رسالة في التورية موضوعاً وحكماً

هوية الكتاب

رسالة في التورية موضوعاً وحكماً

تقريرا لأبحاث السيد مرتضی الحسيني الشيرازي

المقرر: الشيخ زيد الكاظمي

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولی

1438 ه - 2017 م

منشورات: مؤسسة التقى الثقافية النجف الأشرف

ص: 1

اشارة

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولی

1438 ه - 2017 م

منشورات: مؤسسة التقى الثقافية النجف الأشرف

7810001902 00964 m-alshirazi.c

ص: 2

فقه المكاسب المحرمة

4

رسالة في التورية موضوعاً وحكماً

تقريرا لأبحاث السيد مرتضی الحسيني الشيرازي

المقرر: الشيخ زيد الكاظمي

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ

نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ

ص: 4

اللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِیِّكَ

الحُجَهِ بنِ الحَسَن

صَلَواتُكَ علَیهِ و عَلی آبائِهِ

فِی هَذِهِ السَّاعَهِ وَ فِی كُلِّ سَاعَهٍ وَلِیّاً وَ حَافِظاً

وَ قَائِداً وَ نَاصِراً وَ دَلِیلًا وَ عَیْناًحَتَّى تُسْكِنَهُ أَرْضَكَ

طَوْعاً وَ تُمَتعَهُ فِیهَا طَوِیلا

ص: 5

ص: 6

كلمة مؤسسة التقى الثقافية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطاهرين.

بين يدي القارئ الكريم أبحاث السيد مرتضى الحسيني الشيرازي في المكاسب المحرمة مبحث (التورية موضوعاً وحكماً) للسنة الدراسية 1434-1435 هجرية، ألقاها في الحوزة العلمية المباركة في النجف الأشرف، وقد كانت هذه الأبحاث ضمن مبحث مستثنيات الكذب من الحرمة، و أفردت نظراً لأهميتها وتشعب مواضيعها، ما كان الأنسب بحالها ذلك، وقد قام بتقريرها فضيلة الشيخ زيد الكاظمي وفقه الله تعالى، وإذ تشكر مؤسسة التقى الثقافية جهود سماحة الشيخ في كتابة التقرير ومستلزماته، وتثمن أتعابه فلله دره وعليه أجره، تشكر بقية الأخوة المساهمين في إعداد الكتاب، سيما الفقيد السعيد السيد محمد جواد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، الذي أولى اهتماماً كاملاً لإدارة ومتابعة ملف الكتب العلمية لوالده من بدوه إلى ختمه، حتى اللحظات الأخيرة من عمره ، فرحمة الله الواسعة على روحه.

مؤسسة التقى الثقافية

عيد الغدير الأغر

18/ ذو الحجة الحرام/ 1437 للهجرة النبوية المباركة

النجف الأشرف

ص: 7

ص: 8

التورية موضوعاً وحكماً

الكلام في التورية، ويقع في محاور أربعة:

المحور الأول: تعريف التورية وأقسامها.

المحور الثاني: تعريف الصدق والكذب.

المحور الثالث: هل التورية كذب موضوعاً أو لا؟

فلو كانت التورية كذباً، فإن الأصل الأولي فيها هو الحرمة، ثم بعد ذلك لا بد من البحث عن وجود الدليل لإخراجها من دائرة الحرمة.

أما لو قلنا: بأنها ليست بكذب، فإن الأصل هو الحلية، فلو أريد إثبات حرمتها فلا بد للطرف الآخر من إقامة الدليل.

ثم لو فرض: أن التورية ليست بكذب، فإنه قد يقال بحرمتها؛ لانطباق عنوانين آخرين عليها: الأول هو الإغراء بالجهل، والثاني هو الغش والتدليس؛ إذ التورية هي: ستر المراد بما يُفهم منه غيره، أي أن تريد خلاف ظاهر الكلام مع قصد أن يفهم السامع الظاهر(1)، ففيها الخداع والتدليس والغش، وغش المؤمن وإغراؤه بالجهل و خداعه حرام.

المحور الرابع: الأدلة المجوزة للتورية حتى بناءً على كونها كذباً.

لو سلمنا: بأن التورية كذب موضوعاً، فلا بد من بحث الأدلة الدالة على

ص: 9


1- سيأتي التعريف الدقيق للتورية بإذن الله تعالى حسب ما نراه.

تجويزها، والتي استند إليها المشهور من الروايات وغيرها، وهل تسلم من المناقشات أو لا؟ وسيأتي بحثها إن شاء الله تعالى.

والحاصل: إن الذي يقول بحلية التورية؛ فإما أن يستند إلى الخروج الموضوعي أو إلى الاستثناء الحكمي.

تفصيل الكلام في محاور البحث

المحور الأول: تعريف التورية

اشارة

ولا بد من تحقيق معناها وحدودها وأقسامها، إضافة إلى تحقيق معنى الكذب وتعريفه؛ فإنه ومن خلال تعريفهما يتضح: أن التورية هل هي أخص مطلقاً من الكذب أو أنها مباينة، والخلاف في كلا الأمرين شديد، وقد ذكر اللغويون تعريفات متعددة للتورية، فصلنا الكلام عنها في كتاب فقه المعاريض والتورية، وسوف نقتصر هنا على تعريف الشيخ الأنصاري (رحمه الله) وهو الذي سيكون محور بحثنا، وتكون المناقشة على ضوئه بما يتضمن الكثير مما لم نتطرق له هنالك بإذن الله تعالى.

تعريف الشيخ (رحمه الله) للتورية

قال الشيخ (رحمه الله) في تعريف التورية: (أن يريد بلفظ معنى مطابقاً للواقع، وقصد من إلقائه أن يفهم المخاطب منه خلاف ذلك، مما هو ظاهر فيه عند مطلق المخاطب أو المخاطب الخاص)(1) انتهى.

وبعبارة أخرى: إن هناك تخالفاً في التورية بين الإرادة(2) الاستعمالية

ص: 10


1- كتاب المكاسب: ج2 ص17.
2- أو فقل الدلالة الاستعمالية.

- والتي تفيد إخطار المعنى في ذهن السامع العالم بالوضع بمجرد إلقاء اللفظ أي ما يفيده اللفظ بنفسه -، وبين الإرادة الجدية وما أراده المتكلم حقاً في مكنونه من كلامه وراء الإرادة الاستعمالية، فهل الملاك في الصدق والكذب هو: الإرادة الاستعمالية أو الجدية؟ وهل تندرج التورية - مع لحاظ ذلك - في الكذب أو لا؟

وقد مثل الشيخ (رحمه الله) للتورية بقوله: (كما لو قلت في مقام إنكار ما قلته في حق أحد: "علم الله ما قلته"، وأردت بكلمة "ما" الموصولة، وفهم المخاطب النافية، وكما لو استأذن رجل بالبابفقال الخادم له: "ما هو ها هنا" وأشار إلى موضع خال في البيت، وكما لو قلت: "اليوم ما أكلت الخبز"، تعني بذلك حالة النوم أو حالة الصلاة، إلى غير ذلك)(1)، فإن المراد الجدي للخادم مطابق للواقع، أما المراد الاستعمالي له - أي المنزل(2) - فإنه غير مطابق للواقع، وكذلك مراده الجدي من (ما) الموصولة، لكن المتفاهم منه عرفاً (ما) النافية، كما أن المراد الاستعمالي ل(ما أكلت الخبز) هو النفي المطلق، أما المراد الجدي فالنفي في حالة خاصة.

مناقشة تعريف الشيخ (رحمه الله): عدم شموله للأصناف الثلاثة الأخرى للتورية

ولكن قد يقال: بأن تعريف الشيخ (رحمه الله) للتورية غير تام؛ لقصوره عن شمول أصناف ثلاثة أخرى للتورية فهو تعريف بالأخص(3):

ص: 11


1- كتاب المكاسب: ج2 ص17.
2- وهو الظاهر من الكلام، باعتبار اسم الإشارة (هنا) وبقرينة السؤال.
3- وهو أحد الأصناف الأربعة للتورية من دون أن يشمل الأنواع الثلاثة الأخرى.

الصنف الأول: ما لو أجمل اللفظ فستر الواقع به

الصنف الأول: ما لو أجمل اللفظ فستر الواقع به(1)

وهو ما لو أجمل المتكلم اللفظ؛ ليستر الواقع بإجماله أو إبهامه.

وهذا على قسمين: فقد لا يكون قاصداً لمعنى من المعاني بالمرة، وقد يكون قاصداً أحد المعاني، ففي مثل المقام لا ظاهر للفظ - لكونه مجملاً أو مبهماً - كي يقال: بأنه أراد أن يُفهم ظاهره ليستر مراده الواقعي، كمن قال: رأيت عيناً، إذا قصد أن يجمل ما رآه على من سأله: هل رأيت الركبة أو النبع أو الذهب - وكلها تسمى بالعين -، فأجابه بذلك، مع علمه بالتفات السامع إلى اشتراك العين بين معاني كثيرة، واحتمال السامع أو ظنه أو علمه بإرادته التهرب من الجواب بذلك.

والحاصل: إنه قد يلقي المتكلم اللفظ المجمل أو المبهم للسامع حتى لا يفهم الواقع فيستره عنه بالإجمال، وعبارة الشيخ لا تشمل هذه الصورة؛ فإنه قيّد التورية ب(مما هو ظاهر فيه عند مطلق المخاطب أو المخاطب الخاص)، مما لا يشمل صورة عدم وجود ظهور للفظ لإجماله أو إبهامه، وقد قصد منه ستر الواقع على السامع بذلك.

ويمكن القول: بأن الكثير من المتشابهات من الآيات الكريمة والروايات الشريفة تندرج في هذا القسم، ومن ذلك أوائل السور والأحرف المقطعة في القران الكريم، فإنها مجملة بلا شك، ولكنها ذات معنى أو معاني بالضرورة، وقد سترت بإجمال الدال عليها، وذلك لحِكَم عديدة؛ من أهمها(2): إرجاع الناس في تبيين القرآن الكريم وتفهيمه إلى الوسائط بينه تعالى وبين خلقه، وهم

ص: 12


1- أي بالإجمال.
2- أو أهمها على الإطلاق.

الرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله وسلم) وأهل بيته الكرام (عليهم السلام)؛ فإن أهل البيت (عليهم السلام) أدرى بالذي فيه، وهم عدلٌ وصنوٌ للقرآن الكريم، فتأمل.

الصنف الثاني: ما لو قصد الظاهر والباطن فستر بالظاهر الباطن

وهو ما لو قصد المتكلم كلا المعنيين، أي: الظاهر والباطن.

ويمكن القول: بأن بحث البطون في القران الكريم يندرج في هذا النوع من التورية؛ فإن الله تعالى قد أراد الظاهر والباطن معاً، ولكنه - بحكمته - ستر الباطن بالظاهر؛ فإن الانشغال بالظاهر كثيراً ما يكون حجاباً عن فهم الباطن، فتأمل.

كما أن الله تعالى بحكمته قد جعل الظاهر ساتراً للباطن أو غير حاك عنه في المتفاهم العرفي؛ لتأكيد محورية دور النبي وآله (عليهم السلام) في الأمة وقد قال تعالى(1):

(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(2).والحاصل: إن البطون مرادة أيضاً، لكنها سترت بالظواهر المرادة، من دون أن يراد إفهام خلافها، وهذا نوع آخر من أنواع التورية(3)، وهو مما لا يشمله تعريف الشيخ (رحمه الله)؛ إذ ظاهر كلامه: إن المتكلم قصد إفهام السامع خلافَ ظاهر الكلام.

ص: 13


1- سورة النحل: 44.
2- والتبيين أحد قسميه البطون والآخر الظاهر المبتلى بمعارض أو مخصص منفصل أو مقيد منفصل.
3- ويوضحه في نظير المقام ما قيل من: يا من هو اختفى لفرط نوره الظاهر الباطن في ظهوره, فإن الشيء تارة يخفى عن الأعيان لضعفه ولكن تارة أخرى يختفي لشدة قوته ونورانيته وعظمته، وللتقريب للذهن، نمثل بالشمس حيث إنه لا يمكن التحديق بها لشدة نورانيتها وقوة ضوئها وأشعتها.

الصنف الثالث: ما لو قصد الظاهر وستره به

كما لا يشمل تعريفه نوعاً آخر من التورية، وهو عكس الصورة المعهودة من التورية، وهو أن يريد المتكلم الظاهر ويقصد أن يفهم السامع منه خلافه، كما فيما نقل عن أبي ذر رضوان الله تعالى عليه أنه حمل رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) في كيس كبير على ظهره عندما أراد الكفار قتل الرسول ومضى به ليخرجه عن منطقة الخطر، وعندما وصل إلى نقطة حراسة لهم سألوه ماذا تحمل؟ فقال: احمل رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)، فوجدوا في جوابه الملاطفة، فقطعوا أنه شيء آخر فتركوه يمضي لسبيله.

فقد ستر أبو ذر رضوان الله تعالى عليه هنا بالظاهر الباطن، فكان مراده هو الظاهر(1)، ولكنه أوهمهم بظاهر كلامه أن المراد غير الظاهر، مع أن المراد هو الظاهر نفسه؛ إذ كان صادقاً في كلامه.

والحاصل: إن مراده الاستعمالي والجدي وهو كونه حاملاً رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)، قد تطابقا وبهما ستر مراده.

فهذه أقسام ثلاثة أخرى لم يشملها تعريف الشيخ للتورية، ومع القسم الذي ذكره الشيخ تكون الأقسام أربعة، والبحث يقع فيها جميعاً بأنها هل هي كذب أو لا؟(2)

اشتراط عدد من الأعلام شرطين في صدق التورية

وقد اشترط عدد من الأعلام في صدق التورية شرطين، وسنعتمد على

ص: 14


1- فلم يرد خلاف ما هو ظاهر فيه بل أراده.
2- وستأتي تتمة لهذا المبحث من المحور الأول، في بعض المباحث القادمة ك- (الأمر الثالث: التورية على أربعة أقسام).

عبارة السيد الروحاني(دام ظله) في بحث ذلك، ونظير ذلك ما ذكره السيد القمي(دام ظله) في مباني المنهاج، وآخرون.

الشرط الأول: عدم ظهور اللفظ في مراد المتكلّم

قال في فقه الصادق (عليه السلام):

(يعتبر في صدق التورية أمران آخران غير ما مر: أحدهما: أن يكون اللفظ بحسب المتفاهم العرفي العادي [وهذا هو الظهور النوعي] ظاهراً في غير ما أراده المتكلم، فلو كان ظاهراً فيه لكن المخاطب لقصور فهمه لم يلتفت إليه لم يكن ذلك من التورية)(1) انتهى.

وبعبارة أخرى: ألا يكون الظاهر مقصوداً وقد خفي على السامع لجهةٍ ما، فلو كان الظاهر مقصوداً وقد خفي على السامع لجهة من الجهات، كما لو كان السامع بليداً أو كان قد تشتت ذهنه، فلم يفهم ظاهر كلام المتكلم، فلا تصدق على ذلك التورية، ولا يقال حينئذٍ: إن المتكلم قد ورّى بكلامه، وهذا هو أحد الأقسام الأربعة، وهو الأول منها وهو: ما لو ستر الظاهر بالظاهر.

المناقشة في الشرط الأول: بل هو من التورية لو قصدها

لكن الظاهر: إن هذا القسم هو من التورية أيضاً؛ إذ التورية تعني ستر شيء بشيء، وأن تريد ما وراء الشيء، وإن كان وراءه عند السامع دون النوع، فإذا كنت ملتفتاً بأنك لو قصدت ظاهر الكلام لسُتِر به مرادك فإنك قد ورّيت.

وبتعبير آخر: التورية بمشتقاتها، كسائر المصادر ومشتقاتها، ظاهرة في القصدية، ولا فرق بين أن يكون منشأ الستر مربوطاًبالفاعل أو مربوطاً بالقابل

ص: 15


1- فقه الصادق (عليه السلام): ج14 شرح ص 429.

كما لو كان قاصراً ذهنياً، فإنه قد ستر المتكلمُ المقصودَ بظاهر اللفظ، فتدبر؛ فإن الستر ينطبق عليه بالحمل الشائع الصناعي، ولا دليل على أنه يشترط في الستر أن يكون ستراً لدى النوع، ولعله - دام ظله - يرى الستر نوعياً لا شخصياً، لكن الظاهر أن المدار في صدق العناوين، الشخصية لا النوعية.

والحاصل: إن الستر والتورية على قسمين: نوعية وشخصية، فلو أراد المتكلم خلاف ظاهر اللفظ فهذه تورية نوعية، وأما لو أراد ظاهر اللفظ وهو يعلم أن السامع غافل ولا التفات لديه لهذا الظاهر، فإنّ التورية حينئذٍ شخصية؛ لأن المراد مستتر عن خصوص السامع، ومنكشف لدى النوع بظاهر اللفظ، فإنه قد ورّى وستر عن ذلك الشخص، ويتجلى هذا خاصة على مبنى السيد الروحاني (دام ظله)؛ فإن الإرادة هي المدار لديه في الصدق والكذب قال: (... وبذلك يظهر أن الكذب هو عدم مطابقة مراد المتكلم للواقع )(1).

وفي هذه الصورة من التورية نسأل: هل طابق المرادُ الواقعَ أو لا؟ الجواب: نعم! فهو صدق. ثم نسأل: وهل ستره عنه قاصداً ستره عنه لعلمه بقصوره؟ الجواب :نعم! فهي تورية إذاً، فتأمل.

وكذلك الأمر على ما تبنيناه؛ فإنه وإن أدرنا الصدق والكذب مدار ظاهر اللفظ وقد حيّدنا الإرادة، إلا أن الفرض: إن ظاهر اللفظ هو المراد، وهو مطابق للواقع فهو صدق، ثم إنه تورية؛ لأنه ستر بالظاهر الظاهر ولو عن خصوص هذا الشخص، فهو بلحاظه ستر وتورية.

وهذا الشرط الأول هو الذي ينبغي أن يبحث عنه ههنا، أي في القسم الأول من أقسام التورية، ونضيف ما ذكره من الشرط الثاني رعاية لوحدة نسق الكلام.

ص: 16


1- فقه الصادق (عليه السلام): ج14 شرح ص428.

الشرط الثاني: وجود علاقة مصححة في صدق التورية وإلا فهي كذب

كما اشترط (دام ظله) أمراً آخر في صدق التورية وهو: أن تكون هناك علاقة مصححة بين الظاهر والواقع المراد الذي كان خلاف الظاهر، وإلا سيكون كذباً وليس بتورية(1).

قال: (وثانيهما أن تكون إرادة ذلك المعنى(2) من ذلك اللفظ صحيحة؛ بأن كان بينهما علاقة، فلو كان استعماله فيه غير صحيح لما كان من التورية، مثلاً: لو قال أعطيت زيداً خمسين درهماً، وقد أراد به درهماً واحداً وقد أعطاه في الواقع درهماً، كان ذلك من الكذب لا من التورية)(3)انتهى.

ويوضّحه: ما لو رأى أحدنا فيلاً، فقال رأيت أسداً، ومقصوده من الأسد الفيل، فإنه كذب؛ لعدم وجود العلاقة المصححة بين الأسد والفيل، أو لعدم قصدها، كذلك لو قال: رأيت جداراً، ومقصوده أنه رأى نهراً مثلاً، فالكلام هو الكلام بعينه.

وقد مثّل السيد (دام ظله) بما لو قال شخص: أعطيت خمسين درهماً وقصد درهماً واحداً، فإنه ليس تورية، بل هو كذب حرام؛ لفقدان العلاقة المصححة، فإن علاقة الجزء والكل - وهي إحدى العلائق - ليست بمتصورة في المثال؛ إذ يشترط فيها التناسب ولا تناسب بين الخمسين درهماً والدرهم الواحد، وكذا

ص: 17


1- ففي مثال الابن عندما سئل عن وجود والده في الدار فأجاب ليس هنا قاصداً ومؤشراً لمكان خاص، فإن العلاقة هي علاقة الكل والجزء إذ إنه بشير إلى جزء الدار.
2- - المضمر - أي الواقع المقصود له.
3- فقه الصادق (عليه السلام): ج14 شرح ص 429.

الكلام عن باقي العلائق.

المناقشة في الشرط الثاني: أنّ التورية منوطة بالإرادة او بالقرينة لا بالعلاقة المصححة

ولكن قد يناقش ذلك ب: إن التورية صادقة حتى لو لم يكن بين اللفظ والمعنى المراد أية علاقة وترابط مصحح، وذلك على كلا المبنيين أي: مبنى السيد (دام ظله) تبعاً للشيخ (رحمه الله)، ومبنى المشهور.

أما على مبنى السيد (دام ظله): فلأنه عرّف الكذب ب: (عدم مطابقةمراد المتكلم للواقع)، ولكن المتكلم هنا كان مراده من الخمسين درهماً هو الواحد وقد طابق مراده الواقعَ، فبحسب تعريفه فإن هذا الكلام صدق، وفيه: إنه لا تنافي بين التعريف والاشتراط بأن يعرّف ثم يشترط، فتأمل(1).

وأما على مبنى المشهور: - مع ضميمة ما ذكرناه - فيتضح مما سيأتي من: أنّ المشهور عرفوا الصدق بمطابقة ظاهر القول للواقع والكذب بخلافه، وقد ذكرنا: أن المتكلم إن أقام قرينة نوعية انعقد الظهور الثانوي، وإن أقام قرينه خفية انعقد الظهور الواقعي، وحينئذٍ فمن قال: (رأيت جداراً) ومقصوده رأيت نهراً، فإن أقام قرينة نوعية فكلامه صادق، وكذلك الحال لو أقام قرينة شخصية؛ وذلك أن الظهور الواقعي الثبوتي قد تغير بالقرينة المتصلة، وقد طابق هذا الظهور الثانوي الواقع، نعم لو يقم قرينة أبداً فكلامه كذب.

وفي المقام: كل من ظاهر القول - وهو مبنى المشهور -، ومراد المتكلم - وهو مبنى الشيخ (رحمه الله) والسيد الروحاني (دام ظله)(2) -، كلاهما قد طابق الواقع في هذا

ص: 18


1- لوجوه منها: إن عدم العلاقة المصححة موجب لكون الكلام غلطاً والغلط أعم من الكذب - حسب تعريفه للكذب -، ومنها: أن القيود ولابد أن تؤخذ في التعريف نفسه.
2- في آخر كلامه.

القسم، وعليه فالتورية من هذا القسم ليست بكذب مطلقاً.

المحور الثاني: تعريف الصدق والكذب

الآراء في حقيقة الصدق و الكذب

الآراء في حقيقة الصدق و الكذب(1)

اختلف القوم في تعريف الكذب والصدق على آراء(2)، منها: ما ذهب إليه المشهور، ومنها: ما اختاره الشيخ الأنصاري (رحمه الله)(3) حيث ابتكر معنى جديداً في قبال المشهور، وتبعه عليه ثلة من الأعلام كالمحقق الايرواني (رحمه الله)(4) والسيد الخوئي (رحمه الله)(5) والسيد الروحاني (دام ظله)(6) وآخرون، ومنها غير ذلك.

1. مطابقة القول للواقع

الرأي الأول: إن الصدق عبارة عن مطابقة ظاهر القول للواقع ونفس الأمر، والكذب عدم مطابقته له، وهذا هو رأي المشهور، وقد ارتأى السيد الوالد (رحمه الله) وآخرون عرفية هذا التعريف ووضوحه، ولكن هل المراد من (ظاهر القول) ظهوره الأولي أو الثانوي؟!

سيأتي بإذن الله تعالى.

ص: 19


1- و هذا البحث في حد ذاته سيال وذو تطبيقات مهمة.
2- وقد مضى بعض الكلام عن ذلك في كتاب حرمة الكذب ومستثنياته، ونعيد بحثه لما فيها من فوائد لم تتطرق هناك.
3- كتاب المكاسب: ج2 ص18.
4- حاشية المكاسب: ج1 ص39.
5- مصباح الفقاهة: ج1 ص397 - 398.
6- منهاج الفقاهة: ج2 شرح ص124.

الواقع أعم من الخارج

والملفت في هذا التعريف: جعل المدار في الصدق والكذب على الواقع لا الخارج؛ والوجه فيه: إن ظرف الواقع أوسع فيشمل الخارج والذهن، فلو قال أحدهم: إنني الآن أفكر في جبل من ذهب أو ياقوت، فإن قوله لو طابق ما في ذهنه فصدق، وإلا فكذب!

والحاصل: إن الواقع أعم من الوجودات الأربع عكس الخارج، بل قيل: إن الواقع يشمل عالم نفس الأمر، وفيه: إنه مجرداً عن الوجود، بناءً على أصالة الوجود، لا شيء محض، فتدبر.

2. مطابقة القول للاعتقاد

الرأي الثاني: إن الصدق عبارة عن مطابقة القول لاعتقاد المخبر، والكذب عدم مطابقته له، وهذا ما ذهب إليه النظام(1) مستدلاً بقوله تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَلَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)(2)، وحيث اشتهر استدلاله وجوابه، كما مضى سابقاً أيضاً، فلا داعي للإطالة.

3. مطابقة القول للواقع والاعتقاد معاً

الرأي الثالث: إن الصدق عبارة عن مطابقة القول للاعتقاد والواقع معاً، فإن طابقهما فصدق وإن خالفهما فكذب، وإن لم يطابق أحدهما فقط فهو أمر آخر(3).

ص: 20


1- وهذا القول هو قول معروف والنقض عليه في محله.
2- سورة المنافقون: 1.
3- ذهب إليه الجاحظ.

الاستدلال بالآية: (أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ)

وقد استدل عليه بقوله تعالى: (أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ)(1)، ووجه الاستدلال به مبتنٍ على:

إن الصدق والكذب ضدان لهما ثالث، خلافاً للمعهود من أنهما ضدان لا ثالث لهما كالظلمة والنور، وحينئذٍ يكون وجه الاستدلال بالآية الكريمة هو: إن الكفار أو المشركين قالوا: إن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) قد افترى على الله الكذب وهذا اتهام أول - وحاشا له ذلك -، أو إن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) به (جنة) - وحاشاه - وهذا هو القسم الآخر للتهمة في كلامهم، فحيث ذكروا (بِهِ جِنَّة) كقسيم للكذب دلّ على أنه ليس بكذب عندهم، وحيث كانوا يعتقدون بأن النبي الأكرم (صلی الله علیه وآله وسلم) ليس بصادق - وحاشا له ذلك - ، فقولهم (بِهِ جِنَّة) يريدون به أنه قسيم الصادق وأنه ليس بصادق، فلا هو صادق ولا هو كاذب بل هو مجنون - بزعمهم -.

والخلاصة: إن (بِهِ جِنَّة) قسيم للكذب عندهم؛ إذ جعلوه مقابلاً ل(أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) من جهة، وهو قسيم للصدق عندهم أيضاً من جهة أخرى لفرض أنهم لا يرون النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) صادقاً، فذلك دليل على أن الأقسام ثلاثة، وهي: الصدق والكذب وكلام من به جِنَّة فلا هو صدق ولا هو كذب.

مناقشة الرأي الثالث

ولكن يرد عليه:

ص: 21


1- سورة سبأ: 8.

أولاً: إن القسيم قد تكون نسبته مع الآخر من وجه

أولاً: إن القسيم قد تكون نسبته مع الآخر من وجه(1)

إنه لا يشترط في القسيم أن يكون مبايناً، بل يمكن أن تكون نسبته مع القسيم الآخر عموماً من وجه، ومعه: فإن كونه قسيماً لا يدل على مضادته ومباينته للقسيم الآخر كي يكون قسماً ثالثاً، بل - في صغرى الاستدلال - نقول: إنه يمكن أن يكون المتكلم به جنة وكاذباً - وحاشاه - فيجتمعان، أو به جِنَّة - وحاشاه - مع كونه صادقاً.

والأمثلة على ذلك كثيرة؛ منها: ما لو باع أحدهم بيته ثم سأله الآخر: أبعت بيتك أم أنك اضطررت للبيع؟ فإنه سؤال صحيح يؤول في الواقع إلى السؤال عن: هل بعت البيت باختيارك أم اضطررت إلى ذلك؟ مع أن النسبة بينهما - أي: بين البيع والاضطرار هي من وجه(2) -، والأدق التمثيل بقوله أبعت بيتك مكرهاً أو مضطراً(3)،

فتأمل.

ومنها: ما لو غاب في سفر عن صديقه، فاحتمل أنه قد تزوج أو أنه حصل على عمل ما، فعند رجوعه من سفره يقال له: أ تزوجت أم انشغلت بعمل ما؟ وهذا السؤال كذلك سؤال صحيح؛ والقضية ليست بمانعة للجمع، فيمكن أن يكون الرجل قد تزوج وقد حصل على عمل ما أيضاً، فيمكن اجتماع القسيمين، فقد يقال: إن جوهر كلام بعض الكفار كان هو الجمع بين الأمرين أي إنهم كانوا يقولون هو مجنون وهو كاذب - وحاشاه - والأصح ما سيأتي.

ص: 22


1- وهذا بحث عام النفع سيال في حد ذاته.
2- فقد يبيع مضطراً وقد يبيع مختاراً، وقد يكون المضطر بائعاً وقد يكون مشترياً أو مصالحاً أو مؤجراً أو غير ذلك.
3- إذ النسبة بينهما العموم من وجه.

إذاً: فجعل شيء قسيماً لآخر لا يدل على تطاردهما، بل إنما يكون الأمر كذلك لو ثبت من الخارج أن القضية منفصلة حقيقية،وإلا فلا فلو كانت مانعة الخلو فان ذلك لا يدل على التطارد والتضاد المطلق.

والمتحصل: إنه لا يصح الاستدلال بالآية على أن الجِنّة هي مباين للكذب بدليل جعلها قسيماً له، ليكون قول المجنون لا هو صدق ولا هو كذب.

ثانياً: مرادهم أن دعوة النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) إما عن قصد ووعي أو لا

إن الكفار أرادوا القول ب: إما أن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) قد قال ما قال عن قصد، وهذا هو مرادهم من الشطر الأول من القضية أي: افترى على الله كذباً، فهو كاذب - وحاشاه -, أو إنه (صلی الله علیه وآله وسلم) قال ما قال لا عن قصد بل لأنه لا وعي له لوجود اختلال في إدراكه وإنه مجنون - وحاشاه -، فيكون كلامهم هو حول المنشأ، وإن كلام النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) غير المطابق للواقع إنما هو بسبب قصده الكذب أو بسبب جنونه - وحاشاه -، ويدل على ذلك قوله تعالى: (أفْتَرَى) الظاهر في جعل الكلام والكذب عن قصد فيكون قسيمه هو (أمْ بِهِ جِنّة).

4. مطابقة المعنى المراد للواقع

الرأي الرابع: وهذا هو الظاهر من عبارة الشيخ الأنصاري (رحمه الله) الآتية، وهو إن المدار والملاك في الصدق والكذب ليس ما ذكر في الآراء الثلاثة التي جامعها أن المدار على ظهور اللفظ والقول، بل المدار في نظره إنّما هو على الإرادة الجدية للمتكلم(1)،

أي المعنى المراد للفظ لا المعنى الظاهر فيه اللفظ، وبناءً عليه: فإن التورية لا تكون كذباً؛ إذ إن إرادته الجدية مطابقة للواقع، ومن

ص: 23


1- وهذا رأي مبتكر للشيخ (رحمه الله) ومن جاء بعده أخذ عنه في ذلك.

الواضح أن الثمرة في تبني هذا الرأي أو سوابقه كبيرة جداً.

وعلى هذا الرأي في تعريف الكذب فرّع الشيخ: إن التورية ليست كذباً.

قال الشيخ (رحمه الله): (ووجه ذلك [أي إن التورية ليست كذباً] إنالخبر باعتبار معناه(1)

وهو المستعمل فيه كلامه(2) ليس مخالفاً للواقع، وإنما فهم المخاطب من كلامه أمراً مخالفاً للواقع لم يقصده المتكلم من اللفظ)(3).

ثم ذكر الشيخ رأي صاحب القوانين رحمهما الله مناقشاً معه بقوله:

(وذكر بعض الأفاضل(4): "أن المعتبر في اتصاف الخبر بالصدق والكذب هو ما يفهم من ظاهر الكلام لا ما هو المراد منه، فلو قال رأيت حماراً وأراد منه البليد من دون نصب القرينة فهو متصف بالكذب، وإن لم يكن المراد مخالفاً للواقع".. فإن أراد اتصاف الخبر في الواقع(5)، فقد تقدم أنه دائر مدار موافقة مراد المخبر ومخالفته للواقع؛ لأنه معنى الخبر والمقصود منه دون ظاهره الذي لم يقصد.

وإن أراد اتصافه عند الواصف، فهو حق مع فرض جهله بإرادة خلاف الظاهر.

لكن توصيفه - حينئذ - باعتقاد أن هذا هو مراد المخبر ومقصوده، فيرجع الأمر إلى إناطة الاتصاف بمراد المتكلم وإن كان الطريق إليه اعتقاد المخاطب)(6) - انتهى.

ص: 24


1- أي المراد منه.
2- أي بحسب إرادته الجدية لا الاستعمالية، وذلك هو مراده حسب كل كلامه خاصة بلحاظ مقابلته بكلام بعض الأفاضل.
3- كتاب المكاسب: ج2 ص18.
4- والمقصود به هو صاحب القوانين.
5- أي ثبوتاً وفي نفس الأمر.
6- كتاب المكاسب: ج2 ص18-19.

وحاصل رد الشيخ (رحمه الله): التوقف عند كلمة (الاتصاف) وأنه ما المراد منها؟ فهل المراد هو الاتصاف في الواقع، أو الاتصاف عند الواصف والسامع؟ وعلى كلا التقديرين؛ فالكلام ليس بتام:

أما الشق الأول من كلامه فتوضيحه: إنه لو كان المراد الاتصاف ثبوتاً وفي الواقع(1)،

قلنا: بأن هذا الاتصاف مرهون بالإرادة فإن هذا هو معنى الخبر؛ إذ كما بينا أن الخبر هو أن تخبر عن شيء ومداره هو الإرادة الجدية.

مناقشة كلام الشيخ (رحمه الله) في الشق الأول:

حصول الخلط بين الخبر والإخبار

ولكن ما ذكره الشيخ (رحمه الله) في شق كلامه الأول مناقش فيه بما يظهر بالتدبر في كلمة (الخبر) حيث سبق: إن منشأ الاشتباه هو الخلط بين الخبر والإخبار - أي المصدر المجرد ومصدر باب الأفعال -، وما اعتمد عليه الشيخ (رحمه الله) هو معنى الإخبار وليس معنى الخبر؛ إذ الإخبار - الحاكي - متضمَّن فيه القصد؛ فإن ظاهر باب الأفعال - ككل الأفعال - القصدية، وأما الخبر - الحكاية - والمصدر فلا يتضمن القصد.

ويؤكد ذلك: إنه لو كتب طفل غير واع على الحائط: (زيد كاتب) فهذا خبر والجملة خبرية دون شك، لكنه ليس بإخبار(2)، ويؤكده مقابلته مع الإنشاء(3) إذ تعرف الأشياء بأضدادها.

ص: 25


1- وسيأتي الشق الثاني من كلامه ومناقشته بعد قليل..
2- وكذا لو فرض أن الكمبيوتر لخطأ فني بدأ يكتب جملاً خبرية فإنه خبر وليس إخباراً، أو لو فرض أن الرياح رسمت على الرمال جملةً (زيد قائم).
3- يلاحظ هنا ما ذكرناه سابقاً من أن التقابل بين الخبر والإنشاء غير دقيق.

توضيح وجه الإشكال على كلام الشيخ (رحمه الله)

وتوضيح ذلك: إن هناك أمرين: الخبر والإخبار، والفرق بينهما كبير؛ فإن المصدر من المجرد شيء، وباب الإفعال المزيد فيه شيء آخر، ألا ترى الفرق بين (عَلِم) و(أَعلم)، فإن الأول يتعلق بحالته وصفته بما هو هو مع قطع النظر عن الغير، بينما الثاني - أي أَعلَم - يتعلق باطلاع الغير على شيء وإعلامه به، وكذا الحال لو قلت: (إِعلَم) و(أَعلِم)، فالأول هو خطاب موجه لنفس الشخص، والثاني يتعلق بإعلامه للآخر أمراً، وكذلك الحال في (أُخبُر) و(أَخبِر)، فالأول معناه حصِّل بنفسك خبراً، والثاني يعني أخبر به الغير، والظاهر أن الشيخ (رحمه الله) ومن تبعه قد خلطوا بين المعنيين في المقام.

ويؤكد ما سبق: إن ما يهم السامع عادة هو المخبر عنه والمتعلق، فلو قال أحدهم: السوق مفتحة - مثلاً -، فإن السامع يبحثعن كون السوق مفتوحاً أو مغلقاً؛ لأن غرضه يتعلق بالتسوق منه مثلاً - وهذا هو الغالب في مطلوب السامع -، نعم قد يكون الذي يهم السامع من الخبر هو شخصية المخبر وخصوصياته وليس المهم عندئذٍ هو المؤدّى، لكنه خلاف الأصل، وعلى أي فإن الخلط بين المقامين هو منشأ الاشتباه.

والحاصل: إنه تارة يكون الخبر نفسه وحكايته عن الواقع هو المهم، وتارة أخرى يكون المهم المخبر وشخصيته وخصوصياته، والناس عادة عندما يستخبرون فإن همهم ومرماهم هو المحكي والمتعلَّق والمخبر عنه، وأما ما يتعلق بشخصية المخبر فهذه لها مقامات خاصة وتستدعي قرائن عليها.

وفي صغرى بحثنا في الكذب والتورية وغيرها: فإن المدار على تعريف الكذب (المصدر) وصدقه وعدمه؛ لأنه هو الموضوع للحرمة في الأدلة، وليس المدار هو

ص: 26

الكاذب وخصوصياته، وذلك كنظائره من السب والربا والغيبة فهي - مثلاً - أمر قبيح بنفسها، والمبحوث عنه في مسألة الغيبة والربا والسباب هو نفسها وحقيقتها، لا المغتاب والساب والمرابي، فيجب تعريفها هي - أي الغيبة والسباب -، لا تعريف فاعلها.

وبذلك يظهر أن ملاك الصدق والكذب هو: مطابقة القول وعدمه للواقع، وذلك مما لا علاقة له بمراد المتكلم؛ لأن مراده يرتبط بخصوصيته بما هو الفاعل لا بالفعل نفسه.

والمتحصل: إن كلام الشيخ (رحمه الله) بظاهره ليس بتام، وإن كلام المحقق الفاضل القمي (رحمه الله) في قوانينه هو الدقيق حيث ذكر: (إن المعتبر في اتصاف الخبر بالصدق والكذب هو ما يفهم من ظاهر الكلام)(1) لا المراد.

وصفوة القول: إن المدار في (الخبر) على ظاهر الكلام(2)، وفي (الإخبار) على المراد(3)، وفي كلام الشيخ (رحمه الله) حصل خلط بينهما.

هذا هو بعض النقاش مع الشيخ في الشق الأول من كلامه.

كلام الشيخ (رحمه الله) في الشق الثاني

وأما الشق الثاني من كلام الشيخ (رحمه الله) فحاصل كلامه: إنه لو أراد بعض الأفاضل - أي صاحب القوانين - من الاتصاف: الاتصاف لدى السامع والواصف، كما لو كان المراد الجدي للمتكلم غير الاستعمالي ولم ينصب قرينة على ذلك فلم يعرف السامع به، فإنه - أي: السامع - سيصف هذا الكلام

ص: 27


1- قوانين الأصول: ص419.
2- لكن هل الظهور الأولي أو الثانوي؟ هذا ما بيناه في موضع آخر.
3- إلا أن يقال إن الاخبار أيضاً يدور مدار ظاهر الخبر..

بالكذب، فيكون المدار والملاك ظاهر الكلام؛ لأنه الذي يسمعه السامع، فإن هذا الكلام حق، ولكن سرّ هذا الوصف(1) بأنه كذب هو: إن السامع يرى ظاهر الفظ طريقاً إلى كشف مراد المتكلم، فيرجع المدار والملاك إلى المراد لا الظاهر.

وبتعبير آخر: إن ظاهر اللفظ وإن وصف بأنه كذب، إلا أن ذلك ليس على نحو الموضوعية، وإنما لطريقيته؛ نظراً لكشف اللفظ بظاهره عن مراد المتكلم الجدي، وكأن السامع يقول: لِمَ تقول الكذب فإن ظاهر لفظك يكشف عن إرادتك الجدية وهي تخالف الواقع؟!

قال الشيخ (رحمه الله) كما مضى: (وإن أراد اتصافه عند الواصف فهو حقّ مع فرض جهله بإرادة خلاف الظاهر، لكن توصيفه(2) حينئذ باعتقاد أن هذا هو مراد المخبر ومقصوده فيرجع الأمر إلى إناطة الاتصاف بمراد المتكلم، وإن كان الطريق إليه اعتقاد المخاطب)(3).

مناقشة كلام الشيخ (رحمه الله) في الشق الثاني

ولكن يرد عليه: إنه (قدس سره) أرجع الخبر للإخبار، ثم قال ما قال وبنى عليه ما بنى، ولكن الكلام ليس عن الإخبار، بل عن الخبر، والفرق بينها كبير، نعم لو كان الكلام عنه، لصح كون الظاهر جسراً وطريقاً وكاشفاً عن المراد الجدي وإنه هو المدار.

ومما يقرب ما ذكرناه: ما لو افترضنا أن جهاز الحاسوب حصل فيه خطأ فنّي فبدأ يكتب جملاً خبرية - لا إنشائية - فإن هذهالجمل جمل خبرية دون شك،

ص: 28


1- وصف السامع لكلام المتكلم المريد خلاف ظاهر كلامه بلا قرينة، بأنه كذب.
2- أي بالكذب أي توصيف السامع لكلام المتكلم بأنه كذب.
3- كتاب المكاسب: ج2 ص18.

ولكنها ليست إخباراً؛ وذلك لأن هذا الوصف (الإخبار) متوقف على وجدان العقل والإرادة والقصد، فإن الأصل في باب الإفعال - كمطلق الأفعال - هو كونها عن قصد واختيار.

والحاصل: إنه يصح أن نصف هذا الخبر الذي كتبه الحاسوب بالصدق إن طابق، والكذب إن لم يطابق، إلا أنه لا يصح أن نصف الحاسوب بالصادق أو الكاذب(1)، وكذلك الأمر في الطفل غير الواعي والمجنون إذا كتب جملة غير مطابقة للواقع، فإنها كجملة خبرية توصف بالكذب، لكن لا يوصف الطفل بالكاذب إذ لا وعي له ولا قصد.

والنتيجة: إنه لو كان كلام الشيخ (رحمه الله) حول الخبر لكان ينبغي أن تكون عبارته:"... لكن توصيفه أي بالكذب حينئذ بلحاظ إن هذا ظاهر اللفظ فهو خبر كاذب"، وأما كلامه: (لكن توصيفه حينئذٍ فهو باعتقاد...) فهو صحيح عن (الإخبار)، فتدبر.

وهذا بعض النقاش في كلام الشيخ (رحمه الله)، وستأتي تتمة للمناقشة أكثر عمقاً ودقة.

كلام السيد الروحاني (دام ظله) في ملاك (الكذب) وبعض المناقشات

هذا ما ذهب إليه الشيخ (قدس سره) في ملاك الصدق والكذب، وقد تبعه بعده جمع من الأعلام، وقد حاول قسم منهم الاستدلال لمختار الشيخ (رحمه الله) بوجوه أخرى أدق، إلا أننا نقتصر ههنا على ما أورده السيد الروحاني (دام ظله) في فقه الصادق (عليه السلام)، حيث أخذ كلام من سبقه ولخّصه وطوّره، فكان كلامه خلاصة

ص: 29


1- إلا مجازاً.

لمن سبقه ممن تبنى رأي الشيخ (رحمه الله)، وسنوضح كلامه من جهة ونقيّده بقيود احترازية من جهة أخرى، ثم نناقشه في صلب المسألة بعد ذلك.

قال في فقه الصادق (عليه السلام): (قبل بيان أن التورية من الكذب ام لا، لابد من تنقيح الكذب موضوعاً فإنه وقع الخلاف فيه من جهتينبعد الاتفاق على أن الكذب عدم المطابقة: الأولى: في المطابق بالكسر وأن العبرة بعدم مطابقة المراد أو بعدم مطابقة ظهور الكلام. الثانية: في المطابق بالفتح، وان المعتبر عدم مطابقة الكلام للواقع، أو عدم مطابقته للاعتقاد، أو عدم مطابقته لهما معا)(1).

وحاصل ذلك مع مزيد توضيح له:

إن الخلاف في بحث ملاك الكذب قد وقع في جهتين: الجهة الأولى: في المطابق بالكسر، وإن العبرة هل هي بعدم مطابقة المراد للواقع أو بعدم مطابقة ظهور الكلام له؟

قول المشهور والقولان الآخران هو: جعل المناط عدم مطابقة ظهور الكلام للواقع أو للاعتقاد، وأما قول الشيخ الأنصاري (رحمه الله) - كما مضى - ومن تبعه فهو: إن المقياس في الصدق والكذب هو عدم مطابقة المراد الجدي للواقع(2).

ملاحظات ومناقشات على كلام السيد الروحاني(دام ظله)

الأولى: ملاك الكذب مخالفة الواقع أو عدم مطابقته له؟

الأولى: إن ظاهر كلامه أن الجامع بين الأقوال هو إن ملاك الكذب عدم المطابقة.

ص: 30


1- فقه الصادق (عليه السلام): ج14 ص427.
2- وقد يضاف له - على المبنى -: (أو للاعتقاد).

ولكن الظاهر عدم تمامية ذلك؛ إذ هناك رأي آخر يرى أن الكذب هو مخالفه الكلام للواقع، والمخالفة شيء وعدم المطابقة شيء آخر، إذ قد لا يطابق الواقع لكن لا يخالفه أيضاً - أي لا يخالف الواقع -، ولكن هذا مبتنٍ على وجود شق ثالث للمطابقة والمخالفة، ويمكن تصويره في المجمل من الكلام أو المبهم، فتأمل.

أو تصويره بالمثال الآتي: فيما لو انتظر جمع مجيء طبيب وقالوا لولدهم: لو جاء الطبيب فأخبرنا بذلك، فلو جاء بعد ذلك الطبيب فقال الولد: بدل (جاء الطبيب): (الماء بارد) وكان الماءبارداً، فإن كلامه ليس بكذب قطعاً؛ لأنه ليس بمخالف للواقع - وهو الملاك الذي ذهب إليه بعضٌ - لكنه ليس مطابقاً أيضاً؛ فإن الماء البارد ليس بمطابق لمجيء الطبيب، لكن لو قلنا: بأن المدار في الصدق والكذب هو عدم مطابقة الواقع فإن قوله (الماء بارد) يجب أن يكون كذباً لأنه ليس مطابقاً ل(جاء الطبيب)، وفيه تأمل(1).

وقال: (الأولى: في المطابق بالكسر وأن العبرة بعدم مطابقة المراد(2)

أو بعدم مطابقة ظهور الكلام(3))(4).

والظاهر أنه أراد من (المراد): (المراد الجدي) في مقابل الاستعمالي، ولم تكن حاجة للتقييد به؛ لظهور مجمل الكلام في أنه المراد، بل إن ظاهر (المراد) هو المراد الجدي لا الاستعمالي، وعلى أي حال فإن قرينة المقابلة مع قوله (أو بعدم مطابقة ظهور الكلام) وافية بالمقصود، أي عدم مطابقة المراد الجدي، وهذا

ص: 31


1- إذ لم تلحظ في كلامه جنبة الحاكوية عن مجيء الطبيب وعدمه، فتأمل.
2- وهذا رأي الشيخ (رحمه الله) ومن تبعه.
3- وهو رأي المشهور.
4- فقه الصادق (عليه السلام): ج14 شرح ص427.

توضيح للعبارة المذكورة.

الثانية: التقييد للمراد بالمبرَز

الثانية: إنه كان ينبغي أن يقيد (المراد) في قوله: (إن العبرة بعدم مطابقة المراد) ب--: "المبرز بالكلام للواقع"، وهذا قيد ضرورة؛ إذ ليس محور الصدق والكذب حتى على رأي الشيخ (رحمه الله) وغيره هو مجرد كون المراد الثبوتي غير مطابق للواقع؛ إذ إنه لو أراد أن يكذب وعزم عليه لكنه لم يكذب، لا يقال له: إنه كاذب، فهو نظير الاعتقاد غير المطابق كمن اعتقد في النهار أنه ليل ولم يبرز ذلك، فهذا ليس بكذب، بل هو اعتقاد خاطئ، كذلك لو أراد ما لا يطابق الواقع، فإنه قد يكون نقصاً لكنه لا يطلق عليه الكذب ما لم يبرزه بلفظ.

والحاصل: إنه لو أبرز الاعتقاد بمَظهر ومُظهر، فإنه يقال له عندئذٍ: كذب أو صدق، وكذلك الإرادة لو أبرزت لكانت مما يصح أنتتصف بالصدق والكذب.

فهذه المحاور الثلاثة مختلفة ذاتاً، ومن حيث كون كل منها مصب أحد العلوم الثلاثة ونطاقه وهي علوم الفقه والأخلاق والعقائد، فتدبر(1).

ص: 32


1- فإنه توجد دوائر ثلاث: علم العقائد وعلم الأخلاق وعلم الفقه، ومحور علم الأخلاق - أي أحد محوريه - هو الإرادة وعدمها، بأن يريد الفضيلة أو الرذيلة ويعزم عليها، ومحور علم العقائد الاعتقاد وعدمه، وأما محور علم الفقه فهي المبرِزات والأقوال والأفعال - وهذا بشكل عام، وله استثناءات أو لواحق.

الثالثة: تعميم الكلام للظهورين

الثالثة(1): تعميم الكلام للظهورين

الثالثة: إن قوله: (... أو بعدم مطابقة ظهور الكلام. ..) ينبغي أن يعمم إلى الظهورين؛ فإن ظهور الكلام إما أن يكون ظهوراً أولياً أو ثانوياً، فالأولي هو ظهور الكلام مع عدم القرينة، والثانوي ظهوره في معنى آخر(2) ببركة القرينة؛ إذ مع القرينة المتصلة يندك الظهور الأولي ويضمحل، ولذا عبر عنه بأنه ظهور غير مستقر.

وعليه: فإن الصدق هو مطابقة الظهور الثانوي إن كان للواقع، وإلا فمطابقة الظهور الأولي.

الرابعة: وجود محور ثالث محتمل في ملاك الصدق والكذب

الرابعة(3): وجود محور ثالث محتمل في ملاك الصدق والكذب

الرابعة: إن النزاع في ملاك الصدق والكذب لا يدور حول محوري مطابقة ظهور الكلام للواقع ومطابقة المراد الجدي(4)

للواقع، إذ هما احتمالان وقولان أولهما المشهور، ولكن ينبغي أن نضيف احتمالاً ثالثاً لم يذكروه وهو (مطابقة الاعتقاد المبرز بالكلام للواقع).

الفرق بين الاعتقاد والإرادة الجدية

والدليل على المدعى - من أن هناك احتمالاً ثالثاً كملاك للصدق والكذب وهو الاعتقاد المبرز - هو: وضوح الفرق بين الاعتقاد المبرز والإرادة الجدية أو المراد الجدي المبرز، وذلك بالوجوه التالية:

أولاً: الاعتقاد متقدم عليها رتبةً وزمناً، وهي متأخرة عنه إذ يقال: اعتقد

ص: 33


1- وهذه ملاحظة وليست مناقشة لوضوح أن (الظهور) أعم منها، ولأن مبناه على الأعم، فتدبر.
2- ومنه الظهور في بعض المعنى.
3- وهذه أيضاً ملاحظة وليست مناقشة إذ نص عبارته (دام ظله): (قد وقع الخلاف) وليس ما ذكرناه قولاً ثالثاً كي يعد مناقشة بل هو احتمال ثالث.
4- أو بقيده المبرز بالكلام.

فأراد، ولا يقال: أراد فاعتقد(1).

ثانياً: إنهما قد يتوافقان وقد يتخالفان، إذ قد يريد الشيء ولا يعتقد به(2)، وقد يعتقد بالشيء ولا يريده(3).

ثالثاً: إن الاعتقاد يتعلق بالجواهر كما يتعلق بالصفات والأفعال كمن يعتقد بوجود الله تعالى، وأما الإرادة فإنها لابد أن تتعلق بالأفعال، ولو تعلقت بالجواهر فلابد من فعل مستبطن في المقام(4).

ويظهر الفرق بشكل أوضح في مثل ما لو قال شخص مسلم في مقام التقية أو التورية: (إن عيسى ليس بنبي) فإنّ هنا أموراً ثلاثة: ظهور الكلام، والاعتقاد، والإرادة الجدّية.

أما ظاهر كلامه فهو أن عيسى ليس بنبي، وهذا كذب؛ بناءً على أن المقياس هو ظاهر الكلام.

وأما بناءً على كون المناط هو الاعتقاد، فحيث فرضنا أنه مسلم فهو معتقد بنبوة عيسى (عليه السلام) فخالف اعتقاده قوله، وليس (اعتقاده) الواقعي خطئاً ولا كذباً؛ إذ إن الأمر هو كذلك - أي مطابق لاعتقاده - في عالم الثبوت والواقع، نعم قوله هذا (عيسى ليس بنبي) كذب؛ لأنه لم يطابق اعتقاده، أما كلامه فهو كذب لو كان المناط والملاك هومطابقة القول للاعتقاد وهو كذب لو جعلنا الملاك

ص: 34


1- ولو قيل ذلك، في الموارد النادرة، كان دليلاً أيضاً على الفرق بينهما.
2- كمن يريد الرياسة ولا يعتقد بها.
3- كمن يعتقد بوجوب الجهاد ولا يريده، أو باستحباب الاكتحال أو المتعة أو غيرها ولا يريدها لنفسه أو ابنته مثلاً.
4- فلو قال أحدهم أردت الحائط، فكلامه باطل إلا مجازاً مع مصححه وقرينته، نعم لو قال أردت أن ابني الحائط أو أن أصبغه أو أن يرممه فلان فصحيح وكذا لو أقام القرينة على المحذوف.

مطابقة القول للواقع وعدمها (عكس ما لو قال ذلك يهودي)(1).

وأما مراده الجدي(2) فهو إن عيسى (عليه السلام) ليس بنبي خاتم وهو حق صحيح، وهذا القيد مضمّن لفرض قصده التورية ولم يصرح به لكونه في حالة تقية، بل صرح بعض الفقهاء بوجوب تقدير ما يندفع به الكذب إذا كان قادراً عليه، وأنه لو أمكنه أن ينوي مثل ذلك القيد فلم يفعل فهو كذب حرام.

الفرق بين الملاكات الثلاث في قول إبراهيم (عليه السلام): (بل فعله كبيرهم)

ويظهر الفرق بين الملاكات الثلاثة المحتملة - أي ظاهر الكلام والاعتقاد والمراد الجدي -، في قول النبي إبراهيم (عليه وعلى نبينا وآله السلام) عندما حطم الأصنام وعلّق الفأس في رقبة كبيرهم: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ)(3) فإنه:

أما ظاهر القول(4)

فإنه لا يطابق الواقع(5).

وأما معتقَد النبي إبراهيم (عليه السلام) فهو إن كبيرهم لم يفعل ذلك؛ إذ هو بنفسه

ص: 35


1- وهو عكس ما ذهب إليه النظام. إذ فرق كلامه عن كلامنا إنه جعل مدار الصدق مطابقة القول للاعتقاد، ونحن قد أضفنا إن من مداراته مطابقة الاعتقاد للواقع فالاعتقاد عنده مطابَق بالفتح وعندنا مطابِق بالكسر، فتدبر.
2- ويكفي كونه كذلك ولو في بعض الحالات.
3- سورة الأنبياء: 63.
4- والمقصود الظهور الأولي العرفي، وأما الظهور الدقي أي الحاصل بعد التدبر وملاحظة مقام عصمته وشبه ذلك فهو على أن (فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) هو جزاء الشرط المتأخر وهو (إنْ كَانُوا يَنطِقُونَ) وهو صحيح، فالمعنى إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم، أو فقل الجملة هكذا يكون المراد بها: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ - فأسألوهم - إنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) ف(أسألوهم) معترضة.
5- لوجود المصلحة الأهم وللاضطرار، وذلك من مستثنيات الكذب.

من كسر الأصنام.

وأما المراد الجدي فهنا معترك لأقوال أربعة في بيانه:والجواب المعروف هو: إن الإخبار عن تكسير كبيرهم للأصنام قد علق في كلام إبراهيم (عليه السلام) على قيد وشرط وهو (إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ)، وانتفاء الشرط يفيد انتفاء المشروط، فحيث إنهم لا ينطقون فلم يفعله كبيرهم؛ ولكن بعض الأعاظم استشكل على ذلك بإشكال دقيق أجبنا عنه في بعض المباحث.

وأما الجواب الآخر الذي خطر بالبال القاصر(1) فهو: إن مراد إبراهيم (عليه السلام) - احتمالاً - هو الشأنية لا الفعلية، أي: إن كان ينطق هؤلاء الأصنام فإن من شأن الكبير أن يفعل ذلك وأن يكسر الأصنام الأخرى، وهذا توجيه لا يرد عليه إشكال بعض الأعاظم.

والخلاصة: إن المراد الجدي أمر، والاعتقاد أمر آخر، وظاهر اللفظ أمر ثالث.

وعليه: فإنه في مقام تحقيق مفهوم الصدق والكذب لابد من إضافة الاحتمال الثالث إلى أخويه، وتحقيق الحال في رده أو قبوله كي يكون التحقيق متكاملاً.

المشهور: (الجملة الخبرية موضوعة للنسب الخارجية)

ثم إن السيد الروحاني (دام ظله) ناقش بعد ذلك المشهور في مبناهم حول الصدق والكذب، ولا بد من تنقيح ذلك؛ لأن تنقيح حال التورية وأنها كذب أم لا يعتمد على هذا الخلاف المبنوي، وكلامه مع بعض التوضيح(2):

ص: 36


1- وهو مكمل للجواب المعروف وليس قسيماً له.
2- فقه الصادق (عليه السلام): ج14 شرح ص427.

إن المشهور بنوا تعريفهم للصدق والكذب(1)

على ما بنوا عليه في حقيقة الجملة الخبرية - بموضوعاتها و محمولها ونسبتها - وإنها قد وضعت للنسبة الخارجية؛ أي إن للجملة الخبرية هيئة نوعية موضوعة للنسبة الخارجية كما في (زيد قائم).

وتوضيحه: إن الموضوع زيد في المثال هو من الجواهر، والمحمول وهو قائم من المشتقات والصفات، ولابد من وجود نسبةرابطة بينهما في الواقع قائمة بهما وهي التي تصحح نسبة القيام إلى زيد، والجملة الخبرية قد وضعت لهذه النسبة الخارجية، وما ذكره المشهور في حقيقة الجملة الخبرية ونسبتها لو تم، لصح قولهم: بأن الصدق والكذب ملاكه مطابقة ظاهر الكلام وعدمها للواقع هذا.

إشكالات السيد الروحاني للمشهور

ولكن السيد الروحاني أستشكل على رأي المشهور بإشكالات ثلاثة:

الإشكال الأول: النسبة الخارجية غير متحققة في (الإنسان ممكن) ونظائره

أما الإشكال الأول فقد قال: (الأول: عدم وجود النسبة في كثير من الجمل كقولنا الإنسان ممكن ونحوه، ودعوى إعمال العناية في جميع ذلك كما ترى)(2).

وتوضيحه: إن كثيراً من الجمل الخبرية كجملة (الإنسان ممكن) ليس فيها

ص: 37


1- وهو: مطابقة ظاهر الكلام للواقع.
2- فقه الصادق (عليه السلام): ج14 ص427.

نسبة خارجية، مع كونها جملاً خبرية، فهي سالبة بانتفاء الموضوع؛ إذ الإمكان ليس أمراً خارجياً، وإنما هو أمر انتزاعي(1)

فإنه ذاتي باب البرهان، وإذا لم يكن الإمكان - المحمول - أمراً خارجياً فكيف تكون النسبة القائمة به بينه وبين الموضوع، خارجية؟ ولو قلنا: بأن الإمكان موجود في الخارج بنفسه، لورد إشكال وهو أنه كيف يرتبط هذا الإمكان المتشخص بالفرد؟

ثم إنه كيف سيرتبط (الإمكان) أو (الوجوب) إذا فرض ضرورة ثبوت الإمكان للممكن بهذا الإمكان الموجود بالخارج؟ بل إنه يلزم منه التسلسل، ولو قلنا: إنه غير موجود بالخارج فكيف تكون النسبةبين زيد وإمكانه نسبة خارجية؟!

ونضيف - تقوية للإشكال - مثالاً آخر أقوى وهو: (الدور ممتنع)؛ فإن الدور لا واقع له أصلاً لا في الخارج ولا في الذهن، بل إنه مما يستحيل وجوده في الخارج، ومعه فلا نسبة خارجية ولا واقعية له أبداً.

والمتحصل: إن الإشكال على المشهور هو بالنقض بمجموعة من القضايا الخبرية التي ليس فيها نسبة خارجية.

وعليه فكيف يكون ملاك الصدق والكذب مطابقة ظاهر الكلام للنسبة الخارجية مع عدم وجود هذه النسبة الخارجية في كثير من القضايا؟

جواب الإشكال الأول: بوجهين:

ولكن الظاهر أن إشكاله (دام ظله) ليس بتام لوجهين:

ص: 38


1- كما هو الحال في زوجية الأربعة، فإن الأربعة هي الموجودة خارجاً لا الزوجية، إذ هي أمر انتزاعي.

الوجه الأول: إن النسبة موجودة في الخارج بوجود منشأ الانتزاع

أما الوجه الأول(1) فهو: إن النسبة في (الإنسان ممكن) موجودة في الخارج، وذلك بوجود منشأ انتزاعها، كما هو الحال في الإمكان نفسه.

بيانه: إنه عندما نقول: (المخلوقات ممكنة)، فإن هذا الإمكان إما أن يقال: بأنه موجود في الخارج أو لا؟

أما الأول: فإنه الصحيح، وعليه تكون النسبة القائمة به موجودة أيضاً. وأما الثاني - أن يقال بأن الإمكان ليس بموجود خارجاً -: فإنه ليس بصحيح؛ لأن لازمه أن زيداً الموجود في الخارج؛ إما ممتنع أو واجب، وكلاهما باطل؛ إذ فرض الكلام أن إمكانه ليس في الخارج فلا بد من أنه إما ممتنع أو واجب فيه!

وتحقيق ذلك: إنه قد ثبت في الحكمة وعلم الكلام أن الإمكان،كمطلق ذاتيات باب البرهان، متحقق في الخارج بتحقق منشأ انتزاعه، فإن الشيء تارة: يكون له ما بإزاء في الخارج على نحو مستقل كالجوهر فهو (في نفسه، لنفسه)، وأخرى: يكون له ما بإزاء لكنه يكون قائماً بغيره كالعرض فهو (في نفسه، لغيره)، وتارة ثالثة: يكون الشيء من الأمور الانتزاعية فهو (في غيره لغيره)(2)، كما هو الحال في الزوجية، فإن الأربعة زوج في الواقع الخارجي نفسه، ولكنها موجودة بوجود الزوجين أنفسهما، أي البرتقالتين مثلاً وليست البرتقالتان لا زوجاً في الخارج وزوجاً في الذهن فقط لفرض أن انقسامهما إلى متساويين صفة

ص: 39


1- وهذا نقاش صغروي.
2- إذ الأشياء إما في (نفسه لنفسه بغيره) وهو الجواهر من الممكنات، وبغيره تشير للسبب والعلة الفاعلية، أو (في نفسه لغيره بغيره) وهي الأعراض أو (في غيره لغيره بغيره) وهي الانتزاعيات والمعاني الحرفية، وأما الواجب جل اسمه فهو كما قالوا (في نفسه لنفسه بنفسه).

حقيقية خارجية لازمة لذاتهما في الخارج لا في الذهن فقط، بل ما في الذهن إنما هو انعكاس لما في الخارج.

وبتعبير آخر: هو ذاتي باب البرهان وهو ما ينتزع من حاق ذات الشيء، فإن الشيء الواحد له حيثيات مختلفة، فهو وجود واحد لنفسه بعناوين مختلفة.

إذاً: فكما أن الإمكان موجود بوجود منشأ انتزاعه، فكذلك النسبة الإمكانية، فإنها موجودة بنحوِ الوجود نفسه، فلا يصح ما ذكر من النقض.

الوجه الثاني: إنّ الجملة الخبرية موضوعة للنسبة الواقعية

أما الوجه الثاني(1) فهو: الأصح أن يقال: إن الجملة الخبرية موضوعة للنسبة الواقعية(2)، و(الواقع) أعم من الخارج والذهن وغيرهما، أي: أعم من أي عالم حقيقي - بمراتبه - أو اعتباري(3)،وفي (زيد ممكن) فإن هذه القضية قضية حقيقية، والإمكان أمر واقعي، والنسبة واقعية أيضاً، وهذا مما لا شك فيه فينطبق عليه (مطابقة القول للنسبة الواقعية).

الأجوبة عن إشكال (الدور محال وممتنع)

وأما الإشكال الذي أضفناه وهو الإشكال على جملة (الدور ممتنع) ب: (إن الدور لا يوجد في أي عالم؛ لا في الخارج ولا في الذهن ولا في غيرهما؛ إذ هو ممتنع ومحال مطلقاً، فلا واقعية للنسبة في القضية أيضاً؛ فإن طرفها ومحمولها هو (محال) وهو محال بالحمل الذاتي الأولي، وموضوعها محال بالحمل الشائع

ص: 40


1- وهو جواب كبروي.
2- ولعل مقصودهم من الخارجية هو الواقعية، لكن بيان المراد لا يدفع الإيراد.
3- وقيل المراد من الواقع نفس الأمر، وفيه إنه غير خارج عن الوجودات الأربع، وبعدمها فلا شيء محض.

الصناعي، وكلاهما لا واقع له أبداً، فكيف تكون النسبة القائمة بهما واقعية؟).

فجوابه:

أولاً: إن هذه القضايا مرجعها إلى قضية سالبة محصلة، ومعناها: الدور ليس بممكن، وقد عبرنا عن ذلك ب(ممتنع).

والحاصل: إن القضية الخبرية الموجبة هي الموضوعة للنسب الخارجية، أما الخبرية السالبة فموضوعة لسلب ونفي النسبة الخارجية.

وبتعبير آخر وفي مثال آخر(1): لو قلنا (الجبل من ذهب معدوم) فقد يقال: إن ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له وفرع ثبوت المحمول، فيكون (المعدوم) موجوداً، وتكون نسبته إلى الجبل من ذهب موجودة.

والجواب: إن (معدوم) هو تعبير آخر عن كونه ليس موجوداً، وبكلمة: إن ظاهر الجملة هو الإثبات، إلا أن واقعها هو النفي.

ثانياً: إنه يقال في قضية (الدور محال) بأنّ المقصود منها كل ما فرض أنه دور فهو محال، فترجع القضية إلى قضيه فرضية شرطية تعليقية، لا إنها قضيه تنجيزية كيما يقال بأن الدور تنجيزاً وفعلا لاواقع له في أي صقع وعالم فكيف بنسبته؟ فتأمل.

وثالثاً: إن كلام الأدباء ليس بآية ولا برواية كي لا يمكن نقضه، فقولهم: (الجملة الخبرية موضوعة للنسبة الخارجية) صحيح في غير هذه الفروض وأشباهها.

وبعبارة أخرى: غاية الأمر أن كلامهم مطلق، وقد قيدّ عقلاً - فرضاً - بغير المحمولات الانتزاعية والممتنعات.

ص: 41


1- هذا المثال من عالم الإمكان ذكرناه لتقريب المطلب في عالم الامتناع إلى الذهن، فتدبر.

الإشكال الثاني: إنّ الجملة الخبرية ليست كاشفة عن الواقع لا قطعاً ولا ظناً

وأما الإشكال الثاني من إشكالاته على كلام المشهور فهو:

(عدم كاشفية الجملة عن الواقع ولو ظناً، فلو كانت موضوعة للنسبة الخارجية لكانت دلالتها عليها قطعية) (1).

توضيح ذلك: إن كلمة (الجدار) تدل على الجدار الخارجي بوضعها وهذا واضح؛ فإن كل كلمة قد وضعت لمعنى فإنها تدل عليه وتفيد تصوره للعالم بالوضع، وكذلك الحال في كلمة النور وغيرها من الكلمات، وهنا فلو كانت الجملة الخبرية موضوعة للنسبة الخارجية فلا بد أن تدل عليها قطعا، ونحن نرى أن الجملة الخبرية لا تدل على الواقع (النسبة الخارجية) لا قطعاً ولا ظناً، فلو قال أحدهم: زيد قائم، فهل نقطع بقيامه أو نظن بذلك من صِرف هذه الجملة بنفسها؟

والجواب: كلا فلا كشف فيها وعليه فليست موضوعة للنسبة الخارجية.

جوابان على الإشكال الثاني

ولنا جوابان على هذا الوجه:

الجواب الأول: إنّ وضع شيء لشيء مقتض للكاشفية وليس علة تامة

الأول: إن وضع شيء لشيء(2) إنما هو مقتض للكاشفية وليس بعلة تامة

ص: 42


1- فقه الصادق (عليه السلام): ج14 شرح ص427.
2- وكذا استعماله فيه وإرادته الجدية له.

لها، وربما أن السيد الروحاني قد افترض أن وضع الجملة الخبرية للنسبة الخارجية إنما هو بنحو العلية التامة، فرأى استلزام الوضع للكاشفية، وحيث نجد أنه لا كاشفية نكتشف أن الجملة الخبرية ليست موضوعة للنسبة الخارجية، لكن هذا ليس بصحيح ومما لم يقل به أحد، بل (الوضع) من العلل المعدة للكاشفية، أو فقل: هو مقتضٍ لها لا غير.

وبتعبير آخر: إن الجملة الخبرية حتى تكشف عن الواقع لابد فيها من توفر مجموعة من المقدمات والشروط كي يتم ذلك:

1. الوضع: وهذا مقتضٍ أو مُعِدُّ بعيد.

2. العلم: وهو إن يعلم السامع بهذا الوضع، إذ لا يقول المشهور: بأن الوضع بنفسه وبدون علم السامع بالوضع كاشف عن معانيه ومضامينه ومدلولاته.

3. المقارِنات: الدالة على كون الجملة الخبرية صادقة، ومنها: معرفتنا بالمتكلم وأحواله وانه لا يقول الكذب.

ومنها: غير ذلك.

والمتحصل: إن الوضع هو جزء العلة للكاشفية، لا علة تامة، فلا ينقض ب: أن عدم وجود الكاشفية في مثل (زيد قائم) دليل على عدم الوضع للنسبة الخارجية!

وبتعبير آخر: (إن الجملة الخبرية وضعت للدلالة على الكاشفية عن الواقع) كما قالوا، وليس (ان الجملة الخبرية كاشفة عن الواقع)، والفرق بينهما واضح، والوضع والدلالة من عالم الإثبات، وهو أعم من الكاشفية الثبوتية وعالم الثبوت.

ص: 43

وبعبارة أخرى: تحقيق الجواب يعتمد على معرفة الغرض والغاية والسبب من وضع الجملة الخبرية وأنه ما هو؟ وجوابه: إنها موضوعة لقدح تصور النسبة في الذهن وللإذعان بتحققها لكنهاليست علة له، بل مقتضٍ فقط، توضيح ذلك: إننا نجد أن كلمة (زيد) وهي مفردة قد وضعت لقدح تصور ذات زيد في الذهن ولا ربط لها بالتصديق بوجوده والإذعان به، وكذلك في كلمة (قائم) فإن الغرض منها هو قدح معنى القيام في الذهن أيضاً، وهذا المعنى تصوري كذلك، وأما في النسبة بين زيد وبين قائم في (زيد قائم) - حيث انتقلنا بذلك إلى مرحلة الدلالة التصديقية - فإن الجملة الخبرية قد وضعت لقدح النسبة بينهما في ذهن السامع ولإيجاد تصور وجودها في الخارج وللإذعان به.

إذاً فالجملة الخبرية في حد ذاتها على الحياد من حيث صدق مضمونها وتحققه وعدمه؛ ولذا نجد أنها تستعمل من الصادق والكاذب والجاهل والشاك وغيرهم وتبقى هي هي من حيث ذاتها، فإن الجملة الخبرية بما هي هي ليست علة وجود النسبة الخارجية ولا علة لتصديق السامع لها.

وبتعبير آخر: ليس شأن اللغة والبلاغة والأدبيات إثبات المضامين وتحققها، فإن الهدف من الوضع هو التصور(1) لا التصديق، وقد ذكرنا سابقاً(2) ما يوضح ذلك من أن التصور - كما قال علماء المنطق - على أربعة أقسام: منها: الجملة الخبرية المشكوك فيها، فإنها لا شك أنها جملة خبرية بذاتها مع أنه لا تصديق فيها، وما ذلك إلا لوفائها بالغرض الأولي الذي وضعت له الجملة الخبرية وهو قدح النسبة.

ص: 44


1- للموضوع أو المحمول أو النسبة.
2- في البحث التفسيري.

الجواب الثاني: حصول الخلط بين الوضع والدلالة وبين الوقوع والصدق

الثاني: ربما يقال: إنه قد حصل خلط بين أمرين من الأمور الستة: وهي: الوضع والدلالة والاستعمال(1) والإرادة وكونه صدقاً أوكذباً ثم الدليل على الصدق والكذب؛ فإن الوضع شيء، والدلالة أمر آخر تابع له اقتضاءً، والإرادة الاستعمالية شيء آخر، والإرادة الجدية شيء رابع، وكونه صدقاً أو كذباً أمر خامس، ثم الدليل على انه صدق أو كذب أمر سادس.

فإن الوضع وإن كان موجوداً ثبوتاً، لكنه لا يكفي لدلالة السامع على مفاده للكاشفية عن مدلوله ولا عن مراد المتكلم، بل إن الوضع - مفرداً كان أم جملةً - لابد من أن يتعقب بالعلم به - أي بعلم السامع به -، ليدله على مضمونه، وحينئذٍ لو استعمل بإرادة استعمالية أفاد مراده الإخطاري، وذلك كله أمر، والدلالة على الإرادة الجدية أمر آخر، ثم كل ذلك أمر، وكونه صدقاً وكذباً، ثم الأدلة على كونه صدقاً وكذباً إثباتاً أمر آخر.

والحاصل: إن سوابق هذه الأمور الستة(2) لا تستلزم لواحقها، بل التفكيك جارٍ فيها فإنه لو استعمل اللفظ في معنى بنحو الإرادة الاستعمالية لم يكن كاشفاً تاماً عنه إلا لو علم به، ثم إن ذلك بدوره لا يفيد وجود الإرادة الجدية، بل هي تفهم من قرائن أخرى كظاهر حال المتكلم والتباني الاجتماعي

ص: 45


1- الدلالة متأخرة عن الاستعمال الجزئي الخارجي وهي متقدمة عليه إذا لوحظ الوضع نفسه بدلالته الكلية، وبعبارة أدق: هنا دلالتان أولاهما كلية وهي وليدة الوضع والأخرى جزئية وهي وليدة الاستعمال.
2- الوضع والدلالة والإرادة الاستعمالية والإرادة الجدية، والصدق والكذب الثبوتيين ثم الأدلة على الصدق والكذب.

وأصالة مطابقة الإرادة الجدية للإرادة الاستعمالية وما أشبه، ثم إن كل ذلك لا يكون ملاكاً للصدق، كما لا يكفي دليلاً على الصدق ومطابقة قوله للواقع، بل لا بد من التماس دليل آخر(1).

توضيح ذلك: إن لدينا - من جملة العوالم - عوالم ثلاثة:

العالم الأول: هو عالم الواقع الخارجي والأعيان أي عالم الخارج.

والعالم الثاني: هو عالم المفاهيم الموجودة في الذهن.

العالم الثالث: عالم الألفاظ المتصورة في الذهن، وهذا العالم هوغير عالم الألفاظ المنطوقة؛ إذ الإنسان عادة يفكر بالألفاظ(2)

ثم إنه ينطق ويتلفظ بها.

والخلاف بين المشهور وبين الشيخ (رحمه الله) ومن تبعه، يعود في جوهره إلى تحليل ماهية وضع الألفاظ، وإنها هل هي موضوعة للصور أو المفاهيم الذهنية(3)؟

أو هي موضوعة للواقع الخارجي؟ أو هي موضوعة لقصد حكاية الواقع الخارجي؟ والقصد والحكاية أمران قائمان بالذهن، وذلك كما في كلمة (جاء)؛ فهل هي موضوعة لمفهوم جاء الذهني؟ أو إنها موضوعه للمجيء الخارجي؟ أو هي موضوعة لقصد حكاية الواقع الخارجي؟ المشهور ذهبوا إلى أن الجملة الخبرية موضوعة للنسبة الخارجية، وأما السيد الروحاني (دام ظله) فقد ذهب إلى أن الجملة الخبرية موضوعة لقصد حكاية الواقع الخارجي، والفرق كبير

ص: 46


1- ونضيف: حصل الخلط بين الوجود والمفهوم فإن الجملة الخبرية وضعت لإفادة مفهوم النسبة الخارجية لا وجودها. وسيأتي بيانه.
2- وأما المتميزون والعباقرة فهم من يتخلص من قشر المعنى ومحدوديته وهو اللفظ فيفكرون في المعنى بما هو هو, وهذا فن في حد ذاته، ولكن ادعي عدم إمكانه، فتأمل.
3- بما هي هي أو بما هي ذات ألفاظ ذهنية؟ موضع بحث آخر، والظاهر الأول.

بينهما(1)، لكن كلام المشهور هو (الدلالة) على النسبة الخارجية (في الجملة الخبرية) والدلالة أعم من الوقوع.

الإشكال الثالث: إنّه لو دلت الجملة الخبرية على النسبة الخارجية لما احتملت الكذب

أما الإشكال الثالث الذي ذكره على المشهور فقد قال: (إن الكلام - أي الجملة الخبرية - لو كان دالاً على النسبة الخارجية لما كان يحتمل فيه الكذب(2)

وقد عرفوا القضية بأنها تحتمل الصدق والكذب)(3)

انتهى.

وتوضيحه: إنه ما دامت القضية - أي الجملة الخبرية - وضعتللنسبة الخارجية وهي تحكي الواقع فكيف يحتمل الصدق والكذب فيها؟! فإن الضرب مثلاً لو وضع لمعناه فلا يحتمل شيئاً آخر، وكذلك ما وضع للنسبة الخارجية، لكن القضية - أي الخبر - كما صرحوا - وكما هو من البديهيات -، تحتمل الصدق والكذب، فالجمع بين الأمرين تهافت، وحيث إن الأمر الثاني ثابت بالبداهة فلا بد من كون الأمر الأول باطلاً.

ويجري كلا الجوابين الآنفين عن الإشكال الثاني ههنا؛ فإن مرجعه إليه(4)

لدى التدبر؛ فإن الدلالة بحسب الوضع لا تلازم الصحة والصدق، ويظهر ذلك: بملاحظة الدوالّ التكوينية، فإن وضع السهم مثلاً للدلالة على الإتجاه

ص: 47


1- وأما السيد الخوئي (رحمه الله) فيقول إن الألفاظ موضوعه لإبراز الدعاوى والمكنونات النفسية وإبراز الصور الذهنية وكلامه يصب في نفس مصب السيد الروحاني (دام ظله) مآلاً.
2- إذ الدالّ إما موجود أو معدوم ولا غير.
3- فقه الصادق (عليه السلام): ج14 شرح ص427.
4- مرجع الإشكال الثالث إلى الإشكال الثاني إذ يقال: (إن النسبة الخبرية لو كانت كاشفة عن الواقع لما احتمل فيها الكذب).

الصحيح لا يستلزم الصحة دائما(1)؛ إذ الدلالة أعم من المطابقة وعدمها، فكما هو الحال في عالم التكوين في الدلالة الوضعية غير اللفظية من عدم استلزامها الصحة والمطابقة، فكذلك في الدلالة الوضعية اللفظية الجعلية.

كما أن الإشكال خلط بين الدلالة والوضع وبين الوقوع والصدق، ودلالة شيء على شيء بحسب وضعه وبحسب استعمال المستعمل أعم من صدقه، وأعم من إذعان السامع له، ولا تستلزم عدم احتمال السامع للكذب.

مبنى السيد الروحاني (دام ظله): الجملة الخبرية موضوعه لقصد الحكاية عن النسبة الخارجية

ذهب السيد الروحاني (دام ظله) في قبال المشهور إلى: (الحق أن الجملة الخبرية وضعت لقصد الحكاية عن النسبة الخارجية وهي في هذه الدلالة لا تتصف بالصدق والكذب وإنما تتصف بهما باعتبار المدلول إذ الحكاية عن النسبة إن طابقت الواقع فهي صادقة وإلا فكاذبة وبذلك يظهر أن الكذب هو عدم مطابقة مراد(2) المتكلمللواقع)(3).

وبعبارة أخرى: إن الجملة الخبرية موضوعة لقصد الحكاية عن النسبة الخارجية، وهذا القصد هو فعل من الأفعال النفسانية وهو غير منعوت بالصدق أو الكذب؛ ذلك أن الإنسان إما أن يكون قاصداً أو لا، وأما الصدق والكذب فهما منوطان بالحكاية - وهي المدلول -، والحكاية هي مراد المتكلم وهي إما صادقة أو كاذبة.

ص: 48


1- إذ قد يشير السهم إلى الإتجاه الخاطئ، لو وضع عكس الإتجاه الواقعي.
2- أي المحكي بكلامه.
3- فقه الصادق (عليه السلام): ج14 ص428.

ومعه يكون الكذب عبارة عن عدم مطابقة مراد المتكلم للواقع.

أما الشيخ (رحمه الله) فذهب إلى: أن الكذب هو عدم مطابقة مراد المتكلم للواقع.

ظهور الفرق بين المشهور والشيخ (رحمه الله) والسيد (دام ظله) في (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ)

ويظهر الفرق بين الثلاثة في مثل قوله تعالى: (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ)(1) فالذي يُفهم عرفاً من ندائهم هو: أن إخوة يوسف (عليه السلام) قد سرقوا صواع الملك، إلا أن مقصود المنادي أنهم سرقوا يوسف من أبيه في ماضي الزمان، فيكون المقصود من اللفظ هو خلاف ما يفهم من ظاهره عرفاً فهو تورية.

إذاً فعلى رأي المشهور ستكون التورية كذباً(2)؛ لعدم مطابقة ظاهر الكلام للواقع خارجاً، فلا بد - على مبناهم - من البحث عن أدلة لتجويز ارتكابها، فلو تمت فبها وإلا حرمت التورية، عكس ما اختاره السيد الروحاني (دام ظله)(3) إذ ذهب إلى أن الجملة الخبرية موضوعة لقصد حكاية النسبة الخارجية لا أنها موضوعة للنسبة الخارجية بلا واسطة، ومعه لا تكون التورية كذباً موضوعاً؛ إذ لم يقصد المتكلم حكاية النسبة الخارجية كما دل عليها ظاهر الكلام.

نعم هذه الحكاية هي الكذب، لكن الجملة الخبرية لم توضع لها، بل وضعت لقصد الحكاية، وقصد الحكاية ليس بكذب فلا يقال عن الجملة الخبرية:

إنها كذب، إلا بلحاظ مدلولها، والمدلول هو المراد، فعاد آخر كلام

ص: 49


1- سورة يوسف: 70.
2- أي مع عدم إقامة القرينة.
3- فقه الصادق (عليه السلام): ج14 ص428.

السيد الروحاني (دام ظله) إلى كلام الشيخ الأنصاري (رحمه الله).

وأما الشيخ الأنصاري (رحمه الله) فرأى أن مقياس الكذب عدم مطابقة المراد للواقع، وهو يقع في مقابل المشهور كما لا يطابقه كلام السيد الروحاني (دام ظله)(1) فليست التورية كذباً؛ إذ مراده طابق الواقع وإن لم يطابقه ظاهر لفظه.

وبعبارة أخرى: إن المشهور لا يرى واسطة بين الحاكي - أي الجملة الخبرية - والمحكي - أي النسبة الخارجية -، وأما السيد الروحاني (دام ظله) فيرى الواسطة في ذلك وهو قصد الحكاية، والقصد قائم بالنفس.

والمتحصل: إن مدار الصدق والكذب لدى الشيخ (رحمه الله) هو المراد الجدي للمتكلم ومطابقته أو عدمه للواقع دون ظهور الكلام الذي عليه المشهور، وأما لدى السيد الروحاني (دام ظله) فالملاك ليس القصد إذ القصد غير قابل للوصف بالصدق أو الكذب بل الحكاية، ثم إنه فسر - في آخر كلامه - الحكاية بأنها هي المراد، فعاد آخر كلامه إلى كلام الشيخ (رحمه الله) مع أن أول كلامه مخالف له كما سيظهر.

إن قلت: يرد على ما ذهب إليه السيد الروحاني (دام ظله) - ومن قبله الشيخ (رحمه الله) - من كون المورِّي لم يُرد الحكاية عن النسبة الخارجية فلا كذب، يرد عليه: إن العرف يرون العكس؛ حيث إنهم عندما يسمعون كلام المورِّي(2)يطلقون عليه أنه كاذب بالحمل الشائع الصناعي!

قلت: يمكن أن يجاب - من الشيخ (رحمه الله) والسيد (دام ظله) -:

إن ما فهمه العرف إنما هو من باب الوهم واللبس لعدم معرفتهم بالواقع،

ص: 50


1- نعم عَدَل السيد الروحاني (دام ظله) في آخر كلامه إلى كلام الشيخ (رحمه الله) في قوله: (وبذلك يظهر...)، لكن أول كلامه: (وضعت لقصد...) هو غيره كما يظهر بالتدبر بوضوح.
2- أي دون علمهم بانه مورّي أو مطلقاً.

ولو عرفوه وعلموا به لما نعتوه بالكذب، ويوضحه: مثالالغش والتدليس؛ فإن الناس لو تصوروا أن أحد الباعة كان يبيعهم الرديء من الرز إلا أنه كان في حقيقته جيداً فالبائع ليس واقعاً بمدلس أو غاش، ولو توهم الآخرون ذلك.

إذاً فما توهمه الناس خلط بين الثبوت والإثبات، وكذلك الحال في الصدق والكذب حيث الخلط بين الثبوت والإثبات، فإنه صادق ثبوتاً وإن توهموه كاذباً إثباتاً.

مناقشة مبنى السيد الروحاني (دام ظله) بوجوه ثلاثة

ولكن يرد على ما ذكره من المبنى وجوه ثلاثة من الإشكالات، إضافة إلى عدم مطابقة ذيل كلامه لصدره وصحة ذيله دون صدره، إذ ذيل كلامه هو: (وبذلك يظهر أن الكذب هو عدم مطابقة مراد المتكلم للواقع) وهو مطابق لمبنى الشيخ (رحمه الله)، لكن صدر كلامه هو: (الحق إن الجملة الخبرية وضعت لقصد الحكاية عن النسبة الخارجية وهي في هذه الدلالة لا تتصف بالصدق والكذب وإنما تتصف بهما باعتبار المدلول إذ الحكاية عن النسبة إن طابقت الواقع فهي صادقة وإلا فكاذبة) ووجه الإشكال عليه: (وعدم مطابقته أيضاً لذيل كلامه وكلام الشيخ (رحمه الله)) هو أنه اعتبر الاتصاف بالصدق والكذب هو بلحاظ المدلول وهو الحكاية، مع أن الحكاية لا تساوي المراد إذ قد يقصد حكاية ما ليس مراداً له والنسبة بين الحكاية والمراد هي العموم من وجه.

وعلى أي فالحكاية يمكن أن تكون بظاهر الكلام فيمكن انطباقها على قول المشهور أيضاً إلا أن يقصد الحكاية بلحاظ نسبتها إلى الفاعل لا الحكاية في حد ذاتها لكنه أيضاً لا يجدي إذ الحكاية منسوبة للافظ أعم من وجهٍ من كونها مرادة له، فتأمل.

ص: 51

وأما الإشكالات الثلاث فهي:

الأول: الوضع في الجملة الخبرية هو للنسبة الخارجية بالوجدان

الأول: إن دعوى وضع الجملة الخبرية لقصد الحكاية عن النسبة الواقعية هي خلاف الوجدان، بل إن الظاهر أن وضع هيئة مثل: (زيد قائم) هو لكي تعكس الخارج مباشرة.

ويدل عليه وضع المفردات الشخصية، فإن زيداً مثلاً وضع لهذا المولود لا لقصد الحكاية عنه، كما يدل عليه ملاحظة حال وضع الواضعين في مجاميع اللغة في القاهرة وغيرها، كما يدل عليه ملاحظة التكوينيات والتي تجري الاعتباريات على وزانها، فإنّ المرآة مثلاً تكشف عن الخارج مباشرة ولا واسطة في البين، وكذا النصب والعلامات.

وكذلك الجملة الخبرية وضعت لتكون مرآة للنسبة الخارجية مباشرة لا بواسطتين (أي بوضعها "لقصد" "حكاية" النسبة الخارجية)، فتدبر جيداً.

كما يكشف عن ذلك: ما لو فرضت نفسك واضعاً ألا ترى أنك ستضع (جدار) أو النسبة الخبرية لمداليلهما؟

الثاني: هناك خلط بين الوضع للشيء والغاية منه

الثاني: هذا وقد حصل خلط عند السيد (دام ظله) وغيره بين الغاية من جهة وبين الموضوع له أي ما وضعت له الجملة الخبرية من جهة أخرى، وكلام الأدباء هو عن الموضوع له لا الغاية؛ فإن العلة الغائية شيء والموضوع له شيء آخر، وقصد الحكاية ليس جزء الموضوع له، بل الموضوع له هو الشيء بعينه، نعم وضع اللفظ له لكي يقصد الحكاية به عنه، فتدبر.

ص: 52

كما اتضح مما مضى أن هناك خلطاً آخر بين (الحكاية) و(المراد).

الثالث: النقض بعدم وجود القصد في بعض الجمل

الثالث: كما ينقض عليه بما نقضه هو على المشهور حيث قال: (عدم وجود النسبة الخارجية في كثير من الجمل)(1) فكيف تكونالجملة الخبرية موضوعة لها؟ إذ نقضه عليهم وارد عليه أيضاً؛ إذ يقال: (عدم وجود قصد الحكاية في كثير من الجمل الخبرية) كما هو الحال في المعلِّم(2) والمتمرن في صوته والنائم(3) ونظائرهم، فعندما يتلفظون بالجملة الخبرية فإنهم لا يقصدون منها الحكاية عن الخارج، فقد تخلف وانفكّ قصد الحكاية عنها، مع إنها جملة خبرية دون شك.

والمحصل: إن الحق مع المشهور في كون الجملة الخبرية في حقيقة وضعها قد جعلت للنسبة الخارجية، لكن ذلك في حد ذاته أعم من الالتزام بكون الصدق هو مطابقة ظاهر القول (الجملة الخبرية) للواقع، ومن الالتزام بكونه مطابقة المراد للواقع، فلا يصح إرجاع النزاع إلى هذا وأن المشهور بنوا على ما عرفوا به الكذب على هذا المبنى، فتدبر جيداً.

التحقيق في ضمن أمرين مع المحور الثالث

وتحقيق المقام ببيان المطالب والأمور التالية:

ص: 53


1- فقه الصادق (عليه السلام): ج14 ص427.
2- إذا ذكر جملة خبرية في مقام بيان إعرابها مثلاً، فإنه لا يقصد الحكاية عن الخارج بها لكنها جملة خبرية دون شك.
3- فإن ما قاله لو كان جملة خبرية فإنها يصدق عليها جملة خبرية وإن لم يكن قاصداً.

الأمر الأول: إنّ العرف يرى المدار على ظاهر القول

قد يقال: إن العرف يرى نفس ما ذهب إليه المشهور من: أن المدار هو مطابقة ظاهر اللفظ - أو عدم مطابقته - للواقع، ولا دخل للمراد في الصدق والكذب(1).

بيانه: إن الملاك في الصدق والكذب - كما سبق - إما أن يكون هو مطابقة ظاهر القول للواقع كما عليه المشهور، أو مطابقة المراد الجدي للواقع، ولكن الفيصل في الحكم هو العرف؛ فإنه يرى أن المدار هو مطابقة ظاهر اللفظ للواقع وإن كان المراد أمراً آخر، ما لمينصب قرينة فإنه إن نصبها كان ظاهر القول هو مفادها، فلو قال شخص: (جاء زيد) وكان زيد قد جاء فعلاً فإن العرف يرى أن كلامه صدق وإن لم يكن قصده ومراده ذلك، بل كان قد قصد وأراد أمراً آخر.

والحاصل: إن الكلام صادق، وإن كان العرف يراه سيء الطوية محاولاً التدليس إذا أطلع على مراده وأنه كان يرى أنه لم يجيء ومع ذلك قال أنه جاء.

وذلك يرجع إلى التفريق بين كذب الحاكي والحكاية بما فصلناه سابقاً، وإن ظاهر وصف الكلام بالصدق هو وصفه به في حد نفسه، بل والمستظهر عرفاً من وصف القائل بأنه صادق أنه من الوصف بحال المتعلق(2).

ومن جهة أخرى: فإن العكس كذلك دليل على المدعى: فلو قال أحدهم: (جاء زيد) ولم يكن زيد قد جاء خارجاً، فإنه وإن كان يعتقد بمجيئه

ص: 54


1- أي صدق الجملة والنسبة الخبرية.
2- وسيأتي أنه إن قيل (زيد صادق) كان المراد (صادق في كلامه) أي (كلامه صادق وصدق) إلا لو دلت قرينة على العكس كما لو كان مدار الاهتمام هو الفاعل نفسه وسوء أو حسن طويته وسريرته.

وأراده، فإن العرف يقول: إن كلامه ليس بصادق، ولا يشفع اعتقادُه بصدقه وإرادته لمدلول كلامه لوصف كلامه بالصدق، كما لا يوصف زيد نفسه بأنه صادق، ولو وصف به فإن قرينة المجاز الحالية معه، وهي تسوق إلى أن المراد من (زيد صادق) أي (زيد صادق في نيته سليم فيها وإن لم يكن كلامه صدقاً)، نعم سيأتي في الأمر الثاني عدم تمامية هذه الدعوى(1) على إطلاقها.

الأمر الثاني: ليس تفسير الكذب دقياً وعقلياً هو المرجع، بل ما له من المعنى الارتكازي

وقد يقال: إن الصدق أو الكذب قد يفسران بتفسير دقي عقلي، وهو ما لعله مبنى كلام الكثير من الأعلام، وقد لا يفسران أصلاً بشيء من ذلك، بل يرجع في صدقها وانطباقها على المصداق إلىالارتكاز الفطري الساذج، وهو قد لا يتطابق أحياناً مع تعريف المشهور للصدق والكذب من كونه مطابقة ظاهر القول للنسبة الخارجية وعدمها.

وعليه: فيكون التورية كذباً؛ بناءً على التعريف والمعنى الدقي للصدق من عدم مطابقة ظاهر القول فيها للنسبة الخارجية أو للواقع، لا الارتكازي الساذج.

وعليه: يمكن أن نعثر في المقام على مخرج كي لا نعد التورية كذباً وهو: إن العرف هو المرجع في مفاهيم موضوعات الشارع بسذاجته وبساطته، لا بحسب الدقة العقلية ولا بحسب التعريفات البلاغية، ومعه: فإنه لو رأى العرف شخصاً يورّي فلم يطابق ظاهر قوله الواقع الخارجي، ولكنه كان قد أقام قرينة خفيت على السامع، فإنهم مع اطلاعهم على حقيقة الأمر لا يقولون: إنه قد كذب؛ إذ وجدوا أن ظاهر قوله مع قرينته المقامية أو الحالية - باطلاعهم عليها - مطابق للواقع.

ص: 55


1- إن نظر العرف هو نفس رأي المشهور من (مطابقة ظاهر اللفظ للواقع وعدمها).

إذاً: فالمرجعية في تحديد الصدق والكذب ترجع إلى العرف، حيث لو اطلع على حقيقة حال المورِّي لرآه صادقاً(1)، ولكن تحقيق ذلك يعتمد على ما سيأتي في الأمور التالية من: التفصيل بين القرينة الخفية والجلية، وبحث أن المدار هل هو على الثبوت أو الإثبات، ومن التفريق بين كذب الحكاية وكذب الحاكي، وأيضاً: تحقيق أن الظهور تنجيزي أو تعليقي.

المحور الثالث: هل التورية كذب موضوعا أم لا؟

الأقسام الأربعة للتورية

إن التورية على أربعة أقسام كما سبق، ونضيف: إن ثلاثة منهاليست بكذب ظاهراً، وأما القسم الرابع فهو ما ينبغي أن يجري الكلام والنقاش فيه، والأقسام الأربعة هي:

1. ما لو ورَّى بالظاهر عن الظاهر وستره به

القسم الأول: ما لو ورَّى بالظاهر عن الظاهر، كما فيما روي عن أبي ذر وحمله للنبي الأعظم (صلی الله علیه وآله وسلم)، فقد قصد بظاهر كلامه المدلول الواقعي له وهو الموضوع له اللفظ، لكنه ستر الظاهر بالظاهر، فإذ ذكر الظاهر وأراده، لكنهم توهموا إرادته غيره.

وهذا ليس بكذب قطعاً عرفاً وبالحمل الشائع، وتعريف المشهور للصدق ينطبق عليه، من غير أن ينطبق عليه تعريف الكذب، بالإضافة إلى انطباق تعريف

ص: 56


1- فلو علم العرف بأن الخادم من وراء الباب أشار إلى موضع محدد منها وقال لمن يطرق الباب سائلاً إياه عن أن سيده موجود أو لا، قال: ليس سيدي ههنا، فإن العرف يرى كلامه - مع قرينته - صدقاً، غاية الأمر أن يقال إنه أوهم غيره أو خدع سائله.

الشيخ الأنصاري(رحمه الله)(1) والسيد الروحاني(دام ظله)(2) ومن حذا حذوهم، للصدق عليه أيضاً.

ويمكن التمثيل لذلك بمثال من نوع آخر: فإنه قد نرى شخصاً يمتهن الكذب في حياته، وحينئذٍ لو أخبر بخبر وكان صادقاً فيه ثبوتاً، فإن السامع - عادةً - يبني على كذبه فيه، وهنا نجد أن ظاهر كلام الرجل مطابق للواقع ثبوتاً فهو صادق، كما هو مراد له، لكن ما فهمه السامع هو غيره، إلا أن فهم الغير ليس ملاك الصدق والكذب، وجامعه صدق الصدق عليه من حيث الحكاية بل والحاكي في حد نفسه وإن وصفه السامع بالكاذب، وعلى أي فإنه لو أخبر بالظاهر المطابق للواقع مع علمه بأنهم سيعتقدون كذبه، فيكون حينئذٍ قد ستر بالظاهر الظاهر، وقد يكون ذلك لحكمة أو لا، عكس ما لو قال لهم عكس الواقع بظاهر كلامه، فاعتقدوا أن عكس العكس هو الصحيح أي هو المطابق للواقع، فإنه يكون قد أظهر بالظاهر المخالف للواقع، الواقعَ، فكلامه من حيث الحكاية كذب، إلا لو كانت معه قرينة انعقد بها ظهور ثانوي في عكس ظاهر كلامه، وأما من حيث الحاكي فصدق إذ أراد العكس، وكذا لو جعلنا مقياس الصدق هو مطابقة المراد للواقع.

2. ما كان القول مجملاً لا ظهور له

القسم الثاني: ما لو كان القول مجملاً بظاهره، وهذا القسم أيضاً خارج عن دائرة الكذب، ومثاله: ما ذكره الشيخ (رحمه الله)(3) وآخرون(4)

في كلمة (ما) فيمن

ص: 57


1- كتاب المكاسب: ج2 ص17.
2- منهاج الفقاهة: ج2 ص123.
3- كتاب المكاسب: ج2 ص17.
4- منهاج الفقاهة: ج2 ص123.

قال: (قد علم الله ما قلته)، إذ قصد (ما) الموصولة بمعنى (الذي قلته)، وأما السامع فقد فهم منها (ما) النافية، وذلك إن لم نقل بأن ظهور (ما) عرفاً في ما النافية، بل كان مجملاً.

وهذه الصورة من صور التورية ليست كذباً؛ فإن اللفظ المجمل محتمل للمعاني المتعددة، والمجمل لا ظاهر له فلا ينطبق تعريف الكذب عليه، فإنه من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع؛ إذ لا ظاهر للكلام ليقال بعدم مطابقة ظاهره للواقع، كما أن المراد أيضاً لم يخالف الواقع بلا شك، كما أنها ليست صدقاً بناءً على أنه (مطابقة ظاهر القول للواقع).

والمتحصل: إن هذه الصورة من التورية ليست بكذب على كلا التعريفين؛ أما تعريف المشهور فلما مضى، وأما تعريف الشيخ (رحمه الله) فإنه لم يخالف مراده الواقع.

3. ما لو أراد الظاهر والباطن معاً

القسم الثالث: ما لو أريد الظاهر والباطن معاً، ولكن السامع توهم إرادة الظاهر فقط، وكان قد قصد بإرادة الظاهر ستر الباطن عن السامع - غير الأهل مثلاً -، وهنا الأمر كذلك؛ فإن ظاهر القول - وكذا المراد - لم يخالف الواقع، فهذه الصورة ليست بكذب على كلا القولين(1).

4. ما لو ورّى بالظاهر عن الباطن وستره به

القسم الرابع: ما لو ستر الباطن المراد بالظاهر غير المراد، أي ورَّى

ص: 58


1- وفي هذه الصورة تندرج - لعله - الكثير من الآيات القرآنية فقد وُرّي بالظاهر عن الباطن فيها للحكمة والمصلحة. فتأمل وقد سبق تفصيله.

بالظاهر عن الباطن، والنقاش لا بد أن ينحصر في هذه الصورة(1) وفي هذا القسم من كون التورية فيها كذباً أو لا؟

وههنا يمكن أن يذكر تفصيلان:

الأول: التفريق بين كذب الحكاية وكذب الحاكي، الثاني: التفصيل بين كون القرينة نوعية أو شخصية خفية أو مفقودة.

التفصيل الأول: التفريق بين كذب الحكاية وكذب الحاكي

قد يقال: بأنّ العرف يفصل بين كذب الحكاية وكذب الحاكي، وبين الكاذب والمخطئ، فلو اطلع العرف على واقع حال المورِّي وأنه أقام قرينة على مراده خَفِيةً على السامع، فلا يقال له: إنه كاذب، كما لا يطلق على كلامه حينئذٍ إنه كذب فلا توصف حكايته بالكذب ولا الحاكي يوصف به حينئذٍ، هذا لو أقام قرينة ولو خفية، أما لو لم يقم قرينة أصلاً بل كان مراده الواقعي فقط غير ظاهر كلامه، فإن كلامه يوصف بالكذب بنحو كذب الحكاية، أما المتكلم؛ فهل يوصف بالكاذب؟

الظاهر: نعم، وإن كان فرضاً معذوراً لاضطرار أو غيره.

ويختلف حال غير المريد للمضمون بنحو الإرادة الجدية عن غير المعتقد، فلو اعتقد بأن زيداً قد دخل الدار حقيقة فقال: دخل زيد في الدار، ولكن الواقع لم يكن كذلك، فالعرف يحكم عليه بكونه مخطئاً لا كاذباً، نعم يقولون: إن خبره غير مطابق للواقع، وإن الخبر بما هو هو كذب، لكن المخبر غير كاذب؛ إذ قد أخذ الاعتقاد مقوّماً للعنوان، في الكاذب بما هو حاك، فتأمل.

ص: 59


1- إذ في الصورة الأولى والثالثة كان الظاهر مراداً - وحده أو مع غيره أيضاً - أما في الصورة الثانية فلا ظاهر فيها للإجمال.

التفصيل الثاني: التفصيل بين كون القرينة نوعية أو شخصية خفية أو مفقودة

وبعض تحقيق ما مضى يتضح بالتفصيل الآتي:فإن المورِّي تارة يقيم القرينة على كلامه وأخرى لا، ولو أقامها فتارة: تكون قرينة نوعية، وأخرى شخصية، فهذه صور ثلاث:

الصورة الأولى: التورية مع إقامة قرينة نوعية

الصورة الأولى: ما لو أقام المتكلم قرينة نوعية على كلامه في مقام التورية سواء فهمها السامع أم لم يفهمها، وليس هذا بكذب ولا المورِّي بكاذب قطعاً؛ إذ إن القرينة النوعية تولّد ظهوراً ثانوياً للكلام، فليس هذا بكذب عرفاً ولا دقةً.

وقد يقال: إن من هذه الصورة قول النبي إبراهيم (عليه السلام) بعد تحطيمه الأصنام: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ)؛ وذلك لأنه قد أقام قرينة نوعية على كلامه وهي: إنه كان يكنّي بذلك عن عدم كون كبيرهم إلهاً وعجزه عن الحركة وفعل شيء، فقوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) كناية عن (إنه لم يفعله كبيرهم لأنه عاجز) والقرينة الحالية خير شاهد، ولذا فهموا ذلك من كلامه(فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ).

وإن شئت فقل: إن كلامه لم يكن بقصد الحكاية عن الواقع، بل كان في مقام الاستهزاء بهم والاستخفاف بعقولهم في اعتقادهم: إن كبيرهم إله مع أنه عاجز عن كسر حتى الأصنام الأصغر منه، أي إنه كان مُنشِأً للاستهزاء بهم، فتأمل.

وبعبارة أخرى: إنهم فهموا من كلامه وحاله أنه لا يقصد حقيقةً أن كبير الأصنام هو الذي كسر سائر الأصنام، بل قصد بيان أن كبير الأصنام حيث يعجز

ص: 60

عن كسر سائر الأصنام وعن أي فعل مشابه فكيف يكون إلهاً؟! وقد عبر عن كل ذلك ب(بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ)، إذاً حيث جعله جسراً إلى إفهام هذا المعنى المعاكس، فقد انعقد للكلام ظهور ثانوي بالقرائن الحافة، على أنه لم يفعله كبيرهم حيث إنه عاجز، وهذا الظهور الثانوي مطابق للواقع، فهو صدق.

الصورة الثانية: التورية مع إقامة قرينة خفية

الصورة الثانية: أن يقيم المورِّي قرينة شخصية خفية(1) - وهنا موطن الإشكال -، فقد يفصل بين صورتي اطلاع العرف على القرينة وعدمه، فإن اطلع فالأمر واضح(2)، وإن لم يطلع فقد يقال: إن وصف من سمع هذا الخبر من العرف ب(أنه قد كذب) هو وصف تعليقي لُبّاً وليس تنجيزياً(3)، فإنهم لو اطلعوا على القرينة الخفية لحكموا بأنه صادق، وحكمهم بالكذب إنما هو لعدم اطلاعهم، فجهلهم بالواقع وبوجود قرينة خفية هو سبب حكمهم بالكذب، وأحكام العناوين بل والعناوين بنفسها لا تدور مدار الجهل بها وبتحققها بل تدور مدارها ثبوتاً.

ولكن قد يشكل على ذلك: أنهم فعلاً وحسب الفرض لم يطلعوا على القرينة، فيبقى مثل ذلك كذباً عندهم، وهم الملاك في صدق عناوين الموضوعات.

وقد يجاب: بأن الأسماء موضوعة لمسمياتها الثبوتية، فالكذب والصدق قد وضعت للمسمى الثبوتي لهما، غاية الأمر أن العرف قد توهم خلاف

ص: 61


1- كما في الخادم خلف الباب، حيث لا يطلع طارق الباب على إشارته التي تحدد مراده.
2- إذ صارت الخفية جلية، ولو بالعارض، فتلحق بالصورة السابقة.
3- فإنهم لم يلتفتوا للمصداق مع تسليمهم بالكبرى.

الواقع، إلا أن ذلك لا يغير من الواقع والحقيقة شيئاً؛ إذ الأحكام تدور مدار موضوعاتها الواقعية لا المتوهمة، فهم قد اسموه كذباً من باب الخطأ في التطبيق، ولذا لو اطلعوا على الواقع ووجود القرينة التي بها ينقلب الظهور إلى ظهور ثانوي، لما عدوه كذباً، وسيأتي الكلام حول ذلك بإذن الله تعالى.

مزيد من التحقيق في الصورة الثانية

ومزيد تحقيق ما مضى وتوضيحه في ضمن المطالب الآتية(1):

الأمر الأول: القرينة الشخصية والظهور كاف في الصدق

قد يقال: بأن المتكلم حيث أقام قرينه شخصية فإن الظهور الثانوي قد انعقد ثبوتاً، وإن كانت هذه القرينة المتصلة الخفية خافية على الآخرين، ومع حصول الظهور الثانوي وانطباقه على الواقع فليس المورد كذباً ثبوتاً، وإن توهم الآخرون أنه كذب.

الأمر الثاني: المدار هو العرف واطلاعهم على القرينة

ولكن قد يشكل على الأمر الأول ب: إن العرف حيث لم يطلعوا على تلك القرينة الخفية فإنهم يحكمون بأن ما قاله كذب والشخص كاذب، والمرجع هو العرف في موضوعات الأحكام.

ولعل إطلاق كلام السيد الوالد (رحمه الله) في مكاسبه يشمل هذا الشق حيث يقول: (المعيار الظهور [ومراده الظهور الفعلي لدى النوع] لا ما قصده المتكلم ولذا لا يعذره العرف إن قال أردت غير المعنى الظاهر

ص: 62


1- وهذه مراحل في البحث ننتقل من مرتيه إلى أخرى على نحو الرأي والإشكال عليه ثم حله وهكذا، وبمجموعها نصل إلى الرأي المنصور.

ويقولون إنه كاذب) - انتهى، فتأمل.

الأمر الثالث: الأسماء موضوعة للمسميات الثبوتية

ولكن قد يستشكل على الأمر الثاني ب: إن الأسماء موضوعة لمسمياتها الثبوتية، وهذه قاعد عامة؛ إذ واضع اللغة قد وضع اللفظ للشيء نفسه تحققاً وثبوتاً، لا أنه وضعه للشيء المتوهَّم.

وعليه: فإن الشخص المتكلم إن أقام قرينة متصلة خفية ففي عالم الثبوت قد انعقد ظهور ثانوي، وهو مطابق للواقع وإن جهله الناس، فهو صدق حقاً.

والحاصل: إن الظهور الأولي أمر ثبوتي مرهون بالوضع، وأما الظهور الثانوي فهو أمر ثبوتي كذلك لكنه مرتهن بالقرينة، وقد أقامها المتكلم، وهي وإن خفيت فهو صادق؛ لأن كلامه بظهوره الجديد الواقعي مطابق للواقع.

الأمر الرابع: وضع الأسماء للمسميات الثبوتية ليس مطلقاً

ولكن يرد على ما ذكرناه في الأمر الثالث - من كون الأسماءموضوعة لمسمياتها الثبوتية -: إن ذلك ليس على إطلاقه؛ ذلك إن الأسماء على نوعين: فبعضها موضوع لمسمياتها الثبوتية، وبعضها موضوع للأعم منها ومن المسامحية، ومن النوع الأول (المتر)، فإنه يساوي مئة سنتمتر، وكذلك (السنتمتر) فإنه يساوي عشرة ملمترات لا غير، وكذلك الحال في (الفيروس) و(المكروب)، فإن عامة الناس وإن كانوا لا يفرقون بينهما علمياً، ولكن الفرق ثابت، وكل اسم قد وضع لمسماه المحدد علمياً.

والجامع: إنه في المصطلحات العلمية تكون الأسماء موضوعة لمسمياتها الثبوتية الدقية.

ص: 63

أما في المصطلحات العرفية: فإن الأسماء موضوعة للأعم، وذلك كما في (الفرسخ) فهو يساوي تقريباً خمسة ونصف كيلو متراً، وقد وضع للأعم من الحد الدقي، وكذلك الحال في (المد) و(الصاع)(1)و(الكر)(2).

ومن ذلك: لفظ (الموت)، فإن الموت العرفي يختلف عن الموت الطبي، فالثاني ملاكه توقف المخ عن العمل وهو ما يسمى ب: (الموت السريري) فإنه يطلق عليه أنه ميت طبياً وإن كان قلبه يعمل، إلا أن العرف يطلق الموت على من تنقطع حركته بالكامل حتى قلبه أيضاً عن النبض(3)، فلا يُسمي العرف من توقّف مخه كاملاً بميت، مع أنه ميت دقةً وعلمياً، لمجرد أن قلبه يعمل آلياً، فتأمل.

وكذلك الحال في مسالة (الحيض) فإن الصفرة التي ترى بعد انقطاع الحيض في اليوم الثامن عند المرأة التي عادتها سبعة أيام مثلاً يحكم الشرع بكونها حيضاً، وإن كانت من الناحية الطبية بل والعرفية ليست كذلك.

والمتحصل: إن الأسماء كثيراً ما تكون موضوعة للأمر غير الدقي عرفاً، فتكون ذات مرونة مفهوماً ومن ثمّ توسعة مصداقاً،ولكنها تارة أخرى: نجدها موضوعة للمسميات الثبوتية الدقية كما في المصطلحات العلمية.

الوضع في المخترعات الشرعية دقي أو مسامحي؟

وأما في المخترعات الشرعية: فهل الأسماء موضوعة لمسمياتها الثبوتية الدقية أو إنها موضوعة للأعم وذات مرونة واتساع(4)؟ وتنقيح هذا في مبحث

ص: 64


1- فإنها ليست بدقة الغرامات بل تشمل ما زاد أو نقص بحّبات بل وأكثر وأقل.
2- فإن الكر بالأشبار المتوسطة وهي تختلف باختلاف الناس.
3- وكذا لو فرضنا توقف قلبه دون مخه فإنه لا يسمى عرفاً ميتاً - والقضية فرضية فحسب -.
4- وإن شئت فقل مطاطية أو رجراجة أو هلامية في الجملة.

الصحيح والأعم، فإن الصلاة لو كانت موضوعة شرعاً للصلاة الصحيحة فقد وضعت للمسمى الثبوتي الدقي، فالصلاة الباطلة لفقد أحد أجزائها أو شرائطها ليست صلاة، وإن أطلق عليها العرف أنها صلاة، فالصحيحي يقول: بأن الدقة هي المعيار والصلاة الباطلة ليست بصلاة؛ إذ الاسم موضوع للمسمى الثبوتي المطابق للواقع، وأما الأعمِّي فيذهب إلى: أن الصلاة الباطلة أو الناقصة صلاة وإن كانت غير صحيحة، بل البحث جارٍ في أن إطلاق الصلاة على الفاقدة لغير الأركان لعذر، دليل على أنها موضوعة للأعم من واجدة جميع الأجزاء والشرائط، فالوضع إذاً اتساعي أعم.

تسامح العرف في تحديد حتى الموضوعات الدقية

هذا من جهة، ومن جهة أخرى: فإنه وإن كان الاسم موضوعاً للمسمى الثبوتي الدقي، إلا أن العرف رغم ذلك يتسامحون في الانطباق أحياناً فمثلاً الكيلو غرام يساوي ألف غرام دقة وهو موضوع له لا للأقل أو الأكثر منه، إلا أن العرف لو كان الوزن 999 غرام أو أقل أو أكثر يسمونه كيلواً عند الشراء من البقال وغيره، وقد يقال إن تسميته كيلواً ليست بمجاز بعلاقة الكل والجزء، بل هو حقيقة عندهم لذا لا تجدهم يُعملون العناية، ولعله منقول عندهم للأعم، بوضع تعيّني, فتأمل.

نعم لدى شراء الأمور الثمينة - كالذهب وغيره - يستخدمونالكيلو بالمعنى الأخص ولا يرتضون المسامحة أبداً.

يبقى أن المشهور ذهبوا إلى أن العرف هو المرجع في تحديد المفاهيم، فإنهم الملقى إليهم الكلام، لا المصاديق بعد تحديد المفهوم فإن تحديدها دقي حسب

ص: 65

المشهور، نعم ذهب السيد الوالد (رحمه الله) إلى مرجعيته في كلا الأمرين بدعوى أن هذه هي مقتضى الطريقة العقلائية في المحاورات والإفهام والتفهم ومقام العطاء والامتثال - وتحقيقه في مظانه.

صغرى البحث: هل المدار في الصدق والكذب على العرف أو على تعريفهما الدقي؟

وفي صغرى بحثنا نقول: إن المشهور عرفوا الصدق بمطابقة ظاهر القول للواقع، وعرفوا الكذب بعكسه، فلو فرض أن العرف استظهروا ذلك، فهل العناوين نظير الكذب والصدق موضوعة لمسمياتها الثبوتية الواقعية الدقية عندهم؟ فإذا كان كذلك فإن الظهور الثانوي ينعقد ببركة القرينة حتى الخفية، فتكون التورية مع القرينة الخفية صدقاً.

ولكن لو قلنا: بأن عناوين الكذب والصدق وأشباهها موضوعة للمعنى المسامحي، فإذا وجد العرف الكلام من غير قرينة عليه فإنه يحكم عليها بالكذب، وإن كانت لها واقعاً قرينة خفية فهو يتسامح في إطلاق الكذب عليها.

أو يقال: إنه يطلق عليه مع احتماله وجود القرينة الخفية، الكذب؛ إذ لا يرى أن الظهور الثانوي قد انعقد، فتأمل(1).

وقد يقال: إن الأمر لا يدور مدار كون الوضع دقياً أو مسامحياً، بل يدور مدار كونه ثبوتياً أو إثباتياً، أي أن الكذب وشبهه موضوع للكذب الثبوتي عندهم أو للأعم من الإثباتي، أي ما هو لدى النوع من السامعين كذلك، وقد يقال: إن تسامحهم هو في ذلك، فتأمل.

ص: 66


1- إنه قد يقال بأن إطلاقه عنواناً كالكذب مع احتمال القرينة إنما هو بعد إجراء الأصول العدمية العقلائية. فتأمل.

وقد يقال: في مقابل ذلك أنه لو علم إجمالاً بوجود قرينة خفية لميطلق عليه الكذب بل يراه مجملاً، فتأمل(1).

وملخص الكلام: إنه في موضوعات أحكام الشارع هل الملاك صدق عنوانها عرفاً أو المدار صدق تعريفها دقةً؟ ففي: (الصدق والكذب)، هل المدار تعريفهما والتدقيق في (الظهور) وأن المراد منه الظهور الواقعي أو التنجيزي أو التعليقي - على ما سياتي في الأمر السادس -؟ أو إن المدار هو الرجوع إلى الذهن العرفي وارتكازه وفهمه لمفردة الصدق والكذب، وبغض النظر عن تعريفهما؟ فإنه قد يقال: لا حاجة للتعريف، والمدار على عنوان الصدق والكذب بنفسهما وصدقهما وعدمه لدى الذهن العرفي على التورية مثلاً؟

والظاهر أن المرجع هو صدق العنوان حسب الارتكاز العرفي لا تعريفه الدقي، اللهم إلا إذا اختلف العرف أو تحيروا فيكون المرجع هو التعريف والتدقيق ككاشف نوعي عن الارتكاز الفطري، وقد يقال: إن العرف متحيرون أو مختلفون في صدق عنوان الكذب على التورية، ولكن بما سبق من الكلام وما سياتي قد يجلي الغمة عن ذلك، والله العالم.

الأمر الخامس: المدار على مقبولية العذر عقلائياً

الأمر الخامس: المدار(2) على مقبولية العذر عقلائياً

إن العرف قد يفصل بين صورتين تندرجان في نوعين مختلفين، فكلما رأى العذر في التورية عقلائياً، كان ذلك مقبولاً عندهم منقحاً للموضوع فيصفونه

ص: 67


1- لوجوه، سيتضح بعضها في مطاوي المطالب القادمة. ومنها: إنه على كلا القولين - الوضع للمسميات الدقية، أو المسامحية - فإنه يمكن القول بكلتا النتيجتين المتعاكستين (إنه كذب، أو ليس بكذب)، على حسب التحقيق في الظهور الفعلي والمنجر والإثباتي والثبوتي، وغيرهما مما سبق.
2- أي المدار في صدق العنوان.

بالصدق، وأما لو كان العذر غير عقلائي، فإنهم ينعتونه بالكذب، مما يعني أإن للمعذرية وعدمها دخلاً في تنقيح الموضوع والصدق وعدمه عندهم، ولعل في المثالين التاليين ما يؤيد ذلك:

المثال الأول: لو قال الشخص عند سؤاله عن والده وأنه هل هوفي الدار؟: (ليس ههنا)، مشيراً إلى مكان معين لم يكن والده فيه فعلاً، وكان موجوداً في مكان آخر من الدار.

المثال الآخر: لو سأل أحدهم صاحبه قائلاً: كم كتاباً اشتريت؟ وكان قد اشترى خمسين كتاباً فأجابه: بأنه قد اشترى مئة كتاب ثم خفض صوته وقال: إلا تسعة وأربعين بحيث لا يسمعه الآخرون، وربما من ذلك أن أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه رفع صوته في معركة صفين قائلاً: (لأقتلن معاوية) ثم قال: (إن شاء الله) بصوت خافض ثم علل ذلك بأنّ عِلم الجيش بصدق أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في كلامه يبث روح الحماسة والتشجيع فيهم فيندفعون للقتال بقوة أكبر، ولا يرى العرف مثل ذلك كذباً، ولو فرض فهو استثناء من حرمته للأهم القطعي.

فقد يقال: بأن العرف يحكم عليه بأنه قد كذب في المثال الثاني دون الأول، وإن اطلع بعدها على إقامتهما القرينة الخفية.

لكن الظاهر أن العذر العقلائي دخيل في الحكم لا الموضوع.

وقد يناط الأمر بالبحث اللاحق وهو:

الأمر السادس: هل الظهور تنجيزي أو تعليقي أو واقعي؟

هل الملاك في الظهور هو: الظهور الفعلي التنجيزي أو الظهور التعليقي؟

ص: 68

فإن من أقام القرينة الشخصية الخفية ولم يطلع عليها النوع، فليس لكلامه ظهور فعلي لدى السامعين، فإن الظهور الثانوي لم ينعقد عندهم لعدم علمهم بهذه القرينة، ومعه فلو قلنا: بأن الملاك في الصدق أو الكذب هو الظهور الفعلي، ولا ظهور فعلي لدى النوع، فهذا الكلام المورّى به(1) سيكون كذباً، وأما لو قلنا: بأن الملاك هو الظهور التعليقي، أي إنهم لو اطلعوا على حالة المتكلم وما أقامه من القرينة لوجدوا الظهور الثانوي تاماً منعقداً، فحينئذٍ يكون الكلام مطابقاً بظهوره الثانوي للواقع فيكون صدقاً. فأيهما هو الملاك في الظهور؟

وجوابه: إن الحق - ظاهراً - هو إن الظهور لا هو تعليقي ولا تنجيزي، وإنما الظهور الذي هو الملاك في الحكم بالصدق أو الكذب هو الظهور الواقعي، وهو المقسم لهما وعليه المدار وإليه المرجع(2).

توضيح ذلك: إن الظهور صفة قائمة باللفظ نفسه(3)، فإن حال الظهور كحال النص، فكما أن النص صفة للفظ نفسه كذلك الظهور، وعليه فلابد من أن نلاحظ اللفظ بما هو هو وأن نرى هل هو ظاهر أو لا؟

وبتعبير آخر: هناك لفظ ولافظ ومتلفظ له، فهل الملاك في الظهور هو المتكلم - اللافظ - أو السامع - المتلفظ له -؟ وجوابه: إن الملاك لا هذا ولا ذاك، بل الملاك في الظهور هو حال اللفظ نفسه بما هو هو، نعم منشؤه إما الوضع على رأي أو ذات اللفظ نفسه على رأي آخر، والحق الأول، نعم على مسلك التعهد فقد يقال: إن الملاك في الظهور هو اللافظ نفسه، فتأمل.

ص: 69


1- في مثل ما لو قال ليس أبي هنا مشيراً إلى نقطة خاصة، من وراء الباب.
2- فليس قسيماً لهما كما لعله يتوهم من ظاهر العبارة آنفاً. فتدبر
3- بسبب الوضع مع العلم به.

نعم اللفظ بما له من ظهور ذاتي، له إضافة إلى السامع والمتكلم، إلا أن هذه الإضافة ليست مقوماً ذاتياً للظهور نفسه، فهو كالأبوة بالنسبة إلى زيد حيث إنها صفة عارضة له وإضافية وليست مقوّمة لذاته، عكس المضاف الحقيقي.

وبعبارة أخرى: هناك اقتضاء في اللفظ للدلالة على المعنى، وهذا الاقتضاء تارة يكون طارداً للمعاني الأخرى طرداً تاماً فهو نص، وتارة أخرى لا يكون طرده لها تاماً، بل تبقى محتملة أيضاً فهو ظاهر، وتارة أخرى لا يكون للفظ اقتضاء ذاتي كالمجمل(1).

والمتحصل: إن الظهور نحوٌ وكيفية في اللفظ لو اطلع عليها السامع لغلب على ظنه إرادته، أو فقل: إن الظهور صفة في اللفظبحيث يقتضي لذاته(2) انتقال السامع إلى المعنى لو علم بالوضع أو القرينة فيكون له إضافة للسامع، إلا أنها غير مقومة لذاته كما هو الحال في العام فإنه ظاهر في العموم وضعاً، ولا دخل لفهم السامع أو السامعين وعدمه فيه.

وعليه: فإن الملاك سيكون مطابقة الظهور اللفظي الواقعي للخارج والواقع.

وتظهر النتيجة في التورية التي اقترنت بقرينة خفية فإنها صدق على هذا؛ لأن الظهور الواقعي الثانوي متحقق بوجود القرينة وهو ما نجده في التكوينيات أيضاً؛ فإن السهم ذاتيّة الإشارة إلى جهة، ولكن تارة: يكون اتجاه السهم نفسه مشوشاً وغير واضح لذاته كما لو طمست ملامحه فهذا كالمجمل، وتارة أخرى:

ص: 70


1- وينقسم إلى مجمل ذاتي وعرضي: أما الذاتي فكما في المشترك اللفظي وأما العرضي فكما لو لم يكن اللفظ بنفسه مجملاً إلا أنه بلحاظ وضع السامع والمتكلم تحول إلى ذلك. ولهذا تفصيل وأخذ ورد يترك لبحث المجمل والمبين.
2- أي بعد وضعه، على الرأي المنصور.

يكون اتجاه السهم واضحاً بنفسه إلا أن العين لا تميزه لعدم وضوح في رؤيتها له لظلام أو غشوة أو شبه ذلك، والجهل إثباتاً لا يغير من الواقع الثبوتي شيئاً.

ومنه يظهر: إن الظهور في حد ذاته واقعي، وأما منسوباً إلى السامع فتعليقي، ولعل اختلاف وصفه بالصدق والكذب بالنظر إلى الجهتين، فتأمل.

كلمات بعض الأعلام في الظهور

رأي الشيخ الطوسي (رحمه الله) في العدة

أما الشيخ الطوسي (رحمه الله) فإنه ارتأى في كتابه (العدة) خلاف ما استظهرناه، قال: (الظاهر: ما يظهر المراد به للسامع)(1)(2)، على أنه قد يقال: إن مفاد عبارته أعم من الفعلية والشأنية، وإن كان ظاهر الأفعال الفعلية، فتأمل.

رأي المحقق الآخوند (رحمه الله) في الكفاية

وأما الآخوند (رحمه الله) فإنه ذكر في بحث المجمل والمبين ما ظاهره مقارب أو مطابق للرأي(3) المنصور قال: (فما ليس له ظهور، مجمل وإن علم بقرينة خارجية ما أريد منه)(4)

وظاهره: إن الإجمال في اللفظ إجمال ذاتي لا يرتبط بفهم السامع والقرائن المحتفة، مثاله قوله تعالى:(وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ)(5)

ص: 71


1- عدة الأصول: ج1 ص408.
2- وقد ذكر ذلك الشيخ (رحمه الله) في بحث العام والخاص وكذلك في آخر العدة قد أشار إليه وهذه كانت نص عبارته في آخر العدة.
3- ( مقارب أو مطابق )، فتأمل جيداً.
4- الوصول إلى كفاية الأصول:ج 3 ص270.
5- سورة البقرة: 228.

فإن القرء مشترك لفظي وهو من المجملات، وعليه فلو علمنا من القرائن الخارجية والروايات المراد من القروء، وأنه ثلاثة أطهار فرضاً، فإن المجمل لا ينقلب مبيناً؛ إذ إن الإجمال كما قلنا صفة ذاتية أي ما ليس له ظهور في حد ذاته فهو مجمل.

والظاهر: إن مقصوده أنه مجمل في مرحلة الإرادة الاستعمالية لا الجدية، ولذا لا يرتفع إجماله بمعرفة مراده؛ إذ معرفة المراد في مرحلة الإرادة الجدية لا ربط له بمرحلة الإرادة الاستعمالية، وذلك يؤكد كون الظهور كقسيميه - الإجمال والنص - أمراً قائماً باللفظ نفسه، وإن أمكن توجيه عكسه.

ثم قال: (كما إن ما له الظهور مبين وإن علم بالقرينة الخارجية أنه ما(1) أريد ظهوره وأنه مؤوّل)(2)، ومثاله قوله تعالى:(يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم)(3) فاللفظ مبين وإن كنا بالقرينة الخارجية القطعية نفهم أن المراد من اليد هي القدرة والقوة، فهذا المبين مؤوّل ولكنه في حد ذاته مبين وظاهر في اليد، وإن كان مراده تعالى ليس الظاهر من اليد وذلك للقطع بأن الله تعالى ليس بجسم.

والحاصل: إن الظهور قائم باللفظ لا بالقرائن. كما ذكره، ونقول: وهو قائم باللفظ لا بالسامع.

رأي المحقق القمي (رحمه الله)

وأما المحقق القمي (رحمه الله) فإنه في قوانينه يرى أنّ اعتبار الظهورات مقصور على من قصد إفهامه من الكلام(4)، وخالفه المشهور، ولعله يفهم منه قيام

ص: 72


1- (ما) هنا نافية
2- الوصول إلى كفاية الأصول: ج3 ص270.
3- سورة الفتح: 10.
4- قوانين الأصول: ج 1 ص 398 - 403/ ج 2 ص 103.

الظهور بالسامع لا اللفظ، لكن المستظهر من كلامه الكلام عن حجيتها من باب الظن الخاص او الانسداد، لا عن أصل وجوده.

تفصيل الميرزا النائيني (رحمه الله)

ونذكر هنا تفصيلاً للشيخ النائيني (رحمه الله)(1) في تحليل البحث حيث ذهب إلى(2): أن الغرض يكون تارة الكشف عن الواقع أي واقع مراد المتكلم وما تعلقت به الإرادة النفس أمرية؛ إذ الألفاظ ومنها الظواهر تستعمل للإيصال إلى المرادات والكشف عنها.

وتارة: يكون الغرض الاحتجاج على المتكلم بظاهر كلامه، كما في باب الإقرار فإن شخصاً لو أقر على نفسه فقال: إنني مدين لزيد بمئة دينار، فإن العرف والعقلاء يأخذون بظاهر الكلام، وهذا الظاهر يلزم به ويحتج عليه من خلاله؛ لأن إقرار العقلاء على أنفسهم حجة، والمتحصل: للظهور غرضان - بحسب الميرزا - الكشف عن الواقع والاحتجاج(3).

والحاصل: إن الظواهر حجة نوعية على المتكلم والسامع، ولكن لو احتمل وجود قرينة على خلاف هذا الظاهر النوعي، فهل هذه الظواهر حجة أو لا؟ فالعام مثلاً حجة نوعية وظاهر في العموم نوعاً، ولكن لو احتمل وجود قرينة على أن العام ليس بمراد، من دون دليل له على التخصيص، فهل يسقط

ص: 73


1- منية الطالب: ج2 ص203.
2- راجع فوائد الأصول: ج4 ص718. علماً بأن كلامه في اتجاه آخر فلاحظ، وقد نقلنا كلامه بتصرف.
3- الأغراض أكثر من ذلك وقد ذكرنا عدداً منها في كتاب (الحجة معانيها ومصاديقها) في ضمن المعاني العشرة للحجة، فلاحظ.

العام عن حجيته فيالعموم؟ ويجيب الميرزا: بأن لا بد من معرفه المعنى المراد من الحجة؛ فإن أريد من (الحجة) (الكاشف عن الواقع)، كان احتمال وجود القرينة مسقطاً للظهور عن الحجية فلا يكون الظاهر حجة إلا مع إحراز عدم القرينة ولو بالأصل؛ إذ مع وجود احتمال كهذا فإنه لا يكون الظاهر كاشفاً عن الواقع(1)، وان أريد من قولنا: (الظاهر حجة)، انه مما يحتج به العقلاء على الآخر، فالاحتجاج هنا ثابت، والمقابل محجوج، حتى مع احتمال وجود قرينة على الخلاف من دون توقف على نفيها.

التفريع على تفصيل الميرزا النائيني (رحمه الله)

وقد يبنى على ما قاله الميرزا النائيني (رحمه الله) من تفصيل في معنى الحجة فيقال: إن المورِّي لو أقام قرينه خفية وكنا نحتمل أنه قد أقامها، فلو كان البحث في كاشفية كلام المورِّي عن واقع مراده، فإنه مع احتمالنا إقامته قرينة خفية لا يكشف كلامه عن الواقع، فلا بد من نفي القرينة ولو بالأصل، فلو لم يجر الأصل لسبب ما - كالتعارض - فلا يكشف عن مراده فلا يكون كذباً لو لم يطابقه إن كان البحث عن كونه كذباً من هذه الجهة، وأما لو كان البحث عن مقام الاحتجاج، فإنه يمكن أن يحتج على المورِّي ويقال له: إن ظاهر كلامك كان كذا، ولم تظهر لنا القرينة على الخلاف، فكلامك ملزم لك في باب الإقرار والشهادة وغيرها، وإن كان مرادك غير ذلك، ودعواك إقامة قرينة خفية مجرد دعوى(2) والأصل عدمها، فتترتب الآثار على ظاهر قوله، ومنها: كونه كذباً،

ص: 74


1- أي واقع مراده.
2- نعم لو أقام دليلاً على دعواه وجود قرينة خفيّة حينذاك على كلامه، فإنه يدخل في بحث آخر في مسألتي إنكار الإقرار وثبوت الكذب في إقراره وعلم القاضي بذلك ومقتضاه وقد يفكك حينئذٍ بين الأحكام الظاهرية كما فصلناه في مبحث آخر.

وسقوط عدالته به.

فلو قال المورِّي: بأن هذه المرأة قد زنت وكان مراده من ذلك زنا العين فقط، ولم يقم القرينة على ذلك، فإنه يعاقب لقذفه، وإن قال: إني كنت أقصد زنا العين دون المعنى المعهود، وكان قد أقام قرينة خفية على مراده حينذاك، لم يُجدِه أيضاً.والحاصل: إن المدار في الأحكام الشرعية الظاهرية؛ ومنها: سقوط عدالته بكذبه، ومنها: حده أو تعزيره، إنما هو على الظاهر العرفي، وأما كونه صدقاً أو كذباً ثبوتاً، فإنه لا ينفعه إلا في جهة معرفة أنه حرام شرعاً في حد نفسه أم لا.

ولكن قد يقال: إن جهة البحث هي كون التورية صدقاً أو كذباً، وأما صحة الاحتجاج عليه بكلامه أو كاشفيته عن مراده، فهما جهتان لاحقتان إضافة إلى النقاش في مبنى كلام الميرزا بأن هناك قسيماً ثالثاً لم يذكره الميرزا وهو كون الغرض استخراج الواقع الثبوتي الذي يحكي عنه الكلام (لا واقع مراد المتكلم) وعمدة الأخبار تدور على هذا، وعلى أي يترك تفصيله لمحله.

الصورة الثالثة: التورية مع عدم إقامة القرينة

أما الصورة الثالثة(1) من القسم الرابع(2)، وهي ما لو تكلم المورِّي بكلام ولم يقصد ظاهره مع عدم إقامة قرينة نوعية أو شخصية خفية، بل اقتصر على صِرف الإشارة الذهنية إلى مراده، كما لو قال: بأن أباه ليس هنا ولم يقم على ذلك إشارة حسية شخصية أو قرينة نوعية على أن المراد هو البقعة الخاصة التي

ص: 75


1- الصورتان الأوليتان هما: ما لو أقام قرينة نوعية خفيت على السامع، أو أقام قرينة شخصية خفية.
2- من أقسام التورية وهو: ما لو ورّى بالظاهر عن الباطن وستره به.

قصدها لا المنزل، والظاهر: أن ذلك كذب؛ إذ الظهور الثانوي لم ينعقد، والظهور الأولي غير مطابق للواقع.

لا يقال: القرينة الذهنية تخرج الكلام عن كونه كذباً؛ إذ قصد المتكلم غير الظاهر من الكلام.

إذ يقال: إن قرائن عالم الذهن لا تصلح مقيدات ومخصصات لعالم الألفاظ والظواهر، ولا تصنع للألفاظ ظهوراً ثانوياً على خلاف ظهوره الأولي.

وعليه: فلابد من إقامة قرينة لفظية حالية مقامية أو مقالية خارجية حتى ينعت الكلام بالصدق نظراً لمطابقته بظهوره الثانويللواقع ،وإلا فإنه كذب.

الحكم في صورة الشك في صدق الكذب على التورية

ثم إنه إذا شك الفقيه في إن التورية - موضوعاً - هل هي صدق أو كذب؟ أو شك في خصوص صورة وجود القرينة الخفية في إنها كذب أو لا؟ فما هو المرجع؟

الظاهر: إنّ المرجع أصالة الإباحة، فإنه لا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية (أي ل: الكذب حرام)، فلو شك في أن التورية مطلقاً أو فيما لو أراد المتكلم خلاف الظاهر وقد أقام القرينة الشخصية الخفية، هل هي كذب أو لا فلا يمكن أن نتمسك بإطلاق أدلة حرمة الكذب لا ثبات حرمة التورية؛ فإن كون هذا مصداقاً لموضوع الحكم لابد أن يكون محرزاً كيما يترتب عليه الحكم الثابت لموضوعه؛ إذ الحكم لا يثبت موضوعه، وستأتي تتمة للكلام آخر البحث.

ص: 76

المحور الرابع: وجوه تجويز التورية على القول بأنها كذب

اشارة

بعد الكلام عن التنقيح الموضوعي للتورية، ينتقل البحث إلى التنقيح الحكمي، فإنه حتى لو قيل: بأن التورية كذب كما عليه غير المشهور، لكن قد يقال: بأنه يمكن التفصي عن حرمة التورية بأحد وجهين:

وجهان للتفصي عن حرمة التورية

الوجه الأول: دعوى عدم شمول ادلة حرمة الكذب للتورية، بدعوى عدم تحقق إطلاق لها، لتشمل التورية مطلقاً أم في خصوص ما إذا أقام قرينة نوعية أو شخصية.

الوجه الثاني: الاستدلال بالآيات والروايات المجوزة لخصوص التورية، ووقوعها من المعصومين (عليهم السلام) كالنبي إبراهيم (عليه السلام).

ومرتبة الأمرين متأخرة عن مرتبة البحث الموضوعي وأن التورية كذب أم لا، كما لا يخفى.

الوجه الأول: عدم شمول إطلاقات أدلة حرمة الكذب للتورية

وههنا ثلاثة وجوه لإخراج التورية - بعد فرض كونها كذباً موضوعاً - من عموم أدلة حرمة الكذب، وذلك باللجوء إلى نتائج مباحث المطلق والمقيد في الأصول، حيث إنهم ذكروا أن الإطلاق لا ينعقد إلا بمقدمات ثلاث - على المشهور(1) -، وهي:

ص: 77


1- المشهور هو إنها ثلاث مقدمات، ولكن البعض جعلها أربعة، بينما البعض الآخر أرجعها إلى مقدمتين.

المقدمة الأولى: أن يكون المولى في مقام البيان لا في مقام الإهمال والإجمال.

المقدمة الثانية: أن لا يكون في المقام قدر متيقن(1).

المقدمة الثالثة: أن لا تكون هناك قرينة على الخلاف.

ومع توقف انعقاد الإطلاق على هذه المقدمات، فإنه يمكن الاستناد إلى أحد وجوه ثلاثة لإخراج التورية عن دائرة حرمة الكذبحتى مع قبول دخولها موضوعاً في الكذب، وذلك كله بعد فرض تسليم وجود ولو دليل واحد - من الآيات والروايات - على حرمة الكذب بقول مطلق، إذ الأدلة اللبية من ضرورة وغيرها لا إطلاق لها، والآيات والروايات قد جرى الكلام حولها في كتاب الكذب موضوعاً وحكماً، فراجع.

1. عدم كون المولى في مقام البيان من هذه الجهة

ويبتني هذا الوجه على نفي المقدمة الأولى من مقدمات الحكمة بأن يقال: إنه لا إحراز لكون المولى في مقام البيان من هذه الجهة، وفي مقام بيان الشمول حتى للتورية، أو حتى للتورية التي معها قرينتها الخفية الشخصية - على المحتملين -.

وبتعبير آخر: لابد من إحراز تحقق لحاظ المولى لهذه الصورة الخفية عند إطلاقه كلامه، لكن هذه الصورة(2) لا تخطر بالبال عادة، إلا بعد التدقيق والبحث والنظر، فلا إحراز لكونه في مقام البيان من هذه الجهة.

وقد يقال: إن ما ذكر مستلزم لإسقاط كافة المطلقات؛ إذ في كل مطلق يمكن أن يقال: بأنّا لا نعلم أن المولى في مقام البيان من هذه الجهة.

ص: 78


1- وحسب المحقق الآخوند (رحمه الله): أن لا يكون هناك قدر متيقن في مقام التخاطب.
2- التورية مع القرينة الخفية، أو مطلق التورية.

وقد يجاب: بأن الجهات مختلفة، وهي على درجات؛ لكونها من الحقائق التشكيكية، فبعضها ظاهرٌ كونها تحت دائرة الإطلاق، وهي الحاضرة في الذهن عادة عند الإطلاق أو بأدنى التفات أو لكونها مورد السؤال عادة أو شبه ذلك، وهذه لا شك إنها مشمولة للإطلاق، إلا أن هناك جهات أخرى خفية تحتاج إلى عناية والتفات خاص عند ذكر لفظ المطلق لو أراد الشمول لها، كما هو الحال في عموم الكذب للتورية مطلقاً أو عمومه لخصوص التورية مع إقامة القرينة الشخصية الخفية، إذ ربما يقال: بأن التورية على إطلاقها مورد السؤال عادة أو هي مما يلتفت إليه بأدنى التفات دون خصوص هذه الصورة.

ويوضحه: أن المولى لو قال: (البيع حلال) فإن البيوع الحاضرة في الذهن العرفي المتداول يشملها هذا الإطلاق، فلا مجال للإشكال بأنه لا يعلم أن المولى في مقام البيان من جهة بيع السلم ،إذ يجاب: بأن هذا الباب لو فتح لا نغلق باب المطلقات كله، وذلك على عكس الجهات الخفية البعيدة عن الأذهان العرفية.

ولكن قد يقال: إنه ليس الكلام عن الموالي العرفية كي يحتمل عدم خطور هذه الجهة أو تلك بباله، نعم يتصور عدم كون مولى الموالي في مقام البيان من هذه الجهة أو تلك، لعدم كون هذه الجهة مورد الابتلاء حتى في دائرة القضية الحقيقية، أو لكون مصب غرضه أمراً آخر أو ما أشبه، فتأمل.

2. وجود قدر متيقن للكذب

ويعتمد الوجه الثاني على نفي المقدمة الثانية من مقدمات الحكمة وهي: أن لا يكون هناك قدر متيقن، فإن القدر المتيقن من حرمة الكذب موجود و هو غير التورية.

ولكن يرد عليه مبنىً: إنه ما من مطلق إلا وله قدر متيقن مما يستلزم

ص: 79

اشتراط عدم وجود القدر المتيقن إسقاط كل المطلقات عن إطلاقها وحجيتها، فمثلاً في (أحل الله البيع) فإن القدر المتيقن من البيع المحلل هو ما كان بالعربية، وبصيغة الماضي، وما سبق قول (بعتُ) فيه على اشتريت ... الخ، وكذلك لو قال المولى: أكرم العالم، فإن القدر المتيقن هو العالم العامل الورع التقي وهكذا، والحاصل: إن القدر المتيقن الخارجي هو أكمل المصاديق فقط.

والمتحصل: إن توقف الإطلاق على هذه المقدمة مما لا يمكن الالتزام به على المنصور، بل لعله على المشهور أيضاً.

المحقق الآخوند (رحمه الله): المخلّ ب(الإطلاق) القدر المتيقن في مقام التخاطب

ولعله لأجل ذلك عدل الآخوند (رحمه الله) إلى القول: بأن الذي يخلّ بالإطلاق ليس صرف وجود القدر المتيقن؛ إذ ما من شيء إلا ولهقدر متيقن - وهو الفرد الأكمل(1) -، وإنما الذي يخلّ بالإطلاق هو القدر المتيقن في مقام التخاطب والخطاب(2)، فإن القدر المتيقن تارة: يكون من جهة متعلّق الخطاب، وأخرى: يكون من جهة الخطاب نفسه وبما احتف به، ووجود القدر المتيقن لمتعلق الخطاب ومنه الفرد الأكمل لا يخلّ بالإطلاق، وأما القدر المتيقن الناشئ من مقام الخطاب والتخاطب فإنّه الذي قد يقال: بأنه يقتضي صرف المطلق إلى حصة خاصة، وهو على القاعدة؛ لأن مقام التخاطب قد يعطي وجهاً للكلام فينثلم به الإطلاق، ولا أقل من كونه من محتمل القرينية المتصل، ومعه لا ينعقد الإطلاق.

ص: 80


1- وقد يكون غيره، وكونه متيقناً لمناسبات الحكم والموضوع أو لغير ذلك.
2- تصور البعض أن الآخوند (رحمه الله) اعتبرها مقدمة رابعة، وفي تصورنا أنها نفس المقدمة الثانية إلا أنه فصل بذكر القيد. وذلك حسب ما استظهرناه من كلامه.

ويوضحه ما ورد في موثقه ابن بكير قال: (سأل زرارة أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر. فأخرج كتاباً زعم أنه إملاء رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم): «أن الصلاة في وبر كل شيء حرام أكله فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وألبانه وكل شئ منه، فاسدةٌ، لا تقبل تلك الصلاة حتى تصلي في غيره مما أحل الله أكله»)(1)، فإان المقصود من (كل شيء حرام أكله) هو الحيوانات محرّمة الأكل، ولكن هل يشمل ذلك الإنسان أيضاً؟ فإن الإنسان حرام اللحم كذلك، هنا يقال: إن الدليل منصرف عن هذه الحصة؛ لأن (محرم اللحم من الحيوان) هو القدر المتيقن في مقام التخاطب فإنه مورد الأنس الذهني للسامع والمتكلم حين السؤال، دون الإنسان.

والمتحصل: إن القدر المتيقن النابع مما احتف بالخطاب نفسه هو الذي قد يخل بالإطلاق.

وأما في صغرى البحث - أي التورية -: فقد يدعى صحة التمسك بهذا الوجه؛ لأن الإمام (عليه السلام) عندما قال مثلاً: (الكذب حرام)، فإن القدر المتيقن في مقام التخاطب هو: بيان إحدى المحرمات التيهي من القبائح الشديدة القبح، وليست التورية منها، أو لا يعلم أنها منها؛ لوقوع الخلاف فيها، وهذه قرينة في مقام التخاطب تفيد صرف الكذب إلى غير التورية، بل - وكما سبق - فإن احتمال كونها قرينة في مقام التخاطب مخل بالإطلاق؛ لأنه من محتمل القرينية المتصل، فتأمل.

3. وجود القرينة الموجبة للانصراف

ويبتني الوجه الثالث على نفي تحقق المقدمة الثالثة من مقدمات الحكمة

ص: 81


1- الكافي: ج3 ص397.

بدعوى: وجود القرينة على الخلاف الموجبة لانصراف الإطلاق عن التورية أي إلى خصوص الكذب غير التورية، وذلك لا لكثرة الوجود؛ إذ التورية كثيرة الوجود أيضاً إضافة إلى أن كثرة الوجود غير موجبة للانصراف، وإنما لكثرة الاستعمال الموجبة للأنس الذهني بين الكذب وخصوص ما عدا التورية؛ فإن الكذب عادة يستعمل في غير التورية، ومعه فنحكم بانصراف الحرمة عنها، ولا يخفى التأمل فيه كسابقه وسيأتي في آخر البحث الكلام عن الانصراف بوجوهه الخمسة.

الوجه الثاني: الاستدلال بالآيات والروايات على جواز التورية

الوجه الثاني: الاستدلال بالآيات والروايات على جواز التورية(1)

استدل الشيخ الأنصاري (رحمه الله) في مكاسبه على الجواز بالروايات المتضمنة للآيات الشريفة، وتبعه الأعلام على ذلك، فلم يبحث عن الآيات كدليل مستقل، إلا أن الذي كان ينبغي هو أن يبتدئ بالاستدلال بالقران الكريم، ثم يستدل بالروايات، وهذا ما جرى عليه الشيخ (رحمه الله) في الخلاف في مبحث الحيل الشرعية، وقد جرينا عليه أيضاً.

والفرق بين المنهجين: إنه لو خدش في استدلال الشيخ الأنصاري (رحمه الله) بالروايات التي تذكر الآيات وتوضحها وتكمل وجهالاستدلال بها، بدعوى: ضعفها سنداً أو دلالةً، لما بقي الاستدلال بالآيات، أو لما اتضح وجهه على الأقل، عكس منهج الشيخ الطوسي (رحمه الله)، هذا إضافة إلى التقدم الرتبي للآيات الكريمة.

ص: 82


1- وسيأتي أن بعض الروايات استدل بها على خروج التورية موضوعاً عن الكذب فإن تمّ فهو وإلا كانت دليلاً على خروجها حكماً، هذا بعد الفراغ عن تمامية السند والدلالة، وسيأتي.

الدليل الأول: قول إبراهيم (عليه السلام): (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ)

أما الدليل الأول على جواز التورية فهو: ما ذكره تعالى على لسان إبراهيم (عليه السلام) في تكسيره الأصنام، وهو ما استدل به الشيخ الطوسي (رحمه الله) في الخلاف قال: (الحيل في الأحكام جائزة وبه قال جميع أهل العلم، وفي التابعين من منع الحيل بكل حال، دليلنا على جوازها [أي الحيل الشرعية] قوله تعالى في قصة إبراهيم (عليه السلام): (قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ)(1) فأضاف كسر الأصنام إلى الصنم الأكبر، وإنما قال هذا على تأويل صحيح، بأن قال: إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم، فإذا لم ينطقوا فاعلموا أنه ما فعله تنبيها على أن من لا ينطق ولا يفعل لا يستحق العبادة الألوهية، وخرج الكلام مخرجاً ظاهره بخلافه)(2).

وجه التورية: إن إبراهيم (عليه السلام) قد نسب - في ظاهر كلامه - كسر الأصنام إلى الصنم الأكبر وهذا مخالف للواقع؛ إذ إن الصنم الأكبر لم يكن هو الكاسر لبقية الأصنام، فتكون الآية - أي كلام إبراهيم (عليه السلام) - من مصاديق التورية؛ إذ واقع الآية هو أنها ترجع إلى قضية شرطية هي: (إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم، لكن بما إنهم لا ينطقون فلم يفعله كبيرهم)، فليس الظاهر (وهو بل فعله كبيرهم) مراداً، هذا حسب الشرطية التي ذكرها الشيخ الطوسي (رحمه الله)، وسيأتي أن هناك وجهاً أفضل في بيان الشرطية لا يرد عليه ما قد يورد على شرطية الشيخ (رحمه الله)، كما توجد وجوه عديدة لتفسير هذه الآية سيأتي ذكرها إن شاء الله.

ص: 83


1- سورة الأنبياء: 62.
2- الخلاف: ج4 ص490.

واذا ثبت كون كلامه تورية، فيدل على جوازها، لدلالة فعل المعصوم على جواز الفعل بالمعنى الاعم، كما لا يخفى.

إشكال وجواب على صياغة الشيخ (رحمه الله) للشرطية

إلا أن كلام الشيخ (رحمه الله) وصياغته للشرطية لا تخلو من إشكال، ويتضح وجه الإشكال في الرجوع إلى مقتضى القاعدة في القضية الشرطية وهي: إن إثبات الموضوع(1)

منتج لإثبات المحمول؛ وذلك أن الموضوع - أي مقدم القضية الشرطية - إما أن يكون أخص أو يكون مساوياً للمحمول - أي تالي القضية الشرطية -، وإلا لما صح أن يكون مقدماً في القضية الشرطية، وكذلك فإن رفع المحمول منتج لرفع الموضوع؛ ذلك إن المحمول إما أن يكون أعم أو يكون مساوياً للموضوع، وكما هو واضح فإن رفع الأعم ينتج رفع الأخص، ومثاله إنه يصح قولنا: (كلما كان إنساناً كان ناطقاً) لأنه مساو له؛ إذ إن كل إنسان ناطق وبالعكس، كما يصح القول: (كلما كان إنساناً كان حيواناً) لأنه أعم منه، ورفع المحمول الأعم أو المساوي ينتج منه رفع الموضوع.

لكن رفع الموضوع لا ينتج منه رفع المحمول؛ لأن الموضوع قد يكون أخص، ومع ارتفاعه يبقى المحمول لأنه أعم(2).

من هنا قد يتجه إشكال على صياغة الشيخ الطوسي (رحمه الله) للشرطية فقد صاغها: (إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم فإذ لم ينطقوا فاعلموا أنهم ما فعلوا)(3)، فهي من رفع المقدم الذي لا ينتج رفع التالي(4).

ص: 84


1- المراد: ما أحرز انه تمام الموضوع.
2- ورابع الصور هو إثبات المحمول لا يثبت الموضوع.
3- ولكن هل هذه الصياغة من الشيخ الطوسي (رحمه الله) من الناحية المنطقية صحيحة أو لا؟ ظاهراً كلا لكن سيأتي لذلك توجيه.
4- فهو ك- (إن كان إنساناً فهو حيوان لكنه ليس بإنسان فليس بحيوان)، فإنه خطأ لأنه يمكن أن يكون أسداً أو فرساً أو غير ذلك.

لكنه عالج الإشكال بقوله: (تنبيهاً على أن من لا ينطق ولا يفعللا يستحق العبادة والألوهية وخرج الكلام مخرجاً ظاهره بخلافه)(1)، فقد استدل ببداهة القضية في حد نفسها، وبوضوحها لدى الكفار أيضاً، ولذا عبر ب(تنبيهاً)، ولم يكن استدلاله استناداً إلى اقتضاء رفع الموضوع رفع المحمول.

وبعبارة أخرى: إن إبراهيم (عليه السلام) كان مراده الجدي أن كبير الأصنام حيث إنه لا يستطيع أن يفعل ويكسر وينطق فهو جامد ليس بإله، وهذا المراد قد فهمه الكفار منه، أي إن إبراهيم (عليه السلام) قصد المعنى الكنائي والتورية، وعليه فالمعنى الظاهري غير مراد بالإرادة الجدية.

تصحيح صياغة الشيخ الطوسي (رحمه الله) للقضية الشرطية

ويمكن الدفاع عن صياغة الشيخ الطوسي (رحمه الله) للقضية الشرطية بالقول:

إن القاعدة المنطقية في القضية الشرطية وإن كانت على أن رفع المقدم لا ينتج رفع التالي؛ لأن التالي قد يكون أعم والمقدم أخص، لكن ذلك إنما هو في القضية الحقيقية، ولكن وجه تصحيح ما ذكره الشيخ الطوسي هو: إن مدار كلامه هو القضية الخارجية، أي إنه عُلم من الخارج الملازمة بين المقدم والتالي، ففي هذه القضية الخاصة قد عُلِمت الملازمة بين طرفيها سلباً وإيجاباً(2).

والحاصل: إن الشيخ الطوسي نقل الكلام إلى قضية شرطية خارجية،

ص: 85


1- الخلاف: ج4 ص490.
2- لما ذكرناه من عَوْد كلام إبراهيم (عليه السلام) إلى تنبيههم على جامع أن الصنم جماد والجماد لا يعقل أن يكسر وينطق .. الخ، فتدبر.

دون الاستناد إلى مقتضى الأصل في القضية الشرطية الحقيقية(1).

تحليل أوسع وأدق للقضية الشرطية في الآية الكريمة

وأما الوجه الصحيح للاستدلال بالقضية الشرطية فهو أن يقال: (بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون)(2) ورفع التالي أي اذ كانوا لا ينطقون - يستلزم رفع المقدم أي كبيرهم لم يفعل.

ولكن قد يشكل عليه - رغم تعديله -: بأن التقديم والتأخير صوري فحسب، فالتعديل ظاهري غير سليم عن نفس الإشكال.

والأدق أن يكون القياس هكذا:

(كلما كان قد فعله كبيرهم(3) كانوا ينطقون، ولكنهم لا ينطقون فلم يفعله كبيرهم).

ويمكن أن يقال: إن الآية تتحدث عن الإمكان والشانية لا الفعلية والوقوع، فتكون تورية إبراهيم (عليه السلام) في ربط إمكان المقدم بإمكان التالي لا وقوعه بوقوعه، وعلى الشأنية تكون صياغة القضية الشرطية هكذا: (كلما أمكن أن يفعله كبيرهم أمكن أن ينطقوا، ولكنهم حيث لم يمكن أن ينطقوا فلم يمكن أن

ص: 86


1- ذلك أن البحوث المنطقية تطرح كقضايا حقيقية وهذا لا يتنافى مع عدم لزوم استجماع شروط الانتاج في القضية الخارجية فإننا عندما نقول إن نقيض السالبة الكلية هو الموجبة الجزئية فذلك لأنه ضابط عام ولكن يمكن في القضية الخارجية أن يكون نقيضها بالفعل هو الموجبة الكلية، والحال كذلك في شروط الأشكال الأربعة وعليه فإن الشروط في المنطق تذكر لمن يجهل الخصوصيات وذلك لأنه مع توفر تلك الشروط فإن اللزوم حتمي في كل الصور أما مع العلم بها فإن بعض الشروط غير لازمة في بعض الصور.
2- بدل (إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم).
3- أو كلما كان كبيرهم فاعلاً.

يفعله كبيرهم)، فتأمل(1).

مناقشة الاستدلال بالآية بوجوه أربعة

ولكن قد يناقش ما ذكر من كون الآية دالة على جواز التورية؛ لوجود وجوه في المقام(2)، ومعها يكون الاستدلال بالآية منالاستدلال بالأعم على الأخص.

1. لعل كلام إبراهيم (عليه السلام) كان من الكذب الاضطراري

الوجه الأول: إن هناك احتمالاً آخر في كلام إبراهيم (عليه السلام)؛ إذ لعله كان من باب الكذب الاضطراري لوجود مصلحة أهم، وهذا النوع من الكذب الضروري جائز بل هو واجب في بعض الأحيان كما في الكذب للإصلاح، وعليه: تكون الآية بهذا الاحتمال دالة على جواز الكذب لوجود أمر أهم وضرورة، فيسقط الاستدلال بها على جواز التورية لا لضرورة؛ فإنه إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

ولكن يمكن الجواب: بأن قرينة المقام وحالة إبراهيم (عليه السلام) وبداهة عدم

ص: 87


1- إذ لعل المتفاهم عرفاً كما هو المشهور هو إرادة الفعلية والوقوع لا الشأنية. ولعل أفضل الوجوه هو ما سبق من: أن الصنم جامد ميت لا حياة ولا قدرة فيه و الصنم الميت لا يستطيع أن ينطق ولو نطق لأمكن له تحريك يده وتكسير الأصنام الصغيرة فيكون مراد إبراهيم (عليه السلام) هو الكناية عن كون الصنم جماداً فلا يفعل ولا ينطق ولا هو بإله، وعلامة الجمادية وأمارتها أنه لا ينطق.
2- وقد يدافع بذلك عن الشيخ الأنصاري (رحمه الله) ومن تبعه في استدلالهم حيث عدلوا إلى الاستدلال بالروايات بدلاً من الآيات وذلك لعله ناشئ من ورود النقض في تصورهم على الاستدلال بالآيات فعدلوا إلى الاستدلال بالروايات، ولكن مع ذلك فإن الأولى - بالنظر القاصر - أن تذكر الآيات أولا ثم يناقش في كون وجه الاستدلال بها تاماً فان تم فبها وإلا انتقلنا للروايات.

قدرة الأصنام على الحركة حتى لديهم، كانت قرائن نوعية حافة بالكلام متصلة صنعت ظهوراً ثانوياً للكلام، وهو أن الأصنام لم تكسِر حيث إنها لا تنطق، فليس الكلام بكذب.

وبعبارة أخرى: إن كلام إبراهيم (عليه السلام) ليس بكذب قطعاً، ووجهه: إنه (عليه السلام) أقام قرينة نوعية مقامية متصلة وحافة بالكلام على عدم كون مراده الجدي هو ما يظهر من اللفظ، بل مراده أمر آخر، وبهذه القرينة يكون قد انعقد ظهور ثانوي مطابق للواقع فهو صدق دون شك.

ويوضحه: ملاحظة الحال في المجاز فعندما يقول شخص: رأيت أسداً يرمي، فإنه لا يوصف هذا القول بكونه كذباً جائزاً، بدعوى أنه ما رأى الأسد؛ وذلك لأن قرينة (يرمي) المتصلة قد انعقد - ببركتها - الظهور الثانوي للكلام وغلب على الظهور الأولي، بل أعدمه، وهذا الظهور الثانوي مطابق للواقع كما أن الإرادة الجدية مطابقة، فعلى كلا المبنيين هو صدق.

وكذلك الأمر في مقامنا فإن إبراهيم (عليه السلام) عندما قال: (بل فعله كبيرهم) فإن:

1-- القرينة الحالية المحتفة المتصلة معروفة لدى الكل من أنالصنم لا يتحرك ولا ينطق ولا يكسر.

2-- وإن إبراهيم (عليه السلام) لا يعتقد بالأصنام أبداً.

3 -- وإن من الواضح أنه هو الذي كسرها بعد أن لم يبق في البلد أحد غيره.

كل ذلك يكوِّن ظهوراً ثانوياً للكلام في كونه من باب السخرية والاستسخاف منه بكون الأصنام آلهة.

ص: 88

إذاً: فالإشكال الأول على الاستدلال بالآية مندفع، ولا مجال لاحتمال الكذب؛ لوجود القرينة النوعية الواضحة لدى العرف.

لكن هذا الرد كما وقع رداً على احتمال كونه كذباً جائزاً، يقع رداً على الاستدلال به على جواز التورية؛ إذ بهذا الوجه يكون كلامه من التورية الصادقة ولا شك في جوازها، فتأمل.

2. إن كلامه (عليه السلام) تورية من نوع خاص

الوجه الثاني(1): سلمنا أن إبراهيم (عليه السلام) قد ورّى إلا أنه مع ذلك لا تكون الآية دليلاً على صحة التورية بقول مطلق؛ وذلك أن إبراهيم (عليه السلام) قد أقام قرينة نوعية عامة على مراده الجدي - والذي هو خلاف ظاهر القول كمن قال: رأيت أسداً يرمي - ومع ذلك ينقلب الظهور الأولي إلى ظهور ثانوي مجازي ببركة القرينة، وهذا ما فهمه الكفار عند كسر الأصنام، فإن إبراهيم (عليه السلام) كان يستخفّ بعقولهم و قد فهموا مراده بأن كبيرهم حيث لا يستطيع أن يتصرف ويكسر أو ينطق فليس بإله، فالمقام من قبيل تسمية الشيء باسم ضده، فعندما يطلق على الممرضة مثلاً هذا اللفظ، فإن المقصود منه أنها مطببّة للمريض لا ممرضة حقاً، والحال نفسه في إطلاق جون على الأبيض.

ومعه: ستكون الآية دليلاً على جواز نوع خاص من التورية - لو تمت الدلالة -، وهو مقتضى القاعدة ولا كلام فيه لانعقاد الظهور الثانوي فيه بمعونة القرينة النوعية(2).

بل قد يقال: بأن مثل ذلك مما لا يعد توريةً؛ إذ لم يستر الباطن بالظاهر،

ص: 89


1- وهو الذي ضمّن في الجواب عن الوجه الأول.
2- ولعله لا يقول أحد بحرمة هذه التورية إذ هي كأي مجاز آخر أو كأي كناية.

ولا ستر شيئاً بالمرة، بل عبّر عن مراده بضد الدال عليه من غير ستر.

3. قول إبراهيم (عليه السلام)، فعل والفعل لا جهة له

الوجه الثالث: إن قول إبراهيم (عليه السلام): (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) هو فعل فإن القول بحد ذاته فعل من الأفعال، والفعل لا جهة له، فإن المعصوم (عليه السلام) لو فعل شيئاً كما لو حمل كتاباً، فإنه لا يعلم من نفس الفعل وجهه، وإن جهته هي الوجوب(1) أو الاستحباب أو الإباحة بالمعنى الأخص أو غير ذلك؟ كل ذلك محتمل؛ إذ الفعل لا لسان له فلا جهة له(2)، وقول إبراهيم (عليه السلام) فعل والمحتمل في جهاته: التورية وكونها جائزة ذاتاً، والتورية المحللة عرضاً لضرورة مع كونها محرمة ذاتاً، وكونه من الكذب الجائز للضرورة، وكل هذه وجوه محتملة ومعه فلا يمكن الاستدلال بالآية على جواز التورية، إذ لا يستدل بالأعم على الأخص.

4. إن الآية مجملة

الوجه الرابع: إن الآية مجملة، ولا تورية في المجمل بحسب المشهور(3)؛ فإنهم يحصرون التورية فيما كان المراد خلاف ظاهر اللفظ لو جمدنا على ظاهرِ (ظاهر اللفظ) ولم نعممه لظهوره ولو بمعونة القرينة، وإلا فلا إجمال فيها حينئذٍ، بل وليست تورية.

ص: 90


1- أي إنه (عليه السلام) حمل الكتاب لوجوبه - أي وجوب الحمل - أو لاستحبابه .. الخ.
2- وهذا الكلام في الجملة لا بالجملة لأنه من جهة أخرى يستفاد من الفعل عدم الحرمة الفعلية مثلاً، ولو للأهم والمهم بأن كان حراماً ذاتاً، مباحاً أو واجباً لعارض.
3- نعم بحسب رأينا فإن المجمل من أنواع التورية حيث يستر الواقع بالإجمال، لكن النقاش في الصغرى وإن إبراهيم (عليه السلام) لم يجمل بل كان كلامه مبيناً لوجود القرينة الحافة.

بيان الإجمال: احتمالان في المقام

وبيان الإجمال فيها: إن في المقام احتمالين:

الاحتمال الأول: إن كلام إبراهيم (عليه السلام) يتكون من قضية حملية ثم شرطية، أما الحملية فهي: (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا)، وأما القضية الشرطية فهي: (فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) وعلى هذا الاحتمال يأتي البحث في أنه هل هو كذب جائز للضرورة أو هو تورية؟

الاحتمال الثاني: إن كلامه (عليه السلام) حقيقة مكوّن من جملة شرطية أولاً، فجملة إنشائية ثانياً، والمراد: (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) (فَاسْأَلُوهُمْ)(1)، وعلى هذا الاحتمال فلا تورية في المقام؛ إذ المراد إنهم لو كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم، وهو كلام صحيح صادق كما سبق.

وعليه فالآية مجملة، والمجمل لا يمكن أن يستدل به على أحد محتمليه، فتأمل(2).

ولكن هذا الوجه قد يدفع: بأن الإجمال وإن سلمنا به لوجود الاحتمالين، إلا أن ذلك لا ربط له بجهة البحث، فإنه وعلى كلتا الصياغتين والبناءين فإن كلام إبراهيم (عليه السلام) تورية، فسواء:

أ. أقلنا بأن كلامه عبارة عن جملة حملية (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذا)، فهذه جملة خبرية، وهي من التورية؛ إذ من الواضح أنه لم يكن قصد إبراهيم (عليه السلام) إن كبيرهم قد كسر الأصنام حقاً.

وبعبارة أخرى: إنّ مقصود إبراهيم (عليه السلام) ومراده أنه لا يعقل أن يكون

ص: 91


1- وقد وقعت (فسألوهم) وسط الجملة الشرطية لنكتة بلاغية.
2- سيأتي وجهه.

كبيرهم قد قام بتكسير الأصنام، ولكنه صاغ ذلك بعبارة أخرى، وذلك هو ما فهمه القوم أيضاً.

ب. أم قلنا بأن كلامه عبارة عن قضية شرطية فإنشائية، فالتورية أيضاً متحققة، أي: لو كانت الصياغة (إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم) فإن المقصود ليس أن كبيرهم قد فعل ذلك، بل المقصود هو الجهة المقابلة، أي لم يفعله كبيرهم حيث لم ينطقوا فالمقصود هو النفي، فتأمل.

والمتحصل: إنه وعلى كلا التقديرين والاحتمالين فقد يقال: إنالتورية ثابتة في كلام إبراهيم (عليه السلام) فتكون الآية دالة على جواز التورية.

وفيه: ما سبق من وجود احتمالات أخرى، ومعها فلا يصح الاستدلال بالأعم على الأخص(1)، إضافة إلى الإشكال بعدم صدق التورية مع إقامة القرينة النوعية أو مع وجودها على المراد.

نعم، يبقى الإشكال الثاني على الاستدلال بالآية على المراد، فلو أمكن دفعه لصارت دلالة الآية تامة ظاهراً على جواز التورية، ولكنه ليس بمندفع ظاهراً لأن الآية أخص من المدعى؛ إذ مع قيام القرينة النوعية الحافة المتصلة، ينعقد الظهور الثانوي وهو مطابق للواقع، وغاية الأمر أن الآية تدل على جواز ذلك فقط مع قطع النظر عن إشكال كونه اضطراراً أو للضرورة، فتدبر.

بل سبق أن مثل ذلك لا يعد تورية، وعلى أي فإن المطلوب هو إثبات جواز التورية بصورها الثلاث التي منها: ما لو لم يقم قرينة بالمرة، ومنها: ما لو أقيمت لكنها كانت شخصية.

وسيأتي ما يكمل الكلام بعد قليل بإذن الله تعالى.

ص: 92


1- (الأعم): الآية المحتملة لوجوه منها التورية و(الأخص): جواز التورية ابتداء من غير ضرورة أو اضطرار.

الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ)

الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ)(1)

وأما الدليل الثاني: فهو آية أخرى استدل بها الشيخ الطوسي (رحمه الله)(2) ولم يذكرها الفقهاء، وهي ما ورد في قضية النبي أيوب (عليه السلام) في معاقبته لزوجته إذ خالفته حيث قال تعالى:(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ) فإن الله تعالى جعل لأيوب (عليه السلام) مخرجاً ممّا حلف عليه، فإنه (عليه السلام) كان قد أقسم(3) على أن يعاقب زوجته بضربها مئة جلدة لمخالفةٍ صدرت منها، فجعل (عليه السلام) - بأمر الله تعالى -مصداق المئة جلدة بأن أمسك ضغثاً ذا مئة شعبة وضربها ضربة واحدة، والضغث هو: ملء الكف من الحشيش أو غيره، وقيل: الضغث هو الشمراخ أي العثكال(4)(5)،فيكون ذلك من التورية فإن من يقول للآخر أضربك مئة ضربة ثم يمصدق ذلك بضربة واحدة فهذا تورية منه.

مناقشة الدليل الثاني

ولكن قد يورد على الاستدلال بهذه الآية على جواز التورية بوجود احتمالين فيها:

أما الاحتمال الأول: فهو أن يكون أيوب (عليه السلام) قد قصد أن يضربها من بداية الأمر وبالإرادة الجدية مئة ضربة فلا تورية في كلامه أبداً، نعم بعد ذلك

ص: 93


1- سورة ص: 44.
2- الخلاف: ج4 ص490.
3- أو نذر.
4- وهو الغصن الذي به مخاريط أو أشواك تحمل الرطب.
5- مجمع البحرين: ج2 ص 258 باب ما أوله الضاد (ضغث).

خفف الله تعالى عليه، ومعه تكون الآية أجنبية عن الاستدلال على بحثنا.

وأما الاحتمال الثاني: فهو إن أيوب (عليه السلام) كان قد قصد التورية منذ البداية بلحاظ انه (عليه السلام) نبي من الأنبياء ذو صبر وحكمة وعصمة، ومخالفة زوجته له لا تستحق بها تلك العقوبة الشديدة(1).

وبعبارة أخرى: إن أيوب (عليه السلام) أظهر أن العقوبة شديدة مع أن مراده غير ذلك، كي يتحقق الردع التام فيكون المورد ذلك من التورية.

التحقيق ضمن مطالب

وتحقيق ذلك في ضمن المطالب التالية:

المطلب الأول: انعقاد يمين أيوب (عليه السلام) دليل على أن متعلقه ليس بمرجوح

إن يمين أيوب (عليه السلام) قد انعقد حسب ظاهر الآية بل نصها(2)، وهذا دال على أن متعلقه ليس بمرجوح؛ إذ لا يمكن أن يكون متعلق اليمين مرجوحاً إجماعاً وبالنصوص كما صرح به صاحب الجواهر(3).

وبعبارة أخرى: إن أيوب (عليه السلام) كان قد حلف أو نذر على أن يضرب أو يجلد - بحسب الرواية - زوجته مئة ضربة أو جلدة متى عوفي وشفي، ثم ندم على ذلك فنزلت الآية المباركة.

ومن المعلوم: إن الحلف يشترط في انعقاده أن يكون متعلَّقة غير مرجوح ديناً أو دنياً، فإن كان المتعلق مرجوحاً فالحلف باطل، وفي اشتراط كونه راجحاً

ص: 94


1- سيأتي الكلام عن ذلك.
2- قال تعالى: (وَلَا تَحْنَث).
3- جواهر الكلام: ج35 ص 265 - 266.

خلاف في كون متعلق اليمين لا بد أن يكون راجحاً أو يكفي كونه مباحاً؛ فالبعض ذهب إلى اشتراط الرجحان فهو كالنذر من جهة لزوم رجحان المتعلق، وعلى فرض كون الحكم كذلك في شريعته، فإنه يدل انعقاد القسم على رجحان متعلقه، وعلى ذلك يكتشف من قوله تعالى(1): (لا تحنث) إن الله تعالى اعتبر قسم أيوب (عليه السلام) نافذاً صحيحاً في حد ذاته؛ إذ اعتبر مخالفة قسمه حنثاً، لذلك نهاه عن الحنث بقوله: (لا تحنث) وذلك يكشف عن أن متعلق حلف أيوب (عليه السلام) لم يكن بمرجوح.

إذاً فما دام الحلف قد انعقد شرعاً بنص القران الكريم وامضي، فإن ذلك يكشف عن كونه غير مكروه إن لم يكشف عن كونه راجحاً، فتأمل(2).

وعلى أي فإن الاستدلال لا يتوقف على ذلك بل يكفي انعقاد النذر أو القسم، بل لا توقف على هذا أيضاً؛ إذ الكلام في أن كلامه كان من التورية أو لا؟ وانه على تقدير كونه منها، محلل.

المطلب الثاني: فتوى بعض العلماء على ذلك

إن الشيخ الطوسي (رحمه الله) في تفسيره (التبيان)(3) قد ذهب في ذيل تفسيره للآية المباركة، وكذلك فعل الفيض الكاشاني (رحمه الله) في الصافي(4)، على أنه لو حلف شخص على أن يضرب آخر مئة جلدة أو ضربة، فإن اليمين تُبرّ بأن يضربه ضربة واحدة بشمراخ فيه مئة من المخاريط(5) فكأنّ الواحدة

ص: 95


1- سورة ص: 44.
2- إذ ذلك في ديننا كذلك وأما في دينهم فالأمر بحاجة إلى إثبات ولا يجدي الاستصحاب القهقري.
3- التبيان: ج8 ص569.
4- التفسير الصافي: ج4 ص305.
5- والشيخ الطوسي كذلك يذكر أن هذه المسالة خلافية.

نُزلّت - بتنزيل الشارع - منزلة المائة.

المطلب الثالث: وجوه حلف أيوب (عليه السلام) على ضوء الروايات

والكلام في هذا المطلب طويل، وموجزه: إن وجه حلف أيوب (عليه السلام) على أن يضرب زوجته مئة جلدة على حسب بعض الروايات - وبحسب استقراء ناقص - هو أحد وجوه ثلاثة:

الوجه الأول: إن زوجة أيوب (عليه السلام) - وهي بنت رافائيل بن يوسف (عليه السلام)، واسمها رحمة، وكانت من الصالحات - ذهبت كي تأخذ شيئاً من الطعام من قوم أو أهل بيت، فاعجبت امرأة منهن بذوائب رحمة، فقالت لها: لا أعطيك ما تريدين إلا بذوائبك بان تقصيها وتعطينيها كي أجمل بها ابنتي عند زواجها، فأجابتها رحمة إلى ذلك بسبب حاجتها فقصتها وأعطتها المرأة، ثم انها بعد رجوعها إلى البيت، رآها أيوب (عليه السلام) فغضب عليها، واقسم على أن يضربها مئة جلدة على هذا العمل(1).

وهذه الرواية - لو صحت - فإنها تدل على كون فعل رحمة حراماً، وإنه لم يكن من الجائز في دينها أن تقص ذوائبها، أو يدل على عدم جواز ذلك بدون إذن زوجها.

الوجه الثاني: ما جاء في رواية أخرى(2) من أن أيوب (عليه السلام) حيثابتلي ومرض لسبع سنوات أو أكثر مرّ فيها آل أيوب (عليه السلام) بضيق شديد، فخرجت زوجته من البيت فمر بها الشيطان - وكان متجسداً بشكل طبيب وحكيم - فقال لها: إن علاج مرض أيوب (عليه السلام) هو أن يذبح عصفوراً من غير أن يذكر اسم الله

ص: 96


1- تفسير القمي: ج2 ص241.
2- كما جاء في تفسير البرهان.

تعالى، ويأكله ثم يشرب عليه الخمر ويلطخ بدنه من دم العصفور، فعند ذلك سيشفى، فجاءت رحمة إلى زوجها النبي (عليه السلام) فقالت له: ذلك، فغضب منها وقال لها: ألا تعلمين إن هذا الذي رأيتهِ هو الشيطان، وأنه أراد أن يغويك ويغويني؟ فنهاها (عليه السلام) على أن تعود إلى مثل ذلك.

ثم إن ذلك الخبيث (الشيطان) عرض نفسه مرة أخرى عليها وهو بهيئة إنسان بهي الطلعة على حصان أحمر فقال لها: مالي أراكم آل أيوب قد تغيرت أحوالكم وزالت نعمكم الكثيرة من الغلمان والقصور والمواشي؟

فقالت رحمة: لأن الله أراد أن يجرب صبرنا على بلائه. فقال الشيطان: ليس ذلك لذلك بل السبب هو إنكم تعبدون إله السماء دون إله الأرض وأنا إله الأرض وقد نزعت منكم النعم المختلفة لعبادتكم غيري فنقمت عليكم وعاقبتكم، ودليل ذلك إنني سأريك ما فقد منكم وفي الرواية (فبقيت متحيرة وهي متعجبة)، ثم أخذها إلى شفير الوادي وسحر عينها وأراها أولادها وقصورها وغيرها من النعم وقال لها: (أنا الآن صادق عندكِ أم كاذب؟).

فقالت له: لا أدري ما أقول لك حتى أرجع إلى أيوب. فرجعت إلى أيوب، فأخبرتهُ بما رأته جميعه.

فقال أيوب (عليه السلام): إنا لله وإنا إليه راجعون، ويحك - يا رحمة - أما تعلمين أن ليس مع الله إله آخر، وأن الذي أماته الله فلا يقدر أحد أن يحييه! قالت: نعم.

قال أيوب (عليه السلام): فلو كنت عاقلة ما أصغيت إلى كلامه، ولا اتبعته حتى سحر عينيك. فقالت رحمة: يا نبي الله، اغفر لي هذه الخطيئة، فإني لا أعود إلى مثلها أبدا.

فقال لها أيوب (عليه السلام): قد نهيتك عن هذا اللعين مرة، وهذه ثانية،فلله

ص: 97

عليّ نذر لئن عافاني الله مما أنا فيه لاجلدنك مئة جلدة على ما كان من مكالمتك لإبليس لعنه الله. وكانت رحمة تقول: ليته قام من بلائه وجلدني مئة ومئة)(1).

وهذا الوجه على مقتضى القاعدة؛ لأن زوجة أيوب (عليه السلام) - حسب هذه الرواية - وصلت إلى حافة التشكيك أو التحير في الوحدانية أو الرازقية فاستحقت العقوبة، إلا أن رحمة الله تعالى قد وسعتها بعد ذلك فخفف الحكم عنها، ولعل عملها كان مزيج قصور وتقصير، ويحتاج ذلك إلى بحث كلامي خاص.

الوجه الثالث: وأما الوجه الثالث المذكور في بعض الروايات فهو إن أيوب (عليه السلام) كان قد نهاها عن أن تأخذ صدقه من الناس؛ إذ أن الأنبياء لا يأكلون الصدقة، فخالفته وأخذتها(2) ولم تخبره(3) فغضب عليها وحلف أن يعاقبها.

لا مانعة جمع بين الروايات ووجوهها الثلاثة

ثم إنه لا مانعة جمع بين كل هذه الوجوه المذكورة، فلعلها صدرت جميعاً من زوجة أيوب (عليه السلام) فحلف على أن يعاقبها.

وليس الكلام الآن في تحقيق سند هذه الروايات، إذ المقصود ليس إلا بيان وجه قسمه بضربها بحسب المحتملات المذكورة في بعض مراسيل الثقاة، فتأمل.

إنما بيت القصيد في البحث هو أنه لا دليل على أن أيوب (عليه السلام) كان مورّياً، بل الظاهر أنه كان جاداً وقاصداً عقوبة زوجته، ثم إن الله تعالى بعد ذلك جعل له مخرجاً وخفف الأمر عنها وعنه.

ص: 98


1- البرهان في تفسير القرآن: ج4 ص671 - 672.
2- جاء ذلك في تفسير القمي، فلاحظ.
3- وعدم إخبارها إياه جاء في كتاب (تحفة الإخوان) على ما ينقله عنه تفسير البرهان سورة ص: 41 - 44.

والمتحصل: إن الآية أجنبية عن التورية فلا يصح الاستدلال بها على جواز التورية ظاهراً، والله العالم.

الدليل الثالث: قوله تعالى: (أَيَّتُهَا الْعيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُون)

بعد تمام الكلام فيما ذكره الشيخ الطوسي (رحمه الله) من الآيات التي استدل بها على جواز الحيل الشرعية، ننتقل إلى آية ثالثة لم يذكرها وهي: قوله تعالى في قصة يوسف (عليه السلام): (أَيَّتُهَا الْعيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُون)(1).

موجز القضية

إن بنيامين كان أخاً ليوسف (عليه السلام) من العمودين، وقد أراد يوسف (عليه السلام) أن يستبقيه عندهُ فأوعز إلى بعضهم أن يضع صواع(2) الملك في رحل بنيامين خفية، والمستظهر أن يوسف (عليه السلام) كان قد اتفق مع أخيه من قبل على ذلك، فلا يرد ما يمكن أن يقال: إن يوسف (عليه السلام) قد سبب إيذاء أخيه، أو يجاب بأنه لأمر أهم، أو لكونه بأمر الله تعالى ويؤيده قوله تعالى: (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ)(3)، وستأتي أجوبة أخرى على ذلك فانتظر.

وبعدما وضع الصواع في رحل أخيه أذن مؤذن بينهم أيتها العير إنكم لسارقون، وكما هو معروف فإن إخوة يوسف (عليه السلام) لم يسرقوا الصواع، ولكن المفهوم من ظاهر الكلام أنهم فعلوا ذلك، أما المقصود الواقعي فهو إنهم سرقوا يوسف (عليه السلام) من أبيه في ماضي الأيام، والمشتق حقيقة فيما انقضى عنه المبدأ إذا كان بلحاظ زمن التلبس، فهذه تورية؛ إذ ظاهر الكلام يدل على ما يخالف

ص: 99


1- سورة يوسف: 70.
2- وهو ما يكال به، وكان ثميناً جداً.
3- سورة يوسف: 76.

باطنه؛ إذ أراد (سارقون ليوسف) لكن ظاهر الكلام (سارقون لصواع الملك).

وعليه: فإن هذه الآية تصلح دليلاً على جواز التورية.

مناقشة الاستدلال بالآية بوجوه ستة

لكن الاستدلال بها على جواز التورية مناقش فيه لورود إشكالات عديدة ستة، لو ردت بأكملها لتمت الدلالة والاستدلال، ولو تم أحدها فلا يتم الاستدلال.

الإشكال الأول: إن المتكلم لم يُعلَم بأنه يوسف (عليه السلام)

الأول: إن الآية تصلح دليلاً وحجة فيما إذا كان المؤذن - أي المنادي - ب(أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ)(1) يوسف نفسه (عليه السلام) لعصمته، لكن لو كان غيره، أو لم يعلم كونه يوسف (عليه السلام)، فلا يصح الاحتجاج بذلك على جواز التورية.

وقد أجاب البعض عن هذا الإشكال بأن كلام المنادي إما أنه كان بعلم يوسف (عليه السلام) أو لا؟

والاحتمال الثاني مستبعد، فيبقى الاحتمال الأول هو المتعين، أي إن يوسف (عليه السلام) كان عالماً بالأمر كله وبما قاله المنادي، ولم يردع عنه، فلا تكون التورية محرمة لمكان امضاء المعصوم.

ولكن قد يرد بأن الظاهر علمه (عليه السلام) بأصل النداء، ولكن لا دليل على علمه الظاهري بخصوصياته وكيفيته(2)، فتأمل وسيأتي مزيد بيان.

ص: 100


1- سورة يوسف: 70.
2- أي صياغته بهذه الصياغة المتضمنة للتورية.

الإشكال الثاني: لم يُعلم بأنّ نص النداء كان بأمر يوسف (عليه السلام)

الثاني: إنه لا يعلم أن المنادي قد قال ما قال بأمر يوسف (عليه السلام)، فإنه حتى لو فرض أن المنادي قد نادى بأمر يوسف (عليه السلام) لكن لا يعلم أن ما نادى به كان نص عبارة يوسف (عليه السلام)؛ إذ لعله قال له عبارة أخرى مثل: (إننا نفقد الصواع أو صواع الملك) ولم يقل له: (ناد بأنهم سارقون).

وبعبارة أخرى: إن المنادي قد صاغ كلام يوسف (عليه السلام) بالصياغة الصورية المذكورة في الآية المباركة(1)، فتكون الصياغة منه لا من يوسف (عليه السلام)؛ وذلك لوضوح جواز النقل بالمضمون.

والحاصل: إن جواز التورية يتوقف على إثبات أحد أمرين:

إما أن يكون يوسف (عليه السلام) هو القائل، أو أن يكون يوسف (عليه السلام)هو الآمر بالعلة الصورية(2)، ولكن لا يعلم أي منهما.

ردّ الإشكال الثاني: تقرير يوسف (عليه السلام) للنداء كافٍ

ولكن يمكن الجواب بأن تقرير يوسف (عليه السلام) لكلامه بعد أذانه وإعلامه كافٍ لإثبات جواز مثل هذا القول والتورية.

بعبارة أخرى: إن يوسف (عليه السلام) حتى لو كان قد عبّر للمؤذن بعبارة مثل (نفقد الصواع)، وكان المؤذن هو الذي عبّر ب:(أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ)، إلا أن عدم إنكاره هذا الكلام (لو كان منكَراً) تقرير له، وتقرير المعصوم حجة.

ص: 101


1- أي بعبارة (إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ).
2- إذ الآية ناقلة لكلام المنادي لا لكلام يوسف (عليه السلام) الواقعي الذي جرى بينه وبين المنادي.

الإجابة عن الرد: إنّ القرآن ليس في مقام الاستقصاء فلا يعلم التقرير

ولكن يمكن أن يردّ ما ذكر - من دعوى التقرير -: بأنه غير معلوم؛ إذ إن القرآن الكريم عند تطرقه للأحداث والوقائع والقصص ليس في مقام الاستقصاء لجميع جهات تلك الحادثة وحالاتها وأبعادها وما جرى فيها، بل إن دأب القران بظاهره انه يقتطف لمحةً أو مظهراً أو مجلىً أو بعداً من الأبعاد من بين المئات أو الألوف أو الملايين من الصور والأبعاد الأخرى للحادثة.

إذاً فلا يمكن أن يقال: بأن سكوت يوسف (عليه السلام) عنه(1) دليل تقريره؛ إذ إن السكوت نفسه غير ثابت، ولا دليل عليه.

الإشكال الثالث: قيام القرينة النوعية على المراد بالتورية

الثالث: قد يقال: بأنّ هناك قرينة نوعية على المراد الجدي من الكلام، فالتورية إنما هي مع قرينة معينة للمراد، وقد سبق: أن القرينة الدالة على المراد الحقيقي، ينقلب بها الظهور الأولي إلىثانوي مستقر، فهي كالقرينة النوعية على المجاز، فلا يوصف المجاز معها بأنه كذب جائز.

وعليه: فلا يتم الاستدلال بهذه الآية على صحة مطلق التورية، وإنما يصح الاستدلال بها على حصة خاصة - وهي التي لا شك فيها، بل لعله لا خلاف فيها أيضاً - وهي: التورية مع إقامة قرينة نوعية على المراد.

وأما القرينة النوعية فهي أمران:

الأول: قرينة قوله (إنكم) فقد جاء في الآية: (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ)

ص: 102


1- المستنبط من عدم إشارة الآية إليه.

ولم تقل: (إن أحدكم لسارق)، والفرق جلي وواضح بين التعبيرين؛ إذ هناك فرق بين سرقتهم ليوسف (عليه السلام) وبين اتهامهم بسرقة الصواع؛ فإنهم بأجمعهم اشتركوا في سرقة يوسف (عليه السلام) فقوله: (إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) ينطبق تمام الانطباق على ذلك، وأما سرقة صواع الملك فالمتهم فيها شخص واحد وهو من وجد الصواع في رحله أعني بنيامين، فلو كان هو المقصود لكان الأنسب أن يقال: (إن أحدكم لسارق)، وقد مضى سابقاً: إن المعيار والمقياس في القرينة النوعية ليس هو السامع الشخصي بل النوع والعرف، والنوع يفهم من ملاحظة القضيتين والتدبر في الفرق بينهما إرادة تلك القضية لا هذه.

الثاني: قرينة اختلاف التعبير في مقطعي الآية، ومما يؤيد وجود تورية في الكلام وإن الظاهر غير مقصود مع إقامة قرينة على ذلك: ما جاء في العلل(1) وتفسير العياشي(2) من قول الإمام (عليه السلام): «ألا ترى أنه قال لهم حين قالوا: (ماذا تفقدون؟ قالوا نفقد صواع الملك) ولم يقولوا: سرقتم صواع الملك إنما عنى سرقتم يوسف (عليه السلام) من أبيه» انتهى.

فبضميمة هذه الرواية(3) إلى ما ادعيناه تظهر العناية فيالاختلاف في التعبير؛ ذلك إن العبارة الأولى من المنادي: (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) والعبارة الأخرى: (نَفْقِدُ صُوَاعَ المَلِكِ)، ومن هذه الضميمة يتضح: أن المراد من السرقة ليس سرقة الصواع؛ إذ لو كان المقصود هو سرقته فإنه عادة يلتزم بهذا اللفظ ولا ينتقل منه إلى لفظ آخر وهو (نفقد)، كما يظهر من قرينة (إنَّكُم) إن

ص: 103


1- علل الشرائع: ج1 ص52.
2- تفسير العياشي: ج2 ص185.
3- وهذه الرواية بحد ذاتها دليل على المراد إلا أن كلامنا في الآيات الشريفة فتكون الرواية هنا كمنبه.

مصداق السرقة المرادة، مصداق آخر.

والمتحصل: إن التورية وإن كانت متحققةً في المقام، إلا أنها اقترنت بإقامة القرينة النوعية عليها، غاية الأمر أنها خفيت عليهم، ومع كون المدار على الظهور النوعي لا الشخصي ينعقد للكلام ظهور ثانوي مطابق للواقع.

إشكال وجواب: خفاء القرينة حتى على النوع

إلا أن يقال: إن النوع ممن تخفى عليه هذه القرينة النوعية أيضاً، فإن النوع نفسه لا يلتفت إليها إلا بعد تأمل وتعمل وصعوبة(1)، فتكون قرينة خفية فلا ينعقد بها الظهور(2).

ويرده: بأن القرينة النوعية أعم من أن تكون ضابطة مقياسية نحوية أو صرفية أو بلاغية أو غيرها، وأعم من أن تكون مما يفهمه الناس بالنظرة الأولى الساذجة، وعليه: فإن العرف وإن لم يلتفت إلا أن ذلك لقصور فيه وعدم تدبر وتأمل وتعمل، والضابطة تبقى ضابطة لكونهم لو أُلفتوا لها أو التفتوا إليها لوجدوها واعتمدوا عليها، فالمقياس في الضوابط النوعية والقرائن النوعية كونها إما كذلك فعلاً أو كونها مما لو التفتوا إليها أو تدبروا فيها لالتفتوا إليها وعرفوها.

ولكن قد يقال: بأن الضوابط النوعية والقرائن النوعية(3) التي يغفل عنها النوع والعرف، لا تعد نوعية، وقد يفرق بين الضوابطوالقرائن، فالأولى كما قيل دون الثانية، فتأمل.

ص: 104


1- ولذا لم نجد أحداً من المفسرين يذكرها.
2- وعليه تكون من القسم الثالث من أقسام الصورة الرابعة من صور التورية السابقة، لا من القسم الثاني.
3- أي المدعى انها كذلك.

نعم سبق أن القرينة الخفية تغيّر الظهور الثبوتي الواقعي وتصنع ظهوراً جديداً، لكن ذلك مما يدفع كونه كذباً ولا يدفع كونه تورية، فتدبر.

لكن الكلام في قرينية ما ذكر؛ إذ لعل وصفهم ب(لَسَارِقُونَ) لاعتقادهم بتواطؤهم على السرقة وإن وجدت في رحل أحدهم، أو لصحة وعرفية وصف جماعة بما قام به أحدهم أو شبه ذلك، واختلاف التعبيرين مشعر بما ذكر وليس دليلاً عليه، فتأمل.

هذا إضافة إلى أنه حتى لو صح كون (إنكم) قرينة نوعية تفيد - لغير الغافل والقاصر -: إن السرقة المرادة في هذه الآية ليس ما هو الظاهر البدوي منها - أي سرقة الصواع -، بل المراد بها السرقة التي صدرت من جميع أخوة يوسف (عليه السلام) وهي ليست إلا سرقة يوسف (عليه السلام) نفسه في الزمن الماضي، ولكن ظهور هذه القرينة مضمحلّ ومحكوم بوجود قرينة حالية مقامية أقوى منها تفيد أن المراد من السرقة أي سرقة الصواع - وهي السرقة الحالية -.

وبعبارة أخرى: إن جوَّ الحادثة ومحتفاتها تكشف عن أن كل الأطراف قد فهموا من ذلك النداء السرقة الفعلية الآنية، لا السابقة، بل لعله لم يخطر ببال أحد منهم السرقة القديمة - حتى مجرد خطور -.

إذاً: فالقرينة الحالية المقامية أقوى ظهوراً من القرينة النوعية المستفادة من (انكم)، حتى على فرض التسليم بكونها قرينة نوعية على المراد الجدي، وبناءً على ذلك ينعقد ظهور لها فيكون المورد تورية، فعليه يمكن - لولا ما سيأتي - أن يستدل بالآية على جواز التورية والعمل بها.

الإشكال الرابع: إنّ (لَسَارِقُونَ) محتمل لمعنيين فهو مجمل

الرابع: إن لفظ (لَسَارِقُونَ) وصف قابل للانطباق على المعنيين، فإن

ص: 105

(لَسَارِقُونَ) بما أنه قد حذف منه المتعلق فيحتمل وجهين: الأول سارقون ليوسف (عليه السلام)، والثاني سارقون للصواع، ولا تعين لأحدهما،ومعه لا تكون هذه الجملة من التورية لإجمالها حسب مبنى المشهور(1).

الجواب: إنّ القرينة الحالية رافعة للإجمال

ولكن يمكن الجواب: إن اللفظ الكلي وإن صح أنه قابل للانطباق على المعنيين؛ نظراً لحذف المتعلق، إلا أن القرائن الحالية تعيِّن أحد المعنيين دون الآخر، وهو أن المراد - بحسب ظاهر الكلام والحال - إنهم سارقون للصواع, ومما يدل على ذلك: إن إخوة يوسف (عليه السلام) عندما سمعوا النداء فهموا هذا المعنى: (إنه قد سُرِق من الملِك شيءٌ) ولم يخطر ببالهم المعنى الآخر بل خطوره غير معهود ولا عرفي؛ لمضي سنوات طويلة على تلك القضية، مع ظهور قطعهم بعدم علم أحد من أهل مصر بها، مع أن ظاهر الاتهام هو الاتهام بسرقة حالية، لا بسرقة ماضية من الزمن الغابر، فهذه قرينة حالية معينة ورافعة للإجمال.

والمتحصل: إن (لَسَارِقُونَ) ظاهر - ببركة قرائن الحال - في سرقة الصواع، لكن كان المراد الجدي منه هو سرقة يوسف (عليه السلام) فيكون من التورية، فتأمل.

الإشكال الخامس: إن الجملة إنشائية لا خبرية فلا تورية

الخامس: ما نقله السيد المرتضى (رحمه الله)(2) بعنوان قيل: إن جملة (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) جملة إنشائية لكونها استفهامية، وتقديرها: (أانكم لسارقون) فتكون همزة الاستفهام محذوفة، والجملة الإنشائية خارجة عن دائرة الكذب

ص: 106


1- لأن التورية عندهم ما كان للفظ ظاهر غير مراد بل أريد غيره.
2- تنزيه الانبياء (عليهم السلام): ص57.

والصدق والتورية؛ لكون مقسم الصدق والكذب والتورية هو الجملة الخبرية.

الجواب عن الاشكال الخامس

ويمكن أن يجاب أولاً: إن ذلك وإن كان ممكناً ثبوتاً إلا أنه خلاف الأصل إثباتاً.

وثانياً: سلمنا أن الآية إنشائية بدلالتها المطابقية، ولكن بدلالتها الالتزامية تستلزم إخباراً، وبلحاظ هذا اللازم ينطبق عليها ملاك الصدق والكذب، فيجري بحث التورية في دائرة اللازم، وإن خرجنا عن دائرة الملزوم، وهذا اللازم والإخبار هو ما فهمه إخوة يوسف (عليه السلام) فهو تورية، فتدبر.

الإشكال السادس: أنّ الفعل لا جهة له

السادس: ثم إنه حتى إن سلمنا أن هذا الشطر من الآية من مصاديق التورية، إلا أن غاية الأمر أن الآية تدل على أن هذا الفعل كان جائزاً، لكنها لا تدل على أن جوازه إنما هو بسبب جواز طبيعيَّ التورية؛ إذ لعل الضرورة هي التي سوغت هذه التورية، فيكون وجه الجواز الضرورة لا صِرف كونها تورية، فلا تدل على حلية التورية بما هي هي.

والحاصل: إن الجواز مسلّم لكن وجهه غير واضح.

ويوضحه: إنه حتى لو كان (لَسَارِقُونَ) كذباً فإنه بقرينة صدوره من يوسف (عليه السلام) أو تقريره مع وضوح عصمته (عليه السلام) يعلم كون هذا الكذب جائزاً، إلا أن جوازه لا يدل على جواز طبيعي الكذب نفسه كما لا يخفى، ومعه: لا يتم الاستدلال بالآية على المراد لثبوت الإيراد، وهذا إشكال عام سيال على الاستدلال بجميع الآيات في المقام، ومعه لا يمكن التمسك بالآيات لإثبات جواز

ص: 107

التورية الا من خلال تتميم الاستدلال الروايات.

الإشكال: بأن (لَسَارِقُونَ) اتهام وإيذاء

ولكن يبقى في المقام إشكال لابد من جوابه وهو: إن اتهام البريء غير جائز؛ فإنه نوع إيذاء وهتك حرمة، والمنادي نادى ب(أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ)، مع أن إخوة يوسف (عليه السلام) لم يكونواسراقاً، فهذه تهمة وأذية لهم، فإنه وإن فرض رضا بنيامين بذلك(1)؛

لوجود اتفاق بينه وبين يوسف 8، إلا أن بقية أخوة يوسف (عليه السلام) لم يكونوا راضين.

إذاً فكون المقام من التورية لا يصحح اتهامهم بالسرقة ولو تورية؛ لكونه إيذاء للغير، فكيف المخرج؟

أجوبة ستة عن الإشكال

ويمكن الجواب عن ذلك بوجوه عديدة(2):

الجواب الأول: إن إخوة يوسف (عليه السلام) كانوا سارقين بالفعل فلم يكن اتهاماً

الجواب الأول: إن إخوة يوسف (عليه السلام) كانوا سارقين بالفعل؛ إذ سرقوا يوسف (عليه السلام) من قبل، فلا يكون (إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) تهمة؛ لأن الوصف صادق عليهم وإطلاقه عليهم صحيح، إنما كان خطؤهم في التمصدق، فلو إن شخصاً قتل رجلاً اسمه زيد، فإنه يصح أن يطلق عليه: بأنه قاتل! أو أن يخاطب بقاتل، وأن تصور السامع أو المتهم بأن المراد بأنه قاتل بكر، فإن من الصحيح اتصافه

ص: 108


1- الاتهام والإيذاء.
2- وبعضها مجرد احتمال.

بالصفة حقيقة، وإن كان هناك توهم فهو في الانطباق.

لكن هذا الجواب لا يدفع الإشكال بكونه إيذاءً، وإن دفع الإشكال بكونه تهمة باطلة.

الجواب الثاني: إنه من باب القصاص

الجواب الثاني: إنه كان من المقابلة بالمثل والقصاص، فإن إخوة يوسف (عليه السلام) كانوا قد اتهموه قديماً بالسرقة في إحدى ثلاث قضايا(1):

أولاً: إنه جاء سائل فأعطاه يوسف (عليه السلام) عناقاً أو دجاجة، فاتهمه إخوته بعد ذلك بسرقة الدجاجة.ثانياً: إن جدة يوسف (عليه السلام) من طرف الأم كان لها صنم فأخذه يوسف (عليه السلام) فكسره وألقاه بين الجيف في الطريق، فاتهمه إخوته بسرقة الصنم.

ثالثاً: إن يوسف (عليه السلام) ذهب إلى معبد (كنيسة) فأخذ صنماً من ذهب كانوا يعبدونه فدسه في التراب، فاتهم من قبل إخوته بسرقته.

وإتلاف الأصنام واجب كما صنعه رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) مع أصنام الكعبة.

ولو ثبت ذلك فإن ما ذكره المؤذن يكون قصاصاً من باب المقابلة بالمثل فكما اتهموه بالسرقة كان له اتهامهم بذلك.

ولكن ذلك مبني على شمول حق القصاص لمثل ذلك في شريعتهم، والبحث جارٍ في شموله لمثل ذلك في شريعتنا أيضاً، فهل يجوز القصاص برد التهمة؟

فقد يقال: بالانصراف، وقد يلتزم بالإطلاق، وبحثه موكول إلى الفقه.

ص: 109


1- إن صح ذلك وهو بحاجة إلى التحقيق في السند.

الجواب الثالث: إنه كان من باب التعزير

الجواب الثالث: إن المقام كان من باب التعزير، وللحاكم الشرعي أن يعزر على الجريمة بما يراه مناسباً؛ وذلك إن إخوة يوسف (عليه السلام) لم يجر تأديبهم على سرقته من أبيه وإلقائه في الجب، وعليه فتكون عقوبة التهمة بالسرقة تعزيراً وتأديباً لهم، وهذه عقوبة مخففة وبسيطة بالنظر إلى ما قد فعلوه، نعم يبقى أن التعزير في شريعتنا هل هو خاص بالجلد وشبهه أم هو منوط بنظر الحاكم الشرعي مطلقاً؟! لم يستبعد السيد الوالد (رحمه الله) في بعض كتبه المنوطية بنظر الحاكم الشرعي.

الجواب الرابع: إن ما جرى هو امتحان إلهي مقرر

الجواب الرابع: وهذا وجه كلامي وهو: إن كل ما جرى على يوسف (عليه السلام) وإخوته من أحداث، مندرج في دائرة الامتحان الإلهيوالأحكام الخاصة، فإن قضية يوسف (عليه السلام) من أولها إلى آخرها؛ بدءاً من إلقائه في الجب ثم العبودية ثم السجن ... إلى آخره، شاهدة على ذلك، ومما يؤكد ذلك إن يوسف (عليه السلام) كان بإمكانه أن يعرِّف نفسه لأخوته من بداية الأمر، ويبعث لأبيه الخبر، وينتهي الأمر كله، بل كان من الممكن أن يرسل الخبر لأبيه قبل مجيء إخوته، ولكن جرى قلم الامتحان والبلاء الإلهي على ما شاء من بلوغ الأمور إلى غاياتها المقررة من قبله تعالى.

الجواب الخامس: إنه من باب الأهم والمهم بغرض التربية

الجواب الخامس: إنه قد يكون ذلك من باب دائرة الأهم والمهم،

ص: 110

والغرض هو تربية إخوة يوسف (عليه السلام) لكي يدركوا فداحة ما جنوا ويذوقوا طعم ما اجترحوا في حق يوسف (عليه السلام) وأبيهم يعقوب (عليه السلام)، وذلك عبر توجيه صدمة قوية من هذا القبيل لهم.

الجواب السادس: إنّ المورد من باب الإذن الإلهي الخاص

الجواب السادس: إن المقام هو من باب الإذن الإلهي الخاص، فيخرج عن دائرة القضايا الحقيقية المطروحة في البحوث الفقهية، ويدخل في إطار القضية الخارجية بالإذن الإلهي الخاص، ويدل على ذلك قوله تعالى: (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ)(1)، فكل ما جرى إنما هو كيد من الله تعالى وهو مالك الملك والمتصرف في خلقه، فلا مجال للاعتراض عليه، كما لا مجال لتقليده في ذلك وأشباهه، وذلك نظير إيجاده الزلازل وقبض الأرواح وغيرها من الأمور والمعادلات المختصة به تعالى، فإنه لا يصح القول إنه تعالى حيث فعل ذلك جاز لنا نظيره لو قدرنا عليه، ومرجع هذا الجواب للرابع.

الدليل الرابع: قوله تعالى: (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ)

الآية الرابعة التي قد يستدل بها على جواز التورية هي قولإبراهيم (عليه السلام): (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ)(2)؛ فإن إبراهيم (عليه السلام) قد دعاه القوم لكي يشارك في احتفال سنوي لأجل تعظيم الأصنام، ولكنه تفصى من ذلك فقال: إني سقيم أي مريض ولم يكن سقيماً ظاهراً، فيكون قوله - وهو نبي معصوم - دالاً على جواز التورية.

ص: 111


1- سورة يوسف: 76.
2- سورة الصافات : آية 88 - 89.

أقول: لكن الاستدلال لا يتم(1) إلا على بعض المحتملات في الآية الشريفة، فإن الاحتمالات في الآية الكريمة ستة:

الاحتمالات في الآية

الاحتمال الأول: وقد ذكره بعض المفسرين(2) وهو: إن المقصود من سقيم أي: ان عاقبتي الموت، فإن كل إنسان سيموت، فالمراد سأكون سقيماً بالموت، فيكون المقام من مجازاً بالأول(3)،

والمجاز ليس بحرام، وأما كون قوله تورية؛ فلأن ظاهر قوله (إني سقيم) هو فعلية ذلك وآنيته لا أنه مستقبلاً سيكون كذلك.

الاحتمال الثاني: إنّ المراد من سقيم: أي سأسقم بمرض من الأمراض، فتوهموا أنه مريض بالفعل، فيكون المورد تورية.

الاحتمال الثالث: إن إبراهيم (عليه السلام) كان مريضاً بالفعل، فقوله هذا مطابق للواقع، فلا يكون المورد على هذا من التورية.

الاحتمال الرابع: إن (سقيم) مشتق وهو حقيقي بلحاظ حال التلبس

الاحتمال الرابع: إن كلام إبراهيم (عليه السلام) مصداق من مصاديق المشتق الأصولي، فإن المشتق ليس حقيقة فيما انقضى عنه المبدأ، كما أنه ليس حقيقة فيما سيتلبس بالمبدأ مستقبلاً، إلا أنه يستثنى من ذلك صورة واحدة - وهي مورد الآية - وهي: ما إذا كان الجري والإطلاق بلحاظ حال التلبس وزمانه، فيكون حقيقة سواء أكان التلبسفي الماضي أم المستقبل، وظاهر الآية لعله ذلك؛ فإن قول إبراهيم (عليه السلام): (إِنِّي سَقِيمٌ) أراد به (إنني سقيم في ذلك الوقت) بلحاظ

ص: 112


1- لو تمّ من سائر الجهات.
2- التبيان: ج7 ص 260 و ج8 ص510، نقله بعنوان : (قيل)
3- المجاز بالأول يذكر لبعده، والمجاز بالمشارفة يذكر لقربه.

حال التلبس حينذاك.

ويوضح المبنى في ذلك: الرجوع إلى الوجدان والعرف في كل مشتق بلحاظ حال التلبس، فإنه لو قال شخص: إنني أتيت إلى هذه المدينة قبل خمسين عاماً وهي خربة، أو في مثال آخر: وزيد واقف عند الباب، فإن (خربة و واقف) مشتق، وجرْيُ المشتق هنا وإطلاقه ليس مجازياً، بل هو حقيقة، فإن قولك: زيد واقف، هو بلحاظ ذلك الزمن والتلبس في ذلك الظرف، والاتصاف به حينذاك حقيقي، نعم لو قلت: زيد واقف، قاصداً الحال الحاضرة لمجرد إنه كان واقفاً البارحة، فهو مجاز.

ولعل كلام إبراهيم (عليه السلام) كان من هذا القبيل، والآية لعلها تدل على ذلك؛ فإن الكفار عندما دعوا إبراهيم (عليه السلام) كي يحضر مشهد تعظيم الأصنام في التاريخ المعين، نظر نظرة إلى النجوم، ثم ذكر لهم إنه سقيم في ذلك التاريخ فلا يستطيع الحضور، فقد أجري وصف (السقم) على ذاته بلحاظ المستقبل وفي ظرفه، ولو كان الأمر كذلك لكان الإطلاق حقيقياً فيخرج المقام عن التورية(1)، فلا يتم الاستدلال بالآية على المراد.

الاحتمال الخامس: إنّه سقيم غماً

الاحتمال الخامس: وذكر بعض المفسرين(2) : إن (إِنِّي سَقِيمٌ) معناها: إني سقيم غماً بضلالتكم.

هل إطلاق (السقم) على السقم النفسي مجاز أو حقيقة؟

ولتحقيق هذا الوجه لابد من البحث عن أن استعمال السقم في الحالة

ص: 113


1- إذ قصد ظاهر الكلام بلحاظ قرينية (فنظر نظرة في النجوم).
2- كالشيخ الطوسي في التبيان راجع: ج 7 ص 260 و ج 8 ص 509 نسبة إلى (قيل).

النفسية أو المرض النفسي وإطلاقه عليها حقيقة أو مجاز؟ فلواستظهرنا الاحتمال الثاني، وإن التعبير مجازي، كان المورد تورية(1)؛ لأن إبراهيم (عليه السلام) أطلق لفظ سقيم وقصد منه أنه سقيم نفسياً، وهم يتصورون أنه سقيم جسدياً.

ولكن قد يقال: (سقيم) أعم - وضعاً - من المريض النفسي والجسدي، ولا يخل بالأعميّة كثرة وجود الأمراض الجسدية سابقاً، وقلة النفسية، فلو قيل: هذا مريض وسقيم، انصرف إلى المرض الجسدي وذلك(2) لأن الانصراف لو فرض فهو لكثرة الوجود لا لكثرة الاستعمال الموجب للأُنس الذهني، فتأمل.

وقد يقال: بالوضع التعيني أي أنه بدواً وضع للمرض الجسدي، ثم تُوُسِّع فيه بكثرة الاستعمال في المعنى الأعم من الجسدي والنفسي، فصار حقيقة فيه, وهذا ما نجده الآن.

وعليه: فإن استعمال سقيم في المرض النفسي حقيقي، ولا يحتاج إلى علقة مصححة، فلم يُرَد باللفظ خلاف ظاهره، لكن إثبات الوضع التعيني في زمنهم بحاجة إلى دليل.

ولكن الظاهر: كونه تورية حتى على هذا القول أو الاحتمال؛ وذلك لأن إرادة المعنى الأخفى(3) أو الحصة الأخفى(4) من اللفظ وستره بما يظهر بدواً للأذهان من المعنى الأجلى، نوع تورية.

الاحتمال السادس: إن معنى سقيم هو: إنني سقيم عندكم، أي منحرف بنظركم، فكيف تتوقعون حضوري معكم لتعظيم الأصنام.

ص: 114


1- إذا كان من غير قرينة بيِّنة.
2- تعليل ل(لا يخلّ).
3- على الاشتراك اللفظي.
4- على الاشتراك المعنوي.

ولكن هذا الاحتمال خلاف الظاهر ولا يصار إليه إلا بدليل، إذ الظاهر من الوصف إنه ثبوتي وبلحاظ المتصف به، لا إثباتي وبلحاظ فهم الآخر أو توهمه.

النتيجة: إن استظهرنا الاحتمال الثالث أو الرابع(1) فلا تورية،وأما لو استظهرنا بعض الاحتمالات الأخرى(2)، فهو من التورية.

وأما لو شككنا في المعنى المراد ب(سقيم) وإنه أي المعاني الستة؟ وكان أحد طرفي الشك المعنى الثالث أو الرابع، فلا يصح الاستدلال بالآية على ثبوت التورية؛ للشك في الموضوع؛ إذ لا يصح التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

فائدة: كيف كانت نظرة إبراهيم (عليه السلام) إلى النجوم؟

فائدة هامة: وهي إنّه ما هي جهة نظرة إبراهيم (عليه السلام) إلى النجوم وما هو مصحح ذلك؛ فإن التنجيم حرام بل وأكثر أنواعه شرك!

وجوه ثلاثة للنظر في النجوم

والجواب: إن الاحتمالات والوجوه في المقام ثلاثة:

الوجه الأول: أن يكون وجه نظره (عليه السلام) لأنه كان يرى علامية النجوم على حالات البشر لا تأثيرها فيها(3)، فيكون وزان النجوم وأوضاعها كوزان علامات الطرق، وهذه مسألة خلافية، فقد جرى البحث في كون الاعتقاد بالعلامية حراماً أو لا؟ إلا أنه على كل حال ليس بشرك، و من الواضح أنه لو

ص: 115


1- وهما إنه كان مريضاً بالفعل أو إنه أجراه على حالته في المستقبل بلحاظ حال التلبس.
2- ك: إني سأسقم بالموت أو بمرض ما.
3- فإن الاعتقاد بتأثيرها في أحوال البشر شرك كما ذكره الشيخ (رحمه الله) في المكاسب، وللمسألة صور عديدة فراجع، كما ذكرنا صوراً عشراً للمراد من التنجيم، في بعض المباحث.

قيل بالحرمة في شريعتهم إنه لم يكن ذلك هو جهة نظرته للنجوم، بل مطلقاً فتأمل.

الوجه الثاني: أن يكون نظر إبراهيم (عليه السلام) إلى النجوم لا لكونها علامة، بل لمجرد تزامن بعض حركاتها مع ما قاله من أنه سيكون سقيماً حينذاك؛ إذ الأحداث تجري والكواكب تتحرك وهذه قد تتزامن مع تلك اتفاقاً، فمقصود إبراهيم (عليه السلام) من كلامه على هذا هو التزامن، ولكنهم فهموا منه العلامية، فتكون التورية هنا في هذا الإيهام، لا في الكلام وهي - كلاحقتها - تورية من نوع آخر(1).الوجه الثالث: أن يكون نظره (عليه السلام) إلى النجوم نظرة تأملية وتفكرية، ثم أعقبها قوله: إني سقيم، فقد تعقب وترتب - خارجاً - هذا القول على ذلك الفعل والنظر من دون قصد لارتباط أو تزامن لكنهم توهموا أن نظره كان من أجل الاستدلال على أحواله في المستقبل من النجوم، وهذا هو موطن التورية - لو كان الأمر كذلك - لكنها تورية من نوع آخر.

بحث تمريني

ولا بأس بأن نطرح هنا بحثاً تمرينياً له الموضوعية في الآيات والطريقية في بحثنا وهو إنه هل يمكن أن يُستدل على صحة التورية بالمتشابهات فتكون من مصاديقها؟ وكذلك هل يمكن الاستدلال بالتأويل والمؤوّلات على صحة التورية؟

وبعبارة أخرى هل المتشابهات والمؤوّلات من مصاديق الكلام المورَّى به أو إن هناك تفصيلاً؟ فتدبر.

ص: 116


1- وهي التورية بالفعل وهو (نظره للنجوم) عن المراد أو المعتقد فتكون نظرته للنجوم من باب التعمية والإخفاء ليتوهموا أنه منها استدل على حاله فلا يضغطوا عليه ليجئ معهم.

وقد مضى في مطاوي الكتاب ما يظهر به وجه الجواب.

الأدلة الروائية على كون التورية صدقاً أو جوازها

الدليل الأول: رواية عبد الله بن بكير

أما الدليل الأول فهو: ما نقله ابن إدريس في مستطرفات سرائره من كتاب عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل يُستأذن عليه، فيقول لجاريته: قولي ليس هو ها هنا, قال (عليه السلام): «لا بأس، ليس بكذب»(1).

وفي المقام بحثان: الأول سندي، والثاني دلالي.

البحث السندي: المراد بابن بكير وتوثيقه واستناد الكتاب إليه

أما البحث السندي: فالظاهر إنه لا إشكال في إسناد الروايةواعتبارها؛ ذلك إن ابن إدريس ينقل مباشرة - ظاهراً - من كتاب عبد الله بن بكير نفسه، فلا واسطة بينهما وإن كانت الفترة الزمنية طويلة(2)، وحال ذلك كمن ينقل في الوقت الحالي عن الكافي الشريف، فلا واسطة بين الراوي والمروي عنه، وهو كما لو قرأ أحدهم عن الراوي ما هو بخطه أو ما استنسخه أحدهم عن خطه مباشرة.

والحاصل: إنه بحسب ظاهر عبارة ابن إدريس إنّه ينقل الرواية من كتاب ابن بكير مباشرة، ومعه فلا مشكلة من هذه الجهة، وذلك هو ظاهر نقله (من كتاب بن بكير) لا (عن كتابه) إذ قال في المستطرفات: (ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب عبد الله بن بكير بن أعين عنه أبي عبد الله (عليه السلام))(3) ويؤكده قوله في آخر

ص: 117


1- مستطرفات السرائر: ص632.
2- وهي حوالي 500 سنة ولكن خبر ابن ادريس خبر ثقة مع كونه حسياً فيُصدَّق، كما سيتضح فيما بعد.
3- السرائر: ج3 ص632.

هذا الفصل: (تمت الأحاديث المنتزعة من كتاب عبد الله بن بكير)(1)، بل لعله صريح فيه.

ثم الظاهر: إن الكتاب إما أنه كان مشهوراً انتسابُه لابن بكير كشهرة انتساب الكافي إلى الكليني عندنا، فإن ذلك هو المعهود في الكتب المشهورة أو المصدرية، أو إنه وصل لابن إدريس بطريق حسي موثق كالإجازة أو كالمناولة مع الاجازة أو من دونها، على القولين، أو حتى الإعلام وما أشبه، إذ يستبعد جداً أن يعتمد عَلَم كابن إدريس - بل أي فقيه - على كتاب مجهول انتسابه لصاحبه، أو وصله بطريق غير معتبر، من دون أن يُنبّه على ذلك، مع اعتباره مصدراً للأحكام الشرعية.

ومن جهة أخرى أيضاً: فإن ابن بكير ينقل بلا واسطة عن الإمام الصادق (عليه السلام).

ثم الكلام في ابن بكير أنه من هو؟ لأنه مشترك بين عدة أشخاص.والجواب: إن ابن بكير وإن كان مشتركاً بين عدة أشخاص.

منهم: عبد الله بن بكير الدُّجاني وعبد الله الهجري وعبد الله بن بكير (أو بن بكر) المرادي الكوفي، ولكن المراد منه ظاهراً هو عبد الله بن بكير بن أعين؛ وذلك لوجود بعض القرائن.

ومنها: إنه الشخص الوحيد الذي صرح علماء الرجال بأن له كتاباً، وأما الباقون فلهم رواية أو روايتان في الكتب الحديثية.

ثم إن هذا قبل أن أراجع مستطرفات السرائر مباشرةً، ثم عندما راجعته وجدت بن ادريس يصرح أنه عبد الله بن بكير بن أعين كما نقلنا كلامه.

ثم إن الشيخ الطوسي (رحمه الله) وثق عبد الله بن بكير فقال: (فطحي المذهب

ص: 118


1- السرائر: ج3 ص634.

إلا أنه ثقة له كتاب)(1) ، وأما الشيخ النجاشي فقال: (له كتاب كثير الرواية)(2)، وأما الكشي(3) فقد عده ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنهم، كما أن الشيخ المفيد (رحمه الله) اعتبره من العلماء الأعلام في رسالته العددية(4).

والحاصل: إنّ الظاهر منه هو عبد الله بن بكير بن أعين صاحب الكتاب الثقة، نعم هو فطحي، فلا تكون روايته صحيحة لكنها معتبرة وحجة(5).

هذا كله على القول بالحاجة إلى البحث السندي، وأما لو قيل: بأن مراسيل الثقاة حجة، وخاصة عند الاستناد إليها، فالأمر هيّن، كما فصلناه في كتاب (مراسيل الثقات المعتمدة).

البحث الدلالي

وأما البحث الدلالي فقد يقال: بأنّ الرواية صريحة؛ لقول الإمام (عليه السلام): «لا بأس ليس بكذب» فالمدلول هو النفي الموضوعي لأن تكون التورية كذباً.

وتوضيحه: إن في الرواية احتمالين: حيث إن قوله (عليه السلام): «فليس بكذب» يحتمل فيه: 1- النفي الموضوعي وعليه: فليست التورية موضوعاً بكذب. 2- كما يحتمل فيه النفي الحكمي للحرمة.

ص: 119


1- فهرست كتب الشيعة وأصولهم وأسماء المصنفين وأصحاب الأصول: ص304.
2- رجال النجاشي: ص222.
3- رجال الكشي: ج1 ص345.
4- نقل عنه في معجم رجال الحديث: ج11 ص 130.
5- ومما يؤيد ذلك إن السيد الخوئي (رحمه الله) ومقرر بحثه في المكاسب وهما ممن دأبهم المناقشة السندية والرجالية، لم يستشكلا على هذه الرواية سنداً. نعم المقرر له والمحشي استشكل على الرواية الثانية وصرح بأنها ضعيفة السند بسويد دون أن يشكل على الرواية الأولى ولعل بذلك يندفع توهم شمول إطلاق قوله بعد أقل من صفحتين لهذه الرواية، فتأمل.

أما النفي الموضوعي: فإنه الأصل في النفي المنصب على العنوان، وهو الظاهر، وهو النافع لمن يريد أن يستدل بالروايات على جواز التورية حيث أخرج الإمام (عليه السلام) التورية عن الكذب موضوعاً.

وكون المقام من التورية هو ظاهر قول صاحب الدار للجارية: (قولي ليس هو هاهنا)، فهي تورية واضحة مع وجوده فعلاً في الدار، فتأمل(1).

وقول الإمام (عليه السلام): «لا بأس» يفيد الحكم الشرعي وهو نفي الحرمة، لكن قوله (عليه السلام): «ليس بكذب» صريح في تنقيح الموضوع، وكأنه العلة لعدم الحرمة.

وأما النفي الحكمي: مع دخول المورد موضوعاً في الكذب، فإنه وإن أمكن، إلا أنه مجاز لا يصار إليه إلا عند تعذر الحقيقة.

قال السيد الوالد (رحمه الله) في مكاسبه ما مضمونه: (وزان "لا بأس، ليس بكذب" هو وزان لا ربا بين الوالد وولده فإنه ربا حقيقة لكنه ليس بمحرم)(2)، ثم قال (رحمه الله): (وإن لم يكن محرماً لان من لا يريد دخول الغير عليه يحق له دفعه بما يحرم طبعاً لولاه)(3).

وحاصله: إنه نفي تنزيلي؛ فإنه لا نفيَ في المقام للحقيقة التكوينية، وإنما هو نفي للحكم بلسان نفي الموضوع، نظير لا ربابين الوالد وولده.

هذا هو ما استدل به القوم، وهو الوجه المعروف.

الإشكال بعكس الاستدلال

ولكن يمكن أن يُعكس الاستدلال بالرواية بأن يقال: إنه ينبغي أن تعكس

ص: 120


1- إذ قد يكون من الكذب الصريح وإنه لم يقصد به التورية.
2- المكاسب المحرمة من الفقه: ج2 ص52.
3- وأضاف في الحاشية: (في صورة الاضطرار عرفاً).

القضية(1)؛ إذ إن التورية مفهوم عرفي وليست بحقيقة شرعية، ومعه فلابد من تنقيح موضوعها وتحقيقه عرفاً، ثم يجري فهم الرواية على ضوء ذلك.

وقد أوضحنا سابقاً - كما أن المشهور على ذلك -: إنّ العرف يرى أن مقياس الصدق هو مطابقة ظاهر القول للواقع والكذب بعكسه، وإن التورية هي ستر المراد بظاهر اللفظ، فتحقيق هذا في مرحلة سابقة هو المتكفل بالتنقيح الموضوعي، فإذا تنقح ذلك كان قرينة على أن الإمام (عليه السلام) قد تجوّز في الرواية المذكورة، وأن مراده (عليه السلام) من قوله: «ليس بكذب» انّه ليس بكذب محرم؛ لأنه موضوعاً - عرفاً -كذب، فهو تأكيد ل«لا بأس»، فأخرج الإمام (عليه السلام) هذا المورد حكماً، ورفع حرمته بقوله: «ليس بكذب».

ويوضح ذلك: إن الطبيب لو قال للمريض: اشرب الدواء، ولم يعلم المريض إن ذلك واجب شرعاً بحيث لو خالفه لاستحق العقوبة والمخالفة الإلهية على ذلك أولاً، فسأل الفقيه عن قول الطبيب: اشرب الدواء، وأجابه الفقيه: (إنه ليس بأمر)، فإن من الواضح أن المراد إنه ليس بأمر مولوي واجب الإتباع، وليس المراد نفي كونه أمراً حقيقة، وذلك بعد أن جرى في مرتبة سابقة تحقيق أن الأمر ظاهر في الوجوب والمولوية، وإن خلافه هو المحتاج إلى قرينة، فيكون المراد من قوله: (ليس بأمر) إنه ليس بأمر مولوي واجب الإتباع.

ويوضحه أيضا: ما لو قيل: أكرم العلماء، فإذا شك في أن المراد من العلماء كلهم حتى الفساق أو لا، فيسأل، فإذا أجيب: (ليس أكرمالعلماء بعام)، فليس المراد هنا أن الجمع المحلى بأل ليس بعام، فإن هذا ومطلق الجمع

ص: 121


1- بعبارة أخرى: إن عدداً من الفقهاء يبنون على كون التورية ليست بكذب موضوعاً اعتماداً على الرواية المزبورة، ولم نجد من عكس فاستدل بالتنقيح الموضوعي في رتبة سابقة على أن الإمام (عليه السلام) أراد بكلامه هذا المجاز.

المحلى بال قد نقح في موضعه، وإنما المراد أن حكمه لا يشمل كل الأفراد، لوجود القرينة في المقام وهي مناسبات الحكم والموضوع أو غيرها الموجبة للانصراف إلى بعض أفراد العام.

فما ذكر من تنقيح موضوعي قبلي، قرينة على مجازية كلام الإمام (عليه السلام)، فإنه مادامت الموضوعات عرفيةً فلابد أولاً من الرجوع إلى العرف فيها، نعم لو شككنا عرفاً في الميزان وهل هو مطابقة ظاهر القول للواقع أو مطابقة المراد للواقع؟ أمكن أن يكون كلام الإمام (عليه السلام) من علل التنقيح الموضوعي.

ولكن الانصاف إن ظهور كلام الإمام (عليه السلام) في التنقيح الموضوعي أقوى من ظهور ما ادعي من أنه الفهم العرفي(1)، فتأمل.

وعلى أي تقدير فإن الرواية صريحة في جواز هذا النوع من التورية وإن فرض عدم دلالتها على خروجه الموضوعي عن دائرة الكذب.

الدليل الثاني: رواية سويد بن حنظلة

الدليل الثاني: ومما يمكن أن يستدل بها على جواز التورية هو ما رواه سويد بن حنظلة قال: (خرجنا ومعنا وائل بن حجر(2)، يريد النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) فأخذه أعداؤه فحرّج القوم أن يحلفوا، وحلفت بالله أنه أخي فخلى عنه العدو، فذكرت

ص: 122


1- لعدم وضوح الرؤية لدى العرف بكون التورية كذباً بل إنهم بين من يراها صدقاً فيكون فهمهم مطابقاً للرواية ومن يتحير في الأمر فالرواية حجة عليه، ومن استظهر ضعيفاً كون التورية كذباً فالرواية أيضاً لكونها أظهر حجة عليه، وبين من اطمئن بكونها كذباً فيصرف كلام الإمام (عليه السلام) إلى المجاز، فتأمل.
2- وهو من الشخصيات المعروفة وقد نقل العامة إنه عندما أسلم استبشر الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) وبشر قومه.

ذلك عند النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) فقال: «صدقت المسلم أخو المسلم»)(1).ومورد الاستدلال هو: قول النبي (صلی الله علیه وآله وسلم): «صدقت» مع كون الشخص كاذباً في قوله: إنه أخوه، فتكون التورية صدقاً بنص كلام الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم).

قال السيد الخوئي (رحمه الله): (وهي وإن كانت ظاهرة الدلالة على جواز التورية وعدم كونها من الكذب ولكنها ضعيفة سندا)(2).

مناقشة الرواية سنداً

وقد بحثنا عن سند الرواية في كثير من المصادر فلم نجد هذه الرواية إلا في كتابي الشيخ الطوسي الخلاف والمبسوط وبدون إسناد، فقد أرسلها الشيخ الطوسي (رحمه الله)، فهي مرسلة.

وأما سويد: فإنه ضعيف كما قالوا، والظاهر إنه مجهول؛ إذ لم نعثر على ترجمته، لكن يحتمل التصحيف في حنظلة وإنه (سويد بن غفلة الجعفي)، وهو من أصحاب الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) وأمير المؤمنين والحسن 3، وكان من أولياء أمير المؤمنين (عليه السلام)، لكن الاطمئنان بالتصحيف بحاجة إلى قرائن، والأصل عدمه، واحتماله غير مجدٍ.

فالمشكلة الأساسية هي: الإرسال، وضعف سويد.

وخلاصة القول إنه: بحسب المنصور من كون مراسيل الثقاة حجة فالرواية معتبرة إذ اعتمد عليها الشيخ الطوسي (رحمه الله) في كتابيه المذكورين وأفتى على طبقها من غير وجود معارض لها، بل حتى لو لم نقل بحجية مراسيلهم فقد يقال: بأنها معتبرة لأنها معتضدة بالشهرة الروائية والفتوائية.

ص: 123


1- الخلاف: ج4 ص491/ المبسوط: ج5 ص95.
2- مصباح الفقاهة: ج1 ص399.

وعلى أي حال فقد يفيد ذلك الاطمئنان بالحجية حتى لمن لا يرى حجية مراسيل الثقاة.

مناقشة الرواية دلالة لوجوه ثلاثة

وأما دلالة الرواية فقد سبق قول السيد الخوئي (رحمه الله): (وهي وإن كانت ظاهرة الدلالة على جواز التورية) لكن الظاهر: إن ما ذكره ليس بتام؛ ذلك إن الرواية ليست ظاهرة الدلالة لوجوه ثلاثة:

الوجه الأول: إنّ الاستعمال أعم من الحقيقة

إن قوله (صلی الله علیه وآله وسلم): «صدقت» إنما هو استعمال لا أكثر، والاستعمال أعم من الحقيقة، وعليه فلا يدل كلامه (صلی الله علیه وآله وسلم) على كون التورية - مفهوماً وماهيةً - صدقاً حقيقةً، فلعل الرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله وسلم) أطلق «صدقت» مجازاً، وذلك كما لو قال أحدهم: (زيد أسد)، فهل يدل استعماله لكلمة الأسد في زيد على كونه حقيقة فيه؟ والجواب كلا، فإن ذلك لا يدل على أن أسد موضوع للأعم من الرجل الشجاع، كما لا يدل على نقلة إلى الرجل الشجاع، ولا على أنه مشترك لفظي(1).

والحاصل: إن «صدقت» استخدمها النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) بوجه صحيح دون ريب، لكن الأمر كله هو أنه لا يعلم كونها حقيقة أو مجازاً.

وعليه: فلا يصح أن يستدل على أن التورية ليست بكذب - موضوعاً - ب:(الاستعمال) في هذه الرواية؛ فإن الاستعمال لا يتكفل بالتنقيح الموضوعي.

ص: 124


1- وهذه ثلاثة احتمالات فهو إما مشترك لفظي أو منقول أو إنه وضع للجامع الأعم، والاستعمال لا يدل على أي منها.

وبتعبير آخر: إنه يصح من الحكيم أن يستخدم اللفظ في معناه الحقيقي وعلى الوجه الكنائي، كما يصح الاستعمال بوجه مجازي مع القرينة، والقرينة في المقام موجودة(1)،نعم غاية الأمر إن الرواية تدل على جواز التورية حكماً.

وقد يتشبث بأن قول النبي (صلی الله علیه وآله وسلم): «صدقت» يفهم منه عرفاً هو أن سويداً ليس بكاذب، أي إن إجراءه عليه وحمله كان بلا عناية، والاستعمال بلا عناية دليل الحقيقة، نعم مطلق الاستعمال أعم من الحقيقة، فتكون التورية صدقاً موضوعاً بنص كلام الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)، وأما إنه قصد الجامع أو الإخوة الدينية، فلا يهم، نعم يظهر منه أنه لم يقصد الأخوة النسبية وإلا كان كاذباً على كلا المبنيين والمقياسين(2)،فتأمل(3).

ولكن قد يقال: إن ذلك ليس بمجدٍ أيضاً؛ لأن قوله (صلی الله علیه وآله وسلم):«صدقت»، يبقى فيها الاحتمالان الأخيران: كون المتكلم قد قصد الإخوة الدينية فيكون صادقاً والموردُ توريةً، أو إنه قد قصد الجامع فيكون صادقاً أيضاً، إلا أن المورد ليس بتورية - على بعض المباني -، فتخرج الرواية عن مورد البحث.

وعليه - وبهذين الاحتمالين - تبقى الرواية مجملة حتى مع التشبث بظهور «صدقت» - فرضاً - وإن المتكلم لم يكن كاذباً، وفيه ما سبق من شمول التورية لمثل ذلك؛ إذ هي مطلقاً ستر المراد باللفظ، بظاهره أو بكونه مجملاً أو غير ذلك.

ص: 125


1- وهي القرينة الحالية (من عدم كونه أخاه نسَباً ومن اضطرابه ورجوعه للنبي (صلی الله علیه وآله وسلم))، بل والمقالية: تعليل النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) ب:«المسلم اخو المسلم»، فتأمل.
2- مطابقة ظاهر القول للواقع، أو مطابقته للقصد والمعتقد.
3- إذ لا دليل على أن الاستعمال كان بلا عناية، بل لعل تذييله (صلی الله علیه وآله وسلم) ب«المسلم أخو المسلم» دليل على العناية، فتأمل.

الوجه الثاني: تعدد محتملات ما قصده سويد

إن قول سويد للأعداء ب: (إن وائلاً أخوه)، تحتمل فيه ثلاثة احتمالات تدور مدار قصده:

1. إنه قصد الأخوة النسبية فهو كاذب

أما الاحتمال الأول فهو: أن يكون المتكلم - سويد - كان قد قصد الأخوة النسبية - كما لا يبعد -، فإن الإنسان في مجالات الرهبة والخوف من قتل أحد أصحابه، يضطرب فلا يخطر بباله التوجيه الصحيح لكلامه، ومعه سيكون كلامه كذباً وليس بتورية، فيخرج عن محل البحث، نعم النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) نزَّل كذبه منزلة الصدق وعلله بما ذكره.

لكن ذلك كلواحقه مبني على دوران الصدق والكذب مدار القصد، وقد سبق ما فيه، إلا أن يستدل بكلام النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) على دورانها مداره، وفيه: إن ظاهر كلام النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) الدوران مدار الواقع، فينطبق على تعريف المشهور للصدق، وعليه فكلام سويد صدق(1) ، وحيثإنه لم يقصد(2) خلاف ظاهره فليس تورية؛ إذ لم يستر عن قصدٍ(3) الواقعَ بالظاهر، نعم بناءً على أنها أمر ثبوتي غير مرتهن بقصد أن يوري فهي تورية؛ لوضوح أنه لا يشترط في صدق عنوانٍ قصده.

والحاصل: إن الظاهر أنه يشترط في صدق التورية قصد الستر دون قصد عنوان التورية، فلو غفل عن قصد الستر، بل نوى ما هو ظاهر كلامه فليس

ص: 126


1- لمطابقة كلامه لبعض معانيه الواقعية.
2- أي على هذا الاحتمال الأول.
3- أي عن قصد إلى أن هذه تورية.

بتورية، نعم يجري الكلام في أن خروجها عن الكذب منوطٌ - إضافةً للقصد - بإقامة القرينة - الجلية أو حتى الخفية - أو لا، وقد سبق.

ولكن يمكن توجيهه بوجه آخر وهو: إن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) حمل(1) كلامه على صدق الحكاية، وصَرْف النظر عن صدق الحاكي؛ فإن الحاكي وإن فرض كاذباً إلا أن الحكاية في حد ذاتها صحيحة؛ لانطباقها على الأخوة الدينية؛ إذ إن كلّاً منهما كان أخاً للآخر في الدين، وإن كان الحاكي قد قصد الأخوة النَسَبية.

والحاصل: إن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) حَمَل الكلام على صدق الحكاية مع صرف جهة الحكاية إلى الحكاية عن الأخوة الدينية، فقوله (صلی الله علیه وآله وسلم):«صدقت» مجاز على هذا، أي من حيث النسبة(2) إلى القائل؛ إذ ظاهره صدق الحاكي، فالتجوز هو في نسبة صدق الحكاية إلى الحاكي، ويمكن حمل كلامه على الحقيقة التنزيلية(3) ، والعلاقة المصححة هي صدق الحكاية، فتأمل.

2. إنه قصد الأخوة الدينية فهو موَّرٍّ

وأما الاحتمال الثاني فهو: أن يكون المتكلم ملتفتاً وقد قصد الأخوة الدينية، فيكون قد ورّى بذلك، حيث فهم القوم من ظاهر كلامه أنه أخ نسَبي له، فقد خالف الظاهرُ القصَد، كما خالف الواقع، نعم طابقالمرادُ القصد والواقع.

3. إنّه قصد الجامع بين الأخوّتين

واما الاحتمال الثالث فهو: أن يكون المتكلم قد قصد الجامع بين الأخوة

ص: 127


1- أي حسب هذا الاحتمال.
2- بإسناد الصدق إلى ضمير المخاطب.
3- وان الحاكي نزل منزلة الصادق.

الدينية والنَسَبية؛ إذ إن لفظ الأخ هو الجامع، فلم يقصد خصوص أحدهما بل قصد الكلي القابل للانطباق على كليهما.

لكن هل ذلك من التورية أو لا؟ فيه احتمالان:

الاحتمال الأول: إنه ليس بتورية؛ لأن الكلي الجامع هو من الظاهر وليس بخلافه حتى يكون تورية، والتورية ببعض تعاريفها مدخلة وببعضها مخرجة لهذا عن كونه تورية(1).

الاحتمال الثاني - وهو المنصور -: إن المورد تورية فإنه قد ستر الظاهر بالظاهر - كما أوضحناه - حيث ستر القصد الأصلي(2) بالجامع.

وعليه: فهذه احتمالات ثلاثة، فلو أمكن استظهار أحدها فبه، وإلا سيكون ما قاله سويد مجملاً، فلا يمكن الاستدلال بالرواية على أن التورية صدق، بل لا تكون دليلاً حتى على جواز التورية؛ إذ لعله كان كاذباً - وهو الاحتمال الأول -، فتدل الرواية بناءً عليه على جواز الكذب لدى الضرورة، فهي أجنبية عن بحث التورية، نعم يمكن التمسك حينئذٍ بتنقيح المناط القطعي، لكنه لدى الاضطرار للتورية لا مطلقاً، فتأمل.

الاستعانة بالبرهان اللمّي أو الإني

وقد يتوهم إمكان الاعتماد على البرهان اللِّمي أو البرهان الإنِّي(3) للوصول إلى المطلوب بدعوى: أما البرهان الإني: فهو إن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) عندما

ص: 128


1- كتعريفها بأن يقصد غير ما اللفظ ظاهر فيه، أو أن يقصد ما اللفظ ليس ظاهراً فيه، أو أن يقصد خلاف ما اللفظ ظاهر فيه.
2- إذ قصد المتكلم أحد نوعي الكلي وفهم السامع نوعه الآخر.
3- ويسمى البرهان اللِّمي لأن السؤال ب(لِمَ) هو عن العلة, وأما الإني فلأن (إنّ) تفيد تحقق الشيء وأنه موجود حتماً فننتقل منه إلى البحث عن علته.

قال: «صدقت» فمن طريق الإن ومن كلامه (صلی الله علیه وآله وسلم):«صدقت» نستكشف قصد المتكلم سويد وأنه قصد المعنى المطابق للواقع، وأما البرهان اللمي فهو: باستكشاف قصده من القرائن الخارجية، ثم من ذلك نحرز كون كلام الرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله وسلم) بقوله: «صدقت» حقيقةً أو مجازاً.

ولكن الظاهر: إن كلا الطريقين مسدود؛ أما القصد فمن أين لنا أن نعرفه؟ لوجود احتمالات ثلاثة فيه كما سبق، نعم هناك بعض المرجحات والمؤيدات، لكنها لا ترقى إلى مستوى الدليل.

وأما كلام النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) فإنه حتى لو فرض نفي الاحتمال الأول في كلامه - وليس كذلك(1) -، فإنه يبقى الاحتمالان الأخيران في قوله (صلی الله علیه وآله وسلم): «صدقت»، ولا معيِّن لأحدهما.

ومع عدم جريان البرهان الإني أو اللمي في المقام، تكون الرواية مجملة، فلا يتم الاستدلال بها في المقام.

نعم يثبت به بعض جوانب الموضوع(2)، فتأمل.

هل قول النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) تقريري أو تعليمي؟

ولكن يبقى أن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) في قوله: «صدقت» هل كان في مقام التقرير أو التعليم؟ كلاهما محتمل، فلعله (صلی الله علیه وآله وسلم) كان في مقام التقرير؛ لعمله، وعليه فلقد كان مورّياً صادقاً، ولكن الاحتمال الآخر هو إن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) كان بصدد تعليم(3) المخرج والطريق للتفصي، وعلى هذا فالظاهر أن سويداً كان كاذباً وأنه لم يقصد

ص: 129


1- لما سبق من أن الاستعمال أعم من الحقيقة.
2- ككون كلامه مطابقاً للواقع ببعض معانيه وإن لم يقصده.
3- تعليمه لمستقبل أمره، وتعليم السامعين.

من كلامه إلا المعنى الظاهر غير المطابق للواقع؛ لاضطرابه وعدم تفطنه لسبيل التورية، فهو كاذب كحاك، وأما قوله (صلی الله علیه وآله وسلم): «صدقت» فلصدق الحكاية؛ لمطابقة قوله لأحد معنيي الواقع مع التجوز في الإسناد، ويؤيد ذلك: قوله (صلی الله علیه وآله وسلم): «المسلم اخو المسلم» فإن ظاهر هذا التعليل إنه تعليمي، فتأمل.

الفرق الدقيق بين «صدقت» و«ليس بكذب» في الروايتين

ثم لابد من التنبيه على أن هناك فرقاً دقيقاً بين الرواية الأولى - رواية بن بكير - وهذه الرواية، وهو: إنّ الرواية الأولى قال فيها الإمام (عليه السلام): «لا بأس، ليس بكذب»، وأما الثانية فقد قال فيها الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم): «صدقت، المسلم أخو المسلم»، والفرق بين التعبيرين دقيق، وهو: إن الإمام (عليه السلام) لما قال: «لا بأس ليس بكذب» فإن كلامه هذا كاشف عن الملاك والضابط(1)، وظاهره أنه لا يتحدث عن خصوص هذه القضية المصداقية، بل المعنى المراد - ظاهراً - هو: إن هذا وأشباهه ليس بكذب، فتفيد الرواية تحديداً مفهومياً لما هو كذب عن غيره، فتكون التورية - على هذا - صدقاً، ويكون جواب الإمام (عليه السلام) بنحو القضية الحقيقية.

وأما رواية سويد فقد يقال: إن الظاهر فيها هو القضية الخارجية، والحديث في «صدقت» إنما هو عن المصداق، وإنه صرف تنقيح لحال المصداق، فلا يفيد الضابط والتعريف الماهوي.

الفرق بين صب النفي والإثبات على الفرد او على النوع

وتحقيق هذا الفرق بين الروايتين يعود إلى ضابط مبنائي وهو: إن النفي

ص: 130


1- أي فيما هو كذب أو ليس به، في الجملة (أي في كلي هذا المصداق).

والإثبات لو انصبا على الشخص فإنهما يختلفان عما لو انصبا على الصنف أو النوع، فإنهما لو انصبا عليهما فالظاهر هو الإشارة للتعريف والملاك والضابط لخروج أو دخول الصنف أو النوع بذلك، وأما لو انصبا على الشخص فلا يفيد إلا التنقيح الموضوعي ولا ربط له بالتعريف والملاك، إذ الجزئي لا يكون كاسباً ولا مكتسباً.

ويوضح ذلك: إنه لو قال أحدهم: الرجل الشجاع ليس بأسد، فظاهر الكلام هنا هو الحد أو الرسم الماهوي أو المشير له، والمراد هو بيان أن حقيقة الرجل الشجاع غير حقيقة الأسد.

بعكس ما لو أشار إلى شيء معين وقال: هذا ليس بأسد، فإنه لا يفيد الضابط حتى في الجملة، وكذا لو شاهد أحدهم شبحاً فشك في أنهأسد أو ذئب، فقال أحد الخبراء أو أقوياء البصر: ليس ما نراه شبحاً من بعيد بأسد، فإن ظاهر الكلام هنا هو أن المتكلم في مقام بيان المصداق، لا التعريف وبيان ما هو داخل مفهوماً وحقيقة في (الأسد) عما هو خارج.

فقد يقال: بأن هذا الضابط المبنائي ينطبق على الروايتين المذكورتين بدعوى أن ظاهر كلام النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) في قوله: «صدقت» هو بيان حال المصداق والقضية الخارجية، ولا ربط له بالتعريف والضابط النوعي؛ ولذا علله (صلی الله علیه وآله وسلم) بأمر خاص بالقضية وهو «المسلم أخو المسلم»، وأما الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله: «ليس بكذب» فظاهر كلامه هو إعطاء الضابطة العامة؛ إذ المصب نوع هذه القضية لا شخصها، والله العالم.

ولكن لا يخفى التأمل في ذلك؛ فإن وزان القضيتين عرفاً واحد خصوصاً أو عموماً، فتأمل.

ص: 131

مقتضى التحقيق: التفريق بين الإثبات فلا يدل على الحقيقة والنفي فيدل على نفيها

وقد يقال: بأن الأصح هو التفريق بين الإثبات والنفي في الموردين(1) ، بمعنى أنه لا بد من التفريق بين الحمل و بين السلب؛ وذلك لأن الحمل والإثبات هو أعم من الحقيقة وهذا ما يعبر عنه بأن الاستعمال أعم من الحقيقة، فلا يصلح الاستعمال شاهداً على التعريف ومبيناً للمفهوم وحدوده، وأما النفي والسلب فظاهره نفي الحقيقة.

ويوضحه: إننا نفرق بين قولنا: زيد أسد، فهذا حمل وهو أعم من الحقيقة(2)، وبين قولنا: ليس الرجل بأسد، فإن الظاهر منه هو نفيالحقيقة فتأمل(3) وتفصيل الكلام في مباحث الالفاظ.

الدليل الثالث: قوله (عليه السلام): «والله ما سرقوا وما كذب»

الدليل الثالث: وبه الخاتمة، وهو رواية توجد بمضمونها روايات أخرى عديدة، لعلّها تفيد بظاهرها التنقيح الموضوعي للتورية وإنها ليست بكذب موضوعاً، وهي ما رواه الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن أحمد بن محمَّد بن أبي نصر عن حماد بن عثمان عن الحسن الصيقل قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إنا

ص: 132


1- فإن مفاد ما سبق التسوية بين النفي والإثبات وأنهما في مورد الحديث عن الصنف والنوع إشارة إلى التعريف، وأما لو كان الكلام حول الشخص والمصداق فهما إشارة للاستعمال.
2- نعم صحة الحمل بلا عناية هي علامة الحقيقة.
3- إذ نفي صدق حقيقةٍ وطبيعيّ على مصداقٍ أعم من وجهه والضابط فيه. والمثال الثاني لا يوازن الأول، إذ موازنه هو أن يشار إلى مصداق محدد فيقال: هذا ليس بأسد فإنه لا يفهم منه الضابط. فتأمل إذ التفريق في المتن كان لوجه آخر لكنه وإن صح إلا أنه لا يجدي في جهة البحث، فتدبر.

قد روينا عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول يوسف (عليه السلام): (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ)، فقال (عليه السلام): «وَاللَّهِ مَا سَرَقُوا وَمَا كَذَبَ », وقال إبراهيم (عليه السلام): (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ)، فَقَالَ (عليه السلام): «وَاللَّهِ مَا فَعَلُوا وَمَا كَذَبَ»، قال: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «مَا عِنْدَكُمْ فِيهَا يَا صَيْقَل؟» قال فقلت: ما عندنا فيها إلا التّسليم، قال فقال (عليه السلام): «إِنَّ اللَّهَ أَحَبَّ اثْنَيْنِ وَأَبْغَضَ اثْنَيْنِ أَحَبَّ الْخَطَرَ فِيمَا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَأَحَبَّ الْكَذِبَ فِي الْإِصْلَاحِ وَأَبْغَضَ الْخَطَرَ فِي الطُّرُقَاتِ وَأَبْغَضَ الْكَذِبَ فِي غَيْرِ الْإِصْلَاحِ، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) إِنَّمَا قَال َ- بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا إِرَادَةَ الْإِصْلَاحِ وَدَلَالَةً عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ، وَقَالَ يُوسُفُ (عليه السلام) إِرَادَةَ الْإِصْلَاحِ»(1).

فقد يقال: إن هذه الرواية واضحة الدلالة على أن التورية ليست بكذب؛ فإن المنادي قد ورَّى وستر المعنى الحقيقي المراد على خلاف ظاهر الكلام فلم يكن الظاهر مراداً، والأمر كذلك في تتمة الرواية: إذ جاء فيها: (وقال إبراهيم (عليه السلام):( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) فقال(عليه السلام): «والله ما فعلوا وما كذب»)، وقد سبق: إن من وجوه نفي الكذب أن الآية تشير إلى قضية شرطية وهي: (إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم هذا وحيث إنهم لا ينطقون فلم يفعله كبيرهم)، وهذاالمقطع من الرواية أيضاً قد يقال: إنه يدل على أن التورية ليست بكذب موضوعاً.

ثم قال الإمام أبو عبد الله (عليه السلام) : «إن إبراهيم (عليه السلام) إنما قال: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذا) إرادة الإصلاح ودلالة على أنهم لا يفعلون»، ومعنى ذلك: أن إبراهيم (عليه السلام) أراد أن ينبههم ويفهمهم ما به صلاح حال عقيدتهم و آخرتهم وأن هذا الصنم ليس باله، ولعل المراد إنه كان من باب الأهم والمهم، وسيأتي ما فيه

ص: 133


1- الكافي: ج2 ص341.

وقد وردت بمضمون هذه الرواية روايات أخرى أيضاً.

فقه الحديث في رواية: «والله ما سرقوا وما كذب»

ولابد أن نتوقف عند فقه قوله (عليه السلام): «والله ما سرقوا وما كذب» إذ إن المحتملات في قول الإمام (عليه السلام): «وما كذب» خمسة لا يتم الاستدلال على أكثرها:

الاحتمالات الخمسة في الرواية

الأول: إنّ الكذب بلحاظ حيثية التورية حقيقة شرعية

الاحتمال الأول: إن نفي الإمام (عليه السلام) الكذب بقوله: «وما كذب»، إنما هو نظراً إلى أن للكذب من حيث التورية وعدمها حقيقةً شرعيةً، بدعوى: أن الإمام (عليه السلام) لا ينفي صدق الكذب العرفي، بل ينفي كون التورية كذباً بنحو المصطلح الشرعي فهو وضع ثانٍ، وذلك كالعدالة على القول بأنها حقيقة شرعية لا تؤخذ من الناس والعرف؛ فمثل دخول منافيات المروة في مفهوم العدالة وكونها مقومة لها أو لا، ليست من مجالات العرف وساحته حتى تنالها يدهم إثباتا أو نفياً.

وحاصل الدعوى: إن الكذب من حيث التورية حقيقة شرعية، أي إن الشارع قد تصرف في الكذب فضيق دائرته، فالتورية ليست بكذب شرعاً، وإن كانت عرفاً كذلك.

الثاني: إنه (عليه السلام) يكشف عن الملاك في الصدق والكذب

الاحتمال الثاني: إن كلام الإمام (عليه السلام) يكشف عن المبنى الواقعي

ص: 134

الصحيح في الصدق والكذب وحقيقتهما، وقد سبق وجود خلاف في الملاك والمناط في الصدق والكذب، وهل إن مطابقة ظاهر القول للواقع هو الصدق وعدمه كذب كما هو رأي المشهور؟ أو إن ملاك الصدق والكذب هو ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري(1) ومن تبعه وصولاً إلى السيد الروحاني(2) من أن ملاك الصدق والكذب ليس هو مطابقة ظاهر القول للواقع، وإنما المدار فيهما هو مطابقة المراد والمقصود للواقع، فإن طابق فصدق وإلا فكذب.

والحاصل: إن الإمام (عليه السلام) في قوله: «والله ما سرقوا وما كذب» كشف عن المبنى الصحيح في الصدق والكذب، وإنه يدور مدار القصد؛ وذلك لكون مقصود يوسف (عليه السلام) أو المنادي مطابقاً للواقع، فإن مقصودهم كان إن إخوة يوسف (عليه السلام) سرقوه من أبيه، ولم يقصدوا سرقة صواع الملك، وهذا المقصود مطابق لما جنوه من قبل، و كما سبق فإن المشتق حقيقة في ما انقضى عنه المبدأ إذا كان بلحاظ حال تلبسه به، فلذا قال الإمام (عليه السلام): «وما كذب».

وبكلمة مختصرة: إنّ نفي الإمام (عليه السلام) الكذب إنما هو لأن التورية ليست بكذب واقعاً؛ إذ مقياسه (المقصود) وليس (ظاهر القول).

الثالث: إن عدم الكذب لوجود القرينة النوعية مغِّير للظهور

الاحتمال الثالث: إن نفي الإمام (عليه السلام) الكذب بقوله: «ما سرقوا وما كذب» إنما هو لوجود قرينة نوعية محتفة بالظهور الأولي البدوي ومغيّرة له وعاقدة لظهور ثانوي، و قد سبق أنه متى ما وجدت قرينة متصلة نوعية فإنها تقلب الظهور فيكون الكلام ببركة هذه القرينة النوعية مطابقاً للواقع، فهو

ص: 135


1- كتاب المكاسب: ج2 ص18.
2- منهاج الفقاهة: ج2 ص123.

كقولك: رأيت أسدا يرمي، في أن قرينة يرمي تجعل الظهور ينعقد في الرجل الشجاع دون الحيوان المفترس.

والقرينة النوعية في آيتنا المباركة (أيَتُهَا العِيرُ إنَّكُم لَسَارِقُونَ) هي قرينتان - كما سبق -:

الأولى: كلمة (إنَّكُم)، حيث هناك سرقتان: أحداهما واقعية والأخرى إثباتية، والأولى سرقة حدثت قديماً من قبل إخوة يوسف (عليه السلام) والثانية اتهام لأحدهم بسرقة أخرى وهي سرقة صواع الملك، وقول المؤذن: (إنَّكُم) دون: (إن أحدكم) قرينة على أن نسبة السرقة لهم هي بلحاظ تلك السرقة القديمة لا سرقة الصواع، وقد سبق بيانه وبعض النقاش حوله.

الثانية: اختلاف التعبير في مقطعي الآية بين: (إنَّكُم لَسَارِقُونَ) وبين (نَفْقدُ صُوَاعَ المَلِكِ) فراجع ما سبق.

وأما في الآية الأخرى: فإن النبي إبراهيم (عليه السلام) أقام كذلك قرينة نوعية فيها، وهي الجملة الشرطية حيث أضاف: (إنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ)، وهذه القرينة قلبت المعنى من الإخبار إلى التعليق والإنشاء، و المشروط منتفٍ بانتفاء شرطه، فقد صدق إبراهيم (عليه السلام) في كلامه، وقد سبق أن صدق القضية الشرطية غير متوقف على وقوع أو صدق أو حتى إمكان طرفيها.

ثم إن هذه الاحتمالات الثلاث تدور كلها في دائرة الموضوع.

الرابع: إنّ المراد من «وما كذب» نفي الكذب المحرم

الاحتمال الرابع: إن الإمام (عليه السلام) نفى بقوله: «والله ما سرقوا وما كذب» الكذب المحرم، أي لم يكذب المنادي كذباً محرماً فيدخل الكلام في دائرة الحكم لا الموضوع، أي إن الإمام (عليه السلام) بنى على كون الكلام كذباً موضوعاً، ولكنه ليس

ص: 136

بمحرم للضرورة، والضرورة هي ما أشار إليه الإمام في الآية الثانية بقوله: «إرادة الإصلاح» في تتمة الرواية، وظاهرها إن إبراهيم (عليه السلام) حيث أراد الإصلاح فقد جاز صدور هذه الكذبة؛ بسبب التزاحم وتقديم الأهم على المهم، ولو لم يكن المورد كذباً موضوعاً لم يحتج إلى التعليل بالإصلاح.

الخامس: إنّ الكلام بلحاظ متعلَّقين فهو صادق

الاحتمال الخامس: إن المراد من قول الإمام (عليه السلام): «والله ما سرقوا وما كذب» هو (ما سرقوا وقد سرقوا)؛ أي (ما سرقوا) وهي صحيحة و(ما كذب) إذ قد سرقوا وهي صحيحة أيضاً، ذلك إن إخوة يوسف (عليه السلام) يصح أن نقول عنهم إنهم سرقوا وما سرقوا؛ إذ الكلام هو بلحاظ متعلقين، فإنهم قد سرقوا يوسف (عليه السلام) من أبيه، لكنهم لم يسرقوا الصواع، وكلاهما صحيح فبتعدد المتعلق أخرجنا الكلام والمورد عن الكذب موضوعاً.

وبعبارة أخرى: لأنهم كانوا سرقوا يوسف (عليه السلام) حقاً فكلامه - أي المؤذن - صادق، فلم يكذب كما قال الإمام (عليه السلام)، ولأنهم ما سرقوا الصواع صح قول الإمام «والله ما سرقوا»، والخطأ كل الخطأ في تطبيقهم كلام المؤذن المقصود به سرقة يوسف (عليه السلام) على حالتهم من سرقة الصواع، فصح: «ما سرقوا وقد سرقوا».

وكذلك يقال: في كلام إبراهيم (عليه السلام) فإن المراد من قوله (عليه السلام): «ما فعلوا» هو عدم كسر الصنم الكبير للأصنام فعلاً، ف- «ما فعلوا» بلحاظ الفعلية، وأراد الإمام (عليه السلام) من قوله: «وما كذب» - أي إبراهيم (عليه السلام) -: الشأنية؛ فإنه أراد من قيامه بتكسير الأصنام ونسبة ذلك إلى كبير الأصنام - على حسب بعض الاحتمالات السابقة - من شأنه أن يفعله لو كان ينطق لا أنه قد فعله وكسر

ص: 137

الأصنام بالفعل، والشأنية صادقة وإن لم تكن الفعلية متحققة، وقد سبق الكلام عن هذا الوجه مع وجوه أخرى عديدة، فراجع.

والأرجح من الاحتمالات هو الرابع، ثم الثالث، وأما الخامس فلعله يعود إلى الثالث، فتأمل وقد سبق تفصيل الكلام فيها جميعاً.

حلّ مشكلة مجهولية الحسن الصيقل

ولكن تبقى المشكلة السندية في هذه الرواية وهي: دعوى مجهولية أحد الرواة وهو الحسن الصيقل(1)، وهناك طريقان لرفع الإشكال:

الطريق الأول: رواية عدد من أصحاب الإجماع عنه وهم: عبد الله بن مسكان، وأبان بن عثمان، وحماد بن عثمان، وكذا يونس بن عبد الرحمن، وفضالة بن أيوب.

ولو قلنا: بتصحيح العصابة ما يصح عن جماعة - كما ذكر ذلك الكشي (رحمه الله) -، واستظهرنا أن معنى هذه الجملة تصحيح السند من الراوي المجمع عليه إلى الإمام (عليه السلام)، وإن التصحيح هو للرواة لا الرواية - كما ذهب إلى ذلك بعض الأعلام -، فإن جهالة الصيقل سترتفع بتوثيق ابن مسكان إجمالاً له، وتكون الرواية معتبرة، لكن العبارة إن لم تكن ظاهرة في تصحيح رواياتهم فهي - على الأقل - مجملة، ولا ظهور لها في توثيق الرواة.

لكن قد يقال: إن رواية عدد من أصحاب الإجماع عنه قد تفيد توثيقه نوعاً.

الطريق الثاني: هو إن الحسن الصيقل له روايات في التهذيب والاستبصار

ص: 138


1- وجاء في بعض الروايات بعنوان الحسن بن الصيقل، وهو الحسن بن زياد الصيقل أبو محمد الكوفي وأبو الوليد.

والفقيه، فلو قلنا: بأن الشيخ الصدوق (رحمه الله) في كتاب الفقيه وثق كل سلسلة السند - كما ذهب إلى ذلك جمع من الأعلام -، فإن الصيقل سيكون موثقاً بالتوثيق الإجمالي للشيخ الصدوق (رحمه الله)، فترتفع الجهالة وتكون الرواية محل الاعتماد والاستناد، بل إن الشيخ الصدوق (رحمه الله) عده في مشيخة الفقيه من أصحاب الأصول المعتمدة التي استخرج منها أحاديث كتابه وقد روى كتابه يونس بن عبد الرحمن(1).

والأمر على مسلكنا من حجية مراسيل الثقاة المعتمدة سهل.

شبهة قول إبراهيم (عليه السلام) خلاف الواقع في: (فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا)

وأما الإشكال على أن قول إبراهيم (عليه السلام): (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ)(2) غير مطابق للواقع وكيف يقول النبي المعصوم كلاماً مخالفاً للواقع؟ لوضوح أن النبي إبراهيم (عليه السلام) كان هو الذي حطّم الأصنام ومع ذلك قال: ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا).

فهناك مجموعة من الوجوه لذلك، وقد ذكر قسماً منها المفسرون في التفاسير المختلفة(3)، وذكرها بعض الفقهاء والأصوليين، وهذه الوجوه - فيما أحصينا - هي ثمانية وجوه، وقد أضفنا لها ستة أخرى فالمجموع أربعة عشر وجهاً، سنستعرضها مع الإشارة إلى بعض القول فيها أخذا ورداً، وكما سنرى فإن عدداً من هذه الوجوه يفي بالغرض المطلوب فيستفاد منها جواز التورية، نعم بقية الوجوه هي ذوات فوائد من

ص: 139


1- وقد فصلنا الحديث عن هذين الأمرين في مباحث حجية مراسيل الثقاة، فلاحظ.
2- سورة الأنبياء: 63.
3- كمجمع البيان والتبيان والميزان والصافي وغيرها، كما ذكر من تفاسير العامة بعضها أيضاً.

الناحية التفسيرية والكلامية وإن كانت أجنبية عن جهة البحث.

أربعة عشر وجهاً لدفع شبهة: قول إبراهيم (عليه السلام) خلاف الواقع

1. إن كلام إبراهيم (عليه السلام) من الكذب الجائز للضرورة

الوجه الأول: ما عليه العديد من مفسري العامة من: إن ما ذكره إبراهيم (عليه السلام) هو من الكذب الجائز للضرورة، واستدلوا عليه بروايات نقلوها عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم): بان إبراهيم (عليه السلام) كذب ثلاث كذبات وهذه إحداها، كما استدل عليه: بأن ملاك الأهم والمهم يجري في كل الضرورات، والكذب ليس قبحه ذاتياً بل يختلف بالوجوه والاعتبارات - بخلاف العدل والظلم -، ولا قياس بين قبح الكذب وقبح الشرك بالله تعالى (عز وجل)، فكي يدفع إبراهيم (عليه السلام) ذلك الفساد الأكبر والأعظم - وهو شرك قومه بالله العظيم - اضطر إلى الكذب الجائز.

وقد أجاب الشيخ الطوسي في التبيان: بأن رواية (كذب ثلاث كذبات) خبر لا اصل له(1) ، إضافة إلى أن تجويز الكذب على الأنبياء (عليهم السلام) ولو للضرورة يستلزم سلب الوثوق بقولهم في كافة مسائل العقائد والأحكام(2).

وقد يجاب: بأن سند بعضها تام، لا لوجودها في الكافي الشريف فحسب، بل لكون رجال اسنادها ثقاة، كما نقلناه سابقاً فيما رواه علي بن إبراهيم عن أبيه عن أحمد بن أبي نصر عن حماد بن عيسى عن الحسن الصيقل، نعم اقتصرت في وجه الإصلاح على كلام إبراهيم (عليه السلام) ، وأما سلب الوثوق فإنه يتم لو لم يكن مع الكذب قرينته، والقرينة موجودة؛ إذ فهم القوم من كلام

ص: 140


1- التبيان: ج7 ص 260.
2- التبيان: ج7 ص259.

إبراهيم استهزاءه بهم، وإن إرادته الجدية لم تكن مطابقة للاستعمالية، فتأمل.

2. إنّ كلامه (فعلَّه) وليس (فَعَل)

الوجه الثاني: فهو دعوى أن القراءة الصحيحة ليست هي القراءة المعروفة، وإنما هي (بل فعلّه كبيرُهم)، أي: لعل كبيرهم هو من فعل ذلك، ولعل تفيد الترجي في صورةٍ، فلا موضوع عندئذٍ للصدق والكذب، كما تفيد الاحتمال في صورةٍ أخرى؛ ومنها: المقام، والاحتمال العقلي موجود ثابت(1).

ومع قطع النظر عن النقاش مبنىً في تعدد القراءات، والنقاش في خصوص صحة هذه القراءة لشذوذها، فإن هذا الاحتمال غير عقلائي، والترجي - إضافة إلى بعده جداً كبعد إرادة الاحتمال - غير عقلائي أيضاً(2).

3. (فَعَلَه) محذوف الفاعل

الوجه الثالث: إن المقام هو من باب التورية بحذف الفاعل وقطع الكلام، ومعه ستكون الآية هكذا: (بل فعله) مَن فعله، أو فعله شخص ما، ثم استأنف إبراهيم (عليه السلام) الكلام بقوله: (كَبِيرُهُم هَذا).

والحاصل: إن الفاعل لقوله (فعله) إن كان هو كبير الأصنام أشكل عليه بأنه كذب، لكن مع دعوى: قطع الكلام وحذف الفاعل وتقديره فلا يرد ذلك، وهذا هو موطن التورية؛ إذ إن إبراهيم (عليه السلام) قدوصل بين جملتين فَتُوُهِّم أن ثانيتهما فاعل الأولى، مما أفاد معنى ظاهراً غير مراد باطناً.

وهذا الوجه وإن كان ممكناً، إلا أنه لا دليل عليه، مع بعده.

ص: 141


1- نظراً للإمكان الذاتي لأن يفعله.
2- إذ معناه أنه كان يرجو ويأمل أن الصنم الأكبر هو الذي يكون قد كسر الأصنام!

4. حصول الإضراب عن (فَعَلَه)

الوجه الرابع: إن إبراهيم (عليه السلام) قال: (بَلْ فَعَلَهُ) ثم أضرب عن كلامه وقال: (كَبِيرُهُم هذا)، ووجه الفرق بين هذا الوجه والثالث: إنه في الوجه الثالث يُلتزم بوجود فاعل مقدر محذوف، وأما في الوجه الرابع؛ فإن الإضراب عن الجملة الأولى للإيهام والتعمية من دون قصد فاعل خاص، ويوضح ذلك في العرف أن أحدهم لو سأل فقال: هل جاء زيد؟ وأنت لا تريد ذكر الواقع في الجواب لمحذور ما فتقول: (جاء، ذهب زيد(1))، فيتوهم السائل أن مقصودك إن زيداً قد جاء وذهب، إلا أن المقصود الحقيقي هو الإضراب عن جاء، ومقصودك الواقعي هو ذهب زيد(2)، وقد استعملت هذا الأسلوب.

وهذا الوجه كسابقه لا دليل عليه.

5. انّ المجاز هنا في الإسناد

الوجه الخامس: إن نسبة (فعله) إلى الصنم صحيحة فلا كذب أصلاً؛ وذلك لأنه يصح أن يسند الفعل للسبب، كما يصح أن يسند إلى المباشر، غاية الأمر أنه يكون من باب المجاز في الإسناد؛ فإن إبراهيم (عليه السلام) وإن كان هو المباشر لتحطيم الأصنام إلا أن السبب الذي حركه ودفعه لذلك هو وجود الصنم الكبير وكونه معبوداً مع الله تعالى، فأغاضه ذلك، فكان سبباً لقيامه بكسر الأصنام الصغار.

والحاصل: إن نسبة الفعل إلى السبب نسبة صحيحة مصححة للإسناد،

ص: 142


1- والأوضح أن تقول: (جاء، ما جاء زيد) موهماً أن جاء استفهامية مثلاً.
2- إذ كان موجوداً من البداية فلم يجيء ليذهب.

ويوضح ذلك عرفاً: إن شخصاً لو أحسن إلى آخر فقالالثاني له: (جزاك الله خيراً لإحسانك) فقال الأول: (إنني لم أحسن إليك, إنما الذي أحسن إليك هو من علمني ورباني ودربني على خدمة الناس والإحسان إليهم)، فإنه ليس بكذب، بل هو كلام صحيح.

وكذلك لو قيل للبطل الذي فتح الحصن والقلعة: (ما أروعك وأشجعك إذ فتحت القلعة)، فقال: (بل فتحها قائد الجيش وأنا مجرد جندي عنده)، فإنه صحيح؛ لصحة إسناد الفعل للسبب لما يقع في سلسلة العلل الطولية.

وفي مورد البحث: فإن هذا الوجه صحيح في حد ذاته، وقرينة المجازية هي: القطع - على ذلك المبنى الكلامي - بأن إبراهيم (عليه السلام) لا يكذب ولا يجوز له ذلك؛ إذ إن الأنبياء (عليهم السلام) لا يصدر منهم ما يشكك في بعثتهم وإرسالهم وسائر ما ينقلونه عن الله تعالى؛ لئلا يلزم من ذلك نقض الغرض.

وفيه: إن هذه القرينة أعم من هذا الوجه، إضافة إلى أن الإشكال في إفادة الإضراب بالنفي عن فعله(1).

6. انّ المجاز من حيث الشأنية

الوجه السادس(2): إن كلام إبراهيم (عليه السلام) يقصد به الشأنية في قبال الفعلية، فإن ظاهر (بَلْ فَعَلَهُ..) وإن كان هو الفعلية، ولكن يصح أن يقصد به الشأنية تجوزاً، بأن يراد: لو كان هذا الصنم يعقل لكان من شأنه أن يفعل ذلك الفعل (تحطيم بقية الأصنام)، ويوضحه عرفاً: إن شخصاً لو استجمع شرائط المرجعية من الاجتهاد والعدالة وغيرها، واستجمع أيضاً كمالات المرجع من

ص: 143


1- إذ قال: (بَلْ فَعَلَهُ كَبيرُهُم) المفهوم منه أنه (عليه السلام) لم يفعله.
2- وهذا وجه نضيفه أيضاً للوجوه الأخرى.

الحلم والرزانة والوعي وغيرها، فإنه يصح أن يشار إليه ويقال عنه: (إنه مرجع تقليد) أي شأناً بمعنى أنه من شأنه أن يكون كذلك، لا إنه بالفعل مرجع قد تصدى للمرجعية.

وكذلك الشاب عندما يكبر ويبلغ سن الزواج، ويرونه جديراً ومهيأً للزواج، فإن أمه وأصدقاءه قد يعبرون عنه ب: (جاء العريسوذهب العريس وهكذا...) قاصدين جاء الذي من شأنه أن يكون عريساً، ويمكن أن يقصد به المجاز بالمشارفة أو بالأوْل كما لا يخفى، وأما قرينة التجوز فهو ظاهر الحال من وضوح عدم إمكان كون الصنم هو الفاعل لذلك فعلاً، لكنه وجه بعيد عن المتفاهم العرفي، ولا قرينة دالة عليه بخصوصه.

7. إنّ التعليق في الشرطية رافع للكذب

الوجه السابع: ما في بعض الروايات من أن الجملة الشرطية (إنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) مرتبطة بالمقدم، أي هي قيد له، والمقدم هو: (بَلْ فَعَلَهُ كَبيرُهُم)، ومن ثم فإن جملة (اسألوهم) معترضة في الكلام، ومعه فيكون المقام تعليقاً لفعل التحطيم على النطق، وحيث لا نطق فلا فعل.

والحاصل: إن هنا جملة شرطية اعترضتها جملة إنشائية هي (اسألوهم) وليست جملة (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) جملة مستقلة، بل هي تالي القضية الشرطية(1)، وقد مضى تفصيل الكلام حول ذلك.

8. إنّ المراد النفي للنفي لا الإثبات للإثبات

الوجه الثامن: إن المراد ليس عقد الإيجاب بل عقد السلب، فالمقصود من

ص: 144


1- وقد استشكل بعضهم على هذا الوجه بإشكال دقيق في تحليل القضية الشرطية وقد أجاب عن ذلك بعض محشي وشراح المكاسب المحرمة، فراجع.

( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) هو إنه حيث لا ينطقون فلم يفعله كبيرهم، فليس المراد: فعل وقد نطقوا، بل المراد لم يفعل ولا ينطقون، فهو من معاريض الكلام وقد سيق في مقام التبكيت، أو فقل إنه كناية عن العدم للعدم لا الوجود للوجود، فتدبر.

ويوضحه عرفاً: ما لو بنى مهندسٌ قدير عمارة شاهقة، فسأله أحد العوام بنحو الاستفهام الاستنكاري فقال: أأنت بنيت هذه العمارة؟ فأجابه المهندس لا، بل أنت من قام ببنائها، فإنه ليس مراده قطعاً هو الإخبار الحقيقي عن أنه - أي ذلك العامي - هو الذي هندس الدار، بل الكلام هو من باب دلالة التنبيه والايماء وهو إنك لست الباني وإنني أنا المهندس الذي قام بذلك، فإن هذا هو المفهوم من هذهالجملة عرفاً.

وفي قضية إبراهيم (عليه السلام) من الواضح أن كبيرهم لم يقم بالتكسير لعدم نطق هذه الأحجار الصماء، فيكون المعنى كنائياً ومن باب المعاريض فحيث قالوا: (أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم) أجاب: (بل فعله...) كناية عن أنه (عليه السلام) هو الذي فعله؛ إذ كيف تتوهمون غيره؟

9. إنّ المراد من كبيرهم إبراهيم (عليه السلام)

الوجه التاسع: إن المراد من كبيرهم هو إبراهيم نفسه (عليه السلام)، فإن النبي (عليه السلام) هو سيد الكائنات؛ ومنها: تلك الأصنام وغيرها، فقد عنى ب(كبيرهم) نفسه، لا كبير الأصنام وقوله: (فاسألوهم إن كانوا ينطقون)، يريد أنهم - أي الأصنام - كانوا سيقولون لكم ذلك، وإنني فعلت بهم ذلك لو سألتموهم وكانوا ينطقون.

ص: 145

10. إنّ كلام إبراهيم (عليه السلام) هو من باب الإلزام

الوجه العاشر: إن كلام إبراهيم (عليه السلام) كان من باب الإلزام للخصم بما التزم به في مقام المحاجّة والمناظرة لأولئك المشركين، أي إنه (عليه السلام) قال ذلك كتفريعٍ لازمٍ للقوم على مبناهم وعلى اعتقادهم من أن كبير الأصنام هو إلاههم، فلزمهم بأن يقروا بأن القائم بالتكسير والتحطيم هو الصنم الأكبر، وخاصة إن القدوم (الفأس) كان معلقاً برقبته، ولو لم يكن الفاعل وكان إلهاً لما رضي أن يُعلق الفأس في رقبته ويُتهم بأنه كاسر الأصنام!

وبعبارة أخرى: المراد فعله كبيرهم فيما يلزمكم وبناء على معتقدكم بإلهيته.

فبحسب الإلزام وفي دائرته، فإن الكلام صحيح، وهو جارٍ كثيراً في المحاورات العرفية.

11. إنّ كلامه (عليه السلام) استفهام استنكاري وليس إخباراً

الوجه الحادي عشر: قد يكون قول إبراهيم (عليه السلام) استفهاماً استنكارياً وليس إخباراً، ومعناه: (بَلْ أفَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا)؟ وهو مستلزم للدلالة على أن إبراهيم (عليه السلام) هو الفاعل، وأن الصنم لا يمكن أن يكون الفاعل؛ ولذا فليس بإله.

ثم إنه (عليه السلام) قد أكد ذلك بوجه آخر وهو: (فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ)، ومعه فإن إبراهيم (عليه السلام) قد عمل على إلفاتهم مرتين، هذا.

ولكن هذا الوجه - كأكثر الوجوه الأخرى - خلاف الظاهر، خاصة مع وجود كلمة (بل).

ص: 146

12. إن إبراهيم (عليه السلام) كان في مقام التعليم والتمثيل

الوجه الثاني عشر: إن إبراهيم (عليه السلام) كان في مقام التمثيل، ومقام التمثيل لا يصدق عليه (الكذب)، فإن من الواضح أن من يقوم بتمثيل دور ما أو حادثة ما، يخرج بكلامه و إخباراته من فضاء الواقع إلى الفضاء المجازي، فيكون الكلام مبنياً على قاعدة وأرضية أخرى، وذلك كما لو تقمص احدهم دور سلمان المحمدي أو أبي ذر أو حجر بن عدي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين في مسرحية ما، فتكلم بكلام ليس هو مصداقه، كما لو تحدث عن إحدى أفعاله وإنجازاته - أي أفعال سلمان - في الدفاع عن الإسلام وأهله أو عن أحدى حواراته مع الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) أو وصف نفسه بإحدى صفاته الثابتة تاريخياً، فإنه في حال التمثيل لا يقال له: لِمَ كذبت في قولتك وحديثك؛ ذلك أن القرينة العامة المقامية موجودة وهي صدور الكلام التخيلي والتصوري في عالم الافتراض التمثيلي عن الشخص الممثل له، وليس عن الممثل نفسه، وذلك قريب الشبه إلى الحقيقة الادعائية التي ذكرها السكاكي.

توضيح الصغرى: وقول إبراهيم (عليه السلام) يمكن أن يكون من هذا القبيل، ومما يدل على ذلك أنه (عليه السلام) هيأ مشاهد وأحوال المشهد التصويري؛ إذ إنه علق الفأس في عنق الصنم الكبير، وعندما جاء القوم وجدوا هذا المشهد، فانتقلوا إليه - إلى الفضاء المجازي - تلقائياً بما هيأ إبراهيم (عليه السلام) لذلك فكان كلامه في هذه الظروف.

تقريب الصغرى: والقيام ببعض التمثيل لغرض عقلائي ليس مستغرباً عن المعصومين (عليه السلام)، كما في قضية الإمام الحسن والحسين 3 عندما مثّلا مشهد الوضوء لذلك الشيخ الكبير، حيث كان مقصودهما عبر ذلك المشهد: إفهامه

ص: 147

بكون وضوئه باطلاً.

والمثال الأوضح: بعض حوارات الزهراء $ مع أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما كانا يتفاضلان فيما بينهما، فإنهما أرادا نقل الكلام إلى فضاء آخر لإيصال تلك الحقائق إلى الآخرين بهذا اللسان، وكذا الحال نفسه في بعض محاورات الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) مع أمير المؤمنين (عليه السلام) فإن كلاً منهما كان يعرف واقع الأمور المختلفة - بإذن الله تعالى -، إلا أنهما أحياناً كانا يمارسان دوراً تصويرياً تجسيدياً؛ لما له من التأثير الأكبر في النفوس وفي عملية نقل المعارف للأجيال.

والأوضح من ذلك كله: قول الزهراء $ لأمير المؤمنين (عليه السلام) - بعد هجوم القوم على الدار -: «اشتملت شملة الجنين، وقعدت حجرة الظنين، نقضت قادمة الأجدل فخانك ريش الأعزل... »(1) فإن كلاماً كهذا ليس من المعقول أن يصدر من الصديقة الكبرى $ التي يرضى الله لرضاها في حال كونها تتكلم في فضاء الحقيقة وفي مقام الإرادة الجدية، بل كلامها إنما هو في مقام آخر؛ ذلك أن الزهراء $ هي أعرف الناس ببطولة علي (عليه السلام) وشجاعته، وبأنه مأمور بالصبر إذ: (قيّدته وصية من أخيه)(2)،ومعه فهذا الكلام وغيره منها إنما دار في فضاء آخر - افتراضي أو مجازي أو تقديري أو لويّ -، وهدفه إيصال رسالة التزامية إلى الأجيال المختلفة، وهي رسالة المظلومية الكبرى، وغصب حق أهل البيت (عليهم السلام) من غير أن تكون مداليلها التضمنية مقصودة بذاتها.

والمتحصل: إن تلك الحوارات التي تعمل على نقل السامع إلى فضاء آخر واردة وعرفية، ولا كذب فيها بلحاظ ذلك الحال.

ص: 148


1- الاحتجاج: ج1 ص 107.
2- كما عبر عنه السيد باقر الهندي رحمه الله في قصيدته الرائية الرائعة التي مطلعها: كل غدروقول افك و زور...هو فرع عن جحد نص الغدير، وتتمة البيت: وحملته ما ليس بالمقدور

والحاصل: إن الكبرى مما لا إشكال فيها، نعم كون المقام صغرى هذه الكبرى بحاجة إلى مزيد تأمل وتدبر.

13. إن الكلام إنما هو من باب الاستخدام

الوجه الثالث عشر: فهو إن الكلام في (فَعَلَه) إنما هو من باب الاستخدام، وإن الضمير وإن كان ظاهراً يعود إلى الصنم الكبير، إلا أنه في باب الاستخدام يعود إلى غير مرجعه المصرح به في الكلام، أي إنه يعود إلى شيء مستبطن يفهم من سياقه، والمحتمل أن يرجع الضمير في (فعله) إلى (الإضلال)، أي: إن الذي أضل هو الصنم الأكبر.

ولكن الاستخدام خلاف الظاهر، مما يحتاج إلى قرينة.

14. إن كلامه كان تقية

الوجه الرابع عشر: إن كلام إبراهيم (عليه السلام) كان خارجاً مخرج التقية، فإنه بذلك ألقى الاختلاف بينهم، ولولاه لعجّلوا بالانتقام منه، فبقوله هذا فتح الباب للكثير منهم ليتفكروا في بطلان عبادتهم للآلهة، عبر هذا الأسلوب الجديد المبتكر من جهة، كما اضطرهم لتأجيل عقوبته حيث أربكهم جوابه الذي أيقظ فطرة الكثير منهم.

لا يقال: إنه كان مقتولاً أو معاقباً على كل حال فلا مجال للتقية!

إذ يقال: التقية قد تدفع أصل الأذى، وقد تؤخره، وهي مطلوبة في الصورتين، فتأمل.

فهذه أربعة عشر وجهاً لدفع الإشكال حول كلام إبراهيم (عليه السلام)، والله العالم.

ص: 149

ولا يخفى أنه مع وجود صِرف إحدى تلك الاحتمالات، يندفع الإيراد والإشكال على إبراهيم (عليه السلام) بأنه كيف كذب على القوم؟ إذ يقال: ثبّت العرش ثم انقش؛ إذ من أين أنه كذب؟ غاية الأمر احتماله، إذ يكفي لعدم ورود الإيراد الجواب بأنه من المحتمل كونه صدقاً مطابقاً للواقع بإحدى الوجوه الماضية؛ إذ أريد بالكلام - على حسب بعض تلك الوجوه - ما يطابق الواقع الخفي، أو أريد به ما لا يخالفه،أو بأنه وإن فرض كونه كذباً إلا أنه جائز للأهم والمهم وشبه ذلك، لكن إثبات تحقق خصوص هذا الاحتمال أو ذاك بحاجة إلى قرينة، وصرف الاحتمال غير مجدٍ، إلا لدفع لزوم الإشكال، فتدبر.

الاستدلال بانصراف أدلة الكذب عن التورية مطلقاً أو عن خصوص فاقدة القرينة

ثم إنه من الوجوه التي يمكن الاستدلال بها على عدم حرمة التورية مطلقاً أو عدم حرمتها في غير هذا القسم من التورية(1)، هو: انصراف أدلة حرمة الكذب عن مطلق التورية أو عن غير هذا القسم من التورية.

لكن دعوى الانصراف حيث لم يمكن نفيها بذاتها؛ لقيامها بنفس الفقيه أو ذهنه، فلا بد من البحث عن منشأها، وبذلك يخرج البحث عن دائرة الفهم الشخصي إلى دائرة الضابطة النوعية: فنقول:

إن منشأ الانصراف المدّعى إما كثرة الوجود أو كثرة الاستعمال أو مشككية الماهية أو خفاء الدلالة فالوجوه في المقام أربعة(2):

ص: 150


1- بأن تنصرف أدلة الحرمة عن التورية مع قرينة جلية أو خفية، فتبقى التورية بلا قرينة في دائرة أدلة حرمة الكذب.
2- فصلنا الحديث عن مناشئ الانصراف في مباحث البيع، وقد ذكرنا وجوهاً سبعة للانصراف هنالك، فراجع.

أما كثرة الوجود، فيرد عليها: إن التورية كثيرة جداً أيضاً، فضلاً عن أن الكثرة - أعني كثرة الوجود - لا تفيد الانصراف.

وأما كثرة الاستعمال، فإنها لو أوجبت هجر المعنى الأول كان ذلك منقولاً وليس انصرافاً.

وأما لو لم توجب هجر الأول بل أوجبت علقة ذهنية بالمعنى الأول بحيث أورثت شدة الإنس فقط فيكون مشتركاً أو مجازاً مساوياً، فلا انصراف، وأما لو زاد عن هذا الحد ولم يبلغ حد النقل فهو الموجب للانصراف؛ بدعوى أنه استعمل الكذب في غير التورية استعمالاً أوجب الإنس بهذه الدرجة، ولكن إثبات ذلك مشكل، بل الظاهر أن هذا المنشأ للانصراف ليس بمتحقق أيضاً.

وأما مشككية الماهية، فلا توجب الانصراف لو لم تعد لخفاء الدلالة فإن الإنصراف كالدلالة من عالم الإثبات وأما مشككية الماهية فمن عالم الثبوت.

وأما خفاء الدلالة، فالظاهر عدم تحققها؛ لظهور صدق الكذب على ما لو قصد خلاف الظاهر من غير قرينة أبداً، كما مضى بيانه.

وأما مناسبات الحكم والموضوع(1)، فلا وجود لها، وأما المشهور فلا يعلم فتواهم بحلية التورية الفاقدة للقرينة مطلقاً، على أنه مما لا يوجب الانصراف وليس دليلاً برأسه، فتأمل.

ومعه فيبقى هذا القسم مشمولاً ظاهراً بدليل الحرمة(2).

ص: 151


1- وهو المنشأ الخامس للانصراف.
2- ومن الواضح أنه يستثني من هذه الصورة بل مطلقاً حالة الاضطرار والضرورة وكذلك حالة التزاحم لو كان هذا أهم، لكن كلامنا عن حكم التورية بما هي هي.

الحكم في صورة الشك في كون التورية كذباً

الحكم في صورة الشك في كون التورية كذباً(1)

ثم إنه لو فرضنا أن الفقيه شك بعد كل البحوث والمناقشات، بنحو الشبهة المفهومية في أن الكذب هل هو مخالفة ظاهر القول للواقع - وهو ما عليه المشهور؟ فتكون التورية(2) كذباً، أو أنه عبارة عن مخالفة المراد للواقع - كما عليه الشيخ (رحمه الله) ومن تبعه -؟ فتكون التورية صدقاً، أو هو مخالفتهما معاً، فمع الشك تكون التورية محكومة بالجواز؛ لأن تحريمها استناداً إلى أدلة حرمة الكذب يكون من التمسك بالعام في الشبهة المفهومية فالمصداقية؛ إذ يشك في كون عنوان الكذب منطبقاً على التورية أو لا؟ وإنها مصداق له أو لا؟ فلا يحكم على التورية بالحرمة؛ إذ لا يصح التمسك بالعام في موارد الشبهة المفهومية للعام سعةً وضيقاً، كما لا يصح التمسك به في موارد الشبهة المصداقية، مع وضوح أن المقام ليس من العنوانوالمحصّل على أن فيه كلاماً ذكرناه في بعض المباحث السابقة(3).

وعليه: ففي فرض شك الفقيه في ضابط الكذب، سينحصر الكذب الحرام في كل قول خالف الواقع والمراد معاً، وأما لو خالف أحدهما فالأصل عند الشك هو الحلية.

هذا بعض الكلام في مبحث التورية من حيث الجواز والحرمة، وقد تطرقنا لجوانب أخرى من مباحثها في كتاب (المعاريض والتورية)، كما بقيت مباحث أخرى قد نتطرق لها في موضع آخر إن شاء الله تعالى، والله المستعان.

ص: 152


1- وهذا مؤكد ومكمل لما مضى في أوائل البحث من (الحكم في صورة الشك في صدق الكذب على التورية) فلاحظ.
2- أي الفاقدة للقرينة النوعية، أو حتى الشخصية الخفية، على ما مضى بحثه.
3- وانه أيضاً مجرى البراءة لا الاحتياط استناداً للانطلاق المقامي وغيره.

خاتمة في ملخص البحث:

أنواع التورية وصورها وأحكامها

ونلخص ما مضى من بحث بجمع أطرافه المترامية مع بعض الإضافات الضرورية:

التورية أقسامها وصورها:

إن التورية على أربعة أقسام(1):

1. أن يستر الظاهر بالظاهر، وهذا ليس بكذب قطعاً، فلا ينبغي الإشكال في جوازه؛ لأن الظاهر قد طابق الواقع.

2. أن يريد الظاهر والباطن معاً فيستر بما أراده من الظاهر ما أراده من الباطن، وهذا قسم من التورية، وهو صدق جائز، بل إن القرآن الكريم مبني على ذلك(2).

3. أن يكون الظاهر مجملاً فيسري الإجمال إلى المراد، وهذا ليس بكذب أيضاً وليس بحرام، وهذا كله مبني على تعريفنا للكذب - كما هو مبنى المشهور أيضاً - وهو: إن الصدق والكذب مدارهما مطابقة ظاهر القول مع الواقع أو عدمه؛ وذلك لان (المجمل) لا ظاهر له كي يقال: بمخالفة ظاهره للواقع، وأما على المبنى الآخر فالأمر أظهر.

ص: 153


1- وليست منحصرة في القسم الرابع الذي درجوا على ذكره عادة.
2- أي إرادتهما معاً، أما ستره هذا بذاك أي إنه أريد بذلك ذلك فبحاجة للتثبت وللمزيد من التحقيق.

4. وهو أن يريد بكلامه خلاف ظاهره، وهذا القسم ينقسم إلى ثلاث صور:

الصورة الأولى: أن يقيم المتكلم قرينة نوعية مغِّيرة للظهور، فينقلب الظهور الأولي إلى ثانوي مستقر، وحيث إن هذا الأخير يكون مطابقاً للواقع فهو صدق.

الصورة الثانية: أن يقيم المتكلم قرينة خفية.

ولنذكر لذلك مثالاً لطيفاً قد ينفع في تنقيح حال هذه الصورة:فإنه لو طلب رجل من آخر مالاً ولم يشأ الثاني أن يعطيه لعلمه بأنه سوف يستعمله في غير محله، فقد يورِّي بالقول: أنه لا يوجد بيدي شيء، فيفهم الأول منه أنه لا مال له، مع أن مراده هو: إن يده - أي الجارحة - فارغة من أي شيء.

وهنا: تارة يحرك المورّى يده بشكل ظاهر وهو يقول: ليس بيدي شيء! فإنه في هذه الصورة لا إشكال في أنه صدق مطابق للواقع لوجود القرينة النوعية المغيرة للظهور، وعدم فهم السامع لا يغير من الظهور الثانوي النوعي شيئاً.

وتارة أخرى: يضع المورِّي يده في جيبه مثلاً ثم يحركها بشكل لا يتيسر للسائل ملاحظته ولا للنوع وهو يقول: إنه لا شيء بيده! فهذه قرينة خفية، فقد يقال: هذا المورد أيضاً ليس بكذب؛ إذ الكذب عنوان ثبوتي، والقرينة الواقعية مغيرة للظهور ثبوتاً، فلا يصدق كذب الحكاية، كما لا يصدق كذب الحاكي، وإن توهمه السامع أو النوع كاذباً، على ما مضى تفصيله.

الصورة الثالثة: وهي الصورة المشكلة في المقام وهي: فيما لو لم يقم المتكلم قرينة أصلاً؛ لا قرينة نوعية جلية، ولا قرينة خفية، مع قصده أمراً مطابقاً للواقع، والظاهر أنه كذب موضوعاً، إنما الكلام في حكمه، فلابد من استقراء

ص: 154

الأدلة؛ فإن كان فيها ما يخرجها عن عمومات حرمة الكذب فهو، وإلا كانت محرمة، إلا أن يتمسك بانصراف عمومات الكذب، كما مضى.

وفي الخاتمة نستعرض ما مضى من الأدلة بإيجاز شديد مع بعض ما مضى من وجوه النقاش فنقول:

موجز مناقشة الاستدلال بالآيات الكريمة

1. حلف النبي أيوب (على نبينا وآله وعليه السلام)، وقد سبق الإشكال ب: إن الظاهر من الآية والروايات المفسرة لها هو: إنه كان جاداً لا مورِّياً، فلا يستدل بهذه الآية على جواز التورية؛ إذ ليس المورد منها.2. ما في قصة النبي يوسف (على نبينا وآله وعليه السلام)، حيث أذن المؤذن: (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ)(1)، وقد سبق الإشكال ب: وجود قرينة نوعية وهي (إنَّكُمْ)، كما سبق رده ب: وجود القرينة الحالية الأقوى التي تفيد ظهور الآية في أن المراد هو سرقة الصواع، كما سبقت المناقشة في: دلالة اختلاف تعبيري (إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) و(نَفْقدُ صُواعَ المَلِكِ)، كما سبق الإشكال بأن (سارقون) كلي قابل للانطباق على معنيين، فلا إحراز لكونه كذباً، مع مناقشته.

وأما الإشكال الأساسي فهو: إن الفعل لا جهة له، إذ غاية الأمر إن الآية تدل على أن ذلك القول كان جائزاً، لكن هل كان كذباً جائزاً للضرورة، أو توريةً جائزةً؟ فلا تدل على جواز التورية بما هي هي، وبصورة مطلقة.

3. وأما الآية الأخرى فهي قول إبراهيم (عليه وعلى نبينا وآله السلام): (إِنِّي سَقِيمٌ)(2)، وقد مضى الإشكال ب: إنه قد يكون سقيماً بالفعل - ببعض

ص: 155


1- سورة يوسف: 70.
2- سورة الصافات: 89.

معانيه -، فلا تورية، وإن (سَقِيمٌ) مشتق، والمشتق بلحاظ حال التلبس حقيقة، بقرينة أنه نظر في النجوم، كما فصلناه، فكان صادقاً، ولا إشكال في جواز الصدق توريةً كان أو غيرها، هذا إضافة إلى أن الضرورة اقتضت ذلك؛ إذ تعلل بذلك عن الذهاب إلى مهرجان تعظيم الأصنام، ولا كلام في جواز التورية بل حتى الكذب الصريح، في صورة الضرورة.

4. كما فصلنا الجواب عن الاستدلال بقوله تعالى: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ).

وزبدة القول: إن الآيات الشريفة لا يصح الاستدلال بها على جواز التورية بقول مطلق.

موجز مناقشة الاستدلال بالروايات الشريفة الثلاث

أما الرواية الأولى - وهي ما نقله ابن إدريس في مستطرفات السرائر -: فقد أشكلنا عليها ب: إن عكس الاستدلال هو مقتضىالقاعدة، وإن قرينة المجاز موجودة؛ إذ إن الكذب هو حقيقة عرفية وليس بمخترع شرعي، وعليه: ومع إحرازنا أن ملاك الكذب لدى العرف هو مخالفة ظاهر القول للواقع، فإن ذلك يكون قرينة على أن الإمام (عليه السلام) قد تجوز في قوله: «لا بأس ليس بكذب»(1) وأن مراده من «ليس بكذب»: ليس بكذب محرم، هذا أولاً، وقد مضت مناقشة هذا الوجه، فراجع.

وأما ثانياً - ولم نذكره -: فإن قوله: (ليس ههنا) في الرواية مبهم(2)

قابل للانطباق على المعنى الصحيح المطابق للواقع، وعلى غير الصحيح المخالف له، ف(ليس ههنا) إن أريد به: إنه ليس في هذه البقعة، فصحيح، وإن أريد به: إنه

ص: 156


1- راجع الوسائل: ج12 ص254 أبواب أحكام العشرة ب141 ح8/ السرائر ج3 ص632.
2- فإن اسم الإشارة مبهم.

ليس في الدار، فليس بصحيح في مفروض المثال، وحينئذٍ: فإما أن نقول: بأن المبهم حيث كان مردداً فحكمه حكم ما لو ذكر الجامع وأريد أحد فرديه فتوهم السامع الفرد الآخر، فإن ذلك يندرج في دائرة الصدق؛ لأنه يوافق الظاهر ولا يخالفه حيث إن الجامع من الظاهر,، وأما أن نقول: بأن المبهم ملحق بالمجمل، فانه أيضاً ليس بكذب؛ إذ لا يخالف الظاهر فإن المجمل لا ظاهر له.

وفيه: إن ظاهر (ليس ههنا) بمعونة القرائن الحالية: إنه ليس في الدار، وهو المتفاهم منه عرفاً.

والنتيجة: إن الرواية الأولى لا يمكن الاستدلال بها على خروج التورية موضوعاً عن الكذب، وإنما تدل على جواز بعض أنواعها مما اشترك مع خصوص ذلك المثال في الجامع المسلّم.

وأما الرواية الثانية - رواية سويد بن حنظلة في قضية وائل بن حجر السابقة -: فقد أجبنا:

أولاً: بأن الاستعمال أعم من الحقيقة، مع بعض النقاش حول ذلك.

وثانيا: يحتمل أن سويداً كان قد قصد الأخوة النَسَبية، فهو كاذب،فيدخل المورد في باب الكذب الاضطراري الجائز، ومعه: فلا ربط للرواية بالتورية، وهذا احتمال وارد، وبه يبطل الاستدلال بالرواية على جواز التورية، إذ ثبت العرش ثم انقش.

وثالثا: بأنه لو فرض: أنها تورية، فهي اضطرارية، ولا شك أن التورية في حال الاضطرار محللة وجائزة، لوضوح (لَيْسَ شَيْ ءٌ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا وَ قَدْ أَحَلَّهُ لِمَنِ اضْطُرَّ إِلَيْهِ)(1) وإذا كان الكذب الصريح الاضطراري جائزاً فما بالك

ص: 157


1- النوادر للاشعري: ص 75 / والتهذيب: ج 3 ص 177 و ص 306

بالتورية - صدقاً كانت أو كذباً غير صريح -؟ وإنما الكلام عن التورية بما هي هي، وجواز الأخص لا يدل على جواز الأعم.

وأما رابعا: فبأنه لا يعلم أن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) في قوله: «صدقت» هل هو مقرِّر أو معلِّم؟ إذ كما لعله (صلی الله علیه وآله وسلم) كان مقرِّراً له؛ لكونه قد قصد الاخوة الدينية فهي تورية، كذلك لعله كان في مقام تعليم السائل بالمخرج من المشكلة، فيكون وجه قوله «صدقت» لمطابقة قوله لأحد معنيي الواقع (والمراد صدق الحكاية دون صدق الحاكي)، ومع ورود الاحتمالين فلا يصح الاستدلال.

واما الرواية الثالثة - قوله (عليه السلام): «والله ما سرقوا وما كذب» -: فقد أجبنا بوجود عدة احتمالات فيها؛ رابعها وخامسها: إن المراد «ما كذب كذباً محرماً» فهو كذب إلا أن حرمته منفية فهو من الكذب الجائز، والدليل على ذلك: ذيل الرواية وهو قوله (عليه السلام): «إرادة الإصلاح»، أو المراد: إنَّ «سرقوا» له متعلقان، فهو صادق، كما هو الحال في قصد الجامع.

فالنتيجة المحصلة إن الأدلة من آيات وروايات لا تفي بكون التورية من القسم الثالث من الصورة الرابعة - وهي ما لم يقم قرينة نوعية او شخصية، جلية أو خفية - جائزة.

وعليه: فإن المتكلم لو ورّى ولم يقم قرينة إطلاقاً، فالظاهر أنها حرام إلا لدى الضرورة، اللهم إلا على القول بانصراف أدلة حرمة الكذب عنها. وتوضيحه كما مضى. والله العالم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمدوآله الطاهرين.

ص: 158

بسم الله الرحمن الرحيم

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى حُجَّتِكَ وَوَلِيِّ أَمْرِكَ وَصَلِّ عَلَى جَدِّهِ مُحَمَّدٍ رَسُولِكَ السَّيِّدِ الْأَكْبَرِ وَصَلِّ عَلَى عَلِيٍّ أَبِيهِ السَّيِّدِ الْقَسْوَرِ وَحَامِلِ اللِّوَاءِ فِي الْمَحْشَرِ وَسَاقِي أَوْلِيَائِهِ مِنْ نَهَرِ الْكَوْثَرِ وَالْأَمِيرِ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ الَّذِي مَنْ آمَنَ بِهِ فَقَدْ ظَفَرَ(1) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَقَدْ(2) خَطَرَ وَكَفَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَخِيهِ وَعَلَى نَجْلِهِمَا الْمَيَامِينِ الْغُرَرِ مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَمَا أَضَاءَ قَمَرٌ وَعَلَى جَدَّتِهِ الصِّدِّيقَةِ الْكُبْرَى فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ بِنْتِ مُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى وَعَلَى مَنِ اصْطَفَيْتَ مِنْ آبَائِهِ الْبَرَرَةِ وَعَلَيْهِ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ وَأَتَمَّ وَأَدْوَمَ وَأَكْبَرَ وَأَوْفَرَ مَا صَلَّيْتَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْفِيَائِكَ وَخِيَرَتِكَ مِنْ خَلْقِكَ.

وَصَلِّ عَلَيْهِ صَلَاةً لَا غَايَةَ لِعَدَدِهَا وَلَا نِهَايَةَ لِمَدَدِهَا وَلَا نَفَادَ لِأَمَدِهَا اللَّهُمَّ وَأَقِمْ(3) بِهِ الْحَقَّ وَأَدْحِضْ بِهِ الْبَاطِلَ وَأَدِلْ بِهِ أَوْلِيَاءَكَ وَأَذْلِلْ بِهِ أَعْدَاءَكَ.

وَصِلِ اللَّهُمَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ وُصْلَةً تُؤَدِّيَ إِلَى مُرَافَقَةِ سَلَفِهِ وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ يَأْخُذُ بِحُجْزَتِهِمْ وَيُمَكَّنُ(4)

فِي ظِلِّهِمْ وَ أَعِنَّا عَلَى تَأْدِيَةِ حُقُوقِهِ إِلَيْهِ وَالِاجْتِهَادِ فِي طَاعَتِهِ وَالِاجْتِنَابِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ.

وَامْنُنْ عَلَيْنَا بِرِضَاهُ وَ هَبْ لَنَا رَأْفَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَدُعَاءَهُ وَخَيْرَهُ مَا نَنَالُ بِهِ سَعَةً مِنْ رَحْمَتِكَ وَ فَوْزاً عِنْدَكَ وَ اجْعَلْ صَلَاتَنَا بِهِ مَقْبُولَةً وَ ذُنُوبَنَا بِهِ مَغْفُورَةً وَ دُعَائَنَا بِهِ مُسْتَجَاباً وَاجْعَلْ أَرْزَاقَنَا بِهِ مَبْسُوطَةً وَهُمُومَنَا بِهِ مَكْفِيَّةً وَحَوَائِجَنَا بِهِ مَقْضِيَّةً وَأَقْبِلْ إِلَيْنَا بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ وَاقْبَلْ تَقَرُّبَنَا إِلَيْكَ وَانْظُرْ إِلَيْنَا نَظِرَةً رَحِيمَةً نَسْتَكْمِلُ بِهَا الْكَرَامَةَ عِنْدَكَ ثُمَّ لَا تَصْرِفْهَا عَنَّا بِجُودِكَ وَاسْقِنَا مِنْ حَوْضِ جَدِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بِكَأْسِهِ وَبِيَدِهِ رَيّاً رَوِيّاً هَنِيئاً سَائِغاً لَا ظَمَأَ بَعْدَهُ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين.

ص: 159


1- (شَكَرَ).
2- (وَ مَنْ أَبَا فَقَدْ).
3- (أَعِزَّ).
4- (وَيَمْكُثُ).

فهرس المصادر

* القرآن الكريم

* نهج البلاغة، المختار من كلام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، لجامعه الشريف الرضي محمد بن الحسين بن موسى (رحمه الله).

* الكافي الشريف/ للشيخ محمد بن يعقوب بن اسحاق الكليني (رحمه الله)، الناشر: دار الكتب الإسلامية، الطبعة الرابعة: 1407.

1. البرهان في تفسير القرآن/ للسيد هاشم بن سليمان البحراني(رحمه الله)، الناشر: مؤسسة البعثة، الطبعة الأولى: 1416 ه.

2. التبيان في تفسير القرآن/ للشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (رحمه الله)، الناشر: دار احياء التراث العربي، الطبعة الأولى بيروت.

3. تفسير القمي/ للشيخ علي بن إبراهيم القمي(رحمه الله)، الناشر: دار الكتاب، الطبعة الثالثة:1404 ه.

4. تفسير الصافي/ للشيخ محمد محسن بن مرتضى الفيض الكاشاني(رحمه الله)، الناشر: مكتبة الصدر، الطبعة الثانية: 1415 ه.

5. تفسير العياشي/ للشيخ محمد بن مسعود العياشي(رحمه الله)، الناشر: المطبعة العلمية، الطبعة الأولى:1380 ه.

6. مجمع البيان في تفسير القرآن/ للشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي الطوسي (رحمه الله)، الناشر: ناصر خسرو، الطبعة الثالثة: 1413 ه.

7. الاحتجاج على أهل اللجاج/ للشيخ أحمد بن علي الطبرسي(رحمه الله)، الناشر: نشر المرتضى (عليه السلام)، الطبعة الأولى: 1403.

8. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار أئمة الأطهار (عليهم السلام)/ للشيخ محمد باقر

ص: 160

المجلسي 6، الناشر: مؤسسة الأعلمي، الطبعة الأولى: 2008م.

9. تهذيب الاحكام/ للشيخ ابي جعفر محمد بن الحسن الطوسي(رحمه الله)، الناشر: دار الكتب الإسلامية، الطبعة الرابعة: 1407ه.

10. علل الشرائع/ للشيخ محمد بن علي بن بابويه الصدوق 6، الناشر: داوري، الطبعة الأولى: 1966 م.

11. وسائل الشيعة/ للشيخ محمد حسن الحر العاملي(رحمه الله)، الناشر:مؤسسة آل البيت (عليهم السلام)، الطبعة الأولى: 1409 ه.

12. جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام/ للشيخ محمد حسن النجفي(رحمه الله)، الناشر: دار إحياء التراث العربي، الطبعة السابعة

13. حاشية المكاسب/ للشيخ ميرزا علي الإيرواني (رحمه الله)، الناشر: دار ذوي القربى، الطبعة الأولى: 1421.

14. الخلاف/ للشيخ ابي جعفر محمد بن الحسن الطوسي(رحمه الله)، الناشر: انتشارات الإسلامي في قم المقدسة، الطبعة الأولى: 1407ه.

15. السرائر الحاوي بتحرير الفتاوي/ للشيخ محمد بن أحمد بن إدريس(رحمه الله)، الناشر: إنتشارات إسلامي، الطبعة الثانية:1410 ه.

16. فقه الصادق (عليه السلام)/ للسيد محمد صادق الحسيني الروحاني (دام ظله)، الناشر: دار الكتاب - مدرسة الامام الصادق (عليه السلام)، الطبعة الأولى:1421 ه.

17. الفقه المكاسب المحرمة / للسيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله).

18. المبسوط في فقه الإمامية/ للشيخ ابي جعفر محمد بن الحسن الطوسي(رحمه الله)، الناشر: المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية، الطبعة الثالثة: 1387 ه.

19. مصباح الفقاهة في المعاملات/ للسيد أبي القاسم الخوئي (رحمه الله).

20. المكاسب/ للشيخ الأعظم الأنصاري (رحمه الله)، الناشر: تراث الشيخ الأعظم، الطبعة الأولى:1415ه.

ص: 161

21. منهاج الفقاهة/ للسيد صادق الحسيني الروحاني(دام ظله)، الناشر: أنوار الهدى قم المقدسة، الطبعة الخامسة: 1429ه.

22. العدة في أصول الفقه/ للشيخ محمد بن الحسن الطوسي(رحمه الله)، الناشر: علاقبنديان، الطبعة الأولى: 1417 ه-

23. فوائد الأصول/ للشيخ محمد حسين الغروي النائيني(رحمه الله)، الناشر: جماعة المدرسين بقم.

24. قوانين الأصول/ لميرزا أبي القاسم بن محمد حسن القمي(رحمه الله)، الناشر: المكتبة العلمية الإسلامية طهران، الطبعة الثانية: 1378 ه.

25. الوصول إلى كفاية الأصول/ للسيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، الناشر: دار الحكمة، الطبعة الثالثة: 1426 ه.

26. رجال النجاشي/ للشيخ أبي العباس أحمد بن علي النجاشي (رحمه الله)، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي.27. رجال الكشي/ للشيخ محمد بن عمر الكشي(رحمه الله)، الناشر: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام)، الطبعة الأولى: 1404ه.

28. فهرست كتب الشيعة وأصولهم وأسماء المصنفين وأصحاب الأصول/ للشيخ محمد بن الحسن الطوسي(رحمه الله)، الناشر: ستارة قم المقدسة، الطبعة الأولى: 1420ه.

29. مجمع البحرين/ للشيخ فخر الدين بن محمد الطريحي (رحمه الله)، الطبعة الثالثة: 1427.

30. معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة/ للسيد أبي القاسم الخوئي(رحمه الله)، الطبعة الخامسة: 1413ه.

ص: 162

الفهرس

كلمة مؤسسة التقى الثقافية... 7

التورية موضوعاً وحكماً... 9

تفصيل الكلام في محاور البحث... 10

المحور الأول: تعريف التورية .10

تعريف الشيخ (رحمه الله) للتورية... 10

مناقشة تعريف الشيخ (رحمه الله): عدم شموله للأصناف الثلاثة الأخرى للتورية... 11

الصنف الأول: ما لو أجملاللفظ فستر الواقع به... 12

الصنف الثاني: ما لو قصد الظاهر والباطن فستر بالظاهر الباطن... 13

الصنف الثالث: ما لو قصد الظاهر وستره به... 14

اشتراط عدد من الأعلام شرطين في صدق التورية... 14

الشرط الأول: عدم ظهور اللفظ في مراد المتكلّم... 15

المناقشة في الشرط الأول: بل هو من التورية لو قصدها... 15

الشرط الثاني: وجود علاقة مصححة في صدق التورية وإلا فهي كذب... 17

المناقشة في الشرط الثاني: أنّ التورية منوطة بالإرادة او بالقرينة لا بالعلاقة المصححة... 18

المحور الثاني: تعريف الصدق والكذب... 19

الآراء في حقيقة الصدق و الكذب... 19

ص: 163

1. مطابقة القول للواقع... 19

الواقع أعم من الخارج... 20

2. مطابقة القول للاعتقاد... 20

3. مطابقة القول للواقع والاعتقاد معاً... 20

الاستدلال بالآية: (أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ)... 21

مناقشة الرأي الثالث... 21

أولاً: إن القسيم قد تكون نسبته مع الآخر من وجه... 22

ثانياً: مرادهم أن دعوة النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) إما عن قصد ووعي أو لا... 23

4. مطابقة المعنى المراد للواقع... 23

مناقشة كلام الشيخ (رحمه الله) في الشق الأول... 25

حصول الخلط بين الخبر والإخبار... 25

توضيح وجه الإشكال على كلام الشيخ (رحمه الله)... 26

كلام الشيخ (رحمه الله) في الشق الثاني... 27

مناقشة كلام الشيخ (رحمه الله) في الشق الثاني... 28

كلام السيد الروحاني (دام ظله) في ملاك (الكذب) وبعض المناقشات... 29

ملاحظات ومناقشات على كلام السيد الروحاني(دام ظله)... 30

الأولى: ملاك الكذب مخالفة الواقع أو عدم مطابقته له؟... 30

الثانية: التقييد للمراد بالمبرَز... 32

الثالثة: تعميم الكلام للظهورين... 32

الرابعة: وجود محور ثالث محتمل في ملاك الصدق والكذب... 33

الفرق بين الاعتقاد والإرادة الجدية .33

ص: 164

الفرق بين الملاكات الثلاث في قول إبراهيم (عليه السلام): (بل فعله كبيرهم)... 35

المشهور: (الجملة الخبرية موضوعة للنسب الخارجية)... 36

إشكالات السيد الروحاني للمشهور... 37

الإشكال الأول: النسبة الخارجية غير متحققة في (الإنسان ممكن) ونظائره... 37

جواب الإشكال الأول: بوجهين... 38

الوجه الأول: إن النسبة موجودة في الخارج بوجود منشأ الانتزاع... 39

الوجه الثاني: إنّ الجملة الخبرية موضوعة للنسبة الواقعية... 40

الأجوبة عن إشكال (الدور محال وممتنع)... 40

الإشكال الثاني: إنّ الجملة الخبرية ليست كاشفة عن الواقع لا قطعاً ولا ظناً... 42

جوابان على الإشكال الثاني... 42

الجواب الأول: إنّ وضع شيء لشيء مقتض للكاشفية وليس علة تامة... 42

الجواب الثاني: حصول الخلط بين الوضع والدلالة وبين الوقوع والصدق... 45

الإشكال الثالث: إنّه لو دلت الجملة الخبرية على النسبة الخارجية لما احتملت الكذب... 47

مبنى السيد الروحاني (دام ظله): الجملة الخبرية موضوعه لقصد الحكاية عن النسبة الخارجية... 48

ظهور الفرق بين المشهور والشيخ (رحمه الله) والسيد (دام ظله) في (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ)... 49

مناقشة مبنى السيد الروحاني (دام ظله) بوجوه ثلاثة... 51

الأول: الوضع في الجملة الخبرية هو للنسبة الخارجية بالوجدان... 52

الثاني: هناك خلط بين الوضع للشيء والغاية منه... 52

الثالث: النقض بعدم وجود القصد في بعض الجمل... 53

التحقيق في ضمن أمرين مع المحور الثالث... 53

الأمر الأول: إنّ العرف يرى المدار على ظاهر القول... 54

ص: 165

الأمر الثاني: ليس تفسير الكذب دقياً وعقلياً هو المرجع، بل ما له من المعنى الارتكازي... 55

المحور الثالث: هل التورية كذب موضوعا أم لا؟... 56

الأقسام الأربعة للتورية... 56

1. ما لو ورَّى بالظاهر عن الظاهر وستره به... 56

2. ما كان القول مجملاً لا ظهور له... 57

3. ما لو أراد الظاهر والباطن معاً... 58

4. ما لو ورّى بالظاهر عن الباطن وستره به... 58

التفصيل الأول: التفريق بين كذب الحكاية وكذب الحاكي... 59

التفصيل الثاني: التفصيل بين كون القرينة نوعية أو شخصية خفية أو مفقودة... 60

الصورة الأولى: التورية مع إقامة قرينة نوعية... 60

الصورة الثانية: التورية مع إقامة قرينة خفية... 61

مزيد من التحقيق في الصورة الثانية... 62

الأمر الأول: القرينة الشخصية والظهور كاف في الصدق... 62

الأمر الثاني: المدار هو العرف واطلاعهم على القرينة... 62

الأمر الثالث: الأسماء موضوعة للمسميات الثبوتية... 63

الأمر الرابع: وضع الأسماء للمسميات الثبوتية ليس مطلقاً... 63

الوضع في المخترعات الشرعية دقي أو مسامحي؟... 64

تسامح العرف في تحديد حتى الموضوعات الدقية... 65

صغرى البحث: هل المدار في الصدق والكذب على العرف أو على تعريفهما الدقي؟... 66

الأمر الخامس: المدار على مقبولية العذر عقلائياً... 67

الأمر السادس: هل الظهور تنجيزي أو تعليقي أو واقعي؟... 68

ص: 166

كلمات بعض الأعلام في الظهور... 71

رأي الشيخ الطوسي (رحمه الله) في العدة... 71

رأي المحقق الآخوند (رحمه الله) في الكفاية... 71

رأي المحقق القمي (رحمه الله)... 72

تفصيل الميرزا النائيني (رحمه الله)... 73

التفريع على تفصيل الميرزا النائيني (رحمه الله)... 74

الصورة الثالثة: التورية مع عدم إقامة القرينة... 75

الحكم في صورة الشك في صدق الكذب على التورية... 76

المحور الرابع: وجوه تجويز التورية على القول بأنها كذب... 77

وجهان للتفصي عن حرمة التورية... 77

الوجه الأول: عدم شمول إطلاقات أدلة حرمة الكذب للتورية... 77

1. عدم كون المولى في مقام البيان من هذه الجهة... 78

2. وجود قدر متيقن للكذب... 79

المحقق الآخوند (رحمه الله): المخلّ ب(الإطلاق) القدر المتيقن في مقام التخاطب... 80

3. وجود القرينة الموجبة للانصراف... 81

الوجه الثاني: الاستدلال بالآيات والروايات على جواز التورية()... 82

الدليل الأول: قول إبراهيم (عليه السلام): (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ)... 83

إشكال وجواب على صياغة الشيخ (رحمه الله) للشرطية... 84

تصحيح صياغة الشيخ الطوسي (رحمه الله) للقضية الشرطية... 85

تحليل أوسع وأدق للقضية الشرطية في الآية الكريمة... 86

مناقشة الاستدلال بالآية بوجوه أربعة... 87

ص: 167

1. لعل كلام إبراهيم (عليه السلام) كان من الكذب الاضطراري... 87

2. إن كلامه (عليه السلام) تورية من نوع خاص... 89

3. قول إبراهيم (عليه السلام)، فعل والفعل لا جهة له... 90

4. إن الآية مجملة... 90

بيان الإجمال: احتمالان في المقام... 91

الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ)... 93

مناقشة الدليل الثاني... 93

التحقيق ضمن مطالب... 94

المطلب الأول: انعقاد يمين أيوب (عليه السلام) دليل على أن متعلقه ليس بمرجوح... 94

المطلب الثاني: فتوى بعض العلماء على ذلك... 95

المطلب الثالث: وجوه حلف أيوب (عليه السلام) على ضوء الروايات... 96

لا مانعة جمع بين الروايات ووجوهها الثلاثة... 98

الدليل الثالث: قوله تعالى: (أَيَّتُهَا الْعيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُون )... 99

موجز القضية... 99

مناقشة الاستدلال بالآية بوجوه ستة... 100

الإشكال الأول: إن المتكلم لم يُعلَم بأنه يوسف (عليه السلام)... 100

الإشكال الثاني: لم يُعلم بأنّ نص النداء كان بأمر يوسف (عليه السلام)... 101

ردّ الإشكال الثاني: تقرير يوسف (عليه السلام) للنداء كافٍ... 101

الإجابة عن الرد: إنّ القرآن ليس في مقام الاستقصاء فلا يعلم التقرير... 102

الإشكال الثالث: قيام القرينة النوعية على المراد بالتورية... 102

إشكال وجواب: خفاء القرينة حتى على النوع... 104

ص: 168

الإشكال الرابع: إنّ (لَسَارِقُونَ) محتمل لمعنيين فهو مجمل... 105

الجواب: إنّ القرينة الحالية رافعة للإجمال... 106

الإشكال الخامس: إن الجملة إنشائية لا خبرية فلا تورية... 106

الجواب عن الاشكال الخامس... 107

الإشكال السادس: أنّ الفعل لا جهة له... 107

الإشكال: بأن (لَسَارِقُونَ) اتهام وإيذاء... 108

أجوبة ستة عن الإشكال... 108

الجواب الأول: إن إخوة يوسف (عليه السلام) كانوا سارقين بالفعل فلم يكن اتهاماً... 108

الجواب الثاني: إنه من باب القصاص... 109

الجواب الثالث: إنه كان من باب التعزير... 110

الجواب الرابع: إن ما جرى هو امتحان إلهي مقرر... 110

الجواب الخامس: إنه من باب الأهم والمهم بغرض التربية 110

الجواب السادس: إنّ المورد من باب الإذن الإلهي الخاص... 111

الدليل الرابع: قوله تعالى: (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ)... 111

الاحتمالات في الآية... 112

الاحتمال الرابع: إن (سقيم) مشتق وهو حقيقي بلحاظ حال التلبس... 112

الاحتمال الخامس: إنّه سقيم غماً... 113

هل إطلاق (السقم) على السقم النفسي مجاز أو حقيقة؟... 113

فائدة: كيف كانت نظرة إبراهيم (عليه السلام) إلى النجوم؟... 115

وجوه ثلاثة للنظر في النجوم... 115

بحث تمريني... 116

ص: 169

الأدلة الروائية على كون التورية صدقاً أو جوازها... 117

الدليل الأول: رواية عبد الله بن بكير... 117

البحث السندي: المراد بابن بكير وتوثيقه واستناد الكتاب إليه... 117

البحث الدلالي... 119

الإشكال بعكس الاستدلال... 120

الدليل الثاني: رواية سويد بن حنظلة... 122

مناقشة الرواية سنداً... 123

مناقشة الرواية دلالة لوجوه ثلاثة... 124

الوجه الأول: إنّ الاستعمال أعم من الحقيقة... 124

الوجه الثاني: تعدد محتملات ما قصده سويد... 126

1. إنه قصد الأخوة النسبية فهو كاذب... 126

2. إنه قصد الأخوة الدينية فهو موَّرٍّ... 127

3. إنّه قصد الجامع بين الأخوّتين... 127

الاستعانة بالبرهان اللمّي أو الإني... 128

هل قول النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) تقريري أو تعليمي؟... 129

الفرق الدقيق بين «صدقت» و«ليس بكذب» في الروايتين... 130

الفرق بين صب النفي والإثبات على الفرد او على النوع... 130

مقتضى التحقيق: التفريق بين الإثبات فلا يدل على الحقيقة والنفي فيدل على نفيها... 132

الدليل الثالث: قوله (عليه السلام): «والله ما سرقوا وما كذب»... 132

فقه الحديث في رواية: «والله ما سرقوا وما كذب»... 134

الاحتمالات الخمسة في الرواية... 134

ص: 170

الأول: إنّ الكذب بلحاظ حيثية التورية حقيقة شرعية... 134

الثاني: إنه (عليه السلام) يكشف عن الملاك في الصدق والكذب... 134

الثالث: إن عدم الكذب لوجود القرينة النوعية مغِّير للظهور... 135

الرابع: إنّ المراد من «وما كذب» نفي الكذب المحرم... 136

الخامس: إنّ الكلام بلحاظ متعلَّقين فهو صادق... 137

حلّ مشكلة مجهولية الحسن الصيقل... 138

شبهة قول إبراهيم (عليه السلام) خلاف الواقع في: (فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا)... 139

أربعة عشر وجهاً لدفع شبهة: قول إبراهيم (عليه السلام) خلاف الواقع... 140

1. إن كلام إبراهيم (عليه السلام) من الكذب الجائز للضرورة... 140

2. إنّ كلامه (فعلَّه) وليس (فَعَل)... 141

3. (فَعَلَه) محذوف الفاعل... 141

4. حصول الإضراب عن (فَعَلَه)... 142

5. انّ المجاز هنا في الإسناد... 142

6. انّ المجاز من حيث الشأنية... 143

7. إنّ التعليق في الشرطية رافع للكذب... 144

8. إنّ المراد النفي للنفي لا الإثبات للإثبات... 144

9. إنّ المراد من كبيرهم إبراهيم (عليه السلام)... 145

10. إنّ كلام إبراهيم (عليه السلام) هو من باب الإلزام... 146

11. إنّ كلامه (عليه السلام) استفهام استنكاري وليس إخباراً... 146

12. إن إبراهيم (عليه السلام) كان في مقام التعليم والتمثيل... 147

13. إن الكلام إنما هو من باب الاستخدام... 149

ص: 171

14. إن كلامه كان تقية... 149

الاستدلال بانصراف أدلة الكذب عن التورية مطلقاً أو عن خصوص فاقدة القرينة... 150

الحكم في صورة الشك في كون التورية كذباً... 152

خاتمة في ملخص البحث... 153

التورية أقسامها وصورها... 153

موجز مناقشة الاستدلال بالآيات الكريمة... 155

موجز مناقشة الاستدلال بالروايات الشريفة الثلاث... 156

فهرس المصادر... 160

الفهرس... 163

كتب أخرى للمؤلف... 173

ص: 172

كتب أخرى للمؤلف

1. أضواء على حياة الإمام علي (عليه السلام)، مطبوع.

2. التصريح باسم الإمام علي (عليه السلام) في القرآن الكريم، مطبوع.

3. لماذا لم يصرح باسم الإمام علي (عليه السلام) في القرآن الكريم؟، مطبوع.

4. استراتيجيات إنتاج الثروة ومكافحة الفقر في منهج الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، مطبوع.

5. شعاع من نور فاطمة الزهراء (عليها السلام)، دراسة عن القيمة الذاتية لمحبة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، مطبوع.

6. تجليات النصرة الإلهية للزهراء المرضية عليها السلام، مطبوع.

7. لمحات من حياة الإمام الحسن (عليه السلام)، مطبوع.

8. شرعية وقدسية ومحورية النهضة الحسينية (عليه السلام)، مطبوع.

9. الإمام الحسين (عليه السلام) وفروع الدين، دراسة عن العلاقة الوثيقة بين سيد الشهداء(عليه السلام) وبين كل فرع فرع من فروع الدين، مطبوع.

10. المرابطة في زمن الغيبة الكبرى، مطبوع.

11. السيد نرجس (عليها السلام) مدرسة الأجيال، مطبوع.

12. بحوث في العقيدة والسلوك، مجموعة محاضرات على ضوء الآيات القرآنية الكريمة، ألقيت في الحوزة الزينبية وفي النجف الأشرف، مطبوع.

ص: 173

13. إضاءات في التولي والتبري، مطبوع.

14. دروس في أصول الكافي - الجزء الأول كتاب العقل والجهل، مخطوط.

15. كونوا مع الصادقين، بحوث تفسيرية في الآية الشريفة(كونوا مع الصادقين)، مطبوع.

16. لمن الولاية العظمى؟ مطبوع.

17. توبوا إلى الله، مطبوع.

18. شرح دعاء الافتتاح، مخطوط.

19. بصائر الوحي في الإمامة، مطبوع.

20. سوء الظن في المجتمعات القرآنية، مطبوع.

21. مقتطفات قرآنية، مطبوع.

22. فقه التعاون على البر والتقوى، مطبوع.

23. شورى الفقهاء دراسة فقهية أصولية، مطبوع.

24. فقه الخمس، تقرير دروس الخارج في الحوزة العلمية الزينبية، مخطوط.

25. رسالة في قاعدة الإلزام، تقريرات دروس الخارج في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، مخطوط.

26. فقه المكاسب المحرمة - حفظ كتب الضلال ومسببات الفساد، مطبوع.

27. فقه المكاسب المحرمة - مباحث الرشوة، مطبوع.

28. فقه المكاسب المحرمة - حرمة الكذب ومستثنياته، مطبوع.

29. فقه المكاسب المحرمة - رسالة في الكذب في الإصلاح، مطبوع.

ص: 174

30. فقه المكاسب المحرمة - حرمة اللهو واللعب واللغو، قيد الطبع.

31. فقه المكاسب المحرمة - مباحث النميمة، مخطوط.

32. فقه المكاسب المحرمة - مبحث النجش، مخطوط.

33. فقه المكاسب المحرمة - مبحث التعامل بالدراهم المغشوشة والبضائع المقلدة، مخطوط.

34. رسالة في الحق والحكم، مخطوط.

35. الأصول مباحث القطع، مجلدان، مخطوط.36. تقليد الأعلم وحجية فتوى المفضول، مطبوع.

37. فقه الاجتهاد والتقليد والاحتياط، تقريرات دروس الخارج في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، مخطوط.

38. الاجتهاد في أصول الدين، مخطوط.

39. التبعيض في التقليد، مخطوط.

40. التقليد في مبادئ الاستنباط، مخطوط.

41. الأوامر المولوية والإرشادية، مطبوع.

42. الحجة معانيها ومصاديقها، مطبوع.

43. المبادئ التصورية والتصديقية للفقه والأصول، مطبوع.

44. رسالة في أجزاء العلوم ومكوناتها، مطبوع.

45. الضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية، مخطوط.

46. حجية مراسيل الثقات المعتمدة (الصدوق والطوسي قدس سرهما نموذجاً)، مطبوع.

ص: 175

47. رسالة في فقه مقاصد الشريعة، مخطوط.

48. فقه الرؤى، دراسة في عدم حجية الأحلام على ضوء الكتاب والسنة والعقل والعلم، مطبوع.

49. رسالة في الحكومة والورود، مخطوط.

50. نسبية النصوص والمعرفة... الممكن والممتنع، مطبوع.

51. نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة واللغة، مطبوع.

52. مدخل إلى علم العقائد، نقد النظرية الحسية، مطبوع.

53. رسالة في نقد الكشف والشهود، مخطوط.

54. ملامح العلاقة بين الدولة والشعب، مطبوع.

55. معالم المجتمع المدني في منظومة الفكر الإسلامي، مطبوع.

56. الخط الفاصل بين الأديان والحضارات، مطبوع.

57. الحوار الفكري، مطبوع.

ص: 176

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.