الآیات المتعلقة بالامام علی علیه السلام

هوية الکتاب

اَلآیات اَلمُتَعَلّقةُ بإلاِمامِ عَلي علیه السلام

دراسة فی ضوء المعنی النحوي الدّلالي

تالیف

رضي فاهم عیدان

إصدار

مؤسسة علوم نهج البلاغة

العتبة الحسينية المقدسة

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق

وزارة الثقافة العراقية لسنة 2015 - 509

ص: 4

الآیات المتعلقة بالامام علی علیه السلام

دراسة فی ضوء المعنی النحوي الدّلالي

تالیف

رضي فاهم عیدان

إصدار

مؤسسة علوم نهج البلاغة

العتبة الحسينية المقدسة

ص: 5

جميع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى

1436ه - 2015م

العراق كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة مؤسسة علوم نهج البلاغة

www.inahj.org Em ail: inahj.org@gmail.com

موبایل: 19933 078150

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

«وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ»

صدق الله العلي العظيم

ص: 7

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله كما هو أهله وكما يستحقه حمدًا كثيرًا وأعوذ به من شر نفسي إنّ النفس لأمارةٌ بالسوء إلاّ ما رحم ربي، والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمّدٍ الأمين وأهلِ بيته الطيبين الطاهرين.

أمّا بعد......

كان القرآن الكريم وما زال منارًا تقتدي به الدراسات اللغوية بمختلف أصنافها وتنوعاتها، وبما تطرحه من رؤىً وأفكارٍ تسعى إلى الكشف عن مواطن أسرار البيان والإعجاز القرآني، والوقوف على الأساليب البديعة في تعبيره، وكلُّ ذلك من شأنه أن يعود بالنفع إلى اللغة التي نزل بها هذا البيان وهي اللغة العربية، ومن هنا خطت هذه الدراسة أولى خطواتها لتلتحق بهذا الركب المعطاء. وإذا ما استثنينا الأهمية التي يكتسبها القرآن الكريم من جهة صدوره لكونه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وما ستقدمه هذه

ص: 8

الجهة من نتائجَ على مستوى الأسلوب والتعبير، تبرز أمامنا جهةٌ أخرى جديرةٌ بالاهتمام، وهي علاقة نصوصه بالواقع الخارجي وقدرة هذه النصوص بما تحمله من أساليب رصينة وتعبيراتٍ مُحكمة على اختزال مضامين ذلك الواقع، وإيفائها بالالتزام في إيصال المعنى القرآني إلى المخاطبين به، إذ كانت للدقة في اختيار ألفاظه صدىً يحاكي الظروف والملابسات التي رافقت سبب نزوله؛ لأن ((الخطاب سواء أكان مسموعًا أو حديثًا داخليًا مع النفس هو دائمًا قولٌ بصدد شيء معين، وأن هذا الشيء الذي- هو موضوع الخطاب يمكن أن يكون واقعًا ماديًا أو واقعاً مجتمعيًا أوكيانًا سيكولوجيًا))(1) فكانت هذه الدراسة ترمي إلى إبراز دقَّة التعبيرات القرآنية وقدرتها على الكشف عن هذا الواقع، بعيدًا عن تكهنات الجانب الروائي، التي سلبت المعني القرآني روحه وكانت وراء ابتعاده عن الصواب، وما أحاط بهذه الروايات من غموض بسبب البعد الزمني عن عصر سبب النزول، فضلًا على الدوافع السياسية أو الدنيوية التي تستهدف الحصول على مكاسبَ قيادية أو اجتماعية من خلال توظيف نصوص القرآن عبر هذه الروايات، التي ظهرت حول المنظومة القرآنية المعرفية على مستوى التنظير والتطبيق.

وتبرز قدرة هذه النصوص من خلال إبراز خصوصية التعبير القرآني في استعمال ألفاظ محددة، دأب القرآن على إيرادها بوفرة، في سبيل توجيه

ص: 9


1- المرجع والدلالة في الفكر اللساني الحديث : 43

المخاطبين إلى الغرض بایرادها في هذا الأسلوب وصياغتها في تركيبٍ معين، قاصدًا بذلك هداية المتلقي إلى التفاعل مع ما تطرحه من مضامين، وهو وجهٌ من وجوه الإعجاز القرآني .

ولإبراز هذه الخصوصية في التعبير القرآني، وبيان قدرته على رسم ملامح الواقع الخارجي بكلَّ أبعاده وتفاصيله، كان لابد من إثبات ذلك في نموذج معين من هذه النصوص القرآنية، ولأجل ذلك اختار الباحث جملةً من الآيات القرآنية اتفقت أكثر المصادر والكتب التاريخية على تعلقها بالإمام علي (عليه السلام) وأجمعت كلمتُها على ذلك ويأتي في صدارتهما كتب التفسير بأسانيدها مثل تفسير الجِبري والطبري والثعلبي والطوسي وغيرها، ولم نُعِرِ اهتمامًا لآياتٍ أُخَر تعلقت به (عليه السلام)؛ لأنها لم تكن محل اجماع، جاعلاً من هذا التعلُّق مسوِّغًا لدراستها في إطار واحد، وهي بهذا المسَّوغ تقترب من تشكيلها كيانًا مستقلاً ((ونعلم أنَّ الشيء إذا استقل کیانًا وقعت دراسته ضمن الممكن لامتلاكه قابلية التحليل، ومعرفة البنى التي يقوم عليها، والأنساق التي يشكلها داخليًا والتي يتشكل معها خارجيًا))(1) لبيان مدى ما تعكسه نتائج هذه الدراسة من خصائص هذه الآيات وسماتهما الدلالية، من دون أن يعتمد الباحث على تلك الروايات أو يجعلها ضمن آليات التحليل اللغوي للوصول إلى المعنى القرآني لا من قريب ولا من

ص: 10


1- اللسانيات والدلالة : 205

بعيد؛ للسبب المنهجي المقرر للدراسة فهو يُعوَّل على جانبي دلالة الألفاظ والتراكيب التي تنضوي فيها تلك الألفاظ.

واتَّبع الباحث في سبيل تحقيق غايته منهجًا وصفيًا تحليليًا، التزم به في كلِّ مباحث هذه الدراسة، يقوم على أساس الممازجة بين المعنى المعجمي للفظة المراد تحديد معناها مع معناها النحوي، هو المعنى النحوي الدلالي، الذي يمتاز برفضه الفصل بين المعنيين سالفي الذكر، لأنّ هذه الممازجة والتفاعل من شأنهما ما أن تُبرز وجهَ اختيار هذه اللفظة في الموقع الإعرابي الذي وردت فيه من دون غيرها من الألفاظ، مع توافر القدرة في مُنتِج النص القرآني على استبدال اللفظة بأخرى تنتمي إلى الحقل الدلالي نفسه .

وكان من ركائز دراستنا هذه اعتماد السياقات اللغوية التي استُعملت فيها اللفظة في عموم القرآن الكريم زيادةً على سياقها الخاص الذي وردت فيه والذي كان منطلقًا لعملية البحث والتحليل؛ لما لذلك من أثرٍ يُسهم في الوقوف على السَّمات الدلالية التي تتمتع بها اللفظة القرآنية المبحوث فيها، والتي تعد جزءًا من معناها القرآني.

أمّا بخصوص خطة البحث فكانت على مقدمة وتمهيد وثلاثة فصول وخاتمة؛ في ما يتعلق بالمقدمة عرضتُ فيها بيان أهمية الموضوع وأسباب اختياره والمنهج المتبع في الدراسة، وعرضتُ في التمهيد إلى خمسة مطالب ابتدأتُها بتعريف (المعنى) وعلاقته بالدلالة، ثم عرَّجتُ على أهم نظریات

ص: 11

دراسة المعنى مبتغيًا في ذلك إعطاء أكثر من تعريف للمعني بحسب تعدد فلسفات هذه المدارس، وتحدثت أيضًا على أسباب النزول وعلاقته بالمعنى القرآني في نظر المفسرين والباحث، وختمت التمهيد بيان الإجراءات المنهجية التي اتبعها الباحث في دراسته للمعنى القرآني وكيفية الوصول إليه عبر آلية المعنى النحوي الدلالي.

وعلى الرغم من الاختلاف في الروايات التي صاحبت نزول النصوص القرآنية، إلاّ أنَّ ما لم يحصل الاختلاف فيه هو المعلومة الجديدة التي أبرزتها هذه الروايات بين يدي البحث من جهة المفهوم والألفاظ، وقد اقتضی البحث وتوجهاتُه أن تكون فصولُه ومباحثُه متعلقةً بطبيعة الألفاظ والتركيبات التي ظهرت في الآيات المدروسة، ولذلك توزعت مادةُ البحث على ثلاثة فصول، درستُ في الأول منها الألفاظ المفردة وكان على مبحثين الأول في الألفاظ التي جاءت على هَيْأة اسم فاعل وما أُلحِق بها والثاني الألفاظ التي جاءت على هيآت أُخَرَ، أما الفصل الثاني : فعرضتُ فيه للمركبات اللفظية وكان على مبحثين :

الأول المركب الإضافي والمبحث الثاني : المركب الوصفي، وخصصت الفصل الثالث لدراسة الجملة : وكان على مبحثين درست في الأول منهما الجمل التي كان الإسناد فيها مقصودًا لذاته وهي الجمل الفعلية والاسمية، أما الثاني فكان مختصًا بالجمل ذات الإسناد غير المقصود لذاته وهي جملة

ص: 12

الصلة وجملة جواب الشرط، وفي الخاتمة عرضت إلى بيان أهم النتائج التي حصلتُ عليها.

ولا يفوتني بعد التوجه إلى الله العليَّ القدير لما تفضل به علي وخصَّني من طلب العلم بالحمد والثناء والشكر فهو المنعم الحقيقي أن أتوجه بالشكر وفائق التقدير لأستاذي المشرف على هذه الرسالة الأستاذ المساعد الدكتور حسن عبد الغني الأسدي، الذي لم يدَّخر جهدًا في إظهار هذا العمل واتمامه على أحسن وجه، فكان نعم الأستاذ النبيل والموجِّه الناصح لي منذ مرحلة البكالوريوس وحتى آخر لحظات كتابة هذه السطور، فله من الله جلَّ وعز جزيل الامتنان بما أسهم في إكمال هذه الرسالة التي لولا آراؤه السديدة وتصويباتُه الدقيقة لما كان لهذه الرسالة أن تتشرف بنور الظهور العلمي، فجزاه الله عني خير جزاء المحسنين .

وكذا أتوجه إلى أساتذتي الكرام في قسم اللغة العربية كليةِ التربية بالشكر لما أبدوه لي من جهود معرفية ومعنوية ساهمت في إثراء البحث وكانت حافزًا لدى الباحث في إكماله، ويجدر بي أيضا أن أتوجه بالشكر والامتنان إلى كلَّ مَنْ مدَّ لي يدَ العون والمساعدة ولو بكلمة ، وأخصَّ منهم بالذكر مِلاكَ مكتبتي العتبتين الحسينية والعباسية مشرفين وموظفين، لما وفَّروه أمام الباحث من مصادر ومراجع، وأسأل المولى أن يأخذ بأيديهم إلى المزيد من التوفيق الخدمة العلم والعلماء .

ص: 13

وأخيرًا إنَّ ما جاء في هذا البحث من أفكار متواضعة سطَّرها الباحث بما سمحت له الظروف وحوادث الأيام، وبما توافر لديه من مصادر ومراجع، لا يعدو بحسب ما يرجوه الباحث إلاّ أن يكون لبنةً في الصرح العلمي، وهو بهذا يضعها أمام العلماء الأجلاء من أساتيذ ومفكرين وباحثين عسى أن يكون فيها من الصواب ما أرجوه، وهي بذلك ليست بمعزل عن التصحيح والتصويب، ولايدَّعي الباحث كمال ما أورده فيها من جميع الجهات، فإن أصبتُ في بعضها فهو التفضُّل من الباري، وإن أخطأتُ فأرجو أن لا أُحرم أجرَ المجتهدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على أشرف خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين .

الباحث

ص: 14

التمهيد

توطئة

يُعدُّ موضوع المعنى من الموضوعات الشائكة التي أثارت جدلاً واسعًا في الأوساط اللغوية؛ فقد اختلفت التوجُّهات في تحديد مفهومه، وتشعبت الرؤى والأفكار في جوانب دراسته، ويرى الدكتور كمال بشر أنَّ هذا الاختلاف بين دارسي المعنى سببه ((اختلاف مناهج البحث في اللغة عندهم، فمن هؤلاء اللغويين من نهج منهج العقليين أو النفسيين ومنهم من سلك طريق السلوكيين وآخرون اختاروا ما سموه (المنهج اللغوي)))(1) .

في حين يرى بعض الباحثين أنَّ إشكالية المعنى ذات بُعدين ((الأول يتعلق بمدى احتواء التعبير اللغوي (سواء في المعجم أو في الاستعمال) على

ص: 15


1- دور الكلمة في اللغة : ستيفن أولمان : 80، الهامش والنصر للدكتور كمال بشر

المعنى الموضوعي(1) ، والثاني بمدى التطابق بين فهم واستخدام أي فردين للمعاني في جانب التعبير))(2) ، والأول إشكالية عامة تعرض لتعريف كلِّ المفاهيم ومدى انطباق ما وُضع لها من جنسٍ وفصل لينطبق على موضوعها الخارجي، وقد تكون إشكاليّة المعنى متأتِّية من صعوبة تحديد البيئة التي ينتمي إليها المعنى .

أولاً : المعنى - في الاصطلاح:

ارتبط (المعنى) عند القدماء ارتباطًا وثيقًا، من حيث علاقته باللفظ، وأُريدَ به الفكرة والغرض؛ وقد أشار الجاحظ (ت 255ه) إلى ذلك بقوله : (( المعاني القائمة في صدور العباد المتصورة في أذهانهم المتخلجة في نفوسهم والمتصلة بخواطرهم والحادثة عن فكرهم مستورة خفية وبعيدة وحشية ومحجوبة مكنونة ... وإنما تحيا تلك المعاني في ذكرهم لها وإخبارهم عنها واستعمالهم إياها - وهذه الخصال هي التي تقربها من الفهم وتجلبها للعقل وتجعل الخفي منها ظاهرا والغائب شاهدا والبعيد قريبا وهي التي تخلص الملتبس وتحل المنعقد وتجعل المهمل مقيدا والمقيد مطلقا والمجهول معروفا والوحشي مألوفا والغفل موسوما والموُسوم معلوما))(3)

ص: 16


1- المعنى الموضوعي : هو المعنى الذي يوضع بأزاء الواقع الخارجي واللفظ يدلُّ على ما وضع له ذلك المعنى، ينظر : التعريفات : 140
2- تأملات في فلسفة اللغة - خصوصية اللغة العربية وإمكاناتها : 37
3- البيان والتبيين : 1/ 43

فالمعنى هو الصورة الذهنية المكنونة ولاسبيل إلى إظهارها إلا عبر استعمال الألفاظ، وقد استعمل قدامة بن جعفر(ت337ه) (المعاني) استعمالا آخر بقوله : ((إن المعاني كلها معرضة للشاعر، وله أن يتكلم منها، في ما أحب وأثر، من غير أن يحظر عليه معنى يروم الكلام فيه، إذ كانت المعاني بمنزلة المادة الموضوعة، والشعر فيها كالصورة))(1) ويلُحظ في هذا النص أن المعاني عنده غيرها عند الجاحظ، فبعد أن كانت مخفية صارت معروضة وهي بمنزلة المادة الموضوعة، ومن المعلوم أن هذا تعبير يعكس حجم العلاقة بين المعنى والألفاظ، (( والمقصود بالمعاني هنا كل الموضوعات التي يمكن أن يتناولها الشاعر في شعره سواء أكانت موضوعات أخلاقية أم لا))(2) فالمعنى هنا واسعٌ تجاوز حدَّ الكلمة إلى الكلام.

وهذا التوسع في مفهوم (المعنى) نلمسه بوضوح عند عبد القاهرِ الجرجاني (ت 471ه) في ما سمَّاه بمعاني النحو، إذ أوضحها بقوله : ((ليسَ للمزيَّة التي طلبوها موضعٌ ومکانٌ تكونُ فيه إلا معاني النحو وأحكامه. وذلك أنهم قالوا : إنَ الفصاحةَ لا تظهر في أفرادِ الكلماتِ وإنما تظهرُ بالضمَّ على طريقة مخصوصةٍ. فقولُهم : " بالنَّظم " لا يصحُّ أن يرادَ به النطقُ باللفظة بعدَ اللفظة من غير اتصالٍ يكونُ بين معنيهما لأنه لو جازَ أن يكونَ لمجرَّد ضَمَّ اللفظ إلى اللفظ تأثيرٌ في الفصاحةِ لكانَ يَنْبغي إذا قيلَ : " ضحِك خَرَجَ " أنْ

ص: 17


1- نقد الشعر : 53
2- جدلية اللفظ والمعنى في التراث النقدي والبلاغي : 91

يحدثَ من ضَمَّ " خرج" إلى "ضحك " فصاحةٌ. وإِذا بطلَ ذلك لم يبقَ إلاّ أن يكونَ المعنى في ضمَّ الكلمةِ إلى الكلمةِ توخّي معنًى من معاني النحو فيما بينهما)))(1) فهو يرى أن المعنى يتحصل من ضمَّ لفظةٍ إلى أخرى على وفق سیاقٍ مخصوص يسمح بتحقق المعنى المقصود، وهذا أقرب ما يكون إلى المعاني التركيبية المتحصلة من علاقة المفردات ضمن السياق اللغوي .

وفي هذا السياق لم تغب عن الجرجاني البيئة الأساسية للمعنى وهي الذهن أو الفكر؛ فيقول أيضًا : ((ومما ينبغي أن يعلمَه الإنسانُ ويجعلَه على ذكر أنه لا يتصوَّر أن يتعلَّق الفكرُ بمعاني الكلم أفراداً ومجرَّدة من معاني النحو فلا يقوم في وهمٍ ولا يصحُّ في عَقْل أن يتفکرَ متفكَّر في معنى فعلٍ من غيرِ أن يريد إعمالَه في اسمٍ. ولا أن يتفكَّر في معنى اسم من غير أن يريدَ إِعمال فعلٍ فيه وجعله فاعلاً له أو مفعولاً))(2) فالمعاني متلازمة وذكر بعضها يلزم منه استدعاء الآخر، إنَّ هذا التصور مهم فنحن بصدد معانٍ ترکيبية أو محتملات من المعاني التركيبية التي لابدَّ لنا فيها من محتملات من العلاقات اللفظية.

وتطور هذا المفهوم عند السكاكي (ت626ه) حتى صار علمًا سمَّاه علم المعاني عرفَّه بقوله : ((اعلم أن المعاني هو تتبع خواص تراكيب الكلام في الإفادة وما يتصل بها من الاستحسان وغيره ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ

ص: 18


1- دلائل الإعجاز : 294
2- المصدر السابق : 303

في تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذكره وأعني بتراكيب الكلام التراكيب الصادرة عمن له فضل تمييز ومعرفة وهي تراكيب البلغاء لا الصادرة عمن سواهم))(1) وهو يقترب من مفهوم (معاني النحو) عند عبد القاهر في تركيزه في الجانب التركي للكلام وعلاقته بتكوين المعنى .

ويضع الشريف الجرجاني (ت816ها) بين أيدينا تعريفًا للمعاني يقوم على أساس علاقتها باللفظ؛ فهي ((الصورة الذهنية من حيث إنه وضع بإزائها الألفاظ والصور الحاصلة في العقل، فمن حيث إنها تقصد باللفظ ، سمیت : مفهوماً))(2) .

فالمعاني هي المفاهيم المقصودة عِبرَ إظهارها في الألفاظ في صورةٍ ما تعكس ما يتلائم معها من تلك المفاهيم في عالم الذهن والتصور، وكما قال أبو البقاء الكفوي (ت 1094ه) : (( إن المعنى هو الصورة الذهنية من حيث وضع بإزائها الألفاظ وقيل : هو ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق))(3) . والمعنى بعد ذلك قائم بملاحظة أمرين(4) :

ص: 19


1- مفتاح العلوم : 247
2- التعريفات 281
3- الكليات : القسم الرابع : 282
4- ما كان اللفظ يوضع ليدل على المعنى فتارةً توضع لفظة مفردة مجردة عن علاقات الإسناد أو التشبيه أو المجاز وغيرها مثل لفظة رجل فمعناها معنىً بسيط؛ أما إذا كانت اللفظة في إطار واحدة من تلك العلاقات وهنا توضع للدلالة على معنی مرکب؛ نحو: رجل قائم، أو يعجبني رجل كالأسد . ، فهو معنى مركب من المعاني البسيطة للألفاظ والعلاقة الجديدة التي استعملت فيها، والثاني هو موضع اهتمام هذه الدراسة

الأول : المعنى البسيط .

الثاني : المعنى المركب .

وإذا كان المعنى البسيط يتعلق بمدلول اللفظة المفردة مجردة عن سياقها، فالمعنى في الاعتبار الثاني معنىً مركبٌ واسع تضافرت القرائن اللفظية والمعنوية الإخراجه بصورةٍ متطابقة مع ما يُضمره المتكلم، وأنّ موضوع البحث والدراسة إنّما يسلط اهتمامه بالدرجة الأساسية على المعنىً المركب فهو معنى واسع يحتاج إلى تحليل مكوناته التي يتألف منها.

أما (المعنى) عند المحدثين فسأعرض له في مطلبٍ مستقل سمّيتُه (نظریات دراسة المعني).

ولكن الولوج في ذلك يشير إلى تداخل لفظة (المعنى) مع لفظة (الدلالة)، فقد شاع عند المعاصرين أن علم الدلالة هو علم دراسة المعنى، ولذلك سأعرج بالحديث على علاقة المعني بالدلالة لما فيه من أثر في إيضاح مفهوم (المعنى) .

ثانيا: المعنى والدلالة:

استعمل الباحثون هاتين اللفظتين بكرة في الدلالة على مصطلحٍ واحد، وكأنهما مترادفتان(1) ، إلاَّ أنَّ العرب القدماء ميَّزوا بينهما حينما أوضحوا وظيفةَ وظيفةَ كلًّ منهما؛ ويأتي في مقدمتهم الجاحظ قال : ((على قدر وضوح

ص: 20


1- ينظر : مفهوم المعنى : 25، وعلم الدلالة : كلود جرمان ورمان لوبلون : ترجمة : هدى لوشن : 17

الدلالة وصواب الإشارة وحسن الاختصار ودقة المدخل يكون إظُهار المعنى وكلما كانت الدلالة أوضح وأفصح وكانت الإشارة أبين وأنور کان أنفع وأنجع والدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان الذي سمعت الله تبارك وتعالى يمدحه يدعو إليه ويحث عليه ))(1) فالمعنى خفي ووظيفة الدلالة هي إيضاحه وإزلة الإبهام وكشف الغموض عنه، فلا يتحقق المطلوب من إيصال القصد أي المعنى إلى المخاطب إلاّ بوضوح الدلالة، فالدلالة عنده غير المعنى؛ إذ هي إجراءٌ عمليٌ من شأنه أن يُظهر مکنونَ المعنى ويزيل الإبهامَ عنه ويجعله واضحًا جليًا .

وميَّزَ الجاحظ بينهما بصورة أخرى وذلك بتحديد دائرة اتساعِ كلًّ منهما وبيئته ؛ فيقول في موردٍ آخر : ((إنَّ حكم المعاني خلاف حکم الألفاظ لأن المعاني مبسوطة إلى غير غاية ومتدة إلى غير هماية وأسماء المعاني مقصورة معدودة ومحصلة محدودة وجميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ خمسة أشياء لا تنقص ولا تزيد أولها اللفظ ثم الإشارة ثم العقد ثم الخط ثم الحال وتسمى نصبة والنصبة هي الحال الدالة التي تقوم مقام تلك الأصناف ولا تقصر عن تلك الدلالات))(2) فكون (المعاني) من عالم الذهن الأمر الذي يتعسر معه حصر أنواعه، في حين أمكن وضع اليد على الدلالة لكونها من العالم المادي الخاضع للمعاينة والإحساس به .

ص: 21


1- البيان والتبيين : 1/ 43
2- المصدر السابق : الصحيفة نفسها

فالدلالة على هذا الطرق العامة لإيصال المعنى (لفظاً، وخطًّا، وبالحساب والنصبة)، قال الشريف الجرجاني (ت816ه) في معناها : (( الدلالة هي كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر والشيء الأول هو الدال والثاني هو المدلول ... فدلالة النص عبارة عمّا(1) ثبت بمعنى النص لغة لا اجتهادا فقوله لغة أي يعرفه كل من يعرف هذا اللسان بمجرد سماع اللفظ من غير تأمل كالنهي عن التأفيف في قوله تعالى : «فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ» [الإسراء : 23] يوقف به على حرمة الضرب وغيره مما فيه نوع من الأذى بدون الاجتهاد))(2) .

أمَّا عند المحدثين فقد تبلورت العلاقة بين (المعنى والدلالة) بوضوح، إذ خضعت دراسة المعنى للمناهج العلمية ووضعت في سبيل ذلك النظريات، وبسببٍ من ذلك صار المعنى ذلك الموضوع الذي يدرسه علم الدلالة (( وتحديد مجال علم الدلالة، بشكل مختصر هو ما يتعلق بمعاني الكلمات استعمالاً في التواصل، وما يتفرع عنه من مجالاتٍ علمية على صعيدي المفردات والتراكيب ... لأن علم الدلالة هو علم دراسة الكلمات، ومعرفة هذا، هي أساس كل معرفة وكل علم، والمقصود هنا هو دراسة معنى الإشارة اللغوية، أي العلاقة بين الفكرة والصيغة ))(3) ولَّما كان (المعنى) أمرًا خفيًا -

ص: 22


1- هكذا وردت والصواب الفصل (عن ما)
2- التعريفات : 139
3- الألسنية محاضرات في علم الدلالة : 95 - 96

بحسب ما ذكر الجاحظ في ما سبق - اقتضى ذلك أن تكون الدلالة أمرًا ظاهرًا محسوسًا يشير بذاته بالنسبة لمجموع مستعمليه إلى أمرٍ غائب(1) .

وعلى هذا الأساس مُيِّز بينهما وفقًا لهذه النظرة بأن ((مصطلح " علم الدلالة " يفترق في دلالاته الإجرائية عن " المعنى " ولكنه طرق دراسة المعني. وبهذا يصبح جليًا من وجهة نظر منهجية، امتناع العلم الدارس عن الاختلاط بموضوع درسه ... وكذا يكون المعنى حاملاً لدلالات يتوزعها كل واحد بحسب اهتماماته. وإذا كان هو كذلك، فيمكننا أن نفترض أنه وجود بالقوة، أو أنه وجود معلق لايتحقق في الواقع، إلا من خلال إطار نظري ومعرفيًّ معين، يميزه ويجعله دالاًّ بخصوص ))(2) وهذه النظرة تؤكِّد تعریف المعنى عند القدماء بأنَّه :الصورة الذهنية .

وتتضح العلاقة بين المصطلحين بصورة أكثر جلاًء إذا ما عُدَّت الدلالة هي مجموع الإجراءات المؤدية إلى المعنى، وقد لحظ بعض الباحثين فرقًا آخر بينهما وهو ((أنَّ دلالة أي وحدة لسانية هو مدلولها، ومعناها هو القيمة المجردة التي يكتسبها المدلول المجرد في سياقٍ واحد ووضعٍ واحد ونصًّ واحد وموضوعٍ واحد، لذا فالمعنى ساكن ويوجد في اللسان، بينما الدلالة متغيرة وتوجد في الاستعمال أي الكلام ))(3) وهذا الطرح يأتي في سياق القول أن

ص: 23


1- ينظر : المرجع والدلالة في الفكر اللساني : 24
2- اللسانيات والدلالة : 36
3- الألسنية محاضرات في علم الدلالة : 96

الدلالة إجراءٌ عمليٌّ للوصول إلى تحديد المعنى وعلاقةٌ بين الدال والمدلول، وقد برزت في الدرس اللساني الحديث مجموعة من النظريات الدلالية التي تتم بدراسة المعنى وتحديد ماهيَّته وكيفية تحصيله، يأتي الحديث على بعضٍ منها التسليط الضوء على ما تلتقي فيه دراستنا بمناهج تلك النظريات المُتَّبَعة لأجلِ تحديد المعني بصورة دقيقة وهو المعوَّلُ عليه في دراستنا هذه. ثالثًا: نظریات دراسة المعني:

توجه الدرس اللساني الحديث منذ وقتٍ مبكر إلى الاهتمام بدراسة المعنى(1) بعد أنَّ صار المعنى هو المحور الأساس الذي تدور حوله أكثر موضوعات علم الدلالة، فكان السعيُّ حثيثًا نحو التوجه لتحديد ماهيَّة المعني وكيفية الوصول إليه وتحديده على وجه الدَّقة، وأثمرت تلك الجهود في ظهورِ مجموعةٍ من النظريات التي اهتمت بدراسته، ومن الطبيعي أن تختلف كلمتها في تحديد مفهوم (المعنى) تبعًا لاختلاف المناهج والأسس النظرية التي تنطلق منها، ومما زاد في هذا التنوع والاختلاف فيما بينها الصعوبة التي يحملها مفهوم (المعنى) بوصفه مفردة تنتمي إلى بيئة الذهن أو المضمون الذي يصعب التحكم به (( وإذا كان الدَّال قابلاً للدراسة والتحديد بحكم رجوعه بشكلٍ من الأشكال إلى جانب اللفظ، فإن المعنى يستعصي على التحليل الصّارم بحکم انتمائه إلى جانب المدلول أي جانب المضمون، وتزداد صعوبة دراسة المعنى

ص: 24


1- ينظر : اتجاهات البحث اللساني : 361

بالنسبة إلى كل نظرية تسمح مبادئها العامة بمعالجة الظواهر البادية للعيان ولا تكاد تتجاوزها للبحث فيما هو مضموني))(1) .

ولما كانت النظريات عبارة عن أفكار معرفية مؤطرة بإطار علمي منهجي، فإن تصنيفها خاضع إلى المنهج الذي تستند إليه هذه النظريات في طرح ما تتبناه من أفكار، وقد لخص الدكتور عبد الجليل منقور المناهج التي تنطلق في ضوئها هذه النظريات؛ فكانت(2) :

المنهج الشكلي الصوري: الذي يصف المدلولات بالنظر إلى الهيأة التي تجمعها في بنية واحدة.

المنهج السياقي : الذي يتم به تصنيف المدلولات لاعتبارات ترکيبية وتعبيرية وأسلوبية.

المنهج المقامي النفسي : وهو الذي يحدد معه مدلول اللفظ باعتبار حال المتكلم ومقامه وموقفه

منهج الحقول الدلالية : يهتم بتحديد البيئة الداخلية للمدلول .

منهج التحليل المؤلفاتي : الذي تنكشف معه البنية العميقة للخطاب بتحليل اللفظ إلى مؤلفاته.

وأبرز النظريات التي تعرضت لدراسة المعني هي :

ص: 25


1- الوصفية مفهومها ونظامها في النظريات اللسانية : 147
2- ينظر : علم الدلالة أصوله ومباحثه في التراث العربي : 130 - 131

1- النظرية الإشارية

2- النظرية العقلية (التصورية )

3- النظرية السلوكية

4- النظرية السياقية

5- النظرية التحليلية .

ويكتفي البحث بالعرض لبعض النظريات الدلالية بقدر تعلقها بموضوع الدراسة بما يُساهم في بيان الأصول النظرية والمعرفية التي انطلقت منها منهجية البحث.

أ/ النظرية السياقية:

لم تنظر النظرية السياقية لمفهوم (المعنى) من خلال علاقة الدال بالمدلول، أو المثير والاستجابة أو ما يُشار إليه في الخارج، وإنما أولت اهتمامها نحوَ العناصر التي تُشكَّل المعني، وذلك من خلال السياق الذي ترد فيه الكلمة (( ومن ثمَّ لايحق لنا أن نتحدث عن معانٍ للكلمة، بل عن سياقاتِ توظيف، مساحات ذات صبغة اجتماعية للاستعمال والأداء، إنَّه لا يمكن مطلقًا الحديث عن معنى الوحدة اللغوية إلّا بالاقتران بسياقٍ معين))(1) . ومن الطبيعي أن يرى أصحابُ هذه النظرية أن السياق وحده القادر على تحديد معنى المفردة

ص: 26


1- محاضرات في علم الدلالة : 220

تحديدًا دقيقًا، وأوضح فيرث الأثرَ الذي يؤديه السياقُ في ذلك، فهو يرى (( أنه بإمكاننا أن نتعرف على(1) الكلمة من خلال مجموعة الكلمات التي تلازمها، أو التي تشترك معها في التوزيع ومن ثمَّ تُعرف كل واحدة منها بأخواتها التي تقترن بما))(2) .

ومعنى الكلمة على وفق هذه النظرية مركبٌ يشترك في تشكيله السياق اللغوي مع سياق الموقف وكذلك السياق الثقافي؛ وذلك من جهة ((أنَّ دراسة معاني الكلمات تتطلب تحليلاً للسياقات والمواقف التي ترد فيها، حتى ما كان منها غير لغوي))(3) .

ولذلك عُدَّت هذه النظرية أكثر النظريات موضوعية من حيث المنهج الذي طرحته النظريات السابقة (الإشارية والسلوكية والتصورية)؛ لأن هذا المنهج ((يقدَّم نموذجًا فعليًا لتحديد دلالة الصيغ اللغوية))(4) فلم يعُد (المعنى) غامضًا أو عائمًا في متاهات الفكر والصورة الذهنية بحسب هذه النظرية، ولذلك فقد أصبحت موضع إعجابٍ وتطبيق عند بعض الباحثين ولاسيَّما العرب المحدثين(5) . ولعلَّ ما يميز هذه النظرية رفضها القاطع إدخال ما لاينتمي

ص: 27


1- من المناسب حذف الحرف (على)
2- المرجع السابق : 220 - 221
3- علم الدلالة : الدكتور أحمد مختار عمر : 69
4- علم الدلالة أصوله ومباحثه في التراث العربي : 141
5- ينظر : اتجاهات الدراسات اللسانية الحديثة في مصر : 374 وما بعدها

إلى البيئة اللغوية واستبعاد كل ما ليس له صلة بالتفكير اللغوي، وهو ما أكَده فيرث في طرحه لنظرية السياق(1)

إلاّ أنَّ الباحث يرى أنها لم تذهب بعيدًا في ذلك عن سابقاتها من حيث الصعوبة في الوقوف على (المعنى) وتحديده، بعد أن اتسعَ مفهوم السياق عندها، فلم يعد تحديد المعنى مقتصرًا على الجانب اللغوي في عملية التحليل وصولاً إليه(2) ، ويشهد لذلك الاعتماد على المقام في الوصول إلى تحديد (المعنى)، وقد أوضح الدكتور تمام حسان مفهوم (المقام) بأنه يعني ((مجموع الأشخاص المشاركين في المقال إيجابًا وسلبًا، ثم العلاقات الاجتماعية والظروف المختلفة في نطاق الزمان والمكان ... فهو يضم المتكلم، والسامع أو السامعين، والظروف، والعلاقات الاجتماعية، والأحداث الواردة في الماضي والحاضر، ثم التراث والفلكلور، والعادات والتقاليد، والمعتقدات والخزعبلات))(3) وهو ما يجعل المعطيات النفسية والاجتماعية والتاريخية والعقائدية تشاطر الجانب اللغوي من حيث الأهمية في الوصول إلى المعنى وما يتفرع عن ذلك من صعوبة تحديدها .

ومن هنا توجه النقد لهذه النظرية من قبل كاتز وفودور أصحاب النظرية التحليلية في معرض حديثهما عن أثر المحيط الاجتماعي في فهم النصوص؛

ص: 28


1- ينظر : المرجع السابق : 376
2- ينظر : علم الدلالة أصوله ومباحثه في التراث العربي : 141
3- اللغة العربية معناها ومبناها : 339

فهما يريان : ((أن استنطاق المحيط الاجتماعي، الذي يُعد سياقًا يساعد على فهم الجملة وتأويلها سيكون أمرًا في غير مستطاع النظرية الدلالية ... إن استنطاق المحيط الاجتماعي يحتاج من الباحث أن يُدخل إلى النظرية معرفةً موسوعية تشتمل على كل معارف العالم، وهذا شرط مثالي ولكنه غير واقعي، ولذا فهما يعدانه مستحيلا ... وإنه من أجل ذلك يحتاج لفهم الجمل الممثلة للمعاني، إلى مدونة ضخمة تحتوي على كل السياقات الاجتماعية والمعارف الإنسانية المتصلة بهذه المعاني))(1) .

ومن النقد الذي وُجِّه لهذه النظرية أنها ((لا تُحدِّد استخدام مصطلح السياق، والمبالغة في إعطاء فكرة السِّياق ثقلاً كبيرًا ليس هذا فحسب، بل إنَّ اللغويّ الإنكليزي (بالمر) أستاذ علم اللغة لجامعة (ریدینیج) يذكر أن بعض اللغويين استبعد السياقَ من دراسة علم الدلالة؛ مُعللاً ذلك بوجود صعوبات نظرية وعملية في تناول السياق بشكلٍ مُرضٍ))(2) وهو ما نلمسه بوضوح لدى أصحاب نظرية التحليل الدلالي.

ب/ النظرية التحليلية:

تنتمي هذه النظرية إلى الاتجاه التحليلي في دراستها للمعنى، وتقوم على أساس ((تشذير كل معنى من معاني الكلمة إلى سلسلة من العناصر، أولية

ص: 29


1- اللسانيات والدلالة : 247
2- اتجاهات الدراسات اللسانية المعاصرة في مصر : 389

مرتبة بطريقة تسمح لها بأن تتقدم من العام إلى الخاص ... وكل معنى للكلمة يُحدّد عن طريق تَتَبُّع الخط من (المحدد النحوي) إلى (المحدد الدلالي) ويظل المرء متجهًا نحو التشذير حتى يُحَقِّق القدر الضروري في التوصيف والشرح ))(1) وهذا المنهج ينظر إلى المعنى على إنه مُكوّن مركب من سماتٍ معجمية ونحوية ودلالية وللتعرف على المعنى لابد من تحليله إلى هذه العناصر التي يتميّز بها عن غيرها .

ويعتمد تحليل المعنى إلى عناصره وفقًا لهذه النظرية على ما تقدمه نظرية الحقول الدلالية حيث ((يبدأ القيام بهذا التحليل بعد أن ينتهي حشد الكلمات داخل كل حقل، فلكي يتبين معني كل كلمة وعلاقة كل منهما بالأخرى يقوم الباحث باستخلاص أهم الملامح التي تجمع كلمات الحقل من ناحية، وتميَّز بين أفراده من ناحية أخرى))(2) .

وتنسب هذه النظرية إلى (كاتز وفودور) التي كان لها بالغ الأثر في إكمال النقص في نظرية جومسكي (البني النحوية) بعد أن قدَّما نموذجًا تأويلیًا دلاليًا على غرار الإنموذج التركيبي(3) وإدخال المكوَّن الدلالي ((لقد كان غرضهما

ص: 30


1- المجلة العربية للعلوم الانسانية - العدد الثالث - المجلد الأول : بحث د. أحمد مختار عمر بعنوان : (من الاتجاهات الحديثة في دراسة المعنى تحليل الكلمات إلى مكونات وعناصر ) : 12، ينظر : علم اللسانيات الحديثة : 560
2- من الاتجاهات الحديثة في دراسة المعنى : 18
3- ينظر : اللسانيات العامة : 135، واللسانيات والدلالة : 233، 244

وضع قاموس تحدد الواسمات القاعدية كل مدخلٍ من مداخله (اسم، صفة ، إلى آخره، تذكير، تأنيث إلى آخره)، تحدده الواسمات الدلالية (إنساني، حيواني، إلى آخره، مذکر مؤنث، إلى آخره) بالإضافة إلى وجود عازل ضوابط الانتخاب))(1) .

ولأنَّ النظريةَ تمتم بالجانب الشكلي اللفظي في دراسة المعنى غلب عليها الجانب التأويلي في عملية التحليل و((يفضي قصر دراسة المعنى على الجانب التأويلي إلى إسقاط القيود اللفظية الشكلية على المعنى إسقاطاً تُفرِّط بسببه النظرية اللسانية في أهم خاصيّة من الخصائص اللغوية وهي خاصيّة الحريِة والإبداع والتجدد، وبسبب ذلك أيضًا تحول النظرية دون فهم علاقة الإنسان بالكون المحيط به وإدراك دور الذهن في بناء هذه العلاقة اجتماعيًا وتاريخيًا))(2) .

وما يميَّز هذه النظرية عدم تعويلها على سياق المقام الموقف الذي حدث فيه الإنجاز الكلامي) بقدر اهتمامها بالجانب اللغوي منه، فهي ((تركز على بعدي اللغة، من أجل الوصول إلى الدلالة أو المعنى الدقيق كما يعتقد أصحابها، وهما بُعد البنية، وبُعد الاستعمال، لمعرفة دلالة الكلمة من جهة استعمالها وسياقاتها المختلفة التي ترد فيها، ليتأتي تصنيفها، وهو ما يجعلها :

ص: 31


1- علم الدلالة : بيير جيرو، ترجمة : د. منذر عياشي : 174
2- الوصفية مفهومها ونظامها في اللسانيات الحديثة : 157

تلتبس وتتداخل مع نظرية المجال الدلالي))(1) ، ولهذا فإن (المعنى) وفق رؤية هذه النظرية يتميز بالدِّقة والتفصيل نتيجة الوقوف على مكوناته وعناصره عبر تحديد السمات الدلالية

وهو أمرٌ يقترن بمعطيات ونتائج تكاد تكون أقرب للواقع اللغوي مما تقدمه النظرية السياقية. وبتعويلها على هذا الجانب المهم فُسح المجال أمامها كي تكون ميدانًا لحل المشاكل اللغوية ذات الجانب الوظيفي كالمجاز والترادف والمشترك اللفظي وغيرها(2) .

وعلى الرغم من وجود العلاقة بين النظرية التحليلية ونظرية الحقول الدلالية(3) إذ ((اعتبر بعضهم التحليل إلى عناصر امتدادًا لنظرية الحقول الدلالية، ومحاولة لوضع النظرية على طريق أكثر ثباتًا ))(4) ، إلا أن ما يتميز به المنهج التحليلي لهذه النظرية عن نظرية الحقول الدلالية ((هو أن طرق التحليل المؤلفاتي تبحث عن بناء المعجم بواسطة العناصر المكونة للكلمة، في حين أن بقية طرق التحليل مستوحاة في الأساس من تصنيف (تریبي) إذ تسعى إلى تجمع الوحدات دون تفکیکها))(5)

ص: 32


1- محاضرات في علم الدلالة : 202
2- ينظر : علم الدلالة : د. أحمد مختار : 126 - 139
3- تقوم هذه النظرية على أساس ((وصف مجموعات المفردات، وذلك عن طريق نظام من السمات المعنوية البسيطة ... والمشكلة هي في إرجاع هذه الحقول إلى أنساق حقيقية)) علم الدلالة : بير جيرو : 151
4- علم الدلالة : د. أحمد مختار : 121
5- علم الدلالة : ترجمة هدى لوشن : 81

وعلى الرغم مما وجِّه للنظرية من انتقادات منها تمييزها دون حاجة بين المحدد الدلالي والمُميِّز زيادةً على أن عدد المحددات الدلالية يبدو تحكميًا، إلا أنها وُصِفت بأنها أحسن تجربة لتحليل المعنى إلى مكونات صغرى(1) .

وإذا لم تأخذ هذه النظرية ذلك الدور الذي أخذته النظرية السياقية من الجهة التطبيقية في الدراسات اللغوية، إلّا أن بعض هذه الدراسات حاولت أن تُبرز قيمة استناد التحليل اللغوي إلى مسارات التحليل إلى العناصر كاشفة عن عمق تراثي في اللغة العربية، وننوه ها هنا بعمل الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف في كتابه (النحو والدلالة مدخل إلى المعنى النحوي الدلالي )، وكذلك إلى عمل الدكتور حسن الأسدي في (مفهوم الجملة عند سيبويه) و(المفهوم التكويني للعامل النحوي عند سيبويه )، إذ تمّت في هاتين الدراستين إعادة النظر إلى مفهوم العامل النحوي في ظل آلية فتح المجال النحوية؛ إذ تكون الكلمة هي العامل الأساسي في الجملة وتكون تلك المجالات وما يشغلها من ألفاظ مستندة إلى عناصرها التحليلية التي تمتلكها تلك المفردات،(2) يذكر أن هناك دراسات أخرى في الدلالة القرآنية تضاف إلى هذه الدراسة.

ص: 33


1- ينظر :علم الدلالة د. أحمد مختار : 120، ومن الاتجاهات الحديثة في دراسة المعنى : 15
2- ينظر :مفهوم الجملة عند سيبويه : ص162 وما بعدها، والمفهوم التكويني للعامل النحوي عند سيبويه : مجلة المورد :العدد 3/ 1993

رابعًا: أسباب النزول والمعنى القرآني:

يُعدُّ (سبب النزول) حلقة الوصل بين النص القرآني وبيئته الواقعية، لكونِهِ الخطوة الأولى التي توضح تعلق الآيات القرآنية بحادثةٍ ما أو شخصيةٍ محددة، ولذلك يرى كثيرٌ من القدماء أن أسباب النزول وثيقة الصلة بدراسة المعنى القرآني وإيضاحه؛ إذ صرَّح بذلك الزركشي (ت794ه) بأن ((بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني الكتاب العزيز ))(1) وجاء في تعريف هذا المصطلح ((هو ما نزلت الآية أو الآيات متحدثة عنه أو مبينة لحكمه أيام وقوعه.))(2) فسبب نزول لآيةٍ ما لا يتحدث عنها بالقدر الذي تتحدث الآية عنه أو تلمح إليه .

وتعرف أسباب النزول عن طريق الروايات مما ((نُقل عن السلف، والغرض منه ضبط ما يتعلق بالآيات من اقترانها بالمناسبة، ليتعرف المفسر على وجهٍ من وجوه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم، ومنه ماله خصوصية، ومنه ما يكون عاماً))(3) فلسبب النزول بحسب ما يرى دارسو علوم القرآن، أثرٌ في تخصيص الآية القرآنية؛ كأن تكون صياغة الآية عامة السلف، فتأتي رواية سبب النزول لتقوم بأثر المُخصِّص لها. و(سبب النزول) عنصرٌ من عناصر (المقام)، الذي يُضاف إلى عناصر (السياق الداخلي) في فهم النص

ص: 34


1- البرهان في علوم القرآن : 1/ 46 ، ينظر : الإتقان في علوم القرآن : 76، التمهيد في علوم القرآن : 1/ 242
2- مناهل العرفان في علوم القرآن : ص 89
3- الأسس المنهجية في تفسير النص القرآني : ص 125

القرآني، من حيث ((أن للنصَّ سياقين، سياق خارجي ويعني به سياق زمن الإبداع والإنتاج (حتى وإن كان النص منزلاً)، وسياق داخلي يتمثل في بنيته وتركيبه اللغوية والأساليب التي أنتج من خلالها، أي مستوى العلاقات بين الألفاظ والجمل معجمياً ونحويًا وصرفيًا ودلاليًا))(1) .

ويبدو أن وظيفة (سبب النزول) في فهم (المعنى القرآني) تتعلق بتأثر صياغة ألفاظ الآية في إبراز المعنى المناسب لها وفقًا للظروف والمناسبات التي رافقت نزولها، وعلى هذا يرى بعض المحدَثين أن ((صياغة الآية وطريقة التعبير عنها يتأثر(2) إلى حدًّ كبير بسبب نزولها، فالاستفهام مثلاً لفظ واحد ولكنّه يخرج إلى معانٍ أخرى كالتقرير وغيره ))(3) وكما أن الألفاظ دالَّةٌ على المعاني فهي مؤثرة فيها إذ ((إن المعنى يحدد شكل اللفظ ويتعدّاه إلى تشكيله، فإن الرفع أو النصب أو الجر أو التشديد على حرف من حروف اللفظ، له دلالة على المعنى المقصود))(4) .

وعلى الرغم مما يُقدِّمه (سبب النزول) من نتائج مهمة تساهم في إظهار المعنى القرآني(5) ، إلاّ أنّ هناك بعض المآخذ التي تُقلَّل من شأن هذه

ص: 35


1- ينظر : اللغة والمعنى - مقاربات في فلسفة اللغة : ص 143 - 144
2- (يتأثر) والصواب (يتأثران)
3- أسباب النزول بين الرد والقبول : ص11
4- ينظر : اللغة والمعنى : 147
5- ينظر : مناهل العرفان : 91

النتائج والاعتماد عليها، في ضوء الاعتماد المباشر على أسباب النزول (السياق الخارجي) وعدَّها الركيزة الأساسية لأجل الوصول إلى تحديد المعنى القرآني؛ وهي :

1. إن أسباب النزول تتجلى فيها الحادثة أو الواقعة التي اقتضت نزول الآية القرآنية بحسب ما عرَّفه المختصون بدراسة علوم القرآن، ويمثل الجانب الروائي القناة الموصلة لها، والابتعاد عن الزمن المرافق لهذا النزول يجعل هذه الروايات عرضةً للظنَّ والاحتمال، وهو أمرٌ يفسح المجال للأخذ والرَّد فيها.

2. إن التعدد في هذه الروايات قد يُفضي إلى حصول التناقض أو الاحتمال فيما تعطيه من نتائج، ولذلك يرى بعض الباحثين أن ((ظاهرة تعدُّد أسباب النزول تحتاج نقدًا، فلقد دخل فيها كمُّ كبير من الروايات التي لاتصمد أمام البحث، وقصص يبدو عليها تكلف كبير ))(1) ومن ثمَّ فإن هذا التناقض من شأنه أن ينعكس على التفسير أو التأويل عند محاولة التقريب بين هذه الروايات، وإذا كان سبب النزول ((يُدرس فيه كلام الله تعالى في القرآن من حيث ارتباطه بالأحداث والوقائع التي رافقت نزوله في عصر الوحي، واقتضت نزول الوحي بشأنها، فكان له الأثر الكبير في تنوع الفهم واختلاف التفسير، نتيجة لاختلاف الرواية لمناسبة نزول آيةٍ معينة))(2) .

ص: 36


1- أسباب النزول وأثرها في بيان المعنى : 162
2- الأسس المنهجية في تفسير النص القرآني : 125 - 126

وعلى هذا فإنَّ ((تغاير شأن النزول قد يعطي فهومًا متنوعة، فيمكن أن تنتج تفسيرات مختلفة ))(1) وبسبب ذلك استبعد بعض المهتمين بشأن دراسة المعنى القرآني الأخذَ بهذه الروايات بوصفها عنصرًا أساسيًا في تحديده وضرورة تجاهل هذه الأسباب؛ وهوالمفسر محمد جواد مغنيه معللاً ذلك((لأن العلماء لم يُمحَّصوا أسانيدها ويُميِّزوا بين صحيحها وضعيفها))(2) .

بمعنى أكثر وضوحاً أنها لم تُدخل رواتها في الجرح والتعديل، والتعويل عليها في فهم المعنى القرآني وهي بهذه الصورة من الضعف يجعلها مستحكمة بالسياق اللغوي أو الداخلي للنص القرآني؛ إذ أن الأعم الأغلب من المُفسَّرين يفترض صحة نزول هذه الروايات جملةً وتفصيلا، وهو أمر يُلقي بضوئه على الجانب التحليلي في الوصول إلى المعنى، وهو لاينسجم مع مقررات أصول البحث العلمي الذي تقوم نتائجه على ما المقدمات العلمية الصحيحة .

الأمر الآخر : إن القاعدة الأصولية المشهورة (العبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب) وهي قاعدة منسجمة مع الطبيعة الرسالية الخالدة للقرآن الكريم الشامل لكل العصور إلى يوم القيامة، عبّرت عن نظرة مهمة كانت منهجًا في فهم القرآن الكريم خارج سياقات نزول آياته. يُزاد على ما مرّ أن ما

ص: 37


1- المرجع السابق : 126
2- التفسير الكاشف : 1/ 14

ورد في أسباب نزول آيات القرآن لا يغطي كلَّ آياته، بل جزءً منها؛ إذ كثير من الآيات لم يُورد سبب نزولها ولاتعلُّقُها بحادثةٍ ما .

من جهةٍ علميةٍ خالصة فإنّ عدَّ سبب النزول حاكمًا على فهمنا للآية القرآنية لاينسجم مع مرتبة القرآن بالروايات بكونه متواتراً وتلك الروايات التي تقلُّ عن التواتر .

لأجل هذه المعطيات كان للبحث رؤيته الخاصة في التعامل مع (أسباب النزول )، وتسير هذه الرؤية في اتجاهين متعاضدين :

الأول : عدم التعويل على أسباب النزول في جانب التحليل اللغوي، فلا يعدُّها الباحث قرينةً على فهم المعنى من قريب أو بعيد، وغاية ما تُمدُّ البحثَ به في هذا الجانب أن تكون مسوغًا وذريعةً لجمع مجموعةٍ من الآيات القرآنية تسالم عليها المختصون بشأن أسباب النزول أنها تعلقتْ بشخصية الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام )، وهي بهذا أشبه ما تكون بالحقل يضمُّ مجموعةً من الصفات ليسهل على الباحث دراستها.

الآخر : على الرغم من تعدد روايات أسباب النزول في المورد الواحد إلى درجة الاختلاف بين مضمون هذه الروايات، إلا أن أغلبها يكاد يُجمع على تعلقه بحادثةٍ معينة أو موضوعٍ محدد، وإنما يقع الاختلاف في ما بينها في المصداق الخارجي أو الحادثة التي تنطبق عليها دلالات ألفاظ هذه الروايات، ولذلك فإن البحث يتوجه إلى فهم هذه الدلالات، وهي هذا القَدر تعطي

ص: 38

للباحث إمكانية وضع اليد على المعلومة الجديدة في الآية مورد البحث التي توفرها هذه الدلالات، وقد استثمر الباحث هذه المعلومة ليجعلها منطلقًا للتحليل اللغوي في البحث عن الدلالة القرآنية، لينفتح منها على علاقة هذه اللفظة الحاملة لهذه المعلومة الجديدة مع بقية الألفاظ، وليَتنَقَّل من آية إلى أخرى في ظلِّ سياقاتاتها اللغوية وما ارتبط بها من القرائن اللفظية، محاولاً في ذلك الحصول على سماتٍ دلاليةٍ ونحوية ممَّيزة للفظة المبحوث فيها وهو ما يكشف عن خصوصيتها القرآنية.

إن هذه الرؤية المنهجية تجع-ل السياق اللغوي (الداخلي) متحكمًا بالسياق الخارجي (أسباب النزول)؛ تحكُّمًا منهجيَّا لا زمنيَّا بعدما كان السياق الخارجي متحكمًا بالسياق اللغوي في أكثر الدراسات القرآنية المتعلقة بمجال تفسير القرآن وبيان دلالة ألفاظه، وما يترتب على ذلك من نتائج.

إنَّ الإطار الذي تنطلق منه دراستنا، يَندرج في مسارٍ أوضحه الدكتور حسن عبرَ الغني عبر بيان الإشكاليَّة المنهجيّة في فهم طائفةٍ من التركيبات الجُملية التي اعتمد فيها سيبويه على تصور خارجي ليُظهر صحة التركيب أو توجهاته، فتبيَّن لديه أن السياقَ سياقان؛ الأول سياق المقام الحقيقي (الواقع للحقيقة التي حدثت) والآخر سیاق خارجي افتراضي لا حقيقي سمّاه (المحتوى الدلالي للجملة) لأنه سياقٌ مُستَقٍ من الجملة نفسها، ويمثل هذا السياق محاولة لاستعادة ذلك المقام الحقيقي ((فعلى الرغم من هذا الاتفاق في

ص: 39

دلالة المصطلحين إلا أنهما يختلفان في زاوية النظر فبناء المبحث على المحتوى الدلالي للجملة يعني ببساطة أن الجملة سيتم فهمها في ضوء إطار من الدلالات الخارجية غير اللغوية وتكون الجملة هي الوسيلة الوحيدة التي ستمدنّا بما نحتاجه لفهمها في بيئتها الخارجيّة أو اللغوية. أما في حالة بنائها على السياق فهذا يعني أن السياق سابق للجملة بل الجملة تولد في كنفه فيطبعها بطابعه فالجملة بنت السياق))(1)

وهذا التمييز إنما هو تمييز منهجي في كيفية قراءة النص؛ فالأولى قراءة من داخل السياق اللغوي عبر الانفتاح على علاقة الألفاظ مع بعضها الآخر وصولاً إلى رسم المحددات الدلالية للجملة الواحدة وهي قراءةٌ لغويّةٌ خالصة، في حين أن القراءة الثانية هي قراءة من خارج السياق اللغوي وكل ما ستصل إليه سيكون مشوبًا بالعوامل الخارجية.

وقد كان الدكتور نصر حامد أبو زيد قد أشار إلى إمكانية تطبيق القراءة الأولى على الآيات القرآنية بعيدًا عن معطيات أسباب النزول، ومن الممكن أن يُفهم هذا المقام من خلال ما تقدمه هذه القراءة، وذلك بأن ((أسباب النزول ليست سوى السياق الاجتماعيّ للنصوص، وهذه الأسباب كما يمكن الوصول إليها من خارج النص، يمكن كذلك الوصول إليها من داخل النص،

ص: 40


1- مفهوم الجملة عند سيبويه : د. حسن عبد الغني جواد : 195

سواء في بنيته الخاصة، أو في علاقته بالأجزاء الأخرى من النص العام))(1) ويقول أيضًا إنّ ((معضلة القدماء أنهم لم يجدوا وسيلة للوصول إلى (أسباب النزول) إلا الاستناد إلى الواقع الخارجي والترجيح بين المرويّات، ولم يتنبهوا إلى أنَّ في النص دائمًا دوالَّ يمكن تحليلها عن ما هو خارج النص، ومن ثمَّ يمكن اكتشاف (أسباب النزول) من داخل النص))(2) ؛ تلك الدَّوال التي تغني الباحث عن التعويل على أسباب النزول، وستكون ((النتيجة الحاصلة من أن الجملة بخضوعها عند نشأتها للسياق تستطيع فيما بعد وعبر التحليل اللغوي أن تقدَّم ذلك السياق لأنه سيكون محتواها الدلالي. فالسياق إذن نظرة خارجية للجملة أما المحتوى الدلالي فهو نظرة من داخل الجملة))(3) .

ولذلك - فلا بدَّ بحسب ما يرى الباحث - أن تتم ((مراجعة ذات القرآن، واستيضاح فحوى آية من نظيراتها، وبالتدبّر في نفس القرآن الكريم؛ فإن القرآن ينطق بعضه ببعض... .

قال تعالى: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ» [النحل : 89 ] وحاشا القرآن أن يكون تبيانًا لكلَّ شيء ولايكون تبيانًا لنفسه))(4) .

ص: 41


1- مفهوم النص - دراسة في علوم القرآن : 126
2- مفهوم النص : 126
3- مفهوم الجملة عند سيبويه : 195
4- التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب : 1/ 67

وهو ما سيقوم البحث في الاعتماد عليه للوصول إلى المعنى القرآني عبر آلية تفاعل المعنى النحوي مع دلالة الألفاظ.

خامسًا: المعنى النحوي الدلالي:

لم يكن غائبًا عن أذهان النحويين القدماء مايؤديه النحو من وظيفةٍ في الكشف عن المعنى عِبر ما تشغله الكلمة من مواقعَ إعرابية؛ إذ يتجلى هذا المعنى عبر علاقتها مع بقية الكلمات الممتدة معها في السياق، فقد عدَّه سيبويه (ت180ه-) عاملاً مؤثراً في تحديد المعنى، وما يتصل بذلك من أثر صحَّة التركيب النحوي، وذلك في حديثه على استقامة الكلام، يقول : ((هذا باب الاستقامة من الكلام والإحالة، فمنه مستقيم حسنٌ ومحال ومستقيم كذب ومستقيم قبيح وما هو محال كذب، فأما المستقيم الحسن فقولك أتيتُك أمْسِ وسآتيك غداً، وأمَّا محال فأن تَنقض أوَّلَ كلامك بآخِره فتقولَ أتيتك غداً وسآتيك أمس وأما المستقيم الكذب فقولك حَمَلتُ الجبلَ وشربت ماء البحر ونحوه، وأما المستقيم القبيح فأنْ تضع اللفظ في غير موضعه نحو قولك قد زيداً رأيت وكي زَيدٌ يأتيك وأشباه هذا، وأما المحال الكذب فأن تقول سوف أشرب ماء البحر أمسٍ))(1) .

ويُلحظ مدى العلاقة بين الوظيفة النحوية للفظة بما تشغله من موقع إعرابي وبين معناها المعجمي في تسمية سيبويه لهذه الأنماط من الكلام،

ص: 42


1- الكتاب : 1/ 25

فبمقدار ما تؤديه اللفظة من وظيفةٍ في إيصال المعنى المطلوب يكون الكلام في دائرة الاستقامة، ويبتعد عنها بمقدار إنحراف اللفظة عن أداء هذه الوظيفة ((لذا فإنَّ القول : إنّ النحو يمدُّ الجملة بمعناها الأساسي الذي يكفل لها الصحة، ويحدد لها عناصر هذا المعنى فيه كثير من الصحة، فالعلاقة إذاً بين المعنى والنحو علاقة متضافرة))(1) .

من هنا جاءت منهجية البحث في نظرته إلى المعنى بملاحظة تلك العلاقة القائمة بين المعنى المعجمي والنحوي، وهو بهذا الاعتبار يكون معنًى مركبًا من تفاعل العلاقات عبر السياق الذي ترد فيه اللفظة، وقد أسماه الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف بالمعنى النحوي الدلالي في إشارةٍ إلى هذه الممازجة بين النحو والدلالة ((حيث تندمج في تواؤم حميم قوانين النحو مع قوانين الدلالة، أو بعبارة قوانين المعنى النحوي الأولي وتمثله (الوظائف النحوية المختلفة) مع قوانين دلالة المفردات الأولية وتمثلها الدلالة المعجمية للكلمة، وتمتزج فيما يمكن أن يسمى (المعنى النحوي الدلالي)))(2) إنّ هذه الرؤية تجعل التفاعل بين المعنى النحوي والمعنى المعجمي الأولي طريقًا لتحديد الدلالة.

ومن الأمثلة التي يوردها الدكتور حماسة في لحاظ هذا التفاعل بين المعنيين الفرق بين عبارة (شرب الطفل اللبن) و(أكل الطفل الخبز) ((فكلمة

ص: 43


1- جدلية المعنى والصحة النحوية : بحث في ما يكون به المعنى عاملا نحويا : 3
2- النحو والدلالة : 81

(الطفل) في المثالين السابقين لها مدلول مجرد عندما تطلق وحدها، ولكنّها في هذين المثالين ذات دلالتين تختلفان في الدرجة، واختلاف هذه الدلالة في درجتها لم يأتِ إلاّ من علاقتها النحوية مع غيرها في الجملة ومن وضعها مع هذه الكلمات بعينها، فالطفل مع فاعلية أكل الخبز، غير الطفل مع فاعلية شرب اللبن، وسوف تختلف الدلالة بالطبع عن طريق إضافة عناصر نحوية أخرى مُقيِّ دة لأحد العناصر الموجودة))(1) يوضح حماسة أن استجابة الطفل للأكل مع وجود الأسنان غيرها مع عدم استجابته مع عدم وجود الأسنان؛ فالشرب = قدرة الطفل على شرب اللبن = عدم وجود الأسنان، والأكل = قدرة الطفل على المضغ = وجود الأسنان، وكل عنصر منهما لايقع بديلاً من الآخر؛ لأنهما لا يستجيبان إذا اختلف الأمر .

ولقد وجد الباحث في هذا الطرح لتحديد المعنى مايُبرز دِّقة التعبير اللغوي في القرآن الكريم، من خلال التوفيق بين اختيار الألفاظ وإيرادها ضمن علاقات نحوية بعينها من دون غيرها وهو ما يتناسب مع دراسة القرآن الكريم؛ لما فيه من تعبيرات لغوية دقيقة تم اختيارها في ضوء ملاحظة المعنى المعجمي وعلاقته بالمعنى النحوي للألفاظ، ولأجل إبراز هذا الجانب المتمثل في دقة اختيار لفظة قرآنية ما دون سواها عمد الباحث بتفصيل القول فيه من خلال مسرد تحليلي للألفاظ موضوع البحث بعنوان (المعنى المعجمي

ص: 44


1- النحو والدلالة : 93 - 94

للألفاظ)؛ وذلك لما وجد فيه أنَّ الاختيار للفظة ما على مستوى التعبير القرآني إنما هو للقدرة التي تتمتع بها اللفظة وقابليتها على تحمُّل معانٍ متعددة على المستوى المعجمي، ويأتي القرآن الكريم موظفًا احدى هذه الدلالات بما ينسجم مع الدلالة القرآنية، وبذلك تشكَّلت سمة دلالية جديدة غير معهودة للفظة موضوع البحث من خلال استعمالها على وفق وظيفةٍ نحوية ضمن سياقٍ قرآنيٍ محدد .

في حين أن ما سارت عليه بعض الدراسات اللغوية القائمة على أساس تحليل مستويات الظاهرة اللغوية الصوتية والصرفية والنحوية والمعجمية لا يُبرز هذا الجانب من الدقَّة في التعبير القرآني لاختيار ألفاظٍ بعينها مع إمكانية استبدالها بألفاظٍ تنتمي إلى الحقل الدلالي نفسه(1) ، ومن هنا وقع الاختيار على منهجية المعنى النحوي الدلالي بحسب هذه الخصائص والمميزات يتم على أساسه تحديد المعنى القرآني، ولعلّ ما يطرحه الزمخشري (ت 538ه) من تساؤلات عن السبب وراء التعبير بهذه اللفظة من دون غيرها قريبٌ مما نحن فيه، فهو يسأل ((هلاّ قيل : إلا مودّة القربي : أو إلا المودة للقربي. وما معنى قوله : {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}))(2) .

ص: 45


1- للاطلاع على منهج هذه الدراسات، ينظر : كتاب التحليل اللغوي في ضوء علم الدلالة : يطرح المؤلف فيه دراسة المعنى في ضوء المستويات اللغوية كلاًّ على جانب
2- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل : 4/ 213. وسيأتي الحديث عن هذه الآية بالتفصيل في الفصل الأول : المبحث الثاني

إنَّ تبني هذه المنهجية في دراستنا للمعنى القرآني تبدأ من النظر إليه بأنه معنىً مركبٌ وليس معنى بسيطًا، تتوزعه السياقات اللغوية التي استُعملت فيها اللفظة، فاستعمالها في سياق ما يمثل جزءًا من سماتها الدلالية ((فمعنى الجملة هو نتيجة ضم مدلول كل مفردة من المفردات المشكلة للجملة إلى مدالیل المفردات الأخرى))(1) ؛ وبهذه النظرة يحصل المعنى من مجموع هذه السياقات ((وهكذا يكون المعنى حاملا لدلالات يتوزعها كل واحد بحسب اهتماماته، وإذا كان هو كذلك، فيمكننا أن نفترض أنه وجود بالقوة، أو أنه وجود معلق لا يتحقق في الواقع، إلا من خلال إطار نظري ومعرفي معين، يميزه ويجعله دالا بخصوص))(2) .

إنَّ ما يميِّز هذه الرؤية القائمة على أساس تحديد السمات الدلالية عبر سياقات استعمال اللفظة قرآنيًا نظرها الشمولية للقرآن وليست نظرة تجزيئية، وهي وإن كانت تبدأ من اللفظة في عملية التحليل إلا أنها تنفتح خلالها على الجملة الواحدة .

فالمعنى القرآني لايُفهم إلا في ضوء ضمِّ السياقات القرآنية الأُخر من حيث أن ((خير دليل على مراد أيِّ متكلِّم ، هي القرائن اللفظيّة التي تحفّ كلامه ، والتي جعلها مسانید نطقه وبيانه ، وقد قيل : للمتكلّم أن يلحق

ص: 46


1- مدخل إلى الدلالة الحديثة : 62
2- اللسانيات والدلالة : 3 ، ينظر : السَّاعة في الْقُرآنِ الْكَرِيمِ :دِراسَةٌ دَلالِيَّةٌ في ضَوْءِ مَنْهَجِ المُدَوَّنِة الْمُغْلَقَة : 4

بكلامه ما شاء مادام متكلّماً، هذا في القرائن المتّصلة وكثيراً ما يعتمد المتكلّمون على قرائن منفصلة من دلائل العقل أو الأعراف الخاصة ، أو ينصب في كلام آخر له ما يفسِّر مراده من كلام سبق ، كما في العموم والخصوص ، والإطلاق والتقييد، وهكذا، فلو عرفنا من عادة متکلّم اعتماده على قرائن منفصلة ، ليس لنا حمل کلامه على ظاهرة البدائيّ ، قبل الفحص واليأس عن صوارفه، والقرآن من هذا القبيل ، فيه من العموم ما كان تخصیصه في بيان آخر، وهكذا تقیید مطلقاته وسائر الصوارف الكلاميّة المعروفة، وليس لأيِّ مفسر أن يأخذ بظاهر آية ما لم يفحص عن صوارفها وسائر بيانات القرآن التي جاءت في غير آية ، ولا سيّما أنّ القرآن قد يكرّر من بيان حكم أو حادثة ويختلف بيانه حسب الموارد، ومن ثَمّ يصلح كلّ واحد دليلاً وكاشفاً لما أُبهم في مكان آخر))(1) فمن الممكن النظر إلى القرآن الكريم كنصٍ لغوي تُكمل دلالاته بعضها الآخر، وهو أمرٌ يستدعي النظر في جميع هذه الدلالات، وملاحظة سياقاتها اللفظية التي يُكشف بها على علاقة القرآن الكريم بالواقع الخارجي في ضوء تنوع التعبير القرآني فيها تبعًا لتنوع تلك العلاقة، وهو ما يشير إلى قدرته على الكشف عن هذا الواقع بمعزل عن الاعتماد على السياق الخارجي. ولأجل تحقيق هذا الهدف فإن عملية التحليل اللغوي كإجراءٍ منهجي في تحصيل المعنى القرآني تمر عِبَر مراحلَ ثلاث :

ص: 47


1- التفسير والمفسرون : ج1/ ص206

الأولى : يبدأ الباحث فيها بالنظر في المعنى المعجمي لألفاظ الآية المبحوث فيها ولاسيَّما تلك التي أثارتها الروايات المرتبطة بالآية القرآنية بما توفره من المعلومة الجديدة التي يبدأ منها البحث، بالقدر الذي يُهيَّئُ لعملية المزواجة والتفاعل مع المعني النحوي وما يتعلق به من معانٍ وظيفية أُخَر، ثم أعرضُ في المرحلة الثانية لأهم التوجُّهات النحوية في الآية مورد البحث محاولاً ترجيح بعضها على بعض بما ينسجم مع المعنى المعجمي للألفاظ الذي تم التوصل إليها سابقاً وما ستُقدَّمُه الدَّلالة القرآنية .

أمَّا المرحلة الثالثة : فتحلل فيها اللفظة أو المركب المراد تحديد معناه وما تعلق بها من ألفاظ في ضوء ( الدلالة القرآنية )، وذلك عبر رصد اللفظة المعنيَّة في سياقاتها التي وردت فيها في عموم القرآن الكريم، لما في ذلك من أثرٍ في إبراز مجموع السَّمات الدلالية، باعتبار أن كلَّ واحد من هذه السياقات التي استُعملت فيها اللفظة أو المركب يمنحها خصوصيَّةً في الاستعمال فيكوِّن جزءًا من هذه السمات، ومجموعها يرسم لنا الصورة الدلالية النهائية للفظة المراد تحديد معناها، وقد يُتوسَل بالإهتداء إلى هذه السمات في بعض الأحيان عبر مقارنة سياق اللفظة مورد البحث مع سياق أقرب الألفاظ إليها من جهة الإشتقاق، لكون هذا الإجراء من شأنه أن يُحدَّد السمات الدلالية المُميَّزة اللفظة القرآنية التي أريد تحليل معناها، والتي نمازت بها عن غيرها وهو أمرٌ يكشف عن خصوصيتها .

ص: 48

إنّ هذه المنهجية في التحليل تعكس رؤية الباحث تجاه المعنى للفظة القرآنية بأنه معنىً واسعٌ مركب يتشكل من مجموع السَّياقات التي وردت فيها اللفظة، وما ينبغي الإشارة إليه أن التعبير بلفظة (الخصوصية) قد ورد كثيرًا في أثناء هذا البحث، وهو لا يعني عدم إمكانية انطباق بعض مفاهيم هذه الآيات على غير من تعلَّقت به في ظهورها الزمني الأول، بقدر ما يعني تلك الخصوصية المتأتية من ارتباط النص القرآني في أول ظهورٍ له بشخصية أو حدث معين اقتضى أن تُصاغ الآية موضوع البحث بالتعبير الذي وردت فيه من دون غيره .

ولابد من الإشارة إلى عزوف البحث عن التعرض بالحديث عن شخصية الإمام علي (عليه السلام) وما يرتبط بحياته الدينية والاجتماعية؛ لِما وجد في ما تم عرضه من أحاديث وروایات تتعلق بسبب نزول الآيات مورد البحث قد أشارتْ إلى قدرٍ كافٍ منها بالمقدار الذي يسلط الضوء على جانبٍ من حياته (عليه السلام)، ودفعًا المحذور التكرار .

وإيثار عنوان (الآيات المُتعلِّقة) على عنوان (الآيات المُنزَلة) يمنح الباحث الفرصة الكافية في عرض أكبر عددٍ من هذه الآيات ومن ثمَّ التوصل إلى نتائجَ علمية مرضية، خلافًا للعنوان الثاني الذي من شأنه - بحسب ما وجد الباحث - أن يُقلِّص من هذا الدور أو يحجمه؛ إذ إنَّ مفهوم التَّعلُّق لايعدو كونه يوحي بصلة الارتباط بين دلالات ألفاظ الآيات القرآنية من جهة وبين الإمام

ص: 49

علي (عليه السلام) من جهةٍ أخرى بحسب ما عرضت له تلك الروايات، إمّا لكونه سببًا مباشرًا في نزول هذه الآيات القرآنية التي اقتضتها حادثةٌ معينة ارتبطت به، أو هو المصداق الأكمل الذي تنطبق عليه تلك الدلالات، أو أحد مصاديقها أو قد يشاركه فيها آخرون، ولذلك كان عنوان التَّعلق متَحقَّقًا في كل ما سيرد عرضه من آياتٍ كريمة، في حين أن عنوان (الآيات المُنَزلة) لا يُهيء هذه السعة من الارتباط والتعلق. يُزادُ على ذلك أن نزول مجموعة من الآيات القرآنية بشخصية محددة يشترط فيه عدم تجاوزها إلى غيرها ليتحقق عنوان النزول؛ من حيث أن سبب النزول لابدّ من أن يكون محددًا متفقًا عليه ، وهو أمرٌ يجعل الحصول على مجموعة من الآيات القرآنية التي تصلح دراستها بحسب هذا التحديد أمرًا صعبًا، لعدم توافرها بالشكل المطلوب، أمّا عنوان( التعلُّق) فهو لايمنع من أن يتعلق بعض الآيات بموضوع ما مع جواز تعلقها بموضوع آخر، ومن ثمَّ تتوافر مجموعة من الآيات القرآنية الصالحة عند جمعها للدراسة. والأمر الذي يُحقَّقُ هذا التعلُّق على مستوى دلالات النصوص القرآنية في بنيتها التركيبية - وإن وردت ألفاظُ كثيرٍ منها بصيغٍ عامة - هو قدرتها على الإيفاء بالإيحاءات التي تنسجم مهذا التعلُّق وتُؤيَّدُه (( وذلك أن اللغة رغم قدرتها الهائلة(المناسب للسياق استبدال كلمة (الهائلة) ب( العظيمة) لكونها تحتمل معنى (المخيفة)) على التجريد والتعميم تظل نظامًا ثقافيًا خاصًّا، ولذلك يمكن أن يكون اللفظ عامًّا وتكون دلالته خاصة ))(1) .

ص: 50


1- مفهوم النص : 120

الفصل الأول

الألفاظ المفردة في الآيات المتعلَّقة بالإمام علي (عليه السلام

ص: 51

ص: 52

توطئة

بوده يتضمن هذا الفصل دراسة الآيات القرآنية المتعلقة بالإمام علي (عليه السلام) على مستوى الألفاظ المفردة، بحسب ما تعرض له مجموعة من الروايات الواردة في تأكيدها على محورية التعلُّق عِبر هذه الألفاظ .

ولذلك اقتضت منهجيَّة البحث في هذا الفصل التعرض لهذه الألفاظ وأخذها منطلقًا أساسًا في عملية التحليل، بجعلها قناةً ينفتح من خلالها الباحث على بقية الألفاظ في الآية موضوع البحث والآيات التي استُعملت فيها اللفظة المفردة نفسها أو ما يقترب منها من جهة الإشتقاق في حال عدم وجود استعمال مشابه للفظة نفسها .

وقد ترشَّح نتيجة لذلك مبحثان لدراسة هذه الألفاظ وبیان سماتِها الدلالية وذلك باعتبار الهيئة التي وردت عليها :

ص: 53

الأول : اهتَّم ببيان السمات الدلالية للألفاظ المفردة التي وردت على هيأة اسم فاعل وما أُلحِق بهما، ويقابل ذلك - وهو المبحث الثاني - الألفاظ التي وردت على هيأة غير اسم الفاعل .

وتأتي أهمية هذا التقسيم بحسب ما يرى الباحث لِما في هيئات الألفاظ من أثرٍ في إيضاح ملامح مَنْ تُشير إليه في الواقع الخارجي، ومن ثَمَّ فهي تعكس مدى الانسجام والتوافق بين مضمون هذه الروايات وما ستفرزه هذه الدراسة من نتائج ولاسيَّما على المستوى الدلالي في المباحث اللاحقة لها.

وعلى الرغم من تأرجُح دلالة اسم الفاعل بين الاسمية والفعلية(1) إلّا أن الآيات الواردة في هذا الموضوع وحسب السياق النحوي قد حسمت الموقف لصالح دلالةٍ واحدة لتعطي نتائجَ أقرب إلى الواقع منه إلى الظن؛ إذ كانت سباقات الألفاظ تشير إلى اسمية اسم الفاعل .

وليس ببعيد من هذا الأمر تلك الألفاظ التي وردت على هيآت أُخَر، حيثُ كانت دلالتها محددة خرجت بها عن دائرة العموم، وسيأتي بيان ذلك عبر آلية تفاعل المعنى النحوي الدلالي .

ص: 54


1- ينظر : الكتاب : 1/ 164 وما بعدها، المُقرب : 1/ 123 ومابعدها

المبحث الأول: الألفاظ التي وردت على هيأة اسم الفاعل وما أُلحِق بها:

المطلب الأول: في معنى لفظة (مؤمناً) :

قال تعالى : {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 18 - 19].

مهاد التنزيل:

يتوجَّهُ البحثُ لتحديِد معنى لفظةِ (مؤمناً) وذلكَ بحسَبِ ماوردَ من روایاتٍ تتعلقُ في نزولِ الآيةِ الكريمة، ومن تلك الروايات التي ذكرها أهلُ الحديثِ والتَّفسيرِ بِشَأنِ سَببِ نُزولِها ما أخرجه الواحدي في أسباب النزول (ت468ه) بإسناده قال : (( أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد الأصفهاني قال : أخبرنا عبد الله بن محمد الحافظ قال : أخبرنا إسحاق بن بيان الأنماطي قال : أخبرنا حبيش بن مبشر الفقيه قال : أخبرنا عبيد الله بن موسى قال : أخبرنا ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال : قال الوليدُ بن عقبة بن أبي معيط لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه :( أَنا أبسطُ مِنكَ لِساناً ، وأحدُّ منكَ سِناناً، وأَردُّ منك للكتيبةِ) فقال عليٌّ : (اسكت فإنما أنت فاسق)، فنزل : {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} قال : يعني

ص: 55

بالمؤمن علياً، وبالفاسق الوليد بن عقبة))(1) .

مسار التحليل ويتضمن:

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية :

(مُؤْمِنا) :

وهو اسمُ فاعلٍ من (آمَنَ) بمعنی مُصدَّق والمصدرُ منهُ الإيمان؛ قال الأزهري (ت 370ه) :

((الأصلُ في الإيمانِ الدُّخولُ في صدقِ الأَمانةِ التي ائتمنَهُ اللهُ عَليها، فإذا اعتقدَ التَّصديقَ بقلبهِ كما صدَّق بلسانهِ، فقدْ أدَّى الأَمانةَ وهو مُؤمنٌ، ومَنْ لم يعتقد التَّصديقَ بقلبهِ فهو غيرُ مُؤدًّ للأمانةِ التي ائتمنهُ اللهُ عليها وهو منافق))(2) ، فالُمؤمنُ هو المُصدَّقُ بمطابقة سيرته ما يُضمرُه في قلبه من نیّاتٍ حسَنة .

وفي مقاييس اللغة : ((الهمزةُ والميمُ والنونُ أصلانِ متقاربانِ : أحدُهما الأمانةُ التي هي ضدُّ الخيانةِ، ومعناها سُكونُ القلبِ، والآخرُ التَّصديقُ .))(3) .

ص: 56


1- اسباب النزول : 263، جامع البيان في تأويل آي القرآن : 21/ 123، ينظر : معاني القرآن الكريم : 5/ 307 ، وشواهد التنزيل : 1/ 445 - 454، ومناقب علي بن أبي طالب : 297، والكشف والبيان : 7/ 333 ، ووالدر المنثور : 6/ 553 ، وغيرها
2- تهذيب اللغة : 15/ 369
3- مقاییس اللغة (أمن ): 2/ 133

وفي لسان العرب (الأَمانُ والأَمانةُ بمعنى وقد أَمِنْتُ فأَنا أَمِنٌ وآمَنْتُ غيري من الأَمْن والأَمان والأَمْنُ ضدُّ الخوفِ والأَمانةُ ضدُّ الخِيانةِ والإيمانُ ضدُّ الكفرِ والإيمان بمعنى التصديق ضدُّه التكذيب ... ورجل أَمَنةٌ بالفتح للذي يُصَدَّق بكل ما يسمع ولا يُكَذَّب بشيء))(1) .

و أشارَ أبو البقاء الكفوي (ت 1094ه) أن مؤمناً يشيرُ إلى دلالةِ إعطاءِ الأمن زيادةً على التصديق ؛ قال : ((وفي (مؤمن) مع التَّصديقِ إعطاءُ الأمنِ لا في مُصَدَّق ))(2) . وعليه فإنَّ هذه اللفظة ترتبط بمعنى الصدق في القلب بحسب الأصل، بمعنى أنَّ فعل المؤمن يأتي موافقًا لما يعتقده بقلبه وحينئذٍ يكون صادقًا .

(فَاسقا) :

أمَّا لفظَهُ (فاسق) فهي اسمُ فاعل من ( فَسَقَ) بمعنى مَنْ خَرَج عن الشَّرع؛ قال ابنُ درید(ت321ه) في معناه : ((الفِسْقُ أصلُهُ من قولهم : انْفَسَقَتِ الرُّطَبَة، إذا خَرَجَتْ من قِشْرِها، ومنه اشتقاقُ الفاسق لانفِساقِه من الخير، أي انسلاخه منه.))(3) ، ويقابلُ أبو هلال العسكري (بعد 400 ه) بين الإيمان من جهة والفسوق والكفر من جهةٍ أخرى؛ فيقول : ((الإيمانُ نقيضُ

ص: 57


1- لسان العرب (أمن) : 13/ 26
2- الكليات : القسم الأول (الإيمان ) : 308
3- جمهرة اللغة (س ف ق ): 3/ 42

الكفرِ والفسقِ جميعاً؛ لأنَّهُ لا يجوزُ أنْ يكونَ الفعلُ إيماناً فسقاً كما لا يجوز أن يكون إيماناً کفراً))(1) ،

وعن ابنِ سيده (ت 458ه) : ( الفِسقُ : العصيانُ والتَّركُ لأمرِ الله، والخروجُ عن طريق الحق. فسَقَ يَفْسِقُ ويَفْسُق فِسْقاً، وفُسوقاً ... وقيل : الفَسَوق : الخروجُ عن الدَّين .))(2) . وفي القاموس المحيط ((فسَقَ : جارَ، وعن أمر ربَّهِ :خَرَجَ. والرُّطَبَةُ عن قِشْرِها : خَرَجَتْ. كانْفَسَقَتْ، قيل : ومنهُ الفاسِقُ، لانسلاخِهِ عن الخير))(3) المعنى اللغويّ الأوّل إذن المتبادر للفظة (فَسَقَ) هي الخروج عن الأصل، ومنه أُطلِق الفاسق على الخارج عن دينه، ومِن المُمكنِ القول أنَّ الفاسِقَ بارتكابِه المعصيةَ خارجٌ عن أصلِ فِطرَتهِ وهي الإيمانُ باللهِ سبحانه، فيكون فاقدًا لَه، فالمؤمنُ من اكتمل إيمانه والفاسق مَنْ خرج من إيمانه الذي كان عليه ولذا حسنُت المقابلةُ بينهما.

2- التوجيهات النحوية للفظة (مؤمنا) وما يتعلق بها:

امتازتْ لفظةُ (مُؤمِنا) في الآيةِ التي صُدِّر بها هذا الموضع من البحثِ من جهة وظيفتها النحوية إذا ما قُورنت بنظيراتِها اللواتي استُعملن في القرآنِ الكريم، لأنّ هذه اللفظةَ وردَتْ خبراً ل(كان الناقصة)، وهي من الأفعال

ص: 58


1- معجم الفروق اللغوية الحاوي لكتاب الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري : 137
2- المحكم والمحيط الأعظم (فسق) : 6/ 242 وينظر : لسان العرب (فسق) : 10/ 370
3- القاموس المحيط (فسق) : 3/ 490

الدالَّة على الزمن من دون الحدث، يقول ابنُ يعيش(ت643ه) في معناها بأنها :(( تُفيدُ الزمانَ مُجرَداً عن معنى الحَدث، فتدخلُ على المبتدأِ والخبرِ الإفادةِ زمانِ الخبر، فيصيرُ الخبرُ عِوضاً عن معنى الحَدثِ فيها، فإذا قلت : كانَ زيدٌ قائماً، فهو بمنزلةِ قولِك : قامَ زيدٌ في إفادة الحدث والزمن)) فالخبر عوَّض عن نقص الحدثية في دلالة الأفعال الناقصة(1) . أمَّا دلالةُ (كان الناقصة) عِندَ الرضيَّ الأَسترابادي (ت688ه) فهي تُقرِّرُ اتصافَ فاعلِها بوجودِه على صفةٍ مَا، يقول : ((أمَّا النَّاقصةُ فهي لتقريرِ فاعلِها على صِفَةٍ مُتَّصِفةٍ بمصادرِ الناقصةِ، فمعنى كانَ زيدٌ قائماً : أنَّ زيداً متصفٌ بصفةِ القيامِ المُتَصف بصفةِ الكونِ أي الحصولُ والوجود))(2) . وهذا يعني أنَّ منْ تعلقتْ بهِ الآية قد وُجِد منهُ الإيمانُ في الزمانِ الماضي مستقرًا عنده، كما أنَّ اقترانَ هذه اللفظةِ بكان الناقصةِ هو الموردُ الوحيدُ في القرآنِ الكريم(3) ، وبهذا المعنى يُمكن القولُ أنَّ (مَنْ كان مُؤمناً) استقر في الإيمانِ، وكان الأُنموذج المثالي في الإيمانِ الذي هو شرطٌ في الحصول على الجزاء الإلهي في الآيات القرآنية التي وردت فيها لفظة (مؤمن)، ومن ثمَّ فإيجاده للإيمان يؤهله للحصول على ما وعدت به تلك الآيات، والذي يُظهرُها المخطط الآتي(4) :

(26) شرح المفصل : 6/ 97

(27) شرح الرضي على الكافية : 4/ 182

(28) لمراجعة هذه الموارد ينظر : المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم : 114- 115

(29) (+) : استحقاق الصفة، (-) سلب الصفة

ص: 59


1- شرح المفصل : 6/ 97
2- شرح الرضي على الكافية : 4/ 182
3- لمراجعة هذه الموارد ينظر : المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم : 114- 115
4- (+) : استحقاق الصفة، (-) سلب الصفة

(+ حياة طيبة + جزاء حسن - يخاف ظلما - يُهضم

مَنْ كان مؤمناً له - كفران السعيه + يدخل الجنة يُرزق بغیر الحساب - يُظلم نقيرا

وينقل سيبويه (ت 180ه) عن الخليل في ما يتعلق بدلالة جملة الصلة أنَّها وصفٌ ل(مَنْ) و(مَا) الموصولتين ؛ يقول : ((وذلك قولك : هذا مَنْ أعرفُ مُنطلِقاً، وهذا مَنْ لا أعرفُ مُنطلِقاً، أي هذا الذي علمتُ أنَّي لا أعرفُه مُنطلِقاً. وهذا ما عِندي مَهيناً، وأعرفُ ولا أعرفُ وعندي حشوٌ لهما يتِمَّانِ به، فيصيرانِ اسماً كما كانَ الذي لا يتمُّ إلا بحشوِه، وقال الخليل رحمه الله : إنْ شئتَ جعلتَ مَنْ بمنزلة إنسانٍ وجعلتَ مَا بمنزلةِ شيءٍ نَكِرَتينِ، ويصيرُ منطِلقٌ صفةً لَمنْ ومَهين ٌصفةً لِمَا.))(1) فجملة الصلة عند الخليل - بحسب ما ذکر سیبویه - تصف الاسم الموصول وهي بذلك تمنحه بعداً دلاليًا .

ويتعاضد مع دلالة الوصفيَّةِ في جُملة الصلةِ التعبيرُ باسمِ الفاعلِ باعتبارهِ من المُشتقات، ولهُ أثرُه في إبرازِ الذات المتلبسة بالحدث، ليُوحي بوجودِ المُسند إليه (اسم كان) بعد حذفه؛ قال الرضيُّ : ((إنَّ الصفاتَ أيضاً، إذا ذكرتَها مَجَرَدةً من مَتبُوعاتِها فلا بُدَّ فيها من الدلالةِ على الذاتِ مع المعني المتعلِق بها، وكذا إذا ذكرتَها مع متبوعاتِها، لأن معنى (ضارب) : ذو ضَرْب، ولا شكَّ أنَّ معنى (ذو) : ذات، ومعنى (ضَرْب) مُعنىً في تلك الذات، ... فإنَّ

ص: 60


1- الكتاب : ج/ 105

نحوَ ضارب، وإنْ دلَّ على الذاتِ، إلا أنَّ المقصودَ الأهمَ به : الحدثُ القائمُ بالذاتِ المطلقة، التي دل عليها، هذا اللفظ))(1) ، وتجرد اسم الفاعل عن معموله وتعلقه ب(كان) مرجَّحٌ على دلالة الاسمية فيه من دون الفعلية .

ويعطي الرضيّ لجملة الصلة بُعداً دلاليًا أقوى من الوصف، ذلك أنها تجعل الاسم الموصول معهوداً لدى المخاطب فلا يكون نكرة يحتاج إلى وصف كما ذكر الخليل؛ وبهذا الشأن يقول : ((إنَّ الموصولاتِ معارفٌ وضعاً، وذلكَ لِما قُلنا إنَّ وضعَها على أنْ يُطلِقَها المتكلمُ على المعلومِ عندَ المخاطبِ، وهذه خاصةُ المعارف))(2)

وهذا التعريف في الاسم الموصول إنما اكتسبه من دلالة جملة الصلة التي تكسب الموصول دلالة التعيين؛ ولذلك عقَّبه بقوله : ((فرقٌ بينَ كونِ (مَنْ) موصولة، وموصوفة؛ وذلك لأنّا نقول، كما سبق، إنَّ تعريفَ الموصولِ بوضعِه معرفة مُشاراً به إلى المعهودِ بينَ المُتكلم والمُخاطب بمضمُون صِلَته، فمعنى قولِك : لقيتُ مَن ضربتُه، إذا كانتْ (مَن) مَوصوُلة : لقيتُ الإنسانَ المعهودَ بكونِه مضروباً لك، فهي موضوعةٌ على أن تكون معرفةً بصلتِها، وأمَّا إذا جعلتها موصوفة، فكأنكَ قلتَ : لقيتُ إنساناً مضروباً لك))(3) ، فالاسمُ الموصولُ في قولهِ تعالى : أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا من المعارف بحسبِ

ص: 61


1- شرح الرضي على الكافية : 2/ 284
2- المصدر السابق : 3/ 8
3- المصدر السابق : الصحيفة نفسها

الأصل، اكتسب تعريفَهُ من جملةِ الصلة، وهي بمثابةِ لامِ العهد في المُعرَّفِ بالألفِ واللام . ويُفهم منه أنَّ (مَن كان مؤمناً) معروفٌ لدى السامعِ بسبقِه للإيمان وشُهرته به، ويُساعد عليه حذفُ المسندِ إليه (اسم کان) وكأنَّه الاشتهارِه بالإيمان استُغني عن ذكره(1) ، والتعبيرُ القرآني يُوجَّهُ الذهنَ نحوَ اتصافِ المسندِ إليه بالإيمانِ وإيجادِه منهُ في الزمنِ الماضي .

3- الدلالة القرآنية للفظة (مُؤمِنا) وما يتصل بها :

(مُؤمنا):

استُعملت لفظةُ (مؤمن) في القرآن الكريم بمعنى (مُصدِّق)؛ كما يدلُّ عليه قوله تعالى : {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17 ]، ف( مؤمن) بمعنى مُصدِّق ويدل عليه تعديته باللام(2) . ومن اللافت للنظر أن هذه اللفظةَ قد اقترنتْ بعبارة (عَمل صالحاً) و(يعملُ صالحاً) في موارد تکرارها في التعبير القرآني؛ قال تعالى : {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [ النحل : 97]

{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا}

ص: 62


1- ينظر : دلائل الإعجاز في علم المعاني : 117
2- ينظر الكشاف : 2/ 433 ، والتحرير والتنوير : 12/ 35

[طه: 112]

{فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [ الأنبياء : 94]

{مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: 40]

{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [ النساء: 124 ].

ويُلاحظ في الآيات السابقة أنَّ لفظةَ (مؤمن) قدْ جاءتْ خبرًا في الجملة الحالية في سياقِ الشرطِ، وتحَقُّقِ الشرط مقرونٌ بحالٍ يتلبَّس بها مَن يعمل الصالحات (وهو مؤمن) ليجري إنجاز الشرط أي في حال كونه مؤمن، قال ابنُ يعيش : ((والشرطُ إنّما يكونُ بالمستقبلِ لأنَّ معنى تعليقِ الشيءِ على شرطٍ إنَّما هو وقوفُ دخولِه في الوجودِ على دخولِ غيره في الوجود ... إذْ كان وجودُ الثاني موقوفاً على الأول)(1) ، ويقول أيضاً في معنى الشرط : ((إنما وجب أن تكون الجملتان فعليتين من قبل أن الشرط إنما يكون بما ليس في الوجود ويحتمل أن يوجد وأن لايوجد))(2) ، ويفهم منه أنَّ شرطَ الإيمانِ في العملِ الصالح غيرُ متحققِ الوجود بعد بحسب دلالة هذه الآيات، وإنما هو

ص: 63


1- شرح المفصل : 8/ 155
2- المصدر السابق : 8/ 157

قيد فيه مرغوب في تحققِه، في حينِ أن (مُؤمناً) في الآية مورد البحث، كما أسلفنا، ذاتٌ قد سبقَ منها الإيمانُ لانفرادها بالاقتران ب( كان)؛ فيصُحُّ منها تحقُق الشرطِ الذي افترضتُه الآياتُ الكريمةُ السابقة وَهُوَ مُؤْمِنٌ في هذه الذاتِ المؤمنة، وما يعتمد عليه من استحقاقِها للجزاء الإلهي الذي وردَ في هذه الآيات وتم ذكره في ما سبق؛ لأنها ذاتٌ متلبسةٌ في الإيمان متمكنةٌ فيه، وهذا المعنى خلاف لسباقات اللفظة في الآيات الأُخر.

( فاسق) ونظائرها:

أما لفظة (فاسق) فلم تتكرر - زيادة على الآية المبحوثة - في التعبير القرآني إلا في موردٍ آخر(1) وهو قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [ الحجرات : 6](2) . ولفظةُ (تَبيَّنوا) تشيرُ إلى عدمِ عدالتِه واحتمالِ تحريفِه لِما يأتي بهِ من أنباء؛ جاء في تاج العروس : ((التَّبْيينُ : التَّثُّبتُ في الأَمْرِ والتَّأَني فيه))(3) وهو وهو من التَّفعُّل؛ قال ابنُ عاشور (ت1393 ه) :(( التبيّن : شدَّةُ طلبِ البيان،

ص: 64


1- ينظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم : 660
2- من المناسب التنويه إلى أن الفاسق المعني به في الآية الكريمة بحسب ما ورد في أسباب النزول هوذات الشخص الشخص المعني به في الآية موضوعة البحث وهو الوليد بن عقبة بن أبي معيط : يُنظر أسباب النزول : ص263
3- تاج العروس من جواهر القاموس : ج 34/ ص309

أي التأمُّل القويُّ، حسبَما تقتضيهِ صيغةُ التفعُّل))(1) .

وهذا المعنى يمكنُ القولَ إنَّ من صفات مَنْ كان فاسقًا في الآيةِ الكريمةِ أن يكون كاذبًا؛ بعدَّه خارجًا على الفطرةِ الإنسانية، فيوافقُ المعنى اللُّغَوي، ويساعدُه أنه استُعمل في مُقابلةِ (مؤمنا) المتقدم ذكره ومعناها مأخوذٌ من الصدقِ فهو مُصَدَّق ومَنْ يقابلُه يكونُ كاذباً.

وقد استُعمل (الفِسقُ) في القرآن الكريم بمعنى الكَذِب؛ ومنه قوله تعالى : {«فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة : 59] فتبديل القول يعدُ فسقًا وكذلك قوله تعالى : {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [ الأنعام : 49] {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة : 20] .

ويبدو أن إيثارَ استعمال (فاسق) بدلاً من كاذب ومقابلته ب(مؤمن) في الآية مورد البحث كما أشارت دلالة (مَنْ كان مؤمناً) على سبقِ الإيمان وثباته وتفرد صاحبه، كذا يدل (كان فاسقاً) على سبقِ الفِسقِ واستقراره فيه وخروجه عن إيمانه بارتكابه المعاصي بحسب المعنى اللغوي لمفهوم الفسق، فالمقابلة قائمة بين ذات وُصفت بالإيمانِ واشتُهرت به وأخرى فاسقةٌ سَبق منها الفسقُ واشتَهرتْ به وفيه معنى المفاضلة بقرينة (لايستوون )؛ قال ابن

ص: 65


1- التحرير والتنوير : ج4/ ص255

عاشور : ((إن نفي الاستواء ونحوه بين شيئين يُراد به غالباً تفضيل أحدهما على مُقابله بحسب دلالة السياق))(1) .

والتعبير بواو الجماعة في (لايستوون لاينفي المقابلةَ أو المفاضلةَ بينَ الطرفين لأنَّ التثنيةَ فيها معنى الجمع؛ قال الزجاج (ت316ه) : ((يجوزُ أنْ يكونَ( لايستوون) للأثنين، لأن معنى الإثنين جماعة))(2) ويرجح ذلك التعبير باسم الفاعل جميأة المفرد فالمقابلة بين (مؤمن) و(فاسق) وهو من باب الحمل على المعنى، وهذه الدلالة لا تمنع من إرادة دلالة المقابلة بين جنس المؤمن والكافر فهم لا يستوون بحال.

ويخلص الباحث إلى أنَّ أبرز السمات الدلالية المُمَيِّزة للآية مورد البحث التي أوضحت خصوصيتها تلك التي ظهرت عِبر جملة الصلة الدَّالة على عهدية (مَن كان مؤمناً )، بالإضافة إلى إيراد اسم الفاعل (مؤمن) خبرًا لكان وهو ما انفردت به، وهو أمرٌ يُبرز عمقَ الإيمان في هذه الذات فكان المصداق والمثال الواقعي بتلبسه بالإيمان لكل الآيات القرآنية التي اشترطت حصول الإيمان مقابل ما تعهدت به من جزاء ولم يرد فيها الإيمان متحققاً.

المطلب الثاني: في معنى (الصَّادقين):

قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}

ص: 66


1- التحرير والتنوير : 25/ 56
2- معاني القرآن وإعرابه : 4/ 208 ، وينظر أيضا : إعراب القرآن : 3/ 295

[التوبة : 119].

ذكرتْ طائفةٌ من المصادرِ المعتدَّ بما أنَّ قولَهُ تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ نزلتْ في الإمام عليًّ (عليه السلام)، نذكرُ ما جاء في بعضٍ منها في ما يأتي :

مِهادُ التّنزيل:

جاءَ في تفسيرِ فراتِ الكوفي(1) حوالي (ت 426ه)؛ قال : ((حدَّثَني محمدُ بنُ أحمد بن عثمان بن دليل، قال : حدثنا أبوصالح الخزاز، عن مندل بن علي العنزي عن الكلبي، عن أبي صالح : عن ابن عباس في قول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ قال : مع عليًّ

ص: 67


1- لم أعثر على سنِة وفاته ويبدو أن فرات الكوفيّ عاش ما بين القرن الثالث الهجري وبداية القرن الرابع؛ جاء في كتاب الذريعة إلى تصانيف الشيعة ((تفسیر فرات بن إبراهيم بن فرات الكوفي المقصور على الروايات عن الأئمة الهداة عليهم السلام وقد أكثر فيه من الرواية عن الحسين بن سعيد الكوفي الأهوازی نزیل قم والمتوفي بها الذي كان من أصحاب الإمام الرضا والجواد والهادی علیهم السلام ... وكذلك أكثر فيه من الرواية عن جعفر بن محمد بن مالك البزاز الفزاري الكوفي (المتوفي حدود) 300ه وكان هو المربى والمعلم لأبي غالب الزراری (المولود) 285ه ... ويروى التفسير عن فرات والد الشيخ الصدوق، وهو أبو الحسن على بن الحسين بن بابویه (المتوفي) 329ه كما أنه يروى والد الصدوق أيضا عن علي بن ابراهيم المفسر القمي( الذي توفي بعد) 307ه، ولعل فراتاً بقى الى حدود تلك السنة، وأما الشيخ الصدوق فيروى في كتبه عنه كثيرا إما بواسطة والده أو بواسطة شيخه الحسن بن محمد بن سعيد الهاشمي، وكما يروي الهاشمي هذا عن فرات كذلك يروى عن والد أبى قيراط جعفر بن محمد (الذي توفي )308 ه فيقوى احتمال أن فراتاً أيضا أدرك أوائل المائة الرابعة)) . الذريعة إلى تصانيف الشيعة : 4/ 289 -299، وينظر أيضا : معجم رجال الحديث : 14/ 271 -272

وأصحابه.))(1) . وعنهُ بالإسناد المتقدَّم ((عن ابنِ عباس : وقوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ نزلتْ في أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب وأهلِ بيتهِ خاصّة))(2) .

وفي الدر المنثور((أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : «اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ»» قال : مع علي بن أبي طالب، وأخرج ابن عساكر عن أبي جعفر في قوله : «وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ»» قال : مع علي بن أبي طالب))(3) .

مسار التحليل ويتضمن:

1- المعاني اللغوية للفظة (الصادقين) :

( الصادقين):

لفظةُ (الصَّادِقين) اسمُ فاعلٍ من(صَدَق)؛ و((الصَّدقُ : ضدَّ الكَذِب؛

ص: 68


1- تفسیر فرات : 173
2- المصدر السابق : 174، وينظر : تفسير القمي : 1/ 307، الكشف والبيان : 5/ 109، وينظر : شواهد التنزيل لقواعد التفضيل في الآيات النازلة في أهل البيت : 1/ 259، مجمع البيان : 5/ 152، نور الثقلين : 3/ 185 -186، الميزان في تفسير القرآن : 9/ 423
3- الدر المنثور : 4/ 316، ينظر : تاريخ دمشق الكبير : 42/ 361، ونظم درر السمطين : 112، وفتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير: 1/ 771، وينابيع المودة لذوي القربى : 1/ 137، وروح المعاني : 7/ 65، وفرائد السمطين : 370

صَدَقَ يصدُق صِدْقاً ... والصَّادِقُ والصّدوقُ واحد.))(1) ، وأصلُ اللَّفظةِ فيهِ معنى القوةِ؛ فهي كما يذكرُ ابن فارس(ت 395ه) : ((أصلٌ يدلُّ على قوّةٍ في الشيءِ قولاً وغيَره. من ذلك الصَّدْق : خلاف الكَذِبَ، سُمَّيَ لقوّته في نفسِه، ولأنَّ الكذِبَ لا قُوَّة له، هو باطل .))(2) وهي من ((صَدَقَ صِدْقًا خِلَافُ كَذَبَ فَهُوَ صَادِقٌ وَصَدُوقٌ مُبَالَغَةٌ ))(3) ، وكأنَّ معنى القوة في الصِّدق لِما يبذله الصَّادق من جهد في مواجهة رغبات النفس وميلها إلى الكذب .

ويبدو أنّ للصدْقِ مفهومًا واسعًا لا يُطلَقُ إلاّ على مَن حقَّقه في ذاتِه في علاقته مع نفسه والآخرين، وخلافه لايُسمي صادِقاً ؛ قال الراغب الأصفهاني (ت 502ه) : (( الصَّدقُ : مُطابقةُ القولِ الضَّميرَ والمُخْبرَ عنه معاً، ومتى انخَرَم شرطٌ مِن ذلك لمْ يكُنْ صِدقاً تامّاً، بلْ إمَّا أَنْ لا يُوصَفَ بالصَّدقِ؛ وإمّا أنْ يُوَصَف تَارةً بالصَّدقِ، وتارةً بالكَذبِ على نَظَرينِ مُخْتلفين))(4) وبذلك فإنَّ الصادق يمتاز عن الكاذب بمقدار المطابقة بين ما يُخبِر به وما موجود و متحقق؛ جاء في لسان العرب ((صَدَقَني فلانٌ أي قال لي الصَّدْقَ وكَذَبَنَي أي قال لي الكذب ومن كلام العرب صَدَقْتُ الله حديثاً إن لم أَفعل

ص: 69


1- جمهرة اللغة (ص د ق ): 2/ 348 ، لفظة (الصادق) لاتساوي لفظة (الصدوق) من جهة المبالغة فهما ليسا بمعنىً واحد من هذه الجهة كما ذكر ابن درید
2- مقاییس اللغة (صدق) : 3/ 339
3- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (ص د ق) : 175
4- مفردات ألفاظ القرآن : 478 - 497

كذا وكذا المعنى لا صَدَقْتُ اللهَ حديثاً إن لم أَفعل كذا .))(1)

وكمالُ الصدقِ تمامُ المطابقةِ من حيثُ العزمُ والقولُ والفعل؛ جاء في الكليات : ((والصَّدقُ في القولِ مُجانَبَةُ الكَذب، وفي الفعلِ الإتيانُ به وتركُ الإنصرافِ عنه قبلَ تمامِه، وفي النَّيَةِ العزمُ والإقامةُ عليه حتى يبلُغَ الفعل ))(2) وهذا هو المعنى العام للصدق، فالصادق مَن كان صادقا في النَّيَّة وصدرت أقواله وأفعاله مطابقةً لتلك النيَّة فضلاً على حصول هذه المطابقة في ما يُخبر به.

2- التوجيهات النحوية للألفاظ الآتية :

( الصادقون):

مَجِيُء (الصادقين) على هيأةِ اسم الفاعل يشير إلى دَلالتِه على الذَّاتِ ((وهو : ما دلَّ على الحَدَثِ والحُدُوثِ وفَاعِلِه))(3) ؛ إذِ الأصلُ فيهِ دَلالتُه على الذَّاتِ المُتَّصِفَةِ بالفعل قائمةً به(4) ، ويُزاد عليها أيضًا دلالته على الحدوث أو الدَّوام، جاء في الكليات أنَّ ((اسمَ الفاعلِ لمَّا كانَ جَارِياً على الفعلِ، جازَ أنْ يُقصَدَ به الحدوث بَمعُوَنةِ القرائن كَما في (ضايق )، ويجوزُ أنْ يقصدَ بهِ الدَّوام كما في المدحِ والمبالغةِ ))(5) فدلالته مشتركة بين الفعل في دلالته على الحدوث

ص: 70


1- لسان العرب (صدق ) : 10/ 233
2- الكليات : القسم الثالث (الصدق ) : 110
3- أوضح المسالك إلى ألفية ابن الك : 3/ 216
4- ينظر : شرح الرضي على كافية ابن الحاجب : 3/ 416
5- الكليات : القسم الأول : 131

والتجدد والاسم في دلالته على الثبوت والاستمرار.

وتَعَلُّقِ اللفظةِ بفعلِ الأمرِ (كُونُوا) في الآية موضع البحث يُرَشِّحُ دلالةَ و اللفظةِ إلى الاسمية الدَّالةِ على الثّبوُتِ، من دُونِ أنْ يُرادَ بها الحَدَثُ، فتكونُ اللامُ لامَ التَّعريفِ لا المَوصُولَةَ، ولذلكَ لمْ تجتمعِ اللامُ الموصولةُ معَ الصفةِ المُشَبّهةِ واسمِ التَّفضِيلِ لِما فيِهِمَا من معنى الثَّبوُتِ ولأنَّهُما لاتُأوَّلان بالفعل(1) .

دلالة (مع) :

(مع) ظرفٌ دالٌّ على الاجتماع والصُحْبَةِ؛ قالَ سيبويه :((وسَأَلتُ الخليلَ عن مَعَكُم ومعَ، لِأيَّ شيءٍ نَصبَتها؟ فقال : لأنَّها استُعْمِلتْ غيرَ مُضَافَةٍ اسماً كجميع، ووقعتْ نكرةً، وذلك قولك : جاءا مَعَاً وذَهَبا مَعاً وقدْ ذهبَ معه، صارتْ ظرفاً، فجعلوهَا بمنزلة : أمام وقدَّام))(2) ، وتتضح دلالتها على الصحبة من خلال ما أورده سيبويه من الأمثلة(جاءا وذهبا)

وأوضح المرادي هذه الدلالة بصراحة؛ فهي ((اسمٌ لمكانِ الاصطحاب، أو وقتهِ، على حَسَبِ ما يليقُ بالمضافِ إليه... لازمٌ للظرفيةِ لا يخرجُ عنها، إلّا إلى الجرِ ب(مِنْ) ))(3) .

ومَجيِئُها مُضافةً يَجعلُها في واحدٍ من ثلاثة معان؛ قالَ ابنُ

ص: 71


1- ينظر : منهج السالك إلى ألفية ابن مالك " المعروف بشرح الأشموني على ألفية ابن مالك : 1/ 150
2- الكتاب : 3/ 286 -287
3- الجنى الداني في حروف المعاني : 1/ 306

هشام (ت 761ه) :(( وتُستعملُ مُضافةً؛ فتكون ظَرفًا، ولها حينئذٍ ثلاثةُ معانٍ : أحدُها : موضعُ الاجتماع؛ ولهذا يُخبَرُ بِها عن الذَّواتِ نحوَ (واللهُ معكمْ). والثاني : زمانُه، نَحوَ :"جئتُك معَ العصر".

والثالثُ : مرادفة عِنْدَ))(1) واقتران الصادقين بما يؤيد دلالته على الذات، والمعنى اجتمعوا مع الذوات الصادقة .

وورود (مع) في الآية مورد البحث من دون (من) ظاهرٌ في الانتحاء بالصادقين للدلالة على طائفةٍ محددة (خاصة)، قال أبو حيان(ت 745ه) :((قال صاحبُ اللَّوامح : و( مِنْ) أَعمُّ مِن (معَ)؛ لأنَّ كلَّ مَنْ كانَ مِن قومٍ فهوَ مَعَهُم في المعنى المأمُورِ بِه، ولا يَنعَكِسُ ذلك))(2) .

ومنهُ يُفهَمُ أنَّ الَمأْمُورینَ ليسُوا مِن طائفةٍ (الصادقين) بالمعنى الكامل المفهوم الصدق كما ذُكر، وهذهِ الخصوصيةُ ل( معَ) مُعتَبرةٌ في الآيةِ الكريمةِ؛ إذ يُلحظ فيها أنَّ الأمرَ (للذين آمنوا) أنْ يكونُوا معَ الصادِقينَ لا أنْ يكونُوا مِنهُم، وكأنَّ غايةَ ما سيصلون إليه هو أن يتبعوا الصادقين بالكونِ معهم ومصاحبتهم، وهذا يُؤكَّدُ معنى أن يكونَ (الصَّادقين) قُدوَةً لغيِرهم .

وإيرادُ (معَ) في سياقِ الأمرِ بِدَلالَةِ الفعل (كونُوا )، يجعلُها في معنى المُطْلَقَةِ من قيدِ الزَّمانِ والمكانِ، فتكون بمعنى الاجتماع المطلقِ لا في زمانٍ أو

ص: 72


1- مغني اللبيب عن كتب الأعاريب : 1/ 346
2- البحر المحيط : 5/ 114

مكانٍ مُحددينِ، قال السيوطي (ت 911ه) في معنى (معَ ) : ((وقَد يُرادُ بهِ مُجَرّدِ الاجتماع والاشتراك، من غيرِ مُلاحظَةِ المَكانِ والزَّمانِ نَحو {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}))(1) .

فعل الأمر(كونوا) :

أمَّا فعلُ الأمرِ( كونوا ) : ففيهِ دَلالَةٌ على وُجوبِ اتَّباع (الصَّادِقين) والاجتماعِ معَهُم لصدقهم وكمال هذه الصفة فيهم، واستعمال فعل الكون دالٌّ على إطلاق الحدث من نوعه إلى الوجود العام (المطلق)(2) ما يعمُّ كلَّ الأفعال التي يأتي كما المأمورون، وإطلاقُ الأمر بمصاحبةِ الصادقين من جميع الجهات يشير إلى عصمتهم؛ ولقد فصَّلَ الفخر الرازي (ت604ه) في ذلكَ عِنْدَ تَفْسيِرِهِ لهذهِ الآيةِ ؛ قال : ((إنَّ قولَّه : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ» أمرٌ لهم بالتَّقوى، وهذا الأمرُ إنَّما يَتَناولُ مَنْ يَصِحُ مِنهُ أن لا يكون مُتَّقِيَاً، وإنَّما يكونُ كذلكَ لو كانَ جائزَ الخطَأ، فكانت الآيةُ دالًّةً على أنَّ مَنْ كانَ جائزَ الخطَأِ وَجَبَ كونُهُ مُقتَدِياً بمَنْ كانَ واجبَ العِصْمَةِ، وهُمُ الَّذينَ حَكَمَ اللهُ تَعالی بِكَونِهم صادِقين، فهذا يدلُّ على أنَّهُ واجبٌ على جائِزِ الخَطَأِ كونُهُ مع المعصومِ عنِ الخَطَاِ حتى يكونَ المعصومُ عن الخطأِ مانعاً لجائزِ الخطأِ عن الخطا))(3) ، وهُو ما يجعَلُ هذا الأمر سائرًا بأمر الذين

ص: 73


1- الإتقان في علوم القرآن : 2/ 473
2- ينظر : 4/ 317
3- مفاتیح الغيب : 16/ 227

آمنوا في كلَّ زمان ومكان بالكون مع هؤلاء الصادقين وهو ما يشير إلى أن وجودَ (الصادقين) في كلَّ مكانٍ وزمانٍ لازمًا للحيلولةِ من دونِ انحرافِ الأمَّة عن مسارِها الصحيح.

3- الدلالة القرآنية للفظة (الصادقين) ومصاحباتها:

لهذهِ اللفظةِ في القرآن مجموعةٌ من السِّمات يمكن تحديدُها بلحاظ السياقاتِ التي وردتْ فيها، يُعرفُ في ضوئها الصادقون بسماتهم التي خصَّهم القرآن بذكرها لهم؛ وهي :

إنَّ التعبيرَ القرآني يُعَّرف لنا الصادقين ؛ قال تعالى : {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة : 119 ] وهنا أَسند الفعلُ (ينفع) إلى (صدقهم) والصادقون هم المنتفعون بهذا الصدق، ويمكن الوقوف على هذا الانتفاع يوم لقائه سبحانه بلحاظ وقوع الفعل (ينفع) في سياق الاستثناء المنقطع الدالِ على الحصرِ في قوله تعالى : {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء : 88- 89) ف( إلاَّ) بمعنى (لكن)(1) ، وهي بتقدير : يوم لا ينفعُ إلاَّ مَنْ أتى اللهَ بقلبٍ سليم، وال(مال والبنون) للتوكيد أو التمثيل؛ أي لا ينفع في ذلك اليوم لا مالٌ ولا بنون ولا غيرهما(2) ، ف( الصادقون) هم

ص: 74


1- ينظر : الكتاب : 2/ 325
2- ينظر : المقتضب : 2/ 610

المنتفعون بصدقهم لإتياغم الباري بقلبٍ سليم، وهو السليمُ من الكفر(1) ، كذلك أثبتت هذه الآية الكريمة في سورة المائدة - بلحاظ الإخبار برضا الله عن (الصَّادقين) - أنهم في زمرة مَن (رضيَ الله عنه ورضوا عنه) وهم: خيرُ البرية وحزب الله والسابقون من المهاجرين والأنصار وذلك في الآيات القرآنية الآتية :

قال تعالى : وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» [التوية :100] ولَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» [المجادلة :22] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة: 7-8]

السَّمةُ الأخرى لل(الصَّادقين) أنَّهم المُصدَّقون للأنبیاء (صلوات الله عليهم أجمعين)؛ قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ

ص: 75


1- ينظر : لسان العرب : 12/ 339

صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} [الأحزاب : 7-8]، قال الزمخشري (ت 583ه) في معناها: ((ليسألَ المصدقين للأنبياء عن تصديقهم))(1) ، فالصَّادقون هُم مَنْ صَدَّقوا الأنبياءَ في الدنيا فيكون تصديقُهم نحوًا من الشهادة للأنبياء.

وزاد الآلوسي وجهًا آخر؛ قال :((والمرادُ بالصادقينُ النَّبِيُّون الذين أُخِذَ میثاقُهم... أو المراد بهم المُصَدَّقون بالنَّبِيينَ، والمعنى : ليسألَ المُصدقين للنبيينَ عن تصديقِهم إياهُم ))(2) ومع الأخذ بالوجهين في هذه الآية يكون المُراد ب( الصَّادقين) الأنبياءُ ومَن كان بمنزلتهم من الاتباع

يؤيدُ ذلك قولُه تعالى : قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ» [يوسف :51] فاستُعملت بخصوصِ نبيَّ الله يوسف (عليه السلام)، وفي قولِهِ تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا» [الأحزاب : 23- 24] إذ استُعملت في مقابل (المنافقين) وسمَّاهُم (المؤمنين )، وهم مَنْ قضى نحبَه ومَنْ ينتظر، وهؤلاء هم الصنفُ الثاني من

ص: 76


1- ينظر : الكشاف : 3/ 509
2- ينظر : روح المعاني : 21، 234- 235

الصَّادقين وهم اتباع الأنبياء.

وتتضح ملامحُ (الصادقين) بصورةٍ جليَّة، وذلك بلحاظ مجيئها في سياق الحصر المفيد التخصيص، من حيث أنَّ ضمير الفصل يدلُّ عل إثبات المسند المسند إليه دون غيره وهو ما أشار إليه الزمخشري(1) ، وقد وردت هذه اللفظة في آيتين بإسلوب الحصر في ضمير الفصل :

أولاهما : قولُه تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» [الحجرات:15] والأخرى قولُه تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] .

وفائدة ضمير الفصل (هم) ليؤكد أنَّ ما بعده خبرٌ لا صفة(2) ، بمعنى أن ما بعد ضمير الفصل (هم) ليس وصفًا للمبتدأ، إنما هو إخبارٌ على نحو التحقق بالصدق وثباته في طائفة قد التزمتْ الصدقَ في سلوكها لا مجرد وصف، وقد زادت الآيتان ملامحَ أُخَر لما سبقَ ذكرُه من سماتِ (الصادقين)؛ بأنَّهم (لم يرتابوا) وهو ما يؤيدُ كمالَ الصدقِ فيهم وينسجم مع عصمتِهم من الكذب التي أشار إليها الفخر الرازي، وأنَّهم مِمَنْ جاهدَ في سبيل الله بأموالهم

ص: 77


1- ينظر : الكشاف : 1/ 51، والإتقان في علوم القرآن : 2/ 265
2- الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين : البصريين والكوفيين : مسألة رقم (100): 2/ 217

وأنفسهم، أما الآية الثانية فقد أوضحتْ أنَّ المراد بالصادقين هم (الفقراء المهاجرين)، ولذلك فإن مدلول (الصادقين) يزداد بيانًا ووضوحًا في هذه الآية، وهو ما أشار إليه الزركشي (ت 794ه)(1) ، وهو أمر يؤيد أنَّ الألفَ واللامَ في قوله : وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ لمعهودٍ عُرِفَ بالصَّدق .

وكذلك أثبتت هذه الآيةُ سمةً انفرد بها (الصادقين) في القرآن الكريم ؛ باعتبار استمرار نصرهم لله ورسولِه بحسب دلالة الفعل المضارع وهو ما لْم يثُبت لغيرهم، وهذا المعنى منسجم مع دلالة قوله تعالى : مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب : 23]؛ إذ إن صدق العهد مع الله سبحانه وتعالى من أوضح مصادیق نصرته ونصرة رسوله.

مما تقدم يخلص الباحث إلى مجموعة من السِّمات الدلالية التي أبرزَها تفاعلُ لفظة الصادقين بمعناها المعجمي وهيأتها مع المعاني النحوية التي وردت فيها عبر سياقات اللفظة القرآنية، وبمجموع هذه السَّمات أمكن تحديد المعنى النحوي الدلالي للفظة الصادقين بأنهم طبقة مميزة من المؤمنين وممن جاهدوا في سبيل الله ومن ينتظرون قضاء نحبهم وقد رضي الله عنه ورضوا عنه، ونصروا الله ورسوله وهم يشتركون في الانتماء إلى طائفة (خير البريَّة وحزب الله والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) .

ص: 78


1- ينظر : البرهان في علوم القرآن : 1/ 203 ، وقد فهم المراد بالصادقين في الآية هم (المهاجرون) ولم يُدخل الفقراء

وما تجدر الإشارة إليه أن من أبرز السَّمات الدلالية المُمَّيزة للآية مورد البحث عن تلك التي اشتركت معها في استعمال لفظة (الصادقين) هي توجيه الأمر باتباعهم والكون معهم على أيَّة حال، ومن ثم فإن اللام فيها للعهد؛ باعتبار أن هذه الخصوصية فيهم لا بد من أن تكون معهودة عند المخاطبين كي يسهل اتباعهم، وهو مايشير إلى عصمتهم وإلا كان الأمر باتباعهم في حال الخطأ أيضًا، وهو ما لم تُبرزه الآيات الأُخر أو تُشِر إلى هذا المعنى وانفردت به الآية موضع البحث .

المطلب الثالث: في معنى (المؤمنين):

قال تعالى : {«إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب : 58]

مهادُ التّنزيل:

أقدم مَنْ أشارَ إلى سببِ النزولِ مقاتلُ بنُ سلیمان (ت 150 ه) في تفسيره ؛ قال إنّ الآيةَ الكريمة ((نزلتْ في عليَّ بنِ أبي طالب (رضي الله عنه )، وذلك أنَّ نفراً من المنافقينَ كانُوا يؤذونَه ويكذبونَ عليه))(1) ، وفي غيرهِ من المصادر أنَّهم يُسمعونَه ويشتمونَه.(2)

ص: 79


1- تفسير مقاتل بن سلیمان بن بشير الأزدي : 3/ 54
2- ينظر : تفسير القمي : 2/ 171 ، ومناقب علي بن أبي طالب : 310، والكشف والبيان : 8/ 63 ، والتبيان في تفسير القرآن : 9/ 620، وأسباب النزول : 273، وأنوار التنزيل وأسرار التأويل : 4/ ص283، والكشاف : 3/ 542 ، والبحر المحيط : 7/ 239، واللباب في علوم الكتاب : 15/ 588، ونور الثقلين : 6/ 82 ، والأمثل في تفسير كتاب الله المرتل : 13/ 226

مسار التحليل :

يتوجّهُ البحثُ لتحديدِ معنى لفظة (المؤمنين) بحسب ما له علاقةٌ بسببِ النزول في محاور عدَّة :

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية :

(المؤمنين) :

وهي مشتقةٌ من الفعل (آمنَ) بوزن أَفْعَلَ فهو اسمُ فاعلٍ من الرُّباعي ومصدرهُ (الإيمان)؛ جاء في التهذيب ((وأما" الإيمانُ " فهو مصدر : آمَنَ يؤمنُ إيمانا؛ فهو مُؤمن.))(1) ، وقال ابن جنّي (ت 392ه) بشأن هذا الفعل : ((متى كانتْ الهمزةُ ساكنةً مفتوحاً ما قبلها غيرُ طَرف، فأُريدَ تخفيفها أو تحويلها أُبدلت الهمزةُ ألفاً أصلاً كانت أو زائدة، فالأصلُ نحو قولك في" أفْعَل " من " أَمِنَ"" آمَنَ" وأصلها " أَأْمَن " فقُلبت الثانيةُ ألفاً لاجتماع الهمزتينِ وانفتاح الأولى وسكونِ الثانية))(2)

وفي القاموس : ((أمِنَ - كفَرِحَ - أمْناً وأماناً - بفَتْحِهِما - وأمَناً وأمَنَةً -

ص: 80


1- تهذيب اللغة (أمن ) : 15/ 368
2- سر صناعة الإعراب : 2/ 206

محرَّکتینِ - وإمْناً - بالكسر - فهو أمِنٌ وأمِينٌ، كَفَرِحِ وأميرٍ000 وآمَنَ به إيماناً : صَدَّقَهُ . والإيِمانُ : الثَّقَةُ، وإظْهارُ الخُضوعِ، وقَبولُ الشَّريعَةِ))(1) .

فالمؤمن هو من تُصدَّق أقوالُه وأفعالُه ما يعتقدُه، ولا يُخالطُ إيمانَه الشكُّ والإرتيابُ، قال ابن منظور(ت711ه) : ((فإنْ كانَ مع ذلكَ الإظْهارِ اعتِقادٌ وتصديقٌ بالقلبِ فذلك الإيمانُ الذي يُقال للموصوف به هو مؤمنٌ مسلمٌ، وهو المؤمنُ بالله ورسولهِ غيرُ مُرْتابٍ ولا شاكًّ، وهو الذي يرى أَن أداء الفرائض واجبٌ عليه، وأنَّ الجِهادَ بنفسِه وماله واجبٌ عليه لا يدخله في ذلك رَيْبٌ فهو المؤمنُ وهو المسلمُ حقّاً))(2) .

(يؤذون):

وهو فعل مضارع والمصدر منه (أذي) وهو اسمٌ مقصورٌ؛ قال الخليل (ت175 ه) في معناه : ((الأَدَي : كُلُّ ما تَأذَّيتَ به، ورجل أَذِيٌّ، أي شديدُ التَّأَذَّي، وأذِيَ يَأْذَي أَذيً))(3) ، وفي مقاییس اللغة : ((الهمزةُ والذالُ والياءُ أصلٌ واحد، وهو الشيءُ تتكرَّهه ولا تَقِرُّ عليه. تقول : آذَيْتُ فلاناً أُوذِيهِ))(4) ، فتعلُّقُ لفظة (المؤمنين) بالفعل (يُؤذون) يلمحُ إلى شدَّةِ إيذائِهم بمستوياتِ

ص: 81


1- القاموس المحيط (الأمن ) : 1/ 181 -182
2- لسان العرب (أمن ) : 13/ 27
3- العين (أذي ) : 8/ 206
4- مقاییس اللغة (أذي ): 1/ 87

الإيذاء من قولٍ أو فعل، ويزيدُ في هذا الإيذاء التعبير عنه ب(البهتان)؛ لما في معناه من المواجهةِ المباشرة بتوجيه الإيذاء لهم.

(بهتان):

جاء في معجم العين : ((بَهَتَهُ فلانٌ، أي : استقبلهُ بأمرٍ قَذَفَهُ به وهو بريءٌ منه، لا يَعْلَمُه، والاسم : البُهتانُ))(1) .

ولفظةُ (البهتان) تُوحي بفُحشِ الإيذاءِ الذي تعرضَ لهُ (المؤمنين)؛ فالبهتانُ وإنْ كانَ يشترك مع الزُّور في معنى الكذبِ على الآخرين، إلاَّ أنَّ الزُّورَ (هو الكذبُ الذي قد سَويَ وحسُن في الظاهر ليُحسَب أنّه صدق.

وأمّا البُهتان فهو مواجهةُ الإنسانِ بما لمْ يُحبُّه وقد بهته))(2) ، وأيضاً ((هو الكذبُ الذي يُواجَه به صاحبُه على وجهِ المكابرةِ له))(3) ، وفي الكليات أنَّ البُهتانَ معناه الافتراء وهو ((إذا كانَ بحضرةِ المقولِ فيه يكونُ بهتانًا))(4) . ويُبيَّنُ شدَّةَ البهتان في الآية قولُه تعالی : بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا إذ تعني (ينسبون إليهم ما هم بُرَآء منه لم يعملوه ولم يفعلوه ))(5) ، والتعبير عن اكتساب البهتان بصيغة

ص: 82


1- العين (جمت) : 4/ 35
2- معجم الفروق اللغوية : 268
3- السابق : 450
4- الكليات القسم الأول / 250
5- تفسير القرآن العظيم :482/3

الإفتعال يلمحُ الى أنَّ ما ألصقوهُ بالمؤمنين فيه عظيم جنايةٍ؛ لما فيها من معنى الاجتهاد والتكلف، قال سيبويه(ت180ه-) : ((أما كَسَب فإنَّه يقولُ أصابَ، وأمَّا اكتسبَ فهو التصرفَ والطلب والاجتهاد ))(1) ، ومنهُ يفُهمُ أنَّ إيذاءهم للمؤمنين من أقبح ما يكون، إلى الدرجةِ التي تتحيرُ منها العقولُ، وهو المعنى الآخر للبهتان و((هو الكذب الذي يَبْهَتُ سامعَه أي يُدهِشُ ويتحير وهو أفحشُ الكذب))(2) .

2- التوجيهات النحوية المتعلقة بلفظة المؤمنين :

دلالة الواو في(والذين يؤذون المؤمنين):

(الواو) في قوله «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ... الآية مورد البحث يُحتملُ أنْ تكونَ عاطفة، فيكون الموصولُ منصوبًا عطفًا على اسم إنَّ في الآية السابقة لها وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب :57 ]، أواستئنافية فيكون في محل رفع مبتدأ(3) ، والذي يُرجَّحُ العطفَ عدمُ الإشارةِ لما أُعد للذين يؤذون المؤمنين من الجزاء أو العذاب الدنيوي أو الأخروي؛ وكأن العطفَ على الآية السابقة في قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ

ص: 83


1- الكتاب : 4 /74
2- الكليات : القسم الأول / 250
3- ينظر :الإعراب المفصل لكتاب الله المرتل : 9/ 291

عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب :57] قد أغني عن ذكرِه، ولاسيَّما أنَّ العطف بالواو يتضمن الدلالة على الجمع؛ قال ابن سيده (ت 458ه) : ((فالواو إذا لم تكنْ بَدلاً من الحرفِ الجار لزمتهُ الدلالةُ على الاجتماع كلُزوم الفاء للدلالةِ على الاتِّباع، وهي مع ذلك تجيءُ على ضَرْبَين أحدِهما أن تأتي دالةً على الاجتماع متَعَرَّيةً من معنى العطف ... والآخرِ أن تأتي عاطفةً مع دِلالتها على الاجتماع))(1) يُزادُ عليه أنَّ ما يتمتعُ به المؤمنون من سماتٍ قرآنية - بلحاظ سياقات ماوردت فيه - تؤهلهم أن يكونوا في سياقِ العطف مع الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم في الآية مورد البحث؛ قال ابن عاشور :((أُلحقتْ حُرمةُ المؤمنينَ بحرمةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم تنويهًا بشأهم، وذُكروا على حِدة للإِشارةِ إلى نزولِ رتبتهم عن رتبةِ الرسول عليه الصلاة والسلام ))(2) .

جملة الصلة (يؤذون المؤمنين):

اشترطَ النَّحويون في جملةِ الصلة أن تكون معهودة لدى المخاطب؛ التحقيق الفائدة ورفع الإمام عن الاسم الموصول ((لأن الغرضَ بها تعريفُ المذكور بما يعلمُه المخاطبُ من حالِه ليصحَّ الإخبارُ بها بعد ذلك))

ص: 84


1- المخصص : 4/ 226 -227، ينظر : المفصل في صنعة الإعراب : 390، مغني اللبيب : 2/ 17 وما بعدها، الأشباه والنظائر في النحو : 2/ 126
2- التحرير والتنوير :ج 21/ ص327، وينظر : الأمثل في تفسير كتاب الله المُنَزَل : 13/ 226

(1) ، وكان الرضيُّ(ت688ه-) أكثرَ وضوحًا في بيانِ دلالةِ جملةِ الصَّلة؛ قال : ((إنَّ تعريف الموصول بوضعه معرفة مشارًا به إلى المعهود بين المتكلم والمخاطب بمضمون صلته، فمعنى قولُك : لقيتُ مَنْ ضربتُه، إذا كانت (مَنْ) موصولة : لقيتُ الإنسانَ المعهودَ بكونِه مضروبًا لك، فهي موضوعةٌ على أنْ تكونَ معرفةً بصِلتها))(2) ومنه يُفهم أنَّ إيذاءَ (المؤمنين) كان بيَّنًا واضحًا حتى صار معهوداً، ومن ثمَّ يكون مَنْ يُوجَّهُ إليه الإيذاءُ هو أيضاً معروفًا بأحواله ك-( مؤمن) لدى المخاطبين من جهة صدقِه وجهادِه وحسن ِسيرته، ويؤيد هذا المعنى التعبير بلفظة (المؤمنين) من دون (المسلمين)؛ فعلى الرغم من عدم جوازِ إيذائِهم أيضاً، إلَّا أنَّ التعبيرَ القرآني آثر استعمالَ لفظةِ (المؤمنين) بدلاً عنها، وهو مايُقرِّب من العهدية فيها، لما فيها من معنى العموم غير الملازم للفظة المسلمين.

الفاء الواقعة في جملة ( فقد احتملوا):

هذه الجملة خبرٌ للاسم الموصول (الذين) والفاء فيها تُقرب الاسمَ الموصول من معنى الشرط، ويرى النَّحويون بأنَّ فائدةَ الفاء في هذا الموردِ للتنصيص على أن ما بعدها بسبب ما قبلها مترتبٌ عليه؛ قال المبرد(ت286ه-) :((تقول : الذي يأتيكَ فله درهم. فلولا أنَّ الدرهمَ يجبُ

ص: 85


1- شرح المفصل : 3/ 154
2- شرح الرضي على الكافية : 3/ 8

بالإتيان لم يجز دخول الف-اء ... فإذا قلت : الذي يأتيك له درهم لم تجعل الدرهم له بالإتيان))(1) ، فاحتمالُ البُهتانِ والإثمِ بسببٍ من إيذاءِ المؤمنين لا غيره، وعلى الرغم من اقترانَ الخبرِ بالفاء يُقرَّبُ الموصولَ من معنى الشرط وهو أمرٌ يجعله في معنى المستقبل، وهذا يقرب إلى دائرة العموم، إلا أنَّ الرضيَّ أشار إلى جواز أن يكون الموصول خاصّاً وإن كانت صلته مستقبلية؛ قال : ((وقد يكون الموصول خاصا وصلته مستقبلة، كقوله تعالى : {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة : 8]، إذ لا يريد كل موت تفرون منه يلقاكم، إذ رب موت فر منه الشخص فما لاقاه ذلك النوع كموت بالقتل بالسيف مثلا، ولاقاه نوع آخر منه، فالمعنى : هذه الماهية التي تفرون منها تلاقيكم))(2) . ويمكن القول بأن عدم استعمال أداة الشرط بصورة صريحة يجعل الكلام في دائرة الحال والاستقبال، ويؤيد هذا المعنى أن جملة الصلة جِيء بها بصيغة المضارع (يؤذون) الدال عليهما، وكأن الإيذاء توجَّه إلى طائفةٍ محددة من المؤمنين وهو أيضًا تحذيرٌ لكلِّ مَنْ ي-ؤذي مؤمنًا أو مؤمنةً فسيلقى العقاب نفسه، ويُرجِّح الحالَ اقترانُ الفعل الماضي (احتملوا) ب( قد) التي جعلته ماضيًا قريبًا إلى الحال(3) .

ص: 86


1- المقتضب : 2/ 158
2- ينظر : شرح الرضي : 1 : 268
3- ينظر : سر صناعة الإعراب : 1/ 433، الجنى الداني : 255

3- الدلالة القرآنية للفظة (المؤمنين) ومصاحباتها :

ورد معنى لفظة (المؤمنين) في الاستعمالِ القرآني مطابقًا لِما ذكرتهُ المعاجمُ العربية؛ إذ إنَّ المؤمن هو ذلك الرجل الموصوف بالإيمان المصدَّق بالله ورسوله، فآمنت بالشيء إذا صدقت به وهو مأخوذ من الإيمان بمعنى التصديق(1) . ويدلُّ عليه قوله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]، فالآية الكريمة تُثبتُ الصدقَ للمؤمنين على وجه الحصر، جاء في التهذيب ((إن " المؤمن " هو المُتضمن لهذه الصفة، وأنَّ مَنْ لم يتضمنْ هذه الصفة فليس بمؤمن، لأن " إنما " في كلام العرب تجيء لتثبيت شيءٍ ونفي ما خالفه ))(2) وبهذا المعنى فصدقُ المؤمن معتبرٌ فيه عدم تطرُّق الشكِّ أو الريب الإيمانه. وكان الاستشهاد في سبيلِ الله تعالى والسيرُ على هداه هو الأُنموذج المثالي لصدقِ المؤمنين، قال تعالى {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب : 23]

ولقد أبرزَ الاستعمالُ القرآني مقامَ المؤمنين بلحاظ السياق الذي وردت فيه لفظة (المؤمنين) بما يأتي :

يقاتلون فيَقتلون ويُقتلون + وُعدوا بالجنّة والرضوان والنصر + تنزل

ص: 87


1- ينظر: لسان العرب: 13/ 28 ، تاج العروس : 34/ 187
2- تهذيب اللغة : 15/ 370: ينظر : مفردات ألفاظ القرآن : 90 -91

السكينةُ

المؤمنون في قلوبهم + إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم وهم المفلحون + يصدقون ما عاهدوا الله

عليه + هاجروا في سبيل الله وهو معهم + يُعلَّمُهم الرسول الكتاب والحكمة + لهم مغفرةٌ ورزق كريم + تكفير الذنوب

قال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال : 2- 4] فهؤلاء هم المؤمنون حقا(1) ، وقد جمع سبحانه وتعالى بين الإيذاء والقتل في سبيله بقوله تعالى : {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران :195] ولعلّ في الآية الأخيرة ما يشير إلى أن إيذاء المؤمنين يمكن أن يكون مقدمةً لقتلهم في سبيل الله.

ويبدو أنَّ ما كان يُواجَه به (المؤمنين) من البُهتان هو من عظيم الأمور؛ ولاسيَّما أن التعبير القرآني استعمل مفردة (البهتان) في الحوادث العظيمة، قال

ص: 88


1- تنظر الآيات القرآنية : الأنفال/ 74، النور/ 62/ 51، الحجرات/ 10/ 15، النساء/141، التوبة/ 26/ 72/ 111

تعالى : «وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا» [النساء: 156] ومنه أيضاً قوله تعالى: وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ» [النور : 16] .

وعلى الرغم من عظمة هذا الإيذاء للمؤمنين وبهتانهم، إلا أن الآية الكريمة لم تعرِض لعاقبة هذا الأمر أو للعقوبة المترتبة عليه، والظاهر أن دلالة الواو العاطفة في قوله تعالى : وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ. . . على قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب :57 ] قد أغنت عن ذلك، فالبهتان هو إيذاء المؤمنين وبدلالة العطف تكون العقوبة عليه العذاب المُهين.

والقولُ بعطف الواو في قوله (والذين) يكشفُ عن مقامِ (المؤمنين) في الآيةِ المذكورة، وذلك لِما في دلالة الواو على اجتماع المؤمنين مع الرسول، ويترتب على ذلك أن إيذاء المؤمنين إيذاءَ المؤمنينَ إیذاءٌ للرسول، وقد فهم الفخر الرازي(ت604ه-) هذا المعنى؛ فقال :(( لمَّا كانَ اللهُ تعالى مُصَلَّيًا على نبيَّه لم ينفك إيذاءُ اللهِ عن إيذائه، فإن من آذى الله فقد آذى الرسول، فبيَّنَ اللهُ للمؤمنين أنَّكم إنْ أتيتم بما أمرتُكم وصلَّيْتُم على النبيّ كما صليتُ عليه، لا ينفكُّ إيذاؤُكم عن إيذاءِ الرسول فيأثم مَنْ يؤذيكم لكون إيذائِكم إيذاءَ الرسول،كما أنَّ إيذائي إيذاؤه ))(1) . والرازي هنا جعل من الصلاة على النبي

ص: 89


1- مفاتيح الغيب : 25/ 230

من قِبلِ (المؤمنين) في قوله تعالى : «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا» [الأحزاب :56] شرطاً في اشراكهم مع الرسول الكريم في جزاء الإيذاء وهو قوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا» [الأحزاب :57] وهو ما يكشف عن خصوصيتهم وعلوِّ منزلتهم.

ومما تقدم فإن السياق الذي وردت فيه لفظة (المؤمنين) من عطفها على ما قبلها، وما يترتب عليه من إشراكهم مع الرسول في الإيذاء ما يُشير إلى سموِّ منزلتهم، وأنهم ممن تحمّل أعباءَ الدعوةِ إلى الإسلام، ولزومهم الرسول في هذه الدعوة فشاركوه في ما عاناه من إيذاء (الذين أوتوا الكتاب والمشركين)، وكانوا معه جنبًا إلى جنب في خطوط المواجهة، ولعلّ هذا يُعد أبرز السَّمات الدلالية المُميزة للفظة (المؤمنين) على مستوى الاستعمال القرآني للفظة وقد أوضحه سياق الآية وعلاقة اللفظة مع بقية الألفاظ. وهم بهذه السمات معروفون بين المسلمين، ويأتي في هذا السياق أنَّ نعت الإثم ب(مبیناً)؛ يُوحي بأن ما ألصقوه بالمؤمنين من كذب وافتراء كان إنما ظاهراً، وكأنَّ ما تعارف عليه المسلمون بأن ما قيل بحق هؤلاء المؤمنين لا يتلاءم ومقامهم وهو غيرُ لائقٍ بهم ومن ثمَّ كان ظاهر البطلان .

المطلب الرابع: في معنى (السابقون):

قال تعالى : «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ

ص: 90

»[الواقعة :10 - 12].

مهادُ التّنزيل:

سجَّلتْ كُتبِ التفسيرِ أنَّ الإمامَ عليًّا (عليه السلام) هو سابقُ أمَّةِ محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم في الآية الكريمة؛ ومن ذلك ما أخرجهُ ابنُ أبي حاتم (ت327ه) في تفسيره، ((عنِ ابنِ عبَّاسٍ، رضيَ اللهُ عَنهُما، في قَولهِ : وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ.

قال : يُوشَعُ بنُ نُونٍ سَبَقَ إلى مُوسَى، ومَؤُمنُ آلِ وَمُؤمنُ آلِ يس سبقَ إلى عيسَى، وعَليُّ بنُ أَبِي طَالبٍ، رَضيَ اللهُ عَنهُ، سبقَ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم))(1) وأخرجَ ابنُ مَرْدَوَيه(ت410ه-) : ((عنِ ابنِ عبَّاسٍ في قَولِهِ : وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ، قال :

نَزَلتْ في حِزْقِيل مُؤْمنِ آلِ فِرعَون، وحبيبِ النَّجَّارِ الذي ذُكِر في يس، وعليَّ بنِ أبي طالِب، وكلُّ رجُلٍ منهم سَابِقُ أُمَّتِه، وعليٌّ أَفْضَلُهم سَبْقاً))(2) .

ص: 91


1- التفسير بالمأثور : 7/ 467، ينظر : تفسير فرات الكوفي : 463، ومجمع البيان : 9/ 400، وتفسير القرآن العظيم : 4/ 260، والصواعق المحرقة : 2/ 364، والميزان : 19/ 123
2- مناقب علي بن أبي طالب : 330، ينظر : شواهد التنزيل : 2/ 213، وفتح القدير : 2/ 769، والدر المنثور : 8/ 7، وينابيع المودة : 1/ 59، وروح المعاني : 15/ 202

مسار التحليل ويتضمن:

1- (السابقون) في المعجم اللغويّ :

(السَّابِقُون) اسمُ فاعلٍ من (سَبَقَ) وفيهِ معنى (التَّقدُّم)؛ قال الخليل: ((السَّبقُ : القُدْمَةُ، وتقول : لهُ في الجرَيْ وفي الأمرِ سَبْقٌ وسُبْقَةٌ وسابِقَةٌ أي سَبَقَ الناسَ إليه.))(1) وجاءَ في التَّهذيب ((قال الليث : السَّبْق القُدْمَةُ في الجَري وفي كلَّ أمْرٍ، تقولُ له : في هذا الأمرِ سُبْقةٌ وسابِقةٌ وسَبْق، والجميع الأسباق، والسوابق))(2) .

فكلُّ منْ تَقدَّمَ غيَرهُ في أمرٍ ما فَهوَ سابِقُهُ إليه، وقدْ أدرَجَ ابنُ سیدَه(ت458ه-) التَّقدُمَ والسَّبْقَ تحتَ موضوعٍ واحدٍ؛ قال : ((التّقدمُ والسّبقُ :أبو عُبَيْد : قَدَمْت القوم أقدُمهم قَدْماً : تقدّمتهم. صاحب العين : القُدوم : المُضيّ أمام أمام وهو يمشي القُدُم... والسّبقُ القُدْمَةُ في الجري وفي كل أمر يقال له فيه سَبْق وسُبْقَة وسابِقَة : أي سبق النّاس إليه.))(3) ، فالسَّابِقُ هو المُبادِرُ قبلَ غيرِه إلى أمرٍ ما، مُتقدمٌ فيهِ عليه .

2- التوجيهات النحوية للفظة (السابقون) وما يتعلق بها :

(السابقُون)الأُولى مُبتدأ، والثانية يمكن أنْ تكونَ خبرًا عن المُبتدأ أو نَعتًا

ص: 92


1- العين (سبق ) : 5/ 85
2- تهذيب اللغة (سبق ) : 8/ 317
3- المخصص (السبق ) : 4/ 94

أو توكِيدًا لفظيًا(1) ، وقد ذهبَ سيبويه (ت180ه) إلى أنَّ في هذا النَّحوَ من تكرارِ المبتدأِ بلفظه دلالةً على معرِفَةٍ سابقةٍ به؛ قال (( تقول : قد جرّبتُك فوجدتُك أنتَ أنتَ، فأنتَ الأولى مبتدأةٌ والثانيةُ مبنيَّةٌ عليها، كأنَّكَ قلت : فوجدتُك وجهُك طليقٌ. والمعنى أنك أردت أن تقول : فوجدتُك أنتَ الذي أعرفُ. ومثل ذلك : أنتَ أنتَ، وإن فعلتَ هذا فأنتَ أنتَ، أي فأنتَ الذي أعرفُ، أو أنتَ الْجوادُ والجَلْد، كما تقول : النَّاسُ النَّاسُ، أي النَّاسُ بكلَّ مكانٍ وعلى كلَّ حال كما تعرف.))(2) وبهذا يكون تكرار المبتدأ بلفظه نحواً من الإخبار، وأشار الرضيُّ أنَّ تكرار المبتدأ بلفظه هو النَّوعُ الثَّاني مِن أنْواع الخَبَرِ؛ قال : ((والثَّاني أي الذي لا يُغايِرُ المبتدأَ لفظاً، يُذكَرُ للدَّلالةِ على الشُّهْرَةِ، أو عدمُ التَّغيُّرِ، كقولهِ : أنا أبو النَّجم وشِعري شِعري ، أي : هو المشهورُ المعروفُ بنفسِه لا بِشئٍ آخر، كما يُقالُ مَثَلاً : شِعري مليحٌ، وتقول : أَنا أَنا، أيْ ما تغيَّرتُ عمَّا كُنت))(3) .

وذهبَ بعضُ المُفسِرينَ إلى ترجِيحِ الإعرابِ الأَوَّلِ بأنْ تكونَ (السابقُون) الثانية خبراً وذلك لأمرين :

الأول : لشُهْرَتِهم في السَّبْقِ حتَّى عُرِفُوا به؛ قال الزمخشري(ت538ه-) : ((وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ»، يُريد : والسَّابِقُونَ مَنْ عَرَفْتَ حَالَهم وبَلَغَك

ص: 93


1- ینظر: التبیان في إعراب القرآن: 2/ 437
2- الکتاب: 2/ 359
3- شرح الرضي علی الکافیة: 1/ 255

وصْفَهُم، كقوله : وعبدُ الله عبدُ الله. وقولُ أبي النجم : وشَعِري شِعري كأنَّه قال : وشعري ما انتهى إليك وسمعت بفصاحته وبراعته))(1) .

الثاني : لِما فِيهِ من معنَى التَّعظيمِ والتَّفخِيم انسجامًا معً التعظيم ب( ما) في قوله تعالى: فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ- وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ» [الواقعة : 8 - 9] وهو ما أشار إليه أبو حيان(ت 745ه) بقوله : (( يُرجَّح هذا القولَ أنَّه ذكرَ أصحابَ الميمَنةِ مُتَعجَّباً منُهم في سعادتِهم، وأصحابُ المشأَمة مُتَعجَّباً منُهم في اوتهم، فناسبَ أنْ يذكرَ(السابقون) مُثْبِتاً حالَهم مُعَظَّمًا، وذلك بالإخبارِ أنَّهم نهايةٌ في العَظَمَةِ والسَّعَادَة))(2) .

وذكرَ الرازي(ت604ه) بأن تكرارَ المبتدأِ بلفظهِ يُرادُ به وجهان : ((أَحَدُهُما أنْ يكونَ لشُهرَةِ أمْرِ المُبتدأ بِما هُو عَليهِ فلا حَاجَةَ إلى الخَبَرِ عَنْه .. والثَّاني : للإشارةِ إلى أنَّ في المُبتدأ مالا يُحيطُ العلمُ به ولا يُخبَرُ عَنه ولا يُعْرَفُ منهُ إلاَّ نفسُ المُبتَدأ))(3) وهُوَ يدلُّ (( على وَصْفِهِم بِشَيءٍ لا يَكْتَنِه كَنْهَه بحيثُ لا يَفِي بهِ التَّعبيرُ بعبارةٍ غَيَر تلكَ الَّصفَةِ إذْ هي أقصى ما يَسَعهُ التَّعبير))(4) ويُفهمُ مِن ذلكَ أنَّ «السابقُون» مَنْ عُرِفُوا بِسبْقِهم

ص: 94


1- الكشاف : 4/ 446
2- البحر المحيط : 8/ 205
3- مفاتيح الغيب : 29/ 146
4- التحرير والتنوير : 27/ 265

واشتُهِروا به، فأغنى ذلك عن ذكرِهِم بأوصافٍ أُخَر، وإنما تتضح هذه الدلالة على القولِ بإعرابِ «السابقُون» الثانية خبراً، ويؤيد ذلك ما أشار إليه سيبويه في قوله السابق (تقول : قد جرّبتُك فوجدتُك أنتَ أنتَ ، فأنتَ الأولى مبتدأةٌ والثانيةُ مبنيَّة عليها ).

أمَّا على القولِ بأنَّها نَعْتٌ فهذا الوجهُ لا يتحققُ به ما حصلَ من الفائدةِ بإعرابهِ خبر من حيث الإخبار عنهم بما اشتهروا وعرفوا به؛ إذ النَّعتُ : مَجرَي تخليصِ اسمٍ من اسم، فبالنَّعتِ لا يُتخلصُ مَنْ الَّذِي شاركَهُ فِي اسمهِ وهو (السابقون)(1) ، وفيهِ أيضًا عدم جوازِ وصفِ الشيءِ بلفظه(2) ، إلاَّ على و القولِ بأنَّ (السابقون) الثانيةَ غيرُ الأولى وهو ما يُعيدنا إلى الإعرابِ الأول.

وقد يكونُ بإعرابها توكيداً وجملة أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ خبرٌ وجه، إلا أنَّه لما كانت فائدة التوكيد تقرير المؤكَّد (السابقون) في النفس وإزالة الإبهام عنه بتكريره بلفظه ما يجعل من المبتدأ (السابقون) في حكم المبهم وهذا خلاف كونه معروفاً بحكمه مبتدأ، وإلاّ لما جازَ الابتداء به، ولهذا فالرَّاجحُ عندَ الباحث هو الإعراب الأول.

(المُقرَّبون):

أمَّا ما يخُصُّ هذهِ اللفظةَ فقدْ أثبتَتْ الآياتُ م-ورد البحثِ سمةً جديدة

ص: 95


1- ينظر : الصاحبي في فقه اللغة : 98
2- ينظر : اللباب في علوم الكتاب : 18/ 378

لل-(السابقون)، وهي(المُقَرَّبوُن) في قولِه تعالى : وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ- أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ»، لكون التعريف أو الألف واللام في (المقربون) تفيدُ انحصار المُخَبِر بهِ في المُخبَرِ عنه ونفيه عن غيره، وهو ما سيشيرُ إليه ابنُ الأثير(ت637ه) في ما بعد.

وانحصارُ القربِ فيهم معتبر؛ لإحرازهم السبقِ والتَّقَدُمِ على غيرهِم، فيكونون أقربَ من غيرِهم لمبادِرتهم لِفعلِ الخَيَراتِ، ولَّما لم يَذكرْ متعلَّقَ (المُقرَّبوُن) من أيِّ جهة فذلك دالٌّ على عمومِ القُربِ فيهم من كلَّ جهاتِه(1) .

والتعبيرُ باسم الإشارة (أُولئِك) المُشار به إلى(السابقون) قرينةٌ تدلُّ على امتيازهم أكمل دلالة؛ لما في الإشارة من معنى حضور المشار إليه الذي بدوره يُؤيَّدُ القولَ بعهديةِ الألف واللامِ فيه، قال سيبويه : ((وقد يكون هذا وصواحِبهُ بمنزلة هو، يُعرَّف به، تقول : هذا عبدُ الله فاعرفْه؛ إلاّ أنَّ هذا علامةٌ للمضمَر، ولكنك أردت أن تُعرَّف شيئًا بحضرتك))(2) فالعهديّةُ ملازمةٌ للحضور، ويؤيَّدُ هذا المعنى ما ذكرهُ المرادي (ت 749ه) من أنَّ الألف واللامِ الواقعةَ بعدَ اسمِ الإشارةِ للحُضور؛ قال : ((الثاني : أن تكونَ للحضور. وهي الواقعةُ بعدَ اسمِ الإشارةِ، نحو لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ»... وهذا القِسْمُ راجعٌ إلى الذي قبله. فقالَ بعضهم : يرجعُ إلى الجنسية. قال أبو موسى : ويعرض في الجنسية الحضور. وقيل : بل هي راجعة إلى العهدية))(3) ، ويزيد في صورة هذا

ص: 96


1- ينظر : التحرير والتنوير : 27/ 266
2- الكتاب : 2/ 79
3- الجنى الداني : 195

التميُّز ما ذك-ر أب-و البقاء الكف-وي(ت1094ه) بأنَّ :((مَعرِفَةَ مدلولِ اسمِ الإشارَةِ في أصلِ الوضعِ بالقلبِ والعين، وما سواه بالقلبِ فقط))(1) ومن هنا تبرز دقَّة التعبير القرآني باسم الإشارة (أولئك) إذ جاء منسجمًا مع دلالة تكرار هنا المبتدأ بلفظه.

3- الدلالة القرآنية للفظة(السابقون) ومصاحباتها :

أ- السابقون :

بناءً على إعرابها خبرٌ فإنَّ اللامَ فيها للعهدِ باعتبار اشتهارهم بالسَّبْقِ، وكأنَّ هناكَ مَنْ عُرِفَ بالسَّبقِ وتُريدُ الآيةُ أنْ تُخبرَ عنه وبيان ما ينالُ من جزاء، وهُوَ ما يَنسجمُ مع ما ذكره القرآن الكريم بقوله تعالى : وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» [التوبة : 100] .

ویلحَظُ هنا أمورٌ عدةٌ:

إنَّ لفظةَ (السابقون) لمْ تَرِدْ في غيرِ هاتينِ الآيتينِ؛ مما يُرجَّحُ القولَ بعهديَّةِ الألف واللام فيها وأنَّ المُراد ب(السابقون) هم الأولون من المهاجرين والأنصار. جاء في المثل السائر في بيان قوله تعالى : قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ

ص: 97


1- الكليات : القسم الخامس : 243

الْأَعْلَى» [طه :68] وما أفادَهُ تعريفُ الخبرِ (الأعلى)؛ قالَ ابنُ الأثير(637ه) :(( لامُ التَّعريف في قولِهِ (الأعلَى) ولَم يقُلْ أعلى ولا عالٍ؛ لأنَّهُ لو قالَ ذلك لكانَ قدْ نَكِره وكانَ صالِحاً لِكلَّ واحدٍ من جنسهِ كقولك : رجل، فإنَّه يَصلُحُ أنْ يقعَ على كلَّ واحدٍ من الرَّجالِ، وإذا قلت : (الرجل) فقد خصصته من بين الرجال بالتعريفِ وجعلته علماً فيهمِ ))(1) وهو ما يؤيد أن تكون اللام في السابقين دالَّة على التخصيص(2) . إنَّ لفظةَ (الأولون) نعتٌ وهي قيدٌ في السَّبْقِ، فليسَ المُهاجرون كلُّهم سابقين وإنَّما الأولون منهم، والخبرُ جملةُ (رَضِيَ اللهُ عنهم) مسندٌ لل(السابقون)، أو أنَّ المُسندَ جملةُ (مِنَ المُهاجرينَ) و(الأنصارِ) معطوفٌ عليها، والمعنى : إنَّ السابقينَ هم الأولون من المهاجرينَ والأنصار(3) . إن اعتمادَ الوجهِ الأوَّلِ من الإعرابِ بأن تكون جملةُ (رضيَ اللهُ عنهُم ورضُوا عنه) مسندًا لل(السابقون)، يكشفُ عن السَّماتِ الدَّلاليةِ لهذهِ اللفظةِ على مستوى التعبير القرآني بلحظ موارد إسنادها.

وهي : قوله تعالى : {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة : 119] وهذه الآية تكشف عن المناسبة بين مدلول السابقين ومدلول الصادقين في قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ

ص: 98


1- المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر : 2/ 19
2- ( أل) التي تفيد التعريف نوعان : أل العهدية والآخر أل الجنسية، ينظر : النحو الوافي : 1/ 423
3- ينظر : التبيان في إعراب القرآن : 2/ 488

الصَّادِقِينَ} [التوبة :119]. فالسابقون من الصادقين.

و: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة :22] و: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة : 7- 8](1) وبهذا الإسناد تُضاف إلى (السابقون) سماتٌ أُخَرُ وهي:

أنهم : (الأولون من المهاجرين والأنصار+ الصادقون + حزب الله + خير البرية) . وعدَمُ تقييدِ لفظَةِ (السابقون) في الآيةِ مورد البحث بما يُقيدُها المتعلقات يثبتُ سبقَهم في كلَّ الأمور؛ إذْ ((إنَّ إيرادَهُم بعنوانِ السَّبْقِ مُطْلقاً مُعرِبٌ عن إحرازِهم لقصبِ السَّبقِ من جميعِ الوجوهِ))(2) وكذا الحال مع (الصادقين) في قوله تعالى : قَالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ...» [المائدة : 119] فصدقهم مطلق من جميع الجهات.

وقد أشارَ التعبيرُ القرآني إلى بعضِ جهاتِ السبقِ ومنها السبق في

ص: 99


1- هذه الآية من الآيات المتعلقة بالإمام علي (عليه السلام) وسيأتي تفصيل القول فيها، ينظر: الدر المنثور : ج8/ ص589
2- إرشاد العقل السليم :ج6/ ص275، وينظر : التحرير والتنوير : ج27/ 265

(الإيمان)؛ قال تعالى : لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر : 8] ثم قال تعالى : «وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ» [الحشر : 10]، فالسَّبقُ - بحسب ما أشارت إليه الآية السابقة - إنَّما هوَ في الإيمانِ وليسَ في الإسلامِ، ف(السابقون) - بحسب السياق القرآني في هذه الآيات - همُ الفقراءُ المهاجرونَ وعَبَّرَ عنهم ب(الصادقون) وعبَّرَ عنهم أيضاً ب( إخوانِنِا الذين سبقُونا بالإيمان ).

والسبقُ الآخر هو الَّسبقُ إلى المغفرةِ والجَنَّة؛ قال تعالى : «سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد : 21]، وكذلك السبقُ بالخَيرات سبقٌ جامعٌ لكلِّ جهات السبق مُندرِجةٌ تحته؛ باعتبار أن السبق متعلقٌ بالخيرات وهي تدل على الفضل في كلَّ شيء ولاسيَّما وأنها جاءت بصيغة الجمع(1) قال تعالى : وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ

ص: 100


1- ينظر : لسان العرب (خير) : مج4/ ص307

مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [المائدة : 48] و «أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ» [المؤمنون : 61]

وقد جمعَ سبحانَهُ كلَّ جِهاتِ السَّبْقِ تحتَ مُسَمَّى(الخيرات) ونَدَبَ إليها و المُؤمِنين؛ قال تعالى : وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »[البقرة : 148]، وقد تحقق هذا السبق في قوله تعالى : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا. فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ » [فاطر: 32 ]

قال محمد حسين الطباطبائي في الميزان :((قولُه: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ يحتمل أن يكون ضمير «منهم» راجِعاً إلى «الذين اصطفينا» فتكون الطوائفُ الثلاثُ الظالُم لنفسه والمقتصدُ والسابقُ بالخيرات شركاء في الوراثة، وإن كان الوارِثُ الحقيقي العالَم بالكتابِ والحافظَ له هو السابقُ بالخَيراتِ، ويُحتَملُ أن يكونَ راجعاً إلى عبادنا - من غير إفادة الإضافة للتشريف - فيكون قوله : "فمنهم" مفيداً للتعليل والمعنى إنما أورثنا الكتاب بعضَ عبادِنا وهم المصطَفُون لا جميع العباد؛ لأنَّ مِن عبادِنا مَنْ هو ظالٌم لنفسِه ومنهم مُقتَصِدٌ ومنهم سابقٌ ولا يصلُح الكل للوراثة.))(1)

ويبدو للباحث أنَّ الاصطفاء متعلقٌ بالسابق إلى الخيرات لدلالة السياق

ص: 101


1- الميزان في تفسير القرآن : 17/ 46

عليه يؤيده قرينة «ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ»، ولايمكن بحال أن ينسجم المقتصد والظالم لنفسه مع فضل الله الكبير، وهو ما يحملنا على القول بأن الهاء في منهم تعود على (عبادنا)

( المُقرَبون ):

وزادَ إسنادُ الخبرِ(المقربون سمةً جديدة لل(السابقون) على مستوى الاستعمال القرآني؛ إذ لم يَرِدْ إسنادُها في القرآنِ إلا لعيسى(عليه السلام) والملائكة(1) ؛ قال تعالى: إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [ال عمران:45] و: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا» [النساء : 172] وهوَ ما يَلمح إلى مقامِ (السابقون) وعُلوَّ شأنِهِم. والسَّمَةُ الأخرى التي يكشفُ عنها التعبيرُ القرآني الحُظوة الخاصة للواحد منهم قال تعالى: «فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ» [الواقعة : 88 -89] فلم يُعبِّر بأن : لهُم جنَّةُ نعيم أو هم في جنَّةِ نعيم، كما قال تعالى في بعضِ الآيات ومنها قوله : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ» [لقمان :8] و : إن الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الحج : 56] فالواحدُ منُ (المقربينَ) (جنَّةُ نعيم) وليس بالضرورة أن

ص: 102


1- ينظر : المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم : 688

يكون في الآخرة فحسب فقد ذكر ذلك في قوله تعالى : أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الواقعة :10 - 12]. بل قد تكون هذه المنزلة في الدنيا أيضًا، فأينما ذهب فالجنة ترافقه وفي ذلك ما يلمح إلى اختصاص السابقين هذه الفضيلة .

ومما تقدَّم أبرز الوقوف على السياقات التي استُعملت بهما (السابقون) ضوء لحظِ المعنى النحوي الدلالي عددًا من السِّمات الدلالية المهمة بأنهم ثُلَّة ٌممن سبقوا الآخرين بالخيرات والإيمان، وهم من المهاجرين الأولين والأنصار، وأيضاً هم الصادقون وخير البريَّة وحزب الله، وقد خصَّهم الله بالاصطفاء إلى این فر هذا السبق واعتَبره فضلاً كبيرًا، وأن لكلَّ مقرَّبٍ من السابقين جنَّةُ نعيمٍ وروح وريحان . أمَّا أبرز السِّمات الدلالية المميَّزة التي انفردت بما لفظة (السابقين) في الآية فهي إيرادها بصورتها المُكرَّرة المعرفة بالألف واللام، إذ لم يرِد تكرارُ المبتدأِ بلفظِه إلا بحقَّهم، وهو ما أبرز الشُّهرة والعهدَّية في مدلول هذه اللفظة، وزاد في ذلك اقترانها باسم الإشارة الدال على الحضور.

المطلب الخامس: في معنى (الصَّديقون) :

قال تعالى: { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحديد : 19 ].

ص: 103

مهادُ التّنزيل:

وردتْ في بعض الكُتبِ الروائيةِ والتَّفسيريةِ في ما يتعلق بالآية الكريمة أنَ الإمامَ عليًّا (عليه السلام) أحدُ مَصاديق (الصَّدِيقُون) فيها، ومنها ما أخَرجهُ أحمدُ بنُ حنبل(ت241ه)؛ بإسناده عن : ((القطيعي : حدثنا محمد ثنا الحسن بن عبد الرحمن الأنصاري قال نا عمرو بن جميع عن بن أبي ليلى عن أخيه عيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الصَّدِيقُون ثلاثةٌ حبيبُ بن مرى النَّجار مؤمنُ آلِ ياسين، وحزبيل مؤمنُ آلِ فرعون، وعليُّ بنُ أبي طالب الثالث وهو أفضلُهم))(1) .

مسارالتحليل ويتضمن:

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية :

(الصَّدِيقُون):

ذكرتِ كتب اللغة لفظةَ (الصدَّيقُون) والمعاني التي تدلُّ عليها، جاء في معجم العين : ((والصَّدَّيق من يُصَدَّقُ بكلَّ أمرِ اللهِ والنَّبيَّ عليه السلام لا

ص: 104


1- فضائل أهل البيت من كتاب فضائل الصحابة : 133، 165، ينظر : تفسير فرات الكوفي : 354، والكشف والبيان : 8 /126، وشواهد التنزيل : 2/ 223 ومابعدها، وكتاب الأمالي المعروف بالأمالي الخميسية : 1/ 182، ومناقب الإمام علي بن أبي طالب : أبو الحسن علي بن محمد الشافعي المعرون بابن المغازلي : 256، ومفاتيح الغيب : 27/ 58، والدر المنثور : 7/ 53، ونور الثقلين : 4/ 519، وقد وردت في بعضها (حزقيل) بدلاً من (حزبيل )

يتخالجُه شكٌ في شيء))(1) ، وهيأةُ هذه اللفظةِ على (فِعَّيل) تلمحُ إلى المبالغةِ في الصَّدقِ في من تلبَّسَ به؛ حيثُ أشارَ ابنُ السُّكَّيت (ت244ه) إلى دلالة هذه الصيغة على الكثرة(2) .

ولفظةُ ال( صِدَّق) من الألفاظِ القليلةِ التي استعملتها العربُ على و بناء فِعَّيل في دلالتها على الكثرة، وعدَّ ابنُ دريد(ت321ه) ما استُعمل منها فكانت نيَّفًا وثلاثين لفظًا(3) ، وأضافَ الجوهري (ت393ه) إلى الكثرة معنى الدوام، فالصَّدَّيقُ هو ((الدَّائمُ التَّصْديقِ، ويكونُ الذي يُصَدَّقُ و قولَه بالعمل))(4) .

(الشُّهَداء) :

يرتبطُ معنى اللفظة ب(الحضور)؛ وهي مِنْ ((شَهِد فلانٌ بِحَقَّ فلانٌ شَهَادَةً، فهو شاهِدٌ وشَهِيْدٌ))(5) وفي مقاييس اللغة ((الشين والهاء والدال أصلٌ يدلُّ على حضور وعلم وإعلام، لا يخرُج شيءٌ من فروعه عن الذي ذكرناه. من ذلك الشَّهادة، يجمع الأصولَ التي ذكرناها. من الحضور، والعلم،

ص: 105


1- العين (صدق) : 5/ 56
2- ينظر : إصلاح المنطق : 219
3- ينظر : جهرة اللغة : 2/ 213- 214
4- تاج اللغة وصحاح العربية (صدق) : 4/ 1505
5- المحيط في اللغة : 3/ 388

والإعلام. يقال شَهِد يشهَدُ شهادةً. والمَشهدُ : محضر النّاس.))(1) والعلم والإعلام هما فرعا الحضور .

2- التوجيهات النحوية لل( الصديقون) وما تعلق بها من ألفاظ :

(الصَّدَّيقون) :

وردتْ هذه اللفظة في الآية مورد البحث في موقع (الخبر) المُسند إلى اسم الإشارة(أولئك) المُشار به إلى( الذين آمنوا بالله ورسله )، واكتسبتِ اللفظةُ في موقعِها هذا بُعدًا دلاليًا منحَ مَنْ أُسندت إليه خصوصيةً مُمَّيزة، فقد جاءت في موقع المُسند المعرف بالألف واللام(2) ؛ ما يفيدُ كمالَ اتَّصافِ المُبتدأ بهذهِ الصفة، وهذا التعريف يفيد قصر التصديق على اسم الإشارةِ المُشارِ إلى (الذين آمنو بالله ورسلهِ) على سبيل المبالغة لا الحقيقة، بمعنى أنَّه، وإنْ وُجد تصديقٌ من غيرِهم لا يُعتدُّ به ولا يُلتفتُ إليه، وكأنّه لايوجدُ تصديقٌ إلَّا به وش من هؤلاء(3) ؛ لأنّه بلغ فيهم مبلغ الكمال.

ومعنى القصر هنا يؤكده موقع ضمير الفصل (هم) ، وقد أشار ابنُ ت و عاشور إلى هذا القصر وعدَّهُ إضافيًا بمعنى أنهم صِدَّيقون بالنسبة إلى غيرهم(4) ،

ص: 106


1- مقاييس اللغة (شهد) : 3/ 221
2- ينظر : الدر المصون في علوم الكتاب المكنون : 10/ 249، وإرشاد العقل السليم : 8/ 210
3- ينظر : خصائص التراكيب : 30
4- ينظر : التحرير والتنوير : 27/ 358

وانعكست دلالةُ القصر على المسند إليه (المبتدأ) بأن صار التصديقُ لخصوصِ(الذين آمنوا بالله ورسله )لا عمومَ المؤمنين.

وللفظةِ إعرابٌ آخر؛ وهو أنْ تكونَ مبتدأ وخبَرها جملةُ (لهُمْ أجرُهم )، وهو إنما يكون مع القول بعطف الشهداء عليها وسيأتي بيانه(1) .

الواو في (والشُّهداء) :

اختُلِف في إعرابِ لفظةِ (الشهداء) على وجهين بحسبِ دلالة الواو :

أحدُهما : أن تك-ون ال-واو استئنافية فيوُقف على (الصَّدَّيقون) ويُبتَدأ ب(الشهداء)، فيكون من عطف الجمل وهو اختيار الفراء(ت207ه)(2) .

والآخرُ : أنْ تكونَ الواوُ عاطفةً فتعطف الشهداء على (الصَّدَّيقون) وهو من عطف المفردات والتقدير: الذين آمنوا بالله ورسله أولئك الصديقون وأولئك الشُّهداءُ عند ربهم له أجرهم ونورهم، فتكون خبر.(3) وسيأتي الترجيحُ بحسبِ الانسجام مع التَّعبيرِ القرآني.

3- الدلالة القرآنية للفظة (الصَّدَّيقون) ومصاحباتها :

يكشفُ القرآن الكريم عن علاقة (الصَّدَّيقون) بالأنبياء؛ وذلك بلحاظ

ص: 107


1- ينظر : التبيان في إعراب القرآن : 2/ 442
2- ينظر : معاني القرآن : أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله المعروف بالفراء : 3/ 40
3- ينظر : معاني القرآن وإعرابه : أبو إسحاق إبراهيم بن السري المعروف ب( الزجاج ) : 5/ 126، ومعاني القرآن الكريم : النحاس : 4/ 62، والتبيان في تفسير القرآن : 11/ 144

مجيئها في مورد آخر مقترنةً بهم، قال تعالى : ««وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء : 69 ]، ويلُحظ فيها أنَّ الانتماء إلى هذه الطائفةِ مشروطٌ بطاعةِ الله والرسول؛ إذ قوله : ««وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ» شرطٌ في الدخول مع (الصديقين والشهداء) لشبه الاسم الموصول (مَنْ) من اسم الشرط ودخلت الفاء في (فأولئك) كما تدخل في الخبر(1) ، إلاّ أنّه انتماءٌ يسمحُ للمطيعينَ بالكون في فَلكِ معيَّتهم من دون أن يُعدُّوا منهم؛ لدلالة (مع) على الصحبة، وهو ما يلمح إلى خصوصية (الصَّدَّيقون) وعلوِّ شأنهم، والتعبيرُ بالمعيَّة شبيهٌ بدلالتها على الاجتماع في قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» [التوبة : 119] . واستُعملت هذه اللفظةُ بصورتِها المفردةِ للدلالةِ على كثرةِ الصَّدق في نبي الله يوسف (عليه السلام) قال تعالى : يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ» [يوسف :46]، وإنما نعتهُ ب( الصَّدَّيق) ((لأنَّه ذاقَ أحوالَه وتعرَّف صدقَهُ في تأويلِ رؤياه ورؤيا صاحبه))(2) فهو تعبيرٌ يُطلَقُ على مَنْ يخبرهُم صادقاً بما سيقع.

ويُشعِر التعبير باسم الإشارة (أولئك) بخصوصيّةِ مدلولِ هذه اللفظةِ في

ص: 108


1- ينظر : أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك : 1/ 215
2- الكشاف : 2/ 457

الآيةِ مورد البحثُ فهو ((بطبيعةِ دلالتِه يحددُ المرادَ منه تحديدًا ظاهرًا ويميزه تمييزاً كاشفاً))(1) ، وقد انعكسَ هذا التحديدُ والتميُّزُ في المسندِ إليه على المسندِ الصديقين، ((لأنَّه حين يكونُ معنيَّاً بالحكمِ على المُسند إليه بخبرٍ ما فإن تمييزاً المسند إليه تمييزاً واضحاً يمنحُ الخبرَ مزيداً من القوةِ والتقرير))(2) ، وفي هذا مزيد عناية واهتمام بتحديد مدلول الصَّدَّيقين.

وزاد في بيان مدلول هذه اللفظةِ التعبيرُ ب( الذين آمنوا بالله ورسله )، وذلك من جهتين :إحداهُما : أنَّ هذه الجملةَ في موقع ِالمبتدأ الذي أُسند إليه (أولئك هم الصديقون) بما حملته بين طياتها من سماتٍ دلاليةٍ مضى سماتٍ دلاليةٍ مضى الحديثُ عنها، وقدْ تميَّز هذا التعبير عن قوله : (الذين آمنوا بالله ورسوله) ويبدو أنَّ اختيارَ الجمعِ (رسله) بدلاً من( رسوله) يُوحي بكمالِ الإيمان لدلالتهِ على الأيمانِ بكلَّ الرسلِ وعدمِ التَّفريقِ بينهم، قال تعالى : وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا» [النساء :152]، ودلالة الجمع في الإيمان بكلَّ الرسل جاء منسجمًا مع الكثرة والمبالغة في التصديق.

والأخرى : إنَّ هذا التعبير بدلالته على الصَّدَّيقين - على اعتبار أن جملة الخبر هي نفس المبتدأ في المعنى -(3) قد زادَ سمةً جديدةً لهم؛ وهي أنهم من

ص: 109


1- خصائص التراكيب : ص200
2- المرجع السابق : صحيفة نفسها
3- ينظر : أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك : ج1/ ص201، وتوضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك : 1/ 144. كما هو الحال في جملة (قل هو الله أحد) فالجملة المُخبر بها نفس المبتدأ في المعنى لأنها مفسَّرة للمبتدأ والمُفسَّر عين المُفسَّر ، فجملة (أولئك الصديقون) هي نفس عين جملة الذين (آمنوا بالله ورسُله)

السابقين إلى مغفرة الله وجنَّته، قال تعالى : سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» [الحديد :21] . في هذه الآية دعوةٌ للتسابق إلى (مغفرة وجنَّة )، وأن من سينالها هم الذين أمنوا بالله ورسله، ولما كان الصديقون هم الذين آمنوا بالله ورسله فيكونون هم السابقون إلى ذلك الوعد الإلهي.

و أمَّا ما يخُصُّ علاقة لفظةِ الصَّدَّيقين ب( الشُّهداء )، فالتعبير القرآني يُرجَّحُ أنْ تكونَ الواوُ عاطفةً لمفردٍ على مفرد وليست استئنافية؛ ويؤيد ذلك أمران :

أحدهما : إنَّ لفظةَ (الصَّدَّيقين) لم ترد في القرآن إلَّا وهي وهي مُقترنة بلفظ-ة (الشُّهداء)؛ وذلك في قوله تعالى : «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا» [النساء :69] والآخر في الآية مورد البحث(1) .

الآخر : تأسيسًا على الاقتران السابق يكون الصدقُ ملازمًا للشهادة؛ و إذ إنَّ من أولويات عملِ (الشُّهداء) أداءَ الشَّهادةِ بصدق، قال تعالى : لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ» [النور :13 ] فيحسُن عطفها على (الصَّدَّيقون) لاشتراكهما في

(1) ينظر : المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم : 514

ص: 110


1- ينظر : المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم : 514

تحقيق هذا المعنى.

وبناءً على هذا الرأي، فإنَّه لما كانت دلالةُ العطفِ المشاركةَ في الحكم، يترتبُ عليه أنْ يشاركَ (الشهداء) (الصديقين) الإسنادَ لاسم الإشارة الدَّال على (الذين أمنوا بالله ورسله) فهم الصديقون والشهداء، كذلك شاركَ الشهداءَ الصديقين في المنزلةِ؛ بأنْ جاءَ ذكرُهم مقترناً بذكرِ (الأنبياء) كما هو الحال في (الصديقون )، وهو ما يتَّضِحُ في قولهِ تعالى : وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ» [الزمر :69] وقوله (قُضي بينهم بالحق) بعد مجيء الشُهداء قرينة على دورهم في تصديق الأنبياء بتأدية الشهادة.

و ويبدو للباحث أنَّه لامانعَ من القولِ أنَّ (الصَّدَّيقون) هم (الشهداء)، والمغايرةُ بحسَب دلالةِ العطف للإشارةِ إلى أنَّ مقامَ التَّصديقِ بالرُّسلِ بالنسبةِ لل(الصديقون) سيكون في الدُّنيا، وصِدقُ الشُّهداءِ سوف يكونُ في الآخرةِ؛ لملازمتهم الرُّسل في أداء رسالتهم، فالتعبيرُ بهما وصفٌ للذين آمنوا بالله ورسِله بأنُّهم صديقون وشهداء(1) .

ويُحتملُ أيضًا أن يكون الصديقون مجموعة كبرى تشتمل على الشهداء وإيرادها أولاً من حيث الترتيب يشعر بهذا المعنى.

ومن خلال هذا العرض يخلص الباحث إلى خصوصيّة لفظة (1)ينظر : الكشاف : مج4/ 466، والمحرر الوجيز : مج5/ ص265- 266.

ص: 111


1- ينظر : الكشاف : مج4/ 466، والمحرر الوجيز : مج5/ ص265- 266

(الصديقون) - وهي من صيغ المبالغة الدَّالة على التكثير في الوصف(1) - وذلك من خلال ماتمَّ التوصل إليه من نتائج في ضوء استعراض سياقات اللفظة قرآنيًا وتفاعل المعنى النحوي الدلالي التي أبرزت سماتٍ دلاليّة كثيرةً من حيث اقترانها باسم الإشارة الذي ميَّزها أكمل تمييز مقترنًا بدلالة الحضور، ومشاركتها (الشهداء) في الانتماء إلى طائفة (الذين آمنوا بالله ورسله )، وألهم المدعوُّن إلى التسابق لمغفرة الله وجنَّته .

فتحصيل السبقِ فيهم شرطٌ في إحرازها فيكونوا من السابقين، وكذلك مشاركتها مع (الصادقين) في خصوصيَّة مدلولها لاقترانها ب( مع) الدال على و المصاحبة دون التعبير ب( من )، ولعلَّ وجود ضمير الفصل (هم) يُعدُّ من أبرز السِّمات الدلالية التي انمازت بما لفظةُ الصديقين الذي ساهم في إبراز ما تختص به اللفظة من سماتٍ دلالية لدلالته على الحصر(2) .

ص: 112


1- ذكر ابن قتيبة بأن صيغة (فِعَّيل) لمن دام منه الفعل وهو أبلغ من التكثير، وعُدَّت هذه الصيغة من الصيغ السماعية عند العرب في دلالتها على المبالغة، وقد ألحِقت هذه الصيغة هنا بصيغة اسم الفاعل لاشتراكها معه في دلالتها على الذات المتلبسة بالوصف ولإمكان تحويل صيغ اسم الفاعل إلى صيغ المبالغة وهذه منها، ينظر أدب الكاتب : ص255، والنحو الوافي : 3/ 258- 259
2- ينظر : الكشاف : ج1/ ص54

المبحث الثاني

الألفاظ التي وردت بهیآت أُخَر المصدر واسم الجمع)(1)

ص: 113


1- اسم الجمع : هو ما دل على معنى الجمع، ولم يكن له واحد من لفظه، ينظر شرح شذور الذهب، الهامش : 202، النحو الوافي : 4/ 527

المطلب الأول: في معنى (القربی):

قال تعالى : ««ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ [الشورى: 23] .

مهادُ التّنزيل:

عرضتْ كتُبُ الحديثِ والتفسيرِ إلى سببِ نزولِ الآيةِ الكريمةِ برواياتٍ كثيرة، جعلتْ من لفظةِ (الْقُرْبَی) هي اللفظةُ التي تتعلقُ بالإمامِ عليًّ (عليه السلام) ؛ ومن ثمَّ يتوجه البحثُ لتحديد معناها، ومن تلك الروايات ما أخرجه الطبري (ت 310ه) في تفسيره قال : ((حدثني يعقوب، قال : ثنا مروان، عن يحيى بن كثير، عن أبي العالية، عن سعيد بن جُبير، في

ص: 114

قوله: «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى». قال : (هي قُربي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم))(1) . وفي مجمع البيان للطبرسي (ت 548 ه) بإسناده عن سعيد بن جبير :(( عن ابن عباس قال : لما نزلت قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا...» الآية، قالوا : يا رسولَ الله منْ هؤلاء الذين أمرَنا اللهُ بمودَّتهم ؟ قال : عليٌّ وفاطمة وولدهما))(2) .

مسار التحليل ويتضمن

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية :

( القُربی):

وهي مصدرٌ بمعنى القرابةِ من القُرب ؛ قال الخليل (ت 175 ه) : ((القُرْبُ ضد البعد، الاقتِرابُ الدنو، والتَقَرُّبُ : التدني والتواصل بحقٍ أو قَرابةٍ...والقُرْبَی : حق ذوي القرابة.))(3) . وفي المقاييس ((القُربة والقُربَی : القَرابة .))(4) وفي المحكم ((القَرابةُ، والقُرْبي : الدّنُوُّ في النسب ))(5) وعند

ص: 115


1- جامع البيان عن تأویل آي القرآن : 25/ 32 ، شواهد التنزيل: 2/ 130 - 146، الجامع لأحكام القرآن : 2/ 2741 ، الدر المنثور : 7/ 346 ، فتح القدير : 2/ 617، التفسير الصافي : 4/ 373 ، نور الثقلين : 6/ 397
2- مجمع البيان : 9/ 45 ، ينظر: الكشف والبيان : 8/ 310 ، والمحرر الوجيز : 5/ 34 ، والكشاف : 4/ 213 ، وأنوار التنزيل وأسرار التأويل : 5/ 80 ، والبحر المحيط : 7/ 474 ، وتفسير القرآن العظيم : 3/ 254، وإرشاد العقل السليم : 4/ 30 ، وروح المعاني : 14/ 47، والميزان في تفسير القرآن : 18/ 52- 53، وغيرها
3- العين (ق رب ) : 8/ 99
4- مقاییس اللغة (قرب) : 5/ 80
5- المحكم والمحيط الأعظم (القاف والراء والباء) : ابن سيده : 6/ 389

الزمخشري هي ((مصدر كالزُلفي والبُشرى، بمعنى : قرابة ))(1) ، وأصلُ اللفظةِ من (( قَرُبَ الشَّيْءُ مِنَّا قُرْبًا وقَرابَةً وقُرْبةً وقُربَى، ويُقال القُرْبُ في المَكانِ والقُرَبةُ في المَنْزلةِ، والقُربَى والقَرابَةُ في الرَّحِم))(2) فالقُربي مستعملةٌ في خصوصِ قرابةِ الرَّحمِ والنَّسبِ ويُرادُ بها القَرابة .

( المودَة ):

لفظةُ (المَودَّة) مصدرٌ من وَدَّ يَودُّ مَوَدَّةً على وزن مَفْعَلَة؛ قال الخليل : ((الوَدُّ مصدر وَدِدْتُ، وهو يَوَدُّ من الأمنِية ومن المَودّة، وَدَّ يَوَدُّ مَوَدَّةً))(3) ، وقال ابنُ دُرید(ت321ه) : ((والمودَّةُ : مَفعَلة من الودّ؛ لأنَّها كانت مَودَدَّةً، فقلبوا الحركةَ وأدغموا الدالَ في الدال، فقالوا مَودَّة ))(4) ؛ وجاء في القاموس المحيط (( الوُدُّ والوِداد ُالحُبُّ، ویُثَلَّثان ، کالوِدَادَةِ والمَوَدَّةِ والمَوْدِدَةِ والمَوْدودَةِ، وودَدْتُهُ ووَدِدْتُه ، أوَدُّه فيهما والوُدُّ، أيضاً المُحِبُّ))(5) وفي تاج العروس ("الوُدُّ والوِدَادُ : الحُبُّ" والصَّدَاقة، ثم استُعِير للتمَنَّي، وقال ابنُ سِيدَه : الوُدُّ والحُبُّ يكون في جمِيعِ مَداخِل الخَيرِ، عن أَبي زَيد،

ص: 116


1- الكشاف : 4/ 213
2- المصباح المنير (ق رب) : 256
3- العين (ودد) : 2/ 99
4- الاشتقاق : 110
5- القاموس المحيط (الود ): 4/ 588

ووَدِدْتُ الشيءَ أَوَدُّ، وهو الأمنِيَّة))(1) فمعنى اللفظةِ مقترن بالمحبّةِ والأُمنيّةِ، وبحسب ما أورده مرتضى الزبيدي (ت1205ه) فإن معنى اللفظة في استعمالها الأول هو (الحبُّ والصداقة) ثم تطور إلى الأمنية، وقدْ يكونُ بناءُ هذهِ اللفظةِ على (مَفْعَلَة) للإشارةِ إلى أحدِ مَعنَيين :

الأول : أن يُراد بهِ تكثيرُ الشيءِ في المَكان(2) ، فيكون المعنى في الآية تكثيرَ الودَّ في القُربى للمبالغة.

الآخر: أن تكون اللفظة مصدرًا میمیًا(3) ، وقد أشار بعض الباحثين إلى أن المصدر الميمي يختلف عن المصدر غير الميمي؛ إذ يلمح في المصدر الميمي مع الحدث اقترانه بالذات(4) ، فالتعبير ب( المودة) غير التعبير ب(الود) وإن كانت كلتا اللفظتين مصدراً للفعل (ودَّ)، وتبرز دقة التعبير القرآني في التعبير بلفظة (المودة) للجمع بين المعنيين السالفين، للإشارة إلى المبالغة في إظهار المودة للقربي مقرونة بالتواصل الذاتي معهم من دون الاكتفاء بالمحبة القلبية .

ص: 117


1- تاج العروس (ودد): 9/ 278
2- ینظر : المخصص : 4/ 483 - 484
3- ینظر جامع الدروس العربية : 1/ 124
4- ينظر معاني الأبنية : 32- 33

2- التوجيهات النحوية ذات العلاقة بلفظة (القُربی):

الاستثناء:

يقوم الاستثناء - في ما لو كان متصلاً - على معنى إخراج شيءٍمن شيء؛ قال سيبويه : بخصوص الاستثناء ب( إلاّ) بهذا المعنى :(( أن يكون الاسم بعدها خارجاً مما دخل فيه ما قبله، عاملاً فيه ما قبله من الكلام، كما تعمل عشرون فيما بعدها إذا قلت عشرون درهماً))(1) ، وقد وردت لفظة (القربي) في سياق الاستثناء؛ إذ كان له أثرٌ في إبراز خصوصية اللفظة؛ قال الزمخشري : ((يجوزُ أنْ يكونَ استثناءً متصلاً، أي لا أسألكم عليه أجراً إلا هذا، وهو أن تودُّوا أهلَ قرابتي))(2) وأجاز العكبري (ت616ه) فيها وجهي الاستثناء، قال :(( { إلا المودةَ } : استثناء مُنْقَطِع، أو العكس وقيل : هو مُتَّصل ؛ أي لا أسألُكم شيئاً إلا المودَّةَ في القُرْبي فإني أسألكمُوها.))(3) .

وهذا الأُسلوب يمنحُ مزیدَ خصُوصيةٍ لل( القربى) وأنها ليست ذات دلالة عامة؛ باعتبار أن الاستثناء دالٌّ على الحصر، جاء في البرهان ((قال الرماني في تفسيره معنى (إلاّ): اللازمُ لها الاختصاص بالشئِ دونَ غيره، فإذا قلتْ: (جاءني القومُ إلاّ زيداً)، فقد اختصصت زيداً بأنه لم يجئ، وإذا قلت:

ص: 118


1- الكتاب : 2/ 309
2- الكشاف : 4/ 213
3- التبيان في إعراب القرآن : ج/ 383

(ما جاءني إلا زيدٌ)، فقد اختصصتَهُ بالمجيء، وإذا قلت : (ما جاءني زيدٌ إلا راكباً)، فقد اختصصتَ هذه الحال دونَ غيِرها من المشْيِ والعدْوِ ونحوِه))(1) ، فالاختصاصُ متعلقٌ بمودةِ القُربى ولا يشاركُهم أحد بهذه المودة .

وقد فَهِمَ الأخفشُ (ت215ه) الاستثناء في الآيةِ على معنى الإخراج بقولِه : (( وقال : إِلاَّ الْمَوَدَةَ فِي الْقُرْبَی» استثناء خارج. يريدُ - واللهُ أعلم - إلاَّ أنْ أذكرَ مودَّة قَرابتي.))(2) والإخراجُ قريبٌ من معنى الاختصاص، وهو ما أشارَ إليه ابنُ يعيش(ت 643ه) بقوله : ((استثناء الشيءِ من جنسِه إخراجُ بعضِ ما لولاه لتناوِله الأولُ، ولذلك كانَ تخصیصاً على ما سبق))(3) والخلاصة أن المقصود من الآية اختصاص المودَّة بذي القربي من دونِ غيرهم.

دلالة (في):

منحَ التعبيرُ ب( في) من دونِ غيرها من الحروفِ المناسبة بُعدًا دلاليًا اللفظةِ (القربى) زادَ في بيانها؛ إذ جعل منها وكأنها موضعًا تستقرُ فيه المودّةُ وهو زيادة اختصاصٍ لها؛ وقد أشار إليه الزمخشري بقوله : ((فإنْ قلتَ : هلا قيلَ : إلا مودّةَ القُربي : أو إلا المودةَ للقُربي. وما معنى قوله : (إلاَّ المودة فِي القربى) [ الشوری : 23 ] ؟ قلتُ : جُعِلوا مكاناً للمودةِ ومقراً لها، كقولك :

ص: 119


1- البرهان في علوم القرآن : 4/ 268
2- معاني القرآن : سعید بن مسعدة المجاشعي المعروف بالأخفش الأوسط : 2/ 268
3- شرح المفصل : 2/ 79

لي في آل فلان مودّة. ولي فيهم هوىً وحبٌ شدید، تريد : أحبُّهم وهم مکانُ حبَّي ومحلُّه، وليست (في) بصلة للمودَّة، كاللام إذا قلت : إلا المودّة للقربي. إنما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك : المال في الكيس. وتقديره : إلا المودّة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها .))(1) . وبهذا تكون دلالة في على الظرفية بجعل مدخولها القربي (مظروفاً) لتجمتع لتجتمع فيها المودة .

3- الدلالة القرآنية للفظة (القربی) و مصاحباتها :

إنَّ تَتَبُّعَ هذهِ اللفظةِ في القرآنِ الكريم يَلفتُ النظرَ إلى أنَّها وردتْ في خمسة عشر موردًا(2) ، ومنها قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [البقرة: 83 ] وتعالی: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:8] وتعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» [النحل:90] تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا» [الإسرا: 21] وغيرها(3) ؛ إذ لم تردْ فيها

ص: 120


1- الكشاف : 4/ 213
2- ينظر : المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم : 687
3- تنظر الآيات : البقرة : 177، والنساء : 36 ، و المائدة : 106 ، و الأنعام : 152 ، و الأنفال : 41، والتوبة : 113، والنور : 22، والروم : 38، وفاطر: 18، والحشر: 7

مفردةً في غيرِ الآيةِ مورد البحث، وفي بقيةِ الموارد أُضيفتْ إليها (ذو) و(أولو) وهذا الاستعمال التركيبي يجعل (القربى) في موضعٍ تتمایز به عن بقيَّة الاستعمالات؛ باعتبار أنّ إضافتها في تلك الموارد لم تكتسبْ فيه تعريفًا أو تخصيصًا؛ كون المضافِ (ذو) و( أولو) لايضاف إلا إلى أسماء الأجناس وهي في حكم العموم والشياع ، قال الحريري (ت516ه) : ((إنَّ العربَ لمْ تنطِقْ بِ(ذي) الذي بمعنى صاحب إلاّ مُضافًا إلى اسمِ جنس، كقولك : ذو مال وذو نَوالٍ، فأما إِضافتُه إلى الأعلامِ وإلى أسماءِ الصفاتِ المُشتقةِ من الأفعالِ فلمْ يُسمع في كلامِهم بحال))(1) وعن ابن سيده (458ه) قال : ((إعلمْ أنَّ (ذُو) اسمٌ صِیغَ ليُوصَلَ بهِ إلى وَصْفِ الأسماء بأسماء الأجناس كما جيء بأيّ ليُوصَل به إلى نداءِ الاسمِ الذي فيه الألفُ واللام))(2) وما أشار إليه الحريري منسجمٌ مع الاستعمال الاستعمال القرآني بحسب السياقات القرآنية التي وردت فيها (ذو).

أما (أولو) فذكرها الخليل بقوله : ((أولو وأولات : مثل : ذَوُو وذوات في المَعْنَى، ولا يُقال إلاّ للجميعِ من النّاسِ وما يشبهُه.))(3) وفي المِزهر ((أولُو بمعنى أصحاب واحدُهم ذو، وأولات واحدها ذات))(4) ، وعلى ما تقدّمَ ذكرُه ذكرُه فإنَّ (القربي) في هذه الآيات عامة ولا تحمل من السمات الُّلغوية أو

ص: 121


1- درة الغواص في أوهام الخواص: 115
2- المخصص : 4/ 146
3- العين : 8/ 370
4- المزهر في علوم اللغة وأنواعها : 2/ 200

السياقية ما يُخصِّصُهَا، ولا سيَّما أنّها وردتْ في سياقِ تشريعِ حقوقِ ذوي القُربى، وعليه فإنَّ (أل) فيها يُحتمل دلالتها على الجنس والعهد، وصفة العهد اجتماعي لا خاص، وهي بهذا الإطار قريبة من الجنسية؛ إذ هي ليست خاصّة بجهةٍ من دون أخرى، وهذا يتوافق مع دلالة العموم في (ذو) و(أولو) .

وهذا المعنى خلاف المعنى الذي استُعمِلت فيه لفظةِ (القُربي) في الآية المبحوثة، إذ وردتْ مفردةً مُعرّفةً بالألف واللام، وهو ما یجعلُها أقرب إلی الاختصاص بطائفةٍ من الناسِ منه إلى معنى العُمومِ، وزاد في هذا المعنى تأييدًا مجيئُها على وزنً (فُعلی) مؤنث (أفعل التفضيل، وهو ما أشار إليه الأزهري (ت 370ه) أن (قربي) تقابل ( أقرب )، قال :((الأقارُب : جمعُ الأقرب، والقُرْبي : تأنيث الأقرب.))(1) بمعنى الأكثر قرباً في رحمهم ونسبهم، وكثيرًا ما تأتي كلماتٌ مُعرَّفة على هذا البناء وفيها معنى التفضيل(2) .

وقد وردَ استعمالُ (الأقرب) وصفًا لعشيرةٍ الرسولِ في قوله تعالى : {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء : 23] ((أيْ ذَوِي القرابةِ القريبةِ أو الذين هُم أكثرُ قُرباً إليك من غِيرِهم))(3) والمخاطَب بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا اللفظ لمُ يوظّف بهذهِ الفائدةِ في غير هذا المورد من

ص: 122


1- تهذيب اللغة : ج9/ ص110
2- ينظر : المخصص : ج4/ ص483 - 484
3- روح المعاني : مج11/ ص 202

القرآن(1) ، ومن ثمَّ فمن المناسب أنْ تكونَ الألفُ واللام في (القُربى) عهديّة يُشار بها إلى هؤلاءِ الأقربين من عشيرةِ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لِما بين اللفظتين من عِلاقةٍ قد كشف عنها اشتراكهما في الهيأةِ التي استُعملتا فيهما بدلالتهما على (الأكثر قرباً )، فضلاً على انفرادِهما على مستوى التعبيرِ القرآني بأداء هذا المعنى من دونِ غيرِهما من الألفاظ .

ويؤكَّدُ هذهِ العلاقةَ بينهما ما ذكرهُ أربابُ المعاجمِ اللغويةِ من جوازِ أنْ تُستعمل (قُربي) للدلالةِ على الجمعِ من الرجالِ أو النساء ؛ قال : (( القَريبُ والقَريبة ذو القرابة والجمع مِن النساءِ قَرائِبُ ومِن الرجال أَقارِبُ ولو قيل قُرْبَي لجاز))(2) ، ف(القربى) أعمُّ من جمعِ الرجالِ أو النساء وهذا ما يُميَّزُها عن (الأقرب) الدالة على جمع الذكور.

ومن هنا يمكن القول بأن (القُربى) وإنْ كانتْ مصدراً في أصل استعمالِها، إلا أنها خرجت هنا إلى معنى الاسمية، لما في المصدرية من معنى الحدثية، والقول بمصدريتها المجردة عن الاسمية لا ينسجم مع خصوصية اللفظة على ما تقدم ذكره.

ص: 123


1- ينظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم :688، وتراجع الآيات : البقرة : 180 - 215، والنساء : 7- 33- 135، حيث وردت لفظة (الأقرب) في سياق تشريع أحكام الإرث والإنفاق
2- ينظر : تهذيب اللغة : 9/ ص110، ولسان العرب : مج1/ ص780

المودَّة:

ولفظة (المودة) بسماتِها المعجمية من كونِها مصدرًا مُعَّرفًا بالألف واللام استُعمِلت في مورد آخر وهو قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ» [الممتحنة: 1 ] وفيها جملة تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ في موضع نصب على النعت لأولياء(1) ، فإلقاء المودة تفسيرٌ لاتخاذ أعداء الله أولياء(2) ، وقد أوضحت هذه الآية أمرين :

الأول : إنَّ المودّةَ هي موالاةٌ للأولياء، وكذا فإنَّ الرسولَ في الآية مورد البحث سألَ أن يكون أجرُهُ موالاةَ (القربى) .

والآخر : إنَّ المودةَ فيها تعدتْ ب( إلى) الدالَّة على إنتهاء الغاية، وهي لا تدخل في الغاية وهي موالاةُ الأولياء؛ باعتبار أنَّ مابعدها (المودة) ليستْ من جنس الموصوف بالجملة قبل إلى (أولیاء)(3) ، في حين أنّ المودَّةَ في (القربى) من الآية مورد البحث متصلةٌ فيهم لدلالةِ (في) على الظرفية كما أشارَ الزمخشري فيما سبق، فتكون موالاتُهم أبلغ.

ص: 124


1- ينظر : الدر المصون : 1/ 276
2- ينظر : المصدر السابق : الصحيفة نفسها، والإتقان في علوم القرآن : 646
3- ينظر : الجنى الداني : 1/ 385

ولفظةُ (المودة) يمكنُ أنْ تشير إلى المراد ب( القربى) إذا ما أُخِذَ بنظر الاعتبار ما أشارَ إليه الخليلُ وغيرُه من علماءِ اللغة(1) ، بأنَّ (مودَّة) و( ودّاً) كلاهما مصدرٌ للفعل (وَدِدْتُ )، والتعبير القرآني استعمل (ودَّا) مُسندًا للذين (آمنوا وعملوا الصالحات) في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا» [مريم: 96].(2) ف{فالقربي} من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ويؤيده أن (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) تصدرت أول الآية مورد البحث بقوله ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ»[الشوری : 23]، إلا أنَّ المودَّة) تتميز عن (ودا) باعتبار بنائها (مفْعلة) الدال على التكثير(3) .

ف(المودّةُ في القربى) هي الأجرُ الذي سألَه الرسول، وقد سألَ صلى الله عليه وآله وسلم أجرًا آخر؛ وهو (اتخاذ السبيل إلى الله) في قوله تعالی : قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا [الفرقان: 57] والسبيل هو طريقٌ ووجهةٌ إلى الله(4) .

وهذا الأجرُ وهو {المودّةُ في القربى} و { اتخاذ السبيل إلى الله } وإن سمَّاهُ سبحانه أجرًا، إلا أنَّ نفعهُ راجع لمن يتَّبعُه، قال تعالى : «قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ

ص: 125


1- ينظر : المخصص : 4/ 427 ، وأساس البلاغة : 814
2- هذه الآية من الآيات النازلة بحق الإمام علي عليه السلام وسيأتي الكلام عنها في الفصل الخاص بالجملة
3- ينظر : الأصول في النحو : 3/ 148
4- ينظر :معاني القرآن : الفراء : 3/ 94

أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» [سبأ: 47] . وبهذا الاعتبار- من حيث الجهة المنتفعة منه- يمكن القول إنّ الأجرَ واحدٌ ف(مودة القربى) هي السبيل إلى الله، وقدْ فَهمَ الزمخشري هذا المعنى من الآية الكريمة في سورة [سبا: 47 ] السابقة أنَّ (ما) فيها موصولةٌ متضمنةٌ معنى الشرطِ وليستْ نافية ، فنراه يقول في معناها : ((والثاني : أنْ يُريدَ بالأجرِ ما أرادَ في قولهِ تعالی: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا [ الفرقان : 57] وفي قوله : قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [ الشورى : 23] لأنّ اتخاذ السبيل إلى الله نصيبهم وما فيه نفعهم، وكذلك المودّة في القرابة))(1) ويؤيِّدُ ذلك أنه عبَّر عن مودّة (القربي) بأنَّها حسنةٌ؛ قال تعالى: ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ» [الشورى: 23] ، (( والظاهر : العمومُ في أيَّ حسنةٍ كانت؛ إلا أنَّها لما ذُكِرتْ عقيبِ ذكرِ المودّة ِفي القُربي : دلَّ ذلك على أنّها تناولتْ المودّةَ تناولاً أوّلياً، كأنّ سائرَ الحسناتِ لها توابع))(2) .

ومِمَّا يَلفتُ النَّظرَ أنَّ الأنبياءَ لم يطلِبوا (أَجْراً) كما طلبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكون نفعه يعودُ لُهم وليس له، حيثُ تَكررَ على

ص: 126


1- الكشاف : 3/ 573
2- الكشاف : 4/ 213، وينظر : مدارك التنزيل وحقائق التأويل : 4/ 215، واللباب في علوم الكتاب : 17/ 192

لِسانِهم في قوله تعالى وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ» [الشعراء: 109 ](1) ف( ما) في هذه الآياتِ نافيةٌ أنْ يكون لهم أجرٌ، وليست موصولة ك(ما) التي وردت في سورة [سبأ: 47] على ماذكرناه، وهو ما يُميَّز عظمةَ الأجرِ الذي سأله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من دونِ الأنبياءِ (صلوات الله عليهم أجمعين) وهو (المودَّةُ في القُربى) ومِن ثَمَّ عظمة مَنْ تعلَّقَ به الأجرُ وهم (القُربى) .

وخلاصة القول أن السٍّمات الدلالية المُمِّيزة للفظة (القربي) عبر مقارنة سياقها في الآية المبحوثة مع سياقاتهما القرآنية المتعددة يكشفُ عن خصوصيتها باعتبار إيرادها مفردة، خلافًا لاستعمالها مضافة إلى (ذو) و( أولو) في بقية الاستعمالات القرآنية لها؛ إذ لم تخرج فيها دلاليًا عن دائرة العموم، وزاد في خصوصيَّتها تعلقها بحرف الجر (في) وبلفظة (المودة) إذ أفادتا المبالغة في الموالاة للقربى والتودد لهم، كذلك كشف السياق القرآني لمصاحبات لفظة القربى على أن المراد بهما أكثر الناس قربًا من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأن مودَّتَهم نحوٌ من الموالاةِ لهم وهي السبيل إلى الله سبحانه وتعالى وأجرٌ للرسول على هدايته للناس والذي انماز به عن جميع الأنبياء .

ص: 127


1- تكررت هذه الآية في سورة الشعراء تحت الترتيب : 127، 145 ،164، 180، للمزيد ينظر : المعجم المفهرس : 427

المطلب الثاني: في معنى (خصمان):

قال تعالى : «هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ [الحج: 19- 24]. مهاد التنزيل:

إنَّ الرّواياتِ الواردةِ بشأنِ نزولِ الآيةِ الكريمة، تُحتِّمُ على البحثِ بحسب منهجيته التوجّهَ لتحديدِ المعنى النحوي الدّلالي للفظة خَصْمان في ضوءِ ما أُسنِدَ إليها وما يتعلقُ بها من ألفاظ، ومنها ما جاء في مجمعِ البيان.

قال : ((نزلت الآيةُ «هذان خصمانِ اختصمُوا في ستةِ نفرٍ من المؤمنينَ والكفَّارِ تبارزُوا يومَ بدر، وهم حمزةُ بن عبد المطلب قتلَ عُتبة بن ربيعة وعليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) قتلَ الوليدَ بن عتبةَ وعبيدةُ بن الحارث بنُ عبد المطلب قتلَ شيبةَ بن ربيعة عن أبي ذرٍ الغفاري وعطا، وكان أبو ذر يُقسِم بالله تعالى أنها نزلت فيهم ورواه البخاري في الصحيح))(1) .

ص: 128


1- مجمع البيان : 7/ 148 ، وينظر : التبيان في تفسير القرآن : 7/ 302 ، ونور الثقلين : 5/ 14 ، والبرهان في تفسير القرآن : 5: 270، والميزان : 17/ 364 وغيرها

وذكرَ السَّيُوطي (ت 911ه) في الدُّرِ المنثور أكثر المصادرِ التي أخرجتْ سببَ نزولِ الآية؛ يقول :(( أخرجَ سعيدُ بن منصور وابنُ أبي شيبة وعبدُ بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي وابنُ ماجة وابنُ جرير وابنُ المنذر وابنُ أبي حاتم وابنُ مردويه والبيهقي في الدلائل، عن أبي ذر رضي الله عنه أنَّه كان يُقسمِ قَسماً إنَّ هذه الآيةَ هذانِ خصمانِ اختصموُا في ربهم ... إلى قولهِ : إنَّ اللهَ يفعلُ مایُرہد نزلتْ في الثلاثةِ والثلاثةِ الذين تبارزُوا يومَ بدر؛ وهم : حمزةُ بن عبد المطلب، وعبيدةُ بن الحارث ، وعليُّ بن أبي طالب ، وعتبةُ وشيبةُ ابنا ربيعة، والوليدُ بن عتبة))(1) .

مسار التحليل ويتضمن

1- المعاني اللغوية للفظة (خَصْم) وما تعلق بها:

ذكرتْ أغلبُ معاجمِ اللغةِ بأنَّ لفظةَ (خصم) تدورُ حولَ الجدلِ والمُجادلة (الخَصْم : المخاصِم والمخاصَم، وهما خَصمان، أي كلُّ واحدٍ منهما خصمُ صاحبِه لأنَّه يُخاصمه. وفلان خَصْمي، الذكرُ والأنثى والواحدُ والجميع فيه سَواء، ... ورجلٌ خَصِمٌ وخَصيم، إذا كان جَدِلاً))(2) . والتأمُّلُ في كُتب المعاجمِ يُبيَّنُ أنَّ هذه اللفظةَ ترتبطُ بمعنى النَّزاعِ والمنازعة؛ إذ أشارَ أبو

ص: 129


1- الدر المنثور : 6/ 18- 19 ، و ينظر : التسهيل العلوم التنزيل : 2/ 53، والبحر المحيط : 6/ 334 ، وروح المعاني : 10/ 198 ، وغيرها
2- جمهرة اللغة (خ ص م ): 1/ 716

هلال العسكري إلى معنى المنازعةِ بما يلمح إلى تفرعها عن الخصومةِ المتنافرة؛ يقول : ((المُنازعةُ لا تكون إلا فيما يُنكر المطلوبَ، ولا يقعُ فيما يعترفُ به الخصمانِ منازعة .))(1) وقالَ ابنُ فارس(ت 395ه) :(( (خَصْم) الخاء والصاد والميم أصلان : أحدهما المنازعة، والثاني جانبُ وِعاءٍ. فالأوّل الخَصْمُ الذي يُخاصِم. والذّكرُ والأنثى فيه سواءٌ..... والأصلُ الثاني : الخُصْم جانبُ العِدْل الذي فيه العُرْوة. ويُقال إنّ جانبَ كلَّ شيءٍ خُصْمٌ. وأخْصامُ العين : ما ضُمَّتْ عليه الأشفار. ويمكن أنْ يُجمَع بين الأصلين فيُردُّ إلى معنىً واحد. وذلك أنّ جانِبَ العِدل مائلٌ إلى أحد الشقيْنِ، والخَصْمُ المنازعُ في جانب؛ فالأصلُ واحدٌ.))(2) وقد يستدعي شدَّةُ التباينِ في الرأي أو المُعتقد أن يكونَ كلُّ واحد من الخَصْمين في جانبٍ إلى درجة المنافرة بينهما، وفي لسان العرب ((والمُنازَعةُ في الخُصومةِ مُجاذَبةُ الحُجَجِ فيما يَتنازَعُ فيه الخَصْمانِ ... والتنازُع التخاصُمُ، وتنازَعَ القومَ اخْتَصَمُوا، وبينهم نِزاعةٌ أَي خصومةٌ في حقّ))(3) ، فلا بُد وأنْ يكونَ أحدُ الخَصْمينِ على حقًّ والآخرُ على باطل، وفي تاج العروس ((التَّنازُعُ في الأصْلِ : التَّجاذُبُ كالمُنَازَعَة ويُعَبَّرُ بهِمَا عن التَّخَاصُمِ والمُجَادَلَةِ))(4) .

ص: 130


1- معجم الفروق اللغوية : 55
2- مقاییس اللغة (خصم) : 2/ 187
3- لسان العرب (نزع ) : 8/ 418
4- تاج العروس (نزع ) : 22/ 247

وقدْ يكونُ في هذا الكلامِ ما يشير إلى أنَّ الخصومةَ تبدأُ بالجدالِ وتتطورُ إلى النَّزاعِ والتجاذبِ بين طرفي الخصام. كذلكَ فالتعبيرُ بمادةِ (خ ص م) فيه معنى المجادلةِ والمنازعة، وقد يصلُ إلى التجاذبِ بين الخصمين ، وأنَّ أحدَهُما على حقٍ والآخرَ على باطلٍ، ولم يُسلِّم أحدُهما بما يطلُب منه الآخر، وإلاّ خرجَ عن معنى الخُصومةِ والتخاصُم .

وذكرَ اللُّغويّون أنَّ مفردةَ (خَصْم) مصدرٌ تُطلق ويُراد بها المفردُ والمثنى والجمع وتكون بلفظٍ واحد؛ قال الخليل (ت 175 ه) : (( الخَصْم : واحدٌ وجميعٌ، قال الله عز وجل : "وهل أتاك نبأُ الخَصْم إذ تَسوَّروا المِحْراب " فجعلَه جَمعاً لأنَّه سُمَّي بالمصدر. وخَصيمُك : الذي يُخاصِمكَ، وجمعُه : خُصَماء .))(1) وقال ابن سيده (ت 458ه) :((خصمُك : الذي يُخاصمك، وجمعه : خُصوم. وقد يكون الخَصم للاثنين والجمع والمُؤنث .))(2) .

2- التوجیهات النحوية للفظة (خصمان) وما يتعلق بها:

(خصمان ):

وردتْ لفظةُ خَصْمان في الآيةِ الكريمةِ بلفظ المثني والمعنى فيها الجماعة؛ ويدلُّ عليه الواو في اختصمُوا والعربُ تستعملُ المثنى بمعنى الجماعة من باب

ص: 131


1- العين (خصم ) : 4/ 191
2- المحكم والمحيط الأعظم (الخصومة ) : 5/ 66

الحمل على المعنى(1) ، وفي الآية التي صدرت البحث ما يشير إلى هذا المعنى، وهو ما أشار إليه أبو البقاء العكبري (ت616ه)، قال : (( قوله تعالی «خصمان هو في الأصلِ مصدرٌ، وقد وُصف به، وأكثرُ الاستعمالِ توحيده : فَمن ثنَّاه وجَمعهُ حملهُ على الصفاتِ والأسماء. و «اختصمُوا» : إنما جُمع حملاً على المعنى؛ لأنَّ كلَّ خصمٍ فريقٌ فيه أشخاص))(2) فلفظة «خَصْمَان» تُشير إلى معنى الفوجِ أو الفريق أو الطائفة المشتملِ على الجماعةِ من الناس(3) .

( هذان ):

وقد أُسندت هذه اللفظةُ (خصمان) إلى اسم الإشارةِ «هذان» مما أكسبَها معنى الحضورِ والمشاهدة والتعريف بما، وتُّميزُها على أكملِ وجه، قال سيبويه :(فأمَّا المبنيُّ على الأسماءِ المبهمةِ فقولُك : هذا عبدُ الله مُنطلقاً، وهؤلاءِ قومُك منطلقين، وذاك عبدُ الله ذاهباً، وهذا عبدُ الله معروفاً. فهذا اسمٌ مبتدأ يُبنى عليه ما بعده وهو عبد الله ... وقد يكون هذا وصَواحبُه بمنزلة هو، يُعرَّف به، تقول : هذا عبدُ الله فاعرفْه؛ إلاّ أنَّ هذا علامةً للمضمَر، ولكنك أردت أن تعرّف شيئاً بحضرتك.))(4) ومما يزيدُ في حضورِ المُشار إليه

ص: 132


1- ينظر : فقه اللغة وسر العربية : 376
2- التبيان في إعراب القرآن : 2/ 220
3- ينظر معاني القرآن : للفراء : 2/ 128 ، ومعاني القرآن وإعرابه : 3/ 419، والكشاف : 3/ 146
4- الكتاب : 2/ 79 -80، وينظر : اللمع في العربية : 78

وقربِه، وجودُ هاءِ التنبيه في تأدية هذا المعنى؛ قال الرضيُّ (ت688ه) : ((فجيئ في أوائلها بحرف ينبِّه به المتكلمُ المخاطبَ، حتى يلتفِتُ إليه وينظرُ إلى أيَّ شئٍ يُشير من الأشياءِ الحاضرة، فلا جَرَم، لم يُؤتَ بها إلا في ما يُمكن مشاهدتُه وإبصارُهُ، من الحاضر، والمتوسط))(1) ويقولُ أيضاً :((إنَّ وضعَ أسماءِ الإشارة للحضورِ والقرب، على ما قلنا، إنه للمشارِ إليه حسًّا، ولا يُشارُ بالإشارةِ الحسيَّة في الأغلب إلا إلى الحاضرِ الذي يصلحُ لكونهِ مخاطباً))(2) .

وملازمةُ اسمِ الإشارةِ للحضورِ يجعلُ المُشارَ إليه معروفًا بصفاتٍ تميَّزُه عن غيره؛ قال سيبويه :(( وأما الأسماءُ المبهمةُ فنحو هذا وهذه، وهذان وهاتان... وإنما صارت معرفةً لأنها صارتْ أسماءَ إشارة إلى الشيءٍ دون سائر أمتّه... وإنما منع هذا أن يكون صفةً للطويل والرجل أن المخبِر أراد أن يقرّب به شيئاً ويشير إليه لتعرفه بقلبك وبعينك، دون سائر الأشياء. وإذا قال الطويل فإنما يريد أن يعرّفك شيئاً بقلبك ولا يريد أن يعرّفکه بعينك، فلذلك صار هذا يُنعت بالطويل ولا يُنعت الطويل بهذا))(3) وهي بذلك تفيد التعيين الذي هو سبيل التعريف .

ص: 133


1- شرح الرضي على الكافية : 2/ 477
2- المصدر السابق : الصحيفة نفسها
3- الكتاب : 2/ 7

(في ربهم):

ويُلحظُ في الآيةِ أنَّ جملةَ «هذان خصمان لا يكتملُ بها المعنى؛ إذ لايحسُن الوقوف عليها، ولذلك فمن المحتمل أن يكونَ هناك وجهًا إعرابيًا آخر، وهو أن يكون «هذان» مبتدأ و«خصمان» بدلٌ منه، وجملةُ «في ربَّهم في محلَّ رفعِ خبر؛ باعتبارِ أنَّ هذا الإعراب يُبيَّن سببَ الخصومةِ ومنشأهَا؛ إذ الفائدةُ تتمُ بالخبر .

ويؤيدُه أنّ اسمَ الإشارةِ -كما يرى سيبويه - إذا ما أُريدَ تفسيُره لا يُوصف إلا بالمُعرَّف بالألف واللام، يقول : ((فالأسماءُ المبهمةُ توصَفُ بالألفِ واللام ليس إلا، ويُفسَّر بها، ولا تُوصَف بما يُوصف به غيرُ المبهمة، ولا تٌفسَّر بما يُفسَّر به غيُرها إلا عطفاً))(1) ف( خصمان) لیست نعتًا ل(هذان) و(( إنَّ اسمَ الإشارة وإنْ عيّنَ المُشارَ إليه، حقيقتُه لا تُستحضر به على إلتزام، ولذلك لايُستغنى غالبًا عن صفةٍ تُكمل دلالتَه))(2) ، وعلى هذا تكون جملةُ «في ربَّهم صفةً للبدل «خصمان» المُفسَّرِ لاسمِ الإشارة «هذان» ليكتمل به معنی الحضورِ والتّمييز .

وتعلُّقِ الجارِ والمجرور «في ربّهم بالفعل «اختَصموا يلمحُ إلى أنَّ منشأ الخصامِ بينَ الفريقينِ في الربوبيَّة، وأنَّ الخصومةَ لاتكونُ إلا فيما يُنكِر المطلوب

ص: 134


1- الكتاب : 2/ 190
2- تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد : 1/ 131

ولا تكون إلا في حقٍّ، يتَّضح منه أنّ الخصم الأول هو المعنيُّ بقوله : الذين كفروا » والآخر «الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الآيات التي بعدها .

3- الدلالة القرآنية للفظة (خَصْمان) وما يتصل بها :

وردتْ هذه اللفظةُ في موردٍ آخر وهوَ قوله تعالى: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ »[ ص: 21 - 22]، وقد عبَّرَ فيها عن الخصم بالجمع، وهو مايُشيُر إليه إسناد الواو إلى الفعل تسوروا وأعادَ اللفظَ عليه بالمثنى بقوله خصمان(1) ، والحكَمُ في هذه الخصومةِ هو نبيُّ الله داود (عليه السلام)، وتمتّازُ الآيةُ مورد البحث أنّ الحكمَ فيها هو الله سبحانه وتعالى بقرينةِ تقسيم الخصمينِ إلى الذين كفروا والآخر الذين آمنوا وعملوا الصالحات وما أُعدَّ لهم من جزاء .

والتعبيرُ باسمِ الإشارةِ للدلالةِ على كمالِ حضورِ المُشارِ إليه - بحسب الدلالة النحوية السابقة - أمرٌ شائعُ الاستعمالِ في التعبيرِ القرآني؛ ومنه قوله تعالى: قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا» [ طه : 63 ]، أما استعمال اسم الإشارة (هذا) فهو أكثرُ من أنْ يُحصى؛ ومنه قوله تعالى: «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ

ص: 135


1- ينظر : الكشاف : 4/ 79

هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» [ الأنعام: 76- 78] فكلَّما أرادَ المتكلم أن يجذبَ انتباهَ المخاطَب إلى أهميَّةِ الموضوع جعلَهُ حاضرًا لديه وأبرزهُ في غاية الكمال .

وأفرزت الآياتُ الكريمةُ الآتية بعد الآية مورد البحث عددًا من الأحكام لل( الذين آمنوا وعملوا الصالحات) تتضح في قولهِ تعالى : إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ» وهوا إلى الطيب من القول ودوا إلى صراط الميد» [ الحج: 23- 24] وهي : أنَّ لباسَهم حريرٌ ويُحلَّونَ بالذهبِ واللؤلؤِ وقد وصلوا إلى طريق الهداية .

وقد منحَ سبحانَهُ الجزاءِ نفسَه مِنْ لِبسِ الحريرِ والذهبِ لِمن اصطفاهُ من عبادهِ وأورثَهُ الكتابَ كونه سابقًا للخيرات ولم يمنحهُ لغيره، قال تعالى : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ *جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [فاطر : 32- 33] وتماثلُ الجّزاءِ في الآيتينِ يشير إلى نوع العلاقةِ بين ال«سابق بالخيرات» وطرفِ الحقِّ في الخصومةِ المُعبّرِ عنه بالذين آمنوا وعملوا

ص: 136

الصالحات بأن يكون من أبرز مصادیقه، وهي سمةٌ جديدةٌ تُضاف إلى ما اختَصَّ به الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأنَّهم من اصطفاهُ سبحانه وكانوا سابقين بالخيرات .

وفي قوله «هُدوا» بُني الفعل للمفعول ، فأُسند إلى الواو العائدة إلى الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولم يُصرَّح بفاعلِ الهداية؛ وكأنَّ في هذا التعبيرِ من القوَّةِ ما يُبرزُ مَن أُسند إليه الفعل، بأنهم بذلُوا ما في وسعِهم واستحقُّوا أن يكونوا بمنزلة الفاعلين للهداية، قال المبرد (ت285ه) : ((وما لم يُسمَّ فاعلُه بمنزلةِ الفاعل))(1) وهذه المنزلة وإن كانت من حيث الوظيفة إلا أنها لاتبتعد عن المعني، وفي أسرار العربية ((إنْ قال قائلٌ لِمَ لَمْ يُسمَّ الفاعلُ ؟ قِيل : لأنَّ العنايةَ قد تكونُ بذكرِ المفعولِ، كما تكونُ بذكرِ الفاعل))(2) وقد تحققتْ الغاية بالبناء للمفعول .

ولم يُسند هذا الفعل (هدوا) لغير( الذين آمنوا وعملوا الصالحات)(3) على مستوى الاستعمال القرآني؛ وفي إعادته في قوله تعالى : «وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ» [ الحج: 24]. ما يُؤكِّد تمكُّنِ الهداية فيهم، وأنَّهم سبقوا غيرهم إليها، ويلمح أيضًا إلى أنَّ اقترانَ الإيمانِ بالعملِ الصالح كان السببَ في هدايتِهم ووصولهم إلى غايتهم، كما أنه يُضيف إليهم

ص: 137


1- المقتضب : 4/ 389
2- أسرار العربية : 88
3- ينظر : المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم : 902

خصوصية وهي الوصول إلى غايتهم المنشودة قبل غيرهم، قال أبو البقاء الكفوي : ((إنَّ فعلِ الهداية متى عُدَّي بإلى تضمنَ الإيصالَ إلى الغايةِ المطلوبة فأُتى بحرفِ الغاية))(1) . والصراط هو الطريق والحميد هو من أسماء الله الحسنى وكأنهم ساروا على طريق الله في كل ما صدر عنهم في الدنيا حتى بلغوا غايتهم في الآخرة .

13 ويخلص الباحث إلى أنَّ السمات الدلالية للفظة (خصمان) حدَّدت مدلولها من خلال النظر في سياق اللفظة قرآنيا وعلاقتها مع بقية الألفاظ في السياق نفسه، وذلك بدلالتها على جماعةٍ حاضرة من الذين آمنوا وعملوا الصالحات من خلال اقترانها باسم الإشارة (هذان )، وزاد في إيضاح معنى الخصومة بين الفريقين جملة (في ربهم) وهو ما يعكس عمق الإيمان فيهم، وهذه الجماعة هي ممن اصطفاها الله وسبقت إلى فعل الخيرات باعتبار التماثل في الجزاء الذي استعمله القرآن الكريم في آياتٍ مماثلة وتبرز خصوصية هذه الجماعة أيضًا باقترانها بالفعل (هدوا) منفردةً به، ليُضرب بها المثلُ في الوصول إلى طريق الهداية والفلاح .

المطلب الثالث: في معنى (الناس):

قال تعالى : «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا

ص: 138


1- الكليات : القسم الخامس : 67

آمَنُوا سَبِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا * أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا» [النساء: 51- 54].

مهادُ التّنزيل:

أشارتْ طائفة من الروايات إلى أنَّ المقصودَ ب( الناس) في الآيةِ الكريمةِ رسولُنا الكريم وأهلُ بيتِهِ (عليهم السلام) وفي مقدمتِهم الإمامُ عليٌّ (عليه السلام)، وعليهِ فالبحثُ يسعى لتحديدِ سمات هذهِ اللفظةِ في ضوءِ المعنى النحوي الدلالي؛ ومن تلك الروايات ما أورده الحِبَري (ت286ه)(1) في تفسيره قال : ((قوله : أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ...» الآية، نَزَلَتْ في رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وفي عليًّ (عليه السلام) بِما أعطاهُ اللهُ مِنَ الفَضْلِ))(2) وفي تفسيرِ فرات الكوفي قال : (( حدَّثَني جعفرُ بنُ محمدِ بنُ سعيدِ الأحمسي، قال : حدَّثَنا الحسنُ بنُ الحسينِ العَرَني، عن يحي ابن يعلي الربعي، عن أبان بن تغلب : عن جعفرِ بنِ محمدٍ عليهِما السلام في قوله : أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)»

ص: 139


1- هو الحسين بن الحكم بن مسلم، أبو عبد الله الحِبري الوشاء الكوفي، محدث ومفسر، ، قالوا فيه : علامّة ثقة، توفي سنة 286ه، والحبري : نسبة إلى الحبرة، وهي نوع من الثياب، تنظر مقدمة المحقق : السيد محمد رضا الحسيني : ص 21 وما بعدها
2- تفسير الحبري : 255، وقد أضاف المحقق السيد محمد رضا الحسيني عبارة (وفي علي عليه السلام) معتبرًا أياها ساقطة من النسخة

عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ قال : نحن المحسودون))(1) .

وفي مناقبِ آلِ أبي طالب ، قالَ ابنُ شهرِ آشوب المازندرانی (ت588ه) :(( حدَّثَني أبُوالفتوح الرازي في روض الجنان بما ذكره أبوعبدالله المرزباني بإسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قولِه: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ نزلتْ في رسول اللهِ وفي عليّ))(2) .

مسار التحليل ويتضمن

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية :

( النَّاس):

جاء في معجم القاموس ((الناسُ يكونُ من الإِنْسِ ومن الجِنَّ، جَمْعُ إنْسٍ، أصلُهُ أُناسٌ، جمْعٌ عَزيزٌ، أُدْخِلَ عليه ألْ، واسمُ قَيْسِ عَيْلانَ، وما يَتَعَلَّقُ من السَّقْفِ. وناسَ الإبلَ ساقَها. وأناسَهُ حَرَّكَهُ. ونَوَّسَ بالمكان تَنْوِیساً أقام .))(3) وهو ((اسمٌ وُضعَ لِلجَمْعِ کَالقَومِ وَالرهَّطِ وواحِدُهُ إنسَانٌ مِنْ غَيرِ

ص: 140


1- تفسير فرات الكوفي : 106
2- مناقب آل أبي طالب : 3/ 246 ، ينظر : تفسير العياشي : 1/ 273 ، والتبيان في تفسير القرآن : 4/ 493 ، ومجمع البيان : 3/ 126 ، وينابيع المودة : 1/ 362 ، ونور الثقلين : 2/ 76- 79 ، وغيرها
3- القاموس المحيط ( النّوس ) : 4/ 459

لَفْظِهِ مُشتَقٌّ مِنْ نَاسَ يَنُوسُ إذَا تَدَلَّى وتَحَرَّكَ فَيُطلَقُ عَلَى الجِنَّ وَالْإِنْسِ))(1) ، وبهذا فإنَّ معناه الأول دلالته على الجماعة .

( يحَسُدون):

وهو فعلٌ مضارع وزنه يفعلون أُسند إلى واو الجماعة والمصدرُ منه (حَسَدًا)؛ وهوَ تَمنَّي زوال نعمةٍ مَا عن الآخرينَ بُغْضًا وحِقْدًا، جاءَ في التهذيب ((قالَ اللَّيثُ : الحَسَدُ معروفٌ، والفِعل حَسَد يَحْسُدُ حَسَداً. أبو العباس عن ابن الأعرابي قال : الحَسْدَلُ : القُرَادُ، قال : ومنهُ أُخِذ الحسدُ لأنَّه يَقْشِرُ القَلْبَ كما يَقْشر القُرادُ الجلدَ فيمتصُّ دَمَهُ.))(2) ، وقال ابن سيده (ت458ه) : ((حَسَدَه يَحْسِدُه ويَحْسُدُه حَسَداً، وحسّدَه : تَمنَى أنْ تَتَحولَ إليهِ نعمتَه أو فضيلتَه ويَسلُبهُما هُوَ))(3) وميَّزَ اللُّغَويُّونَ بين الحسدِ والغِبْطةِ بعَدمِ تَمَنَّي زوالِ النَّعمَةِ عن الآخرين في الغِبطَةِ، خِلافاً لِتَمنَّي زوالِها عن و المحسودِ في الحَسَدِ؛ قال ابن فارس : ((الغَبْط، وهو حَسَدٌ يُقال إنَّه غيرُ مذموم، لأنَّه يَتمنَّى ولا يُريدُ زوالَ النَّعمة من غيره، والحَسَدُ بخلافِ هذا.))(4) فمعنى هذه اللفظة، معجميًا، هو تمني زوال نعمةٍ ما من المحسود.

ص: 141


1- المصباح المنير (ن وس ) : 324
2- تهذيب اللغة (حسد ) : 4/ 164
3- المحكم والمحيط الأعظم (حسده ) :3/ 167
4- مقاييس اللغة (غبط ) : 4/ 410، وينظر : المصباح المنير (غ ب ط ) : 229

(فَضْل):

يرتَبطُ مَعنى هذهِ اللفظةِ بالزيادةِ من الصفات الحسنة؛ جاءَ في المقاییس ((الفاءُ والضَّاد واللامُ أصلٌ صحيح يدلُّ على زيادةٍ في شيء من ذلك الفَضْلُ : الزَّيادةُ والخيرُ. والإفضالُ : الإحسانُ))(1) وفي لسان العرب ((الفَضْل والفَضِيلة معروف ضدُّ النَّقْص والنَّقِيصة والجمع فُضُول... والتَّفاضُل بين القوم أَن يكون بعضهم أفضَل من بعض ورجل فاضِل ذو فَضْل ورجل مَفْضول قد فَضَله غيره ويقال فَضَل فلان على غيره إِذا غلب بالفَضْل عليهم))(2) فمن زاد بالفضل على أقرانه فهو يفضُلُهم بمعنى يزيدُ عليهم بما عنده من فضيلة.

2- التوجيه النحوية للفظتة (النَّاس) وما يتعلق بها:

دلالةُ الألف واللامِ في (النَّاس) :

ف(النَّاسُ) وإنْ كانَ في معناهِ الأَوَّلي يُشيرُ إلى أنه اسم جنسٍ بعدَّه موضوعًا للدلالةِ على الجماعةِ فلامهُ للإستغراق، إلاَّ أنَّ مُلاحظةَ سياقِ الآيةِ التي وردتْ فيها اللفظةُ تأبَی موافقة هذا المعنى؛ لكوفا في موقعِ المفعوليّة مما يجعلهم أي- الناس - محسودينَ من غيرهم، والحسدُ لا يكونُ إلا بوجودِ نعمةٍ في المحسودِ لا يمتلكها الحاسد تمنّى زوالَها عنهم وانتقالها إليه، قال

ص: 142


1- مقاییس اللغة (فضل) : 4/ 508
2- لسان العرب : 11/ 625 (فضل)

الرازي (ت 606ه) في تفسيره : ((إنَّ الحسدَ لا يحصلُ إلاَّ عندَ الفضيلةِ، فكُلَّما كانتْ فضيلةُ الإنسان أنتم وأكمل كان حسد الحاسدين عليه أعظم ))(1) .

كذلك فإنَّ سياقَ الآيةِ يميطُ الَّلثامَ عن الحاسدِ المُعبَّرِ عنه ب( واو الجماعة) في الفعل (يحسدون) ، وهم: {الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} في قوله تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا» [النساء: 51] في الآية التي سبقت الآية مورد البحث .

وظاهرُ الآيةِ الكريمةِ أنَّ هؤلاءَ (الذين أُوتوا نصيبًا من الكتاب) حكمُوا لصالحِ الذينَ كفرُوا وعدُّوهم أفضلَ من (الذين آمنوا) ، بدلالةِ أفعلِ التَّفضيلِ (أهدى )، ف(النَّاس) هم الذينَ آمنوا، فتكون اللامُ فيها للإشارة إلى معهودٍ سابق وليس للجنس .

دلالة (أمْ):

و(أم) في قولهِ أمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ بمعنى (بل) في الاستفهامِ المُقَدَّر، بمعنى الإنكارِ للحسد(2) ، وهي تفيدُ الإضرابَ عن المعنى الأولِ في قوله تعالى : أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا[النساء :53] وتقریر ما بعده، أي ليس لهم نصيبٌ من الملك وإنما يحكمون حسدًا، وأشار

ص: 143


1- مفاتیح الغیب : 10/ 138
2- ينظر : الكشاف : 1/ 511 ، البحر المحيط : 3/ 284

الرضي (ت 688ه) إلى هذا المعنى في (أم) بقوله : ((وأمَّا في المُنقَطعةِ، فلا يثُبتْ أَحَدُ الأمرينِ عندَ المتكلم، بلْ، ما قبلَ (أم) وما بعدَها على كلامين، لأَنه إضرابٌ عن الكلام الأولِ، وشروعٌ في استفهامٍ مُستأنف، فهي، إذن، بمعنى (بل) ... التي تكونُ للانتقال من كلامٍ إلى كلام آخر، لا لتدارك الغلط ))(1) ومعنى الآيةُ الكريمة هل كانَ تفضيلُكم للذين كفرُوا على الذين آمنوا بأنَّهم أهدى سبيلاً منهم، بأن كان هذا الحُكم باعتبارِ أنَّ لكم نصيباً من الملك ؟ أي ليس لهم ذلك بلْ هو نابعٌ من حسدٍ مستقرٍ في قلوبكم(2) .

3- الدلالة القرآنية للفظة (النَّاس) ومصاحباتها :

هذه اللفظةُ من الألفاظِ المحايدة؛ بمعنى أنها استُعملت في القرآنِ الكريم بحق المؤمنين وغيرهم ؛ قال تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ » [البقرة : 207](3) قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ» [البقرة :204]، والغالب في هذه الاستعمالات إشارتها إلى جماعة من الأفراد من دون تشخيصهم فتكون بمعنى إرادة الجنس فيهم أي تدلُّ على الجماعة، وعلى الرغم من ذلك فقد استعملها القرآن الكريم في موردٍ استُعملتْ فيه للإشارة

ص: 144


1- شرح الرضي على الكافية : 4/ 405
2- ينظر : تفسير الميزان : 4/ 136
3- هذه الآية من الآيات المتعلقة بالإمام علي (عليه السلام) وسيأتي بحثها في مبحث جملة الصلة ، ينظر : الكشف والبيان : 2/ 125- 126

إلى فئةٍ محددة، قال تعالى : الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» [آل عمران :173] ف(الناس) الثانية بحسب سياق الآية فيها إشارة إلى معهود معروف بأوصافه لدى المخاطب، وهو ما يكشف عن استعداد هذه اللفظة قرآنيًا أن تخرج من مع معنى الجنس إلى الدلالة على جماعةٍ مخصوصة بحسب السياق الذي ترد فيه.

إلا أنَّ إيرادها في هذه الآية وبحُكمِ موقعِها الإعرابي وتفاعلها الدلالي بقيةِ الألفاظ مَنحها خصوصيةً انمازت بها عن نظائرهِا في القرآن الكريم من حيث دلالتها على جماعةٍ حُسِدت للفضل الذي خصَّها الله سبحانه به، ولم يُحدَّثَنا القرآنُ عن استعمالٍ مناظرٍ لهذه اللفظة.

واستُعمِل( الحَسَدُ) والنَّظرُ إليه ك(أمنِيَةٍ) غيرِ مشروعة باعتبار عدم مشروعيّة هذا التمنيّ، حيث وردَ النَّهيُ عنه، قال تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء: 32].

أشار التعبير القرآني إلى هوية هؤلاء الحساد؛ قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة : 109] .

ويبدو أنَّ (النَّاس) تشيرُ إلى طائفةٍ مخصُوصَةٍ من الذين آمنوا، وليس

ص: 145

فيها معنى العموم؛ ويؤيدهُ أنَّ الجملةَ التَّعليلية بعد فاء التعليل في مقامِ بیانِ مصادیق ما فَضَّلَ اللهُ به هؤلاء (الناس)، وهي قوله تعالى : {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًام} من الآية مورد البحث فهي ((تعليلٌ للإنكار والاستقباحِ وإلزامٌ لهم بما هو مُسلَّمٌ عندهم، وحسمٌ لمادةِ حسَدِهم واستبعادِهم المبنَّيْين على توهّمِ عدمِ استحقاقِ المحسودِ لِما أُوتيَ من الفضلِ، ببيانِ استحقاقِه لهُ بطريقِ الوراثةِ كابراً عن كابر))(1) ف(الكتاب) و(الحكمة) و(الملك العظيم) هي ما فضَّل الله به آلَ إبراهيم، وقد منحها سبحانه لل(الناس) في الآية الكريمة، وكانت سببًا لإيجاد الحسد من الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب .

ويبدو للباحث أنَّ هناكَ علاقة مشتركة بين (الناس) و(آل إبراهيم) وذلك من وجهين :

الأول : إنَّ أوضحَ مصادیقِ الفضلِ المُوجب للحسدِ في الآيةِ هو (الكتاب والحكمة )، وكان الله عزَّ وجل قد تفضَّل بهما على رسوله محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم في أكثرِ من مورد؛ قال تعالى : رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»[البقرة: 129] وكَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ

ص: 146


1- إرشاد العقل السليم : 2/ 190 ، وينظر : روح المعاني : 4/ 85

وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ» [البقرة: 151] لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [آل عمران : 164] وكان التعبير بالإشارة إليهما بعنوان الفضل العظيم في قوله تعالى : وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا» [النساء:113] فمن المناسب القول بأنَّ من كان لهُ الفضل العظيم من (الناس) بما آتاه الله سبحانه من علوم الكتاب والحكمة بقرينة اقترانهما بالفعل (يعلِّمُهم يلتقي مع (آل إبراهيم )، وأنَّ إيرادَهُما في سياقٍ واحد ((لتذكيرِ ما بينَ الفريقينِ من العلاقةِ المُوجبةِ لاشتراكِهما في استحقاقِ الفضلِ .))(1) وفي هذه العلاقة أيضًا ((إشارة إلى هذا الذي حسدوهم لم يتفرد به المحسودون بل أعطينا مثله الغيرهم من الأمم السابقة))(2) وهم آل إبراهيم .

الآخر:

تأسيسًا على ما تقدَّم فمن المناسب القول بأن يكون (الناس) من ذُرَّيَّة إبراهيم (عليه السلام) ، وتَتَّضحُ العلاقةُ بين (الناس) وآل إبراهيم إذا قلنا بأنهم

ص: 147


1- إرشادالعقل السليم : 2/ 190
2- تفسير ابن عرفة : 2/ 32

من ذريَّته، ووجه الشبه في الآية الكريمة بينهما، أنَّ من ذريَّة إبراهيم (عليه السلام) من آتاه اللهُ الكتاب يعلِّمُه قومَه والحكمةَ بناءً على دعوته (عليه السلام)، فقال على لسانه : رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» [البقرة : 129] وهو الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهو المحسود أولاً .

و( الكتاب) و( الحكمة) وإن أُوتيتْ لعددٍ من الأنبياء الذين هم من ذرية إبراهيم (عليه السلام)، إلاّ أن الاستعمال القرآني لم يُشِر إلى تعرض أحدٍ منهم إلى الحسد، سوى الذين آمنوا وعُبَّر عنهم ب( الناس )، ويُؤيَّدُ تعلقَ معنى الحسدِ بالرسولِ الكريمِ صلى الله عليه وآله وسلم ومَنْ يشتركُ معهُ دلالةُ الفعلِ المضارعِ (يحسدون) على الاستمرارية (البقاء على هذه الحال)(1) .

والتَّحقُّق في دلالة (آل إبراهيم) یُؤكد أيضاً هذه العلاقةَ بينهما؛ قال الراغبُ في معنى ال(آل) : ((الآلُ مقلوبٌ عن الأهلِ، ويُصَغَّرُ على أُهيل إلاَّ أنَّهُ و ات و خُصَّ بالإضافةِ الى أعلامِ النَّاطقين دونَ النَّكِرات ودونَ الأزمِنةِ والأمكنةِ، ...

وقيل هو في الأصل اسمُ الشَّخصِ ويُصغَّر أُويلاً ويُستعملُ فيمن يختصُّ بالإنسانِ اختصاصاً ذاتياً إَّما بقرابةٍ قريبةٍ أو بموالاة))(2) فهذه اللفظة تدل على اختصاصها بمن تُضاف إليه، وهو إما أن يكون اختصاص قرابة أو موالاة واتَّباع .

ص: 148


1- ينظر: شرح الرضي على الكافية : 2/ 144
2- مفردات ألفاظ القرآن: الراغب الأصفهاني : 98

واستُعمِل المعنيان في التعبير القرآني :

ف(الآل) بمعنى مَنْ يختصُّ بالشيءِ لقرابته منه كما في قوله تعالى : وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا» [مريم: 5- 6] . والوِراثةُ لا تكون إلا بين الذريَّة والأقارب وهو ما طلبه في دعائه (عليه السلام) ويدلُّ عليه قوله تعالى : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» [النساء : 176]

أما (الآل) بمعنى (الأتباع) كما في قوله تعالى : وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» [البقرة: 50] ويؤيده قوله تعالى: فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ» [الأعراف: 36] .

إلاَّ أنَّ (الآل) في (آل إبراهيم) يُراد بهما المعنى الأول من دونِ الثاني؛ إذ لمْ ترد هذه اللفظةُ مضافةً إلى (إبراهيم) إلّا في موردٍ آخر، وهو قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» [آل عمران : 33 - 34] ف(آل

ص: 149

إبراهيم) هنا هم خصوصُ ذُریَّته وليس أتباعَه، بدليلِ الفعل (اصطفی) المُسند إلى لفظ الجلالة (( والاصطفاء : الاختيار، افتِعالٌ من الصَّفوة، ومنه النبيُّ المُصطَفَى، والأنبياءُ المُصْطَفُونَ : إذا اختاروا، هذا بضمّ الفاء ))(1) وكذلك قولُه (ذُرَّيَّة) قرينةٌ على هذا المعنى .

إلا أنَّ أبا هلال العسكري (ت 396ه) يُّميِّز بين الاصطفاءِ والاختيار؛ قال مُميِّزًا بينهما : ((إنَّ اختيارَك الشئِ أخذُكَ خيرَ ما فيه في الحقيقةِ أو خيرَه عندك، والإصطفاءُ أخذُ ما يصفُو منه ثم كثُر حق استُعمل أحدُهما موضع الآخر، واستُعمل الاصطفاءُ في مالاصفوَ لهُ على الحقيقة))(2) ، فالصفوة هي الخلاصة الخيَّرة من الناس الأخيار .

فمن المناسب القول بأن (آل إبراهيم) في الآية مورد البحث هم ذريته وليس أتباعه، وأنَّ المرادَ بالناسِ المحسودين هم محمد وذريَّته، تحقيقاً للتوافق والانسجام في المفهوم والمصداق، ويؤيده قوله تعالی : ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» [آل عمران: 34] و: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } [الطور: 21] .ولعلَّ هذا التحليل يأتي مُعضِّدًا للدِّقة التعبيرية في إيراد لفظة (الناس) الدالة على الجماعة بدلالتها على الرسول وذريَّته . وهكذا فإنَّ لفظةَ

ص: 150


1- العين (صفو): 7/ 163
2- معجم الفروق اللغوية : 29

(النَّاس) وإنْ كان المقصودُ بها شخصَ رسولِنا الكريم، باعتبارِ ما اختُصَ به من فضلِ الله من الكتاب والحكمة والنَّبوة المُقتضيةِ للحسد، إلاَّ أنَّ ((لفظَ الناسِ جمعٌ، فحملُه على الجمعِ أولى من حملهِ على المفرد ))(1) .

وهذا يستدعي أن يكونَ من ذُريَّةِ محمدٍ أو مَنْ يختص بالقرابة منه مَنْ خُصَّ بالفضلِ أيضاً حتى صار مدعاةً للحسد وبذلك يدخل في دائرة (آل و إبراهيم) المحسودين، والتعبيرُ القرآني يكشفُ عنه، قال تعالى : وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» [الرعد:43] ، فمن عنده علم الكتاب لابد وأن يكون محسوداً على هذا العلم أيضًا(2) .

ويُلحظُ أنَّ الفضلَ الذي خُصَّ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الكتاب والحكمة) وردَ مُقترناً بالفعل (يُعلمهم) في الآياتِ السابقة وعبَّر عنه ب( الفضل العظيم )، وهو ما يجعل مَنْ يشتركُ معهُ بالفضلِ أن يكون عالماً بالكتاب وهو (مَنْ عنده علمُ الكتاب) الذي ورد في سورة الرعد.

ويخلص الباحث إلى أن معنى لفظة (الناس) خرجَ من الدلالة على الجنس إلى الإشارة إلى جماعةٍ مخصوصةٍ من الناس؛ وذلك بحكم العلاقة

ص: 151


1- مفاتيح الغيب : 10/ 137، هذا القول ليس للفخر الرازي، وإنما نسبه لمن يرى أن الناس يراد بها النبي ومن ومن معه من المؤمنين
2- هذه الآية من الآيات المتعلقة بالإمام علي عليه السلام وأنه المراد ب(من عنده علم الكتاب) وسيرد القول فيها في مبحث جملة الصلة : ينظر : ينابيع المودة : 1/ 305 - 308

النحوية للفظة مع باقي الألفاظ في الآية مورد البحث التي امتدت معها في السياق اللفظي، وتم تحديد مدلول هذه اللفظة في ضوء السياقات القرآنية بما تعلق باللفظة من مصاحبات لفظية كشف عن خصوصيَّتها بدلالتها على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذريَّته، وقد سمح بذلك إيراد لفظة (آل إبراهيم) التي كانت بمثابة النافذة الدلالية التي طلَّ منها الباحث على معنى لفظة الناس، حيث أفادت في بيان وجه العلاقة بين (الناس) و(آل إبراهيم )، في توجيه الحسد إليهما وإيتائهم الكتاب والحكمة، واشترك في هذه السِّمة الدلالية مَن شهد للرسول برسالته وكان عنده (علم الكتاب) .

ص: 152

الفصل الثاني

المركبات اللفظية في الآيات المتعلَّقة بالإمام علي (عليه السلام)

ص: 153

ص: 154

توطئة

يسير البحث في هذا الفصل مستكملاً لمنهجه الذي بدأ به في عرضه التحليلي للألفاظ التي أثارتها الروايات التي رسمت جزءً من العلاقة بين النص القرآني والواقع الخارجي بما عُرف بمقام الحال.

إلاّ أن البحث في منطلقه التحليلي هنا تجاوز اللفظة المفردة إلى المركب اللفظي. ولفظة (المركب) يندرج تحت معناها العام أنواعٌ عدَّة من المركبات.

قال الشريف الجرجاني (ت816ه) : ((المركب هو ما أريد بجزء لفظه الدلالة على جزء معناه وهي خمسة مركب إسنادي : كقام زيد ومركب إضافي : كغلام زيد ومركب تعدادي : كخمسة عشر ومرکب مزجي : كبعلبك ومركب صوتي : كسيبويه، والمركب التام ما يصح السكوت عليه أي لا يحتاج في الإفادة إلى لفظ آخر ينتظره السامع مثل احتياج المحكوم عليه إلى المحكوم به وبالعكس

ص: 155

سواء أفاد إفادة جديدة كقولنا السماء فوقنا والمركب الغير(1) التام ما لايصح السكوت عليه))(2) .

وليس مراد الباحث من هذه اللفظة إرادة معنى (المركب النحوي) الذي يتحقق فيه الإسناد ويحسن السكوت عليه، وإنما هو بمعنى إسناد شيءٍ إلى شيءٍ لا على نحو الإخبار عنه(3) ، وبمعنى آخر إضافة لفظةٍ إلى أخرى يتحقق المركب بمجموع هذه الإضافة، وقدر أشار الرضي الأسترابادي (ت688ه) إلى هذا المعنى؛ قال : ((ولفظ المركب يطلق على شيئين : على أحد الجزأين أو الأجزاء بالنظر إلى الجزء الآخر أو الأجزاء الأُخر، كما يقال في : ضرب زيد : مثلا، إن زیداً مركب إلى ضرب، وضرب مركب إلى زيد، فهما مركبان، ويطلق على المجموع فيقال : ضرب زید، مركب من ضرب ومن زید))(4) وقد اختار الرضي المعنى الثاني على اعتبار أنه لا قيمة إعرابية للمضاف أو التابع من دون تحقق مجموع التركيب الإضافي أو التابع لمتبوعه، ولذلك عقَّبه بقوله : ((ألا ترى أن المضاف اسم مركب إلى المضاف إليه، ولا يستحق بهذا التركيب إعرابا، بل المضاف إليه يستحقه بالتركيب الإضافي، لأن المضاف عامله، على قول، أو الحرف المقدر، على الآخر، كما يجئ، وكذا التابع مع

ص: 156


1- الصواب (غير التام) لأن غير لا تُعرف
2- التعريفات : ص 269
3- المنهاج في شرح جمل الزجاجي : ج1/ ص 514
4- شرح الرضي على الكافية : ج1/ ص 51

متبوعه، لا يستحق أحدهما بهذا التركيب إعراباً معيناً))(1) فالمعنى بدون لحاظ هذا التركيب يكون معنى ناقصا.

وقد اختار الباحث هذا المعنى والتزمه في هذا الفصل بأن يكون المعنى مجموع هذا التركيب؛ لما في ذلك ؛ لما في ذلك من دلالة على إبراز المعنى القرآني بدقة ،وكان على مبحثين الأول : المركب الإضافي عبر علاقة المضاف بالمضاف إليه، والثاني : المركب الوصفي متجليًا عبر علاقة الوصف بموصوفه ، وقد امتازَ هذا الفصل في رسم ملامح المعنى القرآني عِبر هذه العلاقات، إذ لم يعد معنىً مفرداً وإنما صار معنىً مركبًا أوضحته الدلالة القرآنية إذ ((تكون قرينة المعنى الطارئ على الكلمة كلمة أخرى مستقلة كالوصف الدال على معنى في موصوفه، والمضاف إليه الدال على معنى في المضاف))(2) .

لمبحث الأول: المركب الإضافي

المطلب الأول: في معنى (أنفسنا) :

قال تعالى : إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ

ص: 157


1- شرح الرضي على الكافية : ج1 / ص52
2- المصدر السابق : ج1/ ص 61

اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 59 -61] .

مهادُ التّنزيل:

يتوجَّه ُالبحثُ إلى تحديدِ المعنى النحوي الدلالي للفظة (أنفسنا) في الآية الكريمة، وقد جاءتِ الرواياتُ مستفيضةً بشأنِ نزولِها، وموضوعِ تعلُّقِها بلغَ حدَّ الإجماع، ومن تلكِ الرواياتِ ما أخرجهُ فراتُ الكوفيَّ حوالي (ت426ه) في تفسيرهِ قال : ((حدَّثني أحمدُ بنُ يحيى معنعنًا : عن الشعبيَّ قال :لما نزلتْ قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ أخذَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله يتَّكِأ(1) على عليًّ والحسنِ والحسين وتبعتهم فاطمة قال : فقال : هذه أبناءنا وهذه نساءنا(2) وهذه أنفسنا .))(3) .

وكذلك ما رواه الواحدي في أسباب النزول بإسناده المتصل عن جابر بن عبد الله قال: ((قدم وفد أهل نجران على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب والسيد، فدعاهما إلى الإسلام، فقالا : أسلمنا قبلك، قال : كذبتما إن شئتما أخبرتكما بما يمنعكما من الإسلام، فقالا : هات أنبئنا، قال : حُبُّ الصليب، وشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، فدعاهما إلى الملاعنة، فوعداه

ص: 158


1- هكذا وردت والصواب (يتكِيء)
2- هكذا وردت والصواب (هذه أبناؤنا وهذه نساؤنا )
3- تفسير فرات : 78، ينظر : تفسير العياشي : 1/ 200 ، والكشف والبيان : 3/ 85 ، والتبيان في تفسير القرآن : 4/ 109، والكشاف : 1/ 362 ، ومفاتيح الغيب : 8/ 91 ، والبحر المحيط : 2/ 502 ، وينابيع المودة : 1/ 161 ، وروح المعاني : 3/ 33 ، والتفسير الصافي : 1/ 344 ، والمیزان : 2/ 264

على أن يغادیاه بالغداة فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيد علي وفاطمة وبيد الحسن والحسين، ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيبا، فأقرا له بالخراج فقال النبي صلى الله عليه وسلم : والذي بعثني بالحق لو فعلا لمطر الوادي نارا . قال جابر : فنزلت فيهم هذه الآية فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ قال الشعبي : أبناءنا: الحسن والحسين، ونساءنا : فاطمة، وأنفسنا عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنهم .))(1) .

مسار التحليل ويتضمن

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية:

(حاجَّك):

وهو فعلٌ ماضٍ والمصدرُ منه حجاجًا ومُحاجَّة؛ قال الخليل : (( المَحَجَّةُ : قارعة الطريق الواضح. والحُجَّةُ : وَجْهُ الظَّفَر عند الخُصومة . والفِعل حاجَجْتُه فَحَجَجْتُه. واحتَجَجْتُ عليه بكذا. وجمع الحُجَّة : حُجَجٌ. والحِجاج المصدر.))(2) ، وفي لسان العرب ((تقول :حَجَجْتُ فلاناً إِذا أَتَيْتَه مرَّة

ص: 159


1- أسباب النزول : 75، ينظر أيضا : مناقب علي بن أبي طالب : 226، وشواهد التنزيل : 1/ 125 -129، وتفسير القرآن العظيم : 1/ 355 ، ومجمع البيان : 2/ 377 ، والدر المنثور : 2/ 231 ، وفتح القدير : 1/ 283 ، وفرائد السمطين : 2/ 23
2- العين (حج): 3/ 10

مرَّة بعد مرة، فقيل حُجَّ البَيْتُ لأَن النَّاسَ يأَتونَه كلَّ سَنَةٍ...يُقالُ حاجَجْتُه أُحاجُّه حِجاجاً ومُحاجَّةً حتى حَجَجْتُه أَي غَلَبْتُه بالحُجَجِ التي أَدْلَيْتُ بها))(1) ، فالمحاججة تتضمن القصد لأجل الخصومة في أمر ما .

( أنفُسنا ):

ولفظةُ (أنفُسنا) جمعُ (نَفْس) وتدلُّ في كتبِ اللُّغة على معنيينِ (الرُّوح) و(حقيقةُ الشيء) أي ذاتُه؛ جاء في تهذيب اللغة : ((قالَ أهلُ اللغةِ : النَّفْسُ في كلامِ العرب على وجهين : أحدهما : قولك : خرجتْ نَفْسُ فلانٍ أي رُوحه. ويُقال : في نَفْسِ فلانٍ أنْ يفعلَ كذا وكذا، أي في رَوعِه. والضربُ الآخر : معنى النَّفس حقيقةُ الشيءِ وجملته. يقال : قتل فلان نفسه، والمعنى : أنه أوقع الهلاك بذاته كلها))(2) .

( نبتهل):

و( نبته-ل) مضارعٌ بمعنى اللعنِ والاجتهاد في الدعاء؛ قال الخليل : ((بَاهَلْتُ فلاناً، أي : دَعَونا على الظّالمِ مِنَّا. وبَهَلتُه : لعنتُه وابْتَهَلَ إلى اللهِ في الدُّعاء، أي : جَدّ واجتَهَد.))(3) ، وذكر ابن فارس(ت 395ه) بأن أصولَ مادة (ب ه ل) تدور حول معانٍ منها التَّخليةُ والتَّضرُع ؛ قال :(( " بهل " الباء

ص: 160


1- لسان العرب (حجج ) : 2/ 259
2- تهذيب اللغة (نفس ) : 13/ 8
3- العين (بهل ) : 4/ 54- 56

والهاء واللام. أصولٌ ثلاثةٌ : أحدُها التَّخْلِيَة، والثاني جِنْسٌ من الدُّعَاء، والثالث قِلَّةٌ في الماء. فأمّا الأوّل فيقولون : بَهَلْتُه إذا خَلَّيْتَه وإِرادَتَه. وأمّا الآخَر فالابتهالُ والتضرُّع في الدُّعاء. والمباهلةُ يرجع الى هذا، فإنَّ المُتَبَاهِلَين يدعُو كلُّ واحدٍ منهما على صاحِبِه.))(1) ويبدو أنَّ العلاقةَ بين المعنين تتضحُ باعتبار أنَّ مَنْ يباهل يقع في احتمال الطردِ من رحمة اللهِ وكأنَّه يُوكله سبحانه لنفسه ويُخْلِيه لها، و((بَهَلَهُ بَهْلًا مِنْ باب نَفَعَ لَعَنَهُ وَاسْمُ الفاعل بَاهلٌ وَالأُنثى بَاهِلَةٌ ... وَبَاهَلَهُ مُبَاهَلَةً مِنْ باب قَاتَلَ لَعَنَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ وَابتَهَلَ الَى اللهِ تَعالى ضَرَعَ إليهِ))(2) ، وملاحظةُ معاني هذا الفعلُ تفترضُ وجودَ طَرَفَي نزاع في أمرٍ ما وقوله (حاجَّك) قرينةٌ عليه.

2- التوجيهات النحوية للفظة ( أنفسنا)، وما تعلق بها :

وردتْ هذه اللفظةُ في موقعِ المفعولِ به متعلقةً بالفعلِ (نَدْعُ) معطوفةً على (نسائِنا )، جاء في الجمع في معنى المفعول به أنَّه ((ما وقعَ عليه فعلُ الفاعل والمرادُ بالوقوعِ التَّعلُّق ))(3) ، وعلاقةُ المفعوليّةِ من شأنِها أنْ تقيدَ عمومَ الفعلِ وتُخَصَّصَهُ بالفاعل ؛ قال عبد القاهر الجرجاني (ت 471ه) :(( فقد يُذكَرُ الفعلُ كثيراً والغرضُ منه ذِكْرُ المفعول، مثاله أنك تقول : أضربتَ زیداً

ص: 161


1- مقاییس اللغة (بهل): 1/ 310- 311
2- المصباح المنير (ب ه ل): 390
3- همع الهوامع في شرح جمع الجوامع : 2/ 5

؟ وأنت لا تُنكِرُ أنْ يكونَ كان مِنَ المُخَاطب ضَرْبٌ، وإنَّما تُنْكر أن يكونَ وقعَ الضَّرْبُ منه على زيدٍ وأن يستجيزَ ذلك أو يستطيعَه.))(1) ، فليس المقصودُ هي الدعوة إلى التباهل فحسب، وإنما تقييد الدعوة بالأبناء والنساء والأنفس وإلا لكان التعبير (تعالوا ندعوكم إلى التباهل) والآية : (ندعُّ أبناءنا ...) ثمّ قال : (فنبتهل ...).

والقولُ بأنَّ النفسَ يُرادُ بها ذاتُ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم يُفضي إلى اتحاد المضاف والمضاف إليه؛ باعتبار أنَّ مرجعيةَ الضميرِ (نا) على المتكلم الرَّسول وهو ما منعه النحاة لأنه سيكون من إضافة الشيء إلى نفسه(2) ؛ قال ابن عقيل (ت769ه) : ((المضاف يتخصص بالمضاف إليه، أو يتعرف به، فلابد من كونه غيره، إذ لا يتخصص الشئ أو يتعرف بنفسه، ولا يضاف اسم لما به اتحد في المعنى))(3) فلا معنى لدعاء (النفس)، وأن عودة الضمير في (أنفسنا) على الرسول لاينسجم مع تعلقه بالفعل (ندعو) الواقع في جواب الشرط؛ لأنه سيجعل من الرسول داعيًا لنفسَه خلافًا لمعنى الفعل، جاء في المخصص ((الدعاء طَلَب الطّالب للفعل من غيره))(4) ، ومن ثمَّ لا تتحقق العودة إلى المباهلة إلّا إذا كانت (أنفسنا) راجعةً إلى غير رسول الله أو

ص: 162


1- دلائل الإعجاز : 121
2- ينظر : المُقرَّب: 1/ 212
3- شرح ابن عقيل : 3/ 49
4- المخصص : 4/ 57

يُشترك معه في دلالتها .

3- الدلالة القرآنية للفظة (أنفسنا) ومصاحباتها :

المحاججة :

يشيرُ الاستعمال القرآني إلى وقوع المُحاججةِ في الله تعالى؛ قال سبحانه : قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ» [البقرة : 139] و وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ »[الأنعام : 80].

ويشيرُ أيضاً إلى أنَّ حِجاجًا آخر حدثَ مع إبراهيم (عليه السلام) قال تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ »[البقرة : 258]، أمَّا الآية مورد البحث حيثُ تعلقت بعیسی (عليه السلام )، فقد قدَّم لهم الرسولُ الدليلَ على وحدانيةِ الله بقوله تعالى : إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» [آل عمران : 59]، إلا أنهم لم ينتهوا، فالدعوة إلى المباهلة لمحاجَّة الخصوم في أمر عيسى(عليه السلام) لادعائهم أنه ابنُ الله بقرينة فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ

ص: 163

والهاء تعود علی عیسی أو الحق في قوله تعالی: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [آل عمران:60](1) .

ولذلك ف( المباهلة) هنا أمرٌ عظيمٌ يتوقف عليه انتصار الإسلامِ في معركة التوحيد مع النَّصارى، ويُشعر بعظمتها اجتماعُ نداءين، وهما (تعالوا) و(ندعُ) إذ فيهما معنى النداء، قال الزجاجي(ت377ه) : ((تعال معناه أقبل وأصله أنَّ رجلاً كان في مكان عالٍ وآخر في مكان مستفل، فصاح به تعال أي اعل من العلو ثم كثر واتسع حتى صار بمنزلة أقبل))(2) ، و((دعوْت فلانًا وبفلان : ناديته وِصحتُ به .))(3) .

تعالوا :

وقد تكرر هذا الفعل في عددٍ من الآيات إلاَّ أنَّه لم يجتمعْ في واحدةٍ منها نداءان إلا فيما يتعلق بمسألة التوحيد وهو قوله تعالى : قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» [آل عمران:64] وقد يكتسب النداءُ أهميتَه لتعلقه بموضوع التوحيد في كلا الآيتين وقوله أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا قرينةٌ عليه .

ص: 164


1- الميزان في تفسير القرآن : 3/ 124
2- حروف المعاني : 21
3- أساس البلاغة : 220

أنفسنا :

استُعملت لفظة (أنفس) مضافة في مواردَ كثيرة(1) ، إذ أُضيفت إلى الكاف ومنها على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ» [البقرة:44]، وأُضيفت أيضًا إلى الماء المتصلة بميم الجماعة ومنها قوله تعالى: لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ» [الأنبياء : 102] وغيرها من الآيات، إلا أنَّ ما يُميِّز هذه اللفظة في الآية مورد البحث إيرادها مضافة إلى (نا) ضمير المتكلمين بين دلالته على الجماعة أو( الواحد المعظم نفسه) متعلقةً بفعلٍ دالًّ على الطلب والفاعل ضمير المتكلم أو في موقع جواب الشرط كما هو الحال في (ندعُ )، وهو ما لم يتكرر للفظة مثل هذا التعلق في علاقاتها عبر السياقات القرآنية.

ويمكن أن تكون النفس الدالة على رسول الله داعيةً ومدعوَّة وذلك بإشراك غيرها معها في هذه الدعوة، وهنا إمَّا أنْ تكون ( أنفسنا) دالةً على جميع المسلمين، إلاَّ أن هذا القول لا ينسجم مع الغرض من الدعوة، وهو التباهل لإثبات وحدانية الله وإنزال اللعن على الخصم، لِما في المباهلة من احتمال حصول الضرر على أحد طرفيها، وانسحاب أي طرف يلزم منه بطلان ما يدعيه الطرف الآخر، والمسلمون ليسوا على درجةٍ واحدة من

ص: 165


1- ينظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم : 822- 823

الإيمان، يؤيده قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ» [النساء:36] «وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ» [الأنعام: 132] لذلك فالداعي والمدعو إلى الله لابد من أن يكونوا على بصيرةٍ في ما يدعون إليه، قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [يوسف: 108] . ومن المعلوم أن هذه البصيرة لا تتوافر بدرجةٍ واحدة في جميع المسلمين.

ولذلك فالمعنى الآخر وهو مايرجُّحه الباحث أن تدل هذه اللفظة على مصاديقَ محددة ممن اتصفوا بدرجة عاليةٍ من الإيمان، لايتطرق إليهم هاجس الخوف عند التَّباهل ويصدِّقوا الرسول في دعواه، وقد ذكر الزمخشري بأن المعنِيَّ ب( الأبناء والنساء والأنفس) في الآية هم أقرباء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؛ باعتبار أن الرسول يقدم أقرب الناس إليه ليكشف عن ثقته وصدقه فيما يدَّعيه من وحدانية الله في قبال ادَّعاء الخصم بأن عيسى ابن الله(1) . والتعبير القرآني في استعمال لفظة (أنفسنا) إذ وردتْ هذه اللفظةُ في موردين آخرين يشيران إلى إحدى دلالتين :

أولاهما : دلالتها على الجمع : قال تعالى : «يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ

ص: 166


1- ينظر : الكشاف : 1/ 363

يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ »[الأنعام : 130]. فإنَّ (أنفسنا) وردت في صورة الجمع، فقوله (شهدنا على أنفسنا) يراد بها (الجنّ والإنس) فتكون بدلاً منهما.

والمورد الآخر : دلالتها على التثنية الحقيقية المتعلقة بشخصين، وهو قولُه تعالى: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ» [الأعراف : 23] بخصوص آدم وحواء (عليهما السلام) وقد أشار سيبويه إلى أنَّ هذا الاستعمال مخصوصٌ فيما إذا كان الشيئان أحدَهُما بعضًا الآخر؛ قال : ((باب ما لُفظ به مما هو مثنًّى كما لُفظ بالجمع وهو أن من يكون الشيئان كلَّ واحد منهما بعضَ شيء مفرَدٍ من صاحبه. وذلك قولك: ما أَحْسَنَ رؤُوسَهما، وأَحْسَنَ عَواليَهما. وقال عزّ وجلَّ: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا»، «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا»، فرقوا بين المثَّنى الذي هو شيءٌ على حِدةٍ وبين ذا ))(1) وكأنَّ هناك نوعين من المثنى : أحدُهما : أن يكون مَن أُشيرَ إليهم بالتثنية أحدهما بعض من الآخر أو جزء منه، والآخر : المثنى الذي لم تكن هذه العلاقة موجودةً بين أفراده. ف( حواء) بعضٌ من آدم (عليهما السلام) ويؤيده قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ

ص: 167


1- الکتاب: 3/ 259

مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ »[النحل: 72] .

أمَّا في الآية مورد البحث، فمن الممكن القول بأن (أنفسنا) يُراد بها التثنية؛ ويؤيد ذلك استعمالها بهذا المعنى في سورة (الأعراف :23 )، بالإضافة الى عدم استقامة المعني بدعوة الرسول نفسَه إلى المُباهلة، وهذا التَّبعيض في (أنفسنا) لا يعني الجزئية بقدر ما يعني الإنسجام في الرؤية والمنهج أوفي القرابة بينهما، ويؤيده ما ذكرته معاجمُ اللغة من أنَّ النفس تأتي بمعنى الأخ(1) ف( أنفسنا) تعني نفس الرسول، إلا أنَّ تخصيصها بالتثنية مع احتمال معنى الجمع يحتاج إلى قرينة أخرى .

الدلالة الأخرى: ل(أنفسنا) :

هي استعمالها بحسب الموارد التي وردتْ فيها، أي دلالتها على الجمع والمثني كما في (الأنعام 130) و(الأعراف 23 )، مع إمكانية مجيئها للمفرد كما في الآية المبحوثة، زيادةً على أنَّ دلالةَ الإفراد واضحة فيها؛ لقوله : (قُلْ) الموجَّهة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع أنَّه لا معنى لأن يدعو الإنسانُ نفسَه في المبادرة إلى المُباهلة، الدَّعوة إذن خصَّ بها شخصًا آخرَ کنفسه، وهنا تبرُز خصوصية هذا التركيب وخصوصية هذه الدلالة. وجملة (ندعُ) وإنْ كانت جواباً لشرطٍ محذوف(2) مما يجعلها في حيز المستقبل

ص: 168


1- ينظر لسان العرب : 6/ 282، وتاج العروس : 16/ 570
2- التبيان في إعراب القرآن : 1/ 217

(1) - وهو هنا زمن المتكلم (أي زمن المحاججة) لا مطلق الزمن - غير المتحقق، إلا أن مجيءَ الدعوةِ على لسان الرسول وبهذا التفصيل يفترضُ وجودَ مَنْ توافرت فيهم صفاتُ الكمال لتصديقه في دعواه الى التوحيد من النساء والأبناء والأنفس وإلا لما دعا خصومه للتباهل، ويؤيّد هذا المعنى قوله: فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ بصيغة الجمع لاسم الفاعل وإلا لكان التعبير ب(فنجعل لعنة الله على من كان كاذبا)(2) ، بمعنى أنَّه سيكون جماعة كاذبة وأخرى صادقة، ولعلَّ في ذلك إشارةً إلى قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» [التوبة : 91] التي عرضنا لها بالبحث في ما مضى من هذه الدراسة(3) . ويبدو أن صدق من تعلقت به الآية الكريمة في الدعوة إلى التباهل يتجلى بوضوح في عدم استجابة الخصم المشرك في التباهل والتلاعن ((إن فرارَهم دليلٌ على أنَّهم كاذبون وأن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) صادق))(4) ، وهوما يؤيَّده التعبير القرآني، إذْ لم يرد فيه أن هناك من استجاب لدعوة الرسول إلى التباهل فيكون الفرار من المباهلة مصداقًا لقوله: قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة : 258] .

ص: 169


1- دلالة المستقبل أضافت بعداً دلاليًا، جعلت من تحدي الحق للباطل سيظل قائمًا، وتجسد في الآية عبر دعوة الرسول إلى الملاعنة والتباهل
2- ينظر : الميزان في تفسير القرآن : 3/ 259
3- تنظر : 32 من هذه الرسالة
4- معاني القرآن وإعرابه : 1/ 423

ويخلص الباحث إلى القول بأن تفاعل المعنى المعجمي للفظة (أنفسنا) مع معناها النحوي منحها سماتٍ دلاليةً مميزة على مستوى التعبير القرآني، إذ تم التوصل إلى أن هذه اللفظة خرجت من دلالتها على المفرد المعظم نفسه لتعلقها بالفعل (ندعو) ، وكذلك خرجت اللفظة عن دلالتها على جميع المسلمين؛ لكونه لايتناسب مع الدعوة إلى التباهل لإبطال مزاعم المشركين وإثبات وحدانية الله، وهو أمرٌ يستلزم إيجاد جماعة من المؤمنين ذات بصيرة نافذةٍ في دينهم، ولذلك لم يناسب أن يُراد بها إحدى هاتين الدلالتين، وتوصل البحث إلى دلالة أخرى للفظة تميزت بها في إيرادها بميأة المركب الإضافي لإبراز هذه الدلالة، وهي أن يُراد بها شخصٌ هو من الرسول بمنزلة نفسِه، ومما عزَّز هذه الدلالة استعمال القرآن الكريم لهذه اللفظة في المثنى الذي يكون أفراده أحدهما بعضًا من الآخر وهو ما يعكس مدى العلاقة الحميمة بينهما وكأنهما شخصٌ واحد. ومن السمات الدلالية الأُخر التي أبرزتها الآية مورد البحث وجود جماعة من المؤمنين، يُفترض وجودهم في الواقع الخارجي يتمتعون بدرجة عاليةٍ من الصدق، وإلا لما تحققت الدعوة في التباهل وعوَّل عليهم الرسول في ذلك، وقد أشار إيراد لفظة (الكاذبين) في أحد طرفي المباهلة إلى أن يكون الطرف الآخر هم (الصادقين )، وهؤلاء من أعز الناس إليه من الأبناء والنساء والأنفس، كشف عن ذلك تقديمهم أمامه للتباهل ثقةً بهم وحسن ظنًّ بإيمانهم.

ص: 170

المطلب الثاني: في معنى (أولو الأمر):

قال تعالى : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا »[النساء :59] .

مهادُ التّنزيل:

ذكرت طائِفةٌ من كتُب التَّفسيرِ بأنَّ قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ نزلتْ في عليًّ (عليه السلام)؛ منها ما جاءَ في تفسير فرات الكوفيَّ؛ قال :

((حدَّثني عليُّ بنُ محمد بن عمر الزُّهري معنعنًا : عن أبي جعفرٍ عليه السلام في قول الله تعالی :

«أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» قال : نزلتْ في عليَّ بن أبي طالب عليه السلام))(1) .

وفي مناقبِ آل أبي طالب نقلاً عن تفسير مجاهد أنه قال بخصوص الآية : ((إنَّما نزلتْ في أميرِ المؤمنين عليه السلام حين خَلفه رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة فقال :

ص: 171


1- تفسير فرات الكوفي : 110

(يارسول الله أتخلفني بين النساءِ والصَّبيان؟)، فقال : (يا عليُّ أَما ترضى أنْ تكونَ مني بمنزلة هارون من موسى) حين قال له : (اخلفني في قومي وأصلح)، فقال : (بلى والله))(1) .

مسارالتحليل ويتضمن:

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية :

( أُولو ) : وهي لفظٌ مفردٌ دالٌّ على الجمعِ لا واحدَ لهُ من لفظه؛ قال الخليل: ((أُولُو وأولات : مثل : ذَوُو وذوات في المَعْنَى، ولا يُقال إلاَّ للجميع من النَّاس وما يشبهه))(2) ، وعن ابن قتيبة(ت276ه) أنَّ :

(( "أُولُو واحدها ذُو وهي وَذَوُا سواء))(3) ، وفي القاموس المحيط ((أُلون(4) ، بالضمَّ، بِمَعْنَى ذَوُو، ولا يُفْرَدُ له واحِدٌ، ولا يكونُ إِلاَّ و مُضافاً، كأَنَّ واحِدَهُ أُلٌ، مُخفَّفةً، ألا تَرى أنَّه في الرَّفع واوٌ، وفي

ص: 172


1- مناقب آل أبي طالب : 3/ 16، ينظر : تفسير العيَّاشي : 1/ 278، وشواهد التنزيل : 1/ 148، والتبيان في تفسير القرآن : 4/ 503، ومجمع البيان : 3/ 133، والبحر المحيط : 3/ 290 ، و ينابيع المودة : 1/ 341، وتفسير الثقلين : 2/ 86
2- العين (أولو ) : 8/ 370
3- أدب الكاتب : 1/ 219
4- ذكر محقق القاموس الطاهر أحمد الراوي : بأن (ألون) وردت في بعض النسخ (ألو) وهو الموافق لما يأتي له في الواو

النَّصبِ والجَرَّ یاءٌ))(1) ، وكونُها في معنى (أصحاب) أو (صاحب) فهي في حكمِ النَّكرة .

(الأمرُ) له معانٍ عدَّة ؛ إمَّا أنْ يُرادُ به ضد النَّهي أو بمعنى الشَّأن الشَّامل لكل قولٍ وفعل، قال ابنُ فارس(ت395ه) :(( الأمرُ من الأمور، والأمرُ ضدّ النهي، والأَمَرُ النَّماء والبَرَكةُ بفتح الميم، والمَعْلَم، والعَجَب؛ فأمّا الواحدُ من الأُمور فقولهم هذا أمرٌ رَضِيُتُه، وأمرٌ لا أَرضاه. وفي المثل : "أمْرٌ مَا أتَى بك". ومن ذلك في المثل : "لأمْرٍ ما يُسوَّد من يَسُودُ"لعل أقدم من استعمل هذا المثل في شعره أنس بن مدركة الخثعمي، قال : عزمت على إقامة ذي صباح لأمر ما يسود من يسود ومعنى المثل من خلال هذا البيت ((إِنّ الذي يُسوَّده قَومُه لا یُسوَّدُ إِلاّ لشيْءٍ من الخِصَالِ الجَمِيلةِ والأُمورِ المحمودةِ رآهَا قَومُه فيه فسَوَّدُوه من أَجْلها)) تاج العروس : 6/ 530 . والأمرُ الذي هو نقيضُ النَّهْي قولُك إفعَلْ كذا . قال الأصمعيُّ : يُقال : لي عليكَ أمْرَةٌ مطاعَةٌ، أي لي عليكَ أنْ آمُرَكَ مرّةً واحدةً فتُطِيعَني... ومن هذا الباب الإمْرَةُ والإمارةُ، وصاحبُها أميرٌ ومؤمَّر. قال ابن الأعرابيّ : أمَّرتُ فلاناً أي جعلتُه أميراً، وأَمَرْتُه وآمرتُه كلُّهن بمعنىً واحد، قال ابنُ الأعرابيّ : أمر فلانٌ على قومه، إذا صار أميراً.))(2) ، وبهذا المعنى فإنَّ مَنْ أُسند إليه (الأمر) أو صدر عنه ينبغي أن يكون مُطاعاً فيما يأمرُ به.

ص: 173


1- القاموس المحيط (ألون ) : 1/ 173 ، وينظر : لسان العرب (أول ) : 11/ 32
2- مقاییس اللغة (أمر): 1/ 137- 138

قال الراغب الأصفهاني : ((الأمرُ : الشَّأنُ، وجمعهُ أُمور، ومصدرُ أمرتُه : إذا كلَّفتُه أنْ يفعلَ شيئًا، وهو لفظٌ عام للأفعالِ والأقوالِ كلَّها... والأمرُ : التَّقدمُ بالشيءِ سواءً كان ذلك بقولهم : إفعلْ وليفعلْ، أو كان ذلك بلفظ خبر ... وقيل : أَمِرَ القومُ : كثِرُوا، وذلك لأنَّ القومَ إذا كثِرُوا صاروا ذا أميرٍ من حيث إنهم لابُدَّ لهم من سائسٍ يسوسهم))(1) ، والمعنى الأخير مرتبطٌ بالثاني، باعتبار أن مَنْ يتقدمهم من أميرٍ ونحوه إنما يتقدمهم بما يأمرهم به فيطيعوه .

2- التوجيهات النحوية للفظة (أولوالأمر) وما تعلق بها:

( أولو الأمر) :

(أولو) في الآيةِ الكريمةِ في موقع المعطوف على المفعول به وهو مُضاف، ويعتمدُ إيضاحُه وتعريفُه على ما أُضيف إليه وهو الأمر)؛ قال ابن مالك (ت 672ه) في شرح التسهيل : ((الثاني مؤثرٌ في الأول ، نزعُ دليلِ الانفصال مع التخصيص إنْ كان الثَّاني نكرةً، ومع التعريف إنْ كان معرفةً))(2) ، والثاني هو المضاف إليه الذي يُكسبُ المضافَ درجةً من الخصوصيّةِ والتعريف، وعليه فإنَّ معنى (الأمر) أن يكون خاصَّا أو عامَّا من شأنه أن يُعرف المراد ب( الأمر) .

ص: 174


1- مفردات ألفاظ القرآن (أمر) : 88- 89
2- تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد : 3/ 102

( دلالة العطف بالواو):

العطفُ بالواو يقتضي الإشراك في الحكم، قال ابن السراج(ت316ه) و في معنى عطف النسق :((حروفُ العطفِ عشرةُ أحرُف يُتبِعنَ ما بعدهُن ما قبلهُن من الأسماء والأفعال في إعرابها؛ الأول : الواو ومعناها إشراك الث-اني فيما دخل فيه الأول وليس فيها دليلٌ على أيَّهما كان الأول))(1) وتقييد مشاركة عطف النسق للمعطوف عليه في الإعراب، بحصوله بواسطة حرف، احترازٌ عن بقية التوابع(2) .

و(أولو الأمر) معطوفةٌ على (الرَّسول) وهو مفعول ل( أطيعوا) والتقدير : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر منكم، ولما كان الأمر بطاعة الرسول لازمة كذلك هو الحال فيها بالنسبة إلى (أولي الأمر )، فهي أيضًا طاعةٌ لازمةٌ لهم، بمعنى أطيعوهم في كلَّ ما يأمرون به أو ينظرون فيه من مسائلٍ يستنبطونها، مما يجعل الألف واللام في (الأمر) تفيد الجنس أي كل الأمور .

ولمَّا كانت (أل) الداخلةُ على لفظةِ (الرسول) دالةً على العهد؛ فالأمرُ إذن بالإطاعةِ محددٌ كما هو محدد في (أطيعوا الله )، ما يعني أنَّه محددٌ أيضاً مع و (أولي الأمر) ولاسيِّما قد اتُّبِعوُا بالتعبير ب(منكم) الدالة على البيان.

ص: 175


1- الأصول في النحو : 2/ 55
2- ينظر : شرح المفصل : 3/ 74

وللواوِ العاطفةِ في قولِه (وأولي الأمر) معنىً آخر وهو دلالتُها على الجمع؛ قال ابن جنَّيّ (ت 392ه) : ((واعلْم أنَّ هذهِ الواوَ إذا كانتْ عاطفةً فإنَّها دالةٌ على شيئينِ : أحدُهما الجمعُ والآخرُ العطفُ، إلاَّ أنَّ دلالتَها على الجمعِ أعمُّ فيها من دلالتِها على العطفِ ))(1) ، وقد أوضحَ الرضيُّ بأنَّ الجمع هو اشتراكُ المعطوفِ والمعطوفِ عليه في حصولِ الفعلِ منهُما؛ قال : ((قولُه : " للجمع"؛ مرادُ النُّحاةِ بالجمعِ ههنا : ألاَّ تكون لأحدِ الشيئينِ أو الأشياءِ، كما كانت (أو) و(إما)، وليس المرادُ : اجتماع المعطوفِ والمعطوفِ عليه في الفعل في زمانٍ أو في مكان، فقولك : جاءني زيدٌ وعمرو، أو : فعمرو، أو : ثم عمرو، أي حصل الفعل من كليهما، بخلاف : جاءني زيد أو عمرو، أي حصل الفعل من أحدهما دون الآخر))(2) ف( أولي الأمر) يشتركون في وجوب إطاعتهم طاعةً مطلقة مع الرسول وليس في زمان أو مكان دون آخر، وهو ما يُبرز خصوصية المعني ب( أولي الأمر) .

3- الدلالة القرآنية للفظة (أولو الأمر) ومصاحباتها :

( الأمر):

يتجه البحث نحو تحديد ملامح (أولو الأمر) وسماتهم من خلال بيان المراد بلفظة (الأمر) وذلك باعتبارها مركبًا إضافيًا .

ص: 176


1- سر صناعة الإعراب : 2/ 183
2- شرح الرضي على الكافية : 4/ 382

ولئن كان اقتران (أولو الأمر) بالفعل (أطیعوا) يُرجِّح معنى الإمرةِ فيهم بمعنى أنهم أمراء؛ لما فيه من لزوم الطاعة من جهة المأمور للأمير فيما يأمر به، إلا أن التعبير القرآني في قوله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا »[النساء :83] يجعل الأمر بمعنى (الشأن) مُرادًا أيضًا؛ باعتبار أنَّ إسناد الفعل (عَلِمه) إلى أولي الأمر) يجعلُهم في مقامِ العلماء الذين ينظرون في شؤونِ الناسِ ومصالحِهم، ولا مانع يمنع من اجتماع المعنيين فيهم أي الإمرة والعلم، قال ابن عاشور(ت 1393 ه) :(( الأمرُ هو الشأن، أي ما يُهتمّ به من الأحوال والشؤون، فأولو الأمر من الأمّة ومن القوم هم الذين يسند الناسُ إليهم تدبير شؤونهم ويعتمدون في ذلك عليهم، فيصير الأمر كأنّه من خصائصهم، فلذلك يقال لهم : ذَوو الأمر وأولو الأمر، ويقال في ضدّ ذلك : ليس له من الأمر شيء. ولمّا أمر الله بطاعة أولي الأمر علمنا أن أولي الأمر في نظر الشريعة طائفة معيّنة، وهم قدوة الأمّة وأمناؤها))(1) .

ويشير التعبير القرآني إلى أن الأمر الذي ترجع إليه كل الأمور إنما هو الأمر الإلهي وهو يتنزله بعلمه؛ قال تعالى : «وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ » [هود

ص: 177


1- التحریر و التنویر: 4/ 165- 166

: 123] و وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا »[الرعد :31] وأيضاً «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا »[الطلاق :12] فالمراد بالأمر هو الأمر الإلهي المصاحب لما يدلُّ على الكليّة والعموم؛ ويرجِّح هذا المعنى أنه لمَّا كانت طاعة أولي الأمر مطلقة بغير قيد، من شؤون الحرب أو الجهاد أو الحكم أو الخير والحكم بالحق وغيرها، لزم ذلك أن تكون طاعتهم هي طاعة الله تعالى، فهم إذن لايصدرون فيما يأمرون به عن خطأ أو معصية، وهو ما أشار إليه الفخ-ر الرازي(ت606ه) في تفسيره ؛ قال : ((إن الله تعالى أمر بطاعة أولى الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بد وأن يكون معصوماً عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ، والخطأ لكونه خطأ منهياً عنه، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، وانه محال، فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت أن كلَّ من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوما عن الخطأ، فثبت قطعاً أن أولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بد وأن يكون معصوماً ))(1) ولما كانوا (أولي الأمر)

ص: 178


1- مفاتيح الغيب : 5/ 248

معصومين، فهم لا يأمرون إلا بما أمرهم الله ولا يخرجون عنه، فلذلك كان الأمر في الآية الكريمة هو الأمر الإلهي، وفي ضوئه تتحدد صفةَ أصحابِ الأمر. ويؤيد هذه العصمة فيهم أن الأمر بالطاعة المطلقة لم يرد في الاستعمال القرآني(1) إلّا على لسان الأنبياء؛ وقد صرَّح هارون (عليه السلام) بطاعة أمره طاعةً مطلقة.

قال تعالى : وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي» [طه :90] ومن ذلك أيضا قوله تعالى : «وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ»[الزخرف :13] وأيضاً قوله تعالى: «و أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ»[النوح 30] وقد تكرر قوله تعالی «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ في سورة الشعراء ثماني مرات(2) ، فلم يؤمر بالطاعة المطلقة إلاّ في خصوص الأنبياء وهو ما يشترك فيه أولو الأمر فيكونوا في منزلتهم وهو ما يلمح إلى خصوصيتهم، وهو أمرٌ يُستبعد معه أن تكون الألف واللام للجنس في لفظة (الأمر).

ص: 179


1- ينظر : المعجم المفهرس : 546
2- تنظر الآيات القرآنية من سورة الشعراء : . 110 ،108 ، 126 ،131 ،144 ،163، 150 ،179 : آل عمران: 50

(الفعل أطيعوا) :

كان لاستعمال هذا الفعل في الآية مورد البحث أثرٌ واضحٌ في إبراز المراد ب( أولو الأمر)؛ باعتبار إيراده بصيغة الأمر المطلق الدال على الوجوب(1) ، ولا سيَّما اقترانه بالواو العاطفة وما فيها من معنى الجمع والمشاركة في هذا الوجوب، وأكد التعبير القرآني صورة الجمع بينهما من هذه الجهة بأن لم يكرر الفعل (أطيعوا )، إلا أنه تكرر عند عطف (رسوله) على لفظ الجلالة فقال : وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ، وقد ذكر بعض المفسرين بأن هذا التكرار للإشارة إلى المغايرة بينهما في مصادیق الطاعة؛ قال الطبرسي (ت460ه) : ((و إنما أفرد الأمر بطاعة الرسول وإن كانت طاعته مقترنة بطاعة الله مبالغة في البيان وقطعا لتوهم من توهم أنه لا يجب لزوم ما ليس في القرآن من الأوامر))(2) ويعني ب( ما ليس في القرآن من أوامر) تلك الأوامر التي تصدر عن الرسول فعلاً وكلامًا .

قطاعة الرسول واجبة في ما يبلغه من آياتٍ قرآنية أو أحاديثٍ شريفة أو سيرةٍ مباركة وهذا التكرار بإعادة (( الفعل وإن كانت طاعة الرسول مقترنة بطاعة الله تعالی؛ اعتناءً بشأنه عليه الصلاة والسلام وقطعاً لتوهم أنه لا يجب امتثال ما ليس في القرآن))(3) ، وكأن التعبير بهذا الأُسلوب للإشارة إلى وظيفة

ص: 180


1- ينظر : الكليات : القسم الأول : 295
2- مجمع البيان : 3/ 132
3- روح المعاني : 5/ 96 ، وينظر : التحرير والتنوير : 4/ 165

تبليغ الأحكام التي يقوم بها الرسول ويشركه فيها أولو الأمر، ولعلَّ في عدم تكرار الفعل (أطيعوا) كما هو الحال بالنسبة للفظ الجلالة لإبراز هذا المشترك بين الرسول وأولي الأمر في تبليغ الأحكام .

ويؤيد ذلك أنه لم يأت بذكر (أولي الأمر) في وجوب الرد إليهم عند التنازع؛ فقال : فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ واكتفى بذكر (الرسول) وكأن ذكره أغنى عن إعادة ذكر (أولي الأمر) دفعاً للتكرار ولتأكيد المشترك بينهما، وقد جمع بينهما في قوله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ فلم يذكر (أولي الأمر) إلاّ واقترنت ب( رسوله) من دون تكرار الفعل وهو ما يؤكد جهة الجمع بينهما.

ويكشف لنا التعبير القرآني عن هذا المشترك؛ فالأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مقترنة بطاعة الله عز وجل وردت في عدّةٍ من الآيات القرآنية، وقد تكرر الفعل (أطيعوا) في بعض الآيات ولم يتكرر في بعضها الآخر، قال تعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» [الأنفال: 1] و: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ» [الأنفال :20] و: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» [الأنفال:46] و: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا

ص: 181

بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» [المجادلة : 13]

أما الآيات التي تكرر فيها الفعل (أطیعوا) فقد ورد في أكثرها مقترنًا بلفظة (البلاغ المبين)؛ قال تعالى : «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ »[المائدة :92] و : قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ»[النور: 54] و : «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ »[التغابن :12] والآية مورد البحث تكرر فيها الفعل (أطيعوا )، وقد ورد فيها (أولي الأمر) مقترناً مع (رسوله).

(أولو الأمر):

وردت هذه اللفظة في موردين أحدهما الآية مورد البحث(1) ، وقد أفرز ما شغلته من موقع وعلاقة ببقية الألفاظ ما سلف ذكره وخلاصته إشراك (أولو الأمر) في وجوب الطاعة المشتركة لهم مع الرسول مُتبعةً طاعة الله، والمورد آخر قوله تعالى: «وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا »[النساء :83]

ص: 182


1- وينظر : المعجم المفهرس : 98

الأمر هنا في الأمن والخوف وهو يشير إلى أن مهمة أولي الأمر التصدي للإمور العامة للمسلمين التي فيها استقرار المجتمع والحفاظ عليه، كذلك يُوحي جؤُّ الآية بأن ما يستجد من أمرٍ من الأمور لرسول الله ولأُولي الأمر يكون النظرُ في اتخاذ ما يلزم بشأنه؛ وذلك بدلالة (إذا) على الشرط فيما يُستقبل، قال الرضي ((والأصلُ في استعمال (إذا )، أن تكون لزمان من أزمنة المستقبل مختصٌ من بينها بوقوع حدث فيه مقطوع به))(1) وفي هذا ما يؤيد عمق العلاقة المشتركة بين الرسول وأولي الأمر، كذلك تلمح هذه الآية إلى سمة العلم في (أولو الأمر) تكشف عنها قرينة الفعل (ردوه) وإسناد الفعل (علمه) إليهم .

ومما تقدم أبرز البحث دلالة لفظة (أولو الأمر) على فئة مخصوصة، وذلك بلحاظ السياق الذي وردت فيه باعتبار عطفها على لفظة (الرسول) المتعلق بالفعل (أطیعوا )، وهو ما انفردت به اللفظة على مستوى التعبير القرآني، وهو أمرٌ يكشف عن طاعتهم طاعة مطلقة في كل ما يأمرون به، وهو ما يشير إلى عصمتهم وإلا لما كان التعبير بالإطلاق في وجوب طاعتهم، وقد جاء السياق القرآني مؤيِّدا لاختصاص الطاعة المطلقة في الأمر بشأن الأنبياء وهو ما يلمح إلى منزلة (أولو الأمر)، وأبرز هذا المنزلة اقتران اللفظة مع لفظة الرسول في موارد استعمالها .

ص: 183


1- شرح الرضي على الكافية : 3/ 185

ومن السِّمات الدلالية التي أبرزها السياق القرآني بشأن استعمال اللفظة دلالتها على طبقة مُميَّزة من العلماء إليهم ترجع إليهم الأمة في ما يتنازعون فيه، الأمر الذي مكَّنهم من النظر في شؤونها وما يعترض أحوالهم من ظروفٍ وملابسات.

المطلب الثالث: في معنى (أهل البيت) :

قال تعالى : وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا »[الأحزاب: 33] .

مهادُ التّنزيل:

وردت رواياتٌ كثيرة في أنَّ الإمام علي (عليه السلام) هو أحدُ أفراد أهل البيت في الآية مورد البحث، ولذلك فإن مسار البحث يتوجه لتحديد المعنى النحوي الدلالي لهذه اللفظة، ومن تلك الروايات ما ذكره الجِبَري (ت 286ه) في تفسيره قال :

((حدثنا سعید بن عثمان، قال : حدثني أبو مريم، قال : حدثنا داود بن أبي عوف، قال : حدثني شهر بن حوشب، قال : أتيتُ أمَّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأُسلم عليها، فقلتُ لها : رأيتِ هذه الآية، ياأُمَّ المؤمنين إِنَّمَا يرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرَّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهَّرَكُمْ تَطْهِيرًا

ص: 184

قالت : نزلتْ وأنا ورسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم على منامةٍ لنا تحتنا کساءٌ خيبري، فجاءت فاطمةُ ومعها حسنٌ وحسين، وفخارٌ فيه حريرة فقال : أين ابن عمك؟ قالت : في البيت.

قال فاذهبی فادعيه . قالت : فدعته فأخذ الكساء من تحتنا فعطفه فأخذ جميعه بيده فقال : هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. وأنا جالسةٌ خلف رسول الله صلى الله عليه وآله فقلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي فأنا؟ قال : إنك على خير))(1) . وكذلك ما أخرجه ابن جریر الطبري (ت 310ه) في تفسيره ؛ قال : ((حدثني محمد بن المثنى، قال : ثنا بكر بن يحيى بن زبان العنزي، قال : ثنا مندل، عن الأعمش، عن عطية، عن أَبي سعيد الخدري، قال : قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : "نزلَت هَذِهِ الآيَةُ في خَمْسَةٍ : فِيَّ وَفِي عَلِيًّ رَضِيَ الله عَنْهُ وَحَسَنٍ رَضِيَ الله عَنْهُ وَحُسَيْنٍ رَضِيَ الله عَنْهُ وَفَاطِمَةَ رَضِيَ الله عَنِهَا : نَّمَا يَرِيدُ الله لِيُّذْهِبَ عَنْكُمُ الرَّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهَّرَكُمْ تَطْهِيرًا ))(2) .

ص: 185


1- تفسير الحبري : 299، ينظر : تفسير فرات الكوفي : 377 وما بعدها، وتفسير القمي :2/ 168 ، والتبيان : 9/ 600، وينابيع المودة : 1/ 321 ، وفتح القدير : 2/ 413، ونور الثقلين : 2/ 430 ، و تفسير الصافي : 4/ 187 ، والأمثل : 13/ 157
2- جامع البيان في تأويل آي القرآن : 22/ 10 ، ينظر : شواهد التنزيل: 2/ 11 - 92، وأسباب النزول للواحدي : 267، وأحکام القرآن : 3/ 571 ، والدر المنثور : 22/ 604، والجامع لأحكام القرآن :2/ 2479 ، وتفسير القرآن العظيم : 3/ 452 ، والتسهيل العلوم التنزيل للكلبي : 2/ 189 ، وغيرها

مسار التحليل ويتضمن:

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية :

( أهل):

عرضتِ المعاجمُ العربيةُ إلى معنى لفظةِ (أهل) بحسَب ما أُضيفتْ إليه من (رجل) و( بیت) و( الإسلام)، والذي يعني البحث هو معناها باعتبار إضافتها إلى (البيت )، وقد ذكر أرباب المعاجم أنَّ أهلَ البيتِ سُكَّانُه ؛ قال الخليل : ((أَهْلُ الرَّجل : زوجه، وأخصُّ النَّاسِ به. والتَّأَهُّل : التَّزوُّج. وأهلُ البيت : سكَّانُه، وأهلُ الإسلام : من يدين به))(1)

(أهل): 1/ 150

و((أهل الرجل أخص الناس به. وقيل أهل البيت سكانه، وأهل الإسلام من يدين به))(2) و(( أَهْلُ الرَّجُلِ امرأَتُهُ وولَدُهُ والَّذِينَ فِي عِيَالِهِ وَنَفَقَتِه وكَذَا کُلُّ أَخٍ وأُخْتٍ أَو عَمًّ أَو ابنِ عَمًّ أَوْ صَبِيًّ أَجْنَبِيًّ يَقُوتُهُ فِي مَنْزِلِه ... وقِيلَ الأَهْلُ المُختَصُّ بِشَيءٍ اخْتِصَاصَ القَرَابَةِ وَقِيلَ خَاصَّةُ الشَّيْءِ الَّذِي يُنْسَبُ إلَيْهِ ویَکُنَی بِهِ عَنْ الزَّوْجَةِ))(3) .

ص: 186


1- العين (أهل): 4/ 89 ، ينظر : تهذيب اللغة (أهل) : 6/ 220 ، مقاییس اللغة (أهل): 1/ 150
2- المحيط في اللغة ( أهل ): 4/ 63
3- المغرب في ترتيب المعرب (أ ه ل): 33، ينظر : لسان العرب (أهل ): 11/ 34

(البيت):

أمَّا لفظةُ (البيت) فيُرادُ بها المَسكنُ المُشتَمِلُ على أهله، قال ابن فارس : ((بيت الباءُ والياءُ والتاءُ أصلٌ واحد، وهو المأْوَى والمَاب ومَجْمَعُ الشّمْل.

يُقال بيتٌ وبُيوتٌ وأبياتٌ. ومنه يُقال لبيت الشَّعر بيتٌ على التَّشبيه لأنَّه مَجْمَعُ الألفاظِ والحرُوفِ والمَعاني))(1) .

ويبدو أنَّ هذه اللفظةَ تُطلَقُ ويُراد بها المَأوى الذي يجتمعُ فيه الأهلُ، ومنه سُمَّيَ بيتُ الشعر بيتًا، جاء في لسان العرب ((والبَيْتُ من الشَّعْرِ مشتقٌّ من بَيْت الخِباء وهو يقعُ على الصغيرِ والكبير کالرَّجْزِ والطَّويلِ وذلك لأَنَّه يَضُمُّ الكلامَ كما يَضُمُّ البيتُ أَهلَه))(2) و((البيتُ واحدُ البيوتِ التي تُسكَن))(3) .

( الرَّجس):

تدور معاني هذه اللفظة حول القذارة؛ قال الخليل : ((كلُّ شيءٍ يُسْتَقْذَر فهو رِجْسٌ کالخِنْزيز، وقد رَجُسَ الرجلُ رَجاسةً من القَذَرِ، وإنَّه لرِجْسٌ مَرْجُوسٌ.))(4) وهي ((في اللغة كلُّ مستنكرٍ مستقذر من مأكول أو عملٍ أو فاحشة ))(5) وفي القاموس المحيط هي أيضا ((المَأْثَمُ، وكلُّ ما استْقُذِرَ

ص: 187


1- مقاییس اللغة (بيت): 1/ 342
2- لسان العرب (بیت ) : 2/ 15
3- مجمع البحرین (بيت ) : 2/ 193
4- العين (رجس) : 6/ 52
5- معاني القرآن وإعرابه : للزجاج : 4/ 226

اسْتُقْذِرَ من العَمَلِ، والعَمَلُ المُؤدَّي إلى العذَابِ، والشَّكُّ، والعِقَابُ، والغَضَبُ. ورَجِسَ، کفرِحَ وكَرُمَ، رَجاسَة : عَمِلَ عَمَلاً قبيحاً.))(1) ويبدو أنَّ إيرادَها في سياقِ (التَّطُهر) يناسبُ أنْ يكونَ معناها ما تستقذرُه النفسُ من النَّجاسةِ بأنواعِها المعنوية والمادية ويؤيد ذلك إيرادها مطلقةً مِما يقيدها .

2- التوجهات النحوية للفظة المبحوثة وما تعلَّق بها:

(أهل البيت) :

عرض بعض اللغويين إلى الوظيفة النحوية التي تشغلها هذه اللفظة ؛ ومنهم ابن سيده (ت 458ه) إذ ذكر بأنهما في موقع المنادي المنصوب أو أنها نُصبت على المدح من دونِ أن يذكر إعرابها على الاختصاص(2) ، ويبدو أنَّ إغفالَ هذا الوجه باعتبارِ أنَّ الضميرَ في (عنكم) للخطاب، وهو ما حملَ ابنَ هشام (ت 761ه) على تضعيف القول بالاختصاص في الآية بقوله : ((قول بعضهم في (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) إن أهل منصوب على الاختصاص وهذا ضعيف لوقوعه بعد ضمير الخطاب مثل بك الله نرجو الفضل وإنما الأكثر أن يقع بعد ضمير التكلم كالحديث (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) والصواب أنه منادی))(3) .

ص: 188


1- القاموس المحيط (رجس): 2/ 307
2- ينظر : المحكم والمحيط الأعظم: 2/ 355
3- مغني اللبيب : 2/ 207

والراجح لدى الباحثِ النصبُ على الاختصاص من دون النداء ، وقول ابن هشام (الأكثر) يؤيد جواز وقوعه منادی، وذكرَ سيبويه جوازَ وقوعِه في المخاطب نقلاً عن الخليل وأنَّه يقعُ كثيرًا في ألفاظٍ منها (أهل البيت)؛ قال : ((هذا بابٌ من الاختصاص يجري على ما جرى عليه النداء فيجيءُ لفظُه على موضع النداء نصبًا لأنَّ موضع النداء نصبٌ، ولا تَجري الأسماءُ فيه مجراها في النداء، لأنهم لم يُجروها على حروف النداء، ولكنهم أجروها على ما حمل عليه النداء ... وزعم الخليل رحمه الله أنَّ قولهم : بكَ اللهَ نرجو الفَضْلَ، وسُبحانَك اللهَ العظيمَ، نَصْبُه كنصب ما قبله، وفيه معنى التعظيم ... وأكثرُ الأسماءُ دخولاً في هذا الباب بنو فُلان، ومَعْشَر مُضافةً، وأهلُ البيت، وآل فلان))(1) ، وأنَّ ابنَ هشام وإنْ ضعَّف الاختصاص إلا أنَّه جوزه على قلته مُستشهداً بمثال الخليل السابق(2) وهو ما أشار إليه الرضي قال :((وقد يأتي الاختصاصُ باللاَّم أو الإضافةِ بعد ضمير المخاطب، نحو سبحانك اللهَ العظيم، وبك أهلَ الرحمة أتوسل ))(3) .

والاختصاص وإنْ كان فرعَ الّنِداء باعتبار المعنيَّ به أيضًا(( مختصٌ بالخطاب من بين أمثاله))(4) ، إلا أن له وظيفةً أخرى لايؤديها المنادى، وهي

ص: 189


1- الكتاب : 2/ 233- 236
2- ينظر : مغني اللبيب : 2/ 207
3- شرح الرضي : 1/ 433 ، ينظر : التبيان في إعراب القرآن : 2/ 321
4- شرح الرضي : 1/ 431

تفسيرُه للضمير المُبهم، فالقول بالنصب على النداء يؤدي إلى الإمام في الضمير (عنكم) لعدم بيان مرجعه؛ قال سيبويه : ((واعلم أنه لا يجوز لك أن تُبهم في هذا الباب فتقول : إني هذا أفعلُ كذا وكذا، ولكن تقول : إني زيداً أفعلُ. ولا يجوز أن تذكر إلا اسماً معروفاً؛ لأن الأسماء إنما تُذكرها توكيداً وتوضیحاً هنا للمضمَر وتذكيراً وإذا أبهمتَ فقد جئت بما هو أشكلُ من المضمَر))(1) وكيفُ يُعظمُ أو يُمدحُ من يردُ مُبهمًا ؟ فالنَّداءُ لا يوضَّح المُضمر كما يوضحُه الاختصاص، فلابد منه لرفع هذا الإبهام،

وعليه يمكن طرح النداء من الترجيح على اعتبار أنَّ وظيفة النداء تنبيه المنادى للإقبال على المتكلم، والآية ليست بهذا الصدد كما هو واضح؛ إذ المخاطب هم المسلمون، فلا مجال للقول أن ( أهلَ البيت) منصوبة على النداء ولكن يصح ذلك في مخاطبة الملائكة لزوجة نبي الله إبراهيم (عليهما السلام) عندما جاء على لسانها : قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» [هود: 72- 73] إذ يصحُّ أن يُتصور لها النداء (يا أهل البيت) لأن المخاطب هو المعنيّ . ويُراد بالنصبِ على الاختصاص تقديرُ فعلٍ معناه : أعني أهلَ البيت(2) والاختصاص بمفهومه العام هو ((كل مركب من خاص وعام فله جهتان قد يقصد من جهة عمومه وقد يقصد من جهة خصوصه فالقصد من

ص: 190


1- الكتاب : 2/ 236
2- ينظر معاني القرآن وإعرابه : 4/ 226

جهة الخصوص هو الاختصاص ))(1) ، فخصوصية (أهل البيت) باعتبار المضاف إليه (البيت )، أي أهلٌ يجتمعون في بيتٍ واحد، وهو ما يجعل اللام فيها للعهد .

(دلالةُ" إنَّما"):

أفادَ التعبيرُ ب( إنما المعني بما ينسجمُ مع القول بالاختصاص وذلك من جهتين :

الجهة الأولى : الحصرُ : وهو يقتربُ في معناه من الاختصاص إن لم يكن مطابقاً له؛ لأن الحصر يفيد الاختصاص؛(2) فحينما يقول المتكلم : (نحن معاشر الأنبياء لانورث) فهو يريد معنى أخصُّ الأنبياء في هذه الخصوصية من دونِ غيرهم ويحصرها بمم، ودلالة الحصر في (إنّما) إما لتضمنها معنى النفي والاستثناء أو لكوها بمثابة اجتماع مؤكدين في كلمةٍ واحدة؛ قال الأزهري (ت 370ه) :(( قال النحويون : " إنما " أصلها : ما، مَنعت " إنّ" من العمل. ومعنى " إنما " إثباتٌ لما يُذكر بعدها ونَفْيٌ لما سواه ))(3) . ومعناها ((أنَّها تفيدُ في الكلامِ بعدها إيجابَ الفعلِ لشيءٍ ونفيِه عن غيرِه، فإذا قلت : إنَّما جاءني زيدٌ: عقلَ منه أنَّك أردت أن تنفيَ أن يكون الجائي غيره))(4) .

وأشار الرضي إلى أن معناها الحصر وما خرج عن ذلك فهو للتأكيد قال :

ص: 191


1- الكليات : القسم الأول : 76
2- الكليات : القسم الأول : 76
3- تهذيب اللغة : 15/ 384
4- دلائل الإعجاز : 257

((المشهور عند النحاة والأصوليين أن معنى : إنما ضرب زید عمرًا : ما ضرب زيد إلا عمرا، فان قدمت المفعول على هذا، انعكس الحصر، كما ذكرنا في : ما ضرب زيد إلا عمرا، وقد خالفَ بعضُ الأُصوليين في إفادته الحصر، استدلالاً بنحو قوله صلى الله عليه وسلم : " إنما الأعمالُ بالنيات "، و" إنما الولاءُ للمعتق". وأُجيبَ بأن المرادَ في الخبرينِ : التأكيد، فكأنه ليس عملٌ إلا بالنية، وليس الولاءُ إلا بالعتق، كقوله صلى الله عليه وسلم : " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد "))(1) .

وبهذا المعنى فإن معنى الحصر في الآية الكريمة بكونه في أمرين :

إحدهما : لايريد الله ليذهبَ الرجس إلاّ عن أهل البيت والآخر :- بحسب دلالة الواو العاطفة - لا يريد الله أن يطهر إلا أهل البيت تطهيرا .

أمَّا بالنسبة للحصر الأول : فهو من قصر الصفة على الموصوف، بمعنى قصر صفة إذهاب الرجس على أهل البيت؛ وهو قصر إفراد لدفع توهم أن هناك من يشترك مع أهل البيت في هذه الصفة(2) ، ومنشؤ التوهم العموم في كلمة أهل والحديث عن نساء النبي والضمير (عنكم) الذي قد يوحي باشتراكهن في هذه الصفة فجيء بالحصر لدفع التوهم في إشراك غير أهل البيت .

ص: 192


1- شرح الرضي : 1/ 195
2- ينظر مفتاح العلوم : 402 ، والإتقان في علوم القرآن : 598

الجهة الثانية : وهو دلالة (انَّما) على إبرازِ الحال المُثبتَة ونفي سواها وإظهارِ ذلك على أكمل وجه، وهو ما تميَّزت به عن التعبير ب(لا) النافية؛ قال عبد القاهر الجرجاني) : ((إعلمْ أنَّها تفيدُ في الكلامِ بعدها إيجابَ الفعلِ الشيءٍ ونفيه عن غيره. فإذا قلت : إنما جاءني زيدٌ، عقل منه أنك أردتَ أن تنفي أن يكونَ الجائي غيره. فمعنى الكلام معها شبيةٌ المعنى في قولك : جاءني زيدٌ لا عمرو، إلاَّ أنَّ لها مزيةٌ، وهي أنَّك تعقلُ معها إيجابَ الفعلِ لشيءٍ ونفيِه عن غيره دفعة واحدة، وفي حالٍ واحدة. وليس كذلك الأمر في : جاءني زيد لا عمرو. فإنك تعقلهما في حالين. ومزية ثانية وهي أنها تجعل الأمر ظاهراً في أن الجائي زيد، ولا يكون هذا الظهور إذا جعلت الكلام بلا فقلت : جاءني زيد لا عمرو.))(1) .

المفعول المطلق (تطهيرًا) :

ورد المفعول المطلق في الآية الكريمة متعلقًا بالفعل المضارع (يطهركم) مشتقًا من لفظه، معطوفًا على الفعل (يُذهب) الواقع في سياق الحصر ب( إنَّما)، وهناك إرادتان منه سبحانه تتوجه إلى أهل البيت) على سبيل الحصر؛ وهي إذهاب الرجس عنهم والطهارة المطلقة من قيد الزمان والمكان، والمعنى : أنه سبحانه لا يريد أن يطهر إلا أهلَ البيتِ تطهيرًا ، وهو أيضاً من قصر صفة التطهير على أهل البيت ونفيه عن غيرهم ، والمقصود بالطهارة هنا الطهارة

ص: 193


1- دلائل الإعجاز : 258

المطلقة من قيد الزمان والمكان أو ارتباطها بظرفٍ محدد، وذلك باعتبار دلالة المفعول المطلق على الحدث المجرد عن الزمان ف(( المفعول المطلق ما يقع عليه اسم المفعول بلا قيد ))(1) ، فهي طهارةٌ مطلقة من كلَّ ما يشوبها .

3- الدلالة القرآنية للفظة ( أهل البيت) ومصاحباتها :

(أهل البيت) :

استُعملت كلمةُ (أهل) في القرآن الكريم وأُريدَ بها الابن والزوجة والأخ والأقارب كما يظهر في الآيات القرآنية؛ قال تعالى : وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي » [طه: 29- 30] و «وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» [يوسف: 25] و «وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ» [العنكبوت : 32].

وزاد القرآن سمةً أخرى للفظة (أهل) بأن انحراف الشخص عن الطريق السويّ يخرجه عن معاني القرابة التي ذُكرت آنفاً، فهو تقييد لها، وتتضح هذا السِّمة في قوله تعالى: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ

ص: 194


1- مغني اللبيب : 2/ 317

أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ» [هود: 45- 46] فصحَّح سبحانه لنوحٍ (عليه السلام) ما قال، فلفظة (أهل) تصلح لكل هذه المعاني، إلا أن إيرادها مضافة إلى (البيت) في الآية الكريمة يقلل من شيوعها ويجعلها في دائرة التعريف، فهي مُعرَّفة بحسب ما تضاف إليه ؛ ((لأن الغرض الأصل من الإضافة إلى المُعرف التعريف))(1) لذلك يحسن الوقوف على الدلالة القرآنية للفظة (بیت) .

وقد جاء الاستعمال القرآني في بعض الموارد للفظة (البيت) موافقًا للمعنى اللغوي في دلالته على (المَسكن)؛ ومنه قوله تعالى : وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا »[النحل:80] و «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:27]. فلم يطلق عليها بيت إلا وأهلها فيها .

ومنه يُفهم بأن لفظة (أهل البيت) يراد بها أهلٌ يجمعهم ويضمهم بیتٌ واحد لا بيوت متعددة، وهذه الإضافة التي تُبرز وجه العلاقة بين لفظني (أهل) و( بیت) وهي أولى ملامح الدلالة القرآنية لهذا المركب الإضافي، ولما كانت دلالة البيت على المسكن الذي يضم أهله فيه ويختصُّ بهم؛ لذلك يستبعد أن يختص بالأهل في حال اقترانه مع لفظة (بيوت) لا (بيت)؛ لأن لكلَّ بيتٍ سيختصُّ بأهله وهو سكانه ، وهو ما يجعل دلالت (بيوت) إلى العموم أقرب

ص: 195


1- شرح شذور الذهب : 571

منه إلى الخصوص، وقد اقترنت لفظة ( بیوت) بعامة المسلمين في موارد عدًّة تقدم ذكرها، وفي موارد أخرى اقترنت بلفظة (الني) للدلالة على زوجاته؛ كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا » [الأحزاب: 33] والسياق القرآني في هذه الآية يشير إلى تضَّمن (بیوت) دلالة زوجات(1) ، فهي بيوت متعددة لا بیت واحد فالتعبير جاء بصيغة الجمع لا المفرد وكلُّ بيت يختصُّ بأهله .

ويؤيد هذا المعنى أن زوجات الرسول وإن كُنَّ من أهله إلا أنهنَّ لما كُنَّ غير مجتمعات في بيتٍ واحد عبر بلفظة (بيوت ، والجمع قرينةٌ على التعدد ولم يعبر بلفظة (بيتكن) قال تعالى: «وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا - وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا

ص: 196


1- الميزان في تفسير القرآن : 16/ 179

خَبِيرًا [الأحزاب:34 - 34]، ويبدو أنَّ إيراد لفظة (البيت) المفردة بين لفظتي (بیوتکن) بصورة الجمع في سياق واحد في الآية المبحوثة يُبرز هذا المعنى جليًا .

وهذا الأسلوبُ القرآني بالجمع بين الألفاظ المختلفة في هيأتها لأجل إبراز معنی مغایر، استُعمل أيضًا في قوله تعالى : وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ »[الأنعام: 153]، فلما أراد سبحانه أن يميز سبيله جاء به بصورة المفرد، وزاد في وضوح هذا المعنى التعبير ب( السبل) بصورة الجمع ليتضح الفرق بينهما على أكمل وجه، وكلاهما في سياقٍ واحد.

كذلك لفظة (أهل البيت) لم ترد إلاّ في مورد آخر، دالةً على بيت واحد وهو بيت إبراهيم (علیه السلام) وزوجه؛ قال تعالى : قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ »[هود: -7] وقرينة(عليكم) تدل على أن المراد ب(أهل البيت) مَنْ يجتمع فيه، فنبي الله إبراهيم (عليه السلام) كان حاضراً، قال تعالى : وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ »[هود : 69] .

( الرجس):

كان لهذه اللفظة دورٌ في بيان منزلة (أهل البيت) ؛ وذلك لأنه لم يرد (إذهاب الرجس) عن فئةٍ أو جماعة سواهم، وهو ما يشير إلى دلالةٍ من دلالات الحصر فيهم على مستوى الاستعمال القرآني، وهو بهذه الصورة

ص: 197

يكون حصرًا آخر على مستوى السياق القرآني العام فضلاً على الحصر النحوي الذي تم ذكره آنفا .

وفي مقابل إذهاب الرجس عن (أهل البيت) كان هناك جعلٌ للرجس منه سبحانه على من لا يؤمنون ولا يعقلون؛ قال تعالى : «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:125] و : وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ [يونس: 100] وهو ما يلمح إلى كمال الإيمان والعقل في (أهل البيت) باعتبار أن إرادة الله تعالى في إذهاب الرجس عنهم واقعة لا محالة .

وبيَّن سبحانه معنى (الرجس) في قوله تعالى : ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج : 20]، فسمى الرجس وثناً و( من) بيانية(1) ، ((والوثن هو التمثال الغير(2) المصور))(3) ، فإذهاب الرجس عن (أهل البيت) يلزم منه عدم صدور الشرك منهم، ومن ثَمَّ توحيده سبحانه كمال التوحيد.

ص: 198


1- ينظر : الكشاف : 3/ 151
2- هكذا وردت والصواب (غير) لأنما لاتُعرف بدخول الألف واللام
3- روح المعاني : 13/ 339

(التطهير):

وردت إرادة الطهارة على مستوى الاستعمال القرآني في صورتين(1) :

إحداهما : وهي ما كانت متعلقة في صورةٍ مخصوصة بظرفٍ أو اعتبار أو حادثة ما أو مراد تحققها من كلِّ المكلفين، قال تعالى : إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ [الأنفال:11](2) فالطهارة هنا مقيدة بالماء وحُددت آثارُها من ربطِ القلوب وتثبيتِ الأقدام .

والأخرى : التي وردت مطلقة بدلالة المفعول المطلق، وهذا الاعتبار فإن الطهارة بهذا المعنى تخصص من مصداق (أهل البيت) لعدم تعلقها بغيرهم، فقوله (يطهركم تطهيرا) لم يُقيد بالماء أو غيره وكذلك لم تذكر آثارها فتكون شاملة لما ذُكر من آثار الطهارة بالماء وغيره، ويؤيد هذا المعنى أن ال( تطهير) تفعيل مصدر لفعَّل الدال على المبالغة والتكرار(3) ، وفيه معنى التأكيد لحدث الطهارة في أهل البيت .

ويمكن القول بأن الطهارة التي يريد سبحانه تحقيقها فيهم لا تجتمع إلاّ فيمن كمُلَ إيمانه ، وهي بهذا المعنى تُخرجُ نساءَ النبيَّ من (أهل البيت )، بلحاظ أنَّ الإرادة الإلهية إنما هي للطهارة الكاملة التي لا يشوبها أمرٌ آخر، ويؤيد

ص: 199


1- ينظر : المعجم المفهرس : 544
2- تنظر الآيات : البقرة : 222، المائدة :6 -41، آل عمران : 42 - 55
3- ينظر : معجم الفروق اللغوية : 117

هذا المعنى قولُه تعالى قبل آية التطهير : يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا [الأحزاب: 32]، فجملة (إن اتقیتن) جملة شرطية جوابها محذوف دل عليه ما تقدم أي : لستن مثلهن إن اتقیتن الله(1) ، والتعبير ب( إن) بدلاً من (إذا) يشير إلى احتمال حصول التقوى منهن دون القطع بحصولها؛ قال سيبويه : ((إذا) تجئ وقتاً معلوماً ، ألا ترى أنّك لو قلت : آتيك إذا احمرّ البسر كان حسناً، ولو قلت : آتيك إن احمرّ البسر، كان قبيحاً. ف(إن) أبدأً مبهمة ))(2) فالتردد في حصولها لا يتوافق مع إرادة الطهارة الكاملة في (أهل البيت) وهو ما يؤيد حصر الطهارة فيهم، فعدم تعليق الطهارة بشيءٍ ما، فلا شرط فيه ولا استدراك وهو أمرٌ لا يتوافق مع حال (نساء النبيَّ )، ومن ثمَّ ف( نساء النبيَّ) هي مجموعٌ غير (أهل البيت).

(البيت) :

ولما كانت (أهل نكرة أضيفت إلى ما هو معرفة (البيت) لأجل تحديد المراد ب(أهل البيت)، والألف واللام في (البيت) - ولأجل أن يتحقق التعريف- لابد أن تكون للعهد من دون الجنس وإلاّ لما خرجت كلمة (أهل) عن دائرة الإبهام والشيوع، زيادةً على أن إرادة الجنس في الآية غير متحققة في ظاهر الآية .

ص: 200


1- ينظر البحر المحيط : 7/ 222
2- الكتاب : 3/ 60

ويأتي التعبير القرآني ليحدد هوية هذا البيت، فقد وردت هذه اللفظة جميأتهما المفردة في موارد عدَّة مشيرةً إلى مدلول واحد هو بيتُ الله (الكعبة المشرفة) كما في قوله تعالى : وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة:25] وقوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127] وقوله تعالى: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران :97] وقوله تعالى: «وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج:26](1) .

أمَّا إطلاق (أهل البيت) على آل إبراهيم كما هو الظاهر من خطاب الملائكة لامرأة إبراهيم (عليه السلام) فهو يتوافق مع جري سنن الأمم السابقة في إبراهيم وأهله أنهم (أهل البيت) في زمانهم، وأنَّ (أهل البيت) في الآية المبحوثة هم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهله، زيادة على الارتباط والامتداد النسبي بين المعنيين، هذا أولاً، وثانياً : إنَّ أهل البيت في الآية محلَّ البحث امتداد وذريّة منه، ف( إبراهيم) زعيمهما، ويدل عليه قوله تعالى : رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا

ص: 201


1- تراجع الآيات القرآنية :البقرة : 158، المائدة : 2- 97، الأنفال : 35، الحج : 29 - 33، قریش : 3

الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [ابراهیم: 37].

واعتبارًا بما تقدم خلص الباحث إلى سماتٍ دلاليّة كثيرة انفردت بها لفظة (أهل البيت) في الآية مورد البحث على مستوى التعبير القرآني، کشف عنها سياق اللفظة وعلاقتها بالألفاظ الممتدة معها في السياق، ومن تلك السمات دلالتها على مجموعة يضمُّهم بيتٌ واحد لا بيوتٌ متعددة، وأنَّ إرادة الله سبحانه وتعالي تعلقت في تطهيرهم طهارةً مطلقة على وجه الحصر من كلِّ أنواع الرجس، وأوضح مصادیقه الشرك، وهو مايشيرإلى كمال الإيمان فيهم وهو ما اختصَّت به اللفظة، الأمر الذي يكشف عن خصوصيَّة مدلولها وما له من منزلة .

ومن السمات الدلالية الأُخر لهذه اللفظة إيرادها جميأة المضاف إليه، لتكون دليلاً على قصد التعريف بمدلولها، باعتبار تعريف (البيت) الذي من شأنه أن يزيل الإمام عن لفظ (أهل )، إذ أنَّ القول بطهارة (أهل البيت) طهارة مطلقة يخرج دلالة (أل) فيها من الجنس إلى العهدية، فهو بیتٌ معهودٌ لدى المسلمين، كذلك كشف السياق القرآني عن دلالة لفظة ( البيت) على بيت الله، وهو ما يشير إلى عمق علاقة أهل البيت بالله سبحانه زاد في بيانها هيأة الإضافة وما فيها من معنى الملابسة وأهم من ذرية إبراهيم (عليه السلام).

ص: 202

المطلب الرابع: في معنى (أهل الذكر):

قال تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ »[النحل: 43- 44].

مهادُ التّنزيل:

وردت بعض الروايات التي تفيد بأن الإمام علي (عليه السلام) من (أهل الذكر) الذين أشارت إليهم الآية مورد البحث، ولذلك فإن مسار البحث يتوجه لتحديد المعنى النحوي الدلالي لهذا المركب، ومن تلك الروايات ما أخرجه ابن جرير الطبري (ت 310ه) بإسناده قال : ((عن جابر، عن أبي جعفر فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ قال : نحن أهل الذّكر))(1) .

وجاء في تفسير العياشي ((عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال : قلت له : إن من عندنا يزعمون أن قول الله : فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ أنهم اليهود والنصارى فقال : إذا يدعونكم إلى دينهم، قال : ثم قال بيده إلى صدره : نحن أهل الذكر، ونحن المسؤولون))(2) .

ص: 203


1- جامع البيان في تأويل آي القرآن : 14/ 131، ينظر : تفسير فرات الكوفي : 235، وتفسير القرآن العظيم : 2/ 541 ، وروح المعاني : 14/ 217 ، وشواهد التنزيل : 1/ 334 ، و ينابيع المودة : 1/ 357
2- تفسير العياشي : 2/ 282 ، ينظر : التبيان في تفسير القرآن : 8/ 351 ، ومجمع البيان : 6/ 183 ، وينابيع المودة : 1/ 145 ، ونور الثقلين، 3/ 55، والميزان في تفسير القرآن : 12/ 284

مسارالتحليل ويتضمن:

1- المعنى اللغوي للفظة (الذكر) :

قال الخليل :(( الذَّكْرُ : الحِفْظُ للشّيء تَذْكُرُهُ وهو منَّي على ذِكْر.

والذَّكرُ: جَرْيُ الشَّيء على لسانك تقول جَرَى منه ذِكْر. والذَّكْر : الشَّرَف والصَّوْتُ... والذَّكْرُ : الكتاب الذي فيه تَفْصيلُ الدَّين))(1) وفي الصحاح (( ورجل ذِكَّيٌر : جيّد الذِكْرِ والحِفْظِ. والتذكير : خلاف التأنيث. والذِكْرُ والذِكْرى، بالكسر : خلاف النِسْيانِ. وكذلك الذكرة... وذَكَرْتُ الشيءَ بعد النِسْيانِ، وذَكَرْتُهُ بلساني وبقلبي، وتذكَّرْتُهُ))(2) وفي المحيط في اللغة ((الذَّكْرُ : الحِفْظُ الذي تَذْكُرُه، وهو مِنّي على ذِكْرٍ وذُكْرٍ. وهو أيضاً : جَرْيُ الشَّيْءِ على لِسَانِكَ))(3) وبهذا فالمعنى الأولي للذكر هو ما يحول دون نسيان الشيء في القلب واستحضاره بجريه على اللسان.

وكثرة جري اللسان بأمرٍ ما يلزم استحضاره أولاً في الذهن وهو أمرٌ يدعو إلى ذكره وعدم نسيانه، قال الراغب في المفردات :(( الذكر : تارةً يُقال ويُراد به هيئةٌ للنفسِ بها يُمكِنُ للإنسانِ أنْ يحفظَ ما يقتنيه من المعرفةِ، وهو كالحِفْظِ إلا أن الحفظَ يقالُ اعتبارًا بإحرازهِ، والذِّكرُ يُقالُ اعتبارًا باستحضارِه،

ص: 204


1- العين (ذ ك ر ) : 5/ 346
2- تاج اللغة وصحاح العربية (ذكر ) : 2/ 644
3- المحيط في اللغة (ذكر) : 6/ 235، ينظر : القاموس المحيط : 2/ 262، تاج العروس( ذکر) : 11/ 377

وتارةً يُقالُ لحضور الشيءِ القَلب أو القولَ، ولذلك قيل : الذكرُ ذكران : ذكرٌ بالقلب وذكرٌ باللسان ))(1) فبالذكر يُحفظ الشيء من النسيان، وبهذا المعنى يمكن القول أن إيراد هذه اللفظة وإضافتها إلى (أهل) يُوحي بأن مهمة (أهل الذكر) حفظهم للقرآن من التحريف أو الإنحراف، ومن هنا جاءت تسمية الكتاب الذي فيه التعاليم الدينية المفصلة ب( الذكر) كما أشارت إليه المعاجم من قبل، وإليه أشار ابن سيده بقوله : ((والذَّكر أيضاً الكتاب الذي فيه تفصيل الدّين ووضع المِلَّلة))(2) .

2- التولجيهات النحوية للألفاظ الآتية:

( الذكر) :

وردت هذه اللفظة في موقع المضاف إليه الذي من شأنه أن يوضح دلالة المضاف (أهل )، باعتبارها في موقع المضاف إليه المُعَّرف الذي يُكسبُ المضافَ تعريفًا يؤهِّله للتحديد(3) ، ((والفرق بين التعريف والتخصيص في الإضافة أن الأولى تؤدي إلى التحديد التام، لأن التعريف هو منتهى التحديد، أما الثانية فتؤدي إلى تضييق دائرة الإطلاق وتحديد المضاف نوعاً من

ص: 205


1- مفردات ألفاظ القرآن (ذكر ) : 328
2- المخصص : 4/ 57 ، ينظر : لسان العرب (ذكر ) : 4/ 357
3- ينظر : همع الهوامع : 2/ 411

التحديد))(1) ، ومن ثم فإن تحديد معنى لفظة (الذكر) من شأنه أن يعطي تحديداً تامًا ودقيقًا لمعنى المضاف (أهل).

وقد ورد المركب الإضافي (أهل الذكر) في موقع المفعولية المتعلق بالفعل (اسألوا )، واللافت للنظر أنَّ هذا الفعل جاء مطلقًا غير مقيد بالسؤال عن حالةٍ ما، ومن جهةٍ أخرى جاء السؤال متعلقًا ب( أهل الذكر) دون غيرهم، فأطلق السؤال وقيَّد المسؤول وهو ما يكشف عن استعدادهم وتوافر العناصر التي تؤهلهم للإجابة عن كل ما يرد عليهم من أسئلة، وهذا الاستعداد فيهم يأتي منسجمًا مع قدرتهم على تذكير الآخرين بما يحضر لديهم من إجابات دفعًا لما يرد من إشكالات، ومن ثمَّ الوصول إلى حفظ الأمور وتحقق الذكر.

( إن كنتم):

جاء التعبير ب( إن الشرطية) من دونِ (إذا) ليضع السائل في صورة المُشكك من دونِ إرادة (الجهل بحقيقية الأشياء )، وهو يشير إلى أن السائل لم يكن جاهلاً بقدر ما يريد التشكيك والإيهام، قال سيبويه : ((إذا) تجئ وقتاً معلوماً؛ ألا ترى أنّك لو قلت : آتيك إذا احمرّ البسر كان حسناً، ولو قلت : آتيك إن احمرّ البسر، كان قبيحاً. ف(إن) أبدأً مبهمة ))(2) وجاء في الجمع : ((تختص إذا بما يتعين وجوده نحو : آتيك إذا احمر البسر، أو رجح نحو : آتيك

ص: 206


1- قواعد النحو العربي في ضوء نظرية النظم : 240
2- الكتاب : 3/ 60

إذا دعوتني، بخلاف إن فإنها تكون للمحتمل والمشكوك فيه والمستحيل كقوله قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ الزخرف / 81، ولا تدخل على متيقن ولا راجح))(1) وهو ما أشار إليه ابن عاشور في خصوص الآية المبحوثة بقوله : ((وفي قوله تعالى : إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ إيماءٌ إلى أنهم يعلمون ذلك ولكنهم قصدوا المكابرة والتمويه لتضليل الدهماء، فلذلك جيء في الشرط بحرف (إن) التي ترد في الشرط المظنون وجوده))(2) .

ومجيء فعل الشرط بصيغة الماضي؛ للدلالة على استقرار الشك في نفوسهم وتمكُّنه فيهم، قال ابن جني: ((وكذلك قولهم : إن قمتَ قمتُ ، فيجيء بلفظ الماضي والمعنى (معنى المضارع ). وذلك أنه أراد الاحتياط للمعنى فجاء بمعنى المضارع المشكوك في وقوعه بلفظ (الماضي) المقطوع بكونه حتى كأنّ هذا قد وقع واستقرّ (لا أنه) متوقَّع مترقَّب))(3) ، ويفهم منه بأن التشكيك قد تمكَّن في نفوس السائلين وسيستمرون عليه، وهو ما أف-اده اقتران الفعل الماضي ب( إن) الشرطية في الآية المبحوثة.

ص: 207


1- همع الهوامع : 2/ 185
2- التحرير والتنوير : 13/ 129
3- الخصائص : 3/ 105

3- الدلالة القرآنية للفظة (الذكر) وما تعلق بها :

وردت لفظة (أهل الذكر) في مورد آخر ، وذلك في قوله تعالى : «وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [الأنبياء :7] ويكاد السياق الذي وردت فيه هذه اللفظة يكون واحدًا في الآيتين، إلا أن تكرارها بهذا المقدار لا يكشف عن سماتها، وهو أمرٌ يوجه البحث لتحديد لفظة (الذكر) المقترنة بالألف واللام على وجه التحديد، وقد وردت هذه اللفظة في أكثر من عشرين موردًا(1) بحسب ما توصل إليه الباحث، والوقوف عليها أفرز بعض السمات هي :

أولاً: إن (الذكر) أسبق وجودًا من الكتب السماوية:

قال تعالى : وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء :105].

وأصل لفظة (الزبور) تدلُّ على الكتابة؛ جاء في المحيط في اللغة : ((الزَبُوْرُ : الِكتَابُ، وهو فَعُوْلٌ بمعنى مَفْعُوْلٍ. وكُلُّ كِتابٍ زَبُوْرٌ. وزَبَرَ الكِتَابَ زَبْراً وزِبَارَةً : وهو إتْقَانُه، وقيل : قِرَاءَتُه))(2) ، فمن المحتمل أن يكون اسم جنس لما أُنزل على الأنبياء من الكتب(3) ولا يُراد به (زبور داود) على وجه

ص: 208


1- ينظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم : 342
2- المحيط في اللغة (زبر ) : 9/ 45
3- ينظر الكشاف : 3/ 135

التحديد، ومما يُرجِّح هذا المعنى أن التعبير عن (زبور داود) جاء نكرةً فقط في موردين من القرآن الكريم ولم يرد معرفًا بالألف واللام يُزاد على هذا أنه لا اختصاص لزبور داود (عيه السلام) بهذه السِنّة الآلهية وهي أن تكون الأرض إرثاً للمؤمنين فيه من دون الكتب السماوية الأخرى، وبحسب هذه الرؤية يمكن القول أن (الذكر) هو المرحلة السابقة لإنزال الكتب السماوية وهو مايتعلق بالعلم الإلهي المكنون (( والمعنى : ولقد كتبنا في الكتُبِ من بَعْدِ ذِكْرِنَا في السماء أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ))(1) ويقرب من هذا المعنى ما ذكره الآلوسي (ت 1270 ه) من أن (الذكر) هو اللوح المحفوظ(2) .

ثانيًا: إن (الذكر) نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومحفوظ من التحريف:

قال تعالى : وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر :6] ، وقال تعالى : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» [الحجر:9]، وأيضاً قال : بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»» [النحل :44]، والفائدة المتعلقة بإنزال (الذكر) هي التبيين وسيأتي الكلام فيه، وقد أنكر الكافرون اختصاصَ الأنبياء بهذا الإنزال من دونهم، قال تعالى : { أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ

ص: 209


1- معاني القرآن وإعرابه : 3/ 407
2- ينظر : روح المعاني : 17/ 153

ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} [ ص: 8] ، وإنكارهم له يكشف عن عظمته وأن من يقترن به يكون عظيمًا وشريفًا في قومه، وهو أمرٌ حملهم على حسد الرسول، قال تعالى : «وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ [القلم :51] .

ثالثًا :(الذكر) وصف للقرآن : قال تعالى : ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص 1]((ووصِفَ ب(ذي الذكر) لأن(ذي) تضاف إلى الأشياء الرفيعة فتجري على متصفٍ مقصود التنويه به))(1) .

رابعًا: إن هذا الذكر (حكيم) :

قال تعالى : ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [آل عمران :58] ، وهو مما يُتلى على النبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم متضمنًا لأخبار الأنبياء السابقين ((واسم الإشارة إلى الكلام السابق من قوله تعالى : إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ [آل عمران : 45]))(2) ، ووصف الذكر بالحكيم فيه ثلاثة وجوه ((يحتمل أن تكون بمعنى محكم (اسم مفعول) كما في قوله تعالى: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ» ومِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ فهو محكم، وقد يكون مبالغة في الحكم لأنه حاكم على غيره ومهيمن على غيره من الكتب والأحكام مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ

ص: 210


1- التحرير والتنوير : 23/ 128
2- السابق : 3/ 111

الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ أو هو صفة مشبّهة من الحكمة فهو ينطق بالحكم ويأتي بها. كل هذه المعاني مُرادة ولم يأتِ بقرينة تصرف إلى معنى من هذه و المعاني وهذا ما يُسمى التوسع في المعنى))(1) .

خامساً : تيسير القرآن غايةً لبلوغ الذكر : قال تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17]، وقد تكررت هذه الآية أربع مرات في سورة القمر(2) ، فإذا ماتيسر فهم القرآن ببيان حقائقه وإظهار علومه علومه وجرى ذكره على قلوب المؤمنين وألسنتهم تحققت هدايتهم، وكأن الذكر هو (قلبُ القرآن)؛ لكونِه الغاية التي تتحق بهما هذه الهداية، قال تعالى: { إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [یس :11] .

سادساً : لل(ذكر) أهله وهو من مختصاتهم : قال تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل :43]، وایضًا وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [الأنبياء: 7]، جاء في معجم العين : ((أَهْلُ الرَجل : زوجهُ، وأخصّ الناس به. والتَّأَهُّل : التَّزوُّج))(3) ، وكأن أهل الذكر قد اقترنوا اقترنوا به إلى حد الملابسة والمزاوجة وهو ما توحي به الإضافة حتى صاروا

ص: 211


1- أسرار البيان في التعبير القرآني : 108
2- ينظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم : 347
3- العين : 4/ 89 (أ ه ل)

من خواصه، وحث الله (جل وعز) الناس على مراجعتهم وسؤالهم عمَّا يجهلونه فهم أعلم أهل زمانهم(1) .

وبالعودة إلى الآية الكريمة التي وردت فيها لفظة (أهل الذكر) في سورة النحل فقد حددت هويتهم والدور الذي يقومون به؛ وذلك باعتبار المعنى النحوي لها القائم على علاقته بالمعاني النحوية لبقية الألفاظ التي تشترك معها في السياق، فلفظة (أهل الذكر) في قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل :43] تؤدي وظيفة المفعول به، وتعلقه بفعل الأمر (اسألوا) يشيرُ إلى تميُّزهم بالعلم ولديهم الجواب عن كلِّ سؤال، من حيث أن هذا الفعل مطلق من غير قید هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى قيَّد المفعول به الإطلاقَ في السؤال وجعله محصوراً ب (أهل الذكر) فلا يُسأل غيرهم وهذا ما يؤيده الاستعمال القرآني؛ إذ لم يرد فيه أن سُئِل غيرُ أهل الذكر سؤالاً مطلقًا(2) ، وممّا يلفت النظر أن الله سبحانه وتعالى في المؤمنين عن السؤال ولم يُرخِّصهم به إلا حين يُنزلُ القرآن، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [المائدة : 101]

ص: 212


1- ينظر : نور الثقلين : 3/ 56
2- ينظر : المعجم المفهرس : 427 - 428 - 429

أما في هذه الآية فكانت الدعوة إلى السؤال في كلَّ الظروف والأوقات، ويمكن القول بأن عند (أهل الذكر) كلّ ما يتعلق بنزول القرآن من تفسيرٍ وناسخ ومنسوخ ومحکم ومتشابه، وجملة (فاسألوا أهل الذكر) هي جملة جواب شرط مقدر دلَّ عليها قوله (إن كنتم لا تعلمون ) والتقدير : إن کنتم لاتعلمون فاسألوا أهل الذكر(1) .

وشبه الجملة وما عُطف عليها بالبينات والزُّبر) في قوله تعالی : بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» [النحل :44] لها الأثر في إيضاح معنى (أهل الذكر)؛ وذلك باعتبار ما تتعلق به، والبينات واحدها بيَّنة قال الراغب في معناها : ((البيِّنة : الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة))(2) و (((بِالْبَيَّنَاتِ) أي : بالدلالات والحجج، (وَالزُّبُرِ) وهي الكتب))(3) و (( البينات والزبر اسم جامع لكل ما يتكامل به أمر الرسالة، لأن مدار أمر الرسول على المعجزات الدالة على صدقه، وهي بالبينات وعلى بيان الشرائع والتكاليف، وهي المراد بالزبر يعني الكتب المنزلة على الرسل من الله عز وجل))(4) ، ويفهم منه أن البينات هي الأدلة التي جاء بها الرسل على صحة رسالاتهم .

ص: 213


1- ينظر : إرشاد العقل السليم : 5/ 116
2- مفرادت غریب القرآن : 157
3- تفسير القرآن العظيم: 2/ 541
4- لباب التأويل في معاني التنزيل المسمى (تفسير الخازن): 4/ 92

وتتعلق (البينات) متعلقاتٍ عدَّة محتملة؛ ذكرها الزمخشري (ت 538ه)، قال : ((فإمَّا أن يتعلق بما أرسلنا داخلاً تحت حكم الاستثناء مع رجالاً أي : وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات، كقولك : (ما ضربت إلا زيداً بالسوط)؛ لأن أصله : ضربت زيداً بالسوط، وإما برجالا صفة له : أي رجالاً ملتبسين بالبينات. وإما بأرسلنا مضمراً، كأنما قيل :( بما أرسلوا؟) فقلت : بالبينات))(1) ويبدو أن مرجَّحية الوجه الأخير أكثر انسجامًا؛ من حيث أن الرسول الكريم واحدٌ من أولئك الرُّسل بدلالة قوله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم : قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الأحقاف :9] وقد جاؤوا بالبينات والزبر فينقدح في الذهن تساؤلٌ؛ وهو أنه بأيّ شيءٍ جاء الرسول الخاتم ؟ وهو مارجَّحه أبو حيان (ت 735ه) بقوله : (( والأجود أن يتعلق قوله : بالبينات، بمضمر يدل عليه ما قبله كأنه قيل : بمَ أُرسلوا ؟ قال : أرسلناهم بالبينات والزبر، فيكون على كلامين))(2)

وهو أيضا اختیار صاحب تفسير الميزان بأن لفظة (بالبينات والزبر) :((متعلق بمقدَّر يدل عليه ما في الآية السابقة من قوله : "وما أرسلنا" أي أرسلناهم بالبينات والزبر وهي الآيات الواضحة الدالة على رسالتهم والكتب

ص: 214


1- الكشاف : 2/ 584
2- البحر المحيط : 5/ 478

المنزلة عليهم))(1) ، ولفظة (لتبين) في قوله تعالى : وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ يشير إلى ما جاء به الرسول وشارك به الأنبياء والرسل ((وإسناد التبيين إلى النبي عليه الصلاة والسلام باعتبار أنه المبلّغ للناس هذا البيانَ. واللّام على هذا الوجه لذكر العِلّة الأصلية في إنزال القرآن))(2) ، فالذكر فيه من الحقائق والعلوم التي تبين وتوضَّح مانُزَّل للناس الأمر الذي يحملهم على التفكير، وبهذا المعنى يمكن القول أن (الذكر) هو البينات التي جاء بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوفه دليلاً على رسالته التي من شأنها أن توضح للناس ما أشكل عليهم من شبهات.

وقد أشار القرآن الكريم إلى خصوصية رسول الإسلام بوظيفة التبيين لتلك الحقائق والعلوم التي ترتبط بالرسل والأنبياء التي أخفوها أهل الكتاب عن الناس، قال تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ [المائدة :10]، والتبيين هو الكشف والتوضيح؛ قال ابن فارس : (( الباء والياء والنون أصلٌ واحد، وهو بُعْدُ الشّيء وانکشافُه ... وبانَ الشَّيءُ وأبَانَ إذا اتّضَحَ وانْكشَف))(3) . و(أهل الذكر) هم أهل الكشف والتبيين لكل ما يطرح من شبهات وإشكالات، ومنها ما طرحه

ص: 215


1- الميزان في تفسير القرآن : 12/ 258
2- التحرير والتنوير : 2/ 584
3- معجم مقاییس اللغة : 327

المشركون في هذه الآية الكريمة وهي :(( أن مشركي مكة كانوا ينكرون أن يرسل إليهم بشر مثلهم فبين سبحانه أنه لا يصلح أن يكون الرسل إلى الناس إلاّ من يشاهدونه ويخاطبونه ويفهمون عنه وأنه لا وجه لاقتراحهم إرسال الملك))(1) ، فلم يكن السائلون جاهلين بحقيقة ما يسألون وإنما لغرض التشكيك وإثارة الشُبَه والفتنة بين المسلمين .

ويؤيد ذلك الاستعمال القرآني للفظة (البينات والزبر) والتي ساقها القرآن الكريم في مقام الرد على المكذبين ؛ قال تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [ال عمران :184] ووَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [فاطر :25] وكان الردُّ عليهم بأن الرسل السابقين ومن ضمنهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا بشراً ، وإن كنتم أيها المشركون في ريب من ذلك فاسألوا أهل الذكر فإنهم من جنس البشر وسيجيبون عن كلَّ تساؤلاتكم، فإن تمكنوا من إفحامكم ينتفي كَذِبُ زعمكم بوجوب أن يكون الرسول من الملائكة، وفي ذلك ردعٌ لهؤلاء المُشككين وعزةٌ للإسلام، من دون الحاجة إلى سؤال مَنْ هو خارج عن دائرة الإسلام، وكذلك تثبيتٌ الإيمان المسلمين بدينهم ودليلٌ على صدق رسالة رسول الإسلام صلی الله عليه وآله وسلم.

ص: 216


1- مجمع البيان : 6/ 128

وهذا المعنى أشار إليه القرطبي (ت 671ه) في تفسيره قال :(( قال جابر الجعفي : لما نزلت هذه الآية قال علي رضي الله عنه نحن أهل الذكر وقد ثبت بالتواتر أن الرسل كانوا من البشر فالمعنى لا تبدؤوا بالإنكار وبقولكم ينبغي أن يكون الرسول من الملائكة بل ناظروا المؤمنين ليبينوا لكم جواز أن يكون الرسول من البشر ))(1) فالمعنى النحوي الدلالي للفظة (أهل الذكر) يؤيد صحة هذه الرواية لانسجام مدلولها مع ما تم التوصل إليه، وهذا يمكن القول أن (أهل الذكر )هم طائفةٌ من المؤمنين ممن تربوا على يدي الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم وقد اختصهم بحقائق القرآن وما فيه من علومٍ ليبينوها للناس.

المطلب الخامس: في معنی (صالحُ المؤمنين) :

قال تعالى: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ » [التحريم: 4].

ص: 217


1- الجامع لأحكام القرآن : 2/ 2041، وقوله هذا أورده بخصوص تفسير قوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [ الأنبياء : 7]

مهادُ التّنزيل:

الآيةُ الكريمة من الآيات القرآنية التي وردت بشأنها روایاتٌ مفادُها أنَّ المرادَ ب( صالح المؤمنين عليُّ بنُ أبي طالب (عليه السلام)، ومن تلك الروايات ما أخرجه الحبري (ت286ه) في تفسيره؛ قال : ((حدثنا حسن بن حسين، قال : حدثنا حبان، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن : ابن عباس في قوله : فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ نزلت في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ نزلت في علًّي خاصة ))(1) وفي تفسيرفرات الكوفي قال : ((حدثني الحسين بن سعید معنعنًا: عن أسماء بنت عمیس، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في هذه الآية: «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ قال : عليُّ بن أبي طالب صالحُ المؤمنين))(2) .

ص: 218


1- تفسير الحبري : 325، وينظر : تفسير فرات الكوفي : 491، وتفسير ابن أبي حاتم : 7/ 493 ، وشواهد التنزيل : 2/ 262 -262، وتفسير القرآن العظيم : 4/ 360، والدر المنثور : 8/ 224 ، وفتح القدير : 8/ 848 ، وروح المعاني : 28/ 228
2- تفسير فرات الكوفي : ص 491، وينظر : مناقب علي بن أبي طالب : 335، والكشف والبيان : 9/ 348 ، والمحرر الوجيز : 5/ 332 ، والجامع لأحكام القرآن : 2/ 3108 ، والدر المنثور : 8/ 224

مسار التحليل ويتضمن:

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية :

(صالح):

(صالح) اسمُ فاعل من صَلَحَ أو صلُحَ وهو لازمٌ غيرُ متعدًّ؛ قال الخليل : ((الصَّلاحُ : نقيض الطلاح. ورجل صالح في نفسه ومُصلِحٌ في أعماله وأمُوره. والصُّلْحُ : تصالُحُ القوم بينهم. وأصلَحْتُ إلى الدابَّة : أحْسَنْتُ إليها .))(1) ، و(صالح) من ((صَلَحَ يَصْلَحُ ويَصْلَحُ صلاحاً وصُلُوحاً فهو صالحٌ وصليحٌ... والجمع صُلَحاءُ وصُلُوحٌ ... قال الزجاج : الصالحُ، الذي يؤدَّي إلى الله عزَّ وجلَّ ما افترضَ عليه، ويُؤَدّي إلى النَّاسِ حُقُوقَهم .))(2) وفي المصباح المنير ((صَلَحَ الشَّيءُ صُلُوحًا مِن بَابِ قَعَدَ وَصَلاحًا أيضًا وصَلُحَ بالضمَّ لُغَةٌ وهو خِلَافُ فَسَدَ وصَلَحَ يَصْلَحَ بِفَتحَتينِ لُغَةٌ ثَالثَةٌ فَهُوَ صَالِحٌ))(3) فالصلاح هو ما يقابل الفساد.

(تظاهر):

و تظاهر) بمعنى (تعاون والتَّفاعُل دالٌ على المشاركةِ ؛ جاء في صحاح اللغة (ظَهَرَ الشَّيءُ بالفتحِ ظُهُوراً : تَبَيَّنَ. وظَهَرْتُ علَى الرَّجلِ : غَلَبتهُ.

ص: 219


1- العين (صلح) : 3/ 117
2- المحكم والمحيط الأعظم (ص ل ح ): 3/ 152
3- المصباح المنير (ص ل ح ): 180

وظَهَرْتُ البيتَ : عَلوتُه. وأظْهَرْتُ بفلانٍ : أعليتُ به. وأظْهَرَهُ اللهُ على عدوَّه... والمُظاهَرَةُ : المُعاوَنَةُ. والتّظَاهُرُ : التَّعاونُ. وتظَاهَرَ القَوْمُ أيضاً: تدابَروا، كأنَّه ولَّی کلُّ واحدٍ منهُم ظهرَهُ إلى صاحبِه. واسْتَظْهَرَ بِهِ، أي استَعَانَ بِهِ .))(1) ، و((ظاهَرَ بعضهم بعضاً : أَعانه، والتَّظاهُرُ : التعاوُن... وظاهَرَ التعاوُن ... وظاهَرَ أَي نَصَر وأَعان. والظَّهِيرُ : العَوْنُ، الواحد والجمع في ذلك سواء ))(2) فالظهيرُ هو المُعين، والتظاهر فيه معنى العلو والتعالي على الغير، قال الفيومي (ت770ه) :((ظَهَرتُ عَلى الحَائِطِ عَلَوْتُ، ومِنْهُ قِيلَ ظَهَرَ عَلَى عَدُوَّهِ إذَا غَلَبَهُ))(3) .

( مولی):

وهو (مفْعَل) منَ ولِيَ وهو من المشترك اللفظي في العربية، ويَرِدُ في معانٍ عدَّة، لايمكن إيرادُها مجتمعةً في سياقٍ واحد، ويُحدَدُ المرادُ منها بحسب السَّياق الذي يردُ فيه، وهي ((المالِكُ، والعَبدُ، والمُعَتِقُ، والمُعتَقُ، والصاحِبُ، والقريبُ كابنِ العَمَّ ونحوِه، والجارُ، والحَليفُ، والابنُ، والعَمُّ، والتَّزيلُ والشَّريكُ، وابنُ الأُخْتِ، والوَلِيُّ، والرَّبُّ، والناصِرُ، والمُنْعِمُ والمُنْعَمُ عليه، والمُحِبُّ، والتابعُ، والصَّهْرُ. ))(4) .

ص: 220


1- الصحاح في اللغة (ظهر) : 2/ 732
2- لسان العرب (ظهر) : 4/ 604
3- المصباح المنير(ظ ه ر) : 200
4- القاموس المحيط (المولى) : 4/ 658

2- التوجهات النحوية للفظة (صالح المؤمنين) وما تعلق بها :

(صالح المؤمنين):

تجري مناقشةُ هذا المركب نحْويًّا من جهتين :

إحداهما : حكمه الإعرابي ودلالته : إذ يُحتمل في إعرابه وجهان :

الأول : أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره : مولاه؛ وهو في ما إذا كان (جبريل معطوفًا) على لفظ الجلالة أو على الضمير في مولاه.

والثاني : أن يكون مبتدأ خبره (ظهير)، وهو فيما إذا كانت الواو استئنافية في (وجبريل)(1) .

ويبدو أنَّ تحديدَ الوجه الإعرابي المناسب يعتمدُ على تحديدِ معنى لفظة (مولاه) فهو ((يحتمل أنْ يكونَ بمعنى السيَّدِ الأعظم فيُوقفُ على مولاه، ويكون جبريلُ مبتدأ وظهيرً خبره وخبرُ ما عطف عليه ، ويُحتمل أنْ يكون المولى هنا بمعنى الولي الناصر، فيكون جبريلُ معطوفًا فيوصُل مع ما قبله ويوقف على صالحِ المؤمنين، ويكونُ الملائكةُ مبتدأ وظهير خبره ))(2) .

ويرجُح أن يكون (مولی) بمعنى الناصر والمعين، ويُؤيدهُ المعنى في قولِه (تظاهرا)؛ إذ لما كان التَّظاهرُ فيه معنى التعاون لإيذاء الرسول فلا بد من أن يقابله مَنْ ينصرُه ويدافعُ عنه ، قال القرطبي (ت 671ه) :((قوله تعالی :

ص: 221


1- ينظر : التبيان في إعراب القرآن : 2/ 458- 459، البحر المحيط : 8/ 286- 287
2- لتسهيل لعلوم التنزيل : 2/ 463

«وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ أي تتظاهرا وتتعاونا على النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالمعصية والإيذاء))(1) .

كذلك فإنَّ الرابط ما بينَ المعطوفاتِ بحسب ما يقتضيهِ العطف من الاشتراك هي دلالةُ لفظة (المولى) على معنى الناصر والمعين وإلاَّ لَما صحَّ العطفُ وهو الأظهر، وهو اختيار الفراء بأن يكون (صالحُ المؤمنين) معطوفًا على (جبرائیل) المعطوف بدورِه على لفظِ الجلالة ؛ قال :(( ولو قال قائل : إن ظهيرًا لجبريل، ولصالح المؤمنين، والملائكة - كان صوابًا، ولكنه حسن أن يجعل الظهيرَ للملائكة خاصة، لقوله : ( والملائكة) بعد نصرة هؤلاء ظهير))(2) .

الأُخرى: نوع الإضافة فيها :

قسَّمَ ابنُ هشام (ت 761ه) الإضافةَ إلى قسمين : ((مَحْضَةٌ وغيرُ مَحْضَة؛ وأن غيرَ المحضةِ عبارةٌ عمَّا اجتمع فيها أَمران : أَمرٌ في المضاف، وهو كونُه صفةً، وأَمرٌ في المضاف إليه، وهو كونُه معمولاً لتلك الصفة ... وأنّ الإضافةَ المحضة عبارةٌ عما انتفى منها الأمرانِ المذكوران أو أحَدُهُمَا ))(3) والإضافةُ في (صالح المؤمنين) إضافةٌ محضة؛ لأن المضافَ إليه (المؤمنين) ليس معمولاً لاسم الفاعل (صالح)، فهي تدلُّ على الذات

ص: 222


1- الجامع لأحكام القرآن : 2/ 3107
2- معاني القرآن : الفراء : 3/ 67
3- شرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب : 334

المجردة دون إرادة الحدث فيها، ف( صالح) وإن كان وصفًا مشتقًا إلاّ أنَّه لا يمكن إعمالُه في المضاف إليه (المؤمنين )، لأنَّ إعمالَهُ فيه سيجعل الإضافةَ غيرَ محضةٍ على نيَّة الانفصال ولفظيةً لأجل التخفيف، كما هو الحال في قولنا : هذا ضاربُ زيدٍ، بمعنى : يضرب زیداً(1) ، وبناءً على هذا الوجه سيكون تقدير الإضافة (يصلح المؤمنين )، والإضافة المتحققة بين صالح والمؤمنين بهذا المعنى لا تنسجم مع إرادة العطف في الآية، فلا بُدَّ من أنْ تكونَ الإضافةُ محضةً ليست على نية الإنفصال، فضلاً على عدم استقامتهِ مع سياق الآية؛ فهو لا يصح لعدم ظهور المعنى، إذ المؤمنون وصلوا إلى درجةٍ عليا فكيف يحتاجون إلى الإصلاح ؟ وإنَّما يحتاج إليه مَمنْ هو دونهم، ولو كان (المؤمنين) معمولاً لصالح لكان من أصلح واسم الفاعل منها (مُصلِح) وذلك غير وارد، ف(صالح) من (صَلَح) أو (صَلُح).

(صالح):

والمراد ب(صالح) باعتبارِ الإضافة المحضة أحدُ احتمالين(2) :

الأول : أن تكون الإضافة بمعنى (مِنْ) فيكون التقدير : فردًا صالحًا من المؤمنين ؛ قال ابن السراج : ((والإِضافة المحضة تنقسم إلى قسمين : إضافة اسمٍ الى اسمٍ غيرِه بمعنى اللام وإضافةِ اسم إلى اسم هو بعضُه بمعنى" مِنْ "))

ص: 223


1- ينظر : شرح ابن عقيل : 3/ 46 ، والنحو الوافي : 3/ 34
2- ينظر : التفسير الكبير : 3/ 49

(1) ، ويلُحظُ أنَّ إرادة الإضافةِ بهذا التقدير لم يكتسبْ بها المُضاف تعريفًا من المضاف إليه، إذ بقي على عمومه، فالإضافة لم تأتِ بشيءٍ جديد، فالمؤمنُ لابدَّ وأن يكون صالحًا.

الثاني : أن يكون التقدير : مَنْ صلُح من المؤمنين يعني : كلُّ من آمن وعمل صالحاً(2) ، أو هو واحدٌ يراد به الجمع ((ف( صالح) ههنا ينوب عن الجمع ))(3) ، وهذا الاحتمال يُراد به الجنس ويَرِدُ عليه ((قياسُ المضافِ إلى الجمع الى مدخول اللام فظاهر (صالح المؤمنين) غير ظاهر "الصالح من المؤمنين".))(4) وأرى أن لا التقدير الأول ولا الثاني ينسجم مع معنى الإضافة في الآية؛ لأن التبعيض أو الجنس بعيد عن روح النص.

وهناك رأي ثالث في معن( صالح المؤمنين) ذكره بعضُ المفسرين لخَّصهُ السَّمينُ الحلبي (ت 756ه)؛ بأنَّهم : ((جَوَّزوا أن يكونَ جمعًا بالواو والنون، حُذِفَتْ النونُ للإضافة، وكُتِبَ دون واو اعتباراً بلفظه لأنَّ الواوَ ساقطةٌ لالتقاء الساكنين نحن : «وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ» و «يَدْعُ الدَّاعِ«»سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ» إلى غيرِ ذلك))(5) ، إلاَّ أنَّ الأخذَ بهذا الرأي لا يُؤمن معه اللبسُ، باعتبار أنَّ حذفَ الواو من

ص: 224


1- الأصول في النحو : 2/ 5
2- ينظر : الكشاف : 4/ 553
3- معاني القرآن وإعرابه : 5/ 193
4- الميزان في تفسير القرآن : 19/ 347
5- الدر المصون في علم الكتاب المكنون : 10/ 368 ، تنظر الآيات : الشوری :24، والقمر : 6، والعلق : 18

(صالح) لايُعرف منه هل المحذوف منه فرد أو جماعة ؟ كون المحذوف ليس من بِنية الكلمة، أما الآيات التي أوردوها فالمحذوف فيها من بنية الكلمة، وقد يدل عليها سياق الكلمة مع الكلمات الأُخر فلا يحصل اللبسُ، ومع عدم الأمن من اللبس فلا يُقدَّم الحذف طلبًا لخفةِ النطق للتخلص من التقاء الساكنين فالأولى عدم الحذف، فر صالح) مفردٌ وليس جمعًا.

3- الدلالة القرآنية للفظة (صالحُ المؤمنين) ومصاحباتها :

( مولى):

استعمل التعبير القرآني هذه اللفظة بمعنى الناصر في عدد من الآيات القرآنية؛ منه قوله تعالى : رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ»» [البقرة : 286] وقوله تعالی : بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ »[آل عمران: 150] و : يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ »[الدخان : 41 ] و: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ [محمد :11] قال الزمخشري : ((««مَوْلَی الذين ءامَنُواْ وليُّهم وناصرهم))(1) ، وهذا الاستعمال يُؤيد معنى النصرة في ولاية (صالح المؤمنين) .

ص: 225


1- الكشاف : 4/ 312

(الصالحون):

لم تردْ لفظة (صالح المؤمنين) في القرآن الكريم في غير هذه الآية مورد البحث(1) ، ومن ثمّ فإن الاستعمال القرآني لها لا يساعدنا على تحديد مدلولها، ولَمَّا كانت الإضافةُ لم تحققْ تلك الفائدةَ التي يتعرفُ ما المضاف (صالح) من المضاف إليه (المؤمنين ).

إذ هي لم تُكسبه تعريفًا أم تخصيصا يُحدد مدلولها في ضوء هذه الإضافة، يرى الباحث أنَّ المناسبَ تتبَّع سياقاتِ هذه اللفظةِ أو ما يلتقي معها من حيث الاشتقاق، وأقرب هذه الألفاظ إلى (صالح المؤمنين) هي لفظة (الصَّالحون)؛ باعتبار أنَّ (صالح المؤمنين) لايعدو إمَا أن يكون فرداً صالحًا من المؤمنين أو هو مفردٌ دالٌ على الجمع.

ويكشف لنا الاستعمال القرآني سمات (الصَّالحون) بفقرات عدَّة :

1- إنَّ هذه المفردة لم ترد محصورة بأحد أساليب الحصر کالاستثناء المفرغ أو ضمير الفصل المقترن باسم الإشارة الدال الحضور في أي مورد من القرآن الكريم، كما هو الحال في أصناف المؤمنين ( المفلحون) في قوله تعالى : أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ » [البقرة : 5]، وكذلك (المؤمنون) و( الفائزون) و( المتقون) و( المضعفون)(2) ، واقتران لفظةٍ ما بضمير الفصل

ص: 226


1- ينظر : المعجم المفهرس : 521
2- تنظر : الآيات : البقرة : 177، الأنفال : 4 ، التوبة : 20، المؤمنون : 10 ، النور : 52، الروم : 39

يجعلها في سياق الحصر(1) وهو ما يؤيد أنَّ (الصالحون) ليست فئة محددة ومحصورة في زمان أو مكان محدد.

2- أكثر الموارد التي وردت فيها كانت مدخولة ل(من) التبعيضية أو البيانية، وهو ما يرجح أن ينطبق مصداق هذه اللفظة على أفراد في حُقَبٍ زمنية مختلفة، فهي عنوانٌ يندرجُ تحته من صلح في سلوكه بكل أبعاده الذاتية الاجتماعية وبلغ في ذلك مبلغ الكمال، ويؤيد ذلك أن أكثر تلك المصادیق من الأنبياء ومَنْ في منزلتهم وقد تَمَّيز الصَّلاحُ فيهم أكمل تمييز.

قال تعالى : { وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ } [الأنعام : 80] و: فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران :39] وبحق عیسی (علیه السلام) قال تعالى: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:46] وېشأن یوسف (عليه السلام): وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ [الأنبياء : 86] وغيرها من الآيات الكريمة التي وردت فيها لفظة (الصالحين) مقصورةً على الأنبياء(2) .

3- إنَّ مفهومَ الصَّلاحِ لا ينسجم مع ممارسةِ الأخطاءِ والمعاصي، ولذلك فإن الانتماء إلى ثُلَّةِ (الصالحون) كان طموحَ الأنبياء ( إبراهيم ويوسف

ص: 227


1- ينظر : الإتقان في علوم القرآن : 601
2- تنظر : الآيات القرآنية : الأعراف : 196 ، والنحل : 122 ، والأنبياء : 75 :105 ، والشعراء : 83 ، والنمل : 19 ، والقصص : 27، والعنكبوت : 27، والصافات : 100: 112 ، والقلم : 50

وسليمان) متجليًا في دعائهم : قال تعالى : رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ »[الشعراء : 83] و: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ »[يوسف : 101] و : فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ »[النمل : 19].

4- إنَّ دعاءَ الأنبياءِ السَّابق والرغبة بالالتحاق بالصالحين) يشير إلى أهم مجموعة من الأفراد ستكون في آخر الزمان، ويؤيد ذلك قوله تعالى : وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء : 105]، وبهذا الاعتبار أي كوهم (ورثةُ الأرض) يجعلهم أئمةً للنَّاس؛ قال تعالى : وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [القصص: 5] وهو منسجمٌ مع تحقق عنصر الصَّلاح فيهم وأنه مخصوص بمصادیقَ محددة .

5- يرجَّح الباحث أن يكون المراد با صالح المؤمنين) فردًا واحدًا من دون إرادة الجمع وذلك باعتبارین :

أحدهما : كون (الصَّالحون) ورثةَ الأرضِ، ولم يكن الذين آمنوا في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قدْ دخلوا في مرحلة الوراثة وأنَّ هذا الأمر لم يتحقق بعد.

ص: 228

الآخر : إن السنن الآلهية جرت بأن يكون في كل مرحلةٍ فردٌ صالحٌ، ويؤيد ذلك ما تم ذكره من آياتٍ قرآنية تشير الى كون الأنبياء من الصالحين، وهو ما يكشف أن هذه التسمية لا يراد بما فئة محددة في مدّة ما بقدر ما هي مجوعة من الصالحين المتواجدين عبر امتداد الأزمنة، بحيث يوجد في كل مدة ما صالح ومجموعهم يطلق عليه (الصالحون )، عليه فإنه لابد من أن يكون في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فردٌ صالحٌ سيرًا على سنَّةِ الله في عباده .

وما يلفت النظر أنه كثير ما اقترن الصلاح بالإيمان في موارد كثيرة حتى جعل هذا الاقتران قيدًا في الدخول إلى الصالحين) قال تعالى : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ [العنكبوت :9]

وقد يكون التعبير ب( صالح) بيئة اسم الفاعل للدلالة على الذات الصالحة المضافة إلى الإيمان، والإضافة فيها تُشعر بقوة الملابسة بين الإيمان والصلاح، وهي من القوة بمكان من دون الحاجة إلى التعبير ب(واو العطف) التحقيق هذه الملابسة بينهما كما في قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة : 82]. وعليه خلص البحث إلى سماتٍ دلالية عدَّة، منها ما انفردت به لفظة صالح المؤمنين على مستوى التعبير القرآني عبر إيرادها بيأة المركب الإضافي المُشعِر بمستوى الملابسة بين الإيمان والصلاح في مدلول هذه اللفظة، قياسًا بالتعبير القرآني في إرادة هذه الدلالة بشأن الجماعة المؤمنة عبر التعبير بأسلوب

داده اجهه

ص: 229

العطف بين الإيمان والصلاح (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) وهو ما يتميَّز به (صالح المؤمنين) عنهم .

ومن السمات الدلالية الأُخر اختصاص مدلول هذه اللفظة بنصرة الرسول على مَن تظاهر عليه، إلى جنب نصرة الله وجبرائيل والملائكة أجمعين، وهو ما يشير إلى منزلته ويكشف عن مقامه.

وأيَّد هذه المنزلة ما كشف عنه السياق القرآني في استعمال (الصالحون) بخصوص الأنبياء، يوجد منهم (صالح المؤمنين في كل مدّةٍ زمنية، وأن صالح المؤمنين في الآية مورد البحث هو صالح أمة محمدٍ صلى الله عليه وآله، وأن هذه الفئة سيمتدُّ وجودها فهم ورثة الأرض وهم أئمة الناس .

المطلب السادس: في معنى (خيرُ البَريَّة) :

قال تعالى :

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة: 7]

مهادُ التّنزيل:

وردتْ رواياتٌ كثيرة مفادُها أنَّ المرادَ ب( خيرِ البَرِيَّة) الإمامُ عليٌّ عليه السلام ومَنْ شایعهُ واتَّبعه، وهي بهذا التركيب تفرض على الباحث الاهتمام بدلالة هذا المركب لتعلقه بالإمام عليه السلام، منها ما أخرجه فراتٌ الكوفيّ في تفسيرِه بإسناده قال :(( عن جابرِ بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنه

ص: 230

قال : كنَّا جلوسًا عند رسولِ الله صلى الله عليه وآله إذْ أقبلَ أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالبٍ عليه السلام فلمّا نظرَ إليه النبي قال : قد أتاكم أخي . ثم التفت إلى الكعبة قال : ورب هذه البنيّة إن هذا وشیعته هم الفائزون يوم القيامة...قال جابر : فأنزل الله تعالى هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ فكان عليٌّ عليه السلام إذا أقبل قال أصحاب محمد : قد أتاكم خير البرية بعد رسول الله صلى الله عليه وآله .))(1) وكذلك ما ورد في تفسير الطبري قال :(( حدثنا ابن حميد، قال : ثنا عیسی بن فرقد، عن أبي الجارود، عن محمد بن عليّ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أنْتَ يا عَلي وَشِيعَتُكَ"))(2) .

مسار التحليل ويتضمن:

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية :

( البَرِيَّة):

هذه اللفظة إمَّا مأخوذة من (برأ) خلق فهي فعيلة بمعنى مفعولة أو من (بری) التراب؛ قال سيبويه :(( سألتُ يونس عن بَريَّةٍ فقال : هي من بَرَأْتُ،

ص: 231


1- تفسيرفرات الكوفي: 585، ينظر : شواهد التنزيل : 362: والدر المنثور : 8/ 589 ، وفتح القدير : 2/ 1029 ، وينابيع المودة : 1/ 197
2- جامع البيان في تأويل آي القرآن : 30/ 320 ، ينظر : مناقب علي ابن أبي طالب : 346، ومجمع البيان : 10/ 470 ، والدر المنثور : 8/ 589 ، ونور الثقلين : 8/ 281، وروح المعاني : 30/ 370 - 371

وتحقيرها بالهمز كما أنَّك لو كسّرت صلاءةً رددت الياء فقلت : أَصْلِيَةٌ))(1). وعن الفراء(ت207ه) : ((البريَّة غير مهموز، إلا أن بعض أهل الحجاز همزها ؛ كأنه أخذها من قول الله جل وعز برأكم، وبرأ الخلق، ومن لم يهمزها فقد تكون من هذا المعنى. ثم اجتمعوا على ترك همزها كما اجتمعوا على : يَرَى وتَرى ونرى. وإن أُخِذتْ من البَرَى كانت غير مهموزة، والبرى : التراب سمعت العرب تقول : بفيه البري))(2) إذ إن أصل لفظتي (يرى وتری) یاری ونأرى ثم تكوا التهميز فيهما لكثرة الاستعمال، وعن ابن درید (ت321ه) قال : ((البَرِيّة من بَرَأَ الله الخلقَ))(3) ، وفي المصباح المنير ((بَرَأَ اللهُ تَعالى الخَلِيقةَ يَبْرَأَها بِفَتحَتينِ خَلَقَها فَهُوَ البَارِئُ والبَرِيَّةُ فَعِيلَةٌ بِمَعنَى مَفْعُولةٍ))(4) ، وعلى الرأي الأول أي بمعنى الخليقة فإن المَعْنَّي بالتفضيل في الآية مورد البحث مفضلٌ على كلّ الخلق من الإنس والجن والملائكة، وعلى المعنى الثاني (من التراب) يكون تفضيلهُ على خصوص البشر .

ولئن كانت لفظة (البريَّة) تشير في أصل اشتقاقها إلى معنى الخليقة، إلاّ أن أبا هلال العسكري بعد(ت400ه) ميَّز بين (البريَّة) و(الخليقة) بلحاظ أصل اشتقاقهما؛ قال : ((الفرق بين البرء والخلق : أن البرء هو تمييز الصورة

می دهد

ص: 232


1- الكتاب : 3/ 461
2- معاني القرآن : الفراء : 2/ 172 ، ينظر : التبيان في إعراب القرآن : 2/ 508
3- جمهرة اللغة (ذ ر و) :1/ 830
4- المصباح المنير (ب ر أ): 30

وقولهم برأ الله الخلق أي ميز صورهم))(1) وميَّز بين البرية والناس بقوله : ((أن قولنا برية يقتضي تميز الصورة وقولنا الناس لا يقتضي ذلك لان البرية فعلية من برأ الله الخلق أي ميز صورهم))(2) وهذا التمييز يشير إلى دقة التعبير القرآني في استعمال (بريَّة) من دون التعبير ب( خليقة) لتوحي بتمييز المعنيَّ بمدلولها على أكمل صورة، وهذا المعنى لايتحقق فيما لو كان التعبير ب( خير الخليقة) أو (خير الناس) فالتعبير بلفظة الخليقة لا يحقَّق هذا المعنى.

(خَير):

و(خير) الأصل فيه (أخير) وحذفت الهمزة تخفيفًا لكثرة الاستعمال(3) ، وفي القاموس المحيط ((خارَ يَخيرُ صار ذا خَيْرٍ، الرجل على غيرِهِ خِيرَةً وخِيَراً وخِیَرَةً فَضَّلَهُ، كخَيَّرَهُ،الشيءَ انْتَقاهُ، كتَخَيَّرَهُ... وهو أخْيَرُ منكَ، كخَيْرٌ، وإذا أردْتَ التَّفْضِيلَ، قلتَ فلانٌ خَيْرَةُ الناسِ، بالهاءِ، وفلانةُ خَيْرُهُمْ، بِتَرْكِها))(4) فيه أفعل تفضيل حذفت منها الهمزة للتخفيف .

ص: 233


1- معجم الفروق اللغوية : 95
2- المصدر السابق : 98
3- ينظر : الإنصاف في مسائل الخلاف : مسألة (69) : 2/ 491 ، وشرح الرضي : 3/ 447
4- القاموس المحيط : 2/ 132

2- التوجيهات النحوية للفظة (خير البرية) وما تعلق بها:

دلالة (خير) أفعل التفضيل:

لفظة (خير البرية) أفعل تفضيل مضاف إلى المعرف بأل، وقد شغلت موقع الخبر المسند إلى اسم الإشارة (أولئك) وفُصِل بينهما بضمير الفصل (هم)(1) ، وهي بصيغة (أفعل) تأتي في معنين الأول : للتفضيل نحو (زیدٌ خيرٌ من عمرو)، والثاني : لا يُراد به التفضيل وإنما بمعنى الفاضل من اسم فاعل نحو (الصلاة خيرٌ من النوم) أي هي ذات خير وفضل جامعةٌ لذلك(2) .

وقد ميَّز ابنُ يعيش (ت 643ه) بين المعنيين بأنّ أفعل التي للتفضيل لاتُثني ولا تجمع ولاتؤنث ؛ قال شارحًا لقول الزمخشري :(([ فالنوع الأول منه منهما لايُثنى ولا يُجمع ولايؤنث ] لأنه مقدرٌ بالفعل والمصدر فإذا قلت : "زيدٌ أفضل القوم " كان معناه یزید فضله عليهم ، فكل واحدٍ من الفعل والمصدر لا يصح تثنيته ولاجمعه ولاتأنيثه فكذلك ما كان في معناها))(3) ويُفهم من ذلك أن التعبير ب( خير) من دونِ التثنية أو الجمع يجعل (أفعل) في معنى التفضيل من دون أن يراد بما دلالة اسم الفاعل .

معنى الإضافة في ( خير البَرِيَّة ):

ص: 234


1- ينظر : إعراب القرآن وبيانه : 8/ 376 ، و الجدول في إعراب القرآن : 15/ 379
2- ينظر : المصباح المنير : 17
3- شرح المفصل : 3/ 5 : وما بين القوسين المعقوفين للزمخشري صاحب المفصل

يرى ابنُ يعيش بأن أفعل التي خلُصت للتفضيل فيها معنى (مِنْ) ويُراد بها الدلالة على ابتداء التفضيل على مقدار المفضل عليه ومن كان في منزلته؛ قال :(( إعلم أن إضافة (أفعل) هذه التي يُراد بها التفضيل من الإضافات المنفصلة غير المحضة فلا تفيد تعريفاً؛ لأنَّ النية فيها التنوين والانفصال لتقديرك (مِنْ) وإنما كانت (مِنْ) فيها مقدرة لأن المراد بها التفضيل))(1) .

وأنَّ (خبر) وإن أَضيفت إلى (البرية) وهي اسم جنس ، إلاَّ أنَّ التفضيل هو تفضيلٌ ليس على مجموع البرية، باعتبار أن اسم الجنس ((وُضع للماهية من حيث هي، أي من غير أن تعين في الخارج أو الذهن))(2) . وإنّما على كلَّ واحدٍ من مصاديقها؛ قال الرضي : ((لا تظننّ أنَّ صاحبَ أفعلِ التفضيل مفضلٌ على مجموع أقسام المضاف إليه، فتقول في زيدٍ أفضل الرجال : انه أفضل من مجموع الرجال من حيث كونه مجموعًا، فإنه غلط، بل معناه أنه أفضل من كل رجل رجل))(3) وقال ابن يعيش :(( إذا قلت : (زيدٌ أفضل القوم) أردت تفضيله عليهم فلا بد من تقديرك (مِنْ) فيه، وإنْ لم تكن ملفوظاً بها ... فإن أظهرتها فقد فضَّلته على غيره، وإذا أضفته ولم تأتِ ب(من) كنتَ قد فضلته على جنسه الذي هو بعضه.))(4)

ص: 235


1- المصدر نفسه والصفحة نفسها
2- همع الهوامع : 1/ 232
3- شرح الرضي على الكافية : ج2/ ص251- 252
4- شرح المفصل : ج3/ ص7

(البريَّة ):

ويُفهم منه أنَّ اللام في (البرية) للجنس، وأن (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) فُضَّلوا على كل مَنْ سواهم من أبناء جنسهم فردًا فردًا، وكونُ اللام فيها للجنس يُرجَّح معنى البريَّة المشتقة من( بری) بمعنى التراب، فيكون التفضيل على جميع البشر لا على الخليقة فلا تدخل الملائكة ويرجحه قرينة (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) في هذه الآية.

دلالة ضمير الفصل(هم):

والتعبير بضمير الفصل بين المسند إليه والمسند يؤذن بقصر الخبر على( أولئك) فضلاً على معنى الوجوب والتأكيد وأن مابعده خبرٌ لاصفة؛ قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى «أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »[ البقرة : 5 ] : (( { هُمْ } فصل : وفائدته : الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة، والتوكيد، وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره))(1) ، وفي دلائل الإعجاز ((إذا قيل لك : زيدٌ المنطلقُ صار الذي كان معلوماً على جهة الجواز معلوماً على جهة الوجوب. ثم إنهم إذا أرادوا تأكيدَ هذا الوجوبِ أدخلوا الضَّميرَ المسمَّى فصلاً بين الجزءين، فقالوا : زيدٌ هوَ المنطلقُ .))(2) ، ويُفهم منه أنَّ (خير البرية) هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا غيرهم،

ص: 236


1- الکشاف: ج1/ ص54
2- دلائل الإعجاز :ص137

وجيء التعبير بضمير الفصل لتأكيد هذا المعنى وإيجابه لهم. وقال ابن هشام في فائدة ضمير الفصل : ((الإعلامُ من أول الأمر بأن ما بعده خبر لا تابع، ولهذا سمّي فصلاً، لأنه فَصَلَ بين الخبر والتابع، وعماداً، لأنه يَعْتَمد عليه معنى الكلام))(1) وبهذا المعنى لو قال ( أولئك خير البرية) لاحتمل أن يكون (خير البرية) خبرًا ويُحتمل أن تكون نعتًا والخبر محذوف، ولمَّا جيء بضميرِ الفصل ثبت للخبر وإفادة المخاطب معنىً جديد، فهو إخبارٌ منه تعالى بأن هولاء هم خير البرية لا مجرد نعتهم بهذا الوصف، والإخبارُ يكشفُ عن حالةٍ متحققة في الواقع الخارجي .

دلالة اسم الإشارة (أولئك):

اسم الإشارة (أولئك) يشير الى فئةٍ محددة سبق ذكرها في الكلام الافتقاره الى حاضر(2) . ومعنى الإشارة يؤكد معنى الحصر والاختصاص؛ قال السيوطي (911ه) : ((واسم الإشارة صالحٌ لكلَّ مشارٍ إليه فإذا استعمل في واحد لم يشركه فيما أسند إليه أحد))(3) .

وبالإضافة إلى معنى الحضور فإن اسم الإشارةُ يُعرِّفُ مَنْ يشيرُ إليه تعريفًا تامًا؛ ولهذا اختار أبو البركات (ت 577ه) أن يكون المُبهمُ أعرفَ من

ص: 237


1- مغني اللبيب : ج 2/ ص 155
2- ينظر : شرح جمل الزجاجي : 1/ 33
3- همع الهوامع : 1/ 232

المعارف وهو رأيُّ الكوفيين وابن السراج لأن الاسم المبهم يُعرَّف بشيئين بالعين وبالقلب وأما الاسم العلمُ فلا يُعرَّف إلا بالقلب وحده، وما يعرف بشيئين ينبغي أن يكون أعرف مما يعرف بشيءٍ واحد(1) .

وهذا هو ما ذكره ابن يعيش قال : ((ومعنى الإشارة الإيماء إلى حاضر بجارحة أو ما يقوم بالجارحة فيتعرف بذلك، فتعريف الإشارة أن تخصص للمخاطب شخصاً يعرفه بحاسة البصر، وسائر المعارف هو أن تخصص من يعرفه المخاطب بقلبه، فلذلك قال النحويون إن أسماء الإشارة تتعرف بشيئين بالعين وبالقلب))(2) ، حينما تتعرف تُعرِّفُ أيضًا مَنْ تُشيرُ إليه لكونها تتضمن أمرين؛ باعتباركونها ((ما دلَّ على مُسَمىً وإشارةٍ إلى ذلك المسَمَّى))(3) ولذلك فالتعبير باسم الإشارة من دون غيرها من المعارف أعطى بعداً حضورياً ل( الذين آمنوا وعملوا الصالحات) وكأنهم فئة محددة وحاضرة حين نزول النص.

3- الدلالة القرآنية للفظة (خير البرية) ومصاحباتها :

لفظة (خير البرية) لم ترد في غير هذا المورد في التعبير القرآني(4) ، إلا أنَّ لفظة ال( خير) وردتْ مضافةً في الموارد التي تفضل فيها صفات الله سبحانه

ص: 238


1- ينظر : الإنصاف في مسائل الخلاف : مسألة رقم (101) : 2/ 708
2- شرح المفصل : 4/ 133
3- شرح شذور الذهب : 89
4- ينظر : المعجم المفهرس : 129

التي يشترك فيها مع الخلق التي تُعرَّف بالصفات الفعلية(1) ومنه قوله تعالى: بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ [آل عمران : 150 ] وقال على لسان عيسى ابن مريم : وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [المائدة : 114 ] ، وأيضاً قوله تعالى :فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [الأعراف : 87 ] وغيرها كثير(2) .

وفي ما سوى هذه الموارد استعملت في أفضلية ضيافة يوسف (عليه السلام) على من يشترك معه في هذه الصفة، قال تعالى : وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ [ يوسف :59 ] واستعملت في أفضلية زاد التقوى على سائر ما يتزود به الإنسان قال تعالى : وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [ البقرة : 197 ] .

ويُلحظ في هذه الموارد أن المفاضلة فيها كالمفاضلة بين الوجود والعدم ما قيس أحدهما بالنسبة إلى الآخر؛ إذ لامفاضلة بين رازقية الله وحاكميته وسائر صفاته من جهة وبين من كانت فيه هذه الصفات من المخلوقين؛ إنما هو ضرب من الجواز للمبالغة في إبراز هذا التفاضل.

ويمكن تحديد سمات (خير البرية) قرآنيًا في اتجاهين :

الأول : المقابلة بين (خير البرية) و( شرُّ البرية)؛ إذ كلاهما جاء في سياق

ص: 239


1- التعريفات : 175
2- ينظر : المعجم المفهرس : 316- 317- 318، تراجع الآيات الكريمة : آل عمران - 54 و الأنعام - والأعراف - 89، 155 و الأنفال - 30 ويونس - 109 وغيرها

واحد، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ »[البينة: -6].

ومما يُلحظ في هذه الآية أنَّ مدلول (شر البرية) مجموع (الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) وهو ما يكشف عن مستوى كمال الإيمان في خير البرية وإلا لما صحَّ التقابل بينهما، وهذه المقابلة ترجح القول بدلالة (خير) على المفاضلة، وعليه فإنَّ كلَّ ما أسند إلى (الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) هو باللزوم مسلوبٌ عن (خير البرية) ومنه قوله تعالى : مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [ البقرة : 105] فإذا كان هؤلاء لايودون أن ينزل خيرًا على (الذين آمنوا) فإن التعبير ب(خير البرية) وما فيه من معنى الإضافة يُشعر بمدى استعدادهم لصدور الخير منهم أو من يختصه سبحانه برحمته.

الثاني : من خلال الجزاء ل( خير البرية) وذلك في قوله تعالى بعد الآية موضوع البحث : جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة: 8] وهذا الجزاء في شقَّين : (جنَّات عدن ) : وتكشف عن سمات (خير البرية) بحسب التعبير القرآني بما يأتي : هي دارُ جزاء الأنبياء ومَنْ كان بمنزلتهم؛ قال تعالى : أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ

ص: 240

ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم : 58 ] ويقول بعدها : جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا [مريم: 61] .

هي عقبى الدار؛ قال تعالى : وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ [ الرعد : 22 -23 ] . هي دار المتقين؛ قال تعالى : وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ [ النحل : 30- 31] .

لباسُ أهلها الثيابُ الخضر من السندس؛ قال تعالى: أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف: 31].

وهو أيضا جزاءُ مَنْ (يُطعمون الطعام على حبه) في سورة الإنسان وسيأتي بحثها قريبًا، قال تعالى : عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان: 21] هي جزاءُ السابقِ بالخيرات؛ قال تعالى : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ

ص: 241

لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [فاطر: 32 -33] ومن هنا يأتي وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة :10 - 11] وغيرها من الآيات(1) .

2- (رضيَ الله عنهم ورضوا عنه):

أبرز هذا الجزاء دلالةَ (خير البرية) بصورةٍ واضحة بحسب وروده في التعبير القرآني، فكان جزاءً ل( الصادقين وحزبِ الله والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ومَنْ تبعهم بإحسان) وهو ما تلتقي به هذه الفئات مع (خير البرية) : قال تعالى : قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [ المائدة : 119] .

قال تعالى : وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [ التوبة : 100] .

قال تعالى : لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ

ص: 242


1- تنظر الآيات القرآنية : التوبة :72 ومريم :61 وطه : 76 وص :50 وغافر: 8 والصف :12، البينة :8

تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ المجادلة : 22] .

وبهذا يمكن القول إن (خير البرية) في الآية الكريمة هم الصادقون والسابقون الأولون المهاجرون وهم حزب الله، وصفة (حزب الله) الموالاة لله ولرسوله والذين آمنوا بصفات حددها قوله تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ الغالبون [المائدة : 55-56].

من خلال ما تقدم ذكره توصل البحث إلى السمات الدلالية للفظة (خير البرية )، كشف عنها المعنى المعجمى للفظة متفاعلا مع معناها النحوي عبر علاقتها مع الألفاظ الأخرى الممتدة معها في السياق فضلاً على علاقة اللفظة بالسياق القرآني بشكل عام.

إذ خرج المركب الإضافي الذي وردت عليه هيأة اللفظة عليه هيأة اللفظة من الإضافة المحضة إلى غير المحضة، لإبراز معنى التفضيل من خلال التعبير بلفظة (خير) المضافة إلى البرية، منح التعبير بها أفضلية مدلولها على كل من خلقه الله سبحانه وتعالى، وزاد في بيان صفة الأفضلية تلك المقابلة القرآنية بين (خير البرية) من جهة و(المشركين والذين كفروا) من جهة أخرى، وهو ما ألمح إلى كمال الإيمان في خير البرية، وهو أسلوبٌ قرآني في التفضيل يُضاف إلى هيئة

ص: 243

أفعل التفضيل (خير) في دلالتها على هذه الأفضلية. ومن السَّمات الدلالية الأخرى للفظة ما أوضحه إسناد الجزاء الإلهي (جنات عدن) وأتبعه بعبارة (رضي الله عنهم ورضوا عليه )، وقد أفرز هذا الإسناد إشراك مجموعة قرآنية فيه هم (الصادقون) و(حزب الله) و(المهاجرون الأولون والأنصار )، وهو ما انعكس على بيان علاقة( خير البرية) بدلالة هذه لألفاظ وتحقُّقها بدلالاتها.

.من السمات الدلالية المميزة لهذه اللفظة اقترانها بضمير الفصل (هم) واسم الإشارة (أولئك) إذ أفاد هذا الاقتران الإخبارَ عن جماعةٍ حاضرة من (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) أشير إليهم بأنهم (خير البرية )، وهو ما لم يرد في مورد آخر على مستوى الاستعمال القرآني لهذه اللفظة ، الأمر الذي يشير إلى خصوصية من تشير إليه .

ص: 244

المبحث الثاني

المركب الوصفي

ص: 245

المطلب الأول: في معنى (أُذُنٌ واعيةٌ ):

قال تعالى : «إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ [الحاقة11 -12]

مِهادُ التّنزيل:

يتوجه البحث لتحديد معنى (أذنٌ واعية )، إذ ذكرت أكثرُ المصادر التأريخية بأن المراد بمدلول هذا المركب الإمام علي (عليه السلام )؛ ومنها ما أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره، قال : ((حدثني محمد بن خلف ، قال : ثني بشر بن آدم، قال : ثنا عبد الله بن الزبير، قال : ثني عبد الله بن رستم، قال : سمعت بُرَيدة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول

ص: 246

لعليّ : "يا عَليُّ؛ إنَّ اللهَ أمَرَنِي أنْ أُدْنِيَكَ وَلا أُقْصِيَكَ، وأنْ أُعَلَّمَكَ وأنْ تَعي، وحَقٌّ على اللهِ أنْ تَعِي"، قال : فنزلت وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ(1) .

مسارالتحليل ويتضمن:

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية :

( أُذن):

وهي بحسب الأصل آلة السمع، قال الخليل :((يقال للرجل : هو أذن، وللمرأة : هي أذن، وللقوم كذلك، أي يسمع من كل أحد))(2) وبذلك فهي تستعمل بلفظٍ واحد للمفرد والجمع جاء في لسان العرب : ((والأُذْنُ والأُذُنُ يخفَّف ويُثَقَّل من الحواسّ أُنثى والذي حكاه سيبويه أُذْن بالضم والجمع آذانٌ))(3) ، واستعملت في المذكر ((قال أَبو علي : قال أَبو زيد : رجل أُذُنٌ... إذا كان مقالَ كلّ أَحد، قال ابن بري ويقال رجل أُذُنٌ وامرأَة أُذُنٌ))(4) .

وأشار ابنُ سيده (ت458ه) إلى أنَّ خروجها عن الأصل الذي استُعملت فيه للدلالة على الذات لواحدٍ من أمرين أحدهما : ((أن الاسم يجري عليه

ص: 247


1- جامع البيان : 29/ 67، ينظر : الكشف والبيان : 10/ 28، ومناقب علي بن أبي طالب : 337، وشواهد التنزيل : 2/ 247، والتبيان في تفسير القرآن : 11/ 325، وأسباب النزول : 329، والكشاف : 4/ 588 والدر المنثور : 8/ 588 ، ونور الثقلين : 7/ 361 وغيرها
2- العين (أذن ) : 8/ 199
3- لسان العرب (أذن) : 13/ 9
4- المصدر السابق : الصحيفة نفسها

کالوصف له لوجود معنى ذلك الاسم فيه وكذلك قوله تعالى : " هو أُذُنٌ"[ التوبة :61] أَجْرَى على الجملة اسم الجارحة لإرادته كثْرَةَ استعماله لها في الإصغاء بها ))(1) .

والأمر الآخر: (( ويجوز أن يكون فُعُلا من أَذِن إذا استمع والمعنى أنه كثير الاستعمال))(2) .

( واعية):

أما لفظة (واعية) فهي اسم فاعل مشتقة من الفعل الثلاثي (وعی )، وهي مصدر من ((وَعي العلمَ يَعِيه وَعْياً. وفي التنزيل : وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ وأوعى المتاعَ يُوعِيه إيعاء إذا جمعه في وِعاء...والوَعْي : مصدر وَعَى العلمَ يَعيه وَعْياً، إذا حفظه.

وأوعى المَتاعَ يوعيه إبعاءً : أحرَزه.))(3) وعن ابن جني (ت 392ه) : ((يقال :وعیت العلم إذا حفظته ووعيت الكلام أي حفظته قال الله تعالی (وتعيها أذن واعية) فإذا أمرت قلت :عِ يا رجل وعيا وعوا وعي يا امرأة وعيا وعين))(4) .

ص: 248


1- المخصص : 1/ 88
2- المصدر السابق : الصحيفة نفسها
3- جمرة اللغة (ع وه): 1/ 228
4- سر صناعة الإعراب : 2/ 341

قد اقترنت كثيرًا بلفظة (العلم) قال الزمخشري : ((وعيت العلم وعياً" وتعيها أذن واعية " ولفلان عين راعية، وأذن واعية : وأوعيت المتاع))(1) .

2- التوجيهات النحوية للفظة (أُذن) وما تعلق بها :

لهذه اللفظة علاقتان :

الأولى : إسنادية : فإنَّ إسناد الفعل (تعيها) لهذه اللفظة يُخرجها من الآلة التي يُسمع بها إلى كونها ذات عاقلة، إذ صاغ القرآن الكريم تركيبًا لغويًا حوَّل فيه الأداة السامعة إلى ذاتٍ عاقلة ، ويقرب من ذلك مجيؤها على هيأة اسم الفاعل وما يدلُّ عليه؛ لكونِهِ موضوع للذات المتصفة بالمصدر قائماً بالفعل(2) ، كذلك يتضمن المنعوت وحالاً من أحواله(3) .

الأخرى : وصفية : فنعتها ب( واعية) يحصرها في معنى المفرد من دون من إرادة الجمع لاشتراط النحويين المطابقة بين النعت والمنعوت في الإفراد والجمع(4) والنعت هو((التابع، المكمل متبوعه : ببيان صفة صفاته ))(5) ، بمعنى أن هوية المنعوت (أذُن) تعد ناقصة فيما لو تجردت من (الوعي) وهو يُوحي بمعنىً من الملازمةِ بينهما، وهذا الربط مع الصفة يخصصها ما يقلل من

ص: 249


1- أساس البلاغة (وع ي ) : 829
2- ينظر : شرح الرضي على الكافية : 3/ 413
3- ينظر : شرح الأشموني على ألفية ابن مالك : 2/ 316
4- ينظر : شرح الأشموني : 2/ 319
5- شرح ابن عقيل : 2/ 191

يُحتمل اشتراكه بهذا النعت، ففائدته كما قال الرضي : ((معنى التخصيص اصطلاحهم يقلل الاشتراك الحاصل في النكرات ))(1) وبهذا يمكن القول أن معنى (أذن واعية) شأنها أن تحفظ ما يجب حفظه بتذكره وإشاعته والتفكر فيه والعمل بموجبه(2) .

ولاسم الفاعل (واعية) دلالةٌ أخرى : فهو مشتق من الثلاثي (وعى )، والتعبير به من دون الرباعي يشير إلى أن من تلبس به (الوعي) يحفظُ ما يسمع من دون أن يحفظها في غيره ووفيه دلالة على استقلالية عن الآخرين في ذلك؛ قال الزجاج) : ((تقول لكل شيءٍ حفظته في نفسك : قد وَعَيْتُ العِلم وَوَعَيْتُ ما قُلتْ، وتقول لما حفظته في غير نفسك : أَوْعَيْتُه، يقال أوعيت المتاعَ في الوعاء))(3) وقال الرازي في تفسيره : ((يقال لكل شيء حفظته في نفسك وعيته ووعيت العلم ووعيت ما قلت ويقال لكل ما حفظته في غير نفسك أوعيته))(4) .

والهاء في (وتعيَها) يعود على ما عاد عليه في (ولنجعلها) وهو غرق السفينة؛ جاء في الميزان ((قوله تعالى : "لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية" تعليل لحملهم في السفينة فضمير"لنجعلها" للحمل باعتبار أنه فعله أي

ص: 250


1- شرح الرضي : 2/ 287
2- ينظر : الكليات : القسم الخامس : 57
3- معاني القرآن وإعرابه : 5/ 215- 216
4- مفاتيح الغيب : 30/ 107

فعلنا بكم تلك الفعلة لنجعلها لكم أمرا تتذكرون به وعبرة تعتبرون بها وموعظة تتعظون بما))(1) ، والواو حرف عطف يفيد الاجتماع والتشريك فيالحكم(2) ، والعطف في الآية من باب عطف الجمل ويؤتى به ليُعلم أن الكلامين فأكثر في زمانٍ واحد أو قصدٍ واحد(3) ، ف( وتعيَها) معطوفة على (ولنجعلها لكم تذكرة) والتقدير : (ولتعيَها)، واللام لام التعليل و((تجيء هذه اللام مبينةً سبب الفعل الذي قبلها ))(4) ، فالمعنى أن الغاية من سوقِ قصة سوقِ قصة نبيّ الله نوح (عليه السلام) مع قومه لأجل غايةٍ وهي تحقق الموعظة والاستماع لها بوعي وإنما يكون ذلك باتصاف الثلة المؤمنة بالوعي لما يستمعون من مواعظ وحكم، وإذا تحقق ذلك وإن كان تحققه في مصادیق محددة فهو الغاية المرجوَّة، ولذا عبَّر ب( أذن) دون (آذان) للدلالة على أن الأذن الواحدة إذا عقلت عن الله تعالی فهي المعتبرة عند الله من دونِ غيرها(5) .

3- الدلالة القرآنية للفظة ( أُذن) ومصاحباتها :

وهي بحسب التعبير القرآني استعملت بصيغة المفرد والجمع؛ إذ وردت

ص: 251


1- الميزان في تفسير القرآن : 19/ 218
2- ينظر : ارتشاف الضرب من لسان العرب : 3/ 177
3- ينظر : رصف المباني : 415
4- كتاب اللامات : 1/ 65
5- ينظر : الكشاف : 4/ 588

مفردة بغير قيد (النعت) في مقام التشنيع بمعنى (المستمع لكل قول) وهذا المعنى يتفق مع ما أشارت إليه معاجم اللغة(1) ؛ إذ وصف المنافقون الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بأنه (أُذُن )، إلاّ أن تقييدها بالنعوت أخرجها من هذا المعنى، قال تعالى : وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [ التوبة: 61]

ويُلحظ في هذه الآية أنها وردت مجردةً عن النعت في مقام الذم، وخرجت منه بنعتها (خير) من إضافة الموصوف إلى صفته مبالغة في الجودة والصلاح(2) ، فبالنعت خرجتْ من الذم إلى المدح وهو ما ينسجم مع الآية المبحوثة، فنعتها ب( واعية) هو تأكيد لهذا المعنى، وفي إسنادها إلى الضمير المنفصل (هو) دلالة واضحة على إمكانية استعمال هذه اللفظة قرآنيًا للتعبير عن الذات العاقلة.

واستعمل الجمع منها (آذان) فكشف أيضًا عن سماتٍ عدَّة أبرزها (الذم) فتكون سمات سلبية؛ ومما يؤكد ذلك قوله تعالى : وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا

ص: 252


1- ينظر لسان العرب (أذن ) : 13/ 12، وتاج العروس ( أذن ): 34/ 165
2- ينظر :روح المعاني : ج 7/ ص54، الجدول في إعراب القرآن : ج 10/ ص373

وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف: 179] وقوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت - 44](1) .

ويمكن القول بأن هذه السمات التي أبرزها هذه الآيات للفظتين هي :

آذان - تسمع + فيها وقر ، يراد بها الجمع

أُذُن + واعية + خير + تؤمن بالله + تؤمن للمؤمنين + رحمة للذين آمنوا + المفرد

وإيراد لفظة (أذن) بصورة المفرد من دون الجمع يوحي بندرة من يتصف بقيد( الوعي)؛ وهو ما أشار إليه الزمخشري بقوله : ((فإن قلت : لم قيل : (أذنٌ واعيةٌ) على التوحيد والتنكير؟ قلت : للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة ))(2) ، وأن التنكير فيها للتعظيم(3) وهذا المعنى منسجم مع الاستعمال القرآني؛ فإن لفظة (آذان) لم تستعمل في سياق الاستماع للخير، وأن من أسندت إليهم في عِداد الأنعام إذ لم ينتفعوا منها كما أوضحته الآيات

ص: 253


1- تنظر : الآيات : البقرة: 19، وفصلت : 5، و الأنعام: 25، و الأعراف : 175- 179، و الأعراف : 195، الإسراء : 46، الكهف : 57
2- الكشاف : 4/ 588
3- ينظر : تفسير ابن عرفة : 4/ ص 281

سالفة الذكر .

( وعی):

أما لفظة (وَعِيَ) فقد وردت في القرآن بمعنى الحفظ والجمع ؛ قال الفراء (ت207ه) : ((قوله عز وجل : (بمَا يُوعُونَ...) [الإنشقاق : 23]، الإيعاء : ما يجمعون في صدورهم من التكذيب والإثم ))(1) قال الراغب (ت 502ه) :(( الوعي : حفظ الحديث ونحوه، يقال : وعيته في نفسه قال تعالى : لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ والإیعاء : حفظ الأمتعة في الوعاء، قال تعالى : وَجَمَعَ فَأَوْعَى [المعارج : 18]))(2) .

ويُفهم من نعت ال( أذن) بالوعي أنه ليس المراد من هذا الوعي حفظ المواعظ وتذكرها لفظا فحسب، بقدر ما يعني الاستماع الذي يحمل صاحبه على الإنتفاع منها، بحيث يكون حصنًا مانعًا له من التردي في الهاوية، وهو أمر يحمل (الوعي) على معنى (العلم) فهي (أذُن) حفظت ما سمعت وعملت به، وعقلت عن الله تعالى وانتفعت بما سمعت من كتاب الله عز وجل(3) .

اعتبارا بما تم التوصل إليه فقد أبرز التعبير القرآني خصوصيَّة فريدة بما أبرزه من تفاعل المعنى المعجمي للفظة (أذن) مع معناها النحوي وهو ما كشف عنه

ص: 254


1- معاني القرآن : الفراء : 3/ 140
2- مفردات ألفاظ القرآن : 877
3- ينظر : معاني القرآن وإعرابه: 5/ 215 ، الجامع لأحكام القرآن : 2/ 3139

المركب الوصفي بالإضافة إلى الاستعمال القرآني للفظة ومقارنتها مع لفظة (آذان) .

إذ توصل البحث إلى السمات الدلاليّة المُميزة لهذه اللفظة بأنها ذات عاقلة تعي ما تسمع حافظة له في نفسها يندر وجود مثلها وهو ما خصَّصه وصفها ب( واعية )، وانمازت به عن دلالة لفظة (آذان) التي ورد استعمالها في موارد الذم المسندة إلى الأنعام، وهذه السَّمات التعبيرية إنما تكشف خصوصية مدلولها ومن اتَّصف بهما.

المطلب الثاني: في معنی (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ):

قال تعالى : وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ » [التوبة: 3].

مِهادُ التّنزيل:

وردت في كتب التفسير وأسباب النزول ما يشير إلى تعلق الآية الكريمة بالإمام علي (عليه السلام)، منه ما أخرجه ابنُ أبي حاتم الرازي (ت327ه) في تفسيره ؛ قال : ((ذُكِرَ عَنْ عَبَّادِ بْنِ يَعْقُوبَ، ثنا عَليُّ بْنُ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي الْجَارُودِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حُمَيْد، قَالَ : قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ" إَنَّ لِعَلِيًّ فِي كِتَابِ اللهِ اسْمًا وَلَكِن لا تَعْرِفُونَهُ قُلْتُ : مَا هُوَ ؟ قَالَ : أَلَمْ تَسْمَعَ قَوْلَ اللهِ :

ص: 255

وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ هُوَ وَاللهِ الأَذَانُ))(1) .

وكذلك ماذكره ابن مردویه (ت410ه) قال: ((عن عليًّ (رضي الله عنه) قال : لمَّا نزلت عشر آياتٍ من براءة على النبي (صلى الله عليه وسلم) دعا أبا بكر ليقرأها على أهل مكّة، ثمَّ دعاني فقال لي : (أدركْ أبا بكر فحيثما لقيتهُ فخذ الكتابَ منه )، ورجع أبو بكر، فقال : يارسول الله، نزل فيَّ شيء ؟ قال :( لا، ولكن جبريل جاءني فقال : لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك)))(2) .

مسار التحليل ويتضمن:

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية :

( الأذان):

وهو إمَّا من (أَذِن) بمعنى عَلِم اسمُ مصدرٍ من الإيذان فهو إعلام، وهو على وزن (فَعال )، أو من (أذَّن) المُضعَّف اسمُ مصدرٍ من التَّأذين ؛ قال الأزهري) : ((يُقال : قد آذَنْتهُ بكذا وكذا، أُوذِنه إيذاناً، إذا أَعْلمتُه؛ وقد أَذِنَ به يَأْذَن، إذا علم... وقوله عز وجل : وأذانٌ من الله ورسوله إلى الناس» أي إعلام. يقال : آذَنْتُه أُوذِنه إيذاناً وأَذانا.ً فالأذان : اسْمٌ يقوم مقام الإيذان،

ص: 256


1- تفسير ابن أبي حاتم الرازي المعروف بالتفسير بالمأثور : 5/ 5، ينظر : تفسیر فرات الكوفي : 159، وتفسير القمي 1/ 282 ، وتفسير العياشي : 2/ 82 ، والدر المنثور : 10/ 126
2- مناقب علي بن أبي طالب : 252، والكشاف : 2/ 235 ، وتفسير القرآن العظيم : 2/ 316 ، وفتح القدير : 1/ 757 ، ونور الثقلين : 3/ 76

وهو المَصْدر الحقيقيّ.))(1) وفي الصحاح ((أَذِنَ له في الشيء إذْناً... يقال : ائْذَنْ لي على الأمير. وأَذِنَ، بمعنى عَلِمَ... وأَذِنَ له أَذَناً : استمع.. والأَذانُ : الإعلامُ. وأَذانُ الصلاة معروف))(2) وفي مقاییس اللغة (( والأصل الآخر العِلْم والإعلام. تقول العرب قد أذِنْتُ بهذا الأمر أي عَلِمْت. وآذَنَني فُلانٌ أعلَمَني. والمصدر الأَذْن والإيذان... وفي الباب الأذان، وهو اسم التّأذين، كما أنّ العذابَ اسمُ التَّعذيب ))(3) .

ويبدو للباحث أنَّ المناسب في الآية الكريمة أن يكون (الأذان) مشتقًا من (أذّن) المضعَّف، فيكون الأذانُ اسمًا للتأذين كما ذكر ابنُ فارس؛ باعتبار أنَّ التَّضعيف فيه معنى المبالغة، وهو منسجمٌ أن يكونَ الأذانُ واصلاً إلى كلَّ النَّاسِ، ويؤيده قوله تعالى : إِلَى النَّاسِ قرينة عليه .

والآيةُ الكريمة المبحوثة تشيرُ إلى إعلامٍ مهم بُیَّنتْ معالمه؛ فهو صادر من الله تعالى إلى كلَّ الناس متضمنًا براءة اللهِ ورسوله من المشركين إلى أجلٍ معلوم، وإعلام بهذه المضامين لابد من أن يحمل بين جنباته سمة المبالغة والتعظيم فهو إعلامٌ بأمرٍ مخصوص.

ونقل سيبويه قول بعض العرب في التمييز بين الفعل آذن وأذّن؛ قال :

ص: 257


1- تهذيب اللغة (أذن ) : 15/ 15 ، وينظر : لسان العرب (أذن ) : 13/ 10
2- الصحاح (أذن ) : 5/ 2068
3- مقاییس اللغة (أذن ) : 1/ 77

((آذنتُ : أعلمتُ؛ وأذَّنتُ : النداءُ والتصويت بإعلانٍ))(1) ، فهو ليس مجرد إعلام، بقدر ما هو محاولة تبليغ مضمون مخصوص من الله إلى الناس .

2- التوجيهات النحوية للفظة (أذان) وما تعلق بها :

دلالة اسم المصدر:

يُلحظ أن لفظة ال( أذان) جاءت كميأة اسم المصدر، وهي ما يُوحي بالاسمية المبتعدة عن مجرد الحدث ؛ قال ابن هشام في معنى اسم المصدر وأنواعه : (( والثالث ما اختلف في إعماله وهو ما كَانَ اسماً لغير الحدث، فاستعمل له، ك( الكَلاَم) فإنِه في الأصل اسمٌ للملفوظ به من الكلمات، ثم نقل إلى معنى التكليم، و(الثَّوَاب) فإنه في الأصل اسمٌ لما يُثَابُ به العمَّال ثم نقل إلى معنى الإثابة))(2) واسم المصدر من الناحية التصنيفية هو مصدر (حدث )، إلا أنَّ استعماله بيأة اسم المصدر يخلصه إلى معنى الاسمية الموضع استعماله فيه، بمعنى أن يراد به مسمى (المؤذن والأذان) مبالغة في تأذينه وإعلامه.

ومنه قولنا: رجلٌ عدل، مبالغة في عدله؛ قال أبو منصور الثعالبي (ت 429ه) : ((في إقامة الاسم والمصدر مقام الفاعل والمفعول : تقول العرب : رجل عدلٌ أي عادل، ورضي أي آتياً. وكما قال جل جلاله"

ص: 258


1- الكتاب : 4/ 62
2- شرح شذور الذهب : 421

حجاباً مستوراً "، أي ساتراً .))(1) ، وفي المخصص (( العرب تتصَرَّف في المَصادِر فتوقُع بعضَها على اسم الفاعِل وهو على الحقيقة له كالضَّرْب والقَتْل لما يُوقِعه الضاربُ والقاتلُ وقد يُوقِعونه على الفاعل كقولهم رجلٌ عَدْل وماءٌ غَوْر في معنى عادلٍ وغائِر))(2) .

ونجد أن العرب استعملت لفظة ( الأذين) تارة بمعنى الأذان) وأخرى بمعنى ( المؤذن) وهو ما أشار إليه ابن فارس؛ يقول : (( ومن الباب الأذان، وهو اسم التّأذين، كما أنّ العذاب اسمُ التعذيب، وربما حوّلوه الى فَعِيل فقالوا أذِينٌ. قال : حتّى إذا نُودِيَ بالأَذينِ

والأذين أيضاً : المؤذَّن. قال الراجز :

فانكشحَتْ له عليها زَمْجَرَهْ *** سَحْقاً وما نادَى أَذِينُ المدَرَهْ

أراد مؤذَّن البيوت التي تبنَي بالطَّين واللّبِن والحجارة.))(3) .

وفي لسان العرب قال : (( وقال جرير يهجو الأَخطل :

ولقد جَزِعْتُ على النَّصارى بعدما *** لَقِيَ الصَّليبُ من العذاب معِينا

هل تَشْهدون من المَشاعر مَشْعراً *** أَو تسْمَعون من الأَذانِ أَذِينا؟

والأَذِينُ ههنا بمعنى الأَذانِ أيضاً، قال : وقيل الأذينُ هنا المُؤَذَّن))(4) .

ص: 259


1- فقه اللغة : 376
2- المخصص : 4/ 269
3- معجم مقاییس اللغة : 1/ 77 ، والراجز هو الحصين بن بكير الربعي
4- لسان العرب : 13/ 14

وهذا الاستعمال قرينةٌ على قرب اللفظتين ليكون مسوغاً أن يُرادا معاً.

إعراب (أذان):

في إعرابها وجهان :

الأول :

أن يكون خبرًا لمبتدأٍ محذوف تقديره : هذا أذانٌ من الله ورسوله .

الآخر : أن يكون مبتدأ وإن كان نكرة، والمسوغ وصفه بجملة( الله ورسوله)، و(إلى الناس) الخبر(1) ، ويرجح الوجه الثاني بلحاظ أن لفظة ال( أذان )، لم ترد في مورد آخر في القرآن الكريم، فينسجم مع دقة التعبير القرآني تعريف اللفظة بشبه الجملة الجار والمجرور، في حين أن الوجه الأول من الإعراب لايحقق هذا المعنى.

3- الدلالة القرآنية للفظة ال( أذان) ومصاحباتها :

الاستعمال القرآني للفظة (الأذان) لا يساعد كثيرًا على إبراز السمات الدلالية لهذه اللفظة؛ باعتبار عدم إيرادها في مورد آخر، ومن ثَمَّ يتعين النظر والتأمل في السياقات التي وردت فيها ألفاظٌ أُخَر، تشترك مع لفظة (الأذان) من جهة الاشتقاق وهما لفظتا (تأذَن) و(مؤذَّن).

(تأذَّن) : من خلال السياقات القرآنية التي وردت فيها هذه اللفظة يتبيَّن

ص: 260


1- ينظر : الكشاف : 2/ 235 ، التبيان في إعراب القرآن: 1/ 47

أنَّ لل(أذان) سمتين :

إحداهما: سمة التهديد:

وتتضح هذه السمة من خلال علاقتها بلفظة (تاذَّن) وهي أقرب الألفاظ إليها؛ قال تعالى : وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف: 167].

قال الجوهري : ((آذَنْتُكَ بالشيء : أعلمتُکَه ... وتقول : تأذّنَ الأميرُ في النَّاس، أي نادي فيهم في التَهَدُّدِ والنَّهي، أي تقدَّم وأعْلَمَ.))(1) ، ف(الأذان لابد من أن يتقدمه منادٍ (مؤذَّن) يُعلم الآخرين به ويكون في صورة التهديد.

وال( تَّأذن) وإن كان موافقاً لمعنى (الأذان) من جهة الإعلام، إلا أنّ فيه أيضًا معنى التهديد؛ قال الخليل :(( والتَّأَذُّنُ من قولك : تَأذَّنْتُ لأَفعَلَنَّ كذا، يُرادُ به إيجاب الفعل في ذلك، أي سأفعَلُ لا مَحالةَ... وتَأَذَّنْتُ : تَقَدَّمْتُ کالأمير يَتَأَذَّنُ قبلَ العُقوبة، ومنه : " وإذ تَاَذَّنَ رَبُّكَ" .))(2) ، ويُلحظ هذا في الآية الكريمة المذكورة ويدل عليه قوله : «مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ»، وهذا المعنى ملاحظٌ أيضاً في قوله تعالى : وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7]، وهذه هي السمة

ص: 261


1- الصحاح في اللغة (أذن ) : 5/ 2069
2- العين : 8/ 200

الأولى للفظة (الأذان) بأن يكون متضمناً معنى التهديد الوعيد، وهذا المعنى منسجم مع موضع إيراد( أذان من الله) إذ قال تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} [التوبة: 2]

(مَنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) :

وهذه السمة أي سمة التهديد نلمسها أيضًا عِبْرَ شبه الجملة الجار والمجرور والمعطوف عليه مِنَ اللهِ وَرَسُولهِ ، التي وقعت وصفاً ل(الأذان)، وقد تكررت في موردين آخرين من القرآن في سياق التهديد(1) ؛ قوله تعالى : فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ [البقرة : 279] فهي وصفٌ لل( حرب على مَنْ أكلَ الربا، وأيضاً : بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 1] وهي وصفٌ لبراءته سبحانه من المشركين.

والسمة الأخرى لهذا ال( أذان ): هي المبالغة والتعظيم:

ونلمسه عبْرَ علاقتين :

الأولى : العلاقة الإسنادية المتجلية بالخبر (إلى الناس) إذ أُسند إليه، ويُلحظ بأنه لم يردْ أي الجار والمجرور مسندًا في موردٍ آخر على مستوى

ص: 262


1- ينظر : المعجم المفهرس : 402

الاستعمال القرآني(1) ، وهو ما يشير إلى خصوصية ال( أذان) واكتسابه صفة الشمول والعظمة بإيصال مضمونه إلى كل الناس وليس فقط إلى المشركين .

الأخرى : جملة أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وهي بتقدير المصدر المؤوّل في محلّ جرّح بحرف جرّ محذوف هو الباء متعلّق بنعت ل(أذان)(2) ، وفتحة (أنَّ) من دون كسرها يُبعد ال( أذان) عن معنى القول(3) وما يميز هذه الجملة عن نظائرها أمران :

1- إنَّ الخبر (بريء) لم يردْ مسندًا إلى لفظ الجلالة في مورد آخر من القرآن الكريم، في حين أنه ورد مسندًا إلى بعض الأنبياء ولم يرد معه لفظ الجلالة ؛ قال تعالى : فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام: 78](4) .

2- إن براءة الله من (المشركين) تعني براءته من تلك الذوات التي تلبست بالشرك؛ فهي براءةٌ مركبة من الشَّرك والمشركين، في حين أنَّ براءة الأنبياء من فعل الشرك من دون الذوات بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، ومما تقدم فإن هذه الجملة المساوية لمضمون الأذان على سبيل التفصيل تشير إلى

ص: 263


1- ينظر : المعجم المفهرس : 895- 896- 897- 898- 899
2- ينظر : الجدول في إعراب القرآن : 5/ 279
3- ينظر : الكشاف : 2/ 237
4- تنظر : الآيات : الأنعام :19، وهود : 54: حيث تكررت فيها جملة (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)، المعجم المفهرس : 148

عظمته مقارنةً بغيره .

(مؤذَّن):

وردت لفظة (مؤذَّن) على مستوى الاستعمال القرآني في موردين(1) ؛ وهما قوله تعالى : فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ [يوسف: 70]، وقوله تعالى : وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الأعراف : 44](2) ، وسياق الوعيد والتهديد يُفهم من مضمون الأذان ، بقرينتين في الأولى( إنكم لسارقون) وفي الثانية (لعنة الله على الظالمين).

وال( مؤذن) في الآية التي سبق ذكرها[ الأعراف :44] هو من رجال الأعراف في قوله تعالى : وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ [الأعراف: 46](3) ؛ لجهة اشتراكٍ بينهما في تعلقهما بألفاظٍ مشتركة، وهي أن ال(مؤذَّن) قام بوظيفة الإعلام لأهل المحشر بنداء (اللعنة على الظالمين)، قال

ص: 264


1- ينظر : المعجم المفهرس : 33
2- هذه الآية من الآيات التي وردت بشأنها روايات عديدة بأن (المؤذن) هو الإمام علي (عليه السلام ) : ينظر : نور الثقليلن : 2/ 459
3- هذه الآية من الآيات المتعلقة بالإمام علي عيه السلام وسيأتي بيانها قريبا

الراغب الأصفهاني (ت 502ه) : ((المؤذَّن : كلُّ مَنْ يُعلم بشيءٍ نداء))(1) ، وأيضاً توسط المؤذَّنِ وأصحابِ الأعراف بين خصوم أهل المحشر بقرينة (بينهم) و(بينهما) في كلتا الآيتين .

ويمكن أن تحدد صفة المؤذَّن ومنزلته، إذا ما علمنا بأن الفعل (أذَّن) أُسند إلى الضمير العائد إلى سيدنا إبراهيم الخليل (عليه الصلاة والسلام) في قوله تعالى : وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج: 27] وهو أيضا أذانٌ عام عظيم، وجب إعلامه إلى كل الناس، قال ابن عاشور : (( و(أذّن) بما فيه من مضاعفة الحروف مشعر بتكرير الفعل، أي أكثر الإخبار بالشيء. والكثرة تحصل بالتكرار وبرفع الصوت القائم مقام التكرار. ولكونه بمعنى الإخبار يُعدّى إلى المفعول الثاني بالباء . والناس يعمّ كل البشر، أي كل ما أمكنه أن يبلغ إليه ذلك))(2) .

ويخلص الباحث إلى القول : بأن هناك أذانًا عظيمًا فيه سمةُ التهديد إلى المشركين، ومن أبرز سماته ما أوضحه المركب الوصفي بأنه أذانٌ من الله ورسوله، وهو بذلك يشير إلى عظمة مَن يُبلِّغه، كونه مبلِّغًا عن الله ورسوله، كما يُشعر بمدى ارتباطه وعلاقته في مَن كلَّفه أداء هذا النداء العظيم. وقد أبرز هذا التعبير القرآني خصوصية هذه المفردة على مستوى الاستعمال القرآني وهو

ص: 265


1- مفردات ألفاظ القرآن : 70
2- التحرير والتنوير : 17/ 175

ما يبرز خصوصية مَن تشير إليه.

المطلب الثالث: في معنی (شاهد منه):

قال تعالى : أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ »[هود: 17].

مِهادُ التّنزيل:

وردت مجموعةٌ من الروايات مفادها بأنّ قوله تعالى : وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ من الآية الكريمة يُراد به الإمام علي (عليه السلام)، ولتعلق الآية به بهذا المقدار، فإن منهجيَّة البحث تقتضي تحديد المعنى النحوي الدلالي لهذا المركب .

ومن تلك الروايات ما أخرجه الحِبَري في تفسيره قال :(( حدثنا إسماعيل بن صبيح، قال : حدثنا أبو الجارود ، عن حبيب بن يسار، عن زاذان، قال : سمعتُ علياً عليه السلام يقول :"... ما من قريشٍ رجلٍ جرت عليه المواسي، إلا أنا أعرف به، آيةٌ تسوقه إلى جنةٍ، وآيةٌ تسوقه الى نارٍ؟؟. فقام رجُلٌ ، فقال : ما آيتك يا أمير المؤمنين التي نزلت فيك؟ فقال علي : قال : أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ» فرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم على

ص: 266

بيَّنة من ربه وأنا الشاهد منه))(1) .

مسار التحليل ويتضمن:

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية :

(شاهد):

وهو اسم فاعل من شَهِد، ويدور معني جذره الاشتقاقي حول الحضور والإعلام؛ جاء في الجمهرة ((شهِدَ الرجلُ يشهَد شهادةً فهو شاهد وشهيد. والأشهاد : جمع شَهْد، مثل صحْب وأصحاب. والرجل شاهد وشهيد، وقد جمعوا شهيداً على شُهَداء ... والشاهد : خلاف الغائب))(2) و ((شَهِدَ فلانٌ بِحَقَّ فلانٍ شَهَادَةً، فهو شاهِدٌ وشَهِيْدٌ))(3) ، وقال الراغب الأصفهاني (ت 502ه) في المفردات : ((الشهودُ والشهادةُ : الحضور مع المشاهدة؛ إما بالبصر، أو بالبصيرة))(4) ، ف( الشاهد) لابدَّ من أن يكون

ص: 267


1- تفسير الحبري : 277 ، ينظر أيَّضا: جامع البيان : 12/ 21 ، تفسير العياشي : 2/ 153 ، وتفسیر فرات : 188، والكشف والبيان : 5/ 162 ، والتبيان في تفسير القرآن : 7/ 464 ، وشواهد التنزيل : 1/ 281، ومجمع البيان : 12/ 281 ، والجامع لأحكام القرآن : 1/ 1555 ، والإتقان في علوم القرآن : 804، والدر المنثور : 12/ 410 ، وفتح القدير : 1/ 830 ، ونور الثقلين : 3/ 262 ، و تفسير اللباب : 10/ 458، وروح المعاني : 12/ 41 ، وغيرها
2- جمهرة اللغة (د ش ه ): 1/ 774
3- المحيط في اللغة (شهد ) : 3/ 388
4- مفردات ألفاظ القرآن (شهد): 456

حاضرًا ليؤدي شهادته .

( يتلو)

وهو فعل مضارع من (تلا) وأصل معناه الإتَّباع فيما يسند إليه؛ والمصدر منه تُلُوُّ وتلاوة؛ قال الخليل :((تَلَا فلانٌ القرآن يتلُو تِلاوةً، وتَلَا الشيءَ : تَبِعَه تُلُوّاً ، والأمَّهاتُ هُنَّ المَتالي، تلاهُنَّ أولادُهنَّ : الواحدُ مُتْلٍ... وكلُّ شيءٍ تَلَا يتلُو شيئاً فهو تِلْوُه.))(1) و((تلا يَتْلُو تلاوَةً : أي قَرأ. والمُتَلّی : المُرَدَّدُ للتَّلاوَةِ. وتلاه : أي رَوَاه. وتَلا الشيْءُ يَتْلُو تُلُوّاً : تَبعَ، فهو تال : تابع .))(2) وقال ابن فارس :(( التاء واللام والواو أصلٌ واحد، وهو الاتَّباع . يقال : تَلَوْتُه إذا تَبِعْتَه. ومنه تلاوةُ القُرآن، لأنّه يُتْبع آيةً بعد آية . ))(3) .

2- التوجيهات النحوية للفظة (شاهد) وما تعلق بها : تكشف العلاقاتُ النحويَّة عن المراد بال(شاهد) وذلك من جهاتٍ عدّة؛ أولها العلاقة الإسنادية في قوله تعالى :وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ، إذ تشير إلى جانبٍ من معنى ال(شاهد)؛ باعتبار أنَّ إسناد الفعل (يتلو) يجعل المسند إليه ملازمًا لمن يتبعه ومتصلاً به، من غير أن يحول بينهما ما ينافي التبعية والاتصال، قال الراغب :((تلاه : تبعه متابعة ليس بينهم ما ليس منها،

ص: 268


1- العين ( تلو): 8/ 134
2- المحيط في اللغة (تلو): 9/ 460
3- مقاییس اللغة (تلو): 1/ 351

وذلك يكون تارة بالجسم وتارة بالاقتداء في الحكم))(1) ، ومنه يفهم أن المتابعة بهذا المعنى هي التي أهّلت ال(شاهد) أن يكون حجةً وبيّنةً في تصديق من يتلوه دون غيره، والشاهد يسمى بيّنة في مقام الإثبات والاحتجاج .(2)

والشطر الآخر الذي يُساهِم في تحديد معناه، يعتمد على مرجعية الضمير في ( يتلوه )، وهو لا يرجع على( بينة) باعتبارها مؤنثة، فانحصرت مرجعيته بالاسم الموصول (مَن) في قوله تعالى : أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ(3) ، وهو - أي الاسم الموصول - وإن كان قابلاً أن يُراد به المفرد والجمع، إلاّ أن مرجعيّة الهاء عليه تجعله في حيز المفرد، ولتحديد المراد به لامناص من الرجوع إلى السياق القرآني لاحتمال صحة عودة الضمير على أكثر من مرجع وسيرد بیانه .

والأمر الآخر أن (شاهد) نكرة ولذلك يحسن تعريفها بالجار والمجرور( منه) إذ الجمل صفات بعد النكرات ولاسيّما المحضة الشائعة(4) ، إلا أن هذا المعرفة تعتمد أيضًا على تحديد مرجعيّة الضمير (منه )، فهل يعود على (ربه) ؟ أو على (مَن كان على بيَّنة من ربه)؟

ومما يُرجَّح الثاني أنَّ جملة (يتلوه شاهد منه) معطوفة على جملة

ص: 269


1- مفردات ألفاظ القرآن (تلی): 167
2- ينظر : مفردات ألفاظ القرآن : 157
3- ينظر التحرير والتنوير : 17/ 244
4- ينظر :مغني اللبيب : 2/ 89 ، والنحو الوافي : 1/ 213

الصلة (كان على بيّنة من ربه) ، فهو جزءٌمن مضمون هذه الصلة، ومن ثمَّ يكون ال(شاهد) معهودًا للمخاطب في الاتِّباع والشهادة؛ وهو ما أشار إليه الرضي وابن یعیش سابقًا في أكثر من مورد، فشبه الجملة من الجار والمجرور (منه) يكشفُ عن مستوى العلاقة بين الشاهد والمشهود له المُعبَّر عنه بالاسم الموصول .

3- الدلالة القرآنية للفظة (شاهد) وما تعلق بها :

(من كان على بيَّنةٍ من ربَّه):

لتحديد المراد ب( مَنْ) يتطلب ملاحظة دلالة جملة الصلة (كان على بينة من ربه )، والتعبير القرآني يشهد بأن المراد ب( مَنْ) هو الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو ما ذهب إليه الفراء(1) ؛ ويُلاحظ أولاً أنَّ هذه الجملة المحصر استعمالها قرآنيًا في الأنبياء بتعبيراتٍ مختلفة؛ وهي قوله تعالی : قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ [هود: 28] وهي خاصة بنبي الله نوح (عليه السلام) بحسب الآيات التي قبلها(2) ، وقوله تعالى : قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ

ص: 270


1- ينظر : معاني القرآن : الفراء : 1/ 327
2- تتمثل هذه الآيات في قوله تعالى : «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ - أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ - فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ- [هود 25- 27]

عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ [هود: 63]، خاصة بنبي الله صالح (عليه السلام) بحسب الآيات التي قبلها(1) ، وقوله تعالى : قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود: 88] خاصة بنبي الله شعیب (عليه السلام) بحسب ما قبلها من السياق(2) .

أما ما ورد بشأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو قوله تعالى : أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ »[محمد: 14] و قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ » [الأنعام: 57]، ويلاحظ أن هذا المقطع في الآية الأخيرة ورد مؤكداً ب( إني) وهي جملة خبرية خاصة بنبينا الكريم، في حين أنَّ بقيةَ الآيات الخاصة بالأنبياء قد ورد فيها بصيغة الجملة الشرطية (إن كنتُ) وهي معلقة على المستقبل، والشرط بعد إنْ في احتمال الوجود والعدم ؛ لأنها

ص: 271


1- وهي قوله تعالى : قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [هود :62 ]
2- وهي قوله تعالى : قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود :87 ]

((موضوعةٌ لشرط مفروض وجوده في المستقبل، مع عدم قطع المتكلم، الابوقوعه فيه، ولا بعدم وقوعه))(1) ، فمن المناسب أن يكون المراد بقوله تعالى : أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ في الآية المبحوثة رسول الله محمد صلی الله عليه وآله وسلم، لتعلقه به على نحو الوجود المقطوع به لدلالة الجملة الخبرية عليه وهي إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي الواردة في سورة الأنعام، وهذا المعنى ينسجم مع تكامل الإيمان في شخص الرسول الكريم بوصفه خاتم الأنبياء .

وقد جاء مؤكداً ب( إني) في قوله قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي من سورة [الأنعام: 57] وهو ما يُنبيء عن مستوى التشكيك في رسالته، ولذلك استدعت المواجهة مع المنكرين لها أن يأتي بمَن يشهد له على صدق دعواه، قال الزمخشري (ت 538ه) في الكشاف : ((كان على بينة (مّن رَّبّهِ) أي على برهان من الله وبيان أنّ دين الإسلام حق وهو دليل العقل (وَيَتْلُوهُ) ويتبع ذلك البرهان (شَاهِدٌ مّنْهُ) أي شاهد يشهد بصحته ))(2) ، وما انفرد به الرسول الكريم عن بقية الأنبياء ، أن يتبعه شاهد منه، فالشاهد يكون بينةً على صدق الرسول في ما أتى به، وشبه الجملة الجار والمجرور (منه) بعد ال(شاهد) تعرفه باعتباره نكرة والجمل بعد النكرات صفات .(3)

ص: 272


1- شرح الرضي على الكافية : 3/ 185 ، پنظر منه أيضا : 4/ 91
2- الكشاف : 2/ 370
3- ينظر : مغني اللبيب : 2/ 89

( يتلو):

استُعملت المادة اللغوية لهذا الفعل على مستوى الاستعمال القرآني في معنيين :

الأول : بمعنى القراءة؛ والأكثر فيها تعدِّيه ب( على) أو اقترانه ب( الكتاب أو الصحيفة او الآيات) ومنها قوله تعالى : رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة : 129] و : لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [ال عمران : 113] و «رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً [البینة: 2]

وغيرها من الآيات(1) ، وكثيرًا ما يُسند هذا المعنى إلى الرسل كما في قوله تعالى : وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ » [القصص: 59] .

الآخر: وهو ما يوحي بتتابع الشيء الذي أُسند إليه، من الوحي والذكر والكتاب ونزول الملائكة ومنه قوله تعالى : وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا» [الشمس : 2] وتجرد الفعل (يتلوه) في الآية مورد البحث من التعدية ب( على) يُقرِّبه من المعنى الثاني من دون أن يُراد به الأول وهو ما ينسجم مع سياق الآية مورد البحث.

ص: 273


1- تنظر الآيات القرآنية : البقرة : 12 - 113- 115، وآل عمران : 164 ، و الحج :72، وفاطر: 29، والزمر: 71، والجمعة : 2، والطلاق : 11

(شاهد):

جاء في الكليات ((قال المفسرون شَهِد بمعنى (بيَّن) في حق الله وبمعنى (أقرَّ) في حق الملائكة وبمعنى (أقرَّ واحتجَّ) في حق أولي العلم من الثقلين ))(1) والاستعمال القرآني لم يبتعد في استعماله لهذا الفعل عن معنى الحضور والعلم، إلا أنَّه استعمل مادة (ش ه د) وما اشتُق منها أيضًا في مقام الاحتجاج على الآخر وإثبات المُدعى وتحصيل الإقرار .

ومنه قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ »[البقرة:8] وفَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ »[آل عمران :52] و«قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ »[آل عمران : 64] ووَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران :81] و «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [لیس: 65] وغيرها، ومن الواضح أنّ معنى الإقرار أوالبيِّنة بأمر ما له ارتباط بمعنى العلم

ص: 274


1- الكليات : القسم الثالث : 61

والحضور في استعمال هذه المادة اللغوية .

والشهادةُ الحقَّة لا تكون إلآّ عن علم وبها يتميَّز الشاهد عن غير قال تعالى : ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ [يوسف:81]، إلاّ أن معنى الشهادة أخصُّ من معنى العلم حسب ما يرى أبو هلال العسكري، قال : ((إن الشهادة أخص من العلم وذلك أنها علم بوجود الأشياء لا من قبل غيرها، والشاهد نقيض الغائب في المعنى، ولهذا سمي ما يدرك بالحواس ويعلم ضرورة شاهداً، وسمي ما يعلم بشئ غيره وهو الدلالة غائباً كالحياة والقدرة ))(1) ومنه يفهم أن علم الشاهد بالشيء لا يكون بواسطة من غيره إذ لابد فيه من المعاينة بنفسه، وإلا لم يُعتدَّ بشهادته وكان مجردَ علم، ولذلك قال أهل اللغة : ((الشهادة خبرٌ قاطع))(2) .

ويرجُح أن يكون ال( شاهد) من جنس من يشهد له، باعتبار أن شهادته تكون أدحض لحجة المنكرين، وأثبت في تصديق ما يدعيه المُدَّعي، وقد أشار التعبير القرآني إلى هذا المعنى في آيتين؛ قال تعالى : قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ » [محمد: 14] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا

ص: 275


1- معجم الفروق اللغوية : 305
2- الصحاح في اللغة (شهد ) : 2/ 494 ، ينظر : القاموس المحيط : 2/ 768

يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأحقاف: 10]، ولفظة (شاهد) وإن استعملت في القرآن وأريد بها رسولنا الكريم، إلا أنَّ دلالة الموصول (مَنْ) عليه في الآية الكريمة مورد البحث ، يخرجه من هذا المعنى؛ إذ لايمكن أن يكون شاهدًا ومشهودًا له من جهةٍ واحدة .

والظاهر أن اللفظة بحسب استعمالاتها التي وردت فيها، تدل على معنى البيِّنة والحجَّة في مقام إثبات صدق المُدَّعى فالرسول شاهدٌ على الأمّة، قال تعالى : إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا [المزمل: 10]، وأنّ الدخول في طائفة الشاهدين تحتاج إلى تحقيق مقدمتين؛ هما الإيمان واتِّباع الرسول، قال تعالى : رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران : 53]، ومنه يفهم أن ال(شاهد) في آية البحث هو دليلٌ على صدق الرسول وهو من الذين آمنوا واتبعوا الرسول، بدليل التعبير عنه بأنه (شاهد) وإسناد الفعل (يتلو إليه الدال على التبعيّة المتواصلة للمتبوع.

والفرق بين لفظة (شاهد) و(شهيد ) : ((أن الأول بمعنى الحدوث والثاني بمعنى الثبوت، فإنه إذا تحمل الشهادة فهو شاهد باعتبار حدوث تحمله، فإذا تحمله لها زمانين أو أكثر فهو شهيد.))(1) وهذا الحدث والتجدد في (شاهد) باعتباره اسم فاعل في حين أن (شهید) صفة مشبهة فالشهادة فيه أكثر ثبوتًا، فالتعبير ب( شاهد) يشير إلى استعداده في تحمله لأداء الشهادة في تصديق النبي

ص: 276


1- مجمع البحرين : 3/ 79- 80

بخصوص ما أرسِل به في كلَّ حين وهوما يكشف عن دقَّة التعبير القرآني في التعبير بلفظة (شاهد) .

ويبدو أن هناك علاقة بين آية البحث وآية المباهلة؛ باعتبار أن كلتا الآيتين سيقت لإثبات صدق الرسول فيما يدعيه من أمور تتعلق بالتوحيد والرسالة وإبطال مايثيره الكفار من شكوك من شأنها إثارة الفتن، ويؤيد هذا المعنى أنه سبحانه ختم آية البحث - بعد أن قدَّم البيِّنة بصدق الرسول بأنه على بينة من ربه، وله شاهد منه يتبعه ويُصدِّقه في دعواه، وكتاب موسى يشهد أيضاً بصدق الرسول وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً ف(کتاب موسی) على العطف من يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ(1) - فبعد هذه البيِّنات والحجج ختمَ بجملة فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لدفع الريبة بهذه الحجج.

وفي آية المباهلة قال تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [آل عمران : 60] ، فلابد من أن يدفع الريبة أيضاً بمن يشهد له ويصدِّقُه ويتَّبِعُه فقال : فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران : 61]، ووجه العلاقة بين الآيتين أنه من الممكن أن يكون الشاهد واحداً في الآيتين بقرينة (منه) في الأولى و( ندع...أنفسنا) في الثانية،

ص: 277


1- ينظر : معاني القرآن وإعرابه : 3/ 44

فهو من الرسول بمنزلة نفسه وشاهد على صدق معناه في الآيتين، وقد اقترن الفعل (ادعوا) بالدعوة إلى الشهادة في قوله تعالى : وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة :23] وهو ما يؤيد أن تكون الدعوة إلى التباهل في مقام الشهادة على تثبيت الحق ولأجل دفع الريب .

ومما تقدم يخلص الباحث إلى القول بأن المركب الوصفي (شاهدٌ منه) أبرز خصوصيِّة مَن يشير إليه، لأنه يكشف عن ارتباط الشاهد بالرسول صلی الله عليه وآله وسلم، وأشار التعبير القرآني إلى ارتباطه به عبر العلاقة الإسنادية للفعل (يتلو) الدال على المتابعة التي أهَّلته لأن يكون شاهدًا على صدق الرسول، وهو بهذه السِّمات الدلاليّة التي كانت بسبب تفاعل المعنى المعجمي اللفظة (شاهد) مع معناها النحوي عبر علاقتها مع الألفاظ الأخرى إنما يكشف عن خصوصية مدلولها، ويأتي تأييد الاستعمال القرآني لهذه الخصوصية في عدم استعمال المركب الوصفي الذي تمّت الإشارة إليه إلا في خصوص العلاقة بين الشاهد والمشهود له .

المطلب الرابع: في معنی( رجالٌ يعرفون):

قال تعالى : وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ - وَنَادَى أَصْحَابُ

ص: 278

الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ - أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [الأعراف: 46 -49].

مهاد التنزيل :

تتحدث الآياتُ الكريمة على (أصحاب الأعراف) ومن صفاتهم أنَّهم يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ، وفي هذا الشأن وردت مجموعةٌ من الروايات اختلفت في تحديد هويَّتهم، إلاّ أن ما يتعلق منها بالبحث ما أخرجه العياشي في تفسيره ((عن زاذان عن سلمان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لعليًّ أكثر من عشر مرَّات : يا عليّ إنَّك والأوصياء من بعدك أعراف بين الجنَّة والنار لا يدخل الجنَّة إلاّ من عرفكم وعرفتموه ، ولا يدخل النار إلاّ من أنكركم وأنكرتموه))(1) . وأيضَا ما أخرجه الثعلبي؛ قال :((روى جويبر بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس في قوله عزّ وجلّ : وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ قال : (الأعراف موضع عالٍ من الصراط عليه العباس وحمزة وعليّ بن أبي طالب وجعفر ذو الجناحين يَعرفون محبيهم بياض الوجوه ومبغضيهم بسوادِ الوجوه) )).(2)

ص: 279


1- تفسير العياشي : 2/ 22 ، ينظر: تفسير الصافي : 2/ 199 ، ونور الثقلين : 2/ 461
2- الكشف والبيان : 4/ 236 : ينظر : الجامع لأحكام القرآن : 1/ 1290 ، والبحر المحيط : 4/ 304 ، وفتح القدير : 1/ 606 ، وروح المعاني :5/ 184

وأخرج الحاكم الحسكاني (ت 480ه) بسنده عن الأصبغ بن نباتة ((قال : { كنتُ جالساً عند علي فأتاه عبد الله بن الكواء، فقال : أخبرني يا أمير المؤمنين عن قول الله «وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ فقال : ويحك يابن الكواء نحن توقف يوم القيامة بين الجنة والنار، فمن ينصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنة، ومن أبغضنا عرفناه بسيماه فدخل النار))(1)

مسار التحليل ويتضمن

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية:

( رجال ) : وهو جمع رجل استُعمل في اللغة فيما يقابل المرأة وبمعنى الكامل في رجوليته ؛ قال الخليل :(( هذا رَجُلٌ أي ليس بأنْثَى، وهذا رَجُلٌ أي کامِلٌ))(2) و ((هذا رجل أي كامل في الرجال بين الرَّجولية))(3) .

( الأعراف):

يعني هذا اللفظ ((ما ارتَفَعَ من الرَّمْل، والواحِدُ: عُرْفٌ، وقيل : الأعْرَافُ : كُلُّ مُرْتَفعٍ عند العَرَب وهو اسمُ واحدٍ وإنْ كان بِناؤه جَمْعاً ))(4) وفي اللسان ((العُرُفُ الرمل المرتفع ... وكذلك العُرفةُ والجمع عُرَف وأَعْراف))(5)

ص: 280


1- شواهد التنزيل : 1/ 198 ، ينظر : مجمع البيان : 4/ 287، ينابيع المودة : 1/ 303 -304
2- العين (رجل): 6/ 77
3- أساس البلاغة (رجال): 262
4- المحيط في اللغة (عرف ) :12/ 198
5- لسان العرب (عرف ) : 9/ 290

ودخول حرف الجر (على) عليها يُؤذن بارتفاع ما تدل عليه مادةُ اللفظة ، وذكرَ الزجاجُ وجهاً آخر يقول : (( ويَجُوزُ أَن يَكونَ مَعْناه - والله أعلم - (على الأَعْرافِ ) : على مَعْرَفَةِ أَهْلِ الجَنَّةِ وأَهْلِ النّارِ هؤلاءِ الرَّجالُ))(1) وهذا هو الوجه المعنوي في معنى الأعراف.

ويمكن الجمع بين الوجهين بأن هؤلاء الرجال قد ارتفعوا على أهل المحشر من أصحاب الجنة والنار، فيكون العلو للإيذان بعلمهم وشرف منزلتهم، وأن هذا الاعتلاء مكَّنهم من معرفة المحبين من المُبغضين .

2- التوجيهات النحوية للفظة (رجال) وما تعلق بها:

تقدم المسند الجار والمجرور على الأعراف يلمح إلى معنى اختصاصِ(2) العلوَّ بهم، سواءٌ كان اختصاصهم بالمعرفة أوباعتلائهم الأعراف من دون غيرهم، وهذا ما يؤيده الاستعمال القرآني؛ فلم يردْ في القرآن الكريم أن اختص بهذا المعنى أحدٌ سوى رجال الأعراف(3)

وسوَّغ الابتداء بالنكرة «رجالٌ» كون المسند إليه وهو المبتدأ ورد موصوفًا بجملة يعرفون کلاًّ بسيماهم(4) ويعرفون فعل مضارع مصدره معرفة وعِرفان؛ قال الخليل : (( عَرَفتُ الشيءَ مَعْرِفَةً وعِرْفاناً))(5) .

ص: 281


1- معاني القرآن وإعرابه : 2/ 343
2- ينظر : الطراز : 2/ 38
3- ينظر : المعجم المفهرس : 583
4- ينظر : شرح ابن عقیل : 1/ 218
5- العين (عرف ) : 2/ 121

وذكرت معاجم اللغة بأنه يرد بمعنى (عَلِمَ)؛ جاء في المصباح المنير ((عَرَفْتُهُ عِرْفَةً بِالْكَسْرِ وَعِرْفَانًا عَلِمْتُهُ بِحَاسَّةٍ مِنْ الْحَوَاسَّ الْخَمْسِ وَالْمَعْرِفَةُ اسْمٌ مِنْهُ))(1) ، وفي القاموس المحيط ((عَرَفَهُ يَعْرِفُهُ مَعْرِفَةً وعِرْفاناً وعِرفَةً بالكسر، وعِرِفَّاناً، بكَسْرَتَيْنِ مُشدَّدَةَ الفاءِ عَلِمَه، فهو عارِفٌ وعَريفٌ وعَروفَةٌ))(2) .

إلاّ أنَّ المعرفةَ غير العلم؛ فالمعرفة تقتضي تمييز الشيء بأمرٍ ما يفترق به عن غيره، أما العلم فهو العلمُ بالشيء في الجملة، وتميَّزُه عن غيرهِ يحتاجُ إلى التخصيص بلفظٍ آخر، قال أبو هلال العسكري :((إن لفظ َالمعرفة يفيد تمييز المعلوم من غيره ولفظ العلم لا يفيدُ ذلك إلاَّ بضربٍ آخر من التخصيصِ في ذكر المعلوم))(3) وحجتُه في ذلك أنَّ ((لفظَ العلمِ مبهمٌ فإذا قلتَ :علمتُ زیداً فذكرته باسمه الذي يعرفُه به المخاطب لم يفدْ ، فإذا قلت : قائماً، أفدتْ؛ لأنك دللتَ بذلك على أنّك علمتَ زیداً على صفةٍ جاز أن لا تعلمه عليها مع علمك به في الجملة، وإذا قلت : عرفتُ زیداً، أفدتْ؛ لأنه بمنزلة قولك علمتُه متميزاً من غيره، فاستغني عن قولك متميزاً من غيره لما في لفظ المعرفة من الدلالة على ذلك))(4) .

ص: 282


1- المصباح المنير (ع ر ف):210
2- القاموس المحيط (عرفه ) : 3/ 198
3- معجم الفروق اللغوية : 500
4- المصدر السابق : الصحيفة نفسها

ويُفهم منه أنَّ او منه أن معرفة أصحاب الأعراف لمن يعرفونه إنما هي معرفة لكلَّ واحدٍ منهم بعلامات تميَّزه عن الآخر على نحو التفصيل وإلا لما كانت مُميَّزة فهي معرفةٌ تفصيلية، ويؤيد هذا المعنى التعبير ب( كل) من دون (جميع) التي تفيد الإحاطة بالمعلوم على سبيل الإفراد لا كونهم مجتمعين، جاء في الكليات : ((و (كل) فإنها عام بمعناها دون صيغتها فتحيط على سبيل الإفراد و(جميع) فإنها من العام معنى فتوجب إحاطة الأفراد على سبيل الاجتماع دون الانفراد))(1) وهي أي (كل) ((اسمٌ لجميع أجزاءِ الشيء للمذكر والمؤنث ...للإحاطة على سبيل الانفراد ...وكلمة (جميع) تتعرض بصفة الاجتماع))(2) .

3- الدلالة القرآنية للفظة (رجال) ومصاحباتها :

(رجال):

استعمل القرآن هذه اللفظة بصيغة الجمع المجردة عن التعريف في موارد الكمال للتعبير عن((اعتناء تام بشأن الأفراد المقصودين باللفظ نظراً إلى دلالة الرجل بحسب العادة على الإنسان القوي في تعقله وإرادته الشديد في قوامه))(3) .

ص: 283


1- الكليات : القسم الرابع / 82
2- المصدر السابق : القسم الرابع : 75، 79
3- الميزان في تفسير القرآن : 8/ 124

ومن تلك الموارد قوله تعالی: لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ »[التوبة :108] و وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ »[النحل :43] ومِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا »[الأحزاب :23] وغيرها(1) وبما أنَّ هذه اللفظة نكرة فما بعدها من الجمل نعوتٌ لها(2) ويمكن تلخيص هذه النعوت بما يأتي :

+يعرفون أهل الجنة والنار بسيماهم + يكلمون أهل النار رجال + يأمرون أهل الجنة بالدخول - تلهيهم تجارة أو بيع عن ذكر الله + يصدقون + مؤمنون + يُستعاذ بهم + يُوحى إليهم + يحبون الطهارة

ومعرفة أهل الحشر بهذا النحو - من التفصيل لكلَّ واحدٍ منهم - هي ما يُميَّز هؤلاء الرجال، أمَّا إذا كانت المعرفة بنحوٍ من اسوداد الوجوه وبياضها، فهو ما لا يختصون به من دون غيرهم وقد يشركهم فيه آخرون، قال الرازي :((قال قومٌ : إنهم يعرفونَ أهلَ الجنةِ بكونِ وجوهِهم ضاحکةً مستبشرة، وأهلَ النارِ بسوادِ وجوهِهم وزرقةِ عيونِهم، وهذا الوجهَ باطل؛

ص: 284


1- تراجع الآيات : - النور: 37، وص :62، والفتح : 25، والجن : 6، والأنبياء : 7
2- ينظر : مغني اللبيب : الباب الثاني : 2/ 89

لأنّه تعالى خصَّ أهلَ الأعرافِ بأنهم يعرفُون كلَّ واحدٍ من أهل الجنةِ وأهلِ النار بسيماهم، ولو كان المرادُ ما ذكروه لما بقي لأهل الأعراف اختصاص بهذه المعرفة، لأن كلَّ أحٍد من أهلِ الجنةِ ومن أهل النارِ يعرفون هذه الأحوال من أهل الجنة ومن أهل النار، ولما بطُل هذا الوجهُ ثبت أنَّ المرادَ بقوله : يَعْرِفُونَ کُلاًّ بسيماهم هو أنّهم كانوا يعرفونَ في الدنيا أهلَ الخير والإيمانِ والصلاح، وأهلَ الشرِ والكفرِ والفسادِ))(1) وبهذه الدلالة القرآنية ينتقل معنى سها السيماء من العلامة بمعناها العام إلى ((العَلَامَةُ التي يُعْرَفُ بها الخَيْرُ والشَرُّ))(2) .

وهذه الرؤية تجعل من أصحاب الأعراف بمنزلة الشهداء الذين يشهدون بشهادة الحق، مصداقاً لقوله تعالى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ [البقرة :143] فالتوسط أو الوسطية أمكنتهم من الشهادة على الناس وأيضا يوم القيامة على الأعراف بين أهل الجنة والنار .

( يعرفون):

والمعرفة على هذا النحو من التمييز والتفصيل لايتطرقُ إليها الشك؛ والقرآن استعمل الفعل (يعرف) في الموارد التي لا يخالطها الشك ومنه قوله

ص: 285


1- مفاتیح الغيب : 13/ 87 -88
2- المحيط في اللغة : 2/ 291

تعالى : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة :146] و : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الأنعام :20] ((والتشبيه في قوله : كما يعرفون أبناءهم تشبيه المعرفة بالمعرفة. فوجه الشبه هو التحقّق والجزم بأنّه هو الكتاب الموعود به، وإنّما جعلت المعرفة المشبّه بها هي معرفة أبنائهم ،لأن المرء لا يضلّ عن معرفة شخص ابنه وذاته إذا لقيه وأنّه هو ابنه المعروف، وذلك لكثرة ملازمة الأبناء آباءهم عرفاً))(1) وأيضاً قوله تعالى : يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ [النحل 83] و: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ [الرحمن : 41] . ويُرجَّح هذا المعنى أنَّ مناداتهم أهلِ النار بأوصافٍ تقتضي الإحاطة بالمعلوم على نحو التفصيل؛ من كونهم مستكبرين ولديهم اتباع لم يُغنوا عنهم. وتسليمهم على أصحابِ الجنة قبل أن يدخلوا والإذن لهم بالدخول (ادخلوا)؛ وهو م-ا نلمسه في قوله تعالى : وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ - أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [الأعراف : 46- 49]

إن الحصولَ على هذه المعرفة لرجال الأعراف التي أهّلتهم للكلام مع

ص: 286


1- التحرير والتنوير: 6/ 48

أصحاب الجنة والنار تكشف عن سموَّ منزلتِهم؛ باعتبار أنّ الاستعمال القرآني يُشير بأنه لا يُؤذن لأحدٍ من الخلق بالنطق أو التكلُّم إلا بشروط؛ في مقدمتها ألاّ يكون ظالمًا، قال تعالى : وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ [النمل :85] وكذلك أن يحصل على الإذن الإلهي في الكلام ويقول الصواب؛ قال تعالى : يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [النبأ :38] وأيضاً : يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود :105] .

ويخلص الباحث إلى القول بأن المركب الوصفي أبرز سماتٍ مُميزة، اختصت بها الآية المبحوث فيها على مستوى الاستعمال القرآني، متجليةً عبر إسناد الفعل (يعرفون) إلى لفظة (رجال) والتعبير به من دون (يعلمون )، مما زاد في وضوح هذه المعرفة وأهميتها ويشير إلى المعرفة التفصيلية لسمات كلِّ فرد من أهل المحشر (من الجنة والنار) بما يتميَّز به أحدهم عن الآخر ، وهو ما دلَّ عليه التعبير ب( كلاً بسيماهم )، وهذه المعرفة لا ينالها الا ذو منزلة عالیة ومقامٍ رفیع.

ومن السمات الدلالية التي توصل إليها البحث التعبير بمن أُسندت إليه هذه المعرفة بأنهم (رجال )، وقد أشارت هذه اللفظة على مستوى الاستعمال القرآني إلى إيرادها في علاقاتٍ إسنادية تدلُّ على أنهم (صادقون، مؤمنون، طاهرون ) وهو ما يشير إلى خصوصية (رجال الأعراف)، وزاد في بيان هذه الخصوصية مناداتهم لأهل النار وتسليمهم

ص: 287

على أهل الجنة وهو ما لم يظهر لغيرهم.

وهذا المعنى فالراجح عند الباحث أنَّ أصحابَ الأعرافِ هم طبقةٌ مميزة، ارتفعت على أهل المحشر بمعرفتهم ومنزلتهم، كُشف عنها بارتفاعِهم على الأعراف، أُذن لهم بالكلام ليتصدروا الموقف ويقولوا الصواب ويشهدوا بالحق للمظلوم ويُعنَّفون الظالم.

ص: 288

الفصل الثالث

الجمل في الآيات المتعلَّقة

بالإمام علي عليه السلام

ص: 289

ص: 290

توطئة

يهتم البحث في هذا الفصل بدراسة الجملة، وقد برز بين يدي البحث مجموعةٌ من الجمل على وفق منهجية الأخذ بروايات أسباب النزول كعامل أساس في رسم العلاقة وتحديدها بين السياق اللفظي والواقع الخارجي من خلال المعلومة الجديدة التي أثارتها هذه الروايات وتوظيفها كخطوة أولى في فهم المعنى وتحديده في النص القرآني؛ إذ تكون نقطة البداية في عملية التحليل عبر هذه المعلومة.

وعلى الرغم من أنه لا وجود للجملة ما لم يتحقق الإسناد وهو، كونه ((ضم كلمة حقيقة أو حكما أو أكثر إلى أخرى مثلها أو أكثر يفيد السامع فائدة تامة))(1) إلا أنّ هذا الإسناد منه ما يتحقق بذاته من خلال وجود النسبة الإسنادية بين طرفي الإسناد المسند والمسند إليه، كما هو الحال في الجملة الاسمية والفعلية، ومنه ما كان إسنادا متركبًا بغيره لعدم وجود المسند والمسند

ص: 291


1- الكليات : القسم الأول/ 137

إليه، ولأجل تحقيقه جيء بما يحقق النسبة الإسنادية عبر تعليق جملة بجملة أخرى كما هو الحال في جملة جزاء الشرط، أو الإتيان بجملة تزيل الإبهام وتحقق الفائدة كما هو الحال في جملة الصلة.

وهذا التقسيم بين نوعي الإسناد فرعٌ على الفرق بين الكلام والجملة إذ ((أن الجملة ما تضمن الإسناد الأصلي سواء كانت مقصودة لذاتها أو لا، كالجملة التي هي خبر المبتدأ وسائر ما ذكر من الجمل، فيخرج المصدر، وأسماء الفاعل والمفعول والصفة المشبهة والظرف مع ما أسندت إليه. والكلام ما تضمن الإسناد الأصلي وكان مقصودا لذاته، فكل كلام جملة ولا ينعكس))(1) . وقد أشار الرضي الإسترابادي إلى نوعي الإسناد (التام والناقص) بوضوح أكثر معلقًا على صاحب الكافية في تعريفه الكلام قائلاً ((كان على المصنف أن يقول : بالإسناد الاصلي المقصود ما تركب به لذاته، ليخرج بالأصلي إسناد المصدر واسمي الفاعل والمفعول والصفة المشبهة والظرف، فإنها مع ما أسندت إليه ليست بكلام... وليخرج بقوله : المقصود ما تركب به لذاته : الإسناد الذي في خبر المبتدأ في الحال أو في الأصل، وفي الصفة والحال، والمضاف إليه إذا كانت كلها جملا، والإسناد الذي في الصلة))(2) ومن هنا ومن جاء تقسيم هذا الفصل على مبحثين؛ تعرضت في الأول منه إلى الجمل ذات الإسناد المقصود لذاته وهي الفعلية والاسمية، والثاني تضمن الجمل ذات

ص: 292


1- شرح الرضي: 1/ 33، ينظر: همع الهوامع: 1/ 49
2- شرح الرضي: 1/ 32

الإسناد غير المقصود لذاته وهي جملة الصلة وجملة جزاء الشرط، مبتغيًا في ذلك إبراز خصوصية التراكيب وبیان سماتها الدلالية والغرض في استعمالها .

المبحث الأول: الجمل ذات الإسناد المقصود

الذاته

المطلب الأول: في معنى (بلَّغ ما أُنزل إليك من ربك):

قال تعالى : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [المائدة: 67] .

مهادُ التّنزيل :

أشارت طائفةٌ من المفسرين إلى تعلُّق الآية بالإمام علي (عليه السلام) عبرَ جملة بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ»؛ فقد ورد في تفسير ابن أبي حاتم الرازي بشأن نزول الآية قوله : ((حدَّثَنا أبي، ثنا عُثمانُ بْنُ خُرَّزَاد، ثنا إِسْماعِيلُ بْنُ زَکریَّا، ثنا عَلِيُّ بْنُ عَابِس، عن الأَعْمَشِ ابنى الحجاب، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيَّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، قَالَ :"نَزَلَتْ هَذِهِ الآية يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ فِي عَلِيَّ بْنِ أَبِي طَالِب))(1) . وعن ابن مردویه (ت 410ه)، عن

ص: 293


1- تفسير ابن أبي حاتم : 3/ 237 ، ينظر : أسباب النزول : 112، ومفاتيح الغيب : 12/ 53 ، و الدر المنشور : 6/ 117 ، وفتح القدير :1/ 489 ، وينابيع المودة : 1/ 359 ، وروح المعاني : 6/ 282 ، وتفسير المنار : 6/ 383

ابن عباس، قال : ((لمَّا أمرالله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقومَ بعليّ (عليه السلام) فيقول له ما قال، فقال (صلى الله عليه وآله ) : " ياربَّ، إنَّ قومي حديثوا عهدٍ بجاهلية " ثمّ مضى بحجَّه، فلما أقبل راجعًا نزل بغدیر خم أنزلَ الله عليه : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ... الآية، فأخذ بعضد عليّ، ثم خرج إلى الناس، فقال : " أيُّها النّاس ألستُ أولی بكم من أنفسكم ؟ قالوا : بلى يارسول الله، قال : اللهم مَن كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللهم والِ مَن والاه وعادِ مَن عاداه، وأعنْ مَن أعانه، واخذل من خذله، وانصر مَن نصره، وأحبْ مَن أحبّه وابغض مَن أبغضه))(1) .

مسار التحليل ويتضمن:

1- المعنى اللغويّ للفظة (بلِّغْ):

وهو فعلُ أمرٍ والمصدر منه (بلاغًا) و(تبليغًا)، ويدور حول معاني الوصول والنهاية والكفاية ؛ قال الخليل :((بَلَغَ الشيءُ يبلُغُ بُلُوغاً، وأَبْلَغْتُه إبلاغاً، وبلَّغْتُه تبليغاً في الرسالةِ ونحوها، وفي كذا بَلاغٌ وتَبَلیغٌ أيْ كفايةٌ .))(2) ،

ص: 294


1- مناقب علي بن أبي طالب : 240، ينظر: تفسير العياشي: 1/ 363 ، والكشف والبيان : 4/ 92 ، وشواهد التنزيل : 1/ 187 ، والتبيان في تفسير القرآن : 5/ 389 ، ومجمع البيان : 6/ 445 ، والتفسير الصافي : 6/ 52 ، ونور الثقلين :2/ 267 ، والمیزان : 4/ 421
2- العين (ب ل غ) : 4/ 421

و((بلغ الشيء يبلغ بلوغاً : وصل وانتهى، وأبلغه هو، وبَلَّغه... وتبلَّغ بالشيء : وصل به إلى مراده .))(1) ، ((وَأَبْلَغَهُ السَّلَامَ وَبَلَّغَهُ بِالْأَلِفِ وَالتَّشْدِيدِ أَوْصَلَهُ))(2) ، وفي لسان العرب ((بلغَ الشيءُ يَبْلُغُ بُلُوغاً وبَلاغاً وصَلَ وانْتَهَى وأَبْلَغَه هو إِبْلاغاً وبَلَّغَه تَبْلِيغاً... وتَبَلَّغَ بالشيء وصَلَ إِلى مُرادِه ... البَلاغُ ما يُتَبَلَّغُ به ويُتَوَصَّلُ إِلى الشيء المطلوب والبَلاغُ مابَلَغَكَ والبَلاغُ الكِفايةُ .))(3) .

2- التوجيهات النحوية لألفاظ الآية وما يتعلق بها:

(مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ):

(ما) في قوله تعالى : مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اسم موصول بمعنى الذي؛ قال سيبويه : (((مَنْ) و(ما) إنَّما يُذكران لِحشْوهما ولوصفهما، ولم يُرَدْ بما خِلْوَين شيءٌ، فلزَمه الوصفُ كما لزمه الحشوُ، وليس لهما بغير حشوٍ ولا وصفٍ معنىً، فمن ثَمَّ كان الوصفُ والحشو واحداً .))(4) وهي بذلك تفتقر في إتمام معناها إلى جملة الصلة فتوصف أو تُعرف بها، فتحديد معنى جملة الصلة (أنزل إليك من ربك) من شأنه أن يوضح دلالة الاسم الموصول .

ويرى الرضي بأن (ما) معرفة بحسب الوضع باعتبار عهدية صلة

ص: 295


1- المحكم والمحيط الأعظم (ب ل غ ) : 5/ 535
2- المصباح المنير( بلغ ) : 37
3- لسان العرب (ب ل غ ) : 8/ 499
4- الكتاب : 2/ 106

الموصول عند المخاطب، يقول : ((إن تعريف الموصول بوضعه معرفة مشاراً به إلى المعهود بين المتكلم والمخاطب بمضمون صلته، فمعنى قولك : لقيت مَن ضربته، إذا كانت (مَن) موصولة : لقيت الإنسان المعهود بكونه مضروبا لك، فهي موضوعة على أن تكون معرفة بصلتها))(1) .

ويرى الباحث بأن سياق الآية يُرجح كون (ما) معرفة وليست نكرة، فيكون التبليغ لأمر معروف لدى المسلمين؛ وهذا المعني خلاف عدَّها نكرة؛ إذ التقدير على ذلك (بلَّغ أمرًا أُنزل إليك) وهو لا ينسجم مع التعبير ب(إنْ)؛ لأنَّ إيرادها في قوله : وَإِن لَمْ تَفْعَلْ المستعملة في الأمر المحتمل الوقوع(2) تكشف عن تردد الرسول في تبليغ أمرٍ معروفٍ لديه ويؤيده قوله وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، ومن المعلوم أنَّه ليس كلُّ حُكمٍ يبلَّغه الرسول يلزم منه (العصمةَ من النّاس) مالم يكن حكمًا خاصًّا معروفًا مسبقًا، مما استوجب تطمين الرسول بأن يُبلَّغه وسيكون في مأمَنٍ من المحذور، وإلا فكأنَّه لم يبلغْ جميع رسالة ربه .

ويؤيد ذلك أنّ ابن فارس يجعل (ما أُنزل) أمرًا خاصًا إذ يقول : ((وقد يكون الكلامان متّصلين، ويكون أحدهما خاصّاً والآخر عامّاً. وذلك قولك لمن أعطى زيداً درهماً : أعْط عمراً، فإن لم تفْعل فما أعطيتَ، تريد: إن لم

ص: 296


1- شرح الرضي على الكافية : 3/ 8
2- ینظر : الكتاب : 3/ 60 ، المقتضب : 2/ 356

تُعطِ عمراً فأنت لم تعطِ زيداً أيضاً، وذلك غير محسوب لك. ومثله في كتاب الله جل ثناؤه : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ فهذا خاص، يريد : هذا الأمر المجدَّد بَلَّغْه، (وإنْ لَمْ تفعل) ولم تبلغ هذا( فما بلغت رسالته) يريد : جميع ما أرسلتَ به .))(1) وهو ما استحسنه الزركشي (ت794ه)(2) .

(وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) :

وجملة (مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) طلبية مع فعل الأمر (بلَّغ)، والقول بأنَّ (ما) دالة على عموم ما يبلغه الرسول لا خصوص تبليغٍ بعينه يؤدي إلى اتحاد الشرط والجزاء والمعنى : (بلَّغ رسالته وإن لم تفعل ما بلغتَ رسالته) إذ هما متحدا من جهة عموم معنى الرسالة وهولا ينسجم مع بلاغة التعبير القرآني، فلا بد من المخالفة بينهما حتى تحصل الفائدة على تقدير أن يكون جواب الشرط هو خبرًا في الحقيقية(3) بأن يكون فيه معلومة مفيدةً للسامع، وهو ما يرجح دلالة (ما) على أمر خاص لابد من أن يبلغه الرسول من دون الحاجة إلى التقدير .

قال أبو حیان (ت 745ه) بخصوص هذا المعنى : (( وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " أي : وإن لم تفعل بتبليغ ما أنزل إليك، وظاهر هذا الجواب لا

ص: 297


1- الصاحبي في فقه اللغة : 344
2- ينظر : البرهان في علوم القرآن : 2/ 243
3- ينظر : شرح الرضي : 4/ 96

ينافي الشرط، إذ صار المعنى : وإن لم تفعل لم تفعل، والجواب لا بد أن يغایر الشرط حتى يترتب عليه))(1) ولذلك لجأ الزمخشري الى تقدير جواب شرط تحصل به الفائدة دفعًا المحذور تکرار نفس الشرط(2) .

وقد ذهب ابن عطية (ت 546ه) إلى تقدير الكمال والاستيفاء في هذا التبليغ في الآية المُعبَّر عنه ب( ما أنزل إليك) لأن الرسول كان قد بلَّغ فيما مضى(3) ، وهذا يؤيد ماذهب إليه الباحث بأن الحكم الخاص المراد تبليغه فيه كمال الرسالة ومن ثمَّ كفاية أمور المسلمين .

والشرط ب(إنْ) المصحوب ب(لمْ) يفيد تعليق الأمر وإمكانية حدوثه، کون التعبير ب( لمْ) يدلُّ على عدم تأبيد النفي لجواز انقطاعه ، إذ ((تنفرد (لَمْ) ... بجواز انقطاع نفي منفيها ومن ثَمَّ جاز (لم يكن ثم كان)))(4) ، وهو ما يعني بأن الرسول سیبلغ والله عاصمه من الناس .

ص: 298


1- البحر المحيط : 3/ 539
2- ينظر : الكشاف : 1/ 646
3- ينظر : المحرر الوجيز : 2/ 217
4- أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك : 4/ 185

3- الدلالة القرآنية لألفاظ الآية :

(بلغ):

لم يُستعمل قرآنيًا هذا الفعل بصيغة الأمر في غير هذا المورد(1) ، إلا أنَّه ورد بصيغة الماضي للدلالة على الكمال والوصول إلى نهاية الأمر؛ كما في قوله تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [یوسف: 22] ووَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النور: 59] ووَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [القصص: 14] وغيرها(2) ، وكذلك الفعل المضارع (يبلغُ) يدور أيضًا في فلك هذا المعنى؛ ومنه قوله تعالى : وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [الإسراء: 34] وغيرها(3) .

وما يُلحظ على هذه الآيات التي ورد فيها الفعل الماضي والمضارع مُشتقًا من مادة (ب ل غ) اقترانه بلفظتين :

الأولى : لفظة (أَشُدَّه)(4) ، وهو اقترانٌ ملازم إذ لم ترد هذه اللفظة إلّا

ص: 299


1- ينظر : 170 - 171
2- تنظر : الآيات القرآنية : الكهف : 86 ، 76، 90، 93 - والصافات : 102 - والأحقاف : 15- ومريم : 8 - والواقعة : 83 - والقيامة : 26- و غافر :36
3- تنظر : الآيات القرآنية : البقرة : 196، 235 - والأنعام : 152 - والفتح: 25
4- تنظر : الآيات القرآنية : الأسراء : 34 - والكهف : 82، والحج: 5، وغافر: 67

وهي ملازمة للفعل (بلَغ) أو( يُبلَّغ )، وهي تدلُّ على الكمال في متعلقها؛ قال الخليل في معناها : ((الأَشُدُّ : مبلغُ الرّجل الحُنْكَة والمعرفة .))(1) وقال ابن فارس :((الشين والدال أصلٌ واحدٌ يدلُّ على قوةٍ في الشيءِ، وفُروعُه ترجِعِ إليه... والأَشُدُّ : العشرون، ويقال أربعون سنة، وبعضهم يقولون لا واحدَ لها، ويقال بل واحدها شَدٌّ.))(2) .

الأخرى :(أجَلَ)، وتعني (( المدَّةُ المضروبة للشيء))(3) ومنها ما وردَ في قوله تعالى : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» [غافر : 67].(4) ، ويُستفادُ من ذلك أنَّ ما يُطلب تبليغه من الرسول هو من جملة آخر الأحكام التي في تبليغها للأمة وإلزامها به من الفائدة ما يجعلها مندرجة في مصافَّ الأمم القوية ويؤید هذا المعنى قوله تعالى : «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ »[آل عمران : 110]، ولذلك جعلَ سبحانه تبلیغ هذا الأمر إزاء الرَّسالة برمَّتها، فيه كفاية الرسالة كلِّها، وفي ذلك وصول

ص: 300


1- العين (شد) : 6/ 214
2- مقاییس اللغة (شد): 3/ 180
3- مفردات ألفاظ القرآن (بلغ ) : 65
4- تنظر : الآيات القرآنية : البقرة: 231 -232 - 234 - 235، والأنعام :128، والأعراف : 135 ، و الطلاق: 2

الأمة إلى مرحلة القوَّة والكمال، قال الراغب الأصفهاني (ت 502ه) :(البلوغ والبلاغ : الانتهاء إلى أقصى المقصد والمنتهی ، مکاناً كان أو زماناً ، أو أمراً من الأمور المقدرة))(1) .

وقد يوحي التعبير بمادة (ب ل غ) أن تكون هذه الآية من آخر ما نزل من القرآن الكريم، وفضلاً على أنّ السياق القرآني لايتم معناه إلاّ بالفعل (بلَّغ )، فأنَّ التعبير القرآني استعمل أفعالاً من مادةٍ لُغويةٍ أخرى حينما كان التبليغ في بداية الإعلان عن الرسالة الحقَّة والدَّعوة إليها ولم يعبر ب(بلَّغ)؛ قال تعالى : فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر: 94] وأيضاً قُمْ فَأَنْذِرْ» [المدثر: 2] وهو ما يُميَّز الآية مورد البحث فضلاً على إيرادها كبيئة فعل الأمر .

ويكشف التعبير القرآني بأن الرسل السابقين على الرسول قد أبلغوا رسالات ربهم بقرينة اقتران الفعل ب( قد) وقد عانوا في ذلك ما عانوا، وقدَّموا النصح لأقوامهم إلا أن أكثر تلك الأقوام تولَّوا وأعرضُوا؛ ومنه قوله تعالى : فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [الأعراف: 79] و فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ [الأعراف: 93] وفَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ

ص: 301


1- مفردات ألفاظ القرآن : 144

رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [هود: 57] إلا أنَّ ما يشترك به رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم والرسل الآخرين والأنبياء هو الاستمرار معهم في تبليغ الرسالة السماوية بدلالة الفعل المضارع في قوله تعالى : الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا [الأحزاب: 39] .

(أنزل):

من خصائص التعبير القرآني التي يُلتفت إليها هنا أن (أُنزل) ورد مقترنًا بالجار والمجرور (من ربَّكَ) في سياق الآيات التي يغلب عليها ضعف الإيمان بما أنزل على الرسول، فاستدعى التعبير بالجار والمجرور للردَّ عليهم أو التعريض بضعف إيمانهم؛ ومنه قوله تعالى : قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [المائدة: 68] والمر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ »[الرعد: 1] وأَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الرعد: 19].

في حين أنه لم يقترن بالجار والمجرور في الموارد التي تكون فيها قوة الإيمان بما أنزل على الرسول هي الغالبة، ولذلك لم يرد الجار والمجرور فيها؛ ومنه قوله تعالى : ووَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ

ص: 302

يُوقِنُونَ [البقر: 4] وغيرها(1) . ومنه يُفهم أن استعمال (من ربك) يلمح إلى حالة التشكيك التي تحصل بين الناس حين تبليغ ما أُمر الرسولُ بتبليغه، التي قد تصل إلى مرحلة التكذيب بالرسالة كما قال تعالى : قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ [الشعراء :12] .

(والله يعصمك من الناس):

وردت لفظة (الناس) في هذه الجملة من الآية مورد البحث مؤيدةً لحالة التشكيك في أمر الرسالة، وبذلك فهي تتعاضد مع لفظة (من ربك) لتأدية هذا المعنى، وما يُلحظ أنّ لفظة الناس في الاستعمال القرآني وردت في موارد الخير والشر إلاّ أن الأغلب فيها إيرادها في المواطن السلبية ولاسيّما المقترنة ب(أكثر) و( كثير) الواقعة في سياق (لا) النافية، فكثير من الناس لا يؤمنون قال تعالى : وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف : 103] وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا [الإسراء :89] وأكثر الناس لا يعلمون قال تعالى : وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [النحل: 38] وأكثر الناس لا يشكرون قال تعالى : وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ [النمل : 73] وغيرها من الآيات(2) وبهذه السمات القرآنية التي يحملها

ص: 303


1- تنظر : الآيات القرآنية : النساء: 162- 166، الأعراف : 2، الرعد : 36
2- تنظر : الآيات القرآنية : الرعد -1، وإبراهيم - 36، والإسراء - 89، والفرقان -50 ، و الروم -6 ، و المائدة - 49، والأعراف - 187، ويونس - 44 - 60 -92، وهود - 17-118، ويوسف - 21- 38- 40- 68 ، والروم - 8، وسبأ - 28 ، وغافر - 57 - 59 -61 ، والجاثية - 26، والمعجم المفهرس : 895- 896- 897- 898

هذا اللفظ ما يشير إلى تردد الرسول في التبليغ ويعضَّده قوله : وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ [المائدة : 67] قرينةً عليه، وقد يكون التعبير ب( الناس) من دون الإشارة إلى جهة العصمة من أن ينالوا الرسول أو الدين بشرٍ ما يُشعر بخطورة الموقف وأنَّ اللفظَ بسماتِه القرآنية المعهودة ما أغنى عن ذلك.

ويؤيد أيضا معنى التردد في التبليغ التعميم في الإيذاء المُحتمل للنبي من قبل الناس؛ جاء في تفسير الميزان ((تعليق العصمة بالناس من دون بيان أن العصمة من أي شأن من شئون الناس كتعدياتهم بالإيذاء في الجسم من قتل أو سم أو أي اغتيال، أو بالقول كالسب والإفتراء، أو بغير ذلك كتقليب الأمور بنوع من المكر والخديعة والمكيدة وبالجملة السكوت عن تشخیص ما يعصم منه لإفادة نوع من التعميم، ولكن الذي لا يعدو عنه السياق هو شرهم الذي يوجب انقلاب الأمر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحيث يسقط بذلك ما رفعه من أعلام الدين))(1) .

وما تجدُر الإشارة إليه أن لفظة (النَّاس) لم ترد في التعبير القرآني ويُراد بها (أهل الكتاب) على الرغم من تكرارها في أكثر من (170) موردًا، وهو ما يؤيد أن تبليغ الحكم المعني بالآية كان في المجتمع المسلم .

ص: 304


1- الميزان : 6/ 51

والتعبير بالفعل المضارع (يعصمُك) المُسند إلى لفظ الجلالة أثار نقطةً مهمة؛ وهي أنَّ القرآن استعمل مادة هذا الفعل في الموارد التي فيها موارد الخوف من أمرٍ ما ؛ ومنها قوله تعالی : قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ »[يوسف: 32] ووَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ »[يونس: 27] وقَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود: 43] ويَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ »[غافر: 33] ووقُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [الأحزاب : 17] ، إن طلب العصمة لايرد إلّا في المواقف الشديدة التي يشارف فيها الإنسان على هلاك دينه كما في نبيَّ الله يوسف عليه السلام أو في هلاك نفسه كما في بقية الموارد، ويُنبئُنا القرآن الكريم بأن أكثر ما يخاف الرسُل أن يُكذَبوا، كما يُشير إليه قوله تعالى : «وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ »[القصص : 34] وهو ما يهدينا إلى القول بأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يخشى أن يُكذب بخصوص هذا التبليغ، ويؤيده قوله تعالى : (مِن رَبَّكَ) بأنَّ هذا الأمر المراد

ص: 305

تبليغه هو من عند الله سبحانه .

يخلص الباحث إلى القول بإن التعبير بالجملة الفعلية (بلَّغ) وصياغتها من مادة (بَ لَّ غَ) قد منح المعني ظهورًا واضحًا، وذلك من خلال تفاعل المعنى المعجمي مع المعنى النحوي، إذ ظهر عبر هذه الآلية أن هناك أمرًا لابدّ من أن يُبلَّغه الرسول، وهذا الأمر يحمل من الأهمية ما جعله بإزاء أداء الرسالة بتمامها وفيه من الخطورة ما أوجب تطمين الرسول ورفع حالة التردد التي رافقت هذا التبليغ بعصمته من الناس.

المطلب الثاني: في معنى (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ):

قال تعالى : وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا »[الانسان: 8- 9].

مهادُ التّنزيل:

وردت في كتب أسباب النزول وكتب التفسير بأنّ الإمام عليًّا (عليه السلام) وأهلَ بيته هم المعنيُّون بقوله تعالى : وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ومنها ما جاء في تفسير فرات الكوفيّ ((عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى : وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا نزلت في علي وفاطمة أصبحا عندهم ثلاثة أرغفة فأطعموا مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا فباتوا جياعا فنزلت فيهم

ص: 306

))(1) .

ومن تلك الروايات أيضًا ما أخرجه الواحدي (ت 468ه) في أسباب النزول قال :((قوله تعالى : وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا.

قال عطاء عن ابن عباس : وذلك أن عليًّا بن أبي طالب رضي الله عنه نوبةً أَجَّرَ نفسَه يسقي نخلاً بشيء من شعير ليلةً حتى أصبح وقبض الشعير وطحن ثلثه.

فجعلوا منه شيئاً ليأكلوا يقال له الخزيرة، فلما تم إنضاجه أتی مسکینٌ فأخرجوا إليه الطعام، ثم عمل الثلث الثاني، فلما تم إنضاجه أتی يتيم فسأل فأطعموه ثم عمل الثلث الباقي، فلما تم إنضاجه أتی أسير من المشركين فأطعموه وطووا يومهم ذلك، فأنزلت فيه هذه الآية))(2) .

ص: 307


1- تفسیر فرات الكوفي : 528، ينظر : مناقب علي بن أبي طالب : 341، والتبيان في تفسير القرآن : 11/ 449 ، وشواهد التنزيل : 2/ 300 ، ومجمع البيان : 10/ 233 ، والكشاف : 4/ 657، وأنوار التنزيل : 5/ 270 ، ومفاتیح الغیب : 30/ 245 ، وتذكرة الخواص : 2/ 348 ، و التسهيل لعلوم التنزيل : 2/ 519 ، والجامع لأحكام القرآن : 2/ 3219 ، وروح المعاني : 29/ 269 ، وإرشاد العقل السليم : 9/ 93 ، والدر المنثور : 8/ 371 ، وفتح القدیر : 2/ 925 ، وينابيع المودة : 2/ 177 ، ونور الثقلين :8/ 69 ، والميزان : ج 20/ 144 ، والأمثل :ج19/ ص 151
2- أسباب النزول : 331 وغيرها

مسار التحليل ويتضمن:

1- المعنى اللغويّ للألفاظ الآتية:

(يُطعمون):

وهو فعل مضارع مصدره ( الطَّعام) وهو ما يُؤكَل ويلمذُّ مذاقُه؛ جاء في العين : (( الطَّعامُ اسمٌ جامعٌ لكل ما يُؤْكَلُ، وكذلك الشّراب لكل ما يُشْرَبُ، والعالي في كلامِ العَرَب : أنّ الطّعام هو البُرُّ خاصّة. ويقال : اسم له وللخُبْزِ المخبوز، ثم يُسَمَّى بالطعام ما قرب منه، وصار في حدّه، وكلُّ ما يَسُدُّ جوعاً فهو طَعام.))(1) ، وهو أيضًا ما يُشتهي جاء في القاموس ((وطَعْمُ الشيءِ: حَلاوَتُه ومَرَارَتُه وما بينَهُما يكونُ في الطَّعامِ والشَّرابِ ج : طُعومٌ. وطَعِمَ کَعَلِمَ طُعْماً بالضم : ذاقَ کتَطَعَّمَ وعليه : قَدَرَ. والطُّعْمُ بالضم : الطَّعامُ والقُدْرَةُ وبالفتح : ما يُشْتَهَي منه))(2) .

( أَسير) :

وهو مأخوذٌ من (الأسْر) وهو (( الشدُّ بالقيدِ من قولهم : أسرتُ القَتَبِ، وسمَّي الأسير بذلك، ثم قيل لكلَّ مأخوذٍ ومقيَّد وإن لم يكن مشدودًا ذلك، وقيل في جمعه : أَساري وأُسارى وأَسرى.))(3) .

ص: 308


1- العين (طعم) : 2/ 26 ، ينظر : المحكم والمحيط الأعظم (طعم) : 1/ 557
2- القاموس المحيط (طعم) : 3/ 78
3- مفردات ألفاظ القرآن (أسر ) : 76

( مسكين) :

((سَكَنَ الشيء سُكوناً : استقرَّ وثبت. وسكَّنَهُ غيره تَسْكيناً... والسَكينَةُ : الوَداعُ والوقار. والمِسْكينُ : الفقير، وقد يكون بمعنى الذلّة والضعف. يقال : تَسَكّنَ الرجلُ وتَمَسْكَنَ كما قالوا : تَمَدْرَعَ وتَمَنْدَلَ، من المدرعة والمنديل على تَمَفْعَلَ وهو شاذٌّ وقياسه تَسَكَّنَ وتَدَرَّعَ وتَنَدَّلَ، مثل تَشَجَّعَ وتَحَلَّمَ. وكان يونسُ يقول : المسكين أشدُّ حالاً من الفقير))(1) ويبدو أن تسميته جاءت من السكينة نتيجةً عدم القدرة على الحركة بسبب الفقر والحاجة .

2- التوجيهات النحوية لألفاظ الآية وما يتعلق بها :

(ويُطْعِمون الطَعام):

التعبيرُ بصيغة المضارع في (يطعمون) وما فيه من الدلالة على الحال والاستقبال، ما يُشعر بحصول الإطعامَ وتجدده منهم على أيَّ حال، وفي تسميته بالمضارع لمشاجمته الاسم من جهاتٍ عدَّة؛ منها ((أن هذا الفعل يشترك فيه الحال والاستقبال))(2) وتتضح هذه الدلالة بصورة جليّة في اسم الفاعل لمشابهته الفعل المضارع من هذه الجهة، وقد أشار سيبويه إلى هذا الشبه بينهما في الدلالة على الحال؛ إذ قال :((هذا باب من اسم الفاعل" الذي" جَرَى مجرى الفعل المضارع في المفعول في المعنى، فإذا أردت فيه من المعنى ما أردت في

ص: 309


1- تاج اللغة وصحاح العربية ( سكن ) : 5/ 2137
2- أسرار العربية : 47

يَفعَلُ كان نكرةً منوّناً وذلك قولك :هَذا ضاربٌ زيدًا غدًا. فمعناه وعملُه مثلُ هذا يَضْربُ زيدًا " غدًا ". فإذا حدّثت عن فعلٍ في حينِ وقوعِه غيرِ منقطعٍ كان كذلك. وتقول : هذا ضاربٌ عبدَ الله الساعةَ، فمعناه وعملُه مثلُ " هذا " يَضرب زيدًا الساعةَ. وكان " زيدٌ" ضاربًا أباك، فإنَّما تُحدَّث أيضًا عن اتَّصال فعلٍ في حال وقوعه. وكان مُوَافِقًا زيدًا، فمعناه وعملُه كقولك : كان يَضرب أباك، ويوافِقُ زیداً. فهذا جرى مجرى الفِعل المضارع في العمل والمعنى منوَّنًا .))(1) فسيبويه يُشبَّه اسم الفاعل بالفعل المضارع في دلالتِه على الحال والاستقبال .

وجملة (يُطعمون الطعامَ) ((استئناف مسوقٌ لبيان ما لأجلِه رُزِقُوا ما ذُكِرَ من النعيمِ مشتملٌ على نوع تفصيلٍ لما ينبئ عنه اسمُ الأبرارِ إجمالاً كأنَّه قيلَ : ماذَا يفعلونَ حتَّى ينالُوا تلكَ الرتبةَ العاليةَ ؟ فقيلَ : يُوفون بما أَوجبُوه على أنفسِهم فكيفَ بما أوجبَهُ الله تعالَى عليهم (ويخافون یَوْماً كَانَ شَرُّهُ) عذابُه (مُسْتَطِيراً) فاشياً مُنتشراً في الأقطارِ غايةَ الانتشارِ ))(2) وتلك النعم يراد با ما دلَّ عليه قوله تعالى : إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [الإنسان :5 - 6]. ويُلحظ في قوله تعالى : وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ أنها جاءت في سياقٍ متصل مع الآيات الأُخر التي سبقتها، والجامع المشترك دلاليًا بينها هو (واو الجماعة ، فالوحدة

ص: 310


1- الكتاب : 1/ 164
2- إرشاد العقل السليم : 9/ 72

الموضوعية تتحقّق هاهنا في آياتٍ عدَّة ابتدأت قبل آية الإطعام؛ بدليل أنَّ الضمير في (يُطعمون) يُحيل إلى المُتقدم ذكرهم (عباد الله )، وهكذا الحال مع الآيات التي تلي هذه الآية موضوع البحث .

( على حُبَّه):

والجار والمجرور (على حُبَّه) في موضع نصب على الحال من الواو في (يطعمون) والمعنى ((كائنين على حُبَّه))(1) ، والمعنى : على رغم حبهم للطعام، للطعام، أو يكون التقدير : يُطعمون الطعام مع حبهم واشتهائهم له(2) ، وهو إنما يكون مع القول بأن (على) بمعنى (مَع) المُفيد معنى المُصاحبة(3) وأنَّ الضمير الضمير في (حبَّه) يعود على الطعام المُفهَم من (يطعمون )، وقد يرجع الضمير على الله، قال ابن عطية (ت 542ه) :(( وقوله تعالی : عَلَی حُبِهِ يُحتمل أن يعود الضمير على الطعام، أي وهو محبوب للفاقة والحاجة ... ويُحتمل أن يعود على الله تعالی أي لوجهه وابتغاء مرضاته، قاله أبو سليمان الدراني. والأول أمدح لهم لأن فيه الإيثار على النفس. وعلى الاحتمال الثاني فقد يفعله الأغنياء أكثر))(4) ، ويرجح الوجه الأول باعتبار أنَّ قوله تعالى : إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [الإنسان : 9] أغنى عن

ص: 311


1- فتح القدير : 2/ 923
2- ينظر : التحرير والتنوير : 29/ 356
3- ينظر : مغني اللبيب : 10/ 163 ، والجنى الداني : 476
4- المحرر الوجيز : 6/ 463

مرجعية الضمير على لفظ الجلالة(1) ومنه يُفهم بأنَّ شبه الجملة : عَلَی حُبِهِ أفاد المبالغة في معنى حاجتهم للطعام، إذ لامزَيةَ لهم وهم لا يُحبُّونه أو يرغبون فيه، وهو ما يُعرف ب (التتميم )، والتتميم ((هو أن يتم الكلام، فيلحق به ما يكمَّله، إما مبالغةً، أو احترازاً، أو احتياطاً، وقيل : هو أن يأخذ في معنى فيذكره غير مشروح؛ وربما كان السامع لا يتأمله ليعود المتكلَّمُ إليه شارحاً؛ كقوله تعالى في الطعام : عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا فالتتميم في قوله (على حبه) جعل الهاء كناية عن الطعام مع اشتهائه ))(2) ، وبهذا المعنى فإنَّ شبه الجملةَ على حُبَّه) قيدٌ في الإطعام إذ لولاها لكان المعنى ناقصاً .

2- الدلالة القرآنية لألفاظ الآية وما يتعلق بها:

إنَّ إيراد الآية محلَّ البحث في سياقٍ متَّصلٍ مع الآيات التي قبلها بدلالة واو العطف يُحيل (واو الجماعة) في : وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى (الأبرار) في قوله تعالى : إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار : 13]، وهو ما يعني بأن الأبرار هم الذين قاموا بالإطعام، وأنَّ تتبُّع هذه اللفظة قرآنيًا من شأنه أن يُسلط الضوء على مَن تعلقتْ به الآية الكريمة محلَّ البحث .

ص: 312


1- ينظر : التسهيل العلوم التنزيل : 2/ 519 ، والمیزان : 20/ 138 ، والأمثل : 19/ 156
2- البرهان في علوم القرآن : 3/ 78

وللأبرار في القرآن الكريم مقامٌ عالٍ بلحاظ ما أثبته القرآنُ لهم وهي :

1- اختصاصهم بالمقام العالي والمنزلة الرفيعة ويُشير الى ذلك قوله تعالى:

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطفين،18]، فدلالة في على الظرفية(1) تنُبي، عن علؤَّ المكان أو المنزلة، وهو ما يُبرِز فضيلتهم واختصاصهم بها لعدم نسبته إلى غيرهم قرآنيًا .

2- السمة الأخرى تمنَّي المؤمنين أن يكونوا معهم ويلتحقوا بركبهم؛ قال تعالى:

رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ [آل عمران :193].

وللمعيَّةِ في القرآن على المستوى الإيجابي أنماطٌ عِدَّة، فمنها معيَّة الله الفئاتٍ محددة، وأخرى أمر المؤمنين بأن يكونوا مع إنموذجٍ من المؤمنين سمَّاهم بالصادقين، والثالثة وهي محلُّ البحث دعاء الذين آمنوا ومنتهى آمالهم أن يكونوا بمعيَّةٍ محددة وهي معيَّة الأبرار ويندرج ضمن هذا النمط معيَّةُ (الشاهدين )، قال تعالى: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران :53] و: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة : 83] ، ولا مانع من القول بأن (الأبرار) هم (الشاهدون) الذين يشهدون على

ص: 313


1- ينظر :اللباب في علل البناء والإعراب :162

الخلق ويؤيد ذلك الجامع بين هذه الآيات من دعاء المؤمنين بالكون معهم مما يجعلهم تابعين لهم متأسین بهم، وهذا المعنى ينسجم مع الفقرة الأولى من حيث خصوصية المنزلة، وإذا كانت هذه رغبة الذين آمنوا فهي لا تتناقض والمعية التي أرادها سبحانه لهم بالكون مع الصادقين في قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة : 119].

ويؤيد تحقق معنى (الصدق) فيهم بلحاظ المعنى اللغوي الذي اشتُقت من لفظة (الأبرار) قال الفيومي مشيرًا إلى هذا المعنى : ((بَرَّ الرَّجُلُ يَبَرُّ بِرًّا وِزَانُ عَلِمَ يَعْلَمُ عِلْمًا فَهُوَ بَرٌّ بِالْفَتْحِ وَبَارٌّ أَيْضًا أَيْ صَادِقٌ أَوْ تَقِيُّ وَهُوَ خِلَافُ الْفَاجِرِ وَجَمْعُ الْأَوَّلِ أَبْرَازٌ وَجَمْعُ الثَّانِي بَرَرَةٌ مِثْلُ : كَافِرٍ وَكَفَرَةٍ .))(1) فلما كانت اللفظة على جمع (أبرار) فمعناها (صادق) .

وهم إنما صاروا أبراراً لإطعامهم ما يحبون قال تعالى : لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [ال عمران :92]، فلما أطعموا ما أحبوا صاروا أبراراً وهو منسجم مع قوله : (على حبه ).

(عباد الله ) :

من الممكن أيضًا عودة واو الجماعة في (يطعمون الطعام بحسب السياق على لفظة (عبادُ اللهِ)؛ ومرجعية الضمير على هذه اللفظة أضاف سماتٍ دلالية مهمة كشفت عن مقام من تعلقت به الآية الكريمة مورد البحث،

ص: 314


1- المصباح المنير (ب ر) : 28

وذلك بلحاظ الاستعمال القرآني لهذه اللفظة؛ وأغلب الآيات التي وردت فيها - وجميعها في سورة الصافات - تشير إلى إطلاق هذه اللفظة على طبقة مميزة من الأفراد، قال تعالى : وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ - إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات :39- 40] وقوله تعالی : فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ - إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات :73- 74] وقوله تعالى : فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ - إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات :127- 128] وقوله تعالى : سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ - إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات :159- 160] وقوله تعالى : لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ - لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات :168- 169] وأبرز السمات الدلالية التي تُلحظ في هذه الآيات :

1- وردت هذه اللفظ في موقع المستشن المُخرج من الأحكام التي قررتها هذه الآيات من سوء العاقبة والتكذيب والشرك بالله ، فأضاف أسلوب الاستثناء خصوصيةً لهم .

2- التعبير بوصف (المخلَصين) بفتح اللام من دون كسرها أكّد خصوصية مدلولها؛ جاء في الميزان ((سماهم الله سبحانه عباد الله المخلصين فأثبت لهم عبودية نفسه والعبد هو الذي لا يملك لنفسه شيئا من إرادة ولا عمل فهؤلاء لا يريدون إلا ما أراده الله ولا يعملون إلا له. ثم أثبت لهم أهم مخلَصون بفتح اللام أي إن الله تعالى أخلصهم لنفسه فلا يشاركه فيهم أحد

ص: 315

فلا تعلق لهم بشيء غيره تعالى من زينة الحياة الدنيا ولا من نعم العقي وليس في قلوبهم إلا الله سبحانه))(1) .

3- من الممكن القول بأن الآية الأخيرة أشارت إلى هوية (عباد الله المخلَصين) بأنهم (أهل الذكر)(2) ؛ إذ جعلت من توفر الذكر عندهم من الأولين شرطًا في كونهم عبادَ الله المخلَصين، فسمات هذه اللفظة تشير إلى خصوصية مدلولها في قوله تعالى : عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [الإنسان :6] من الآيات مورد البحث .

(وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ):

يكشف التعبير القرآني بأنَّ الإطعامَ في الآية الكريمة مندوب وغير واجب، وقد ذُكر الواجب منه في موردين(3) ؛ قال تعالى : لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج :82] و : وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا

ص: 316


1- الميزان في تفسير القرآن : 17/ 68
2- مضى الحديث في مبحث المركب الإضافي بأن قوله تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ »[النحل :43] من الآيات المتعلقة بالإمام علي عليه السلام في خصوص دلالة (أهل الذكر)
3- ينظر: المعجم المفهرس : 540

مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ »[الحج :82]، ويُلحظ أنّ صيغة فعل الأمر ظاهرة في الوجوب بقوله (أطعموا)، ويؤيد ذلك أن الأمر بالإطعام في موسم الحج، والأمر الآخر الذي يُلحظ اقتصار هذا الإطعام على صنفين( القانع والمعتر) ولم يذكر إطعام الأسير، وهو ما يميز الإطعام في الآية مورد البحث بسعة وتنوع الإطعام فيها، وأهم تطوعوا لهذا الإطعام وأجابوا السائل.

أما إيتاء حق المسكين واليتيم فقد ندبَ إليه بعضُ الآيات، وقد يكون إطعامُهم نحوًا من ذلك الحق، وفي قوله تعالى : إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا قصر الإطعام على إرادة وجه الله واللام لام السبب(1) ، فإرادة وجه الله سبحانه سببُ في هذا الإطعام.

وقد عبَّر سبحانه عن صدور العمل لهذا السبب وهو إرادة وجه الله، بأنه خير ومن يقوم به ب( المفلحون)؛ قال تعالى : فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »[الروم :38] ، وعبر سبحانه عن ال( المفلحون ) بال(المؤثرون على أنفسهم) قال تعالى : وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »[الحشر :9] ،

ص: 317


1- ينظر : فقه اللغة : ص 394، الصاحبي في فقه اللغة : 148

وهذا المعنى من الإيثار ينسجم مع قوله : وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ».

وقد عرَّف سبحانه صفة من يُطعم المسكين واليتيم بأنه (مصدَّقٌ بالدين) على نحو المقابلة ؛ قال تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الماعون : 1- 3]، والدين هو الإسلام، قال تعالى : إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران : 19] . وفي مقابل ذلك فإن الذي يصدق بالدين هو من يطعم اليتيم والمسكين ولا يقتصر على دعوته إلى الطعام فحسب، وهو متحقق فيمن تعلقت به الآية مورد البحث فيكونوا (هم الصادقون) ، وهو منسجمٌ مع ما جَرَت الإشارة إليه سابقًا في وصف الأبرار ب( الصادقون) .

وما يميز الآية المبحوثة أمران:

الأول : إنَّ التعبير عن الإطعام فيها هو المورد الوحيد في القرآن الكريم الذي جاء بصيغة الفعل المضارع (يُطعمون) المُسند إلى غير لفظ الجلالة، وهو ما يكشف عن وقوع حالة الإطعام المتحققة في الواقع الخارجي قام به مجموعة من الأفراد، لما في المضارع من الدلالة على الحال والاستقبال(1) .

وترشحه إلى الحال تحديدًا اعتبارًا بما صدر منهم يوضحه قوله تعالی : إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ، في حين أن بقية

ص: 318


1- ينظر : الأصول في النحو : 1/ 125

الموارد(1) قد جاء فيها الفعل المضارع (يُطعم) إما مُسندًا إلى لفظ الجلالة أو مقترنا بالنفي مما يُبعده عن التحقق بالمعنى الذي أبرزته الآية محل البحث.

الآخر : إن الإطعام فيها كان متنوعاً لأصناف المحتاجين إليه (اليتيم والأسير والمسكين) وقد عُطف بعضها على بعض، والتي لم يجمع بينها القرآن الكريم في مورد آخر. وأقرب الآيات لهذه الآية من حيث بيان أثر الإطعام هو قوله تعالى في سورة البلد : فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ [البلد: 11- 18]، لقد أشارت هذه الآيات الكريمة إلى أن العقبة التي هي ((استعارة لهذا العمل الشاق على النفس من حيث هو بذل مال، تشبيه بعقبة الجبل، وهو ما صعب منه، وكان صعوداً ، فإنه يلحقه مشقة في سلوكها .))(2) يتمُّ اقتحامها وتجاوزها بأحد أمرين :

إما بفك رقبة وهي كناية عن الأسير؛ قال ابن عاشور : ((والرقبة مراد بها الإنسان، من إطلاق اسم الجزء على كله مثل إطلاق رأس وعينٍ ووجهٍ، وإيثار لفظ الرقبة هنا لأن المراد ذات الأسير أو العبد وأول ما يخطر بذهن

ص: 319


1- تنظر الآيات :البقرة :249 ، و الأنعام : 14- 138- 145، والشعراء : 79، والذاريات : 57، والمعجم المفهرس : 540
2- البحر المحيط : 8/ 471

الناظر لواحد من هؤلاء. هو رقبته لأنه في الغالب يوثَق من رقبته))(1) أو بإطعام يتيمًا في يوم مجاعة شديدة، وعليه فإن من قام بإطعام هذه الصنوف الثلاثة أولى بفضيلة اقتحام العقبة وهو ما أفادته أفضلية دلالة (الواو) العاطفة الجامعة لأنواع الإطعام على دلالة (أو) المُخيَّرة فيها .

وإذا كان مَن اقتحم العقبة هو من أصحاب الميمنة بحسب التعبير القرآني القيامه بأحد الأمرين سالفي الذكر -كما أشار إلى ذلك صاحب تفسير الميزان بقوله : (( قوله تعالى : "أولئك أصحاب الميمنة" بمعنى اليمن مقابل الشؤم، والإشارة بأولئك إلى ما يدل عليه السياق السابق أي الذين اقتحموا العقبة وكانوا من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر والمرحمة أصحاب اليمن لا يرون مما قدموه من الإيمان وعملهم الصالح إلا أمرا مباركا جميلا مرضيا. ))(2) فإنَّ من أطعم المسكين واليتيم والأسير هو أعلى درجة وأفضل منزلةً من أصحاب الميمنة لدلالة الواو على الجمع والتشريك في الحكم(3) بين أنواع الإطعام وهي وهي تدل أيضًا على تكرار الإطعام منهم مع حبهم للطعام في كل واحد من هذه الأصناف الثلاثة ، وهو أكمل من دلالة أو على التخيير فيه(4) ، ومن ثمَّ يمكن القول بأن من قام بالإطعام هم من السابقين المقربين كوفهم أعلى درجة

ص: 320


1- التحرير والتنوير : 30/ 316
2- الميزان : 20/ 333
3- شرح شذور الذهب : 452، البرهان في علوم القرآن : 4/ 459
4- ينظر: الجنى الداني : 228

من أصحاب الميمنة بحسب مراتب ودرجات المؤمنين أشارت إليه سورة الواقعة .

والآيات الكريمة تشير إلى ظاهرة فريدة، وهي أطعام أصنافٍ من المحتاجين على الرغم من حاجتهم الماسة للطعام، ندبوا أنفسهم إليه من دونِ أن يكونوا قد كُلَّفوا به، وهم إنما فعلوا كلَّ ذلك راجين به وجه الله سبحانه ، وهو مالم يحكيه القرآن الكريم عن غيرهم في موردٍ آخر وهو ما يُعضَّد اختصاص هذا العمل بفئة فريدةٍ من المؤمنين، والتعبير بالجملة الفعلية (يطعمون) کشف عن وقوع هذا الإطعام وتحققه في الواقع، كما أن التعبير به يدل على الاستعداد ممن تعلقت به الآية الكريمة لبذل هذا الإطعام على أية حال، وكشف البحث أيضًا بأن من وقع منهم الإطعام هم (الصادقون) اعتبارًا بالمعنى اللغوي للأبرار فضلاً على الدلالة القرآنية التي أوحت بهذه العلاقة .

المطلب الثالث: في معنى (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًا):

قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا »[ مريم :96]

مهاد التنزيل :

يتوجه البحث لتحديد معنى قوله تعالی : سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا

ص: 321

ما له علاقة بسبب النزول، إذ ورد بشأن سبب نزول الآية ما جاء في تفسير عطية العوفي (ت127ه) : ((عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه)، قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ : "يَا أَبا الحَسَنِ قل : اللَّهُمَّ اجْعَلْ عِنْدَكَ عَهْداً، واجْعَلْ لِي عِنْدَكَ وُدّاً، واجْعَلْ لِي فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ مَوَدَّةً "فنزلت هذه الآية))(1) .

مسارالتحليل ويتضمن

1- المعنى اللغويّ للفظة ( وُدَّا):

يدور معنى هذه اللفظة في معاجم اللغة حول معنيين هما المحبة وتمني الشيء؛ قال الخليل :(( الوَدُّ مصدر وَدِدْتُ، وهو يَوَدُّ من الأمنِية ومن المَودّة، وَدَّ يَوَدُّ مَوَدَّةً))(2) وفي المحيط في اللغة ((الوَدُّ : مَصْدَر المَوَدةِ، وهو الوِدَادُ والوُدُّ. والوَدَادَةُ : مَصْدَرُ ودِدْتُ أوَدُّ؛ من الأمْنِيَّةِ. ومن المَوَدَّة : يَودَ مَودَةً))(3) ، وقال الفيومي (ت 770ه) : ((وَدِدْتُهُ أَوَدُّهُ مِنْ بَابِ تَعِبَ (وُدًّا) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَضَمَّهَا أَحْبَبْتُهُوَ الاِسْمُ الْمَوَدَّةُ (وَدِدْتُ) لَوْ كَانَ كَذَا (أَوَدُّ) أَيْضًا (وُدًّا) وَوَدَادَةً

ص: 322


1- تفسير القرآن الكريم : 2/ 248 ، ينظر : تفسير فرات الكوفي : 250، ومناقب علي بن أبي طالب : 275 - 276، والكشف والبيان : 6/ 233 ،، وشواهد التنزيل : 359/1 ، ومجمع البيان : 6/ 519 ، وأسباب النزول : 197، والكشاف : 2/ 45 ، وخصائص الوحي المبين : 131 - 133 ، و الجامع لأحكام القرآن : 2/ 71 ، والدر المنثور : 5/ 544 ، وتذكرة الخواص : 1/ 186 ، وفتح القدير : 2/ 1988 ، وينابيع المودة : 2/ 360 ، وغيرها
2- العين (ودد) : 8/ 99
3- المحيط في اللغة (الود) : 9/ 396

بِالْفَتْحِ تَمَنَّيْتُهُ))(1) .

وتضمن (الود) معنى التمني قرينةٌ على افتراقه عن المحبة المطلقة، وهو ما أشار إليه الكفوي في الكليات : ((يقال :( وددت أن يكون كذا وددت لو كان كذا) ويقال : أيضاً (یود لو) ولا يقال : (يحب لو) لأن مفهوم (ودّ) ليس مطلق المحبة بل المحبة التي يقارها التمني))(2) .

إلا أن الزبيدي (ت1205ه) عدَّ أن المحبة هي المعنى الأولي للفظة؛ قال : ((الوُدُّ والوِدَادُ : الحُبُّ والصَّدَاقة ثم استُعيِر للتَّمَنَّي وقال ابنُ سِيدَه : الوُدُّ : الحُبُّ يكون في جَمِيعِ مَدَاخِل الخَيْرِ))(3) فالوُد هو المحبة المقرونة برغبة المحبوب الشديدة وهو ما يُميزها عن المحبة المجردة، ويبدو أن هذا الفرق بينهما هو الذي رجَّح التعبير ب( ود) من دونِ (محبة) في الآية الكريمة .

2- التوجيهات النحوية لألفاظ الآية:

( دلالة الاسم الموصول) :

ويمكن تحديد معنى لفظة (وُدَّا) عِبر علاقاتها النّحوية ببقية الألفاظ في الآية الكريمة التي صدرت البحث، فالاسم الموصول (الذين) اسمٌ مبهم

ص: 323


1- المصباح المنير : الفيومي (ودد) : 366
2- الكليات : القسم الخامس/ 46
3- تاج العروس (ودد) : 9/ 278

ويُعوَّلُ في تحديد مدلوله على جملة الصلة(1) وما يقع في حيازتها (سيجعل لهم الرحمن ودَّا) ، (( ويشترط في الصلة أن تكون معهودة أو منزلة منزلة المعهود وإلا لم تصلح للتعريف ))(2) وهو ما يجعل الإسناد في الجملة الفعلية (سيجعل لهم الرحمن ودا) إلى معهودٍ حاضرٍ لدى المخاطبين، وأنَّ تمام التعريف به إنما يكون بتمام ما يدخل في صلة الموصول من العطف ونحوِه، فالمعتبر في صفة هؤلاء هو اقتران الإيمان بالعمل الصالح وهو المستفاد من دلالة العطف على مطلق الجمع والتشريك في أصل الحكم المجعول(3) .

واشتقاق الفعل (آمن) من (الإيمان) وهو بمعنى التَّصديق(4) يُوحي بأنَّهم كانوا صادقين في ما يقوُمون به من أعمال فالمفعول به ( الصالحات) قيدٌ في الفعل (عملوا ).

ودخول (إنَّ) على الاسم الموصول أفاد معنى التحقق والتأكيد في وقوع الخبر، قال سيبويه : (( و (إنَّ) توكيدٌ لقوله : زيدٌ منطلقٌ. وإذا خفَّفتَ فهي كذلك تؤكّد ما يتكلَّم به وليَثبت الكلامُ ))(5) ، قال الرضي في معناها :((ومشابهتها معنیً المطلق الفعل، من حيث إنّ : في : (إِنَّ، وأَنَّ معنى حققتْ

ص: 324


1- ينظر : الكليات : القسم الثالث/ 121
2- شرح الأشموني على ألفية ابن مالك : 1/ 147
3- ينظر : مغني اللبيب : 2/ 17
4- ينظر : لسان العرب (آمن) : 13/ 24
5- الكتاب : 4/ 233

وأكدتْ))(1) وفي هذا التعبير ما يُشير إلى تأكيد تحقق الجعل الذي وعد به الرحمن (الذين آمنوا وعملوا الصالحات).

(سيجعل لهم الرحمن وُدَّا) :

هذه الجملة فعلية تبدأ بفعلٍ مضارع مقترن بالسين ((والجملة الفعلية موضوعة لإحداث الحدث في الماضي أو الحال فتدل على تجدد سابق أو حاضر))(2) إلا أن اقتران الفعل بالسين يُبعده عن الماضي، والمعنى أن الرحمن سيجعل للذين آمنوا وعملوا الصالحات وُدًا متجددا حالاً بعد حال، وفائدة (السين) وهي ((الداخلة على المضارع تخلصه للاستقبال، وتسمى حرف تنفيس لأنها تنفسٌ في الزمان ))(3) والاستغراق في الزمن معها أقل منه منه مع (سوف) وهو مذهب البصريين(4) .

فالسين وإن كانت تدل على الاستقبال من دون الحال إلا أنها تؤكد معنى وقوع مدخولها لا محالة، قال الزركشي في البرهان : ((إن السين موضوعةٌ للدلالةِ على الوقوعِ مع التأخر، فإذا كان المقام ليس مقام تأخير لكونه بشارة تمحضت لإفادة الوقوع، وتحقيق الوقوع يصل إلى درجة الوجوب))(5) ، وهي

ص: 325


1- شرح الرضي على الكافية : 4/ 331
2- الكليات : القسم الثاني : 153
3- رصف المباني : 458
4- ينظر : المصدر السابق : 461، والجنى الداني : 459
5- البرهان في علوم القرآن : 3/ 433

أيضًا تُفيد ((ترتیب الفائدة لأنها تفيد أمرين الوعيد والإخبار بطرقه وأنه متراخٍ فهو كالإخبار بالشيء مرتين ولا شك أن الإخبار بالشيء وتعيين طرقه مؤذن بتحققه عند المخبر به ))(1) ، وفي هذا الكلام ما يؤيد العهدية في الذين آمنوا وعملوا الصالحات باعتبار أن الوعد بالجعل جاء على نحو الإخبار وهو ما لا يكون إلا إذا كان متعلقه موجودا ومُشخصًا في الواقع الخارجي

الدلالة القرآنية لألفاظ الآية وما يتعلق بها:

يسير بحث الدلالة القرآنية في الآية المبحوثة في اتجاهين :

الاتجاه الأول : تحديد مدلول الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ باعتبارهم معهودين لدى المخاطب في تحقق الجعل الإلهي ، وهو ما يُسهم في إبراز مَن تعلقت به الآية فكان مصداقًا للجعل الإلهي؛ وتتبع هذه اللفظة يوحي بحسب الموارد التي وردت فيها بحسب الاستعمال القرآني لها بأنها طائفةٌ مُمَيَّزة بلحاظ ما أَسنِد إليها؛ وقد أفرد هذا الإسناد من السمات الدلالية ما يوضحه المخطط الآتي(2) :

+جنات تجري من تحتها الأنهار - يخافون - يحزنون

+يُوفي أجرهم + مغفرة +يهديهم ربهم + طوبى لهم

ص: 326


1- المصدر السابق : الصحيفة نفسها
2- تنظر الآيات القرآنية البقرة : 25- 277، وآل عمران : 57 - المائة : 9، والرعد :29 ، و إبراهيم :23، والشعراء : 227، والجاثية :30، والشوری : 23 وغيرها

الذين آمنوا وحكوا الصالحات + حسن مآب + يُدخلهم في رحمته + مع الرسول

+ أشداء على الكفار + رحماء بينهم + رُكعاً + سُجداً

- يبغي بعضهم على بعض + تحيتهم في الجنان سلام + يُنتصرون بعد ما ظُلِموا +لباسهم حرير

ومن الآيات التي أوضحت الموقع المُتميز هذه الجماعة قوله تعالى : «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا» [الفتح : 29 ] بلحاظ ما أسند إليهم فيها وذلك في شقين :

إحدهما: ( وعدُ الله)

يُلحظ أن ما يزاد على تلك الصفات التي تُلحظ من الآية الكريمة بأنَّهم مع الرسول ورحماء في ما بينهم وأشداء في مواجهة الكفّار وابتغائهم رضوان الله كذلك ذكرت الوعد الإلهي لهم بالمغفرة والأجر العظيم وقد تكرر هذا الوعد في قوله تعالى : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ

ص: 327

عَظِيمٌ »[المائدة : 9 ] وهو ما يتوافق مع الآية مورد البحث من حيث أنَّ جعل الوِدَّ لهم من قبيل الوعد الإلهي بقرينة (سيجعل لهم) .

ومن مُختصات هذه الجماعة المؤمنة على مستوى الوعد الإلهي استخلافهم الأرض وتمكين الدين؛ قال تعالى : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ »[النور: 55].

الآخر: (أجرا عظيما)

وهي تفسيرٌ للوعد الإلهي فيحسُن ملاحظتها، ومن الذي وُعد به : (مَنْ قُتِل في سبيل الله )؛ قال تعالى : فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء :74]

(مَنْ كانت أعماله ابتغاء رضوان الله)؛ قال تعالى : لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء :114] (مَن أقام الصلاة وآتى الزكاة )؛ قال تعالى : لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ

ص: 328

وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء :162] . (مَن أوفي ببيعته الله والرسول )؛ قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 10] .

ومن هنا يمكننا القول بأنَّ هذه الجماعة المؤمنة طبقة خاصة من المؤمنين کشف عن مقامهم كثرةُ الوعودِ الآلهية لهم، انسجامًا مع استعدادهم الإيماني في الالتزام بما أُخِذ عليهم من عهودٍ ومواثيق.

الاتجاه الثاني : وذلك بالوقوف على دلالة قوله : سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا، وتأتي أهمية تحديد دلالة هذه الجملة من حيث أنهما مُسندة إلى الاسم الموصول مع صلته، لما في ذلك من أثرٍ في الوقوف أكثر على سمات مَنْ تعلقت به الآية الكريمة .

ويرى الباحث بأن الأساس في الوصول إلى هذا المعنى من خلال تتبع الموارد القرآنية للفظة (وُدَّا)؛ وذلك لأنها تمثل المجعول المراد تحقيقه على مستوى الوعد الإلهي . وما تجدر الإشارة إليه أنَّ هذه اللفظة لم تستعمل قرآنيًا في غير هذا المورد وهو ما يُبرز خصوصية من جُعلتْ له، وهو أمرٌ يُحتَّم على الباحث متابعة السمات الدلالية القرآنية لأقرب الألفاظ لها، ويبدو أن أولى تلك الألفاظ بالمتابعة لفظةُ (مودَّة) من حيث اشتراکها مع (ودّا) في مصدرية الفعل (ودد) وهو ما أشار إليه الخليل من قبل .

ص: 329

( موَدَّة ) : تكررتْ هذه اللفظة في عددٍ من الموارد القرآنية، تُشير بجملتها إلى سِمةٍ واحدة وهي (المحبَّة الظاهرية)؛ قال تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ [المائدة :82]

ويبدو أن استعمال لفظة (مودة) في قبال لفظة (عداوة) ينقل الحُب من الجانب القلبي إلى السلوك العملي، وما يؤيد هذه المعنى قوله تعالى : وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ » [فصلت : 34 ] فإن دفع ال( عداوة) يجعلها أمرًا متاحًا يمكن لحظه وتمييزه ومن ثمَّ دفعه وتداركه، فقوله (أقربهم مودَّة) وملاحظة استعمالها في قبال (عداوة) يقربها من الحب في جنبته التطبيقية بمعنى إظهاره، ومن ثم يمكن القول بأنَّ معنى ما سيجعله الله سبحانه من ال( وِد) للذين آمنوا وعملوا الصالحات هي تلك المحبة الظاهرة المعروفة وليست مجرد إدعاء، لعدم موافقتها للظاهر كما هو حال المنافقين في تعاملهم مع المسلمين، وهو ما يدخل هذه اللفظة في معنى الاتَّباع والموالاة .

ويسير في نفسه لها قوله تعالى : وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ »[العنكبوت : 20] ، إذ وردت (مودة) في موقع المفعول لأجله وهي متعلقة بالفعل ( اتَّخذَ)، وصيغة افتعل

ص: 330

تقترب من معنى التفاعل(1) الدال على المشاركة ويؤيد ذلك لفظة (بينكم) وهو ما يرشح معنى (مودة) في الجانب العملي وهو ما يُميَّز دقة التعبير القرآني في استعمال (ودَّا) دون محبَّة التي تشترك معها في معنى (الحب ). ويؤيد ذلك عدم اقتران لفظة (محبَة) بلفظة (بين) في المورد الوحيد الذي استُعملت فيه وهو قوله تعالى : أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي »[العنكبوت : 25] في حين أن لفظة (مودة) اقترنت بلفظة (بين) في أغلب موارد استعمالها ومنها قوله تعالى : وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا »[النساء :73 ] وعَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ »[الممتحنة :7 ] و وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ »[الروم:21 ] وهو ما يؤيد ما ذهب إليه الباحث في ما تم ذكره سابقا في معنى هذه اللفظة. والسَّمة الأخرى لهذا ال( وِد) قُرب وقوعه من جميع الجهات؛ إذ إنَ التعبير القرآني لم يستعمل حرف السين مقترناً ب( يجعل) في غير مورد الوعد القريب الوقوع(2) ، وهو قوله تعالى: «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ

ص: 331


1- ينظر : المخصص : 4/ 29
2- ينظر : المعجم المفهرس : 221

يُسْرًا» [الطلاق: 7] وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مریم :96] وعدم تقيد المصدر (وداً) يشير إلى أن المجعول من الود والمحبة كائنٌ لا محالة، ويؤيد هذا المعنى أن الاستمرار هو من معاني (السين)(1) فالود لهم في الدنيا والآخرة إذ ((لم يقيده بما بينهم أنفسهم ولا بغيرهم ولا بدنيا ولا بآخره أو جنة فلا موجب التقييد بعضهم ذلك بالجنة وآخرين بقلوب الناس في الدنيا إلى غير ذلك))(2) فالودُّ متوقعٌ لهم من جميع الجهات .

واستعمال (المودة) في مقابلة (العداوة) في التعبير القرآني، يشير إلى تُعرِّض (مَن وُعِد بالود) إلى الظلم والإيذاء رحمةً بهم مما أصابهم، قال تعالى : لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [المائدة :83].

والتعبير بلفظة (الرحمن) في الآية المبحوثة له خصوصية من حيث إيذانه بأنه سبحانه سيرحمهم من هذا الظلم ويُبدَّل حالهم إلى ما في الخير والعاقبة الحسنة، ويؤيد هذا المعنى أن الجعل فيه معنى التصيير والتبديل؛ قال أبو حيان : (( والفرق بين الخلق والجعل، أن الخلق فيه معنى التقدير وفي الجعل معنى التصيير كإنشاء من شيء أو تصيير شيء شيئاً أو نقله من مكان إلى مكان))(3) قال ابن عجيبة (ت1224ه) : ((وأتی الحقّ جلّ جلاله بالسين؛ لأن

ص: 332


1- ينظر البرهان في علوم القرآن : 4/ 433
2- ینظر المیزان : 16/ 111
3- ينظر البحر المحيط : 4/ 73

السورة مكية، وكانوا إذ ذلك ممقوتين عند الكفرة، فوعدهم ذلك، ثم أنجزه لهم حين جاء الإسلام، فعَزوا وانتصروا، وتعشقت إليهم قلوب الخلق من كل جانب، كما هو مسطر في تواريخهم))(1) .

ولئن كان التعبير بالمصدر قد أفاد سعَة متعلقاته وتنوعها من حيث تحققه في الدنيا أو الآخرة لأنّ لفظة ( ودا ) غير مقيدة ((فإيثار المصدر ليفي بعدة متعلقات بالود ))(2) ، كذلك يحتمل أن يكون التعبير بالمصدر فيه إشارة إلى أنهم لم يتسببوا أو يتوسلوا إلى تحصيل هذا الود لما فيه من معنى الإطلاق؛ وقد أشار الزمخشري (ت 538ه) إلى هذا المعنى بقوله : ((«وُدّا» بالكسر ، والمعنى : سيحدث لهم في القلوب مودّة ويزرعها لهم فيها من غير تودّد منهم ولا تعرّض للأسباب التي توجب الود ویکتسب بها الناس مودات القلوب، من قرابة أو صداقة أو اصطناع بمبرة أو غير ذلك، وإنما هو اختراع منه ابتداء اختصاصاً منه لأوليائه بكرامة خاصة ))(3) .

إلا أن التعبير القرآني يقيده من جهة صدوره في مورد آخر، قال تعالى : لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة :22]، فإذا كان الوُدُّ منفيًا عمَّن حادَّ اللهَ ورسولَه فهو ثابتٌ باللزوم للذين آمنوا وبذلك ينحصر إظهار الود من جهة المؤمنين لل( الذين آمنوا وعملوا

ص: 333


1- البحر المديد : 4/ 253
2- التحرير والتنوير : 16/ 89
3- الكشاف : 3/ 45

الصالحات )، وهذا ما أشار إليه الفراء(1) وتظهر خصوصية هذه الجماعة باعتبار ما تم الإشارة إليه من سماتٍ دلالية فريدة أبرزها جعل الودَّ لهم من دونِ أن يشاركهم فيه غيرهم على مستوى التعبير القرآني .

المطلب الرابع: في معنى (طُوبَى لَهُمْ):

قال تعالى : الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ »[ الرعد: 29] .

مهاد التنزيل :

يتوجه البحث لتحديد معنى قوله تعالى : (طُوبَى لَهُمْ) وذلك باعتبار الروايات التي وردت في معناها وعلاقته بالإمام علي (عليه السلام)، ومن تلك الروايات ما أخرجه فرات الكوفي في تفسيره قال : ((حدثني عبيد بن كثير ومحمد بن أحمد معنعنًا : عن أبي جعفر عليه السلام قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وآله عن : طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ قال : شجرة في الجنة أصلها في داري وفرعها على أهل الجنة، ثم سئل مرة أخرى فقال : شجرة في الجنة أصلها في دار علي وفرعها على أهل الجنة. قال : قيل له : سألتك عنها فقلت : أصلها في داري وفرعها على أهل الجنة . فقال : إن داري ودار علي واحدة))(2) .

ص: 334


1- معاني القرآن الفراء : 2/ 91
2- تفسير فرات الكوفي : 209، ينظر: تفسير العياشي : 2/ 227 -229، وتفسير القمي : 1/ 366 ، وشواهد التنزيل : 1/ 305 ، ومجمع البيان : 6/ 41 ، ونور الثقلين : 3/ 441 ، والبرهان في تفسير القرآن : 4/ 275 ، والمیزان: 11/ 371

وأيضًا ما أخرجه الثعلبي في تفسيره بإسناده : (( الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : ف(طوبى لهم) شجرة أصلها في دار علي في الجنة، وفي دار کل مؤمن منها غصن يقال له طوبی... وروى داود بن عبد الجبار عن جابر عن أبي جعفر قال :" سُئل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن قوله طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ فقال : «شجرة أصلها في داري وفرعها في الجنة». ثم سُئل عنها مرة أُخرى. فقال :«شجرة في الجنة أصلها في دار علي وفرعها على أهل الجنه . فقيل له : يا رسول الله نسألك عنها مرة فقلت :«شجرة في الجنة أصلها في دار علي وفرعها على أهل الجنة» فقال : ذلك في داري ودار علي أيضا واحدة في مكان واحد))(1) .

مسار التحليل ويتضمن

1- المعنى اللغويّ للفظة (طوبی):

اتفق أهل اللغة أن وزنَها (فُعلی) من الطِّيب، إلا أنَّ الخلافَ وقع في دلالة هذا البناء على ما يقابل أفعل التفضيل في المذكر أو أنه جمع طِيبة؛ جاء في العين ((طيب: طابَ يَطيبُ طِيباً فهو طَيَّبٌ والطَّيبُ على بناء فِعْل، والطَّيَّبُ. نعت. والطَّيَّبُ : الحلال. وطابةُ : مدينة الرَّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم....وطُوبَی :

ص: 335


1- الكشف والبيان : 5/ 290 -291 ينظر : شواهد التنزيل : 1/ 304 ، والجامع لأحكام القرآن : 1/ 1692 ، وينابيع المودة : 1/ 287

اسْمُ شَجَرة في الجنّة أصلها في دار النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفي كلّ دارٍ من دُور أُمَّتِهِ غصنٌ منها .))(1) ، وفي الصحاح (( الطَيَّب : خلاف الخبيث ، وطاب الشيءُ يطيب طيبَة وتَطبابا ... وطوبى : فُعْلی من الطيب، قلبوا الياء واواً للضمة قبلها، وتقول : طوبى لك، وطوباك بالإضافة ))(2) ، وقال ابن سيده :(( والطّيَّب من كل شيء أفضله وقد طاب طِيباً وطاباً فهو طيَّب، واستطبتُه : وجدته طَّيباً، وأطَبْته وطيَّبته : جعلته طَّيباً))(3) .

وجاء في القاموس المحيط (( الطُّوبَی : الطَّيبُ، وجَمْعُ الطَّيَّبَةِ، وتَأْنيثُ الْأَطْیَبِ، والحُسْنَى، والخَيْرُ والخِيرَةُ، وشَجَرَةٌ في الجَنَّةِ))(4) ، وفي المُغْرِب في ترتيب المُعْرِب (( الطَّيَّبُ : خِلَافُ الْخُبْثِ فِي الْمَعْنَييْنِ يُقَالُ شَيْءٌ طَيَّبٌ أي طَاهِرٌ نَظِيفٌ أَوْ مُسْتَلَذٌّ طَعْمًا وَرِيحًا وَخَبِيثٌ أَيْ نَجَسٌ اَوْ کَرِيهُ الطَّعْمِ وَالرَّائِحَةِ))(5) وجاء في لسان العرب ((الطُّوبى : جماعة الطَّيَّبة ، عن كراع ؛ قال : ولا نظير له إِلاَّ الكُوسى في جمع كَیِّسَة، والضُّوقى في جمع ضَيَّقة "، قال ابن سيده : وعندي في كل ذلك أَنه تأْنيثُ الأَطْيَبِ والأَضْيَقِ والأَكْيَسِ؛ لأَنَّ فعْلی لیسَت من أَبنية الجموع "))(6) .

ص: 336


1- العين (ط ي ب ) : 7/ 461
2- تاج اللغة وصحاح العربية (طيب ) : 2/ 192
3- المخصص : 4/ 46
4- القاموس المحيط : 3/ 115
5- المغرب في ترتيب المعرب : 322
6- لسان العرب (طيب) : 1/ 657

ومما يُرجَّح أن (طوبى) (فُعلی) مؤنث (أطيب) أن أفعل التفضيل يجمع على أفاعِل، قال ابن هشام في معنى بنائها :(( أن تكوُن عينًا لفُعْلَی، بالضَّم، اسماً؛ كطُوبَى : مصدراً لطاب، أو اسماً للجنّة، أو صفة جاريةً مجْرَى الأسماءِ؛ وهي فُعْلَی أَفْعَل؛ كالطّوبَی والکُوسَی، والخُورَی؛ مؤنثات : أَطْيَبَ وأَكْيَسَ وأَخْيَرَ، والذي يدل على أنَّها جارية مجْرَى الأسماءِ، أنَّ أفعل التَّفضيل يجمع على "أفاعل"؛ فيقال : الأفاضل، والأكابر))(1) ، وفي الصحاح ((أطعَمَنا فلانٌ من أطَايب الجزور : جمع أطيب؛ ولا تقل من مطايب الجزور))(2) . وقد اختار ابن سيده كوها مؤنث أطيب؛ قال : ((طُوبَی : شَجَرَةٌ في الجَنَّة وكأنها سُمَّيت بتأنيث الأَطْيَب وسقطت منها الألف واللام في حدّ العَلَمِية فَخَرَج على حَسَنٍ وحارِثٍ كما سَمَّوُا الجَنَّة الحُسْني إلا أن الحُسْني خَرَجَتْ على الحَسَنِ والحارِث))(3) ، وسواء أكان معناها (فعلی) جمع طيَّبة أم اسم جمع أو مؤنث أطيب أفعل التفضيل، فإنهما في كلَّ هذا لا تخلو من معنى المبالغة في الطيب .

2- التوجيهات النحوية للفظة (طوبی) وما يتعلق بها :

و( طوبی) كونها اسم فهي في معنى العلمية وأن المخاطب على سابق علم بما وهو المسوغ للابتداء بما في الآية المبحوثة ؛ قال سيبويه : ((هذا بابٌ

ص: 337


1- ينظر : أوضح المسالك إلى ألفية إبن مالك : 4/ 424- 425
2- تاج اللغة (طيب) : 1/ 173
3- المخصص : 4/ 485

من النكرة : يَجري مجرى ما فيه الألفُ واللام من المصادر والأسماء؛ وذلك قولك : سلامٌ عليك ولَبَّيْك، وخيرٌ بين يديك، ووَيْلٌ لك... فهذه الحروفُ كلُّها مبتدأَة مبنيٌّ عليها ما بعدها، والمعنى فيهنَّ أنّك ابتدأتَ شيئاً قد ثَبَتَ عندك، ولَسْتَ في حال حديثِك تَعملُ في إثباتها وتزجيتها))(1) .

فالذي سوَّغ الابتداء بهما كون المخاطب على معرفةٍ بها، وقد عدَّ (طوبى) واحداً من هذه الأسماء المُعرفة وإن كانت مجردة من الألف واللام؛ قال في بابها ((هذا بابٌ من النكرة : يَجري مجرى ما فيه الألفُ واللام من المصادر والأسماء))(2) وتجردها من الألف واللام يرشحها للاسمية؛ قال سيبويه :((باب ما تقلب فيه الياء واواً وذلك فُعلى إذا كانت اسماً. وذلك : الطوبي، والكوسي، لأنها لا تكون وصفاً بغير ألف ولام، فأجريت مجری الأسماء التي لا تكون وصفاً))(3) . وهي ليست بصفة ؛ قال أبو علي الفارسي (ت377ه) : (( أما طُوبَی من قولهم طُوبَى لهم فكالشُّورَى مصدر وليس بصفة كالكُوسَى ولو كانت مثلها للَزِمَها لامُ المعرفة وانقلبت الواو ياءً فيها لأنها اسم وليست بصفة كضِيزی وحِیکی))(4) . و(طوبى) ((مبتدأ و( لهم) خبر وساغ الابتداء بما لما فيها من معنى الدعاء))(5) وذكر الزمخشري بأن اللام

ص: 338


1- الكتاب : 1/ 330
2- المصدر السابق : الحيفة نفسها، وينظر : 1/ 331 في ذکر سیبویه لهذه اللفظة وعدَّه من هذه الأسماء
3- الكتاب : 4/ 364
4- المخصص : 4/ 485
5- إعراب القرآن وبيانه : 5/ 120 -121

في (لهم) للبيان مثل سقياً لك(1) ، إلا أن الرفع في (طوبى) دون النصب بقرينة العطف في قوله تعالى (وحسنُ مآب) ويُرجَّح أن تكون هذه اللام للاستحقاق؛ قال الزجاجي (ت 337ه) : (( وما كان من هذه الأسماء سوى المصادر فالرفع فيها جائز وتصير اللام لام الخير التي تقع للاستحقاق...والمعنى فيه معنى الدعاء معناه ثبت هذا لهم واستحقوه))(2) ف(طوبى) ثابتة للذين آمنوا وعملوا الصالحات استحقاقًا لهم لما بذلوه من أعمال صالحة .

الدلالة القرآنية للفظة (طوبى) وما يتعلق بها:

لم يستعمل القرآن الكريم لفظة (طوبى) في غير هذا المورد من الآية الكريمة التي صدرت البحث، وهو أمرٌ يُحتَّم على الباحث الوقوف على أقرب الألفاظ لهذه اللفظة من جهة الإشتقاق وصولاً إلى سماتهما الدلالية والقول بأنَّها بمعنى المؤنث من الطيب أي مؤنث الأطيب يُحيلنا إلى تتبُّع عددٍ من الآيات التي وردت فيها لفظة (طيَّبة) باعتبارها مؤنثة، التي تُسهم في رسم ملامح هذه اللفظة عبر سماتها الدلالية. وقد وردت لفظة (طيِّبة) في سبعة موارد وكانت في جميعها نعتًا للمساكن والحياة والشجرة والذريَّة(3) ؛ قال تعالى : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي

ص: 339


1- ينظر : الكشاف : 2/ 508
2- اللامات : 123
3- ينظر : المعجم المفهرس : 549

السَّمَاءِ »[ ابراهيم : 24 ] إن نعت الشجرة بالطَّيبة يُفهم منه كثرة العطاء والإنتفاع بما في كلَّ وقت بقرينة قوله تعالى : تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا(1) وقال تعالى: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران :38] ، قال ابن عطية : ((طيِّبة : معناه سليمة في الخلق والدین نقية))(2) قال تعالى : «مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ النحل: 97 ] ، فالعمل الصالح المقترن بالإيمان يؤهل المؤمن أن ينال حياةً طيبة في الدنيا(3) .

ويرى الباحث أن لفظة (طوبى) تمتاز عن لفظة (طيَّبة) في الآيات الكريمة وذلك من جهتين:

الأولى : من جهة الموقع الإعرابي، فإن (طوبى) في موقع العمدة من الكلام لكونها (مبتدأ) ثانيًا؛ قال أبو البقاء العكبري : (( قوله تعالى ( الذين آمنوا وعملوا الصالحات) مبتدأ، و(طوبى لهم) مبتدأ ثان وخبر في موضع الخبر الأول))(4) وهو ما يُرجَّح العلمية فيها بحسب ما ذكره ابن سيده آنفًا، في حين أن (طيبة) في أغلب الآيات الكريمة جاءت نعتاً لمنعوت(5) ؛ كما في قوله

ص: 340


1- ينظر : الأمثل : 7/ 322
2- المحرر الوجيز : 1/ 427
3- ينظر : الكشاف : 2/ 608
4- التبيان في إعراب القرآن : 2/ 77
5- ينظر : إعراب القرآن وبيانه : 1/ 505 - 4/ 134 - 4/ 224 - 5/ 187 - 5/ 363 - 6/ 653 - 8/ 82

تعالى : وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [ التوبة: 72] و هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [ يونس: 22] و مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ النحل: 97 ] و لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ: 15] و يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الصف : 12] .

الأخرى : باعتبار هيأة اللفظة؛ فإن (طوبى) على وزن (فُعلی) أفعل التفضيل للمؤنث أو جمعاً ل(طيبة) أو اسم جمع، مما يمنح معنى الطيب فيها صفة المبالغة، قال الرازي في معناها : ((إنه مبالغة في نيل الطيَّبات ويدخل فيه جميع اللذات، وتفسيره أن أطيب الأشياء في كل الأمور حاصل لهم))(1) وهذا المعنى لا تحققه هيأة طيَّبة . ويُفهم من ذلك أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنما مُنحت (طوبى) لهم لما قدموه من إيمانٍ وعملٍ صالح، جاء في التبيان

ص: 341


1- مفاتيح الغيب : 8/ 180

((يحتمل قوله " الذين آمنوا وعملوا الصالحات " أن يكون في موضع نصب بأن يكون من صفة " الذين" في الآية الأولى، ويحتمل أن يكون رفعا بالابتداء، فكأنه أخبر إن الذين يؤمنون بالله ويعترفون بوحدانيته ويصدقون نبيه، ويعملون بما أوجبه عليهم من الطاعات، ويجتنبون مانهاهم عنه من المعاصي طوبى لهم))(1) .

وكأن (طوبى) هي لفظة جامعة لكل معاني الطيب وعنها تصدر كل الطيبات ويرجع ذلك كونها مصدرًا وعدم تكررها، وهذا الاعتبار فإن من تُمنح له (طوبى) في درجة عالية من الإيمان، وهو ما يُبرز خصوصية مَن أُسند إليه هذا العطاء.

ص: 342


1- التبيان في تفسير القرآن : 6/ 245

المبحث الثاني

الجمل ذات الإسناد غير المقصود لذاته

(الصلة وجزاء الشرط)

ص: 343

المطلب الأول: في معنى (آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) :

قال تعالى : أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ »[التوبة : 19].

مِهادُ التّنزيل:

أشارتْ رواياتُ أسبابِ النزول أن الآية الكريمة مورد البحث نزلتْ بحقِ عليًّ (عليه السلام )، وأنَّه المعنيُّ بقوله : مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وابرز هذه الروايات ما أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره قال : ((حدثني يونس، قال : أخبرنا ابن وهب، قال : أُخبرت عن أبي صخر، قال : سمعت محمد بن

ص: 344

كعب القرظي يقول : افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار، وعباس بن عبد المطلب، وعليُّ بن أبي طالب، فقال طلحة :أنا صاحب البيت معي مفتاحه، لو أشاء بِتُّ فيه وقال عباس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها، ولو أشاء بِتُّ في المسجد، وقال عليٌّ : ما أدري ما تقولان، لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد، فأنزل الله تعالى : أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ))(1)

مسارات التحليل ويتضمن

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية :

( سِقاية):

وهي مصدرٌ من (سَقِيَ) قال الخليل: ((السُّقْيا اسْمُ السَّقْي . والسَّقاء : القِرْبَةُ للماء والَّلبَن. والسَّقاية : الموضع يُتَّخَذُ فيه الشَّرابُ في المَواسِمِ وغيرها. والسَّقاية : الصُّواعُ يشرَبُ فيه الملكُ.))(2) و(("سَقَاهُ الْمَاءَ سَقْيًا" وَ"السَّقَايَةُ" السُّقْيا اسْمُ السَّقْي وَفِي قَولْه تَعَالَى {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجَّ } مَصْدَرٌ))(3)

وجاء في المصباح المنير ((سَقَيْتُ الزَّرْعَ سَقْيًا فَأَنَا سَاقٍ وَهُوَ مَسْقِيٌّ عَلَى

ص: 345


1- جامع البيان : 10/ 110 ، ينظر : تفسیر فرات الكوفي : 156، وشواهد التنزيل : 1/ 244 ، ومجمع البيان : 5/ 28 ، ومناقب علي بن أبي طالب : 256، والكشف والبيان : 5/ 19 ، وأسباب النزول : 182، والدر المنثور : 10/ 146 ، وتفسير الصافي : 2/ 328، ونور الثقلين : 3/ 90 وغيرها
2- العين (سقی) : 5/ 189 ، ينظر : جمهرة اللغة (س ق ي): 2/ 203، المحيط في اللغة (سقي): 5/ 472
3- المغرب في ترتيب المعرب (س ق ي): 253

مَفْعُولٍ... وَالسَّقَايَةُ بِالْكَسْرِ الْمَوْضعُ يُتَّخَذُ لِسَقْيِ النَّاسِ وَالسَّقَاءُ يَكُونُ لِلْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَالاِسْتِسْقَاءُ طَلَبُ السَّقْيِ))(1) .

((وسقاية الحاج سقيهم الماء ينبذ فيه الزبيب وكانت من مآثر قريش))(2) فال( سقاية) إذن هي حدثُ السقيَّ (سقي الماء) أو موضعه، والأبرز أن تكونَ مصدرًا للتناسب مع (عمارةُ البيت) أي ما يُعمر به البيت.

( عِمارة):

وهي مصدر من (عَمَرَ)؛ جاء في الصحاح ((عَمَرْتُ الخرابَ أعْمُرُهُ عِمارَةً، فهو عامِرٌ، أي مَعْمورٌ))(3) . وفي القاموس المحيط ((عَمَرَ اللهُ مَنْزِلَكَ عِمارَةً، وأعْمَرَةُ : جَعَلَهُ أهلاً... وعَمَرَ المالُ نَفْسُهُ، كنَصَرَ وكرُمَ وسَمعَ، عَمارَةً : صارَ عامِراً. وأعْمَرَهُ المكانَ واسْتَعْمَرَهُ فيه : جَعَلَهُ يَعْمُرُهُ. والمَعْمَرُ كَمسْكَنٍ : المَنْزِلُ الكثيرُ الماءِ والكَلا. وأعْمَرَ الأرضَ : وجَدَها عامِرَةً وعليه أغْناهُ. والعِمارَةُ : ما يُعْمَرُ به المكانُ))(4) .

( يستوون)

التساوي بمعنى المُماثلة والمُعادلة؛ جاء في لسان العرب ((تَساوَتِ الأُمورُ

ص: 346


1- المصباح المنير( س ق ي ) : 147
2- المعجم الوسيط : 1/ 437
3- الصحاح في اللغة (عمر) : 2/ 757
4- القاموس المحيط (عمر ) : 3/ 309

واسْتَوَتْ وساوَيْتُ بينهما أَی سَوَّيْتُ، واسْتَوى الشَّيْئَانِ وتَساوَيا : تَماثَلا، وسَوَّیْتُه به وساوَيْتُ بينهما وسَوَّیْتُ وساوَيْتُ الشيءَ وساوَيْتُ به وأَسْوَيْتُه به... ويقال ساوى الشيءُ الشيءَ إذا عادَلَه وساوَيْتُ بينَ الشَّيْئَيْنِ إذا عَدَّلْتَ بينَهما وسَوَّيْت، ويقال : فلانٌ وفلانٌ سَواءٌ أي مُتَساويان))(1) .

وجاء أيضاً في تاج العروس (( واسْتَوَيا وتَساوَيا " : أي (تَماثَلا )، فهذا فِعْلٌ أُسْنِدَ إليه فاعِلانِ فصاعِداً، تقولُ : اسْتَوى زيْدٌ وعَمْرٌ ووخالِدٌ في كذا، أَي : تَساوَوْا؛ ...وسَوَّيْتُهُ به تَسْوِيَةً، وسَوَّيْتُ بَيْنهما : عَدَلْت، و "ساوَيْتُ " مُساواةً : مِثْله، يقالُ : ساوَيْتُ هذا بِذاكَ إذا رَفَعْته حتى بَلَغَ قَدْرَه ومَبْلَغَه))(2) .

2- التوجيهات النحوية للفظة (كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ) وما تعلق بها :

347 ......(8) لسان العرب (سوا ) : 504/14 (9) تاج العروس (سوو ) : 38/ 325.

(كاف التشبيه):

لدخول ال( كاف) على الاسم الموصول أثرٌ في إبراز طرفي المعادلة؛ الأول هو الاسم الموصول مع صلته والآخر في قوله تعالى : سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وكأن هناك محاولة لإيجاد معادلة ومماثلة بين الطرفين، وهو ما يشير إليه دخول حرف ال( كاف) على الموصول، قال المرادي (ت 749ه-) :((إعلم أن الكاف ،التي هي حرف جر، قسمان : زائدة، وغير

ص: 347


1- لسان العرب (سوا ) : 14/ 504
2- تاج العروس (سوو ) : 38/ 325

زائدة. فغيرالزائدة لها معنيان: الأول : التشبيه : نحو زید کالأسد. ولم يثبت أكثرهم لها غير هذا المعنى، الثاني : التعليل : ذكره الأخفش وغيره، وجعلوا منه قوله تعالى " كم أرسلنا فيكم رسولاً ". قال الأخفش : أي : لما فعلت هذا فاذكروني.))(1) .

فالموصول في موقع المشبه به لدخول كاف التشبيه عليه، قال الجرجاني : ((الجملة إذا جاءت بعد المشبَّهِ به، لم تخلُ من ثلاثة أوجه (أحدها) أن يكون المشبَّه به معبَّرًا عنه بلفظ موصولٍ، وتكون الجملة صِلة))(2) ، ولابد في المشبه به من أن يكون أكثر تعريفاً من المشبه في صفات الاشتراك بينهما لتتحقق المماثلة؛ إذ ((إنّ مدار التشبيه على أنه يقتضي ضرباً من الاشتراك، ومعلوم أن الاشتراك في نفس الصفة، أسبقُ في التصوُّر من الاشتراك في مقتضَى الصفة))(3) ، ويؤيد قوة التعريف في المشبه به لكونه من الموصولات، بوصفها معرفة بحسب الوضع كما يرى الرضي(4) . وعلى هذا الأساس فالاسم الموصول مع صلته المقترن بكاف التشبيه كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هو موضع المفاضلة بين الناس، لذا كان هو المشبه به الدال على استقراره في عقل الجماعة المسلمة، فالذي حصل هو محاولة وضع

ص: 348


1- الجنى الداني : 83- 84
2- أسرار البلاغة : 144
3- اسرار البلاغة : 127
4- ینظر شرح الرضي على الكافية : 3/ 7

موضعًا آخرَ للمفاضلة يتمثل بأعمال (سِقاية الحاج وعمارة المسجد) .

(دلالة الاسم الموصول مع صلته):

الاسم الموصول (مَنْ) مبهم مفتقرٌ في دلالته إلى جملة الصلة؛ قال المبرد(ت285ه) : ((''الذي" لا يكون اسماً إلَّا بصلة، ولا تكون صلته إلاّ كلامًا مستغنيًا،، نحو الابتداء والخبر، والفعل والفاعل، والظرف مع ما فيه، نحو في الدار زيد، ولا تكون هذه الجمل صلة له إلَّا وفيها ما يرجع إلیه من ذكْره، فلو قلت : ضربني الذي أكرمت هند أباها عنده، أو (في داره) لصلح لمّا رددت إليه من ذكره. ونظير (الذي) (ما)، و(مَنْ)، و(أَيّ)، و(أَل) التي في معنى الذين وكل موصول مما لم نذكره فهذا مجراه))(1) ويلاحظ أن المبَّرد أطلق على جملة الصلة عبارة (كلامًا مستغنياً) وهو ما يجعلها من الجمل الإسنادية من جهة تحقيقها الفائدة فيها.

وجاء في المفصل في صنعة الإعراب ((الموصول ما لا بدّله في تمامه اسمًا من جملة تردفه من الجمل التي تقع صفات؛ ومن ضمير فيها يرجع إليه. وتُسمَّى هذه الجملة صلة))(2)

ويفهم من كلام الزمخشري أنَّ ما وقع في حيز الصلة من الجمل كأنَّه صفات يتم بها المعنى المبهم في الموصول تمهيدًا لإيضاحه والتعریف به،

ص: 349


1- المقتضب : 2/ 62
2- المفصل في صنعة الإعراب : 179

والصفات قيدٌ في الموصوف، فالاسم الموصول في الآية، معتبرٌ فيه الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيله.

(لا النافية ):

وكان التعبير ب( لا) النافية في قوله تعالى (لا يستوون) تأكيداً لنفي المساواة بين طرفي المفاضلة(1) ، والتعبير بصيغة الفعل الماضي في جملة الصلة (آمن، جاهد) يدلُّ على تمكن هذه المعاني واستقرارها في مَن أُسندت إليه ، ومن ثمَّ لا يمكن أن تتحقق المساواة بينهما بحال. واستعمال أداة النفي (لا) دون (ما) يشير إلى أن المساواة بين الفريقين لم تكن موجودة أساساً، لدلالة (لا) على النفي المطلق مستغرقًا المستقبل ودلالة (ما) على نفي الحال فحسب، قال سيبويه :(( إذا قال : هو يفعل، أي هو في حالِ فعْل، فإنَّ نفيه ما يَفعلُ. وإذا قال هو يَفْعلُ ولم يكن الفعلُ واقعاً فنفيُه لا يَفعلُ))(2) .

كذلك فإن (لا) تفيد عموم النفي في الأفعال كما هو الحال في الأسماء؛ جاء في الكليات : (((لا) كما تفيد عموم النكرة التي تدخل عليها تفيد أيضاً عموم الفعل الذي تدخل عليه لأنه منها أو يشبهها نحو (لا يَسْتَوُون)

ص: 350


1- ينظر : اللباب علل البناء والإعراب : 1/ 226
2- الكتاب : 3/ 117

فتفيد نفي جميع وجود الإستواء الممكن نفيه))(1) .

ويفهم منه أن نفي التساوي بين سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وبين من آمن بالله وجاهد في سبيله واقعٌ من جميع الجهات مما يرجح أفضلية الفريق الثاني مطلقاً، والتعبير بصيغة الفعل الماضي في جملة الصلة (آمن، جاهد) يشير إلى تمكن هذه المعاني واستقرارها في هذه الذات، ومن ثمَّ لا يمكن أن تتحقق المساواة بينهما بحال .

3- الدلالة القرآنية لألفاظ الآية :

(مَنْ آمن بالله واليوم الآخر):

الاسم الموصول (مَن) مع صلته وما وقع في حيز الصلة من العطف، لم يتكرر في القرآن الكريم في غير هذا المورد من الآية التي صدرت البحث، ما يمنح مَن تعلقت به هذه اللفظة خصوصيةً مُميَّزة، إلا أن جملة (من آمن بالله واليوم الآخر) تكررت في أربعة(2) ، كاشفةً عن سمات الاسم الموصول بحسب ما يأتي :

خوف عليهم - يحزنون + بِرٌ + صدقوا

مَن آمن بالله واليوم الآخر + متقون + يعمرُ مساجدَ الله + مهتدون

ص: 351


1- الكليات : القسم الخامس : 92
2- ينظر : المعجم المفهرس : 103- 104

قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ »[ البقرة : 62 ]. وقال تعالى : لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.. أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ »[ البقرة : 177 ] وقال أيضاً سبحانه وتعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ »[ التوبة : 18] وهذه الآية تحصر عمارة المسجد بمن آمن بالله واليوم الآخر بحسب دلالة الحصر في (إنما).

(لا يستوون) :

لفظة (لا يستوون) لم تتكرر في القرآن الكريم إلا في مورد آخر(1) وهو قوله تعالى : أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ [السجدة : 18 ] وهي لم تتعد عليًا (عليه السلام) فقد ذُكر في سبب نزولها ( عن ابن عباس قال : قال الوليد بن عقبة بن أبي معيط لعليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه : أنا أحدُّ منك سنانًا، وأبسط منك لسانًا، وأملأ للكتيبة منك، فقال له علي : اسکت فإنما أنت فاسق، فنزل - أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون

ص: 352


1- ينظر : المعجم المفهرس : 474

- قال : يعني بالمؤمن عليا، وبالفاسق الوليد بن عقبة))(1) وهذا يشير إلى أهمية الأمر المنفي ومن نُفي عنه . والتعبير بجملة (يستوون) فيه مبالغة في النفي؛ قال الشوكاني (ت1250ه) : ((دلّ سبحانه بنفي الإستواء على نفي الفضيلة، التي يدّعيها المشركون، أي إذا لم تبلغ أعمال الكفار إلى أن تكون مساوية لأعمال المسلمين ، فكيف تكون فاضلة عليها كما يزعمون))(2) ((فإن ((فإن نفيَ التساوي والتشابهِ نفيٌ للأفضلية بالطريق الأولى))(3) .

ثم إنَّ الآية مورد البحث مرتبطة بما قبلها وفي السياق نفسه لتوضيح صفات المفاضلة بعد أن كانت على سبيل الرمز، وهي قوله تعالى : الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [التوبة : 20] بمعنى أن ((مَنْ كان موصوفاً بهذه الصفات الأربعة كان أعظم درجة عند الله ممن اتصف بالسقاية والعمارة. وتلك الصفات الأربعة هي هذه : فأولها الإيمان، وثانيها الهجرة، وثالثها الجهاد في سبيل الله بالمال ورابعها الجهاد بالنفس))(4) . واللافت للنظر أنه لم يذكر المرجوح بعد اسم التفضيل مما يُنبيء عن عموم الأفضلية لا في خصوص جهةٍ من الجهات أو بالنسبة إليهم دون غيرهم ؛ قال الرازي : ((اعلم أنه تعالى لم يقل أعظم درجة

ص: 353


1- أسباب النزول : 263
2- فتح القدير : 1/ 716
3- روح المعاني : 10/ 100
4- مفاتيح الغيب : 10/ 14

من المشتغلين بالسقاية والعمارة لأنه لو عين ذكرهم لأوهم أن فضيلتهم إنما حصلت بالنسبة إليهم، ولما ترك ذكر المرجوح، دل ذلك على أنهم أفضل مَن كل من سواهم على الإطلاق، لأنه لا يعقل حصول سعادة وفضيلة للإنسان أعلى وأكمل من هذا الصفات))(1) .

والتعبير القرآني في نفي المساواة يصرح بالتفصيل بالتعبير ب(فضَّل) مع إسناده إلى لفظ الجلالة حينما تكون المقابلة بين فريقين من المؤمنين، أما إذا كانت المقابلة بين المؤمن والفاسق أو ما يقرب من هذه المعاني فإنه لايصرح بالتفضيل ليؤكد الأفضلية المطلقة للمؤمنين على من سواهم، ومن الأول قوله تعالى : لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء : 90]. فالفاضل (المجاهدون) والمفضول عليه (القاعدين) وكلاهما من المؤمنين ، وأيضاً قوله تعالى : وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد : 10]. وفي ما سوى هذين الموردين لم يرد التعبير بألفاظ التفضيل في نفي المساوة بين الطرفين ، ومن ذلك قوله تعالی : وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى

ص: 354


1- المصدر السابق : 10/ 15

وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ »[الغافر : 58] وغيرها من الآيات(1) ويفهم من ذلك أن المفاضلة في الآية مورد مورد البحث كانت بين المؤمنين والكافرين، ويؤيده ذکر جانب الإيمان في الفريق الثاني دون الأول(2) ، وقوله تعالى : وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قرينة لفظية على هذا المعنى. ومما يَلْفِتُ النظر أن المقابلة في الآية الكريمة جرت بين حدثٍ وذات، فالأول مصدر والثاني اسم موصول صلته جملة فعلية، ولذلك عمد أهل اللغة من المفسرين(3) إلى تقدير محذوف مضاف إما من الأول والتقدير : أهل سقاية الحاج وأهل عمارة المسجد الحرام أو من الثاني ويكون التقدير : أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن، قال أبو حيان : ((سقاية وعمارة وهما مصدران نحو الصيانة والوقاية وقوبلا بالذوات، فاحتيج إلى حذف من الأول أي : أهل سقاية، أو حذف من الثاني أي : كعمل من آمن .))(4) .

ويبدو للباحث أن المقابلة بين الحدث والذات معتبرة ومقصودة في التعبير القرآني في الآية الكريمة من دون الحاجة إلى تقدير، وكأن هذا التعبير يراد به السخرية والتهكم ممن يساوون بين أعمال مجردة عن الإيمان وبين ذاتٍ مؤمنة

ص: 355


1- نظر : الآيات القرآنية : المائدة : 100، الأنعام :50، الرعد :16، فاطر 12- 19 وغيرها
2- ينظر : الميزان : 10/ 210
3- ينظر: معالم التنزيل: 5/ 326 ، ومفاتيح الغيب :ج16/ ص13، وفتح القدیر: مج1/ ص715، وروح المعاني : 1/ 98
4- البحر المحيط : 5/ 22

مجاهدة في سبيل الله ، فالمصدر حدثٌ مجرد من الزمن والذات ، في حين دلَّت جملةُ الصلة (آمن بالله واليوم الآخر) على أحداثٍ مقترنة بزمن .

ويؤيد هذا المعني همزة الاستفهام في دلالتها على إنكار المساواة بين الفريقين ؛ قال الزمخشري : (( والمعنى إنكار أن يُشَبه المشركون بالمؤمنين، وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة، وأن يسوي بينهم. وجعل تسويتهم ظلماً بعد ظلمهم بالكفر))(1) ، وهذا القول - أعني أن المفاضلة في الآية كانت بين المشركين والمؤمنين - للزمخشري قد تأثَّر فيه بأحدى الروايات الواردة في سبب النزول وفيها ((إن علياً رضي الله عنه قال للعباس يا عمّ ألا تهاجرون، ألا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال : ألست في أفضل من الهجرة : أسقي حاجّ بيت الله، وأعمر المسجد الحرام، فلما نزلت قال العباس : ما أراني إلاّ تارك سقایتنا. فقال عليه السلام : " أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيراً))(2) .

ويخلص الباحث إلى القول بأن التعبير القرآني في الآية مورد البحث عمد إلى إبراز السمات الدلالية التي أظهرت خصوصية مَن تعلقت به وأفضليته على غيره عبر اسلوب المفاضلة في أكثر من تعبير، مثل المقابلة بين الحدث والذات ونفي المساواة المطلقة بين الطرفين وأنها مفاضلة بين الذات التي

ص: 356


1- الكشاف: 2/ 248
2- المصدر السابق : نفس الصحيفة

كمُل الإيمان والجهاد فيها فكانت مثالاً يُضرب للتأسي به وأنا من الذين صدقوا ومن المهتدين بحسب الدلالة القرآنية التي توصل إليها البحث.

المطلب الثاني:

في معنى (يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ):

قال تعالى : إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ »[المائدة: 55]

مِهادُ التّنزيل:

ذكر الحبري في تفسيره بشأن سبب نزول الآية المبحوثة، قولُه : ((حدثنا يحيى بن عبد الحميد، قال : حدثنا موسی بن مطير، عن المنهال بن عمر ، عن عبد الله بن محمد بن الحنفية، قال : " كان عليٌّ عليه السلام يصلي إذ جاء سائلٌ فسأله، فقال بإصْبِعِهِ، فَمَدَّها، فأعطى السائلَ خَاتَماً، فجاء السائلُ الى النبيَّ صلى الله عليه وآله، فقال : هلْ أعطاك أحدٌ شيئاً ؟ قال : نعم. فنزلت فيه إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الآیة))(1) .

ص: 357


1- تفسير الحبري : 258، ينظر : تفسير العياشي : 2/ 357 ، وتفسير فرات: 125 ، و جامع البيان : 6/ 344 ، والكشف والبيان : 4/ 80 ، وشواهد التنزيل : 1/ 161- 185 ، و التبيان في تفسير القرآن : 5/ 360، ومجمع البيان : 6/ 418 ، و المحرر الوجيز: 2/ 208، والكشاف : 1/ 636 ، وأسباب النزول : 113، ومفاتیح الغیب : 11/ 28 ، وأنوار التنزيل : 2/ 132 ، والجامع لأحكام القرآن : 1/ 1094 ، والدر المنثور : 6/ 105 ، وفتح القدير : 1/ 482 ، ونور الثقلين : 2/ 255 ، وروح المعاني : 6/ 245 ، وغيرها

وهو ما يُحتَّم على الباحث تحديد المعنى النحوي الدلالي في قوله تعالی من الآية الكريمة : يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ؛ باعتبار أن النظر في بعض مفرداتهما دون بعضها الآخر لا يفي بالغرض؛ لوجود حرف العطف بينها وما فيه من معنى الاجتماع اللازم للنظر فيها مجتمعة.

مسار التحليل ويتضمن:

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية :

( راكع):

وهو اسم فاعلٍ من (رَكَعَ)، وتعني الإنحناء والخضوع؛ قال الخليل :((ركع : كلّ قومةٍ من الصلاة ركعة، وركَعَ ركوعًا، وكلُّ شيءٍ ينكبُّ لوجهه فتمسُ ركبته الأرض أولا تمسها بعد أن يطأطئ رأسَه فهو راكع))(1) ، و((رَكَعَ يركَع رَكْعاً ورُكوعاً فهو راكع، والرّاكع : الذي يكبو على وجهه، ومنه الركوع في الصلاة ))(2) ، ومنه سُمَّي الركوع في الصلاة لما فيه معنى الإنحناء والخضوع؛ قال الراغب : (( الرُّكُوعُ : الانْحِنَاءُ، فَتَارةً يُسْتَعْمَلُ في الْهَيْئَةِ المخصوصةِ في الصلاةِ كما هي، وتَارَةً في التَّوَاضُعِ والتَّذَللِ، إمَّا في العِبَادةِ؛ وإِمَّا في غَيْرِها))(3) ، وفي لسان العرب (( الرُّكوع الخُضوع؛ عن ثعلب رَكع

ص: 358


1- العين (ركع ): 1/ 200
2- جمهرة اللغة (ر ع ك ): 2/ 90
3- مفردات ألفاظ القرآن (ركع ) : 463

يَرْكَع رَكْعاً ورُكُوعاً طَأْطَأ رأْسَه وكلُّ قَوْمة يتلوها الركوع والسجْدتان من الصلوات فهِي رَكْعة))(1) .

(الزَّكاة):

أصل هذه اللفظة فيه معنى الزيادة والنَّماء؛ جاء في المصباح المنير(( وَالزَّكَاءُ بِالْمَدَّ النَّمَاءُ وَالزَّيَادَةُ يُقَالُ زَکَا الزَّرْعُ وَالْأَرْضُ تَزْکُو زُکُوًّا مِنْ بَابِ قَعَدَ وَأَزْكَى باِلْأَلِفِ مِثْلُهُ وَسُمَّيَ الْقَدْرُ الْمُخْرَجُ مِنْ الْمَالِ زَكَاةً لِأَنَّهُ سَبَبٌ يُرْجَى بِهِ الزَّكاَةُ وَزَكَّي الرَّجُلُ مَالَهُ بِالتَّشْدِيدِ تَزْكِيَةً وَالزَّكَاةُ اسْمٌ مِنْهُ))(2) وفي اللسان (( الزَّكاءُ الزَّيادة من قولك زَكا يَزْكو زکاءً))(3) ، ويبدو أنَّ إخراجَ المالِ المُستَحق سببٌ في نمائه وتزكيةٌ للنفس؛ ولذلك سُمَّيتْ (الزَكاةُ) ((لِما يُخْرِجُ الإنْسانُ مِنْ حقَّ اللهِ تعالى إلى الفقَراء، وتَسمِيَتهُ بذلك لما يكونُ فيها مِن رَجاءِ البَرَكَةِ، أو لِتزْكِيةِ النَّفسِ، أي : تنميتَها بالخَيَراتِ والبركاتِ))(4)

(وليّ):

وهذه اللفظة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى فاعل، وأصل معناها القرب والدنو؛ قال ابن فارس : (( الواو واللام والياء : أصلٌ صحيح يدلُّ

ص: 359


1- لسان العرب (ركع ) : 8/ 158
2- المصباح المنير (ز ك و): 133
3- لسان العرب (زکا) : 14/ 440
4- مفردات ألفاظ القرآن (زكا ): 381

على قرب. من ذلك الوَلْيُ : القرْب. يقال : تَباعَدَ بعد وَلْي، أي قُرْبٍ. وجَلَسَ ممّا يَلِیني، أي يُقارِبُني. والوَلِيُّ : المَطَر يجيءُ بعد الوَسْميّ، سمَّي بذلك لأنَّه يلي الوسمِيّ. ومن الباب المَوْلَى : المُعْتِقُ والمُعْتَق، والصَّاحب، والحلیف، وابن العَمّ، والنَّاصر، والجار، كلُّ هؤلاءِ من الوَلْيِ وهو القُرْب. وكلُّ مَن ولِيَ أمرَ آخرَ فهو وليُّه .))(1) ، ف( الوليّ) هو مَن كان أقرب من غيره في تولي الأمر والمشارفة على تدبيره .

وفي القاموس ((الوَلْيُ : القُرْبُ والدُّنُو ُّوالمَطَرُ بعدَ المَطَرِ وُلِيَتِ الأرضُ بالضم. والوَلِيُّ : الاسمُ منه والمُحِبُّ والصَّدِيقُ والنَّصيرُ. ووَلِيَ الشيءَ وعليه وِلايَةً وَوَلايَةً أَو هي المَصْدَرُ و بالكسر : الخُطَّةُ والامارَةُ والسُّلطانُ .))(2) ، وقال الفيومي (ت 770ه) :(( الْوَلِيُّ فَعِيلٌ بِمَعْنَی فَاعِلٍ مِنْ وَلِيَهُ إذَا قَامَ بِهِ وَمِنْهُ اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا، وَالْجَمْعُ أَوْلِيَاءُ ... وَقَدْ يُطْلَقُ الْوَلِيُّ أَيْضًا عَلَى الْمُعْتِقِ وَالْعَتِيقِ وَابْنِ الْعَمَّ وَالنَّاصِرِ وَحَافِظِ النَّسَبِ وَالصَّدِيقِ ))(3) ول( الولي) معانٍ أُخَر لم نذكرها لأنه من باب المشترك اللفظي .

ويبدو أنَّ هذه المعاني المعجمية وتعددها مما تحمله هذه اللفظة في استعمالاتها المختلفة بوصفها متعلقة بمعناها الجامع الدال على القرب والدُّنو، ومن هنا نشير إلى أنَّ هذا التعدد المذكور في اللغة يمكن أن يُستثمر :

ص: 360


1- مقاییس اللغة (ولي) :ج6/ 141
2- القاموس المحيط (الوَلْي) : 4/ 401
3- الصباح المنير( و ل ي) :346

في معنى محدد في القرآن الكريم؛ ذلك لأن للقرآن مع ألفاظ اللغة التي استعملها شأنًا آخر يتجلى في ما يُضيفه إليها من سماتٍ دلالية على نحو إيراد اللفظة في سياقاتٍ متعددة، وحسبنا ظهور ذلك فيما سُمَّيَ بالألفاظ الإسلامية، وهذا يمكننا القول إن لفظة (وليّكم) يمكن أن تتخذ معنىً آخر، يدلُّنا عليه سياق الآية .

2- التوجيهات النحوية في الآية الكريمة وما تعلق بها :

العطف في الاسم الموصول (والذين):

ورد الاسم الموصول معطوفًا على لفظة (رسوله) المعطوفة بدورها على لفظ الجلالة (الله) والعطف بالواو يقتضي التشريك في الحكم(1) ، وهذه المعطوفات في موقع المسند إلى (وليكم)، وهذا العطف منح الاسم الموصول جانبًا من التخصيص، باعتبار إيراده في سياق الحصر ب (إنما)، فالتقدير : (إنما) ولیکم الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، والخطاب موجه للمسلمين.

قال الطوسي في التبيان : ((إنما قلنا: إن لفظة (إنما تفيد التخصيص، لأن القائل، إذا قال : إنما لك عندي درهم، فُهِم منه نفي ما زاد عليه، وقام مقام قوله : ليس لك عندي إلاّ درهم، ولذلك يقولون :

ص: 361


1- ينظر : اللباب علل البناء والإعراب : 1/ 416

إنما النحاةُ المدققون البصريون، ويريدون نفي التدقيق عن غيرهم. ومثله قولهم : إنما السخاءُ سخاءُ حاتم، يريدون نفي السخاء عن غيره ))(1) فهي ((مخصصةٌ لما أثبت بعده نافيةٌ لما لم يثبتْ))(2) وفي هذا إشارة إلى اختصاص الولاية بحسب معناها ب( الذين آمنوا ).

( الذين يقيمون الصلاة):

في إعراب هذه الجملة وجهان :

الأول : أن تكون بدلاً من (الذين آمنوا) و(ويؤتون الزكاة) معطوفة عليها(3) ، والبدل هو المقصود بالحكم دون المبدل منه ؛ قال الرضي في معناه : ((المقصود بالنسبة من البدل والمبدل منه : الثاني دون الأول))(4) ، وهو ما يجعل البدل هو نفسه المبدل منه وهو متعلقٌ بعامله على نحو الاستقلال. الآخر : أن تكون نعتًا لجملة (الذين آمنوا)؛ قال السمين الحلبي معترضاً على أبي حيان لترجيحه الوصفية على البدلية(5) في إعراب (الذين يقيمون الصلاة) :((لا نسلَّم أنَّ المتبادرَ إلى الذهن الوصفُ بل البدلُ هو المتبادرُ، وأيضاً فإنَّ الوصفَ بالموصولِ على خلافِ الأصلح لأنه مؤولٌ بالمشتقَّ وليس بمشتقٍ))(6) .

ص: 362


1- التبيان في تفسير القرآن : 5/ 62
2- مجمع البيان : 6/ 472
3- ينظر: الكشاف : 1/ 635
4- شرح الرضي : 2/ 379 ، ينظر : النحو الوافي : 3/ 665
5- ينظر : البحر المحيط : 3/ 525
6- الدر المصون : 7/ 398

وانسجامًا مع هذا الرأي فإن الراجح لدى الباحث هو الوجه الأول، باعتبار أنَّ القول بالبدلية توحي بخصوصية (الذين آمنوا) أكثر من الوصفية، وهو يتلاءم أيضًا مع الاختصاص الذي أفادته أداة الحصر (إنما) وكذلك مع العهدية في مضمون الصلة، قال ابن هشام : ((الصلة : ... شرطها : أن تكون خبرية، معهودة))(1) ويبدو أن معنى العهدية متأتٍّ من القول بوجوب کوفا خبرية؛ قال الصبان :(( وإنما اشترط كون جملة الصلة خبرية لأنه يجب أن يكون مضمونها معلوم الانتساب إلى الموصول للمخاطب قبل الخطاب والجمل الإنشائية ليست كذلك لأن مضمونها لا يعلم إلا بعد إيراد صيغها))(2) ومنه يفهم بأن ولي المؤمنين هو من كان مقيما للصلاة وآتياً للزكاة .

(وهم راكعون):

لهذه الجملة وجهان من الإعراب بحسب دلالة الواو؛ فهي إما أن تكون معطوفة على ما قبلها فتكون الجملة من تمام الصلة(3) ، وبذلك تدخل في معنى إتمام صورة من أقام الصلاة وآتى الزكاة، فيكون الركوع محتملاً أن يكون بمعنى الخضوع أو الانحناء، والوجه الآخر لإعرابها، أن تكون الواو واو الحال والجملة حال من الضمير في يؤتون(4) .

ص: 363


1- أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك : 1/ 174
2- حاشية الصبان على شرح الأشموني : 1/ 254
3- ينظر: اللباب في علوم الكتاب : 7/ 398
4- التبيان في إعراب القرآن : 1/ 334

ويرى الباحث بأن ترجيح الوجه الثاني يحدد الركوع بمعنى الإنحناء في الصلاة؛ لانسجامه مع دلالة الحال على الهيئة الخارجية دون أن يمس باطن الأشياء، فيكون المعنى : إنَّ من أقام الصلاة آتي الزكاة عن هيئة الركوع فيها، في حين أن الوجه الأول لايقدم هذا المعنى.

و(الواو) التي للحال بمعنى( إذ) عند سيبويه ، قال :(( وأما قوله عزَّ وجل : يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ»، فإِنما وَجَّهوه على أنه يغشی طائفةً منكم وطائفةً في هذه الحال، كأنه قال : إذ طائفةٌ في هذه الحال، فإِنَّما جَعَلَه وَقتًا ولم يُرِدْ أن يجعلها واوَ عطفٍ، وإنما هي واوُ الابتداء))(1) فالواو وقتية بمعنى أن الركوع كان في نفس وقت إيتاء الزكاة وبذلك تكون جملة الحال قیداً فيها.

وقد فهم ابن جني تشبيه سيبويه لهذه (الواو) ب( إذ) - على الرغم من أن (إذ) للمضيَّ والواو للحال الحاضرة ((من حيث كانت (إذ) منتصبة الموضع بما قبلها أو بعدها كما أن الواو منتصبة الموضع في الحال ولأن ما بعد إذ لا يكون إلا جملة كما أن ما بعد واو الحال لا يكون إلا جملة ))(2) ودلالة هذه الواو على الجمع؛ أي الجمع بين الحال وصاحبها، باعتبار عدم مفارقة الحال لصاحب الحال(3) فالركوع بهذا المعنى ملازمًا لمن كان يؤتي

ص: 364


1- الكتاب : 1/ 90
2- سر صناعة الإعراب : 2/ 188
3- ينظر : المصدر السابق : 2/ 184

الزكاة المعطوف على من أقام الصلاة. وفي دلالتها أيضًا قال ابن هشام :(( واو الحال الداخلة على الجملة الاسمية ...، ويقدرها سيبويه والأقدمون بإذ، ولا يريدون أنها بمعناها؛ إذ لا يرادفُ الحرفُ الاسمَ، بل إنها وما بعدها قَيْدٌ للفعل السابق كما أن إذ كذلك ))(1) وهذا يعني أنَّ إيتاء الزكاة إنما كان في حال أداء الركوع في الصلاة .

3- الدلالة القرآنية للألفاظ الآتية :

( وليُّكم):

يلاحظ في هذه اللفظة أنها جاءت مُضافة إلى الضمير الدال على المخاطب وهم المسلمون، وهو أمرٌ يضيق دائرة المعاني المحتملة بين المتصرف بالأمر والناصر والمحب دون المعاني الأخرى التي تُستعمل فيها اللفظة من قبيل الأخ وابن العم وغيرهما .

ويكشف لنا التعبير القرآني بأن لفظة (وليّ) استُعملت في غير معنى (الناصر) في موارد كثيرة(2) ، يؤيد ذلك إيرادها معطوفة على لفظة (نصير)، إذ العطف يقتضي المغايرة، ومنها قوله تعالى : أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [البقرة : 107](3) .

ص: 365


1- مغني اللبيب : ج2/ ص23
2- ينظر : المعجم المفهرس : 933
3- تنظر الآيات القرآنية : البقرة :120 :النساء : 45 - 75- 173 -123 :الأحزاب: 17 -65 ، الفتح :22 :الشوری : 18- 3، العنکبوت: 22، التوبة: 116

ويُعدُّ هذا قرينة على أن معنى (وليَّ) غير معنى (نصير) في الآية الكريمة، يُضاف إليه أن التعبير القرآني يهدينا إلى أن هناك ولاية خاصة باعتبار إيرادها مقترنةً بأداة الحصر (إنما)، يقابلها ولاية عامة أو بمعنى أخر ولاية متبادلة بين المؤمنين، وذلك في قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الأنفال: 72] فالولاية هنا متبادلة بين المؤمنين وهي بمعنى النصرة ولفظة (نصروا) قرينة على هذا المعنى .

وكذلك قوله تعالى : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ »[التوبة: 71]، فالولاية هنا أيضاً عامة متبادلة بين المؤمنين، ويلاحظ بأن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لم ترد مقيدة بالجملة الحالية (وهم راكعون) فيها كما هو الحال في الولاية الخاصة، وهذا دليلٌ على أن الولاية فيها لها معنى خاص غير تلك التي ورد فيها معنى المبادلة، مما يجعلها في معنى المحبة والنصرة فالمؤمنون بعضهم ينصر ويحب بعضهم الآخر .

ص: 366

أمّا (وليّ) بمعنى المتصرف بالأمور فلا يمكن أن تكون ولايةً عامة متحققةً في كل الذين أمنوا، باعتبار أن هذا المعنى يستند إلى من هو أقرب وأدني في تشخيص الواقع ويلي أمرًا لا يليه الآخرون فلا تكون إلا خاصة في بعضهم، وهو ما يشير إليه المعنى اللغوي للفظة (ولي) من القرب والدنو بحسب الأصل، وهذا المعنى في اللفظة أشار إليه أبو هلال العسكري قائلاً : ((وأصل الولي جعل الثاني بعد الأول من غير فصل من قولهم هذا يلي ذاك وليا وولاه الله كأنه يلي أمره ولم يكله إلى غيره، وولاة أمره وكله إليه كأنه جعله بيده وتولى أمر نفسه قام به من غير وسيطة))(1) وهو ما يؤيد معنى ولاية الأمر في الآية.

ويبدو الأمر واضحًا وجليًا في الفرق بين معنى الولايتين في قوله تعالی : أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الشورى: 9]، فالأولى ولاية عامة متعددة بدلالة الجمع في معنی( أولياء) أما الولاية الخاصة فهي ولاية الله يتصرف كيفما يشاء من إحياء الموتى ونحوها .

قال ابن عادل (ت880ه) : ((قوله : النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي من بعضهم ببعض في نفوذ حكمه ووجوب طاعته عليهم ))(2) ، وهو ما يؤيد أن { ولي } بمعنى المتصرف في الأمور والأحق بها من غيره باعتبار معنى القرب في ما عطفت عليه، وتكاد تكون الآية المورد الوحيد الذي وردت فيه لفظة

ص: 367


1- معجم الفروق اللغوية : 578
2- اللباب في علوم الكتاب : 15/ 503

{ولي} في هذا السياق من العطف، فإن إيرادها معطوفةً على الرسول وعلى لفظ الجلالة يناسب أن تكون اللفظة بهذا المعنى.

(راكع) :

استُعملتْ هذه اللفظة في القرآن الكريم بمعنى الركوع الدال على الإنحناء، وذلك في قوله تعالى : قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ »[ص :24]، فاقتران (راكعًا) بالفعل (خَرَّ) فيه دلالة على هذا المعنى، إلاَّ أنّ هذا المعنى في الركوع لاينفي تجرده عن الخضوع، وقد يكون قولُه (فاستغفر) و(أناب) قرينةً على ذلك .

ويبدو أن معنى الخضوع ليس معنیً مستقلاً عن الركوع، وإنما هو ملازم له متأتٍ من هيئة الإنحاء؛ وهو ما يؤيده التعبير القرآني، قال تعالى : إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ الشعراء: 4] ومن ركوع الصلاة قال تعالى : وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة: 43] وتتضح ملازمة معنى الخضوع للراكع في قوله تعالى : يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [ال عمران : 43]، إذ لا يراد به معنى الخضوع فحسب كونه متحققًا بال(السجود) (( وقوله : (واسجدي) وأصل السجود الانخفاض الشديد للخضوع ... وكذلك القول في الركوع إلا أن السجود أشد

ص: 368

انخفاضا))(1) . ومن ثَمَّ فإن الدلالة القرآنية لهذه اللفظة تسمح لنا القول بتضمين الركوع كلا المعنيين الظاهري والباطني دون الإقتصار على معنى الخضوع فقط، ومنه يُفهم أنَّ مَنْ آتي الزكاة كان خاضعًا منحنيًا في هيئته .

(الزكاة) :

خرجت هذه اللفظة في الآية الكريمة مورد البحث عن معناها اللغوي؛ وذلك لإقترانها بالفعل (يؤتون) حيثُ أخرجها هذا الاقتران من معنى النماء والزيادة إلى المال المتصدَّق به ، قال الراغب :(( والإيتاء : الإعطاء، وخص دفع الصدقة في القرآن بالإيتاء نحو وَأَقَامُوْا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة :277]، وقد يكون تسمية صدقة المال زکاةً لأنها تزكي صاحبها ويؤيده قوله تعالى : وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى - الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى [الليل : 17 -18] وخُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [التوبة : 103] . وقد ورد إيتاء الزكاة مقترناً بإقامة الصلاة إخبارًا وإنشاءً بفعل الأمر كثيرًا في التعبير القرآني، إلاّ أنَّه لم يردْ مقترنًا بهيأة الركوع في الصلاة في غير هذا المورد وهو ما يُميَّز من تعلقت به الآية الكريمة .

والتأمل في الآية المبحوثة وما فيها من مُحددَّات، من الحصر ب(إنَّما) والعطف على ولاية الله والرسول وعدم تكرار ذلك على مستوى الاستعمال القرآني، وإيتاء الزكاة من هيأة الركوع في الصلاة ، والقول بعهدية جملة صلة (12) التبيان في تفسير القرآن : 4/ 81

ص: 369


1- التبيان في تفسير القرآن : 4/ 81

الموصول بحسب ما يرى عبد القاهر الجرجاني (ت 471ه) إذ قال : ((أنك لا تَصِلُ" الذي" إلاَّ بجملةٍ من الكلام قد سَبَقَ مِنَ السامع علمٌ بما وأمرٌ قد عَرفه له نحوُ أَنْ ترى عندَه رجلاً يَنِشدُه شعراً فتقولُ له مِنْ غد: ما فَعَلَ الرجلُ الذي كانَ عندكَ بالأمس ينشدُك الشَّعرَ هذا حَكْمُ الجملةِ بَعْدَ" الذي " إذا أنتَ وصفتَ به شيئاً .))(1) كلُّ هذا ليحمل الباحث على القول بأن الآية خاصة وليست عامة وما يترتب على ذلك من خصوصية معنى الولاية الا عمومیتها، ومن ثمَّ خصوصية من تعلقتْ به الاية الكريمة .

ويؤيد معنى الاختصاص فيها، مارجَّحه الزمخشري وتبعه السمين الحلبي، أن جملة (الذين يقيمون الصلاة) في موقع البدل وليست نعتاً لل( الذين آمنوا )، فهم لايشتركون في هذه الولاية وإنما المقصود بالولاية هو (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) .

والقول باختصاصها لا ينافيه ظاهر لفظة (الذين) الدال على عموميتها، وقد خرجه بعض المفسرين إمّا للمبالغة والتعظيم(2) ، أو لترغیب الآخرين على مثل هذا الفعل وهو التَّصَدُّقِ في الصلاة من هيئة الركوع(3) .

وقد ذكر ابن فارس أنَّ من سنن العرب في كلامها مخاطبة المفرد بصيغة

ص: 370


1- دلائل الإعجاز : 159
2- ينظر : التبيان : 5/ 364 ، ومفاتيح الغيب : 12/ 30 ، وروح المعاني : 6/ 245
3- ينظر : الكشاف : 1/ 636 ، وأنوار التنزيل : 2/ 132 ، وإرشاد العقل السليم: 3/ 52

الجمع(1) ، والتعبير القرآني عبَّر عن المفرد بصيغة الجمع، ومنه قوله تعالى : وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ [النمل : 30] ((وهو واحد يدلّ عليه قوله جلّ ثناؤه : إرجعْ إليهم))(2) .

ومنه أيضاً قوله تعالى : حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ »[المؤمنون :99] بقرينة قوله (لعلي أعمل) في قوله تعالى : لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون :100] وغيرها من الآيات .

المطلب الثالث: في معنی (يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ... سِرًّا وَعَلَانِيَةً):

قال تعالى : الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ »[البقرة : 274] يتوجه البحث لتحديد معنى لفظة (الذين) بحسب ما يثيره سبب النزول؛ إلا أنّه لما كان الاسم الموصول اسمًا مبهمًا بحسب ما يرى النحاة ومن ثمَّ لا يتحدد معناه إلاّ ببيان صلته ، عليه فإنَّ مسار البحث يلتزم ببيان مدلولها.

مهادُ التّنزيل:

ورد في كتب التفسير بأنَّ إنفاق الإمام علي (علي السلام) كان سبباً في نزول الآية المبحوثة، فيكون هو المَعنِيَّ بقوله : يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ؛ ومنه ما

ص: 371


1- ينظر : الصاحي في فقه اللغة : 353، وفقه اللغة : 374 ، و الإتقان في علوم القرآن : 563
2- الصاحبي في فقه اللغة : 350

أخرجه العياشي في تفسيره : ((عن أبي إسحق قال : كان لعليَّ بن أبي طالب (عليه السلام) أربعة دراهم لم يملك غيرها، فتصدق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً، وبدرهم سرًا، وبدرهم علانيةً، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه واله فقال : يا عليّ ما حملك على ما صنعت ؟ قال : إنجاز موعود الله، فأنزل الله الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ))(1) .

مسار التحليل ويتضمن:

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية :

( يُنفقُ):

قال الأزهري :((نَفَق السَّعر ينفُق نُفُوقا : إذا فني ... والنفقة : ما أنفَقْت واستنفَقْت على العيال وعَلَى نفسك ))(2) ، وفي المصباح المنير ((نَفَقَتْ الدَّرَاهِمُ نَفَقاً مِنْ بَابِ تَعِبَ نَفِدَتْ وَيَتَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ فَيُقَالُ أنْفَقْتُهَا وَالنَّفَقَةُ اسْمٌ مِنْهُ وَجَمْعُهَا نِفَاقٌ))(3) ، وفي التاج :(( ونَفِقَ مالُه ودِرْهَمُه وطَعامُه كفرِح ونَصَر نَفْقاً ونفاقا : نَفِد وفَنِيَ وذهَبَ أو نقَص وقلّ فرُغِب فيه وراجَ))(4) .

ص: 372


1- تفسير العياشي: 1/ 171 ، ينظر: تفسير فرات الكوفي : 70، ومناقب علي بن أبي طالب: 224، والنكت والعيون : 2/ 279 ، ومجمع البيان : 2/ 255 ، والكشاف : 1/ 315 ، و أسباب النزول : 64، والتفسير الكبير : 7/ 91 ، والدر المنثور: 2/ 101 ، ونور الثقلين : 1/ 348 وغيرها
2- تهذيب اللغة (نفق ): 4/ 418
3- المصباح المنير (ن ف ق ): 318
4- تاج العروس (نفق ) : 26/ 431

(سرًا):

وفي الجمهرة ((السَّرّ : خلاف العَلانِيَة. وسِرُّ كلَّ شيء : خالصه ))(1) ، ونفس المعنى ذكره ابن فارس قال : (((سر) السين والراء يجمع فروعَه إخفاءُ الشيء. وما كان من خالصه ومستقرَّه. لا يخرج شيءٌ منه عن هذا. فالسَّرّ : خلاف الإعلان... وأمّا الذي ذكرناه من مَحض الشيء وخالِصِهِ ومستقرّهِ، فالسَّر : خالص الشيء ))(2) والسر مقابلٌ للعلانية كما في المبحوثة .

2- التوجيهات النحوية في الآية الكريمة وما تعلق بها :

دلالة جملة الصلة (الذين ينفقون):

الاسم موصول) اسمٌ مبهم على ما يرى النحاة، لذا فإن تحديد معناه يعتمد على معنى جملة الصلة وما يقع في حيزها من ألفاظ؛ قال ابن يعيش :(( فمنزلةُ الذي ونحوه من الموصولات وحده منزلة حرف من الكلمة؛ من حيث كان لا يُفهم معناه إلا بضم ما بعده إليه فصار لذلك من مقدماته ... فالموصول وحده اسم ناقص أي ناقص الدلالة فإذا جئت بالصلة قيل موصول حینئذ))(3) . والجملة الفعلية( ينفقون أموالهم) وما يقع بعدها هي جملة صلة الموصول ( الذين )، وقد ذكر النحاة لها أحكاماً منها وجوب أن

ص: 373


1- جمهرة اللغة (سرر): 1/ 108
2- مقاییس اللغة (سر) : 3/ 67 -68
3- شرح المفصل : 3/ 150

تكون معلومة لدى المخاطب ليتحصل بها تمام الفائدة في إيضاح الاسم الموصول فضلاً على معنى العهدية فيها(1) ، وهذا يشير إلى أن (الذين ينفقون) معروفون بين المسلمين بأوصافهم التي تناولتها الآية الكريمة، ومعنى ذلك أن الآية عملت على تثبيت هذه الصفات وتوثيقها لأصحابها، ومن ثَمَّ توظيفها في تحقيق أهداف القرآن المتمثلة بالهداية .

(سرًا وعلانيةً):

ومذهب سيبويه وجمهور البصريين أنّها مصادر في موضع الحال مؤولة بالمشتق والتقدير : مسرِّین ومعلنين(2) ، والتعبير عن الحال بالمصدر( سرًا) دون اسم الفاعل يشير إلى کمال صاحب الحال، وكأن غياب الذات الملازم لصيغة اسم الفاعل ينسجم مع غياب ذواقم عند الإنفاق، حتى صار من شأنهم الإنفاق على كل حال، وهو مايوحي بإخلاص نواياهم، فهم لا يلتفتون إلى ما ينفقون بقدر ما يهمهم قضاء حوائج المحتاجين، فالتعبير بالحال يتضمن نحوًا من المبالغة في الإنفاق .

دلالة الفاء في (فلهم أجرهم) :

الفاء الداخلة على خبر المبتدأ في قوله تعالی) فلهم أجرهم (هي فاء الجزاء لتضمن الموصول معنى الشرط، قال ابن جني :((واعلم أن المعارف

ص: 374


1- للوقوف على هذه الأحكام تراجع الصفحات : 170 - 203 - 187 - 211
2- ينظر : همع الهوامع : 2/ 227 ، وروح المعاني : 3/ 78

والنكرات الموصوفة إذا تضمنت صلاتها وصفاتها معنى الشرط دخلت الفاء في أخبارها))(1) . وقد عدَّها المرادي من نوع الفاء الزائدة ؛ قال : (( وأما الفاء الزائدة فهي ضربان : أحدهما الفاء الداخلة على خبر المبتدأ، إذا تضمن معنى الشرط، نحو: الذي يأتي فله درهم، فهذه الفاء شبيهة بفاء جواب الشرط، لأنها دخلت لتفيد التنصيص على أن الخبر مستحق بالصلة المذكورة ولو حذفت لاحتُمِل كون الخير مستحقاً بغيرها))(2) .

ويفهم منه أن الذين ينفقون أموالهم بهذه الأوصاف إنما استحقوا الأجر بسبب الإنفاق، في حين أن من أنفق بغير ما ذكر من أوصاف لم تقترن الفاء بالخبر، ومن ذلك قوله تعالى : الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة :262]، فالأجرهنا ليس بسبب الإنفاق وإنما قد يكون بسببه أو يحتمل سببًا آخر. وهذا المعنى أشار إليه أبو البقاء الكفوي، قال : ((إذا أريد كون الصلة سبباً لحصول الخبر للموصول ضمنت معنى الشرط وأدخل الفاء في الجزاء، وإن لم يقصد ذلك فلا كقوله تعالى : الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلى قوله : َهُمْ أَجْرُهُمْ(3) وقوله : الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ))(4) .

ص: 375


1- سر صناعة الإعراب : 1/ 230
2- الجنى الداني : 70
3- البقرة : 262
4- الكليات : القسم الخامس : 193

ومعنى الشرط ((وقوع الشيء لوقوع غيره))(1) ، إلاّ أنه من اللافت للنظر أن الآية الكريمة وإن كان فيها معنى الشرط إلا أنها لم تنص على ذلك، إذ لم تستعمل أداة من أدوات الشرط، وهو ما حمل النحاة على التعبير ب(فيها معنى الشرط)، وهذا يشير إلى أن وقوع الإنفاق لم يكن معلقًا على المستقبل، وإنه واقعٌ منهم، ويرجَّح هذا المعنى التعبير بالفعل المضارع (ينفقون) الذي يشترك فيه الحاضر والمستقبل(2) ، ويمكن القول بأن دلالة الفعل المضارع أفاد الإشارة إلى تحقق الإنفاق من ذكر قم الآية بقيودٍ محددة، وأن يكون هؤلاء مثالٌ يُحتذى، فهي دعوة إلى الترغيب بالإنفاق على نحو ما فعل هؤلاء، وهذا ما يجعلهم في مرتبة الأولياء ممن ينبغي متابعتهم وموالاتهم في أفعالهم .

دلالة النفي في (لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ):

((ورُفع (خوفٌ) في نفي الجنس إذ لا يتوهم نفي الفرد؛ لأنّ الخوفَ من المعاني التي هي أجناس محضة لا أفراد لها))(3) ، ونفي الخوف عنهم بهذا المعنى يشير إلى حسن ظنهم بالله سبحانه وتعالى، وكأنهم ينفقون كل ما وقع تحت أيديهم دون أن يخشوا الفقر لأن من سيُخلِف عليهم في الجزاء هو الكريم الذي لا بخل في ساحته فممن الخوف؟ والإتيان بضمير الفصل لإفادة نفي الحزن عنهم على سبيل القصر((ولا هم يحزنون : بتقديم(هم) الذين يحزن

ص: 376


1- المقتضب : 1/ 364
2- المفصل في صنعة الإعراب : ص 244
3- التحرير والتنوير: 2/ 546

غيرهم وليس هم. نفي الفعل عن النفس ولكنه إثبات الفعل لشخص آخر... نفي الحزن عنهم وأثبت أن غيرهم يحزن (أهل الضلال في حزن دائم). ولم يقل" لا خوف عليهم ولا حزن لهم "لأنها لا تفيد التخصيص))(1) .

3- الدلالة القرآنية للألفاظ الآتية :

( ينفقون أموالهم):

السياق القرآني الذي وردت فيه لفظة (الذين ينفقون في الاستعمال القرآني يكشف عن عدة سمات على مستوى دلالة اللفظة القرآنية يوضحها المخطط الآتي :

+ إنفاق في سبيل الله - يتبعونه مناً ولاأذي + مرضاة الله الذين ينفقون - خوف لهم - حزن لهم + محبة الله + إحسان + إيمان بالله واليوم الآخر

وتتضح هذه السمات في :

قوله تعالى : مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ»[البقره: 261] و الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 212]

ص: 377


1- أسرار البيان في التعبير القرآني : 116

و وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ »[البقرة : 265] و الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ »[آل عمران : 134] و وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا »[النساء : 38] .

فهذه الآيات القرآنية تشير إلى دعوة المؤمنين وندبهم إلى أداء الإنفاق في مختلف الظروف، ويُعضَّدُ ذلك ما أُعد للمؤمنين من أجرٍ أُخروي ترغيًبا في هذه الدعوة، وبمقدار ما تشير إليه هذه الآيات من الدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله، من شأنه أن يسلط الضوء على الملامح الشخصية لَمنْ توسم بأداء هذا العنوان، إلا أنَّ ما يلحظه الباحث بأن هذه الآيات لاتحدد تلك السمات الواضحة لمن يؤدي هذا الإنفاق بصورة مباشرة ولذلك يسعى الباحث إلى تحديدها بلحاظٍ آخر.

(لاخوف عليهم ولاهم يحزنون):

تُعد هذه الجملة علامةً فارقة ومميزة في رسم وتحديد ملامح مَنْ تعلقت به الآية الكريمة المبحوثة في ضوء التعبير القرآني؛ باعتبار أنَّ هذه الجملة جاءت معطوفة على خبر المبتدأ (الذين ينفقون) وهي جملة (فلهم أجرهم)(1) ، فهي

ص: 378


1- التبيان في إعراب القرآن : 1/ 96

تؤدي وظيفة الإخبار عن الاسم الموصول مع صلته، فتكون في موضع الإسناد الذي يتمم الفائدة ، وملاحظة هذه الإسناد على مستوى الاستعمال القرآني نلحظ عددًا من السمات الدلالية من خلال ما أُسندت إليه وهي :

1- اتبع هدى الله : كما يشير إليه قوله تعالى : قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ »[البقرة : 38]

2- آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا : كما في قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ »[البقرة : 62] .

3- أسلم وجهه لله وهو محسن : وذلك في قوله تعالی : بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ »[البقرة : 112] .

4- قتل في سبيل الله : إشارةً الى قوله تعالى : وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ »[آل عمران : 169 -170] .

5- وليُّ الله : كما في قوله تعالى : أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ »[يونس : 62]

ص: 379

وغيرها من السمات القرآنية(1) والمخطط التوضيحي لخَّص هذه السمات بما يأتي :

+أولياء الله + اتبعوا هدى الله + قتلوا في سبيل الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون + أقاموا الصلاة + اتقی وأصلح + أسلم وجهه لله

+ استقاموا + عباد الله + تبع هدى الله

( سرًا وعلانيةً ) : ومما انفردت به هذه الآية ولم يذكر في موردٍ آخر قوله تعالی : بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً، فهو يشير إلى وجوه الإنفاق التي جرى عليها بذل الأموال في سبيل الله تعالى، وهو ما تفرّدت به الآية الكريمة على مستوى التعبير القرآني، قال الزمخشري : ((يعمُّون الأوقات والأحوال بالصدق الحرصهم على الخير، فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجَّلوا في قضائها ولم يؤخروه ولم يتعللوا بوقت ولا حال ))(2) ، وهوصياغة لكمال الإنفاق الذي يتصف به هؤلاء ومن ثمّ كمال ذواقهم، ويُلحظ بأنَّ ما ورد من صور الإنفاق في القرآن الكريم لم يأتِ في هذه الأحوال التي أشارت إليها الآية مورد البحث،

ص: 380


1- تنظر : الآيات القرآنية : البقرة : 262 - 277، المائدة : 69، الأنعام : 48، الأعراف: 35، الزخرف: 68، الأحقاف : 13
2- الكشاف : 1/ 314

وإنما ورد مقتصرًا على الإنفاق (سرًا وعلانيةً) دون الليل والنهار )، وعلى الرغم من هذا الاقتصار إلاّ أنه يضيف سماتٍ أخرى لمن تعلقت به الآية مورد البحث، اعتبارً بالإنفاق المشترك بين هذه الآيات، لما يترتب عليه من الجزاء الأُخروي وقد عبرَّ عنه ب( جنات عدن)؛ قال تعالى : وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ [الرعد: 22 -23].

ويشير القرآن الكريم إلى أن (جنات عدن) جزاءٌ ل( خير البرية) وال(سابق بالخيرات )، قال تعالى ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ »[فاطر :32- 33] وقوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ »[البينة :7- 8]. فإذا كانت (جنات عدن) جزاءً لمن أنفق سرًا وعلانية، فإن مقام مَنْ أنفق فيهما وفي الليل والنهار أشرف وأعظم.

من كلَّ ما تقدم وما بيَّنته الآيات الكريمة من ملامح وسمات يمكن القول بخصوصية الآية موضوع البحث، ولا يتأتي القيام بها إلا لفئةٍ خاصةٍ من

ص: 381

المؤمنين، فالذين ينفقون أموالهم في عموم هذه الجهات والأحوال هم أكمل المؤمنين، وقد عرفوا بالصفات التي أشارت إليها الآية حتى جاء التعبير بجملة الصلة ليشير إلى هذه الشهرة، وصاروا بذلك مثالاً يُقتدى في سبيل أداء الإنفاق على أكمل الوجوه.

المطلب الرابع: في معنى (يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) :

قال تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة : 207].

مِهادُ التّنزيل:

ذكرت بعض المصادر بأنَّ الآية الكريمة مورد نزلت بحق الإمام علي (عليه السلام)، فيكون هو المراد بقوله : (يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) ومن تلك الروايات ما أخرجه فرات الكوفيَّ في تفسيره؛ قال :(( حدثني عبيد بن كثير قال : حدثنا رزيق بن مرزوق قال : حدثنا حكم بن ظهير عن السدي عن أبي مالك : عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ قال : نزلت في علي عليه السلام ليلة بات على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله.))(1) . وفي تفسير الكشف والبيان للثعلبي ((رأيتُ في الكتب أن رسول الله (صلى الله عليه

ص: 382


1- تفسير فرات : 65

وسلم) لما أراد الهجرة خَلف علي بن أبي طالب بمكة لقضاء دیونه ورد الودائع التي كانت عنده فأمره ليلة خرج إلى الغار وقد أحاط المشركون بالدار أن ينام على فراشه {صلى الله عليه وسلم} وقال له :« إتشح ببردي الحضرمي الأخضر، ونم على فراشي، فإنّه لا يخلص إليك منهم مكروه إن شاء الله ، ففعل ذلك عليٌ، فأوحى الله تعالى إلى جبرئيل وميكائيل إني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الأخر فأيكما يؤثر صاحبه بالبقاء والحياة؟ فاختار کلاهما الحياة فأوحى الله تعالى إليهما : أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب (عليه السلام) آخيت بينه وبين محمّد {صلى الله عليه وسلم} فبات على فراشه (يفديه) نفسه ويؤثره بالحياة، إهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه، فنزلا فكان جبرئيل عند رأس علي ومیکائیل عند رجليه، وجبرئيل ينادي : بخ بخ من مثلك يا بن أبي طالب، فنادى الله عزّ وجلّ الملائكة وأنزل الله على رسوله {صلى الله عليه وسلم} وهو متوجه إلى المدينة في شأن علي (عليه السلام) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ». قال ابن عبّاس : نزلت في علي بن أبي طالب حين هرب النبيّ {صلی الله عليه وسلم } من المشركين إلى الغار مع أبي بكر الصديق ونام عليَّ على فراش النبيّ {صلى الله عليه وسلم }))(1) .

ص: 383


1- الكشف والبيان : 2/ 125 -126، ينظر: شواهد التنزيل: 1/ 96 ، مناقب علي بن أبي طالب : 222، التبيان في تفسير القرآن : 3/ 280 ، مجمع البيان : 2/ 81 ، مفاتیح الغيب : 5/ 125 ، البحر المحيط : 2/ 127 ، ينابيع المودة : 1/ 273 ، روح المعاني : 2/ 146 ، وغيرها

مسار التحليل ويتضمن:

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية :

(یشري):

وردت هذه اللفظة في المعاجم العربية بمعنى (باع) ومعنى (اشتری)؛ قال الخليل :(( شَرَى يَشْرِي شِرًى وشِراءً وهو شارٍ إذا باع))(1) ، وهي من الأضداد؛ قال ابن دريد :((شَرِي يَشری شَرّی شدیداً. وشَرَيت الشيءَ أَشریه شَرْياً، إذا اشتريته. وشريتُه أشریه، إذا بعته))(2) وفي الصحاح ((الشِراءُ يمدّ ويقصر. يقال منه : شرَيْتُ الشيء أَشْرِیهِ شِراءً، إذا بعته وإذا اشتريته أيضاً وهو من الأضداد))(3) ، إلا أن شري بمعني باع هو الأكثر في استعمال العرب؛ قال ابن منظور(ت711ه) :(( للعرب في شَرَوْا واشْتَرَوْا مَذْهبان، فالأَكثر منهما أَن يكون شَرَوا باعُوا واشْتَرَوا ابْتاعوا وربما جعلُوهما بمَعنی باعوا))(4) .

( ابتغاء ):

تعبر هذه اللفظة عن الطلب والغاية في العمل؛ جاء في العين (( والبُغْيةُ : مصدر الابتغاء ، تقول : هو بُغيَتي أي : طَلِبتي وطِيَّتي. وبَغِيْتُ الشّيء أّبغيه بُغاء

ص: 384


1- العين (شري ) : 6/ 282
2- الاشتقاق : 503
3- الصحاح في اللغة (شرى ) : 6/ 2391
4- لسان العرب (شري ) : 14/ 526 ، ينظر : تاج العروس : 38/ 363

وابتغيته : طلبته ))(1) ، وفي التهذيب ((بَغى الرَّجلُ حاجَتَه أو ضالَّتَهُ يَبْغيها بُغاءً وبُغيةً إذا طلبها ))(2) ، وفي القاموس ((بَغَيْتُهُ أبْغيهِ بُغاء وبُغًى وبُغَیةً، بضَمَّهِنَّ، وبِغْيَةً، بالكسر طَلَبْتُهُ))(3) .

(رؤوف):

ورؤوف فعول من الرأفة؛ قال ابن فارس: ((الراء والهمزة والفاء کلمةٌ واحدة تدلُّ على رِقّة ورحمة، وهي الرّأفة. يقال رَؤُفَ يَرْؤُف رأْفةً ورآفة، على فَعْلةٍ وفَعَالة 000 ورجل رؤوف على فَعُول، ورَؤُف [على] فَعُل))(4) ، وهي وإن كانت تقترب في معناها من الرحمة إلا أنها تختلف عنها؛ قال أبو هلال العسكري :((إن الرأفة أبلغ من الرحمة... الرأفة أشد الرحمة، وقيل : الرحمة أكثر من الرأفة، والرأفة أقوى منها في الكيفية، لأنها عبارة عن إيصال النعم صافية عن الألم، والرحمة : إيصال النعم مطلقًا )).(5)

ص: 385


1- العين (بغي ) : 8/ 453
2- تهذيب اللغة : 3/ 105
3- القاموس المحيط (بغی ) : 1/ 298
4- مقاييس اللغة (رأف) : 2/ 471
5- معجم الفروق اللغوية : 246- 247

2- التوجيهات النحوية للألفاظ الآتية:

(دلالة الاسم الموصول" مَنْ" مع صلته):

و(مَنْ) اسم موصول مبهم ولذلك فهو محتاج إلى جملة الصلة لتعرفه؛ قال المبرد : ((واعلم أنَّ الصلة موضَّحَةٌ للاسم؛ فلذلك كانت في هذه الأَسماء المبهمة، وما شاكلها في المعنى؛ ألا ترى أنَّك لو قلت : "جاءني الذي"، أَو "مررت بالذي " لم يَدْلُلْكَ ذلك على شيءٍ حتى تقول : "مررت بالذي قام ، فإذا قلت : هذا وما أشبهه وضعت اليد عليه ))(1) وفي هذا الكلام ما يعني أنَّ التعبير بالأسماء الموصولة يساعد على تشخيص مَن يدل عليه عبر ما تقدمه جملة الصلة من إيضاح له.

ویُزاد لها دلالتها على العاقل فحسب وهي تقع بلفظ واحد للمفرد والمثنى والجمع، قال الصيمري : ((واعلم أنَّ (مَنْ) و(ما) و(أيَّا) حكمها في الصَّلة كحکم (الذي) و(التي)، إلا أنَّ (الذي) و(التي) يُخْبَرُ بهما عن كلَّ شيء من الآدميين وغيرهم ، وأما (مَنْ) فإنما تقعُ على مَنْ يعقلُ خاصَّةً، ولفظُها مُذکَّرٌ يُسْتَعملُ في الواحد والاثنين والجمع والمؤنث على لفظٍ واحد، فإذا وقعتْ على الإثنين والجماعة والمذكر والمؤنث فإن شئتَ حملتَ الكلام على لفظِها فوحَّدت، وإنْ شئت حملتهُ على معناها فثنيت وجمعت وأنَّثْتَ))(2) .

ص: 386


1- المقتضب : 3/ 159
2- التبصرة والتذكرة: 1/ 521

واشتراطُ مشهور النحاةِ وجوبُ أن تكونَ جملةُ الصَّلة معهودةً لدى السامع(1) من شأنه أن يسلطَ الضوءَ على المراد بالاسم الموصول مقترنًا بصلته، فيكون معلوم المراد والدلالة بما ستورده جملة الصَّلة من علاقات نحوية.

(ابتغاء) :

ولفظة (ابتغاء) في موقع المفعول لأجله، قال سيبويه في معناه ((هذا باب ما يَنتَصب من المصادر لأنَّه عُذْرٌ لوقوع الأمر فانتَصبَ لأنَّه موقوع له، ولأنَّه تفسيرٌ لما قبلَهِ لِمَ كان ؟))(2) وهو ما يعني أن لفظة (ابتغاء) تمثل الحالةَ التي من أجلها وقع شراء النفس أي بيعها، وفيه يقول الرضي :((فالمفعول له هو العلة الحاملة لعامله ... وجعل المفعول له علة لمضمون عامله يطرد، لأن التأديب علة حاملة على الضرب، ولفظ " المفعول له " يؤذن بكونه علة، لأن اللام في قوله " له " للتعليل))(3) ((والمعنى الحامل لهم على بيع أنفسهم إنما هو طلب رضا الله تعالی))(4) ، وعدم اقتران هذه اللفظة باللام يدل على أنها استكملت لشروط المفعول لأجله وهي أن يكون مصدرًا منصوبًا، وعلةً للفعل الذي قبله واتحاده بالمعلل به زمنًا وفاعلاً وإلا دخلت عليه اللام(5) .

ص: 387


1- ينظر : أوضح المسالك : 1/ 174 ، وتوضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك : 1/ 444 ، والنحو الوافي :عباس حسن: 1/ 376 ، وقد استثنوا من ذلك فيما إذا كانت جملة الصلة للتهويل والتعظيم فلا يشترط أن تكون معهودة
2- الكتاب : 1/ 367 ، ينظر : إعراب القرآن : 1/ 104
3- شرح الرضي على الكافية : 1/ 508
4- البحر المحيط : 2/ 128
5- ينظر : شرح شذور الذهب : 254، أوضح المسالك : 2/ 225

ويفهم من ذلك أن المعني بهذه الآية هو في أعلى درجات الإيمان؛ إذ لم يجعل من الجنة ونعيمها غايةً له، وأنَّ هذه الغاية ملازمةً له في كل أعماله بعدَّها علة للفعل المضارع (يشري )، والذي يقترب في دلالته على استمراية الحدث من الصفة الدائمة، قال الرضي : ((ووضع الفعل على التجدد والحدوث، وإن كان يُستعمل المضارع في بضع المواضع للدوام أيضا، نحو قولك : زيد يؤوي الطريد ويؤمن الخائف، والله يقبض ويبسط، وذلك، أيضا، لمشابهته لاسم الفاعل الذي لا دلالة فيه وضعا على الزمان))(1) .

ويبدو أنَّ مُرجَّحية الدوام في الفعل( شرى) أقرب من الحدوث الملازم للزَّوال، ويُفهم ذلك بلحاظ كونه غايةً لمرضاتِ الله، وهي غاية خالدة دائمة بإضافتها للفظ الجلالة، فلم يكن طلب الفعل من شراء النفس ونحوه لأجل غايةً زائلة من متاع الدنيا وفي هذا رفعة وسموّ للطالب، ويرجح هذا المعنى أيضًا أن الإضافة إلى المصدر(ابتغاء) محضة ليست على نية الإنفصال(2) ، فلا تنفك الغاية عن الفعل في تحصيلها وإنَّما هي نصب عينيه.

3- الدلالة القرآنية للفظة (شرى):

لئن كان الاستعمالُ المعجمي للفعلين (شری) و(اشترى) بمعنى واحدٍ تقريبًا لإمكانية استعمال الأول في المعاني المتضادة باعتباره من الأضداد، إلا

ص: 388


1- شرح الرضي على الكافية : 1/ 316
2- ينظر : البحر المحيط : 2/ 128

أن التعبير القرآني قد مازَ بينهما من جهة المعنى؛ إذ لم يستعمل الفعل شری وتصريفاته إلا بمعنى (باع)، ويتضح ذلك في الآيات القرآنية الآتية : قال تعالى : وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ [يوسف : 20] بدلالة السياق اللفظي لهذا الواقع وبدلالة (وكانوا فيه من الزاهدين) دلَّ على أنَّ (شروه) بمعنى (باعوه )، وقال تعالى فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 74]، قال ابن عطية في معنى (يشرون ) :((" يشرون " معناه : يبيعون في هذا الموضع... فالمعنى هاهنا يدل على أنه بمعنى " يبيعون"))(1) ، وقال ابن عاشور: (("ويشرون" معناه يبيعون، لأنّ شري مقابل اشتری، مثل باع وابتاع وأكری واکتری))(2) .

وقوله تعالى : وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ »[البقرة : 102]، وهذه الآية أبرز ما تمثل الفرق في المعنى بين الفعلين، قال ابن عطية : (( وقال (اشتراه) لأنهم كانوا يعطون الأجرة على أن يعلموا، ... و( شروا) معناه باعوا))(3) . أما (اشتری) فاستعمل بمعنى (ابتاع) في مقابل (باع) كما تبرزه الآيات القرآنية الآتية :

ص: 389


1- المحرر الوجيز: 2/ 159
2- التحرير والتنوير : 4/ 186
3- المحرر الوجيز: 1/ 188

وقوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ »[البقرة : 174] و إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ »[آل عمران : 77] وإِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ »[آل عمران : 177] و وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ »[آل عمران : 187] و وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ »[آل عمران : 199] و أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ »[النساء : 44 ] وغيرها من الآيات. إنَّ ما يُميَّز الفعل (شري) في الآية المبحوثة في ضوء التعبير القرآني أمران :

الأول : باعتبار الصيغة التي ورد فيها الفعل يلمح إلى عدم إعتداد مَنْ أُسند إليه الفعل بنفسه في سبيل الغاية المرجوَّة وهي (مرضاتِ الله)؛ ويقابل ذلك صيغة الفعل (اشتری) والتي تعكس رغبة من أسند إليه بما طلبه ويبتغيه، فالأول على وزن (فَعَل) والثاني على وزن (افتَعَل)، قال سيبويه :(( أمَّا کسَبَ فإنَّه يقول أصابَ، وأمّا اكْتسب فهو التصرُّف والطلب والاجتهاد بمنزلة

ص: 390

الاضطراب)).(1) ، فالفعل(اشترى) يعبر عن اجتهاد وتكلف ورغبة في المُشتَرى، قال ابن منظور :((وقوله عز وجل : أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى» قال أبو إسحق ليس هنا شِراءٌ ولا بيعٌ ولكن رغَبتُهم فيه بتَمَسُّكِهم به كرَغْبة المُشْتري بماله ما يَرغَبُ فيه))(2) .

الآخر : من اللافت أنَّ الفعل (اشترى) وما في معناه لم يُسند للمؤمنين، ويُفهم منه أن فعل المعاصي يحتاج إلى مزيد اجتهاد وإظهار .

أما إسناده الى لفظ الجلالة في قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ »[التوبة :111] فهو يشير إلى أن رغبة الله سبحانه وتعالى في عباده المؤمنين أشد من رغبتهم إليه سبحانه فالمشتري أشدُّ رغبةً من البائع .

والتعبير بالفعل (يشري) بدلاً من (يشتري) يوحى بالمقابل بأنَّ فعل الطاعات ليس فيه تكلف واجتهاد بقدر فعل المعاصي، وأن ذلك توفيق منه سبحانه وهو ما توحي به لفظة (رؤوف) إذ بسببها حصل ذلك الجزاء والتي تلمح إلى مزيد عناية واهتمام، فهي تستدعي جميع أنواع الإحسان(3) .

ص: 391


1- الکتاب: 1/ 74
2- لسان العرب (شری): 14/ 427
3- ینظر البحر المحیط: 2/ 129

ويمكن القول أن بيع النفس في هذه الآية الكريمة لايُراد به خصوص القتل والقتال في سبيل الله فحسب وذلك باعتبارین:

الأول : إنَّ مَنْ يقاتل في سبيل الله ويُقتل فإنّ ثمنَ جهاده الجّنة كما في الآية [111 :التوبة] ، في حين أن الآية الكريمة المبحوثة أشارت إلى بيع النفس لأجل تحصيل مرضات الله سبحانه وتعالى وهو ما يُعظَّم شأن من تعلقتْ به الآية الكريمة .

الآخر : إن السياق الذي وردت فيه الآية مورد البحث يجعلها تتحدث عن ذكرِ صنفين من الناس؛ فقد سبقها قوله تعالى : «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ »[البقرة : 204 -205]، فجاء قوله تعالى : ومن الناس من يشري...» ليبيَّن الصنف الثاني وهو قسيم للصنف الأول(1) ، وهذا التصنيف يجعل معنی { من يشري } هو من يصلح الأرض من الخراب ويحول دون انهیارها وفسادها؛ وذلك اعتبارًا بالمقابلة بين الصنفين .

واللام في قوله (بالعباد) إما أن تكون لام الجنس التي تفيد الإستغراق أو أنّها لام العهد(2) ، وعلى الثاني فالمعني (( العبادُالذين من هذا القبيل أي قبيل

ص: 392


1- ينظر : المصدر السابق : 2/ 127
2- ينظر : المصدر السابق : 2/ 128

قبيل الذي يشري نفسه ابتغاء مرضات الله))(1) ويُرجَّح عهديّةَ اللام إلى شخصٍ معين أو فئةٍ محددة قرينةُ من التبعيضية، واستعمال (مَن يشري) في قبال (مَن يُعْجِبُكَ) و(تَوَلَّى) و(سَعَى فِي الأَرْض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) و(وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ)، فهذه الأفعال مُسندة إلى ذاتٍ مفردة الأمر الذي يخرج معه الاسم الموصول (مَن) من دائرة الإبهام أو العموم، والآخر ما اشترطه مشهور النحاة من عهدیة صلة الموصول لدى المخاطب لتزيل الإبهام عن الاسم الموصول(2) .

ويرى الباحث أنه يمكن الجمع بين دلالة (مَنْ) على المفرد باعتبار اللفظ وبين دلالتها باعتبار المعنى على أكثر من واحد في الآية الكريمة التي صدرت البحث، إذا ما قلنا أنها ارتبطت بذات محددة حين نزول النص القرآني ومن الممكن أن تنطبق على مصاديق أُخَر في المستقبل لديهم نفس الاستعداد طلب مرضات الله غايةً لهم، ويسمح بذلك دلالة الفعل المضارع (يشري) على الحال والاستقبال.

المطلب الخامس: في معنى (عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) :

قال تعالى : وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ »[الرعد :43].

ص: 393


1- التحرير والتنوير : 2/ 207
2- ينظر : شرح المفصل : 3/ 154

مِهادُ التّنزيل:

جاء في تفسير العياشي(1) ((عن عبدالله بن عجلان عن أبي جعفر عليه السلام قال : سألته عن قوله : قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ : نزلت في علىًّ بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وفى الأئمة بعده وعلىٌّ عنده علم الكتاب))(2) .

وكذلك ورد في تفسير الكشف والبيان للثعلبي بإسناده عن : ((أحمد بن مفضل حدثنا مندل بن علي عن إسماعيل بن سلمان عن أبي عمر زاذان عن ابن الحنفية "ومن عنده علم الكتاب" قال :هو عليُّ بن أبي طالب))(3)

ص: 394


1- العياشي نحو (ت320ه-) تقريباً، هو محمد بن مسعود العياشي السلمي، أبو النضر : فقيه، من كبار الامامية.من أهل سمرقند، اشتهرت كتبه في نواحى خراسان اشتهارا عظيما، وهي تزيد على مئتی کتاب : ينظر : الفهرست : 1/ 194 ، الذريعة : 4/ 295 ، الأعلام : 7/ 95
2- تفسير العياشي : 2/ 236
3- الكشف والبيان : 5/ 303، ينظر : مناقب علي بن أبي طالب : 268، شواهد التنزيل: 1/ 307 - 310، التبیان : 8/ 213، مجمع البيان : 6/ 59، الجامع لأحكام القرآن : 1/ 1701، البحر المحيط: 7/ 192، ينابيع المودة: 1/ 307، نور الثقلين : 3/ 406 -63

مسارالتحليل ويتضمن:

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية :

(الكتاب):

يتوجه البحث لتحديد معنى هذه اللفظة باعتبار أن تحديد سماتها لغوياً وقرآنياً من شأنه أن يُسلط الضوء على من تعلقت به في قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ.

نشير لفظة(الكتاب) في معاجم اللغة إلى معنى الشيء المكتوب، والأصل فيه ضمُّ الشيء إلى الشيء؛ قال ابن دريد (ت321ه-) :((كتبَ الكتابَ يَكتبه كَتْباً، إذا جمع حروفَه، وأصل الكتب ضَمُّكَ الشيء إلى الشيء ))(1) .

وقال الزبيدي :(( "كَتَبهُ" يَكْتُبُ كَتْباً بالفَتْح المَصْدَرْ المَقِيسُ و"كِتَاباً" بالكسر على خِلاف القياس. وقيل : اسْمٌ كاللَّباس عن اللَّحْيَاِنّي والكِتَابُ : ما يُكْتَبُ فيهِ...الكِتَابُ : الصَّحِيفَةُ يُكْتَبُ فيها))(2) .

ولمَّا جُمع المكتوب في صحائفَ ضمَّ بعضها الآخر صار كتابًا، قال الراغب الأصفهاني :((الأصلُ في الكِتابةِ : النَّظمُ بالخطَّ لكنْ يُستعاَرُ كلَّ واحدٍ للآخرِ، ولهذا سُمَّىَ كلامُ اللهِ - وإنْ لم يُكْتَبْ- كتابًا ... والكتاب في

ص: 395


1- جمهرة اللغة (ب ت ك ): 1/ 245، ينظر : المحيط في اللغة (كتب ): 6/ 228
2- تاج العروس من جواهر القاموس (كتب ) : 4/ 100 -101

الأصلِ مصدرٌ، ثم سُمَّيَ المكتُوبُ فيه كتابًا، والكتابُ في الأصل اسمٌ للصّحِيفَة مع المكتوبِ فيه))(1) .

(مُرسلا):

هذه اللفظة اسم مفعول من الرباعي (أرسَلَ) وأصلها من التتابع؛ حاء أخذ في تهذيب اللغة: ((الرسول معناه في اللغة الذي يتابع أخبار الذي بَعثَه؛ أُخِذ من قولهم : جاءت الإبلُ رسلاً، أي : متتابعة ... والرسولُ بمعنى الرسالة يؤنَّث ويذكّر فمن أنّت جمعَه أَرسُلاً ))(2) وفي لسان العرب ((أرسلتُ فلانًا في رسالة، فهو مُرسَل ورَسول))(3) ف(الرسول) يتضمن معنى الرسالة والمُرسل، أمَّا (المُرسل) فلا يحتمل إلا معنى الرسول .

وأيضًا مما جاء في معنى هذه اللفظة الإنبعاثُ، وهو ما ذكره الراغب بقوله : ((أصْلُ الرَّسْلِ : الانْبعَاث على التَّؤَدَة، ويُقال ... إبلٌ مراسيل مُنْبَعِثةٌ انبعاثًا سهلًا، ومنه : الرَّسُولُ المُنْبَعِث. وتُصُوَّرَ منه تارةً الرَّفق فقيل على رسلك إذا أمرته بالرفق، وتارة الانبعاث فاشتق منه الرسول))(4) وعدم التعبیر بلفظة (رسول) والتي تشترك مع (مُرسل) في تأدية المعنى، يُبرز المعنى الذي استُعملتْ في هذه اللفظة بأن يُراد به خصوص (المُرسَل) لا (الرسالة).

ص: 396


1- مفردات ألفاظ القرآن (كتب ) : 699
2- تهذيب اللغة (رسل ) : 12/ 272 -273
3- لسان العرب (رسل ) : 11/ 339
4- مفردات ألفاظ القرآن (رسل ) : 352

(شهید):

و(شهيد) فعيل من (شَهِدَ)، وهو في الأصل اللغوي دالٌّ على الحضور والعلم، وقد نصَّ ابنُ فارس على ذلك بقوله : ((الشين والهاء والدال أصلٌ يدل على حضور وعلم وإعلام، لايخرج شيء من فروعه عن الذي ذكرناه، ذلك الشَّهادة، يجمع الأصولَ التي ذكرناها من الحضور، والعلم ، والإعلام.))(1) ، وفي القاموس المحيط ((والشَّهيدُ وتُكْسَرُ شينُهُ : الشاهدُ والأَمِينُ في شَهادَةٍ والذي لا يَغيبُ عن عِلْمِهِ شيءٌ ))(2) ، وترد هذه المعاني وفقًا لما تُستعمل فيه، جاء في تاج العروس ((الشَّهِيدُ : الحاضِرُ. وفَعِيلُ من أَبْنِیَةِ المبالغةِ في فاعِل، إِذا اعتُبِر العِلمُ مطْلَقاً فهو العَلِيمُ، وإِذا أُضِيفَ إِلى الأُمُورِ الباطِنَةِ فهو الخَبِيرُ، وإِذا أُضيِفَ إِلى الأُمورِ الظاهِرَةِ فهو الشَّهِيدُ. وقد یُعْتَبَرُ مع هذا أَن يَشْهَدَ على الخَلْقِ يومَ القيامَة .))(3) ، واستعمال هذه اللفظة بمعنى والدليل على صِدقِ المُدعى لايخرج عن معنى الحضور والعلم.

ص: 397


1- مقاييس اللغة (شهد) : 3/ 221
2- القاموس المحيط (شهد) : 2/ 68
3- تاج العروس(شهد) : 8/ 254

2- التوجيهات النحوية للألفاظ الآتية :

( مُرسَلا) :

إن تحديد معنى (من عنده علم الكتاب) ليس بمعزلٍ عن علاقتها بمعاني الألفاظ الأخرى ومواقعها الإعرابية التي تشترك معها في رسم السياق العام للآية، وأول هذه الألفاظ هي لفظة (مرسلاً) التي تشغل موقع خبر ليس، و وهي ((اسم مفعول من (أرسل) الرباعي، وزنه مُفعَل بضم الميم وفتح العين))(1) .

ويلحظ أنَّ استعمال (مرسلاً) بدلاً من (رسولاً) فيه تنويه إلى إنكارهم للمرسل وهو الله تعالى بالدرجة الأولى، فضلاً على الذات المرسل الذي قد تدل عليه لفظة (رسول) من حيث أن رسول (فعول) بمعنى (مفعول)(2) - وأن صيغة اسم المفعول ترتبط ذهنيًا بالفاعل؛ باعتبار أنَّ اسم المفعول وقع عليه الفعل الذي صدر من قبل الفاعل، وهو ما يُوحي بإنكارهم لمن أرسلَ الرسولَ، وعليه فإنَّ استعمال هذه اللفظة بهذه الصيغة كان له أثره في إبراز المعنى الذي قامت عليه بقيةُ الألفاظ.

(دلالة الاسم الموصول" مَنْ" مع صلته):

ورد الاسم الموصول (مَنْ عنده علمُ الكتاب) معطوفًا على لفظ الجلالة، والعطف بالواو يفيد التشريك في الحكم(3) ، بمعنى أن من عنده علم الكتاب يشهد

ص: 398


1- الجدول في إعراب القرآن : 4/ 132
2- ينظر : الكليات : القسم الثاني/ 386
3- ينظر : الجنى الداني : 158

بصدق النبوة ويبطل دعوى المنكرين، وعبَّر عنه سبحانه بالاسم الموصول (من) وهو اسمٌ مبهم يحتاج إلى ما يوضحه بحسب ما ذكر المبرد ((1) . والضمير العائد في الصلة يمكن أن يكون مفردًا باعتباراللفظ أو يكون غير ذلك ويراعى فيه المعنى(2) ((ومن هنا يصح أن يعود الضمير عليها مفردًا مذكراً، مراعاة للفظها، وهو الأكثر، ويجوز فيه مراعاة المعنى المراد وهو كثير))(3) وهذا يعني أن من عنده (علم الكتاب) ممكن أن يكون واحداً وهو المتبادر إلى الذهن ويدل عليه ظاهر اللفظ مع احتمال إرادة المعنى الثاني . ولما كان (مَنْ) مبهمًا في معناه افتقر إلى جملة الصلة لتبينه، واشترط النحاة فيها أن تكون معلومة لدى المخاطب كما ذكنا ذلك في ما مضى من المباحث في دلالة جملة الصلة ، وعلل صاحب شرح التصريح أن جملة الصلة ينبغي أن تكون معهودة : ((لأنك إنما تأتي بالصلة لتُعرَّف المخاطبَ الموصولَ المبهم بما كان يعرفه قبل ذكر الموصول اتصافه بمضمون الصلة ))(4) . ومن ثَمَّ فإن مَن توجه إليهم الخطاب كانوا على علمٍ بأنَّ علمَ الكتاب موجودٌ في أمة الرسول، وأنَّ فيه من البيان ما يكفي للاحتجاج به عليهم وهو كاف للرد على مزاعم المُنكرين، بالعلم الذي استقر عند (من عنده علم الكتاب).

ص: 399


1- المقتضب : 3/ 159
2- ينظر : شرح التصريح على التوضيح : 1/ 167
3- النحو الوافي : 1/ 314
4- شرح التصريح : 1/ 184

(دلالة" عند"):

إنَّ التعبير بهذه اللفظة منح الآية بعدًا مستقبليًا فضلاً عن دلالتها على الحال؛ وذلك باعتبار أنَّ (('' عند " للحاضر والغائب و" لدى " لايكون إلا للحاضر، تقول : عندي مال وإن كان غائبا، ولا تقول : لدي مال والمال غائب ، وتقول : هذا القول عندي صواب ، ولا تقول : لدي صواب، وتشاركا في كونهما ظرف مكان واستعمالهما في الحضور والقرب الحسيين والمعنويين... وتفارقا في كثرة جر (عند) بمن خاصة وامتناع جر (لدى) مطلقا وفي أن (عند) يكون ظرفا للأعيان والمعاني يستعمل في الحاضر والغائب))(1) و((تقول عندي مال) وإن كان غائبًا، ولا تقول (لَدَيَّ مال) إلا إذا كان حاضراً))(2) وهو ما يوحي بانَّ علم الكتاب يتضمن أموراً مصاحبة للمستقبل، وهو ما ينسجم مع دلالة الفعل المضارع (يقولون) فيتحقق التوازن بين مزاعم الإنكار من جهة وما ادُّخر من علمٍ حاضرٍ للرد عليها على مدى المستقبل من جهةٍ أخرى.

3- الدلالة القرآنية لألفاظ الآية :

(مرسلا):

لم تتكررْ هذه اللفظة كثيرًا في القرآن الكريم قياسًا إلى أقرب الألفاظ إليها (رسول )، الأمر الذي يوحي بخصوصيتها الدلالية، وتبرز هذه الدلالة

ص: 400


1- الكليات : 3/ 243- 244
2- مغني اللبيب : 1/ 176

بالتعبيربها في الآية مورد البحث من دون لفظة (رسول) التي تشترك معها في معنى (المُرسَل)، إلا أنَّ ما يُميَّزها ما تحمله من سمة الإنكار للجهة المُرسِلة طريق التعبير بها على لسان (الذين كفروا) في سياق النفي ب( لستَ). ومن الآيات التي وردت فيها هذه اللفظة للإيحاء بهذا المعنى وقد صرَّح الكافرون فيها بإنكارهم هذا على سبيل الإستهزاء قولُه تعالى : قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ [الأعراف :75]. وتعلق الجار والمجرور (من ربه) ب( مرسَلٌ)- يُعضَّد القول الآنف من تضمُّن اللفظة معنى إنكار أصل الإرسال وهو المُرسِل - إذ يلمحُ إلى إنكارهم من أرسل نبيَ الله صالح (عليه السلام)، ولردَّ هذا الإنكار كان جواب المؤمنين على خلاف السؤال، قال الزمخشري :((فإن قلت : كيف صحّ قولهم : إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ جواباً عنه ؟ قلتْ : سألوهم عن العلم بإرساله، فجعلوا إرساله أمراً معلوماً مكشوفاً مسلَماً لا يدخله ريب، كأنهم قالوا :العلم بإرساله وبما أرسل به ما لا كلام فيه ولا شبهة تدخله لوضوحه وإنارته، وإنما الكلام في وجوب الإيمان به ،فنخبركم أنَّا به مؤمنون))(1) .

وإنكار (الذين كفروا) للمرسل يقربهم من الشرك الذي هو سببٌ في حصول الكفر، قال تعالى : سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا

ص: 401


1- الكشاف : 2/ 119

أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ »[عمران :151]ومما يعظم إنكارهؤلاء المنكرين التعبير عنه بصيغة الفعل المضارع (يقول)((للدلالة على تكرر ذلك منهم ولاستحضار حالهم العجيبة من الاستمرار على التكذيب ))(1) .

(شهیدا):

و ما يُلحظ في تَتَبُّع مواردَ هذه اللفظة قرآنيًا أنها كثيرًا ما أسندتْ للفظ الجلالة ويشترك في ذلك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها قوله تعالى : فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء :41] ، إلا أنَّ المعنى الغالب في استعمال هذه اللفظة هو الحضور، ومنها على سبيل المثال تعالى: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا [النساء : 72]، والحضور يستلزم العلم والإعلام كما هو واضح، وقد دلَّ على ذلك قوله تعالى : مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة :117]، فقوله (ما دمتُ فهم) قرينة على أن الشهادة فيها معنى الحضور .

والمعنى الآخر لها هو العلم، وهو فرع الحضور، ومَنْ كان حاضرًا فهو عالمٌ بالشيء، ولا يشهد إلا من كان عالماً، قال تعالى : «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ

ص: 402


1- التحرير والتنوير : 12/ 211

إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ »[آل عمران : 18]، وفي تاج العروس((الشهادة خبر قاطع ))(1) .

ولما كان إنكارهم عظيماً كان لابد أنْ يُردُّ بما هو أعظم منه لإثبات صدق نبوة الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال تعالى : قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام :199].

ومما يُلحظ أنَّ شهادةَ الله عزَّ وجلَّ تكفي في مقام الرَّد على المُنكرين قال تعالى : مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء :79]. فالله هو الشهيد على إرسال الرسول للناس.

فما الداعي إلى إضافة شهادة (مَنْ عنده علم الكتاب) إلى شهادة الله سبحانه بإسلوب العطف في الآية مورد البحث، فضلاً على عدم إيراد شهادة الملائكة كما في قوله تعالى : لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا »[النساء :166] وما ذلك إلاّ لعظمة الإنكار من الذين كفروا الذي استوجب إضافة شهادة هذا الشهيد، وأنها تكشف عن ارتباطه بالله سبحانه وتعالى ومنزلته، وأنَّ شهادته أعظم من شهادة الملائكة.

ص: 403


1- تاج العروس: 8/ 252

وایضا لتلت

(الکتاب):

هذه اللفظة من الألفاظ التي تكررت كثيرًا في القرآن الكريم، وأنَّ بيان سماتِها الدَّلالية في ضوء الموارد التي وردتْ فيها من شأنه أن يُبيَّن ملامح من تعلقتْ به في الآية مورد البحث، وذلك من حيث كونه في موقع المضاف إليه المُعرَّف الذي أُضيف إلى لفظة (عِلم) وقد أُسند الى إليه الظرف (عند)، وأبرز تلك الآيات القرآنية هي(1) :

ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة :2]

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ »[البقرة: 121 ]

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ »[البقرة :213]

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [ آل عمران : 7]

ص: 404


1- ينظر : الآيات القرآنية : البقرة : 53 -159، المائدة :48، النساء :105 وغيرها

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر :32]

وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل :89]

وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ »[الأنعام: 38]

ويمكن تلخيص السمات الدلالية للفظة الكتاب الواردة ف سياقات الآيات التي وردت فيها بالجدول الآتي :

- ريب فيه + يهدي المتقين + علَّمهُ الله النبي + فيه البينات يحكم بين الناس+ فيه المحكمات والمتشابهات + يعلم تأويله الله والراسخون في العلم+ أخفى أهلُ الكتاب كثيراً منه +كتاب الإسلام مهيمن على كتب الأنبياء- يفرط + مفص-ل + يُورَّث للسابق

وبهذا المقدار فإنَّ مَن عنده علم هذا الكتاب بما تحمله هذه اللفظة من دلالات قرآنية ليس بالشخصية الاعتيادية، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى : قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا

ص: 405

يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل : 40] ، وسواء كانت (مِنْ) في جملة (علم من الكتاب) بيانية أو لابتداء الغاية أو تبعيضية فإنَّ الفعل (آتيك) بإسناده إلى (مَن عنده علمٌ من الكتاب) يكشف عنده هذا المعنى وجملة (قبل أن يرتد إليك طرفُك) قرينةٌ عليه وكأنَّ ما يحمله من علمٍ أهَّلَه لهذه القدرة الخارقة.

ويُظهِر التعبيرُ القرآنيّ أثرَ (علم الكتاب) في مَن يحمله؛ فهو يُميَّز بين (من عنده علم الكتاب) و(مَن عنده علمٌ من الكتاب) و(مَن يقرؤون الكتاب) كما هو في قوله تعالى : فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [يونس : 94] وهذا الصنف من حَمَلة علم الكتاب هو قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

الألفاظ المصاحبة للفظة (الكتاب) لفظة (يزكيهم) مقترنةً بلفظة (يعلمهم) في عددٍ من الآيات القرآنية ، ومنها قوله تعالى: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة : 129] وهي دعوة إبراهيم الخليل(عليه السلام) في نبينا (عليه الصلاة والسلام )، وقد تحققت هذه الدعوة في قوله تعالى : «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي

ص: 406

ضَلَالٍ مُبِينٍ »[آل عمران : 164] و هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الجمعة : 2].

وهو ما يشير إلى أن علم هذا الكتاب يتطلب تزكية النفس وطهارتها للتأهل إلى إدراك علومه، وكذلك أنَّ (من عنده علم الكتاب) يتصف بدرجةٍ عاليةٍ من طهارةِ النفس جعلته في مرتبة الشاهد على صدق النبوة، ولذلك فإن بعض المفسرين منعوا أن يراد به بعض الأفراد الذين لم يصلوا إلى مرتبة العصمة ((فإثبات النبوة بقول الواحد والإثنين مع كونهما غير معصومين عن الكذب لا يجوز))(1)

والذي يبدو للباحث أنَّ اختيار لفظة (الكتاب) وإضافتها إلى (علم) فيه دلالة على أنَّ مَنْ يشهد بالرسالة للنبيّ عنده علمٌ مجموع؛ اعتباراً بأصل المعنى المعجمي للفظة الكتاب في دلالته على الشيء المجموع، ويكون مؤهلاً بتلك الشهادة التي كما يدفع ما يُثار هنا وهناك من شبهات على بَعْثِ الرسول، كما أنَّ فيه تحقيقٌ للموازنة التعبيرية بين الفعل المضارع (يقولون) الدال على الحال والاستقبال وبين العلم المجموع عند من عنده هذا العلم، أي الموازنة بين الإنكار ودفعه. ويتفرع على هذه الدلالة احتمال أن يكون المراد بالاسم الموصول(مَنْ) أكثر من واحد، وهذا ينسجم مع التعبير القرآني باقتران لفظة (الكتاب)

ص: 407


1- مفاتیح الغيب : 19/ 76، ينظر : اللباب في علوم الكتاب : 11/ 326

بالفعل(يعلمهم) في ثلاثة موارد(1) ، فمن عندهم علم الكتاب هم من تعلموا علم الكتاب كلَّه على يد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو علم للحاضر والمستقبل لما في الكتاب من التبيين والتفصيل للأحداث، قال تعالى : وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس : 37] ، قال الزمخشري في معنى (تفصيل الكتاب) بأنه : ((تبيينُ ما كُتِب وفُرِض من الأحكام والشرائع))(2) . يلمح هنا أنَّ مَن عنده علم الكتاب إنما يعلم بأمورٍ مستقبلية فضلاً على الأمور الحاضرة كذلك يعرف ما تشابه من آيات الكتاب فيحكم بين الناس بالحق الأمر الذي يمنح ما سيشهد به سمة القطع. ويؤيد هذا أن التعبير بالظرف (عنده) منح الجملة سمة التجدد والحدوث فقربها من الفعلية قال الزمخشري : ((فإن قلت : بم ارتفع علم الكتاب؟ قلت : في القراءة التي وقع فيها عنده صلة يرتفع العلم بالمقدّر في الظرف، فيكون فاعلاً؛ لأنّ الظرف إذا وقع صلة أوغل في شبه الفعل لاعتماده على الموصول، فعمل عمل الفعل))(3) والتقدير : ( ومَنْ استقر عنده علم الكتاب). وهكذا فإن (مَنْ) وإن كانت مبهمة إلا أنها صارت محددة بجملة الصلة، وتحديدها يقطع بخصوصيتها على من تعلقت به، ويرجح هذا المعنى ما ذكره النحاة من عهدية جملة الصلة الذي بدوره يزيل الإبهام عن الاسم الموصول.

ص: 408


1- تنظر : الآيات القرآنية :البقرة :129، وآل عمران :164، والجمعة : 2
2- الكشاف : 2/ 335
3- المصدر السابق : 2/ 515، ينظر : البحر المحيط : 5/ 391

المطلب السادس: في معنى (ينتظر):

قال تعالى : مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [ الأحزاب :23 ].

مهاد التنزيل :

يتوجه البحث لتحديد معنى قوله تعالى : مَنْ يَنْتَظِرُ بحسب ما له علاقة بسبب النزول، إذ أشارت مجموعة من الروايات إلى أن المرادَ بالمُنتظرِ هو الإمامُ عليٌ(عليه السلام)، ومن تلك الروايات بشأن نزول الآية المبحوثة ما أورده المجلسي (ت386ه) في البحار عن الإمام علىّ قوله لليهوديَّ :(( أنّ الموت عندي بمنزلة الشربة الباردة في اليوم الشديد الحرَّ من ذي العطش الصدى، ولقد كنت عاهدت الله عزَّ وجلَّ ورسوله صلى الله عليه وآله أنا وعمَّي حمزة وأخي جعفر، وابن عمّي عبيدة على أمر وفيَنا به لله عزَّوجلَّ ولرسوله، فتقدَّمني أصحابي وتخلَّفت بعدهم لما أراد الله عزَّوجلَّ ولرسوله، فأنزل الله فينا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا حمزة وجعفر وعبيدة وأنا والله المنتظر - يا أخا اليهود - وما بدَّلت تبديلاً))(1) .

ص: 409


1- بحار الأنوار : 31/ 349، ينظر : مناقب علي بن أبي طالب : 300، والبيان في تفسير القرآن : 8/ 316، ومجمع البيان : 8/ 160، وشواهد التنزيل : 2/ 1- 2 ، والمناقب : 197 ، و تذكرة الخواص : 1/ 188، وتفسيرالصافي : 4/ 180، و ينابيع المودة : 2/ 421، ونور الثقلين : 6/ 30، والميزان: 16/ 310، والأمثل : 128/13 وغيرها

مسارات التحليل ويتضمن:

1- المعنى اللغويّ للألفاظ الآتية :

(نحبَه):

تدور هذه اللفظة حول معان عدَّة منها (الموت)؛ قال الخليل : ((النَّحْبُ : النَّذْرُ وقوله جلَّ وعزّ : فَمِنْهُم مَن قَضَى نَحْبَهُ أي قُتِلوا في سبيل الله فأدرَكُوا ما تَمَنَّوا فذلك قَضاء نَحبْهم كأنَّ المعنى : ظَفِروا بحاجتهم .))(1) ووفي مسائل نافع بن الأزرق (ت65ه) لابن عباس؛ قال : ((قال : أخبرني عن قوله تعالى : قَضَی نَخْبَهُ قال : أجله الذي قدر له قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم، أما سمعت قول لبيد بن ربيعة :

ألا تسألان المرء ماذا يحاول ....أنحب فيقضى أم ضلال وباطل))(2)

وأشار إلى معنى (النَّذر) أيضا صاحب الصحاح قال :((النَحْبُ : النَذْرُ. تقول منه : نَحَبْتُ أنْحُبُ بالضم. وسارَ فلانٌ على نَحْبٍ، إذا سار فأجهدَ السَيْرَ، كأنَّه خاطر على شيء فجدَّ.))(3) وأضاف إليه الصاحب بن و عباد معنى (الأمر العظيم) يقول :((النَّحْبُ : النَّذْرُ. والخَطُر العَظِيمُ. والمُنَحَّبُ : المُرَاهِنُ المُخَاطِرُ. والاْنتِحَابُ : صَوْتُ البكُاءِ، وهو النَّحِيْبُ والنُّحْبَةُ.

ص: 410


1- العين (ن ح ب ) : 3/ 250
2- مسائل نافع بن الأزرق : مسألة رقم (23)
3- تاج اللغة (نحب ) : 1/ 222

والمُنَاحَبَةُ : المُحاكَمَةُ. وهو أيضاً : المُشَارَّةُ في الخُصُوْمَةِ. والنَّحْبُ : العَظيمُ من الإبِلِ، عن أبي عمرو))(1) .

(ينتظر):

هذا الفعل مشتق من (ن ظ ر) بمعنى التَّمهُل والتَّرقُب، وهو يشترك مع الفعل (ينظر) بمعنى يرى ، وقد ميَّزَ أهل اللغة بين معنى الفعلين بلحاظ تعديهما؛ قال الخليل :(( نَظَرَ إليه ينظر نَظَرَاً ... وتقول : نظرت إلى كذا وكذا من نَظَر العين ونَظَر القلب))(2) وفي لسان العرب ((والنَّظَرُ الانتظار ويقال نَظَرْتُ فلاناً وانْتَظَرْتُه بمعنى واحد فإِذا قلت انْتَظَرْتُ فلم يُجاوِزْك فعلك فمعناه وقفت وتمهلت ومنه قوله تعالى انْظُرُونا نَقْتَبِسْ من نُوركم قرئ انْظُرُونا وأَنْظِرُونا بقطع الأَلف فمن قرأَ انْظُرُونا بضم الأَلف فمعناه انْتَظِرُونا ومن قرأَ أَنْظِرُونا فمعناه أَخَّرُونا وقال الزجاج قيل معنى أَنْظِرُونا انْتَظِرُونا أَيضاً ومنه قول عمرو بن كلثوم :

أَبا هِنْدٍ فلا تَعْجَلْ علينا .... وأَنْظِرْنا نُخَبَّرْكَ اليَقِينا))(3)

وعليه فإن تعدي الفعل (ينتظر) بنفسه من دونِ اعتماده على الجار في الآية المبحوثة يجعله بالمعنى الأول من دونِ أن يُراد به معنى الرؤية.

ص: 411


1- المحيط في اللغة (نحب ) : 3/ 126
2- العين (ن ظ ر ) : 8/ 154، ينظر : تهذيب اللغة (نظر ) : 14/ 264
3- لسان العرب (نظر) : 5/ 254

2- التوجيهات النحوية للألفاظ الآتية :

( ومنهم مَنْ يَنْتَظِر) :

الموصول اسمٌ مبهم مفتقرٌ في بيان معناه إلى جملة الصلة؛ ((وإنما سميت هذه موصولات لأنها نواقص تتم بما توصل به ولذلك بنيت لأنها كبعض الكلمة أو كالحرف الذي يفتقر إلى جملة))(1) قال أبو البركات الأنباري(ت577 ه) : ((إن قال قائل : لِمَ سمّي ((الذي، والتي ، ومن، وما وأيّ)) أسماء الصّلات ؟قيل : لأنَّها تفتقر إلى صلات توضحها وتبيّنها، لأنها لا تفهم معانيها بأنفسها ، ألا ترى أنك لو ذكرتها من غير صلة، لم تفهم معناها، حتى تضمّ إلى شيء بعدها، كقولك : ((الذي أبوه منطلق)) أو ((الذي انطلق أبوه)) وكذلك ((التي أخوها ذاهب)) أو ((التي ذهب أخوها)) وكذلك سائرها))(2) ، وأشار السيوطي إلى أن دلالة الصلة على عهدية الموصول أساسٌ في تعريفها له، ناسبًا هذا الرأي إلى أبي علي الفارسي(3) وهو ما اختاره الرضي، مما يجعل (مَن قام بالانتظار) معهوداً عند المخاطب بماجاءت به الصَّلة من دلالات.

ولمَّا كانت جملة الصلة فعلية فعلها مضارع يشترك في دلالته بين الحال والاستقبال، الأمر الذي يجعل الانتظار ومَن تعلَّقَ به قائمًا حال ورود النَّص

ص: 412


1- اللباب علل البناء والإعراب : 1/ 234
2- أسرار العربية : 388
3- ينظر : همع الهوامع : 1/ 186

القرآني الكاشف عنها ، وتشير أيضًا دلالة الفعلية في جملة الصلة إلى القوة والاستعداد في من تحقق منه الانتظار .

ومما يُلحظ أن جملة الصَّلة وردت معطوفة على جملة (مَنْ قضى نحبَه )(1) الأمر الذي من شأنه أن يُحدد معى الانتظار معلقًا على (مَن قضى نحبه) أو في موقع المُكمَّل لما بدأ به ، وجملة (وما بدَّلوا تبديلا ) زادت في إيضاح ملامح المُنتَظِر باعتبارها في موقع الحال من فاعل (ينتظر)(2) .

2- الدلالة القرآنية لألفاظ الآية ومصاحباتها:

قبل الحديث عن المراد ب(مَنْ ينتظر) يحسُن الوقوف على مدلول (عهد الله) من حيث أنّ التعبير القرآني وصفهم ب( رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه) فهو وصفٌ لهم، وقد صنَّفتهم الآية مورد البحث إلى صنفين بقرينة (فمنهم) .

(عهد الله) :

من مصاديق الالتزام بعهد الله الوفاء بمبايعة الرسول، قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 10] ووصف سبحانه من يَفي بوعده بأنهم (صادقون متقون )، كما في قوله تعالی : لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ

ص: 413


1- ينظر : إعراب القرآن وبيانه : 6/ 160
2- ينظر : الجدول في إعراب القرآن : 21/ 148

آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [ البقرة:170] .

وكذلك وصفه بأنهم (أولو الألباب)، قال تعالى : أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ »[ الرعد:19- 20] والعهد في الآية المبحوثة يُراد به الثبات في مواجهة الأعداء عند الزحف؛ ويدلُّ عليه قبلها قوله تعالى : وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا »[الأحزاب:10 ] وهؤلاء هم المنافقون كما في قوله تعالی : «لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ [ الحشر: 12 ] وعدم وفاء هؤلاء بعهدهم في نصرة الرسول يُرجَّح العهدية فيه وكذلك المؤمنون، ويؤيد عهدية النصرة للرسول من قبل المؤمنين قوله تعالى : لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [ الحشر: 8 ] ، وهو ينسجم مع دلالة جملة الصلة على القول بالعهدية في من تعلقت به الآية الكريمة، فنصرة الرسول ملازمة للصدق، ويكون تحَقُّقِ

ص: 414

الصَّدقِ فيهم عدم الفرار حين المواجهة في الميدان(1) ، ومن وصفتهم الآيةُ بالصَّدق كانوا على صنفين :

الأول : قضى نحبه في الالتزام بما عاهد الله عليه من الثبات وعدم الفرار. الآخر : الانتظار على خطِّ المواجهة حتى يؤذن لهم بالالتحاق بمن قضى نحبه. ويبدو أنَّ الصنفين من خواصَّ المؤمنين يدلَّ عليه (من التبعضية) في قوله (من المؤمنين رجالٌ ) وهوما أشار إليه ابن عاشور بقوله :(( أعقب الثناء على جميع المؤمنين الخلص على ثباتهم ويقينهم واستعدادهم للقاء العدوّ الكثير يومئذ وعزمهم على بذل أنفسهم ولم يقدر لهم لقاؤه كما يأتي في قوله : (وكفى الله المؤمنين القتال) [الأحزاب : 25] بالثناء على فريق منهم كانوا وَفَّوْا بما عاهدوا الله عليه وفاءً بالعمل والنية، ليحصل بالثناء عليهم بذلك ثناء على إخوانهم الذين لم يتمكنوا من لقاء العدوّ يومئذ ليعلم أن صدق أولئك يؤذن بصدق هؤلاء لأن المؤمنين يدٌ واحدة))(2)

(قضى نحبه):

لم يستعمل التعبير القرآني لفظة (نحب) في غير هذا المورد، مما يجعل ترددها بين معنى (الموت) و( النذر) أمرًا قائمًا؛ فقد تعلق الفعل (قضی) بلفظة (أجل) أو (الموت) في أكثر من مورد؛ قال تعالى : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ

ص: 415


1- ينظر : المیزان : 21/ 296
2- ينظر : التحرير والتنوير: 21/ 227

ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ [ الأنعام: 2] و: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » [ الأنعام: 60] و: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [ القصص: 29 ] و: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ »[فاطر: 36] و: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ »[ الزمر: 42 ]

إلا أنَّ التعبير بلفظة (نَحْبَهم) من دونِ (أجَلَهم) يمنح الآية خصوصية مُميَّزة من شأنها أن تُرجَّح المعنى الثاني لِلَّفظة - أي معنى (نذر) دون (موت)؛ من حيثُ أن لفظة (أجلَ) أو (موت) لاتفي بما أشارت إليه لفظة (نحب) من معنى الموت الذي يسعى إليه الإنسان باختياره ملتزمًا في ذلك عهدًا بينه وبين الله ولذلك كان عهدًا فهو معنىً مركبٌ، ويؤيد ذلك التعبير ب( مَن قضی نحبه) بأنهم (رجالٌ صدَقوا ما عاهدوا الله عليه)، ولقد ذهب ابن عطية (ت534ه) إلى أنَّ معنى لفظة (نحب) هي النذر مجردة عن معنى الموت، إلا أنَّه جعل الجانب الروائي منطلقًا أساسيًا في الوصول إليه من دونِ التعويل على

ص: 416

السياق القرآني وخصوصية الآية المبحوثة(1) ، ويرجُح لدى الباحث إمكانية الجمع بين المعنيين بالقول أنَّ اختيارهم للموت نبع من إرادةٍ مُلتزمة في الوفاء به، وأنّهم إنّما نذروا أنفسهم للموت وليس لغيره ولذلك كان عهدًا في ذمتهم وهو ما يميِز (المؤمنين) في هذه الآية .

(مَنْ ينتظر ) :

لم يتكرر الفعل (ينتظر) في القرآن الكريم إلا في مورد أخر، وهو قوله تعالى : فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ »[يونس: 102] وفيه دلالة على (الانتظار) بمعنى التَّمهُّل والتَّوقُّف، والمعنى ((هل ينتظرون إلا أياما مثل أيام الأمم الماضية))(2) وهذا المورد لا يكفي لإعطاء صورة كاملة عمَّن تعلقت به الآية مورد البحث.

إلاَّ أنَّ الفعل ( ينتظر) يستبطن فاعلاً ضميرًا مستترًا يدل على ال( منتَظِر) فيحسُن الوقوف على السياقات القرآنية التي وردت فيها هذه اللفظة لما بين اللفظتين من علاقة لفظية ونحوية، وهي قوله تعالى : هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ »[ الأنعام: 158] و: قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ »[ الأعراف: 71 ] و: وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ

ص: 417


1- ينظر : المحرر الوجيز: 4/ 378
2- مفاتيح الغيب : ج17/ ص177

رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ »[ يونس: 20] و: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ »[يونس: 102] و: وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ [هود : 122 ] و: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ [السجدة :30] ويملاحظة هذه الموارد تتميَّز لفظة (ينتظر) بعدَّة سمات دلالية من حيث :

1. إن الانتظار في هذه الموارد هو تكليفٌ شرعي جاء على لسان الأنبياء بصيغة الأمر، ومجيء اسم الفاعل (منتظرون - المنتظرين) عقب فعل الأمر فيها (انتظروا) يُقرَّب دلالته من الاستقبال من دونِ الحال؛ لكون الانتظار فيها لم يتحقق بعد، في حين أن الانتظار في الآية المبحوثة جاء بصيغة الفعل المضارع غير مسبوقٍ بالأمر وهو ما يشير إلى وقوعه وتحقُقِه في الخارج .

2. کلا طرفي الصراع (الخير والشر) يشتركان في مفهوم (الانتظار)، إلا أنَه في الآية المبحوثة جاء من طَرفٍ واحد هو طرف الخير.

3. الانتظار المراد إيجاده من جهة الأنبياء يمثل التَّوقع لتنفيذ أمر الله في المعاندين، وهو من جهة هؤلاء يمثل جانبًا من الاستهزاء بوعد الأنبياء لهم، إلا أنَّه في الآية المبحوثة كان وفاءً بعهدٍ الله في عُهدهم .

4. وما تشترك فيه هذه الآية مع الآيات سالفة الذكر هو أنَّ المنتظرین طبقةٌ عالية من المؤمنين، عبَّر عن مَن التزم به بصيغة اسم الفاعل والفعل المضارع المشتركين في دلالتهما على الحال والاستقبال.

ص: 418

5. يُلحظ أنَّ الانتظار في هذه الآيات يأتي عقب وقوع حالةٍ ما، ليُنبئ عن انتظار وقوع حالةٍ مُماثلةٍ لما تم وجوده في السابق من إرسال الملائكة أو إنزال الغضب الآلهي وغيرها وهو ما يمنح الانتظار سمة التهديد والوعيد، وفي الآيةِ المبحوثة جاء الانتظار عقب (مَن قضى نحبه) والحالة الماثلة أنّ عاقبة (مَن ينتظر) ستؤول إلى نفس هذا المصير ليكون مشمولاً بما وصفتهم به الآية بأنهم (رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه)، وهو ما فهمه أبو حيان (ت 745ه) بقوله : ((ومنهم مَن ينتظر : إذا فُسَّر قضاء النحب بالشَّهادة : كان التقدير : ومنهم مَن ينتظر الشهادة))(1) ، وكذلك ما ذكره القاضي الشوكاني بقوله : (( وُمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ" قضاء نحبه حتى يحضر أجله ... فإنهم مستمرّون على الوفاء بما عاهدوا الله عليه من الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقتال لعدوّه، ومنتظرون لقضاء حاجتهم وحصول أمنيتهم بالقتل، وإدراك فضل الشهادة ، وجملة : (وَمَا بَدَّلُوْا تَبْدِيلاً) معطوفة على صدقوا، أي ما غيروا عهدهم الذي عاهدوا الله ورسوله عليه كما غير المنافقون عهدهم، بل ثبتوا عليه ثبوتاً مستمراً))(2) ، ومنه يُفهم أنَّ جملة (وما بدلوا تبديلا) زادت سمةً جدية ل(مَنْ ينتظر)؛ من حيث أنها أنبأت عن حالهم من الصدق بما عاهدوا الله عليه ليدخلوا في زمرة الصَّادقين، ولذلك أعقبها سبحانه وتعالى بقوله : لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب

ص: 419


1- البحر المحيط : 7/ 217
2- فتح القدير : 2/ 407

: 24] فسمَّاهم بالصادقين، ومما تقدم وملاحظة سمات مَنْ تعلقت به الآية يمكن القول بأنَّ (مَن ينتظر ) طبقةٌ خاصَّة من المؤمنين كشفت الآية مورد المبحوثة عن حُسن عاقبتهم الحميدة وهم في دار الدنيا، ويؤيد ذلك تعبير القرآن بأنهم الصادقون ولقد تجلى هذا الصدق بنصرهم للرسول، فيكونوا في عداد مَن أمر القرآن باتباعهم والكون معهم كما أشار إليه قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة : 119]، وأنهم ممن عُرفوا بهذه النصرة والصدق لدلالة جملة الصلة على العهدية والشهرة.

المطلب السابع: في معنی (قَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً):

قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المجادلة : 12 -13 ].

مهادُ التّنزيل :

بحسب الروايات التي وردت في شأن نزول الآية، فإن البحث يتوجه التحديد معنى قوله تعالی : قَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً لما تفرزه هذه الجملة من إبراز وجه تعلق الآية المبحوثة بالإمام عليّ (عليه السلام).

ص: 420

ومن تلك الروايات ما أخرجه الطبري في تفسيره قال : ((عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد، في قوله : قَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً قال : نُهُوا عن مناجاة النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حتى يتصدَّقوا، فلم يناجه إلا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، قدَّم دينارًا فتصدَّق به، ثم أنزلت الرُّخصة في ذلك. حدثنا محمد بن عبيد بن محمد المحاربي، قال : ثنا المطلب بن زیاد، عن ليث، عن مجاهد، قال : قال عليّ رضي الله عنه : إن في كتاب الله عزّ وجلّ لآية ما عمل بما أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً قال : فُرِضت، ثم نُسخت ))(1) .

وفي الكشف والبيان للثعلبي ((عن عليّ بن علقمة الأنماري، عن علىّ بن أبي طالب قال : لمّا نزلت يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً دعاني رسول الله (صلى الله عليه وسلم فقال : (ما تری بذي دينار) ؟. قلت : لا يطيقونه . قال : (كم) ؟. قلت : حبّة أو شعيرة . قال : (إنك لزهيد). فنزلت أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ..ق قال علي : فِيّ خفَّف الله سبحانه عن هذه الأمّة، ولم تنزل في أحد قبلي ولن تنزل في أحد بعدي))(2)

ص: 421


1- جامع البيان : 28/ 25 ، ينظر: تفسير فرات الكوفي : 470 - ص 471، ومناقب علي بن أبي طالب: 332، وشواهد التنزيل : 2/ 231 ، ومجمع البيان : 9/ 467 ، وأسباب النزول : 308 ، و ينابيع المودة: 1/ 299 -300، ونور الثقلين : 7/ 300
2- الكشف والبيان : 9/ 262 ، ينظر: الكشاف : 4/ 481 ، ومفاتيح الغيب : 29/ 27 ، والدر المنثور: 8/ 82 ، و الجامع الأحكام القرآن : 2/ 3020

مسار التحليل ويتضمن:

1- المعنى اللغويّ للألفاظ الآتية

(نجواكم):

تدلّ هذه اللفظة على (السرّ)، والنجوى : اسم مصدر ناجاهُ، بمعنى سارّه؛ قال الأزهري في تهذيب اللغة :(( قال أبو إسحاق : مَعْنى النَّجوى في الكلام ما يَتَفَرَّدُ به الجَماعَة والاثنان سِرّاً كان أَو ظاهراً ... والنَّجْوى : اسمٌ للمصْدَر، قال : ومعنى نَجَوْتُ الشيء في اللغة : خَلَّصْته وأَلقَيتَه، ويقال : نَجَوْتُ الشيء أنجوه إذا ناجَيْتَه))(1) . ويرتبط معناها أيضًا بالاختصاص بالشيء من دونِ غيره، قال الزمخشري : ((وهو نجيُّ فلان : مناجيه دون أصحابه . وانتجيت فلاناً : اختصصته بمناجاتي وجعلته نجيَّي))(2) ، وفي القاموس المحيط ((نَجاهُ نَجْواً ونَجْوَى : سارَّهُ ونَكَهَهُ. والنَّجْوَى : السَّرُّ كالنَّجِيَّ والمُسارُّونَ اسمٌ ومَصْدَرٌ. وناجاهُ مَنَاجَاةً ونِجاءً : سارَّهُ. وانْتَجَاهُ : خَصَّهُ بمُناجاتِه .))(3) ، وقال الراغب في المفردات :((ناجَيْتُهُ. أي : سارَرْتُهُ، وأصْلُه أنْ تخلُوَ به في نَجْوَةٍ من الأرض. وقيلَ : أصْلُه من النَّجاةِ، وهو أن تُعاوِنَهُ على ما فيه خَلاصُه))(4) .

ص: 422


1- تهذيب اللغة (نجا ) : 11/ 135
2- أساس البلاغة (ن ج و): 739
3- القاموس المحيط : 4/ 333 - 334
4- مفردات ألفاظ القرآن (نجو) : 793

(أطهر):

وهو اسم تفضيل من (طَهْر طهارةً)؛ قال الخليل (ت 170 ه) : ((طهر : الطُّهْرُ : نَقيضُ الحَيض ...والتَّطَهُّر أيضا : التَّنَزُّهَ والكفُّ عن الإِثْمِ.))(1) وعن ابن فارس (ت 395ه) ((طهر) الطاء والماء والراء أصلٌ واحدٌ صحيح يدلُّ على نقاء وزوالِ دَنَسٍ. ومن ذلك الطُّهْر : خلاف الدَّنَس. والتطهُّرُ : التنزُّه عن الذمَّ وكلَّ قبيح.))(2) وبملاحظة هذا المعنى في اللفظة انتهى الراغب الأصفهاني (ت 502ه) إلى نوعين من الطهارة؛ قال :(( الطَّهَارَةُ ضَرْبَانِ : طَهَارةُ جِسْمٍ، وَطَهَارَةُ نَفْسٍ... يُقالُ : طَهَّرْتُهُ فطَهُرَ، وَتَطَهَّرَ، وَاطَّهَّرَ فهو طاهِرُ وَمُتَطَهَّرٌ))(3)

3- التوجيهات النحوية في ما يتعلق بالآية :

(إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ):

ذكرَ النحويون دلالة (إذا) على الأمر المقطوع بحصوله ؛ قال الرضي : ((والأصل في استعمال (إذا)، أن تكون الزمان من أزمنة المستقبل مختص من بينها بوقوع حدث فيه مقطوع به ))(4) وبذلك يُميِّز دلالتها عن دلالة (إنْ)

ص: 423


1- العين (ط ه ر) : 4/ 18
2- مقاییس اللغة (طهر) : 3/ 428
3- مفردات ألفاظ القرآن (طهر) : 525
4- شرح الرضي : 3/ 184

الشرطية فهي ((موضوعة لشرط مفروض وجوده في المستقبل، مع عدم قطع المتكلم، لا بوقوعه فيه، ولا بعدم وقوعه، وذلك لعدم القطع في الجزاء، لا بالوجود ولا بالعدم))(1) فالتعبير ب( إذا) دون (إنْ) في الآية يُشير إلى تَحقُّق إمكانية الصَّدَقة قبل مناجاة الرسول ويؤيد هذه المعنى التعبير عن هذا التحقق بجملة (ذلك خير لكم وأطهر).

(فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً):

تبتدئ هذه الجملة بفعل الأمر (قدَّموا) قال المبرد : ((و اعلم أن جواب الأمر والنهي ينجزم بالأمر والنهي؛ كما ينجزم جواب الجزاء بالجزاء؛ وذلك لأن جواب الأمر والنهي يرجع إلى أن يكون جزاءً صحيحاً. وذلك قولك : ائتني أكرمك، لأن المعنى : فإنك إن تأتني أكرمك))(2) وعن أبي جعفر النحاس(ت338ه) : ((جواب الأمر عند النحويين فيه معنى الشرط والمجازاة))(3) وقال ابن جني :((حذف الشرط وأقيمت أشياء مقامه دالة عليه، وتلك الأشياء الأمر والنهي والاستفهام والتمني والدعاء والعرض تقول في الأمر زرني أزرك ... لأن فيه معنى الشرط ألا ترى أن المعنى زرني فإنك إن تزرني أزرك ))(4) فجملة (قدَّموُا) جُزِمتْ لأن فيها معنى الشرط

ص: 424


1- المصدر السابق : 3/ 185
2- المقتضب : 1/ 427
3- إعراب القرآن : 3/ 6
4- اللمع في العربية : 95- 96

وجوابها (ذلك خيرٌ لكم وأطهر )، والمعنى : إذا قدَّمتم بين يدي نجواكم الصدقة فذلك خيرٌ لكم وأطهر.

وجملة (فقدموا) أيضاً هي جملة جواب شرط غير جازم لا محل لها من الإعراب لجملة (إذا ناجيتم الرسول)(1) ، ومعنى الجزاء إما أن يكون مضمونه متعقبًا لمضمون الشرط أو مقارنًا له(2) وفي إشارة إلى أن التصدق قبل المناجاة ملازم لها في الحال أو الاستتقبال.

و( قدموا) فعل أمر بدلالة الصيغة عليه؛ والظاهر أن الأمر هنا للوجوب من دونِ الندب، قال السكاكي : ((إن طلب المتصور على سبيل الاستعلاء يورث إيجاد الإتيان به على المطلوب منه، ثم إذا كان الاستعلاء ممن هو أعلى رتبة من المأمور استتبع إيجابه وجوب الفعل))(3) ، لأن صدور الأمر منه سبحانه، ويؤيده أيضاً قوله :( والله غفور رحيم) قرينة على وجوب الأمر بالصدقة(4) . قال أبو البقاء الكفوي في معنى صِيَغِ الأمر أنَّها : ((طلب الفعل على سبيل الاستعلاء سماهما النحويون أمرًا س-واء استُعمل في حقيقة الأمر أو في غيرها))(5) .

ص: 425


1- إعراب القرآن وبيانه : 10/ 27، ينظر : الإعراب المفصل لكتاب الله المرتل : 28/ 11
2- ينظر : شرح الرضي : 2/ 138
3- مفتاح العلوم : 428
4- أنوار التنزيل : 5/ 195، ينظر :التحرير والتنوير : 28/ 40
5- الكليات : القسم الأول : 259

(ذلك خيرٌلكم وأطهر):

أشرتُ في ما سبق بأنَّ هذه الجملة في موقع جواب الأمر، وما ينبغي أن يُلحظ هنا دلالة اسم الإشارة (ذلك) المُشار به إلى إمكانية التصدق قبل المناجاة، إذ أسهمت هذه الدلالة في ترجيح المعنى وتحديده؛ لما في اسم الإشارة من معنى الحضور؛ قال الفراء :((«هذا» «ذلِكَ» يصلحان في كل كلام إذا ذكر ثم اتبعته بأحدهما بالإخبار عنه. ألا ترى أنك تقول : قد قدم فلان فيقول السامع : قد بلغنا ذلك، وقد بلغنا هذا الخبر، فصلحت فيه«هذا»؛ لأنه قد قرب من جوابه، فصار كالحاضر الذي تشير إليه، وصلحت فيه ذلِكَ» الانقضائه ،))(1) ، فالتعبير باسم الإشارة نقل مدلول الجملة من الإنشائية إلى الخبرية، وهو ما يشير إلى وقوع التَّصدُّق قبل مناجاة النبيّ، وما يُفهم دلاليًا من کلام الفراء السابق أنَّ التعبير ب( ذلك) من دون (هذا يؤيد بانقضاء التَّصَدُّق حتى أمكن الإشارة إليه .

وفعل الصدقة وإن كان مُتَحققًا باعتبار أن هناك مَنْ قد تَصَدَّقَ، ولذا صحَّت الإشارة إليه، قال الزجاج : ((إن وضع الاسم العلم في أول أحواله الشيء بيَّنٌ به من سائر الأشخاص، كوضع هذا في الإشارة لشيء بعينه))(2) ، ويرجح هذا المعنى أن (ذلك) في موقع المبتدأ (المسند إليه) يلمح أن ما يُشير إليه من التصدق قبل المناجاة صار معروفاً عند المخاطب.

ص: 426


1- معاني القرآن : الفراء : 1/ 20
2- إعراب القرآن للزجاج : القسم الثالث : 899

ومعنى أن يكون اسمُ الإشارة مسنداً إليه إمّا لصحة إحضاره في ذهن السامع بوساطة الإشارة حساً وإما للقصد إلى أن السامع غبي لا يتميز الشيء عنده إلا بالحسّ أو لبيان حاله في القرب أو البعد أو التوسط .(1) ، وقد أوضح الرضي معنى (الإشارة) في أسماء الإشارة بقوله :((إن المراد بقولنا : مشار إليه : ما أشير إليه إشارة حسية أي بالجوارح والأعضاء، لاعقلية...لأن مطلق الأشارة، حقيقة في الحسية دون الذهنية، فالأصل، على هذا : ألا يشار بأسماء الإشارة إلا إلى مشاهد محسوس، قريب أو بعيد))(2) .

و( خير) أفعل تفضيل أصله أَخْيَرُ حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال(3) ، وقد تستعمل بمعنى اسم الفاعل، قال الفيومي :(( وَيَأْتِي خَيْرٌ لِلتَّفْضِيلِ فَيُقَالُ هَذَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا أيْ يَفْضُلُهُ ، وَيَكُونُ اسْمَ فَاعِلٍ لَا يُرَادُ بِهِ التَّفْضِيلُ نَحْوُ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ أَيْ هِيَ ذَاتُ خَيْرٍ وَفَضْلٍ أَيْ جَامِعَةٌ لِذَلِكَ))(4) ، وبهذا المعنى فإن التصدق قبل مناجاة الرسول خيرٌ محض، وقد يرجح معنى التفضيل علی هذا المعنى بقرينة عطف { أطهر} عليه (( وأفعل التفضيل يفيد بُعد الفاضل من المفضول وتجاوزه عنه...إذا قلت : زيدٌ أفضلَ من عمرو، فمعناه : زيدٌ متجاوزٌ في الفضل عن مرتبة عمرو))(5) .

ص: 427


1- ينظر : مفتاح العلوم : 2/ 298
2- شرح الرضي : 2/ 472
3- الإنصاف في مسائل الخلاف :مسألة رقم (101) : 2/ 708
4- المصباح المنير(خ ي ر ) : 98
5- شرح الرضي : 3/ 455

و( أطهر) معطوف على (خير) وهو اسم تفضيل أيضاً بمعنى أكمل طهراً النفس وزكاؤها(1) ، ويفهم من صيغة التفضيل أن تقديم الصدقة قبل مناجاة الرسول فيه من الخير والطهارة مايزيد على غيره من الأعمال فضلاً على المناجاة بغير صدقة، ومن ثَمَّ أفضلية من قام بهذا الفعل، ولعل في حذف (من والمفضول عليه) - التي يكثر حذفها في الخبر(2) - ما بالأفضلية المطلقة في معنى الطهارة من كل الجهات.

3- الدلالة القرآنية لألفاظ الآية :

(تناجيتم):

يُشير هذا الفعل إلى معنى حصول عملية الكلام سرًا، ولقد ميَّزَ التعبیر القرآني بين النجوى والسَّر ولم يعدّهما ذات دلالة واحدة؛ واستعمال العطف بين المفردتين دليلٌ على هذ المعنى ، قال تعالى : أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ [التوبة : 78 ] وأَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ [الزخرف: 80]، والعطف يقتضي المغايرة بين اللفظتين، وقد فرق أبو هلال العسكري بين اللفظتين بقوله : ((إن النجوى اسم للكلام الخفي الذي تناجي به صاحبك كأنك ترفعه عن غيره وذلك أن أصل الكلمة الرفعة، ومنه النجوة من الأرض، وسُمي تكليم الله تعالی موسی عليه السلام مناجاة لأنه كان كلامًا أخفاه عن

ص: 428


1- ينظر : التحرير والتنوير : 28/ 41
2- ينظر : شرح التصريح : 2/ 97

غيره، والسَّر إخفاء الشئ في النفس، ولو اختفی بستر أو وراء جدار لم یکن سرًا، ويقال : في هذا الكلام سر تشبيهًا بما يُخفي في النفس، ويقال : سري عند فلان تريد ما يخفيه في نفسه من ذلك ولا يقال : نجواي عنده، وتقول لصاحبك هذا ألقيه إليك ، تريد المعنى الذي تخفيه في نفسك، والنجوی تتناول جملة ما يتناجی به من الكلام، والسر يتناول معنى ذلك، وقد يكون السر في غير المعاني مجازًا؛ تقول : فعل هذا سرًا وقد أسرَّ الأمر، والنجوى لا تكون إلا كلامًا .))(1) وقال ابن عاشور : ((النجوى : المحادثة الخفية . والإسرار : هو الكتمان والكلام الخفي جداً ...{ وأسروا النجوى } [سورة طه : 62]، أي جعلوا نجواهم مقصودة بالكتمان وبالغوا في إخفائها))(2) وبهذا المعنى فالنجوى هي الكلام الخفي الذي يختصُّ به المتكلمُ أحدَهم، ويبدو أن التعبير القرآني استعمل اللفظة ومايُشتق منها في السَّر وماهو أوسع منه، ومن استعمال مادةِ هذه اللفظة بمعنى (القرب) قوله تعالى : وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [ مريم: 52] ويُشير القرآن الكريم إلى نوعين من المناجاة إحداهما غير مرغوبٍ فيها وهو الأكثر، فما النجوى إلا من الشيطان، قال تعالى : إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا [ المجادلة :10]، والأخرى قوله تعالى : لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ

ص: 429


1- معجم الفروق اللغوية : 533
2- التحرير والتنوير : 17/ 11

ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [ النساء: 114]، ويُلحظ هنا أنَّ الآية الكريمة عبَّرت عن النجوى بأنَّها خيرٌ باعتبارين:

الأول : أن تكون واحدة من مصاديق الآية (الأمرُ بالصدَقَةِ أو معروف أوإصلاحٌ بين النَّاس)

الآخر: أن تكون مرضات الله هي الغاية والدافع لفعل تلك المناجاة.

وما يُميَّز الآية المبحوثة أنها جمعت الأمرين، فبالاعتبار الأول حصلَ التَّصدُقُ قبل المناجاة فضلاً على فعلِ مناجاة، وبالاعتبار الثاني عبَّر عنها بأنها (خيرٌ وأطهر) فيكون عملها مُرادًا به مرضاتِ الله، وجمع سبحانه بين الاعتبارين بقوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [ المجادلة : 9].

(ذلك خير لكم وأطهر):

يستعمل التعبير القرآني اسم الإشارة (ذلك) مع أسلوب الأمر للتعبير عن ترغيب المؤمنين لذلك الأمر ولِيكونَ حافزاً لَمْن يأتي بعدهم؛ ومنه قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء :59] ووَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [الإسراء :35] وفَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ الروم: 38] .

ص: 430

وو وإيراد اسم الإشارة يراد به الإشارة إلى ماتم تحققه في الواقع المحسوس؛ ومنه قوله تعالى : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة :54] فقوله (تاب) بصيغة الماضي من دون المضارع دلالةٌ على تحقُقِ التوبة منه سبحانه في حقَّهم بعد أن قتلوا أنفسهم ولإظهارها في أوضح صورة، فالتعبير ب( ذلك) في الآية مورد البحث فيه إشارة إلى هذه السمَّة الدلالية. وما يُميَّز هذه الآية بحسب ما توصل إليه الباحث أنَّها الآية الوحيدة التي جُمع فيها بين لفظتي (خيرٌ) و(أطهر) وهو يكشف عن خصوصية الفعل الذي ندَبَت الآية (الذين آمنوا) إلى القيام به، ومن ثَمَّ خصوصية من قام بالتصدقِ قبل المناجاة، حيث لم يُحكم على أمرٍ بأنه خيرٌ ويُعطف عليه ب(أطهر) في غير هذا المورد ، واقترنت لفظة (صدقة) بالطهارة في قولة تعالى : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة : 103 ] إلاّ أنه لم تستعمل فيها صيغة أفعل التفضيل فضلاً على عدم إيراد لفظة (خير) بعدها . وقوله : (فإن لم تجدوا) يُظهر وجوب هذا الأمر من هذا التكليف وبقائه على الموسرين، جاء في الميزان أنَّ في قوله (فإن لم تجدوا...) ((فيه دلالة على رفع الوجوب عن المعدمين كما أنه قرينة على إرادة الوجوب في قوله : "فقدموا" إلخ، ووجوبه على الموسرين))(1) .

ص: 431


1- الميزان : 19/ 197، ينظر : تفسير الأمثل : 18/ 89

وفي استعمال (إن) من دون (إذا) في قوله (إن لم تجدوا) ما يلمح إلى تمكنهم من الصدقة؛ وذلك لأنها تستعمل في المعنى المقطوع به، إذ لم يُقطَع بعدم إيجادهم للصدقة، في حين أن (إن) تستعمل في الأمر المضنون بحصوله(1) ، ويُفهم منه أنَّ مَنْ وُجَّه إليهم النداء بالتكليف يُحتمل منهم القدرة على التصدق، إلا أنهم لم يقوموا بهذا العمل، واختصَّ به من أشارت إليه الآية باسم الإشارة (ذلك) بعد قيامه بفعل الصدقة قبل المناجاة، إذ لا يُعقل تکلیف جميع الذين آمنوا) بما لايطيقون؛ لكونِهِ لا ينسجم مع الاعتقاد بعدالة الله ورحمته ويكفي في ذلك تحقق القيام بالتكليف من بعضهم وله فضلُ السَّبق عليهم .

ص: 432


1- ينظر :شرح المفصل : 9/ 4

المحتويات

مسار التحليل ويتضمن :...186

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية : ...186

( أهل ) : ...186

(البيت ) : ....187

( الرَّجس) :...187

2- التوجهات النحوية للفظة المبحوثة وما تعلَّق بها: ...188 (أهل البيت) : ...188

( دلالةُ " إنَّما "): ...191

المفعول المطلق (تطهيرًا) : ...193

3- الدلالة القرآنية للفظة (أهل البيت) ومصاحباتها :...194

(أهل البيت ) : ...194

ص: 433

( الرجس) : ...197

(التطهير ) : ...199

(البيت) : ...200

المطلب الرابع : في معنى (أهل الذكر) : ...203

مهادُ التّنزيل : ...203

مسار التحليل ويتضمن : ...204

1- المعنى اللغوي للفظة (الذكر) : ...204

2- التوجيهات النحوية للألفاظ الآتية : ...205

( الذكر) : ...205

( إن كنتم ) : ...206

3- الدلالة القرآنية للفظة (الذكر) وما تعلق بهما : ...208

أولاً : إن (الذكر) أسبق وجودًا من الكتب السماوية : ...208

ثانيًا: إن (الذكر) نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومحفوظ من التحريف : ...209

رابعًا : إن هذا الذكر (حكيم) : ...210

المطلب الخامس : في معنى (صالحُ المؤمنين) : ...217

مهادُ التّنزيل : ...218

مسار التحليل ويتضمن : ...219

ص: 434

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية : ...219

(صالح) : ...219

(تظاهر) : ...219

( مولی) : ...220

2- التوجهات النحوية للفظة (صالح المؤمنين) وما تعلق بما : ...221

( صالح المؤمنين ) : ...221

الأُخرى : نوع الإضافة فيها : ...222

(صالح) : ...223

3- الدلالة القرآنية للفظة (صالحُ المؤمنين ) ومصاحباتها : ...225

( مولی ) : ...225

(الصالحون) : ...226

المطلب السادس : في معنى (خيرُ البَريَّة) : ...230

مهادُ التّنزيل : ...230

مسار التحليل ويتضمن : ...231

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية : ...231

( البَرِيَّة ) : ...231

(خَير ) : ...233

2 - التوجيهات النحوية للفظة (خير البرية) وما تعلق بها : ...234

ص: 435

دلالة (خير) أفعل التفضيل : ...234

(البريَّة ) : ...236

دلالة ضمير الفصل (هم) : ...236

دلالة اسم الإشارة (أولئك) : ...237

3- الدلالة القرآنية للفظة (خير البرية ) ومصاحباتها : ...238 2- ( رضيَ الله عنهم ورضوا عنه ) : ...242

المبحث الثاني: المركب الوصفي

المطلب الأول : في معنى (أُذُنٌ واعيةٌ ) : ...246

مِهادُ التّنزيل : ...246

مسار التحليل ويتضمن : ...247

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية : ...247

( أُذن ) : ...247

( واعية ) : ...248

2- التوجيهات النحوية للفظة (أُذن) وما تعلق بها : ...249

3- الدلالة القرآنية للفظة (أُذن) ومصاحباتها : ...251

( وعي ) : ... 254

المطلب الثاني : في معن(وَأَذَانٌ مَّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) : ...255

مِهادُ التّنزيل : ...255

ص: 436

مسار التحليل ويتضمن : ...256

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية : ...256

( الأذان ) : ...256

2- التوجيهات النحوية للفظة (أذان) وما تعلق بها : ...258

دلالة اسم المصدر : ...258

إعراب (أذان) : ...260

3- الدلالة القرآنية للفظة ال( أذان) و مصاحباتها : ...260

إحداهما : سمة التهدید : ...261

(مَّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) : ...262

والسمة الأخرى لهذا ال( أذان ) : هي المبالغة والتعظيم : ...262

(مؤذَّن ) : ...264

المطلب الثالث : في معنى (شاهد منه) : ...266

مِهادُ التّنزيل : ...266

مسار التحليل ويتضمن : ...267

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية : ...267

( شاهد ) : ...267

( يتلو ) : ...268

2- التوجيهات النحوية للفظة (شاهد) وما تعلق بها : ...268

ص: 437

3- الدلالة القرآنية للفظة (شاهد) وما تعلق بها : ...270

(مَن كان على بيَّنةٍ من ربَّه ) : ...270

( يتلو): ...273

( شاهد ) : ...274

المطلب الرابع : في معنی ( رجالٌ يعرفون ) : ...278

مهاد التنزيل : ...279

مسار التحليل ويتضمن : ...280

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية : ...280

( الأعراف ) : ...280

2- التوجيهات النحوية للفظة (رجال) وما تعلق بها : ...281

3- الدلالة القرآنية للفظة (رجال) ومصاحبها : ...283

(رجال) : ...283

( يعرفون): ...285

الفصل الثالث

الجمل في الآيات المتعلَّقة بالإمام علي عليه السلام توطئة...291

المبحث الأول: الجمل ذات الإسناد المقصود لذاته

المطلب الأول : في معنى (بلَّغ ما أُنزل إليك من ربك) : ...293

ص: 438

مهادُ التّنزيل : ...293

مسار التحليل ويتضمن : ...294

1- المعنى اللغويّ للفظة (بلّغْ ) : ...294

2- التوجيهات النحوية لألفاظ الآية وما يتعلق بها : ...295

(مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبَّكَ) : ...295

(وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهَ) : ...297

3- الدلالة القرآنية لألفاظ الآية : ...299

(بلغ ) : ...299

(أنزل): ...302

(والله يعصمك من الناس) : ...303

المطلب الثاني : في معنى (يُطْعِمُونَ الطَّعامَ على حُبَّه) : ...306

مهادُ التّنزيل : ...306

مسار التحليل ويتضمن : ...308

1- المعنى اللغويّ للألفاظ الآتية : ...308

(يُطعمون) : ...308

( أَسير) : ...308

(مسكين) : ...309

2- التوجيهات النحوية لألفاظ الآية وما يتعلق بها : ...309

ص: 439

(ويُطْعِمون الطَّعام ) : ...309

( على حُبَّه ) : ...311

2- الدلالة القرآنية الألفاظ الآية وما يتعلق بها : ...312

وللأبرار في القرآن الكريم مقامٌ عالٍ بلحاظ ما أثبته القرآنُ لهم ...313

1- اختصاصهم بالمقام العالي والمنزلة الرفيعة ...313

2- السمة الأخرى تمنَّي المؤمنين أن يكونوا معهم ويلتحقوا بركبهم ...313

(ويُطْعِمون الطَّعام ) : ...316

وما يميز الآية المبحوثة أمران : ...318

المطلب الثالث : في معنى (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) : ...321

مهاد التنزيل : ...321

مسار التحليل ويتضمن : ...322

1- المعنى اللغويّ للفظة (وُدَّا ) : ...322

2- التوجيهات النحوية لألفاظ الآية : ...323

( دلالة الاسم الموصول) : ...323

(سيجعل لهم الرحمن وُدَّا) : ...325

الدلالة القرآنية لألفاظ الآية وما يتعلق بها : ...326

إحدهما : (وعدُ الله) ...327

الآخر : (أجرا عظيما) ...328

ص: 440

المطلب الرابع : في معنى (طُوبَى لَهُمْ) : ...334

مهاد التنزيل : ...334

مسار التحليل ويتضمن : ...335

1- المعنى اللغويّ للفظة (طوبى ) : ...335

2- التوجيهات النحوية للفظة (طوبى) وما يتعلق بها : ...337

الدلالة القرآنية للفظة (طوبى) وما يتعلق بها : ...339

المبحث الثاني: الجمل ذات الإسناد غيرالمقصود لذاته المطلب الأول : في معنى (آمَنَ بِاللهِ وَالْيَومِ الآخِرِ) : ...334

مِهادُ التّنزيل : ...344

مسارات التحليل ويتضمن : ...345

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية : ...345

( سِقاية ) : ...345

( عِمارة ) : ...346

( يستوون) : ...346

2- التوجيهات النحوية للفظة (كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ) وما تعلق بها : ... 347

(كاف التشبيه ) : ...347

(دلالة الاسم الموصول مع صلته ) : ...349

(لا النافية ) : ...350

ص: 441

3- الدلالة القرآنية لألفاظ الآية : ...351

(مَنْ آمن بالله واليوم الآخر) : ...351

(لا يستوون) : ...352

المطلب الثاني : ...357

في معنى (يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) : ...357

مِهادُ التّنزيل : ...357

مسار التحليل ويتضمن : ...358

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية : ...358

( راكع ) : ...358

(الزَّكاة ) : ...359

(وليّ) : ...359

2- التوجيهات النحوية في الآية الكريمة وما تعلق بها : ...361

العطف في الاسم الموصول (والذين) : ...361

( الذين يقيمون الصلاة ) : ...362

(وهم راكعون) : ...363

3- الدلالة القرآنية للألفاظ الآتية : ...365

( وليُّكم ) : ...365

(راكع) : ...368

ص: 442

(الزكاة) : ...369

المطلب الثالث : في معنى (يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم ... سِرًّا وَعَلاَنِيَةً) : ...371

مهادُ التّنزيل : ...371

مسار التحليل ويتضمن : ...372

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية : ...372

( يُنفقُ ) : ...372

(سرًا ) : ...373

2- التوجيهات النحوية في الآية الكريمة وما تعلق بها : ...373

دلالة جملة الصلة (الذين ينفقون ) : ...373

(سرًا وعلانيةً ) : ...374

دلالة الفاء في (فلهم أجرهم) : ...374

دلالة النفي في (لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) : ...376

3- الدلالة القرآنية للألفاظ الآتية : ...377

( ينفقون أموالهم ) : ...377

( لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) : ...378

المطلب الرابع : في معنى (يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ) : ...382

مِهادُ التّنزيل : ...382

مسار التحليل ويتضمن : ...384

ص: 443

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية : ...384

(يشري) : ...384

( ابتغاء ) : ...384

(رؤوف ) : ...385

2- التوجيهات النحوية للألفاظ الآتية: ...386

(دلالة الاسم الموصول " مَنْ " مع صلته ) : ...386

(ابتغاء) : ...387

3- الدلالة القرآنية للفظة (شرى ): ...388

المطلب الخامس: فيی معنی (عِندَهُ عِلْمُ الْکِتَابِ): ...393

مِهادُ التّنزيل: ...394

مسارالتحليل ويتضمن: ...395

1- المعاني اللغوية للألفاظ الآتية: ...395

(الكتاب ) : ...395

( مُرسلا ) : ...396

(شهید) : ... 397

2- التوجيهات النحوية للألفاظ الآتية : ...398

( مُرسَلا) : ...398

(دلالة الاسم الموصول " مَنْ " مع صلته ) : ...398

ص: 444

(دلالة " عند ") : ...400

3- الدلالة القرآنية لألفاظ الآية : ...400

(مرسلا) : ...400

(شهیدا) : ...402

وأيضا لتلتل ...404

(الكتاب) : ...404

المطلب السادس : في معنى (ينتظر) : ...409

مهاد التنزيل : ...409

مسارات التحليل ويتضمن : ...410

1- المعنى اللغويّ للألفاظ الآتية : ...410

(نحبَه ) : ...410

(ينتظر ) : ...411

2- التوجيهات النحوية للألفاظ الآتية : ...412

( ومنهم مَنْ يَنْتَظِر) : ...412

2- الدلالة القرآنية لألفاظ الآية ومصاحباتها : ...413

(عهد الله) : ...413

( قضى نحبه ) : ...415

المطلب السابع : في معنى (قدَّموا بينَ يَدَي نَجْوَاكُمْ صَدَقَة) : ...420

ص: 445

مهادُ التّنزيل : ...420

مسار التحليل ويتضمن : ...422

1- المعنى اللغويّ للألفاظ الآتية : ...422

(نجواكم) : ...422

( أطهر) : ...423

3- التوجيهات النحوية في ما يتعلق بالآية : ...423

(إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ ) : ...423

(فَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) : ...424

( ذلك خيرٌ لكم وأطهر) : ...426

3- الدلالة القرآنية لألفاظ الآية : ...428

(تناجيتم ) : ...428

(ذلك خير لكم وأطهر) : ...430

المحتويات...433

ص: 446

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.