أضواءٌ علی نهج البلاغه بشرح ابن أبي الحديد في استشهاداته الشعرية المجلد 1

هوية الکتاب

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى 1439 ه - 2015م

العراق : كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة

مؤسسة علوم نهج البلاغة

www.inahj.org

Email: inahj.org@gmail.com

موبايل : 16633 078150

ص: 1

اشارة

بسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَحِیم

أضواء علی نَهْجِ البلاغة

الجُزءُ الأوّل

ص: 1

بَحرُ العِلم و مَدارُ الحَق

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق

وزارة الثقافة العراقية لسنة 2015- 910

ص: 2

أضواءٌ عَلَى نَهجِ البَلاغِة

بشرح ابن أبي الحديد في استشهاداته الشعرية

الجُزءُ الأوّل

تأليف

الدکتور علي الفتال

إصدار

مؤسسة علوم نهج البلاغة

العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى 1439 ه - 2015م

العراق : كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة

مؤسسة علوم نهج البلاغة

www.inahj.org

Email: inahj.org@gmail.com

موبايل : 16633 078150

ص: 4

الإهداء

إلى مَن شطَّرتُ قولَ هاشمِ بن مرقال فيه :

أبايع غير مكترثٍ علياً*** مبايعةٌ تردُّ الروح فيّا

فلا أخشى الملامةَ من مليمٍ ***ولا أخشى أميراً أشعريّا

أبايعه وأعلم أن سأرضي*** ضميري - ما بقيتٌ بذاك – حيّا

وأني سوف أُرضي يوم حشرٍ*** بذاك اللّه حقا والنبيّا

إلى إمام المهتدين وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) أهدي جهدي المتواضع هذا.

علي الفتال

ص: 5

مقدمة المؤلف

بسم اللّه الرحمن الرحيم

ما قرأت كتاباً - فتفاعلت معه - مثلما قرأت كتاب (نهج البلاغة) للإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام)، وتكمن أهمية هذا الكتاب في أنه نقل لنا درراً من البلاغة العربية في أروع صورها على لسان مبدعها وواضع أسسها الإمام علي (عليه السّلام).

إذ إنه نقل لنا - من خلال الخطب والأحاديث والكتب المرسلة إلى عماله، والكتب المتبادلة بينه وبين أنصاره وخصومه - حوادث تاريخية مهمة في تاريخ الأمة العربية منها والإسلامية.

ومن خلال تلك الخطب والأحاديث والمراسلان وما استُشْهِدَ فيها من الشَعر وقفنا على جوانب مهمة من الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والنفسية للشعب العربي، والشعوب المسلمة. ومن خلال الشعر المُستَشْهد في شرح (النهج) لابن أبي الحديد وقفنا على خلفيات وأسباب الصراع على السلطة من أولئك الذين

ص: 6

اعتنقوا الإسلام مكرَهين، فعادوا به - بعد غياب الرأس النبي الأكرم (محمد صلى اللّه عليه وآله) - إلى الجاهلية الأولى، وعملوا جهدهم لإبعاده وحرفِهِ عن المنبع الأول.

وكان الإمام علي (عليه السّلام) يقف بوجوه أولئك القوم فيبصرهم بدينهم، الذي أخرجهم {...مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ... }.

فأعداء الإسلام أدركوا أهمية (النهج) في حياة الأمة (تاريخاً ولغةً وفكراً) فراحوا يشككون به ؛ فمرّةً ينفون صلة الإمام به أوصلته بالإمام (عليه السّلام) وأخرى ينسبون بعضه للإمام (عليه السّلام) وبعضه الآخر لغيره.

وأياً كان مصدره ((على أنني أرى انتسابه الشرعي للإمام علي (عليه السّلام) بالدليل القطعي، الذي سيرِد في ثنايا البحث)) فإنه مصدر عربي تفخر به الأمة العربية كتراث فكري ولغوي، وأدبي ويفخر به الإسلام كقيمة فكرية.

فقد حاول المشكِّكَون (كما سنرى) الطعنَ بتراثنا العربي والإسلامي كلما وجدوا فيه شواخص إبداعية، فكيف لا ينسبون ما في (النهج) إلى غير الإمام علي (عليه السّلام)؟

لقد فاتهم أن الشمس لا تحجب بغربال وأن الحقائق لابد أن تظهرجلية واضحة وضوح الشمس في رائعة النهار، كما سنرى من خلال مناقشة المشككين.

ولأهمية (النهج) فقد انبرى كثير من الأدباء والمفكرين إلى شرحه، لقيمته الفكرية، التي تلي القرآن الكريم من حيث المضمون والشكل.

ص: 7

وكان أوسع شرح وقفت عليه هوشرح ابن أبي الحديد المعتزلي. إضافة إلى ذلك ثمة من لجأ إلى (النهج) فراح يدرسه ويشير إلى ما فيه من (روائع) ومنهم من اقتطف منه الكلمات القصار كَحِكَم ومواعظَ فنشروها لأهميتها في الحياة الاجتماعية، وكذلك فعلوا في الشعر الذي ورد في ثنايا (النهج) على لسان الأمامِعليِّ (عليه السّلام).

فضلاً عن ذلك فإننا لم نرَ کتابا - بعد القرآن الكريم - نال شهرة واسعة کنهج البلاغة؛ فقد تزاحمت علية دور النشر فصارت تبذل فيه أعلى الجهود وتوظف له أحدث التقنيات الطباعية لما له من قاعدة جماهيرية واسعة ليس لدى المسلمين حَسبُ - في الوطن العربي والإسلامي - بل شمل العالم كله على اختلاف الديانات والمذاهب لأن الخطب والأحاديث والكتب التي وردت فيه قد وضعت الأسس العامة لِما يجب أن يكون عليه القائد، والعلاقة بين الراعي والرعية .ولأني وجدت أن الاستشهادات الشعرية قد شكلت عدداً كبيراً في شرح ابن أبي الحديد، بتحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، إضافةً إلى أنه، أي : الشعر المستشهد به - كان وثيق الصلة بالحدث الذي أشار إليه الأمام أمير المؤمنين عليٌّ(عليه السّلام) في متن (النهج) ومكملاً إيَّاه.

لذا وجدتُ من المفيد جمعه وتبويبه بما ييسر للقارئ الكريم الإحاطة بمحتوى (النهج) من خلال الشعر، لأني اعتمدتُ أسلوب ربط الاستشهاد بحديث أوبخطبة أوبكتاب للأمام علي (عليه السّلام)، ولكي تكون أضواؤنا هذه إطلالة واسعة، ليس على الشعر العربي حَسْبُ، بل على قائله وجامعه وشارحه .

ص: 8

فقد حاولت إغناء القارئ الكريم عن الرجوع إلى مضان الكتب وحملت عنه عبء البحث والتنقيب.

نسأله – جل شأنه - أن نكون قد وُفِّقْنا - بعون منه تعالى - عسى أن يكون عملنا هذا شمعة تنير طريقنا في الدنيا والآخرة.

واللّه نسأل أن يوِّفقنا لِما يريده ويرضاه وهو على كل شيء قدير.

ومن اللّه العون والسداد

د. علي الفتال

كربلاء المقدسة

1 /رمضان /1423ه

6تشرين الثاني /2002م

ص: 9

التمهيد

كثيرون هم الذين تناولوا الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام) - منذ القرن الأوّل للهجرة حتى يومنا هذا - سواء في كتب مفردة أو مجزأة.

وليس في هذا جديد، إذ إن كثيراًمن الرموز الذين حملوا تاريخ الإنسانية على أكتافهم قد كُتِب عنهم، منذ أن وُجِدَتْ الكتابة، حاكماً كان ذلك الرمز أو غير حاكم.

ولكن الجديد في تناول الإمام علي (عليه السّلام) هوإن الذين كتبوا عنه - كلهم - كانوا حذرين وهم يمسكون بأقلامهم ليخطوا - في قراطيسهم - أول كلمة عن هذا الرمز الذي ملك الدنيا ولكن أشاح عنها وجهه لما وجد في سحنتها من قبحٍ وفي جسمها من نتنٍ وفي طولها من قِصَرٍ وفي عمرها من زوال،فعزف عنها لِيُوَلّيَ وجهه صوب محبوبة يرضاها لِما فيها من دوام العِشرة وحسن المعاشرة ورحابة الصدر فتزوجها زواجاً أبدياً غير مكترث بمغريات الحياة الفانية .

ص: 10

أقول إن الذين كتبوا عن الإمام علي (عليه السّلام) كانوا حذرين لأنهم لا يدرون من أيُّ جانبٍ يتناولونه.

فهو- في الإسلام - أول المسلمين؛ وهو - في الشجاعة - لا يباری، والتاريخ يشهد له بذلك، ويكفيه أن الرسول الأعظم، محمد (صلى اللّه عليه وآله) قال عنه - يوم خرج ليدق عنق عمروبن عبد ودِّ العامري في الخندق -:

«خرج الإسلام كُلُّهُ إلى الشرك كُلِّه».

وفي حديث آخر قال صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم :

«خرج الإيمان كُلُّهُ إلى الشرك كله».

وهو في - الحق - لم يخش لومة لائم؛ وهومَنْ جرد سيفه - حتى اللحظات الأخيرة من حياته - ضد الباطل والسائرين في دروبه المظلمات؛ وهوفي – الفصاحة - فارس حلبتها؛ إذ هومن سنَّ الفصاحة لقريش، و(نهج البلاغة) خير شاهد على ما نقول.

وهو - في نكران الذات، وفي الذوبان في الذات الإلهية - لا يدانيه أحد، وقصته مع أخيه عقيل يوم جاءه يطلب مالاَ شاهدٌ - هوالآخر - على نظافتهِ وبياضِ سريرتهِ واستقامة سِيرته.

وهو - في الجود والسخاء - ما شهد القرآن الكريم له، إذ قال جل في علاه:

{ وَيُطعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسكِينًا وَيَتِيمًا وأَسِيرًا }.

وهو.. وهو.. وهو.. إلخ.

ص: 11

ذلك هو الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام) في ما ذكرنا وفي ما لم نذكر كثير، والجديد في ذلك أيضاً إن الذين تناولوه (عليه السّلام) كلهم، بلا استثناء - لم يذكروه إلّا بالتجلَّةِ والتقدير ويقفون قبال شخصه وقوف العابد في المحراب،مُسْلِمين كان هؤلاء الكُتُّابُ أو غ يرَ مسلمين، عرباً كانوا أوغيرَ عرب، في عصرهِ أو في غير عصره.

وهذا ما لا يحصل لرجل غيره مهما أوتي من منزلة رفيعة في الحياة .

ونحن إذ نكتب عن هذه الشخصية المتفرِّدة إنما نريد أن نجعل الإمام في المرأة ليقف القارئ على تلك الانعكاسات الحية الزاخرة بالدفق الإيماني الصادق والروح النقية التي تستلهم دفقها من المنبع المحمدي الصافي.

لذلك فإنَّ منهجنا بسيطٌ كبساطة حقيقة الإمام علي (عليه السّلام) فقد تناولنا نسبه ومكانته في الإسلام بطريقة محببة إلى النفس ولا تتسم بالملل لدى القارئ ثم أشرنا إلى رأي مفكري السنّة من المسلمين ومفكري غير المسلمين في الإمام علي (عليه السّلام).

وتدرجنا في ذكر بعض علومه، كالعلم الإلهي، وعلم الفضاء، وعلم الفقه، وعلم القضاء، وعلم التفسير، وعلم التصوف، وعلم النحو.

أما صفاته (عليه السّلام) فقد تناولنا منها ثمانِ صفات، هي : الشجاعة ، وهوفارسها المحلِّق؛ والقوةُ، التي مُنیحَتْ إليه من اللطيف الخبيرِ؛ والسخاءُ، والجودُ، اللذان كانا توأميه؛ والحِلْمُ، الذي كان رفيقه في مسارب الحياة؛ والجهاد في سبيل اللّه، الذي كان لا يفارقه وهویری أعداء الحق يريدون النيل منه بطرقهم

ص: 12

الحربائية؛ والفصاحة التي تفرد بها منذ نعومة أظفاره فكان - وما يزال وسيبقى – مرجعاً للبلغاء وعلماء اللغة في الأزمان كُلِّها وفي أصقاع العالم جميعِها.

وكذا قل عن السماحةِ في موضعِها، وعن الزهدِ بملذات الحياة ليجعل منه صراطه المستقيم إلى ملاقاة ربه، قال تعالى :

{ يَومَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ }.

أما إسهاماتُهُ (عليه السّلام) ودورُهُ في الإسلام فقد أشرنا إلى ثلاثٍ منها وهي : جمعُه القرآن الكريم؛ ومشوراتهُ قبل خلافتِه؛ وسياستهُ في خلافته.

وبذلك نكون قد توافرنا على صورة نزعم أنها كاملة للإمام علي (عليه السّلام) في المرأة التي حاولنا أن تكون مستويةً وصافيةً ونقيةً غيرَ محدَّبةٍ ولا مُقَعَّرة، لذلك حاولنا أن تكون الصورة مطابقةً الواقع لا لبس فيها ولا إبهام لعلَّنا نكون قد أضفنا شيئاً إلى المكتبة العربية، ومكتبة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام) خاصة.

ص: 13

نسب الإمام علي (عليه السّلام) ومكانته في الإسلام

إنه لمن نافلة القول ومعادِه أن نتحدث عن نسب الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السّلام)؛ فهو أعرف من يعَرّف وأشهر ممن يشار إليه، وأبيَنُ ممن يراد تبیانه، إنه ((علي)) وكفى بذلك فخراً؛ فحيثما وجدت كلمة ((علي)) وجدتها تعنيه، وحيثما وجدت ((أمير المؤمنين)) وجدتها تعنيه أيضاً.

أما نسبه (عليه السّلام)، فمعروف ب((هاشم)) وهاشم ما نعرف؛ فهوالذي كان يهشم الثريد للحاج وكانت إليه الوفادة والرفادة، وهو الذي سن الرحلتين ، رحلة الشتاء إلى اليمن والعراق، ورحلة الصيف إلى الشام، وكان اسمه عمرو، فقيل له ((عمروالعلا)).

وفيه قال مطرود بن کعب الخزاعي :

عمروالعلا هشم الثريد لقومه*** ورجالُ مكةَ مسنتون عجافُ

وهاشم بن المغيرة (عبد مناف)، والمغيرة بن زيد (قصي)، وزيد بن حکیم

(كلاب)، إذ قال فيه الشاعر :

ص: 14

حکیم بن مرَّةَ ساد الوری*** ببذل النوال وكفِّ الأذی

أباح العشيرةَ أفضاله*** وجنَّبها طارقاتِ النوى

وحکیم بن مرة بن کعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن قیس (النضر) بن كنانة بن خزيمة بن عمرو (مدركة) بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان؛ وهوما ينتهي إليه نسب الرسول محمد (صلى اللّه عليه وآله).

وقد وصف الجاحظ بني هاشم، فقال إنهم : (ملح الأرض وزينة الدنيا، وطلى العالم، والسنام الأضخم، والكاهل الأعظم، ولباب كل جوهر کریم وسر كل عنصر شريف، والطينة البيضاء، والمغرس المبارك، والنصاب الوثيق، ومعدن الفهم وينبوع العلم).

وهوابن عم الرسول محمد ((صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) )وزوج ابنته البتول فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وهو كاتب وحيه، وأول من أسلم على يديه، ولازمه. أليس هومن قال فيه عمر بن الخطاب : (لا بقيت لمعضلة ليس لها أبوالحسن». .

وعليُّ (عليه السّلام) هو أولُ من سنَّ للبلاغة أسسها وشاد بنیانها ووضع مفاتيحها، من خلال خطبه وأحاديثه ومراسلاته، فها هو المسعودي يقول في ذلك : (والذي حفظ الناس عنه من خطبه وأحاديثه ومراسلاته، في سائر مقاماته أربع مئة خطبة ونيف وثمانين خطبة ؛ يوردها على البديهة؛ تداول عنه الناس ذلك قولاً وعملا).

ص: 15

فيما يقول الشريف الرضي عن بلاغته (عليه السّلام)، التي جمع منها طرفاً في کتاب : (علماً أن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة وجواهر العربية وثواقب الكَلِمً الدينية والدنيوية، ما لا يوجد مجتمعاً في كلام ولا مجموع الأطراف في كتاب). ذلك هو علي بن أبي طالب (عليه السّلام) في نسبه ومكانته في الإسلام والبلاغة. فهو - إذن - العين الساهرة على المبدأ والعقيدة، واليد القابضة على تمخضات ذلك المبدأ ومعطيات تلك العقيدة، اللذين روَّاهما - بالتالي - من دمه الطهور. هوالفكر الخلاق في الطرح والمعالجة، حتى وصلنا منه هذا الذي نحن بصدده، وأعني به (نهج البلاغة)، فكان - بحقٍ - إرثا قلّما ترك التاريخ مثله في أمةٍ من الأمم. فهو- إلى جانب قيمته اللغوية، البلاغية - عالج مفردات الحياة في مفاصلها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية. ولو تأملنا قول الإمام الصادق (عليه السّلام) عنه لوقفنا قبال هذا المبدع العظیم بخشوع العابد في محرابه، يقول الصادق (عليه السّلام):

«لما وُلد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فُتح لآمنة بياض فارس، وقصور الشام، فجاءت بنت أسد إلى أبي طالب مستبشرة وأعلمته بما رأت آمنة، فقال أبوطالب: أتعجبين من هذا؟ أصبري سبتاً فستحملين بمثله إلا النبوة، ويكون وصِيَّه ووزيره. والسبت ثلاثون سنة».

وصدق ما توقعه أبوطالب، إذ يقول یزید بن قعنب : (كنت أنا والعباس بن عبد المطلب وفريق من بني عبد العزى بإزاء بيت اللّه الحرام إذ أقبلت فاطمة بنت أسد، أم أمير المؤمنين وكانت حاملة به لتسعة أشهر وقد أخذها الطلق فقالت :

ص: 16

ربِّ إني مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رُسُلٍ وكُتُب وإني مصدِّقة بكلام جدي إبراهيم الخليل وإنه بنی البيت العتيق فبحق هذا المولود الذي يكلمني في بطني ويؤنسني في وحشتي، الذي علم أنه آية من آيات جلالك وعظمتك إلا ما يسَّرتَ عليَّ ولادتي.

قال یزید بن قعنب : فرأينا البيت قد انشق من ظهره، ودخلت فاطمة فغابت عن أبصارنا والتزق الحائط، فرمنا أن يُفتح لنا فلم ينفتح فعلمنا أن ذلك أمراً من اللّه.

ثم خرجت في اليوم الرابع وبيدها أمير المؤمنين (عليه السّلام) كأنه فلقة قمر وهي تقول : إني فُضِّلتُ على من تقدمني من النساء لأن آسیا بنت مزاحم عبدت اللّه سراً في موضع لا يجب أن يُعبد اللّه فيه إلا اضطراراً، وإن مريم بنت عمران هزت النخلة اليابسة بيدها حتى أكلت منها رطباً جنياً، وإني دخلت بيت اللّه الحرام وأكلت من ثمار الجنة وأرزاقها ولما أردتُ أن أخرج هتف بي هاتف : (يا فاطمة : سَمِّه علياً، فهو عليٌّ، واللّه الأعلى يقول : شققتُ اسمُه من اسمي، وأدَّبتُه من أدبي، وأوقفته على غامض علمي، وهو الذي يكسر الأصنام في بيتي، وهو الذي يؤذن فوق ظهر بيتي، ويقدسني ويمجدي، فطوبى لمن أحبه وتابعه، وويلٌ لمن عصاه وأبغضه)).

ويقول الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السّلام):

«كنتُ أمشي مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في بعض طرق المدينة فأتيتُ إلى حديقة فقلت: يا رسول اللّه ما أحسنها من حديقة؟ فقال

ص: 17

صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم: ما أحسنها ولك في الجنة أحسن منها. ثم أتينا على حديقةٍ أخرى فقلت: يا رسول اللّه : ما أحسنها من حديقة فقال صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم: ما أحسنها ولك في الجنة أحسن منها، حتى أتينا على سبع حدائق أقول: يا رسول اللّه ما أحسنها ويقول لك في الجنَّة أحسن منها».

ذلك هو الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) بإيجازٍ شديد. وسنقف - إن شاء اللّه - على مفردات أخرى من حياته بشيءٍ من التفصيل.

ص: 18

علي بن أبي طالب (عليه السّلام) في رأي مفكري (السُّنَة)

لكي نحيط بموضوعة عليٌّ (عليه السّلام) لندرك - بعد ذلك - أهمية نهج البلاغة، في جوانبه البلاغية والفكرية، نورد نتفاً من أقوال وروایات مفكري الإخوة السنّة ؛ من الشافعية والحنبلية والحنفية والمالكية في ما ورد من فضائل الإمام علي (عليه السّلام) بأسانيد لا تقبل الطعن؛ فهي مروية عن كبار الصحابة كأبي بكرٍ وعمر وعثمان وعبدِ اللّه بنِ عمر وعائشةَ وغيرهم عن النبي الأكرم (صلى اللّه عليه وآله).

يقول ابن حجر في صواعقه المحرقة، وهو الشافعي (909 - 974ه):

((روی ابن السمَّان أن أبا بكر قال لعلي (عليه السّلام) : سمعتُ رسول اللّه يقول : لا يجوز أحدٌ الصراطَ إلا من كتب له عليٌّ على الجواز)).

ويقول الخوارزمي، وهويروي الحديث عن كثيرين حتى يوصله إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله)، إذ يقول : (قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) :

« يا علي إنك قسيم الجنة والنار وإنك تقرعُ باب الجنة فتدخلها بلا حساب» ).

ص: 19

فيما يقول الطبري الشافعي، (615 - 694ه) : (التقى أبوبكر وعلي بن أبي طالب (عليه السّلام) فتبسم أبوبكر بوجه علي (عليه السّلام) فقال له : ما لَك تبسمت ؟ قال «سمعت رسول اللّه يقول : لا يجوز أحدٌ الصراطَ إلا من كتب له عليٌّ على الجوا»).

وقد اعتمد في ذلك على ابن السمَّان في كتابه الموافقة، وعلى الخوارزمي الحنفي (484 - 568ه) في كتاب المناقب.

ويقول ابن حجر أيضاً : (لَّما جاء أبوبكرٍ وعليٌ لزيارة قبر النبي صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم قال علي لأبي بكر : «تقدم».

أي : في الدخول إلى الحجرة التي فيها القير الشريف؛ فقال أبوبكر : أتقدمُ رجلاً سمعتُ رسول اللّه يقول فيه :

«عليٌ مني كمنزلتي من ربي» ).

ويقول الموفق بن أحمد الخوارزمي في (مناقب الخطيب) : (نظر أبوبكر إلى عليٍ بنِ أبي طالب مقبلاً؟ فقال : من سرّه أن ينظر إلى أقرب الناس من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وأجودهم منزلة وأعظمهم عند اللّه غنى وأعظمهم عليه) فلينظر إلى هذا - وأشار إلى عليٍ بنِ أبي طالب - لأني سمعتُ رسول اللّه يقول :

«إنه لرؤوفٌ بالناس وإنه لأواهٌ حليم».

وقال الطبري عن عمر بن الخطاب، إذ سمع رجلاً يسب علياً فقال : (إني لأظنك من المنافقين ؛ سمعت رسول اللّه يقول لعلي:

«أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» ).

ص: 20

وقال الطبري بسنده عن عمر بن الخطاب إنه قال : (أُشْهِد على رسول اللّه

سَمِعتُهُ وهو يقول :

«لوأن السماوات السبع والأرضين السبع وُضعت في كفة، ووُضع إيمان عليٌ في كفة لرجح إيمانُ علي» ).

ويقول علي الهمداني الحنفي، في ينابيع المودة بسنده عن عمر بن الخطاب : قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم:

لو أن البحر مداد ، والرياض أقلام، والإنس كُتَّابٌ، والجنُّ حُسَّاب، ما أحصوا فضائلك يا أبا الحسن» ).

وفي ينابيع المودة بسنده عن عمر بن الخطاب قال : (نصَّب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله) وسلم علياً (عليه السّلام) علم فقال :

من كنتُ مولاه فعليٌ مولاه، اللّهم والِ من والاه وعادِ من عاداه واخذل من خذله، وانصر من نصره، اللّهم أنت شهيدٌ عليهم».

قلت : يا رسول اللّه كان في جنبي شاب حسن الوجه طيب الريح قال لي : یا عمر لقد عقد رسول اللّه عقداً لا يحله إلا منافق، فأخذ رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم بيدي وقال :

«يا عمر إنه ليس من ولد آدم لكنه جبرائيل أراد أن يؤكد عليكم ما قلته في علي» ).

ومن المعاصرين - وهو من أبناء العامة - الدكتور صبحي الصالح فقد شرح نهج البلاغة فقال : (وعليٌ (عليه السّلام) واسی نبيه الكريم بنفسه في المواطن

ص: 21

التي تنكص فيها الأبطال، وتزل فيها الأقدام، نجدةً أكرمه اللّه بها، وحسبك أنه ليلة الهجرة بات في فراش الرسول غير جازع أن يموت فداه ... سجَّل له التاريخ أجلَّ المواقف وأسماها، فهو أحد المبارزين يوم بدر، وقاتل عمر بن ودِّ في غزوة الخندق، واحد الذين ثبتوا مع الرسول الأكرم صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم في غزوتي أحد وحنين، وصاحب راية المسلمين يوم خيبر، وفيها أبلی أحسن البلاء).

وها هو الشيخ محمد عبده يقول في ديباجته في نهج البلاغة عن الإمام عليٍّ (عليه السّلام) : (اجتمع للإمامِ عليِّ بن أبي طالب من صفات الكمال، ومحمود الشمائل والخلال، وسناء الحسَب، وباذخ الشرف، مع الفطرة النقية، والنفس المرضية، ما لم يتهيأ لغيره من أفذاذ الرجال...).

ومن المعاصرين توفيق أبوعلم يقول في كتابه (الإمام علي بن أبي طالب) : (إن عليَّ بنَ أبي طالب وُلد مسلماً لأنه من معدن الرسول مولداً ونشأةً ومن ذاته خلقة وفطرة...).

ويقول أيضا : (كان الإمامُ عليُّ أولَ من رأت عيناه النبيَّ وزوجته خديجة وهما يصلِّيان، ثم أنه كان أول المسلمين وهو لم يبلغ الشباب).

وعن حصر الإمامة به (عليه السّلام) يقول عباس محمود العقاد : (ولكن الإمامة - يومئذٍ - کانت وحدها في ميدان الحكم بغير منازع ولا شريك، ولم يُكتب لأحدٍ منهم أن يحمل علم الإمامة ليناضل به علم الدولة الدنيوية، ولا أن يتحيَّز بعسکر يقابله عسكر، وصفة تناوئها صفة، ولا أن يصبح رمزاً للخلافة يقترن بها ولا يقترن بشيء غيرها، وكلهم إمام حيث لا اشتباه، وذلك هو عليٌّ بن

ص: 22

أبي طالب لما لقبه الناس، وجرى لقبه على الألسنة فعرفه به الطفل وهويسمع أماديحه المنغومة في الطرقات بغير حاجة إلى تسمية وتعريف).

ذلك هو الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) برأي مفكري السنّة. فقد أوردنا جزءاً يسيراً من رواياتهم وآرائهم، ولم نُرِد الإطالةَ، لأننا بصدد التمهيد للدخول في (أضواء على نهج البلاغة).

وقبل أن نترك هذه الفقرة نرى من الواجب ذکر رأي غير المسلمين بعليِّ بنِ أبي طالب (عليه السّلام) لكي نمهد للفقرة التي تليها فيكون موضوعنا مترابطاً ومتماسكاً في وحدته العضوية والموضوعية .

ص: 23

علي بن أبي طالب (عليه السّلام) في رأي غير المسلمين

فهذا سلیمان کتاني يناجي عليَّ ابنَ أبي طالب (عليه السّلام) بقوله :

(أصحیح يا سيدي أنهم - بدل أن يختلفوا إليك - اختلفوا فيك ؟

فمنهم من فقدوك وما وجدوك.

ومنهم من فقدوك ثم وجدوك .

ومنهم وجدوك ثم فقدوك .

إنه لعجبٌ عجاب ...

فكيف لهؤلاء أن يفقدوك ولا يجدونك، أو يجدونك ثم يفقدونك .

ويا لسخرية القدر.

حتى هؤلاء الذين وجدوك كيف تراهم حدَّدوك ؟

لوأدرك الذين فقدوك، وحتى الذين وجدوك أنك لعملاق ولو بقامة قصيرة، وإن وجهك - ولومن تراب – هو من لون الشمس، لما وصفوك، ولما صدَّقوا - حتى اليوم - أنهم فقدوك).

إلى أن يقول - بهذه المناجاة -:

ص: 24

(أحببتُ أن أقرع الباب في دخولي على عليِّ بنِ أبي طالبٍ، وأنا أشعر بأن الدخول عليه ليس أقل حرمة من الولوج إلى المحراب. وإني أدرك الصعوبة في كل محاولة أقوم بها في سبيل جعل الحرف يطيع لتصوير هذا الوجه الكريم ....

فهوم يأتِ دنياه بمثل ما يأتيها العاديُّون من الناس).

ثم يقول أيضا : (وهوأول المؤمنين وأقوى المدافعين، وأشجع المناضلين

وأصمد المقتحمين، وأبلغ المحققين).

ثم يخاطب الإمام بقوله : (عفوك يا بن أبي طالب ...

فأنت من الرسالة كقطب الرحى...

إن الدروب التي مشيتها برفقة الرسول تشهد بثقل خطاك، بضع سنين ربما مشاها وحده...

وأنت إلى جانبه - فيما عداها، في وحدة العيش وفي وحدة المصير - وفي وحدة النهج، وفي وحدة التفكير).

فأيَّةُ اعتلاجة من اعتلاجات روحه..

لم يكن من نفسك فيها اعتلاجة؟

وهذا جورج جرداق يعترف أن (الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام) نسخة مفردة لم يرَ لها الشرق ولا الغرب صورة طبق الأصل لحد الآن).

ويتحدث عن تماسك شخصية الإمام فيقول : (وهذا التماسك في شخصية علي بن أبي طالب (عليه السّلام) واضح ساطع حيث مشيت في دروب نهجه وأنّی

ص: 25

اتجهت، فإذا الفكرة الأساس التي يبني عليها لهذا الوالي هي الأساس التي يبني عليها عهده لكل والٍ لا تناقض بين عهدين منهما ولا تضارب في الجذور المقامة ولا في الفروع النامية عليها، ثم إنما هي نفس الفكرة الأساس التي بني عليها خطبته وقوله، قبل أن يستخلفه المبايعون والتي يبني عليها خطبته وقوله اليوم وقد استُخلف، والتي سيبني عليها خطبته غداً في حالة السلم، وبعد غد، وفي الغد الأبعد).

أقول : قبل أن أواصل في طرح رأي جورج جرداق بالإمام علي (عليه السّلام) أرى أن أقف قليلاً لأشير إلى أن النهج الذي اختطه (عليه السّلام) في مسيرته قبل الخلافة وبعدها، بِعَدِّهِ نهجاً ثابتاً لا يتغير - كما أشار جورج جرداق - لا يعني الجمود على الخط وعدم التفاعل مع المعطيات الجديدة للعصر المعاش، بل يعني أن الإمامَ عليّاً (عليه السّلام) التزم بمبادئ الإسلام ولم يَحُد عنها لأنها تتفق - في معطياتها - مع كل عصر وبيئة وتجمُّع سكاني.

قلت ذلك لكي لا يتبادر إلى الذهن أن الإمام (عليه السّلام) غير مستشرف آفاق المستقبل وغير متفاعل معها، فحاشاه من ذلك. ويواصل جورج جرداق التحدث عن تماسك شخصية الإمام فيقول : (وهذا التماسك في شخصية ابن أبي طالب واضح ساطع كذلك في الفكرة الأساس التي يتوجه بها إلى الصديق والعدومعاً، وإلى القريب والبعيد والمحارِب والمحارِب الأقرب يدفعه في طريق التبديل والتغيير في هذه الفكرة. ولا مودة ولا مجازية، ولا بعد يميل به عن هذه الفكرة ولا عداء ولا خصومة. فالأساس الذي ينزع عنه بآرائه وتعاليمه واحد لا يجوز عليه رضاً أوغضب، ولا يزحزحه سلم أو قتال ولا يبدل وجهه وعدٌ أو وعيد).

ص: 26

وهنا يعني أنه (عليه السّلام) كان يضع مبادئ الإسلام مَعلَماً في طريقه فيسير على وفق هداها لا يحيد عنها بسبب من محسوبية ومنسوبية، فهوذو خط واضح وثابت في معالجة الأمور.

ويردف جورج جرداق قائلا : (وهذا التماسك في شخصية ابن أبي طالب واضح ساطع في هذا التمازج المطلق بين تعاليمه وعهوده وخطبه ووصاياه، وبين مسلکه مع نفسه ومع الناس).

ويقول جورج جرداق : (إن ابن أبي طالب لم يكن ينفذ تعاليمه وأوامره بنفسه ليكون قدوة لغيره شأن الكثيرين من أصحاب التعاليم والأوامر بل كان أسلوبه في ذلك أبسط وأعمق وأجل شأناً، كان يحيي فكرته بقلبه ودمه قبل أن تصبح فكرة مصوغة بألفاظ وتعابير، فإذا هي تنبثق انبثاقاً طبيعياً صافياً، لا يدٌ فيه للصنعة ولا عملٌ فيه لحمل الناس على ما لا تطيق).

وعن تماسك لغة الإمام (عليه السّلام) وبلاغته قال جورج جرداق : (أما البيان فقد وصل عليٌ سابقه بلاحقه، فضم روائع البيان الجاهلي الصافي المَّتحِدَ بالفطرة السليمة اتحاداً مباشراً إلى البيان الإسلامي الصافي المهذَّبِ المتَّحِدَ بالفطرة السليمة والمنطق القوي اتحاداً لا يجوز فيه فصل العناصر بعضها عن بعض، فكان له من بلاغة الجاهلية ومن سحر البيان النبوي، ما حدا ببعضهم أن يقول في كلامه : (دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق)).

ص: 27

علوم علي بن أبي طالب (عليه السّلام)

إشارة

لقد تجمعت في شخصية الإمام علي (عليه السّلام) مزايا كثيرة ومن تلك المزايا - بل هي في رأسها - مزية العِلم.

فقد برز الإمام (عليه السّلام) في هذا الميدان، مثلما برز في ميادين أُخَر، فكان فارس حلبته في الميادين تلك، كلها.

ولكي نعزِّز قولنا بسند تاريخي، نقول :

إن ابن عباس كان تلميذاً للإمام علي (عليه السّلام)، وعُرِف ابن عباس بالتبحر في العلم، حتى وُصف بأنه (حبر الأمة وترجمان القرآن) ولما سُئل ابن عباس : (أين علمك من علم ابن عمك؟) قال :

كنت قطرة من المطر إلى البحر المحیط).

وقال له عمر بن الخطاب : (لا أبقاني اللّه بأرضٍ لستَ بها يا أبا الحسن).

كما قال : (لولا علي لهلك عمر).

ص: 28

وروى أبوالفرج في كتابه الأغاني : (إن ابن عباس سمع قصيدة لعمر بن أبي ربيعة مرة واحدة فحفظها وأعادها، وما سمعها قط إلا تلك المرة صفحاً - أي : مروراً - ثم أنشدها من آخرها إلى أولها مقلوبة.

فقال له بعضهم : ما رأيت أذكى منك قط، فقال ابن عباس : لكنني ما رأيت قط أذكى من عليِّ بن أبي طالب (عليه السّلام)).

وقال ابن عباس : (واللّه لقد أُعطي علي بن أبي طالب تسعة أعشار العلم، وأيم اللّه لقد شاركهم في العُشر العاشر). ویسند ذلك قول الرسول الأكرم صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم:

«أنا مدينة العلم وعليٌ بابها ، فمن أراد العلم فليأتها من بابها».

وفي حديث آخر قال صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم:

أنا مدينة الحكمة وعلي بابها ، فمن أراد الحكمة فليأتها من بابها».

وكان الإمام علي (عليه السّلام) يقول :

سلوني قبل أن تفقدوني، فوالذي نفسي بيده لا تسألوني في شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مئة، وفضل مئة إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها ومناخ ركابها ومحط رحالها».

حتى أن معاويةَ بن أبي سفيان - عندما جاءه ابن أبي محفن وقال له : (جئتك من عند أعيی الناس) - ويعني به عليَّاً (عليه السّلام) - قال له معاوية : (ويحك، كيف يكون أعىی الناس، فواللّه ما سن الفصاحة لقريش غيره). وينقل لنا الجاحظ - في البيان والتبيين - قوله (عليه السّلام) :«قيمة كل امرئ ما يُحسِن» .

ص: 29

أقول : فلولم نقف من هذا الكتاب إلا على هذه الكلمة لوجدناها كافية شافية ومجزية مُغْنِيُة، بل لوجدناها فاضلة على الكفاية، وغير مقصرة على الغاية .

أما ابن عائشة فيقول عنها : (ما أعرف كلمة بعد كلام اللّه ورسوله أخصر لفضاً ولا أعم نفعاً من قول عليٍ : «قيمة كل امرئٍ ما يُحسِن».

ثم أليس هو القائل :

«سلوني فواللّه لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم، وسلوني عن كتاب اللّه فواللّه ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل؟ »

وأليس هو القائل :

لوكُسرت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الفرقان بفرق انهم؟ » ويكفي أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال له (عليه السّلام) يوماً :

«يا علي إن اللّه أمرني أن أدنيَكَ وأعلِّمَكَ لتعي».

وأُنزلت قوله تعالی :

{... وتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ }.

فأنت أُذُنٌ واعيةٌ لعلمي. ذلك هو الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام) في مجال العلم، فما هي العلوم التي وصلتنا عنه (عليه السّلام)؟ إن الأمة العربية، والدين الإسلامي، لولم يكن عندهما - بعد رسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، أحد لكفاهما فخراً أن منهما وفيهما علي بن أبي طالب (عليه السّلام).

ص: 30

كان وعاءاً للعلم حقاً، فما العلوم التي وصلتنا عنه (عليه السّلام)؟

إننا سنشير إلى بعضها إشارات سريعة تنسجم مع هذا التمهيد وهي :

العلم الإلهي: أوعلم الفضاء

يقول ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : (وقد عرفت أن أشرف العلوم هوالعلم الإلهي، لأن شرف العلم بشرف المعلوم، ومعلومه شرف الموجودات ، فكان هوأشرف العلوم، ومن كلامه (عليه السّلام) اقتبس، وعنه نقل، وإليه انتهى؛ ومنه ابتدأ).

وقد صدق ابن أبي الحديد، أليس هوالقائل (عليه السّلام)، في خطبةٍ له يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض، وخلق آدم؟ فقال (عليه السّلام) :

«أنشأ الخلق إنشاءاً وابتدأه ابتداءاً، بلا روِيّة أجالها، ولا تجربة استفادها، ولا حركة أحدثها، ولا همامة نفسٍ اضطرب فيها ، أحال الأشياء لأوقاتها ، ولأم بين مختلفاتها ، وغرز غرائزها وألزمها أثباجها ، عالماً قبل ابتدائها محيطاً بحدودها وانتهائها، غارقاً بقرائنها وأحنائها، ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء وشق الأرجاء وسكائك الهواء، فأجرى فيها ماءً متلاطماً تياره، متراكماً زخاره، حمله على متن الريح العاصفة والزعزع القاصفة، فأمرها بردِّهِ، وسلّطها على شدِّهِ، وقرنها إلى حدِّهِ، الهواء من تحتها فتيق، والماء من فوقها دفيق، ثم أنشأ سبحانه ريحاً اعتقم مهبَّها وأدام مربَّها، وأعصفَ مجراها ، وأبعد منشاها ، فأمرها بتصفيق الماء الزخار،

ص: 31

وإثارة موج البحار، فمخضته مخض السِقاء وعصفت به عصفها بالفضاء، تردّ أوله إلى آخره وساجيه إلى مائره، حتى عبَّ عُبابَه ورمى بالزبد ركابَه، فرفعه في هواء منفتق، وجومنفهق، فسوَّى منه سبعَ سماوات جعل سفلاهنَّ موجاً مكفوفاً وعلياهن سقفاً محفوظاً وسمكاً مرفوعاً بغير عمد، ولا دِسار ينظمها».

وهكذا يستمر الإمام (عليه السّلام) بوصف السماء وصفاً دقيقاً كأنه رافق هذا العمل الخلاق قبل وأثناء إنشائه.

إن العلم الإلهي الذي علَّمه إيَّاه مُعلِّمهُ الأول، الرسول الأعظم محمد بن عبد اللّه صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم، ومن يُرِد الاستزادة فليقرأ تلك الخطبة التي تحتاج إلى كثير من التأمل وإعمال الفكر في هذا الرجل الذي سبر أغوار العلم سبر

خبيرٍ مقتدر.

علم الفقه

ومن العلوم التي برز فيها (عليه السّلام) علم الفقه، فقد وضع أسسه وسن قوانينه ونشر معطياته.

يقول ابن أبي الحديد في شرح النهج : (وكل فقيه في الإسلام فهوعيالٌ عليه ومستفيدٌ من فقهه؛ أما أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف ومحمد وغيرهما أخذوا عن أبي حنيفة، وأما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن فيرجع فقهه أيضاً إلى أبي حنيفة؛ وقرأ ربيعة على عكرمة، وقرأ عكرمة على عبد اللّه بن عباس وقرأ عبد اللّه بن عباس على عليِّ بن أبي طالب (عليه السّلام)، وأما فقه الشيعة فرجوعه إليه ظاهر).

ص: 32

ويؤيد هذا قول العقاد في (عبقرية الإمام علي) : (فالمزية التي امتاز بها علي بين فقهاء عصره إنه جعل الدين موضوعاً من موضوعات التفكر والتأمل، ولم يقصر على العبادة، وإجراء الأحکام، فإذا عُرف في عصره أناس فقهوا في الدين ليصححوا عباداته ويستنبطوا منه قضيته وأحكامه، فقد امتاز عليٌّ بالفقه الذي يُراد به الفكر المحض والدراسة الخاصة وأمعن فيه يغوص في أعماقه على الحقيقة العلمية والحقيقة الفلسفية، كما نسميه اليوم).

فعليٌ - إذن - ليس فقيهاً في جانب واحد من الأحكام ولا لعصره حسبُ بل هو فقيه في كل أحكام الدين الإسلامي ومنفتح على تلك الأحكام بما يجعله مستشرفاً آفاق المستقبل بصورة تنسجم مع كل عصر لأنه أخذ تلك الأحكام من منبعها الأوّل فوضع لها الأجوبة المنسجمة وروح الشريعة الإسلامية الصافية.

علم القضاء

القضاء جزء من الفقه في أي تشريع قضائي، بل هو معبِّرٌ عنه وناطقٌ بلسانه، فهما متلازمان، فإن قلت : فلان قاضٍ أردت به أنه من الفقهاء، وهكذا كان الإمامُ عليٌّ (عليه السّلام) فقيهاً قاضياً.

فقد نقل الكليني، والصدوق، والشيخان، والرضي، والسروري - في الكافي، والفقيه، والإرشاد، والتهذيب، وخصائص الأئمة، والمناقب - عدداً مما قضى به الإمامُ عليٌّ (عليه السّلام)، سواء في عهد الرسول صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم أو بعده؛ فقد لجأ في قضاياه (عليه السّلام) إلى أساليب مبتكرة في كشف

ص: 33

الجريمة وإظهار الحق وحِيَل المحتالين واستنطاق المنكر، مما جعل عمر بن الخطاب و عبد اللّه بن عباس يأخذان منه، بل اعتمد عمرٌ على الإمام علي (عليه السّلام) في حل كثير من قضايا أشكلت عليه وعلى غيره من الصحابة، وقد قال عمر : (لولا عليٌ لهلك عمر)، وقال : (لا بقيت لمعضلة ليس لها أبوالحسن)، وقال : (لا يفتينَّ أحدٌ في المسجد وعليٌ حاضر).

أما الرسول صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم فقد قال عبارته الصريحة :

«أقضاكم علي».

وعندما بعثه إلى اليمن قاضياً قال :

«اللّهم اهدِ قلبه وثبِّت لسانه».

مما جعل الإمامَ علياً (عليه السّلام) يقول :

«ما شككت بعدها في قضاء بين اثنين».

وعن ابن مسعود قال : (إن أقضى أهل المدينة عليٌ بن أبي طالب).

وعنه أيضاً قال : (أعلم أهل المدينة بالفرائض عليٌ بن أبي طالب).

وعن عمر بن الخطاب قال : (علي أقضانا).

وينقل القرطبي - في تفسيره عند الكلام على تفسير قوله تعالى:

{ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً }.

إن عثمان قد أتي بامرأة ولدت لستة أشهر، فأراد أن يقضي عليها بالحد فقال له عليٌّ (عليه السّلام) ليس ذلك عليها، قال تعالى :

{ وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً }).

ص: 34

وهوالذي قال في المنبريّة، أي التي سُئِل عنها وهو على المنبر :

«صار تحتها تُسُعاً».

إذ إنه (عليه السّلام) سُئل في ابنتين وأبوين وامرأة فقال (عليه السّلام) :

«صار تحتها تسعاً».

وأراد أن الأسهم عالت حتى صار للمرأة التُّسُعُ، ولها في الأصل الثُّمْنَ وذلك إن الفريضة لولم تعل كانت من أربعة وعشرين.

فلما عالت صارت من سبعة وعشرين، فللابنتين الثلثان؛ ستة عشر سهماً، وللأبوين السدسان، ثمانية أسهم، وللمرأة ثلاثة من سبعة وعشرين؛ وهوالتسع، وكان لها قبل العول ثلاثة من أربعة وعشرين، وهوالثمن.

علم التفسير

لا غرابة إذا ما كان للإمامِ عليٍّ (عليه السّلام) باعٌ طويلٌ في علم التفسير فهومَن لازم الرسول الكريم صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم قبل - ومنذ وبعد- الدعوة الإسلامية؛ فقد سمع القرآن من فم رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم مباشرةً أي : إنه ثاني شخص يسمع بالقرآن بعد النبي محمد صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم فضلاً عن الرعاية الأخلاقية التي شمله بها ابن عمه محمد بن عبد اللّه صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم، إذ ربّاه صغيراً وغذَّاه من أخلاق بيت النبوة حتى إذا ما شبّ واشتد عوده صار يتأمل في كلام اللّه عز وجل ويستلهم معانيه من المنبع الأول، وإذا ما رأى رسول اللّه فيه ذلك وتأكد من امتلاكه مفاتيح المغاليق القرآنية

ص: 35

ارتاحت نفسه وأراد أن يعلم الإمام (عليه السّلام) بذلك لينطلق في رحاب الجزيرة العربية فيفتح تلك المغاليق للناس بمفاتيح لا يمتلكها غيره بعد الرسول الكريم.

لذلك خاطبه صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم بقوله :

«تختصم الناس بسبع، ولا يحاجك أحد من قريش، أنت أولهم إيماناً باللّه وأوفاهم بعهد اللّه، وأقومهم بأمر اللّه، وأقسمهم بالسوية، وأعدلهم في الرعية، وأبصرهم بالقضية، وأعظمهم عند اللّه مزية».

ولم يخاطب الرسول علياً (عليه السّلام) بتلك الكلمات إلا بعد تأكده من امتلاكه - بحق - الصفات والمزايا تلك.

الملازمته الطويلة إيَّاه وسماعه الوحي منه مباشرةً، بل إن الرسول صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم هو الذي غرس فيه (عليه السّلام) تلك الصفات والمزايا ليكون وزیره وسفيره إلى الناس، ودليلنا أنه صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم لما نزل قوله تعالى :

{ وَ تَعِيَها أَنْ واعِيَةُ }.

قال :

سألت اللّه أن يجعلها أُذُنك يا علي».

ففعل فكان الإمامُ عليٌّ (عليه السّلام) يقول :

«ما سمعتُ من رسول اللّه كلاماً إلا وعيتُهُ وحفظتهُ ولم أنسهُ.»

وثمة أخرى عن عمر بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن رسول اللّه (صلى

اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال :

ص: 36

«يا علي إن اللّه أمرني أن أدنيك وأُعَلِّمَك لتعي».

وأُنزل قوله تعالى :

{ وَ تَعِيَها أَنْ واعِيَةُ }.

إذن ليست مصادفة أن يكون الإمامُ عليٌّ (عليه السّلام) هو المفسِّر الأكثر عمقاً والأكثر ثقةً والأكثر درايةً ومعرفةً بآيات القرآن الكريم لأنه استقاها من منبعها الأول.

وبسبب من تلك الروايات وغيرها أُخذ علم التفسير عن الإمام عليٍّ (عليه السلام) (ومنه فُرِّغ، وإذا رجعتَ إلى كتب التفسير علمتَ صحَّةَ ذلك، لأن أكثره عنه وعن عبد اللّه بن عباس، وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته إيَّاه

وانقطاعه إليه، وإنه تلميذه وخريجه، إذ قيل له : أين علمك من علم ابن عمك؟

فقال : كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط).

علم التصوف

إن أساس التصوف ليس مظهرياً كلبس الصوف أوالتزهُّد في الملبس والمأكل والمشرب والتعامل الاجتماعي والسلوك اليومي مع الناس، بل هوالانقطاع إلى ملكوت اللّه والذوبان في الذات الإلهية ورؤية الأشياء برؤية استبطانية – إذا صح التعبير – أي : معرفة بواطن الأمور من خلال عظمة الخالق بعد تمحيصها وتقليبها والتعمق في أغوارها فتبدومفردات الحياة الدنيا ليست ذات أهمية قياساً إلى مفردات الحياة العليا، حياة الآخرة التي وعدنا اللّه بها.

ص: 37

فقال عز وجل :

{ وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقَى }.

ولأن اللّه - جل وعلا - هوخالق الكون كُلُّه؛ بسماواته وشموسها وكواكبها وأجرامها ومجرَّاتها وأرضه وتضاريسها ومياهها ونباتها وإنسانها وحيوانها، لذلك فإن المتصوف يحاول جاهداً الاتصال بالنبع ليستقي منه معارفه.

لهذا نراه ينصرف عن كثير من مفردات الحياة الدنيا ومفاصلها الهامشية وينقطع - كُلِّيِّةً في كثيرٍ من تفاصيل حياته - إلى خالق الكون ومبدعه ومصوّره؛ إلى اللّه جلَّ في علاه.

وعليُّ بنُ أبي طالب (عليه السّلام)، كان من ذلك النوع من الرجال الذي وجد في اللّه مُعَلِّمَهُ ومُلهِمَهُ وراسمَ خريطةَ حياته في الدنيا والآخرة، لذلك فقد انقطع إليه انقطاعاً كُلِّياً عجيباً؛ فهويقول عن الدنيا إنها :

«تقوى وتسلم، وتذل وتضرى، وهي أمدٌ، والآخرة تسر، وهي أبدٌ»

والدنيا عنده - (عليه السّلام) -:

«محل الغِيَرِ ودارِ المِحَنِ، وغنيمةُ الحمقى وضحكةُ المغترِّ، وأمنيةُ الأرجاسِ، ومُطَلِّقَةُ الأكياسِ، إذ هي ظلٌّ زائلٌ ومنقطعة، وعواريها مرتجفةٌ وفانيةٌ، كيومٍ مضى وشهرٍ انقضى، وهي العاجلةُ، الفرحُ بها حمقٌ والاغترارُ بها خرقٌ، لأنها دارُ الغرباءِ، وسوقُ الخسران، المواصلُ لها مقطوعٌ، والكمالُ فيها مفقود، هي مصرعُ العقولِ، وعالَمُ النقائضِ والآفات، الوَلَهُ بها أعظمُ فتنةِ، وهي كما تُجبِرُ تكسرُ، وكما تُقبِل تَدبر».

ص: 38

ويقول (عليه السّلام) عن الدنيا أيضاً :

« إنها دارُ الفناءِ والآخرةُ دارُ البقاء.. والحازمُ من ترك الدنيا للآخرة، والرابحُ من باع العاجلةَ بالأخرة». .

لذلك فهو يناجي ربَّهُ بما يُنسبُ إليه فيقول :

يا ذا المعالي إليك معتمدي*** طوبى لمن کنتَ مولاهُ

طوبى لمن كان نادماً أرقاً*** يشكو إلى ذي الجلال بلواهُ

وما به علَّةٌ ولا سَقمٌ*** أكثر من حبِهِ لمولاهُ

إذا خلا في الظلام مبتهلاً*** أجابهُ اللّه ثم لبٌ اه

سألتَ عبدي وأنت في كنفي*** وكل ما قلتَ قد سمعناهُ

صوتكَ تشتاقهُ ملائکتي*** فذنبكَ الآن قد غفرناُه

في جنَّة الخُلدِ ما تمنَّاه*** طوباه طوباه ثم طوباه

سلني بلا خشيةٍ ولا رَهَبٍ*** ولا تخف إنني أنا اللّه

ويذوب في الذَّاتِ الإلهيةِ وينقطع - بِكُلِّيتهِ - إلى الخلَّاق العظيم فيناجيه بهذه الترتيلة النقية التي تدل على نقاء روحه وصفائها، إذ يقول :

لك الحمدُ يا ذا الجودِ والمجدِ والعُلا*** تبارکتَ تعطي من تشاءُ وتمنعُ

إلهي وخلَّاقي وحِرزي وموئلي*** إليك لدى الإعسارِ واليسرِ أفزعُ

إلهي لئن جلَّت وجمَّت خطيئتي*** فعفوكَ عن ذنبي أجلُّ وأوسعُ

إلهي لئن أعطيتَ نفسيَ سؤلَها*** فها أنا في أرض الندامة أرتعُ

ص: 39

إلهي ترى حالي وفقري وفاقتي*** وأنتَ مناجاتي الخفيَّةَ تسمعُ

إلهي فلا تقطعْ رجائي ولا تُزغ*** فؤادي فلي في سيبِ جودكَ مطمعُ

إلهي لئنْ خيبتني أوطردتني*** فمن ذا الذي أرجوومن ذا أشفِّعُ

إلهي أجرني من عذابكَ أنني*** أسيرٌ ذليلٌ خائفٌ لك أخضعُ

إلهي فآنسني بتلقين حجَّتي*** إذا كان لي في القبر مثوى ومضجعُ

إلهي فإن عذَّبتني ألفَ حَجَّةٍ*** فحبلُ رجائي منكَ لا يتقطَّعُ

إلهي أذقني طعمَ عفوكَ يوم لا*** بنون ولا مالٌ هنالك ينفعُ

إلهي إذا لم تَرْعني كنتُ ضائعاً*** وإن كنتَ ترعاني فلستُ أُضَيّعُ

إلى آخر هذه الترتيلة الرائعة، التي تدل على نفسٍ صافيةٍ ونقيةٍ وصادقةٍ وذائبةٍ في ملكوت اللّه.

ذلك هو التصوف الذي سنَّه الإمامُ ووضع أسسه بعيداً عن الشعوذةِ والدجلِ والمراءاة.

وكلُّ المتصوفةُ عيالٌ على الإمام عليّ (عليه السّلام) وتلاميذٌ صغارٌ في مدرسته النقية، وقد اعترف بذلك الشبليُّ، والجُنَيْدُ، وسريُّ المفلس السقطي ، وأبويزيدٍ البسطامي، وأبومحفوظ معروف الكرخي، وغيرهم.

ويكفيك دلالةً على ذلك الخرقةُ التي هي شعارهم إلى اليوم، وهم يسندونها بإسنادٍ متصلٍ إليه (عليه السّلام).

ص: 40

عِلْمُ النحو

ومما لا يختلف فيه اثنان أن الإمامَ عليَّ بن أبي طالب (عليه السّلام) هو أوّل من وضع اللَّبِناتِ الأولى في أساس النحو، فقد ابتدعه وأنشأه وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعه وأُصوله، و(كان الهدفُ الأوّلُ والأخيرُ - من التقعيد - هو تخليصها (أي : اللغة العربية) من اللحن، كما فعل أبو الأسود الدؤلي من بادرة بدرت على لسان ابنته إذ قالت - لأبيها متعجبة، وقد نظرت إلى السماء ونجومها في ليلة صافية -: (ما أحسنُ السماء) فرفعت أحسن، وحقُّها - في التعجب - النصبُ وفي الاستفهام الرفع، ففهم أبوها - على ظاهر ما تكلمت به - فقال لها - في الجواب -: نجومُها، أي :أحسنُها نجومُها.

فأدركت خطأها وقالت : (أنا متعجبةٌ ولست مستفهمة).

فأتى عليَّ بنَ أبي طالب (عليه السّلام) فقال : يا أمير المؤمنين ذهبت لغة العرب لِما خالطتِ العجمَ وتوشك - إن تطاول عليها زمان - أن تضمحل، فقال له (عليه السّلام) :

«وما ذلك؟ »

فأخبره خبر ابنته فأمره فاشترى صحفاً بدرهمٍ وأملى عليه : إن الكلامً كلَّهُ لا يخرج عن اسمٍ وفعلٍ وحرفٍ جاء لمعنى، ثم رسم أُصول النحوكلِّها، فنقلها النحويون وفرَّعوها). كما أنه (عليه السّلام) قسَّم الكلمةَ إلى معرفةٍ ونكرة، وقسَّم وجوهَ الإعراب إلى الرفع والنصب والجرِّ والجزم.

ص: 41

و تلك –لعمري-هي االمعجزةُ التي تمثَّلتْ فیه بأعلی معانیها وأدقِّ تفاصیلِها.

وسنری- في فقرة النحو)هذه-کیف کان (علیه السلام) موضعَ استشهادِ في کثیر من المطالب النحویة فی التوظیف و التصریف علی حدِّ سواء-أنه إمامُ اللغةِ والفصاحةِ وسیِّدُ العرب، کما قال عنه رسول اللّه (صلّی اللّه علیه وآله و سلم)

ص: 42

صفاتُ عليِّ بنِ أبي طالب (عليه السّلام)

إشارة

لقد اتصف الإمامُ عليٌّ (عليه السّلام) بصفات قلَّما اتصف بها مَنْ سبقوه ، أوأعقبوه، فإذا ذُكِرتِ الشجاعةُ فلا تتعداه وإن ذُكرتِ القوةُ فلا تتجاوزه، والسخاءُ والجودُ لازماه ملازمةَ ظِلِّه إيَّاه، أما الحكمةُ فكانتْ تنساب من بين شفتيهِ انسياب أشعَّةِ الشمس من قِمَّةِ جبلٍ في فجرٍ ربيعيِّ جميل.

وأما الجهادُ فكان بهِ هاشّاً باشّاً، ويغضب إن لم يُدْعَ إليه، وأما الفصاحةُ فهو فارس حلبتها، والسماحةُ فهوسیِّڈ میدانها، والأخلاقُ فبمثل عظمته، والزهدُ رَفَعَهُ إلى مقام لم يرتفع إليه أحدٌ غيره من بني آدم منذ أن خُلق آدمُ حتى يوم الناس هذا، وأهمُّ ما فيه الصدقُ مع النفسِ في مجاهدتها والصدقُ مع اللّه في التقرُّب منه .

ذلك هو الإمامُ عليُّ بنُ أبي طالب (عليه السّلام) في صفاته التي استطعنا تشخيصها والتي سنتعرض إليها بشيء من التوضيح في تمهيدنا هذا.

ومما لا شكَّ فيه أنّه (عليه السّلام) يتصف بصفاتٍ أخرى قد يراها غيرُنا إلَّا أننا نبغي الإشارة من غيرِ التَّوَغُّلِ أكثر، لطبيعة وظيفتنا في هذا التمهيد.

ص: 43

الشجاعة

لقد عُرِفَ الإمامُ (عليه السّلام) بالشجاعة واقترنت باسمه ووسمتْه بسِمتها ، سواء في بدء الدعوة الإسلامية، أو بعد نجاحها؛ فما من غزوةٍ إلَّا كان الإماُم قائدَها، أومن أبلى فيها بلاءاً لا نظير له، ولعل غزوة الخندق شاهدٌ ساطعٌ على ما نقول؛ إذ لم يتقدم إلى فارس قریش، عمر بنِ عبدِ ودٍّ العامريِّ أحدٌ، سواه يوم عبر الخندق وصار ينادي المسلمين بسخرية لاذعة ويدعوهم لمبارزته، وكان الإمام (عليه السّلام) أوّل من لبَّى نداء الإسلام فيما صمّ الآخرون آذانهم عن دعوته، وإذا ما برز إليه الإمام (عليه السّلام) برز إليه بروز المقتَدرِ؛ هكذا كان في معارك المسلمين كلها.

يقول ابن أبي الحديد في مقدمة كتابه شرح نهج البلاغة في شجاعة أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (أنسى الناسَ فيها ذكرَ مَنْ كان قبله، ومحا اسمَ مَنْ يأتي بعده، ومقاماتُه في الحرب مشهورةٌ تُضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة؛ وهو الشجاعُ الذي ما فرَّ قطُّ ولا ارتاع من كتيبةٍ، ولا بارز أحداً إلَّا قتله، ولا ضرب ضربًة قطُّ فاحتاجت الأولى إلى الثانية، وفي الحديث :

«كانت ضربته وِتراً».

ولما دعا معاوية إلى المبارزة ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما، قال له عمرو : لقد أنصفك، فقال معاوية : ما غششتني منذ نصحتني إلا اليوم، أتأمرني مبارزة أبي الحسن وأنت تعلم أنه الشجاع المطرِق، أراك طمعت في إمارة الشام بعدي! وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته (عليه السّلام)، وأمام

ص: 44

قتلاه کافتخار رهطهم بأنه قتلهم أظهر وأكثر، قالت أخت عمر بن عبد ودّ ترثيه :

لوکان قاتل عمر وغيرُ قاتلهِ*** بكيتُهُ أبداً ما دمتُ في الأبدِ

لكن قاتله من لا نظير له*** وكان يُدعى أبوه بيضة البلدِ

وفي حرب الجمل نراه يقتحم الجمل بنفسه في كتيبة من المهاجرين والأنصار، وحوله بنوه، فيغوص في عسكر الجمل حتى يطحن العسكر ثم يرجع، وإذا ما انحنى سيفه قوَّمه بركبتيه، ولم يلتفت إلى توسُّلات أصحابه بأنهم يكفونه، بل ظل يزأر زئير الأسد.

وحمل ثانيةً وحده فدخل وسطهم يضربهم بالسيف قدماً قُدُماً والرجال تفر من بين يديه، وتنحاز عنه يمنةً ويسرة حتي خضَّب الأرض بدماء القتلى ثم رجع، وقد انحنى سيفه فقوّمه بركبتيه، ولمّا ناشده أصحابه في نفسه وفي الإسلام قال (عليه السّلام):

واللّه ما أريد بما ترون إلا وجه اللّه والدار الآخرة».

ويوم صفِّين لبس سلاح العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وقتل اللخميين والحِمْيَرَ، الذين لم يكن في الشام أشهرُ منهم بالبأسِ والنجدة.

ومع شجاعته النادرة اتصف بأسمى الصفات هي التورُّعُ عن المباغتة والغدرِ والبغي؛ إذ إنه لم يبدأ أحداً بالقتال، وكان يوصي ابنه الحسن (عليه السّلام) :

«لا تدعُوَنَّ إلى مبارزة، فإن دُعيت إليها فأجب فإن الداعي إليها باغٍ، والباغي مصروع».

ولما قيل له إنّ جنودَ الخوارج خارجون عليك فبادرهم قبل أن يبادروك قال : «لا أقاتلهم حتى يقاتلوني وسيفعلون».

ص: 45

وموقفه مع عمرو بن العاص يوم بارزه في صِفِّين فصرعه فكشف عمروعن عورته فكفَّ عنه الإمام (عليه السّلام) دليل لم يستطع التاريخ إنكاره؛ تلك هي شجاعته وتلك هي مروءته (عليه السّلام) في المعارك.

القوة

كان الإمامُ عليٌّ (عليه السّلام) يستمد قوّته ليس من بنيانه الفسلجي حسب؛ فعلى الرغم مما كان يتمتع به من بنية قوية فإن قوة أخرى كانت كامنةً فيه غيرَ منظورةٍ عياناً، إنما منظورة بالمحصلة، تلك هي قوة الإيمان بما حَبَتْهُ به السماء بوساطة ابن عمِّهِ ومُعَلِّمهُ الأوّل الرسول الأعظم محمد بن عبد اللّه صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم.

لقد كان مؤمناً بمبادئ الإسلام، ليس كغيره من المؤمنين؛ وتقيّاً ليس كغيره من الأتقياء؛ وزاهداً بالحياة وملذاتها الفانية ليس كغيره من الزُهَّاد، إنّه (عليه السّلام) كان مرآةً صادقةً لعقيدة الإسلام المستوحاةِ من السماء، بل كان مرآةً صافية مستوية غير محدبة ولا مقعرة، اعتمدها في سلوكه اليومي وفي ذبِّه عن مبادئ الإسلام.

فمدَّته بقوةٍ كامنةٍ فيها تفوق قوة الأرض كلها، لذلك نراه - كما يقول ابن قتيبة في كتابه : (ما صارع أحداً إلا صرعه، شديدُ الوثبِ، قويُّ الضربِ، وهو الذي قلع بابَ خيبر، واجتمع عليه عصبةٌ من الناس ليقلبوه فلم يقلبوه). وهو الذي اقتلع هُبَلَ من أعلى الكعبة، وكان عظيماً جداً، وألقاه إلى الأرضً،

ص: 46

وهو الذي اقتلع الصخرةَ العظيمة في أيام خلافته (عليه السّلام) بيده بعد أن عجز الجيش كله عنها وانبطَّ الماء من تحتها.

قد يقول قائل : كيف يتوافر لإنسانٍ مثل ذلك وهو كسائر البشر؟

الجواب : إن التاريخ يروي لنا أشياء قد نستغربها أمثال تحريك ورفع الأجسام بخارقية عند بعضهم، والتي سُميت في عصرنا هذا، ب(الباراسايكولوجي) وإن من يريد أن يرفع ثقلاً من الأرض ينتخي بأحد رموز معتقده فنراه يستطيع رفعه فيما لم يكن يستطيع ذلك في الحالة الاعتيادية، فما هو السبب؟ إنها القوة الكامنة في الإنسان، فإذا كان صادقاً مع نفسه وصادقاً في معتقده استطاع أن يأتي بالعجائبيات والخوارق، فكيف بالإمام عليٍّ (عليه السّلام)، وهو ربيبُ بيتِ النُّبُوَّة وتلميذ صاحب الرسالة التي أخرجت الناس {مِّنَ الظُلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ }، وإنّه الإيمان الصادق.

السخاء والجود

إنّ سخاءَ وجودَ عليِّ (عليه السّلام) مثلُ صفاته الأخرى، إذ تفرَّد بها أيضاً.

فقد كان (عليه السّلام) - كما يذكر ابن أبي الحديد في مقدمة كتابه شرح نهج البلاغة - : (يصوم ويطوي ويؤثر بزاده، وفيه أُنزل :

{ ویُطعِمُون الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً ویَتِيمًا وَ أَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُکُم لِوَجْهِ اللّه لا نُرِيدُ مِنْ جَزاءٍ وَ لا شُكُوراً } وروى المفسرون أنه لم يكن يملك إلا أربعة دراهم فتصدّق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً وبدرهم سرأ وبدرهم علانيةً، فأُنزِل فيه :

ص: 47

{ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً فَلَهُم أَ جْرهم عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفُ عَلَيْهِ وَ لَا یًحْزَنُونَ }.

و رُويَ عنه (عليه السّلام) أنه كان يسقي بيده نخلَ قوم من أهل المدينة، حتى ثخن جلد يده، ويتصدق بالأجر ويشد على بطنه حجراً).

وقال الشعبي عنه (عليه السّلام) : كان أسخي الناس؛ كان على الخُلُق الذي يحبه اللّه : السخاء والجود، ما قال (لا) لسائلٍ قط.. وقال معاويةُ بنُ أبي سفيان لمحفن بن محفن الضَبِّي لَمَّا قال له : جئتك من عند أبخل الناس، فقال : ويحك كيف تقول أبخل الناس، لوملَكَ بيتاً من تِبرٍ وبيتاً من تِبنٍ لأنفد تبره قبل تِبنه .

وهو الذي كان يکنس بيوت الأموال ويصلّي فيها.

وهوالذي قال :

یا صفراء ويا بيضاء غُرّي غيري».

وهو الذي لم يُخلِف میراثاً، وكانت الدنيا كلها بيده إلا ما كان من الشام. وهو الذي نزلت فيه هذه الآية المباركة :

{ إِنَّما وَليُّکُمُ اللّه وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهْمُ راكِعُونَ }.

إذ نزلت هذه الآية الكريمة في حقه (عليه السّلام) حين كان يُصَلَّي في المسجد وهو راكع، قام سائلٌ يسأل، فمدَّ عليٌّ (عليه السّلام) يدهُ إلى خلفِه وأومأ إلى السائل بخاتمه فأخذه من إصبعه).

ص: 48

وقد قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) :

مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللّهم والِ من والاه وعادِ من عاداه».

وغيرها من الروايات الكثيرة تحجم عن ذكرها لئلا نطيل.

الحِلْم

الحِلمُ من مرتكزات الرجال ذوي النفوس الكبيرة والنظرة الشاملة إلى الحياة ، الذين يضربون بأزاميلهم في العمقِ ليأتوا بعملٍ خلَّاقٍ يخلِّدُهم مدى الزمن.

والإمامُ عليٌّ (عليه السّلام) كان من ذلك الطراز من الرجال؛ فهو مع ما كان يتمتع به من قوة وشجاعة إلا أنه كان حليماً في معاملة الآخرين، لاسيما خصومه؛ فكثيراً ما كان يصفح عنهم في أشد حالات صَلَفِهم.

وهو القائل :

« إذا دعتكَ قدرتُك على أذى الناس فتذكّر قدرةَ اللّه عليك».

فقد كان (عليه السّلام) - كما يقول ابن أبي الحديد - : (أحلم الناس عن مذنب، وأصفحهم عن مسيء، وقد طبَّق ذلك يوم الجمل؛ حيث ظفر بمروان بن الحكم وكان أعدى الناس له، وأشدَّهم بغضاً - فصفح عنه).

وكان عبد اللّه بن الزبير يشتمه على رؤوس الأشهاد، وكان علي (عليه السلام) يقول : «ما زال الزبير رجلاً منا أهل البيت».

حتى شبَّ عبد اللّه، فظفر به يوم الجمل، فأخذه أسيراً، فصفح عنه، وقال له : اذهب فلا أرنيك.

ص: 49

لم يزد على ذلك، وظفر بسعید بن العاص بعد وقعة الجمل بمكة - وكان عدواً - فأعرض عنه ولم يقل له شيئاً.

وظفر بعائشة يوم الجمل فأكرمها وبعث معها إلى المدينة عشرين امرأةً من نساء عبد القيس فعمَّمَهنَّ بالعمائم وقلدهُنَّ السيوف.

فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يُذكَر به، وتأففت وقالت : هتكَ ستري برجاله وجنده الذين وكلهم بي، فلما وصلت المدينة ألقي النساء عمائمهنَّ، وقلن لها : إنما نحن نسوة.

وحاربه أهل البصرة و ضربوا وجهه ووجوه أولاده بالسيوف، وشتموه ولعنوه، فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم، ونادى مناديه في أقطار العسكر : ألا لا يُتْبَعُ موَلِّ، ولا يُجهز على جريح، ولا يُقتل مستأسر، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن تحيز إلى عسكر الإمام فهو آمن، ولم يأخذ أثقالهم، ولا سبی ذراريَهم ولا غنم شيئاً من أموالهم ولو شاء أن يفعل ذلك كلَّه لفعل، ولكنّه أبى إلَّا الصفح والعفو؛ وتقَّيد سُنَّةَ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله)، ولما ملك عسکر معاوية عليه الماء وحرموا عسكره منه ولم تنفع معهم لغة العقل حمل عليهم حملات كثيفة حتى أزالهم عن مراكزهم، ومع ذلك فسح لهم عن بعض (الشِريعة)، ليشربوا منها.

الجهاد

إنَّ جهاد الإمامِ عليِّ بن أبي طالب (عليه السّلام) كان على جبهات عديدة؛ فقد جاهد مع رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم، في نشر الدعوة وتثبيت دعائمها.

ص: 50

فما من غزوةٍ إلّا كان (عليه السّلام)، صادقَ الضربةِ فيها مُدِلاً على حرصه لتنظيف أرض الجزيرة العربية من المشركين لتكون قاعدةً لانطلاق المسلمين إلى العالم في نشر الإسلام، فهو - إذن، كما يقول ابن أبي الحديد - : (سيد المجاهدين) في سبيل اللّه، ولعل غزوة بدر الكبرى شاهدٌ تاريخيٌّ لا يقبل النقض، فقد قَتل الإمامُ (عليه السّلام) - فيها - نصف عدد مَنْ قُتِلوا من المشركين البالغ عددهم سبعون مشركاً.

ليس ذلك حَسْبُ، بل إنّه (عليه السّلام) كان سيِّدَ المجاهدين في النفس؛ كبح جماحها ولوی عناها عن ملذات الدنيا وتوجه بها نحو الحياة الباقية التي صممها خالقها للمتقين المجاهدين الصادقين مع أنفسهم، وهذا هوالجهاد الأكبر.

قال تعالى :

{ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ... } ولكن عند عليِّ بنِ أبي طالب (عليه السّلام) كانت لا تعرف السوء، بل كانت مطواعةً بين يديه يوجهها حيث يشاء وكيف يشاء وإلى أي اتِّجاه يشاء، ذلك بصدق إيمانه وقوته ونقائه.

الفصاحة

إنّ فصاحة الإمام علي (عليه السّلام) لا تحتاج إلى مَنْ يكتب عنها في عصرنا هذا، فمن أراد التأكد يجد بغيته في (نهج البلاغة) وكفى بنهج البلاغة شاهداً ثبتاً، لقد جعل (عليه السّلام)، مِنَ اللغةِ العربيةِ مورداً عذباً للواردین،

ص: 51

سواء في المعاني أوفي هندستها المعمارية المنسجمة مع العصور كلها، بل قل : إنه (عليه السّلام) استطاع - من خلال خطبه وأحاديثه وكتبه ومراسلاته - أن يحافظ على لغة الضاد - جنباً إلى جنب مع القرآن الكريم - من الضياع ومن التلوث البيئي، فجعلها نقيةً صافيةً كصفاء سمائنا في تلألؤ نجومها؛ فهو إمامُ الفصحاءِ وسيِّدُ البلغاء، بل واضعُ أُسسها.

قال الشريف الرضي في مقدمته : (كان أمير المؤمنين (عليه السّلام)، مشرعَ الفصاحة وموردَها، ومنشأَ البلاغة ومولدَها؛ ومنه (عليه السّلام)، ظهر مكنونُها، وعنه أُخذت قوانينُها، وعلى أمثلته حذا كلُّ قائلٍ خطيب، وبكلامه استعان كلُّ واعظٍ بليغ، ومع ذلك فقد سبقَ وقصَّروا، وتقدَّم وتأخَّروا، لأنّ كلامه (عليه السّلام)، الذي عليه مسحةٌ من العِلْمِ الإلهي، وفيه عبقةٌ من الكلام النبوي...).

وقال ابن أبي الحديد: (وفي كلامه قيل : دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوقين، ومنه تعلم الناس الخطابةَ والكتابة، قال عبد الحميد بن يحيى : حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع، ففاضت ثم فاضت، وقال ابن نباتة : حفظت من الخطابة كنزاً لا يزده الإنفاق إلا سعةً وكثرةً، حفظت مئة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب (عليه السّلام).

وحتى معاوية بن أبي سفيان لم يستطع إلَّا أن يقولً - مُرْغماً -: (ما سن الفصاحة لقريشٍ غيرُه)).

وسيجد القارئ الكريم - في فقرة البلاغة - ما يؤكد تلك الأقوال ويرسِّخ عنده أنه (عليه السّلام) لا يُجاري في الفصاحة ولا يُباري في البلاغة، لم يُدَوِّن لأحدٍ

ص: 52

من فصحاء الصحابة العُشْرَ ولا نصف العُشْرِ ما دُوِّنَ له، وما دُوِّنَ له إلا القليل. وها هوالرسول الأعظم محمد صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم يقول لعبد الرحمن بن عوف - كما رواه ابن عباس -:

«يا عبد الرحمن أنتم أصحابي، وعلي بن أبي طالب مني وأنا من علي، فمن قاسه بغيره فقد جفاني، ومن جفاني آذاني، ومن آذاني فعليه لعنة ربي، يا عبد الرحمن، إن اللّه أنزل علىَّ كتاباً مبيناً، وأمرني أن أبيَّن للناس ما نزل إليهم، ما خلا عليٌّ بن أبي طالب فإنه لم يحتجّ إلى بيانٍ لأن اللّه جعل فصاحته ودرايته كدرايتي، ولوكان الحِلم رجلاً لكان علياً».

ذلك هو الإمام علي في الفصاحة مثلما هو في صفاته الأخرى.

السماحة

إن اتَّصاف الإمام علي (عليه السّلام) بأخلاق عالية لَهُومن المسلَّمات البدهية لأنه نشأ وتربَّى في حجر ابن عمه الرسول الأكرم محمد بن عبد اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)، وهومَنْ خاطبه اللّه تعالى في الذِّكْرِ الحكيم :

{ وَ إِنَّكَ لَعَلی خُلُقٍ عَظِيمُ }.

وتغدَّى من لبان النبوة، إذ عُرف بسماحة الأخلاق وبشر الوجه وطلاقة المحّيا والتبسم، فهو المضروب به المثل حتى عابه بذلك أعداؤه. قال عمرو بن العاص لأهل الشام : (إنه ذودعابة شديدة)، فردّ عليه (عليه السّلام) : «عجباً لابن النابغة يزعم لأهل الشام أنَّ فيَّ دعابة، وأني امرؤ تلعابة، أعافس وأمارس»..

ص: 53

فقد استكثرا عليه تلك الصفة، (سجاحة الأخلاق وبِشر الوجه وطلاقة المُحَيَّا والتبسّم) لأنهما يفتقران إليها.

لنقرأ قول صعصعةِ بنِ صوحان وغيره من شيعته وأصحابه : (كان فينا كأحدنا، لِينَ جانبٍ، وشدَّةَ تواضعٍ، وسهولةَ قياد، وكنا نهابه مهابة الأسير المربوط للسياف الواقف على رأسه).

ليس ذلك حَسْبُ، بل إن معاوية نفسه قال لقیس بن سعد : (رحم اللّه أبا حسنٍ؛ فلقد كان هشَّاً بشَّاً، ذا فكاهة، فأجابه قيس : نعم، كان رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) يمزح ويبتسم إلى أصحابه وأراك تسر حسواً في ارتقاء وتعيبه بذلك ؛ أما واللّه لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهْيَبَ من ذي لبدتين قد مسّه الطوى).

تلك هيبة التقوى، وليس كما يهابك طغام أهل الشام.

ويقول ابن أبي الحديد : (وقد بقي هذا الخُلُق متوارثاً متناقلاً في محبيه وأوليائه إلى الآن، كما بقي الجفاء والخشونة والوعورة في الجانب الآخر، ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك).

إنَّ أخْذَ عمرو بن العاص وعمر بن الخطاب ثم (غمزَ) معاوية نابعٌ من نمط حياتهم الاجتماعية وسلوكهم اليومي مع الناس، سلوك التعالي على (الدون) والإشاحة عن (الرعية) [فكل إناء بالذي فيه ينضح] و[شبيه الشيء منجذب إليه]، وإلا ماذا نقول عن وصية الإمام علي (عليه السّلام) إلى واليه مالك الأشتر، إذ يقول - وهويوصيه بالناس خيراً - :

ص: 54

«فالناس صنفان إما أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخَلق، يفرط منه الزلل وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك اللّه من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووليُّ الأمر عليك فوقك، واللّه فوق مَنْ ولَّاك».

وقوله (عليه السّلام) أيضاً :

«لا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم».

وقوله (عليه السّلام) :

«فلا تطوُلْنَ احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقِلَّهُ علمٍ بالأمور، والاحتجابُ عنهم يقطع عنهم علمَ ما احتجبوا دونه، فيصغرُ عندهم الكبير ويعظمُ الصغير، ويقبحُ الحسن، ويحسنُ القبيح، ويشابُ الحقُّ بالباطلِ، وإنما الوالي بَشَرٌ لايعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور».

فهل ذلك كلِّه من فعل ال(دعابة)؟ اللّهم إذا كان كذلك ف(عليٌّ) سيِّدُ الدعابة ورمزُها ومشیِّد بنیانها.

الزهد

الزهد، واحدة من صفات الإمام علي (عليه السّلام) التي فاقت التصور وتجاوزت المعقول؛ لقد كان (عليه السّلام)، زاهداً بحياته في مجمل تفاصيلها؛ في المأكلِ والمشربِ والملبسِ وما إلى ذلك من أساسات (الدنيا) التي يعتمدها الناس ويقيمون لها وزناً ويولونها اهتمامهم، ولكنه (عليه السّلام)، كان يستعيض عن ذلك

ص: 55

الزخرف بما وهبه اللّه من الصبر في مجاهدة النفس والتوجه بقلب سليم إلى اللّه وأداء فروضه وتنفيذ ما أُوكل إليه من أمر الدِّينِ والرعية.

يقول أبن أبي الحديد : (وأما الزهدُ في الدنيا فهو سيِّدُ الزُّهَّادِ، وبدلُ الأبدال وإليه تُشَدُّ الرحالُ، وعنده تُنفض الأجلاسُ؛ ما شبع من طعامٍ قطْ، وكان أخشنَ الناس مأكلاً وملبساً.

قال عبد اللّه بن أبي رافع، دخلت إليه يوم عيد فقدم جراباً مختوماً، فوجدنا فيه خبز شعيرٍ يابساً مرضوضاً، فقُدِّم فأكل، فقلت : يا أمير المؤمنين، فكيف تختمه ؟ قال (عليه السّلام):

«خفت هذين الولدين - أي: الحسن والحسين عليهما السلام - أن يُلتّاه بسمنٍ أوزیت».

وكان ثوبه مرقوعاً بجلدٍ تارةً وليفٍ أخرى، ونعلاه من ليف، وكان يلبس الكرباس الغليظ، وكان يأتدم بخلٍّ أوبملح، فإن ترقِّی عن ذلك فيُعوَّض بنبات الأرض، فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبانِ الإبل، ولا يأكل اللحم إلّا قليلاً ويقول؛ لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان، وكان مع ذلك أشدَّ الناس قوةً... ولا ينقض الجوع قوته، وهو الذي طلق الدنيا،وكانت الأموال تجي إليه من جميع بلاد الإسلام، إلّا من الشام، فكان يفرقها ويمزقها، ثم يقول :

هذا جنايّ وخيارهُ فيه*** إذ كلُّ جانٍ يدهُ إلى فيه

ولنقرأ قول الشريف الرضي في مقدمة النهج، إذ يقول : (ومن عجائبه التي انفرد بها وأمِنَ المشاركة فيها كلامه في الزهد والمواعظ، إذا تأمله المتأمل وخلع من

ص: 56

قلبه إنه کلام مثله، ضمن عظم قدره، ونفذ أمره، وأحاط بالرقاب ملکه لم يعترض الشك في إنه من كلام مَنْ لا حظَّ له غير الزهادة، ولا يطل له غير العبادة، فقد قبع في کسر بيت أوانقطع في سفح جبل، لا يسمع إلا حسّه ولا يرى إلّا نفسَه).

فكلامه (عليه السّلام) ينطبق على فعله، فقد روى النَّظْرُ بن المنصور عن عقبة بن علقمة قال : (دخلت على عليٍّ (عليه السّلام) فإذا بين يديه لبنٌ حامضٌ آذتني حموضته وكِسَرٌ يابسةٌ فقلت : يا أمير المؤمنين أتأكل مثل هذا؟ فقال لي :

«يا أبا الجنوب: كان رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) يأكل أيبس من هذا ويلبس أخشن من هذا – وأشار إلى ثيابه - فإن لم آخذ بما أخذ به ألَّا الحق به» ).

وكان (عليه السّلام) يأكل الشعير وتطحنه الزهراء بيديها، وكان يختم الجراب الذي فيه دقيق الشعير فيقول :

«لا أحب أن يدخل بطني إلّا ما أعلم».

وقال عبد اللّه بن أبي الهذيل : (رأيت علياً خرج وعليه قميص غلیظ دارس إذا مدَّ كُمَّ قميصه بلغ إلى الظفر، وإذا أرسله صار إلى نصف الساعد).

وينقل لنا صاحب أسد الغابة : (إن على عليٍّ (عليه السّلام) إزاراً غليظاً قال : اشتريته بخمسةِ دراهم فمن أربحني فيه درهماً بعته، فيما ينقل عن الأرقم قوله : رأيت عليَّاً وهويبيع سيفاً له في السوق، ويقول :

«من يشتري مني هذا السيف؟ فوالذي خلق الحبَّة لطالما كشفتُ به الكربَ عن وجه رسول اللّه ولو كان عندي ثمن إزار ما بعته».

ص: 57

ودخل عليه عَديُّ بنُ حاتم فرأى بين يديه شنَّة فيها قراح ماء وكسرات من خبز شعير وملح، فقال : إني لا أرى لك يا أمير المؤمنين لتظل نهارك طاوياً مجاهداً وبالليل ساهراً مكابداً، ثم يكون هذا فطورك، فقال عليٌّ (عليه السّلام) :

علل النفس بالقنوع وإلَّا*** طلبتْ منك فوق ما يكفيها

ثم قال (عليه السّلام) :

«كأني بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوتُ ابنِ أبي طالبٍ فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران، ومنازلة الشجعان ألا وإن الشجرةَ البريةَ أصلبُ عوداً، والروائعَ الخضرةَ أرقُّ جلوداً، والنباتاتِ البدويةَ أقوى وقوداً وأبطأ خموداً، وأنا من رسول اللّه كالصنومن الصنو، والذراعِ من العضد، واللّه لوتظاهرت الدنيا على قتالي لما ولّيتُ عنها».

وكان رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) يخاطبه بقوله :

«يا علي، إن اللّه، عزَّ وجل، قد زيَّنَكَ بزينةٍ لم يتزيِّنْ العبادُ بزينةٍ أحب إليه منها.. الزهد في الدنيا، فجعلك لا تنال من الدنيا شيئاً ولا تنال الدنيا منك شيئاً...».

وهو الذي قال فيه عمر بن عبد العزيز : ( أزهد الناس في الدنيا عليُّ بنُ أبي طالب). وقد اعترف أبو سفيان بأن (علياً لم يبنِ آجرةً فوق أجرةٍ ولا لبنةً على لبنةٍ ولا قصبةً على قصبة). ويُروي عن الإمام الحسنِ بن علي، (عليهما السلام) أنه قال : «لم يترك أبي إلا ثمانِ مئة درهم أوسبع مئة درهم فضلت من عطائه كان يعدُّها لدار الخادم يشتريها لأهله». فالإمامُ عليُّ (عليه السّلام) - إذن - كان سيِّدَ الزُّهَّادِ في الدنيا وسيِّدَ عُشَّاقِ الآخرة.

ص: 58

إسهامات عليِّ بن أبي طالب (عليه السّلام) ودورةُ في الإسلام

جمعه القرآن

يمكن القول إن القرآنَ وعليَّ بنَ أبي طالب (عليه السّلام) لم يفترقا يوماً، والسببُ بسيطٌ جداً، وهو أن الإمامَ (عليه السّلام) تربِّى في بيت النبوة، والقرآن بعدُ لم ينزل على صدر النبي.

ولما حانت ساعة الوحي وبدأ يدق باب ذلك البيت كان الإمامُ عليٌّ (عليه السّلام) قد بلغ من العمر ما يجعله يدرك معناها فتلقى ذلك الوحي من فم رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) مباشرةً؛ آيةً فآيةً وسورةً فسورةً، فلا شك في أنه حفظ القرآن وأدرك معانيه بسبب من لصوقه بالرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) وقد اتفق الكل - كما يقول ابن أبي الحديد - على أنه كان يحفظ القرآن على عهد رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) ولم يكن غيره يحفظه، وهو الذي كان يقول :

ص: 59

«سلوني واللّه لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم، وسلوني عن كتاب اللّه ما من آية إلَّا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل».

ثم هو أوّل من جمعه ، ومهما قيل في سبب تأخره عن بيعة أبي بكر فإننا نميل إلى أنه (عليه السّلام) استغل مُدة بُعْدِهِ عن الخلافةِ بجمع القرآن، وهذا يدل على أنه أوّل من جمع القرآن، لأنه لوكان مجموعاً في حياة رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) لَما احتاج إلى أن يشتغل بجمعه بعد وفاته (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)، وإذا رجعتَ إلى كتب القراءات - يستمر ابن أبي الحديد - وجدتَ أئمة القُرَّاءَ كلهم يرجعون إليه؛ كأبي عمروبن العلاء وعاصم بن أبي النجود وغيرهما، لأنهم لا يرجعون إلى أبي عبد الرحمن السُلَمي القارئ، وأبوعبد الرحمن كان تلميذه، وقد صار هذا الفن من الفنون التي تنتهي إليه أيضاً مثل كثير مما سبق.

مشوراته

مما لا شك فيه أن الإمامَ عليَّاً(عليه السّلام) يتمتع بقدراتٍ ذهنية جعلته يتفرَّد، لا بين أقرانه في عصره حسب، بل على طول التاريخ الإنساني، قبلاً وبعد، وإذا ما دقّشقنا النظر في نهج البلاغة لتأكد لنا ذلك، ويعود سبب تفرده إلى عوامل عديدة منها :

1. التركيب الفسيولوجي، وأعني به خلايا تلافيف دماغه التي أبدعها وصممها خالق الكون والناس لتكون متفرِّدة.

2. نشأته في بيت أنزل اللّه تعالی رسالته فيه على نبيه الأكرم محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) فتلقفها الصبي (عليُّ بنُ أبي طالب (عليه السّلام)) بتَلهُّف الجائع

ص: 60

رغيف خبزٍ حار، فعاش - منذ صباهُ - في محيط يتضوّع في أرجائه بخور التقوى والتوحيد والإيمان، بل قل الثورة على القيم البالية التي عاشها العرب دهوراً مديدة، مما جعله دائم التفكر والتأمل.

3. إيمانه المطلق برسالة ابن عمه محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) جعله ينطلق في إبلاغها إلى الناس بصدق وبروحيةٍ صافيةٍ ونظيفةٍ وبعزيمةٍ لا تعرف الكللَ ولا المللَ، ولا تعرف المداهنةَ والمحاباة، ولا التوفيقيةَ والوسطية، بل سار في خطِّ مستقيم واحد حتى آخر لحظةٍ من حياته الكريمة، ويظهر ذلك جليَّاً في خطبه وأحاديثه ووصاياه ومراسلاته، المجموع بعضها في نهج البلاغة.

4. شعوره بأنه المُكَلَّف بعد وفاة الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) بتبليغ رسالة السماء إلى الناس وتثبيت دعائمها والحفاظ على قيمها لأنه أولى الناس بحمل هذا التكليف، وهو الذي قال فيه الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) :

«من كنتُ مولاه فهذا علي مولاه، اللّهم والِ من والاه وعادِ من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله».

وقال (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) :

«أنت مني كمنزلة هارون من موسى ...».

فرجلٌ تلك مكانته من الإسلام ومن رسول الإسلام لابد له أن ينهض في

إتمام ما بدأ به الرسول (صلّى اللّه عليه وآله).

لتلك الأسباب وغيرها لابد للناس أن يرجعوا إليه في كثير ما أشكل عليهم من تفاصيل الرسالة المحمدية، لذلك نراه - كما يقول ابن أبي الحديد -: (كان

ص: 61

أسَدَّ الناس رأياً وأصحَّهم تدبيراً، وهو الذي أشار على عمر بن الخطاب لَمَّا عزم على أن يتوجه بنفسه إلى حرب الرومِ والفُرْسِ بما أشار، وهو الذي أشار على عثمان بأمور كان صلاحه فيها ولو قبِلها لَما حدث عليه ما حدث).

بل هومن قال عنه عمر بن الخطاب : (لولا علي لهلك عمر).

فلا غرابة في ذلك لأن سلاحه كان أمضى سلاحٍ وأنفذَ سلاحٍ وأصدقَ سلاحٍ وأنقاهُ وأصفاهُ وأكثرَ تجذُّراً في عمق العقيدةِ والمبدأ.

أليس هومن خاطب الرسول الأكرم (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) أصحابه قائلاً : «أ قضاكم علي».

ثم هومن بعثه قاضياً على اليمن فمسح على صدره وقال :

«اللّهم اهدِ قلبه ولسانه».

مما جعل الإمام يقول :

«فواللّه ما شككتُ بعدها في قضاء قضيتُ به بين اثنين».

ثم أليس هومن قال فيه رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) - عندما أُنزل قوله تعالى : {وَتَعِیَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ }-:

«سألت اللّه - عز وجل - أن يجعلها أذنك يا علي»..

فقال الإمامُ عليُّ (عليه السّلام) :

«فما نسيت شيئاً بعد ذلك، وما كان لي أن أنسى».

وأخيراً، أليس هومن تولى تسميته وتغذيته أيَّاماً من ريقه المبارك، وأمصه لسانه، والقصة في ذلك ما روي عن فاطمة بنت أسدٍ أمِّ عليِّ في حديث طويل

ص: 62

قالت : نظر إليّ أبوطالب وقال : - يا أم مالكِ؟ مالي أراكِ حائلة اللون؟ فقال محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) لعمه أبي طالب : «إن كانت حاملاً أنثى فزوجنيها».

فقال أبوطالب علیه السلام : (إن كان ذكَراً فهولك عبدٌ، وإن كانت أنثي فهي لك جاريةٌ وزوجةٌ). فلما وضعتهُ جعلته في غشاوة، فقال أبوطالب : (لا تفتحوها حتى يجيء محمد فيأخذ حقه).

فجاء محمد ففتح الغشاوة، فأخرج منها غلاماً حسناً فشاله بيده، وسمّاه عليَّاً، وبصق في فيه، وأصلح أمره، ثم إنه ألقمه لسانه فما زال يمصه حتى نام؛ وهكذا فعل معه في اليوم التالي). ذلك هو الإمامُ عليٌّ (عليه السّلام) ربيبُ الطهرِ والنقاءِ والعقلِ والمعرفةِ والمنبعِ الصافي الأوّل لرسالة محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) لذلك فلا غرابة - أقولها ثانيةً - أن يشير على الصحابة بآرائه التي ما أخطأتْ يوماً بل جعلتهم لا ينصرفون لغيره ويهابونه في إعطاء الرأي عندما يكون حاضراً بينهم، لأنه أسدُّهم رأياً وأرجحهم فكراً وأقضاهم، وأفتاهم وأصدقهم وأكثرهم إيماناً وتمسكاً بأهداب العقيدة والمبدأ.

سياسته

كانت سياسة الإمامِ عليٍّ (عليه السّلام) منحازة كُلِّيةٌ إلى الأسس التي أوحى بها اللّه - جلت قدرته - إلى رسوله الكريم محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) من غيرِ أن يخشی لومة لائم.

ص: 63

لذلك ترك لنا ثوابتَ لا تقبل الطعن، بل كانت - وما زالت وستبقى - روافدَ ثرَّةَ ينهل منها أيُّ حاكمٍ ينشد الحقَّ والعدل.

(فقد كان ثاقب الفكر، راجح العقل، بصيراً بمرامي الأمور، وقد اُثِرَتْ عنه مواقفٌ وأقوالٌ وتصرفاتٌ تقوم دليلاً على سياسته الحكيمة، وقيادته الرشيدة، لكن مُثُلُهُ العليا تحكمت في حياته، فحالت دون تقبُّله الواقع ورضاه بأنصاف الحلول).

ومَن يرجع إلى (هج البلاغة) يجد فيه عشرات الخطب... تعطي صورة واضحة عن نظرته الثاقبة وآرائه البعيدة في مبادئ السياسة، وأساليب حکم الرعية، وإدارة شؤونها، والحرص على دفع الفتن عنها، حتى تعيش في بحبوحة العز والرخاء).

ولكي تتدبر هذا الأمر، ما عليك إلّا أن تقرأ خطبه لدی بیعته وإعلانه منهاجه في الحكم، أوتستعيد مواقفه مع عائشة، ووساطاته بين عثمان والثائرين عليه، وصبره الجميل في معالجة الأمر مع معاوية وأهل الشام، وطول أناته في تفهم آراء شيعته، ومناظرته الخوارج قبل أن يخوض معهم ساحة القتال.

وقد خاطب الخوارج بقوله (عليه السّلام) :

«فلما أبيتم إلّا الكتاب اشترطتُّ على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن وأن يميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكَماً يحكم ما في القرآن، وإن أبيا فنحن من حكمهما براء».

ص: 64

ويقول لرجل وفد عليه من أهل البصرة :

«أرأيت لوأن الذين وراءك بعثوك رائداً تبتغي لهم مساقط الغيث، فرجعت إليهم وأخبرتهم عن الكلأ والماء، فخالفوا إلى المعاطش والمجادب ما كنتَ صانعاً؟ ».

قال : كنتُ تاركهم ومخالفهم إلى الكلأ والماء، فقال الإمام (عليه السّلام) : «فامدُدْ - إذن - يدك».

وإذا بالرجل يقول : فواللّه ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجة عليَّ فبايعته).

وأخيراً كتابه (عليه السّلام) إلى عامله الأشتر النخعي الذي يقول فيه :

«أنظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ولا تولهم محاباةً وأثَرَةً فإنهم جماعٌ من شعب الجور والخيانة، وتوځَّ منهم أهل التجربة والحياة من أهل البيوتات الصالحة والقِدَم في الإسلام، فإنهم أكثر أخلاقاً وأصح أعراضاً، وأقل في المطامع إسرافاً وأبلغ في عواقب الأمور نظراً، ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوةً لهم في استصلاح أنفسهم، وغنىً لهم في تناول ما تحت أيديهم، وحجةً عليهم إن خالفوا أمرك أوثلموا أمانتك، ثم تفقّد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق عليهم فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوةٌ لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية».

ويحسن بك - أيها القارئ الكريم - أن ترجع إلى (نهج البلاغة) لتقف - بنفسك - على خُطَبِهِ وأحاديثه ومكاتباته ووصاياه (عليه السّلام)، لتجد فيها أُسس

ص: 65

أحدث المُسَلَّمات السياسية وأكثرها عدالةً.

لقد أسهم الإمامِ عليٌّ (عليه السّلام) في حقل السياسة إسهاهماتٍ جوهريةً حتى أن أكثر الحاكمين - إذا لم نقل كلَّهم - الذين تعاقبوا بعده من العرب، بل من غير العرب - أيضاً - حتى عصرنا الراهن يتعكزون على مُسَلَّماتهِ السياسية، وسياسته الرشيدة في الرعية.

ذلك هو الإمام عليُّ بن أبي طالب (عليه السّلام) في نسبه ومكانته من الإسلام، ورأي علماء (السُّنةِ) فيه ورأي غير المسلمين أيضاً، وعلومه، وصفاته ، وأخيراً إسهاماته ودوره في الإسلام.

ويمكن أن نختم تلك الفقرات بقول ضرار بن ضمرة الكناني، إذ دخل يوماً على معاوية فقال : صف لي عليَّاً، فاستعفاه ضرار، قال معاوية : لتصفنّه ...!

فقال ضرار : أما إذا لابد من وصفه فإنه كان - واللّه - (بعيد المدى شديد القوى يقول فصلاً ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهوتها، ويأنس بالليل ووحشته، وكان غزير الدمعة طويل الفكرة، يقلّب كفّه ويخاطب نفسه، ويعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، وكان فينا كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، ويلبِّينا إذا دعوناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن واللّه مع تقريبه إيانا وقربه منَّا لا نكاد نکلمه هيبة له، فإن تبسم فعن اللؤلؤ المنظوم، يعظِّم أهل الدين، ويقرِّب المساكين، لا يطمع القويُّ في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه - وقد أرخى الليل سدولَه وغارب نجومَه - قابضاً على لحيته يتململ

ص: 66

تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين فكأني أسمعه الآن وهويقول :

«یا ربنا يا ربنا».

يتضرّع إليه ثم يقول :

«يا دنيا غرّي غيري، إليّ تعرّضتِ أم إليّ تشوّقتِ؟ هيهات! هيهات! قد بِنْتُكِ ثلاثاً لا رجعة فيها؛ فعمرك قصير، وخطركِ كبير ، وعيشكِ حقير، آهٍ آهٍ من قلة الزاد ، وبعد السفر، ووحشة الطريق» ).

ص: 67

ص: 68

الضوء الأوّل: المشككون بنهج البلاغة

إشارة

ص: 69

ص: 70

قديماً قيل : (من ألّف وصنّف فقد استُهدِف).

ذلك القول يصدق في كل زمان ومكان.

فالذين يتعاملون مع الفكر والقلم مُسْتَهْدَفُوْنَ أبدأ لماذا ؟

لأنهم :

1. سيطرحون آراءً قد لا تتفق مع هذا وذاك من حملة الأقلام فتبدأ السهام تتراشق في ما بينهم.

2. قد يكون هذا المفكر أوذاك متفوقاً على بعض أقرانه فيحاول هؤلاء الأقران أن يظهروا (فسادَ) قول هذا المتفوق عليهم، غَيرةً وحسداً، أو تقرباً من ذوي السلطة والجاه.

3. قد يسلط هذا المتفوق الضوء على بعض الظواهر المدانة التي تمس بعض من يمتّون بصلة إلى أصحاب الظواهر المدانة تلك فيحملون معاول الهدمِ للنَّيل من هذا المتفوق الذي ينشد الحق في ما يطرح بهدف قلب الحقائق وتشويهها حتى

ص: 71

لوكانت على حساب المبدأ والعقيدة.

وهكذا كان الإمام (عليه السّلام) في (نهج البلاغة).

إذ لمجرد ورود خطبة أوكلام له لا يتفق مع الرأي الآخر صار هذا (الآخر) يشكِّكُ بما جاء في (النهج) هذا.

ولأنهم لا يستطيعون النيل من شخص الإمام علي (عليه السّلام) فقد لجؤوا إلى طرق ملتوية ومنافقة تُظْهِر غير ما تُبْطنُ.

وهذه الطرق تناولت (هج البلاغة) تناولاً ظاهره الحق وباطنه يجأر بالباطل. فقد شككوا في جامع النص؟ أهوالشريف الرضي أم الشريف المرتضی؟

ثم راحوا يشككون في عائدية النهج نفسه : فمنهم من قال إنه ليس من کلام الإمام علي (عليه السّلام)، ومنهم من قال إن بعضه للإمام وبعضه من وضع الشريف الرضي وبعضه من وضع ابن أبي الحديد.

وهكذا صاروا يتخبطون خبط عشواء وهم يدركون أن ما في نهج البلاغة كله للإمام علي ولكن ما الحيلة وقد وردت فيه (خطبة) تمس (بعض) من التفّوا على مبدأ الحق فحرفوه عن جادته التي رسمها لهم صاحب الدعوة الرسول الأكرم محمد بن عبد اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)، وهؤلاء يسيرون في خط أولئك المحرِّفِينَ؛ فهم قالوا إن في (نهج البلاغة) [غثاثة] لا يمكن أن يكون هذا الكلام للإمام علي (عليه السّلام) وهومن (سن الفصاحة لقريش)، إنما كلمة حق يراد بها باطل.

ص: 72

وقالوا إن في النهج تعريض بالصحابة وعليٌّ (بريءٌ...!!) من كلام يتعرض بالصحابة.

إذن فالنهج لا يمكن أن يكون - بزعمهم، كله - من [كلام الإمام علي (عليه السّلام)..!!].

ومما قالوا - أيضاً - : إن (الوصي) أو (الوصية) كمصطلح لم تكن معروفة في زمن الإمام علي (عليه السّلام) فهي عرفت في عصور لاحقة.

ثم إن الإطناب والإيجار - في رأيهم - لم يكن معروفاً إلّا في عصور متأخرة کالعصر العباسي.

وقل مثل ذلك عن السجع الذي زعموا أنه ما كان له أثر في زمن الإمام (عليه السّلام) لذلك (قرروا !!) : (إن الكلام المسجوع هومن [وضع شخص أو أشخاص عاشوا في عصور لاحقة بعد عصر الإمام (عليه السّلام) ]).

أما دقة وصف الطاووس والنحلة والجرادة والخفَّاشِ فقد استبعدوا أن يكون هذا الوصف الدقيق للإمام علي (عليه السّلام) لأنه لم يكن معروفاً في زمانه (عليه السّلام).

وهكذا صاروا يفتشون في مفردات نهج البلاغة ليجدوا ما يعينهم على إبعاد نسبة كتاب (نهج البلاغة) إلى الإمام (عليه السّلام) وكلما (اكتشفوا...!!) واحدة من تلك اللُّقى فرحوا بها وصاروا يفتشون عن (لقْيَةٍ) أخرى تعينهم على (منهجهم العلمي ..!!) هذا فالألفاظ الاصطلاحية التي وردت في (النهج) لا يمكن

ص: 73

أن تكون من كلام علي (عليه السّلام) لأنها من كلام (فلاسفة) متأخرين عن عصر الإمام (عليه السّلام) بقرون.

وكذلك التقسيمات العددية التي وردت في (النهج) لا يمكن أن تكون - حسب زعمهم - للإمام علي (عليه السّلام) لأنها [غير معروفة...!!] في زمانه أيضاً.

أما التنبؤات، أوالتَّوِقُّعاتُ فهي [موضوعة ومنسوبة إليه ...!!] (عليه السّلام)، وهكذا عابوا عليه الزهدَ في الحياة.

كما أنكروا الوصف الدقيق للحياة الاجتماعية في زمان الإمام (عليه السّلام) وقالوا : (إن الذي ورد في (النهج) لم يكن من قول الإمام نفسه لما فيه من مصطلحات هي بعيدة عن عصره (عليه السّلام)).

ونحن في هذا الكتاب نحاول تسليط الضوء على ما أوردنا من أقوال المشككين ومناقشتها والرد عليها بمنهج علمي معتمدين الحقائق التاريخية والمنطقية التي لا تقبل الطعن بها.

وقد تَوَخَّيْنا - بعملنا هذا - مرضاة اللّه جل في علاه وإعادة الحق إلى أصحابه وتبصير من زاغوا عن طريق الحق أما جهلاً منهم أوعناداً.

بهدف أن يعودوا إلى جادة الصواب فيتخذوا من شخصية الإمام (عليه السّلام) مثلهم الأعلى في مناصرة الحق ومحاربة الباطل وبذلك نكون كالبنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضاً فنقف بوجه من يحاولون جاهدين حرفنا عن الدين الذي جاء به الرسول الأكرم محمد بن عبد اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)

ص: 74

من اللّه تعالى ليخرجنا مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى الثَّوْرِ بإِذنِه وَ يَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ - كمقدمة - للقضاء على نور هذا الدين الحنيف الذي وجدوا فيه النور الذي عَشَتْ أبصارهم منه.

عسى أن نكون ممن أسهموا في وضع الحقائق في نصابها فإن استطعنا فمن اللّه التوفيق وإن أخفقنا فنسأله جل شأنه أن يغفر لنا وأن يسدد خطانا لما فيه نصرة ديننا الذي ارتضاه لنا إنه هو القدير المكين، ومنه نستمد العون والتمكين.

الرد على المشككين

إذا ما رجعنا إلى سيرة الشريف الرضي سنعرف أنه هو الذي جمع مفردات (النهج) وذلك في عام (400ه) ولكن ثمة من نسب جمع النهج إلى الشريف المرتضى، أخي الرضي؛ من هؤلاء جورجي زيدان إذ قال : (والصحيح إنه من جمع الشريف المرتضی)، وكذا قال بروكلمان.

أما شوقي ضيف فقد قال في كتابه : (إن اعتراف الشريف الرضي بجمعه (النهج) دليل على وضعه إياه، وبذلك قد خلط بين الوضع والجمع).

في الحقيقة إن تلك الأقوال لا تريد التشكيك بمن جمع (النهج) بقدر ما تريد التضبيب حول عائدية (النهج) أصلاً إلى الإمام علي (عليه السّلام)، وذلك للتقليل من شأنه وشأن أمير المؤمنين (عليه السّلام).

والمسألة قديمة، إذ أن خصومه (عليه السّلام) - منذ بزوغ نجمه، سواء في الغزوات والحروب في بدء الدعوة الإسلامية وفي تقريب النبي محمد (صلّى اللّه عليه

ص: 75

وآله) إياه قولاً وعملاً - أخذوا ينالون منه بوسائل شتى، إنْ ظاهرة أو مبطنة، ويرجع تاريخ تلك الخصومة والعداء إلى يوم غدیر خم، الذي رفع الرسول الأكرم عليّاً (عليه السّلام) وقال :

«من کنت مولاه فهذا علي مولاه اللّهم والِ من والاه وعادِ منم عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله».

أو قبل ذلك، يوم زوّجه ابنته فاطمة الزهراء (عليها السلام) ومن خلال أحاديثه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) الكثيرة في حق الإمام علي (عليه السّلام) كقوله (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) - وهو يخاطبه -:

«يا علي، حُبُّك إيمان ، وبغضك نفاق؛ وأوّل من يدخل الجنة مُحِبُّك،

وأوّل من يدخل النار مُبْغِضُك».

وقد أحسّ خصوم الإمام بأنه سيكون له شأن في البنيتين الفوقية والتحتية للهيكلية الإسلامية فصاروا ينالون منه بطرق خبيثة، حتى في زمن النبي (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)، أو بعده.

ففي زمن النبي (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) نذكر الرواية التي تقول :

(إن الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) بعث علياً (عليه السّلام) في سريّة ليقبض الخمس فاصطفى منه سبيّة؛ واتفق أربعة من شهود السريّة أن يبلغوا ذلك رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) متعاقبين واحداً بعد واحد في قول واحد، فلما فرغ الرابع من حديثه أقبل عليه رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) - وقد تغيّر وجهه - فقال :

ص: 76

«ما تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ علي مني وأنا منه، وهووَلِيُّ كُلُّ مؤمنٍ ومؤمنة».

وقال لأحدهم :

«أتبغض عليا؟ ».

قال : نعم، فقال (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) :

«لا تبغضه، فإن له الخمس أكثر من ذلك».

أي : أكثر من السبية التي اصطفاها ...

وقال (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) له :

«لا تبغضه وإن كنت تحبه فازدد له حباً»).

[وإن كنتُ أشكُّ في هذه الرواية في ما يخصُّ (اصطفاء السَّبيَّةِ) لأن الإمام عليَّاً (عليه السّلام) أكبر مما يسلك هذا السلوك قبل الرجوع إلى الرسول محمد (صلّی اللّه عليه وآله وسلّم).

والرواية التي تقول : (إنه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) بعث الإمام علياً (عليه السّلام) إلى اليمن فسأله جماعة من أتباعه أن يُرْكِبَهُمْ إبل الصدقة ليريحوا إبلهم فأبى فشكوه إلى رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) بعد رجوعهم، وتولی شکایته سعد بن مالك الشهيد، فقال : يا رسول اللّه، لقينا من علي الغلظة وسوء الصحبة والتضييق.. ومضى يعدد ما لقيه، حتى ضاق به الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) ذرعاً فهتف به - وهوفي أثناء كلامه -:

«يا سعد بن مالك الشهيد ، بعض قولك لأخيك علي، فواللّه لقد

ص: 77

علمت أنه جيش في سبيل اللّه».

وفي رواية أخرى قال : (صلّى اللّه عليه وآله) للشاكين من الإمام علي عليه السلام :

«أيها الناس لا تشكوعلياً إنه لجيش في ذات اللّه».

والرسول (صلّى اللّه عليه وآله) كان يعلم أن ثمة من يضمر العداوة والبغضاء للإمام علي (عليه السّلام) حسداً له من قربه من ابن عمّه فكان رسول اللّه (صلّی اللّه عليه وآله وسلّم) يؤكد - كما يقول ابن عباس - لهم منزلته العالية في الدنيا والآخرة، فقال (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) مخاطباً علي بن أبي طالب (عليه السّلام) :

«أنت سعيد في الدنيا وسعيد في الآخرة، من أحبّك فقد أحبّني ، وحبيبك حبيبي، وحبيبي حبيب اللّه، وعدوّك عدوّي، وعدوّي عدواللّه، طوبى لمن أحبّك والويل لمن أبغضك».

وبعد زمن النبي (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) صاروا يقلبون الحقائق ويحوِّرون الكلم بما يقلِّل من شأن الإمام عليّ (عليه السّلام)؛ فقد روى البخاري أن رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) وجده - أي علياً (عليه السّلام) - في المسجد نائماً وقد ترب جبينه فجعل يمسح التراب عن جبينه ويقول :

«قم يا أبا تراب».

ويرى العلّامة محمد صادق الصدر إن كلمة (أبا تراب) كناية عن كثرة عبادته وصلواته، لأن المسلمين في السابق كانوا يسجدون على التراب، وكان الإمام علي (عليه السّلام) معقَّر الجبين لكثرة ما يسجد.

ص: 78

فقوله (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) :«قم یا أبا تراب» على حد قوله : (قم یا كثير العبادة).

وقد كانت هذه الكنية من أحب الكنى إليه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) إذ كان كثيراً ما يدعوه بها.

ولكن معاوية بن أبي سفيان، ومن حوله أحسّوا برفعة هذه الكنية وميزة صاحبها، فأخذوا يموِّهون على الناس بأن سبّوه بها على المنابر مظهرين أنهما منقصة له.

كانت تلك البداية؛ إذ بدؤوا بشخص الإمام (عليه السّلام) فنالوا منه ما يشاؤون ليأتوا إلى معطياته الجهادية والأخلاقية والفكرية والإبداعية فيحطّوا من قدرها ويقللوا من شأنها، فلا غرابة - إذن - إذا ما قرأنا، هنا وهناك، وفي هذا العصر أوذاك، تشکیكاً في عائدية (النهج) إلى الإمام علي (عليه السّلام) أو الطعن في بعضه بطريقة مبطّنة كتبطين كلمة الحق يراد بهما الباطل.

فظهرت الأصوات صريحة مرة ومبطَّنة أخرى وخفّية تارة وصارخة حيناً؛ ف(محمود محمد شاكر) يرى إن (نهج البلاغة موضوع وملفَّق على الإمام علي (عليه السّلام)) (لأنه كلام كثير الغثاثة).

تلك غمزة لم يكن محمود محمد شاكر وحده قد غمز با (النهج) وصاحبه ، فقد شاركه بما - وبطريقة أكثر ضلالاً - الدكتور شفيع السيد.

فكتب يقول : (... فضلاً عما اشتهر به الإمام من بلاغة القول ورصانة

ص: 79

العبارة، على نحولا تستبعد معه نسبة تلك النصوص إليه من حيث تركيبها اللغوي وتشكيلها البياني).

لاشك أن القاريء الكريم قد لفتت نظره عبارة : (لا تستبعد نسبة تلك النصوص إليه..).

إذن فهو يشكك بنسبتها إليه (عليه السّلام) ولكنه لا يستبعد ذلك، ليس هذا حسب، بل إنه يذهب إلى غمزة أخرى للنيل من (النهج) وصاحبه إذ يقول الدكتور شفيع السيد عن الشيعة : (إن بعضاً منهم غالي في تقديره له - أي للإمام علي (عليه السّلام) - حتى رفعه إلى مستوى من اصطفاهم اللّه بالوحي، ومن هؤلاء الرضي نفسه في مقدمته للكتاب، فقد علل سبقه في مضمار البيان وتفوقه على كل من عداه من الخطباء والبلغاء؛ بأن كلامه (عليه السّلام) : (الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي).

وعدَّ ذلك غلواً من الشيعة؛ وقد نسي الدكتور شفيع السيد وغيره ، ممن هم على شاكلته في نمط التفكير، إن الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) نفسه كان يقول : «إن النظر إلى وجه علي عبادة».

ونسي - هووغيره - قول الرسول الأكرم (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) لعبد الرحمن بن عوف :

«يا عبد الرحمن أنتم أصحابي وعلي بن أبي طالب مني وأنا من علي، فمن قاسه بغيره فقد جفاني، ومن جفاني آذاني، ومن آذاني فعليه لعنة ربي، يا عبد الرحمن إن اللّه أنزل علىَّ كتاباً مبيناً وأمرني أن

ص: 80

أبيّن للناس ما أُنزل إليهم ما خلا علي بن ابي طالب فإنه لم يحتج إلى بيان لأن اللّه تعالى جعل فصاحته ودرايته كدرايتي».

لا أدري ماذا يقول (السيد) وغيره في : (ما خلا) وفي : (لم يحتج إلى بيان) وفي (درايته كدرايتي)؟

فأيهما (غالی) أكثر، الشيعة - ومنهم الرضي في (مسحته) و(عبقته) - أم الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) في ما نقلنا؟

إن قليلاً من التأمل وقليلاً من الركون إلى الحق وقليلاً من الخروج إلى دائرة الضوء تجعلهم يقولون الحق وينظرون إلى الأشياء بمنظار الحق والإنصاف فلا يغمزون ولا يلمزون. فقال عزّ وجل :

{وَيْلُ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}.

إن علي بن أبي طالب عربي وإنه ابن عم الرسول وكاتب وحيه وربيب بيته ورفيقه في حله وترحاله، أكثير على كلامه أن تكون فيه (مسحة العلم الإلهي وعبقة من الكلام النبوي)؟

ألا يدعوذلك إلى الفخر أن عربياً ومسلماً وقريباً من الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) يحمل إلينا هذا المعطى العظيم والفكر الخلّاق في بلاغة وفصاحة ومنهج علمي ثابت، وينبري عربي آخر، بل مسلم؛ ومن البيت نفسه إلى جمع هذا المعطى في كتاب أسماه (نهج البلاغة) أليس ذلك مما يجب أن نفخر به؟

لا أدري لم هذا التشكيك؟ هل لأنه يحمل اسم الإمام علي (عليه السّلام)؟ أم

ص: 81

لأنه حظي بما لم يحظ به أي كتاب قبله وبعده من اهتمام المؤلفين والشُراح؟

وقد بلغت شروحه (75) شرحاً، بقول الأميني في كتابه الغدير و(101) شرحاً بقول الشيخ عبد الزهراء الخطيب الحسيني.

ولم تقتصر الشروح تلك على الشيعة، بل كان معظمهم من غير الشيعة وليس كما ذهب الدكتور شفيع السيد إلى القول : (إن معظم شراح (نهج البلاغة) هم من الشيعة).

لنترك قول الشريف الرضي ولنقرأ قول الشيخ محمد عبده، الذي هوليس (شيعياً) ولا من (أهل البيت)، إذ يقول : (وليس في أهل هذه اللغة إلّا قائل بأن کلام الإمام علي بن أبي طالب هو أشرف الكلام وأبلغه بعد كلام اللّه وكلام نبيه ، وأغزره مادة وأرفعه اسلوباً وأجمعه لجلائل المعاني).

أما الدكتور زكي نجيب محمود، وهو مثل الشيخ محمد عبده في المذهب، فيقول : (ونجول بأنظارنا في هذه المختارات من أقوال الإمام علي التي اختارها الشريف الرضي (970ه - 1016م) وأطلق عليها (نهج البلاغة)؛ لنقف ذاهلين امام روعة العبارة وعمق المعنى، فإذا حاولنا أن نصنف هذه الأقوال تحت رؤوس عامة تجمعها؛ وجدناها تدور - على الأغلب - حول موضوعات رئيسة ثلاثة، هي نفسها الموضوعات الرئيسة التي ترتد إليها محاولات الفلاسفة قديمهم وحديثهم على السواء ألا وهي : اللّه والعالم والإنسان.

إذن فالرجل - وإن لم يتعمدها - فیلسوف بمادته، وإن خالف الفلاسفة في إن هؤلاء قد غلب عليهم أن يقيموا لفكرهم نسقاً يحتويها على صورة مبدأ

ص: 82

ونتائجه، وأما هو فقد نثر القول نثراً في دواعيه وظروفه).

في الواقع إن بذرة التشكيك بذرها ابن خلکان إذ قال عن (نهج البلاغة) : (إنه ليس من كلام علي، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه).

وأيده في ذلك الصفدي في الوافي بالوفيات، واليافعي في مرآة الجنان، وابن حجر في لسان الميزان.

ويبدو أن بذرة ابن خلكان قد نمت وصارت شجرة ولكنها شائكة فتفيأ - في ظلالها - بعض کتابنا الذين عزَّ عليهم أن يكون عليُّ بن أبي طالب (عليه السّلام) هو قائل کلام (نهج البلاغة)، فصاروا يُرَدِدُونَ أقوال ابن خلکان وغيره من تابعوه من القدماء؛ فجرجي زيدان يقول : (إن كنا نرى إن كثيراً من تلك الخطب ليس العلي بدلیل اختلاف الأسلوب ومخالفة ما فيها من المعاني لعصره).

وظل شوقي ضيف يتأرجح في كلامه : (يبدوأن النهج قد (دَّوخه) فراح يخبط خبط عشواء؛ فمرة يقول : (إن علياً قد خلف خطباً كثيرة) وأخرى يقول : (إن - النهج - من وضع الشريف الرضي) ولكي يعزز قوله هذا ويدعمه يقول : (إن الوضع على علي أقدم من عصر الشريف بل من عصر المسعودي).

أية (حزّورة) هذه التي (حزرها) شوقي ضيف؟

أما محمود محمد شاكر فقد قال وهو يرد على قول الدكتور زكي نجيب محمود : (لننظر کم اجتمع في هذا الرجل - يعني الإمام علي (عليه السّلام) - من أدب وحكمة وفروسية وسياسة ؛ قال محمود محمد شاكر : (ألم يكن أسلم له في

ص: 83

طريقه - ویرید : طريق الدكتور زكي نجيب محمود - أن يسأل وإن يحاول أن يفكر على الأقل حتى يتثبت من صحة نسبة ما في هذا الكتاب من الأقوال إلى علي (رضي اللّه عنه)؟ إنه إذا بطل أن يكون هذا الكلام صحیح النسبة إلى علي، كان استخراج صورة علي منه ضربا من العبث).

ولكن محمود محمد شاكر هذا لم يكتفِ بما قال إذ أراد أن يؤكد شيئاً آخر في نفسه ظل يتغرغر به زمناً طويلاً فقال : (إن النظرة الأُولى إلى جملة ما في الكتاب من الكلام، تقطع بأن كثرته الكاثرة لم تجرِ على لسان علي - (عليه السّلام) - إلّا أقل من العشر..).

وهنا سيتنفس محمود محمد شاكر الصعداء بعد أن يؤكد (إن إبن سلام عندما شرح غريب ما في النهج لم يكن فيه من كلام علي (عليه السّلام) ربع من حديث عمر).

وبهذا خرجت الغرغرة وارتاح الرجل لهذه المقارنة التي جهد لها في مقاله، ف(ربع حديث عمر) هي ركيزة المقال ومقصوده.

وعلى غرار بعض الكُتَّاب الذين يوردون جملة من الأدلة أوالأمور، ولما لم يكن في حوزتهم شيء آخر يقولونه ختموا ذلك التعداد بقولهم : (وغيرها وغيرها) أو(وما إلى ذلك) أو (الخ..).

وهكذا فعل محمود محمد شاكر وهو يحاول جاهداً تأكيد بطلان (كون ما في النهج ل(علي بن أبي طالب (عليه السّلام) فقال : (وهناك أدلة أخرى على بطلان نسبة ما في هذا الكتاب إلى أمير المؤمنين) لأنه عجز أن يورد (أدلة أخرى) كأنه

ص: 84

أدرك أن ما أورده من (أدلة) لم تقم حجة على (بطلان) نسبة ما في النهج إلى الإمام بل قامت دليلاً على بطلان كلامه هو، وأعني كلام محمود محمد شاکر، ولأنه أدرك ذلك أراد أن (يستغفر) لنفسه ويكفر عنها هذا الخطأ في المنهج (العلمي) في تناول موضوعات كهذه، أسرع إلى القول، ولكنه قول مبطن أيضاً فقال : (فكتاب كهذا الكتاب، يدل صريح العقل والنظر وصريح النقل والتثبت على إنه کتاب قریب النسب ...).

وممن يعني هذا القرب بالنسب؟ هل من الإمام علي (عليه السّلام) أم من الشريف الرضي رحمه اللّه؟

هكذا (غلَّف) قوله ليموِّه على القارئ في نظره.

ومع ذلك فإنه يؤكد أنه (كان غير لائق بالدكتور زكي أن يتسرع إلى التقاطه دون أن يفحصه ويتحرى عنه فيجعل ما فيه من كلام كثير الغثاثة - وقد كتب أكثره بعد دهور متطاولة - ممثلاَ لعلي بن ابي طالب وممثلاً للقرن الأوّل من الهجرة).

سامحك اللّه يا رجل..! إنك أردت أن تُعرف بين الناس ک(کاتب) و(باحث) و(أديب) و(محقق) فشهرت سيفك هذا ولكنه كان سيفاً نابياً فصرت کالبائل في بئر زمزم.. ونحن نقول لك : (ما هكذا تورد - يا سعد - الإبل).

إذ إنك أردت أن تتواصل مع ابن خلكان في تشکیکه بصحة نسبة النهج إلى الإمام علي (عليه السّلام) ولكنك، وابن خلکان وغيركما كثير، ركبتم أفراساً كبت

ص: 85

وشهرتم سيوفاً نبت، فبقيتم في صحرائكم تلهثون وماء زمزم تنشدون، حتى قيض اللّه لكم من يرشدكم إن بئر زمزم لا يجعل من أيِّ منكم (رسولاً) كمحمد بن عبد اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) ولكنكم بقيتم تغطون وجوهكم بغربال لئلاً ترون شمس الحقيقة، وإلّا ماذا يعني قول الدكتور شفيع السيد إن (نسبة الشريف الرضي - جامع الكتاب - إلى البيت العلوي.. يمكن أن تكون مدعاة للشك ودافعاً إلى الإتهام بالتحيز والتعصب .. وقد قال عنه بعض واصفيه : كان شاعراً مفلقاً فصيح النظم ضخم الألفاظ .. وكان مع هذا مترسلاً كاتباً بليغاً متين العبارات، فمن اليسير على مثله إذن أن يؤلف من الكلام ما يشاكل كلام علي - (عليه السّلام) - في جزالة الألفاظ ومتانة السبك).

إن الدكتور شفيع السيد مثل (ربعه) يغالط نفسه، بل يدينها من فمه،كيف؟

إذا كان يعترف إن الشريف الرضي (شاعر مفلق) و(فصيح النظم) و(ضخم الألفاظ) و(كاتب بليغ) و(متين العبارة) فماذا يمنعه أن ينسب ما في النهج إلى نفسه ليحلق بشهرته في سماء الأدب والفكر أكثر؟ نحن نعرف، والدكتور..! يعرف إن ثمة من ينشدون الشهرة يسطون على هذا العمل الإبداعي أوذاك لينسبوه إليهم لأنهم قاصرون أن يأتوا بمثله.

ونحن قد اعترفنا بعدم قصور الشريف الرضي، بل وتمكنه من أدواته، فما الداعي أن ينسب كلاماً لنفسه وهولغيره؟ هذه أول إدانة للدكتور الفاضل..! وثاني إدانة أنه اعترف إن كلام الإمام علي (عليه السّلام) يتسم ب(جزالة اللفظ

ص: 86

ومتانة السبك).

إذن، إذا كان ما جاء به الشريف الرضي (جزل اللفظ ومتين السبك) فما يمنع أن يكون للإمام علي (عليه السّلام)؟ بل أليس الأقرب والأكثر معقولية أن يكون له (عليه السّلام) من أن يكون للرضي رحمه اللّه ؟ لاسيما نحن نعرف مكانة الإمام علي (عليه السّلام) الفكرية والأدبية، وقد مر بنا شيء منها كثير، وهولا يقبل الطعن.

ولكنه بئر زمزم..! يا له من بئر مغرٍ قصّاده الواهمين..! الحاملين على أكتافهم مقولة : (خالف تُعرف).

لعلهم وجدوا خيطاً هنا وخيطاً هناك فشدوا أنفسهم بهما، وإن كان من خيوط العنكبوت، ليتأرجحوا فيراهم الناس وبذلك يحققون الشهرة التي يريدون والمجد الذي ينشدون.

وكان أحد الخيوط العنكبوتية ما ذكره ابن أبي الحديد وهو يختم (شرح نهج البلاغة) بكلمات حكميّة قصار، إذ قال : ( ونحن الآن ذاكرون ما لم يذكره الرضي مما نسبه قوم إليه - أي إلى الإمام علي (عليه السّلام) - فبعضه مشهور عنه، وبعضه ليس بذلك المشهور ولكنه قد روي عنه وعُزي إليه، وبعضه من كلام غيره من الحكماء لكنه كالنظير لكلامه، والمضارع لحكمته، ولما كان ذلك متضمناً فنوناً من الحكمة نافعة رأينا أن لا نخلي هذا الكتاب منه، لأنه كالتكملة والتتمة لكتاب (نهج البلاغة)، وربما وقع في بعضه تکرار يسير شذ عن أذهاننا التنبه له لطول

ص: 87

الكتاب، وتباعد أطرافه، وقد عددنا ذلك كلمة كلمة فوجدناها ألف كلمة).

فراحوا يشككون بالنهج كله فيدّعون بأنه ليس من كلام الإمام علي عليه السلام.

وبذلك حاكوا ابن خلکان، الذي بذر بذرة التشكيك الأُولى - كما ذكرنا - إذ قال في وفيات الأعيان : (وقد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من کلام الإمام علي - (عليه السّلام) -، هل جمعه أم جمع أخيه الرضي؟ وقد قيل إنه ليس من كلام علي، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه).

كما حاکی - من قبل - كل من الصفدي في (الوافي بالوفيات) واليافعي في مرآة الجنان) وابن حجر في (لسان الميزان).

وغير أولئك من القدامى والمحدثين منهم الذهبي في (میزان الاعتدال) في ترجمة الشريف الرضي : إنه هو المتهم بوضع (نهج البلاغة)، ثم قال : (ومن طالع كتابه (نهج البلاغة) جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي، ففيه السب الصريح، والحط على السيدين أبي بكر وعمر.. الخ).

ومنهم محمد محيي الدين عبد الحميد في مقدمته لشرح النهج إذ يقول : (إن في الكتاب من التعريض بصحابة رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) لا يسلم أن يصح صدوره عن مثل الإمام علي).

وأنكر آخرون أن يكون النهج للإمام علي (عليه السّلام) سبب ما فيه من ذكر (الوصي والوصاية)، أوطول بعض الخطب والكتب، كالقاصعة والأشباح، وعهد مالك بما لم يك مألوفاً في صدر الإسلام.

ص: 88

والسجع قام دليلاَ آخر - عندهم - على عدم نسبته إلى الإمام (عليه السّلام) إذ (لم يعهده عصر الإمام ولا عرفه، وإنما طرأ ذلك على العربية بعد العصر الجاهلي وصدر الإسلام وافتتن به أُدباء العصر العباسي، والشريف الرضي جاء من بعد ذلك على ما ألفوه فصنف الكتاب على نهجهم وطريقتهم).

ليس ذلك حسب بل الوصف ودقته دليلهم الآخر على ذلك الإكتشاف (الذرّي) إذ إن (فيه استفراغ صفات الموصوف، وأحكام الفكرة، وبلوغ النهاية في التدقيق كما تراه في وصف الخفاش والطاووس، والنملة والجرادة، وكل ذلك لم يلتفت إليه علماء الصدر الأوّل، ولا أدباؤه ولا شعراؤه، وإنما عرفه العرب بعد تعريب كتب اليونان والفرس الأدبية والحكمية، ويدخل في هذا استعمال الألفاظ الاصطلاحية التي عرفت في علوم الحكمة من بعد، کالأين والكيف ونحوهما، وكذلك استعمال الطريقة العددية في شرح المسائل، وفي تقسيم الفضائل أوالرذائل مثل قوله - ويعني الإمام علي (عليه السّلام) -:

«الاستغفار على ستة معانٍ».

وقوله (عليه السّلام) :

« الإيمان على أربع دعائم، الصبر واليقين والعدل والجهاد، والصبر منها على أربع شُعب».

و(علم الغيب) كان ركيزتهم الأخرى في هذا الاكتشاف، لأنهم وجدوا في الكتاب ما يُشَم منه ريح ادعاء صاحبه علم الغيب، وهذا أمر يجل عن مثله مقام علي ومن كان على شاكلة علي ممن حضر عهد الرسالة، ورأى نور النبوة.

ص: 89

ثم ماذا بعد هذا؟ هل انتهى ما في جعبتهم من (أدلة ..!)؟

کلا، فهم أخذوا عليه (ما فيه من الحث على الزهد، وذكر الموت، وقرض الدنيا على منهاج المسيح (عليه السّلام)).

و(وصف الحياة الاجتماعية على نحولم يُعرف إلا في عصور متأخرة، ترى في هذه الخُطب طعناً شديداً على الوزراء والحكام والولاة والقضاة والعلماء في السلوك والأخلاق، وفي الذمم والضمائر، واصفاً القضاة بالجهل وعدم المعرفة بأحكام الشريعة).

ثم إن بعض ما رُوي عن علي في (نهج البلاغة) عن غيره في غيره، (كقوله : «كان لي فيما مضى أخٌ عظّمه في عيني صغر الدنيا في عينيه».

وهذا مرويّ عن ابن المقفع، وكقوله (عليه السّلام) :

«الدنيا دار مجاز...».

يُروى لسحبان وائل).

وأخيراً : (خلوالكتب الأدبية من كثير مما في (نهج البلاغة)) .

ص: 90

الضوء الثاني : الرد على المشك كين بنهج البلاغة

إشارة

ص: 91

ص: 92

تلك كانت أهم (اکتشافات) المشككين بنسبة ما في (نهج البلاغة) إلى الإمام علي (عليه السّلام) فهل نتركهم ينعمون..! بما توصلوا إليه؟

ونحن نعرف أهم وارثوا (تطلع ..!) صاحب بئر زمزم..!

فقد كان يريد أن يُعرف ويُشار إليه بالبنان.. كما عُرف محمد بن عبد اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) وأشير إليه بالبنان.

فكان له ما أراد..! ولكن شتان بين ما عُرف به الرسول الأعظم محمد (صلّی اللّه عليه وآله وسلّم) وما أشير إليه بالبنان، وما عُرف به صاحب بئر زمزم..! وما أشير إليه بالبنان..!

فأينما كان يولّي وجهه كان يُشار إيه بقولهم : (هذا الذي بال في بئر زمزم.. جاء.. ذهب.. قام.. قعد.. الخ) فذكره التاريخ واشتهر ...! حتى جاء أحفاده فأرادوا السير على منهجه فلم يجدوا بئر زمزم وعصر بئر زمزم وأهمية بئر زمزم لقوافل العرب، فلجؤوا إلى (نهج البلاغة) فأدلوا فيه بآرائهم..! تلك فكان لهم ما أرادوا

ص: 93

من الشهرة.. والصيت .. وإنهم كانوا فرسان حلبتهم ..! في التشكيك بأقوال الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السّلام)، وبذلك تواصلوا مع (صاحب بئر زمزم) وابن خلكان.

أقول : هل نتركهم و(اکتشافاتهم).. تلك؟

بالتأكيد، لا.. لذلك سنرد عليهم بما يرضي اللّه جل وعلا وما يرضي رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) وما يرضي العقيدة والمبدأ وما يرضي الضمير وما يرضي المنهج العلمي وما يرضي التاريخ النظيف مستعينين باللّه الواحد الأحد وما توفر لدينا من مصادر في هذا المجال.

ص: 94

1- جامع النهج

قال الشريف الرضي، في كتابه (المجازات النبوية) عندما ذکر حدیث الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) :

«أغبط الناس عندي مؤمن خفيف الحاذ ذوحظ من صلاة».

قال : ويبين ذلك قول أمير المؤمنين (عليه السّلام) في كلام له :

«تخففوا تلحقوا».

وقد ذكرنا ذلك في كتابنا الموسوم (نهج البلاغة) الذي أوردنا فيه مختار جميع كلامه (صلّى اللّه عليه وعلى الطاهرين من أولاده).

وفي كلامه على الحديث الشريف :

«أسرعكن لحاقاً بي، أطولكن يداً».

قال : (ومثل ذلك قول أمير المؤمنين (عليه السّلام) :

«من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة».

وقد ذكرنا ذلك في كتابنا الموسوم ب(نهج البلاغة)).

ص: 95

وعند كلامه على الاستعارة في قوله (صلّى اللّه عليه وآله) في خطبة له :

«ألا وإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة».

قال : (ويُروى هذا الكلام على تغيير في ألفاظه لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام)، وقد أوردناه في كتابنا الموسوم ب(نهج البلاغة) وهوالمشتمل على مختار كلامه (عليه السّلام) في جميع المعاني والأغراض والأجناس والأعراض).

وحول قوله (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) :

«ما نزل من القرآن آية إلا ولها ظهرٌ وبطنٌ، ولكل حرف حد ولكل حد مقطع».

قال : (المراد إن القرآن يتقلب وجوهاً ويحتمل من التأويلات ضروباً كما وصفه أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) في كلام له فقال :

«القرآن حمّال ذووجوه...».

وقد ذكرنا هذا في كتابنا الموسوم ب(نهج البلاغة)). وعن قوله (صلّى اللّه عليه وآله) :

«القلوب أوعية بعضها أوعى من بعضها».

قال : (وربما نُسب هذا الكلام إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) على خلاف في لفظه، فقد ذكرناه في جملة كلامه لكميل بن زياد النخعي في كتاب (نهج البلاغة).

إضافة إلى ذلك فإن الرضي كان يذكر (المجازات النبوية) أثناء شرحه النهج كقوله (عليه السّلام) :

«العين: وكاء له».

ص: 96

فقال الرضي : وهذا من الاستعارات العجيبة.. وقد تكلمنا على هذه الاستعارة في كتابنا الموسوم ب(مجازات الآثار النبوية).. ومن الناس من ينسب هذا الكلام إلى أمير المؤمنين علي (عليه السّلام)، وقد ذكر ذلك محمد بن يزيد المبرد في کتاب (المقتضب) في باب اللفظ بالحروف، وفي الأظهر الأشهر إنه للنبي عليه الصلاة والسلام.

فعلى ماذا تدل عبارة (وفي الأظهر الأشهر) ألا تدل على أمانة أدبية في نقل النصوص والتثبت من صحة نسبتها؟ فلوكان (النهج) من وضع الرضي لما احتاج إلى أن يحتاط هذا الاحتياط فيرفع كلاما ظهر له أنه ليس للإمام علي (عليه السّلام) بل هو للرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)، تلك واحدة.

وفي كتابه الموسوم ب(في حقائق التأويل)، الذي طُبع منه الجزء الخامس فقط يقول الرضي : (وإني لأقول أبداً : لوكان كلامه يلحق بغباره، أو يجري في مضماره بعد كلام رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) لكان ذلك كلام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، إذ كان متفرداً في الفصاحة، لا تزاحمه عليه المناكب، ولا يلحق بعقوه الكادح الجاهد، ومن أراد أن يعلم برهان ما أشرنا إليه فلينعم النظر في كتابنا الذي ألفناه ووسمناه ب(نهج البلاغة)، ويشتمل على مختار جميع الواقع إلينا من كلام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، في جميع الأنحاء والأغراض، والأجناس والأنواع من خطب وكتب، ومواعظ وحكم...)، وتلك ثانية.

والثالثة قال الرضي رضيَ اللّه عنه في جانب من مقدمة نهج البلاغة : (فإني كنت في عنفوان السن وغضاضة الغصن، ابتدأت بتأليف كتاب في (خصائص

ص: 97

الأئمة) يشتمل على محاسن أخبارهم، وجواهر کلامهم، حداني عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب، وجعلته أمام الكلام، ولما فرغت من الخصائص التي تخص أمير المؤمنين علياً (صلوات اللّه عليه)، وعاقت عن إتمام الكتاب محاجزات الأيام، ومماطلات الزمان، وكنت قد بوبت ما خرج من ذلك أبواباً ، وفصلته فصولاً فجاء في آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه (عليه السّلام) من الكلام القصير في المواعظ والحكم والأمثال والآداب دون الخطب الطويلة والكتب المبسوطة، فاستحسن جماعة من الأصدقاء ما اشتمل عليه الفصل المقدم ذكره معجبين ببدائعه، ومتعجبين من نواصعه، وسألوني عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوي على المختار من كلام أمير المؤمنين (عليه السّلام) في جميع فنونه ومتشعبات غصونه من خطب وكتب ومواعظ وأدب).

وقوله وهويذكر قول الإمام علي (عليه السّلام) : («تخففوا تلحقو» فما سمع کلام أقل منه مسموعاً ولا أكثر منه محصولاً، وما أبعد غورها من كلمة، وأنفع نطفتها من حكمة، وقد نبهنا في كتاب (الخصائص) على عظم قدرها، وشرف جوهرها.

تلك الثلاث تدل، بما لا يقبل الطعن، أن الشريف الرضي هوجامع (نهج البلاغة) وليس المرتضی رحمه اللّه.

ومن يرى غير ذلك - بعد تلك التصريحات من الشريف الرضي - فهو: (سفة الرأي وإصرار على الخطأ .. فالرضي روي ما رأي وأورد ما ورد...).

ص: 98

2- الغثاثة

إشارة

مررنا بكلام لمحمود شاكر تجنى فيه على الإمام علي (عليه السّلام) فقال إن في كلامه - في النهج - كثيراً من الغثاثة) وكان في طرحه هذا (الاكتشاف) مفتقراً إلى الحجة المنطقية المقنعة، لذلك فإننا سنسلك معه طرقاً علمية ومنهجية لعله يستنير بها هو وغيره، مما أرهقت أبصارهم وبصائرهم ظلمة الطريق التي سلكوها والدرب الذي اختاروه لأنفسهم.

يقول الشريف الرضي في مقدمة نهج البلاغة : (كان أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) مشرِّع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه ظهر مكنوها، وعنه أخِذَت قوانينها، وعلى أمثلته أخذ كل قائل خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصَّروا، وتقدّم وتأخروا؛ لأن كلامه (عليه السّلام) الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي.. وهو البحر الذي لا يساجل، والجسم الذي لا يُحافَل).

أما الشيخ محمد عبده فقد قال في مقدمة شرحه (نهج البلاغة) : (فقد أوفي

ص: 99

لي حكم القدر بالإطلاع على كتاب (نهج البلاغة) مصادفةً بلا تعمد، أحبته على تغير حال، وتبلبل بال، وتزاحم أشغال، وعطلة من أعمال، فحسبته تسلية وحيلة للتخلية فتصفّحت بعض صفحاته، وتأملت جملاً من عباراته، من مواضع مختلفات، وموضوعات متفرقات، فكان يُخَيل إليَّ في كل مقام إن حروباً شبت وغارات شُنّت، وإنّ للبلاغة دولة، وللفصاحة صولة.. وإن جحافل الخطابة وكتائب الذرابة، في عقود النظام، وصفوف الانتظام، تنافح بالصفيح الأبلج، والقويم الأملج.. وإن مدبّر تلك الدولة، وباسل تلك الصولة هو حامل لوائها الغالب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

بل كنت كلما انتقلت من موضع إلى موضع أحس بتغير المشاهد، وتحوّل المعاهد؛ فتارة كنت أجدني في عالم يغمره من المعاني أرواح عالية في حُلَل من العبارات الزاهية تطوف على النفوس الزاكية وتدنو من القلوب الصافية .. وأحياناً كنت أشهد أن عقلاً نورانياً لا يشبه خلقاً جسدانياً، فُصِل عن الموكب الإلهي، واتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاثيات الطبيعة وسما به إلى الملكوت الأعلى ، ونما به إلى مشهد النور الأجلي، وسكن به إلى عمار جانب التقديس، بعد استخلاصه من شوائب التلبيس).

وهذا عبد الحميد الكاتب يقول : (حفظت سبعين خطبة من خطبه (أي من خطب الإمام علي (عليه السّلام)) ففاضت ثم فاضت).

ولما سُئل ما الذي خرّجه في البلاغة؟ قال : (خطب الأصلع).

ومثل ذلك قال ابن نباتة المصري : (حفظت من الخطابة كنزاً، لا يزيده

ص: 100

الإنفاق إلا سعة، حفظت مئة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب).

أما الشريف المرتضی فقد روى : (إن الحسن البصري كان بارع الفصاحة بليغ المواضع كثير العلم، وجميع كلامه في الوعظ، وذم الدنيا، أوجلّه مأخوذ لفظاً ومعنى، أومعنى دون لفظ، من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام)، فهوالقدوة والغاية).

وكان ابن المقفع يقول عن خطب الإمام علي (عليه السّلام) : (شربت من الخطب رياً ولم أضبط لها روياً، ففاضت ثم فاضت فلا هي نظاماً، وليس غيرها کلاماً).

أما الأستاذ أحمد محمد الحوفي فقد أوجز لنا في كتابه (بلاغة الإمام علي) صفات تعبيرات الإمام علي (عليه السّلام) فقال :

1. تخير المفردات

(بحيث تنسجم مع الناحية الصوتية فتجيء خفيفة على اللسان، لذيذة الوقع في الآذان، موافقة لحركات النفس، مطابقة للعاطفة التي أزجتها والفكرة التي أملتها).

ويورد أمثلة على ذلك مثل قوله في كتاب إلى عماله على الخراج :

« إنكم خزان الرعية، ووكلاء الأمة، وسفراء الأمة».

وقوله لمعاوية :

«لست بأمض على الشك مني على اليقين».

ص: 101

وقوله (عليه السّلام) :

«كلما أطل عليكم منسر... أغلق كل رجل بابه، وانجحر انجحار الضبة في جحرها والضبع في وجارها».

وقوله (عليه السّلام) :

«من أبطأ به عمله لم يسرع به حسبه».

وقوله (عليه السّلام) :

«إن تقوى اللّه دواء داء قلوبكم، وبصر عمى أفئدتكم، وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم، وجلاء غشاء أبصاركم، وأمن فزع جأشكم، وضياء سواد ظلمتكم».

2. قوة التعبير

«ومن السهل أن نجد كثيراً مما يتصف بالقوة والجزالة والفخامة في خطب الإمام علي وفي رسائله، تعبيراً عن عواطفه وأفكاره التي تقتضي التعبير القوي الفخم الملائم لشدتها وقوتها وحرارتها».

ومن الأمثلة والنماذج قوله :

«واللّه لا أكون كالضبع تنام على طول اللدم حتى يصل إليها طالبها، ويختلها راصدها، ولكني أضرب بالمقبل إلى الحق المدبر عنه، وبالسامع المطيع العاصي المريب أبداً، حتى يأتي عليَّ يومي».

وقوله (عليه السّلام) :

«ألا وإني لم أرَ كالجنة نام طالبها ، ولا كالنار نام هاربها، ألا وإنه من لم ينفعه الحق يضره الباطل، ومن لم ينقم به الهدى يجربه الضلال،

ص: 102

ألا وإنكم قد أمرتم بالضعن، ودللتم على الزاد ، وإن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل».

وقال في خطبة يخوّف بها أهل النهروان :

«فأنا نذيرٌ لكم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النهر، وبأهضام هذا الغائط على غير بينة من ربكم ولا سلطان مبين معكم، قد طوّحت بكم الدار، واحتبلكم المقدار، وقد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة، فأبيتم عليَّ إباء المخالفين، المنابذين، حتى صرفت رأيي إلى هواكم، وأنتم معاشر أخفّاء الهام، سفهاء الأحلام، ولم آتِ - لا أبا لكم - بجراً، ولا أردت بكم ضرا».

3. سهولة التعبير

مثل قوله في كتاب إلى عبد اللّه بن عباس بعد مقتل محمد بن أبي بكر :

«فعند اللّه نحتسبه ولداً ناصحاً، وعاملاً كادحاً، وسيفاً قاطعاً، وركناً دافعاً، وقد كنت حثثت الناس على لحاقه، وأمرتهم بغياثه قبل الوقفة، ودعوتهم سراً وجهراً، وعوداً وبدءا ، فمنهم الآتي کارهاً، ومنهم المعتل كاذباً، ومنهم القاعد خاذلاً».

وقوله في رسالة إلى عمر بن العاص قبل التحكيم :

«أما بعد، فإن الدنيا مشغلة عن غيرها، ولن يصيب صاحبها منها شيئاً إلا فتحت له حرصاً يؤيده فيها رغبةً، ولن يستغني صاحبها بما نال عما لم يبلغ، ومن وراء ذلك فراق ما جمع، والسعيد من وُعظ بغيره، فلا تحبط أبا عبد اللّه أجرك».

ص: 103

وقوله (عليه السّلام) في خطبة له :

«اسمعوا قولي، وأطيعوا أمري فواللّه لئن أطعتموني لا تغوون، وإن عصيتموني لا ترشدون، خذوا للحرب أهبتها، وأعدّوا لها عدّتها ، فقد شبّت نارها.. ألا إنه ليس أولياء الشيطان من أهل الطمع والمكر والجفاء بأولى في الجد في غيهم وضلالتهم من أهل البر والزهادة والإخبات في حقهم وطاعة ربهم. إني واللّه لولقيتهم فرداً وهم ملأ الأرض ما باليت ولا استوحشت، وإني من ضلالتهم التي هم فيها والهدى الذي نحن عليه لعلى ثقةٍ وبيّنة ويقين وبصيرة. فانفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل اللّه ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون».

4. قِصر الفقرات

مثل قوله (عليه السّلام) لمّا أغار النعمان بن بشير الأنصاري على عين التمر :

«منيت بمن لا يطيع إذا أمرت، ولا يجيب إذا دعوت، لا أبا لكم، ما تنتظرون بنصركم ربكم؟ أما دينٌ يجمعكم، ولا حمية تحشّمكم، أقوم فيكم مستصرخاً، وأناديكم متغوثاً، فلا تسمعون لي قولاً ولا تطيعون لي أمراً، حتى تكشف الأمور عن عواقب المساءة فما يدرك بكم ثأر، ولا يبلغ بكم مرام».

أوكقوله (عليه السّلام) :

«فتداكوا عليۀ تداك الإبل يوم وردها، وقد أرسلها راعيها، وخلعت مثانيها، حتى ظننت أنهم قاتليَّ، أو بعضهم قاتل بعض لديّ، وقد قلبت

ص: 104

هذا الأمر بطنه وظهره، حتى منعني القوم، فما وجدتني يسعني إلا قتالهم أوالجحود بما جاء به محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) فكانت معالجة القتال أهون عليَّ من معالجة العقاب ، وموتات الدنيا أهون عليّ من موتات الآخرة».

وقوله (عليه السّلام) في كتاب إلى أمراء جيوشه :

«ألا وإن لكم عندي ألّا احتجز دونكم سراً إلا في حرب، ولا أطوي دونكم أمراً إلا في حكم، ولا أؤخر لكم حقاً عن محلّه، ولا أقف به دون مقطعه، وأن تكونوا عندي في الحق سواء، فإذا فعلت ذلك وجبت واللّه عليكم النعمة ولي عليكم الطاعة، ولا تنكصوا عن دعوة، ولا تفرطوا في صلاح، وأن تخوضوا الغمرات إلى الحق».

5. كثرة الصيغ الإنشائية

وهي (الأمر والنهي والاستفهام والترجّي والتمني والنداء والقسم والتعجب).

وهي أقوى من الصيغ الخبرية تجديداً للسامعين، وأشد تنبيهاً وأكثر إيقاظاً، وأدعى إلى مطالبتهم بالمشاركة في القول وفي الحكم، وهي في الوقت نفسه أدق في تصویر مشاعر الخطيب وأفكاره، لأن أفكاره ومشاعره المتنوعة في حاجة إلى أساليب متغايرة تفصح عنها، ثم إن مغايرة الأساليب تستتبع مغايرة في نبرات الصوت وفي الوقفة والإشارة وطريقة الإلقاء. وهذا كله عون على الوضوح من ناحية وعلى التأثير في السامعين من ناحية أخرى).

ص: 105

ذلك ما قاله الدكتور أحمد محمد الحوفي، ولكي يعزز قوله بالدليل أورد أمثلة على ما قال وهي :

1. من الأمر قوله :

«فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ».

وقوله (عليه السّلام) :

«فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس اللّه وصولاته، ووقائعه ومَثُلاته، واتعضوا بمثاوي خدودكم، ومصارع جنوبكم، واستعيذوا باللّه من لواقح الكِبر، كما تستعيذون من طوارق الدهر».

وقوله (عليه السّلام) :

«ليتأسّ صغيركم بكبيركم وليرأف كبيركم بصغيركم».

2. من النهي قوله (عليه السّلام) :

«فلا تجعلن للشيطان فيك نصيباً، ولا عن نفسك سبيلاً».

وقوله (عليه السّلام) :

«ولا ترخصوا لأنفسكم، فتذهب بكم الرخص مذاهب الظلمة، ولا تداهنوا فيهجم بكم الإدهان على المعصية، ولا تحاسدوا فإن الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب، ولا تباغضوا فإنها الحالقة».

وقوله (عليه السّلام) :

«فلا يغرنكم ما أصبح فيه أهل الغرور، فإنما هوظل ممدود إلى أجل معدود».

ص: 106

وقوله (عليه السّلام) :

«فإن نهضوا فانهضوا، ولا تسبقوهم فتضلوا ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا».

وقوله (عليه السّلام) :

«عباد اللّه لا تركنوا إلى جهّالكم، ولا تركنوا إلى أهوائكم».

وقوله (عليه السّلام):

«لا يؤنسنكم إلا الحق، ولا يوحشنكم إلا الباطل».

وقوله (عليه السّلام):

«فلا تنفروا من الحق نفار الصحيح من الجرب».

وقوله (عليه السّلام) :

«فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يُتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حقٍ قبل لي، فلا تكفّوا عن مقالةٍ بحق أومشورةٍ بعدل».

3. ومن الاستفهام قوله (عليه السّلام):

«أبعد إيمان برسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) وهجرتي معه، وجهادي في سبيل اللّه، أشهد على نفسي بالكفر، لقد ضللت، إذن، وما أنا من المهتدين».

وقوله (عليه السّلام) :

«هل يُحس به - ملك الموت - إذا دخل منزلاً؟ أم تراه إذا توفّى أحداً؟ بل كيف يتوفى الجنين في بطن أمه؛ أيلج عليه من بعض جوارحها؟ أم

ص: 107

الروح أجابته بإذن ربها؟ أم هوساكن معه في أحشائها؟ كيف يصف إلهه من يعجز عن صفة مخلوق مثله؟ ».

وقوله (عليه السّلام) :

«أين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى والأبصار اللامحة إلى منازل التقوى؟ أين القلوب التي ذهبت لله وعوقدت على طاعة اللّه؟».

4. ومن الترجي قوله (عليه السّلام) :

«فاسمعوا قولي، وعوا منطقي، عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا اليوم تنتضى فيه السيوف».

وقوله (عليه السّلام) :

«لعل اللّه أن يصلح في هذه الهدنة أمر هذه الأمة».

وقوله (عليه السّلام) :

«لا تعجل في عيب أحد بذنبه، فلعله مغفورٌ له، ولا تأمن على نفسك صغير معصية فلعلك معذبٌ عليها».

وقوله (عليه السّلام) :

«هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعل بالحجاز وباليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع».

5. ومن التمني، قوله (عليه السّلام) :

«یا أشباه الرجال ولا رجال... لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم».

وقوله (عليه السّلام) :

ص: 108

«قد دارستكم الكتاب، وفاتحتكمالمجاج، وعرفتكم ما أنكرتكم، وسوغتكم ما مججتكم، لوكان الأعمى يلحظ، أوالنائم يستيقظ».

6. ومن النداء، قوله (عليه السّلام) :

أيها الناس شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة».

وقوله (عليه السّلام) :

«فاتقوا اللّه عباد اللّه، وفروا إلى اللّه من اللّه».

وقوله (عليه السّلام) يخاطب فئة من الناس :

«أيها الناس المجتمعة، المختلفة أهواؤهم كلامكم يوهم الصم الصلاب، وفعلكم يُطمع فيكم الأعداء...».

7. ومن القسم قوله (عليه السّلام) :

«أما واللّه ما أتيتكم اختياراً ولكن جئت إليكم سوقاً».

وقوله (عليه السّلام) :

«واللّه لوقتلتم على هذا دجاجة لعظم عند اللّه قتلها، فكيف بالنفس التي قتلها عند اللّه حرام؟ ».

8. ومن التعجب، قوله (عليه السّلام) :

«سبحانك ما أعظم شأنك، سبحانك ما أعظم ما نرى من ملكوتك، وما أحقر ذلك فيما غاب عنا من سلطانك، وما أسبغ نعمك في الدنيا ، وما أصغر عظيمه في جنب قدرتك، وما أصغرها في نعم الآخرة».

وقوله (عليه السّلام) :

ص: 109

« إستتموا نعم اللّه عليكم بالصبر على طاعته والمجانية لمعصيته، فإن غداً من اليوم قريب».

وقوله (عليه السّلام) :

«ما أسرع الساعات في اليوم، وأسرع الأيام في الشهر، وأسرع الشهور في السنة، وأسرع السنين في العمر».

وقوله (عليه السّلام):

«فيا عجباً، عجباً واللّه يميت القلب، ويجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم».

9. السجع والترسل، جاء في إحدى خطبه (عليه السّلام) :

«فليقبل امرؤ كرامة بقبولها، وليحذر قارعة قبل حلولها ، ولينظر امرؤ في قصير أيامه، وقليل مقامه، في منزل حتى يستبدل به منزلاً، فليصنع لمتحوله ومعارف منتقله، فطوبى لذي قلب سليم أطاع من يهديه، وتجنب من یرديه، وأصاب سبيل السلامة ببصر من بصره، وطاعة هادٍ أمره، وبادر الهدى قبل أن تغلق أبوابه، وتقطع أسبابه، واستفتح التوبة وأحاط الحوبة، فقد أقيم على الطريق وهدي نهج السبيل».

ومن قوله (عليه السّلام) حين أنكر عليه الخوارج تحكيم الرجال :

«إنّا لم نحكِّم الرجال؛ إنما حكَّمنا القرآن ، هذا القرآن إنما هوخط مستور بين الدفتين، لا ينطق بلسان، ولابد له من ترجمان، وإنما ينطق عنه الرجال، ولما دعانا القوم إلى أن نحكِّم بيننا القرآن لم نكن الفريق المتولي عن كتاب اللّه - سبحانه وتعالى - وقد قال اللّه - عز

ص: 110

من قائل -:

{ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ }.

فردُّه إلى اللّه أن نحكِّم بكتابه وردّه إلى الرسول أن نأخذ بسنة رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) في التحكيم، فإنما فعلت ذلك ليتبين الجاهل، ويثبت العالم، ولعل اللّه أن يصلح في الهدنة أمر هذه الأمة، ولا تؤخذ بأكضامها – أي مخارج الأنفاس-».

10. التوازن : كثيراً ما تجيء الجمل في (نهج البلاغة) متوازنة، بأن يتساوى عدد كلماتها، أوتتماثل أوزان نهاياتها، وهذا ضرب آخر من موسيقى التعبير يحببه إلى السمع ويقربه إلى الذوق.

يقول الدكتور الحوفي : (والتوازن أوالموازنة بهذا المعنى أهم من السجع، لأن السجع ورود أجزاء الفاصلتين أوالفواصل على حرف واحد مثل : القريب والحسيب والغريب، أما الموازنة بين أواخر الكلمات فهي مثل : القريب والشهيد والجليل، فالوزن واحد والحرف الأخير مختلف).

ومن الموازنة قول الإمام علي (عليه السّلام) :

«لم يؤده خلق ما ابتدأ، ولا تدبير ما ذرأ ، ولا وقف عجزاً عما خلق، ولا ولجت عليه شبهته فيما قضى وقدر، بل قضاء متقن وعلم محكم، وأمر مبرم».

وقوله (عليه السّلام) :

«إن غاية تنقصها اللحظة، وتهدمها الساعة، لجديرة بقصر المدة، وإن غائباً يحدوه الجديدان، الليل والنهار، لحري بسرعة الأوبة، وإن

ص: 111

قادماً يقدم بالفوز أوالشقوة لمستحق لأفضل العدة، فيالها جسرة على ذي غفلة، أن يكون عمره عليه حجة، وأن تؤديه أيامه إلى الشقوة، نسأل اللّه، سبحانه، أن يجعلنا وإياكم ممن لا تبطره النعمة، ولا تقصر عن طاعة ربه غاية، ولا تحل به بعد الموت ندامة ولا كآبة».

وقوله (عليه السّلام) :

«إن الزاهدين في الدنيا تبكي قلوبهم، وإن ضحكوا... ويشتد حزنهم وإن

فرحوا ، ويكثر مقتهم أنفسهم وإن اغتبطوا بما رزقهم».

ويقول الدكتور الحوفي : (وقد يجيء التوازن في داخل الجمل لا في نهاياتها، فيؤلف انسجاماً في نطق الكلمات وفي سماعها، مثل قوله (عليه السّلام) : الحمد للّه غير مقنوط من رحمته، ولا مخلومن نعمته، ولا ميؤوسٌ من مغفرته، ولا مُستَنكَفٌ عن عبادته، الذي لا تبرح منه رحمة، ولا تُفقد له نعمة).

فقد وازن (عليه السّلام) بين مقنوط ومخلوق وميؤوس، إضافة إلى السجع، كما استعرض الدكتور الحوفي مطالب بلاغية أخرى كالجناس والطباق والمقابلة والتوشيح.. مما ورد في خطب وأحاديث ومراسلات ووصايا الإمام علي عليه السلام.

كما استعرض التشبيه والكناية والاستعارة والمجاز.. التي برع فيها الإمام (عليه السّلام) براعة منقطعة النظير، في شتى شؤون المعرفة، والعقل، والنفس، وفي مختلف قضايا البشر والدين والدنيا.

وقبل الدكتور الحوفي قال معاوية، وهويرد على من قال له : جئتك من عند

ص: 112

أعيا الناس، قال له معاوية : (ويحك، كيف يكون أعيا الناس فواللّه ما سن الفصاحة لقريش غيره).

قال الرسول الأكرم محمد بن عبد اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) :

«أنا مدينة العلم – أو الحكمة – وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأته من بابه ).

صدق رسول اللّه وكذب محمود محمد شاكر في ادعائه إن في قول الإمام (غثاثة).

اللّهم اشهد إن كانت البلاغة بفروعها والفصاحة بأصالتها، ونقائها وصفائها التي وردت على لسان إمام البلاغة وسيد الفصحاء الإمام علي بن أبي طالب عليهما السلام والتي وقفنا على بعضها في ما نقلنا من فقرات... أقول : إن كانت تلك البلاغة والفصاحة (غثاثة) فأنا أوّل المتمسكين بها؛ فغث الإمام سمين وسمين أعدائه غث، لأنه رضع لبانها من منبع النبوة الصافي فوضع لنا أسسها وشيد بنيانها فكانت أقوى الأسس وأجمل بنيان وأحكمه.

ولا نريد أن نضيف شيئاً إلى ما جاء به الدكتور الحوفي عسى أن تكون تلك الشواهد على بلاغة وفصاحة الإمام علي (عليه السّلام) شموعاً تنير درب التائهين الحيارى، أمثال محمود محمد شاكر وقاه اللّه يوم لا مفر منه.

ص: 113

3_ عائدية نهج البلاغة

إشارة

لقد تكلمنا في الضوء الأوّل(جامع النص) وبيّنا بالدليل الواضح إن الشريف الرضي - وليس المرتضى - هوجامع (النهج) ورددنا على المشككين في كون (النهج) للإمام علي (عليه السّلام) أوأن بعضه له وبعضه ليس له، ثم رددنا على محمود محمد شاكر في الضوء الثاني (الغثاثة)، وعلينا في هذه الفقرة أن نتبسط في الكلام فنبين - بالحجة الدامغة، كما هومنهجنا دائماً - إن ما في (نهج البلاغة) ألفه إلى يائه يعود إلى الإمام علي (عليه السّلام) وللرضي جهد الجامع لا الواضع.

وقبل أن نورد ما عندنا من دليل على عائدية ما في (النهج) إلى الإمام علي (عليه السّلام) علينا أن نستأنس بأقوال قيلت في بلاغته وفصاحته (عليه السّلام) لأنها ستساعدنا على فهم شخصية علي بن أبي طالب في هذا المجال وبذلك نكون قد مهدنا لموضوعنا وسهلنا على المشككين كثيراً من مغاليق أفهامهم ليمكن فتحها ليطلوا على رحاب الحقيقة الواضحة.

ص: 114

لنقرأ قول غيره فيه :

قال معاوية بن أبي سفيان : (ما رأيت أحداً يخطب ليس محمداً أحسن من علي إذا خطب، فواللّه ما سن الفصاحة لقريش غيره).

وقال الحارث الأعور : (واللّه لقد رأيت علياً وإنه ليخطب قاعداً ك-قائم ومحارباً كمسالم).

وقال الشريف الرضي : في مقدمة (النهج) : (وعلى أمثلته حدا كل قائل خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ).

أما ابن الجوزي فقال في التذكرة : (كان علي ينطق بكلام قد حفَّ بالعصمة، ويتكلم بميزان الحكمة، كلام ألقى اللّه عليه المهابة، فكل من طرق سمعه راقه فهابه، وقد جمع اللّه له بين الحلاوة والملاحة، والطلاوة والفصاحة، لم تسقط له كلمة ولا بارت له حجة، أعجز الناطقين، وحاز قصب السبق في السابقين).

ولنقرأ قول محمد بن طلحة الشافعي في (مطالب السؤال) : (الفصاحة تنسب إليه - أي الإمام علي (عليه السّلام) - والبلاغة تنقل عنه والبراعة تُستفاد منه، وعلم البيان والمعاني غزيرة فيه).

ونكرر قول عبد الحميد الكاتب : إذ سُئل ما الذي خرجك في البلاغة؟

قال : ((حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع ففاضت ثم فاضت)).

وكذا قال ابن المقفع.

ولنقرأ قول ابن أبي الحديد المعتزلي في طيات شرح (النهج) : (واعلم إننا لا

ص: 115

يخالجنا الشك في أنه (عليه السّلام) أفصح من كل ناطق بلغة العرب من الأوّلين والآخرين إلا من كلام اللّه سبحانه، وكلام رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله)..) حتى يقول : ((واعلم أن تكلف الاستدلال على أن الشمس مضيئة يُتعب، وصاحبه منسوب إلى السفه، وجاحد الأمور المعلومة علماً ضرورياً أشد سفهاً ممن رام الاستدلال بالأدلة النظرية عليها.

وأخيراً قال محمد عبده في مقدمة شرح ((نهج البلاغة)) ((مهما اختلفت الناس في شيء من مناقب أمير المؤمنين وفضائله وميزاته وخصائصه فإنهم لا يختلفون بأنه إمام الفصحاء وسيد البلغاء وإن كلامه أشرف الكلام وأبلغه بعد

كلام اللّه وكلام نبيه، وأغزره مادة وأرفعه أسلوباً، وأجمعه لجلائل المعاني)).

تلك كانت نتف من أقوال منها من مضطرين ومنها من منصفين ولكنها جميعاً كانت تقول : إن علي ابن أبي طالب (عليه السّلام) سيد البلغاء وسيد الفصحاء. وإذا ما عرفنا إن مدة تولي الإمام (عليه السّلام) كانت صاخبة؛ فمن حرب الجمل إلى حرب صفين فالنهروان، فإنه من الطبيعي أن يعالج الإمام (عليه السّلام) تلك الأحداث بكتبه وخطبه ووصاياه. وهي مسألة طبيعية لكل حاكم وفي كل عصر، وإذا كان ذلك طبيعي - وهوطبيعي فعلاً - فإن من الطبيعي جداً أن ينبري من المختصين إلى جمع تلك الخطب والأحاديث والمراسلات والوصايا، سواء في زمانه أوبعد زمانه، كوثائق تاريخية عن عهده (عليه السّلام).

وقد بلغ اهتمام الناس بكلامه (عليه السّلام) وشغفهم به أن أطلقوا على بعض خطبه أسماء خاصة للتعريف بها، والتمييز بينها، مثل :

ص: 116

((التوحيد، الشقشقية، الهداية، الملاحم، اللؤلؤة، الغراء، القاصفة، الافتخار، الأشباح، الدرة اليتيمة، الأقاليم، الوسيلة، الطالوتية، القصبية، النخيلة، السليمانية، الناطقة، والدامغة الفاضحة المخزون، الديباج، والبالغة، المنبرية والمكاييل، المؤنقة، - أي الخالية من الألف -، العارية عن النقط ، والزهراء.

إذن، اهتم الناس بجمع خطب وأحاديث وكتب ووصايا الإمام (عليه السّلام) ولم يكن الشريف الرضي رحمه اللّه هوالسابق إلى جمع كلام أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) ولا الأوّل في تدوينه؛ فقد عني الناس به عناية بالغة، وحظي بما لم يحظ به كلام أحد من البلغاء - على كثرتهم - قبل الإسلام وبعده، ودوّنوه في عصره، وحفظوه في أيامه، وكتبوه ساعة إلقائه.

هذا زيد بن وهب الجهني، وكان من أصحابه، وشهد معه بعض مشاهده، جمع كتاباً من خطبه، سلام اللّه عليه، وهذا الحارث الأعور، صاحبه وكان من المنقطعين إليه، والمجاهدين بحبه وتفضيله على غيره، روى عنه وأخذ من علومه،

الذي توفي سنة 65 ه-. فقد دوّن بعض خطبه (عليه السّلام) ساعة إلقائها.

وهذا الأصبغ ابن نباتة المجاشعي، وكان من خاصة أمير المؤمنين، روى للناس عهده للأشتر النخعي لما ولّاه مصر، ووصيته لولده محمد بن الحنفية وشريح القاضي وكميل بن زياد النخعي، ونوف البكالي، وضرار بن ضمرة

الضبائي.. كلهم سمعوا بعض كلامه فحفظوه، ورووه للناس كما سمعوه.

ص: 117

وذكر الجاحظ : إن خطب علي (عليه السّلام) كانت مدونة محفوظة مشهورة. وقال إبن واضح في كتابه (مشاكلة الناس لزمالهم) :

كان علي بن أبي طالب (عليه السّلام) مشتغلاً أيامه كلها في الحرب إلّا أنه لم يلبس ثوباً جديداً، ولم يتخذ ضيعة، ولم يعقد على مال (أي لم يجمعه) إلّا ما كان بينبع والبعبعة (عين بالمدينة) مما يتصدق به، وحفظ الناس عنه الخطب، فإنه خطب أربعمئة خطبة، حفظت عنه، وهي التي تدور بين الناس، ويستعملونها في خطبهم)) .

وأحصى المسعودي - في مروجه - ما كان محفوظاً - ما كان محفوظاً من خطبه (عليه السّلام)

فقال :

(والذي حفظ الناس من خطبه في سائر مقاماته أربعمئة ونيف وثمانين. وقال سبط بن الجوزي الحنفي في تذكرة الخواص ((أخبرنا الشريف أبوالحسن علي بن محمد الحسيني باسناده إلى الشريف المرتضى قال : ((وقع إليّ من خطب أمير المؤمنين (عليه السّلام) أربعمئة خطبة).

وذكر القطب الراوندي أنه وجد بمكة كتاباً في واحد وعشرين جزءً كله في كلام الإمام علي (عليه السّلام))).

تلك هي أقوال من تقدموا على الشريف الرضي بزمان طويل، إذ أكّدت أن خطب الإمام علي (عليه السّلام) كانت مدونة ومحفوظة وقد أربت على أربعمئة خطبة. وإذا ما علمنا أن الشريف الرضي لم يختر منها إلّا (121) خطبة فقط ظهر

ص: 118

لنا جلياً إن ما في ((النهج)) هوللإمام علي (عليه السّلام) وليس من وضع الشريف الرضي أوغيره، ما خلا ما صرّح به إبن أبي الحديد؛ أنه اختار جملاً قصاراً في آخر النهج منها للإمام ومنها لغيره ولكنها تشبه كلامه، وليته ما اختارها وليته ما صرّح به لأنها كانت قميص عثمان في يد المشككين، ولكن الحقيقة تبقى كما هي لا يمكن نكرانها إذا ما انبرى لها من يكشف عن وجهها الناصع، وها نحن فعلنا ذلك مع من فعل من قبلنا.

وزيادة في التأكيد على أن ما في ((النهج)) هوللإمام علي (عليه السّلام) نشير إلى بعض المؤلفات التي أُلّفت قبل ((النهج)) الذي ألّفه الشريف الرضي، وكلها تتحدث عن كلام الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) وهي :

1 _ خطب أمير المؤمنين (عليه السّلام) على المنابر في الجمع والأعياد وغيرها، لزيد بن وهب الجهني، وهوأوّل كتاب جمع في كلامه (عليه السّلام)، إذ إن مؤلفه أدرك الجاهلية والإسلام، وتوفي سنة 96 ه.

2 _ خطب أمير المؤمنين (عليه السّلام) المروية عن الإمام الصادق (عليه السّلام). وقد وصلت نسخة من هذا الكتاب إلى السيد علي بن طاووس (قُدِّس سِرُّه) وكتب عليها إنها كتبت بعد المئتين من الهجرة. وعن هذا الكتاب، والذي بعده نقل الرضي خطبة الأشباح في ((نهج البلاغة)).

3 _ خطب أمير المؤمنين (عليه السّلام)، لمسعدة بن صدقة العبدي، وهومن علماء الجمهور، وكان هذا الكتاب موجود إلى زمن السيد هاشم البحراني المتوفى

ص: 119

سنة 107 أو109 ونقل عنه كثيراً في تفسيره (البرهان) وذكره في مقدمة كتابه المذكور.

4 _ كتاب الخطبة الزهراء لأمير المؤمنين لأبي مخنف لوط بن يحيى بن مخنف بن سليم الأزدي شيخ أصحاب الأخبار في الكوفة المتوفى سنة 157 ه.

5_ خطب أمير المؤمنين :

لإسماعيل بن مهران بن أبي النصر زيد السكوني الكوفي، ذكره النجاشي في فهرسه.

6 _ خطب أمير المؤمنين (عليه السّلام) : للسيد الجليل عبد العظيم بن عبد اللّه بن زید بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السلّام).

7 _ خطب علي (عليه السّلام) : لإبراهيم بن الحكم بن ظهير الفزاري. وقد ذكره الطوسي في فهرسه، وهومن أصحاب أواخر القرن الثاني.

8_ خطب أمير المؤمنين (عليه السّلام) : برواية الواقدي أبي عبد اللّه محمد بن عمر بن واقد المدني المتوفى سنة 207.

9 _ خطب علي (عليه السّلام) : لأبي الفضل نصر بن مزاحم المنقري الكوفي العطار، وكان من علماء الأخبار وشيخ أصحاب المغازي والسير، وصاحب كتاب ((صفّين)) الذي احتوى على كثير من خطب الإمام وكتبه ووصاياه، يوافق بعضها بعض ما جاء في ((نهج البلاغة)). وهومن علماء القرن الثاني. إذ قال ابن النديم عنه إنه من طبقة أبي مخنف، وقيل إن وفاته كانت سنة 202 ه. ولا شك إن

ص: 120

الرضي اعتمده مصدراً من مصادره في (النهج).

10_ خطب علي كرّم اللّه وجهه : لأبي المنذر بن محمد بن السائب الكلبي المتوفي سنة 205 ه وقيل 206 ه. وكان قد نشأ في الكوفة، وهو نسّابة وعالم بأخبار العرب وأيامها، وقد اتصل ابوه بالإمامين الباقر والصادق (عليهما السلّام)، فأخذ هشام عن أبيه أخباره وعلومه، ولأنه من بیت معرفة بالتشيع، لأهل البيت (عليهم السلّام) لم يدخله الذهبي بين الحفاظ المشاهير وسماه محمد بهجة الأثري - من المعاصرين - ب(الزنيم)) في حاشيته على ((بلوغ الإرب)) 2/5. ولهذا السبب انمحت آثاره.

11 _ خطب علي وكتبه إلى عمّاله : لأبي الحسن علي بن محمد المدائني، وقد ذكره إبن النديم في فهرسه. وقد صنّف كتباً كثيرة منها : ((خطب النبي صلّى اللّه عليه وآله)) و((خطب علي وكتبه إلى عماله)) و((كتاب من قتل الطالبيين)) و(کتاب الفاطميات).

وقال صاحب الكنى والألقاب إنه قد توفي سنة 225 ه.

12_ خطب أمير المؤمنين (عليه السّلام):

لصالح بن حماد الرازي، وقد عدّه النجاشي في فهرسه من رجال المئة الثالثة، إذ كان قد صحب الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام).

13 _ مئة كلمة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب : وقد اختارها الجاحظ من كلام الإمام علي (عليه السّلام)، واختار الرضي منها في ((النهج)) وذكرها

ص: 121

الخوارزمي في ((المناقب)) بسنده عن أبي بكر محمد بن دريد صاحب أبي عثمان الجاحظ فقال : كان الجاحظ يقول لنا زماناً إن الأمير المؤمنين علي بن أبي طالب مئة كلمة كل كلمة منها تفي بألف كلمة من محاسن كلام العرب، قال : وكنت أسأله دهراً بعيداً أن يجمعها لي، ويمليها عليَّ، وكان يعدني بها، ويتغافل عنها، ظناً بها.. فلما كان آخر عمره أخرج جملة الكلمات المئة هذه ثم ذكرها.

وروي ذلك في ((الحدائق الوردية)) عن كتاب ((جلاء الأبصار)) عن الحاكم بإسناده إلى الجاحظ.

ولم يرض الآمدي عن الجاحظ لاقتصاره على هذه المئة وقال عنها :

إنها (بعض من كل، وطلّ من وبل) مما دعاه إلى تأليف كتابه (الحكم ودرر الكلم).

14_رسائل أمير المؤمنين (عليه السّلام) وأخباره وحروبه :

ذكره الطوسي في فهرسه بأنه إبراهيم بن عاصم بن سعد بن مسعود الثقفي

الكوفي، وكان زيدي الرأي ثم تحول إلى الإمامية، كما قال صاحب تأسیس الشيعة، وذكر وفاته بأنهما في سنة 283 ه.

15 _ الخطب المعربات : لإبراهيم بن جلال بن عاصم بن مسعود الثقفي صاحب کتاب ((رسائل أمير المؤمنين (عليه السّلام) وأخباره وحروبه الذي ذكرناه بالرقم (14).

قال عنه السيد هبة الدين في كتابه ((ما هوهج البلاغة)) - وهو ينقل عن

ص: 122

النجاشي -: ((إن هذا الكتاب من جملة المؤلفات في كلام أمير المؤمنين (عليه السّلام))).

ويحتمل عبد الزهراء الحسيني الخطيب في كتابه ((مصادر نهج البلاغة وأسانيده)) أن يكون اسم هذا الكتاب ((الخطب المقريات)) إذ قال : [وقد يسمى هذا الكتاب بالخطب المقريات (بالقاف بعد الميم والمثناة التحتانية بعد الراء)].

16 _ خطب أمير المؤمنين (عليه السّلام):

ذكر النجاشي لأبي إسحق إبراهيم بن سلیمان بن عبيد اللّه بن خالد الحراز الكوفي النهمي (نسبة إلى بطن من همدان) بعنوان (الخطب) وذلك عن رواة آخرهم حمید بن زیاد المتوفي سنة 310 ه مما يدل على إن النهمي كان في أواخر القرن الثالث الهجري، وذكره السيد هبة الدين في كتابه (ما هو نهج البلاغة) بأنه لأمير المؤمنين (عليه السّلام))).

17_ خطب أمير المؤمنين (عليه السّلام) مع شرحها :

للقاضي النعمان المصري المتوفي سنة (363 ه) عدّه من تصانيفه في كتابه (الهمّة في معرفة الأئمة) وقد ألّفه سنة 310 ه. وكان الرضي قد ولد سنة 359 ه. وهذا يعني إن الكتاب لم يكن شرحاً ل((نهج البلاغة)) كما صدر عن البعض، وقد نبّه إلى ذلك صاحب کتاب ((الذريعة)).

18 _ خطب أمير المؤمنين (عليه السّلام).

19 _ مواعظ علي (عليه السّلام).

ص: 123

20 _ رسائل علي (عليه السّلام)، وقد ذكره النجاشي في فهرسه.

21 _ كلام علي (عليه السّلام).

22 _ الملاحم، وقد ذكره النجاشي في فهرسه.

قال عبد الزهراء الخطيب في كتابه ((مصادر نهج البلاغة وأسانيده)) (وهويعتمد کتاب ((المراجعات الريحانية)) للإمام کاشف الغطاء مصدراً له):

إن ((هذه الكتب - وهويشير إلى الخمسة المذكورة آنفاً - كلها مجموعة من کلام علي (عليه السّلام)، ألّفها الشيخ عبد العزيز يحيى الجلودي البصري المتوفي سنة (332 ه)، وهو من أكابر علماء الإمامية، والرواة للآثار والسير، عدد له علماء الرجال ما ينيف على مئتي كتاب بل ما يقرب من ثلاث مئة كتاب كلها من عجائب الكتب. منها أربعون كتاباً فيما يتعلق بخصوص أمير المؤمنين (عليه السّلام) في غزواته مع النبي (صلّى اللّه عليه وآله) وحروبه من الجمل وصفين والغارات والحكمين، وبني ناجية، وما نزل في الخمسة، وتزويج فاطمة، ومن أحبه ومن أبغضه، ومن سبّه من الخلفاء، وكتاب التفسير عنه، وما نزل في القرآن في خصوصه، وكتاب شعره وكتاب خطبه وخلافته وعمّله وولاته، والشوری وما كان بينه وبين عثمان، وقضائه، ورسائله، ومن روى عنه من الصحابة، وكتاب شیعته، ومن مال بعده .

أفرد لكل هذه المذكورات كتاباً، ثم على مثل هذا ألّف في كل واحد من أهل البيت كتاباً، .. وله عشرات من الكتب تتعلق بعبد اللّه بن عباس.. ثم بقية كتبه في سائر العلوم وأحوال سائر الأمم عامة والعرب خاصة، والشعراء على

ص: 124

الأخص.

بعد تلك الجولة مع الكتب المؤلفة في خطب وأحاديث أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) قبل جمع ((نهج البلاغة))، بل قل قبل ولادة الشريف الرضي، وهي بعض من كل، إذ لاشك أن ثمة غيرها قد أُلِّفت ولكن عوادي الزمن لم تحفظها لنا مثلما لم تحفظ كثيراً مما ذكرنا عنواناتها. وثمة الكتب التي أُلِّفت بعد صدور ((نهج البلاغة)) للرضي، ولكنها كانت مستقیاتها في كثير منها غير نهج البلاغة، وغير الشريف الرضي.

أقول.. بعد تلك الجولة : ألا يكفي ذلك دليلاً على إن دور الشريف الرضي كان دور الجامع حَسْب محتویات ((نهج البلاغة)؟

وإن تلك المحتويات هي من كلام الإمام علي (عليه السّلام) بقضها وقضيضها ومن ألفها إلى يائها؟

وأخيراً لا بد لي أن أتساءل بما تساءل به عبد اللّه حسين في كتابه (مصادر نهج البلاغة) :

((أين تلك المؤلفات الموضوعة في خطب الإمام علي وكلامه؟ وأين ذهبت الأربع مئة من كلماته؟ أليس في كل هذا ما يؤكد إن ما اختاره الرضي في ((نهج البلاغة)) هو بعض ما كان مدوناً ومحفوظاً ومشهوراً بين الناس؟ أليس هذا ما يدفع أولئك القائلين بأن ما في ((النهج)) موضوع ومنحول على لسان الإمام علي؟))

ثم ماذا نقول عن أقوال الأُدباء والمفكرين والفلاسفة في ((نهج البلاغة)) وفي

ص: 125

كونه من كلام علي (عليه السّلام)؟ هل نضع هؤلاء كلهم في ((خانة)) الخطأ؟

لنقرأ أقوالهم عسى أن تكون - ليس رداً على المشككين - بل شمسا تضيء لمن يريد أن يستضيء بنور الحقيقة، وتحرق من يصر على ((تعصيب)) عينيه بخرقة سوداء. ولأهمية تلك الأقوال نضعها تحت عنوان مستقل هو :

أقوال المنصفين في نهج البلاغة

قال ابن أبي الحديد : ((إن سطراً واحداً من ((نهج البلاغة) يساوي ألف سطر من كلام ابن نباتة، وهو الخطيب الفاضل الذي اتفق الناس على إنه واحد عصره في فنّه)).

وقال الدكتور زكي مبارك : ((لا مفر من الاعتراف بأن ((نهج البلاغة)) له أصل وإلّا فهوشاهد على أن الشيعة كانوا أقدر الناس على صياغة الكلام البليغ)).

أما خليل هنداوي فقال : (لا نكاد نری کتاباً انفرد بقطعات مختلفة يجمعها سلك واحد من الشخصية الواحدة، والأسلوب الواحد كما نراه في (نهج البلاغة) لذا نقرر ونكرر أن (النهج لا يمكن أن يكون إلا لشخص واحد، نفخ فيه نفساً واحدة).

وقال محقق شرح النهج الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم في مقدمته : ((ومنذ أن صدر هذا الكتاب عن جامعه، سار في الناس ذكره، وتألق نجمه، أشأم وأعرق وأنجد وأتهم، وأعجب به حيث كان وتدارسوه في كل مكان، لما اشتمل عليه من

ص: 126

اللفظ المنتقى، والمعنى المشرق، وما احتواه من جوامع الكلم، في أسلوب متساوق الأغراض محكم السبك، يعد في الذروة العليا من النثر العربي الرائع)).

وقال السيد الأميني في أعيان الشيعة : ((وغير خفي أن من يريد اختيار أنفس الجواهر من الجواهر الكثيرة لا بد أن يكون جوهرياً حاذقاً، فكان الرضي باختياره أبلغ منه في كتاباته، كما قيل عن أبي تمام لما جمع ((ديوان الحماسة)) من منتخبات شعر العرب : إنه في انتخاباته أشعر منه في شعره)).

وقد لاقى ديوان الحماسة من القبول عند الناس إقبالاً كثيراً وشرحه أعاظم العلماء، وكذلك ((نهج البلاغة) من الشهرة والقبول ما هوأهله، وشرح بشروح كثيرة تنبوعن الإحصاء وكان مفخرة من أعاظم مفاخر العرب والإسلام)).

في حين قال الشيخ محمد عبده في مقدمة شرحه على ((نهج البلاغة)) :

((وقد جمع الكتاب ما يمكن أن يعرض للكاتب والخطيب أغراض الكلام، فيه الترغيب والتنفير والسياسات والجدلیات، والحقوق، وأصول المدنية، وقواعد العدالة، والنصائح والمواعظ، فلا يطلب الطالب طلبته إلا ويرى فيها أفضلها، ولا تختلج فكرة إلا وجد فيها أكملها)).

وقال محمد حسن نائل المرصفي : و((نهج البلاغة)) ذلك الكتاب الذي أقامه اللّه حجة واضحة، على إن علياً كان أحسن مثال حي النور القرآن وحكمته، وعلمه وهدايته ، وإعجازه وفصاحته.

اجتمع لعلي في هذا الكتاب ما لم يجتمع لكبار الحكماء، وأفذاذ الفلاسفة

ص: 127

ونوابغ الربانيين، من آيات الحكمة السابغة، وقواعد السياسة المستقيمة، ومن كل موعظة باهرة وحجة بالغة تشهد له بالفضل وحسن الأثر، وحسبنا أن نقول إنه الملتقى الفذ الذي التقى فيه جمال الحضارة، وجزالة البداوة، والمنزل المفرد الذي اختارته الحقيقة لنفسها منزلاً تطمئن فيه، وتأوي إليه بعد أن زلّت بها المنازل في كل لغة.

وأوجز الشيخ ناصيف اليازجي في قوله فأبدع إذ قال :

أقرانك في العلم والأدب، وصناعة الإنشاء فعليك بحفظ القرآن و(نهج البلاغة).

وقال الشيخ أبوالثناء شهاب الدين محمود الآلوسي البغدادي :

((نهج البلاغة)) الكتاب المشهور الذي جمع فيه السيد المرتضى (كذا) الموسوي خطب لأمير المؤمنين كرّم اللّه وجهه وكتبه ومواعظه وحكمه وسمي ((نج البلاغة)) كما إنه قد اشتمل على كلام يخيل إنه فوق كلام المخلوقين، دون کلام الخالق، عز وجل، قد اعتنق مرتبة الإعجاز، وابتدع أبكار الحقيقة والمجاز وللّه در الناظم حيث يقول فيه :

ألا إن هذا السفر ((نهج البلاغة ))*** لمنتهج العرفان مسلکه جلي

على قمم من آل حرب ترفعت*** (كجلمود صخر حطّه السيل من علِ)

وثمة كلمة للأستاذ أمين نخلة في مقدمة كتابه ((مئة كلمة من كلام الإمام علي، قال فيها :

(إذا شاء أحد أن يشفي صبابة قلبه من كلام الإمام فليقبل عليه في (النهج)

ص: 128

من الدفة إلى الدفة وليتعلم المشي على ضوء (نهج البلاغة).

وقال محمد أمين النووي في كتابه ((جولات إسلامية)) :

لقد كان علي في خطبه المتدفقة، يمثل بحراً خضمّاً من العلماء الربانيين وأسلوباً جديداً لم يكن إلّا لسيد المرسلين، وطرق بحوثاً من التوحيد لم تكن تخضع في الخطابة إلا لمثله، فهي فلسفة سامية لم يعرفها الناس قبله، فدانت لبيانه، فسلست في منطقه وأدبه)).

وقال : ((حفظ عليّ القرآن كله، فوقف على أسراره، واختلط به لحمه ودمه، والقارئ يرى ذلك في ((نهج البلاغة)) ويلمس فيه مقدار استفادة علي من بیانه وحكمته)).

((.. وهكذا نجد في كلام علي الدين والسياسة والأدب والحكمة، والوصف العجيب، والبيان الزاخر)).

أما عباس محمود العقاد فقال في كتابه ((عبقرية الإمام)) :

(في كتاب نهج البلاغة) فيض من آيات التوحيد والحكمة الإلهية تتسع به دراسة كل مشتغل بالعقائد، وأصول التأليه وحكم التوحيد).

وأما محمد محيي الدين عبد الحميد لم يستطع إلا أن يقول :

[(نهج البلاغة) هوما اختاره الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن الحسين الموسوي من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي اللّه عنه)، وهوالكتاب الذي ضم بين دفتيه عيون البلاغة وفنونها، وتهيأت به للناظر فيه أسباب الفصاحة

ص: 129

ودنا منه قطافها، إذ كان من كلام أفصح الخلق - بعد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) - منطقاً وأشدهم اقتداراً، وأبرعهم حجة، وأملكهم لغة يديرها كيف شاء الحكيم الذي تصدر الحكمة عن بيانه، والخطيب الذي ملأ القلب سحر بیانه، العالم الذي تهيأ له من خلاط الرسول، وكناية الوحي، والكفاح عن الدين بسيفه ولسانه منذ حداثته ما لم يتهيأ لأحدٍ سواه].

ونعود إلى الدكتور جورج جرداق، إذ نقلنا رأيه في الإمام علي فننقل هنا، رأيه في نهج البلاغة وهويقول :

نهج البلاغة آخذ من الفكر والخيال والعاطفة آيات تتصل بالذوق الفني الرفيع ما بقي الإنسان وما بقي له خيال وعاطفة وفكر؛ مترابط بآياته متساوق، متفجر بالحس المشبوب والإدراك البعيد، متدفق بلوعة الواقع وحرارة الحقيقة والشوق إلى معرفة ما وراء هذا الواقع؛ متألف يجمع بين جمال الموضوع وجمال الإخراج حتى ليندمج التعبير بالمدلول، والشكل بالمعنى، اندماج الحرارة بالنار والضوء بالشمس والهواء بالهواء، فما أنت إزاءه إلا ما يكون المرء قبالة السيل إذ ينحدر والبحر إذ يتموج والريح إذ تطوف، أو قبالة الحدث الطبيعي الذي لا بدله أن يكون بالضرورة إلى غير كَوْن (بيان لونطق بالتقريع لانقضّ على لسان العاصفة انقضاضاً! ولوهدد الفساد والمفسدين لتفجّر براكين لها أضواء وأصوات ؟ ولو انبسط في منطق لخاطب العقول والمشاعر فأقفل كل باب على حجّة غير ما يتبسط فيه! ولودعا إلى تأمّل لرافق فيك منشأ الحس وأصل التفكير، فساقك إلى ما یریده سوقاً، ووصلك بالكون وصلاً، ووحّد فيك القوى للاكتشاف توحيداً ،

ص: 130

وهولوراعاك لأدركت حنان الأب ومنطق الأبوة وصدق الوفاء الإنساني وحرارة المحبة التي تبدأ ولا تنتهي!

أما إذا تحدث إليك عن بهاء الوجود وجمالات الخلق وكمالات الكون، فإنما يكتب على قلبك بمداد من نجوم السماء!).

(أحس علي إحساساً مباشراً عميقاً بين الكائنات روابط لا تزول إلا بزوال هذه الكائنات، وإن كل ما ينقض هذه الروابط ينقض معنى الوجود ذاته).

(بیان هوبلاغة من البلاغة، وتنزيل من التنزیل، بیان اتصل بأسباب البيان العربي ما كان منه وما يكون، حتى قال أحدهم في صاحبه إن كلامه دون کلام الخالق وفوق كلام المخلوق).

وأكثر إنصافاً قول المستشرق الفرنسي هنري کوربال في ((النهج))، فإذا كان جورج جرداق، وهو مسيحي، قال ما قال في ((النهج)) فإنه عربي تربطه بالإمام (عليه السّلام) صلة الانتماء القومي ولكن هنري كوربال لم يكن عربياً ولم تربطه بالإمام علي أية رابطة سوى نظرته الموضوعية المنصفة إلى ما ضمّه ((النهج)) من روائع خلّدها التاريخ، لنقرأ قول هذا الرجل المنصف هنري كوربال :

((وتأتي أهمية هذا الكتاب (أي النهج) بالدرجة الأولى؛ بعد القرآن وأحاديث النبي، ليس بالنسبة للحياة الدينية في التشيع عموماً وحسب، بل بالنسبة لما في التشيع من فكر فلسفي، ويمكن اعتبار نهج البلاغة منهلاً من المناهل التي استقى منها المفكرون الشيعة .. وإنك لتشعر بتأثير هذا الكتاب بصورة جمّة من

ص: 131

الترابط المنطقي في الکلام؛ ومن استنتاج النتائج السلیمة؛ وخلق بعض المصطلحات التقنیة العربیة التي أدخلت علی اللغة الأدبیة والفلسفیة فأضفت علیها غنی وطلاوة، وذلك أنها نشأت مستقلة عن تعریب النصوص الیونانیة)).

ص: 132

4_ التعريض بالصحابة

إن رابع عکازة تعكز المشككون عليها بنسبة ما في ((نهج البلاغة)) إلى الإمام علي (عليه السّلام) هي ((التعريض بالصحابة))؛ فقد وقفنا على قول محمد محيي الدين عبد الحميد في مقدمته على (النهج)) إذ قال : ((إن في الكتاب من التعريض بصحابة رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) ما لا يسلم أن يصح صدوره عن مثل الإمام علي..)). اه.

قبل الرد على محمد محيي الدين عبد الحميد ومن تعكز على مثل عكازته يحسن بنا أن نتعرف على ((الصحبة)) لغة واصطلاحاً بشيء من الإيجاز؛ فالصحبة لغة : هي المعاشرة. وتطلق على المعاشرة في الزمن القليل والكثير، ولذلك قيل صحبت فلاناً حولاً وشهراً ويوماً وساعة، فيوقع اسم القليل على ما يقع منها كثير، وتقع بين المؤمن والكافر، كما تقع بين المؤمن والمؤمن، قال تعالى :

{قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (الكهف/37) }.

وقال تعالى مخاطباً مشركي قريش :

ص: 133

{ مَا ضَلَّ صَاحِبُکُم وَ مَا غَوَى} {النجم /2 }.

وقال تعالى :

{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (سبأ/46) }.

قال (صلّى اللّه عليه وآله) وقد أُشير عليه بقتل عبد اللّه بن أُبي رأس المنافقين ؛ ((بل نحن صحبته، ونترفق به ما صحبنا ولا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)).

أما اصطلاحاً فهي : (إن الصحابي من رأى رسول اللّه – (صلّى اللّه عليه وآله) وقد أدرك الحلم فأسلم، وعقل أمر الدين ورضيه وصحبه ولوساعة من النهار). وطبيعي إن من صحابة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) لم يكونوا على درجة واحدة من الإدراك المعرفي، بل حتى من الإخلاص والإيمان؛ ففيهم من بقي على صلته الروحية والإيمانية بالرسول العظيم فكان مثالاً في القول والعمل، في السلم والحرب وفي الرقة والشدة، وفيهم من نكص عن قيم الدعوة المحمدية وأدار وجهه عنها لينشغل بمغريات الدنيا، وهذا الفريق ما تحدث عنه البخاري في صحيحه؛ إذ روى عن إبن مسعود : قال النبي : أنا فرطكم على الحوض ليرفعنَّ إلىّ رجال منكم حتّى إذا هویت لأناولهم، اختلجوادوني، فأقول : ربي أصحابي، فيقال : لا تدري ما أحدثوا بعدك (وفي رواية سهل بن سعد.. فأقول سحقاً لمن بدّل بعدي) وقد نزلت في ذلك الفريق آیات کریمات تصفهم بأنهم :

ص: 134

{ اِبْتَغَوُا الْفِتْنَةَ } و {.. اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَکُفْراً وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ }. و{.. سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسُ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفوُنَ لَکُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ }.

وثمة آيات كثيرة عرّضت ببعض من صحبوا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) في حلّه وترحاله، وقد أفرد - جل وعلا - لهم سورة أسماها : ((المنافقين)).

وإذا كانت ثمة إشارات تعريضية ببعض الصحابة في ((نهج البلاغة))، فالقرآن الكريم - كما مر بنا - قد عرّض بهم وهوسبق ((النهج)، فضلاً عن أن أصحاب الصحاح والأسانيد المعتبرة قد نقلوا لنا كثيراً من ذلك التعريض؛ فالإمام ليس وحده من عرض بالمنافقين من الصحابة، فما جاء في (النهج) إذن، (يصح صدوره عن مثل الإمام علي) بعكس ما تصور محمد محيي الدين عبد الحميد وغيره من المشككين، لأن أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) - كما بينا - ليسوا على درجة واحدة من الإيمان والإخلاص، والصحابة أنفسهم تلاعنوا وتساببوا وتناقدوا فيما بينهم، وهذا ليس بالأمر الغريب، لأن مشارکم مختلفة ودخولهم في الإسلام لم يكن - أصلاً - متفقاً، تمام الاتفاق في الهدف والمرمى، فضلاً عن أن الكل إنسان رؤيته في تفاصيل الحياة الفكرية - خاصة - لذلك فإن النقد والطعن واللعن، بل حتى التكفير لم يكن هدفه نیل طرف من طرف آخر لغرض النيل حسب، بل بسبب اختلاف النظرة إلى مفردات الحياة ودرجة الارتفاع إلى مستوى

ص: 135

المتغيرات الجديدة. والدعوة المحمدية ليست بالمتغير الجديد السهل على مجتمع کان غارقاً في جهله العقائدي وغافياً غفوة عميقة على معتقداته حتى جاء الإسلام فأحدث خضّة قوية في ذلك المجتمع فاستوعب فريق تلك القيم الجديدة بعمق إيماني واضح وتأرجح فريق آخر فجاري المتغيرات الجديدة تلك للحفاظ على مركزه الاجتماعي، وهذا ما يحصل في كل زمان ومكان.

وإلا ماذا نقول عن طلحة والزبير ومعاوية بن أبي سفيان وعمروبن العاص وغيرهم قبلهم وبعدهم هل يتساوون في درجة الإيمان مع أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) ؟ أمثال بلال الحبشي وسلمان المحمدي وعمار بن یاسر وعلي بن أبي طالب وغيرهم من الصحابة (النظاف)) من تلوث أفكار الجاهلية الأولى؟

فالصحابة : ((قوم من الناس لهم ما للناس وعليهم ما عليهم)).

فهل يقف الإمام علي (عليه السّلام) - وهو المسلم الأوّل والمؤمن الأوّل والمجاهد الأوّل والمدافع الأوّل عن قيم الإسلام قولاً وعملاً بشواهد تاريخية لا تُرَد - أقول.. هل يقف مثل ذلك الرجل مكتوف اليدين حيال ما يرى من افتتات على الإسلام وحرف مبادئه ومحاولة إفراغه من محتواه من قبل أُولئك الذين صحبوا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) زمناً قلّ أوكثر فسمّوا ب(الصحابة))؟ إن التاريخ حفظ لنا، وما يزال يسجل شواهد عن إن كثيراً ممن فجروا الثورات وأحدثوا الانقلابات السياسية في هذا القطر أوذاك وفي هذا العصر أو غيره، كانوا في البداية (أصحابًا) تربطهم ((صحبة)) الوسيلة والغاية، إلا أن عقدهم سرعان ما انفرط بعد تلك الثورات والانقلابات فبدأت السقوطات على الطريق وبدأت

ص: 136

التصفيات الجسدية والسياسية والفكرية عموماً فيما بينهم، فماذا نسمي ذلك؟

إنه قانون الحياة الطبيعي لأن الناس كلهم ليسوا سواء في النظر والرأي والمشرب والانحدار الطبقي والنَسَبي، وعند انخراطهم في بوتقة الثورة أوالانقلاب نراهم يختلفون حول هذه المسألة أوتلك فيتساقطون على الطريق، لذلك قيل في المصطلح السياسي (الثورة تأكل أبناءها)).

فإذا ما عرفنا ذلك فإنه سيتوضح لنا، بیسر، أن صحابة الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) - وهم ليسوا على درجة واحدة من الوعي والإدراك والاستيعاب - لابد - والأمر كذلك - أن يختلفوا فيما بينهم، على هذه المسألة أو تلك، وإذا ما علمنا أن ثورة الإسلام تفوق أية ثورة قبلها وبعدها لما أحدثته من انقلاب جذري في الكم والكيف، أدركنا فوراً إن السقوطات على الطريق أمر طبيعي أيضاً.

لذلك إن أي نقد أو((تعريض))، كما يسمونه، لأولئك الذين لم يستطيعوا مواجهة معطيات الثورة، أمر طبيعي كذلك.

وإذا ما عدنا إلى (نهج البلاغة) نجد أن جميع التعريض والسباب -على حد تعبيرهم - ما هو إلا نقد بنّاء، ووصف للأعمال، بلغة مهذبة، وألفاظ متزنة لم يخرج بها عن حق، ولم يدخل فيها بباطل، ونظرة واحدة في ثنايا الكتاب تغني عن سرد الشواهد، وتسطير الأدلة)).

وإذا ما وجد في ثنايا (النهج) ما يسمونه (التعريض)، وهو نقد كما بيَّنا، فإن في ((النهج)) إشادة بالصحابة الذين ترسموا خطی رسول اللّه (صلّى اللّه عليه

ص: 137

وآله وساروا على منهجه حتى النهاية، كقوله (عليه السّلام) :

((لقد رأيت أصحاب محمد (صلّى اللّه عليه وآله) فما أری أحداً منكم يشبههم)). وقوله (عليه السّلام) : ((وأوصيكم بأصحاب محمد الذين لم يحدثوا حدثاً ولم يأووا محدثاً ولم يمنعوا حقا، فإن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) أوصانا بهم ولعن المحدث منهم ومن غيرهم.

إذن فليس كل صحابي منزهاً من الذم، وليس كل صحابي محرم من الثلب، لذلك فلا مانع - أبداً - أن يذكر علي بالذم والثلب من يستحق ذلك منهم، خصوصاً أن بعضهم قد شهر السلاح بوجهه وأعلن الحرب علیه وكان يود قتله وسفك دمه مهما كانت الوسائل وبأي سبيل كان.

ومن هنا نرى أن كلمات الذم هذه لم تكن بالشكل الذي ((لا يليق صدورها عن رجل مثل علي في دينه وعلمه وتقواه)) كما يزعم محمود محمد شاكر، ولم تكن ما يجب إنكاره ((تنزيهاً لعلي عن الهبوط إلى هذا المستوی))، كما يدعي الدكتور شفيع السيد.

فهل يُعد ذم الناكثين والقاسطين والطعن في المارقين والمنحرفين عملاً منافياً التقوى، ومخالفاً أحكام الدين؟

لذلك فلم يكن من المستبعد أن يذم علي هؤلاء وأشباههم، وليس في ورود مثل هذا الذم في كلامه ما يحمل على الشك في انتساب ذلك الكلام إليه، خصوصاً إنه قد أثنى على الصحابة الملتزمين الأثبات ثناءً جميلاً بلغ حد التأوّه والحنين على فراقهم وعلى حنينه عليهم لأنهم ((تلوا القرآن فأحكموه، وتدبروا

ص: 138

الغرض فأقاموه، أحيوا الستة وأماتوا البدعة.. الخ).

أيكفي ذلك دليلاً على إن ما في ((النهج) للإمام علي (عليه السّلام)، وإن عکازة ((التعريض)) منخورة لابد أن تُسقِط صاحبها يوماً ما فيدرك ما كان عليه من خطأ في الرأي وقصور في النظرة. وإذا كان ذلك لا يكفي نقولها بصريح العبارة : إن الإمام علي (عليه السّلام) كان يعني ما يقول، وما قاله كان من إفراز معاناته من حق اغتصبوه منه؛ فخطبته (الشقشقية) التي أغضبتهم وبسببها صاروا يشككون ب(النهج) لأنه كان مخزوناً من صدق المعاناة، وليس كما يدعي ((صبري إبراهيم السيد)) في كتابه ((تحقیق وتوثیق نهج البلاغة) إذ يقول :

((ويبدو أن اشتداد التشيع لعلي أعمی شیعته عن حق السلف الصالح، فقالوا فيهم ما لا يقبله عقل ولا يؤيده تاریخ. وظنوا أن مكانة علي لا ترتفع إلا بالحط من قيم هؤلاء حطاً لا يقبله منصف، ولا يرضى به على نفسه)).

فما أودع خطبته ((الشقشقية) إن هو إلا أمر في غاية المعقولية، ومن ((إيداعات)) الإمام (عليه السّلام) نفسه وليس ((دساً في كلام مثبوت الرواية معروف للقدماء حتى يجوز على العقول ويصعب فيه التمييز)).

وأي رجل في موقع الإمام علي (عليه السّلام) من حيث قرابته من الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) وإسهاماته في الدعوة الإسلامية وشجاعته وعلمه وحصوله على (وصية) رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) بأمر من اللّه، جلت قدرته، في (غدير خم) بأن يكون ((ولي كل مؤمن ومؤمنة).. أقول.. أي رجل في موقعه

ص: 139

وموقفه كان يفعل أكثر مما قاله الإمام علي (عليه السّلام) في ((الشقشقية)) ولكن الإمام علي (عليه السّلام) خاف على الإسلام أن ينفرط عقده فتسقط حباته في أيدي الجاهلية الأولى ف((سكت)) على مضض، ولكن سکوته ذاك لا يعني رضاه ، ولا يعني أنه ملزم أن لا يظهر ما يعتلج في صدره، لاسيما وهو إبن بيت النبوة والمسلم الأوّل والمؤمن الأوّل وصاحب الخندق الذي قال عنه الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) يومها : [خرج الإيمان كله إلى الكفر (أو الشرك) كله] وكان الخلفاء الثلاثة شهوداً على موقفه ذاك، إذ لو أخذناه وحده شاهداً على أحقيته بالخلافة، لكفي، إذ كانت معركة الخندق فيصلاً حاسماً بين أن يكون الإسلام أولا یکون، فثبتت أركانه واتسع بفضل سيف علي بن أبي طالب وشجاعته وغيرته على التكليف الإلهي. فأية غرابة في كلامه (عليه السّلام) في خطبته الشقشقية؟ أليست هي تشخيص واقع حصل؟ ألم يحصل ذلك في بيعة السقيفة والرسول (صلّى اللّه عليه وآله) مسجي في فراشه وعلي (عليه السّلام) إلى جانبه وحده ؟ أكثير على الإمام علي (عليه السّلام) أن يقول : [وإنه (أي أبا بكر) ليعلم إن محلي منها (أي من

الخلافة) محل القطب من الرحي. ينحدر عني السيل ولا يرقى إلىَّ الطير))؟

ألا يدل ذلك على أمرٍ (قد بُيِّت في ليل) مما دعا الإمام أن يقول :

.. فيا عجباً بينا هو(أبوبكر) يستقيلها في حياته إذ عقدها الآخر (عمر بن الخطاب) بعد وفاته لشدما تشطر ضرعيها فصيَّراها في حوزة خشناء، يغلظ كلامها ويخشن مسها، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم، وإن أساس لها تقحّم فمني الناس لعمر اللّه، بخبط ومشماس وتلون

ص: 140

واعتراض)).

ألم تكن تلك الصورة فوتوغرافيا لمسلسل ظهرت خطوطه فيما بعد، بوضوح إنه تآمر على، ليس الإمام علي (عليه السّلام) حسب، بل على الإسلام برمته لحرفه عن نقائه وصفائه وصدقه وجذره الإلهي .

ودليلنا الأوّل: ما حصل في (يوم السقيفة).

ودليلنا الثاني : ما أوصى الأوّل للثاني.

ودليلنا الثالث : دعوة عمر (رجال الشوری) وعهده إليهم باختيار الخليفة بعده .

وقد عرف الإمام هذا (المقلب) بثاقب بصيرته فصوره بكلمات قصار فقال : ((فصغي رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره، مع هن وهن)).

وكان الإمام (عليه السّلام) يقصد في كلامه كلاَ من سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن أبي بكر وعثمان، الذي قال فيه : ((إلى أن قام ثالث القوم، نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أمية، يخضمون مال اللّه خضمة الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتکث عليه قتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنه)).

ودليلنا الرابع : ما أسفرت عنه الأحداث بعد مقتل عثمان إذ كشف (بنو أمية) عن أوراقهم، وكان ما كان في حرب الجمل وصفين حتى مقتل الإمام علي (علیه السلّام) فإذا كانت تلك المعاني التي وردت في الشقشقية (لا تتفق وسيرة علي مع الخلفاء، ولا تتلاءم مع ما أثر عنه من أقوال). كما يقول السباعي بيومي في

ص: 141

كتابه (تاريخ الأدب العربي في العصر الإسلامي).

فنحن نقول إن ما جاء في الشقشقية، شيء - وهوإفراز معاناة - والانعكاسات السلوكية للإمام علي (علیه السلّام) على مجريات الأحداث - ومنها علاقته بمن تولوا الخلافة شيء آخر. إذ أنه كان في ذلك بعيد النظر يريد منه الحفاظ على قيم الإسلام ومعانيه وعدم انفراط حباته - كما قلنا سابقاً - ولا يعني الرضا عنهم وعن مسلسلهم كما يُصَور لبعضهم.

ص: 142

5_ الوصي والوصاية

مثلما أخذوا على (النهج) أنه عرّض بالصحابة فقد أخذوا عليه ورود مصطلح (الوصية والوصاية) وبنوا على ذلك رأيهم بأن محتواه كان منحولاً في نسبته إلى الإمام (عليه السّلام) لأن ذلك المصطلح هو من المصطلحات التي عرفت بعد عهد الإمام علي (عليه السّلام).

إن هذا الإدعاء يفتقر إلى الدليل العلمي كسابقه لذلك سنرد على مطلقيه - كعادتنا - بالدليل القاطع والمقنع فنقول :

إن مصطلح (الوصي والوصاية) ضارب بجذوره في عمق التاريخ العربي قبل ((نهج البلاغة)) بقرون. وكتب التفسير أوالحديث أوالتاريخ أوالسير والأدب مليئة بذلك المصطلح.

جاء في صحيح البخاري ومسلم عن رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) قوله :

((ما حق امرءٍ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلته إلا ووصيته مكتوبة

ص: 143

عنده)). مما جعل عمر يقول : ((ما مرّت عليَّ ليلة منذ سمعت رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) قال ذلك إلا وعندي وصيتي)).

وجاء في مشكاة الأنوار قوله (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : ((من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية)). وقوله (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : ((من لم يحسن وصيته عند الموت كان نقصاً في مروءته وعقله)).

وجاء في مستدرك الحاكم : إن رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) قال لعلي (عليه السّلام) :

((أما إنك ستلقى بعدي جهداً)).

قال علي :

- أفي سلامة ديني؟

قال :

- ((في سلامة دينك)).

ومما أخرجه ابن عساکر والمحب الطبري في (الرياض) .. قوله (صلّى اللّه عليه وآله وسلَّم) لعلي :

- ضغائن في صدور قوم لا يبيدوفها إلا من بعدي.

ونقل لنا صاحب الغدير قوله (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) :

((يا علي إنك ستبتلى بعدي فلا تقاتلن)).

صدق رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) فقد عاني ما عاناه الإمام علي

ص: 144

(عليه السّلام) من خصومه بعد النبي الكريم (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) وهولم يسلم من سهامهم حتى بعد موته وهاهم يوجهون سهامهم إليه في معطی من معطياته الفكرية ألا وهو((نهج البلاغة)) فيشككون في نسبته إليه ل (إقحام مصطلح الوصية والوصاية) في طياته. وقد نسوا، أوتناسوا أن ذلك المصطلح ولد في (مبدأ الدعوة الإسلامية قبل ظهوره وحين أنزل اللّه تعالى عليه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) { وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } فدعاهم إلى دار عمه أبي طالب وهم يومئذ أربعون رجلاً أوينقصون، وفيهم أعمامه أبوطالب وحمزة والعباس وأبولهب. إذ قال (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) ((يا بني عبد المطلب إني واللّه ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني اللّه أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازريني على هذا على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟)).

فأحجم القوم غير علي وكان أصغرهم إذ قام وقال : أنا يانبي اللّه أكون وزیرك عليه فأخذ رسول اللّه برقبته وقال : ((إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا..)).

ونقل لنا محمد بن جرير الطبري في (الولاية) إن الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) قال : ((إن اللّه تعالى أنزل إلىَّ { بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }. وقد أمرني جبرئيل عن ربي أن أقول في هذا المشهد. وأُعلِم كل أبيض وأسود أن علي بن أبي طالب أخي ووصيي وخليفتي والإمام بعدي)).

ص: 145

وقوله (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : (يا معاشر الناس، هذا أخي ووصيي وواعي علمي وخليفتي على من آمن بي).

وجاء في كفاية الطالب أنه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) قال : (علي وعاء علمي ووصيي وبابي الذي أوتي منه).

وفي (إكمال کنز العمال) جاء : أن رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) قال لفاطمة : إن اللّه اطلع على أهل الأرض اطلاعة فاختار أباك فبعثه نبياً. ثم اطلع الثانية فاختار بعلك وأوصى إلي فاتخذته وصياً)).

وفي فرائد السمطين جاء قوله (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : (أنا أفضل أنبياء اللّه ورسله، وعلي بن أبي طالب أفضل الأوصياء ..)) وقوله (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : (علي أخي ووزيري ووصيي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن ومؤمنة).

ونقل لنا الخوارزمي في مناقبه عن ابن عباس قوله : قال رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) لأم سلمة : ((هذا علي بن أبي طالب لحمه من لحمي ودمه من دمي، وهومني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، يا أم سَلمة هذا أمير المؤمنين وسيد المسلمين ووعاء علمي ووصيي وبابي الذي أوتي منه أخي في الدنيا والآخرة ومعي في المقام الأعلى..)).

وعن سلمان المحمدي - كما جاء في (الولاية) لمحمد بن جرير الطبري قال :

((قلت لرسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : یا رسول اللّه إنه لم يكن نبي إلا وله وصي فمن وصيك؟ قال وصيي وخليفتي في أهلي وخير من أترك بعدي،

ص: 146

مؤدي ديني ومنجز عداني علي بن أبي طالب)).

وعن المصدر نفسه قال النبي (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : ((يا أنس يدخل عليك من هذا الباب أمير المؤمنين وسيد المسلمين وقائد الغر المحجلين، وخاتم الوصيين، قال أنس قلت اللّهم اجعله رجلاً من الأنصار، وكتمته، إذ جاء علي فقال : من هذا يا أنس؟ قلت : علي، فقام مستبشراً واعتنقه)).

وجاء في ينابيع المودة للقندوزي الحنفي : قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلَّم) :

((إن اللّه عز وجل عهد إلي في علي عهداً، إن علياً راية الهدى وإمام أوليائي ونور من طاعتي، وهوالكلمة التي ألزمها المتقين من أحبه أحبني، ومن أبغضه أبغضني فبشر، فجاء علي فبشرته بذلك، فقال : يا رسول اللّه أنا عبد اللّه وفي قبضته، فإن يعذبني فبذني وإن يتم الذي بشرني به فاللّه أولى به، قال (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) قلت : اللّهم اجْلُ قلبه، واجعله ربيعة الإيمان، فقال ربي عز وجل، قد فعلت به ذلك، ثم قال تعالى : إني مستخصه بالبلاء، فقلت : يا رب إنه أخي ووصيي، قال تعالى : إنه شيء قد سبق إنه مبتلى ومبتلى به)).

وعن أحمد بن حنبل في مسنده : قال أنس بن مالك : قلنا لسلمان : سل النبي (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) عن وصيه فقال سلمان : یا رسول اللّه مَن وصيُّك؟ فقال : ((یا سلمان مَن وصي موسى؟)) فقال : يوشع بن نون، قال (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : ((وصيي ووارثي يقضي ديني، وينجز موعدي علي

ص: 147

بن أبي طالب)).

وذكر الخوارزمي حديث طويلاً روته أم سلمة جاء في آخره : ((إن اللّه اختار من كل أمة نبياً واختار لكل نبي وصياً فأنا نبي هذه الأمة وعلي وصيي في عترتي وأهل بيتي وأمتي من بعدي)).

وفي ينابيع المودة عن أبي الطفيل عامر بن وائلة وهو آخر من مات من الصحابة قال : قال رسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : ((يا علي أنت وصيي حربك حربي وسلمك سلمي..)).

وفي كتاب مودة القربى للهمداني : ((عن خالد بن معدان رفعه : ((إن مَن أحب أن يمسي في رحمة اللّه فلا يدخل قلبه شك بأن ذريتي أفضل الذريات، ووصيي أفضل الأوصياء)).

وفي المحاسن والمساوئ للبيهقي : إن النبي (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) قال : ((هبط عليّ جبرئيل (عليه السّلام) يوم حنين فقال : يا محمد إن ربك تبارك وتعالى يقرؤك السلام وقال : ادفع هذه الأترجة إلى ابن عمك ووصيك علي بن أبي طالب فدفعتها إليه، فوضعتها في كفه، فانفلقت نصفين فخرج منها رق أبيض مكتوب فيه بالنور : من الطالب الغالب إلى علي بن أبي طالب)).

وجاء في المنتقى من تاريخ بغداد لابن الحداد الحنفي : (في الحديث ينادي مناد (أي يوم القيامة) : هذا علي بن أبي طالب وصی رسول رب العالمين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين.. الحديث).

ص: 148

وسجل لنا نصر بن مزاحم في كتابه (صفين) شعراً للإمام علي وردت فيه كلمة (الوصي) فيه قال (عليه السّلام) :

يا عجباَ لقد سمعت نكرا*** كذباً على اللّه يشيب الشعرا

يسترق السمع ويغشي البصرا*** ما كان يرضى أحمداً لوخبرا

أن يقرنوا وصيه والأبترا

ويريد بالأبتر : عمروبن العاص، إذ نزلت في أبيه الآية :

{ إِنَّ شانِئَكَ هُوَالأَبْتَرُ (الكوثر (3) }.

أما الخوارزمي فنقل في مناقبه قوله (عليه السّلام) : (أنا أخورسول اللّه ووصيه).

وخطب الإمام الحسن (كما في مستدرك الحاكم) فقال :

(أنا ابن النبي وأنا ابن الوصي).

أما الإمام الحسين (عليه السّلام) فقد قال في خطبته يوم عاشوراء :

((أما بعد فانسبوني فانظروا من أنا؟ ثم ارجعوا إلى أنفسكم فعاتبوها فانظروا هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) وابن وصيه، وابن عمه، وأول المؤمنين باللّه ..؟ الخطبة ...)).

كثيرة هي الأحاديث التي وردت فيها كلمة (الوصية والوصي)، ونحن إذا اقتصرنا على ما ذكرنا من أحاديث فلأننا نتوخى المرور بالشواهد والأدلة لئلا نطيل على القارئ الكريم، وغير الأحاديث ثمة آيات قرآنية كثيرة وردت فيها تلك

ص: 149

الكلمة (الوصية) يمكن الرجوع إليها.

أما الشعر العربي، قبل ظهور ((نهج البلاغة))، فكان هو الآخر قد حمل لنا تلك الكلمة يحسن بنا أن نلم بشيء منه :

قال عبد اللّه بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب :

ومنا علي ذاك صاحب خیبرٍ*** وصاحب بدرٍ يوم سالت كتائبه

وصي النبي المصطفى وابن عمه*** فمن ذا يدانيه ومن ذا يقاربه

وقال عبد الرحمن بن جعيل :

العمري لقد بايعتم ذا حفيظةٍ*** على الدين معروف العفا موفقا

علياً وصي المصطفى وابن عمه*** وأول من صلى أخا الدين والتقى

ومن البدريين الهيثم بن التيهان إذ قال :

قل للزبير وقل لطلحة إننا*** نحن الذين شعارنا الأنصار

نحن الذين رأت قريش فعلنا*** يوم القليب أولئك الكفار

كنا شعار نبينا ودثاره*** يفديه منا الروح والأبصار

إن الوصي إمامنا وولینا*** برح الخفاء وباحث الأبصار

وخرج يوم الجمل غلام من بني ضبة شاب معلم من عسكر عائشة وهو يقول :

نحن بني ضبة أعداء علي*** ذاك الذي يعرف قدماً بالوصي

وفارس الخيل على عهد*** ما أنا عن فضل علي بالعمي

ص: 150

وقال حجر بن عدي الكندي في ذلك اليوم أيضاً :

يا ربنا سلم لنا عليا*** سلم لنا المبارك المرضيا

المؤمن الموحد التقيا*** لاخطل الرأي ولا غويا

بل هادياً موفقاً مهديا*** ثم ارتضاه بعده وصيا

أما خزيمة بن ثابت ذوالشهادتين وكان بدرية فقد قال يوم الجمل :

يا وصي النبي قد أجلت الحر*** ب الأعادي وسارت الأضعانُ

واستقامت لك الأمور من الشا***م وفي الشام يظهر الإذعانُ

حسبهم ما رأوا وحسبك منا*** هكذا حيث كنا وكانوا

وأما كتب التاريخ فقد نقلت لنا في طياتها مصطلح (الوصي والوصية) هي الأخرى يجدر بنا الوقوف عندها بمرور سریع :

قال ابن واضح في تاريخه : ((ومن جملة احتجاج الخوارج على أمير المؤمنين (عليه السّلام) أنه ضيع الوصية فكان من جوابه (عليه السّلام) : ((أما أقوالكم أني كنت وصياً فضيعت الوصية فإن اللّه عز وجل يقول :

{ وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ کَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيُّ عَنِ الْعالَمِينَ }.

أفرأيتم هذا البيت لولم يحج إليه أحد كان البيت كفر؟ إن هذا البيت لوترکه من استطاع إليه سبيلا كفر وأنتم كفرتم بترككم إياي لا أنا بتركي لكم..)).

وقال واضح أيضاً : ((وقال مالك بن الحارث الأشتر لما بويع أمير المؤمنين

ص: 151

(عليه السّلام) : ((أيها الناس هذا وصي الأوصياء ووارث علم الأنبياء، العظيم البلاء الحسن المضاء، الذي شهد له كتاب اللّه بالإيمان، ورسوله بجنة الرضوان، من كملت فيه الفضائل، ولم يشك في سابقته وعلمه وفضله الأواخر ولا الأوائل)).

أما أبو جعفر الإسكاني المعتزلي فقال في (نقض العثمانية) :

((وقال عبد اللّه بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب :

وإن ولي الأمر بعد محمدٍ*** علي، وفي كل المواطن صاحبه

وصي رسول اللّه حقاً وصنوه*** وأول من صلى ومن لان جانبه

ونقل لنا الخوارزمي في مناقبه کتاب عمروبن العاص إلى معاوية قبل أن يتفقا جاء فيه :

((فأما ما دعوتني إليه من خلع ربقة الإسلام من عنقي، والتهور في الضلالة معك، وإعانتي إياك على الباطل، واختراط السيف في وجه علي وهو أخورسول اللّه ووصيه ووارثه، وقاضي دينه ومنجز وعده وزوج ابنته)).

وأما المسعودي، في مروج الذهب، فقد نقل لنا كتاب محمد بن أبي بكر إلى معاوية، وإليك ما يتعلق بالوصية قوله : ((فكيف - لك الويل - تعدل نفسك بعلي وهووارث رسول اللّه ووصيه). ومما نقلت لنا المصادر الموثوق بها أقوال بعض المشاهير ممن تأخر عن عصر النبوة والخلافة الراشدية وقد ورد فيها مصطلح الوصية والوصاية.

قال الكميت بن زيد الأسدي في الهاشميات :

ص: 152

والوصي الذي أمال التجوبي*** به عرش أمة لاتهدام

كان أهل العفاف والمجد والخير*** ونقض الأمور والإبرام

والوصي الولي والفارس المعلم*** تحت العجاج غير الكهام

ووصي الوصي ذي الخطة الفصل*** ومردي الخصوم يوم الخصام

وقال قيس بن الرقيات :

نحن منا النبي أحمد والصد*** يق منا النقي والحكماء

وعلي وجعفر ذوالجناحين*** هناك (الوصي) والشهداء

وقال كثير لما حبس عبد اللّه بن الزبير محمد بن الحنفية :

تخبر من لاقيت أنك عائذ*** بل العائد المحبوس في سجن عارم

وصي النبي المصطفى وابن عمه*** وفكاك أعناق وقاضي مغارم

وقال شارح الهاشميات محمود محمد الرافعي عن البيت الثاني :

((وأراد ابن وصي النبي، والعرب تقيم المضاف إليه في الباب مقام المضاف ..)).

ولكن في تذكرة الأمة روي البيت هكذا :

سمي نبي اللّه وابن وصيه*** وفكاك أغلال وقاضي مغارم

فانتفت الحاجة إلى تخریج شارح الهاشميات.

وقال السيد إسماعيل بن محمد الحميري في قصيدته المذهبة التي شرحها السيد المرتضی :

ص: 153

وأن قلبي حين يذكر أحمداً*** ووصي أحمد نيط من ذي مخلب

أما دعبل الخزاعي - كما جاء في معجم الأدباء - فقال في رثاء الحسين (عليه السلّام) :

رأس ابن بنت محمد ووصيه*** يا للرجال على قناة يُرفَع

وأما الكتب التي أُلفت في الوصية في القرون الأولى والصدر الأوّل قبل القرن الرابع - أي قبل صدور ((نهج البلاغة)) - فكثيرة نذكر منها ما صدر في القرنين الأوّل والثاني :

1_کتاب الوصية لهشام بن الحكم المشهور.

2_ الوصية للحسين بن سعيد الأهوازي.

3_ الوصية للحكم بن مسكين المكفوف.

4 _ الوصية لعلي بن المغيرة.

5_ الوصية لعلي بن الحسن بن فضال.

6 _ الوصية لمحمد بن علي بن الفضل.

7_ الوصية الإبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي.

أما ما صدر في القرن الثالث نذكر منها :

1_ الوصية ليحيى بن المستفاد .

2_الوصية لمحمد بن الصابوني.

3_ الوصية لمحمد بن الحسن بن فردخ.

ص: 154

4 _ الوصية والإمامة لعلي بن الحسين المسعودي صاحب مروج الذهب.

5_ الوصية لشيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي.

6 _ الوصايا لمحمد بن علي السلحفاتي المشهور.

ذلك غيض من فيض، ومن أراد الاتساع فليراجع كتاب مصادر نهج البلاغة وأسانيده للشيخ عبد الزهراء الحسيني الخطيب 1/139 -179. فقد اعتمدناه في كثير من شواهدنا جزاه اللّه خيراً .

فهل مزقت تلك الشواهد الظلام الذي غطى على عيون الذين ادّعوا إن الرضي انفرد بذكر الوصية والوصاية؟ وهل أذابت الضباب الذي حال دونهم لرؤية الحقيقة وسط أشعة الشمس الساطعة؟

أرجو أن أكون قد أسهمت مع من أسهم، في إلقاء الضوء على واحدة من أهم تشکیکات المشككين في نسبة ((نهج البلاغة) إلى الإمام علي (عليه السّلام). عسى أن يهتدي من يطلب الهداية

{... فَأَمَّا الزَّیدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (الرعد/17) } صدق اللّه جلت قدرته.

ص: 155

6_ الإطناب والإيجار

ومما دعاهم إلى التشكيك في نسبة ما في ((نهج البلاغة)) إلى الإمام علي (عليه السّلام) كونه أطنب في بعض الخطب والكتب وأطال، كالقاصفة والأشباح وعهد مالك بما لم يكن مألوفاً في صدر الإسلام.

في الحقيقة إن طول الخطب وقصرها، أوالإطناب والإيجاز فيها لم یکن مقتصرآً على عهد دون آخر، بل إن ذلك يتساوق مع المرحلة والحدث ومتطلباتهما؛ فكلما سخنت المرحلة وتشعب الحدث تطلب الأمر الارتفاع إلى مستواهما والتوفر على مفرداتهما والتوغل في أعماقهما والإحاطة بتفاصيلهما وإماطة اللثام عن مفاصلهما. وهذا يتطلب من القائد استقراء المرحلة والحدث ليستطيع، بالتالي، من وصف الحالة وطرح الحلول، ولا يكون ذلك إلا بالإطالة أوالإطناب في الكلام، وهو ما تطلبه عصر الإمام علي (عليه السّلام) لما فيه من سخونة استثنائية لم تشهدها العهود التي سبقته ؛ فهو (عليه السّلام) - على قصر مدَّة قيادة الأمة الإسلامية - خاض ثلاث حروب ضارية هي : الجمل وصفّين والنهروان، وواجه أُناساً انقلبوا على تعاليم الإسلام المتمثلة بالقرآن الكريم

ص: 156

وأحاديث الرسول العظيم، محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)، وأُناساً أغرتهم الدنيا بزخرفها فنكصوا عن جادة الحق، وأُناساً تأرجحوا بين هؤلاء وأولئك .

فما الذي يفعله الإمام إزاء ذلك كله؟

أليس عليه غير التوجيه والإرشاد والنصح؟

أيكون ذلك بكلمات موجزات قصار؟

حتى القرآن الكريم لم تكن سوره على وتيرة واحدة من الأسلوب؛ فثمة السور القصار جداً بل الآيات القصار جداً، وثمة السور الطوال، بل والآيات الطوال، ذلك كله لتنسجم مع المرحلة والحدث.

فالذين أنكروا على الإمام علي (عليه السّلام) أن يكون صاحب (نهج البلاغة) لذلك السبب لم يتوافروا على عصره وما أحاطت به من أحداث وإن كانوا قد اعترفوا -مضطرين - بقبول ذلك بقولهم : ((نحن لا نقول إن هذا القدر من الطول في الخطب غير مقبول عقلاً ..)).

ولكي لا نترك موضوعنا بلا إسناد تاريخي - كما هو منهجنا في البحث دائماً - نقول : إن سمة (( الطول)) في الخطب كانت معروفة ومنتشرة في الجزيرة العربية قبل عهد الإمام علي (عليه السّلام)؛ فقد روي أن قيس بن خارجة بن سنان خطب يوماً إلى الليل فما أعاد كلمة ولا معنى. وكذلك فعل سحبان وائل عندما وجد أن الضرورة تقتضي الإفاضة في الكلام وهو في مجلس معاوية إذ خطب من انتهاء صلاة الظهر إلى حلول وقت العصر، ولم يقل أحد أن ذلك مخالف للبلاغة

ص: 157

أوخارج على أصول الكلام.

ومع إطنابه ذاك كان يوجز في الكلام غاية الإيجاز على ما تقتضيه الحال. وفي ذلك يقول الدكتور زكي مبارك : (( وسحبان وائل الذي عرف بالتطويل وأنه كان يخطب أحياناً نصف يوم، أثرت عنه الخطب القصيرة الموجزة، وذلك يدل على أن الفطرة كانت غالبة على ذلك العصر، وأن القاعدة المطردة لم تكن شيئاً آخر غير مراعاة الظروف ...

إن مسألة الإيجاز والإطناب كانت تجري على مقتضى الحال، فكان الكاتب يوجز تارة ويطنب أخرى على وفق الظروف التي فيها رسالته، وكان من الخطباء من يطيل وكان منهم من يوجز، ولا يرجعون في ذلك إلى قاعدة غير المناسبات التي توجب الكلام، فتقضي مرة بالإطناب وتقضي حيناً بالإيجاز)).

فالإمام علي (عليه السّلام) فضلاً عن أنه عاش تلك الظروف وخالط خطباء ذلك العصر، فهو من قال فيه الرسول الكريم (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : ((أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأته من بابه)). وخاطبه مرة قائلاً : ((أنت سيد الفصحاء وسيد البلغاء))، وهومن قال فيه ابن عباس : ((ما رأيت - قط - أذکی من علي بن أبي طالب (عليه السّلام)). وهومن خاطبه عمر : ((لا أبقاني اللّه بأرض لست فيها يا أبا الحسن)). كما قال : ((لولا علي لهلك عمر)). ثم هومن قال عنه معاوية : ((فواللّه ما سن الفصاحة لقريش غيره)).

فإذا كان الإمام علي (عليه السّلام) كذلك في الفصاحة والبلاغة والذكاء فمن باب أولى أن يكون متمكناً من أدواته اللغوية تمكن الصيرفي من نقوده؛ فهو يطيل

ص: 158

متى رأى أن الموقف يتطلب الإطالة ويقصر على وفق مقتضى الحال، وقد أنصف الدكتور زكي المبارك عندما قال :

((ورسائل علي بن أبي طالب، وخطبه ووصاياه، وعهوده إلى ولاته في ((نهج البلاغة)) تجري على هذا النمط ؛ فهويطيل عندما يكتب عهداً يبين فيه ما يجب على الحاكم في سياسة القطر الذي يرعاه، ويوجز حين يكتب إلى بعض خواصه في شيء معين لا يقتضي التطويل)).

فتشکیکهم، إذن، في هذا الجانب حظه مثل حظه في الجوانب الأخر لم يستقوا فيه إلا من سراب ولم يركبوا إلا ظهور الأرانب.

ص: 159

7_ السجع

والسجع عكازة أخرى تعكز عليها المشككون في نسبة ما في ((نهج البلاغة)) إلى الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام). فقال محمد محيي الدين عبد الحميد في مقدمته على (النهج)):

((إن فيه من السجع والتنسيق اللفظي، وآثار الصنعة ما لم يعهده عصر الإمام ولا عرفه، وإنما ذلك طرأ على العربية بعد العصر الجاهلي وصدر الإسلام وافتن به أدباء العصر العباسي، والشريف الرضي جاء بعد ذلك على ما ألفوه فصنف الكتاب على نهجهم وطريقتهم)) ومع اعترافه بأن من ((عرف ابن أبي طالب حامي عرين الفصاحة وابن بجدتها لم يعسر عليه السليم)). أقول مع ذلك فإنه - وفي مقدمته تلك - راح يبطن تشکیکه بكلمات ملفوفة إذ قال : ((السجع إذا جاء من غير تصنع وتكلف، ولم تظهر سماجته، ولم يثقل استماعه، كان آية من آيات البلاغة، ودلائل الفصاحة، ومع ذلك فليس ما في الكتاب كله سجعاً وما فيه من السجع فهومما لم تدع إليه الصنعة، ولا اقتضاه الكلف بالمحسنات، وأكثره مما يأتي عفواً بلا کد خاطر، ولا تجشم هول، ومثله في عبارات عصره واقع، ومن عرف ابن أبي

ص: 160

طالب كان حامي عرين الفصاحة وابن بجدتها لم يعسر عليه السليم)).

أما أحمد أمين فقد شكك هوالآخر بنسبة ما في ((النهج) إلى الإمام علي (عليه السّلام) إذ قال في فجر الإسلام : ((واستوجب هنا الشك أمور ما في بعضه من سجع منمق، وصناعة لفظية لا تعرف لذلك العصر كقوله : ((ويعني الإمام (عليه السّلام))):

((أكرم عشيرتك فإنهم جناحك الذي به تطير وأصلك الذي إليه تصير)).

واعتمد في شكه هذا على ((هوار)) الذي سبق أن شك في نسبة القرآن إلى اللّه جل وعلا. إذ نقل عنه طه حسين في الأدب الجاهلي قوله : ((إن ورود هذه الأخبار في شعر أُمية بن أبي الصلت مخالفة بعض المخالفة لما جاء في القرآن دليل، على صحة هذا الشعر من جهة، وعلى أن النبي قد استقى منه أخباره من جهة أخرى).

لنناقش هؤلاء عسى أن نتوصل نحن وإياهم إلى منبع الحقيقة الصافي فنرتوي منه الحق والعدل والإنصاف :

1_ يقول محمد محيي الدين عبد الحميد : ((إن فيه من السجع والتنميق اللفظي وآثار الصنعة ما لم يعهده عصر الإمام ولا عرفه ..)).

إذا كان ما قرر محمد محيي الدين عبد الحميد صحيحاً فماذا نسمي قول الرسول الكريم محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : ((إن الأعمار تفنى والأجسام تبلی، والأيام تطوى والليل والنهار يتطاردان تطارد البريد، يقربان كل بعيد،

ص: 161

ويخلقان كل جديد، وفي ذلك -عباد اللّه - ما يلهي عن الشهوات، ويرغب في الباقيات الصالحات))؟

وماذا نسمي قوله (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : (( إن مع العز ذلاً، وإن مع الحياة موتاً، وإن مع الدنيا آخرة، وإن لكل شيء حساباً، ولكل حسنة ثواباً، ولكل سيئة عقاباً ، وإن لكل شيء رقيباً، وإنه لابد لك من قرين يدفن معك هوحي وأنت ميت، فإذا كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، ولا تُبعث إلا معه، ولا تُسأل إلا عنه، فلا تجعله إلا صالحاً فإنه إن صلح أنت به، وإن فسد لم يُستوحش إلا منه وهو عملك)).

وماذا نسمي قوله (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : ((أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصِلوا الأرحام وصلّوا بالليل والنهار والناس نيام)).

وماذا نسمي قوله (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : ((إنما الحياء من اللّه أن تحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلي)).

وقوله (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : (( إرجعن مأزورات غير مأجورات)).

وماذا نقول عن خطبة أبي بكر : ((أستهدي اللّه بالهدى، وأعوذ به من الضلال والردى، من يهدِ اللّه فهو المهتدي، ومن يضلل فلا تجد له ولياً مرشداً)).

وعن خطبته : ((يا معشر الأنصار إن شئتم أن تقولوا آویناكم في ظلالنا وشاطرناكم في أموالنا، ونصرناكم بأنفسنا، قلتم، وإن لكم من الفضل ما لا يحصيه العدد، وإن طال به الأمد)).

ص: 162

وماذا نقول عن خطبة لعمر في الاستسقاء : ((اللّهم قد ضرع الصغير، ورقَّ الكبير، وارتفعت الشكوى، وأنت تعلم السر وأخفى)).

وماذا نقول عن خطبة لعثمان خطب بها الناس لما نقموا عليه ما نقموا : ((إن لكل شيء آفة، وإن لكل نعمة عاهة، وفي هذا الدين عیابون ظنانون، يظهرون لكم ما تحبون، ويُسرّون ما تكرهون، يقولون لكم وتقولون)).

وقبل ذلك؛ ماذا نقول عن خطبة قس بن ساعدة الإيادي ومن الرواة لها رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) نفسه، ومنها :

((أيها الناس اسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، ليل داج، وقار ساج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وجبال مرساة، وأرض مدحاة، وأنهار مجراة، إن في السماء مخبراً وإن في الأرض لعبراً .. الخ)).

أليس تلك الأقوال سجعاً ظاهراً وواضحاً؟ ثم أليست هي في عصر الإمام ؟ وإذا انتهينا من تلك الأقوال وعدنا إلى منبع الإسلام الأوّل- القرآن الكريم - نجد فيه السجع يشكل السمة الأكثر ظهورة :

{بِسْمِ اللہِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * قُلْ هُوَاللّهُ أَحَدُ * اللًّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ * وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُوُأً أَحَدُ (الإخلاص 1-)4}.

{بِسْمِ اللہِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ * وَ مِنْ شَرِّ غًاسِقٍ إِذا وَقَبَ * وَ مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ * وَ مِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (الفلق 1-5) }.

ص: 163

{ بِسْمِ اللہِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * قُلْ أَعُوذُ بِرَب النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (الناس 1-6)}.

{ بِسْمِ اللہِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ* وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ* هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ* أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ* وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ* إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ* فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ* كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ* وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ* وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا * كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى* يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي* فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ* وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ * يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي (الفجرا -30) }.

{بِسْمِ اللہِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * لَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ* فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (الشرح

ص: 164

1-8)}.

إضافة إلى السور : الذاريات، الطور، النجم، الرحمن، الواقعة.. وغيرها من السور الطوال.

فماذا يعني هذا؟ أليس يعني أن الإمام علياً (عليه السّلام) هو امتداد لعصره والعصر الذي سبقه؟ إن ذلك التواصل أمر طبيعي ينسحب على مفردات الحياة كلها، واللغة هي إحدى تلك المفردات، ثم أهوغريب عن شخصيةٍ مثل علي بن أبي طالب (عليه السّلام) الذي وصفه الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) وغيره أنه إمام الفصحاء وسيد البلغاء، أن نرث عنه هذا الإرث المتفرد في تدفقه العفوي الطبيعي، والمتفرد في بنائه المعماري المنسجم مع كل عصر في الشكل والموضوع؟ وأين هي آثار الصنعة في قوله (عليه السّلام) :

((إن تقوى اللّه دواء داء قلوبكم وبصر عمى أفئدتكم وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم، وجلاء غشاء أبصاركم، وأمن فزع جأشكم، وضياء سواد ظلمتكم))؟

وقوله (عليه السّلام) وهو يخوف فيها أهل النهروان : ((فأنا نذیر لکم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النهر، وبأهضام هذا الغائط، على غير بينة من ربکم، ولا سلطان مبين معكم، قد طوحت بكم الدار، واحتبلكم المقدار))؟

نحن نقيم الدنيا ونقعدها إذا ما قرأنا لأبي العلاء المعرّي لزومياته وننبري الشرحها والإشادة بها كتراث عربي (وهي كذلك لا شك) ولكننا نعُد تلك

ص: 165

اللزومية المتدفقة بشكل عفوي، المتساوقة مع المفردات التي قبلها والتي بعدها تساوقاً لا تجعلك تحس بأي أثر للصنعة؛ إذ جعل ((التقوی)) دواء (القلوب)) وبصر الأفئدة وشفاء الأجساد وصلاح الصدور وطهر الأنفس، وجلاء الأبصار وأمن الفزع وضياء الظلم.

هذه الوحدة الموضوعية العجيبة والوحدة العضوية المتماسكة والجرس الموسيقي الذي تبعثه لزومية ال ((كم) الجميلة المنبعثة من نفس تحترق لتضيء الطريق للآخرين، تبدأ ب((التقوى)) لتعدد لنا تأثيراتها ونتائجها على النفس البشرية والسلوك الاجتماعي، والنظرة الشمولية إلى الحياة.

أقول.. إذا ما قرأنا ذلك لعلي بن أبي طالب (عليه السّلام) نعده من (آثار الصنعة)

لماذا يا قوم؟ أليست مفردات علي (عليه السّلام) هي ذاتها المفردات العربية التي ورثناها من عصور ضاربة في عمق الزمن؟ ولكنها جاءت على لسانه بعفوية ((بحيث تنسجم مع الناحية الصوتية فتجيء على اللسان لذيذة الوقع في الآذان، موافقة حركات النفس، مطابقة العاطفة التي أزجتها والفكرة التي أملتها).

أليس كذلك؟

قليلاً من التأني والإنصاف في إصدار الأحكام على معطيات رجل كان وما يزال وسيبقى معلماٌ مهماٌ، بل متفرداٌ، من معالم حضارتنا وإرثنا الأدبي.

2_ يقول محمد محيي الدين عبد الحميد في مقدمته تلك :

ص: 166

((وافتتن به (أي السجع) أدباء العصر العباسي، والشريف الرضي جاء من بعد ذلك على ما ألفوه فصنف الكتاب على نهجهم وطريقتهم)) ا.ه

ومعنى هذا الكلام إن الشريف الرضي هوالذي ((وضع)) هذا السجع لينسجم مع ((نهج)) معاصريه.

لوألقينا نظرة فاحصة ودقيقة ومنصفة على مؤلفات الشريف الرضي التي وصلتنا لوجدناها مختلفة عما في ((نهج البلاغة)) في تركيباتها اللغوية وسياقها العام تمام الاختلاف؛ فالرجل له أسلوبه البحثي النابع من ثقافته اختارها هولنفسه ومن تأصل في تركيبه الذهني. أما أسلوب النهج فليس فيه ذلك.

إن محتویات ((النهج)) بما فيها ((السجع)) كانت وليدة اللحظة والحدث والمعاناة واستشراف آفاق المستقبل، ولكنها كانت مترابطة متماسكة متساوقة مع بعضها، بحيث شكلت بمجموعها وحدة موضوعية واحدة، هي ((اللّه والعالم والإنسان)) هذا أولاً، وثانياً - وقد ألمحنا إليه فيما سبق - إن الشريف الرضي لوكان واضع ذلك السجع في طيات ((نهج البلاغة)) لأشار إليه، أولأفرده ضمن مؤلف يضاف إلى مؤلفاته العديدة، ولوعرفنا إن الرضي يتمتع بالتزام أخلاقي وديني لأدركنا إنه رحمه اللّه يحتاط أن ينسب ما لغيره لنفسه وما لنفسه لغيره نتيجة ذلك الالتزام. فضلاً عن إن جمل السجع تلك تتحدث عن شواهد تاريخية معروفة، كمخاطبة الخوارج بهدف تخويفهم وقد مر ذلك.

وقوله في كتاب إلى عبد اللّه بن عباس بعد مقتل محمد بن أبي بكر : ((فعند

ص: 167

اللّه نحتسبه ولداً ناصحاً، وعاملاً کادحاً، وسيفاً قاطعاً، وركناً دافعاً ..)).

وقوله لما أغار النعمان بن بشير الأنصاري على عين التمر : ((منیت بمن لا يطيع إذا أمرت، ولا يجيب إذا دعوت، لا أبا لكم، ما تنظرون بنصركم ربكم؟ أما دين يجمعكم؟ ولا حمية تحشمكم)).

وكتطبيق عملي لما احتاط به الشريف الرضي في نقله قوله (عليه السّلام) : ((العين وكاء)).

قال الرضي (رحمه اللّه) : وهذا من الاستعارات العجيبة .. ومن الناس من ينسب هذا الكلام إلى أمير المؤمنين علي (عليه السّلام)، وقد ذكر ذلك محمد بن يزيد المبرّد في كتاب ((المقتضب) في باب اللفظ بالحروف، وفي الأظهر الأشهر إنه للنبي (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)

وقد احتاط الرضي (رحمه اللّه) في نقل هذا الحديث في النهج فقال :

((فهذا القول في الأشهر الأظهر من كلام النبي (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) وقد رواه قوم لأمير المؤمنين (عليه السّلام) وذكر ذلك المبرد..)).

لا أدري هل يكفي هذا الإثبات إن الشريف الرضي لم يضف ((السجع)) ليتفق وسمات عصره ونقله نقلاً واثقاً عن لسان إمام الفصحاء وسيد البلغاء علي بن أبي طالب (عليه السّلام)؟

فإذا كان لا يكفي فما ذنب من أراد أن يخرق سجف الظلام في طريق من تلفعوا به ولكنهم أخذوا يستجيرون به لئلّا تحرق عيونهم أشعة الشمس.

ص: 168

3- وقال محمد محيي الدين عبد الحميد : ((السجع إذا من غير تصنع وتكلف، ولم تظهر سماجته، ولم يثقل استماعه كان آية من آيات البلاغة، ودلائل الفصاحة..)).

ماذا يعني بكلامه هذا؟

إن المتبادر إلى الذهن لأوّل وهلة أن مراده، الإشارة بقول الإمام في هذا الفن (السجع) ولكن بعد التمحيص والتدبر يظهر الكلام على حقيقته وهو : إنه أراد به الغمز الخفي والاتمام المستور بأن هذا اللون من الكلام لم يكن ذا صلة بالإمام أولاً، وأنه يشوبه التصنع والتكلف والسماجة ثانياً . أما كونه ذا صلة بالإمام فهذا ما تحدثنا عنه في الفقرة السابقة، ونظيف أنه، (عليه السّلام)، خاطب أهل البصرة قائلاً :

((يا أشباه الرجال ولا رجال.. لوددت أني لم أركم وأعرفكم..)) و((دارستكم الكتاب، وفاتحتكم المجاج، وعرَّفتكم ما أنكرتم، وسوَّعتكم ما مججتم، لوكان الأعمى يلحظ، والنائم يستيقظ)).

فهو شاهد تاريخي لا يقبل الجدال إنه من قول الإمام علي (عليه السّلام). أما كونه يشوبه التصنع والتكلف والسماجة، فهذا مما يمكن دحضه بشواهد من أقواله (عليه السّلام)، كقوله (عليه السّلام) :

((فليقبل امرؤ كرامة بقبولها، وليحذر قارعة قبل حلولها، ولينظر امرؤ في قصير أيامه، وقليل مقامه، في منزل حتى يستبدل به منزلاً، فليصنع لمتحوله، ومعارف منتقله، فطوبى لذي قلب سليم أطاع من يهديه، وتجنب من یردیه،

ص: 169

وأصاب سبيل السلامة يبصر من يبصِّره، وطاعة هادٍ أمره، وبادر الهدى قبل أن تغلق أبوابه، وتقطع أسبابه، واستفتح التوبة، وأحاط الحوبة، فقد أقيم على الطريق وحُدي نهج السبيل)).

وقوله (عليه السّلام) : ((وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالدين المشهور، والقلم المأثور، والكتاب المسطور، والنور الساطع، والضياء اللامع، والأمر الصادع، إزاحةً للشبهات، واحتجاجاً بالبينات، وتحذيراً بالآيات، وتخويفاً بالمثلات، والناس في فتن انخذم فيها حبل الدين، وتزعزعت سواري اليقين، واختلف النجر، وتشتت الأمر، وضاق المخرج، وعمي المصدر، فالهدى خامل والعمی شامل ..)).

ولولا خوف الإطالة لاستشهدنا بالكثير من أقواله (عليه السّلام) المسجوعة التي جاءت عفو الخاطر ولكنها لم تكن ذا صلة بالسماجة والتصنع والتكلف. بل كانت آية من آيات البيان العربي ولوحات فنية تحكي مسيرة هذا الإنسان في حياته اللاحبة.

4 - لقد سلم محمد محيي الدين عبد الحميد بأن الإمام علي (عليه السّلام) ((حامي عرين الفصاحة)). كأن الإمام علي (عليه السّلام) كان يحتاج لشهادة محمد محيي الدين بأنه (حامي عرين الفصاحة) وكأننا لم نعرف ذلك فتبرع ليدلنا عليه.

إن مثل هذا الأسلوب يبعد صاحبه عن قواعد المنهج العلمي البحت. ويضيع عليه الحقيقة النظيفة لأنه درب شائك لا يسلم صاحبه من العثرات في مطباته الكبيرة، وإلا من منا لا يعرف أن علي بن أبي طالب هو إمام الفصحاء، وسيد البلغاء، وقد نقل لنا التاريخ والروايات كثيرة من الشواهد والأدلة بأنه

ص: 170

((حامي عرين الفصاحة)) أما أن محمد محيي الدين يأتي في القرن العشرين فيسلّم بذلك تسليم المضطر فهذا لا يغني ولا يسمن من جوع.

إن الشمس لا يحجبها غربال المشككين والغمازين والمازين، وإذا حجبها بعض الغيوم يوماً أوساعة فإنها تبقى محتفظة بخواصها الفيزيائية والكيميائية، بل إنها بخاصيتها تلك تذيب الغيوم من حولها لتشرق بأشعتها الأرجوانية من جديد فتملأ الحياة حباً خلواً من الثقوب السود.

5 - أما أحمد أمين فقد اعتمد رأي المستشرقين في بلاغة وفصاحة الإمام علي (عليه السّلام) وأسلوبه في الكلام.

متى كان المستشرق يعرف ما في الدار أكثر من صاحبها؟ بل متى كان أكثر إخلاصاً في نقل الحقيقة عن أبناء قومنا؟ حتى الذين اعترفوا برجالاتنا وأشاروا إلى معطياتهم بشيء من الإنصاف لكنهم ليسوا بالبدلاء عنا في إقرار هذا الأمر أوذاك، لأننا عشنا حضارتنا وتواصلنا معها جيلاً بعد جيل. ولكننا نبقى نردد ((مغنية الحي لا تطرب)) ولسان حالنا يقول:

فلوغوّرت في تاريخ شعري*** وأبصرت الحقيقة ما عميت

ولكني هجرت تراث قومي*** وأقصرت الطريق وقد عييت

فداهمني الغزاة بعقر داري*** فما نافحت عنها أونهيت

لأني مذ خلقت خلقت خصماً*** لبعضي، بل تأكلني الشتيت

فلم ((أشطف )) ثيابي عبر طستي*** فحاطت بي من الدنيا طسوت

ص: 171

وصرت أذب عن أفكارغيري*** وعن أفكار قومي قد غويت

نصوصياً غدوت لكل قولٍ*** غريب، عن جني قومي سهوت

كأني ما ورثت لهم تراثاً*** بعًدِّ الرمل لكني نسيت

وصرت أغض طرفی عن تراثي*** ولكن عن تراثهُم رویت

وثمري لا يقيت بأرض قومي*** ولكن لوأتي منهم يقيت

ومرّ طعامهم حلومذاقاً*** وحلوطعام قومي ((زقنبوت ))

وإن أدعى لذبٍ عن تراثي*** أراوغ، إذ كأني ما دُعيت

ولكن لودعاني الغرب يوماً*** أقول له: لإرثك قدُفديت

فذاك لي الرواء إذا ظميت ***ولي مأوىً يقيني أومبيت

وذاك لي الدواء إذا اعتراني*** ذبول المحل قلت: به شُفيت

وأما إرثي الموروث أضحى*** لظىً لي، بل وفيه قد شُوِيت

وقد نعتوه بالسلفي ظلماً*** وعنه بعيدة تلك النعوت

وقالوا : إنه إرث مقيت*** تقوْلَبَ وهو هذا مميت

وقالوا : لم يواكب عصرقومٍ*** تناهوا فيه، بل أضحى يميت

ومايدرون أني تهت إن لم*** أعب من ريِّه، بل ما حييت

وهم يدرون لكن أي بلوىً*** بأن يدروا وهم عنه سکوت

ذلك هو حالنا في تقييم تراثنا، وإلا هل يحتاج رجل مثل الإمام علي (عليه السّلام) إلى كبير عناء في إثبات مكانته في الحضارة الإسلامية؟ ودوره الكبير في بلورة

ص: 172

الجوانب الفنية للغتنا العربية؟ وهو القائل :

((هل منا مناص أوخلاص، أومعاذ أوملاذ، أومزار، أومجار)). والقائل : ((أين من جد واجتهد، وجمع واحتشد، وبنى فشيد، وفرش فمهّد، وزخرف فنجَّد)) .. ألا يأخذك الجرس الموسيقي بسحره الخلاب إلى عوالم حالمة مع تلك الثنائيات ((مناص وخلاص، معاذ وملاذ، مزار ومحار)) هي إلى الشعر أقرب منها إلى النثر، بل هي مترعة بالدفق الموسيقي المنساب بعذوبة وفراهة وعفوية.

ص: 173

8_ دقة الوصف

يقول محمد محيي الدين عبد الحميد في مقدمة تحقيق ((نهج البلاغة)) :

((إن فيه من دقة الوصف واستفراغ صفات الموصوف، وإحكام الفكرة، وبلوغ النهاية في التدقيق كما تراه في وصف الخفاش والطاووس والنملة والجرادة، وكل ذلك لم يلتفت إليه علماء الصدر الأوّلولا أدباؤه ولا شعراؤه، وإنما عرفه العرب بعد تعريب كتب اليونان والفرس الأدبية والحكمية ..)).

إن الإنسان في كل عصر ومكان يصدر أحكامه على النابغين مما هوفيه : فإذا رأى خارقيةٍ ما في إنسانٍ ما أنكرها عليه لأنها تمخض استثنائي لم تستطع مداركه القاصرة الوصول إلى استيعابها فيبدأ بإصدار أحكامه، التي يحسبها أدلة إنكارية قاطعة بلا عمقٍ في التأمل في شمولية الرؤية وأحياناً إنصاف في الحكم. والنابغ دائماً يكون هدفاً لذوي العقول القاصرة والنظرة الضيقة والتفكير المتحجر والأذهان المنغلقة على نفسها.

ولأن النابغ سابقٌ زمانه، فمن الصعب أن يجد من يفهمه ويستوعب قدراته ومعطياته الفكرية، اللّهم إلا القلة القليلة من الذين يقتربون منه في الخاصية تلك.

ص: 174

وقلة هم أولئك النابغون في المجتمعات البشرية، إذ لا تزيد نسبتهم عن 0000001%إن لم تقل.

وهكذا كان الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ((استثناءً)) في عصره وبقي استثناءً في العصور كلها إلى يومنا هذا.

فليس غريباً - إذن - أن نقرأ لهذا الكاتب أوذاك رأياً في نابغ وآخر ينكر عليه نبوغه لا لشيء إلا لكونه قاصراً في نظرته أو حاسداً إياه، أومفترقاً عنه في المذهب أوالعرق أوالتفكير، أوهي مجتمعة كلها فيه. فتأتي (أحكامه...!) مبتسرة تفوح منها رائحة لم يألفها إلا هو.

لذلك نرى، ((إن كثرة الشاكِّين في (النهج) لم يسلكوا طريقاً فنياً في التحليل، ولم يركنوا إلى مقياس علمي خلا العاطفة والأغراض، ولم يكونوا صيارفة كلام أحرار متجردين عن كل شيء)) وإلا من كانت دقة التحليل وإجادة الوصف وقفاً على قوم دون قوم؟ أوليس الشعر العربي مملوء بدقة الوصف واستكماله؟ ثم أليس لقرشي شهد تنزيل القرآن، وصحب أفصح العرب منذ نعومة أظفاره، وكتب له الوحي، وسمع ما يفجره اللّه تعالى على لسانه من ينابيع الحكمة، أليس لهذا القرشي ميزة عن سائر الناس؟.

ثم أما كان يجب على أولئك الكتاب الذين استكثروا على الإمام (عليه السّلام) دقة الوصف - مثلما استكثروا عليه أشياء كثيرة غيرها بلا وجه حق - أن يدرسوا شخصيته بجوانبها كلها، وعند ذاك تكون أحكامهم متفقة وعظمة واستثنائية هذه الشخصية الفذة.

ص: 175

ثم أن علي بن أبي طالب كان يستعين بذاكرة قوية، وقدرة هائلة على اختزان صور الناس والطبيعة، وأخبار البشر، وأوصاف الأشياء. وكانت دقة ملاحظته تجعله محيطاً إحاطة مدهشة بسمات الشيء الباطنة قبل الظاهرة.

وبفعل ذلك كان وصفه يتغلغل إلى عمق الظاهرة، أو الصفة، كما يتسع ليربط الظاهرة بالأخرى، والصفة بالأخرى ليقدم رؤية شاملة، تضع الجزئي في موضعه الحقيقي، ضمن العام، وتضع البعض ضمن الكل، وبما أن أبلغ وصف هو ذلك الذي ينقل الصور البليغة للأشياء ويعكسها بأجمل وأجلى تعبير، وأقوى إيماء، وأدق وصف؛ فإن سحر البيان الذي أوتيه علي بن أبي طالب كان يجعل من عملية الانعكاس الوصفي قطعاً فريدة من النصوص الوصفية التي تفخر بها العربية. ولكن هذا الانعكاس الوصفي الفريد كان له رد فعل معاكس لا يساويه في المقدار البحثي العلمي المنهجي، بل ساواه في النكوص عن جادة الحق والتأمل المنصف، فكان ما جاء به محمد محيي الدين عبد الحميد في مقدمة نهج البلاغة وأحمد أمين في فجر الإسلام والدكتور شفيع السيد ومحمود محمد شاكر وغيرهم ممن أنكروا على الإمام علي (عليه السّلام) هذا التفرد في التفكير والنظرة ودقة الوصف – هو من رد الفعل ذاك.

إن ما كان يتمتع به الإمام علي (عليه السّلام) من خارقية فائقة التصور جعلت منه ((مبدعاً في ميادين الأساليب المتعددة، فهو يقدم النص الوصفي بالقدرة الرائعة، التي يقدم بها النص السياسي، أوالفقهي، والأخلاقي، ورغم أن وصف الأشياء يتصل اتصالاً دقيقاً بعملية انعكاس الأشياء نفسها في الذهن، فإن

ص: 176

طبيعة النفس المرهفة والعقل النير تجعل من عملية الانعكاس إعادة خلق صوري للموصوف. فيصبح الموصوف (في الصورة البلاغية) يشبه الحقيقة الملموسة للشيء الموصوف ويتجاوزه بالجمالية الممنوحة إليه من داخل كلمات النص.

إن علي بن أبي طالب كان يستنطق الصفات واهباً إياها المقدرة على أن تستعرض نفسها بشفافية أكبر)). تماماً كما يفعل المصور الفوتوغرافي عندما يريد التقاط صوره فهو يختار الجوانب الفنية للأشياء فتأتي صوره أكثر تأثيراً من الأصل المصور. وهنا يكون الاعتماد على قدرة هذا المصور الإبداعية في تحريك كاميرته واقتناص اللحظة والشكل وزاوية النظر فإذا كان مبدعاً حقاً جاءت صوره مترعة بدفق لوفي ناطق بكل آيات الإبداع.

وعلي بن أبي طالب (عليه السّلام) ((تميز بقوة ملاحظة نادرة ثم بذاكرة واعية تخزن وتتسع، فتيسرت له من ذلك جميعاً عناصر قوية تغذي فكره وتقوي خياله فتسهل عليه محاكمة الأشياء والمقارنة بين عناصرها لإثبات أرجحها وأفضلها للبقاء والتعميم)).

فليس مستغرباً - إذن - على مثل علي بن أبي طالب (عليه السّلام) - إلا لدى قلة قليلة - أن يصف لنا - ذلك الوصف الرائع - بعض الحيوان مما جعل أصحاب ((الرأي ...)) يقفون مذهولين إزاء هذه الصورة، بل اللوحات الزيتية الرائعة التقنية فلم يجدوا لأنفسهم مفراً منها إلا الإنكار من كونها من بنات أفكار علي (عليه السّلام) لأن عصره يفتقر إلى تلك القدرة الإبداعية..! وإن الجزيرة العربية - والمدينة - لم تدجن الطاووس - مثلاً - الذي وصفه الإمام علي (عليه

ص: 177

السلام) فأبدع في وصفه على الرغم من أن ابن أبي الحديد قد أوضح لهم أن الإمام علي (عليه السّلام) لم يشاهد الطواويس في المدينة بل بالكوفة وكانت يومئذ تجي لها ثمرات كل شيء. وتأتي إليه هدايا الملوك من الآفاق، ورؤية المسافدة مع الذكر والأنثى غير مستبعدة)).

أقول على الرغم من ذلك ظلوا يشككون في نسبة هذا الوصف الرائع للإمام علي (عليه السّلام) متذرعين بحجج لا تقوم على دليل علمي ومنطقي.

وهذا كله من الجهل بمقام أمير المؤمنين وفضله ومبلغه من العلم. ولكي لا نترك الكلام عارياً من شواهد من وصفه (عليه السّلام) نذكر نتفاً من ذلك الوصف على أننا سنعود إليه في فقرة لاحقة إن شاء اللّه.

قال (عليه السّلام) يصف نملة :

((انظروا إلى النملة في صغر جثتها ولطافة هيأتها، لا تكاد تنال بلحظ البصر، ولا بمستدق الفكر، وكيف دبت على أرضها وحبت على رزقها؛ تنقل الحبة إلى جحرها وتعدها في مستقرها، وتجمع في حرها لبردها وفي ورودها الصدرها، مكفولة برزقها، مرزوقة بوفقها، لا يفعلها المنان ولا يحرمها الديان ولو في الصفا اليابس والحجر الجامس. ولو فكرت في مجاري أكلها، وفي علوها وسفلها وما في الجوف من شراسيف بطنها، وما في الرأس من عينها وأذنها لقضيت من خلقها عجباً ولقيت من وصفها تعباً، ولوضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلتك الدلالة إلا على أن فاطر النملة هوفاطر النخلة، لدقيق تفصيل كل شيء، وغامض اختلاف كل حي)).

ص: 178

وقال (عليه السّلام) يصف الخفاش :

((ومن لطائف صنعته، وعجائب حكمته، ما أرانا من غوامض الحكمة، في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكل شيء، ويبسطها الظلام القابض لكل حي، وكيف عشيت أعينها عن أن تستمد من الشمس المضيئة نوراً تقتدي به في مذاهبها، وتصل بعلانية برهان الشمس إلى معارفها، وردعها تلألؤ ضيائها عن المضي في سبحات إشراقها، وأكنّها في مكامنها، عن الذهاب في بلج انتلاقها، فهي مسدلة الجفون في النهار عن أحداقها، جاعلة الليل سراجاً تستدل به في التماس أرزاقها، فلا يرد أبصارها أسداف ظلمته، ولا تمتنع من المضي فيه لغسق دجنته، فإذا ألقت الشمس قناعها وبدت أوضاع نهارها، ودخل من إشراق نورها على الضباب في وجارها، أطبقت الأجفان على مآقيها وتبلغت بما اكتسبت من فيء ظلم لياليها، فسبحان من جعل الليل لها نهاراً ومعاشاً، والنهار سكناً وقراراً، وجعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطيران، كأنها شظايا الآذان غير ذوات ریش ولا قصب، إلا أنك ترى مواضع للعروق بينة أعلاماً، لها جناحان لما يرقا فينشقا، ولم يغلظا فيثقلا، وولدها لاصق بها لاجئ إليها، يقع إذا وقعت ويرتفع إذا ارتفعت، لا يفارقها حتى تشتد أركانه، ويحمله للنهوض جناحه، ويعرف مذاهب عيشه ومصالح نفسه، فسبحان الباري لكل شيء على غير مثال خلا من غيره .

وقال (عليه السّلام) يصف الجرادة :

((وإن شئت قلت في الجرادة، إذ خلق اللّه لها عينين حمراوين، وأسرج لها

ص: 179

حدقتين قمراوين، وجعل لها السمع الخفي، وفتح لها الفم السوي، وجعل الحس القوي، ونابين بينهما تقرض ومنجلين بهما تقبض، يرهبها الزراع في زرعهم ولا يستطيعون ذبها، ولوجلبوا بجمعهم، حتى ترد الحرث في نزواتهما، وتقضي منه شهواتها، وخلقها كله لا يكون إصبعاً مستدقة .

وقال (عليه السّلام) يصف الطاووس :

ويمشي مشي المرح المختال، ويتصفح ذنبه، وجناحيه فيقهقه ضاحكاً لجمال سرباله وأصابیغ وشاحه، فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا معولاً، وقد نجمت من طنبوز ساقه صيصية خفيفة، وله في موضع العرف قنزعة خضراء موشاة، ومخرج عنقه كالإبريق، ومغرزها إلى حيث بطنه، لصبغ الوسمة البانية، أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال.

ثم : (ولوكان كزعم من زعم أنه يلقح بدمعة تسفحها مدامعه، فتقف في ضفتي جفونه، وأن أنثاه تطعم لذلك ثم تبيض لا من لقاح فحل سوى الدمع المنحبس، لما كان ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب).

هذا، فضلاً عن وصفه الأرض بأنهارها وجبالها وهضابها ومنبطحاتها، والسماء ونجومها وما فيها من عجائب الخلق، ودقائق الصنعة.

إن دقة الوصف تلك من لدن الإمام علي (عليه السّلام) تُعد مفخرة لحضارتنا العربية والإسلامية أن يبرز فيها مثل علي بن أبي طالب (عليه السّلام) وهو يحمل في تلافيف دماغه خوارق عقلية وفكرية عجيبة يظل التاريخ - مهما امتد واتسع - يذكرها بفخر واعتزاز .

ص: 180

9_ الألفاظ الاصطلاحية

ومما تعكزوا عليه في نفي نسبة ما في نهج البلاغة إلى الإمام علي (عليه السّلام)، استعمال ألفاظ اصطلاحية، التي يزعمون أنها عرفت في علوم الحكمة بعد تعريب كتب اليونان والفرس الأدبية والحِكَمِیَة.

ولا أحسبني بحاجة إلى الإفاضة في هذا الموضوع لأنني قد تحدثت عنه في كثير من الموضوعات التي مرت وأبرزها قول النبي الكريم (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) :

((أنا مدينة العلم وعلي بابها) لذلك وجدت من المفيد الاستئناس برأي لعلامة الشيخ محمد جواد مغنية، إذ يقول :

((إن في القرآن قضايا علمية وفلسفية وتشريعية لم تعرفها العرب في عهد النبي ولا قبله، وقد استدل علماء الكلام، وفلاسفة المسلمين بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية في كثير من الموضوعات الفلسفية التي تكلموا عنها، فهل هذه الآيات منحولة مدسوسة؟ وهل من الضروري - إذا اتفق قول مع قول - أن يكون أحدهما مصدراً للآخر؟ وقد أثبت علماء الغرب والشرق من غير المسلمين بأن القرآن والسنة هما المصدر الأوّل للحضارة الإسلامية وعلومها وفلسفتها،

ص: 181

وكلنا يعلم أن علياً هو صنوالرسول وتلميذه ونجيِه، وشريك القرآن، بل هو القرآن الناطق، وما بين الدفتين القرآن الصامت.

والغريب أن هؤلاء المنكرون لا يستكثرون على ابن خلدون الكلام في علم الاجتماع قبل أن يعرفه روسو ومونتسکیو وأن يقولوا عن علومه ومعارفه : (إنها تدفق فجائي وحدس باطني، واختمار لا شعوري)، يستكثرون على باب مدينة العلم أن يصف الطاووس، وأن يقول : اللّه أيّن الأين فلا يقال له أين؟ وكيّف الكيف فلا يُقال له كيف؟ ولأن يصف الباري تعالي بصفات تليق بجلاله، وهوأعرف الناس به بعد الرسول.

هذا إلى أن الإمام (تتكلم عن أشياء لا يعرفها اليونان ولا غير اليونان).

تلك هي كلمة الحق والموضوعية ولكن المشككين يصمون آذانهم كي لا يسمعوها ويعصبون عيونهم كي لا يروا الحقيقة شمساً ساطعة.

ص: 182

10_ التقسيمات العددية

ومن تشکیکاهم في نسبة ما في ((نهج البلاغة)) إلى الإمام علي (عليه السّلام) ورود تقسیمات عددية فيه. يقول محمد محيي الدين عبد الحميد في مقدمته على النهج :

((وكذلك استعمال الطريقة العددية في شرح المسائل في تقسيم الفضائل أوالرذائل مثل قوله : ((الاستغفار على ستة معانٍ)) ((الإيمان على أربع دعائم، الصبر واليقين والعدل والجهاد، والصبر منها على أربع شعب)).

ويمثل ذلك قال أحمد أمين وغيره.

لا أدري أين كان الكُتَّابُ من أقوال العرب قبل الإسلام وأقوال الرسول محمد (صلّی اللّه عليه وآله وسلَّم) وأقوال الصحابة (رضوان اللّه عليهم)؟

يبدوأنهم لم يطلعوا على ذلك، وهذا نقص في الباحث عن الحقيقة فلا يحق له إعطاء الرأي - إذن -، أوأنهم يعرفون ذلك ولكنهم يريدون طمس الحقائق من خلال نفي وجودها، وهذا ليس من حقهم لأنه تراث يخص حضارة العرب منذ

ص: 183

أن دب عربي على الأرض. وقبل أن تكون المذاهب والتعصب المذهبي، فإن غيرهم قد (فتح) عينيه (جيداً)) ورأي شمس الحقيقة ساطعة ولكنها مغطاة بغربال فمزقوا هذا الغربال فظهرت الشمس ((على ال..)) وهوما نحن بصدده، إذ سنوقظهم من نومتهم بشمس الحقيقة ونجعلهم (يفركون) عیونهم من ظلام أناخ بكلكله عليهم فحرمهم ضوء الشمس ومتعة الضياء. ولكي يكون كلامنا لا ثاني له سنذكر ما جاء على لسان من تربي الإمام علي (عليه السّلام) في حجره وأخذ عنه علومه في مدرسة الإسلام الأولى وهوالرسول العظيم محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)، ولسان الصحابة والخلفاء الراشدين. وهو - بالتأكيد - قبل صدور ((نهج البلاغة) بقرون.

فإذا قال الإمام علي لقائل بحضرته : أستغفر اللّه : ثكلتك أمك ! أتدري ما الاستغفار؟ إن للاستغفار درجة العليين، وهو اسم واقع على ستة معانٍ : أولها الندم على ما مضى، والثاني العزم على ترك العودة إليه أبداً، والثالث أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى اللّه عز وجل أملس ليس عليك تبعة، والرابع أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها، والخامس أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى تلصق الجلد بالعظم، وينشأ بينهما لحم جديد، والسادس أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية ، فعند ذلك تقول : أستغفر اللّه.

أقول.. فإذا قال الإمام ذلك فإن رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) قال قبله :

ص: 184

((ستة أشياء حسنة ولكنها من ستة أحسن، العدل حسن وهو من الأمراء أحسن، والصبر حسن وهومن الفقراء أحسن، والورع حسن وهو من العلماء أحسن، والسخاء حسن وهو من الأغنياء أحسن، والتوبة حسنة وهي من الشباب أحسن، والحياء حسن وهو من النساء أحسن، وأمير لا عدل له كغمام لا غيث له، وفقير لا صبر له كمصباح لا ضوء له، وعالم لا ورع له کشجرة لا ثمر لها، وغني لا سخاء له كمكان لا نبت له، وشاب لا توبة له كنهر لا ماء فيه، وامرأة لا حياء لها كطعام لا ملح له)). وقال (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : ((معشر المسلمين إياكم والزنا فيه ستة خصال، ثلاثة في الدنيا وثلاثة في الآخرة، فأما التي في الدنيا فإنه يذهب البهاء، ويورث الفقر، وينقص العمر، وأما التي في الآخرة فإنه يوجب سخط الرب وسوء الحساب والخلود في النار)).

وقال (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) : ((أخلاء ابن آدم ثلاثة : واحد يتبعه إلى قبض روحه والثاني إلى قبره، والثالث إلى محشره، فالذي يتبعه إلى قبض روحه فماله، والذي يتبعه إلى قبره فأهله، والذي يتبعه إلى محشره فعمله)). وعن عبد الرحمن بن عوف قال : إنه دخل على أبي بكر الصديق في مرضه الذي توفي فيه فأصابه مهتماً فقال له عبد الرحمن : أصبحت والحمد لله بارئاً، فقال أبو بكر أتراه ؟

قال : نعم.

قال : إني وليت أمركم خيركم في نفسي فكلكم ورم أنفه من ذلك يريد أن يكون الأمر له دونه، ورأيتم الدنيا قد أقبلت ولما تقبل وهي مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير، ونضائد الديباج، وتألموا الاضطجاع على الصوف الآذري كما يؤلم

ص: 185

أحدكم أن ينام على حسك، واللّه لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد خير له من أن يخوض في غمرة الدنيا، وأنتم أول ضال بالناس غداً، فتصدونهم عن الطريق يميناً وشمالاً، یا هادي الطريق إنما هو الفجر أوالبحر.

فقلت له :

خفض عليك - رحمك اللّه - فإن هذا يهيضك في أمرك، إنما الناس في أمرك بين رجلين إما رجل رأى ما رأيت فهو معك، وإما رجل خالفك فهومشير عليك، وصاحبك كما تحب، ولا نعلمك أردت إلا خيراً، ولم تزل صالحاً مصلحاً، وأنك لا تأس على شيء من الدنيا.

قال أبو بكر :

((أجل إني لا آسي على شيء من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني تركتهن وثلاث تركتهن وددت أني فعلتهن، وثلاث وددت أني سألت رسول اللّه (صلّی اللّه عليه وآله وسلَّم) عنهن.

فأما الثلاث التي وددت أني تركتهن، فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا فد غلقوه على الحرب ووددت أني حرقت الفجاءة السلمي وأني قتلتاً سريحاً، أوخليته نجيحاً، وودت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين - يريد عمر وأبا عبيدة - فكان أحدهما أميراً وكنت وزيراً .

أما اللاتي تركتهن، فوددت أني يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيراً كنت ضربت عنقه، فإنه تمثل لي أنه لا يرى شراً إلا أعان عليه، ووددت أني حين سيرت خالد بن الوليد إلى أهل الردة كنت أقمت بذي القصة، فإن ظفر المسلمون ظفروا

ص: 186

وإن هزموا كنت بصدد لقاء أو مدد ووددت أني إذ وجهت خالداً إلى الشام كنت وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق، فكنت قد بسطت يدي كليهما في سبيل اللّه، ومدَّ يديه. ووددت أني سألت رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) لمن هذا الأمر؟ فلا ينازعه أحد، ووددت أني كنت سألته عن ميراث ابنة الأخ والعمة فإن في نفسي منهما شيء)).

وقال عمر بن الخطاب في حديث له :

((النساء ثلاث فهينة لينة، عفيفة مسلمة تعين أهلها على العيش ولا تعين العيش على أهلها، وأخرى وعاء للولد، وأخرى على قمل يضعه اللّه في عنق من يشاء ويكفه عمن يشاء.

والرجال ثلاثة، رجل ذو رأي وعقل، ورجل إذا حزَّ به أمر أتى ذا رأي فاستشاره، ورجل حائر بائر، لا يأتمر رشداً ولا تبع مرشداً)).

تلك بعض الأحاديث النبوية والأقوال التي وردت عن أبي بكر وعمر، وهي جزء يسير مما لو أردنا الإفاضة به، وهدفنا الإشارة فقط إلى أن هذا اللون من الكلام متجذر في عمق الحضارة العربية ولكن إزميل محمد محيي الدين وأحمد أمين وشفيع السيد ومحمود محمد شاكر وغيرهم، إما أن يكون قصيراً فلا (بنوش العمق) أومن معدن رخوفلا يستطيع التوغل في البحث أومثلَّماً لا يصلح لعمل بحث علمي منهجي كهذا. أقول هذا مضطراً لأن المطابع في لبنان - خاصة - تضخ يومياً مئات العنوانات من الكتب، وللكتب التراثية حصة كبيرة منها، ولكن

ص: 187

مع ذلك نری أمثال هؤلاء الکُتَّاب لم یشیروا إلی ما أشرنا، یبدوأنهم لا یریدون أن یطلعوا علی تلك المصادر لکي یقنعوا أنفسهم بأن ما قالوه من المسلَّمات..

أما نحن فقد أدینا مهمتنا فلیؤمن من یرید أن یؤمن ولیکفر من یرید أن یکفر.وإنَّا للّه وإنَّا إلیه راجعون.

ص: 188

11_ التنبؤات والتوقعات

ومن تشکیکاتهم في ((نهج البلاغة)) كونه احتوى على بعض الخطب والأحاديث التي تنبأ وتوقع الإمام منها وقوع أحداث مستقبلية فقالوا إنها منحولة..! ومن مدخول الكلام عليه.

قال محمد محيي الدين عبد الحميد في مقدمته على نهج البلاغة :

((إن فيه عبارات ما يشم منه ريح ادعاء صاحبه على الغيب، وهذا أمر يجل عن مثله مقام علي ومن كان على شاكلة علي ممن حضر عهد الرسول ورأى نور النبوة)).

أما عباس محمود العقاد هوالآخر يقول :

((إن التنبؤات التي جاءت في ((نهج البلاغة)) عن الحجاج وفتنة الزنج وغارات التتار وما إليها من مدخول الكلام عليه، مما أضاف النساخ إلى الكتاب بعد وقوع تلك الحوادث بزمن قصير أوطويل)).

لقد تحدثنا في الفقرة التاسعة (دقة الوصف) عن الخارقية التي كان الإمام

ص: 189

يتمتع بها في شيء من الإيجاز أوبمرور الكرام، وفي فقرتنا هذه نرى أن نتوقف عندها بشيء من التفصيل غير المتوسع فيه

إن الخارقية كعلم لم يثبت أقدامه بعد في وطننا العربي ولكنه في غير وطننا العربي دخل المختبرات وصاروا يجرون عليه التحليلات المختبرية في جوانبه كلها؛ كما في أمريكا والاتحاد السوفيتي (السابق) ولقد اهتمت تلكما الدولتان بهذا العلم وسمي (الباراسایکولوجي) أي ما وراء النفس، أوالإدراك الحسي العالي، أوالخارقية كما ثبّتنا في فقرتنا التاسعة وفقرتنا هذه.

في الواقع إن الخارقية موجودة في هذا الشعب أوذاك وفي أجناس مختلفة من العالم وفي عصور مختلفة هي الأخرى. ولكم قرأنا أو سمعنا أن شخصاً ما ظهر في هذا المكان أوذاك وصار يتحدث بأشياء مستقبلية ويطبب المرضى ويؤثر في الأشياء سلباً وإيجاباً بنظرة من عينيه، أويستكنه الأشياء المخفية فيُدِل عليها ويعطي أوصافها وكمياتها أومقاديرها. وإذا ما أردنا الخوض في هذا الموضوع فالأمثلة من الكثرة بحيث يمكن إفراد کتاب ضخم لها ولكننا سنضرب أمثلة قليلة ونمر بها سريعة لندخل بعد ذلك في موضوعنا (التنبؤات والتوقعات عند الإمام علي (عليه السّلام)).

في أحد الأيام دخل شاب ألماني إلى مدينة الألعاب عندهم (لونا بارك) وبعفوية محضة نظر إلى ساعته اليدوية وركز في نظره على أميالها فالتوت الأميال فتعجب من الأمر فرفع رأسه شاخصاً ببصره إلى العربات الكهربائية السلكية وهي تجري في الفضاء كأنها تسير على سكة قطار على الأرض وصار يديم النظر بتركيز

ص: 190

شديد فتوقفت العربات عن العمل وأصاب الناس الذعر فهرع مسؤولومدينة الألعاب وفيما هم في حيرة من أمرهم، أخبرهم الشاب الألماني أن توقفها كان بتأثير من عينيه، وهنا سرعان ما استدعي ذلك الشاب إلى مقر لجنة من العلماء ليستفيدوا من قدرته الخارقية تلك.

وثمة صبي اسمه (عليوف) كان طالباً في مدرسة متوسطة في مدينة (كييف) في الاتحاد السوفيتي (السابق)؛ كان هذا الصبي لا يرتاح لدرس الأدب وفي أحد الأيام - وهو على رحلة الدرس - صار یرکز نظره على المدرس المختص بدرس الأدب، حتى استطاع - من غير أن يدري بادئ الأمر - أن يربك المدرس فصار يتلعثم بكلامه أويذرع الغرفة جيئة وذهاباً بلا إرادةٍ منه. ولما شعر المدرس بالإحراج كلف أحد الطلاب بقراءة الدرس فصار (عليوف) يركز نظره على زميله فأربکه هوالآخر فعرف (عليوف) أن ذلك كان بتأثير عینیه فأخبر أهله بالأمر فصاروا يختبرونه إذ أخفوا روبلات عدة وسألوه عما أخفوا فأخبرهم ودلهم على مكانها.

وثمة عائلة تسكن قضاء الكوفة التابعة حالياً لمحافظة النجف تعمل في صيد السمك يستطيع أفراد هذه العائلة رؤية ما خلف الثياب بقدرة خارقية من أبصارهم.

وثمة عائلة أخرى في قضاء الهندية (طویریج) التابع لمحافظة كربلاء (حالياً) يستطيع أي واحد منها إيقاف السفن عن الحركة بمجرد النظر إليها بتركيز خاص.

وثمة فتاة وأبوها في لبنان يستطيع الأب تسريب حرارة المحموم من جسمه

ص: 191

بمجرد مسك يد المحموم فتتسرب الحرارة من جسمه إلى يد الرجل ومنها تنتشر في الفضاء. فيما تستطيع الفتاة أن تحرك الأشياء من غير أن تلمسها، كما تستطيع قراءة أي كتاب بالمقلوب.

وفي الستينيات من القرن العشرين ظهر صبي عراقي اسمه عادل شعلان يستطيع حل أي مسألة حسابية أو رياضية معقدة من غير أن يستعمل القلم أوأي جهاز إلكتروني. وكان في الصف الخامس الابتدائي. ومثله فتاة هندية.

وفي أوائل سبعينيات القرن العشرين ظهر صبي آخر في العراق اسمه ظافر إذا أظهره السيد كامل الدباغ في برنامجه التلفزيوني (العلم للجميع) كان يضرب أي رقم في أي رقم آخر مهما طال ويعطي النتائج بلا خطأ. حتى وصل حد الأرقام إلى ما لا توجد في أرقامنا فسماه مقدم البرنامج : (ظافريون).

وثمة طفلة في كوريا لأبوين مدرسين في كلية الهندسة تستطيع حل أعقد المسائل الهندسية التي عجز الطلاب من حلها وقد عرضت في تلفزيون العراق.

وفي العراق أشخاص كثيرون يتمتعون بكهرومغناطيسية في أجسامهم يستطيعون بوساطتها شفاء كثير من الأمراض.

كما أن بعض الأشخاص منهم لهم القدرة على التنبؤ بنتائج الانتخابات العامة، ويتوقعون أحداثاً مستقبلية أغلبها، إن لم يكن كلها، صادقاً وواقعاً.

وأخيراً، وليس آخراً، أن ثمة الطبيب الفرنسي الشهير صاحب التنبؤات المعروفة باسمه ((تنبؤات نوستر آداموس)) التي طبعتها الدار الوطنية لوزارة الثقافة والإعلام في العراق. تلك التنبؤات التي اهتم بها العالم أيما اهتمام وصُوِّرت

ص: 192

بالفيديو وعرضت على شاشات التلفزيون؛ وهي عبارة عن رباعيات فيها توقعات أحداث خلال عشرة قرون، قال شُرَّاحُها إنها تحققت وما زالت تنتظر التحقيق. تلك كانت إلمامة سريعة عن ذوي القدرات الخارقية ومن أراد التوسع يمكنه أن يجد ذلك من خلال معاینات شخصية في الحياة أو خلال تناثرها هنا وهناك في بطون الكتب التراثية والحديثة.

والآن نتساءل، أيهما أقرب إلى التصديق والقبول في امتلاك قدرة خارقية، الشاب الألماني أوعلیوف أوعادل شعلان أوظافر أو الطفلة الكورية أو الرجل اللبناني وابنته أو العائلة الكوفية (السَمَّاكة) أوالعائلة الطويرجاوية - نسبة إلى قضاء طویریج (الهندية) - أو نوستر آداموس أم الإمام علي بن أبي طالب ؟؟.

نحن لا نعرف عن أولئك الذين ذكرناهم الشيء الكثير في النسب والعراقة، ولكننا نعرف عن علي بن أبي طالب (عليه السّلام) إنه ربيب حجر النبوة، إذ تقول الروايات إنه (عليه السّلام) عندما ولد جاءه الرسول محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) ففتح الغشاوة فأخرج منها غلاماً حسناً فشاله بيده، وسماه علياً، وبصق في فيه وأصلح أمره ثم إنه ألقمه لسانه، فما زال يمصه حتى نام. وقد ذكرنا ذلك من قبل. وهكذا كان في اليوم الثاني.

إذن فعلي بن أبي طالب (عليه السّلام) ما كان شخصاً عادياً مقطوع الجذور عن العراقة العربية والنبع الإسلامي الصافي؛ فهو إمام البلغاء وسيد الفصحاء وهو باب مدينة العلم، وهو الذي ((سنَّ الفصاحة لقريش))، وهو الذي تعلم من ذي علم، وهو الذي ورث علمه من رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم). فهل

ص: 193

كثير عليه أن يتنبأ ويتوقع؟

إن العالم يقيم الدنيا ويقعدها إذا ما برز شخص في جانبٍ ما فيه شيء من الخارقية فتبدأ الصحافة والوسائل المسموعة والمرئية تتسابق في نشر الخبر وتنظيم اللقاءات معه، والشواهد كثيرة عبر تاريخنا المعاصر.

فما بالنا نحن العرب - وقد برز فينا شخص قلما برز مثله في التاريخ - وأعني به الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام) لا نفخر به أمام العالم باعتباره يشكل الجزء الأكثر إضاءة في حضارتنا العربية والإسلامية؟

وللأسف أقول إننا بدلاً من أن نزداد فخراً بشخصية علي بن أبي طالب (عليه السّلام) انبری بعض مثقفينا، لا للتقليل من شأنه (عليه السّلام) حسب، بل التوجيه السهام من خلال التشكيك بمعطياته الذهنية والإبداعية ناسين، أو متناسين أن التشكيك بتلك المعطيات إنما هو تشكيك بحضارتنا العربية والإسلامية لأن علي بن أبي طالب (عليه السّلام) يقف في رأس تلك الحضارة كأبرز مَعْلَم من معالمها التاريخية المضيئة.

لقد ((خُص علي بن أبي طالب بالمعرفة الإلهامية، مثلما خص بالتوقد العقلي، وقد تلقى علي (عليه السّلام) تلك المعرفة من النبي العظيم، الذي كان يلقمه العلم، ويشهده التجربة، فكانت روحه ترى ما لا تراه العين، وكان ذهنه الذي يتفتق عن المعارف والأفكار، يومض بالحدس، والتوقعات التي تدخل ضمن رؤى أكدتها الأحداث والوقائع)).

إن المغيبات في نهج البلاغة إنما هي ((نتيجة تعلم الإمام من ذي علم، فإن

ص: 194

اللّه تعالی أطلع نبيّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) على أمور غيبية فعلّمها النبي لوصيّه (عليه السّلام) ودعا له بأن يعيها صدره وتضطم عليها جوانحه، فأخبر أمير المؤمنين الناس ببعض ذلك حسب مقتضيات الأحوال، وأفضى إليهم ببعض ما سمع وما كذَب ولا كُذّب)).

قال الإمام موسى الكاظم (عليه السّلام) مجيباض يحيى بن عبد اللّه بن الحسن لما قال له : ((جعلت فداك إنهم يزعمون أنك تعلم الغيب ؟)) فقال (عليه السّلام) :

- سبحان اللّه ضع يدك على رأسي فواللّه ما بقيت شعرة فيه ولا في جسدي إلا قامت.

ثم قال (عليه السّلام) :

- ((لا واللّه ما هي إلا وراثة ورثتها عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلَّم)).

وقال الشيخ ميثم البحراني في شرحه ((نهج البلاغة)) في كيفية علم أمير المؤمنين (عليه السّلام) بعض المغيبات :

((لا يقال لا نسلّم إن ذلك علم ألهمه اللّه إياه، وأفاضه عليه، بل الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) أخبره بوقائع جزئية من ذلك، وحينئذ لا يبقى بينه وبين غيره فرق في هذا المعنى، فإن الواحد منا لوأخبره الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) بشيء من ذلك لكان له ان يحكي ما قاله الرسول وإن وقع الخبر به على مثل قوله، ويدل على ذلك قوله بعد وصف الأتراك وقد قال له بعض أصحابه في هذا المقام :

ص: 195

- لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب. فضحك وقال للرجل وكان كلبياً :

- يا أخا كلب ليس هذا بعلم غيب، إنما هو تعلم من ذي علم. وإنما علم الغيب علم الساعة وما عدده اللّه سبحانه بقوله :

{ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (لقمان (30) }.

من ذكر وأنثى وقبيح وجميل، وشقي وسعيد، ومن يكون للنار حطباً، أوفي الجنان للنبيين مرافقاً، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه إلا اللّه وما سوى ذلك فعلم علّمه اللّه نبيه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) فعلمنيه، ودعا بأن يعيه صدري وتضطم عليه جوانحي))

وهذا تصريح بأنه تعلم من رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) لأنا لا نقول : إنا لم ندع أنه (عليه السّلام) يعلم الغيب، بل المدعى أنه كان لنفسه القدسية استعداد أن تنتقش بالأمور الغيبية عن إفاضة جود اللّه تعالى، وفرق بين الغيب الذي لا يعلمه إلا اللّه وبين ما ادعيناه، فإن المراد بعلم الغيب هوالعلم الذي لا يكون مستفاداً عن سبب يفيده وذلك إنما يصدق في حق اللّه تعالى إذ كل علم الذي علم مداه فهو مستفاد من جوده إما بواسطة أوبغير واسطة فلا يكون علم غيب وإن كان إطلاعاً على أمر غيبي لا يتأهل للإطلاع عليه كل الناس، بل يختص بنفوس خُصّت بعناية إلهية كما قال تعالى :

ص: 196

{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (الجن (26) }.

فإذا عرفت ذلك ظهر أن كلامه (عليه السّلام) صادق مطابق لما أردناه فإنه نفى أن يكون ما قاله علم غيب لأنه مستفاد من جود اللّه تعالى، وقوله :

((وإنما هو تعلم من ذي علم)) إشارة إلى واسطة تعليم الرسول له وهوإعداد نفسه على طول النصيحة بتعليمه، وإشارة أن كيفية وأسباب التطوع والرياضة حتى استعد للانتقاش بالأمور الغيبية والإخبار عنها، وليس التعليم هو إيجاد العلم - وإن كان أمراً قد يلزم إيجاد العلم - فتبين إذن، أن تعليم رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) لم يكن مجرد توقيفه على الصور الجزئية بل إعداد نفسه بالقوانين الكلية، ولو كانت الأمور التي تلقاها عن الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) صوراً جزئية لم يحتج إلى مثل دعائه وفهمه لها فإن فهم الصور الجزئية أمر ممكن سهل في حق من له أدنى فهم، وإن ما يحتاج إلى الدعاء، وإعداد الأذهان له بأنواع الإعدادات هوالأمور الكلية العامة للجزئيات وكيفية انشعابها عنها وتفريعها وتفصيلها وأسباب تلك الأمور المتعددة لإدراكها، وما يؤيد ذلك قوله (عليه السّلام) : ((علّمني رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) ألف باب من العلم فانفتح لي من كل باب ألف باب)). وقول الرسول : ((أعطیت جوامع الكلم وأعطي علي جوامع العلم)). والمراد بالانفتاح ليس إلا التفريع وانشعاب القوانين الكلية عما هوأهم منها، وبجوامع العلم ليس إلا ضوابطه وقوانينه. وفي قوله (أُعطي) بالبناء للمفعول دلیل ظاهر على أن المعطي لعلي جوامع العلم ليس هوالنبي (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) بل الذي أعطاه ذلك هو الذي أعطى النبي (صلّى

ص: 197

اللّه عليه وآله وسلَّم) جوامع العلم وهو الحق سبحانه .

أما الأمور التي عددها اللّه سبحانه فهي من الأمور الغيبية، وقوله :

لا يعلمها أحد إلا اللّه كقوله تعالی :

{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (الأنعام/59) }.

وهو محتمل للتخصيص كما هو في قوله :

{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (الجن (26) }.

وهذا الأمر واضح لا يحتاج العاقل إلى استكشافة إلى كلفة).

يظهر ما نقلنا عن البحراني - وقد أطلنا فيه - إن معطيات الإمام علي (عليه السلّام) التنبؤية والتوقعية أو (الغيبية) مصدرها أمور ثلاثة هي :

1 _ التكوين الخلقي : أي تكون الخلايا الدماغية التي تتحسس ما هوفوق الإدراك الحسي الاعتيادي للإنسان كالحاسوب الذي بلغ من تطوره العملياتي ما تجاوز الأجيال التي سبقته في الصنعة شكلاً ومحتوى، أي في الحجم والخلايا، وهذا التكوين من اللّه جلت قدرته.

2 _ التعليم المستمر والدرية المتواصلة والرياضة النفسية وهذا من الرسول (صلّی اللّه عليه وآله وسلَّم).

3_ الاستعداد النفسي في التحمل والصبر، وهذا ما ألزم نفسه به (عليه السّلام) فهو منه.

ص: 198

إذن؛ إن الإمام علي (عليه السّلام) أراده اللّه أن يكون كذلك فأوصى إلى نبيه الكريم محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) أن يعدَّه الإعداد الذي أراده اللّه فلبّي الرسول أوامر ربه خاصة أنه وجد في الإمام (عليه السّلام) الاستعداد المدهش لهذا التكليف الإلهي.

((وقد كانت البصيرة المحمدية الملهمة، قد اعطت كلمات النبوءة التي فسّرت جميع ما مر به علي بن أبي طالب (عليه السّلام) من محن أوصراعات، وحروب مدمرِّة، داخل الوسط الإسلامي، ومن الذين خرجوا على علي بن أبي طالب رجل يقال له ((ذوالثدية)) كان - قبل ذلك - يتجاسر على رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)، وهويوزع غنائم معركة (حنين).

- اعدل یا محمد!

فيتجاهله الرسول، فيكرر بصلافة :

- اعدل یا محمد!

ثم يكرر :

- اعدل یا محمد فإنك لم تعدل!

فيجيبه الرسول غضباً :

- ويلك ! ومن يعدل إذا لم أعدل؟

أراد البعض قتله، ولكن الرسول أبي ذلك، ثم قال لهم :

((.. سيخرج من ضئضيء قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من

ص: 199

الرمية، ينظر أحدكم إلى نصله فلا يجد شيئاً، ثم ينظر إلى القذذ فكذلك سبق الفرث الدم.. يخرجون على حين غرة من الناس تحتقر صلاتكم في جنب صلاتهم، وصومكم عند صومهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، آيتهم رجل أسود محدج اليد، إحدى يديه كأنها ثدي امرأة، إنهم شر الخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة، وأقربه عند اللّه وسيلة ..)).

وحلَّ وقت آخر، وفي زمن آخر، توجه فيه علي (عليه السّلام) إلى الخوارج الذين قادوا أنفسهم إلى المذبحة والهزيمة.

كان علي متأكداً أن ((ذو الثدية)) من بين قتلى الخوارج، قائلاً لأصحابه :

((واللّه ماكَذَبتُ وما كُذِّبتُ - أُطلبوا الرجل - إنه في القوم!)).

وفتشوا الجثث واحدة واحدة، حتى عثروا عليه فصاح الناس :

- ذوالثدية!

خرَّ عليٌ ساجداً شاكراً وهو يقول :

- صدق اللّه ورسوله!

وهلل المسلمون.

- اللّه أكبر.. اللّه أكبر؟

وتؤاتيه المعرفة الإلهامية بتنبؤ مدهش حين جاؤوه يمروان بن الحكم، بعد انتصاره في حرب الجمل، وكان قد استشفع له الحسن والحسين (عليهما السلّام) طالبين له الغفران.

ص: 200

وانتهى الفتيان بعد قليل من استرحامه، واستنزال عفوه، على الباغي المقهور، ثم أردفا يقولان :

- يبايعك يا أمير المؤمنين .

وتأتي ومضة أخرى تميط الغطاء عن أحداث مأساوية قادمة فيا لها من ومضة تكشف عن مأساة كالحة!

كان في طريقه إلى الشام، فوقف عند بقعة؛ سيشتهر إسمها (كربلاء) وظل یرنوإليها بنظرةٍ واجمةٍ، ويهمس بصوت حزين :

((هاهنا، هاهنا!هاهنا موضع رحالهم! ومناخ ركابهم!! هاهنا مهراق دمائهم)).

فتأخذ الناس من حديثه رجفة، ويسألون في توجس وإشفاق :

((وماذا يا أمير المؤمنين ؟)).

ويتمهل بهم حتى إذا دارت عينه فرأت الحسين، توقف نظره، على محيّاه في رنوة حانية، ندية غائمة، هتف يجيب :

((ثقل لآل محمد ينزل هاهنا.. فویل لها منكم.. وويل لكم منها.. ويل لهم منكم : تقتلوهم.. وويل لكم منهم، يدخلكم اللّه بقتلهم إلى النار!)).

ويسير ناكس الرأس إلى مطيته .

ونظيف إلى ما أوردناه من تنبؤاته وتوقعاته (عليه السّلام) تلك الرؤيا الواقعية التي جعلته يرى وجه قاتله ((عبد الرحمن بن ملجم المرادي)).. يرى يده .. وهيأته

ص: 201

فيحدس حدس العارف بباطن الزمن الآتي، كان رسول اللّه يقول له :

- يا علي.. أتعلم من أشقى الأولين ؟

- نعم.. عاقر الناقة .

- أتعلم من أشقى الآخرين؟

- لا.. .

- من يضربك هاهنا (مشيراً إلى هامته)، ويخضب هذه (مشيراً إلى لحيته).

وهاهو الأشقى يأخذ حصته من العطاء، علىٌّ يتفحصه مردداً :

- من يحبس أشقاها؟

ما كان ابن ملجم يعلم ما ادّخره له القدر من دور خسیس، لكن علياً كان يتذكر كلمات الرسول، كان يتذکر نبوءة الدم، وفعلة الشقي، فكم قال لبعض خاصته المحبين الذين كانوا يشفقون عليه، حين الحرب من خوض الحشود، واقتحام السلاح، غير آبه شيئاً بما يصيبه أثناء القتال :

((إني لا أُقتل محارباً، وإنما أُقتل فتكاً وغيلة .. يقتلني رجل خامل الذكر)).

و((والتقت العيون المذعورة، واسعة الحملاق، حائرة النظرات، وتناثر في الجوحوله رشاش الهمسات في تساؤل واستفسار، لكن الإمام مال عنهم إلى الوافد المشبوه، فمنحه عطاءه الذي جاء له، ثم تمثل ببيت شعر لعله يغني عن التفسير :

أُريد حياته ويريد قتلي عذیرك من خليلك من مراد

هنا إنبثق من البيت المروي مثل شعاع أضاء في الخواطر ماقد غمض على

ص: 202

الناس في بدء ذلك اللقاء، من كلام الإمام، الآن رفع الغطاء! برح الخفاء وانجاب الستر عن السر المسربل بالغيب، فلا حاجة بهم إلى تعقب أمره، أوتبين ملامحه من خلال غموض الإيماء.. فطالب العطاء الذي أثار قلق القوم، وحرك فيهم الشعور بالخطر حميري من اليمن فيما يعلم نفر منهم غير قليلين، نسبة آل مراد، أهو حليف المراد..؟

- هلا تقتله يا أمير المؤمنين ؟

- فكيف أقتل قاتلي؟

ثم قال :

- إنه إن لم يقتلني، فكيف أقتل من لم يقتل؟

أي كيف يقام القصاص بغير جرم، والعقاب قبل الجريمة؟.

ومن تنبؤاته (عليه السّلام) لما قال :

((سلوني قبل أن تفقدوني، فواللّه لا تسألوني عن فئة تضل مئة وتهدي مئة إلا أنبأتكم بناعتها وسائقها).. قام إليه رجل فقال :

- أخبرني بما في رأسي ولحيتي من طاقة شعر .

فقال له (عليه السّلام) :

- واللّه لقد حدثني خليلي إن على كل طاقة شعر من رأسك ملكاً يلعنك وإن على كل طاقة شعر من لحيتك شيطاناً يغويك وإن في بيتك سخاتً يقتل ابن رسول اللّه (عليهما السلّام).

ص: 203

وكان ابنه قاتل الحسين (عليهما السلّام) طفلاً يحبو، وهو سنان بن أنس النخعي.

وروى الحسن بن محبوب عن ثابت الثمالي، عن سويد بن غفلة أن علياً (عليه السّلام) خطب ذات يوم، فقام رجل من تحت منبره فقال : يا أمير المؤمنين إني مررت بوادي القرن، فوجدت خالد بن عرفطة قد مات، فاستغفر له، فقال (عليه السّلام) :

- واللّه ما مات ولا يموت حتى يقود جيش ضلالة، صاحب لوائه حبيب بن حمار، فقام رجل آخر من تحت المنبر فقال :

- يا أمير المؤمنين، أنا حبيب بن حمار، وإني لك شيعة محب.

فقال :

- حبيب بن حمار؟

قال :

- نعم

قال له ثانية :

- اللّه إنك لحبيب بن حمار؟

فقال :

- إي واللّه .

فقال :

- أما واللّه إنك لحاملها ولتحملنها، ولتدخلن بها، من هذا الباب - وأشار

ص: 204

إلى باب الفيل بمسجد الكوفة.

قال ثابت :

((فواللّه ما مت حتى رأيت ابن زیاد، وقد بعث عمر بن سعد إلى الحسين بن علي (عليهما السلّام) وجعل خالد بن عرفطة على مقدمته وحبيب بن حمار صاحب رايته، فدخل بها من باب الفيل)).

ومن تنبؤاته (عليهما السلّام) : ما أخبر به أن أعشی همدان يقتل على يد الحجاج بن يوسف الثقفي فكان ما أخبر به.

تلك التنبؤات ما هي إلا غيض من فيض وبعض من كل سقناها لا لغرض إحصائي، بل للإشارة فقط لعل الذين يشككون بأقوال الإمام وخارقيته أن يمزقوا تلك الشرانق التي لفوا أنفسهم بها، كما شكك العقاد رحمه اللّه بما ورد عنه (عليه السّلام) عن الحجاج وفتنة الزنج وغارات التتار، فقال عنها: ((إنها من مدخول الكلام عليه)). ((هب إن الأخبار عن الحجاج وفتنة الزنج أضيفت إلى الكتاب بعد صدوره بزمن قصير أوطويل - لأنه لا يريد أن يتهم الرضي بالوضع - ولكن كيف تضاف إلى الكتاب الأخبار عن فتنة التتار، وكل حوادث التتار من حملات جنكيز خان إلى احتلال هولاکوبغداد كان مابين سنة (616) وسنة (656) وهذه نسخ ((نهج البلاغة) المخطوطة قبل هذا التاريخ.. وفيها نسخة المتحف العراقي المؤرخة سنة (556) هم أي قبل وقوع تلك الحوادث بمئة عام وفيها هذا الكلام الذي يشير فيه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) إلى تلك الفتن والمحن وهولا يختلف عما في النسخ المطبوعة، بل والمخطوطة أيضاً.

ص: 205

يقول ابن أبي الحديد في شرحه خطبة الإمام علي (عليه السّلام) التي أشار فيها إلى التتار ((واعلم أن هذا الغيب الذي أخبر (عليه السّلام) عنه قد رأيناه عياناً، ووقع في زماننا، وكان الناس ينتظرونه من أول الإسلام حتى ساقه القضاء والقدر إلى عصرنا، وهم التتار الذين خرجوا من أقاصي المشرق..)).

لا أدري هل يكفي ما نقلنا من شواهد وما ثبّتنا من عيِّنات أولئك المشككين في نسبة (نهج البلاغة) إلى الإمام علي (عليه السّلام)، إذا كانوا موضوعيين فإنه يكفي وإلا فهم في ضلال مبين، لا يفرقون بين الليل والنهار ولا بين الظلمة والضياء، ولا بين الحق والباطل.

فلوكان علي بن أبي طالب (عليهما السلّا)م (نوسترا داموس) لطبَّلوا له وزمَّروا ولشرحوا رباعياته وعملوا لها أفلاماً عرضوها على الشاشة الصغيرة، ولقالوا فيه ما قالوا بالشواهد والأدلة على صدق تنبؤاته. ولكن علي بن أبي طالب المسلم الأوّل وأصلب المجاهدين في سبيل الإسلام وابن عم الرسول (صلّی اللّه عليه وسلَّم) وزوج ابنته ووصيه وباب مدينة علمه، أقول.. ولكن علي بن أبي طالب (عليهما السلّام) أذهلهم بمعطياته الذهنية فراحوا في ضلالهم يعمهون ويقولون ما لا يفقهون ويلقون الكلم على عواهنه دون الرجوع إلى الأسانید والثوابت التاريخية التي لا تقبل الرد والطعن.

ص: 206

12_ الزهد

ومما أخذوه على (النهج)) ما فيه من الحث على الزهد، وذكر الموت، وقرض أوذم الدنيا على منهاج المسيح (عليه السّلام).

فالحياة الدنيا انعكاسات سلوكية الإنسان عبر نشاطاته وفعالياته ومعطياته المتعددة الجوانب، والإنسان نفسه - منذ أن هبط على هذه الأرض - كان أسير مفاصل الحياة؛ فكل مفصل يشده إليه، بهذا القدر أو ذاك، منذ أن كانت تلك المفاصل بسيطة لا تتعدى الغابة ومتطلباتها حتى تعقدت فشملت المدينة وتمخضاتها المتسارعة والمتشابكة بوتائر مرة تتساوق مع فهم الإنسان واستيعابه إياها وحيناً تسبقه في ذلك فيظل يلهث راكضاً خلف تلك التمخضات فيسقط في هذه الحفرة أوتلك ويصطدم بهذا الجدار أوذاك وتأخذه الأمواج متلاطمة بين اصطفاق تلاطمها فلا ينجو منها إلا من كان يجيد السباحة فيرسو على البر متأملاً ذلك التلاطم في الأمواج تأمل من يريد أن يرسم له طريقاً يجعل الحياة معبراً إلى مستقر آخر يبعده عن تلك الحفر والجدران وذلك التلاطم في الأمواج.

وكان علي بن أبي طالب (عليه السّلام) هو ذلك السابح الماهر الذي استطاع

ص: 207

أن يتبين طريقه فيتجنب السقوط في حفر الحياة الدنيا والاصطدام بجدرانها والانجراف بأمواجها المتلاطمة، حتى إذا تمكن من ذلك تمكن الواثق من نفسه المعتمد على قدراته الإرادية المتفردة صار يراقب أولئك المتساقطين في حفر الحياة والمصطدمين بجدرانها والمنجرفين بتيارات أمواجها، وعندما اكتملت الصورة لديه راح يخضعها لفحوصات مختبرية عديدة من حيث المنظور والتساقط اللوبي والأبعاد وغير ذلك من مقومات الصورة فخلص من تحليلاته المختبرية تلك إلى : أن الإنسان - لكي يكون في مأمن من حفر الحياة وجدرانها وأمواجها المتلاطمة - يعتمد في انعكاساته السلوكية ثالوثاً لا بد منه، شاء أو أبي، هو: (الزهد.. ذکر الموت.. ذم الحياة).

والزهد في نظر الإمام علي (عليه السّلام) له مفهوم خاص قد تفرد به بعد الرسول محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) إذ بدأ بمحاسبة نفسه محاسبة شديدة ونادرة تفوق تصور العقل الإنساني؛ فقد تحدى الإمام مغريات الحياة وزخرفها البراق الخدَّاع بخط مستقيم وثابت واعتمد في ذلك قانوناً صارماً سنّه لنفسه فسار بمقتضاه طوال حياته العاصفة، والقانون هو :

(من نصب نفسه للناس إماماً، فليبدأ بتعليم نفسه، قبل تعليم غيره).

وكان الرسول العظيم (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) أسوته الحسنة في ذلك إذ روى عنه قائلاً :

((لقد كان (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) يأكل على الأرض ويجلس جلسة العبد، ويخصف بیده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري، ويردف

ص: 208

خلفه، ويكون الستر على باب بيته، فتكون فيه التصاوير فيقول :

یا فلانة، لإحدى زوجاته، غيبيه عني فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها، فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها من نفسه، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه لكي لا يتخذ منها رياشاً، ولا يعتقدها قراراً، ولا يرجو منها مقاماً)).

وفي التطبيق العملي نراه (عليه السّلام)، بعد أن هاجر إلى المدينة مع من هاجروا إشتغل في مزرعة لأحد اليهود، ((وبلغت ثروته ذات يوم أربعة دراهم فكره من أجلها نفسه، وسعى سعيه بالليل والنهار حتى أنفقها على ذوي حاجات فنزلت فيه الآية الكريمة :

{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة/276) }.

وخاطب بعض معارضيه بقوله (عليه السّلام) :

[اما تنقمون مني؟ إن هذا من غزل أهلي (وأشار إلى قميصه)].

وراه عدي بن حاتم وبين يديه شنة فيها قراح ماء وكسرات من خبز شعير وملح، فقال :

- إني لا أرى لك يا أمير المؤمنين لتظل نهارك طاوياً مجاهداً وبالليل ساهراً مكابداً، ثم يكون هذا فطورك؟

فقال الإمام (عليه السّلام) :

ص: 209

علل النفس بالقنوع وإلّا طلبت منك فوق ما يكفيها ورد على الذين كانوا يرون في قوته (عليه السّلام) ما يضعف صحته، فيقعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان، فقال (عليه السّلام):

((كأني بقائلكم يقول : إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب، فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران، ومنازلة الشجعان، ألا إن الشجرة البرية أصلب عوداً، والروائع الخضر أرق جلوداً، والنباتات البدوية أقوى وقوداً وأبطأ خموداً، وأنا من رسول اللّه كالصنومن الصنووالذراع من العضد، واللّه لوتظاهرت الدنيا، على قتالي لما وليت عنها)).

إن زهد علي بن أبي طالب (عليه السّلام) لم يكن لنزوة طارئة ولا لحاجة مرحلية، بل هويستند على قانون ثابت مستقيم كما بيّنا. إذ وضع نصب عينيه مقولة الرسول العظيم محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) منهجا له في تعامله مع قوانين الحياة .

إذ يقول عمار بن یاسر :

- سمعت رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) يقول لعلي بن أبي طالب : یا علي، إن اللّه عز وجل قد زيّنك بزينة لم يتزين العباد بزينة أحب إليه منها : الزهد في الدنيا، فجعلك لا تنال من الدنيا شيئاً، ولا تنال الدنيا منك شيئاً، ووهب لك حب المساكين ورضوا بك إماماً ورضيت بهم أتباعاً، فطوبى لمن أحبك وصدق فيك، وويل لمن أبغضك وكذب عليك.

إذن، فزهد الإمام علي ما كان إلا بأمر من اللّه على لسان رسول اللّه (صلّى

ص: 210

اللّه عليه وآله وسلَّم) فما عليه إلا التنفيذ ليكون موضع ثقة اللّه ورسوله .

فالإمام في زهده ما كان هدفه أن يرسم منهجاً للناس في انعكاسات سلوكهم على بعضهم، بل كان ينفذ أمراً صدر إليه من صاحب القرار الأوّل على لسان رسوله وخازن وحيه محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم).

ونحن نستدل على هذا من كتبه ورسائله إلى عمّاله ونصحه أصحابه الخلّص. من ذلك كلامه مع عاصم بن زياد الحارثي حين سمع عنه إنه لبس العباءة وتخلى عن الدنيا، فدعاه (عليه السّلام)، فلما رأى ما هو عليه قال :

- يا عُدَيّ نفسه لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك؟ أترى اللّه أحلَّ لك الطيبات وهل يكره أن تنالها؟ أنت أهون على اللّه من ذلك.

قال :

- يا أمير المؤمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشومة مأكلك؟

قال :

- ويحك إن اللّه فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعف الناس كي لا يتبيغ بالفقير فقره.

ومنه عهده لمحمد بن أبي بكر الذي جاء فيه :

((إن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، سکنوا الدنيا بأفضل ما سكنت وأكلوها بأفضل ما أكلت فحظوا من الدنيا بما حظي به المترفون، وأخذوا منها ما

ص: 211

أخذ الجبابرة المتكبرون، ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلغ والمتجر الرابح)).

ومنه رسالته لعثمان بن ضيف واليه على البصرة جاء فيها :

ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا المعسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أواليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى؟ أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الزهد، أوأكون أسوة لهم في جشوبة العيش).

أما ذكر الموت في منهج الإمام علي (عليه السّلام) - الذي ورد في ((النهج)) فأخذه المشككون حجة بعدم نسبته إليه - فهو مستمد من القرآن الكريم، الذي عاش الإمام (عليه السّلام) تفاصيله من بدايات الدعوة الإسلامية حتى وفاة الرسول الكريم (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) وانقطاع الوحي؛ فقد جاء في الذكر الحكيم قوله تعالی :

{ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ( النساء/78) }.

وقوله - جل من قائل -:

{کُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (آل

ص: 212

عمران (185) }.

وقوله عز وجل :

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (الماندة/7)}.

وقوله جل شأنه :

{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (ق/19)}.

وقوله جلت قدرته :

{کُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (الرحمن27) }.

وقوله عز من قائل :

{ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (القصص/88) }.. الخ. {کُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (آل عمران (185) } {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ

ص: 213

{ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ(المائدة/.) } {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (ق/19) } {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (الرحمن (29) }.{َلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (القصص/88) }. الخ.

وهذا من الأمور البدهية لأن الإمام منذ نعومة أظفاره تربى في حجر النبوة ورضع من لبان الإيمان وبنى نهجه على وفق ما رأى وسمع وتلقى من تفاصيل الدعوة الإسلامية، بما فيها الوحي والسلوك اليومي للرسول الكريم (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) وما جرى في تضاعيف تلك الدعوة من صراعات قبلية ومذهبية وانشقاقية (ردَّات) وحروب، وغيرها فكونت الأساسات الإرتكازية لبناء الإمام الفكري والعقائدي الشامخ؛ فشخصٌ تلك ارتكازاته لا بد له أن يجعل منها منهجه في الحياة تفكيراً وتطبيقاً، وهكذا إن ما ورد في (نهج البلاغة) إن هو إلا خلاصة ما نشأ وتربى عليه الإمام (عليه السّلام) فهو إذن - منتسب إليه (عليه السّلام) بقضّهِ وقضيضه من ألفه إلى يائه بما فيه الزهد والموت وذم الدنيا.

ومبدأ ذكر الموت قائم بالأساس - ليس على التشاؤم واليأس والهزيمة من متطلبات الحياة - على أنه يذكر الإنسان بأن ((يعيش شجاعاً لا يرهب سلطاناً، ولا يجبن في نزال، ولا يكف عن القتال، كريماً لا يحرص على مال، عادلاً لا يظلم، بريئاً من الحرص والطمع، سالماً من الخبث والجشع، صابراً في البأساء

ص: 214

والضراء، شاكراً عند الشدة والرخاء، لا تزعزعه الشدائد ولا تثني عزمه الأوابد، عزيزاً لا يخزى ولا يذل، عاملاً بجد لا يكل ولا يمل، لا تريبه ريبة، ولا يجزع المصيبة، لا تفسده الشهوات، ولا تقوده اللذات، ولا تضعضعه البليات، لا يؤخر عملاً إلى غد مخافة أن يدركه الأجل فيفوته أجر العمل.

وهذا هو السبب في عز المسلمين في الغابر، وذلهم في الحاضر، فإنهم كانوا يذكرون الموت في جميع أوقاتهم، حتى أن أصحاب رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) كانوا لا يتركون الوضوء مخافة أن تدركهم ساعة وهم محدثون، فلما أيقنوا أنهم صائرون إلى الموت لا محالة وكانوا ذاکرین له في جميع حالاتهم هانت عليهم نفوسهم فأرخصوها في سبيل اللّه، وجدوا في العمل فأدركوا غاية الأمل، ومن هانت عليه نفسه عز وأبي الذل، وكان ذلك شعارهم في جهادهم، وغزواتهم وأرجازهم وحروبهم.

هذا العباس بن علي (عليهما السلّام) في رجزه عند جهاده من هم أكثر منه عدداً وعدة :

لا أرهب الموت إذا الموت زقا*** حتى أداري في المصاليت لقى

إني أنا العباس أغدوا بالسقا*** ولا أخاف الشر عند الملتقى

وقد اقتدي بذلك بأخيه الحسين (عليهما السلّام) إذ يقول في رجزه :

الموت خيرٌ من ركوب العار*** والعارُ أولى من دخول النار

وقد جرى شعراء المسلمين وأدباؤهم، في صدر الإسلام، في هذا المجرى

ص: 215

فقال قائلهم :

وإذا لم يكن من الموت بدٌ*** فمن العار أن تموت جباناً

وما أحسن قول المتنبي حين قال :

إذا غامرت في أمرٍمرومِ*** فلا تقنع بما دون النجومِ

فطعم الموتِ في أمرٍ حقيرٍ*** كطعم الموت في أمرٍ عظيمِ

وكانوا يعدّون نسيان الموت ضلالّاً، وذكره هدىً وكمالاً؟ فقال شاعرهم :

صاحِ شمّر ولا تزل ذاکرال*** موت فنسيانه ضلالٌ مبينٌ

بذلك حسنت حالهم، وصلحت أعمالهم، وأدركوا ما أملوا، وعز سلطانهم، وقويت شكيمتهم، وسخّروا البلاد، وخضعت لهم جبابرة العباد، ولما حلت الدنيا بأعينهم، وتناسوا ذكر الموت أسرعوا إلى اللذات وانقادوا إلى الشهوات، وهابوا الموت ففزعوا لكل صيحةٍ وصوت، وتداعت أركانهم، وتزعزع سلطانهم، فهلكوا وضلوا، وخابوا وذلوا، فذكر الموت حياة فيه رضى الرحمن، ونسيانه ممات فيه مرضاة للشيطان.

أما ذم الدنيا، الذي ورد في ((النهج)) فاتخذه المشككون قميص عثمان بعدم نسبة ما في ((النهج)) إلى الإمام علي (عليهما السلّام)، فهومردود أيضاً لأن الإمام (عليهما السلّا)م لم يرد بذم الدنيا بمعنى أن نعيش في كهوف حجرية ونغل أيدينا إلى أعناقنا وندير ظهورنا عما فيها مما خلقه اللّه للإنسان رحمة ونعمة، فهو الذي دعانا إلى أن نأكل ((من طيبات الدنيا)) وننعم بخيراتها من ماءٍ وشجر وطير وحيوان فالمال والبنون) هما ((زينة الحياة الدنيا)) فمن ترك ما خلق اللّه في الدنيا لخدمته

ص: 216

فهو ظالم نفسه في ترکه ما وهبه اللّه إياه، فيبوء بخسران مبين.

وتأسيساً على ذلك إن الإمام علي (عليه السّلام) لم يذم ما حلل اللّه في الدنيا، بل ذم ما حرّم، وما حرم ينسينا ذكر اللّه ونعمه علينا ويلهينا عما أوجبه علينا من إعداد أنفسنا لحياة الآخرة الدائمة.

فالدنيا في ((نهج البلاغة) على ضربين :

دنيا تطلب لذاتها مع الغفلة عما وراءها وهي المذمومة والتي ذكرها الإمام علي (عليه السّلام) بالذم.

ودنيا تطلب لما بعدها وتؤخذ من حلّها، وتنال من الوجه الذي أذن اللّه به وهي المحمودة - وقد أشار الإمام (عليه السّلام) إليها أيضاً - لأن ((الدنيا خلقت الغيرها ولم تُخلق لنفسها)). وهي (دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غني لمن يزود منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها، مسجد أحبَّاء اللّه ومصلى ملائكة اللّه، ومهبط وحي اللّه، ومتجر أولياء اللّه، اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنة).

فصفوة القول : إن أمير المؤمنين (عليه السّلام) یری ((أن ما أحل اللّه في الدنيا أكثر مما حرّم منها، وبمقدور الإنسان أن يتمتع بزينتها المحللة ويتناول من طيبات رزقها مع الحذر من اتباع الهوى، وطول الأمل)).

{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ

ص: 217

يَعْلَمُونَ (الأعراف/32) }.

وإذا استعصى على الإنسان أن يتوصل إلى ذلك إلا بما حرّم اللّه، (فطوبى للزاهدين في الدنيا) (أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطاً وترابها فرشاً، وماءها طيباً). و(وكلٌ مقتصر عليه كافا). و((وما خير بعده النار بخير، وما شر بشر بعده الجنة، وكل نعیم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية)).

ولهذا قال (عليه السّلام) ((واللّه لئن أبيت على حسك السعدان مسهداً وأجد في الأغلال مصفداً، أحبُّ إليَّ من أن ألقى اللّه ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام)).

تخلص من ذلك كله إلى أن (الزهد وذكر الموت وذم الدنيا)) في ((نهج البلاغة) إن هو إلا منهج اختطه الإمام علي (عليه السّلام) لنفسه لأنه وعى حقيقة الإسلام أكثر من غيره منذراً نفسه لمعطياته التربوية، فهوامتثال لأوامر اللّه بنفس راضية مرضية ولم يرد من ذلك هجر ما وهبه اللّه للإنسان والسكن في الكهوف والغابات بدليل أنه (عليه السّلام) تزوج وأولد أولاداً وأكل وشرب مما رزقه اللّه بالطيب الحلال، ولكنه في ذلك كله ما كان ينسى اللّه وفضله على العالمين فتجنب الباطل وتمسك بالحق في سلوكه اليومي فوصلتنا انعكاساته السلوكية من ناحية المعطى الفكري من خلال ((النهج)) فهو له ومنه و إليه يعود بالنسب الصحيح والقول الصريح.

ص: 218

13_ وصف الحياة الاجتماعية

ومما تعكزوا عليه من تشكيك في نسبة ((النهج)) إلى الإمام علي (عليه السّلام)، قول أحدهم : ((إن فيه وصف الحياة الاجتماعية على نحو لم يُعرف إلا في عصور متأخرة..)) لأنه رأى أن ما ورد فيه (يشكل طعناً شديداً على الوزراء والحكام والولاة والقضاة والعلماء في السلوك والأخلاق، وفي الذمم والضمائر ووصفا للقضاة بالجهل وعدم المعرفة بأحكام الشريعة)).

نفهم من كلام ((أحدهم)) هذا أن الإمام علي (عليه السّلام) تناول في ((النهج)) :

1 _ الولاة

2 _ القضاة

3_ العلماء

بما ((لم يُعرف إلا في عصور متأخرة)).

في الواقع إني ما كنت راغباً في خوض هذا الموضوع، ولما ألَّخ عليَّ المنهج

ص: 219

قررت أن أمرَّ به مروراً سريعاً لا لأنني أفتقر لأدوات الرد إنما لأن الموضوع، من أساسه عنكبوتي النسج في مقدماته ونتائجه، ولكن - وبعد إطراقة من التفكير والتأمل - وجدت أن الواجب يدعوني أن أفصّل فيه بعض التفصيل فأغوص في أعماق بحره لأُرِيَ الذين شدوا عيونهم بخرق سود لئلا يروا الشمس ساطعة فأنكروا عليها سطوعها.

أقول.. لأُرِيَهُم أن في بحر علي بن أبي طالب لمرجاناً كثيراً وياقوتاً مختلفةٌ ألوانه.

لا شك أن أي متتبع - موضوعياً كان أوغير موضوعي - يعرف أن التاريخ الإسلامي - منذ بدء الدعوة المحمدية حتى نهاية الحكم الراشدي - كان يتميز بعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والمالي وغيرها من مرتكزات أي نظام، وذلك أمر طبيعي لأن ما جاء به الرسول محمد بن عبد اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) بوحي من اللّه، لم يكن بالأمر الهيِّن ولا هومن طراز التغييرات الشكلية في البني الفوقية، أوالهيكلية المعروفة في ذلك العهد، أو غيره، مما قبله وبعده، بل كان يهدف إلى تغيير جذري وشامل في البناء الفوقي، ليس في الجزيرة العربية حسب، بل في العالم كله.

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (الأنبياء/107) } والعلاقات التحتية مع قمة ذلك الهرم المبني على علائق اجتماعية غاية في التخلف السياسي والاقتصادي والفكري، هو قائم على مرتكزين أساسيين هما : ((السيد والمسود)) أو((المالك والمملوك)).

ص: 220

وأي خروج على ذينك المرتكزين كان يُعد خروجاً على قيم هي موضع اعتزازهم الشديد، بل هي مما لا يمكن السكوت على أي تغيير يحصل في بنائه الهرمي ذاك، لأنها كانت متجذرة في عمق التاريخ العربي، ولكن جاءت الدعوة الإسلامية فخضخضت ذلك البناء فوجدته ((نمراً من ورق)) فوضعت على مرتكزاته معول الحق فانهار انهياراً عجيباً، وعبثاً كانت محاولاته في لعق جراحاته لأن معول الإسلام كان يحفر في العمق من ذلك الجذر ليقتلعه من أساسه، وهكذا بدأ الإسلام يؤسس مرتكزات جديدة لبناء قيم جديدة عليها بما لم تألفه الجزيرة العربية؛ إذ جعل العبد بإزاء سيده، بل فضّله أحياناً عليه :

((لا فضل القرشي على حبشي إلا بالتقوى)).

((كلكم لآدم وآدم من تراب)).

((كلكم سواسية كأسنان المشط)).

((كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته))

((المسلمون إخوة))

{یَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(الحجرات/3) }.

وتلك القيم الجديدة لا شك أنها ليست جديدة عليهم في التلقي ووجوب التنفيذ حسب، بل هي مما شكلت صفعة قوية لذلك الموروث المتجذر في أعماق

ص: 221

النفس العربية :

{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ }.

ودليلنا أن أول من آمن بالدعوة الإسلامية، في ساعاتها وأيامها الأُوّل هم أولئك العبيد الذين ارتبط مصيرهم بأراضي أسيادهم كالحيوان والشجر بل الحيوان والشجر أفضل منهم لأنهما كانا يجدان من يخدمهما ولكن العبيد قد ((خُلقوا للخدمة ..! )) فقط فلا أحد يقيم وزناً لآدميتهم وتركيبهم الإنساني من مشاعر وعواطف وأحاسيس، حتى كانت الشرارة الأولى لثورة الحق فزحفوا نحوها وحملوا مشاعلها في طريق وعر لاحب.

أما السادة - ما خلا النفر القليل منهم - فقد دخلوا الإسلام مضطرين غير مؤمنين ليحافظوا على مياه وجوههم ومراكزهم الاجتماعية إزاء هذا الزحف النوراني الكبير.

ولكن هل يبقى أولئك السادة مستسلمين لهذا التغيير الجذري الشامل؟

إن التاريخ ليذكر - منذ بدء التدوين - إن لكل ثورة سقوطاتها على الطريق، وثمة عبارة تقول : (الثورة تأكل أبناءها)) وهذا أمر طبيعي جداً، خاصة في ثورة مثل الثورة الإسلامية الانقلابية ذات القيم الشمولية الجذرية، وقد ألمحنا إلى ذلك في فقرة سابقة إذ ما إن استقرت الأوضاع لصالح الإسلام - كعقيدة - في الجزيرة العربية في الأقل حتى بدأ التململ يشكل ظاهرة، في صفوف (عِليَّة) القوم فكانت الآيات القرآنية تنزل تباعاً ناصحة حيناً ومرشدة أحياناً ومحذرة مرة ومتوعدة تارةً وناعتة إياهم ب(المنافقين) و(الماكرين))، و((المجرمين)) كما

ص: 222

نعتهم بالكذب والزور والبهتان والرياء والخديعة، وما إلى ذلك من صفات أولئك الذين دخلوا في دين اللّه ل(تطمين) مصالحهم مضطرين حيال هذا الزحف الذي أفقدهم صوابهم.

وبعد صحوتهم تلك صاروا يخططون للالتفاف على (الثورة) فأبدوا تقرباً عجيباً من قيادتها الأساسية ((محمد بن عبد اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم))) ثم من القادة الذين أعقبوا الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) فتغلغلوا في المناصب المختلفة، السياسية منها والإدارية والفقهية والقضائية والعسكرية، وبذلك استطاعوا أن يبسطوا نفوذهم على الهيكل الهرمي لدولة الإسلام - خاصة بعد رحيل الرسول الكريم (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) إلى اللطيف الخبير - ليس بالنمطية العربية قبل الإسلام، بل بنمطية جديدة تتفق والواقع الجديد، بازدواجية غير منظورة إلا لمن يمتلك إدراكاً حسياً عالياً ومجسّات غاية في التحسس مثل الإمام علي (عليه السّلام)؛ فهم أما أن يكونوا تجاراً أوأرباب مهن فهؤلاء صاروا - باسم الإسلام - يوسعون قاعدتهم على حساب القيم الجديدة وباسمها.

فماذا ننتظر من الإمام علي (عليه السّلام)، وهو الذي يمتلك ((أُذناً واعية)) ورضع لبان العلم من رضاب رسول الرحمة وقائد التغيير الجذري الشامل؟

هل يدع أولئك على ((كيفهم)) يحفرون لهم أسساً جديدة ويضعون فيها مرتكزات جديدة مخالفة - في تخطيطها وهندستها - ما جاء به الإسلام؟ أم يتصدى لهم لتبصيرهم أولاً ولتحذيرهم ثانياً ولتعريفهم للرعية ثالثاً ؟

ص: 223

ذلك ما فعله منذ أول بادرة ظهرت للانحراف عن مبادئ الإسلام فقال عن أولئك (المتاجرين)) بالإسلام : ((المقيم منهم والمضطرب بجماله والمترفق ببدنه، فإنهم مطرد المنافع، وأسباب المرافق، وجلّا بها من المباعد والمطارح، في برِّك وبحرك، وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترؤون عليها، فإنهم سلم لا تُخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته، وتفقد أمورهم بحضرتك، وفي حواشي بلادك..)). وأردف قائلاً : ((واعلم - مع ذلك - أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً، وشحاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكماً في البياعات، وذلك باب مضرّة للعامة، وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار، فإن رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) منع منه. وليكن البيع بيعاً سمحاً، بموازین عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين، من البائع والمبتاع، فمن قارف حكرة بعد فيك إياه فنكّل به، وعاقبه في غير إسراف)).

ليس بتلك الإشارة التبصيرية وحدها أشار الإمام (عليه السّلام) إلى عامله على مصر، بل ترصد تحركا آخر هوإبقاء الأرض يباباً بلا عمران لتظل أمور أولئك ((التجار)) ((ماشية)) في التفافهم على مبادئ القيم الجديدة مما جعل الإمام ينبّه عامله مالك الأشتر على مصر بقوله : ((وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء أوقلة انتفاعهم بالعير.. وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، إلا بهم، لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله، وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن

ص: 224

ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً، فإن يشكوثقلاً أوعلة أو انقطاع شرب أوبالّة (أي مطر يبل الأرض)، أو إحالة أرض اغتمرها غرق أوأجحف بها عطش خففت عنهم بما ترجوأن يصلح به أمرهم، ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك، وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك باستفاضة العدل فيهم، معتمداً فضل قولهم؛

بما ذخرت عندهم من إجماعك لهم والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم .. فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد، احتملوه طيبة أنفسهم به، فإن العمران محتمل بما حملته)).

ولأنه (عليه السّلام) يعلم بنواياهم ومقاصدهم ونوازعهم وركضهم الحثيث وراء منافعهم الذاتية . نراه في اليوم الثاني من بيعته خطب قائلاً :

((أيها الناس إنما أنا رجل منکم، لي ما لكم.. وعليَّ ما عليكم.. وإني حاملكم على منهج نبيكم، ومنفذ فيكم ما أُمرت به، إنَّ في العدل سعة، ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق، أيها الناس.. ألا لا يقولن رجال منكم - غداً - قد غمرتهم الدنيا فامتلكوا العقار، وفجروا الأنهار، وركبوا الخيل، واتخذوا الوصائف المرفقة - إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه وأصرتهم أي حقوقهم التي يعلمون : ((حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا).. ألا وأيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول اللّه يرى أن الفضل له على سواه بصحبته فإن الفضل غداً عند اللّه وثوابه وأجره على اللّه .. ألا وأيما رجل استجاب اللّه ولرسوله

ص: 225

فصدق ملتنا ودخل دینا واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده ، فأنتم عباد اللّه، والمال مال اللّه، يقسم بینکم بالسوية، ولا فضل فيه لأحد على أحد. وللمتقين عند اللّه أحسن الجزاء، فإذا كان الغد فاغدوا علينا إن شاء اللّه، ولا يتخلفن أحد منكم.. من أهل العطاء).

فهل يرضي ذلك أولئك الذين لم يعتنقوا الإسلام إلا بعد أن رأوا فيه واقعاً لا محيص عنه فرفعوا راية الاستسلام بدل راية الإسلام، ولكنهم ظلوا يتحينون الفرص لاستعادة (مجدهم)، ولما تولى الإمام علي (عليه السّلام)، الأمر وصار يحكم بمبادئ القرآن وسنة محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) توجهوا إليه بطريقة التفافية أن يخفف عنهم في سياسته، أجابهم (عليه السّلام):

((أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور في من وليت عليه؟

واللّه ما أطور به ما سمر سمير وما أمَّ نجمٌ في السماء نجماً..! لوكان المال لي لسويت بينكم، فكيف وإنما المال مال اللّه ؟

ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف، وهويرفع صاحبه أويضعه في الآخرة)).

وهذه السياسة إن وافقت بعض المسلمين المؤمنين حقاً بمبادئ الإسلام فإنها لا توافق أولئك الذين أعمت الدنيا بصائرهم فأنستهم نقاء المبادئ وصفاء العقيدة وبهاء القيم النبيلة التي جاء بها الإسلام، الذي ساوى بين العبد وسيده وجعل التقوى مقياساً يعرفُ به المسلم المؤمن من المنافق، وأبرز ما في المساواة الصلاة والزكاة والحج، إذ أن الصلاة يستوي فيها العزيز والذليل ويقفان موقفاً بمكان

ص: 226

واحد، ينطقان بالألفاظ نفسها ويأتيان بالحركات نفسها، ونلمس في الزكاة التي تؤخذ من الغني بعض عروض الحياة لترده على الفقير حتى يشعر کلاهما، وإن باعدت بينهما الأنساب بشعور الإخاء، ونلمسها في الحج، تزدحم بأرضه المقدسة أقدام الرجال والنساء، فلا يميز بينهم فارق واحد، بمناسك الحج حفاة شبه عراة لا يسترهم إلا ذات اللباس يستوي فيه كافة الناس أردية الأكفان، التسوية الحقة هي جماع الإسلام والغاية التي هدفت إليه شعائره وتعاليمه وأتاح لهم جميعاً تكافؤ الفرص في موقفهم أمام اللّه)).

وهذا ما انتهجه الإمام علي (عليه السّلام) في سياسته المالية إذ :

((دخل على بيت مال البصرة في جماعة من المهاجرين والأنصار فنظر إلى ما فيه من العين والورق، فجعل يقول : يا صفراء غري غيري، ويا بيضاء غرّي غيري .. وأدام النظر إلى المال مفكراً، ثم قال :

((أقسموه بين أصحابي ومن معي خمس مئة خمس مئة، ففعلوا فما نقص درهم واحد، وعدد الرجال إثنا عشر ألفا)).

و((كان يخف دائماً إلى تقسيم الأعطيات على الناس، كلما اجتمع لديه منها شيء، ويكره أن يؤخرها عنهم، كأنما يتأثم من إرجائها، أواكتنازها إلى حين)).

وكان يخاطب أهل الكوفة بقوله : ((يا أهل الكوفة إذا أنا خرجت من عندكم بغير راحلتي ورحلي وغلامي، فأنا خائن)).

ص: 227

لقد كان (عليه السّلام) حريصاً على أموال المسلمين شديداً مع ولاته إن هم حادوا عن الطريق القويم، إذ كتب يوماً إلى زياد بن أبيه :

((وإني أقسم باللّه قسماً صادقاً، لئن بلغني أنك خنت في المسلمين شيئاً صغيراً وكبيراً، لأشدنَّ عليك شدّة تدعك قليل الوفر ثقيل الظهر، ضئيل الأمر..)).

وخاطبه في كتاب آخر : ((فدع الإسراف مقتصراً، واذكر في اليوم غداً ، وأمسك من المال بقدر ضرورتك، وقدم الفضل ليوم حاجتها، أترجوأن يعطيك اللّه أجر المتواضعين وأنت من المتكبرين، وتطمع وأنت متمرغ في النعيم تمنعه الضعيف والأرملة - أن يوجب لك ثواب المتصدقين ؟ وإنما المرء مجزيٌّ بما سلف وقادم على ما قدم.. والسلام)).

وكذلك خاطب الأشعث بن قیس عامله في آذربايجان، بقوله :

((وإن عملك لك بطعمة ولكنه في عنقك أمانة، وأنت مسترعي لمن فوقك، ليس لك أن تفتات (أي تستبد) في رعية، ولا تخاطر إلا بوثيقة، وفي يدك مال من مال اللّه عز وجل، وأنت من خزّانه حتى تسلّمه إليّ، ولعلي ألا أكون شر ولاتك لك.. والسلام)).

أما مصقلة بن هبيرة الوالي على بعض مقاطعات فارس فقد ألزمه (عليه السلّام)، بإعادة المبلغ الذي أخذه من بيت المال، والذي أنقذ فيه من الأسر خمس مئة رجل معضمهم من بني بكر بن وائل قوم مصقلة، فقال له في كتاب :

((بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك، وعصيت إمامك، إنك

ص: 228

تقسم فيء المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم وأريقت عليه دماؤهم، في من اعتامك من أعراب قومك، فوالذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لئن كان ذلك حقاً لتجدن لك علي هواناً ولتخفّن عندي میزاناً، فلا تستهن بحق ربك، ولا تصلح دنياك بحق دينك، فتكون من الأخسرين أعمالاً)).

ولما طلب منه (عليه السّلام) المغيرة بن شعبة أن يبقي على الولاة الذين ولاهم عثمان أجابه (عليه السّلام) بحزم:

(( واللّه لوكان ساعة من نهار لاجتهدت فيها رأيي، ولا وليت هؤلاء. لا مثلهم يُولّي)).

ولما أكد المغيرة على إبقاء معاوية لأن له ((جرأة، وهو في أهل الشام يسمع منه..)) أجابه بالحزم نفسه :

((لا واللّه .. لا أستعمل معاوية يومين أبداً)).

وكذلك عندما طلب إبن عباس منه ذلك (عليه السّلام) أجابه :

((لا واللّه، لا أعطيه إلا السيف)).

ويرفع شعاره الذي اتخذه مرتكزه الأساس في سياسته العامة وهو :

((إن الرعية لا تصلح إلا بصلاح الولاة).

ويطرح معادلة الموضوعي في الربط بين الراعي والرعية فيقول عليه السلام :

((.. وأعظم ما افترضه سبحانه من تلك الحقوق، حق الوالي على الرعية

ص: 229

وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها اللّه سبحانه لكلِّ على كلِّ، فجعلها نظاماً لألفتهم وعزاً لدينهم)).

فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية، فإذا أدت الرعية الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقها، عز الحق بينهم، وقامت مناهج الدين واعتدلت معالم العدل، وجرت على إذلالها إلا السنن، فصلح بذلك الزمان، فطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء، وإذا غلبت الرعية واليها، أوأجحف الوالي برعيته، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الأدغال في الدين (أي الفساد) وتركت حجاج السنن، فعمل بالهوى، وعطلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يُستوحش العظيم حق عُطِّل، ولا العظيم باطل فُعل..

فهناك تذل الأبرار، وتعز الأشرار، وتعظم تبعات اللّه سبحانه عند العباد فعليكم بالتناصح في ذلك، وحسن التعاون عليه، فليس أحد - وإن اشتد على رضا اللّه حرصه، وطال في العمل اجتهاده - ببالغ حقيقة ما اللّه سبحانه أهله من الطاعة له، ولكن من واجب حقوق اللّه على عباده النصيحة بمبلغ جهدهم، والتعاون على إقامة الحق بينهم، وليس امرؤ - وإن عظمت في الحق منزلته، وتقدمت في الدين فضيلته - يفوق أن يُعان على ما حمّله اللّه من حقه، ولا امرؤ - وإن صغرته النفوس، واقتحمته العيون - بدون أن يعين على ذلك أويعان عليه .

وجعل (عليه السّلام) من العدل جادته التي لا يحيد عنها وشمسه التي يستحم

ص: 230

بدفئها ويستنير بضيائها، وفي هذا الإطار يكتب إلى الأسود بن قطيبة صاحب جند حلوان بفارس فيقول (عليه السّلام) :

((أما بعد فإن الوالي إذا اختلف هواه، منعه ذلك كثيراً من العدل، فليكن أمر الناس عندك في الحق سواء، فإنه ليس في الجور عوض عن العدل. فاجتنب ما تنكر أمثاله، وابتذل نفسك فيما افترض اللّه عليك راجياً ثوابه، ومتخوفاً عقابه.

واعلم أن الدنيا دار بلية لم يفرغ صاحبها منها قط ساعةً إلا كانت ضرعته عليه حسرة يوم القيامة.

وإنه لن يغنيك عن الحق شيء أبداً، ومن الحق عليك حفظ نفسك، الاحتساب على الرعية بجهدك، فإن الذي يصل إليك من ذلك أفضل من الذي يصل بك والسلام)).

ويجمل (عليه السّلام) صفات الوالي العادل بقوله :

((إن أفضل عباد اللّه عند اللّه إمام عادل، هُدِيَ وَهَدى، فأقام سنةً معلومة وأمات بدعة مجهولة، وإن السنن النيرة، لها أعلام وإن البدع لظاهرة لها أعلام، وإن شر الناس عند اللّه إمام جائر ظَلَّ وظُلَّ به، فأمات سنّة مأخوذة، وأحيا بدعة متروكة، وإني سمعت رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) يقول :

((يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عابر، فيلقي في نار جهنم، فيدور فيها كما تدور الرحى، ثم يرتبط في قعرها)).

ويستعمل الإمام علي (عليه السّلام) المتقابلات في معادلات حسابية بسيطة

ص: 231

لتوضيح معنى العدل ومعنى العلاقة بين العامة والخاصة، أي بين الراعي والرعية فيقول (عليه السّلام) من كتاب إلى مالك الأشتر:

((وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل، وأجمعها لرضا الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضا الخاصة، وإن سخط الخاصة يُغتفر مع رضا العامة، وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، وأقل معونة في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقل شكراً عند العطاء، وأبطأ عذراً عند المنع، وأضعف صبراً عند ملمات الدهر - من أهل الخاصة، وإنما عماد الدين وجماع المسلمين، والعدة للأعداء؛ العامة من الأمة، فليكن صفوك لهم، وميلك معهم)).

وكان (عليه السّلام) يوصي عماله بعدم الاحتجاب عن الرعية ويدعوهم إلى مخالطتهم ليسمعوا منهم وليقفوا على همومهم وتطلعاتهم.

قال (عليه السّلام) يوصي قثم بن العباس عامله على مكة :

((لا يكن لك إلى الناس سفير إلا لسانك، ولا حاجب إلا وجهك ولا تحجين ذا حاجة عن لقائك بها، فإنها إن ذیدت عن أبوابك في أول ردها، لم تُحمد فيما بعد على قضائها)).

وكتب (عليه السّلام) إلى الأشتر يوصیه :

((.. فلا تطولن احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية، شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور، والاحتجاب عنه علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن، ويحسن القبيح، ويشاب

ص: 232

الحق بالباطل، وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور وليست على الحق سمات تُعرف بها ضروب الصدق من الكذب، وإنما أنت أحد رجلين؛ إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق، ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه، أو فعل کریم تسديه، أومبتلى بالمنع، فما أسرع كف الناس عنك مسألتك إذا أيسوا من نبلك ؟ مع أن أكثر حاجات الناس إليك من لا مؤونة فيه عليك، من شكاة مظلمة، أوطلب لإنصاف في معاملة .. واجعل لذوي الحاجات قسماً تُفَرِّغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلساً عاماً، فتتواضع فيه اللّه الذي خلقك، وتُقعِد عنهم جندك وأعوانك، من حرسك وشُرطك، حتى يكلمك مكلمهم غير متتعتع.. .

ثم احتمل منهم الخرق والعين (الخرق : العنف. والعين : العجز عن النطق) ونحِّ عنهم الضيق والأنف، يبسط اللّه عليك بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته، وأعط ما أعطيت هنيئاً، وامنع في إجمال وإعذار. ثم أمور من أمورك لا بد من مباشرتها، منها إجابة عمالك، بما يعيا عنه كتابك، ومنها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك)).

وحذر (عليه السّلام) الأشتر من أولئك الذين قلنا أنهم اعتنقوا الإسلام لا بسبب إيمانهم بمبادئه بل لكونه صار أمراً واقعاً فخافوا على مصالحهم وامتيازاتهم فانخرطوا في صفوفه، ومع ذلك فقد تغلغلوا في المناصب العليا فقال (عليه السّلام) يوصي الأشتر ويحذره منهم :

((إن شر وزرائك من كان للأشرار من قبلك، وزيراً ومن شركهم في

ص: 233

الآثام، فلا يكونن لك بطانة فإنهم أعوان الأئمة وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم، ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه، ولا آثماً على إثمه، أولئك أخف عليك مؤونة، وأحسن لك معونة، وأحنى عليك عطفاً، وأقل لغيرك ألفاً، فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك، ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم يمرِّ الحق، وأقلهم مساعدة فيما يكون منك، مما كره اللّه لأوليائه، واقعا ذلك من هواك حيث وقع، وألصق بأهل الورع والصدق، ثم رضهم على أن لا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تحدث الزهووتدني من الغرة)). |

ثم يعكس المعادلة فيوصيه باختيار من هم بالمروءة ألصق وكذلك بالكرامة والشرف والصدق، إذ أنهم من يؤتمن جانبهم فلا يخونون صاحبهم، فقال (عليه السّلام) :

((ثم الصق بذوي المروءات والأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة، فإنهم جماع من الكرم، وشعب من العرف (أي المعروف)).

وبعد أن ينتهي (عليه السّلام) : من إيصائه باختيار رجاله يوصيه بكبح جماح نفسه وصدها عن الشهوات تبعده عن دينه وتخلخل إيمانه، إذ يقول (عليه السّلام) :

((وإنما يستدل على الصالحين بما يجري اللّه لهم على ألسن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك وشحَّ بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشح بالنفس الإنصاف منها في ما أحبّت أوكرهت، وأشعر، قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم، واللطف بهم ... ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم

ص: 234

أكلهم ... اجتنب ما تنكر أمثاله ... إن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، فيقولون فيك ما كنت تقول فيهم)).

ثم يخلص (عليه السّلام) من الخاص إلى العام فيحلل النفس الإنسانية تحليلاً علمياً لن يقول بغيره أحد علماء العصر. إذ يقول (عليه السّلام) : ((الناس صنفان : أما أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم وتعرض لهم العلل، ویؤتی على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك اللّه من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، و والي الأمر عليك فوقك، واللّه فوق من ولاك).

ثم حدد له أسس التعامل مع رعيته بما يضمن سلامة الحكم وتكافؤ الفرص وإشاعة الأمن والاستقرار، ونشر العدالة الإنسانية إذ يقول (عليه السّلام) :

((لا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة)).

ثم ((لا تنقض سنَّة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية ولا تحدثن سنّة تضر بشيء من ماضي تلك السنن فیکون الأجر لمن سنّها والوزر عليك بما نقضت منها)).

ثم ((وأكثِر من مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء، في تثبیت صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك)).

ثم ((إياك والمن على رعيتك بإحسانك والتزيد فيما كان من فعلك أوأن

ص: 235

تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإن المن يبطل الإحسان، والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت، عند اللّه والناس، قال تعالى :

{کَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (الصف (3) }.

ثم يذكر (عليه السّلام) شروط الوالي (الحاكم) فيأتي بالسبب ونتيجته في صفات عديدة للوالي، فيقول (عليه السّلام):

((وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين - البخيل فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيظلهم بجهله، ولا الجاني فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنَّة فيهلك الأمة)).

وروي أن شريح بن الحارث القاضي، اشترى على عهده (عليه السّلام) داراً بثمانين دیناراً، فبلغه ذلك فاستدعى شريحاً وقال له :

((بلغني أنك ابتعت داراً بثمانين ًديناراً، وكتبت لها كتاباً وأشهدت فيه شهوداً.

فقال شریح : قد كان ذلك يا أمير المؤمنين فنظر إليه (عليه السّلام) نظرة المغضب ثم قال :

((يا شريح أما أنه سيأتيك من لا ينظر في كتابك ولا يسألك عن بينتك، حتى يخرجك منها شاخصاً، ويسلمك إلى قبرك خالصاً. فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مالك، وتقدت الثمن غير حلالك : فإذا أنت قد خسرت

ص: 236

دار الدنيا ودار الآخرة! أما أنك لو أتيتني عند شرائك ما اشتريت لكتبت لك كتاباً على هذه النسخة، فلم ترغب بشراء هذه الدار بدرهم فما فوق)).

أما عثمان بن حنيف الأنصاري، عامل الإمام علي (عليه السّلام) في البصرة، فقد دعي إلى وليمة قوم من أهل البصرة، فمضى إليها، فبلغ ذلك الإمام علي (عليه السّلام) فكتب إليه مستنكراً ذلك قائلاً :

((أما بعد يا ابن حنيف، فإن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها، تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قومٍ، عائلهم مجفووغنيهم مدعرفانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه)).

ثم تحدث (عليه السّلام) عن منهجه في الحكم فدعا الولاة أن يعينوه على إنجاح هذا المنهج فقال (عليه السّلام) مخاطباً ابن حنيف :

((ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه (أي ثوبيه الباليين) ومن طعمه بقرصيه (أي رغيفيه)، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورعٍ واجتهاد وعفة وسداد، فواللّه ما كنزت من دنیاکم تبراً. ولا ادخرت من غنائمها وفرا، ولا أعددت لبالي ثوبي قمرا، ولا حزت من أرضها شبرا، ولا أخذت منه إلا كقوت انان دبرة (الأنان : التي عقر ظهرها فقل أكلها )وهي في عيني أوهی وأهون من عقصة مقرة ... وإنما هي نفس أروّضها بالتقوى، لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر،

ص: 237

وتثبت على جوانب المزلق (كناية عن الصراط)، ولوشئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة أو أبيت مبطاناً وحولي بطونٌ غرثی وأكباد حرّى أو أكون كما قال القائل :

وحسبك داءٌ أن تبيت ببطنةٍ*** وحولك أكبادٌ تحن إلى القدٌ

أقنع من نفسي أن يقال : هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش !فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات، كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة إلى شغلها تقممها (أي أن البهيمة السائبة شغلها أن تلتقط القمامة) تكترش من أعلافها، وتلهوعما يراد بها، أوأترك سدى أوأهمل عابثاً، أوأجر حبل الضلالة، أوأعتصف طريق المتاهة)).

ثم لم يكتف (عليه السّلام) بمحاسبة ولاته عن أي حيدة عن الطريق الذي رسمه لهم الإسلام بل صار يحاسب نفسه أيضاً، وكمثال على ذلك نقرأ قوله (عليه السّلام) وقد أرسل إليه أحد ولاته هدية هي عبارة عن حلوى ملفوفة في وعاء فقال (عليه السّلام) :

((وأعجب من ذلك طارقٌ طرقنا بملفوفةٍ في وعائها، ومعجونة شنيتها أي : كرتها)، كأنما عجنت بريق حية أوقيئها، فقلت :

((صلة أم زكاة أم صدقة؟ فذلك محرم علينا أهل البيت. فقال : لا ذا ولا ذاك ولكنها هدية. فقلت : هبلتك الهبول (أي : المرأة التي لا يعيش لها ولد) عن دين اللّه أتيتني لتخدعني، أمختبط أنت أم ذوجِنّة أم تهجر (أي : تهذي).

ص: 238

واللّه لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي اللّه في نملة.. أسلبتها جلب (أي : قشرة) شعيرة ما فعلتها، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة، ما لعليِّ ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى، نعوذ باللّه من سبات العقل، وقبيح الزلل، وبه نستعين)).

وقصة النجاشي شاعر الإمام الذي طالما مدحه وهجا خصومه، والذي تعرض هوالآخر إلى الجلد بعد أن وجده الإمام مفطراً في رمضان وثملاً من السكر ليست بعيدة عن الأذهان.

كما أن الإمام قد حذّر من بعض القضاة الذين استغلوا مهنتهم لمآربهم الشخصية فقال (عليه السّلام):

((إن أبغض الخلائق إلى اللّه رجلان :

رجلٌ وكله اللّه إلى نفسه، فهوجائر عن قصد السبيل مشغوف بكلام بدعة، ودعاء خلاله، فهو فتنة لمن افتتن به، ضال عن هدي من كان قبله فضلُّ لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته حمّالُ خطايا غيره، رهن بخطيئته .

ورجلٌ قمش جهلاً، موضعٌ (أي : أمرع) في جهال الأمة عاد في إغباش الفتنة، غم بما في عقد الهدنة، قد سمّاه أشباه الناس عالماً وليس به، بكر فاستكثر من جمع، ما قل منه من خير مما كثر، حتى إذا ارتوى من ماءٍ آجن واكتز من غير طائل، جلس بين القوم قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره، فإن نزلت به إحدى المبهمات هيأ لها حشواً رثاً من رأيه، ثم قطع به، فهو من لبس الشهوات في

ص: 239

مثل نسج العنكبوت؛ لا يدري أصاب أم أخطأ، فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ، وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب، جاهل خباط جهالات، عاشٍ رکاب عشوات، لم يعض على العلم بضرس قاطع، يذري الروايات إذراء الريح الهشيم، لا مليّ - واللّه - بإصدار ما ورد عليه، ولا هو أهل لما فُوِّض إليه، لا يحسب العلم في شيء مما أنكره ولا يرى أن من ورائه ما بلغ مذهباً لغيره، وإن أظلم عليه أمراً اكتتم به، لما يعلم من جهل نفسه، تصرخ من جور قضائه الدماء، وتعج من المواريث.. وآخر قد تسمى عالماً وليس به، فاقتبس جهائل من جهال وأضاليل من ضلال. ونصب للناس أشراكاً من حبائل غرور، وقول زور، وقد حمل الكتاب (یرید : القرآن الكريم) على أراء، وعطف الحق على أهوائه، يقول : أقف عند الشبهات وفيها وقع، ويقول أعتزل البدع وبينها اضطجع.

فأولئك هم الذين : ((المعروف فيهم ما عرفوا، والمنكر عندهم ما أنكروا، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، وتعويلهم في المهمات على آرائهم، كأن كل امريء منهم إمام نفسه، قد أخذ منها فيما يرى بعرىً ثقات وألباب محکمات)).

ووضع (عليه السّلام) أسساً لمواصفات الفقيه، فقال :

((الفقيه، كل الفقيه : من لم يقنط الناس من رحمة اللّه، ولم يؤيسهم من روح اللّه ولم يؤمنهم من مكر اللّه)).

تلك كانت - قارئي العزيز - إضمامة من أقوال الإمام علي بن أبي طالب في وصف ((الحياة الاجتماعية)) في زمانه تناول فيها الولاة والقضاة والعلماء، ومن خلالهم رسم منهجاً علمياً للقوانين الإدارية والسياسية والاقتصادية

ص: 240

(والاجتماعية بصورة عامة) يصلح لكل زمان ومكان إلى يومنا هذا، فهو منهج تمخض عن توقد ذهن الإمام (عليه السّلام) الثاقب ونظرته الشاملة إلى الحياة العامة .

فإذا كان ذلك لدى البعض لم يعرف إلا في عصور متأخرة (كما ادّعى أحدهم) فما ذنب الإمام (عليه السّلام) وقد سبق عصره والعصور التي أعقبته، ولو أمعن النظر هذا (الأحدهم) في الحياة الاجتماعية (الإدارية والسياسية والاقتصادية) في عهود الخلفاء الراشدين الثلاثة (أبوبكر وعمر وعثمان) لوجد أن الإمام علي (عليه السّلام) كان له الحضور الفاعل والمؤثر في مفاصل سياسة تلك العهود بل لم يستطع أي منهم تجاوزه في المشورة وحل المعضلات السياسية والإدارية والاقتصادية والقضائية. ولعل شهادة عمر بن الخطاب تغنينا عن كثير من الأدلة (الثبوتية ...!) من أنه (عليه السّلام) كان منقذ عمر من مطبات كثيرة؛ أليس هو القائل :

- ((لولا علي لهلك عمر))؟

- ((لا يفتين أحد في المسجد وعلي حاضر)).

- ((علي أقضانا))

- ((لا أبقاني اللّه لمعضلة ليس لها أبوالحسن)).

ثم أليس هومن استشار الإمام (عليه السّلام) حين أراد الخروج بنفسه إلى غزوالروم فأشار عليه الإمام علي (عليه السّلام) بقوله :

((إنك متی تسر إلى هذا العدو بنفسك، فتلقهم فتنكب، لا تكن للمسلمين

ص: 241

کانفة (أي : عاصمة) يلجؤون إليها، دون أقصى بلادهم، ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً محرباً واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهره اللّه فذاك ما تحب، وإن تكن الأخرى، كنت رداء للناس ومثابة للمسلمين)).

وعندما أراد عمر أن يشخص بنفسه لقتال الفرس استشار الإمام علي (عليه السلّام) فأشار عليه :

((إن هذا الأمر لم يكن نصره وخذلانه بكثرة ولا بقلّة، وهو دين اللّه الذي أظهره وجنده الذي أعدّه وأمدّه، حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيث طلع، ونحن على موعود من اللّه، واللّه منجز وعده وناصر جنده، ومكان القيم بالأمر مكان النظام (أي السلك) من الخرز، يجمعه ويضمه، فإن انقطع النظام تفرق الحرز وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً، والعرب اليوم، وإن كانوا قليلاً، فهم كثيرون بالإسلام، عزیزون بالاجتماع، فكن قطباً، واستدر الرحى بالعرب، وآصلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت من هذه الأرض إنتعضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم مما بين يديك.

إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا : هذا أصل العرب فإن قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك، وطمعهم فيك، فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين، فإن اللّه سبحانه هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأما ما ذكرت من عددهم، فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، وإنما كنا نقاتل بالنصرة والمعونة)).

تلك هي الشهادة التي لا يحتاجها الإمام ولكننا سقناها إلى أولئك الذين

ص: 242

سلكوا في كتاباتهم ((درب الصد ما رد)) في تشكيكهم بنسبة ما في ((نهج البلاغة)) إلى الإمام علي، ومنه هذه الفقرة التي نحن بصددها، علّهم يتلمسون طريق العودة من ((در بهم...! )) ذاك إلى جادة الصواب والحق. وعند ذاك لن يستكثروا على مثل الإمام علي (عليه السّلام) أن يصف الحياة الاجتماعية بمثل ما وصف لأنهم سيدركون أن عصر الإمام، وعهده في الحكم - خاصة - كان شديد الاضطراب - على قصره - وعهدٌ تلك سمته لابد أن تختلط فيه الأوراق كما ((يختلط الحابل بالنابل)) فتهتز نفوس وتضطرب أخرى وتُغرى ثالثة بمباهج الحياة الدنيا فيقصر النظر ويضيق الإدراك وتتقاصر البصيرة .. حينذاك لابد من شخص يتمتع بقدرات ذهنية استثنائية ليعالج تلك التخلخلات والإنثلامات في المجتمع، فكان ذلك الشخص هو الإمام علي (عليه السّلام) وكانت معالجاته في تلك الخطب والأحاديث والوصايا والمراسلات التي ضمها ((نهج البلاغة)).

فهل ذلك كثير على الإمام علي (عليه السّلام)؟ الذي وصفه الرسول الكريم بأوصاف ما وصف مثله قط، وقد وقفنا على بعضها في كلام لنا فائت. فضلاً عن أقوال الخلفاء الراشدين فيه، بل حتى أقوال خصومه، كمعاوية وعمروبن العاص وغيرهما.

إن قليلاً من التروي في إلقاء الكلام سيجعل من صاحبه منصفاً ومتصفاً بالنزاهة والأمانة التاريخية.

نرجو أن يكون أولئك المشككون من هؤلاء الرجال - الذين وصفنا - يوماً ما إن كانوا أحياء وإن ماتوا فنرجوهم غفراناً من ربِّ رحيم.

ص: 243

ص: 244

الضوء الثالث: من خصائص نهج البلاغة

إشارة

ص: 245

ص: 246

من خلال قراءتي ((نهج البلاغة)) بتأملٍ وتأنٍ ورويَّة، وجدت في محتواه خصائص هي بمجموعها تشكل قوانين الحياة بمفاصلها الحيوية، وأنا بتحديدي تلك الخصائص لا يعني ذلك أن توافرت على خصائص (النهج)) كلها بل هي بعض ما تراءى لي بعد قراءتي المتأنية تلك. لذلك أطلقتُ عليها ((من خصائص))، والتبعيض هذا الذي دلّت عليه الأداة (مِن) يعني أن ثمة خصائص أخرى يضمها کلام علي (عليه السّلام) فاکتفیت بالذي وجدت.

وإليك قارئي العزيز هذه الخصائص :

ص: 247

1_ الخاصية العلمية

لا غرابة إذا ما اختص کلام الإمام علي (عليه السّلام) بالعلم لأنه باب مدينة العلم، والأذن الواعية، لذلك نراه قد سبر أغوار العلم، مثلما سبر أغوار المعارف الإنسانية الأخرى، وهو الذي يقول :

((... بل اندمجتُ (أي : انطويتُ) على مكنون علم لوبُحتُ به لاضطربتم اضطراب الأرشية (الحبال) من الطويِّ البعيدة (أي : البئر العميق).

ويخبرهم بما سيلقون في المستقبل ما لا يعرفون، فيقول (عليه السّلام):

((... والذي بعثه بالحق لتُبليُنَّ (من البلية) ببلبلةٍ ولتُغربلُنَّ غربلةً ولتُساطنَّ سوط القدر (أي : خلط ما في القدر فينقلب أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها عند الغلي)، حتى يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم، وليسبقنَّ سابقون كانوا قصروا، وليُقصّرنَّ سابقون كانوا سبقوا. واللّه ما كتمت وشمة (كلمة) وكذبت كذبة، ولقد نُبِئتُ بهذا المقام وهذا اليوم)).

وذم - (عليه السّلام) - اختلاف العلماء في الفتيا بقوله :

ص: 248

((ترد على أحدكم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم (أي الذي ولَّاهم القضاء) فيُصِّوب آراءهم - وإلههم واحد! ونبيهم واحد! وكتابهم واحد! فأمرهم اللّه - سبحانه - بالاختلاف فأطاعوه! أم ماهم عنه فعصوه؟)).

وتناول أدعياء العلم من الجهلة بقوله (عليه السّلام):

((وآخر تسمى عالماً وليس به، فاقتبس جهائل من جُهّال، وأضاليل من ضلّال، ونصب للناس أشراكًا من حبائل غرور، وقول زور، قد حمل الكتاب على آرائه، وعطف الحق على أهوائه، يؤمّن الناس من العظائم، ويهوِّن كبير الجرائم، يقول : أقف عند الشبهات، وفيها وَقَع؛ ويقول : أعتزل البدع، بينها اضطجع، فالصورة صورة إنسان والقلب قلب حیوان، لا يعرف باب الهدى فيتبعه، ولا باب العمى فيصد عنه، وذلك ميت الأحياء)).

ويعكس الصورة (عليه السّلام) فيتحدث عن أولئك الذين اتخذوا من العلم قوتهم اليومي حتي رسخوا فيه، فيقول (عليه السّلام) :

((وأعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السُّدَد (الرُتاج) المضروبة دون الغيوب، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب. فمدح اللّه تعالی اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً وسمّی تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخا)).

ص: 249

وعرَّف العالم تعريفاً بسيطاً وموجزاً فقال (عليه السّلام) :

(( العالم من عرف قدره..)).

ودعا إلى امتياح العلم والتسلح به فقال (عليه السّلام) :

((.. فبادروا العلم من غير تصویح (تجفيف) نبته، ومن قبل أن تشغلوا بأنفسكم عن مستثار (ظهور) العلم من عند أهله)).

وتحدث عن العالم الذي يخالف علمه في انعكاساته السلوكية في تطبيقاته العملية، فقال (عليه السّلام) :

((... وان العالم العامل بغير علمه کالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله، بل الحجة عليه أعظم، والحسرة له ألزم، وهو عند اللّه ألوَم (أشدّ لوماً).

وأخبر أصحابه - (عليه السّلام) - بمقدار علمه فقال :

((ولو تعلمون ما أعلم مما طوي عنكم غیبه، إذن لخرجتم إلى الصُعُدات (الطرق) تبكون على أعمالكم وتلتدمون (تضربون وجوهكم كالنساء) على أنفسكم ولتركتم أموالكم لا حارس لها ولا خالف عليها)).

وبيّن - (عليه السّلام) - أهمية العلم في حياة الإنسان لدفع حضارته إلى أمام فقال :

((.. لا تُفتح الخيرات إلا بمفاتيحه، ولا تُكشَف الظلمات إلا بمصابيحه، قد أحمي حماه، وأرعی مرعاه، فيه شفاء المستشفي، وكفاية المكتفي)).

وأوضح - (عليه السّلام) - إن العلم يهدي إلى الطريق الأقوم فقال :

ص: 250

((العامل بغير علم كالسائر على غير طريق، والعامل بالعلم كالسائر على الطريق الواضح)).

وكان - (عليه السّلام) - يدعو الناس أن يسألوه عن طرق السماء فإنه أعلم بها من طرق الأرض بقوله :

((سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض)).

وعلامة المتقي عنده - (عليه السّلام) - أن له :

((حرصاً في علم، وعلماً في حلم.. يُخرج الحلم بالعلم، والقول بالعمل)).

وعن الذين أودعوا العلم ليحفظوه، قال (عليه السّلام):

((واعلموا إن عباد اللّه المستحفظين علمه، يصونون مصونه، ويفجرون عيونه)).

وأوصى ابنه الحسن بقوله :

((ولا تقل ما لا تعلمه وإن قلَّ ما تعلم)).

وقال - (عليه السّلام) -:

((رُبَّ عالِم قد قتله جهله، وعِلمه معه لا ينفعه).

وعن صفة خلق آدم - (عليه السّلام) - تحدث - (عليه السّلام) - بلغة علمية فقال :

((ثم جمع - سبحانه - من حَزَن الأرض وسهلها، وعذابها وسبخها، تربة سنّها بالماء حتى خلصت، ولاطها بالبلة حتى ألزبت فجبل منها صورة ذات أحناء

ص: 251

ووصول وأعضاء وفصول، أجمدها حتى استمسكت، وأصلدها حتى صلصلت، لوقتٍ معدود، وأمدٍ معلوم، ثم نفخ فيها من روحه فمثلت إنساناً ذا أذهانٍ يجيلها، وفِكرٍ يتصرف بها، وجوارح يختدمها، وأدوات يقلبها، ومعرفة يفرّق بها بين الحق والباطل، والأذواق والشام والألوان والأجناس، معجوناً بطينة الألوان المختلفة، والأشباه المؤتلفة، والأضداد المتعادية والأخلاط المتباينة، من الحر والبرد، والبلة والجمود، واستأدى اللّه سبحانه الملائكة وديعته لديهم وعهد وصيته إليهم، في الإذعان بالسجود له والخشوع لتكرمته)).

ووصف (عليه السّلام) إنشاء الأرض بدقة علمية فقال :

((وأنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال وأرساها على غير قرار، وأقامها بغير قوائم، ورفعها بغير دعائم، وحصّنها من الأوَد، والاعوجاج ومنعها من التهافت والانفراج، وأرسى أوتادها، وضرب أسدادها، واستغاض عيونها وحذّ أوديتها؛ فلم يهن ما بناه، ولا ضعف ما قوّاه، هوالظاهر عليها بسلطانه وعظمته ، وهوالباطن لها بعلمه ومعرفته ..)).

ص: 252

2_ خاصية التسلسل المنطقي للوصول إلى الحقيقة

قال - (عليه السّلام) - في المتديّن :

((أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف اللّه -سبحانه - فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حدّه فقد عدّه ومن قال فيمّ فقد ضمّنُه، ومن قال علامَ فقد أخلى منه)).

وفي إثبات وجود الخالق - جل شأنه - قال - (عليه السّلام) -:

((كائن لا عن حَدَث، موجود لا عن عدم، مع كل شيء لا بمقارنة، وغير كل شيء لا بمزايلة، (أي : مفارقة)، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه، متوحّد إذ لا سکن يستأنس به ولا يستوحش لفقده.

أنشأ الخلق إنشاءً وابتدأه ابتداءً، بلا رويَّة أجالها، ولا تجربةٍ استفادها، ولا حركةٍ أحدثها، ولا همامة نفسٍ اضطرب فيها، أحال الأشياء لأوقاتها، ولأم بين مختلفاتها، وغرز غرائزها وألزمها أشباحها، عالماً بها قبل ابتدائها، محيطاً بحدودها وانتهائها، عارفاً بقرائتها وأحنائها).

ص: 253

3_ وصف السماء جغرافيا

ليس غريباً على الإمام علي (عليه السّلام) أن يصف خلق السماء ومنحنياتها ومعارجها ونجومها وكواكبها وسكانها وحفظتها؛ فهو القائل : ((سلوني قبل أن تفقدوني فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض)).

يقول الدكتور صبحي الصالح في مقدمته على تحقيق (نهج البلاغة) :

(إن (نهج البلاغة) ليظم طائفة من خطب الوصف تبويء علياً ذروة لا تُسامی ببن عباقرة الوصافين في القديم والحديث، ذلك بأن علياً - كما تنطق نصوص (النهج) - قد استخدم الوصف في مواطن كثيرة، ولم تكد خطبة من خطبه تخلو من وصف دقيق، وتحليل نفاذ إلى بواطن الأمور؛ صوّر الحياة فأبدع، وشخّص الموت فأجزع، ورسم لمشاهد الآخرة لوحات کاملات فأراع وأرهب، ووازن بين طباع الرجال وأخلاق النساء، وقدّم للمنافقين (نماذج) شاخصة. وللأبرار أنماطاً حيّة، ولم يفلت من ريشته المّصورة شيطان رجيم يوسوس في صدور الناس ولا مَلَك رحيم يوحي الخير ويلهم الرشاد).

فمن أوصافه - إذن - ما وصف به السماء وما تحتويه فقال - (عليه السّلام) : ((... ثم أنشأ - سبحانه - فتق الأجواء وشق الأرجاء وسکائك الهواء،

ص: 254

فأجرى فيها ماءً متلاطماً تياره، متراكماً زخاره، حمله على متن الريح العاصفة، والزعزع القاصفة، فأمرها بردّه، وسلَّطها على شَدِّهِ، وقرنها على حدّهِ. الهواء من تحتها فتيق، والماء من فوقها دفيق، ثم أنشأ - سبحانه - ريحاً اعتقم (أي : جعلها عقيماً إلا للتحريك) مهبّها وأدام مربها وأعصف مجراها، وأبعد منشاها، فأمرها بتصفيق الماء الزخار، وإثارة موج البحار، فمخضته مخض السِقاء، وعصفت به عصفها بالقضاء، تردُّ أوله إلى آخره، وساجيه إلى مائره، (أي : الساكن والمتحرك) حتى عبَّ عبابه، ورمی بالزبد رکابه، فرفعه في هواء منفهق (المفتوح الواسع) فسوَّى منه سبع سماوات جعل سفلاها موجاً مكفوفاً (أي الممنوع من السيلان) وعُلياهن سقفاً محفوظاً، وسمكاً مرفوعاً بغير عمدٍ يدعمها، ولا دسار ينظمها، ثم زيّنها بزينة الكواكب وضياء الثواقب، وأجرى فيها سراجاً مستطيراً وقمراً منيراً . في فلكٍ دائر، وسقف سائر، ورقيمٍ مائر، (أي : لوح متحرك)، ثم فتق ما بين السماوات العلى، فملأهن أطواراً من ملائكته منهم سجود لا يركعون، ورُكّع لا ينتصبون، وصافّون لا يتزايلون، ومسبّحون لا يسأمون، لا يغشاهم نور العين ، ولا سهوالعقول، ولا فترة الأبدان، ولا غفلة النسيان، ومنهم أمناء على وحيه، ألسنة إلى رسله، ومختلفون بقضائه وأمره، ومنهم الحفظة لعباده، والسدنة الأبواب جنانه، ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم، والمارقة في السماء العليا أعناقهم، والخارجة إلى الأقطار أركانهم، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم، ناكسة دونه أبصارهم (أي : دون العرش)، متلفعون تحته بأجنحتهم، مضروبة بينهم وبين قن دونهم، حجُب العزّة وأستار القدرة، لا يتوهمون ربهم بالتصوير، ولا يجرون عليه صفات المصنوعين، ولا يحدّونه بالأماكن، ولا يشيرون إليه بالنظائر)).

ص: 255

4_ إشارات تاريخية

من خلال خطبه وأحاديثه ووصاياه ذكر (عليه السّلام) حوادث تاريخية مثل غزوات بدر وأحد والخندق وفتح مكة ومؤتة وبيعة السقيفة والقادسية ويوم ذي قار ووصية عمر بن الخطاب في من يخلفه وحروب الجمل وصفين والنهروان وغير ذلك من الحروب والأيام والغزوات والغارات والفتن ما سنستشهد بعينات من كلامه (عليه السّلام) لندل بأنها شكلت خصيصة قائمة بذاتها في (نهج البلاغة) :

قال (عليه السّلام)، من کتاب له إلى معاوية بن أبي سفيان وهويذكر ما حصل في بدر وأحد :

((فأراد قومنا قتل نبينا، واجتياح أصلنا، وهمّوا بنا الهموم، وفعلوا بنا الأفاعيل، ومنعونا العذب، وأحلونا الخوف، واضطرونا إلى جبلٍ وعر، وأوقدوا لنا نار الحرب، فعزم اللّه لنا على الذب عن حوزته، والرمي من وراء حومته، مؤمننا يبغي بذلك الأجر، وكافرنا يحامي عن الأصل، ومن أسلم من قريش خلوٌا مما نحن فيه، بحلفٍ يمنعه أوعشيرةٍ تقوم دونه، فهو بمكان آمن.

وكان رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)، إذا احمر البأس، وأحجم

ص: 256

الناس، قدم أهل بيته فوقي بهم أصحابه حرث السيوف والأسنة، فقُتِل عبيد اللّه بن الحارث يوم بدر وقُتل حمزة يوم أُحُد.

وقُتل جعفر يوم مؤتة، وأراد من لوشئت ذكرت اسمه مثل الذي أرادوا من الشهادة، ولكن عُجِّلت ومنّيتُهُ أُخرت..)).

وفي كتاب آخر له - (عليه السّلام) - إلى معاوية بن أبي سفيان ذكّره بيوم بدر فقال :

((ومتی کنتم یا معاوية ساسة الرعية، وولاة أمر الأمة، بغيرِ قدمٍ سابق ولا شرَفٍ باسق، ونعوذ باللّه من لزوم سوابق الشقاء.

وأحذرك أن تكون متمادياً في غِزّة الأمنية، مختلف العلانية والسريرة، وقد دعوت إلى الحرب فدع الناس جانباً واخرج إليّ، واعف الفريقين من القتال.

لتعلم أينا المرين على قلبه، والمغطي على بصره!

فأنا أبوحسن، قاتل جدّك وأخيك وخالك شدخاً يوم بدر، وذلك السيف معي، وبذلك القلب ألقى عدوّي؛ ما استبدلت دیناً، ولا استحدثت نبياً، وإني على المنهاج الذي تركتموه طائعين، ودخلتم فيه مكرهين)).

وفي كتاب آخر له - (عليه السّلام) - إلى معاوية ذكّره بفتح مكة وحوادث

تاريخية أخرى فقال (عليه السّلام) :

أما بعد فإنا كنا نحن وأنتم، على ما ذكرت من الألفة والجماعة ففرق بيننا وبينكم أمر إنا آمنا وكفرتم، واليوم إنا استقمنا وفُتنتم وما أسلم مسلمكم إلا

ص: 257

کرهاً، وبعد أن كان أنف الإسلام كله لرسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) حرباً .

وذكرت أني قتلت طلحة والزبير، وشرّدت بعائشة ونزلت بين المصريين، وذلك أمر غبت عنه، فلا عليك ولا العذر فيه إليك.

وذكرت أنك زائري في جمع المهاجرين والأنصار، وقد انقطعت الهجرة يوم أُسر أخوك، فإن كان فيك فاسترفه، فإني أزورك فذلك جدير أن يكون اللّه إنما بعثني إليك للنقمة منك، وإن تزرني فكما قال أخوبني سعد :

مستقبلين رياح الصيف تضربهم بحاصب بين أغوارٍ وجلمود

وعندي السيف الذي أعضضته بجدِّك وخالك وأخيك في مقام واحد).

وفي كلام له (عليه السّلام) يوم بيعة السقيفة إذ انتهت إليه أنباؤها بعد وفاة رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)، قال (عليه السّلام) :

((ما قالت الأنصار ؟)).

قالوا : قالت : منا أمير ومنكم أمير.

قال (عليه السّلام) : ((فهلا احتججتم عليهم بأن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلَّم) وصّى بأن يِحسَن إلى محسنهم، ويُتجاوز عن مسيئهم!

قالوا : وما في هذا من الحجة عليهم؟

فقال - (عليه السّلام) - : ((لوكانت الإمامة فيهم لم تكن الوصية بهم ثم قال (عليه السّلام) : فماذا قالت قریش؟

ص: 258

قالوا :

احتجت بأنها شجرة الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم).

فقال (عليه السّلام) : ((احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة)).

ومن كلام له - (عليه السّلام) - وقد استشاره عمر في الشخوص لقتال الفرس بنفسه في القادسية ونهاوند فقال (عليه السّلام) :

((فإن هذا الأمر لم يكن يضرّه ولا خذلانه بكثرة ولا قلّة، إنما هو دين اللّه الذي أظهره، وجنده الذي أعزّه وأمدّه بالملائكة، حتى بلغ ما بلغ، فنحن على موعد من اللّه، واللّه منجز وعده، وناصر جنده، وإن مكانك منهم مكان النظام من الخرز يجمعه ويمسكه، فإن انحل تفرق ما فيه وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً ؛ والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً فإنهم كثير عزیز بالإسلام؛ أقم مكانك، واكتب إلى أهل الكوفة فإنهم أعلام العرب و رؤساؤهم، وليشخص منهم الثلثان، وليقم الثلث، واكتب إلى أهل البصرة أن يمدوهم ببعض من عندهم، ولا تشخص الشام ولا اليمن، إنك إن أشخصت أهل الشام من شامهم سارت الروم إلى ذراريهم، وإن أشخصت أهل اليمن يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم، ومتى شخصت من هذه الأرض انتفضت عليك العرب من أقطارها وأطرافها، حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك ما بين يديك من العورات والعيالات.

إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً قالوا : هذا أمير العرب وأصلهم؛ فكان ذلك أشد لكلبهم عليك، وأما ما ذكرت من مسير القوم من عددهم فإنا لم نكن

ص: 259

نقاتل فيما مضى بالكثرة، إنما كنا نقاتل بالصبر والنصر)). فوافقه عمر رأيه.

وفي كلام له (عليه السّلام) في (الشورى) التي دعا إليها عمر بن الخطاب وهو على فراش الموت، فقال (عليه السّلام) :

((حتى إذا مضى لسبیله، جعله في ستة زعم أني أحدهم؛ فيا للّه وللشوری؟ متى اعترض الريب فيّ مع الأوّل منهم حتى صرت أقرَن إلى هذه النظائر لكيني أسففت إذ أسفّوا، وطرت إذ طاروا، فصغا رجلٌ منهم لضغنه ومال الآخر لصهره، مع هنٍ وهن)).

واستعرض - (عليه السّلام) - موقف كل من طلحة والزبير منه يوم مبايعته وتوليه إمارة المؤمنين، فقال في خطبة له في ذي قار، بعد أن حمد اللّه وتشهد :

((... فكان محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب، الذي أطفأ اللّه به نيرانها، وأحمد به شرارها، ونزع به أوتادها، وأقام به میلها، إمام الهدى والنبي المصطفى (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)، فلقد صدع بما أُمر به وبلّغ رسالات ربه، فأصلح اللّه به ذات البين، وأمن به السبل، وحقن به الدماء، وألف به بين ذوي الضغائن الواغرة في الصدور، حتى أتاه اليقين، ثم قبضه اللّه إليه حميداً، ثم استخلف الناس أبا بكر، فلم يألُ جهده ثم استخلف أبوبكر عمر فلم يألُ جهده، ثم استخلف الناس عثمان، فنال منكم ونلتم منه، حتى إذا كان من أمره ما كان، أتيتموني لتبايعوني، لا حاجة لي في ذلك، ودخلت منزلي، فاستخرجتموني فقبضتُ يدي فبسطتموها وتداككتم (أي : تزاحمتم) عليّ. حتى ظننتُ أنكم قاتليَّ، وإن بعضكم قاتل بعض، فبايعتموني وأنا غير مسرور بذلك ولا جذل. وقد علم اللّه - سبحانه

ص: 260

- إني كنت کارهاً للحكومة بين أمة محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)، ... حتى اجتمع عليّ ملؤكم، وبايعني طلحة والزبير وأنا أعرف الغدر والنكث في أعينهما، ثم استأذناني في العمرة، فأعلمتهما أن ليس العمرة يريدان فساراً إلى مكة واستخفا عائشة وخدعاها، وشخص معها أبناء الطلقاء (أي : الذين أطلقهم الرسول (صلّی اللّه عليه وآله وسلَّم) يوم فتح مكة فلم يسترقهم) فقدموا البصرة، فقتلوا بها المسلمين، وفعلوا المنكر، ويا عجباً لاستقامتهما لأبي بكر وعمر وبغيهما عليّ ! وهما يعلمان أني لست دون أحدهما، ولو شئت أن أقول لقلت؛ ولقد كان معاوية كتب إليهما من الشام كتاباً يخدعهما فيه، فكتماه عني، وخرجا يوهمان الطغام أنهما يطلبان بدم عثمان، واللّه ما أنكرا عليّ منكراً، ولا جعلا بيني وبينهم نصفاً وإن دم عثمان لمعصوبٌ بهما، ومطلوب منهما، يا خيبة الداعي! إلام دعا! وبماذا أجيب؟ واللّه إنهما لعلى ضلالة صمّاء، وجهالة عمياء، وإن الشيطان قد ذمر لهما حزبه، واستجلب منهما خيله ورَجله، ليعيد الجور إلى أوطانه، ويرد الباطل إلى نصابه)).

ومن كلام له (عليه السّلام) من ذكر أهل البصرة، وقد ألمح إلى ذكر طلحة والزبير فقال :

((كل واحد منهما يرجو الأمر له ويعطفه عليه، دون صاحبه، لا يمّتان إلى اللّه بحبل، ولا يمّدان إليه بسبب.

كل واحدٍ منهما حاملُ ضبٍ لصاحبه؛ وعما قليل يكشف قناعه به .

ص: 261

واللّه لئن أصابوا الذي يريدون لينزعن هذا نفس هذا؛ وليأتين هذا على هذا، وقامت الفئة الباغية فأين المحتسبون !اقد شنت لهم الشنن؛ وقدم لهم الخبر؛ ولكل صلة علة، ولكل ناكث شبهة.

واللّه لا أمون كمستمع اللدم، يسمع الناعي، ويحضر الباكي ثم لا يعتبر)).

ومن كتاب له (عليه السّلام) إلى معاوية بن أبي سفيان يدعوه إلى البيعة والطاعة، حمله إليه جریر بن عبد اللّه البَجَلي قوله :

((فإن بيعني لزمتك وأنت بالشام، لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، على ما بویعوا عليه..، وإن طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي، فكان نقضهما کردتهما، فجاهدتهما على ذلك، حتى جاء الحق، وظهر الباطل وهم کارهون، فادخل فيما دخل فيه المسلمون. وقد أكثرتَ في قَتَلة عثمان، فادخل فيما دخل فيه الناس...، فأما التي تريدها فخدعة الصبي عن اللبن، ولعمري لئن نظرتَ بعقلك دون هواك، لتجدني أبرءِّ قريش من دم عثمان، واعلم أنك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة، ولا تُعرض فيهم الشورى)).

وبعد أن أجابه معاوية على كتابه (عليه السّلام) ردّ عليه بكتابٍ ثان قال فيه : ((أما بعد؛ فإنه أتاني منك كتاب امرئٍ ليس له بصرٌ يهديه، ولا قائد يرشده، دعاه الهوى فأجابه، وقاده الضلال فاتّبعه.. وبعد:

وما أنت وما عثمان..؟ فإن زعمت أنك أقوى على ذلك، فادخل فيما دخل فيه المسلمون، ثم حاكم القوم إليَّ، وأما تمييزك بينك وبين طلحة والزبير، وبين أهل الشام وأهل البصرة فلعمري ما الأمر فيها هناك إلا سواء، لأنها بيعة

ص: 262

شاملة لا يستثنى فيها الخيار، ولا يستأنف فيها النظر. وأما شرفي في الإسلام وقرابتي من رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)، وموضعي من قریش لو استطعت دفعه لدفعته)).

ومن كلام له (عليه السّلام) وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفين : ((أما قولكم : أكل ذلك كراهة الموت؟ فواللّه ما أبالي، دخلتُ إلى الموت أوخرج الموت إلىَّ. وقولكم شكّاَ في أهل الشام؟ فواللّه ما دفعت الحرب يوماً إلا وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي، وتعشو إلى ضوئي، فهو أحب إليّ من أن أقتلها على ضلالة؛ وإن كانت تبوء بآثامها).

ومن كلام له (عليه السّلام) يوم لقائه أهل الشام بصفين : (اللّهم إليك رُفِعت الأبصار، وبُسِطت الأيدي، ونُقِلت الأقدام، ودعت الألسن، وأفضت القلوب، وتحوكم إليك في الأعمال، فاحكم بيننا وبينهم بالحق، وأنت خير الفاتحين، اللّهم إنا نشكو إليك غَيبة نبينا، وقلّة عددنا، وتشتت أصواتنا، وشدّة الزمان بنا، وظهور الفتن، فأعنّا على ذلك بفتحٍ منك تعجّله، ونصرٍ تعزُّ به سلطان الحق وتظهره))..

وثمة إشارات تاريخية كثيرة في ثنايا (النهج) نكتفي بهذا القدر لنتناول خاصية أخرى.

ص: 263

5_ استشراف المستقبل

لقد تحدثنا عن هذه الفقرة في الرد على المشككين في نسبة (نهج البلاغة) إلى الإمام علي (عليه السّلام) وهنا نستشهد بعينات من تلك التوقعات والتنبؤات، ولكن قبل الاستشهاد وإتماماً لتلك الفقرة، نشير إلى بعض الأخبار عن الغيوب، كغيوب الكهان، كما يحكى أن سطيح بن مازن بن غسان، وشق بن ثمار بن نزار، وسواد بن فارس الدوسي، أما ما كان يقع لأصحاب زجر الطير والبهائم، كما يحكي عن بني لهب في عصر ما قبل الإسلام، أولأصحاب القيافة، كما يحكي عن بني مذحج، أورباب النيرنجات، فإذا كان أولئك عاى حالتهم تلك فإن الإمام علي (عليه السّلام) أولى منهم بهذا الأمر وقد بيّنا مميزاته الخَلقِيّة والخُلُقيّة .

وإليك قارئي الكريم عينات من توقعاته المستقبلية

قال (عليه السّلام):

((أيها الناس، سیأتیکم زمان يُكفَأ فيه الإسلام، كما يُكَفأ الإناء بما فيه)).

ص: 264

وقال (عليه السّلام) :

((سيأتي زمان تفيض فيه اللثام، وتغيض الكرام، أهله ذئاب، وسلاطينه سباع)).

وقال (عليه السّلام) :

((في آخر الزمان يخلّف الناس الحق وراء ظهورهم فيقطعون الأدني ويصلون الأبعد))

وقال (عليه السّلام) :

((... فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مئة وتظلّ مئة، إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها ومن يِقتل من أهلها قتلاً ومن يموت منها موتاً)).

وقال (عليه السّلام) في ذم أهل البصرة :

(كأني بمسجدکم کجؤجؤ سفينة قد بعث اللّه عليها العذاب من فوقها ومن تحتها وغرق من ضمنها. (وفي رواية) وأيم اللّه لتغرقن بلدتكم حتى كأني أنظر إلى مسجدها كجؤجؤ سفينة أونعامة جاثمة. (وفي رواية) بلادكم أنتن بلاد اللّه تربة، أقربها من الماء وأبعدها من السماء، وبها تسعة أعشار الشر، المحتبس فيها بذنبه والخارق بعفواللّه، كأني أنظر إلى قريتكم هذه قد طبّقها الماء حتى ما يُرى منها إلا شُرف المسجد كأنه جؤجؤ في لجة البحر).

وقال (عليه السّلام) وهو يخبر عن صاحب الزنج :

ص: 265

((كأني به وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا لجب، ولا قعقعة لُجُم، ولا حمحمة خيل، يتبرون الأرض بأقدامهم كأنها النعام، ويل لسكككم العامرة، والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور، وخراطيم كخراطيم الفيلة، من أولئك الذين لا يندب قتلهم ولا يُفتَقد غائبهم، إنما كابُّ الدنيا لوجهها، وقادر بقدرها، وناظر بعينها)).

ويخبر - (عليه السّلام) - عن الأتراك ويصفهم بقوله :

((كأني أراهم قوماً كأن وجوههم المجان المطرقة، يلبسون الرق والديباج، وينتقبون الخيل العتاق، ويكون هناك استمرار وقتل حتى يمشي المجروح على المقتول، ويكون المفلت أقل من المأسور)).

وقال (عليه السّلام) وهويذكر الملاحم ويشير إلى القائم الحجة (عليه السّلام) :

((يعطف الهوى على الهدي إذا عطفوا الهدى على الهوي، ويعطف الرأي على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأي.

(منها) : حتى تقوم الحرب بكم على ساق بادیاً نواجذها مملوءةً أخلاقها، حلواً، رضاعها، علقماً عاقبتها. ألا وفي غد - سيأتي غد بما لا تعرفون - يأخذ الوالي من غيرها عمالها على مساوي أعمالها، وتخرج له الأرض أفاليد (أي : قطع من الذهب والفضة) كبدها، وتلقي إليه سلماً مقاليدها، فیریکم کیف عدل السيرة، ويحيي ميت الكتاب والسنة.

ومنها : كأني به نعق بالشام وفحص براياته في ضواحي كوفان، فعطف عليها عطف الضروس وفرش الأرض بالرؤوس، فقد فغرت فاغرته، وثقلت في

ص: 266

الضوء الثالث: من خصانص نهج البلاغة...........

الأرض وطأته، بعيد الجولة، عظيم الصولة، واللّه ليشرونكم في أطراف الأرض حتى لا يبقى منكم إلا قليل کالكحل في العين، فلا تزالون حتى تؤوب إلى العرب عوازب أحلامها..)).

وقال (عليه السّلام) في خطبةٍ له :

((... وإنه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق ولا أظهر من الباطل ولا أكثر من الكذب على اللّه ورسوله، وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبوَر من الكتاب إذا تُلي حق تلاوته، ولا أنفق منه (أي : أروج منه) إذا حُرِّف عن مواضعه، ولا في البلاد أنكر من المعروف، ولا أعرف من المنكر، فقد نبذ الكتاب حَمَلَته وتناساه حَفَظَته، فالكتاب يومئذ وأهله منفيان طریدان، وصاحبان مصطحبان في طريق واحد لا يؤويهما مؤوٍ فالكتاب وأهله في ذلك الزمان في الناس وليسا فيهم، ومعهم وليسا معهم، لأن الضلالة لا توافق الهدی وإن اجتمعا)).

وقال (عليه السّلام) :

((يأتي على الناس زمان عضوض (أي : شديد) يعض الموسر فيه على ما في يديه ولم يُؤمَر بذلك، قال اللّه سبحانه :

{... وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (البقرة/237)} .

تنهَدُ فيه الأشرار (أي : ترتفع) وتُستذل الأخيار ويبايع المضطرون...)).

ولما أُخذ مروان بن الحكم أسيراً يوم الجمل، فاستشفع الحسن والحسين

ص: 267

(عليهما السلّام) إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) فكلماه فيه، فخلى سبيله فقالا له: يبايعك يا أمير المؤمنين، فقال (عليه السّلام):

((أولم يبايعني بعد قتل عثمان؟ لا حاجة لي في بيعته ! إنها كف يهودية لوبايعني بكفه لغدر بسبته، أما إن له إمرة كلعقة الكلب أنفه وهو أبو الأكبش الأربعة، وستلقى الأمة منه ومن ولده يوماً أحمر)).

ص: 268

6_ القيادة العسكرية

من صفات الإمام علي (عليه السّلام) (الشجاعة) وقد تحدثنا عنها في كلام سابق، وفي هذه الفقرة سنستعين بعيّنات من تنظيراته العسكرية خلال مدة حكمه القصيرة المتسمة بالحروب والتي اضطر إليها اضطراراً فضلاً عما كان يبديه من رأي عسكري لمن سبقه في قيادة الأمة الإسلامية.

قال (عليه السّلام) لأصحابه في ساحة الحرب :

((...فقدّموا الدارع وأخِّروا الحاسر (أي : لابس الدرع ومن لا درع له)، وعضوا على الأضراس، فإنه أني للسيوف على الهام، والتووا في أطراف الرماح فإنه أموَرُ للأسنّة، وغُضّوا الأبصار فإنه أربط للجأش وأسكن للقلوب، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل، وراياتكم فلا تميلوها ولا تخلّوها، ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم والمانعين الذمار منكم، فإن الصابرين على نزول الحقائق هم الذين يحفون برایاتهم، ويكتنفون حفافها! وراءها وأمامها، ولا يتأخرون عنها فيسلموها، ولا يتقدمون عليها فيفردوها، أجرأ امرؤ قرنه (أي : كفوء وخصم)

ص: 269

وآسی أخاه بنفسه، ولم يكن قرنه إلى أخيه فيجتمع عليه قرنه وقرن أخيه)).

في فقرة إشارات تاريخية نقلنا رأيه العسكري (عليه السّلام) عندما استشاره عمر بن الخطاب في الشخوص لقتال الفرس بنفسه، يمكن الرجوع إليها، ومع ذلك نذكر الجزء الأخير من إشارته التي أخذ بها عمر، إذ قال الإمام (عليه السّلام) مشيرة على عمر :

((... والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإسلام وعزیزون بالاجتماع، فكن قطباً واستدر الرحى بالعرب، واصِلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت (أي : خرجت) من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك)).

ومن وصيةٍ له (عليه السّلام) وصى بها جيشاً بثه إلى العدو :

((فإذا نزلتم بعدو أونزل بكم فليكن معسكركم في قبيل الأشراف (أي : المرتفعات) أوسفاح الجبال، أو أثناء الأنهار کیما يكون لكم ردءً ودونكم مرواً ، ولتكن مقاتلتكم من وجه واحد أواثنين واجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال (أي : أعالي الجبال) ومناكب الهضاب (أي : مرتفعاتها) لئلا يأتيكم العدو من مكان مخافة أوأمن، واعلموا أن مقدمة القوم عيونهم، وعيون المقدمة طلائعهم، وإیاکم والتفرق، فإذا نزلتم فانزلوا جميعاً، وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعاً، وإذا غشیکم الليل فاجعلوا الرماح كفة (مثل كفة الميزان) ولا تذوقوا النوم إلا غراراً أومضمضة)).

ومن وصية له (عليه السّلام) المعقل بن قیس الرياحي حين أنفذه إلى الشام في

ص: 270

ثلاثة آلاف مقدمة له قال :

((اتقِ اللّه الذي لابد لك من لقائه، ولا منتهى لك دونه، ولا تقاتلن إلا من قاتلك، وسِر البردين (أي : الغداة والعشي) وتحدّر بالناس ورفِّه بالسير، ولا تسر أول الليل، فإن اللّه جعله سكناً وقدّره مقاماً لا ضعناً، فأرح فيه بدنك وروظهرك، فإذا وقفت حين ينبطح السحر (أي : ينبسط)، أوحين ينفجر الفجر فسر على بركة اللّه، فإذا لقيت العدو فقف من أصحابك وسطاً، ولا تدنُ من القوم دنو من يريد أن ينشب الحرب، ولا تباعد عنهم تباعد من يهاب البأس حتى يأتيك أمري، ولا يحملك شنانکم (أي : بغضاؤكم) على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم)).

ومن وصية له (عليه السّلام) لعسكره قبل لقاء العدو بصفين :

((لا تقاتلوهم حتى يبدؤوكم حجة أخرى لكم عليهم، فإذا كانت الهزيمة بإذن اللّه فلا تقتلوا مدبراً، ولا تصيبوا معوراً (أي الذي أبدى عورته) ولا تجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النساء بأذى وإن شتمن أعراضكم وسبين أمراءكم، فانهن ضعيفات القوى والأنفس والعقول...))

ومن كلام له (عليه السّلام) لأصحابه عند الحرب قال :

((لا تشدنَّ عليكم فرّة بعدها كرّة، ولا جولة بعدها حملة، وأعطوا السيوف حقوقها، ووطئوا للجيوب مصارعها، واذمروا أنفسكم على الطعن الدَعسيّ (أي : الشديد) والضرب الطلحفي (أي : أشد الضرب) وأميتوا الأصوات فإنه

ص: 271

طرد للفشل)).

وفي إشارة له (عليه السّلام) على عمر عندما استشاره في حربه مع الروم؛ هل يخرج إليهم بنفسه فأشار عليه بقوله ((عليه السّلام)) :

((انك من تسر الى هذا العدد بنفسك فتلقهم بشخصك فتنكب لا تكن للمسلمين كانفة (أي : عاصمة) دون أقصى بلادهم، ليس بعدك مرجع يرجعون إليه. فابعث إليهم رجلاً محرباً (أي : محارباً) واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهر اللّه له فذاك ما تحب، وإن تكن الأخرى كنت ردءً للناس (أي : ملجأ الهم) ومثابة (أي : مرجعاً) للمسلمين)).

وقال في عهده (عليه السّلام) للأشتر النخعي واليه على مصر :

((... فولِّ من جندك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيباً (أي : أطهرهم صدراً وقلباً)، وأفضلهم حلماً ممن يبطيء عن الغضب، ويستريح إلى العذر ويرأف بالضعفاء وينبو (أي : يشتد) على الأقوياء، وممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف.. وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته، وأفضل من جدته (أي : سعيه وغناه) بما يسعهم ويسع من ورائهم من خلوف (أي : بالعجزة والنساء) أهليهم حتى يكون همهم واحداً في جهاد العدو، فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك..)).

ومن كلام له (عليه السّلام) إلى بعض قادة جيشه قال :

((فإن عادوا (أي : الأعداء) إلى ظل الطاعة فذلك الذي نحب، وإن توافت الأمور بالقوم إلى الشِقاق والعصيان، فانهد بمن أطاعك إلى من عصاك، واستغنِ

ص: 272

بمن انقاد معك عمن تقاعس عنك، فإن المتكاره مغيبه خيرٌ من شهوده، وقعوده أغنى من نهوضه)).

ومن كتاب له (عليه السّلام) للأشتر النخعي عندما ولّاه مصر قال :

((ولا تدفعن (ترفضن) صلحاً دعاك إليه عدوك ولله فيه رضا، فإن في الصلح دعة (أي : راحة) لجنودك وراحة من همومك وأمناً لبلادك، ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه، فإن العدوربما قارب ليغفل (من الغفلة) فخذ بالحزم وآتهم في حسن الظن. وإن عقدتَ بينك وبين عدوك عقدة أوألبسته منك ذمة فحِط (أي : احفظ) عهدك بالوفاء، وارعَ ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جُنة (حماية) دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض اللّه الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء.. ولا تغدر من بذمتك، ولا تخيسنَّ (تنتقضنَّ) بعهدك ولا تختلن (أي : تخدعن عدوك)).

وقال (عليه السّلام) وهو يوصي أحد قادته :

((إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للمقدرة عليه)).

وطرح (عليه السّلام) نظرية حربية غاية في الأهمية والخطورة هي حدود التعامل بين القائد الأعلى وقادة الميدان والجند، فقال :

((لكم عندي أن لا أحتجز دونكم سراً إلا في حرب (أي : لا أكتم عنكم سراً)).

وكتب (عليه السّلام) إلى كميل بن زياد النخعي عامله على هيت، منكراً

ص: 273

عليه تجاوزه مهمته في الدفاع عن المسالح بالإغارة على قرقيسيا فقال :

((إن تعاطيك الغارة على قرقيسيا (بلدة على الفرات) وتعطيلك مسالحك التي وليناك، ليس بها من يمنعها ولا يرد الجيش عنها، لرأي شعاع (أي : متفرق غير صالح) فقد صرت جسراً لمن أراد الغارة من أعدائك على أولئك، غير شديد المنكب (أي : ضعيف) ولا مهيب الجانب، ولا ساد ثغرة، ولا كاسر شوكة، ولا مغني عن أهل مصره، (أي : غير قادر) ولا مجزٍ من أميره)).

ومن وصيةٍ له (عليه السّلام) لابنه محمد بن الحنفية لما أعطاه الراية يوم الجمل قال له :

((عض على ناجذك (أحد الأنياب) وأعر اللّه جمجمتك (أي : اطلب الشهادة في سبيل اللّه)، تدْ(أي : وتّد أوثّبت) في الأرض قدمك، ارمِ ببصرك (أي : أحِط) أقصى القوم، وغض بصرك، واعلم إن النصر من عند اللّه سبحانه)).

وأوصى (عليه السّلام) جنده في أيام صفين بقوله :

((استشعروا الخشية وتجلببوا السكينة، وعضوا على النواجذ فإنه أني للسيوف على الهام، والملوا اللأمة (أي الدروع) وقلقلوا السيوف في أغمادها قبل سلِّها والحظوا الحزر (أي : النظر بغضب) واطعنوا الشزر (أي يميناً وشمالاً)، ونافحوا بالضبا (أي بطرف السيف)، وصلوا السيوف بالخطى (أي : اجعلوها متصلة بخطی أعدائكم).. وامشوا إلى الموت مشیاً سُمُجاً (أي : سهلاً)، وعليكم بهذا السواد الأعظم والرواق المطنب (السواد الأعظم، أهل الشام، والرواق المطنب، رواق

ص: 274

معاوية) فاضربوا ثبجه (وسطه))).

وقال (عليه السّلام) وهويوصي جنده أن يحسنوا إلى الناس في البلدان التي يحتلونها أويمرون بها :

((إني قد سيّرتُ جنوداً هي ماراً بكم إن شاء اللّه، وقد أوصيتهم بما يجب لله عليهم من كفِّ الأذى وصرف الشذي (أي الشر)، وأنا أبرأ إليكم وإى ذمتكم من معرّة (أذي) الجيش إلا من جوعه المضطر لا يجد عنها مذهباً إلى شبعه (یسد رمقه) فنكِّلوا من تناول منهم شيئاً ظلماً عن ظلمهم، وكفوا أيدي سفهائكم عن مضادتهم والتعرض لهم فيما استنيناه منهم، وأنا بين أظهر الجيش فادفعوا إليَّ مظالمكم وما عراكم مما يغلبكم من أمرهم ولا تطيقون دفعه إلا باللّه وبي فانا أغيّره بمعونة اللّه إن شاء اللّه)).

ودعا (عليه السّلام) جنده إلى التعاون فيما بينهم قائلاً :

((وأي امرئ فيكم أحسّ من نفسه رباطة جأش عند اللقاء، ورأى من أحد من إخوانه فشلاً، فليذبّ عن أخيه بفضل نجدته التي فُضِّل بها عليه كما يذبُّ عن نفسه)).

وحدد (عليه السّلام) صفات جنوده بقوله :

((فالجنود - بإذن اللّه - حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم)).

ووازن (عليه السّلام) بين ما يجب أن يتصف به الجندي وبين ما يجب من

ص: 275

حوافز تجعله يؤدي واجبات الجندية على خير ما يرام فقال :

((ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج اللّه لهم من الخراج الذين يقوون به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من ولاء حاجاتهم)).

وأوصى (عليه السّلام) جنده في معركة الجمل أن ((لا يبدؤوهم بقتال ولا يرموهم بسهم ولا يضربوهم بسيف ولا يطعنوهم بر مح)).

وقبل بدء الحرب خطب بجيشه قائلاً :

((يا أيها الناس إذا هزمتموهم فلا تجهزوا على جريح ولا تقتلوا أسيراً ولا تتبعوا مولياً ولا تطلبوا مدبراً ولا تكشفوا عورة ولا تمثلوا بقتيل ولا تهتكوا ستراً ولا تقربوا شيئاً من أموالهم إلا ما تجدونه في عسكرهم من سلاح أوكراع أوعبد أوأمة وما سوى ذلك فهو ميراث ورثتهم على كتاب اللّه تعالی)).

ص: 276

7_الشكوى

اتسمت حياة الإمام علي (عليه السّلام) - سيما بعد توليه أمر المسلمين - بالصخب والاضطراب والعسف ومجانبة الحق، وكان (عليه السّلام) ينظر إلى من حوله، سواء في أيام السلم - وهي قليلة - وأيام الحرب - وهي مروعة - فيراهم منقسمين على أنفسهم؛ منهم من تمسك بالدين وارتضى الإمام قائداً بصدق وإخلاص ينطويان على نفس تطهرت بماء الإيمان وتعطرت بشذى السجية الفطرية المتسمة بالنقاء - وهؤلاء قلة منتقاة بعفوية إيمانية عجيبة.

ومنهم من تأخذهم ریاح الأحداث يميناً وشمالاً وتدفعهم إلى الأمام مرة وتسحبهم إلى الخلف أخرى، حسب مقتضى الحال وتقلب الظروف والأحوال، تحكمهم مصالحهم لعدم تمكن الإيمان منهم؛ فهم طينة هشة تتشكل على وفق ما يراد لها أن تتشكل ولكنها كانت إلى زخرف الحياة أميَل فكانت تهتز لأقل نسمة فتميل إلى معسكر المكر والخديعة وتضعف أمام مختبرات غسل الأدمغة ويسيل لعابها لدسامة موائد مطابخ أولئك الذين يجيدون طبخ المغريات ويعرفون متى وكيف ولمن يقدمون تلك الوجبات التي من شأنها ملء الأمعاء وإفراغ النفوس من الإيمان الصادق.

ص: 277

ومنهم من اتخذوا رسالة محمد بن عبد اللّه، الرسول الكريم (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) سفينة نجاة لهم من خطر زوال (مجدهم) وسلطانهم قبل الدعوة الإسلامية، فصاروا يحاربون الدين ورجاله بالدين ورجاله معتمدين المكر والخداع منهجاً لهم فنجحوا في ذلك إلى حد ما، وإن كان نجاحهم مرهوناً بمرحلة وجودهم وما إن زالوا حتى عاد الإيمان والصدق والنقاء، إلى حيث أراد الرسول الكريم (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) وأراد الوصي (عليه السّلام) والأئمة من بعده .

تلك المفارقات جعلت الإمام علي (عليه السّلام) يتشظى ألماً ويتحرق حسرة فيرسلها شكوى رجل خبر الحياة وسبر أغوارها واستقرأ النفس الإنسانية فعرف أسرارها فجاءت شكواه آية من آيات البلاغة وغاية من غايات المنهج التربوي القويم.

ونحن هنا سنختار بعضاً من تلك الزفرات النابعة من نفس مخظَّلة بصدق الإيمان، إنها شكوى علي بن أبي طالب (عليه السّلام) كفى بذلك تعريفاً :

ففي خطبة له (عليه السّلام) وهي المعروفة ب (الشقشقية) قال :

((أما واللّه لقد تقمصها (أي : لبسها كالقميص) فلان وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحا، ينحدر عيني السيل، ولا يرقى إلىَّ الطير، فسدلت (أي : أرخيت) دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً (أي : ملتعنها)، وطفقت أرتئي بين أن أصول بید جذَّاء (أي : مقطوعة)، أوأصبر على طخية عمياء (أي : ظلمة)، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه!

فرأيت أن الصبر على هاتا أحجي (أي : ألزم) فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا (أي : ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه) أری تراثي (ميراثي) نهبا،

ص: 278

حتى مضى الأوّل لسبيله، فأدلى بها إلى فلان بعده ...

شتان ما يوحي على کورهاويوم حيان أخي جابر

فيا عجباً ! !بينما هو يستقيلها (أي يطلب إعفاءه منها) في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشدّ ما تشطر ضرعيها! فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كَلْمُها، ويخشن مسّها، ويكثر العثار (أي : الكبوة) فيها، والاعتذار منها، فصاحبها کراکب الصعبة (من الإبل ما ليست بذلول)، إن أشنَق (أي : كف زمام البعير) لها حَزَمَ (قطع) وإن أسلس (أرخی) لها تقحَّم (هلك)، فجُني (ابتلوا) الناس - لعمر اللّه - بخبط (سير على غير هدى) وشِماس (إباء ظهر الفرس عن الركوب)، وتلوّن واعتراض (التخبط في السير)، فصبرت على طول المدة، وشدة المحنة؛ حتى إذا مضى لسبیله جعلها في جماعة زعم اني أحدهم، فيا للّه وللشوری! متي الريب فيَّ مع الأوّل منهم، حتى صرت أُقرن الى هذه النظائر، لكنّي أسففت (أي دنوت) إذ أسفّوا، وطرت اذا طاروا، فصفا (أي : مال) رجل منهم لضغنه (أي : لحقده)، ومال الآخر لصهره مع هنٍ وَهَنٍ (أي : أغراض أخرى) إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حِضنيه (أي : رافعاً أو متكبراً) بين نثيله (أي : روثه) ومعتلفه، وقاموا معه بنو أبيه يخضمون (أي : يأكلون الشيء الرطب) مال اللّه خِضمة الإبل نبتة الربيع إلى أن انتکث (أي : انتفض) عليه فَتْلُه، وأجهز (أي : تم قتله) عليه عَمَلُهُ وكبت به (أي : كبا) بطنته.

فما راعني إلّا والناس كُعرف الضبع إلىَّ ينثالون (أي : يتابعون) عليَّ من كل جانب حتى لقد وُطِيءَ الحسنان، وشق عطفايَ (أي : خدش جانباه) مجتمعين

ص: 279

حولي کربيضة الغنم (أي : الرابضة من الغنم)، فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى، وقسط (أي : جار) آخرون، كأنهم لم يسمعوا سبحانه يقول :

{ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (القصص/83) }

بلی! واللّه لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زَبْرِجْها ! أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يُقارُّوا (من الإقرار) على كِظّة (أي : استئثار) ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها (أي : كاهلها) ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنیاکم هذه أزهد عندي من عفطة عنز)).

ومن خطبة له (عليه السّلام) بعد مقتل طلحة والزبير قال :

((ما زلت أنتظر بکم عواقب الغدر، وأتوسمكم (أي : أتفرس فيكم بحلية المُغْتَرِّين، حتى سترني عنكم جلباب الدين، وبَصَّرَنیکم صدق النية. أقمت لكم على سنن الحق في جواد المضلَّة (أي : طريق فضل سالكها) حيث تلتقون ولا دليل، وتحتفرون ولا تُجبهون (أي : لا تجدون ماء). اليوم أُنطق لكم العجماء (أي : البهيمة) ذات البيان، عَزَبَ (أي : غاب) رأي امريء تخلف عني! ما شككت في الحق مُذ أُريته! لم يوجس موسى (عليه السّلام) خيفة على نفسه، بل أشفق من غلبة الجهّال ودول الظلال! اليوم تواقفنا (أي : تقابلنا) على سبيل الحق والباطل، من وثق بما لم يظمأ)).

ومن خطبة له (عليه السّلام) يصف حاله قبل البيعة له :

ص: 280

((فنظرت فإذا ليس لي معين إلّا أهل بيتي فضننت بهم عن الموت، وأغضيت على القذى، وشربت على الشجا، وصبرت على أخذ الكظم (أي : الإختناق)، وعلى أمرّ من طعم العلقم. ولم يبايع حتى شرط أن يؤتيه على البيعة ثمناً، فلا ظفرت يد البائع، وخزيت أمانة المبتاع)).

ومن خطبة له (عليه السّلام) بعد التحكيم قال :

((أما بعد، فإن معصية الناصح الشفيق العالم المجرب تورث الحسرة، وتعقب الندامة، وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري، ونخلت لكم مخزون رأيي، لوكان يطاع لقصير (أي : الأبرش) أمر! فأبيتم عليَّ إباء المخالفين الحفاة والمنابذین العصاة، حتى ارتاب الناصح بنصحه، وضنَّ الزند بقدحه، فكنت أنا وإياكم كما قال أخوهوازن، دريد بن الصمّة :

أمرتكم أمري بمنحرج اللوى فلم تستبينوا النصح إلّا ضحى الغدِ.

وفي خطبة له (عليه السّلام) يشكو ظلم قریش :

((اللّهم إني أستعديك (أي : أستعينك) على قريش ومن أعانهم، فإنهم قد قطعوا رحمي وأكفؤوا إنائي (أي : قلبوه)، وأجمعوا على منازعتي حقاً كنت أولى به من غيري، وقالوا :

- ألا إن في الحق أن تأخذه، وفي الحق أن تمنعه، فاصبر مغموماً، أومت متأسفاً.

فنظرت فإذا ليس رافد (أي : معين) ولا ذاب (أي : مدافع) ولا مساعد)).

ص: 281

8_ النقد

إشارة

إن نقد الإمام علي (عليه السّلام) ليس نقداً من أجل النقد ولم يكن ذا حدً واحد، أي لم يظهر السلبية ويشير إليها حسب، بل هوذو حدّين؛ إذ يشخّص الداء، ويصف الدواء، وهكذا تناول (عليه السّلام) أموراً كثيرة وكان صيرفياً لامعًا وطبيباً نطاسياً متمكناً من أدواته، فلا يطلق الكلام على عواهنه، فيقول هذا أسود وهذا أبيض، بل كان يعرف لماذا صار الأبيض أسوداً ولماذا صار الأسود أبيضاً، وكيف يجب أن يتبادلا المواقع. ونقد الإمام (عليه السّلام) ينقسم إلى قسمين كما رأيناه : اجتماعي وأدبي.

ففي النقد الاجتماعي - خاصة - كان (عليه السّلام) يطرح الحلول ولسان حاله يقول

لقد ناديت لوأسمعت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي و كعادتنا سنستعين بعينات من نقد الإمام (عليه السّلام) في كلا القسمين، كشواهد على هذه الخصيصة في (النهج).

ص: 282

أ - النقد الاجتماعي

من كلام له (عليه السّلام) في من اتخذوا الشيطان ولياً لهم قال :

(( اتخذوا الشيطان لأمرهم ملاكاً واتخذهم له أشراكاً (أي : أدوات صيد) فباض وفرِّخ في صدورهم، ودب ودرج في جحورهم، فنظر بأعينهم، ونطق بألسنتهم، فركب بهم الزلل، وزيَّن لهم الخطل، فِعل من شركه الشيطان في سلطانه، ونطق بالباطل على لسانه)).

ومن كلام له (عليه السّلام) دعا فيه الزبير للدخول في بيعته قال :

((يزعم أنه قد بايع بيده، ولم يبايع بقلبه، فقد أقر بالبيعة، وادعى الوليجة (أي : الدخيلة) فليأتِ عليها بأمرٍ يُعرَف، وإلا فليدخل فيما خرج منه).

وقارن بينه (عليه السّلام) وبين خصومه فقال :

((وقد أرعدوا وأبرقوا، ومع هذين الأمرين الفشل، ولسنا نرعد حتى نوقع، ولا نُسيلُ حتى نمطر)).

وقال (عليه السّلام):

((ألا وإن الشيطان قد جمع حزبه، واستجلب خيله ورجله (جمع راجل) وإن معي لبصيرتي، مالبَّست (ما أبهمت) على نفسي، ولا لُبِّسَ عليّ. وأيم اللّه لأفرطنّ لهم حوضاً أنا ماتحه (مستقيه)، لا يصدرون عنه (لا يعودون بعد الاستقاء) ولا يعودون إليه)).

وقال (عليه السّلام) للأشعث بن قيس وهوعلى منبر الكوفة يخطب، إذ

ص: 283

اعترضه الأشعث في بعض كلامه قائلاً :

يا أمير المؤمنين هذا عليك لا لك.

فأجابه الإمام (عليه السّلام) قائلا :

((ما يدريك ما عليَّ وما لي، عليك لعنة اللّه ولعنة اللاعنين !حائك ابن حائك !منافق ابن کافر؟ ويلك لقد أسرك الكفر مرة والإسلام أخرى فما فداك من واحدة منها مالك ولا حسبك ! وإن امرأْ دلّ على قومه السيف، وساق إليهم الحتف، لحريّ أن يمقته الأقرب ولا يأمنه الأبعد)).

ومن كلام له (عليه السّلام) حلل فيه تحليلاً نقدياً رائعاً مقتل عثمان فقال :

((لو أمرتُ به لکنت قاتلاً ، أونَهيت عنه لكنت ناصراً، غير أن من نصره لا يستطيع أن يقول : خذله من أنا خير منه، ومن خذله لا يستطيع أن يقول : نصره من هو خيرٌمني، وأنا جامع لكم أمره، استأثر فأساء الأثرة (أي : الاستبداد) وجزعتم فأسأتم الجزع، وللّه حكم واقع في المستأثر والجازع).

ومن كلام له (عليه السّلام) يدين موقف قريش منه فيقول :

((مالي ولقریش! واللّه لقد قاتلتهم كافرين، ولأقاتلنهم مفتونين، وإني لصاحبهم بالأمس، كما أنا صاحبهم اليوم، واللّه ما تنقم منا قريش إلا أن اللّه اختارنا عليهم، فأدخلناهم في حيّزنا فكانوا كما قال الأوّل:

أدمت لعمري- تربك المحض صابحاً*** وأكلك بالزبد المقشرة البجرا

ونحن وهبناك العلاء ولم تكن*** علياً، وحطنا حولك الجرد والسُّمرا

ص: 284

وكان مصقلة بن جبيرة الشيباني قد ابتاع سبي بني ناجية من عامل أمير المؤمنين (عليه السّلام) وأعتقهم، فلما طالبه (عليه السّلام) بالمال خان وغدر، وهرب إلى معاوية في الشام، فقال (عليه السّلام) :

((قبّح اللّه مصقلة! فَعَل فِعل السادة، وفرّ فرار العبيد! أفما أنطق مادحه حتى أسكته، ولا صدّق واصفه حتى بكتّه (أي : عنفه) ولوأقام لأخذنا میسوره، وانتظرنا بحاله وفوره)).

وحين منعه سعید بن العاص حقه قال (عليه السّلام) :

((إن بني أمية ليفوقونني تراث محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) تفويقاً، واللّه لئن بقيت لأنفضنهم نفض اللّحام الوِذام للتربة)).

وفي نقده أهل الشام قال (عليه السّلام) :

((جفاة (أي : غلاظ) طغام (أي : أوغاد)، وعبيد أقزام (أي : أرذال)، جُمعوا من كل أوب، وتلقطوا من كل شوب (أي : خلط)، فمن ينبغي أن يُفَقَّه أويؤَدَّب، ويُعَلَّم ويُدَرَّب، ويوَلّى عليه، ويؤخذ على يديه، ليسوا من المهاجرين والأنصار، ولا من الذين تبوؤا الدار والإيمان.

وبعث (عليه السّلام) برسالة إلى معاوية بن أبي سفيان قال فيها :

((أما بعد : فقد أتتني منك موعظة موصّلة (أي : ملفقة) ورسالة محيَّرة (أي : مزيّنة)، نمّقتها بضلالك، وأمضيتها بسوء رأيك، وكتاب امريء ليس له بصر يهديه، ولا قائد یرشده، قد دعاه الهوى فأجابه، وقاده الضلال فاتبعه، فهجر

ص: 285

(هذي) لاغطاً وضل خابطا)).

وفي سحرة اليوم الذي ضُرِبَ فيه قال (عليه السّلام) :

((مكتني عيني (أي : غلبني النوم) وأنا جالس، فسنح (أي : مرّ) رسول اللّه (صلّی اللّه عليه وآله وسلَّم) فقلت :

- یا رسول اللّه ماذا لقيت من أمتك من الأوَد واللّدد؟

فقال :

-ادع عليهم

فقلت :

- أبدلني اللّه بهم خيراً منهم، وأبدلهم بي شراً لهم مني)).

ب . النقد الأدبي

على الرغم من صخب عصر الأمام، وما كانت تكتنفه من أحداث عصفت بكثير من دعائم الدين، بسبب أدعياء الدين الإسلامي (وقد أشرنا إلى ذلك في مكان آخر).. نقول : على الرغم من انشغال الإمام علي (عليه السّلام) المكثف في أمور حكمه لكنه (عليه السّلام)، كان يقتنص الفرصة ليزيح عن أصحابه شيئاً من هموم السياسة، ولأنه الخطيب الذي لا يشق له غبار والأديب الذي لا يُباری، فقد انبرى (عليه السّلام) للنظر في شعر بعض الشعراء، كما ألمح إلى بعض النقد الأدبي لتكتمل في شخصيته مقومات القائد الذي عليه أن يلمَّ بمفردات الحياة كلها؛ فقد أخبرنا ابن أبي الحديد (20/153-154) :

ص: 286

إن علي بن أبي طالب (عليه السّلام) كان يعشِّي الناس في شهر رمضان باللحم ولا يتعشى معهم، فإذا فرغوا خطبهم ووعظهم، فأفاضوا ليلة في الشعراء وهم على عشائهم، فلما فرغوا خطبهم (عليه السّلام) وقال في خطبته :

- اعلموا أن ملاك أمركم الدين، وعصمتكم التقوى، وزينتكم الأدب، وحصون أعراضكم الحلم.

ثم قال :

- يا أبا الأسود؛ فيم كنتم تفيضون فيه؟ أي الشعراء أشعر؟

فقال :

- يا أمير المؤمنين، الذي يقول :

ولقد أغتدي يدافع ركني*** أعوجيٌ ذوميعة إضریجِ

مِخلطٌ مِزيلٌ مِقنٌ*** مِنفح مِطرح سَبُوحَ خروجِ

يعني أبا دواد الأيادي .

فقال (عليه السّلام) : ليس به

قالوا : فمن يا أمير المؤمنين ؟

فقال :

- لورفعت للقوم غاية (راية) فجروا إليها معاً علمنا من السابق منهم، ولكن إن يكن فالذي لم يقل عن رغبة ولا رهبة.

قيل :

ص: 287

من هويا أمير المؤمنين ؟

قال : هو الملك الضليل ذوالقروح

قيل :

امرؤ القيس يا أمير المؤمنين ؟

قال :

- هو.

وفي نظرة نقدية بليغة من حيث ضغط كلماتها وتكثيف معانيها قال الإمام علي (عليه السّلام) :

((خير الشعر ما كان مثلاً، وخير الأمثال ما لم يكن شعراً))).

في الواقع إن الشعر لوكان مثلاً أضفى على سِمتِهِ میزتين، ميزة الوزن والموسيقى، وميزة الحكمة والمدلول، على أن يكون ذلك غير مصنوع وغير متكلف.

أما قوله (عليه السّلام) (خير الأمثال ما لم يكن شعر) فلأن المثل (يؤدي معنىً كبيراً بألفاظ قليلة، واضحة، وقيود الشعر - من وزن وقافية - قد تؤثر على وضوح الفكرة وإلى زيادة ألفاظ المثل).

وقال (عليه السّلام) :

(لا تؤاخِ شاعراً فإنه يمدحك بثمن ويهجوك مجاناً)

ص: 288

ويريد الإمام (عليه السّلام) : الشاعر المحترف الذي يقول الشعر للتكسب لا الشاعر الذي يريد التعبير عما يختلج في داخله من تجربة عاشها بصدق.

وقال (عليه السّلام) :

((تعلموا شعر أبي طالب وعلموه أولادكم فإنه كان على دين اللّه، وفيه علم كثير)).

وأحسب إن دعوة الإمام تعلم شعر أبي طالب نابعة من نظرة نقدية صائبة ؛ باعتبار إنه شعر ملتزم.

ومعروف إن الالتزام في الشعر من الأمور الجليلة في الأدب.

روی ابن رشيق القيروان في كتاب العمدة : أن أعرابياً وقف على علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه فقال :

((إن لي إليك حاجة رفعتها إلى اللّه قبل أن أرفعها إليك، فإن قضيتها حمدت اللّه تعالى وشكرتك، وإن لم تقضها حمدت اللّه وعذرتك.

فقال له علي :

خط حاجتك في الأرض فإني أرى الضر عليك.

فكتب الأعرابي على الأرض : إني فقير

فقال علي : يا قنبر، ارفع إليه حلتي الفلانية :

فلما أخذها مثل بين يديه وقال :

کسوتني حلةٌ تبلى محاسنها*** وسوف أكسوك من حسن الثنا حللا

ص: 289

إن الثتاء ليحيي ذكر صاحبه*** كالغيث يحيي نداه السهل والجبلا

لا تزهد الدهر في عرف بدأت به*** فكل عبدٍ سيجزى بالذي فعلا

فقال علي :

- یا قنبر، أعطه خمسين ديناراً؛ أما الحلة فلمسألتك وأما الدنانير فلأدبك، سمعت رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) يقول ((أنزلوا الناس منازلهم)).

وتلك الرواية تدل على نظرة الإمام علي (عليه السّلام) النقدية للشعر، إذ ما أن سمع أبيات الأعرابي حتى اهتز لها طرباً وإعجاباً وعبّر عن ذلك بإعطائه خمسين دیناراً.

وما تمثل به الإمام (عليه السّلام) من شعر أثناء خطبه وأحاديثه ومراسلاته ووصاياه إلا دليل على حسّه النقدي وذوقه الأدبي الرفيع، ولولا خشية التطوال الأوردت عينات كثيرة من نقده الأدبي وهي مبثوثة في أجزاء (النهج) بشرح ابن أبي الحديد، ولكنني أكتفي بهذا لأنتقل إلى فقرة أخرى من الخصائص.

ص: 290

9_ العتاب

في عتابه على أهل البصرة، بعد وقعة الجمل، قال (عليه السّلام) :

(أرضكم قريبة من الماء، بعيدة من السماء، خفّت عقولكم، وسفهت حلومكم، فأنتم غرض لنابل، وأكلةٌ لآكل، وفريسة لصائل).

ويعاتب قوماً فيقول (عليه السّلام) :

(( فإنكم لوقد عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم (خفتم)، وسمعتم وأطعتم، ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا، وقريب ما يطرح الحجاب ! ولقد بُصِّرتم إن أبصرتم، وأُسمِعتم إن سمعتم وهُديتُم إن اهتديتم، وبحقٍ أقول لكم:

لقد جاهدتم العِبَر، وزجرتم بما فيه مزدجر، وما يبلِّغ عن اللّه بعد رسل السماء (الملائكة) إلا بشر)).

وبعد غارة الضحاك بن قیس صاحب معاوية على الحاج بعد قصة الحكمين قال (عليه السّلام) يستنهض أصحابه لما حدث في الأطراف :

ص: 291

((أيها الناس، المجتمعة أبدانهم، والمختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصم الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء! تقولون في المجالس : كيت وكيت، فإذا جاء القتال قلتم: حيدي حَيَاد! ما عزت دعوة من دعاكم ولا استراح قلب من قاساكم، أعاليل بأضاليل، وسألتموني التطويل (أي : المطل) دفاع ذي الدين المطول (أي : الكثير المطل) لا يمنع الضيم الذليل! ولا يدرك الحق إلا بالجد! أي دار بعد داركم تمنعون، ومع أي إمام بعدي تقاتلون؟ المغرور واللّه من غررتموه، ومن فاز بكم - واللّه - بالسهم الأخيب، ومن رمی بكم فقد رمى بأفوق (أي : مكسور الفوق) ناصل (أي : العاري عن النصل)، أصبحت - واللّه - لا أصدق قولكم، ولا أطمع في نصركم، ولا أوعد لعدوبكم، ما بالكم؟ ما دواؤكم، ما طبكم؟ القوم رجال أمثالكم، أقولاً بغير علم؟ وغفلة من غير ورع! وطمعاً في غير حق! ؟)).

وفي استنفار الناس إلى أهل الشام بعد فراغه من أمر الخوارج قال عليه السلام :

((أفٍّ لكم! لقد سئمت عتابكم! أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا؟ وبالذل من العز خلفاً ؟ إذا دعوتكم إلى جهاد عدوکم دارت أعينكم كأنكم من الموت في غمرة، ومن الذهول في سكرة، يرتج عليكم حواري فتنهون، وكأن قلوبكم مألوسة (أي : مجنونة) فأنتم لا تعقلون، ما أنتم لي بثقة سجيس (أبد) الليالي، وما أنتم بركن يُمال بكم ولا زوافر (أركان) عز يفتقر إليكم، ما أنتم إلا کابل ضل رعاتها، فكلما جمعت من جانب انتشرت من آخر، لبئس - لعمر اللّه -

ص: 292

سُعْرُ نار الحرب أنتم تُكادون ولا تكيدون، وتُنتقص أطرافكم فلا تمتعضون، لا يُنام عنكم وأنتم في غفلة ساهون، غُلب - واللّه - المتخاذلون! وأيم اللّه إني لأظن بكم أن لوحمى الوغى، واستحرَّ الموت، قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج الرأس.

واللّه إن امرأ يمكِّن عدوه من نفسه يعرق لحمه ويهشم عظمه ويفري جلده، لعظيمٌ عجزه، ضعیف ما ضمّت عليه جوانح صدره، أنت فكن ذاك إن شئت! أما أنا فواللّه دون أن أُعطى ذلك ضرب بالمشرفية تطير منه فراش الهام، وتطيح السواعد والأقدام، ويفعل اللّه بعد ذلك ما يشاء)).

وفي توبيخ بعض أصحابه بعتابية مرة قال (عليه السّلام) :

((وكم أداریكم كما تداری البكار العَمِدة، والثياب المتداعية، وكلما حيصت من جانب تهتكت من آخر، كلما أطل عليكم مُنْسِرُ من مناسر أهل الشام أغلق كل رجل منکم بابه، وانحجر انحجار الضبة في جحرها والضبع في وجارها، الذليل واللّه من نصرتموه. ومن رمي بكم فقد رمي بأفوق ناصل، إنكم - واللّه - الكثير في الباحات، قليل تحت الرايات، وإني لعالم بما يصلحكم، ويقيم أودكم. ولكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي، أضرع اللّه خدودكم (أي : أذلها)، وأتعس جدودكم! لا تعرفون الحق كمعرفتكم الباطل، ولا تبطلون الباطل کابطالكم الحق)).

وفي ذم أهل العراق، وتوبيخهم على ترك القتال في ذروة النصر ونكذيبهم

ص: 293

إياه قال (عليه السّلام) :

{أما بعد يا أهل العراق، فإنما أنتم كالمرأة الحامل، حملت فلما أتمت أملصت ومات قیّمها وطال تأیُّمها، وورثها أبعدُها، أما واللّه ما أتيتكم اختباراً؛ ولكن جئت إليكم سوقاً، ولقد بلغني أنكم تقولون : عليٌّ يكذب، قاتلكم اللّه تعالی! فعلى من أكذب ؟ على اللّه؟ فأنا أوّل من آمن به، أم على نبيِّه؟ فأنا أول من صدَّقه، کلا واللّه، لكنها لهجة غبتم عنها، ولم تكونوا من أهلها، ويل أمهِ کیلاً بغير ثمن، لوكان له وعاءٌ (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ)}.

وفي توبيخ البخلاء بالمال والنفس قال (عليه السّلام):|

((فلا أموال بذلتموها للذي رزقها، ولا أنفس خاطرتم بهما للذي خلقها. تكرمون (أي : تفرون) باللّه على عباده، ولا تكرمون اللّه في عباده، فاعتبروا بنزولكم منازل من كان قبلكم، وانقطاعكم عن وصل إخوانكم)).

وقام إليه (عليه السّلام) رجل من أصحابه بعد ليلة الحرير في صفين فقال :

- نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها، فلم ندرِ أي الأمرين أرشد؟

فصفق (عليه السّلام) إحدى يديه على الأخرى وقال :

((هذا جزاء من ترك العقدة (أي : التعاقد)، أما واللّه لوأني حين أمرتكم به حملتم على المكروه الذي يجعل اللّه فيه خيراً، فإن استقمتم هديتكم وإن اعوججتم قومتكم، وإن أبيتم تداركتكم، لكانت الوثقی، ولكن بمن؟ وإلى من؟ أريد أن أداوي بكم وأنتم دائي. كناقش الشوكة بالشوكة، وهو يعلم ان ضلعها

ص: 294

(أي : تيلها) معها، اللّهم قد ملت أطباء هذا الداء الدويّ (أي : المؤلم)، وكلّت النزعة بأشطان الركيّ (أي : حبل البئر)، أين القوم الذين دُعوا إلى الإسلام فقبلوه، وقرؤوا القرآن فأحكموه، وهِيجوا إلى الجهاد فولِهوا وَلَهُ اللقاح إلى أولادها، وسلبوا السيوف أغمادها، وأخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفاً، وصفاً صفاً، بعض هلك وبعض نجا. لا يبشرون بالأحياء ولا يعزَّون عن الموتی، مُرْهُ العيون من البكاء، خمص البطون من الصيام.. أولئك إخواني الذاهبون.. إن الشيطان يريد أن يحل دینکم عقدة عقدة، ويعطيكم بالجماعة الفرقة، وبالفرقة الفتنة. فاصدّقوا عن نزعاته ونفثاته، واقبلوا النصيحة ممن أهداها إليكم، واعقلوها عن أنفسكم)).

ص: 295

10_ النصح والإرشاد

إن كلام الإمام علي (عليه السّلام) كلّه نصح وإرشاد في مجالات الحياة كافة ولكن ثمة ما هو خاص وما هوأخص، فنحن في فقرتنا هذه سنستشهد بالأخص الأخص مما تناثر هنا وهناك من (نهج البلاغة).

ففي ذكر المكاييل والموازين قال (عليه السّلام) :

((عباد اللّه إنكم - وما تأملون من هذه الدنيا – أثوياء (ضعفاء) مؤجلون، ومدينون مقتضون، أجل منقوص، وعمل محفوظ، ورُبَّ دائبٍ مضيعٌ، ورُبَّ کادح خاسر، وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدباراً، ولا الشر إلا إقبالاً، ولا الشيطان في هلاك الناس إلا طمعاً، فهذا أوان قویت عدته، وعميت مکیدته، وأمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت من الناس فهل تبصر إلا فقيراً يكابد فقراً أوغنياً بدّل نعمة اللّه كفراً، أو بخيلاً اتخذ البخل بحق اللّه وفراً، أومتمرداً كان بأذنه عن سمع المواعظ وقراً، أين خياركم وصلحاؤكم؟ وأين أحراركم وسمحاؤكم؟ وأين المتورعون في مكاسبهم؟ والمتنزهون في مذاهبهم؟ أليس قد ضعفوا جميعاً عن هذه الدنيا الدنية والعاجلة المنفضة؟ وهل خُلِقتم إلا

ص: 296

في حثالة لا تلتقي بذمِّهم الشفتان استصغاراً لقدرهم، وذهاباً عن ذكرهم، فإنا للّه وإنا إليه راجعون. ظهر الفساد فلا منكِر مغيِّر، ولا زاجر مزدجِر، أفبهذا تريدون أن تجاوروا اللّه في دار قدسه، وتكونوا أعز أوليائه عنده؟ هیهات لا يَخدَعُ اللّه عن جنته، ولا تُنال مرضاته إلا بطاعته، لعن اللّه الآمرين بالمعروف التاركين له، والناهين عن المنكر والعاملين به)).

وفي النهي عن عيب الناس قال (عليه السّلام) :

((وإنما ينبغي لأهل العصمة والمصنوع إليهم في السلامة أن يرحموا أهل الذنوب والمعصية، ويكون الشكر هوالغالب عليهم والحاجز لهم عنهم، فكيف بالعائب الذي عاب أخاً وعيَّره ببلواه، أما ذكر موضع ستر اللّه عليه ذنوبه مما هو أعظم من الذنب الذي عابه به. وكيف يذمه بذنب قد ركب مثله، فإن لم يكن ركب ذلك الذنب بعينه فقد عصى اللّه في ما سواه فما هو أعظم منه. وأيم اللّه لئن لم يكن عصاه في الكبير وعصاه في الصغير لَجُرأَتُهُ على عيب الناس أكبر، يا عبد اللّه لا تعجل في عيب أخذ بذنبه فلعله مغفوُر له، ولا تأمن على نفسك صغير معصية فلعلك معَذَبٌ عليه، فليكفف من علم عیب غيره لما يعلم من عيب نفسه ، وليكن الشكر شاغلاً له على معافاته، مما ابتلى به غيره)).

وقال (عليه السّلام) :

{أيها الناس، من عرف أخيه وثيقة دين، وسداد طريق فلا يسمعن فيه أقاويل الرجال، أما أنه يرمي الرامي وتخطيء السهام ويحيل الكلام، وباطل ذلك

ص: 297

يبور واللّه سميعٌ شهيد، أما أنه ليس بين الحق والباطل إلا أربع أصابع (أي : الباطل تقول سمعت والحق تقول رأيت)]

ومن خطبة في الاستسقاء قال (عليه السّلام):

((إن اللّه يبتلي عباده عند الأعمال السيئة بنقص الثمرات وحبس البركات وإغراق خزائن الخيرات، ليتوب تائب ويقلع مقلع، ويتذكر متذكر، ويزدجر مزدجر، وقد جعل اللّه سبحانه الاستغفار سبباً لدرور الرزق ورحمة الخلق فقال :

{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا* يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (نوح 10-12)}.

فرحم اللّه امرأ استقبل توبته واستقال خطيئته، وبادر منيته)).

ومن خطبة له (عليه السّلام) طويلة نجتزئ منها ما يخص فقرتنا إذ قال :

((... فأفق أيها السامع من سكرتك واستيقظ من غفلتك، واختصر من عجلتك، وأنعم الفكر فيما جاء على لسان النبي الأمي (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) ما لابد منه ولا محيص عنه، وخالف من خالف ذلك إلى غيره، ودعه وما رضي لنفسه، وضع فخرك واحطط كِبرك، واذكر قبرك فإن عليه ممرك، وكما تدین تُدان، وكما تزرع تحصد، وما قدّمت اليوم تُقدِم عليه غداً، فامهد لقدمك، وقدّم ليومك فالحذر الحذر أيها المستمع، والجد الجد أيها الغافل ولا ينبئك مثل خبير)).

ومن خطبة له (عليه السّلام) قال :

ص: 298

((ليتأس صغيركم بكبيركم، وليرأف كبيركم بصغيركم، ولا تكونوا كجفاة الجاهلية لا في الدين يتفقهون، ولا عن اللّه يعقلون كقبض (كقشرة البيضة العليا) بيض في اداح (مبيض النعام) يكون كسرها وزراً ويخرج حضانها شراً)).

وقال (عليه السّلام) في أول خلافته :

((إن اللّه انزل كتاباً هادياً بيّن فيه الخير والشر، فخذوا نهج الخير تهتدوا، وأصدفوا عن سمت الشر تقصدواء الفرائض الفرائض، أدّوها إلى اللّه تؤدكم إلى الجنّة، إن اللّه حرّم حراماً غير مجهول، وأحلّ حلالاً غير مدخول (معيب) وفضّل حرمة المسلم على الحُرَم كلها، وشدّ بالإخلاص والتوحید حقوق المسلمين في معاقدها، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق، ولا يحل أذى المسلم إلا بما يجب، بادروا أمر العامة وخاصّة أحدكم وهوالموت فإن النار أمامكم، وإن الساعة تحدوكم من خلفكم، تخففوا تلحقوا، وإنما يُنتظر بأولكم آخرُكم، اتقوا اللّه في عباده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والهائم، أطيعوا اللّه ولا تعصوه، وإذا رأيتم الخير فخذوا به، وإذا رأيتم الشر، فأعرضوا عنه).

وعندما سمع قوماً من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربم بصفّين قال (عليه السّلام) :

((إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنكم لووصفتم أعمالكم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم، اللّهم احقن دماءنا وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به)).

ص: 299

11 _ مناجاة اللّه

كان (عليه السّلام) لا ينفك يلجأ إلى اللّه تعالى في كثير من أيامه المضمخة بالألم. ولكن كان يضمد جراحاته بإيمانه المطلق بعدالة القضية التي حملها على كتفيه لينير بها دروب الحياري، واشتمل اتصاله باللّه جلَّ وعلا على قنوات متعددة المقاصد والأغراض، ولكنها - على تعددها - كانت كلها تنبع من نبع الإيمان النظيف والتمسك الصادق بالعقيدة، لذلك كان واثقاً من أن مناجاته ربَّ السماء والأرض إن هي إلا مناجاة تخاطرية لا تُرَدُّ. وعلى وفق تلك الثقة المطلقة بأن اللّه يسمعه ويستجيب لدعائه ومناجاته تعددت تلك المناجاة؛ ونحن هنا سنختار عيّنة أو أكثر لكل دعاء أومناجاة لأنها متعددة الأغراض :

دعاء الاستسقاء :

قال (عليه السّلام) :

((اللّهم إنا خرجنا إليك من تحت الأستار والأكناف، وبعد عجيج البهائم والولدان، راغبين في رحمتك، وراجين فضل نعمتك، وخائفين من عذابك

ص: 300

ونقمتك، اللّهم فاسقنا غيثك ولا تجعلنا من القانطين، ولا تهلكنا بالسنين (أي : بالجدب والقحط)، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا يا أرحم الراحمين، اللّهم إنا خرجنا إليك نشكو إليك ما لا يخفى عليك حين ألجأتنا المضايق الوعرة، وأجاءتنا المقاحط المجدبة، وأعيتنا المطالب المتعسرة، وتلاحمت علينا الفتن المستصعبة.

اللّهم إنا نسألك أن لا تردّنا خائبين، ولا تقلبنا واجمين، ولا تخاطبنا بذنوبنا، ولا تقاسنا بأعمالنا.

اللّهم انشر علينا غيثك وبركتك، ورزقك ورحمتك، واسقنا سُقياً نافعة مُروِيةً مُعشِبة تُنبت بها ما قد فات، وتحيي با ما قد مات، نافعة الحيا (الخصب والمطر)، كثيرة المجتنى، تُروى بها القيعان، وتسيل البطحان، وتستورق الأشجار، وترخص الأسعار إنك على ما تشاء قدير)).

دعاء عند وضع رجله في الركاب :

وعندما عزم (عليه السّلام) على المسير إلى الشام، دعا ربه وهو يضع رجله في الركاب فقال :

((اللّهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال والولد.

اللّهم أنت الصاحب في السفر، وأنت الخليفة في الأهل، ولا يجمعها غيرك ؛ لأن المستخلف لا يكون مستصحباً، والمستصحب لا يكون مستخلفاً)).

تعليم الناس الصلاة على النبي (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) وبيان صفات اللّه

ص: 301

وصفة النبي والدعاء له :

((اللّهم داحي المدحوات، وداعم المسموكات، وجابل القلوب على فطرتها، شقيها وسعيدها، اجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك، على محمد عبدك ورسولك الخاتم لما سبق، والفاتح لما انغلق، والمعلن الحق بالحق، والدافع جيشات الأباطيل، والدامغ صولات الأضاليل، كما حُمّل فاضطلع، قائماً بأمرك، مستوفزاً في مرضاتك، غير ناكلٍ عن قدم ولا واهن في عزم، واعياً لوحيك،حافظاً لعهدك، ماضياً على نفاذ أمرك حتى أوری قبس القابس وأضاء الطريق للخابط، وهُديَتْ به القلوب، بعد خوضات الفِتَن والآثام، وأقام بموضحات الأعلام، ونيرات الأحكام، فهو أمينك المأمون، وخازن علمك المخزون، وشهيدك يوم الدين، وبعيثك بالحق ورسولك إلى الخلق)).

كلمات كان يدعو بها :

((اللّهم اغفر لي ما أنت أعلم به مني، فإن عدتُ فعُد عليّ بالمغفرة .

اللّهم اغفر لي ما وأيتُ من نفسي، ولم تجد له وفاءً عندي.

اللّهم اغفر لي ما تقرّبتُ به إليك بلساني، ثم خالفه قلبي.

اللّهم اغفر لي مزنات الألحاظ وسقطات الألفاظ، وشهوات الجنان وهفوات اللسان))

دعاء لمّا عزم لقاء القوم في صفّين :

((اللّهم ربّ السقف المرفوع، والجوالمكفوف، الذي جعلته مغيضاً لليل

ص: 302

والنهار، ومجرى للشمس والقمر، ومختلفاً للنجوم السيارة؛ وجعلت سکانه سبطاً (قبيلة) من ملائكتك، لا يسأمون من عبادتك، وربّ هذه الأرض التي جعلتها قراراً للأنام، ومدرجاً للهوام والأنعام، ومما لا يُحصى ما يُرى وما لا يُرى، وربّ الجبال الرواسي التي جعلتها للأرض أوتاداً، وللخلق اعتماداً (ملجأ)، إن أظهرتنا على عدوّنا، فجنّبنا البغي وسدّدنا للحق، وإن أظهرتهم علينا فارزقنا الشهادة واعصمنا من الفتنة أين المانع للذمار، والغائر (من الغيرة) عند نزول الحقائق (النوازل) من أهل الحفاظ (الوفاء) العار وراءكم والجنة أمامكم)).

اللجوء إلى اللّه لإغنائه :

((اللّهم صن وجهي (عن السؤال) بالیسار (الغني)، ولا تبذل جاهي (اسقاط المنزلة) بالاقتدار (الفقر) فأسترزق طالبي رزقك، وأستعطف شرار خلقك، وأُبتلى بحمد من أعطاني، وأُفتتن بذم من منعني، وأنت من وراء ذلك كله وليُّ الإعطاء والمنع، إنك على كل شيءٍ قدير)).

اللجوء إلى اللّه ليهديه إلى الرشاد :

((اللّهم إنك آنس الآنسين لأوليائك، وأحضرهم بالكفاية للمتوكلين عليك، تشاهدهم في سرائرهم، وتطَّلع عليهم في ضمائرهم، وتعلم مبلغ بصائرهم، فأسرارهم لك مكشوفة، وقلوبهم إليك ملهوفة، (مستغيثة) إن وحشتهم الغربة. آنسهم ذكرك، وإن صبّت عليهم المصائب لجؤوا إلى الإستجارة بك، علماً بأن أزمة الأمور بيدك، ومصادرها عن قضائك.

ص: 303

اللّهم إن فهمْتُ (عييتُ) عن مسألتي، أوعميت عن طلبتي، فدُلّني على مصالحي، وخذ بقلبي إلى مراشدي (مواضع الرشد) فليس ذلك بنکر (منکر) من هدايتك، ولا ببدعٍ (غريب) من كفايتك.

اللّهم احملني على عفوك، ولا تحملني على عدلك)).

عند لقائه العدومحارباً :

((اللّهم إليك أفْضَتِ (انتهت) القلوب، ومُدَّت الأعناق، وشخصت الأبصار، ونُقلت الأقدام، وأنضبتِ (ضعفت) الأبدان.

اللّهم قد صرح مکنون الشنآن (البغضاء) وجاشت (غلت) مراجل (قدور) الأضغان (الأحقاد).

اللّهم إنا نشكو إليك غيبة نبينا، وكثرة عدوِّنا وتشتت أهوائنا، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق، وأنت خير الفاتحين)).

عندما مدحه قوم في وجهه :

اللّهم إنك أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم .

اللّهم اجعلنا خيراً مما يظنون، واغفر لنا ما لا يعلمون.

كان يدعو به كثيراً :

((الحمد لله الذي لم يصبح بي ميتاً ولا سقيماً، ولا مضروباً على عروقي بسوء، ولا مأخوذاً بأسواء عملي، ولا مقطوعاً دابري (نسلي)، ولا مرتداً عن ديني، ولا منكراً لربي، ولا مستوحشاً من إيماني، ولا ملتبساً (مختلطاً) عقلي، ولا

ص: 304

معذباً بعذاب الأمم من قبلي، أصبحت عبداً مملوكاً ظالماً لنفسي، لك الحجة عليَّ ولا حجة لي، ولا أستطيع أن آخذ إلّا ما أعطيتني، ولا أتقي إلّا ما وقيتني.

اللّهم إني أعوذ بك، أن أفتقر في غناك، وأضل في هداك، أوأُضام في سلطانك، أو أُضطهد والأمر لك.

اللّهم اجعل نفسي أول كريمة تنتزعها من کرائمي وأول وديعة ترتجعها من ودائع نعمك عندي.

اللّهم إنا نعوذ بك أن نذهب في قولك، أوأن نفتن عن دينك، أوتتابع بنا أهواؤنا دون الهدى الذي جاء من عندك)).

ص: 305

12_ البلاغة

إن ((نهج البلاغة) یدل من اسمه، على أن كلام الإمام علي (عليه السّلام)، كله بليغ، بل هو من وضع أسس البلاغة العربية و((سنَّ الفصاحة)). وقد مرّ بنا وسنمر - إنشاء اللّه - في الجزء الخامس على عيّنات من بلاغة الإمام بفروعها من بيان وبدیع ومعان.

ولكي لا نترك فقرتنا هذه بلا شاهد نستعين بعيّنات من كلماته البليغة (عليه السلام) منها :

الخداع / قال (عليه السّلام) :

((يقول ابن خالك ، عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق)).

وهذا من باب الخداع والاستدراج في علم البيان.

الموازنة / قال (عليه السّلام):

((الحمد اللّه غير مقنوط من رحمته، ولا مخلومن نعمته، ولا ميؤوس من مغفرته ..)). وهذا من باب الموازنة في علم البيان.

ص: 306

التخلص / قال (عليه السّلام) من خطبة يذكر فيها ملك الموت وتوفيه الأنفس :

((هل يُحسُّ به إذا دخل منزلاً، أم هل تراه إذا توفي أحداً ! بل كيف يتوفی الجنين في بطن أُمه ؟ أيلج عليه من بعض جوارحها؟ أم الروح أجابته بإذن ربها؟ أم هوساكن معه في أحشائها؟

كيف يصف إلهه من يعجز عن صفة مخلوق مثله؟

وهذا من باب التخلص في علم البيان، إذ تخلص الإمام (عليه السّلام) ببراعة من استطراده، ليصل إلى مراده في الجملة الاستفهامية الأخيرة. (كيف يصف إلهه).

الاستعارة / ولما قبض رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم)، وخاطبه العباس وأبوسفیان بن حرب أن يبايعا له بالخلافة، قال (عليه السّلام) :

((أيها الناس؛ اسقوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرِّجوا عن طريق المنافرة، وضعوا تيجان المفاخرة، أفلح من نهض بجناح أواستسلم فأراح، ماء آجن، ولقمة يغص بها آكلها، ومجتن الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه، فإن أقل يقولوا : حرص على الملك، وإن أسكت يقولوا : جزع من الموت.

هيهات - بعد اللتيا والتي - واللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أُمه. بل اندمجت على مکنون علمٍ لوبُحتُ به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطرق البعيدة)).

وهذا من باب الاستعارة، إذ استعار أمواج البحر لأمواج الفتن، والمفاخرة

ص: 307

للتيجان.. وهكذا .

الاعتراض / وقال (عليه السّلام) :

((ألا وفي غدٍ - وسيأتي غد بما لا تعرفون - يأخذ الوالي من غيرها عمالها على مساوئ أعمالها وتخرج له الأرض أفاليذ كبدها، وتلقي إليه سلماً مقاليدها، فيريكم كيف عدل السيرة، ويحيي ميت الكتاب والسنّة).

وكان مراده (عليه السّلام) في (ألا وفي غد يأخذ الوالي..) الاعتراض بين (ألا وفي غد)

وبين (يأخذ الوالي..) ب (تشكيل اعتراضي) هو(وسيأتي غد بما لا تعرفون) وهذا ما يسميه النحاة (جملة اعتراضية) وأسميه أنا (تشکیل اعتراضي)، لأن شرط الجملة لم يتوفر فيه.

الجناس / قال (عليه السّلام) :

((أرسله على حين فترة من الرسل، وتنازع الألسن، فقفّی به الرسل، وختم به الوحي، فجاهد في اللّه المدبرينعنه، والعادلين به)).

((وإنما الدنيا منتهی بصر الأعمى، لا يبصر مما وراءها شيئاً، والبصير لا ينفذها بصره. ويعلم أن الدار وراءها، فالبصير منها شاخص، والأعمى إليها شاخص، والبصير منها متزِّود، والأعمى لها متزوِّد).

وهذا من باب الجناس، إذ جانس - (عليه السّلام) - بين الشاخص الأوّل والثاني وهو من الجناس التام.

ص: 308

السجع / وقال (عليه السّلام) :

((وكتاب اللّه بين أظهركم ناطق لا يعيا لسانه، وبيت لا تهدم أركانه، وعزٌّ لا تهزم أعوانه).

إذ سجع (عليه السّلام) بين (لسانه) و(أركانه) و(أعوانه) .

الكناية / وقال (عليه السّلام) لما قتل الخوارج وقيل له :

- يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم :

((كلا واللّه إنهم نطف في أصلاب الرجال، وقرارات النساء، وكلما نجم منهم قرنٌ قطع حتى يكون آخرهم لصوصاً سلّابين)).

إذ كنّى (عليه السّلام) ب(قرارات النساء) عن الأرحام .

لزوم ما لا يلزم / قال (عليه السّلام) :

((أحمده استتماماً لنعمته، واستسلاماً لعزته، واستعصاماً من معصيته ، وأستعينه فاقة إلى كفايته؛ إنه لا يضل من هداه ولا يئِل من عاداه، ولا يفتقر من كفاه؛ فإنه أرجح ما وزن، وأفضل ما خزن، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، شهادة ممتحناً إخلاصها، معتقداً مصاصها، نتمسك بها أبداً ما أبقانا، وندخرها لأهاويل ما يلقانا؛ فإنها عزيمة الإيمان، وفاتحة الإحسان، ومرضاة الرحمان، ومدحرة الشيطان).

فقد ورد في قوله (عليه السّلام) ذاك إضافة إلى السجع، لزوم ما لا يلزم حيث (أرجع ما وزن وأفضل ما خزن) وهولزوم الزاء والنون في كلا الجملتين.

ص: 309

المقابلة أوالطباق / قال (علیه السلّام) :

(أما بعد؛ فإن الدنیا قد أدبرت وآذنت بوداع، والآخرة أقبلت وأشرفت باطلاع، ألا وإن الیوم المضمار، وغداً السباق، والسبقة الجنة والغایة النار..).

فقد قابل (علیه السلّام) بین (أدبرت) و(أقبلت) و(الیوم) و(غداً) و(الجنة) و(النار).

ص: 310

13_ إثبات وحدانية اللّه من خلال وصف الحيوان

قال (عليه السّلام) يصف خلق الجراد :

((... وإن شئت قلت في الجرادة، إذ خلق لها عينين حمراوين، وأسرج لها حدقتين قمراوين (مضيئتين)، وجعل لها السمع الخفي، وفتح لها الفم السوي، وجعل لها الحس القوي، ونابين بهما تقرض، ومنجلين (أي : رجلين) بهما تقبض، یرهبها الزرّاع في زرعهم، ولا يستطيعون ذبها (دفعها) ولوأجلبوا بجمعهم، حتى ترد الحرث في نزواتها (وثباتها) وتقضي منه شهواتها، وخلقها كله لا يكوّن إصبعاً مستدقة، فتبارك اللّه الذي يسجد له من في السماوات والأرض طوعاً وكرها ..).

وقال - (عليه السّلام) - يصف خلق الطاووس :

((ابتدعهم خلقاً عجيباً من حيوان وموات، وساكن وذي حرکات؛ وأقام من شواهد البينات على لطيف صنعته، وعظيم قدرته، ما انقادت له العقول معترفة به، ومسلِّمة له، ونعقت (صاحت) في أسماعنا دلائله على وحدانيته، وما ذرأ (خلق) من مختلف صُوَر الأطيار التي أسكنها أخاديد (شقوق) الأرض،

ص: 311

وخروق فجاجها، (الطرق الواسعة) ورواسي أعلامها (جبالها) من ذات أجنحة مختلفة وهيئات متباينة، مصرفة في زمام التسخير، ومرفرفة بأجنحتها في مخارق الجو المنفسخ، والفضاء المنفرج، كونها بعد إذ لم تكن في عجائب صُوَر ظاهرة، وركبها في حقاق (مجتمع المفصلين) مفاصل محتجبة (مستترة باللحم)، ومنع بعضها بقَبالة (بضخامة) خلقه أن يسموفي الهواء خفوفاً (سرعة وخفة) وجعله يدف دفيفاً.

ونسقها (رتبها) على اختلافها في الأصابيغ بلطيف قدرته، ودقیق صنعته، فمنها مغموس في قالب لونٍ لا يشوبه غير لون ما غمس فيه؛ ومنها مغموس في لون صبغِ قد طوّق بخلاف ما صُبغ به.

ومن أعجبها خلقاً الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديل، ونضّد ألوانه في أحسن تنضيد، بجناح أشرج (داخل) قَصبَه وذَنَبٍ أطال مسحبه إذا درج (مشی) إلى الأنثي نشره من طيّه وسما به (رفعه) مطلًّا على رأسه كأنه قِلعُ (شراع) داريٍّ؛ (جالب العطر من دارین)، عنجه نوتيّه (جذبه بحّاره) يختال (يعجب) بألوانه، ويميس (يتبختر) بزيَفانه (حركته يميناً وشمالاً)، يُفضي (يُذهب)، كإفضاء الديكة ويؤُرُّ(یسند) بملاقحه (آلات التناسل) أرَّ الفحول المغتلمة (ذات الشهوة) للضراب (للقاح) أحيلك من ذلك على معاينةٍ، لا كما يحيل على ضعيف إسناده، ولوكان کزعم من يزعم أنه يلقح بدمعةٍ تسفحها مدامعه فتقف في صفتي جفونه، وإن أنثاه تطعم (تذوق) ذلك ثم تبيض لا من لقاح فحل سوى الدمع المنبجس (النابع)، لما كان ذلك بأعجب من مطاعنةٍ (تلقیح) الضراب؛ تخال قصبة مداري (أمشاط) من

ص: 312

فضة، وما أنبت عليها عجيب داراته (حالاته) وشموسه خالص العقيان (الذهب) وفِلذ الزبرجد.

فإن شبهته بما أنبتت الأرض قلت : جنىً جُني من هرة كل ربيع، وإن ضاهيته بالملابس فهو كموشّی (المنقوش) الحلل، وكمؤنق عصب اليمن، وإن شاكلته بالحلي فهو كفصوص ذات ألوان، قد نُقِّطَت باللجين (الفضة) المكلل (المزين) يمشي مشيَ المرح المختال، ويتصفح ذَنَبه وجناحيه، فيقهقه ضاحكاً لجمال سرباله (لباسه) وأصابيغ وشاحه؛ فإذا رمی ببصره إلى قوائمه زقا (صاح) معولاً بصوت يكاد يبين عن استغاثته، ويشهد بصادق توجعه، لأن قوائمه حُمشٌ (دقيقة) كقوائم الديكة الخلاسية (المهجنة) وقد نجمت (لبثت) من ظنوب (حرف عظمة الأسفل) ساقه صيصية (شوكة) خفية، وله في موضع العرف قُنزعة (خصلة) خضراء موشاة، ومخرج عنقه كالإبريق، ومغرسها إلى حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانية، أوكحريرة ملبسةٍ مرآة ذات صقال وكأنه متلفع بمعجر (بثوب) أسحم (أسود)؛ إلا أنه يخيل للكثرة مئة، وشدة بريقه، أن الخضرة الناضرة ممتزجة به، ومع فتق سمعه خط لمستدق القلم في لون الأقحوان (البابونج) أبيض يقق (شديد البياض)، فهوبياض في سواد ما هنالك يتألق (يلمع) وقلَّ صبغٌ إلا وقد أخذ منه بقسط (نصيب) وعلاه (فاقه) بكثرة صقاله وبريقه، وبصیص دیباجه ورونقه (حسنه) فهو كالأزاهير المبثوثة لم تُربِّها أمطار ربيع، فيسقط تترى، وينبت تباعا، فينحت (يسقط) من قصبه انحتات أوراق الأغصان، ثم يتلاحق نامياً حتى يعود کھيئته قبل سقوطه، لا يخالف سالف ألوانه، ولا يقع لون في غير مكانه! وإذا

ص: 313

تصفحت شعرةً من شعرات قصبه أرتك حمرةً ورديةً، وتارة خضرة زبر جدية، وأحياناً صفرة عسجدية (مذهبة)، فكيف تصل إلى صفة هذا عمائق (أعماق) الفطن، وتبلغه قرائح العقول، أوتستنم وصفه أقوال الواصفين!

وأقل أجزائه قد أعجز الأوهام أن تُركه، والألسنة أن تصفه فسبحان الذي بهر العقول عن وصف خلق جلّاه (أهره) للعيون، فأدركته محدوداً مكوّناً أومؤلّفاً؛ وأعجز الألسن عن تلخيص صفته، وقصر بها عن تأدية نعته)).

وقال (عليه السّلام) يصف خلق الخفاش :

((الحمد لله الذي انحسرت الأوصاف عن كنه معرفته، وردعت عظمته العقول، فلم تجد مساغاً إلى بلوغ غاية ملكوته! هواللّه الحق المبين أحق وأبين مما ترى العيون، تبلغه العقول بتحديد فيكون مشبّهاً، ولم تقع عليه الأوهام بتقدير فيكون ممثَّلاً خلق الخلق على غير تمثيل، ولا مشورة مشير، ولا معونة معين، فتم خلقه بأمره، وأذعن لطاعته، فأجاب ولم يدافع وانقاد ولم ينازع. ومن لطائف صنعته، وعجائب خلقته، ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكل شيء، ويبسطها الظلام القابض لكل حي؛ وكيف عَشِيَت أعيُنُها عن أن تستمد من الشمس المضيئة نوراً تهتدي به في مذاهبها، وتتصل بعلانية برهان الشمس إلى معارفها، وردعها يتلألؤ ضياؤها عن المضي في سبحات إشراقها، وأكنّها في مكامنها عن الذهاب في بلج (ضوء) ائتلافها، فهي مسدلة الجفون بالنهار على أحداقِها، وجاعلة الليل سراجاً تستدل به في التماس أرزاقها، فلا يردّ أبصارها أسداف ظلمته، ولا تمتنع من المضي فيه لغسق جنّته

ص: 314

(ظلمته)، فإذا ألقت الشمس قناعها. وبدت أوضاح (بياض) نهارها، ودخل إشراق نورها على الضباب في وجارها (جحرها)، أطبقت الأجفان على مآقيها، وتبلّغت بما اكتسبته من المعاش في ظلم لياليها، فسبحان من جعل الليل لها نهاراً ومعاشاً، والنهار سكناً وقراراً ! وجعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطيران، كأنها شظايا الآذان، غير ذوات ریش ولا قصب إلّا انك ترى مواضع العروق بينة أعلامًا (رسوماً)، لها جناحان لما أبرقا فينشقا، ولم يغلظا فيقلا، تطير وولدها لاصق بها لاجيء إليها، يقع إذا وقعت، ويرتفع إذا ارتفعت، لا يفارقها حتى تشتد أركانه، ويحمله للنهوض جناحه، ويعرف مذاهب عيشه، ومصالح نفسه، فسبحان الباريء لكل شيء على غير مثال خلا من غيره، (أي تقدم من سواه فحاذاه).

وقال (عليه السّلام) في خلق النملة :

((.. انظر إلى النملة في صغر جثتها ولطافة هيئتها، لا تكاد تُنال بلحظ البصر، ولا بمستدرك الفكر، كيف دبّت على أرضها، وصبّت على رزقها، تنقل الحبة إلى جحرها، وتعدها في مستقرها. تجمع في حرها لبردها، وفي وردها لصدرها، مكفولة برزقها، مرزوقة بوفقها، لا يغفلها المنّان، ولا يحرمها الديّان ولوفي الصف اليابس والحجر الجامس (الجامد) ولوفكرت في مجاري أكلها في علوها وسُفلِها وما في الجوف من شراسيف (مقاطع أضلاع) بطنها، وما في الرأس من عينها وأذنها لقضيت من خلقها عجباً، ولقيت من وصفها تعباً، فتعالى الذي أقامها على قوائمها، وبنى على دعائمها، لم يشركه في فطرتها فاطر، ولم يعنه في

ص: 315

خلقها قادر، ولوضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلتك الدلالة إلّا على انَّ فاطر النملة هوفاطر النخلة، لدقيق تفصيل كل شيء، وغامض اختلاف کل حي، وما الجليل واللطيف والثقيل والخفيف والقوي والضعيف في خلقه إلّا سواء، وكذلك السماء والهواء والرياح والماء. فانظر إلى الشمس والقمر والنبات والشجر والماء والحجر واختلاف هذا الليل والنهار، وتفجر هذه البحار، وكثرة هذه الجبال، وطول هذه القلال (رأس الجبل) وتفرق هذه اللغات والألسن المختلفات، فالويل لمن جحد المقدِّر وأنكر المدبِّر..)).

ص: 316

14_ الإقناع بالحجة

كان (عليه السّلام) يقنع الطرف المقابل بالحجة إما بدلیل قرآني أوبقرينة تاريخية لا تقبل الدحض أوبكلام منطقي يُسْقِط في يد الطرف الآخر حجته؛ ففي الأولى قول رجل للإمام (عليه السّلام):

((هؤلاء القوم الذين نقاتلهم، الدعوة واحدة والرسول واحد والصلاة واحدة والحج واحد، فماذا نسميهم؟)).

قال (عليه السّلام) :

-سمهم بما أسماهم اللّه في كتابه.

قال :

- ما كل ما في الكتاب أعلمه.

قال (عليه السّلام) :

- أما سمعت اللّه تعالى يقول :

{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ } إلى قوله: {... َلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ

ص: 317

مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ(البقرة/ 253) }.

فلما وقع الاختلاف كنا أولى باللّه وبالكتاب وبالنبي وبالحق. فنحن الذين أمنوا وهم الذين كفروا، وشاء اللّه قتالهم، فقاتلهم بمشيئته وإرادته)).

وعن الثانية قوله (عليه السّلام):

((ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) إني لم أرد على اللّه ولا على رسوله ساعة قط، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال، وتتأخر فيها الأقدام نجدة أكرمني اللّه بها.

ولقد قبض رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) وإن رأسه لعلى صدري، ولقد سالت نفسه في كفي فأمررتها على وجهي، ولقد رأيت غسله (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) والملائكة أعواني، فضجت الدار والأفنية ملأ يهبط وملأ يعرج وما فارقت سمعي هينمة منهم، يصلون عليه حتى واريناه في ضريحه، فمن ذا أحق به مني حياً وميتاً؟ فانفذوا على بصائركم ولتصديق نياتكم في جهادکم عدوكم، فوالذي لا إله إلا هوإني لعلى جادة الحق وإنهم لعلی مزلة الباطل، أقول ما تسمعون وأستغفر اللّه لي ولكم)).

وعن الثالثة : إن أحد رُسُل البصرة ورد على الإمام (عليه السّلام) ليعلم لهم عن حقيقة حاله مع أصحاب الجمل لتزول الشبهة من نفوسهم فبين له (عليه السّلام) من أمره معهم ما علم به أنه الحق، ثم قال : بايع.

فقال :

ص: 318

- إني رسول قوم ولا أحدث حدثاً حتى أرجع إليهم

فقال (عليه السّلام):

- أرأيت لو أن الذين وراءك بعثوك رائداً تبتغي لهم مساقط الغيث فرجعت إليهم وأخبرتهم عن الكلأ والماء فخالفوا إلى المعاطش والمجادب ما كنت صانعاً؟

قال :

- کنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلأ والماء.

فقال (عليه السّلام) :

- فامدد إذن يدك.

فقال الرجل :

- فواللّه ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجة عليَّ، فبايعته (عليه السّلام). والرجل يُعرف بكليب الجرمي.

ص: 319

15_ وجود اللّه ومعاينته وصفاته

قال ذعلبة اليماني للإمام علي (عليه السّلام) : هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟

فقال (عليه السّلام) : أفأعبد ما لا أرى ؟؟

فقال ذُعلب : وكيف تراه؟

قال الإمام (عليه السّلام) : لا تراه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدرکه القلوب بحقائق الإيمان، قريب من الأشياء غير ملامس، بعيد منها غير مباین، متکلم لا بروية، مريد لا بهمة، صانع لا يجارحة، لطيف لا يوصف بالخفاء، كبير لا يوصف بالجفاء (الخشونة) بصير لا يوصف بالحاسة، رحيم لا يوصف بالرقة، تعنوا الوجوه لعظمته، وتجب (تخفق) القلوب من مخافته. ومن خطبة له (عليه السّلام) في التوحيد، وتجمع هذه الخطبة من أصول ما لا تجمعه خطبه، قال (عليه السّلام) :

((ما وحّده من كيّفه، ولا حقيقته أصاب من مثّله، ولا إياه عني من شبّهه، ولا صمده (قصده) من أشار إليه وتوهّمه، كل معروف بنفسه مصنوع، وكل قائم في سواه معلول، فاعل لا باضطراب آلة، مقدِّر لا بجول فِكرة، غني لا باستفادة

ص: 320

لا تصحبه الأوقات، ولا ترفده (تعينه) الأدوات، سبق الأوقات کونُه، والعدم وجوده، والابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر (احساس) له، وبمضادته بين الأمور عرف أن لا ضد له، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرین له، ضادَّ النور بالظلمة، والوضح بالُبهم، والجمود بالبلل، والحرور بالصرد (البرد)، مؤلف بين متعادياتها (عناصرها) مقارن بين متبايناتها، مقرّب بين متباعداتها، مفرّق بين متدانياتها، لا يُشمل بحدٍّ، ولا يُحسَب بعدٍّ، وإنما تحدُّ الأدوات نفسها، وتشير الآلة إلى نظائرها، منعتها (منذ) القدمية، وحمتها (قد..) الأزلية، وجنبتها (لولا..) التكملة، (منذ، وقد، ولولا، فواعل للأفعال قبلها) بها تجلّى صانعها للعقول، وبها امتنع عن نظر العيون، لا يجري عليه السكون والحركة، وكيف يجري عليه ما هو أجراه؟ ويحدث فيه ما هوأحدثه؟ إذن لتقارنت ذاته، ولتجزأ كنهه، ولامتنع من الأزل معناه، ولكان له وراء إذ وُجد له أمام ولالتمس التمام إذ لزمه النقصان، إذان لقامت آية المصنوع فيه، ولتحوَّل دليلاً بعد أن كان مدلولاً عليه، وخرج بسلطان الامتناع من أن يؤثّر فيه ما يؤثّر في غيره، ولم يلد فيكون مولوداً، ولم يولد فيصير محدوداً، جلَّ عن اتخاذ الأبناء، وطهر عن ملامسة النساء، لا تناله الأوهام فتقِّدره، ولا تتوهمه الفِطن فتصوّره، ولا تدركه الحواس فتحسّه، لا يتغيّر بحال، ولا يتبدل بالأحوال، ولا تبليه الليالي والأيام، ولا يغيّره الضياء والظلام، ولا يوصف بشيء من الأجزاء، ولا بالجوارح والأعضاء، ولا بعَرَضٍ من الأعراض، ولا بالغيرية والأبعاض، ولا يقال له حدٌّ ولا نهاية، ولا انقطاع ولا غاية، ولا أن الأشياء تحويه فيقلّه، أو تهویه (ترفعه وتسقطه) أوأن شيئاً

ص: 321

يحمله فيميله ويعدله، ليس في الأشياء بوالج ! (داخل) ولا عنها بخارج، يخبر لا بلسان ولهوات (جمع لهات : لحمة في سقف أقصى الفم) ويسمع لا بخروق وأدوات، يقول ولا يلفظ، ويحفظ ولا يتحفظ (لا يتكلف الحفظ)، ويريد ولا يضمر، يحب ويرضى من غير رقّة، ويبغض ويغضب من غير مشقة، يقول لمن أراد کونُهُ كن فيكون، لا بصوت يُقرع ولا بنداء يُسمع، وإنما علامه سبحانه، فعلٌ منه أنشأه، ومثله لم يكن من قبل ذلك ممكناً، ولوكان قديماً لكان إلهاً ثانياً.

لا يقال كان بعد أن لم يكن فتجري عليه الصفات المحدثات ولا يكون بينها وبينه فصل، ولا له عليها فضل، فيستوي الصانع والمصنوع، ويتكافأ المبتدئ والبديع، خلق الخلائق على غير مثال خلا من غيره، ولم يستعن على خلقها بأحدٍ من خلقه، وأنشأ الأرض فأمسكها، من غير اشتغال، وأرساها على غير قرار، وأقامها بغير قوائم، ورفعها بغير دعائم، وحصّنها من الأوَد والاعوجاج، ومنعها من التهافت والانفراج، (التساقط والانشقاق)، أرسى أوتادها، وضرب أسدادها، واستفاض عيونها، وخدّ (شق) أوديتها، فلم يضعف ما بناه ولا ضعف ما قواه، هوالظاهر عليها سلطانه وعظمته، وهوالباطن لها بعلمه ومعرفته، والعالي على كل شيء منها بجلاله وعزته، لا يُعجِزُهُ شيء منها طلبه، ولا يمتنع عليه فيغلبه، ولا يفوته السريع منها، فيسبقه، ولا يحتاج إلى ذي مال فيرزقه، خضعت الأشياء له، وذلت مستكينة لعظمته، لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره فتمتنع من نفعه وضرِّه، ولا كفؤ له فيكافئه، ولا نظير له فيساويه، هوالمغني لها بعد وجودها، حتى يصير موجودها كمنقودها، وليس فناء الدنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها

ص: 322

واختراعها، وكيف لواجتمع جميع حيوانها، من طيرها وبهائمها، وما كان من مراحها وسائمها، وأصناف أسناخها وأجناسها، ومتبلدة أممها وأكياسها على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها، ولا عرفت كيف السبيل إلى إيجادها، ولتحيرت عقولها في علم ذلك وتاهت، وعجزت قواها وتناهت، ورجعت خاسئة (ذليلة) حسيرة (قاصرة) عارفة بأنها مقهورة مقرَّة بالعجز من إنشائها، مذعنة بالضعف عن إفنائها.

وإن اللّه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه، كما كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها، بلا وقت ولا مكان، ولا حين ولا زمان، عدمت عند ذلك الآجال والأوقات وزالت السنون والساعات، فلا شيء إلا الواحد القهار، الذي إليه مصير جميع الأمور، بلا قدرة منها ما خلقه وبرّأه، ولم يكونها لتشديد سلطان، ولا خوف من زمان ونقصان ولا للاستعانة بها على ندٍ مکاثر ولا للاحتراز بها في ملكه، ولا لمكاثرة شريك في شركة، ولا لوحشةٍ كانت منه فأراد أن يستأنس إليها، ثم هويفنيها بعد تكوينها لا لسأم دخل عليه في تصريفها وتدبيرها، ولا لراحةٍ واصلةٍ إليه، ولا لثقل شيءٍ منها عليه، لم يُجلّه طول بقائها فيدعوه إلى سرعة إفنائها، لكنه ، سبحانه، دبّرها بلطفه، وأمسكها بأمره، وأتقنها بقدرته، ثم يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه إليها، ولا الاستعانة بشيء منها عليها، ولا لانصرافٍ من حال وحشةٍ إلى حال استئناس، ولا من حال جهل وعمى إلى حال علم والتماس، ولا من فقرٍ وحاجةٍ إلى غنى وكثرة، ولا من ذلٍّ وضعة إلى عزٍّ وقدرة)).

ص: 323

16_ ابتداء خطبه بحمد اللّه

كان (عليه السّلام) يبدأ خطبه غالباً بحمد اللّه وذكر صفاته وفضائله، ومن العجيب أن صيغه لم تتكرر في جميع خطبة التي وقفنا عليها، بل كل تحميد له صيغة تختلف عن التي قبلها، كأنه كان (عليه السّلام) قاصداً ذلك ليزيد اللّه - جلّت قدرته - حمداً موصولاً غير ممل ولا مخل.

ففي خطبة له (عليه السّلام)، وإنها وما يليها مأخوذة من (نهج البلاغة) ولم نشر إلى الصفحات لئلا نزيد في (الإحالات)، كما ذكرنا سابقا .

قال (عليه السّلام):

- الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون.

- أحمده استتماماً لنعمته، واستسلاماً لعزته .

- الحمد لله وإن أتي الدهر بالخطب الفادح.

- الحمد لله غير مقنوط (ميؤوس) من رحمته، ولا مخلومن نعمته .

- الحمد لله كلما وقب (دخل) ليل وغسق (اشتدت ظلمته)، والحمد لله كلما لاح نجم وخفق (غاب).

ص: 324

- الحمد لله غير مفقود الأنعام.

- الحمد لله الذي لم تسبق له حال حالاً.

- الحمد لله الذي علا بحوله، ودنا بطوله (عطائه) .

- الحمد لله المعروف من غير رؤية، والخالق من غير رويّة (فكر).

- الحمد لله الذي لا يَفْدِه (یزیده) المنع والجحود، ولا يكديه الإعطاء والجود، (أي : يفقره الإعطاء).

- حمد اللّه والثناء عليه.

- الحمد لله الأوّل فلا شيء قبله، والآخر فلا شيء بعده .

- نحمده على ما كان، ونستعينه من أمرنا على ما يكون.

- الحمد لله الناشر في الخلق فضله، والباسط فيهم بالجود يده .

- الحمد لله الأوّل قبل كل أول، والآخر بعد كل آخر.

- الحمد لله الذي شرع الإسلام فسهل شرائعه لمن ورده .

- الحمد لله المتجلي لخلقه بخلقه، والظاهر لقلوبهم بحجته .

– الحمد لله الواصل الحمد بالنعم، والنعم بالشكر.

- نحمده على ما أخذ وأعطى، وعلى ما أبلى وابتلى (أي : ما أحسن وامتحن).

- وأحمد اللّه وأستعينه على مراصد (مداحر) الشيطان ومزاجره .

ص: 325

- الحمد لله الدال على وجوده بخلقه.

- الحمد لله الذي انحسرت (انقطعت).

- الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره، وسبباً للمزيد من فضله، ودليلا على آلائه وعظمته.

- الحمد لله خالق العباد، وساطح المهاد (الأرض).

- الحمد لله الذي لا تواري سماءٌ سماءٌ ولا أرض أرضا.

- الحمد لله الذي إليه مصائر الخلق، وعواقب الأمور.

- الحمد لله المعروف من غير رؤية، والخالق من غير منصبة (تعب).

- الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد.

- الحمد لله الفاشي (المنتشر) في الخلق حمده، والغالب جنده، والمتعالي جَدُّه (عظمته).

- الحمد لله الذي لبس العز والكبرياء.

- نحمده على ما وفّق له من الطاعة، وذاد (طرد) عنه من المعصية .

ص: 326

17_ الاستشهاد بقصص الأنبياء لدعم رأيه

كان (عليه السّلام) إذا أراد أن يقيم دليلاً أوحجة على أحد استشهد بجانب من قصص الأنبياء (عليهم السلّام) لدعم ذلك الدليل أوتلك الحجة، فقد قال (عليه السّلام) في كيفية رجاء اللّه :

((.. يدعي بزعمه أنه يرجو اللّه، كذب والعظیم، ما باله لا يتبين رجاؤه في عمله؟ فكل من رجا عُرف رجاؤه في عمله، وكل رجاءٍ إلا رجاء اللّه تعالى فإنه مدخول (مغشوش) وكل خوف محقق إلا خوف اللّه فإنه معلول (عارض) يرجواللّه في الكبير، ويرجو العباد في الصغير، فيعطي العبد ما لا يعطي الرب، فما بال اللّه جلَّ ثناؤه يُقصِّرُ به عما يُصنع لعباده؟ أتخاف أن تكون في رجائك له كاذباً ؟ أوتكون لا تراه للرجاء موضعاً؟ وكذلك إن هوخاف عبداً من عبيده، أعطاه من خوفه ما لا يعطي ربّه، فجعل خوفه من العباد نقداً، وخوفه من خالقه ضاراً ووعداً. وكذلك من عظمت الدنيا في عينيه، وكبر موقعها في قلبه، آثرها على اللّه تعالى، فانقطع إليها وصار عبداً لها. ولقد كان في رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) كافٍ لك في الأسوة (القدوة). ودليل لك على ذم الدنيا وعيبها،

ص: 327

وكثرة مخازيها ومساويها، إذا قبضت عنه أطرافها، ووطئت لغيره أكتافها (جوانبها) وفُطم عن رضاعها أوزُوِيَ (قُبض) عن زخارفها.

وإن شئت ثنّيت بموسی کلیم اللّه (عليه السّلام) حيث يقول :

- ربي إني لما أنلت إلىَّ من خيرٍ فقير.

واللّه ما سأله إلا خبزاً يأكله، لأنه كان يأكل بقلة الأرض، ولقد كانت خضرة البقل تُري من شفيف صفاق (جلده) بطنه، لهزاله وتشذب لحمه.

وإن شئت ثلثت بداود (عليه السّلام) صاحب المزامير، وقارئ أهل الجنة فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده ويقول لجلسائه :

- أيكم يكفيني بيعها؟

ويأكل قرص الشعير من ثمنها .

وإن شئت قلت في عیسی بن مريم (عليه السّلام)؛ فلقد كان يتوسد الحجر، ويلبس الخشن، ويأكل الخشب، وكان إدامة الجوع، وسراجه الليل والقمر، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم؛ ولم تكن له زوجة تفتنه، ولا ولد يحزنه، ولا مال يكفته، ولا طمع يذله، دابته رجلاه، وخادمه يداه ! فتأسَّ (اقتدِ) بنبيك الأطيب الأطهر (صلّی اللّه عليه وآله وسلَّم)، فإنه فيه أسوة لمن تأسّی، وعزةً لمن تعزّى، وأحب العباد إلى اللّه المتأسّي بنبيّه والمقتص الأثرها.

وقال (عليه السّلام): {.. ولقد كان (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) يأكل على

ص: 328

الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقّع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري، ويردف خلفه، ويكون الستر على باب بيته فتكون فيه التصاویر فيقول :

- يا فلانة - لإحدى زوجاته - غيبيه عني فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها.

فأعرض عن الدنيا في قلبه وأمات ذكرها في نفسه }.

وقال (عليه السّلام) {.. ولقد كان رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) ما يدلك على مساويء الدنيا وعيوبها، إذا جاع فيها مع خاصته (خصوصيته عند ربه) وزويت عنه زخارفها مع عظیم زلفته (منزلته) فلينظر ناظر بعقله : أكرم اللّه محمداً بذلك أم أهانه؟ فإن قال أهانه، فقد کذب - واللّه العظيم - بالإفك العظيم، وإن قال أكرمه إن اللّه قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له، وزواها عن أقرب الناس منه)).

ص: 329

18_ وصف المتقين والمنافقين

أ - المتقون

قال - (عليه السّلام) -:

((.. فالمتقون فيها (في الدنيا) هم أهل الفضائل؛ منطقهم الصواب وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع، غضوا أبصارهم عما حرّم اللّه عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم، نُزِّلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نُزِّلت في الرخاء، ولولا الأجل الذي كُتب لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب، وخوفاً من العقاب، عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمّون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون، قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، صبروا أياماً قصيرة أعقبتهم راحة طويلة، تجارة مربحة يسّرها لهم ربُّهم، أرادتهم الدنيا فلم يريدوها، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها، أما الليل فصافّون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلا، يحزّنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مروا بآيةٍ فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً

ص: 330

وإذا مرّوا بآيةٍ فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول ذاتهم، فهم حانون على أوساطهم، مفترشون لجباههم، وأكفهم وركبهم، وأطراف أقدامهم، يطلبون إلى اللّه تعالى في فكاك رقابهم، فأما النهار فحكماء علماء، أبرار أتقياء، قد براهم الخوف بري القداح (السهام) ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضی وما بالقوم من مرض ويقول قد خولطوا (جنّوا).

ولقد خالطهم أمرٌ عظيم، لا يرضون من أعمالهم إلا القليل، ولا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم متهمون، ومن أعمالهم مشفقون إذا زُكّي أحدهم خاف مما يُقال له فيقول : أنا أعلم بنفسي من غيري، وربي أعلم بي من نفسي، اللّهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني أفضل مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون .

فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوة في دين وحزماً في لين، وإيماناً في يقين ، وحرصاً في علم، وعلماً في حِلم، وقصداً (اقتصاد) في غنى، وخشوعاً في عبادة، وتجملاً في فاقة، وصبراً في شدة، وطلباً في حلال، ونشاطاً في هدى، وتحرّجاً عن طمع، يعمل الأعمال الصالحة وهوعلى وجل، يمسي وهمه الشكر، ويصبح وهمه الذكر، يبيت حذراً ويصبح فرحاً؛ حذراً لما حذر من الغفلة، وفرحاً بما أصاب من الفضل والرحمة، أن استصعب عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحب، قرّة عينه فيما لا يزول، وزهادته فيما لا يبقى، يمزج الحلم بالعلم، والقول بالعمل، تراه قريباً أملُه، قليلاً زللُه، خاشعاً قلبه، قانعة نفسه، منزوراً أكله، سهلاً أمره، حریزاً دينه، ميِّتةٌ شهوته، مكظوماً غيظه، الخير منه مأمول، والشر منه مأمون، إن كان في الغافلين كُتِبَ في الذاكرين، وإن كان في الذاکرین لم يكتب من الغافلين،

ص: 331

يعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه، بعيداً فحشه، ليّناً قوله، غائباً منکره، حاظراً معروفه، مقبلاً خيره، مدبراً شرّه، في الزلازل (الشدائد) وقور، وفي المكاره صبور وفي الرخاء شكور، لا يحيفُ على من يُبغضه، ولا يأثم في من يحب، يعترف بالحق قبل أن يُشهَد عليه، لا يضيعُ ما استُحفِظ، ولا ينس ما ذكر، ولا ينابز بالألقاب، ولا يضار بالجار، ولا يشمت بالمصائب، ولا يدخل بالباطل، ولا يخرج من الحق، إن صمت لم يغمّه صمته، وإن ضحك لم يعلُ صوته، وإن بُغِيَ عليه صبر حتى يكون اللّه هو الذي ينتقم له، نفسه منه في عناء والناس منه في راحة، أتعبَ نفسه لآخرته وأراح الناس من نفسه، بُعدُهُ عمن تباعد عنه زُهدٌ ونزاهة، ودنوّه من دنا منه لين ورحمة، ليس تباعده بكِبر وعظمة، ولا دنوّه بمكرٍ وخديعة)).

ب - المنافقون

قال (عليه السّلام) :

((.. أوصيكم عباد اللّه يتقوى اللّه، وأحذركم أهل النفاق فإنهم الضالون المظلون، والزالون المزلون يتلونون ألواناً، ويفتنون افتناناً ويعمدونكم بكل عماد ويرصدونكم بكل مرصاد، قلوبهم دويّة (مريضة) وصفاحهم (وجوههم) نقية، يمشون الخفاء، ويدبون الضراء، وصفهم دواء، وقولهم شفاء، وفعلهم الداء العياء، حَسَدَة الرّخاء، ومؤكدوا البلاء، ومقنطوا الرجاء، لهم بكل طريق صريع، وإلى كل ملبٍ شفيع، ولكل شجوٍ دموع، يتقارضون الثناء، ويتراقبون الجزاء، إن سألوا ألحفوا (ألحوا) وإن مدلوا کشفوا، وإن حكموا أمرقوا، قد أعدوا لكل حق باطلاً،

ص: 332

ولكلِّ قائمٍ مائلاً، ولكل حي قاتلاً، ولكل بابٍ مفتاحاً، ولكل ليل مصباحاً، يتوصلون إلى الطمع باليأس لیقیموا به أسواقهم، ويتفقوا به أعلاقهم (نفائسهم)، يقولون فيتشبهون، ويصفون فيمهون، قد هونوا الطريق واضلعوا المضيق، فهم لمّة (جماعة) الشيطان، وحُمّةُ النيران لأولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون)) .

ص: 333

19_ المنهج المالي

كان (عليه السّلام) حريصاً على أموال المسلمين؛ فقد نهج نهجاً عادلاً في توزیع ثروة البلاد الإسلامية على مستحقيها في تكافؤ فرصي قل مثيله.

وكُتُب عماله في هذا الجانب كثيرة في (نهج البلاغة) نختار منها وصيته التي يكتبها لمن يستعمله على الصدقات، قال (عليه السّلام) :

((انطلق على تقوى اللّه وحده لا شريك له، ولا تروِّعنَّ (تخوِّفنّ) ولا تجتازنّ (تمر) علیه کارهاً، ولا تأخذنّ منه أكثر من حق اللّه في ماله، فإذا قدمت على الحي فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امضِ إليهم بالسكينة والوقار، حتى تقوم بينهم وتسلم عليهم، ولا تخدج (تبخل) بالتحية لهم، ثم تقول : عباد اللّه، أرسلني إليكم ولي اللّه وخليفته، لآخذ منكم حق اللّه في أموالكم، فهل للّه في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه؟ فإن قال قائل : لا، فلا تراجعه وإن أنعم (أي : قال نعم) لك منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه أوتوعده، أو تعسفه أوترهقه فخذ ما اعطاك من ذهب وفضة، فإن كان له ماشية، أوإبل، فلا تدخلها إلا بإذنه ،

ص: 334

فإن أكثرها له، فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلط عليه ولا عنيف به، ولا تنفّرنَّ بهيمة ولا تُفزِّعنّها، ولا تسوءنَّ صاحبها فيها، واصدع (قسّم) المال صدعين ثم خيّره فإذا اختار فلا تعرضنّ لما اختاره، فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق اللّه في ماله؛ فاقبض حق اللّه منه، فإن استقالك فأقله (اعفه)، ثم اخلطها ثم اصنع مثل الذي صنعت أولاً حتى تأخذ حق اللّه في ماله. ولا تأخذن عوداً (المسنّة من الإبل) ولا هرمة ولا مكسورة ولا مهلوسة (ضعيفة) ولا ذات عوار (عيب) ولا تأمنن عليها إلا من تثق بدينه، رافقاً بمال المسلمين، حتى یُوَصّل إلى وليّهم فيقسّم بينهم، ولا توكل بهت الّا ناصحاً شفيقاً وأميناً حفيظاً، غير معنف ولا مجحف، ولا ملغب (معيي)، ولا متعب، ثم أجدر (أسرع) إلينا ما اجتمع عندك نصيِّره حيث أمر اللّه به، فإذا أخذها أمينك فأوعز إليه أن لا يحول بين ناقة وبين فصيلها (رضيعها) ولا يَحْصُر (يحلب) لبنها فيضر ذلك بولدها، ولا يجهدنَّها رکوباً، وليعد بين صواحباتها في ذلك وبينها، وليرفِّه على اللّاعب (المتعب) وليستأنِ (يرفق) بالنقبِ (المخروق الخف)، والضالع، وليوردها ما تمر به من الغُدُر (جمع غدير)، ولا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جوادِّ الطرق (الخالية من المراعي)، وليروِّحها في الساعات، وليمهلها عند النطاف (المياه القليلة) والأعشاب حتى تأتينا - بأذن اللّه - بُدَّنا (سماناً) مُنقيات (أي ذات مخ) وغير متعبات ولا مجهودات، لنقسمها على كتاب اللّه وسنّة نبيّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) فإن ذلك أعظم لأجرك وأقرب لرشدك - إن شاء اللّه)).

ص: 335

20_ المنهج الإداري

في المنهج الإداري مثله في المنهج المالي؛ إذ كان (عليه السّلام) يريدها دولة إسلامية نظيفة من الظلم الاجتماعي، بعيدة عن المحسوبية والمنسوبية، الطبقات فيها معدومة والحقوق فيها غير مهضومة (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) وأن المسلمين، (سواسية كأسنان المشط) فلا فرق بين قرشي وحبشي ولا بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى. وهكذا كان (عليه السّلام) يؤكد تلك القيم عبر كتبه إلى ولاته ومن يكلفه أمر الرعية.

في كتاب له (عليه السّلام) إلى عبد اللّه بن عباس، وهوعامله على البصرة قال فيه :

((واعلم أن البصرة مهبط إبليس، وغرس الفتن، فحادث أهلها بالإحسان إليهم، وأحلل عقدة الخوف من قلوبهم، وقد بلغني تنحَّرك لبني تميم، وغلظتك عليهم، وإن بني تميم لم يغب لهم نجم إلا طلع آخر، وإنهم لم يُسبقوا بوغم (بحقد) في جاهلية ولا إسلام، وإن لهم بنا رحماً ماسة، وقرابة خاصة، نحن مأجورون على

ص: 336

صلتها، ومأزورون على قطيعتها، فاربع (ارفق) أبا العباس، رحمك اللّه فيما جرى على لسانك ويدك من خير وشر فإنّا شریکان في ذلك، وكن عند صالح ظني بك، ولا يفيلنَّ (يضعفنَّ) رأيي فيك، والسلام)).

ومما كتب للأشتر النخعي قوله (عليه السّلام):

((إياك وحسامات (علو) اللّه في عظمته، والتشبيه به في جبروته، فإن اللّه يذل كل جبار، ويهين كل مختال.

أنصف اللّه وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوی (مَیل) من رعیتك، وإنك ألّا تفعل تظلِم! ومن ظلم عباد اللّه كان اللّه خصمه دون عباده، ومن خاصمه اللّه أدحض (بطل) حجته، وكان اللّه حرباً حتى ينزع (يقلع)، وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة اللّه وتعجيل نقمته من إقامةٍ على ظلم، فإن اللّه سميع دعوة المضطهدين، وهوللظالمين بالمرصاد.

وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمّها في العدل، وأجمعها لرضا الرعية، فإن سخط العامة يجحف (يذهب) برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يفتقر مع رضى العامة، وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، و أقل معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف (الإلحاح)، وأقل شكراً عند الإعطاء، وأبطأ عذراً عند المنع، وأضعف صبراً عند ملمات الدهر من أهل الخاصة .. ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة ! وألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه)).

ص: 337

21 _ المنهج السياسي

المنهج السياسي للإمام علي (عليه السّلام) اعتمد الكتاب والسنة المحمدية بكل تفصيلاتها، كما هو في الإدارة والمالية، فلا زوغان عن ذلك المنهج ولا حلول وسطية في معالجة أمور المسلمين ومفاصل دولة الإسلام، وكعادتنا سنختار عينات للتدليل على ما نقول.

لما أراده الناس على البيعة - بعد قتل عثمان - قال (عليه السّلام) :

((دعوني والتمسوا غيري فأنتم مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول. وإن الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل، وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً)).

وبعد أن بويع للخلافة قال له قوم من الصحابة :

- لوعاقبت قوماً ممن أجلبوا على عثمان .

ص: 338

فقال (عليه السّلام):

((يا إخوتاه! إني لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف لي بقوةٍ والقوم المجلبون (المعنيون) على حد شوكتهم (شدتهم) يملكوننا ولا نملكهم! وهاهم قد ثارت معهم عبدانهم، والتفت إليهم أعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاؤوا، وهل ترون موضعاً لقدرة على شيء تريدونه! إن هذا الأمر أمر جاهلية؛ وإن لهؤلاء القوم مادة (عواناً) إن الناس من هذا الأمر - إذ حُرِّك - على أمور :

فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا ذاك، فاصبروا حتى يهدأ الناس، وتقع القلوب مواقعها، وتؤخذ الحقوق مُسمَحةً (مُيَسّرةً) فاهدؤوا عني، وانظروا ماذا يأتيكم به أمري، ولا تفعلوا فعلة تضعضع (تهدم) قوةً، وتسقط مُنّة (قدرة)، وتورث وهناً وذلةً، وسأمسك الأمر ما استمسك، وإذ لم أجد بدّاً فآخر الدواء الكي (أي : القتل).

ومن كلام له (عليه السّلام) کلّم به طلحة والزبير بعد بيعته بالخلافة وقد عتبا عليه من ترك مشورتهما، والاستعانة بالأمور بهما قال (عليه السّلام) :

((.. واللّه ما كانت لي بالخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة (غرض) ولکنکم دعوتموني إليها، وحملتموني عليها، فلما أفضت إليّ نظرتُ إلى كتاب اللّه وما وضع لنا وأمرنا بالحكم به فاتبعته، وما استن النبي (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) فاقتديته، فلم أحتج في ذلك إلى رأيكما، ولا إلى رأي غيركما، ولا وقع حکم جهلته فأستشيركما، وإخواني من المسلمين، ولوكان ذلك لم أرغب عنكما ولا عن

ص: 339

غيركما، وأما ما ذكرتما من أمر الأسوة (التسوية) فإن ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيي، ولا وُلِّيته هوى مني، بل وجدت - أنا وأنتما - ما جاء به رسول اللّه (صلّی اللّه عليه وآله وسلَّم) قد فُرغ منه، فلم أحتج إليكما في ما قد فرغ اللّه من قَسْمِهِ وأمضى فيه حكمه، فليس لكما - واللّه - عندي ولا لغيركما في هذا عتب أخذ اللّه بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق، وألهمنا وإياكم الصبر.

.. رحم اللّه رجلاً رأي حقاً فأعان عليه، أورای جوراً فردّه، وكان عوناً بالحق على صاحبه)).

ص: 340

22 _ التضاد والتقابل

إشارة

كان (عليه السّلام) يزاوج في بعض كلماته الحكمية بين المتضادات مرة وبين المتقابلات أخرى، ولكي نجعل القاريء الكريم يقف بنفسه، على هذا الفن من الكلام اخترنا عينات من كلا النوعين :

أ _ المتضادات

قال (عليه السّلام) :

- فاعل الخير خيرٌ منه، وفاعل الشر شر منه .

إذ زاوج بين المتضادين (الخير والشر).

- کن سمحاً ولا تكن مبذراً، وكن مقدراً ولا تكن مقتراً .

- لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه.

- إذا تم العقل نقص الكلام.

- قال (عليه السّلام) لرجل أفرط في الثناء عليه وكان متهمه :

ص: 341

أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك.

- رُبَّ عالِم قتله جهله وعلمه معه لا ينفعه .

- لقد عُلِّق بنیاط هذا الإنسان بضعة هي أعجب ما فيه وذلك القلب وله مواد من الحكمة وأضداد من أخلاقها :

- فإن سنح له الرجاء أذله الطمع.

- وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص.

- وإن ملكه اليأس قتله الأسف.

- وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ .

- وإن أسعده الرضا نسي التحفظ .

- وإن ناله الخوف شغله الحذر.

- وإن اتسع له الأمن استلبته الغيرة (الغفلة).

- وإن أفاد مالاً أخفاه الغني. - وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع.

- وإن عضته الفاقة شغله البلاء.

- وإن جهده الجوع قعد به الضعف.

- وإن أفرط به الشبع كظته البطنة (آلمته التخمة).

فكل تقصير به مضر وكل إفراط به مفسد .

ص: 342

ب _ المتقابلات

- ما أضمر أحد شيئاً إلا أظهره في فلتات لسانه وصفحات وجهه.

- وقال (عليه السّلام) لابنه الحسن (عليه السّلام) :

يا بني احفظ أربعاً وأربعاً لا يضرك ما عملت معهن :

- الغني غنی العقل.

- وأكبر الفقر - الحمق.

- وأوحش الوحشة - العُجب .

- وأكرم الحسب - حُسن الخُلُق .

يا بني :

- إياك ومصادقة الأحمق - فإنه يريد أن ينفعك فيضرك.

- وإياك ومصادقة البخيل - فإنه يبعد عنك أحوج ما تكون إليه.

- وإياك ومصادقة الفاجر - فإنه يبيعك بالتافه (القليل).

- وإياك ومصادقة الكذاب - فإنه كالسراب يقرّب عليك البعيد ويبعد عليك القريب.

وقال (عليه السّلام) :

- الظفر بالحزم.

- والحزم بإجالة الرأي .

ص: 343

- والرأي بتحصين الأسرار.

- لا غنى کالعقل.

- ولا فقر کالجهل.

- ولا میراث کالأدب.

- ولا ظهير كالمشاورة.

- من نصب نفسه للناس إماماً - فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره .

- وليكن تأديبه - بسيرته قبل تأديبه بلسانه .

- ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدِّبهم.

- لا مال أعود من العقل (أنفع).

- ولا وحدة أوحش من العُجب.

- ولا عقل كالتدبير.

- ولا كرم كالتقوى.

- ولا قرين كحُسن الخُلُق.

- ولا میراث کالأدب.

- ولا قائد کالتوفيق.

- ولا تجارة العمل الصالح.

- ولا ربح كالثواب .

ص: 344

- ولا درع کالوقوف عند الشبهة .

- ولا زهد کالزهد في الحرام .

- ولا علم كالتفكر.

- ولا عبادة كأداء الفرائض .

- ولا إيمان كالحياء والصبر .

- ولا حسب كالتواضع.

- ولا شرف كالعلم.

- ولا مظاهرة أوثق من المشاورة .

وقال (عليه السّلام) :

((لأنسُبنَّ نسبة لم ينسبها أحد قبلي :

- الإسلام هو التسليم.

- والتسليم هو اليقين .

- واليقين هو التصديق .

- والتصديق هوالإقرار.

- والإقرار هوالأداء.

- والأداء هو العمل الصالح)).

وقال (عليه السّلام) :

ص: 345

- من استبد برأيه هلك .

- ومن شاور الرجال شاركها في عقولها.

- من كتم سرّه كانت الخيرة بيده .

- مَن حاسب نفسه ربح.

- من غفل عنها خسر .

- ومن خاف أَمِن .

- ومن اعتبر أبصر .

- ومن أبصر فَهِم.

- ومن فَهِمَ عَلِمَ.

وقال (عليه السّلام):

- لا يكون الصديق صديقاً حتى يحفظ أخاه في ثلاث :

في نكبته. وغيبته. ووفائه .

ص: 346

23_ وصف أهل البيت

مما وجدناه من خصائص (نهج البلاغة) إشارات هنا وهناك تخص أهل بيت النبوة (عليهم السلّام). إذ كان الإمام علي (عليه السّلام) يشير إليهم مشيداً بهم في رسائله وخطبه وأحاديثه ووصاياه، وجدنا من المفيد أن نفرد لتلك الإشارات فقرة خاصة بها لأنهم أعلام الدين ومنارات الوری.

قال (عليه السّلام) بعد انصرافه من صفين يصف آل محمد (عليهم السلّام) :

((هم موضع سره ولجأُ أمره (ملاذ أمره)، وعيبة (وعاء) علمه، وموئل (مرجع) حكمه، وكهوف كتبه، وجبال دینه، بهم أقام انحناء ظهره، وأذهب ارتعاد فرائصه)).

وقال (عليه السّلام) :

((هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفيء المغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة)).

وقال (عليه السّلام) :

((.. وهم أزِمَّة الحق، وأعلام الدين، وألسنة الصدق)).

ص: 347

وقال (عليه السّلام) :

((نحن أهل لبيت منها بمنجاة ولسنا فيها بدعاة)).

وقال (عليه السّلام) عن رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) :

((عترته خير العِتَر، وأسرته خير الأُسَر، وشجرته خير الشجر، نبتت في حرَم وسقت (ارتفعت) في كَرَم، لها فروع طوال، وثمرٌ لا يُنال ..)).

وقال (عليه السّلام):

(( أإن مَثَل آل محمد (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) كمَثَل نجوم السماء؛ إذا خوی (غاب) نجم طلع نجم، فكأنكم قد تكاملت من اللّه فيكم الصنائع، وأراکم ما كنتم تأملون)).

وقال (عليه السّلام) :

((نحن شجرة النبوة، ومحط الرسالة، ومُختَلَفُ الملائكة، ومعادن العلم، وينابيع الحكمة، ناصرنا ومحبنا ينتظر الرحمة، وعدونا ومبغضنا ينتظر السطوة)).

وقال (عليه السّلام):

((وعندنا - أهل البيت - أبواب الحكم وضياء الأمر).

وقال (عليه السّلام) في أهل بيت النبوة :

((فيهم کرائم (آیات) القرآن، وهم كنوز الرحمن، إن نطقوا أصدقوا، وإن صمتوا لم يُسبَقوا)).

وقال (عليه السّلام) :

ص: 348

((هم عيش العلم، وموت الجهل، يخبركم حلمهم عن علمهم، وظاهرهم عن باطنهم، وصمتهم عن حكم منطقهم، لا يخالفون لحق ولا يختلفون فيه، وهو دعائم الإسلام وولائج (ما يلج فيه) الاعتصام، بهم عاد الحق إلى نصابه (أصله) وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه عن منبته (أصله)، عقلوا الدين عقل وقاية ورعاية، لا عقل سماع ورواية .

فإن رواة العلم كثير ورعاته قليل)) .

ص: 349

24_ الاستشهاد بالقرآن الكريم

استشهد الإمام علي (عليه السّلام) بآيات من القرآن الكريم في مواضع عدة من (نهج البلاغة)؛ أما لتدعيم وتأييد رأيٍ له طرحه أو لتبصير الإنسان بأمور حياته، أو لتذكيره بما سينتظره يوم لا ينفع (فيه مالٌ ولا بنون)، أوللمعاتبة والنقد والتأنيب والتوبيخ على تقاعس في قتال. وهكذا نراه (عليه السّلام) لا يغفل القرآن الكريم في كلماته كلها، كما في منهجه في الحياة لأنه علیه تربي ومنه استقى معارفه، .. وكعادتنا سنستشهد بعينات من استشهاداته القرآنية (عليه السّلام) :

قال (عليه السّلام) في صفة خلق آدم (عليه السّلام):

((.. واستأدی (طالب) اللّه - سبحانه - الملائكة وديعته لديهم، وعهد وصيته إليهم، في الإذعان بالسجود له، والخنوع لتكرمته، فقال سبحانه :

{.... اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (البقرة/34) }.

اعترته الحمية وغلبت عليه الشقوة وتعزز بخلقة النار، واستوهن خلق الصلصال، فأعطاه اللّه النظرة استحقاقاً للسخطة، واستتماماً للبلية، وإنجازاً

ص: 350

للعدة، فقال :

{فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (الأعراف/13 - 15) }.

وقال (عليه السّلام) في ذكر الحج :

((جعله سبحانه وتعالى للإسلام عَلَماً، وللعائذين حَرَماً، فرض حقه، وأوجب حجه، وكتب عليكم وفادته (زيارته)، فقال سبحانه :

{... وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (آل عمران /97) }

وقال (عليه السّلام) يصف يوم مبايعته :

((فما راعني إلا والناس تعرف الضبع (للكثرة)، إليّ ينثالون (يتزاحمون) عليّ من كل جانب، حتى لقد وطيء الحسنان، وشُق عطفاي (جانباي) مجتمعين حولي کربيضة (الرابضة) الغنم، فلما نهضت بالأمر نکثت طائفة، ومرقت (خرجت) أخرى، وقسط آخرون (جاروا) كأنهم لم يسمعوا اللّه تعالى يقول :

{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (القصص/83) }.

بلى واللّه لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجدها)). وقال (عليه السّلام) في القرآن الكريم :

((أم أنزل اللّه - سبحانه - ديناً ناقصاً فاستعان بهم على تمامه! أم كانوا

ص: 351

شرکاء له، فلهم أن يقولوا، وعليه أن يرضى، أم أنزل اللّه - سبحانه - دیناً تاماً فقصّر الرسول (صلّی اللّه علیه و آله وسلَّم) عن تبليغه وأدائه، واللّه يقول :

{... مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ... (الأنعام/38) }.

وفيه تبيان لكل شيء، وذكر أن الكتاب يصدّق بعضه بعضاً، وإنه لا اختلاف فيه فقال - سبحانه -:

{... وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا... النساء /82) }.

وأن القرآن ظاهره أنيق (حسن) وباطنه عمیق، لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تنكشف الظلمات إلا به)).

وقال (عليه السّلام) ليلة الحرير في صفين :

((وعلیکم بهذا السواد الأعظم، والرواق (الفسطاط) المطنّب (المشدود بحبل) فاضربوا ثبجه (وسطه) فإن الشيطان كامن في كسحِهِ (شقه)، وقد قدّم للوثب يداً، وآخر للنكوص رجلاً، فصمد صمداً (قصد) حتى ينجلي لكم عمود الحق :

{وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (محمد/35) }.

نكتفي بتلك الخاصية من خصائص (نهج البلاغة)، على أننا سنفرد لها كتاباً خاصاً، نحن بصدده، لأننا أردنا في هذا الجزء أن نشير إليها فقط، وهي كثيرة في (النهج) تحتاج إلى شمولية في التناول وعمق في التحليل هي عدّة الكتاب الذي عزمنا على إصداره إن شاء اللّه، نسأله تعالى أن يمدنا بعونه لنتوفر على دراسة الإمام علي (عليه السّلام).

ص: 352

المحتويات

الإهداء ...5

مقدمة المؤلف ...6

التمهید ...10

نسب الإمام علي (عليه السّلام) ومكانته في الإسلام ...14

علي بن أبي طالب علیہ السلام في رأي مفكري السنة)...19

علي بن أبي طالب في رأي غير المسلمين...24

علوم علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ...28

العلم الإلهی: أوعلم الفضاء...31

علم الفقه...32

علم القضاء...33

علم التفسیر...35

ص: 353

علم التصوف...37

عِلمُ النحو...41

صفات علیِّ بنِ أبي طالب(علیه السلّام...43

الشجاعة...44

القوة...46

السخاء والجود...47

الحِلْم...49

الجهاد...50

الفصاحة...51

السماحة...53

الزهد...55

إسهامات علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ودوره في الإسلام...59

جمعه القرآن...59

مشوراته...60

سیاسته...63

الضوء الأوّل: المشككون بنهج البلاغة...74

الرد على المشككِين...75

ص: 354

الضوء الثاني: الرد على المشككين بنهج البلاغة...94

1_جامع النهج...95

2_ الغثاثة ...99

1. تخير المفردات ...101

2. قوة التعبير ...102

3. سهولة التعبير...103

4. قِصر الفقرات ...104

5. كثرة الصيغ الإنشائية ...105

3_ عائدية نهج البلاغة ...114

أقوال المنصفين في نهج البلاغة ...126

4_ التعريض بالصحابة ...133

5_ الوصي والوصاية ...143

6_ الإطناب والإيجار ...156

7_ السجع ...160

8_ دقة الوصف ...174

9_ الألفاظ الاصطلاحية ...181

10_ التقسيمات العددية ...183

11_ التنبؤات والتوقعات ...189

12_ الزهد ...207

13_ وصف الحياة الاجتماعية ...219

ص: 355

الضوء الثالث : من خصائص نهج البلاغة ...247

1_ الخاصية العلمية ...248

2_ خاصية التسلسل المنطقي للوصول إلى الحقيقة ...253

3_ وصف السماء جغرافيا ...254

4_ إشارات تاريخية ...256

5_استشراف المستقبل ...264

6_ القيادة العسكرية ...269

7_ الشكوى ...277

8_النقد...282

أ. النقد الاجتماعي ...283

ب. النقد الأدبي ...286

9_العتاب ...291

10_ النصح والإرشاد ...296

11_ مناجاة اللّه ...300

12_ البلاغة ...306

13_ إثبات وحدانية اللّه من خلال وصف الحيوان ...311

14_ الإقناع بالحجة ...317

15_ وجود اللّه ومعاينته وصفاته ...320

16_ ابتداء خطبه بحمد اللّه: ...324

ص: 356

17 - الاستشهاد بقصص الأنبياء لدعم رأيه ...327

18_ وصف المتقين والمنافقين ...330

أ .المتقون ...330

ب. المنافقون ...332

19_ المنهج المالي ...334

20 _ المنهج الإداري ...336

21_ المنهج السياسي ...338

22_التضاد والتقابل ...341

أ .المتضادات ...341

ب . المتقابلات ...343

23_ وصف أهل البيت...347

24_ الاستشهاد بالقرآن الكريم ...350

ص: 357

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.