الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي

هوية الكتاب

الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي

سماحة السيد مرتضی الحسيني الشيرازي

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الثانية

1439 ه - 2018 م

منشورات:

مؤسسة التقی الثقافية

النجف الأشرف

ص: 1

اشارة

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الثانية

1439 ه - 2018 م

منشورات:

مؤسسة التقی الثقافية

النجف الأشرف

7810001902 00964 m-alshirazi.com

ص: 2

الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي

سماحة السيد مرتضی الحسيني الشيرازي

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ

نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ

ص: 4

اللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ

الحُجَّةِ بْنِ الحَسَنِ

صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آبَائِهِ

فِي هَذِهِ السَّاعَةِ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ وَلِيّاً وَحَافِظاً

وَقائِداً وَنَاصِراً وَدَلِيلاً وَعَيْناً حَتَّى تُسْكِنَهُ أَرْضَكَ

طَوْعاً وَتُمَتِّعَهُ فِيهَا طَوِيلاً

ص: 5

نص الكلمة التي أُرسلت إلى (المؤتمر العلمي الوطني حول الاعتدال في الدين والسياسة) المنعقد في جامعة كربلاء المقدسة بتاريخ 2/3/2017م وقد ألقا مقتطفات منها بالنيابة سماحة العلامة الحجة الشيخ ناصر الأسدي دام عزه.

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأزكى التسليم على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين واللعنة على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي

قال الله العظيم في كتابه الكريم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(1).

وقال جلّ اسمه: (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)(2) وقال: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ).

وقال عز مِن قائل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)(3) و(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)(4).

ص: 7


1- سورة البقرة: 143.
2- سورة هود: 118 - 119.
3- سورة الحجرات: 13.
4- سورة المائدة: 2.

وقال سبحانه وتعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(1).

هذه الآيات الشريفة تتضمن إجابات دقيقة عن عدد من الأسئلة الكبرى التي شغلت أذهان البشرية منذ القدم والتي يتوقف على نوعية الإجابة عليها مصير البشرية جمعاء. والأسئلة هي:لماذا خلقنا الله تعالى؟ وما هي الغاية من الخلقة وما هو الهدف من هذه الحياة؟!

وكيف خلقنا الله؟ وما هي الكيفية والهندسة التي أراد لحياتنا أن تكون عليها؟!

وكيف جعلنا الله ولماذا؟ والجعل مرتبة متأخرة عن مرتبة الخلقة، كما أنه قد يكون تكوينياً بعد أصل الخلقة وقد يكون تشريعياً: تكليفياً أو وضعياً.

الهدف من الخلقة هو (الرحمة)

السؤال الأول: لماذا خلقنا الله تعالى؟!

والجواب - حسب النص القرآني الشريف -: لقد خلقنا ليرحمنا (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) أي للرحمة خلقهم على ما صرح به بعض المفسرين وحسب قاعدة عود الضمير واسم الإشارة إلى أقرب مرجع إليه.

بل لنا أن نقول أنه تعالى ما طلب منّا عبادته إلا لكي يرحمنا

ص: 8


1- سورة الكافرون: 6.

بها، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)(1) ولكن لماذا؟ لأنه هو تعالى قمة الكمال المطلق وعبادته تعالى هي طريق السمو والرقي والتكامل حتى إلى ما لا يرقى إليه الخيال، على العكس من عبادة الأهواء والشهوات أو عبادة الطغاة والجبابرة والتي تهوي بالإنسان من معارج العقلانية والإنسانية إلى مهاوي الحيوانية والبهيمية.

وقد خلقنا لنتعارف ونتعاون

السؤال الثاني: وكيف خلقنا الله تعالى؟!

والجواب - استناداً إلى النص القرآني أيضاً -: لقدخلقنا شعوباً وقبائل لكي نتعارف بيننا أولاً لا أن نتناكر ونتحارب ونتناحر، ولكي نتعاون على البر والتقوى ثانياً، فلقد حدد الله تعالى المنهج السليم والنهج القويم في التعامل مع الآخرين بقوله: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)(2).

وقد جعلنا أمة وسطاً

السؤال الثالث: وكيف جعلنا ولماذا؟!

والجواب - من منظور قرآني أيضاً -: جعلنا أمة وسطاً لكي نكون شهداء على الناس.

وهذه الآيات الشريفة تعتبر من أقوى الأدلة على أن الوسطية

ص: 9


1- سورة الذاريات: 56.
2- سورة المائدة: 2.

والاعتدال هي الأصل والقاعدة في الإسلام بل هي الأساس والمحور وهي الجوهر والمخبر، وذلك لأن (الأمة الوسط) لا تكون متطرفة ولا تكون قاسية ولا تصادر حقوق الآخرين أبداً، بل يكون شعارها ودثارها ودستورها الخالد قوله تعالى: (لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ)(1).

و(الذين رحمهم ربهم) لا يكونون قساة ولا جبابرة ولا مستبدين ولا فراعنة إذ: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ »(2) وقال تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(3).

كما أن الذين يؤمنون بالقرآن الكريم ويعلمون أن الله خلقنا شعوباً وقبائل لنتعارف، يذعنون بقوله تعالى:(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(4) كإطار دستوري يرسم أسس العلاقة مع الآخر وقد استنبطنا من هذه الآية الكريمة في بعض البحوث قاعدة الإمضاء وقاعدة الإلزام.

وبكلمة فإن الاعتدال من منظور قرآني وإسلامي يعني أن نكون الأمة الوسط، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ

ص: 10


1- سورة البقرة: 279.
2- مستدرك الوسائل: ج9 ص55.
3- سورة النور: 22.
4- سورة الكافرون: 6.

إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ»(1).

ولنتوقف في هذا البحث قليلاً عند الآيات الأربع مبتدئين بقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً).

فلقد أختلف المفسرون في معنى الآية الشريفة على أقوال من أهمها:

أ- الأمة المتوسطة في الاعتدال

القول الأول: إن الأمة الوسط هي الأمة المتوسطة في الاعتدال بين الإفراط والتفريط وبين الغلو والتقصير وبين حاجات الروح ومتطلبات الجسد.

وهي الأمة التي تعيش التوازن بين لهيب العاطفة المتأجج وبين برود العقل المستفز.

وهي الأمة التي تتميز بالتوازن بين مثلث العلم والفكر والإنتاج والبناء والأخلاق والمناقبيات.

وهي الأمة التي تعيش التوازن والوسطية والاعتدال بين متطلبات الفرد وحاجات المجتمع، فلا الفرد هو الأصل ولا الجمع بل الأصل هو المجموع، فكل منهماأصل أصيل إذ هما كجناحي الطائر وبالمجموع تكون إنسانية الإنسان ويتكامل المجتمع الإنساني.

ص: 11


1- نهج البلاغة: من كتاب له (عليه السلام)، كتبه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر.

الأمة المتوسطة بين الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والبشرية

القول الثاني: إن الأمة الوسط هي الأمة المتوسطة بين رسول الإنسانية الخالد محمد المصطفى (صلی الله عليه وآله وسلم) وبين الناس على امتداد التاريخ إلى يوم الحشر الأكبر.

وكوننا وسطاء بين الرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) وبين الناس يعني أن علينا أن نكون المرآة الصافية التي تعكس على سلوكنا اليومي وفي حياتنا الشخصية والاجتماعية والسياسية، الأخلاقَ النبوية ومعالم الإنسانية وملامح الاعتدال والوسطية كما تجسدت بأبهى وأروع صورها في حياة رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وفي أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته.

ولقد كان من أهم سمات الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ما وصفه به رب العزة والجلالة في قوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)(1).

فلقد كان من رحمة الله الكبرى أن جعل نبيه ليّناً مع الناس، واللِّين يراد به الأعم من اللين التكويني واللين التشريعي كما يراد به الأعم من اللين في الحياة الشخصية والاجتماعية وعلى مستوى الحكومة أيضاً.

كما كان من مهامه الأساسية أنه كان: (يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ).

ص: 12


1- سورة آل عمران: 159.

الأمة الوسط هي نخبة النخبة

القول الثالث: إن الأمة الوسط هي نخبة النخبة، فإنها هي التي تصلح لأن تكون الشهيد على الناس، وقد رويعن الإمام الصادق (عليه السلام): «أنه قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَكَذٰلِكَ جَعَلْنٰاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدٰاءَ عَلَى النّٰاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) فَإِنْ ظَنَنْتَ أَنَّ اللَّهَ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ جَمِيعَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ، أَفَتَرَى أَنَّ مَنْ لاَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، يَطْلُبُ اللَّهُ شَهَادَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَقْبَلُهَا مِنْهُ بِحَضْرَةِ جَمِيعِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ؟ كَلاَّ، لَمْ يَعْنِ اللَّهُ مِثْلَ هَذَا مِنْ خَلْقِهِ، يَعْنِي الْأُمَّةَ الَّتِي وَجَبَتْ لَهَا دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام): (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّٰاسِ) وَهُمُ الْأُمَّةُ الْوُسْطَى، وَهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ»(1).

و«عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: «نَحْنُ نَمَطُ الْحِجَازِ» فَقُلْتُ: وَمَا نَمَطُ الْحِجَازِ؟ قَالَ: «أَوْسَطُ الْأَنْمَاطِ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (وَكَذٰلِكَ جَعَلْنٰاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) - ثُمَّ قَالَ - إِلَيْنَا يَرْجِعُ الْغَالِي، وَبِنَا يَلْحَقُ الْمُقَصِّرُ»(2).

ولنتوقف الآن عند آية الرحمة واللين، ثم آية التعاون على البر والتقوى ثم آية (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).

قال الله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً

ص: 13


1- تفسير العياشي: ج1 ص63.
2- تفسير العياشي: ج1 ص63.

غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)(1).

بصائر النور في آية اللين والاستشارة

وهذه الآية الكريمة تحتضن مجموعة من بصائر النور التي يمكن استلهامها منها بالتدبر، كما يمكن استنباط العديد من الحِكَم والأحكام والقواعد والدروسمنها، كما أنها تشكل أساساً من أهم أسس الحكم الرشيد وترشد إلى دعامة من أهم دعائم تقوية النسيج الاجتماعي واستحكامه وإقرار الوسطية والاعتدال فيه.

وسوف نشير في هذا البحث بشكل مبسط إلى بصائر مفتاحية على ضوء هذه الآية القرآنية الكريمة:

البصيرة الأولى: للشريعة مقاصد وللمقاصد مقاصد

إن للشريعة مقاصدَ وللمقاصد مقاصد أخرى، وبعبارة أخرى إن للشريعة مقاصد عظمى تنشعب منها مقاصد أخرى.

فمثلاً: حقن الدماء وصيانة الأعراض وحفظ الأموال تعد من مقاصد الشريعة، أي أنها مما شرعت مجموعة من التشريعات للمحافظة عليها وذلك كحرمة السرقة والغصب ومصادرة الأموال والرشوة والغش وغيرها، فإن تحريمها كان لأجل المحافظة على الأموال.

ص: 14


1- سورة آل عمران: 159.

ثم إن تلك الثلاثة هي مقاصد متفرعة عن المقصد الأسمى للشريعة وهو الرحمة الإلهية، إذ يقول الله تعالى: (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)(1).

اللين مقصد للشريعة، ومقصد المقصد هو الرحمة الإلهية

وفي آية البحث نجد أن المقصد الأسمى هو: (رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ) وأن من هذه الرحمة تفرع مقصد آخر هو (لين الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) قولاً وقلباً)، ثم تفرعت من هذا المقصد الثاني سلسلة من الأحكام: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ).

فاللين والرفق واللاعنف واليسر هي من مقاصدالشريعة والتي تتفرع عنها سلسلة كبيرة من الأحكام، كما أنها بدورها متفرعة عن المقصد الأعظم للشريعة وهو (الرحمة) وأيضاً (الحكمة).

وذلك هو ما تشير إليه الروايات الشريفة بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام أو بدلالة الاقتضاء أو الإيماء والتنبيه والإشارة، وسنشير إلى بعض الروايات فقط:

أحب الأعمال لله الإيمان به والرفق بعباده!

فإن مما قد يستظهر منه ارتقاء الرفق واللين إلى مصاف مقاصد الشريعة ما ورد في الحديث: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله عليه وآله وسلم): مَا مِنْ عَمَلٍ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى رَسُولِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالرِّفْقِ بِعِبَادِهِ،

ص: 15


1- سورة هود: 118 - 119.

وَمَا مِنْ عَمَلٍ أَبْغَضَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَالْعُنْفِ عَلَى عِبَادِه »(1)، وذلك هو الغريب حقاً أن يكون أحب عمل لله تعالى بعد الإيمان هو الرفق بعباده، بل يصرح الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بأنهما أحب إلى الله والرسول من أي عمل آخر بما يشمل مختلف أنواع العبادات مما يستدعي عقد بحث خاص كلامي عن موقع الرفق بالعباد بين العبادات مع وجود ما هو ركن الدين فيها، وعن ما هو مقتضى الجمع بين الروايات وهل بعضها ناظر إلى جهة خاصة أو منصرف أو أن المحبوبية أمر والتكليف لمصلحة ملزمة أمر آخر؟

من شروط الوالي أن يكون الأفضل حلماً

كما نجد أن أمير المؤمنين (عليه السلام) اعتبر في عهده لمالك الأشتر من مواصفات الحاكم والوالي: «أَفْضَلَهُمْ حِلْماً» و«مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ وَ...» فقال: «فَوَلِّ مِنْجُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِإِمَامِكَ وَأَنْقَاهُمْ جَيْباً وَأَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ(2) وَيَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ وَيَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ وَيَنْبُو عَلَى الْأَقْوِيَاءِ مِمَّنْ لَا يُثِيرُهُ الْعُنْفُ وَلَا يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْف »(3) وذلك كله من أهم علائم الوسطية والاعتدال بل من أقوى أسسها ودعائمها، وقد

ص: 16


1- بحار الأنوار: ج72 ص54.
2- فكلما عرض له ما يوجج غضبه، تباطء في التفاعل والاستجابة لمثيرات الغضب، بل تعامل بمنتهى الهدوء والحكمة.
3- مستدرك الوسائل: ج13 ص164.

فصلنا في بعض البحوث الكلام عن فقه الحديث.

الفائدة الاجتماعية لفقه المقاصد

ثم إن مقاصد الشريعة تصلح أن تكون المرشد العام للأمة في كيفية العِشرة والمعاشرة والتعامل مع الآخرين: في العشائر والأحزاب والاتحادات والنقابات وفي الشركات والمؤسسات وفي الحكومة وغيرها.

فهي تصلح كمنهج حياة وموجه عام ولذا ورد: «مَا وُضِعَ الرِّفْقُ عَلَى شَيْ ءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا وُضِعَ الْخُرْقُ عَلَى شَيْ ءٍ إِلَّا شَانَه »(1) فإذا دار الأمر بين أن يتعامل الزوج مع زوجته أو الأب مع ابنه أو المعلم مع تلميذه بالرفق والاعتدال أو العنف والشدة - ولنفرض مرتبة جائزة منه - كانت مقاصد الشريعة هي المرشد للتعامل بالرفق بل بمنتهى اللطف، وهكذا في تعامل القيادات مع الأتباع والأعضاء والجماهير، بل حتى وفي سنّ القوانين فمثلاً لو فرضنا جواز سنّ الضرائب(2) ودار الأمر بين سنّهالتنبسط يد الدولة أكثر أو عدم سنّها ليكون الناس في سعة وراحة، كان الثاني أولى قطعاً حسب فقه المقاصد وحسب المستفاد من ذوق الشريعة وسيرة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)

ص: 17


1- مستدرك الوسائل: ج11 ص292.
2- (وهي محرمة قطعاً وبدعة إذ لا ضرائب في الإسلام إلا الخمس والزكاة والجزية والخراج وهي كافية وافية والدول كاذبة في دعوى حاجتها للضرائب إذ في مواردها الطبيعية خاصة للتي تمتلك حقول النفط وشبهها الكفاية وأكثر، بل الأموال تصب غالباً في تكريس استبداد الحاكم وشهواته).

والأئمة % ولذا قال (صلی الله عليه وآله وسلم): «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَة»(1).

ولذلك نجد أن الناس يحبون من يتعامل معهم برفق واعتدال ومن ينسى أخطاءهم ويصفح عنهم؛ فكما تحب أن يتعامل معك من هو فوقك بالرفق واللين فتعامل مع هو من دونك باللطف واللين كذلك!

ونجد في تعبير الأمير (عليه السلام) أكبر الدلالة في عهده للاشتر: «مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ وَيَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ» وفي التعبير ب(يستريح) لطف بالغ وحكمة كبرى، إذ يستفاد منه أنه من المحبذ سيكولوجياً أن يستريح المرء نفسياً من العذر، أي اعتذار من ظلمه أو آذاه أو أزعجه، ثم ينسى بعدها كل ما فعله ذلك الآخر (الصديق، الزوج، الزوجة، الشريك.. الخ) في حقه الشخصي، عكس ما يصنعه البعض حيث يتشددون في عدم قبول الأعذار متهِّمين المعتذر بأن اعتذاره إنما هو تبرير بارد أو مرفوض أو أنه عذر أقبح من ذنب!

والسبب واضح في حسن قبول الاعتذار فإن الاعتذار دليل على الإذعان بقبح الكبرى ومجرد محاولة توجيه الصغرى، وهذا أفضل بكثير ممن يرفض قبح الكبرى أو يصر على العناد بارتكاب الصغرى!

ص: 18


1- عوالي اللئالي: ج1 ص381.

العِبرة: اختاروا القائد الليّن المعتدل الرفيق بطبعه

والعبرة من ذلك: إن القائد الذي يعيّن أو ينتخب لقيادة الأمة أو الشعب أو حتى الحزب والعشيرة والاتحاد والنقابة، من مميزاته أن يكون ليّناً بطبعه غير فظ ولا غليظ القلب. وعليه: فلو دار الأمر بين أن نختار معلماً دمث الأخلاق ليناً هشاً بشاً معتدلاً وبين أن نختار معلماً قاسياً عنيفاً كان الأول أرجح بلا شك، وكذلك لو دار الأمر بين أن تختار الزوجة زوجاً عنيفاً أو ليناً أو العكس أو أن يختار الأعضاء قائداً للحزب أو ينتخب الشعب رئيساً أو قائداً معتدلاً أو متطرفاً.

فإنه إذا كان من أشعة رحمة الله تعالى أن يختار لمن يرسله إلى الناس كافة رسولاً ليناً غير فظ ولا غليظ، وكان الله هو الأعرف بما يصلح لعباده وبما يصلحهم وكان الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أيضاً قدوة وأسوة (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(1) كان الأولى بنا أن نختار للقيادة والإدارة في كافة المستويات الشخص اللّين الخلوق المعتدل السمَح أو مجلس الإدارة اللّين الوَصول الحكيم الرفيق.

إضافة إلى أن الله تعالى يعلل سرّ لين الرسول لهم بأنه (صلی الله عليه وآله وسلم) (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) مما يعني أن اللين، إضافة إلى أنه كمال ذاتي، فإنه الطريق الأنجع والأصلح لسَوْق الناس إلى الكمال والدين والأخلاق والفضيلة.

ص: 19


1- سورة الأحزاب: 21.

بل إن قوله تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ)(1)دليل على أن الغليظ قلباً يتجلى عنفه على جوارحه إذ لا ينضح من الإناء إلا الذي كان فيه، وكذلك الليّن تماماً.

اللين اختياري اقتضائي

ولكن هذا اللين في الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ليس أمراً قسرياً جبرياً غير اختياري، بل إنه تكويني اقتضائي لا عِلّي، بل أن عموم الصفات النفسية هي من هذا النمط فإن الصفات النفسية قابلة للتغيير والتطوير وليست صفات لازمة قهرية للإنسان، ولذا نجد أن الجبان يمكن أن يتحول إلى شجاع بالتلقين والإيحاء المستمر وبالممارسة وغير ذلك، وكذلك البخيل يمكن أن يتحول إلى كريم وبالعكس، نعم التغيير في الصفات النفسية صعب لكنه ليس بالمحال. هذا من جهة، ومن جهة أخرى:

إن الصفات الإيجابية النفسية منحة من الله تعالى، لكن فرقها عن الصفات الظاهرية كقسمات الوجه والطول والقصر وغيرها أنها قابلة للتغيير عكس الصفات الجسمانية، على أن بعض الصفات الجسمانية تقبل التغيير بتدخل خارجي كالعملية الجراحية.

والعبرة من ذلك أيضاً: إن البخيل والجبان والغضوب سيء الأخلاق والمتطرف وإن أمكن أن يتغير بالجد والجهاد وترويض النفس، فإنه ليس من الراجح أصلاً اختياره كقائد، وإن وعد بأن

ص: 20


1- سورة الإسراء: 84.

يغير ذاته؛ إذ ما أكثر الوعود وأقل الوفاء! فالأسلم والأرجح اختيار القائد أو المرجع أو المعلم الحليم الشجاع الكريم المعتدل بطبعه وبذاته من البداية.

الطغاة في مواجهة الآيات البيّنات

ثم إن من أظهر مصاديق المتطرفين أولئك (الذينيعنّفون المؤمنين في دينهم) وهم الذين صرحت بعض الروايات الشريفة بأنهم من أهل جهنم(1) وهم أولئك الطغاة والمستبدون الذين إذا أمرهم الناس بالعمل بآية الشورى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(2) أو آية الحرية: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)(3) و(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)(4) أو آية العدل والإحسان: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ)(5) أو آية التعددية: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ)(6) أو آية الأمة الواحدة: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)(7)، إذا أمروهم بذلك واجهوهم

ص: 21


1- قال الإمام أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ أَيْنَ الصُّدُودُ لِأَوْلِيَائِي فَيَقُومُ قَوْمٌ لَيْسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ لَحْمٌ فَيُقَالُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آذَوُا الْمُؤْمِنِينَ وَ نَصَبُوا لَهُمْ وَ عَانَدُوهُمْ وَ عَنَّفُوهُمْ فِي دِينِهِمْ ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ» الكافي: ج2 ص351.
2- سورة الشورى: 38.
3- سورة الأعراف: 157.
4- سورة البقرة: 256.
5- سورة النحل: 90.
6- سورة المطففين: 26.
7- سورة المؤمنون: 52.

بصنوف الاتهام بالعمالة وبأنواع التسقيط الاجتماعي وبالحصار الاقتصادي والسياسي أو بالسجن والتعذيب أو بالنفي والإبعاد أو غير ذلك.

ومن ذلك كله نعرف أن الأصل في الإسلام هو اللين والرفق والاعتدال والمداراة لخلق الله والتسامح والاغضاء عن السيئة، وعدم التشدد في أمور الدين وأن الطغاة والجبابرة والإرهابيين والمتطرفين يقفون بالاتجاه المضاد لهذا الأصل الإسلامي تماماً!

الرفق أجمل خلائق الله!

وقد ورد في الكافي الشريف: عن الإمام الباقر (عليه السلام)عن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله عليه وآله وسلم) لَوْ كَانَ الرِّفْقُ خَلْقاً يُرَى مَا كَانَ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ شَيْ ءٌ أَحْسَنَ مِنْهُ»(1).

والظاهر من الحديث أن الرفق هو خَلْق من خلق الله لكنه لا يُرى، فكما أن الشجاعة والكرم والعدالة ونظائرهما وأضدادها هي من خلق الله (فإنها ليست بواجبة الوجود ولا ممتنعة الوجود) فكذلك الرفق؛ نعم جعل الله تعالى أسبابه بأيدينا لذلك كان اختيارياً باختيارية أسبابه، إضافة إلى أنها ليست عللاً تامة بل هي مقتضيات للأفعال فلا يتوهم الجبر أبداً.

الأحب إلى الله هو الأرفق بصاحبه!

كما ورد أيضاً عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام)، قَالَ:

ص: 22


1- الكافي: ج2 ص120.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله عليه وآله وسلم): «مَا اصْطَحَبَ اثْنَانِ إِلَّا كَانَ أَعْظَمُهُمَا أَجْراً وَأَحَبُّهُمَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَرْفَقَهُمَا بِصَاحِبِهِ»(1) والغريب أنه لم يقل إن الأعظم أجراً والأحب إلى الله تعالى هو الأكثر صلاة أو صياماً بل هو الأرفق منهما بصاحبه!

إن الله رفيق يحب كل رفيق بالناس!

وفي كتابي الحسين بن سعيد والنوادر عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله عليه وآله وسلم): «إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُعْطِي الثَّوَابَ وَيُحِبُّ كُلَّ رَفِيقٍ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ»(2):

فأولاً: إنه تعالى رفيق يرفق بالناس ويلطف بهم في الدنيا والآخرة.

وثانياً: إن من لطفه ورفقه بهم أنه يعطي الثوابويهبه ويمنحه؛ إذ إننا لا نستحق عليه تعالى شيئاً من الثواب حتى لو عبدناه أبد الدهر، إذ إن ذلك لا يشكل جزء بسيطاً من شكر نِعَمِه تعالى اللامتناهية علينا، بل إن توفيقنا للعبادة والطاعة هو من نِعَمه علينا فكيف ومتى نستطيع أن نؤدي حق نِعَمه علينا؟! وكيف نستحق عليه شيئاً مع أن كل ما نملك من أدوات الشكر (من قلب وعقل ويد ولسان وغير ذلك) ومن التوفيق للشكر، إنما هو لطف منه تعالى وعطاء من لدنه؟!

ص: 23


1- الكافي: ج2 ص120.
2- مستدرك الوسائل: ج11 ص293.

ثالثاً: إنه تعالى «يُحِبُّ كُلَّ رَفِيقٍ» فإذا أحببت (أيها الأب أو الزوج أو المعلم أو الرئيس أو الوزير والمسؤول أو العالم والمفكر) أن يحبك الله فكن رفيقاً بالناس ليّناً هشاً بشاً غير غليظ ولا فظ ولا جافٍ.

رابعاً: كما أنه «يُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ» فلو فرض أن للعنف فوائد (وهي التي يتذرع بها البعض لتبرير لسانهم السليط أو مواقفهم العنيفة) فإن اضراره أكثر بكثير من منافعه، وغاية الأمر أن يكون العنف كالخمر والقمار (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا)(1).

ثم لو فرض أن العنف بقدرٍ ما كان جائزاً، كما لو اقتضت ضرورات التربية ذلك(2) فإنه ومع ذلك فإن الرفق به أولى فإن الله سيعطيه على الرفق أكثر مما يعطي على العنف!

البصيرة الثانية: الرحمة للجميع تكويناً وتشريعاً

(الرحمة)، حسب المستفاد من الآية الشريفةوغيرها، هي مع (الحكمة) المنشأ للتشريعات الإلهية كما أنها وراء عالم التكوين أيضاً فقد قال تعالى: (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)(3) وقال: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)(4)

ص: 24


1- سورة البقرة: 219.
2- كأن يصرخ المعلم على الطفل أو يضربه ضرباً خفيفاً لا يُولّد حتى الحمرة وإلا كانت عليه الدية وبشرط أن بكون ذلك بإذن وليه ووالده.
3- سورة هود: 118 - 119.
4- سورة الأنعام: 54.

وفي الحديث القدسي«قل لعبادي لم أخلقكم لأربح عليكم ولكن لتربحوا علي»(1) ولا يستثنى من ذلك إلا من رفض رحمة الله تعالى بملأ اختياره بأن كان من الذين (اسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى)(2) و(وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)(3).

والبحث عن ذلك وعن فقه هذه الآيات الكريمة وغيرها يستدعي دراسة مستقلة.

وفي الآية الشريفة: فإن رحمة الله أنتجت في عالم التكوين أن تكون شاكلة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) النفسية في أصل خلقته شاكلةً لينةً (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) وقال تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ)(4) كما أنتجت في عالم التشريع الأوامر الثلاثة: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) وغيرها.

ومن ذلك كله نكتشف أن الاتجاه العام للفقيه لو كان هو مسلك الرحمة واللين انطلاقاً من إحاطته بمذاق الشريعة السمحاء وبإنطلاقه مِن مثل الآية الشريفة: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) أنتج ذلك كله في

ص: 25


1- إرشاد القلوب: ج1 ص110.
2- سورة فصلت: 17.
3- سورة الأنعام: 28.
4- سورة الإسراء: 84.

حقل تأطير القوانين أو تطبيقأي كلي منها على هذا المصداق أو الصنف أو كيفية استنباطها بعناوينها الأولية أو الثانوية أو الولائية (الولوية) منهجية عامة شاملة في حقوق المعارضة والسجناء وغيرهم، عكس ما لو كان الاتجاه العام له هو الشدة والقسوة والعنف وشبه ذلك، وههنا يتجلى بالضبط دور وموقع التدبر في مقاصد الشريعة السمحاء، فتأمل.

البصيرة الثالثة: العفو واجب وكذا الاستشارة!

ومن البصائر في آية العفو والاستشارة: إن المستفاد من ظاهر الآية الكريمة أن العفو واجب وكذا الاستغفار للمؤمنين العصاة، وأيضاً الاستشارة مع الأمة.

والمقصود وجوب هذه الثلاثة على القائد في أي موقع كان، سواءً أكان نبياً إماماً منصوباً من عند الله تعالى أم كان مرجع تقليد أم كان قائداً أو رئيساً لأمة أو دولة أو لحزب أو عشيرة أو جماعة من الناس؛ وذلك لأن الأصل في الخطابات القرآنية الموجهة بظاهرها للنبي الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) أنها أحكام عامة إلا ما ثبت اختصاصه به (صلی الله عليه وآله وسلم)، وذلك لضرورة الاشتراك في الأحكام أولاً ولقاعدة التأسي ثانياً، فليس ذلك من تنقيح المناط في شيء.

على أنه لو كان منه لأمكن إدعاء الفحوى والأولوية فإنه إذا كان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) على عصمته واتصاله بالوحي ومكانته السامية التي لا

ص: 26

يرقى إليها الخيال، لو غلظ على الناس لانفضوا من حوله وابتعدوا عن تعاليم الدين ولذا وجب عليه العفو عنهم والمشورة معهم والاستغفار لهم، فما بالك بحال سائر القادة ممن لا يمتلكون موقع النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ومكانته وعظمته؟! فإن فظاظتهم مع الناس وغلظتهم أدعىلفرار الناس وهروبهم من دين الله فتكون ضرورة تألّفهم والعفو عنهم والاستغفار لهم والاستشارة معهم، أشد! فتأمل.

وهذا كله من جانب ومن جانب آخر فإنه لو تنزلنا وسلمنا بأن الأمر ليس مولوياً، لاختلاف المبنى في ضابط المولوية أو لاستظهار الإرشادية من قرائن أخرى كمناسبات الحكم والموضوع أو السياق فرضاً، فإن الأمر في هذه الآية الشريفة يتمتع بميّزة إضافية تجعله يفيد الوجوب، ولو لم يكن أمراً مولوياً ولم يكن الواجب واجباً نفسياً، وهو وقوعه مقدمة للواجب ووقوع تركه مقدمة للحرام، في الجملة، ومقدمة الواجب واجبة عقلاً أو عقلاً وشرعاً أيضاً.

وذلك هو صريح الآية الشريفة: (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) فإن الانفضاض من حول الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بترك الالتزام بأوامره ونواهيه وإهمال تعاليمه محرم، والفظاظة والغلظة مقدمة موصلة لذلك فهي محرمة تحريماً مقدمياً، والعكس بالعكس فإن الرحمة واللين والرفق موجبة لاجتذاب الناس إلى الدين وتعاليمه وقياداته فهي واجبة.

ص: 27

السر في خروج الناس من دين الله أفواجاً أو صدّهم عن الدخول فيه!

والواقع الخارجي طوال مئات السنين وعبر ألوف القيادات وعلى مساحة مئات الدول يشهد بذلك، فإن سوء تصرف قادة ورؤساء الدول الإسلامية على مرّ التاريخ وعنفهم وتطرفهم أوجب صدود الملايين من المسيحيين والبوذيين وغيرهم من الدخول في الإسلام،بل وإن تصرفاتهم الخشنة المستبدة أوجبت خروج الكثير من المسلمين من دين الله أو من دائرة التدين والإيمان فأصبحنا نشهد (ورأيت الناس يخرجون من دين الله أفواجاً) بدل الحالة التي أشارت إليها الآية الكريمة: (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً)(1).. وما أمواج العلمانية الهادرة في بلادنا وما سوء سمعة الإسلام والمسلمين لدى عشرات الملايين من الناس إلا من نتائج استبداد حكامنا وجورهم وظلمهم وتطرفهم وعنفهم وقسوتهم وغلظة قلوبهم وفظاظة ألسنتهم وأيديهم وسائر جوارحهم.

ويكفي أن نشير في الخاتمة إلى ملمح من ملامح ومعالم رِفقه (صلی الله عليه وآله وسلم) بأصحابه وأهل بيته ولينه معهم ومداراته لهم ومراعاته لمشاعرهم وتكريمهم واحترامه لهم.

ص: 28


1- سورة النصر: 2.

كان لا يعاتب الرجل بشكل مباشر!

فقد كان من كريم أخلاقه (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه: «كان إذا بلغه عن الرجل، لم يقل: ما بال فلان يقول، ولكن كان يقول: ما بال أقوامٍ يقولون: كذا وكذا»(1) مع أن سيرة الأكثر جرت على مواجهة الطرف الآخر بلاذع القول أو بالعتاب على أقل التقادير لكن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) هو المثال الأسمى في كرم النفس وحُسن العِشرة، أفلا نتأسى به؟!

والآن لننتقل إلى الآية الثالثة في سياق البحث وهي آية التعارض:

قال الله العظيم في كتابه الكريم:(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّوَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(2).

الاستدلال بالقرآن الكريم على وجوب التعاون

هنالك الكثير من المباحث الهامة التي تتعلق ب- (فقه التعاون على البر والتقوى) وبهذه الآية الكريمة وغيرها وقد فصلنا الكلام عنها في كتاب خاص(3).

والكلام منعقد ههنا لإثبات وجوب التعاون بوجوه عديدة

ص: 29


1- سنن أبي داود.
2- سورة المائدة: 2.
3- يراجع كتاب (فقه التعاون على البر والتقوى).

استناداً إلى هذه الآية الشريفة، والوجوه هي:

وجوه وجوب التعاون على البر والتقوى

1 - الوجوب المقدمي: العقلي أو العقلي والشرعي.

حيث إن التعاون به يتحقق الواجب العقلي وهو (إطاعة أمر الشارع وامتثاله) كان واجباً بحكم العقل فإنه صغرى المقدمة الواجبة عقلاً وشرعاً على الرأي المنصور، بل حتى لو لم نقل بوجوب مطلق المقدمة شرعاً وذلك لكفاية الأمر بذيها، وترشح الوجوب الغيري إليها، فإنه يمكن القول بوجوب أمثال (التعاون) من المقدمات شرعاً(1) والضابط: كل مقدمة أمر الشارع بها مستقلاً.

2 - الوجوب بلحاظ الغرض إذ به تتحقق جل أغراض المولى، بل قد يقال بالوجوب النفسي بلحاظ ذلك فيكون التعاون على البر والتقوى كالوضوء للصلاة، واجباً نفسياً وذلك في صورة الالتزام بكون تلكالأغراض مقدورة للعبد، سواء أكانت من المسببات التوليدية أم الإعدادية، (خلافاً للتفصيل الذي ذكره المحقق النائيني H - وقد ذكرنا تفصيل ذلك في كتاب (فقه التعاون على البر والتقوى) في مبحث حكم العقل بوجوب التعاون: الوجه الأول) مع الالتزام بالوجوب النفسي لكل ما يحقق الغرض مما يعد عرفاً مقدوراً به حاملاً له وإن كان

ص: 30


1- و(شرعاً) لورود (تعاونوا) وغيره كما فصلناه في الكتاب، وهذا مع قطع النظر عن الوجه الآتي من المصلحة السلوكية الموجبة للوجوب الشرعي.

قائماً بغيره حقيقة - كالصلاة ل- (قربان كل تقي) و(كالتعاون على البر والتقوى) لذاك الغرض نفسه، فإن (التعاون) مقرب إلى الله إذ لا شيء من الواجبات بمحقق للغرض بذاته حقيقة بل كلها علل معدة تتوسطها مقدمات غير اختيارية للعبد هي المحققة للغرض - فتأمل -.

ثم إننا حتى لو لم نقل بذلك فلنا أن نلتزم بالوجوب الشرعي للتعاون ولمطلق المقدمة.

3 - الوجوب النفسي من باب المصلحة السلوكية في (التعاون) وأن وجوبه لمصلحة قائمة بنفس التعاون وليس لمجرد كونه مقدمةً للواجب أو محققاً لأغراض المولى المترتبة على الواجبات، وحينئذ قد تكون المصلحة قائمة بالتعاون فحسب وقد تكون قائمة به وبمتعلقه أيضاً، لعله يمكن القول بكون (التعاون) محققاً لمصلحة في متعلقه وموجداً لها فيه.

وقد ذكرنا تفصيل ذلك كله في ذلك الكتاب(1) في مبحث (محتملات خمسة لحسن ومصلحة ووجوب التعاون) وفي مبحث (عشرة محتملات في التعاون والأمر به ومتعلقه) ونشير هنا إشارة عابرة إلى أن قيامالمصلحة بالتعاون نفسه هو مما لا يصعب على من لاحظ آثار التعاون النفسية والاجتماعية بل وحتى الغيبية وغيرها.

4. ويمكن الاستدلال على وجوب التعاون على البر

ص: 31


1- (فقه التعاون على البر والتقوى).

الواجب، عقلاً بوجه آخر هو حكم العقل (بقبح ترك التعاون على البر والتقوى) كما حكم بقبح التجري، بل هو أولى، وكلما حكم العقل بقبح شيء واستحقاق فاعله الذم حَرم واستحق فاعله العقوبة إذ: كلما حكم به العقل حكم به الشرع سواء أكان في سلسلة العلل أم المعاليل.

المناشئ المحتملة لحكم العقل بقبح ترك التعاون

وأما منشأ حكم العقل بقبح ترك التعاون على البر والتقوى فهو أحد الأمور:

أ. إما لأن فعله مصداق شكر النعمة وتركه مصداق كفرانها فيقبح؛ إذ لاريب في كون التعاون على ما أمر به المولى نوع شكر له وعدمه كفراناً للنعمة.

ب. وإما لأن في تركه تفويتاً لأغراض المولى - كما فصلناه في فصل الغرض من ذلك الكتاب - فهو قبيح.

ج. وإما لأن في تركه الضرر البالغ ولو المحتمل لكون كل ما احتمل فيه العقاب الأخروي أمراً بالغ الخطورة ومنجزاً لأن الإحتمال وإن كان ضعيفاً - وليس بضعيف في المقام وهو ترك التعاون على البر الواجب - إلا أن المحتمل خطير -.

د. وإما لإستقلال العقل بقبح ترك التعاون على البر والتقوي، مع قطع النظر عن كل ما سبق، فهو كقبح الظلم مثلاً فربما يقال بالتفريق - حرمة وكراهة - بين أنواع ما حكم العقل

ص: 32

بقبحه، بلحاظ مناشئه لكن مع قطع النظر عن مناشئه فهل يحرم كل ما حكم العقل بقبحه؟!

قد يقال: لا يمكن الالتزام بحرمة كل ما حكم العقل بقبحه فإن العقل يحكم بقبح بعض المكروهات أيضاً، بل يحكم بقبح حتى مثل ترك الأولى من الأولياء، أو إنه يفرق بين أنواع ما يحكم بقبحه إذ ليس وزان قبح المكروه أو ترك الأولى كوزان قبح ترك أمر المولى أو ترك التعاون عليه؟!

وقد يقال: بأن الملازمة هي بين (كل ما حكم العقل بقبحه واستحقاق فاعله الذم) وبين (الحرمة).

لكن قد يورد عليه بأن للذم درجات واستحقاق بعضها هو الموجب للحكم بالحرمة، لكن هل كل ترك (للتعاون على البر) كذلك؟!

ربما يقال بالتفريق بين (الشؤون العامة) وغيرها، أو بالتفريق بين (شؤون الآخرة) وغيرها، أو بالتفريق بين مطلق (الشؤون الخطيرة) وغيرها، أو بالتفريق بين ما لو انحصر الطريق للبر بالتعاون وعدمه؟

ثم هل قاعدة التلازم جارية في (القبح) و(الذم) و(الحرمة)؟ فهل كل ما قبح لدى العقل فهو قبيح لدى الشرع؟ وكذلك هل كل ما ذم عليه العقل ذمه الشارع؟ وهل كل ما حكم العقل بحرمته يحكم الشرع بحرمته في سلسلة العلل فقط أو حتى إذا كان في سلسلة معاليل الأحكام أيضاً؟

ص: 33

وللبحث حول كل ما سبق مجال واسع.

الإستدلال بالعلة المنصوصة في الروايات الشريفة على وجوب التعاون

كما ويمكن أن يستدل على وجوب التعاون على(البر) و(التقوى) ووجوب (الإعانة) عليهما بالروايات:

ومنها: العلة المنصوصة في روايات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي كثيرة، ومنها رواية التهذيب(1) والكافي(2) فقد قال الإمام (عليه السلام): (إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب وتحل المكاسب وترد المظالم وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر فأنكروا بقلوبكم والفظوا بألسنتكم وصكوا بها جباههم)(3).

فبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (تأمن المذاهب) ويحلّ الأمن والاستقرار ويزول التطرف والإرهاب والإثم والعدوان.

كما أن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ترد المظالم) ويخيم العدل و(تعمر الأرض) ويسود الازدهار و(ينتصف من الأعداء) ويسود السلم و(يستقيم الأمر) على جادة الاعتدال والوسطية والحق والإنصاف والعدال والإحسان.

ص: 34


1- تهذيب الأحكام: ج6 ص180 - 181، الحديث 372.
2- الكافي الشريف: ج5 ص55 - 56، وراجع الوسائل: ج 16 ص119 الباب الأول.
3- الكافي الشريف: ج 5 - باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر - الحديث رقم 1 - ص56.

سبعة عناوين هي متعلق غرض المولى

والظاهر من هذه الرواية أن العناوين المذكورة فيها، كلها وهي سبعة أغراض للمولى، فما يحققها (وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) واجب، وهذه العناوين السبعة، لا ينبغي الشك في ضرورتها ولزومهاووجوبها؛ فإن (بناء العقلاء) عليها وكذلك (ارتكاز المتشرعة) وهم ينكرون أشد النكير على من يخل بها كما أن (العقل) مستقل بحسنها وحاكم بوجوبها ولولاها لاختل النظام ولزم الهرج والمرج كما أنها مقتضى (الفطرة) أيضاً(1) ولمطابقتها للقواعد والأصول والآيات والروايات فإن الآيات والروايات الدالة على آحادها كثيرة جداً:

قال تعالى: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً)(2) وفي ذلك إقرار لقانون إلهي تكويني عام يقتضي التوازن بين الأديان والملل والنحل.

وقال تعالى: (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)(3).

وقال تعالى: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ)(4).

ص: 35


1- راجع كتاب (فقه التعاون على البر والتقوى) بحث (الفطرة) وبحث (الوجوبات الأربعة) وبحث (اللطف) و(الغرض) لملاحظة عدد من الإشكالات والإجابة عنها.
2- سورة الحج: 39.
3- سورة الحديد: 25.
4- سورة الشورى: 13.

و(وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ)(1) و(وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)(2) و(وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ)(3) و (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)(4) و(وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ)(5) و(تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ)(6) و(جَعَلْنَاكَ عَلَىشَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ)(7).

وبعض الكلام عن ذلك في الملحق(1) وأما تفصيله ففي كتاب (فقه التعاون على البر والتقوى).

ولننتقل أخيراً إلى الكلام عن الآية الأخيرة في سياق البحث وهي قوله تعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) فنقول:

قاعدة الإمضاء وقاعدة الإلزام

هنالك قاعدتان قانونيتان أساسيتان هما (قاعدة الإمضاء) و(قاعدة الإلزام)، كلتاهما يمكن أن تستفاد من قوله سبحانه وتعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) ومن روايات عديدة ستأتي

ص: 36


1- سورة العنكبوت: 29.
2- سورة الاعراف: 157.
3- سورة النساء: 75.
4- سورة هود: 61.
5- سورة البقرة: 205.
6- سورة البقرة: 279.
7- سورة الجاثية: 18.

الإشارة إلى بعضها، وهاتان القاعدتان هما اللتان تحددان العلاقة بين الأديان والمذاهب والحضارات، عبر ترسيم الإطار الدستوري والقانوني العريض الذي يهندس العلاقة بينهما ومن خلالهما يمكن استكشاف المنظور القرآني في نمط العلاقة شرعياً بين المسلمين وغيرهم ثم بين طوائف المسلمين، فهل العلاقة هي علاقة الاندماج والذوبان؟! أو هي الصراع والنزاع؟! أو العلاقة هي علاقة الحوار والتعايش أو غير ذلك من العلائق والأطر والروابط؟!

وقاعدة (الإمضاء) وقاعدة (الإلزام) كلتاهما تجريان بالنسبة إلى (الكفار) في علاقة المسلمين بهم، كما تجريان حسبما نرى بالنسبة إلى العلاقة بين الطوائف الإسلامية كافة.

فهاتان القاعدتان تنظِّمان الروابط والوشائج والعلائق بين الطرفين.وقاعدة الإمضاء تختلف عن قاعدة الإلزام، بأن قاعدة الإمضاء نتيجتها لصالح الدِّين الآخر أو المذهب الآخر وأما مقتضى قاعدة الإلزام والناتج عنها على ضوء تشريعهم فهو لصالحنا.

ففي كلتا الحالتين تشريعهم ممضى، من قبل الشارع المقدس من الناحية القانونية، لكن قد يكون إمضاء قانونهم لصالحهم، وقد يكون عليهم، كما أن كل تشريع قد يكون ضاغطاً على الإنسان، وقد يكون مما يفسح له آفاقاً ويفتح له مجالات جديدة.

ص: 37

قاعدة الإمضاء والإلزام داخل الدائرة الإسلامية

قاعدة الإمضاء

سبق أن قاعدة (الإمضاء) نتيجتها لصالحهم والمثال التالي يوضح ذلك:

أكل الأرنب، وبيعه لهم

فمثلاً أكل الأرنب عند أهل السنة حلال، وعندنا حرام، فقاعدة الإمضاء تقتضي السماح لهم بأكل الأرنب وعدم منعهم منه، بل تقتضي جواز بيع الأرنب لهم، فهذه النتيجة لصالحهم إذ إنهم قد يرغبون في أكل الأرنب وإن كانت أحياناً لصالحنا أيضاً إذ قد يكون ذلك لصالحنا تجارياً أيضاً.

والحال كذلك في بعض أنواع السمك كالجري مثلاً، وكل ما قد يكون محللاً عندهم، فيجوز لي أن أبيعها لهم.

قاعدة الإلزام

اشارة

وأما قاعدة الإلزام فيمكن التمثيل لها ببعض الشواهد والنماذج الحقوقية والقانونية والشرعية:

أ - الزواج دون إشهاد أو إشهار

فمثلاً: (الزواج بدون إشهاد) عند كثير من أهل العامة باطل، وعند بعضهم الزواج بدون (إشهار) باطل.

ص: 38

أما عند الإمامية فإن الزواج يتقيد بقيود منها: رضاها ورضاه، وبعض الشروط الأولية الأخرى، مثل رضا الولي في الباكرة - على رأي كثير من الفقهاء - وما أشبه. لكن لا الإشهاد )استشهاد شاهدين أو شاهد واحد) ولا الإشهار )أي الإعلان) ليس أي منهما شرطاً في صحة النكاح عندنا، فالزواج صحيح بدونهما.

تقول (قاعدة الإلزام)، إذا تزوج رجل ملتزم بمذهب من مذاهب العامة بامرأة، بدون أن يُشهد على ذلك أحداً فزواجه حسب مذهبه باطل فلا تكون هذه المرأة زوجة له وهذا لضرره، لكنه هو الذي ألزم نفسه بهذه النتيجة بالتزامه بهذا المذهب، فلرجل من مذهب آخر أن يتزوج هذه المرأة، فنلزمه بما ألزم به نفسه.

فقاعدة الإلزام إذن نتيجتها هي بضرره من الناحية الشخصية، لكن دينه أو مذهبه هو الذي حكم عليه بذلك، ونحن نتعامل معه على ضوء قوانين دينه أو مذهبه ولا نتدخل في حيطة أحكام مذهبه.

ب - الطلاق دون شاهدين

وفي مثال آخر معاكس وهو (الطلاق) بدون شاهدين؛ فعند العامة لا يشترط في الطلاق الشاهدان لكنذلك عندنا شرط، فإذا طلقها بدون شاهدين عادلين حسب مذهبه فالطلاق صحيح، والغير، من المذهب الآخر، يستطيع أن يتزوجها مع أن طلاقه

ص: 39

حسب مذهبنا باطل لكن )ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم).

ج - الإرث

في مثال آخر: لو توفي الإنسان وله بنت واحدة وأخ، فنحن نقول: إن للبنت النصف بالفرض، والبقية بالرد، حيث ليس في طبقتها وارث آخر، فيعود لها النصف الثاني أيضاً، ولكن أهل العامة يقولون بالتعصيب؛ أي عود بقية المال للعُصبة التي هم في أطراف الإنسان مثل الإخوة والأعمام.

فإذا مات الإنسان وله بنت وهي من الطبقة الأولى وأخ وهو من الطبقة الثانية للإرث أو عم وهو من الطبقة الثالثة في الإرث فعند العامة البنت ترث النصف بالفرض، والنصف الثاني لأنه لم يُحدد لها يرجع للأخ أو للعم، فإذا مات السني وله بنت سنية وأخ شيعي، فنستطيع أن نتمسك بقاعدة الإلزام، فالشيعي يرث النصف من هذا الميت المتوفى الذي هو أخوه، وذلك لقاعدة (ألزموهم بما ألزموا أنفسهم).

وقد استدل الفقهاء على قاعدة الإلزام والإمضاء بقوله (عليه السلام): «أَلْزِمُوهُمْ بِمَا أَلْزَمُوا أَنْفُسَهُمْ»(1) وبروايات عديدة أخرى وقد فصلنا الكلام عن ذلك في بحوث في قاعدة الإلزام - فراجع.

قاعدة الإمضاء والإلزام خارج الدائرة الإسلامية

وهاتان القاعدتان تقضيان أيضاً بأن للكفار العمل بقوانين

ص: 40


1- التهذيب: ج9 ص322.

دينهم من غير إجبار منّا وإكراه لهم على تركها بل لهم العمل بها ولنا أن نرتب على ذلك الآثار.

فمثلاً الكافر الذي يستحل كثيراً من الأطعمة مثل الميتة، فإنه مسموح له بذلك حسب قاعدة الإمضاء، وعلى ضوء السماح له بذلك، يجوز لنا أيضاً أن نبيع الميتة له .. فهذه هي (قاعدة الإمضاء) ولأن ذلك في دينه جائز فإننا نستطيع أن نبيعه لهم.

ف(قاعدة الإمضاء) ما كانت نتيجتها لصالح (الطرف الآخر) سواء أكانت لصالحنا أيضاً أم بضررنا أم لا هذا ولا ذاك.

وأما (قاعدة الإلزام) فهي ما كان بضرر الطرف الآخر سواء أكان لصالحنا أيضاً كالأمثلة السابقة أم كان بضررنا أيضاً كما لو فرض أن بطلان زواجه منها لأنه تزوج الثانية وهو باطل عندهم - فرضاً - أنتج تضرر مجموعة من العوائل مثلاً، لكن الكلام في (المصبّ) وإن مصب قاعدة (الإلزام) ما كان عليهم، ومصب قاعدة الإمضاء ما كان لهم بحسب طبعه الأوليّ.

الاستدلال بالقرآن على قاعدة الإمضاء والإلزام

والآية الشريفة (لَكُمْ دِينُكُمْ) يمكن أن تستنبط منها كلتا القاعدتين فقد أمضى الله من الناحية الظاهرية والقانونية، دينهم بمعنى أنه يستطيع أن يعمل على طبق دينه سواءً أكانت نتيجته لصالحه وهي (قاعدة الإمضاء) أم كانت النتيجة بضرره، فما دام ملتزماً بدينه أو مذهبه فعليه ذلك، والحاصل إنه تترتب عليه الآثار

ص: 41

الإيجابية أو السلبية في المقام.

قاعدة: (وَلِيَ دِينِ)

وبكلمة جامعة: فإن (لَكُمْ دِينُكُمْ) تحدد العلاقة من طرفنا تجاههم ف(قاعدة الإلزام) و(قاعدة الإمضاء) تسمح للطرف الآخر بأن يطبق شريعته، وأن يمشي على طبق دينه انطلاقاً من (لَكُمْ دِينُكُمْ) و(أَلْزِمُوهُمْ) وأما (وَلِيَ دِينِ) فإنها ترسم العلاقة من طرفهم تجاهنا فليس له أن يفرض عليك شريعته وطريقته كما هو واضح.

قاعدة (الإلزام) تستنبط من (لكم دينكم)

والحاصل: إن هذه الآية القرآنية الشريفة، تصلح دليلاً على قاعدة الإلزام؛ لكن - وفي الاتجاه المقابل يمكن أن يقال إن هذه الآية الشريفة (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، المراد بها هو الجانب التكويني، أي ما ستكون عليه الحالة الخارجية لهاتين الطائفتين، أي إن هذه الآية إنما هي في مقام كشف المستقبل وإنه هكذا سيكون الحال كما كان على مرّ التاريخ فسيكون هناك دين الإسلام، وستكون هناك أديان أخرى ف(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) أي الأمر كذلك إلى حين حلول الوعد الإلهي ب(لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(1) فهذه الآية هي إشارة لواقع خارجي، ليس في ذلك التاريخ فحسب، بل في شتى الأزمنة، أي هي (قضية خبرية

ص: 42


1- سورة التوبة: 33.

حقيقية) بحسب الاصطلاح العلمي.

ولكن قد يستظهر أن هذه الآية هي آية تشريعية، أو هي تعم الجانب التكويني والجانب التشريعي معاً، والقرينة على أن هذه الآية تشريعية؛ هو سياق الآيات (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) فهي ترسم العلاقة التشريعية بين الإسلاموبين الأديان الأخرى وحاصل المعنى على هذا سيكون: (لَكُمْ دِينُكُمْ) وهذا حكم ظاهري، وهو جواز عملكم بدينكم فلا تلزمون بغيره جبراً وقسراً و(وَلِيَ دِينِ) وهذا حكم واقعي أي يجوز بالمعنى الأعم الشامل للوجوب لي العمل بديني، وقد يقال: اللام للاختصاص في المقطعين، ويلزمه عرفاً: الجواز ظاهرياً أو واقعياً، ويمكن أن يقال: بأن هذه الآيات هي في دائرة أعم، يعني هي أعم من التشريع والتكوين فتأمل(1).

قاعدة (الإلزام) من مفاخر الإسلام

ولا بد هنا أن نقول: إن قاعدة (الإلزام) و(الإمضاء) المستفادة من هذه الآية الشريفة ومن تلك الروايات الكريمة، هي من (مفاخر الإسلام)، وإن الغرب مهما تغنّى بالتسامح وبالانفتاح، وبحرية المعتقد وغير ذلك؛ فإنه لا يرقى إلى عشر معشار ما تضمنته (قاعدتا الامضاء والإلزام).

ص: 43


1- إشارة إلى وجود إشكال بل أكثر في المقام، ويترك لمظانه.

بل إن (القاعدتين) تعدان حقيقة من (مفاخر البشرية) لكننا نحن المسلمون أعني الكثير منا لا نعرف قيمة الجواهر التي نمتلكها، واللآلئ، والدُّرر والكنوز التي بحوزتنا، ونبقى نجهل قيمتها.

ومن المؤسف أن الكثير من المسلمين ربما عملوا في الجملة بإرادة أم باضطرار بالقاعدة الأولى يعني قاعدة (لَكُمْ دِينُكُمْ) (إمضاءً) أو (إلزاماً) لكن القاعدة الثانية ولنسمها ب(قاعدة ولي دين) لم يناضلوا لكي تترجم على أرض الواقع ففرض عليهم الآخرون العديد من قواعد دينهم أو قوانينهم أو - المسلمون - انصاعوا لها عناقتناع!

البلوغ وسن التصويت

فمثلاً: سن التكليف منوط بالبلوغ، أي عندما يكمل السنة الخامسة عشر ويدخل في السادسة عشر والفتاة تبلغ عندما تكمل التاسعة وتدخل في العاشرة على المشهور، فهذا هو المقياس التشريعي لنا، وهذا المقياس التشريعي في كل مكان سارٍ وجارٍ وسيال، وانطلاقاً من ذلك لا يصح على ضوء شريعتنا أن يتم تحديد من يحق له التصويت في الانتخابات في سن ثماني عشرة سنة أو واحداً وعشرين سنة، أو أقل أو أكثر، بل بمجرد ما بلغ الشاب أو الفتاة فله ولها حق التصويت، أما غير ذلك فهو قانون غربي لا شرعية له في الإسلام، فلماذا نتخلى عما شرّعه الإسلام ونتبعهم؟!

ص: 44

للمميز والطفل والجنين حق التصويت

بل إن بعض الفقهاء كالسيد الوالد (رحمه الله) كان يرى الأكثر من ذلك إذ كان يرتأي: بأن (المُمَيز) أيضاً له حق التصويت، بل وأكثر من ذلك: إن الطفل له حق التصويت، وإن كان غير مميز، والولي هو الذي يتصدى لذلك عنه، بل وأكثر: فحتى الجنين في رحم أمه له حق التصويت، ووليه يتصدى لذلك.

والعلة في ذلك واضحة وهي أن المنتخَب سيتصرف في شؤون هؤلاء جميعاً: في أموالهم، في حقوقهم العامة والخاصة، بل حتى في أبدانهم وأعراضهم ودمائهم، فإن قرارات الدولة تنعكس بشكل مباشر أو غير مباشر على الجميع، ومنهم الجنين في رحم أمه لكنه حيث ليسبمقدوره أن ينتزع حقه وأن يدلي بصوته، فوليه من قبل الشارع هو المخول والمفوَّض إليه ذلك.

بين الخمس والضريبة

وكمثال آخر (الضريبة)، فإنه على أساس قاعدة (وَلِيَ دِينِ) فإنه لا توجد في الإسلام إلا أربعة ضرائب ولا غير؛ الخمس والزكاة على المسلمين، والجزية والخراج على غيرهم، لكن الدول الاستبدادية والديمقراطية على حد سواء ابتدعت شيئاً سموه (الضريبة)؟!! فعلى أساس قاعدة (لَكُمْ دِينُكُمْ) سمحت شريعتنا لهم بمقتضى قاعدة (الإمضاء) و(الإلزام) بأن يفعلوا ما يمليه

ص: 45

عليهم دينهم، وأن يمشوا على طبق قوانينهم الوضعية - بناء على تعميم القاعدة لذلك أيضاً - ولكن - ولنسأل المسلمين الآن -: أين هو العمل ب(وَلِيَ دِينِ)؟

وسنوضح في الملحق(2) إن (الخُمس) قانون عقلاني ينسجم مع الفطرة عكس الضريبة، كما سنعقد مقارنة موجزة في الملحق (3) بين بعض قوانين الغرب والإسلام على ضوء قاعدة الإمضاء والإلزام -، فراجع.

الآليات والممهدات للوصول إلى الوسطية والاعتدال

ولا بد من أن نستعرض بعض الآليات التي تضمن لنا جميعاً السير على حسب منهجية الأمة الوسط تحت راية الوسطية والاعتدال وصولاً إلى العدل والحرية والإيمان والاخوة والاستقرار والازدهار.

أولاً: إقامة المؤتمرات وعقد الندوات العامة والخاصة والتخصصية التي تضطلع بمهمة بلورة مفاهيمالوسطية ورؤى الاعتدال والتي تبحث أيضاً عن الآليات للوصول إلى ذلك.

ثانياً: عقد ندوات ومؤتمرات حوارية تجمع كل الأطراف والأطياف والتوجهات وتكون مهمتها الأساس البحث العلمي والموضوعي عن أسس وأدلة وبواعث شرعنة العنف وعن صحتها أو سقمها، وعن الأسباب الكامنة وراء دورات العنف في حياة الأمم والشعوب.

ص: 46

ثالثاً: تأسيس مراكز دراسات ومراكز فكر تتخصص في البحث عن آليات مكافحة الفقر والبطالة والتضخم والفساد الإداري والمالي، وعن سبل النهوض بالبلاد وإعمارها لتصل إلى مصاف الأمم المتطورة بل إلى أرقى درجات العدل والإحسان وأعلى مراحل الاستقرار والازدهار؛ وذلك لأن الفقر والبطالة والتخلف والفساد تعدّ من أهم أسباب التطرف الديني والعنف الاجتماعي.

وقد قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم): «كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْراً...»(1) وقال الله تعالى من قبل: (هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)(2).

ولقد جرى تفصيل الحديث عن ذلك كله في كتاب (استراتيجيات إنتاج الثروة ومكافحة الفقر في منهج الإمام علي (عليه السلام)).

ص: 47


1- الكافي: ج2 ص307.
2- سورة هود: 61.

الخلاصة والاستنتاجات

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأزكى التسليم على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي

لقد كانت العدالة بشتى تجلياتها والاعتدال والوسطية في مختلف أبعادها، هي الحُلُم الأسمى للبشرية المعذبة على مر التاريخ، بل لقد كان العدل هو الهدف من رسالات الأنبياء % جميعاً بصريح القرآن الكريم: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)(1) وكانت الوسطية هي الطريق الآمن الوحيد للوصول إلى رضا الرب وإقرار الحق والعدل، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً...)(2).

وقد استهدف المتطرفون، من كل الملل والنحل، الاعتدال والوسطية وحاولوا تدمير بنيتها الأساسية بكل عنف وضراوة سواء أكانت الوسطية في العقيدة أم في الشريعة، وسواء أكان الاعتدال في

ص: 48


1- سورة الحديد: 25.
2- سورة البقرة: 143.

السياسة والاقتصاد والاجتماع أم في الفكر والثقافة أم في غير ذلك.

وكان طريقهم إلى ذلك مصادرة العقل السليم بإثارة نوازع البهيمية وتحكيم مرجعية القوة الغضبية من جهة، وتجاوز النقل بإغفال المحكمات العقلية والقرآنية والتشبثبالمتشابهات من جهة أخرى.

وهذا البحث الموجز يضطلع بمهمة إستنطاق المحكمات القرآنية واستجلاء البصائر الربانية في مبحث (الوسطية والاعتدال) وهو يتمحور حول آيات أربع:

1- آية الرحمة (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) و(وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)(1)، باعتبارها الحكمة والفلسفة الكلية وراء الخلقة ولكونها مقصداً من أهم مقاصد الشريعة ومنشأً من أهم مناشئ التشريع.

2- آية الوسطية (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)، نظراً إلى كونها التي تحدد التموضع الاستراتيجي للأمة الإسلامية والصفة العامة التي تتميز بها بين الأمم.

3- آية التعاون (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)(2)، كونها التي ترسم المنهج العام في حياة المؤمنين كافة.

4- آية الإمضاء والإلزام (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(3)،

ص: 49


1- سورة هود: 118 - 119.
2- سورة المائدة: 2.
3- سورة الكافرون: 6.

حيث إنها التي تحدد الإطار القانوني والحقوقي العام للتعامل مع الآخرين من الأديان الأخرى.

ويخلص البحث إلى أن التطرف لا ينمو إلا في حواضن طبيعية أو مفتعلة، ومنها:

الجهل والغفلة والتجهيل والتضليل، والفقر والبطالة والتضخم، وسوء الإدارة والاستبداد وزيادة القيود الكابتة والعنف والإرهاب باعتبار أن العنف يولد العنف في حركة دورية متسلسلة.

كما يخلص البحث إلى أن العلاج هو مسؤوليةمشتركة تقع على عاتق المفكرين والعلماء والجامعيين كما تقع على أعناق المسؤولين ومنظمات المجتمع المدني جميعاً.

ويختتم بتوصيات حول بعض الآليات التي تتكفل بالإيصال إلى ذلك كله.

ومنها: عقد الندوات والمؤتمرات التخصصية والحوارية وتأسيس مراكز دراسات تتخصص في البحث عن سبل وآليات القضاء على حواضن التطرف وتجفيف منابع العنف والإرهاب ومصادره الفكرية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

والسلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.

ص: 50

الملحق (1)

التعاون محقق لغرض المولى

سبق إن التعاون على البر والتقوى قد يقال بوجوبه بحكم العقل وذلك بوجوه عديدة ومنها أنه محقق لغرض المولى.

بيان ذلك: إنه لا ريب في أن التعاون هو المحقق للكثير من أغراض المولى مما عبر عنه بعضهم بالمسقط لغرض المولى.

وذلك لأن الواجب بحكم العقل في باب الإطاعة هو:

أ. إما (إسقاط الأمر) والذي لا يتحقق إلا بتحقيق الغرض ولا يخفى أن الأدق هو التعبير ب- (إطاعة الأمر) وإما امتثاله وإسقاطه فهو لازمه، فإن مصب حكم العقل هو إطاعة الأمر وامتثاله.

ب. وإما تحصيل (غرض المولى وتحقيقه) مع قطع النظر عن كونه سبباً لإسقاط الأمر أو لإطاعة الأمر(1) أو مع لحاظ ذلك.

فعلى القول بأن الواجب في باب الإطاعة تحصيل غرضه تعالى، والظاهر أنه من المسلمات عندهم فمثلاً قال في الكفاية: (إن الأمر الأول إن لم يسقط بدون قصد امتثاله لعدم حصول غرضه، استقل العقل بإتيانه بقصد الأمر...)(2) فهناك طريقان لإثبات المقصود:

ص: 51


1- فلو فرض عدم أمرٍ لما أخل بوجوب تحصيل الغرض، والفرض أن عدم الأمر كان لغفلة أو مانع أو اعتماداً على معرفة العبد بغرضه ولم يكن ترخيصاً أو ما أشبه.
2- كفاية الأصول: ص97.

1. الغرض الكلي

الطريق الأول: ما ذكرناه تحت عنوان مستقل آخر في ذلك الكتاب وهو: التعاون محقق للغرض الكلي للمولى.

2. الأغراض المترتبة على كل واجب

الطريق الثاني: هو أن الشارع المقدس عندما أمر المكلفين بسلسلة من الأوامر ونهاهم عن مجموعة من النواهي فإنه كان ينطلق عادة من مصالح ومفاسد واقعية في متعلق الأحكام (ومن مصلحة في نفس الأمر أحياناً كما في الأوامر الامتحانية) ولا ريب أنه يريد تحقيق أغراضه التي كان الأمر دليلاً عليها والتي كان امتثاله محققاً لها أو مسقطاً.

ولا ريب في أن العقل يرى أن أغراض المولى لا تتحقق في كثير من الأحيان وإن إطاعة أوامره أو إسقاطها لا تتم إلا بتعاون الناس على إطاعة أوامره وعلى تحقيقها(1) لذلك يبعث العقل نحوه(2) إلزاماً عندما يرى أن به يتحقق غرض المولى وأن به تتحقق إطاعة أوامره وإسقاطها.

بل إن العقل يرى أن عدم إيجاب الشارع له(3) أو عدم ركون الشارع له في إيجابه يستلزم نقض الغرض وعبثية إصدار تلك

ص: 52


1- أي الأغراض.
2- أي التعاون.
3- أي التعاون.

الأوامر - ولو في الجملة - وأن المولى يضيع أغراضه بنفسه لو رخص في عدم التعاون.

والفرق بين (الغرض الكلي) وبين هذا (الأغراضالمترتبة على كل واجب): إن هذا يشير إلى الأغراض الخاصة بكل واجب والمصالح المترتبة على الواجبات واحدة واحدة، وأما ذلك الطريق الذي بحثناه في (التعاون محقق للغرض الكلي المولى) فإنه يشير إلى الغرض الكلي العام، وهو (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) وما أشبه ذلك.

الإشكال بمجهولية أغراض المولى وجوابه

لا يقال: إننا لا نعلم غرض المولى وهل هو من الأغراض الإلزامية أم لا؟

إذ يقال: أما أغراضه فقد علمت من الآيات والروايات الشريفة.

ومنها قوله تعالى:(وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي)(1) و(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(2).

ومنها ما ذكرته الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في خطبتها في المسجد: «فجعل الله... (الصلاة) تنزيهاً لكم عن الكبر و(الزكاة) تزكية للنفس ونماء في الرزق و(الصيام) تثبيتاً للإخلاص

ص: 53


1- سورة طه: 14.
2- سورة البقرة: 183.

و(الحج) تشييداً للدين و(العدل) تنسيقاً للقلوب و(طاعتنا) نظاماً للملة و(إمامتنا) أماناً من الفرقة و(الجهاد) عزاً للإسلام...»(1)، وقد فصلنا الحديث عن ذلك في ذلك الكتاب(2).

وأما كونها إلزامية فقد علمناه من صدور أوامره الإلزامية فإنها الدليل على إلزامية غرضه، وراجعتفصيل ذلك هنالك.

التعاون محقق لتلك الأغراض

ولا ريب في كون الإعانة على البر والتقوى والتعاون عليهما محققاً لأغراض المولى تلك.

والعناوين المذكورة فيها هي:

1. إقامة الفرائض

2. أمن المذاهب والسبل

3. حلية المكاسب

4. رد المظالم

5. عمارة الأرض

6. الانتصاف من الأعداء

7. استقامة الأمر

وعلى هذا فكل (تعاون على البر والتقوى) كان سبباً ل- (إقامة الفرائض)، كان واجباً، ومنه التعاون على بناء المساجد وتأسيس الحوزات والإذاعات والفضائيات في الجملة. ومنه التعاون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومنه التعاون على العدل

ص: 54


1- علل الشرائع: ج1 الباب182، علل الشرائع وأصول الإسلام - ص248.
2- منها ما سيأتي، ومنها ما ذكر في بحث (العلة المنصوصة) ومنها ما ذكر في بحث الأدلة على وجوب التعاون من الروايات -، فليراجع.

والإحسان والوسطية والاعتدال وعلى الهداية والإرشاد.

وكذا كل ما سبب من التعاون (أمن المذاهب والطرق) ومنه تعاون الناس والشرطة لذلك، وإلا لزم الهرج والمرج واختلال النظام.

وكذلك كل تعاون كان سبباً ل (حلية المكاسب) وأن لا يقع الناس في الحرام من جهة المكسب، ومنه التعاون على منع الغصب والاحتكار ومنع استيراد أو بيع المذبوح على الطريقة غير الشرعية.

وكذا كل تعاون كان به (رد المظالم) وأهمها علىالإطلاق مظالم الرسول وأهل بيته الأطهار % ومظالم الشعوب والناس كفافة.

و(المظالم) جمع محلى ب- (ال) فيفيد العموم ويشمل مظالم غير المسلمين أيضاً، وقد يقال بانصرافه للمظالم المالية لكنه بدوي إلا أن يتمسك بظهور (ترد).

وكذلك كل تعاون تكون به (عمارة الأرض) كما أشير إليه في عهده(عليه السلام) للأشتر، ومن مصاديقه تعاون الدولة مع علماء التربة وعلماء الزراعة وتعاون العلماء بعضهم مع بعض طلباً لعمارة الأرض الظاهر شمولها لعمارتها بالبناء أو الزراعة أو صنع السدود وغيرها.

وكذلك كل تعاون يؤدي ل- (الانتصاف من الأعداء) ومنه

ص: 55

تكوين ما يسمى بجماعات الضغط لانتزاع الحقوق من الأعداء والانتصاف منهم كإسرائيل الغاصبة وداعش وغيرهما، والظاهر شموله للأعداء الشخصيين إذا كانت عداوتهم بالباطل كحسد أو ما أشبه إذا ظلموا الإنسان وصادروا حقوقه المشروعة.

وكذلك يجب كل تعاون يؤدي إلى (استقامة الأمر) و(الأمر) مطلق يشمل مختلف أمور البلاد والعباد من اقتصادية وسياسية وغيرها كما أن الظاهر شموله لأمور العقيدة والشريعة كما يشمل أمر الحكم والحكومة (والاستقامة) أن يكون الأمر على الجادة كما قرره الشارع قال تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)(1) وقال جل اسمه: (دِيناً قِيَماً)(2) هذا.

ص: 56


1- سورة الفاتحة: 6.
2- سورة الانعام: 161.

الملحق (2)

وذلك لأنه وحسب قانون الخمس فإنه يجب تخميس الفائض في رأس السنة، فالخمس بني على مراعاة حق الفقراء، والكل يشهد الإنسانية تامةً وكاملةً متجلية في هذا التشريع الإلهي، عكس قانون الضرائب الذي يقول: يجب أن تدفع الضريبة فقيراً كنت أم غنياً، وسواءً أكانت الضريبة ضريبة سفر أم حضر أم ضريبة شراء لأمر خطير أو لبضاعة عادية، ففي العديد من الدول الغربية عندما تذهبون لشراء بضاعة ما ،فإنكم يجب أن تدفعوا الضريبة مع البضاعة، فعندما تشتري بضاعة ككيلو برتقال مثلاً قيمته ثلاث دولارات، فإن الضريبة تأخذ في نفس اللحظة ،بل هي تسحب على ثمن البضاعة، فلا يمكن أن تستلمها دون دفع ال(التكس)، وذلك رغم ان أكثر الناس فقراء، فالضريبة غير إنسانية على لإطلاق لأنها لا تفرِّق بين فقير وغني ومحتاج وغير محتاج، لكن (الخمس) يعني أن لك أن تصرف بقدر ما تحتاجه على حسب شأنك وعند رأس السنة إن كان لديك فائض، فعليك أن تخمّس.

إذن الخمس إنساني والضريبة غير إنسانية هذه من جهة، ومن جهة ثانية، وحسب الإحصاءات فإن الضرائب في الغرب تتراوح نسبتها من 33% إلى 45% أما في الإسلام فالضريبة هي

ص: 57

الخمس ويعني: 20% والزكاة وهي 2.5% في مثل الأربعين شاة إذ فيها شاة واحدة مما يعني أن الضريبة في الإسلام تعادل 22.5% خمساًوزكاة.

إضافة إلى أن الضريبة تؤخذ رأس كل شهر من الإنسان أو عند كل سفرة أو عند كل تسوق أو غير ذلك، أما الخمس فيفسح للإنسان المجال فيه إلى رأس السنة.

ص: 58

الملحق (3)

مقارنة موجزة بين بعض قوانين الغرب والإسلام على ضوء قاعدة الامضاء والإلزام

إن من المفاخر التي اختصصنا بها (قاعدة الامضاء والإلزام)؛ وأما الغرب فإنه لا يعمل بقاعدة الإمضاء والإلزام في كثير من الموارد:

أ - الزواج دون السن القانونية

فمثلاً في بعض البلدان الغربية، هل يستطيع الإنسان المسلم بل كل مَن كان مِن ديانة أخرى مسلماً كان أم ذا دين آخر، أن يتزوج دون السن القانونية للزواج عندهم؟ فلنفرض إن السن القانونية للزواج عندهم هي (18 أو 21) حسب الولايات أو المدن أو الدول، فهل يستطيع شخص أن يتزوج فتاة عمرها (12 سنة)؟! قانونياً لا حق له وسيلاحق لو فعل، مع أنه حسب دينه يجوز له ذلك ف(قاعدة الإلزام) لا تلتزم بكثير من مواردها البلاد الغربية، فإن الإنسان إذا تزوج قبل السن القانونية للزواج فإنه مُدان ومُعاقب ولا تترتب عليه الآثار فلا تُعتبر زوجة له، ولا ترثه، أو يرثها وما أشبه ذلك.

ب - الزواج بأكثر من واحدة

مثال آخر: في كثير من الدول الغربية يُمنع زواج الإنسان

ص: 59

بأكثر من واحدة، رغم أنك قد تكون من دين آخر، لكن قاعدة الإلزام ليست جارية عندهم، نقول لهم: لا يجوز لديكم للرجل أن يتزوج أكثر من واحدة، ولكن ذلك عندنا جائز فلماذا لا تسمحون لنا بذلك؟

والحاصل إن قاعدة الإلزام غير جارية عندهم، وهي جارية عندنا، حسب الشريعة الإسلامية السمحة، أي لو أن شخصاً من دين آخر يعيش في بلاد الإسلام، ومن دينه أن له أن يتزوج بستة، فله الحق في ذلك ولا يُمنع من ذلك إذ (ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم) فله ذلك، أي إنه على حسب دينه يُتعامل معه فلا يُقيَّد بتشريعنا.

ج - زواج المجوس بالمحارم

مثال ثالث: المجوس يجوز عندهم ما يعدّ من أقبح المحرمات عندنا وعند كافة العقلاء وهو الزواج بالأم، أو الأخت، أو البنت، فالمجوسي له ذلك، يعني من الناحية التشريعية، في الحكومة الإسلامية لا يُمنع من ذلك، بل له أن يتزوج بأمه على حسب دينه وقاعدة الإلزام تسمح له بذلك.

د - لا ضريبة على الإرث، وعلى الدولة تكفل ديون

النبي الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم)، يقول: «من ترك مالاً فلورثته ومن ترك ديناً أو ضياعاً فعليّ وإليَّ.. »(1) وهذا يعني أمرين: أولاً: لا ضريبة

ص: 60


1- الكافي: ج1 ص406. وفيه قال (صلی الله عليه وآله وسلم): مَن ترك دَيناً أو ضياعاً فعليَّ، ومن ترك مالاً فلورثته ..

على الإرث أبداً، وثانياً: إن على الدولة تكفل ديون الناس وأيتامهم بالكامل، فأي شخص من عامة الناس في البلد الإسلامية يموت وعليه دين، فبيت المال عليه أن يتحمل مسؤولية هذا الدَّين وفي المقابل فإنه إذا ترك مالاً، وعقاراً وما أشبه ذلك فلذريته، وورثته وليس للدولة الإسلامية، في أيِّ قانون ترون في العالم هذه الإنسانية الكبيرة؟

وقد فصَّل الحديث عن ذلك السيد العم (دام ظله)(1) في بعض محاضراته وكتبه.

وهل تجد نظيراً لمثل هذا القانون في الغرب؟ أو تجدهم يفرضون الضريبة على إرثك، مهما كان دينك؟ لكن في الجهة المقابلة إذا كان الغربي يعيش في بلد إسلامي فإنه يتعامل معه على ضوء دينه.

ولا يخفى أن هذا البحث إنما هو عن (التشريع الإسلامي) وليس حديثاً عن (التطبيق الخارجي) وعن مدى عمل الدول الإسلامية بقانون (الإلزام) وغيره، إذ المقارنة هي بين التشريع الإسلامي والقانون الغربي، وليس بين حكومات البلدين.

وبكلمة: فإن التشريع الإسلامي يقول: بأن لكل شخص أن يعمل على ضوء دينه، فإذا أعفاه دينه عن الضريبة، فإنه يُتعامل معه كما يحكم عليه دينه، ولا يحق لنا أن نفرض عليه ضريبة إذا كانت على خلاف معتقده ودينه.

ص: 61


1- سماحة آية الله السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله).

لذا نجد أمير المؤمنين ومولى الموحدين عليه صلوات المصلين يقول: «لو ثنيت لي الوسادة، لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل القرآن بقرآنهم...»(1).

إذن فقاعدة (الإلزام) هي من مفاخر الدين الإسلامي، ومن مفاخر البشرية، لكن هذه القاعدة في هذا الزمن أضحت مُهملة، أهملها المسلمون أيضاً، كما أهملها الغربيون، لكنهم تبجّحوا بما ليس لهم، بل إنهم أنكروا حقاً عظيماً للإسلام عليهم حتى بالنسبة إلى الحقل المتواضعمن الحريات الموجودة في بلادهم، فإن هذا أيضاً يعد من بركات تموجات وإشعاعات رسول الله محمد وأهل بيته الأطهار (صلوات الله عليهم جميعاً) الذين جاؤوا لهداية البشرية وإخراجهم من ظلمات الجهل، ومن إصر الاستبداد والأغلال، إلى الحرية والنور، كما قال ربنا سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)(2).

ص: 62


1- بحار الأنوار: ج28، ص4، ح5.
2- سورة الأعراف: 157.

المصادر

* القرآن الكريم.

* الإمام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، دار الهجرة للنشر، قم.

1. المحدث النوري (رحمه الله)، مستدرك الوسائل، مؤسسة آل البيت %، قم، 1408ه.

2. الشيخ محمد بن مسعود العياش (رحمه الله)، تفسير العياشي، المطبعة العلمية، طهران، 1380ه.

3. ثقة الإسلام الكليني (رحمه الله)، الكافي، دار الكتب الإسلامية، طهران، عدد الأجزاء 8.

4. العلامة المجلسي (رحمه الله)، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء - بيروت، 1404ه.

5. الشيخ ابن أبي جمهور الاحسائي (رحمه الله)، عوالي اللئالي، دار سيد الشهداء (عليه السلام) - قم، 1405ه.

6. الشيخ الحسن بن أبي الحسن الديلمي (رحمه الله)، إرشاد القلوب، دار الشريف الرضي (رحمه الله) للنشر، 1412ه.

7. الشيخ الطوسي (رحمه الله)، التهذيب، دار الكتب الإسلامية، طهران، عدد الأجزاء 10.

ص: 63

8. الشيخ محمد كاظم الخراساني (رحمه الله)، كفاية الأصول.

9. الشيخ الصدوق (رحمه الله)، علل الشرائع: مكتبة الداوري - قم.

10. السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، فقهالتعاون على البر والتقوى، 1430ه - 2009م.

11. السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، بحوث في العقيدة والسلوك، 1430ه - 2009م.

ص: 64

الفهرس

الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي... 7

الهدف من الخلقة هو (الرحمة)... 8

وقد خلقنا لنتعارف ونتعاون... 9

وقد جعلنا أمة وسطاً... 9

أ- الأمة المتوسطة في الاعتدال... 11

الأمة المتوسطة بين الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والبشرية... 12

الأمة الوسط هي نخبة النخبة... 13

بصائر النور في آية اللين والاستشارة... 14

البصيرة الأولى: للشريعة مقاصد وللمقاصد مقاصد... 14

اللين مقصد للشريعة، ومقصد المقصد هو الرحمة الإلهية... 15

أحب الأعمال لله الإيمان به والرفق بعباده!... 15

من شروط الوالي أن يكون الأفضل حلماً... 16

الفائدة الاجتماعية لفقه المقاصد... 17

العِبرة: اختاروا القائد الليّن المعتدل الرفيق بطبعه... 19

اللين اختياري اقتضائي... 20

ص: 65

الطغاة في مواجهة الآيات البيّنات... 21

الرفق أجمل خلائق الله!... 22

الأحب إلى الله هو الأرفق بصاحبه!... 22

إن الله رفيق يحب كل رفيق بالناس!... 23

البصيرة الثانية: الرحمة للجميع تكويناً وتشريعاً... 24

البصيرة الثالثة: العفو واجب وكذا الاستشارة!... 26

السر في خروج الناس من دين الله أفواجاً أو صدّهم عن الدخول فيه!... 28

كان لا يعاتب الرجل بشكل مباشر!... 29

الاستدلال بالقرآن الكريم على وجوب التعاون... 29

وجوه وجوب التعاون على البر والتقوى... 30

المناشئ المحتملة لحكم العقل بقبح ترك التعاون... 32

الإستدلال بالعلة المنصوصة في الروايات على وجوب التعاون... 34

سبعة عناوين هي متعلق غرض المولى... 35

قاعدة الإمضاء وقاعدة الإلزام... 36

قاعدة الإمضاء والإلزام داخل الدائرة الإسلامية... 38

قاعدة الإمضاء... 38

أكل الأرنب، وبيعه لهم... 38

قاعدة الإلزام... 38

ص: 66

أ- الزواج دون إشهاد أو إشهار... 38

ب- الطلاق دون شاهدين... 39

ج- الإرث... 40

قاعدة الإمضاء والإلزام خارج الدائرة الإسلامية... 40

الاستدلال بالقرآن على قاعدة الإمضاء والإلزام... 41

قاعدة: (وَلِيَ دِينِ)... 42

قاعدة (الإلزام) تستنبط من (لكم دينكم)... 42

قاعدة (الإلزام) من مفاخر الإسلام... 43

البلوغ وسن التصويت... 44

للمميز والطفل والجنين حق التصويت... 45

بين الخمس والضريبة... 45

الآليات والممهدات للوصول إلى الوسطية والاعتدال... 46

الخلاصة والاستنتاجات... 48

الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي... 48

* الملحق (1)... 51

التعاون محقق لغرض المولى... 51

الإشكال بمجهولية أغراض المولى وجوابه... 53

التعاون محقق لتلك الأغراض... 54

ص: 67

* الملحق (2)... 57

* الملحق (3)... 59

مقارنة بين قوانين الغرب والإسلام... 59

أ - الزواج دون السن القانونية... 59

ب - الزواج بأكثر من واحدة... 59

ج - زواج المجوس بالمحارم... 60

د - لا ضريبة على الإرث، وعلى الدولة تكفل ديون... 60

* المصادر... 63

الفهرس... 65

ص: 68

كتب أخرى للمؤلف

1. أضواء على حياة الإمام علي (عليه السلام)، مطبوع.

2. التصريح باسم الإمام علي (عليه السلام) في القرآن الكريم، مطبوع.

3. لماذا لم يصرح باسم الإمام علي (عليه السلام) في القرآن الكريم؟، مطبوع.

4. استراتيجيات إنتاج الثروة ومكافحة الفقر في منهج الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، مطبوع.

5. شعاع من نور فاطمة الزهراء (عليها السلام)، دراسة عن القيمة الذاتية لمحبة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، مطبوع.

6. تجليات النصرة الإلهية للزهراء المرضية عليها السلام، مطبوع.

7. لمحات من حياة الإمام الحسن (عليه السلام)، مطبوع.

8. الإمام الحسين (عليه السلام) وفروع الدين، دراسة عن العلاقة الوثيقة بين سيد الشهداء(عليه السلام) وبين كل فرع فرع من فروع الدين، مطبوع.

9. شرعية وقدسية ومحورية النهضة الحسينية (عليه السلام)، مطبوع.

10. المرابطة في زمن الغيبة الكبرى، مطبوع.

11. السيدة نرجس (عليها السلام) مدرسة الأجيال، مطبوع.

12. دروس وعبر من الكلمات القصار من نهج البلاغة، مخطوط.

13. بحوث في العقيدة والسلوك، مجموعة محاضرات على ضوء الآيات القرآنية الكريمة، ألقيت في الحوزة الزينبية وفي النجف الأشرف، مطبوع.

ص: 69

14. إضاءات في التولي والتبري، مطبوع.

15. دروس في أصول الكافي - الجزء الأول كتاب العقلوالجهل، مخطوط.

16. كونوا مع الصادقين، بحوث تفسيرية في الآية الشريفة (كونوا مع الصادقين)، مطبوع.

17. لمن الولاية العظمى؟ مطبوع.

18. توبوا إلى الله، مطبوع.

19. شرح دعاء الافتتاح، مخطوط.

20. بصائر الوحي في الإمامة، مطبوع.

21. سوء الظن في المجتمعات القرآنية، مطبوع.

22. مقتطفات قرآنية، مطبوع.

23. مناشئ الضلال ومباعث الانحراف، مطبوع.

24. ملامح النظرية الإسلامية في الغنى والثروة والفقر والفاقة، بحث عن هندسة اتجاهات الفقر والغنى في المجتمع، مطبوع.

25. مقاصد الشريعة و مقاصد المقاصد اللين والرحمة نموذجاً، مطبوع.

26. شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية بحث اصولي فقهي على ضوء الكتاب والسنة والعقل ، مطبوع

27. رسالة في قاعدة الإلزام، تقريرات دروس الخارج في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، مخطوط.

28. فقه التعاون على البر والتقوى، مطبوع.

29. فقه الخمس، تقرير دروس الخارج في الحوزة العلمية الزينبية،

ص: 70

مخطوط.

30. فقه المكاسب مباحث البيع، مخطوط.

31. فقه المكاسب المحرمة - حفظ كتب الضلال ومسببات الفساد، مطبوع.

32. فقه المكاسب المحرمة - مباحث الرشوة، مطبوع.

33. فقه المكاسب المحرمة - حرمة الكذب ومستثنياته، مطبوع.

34. فقه المكاسب المحرمة - رسالة في التورية موضوعاًوحكماً، مطبوع.

35. فقه المكاسب المحرمة - رسالة في الكذب في الإصلاح، مطبوع.

36. فقه المكاسب المحرمة - احكام اللهو واللغو واللعب وحدودها، مطبوع.

37. فقه المكاسب المحرمة - رسالتان في النجش والدراهم المغشوشة، مطبوع.

38. فقه المكاسب المحرمة - مباحث النميمة، مخطوط.

39. رسالة في الحق والحكم التعريف والضوابط والاثار، مخطوط.

40. الاجتهاد في أصول الدين، مخطوط.

41. الأصول مباحث القطع، مخطوط.

42. الأوامر المولوية والإرشادية، مطبوع.

43. بحوث تمهيدية في الاجتهاد والتقليد، تقريرات دروس الخارج في الحوزة العلمية في النجف الاشرف، مطبوع.

44. التبعيض في التقليد، مخطوط.

45. تقليد الأعلم وحجية فتوى المفضول، مطبوع.

46. التقليد في مبادئ الاستنباط، مطبوع.

ص: 71

47. الحجة؛ معانيها ومصاديقها، مطبوع.

48. حجية مراسيل الثقات المعتمدة (الصدوق والطوسي قدس سرهما نموذجاً)، مطبوع.

49. رسالة في أجزاء العلوم ومكوناتها، مطبوع.

50. رسالة في فقه مقاصد الشريعة، مخطوط.

51. فقه الرؤى، دراسة في عدم حجية الأحلام على ضوء الكتاب والسنة والعقل والعلم، مطبوع.

52. مباحث الأصول، التعادل والتراجيح، مخطوط.

53. مباحث الأصول، رسالة في الحكومة والورود، مخطوط.

54. المبادئ التصورية والتصديقية للفقه والأصول،مطبوع.

55. المبادئ والضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية، مخطوط.

56. رسالة في نقد الكشف والشهود، مخطوط.

57. نسبية النصوص والمعرفة... الممكن والممتنع، مطبوع.

58. نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة واللغة، مطبوع.

59. مدخل إلى علم العقائد، نقد النظرية الحسية، مطبوع.

60. ملامح العلاقة بين الدولة والشعب، مطبوع.

61. معالم المجتمع المدني في منظومة الفكر الإسلامي، مطبوع.

62. الخط الفاصل بين الأديان والحضارات، مطبوع.

63. الحوار الفكري، مطبوع.

64. قاعدة اللطف، مخطوط.

ص: 72

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.