، فقال: هذا إسرائيلي، فألقىٰ الله في قلب فرعون لموسىٰ محبَّة شديدة وكذلك في قلب آسية. وأراد أن يقتله فقالت آسية: ﴿لا تَقْتُلُوهُ عَسَى
ص: 34
أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ 9﴾ [القصص: 9] أنَّه موسىٰ، ولم يكن لفرعون ولد، فقال: التمسوا له ظئراً تُربّيه...»(1).
ولا شكَّ أنَّ من أهمّ الموجبات لعطف الله تعالىٰ القلوب عليك هو أن تعطف بقلبك علىٰ الله تعالىٰ، كما يقول رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ما أقبل عبد بقلبه إلىٰ الله إلَّا جعل الله قلوب المؤمنين تفد إليه بالودِّ والرحمة، وكان الله إليه بكلِّ خير أسرع»(2).
ولا شكَّ أنَّ الإنسان يستطيع أن يجعل كلَّ وجوده مقبلاً علىٰ الله تعالىٰ، ولا ينبغي لأحد أن يعتقد أنَّ الإقبال علىٰ الله تعالىٰ منحصر بالصلاة والصوم وبقيَّة العبادات المعروفة، فليس التقرّب إلىٰ الله تعالىٰ منحصراً بذلك، ولذا ورد أنَّ «الكاد علىٰ عياله كالمجاهد في سبيل الله تعالىٰ(3).
وقد ورد أنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال في جلد رجل ونشاطه - لمَّا قال أصحابه فيه: لو كان هذا في سبيل الله -: «إن كان خرج يسعىٰ علىٰ ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعىٰ علىٰ أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعىٰ علىٰ نفسه يعفّها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رياءً ومفاخرةً فهو في سبيل الشيطان»(4).
هذه المرحلة متأخِّرة ترتيباً عن المرحلة الأُولىٰ، وكأنَّه إذا عجز الإنسان عن الإقبال علىٰ الله تعالىٰ في جميع لحظات حياته، فلا أقلَّ أن
ص: 35
يُقبِل عليه تعالىٰ أثناء أهمّ العبادات الجارحية، الصلاة، فإنَّها عمود الدين(1)، والتي إن قُبِلَتْ قُبِلَ ما سواها وإن رُدَّت رُدَّ ما سواها(2).
لقد ذكرت الروايات الشريفة العديد من الآثار التي تترتَّب علىٰ الإقبال بالقلب علىٰ الصلاة(3)، منها: إنَّ ما يُقبَل منها علىٰ قدر ما يُقْبِلُ العبد منها عليها، فعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إنَّ من الصلاة لما يقبل نصفها وثلثها وربعها وخمسها إلىٰ العشر، وإنَّ منها لما يُلَفُّ كما يُلَفُّ الثوب الخَلِق فيُضرَب بها وجه صاحبها، وإنَّما لك من صلاتك ما أقبلت عليه بقلبك»(4).
وعن الإمام زين العابدين (علیه السلام) - لمَّا سقط رداؤه علىٰ أحد منكبيه ولم يُسوِّه فسُئِلَ عن ذلك -: «ويحك أتدري بين يدي من كنت؟! إنَّ العبد لا يُقبَل من صلاته إلَّا ما أقبل عليه منها بقلبه»(5).
وعن الإمام عليٍّ (علیه السلام): «لا يقومنَّ أحدكم في الصلاة متكاسلاً ولا ناعساً، ولا يُفَكِّرَنَّ في نفسه، فإنَّه بين يدي ربِّه (عزوجلّ)، وإنَّما للعبد من صلاته ما أقبل عليه منها بقلبه»(6).
وعن الإمام الصادق (علیه السلام): «من صلّىٰ وأقبل علىٰ صلاته لم يُحدِّث نفسه ولم يَسْهَ فيها، أقبل الله عليه ما أقبل عليها، فربَّما رفع نصفها وثلثها وربعها وخمسها، وإنَّما أمر بالسُّنَّة(7) ليكمل ما ذهب من المكتوبة»(8).
ص: 36
ومنها: إنَّ الإقبال عليها يوجب إقبال الله تعالىٰ علىٰ العبد، كما يقول الإمام الصادق (علیه السلام): «إذا قام العبد إلىٰ الصلاة أقبل الله (عزوجلّ) عليه بوجهه، فلا يزال مقبلاً عليه حتَّىٰ يلتفت ثلاث مرّات، فإذا التفت ثلاث مرّات أعرض عنه»(1).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إذا قمت في صلاتك فأقبل علىٰ الله بوجهك يُقْبِلْ عليك»(2).
ومنها: إنَّ حضور القلب في الصلاة يوجب غفران الذنوب، فعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من صلّىٰ ركعتين ولم يُحدِّث فيهما نفسه بشيء من أُمور الدنيا غفر الله له ذنوبه»(3).
وعن الإمام الصادق (علیه السلام): «من صلّىٰ ركعتين يعلم ما يقول فيهما، انصرف وليس بينه وبين الله ذنب»(4).
ومنها - ما هو محلُّ الشاهد هنا -: إنَّ الإقبال عليها يوجب جذب القلوب، كما يقول الإمام الصادق (علیه السلام): «إنّي لأُحِبُّ للرجل منكم المؤمن إذا قام في صلاة فريضة أن يُقبِل بقلبه إلىٰ الله ولا يُشغِل قلبه بأمر الدنيا، فليس من مؤمن يُقبِل بقلبه في صلاته إلىٰ الله إلَّا أقبل الله إليه بوجهه، وأقبل بقلوب المؤمنين إليه بالمحبَّة له بعد حبِّ الله (عزوجلّ) إيّاه»(5).
وهذه مرحلة متأخِّرة عن الأُولتين، لا بمعنىٰ عدم إمكان اجتماعها مع ما
ص: 37
قبلها، وإنَّما بمعنىٰ أنَّها أقلّ مرتبة يمكن أن يتوجَّه بها العبد إلىٰ الله تعالىٰ، وهي لا تأخذ أكثر من لحظة من تفكير الإنسان.
ولكن لماذا السجود؟
ولماذا بين الأذان والإقامة؟
أمَّا لماذا السجود؟ فلأنَّ الروايات الشريفة تذكر أنَّ أقرب ما يكون العبد إلىٰ ربِّه إذا كان في سجوده، فعن الإمام الصادق (علیه السلام) - لمَّا سأله سعيد بن يسار: أدعو وأنا راكع أو ساجد؟ -: فقال: «نعم اُدْعُ وأنت ساجد، فإنَّ أقرب ما يكون العبد إلىٰ الله وهو ساجد، اُدْعُ الله (عزوجلّ) لدنياك وآخرتك»(1).
وإذا ضممت إلىٰ ذلك السجود علىٰ تربة الحسين (علیه السلام) كنت أقرب شيء إلىٰ استجابة الدعاء، فإنَّ الإمام الصادق (علیه السلام) يقول: «السجود علىٰ تربة الحسين (علیه السلام) يخرق الحجب السبع»(2).
وأمَّا أنَّه لماذا بين الأذان والإقامة؟ فلأنَّ الروايات الشريفة ذكرت أنَّه من المواضع التي يُستجاب فيها الدعاء، فعن النبيِّ (صلی الله علیه و آله): «الدعاء بين الأذان والإقامة لا يُرَد»(3).
ولذا ورد عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: كان أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (علیه السلام) يقول لأصحابه: من سجد بين الأذان والإقامة فقال في سجوده: ربِّ لك سجدت خاضعاً خاشعاً ذليلاً، يقول الله تعالىٰ: ملائكتي، وعزَّتي وجلالي لأجعلنَّ محبَّته في قلوب عبادي المؤمنين، وهيبته في قلوب المنافقين»(4).
ص: 38
وهذا الأمر يُمثِّل الأساس للمراحل السابقة، فإنَّ التقرّب إلىٰ الله تعالىٰ بالإقبال عليه في جميع لحظات الحياة أو أثناء الصلاة أو في السجود بين الأذان والإقامة كلّها مصاديق للاستعانة بالله تعالىٰ، ولا شكَّ أنَّ أصل ذلك هو الدعاء، ولذا ورد في دعاء الإمام زين العابدين (علیه السلام): «اللّهمّ اقذف في قلوب عبادك محبَّتي...، ولا تجعلني من الغافلين، أحببني وحبِّبني، وحبِّب إليَّ ما تُحِبُّ من القول والعمل حتَّىٰ أدخل فيه بلذَّة، وأخرج منه بنشاط»(1).
وقد ورد أنَّه كان في وصيَّة رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعليٍّ (علیه السلام): «يا عليُّ، إذا أردت مدينة أو قرية فقل حين تعاينها: اللّهمّ إنّي أسألك خيرها، وأعوذ بك من شرِّها، اللّهمّ حبِّبنا إلىٰ أهلها وحبِّب صالحي أهلها إلينا»(2).
* * *
ص: 39
قالوا: هي كالملح في الطعام، لا بدَّ من المحافظة عليها من دون إفراط ولا تفريط، فكما أنَّ الملح إذا فُقِدَ من الطعام فلا مذاق يبقىٰ للطعام، وكما أنَّ الملح إذا زاد في الطعام أفسد الطعام، كذلك الابتسامة فقدانها يُفقِد المودَّة، وكثرتها مضرَّة.
ولقد ثبت أنَّ الضحك حتَّىٰ وإن كان مصطنعاً يرفع الروح المعنوية ويُحسِّن الحالة المزاجية، مثلما هو الحال مع التدريبات البدنية، فالابتسامة تؤدّي إلىٰ إفراز المهدِّئات الداخلية (الأندورفينات) والتي تمنح الجسم إحساساً بالاسترخاء بمجرَّد الابتسام يؤدّي إلىٰ إفراز مادَّة السيروتونين، وهو ناقل عصبي يؤدّي للشعور بالسعادة في مجرىٰ الدم، وهو مضادٌّ قويّ للاكتئاب.
وهل تعلم أنَّ عدد العضلات في وجه الإنسان هو (80) عضلة، وكلُّ عضلة مرتبطة بجزء من المخِّ(1)، وأنَّ الناس تستخدم كلَّ عضلات الوجه تقريباً عندما يكون الوجه عبوساً، ممَّا يُسبِّب لهم التجاعيد، وأنَّنا عندما نبتسم فإنَّنا نستخدم (14) عضلة فقط(2)!؟
ص: 40
فما دامت الابتسامة لها هذا الأثر الطبّي المهمّ، وهي مجّانية بمعنىٰ الكلمة، فلماذا ترانا تركناها!؟ لقد نُشِرَ مقال بمجلَّة (النجاح) الأمريكية تناول علاقة الأطفال بالابتسام، وذكر فيه أنَّ الأطفال يبتسمون ويضحكون حوالي (400) مرَّة في اليوم، وإذا ما قارناهم بالكبار نجد أنَّ الكبار يبتسمون (14) مرَّة فقط في اليوم(1)!
من هنا، وردت الأوامر التربوية عن أهل البيت (علیهم السلام) بضرورة كون المؤمن هشّاً بشّاً، وأن يكون بشره في وجهه، وإن كان عنده حزن فهو في قلبه!
يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «الْبَشَاشَةُ حِبَالَةُ المَوَدَّةِ، وَالِاحْتِمَالُ قَبْرُ الْعُيُوبِ»(2).
فالابتسامة أسرع سهم تملك به القلوب، وهي مع ذلك عبادة وصدقة، ف- «تبسّمك في وجه أخيك صدقة»(3).
وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «من تبسَّم في وجه أخيه كانت له حسنة»(4).
من الطبيعي جدّاً أنَّك إذا لقيت أخاك بالبشاشة والابتسامة، فإنَّه سيبدأ بالسلام عليك إن لم تسبقه أنت بالفضل وتبدأه السلام، فإنَّ «البادي بالسلام أولىٰ بالله وبرسوله» كما قال الإمام الصادق (علیه السلام) (5)، وهذا ما يقوّي أواصر المحبَّة بينكما.
ص: 41
من هنا تجد أنَّ من أهمّ علامات المؤمن أنَّه ليِّن المنكب يُوسِّع علىٰ أخيه والمنافق يتجافىٰ يُضيِّق علىٰ أخيه، والمؤمن يبدأ بالسلام والمنافق يقول: حتَّىٰ يُبدَأ بي(1).
ولذا قال (صلی الله علیه و آله): «أطوعكم لله الذي يبدأ صاحبه بالسلام»(2).
وفي مقام بيان أثر السلام في جذب القلوب والتحابب، يقول رسول الله الأعظم (صلی الله علیه و آله): «لا تدخلون الجنَّة حتَّىٰ تؤمنوا، ولا تؤمنون حتَّىٰ تحابّوا، أوَ لا أدلّكم علىٰ شيء إذا فعلتموه تحاببتم!؟ أفشوا السلام بينكم»(3).
وروي عن الإمام الصادق (علیه السلام): «السلام تحيَّة لملَّتنا، وأمان لذمَّتنا»(4).
ومن الطبيعي أيضاً أنَّك إذا ابتسمت في وجه أخيك وألقيت عليه السلام فإنَّكما ستتصافحان، وهنا تكمن طريقة أُخرىٰ من طرق تقوية الأواصر وكسب المحبَّة، فإنَّ وضع اليد في اليد علامة صدق المودَّة وعلامة التودّد وعدم الغدر...، وبالتالي سيحسُّ المقابل بأنَّه مقبل علىٰ من يُحِبُّه.
وعلي أيَّة حالٍ، نجد أنَّ الروايات الشريفة تذكر عدَّة آثار للمصافحة، وكلّها تصبُّ في ما نبغي من كسب القلوب وربح مودَّتها، منها: إذهاب الغلِّ من القلوب فيما لو كان موجوداً بسبب فعل سابق أو
ص: 42
كلمة أو موقف، ولذا قال رسول الله الأعظم (صلی الله علیه و آله): «تصافحوا فإنَّه يُذهِب بالغلِّ(1)، تصافحوا فإنَّ التصافح يُذهِب السخيمة»(2)، أي الحقد والضغينة.
ومنها: غفران الذنوب، كما قال الإمام الباقر (علیه السلام): «إنَّ المؤمن إذا صافح المؤمن تفرَّقا من غير ذنب(3)، إذا صافح الرجل صاحبه فالذي يلزم التصافح أعظم أجراً من الذي يدع، ألَا وإنَّ الذنوب ليتحات فيما بينهم حتَّىٰ لا يبقىٰ ذنب»(4).
وقال الإمام عليّ (علیه السلام): «إذا لقيتم إخوانكم فتصافحوا وأظهروا لهم البشاشة والبشر، تتفرَّقوا وما عليكم من الأوزار قد ذهب»(5).
ولهذا وذاك كان المسلمون إذا غزوا مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومرّوا بمكان كثير الشجر ثمّ خرجوا إلىٰ الفضاء نظر بعضهم إلىٰ بعض فتصافحوا - كما نقل ذلك الإمامان الباقران (علیهما السلام) -(6).
عن أبي عبيدة، قال: كنت زميل أبي جعفر (علیه السلام)، وكنت أبدأ بالركوب، ثمّ يركب هو، فإذا استوينا سلَّم وسأل مسألة رجل لا عهد له بصاحبه وصافح، قال: وكان إذا نزل نزل قبلي، فإذا استويت أنا وهو علىٰ الأرض سلَّم وسأل مسألة من لا عهد له بصاحبه، فقلت: يا ابن رسول الله، إنَّك لتفعل شيئاً ما يفعله أحد من قبلنا وإن فعل مرَّة فكثير،
ص: 43
فقال: أمَا علمت ما في المصافحة؟ إنَّ المؤمنين يلتقيان، فيصافح أحدهما صاحبه، فلا تزال الذنوب تتحاتُّ عنهما كما يتحاتُّ الورق عن الشجر، والله ينظر إليهما حتَّىٰ يفترقا»(1).
ومع الأسف نجد أنَّ مبدأ التصافح قد قلَّ هذه الأيّام بين المؤمنين، واكتفىٰ جلّهم برفع اليد من بعيد أو هزِّ الرأس - هذا لو ألقىٰ السلام -!
لو تأسَّفنا علىٰ مبدأ المصافحة لأنَّه قلَّ بين المؤمنين، فإنَّ أسفنا علىٰ مبدأ المعانقة أشدّ، لأنَّه قلَّ أكثر وأكثر بمرور الأيّام، إلَّا نادراً بين المؤمنين!
وأعتقد أنَّ قلَّة التزام المؤمنين بهذا المبدأ له أكثر من سبب، ولعلَّ منها الثقافة المستوردة من الغرب، فإنَّك لا تجد المصافحة عندهم إلَّا نادراً، وأمَّا المعانقة فهي شيمة المتخلِّفين عندهم! وحيث إنَّنا أبينا إلَّا تطوّراً وثقافةً - تطوّراً غربياً وثقافةً مستوردةً منهم -، فإنَّنا ومن حيث لا نشعر تأثَّرنا بذلك!
أمَّا تراثنا الإسلامي الأصيل، فإنَّه احتوىٰ علىٰ الكثير من التربويات الأدبية التي تحثُّ علىٰ هذا المبدأ، وسيكون عملاً مرتَّباً طبعاً يأتي بعد الابتسامة، فالسلام، فالمصافحة.
من هنا أكَّدت الروايات الشريفة علىٰ ضرورة المعانقة بين المؤمنين، فعن الإمام الصادق (علیه السلام): «إنَّ المؤمنين إذا اعتنقا غمرتهما
ص: 44
الرحمة، فإذا التزما لا يريدان بذلك إلَّا وجه الله، ولا يريدان غرضاً من أغراض الدنيا، قيل لهما: مغفوراً لكما، فاستأنفا»(1).
وعن الإمام الباقر والصادق (علیهما السلام): «أيّما مؤمن خرج إلىٰ أخيه يزوره عارفاً بحقِّه كتب الله له بكلِّ خطوة حسنة، ومُحيت عنه سيِّئة، ورُفِعَت له درجة، وإذا طرق الباب فُتِحَت له أبواب السماء، فإذا التقيا وتصافحا وتعانقا أقبل الله عليهما بوجهه»(2).
وعن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «إنَّ المؤمنين إذا اعتنقا غمرتهما الرحمة، فإذا التزما لا يريدان بذلك إلَّا وجه الله ولا يريدان غرضاً من أغراض الدنيا قيل لهما: مغفوراً لكما فاستأنفا، فإذا أقبلا علىٰ المسألة قالت الملائكة بعضها لبعض: تنحّوا عنهما فإنَّ لهما سرّاً وقد ستر الله عليهما».
قال إسحاق: فقلت: جُعلت فداك، فلا يُكتَب عليهما لفظهما وقد قال الله (عزوجلّ): ﴿ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ 18﴾ [ق: 18]؟
قال: فتنفَّس أبو عبد الله (علیه السلام) الصعداء ثمّ بكىٰ حتَّىٰ اخضلَّت دموعه لحيته، وقال: «يا إسحاق، إنَّ الله تبارك وتعالىٰ إنَّما أمر الملائكة أن تعتزل عن المؤمنين إذا التقيا إجلالاً لهما وإنَّه وإن كانت الملائكة لا تكتب لفظهما ولا تعرف كلامهما فإنَّه يعرفه ويحفظه عليهما عالم السرِّ وأخفىٰ»(3).
لا شكَّ أنَّ العلاقات الاجتماعية كالشجرة، تحتاج - حتَّىٰ تأكل
ص: 45
من ثمراتها - إلىٰ رعاية مستمرَّة، وأهمّ ما تحتاجه الشجرة هو السقي المستمرّ، وسقاية شجرة المودَّة والمحبَّة تكمن فيما تكمن في الزيارات المتبادلة والدورية خصوصاً في المناسبات.
فعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الزيارة تُنبِت المودَّة»(1).
وعن الإمام عليٍّ (علیه السلام): «لقاء الإخوان مغنم جسيم وإن قلّوا»(2).
ولو لم يكن في زيارة الإخوان إلَّا نكاية إبليس، لكان هذا أعظم مغنم، حيث ورد عن الإمام الكاظم (علیه السلام): «ليس شيء أنكىٰ لإبليس وجنوده من زيارة الإخوان في الله بعضهم لبعض»(3).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «لزيارة مؤمن في الله خير من عتق عشر رقاب مؤمنات، ومن أعتق رقبة مؤمنة وقىٰ كلُّ عضو عضواً منه من النار حتَّىٰ أنَّ الفَرْج يقي الفَرْج»(4).
نعم، لا بدَّ في الزيارة من أُمور مهمَّة - حتَّىٰ تكتمل الصورة وتحصل علىٰ النتائج المرجوَّة من تثبيت المودَّة وزيادة المحبَّة -، وهي:
أوَّلاً: أن تكون الزيارة لله تعالىٰ، لا لأجل مصلحة مؤقَّتة، فإنَّ علاقة المصلحة تنتهي بانتهاء المصلحة.
يقول الإمام الصادق (علیه السلام): «من زار أخاه لله لا لغيره التماس موعد الله وتنجّز ما عند الله وكَّل الله به سبعين ألف ملك ينادونه: ألَا طبت وطابت لك الجنَّة»(5).
ص: 46
وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من زار أخاه في بيته، قال الله (عزوجلّ) له: أنت ضيفي وزائري، عليَّ قراك وقد أوجبت لك الجنَّة بحبِّك إيّاه»(1).
ثانياً: أن لا تكثر بحيث تولِد الملالة، بل تكون بصورة دورية وبفترات مختلفة، كما روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «زُرْ غبّاً تزدد حبّاً»(2).
وعن الإمام عليٍّ (علیه السلام): «إغباب الزيارة أمان من الملالة»(3).
ثالثاً: عليك باختيار الأوقات المناسبة للزيارة، فلا تزر أحداً في وقت راحته أو نومه، ولا تزره في وقت طعامه من دون إشعار مسبق، والأفضل أن تتَّصل به أو تضرب معه موعداً مسبقاً للزيارة، حتَّىٰ يكون مهيَّئاً لاستقبالك.
رابعاً: أن تجلس حيث يطلب منك صاحب البيت، فإنَّه - كما في بعض الروايات الشريفة - أدرىٰ بعورة منزله منك.
عن جعفر بن محمّد، عن أبيه (علیهما السلام)، قال: «إذا دخل أحدكم علىٰ أخيه في رحله، فليقعد حيث يأمره صاحب الرحل، فإنَّ صاحب الرحل أعرف بعورة بيته من الداخل عليه»(4).
ولا شكَّ أنَّ طلبه منك الجلوس في مكان معيَّن إمَّا لأنَّه يُحِبُّك فيريد منك أن تجلس في مكان يُحِبُّه لك، وإمَّا لأنَّك مؤمن ولا تُحِبُّ أن تقع عينك علىٰ ما لا يحلُّ لك، فهو يساعدك في ذلك.
خامساً: لا شكَّ أنَّ لكلِّ بيت خصوصياته، ولا شكَّ أنَّنا لا نُحِبُّ
ص: 47
من الآخر أن يتدخَّل في خصوصياتنا ما لم نطلب منه ذلك، فخذ هذا بعين الاعتبار ولا تتعدّاه أبداً(1).
أنت لا تعرف من أخيك إلَّا ما يظهر منه من أقوال وأفعال، ولعلَّ
ص: 48
أثر الأقوال أشدّ من أثر الأفعال، من هنا تجد في الإسلام منظومة متكاملة حول الأقوال إيجاباً وسلباً.
وفيما يتعلَّق بتقوية آصرة المودَّة والمحبَّة تجد أنَّ هناك العديد من الأقوال ينبغي قولها، وأُخرىٰ ينبغي تجنّبها، فمثلاً لين الكلام مع الأصدقاء مطلوب حتَّىٰ لا ينفر منك أصدقاؤك، فإنَّهم إذا وجدوك ليِّناً في أقوالك معهم فإنَّهم سيأمنون علىٰ أنفسهم وأعراضهم من ثورة ألفاظك. وينبغي قبول عذر الأخ لو اعتذر، فإن لم يكن له عذر فالتمس له عذراً.
ومثلاً ينبغي تجنّب الجدال والمراء، فإنَّ كثرة المراء سبب الشحناء، وتجنّب الحسد فإنَّه كما يأكل الحسنات يُحرق المودّات.
وباختصار إنَّ مجاملة الناس ثلث العقل - كما ورد في الرواية الشريفة -، قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «عوِّد لسانك لين الكلام وبذل السلام، يكثر محبّوك ويقلَّ مبغضوك»(1).
وفي هذا المضمار جاء التأكيد علىٰ إعلان المودَّة والمحبَّة، فإنَّها من مقتضيات تقوية المحبَّة والمودَّة، فقد روي أنَّه مرَّ رجل في المسجد وأبو جعفر (علیه السلام) جالس وأبو عبد الله (علیه السلام)، فقال له بعض جلسائه: والله إنّي لأُحِبُّ هذا الرجل، قال له أبو جعفر: «ألَا فأعلمه، فإنَّه أبقىٰ للمودَّة، وخير في الأُلفة»(2).
وروي عن النبيِّ (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «إذا أحبَّ الرجل أخاه، فليُخبِره أنَّه يُحِبُّه»(3).
ص: 49
لعلَّ أهمّ ما يُقلِق الناس هذه الأيّام هو فقدانهم لما جمعوه من مال - ولو كان قليلاً -، وهذا القلق تشعَّب ليُولِّد قلقاً من الأولاد أو اللصوص أو الخسائر المفاجئة أو التقلّبات الاقتصادية العالمية التي تلقي بخسائرها الفادحة علىٰ جميع المتموّلين، ومن ضمن من يُخاف منهم علىٰ المال هم المعارف والأصحاب والأصدقاء، حيث يخاف الواحد منّا أن يستغلّه أصحابه فيأخذوا من أمواله من حيث يعلم أو لا يعلم.
هذا بالإضافة إلىٰ أنَّ الكثير منّا قد اكتشف - ولو بعد حين - أنَّ عدَّة علاقات قد أقامها مع أُناس ظنَّهم أصدقاء حقيقة كانت علاقات من أجل اكتساب مصلحة منه، وما أن تنتهي المصلحة حتَّىٰ تنتهي تلك العلاقة، وبالتالي فقد امتدَّت جذور الشكِّ لتشمل أكثر من نقيم معهم علاقات، ظنّاً منّا أنَّهم إنَّما أقاموا معنا علاقة من أجل أن يستنزفوا منّا ما نملكه، أو من أجل أن يقضوا منّا مآربهم.
من أجل هذا وذاك، احتاج من يريد أن يدخل إلىٰ قلوب الناس ويكتسب محبَّتهم أن يُعلِمهم أنَّه إنَّما صادقهم لله تعالىٰ، وأن يُثبِت ذلك عملياً، وأن يُظهِر الزهد في ما يملكونه، وتكون أعماله مطابقة لما يدَّعيه من الزهد في هذا المجال.
والحقيقة أنَّ المرء يحتاج إلىٰ هذا النوع من الزهد لعدَّة أسباب، منها:
السبب الأوَّل: ما تلوناه قبل قليل، حيث سيفهم الآخرون أنَّه إنَّما يقيم معهم علاقة مبدئية لا تقوم علىٰ المصلحة، وبالتالي سيفتحون له قلوبهم ويُحكّمونه فيها.
ص: 50
السبب الثاني: إنَّ المسلم ينبغي له أن لا يعتمد إلَّا علىٰ ما عند الله تعالىٰ، فحيث إنَّه تعالىٰ هو الرزّاق الوحيد المستقلّ في هذا الكون، وحيث إنَّ كلَّ ما في الوجود هو ملك له تعالىٰ، يؤتيه من يشاء ويمنعه من يشاء، إذن لا بدَّ للعاقل أن يختار افتقاره إلىٰ الله تعالىٰ، وأن يعمل من أجل أن يكتسب عن طريق الله تعالىٰ لا غير. نعم، الناس أسباب لذلك الرزق، ولكن ينبغي أن يكون المطلوب منه أوَّلاً وبالذات هو الباري تعالىٰ، وهذا يستبطن الزهد ممَّا في أيدي الناس والتوجّه لما عند الله تعالىٰ، و«من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس»(1)، ذلك لأنَّ ﴿إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ (الحجّ: 38).
السبب الثالث: إنَّ الرغبة فيما عند الناس تستدعي إمَّا الذلَّة - لو منّوا عليك مستعلين بذلك عليك -، وإمَّا الحسد - لو لم تنل من أموالهم شيئاً -، وإمَّا الحسرة - فيما لو رأيت النعم تتوالىٰ عليهم وأنت واقف علىٰ التلِّ تتابع -، وكلُّ ذلك ممَّا لا يحتاج إلىٰ بيان كره الإنسان له.
وعلاج ذلك كلّه ما قاله تبارك وتعالىٰ: ﴿وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى 131﴾ (طه: 131).
لكلِّ ذلك قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «تحبَّبْ إلىٰ الناس بالزهد في ما بين أيديهم، تفز بالمحبَّة منهم»(2).
قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «من عمل بالحقِّ مال إليه الخلق»(3).
ص: 51
مهما اختلف الناس في تقييم بعضهم البعض، إلَّا أنَّهم لا يختلفون في استقامة العامل بالحقِّ!
إنَّ العمل بالحقِّ له مراتب، تبدأ بالتعامل مع النفس وفق الحقِّ، فلا يُعطيها إلَّا ما هو موافق للحقِّ، ويمنعها من كلِّ ما هو مخالف له.
ثمّ بالتعامل مع الأهل وفق مبدأ الأمر المعروف والنهي عن المنكر، وهاتان المرتبتان أشار لهما القرآن الكريم بقوله (عزوجلّ): ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ 6﴾ (التحريم: 6).
وتنتهي بالعمل بالحقِّ مع بقيَّة الناس علىٰ اختلاف مشاربهم، ف- «لئن يهدي الله علىٰ يديك رجلاً خير لك ممَّا طلعت عليه الشمس وغربت» كما قال ذلك الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) للإمام عليٍّ (علیه السلام) حينما بعثه لليمن(1).
طبعاً لا بدَّ من ملاحظة أمر مهمّ للغاية في قضيَّة التعامل الحقّ، وهي: اللباقة في ذلك، أو كما قال القرآن الكريم: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (المؤمنون: 96)، وعلىٰ قاعدة «لا تحملنَّ عليه ما لا يُطيقه فتكسره»(2)، وعلىٰ مبدأ (لا تكن ظهراً فيُركَب ولا ضرعاً فيُحلَب)(3)، أو (لا تكن رطباً فتُعصَر، ولا يابساً فتُكسَر، ولا حلوا فتُستَرط، ولا مرّاً فتُلفَظ)(4).
ص: 52
وهذا يحتاج إلىٰ ذكاء حادٍّ، ورأي نافذ، للتعرّف علىٰ ظروف التعامل المناسبة، فرُبَّ موقف يفرض عليك أن تقف موقفاً حادّاً جادّاً لا ليونة فيه، وفق مبدأ «أمرنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن نلقىٰ أهل المعاصي بوجوه مكفهرَّة»(1)، ورُبَّ موقف آخر يُحتِّم عليك الليونة وترك الخشونة، علىٰ مبدأ ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ 6﴾ (التوبة: 6).
وهذه حياة أهل البيت (علیهم السلام) بين يديك، تجد فيها الدستور الكامل للهداية إلىٰ الظروف المناسبة لأنواع التعامل، فبينما يُحرق أمير المؤمنين (علیه السلام) من قالوا بأُلوهيته(2)! يعفو عن خارجي كفَّره وجهاً لوجه وبحضرة أصحابه(3)!
إنَّ التعامل بالحقِّ يُمثِّل منظومة متكاملة في تربويات الإسلام، لذا ينبغي أخذه بعين الاعتبار. وتتبّع حياة الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) وأهل البيت (علیهم السلام) وكلماتهم كفيلة برسم الصورة الواضحة لتلك المنظومة.
ص: 53
لا شكَّ أنَّ أشهر ما يدلُّ علىٰ الإنسان هو اسمه، ولا شكَّ أنَّ كلَّ واحد منّا يُحِبُّ اسمه، ويُحِبُّ منه دلالته عليه، وبالتالي يُحِبُّ أن يناديه الناس به.
ثمّ إنَّه قد جرت العادة علىٰ أن يكون للإنسان أكثر من اسم(1)، فهناك اسم، وكنية، ولقب، وكلّها تدلُّ علىٰ الشخص والشخصية، ولا شكَّ أنَّ هذه الأسماء ليست علىٰ مستوىٰ واحد من القرب إلىٰ قلب المسمّىٰ بها، وأنَّ الناس يختلفون في تفضيل بعضها علىٰ البعض الآخر، فهناك من يُحِبُّ كنيته أكثر، وهناك من يُحِبُّ لقبه أكثر، وهناك من يُحِبُّ اسمه أكثر، وأنت حتَّىٰ تنجح في علاقتك مع الناس ينبغي عليك أن تبحث عن أكثر ما يُحِبّون أن تناديهم به، فتناديهم به!
يقول الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله): «ثلاث يصفين لك ودَّ أخيك: تُسلِّم عليه إذا لقيته، وتُوسِّع له في المجلس، وتدعوه بأحبِّ أسمائه إليه»(2).
لذلك تجد في الإسلام حرصاً شديداً علىٰ قضيَّة التسمية بالأسماء الجميلة اللطيفة، واعتبرتها بعض الأحاديث من أوَّل الواجبات الملقاة علىٰ عاتق الأب بالنسبة إلىٰ ولده. ولأهمّية هذا الموضوع أذكر هذه الأحاديث التي ترسم صورة واضحة عن هذا المبحث:
عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «حدَّثني أبي، عن جدّي، قال: قال أمير المؤمنين (علیه السلام): سمّوا أولادكم قبل أن يولدوا، فإن لم تدروا أذكر أم أُنثىٰ فسمّوهم بالأسماء التي تكون للذكر والأُنثىٰ، فإنَّ
ص: 54
أسقاطكم إذا لقوكم يوم القيامة ولم تسمّوهم يقول السقط لأبيه: ألَا سمَّيتني! وقد سمّىٰ رسول الله (صلی الله علیه و آله) محسناً قبل أن يُولَد»(1).
وعن أبي الحسن (علیه السلام)، قال: «أوَّل ما يبرُّ الرجل ولده أن يُسمّيه باسم حسن، فليُحسِن أحدكم اسم ولده»(2).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «لا يُولَد لنا ولد إلَّا سمّيناه محمّداً، فإذا مضىٰ (لنا) سبعة أيّام فإن شئنا غيَّرنا وإن شئنا تركنا»(3).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) أنَّ النبيَّ (صلی الله علیه و آله) قال: «من وُلِدَ له أربعة أولاد لم يسمِّ أحدهم باسمي فقد جفاني»(4).
واستعمل معاوية مروان بن الحكم علىٰ المدينة، وأمره أن يفرض لشباب قريش، ففرض لهم، فقال عليُّ بن الحسين (علیهما السلام): «فأتيته، فقال: ما اسمك؟ فقلت: عليُّ بن الحسين، فقال: ما اسم أخيك؟ فقلت: عليٌّ، قال: عليٌّ وعليٌّ؟! ما يريد أبوك أن يدع أحداً من ولده إلَّا سمّاه عليّاً؟! ثمّ فرض لي، فرجعت إلىٰ أبي فأخبرته، فقال: ويلي علىٰ ابن الزرقاء دباغة الأدم، لو وُلِدَ لي مائة لأحببت أن لا أُسمّي أحداً منهم إلَّا عليّاً»(5).
وعن سليمان الجعفري، قال: سمعت أبا الحسن (علیه السلام) يقول: «لا يدخل الفقر بيتاً فيه اسم محمّد، أو أحمد، أو عليّ، أو الحسن، أو الحسين، أو جعفر، أو طالب، أو عبد الله، أو فاطمة من النساء»(6).
ص: 55
وعن جابر، قال: أراد أبو جعفر (علیه السلام) الركوب إلىٰ بعض شيعته ليعوده، فقال: «يا جابر، ألحقني»، فتبعته، فلمَّا انتهىٰ إلىٰ باب الدار خرج علينا ابن له صغير، فقال له أبو جعفر (علیه السلام): «ما اسمك؟»، قال: محمّد، قال: «فبما تُكنّىٰ؟»، قال: بعلي، فقال له أبو جعفر (علیه السلام): «لقد احتظرت من الشيطان احتظاراً شديداً، إنَّ الشيطان إذا سمع منادياً ينادي: يا محمّد يا عليُّ، ذاب كما يذوب الرصاص، حتَّىٰ إذا سمع منادياً ينادي باسم عدوٍّ من أعدائنا اهتزَّ واختال»(1).
ولأجل أهمّية هذا الموضوع، ورد النهي - بنحو الكراهة - عن التسمية ببعض الأسماء، لما فيها من دلالات سلبية، وورد أنَّ النبيَّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) غيَّر بعض الأسماء لأجل ذلك.
فعن ابن بكير، عن زرارة، قال: سمعت أبا جعفر (علیه السلام) يقول: «إنَّ رجلاً كان يُغشي عليَّ بن الحسين (علیهما السلام)، وكان يُكنّىٰ أبا مرَّة، فكان إذا استأذن عليه يقول: أبو مرَّة بالباب، فقال له عليُّ بن الحسين (علیه السلام): بالله إذا جئت إلىٰ بابنا فلا تقولنَّ: أبو مرَّة»(2).
وعن الإمام الباقر (علیه السلام)، قال: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يُغيِّر الأسماء القبيحة في الرجال والبلدان»(3).
ووفد علىٰ النبيِّ (صلی الله علیه و آله) رجل فقال: «ما اسمك؟»، فقال: بغيض، قال: «أنت حبيب، فسمّاه حبيباً»(4).
ص: 56
وأنت تعلم أنَّ المدينة المنوَّرة كانت تُسمّىٰ يثرب، فسمّاها النبيُّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) بعد هجرته إليها بالطيبة(1).
(جيم فارلي) ما إن بلغ الأربعين من عمره حتَّىٰ منحته أربع جامعاتٍ درجاتها الفخرية, وتمَّ تعيينه مديراً للبريد العامِّ في الولايات المتَّحدة، فما سرُّ نجاحه؟ كان يمتلك مقدرةً فائقةً علىٰ تذكُّر أسماء الناس. كان يلقىٰ الرجل فيتعرَّف علىٰ اسمه الكامل وأسماء أولاده وأهله المقرَّبين, ويستفسر عن عمله وميوله السياسية ونزعاته الفكرية، ثمّ يختزن كلَّ ذلك في ذاكرته حتَّىٰ إذا التقىٰ به ثانيةً سار الحديث بينهما وكأنَّه لم ينقطع عنه. فيسأله (جيم) عن أولاده وزوجته وأزهار حديقته, وفي لغة يشعر معها المسؤول بقرابته الفعلية من قلب (جيم) وعواطفه(2).
ص: 57
وهكذا إذا أردت أن يُحِبَّك الناس فاذكر أسماءهم، لأنَّ اسم الرجل هو من أقرب الطرق لكسبه.
إنَّ الناس إمَّا أصغر منك عمراً، وإمَّا بنفس عمرك، وإمَّا أكبر منك، وحتَّىٰ تدخل في قلوب هؤلاء جميعاً فإنَّك تحتاج إلىٰ أُسلوب مناسب مع كلِّ واحدٍ منهم، وقد تكفَّلت تربويات الدين ببيان ذلك.
أمَّا من هم أصغر منك، فهنا نقاط كثيرة، نذكر منها:
أوَّلاً: أن تحاكم بينهم فيما لو دعت الضرورة إلىٰ ذلك بالعدل، لأنَّهم عندما يأتون للكبير يريدون منه أن يتفاعل معهم، وأن ينصفهم، وأن يعاملهم وكأنَّهم كبار، فقد ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام): «أنَّ أمير المؤمنين (علیه السلام) ألقىٰ صبيان الكتاب ألواحهم بين يديه ليُخيِّر بينهم، فقال: أمَّا إنَّها حكومة! والجور فيها كالجور في الحكم! أبلغوا معلِّمكم إن ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب أقتصُّ منه»(1).
ثانياً: ينبغي أن يبدأ بالسلام عليهم، وليتأسَّ بالنبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله)، فإنَّه كان يُسلِّم علىٰ الصبيان لتكون سُنَّة من بعده(2).
ثالثاً: عدم التعنيف في المعاتبة عندما يُخطئ، فالطفل ليس معصوماً، وبالتالي سيقع في الخطأ، وليس صحيحاً أن أتغاضىٰ عن الخطأ، وإنَّما لا بدَّ من المعاتبة، ولكن كيف؟ يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «إذا عاتبت الحدث فاترك له موضعاً من ذنبه، لئلَّا يحمله الإخراج علىٰ المكابرة»(3).
ص: 58
رابعاً: العمل علىٰ إرضائه وتسكيته عندما يبكي، فإنَّ ذلك أكثر ما يُحبِّبك إلىٰ الأحداث، وفيه من الثواب ما لا يعلمه إلَّا الله تعالىٰ، يقول رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من بكىٰ صبي له فأرضاه حتَّىٰ يُسكِته أعطاه الله (عزوجلّ) من الجنَّة حتَّىٰ يرضىٰ»(1).
وخصوصاً إذا كان يتيماً، ف- «إنَّ في الجنَّة داراً يقال لها: دار الفرح، لا يدخلها إلَّا من فرَّح يتامىٰ المؤمنين»(2).
خامساً: الوفاء بالوعد معهم، وهو أمر مهمٌّ في مجال التربية والتعليم، فإنَّ الكذب بالوعد معهم يُبرِّر لهم الكذب في المستقبل، وحجَّتهم في ذلك الفعل الذي صدر من أبيهم أو من الرجل الكبير الذي كذب عليهم بالوعد، ولذا يقول رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أحبّوا الصبيان وارحموهم، وإذا وعدتموهم شيئاً ففوا لهم، فإنَّهم لا يدرون إلَّا أنَّكم ترزقونهم»(3).
سادساً: لا تكن منغِّصاً لفرحهم وسرورهم، وإن كان هذا علىٰ حساب كسر الكأس الجديد، أو إتلاف كتاب مهمّ عندك، فالطفل طفل وليس حكيماً! ولا أظنُّ أنَّهم يُفسِدون شيئاً فريداً في هذا الكون ولا يوجد ثانٍ له أو بديل!
أمَّا من هم أكبر منك، فقبل أن نذكر آداب التعامل معهم، لا بدَّ أن نتذكَّر أمرين مهمّين:
ص: 59
الأمر الأوَّل: إنَّ كبر السنِّ يُشكِّل صعوبة في التعامل - إذا صحَّ التعبير -، فالقرآن الكريم يُعبِّر عن تلك المرحلة ب- ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً﴾ (النحل: 70)، بمعنىٰ أنَّ الإنسان يبدأ طفلاً، وقد يعود طفلاً في يوم من الأيّام، وإن كان هذا لا يُعَدُّ قاعدة عامَّة، وإنَّما علىٰ الأقلِّ هو واقع معاش وطبيعي، خصوصاً إذا ضممنا إليه اختلاف الثقافات بين الأجيال. وهذا ما يؤدّي إلىٰ أن لا يقبل الكبير الكثير من التصرّفات من الشباب، أو يؤدّي إلىٰ صعوبة تعايش الشباب مع ثقافة الكبير الموروثة. من هنا ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام): «لا تقسروا أولادكم علىٰ آدابكم، فإنَّهم مخلوقون لزمان غير زمانكم»(1).
الأمر الثاني: ولكن رغم هذا، ورد التأكيد الشديد علىٰ ضرورة التعامل المناسب مع الكبير، سواء كان رحماً كالأب والأُمِّ، حيث أُمرنا بالتعامل معهم وفق التالي: ﴿وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً 23 وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً 24﴾ (الإسراء: 23 و24). أو غير رحم، من هنا ورد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم»(2)، «إنَّ من إجلالي توقير الشيخ من أُمَّتي»(3).
ص: 60
وعن الإمام الصادق (علیه السلام): «عظِّموا كباركم، وصلوا أرحامكم»(1)، «ليس منّا من لم يُوقِّر كبيرنا ويرحم صغيرنا»(2).
وحتَّىٰ تتَّضح الصورة نذكر عدَّة أُمور مهمَّة تُمثِّل آداب التعامل مع الكبير:
أوَّلاً: لا تستغلّ قوَّتك وخفَّة وزنك لتتقدَّم عليه عندما تمشي معه، بل انتظره وماشه وخذ بيده، وإلَّا فإنَّ القوس آتٍ إليك بلا ثمن!
ثانياً: استمع إليه إذا تحدَّث، ولا تُظهِر الضجر من حديثه وإن كان مملّاً! بل أظهر أنَّك مهتمٌّ بكلامه وبنصائحه. وأكثِر من استشارته، فلا شكَّ أنَّ له خبرة في الحياة أكثر منك بكثير.
ثالثاً: إن ظهر منه خطأ، فحاول أن تنصحه برفق وبأُسلوب غير مباشر، كما فعل الإمامان الحسنان (علیهما السلام) مع الشيخ الكبير في حادثة الوضوء المعروفة(3).
رابعاً: ساعده، واحمل الأشياء الثقيلة عنه، ولا تُكلِّفه بما لا يُطيقه!
وأمَّا الذين هم في سنِّك، فالتعامل معهم يكون وفق التالي:
أوَّلاً: اُنظر إلىٰ الجوانب المشرقة في تصرّفاتهم وأخلاقهم، ولا تنظر إلىٰ نقاط الضعف فيهم، ولا تُضخِّمها لو نظرت إليها، فإنَّ ذلك من أخلاق السفهاء، وهو مدعاة إلىٰ أن ينصرف عنك الناس، وخصوصاً من هم في عمرك، لأنَّهم لا يريدون أن ينظر أحد إلىٰ سلبياتهم، كما أنت كذلك تماماً.
ص: 61
وقد ورد أنَّ النبيَّ عيسىٰ (علیه السلام) مرَّ هو والحواريين علىٰ جيفة، فقالوا: ما أنتن ريح هذا الكلب! فقال عيسىٰ (علیه السلام): «ما أشدّ بياض أسنانه!»(1).
ثانياً: وإن أردت أن تنصحه علىٰ خطأ صدر منه، فكن له مرآة صافية صادقة، وأنت تعلم أنَّ المرآة تنقل الحدث إلىٰ الآخر مباشرةً ومن دون غشٍّ، ولكنَّها تنقله بصورة مؤدَّبة وبطريقة مهذَّبة لا تؤذي مشاعر الناظر فيها، فالنصح واجب، لكن بشرط أن يكون بطريقة مهذَّبة، ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾ (المؤمنون: 96).
ثالثاً: تجنَّب التصرّفات التي تؤذي مشاعرهم، كالشكِّ في تصرّفاتهم(2)، وذكر مساوئهم في حضرتهم - إذا كان غيركما في المجلس - أو في غيبتهم، أو حسدهم واستكثار ما في أيديهم، وقد قال جلَّ وعلا: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ 12﴾ (الحجرات: 12).
رابعاً: الحفاظ علىٰ قدر من الأُصول والروتين العامّ في علاقتك مع من هم في سنِّك من أصدقائك ومعارفك، ولا ترفع جميع الحجب فيما بينكم، لأنَّه يؤدّي إلىٰ ما لا تُحمَد عقباه، وقد قال الإمام الصادق
ص: 62
(علیه السلام): «لا تُذهِب الحشمة بينك وبين أخيك، وأبق منها، فإنَّ ذهاب الحشمة ذهاب الحياء، وبقاء الحشمة بقاء المودَّة»(1).
وفي هذا المجال ينبغي عدم التفريط بحقوقه اتِّكالاً علىٰ ما بينكما من المودَّة، كمن يستعمل حاجة صديقه من دون إذنه، أو يتصرَّف في شيء من أُموره من دون سابق إنذار.
والخلاصة: أنَّه لا بدَّ من الحفاظ علىٰ قدر من (الروتين العرفي) في العلاقات، وقد قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «لَا تُضِيعَنَّ حَقَّ أَخِيكَ اتِّكَالًا عَلَىٰ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَه، فَإِنَّه لَيْسَ لَكَ بِأَخٍ مَنْ أَضَعْتَ حَقَّه»(2).
خامساً: احتمال زلَّته وخطئه وقبول عذره لو أخطأ، فحاول سدّ الثغرات التي ربَّما تصدر منه، فإنَّ ذلك من أهمّ ركائز المودَّة من دون شكٍّ، وقد قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «إنَّ أخاك حقّاً من غفر زلَّتك، وسدَّ خلَّتك، وقبل عذرك، وستر عورتك، ونفىٰ وجلك، وحقَّق أملك»(3).
وينبغي أيضاً عدم تعنيفه في العتاب أو عند الخطأ إلَّا في طاعة الله والنهي عن معصيته، فإنَّ خير إخوانك من عنَّفك في طاعة الله - كما يقول أمير المؤمنين (علیه السلام) -(4).
والخلاصة:
إنَّ تربويات الدين أمرتنا باحترام الجميع. أمَّا من هم أكبر سنّاً منّا، فلأنَّهم أكثر خدمةً منّا للدين وأكثر طاعةً لله تعالىٰ. وأمَّا من هم
ص: 63
أصغر منّا، فلأنَّهم أقلّ ذنوباً منّا. وأمَّا الذين بأعمارنا، فلأنَّنا نعلم بذنوبنا ولا نعلم بذنوبهم!
يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «النَّاسُ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ»(1).
وروي أنَّ الله سبحانه أوحىٰ إلىٰ موسىٰ (علیه السلام): إذا جئت للمناجاة فاصحب معك من تكون خيراً منه، فجعل موسىٰ لا يعترض أحداً إلَّا وهو لا يجسر أن يقول: إنّي خير منه، فنزل عن الناس وشرع في أصناف الحيوانات حتَّىٰ مرَّ بكلب أجرب فقال: أصحب هذا، فجعل في عنقه حبلاً، ثمّ جرَّ به، فلمَّا كان في بعض الطريق شمَّر الكلب من الحبل وأرسله، فلمَّا جاء إلىٰ مناجاة الربِّ سبحانه قال: يا موسىٰ، أين ما أمرتك به؟ قال: يا ربِّ، لم أجده. فقال الله تعالىٰ: وعزَّتي وجلالي لو أتيتني بأحد لمحوتك من ديوان النبوَّة»(2).
وهنا ملاحظة مهمَّة:
في هذا المجال، وهي أنَّه لا بدَّ للإنسان أن يوازن بين العزَّة المطلوبة منه كمؤمن ﴿وَلِلهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (المنافقون: 8)، وبين التواضع الذي كنّا نتكلَّم فيه الآن، وإلىٰ هذا المعنىٰ يشير الإمام السجّاد (علیه السلام) في دعاء مكارم الأخلاق: «اللّهمّ صلِّ علىٰ محمّد وآله، ولا ترفعني في الناس درجة إلَّا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تُحدِث لي عزّاً ظاهراً إلَّا أحدثت لي ذلَّة باطنة عند نفسي بقدرها»(3).
ص: 64
فالرفعة والعزَّة الظاهرية لا بدَّ أن يقابلها حطَّة وذلَّة باطنية اتِّجاه من وهب لك تلك العزَّة، وما يستتبع ذلك من تودَّد لخلق الله تعالىٰ.
وهذه الطرق تعتمد علىٰ مبدأ «مَنْ جَادَ سَادَ»(1)، وعلىٰ مبدأ «جُبِلت القلوب علىٰ حبِّ من أحسن إليها»(2)، وتنطوي تحت هذا النوع الكثير من الأُمور والأفعال، نذكر المهمّ منها:
فقديماً قالوا:
أحسن إلىٰ الناس تستعبد قلوبهم *** فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
والإحسان محبَّة، وبه تُملَك القلوب، ومن كثر إحسانه أحبَّه إخوانه، وكثر خدمه وأعوانه، واستدام منهم المحبَّة - كما يقول أمير المؤمنين (علیه السلام) -(3).
وليس مهمّاً كمُّ الإحسان الذي تُقدِّمه بقدر ما هو مهمّ كيف يكون ذلك الإحسان، وبأيَّة طريقة تُقدِّمه، فإنَّه ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ 263﴾ (البقرة: 263).
والله (عزوجلّ) يقول: ﴿وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ 93﴾ (المائدة: 93).
وقال الإمام عليّ (علیه السلام): «امنن علىٰ من شئت تكن أميره»(4).
هذا فضلاً عن أنَّ الإحسان وظيفة لازمة في حقِّ من أحسن الله
ص: 65
تعالىٰ إليه، يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «أحقُّ الناس بالإحسان من أحسن الله إليه، وبسط بالقدرة يديه»(1).
وتذكَّر أنَّك لن تستطيع أن تسع الناس بأموالك، فسعهم بأخلاقك.
ومن الإحسان المكافأة علىٰ الصنائع، بمعنىٰ أن تُرجِع إحسان من أحسن إليك بأزيد منه، ﴿وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً 86﴾ (النساء: 86)، وترك ذلك يقطع سبيل المعروف - كما قالوا -(2).
كما أنَّ الشجرة تحتاج إلىٰ تعهّد بالسقي، كذلك الرحم يحتاج إلىٰ مواصلة الصلة، حتَّىٰ لو قطعك أحدهم، فما بالك لا تصبح أفضل منه وأقرب إلىٰ الله تعالىٰ فتصله وإن قطعك.
ولا بدَّ أن يكون التواصل بصورة مهذَّبة - بالصورة التي تقدَّمت في أدبيات الزيارة -.
واليوم لا عذر لمن يقطع رحمه، فإنَّ وسائل الاتِّصال وفَّرت الكثير من الوقت والمال في سبيل ذلك، فاتِّصال هاتفي دوري تجريه مع أرحامك كفيل باستمرار علاقتك معهم وإن لم تصلهم ميدانياً، وطبعاً الفضل يبقىٰ للوصلة الميدانية، فإنَّ فيها تصريحاً بالحبِّ وعملاً به.
يقول الإمام عليّ (علیه السلام): «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّه لَا يَسْتَغْنِي الرَّجُلُ وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ عَنْ عِتْرَتِه، وَدِفَاعِهِمْ عَنْه بِأَيْدِيهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ، وَهُمْ أَعْظَمُ
ص: 66
النَّاسِ حَيْطَةً مِنْ وَرَائِه وأَلمُّهُمْ لِشَعَثِه، وَأَعْطَفُهُمْ عَلَيْه عِنْدَ نَازِلَةٍ إِذَا نَزَلَتْ بِه، وَلِسَانُ الصِّدْقِ يَجْعَلُه اللهُ لِلْمَرْءِ فِي النَّاسِ خَيْرٌ لَه مِنَ المَالِ يَرِثُه غَيْرُه. أَلَا لَا يَعْدِلَنَّ أَحَدُكُمْ عَنِ الْقَرَابَةِ يَرَىٰ بِهَا الْخَصَاصَةَ، أَنْ يَسُدَّهَا بِالَّذِي لَا يَزِيدُه إِنْ أَمْسَكَه، وَلَا يَنْقُصُه إِنْ أَهْلَكَه، وَمَنْ يَقْبِضْ يَدَه عَنْ عَشِيرَتِه فَإِنَّمَا تُقْبَضُ مِنْه عَنْهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ، وَتُقْبَضُ مِنْهُمْ عَنْه أَيْدٍ كَثِيرَةٌ، وَمَنْ تَلِنْ حَاشِيَتُه يَسْتَدِمْ مِنْ قَوْمِه المَوَدَّةَ»(1).
والروايات الشريفة الحاثَّة علىٰ صلة الرحم أكثر من أن نُحصيها في هذه العجالة، وهي تذكر الكثير من الثمرات علىٰ ذلك، نذكر منها:
يقول الإمام الباقر (علیه السلام): «صلة الأرحام تُزكّي الأعمال، وتُنمّي الأموال، وتدفع البلوىٰ، وتُيسِّر الحساب، وتُنسئ في الأجل»(2).
ويقول الإمام الصادق (علیه السلام): «صلة الأرحام تُحسِّن الخُلُق وتسمح الكفّ، وتُطيب النفس، وتزيد في الرزق، وتُنسئ في الأجل»(3).
ويقول (علیه السلام): «إنَّ صلة الرحم والبرَّ ليُهوِّنان الحساب، ويعصمان من الذنوب، فصِلوا أرحامكم، وبرّوا بإخوانكم، ولو بحسن السلام وردِّ الجواب»(4).
ويقول رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إنَّ المرء ليصل رحمه وما بقي من عمره إلَّا ثلاثة أيّام فيُنسئه الله ثلاثين سنة، وإنَّ الرجل ليقطع الرحم وقد بقي من عمره ثلاثون سنة فيُصيِّره الله إلىٰ ثلاثة أيّام»(5).
ص: 67
ولها تأثير عجيب، فهي تُذهِب بالسمع والبصر والقلب، وما يفعله الناس من تبادل الهدايا في المناسبات وغيرها أمر محمود، بل ومندوب إليه علىٰ أن لا يُكلِّف نفسه إلَّا وسعها، ومن اللطيف ما نراه في مجتمعاتنا من أنَّ أحدنا إذا ذهب للحجِّ أو للزيارة مثلاً جلب معه هدايا ولو رمزية يُقدِّمها لمن يزوره، والناس تُحِبُّ الذهاب إلىٰ من يعطيهم هدايا، وهل رأيت الناس تتكالب علىٰ شخص قدم من سفر من دون هدايا؟!
وهكذا تعوَّدت مجتمعاتنا علىٰ تقديم هدايا للمولود الجديد، أو حين الختان، أو عند الزواج، أو أنَّهم يأخذون معهم بعض الهدايا للمريض عندما يزورونه(1)، وغيرها العديد من العادات الحسنة.
وهذا ما أكَّدته ودعت إليه الروايات الشريفة، فعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الهدية تُذهِب الضغائن من الصدور»(2).
وعنه (صلی الله علیه و آله): «الهدية تورث المودَّة، وتُجدِّد الأُخوَّة، وتُذهِب الضغينة، تهادوا تحابّوا»(3).
وعن الإمام عليٍّ (علیه السلام): «لأن أُهدي لأخي المسلم هدية تنفعه أحبُّ إليَّ من أن أتصدَّق بمثلها»(4).
ص: 68
وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الهدية علىٰ ثلاثة أوجه: هدية مكافأة، وهدية مصانعة، وهدية لله (عزوجلّ) »(1).
ثمّ إنَّ الهدية لها مفهوم واسع ينطبق علىٰ العديد من الفقرات، منها ما ورد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ما أهدىٰ مسلم لأخيه هدية أفضل من كلمة حكمة، يزيده الله بها هدىٰ، أو يردّه بها عن ردىٰ»(2).
وفي الرواية أنَّ جبرئيل (علیه السلام) قال للنبيِّ (صلی الله علیه و آله): يا رسول الله، إنَّ الله تبارك وتعالىٰ أرسلني إليك بهدية لم يُعطِها أحداً قبلك، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «قلت: وما هي؟ قال: الصبر، وأحسن منه. قلت: وما هو؟ قال: الرضا، وأحسن منه. قلت: وما هو؟ قال: الزهد، وأحسن منه. قلت: وما هو؟ قال: الإخلاص، وأحسن منه. قلت: وما هو؟ قال: اليقين، وأحسن منه. قلت: وما هو يا جبرئيل؟ قال: إنَّ مدرجة ذلك التوكّل علىٰ الله (عزوجلّ)، فقلت: وما التوكّل علىٰ الله (عزوجلّ) ؟ فقال: العلم بأنَّ المخلوق لا يضرُّ ولا ينفع ولا يُعطي ولا يمنع، واستعمال اليأس من الخلق...»(3).
وحيث إنَّ في الهدية نوع منَّة وتكرّم، فقد ورد النهي عن قبول هدايا المشركين والكفّار من أهل الحرب، فعن الإمام الصادق (علیه السلام): «... كان عياض رجلاً عظيم الخطر، وكان قاضياً لأهل عكاظ في الجاهلية، فكان عياض إذا دخل مكّة ألقىٰ عنه ثياب الذنوب والرجاسة، وأخذ ثياب رسول الله (صلی الله علیه و آله) لطهرها، فلبسها وطاف بالبيت ثمّ يردّها
ص: 69
عليه إذا فرغ من طوافه. فلمَّا أن ظهر رسول الله (صلی الله علیه و آله) أتاه عياض بهدية، فأبىٰ رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يقبلها، وقال: يا عياض، لو أسلمتَ لقبلتُ هديتك، إنَّ الله (عزوجلّ) أبىٰ لي زبد المشركين، ثمّ إنَّ عياضاً بعد ذلك أسلم وحسن إسلامه، فأهدىٰ إلىٰ رسول الله (صلی الله علیه و آله) هدية، فقبلها منه»(1).
إنَّ الروايات الواردة في شأن السخاء كثيرة جدّاً، وأنت عندما تقرأ في آثار السخاء تجد العجب العجاب، وحتَّىٰ تتَّضح الصورة نُنقِّط البحث فيه بعدَّة نقاط:
إنَّ صفة السخاء من الصفات التي تُحبِّب السخيَّ إلىٰ الله تعالىٰ وإلىٰ رسوله (صلی الله علیه و آله) وإلىٰ الناس، فعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «السخيُّ قريب من الله، قريب من الجنَّة، قريب من الناس»(2).
وعن الإمام الصادق (علیه السلام): «إنَّ الله يُحِبُّ إطعام الطعام، وإراقة الدماء بمنىٰ»(3).
وعن أمير المؤمنين (علیه السلام): «السخاء يُكسِب المحبَّة، ويَزين الأخلاق»(4).
وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الرزق أسرع إلىٰ من يُطعِم الطعام من السكّين في السنام»(5).
ص: 70
والسخاء من الصفات التي تجرُّ نحو دين التوحيد، فقد روي أنَّ جماعة أُسارىٰ جيء بهم إلىٰ رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأمر أمير المؤمنين (علیه السلام) بضرب أعناقهم، ثمّ أمره بإفراد واحد منهم وأن لا يقتله، فقال الرجل: لِمَ أفردتني من أصحابي والجناية واحدة؟ فقال: «إنَّ الله (عزوجلّ) أوحىٰ إليَّ أنَّك سخيُّ قومك و[أن] لا أقتلك»، فقال الرجل: فإنّي أشهد أن لا إله إلَّا الله وأنَّك رسول الله، قال: فقاده سخاؤه إلىٰ الجنَّة(1).
وهو بالتالي ممَّا يشفع للإنسان عند الله تعالىٰ، فقد روي أنَّه «أوحىٰ الله (عزوجلّ) إلىٰ موسىٰ (علیه السلام): أن لا تقتل السامري فإنَّه سخيٌّ»(2).
وأنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال لعدي بن حاتم طيء: «إنَّ الله دفع عن أبيك العذاب الشديد، لسخاء نفسه!»(3).
وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إنَّ أهون أهل النار عذاباً عبد الله بن جذعان»، فقيل له: ولِمَ يا رسول الله؟ قال: «إنَّه كان يُطعِم الطعام»(4).
إنَّ من أهمّ مفردات السخاء هو الإطعام، بل لعلَّه المصداق الأبرز للسخاء، ومن دون إطعام يصعب أن نُسمّي أحداً سخيّاً! يقول الإمام عليّ (علیه السلام): «لذَّة الكرام في الإطعام، [و]لذَّة اللئام في الطعام»(5).
ص: 71
وفي قضيَّة الإطعام لا بدَّ أن نلتفت إلىٰ:
أوَّلاً: أنَّ الشريعة قد شرَّعت عدَّة أنواع للإطعام في مناسبات خاصَّة، وكأنَّها جعلت من هذه المناسبات أوقاتاً رسمية لإقامة الولائم، وهي وإن لم تكن واجبة، ولكنَّها من المستحبّات التي تجرُّ محبَّة الناس بلا شكٍّ، فعن الإمام عليّ بن أبي طالب (علیه السلام)، عن النبيِّ (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال في وصيَّته له: «يا عليُّ، لا وليمة إلَّا في خمس: في عرس، أو خرس، أو عذار، أو وكار، أو ركاز. والعرس التزويج، والخرس النفاس بالولد، والعذار الختان، والوكار في شراء الدار، والركاز الذي يقدم من مكّة»(1).
ثانياً: ومن هذا يتبيَّن أنَّه ليس من السُّنَّة أن يأكل أحدنا في (الفاتحة)، بل علىٰ العكس، السُّنَّة أن يصنع الجيران والأقرباء الطعام لأصحاب المصيبة ويبعثونه إليهم، فقد روي أنَّه لمَّا قُتِلَ جعفر الطيّار (صلوات الله عليه) قال النبيُّ الأكرم (صلی الله علیه و آله): «اتَّخذوا لآل جعفر طعاماً، فقد شُغِلوا»(2).
ثالثاً: هناك مفردات للإطعام - غير ما ذُكِرَ في الرواية المتقدِّمة - ينبغي أن يداوم عليها الإنسان ما أمكنه إلىٰ ذلك سبيلاً، خصوصاً وإنَّ
ص: 72
بعضها تُعَدُّ من الواجبات العرفية، مثل إطعام الضيف وإكرامه، وكدعوة الإخوة المؤمنين(1)، وكإطعام الصائم في إفطار شهر رمضان(2)، وكإطعام اليتيم(3)، وإطعام الجائع(4).
فعن الإمام الصادق (علیه السلام): «من أطعم مسلماً حتَّىٰ يُشبِعه لم يدرِ أحد من خلق الله ما له من الأجر في الآخرة، لا ملك مقرَّب ولا نبيٌّ مرسل إلَّا الله ربّ العالمين...»، ثمّ تلا قول الله (عزوجلّ): ﴿أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ 14﴾ [البلد: 14]»(5).
عن حسين بن نعيم الصحّاف، قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): «أتُحِبُّ إخوانك يا حسين؟»، قلت: نعم، قال: «تنفع فقراءهم؟»، قلت: نعم، قال: «أمَا إنَّه يحقُّ عليك أن تُحِبَّ من يُحِبُّ الله، أمَا والله لا تنفع منهم
ص: 73
أحداً حتَّىٰ تُحِبَّه، أتدعوهم إلىٰ منزلك؟»، قلت: نعم ما آكل إلَّا ومعي منهم الرجلان والثلاثة والأقلّ والأكثر، فقال أبو عبد الله: «أمَا إنَّ فضلهم عليك أعظم من فضلك عليهم»، فقلت: جُعلت فداك، أطعمهم طعامي وأوطئهم رحلي، ويكون فضلهم عليَّ أعظم؟! قال: «نعم إنَّهم إذا دخلوا منزلك دخلوا بمغفرتك ومغفرة عيالك، وإذا خرجوا من منزلك خرجوا بذنوبك وذنوب عيالك»(1).
الإنسان اجتماعي بطبعه، والعلاقات الاجتماعية عرىٰ منفصلة، إلَّا إذا عملت علىٰ وصلها بعضها مع البعض الآخر، وممَّا يجعلها متَّصلة ويساعد علىٰ ديمومتها: قضاء الحاجة.
والإسلام قد شجَّع علىٰ قضاء حاجة الأخ المؤمن، ليس فقط لأنَّها تُحبِّبك إلىٰ الناس، وإنَّما لأنَّها تُقرِّبك من الله تعالىٰ والرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الطاهرين (علیهم السلام)، كما ستعرف ذلك بعد قليل إن شاء الله تعالىٰ.
عن الإمام الصادق (علیه السلام) - في حديث طويل -: «لأن أسعىٰ مع أخ لي في حاجة حتَّىٰ تُقضىٰ أحبُّ إليَّ من أن أعتق ألف نسمة، وأحمل علىٰ ألف فرس في سبيل الله مسرجة ملجمة»(2).
وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من سعىٰ في حاجة أخيه المسلم فكأنَّما عبد الله (عزوجلّ) تسعة آلاف سنة، صائماً نهاره قائماً ليله»(3).
وعن الإمام الصادق (علیه السلام): «قضاء حاجة المؤمن أفضل من ألف
ص: 74
حجَّة متقبّلة بمناسكها، وعتق ألف رقبة لوجه الله، وحملان ألف فرس في سبيل الله بسرجها ولجمها»(1).
وعنه (علیه السلام): «أيّما رجل مسلم أتاه رجل مسلم في حاجة، وهو يقدر علىٰ قضائها، فمنعه إيّاها، عيَّره الله يوم القيامة تعييراً شديداً، وقال له: أتاك أخوك في حاجة قد جعلتُ قضاءها في يدك، فمنعته إيّاها زهداً منك في ثوابها، وعزَّتي لا أنظر إليك اليوم في حاجة معذَّباً كنت أو مغفوراً لك»(2).
وعن الإمام الكاظم (علیه السلام): «من قصد إليه رجل من إخوانه مستجيراً به في بعض أحواله، فلم يجره بعد أن يقدر عليه، فقد قطع ولاية الله (عزوجلّ) »(3).
1 - نسبتها إلىٰ الله (عزوجلّ) لأنَّه تعالىٰ هو الذي يعين علىٰ التوفيق لذلك، وهذا أدب تعلَّمناه من أحد أصحاب الإمام الصادق (علیه السلام)، وهو صفوان بن مهران الجمّال، الذي لمَّا قضىٰ حاجة أحد إخوانه، نسب ذلك إلىٰ الله (عزوجلّ)، حيث ورد عن صفوان الجمّال، قال: كنت جالساً مع أبي عبد الله (علیه السلام) إذ دخل عليه رجل من أهل مكّة يقال له: ميمون، فشكا إليه تعذّر الكراء عليه، فقال لي: «قم فأعن أخاك»، فقمت معه، فيسَّر الله كراه، فرجعت إلىٰ مجلسي، فقال أبو عبد الله (علیه السلام): «ما صنعت في حاجة أخيك؟»، فقلت: قضاها الله بأبي أنت وأُمّي. فقال:
ص: 75
«أمَا إنَّك أن تعين أخاك المسلم أحبُّ إليَّ من طواف أُسبوع بالبيت مبتدئاً»(1).
2 - أن تكون لوجه الله تعالىٰ، فإنَّ أيَّ أمر إذا كان لوجه الله تعالىٰ فهو خالد ما بقي الدهر، فأهل البيت (علیهم السلام) بماذا تصدَّقوا حتَّىٰ أنزل الله تعالىٰ فيهم سورة الدهر؟! هل تصدَّقوا بأموال طائلة، أم ببيوتٍ فارهة، أم بذهب وفضَّة؟! كلَّا، إنَّما تصدَّقوا بكسرات من خبز الشعير علىٰ مسكين ويتيم وأسير! ولكن لماذا خُلِّدت هذه الصدقة؟ دعونا نستفتي القرآن في ذلك! إنَّه يقول في سبب ذلك: ﴿إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً 9﴾ (الإنسان: 9).
إذن هذا السبب، إنَّه (لوجه الله)!
3 - قضاء حاجة المؤمن كرامة لأهل البيت (علیهم السلام)، فإنَّها من مقتضيات التشيّع، وهي تسرّهم وتُفرِحهم، ولا حاجة إلىٰ أكثر من كونه شيعياً وموالياً لأهل البيت (علیهم السلام) حتَّىٰ أُواسيه بأموالي، فعن الإمام الصادق (علیه السلام): «امتحنوا شيعتنا عند ثلاث: عند مواقيت الصلاة كيف محافظتهم عليها، وعند أسرارهم كيف حفظهم لها عند عدوِّنا، وإلىٰ أموالهم كيف مواساتهم لإخوانهم فيها»(2).
ومن ألطف ما ورد في قضاء الإخوة حاجة بعضهم، ما في كتاب قضاء حقوق المؤمنين لأبي عليّ بن طاهر الصوري بإسناده عن رجل من أهل الريِّ، قال: ولي علينا بعض كتّاب يحيىٰ بن خالد، و كان عليَّ بقايا يطالبني بها، وخفت من إلزامي إيّاها خروجاً عن نعمتي، وقيل لي: إنَّه
ص: 76
ينتحل هذا المذهب، فخفت أن أمضي إليه فلا يكون كذلك فأقع فيما لا أُحِبُّ، فاجتمع رأيي علىٰ أنّي هربت إلىٰ الله تعالىٰ وحججت ولقيت مولاي الصابر - يعني موسىٰ بن جعفر (علیه السلام) -، فشكوت حالي إليه، فأصحبني مكتوباً نسخته: «بسم الله الرحمن الرحيم، اعلم أنَّ لله تحت عرشه ظلًّا لا يسكنه إلَّا من أسدىٰ إلىٰ أخيه معروفاً أو نفَّس عنه كربة، أو أدخل علىٰ قلبه سروراً، وهذا أخوك، والسلام».
قال: فعدت من الحجِّ إلىٰ بلدي، ومضيت إلىٰ الرجل ليلاً، واستأذنت عليه، وقلت: رسول الصابر (علیه السلام) ! فخرج إليَّ حافياً ماشياً، ففتح لي بابه، وقبَّلني وضمَّني إليه، وجعل يُقبِّل بين عيني، ويُكرِّر ذلك كلَّما سألني عن رؤيته (علیه السلام) وكلَّما أخبرته بسلامته، وصلاح أحواله، استبشر، وشكر الله، ثمّ أدخلني داره وصدَّرني في مجلسه وجلس بين يدي، فأخرجت إليه كتابه (علیه السلام)، فقبَّله قائماً وقرأه، ثمّ استدعىٰ بماله وثيابه، فقاسمني ديناراً ديناراً، ودرهماً درهماً، وثوباً ثوباً، وأعطاني قيمة ما لم يمكن قسمته، وفي كلِّ شيء من ذلك يقول: يا أخي هل سررتك؟ فأقول: إي والله، وزدت علىٰ السرور، ثمّ استدعىٰ العمل فأسقط ما كان باسمي وأعطاني براءة ممَّا يتوجَّه عليَّ منه، وودَّعته، وانصرفت عنه.
فقلت: لا أقدر علىٰ مكافاة هذا الرجل إلَّا بأن أحجَّ في قابل وأدعو له وألقىٰ الصابر (علیه السلام) وأُعرِّفه فعله، ففعلت، ولقيت مولاي الصابر (علیه السلام)، وجعلت أُحدِّثه ووجهه يتهلَّل فرحاً، فقلت: يا مولاي، هل سرَّك ذلك؟ فقال: «إي والله، لقد سرَّني وسرَّ أمير المؤمنين، والله لقد سرَّ جدّي رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ولقد سرَّ الله تعالىٰ»(1).
ص: 77
4 - أن تكون بلا منَّة، فإنَّها من مبطلات العمل، يقول تعالىٰ:
﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ263﴾ (البقرة: 263).
ومن دعاء الإمام السجّاد (علیه السلام) في دعاء مكارم الأخلاق: «وَأَجْرِ لِلْناسِ عَلىٰ يَدَيَّ الخَيْرَ، وَلَا تَمْحَقْهُ بِالمَنِّ، وَهَبْ لِي مَعالِي الأَخْلاقِ، وَاعْصِمْنِي مِنَ الفَخْرِ»(1).
5 - أن تكون سرّية مهما أمكن إلَّا إذا قصد من إظهارها تشجيع غيره علىٰ قضاء حوائج الإخوان، فإنَّ خير الصدقة ما كانت سرّاً، فقد روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إنَّ صدقة السرِّ في التطوّع تفضل علانيتها بسبعين ضعفاً...»(2).
6 - أن تبادر بها، ولا تُكلِّف أخاك أن يسألكها إذا علمت بها، فعن الإمام عليٍّ (علیه السلام): «لا يُكلِّف أحدكم أخاه الطلب إذا عرف حاجته»(3).
* * *
ص: 78
ص: 79
هذه الحياة..
بُنيت علىٰ قانون لا يقبل التخصيص..
إنَّه قانون: التغيير..
فكلُّ ما في الوجود الإمكاني لا ثبات له..
وكما قالوا في الفلسفة: لا يوجد ثابت إلَّا قانون التغيّر!
وبنظرة عابرة للوجود يتبيَّن لك صدق هذا الكلام، فالظروف الجوّية دائمة التقلّب، والحضارات تموت وتُحيىٰ غيرها، والحجر - هذا الذي نراه بأعيننا وكأنَّه ثابت - أثبت علم الفيزياء أنَّ جزيئاته دائمة التحرّك وإن كانت بصورة بطيئة، والإنسان دائم التغيّر وإن كان يحسب نفسه ثابتاً.
فالكون كلّه في حركة مستمرَّة وتغيّر دائم، ولولا ذلك لأصبحت الحياة مملَّة ولا طعم لها، ولذا قالوا: إنَّك لن تعرف طعم العافية حتَّىٰ تذوق البلاء، ولن تعرف طعم الصحَّة حتَّىٰ تتجرَّع المرض، ولن تذوق طعم الأمن حتَّىٰ تتوسَّد الخوف!
فبهذا التغيّر المستمرّ يكون للحياة معنىٰ!
هكذا أراد الله تعالىٰ..
ولسنا الآن في صدد الإسهاب في هذه السُّنَّة، إنَّما نريد القول:
إنَّ قلوب البشر تخضع لهذه السُّنَّة، هي في حركة مستمرَّة، وتغيّر
ص: 80
دائم، ولذا نجد أنَّ للقلوب صفات عديدة، كالقساوة والموت والحياة والتذلّل والقوَّة والضعف والانتكاسة وغيرها(1).
وفي هذا المعنىٰ يقول رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إنَّما سُمّي القلب من تقلّبه، إنَّما مثل القلب مثل ريشة بالفلاة تعلَّقت في أصل شجرة يُقلِّبها الريح ظهراً لبطن»(2).
ص: 81
ونحن في صدد نوع من أنواع هذه الصفات للقلوب، وهي صفة: الإدبار والإقبال، فهذا ما يتعلَّق بموضوع بحثنا.
إنَّ لإقبال القلوب وإدبارها جانبين: جانباً مع الله تعالىٰ، وجانباً مع البشر:
يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «إِنَّ لِلْقُلُوبِ إِقْبَالاً وَإِدْبَاراً، فَإِذَا أَقْبَلَتْ فَاحْمِلُوهَا عَلَىٰ النَّوَافِلِ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاقْتَصِرُوا بِهَا عَلَىٰ الْفَرَائِضِ»(1).
لقد خلق الله تعالىٰ البشر علىٰ الفطرة، ومعه، فالمفروض أن تكون القلوب دائمة التعلّق بالله تعالىٰ، ولا تنحرف عن طريق الفطرة، خصوصاً إذا علمنا أنَّ الله تعالىٰ يُحِبُّ البشر، وليس عنده عداوة مع أحد منهم لذاته. ومن هنا، فيمكن القول: إنَّ الحالة الأوَّلية المفروضة للقلوب هي الإقبال علىٰ الله تعالىٰ، ونحن لا نريد أن نبحث لماذا تقبل القلوب علىٰ الله تعالىٰ؟ فإنَّها حالة صحّية وغاية لكلِّ مؤمن، ولها أسبابها كما هو واضح.
إنَّما المهمّ أن نبحث: لماذا تُدبِر القلوب عن الله تعالىٰ وتميل عن المنهج التوحيدي؟
فإنَّ هذه حالة مرضية، لا بدَّ من البحث عن أسبابها، حتَّىٰ يتمكَّن من يريد الهداية من علاج نفسه لو وجد قلبه مدبراً عن الله تعالىٰ.
ص: 82
وهنا أمران ينبغي الالتفات إليهما:
1 - إنَّ إدبار القلوب عن الله تعالىٰ يعني فيما يعنيه أنَّ الله تعالىٰ معرض عن هكذا قلوب، وإعراضه تعالىٰ عنها يعني سلب التوفيق منها.
2 - حيث إنَّ الحكم الأوَّلي للبشر هو أنَّهم علىٰ الفطرة، فنستكشف من هذا أنَّ إدبار القلوب يكون سببه من البشر أنفسهم، وأمَّا من جهة الله تعالىٰ فليس إلَّا الخير، ولعلَّه إلىٰ هذا المعنىٰ يشير قوله تعالىٰ: ﴿ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً 79﴾ (النساء: 79).
وفي الحديث القدسي: «يا ابن آدم... ما أصابك من سيِّئة فمن نفسك، وذاك أنّي أولىٰ بحسناتك منك وأنت أولىٰ بسيِّئاتك منّي...»(1).
وفي دعاء أبي حمزة الثمالي: «تَتَحَبَّبُ إِلَيْنا بِالنِّعَمِ وَنُعارِضُكَ بِالذُّنُوبِ، خَيْرُكَ إِلَيْنا نازِلٌ وَشَرُّنا إِلَيْكَ صاعِدٌ، وَلَمْ يَزَلْ وَلَا يزالُ مَلَكٌ كَرِيمٌ يَأْتِيكَ عَنّا بِعَمَلٍ قَبِيحٍ، فَلا يَمْنَعُكَ ذلِكَ مِنْ أَنْ تَحُوطَنا بِنِعْمَتِكَ، وَتَتَفَضَّلَ عَلَيْنا بِآلائِكَ، فَسُبْحانَكَ ما أَحْلَمَكَ وَأَعْظَمَكَ وَأَكْرَمَكَ مُبْدِئاً وَمُعِيداً، تَقَدَّسَتْ أَسْماؤُكَ وَجَلَّ ثَناؤُكَ...»(2).
من هنا، يمكن أن نُجمِل القول في أسباب إدبار القلوب عن الله تعالىٰ، بأنَّها الذنوب. وقد أكَّدت الروايات الشريفة ذلك، يقول الإمام الصادق (علیه السلام) في ذلك: «إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت، وإن زاد زادت حتَّىٰ تغلب علىٰ قلبه، فلا يفلح بعدها أبداً»(3).
ص: 83
وأمَّا تفصيل ذلك، فإنَّ أحسن مَنْ فصَّلها هو الإمام السجّاد (علیه السلام) في بعض فقرات دعائه المعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي، حيث يقول:
«اللّهُمَّ إِنِّي كُلَّما قُلْتُ قَدْ تَهَيّأْتُ وَتَعَبَّأْتُ وَقُمْتُ للصَّلاةِ بَيْنَ يَدَيْكَ وَناجَيْتُكَ، أَلْقَيْتَ عَلَيَّ نُعاساً إِذا أَنا صَلَّيْتُ، وَسَلَبْتَنِي مُناجاتَكَ إِذا أَنا ناجَيْتُ، وَما لِي كُلَّما قُلْتُ قَدْ صَلُحَتْ سَرِيرَتِي، وَقَرُبَ مِنْ مَجالِسِ التَّوّابِينَ مَجْلِسِي، عَرَضَتْ لِي بَلِيَّةٌ أَزالَتْ قَدْمِي، وَحالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ خِدْمَتِكَ، سَيِّدِي لَعَلَّكَ عَنْ بابِكَ طَرَدْتَنِي، وَعَنْ خِدْمَتِكَ نَحَّيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي مُسْتَخِفًّا بِحَقَّكَ فَأَقْصَيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأيْتَنِي مُعْرِضاً عَنْكَ فَقَلَيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ وَجَدْتَنِي فِي مَقامِ الكاذِبِينَ فَرَفَضْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي غَيْرَ شاكِرٍ لِنَعْمائِكَ فَحَرَمْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ فَقَدْتَنِي مِنْ مَجالِسِ العُلَماءِ فَخَذَلْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي فِي الغافِلِينَ فَمِنْ رَحْمَتِكَ آيَسْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي آلِفُ مَجالِسَ البَطَّالِينَ فَبَيْنِي وَبَيْنَهُمْ خَلَّيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ لَمْ تُحِبَّ أَنْ تَسْمَعَ دُعائِي فَباعَدْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ بِجُرْمِي وَجَرِيرَتِي كافَيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ بِقِلَّةِ حَيائِي مِنْكَ جازَيْتَنِي...» (1).
هذه الفقرات توحي لنا بعدَّة أسباب لإدبار القلب عن الباري جلَّ وعلا، فالله تعالىٰ يسلب العبد التوفيق إذا رآه علىٰ بعض الأحوال التي ذكرها الإمام السجّاد (علیه السلام)، تلك الأحوال التي تُسبِّب الطرد الإلهي عن مقام الخدمة، «لَعَلَّكَ عَنْ بابِكَ طَرَدْتَنِي، وَعَنْ خِدْمَتِكَ نَحَّيْتَنِي»، ولكن، لماذا يطرد العبد ويسلب التوفيق ويجعل قلبه مدبراً؟
يذكر الإمام (علیه السلام) عدَّة أسباب لذلك، وبالتدبّر نجد أنَّ هذه الأسباب التي ذكرها الإمام (علیه السلام) هي أسباب تراتبية، بمعنىٰ أنَّ أحدها
ص: 84
يؤدّي إلىٰ الآخر، وهكذا فهي سلسلة من الأسباب مترابطة فيما بينها، وبالتالي فمن أراد الابتعاد عن منفِّرات القلب وما يجعله مدبراً عن الله تعالىٰ، فعليه أن يبدأ بأوَّل هذه الأسباب فينفيها عن قلبه، ثمّ يستمرّ بنفيها واحداً تلو الآخر.
وتلك الأسباب هي:
«لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي مُسْتَخِفًّا بِحَقَّكَ فَأَقْصَيْتَنِي»:
إنَّ لله تعالىٰ علينا حقوقاً لا تُعَدُّ ولا تُحصىٰ، فله علينا حقُّ الخلق والرزق والعافية والقدرة والعلم والإرادة و...، ولا يمكن لأحد أن يُحصي حقوقه جلَّ وعلا، ولكن الرحمة الإلهيَّة أبت إلَّا تسهيلاً للعباد، وحتَّىٰ يكون بمقدور العبد أن يؤدّي بعض تلك الحقوق، فقد شرَّع الله تعالىٰ حقوقاً هي تحت وأقلّ من قدرة الإنسان، وأمره أن يلتزمها، وأخذ الله تعالىٰ علىٰ العباد أن يؤدّوها، وبالتالي يكون التارك لبعضها مستخفّاً بأقلّ حقوق الله تعالىٰ.
وأهمّ تلك الحقوق هي:
كالصلاة والصوم وبقيَّة العبادات، فالمطلوب أوَّلاً وبالذات أن يؤدّيها الإنسان في أوقاتها المخصّصة لها، وأيُّ تقصير في ذلك - من دون عذر مشروع - يعني الاستخفاف.
عن سيِّدة النساء فاطمة (علیها السلام) ابنة سيِّد الأنبياء (صلی الله علیه و آله) أنَّها سألت أباها محمّداً (صلی الله علیه و آله) فقالت: «يا أبتاه، ما لمن تهاون بصلاته من الرجال والنساء؟».
ص: 85
قال: «يا فاطمة، من تهاون بصلاته من الرجال والنساء ابتلاه الله بخمس عشرة خصلة: ستّ منها في دار الدنيا، وثلاث عند موته، وثلاث في قبره، وثلاث في القيامة إذا خرج من قبره.
فأمَّا اللواتي تصيبه في دار الدنيا: فالأُولىٰ يرفع الله البركة من عمره، ويرفع الله البركة من رزقه، ويمحو الله (عزوجلّ) سيماء الصالحين من وجهه، وكلُّ عمل يعمله لا يؤجر عليه، ولا يرتفع دعاؤه إلىٰ السماء، والسادسة ليس له حظٌّ في دعاء الصالحين.
وأمَّا اللواتي تصيبه عند موته فأوَّلهنَّ أنَّه يموت ذليلاً، والثانية يموت جائعاً، والثالثة يموت عطشاناً، فلو سُقي من أنهار الدنيا لم يرو عطشه.
وأمَّا اللواتي تصيبه في قبره فأوَّلهنَّ يوكِّل الله به ملكاً يُزعجه في قبره، والثانية يُضيِّق عليه قبره، والثالثة تكون الظلمة في قبره.
وأمَّا اللواتي تصيبه يوم القيامة إذا خرج من قبره فأوَّلهنَّ أن يوكِّل الله به ملكاً يسحبه علىٰ وجهه والخلائق ينظرون إليه، والثانية يُحاسَب حساباً شديداً، والثالثة لا ينظر الله إليه ولا يُزكّيه وله عذاب أليم»(1).
وهي الخمس والزكاة وزكاة الفطرة، ويدخل فيها الكفّارات التي تترتَّب علىٰ مخالفة أمر شرعي، فإنَّ بعض المخالفات الشرعية تترتَّب عليها كفّارة مالية، ولا يكفي الندم عن أداء تلك الكفّارة.
ومنها أيضاً النفقات التي افترضها الله تعالىٰ عليك اتِّجاه بعض الأفراد، كالزوجة والأولاد والأبوين - مع فقرهما وغناك -، بل
ص: 86
والحيوانات المملوكة لك، حيث حكم الفقهاء بعدم جواز تركها بلا طعام حتَّىٰ تهلك...(1).
ص: 87
فإنَّ حقَّ الله تعالىٰ عليك أن تهرب منها ولا تتقرَّب إليها بأيِّ حالٍ من الأحوال، كالغيبة والنميمة وظنِّ السوء بالمؤمن وغيرها.
ورد في رواية جابر، عن الباقر (علیه السلام)، قال: أتاه رجل فقال له: وقعت فارة في خابية فيها سمن أو زيت، فما ترىٰ في أكله؟ قال: فقال له أبو جعفر (علیه السلام): «لا تأكله»، قال: فقال له الرجل: الفارة أهون عليَّ من
ص: 88
أن أترك طعامي من أجلها. قال: فقال له أبو جعفر (علیه السلام): «إنَّك لم تستخفّ بالفارة وإنَّما استخففت بدينك، إنَّ الله حرم الميتة من كلِّ شيء»(1).
وكشهر رمضان(1).
ص: 90
وككتاب الله تعالىٰ القرآن الكريم(1).
وكمساجد الله تعالىٰ(2)، فقد ورد عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن العلَّة في تعظيم المساجد، فقال: «إنَّما أمر بتعظيم المساجد لأنَّها بيوت الله في الأرض»(3).
والمشاهد المشرَّفة للمعصومين بحكم المساجد من حيث الحرمة(4)، يقول تعالىٰ: ﴿ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى
ص: 91
الْقُلُوبِ 32﴾ (الحجّ: 32).
عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إنَّ لله حرمات ثلاث، من حفظهنَّ حفظ الله له أمر دينه ودنياه، ومن لم يحفظهنَّ لم يحفظ الله له شيئاً: حرمة الإسلام، وحرمتي، وحرمة عترتي»(1).
وعن ابن عبّاس، قال: (إنَّ لله (عزوجلّ) حرمات ثلاث ليس مثلهنَّ شيء: كتابه وهو نوره وحكمته، وبيته الذي جعله للناس قبلةً لا يقبل الله من أحد وجهاً إلىٰ غيره، وعترة نبيِّكم محمّد (صلی الله علیه و آله) )(2).
قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «... وَعَظِّمِ اسْمَ اللهِ أَنْ تَذْكُرَه إِلَّا عَلَىٰ حَقٍّ...»(3).
ويشمل هذا:
أ - عدم ذكر لفظ الجلالة ولا كتابته مجرَّداً، بل (كلَّما كتب اسم الله تعالىٰ أتبعه بالتعظيم، مثل: تعالىٰ، أو سبحانه، أو عزَّ وجلَّ، أو تقدَّس، ونحو ذلك، ويتلفَّظ بذلك أيضاً)(4).
ص: 92
ب - عدم الحلف بالله تعالىٰ ولو صادقاً، يقول الإمام الصادق (علیه السلام): «لا تحلفوا بالله صادقين ولا كاذبين، فإنَّه (عزوجلّ) يقول: ﴿وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ﴾ [البقرة: 224]»(1).
وعن أبي بصير، قال: حدَّثني أبو جعفر (علیه السلام) «أنَّ أباه كانت عنده امرأة من الخوارج - أظنّه قال: من بني حنيفة -، فقال له مولىٰ له: يا ابن رسول الله، إنَّ عندك امرأة تبرأ من جدِّك، فقضىٰ لأبي أنَّه طلَّقها، فادَّعت عليه صداقها، فجاءت به إلىٰ أمير المدينة تستعديه، فقال له أمير المدينة: يا عليُّ، إمَّا أن تحلف وإمَّا أن تعطيها [حقَّها]. فقال لي: قم يا بنيَّ فاعطها أربعمائة دينار، فقلت له: يا أبه، جُعلت فداك، ألست محقّاً؟ قال: بلىٰ يا بنيَّ، ولكنّي أجللت الله أن أحلف به يمين صبر»(2).
وأمَّا إذا كان كاذباً فهو حرام، يقول الإمام الصادق (علیه السلام): «إذا قال العبد: علم الله، وكان كاذباً، قال الله (عزوجلّ): أمَا وجدت أحداً تكذب عليه غيري؟»(3).
ومن وصيَّة الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) للإمام عليٍّ (علیه السلام): «يا عليُّ، لا تحلف بالله كاذباً ولا صادقاً من غير ضرورة، ولا تجعل الله عرضةً ليمينك، فإنَّ الله لا يرحم ولا يرعىٰ من حلف باسمه كاذباً»(4).
ج - عدم سبِّ الله تعالىٰ(5)، وهذه وإن كانت غريبة عندما
ص: 93
نذكرها، ولكن مع الأسف نجد الكثير من الجهلة والمستخفّين بحقِّ الله تعالىٰ يتجاوزون الحدود ويسبّون الله تعالىٰ، في الوقت الذي يتحرَّزون من شتم شخص ذي منصب أو سلطة، بل يتحرَّزون من سبِّ إنسان عادي إذا كان هو أو أحد ولده موجوداً!
يقول تعالىٰ: ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (الأنعام: 108).
إنَّنا في بعض الأحيان نسمع من يشتم الله تعالىٰ ويسبّه - والعياذ بالله -، لكن بصورة ربَّما غير واضحة وغير مقصودة، فينبغي تنبيه الغافل عنها، كمن يشتم ربّ سيّارته مثلاً! أو يشتم ربّ ماكنة قد أزعجته! وهكذا، وقد نسي أنَّ ربَّ كلّ شيء هو الله تعالىٰ، لذا ينبغي الالتفات إلىٰ ذلك.
وليكن معلوماً أنَّ سبَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (علیهم السلام) هو سبٌّ لله تعالىٰ، فقد ورد أنَّه مرَّ ابن عبّاس بنفر يسبّون عليّاً، فقال: أيُّكم السابُّ لله؟ فأنكروا، قال: فأيُّكم السابُّ لرسول الله؟ فأنكروا، قال: فأيُّكم السابُّ عليّاً؟، قالوا: فهذا نعم، فقال: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «من سبَّ عليّاً فقد سبَّني، ومن سبَّني فقد سبَّ الله، ومن سبَّ الله (عزوجلّ) فقد كفر»(1).
ص: 94
د - تعظيم أسمائه جلَّ وعلا عند المناشدة بها، والاستجابة للمناشدة إذا كانت بحقِّه جلَّ وعلا، فقد ورد عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنَّه قال: «استقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) رجلاً من بنى فهد وهو يضرب عبداً له، والعبد يقول: أعوذ بالله، فلم يقلع الرجل عنه، فلمَّا أبصر العبد برسول الله (صلی الله علیه و آله)، قال: أعوذ بمحمّد، فأقلع الرجل عنه الضرب، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يتعوَّذ بالله فلا تعيذه، ويتعوَّذ بمحمد فتعيذه؟! والله أحقّ أن يُجار عائذه من محمّد، فقال الرجل: هو حرٌّ لوجه الله، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): والذي بعثني بالحقِّ نبيّاً لو لم تفعل لواقع وجهك حرُّ النار»(1).
ومع الأسف نجد البعض عندما تناشده بحقِّ أبيه أو بحقِّ شخص عزيز عليه، فإنَّه يبرُّ لك تلك المناشدة، ولكنَّك حينما تناشده بحقِّ الله تعالىٰ فلا تجد أيَّ أثر لتلك المناشدة!
طبعاً لا نعني لزوم ذلك حتَّىٰ إذا كانت المناشدة من أجل أمر باطل أو مرجوح، وإنَّما إذا كان من أجل مسألة شخصية أو من أجل حلِّ مشكلة دنيوية وما شابه.
ه - عدم مسّ لفظ الجلالة إلَّا بطهور، وحرمة تنجيسه. من هنا يجب الالتفات إلىٰ بعض الملابس التي يُكتَب عليها لفظ الجلالة أن لا تُغسَل بالماء المتنجِّس مع الملابس المتنجِّسة. كذلك يُكتَب علىٰ بعض المسابح لفظ الجلالة، فلا يجوز مسّها بغير طهارة شرعية، (وضوء أو غُسل مجزي عن الوضوء).
و - إذا كان لفظ الجلالة مكتوباً في ورقة، يجري عليها حكم القرآن الكريم، من لزوم الطهارة - كما تقدَّم - وحرمة التنجيس. من
ص: 95
هنا يجب الالتفات إلىٰ أنَّ الدفاتر والأوراق التي فيها لفظ الجلالة، وكالملصقات الدعائية التي فيها مثلاً البسملة أو العلم العراقي الذي فيه لفظ الجلالة وما شابه، لا يجوز حرقها، وإنَّما الحلُّ فيها إمَّا أن تمسح لفظ الجلالة، وإمَّا أن تُقطِّعها بحيث تصبح كالطحين، وإمَّا أن تدفنها، وإمَّا أن ترميها في نهر. والخلاصة يجب أن تبقىٰ بعيدةً عن الانتهاك والتنجيس.
ومن هنا نرىٰ الناس المتَّقين لا يكتبون لفظ الجلالة في ورقة يمكن أن تُطرَح، وإنَّما يكتبونه هكذا: (ا...)، فينبغي لنا التزام هذه الطريقة(1).
إنَّ انتهاك أيّ حقٍّ من هذه الحقوق الإلهيَّة، إذا لم تستتبعه توبة نصوحة وسريعة، فإنَّ إدبار القلب سيكون وارداً جدّاً، وبالتالي سيعيش العبد حالة من الجفاف الروحي، نسأل الله تعالىٰ أن لا يرينا إيّاها.
«لَعَلَّكَ رَأيْتَنِي مُعْرِضاً عَنْكَ فَقَلَيْتَنِي»:
إنَّ الاستخفاف بحقِّ الله تعالىٰ سيكون مقدَّمة للإعراض عن ذكره جلَّ وعلا، فإنَّ الإنسان أوَّلاً يستخفُّ بحقٍّ من الحقوق، فلا يذكره في ذلك، فيؤدّي ذلك إلىٰ أن يعرض العبد عن ربِّه، ولا يجعله بين عينيه في أفعاله وحركاته وسكناته، وبالتالي سينتج هذا الإعراض ما قال عنه القرآن الكريم: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً
ص: 96
وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى 124 قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً 125 قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى 126﴾ (طه: 124 - 126).
وقال تعالىٰ: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً﴾، أي من تعامىٰ عن ذكر الرحمن ونظر إليه نظر الأعشىٰ جئنا إليه بشيطان، ﴿فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ 36﴾ (الزخرف: 36)، أي مصاحب لا يفارقه.
وقال الإمام عليّ (علیه السلام): «من نسي الله سبحانه أنساه نفسه، وأعمىٰ قلبه»(1).
وفيما ناجىٰ الله تعالىٰ موسىٰ (علیه السلام): «يا موسىٰ، لا تنسني علىٰ كلِّ حال، ولا تفرح بكثرة المال، فإنَّ نسياني يُقسي القلوب، ومع كثرة المال كثرة الذنوب»(2).
وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «قال إبليس: يا ربِّ، ليس أحد من خلقك إلَّا جعلت لهم رزقاً ومعيشةً، فما رزقي؟ قال: ما لم يُذكر عليه اسمي»(3).
إنَّ الله تعالىٰ قد أخذ علىٰ نفسه أن ينظر بعين الرحمة إلىٰ عباده علىٰ الدوام، وأن يفيض نِعَمه باستمرار، فإنَّ لله تعالىٰ في أيّام دهرنا نفحات وفيوضات، ولكن تلك النفحات والنعم إنَّما تنزل علىٰ محلٍّ قابل لها، وبقدر استعداد القلوب لنفحات الله تعالىٰ ستكون الإفاضة، لا لبخل في ساحة الله تعالىٰ، ولكن لعدم قدرة القلب علىٰ أكثر من سعته، يقول تعالىٰ: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها﴾ (الرعد: 17).
ص: 97
المفارقة الغريبة هنا، هي أنَّه وإن كان الله تعالىٰ دائماً في إنزال النعم والنفحات علىٰ البشر، ولكن بعض البشر يعرض متعمِّداً بوجهه عنه تعالىٰ، ولسان حاله: «خَيْرُكَ إِلَيْنا نازِلٌ، وَشَرُّنا إِلَيْكَ صاعِدٌ»(1).
وهنا، سيقع الإنسان في مصيدة الشيطان، ويتعرَّض للإبعاد الإلهي! ممَّا يُسبِّب إدبار القلب عن الله تعالىٰ.
ولكن، كيف يتمُّ الإعراض عن الله تعالىٰ؟
إنَّ للإعراض صوراً متعدِّدة، نذكر منها:
1 - ترك ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام)، فعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (علیه السلام) في قول الله (عزوجلّ): ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً﴾؟ قال: «يعني به ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) »، قلت: ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى 124﴾؟ قال: «يعني أعمىٰ البصر في الآخرة، أعمىٰ القلب في الدنيا، عن ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) »، قال: «وهو متحيِّر في القيامة يقول: ﴿لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً 125 قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها﴾»، قال: «الآيات الأئمَّة (علیهم السلام)، ﴿فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى 126﴾ [طه: 124 - 126]، يعني تركتها وكذلك اليوم تُترَك في النار كما تركت الأئمَّة (علیهم السلام)، فلم تُطِع أمرهم ولم تسمع قولهم»(2).
2 - ترك الحجِّ مع القدرة عليه، فعن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «من مات وهو صحيح موسر لم يحجّ فهو ممَّن قال الله (عزوجلّ): ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى 124﴾ [طه: 124]»، قال: قلت: سبحان الله أعمىٰ! قال: «نعم، أعماه الله عن طريق الحقِّ»(3).
ص: 98
3 - ولعلَّ أوضح مصاديق الإعراض هو الإعراض اللساني، فربَّما تمرُّ علىٰ المرء أيّام عديدة وهو لا يفتح القرآن، أو لا يدعو بدعاء.
4 - وأشدُّ صور الإعراض عنه تعالىٰ هو الإعراض العملي، عندما يعيش المرء بعيداً عن الأوامر الإلهيَّة، ولا يقيم لها وزناً في تصرّفاته وأفعاله، متناسياً ما نُسِبَ لأمير المؤمنين (علیه السلام): «ما رأيت شيئاً إلَّا ورأيت الله قبله»(1).
«لَعَلَّكَ وَجَدْتَنِي فِي مَقامِ الكاذِبِينَ فَرَفَضْتَنِي»:
إنَّ من استخفَّ بحقوق الله تعالىٰ، وأدّىٰ ذلك به إلىٰ أن يعرض عنه تعالىٰ، بالتالي سيكون في مقام الكاذبين، لأنَّه أكيداً لا يُظهِر هذا الاستخفاف والإعراض، وإنَّما يدَّعي أنَّه من المؤدّين للحقوق والذاكرين لله تعالىٰ، وهذه أولىٰ مراتب الكذب، فإذا استمرَّ بهذا الكذب مرّةً ومرَّتين وثلاثة، حينئذٍ سيكتبه الله تعالىٰ في الكاذبين، وهذا ممَّا يؤدّي إلىٰ إدبار القلب عن الله تعالىٰ.
يقول جلَّ وعلا: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ 77﴾ (التوبة: 77).
وروي عن رسول الله الأعظم (صلی الله علیه و آله): «لا يزال العبد يكذب وتنكت في قلبه نكتة سوداء حتَّىٰ يسودَّ قلبه كلّه، فيُكتَب عند الله من الكاذبين»(2).
وقال الإمام عليّ (علیه السلام): «يكتسب الكاذب بكذبه ثلاثاً: سخط الله عليه، واستهانة الناس به، ومقت الملائكة له»(3).
ص: 99
إنَّ أوَّل ما يترتَّب علىٰ الكذب هو خروج الإنسان عن مقام الإخلاص، الإخلاص الذي يُعتَبر شرطاً أساسياً في العلاقة مع الله تعالىٰ، فأيّ عمل لا إخلاص فيه فإنَّ قبوله محلّ شكٍّ، إن لم نقل: إنَّ الروايات الشريفة قد صرَّحت بعدم القبول!
وبعد هذا، سيقع المرء في عدَّة مفردات للكذب، نذكر منها:
أوَّلاً: مخالفة القول العمل والعمل القول، فإنَّه قد ﴿كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ 3﴾ (الصفّ: 3).
ثانياً: عدم إخلاص التوبة، فلرُبَّ تائب قد نكث توبته، فما أن يُعلِن توبته أمام الله ربّ العالمين، وإذا به يقع في أوَّل اختبار ويسقط في أوَّل ابتلاء! يقول الإمام السجّاد (علیه السلام) في دعائه في ذكر التوبة وطلبها: «اللّهُمَّ أيُّما عَبْدٍ تابَ إلَيْكَ وَهُوَ فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ فاسِخٌ لِتَوْبَتِهِ وَعائِدٌ فِي ذَنْبِهِ وَخَطِيئَتِهِ...» (1).
ثالثاً: خلف الوعد، فإنَّه مصداق واضح للكذب، ولذا تجد أنَّ الوفاء بالوعد كان سمة الصالحين علىٰ مرِّ العصور، فقد روي أنَّه قال أبو الحميساء: بايعت النبيَّ (صلی الله علیه و آله) قبل أن يُبعَث، فواعدته مكاناً، فنسيته يومي والغد، فأتيته اليوم الثالث، فقال (علیه السلام): «يا فتىٰ، لقد شققت عليَّ، أنا هاهنا منذ ثلاثة أيّام»(2).
وعن الإمام الصادق (علیه السلام)، قال: «إنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعد رجلاً إلىٰ الصخرة، فقال: أنا لك هاهنا حتَّىٰ تأتي»، قال: «فاشتدَّت الشمس عليه، فقال له أصحابه: يا رسول الله، لو أنَّك تحوَّلت إلىٰ الظلِّ، قال: قد
ص: 100
وعدته إلىٰ هاهنا، وإن لم يجئ كان منه المحشر»(1).
وعن الإمام الرضا (علیه السلام) أنَّه قال لأحد أصحابه: «أتدري لِمَ سُمّي إسماعيل صادق الوعد؟»، قال: قلت: لا أدري، قال: «وعد رجلاً فجلس له حولاً ينتظره»(2).
وقد اعتبرت الروايات الشريفة أنَّ الوعد أوَّلاً هو مع الله تعالىٰ، وبالتالي فخلفه هو خلف الله تعالىٰ أوَّلاً، فعن هشام بن سالم، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «عِدَة المؤمن أخاه نذر لا كفّارة له، فمن أخلف فبخلف الله بدأ، ولمقته تعرَّض، وذلك قوله: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ 2 كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ 3﴾ [الصفّ: 2 و3]»(3).
هذا..
وقد وردت تعليمات مهمَّة في الوعد، نذكر منها:
أ - ضرورة أن لا يعد المرء ما يعرف من نفسه عدم قدرته عليه، حتَّىٰ لا يقع في خلف الوعد، فعن الإمام عليّ (علیه السلام): «لا تعدنَّ عِدَة لا تثق من نفسك بإنجازها»(4).
وعن الإمام الصادق (علیه السلام): «لا تعدنَّ أخاك وعداً ليس في يدك وفاؤه»(5).
ب - إنَّ خلف الوعد لا يصدق علىٰ من نوىٰ الوفاء ولم يقدر
ص: 101
لعارض، فعن رسول الله الأعظم (صلی الله علیه و آله): «ليس الخلف أن يَعِدَ الرجل ومن نيَّته أن يفي، ولكن الخلف أن يَعِدَ الرجل ومن نيَّته أن لا يفي»(1).
لذا ينبغي دراسة ما يحيط بالوعد دراسة تُنجيك من الوقوع في الحرج!
ج - ضرورة الوفاء بالوعد حتَّىٰ للصبيان، فعن الإمام الكاظم (علیه السلام): «إذا وعدتم الصغار فأوفوا لهم، فإنَّهم يرون أنَّكم أنتم الذين ترزقونهم، وإنَّ الله (عزوجلّ) لا يغضب بشيء كغضبه للنساء والصبيان»(2).
رابعاً: الكذب علىٰ الله تعالىٰ، فإنَّه من مفطرات الصوم في شهر رمضان، وهو من الإفتاء بغير علم الذي يتبوَّأ صاحبُه مقعداً من النار!
قال تعالىٰ: ﴿وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ 116﴾ (النحل: 116).
وقال تعالىٰ: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ 78﴾ (آل عمران: 78).
ومن ذلك، الكذب علىٰ رسول الله (صلی الله علیه و آله) بنسبة حديث له لم يقله! فويل للمأجورين الذين نسبوا له (صلی الله علیه و آله) ما لم يقله، فعن الإمام عليّ (علیه السلام): «فوَالله لئن أخِّر من السماء أو تخطفني الطير أحبُّ إليَّ من أن أكذب علىٰ رسول الله (صلی الله علیه و آله) »(3).
وقال الإمام الصادق (علیه السلام) - لمَّا ذُكِرَ الحائك له أنَّه ملعون -:
ص: 102
«إنَّما ذاك الذي يحوك الكذب علىٰ الله وعلىٰ رسوله (صلی الله علیه و آله) »(1).
وعنه (علیه السلام): «إنَّ الكذبة لتُفطِر الصائم»، - قال أبو بصير: - قلت: وأيّنا لا يكون ذلك منه؟! قال: «ليس حيث ذهبت، إنَّما ذلك الكذب علىٰ الله وعلىٰ رسوله وعلىٰ الأئمَّة صلوات الله عليه وعليهم»(2).
«لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي غَيْرَ شاكِرٍ لِنَعْمائِكَ فَحَرَمْتَنِي»:
من الأُمور التي تعارف عليها الناس هي قضيَّة المجازاة والمكافأة علىٰ الصنايع، فمن يحسن إليك لا بدَّ أن تردَّ له إحسانه من باب ﴿هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ 60﴾ (الرحمن: 60)، ونسيان هذا الأمر أو تركه يؤدّي إلىٰ ما يُسمّىٰ ب- (قطع سبيل المعروف).
ولهذه القاعدة موارد عديدة، من أهمّها شكر المحسن والمنعم، ولا محسن لنا ومنعم علينا كالله تعالىٰ، بل كلّ محسن ومنعم دونه فمن جوده وعطائه يُحسِن ويُنعِم. وكم من نعمة هي عندنا تستوجب الشكر!
فمثلاً: (إنَّ الإنسان عندما يعطس يتوقَّف القلب عن النبض خلال العطاس، وإذا حاول إيقاف عطاسه فجأةً فقد يؤدّي ذلك إلىٰ ارتداد الدم في الرأس أو الرقبة، وتحدث الوفاة، وإذا تُرِكَت العينان مفتوحتين فقد تخرجان من مكانهما، لكلِّ ذلك ألَا يجب علىٰ الإنسان أن يشكر ربَّه بعد العطاس؟!)(3).
قال تعالىٰ: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها﴾ (النحل: 18)، نعمة واحدة فقط (لا تحصوها)!
ص: 103
وعلىٰ كلِّ حالٍ، العقل - يعضده النقل - يحكم بخسَّة من لا يشكر ربَّه المنعم عليه، خصوصاً مع ما نراه من البعض من توجيه الشكر والتبجيل لطبيب إذا نجح في وصف علاج له، أو لميكانيكي إذا أصلح له سيّارته، أو لموظَّف إذا سهَّل له مجرىٰ معاملته، ولكنَّه مع ربِّه الذي كان هو سبب جميع تلك النعم يبقىٰ غافلاً عن شكره متناسياً لنعمه!
حريٌّ بمثل هذا الفرد أن يحرمه الله تعالىٰ من عطاياه، «لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي غَيْرَ شاكِرٍ لِنَعْمائِكَ فَحَرَمْتَنِي».
وحتَّىٰ نكون علىٰ بيِّنة من أمرنا - بعد تسليمنا وجوب الشكر لله تعالىٰ - ينبغي علينا أن نلتفت إلىٰ أُمور تُمثِّل كفران النعم وترك شكرها، وهي عديدة، نذكر منها:
فإنَّ الشكر القلبي وإن كان هو الأهمّ، ولكن الكاشف عنه هو الشكر اللساني، القرآن الكريم يقول: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ 11﴾ (الضحىٰ: 11)، فللحديث اللساني أثر في قبول الأعمال، فينبغي عدم غفلة ذلك.
ولدينا في تراثنا العديد من الأدعية المختصَّة بالشكر، ولا أشهر من مناجاة الشاكرين للإمام زين العابدين (علیه السلام) التي تكشف الكثير من أسرار الشكر، والتي يقول فيها (علیه السلام): «... فَكَيْفَ لِي بِتَحْصِيلِ الشُّكْرِ وَشُكْرِي إِيَّاكَ يَفْتَقِرُ إِلىٰ شُكْرٍ؟! فَكُلَّما قُلْتُ: لَكَ الحَمْدُ، وَجَبَ عَلَيَّ لِذلِكَ أَنْ أَقُولَ: لَكَ الحَمْدُ...»(1).
عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «إنَّ داود النبيّ (علیه السلام) قال: يا ربِّ،
ص: 104
أخبرني بقريني في الجنَّة ونظيري في منازلي، فأوحىٰ الله تبارك وتعالىٰ إليه: إنَّ ذلك متّىٰ أبا يونس».
قال: «فاستأذن الله في زيارته فأذن له، فخرج هو وسليمان ابنه (علیهما السلام) حتَّىٰ أتيا موضعه، فإذا هما ببيت من سعف، فقيل لهما: هو في السوق، فسألا عنه، فقيل لهما: اُطلباه في الحطّابين، فسألا عنه، فقال لهما جماعة من الناس: ننتظره الآن حتَّىٰ يجيء، فجلسا ينتظرانه إذ أقبل وعلىٰ رأسه وقر من حطب، فقام إليه الناس، فألقى عنه الحطب، فحمد الله، وقال: من يشتري طيباً بطيب، فساومه واحد، وزاده آخر حتَّىٰ باعه من بعضهم».
قال: «فسلَّما عليه، فقال: انطلقا بنا إلىٰ المنزل، واشترىٰ طعاماً بما كان معه، ثمّ طحنه وعجنه في نقير له، ثمّ أجَّج ناراً وأوقدها، ثمّ جعل العجين في تلك النار، وجلس معهما يتحدَّث، ثمّ قام وقد نضجت خبيزته، فوضعها في النقير، فلفَّها وذرَّ عليها ملحاً، ووضع إلىٰ جنبه مطهَّرة مليء ماءً، وجلس علىٰ ركبتيه، فأخذ لقمة، فلمَّا رفعها إلىٰ فيه قال: بسم الله، فلمَّا ازدردها قال: الحمد لله، ثمّ فعل ذلك بأُخرىٰ وأُخرىٰ، ثمّ أخذ الماء فشرب منه، فذكر اسم الله، فلمَّا وضعه قال: الحمد لله، يا ربِّ، من ذا الذي أنعمت عليه وأوليته مثل ما أوليتني، قد صححت بصري وسمعي وبدني، وقوَّيتني حتَّىٰ ذهبت إلىٰ شجر لم أغرسه، ولم أهتمّ لحفظه، جعلته لي رزقاً، وسقت لي من اشتراه منّي، فاشتريت بثمنه طعاماً لم أزرعه، وسخَّرت لي النار فأنضجته، وجعلتني آكله بشهوة أقوىٰ بها علىٰ طاعتك، فلك الحمد».
قال: «ثمّ بكىٰ، فقال داود لسليمان: يا بنيَّ، قم فانصرف بنا، فإنّي لم أرَ عبداً قطّ أشكر لله من هذا»(1).
ص: 105
وهذا من عجائب أفعال من يدَّعي العقل!
لقد ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنَّه قال: «شكر كلّ نعمة الورع عمَّا حرَّم الله (عزوجلّ) »(1).
إنَّ من أهمّ النعم الإلهيَّة علىٰ العبد هي: الصحَّة، الشباب، المال، الجاه، السلطان، القوَّة البدنية، وغيرها. وكلُّ هذه النعم هي من قبيل السلاح ذي الحدَّين، وحذار ممَّن يستعمل الحدَّ الأعوج!
ومن هذا الباب مواجهة النعم بالمعاصي!
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يقول الله تبارك وتعالىٰ: يا ابن آدم، ما تنصفني، أتحبَّب إليك بالنعم وتتمقَّت إليَّ بالمعاصي، خيري عليك منزل وشرّك إليَّ صاعد، ولا يزال ملك كريم يأتيني عنك في كلِّ يوم وليلة بعمل قبيح منك. يا ابن آدم، لو سمعتَ وصْفَك من غيرك وأنت لا تعلم من الموصوف، لسارعت إلىٰ مقته»(2).
فإنَّ علىٰ الأموال حقوقاً شرعية عُبِّر عنها بالزكاة والخمس وزكاة الفطرة، وقد ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام): «إِنَّ اللهَ سُبْحَانَه فَرَضَ فِي أَمْوَالِ الأَغْنِيَاءِ أَقْوَاتَ الْفُقَرَاءِ، فَمَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِه غَنِيٌّ، واللهُ تَعَالَى سَائِلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ»(3).
وإنَّ علىٰ الجاه حقّاً شرعياً، هو قضاء حوائج الإخوان.
وإنَّ علىٰ الجمال حقّاً شرعياً، وهو العفاف.
ص: 106
وإنَّ علىٰ الفقر حقّاً شرعياً، وهو الصبر.
وإنَّ علىٰ القدرة حقّاً شرعياً، وهو العفو(1).
وإنَّ علىٰ بقيَّة النعم حقوقاً شرعية لا بدَّ من الالتفات إليها.
وعدم الالتفات إليها يعني ترك الشكر!
وهي من مصائد الشيطان وسلبيات النعم المتكاثرة، وهي تؤدّي إلىٰ طامة كبرىٰ يُعبَّر عنها ب- (الاستدراج) الذي عرَّفه الإمام الصادق (علیه السلام) بقوله: «هو العبد يذنب الذنب، فتجدَّد له النعمة معه تلهيه تلك النعمة عن الاستغفار من ذلك الذنب»(2).
فإنَّ من أحسن إليك من الناس يجب شكره - وإن كان الشكر لازماً لله تعالىٰ أوَّلاً -، ولكن الله تعالىٰ أراد منك أن تشكر العبد إذا أحسن إليك حتَّىٰ تُشجِّعه علىٰ الإحسان مرّةً ثانية وثالثة ورابعة.
يقول الإمام زين العابدين (علیه السلام): «يقول الله تبارك وتعالىٰ لعبد من عبيده يوم القيامة: أشكرت فلانا؟ فيقول: بل شكرتك يا ربِّ، فيقول: لم تشكرني إذ لم تشكره»، ثمّ قال (علیه السلام): «أشكركم لله أشكركم للناس»(3).
«لَعَلَّكَ فَقَدْتَنِي مِنْ مَجالِسِ العُلَماءِ فَخَذَلْتَنِي»:
إنَّ الإسلام كنظام عامّ للمجتمع، جاء ليُصلِح أُمور الناس، دنيوياً
ص: 107
ودينياً، ولذاك نجد أنَّ له قولاً في كلِّ مسألة، حتَّىٰ اشتهر عند علماء الأُصول أنَّه ما من مسألة أو واقعة إلَّا وللشرع فيها حكم.
ومن دقَّته أنَّه أخذ بعين الاعتبار أنَّ الإنسان يحتاج إلىٰ أن يجالس غيره، فليس الإنسان كائناً وحشياً فردياً، وإنَّما هو كائن اجتماعي، علىٰ اختلاف في تخريج اجتماعيته، وأنَّه اجتماعي بذاته أو لأنَّه يحتاج إلىٰ بقيَّة أفراد نوعه ليتكامل معهم، لا شأن لنا بهذا الآن، المهمّ أنَّ الكلَّ متَّفق علىٰ أنَّه كائن اجتماعي.
عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، قال: حدَّثني عليّ بن جعفر، عن أخيه موسىٰ بن جعفر، عن أبيه (علیهما السلام)، قال: قال عليُّ بن الحسين (علیه السلام): «ليس لك أن تقعد مع من شئت، لأنَّ الله تبارك وتعالىٰ يقول: ﴿إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ 68﴾ [الأنعام: 68]، وليس لك أن تتكلَّم بما شئت، لأنَّ الله تعالىٰ قال: ﴿وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء: 36]، ولأنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: رحم الله عبداً قال خيراً فغنم أو صمت فسلم. وليس لك أن تسمع ما شئت، لأنَّ الله تعالىٰ يقول: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً 36﴾ [الإسراء: 36]»(1).
ولهذا فالمجالس داخلة في الحساب، وهي بالتجربة تُؤثِّر علىٰ الإنسان سلباً وإيجاباً، والإسلام وضَّح هذه المسألة بصورة جليَّة. ولذا ورد النهي عن حضور بعض المجالس والأمر بحضور بعض آخر.
ص: 108
أمَّا المجالس المنهي عنها، فهي كلّ مجلس لا ينفع الإنسان لا في دنياه ولا في آخرته، ومنها المجالس التي لا يُذكر فيها الله تعالىٰ، أو يُذكر فيها لكن بصورة سلبية بما يُسمّىٰ بالاعتراض علىٰ حكم الله تعالىٰ أو الكفر به أو الخوض بالباطل، أو المجالس التي يُتجاوز فيها علىٰ الصالحين، خصوصاً الأنبياء والأئمَّة (علیهم السلام) الذين نصبهم الله تعالىٰ حججاً علىٰ البشر.
والآيات والروايات في ذلك كثيرة، منها:
قال الله تبارك وتعالىٰ: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً 140﴾ (النساء: 140).
وقال تعالىٰ: ﴿وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ 68﴾ (الأنعام: 68).
وقال الإمام الصادق (علیه السلام) في قوله تعالىٰ: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ ...﴾ [النساء: 140]: «إنَّما عنىٰ بهذا الرجل يجحد الحقّ ويكذب به ويقع في الأئمَّة، فقم من عنده ولا تقاعده كائناً من كان»(1).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس في مجلس يُسَبُّ فيه إمام، أو يُغتاب فيه مسلم، إنَّ الله يقول في كتابه: ﴿وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا ...﴾ [الأنعام: 68]»(2).
ص: 109
ويقول الإمام عليّ (علیه السلام): «لا تجلسوا علىٰ مائدة يُشرَب عليها الخمر، فإنَّ العبد لا يدري متىٰ يُؤخَذ»(1).
وعنه (علیه السلام): «إيّاك والجلوس في الطرقات»(2).
وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «لا ينبغي للمؤمن أن يجلس مجلساً يُعصىٰ الله فيه ولا يقدر علىٰ تغييره»(3).
وقال الإمام عليّ (علیه السلام): «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقوم مكان ريبة»(4).
وربَّما نستطيع تلمّس بعض الحِكَم في النهي عن تلك المجالس من خلال نفس هذه الروايات الشريفة، منها:
1 - إنَّ الجلوس في تلك المجالس فيه احتمال الإصابة باللعنة الإلهيَّة لو نزلت، وهي محتملة النزول في أيِّ لحظة علىٰ تلك المجالس، وكما عبَّر الإمام (علیه السلام) في الرواية ب- «فإنَّ العبد لا يدري متىٰ يُؤخَذ».
ولذا ورد أنَّ عذاباً نزل علىٰ قوم فأصاب المؤمنين كما أصاب الكافرين، لأنَّهم جالسوهم ولم يأمروهم بمعروف ولم ينهوهم عن منكر(5).
والقاعدة العامَّة هنا هي ما قاله لقمان الحكيم لابنه: «اُجلس مع صلحائهم فربَّما أصابهم الله برحمة فتدخل فيها فيصيبك، وإن كنت
ص: 110
صالحاً فابعد من الأشرار والسفهاء، فربَّما أصابهم الله بعذاب فيصيبك معهم»(1).
2 - إنَّ الجلوس فيها مدعاة للظنِّ السيّئ الذي ينبغي أن يُبعِد المرء نفسه عنه، علىٰ غرار «رحم الله امرءاً جبَّ الغيبة عن نفسه»(2).
وكما قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «مَنْ وَضَعَ نَفْسَه مَوَاضِعَ التُّهَمَةِ، فَلَا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِه الظَّنَّ»(3).
«مَنْ دَخَلَ مَدَاخِلَ السُّوءِ اتُّهِمَ»(4).
«مجالسة الأشرار تورث سوء الظنِّ بالأخيار»(5).
ومن خلال هذا سنعرف أنَّ الإسلام أمرنا بالجلوس في المجالس التي لا يُشتَبه بنزول العذاب عليها، ولا تؤدّي إلىٰ سوء الظنِّ بالجالس، وفي هذا المجال جاءت الروايات الشريفة لتذكر لنا بعض مصاديق تلك المجالس، نذكر منها:
1 - مجالس الذكر: روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه خرج علىٰ أصحابه، فقال: «ارتعوا في رياض الجنَّة»، قالوا: يا رسول الله، وما رياض الجنَّة؟ قال: «مجالس الذكر»(6).
ص: 111
وقال (صلی الله علیه و آله): «ما قعد عدَّة من أهل الأرض يذكرون الله إلَّا قعد معهم عدَّة من الملائكة»(1).
وورد في حِكَم لقمان (علیه السلام): «اختر المجالس علىٰ عينيك، فإن رأيت قوماً يذكرون الله (عزوجلّ) فاجلس معهم، فإنَّك إن تكُ عالماً ينفعك علمك ويزيدونك علماً، وإن كنت جاهلاً علَّموك، ولعلَّ الله يصلهم برحمة فتعمّك معهم»(2).
2 - مجالس المؤمنين: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إذا رأيتم روضة من رياض الجنَّة فارتعوا فيها»، قيل: يا رسول الله، وما روضة الجنَّة؟ فقال: «مجالس المؤمنين»(3).
3 - مجالس إحياء أمر أهل البيت (علیهم السلام): قال الإمام الصادق (علیه السلام): «من جلس مجلساً يُحيي أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»(4).
وقال (علیه السلام) لفضيل: «تجلسون وتُحدِّثون؟»، قال: نعم جُعلت فداك، قال: «إنَّ تلك المجالس أُحِبُّها، فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله من أحيا أمرنا. يا فضيل، من ذَكَرنا أو ذُكْرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب، غفر الله له ذنوبه ولو كان أكثر من زبد البحر»(5).
ومن هذا يتبيَّن أهمّية مجالسة العلماء وخطورة ترك مجالستهم، ولا
ص: 112
أظنُّ أحداً يُحكِّم وجدانه إلَّا ويصل إلىٰ قناعة كافية بهذه الحقيقة. والإمام السجّاد (علیه السلام) بيَّن أنَّ ترك مجالستهم يؤدّي إلىٰ الخذلان، لأنَّ الإنسان يحتاج في حياته إلىٰ توفيق من الله تعالىٰ، ومجالسة العلماء من أهمّ أسباب ذلك التوفيق. وهذا ما أكَّدته الروايات الشريفة.
روىٰ جابر بن عبد الله، عن النبيِّ (صلی الله علیه و آله)، قال: «لا تجلسوا إلَّا عند كلِّ عالم يدعوكم من خمس إلىٰ خمس: من الشكِّ إلىٰ اليقين، ومن الرياء إلىٰ الإخلاص، ومن الرغبة إلىٰ الرهبة، ومن الكبر إلىٰ التواضع، ومن الغشِّ إلىٰ النصيحة»(1).
وقال الحواريون لعيسىٰ (علیه السلام): لمن نجالس؟ فقال: «من يُذكِّركم الله رؤيته، ويُرغِّبكم في الآخرة عمله، ويزيد في منطقكم علمه»، وقال لهم: «تقرَّبوا إلىٰ الله بالبعد من أهل المعاصي، وتحبَّبوا إليه ببغضهم، والتمسوا رضاه بسخطهم»(2).
وقال لقمان لابنه: «يا بنيَّ، صاحب العلماء، وأقرب منهم، وجالسهم وزرهم في بيوتهم، فلعلَّك تُشبِههم، فتكون معهم، واجلس مع صلحائهم، فربَّما أصابهم الله برحمة فتدخل فيها فيصيبك، وإن كنت صالحاً فابعد من الأشرار والسفهاء، فربَّما أصابهم الله بعذاب فيصيبك معهم»(3).
وفي المقام سؤالان مهمّان جدّاً لا بدَّ من التعرّف علىٰ جوابهما:
قد يقال بأنَّ العالم لديه الكثير من المشاغل التي تمنعه من إطالة
ص: 113
الجلوس مع الناس، فهو مشغول بدرسه الصعب الذي لا يوازيه أيّ درس في دراسة أُخرىٰ، ومشغول بأُمور الأُمَّة وتنظيم أُمورها، خصوصاً وأنَّ مهمَّته خطرة جدّاً، فإنَّ كلامه يصل إلىٰ الأُمَّة جمعاء، فهو في حالة نفسية لا يُحسَد عليها، وبالتالي فهو مشغول جدّاً عن مجالستنا، فكيف نجالسه والحال هذه؟
والجواب عن هذا من السهولة بمكان، إذا التفتنا إلىٰ أنَّ مجالسة العالم لا تنحصر بالجلوس المباشر، وإنَّما هو أفضل أنواع مجالسته لو أمكن، وهو ليس مستحيلاً، بل هو ممكن جدّاً. نعم، قد يمرُّ العالم أو الأُمَّة عموماً بظروف صعبة تمنع العالم من مباشرة الناس، وهو ظرف سبق وأن مرَّ به أئمَّتنا (علیهم السلام)، وأعطونا أفضل الطرق للتواصل مع أُمَّتهم وشيعتهم، وهم بذلك دلّونا علىٰ الطرق المناسبة للتواصل مع القادة والأئمَّة والعلماء، وبذلك نعرف أنَّ هناك طرقاً أُخرىٰ للتواصل ومجالسة العالم، مثل استماع محاضراته المسجَّلة، وقراءة كتبه ورسائله ونشراته، ومراسلته في الأُمور المهمَّة بما يُسمّىٰ بالمكاتبات أو الاستفتاءات، وكذلك مجالسة من ينصبهم العالم.
وما هي الأسباب التي جعلت بعض الناس يستخفّون بحقِّ العالم، ويتهاونون عن مجلسه؟
إنَّ هذا أمر واقعي نعيشه اليوم.
والحقيقة أنَّ بعض الناس لم يتهاونوا في ذلك وحسب، وإنَّما تهاونوا عن مجالسة أيّ مؤمن لا يدور في مجلسه سوىٰ الحقّ، فلماذا هذا الإعراض؟
ص: 114
إنَّ هذا السؤال يجرّنا إلىٰ البحث عن عموم الأسباب التي جعلت ذلك البعض يعرضون عن الدين عموماً، ولكن لنُخصِّص الكلام الآن عن ترك مجالسة العلماء - بالحدود التي عرفناها في جواب السؤال السابق - ما هو سببه؟
ربَّما يمكننا تلمّس العديد من الأسباب، نذكر منها:
أوَّلاً: مخالفة مجالس العلماء لأهواء النفس الأمّارة بالسوء، وعدم الانسجام التامّ مع الطرح الإيماني لمجالسهم، والناس تكره ما لا ينسجم مع توجّهاتها، فلكلِّ امرئ توجّهات نفسية تتناسب مع ما بنىٰ عليه حياته، ولا شكَّ أنَّ من كانت توجّهاته سطحية ولا دينية فإنَّه يكره مجالسة العلماء.
ثانياً: تشويه صورة العلماء في أذهان العامَّة من قِبَل أعداء الإسلام، وهناك الكثير من الأدلَّة التي تدلُّ علىٰ ذلك.
جاء في بعض بنود مخطَّطات اليهود ما نصّه:
(وقد عنينا عناية عظيمة بالحطِّ من كرامة رجال الدين من الأُممين (غير اليهود) في أعين الناس، وبذلك نجحنا في الإضرار برسالتهم التي كان يمكن أن تكون عقبة كؤوداً في طريقنا. وإنَّ نفوذ رجال الدين علىٰ الناس ليتضاءل يوماً فيوماً)(1).
بالإضافة إلىٰ أنَّ الوثيقة الرابعة من الوثائق الاشتراكية اليهودية(2) تقول فيما تقول(3):
ص: 115
(2 - تشويه سمعة رجال الدين، والحكّام المتديِّنين، واتِّهامهم بالعمالة للاستعمار والصهيونية.
4 - الحيلولة دون قيام حركات دينية في البلاد مهما كان شأنها ضعيفاً، والعمل الدائم بيقظة لمحو أيّ انبعاث ديني.
5 - ومع هذا لا يغيب عنّا أنَّ للدين دوره الخطير في بناء المجتمعات؛ ولذا وجب أن نحاصره من كلِّ الجهات، وفي كلِّ مكان، وإلصاق التهم به، وتنفير الناس منه بالأُسلوب الذي لا ينمُّ عن معاداة الإسلام.
6 - تشجيع الكُتَّاب الملحدين، وإعطاؤهم الحرّية كلّها في مواجهة الدين، والشعور الديني، والضمير الديني، والعبقرية الدينية.
14 - تحطيم القيم الدينية والروحية، واصطناع الخلل والعيوب لها.
18 - إلصاق كلّ عيوب الدراويش، وخطايا المنتسبين للدين بالدين نفسه؛ لإثبات أنَّ الدين خرافة.
19 - تسمية الإسلام الذي تُؤيِّده الاشتراكية لبلوغ مآربها وتحقيق غاياتها - بالدين الصحيح، والدين الثوري، والدين المتطوّر.
20 - باسم تصحيح المفاهيم الإسلاميَّة، وتنقية الدين من الشوائب، وتحت ستار الإسلام، يتمُّ القضاء عليه بأن نستبدل به الاشتراكية).
ثالثاً: بعض التصرّفات الخاطئة واللامسؤولة من بعض مَنْ يُنسَبون إلىٰ أهل العلم - وهم ليسوا منهم في الحقيقة -، مع تعميم صورة المخطئ إلىٰ العنوان العامِّ، أيّ إنَّه إذا أخطأ رجل العلم في مسألة
ص: 116
ما، فإنَّ العامَّة أحياناً - أو ربَّما في كثير من الأحيان - يُعمِّمون هذه الصورة إلىٰ عموم العلماء! وهذا طبعاً خطأ منهجي من دون مبرِّر.
أضف إلىٰ ذلك أنَّ الكثير من الناس يفتقدون حسّ التمييز بين الأفراد، ممَّا يُسبِّب لهم إطلاق الأحكام العامَّة من وقائع جزئية لا مسؤولة.
ولعلاج هذه المسألة وردت الروايات الكثيرة التي تُحذِّر أهل العلم من مخالفة قولهم لأعمالهم:
قال الإمام عليّ (علیه السلام) - لمَّا سُئِلَ عن خير الخلق بعد الأئمَّة (علیهم السلام) -: «العلماء إذا صلحوا»، قيل: فمن شرار خلق الله بعد إبليس وفرعون ونمرود...؟ قال: «العلماء إذا فسدوا، هم المظهرون للأباطيل، الكاتمون للحقائق»(1).
وقال الإمام العسكري (علیه السلام) - في صفة علماء السوء -: «وهم أضرُّ علىٰ ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد علىٰ الحسين بن عليٍّ (علیه السلام) وأصحابه، فإنَّهم يسلبونهم الأرواح والأموال، وهؤلاء علماء السوء...، يُدخِلون الشكَّ والشبهة علىٰ ضعفاء شيعتنا فيضلّونهم»(2).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أشرار علماء أمتنا: المضلّون عنّا، القاطعون للطرق إلينا، المسمّون أضدادنا بأسمائنا، الملقِّبون أضدادنا بألقابنا، يصلّون عليهم وهم للعن مستحقّون...»(3).
هذا من جانب.
ص: 117
ومن جانب آخر وردت التربويات الدينية علىٰ ضرورة الفصل بين تصرّفات الأفراد وعدم تعميمها ولا تحميلها لغير الفاعل، قال تعالىٰ: ﴿وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ 164﴾ (الأنعام: 164).
رابعاً: عدم معرفة أهمّية العالم، والاعتقاد بأنَّ مجالسه مجالس عادية، أو أنَّها لا فائدة فيها، أو أنَّها لا تُؤثِّر علىٰ سلوك الإنسان إيجاباً، والحال أنَّ حال العالم أفضل وأعظم ممَّا نتصوَّر.
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إنَّ أقرب الناس من درجة النبوَّة أهل الجهاد وأهل العلم»(1).
وعنه (صلی الله علیه و آله): «طالب العلم ركن الإسلام، ويُعطىٰ أجره مع النبيّين»(2).
وعنه (صلی الله علیه و آله): «موت العالم مصيبة لا تُجبَر وثلمة لا تُسَدُ، وهو نجم طمس، وموت قبيلة أيسر من موت عالم»(3).
ويمكن تلمّس أهمّية مجالسة وتكريم العالم من خلال الأحاديث الواردة في هذا المجال، ومنها قول أمير المؤمنين (علیه السلام): «إذا رأيت عالماً فكن له خادماً»(4)، وفي رواية أُخرىٰ: «من وقَّر عالماً فقد وقَّر ربَّه»(5).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من استقبل العلماء فقد استقبلني، ومن
ص: 118
زار العلماء فقد زارني، ومن جالس العلماء فقد جالسني، ومن جالسني فكأنَّما جالس ربّي»(1).
«لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي فِي الغافِلِينَ فَمِنْ رَحْمَتِكَ آيَسْتَنِي»:
قالوا: إنَّ النفس لا يمكنها أن تتوجَّه إلىٰ مدرَكين في آنٍ واحدٍ، لعدم قدرتها علىٰ ذلك، ففي كلِّ لحظة هي تتوجَّه إلىٰ شيء معيَّن واحد، وتوجّهها إلىٰ شيء معيَّن قد يعني إدبارها عن غيره، يعني أنَّها تدير بوجهها عن غيره، أو قل: (تغفل) عن غيره.
وهذه الحقيقة لها تطبيقات عديدة في الحياة، فمثلاً قالوا في قضيَّة المذاكرة والحفظ: إنَّ من أراد أن يحفظ فعليه أن يُركِّز فكره في مسألة معيَّنة حتَّىٰ يُتقِنها ويحفظها، وإلَّا فإنَّه لن يجني سوىٰ التعب.
والتاجر الذي عنده العديد من أنواع التجارات، وكلُّ واحد من تلك الأنواع يحتاج إلىٰ حساب خاصٍّ، فإنَّ عليه - إذا أراد النجاح - إمَّا أن يُوكِّل ويُفوِّض بعض أنواع تجاراته إلىٰ بعض الأفراد الذين يثق بهم، وإمَّا أن يعالجها واحدة تلو الأُخرىٰ، أمَّا أن يعالجها كلّها في آنٍ واحدٍ، فهذا من المحال بمكان.
ومن عنده عدَّة مشكلات، لا بدَّ عليه أن يفصلها بعضها عن البعض الآخر، ثمّ يعمل علىٰ علاجها واحدة تلو الأُخرىٰ.
وهكذا في جميع مجالات الحياة.
تصوَّر معي لو أنَّ شخصاً دخل إلىٰ غرفة مملوءة بشاشات تلفزيونات كثيرة، وكانت كلّها تعمل في آنٍ واحدٍ، وكلُّ واحدة موجَّهة نحو قناة غير
ص: 119
الأُخرىٰ، فإنَّه من المستحيل أن يلتفت إليها كلّها في آنٍ واحدٍ، وبالتالي عليه أن يُطفئ جميع القنوات إلَّا واحدة حتَّىٰ يمكنه أن يتوجَّه إليها.
والدين أخذ بعين الاعتبار هذه الحقيقة، بل وركَّزها في تربوياته، وجعلها محطّ نظره، وصرَّح بها حينما قال عزَّ من قائل: ﴿ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ (الأحزاب: 4).
وورد فيما ناجىٰ الله تعالىٰ به عيسىٰ بن مريم (علیه السلام): قال الله تبارك وتعالىٰ لعيسىٰ بن مريم (علیه السلام): «يا عيسىٰ، ليكن لسانك في السرِّ والعلانية لساناً واحداً، وكذلك قلبك، إنّي أُحذِّرك نفسك، وكفىٰ بي خبيراً، لا يصلح لسانان في فم واحد، ولا سيفان في غمد واحد، ولا قلبان في صدر واحد، وكذلك الأذهان»(1).
ولهذه الحقيقة تطبيقات عديدة في الدين، فمثلاً:
أوَّلاً: ينبغي للمؤمن أن يتوجَّه في صلاته، فإنَّ له منها ما أقبل به علىٰ الله تعالىٰ.
فعن الإمام عليٍّ (علیه السلام): «لا يقومنَّ أحدكم في الصلاة متكاسلاً، ولا ناعساً، ولا يُفكِّرن في نفسه، فإنَّه بين يدي ربِّه (عزوجلّ)، وإنَّما للعبد من صلاته ما أقبل عليه منها بقلبه»(2).
وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «من صلّىٰ وأقبل علىٰ صلاته لم يُحدِّث نفسه ولم يسه فيها، أقبل الله عليه ما أقبل عليها، فربَّما رفع نصفها وثلثها وربعها وخمسها، وإنَّما أمر بالسُّنَّة ليكمل ما ذهب من المكتوبة»(3).
ص: 120
ثانياً: تركيز الجهد علىٰ ما ينفع، علىٰ مستوىٰ العلم والعمل، فلا خير في علم لا ينفع، ولا خير في عمل لا يُقبَل.
يقول الإمام الكاظم (علیه السلام): «أولىٰ العلم بك ما لا يصلح لك العمل إلَّا به، وأوجب العمل عليك ما أنت مسؤول عن العمل به، وألزم العلم لك ما دلَّك علىٰ صلاح قلبك وأظهر لك فساده، وأحمد العلم عاقبة ما زادك في عملك العاجل، فلا تشتغلنَّ بعلم ما لا يضرّك جهله، ولا تغفلنَّ عن علم ما يزيد في جهلك تركه»(1).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من عرف نفسه فقد عرف ربَّه، ثمّ عليك من العلم بما لا يصحُّ العمل إلَّا به، وهو الإخلاص»(2).
ثالثاً: التركيز علىٰ الاستفادة القصوىٰ من العمر فيما يبقىٰ ولا ينفد.
يقول الإمام عليّ (علیه السلام): «لو اعتبرت بما أضعت من ماضي عمرك لحفظت ما بقي»(3).
ويقول رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إنَّ العمر محدود لن يتجاوز أحد ما قُدِّر له، فبادروا قبل نفاذ الأجل»(4).
إنَّ الغفلة عن التركيز علىٰ النافع تؤدّي إلىٰ أنَّه سيتوجَّه نحو ما لا ينفعه، وبالتالي سيخسر الكثير من رأس ماله (عمره) من دون مبرِّر، ولذا كان لزاماً علىٰ المؤمن أن لا يغفل عن هذه الحقيقة، وأن يبتعد عن مجالس الغافلين حتَّىٰ لا يصاب بمرضهم. وهو ما يقول عنه الإمام السجّاد (علیه السلام) بأنَّه يؤدّي إلىٰ اليأس من رحمة الله تعالىٰ - والعياذ بالله -.
ص: 121
وحتَّىٰ تتمَّ الفائدة نحاول الإجابة عن بعض الأسئلة:
إنَّ الغفلة هي حالة استثنائية عند الإنسان، فإنَّ الأصل فيه أن يكون ملتفتاً إلىٰ واقعه ونفسه وحياته وكلِّ أُموره، حتَّىٰ أُموره الدينية مع الله تعالىٰ ومع دينه ومذهبه ومجتمعه...، ولكنَّه في بعض الأحيان يقع في مصيدة الغفلة. ومن هنا يحقُّ لنا أن نتساءل عن الأسباب التي تؤدّي إلىٰ الوقوع في الغفلة، ويمكن تلمّس بعض تلك الأسباب بالتالي(1):
فإنَّ الجهل بعواقب الغفلة، والجهل بما يُراد من الإنسان، والجهل بالمستقبل الأسود للغفلة، كلّها تؤدّي إلىٰ الغفلة!
يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «من عرف الأيّام لم يغفل عن الاستعداد»(2).
فالمغرور يرىٰ نفسه عظيماً وفوق الناس، فيمشي وهو مغمض العينين، حتَّىٰ يقع في الحفرة!
فإنَّ الذي تتتابع عليه النعم قد يغفل عن كثير ممَّا يُراد منه اشتغالاً منه بالنعم أو بالتلهّي بها أو بالحفاظ عليها وما شاكل. فهارون العبّاسي لم يلتفت إلىٰ آخرته إلَّا عندما أرخىٰ رجليه في قبره وآنذاك قال: ﴿ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ 28 هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ 29﴾ (الحاقَّة: 28 و29)(3)،
ص: 122
وسُمِعَ عبد الملك بن مروان - ليلة قُبِضَ وهو يجود بنفسه وقد سمع صوت قصّار - يقول: يا ليتني كنت غسّالاً أعيشُ بما أكسب يوماً بيوم. فبلغ ذلك أبا حازم فقال: الحمد لله الذي جعلهم عند الموت يتمنون ما نحن فيه(1)، وهكذا عمرو بن العاص، وغيرهم من طواغيت الدهر.
فإنَّ من عاش الصحَّة طول حياته، ومن لم يرَ المرضىٰ بأنواع الأمراض التي يعجز الأطبّاء عن معالجتها، ربَّما يعيش الغفلة والمثاليات والخيالات، والبعد عن الواقع.
فإنَّ من طال أمله في الحياة يُسوِّف في أعماله، ويُصاب بالغفلة حتَّىٰ تنقضي بها أيّامه وهو لا يدري! كما كان عمر بن سعد يقول: (أتوب إلىٰ الرحمن من سنتين)(2).
يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «واعلموا عباد الله أنَّ الأمل يُذهِب العقل، ويُكذِب الوعد، ويحثُّ علىٰ الغفلة، ويورث الحسرة»(3).
حيث إنَّ كلامنا عن العلاقة مع الله تعالىٰ وأسباب الإدبار بالقلب عنه تعالىٰ، فالسؤال حينئذٍ يكون متوجِّهاً عن أنَّه كيف أتخلَّص من الغفلة مع الله تعالىٰ، والجواب نجده صريحاً في كلمات أهل البيت (علیهم السلام)، وللتخلّص من الغفلة عليك بالتالي:
ص: 123
يقول الإمام عليّ (علیه السلام): «بدوام ذكر الله تنجاب الغفلة»(1).
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا أبا ذر، هم بالحسنة وإن لم تعملها، لكيلا تُكتَب من الغافلين»(2).
قال الإمام عليّ (علیه السلام): «من عرف الأيّام لم يغفل عن الاستعداد»(3).
وقال (علیه السلام): «استعينوا علىٰ بعد المسافة بطول المخافة، فكم من غافل وثق لغفلته، وتعلَّل بمهلته، فأمَّل بعيداً، وبنىٰ مشيِّداً، فنقص بقرب أجله بُعد أمله، فاجأته منيَّته بانقطاع أُمنيته»(4).
قال الإمام الباقر (علیه السلام): «أيّما مؤمن حافظ علىٰ الصلوات المفروضة فصلّاها لوقتها، فليس هذا من الغافلين»(5).
وعلىٰ العموم، فإنَّ أهل البيت (علیهم السلام) يريدون أن يُلفتوا أنظارنا إلىٰ حقيقة مهمَّة، وهي أنَّ الغفلة يمكن أن ترتفع إذا ما فكَّر المؤمن قليلاً، فالإنسان قد كرَّمه الله تعالىٰ وجعله أفضل الموجودات، فهو مخدوم من جميع الموجودات، حتَّىٰ الملائكة هي بخدمة المؤمن، قال تعالىٰ: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً 70﴾ (الإسراء: 70).
ومع هذا التكريم، فمن العيب علىٰ الإنسان أن يخرج من إنسانيته ليتنازل عنها إلىٰ مرتبة الحيوانية.
وما ألطف ما ورد في هذا المجال عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «أمَا يستحي أحدكم أن يُغنّي علىٰ دابَّته وهي تُسبِّح»(1).
ربَّما هذا واحد من معاني ﴿أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ (الأعراف: 179)، فالأنعام تُسبِّح لله تعالىٰ ولم تغفل عن الذكر حتَّىٰ وهي تعمل، ولكن الإنسان في بعض الأحيان ينسىٰ الله تعالىٰ وينسىٰ ذكره ويغفل عنه ويُغنّي!
وإن أبيت، فما عليك إلَّا أن تزور بعض القبور، لترىٰ من أين جاؤوا؟! وعن ماذا انقلبوا؟! وهل من شيء نفعهم من أموالهم وأولادهم أم ماذا؟! عليك بزيارة القبور لترفع عن نفسك بعض الغفلة.
قد مضىٰ العمر وفات *** يا أسير الغفلات
حصِّل الزاد وبادر *** مسرعاً قبل الفوات
فإلىٰ كم ذا التعامي *** عن أُمور واضحات
وإلىٰ كم أنت غارق *** في بحارالظلمات
ص: 125
لم يكن قلبك أصلاً *** بالزواجر والعظات
بينما الإنسان يسأل *** عن أخيه قيل مات
أهله يبكوا عليه *** حسرةً بالعبرات
وتراهم حملوه *** سرعةً للفلوات
أين ما قد كان يفخر *** بالجياد الصافنات
وله مال جزيل *** كالجبال الراسيات
سار عنها رغم أنف *** للقبورالموحشات
كم بها من طول مكث *** من عظام ناخرات
فاغنم العمر وبادر *** بالتقىٰ قبل الممات
وأنب وارجع واقلع *** من عظيم السيِّئات
واطلب الغفران ممَّن *** تُرتجىٰ منه الهبات
قال الله تبارك وتعالىٰ: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ 25 وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ 26 وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ 27 كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ 28 فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ 29﴾ (الدخان: 25 - 29).
يا صاح إنَّك راحل فتزوَّد *** فعساك في ذي اليوم ترحل أو غدِ
لا تغفلنَّ فالموت ليس بغافل *** هيهاتَ بل هو للأنام بمرصدِ
فليأتينَّ منه عليك بساعة *** فتودُّ أنَّك قبلها لم تولدِ
ولتخرجنَّ إلىٰ القبور مجرَّداً *** ممَّا شقيت بجمعه صفر اليدِ(1)
ص: 126
والخلاصة، أنَّ الجلوس مع الغافلين يؤدّي إلىٰ الغفلة بكلِّ تأكيد، فإنَّ الإنسان يتأثَّر كثيراً بما يُسمّىٰ بالعقل الجمعي، ولذا قال تعالىٰ: ﴿وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ 68﴾ (الأنعام: 68).
وهذا يعني فيما يعنيه أنَّ من أهمّ أسباب رفع الغفلة هو مجالسة البعيدين عن الغفلة، فقد وردت الأوامر بأن نجالس من يُذكِّرنا بالله رؤيته. وهو ما يُعبَّر عنه باختيار البطانة الصالحة.
وعلىٰ الإنسان أن يعمل علىٰ رفع الغفلة ليس عن نفسه فقط، بل يعمل علىٰ أن يكون مؤثِّراً في جلسائه بحيث يرفع عنهم الغفلة لو وقعوا فيها، علىٰ حدِّ ﴿وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ 3﴾ (العصر: 3).
وإن اضطررت إلىٰ مجالسة بعض الغافلين، فتسلَّح بذكر (لا إله إلَّا الله)، وكن فيهم ولا تكن منهم، واستغفر الله تعالىٰ عند قيامك منهم، فعليك أن تعدَّ نفسك إعداداً جيِّداً لمواجهة مثل تلك المجالس. والله تعالىٰ وحده المستعان.
كلَّا بالتأكيد، فالروايات وإن ذكرت تلك الأُمور التي تُبعِدك عن الغفلة، وأنَّ الالتفات إليها والتزامها يحكي عن قلب متوجّه نحو الله تعالىٰ، ولكن في الوقت ذاته فإنَّ التزام هذه الأُمور لا ينافي الكدّ علىٰ العيال وجمع الأموال وغيرها ممَّا يُعمِّر الحياة. كلَّا، فإنَّ الدين لا يتنافىٰ مع هذه الأُمور، نعم المفروض فيها أن تُكتَسب من حلال، وأن تُصرَف في
ص: 127
الحلال، فإنَّ السؤال يوم القيامة يكون عن «من أين اكتسبه، وفيم أنفقه»(1)، فإذا كانت كذلك فهي من عمل الآخرة علىٰ حدِّ تعبير الإمام الصادق (علیه السلام)، حينما سأله ابن أبي يعفور قائلاً: إنّا لنحبُّ الدنيا، فقال لي: «تصنع بها ماذا؟»، قلت: أتزوَّج منها، وأحجُّ، وأنفق علىٰ عيالي، وأُنيل إخواني، وأتصدَّق، قال لي: «ليس هذا من الدنيا، هذا من الآخرة»(2).
ولذا روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ليس من حبِّ الدنيا طلب ما يُصلِحك»(3).
ولذا كان لزاماً علىٰ المؤمن أن لا يذلَّ نفسه في الدنيا، بل عليه أن يبنيها من حلال، من أجل حكمتين:
الأُولىٰ: أن لا يمدَّ يده إلىٰ غيره، فيذلَّ نفسه، ولربَّما يُسبِّب ذلك نظرة ازدراء للمؤمنين ورميهم بأنَّهم متواكلون علىٰ غيرهم.
الثانية: أن يضربوا مثلاً لجميع الناس بأنَّ الدين لا يتنافىٰ مع الدنيا إذا حُدَّت بالحدود الشرعية، وأنَّ الكسب غير منحصر بالحرام - كما قد يدَّعي البعض -، فهؤلاء مؤمنون يعملون بالحلال وهم أغنياء أو علىٰ الأقلِّ وصلوا إلىٰ حدِّ الكفاف الاجتماعي اللائق بهم.
من هنا نجد الروايات الشريفة تثير في النفوس حقيقة إمكان الجمع بين الحياة هذه وبين الآخرة، راسمة الحدود المناسبة لهذا الجمع.
ص: 128
يقول الإمام الكاظم (علیه السلام): «اجعلوا لأنفسكم حظّاً من الدنيا بإعطائها ما تشتهي من الحلال وما لا يثلم المروَّة وما لا سرف فيه، واستعينوا بذلك علىٰ أُمور الدين، فإنَّه روي: ليس منّا من ترك دنياه لدينه، أو ترك دينه لدنياه»(1).
إنَّ التوازن بين طلب الدنيا وطلب الآخرة هو مشروع المؤمن وهمّه في حياته، وهذا ما يتطلَّب منه جهداً إضافياً لا يعرفه ولا يبذله من لا يهتمُّ لأمر آخرته، ولذلك عبَّرت الروايات الشريفة عن المؤمن بأنَّه أكثر همّاً من غيره.
روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «أعظم الناس همّاً المؤمن الذي يهتمُّ بأمر دنياه وأمر آخرته»(2).
وورد أنَّ لقمان (علیه السلام) قال لابنه وهو يعظه: «يا بنيَّ، لا تدخل في الدنيا دخولاً يضرُّ بآخرتك، ولا تتركها تركاً تكون كلّاً علىٰ الناس»(3).
تذكر لنا الروايات الشريفة مصطلحين في المقام: الغفلة والتغافل، والمقصود من الأوَّل غير المقصود من الثاني، فالأوَّل منهيٌّ عنه إذا أدّىٰ إلىٰ هلاك الإنسان - وهو ما كنّا نتكلَّم عنه -، أمَّا التغافل فقد أمرت به الروايات الشريفة ومدحته وجعلته من صفات المؤمنين(4)، ومن الأُمور التي تساعد علىٰ بناء المجتمع.
ص: 129
من هنا قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «من لم يتغافل ولا يغضُّ عن كثير من الأُمور تنغَّصت عيشته»(1).
وقال الإمام زين العابدين (علیه السلام) - من وصاياه -: «اعلم يا بنيَّ أنَّ صلاح شأن الدنيا بحذافيرها في كلمتين: إصلاح شأن المعايش ملء مكيال ثلثاه فطنة وثلثه تغافل، لأنَّ الإنسان لا يتغافل ﴾إلَّا﴿ عن شيء قد عرفه ففطن فيه»(2).
وروي عن ابن مسكان، قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السلام): «إنّي لأحسبك إذا شُتِمَ عليٌّ بين يديك لو تستطيع أن تأكل أنف شاتمه لفعلت»، فقلت: إي والله جُعلت فداك، إنّي لهكذا وأهل بيتي، فقال لي: فلا تفعل، فوَالله لربَّما سمعتُ من يشتم عليّاً وما بيني وبينه إلَّا أُسطوانة فأستتر بها، فإذا فرغت من صلاتي فأمر به فأُسلِّم عليه وأُصافحه»(3).
وقد يُعبَّر عن هذا النوع من الغفلة ب- (التغافل الإيجابي)، ومعناه (أن يعيش الإنسان بحالة يُخفي معها الأشياء التي ينبغي إخفاؤها، أي أن يقوم الشخص بإظهار عدم اطِّلاعه وعدم علمه بالأشياء التي يعلم بها، ولكن إظهارها له عواقب سيِّئة، ويتصرَّف معها تصرّف المتغافل ويمرُّ عليها مرَّ الكرام، من موقع سعة الصدر، وقوَّة الشخصية، لغرض حفظ ماء وجه الآخرين واحترامهم، وحيثيتهم الاجتماعية.
ومن جملة موارد التغافل الإيجابي هو إخفاء عيوب الآخرين، فإنَّ لكلِّ شخص عيوباً وأخطاءً لا يُحِبُّ أن يطَّلع عليها الآخرون، ولذلك
ص: 130
يسعىٰ لكتمانها، ولكن أحياناً يعلم بها بعض الأشخاص الأذكياء، ففي مثل هذه الموارد يكون التغافل مطلوباً، وفي الحقيقة هو نوع من ستر العيوب الخفيَّة التي لا ينبغي إظهارها إلَّا في موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك بشكل لطيف ومستور أيضاً.
وهناك بعض الموارد يكون الكشف عن العيب فيها مؤدّياً إلىٰ تسقيط شخصية الأفراد، وكذلك يؤدّي إلىٰ حثِّ الآخرين علىٰ المعصية، فالفضيحة قد تؤدّي إلىٰ زيادة الإيغال في ارتكاب الذنوب، وبعبارة أُخرىٰ: إذا زال حجاب الحياء عن المذنبين فإنَّهم سوف يقدمون علىٰ ارتكاب الذنوب المختلفة، ولهذا ففي مثل هذه الموارد يكون (التغافل) مانعاً عن تفشّي هذه الظاهرة الاجتماعية السلبية...)(1).
وأبلغ من بيَّن الآثار الإيجابية للتغافل هو أمير البلاغة والبيان أمير المؤمنين (علیه السلام) حين قال:
«ذلِّلوا أخلاقكم بالمحاسن، وقودوها إلىٰ المكارم، وعوِّدوا أنفسكم الحلم، واصبروا علىٰ الإيثار علىٰ أنفسكم فيما تجمدون عنه، ولا تداقّوا الناس وزناً بوزن، وعظِّموا أقداركم بالتغافل عن الدنيِّ من الأُمور، وأمسكوا رمق الضعيف بجاهكم وبالمعونة له إن عجزتم عمَّا رجاه عندكم، ولا تكونوا باحثين عمَّا غاب عنكم فيكثر عائبكم، وتحفَّظوا من الكذب، فإنَّه من أدنىٰ الأخلاق قدراً، وهو نوع من الفحش، وضرب من الدناءة، وتكرَّموا بالتعامي عن الاستقصاء - وروي: بالتعامس من الاستقصاء -»(2).
ص: 131
«لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي آلِفُ مَجالِسَ البَطَّالِينَ فَبَيْنِي وَبَيْنَهُمْ خَلَّيْتَنِي»:
لقد عرفنا بما فيه الكفاية أنَّ للمجالس مردودات إيجابية أو سلبية علىٰ الإنسان، فمجالسة العلماء سبب للتأييد الإلهي، وأمَّا مجالسة الغافلين فهي سبب لليأس من الرحمة الإلهيَّة، وهنا يتعرَّض الإمام السجّاد (علیه السلام) إلىٰ سبب آخر من أسباب الخذلان الإلهي، إنَّه مؤالفة البطّالين في مجالسهم، إنَّه يُسبِّب الإيكال إلىٰ النفس وإليهم.
إنَّ من يؤالف البطّالين يوكله الله تعالىٰ إليهم، وهل من أحد يستطيع أن يُدبِّر أُموره هو من دون التأييد الإلهي حتَّىٰ يمكنه أن يُدبِّر أُمور غيره؟! فمن أوكله الله تعالىٰ إلىٰ غيره لا يستطيع غيره أن يُدبِّر أيَّ أمر من أُموره.
وقد وردت التربويات الدينية في هذا المجال، ذاكرة مصاديق من مجالس البطّالين، والتي من أهمّها المجالس التي يُعصىٰ فيها الله تعالىٰ، أو المجالس التي يُستَهزأ فيها بحجج الله تعالىٰ، أو المجالس التي لا تنفع لا في الدنيا ولا في الآخرة.
قال الله (عزوجلّ): ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً 140﴾ (النساء: 140).
وفي الكافي بسند صحيح عن شعيب العقرقوفي، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله (عزوجلّ): ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها ...﴾ إلىٰ آخر الآية، فقال:
ص: 132
«إنَّما عنىٰ بهذا: الرجل يجحد الحقَّ، ويكذب به، ويقع في الأئمَّة، فقم من عنده ولا تقاعده كائناً من كان»(1).
وعنه (علیه السلام)، قال: «ثلاثة مجالس يمقتها الله ويُرسِل نقمته علىٰ أهلها، فلا تقاعدوهم ولا تجالسوهم: مجلساً فيه من يصف لسانه كذباً في فتياه، ومجلساً ذِكْرُ أعدائنا فيه جديد وذِكْرُنا فيه رثٌّ، ومجلساً فيه من يصدُّ عنا وأنت تعلم»، قال: ثمّ تلا أبو عبد الله (علیه السلام) ثلاث آيات من كتاب الله، كأنَّما كنَّ في فيه - أو قال: كفّه -: «﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 108]، ﴿وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ [الأنعام: 68]، ﴿وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ [النحل: 116]»(2).
وعن أبي جعفر الباقر (علیه السلام)، قال: «من قعد في مجلس يُسَبُّ فيه إمام من الأئمَّة يقدر علىٰ الانتصاف فلم يفعل ألبسه الله الذلَّ في الدنيا وعذَّبه في الآخرة وسلبه صالح ما منَّ به عليه من معرفتنا»(3).
وعن محمّد بن عاصم، قال: سمعت الرضا (علیه السلام) يقول: «يا محمّد بن عاصم، بلغني أنَّك تجالس الواقفة؟»، قلت: نعم جُعلت فداك، أُجالسهم وأنا مخالف لهم، قال: «لا تجالسهم، فإنَّ الله (عزوجلّ) يقول: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ
ص: 133
بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ﴾ [النساء: 140]، يعني بالآيات الأوصياء، والذين كفروا بها الواقفة»(1).
«لَعَلَّكَ لَمْ تُحِبَّ أَنْ تَسْمَعَ دُعائِي فَباعَدْتَنِي»:
ما هي الواسطة القويَّة والرابطة الوثيقة بين السماء والأرض؟ وبين الله تعالىٰ وعباده؟
ما هو الأمر الذي يضمن العبد به قبوله عند ربِّه؟
ما هو الأمر الذي يجعل الله تعالىٰ ينظر إلينا برحمته؟
إنَّه ليس إلَّا الدعاء، يقول تعالىٰ: ﴿قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً 77﴾ (الفرقان: 77).
ولذا اعتُبِرَ عدم الدعاء استكباراً يستحقُّ فاعله دخول جهنَّم، يقول تعالىٰ: ﴿وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ 60﴾ (غافر: 60).
ولا بدَّ أن طرق سمعك أو جال بفكرك سؤال حيَّر الكثير! وهو أنَّ القرآن الكريم يُؤكِّد علىٰ أنَّ الدعاء يستتبع الإجابة من الله تعالىٰ: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، فلماذا لا يُستجاب للكثير من أدعيتنا؟
إنَّ الجواب علىٰ ذلك هو من القرآن أيضاً، إذ القرآن ليس عقداً قد انفرط وتناثرت حبّاته، إنَّما هو كلٌّ واحد مترابط، فلا بدَّ من ملاحظة مجموع الآيات المترابطة ليظهر موضوع ما متكاملاً.
والإمام السجّاد (علیه السلام) يريد أن يطرح لنا أمراً مهمّاً في المقام، إذ كأنَّه
ص: 134
يريد القول: إنَّ أهمّية الدعاء رغم أنَّها لا تخفىٰ، ورغم أنَّه الواسطة المهمَّة جدّاً بين العبد وربِّه، ورغم أنَّ الله تعالىٰ يُحِبُّ أن يسمع دعاء العبد، إلَّا أنَّه
رغم ذلك قد يصادف أنَّ الله تعالىٰ يعرض عن بعض ولا يُحِبُّ أن يسمع دعاءهم! وإذا لم يُحِبّ الله تعالىٰ أن يسمع دعاء عبد، فإنَّه تعالىٰ سيباعده عن ساحة القدس، ممَّا يُسبِّب له قسوة القلب، وهذا من باب الاضطرار بسوء الاختيار، أي إنَّ ابتعاد العبد عن ساحة القدس كان بسبب سوء اختياره هو، فلا يلومنَّ إلَّا نفسه. أمَّا بالنسبة إلىٰ الله تعالىٰ، فالمسافة بينه وبين جميع عبيده واحدة، هي مسافة الرحمة والرأفة والعطف الربّاني الذي لا مثيل له.
ولكن، لماذا قد لا يُحِبُّ الله سماع دعاء البعض؟
ما هي الأسباب التي تجعل الدعاء في معرض المبغوضية لله تعالىٰ؟
والجواب: يمكن أن يكون لذلك أكثر من سبب واحد، نذكر بعضها:
أوَّلاً: أن يكون الدعاء منافياً للحكمة، كمن يطلب شيئاً محرَّماً، أو مرجوحاً، أو مخالفاً للمروءة، وما شابه ذلك. وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «إنَّ كرم الله تعالىٰ لا ينقض حكمته، فلذلك لا تقع الإجابة في كلِّ دعوة»(1).
ومن هذا القبيل ما قيل من أنَّ أعرابياً أمسك بأستار الكعبة وصاح: (اللّهمّ اغفر لي ولمحمّد، ولا تغفر لأحد معنا)(2)!
ثانياً: أن يكون الداعي آكلاً للحرام أو مجاهراً بالمعاصي، يقول
ص: 135
الإمام الباقر (علیه السلام): «إنَّ العبد يسأل الله الحاجة، فيكون من شأنه قضاؤها إلىٰ أجل قريب، أو إلىٰ وقت بطيء، فيذنب العبد ذنباً، فيقول الله تبارك وتعالىٰ للملك: لا تقضِ حاجته واحرمه إيّاها، فإنَّه تعرَّض لسخطي، واستوجب الحرمان منّي»(1).
ثالثاً: أن لا يستجمع الدعاء شروط الإجابة، وهي عديدة ذكرتها الروايات الشريفة، هذه عناوينها:
1 - الافتتاح بالبسملة.
2 - التمجيد لله تعالىٰ.
3 - البدء بالصلاة علىٰ محمّد وآل محمّد.
4 - اختيار الأوقات والأماكن المناسبة للدعاء، كعقب الصلاة، وعند نزول المطر، وفي المسجد، وما بين الأذان والإقامة...
5 - السجود أثناء الدعاء.
6 - تقديم الدعاء للإمام المهدي (علیه السلام) .
7 - الدعاء كهيئة المضطرِّ.
8 - الختم بالصلاة علىٰ محمّد وآل محمّد.
رابعاً: أن يكون من الأشخاص الذين لا يُستجاب دعاؤهم، وهم عدَّة طوائف:
1 - القادر علىٰ السعي للرزق وقد أمره الله تعالىٰ بذلك، ولكنَّه يجلس في بيته، ويدعو الله أن يرزقه.
2 - القادر علىٰ طلاق زوجته والخلاص منها وهي تؤذيه، فلا يُطلِّقها، بل يدعو عليها.
ص: 136
3 - المتساهل في توثيق ديونه بالإشهاد أو غيره علىٰ غرمائه، فيترك ذلك، فينكره الغرماء، فيدعو عليهم.
4 - القادر علىٰ تغيير داره، فيؤذيه جاره، فلا يُغيِّر داره، ثمّ يدعو عليه.
5 - المفسد لماله الذي رزقه الله تعالىٰ إيّاه، فيتلف ماله، ثمّ يدعو الله ليرزقه.
6 - المصرّون علىٰ المعاصي وآكلوا المال الحرام، وهم قادرون علىٰ التوبة والإنابة وترك أكل المال بالباطل، فإنَّه لا يُستجاب دعاؤهم.
7 - التاركون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتَّىٰ يتسلَّط الأشرار عليهم.
8 - المعتصم بغير الله تعالىٰ، والمتوكّل علىٰ مخلوق دون الله تعالىٰ.
9 - المعتذر عن ظلم الظالم، أي من يقول: إنَّ الظالم الفلاني معذور في ظلمه، ومن حقِّه أن يفعل كذا.
والروايات في ذلك عديدة(1)، منها: يقول الإمام الصادق (علیه السلام): «أربعة لا يُستجاب لهم دعوة: رجل جالس في بيته يقول: اللّهمّ ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالطلب؟! ورجل كانت له امرأة فدعا عليها، فيقال له: ألم أجعل أمرها إليك؟! ورجل كان له مال فأفسده فيقول: اللّهمّ ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالاقتصاد؟! ألم آمرك بالإصلاح؟! ثمّ قال: ﴿وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً 67﴾ [الفرقان: 67]، ورجل كان له مال فأدانه بغير بيِّنة، فيقال له: ألم آمرك بالشهادة؟!»(2).
ص: 137
ويقول رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يقول الله (عزوجلّ): ما من مخلوق يعتصم [بمخلوق] دوني إلَّا قطعت أسباب السماوات وأسباب الأرض من دونه، فإن سألني لم أعطِه وإن دعاني لم أجبه»(1).
ويقول (صلی الله علیه و آله): «لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهنَّ عن المنكر، أو ليستعملنَّ الله عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يُستجاب لهم»(2).
ويقول الإمام الصادق (علیه السلام): «من عذر ظالماً بظلمه سلَّط الله عليه من يظلمه، فإن دعا لم يستجب له، ولم يأجره الله علىٰ ظلامته»(3).
إنَّ الروايات الشريفة تُؤكِّد علىٰ ضرورة التزام العبد المؤمن بالدعاء، بجعله منهجاً يومياً في كلِّ حاجة، وأنَّ دعاءه - أيّاً كان - هو ذو فائدة إن عاجلاً أو آجلاً، وقد ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنَّه قال: «إنَّ الله تبارك وتعالىٰ أخفىٰ أربعة في أربعة: ... وأخفىٰ إجابته في دعوته، فلا تستصغرنَّ شيئاً من دعائه، فربَّما وافق إجابته وأنت لا تعلم...»(4).
من هنا تُؤكِّد الروايات الشريفة علىٰ أنَّ الداعي - بغير الحرام وما لا يرضاه الله تعالىٰ - يصيب إحدىٰ ثلاث:
1 - الاستجابة المعجَّلة، وهي منية كلِّ داعٍ.
2 - أن تُبدَّل الاستجابة للدعاء بدفع بلاء غير معلوم للداعي لو لم يُدفَع عنه لأهلكه.
ص: 138
3 - وهي أعظمها: أن تُؤجَّل الاستجابة إلىٰ يوم القيامة، فيُعطىٰ من الثواب ما يتمنّىٰ معه أن لم تستجب له دعوة في الدنيا.
يقول رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ما من مسلم دعا الله تعالىٰ بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا استجلاب إثم إلَّا أعطاه الله تعالىٰ بها إحدىٰ خصال ثلاث: إمَّا أن يُعجِّل له الدعوة، وإمَّا أن يدَّخرها له في الآخرة، وإمَّا أن يرفع عنه مثلها من السوء»(1).
ويقول الإمام الصادق (علیه السلام): قال النبيُّ (صلی الله علیه و آله): «... فإذا أتيت بما ذكرت لك من شرائط الدعاء، وأخلصت بسرِّك لوجهه، فأبشر بإحدىٰ الثلاث: إمَّا أن يُعجِّل لك ما سألت، وإمَّا أن يدَّخر لك ما هو أعظم منه، وإمَّا أن يصرف عنك من البلاء ما إن لو أرسله عليك لهلكت»(2).
ويقول (علیه السلام): «يتمنىٰ المؤمن أنَّه لم يُستَجب له دعوة في الدنيا ممَّا يرىٰ من حسن الثواب»(3).
«لَعَلَّكَ بِجُرْمِي وَجَرِيرَتِي كافَيْتَنِي»:
هذه الحياة، هي عبارة عن قاعة امتحان عظيمة، الامتحان فيها مفتوح، ما علىٰ المرء فيها إلَّا أن يُطبِّق الجواب علىٰ السؤال، مستغلّاً الوقت المتاح له، والذي لا يعرف متىٰ سينتهي، وهذا الأمر - أي عدم معلومية انتهاء الوقت - واحد من أهمّ اختبارات هذه القاعة.
تُؤكِّد الروايات الشريفة علىٰ أنَّ نتيجة هذا الامتحان وإن عرفها
ص: 139
بعض مسبقاً، ولكنَّه لن يرىٰ جزاءه علىٰ النجاح أو الرسوب - لا فرق من هذه الناحية - إلَّا في البيت الأبدي، والدار الخالدة، تلك هي الدار الآخرة. وهذا يُمثِّل القاعدة العامَّة لهذا الامتحان.
قال رسول الله الأعظم (صلی الله علیه و آله): «... فإنَّكم اليوم في دار عمل ولا حساب، وأنتم غداً في دار حساب ولا عمل»(1).
إلَّا أنَّه بالرغم من ذلك، توجد بعض الموارد التي تعجل فيها النتيجة في قاعة الامتحان تلك، فقد تعجل بعض المثوبات للناجحين، وقد تعجل بعض العقوبات للراسبين والفاشلين.
أمَّا عن تقديم ثواب الأعمال الصالحة، فربَّما لا نجد صعوبة في تفسير تقديم بعض المثوبات علىٰ الأعمال الصالحة التي تُمثِّل الفوز والنجاح في هذا الاختبار، مع العلم أنَّ التقديم ليس دائماً من مصلحة العبد، فربَّما يكون تقديم بعض الأعمال الصالحة لكافر أو منافق، حتَّىٰ يستوفي حقَّه من تلك الأعمال في الدنيا، فيصل في الآخرة صفر اليد منها!
والتفصيل أن نقول:
إنَّ الذي يعمل صالحاً، إمَّا أن يكون مؤمناً، وإمَّا غيره - سواء كان كافراً أو منافقاً أو مشركاً أو حتَّىٰ ملحداً -.
فأمَّا المؤمن فتقديم ثواب بعض أعماله لعدَّة حِكَم، منها تبشيره بالخير، ودفع غيره للاقتداء به، والإشارة إلىٰ سعة الرحمة الإلهيَّة والثواب بحيث يشمل
ص: 140
الدنيا والآخرة، ولا ينقص هذا من ثوابه في الآخرة شيئاً، قال تعالىٰ: ﴿إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 120 شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 121 وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ 122﴾ (النحل: 120 - 122).
(علىٰ أنَّ الأخبار عن الأئمَّة الأطهار (علیهم السلام) مستفيضة بأنَّ من الأعمال ما يوجب الثواب في الدنيا والآخرة، فمن ذلك ما رواه ثقة الإسلام في الكافي بسنده عن أبي جعفر (علیه السلام) أنَّه قال: «صلة الأرحام تُزكّي الأعمال، وتُنمّي الأموال، وتدفع البلوىٰ، وتُيسِّر الحساب، وتُنسئ في الأجل»(1).
وعنه (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أعجل الخير ثواباً صلة الرحم»(2).
وبسند صحيح عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنَّه قال: «من أغاث أخاه المؤمن اللهفان اللهثان عند جهده، فنفَّس كربته، وأعانه علىٰ نجاح حاجته، كتب الله (عزوجلّ) له بذلك ثنتين وسبعين رحمة من الله، يعجل له منها واحدة يُصلِح بها أمر معيشته، ويدَّخر له إحدىٰ وسبعين رحمة لأفزاع يوم القيامة وأهواله»(3)...)(4).
عن أبي جعفر (علیه السلام) في قوله: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ﴾: «فأمَّا الحسنىٰ فالجنَّة، وأمَّا الزيادة فالدنيا، ما أعطاهم الله في الدنيا لم
ص: 141
يحاسبهم به في الآخرة، ويجمع لهم ثواب الدنيا والآخرة، ويُثيبهم بأحسن أعمالهم في الدنيا والآخرة، يقول الله: ﴿وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ 26﴾ [يونس: 26]»(1).
و(في أمالي الصدوق عن الصادق (علیه السلام) في قوله (عزوجلّ): ﴿رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ 201﴾ [البقرة: 201]، قال: «رضوان الله والجنَّة في الآخرة، والسعة في الرزق والمعاش، وحسن الخُلُق في الدنيا»(2).
وفي النبوي 9: «الحسنة في الدنيا الصحَّة والعافية، وفي الآخرة المغفرة والرحمة»(3))(4).
وأمَّا إذا كان غير مؤمن، فتقديم ثواب عمله لأجل أنَّ الله تعالىٰ حيث إنَّه عادل ولا يحيف أحداً أبداً، فإنَّه تعالىٰ كتب علىٰ نفسه الرحمة بأن يُعطي الثواب لكلِّ من يعمل صالحاً، بغضِّ النظر عن هويَّته العقائدية. نعم، من كان علىٰ غير الخطِّ الذي رسمه الله تعالىٰ فربَّما عجَّل الله تعالىٰ له جزاءه ليستوفيه في الحياة الدنيا، فيبقىٰ في الآخرة من غير عمل صالح.
روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ما أحسن محسن من مسلم ولا كافر إلَّا أثابه الله»، قال: فقلنا: يا رسول الله، ما إثابة الكافر؟ قال: «إن كان قد وصل رحماً، أو تصدَّق بصدقة، أو عمل حسنة، أثابه الله تعالىٰ المال والولد والصحَّة وأشباه ذلك»، قال: فقلنا: ما إثابته في الآخرة؟ قال:
ص: 142
«عذاباً دون العذاب»، قال: وقرأ: «﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ46﴾ [غافر: 46]»(1).
وأمَّا عن تقديم عقاب بعض الأعمال السيِّئة، فهو ما ربَّما نواجه فيه شبهةً أو سؤالاً، إذ عرفنا أنَّ الدنيا دار عمل بلا حساب، فكيف يُحاسَب المذنب هنا في الدنيا؟
وفي الحقيقة، يمكننا تلمّس العديد من الحِكَم في هذا التقديم للعقاب، نذكر منها:
أوَّلاً: إنَّ الذي يُؤجَّل من العقاب علىٰ الذنوب أكثر بكثير من الذي يُعجَّل، فلا يُعَدُّ تقديم البعض القليل خرقاً للقاعدة ولا منافياً للحكمة، قال تعالىٰ: ﴿وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ 61﴾ (النحل: 61).
وقال تعالىٰ: ﴿وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً 45﴾ (فاطر: 45).
ثانياً: إنَّ الأصل ليس هو تأخير العقوبة، بل هو تعقيب الذنب بالعقوبة، كحال القوانين الوضعية اليوم، فليس في الجريمة تأخير، وإنَّما تكون المؤاخذة ساعة ثبوت الجريمة، فالأصل في المخالفة هو العقوبة، والتأخير هو الذي يحتاج إلىٰ دليل، والدين أجَّل أغلب العقوبات، ورفع عنّا الإصر الذي كان علىٰ الأُمم السابقة...(2).
ص: 143
ولكن من حقِّ الشارع المقدَّس أن يُقدِّم، وتقديمه لا يُعتَبر نقضاً للغرض، ولا مخالفاً للأصل.
وفي هذا المجال يقول الإمام السجّاد (علیه السلام): «يَا إلهِي، لَوْ بَكَيْتُ إلَيْكَ حَتَّىٰ تَسْقُطَ أَشْفَارُ عَيْنَيَّ، وَانْتَحَبْتُ حَتَّىٰ يَنْقَطِعَ صَوْتِي، وَقُمْتُ لَكَ حَتَّىٰ تَتَنَشَّرَ قَدَمَايَ، وَرَكَعْتُ لَكَ حَتَّىٰ يَنْخَلِعَ صُلْبِي، وَسَجَدْتُ لَكَ حَتَّىٰ تَتَفَقَّأَ حَدَقَتَايَ، وَأكَلْتُ تُرَابَ الْأَرْضِ طُولَ عُمْرِي، وَشَرِبْتُ مَاءَ الرَّمَادِ آخِرَ دَهْرِي، وَذَكَرْتُكَ فِي خِلاَلِ ذَلِكَ حَتَّىٰ يَكِلَّ لِسَانِي، ثُمَّ لَمْ أَرْفَعْ طَرْفِي إلَىٰ آفَاقِ السَّمَاءِ اسْتِحْيَاءً مِنْكَ، مَا اسْتَوْجَبْتُ بِذَلِكَ مَحْوَ سَيِّئَة وَاحِدَة مِنْ سَيِّئاتِي، وَإِنْ كُنْتَ تَغْفِرُ لِي حِينَ أَسْتَوْجِبُ مَغْفِرَتَكَ، وَتَعْفُو عَنِّي حِينَ أَسْتَحِقُّ عَفْوَكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ لِي بِاسْتِحْقَاقٍ، وَلَا أَنَا أَهْلٌ لَه بِاسْتِيجَابٍ، إِذْ كَانَ جَزَائِي مِنْكَ فِي أَوَّلِ مَا عَصَيْتُكَ النَّارَ، فَإِنْ تُعَذِّبْنِي فَأَنْتَ غَيْرُ ظَالِمٍ لِي...»(1).
ص: 144
ثالثاً: إنَّ فضاعة بعض الذنوب لا تتحمَّل التأجيل إلىٰ الآخرة، فلا بدَّ من أن يرىٰ الناس عواقبها، فإنَّ الله تعالىٰ وإن كان رحيماً وغفوراً، ولكنَّه في الوقت ذاته شديد العقاب، وهو يغضب لبعض الأفراد من الناس، وغضبه قد يُنزِل العقوبة بالمذنب وإن كان في الدنيا. والروايات تذكر مفردات تلك الذنوب التي تعجل عقوبتها، كما سنرىٰ إن شاء الله تعالىٰ.
رابعاً: إنَّ نفس تعجيل العقوبة هو رحمة إلهيَّة مستعجلة، فإنَّ الناس عندما يرون عواقب بعض الذنوب سيعمل العاقلون منهم علىٰ اجتنابها، فإنَّه رغم التحذيرات الإلهيَّة والمعصومية المتكرِّرة، إلَّا أنَّ كثيراً من الناس قد يغفل عن فضاعة تلك الذنوب، فتأتي تلك العقوبات المستعجلة للبعض حتَّىٰ تقرع جرس الإنذار في النفوس الغافلة. وفي ذلك يقول رسول الله الأعظم (صلی الله علیه و آله): «احذر سكر الخطيئة، فإنَّ للخطيئة سكراً كسكر الشراب، بل هي أشدُّ سكراً منه، يقول الله تعالىٰ: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ 18﴾ [البقرة: 18]»(1).
خامساً: إنَّ بعض أو أغلب الذنوب المعجَّلة عقوبتها هي من قبيل الذنوب الاجتماعية، كعقوق الوالدين وقطع صلة الرحم والبغي علىٰ الناس، فتعجيلها فيه تطييب الخواطر وتطمين للقلوب المنكسرة، فإنَّ الله تعالىٰ ﴿يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحجّ: 38] وهو «عند المنكسرة قلوبهم»(2).
سادساً: هذا فضلاً عن أنَّ تعجيل العقوبة يُعتَبر أحد مكفِّرات الذنوب ومسقطات عقوباتها، وربَّما يكون هذا خاصّاً بالمؤمنين الذين
ص: 145
يرأف الله تعالىٰ بهم فيُعجِّل عقوبتهم حتَّىٰ يصل إلىٰ الآخرة فارغاً من الذنوب فيدخل الجنَّة إن شاء الله تعالىٰ.
وهذا ما تشير إليه بعض الروايات، يقول الإمام الصادق (علیه السلام): «إذا أراد الله (عزوجلّ) بعبد خيراً عجَّل عقوبته في الدنيا، وإذا أراد بعبد سوءاً أمسك عليه ذنوبه حتَّىٰ يوافي بها يوم القيامة»(1).
ويقول رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إنَّ المؤمن إذا قارف الذنوب وابتلي بها ابتلي بالفقر، فإن كان في ذلك كفّارة لذنوبه وإلَّا ابتلي بالمرض، فإن كان ذلك كفَّارة لذنوبه وإلَّا ابتلي بالخوف من السلطان يطلبه، فإن كان في ذلك كفّارة لذنوبه وإلَّا ضيَّق عليه عند خروج نفسه، حتَّىٰ يلقاه وما له من ذنب يدَّعيه عليه، فيأمر به إلىٰ الجنَّة»(2).
ويقول الإمام عليّ (علیه السلام): «ما من الشيعة عبد يقارف أمراً نهيناه عنه فيموت حتَّىٰ يبتلي ببلية تُمحِّص بها ذنوبه، إمَّا في مال، وإمَّا في ولد، وإمَّا في نفسه، حتَّىٰ يلقىٰ الله (عزوجلّ) وما له ذنب، وإنَّه ليبقىٰ عليه الشيء من ذنوبه فيُشدَّد به عليه عند موته»(3).
ويقول رسول الله (صلی الله علیه و آله)، عن جبرئيل (علیه السلام)، عن الله (عزوجلّ): «يا محمّد، إنّي حظرت الفردوس علىٰ جميع النبيّين حتَّىٰ تدخلها أنت وعليّ وشيعتكما، إلَّا من اقترف منهم كبيرة، فإنّي أبلوه في ماله أو بخوف من سلطانه حتَّىٰ تلقاه الملائكة بالروح والريحان وأنا عليه غير غضبان، فيكون ذلك حلّاً لما كان منه»(4).
ص: 146
ويقول الإمام الرضا (علیه السلام) في قوله تعالىٰ: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ﴾ منكم ﴿عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ 39﴾ [الرحمن: 39]: «إنَّ من اعتقد الحقَّ ثمّ أذنب ولم يتب في الدنيا عُذِّب عليه في البرزخ، ويخرج يوم القيامة وليس له ذنب يُسئَل عنه»(1).
ويقول رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وماله وولده حتَّىٰ يلقىٰ الله تبارك وتعالىٰ وما عليه من خطيئة»(2).
لخَّصت لنا الروايات الشريفة تلك الذنوب بالتالي:
1 - عقوق الوالدين.
2 - البغي علىٰ الناس، وظلمهم، خصوصاً الفقراء، ومن لا يجد ناصراً إلَّا الله تعالىٰ.
3 - كفر الإحسان.
4 - قطع صلة الرحم.
5 - المجاهرة بالمعاصي.
6 - اليمين الكاذبة.
7 - التقصير في حقِّ النعمة.
8 - الغدر بمن يعاهد علىٰ الوفاء.
والأحاديث الواردة في ذلك عديدة، هذه بعضها:
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ثلاثة من الذنوب تُعجَّل عقوبتها ولا
ص: 147
تُؤخَّر إلىٰ الآخرة: عقوق الوالدين، والبغي علىٰ الناس، وكفر الإحسان»(1).
وقال الإمام الباقر (علیه السلام): «أربعة أسرع شيء عقوبةً: رجل أحسنت إليه ويكافيك بالإحسان إليه إساءة، ورجل لا تبغي عليه وهو يبغي عليك، ورجل عاهدته علىٰ أمر فمن أمرك الوفاء له ومن أمره الغدر بك، ورجل يصل قرابته ويقطعونه»(2).
وعنه (علیه السلام): «في كتاب عليٍّ (علیه السلام): ثلاث خصال لا يموت صاحبهنَّ أبداً حتَّىٰ يرىٰ وبالهنَّ: البغي، وقطيعة الرحم، واليمين الكاذبة»(3).
وقال الإمام عليّ (علیه السلام) - لمَّا سُئِلَ: أيُّ ذنب أعجل عقوبةً لصاحبه؟ -: «من ظلم من لا ناصر له إلَّا الله، وجاور النعمة بالتقصير، واستطال بالبغي علىٰ الفقير»(4).
وعنه (علیه السلام): «مجاهرة الله بالمعاصي تُعجِّل النقم»(5).
«لَعَلَّكَ بِقِلَّةِ حَيائِي مِنْكَ جازَيْتَنِي»:
في حياته الاجتماعية، يحتاج الإنسان إلىٰ التقدير الذاتي من نفسه ومن غيره، حتَّىٰ قيل: (إنَّ كلَّ إنسان يقول بلسان حاله: يا ناس احترموني).
ولكي يكتسب الإنسان التقدير، عليه أن يلتزم أُموراً متعارفة تُعتَبر من القوانين الاجتماعية التي لا تقبل المسامحة.
ص: 148
ومن تلك الأُمور هي الابتعاد عن معاقرة الأفعال الشانئة التي تخالف العفاف، أو تخالف الحياء الاجتماعي، لذلك تجد البعض يُحِبُّ أن يلبس ملابس معيَّنة، ربَّما رديئة، وربَّما قصيرة زيادةً عن المعتاد، ولكنَّه يمتنع عنها بسبب أنَّ المجتمع لا يقبل ذلك في محيطه، حتَّىٰ لو كان عند ذلك الفرد استعداد نفسي لفعل ذلك، ولكنَّه يمتنع عن ذلك بسبب قانون وحدود المجتمع، أي إنَّ المجتمع يهيمن علىٰ أفراده.
ولكن رغم ذلك تجد البعض فاقداً للحياء، فيقوم بكسر طوق المجتمع ويتجاسر علىٰ هيمنته، فيخرج رافعاً شعار: (خالف تُعرَف)، فيخرج لابساً ما لا يرضاه المجتمع، وقُلْ مثل ذلك في الرضا بملابس الأولاد والزوجة، وقُلْ مثله في قضيَّة الألفاظ، وغيرها.
في الحديث عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لم يبقَ من أمثال الأنبياء إلَّا قول الناس: إذا لم تسحي فاصنع ما شئت»(1).
والعلاقة مع الله تعالىٰ أيضاً تخضع لهذا القانون، قانون الحياء، فمن يتذكَّر ويستحضر المراقبة الإلهيَّة لا يمكنه أن يتجرَّأ علىٰ مخالفته ومعصيته، لأنَّ حياءه منه تعالىٰ يمنعه، ومن هنا يمكن القول: إنَّ مصدر ذنب العارف بالمراقبة الإلهيَّة هو عدم الحياء، بمعنىٰ أنَّ الإنسان إذا كان حيياً من الله تعالىٰ، وكان عارفاً بالمراقبة الإلهيَّة، فإنَّه لن يعصيَ الله تعالىٰ، ولكنَّه إذا كان عارفاً ومع ذلك عصاه، فهذا معناه أنَّه لا يستحيي من الله تعالىٰ، وإلَّا فلو كان حيياً لما جاهر الله تعالىٰ بالمعصية.
وهذا الكلام ليس تنظيراً نظرياً فقط، بل هو أمر عملي وابتلائي
ص: 149
يومي، الإمام السجّاد (علیه السلام) في دعاء أبي حمزة الثمالي يقول: «فَلَوِ اطَّلَعَ اليَوْمَ عَلىٰ ذَنْبِي غَيْرُكَ ما فَعَلْتُهُ، وَلَوْ خِفْتُ تَعْجِيلَ العُقُوبَةِ لاجْتَنَبْتُهُ»(1).
فالإنسان عادةً يستحيي من الإنسان الآخر، فلا يجاهر بالمعصية أمامه، خصوصاً إذا كانت تلك المعصية ممَّا يُقلِّل من شأن الإنسان ويهتك حرمته، ولكن البعض رغم اطِّلاع الله تعالىٰ عليه فإنَّه يجاهره بالمعصية!
يقول تعالىٰ: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً108﴾ (النساء: 108).
إنَّ قلَّة الحياء من الله تعالىٰ وبالتالي انعدامه، تُجرِّئ الإنسان علىٰ المعصية، وبالتالي تُؤثِّر علىٰ القلب سلباً، فينتكس ويدبر عن الحقِّ جلَّ وعلا.
ولذا يُحذِّرنا الإمام الصادق (علیه السلام) من معاقرة الذنوب لأسباب عديدة، أهمّها أنَّ الله تعالىٰ حيث إنَّه مطَّلع علينا، فلربَّما أخذنا بذنوبنا، يقول (علیه السلام): «إذا هممت بسيِّئة فلا تعملها، فإنَّه ربَّما اطَّلع الله علىٰ العبد وهو علىٰ شيء من المعصية فيقول: وعزَّتي وجلالي لا أغفر لك بعدها أبداً»(2).
من هنا، تجد الروايات الشريفة تُؤكِّد علىٰ أنَّ من أهمّ ما يجعل الإنسان مطيعاً لله تعالىٰ ولا يعصيه أبداً هو أن يكون حيياً من الله تعالىٰ.
ص: 150
يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «الحياءُ يصدُّ عن القبيح»(1)، و«علىٰ قدر الحياء تكون العفَّة»(2).
بل ربط الإمام الباقر (علیه السلام) بين الحياء والإيمان ربطاً وثيقاً ببيان رائع يقول فيه: «الحياء والإيمان مقرونان في قرن، فإذا ذهب أحدهما تبعه صاحبه»(3).
بل قال النبيُّ الأكرم (صلی الله علیه و آله): «الحياء هو الدين كلّه»(4).
ولذا فإنَّه «لا حياء لمن لا دين له» كما قال الإمام الحسن (علیه السلام) (5)، كما أنَّه «لا إيمان لمن لا حياء له» كما قال الإمام الصادق (علیه السلام) (6).
أوَّلاً: الابتهاج بالذنب رغم الاطِّلاع الإلهي، قال الإمام زين العابدين (علیه السلام): «إيّاك والابتهاج بالذنب، فإنَّ الابتهاج به أعظم من ركوبه»(7).
ثانياً: عدم الحياء من الله تعالىٰ في الخلوة، رغم الحياء من الناس، فإنَّ فاعل ذلك جبان بكلِّ تأكيد، لأنَّه لا يستطيع أن يواجه المجتمع بذنبه، ولكنَّه في الوقت ذاته لا حياء له، لأنَّ الله تعالىٰ رغم اطِّلاعه عليه ومسامحته له فإنَّه يعصيه ويستغلّ رحمته جلَّ وعلا.
ص: 151
يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «اتَّقُوا مَعَاصِيَ اللهِ فِي الْخَلَوَاتِ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الْحَاكِمُ»(1).
ويقول الإمام الباقر (علیه السلام): «من ارتكب الذنب في الخلاء لم يعبأ الله به»(2).
من هنا قال الإمام زين العابدين (علیه السلام): «خف الله جلَّ ذكره لقدرته عليك، واستحي منه لقربه منك»(3).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «استحي من الله استحياءك من صالحي جيرانك، فإنَّ فيها زيادة اليقين»(4).
ثالثاً: استعمال نِعَم الله تعالىٰ في معصيته، وهذا من أشدّ أنواع عدم الحياء! فالله تعالىٰ جهَّزك بكلِّ الآلات التي تخدمك وتُقدِّم لك ما تريد، ولكن مع الأسف البعض يستعمل تلك الآلات في المعاصي.
يداك ورجلاك، فمك ولسانك، بطنك وفرجك، عقلك وذكاؤك، أموالك وجاهك، سلطتك وسطوتك، وكلُّ وجودك هو هبة مجّانية من الله تعالىٰ، فيا قلَّة حياء من لا يحسن استعمال هذه الآلات في ما يرضاه الله تعالىٰ.
إنَّ حقَّ تلك الآلات - لولا الرحمة الإلهيَّة - هو أن يُحاسبنا الله تعالىٰ عليها، أي علىٰ مجرَّد تزويدنا بها، فضلاً عن كيفية استخدامها، ولكن وكما يقول مولانا الإمام السجّاد (علیه السلام): «... ثُمَّ لَمْ تَسُمْه
ص: 152
الْقِصَاصَ فِيمَا أَكَلَ مِنْ رِزْقِكَ الَّذِي يَقْوَىٰ بِه عَلَىٰ طَاعَتِكَ، ولَمْ تَحْمِلْه عَلَىٰ المُنَاقَشَاتِ فِي الآلَاتِ الَّتِي تَسَبَّبَ بِاسْتِعْمَالِهَا إِلَىٰ مَغْفِرَتِكَ، وَلَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ بِه لَذَهَبَ بِجَمِيعِ مَا كَدَحَ لَه وَلَصَارَتْ جُمْلَةِ مَا سَعَىٰ فِيه جَزَاءً لِلصُّغْرَىٰ مِنْ مِنَنِكَ، وَلَبَقِيَ رَهِيناً بَيْنَ يَدَيْكَ بِسَائِرِ نِعَمِكَ، فَمَتَى كَانَ يَسْتَحِقُّ شَيْئاً مِنْ ثَوَابِكَ؟...»(1).
إنَّ أحاديث أهل البيت (علیهم السلام) لم تنسَ هذا الجانب، بل أشبعته بالبحث وأغنتنا عن تجشّمه، وهم بذلك رسموا لنا الطريق السالكة نحو الحياء الممدوح من الله تعالىٰ، والروايات أكَّدت علىٰ عدَّة نقاط تُمثِّل الطريق نحو الحياء، وهي:
كما تقدَّمت الأحاديث في ذلك، ونُكرِّرها هنا، وهي:
قال الإمام زين العابدين (علیه السلام): «خف الله جلَّ ذكره لقدرته عليك، واستحي منه لقربه منك»(2).
وقال الإمام الكاظم (علیه السلام): «استحيوا من الله في سرائركم كما تستحيون من الناس في علانيتكم»(3).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «استحي من الله استحياءك من صالحي جيرانك، فإنَّ فيها زيادة اليقين»(4).
ص: 153
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ليستحي أحدكم من ملكيه اللذين معه، كما يستحي من رجلين صالحين من صالح جيرانه، وهما معه بالليل والنهار»(1).
يقول أمير المؤمنين (علیه السلام) مذكِّراً لنا بحتمية الموت: «أنَّك طريد الموت الذي لا ينجو [منه] هاربه، ولا بدَّ أنَّه يُدرِكك يوماً، فكن منه علىٰ حذر أن يُدرِكك علىٰ حالِ سيِّئة قد كنت تُحدِّث نفسك فيها بالتوبة، فيحول بينك وبين ذلك، فإذا أنت قد أهلكت نفسك. أي بنيَّ، أكثر ذكر الموت، وذكر ما تهجم عليه، وتُفضي بعد الموت إليه، واجعله أمامك حتَّىٰ يأتيك وقد أخذت منه حذرك، ولا يأخذك علىٰ غرَّتك»(2).
وذلك يتمُّ من خلال عدَّة طرق، من أهمّها تذكّر نعيم الآخرة وما فيها، يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «وأكثر ذكر الآخرة وما فيها من النعيم والعذاب الأليم، فإنَّ ذلك يُزهِّدك في الدنيا ويُصغِّرها عندك»(3).
وهي اللسان والعينان والأُذُنان، وآثار كلّ واحدة - الإيجابية والسلبية - أوضح من الشمس، وأبين من الأمس.
فإنَّ لها أثراً بالغاً في حياة الإنسان مطلقاً، فينبغي علىٰ المؤمن
ص: 154
الوقوف علىٰ مطالع الحلال فقط والابتعاد عن كلِّ ما فيه حرام، بل وشبهة. وهذا يحكي عن حياء من الله تعالىٰ أن يبرز له بصلاته ببطن حاوية للحرام.
وقد جمع هذه المعاني الأربعة الأخيرة قول رسول الله (صلی الله علیه و آله): «استحيوا من الله حقَّ الحياء»، فقيل: يا رسول الله، ومن يستحيي من الله حقَّ الحياء؟ فقال: «من استحيىٰ من الله حقَّ الحياء فليكتب أجله بين عينيه، وليزهد في الدنيا وزينتها، ويحفظ الرأس وما حوىٰ، والبطن وما وعىٰ، ولا ينسىٰ المقابر والبلىٰ»(1).
وقول الإمام الكاظم (علیه السلام): «رحم الله من استحيىٰ من الله حقَّ الحياء، فحفظ الرأس وما حوىٰ، والبطن وما وعىٰ، وذكر الموت والبلىٰ، وعلم أنَّ الجنَّة محفوفة بالمكاره، والنار محفوفة بالشهوات»(2).
واضح بأدنىٰ اطِّلاع أنَّ كثيراً من الأحكام الشرعية المحظورة تباح عند ضرورة ما، أو عند هدف أهمّ، وهو ما يُعبَّر عنه بالأحكام الأوَّلية والثانوية، فالرياء مبطل للعمل، ولكنَّه إذا قُصِدَ به التعليم صحَّ واستُحِبَّ، بل لم يكن آنذاك رياءً. وأكل الميتة حرام، ولكن إذا توقَّف عليه إنقاذ النفس جاز. ومن هذا الباب الحياء، فهو مطلوب في العلاقة مع الله تعالىٰ، ومع الناس إذا اعتُبِرَ من حسن الخلق، ولكن في الوقت ذاته تجد موارد يكون الحياء مع الناس فيها مذموماً، والموارد عديدة، نذكر منها:
ص: 155
ربَّما يكون البعض ذا منصب وجاه، فهو مخدوم علىٰ الدوام، ولكن مهما كان جاهه، فإنَّه ينبغي له أن يخدم ضيفه، وخدمته لضيفه لا تُنزِّل من قيمته، بل علىٰ العكس ترفع من شأنه، لأنَّ خدمته لضيفه تحكي عن حبِّه له، وعن تواضعه لغيره، والتواضع من صفات العظماء.
عن ابن أبي يعفور، قال: رأيت عند أبي عبد الله (علیه السلام) ضيفاً، فقام يوماً في بعض الحوائج، فنهاه عن ذلك، وقام بنفسه إلىٰ تلك الحاجة، وقال (علیه السلام): «نهىٰ رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن أن يُستَخدم الضيف»(1).
إنَّ في خدمة الضيف (تعبيراً عن المودَّة والاعتزاز والتواضع والبساطة، وفي ذلك ثواب كريم، لقول رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أيّما مسلم خدم قوماً من المسلمين إلَّا أعطاه الله مثل عددهم خدّاماً في الجنَّة»(2)، وقد يأنف البعض أن يقوم بنفسه في خدمة ضيفه، فيرىٰ من الشرف أن يُكلِّف خادمه بذلك، بينما يقول الإمام الصادق (سلام الله عليه): «أربع لا ينبغي لشريف أن يأنف منها: قيامه من مجلسه لأبيه، وخدمته لضيفه، وقيامه لدابَّته ولو أنَّ له مائة عبد، وخدمته لمن يتعلَّم منه»(3))(4).
ولا شكَّ في ذلك، وهل يمكن لأحد أن ينكر ضرورة احترامهما، وهما هما اللذان يكونان سبباً في وجودك (الأب) وحياتك (المعلِّم).
ص: 156
واحترامهما أوَّل وأهمّ حقوقهما، وتلك الحقوق كثيرة، سطرها الإمام السجّاد (علیه السلام) باختصار في رسالته في الحقوق:
«... وحقُّ سائسك بالعلم التعظيم له، والتوقير لمجلسه، وحسن الاستماع إليه، والإقبال عليه، وأن لا ترفع عليه صوتك، وأن لا تجيب أحداً يسأله عن شيء حتَّىٰ يكون هو الذي يجيب، ولا تُحدِّث في مجلسه أحداً، ولا تغتاب عنده أحداً، وأن تدفع عنه إذا ذُكِرَ عندك بسوء، وأن تستر عيوبه وتُظهِر مناقبه، ولا تجالس له عدوّاً ولا تعادي له وليّاً، فإذا فعلت ذلك شهد لك ملائكة الله بأنَّك قصدته وتعلَّمت علمه لله جلَّ اسمه لا للناس...، وأمَّا حقُّ أبيك فأن تعلم أنَّه أصلك، وأنَّه لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك ممَّا يُعجبك فاعلم أنَّ أباك أصل النعمة عليك فيه، فاحمد الله واشكره علىٰ قدر ذلك. ولا قوَّة إلَّا بالله...»(1).
فهي علامة صدق الإيمان، سواء كان الحقُّ شخصياً أو عامّاً، ف- «أفضل الجهاد كلمة حقٍّ عند سلطان جائر»(2)، ومن استحيىٰ من طلب حقِّه عاش الحرمان والخيبة، فعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أتقىٰ الناس من قال الحقَّ فيما له وعليه»(3).
وعن الإمام الصادق (علیه السلام): «إنَّ علىٰ المؤمن سبعة حقوق، فأوجبها أن يقول الرجل حقّاً وإن كان علىٰ نفسه أو علىٰ والديه، فلا يميل لهم عن الحقِّ»(4).
ص: 157
وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ألَا لا يمنعنَّ رجلاً مهابة الناس أن يقول بالحقِّ إذا علمه...، ألَا وإنَّ أفضل الجهاد كلمة حقٍّ عند سلطان جائر»(1).
فلا حياء في طلب العلم، ولا إرث للحياء فيه إلَّا الجهل، وهذا ما لا ينكره أحد، فعليك أن تطلب العلم كما طلبه كميل بن زياد في قصَّة دعاء الخضر المعروفة(2).
عليك أن تطلبه كما طلبه علماؤنا، إنَّهم تركوا الأوطان وجاعوا وتغرَّبوا وتركوا الأموال في سبيل أن يحصلوا علىٰ العلم.
واعلم أنَّنا لا نستطيع أن نفعل ما فعلوا، ولكن هناك قدراً مهمّاً من العلم لا يجوز لأحد أن يستغني عنه أو أن يجهله أو يتجاهله، كبعض المسائل الفقهية الداخلة في الابتلاء اليومي، كالطهارات والصلاة والصوم والخمس والتجارات ومسائل التواصل الاجتماعي وما أشبهها، فلا بدَّ علىٰ المرء أن يطلبها من دون حياء، إلَّا فسيقول الله تبارك وتعالىٰ له يوم القيامة: لِمَ لم تتعلم؟!
لم يُكتَب للإنسان في هذه الحياة أن يكون عالماً بجميع ما في الكون وما في الوجود، بل إنَّ جهات الجهل التي تحيط به هي أكثر بكثير من جهات العلم، بل لا قياس بين الأمرين! ومعه، فلا يمكن للإنسان - ما عدا المعصوم طبعاً - أن يكون عالماً بكلِّ شيء، وبالتالي لا يمكنه أن
ص: 158
يجيب عن كلِّ ما يُسئَل، وعليه أن يعترف بجهله من دون حياء، فليس العيب في أن يعترف أحد بجهله، إنَّما العيب أن يدَّعي مقاماً ليس هو من أهله، كمن يدَّعي العلم وهو أقرب للجهل منه إلىٰ العلم، ولذا وردت التعليمات التربوية الدينية بشأن ذلك، وأنَّ علىٰ الإنسان أن لا يستحي من أن يقول: (لا أعلم) للشيء الذي لا يعلمه.
وقد أخذت الأحاديث علىٰ عاتقها بيان هذه المفردات، نذكر بعضها:
قال الإمام الصادق (علیه السلام): «من رقَّ وجهه رقَّ علمه»(1).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الحياء حياءان: حياء عقل، وحياء حمق. فحياء العقل هو العلم، وحياء الحمق هو الجهل»(2).
وقال الإمام عليّ (علیه السلام): «من استحيىٰ من قول الحقِّ فهو أحمق»(3).
وقال (علیه السلام): «لَا يَسْتَحِيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِذَا سُئِلَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ أَنْ يَقُولَ لَا أَعْلَمُ، وَلَا يَسْتَحِيَنَّ أَحَدٌ إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الشَّيْءَ أَنْ يَتَعَلَّمَه»(4).
إنَّ قلوب البشر تخضع لقانون التبدّل والتغيير، فليست هي علىٰ حالة واحدة دائمة، وإنَّما هي تتقلَّب، ولذلك سُمّي القلب قلباً! ولتغيّرها أسباب، فلإقبالها أسباب، ولإدبارها أسباب أيضاً، وقد تقدَّم في الفصل الثاني أسباب إقبالها، والآن الكلام عن أسباب إدبارها مع البشر.
ص: 159
خلق الله تعالىٰ بني آدم بصورة واحدة متشابهة، فالإنسان نظير الإنسان في الخلق، وهذا يعني أن من شأن هذا أن يتآلف الناس فيما بينهم، تآلف كلِّ شبيه وشبيه.
فلماذا نجد الناس يتباغضون ويتنافرون؟
ولماذا لا نجد قلوبهم متآلفة دائماً؟
ولماذا تُدبِر القلوب بعضها عن البعض الآخر؟
هناك أسباب عديدة تجعل القلوب تُدبِر بعضها مع البعض الآخر، وعلىٰ من يريد أن يجعل القلوب مدبِرة عنه أن يلتزم تلك الأسباب!
وأمَّا من يريد أن يجذب القلوب إليه، وأن يقلب إدبارها إقبالاً، فعليه أن يبتعد عنها، وأن يهرب منها هروبه من الأسد أو من مرض جذام!
لقد ذكرت الأدبيات الدينية كثيراً من هذه الأسباب، وهي أسباب موضوعية جاء الدين ليُرشِدنا إليها، ويُعرِّفنا بها، وهي عديدة، نذكر منها:
صحيح أنَّ الإنسان يتعامل مع الظاهر، وصحيح أنَّ معرفته بالباطن محدودة جدّاً، ولكن في خصوص المودّات فإنَّ القلوب لها القابلية(1) علىٰ اكتشاف الصادق منها من الكاذب، وقد تقدَّم في الفصل
ص: 160
الأوَّل أنَّ أهمّ الأُمور التي تكشف عن صدق المودَّة هي شهادة القلب، فإنَّه شاهد لا يقبل الرشوة. وبالتالي، فإنَّ سوء السريرة وخبثها يُرسِل رسالة لا مرئية متوجِّهة نحو القلب تُخبِره بكذب المودَّة، وفي لا شعور الإنسان تحدث ظاهرة معاكسة لتلك الرسالة ينشأ عنها سوء الظنِّ من الطرف الآخر، وبالتالي ستتنافر القلوب من حيث لا تعلم.
يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «إِنَّمَا أَنْتُمْ إِخْوَانٌ عَلَىٰ دِينِ اللهِ، مَا فَرَّقَ بَيْنَكُمْ إِلَّا خُبْثُ السَّرَائِرِ، وَسُوءُ الضَّمَائِرِ، فَلَا تَوَازَرُونَ، وَلَا تَنَاصَحُونَ، وَلَا تَبَاذَلُونَ، وَلَا تَوَادُّونَ»(1).
ما أعظمك يا أمير المؤمنين، تُعطي المرض وتُعطي أعراضه وتُعطي نتيجة الإصابة به، فالمرض هو سوء السريرة والضمائر، وأعراضه لمن يريد أن يكتشفها هي:
أ - عدم التآزر، بل الأفراد المرضىٰ بذلك المرض متفكِّكون وغير متعاونين، فإذا رأيت أفراداً كذلك فاعلم أنَّهم قد أُصيبوا بذلك المرض أو أوشكوا.
ب - عدم التناصح، فحتَّىٰ لو رأىٰ أخاه علىٰ أمر قبيح، فإنَّه يغضُّ الطرف عنه، كأنَّه ينتظر منه الوقوع في الحفرة ليشمت به!
ج - عدم التباذل، فتجد أحد أُولئك المرضىٰ ميسور الحال، ويرىٰ أخاه في حالة الصيهود المالي، ولكنَّه لا يُحرِّك ساكناً ولا يُغيِّر من موقف!
ونتيجة ذلك المرض هو عدم التوادِّ والمحبَّة، فالأفراد إذا لم يتواصلوا ولم يتباذلوا ولم يتآزروا ولم يتناصحوا، فإنَّ النتيجة الطبيعية لهذه الصفات هي فقدان المودَّة وانعدام المحبَّة فيما بينهم!
ص: 161
لسنا في صدد بيان الآثار السيِّئة المترتِّبة علىٰ سوء الخُلُق، بل في صدد بيان أثره في انعدام المودَّة فقط، وهذا ما أكَّدته الروايات الشريفة، ولكن ينبغي الالتفات - وهذه قاعدة عامَّة - أنَّ الروايات الشريفة عندما تذكر آثاراً تترتَّب علىٰ أمر ما، فإنَّها لا تتعامل بالمثاليات والخياليات! كلَّا، إنَّما هي تتكلَّم عن واقع يعيشه الأفراد، ولكنَّهم ربَّما يغفلون عن ترتّب تلك الآثار علىٰ ذاك الأمر، فتأتي الروايات الشريفة لتُرشِد الناس إلىٰ تلك الآثار.
وفي سوء الخُلُق، تذكر الروايات الشريفة آثاراً عجيبة عليه، كلّها تؤدّي إلىٰ فقدان المودَّة، وبالتالي إدبار القلوب وتنافرها.
فاقرأ هذه الروايات بتمعّن، واربطها بالواقع الذي تعيشه مع أفراد أخلاقهم سيِّئة، لترىٰ بعينك انعدام المودَّة.
يقول الإمام عليّ (علیه السلام): «من ساء خُلُقه ملَّه أهله»(1).
وقال (علیه السلام): «من ساء خُلُقه أعوزه الصديق والرفيق»(2).
وقال (علیه السلام): «من ساء خُلُقه ضاق رزقه»(3).
ففرد يعيش ضيق الرزق، ولا صديق يؤازره، ولا أهله يُحِبُّونه، هل ترىٰ أسوأ منه في نفرة القلوب عنه! وهذا ما عبَّرت عنه الروايات الشريفة بأنَّ صاحب الخُلُق السيِّئ سيكون معذِّباً لنفسه.
عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «من ساء خُلُقه عذَّب نفسه»(4).
ص: 162
علىٰ الإنسان أن يُسلِّم أمراً واقعياً لا محيص عنه، وهو: أنَّ العصمة ليست قاعدة عامَّة في البشر، وإنَّما العصمة لأهلها، وأهلها معروفون، وغيرهم معرَّضون للخطأ، ألف سبب وسبب يوقعهم في الخطأ، وهذا يعني أنَّ علينا أن نتقبَّل الأخطاء من أنفسنا ومن غيرنا. نعم، تقبّلنا لها لا يعني الرضا بها، بل يعني العمل علىٰ تصحيحها، ولكن الواقع هو أنَّ الإنسان معرَّض للخطأ، وبالتالي لا يمكنك أن تجد صديقاً خالٍ من الأخطاء، أي إنَّه لا بدَّ أن تتقبَّل حقيقة أنَّ أصدقاءك لديهم عيوب عديدة(1). وأمام هذه العيوب يقف الإنسان موقف المسؤولية، لو لم يتحمَّل هذه المسؤولية لتنافرت القلوب عنه، ولأدبرت عن محبَّته، إذ يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «من تتبَّع خفيّات العيوب حُرِمَ مودّات القلوب»(2).
ومسؤوليته تتضمَّن:
أوَّلاً: عدم تتبّع عيوب الآخرين، فإنَّ تتبّعها من أخلاق المنافقين، وفي ذلك روي عن إسحاق بن عمّار أنَّه قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: قال رسول الله (علیهم السلام): «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلىٰ قلبه، لا تذمّوا المسلمين، ولا تتَّبعوا عوراتهم، فإنَّه من تتبَّع عوراتهم تتبَّع الله عورته، ومن تتبَّع الله تعالىٰ عورته يفضحه ولو في بيته»(3).
ص: 163
وعن زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «إنَّ أقرب ما يكون العبد إلىٰ الكفر أن يواخي الرجلُ الرجلَ علىٰ الدين فيُحصي عليه عثراته وزلّاته ليُعنِّفه بها يوماً ما...»(1).
والأفضل أن يتابع المرء عيوب نفسه ويشتغل بها، ففي ذلك صلاح نفسه وغيره. وهذا ما أكَّده أمير المؤمنين (علیه السلام) في كثير من أحاديثه، فمثلاً يقول (علیه السلام): «أفضل الناس من شغلته معايبه عن عيوب الناس...، كفىٰ بالمرء شغلاً بمعايبه عن معايب الناس...، كفىٰ بالمرء غباوة أن ينظر من عيوب الناس إلىٰ ما خفىٰ عليه من عيوبه...، لينهك عن معايب الناس ما تعرف من معايبك...، ليكف من علم منكم من عيب غيره لما يعرف من عيب نفسه...، من أبصر عيب نفسه لم يعب أحداً...، من أنكر عيوب الناس ورضيها لنفسه فذلك الأحمق...، لا تتبعنَّ عيوب الناس فإنَّ لك من عيوبك (ان عقلت) ما يُشغِلك أن تعيب الناس»(2).
ثانياً: التغافل عن عيوب الآخرين لو انكشفت، فإنَّ ذلك من أخلاق المؤمنين، فقد ورد في وصايا الإمام زين العابدين (علیه السلام): «اعلم يا بنيَّ، أنَّ صلاح الدنيا بحذافيرها في كلمتين: إصلاح شأن المعايش ملء مكيال ثلثاه فطنة وثلثه تغافل، لأنَّ الإنسان لا يتغافل إلَّا عن شيء قد عرفه ففطن له»(3).
ويقول الإمام الباقر (علیه السلام): «صلاح شأن الناس التعايش والتعاشر ملء مكيال: ثلثاه فطن، وثلث تغافل»(4).
ص: 164
وستر العيوب مطلوب من الله تعالىٰ، لأنَّه تعالىٰ لا يُحِبُّ أن تشيع الفاحشة في المؤمنين، قال تعالىٰ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ 19﴾ (النور: 19).
ثالثاً: وحينئذٍ ستنكشف لنا بعض الحكمة في مبغوضية بعض التصرّفات الاجتماعية، كالغيبة والنميمة وظنِّ السوء والتجسّس والدخول بين اثنين لم يدخلاه في أمرهما وغيرها.
للنفس أفعال وانفعالات، ويترتَّب علىٰ كلٍّ منها آثار معيَّنة، وهي - أي الأفعال والانفعالات - تتأثَّر بدرجة إيمانها وصفائها، فمن كانت نفسه مؤمنة صافية، فإنَّها تفعل ما يصلح دنياها وآخرتها، وتنفع المجتمع، وتنفع الدين، وتنفع الكون كلّه، فتنتفع هي بذلك أيضاً. وأمَّا من كانت نفسه مريضة فما يصدر عنها من أفعال ستكون مريضة عليلة، وانفعالاتها ستكون كذلك.
ومن ضمن أفعال النفس المريضة: التكبّر علىٰ الآخرين، والنظر إليهم بعين الاحتقار، ورؤية المرء نفسه أعظم من غيره، فإنَّ هذا الخُلُق يحكي عن نفس مريضة، وعن إنسان نزع إنسانيته ليقترب من أقلّ البهائم، إنَّه نسي أنَّ كلَّ البشر يرجعون لآدم، وآدم خُلِقَ من تراب، نسي أنَّه عندما يضع يده علىٰ كلِّ فرد فرد، فإنَّه يجده إمَّا أخاً له في الدين، أو نظيراً له في الخَلْق(1)، فما من سبب يدعو أحداً إلىٰ التكبّر علىٰ غيره.
ص: 165
عن زرارة، عن أبي جعفر وأبي عبد الله (علیهما السلام)، قالا: «لا يدخل الجنَّة من في قلبه مثقال ذرَّة من كبر»(1).
فلاحظ دقَّة الحديث، إنَّه يجعل الكبر صفة للقلب والنفس، فهو من أفعالها، والكبر له وزن، والنفس كلَّما ابتعدت عن الإيمان كلَّما زاد وزن الكبر فيها، والعكس بالعكس، فالعلاقة بين الإيمان والكبر عكسية.
وهذه الصفة هي من موجبات قطع المودَّة وإدبار قلوب البشر عن المتكبِّر، يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «ليس لمتكبِّر صديق»(2)، «ومن استطال علىٰ الأخوان لم يخلص له إنسان»(3).
ولو لم يكن في الكبر إلَّا هذا الأثر لكان حريّاً بالحرِّ أن يتواضع ويبتعد عن الكبر.
فكيف إذا كان للكبر عدَّة آثار سيِّئة، خصوصاً في الآخرة؟!
عن ابن بُكير، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «إنَّ في جهنم لوادياً للمتكبِّرين يُقال له: سقر، شكا إلىٰ الله (عزوجلّ) شدَّة حرِّه وسأله أن يأذن له أن يتنفس فتنفَّس فأحرق جهنَّم»(4).
وعن داود بن فرقد، عن أخيه، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «إنَّ المتكبِّرين يُجعَلون في صور الذرِّ، يتوطَّؤهم الناس حتَّىٰ يفرغ الله من الحساب»(5).
ص: 166
ولكن، ما هي حقيقة الكبر؟
صحيح أنَّ الكبر والتكبّر صفة نفسانية، ولكن هذه الصفة لا تُعرَف إلَّا من خلال آثار لها في الخارج، وقد يشتبه البعض فيرمي بعض الناس بأنَّه متكبِّر والحال أنَّه ليس متكبِّراً، كمن يرىٰ شخصاً حسن الهيأة والهندام، بعيداً عن الوساخة والأقذار، مترفِّعاً عن الدنايا، فيعتبره متكبِّراً، والحقيقة ليست كذلك، إذ قد ذكرت الروايات الشريفة معنىٰ التكبّر والكبر، وخلاصة معناه هو:
1 - إنَّ الكبر هو الجحود والكفر بالله تعالىٰ.
2 - إنَّ الكبر هو الجهل بالحقِّ والطعن علىٰ أهله.
فعن محمّد بن مسلم، عن أحدهما (علیهما السلام)، قال: «لا يدخل الجنَّة من كان في قلبه مثقال حبَّة من خردل من الكبر»، قال: فاسترجعت، فقال: «ما لك تسترجع؟»، قلت: لما سمعت منك، فقال: «ليس حيث تذهب، إنَّما أعني الجحود، إنَّما هو الجحود»(1).
وعن عبد الأعلىٰ بن أعين، قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إنَّ أعظم الكبر غمص الخَلْق وسَفَه الحقِّ»، قال: قلت: وما غمص الخَلْق وسَفَه الحقِّ؟ قال: «يجهل الحقَّ ويطعن علىٰ أهله، فمن فعل ذلك فقد نازع الله (عزوجلّ) رداءه»(2).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا أبا ذر، من مات وفي قلبه مثقال ذرَّة من كبر لم يجد رائحة الجنَّة إلَّا أن يتوب قبل ذلك»، فقال رجل: يا رسول الله، إنّي ليعجبني الجمال حتَّىٰ وددت أنَّ علاقة سوطي وقبال نعلي
ص: 167
حسن، فهل ترهب عليَّ ذلك؟ قال: «كيف تجد قلبك؟»، قال: أجده عارفاً للحقِّ مطمئنّاً إليه، قال: «ليس ذلك بالكبر، ولكن الكبر أن تترك الحقَّ وتتجاوزه إلىٰ غيره، وتنظر إلىٰ الناس فلا ترىٰ أحداً عرضه كعرضك ولا دمه كدمك...»(1).
وقال الإمام الصادق (علیه السلام) لعبد الله بن طلحة: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لا يدخل الجنَّة عبد في قلبه مثقال ذرَّة من خردل من كبر، ولا يدخل النار عبد في قلبه مثقال حبَّة من خردل من إيمان»، قلت: جُعلت فداك، إنَّ الرجل ليلبس الثوب ويركب الدابَّة، فيكاد يعرف من نفسه الكبر؟ قال: «ليس ذلك بكبر، إنَّما الكبر إنكار الحقِّ، والإيمان إقرار بالحقِّ»(2).
وعن محمّد بن عمر بن يزيد، عن أبيه، قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): «إنَّني آكل الطعام الطيِّب، وأشمُّ الريح الطيِّبة، وأركب الدابَّة الفارهة، ويتبعني الغلام، فترىٰ في هذا شيئاً من التجبّر فلا أفعله؟ فأطرق أبو عبد الله (علیه السلام) ثمّ قال: «إنَّما الجبّار الملعون من غمص الناس وجهل الحقَّ»(3).
هناك فرق بين الاستهزاء، وبين الطرفة والنكتة الطريفة والتضاحك في الحدود المتعارفة، ممَّا كان يفعله رسول الله الأعظم (صلی الله علیه و آله)، فالإنسان يحتاج إلىٰ الترفيه عن نفسه بشيء من الطرفة الزكية الخالية من
ص: 168
الفحش والكذب والسباب، ليطيب خاطره، فالابتسامة مهمَّة جدّاً للحياة، وقد تقدَّم الكلام عنها.
ولكن الاستهزاء يرجع في حقيقته إلىٰ إذلال الآخر، ومحاولة إخراجه بصورة ناقصة أو مربكة أو التحايل عليه، ومن يكن كذلك فلييئس من المودَّة الصادقة، يقول الإمام الصادق (علیه السلام): «لا يطمعنَّ... المستهزئ بالناس في صدق المودَّة»(1).
إنَّ الاستهزاء من العوامل التي تُهدِّد كيان المجتمع، عندما يرىٰ البعض أنَّ غيرهم لا يتماشون مع طريقتهم وقناعاتهم، أو يرون غيرهم يضايقونهم في المال أو المنصب أو غيرها من شؤون الحياة الأُخرىٰ، فلكي يُحطِّموهم ويمنعوهم من منافستهم، فإنَّهم يعمدون إلىٰ إسقاطهم وتحطيم نفسياتهم بالاستهزاء بهم.
(علىٰ أيِّ حالٍ، فإنَّ كلَّ عضو من أعضاء المجتمع له موقعه، ويجب الانتفاع منه في توفير المصالح والمنافع الإسلاميَّة، وتحقيره يُسبِّب عدم إنجاز عمله النافع للمجتمع بصورة صحيحة، ولا يستفاد منه الفائدة المتوخّاة، وواضح أنَّ هذا الأمر يضرُّ بالمجتمع إضافةً إلىٰ احتمال ترك آثار سيِّئة في نفوس الأفراد، وإثارة روح الانتقام والردّ المقابل في الطرف الآخر...، يترتَّب علىٰ تحقير وتسقيط شخصية الآخرين - إضافةً إلىٰ التبعات الأخلاقية - خسائر وأضرار اجتماعية كبيرة أيضاً، ويُهدِّد وجود المجتمع وكيانه، وأقلّ أضرار ذلك هو ظهور العداء وتعكير الصفاء، وزوال التعاطف بين أعضاء المجتمع، ممَّا يؤدّي إلىٰ عدم المواساة والتعاون والتعايش في المجتمع...)(2).
ص: 169
وعلىٰ كلِّ حالٍ، فإنَّ الاستهزاء ذنب عظيم، يكفي أنَّه من الذنوب التي تُنزِل النقم، كما ورد هذا عن الإمام السجّاد (علیه السلام) حيث قال: «... والذنوب التي تُنزِل النقم: عصيان العارف بالبغي، والتطاول علىٰ الناس، والاستهزاء بهم، والسخرية منهم...»(1).
قال تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأَيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 11﴾ (الحجرات: 11).
وقال تعالىٰ في صفة المنافقين: ﴿وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ 14﴾ (البقرة: 14).
قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا بن مسعود، إنَّهم ليعيبون علىٰ من يقتدي بسُنَّتي وفرائض الله، قال الله تعالىٰ: ﴿فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ 110 إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ 111﴾ [المؤمنون: 110 و111]»(2).
وروي عنه (صلی الله علیه و آله): «إنَّ المستهزئين بالناس يُفتَح لأحدهم باب الجنة، فيقال له: هلمَّ هلمَّ، فيجيء بكربه وغمِّه، فإذا جاء أُغلق دونه، فما يزال كذلك حتَّىٰ إنَّ أحدهم يُفتَح له الباب من أبواب الجنَّة، فيقال له: هلمَّ، فما يأتيه من الأياس»(3).
ص: 170
وقال الإمام الباقر (علیه السلام) في قوله تعالىٰ: ﴿وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا ...﴾ [البقرة: 14]: «إنَّهم كهّانهم قالوا: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ أي علىٰ دينكم، ﴿إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ 14﴾ أي نستهزئ بأصحاب محمّد (صلی الله علیه و آله)، ونسخر بهم في قولنا: ﴿آمَنَّا﴾»(1).
هناك بعض من الأفراد الذين لا قيمة لأنفسهم عندهم يعملون علىٰ الاستهزاء ليس بالناس فقط، بل إنَّهم يستهزؤون بأنفسهم!
أمَّا كيف يكون ذلك؟
فهذا ما بيَّنه الإمام الرضا (علیه السلام)، حيث قال: «سبعة أشياء بغير سبعة أشياء من الاستهزاء: من استغفر بلسانه ولم يندم بقلبه فقد استهزأ بنفسه، ومن سأل الله التوفيق ولم يجتهد فقد استهزأ بنفسه، ومن استحزم ولم يحذر فقد استهزأ بنفسه، ومن سأل الله الجنَّة ولم يصبر علىٰ الشدائد فقد استهزأ بنفسه، ومن تعوَّذ بالله من النار ولم يترك شهوات الدنيا فقد استهزأ بنفسه، ومن ذكر الله ولم يستبق إلىٰ لقائه فقد استهزأ بنفسه»(2).
وكذلك ما ورد عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمقيم علىٰ الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ»(3).
لا شكَّ أنَّ للذنوب آثاراً متعدِّدة وكثيرة، بعضها مع الله تعالىٰ،
ص: 171
وبعضها مع البشر، أي إنَّ للذنوب مردودات سلبية تارةً علىٰ علاقة العبد بربِّه (عزوجلّ)، وأُخرىٰ علىٰ علاقته مع بقيَّة أبناء نوعه. هذا أوَّلاً.
وثانياً: إنَّ آثار الذنوب السلبية بين بني البشر لا تكون فقط بين المذنبين والمؤمنين، بل تتعدّىٰ ذلك لتُسبِّب آثاراً سلبية حتَّىٰ بين المذنبين أنفسهم، فكم رأينا من أصحاب المعاصي من كانوا خلّاناً، ولكنَّهم أصبحوا أعداءً!
وفي المقام، نجد الروايات الشريفة تُؤكِّد علىٰ أنَّ الذنوب هي أهمّ ما يجعل القلوب تتنافر وتتباعد! روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: «والذي نفس محمّد بيده ما توادَّ اثنان ففُرِّق بينهما إلَّا بذنب يُحدِثه أحدهما»(1).
وأظنُّ أنَّ هذا الأثر واضح الترتّب علىٰ الذنوب، فإنَّ العلاقة والمودَّة تنشأ من القلب، فإذا كان الذنب يُفسِد القلب فسد ما فيه أيضاً من المودَّة.
يقول الإمام الباقر (علیه السلام): «ما من عبد إلَّا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب تلك السواد، وإن تمادىٰ في الذنوب زاد ذلك السواد حتَّىٰ يُغطّي البياض، فإذا غطّىٰ البياض لم يرجع صاحبه إلىٰ خير أبداً، وهو قول الله (عزوجلّ): ﴿كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ 14﴾ [المطفِّفين: 14]»(2).
هذا بالإضافة إلىٰ أنَّ المودَّة هي نعمة من نِعَم الله تعالىٰ علىٰ العبد، فإذا كانت الذنوب تُذهِب بالنعم، فإنَّها تُذهِب بالمودَّة أيضاً!
ص: 172
يقول الإمام الصادق (علیه السلام): «ما أنعم الله علىٰ عبد نعمة فسلبها إيّاه حتَّىٰ يذنب ذنباً يستحقُّ بذلك السلب»(1).
كلُّ شيء في الوجود له حدود من جهة البداية والنهاية، تجاوزها يُؤثِّر سلباً شاء المرء أو أبىٰ. والحكمة تكون في المحافظة علىٰ الحدود المعقولة لكلِّ شيء.
والنصيحة حقٌّ من حقوق المؤمن علىٰ المؤمن، بل من حقوق الصديق علىٰ الصديق، ولها حدود معيَّنة يجب أن لا تتعدّاها.
إنَّ من الواجبات علىٰ المؤمن أن يُفعِّل دوره الرقابي في الحياة، أي أن يراقب زوجته وولده وجاره وصديقه وزميله ومعارفه وكلَّ من يمتُّ إليه بصلة، بل وكلَّ مسلم، بل وكلَّ إنسان، ويجب عليه أن ينصح كلَّ إنسان حسب الموقف، وحسب الظرف الموضوعي المناسب.
ولذلك اعتُبِرَت النصيحة واحدة من أهمّ أسباب اجترار المودَّة، يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «النصيحة تثمر الودّ»(2)، و«النصح يثمر المحبَّة»(3).
ولكن هذا لا يعني أن تنهال النصائح من دون آداب! فرُبَّ ناصح أخطأ في نصحه ووصل إلىٰ عكس ما يريده من نتيجة كان يتوخّاها!
ومن أهمّ حدود النصيحة أن لا تصل إلىٰ حدِّ التقريع!
وحتَّىٰ لا تصل إلىٰ حدِّ التقريع عليك باتِّباع التعليمات التالية:
ص: 173
1 - عليك أن تجعل نصحك لوجه الله تعالىٰ، حتَّىٰ تؤتي الشجرة أُكُلها! يقول الإمام الصادق (علیه السلام): «عليك بالنصح لله في خلقه، فلن تلقاه بعمل أفضل منه»(1).
2 - عليك بالسرّية في النصح قدر الإمكان، فإنَّه أحفظ لماء وجه الآخر، وأدوم للمحبَّة، وأنقع في النتيجة، يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «نصحك بين الملأ تقريع»(2).
3 - عليك بالنصح المستمرّ، لكن بشرط أن لا يتحوَّل إلىٰ تقريع لاذع، يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «كثرة التقريع توغر القلوب وتوحش الأصحاب»(3).
4 - لا يجوز لك أن تتحوَّل إلىٰ رقيب سرّي علىٰ كلِّ أعمال من تعرفهم، خصوصاً من هم معك في البيت، وخصوصاً الزوجة، فإنَّ النقد المستمرّ وخصوصاً اللاذع منه يؤدّي إلىٰ عواقب وخيمة.
(إنَّ من الخطأ أن يُنصِّب الزوج من نفسه رجل مخابرات في بيته، فيبدأ بالتفتيش عن مواقع الأخطاء، ولا بدَّ أن يعتبر نفسه ملاحظ حسنات، ومشجِّعاً للمرأة التي تدير البيت)(4).
5 - ربَّما أخطأ ولدك، فعليك بنصحه وتصحيح أخطائه، لكنَّه ليس معصوماً أوَّلاً، وليس عنده مثل خبرتك وتجربتك للحياة ثانياً، وليس بعقلك ودرايتك ثالثاً، فعليك بقبول تبرير خطئه وإن كان عذراً من دون ملح (كما يقولون)، ولا تحمله علىٰ المكابرة بكثرة تقريعك له.
ص: 174
يقول أمير المؤمنين (علیه السلام) - في الحكم المنسوبة إليه -: «إذا عاتبت الحدث فاترك له موضعاً من ذنبه، لئلَّا يحمله الإخراج علىٰ المكابرة»(1).
وهكذا مع كلِّ الناس، فيما لو سمح الوضع بذلك التسامح، يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «لا تأمن عدوّك ولا تُقرِّع إلىٰ صديقك، واقبل العذر وإن كان كذباً، ودَعْ الجواب عن قدرة وإن كان لك»(2).
6 - لا تستعمل أُسلوب الصراحة في نصحك دائماً، فلرُبَّ عاقل يكتفي منك بالإشارة، بل ربَّما تكون الإشارة أوقع في نفسه وأكثر تأثيراً فيها. يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «إذا لوَّحت للعاقل فقد أوجعته عتاباً»(3).
7 - لا تُكثِر من النصح والعتاب علىٰ الأخطاء، بل وازن ذلك بوزن العقل والموقف. يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «لا تكثر العتاب فإنَّه يورث الضغينة ويجرُّ إلىٰ البغضة، واستعتب من رجوت إعتابه»(4).
ويقول الإمام زين العابدين (علیه السلام): «كثرة النصح تدعو إلىٰ التهمة»(5).
* * *
ص: 175
«إِنَّ هَذِه الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ، فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا»(1)، وأحاديث أهل بيت العصمة أرقىٰ ما ملأ تلك الأوعية، وزادها نوراً وبصيرةً..
لقد كان الذي كان منّا جولة سريعة في آيات الكتاب الكريم وأحاديث أهل بيت العصمة، ولو تأمَّلناها لوجدناها منهاجاً متكاملاً للحياة، حتَّىٰ ننجح بها علىٰ المستوىٰ الفردي والجماعي، لنفوز بحبِّ الله تعالىٰ أوَّلاً، ثمّ حبّ الناس ثانياً، لنُحِبَّ أنفسنا أخيراً..، ولنتجنَّب ما يجعل قلوبنا مدبرة عن الحقِّ وعن الخلق، ليعيش المرء سعادة وطمأنينة في الحياة المملوءة بألف سبب وسبب للقلق والملل والضجر.
نسأل الله تعالىٰ أن ينفعنا والمؤمنين بآيات كتابه المبين وأحاديث المعصومين من محمّد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.
والحمد لله ربِّ العالمين.
* * *
ص: 176
القرآن الكريم.
الاحتجاج: الطبرسي/ ت محمّد باقر الخرسان/ دار النعمان/ 1386ﻫ.
الاختصاص: الشيخ المفيد/ ط 2/ 1414ﻫ/ دار المفيد/ بيروت.
اختيار معرفة الرجال: الشيخ الطوسي/ 1404ﻫ/ مؤسَّسة آل البيت/ مط بعثت/ قم.
الأخلاق في القرآن الكريم: المصباح اليزدي/ ط 2/ 1431ﻫ/ دار التعارف.
الأخلاق في القرآن: ناصر مكارم الشيرازي/ ط 2/ 1426ﻫ/ مدرسة الإمام عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) / مط أمير المؤمنين (علیه السلام) / قم.
أدب الضيافة: جعفر البياتي/ ط 1/ 1418ﻫ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين/ قم.
الأربعون: الشهيد الأوَّل/ 1407ﻫ/ مط أمير/ مؤسَّسة الإمام المهدي (علیه السلام) / قم.
إرشاد القلوب: الحسن بن محمّد الديلمي/ ط 2/ 1415ﻫ/ مط أمير/ انتشارات الشريف الرضي/ قم.
الاستذكار: ابن عبد البرِّ/ ط 1/ 2000م/ دار الكتب العلمية/ بيروت.
الاستيعاب: ابن عبد البرِّ/ ت البجاوي/ ط 1/ 1412ﻫ/ دار الجيل/ بيروت.
أُسد الغابة: ابن الأثير/ دار الكتاب العربي/ بيروت.
ص: 177
الإصابة: ابن حجر/ ط 1/ 1415ﻫ/ دار الكتب العلمية/ بيروت.
أعلام الدين: الحسن بن محمّد الديلمي/ مؤسَّسة آل البيت/ قم.
إقبال الأعمال: ابن طاووس/ ت جواد القيّومي/ ط 1/ 1414ﻫ/ مكتب الإعلام الإسلامي.
الأمالي: الشيخ الصدوق/ ت قسم الدراسات/ ط 1/ 1417ﻫ/ مؤسَّسة البعثة.
الأمالي: الشيخ المفيد/ ت الأُستادولي، عليّ أكبر الغفاري/ ط 2/ 1414ﻫ/ دار المفيد/ بيروت.
الأمالي: السيِّد المرتضىٰ/ ت النعسّاني الحلبي/ ط 1/ 1325ﻫ/ مكتبة المرعشي/ قم.
الأمالي: الشيخ الطوسي/ ت مؤسَّسة البعثة/ ط 1/ 1414ﻫ/ دار الثقافة/ قم.
الأنوار القدسية: الشعراني/ ط السعادة/ مصر.
بحار الأنوار: العلَّامة المجلسي/ ط 2 المصحَّحة/ 1403ﻫ/ مؤسَّسة الوفاء/ بيروت.
بصائر الدرجات: محمّد بن الحسن الصفّار/ ت كوجه باغي/ 1404ﻫ/ مط الأحمدي/ منشورات الأعلمي/ طهران.
تاريخ مدينة دمشق: ابن عساكر/ ت عليّ شيري/ 1415ﻫ/ دار الفكر/ بيروت.
تحف العقول: ابن شعبة الحرّاني/ ت عليّ أكبر الغفاري/ ط 2/ 1404ﻫ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.
تربية الطفل في الإسلام: محمّد الريشهري/ ط 2/ 1428/ دار الحديث للطباعة والنشر.
ص: 178
تعليقة علىٰ العروة الوثقىٰ: السيِّد عليّ السيستاني.
تفسير الأمثل: ناصر مكارم الشيرازي.
تفسير القمّي: عليّ بن إبراهيم القمّي/ ت طيِّب الجزائري/ ط 3/ 1404ﻫ/ مؤسَّسة دار الكتاب/ قم.
تفسير مجمع البيان: الطبرسي/ ت لجنة من العلماء/ ط 1/ 1415ﻫ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
التمحيص: محمّد بن همّام الإسكافي/ مدرسة الإمام المهدي (علیه السلام) / قم.
تنبيه الخواطر (مجموعة ورّام): ورّام بن أبي فراس المالكي الأشتري/ ط 2/ 1368ش/ مط حيدري/ دار الكتب الإسلاميَّة/ طهران.
تهذيب الأحكام: الشيخ الطوسي/ ت حسن الخرسان/ ط 3/ 1364ش/ مط خورشيد/ دار الكتب الإسلاميَّة/ طهران.
تهذيب الكمال: المزي/ ت بشّار عوّاد معروف/ ط 4/ 1406ﻫ/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.
ثواب الأعمال: الشيخ الصدوق/ ت محمّد مهدي الخرسان/ ط 2/ 1368ش/ مط أمير/ منشورات الشريف الرضي/ قم.
جامع أحاديث الشيعة: البروجردي/ ط 1399ﻫ/ مط العلمية/ قم.
الجامع الصغير: السيوطي/ ط1/ 1401ﻫ/ دار الفكر/ بيروت.
الخرائج والجرائح: قطب الدين الراوندي/ ط 1 كاملة محقَّقة/ 1409ﻫ/ مؤسَّسة الإمام المهدي (علیه السلام) / قم.
الخصال: الشيخ الصدوق/ ت عليّ أكبر الغفاري/ 1403ﻫ/ جماعة المدرِّسين/ قم.
الخطر اليهودي (بروتوكولات حكماء صهيون): محمّد خليفة التونسي/ ط 4/ دار الكتاب العربي/ بيروت.
ص: 179
الدرَّة الباهرة: الشهيد الأوَّل/ ط 1/ 1379ش/ انتشارات زائر.
دعائم الإسلام: القاضي النعمان المغربي/ ت آصف فيضي/ 1383ﻫ/ دار المعارف/ القاهرة.
الدعوات: قطب الدين الراوندي/ ط 1/ 1407ﻫ/ مط أمير/ مؤسَّسة الإمام المهدي (علیه السلام) / قم.
ديوان قيس بن الملوح: قيس بن الملوح/ ط 1/ 1999م/ دار الكتب العلمية/ بيروت.
الذنوب الكبيرة: الشهيد دستغيب/ ط 1/ 1421ﻫ/ دار البلاغة للطباعة والنشر والتوزيع.
روضة الواعظين: الفتال النيسابوري/ ت محمّد مهدي الخرسان/ منشورات الشريف الرضي/ قم.
رياض السالكين: المدني الشيرازي/ ط 4/ 1415ﻫ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي.
زهر الآداب: القيرواني/ ط 4/ 1972م/ دار الجيل/ بيروت.
سلسلة فنِّ التعامل مع الناس: السيِّد هادي المدرّسي/ ط 7/ 1430ﻫ/ دار الأمير للطباعة والنشر/ بيروت.
سنن ابن ماجة: ابن ماجة القزويني/ ت محمّد فؤاد عبد الباقي/ دار الفكر/ بيروت.
سنن أبي داود: ابن الأشعث السجستاني/ ت محمّد اللحّام/ ط 1/ 1410ﻫ/ دار الفكر/ بيروت.
السنن الكبرىٰ: البيهقي/ دار الفكر/ بيروت.
سير أعلام النبلاء: الذهبي/ ت حسين الأسد/ ط 9/ 1413ﻫ.
ص: 180
شرح إحقاق الحقِّ: السيِّد المرعشي/ ت شهاب الدين المرعشي/ مكتبة المرعشي/ قم.
شرح أُصول الكافي: المازندراني/ ت الشعراني/ ط 1/ 1421ﻫ/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد/ ت محمّد أبو الفضل إبراهيم/ ط 1/ 1378ﻫ/ دار إحياء الكتب العربية/ بيروت.
شعب الإيمان: أبو بكر البيهقي/ ط 1/ 1423ﻫ/ مكتبة الرشد.
صحيح ابن حبّان: ابن حبّان/ ت الأرنؤوط/ ط 2/ 1414ﻫ/ مؤسَّسة الرسالة.
صحيح مسلم: مسلم النيسابوري/ دار الفكر/ بيروت.
الصحيفة السجّادية: أبطحي/ ت محمّد باقر الأبطحي/ ط 1/ 1411ﻫ/ مط نمونة/ مؤسَّسة الإمام المهدي (علیه السلام)، مؤسَّسة الأنصاريان/ قم.
عدَّة الداعي: ابن فهد الحلّي/ ت أحمد الموحِّدي القمّي/ مكتبة وجداني/ قم.
علل الشرائع: الشيخ الصدوق/ ت محمّد صادق بحر العلوم/ 1385ﻫ/ منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها/ النجف الأشرف.
عوالي اللئالي: ابن أبي جمهور الأحسائي/ ت مجتبىٰ العراقي/ ط 1/ 1403ﻫ/ مط سيِّد الشهداء/ قم.
عيون أخبار الرضا (علیه السلام): الشيخ الصدوق/ ت حسين الأعلمي/ 1404ﻫ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
عيون الحِكَم والمواعظ: عليّ الليثي الواسطي/ ت حسين البيرجندي/ ط 1/ دار الحديث.
الفتاوىٰ الميسَّرة: السيِّد عليّ السيستاني.
ص: 181
فلاح السائل: ابن طاووس.
في رحاب الله: السيِّد حسين نجيب محمّد/ ط 1/ 1429ﻫ/ دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع.
قرب الإسناد: الحميري القمّي/ ط 1/ 1413ﻫ/ مط مهر/ مؤسَّسة آل البيت/ قم.
قضاء حقوق المؤمنين: الصوري/ ت حامد الخفّاف/ مؤسَّسة آل البيت/ قم.
قوَّة التحكّم بالذات: إبراهيم الفقي/ طباعة ايدا صادق/ 2000م/ منار للنشر والتوزيع/ دمشق.
الكافي: الشيخ الكليني/ ت عليّ أكبر الغفاري/ ط 5/ 1363ش/ مط حيدري/ دار الكتب الإسلاميَّة/ طهران.
كتاب الزهد: حسين بن سعيد الكوفي/ 1399ﻫ/ مط العلمية/ قم.
كتاب المؤمن: الحسين بن سعيد الكوفي/ ط 1/ 1404ﻫ/ مدرسة الإمام المهدي (علیه السلام) / قم.
كشف الخفاء: العجلوني/ ط 3/ 1408ﻫ/ دار الكتب العلمية/ بيروت.
كشف الغمَّة: ابن أبي الفتح الإربلي/ ط 2/ 1405ﻫ/ دار الأضواء/ بيروت.
كفاية الأثر: الخزّاز القمّي/ ت عبد اللطيف الكوهكمري الخوئي/ 1401ﻫ/ مط الخيّام/ انتشارات بيدار.
كنز العمّال: المتَّقي الهندي/ ت بكري حياني/ 1409ﻫ/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.
كنز الفوائد:أبو الفتح الكراجكي/ ط 2/ 1369ش/ مط غدير/ مكتبة المصطفوي/ قم.
مثير الأحزان: ابن نما الحلّي/ 1369ﻫ/ المطبعة الحيدرية/ النجف الأشرف.
ص: 182
مجمع الزوائد: الهيثمي/ 1408ﻫ/ دار الكتب العلمية/ بيروت.
محاسبة النفس:الكفعمي/ ت فارس حسّون/ ط 1/ 1413ﻫ/ مط نمونة/ مؤسَّسة قائم آل محمّد/ قم.
المحاسن: البرقي/ ت جلال الدين الحسيني المحدِّث/ 1370ﻫ/ دار الكتب الإسلاميَّة/ طهران.
مستدرك الوسائل: الميرزا النوري/ ط 1 المحقَّقة/ 1408ﻫ/ مؤسَّسة آل البيت/بيروت.
مستدرك سفينة البحار:عليّ النمازي/ ت حسن بن عليّ النمازي/ 1418ﻫ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.
المستدرك: الحاكم النيسابوري/ إشراف يوسف عبد الرحمن المرعشلي.
مستطرفات السرائر: ابن إدريس الحلّي/ ط 2/ 1411ﻫ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين/ قم.
مسند أحمد: أحمد بن حنبل/ دار الصادر/ بيروت.
مشكاة الأنوار: عليّ الطبرسي/ ت مهدي هوشمند/ ط 1/ 1418ﻫ/ دار الحديث.
مصباح الشريعة: المنسوب للإمام الصادق (علیه السلام) / ط 1/ 1400ﻫ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
مصباح المتهجِّد: الشيخ الطوسي/ ط 1/ 1411ﻫ/ مؤسَّسة فقه الشيعة/ بيروت.
معاني الأخبار: الشيخ الصدوق/ ت عليّ أكبر الغفاري/ 1379ﻫ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.
المعجم الأوسط: الطبراني/ 1415ﻫ/ دار الحرمين.
ص: 183
المعجم الكبير: الطبراني/ ت حمدي عبد المجيد السلفي/ ط 2 مزيَّدة ومنقَّحة/ دار إحياء التراث العربي.
مكارم الأخلاق: الشيخ الطبرسي/ ط 6/ 1392ﻫ/ منشورات الشريف الرضي/ قم.
الملهوف علىٰ قتلىٰ الطفوف:ابن طاووس/ ط1/ 1417ﻫ/ مط مهر/ أنوار الهدىٰ/ قم.
من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق/ ت عليّ أكبر الغفاري/ ط 2/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.
مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب/ ت لجنة من أساتذة النجف/ 1376ﻫ/ المكتبة الحيدرية/ النجف.
منية المريد: الشهيد الثاني/ ت رضا المختاري/ ط 1/ 1409ﻫ/ مكتب الإعلام الإسلامي.
ميزان الحكمة: محمّد الريشهري/ ط 1/ دار الحديث.
نزهة الناظر: الحلواني/ ت مدرسة الإمام المهدي (علیه السلام) / ط 1/ 1408ﻫ/ مدرسة الإمام المهدي (علیه السلام) / قم.
النهاية في غريب الحديث: ابن الأثير/ ت طاهر أحمد الزاوي، محمود محمّد الطناحي/ ط 4/ 1364ش/ مؤسَّسة إسماعيليان/ قم.
نهج البلاغة: الشريف الرضي/ ضبط نصَّه الدكتور صبحي صالح/ ط 1/ 1387ﻫ/ بيروت.
وسائل الشيعة: الحرّ العاملي/ ط 2/ 1414ﻫ/ مط مهر/ مؤسَّسة آل البيت/ قم.
* * *
ص: 184
مقدَّمة المعهد. 3
الإهداء. 7
مقدَّمة المؤلِّف.. 9
تمهيد: الدين والحبّ:. 13
الفصل الأوَّل: علامات صدق المودَّة 15
علامات صدق المودَّة والحبِّ.. 17
1 - شهادة القلب.. 17
2 - كثرة ذكره. 19
3 - المواساة له في السرّاء والضرّاء. 20
4 - أن لا يرىٰ من محبوبه إلَّا جميلاً.. 21
5 - أن يبذل النصيحة لمن يحبُّ.. 24
7 - أن يحبَّ محبوب حبيبه. 26
الفصل الثاني: كيف تكسب قلوب الناس ومودَّتهم؟. 31
أوّلاً: طرق بين العبد وربِّه. 34
أوَّلاً: الإقبال بالقلب علىٰ الله (عزوجلّ) ... 34
ثانياً: الإقبال بالقلب علىٰ الله تعالىٰ أثناء الصلاة. 35
ثالثاً: السجود بين الأذان والإقامة. 37
رابعاً: الاستعانة بالله تعالىٰ. 39
ص: 185
ثانياً: طرق وأعمال بين الإنسان والإنسان الآخر. 40
النوع الأوَّل: طرق مجّانية. 40
الطريق الأوَّل: الابتسامة. 40
الطريق الثاني: البدء بالسلام. 41
الطريق الثالث: المصافحة. 42
الطريق الرابع: المعانقة. 44
الطريق الخامس: الزيارة. 45
الطريق السادس: اللين واللباقة في الأقوال والأفعال. 48
الطريق السابع: الزهد في ما في أيدي الناس... 50
الطريق الثامن: العمل بالحقِّ. 51
الطريق التاسع: دعوة الناس بأحبِّ الأسماء إليهم. 54
الطريق العاشر: تعامل مع الفئات العمرية بذكاء. 58
النوع الثاني: طرق تحتاج إلى بذل ولو قليلاً.. 65
الطريق الأوَّل: الإحسان إلىٰ الناس... 65
الطريق الثاني: صلة الرحم. 66
الطريق الثالث: الهدية. 68
الطريق الرابع: السخاء. 70
النقطة الأُولىٰ. 70
النقطة الثانية. 71
النقطة الثالثة. 71
النقطة الرابعة. 71
الطريق الخامس: قضاء حوائج الإخوان. 74
ص: 186
أدبيات قضاء الحاجة. 75
الفصل الثالث: كيف أتجنَّب منفّرات القلوب؟. 79
سُنَّة التغيير في الحياة. 80
إقبال وإدبار القلوب.. 82
الجانب الأوَّل: إقبال وإدبار القلوب مع الله تعالىٰ. 82
السبب الأوَّل: الاستخفاف بحقوق الله تعالىٰ. 85
أوَّلاً: الحقوق العبادية. 85
ثانياً: الحقوق المالية. 86
ثالثاً: النواهي. 88
رابعاً: تعظيم ما نُسِبَ إليه جلَّ وعلا من موجودات.. 89
خامساً: تعظيم أسماء الله تعالىٰ. 92
السبب الثاني: الإعراض عن الله تعالىٰ. 96
السبب الثالث: الدخول في مقام الكاذبين.. 99
السبب الرابع: ترك شكر النعم. 103
أوَّلاً: عدم الشكر اللساني.. 104
ثانياً: استخدام النعم في معصية الله تعالىٰ!. 106
ثالثاً: عدم أداء حقوق النعم الشرعية. 106
رابعاً: إلهاء النعم عن ذكر الله تعالىٰ. 107
خامساً: عدم شكر الناس... 107
السبب الخامس: ترك مجالس العلماء. 107
المجالس المأمور بها 111
مجالسة العلماء. 112
ص: 187
السؤال الأوَّل: كيف نجالس العلماء؟. 113
السؤال الثاني: لماذا أعرض الناس عن مجالسة العلماء؟. 114
السبب السادس: الغفلة. 119
أوَّلاً: الجهل. 122
ثانياً: الغرور والأنانية. 122
ثالثاً: سكر النعمة. 122
رابعاً: العافية والسلامة البدنية. 123
خامساً: طول الأمل. 123
أوَّلاً: دوام ذكر الله تعالىٰ. 124
ثانياً: النيَّة المستمرَّة لفعل الخير.. 124
ثالثاً: الالتفات إلىٰ تغيّر وانقضاء الأيّام. 124
رابعاً: المحافظة علىٰ الصلاة في أوَّل وقتها 124
خامساً: كسب العبرة من التاريخ.. 124
السبب السابع: مؤالفة البطّالين في مجالسهم. 132
السبب الثامن: عدم استيعاب شروط استماع الدعاء. 134
ملاحظة. 138
السبب التاسع: تعجيل العقوبة. 139
لكلِّ قاعدة استثناء!. 140
لماذا الاستعجال بالثواب والعقاب؟. 140
ما هي الذنوب التي تعجل عقوبتها؟. 147
السبب العاشر: قلَّة الحياء. 148
الحياء والإيمان. 150
ص: 188
مفردات من قلَّة الحياء مع الله تعالىٰ. 151
كيف تكون حيياً من الله تعالىٰ؟. 153
أوَّلاً: تذكّر المراقبة الإلهيَّة. 153
ثانياً: تذكّر مراقبة الملكين.. 154
ثالثاً: تذكّر الموت وأنَّه قادم لا محالة. 154
رابعاً: الزهد في الدنيا 154
خامساً: الإدارة الإيمانية لأدوات الرأس... 154
سادساً: اللقمة الحلال. 154
هل الحياء دائماً ممدوح؟. 155
أوَّلاً: خدمة الضيف.. 156
ثانياً: احترام الأب والمعلِّم. 156
ثالثاً: المطالبة بالحقِّ. 157
رابعاً: التعلّم. 158
خامساً: الاعتراف بالجهل. 158
الجانب الثاني: إدبار القلوب مع البشر... 159
أسباب إدبار قلوب البشر وتنافرها 160
السبب الأوَّل: خبث السريرة. 160
السبب الثاني: سوء الخُلُق. 162
السبب الثالث: تتبّع العيوب.. 163
السبب الرابع: الكبر.. 165
السبب الخامس: الاستهزاء. 168
الاستهزاء بالنفس... 171
ص: 189
السبب السادس: الذنوب.. 171
السبب السابع: كثرة التقريع. 173
ختامه مسك.. 176
المصادر والمراجع. 177
فهرست الموضوعات.. 185
ص: 190