مبدأ التعايش السلمي

هویة الکتاب

اسم الكتاب: مبدأ التعايش السلمي

تأليف: الشيخ فيصل التميمي

الطبعة : الأولى

السنة : 1440 ه- - 2018م

الناشر: دار الصادقين للطباعة والنشر والتوزيع

النجف الاشرف / شارع الرسول صلی الله علیه و آله

ص: 1

اشارة

هوية الكتاب

اسم الكتاب: مبدأ التعايش السلمي

تأليف: الشيخ فيصل التميمي

الطبعة : الأولى

السنة : 1440 ه- - 2018م

الناشر: دار الصادقين للطباعة والنشر والتوزيع

النجف الاشرف / شارع الرسول صلی الله علیه و آله

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)

سورة الحجرات آية (13)

(سلامة العيش في المداراة)

الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام)

(رَأسُ الجَهْلِ مُعاداةُ النّاسِ)

الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام)

(صلاح شأن الناس التعايش والتعاشر، ملء مكيال ثلثاه فطنة، وثلث تغافل)

الإمام محمد الباقر (علیه السلام)(إن الشيعة بطبعهم يحبون التعايش بسلام مع الآخرين مهما كانت بينهم اختلافات دينية أو مذهبية أو قومية والشواهد التاريخية والحاضرة أكثر من أن تحصى)

المرجع اليعقوبي (دام ظله)

ص: 4

مقدمة الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، والحمد لله كما هو أهله، وكما يحب ويرضى، والحمد له بعد الرضى، والصلاة والسلام على خاتم رسله محمد وعلى آله المعصومين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان.

يحتل التعايش السلمي مكانة مهمة في حياة البشر فهو يخلق حالة من التوازن في حياتهم، ويُسهم بدرجة كبيرة في انتشار الاستقرار والأمان، بل ويوجد حالة من التقدم والرقي في مجالات الحياة المختلفة، ومن أشهر ما كُتِب حول السِ-لم الأهلي والأمن الاجتماعي، كتاب (الجمهورية) لأفلاطون، و (المدينة الفاضلة) للفارابي، و (تهذيب الأخلاق) لابن مسكويه، و (أدب الدين والدنيا) للماوردي، و (العقد الاجتماعي) لجان جاك روسو، وأعتقد إن موضوع هذا الكتاب يكتسب أهمية كبيرة جداً _ بالإضافة للأهمية الفكرية والثقافية الذاتية _ نظراً لما تمر به الكثير من بلدان العالم حيث الحالة المزرية من انعدام الأمن وانتشار الفوضى والتعصب، وإلغاء الآخر، ناهيك عن المد السلفي الإرهابي الذي يستشري في مختلف بقاع الأرض، والذي يتعامل مع الناس بمنطق العنف والتحجر الفكري والقتل والتهجير ونحوها من الإجراءات التعسفية الظالمة، والتي هي في الحقيقة من الافرازات المسمومة للإسلام الأموي،

وليس مقصودنا من مفهوم (التعايش السلمي) هو ما يُرادف منطق الحكومات الغربية، التي ترى أن هذا المفهوم إنما يتحقق مع الآخرين بالمداهنة والتنازل عن المبادئ أو الثوابت الإنسانية أو القيم الأخلاقية التي يؤمن بها الفرد، أو بالتنازل للأقوى وفسح المجال لفرض هيمنته وسطوته أو نحو ذلك من المفاهيم الخاطئة لهذا المصطلح، التي يسعى المستكبرون تصديرها لنا، بل نقصد به هو أن يبقى الأنسان محافظاً على قيمه وثوابته التي يؤمن بها، وفي الوقت نفسه يحترم ما عليه الآخرون من معتقدات وأفكار وآراء وقيم، والتعايش معهم بكل أدب واحترام دون أدنى إهانة او أذية أو تقييد لحرياتهم العقلائية.

ص: 5

ومن الجدير بالذكر هو إن مفهوم (التعايش السلمي) وإن كان يندرج في لائحة المفاهيم السياسية، إلا أن له مدلولات ومصاديق عديدة في جوانب الحياة الأخرى غير الجانب السياسي، وانطلاقاً من طريقة المرجع اليعقوبي الذي يتعامل مع المفاهيم والمفردات بنظرة شمولية وتوسعة تجديدية تواكب العصر وتفتح للإنسان آفاقاً واسعة في فهم المعارف والقيم الاسلامية، والعلوم العصرية الحديثة، نتوسع في دراسة وبحث هذا المفهوم وما يندرج تحته من مصاديق مختلفة، وهذا ما سننتهجه في طيات هذا الكتاب، حيث إني لا أعتقدأن مفهوم (التعايش السلمي) يقتصر على ضرورة تحقيق الأمن الطائفي والسِلم الاجتماعي بين الطوائف والأعراق المختلفة ضمن المجتمع الواحد، ونبذ التناحر الديني والمذهبي والعرقي، فحسب، بل إن مفهوم التعايش السلمي ينطبق على كل المعاني والمُثل الأخلاقية التي تحث الفرد على ضرورة تحقيق مبدأ اللاعنف مع الآخر سواء أكان الآخر من الفرقاء السياسيين -- كما يُعبر عنه اليوم -- أو الآخر الديني أو المذهبي أو العِرقي، أو كان ممن تربطنا معه أواصر نَسَبية أو اجتماعية كالأبوين والزوجة والأولاد والجار والأصدقاء وغيرهم، بل حتى مع شركائنا الآخرين في الحياة على هذه الأرض من الحيوانات والحشرات والنباتات.

فكل هؤلاء يجب على الإنسان أن يتعامل معهم بمبدأ التسامح والرحمة، وبهذا يُحقق الإنسان مبدأ التعايش السلمي الذي يريده الإسلام الكريم منا، بعيداً عن روح التشاجر والتناحر والتقاتل ونحوها من معاني العنف التي نهى الإسلام عنها في تعاليمه وتشريعاته السمحاء.

فعلى سبيل المثال إن الزوج الذي يُنغص على زوجته حياتها ويسلبها حقوقها أو يؤذيها نفسياً أو جسدياً أو اقتصادياً، يكون في نظر الإسلام (زوجاً ناشزاً) (1) لأنه حَرَمَ زوجته من حقوقها وخرج عن حدود الله تعالى، وسلب من زوجته المسكينة حق التعايش الزوجي الآمن وهو (السِلم الاجتماعي) في حين إن الإسلام يريد من الزوج عكس ذلك تماماً، حيث يريد منه توفير الطمأنينة والسعادة الممكنة لزوجته وأن يعاملها

ص: 6


1- قال تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) . سورة النساء (128) .

بالحُسنى، وفق ضوابط وقيود محددة في الشرع الإسلامي، وعلى هذا الأساس وردت آيات قرآنية مباركة وروايات شريفة تحدد نمط الحقوق والواجبات الملقاة على عاتق كل من الزوج والزوجة، وسوف نتطرق لهذا الموضوع إن شاء الله تعالى في محله من هذا الكتاب، وهذا مصداق واحد ومثال واحد فقط من الحياة الزوجية التي تربط الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل، والذي حث المشرع الإسلامي على ضرورة توفر السِلم الاجتماعي والتعايش السلمي فيما بينهما.

وهكذا الحال مع سائر أفراد المجتمع الذين ينبغي أن يتعايشوا سلمياً مع بعضهم البعض، وأن لا يتعاملوا فيما بينهم بما يسلبهم الأمان والاستقرار والطمأنينة، ويجلب لهم التعاسة والشقاء، لأن الحقد والغل والكراهية وبُغض الآخرين بلا حق، تنغص عليهم عيشهم، وتسلب منهم الحياة الرغيدة، لذا نرى إن الله سبحانه تكفل لأهل الجنة بالسعادة الأبدية والحقيقية بعدما نزع من صدورهم هذه الأخلاق الفاسدة، حيث قال جل ذكره:(وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). (1)

وقد استعرض صاحب تفسير الأمثل هذه الحقيقة القرآنية قائلاً: (إنّ من أكبر عوامل الشقاء التي يعاني منها الناس في هذه الحياة، ومصدر الكثير من الصراعات الإجتماعية الواسعة التي تؤدي - مضافاً إلى الخسائر الفادحة في المال والنفس- إلى زعزعة الاستقرار الروحي، هو الحسد والحقد. فنحن نعرف الكثير ممن لا ينقصهم شيء في الحياة، ولكنّهم يعانون من الحسد والحقد للآخرين، وهو عذابهم الوحيد الذي يعكر صفو حياتهم ويضيق عليهم رحبها، ويترك معيشة هؤلاء المرفهين ساحة تجوال عساكر الحزن والغم، وتدفعهم إلى سلوكيات مرهقة وغير منطقية، إنّ أهل الجنّة معافون من هذه الشقاوات والمحن بالكلية، لأنّهم لا يتصفون بهذه الصفات القبيحة، فلا حسد ولا حقد في قلوبهم، ولهذا لا يتعرضون لعواقبها النكرة. إنّهم يعيشون معاً في منتهى التواد والتحابب والصفاء والسكينة، إنّهم راضون عن وضعهم الذي هم فيه، حتى الذين يعيشون في مراتب أدنى من الجنّة لا يحسدون مَن فوقهم أبداً، ولهذا تنحل أعظم مشكلة تعترض

ص: 7


1- الاعراف (43) .

طريق التعايش السلمي، ولقد نقل بعض المفسّرين حديثاً في المقام عن السدّي قال: ((إنّ أهل الجنّة إذا سيقوا إلى الجنّة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فيشربون من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غلّ، فهو الشراب الطهور، واغتسلوا من الأُخرى فجرت عليهم نضرة النعيم، فلن يشعثوا ولن يشحبوا بعدها أبداً)) إن هذا الحديث وإن لم ينته سنده إلى النّبي (صلی الله علیه و آله) والأئمّة (علیهم السلام) وإنّما رواه أحد المفسّرين وهو ((السّدي)) ولكنّه لا يبعد أن يكون قد روي عن النّبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) في الأصل، لأنّ هذه الأُمور ليست من المسائل والقضايا التي يستطيع السدّي وأمثاله الاطلاع عليها، وعلى كلٍ فهي إشارة لطيفة إلى الحقيقة التالية، وهي أنّ أهل الجنّة قد تطهروا باطناً وظاهراً، جسماً وروحاً، فهم يتحلون بالجمال الجسماني، والجمال الروحاني معاً، ولهذا فهم لا يعانون مطلقاً من الحسد والحقد، فما أسعد من يبني لنفسه في هذه الدنيا جنّة أُخرى، بتطهير صدره من الحقد والحسد ليتخلّص من افرازاتهما المؤلمة). (1)

وإن مبدأ التعايش السلمي في المدرسة الإسلامية يستند في وجوده على أرضية مشتركة بين أبناء المجتمع على اختلاف معتقداتهم وأعراقهم ولغاتهم، وقد أكدت الروايات الشريفة لأهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) على هذا الجانب، فقد روي عن الإمام الباقر (علیه السلام) قوله: (صلاح شأن الناس التعايش) ويذكر (علیه السلام) أيضاً أن شخصاً دعا بحضور الإمام السجاد (علیه السلام) قائلاً: اللهم أغنني عن خلقك، فلما سمع الإمام (علیه السلام) كلامه رد عليهقائلاً: (ليس هكذا الناس بالناس، ولكن قل: اللهم أغنني عن شرار خلقك) ، كما روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في هذا الصدد قوله: (رأس العقل بعد الدين التودد إلى الناس، واصطناع الخير إلى كل أحد بر أو فاجر).

لذا فإننا نرى إن الإسلام العزيز يحاول بشتى السُبل أن ينشر روح المحبة والألفة بين الناس، من خلال تشريعاته وتعاليمه السمحاء، حتى في أبسط المسائل التي تتعلق بالتعاملات الاجتماعية، كالمخاطبات التي تحصل بين الأفراد من إلقاء التحية والسلام، فإن عبارات التحية لها تأثير فعال في توحيد القلوب، وشعار الإسلام هو في تحية المسلم التي يلقيها إلى الناس حيث يقول: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) التي تنطلق من هدفية الدين الإسلامي في نشر السلام والأمان والرحمة بين البشر، وقد أوجب الله تعالى

ص: 8


1- تفسير الأمثل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي،ج5، ص47-48.

الإجابة على هذه التحية وحرّم عدم الرد عليها، حتى وإن كان المُسلِم في حال الصلاة، بل وحبذ الشرع الإسلامي أن يرد على التحية بأحسن منها، قال تعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًاً). (1)

وذلك لأجل تعزيز روح التواصل وتقوية أواصر المحبة والعلقة الاجتماعية بين الناس، ناهيك عن التعاليم والتشريعات الإسلامية الأخرى التي ترتبط بالتعاملات والعلاقات الإنسانية كمعاملات الزواج والطلاق والبيع والشراء والإجارة وغير ذلك.

كما يجدر الإشارة أيضاً إلى (أن الإنسان محتاج إلى أبناء جلدته في المشاعر والعواطف والحب والبغض والفرح والغضب والتعليم والتعلم والأنس والتواصل وكل هذه الأمور تحتاج إلى أطراف يتجاذبونها ويتبادلون أخذها وعطائها فهذا يحب ذاك وذاك يعطف على الأخر وهكذا. إذن لا مفر للإنسان عن التعاون والتشارك حتى يتم النظام وتسير الأمور بيسر وسهولة وببركة هذه الغرائز التي أودعها الله تعالى في البشر شيدت المدن وازهرت الحضارات وبلغ الإنسان أرقى مراتب الكمال، هذا من جانب ومن جانب آخر إن التماسك بين أبناء المجتمع يعطي قوة في النفس وقوة في العمل فإن الذي يعرف أن له معاوناً تتقوى نفسه وتشتد عزيمته وتنفذ إرادته، ثم تقوى عضلاته ويفور دمه، وبذلك يكون أقرب إلى النصر ونجاح الامر، ففي القرآن الحكيم أن نبي الله موسى (علیه السلام) طلب من الله تعالى مشاركة أخيه النبي هارون (علیه السلام) في الرسالة معه بقوله: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) (2) وهذا الأمر غير مقتصر على الإنسان وحده بل يشمل غير الإنسان من المخلوقات الأخرى أيضاً فالضباء مثلاً تدرك هذه الحقيقة فتجتمع وتصير قطعاناً أثر بحثهاعن الغذاء، والطيور التي نراها تحلق في السماء فهي لا تطير إلا أسراباً ولا تعيش إلا مجتمعة وكذا الحال بالنسبة للنحل والنمل فهي تُهيء شؤونها وتدير أمورها بالاجتماع). (3)

وعند مطالعة ما يخص مبدأ التعايش السلمي، هو مسألتان مهمتان:

ص: 9


1- النساء (86) .
2- طه (29 – 32) .
3- ثقافة التعايش= حياة سعيدة + تقدم، الشيخ ناصر الأسدي، ص41.

الأولى: إن مقصودنا من التعايش السلمي مع الآخرين حتى الذين نختلف معهم، لا نقصد به اندماج الهوية وذوبان الخصائص الذاتية التي نمتلكها ونتميز بها عن الآخرين، أو إلغاء ما نعتقده من قيم ومبادئ، لأجل مجاملة مَن نختلف معهم، فإن هذا الأمر مرفوض تماماً، إنما نقصد بالتعايش السلمي، هو أن يبقى كل منا على ما يعتقد به من دين أو فكره أو رأي أو غير ذلك، ولكن بشرط توفر الاحترام المتبادل، والسِلم المتبادل، وعدم الركون للعنف والتكفير والتعصب بسبب هذا الاختلاف.

الثانية: إن مسألة الانتماء إلى جهة معينة أمر لا ضير فيه على الإطلاق، بل هو أمر مفروض بطبيعة الحال، حتى بالنسبة لمن يدعي عدم الركون إلى جهة ما، فإنه في الواقع قد إلتجا إلى جهة (اللاجهة) ، لكن الأمر المرفوض في المقام هو التعصب لذلك الإنتماء، وهنا تكمن المشكلة.

كما أن الحديث عن موضوع (التعايش السلمي) يُعد حديثاً استراتيجياً لاسيما في ظل الظروف الراهنة، حيث تعصف بالبلدان حالة من التوتر الطائفي والسياسي والاجتماعي والشد والجذب بين الكثير من الاطراف المختلفة والمتنازعة, ويقع بلدنا (العراق) العزيز في مقدمة هذه البلدان الذي يُراد له أن تنعدم فيه نعمة التعايش السلمي ويحل محها لغة التحارب والاقتتال الطائفي والعِرقي، بل كل أنواع التفرّق والاقتتال التي يجمعها عنوان واحد ألا وهو (العنف والإرهاب) الذي تُصدّره دول الاستكبار لشعوب العالم من خلال مخططاتها الشيطانية.

ففي العراق _ على سبيل المثال _ بعدما كان النظام الديكتاتوري لحزب البعث الصدامي العفلقي يضرب بأطنابه على الشعب ويكبس على أنفاسهم ويسلبهم حق العيش الآمن ويمنعهم من أي لون من ألوان السلم الاجتماعي, جاءت الولايات المتحدة الأمريكية بترسانتها المسلحة لتحتل العراق سنة 2003م، لكي تبدأ عصراً جديداً من الظلم والاضطهاد على هذا الشعب الأبي، ولكن هذه المرة باسم آخر وشكل آخر ألا وهو النظام الديمقراطي وحرية التعبير، المفتوحة على مصراعيها وحرية التعددية الحزبية والتمثيل السياسي في السلطة ولكن بمقاسات ومخططات أمريكية معدة سلفاً لهذه المرحلة.

وللأسف خاض الكثير من رواد السياسة غمار هذه المرحلة بنوايا وأهداف دنيوية، لأجل نيل المكاسب الشخصية وقضم أكبر نألللهاقهاخ بثخهالااالعههغل غهعغهلهلهلهععهىاااة قدر ممكن من كعكة الغنائم، تاركين وراء

ص: 10

ظهورهم المصالح العامة، ويغضونالطرف عن المظالم التي تحل بالشعب العراقي، بل إن بعض الساسة من خدمة الاستكبار العالمي راحوا يُمعِنون بظلم الشعب من خلال سرقة ثرواتهم وتأجيج الفتن الطائفية وخيانة الوطن بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، لذا فإن الحديث عن موضوع التعايش السلمي يُعد كما ذكرنا حاجة ملحة وعلاجاً فعالاً لحل الأزمات والصراعات التي نشبت وتنشب بين الكتل والجماعات الدينية والسياسية في العراق.

ويُعد المرجع الفذ الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) من رواد حركة الإصلاح والتعايش السلمي حيث طرح العديد من المشاريع والبرامج الحيوية لمعالجة هذه الأزمة الخطيرة، التي يمر بها الشعب العراقي. ولعل من أبرزها هو مشروعه الإصلاحي والوطني الذي باشر به بشكل عملي في مدينة البصرة، لكي تكون هذه المدينة رائدة في الإصلاح، ونموذجاً يُحتذى بها نحو تحقيق مبدأ التعايش السلمي، والتعاون المثمر الذي يبني الوطن ويعمره، وسوف نسلط الضوء على هذا المشروع وغيره من مشاريع سماحته في هذا المضمار في طيات هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

وعندما نطالع أعمال ونشاطات هكذا مرجع رسالي وفذ وبهذه الهمة العالية وهذه الغيرة على الدين والشعب والوطن، يحدونا الأمل للتغيير والتقدم والإصلاح، لكن المؤسف بالأمر هو إن مَن بيدهم القرار سواء أكانوا في المؤسسة الدينية أو المؤسسة السياسية يتعمدون غض الطرف عن هذه الحلول والمشاريع التي يطرحها سماحته لإصلاح الشأن العراقي، بل إن بعضهم يتعمد بكل جهده لإفشال هذه المشاريع الرائدة والبناءة!

لكن الوعد الإلهي الصادق هو حليف من ينصر الحق ويعمل لأجل نصرة المظلومين، ويرفع لواء الإصلاح، وهذا ما أقره الله تعالى في كتابه العزيز، حيث قال جل ذكره: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (1) ، وقال جل ذكره أيضاً: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (2).

ص: 11


1- محمد (7) .
2- غافر (51) .

ولا يفوتني قبل ختام هذه المقدمة أن أتقدم بالشكر الجزيل والثناء الجميل للأخ العزيز جناب الشيخ حسن الغزي (أدام الله توفيقه) الذي ساعدني بتنقيح هذا الكتاب ومراجعته، وأسأل من الله اللطيف الخبير أن يأخذ بأيدينا لنصرة دينه العظيم، ونصرة كل من يًسهم في نشر السلام والسعادة للناس، وأن نوفق لخدمة عباده الصالحين، إنه نعم المولى ونعم النصير.فيصل التميمي

كربلاء المقدسة

غرة شهر ذي القعدة الحرام 1438ه-

ص: 12

تعريف مصطلح (التعايش السلمي) وبيان تأريخ نشوئه

قبل أن نلج في مضامين وتفصيلات موضوع (مبدأ التعايش السلمي) ينبغي في البدء أن نشرع ببيان تعريفه وتوضيح المُراد منه وأن نذكر زمن نشوئه، وإليك ذلك وفق ما يأتي:

تعريف مصطلح التعايش السلمي لغة: هو تعبير مركب واضح المعنى، إذ التعايش يعني الاشتراك في العيش وبهذا يكون التعايش السلمي بمعنى العيش المشترك بين شخصين فأكثر على أساس الود والحب والوئام.

أما تعريفه اصطلاحاً وفق المنطق السياسي الذي نشأ فيه: فهو مفهوم يستعمل ضمن مفاهيم العلاقات الدولية دعا إليه (تروتسكي) (1) ، وهو أول من استعمل هذا المصطلح، وذلك سنة 1917م. ومن بعده أطلقه الساسة السوفييت في خطاباتهم الأيديولوجية، ومن أبرزهم ستالين وخروتشوف في فترة الحرب الباردة.

ومعناه : انتهاج سياسة تقوم على مبدأ قبول فكرة تعدد المذاهب الإيديولوجية والتفاهم بين المعسكرين في القضايا الدولية - ونعنى بالمعسكرين هنا المعسكر

ص: 13


1- ليون تروتسكي: وهو ماركسي بارز وأحد زعماء ثورة أكتوبر في روسيا عام 1917 إضافة إلى الحركة الشيوعية العالمية في النصف الأول للقرن الماضي ومؤسس المذهب التروتسكي الشيوعي بصفته أحد فصائل الشيوعية الذي يدعو إلى الثورة العالمية الدائمة، وتسلم بعدها مفوضية الحرب، وهو أيضاً مؤسس الجيش الأحمر، وقوي من خلالها كيان هذا الجيش، كما أنه عضو المكتب السياسي في الحزب البلشفي إبان حكم لينين، كان له الأثر الفعال في القضاء على أعداء الثورة، عينه لينين مفوض العلاقات الخارجية عندما أسس حكومته البلشفية الأولى عام 1917، حيث يعتبره أفضل العقول في الحزب الشيوعي وأقدر من لينين في بعض الأمور، فعملا جيداً مع بعضهما، وأعتقد أغلب الشعب الروسي أن تروتسكي سوف يخلف لينين في رئاسة الحزب ولكن ستالين كان ذا سلطة قوية أيضاً فانتصر في النهاية هازماً تروتسكي.

الغربي والمعسكر الشرقي - كما تدعو الأديان كافة إلى التعايش السلمي فيما بينها، وتشجيع لغة الحوار والتفاهم والتعاون بين الأمم المختلفة. (1)

لذا دعا ساسة المعسكر الشرقي إلى نبذ الحرب كوسيلة لتسوية الخلافات الدولية واعتماد المفاوضات والتفاهم المتبادل واحترام السيادة للدول الأخرى والإقرار بالتكافؤ والمنفعة المتبادلة كأساس في العلاقات الدولية، وهذا التعبير السياسي ورد أول مرة في أدبيات الشيوعيين الروس بعد وصولهم إلى سدة الحكم عندما وجدوا أن التحول إلى الاشتراكية لا يتم في جميع البلدان في وقت واحد بل يتطلب وقتاً طويلاً يسوده التعايش الطويل الأمد بين الأنظمة المتباينة وينتهي بانتصار الاشتراكية سلمياً لمزاياها في التنظيم الاجتماعيولتقدم القوى الإنتاجية فيها، وهذا يعني أن دعاة الاشتراكية هم الذين بادروا إلى التنظير للفكرة، اعتقاداً منهم بأن الثورة المسلحة والحرب الداخلية ليست هي الطريقة الوحيدة لوصول الشيوعيين والماركسيين إلى الحكم، بل هناك طرق أخرى بإمكانها تسهيل هذا الأمر. ولهذا كان التعايش السلمي بين الكتلتين دعامة من دعائم السياسة الخارجية للإتحاد السوفياتي السابق خاصة في عهد خروتشوف. (2)

أما الساسة الغربيون فكانوا يقصدون بمصطلح التعايش السلمي هو منطق؛ (عِش ودع غيرك يعيش أيضاً) ولو أنهم كانوا يحاولون الإنقضاض على النظم الإشتراكية بوسائل خفية ومتنوعة، إلى أن تمّ لهم ما أرادوا بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي، والتعايش السلمي بهذا المعنى هو الغاية التي ينشدها القانون الدولي العام في المبادئ الأساسية التي قام عليها، والتي هي:

مبدأ تحريم استخدام القوة أو التهديد بها.

مبدأ حل النزاعات الدولية بالطرق السلمية.

مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.

مبدأ احترام المساواة في السيادة بين الدول.

مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها.

مبدأ التعاون بين الدول.

ص: 14


1- ينظر موسوعة ويكبيديا الحرة الإلكترونية.
2- ينظر نصوص قرآنية في التسامح والتعايش السلمي، د. صباح البرزنجي.

مبدأ مراعاة حسن النية.

فمن شأن تطبيق هذه المبادئ على الصعيد الدولي أن يعيش المجتمع البشري في سلام ووئام بعيداً عن ويلات الحروب ودمارها، وما قامت المنظمات الدولية والإنسانية إلاّ لتحقيق هذا الغرض النبيل الذي يلتقي في جوهره مع غاية الإسلام ودعوته التي تهدف إلى التعاون في البر والتقوى لا في الإثم والعدوان. (1)

هذا هو تعريف مبدأ التعايش السلمي وفق المنطق السياسي للأنظمة العالمية في المعسكرين الشرقي والغربي، ولكن لا مانع من التوسع في استخدام هذا المصطلح في مجال العلاقات الإنسانية الأخرى. علماً إن الشرائع السماوية كافة قد دعت إلى هذا المبدأ وأصلت لوجوده بين البشر.

لذا فإننا في مبحث هذا الكتاب لن نلتزم فقط بالتعريف والمنطلقات التي حددها السياسيون لمبدأ التعايش السلمي، والتي ذكرناها آنفاً. بل سنتوسع في هذا الموضوع بشكل كبير جداً لنضم كل المعاني والموضوعات التي لها صلة به سواء من قريب أو من بعيد، لاسيما وإن من الأهداف الأساسية لخلافة الإنسان على الأرضووجود القانون الإلهي هو هذا المبدأ المبارك الذي يضمن السلامة والأمن والاستقرار لجميع البشر بل لجميع الكائنات الأخرى، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (2). ووفق هذا المنطق القرآني يكون عنصر السلام والأمان من العناصر الأساسية التي أكدت على ضرورة وجوده ملائكة الرحمن في خطابها الاستفهامي مع ربها الحكيم، وهو ما ينبغي توفره لكي يتمكن الإنسان وسائر المخلوقات من العيش بسلام على هذه المعمورة.

ص: 15


1- يُنظر نصوص قرآنية في التسامح والتعايش السلمي، د. صباح البرزنجي.
2- البقرة (30) .

أنواع التعايش السِلمي

انطلاقاً مما ذكرناه سابقاً في تعريفنا لمبدأ التعايش السلمي فإننا سوف نتوسع بذكر مصاديق هذا المبدأ وفق النظرة الايدلوجية الإسلامية التي تشمل في منظومتها الفكرية والقيمية العديد من المعارف الإلهية، التي تفوق بطبيعة الحال الإدراكات والتصورات المحدودة للإنسان، لذا سنذكر عدة أنواع تندرج تحت هذا المفهوم، انطلاقاً من هذه الرؤية الإلهية الكونية، وهذه الأنواع التي تندرج تحت مظلة مبدأ التعايش السلمي، يخص كل منها جانباً معيناً من حياة الإنسان، وتحل له جملة من المشكلات التي تكتنفه.

ولكن قبل أن نستعرضها أود الإشارة إلى أن أول مُشرّع لمبدأ التعايش السلمي هو الله سبحانه وتعالى، الذي لم يكتف بتشريعه فحسب بل ومارس ذلك مع الخلق (لو صح التعبير) وجعله سُنة لعباده، وحثهم على ممارسته فيما بينهم. ومن مصاديق ذلك : عفوه العميم للعاصين وغفرانه المتكرر لذنوب المذنبين ومجازاة المسيئين بالإحسان، بل يبدل سيئاتهم حسنات ويؤخر العقوبة ويقبل التوبة، ويضاعف الثواب... ونحوها من العطايا الإلهية الجزيلة التي يصعب حصرها. ونكتفي بذكر شاهد تأريخي واحد يُبين عظيم ما عليه الرب المتعال جل ذكره من حُسن الصنيع مع خلقه على الرغم من عدم استحقاقهم لثوابه ونعمه. يروى أن النبي إبراهيم الخليل (علیه السلام) كان من طبعه أنه لا يأكل الطعام وحده من دون وجود ضيف معه، و في يوم من الأيام التي لا يأتيه ضيف كان يسير في الأرض بحثاً عن ضيف ليأكل معه الطعام فرأى شخصاً فدعاه لتناول الطعام وعندماجلسا للغداء قال النبي إبراهيم (علیه السلام) : بسم الله، ولكن ذلك الشخص بقي ساكتاً ولم يقل شيئاً، فقال النبي إبراهيم (علیه السلام)) :أنت لم تذكر الله). قال: من هو الله؟ أنا لا أعرفه.فقال له النبي إبراهيم (علیه السلام) : (إذن قم و أذهب من هنا فأنا لا آكل مع شخص ينكر الله). فانصرف ذلك الشخص و بقي النبي إبراهيم (علیه السلام) وحيداً فأوحي إليه (يا إبراهيم إننا أطعمنا هذا الشخص لسنوات ولم نعترض عليه بشيء ولكن عندما أصبح رزقه بيدك اليوم فقد منعته وطردته). فقام النبي إبراهيم (علیه السلام) من مكانه فوراً وراء ذلك الشخص و رجاه أن يرجع ولكن هذا الرجل الكافر أبى ذلك و بعد الإصرار

ص: 16

الشديد من النبي إبراهيم (علیه السلام) قال الرجل بأني أقبل دعوتك ولكن بشرط واحد وهو أن تبين لي السبب الذي طردتني لأجله أولاً و بعد ذلك جئت تدعوني مرة أخرى و بهذا الإصرار الشديد تطلب مني الرجوع؟ فبين له النبي إبراهيم (علیه السلام) الحقيقة وهي أن الله تعالى عاتبني على طردك. فقال الرجل: إذن ما أحمقني أنا إذ تركت مثل هذا الإله الرحيم، فعرفّني يا إبراهيم بربي. و بعد ذلك أصبح مؤمناً موحداً.

والآن نستعرض أنواع التعايش السلمي وفق المنظور الإسلامي:

التعايش السلمي مع الله سبحانه ومع أوليائه: ونقصد به هو أن يكون الإنسان مسالماً مع ربه جلّ وعلا، بمعنى أن لا يعلن الحرب على خالقه ومنعمه بارتكاب الذنوب والمعاصي، ولا يتعدى حدود ما أمر به من تكاليف وواجبات لكي لا يصدق عليه عنوان المحارب لله سبحانه، وكما هو بديهي فإن الذي يحارب الله تعالى يكون هو الخاسر في حربه معه، (فمن صارع الحق صرعه). وكذلك على الإنسان أن يكون مسالماً مع أولياء الله فلا يؤذيهم بارتكاب المخالفات الشرعية، وبانتهاك حرمة الشريعة المقدسة، أو بمعاداة من يواليهم أو موالاة من يعاديهم، كما جاء في الزيارة الشريفة : (إنِّي سلمٌ لمن سالمكُمْ وحربٌ لمن حاربكم ووليٌّ لمن والاكم وعدوٌّ لمن عاداكم) (1) وتوجد عدة آيات مباركة وروايات شريفة تؤكد هذا المعنى، نذكر منها على سبيل المثال:

قال تعالى: (..وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). (2)

وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا). (3)

وقال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا). (4)

ص: 17


1- زيارة عاشوراء المباركة.
2- التوبة (61) .
3- الأحزاب (57) .
4- الأحزاب (58) .

وقال تعالى: (ليأذن بحرب مني من آذى عبدي المؤمن وليأمن غضبي من أكرم عبدي المؤمن). (1)

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (قال الله تبارك وتعالى: من أهان لي وليا فقد أرصد لمحاربتي). (2)

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (من آذى مؤمناً فقد آذاني). (3)

التعايش السلمي الديني والمذهبي: ونقصد به ضرورة التعايش السلمي بين الطوائف الدينية المختلفة من مسلمين ونصارى ويهود وصابئة وبوذيين وهندوس وغيرهم من أبناء الديانات، أما التعايش السلمي المذهبي فنقصد به الذي ينبغي أن يحصل بين أبناء الدين الواحد، كأبناء المذهب الشيعي مع إخوانهم من أبناء العامة أو سائر المذاهب الإسلامية الأخرى، أو ما بين مذاهب النصارى كالبروتستانت والكاثوليك والأرثدوكس والأرمن وغيرهم، وهكذا بقية الطوائف المذهبية للأديان المختلفة.

التعايش السلمي العشائري (السِلم العشائري) : ونقصد به التعايش السلمي بين أبناء العشائر المختلفة، وكذلك ضرورة التعامل السِلمي بين أفراد العشيرة الواحدة، ضمن علاقة طيبة تسودها المحبة والتعاون والألفة، بعيداً عن روح العصبية القبلية، وبعيداً عن روح التعالي والتكبر والتفاخر الزائف، ونحوها من الأخلاقيات الذميمة التي ابتليت بها بعض الواجهات العشائرية، فأصبحت داءاً وبيلاً ينخر في جسدها.

التعايش السلمي الأسري (السِلم الأسري) : ونقصد به التعايش السلمي بين أفراد الأسرة الواحدة، كالأبوين مع أولادهما وبالعكس أو الزوج مع زوجته وبالعكس، وضرورة تعامل كل منهم مع بقية أفراد الأسرة برحمة وعطف وحنان ووفق ما جاء به الإسلام الكريم من تعاليم وإرشادات تخص الجانب الأسري. وقد تطرق المرجع اليعقوبي لهذا الجانب عند تسليطه الضوء على قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)، (..ما أكثر مصاديق هذا الوجوب المؤكد اليوم كتوفير البيئة الصالحة لهم في البيت بدءاً من اختيار الزوجة المؤمنة العفيفة

ص: 18


1- الكافي، الشيخ الكليني.
2- ميزان الحكمة، الشيخ محمد الري شهري، باب الإيذاء.
3- المصدر نفسه.

المتفقهة، وأن يكون لهم أسوة حسنة لأن رب الأسرة يكون المثل الأعلى لهم، وأن يجنبهم أصدقاء السوء، وأن يعلمهم ويرشدهم إلى كل ما فيه صلاح الدنيا والآخرة، وأن لا يهمل أمر متابعتهم وتفقد شؤونهم بعذر الانشغال بالكسب أو أي أمر آخر، وأن ينبههم إلى أوقات الصلاة برفع الأذان في البيت – وقد ورد فيه عن الإمام الرضا (علیه السلام) : أنه مما يوجب كثرة الولد والشفاء من الأمراض- ويصلي بهم جماعة إن استطاع، وأن يختار لهم أحمد السبل وأرشدها في دراستهم وكسبهموأوضاعهم الاجتماعية ونحو ذلك. وهذه المسؤولية ممتدة طول الزمان لأن الإنسان لا يخلو من المسؤولية عن الاهل فهو إما أن يكون ابناً أو أباً أو زوجاً أو أخاً، وكذلك بالنسبة للمرأة، أما مسؤوليته عن أسرته الخاصة فلا بد من الالتفات إليها ورعايتها من قبل الزواج باختيار المرأة الصالحة المؤهلة لحفظ بيته وماله وتربية أولاده). (1)

التعايش السلمي السياسي (السِلم السياسي) : ونقصد به ضرورة التعايش السلمي بين الكُتل السياسية المختلفة، والتي تعمل ضمن إطار مشترك في الدولة الواحدة، بما يخدم مصالح البلد والشعب، بعيداً عن التناحر والتحارب السياسي وتراشق التُهم والتسقيط الإعلامي، والتحزب الفئوي المبني على المصالح وجني المكاسب الدنيوية، لأن هذه الحالة السلبية تؤدي إلى فشل العملية السياسية، وبالتالي تنتج فشلاً اقتصادياً وأمنياً وغير ذلك من النتائج الخطيرة (2).

وعلى مستوى الشأن العراقي فقد دعا المرجع اليعقوبي الكتل السياسية إلى ضرورة تغيير اصطفافاتها والخروج من تخندقها الطائفي والقومي، وأكد على لزوم بناء العملية السياسية على التوافقات التي تعتمد الشراكة الحقيقية والثقة المتبادلة لاسيما في المرحلة الحالية التي يمر بها العراق. (3)

التعايش السلمي الاقتصادي (السٍلم الإقتصادي) : ونقصد به ضرورة عدم الاضرار بالآخرين مادياً واقتصادياً، وعدم التسبب في إفساد موارد المعيشة والاسترزاق

ص: 19


1- خطاب المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج9، خطاب رقم (417) : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}.
2- وهذا ما يحصل حالياً، بين مسؤولي الحكومة في العراق، للأسف الشديد.
3- ينظر خطابات المرحلة، ج5، خطاب رقم (173) : (العيد والمصالحة الحقيقية) .

التي يتقوت عليها الناس، كترك الاحتكار والغش والتدليس والمنافسة غير النظيفة والاسترباح اللاإنساني، ونحو ذلك. ومن جهة أخرى ضرورة التخلق بأخلاق المسامحة في كل معاملات البيع والشراء مع الآخرين، كما ورد في الحديث الشريف: (المؤمن سمح إذا باع سمح إذا اشترى).

التعايش السلمي العرقي (القومي) : ونقصد به التعايش السِلمي بين الأعراق المختلفة، كالعربي والكردي والفارسي والتركماني وغيرهم، وضرورة تعامل كل منهم مع الآخر على أساس إنساني بعيداً عن التعصب والتفاخر والتكبر، وجعل الميزان في التفاضل هو تقوى الله سبحانه، وليس النسب والعِرق والقبيلة، قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوْبَاً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (1).التعايش السلمي الإنساني العام: ونقصد به ضرورة تعامل كل إنسان مع سائر الموجودات من إنسان أو حيوان (سواء أكانوا أحياءاً أو أمواتاً) أو نبات أو غير ذلك (2) ، بإنسانية ورأفة، وبتعامل حَسِن ينطلق من مسؤولية الإنسان في خلافته على الأرض وتمكين الله تعالى له، لأجل إعمارها لا لأجل تخريبها، فيتعامل مع كل موجود آخر على ظهر الأرض بسلام وتعقل (3) ، بعيداً عن منطق المتجبرين والمتغطرسين، ومنطق المنغلقين على ذواتهم، الرافضين لمبدأ الحوار والتعارف البنّاء.

التعايش السِلمي النفسي : ونقصد به وجوب تعايش الإنسان السلمي مع نفسه، وذلك بأن يخلصها من تلويث الذنوب وينجيها من العقوبات المترتبة عليها في الدنيا والآخرة. ولكي يحقق الإنسان هذه النتيجة الطيبة، لابد أن يراقب نفسه، بل ويحاربها ويعاقبها على انحرافها ليحصل على تكامله المنشود، وليكون فرداً صالحاً في المجتمع، كما

ص: 20


1- الحجرات (13) .
2- كالتعايش السلمي البيئي، كما يُصطلح عليه.
3- طبعاً ما سوى الذين لا يفهمون هذا اللغة الإنسانية كالظلمة والمتجبرين والعصاة، الذين قد وضع المشرع الأقدس تعاليماً خاصة لكيفية التعامل معهم، وإن كان مبدأ القصاص والعقوبة هي في الحقيقة ضرباً من ضروب الرحمة بهؤلاء العصاة والظلمة وبالمجتمع على حد سواء، قال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) سورة البقرة) .

جاء في الرواية الشريفة : (المؤمن نفسه منه في تعب والناس منه في راحة) (1). فإن الإنسان الذي يحب ذاته حقيقة ويريد لها السعادة والسلام هو من يمنعها من سفائف الأمور ورذائلها ولا يعطيها سؤلها في معصية الله سبحانه - وإن رغبت في ذلك - لأن الذي يعطي نفسه مرادها في ما لا يرضي الله تعالى فقد غش نفسه وأرداها في المهالك، ولم يتعايش معها بصورة سلمية، ف- (من غش نفسه لم ينصح غيره) وهذا النوع من التعايش مع النفس سيكون حينئذ بشكل معكوس ومغاير لما مر من أنواع التعايش السلمي. وفي هذا المضمار وردت العديد من الروايات التي تحث على مجاهدة النفس والحذر من أهوائها، والسعي لتخليصها من العقاب الأخروي، وهذه بعض النماذج منها والواردة عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) :

(من أهان نفسه أكرمه الله).

(أهن نفسك ما جمحت بك إلى معاصي الله).

(خالف نفسك تستقم وخالط العلماء تعلم).

(إذا أخذت نفسك بطاعة الله أكرمتها وإن ابتذلتها في معاصيه أهنتها).

(أعقل عقلك وأملك أمرك و جاهد نفسك و اعمل للآخرة جهدك).

(كن مؤاخذاً نفسك مغالباً سوء طبعك وإياك أن تحمل ذنوبك على ربك).(وق نفسك ناراً وقودها الناس والحجارة بمبادرتك إلى طاعة الله و تجنبك معاصيه وتوخيك رضاه).

وجاء عن المرجع اليعقوبي في هذا الصدد قوله: (من أراد لنفسه راحة البال والسعادة في الدارين: الدنيا والآخرة فليلتزم بالتعاليم الإلهية الشريفة وعصيان نفسه فإن اتباع الشهوات وإن كان يبدو لأول مرة لذيذاً وموافقاً للنفس إلا أنه يورث النكد والشقاء والتعاسة فيما بعد ولا ينبغي لعاقل أن يضيع حياته الباقية الخالدة بلذة فانية زائلة فكم من لذة أورثت حسرة وندامة دائمة فالمؤمن الحقيقي من ملك زمام نفسه ولا يترك لها حبلها على غاربها فإنها كالدابة الصعبة إن لم يمسك بها راكبها أقحمته في المهالك) (2). وقال (دام ظله) حول مسؤولية وقاية النفس والأسرة من الانحراف: (قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

ص: 21


1- ميزان الحكمة، الشيخ محمد الري شهري، ج1، باب الإيذاء.
2- ظواهر اجتماعية منحرفة مختلفة، المرجع اليعقوبي.

آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ )...(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب عام موجّه لجميع المؤمنين والمؤمنات (قُوا) فعل أمر من الوقاية، و (الوقاية حفظ الشيء عما يؤذيه ويضرّه، قال تعالى: (فَوَقَاهُم اللهُ) وقال تعالى: (وَوَقَاهُم عَذَابَ الجَحِيمِ) والتقوى جعل النفس في وقاية مما يُخاف، وصارت التقوى في تعارف الشرع حفظ النفس عما يؤثم، وذلك بترك المحظور، ويتم ذلك بترك بعض المباحات لما روي (الحلال بيِّن والحرام بيِّن ومن رتع حول الحمى فحقيق أن يقع فيه) (أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ) وجوب وقاية النفس وحفظها من النار ثابت وواضح). (1)

التعايش السلمي الجسدي: ونقصد به وجوب تعايش الإنسان السلمي مع جسده، فإن جسد الإنسان أمانة الله تعالى عنده، وهو الذي خلقه وصوّره على أفضل ما يكون، قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (2) ، وقال تعالى: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ) (3) ولا يحق للإنسان أن يمارس مع جسده ما يخالف الشرع الإلهي الأقدس، كأن يجرحه أو أن يؤذيه بأي أنواع الأذى غير المبرر شرعاً وعقلاً، أو أن يضع عليه وشماً، أو أن يغير في خلقته كحلق اللحية بلا ضرورة، أو نحوها من التصرفات التي تجلب له الحرمة أو المهانة والمذلة، وكذا لا يحق له أن ينتحر بأن يقتل نفسه، وهذه العملية مرفوضة في تعاليم الدين الحنيف، فهي تُعد حالة من حالات التخاذل والانهزام من مسؤولية الحياة والفرار من مواجهة الواقع، وهذه الظواهر المرفوضة ناتجة بالدرجة الأولى والأساس عن فراغ الإيمان وضحالة الوعي، وقد ورد حول ذلك عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) قوله: (المؤمن يموت بكل موتة غير انه لا يقتل نفسه) (4) ، كما لا يجوز للإنسان أن يقصربالدفاع عن حياته، ودفع الخطر الذي يهدد سلامته، فقد ورد عن الإمام علي (علیه السلام) : (والله إن امرءاً مكّن عدوه من نفسه حتى يحز لحمه ويفري جلده

ص: 22


1- خطاب المرحلة، ج9، خطاب رقم (417) : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}.
2- التين (4) .
3- غافر (64) .
4- كتاب سليم بن قيس، ص214.

ويهشم عظمه ويسفك دمه وهو يقدر أن يمنعه لعظيم وزره وضعيف ما ضمت عليه جوانح صدره). (1)

التعايش السلمي العالمي (الدولي) : وهو المفهوم السياسي الذي أطلقه بعض ساسة المعسكر الشرقي (الاتحاد السوفيتي سابقاً) ومن أبرزهم ستالين وخروتشوف في فترة الحرب الباردة، وقد مرّ عليك بيان ذلك، في تعريف مصطلح (التعايش السلمي).

ص: 23


1- يُنظر حقوق الانسان عند الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) ،رؤية علمية، الدكتور غسان السعد، ص78.

فوائد تحقيق مبدأ التعايش السلمي وأضرار عدم تحققه

مما لاشك فيه إن وجود هذا المبدأ الإنساني في المجتمع له آثار طيبة في تحقيق العديد من الفوائد والثمار التي تجنيها الإنسانية، ونذكر فيما يلي جملة منها:

الشعور بالاطمئنان الشخصي والذاتي - لو صح التعبير - بسبب الابتعاد عن دوافع الحقد والكراهية والتشاجر والتخاصم ونبذ الآخرين ونحوها من السلوكيات والأخلاقيات التي تجلب للفرد الشقاء والانزعاج النفسي وتولد له الكآبة وتنغص عليه حياته.

انتشار نعمة الاستقرار الأمني في ربوع المجتمعات والتهنيء بالعيش المستقر الذي يسوده السلام بعيداً عن حالات العنف والجريمة والاقتتال، الذي يربك السلطات الحاكمة ويشغلها ويبث الرعب في نفوس الناس. وقد يتفاقم الأمر لدرجة اشتعال فتيل الحروب الطائفية بسبب الفتن الداخلية التي تهلك الحرث والنسل وتحرق الأخضر واليابس، فينعدم الأمان في البلاد، وتنتج بسبب ذلك مضاعفات سيئة أخرى، كالتردي الاقتصادي والتقاطع الاجتماعي والتخلف الفكري والحضاري ونحوها من الأمور الخطيرة.

التعرف على ثقافات الأخرين وعلى معتقداتهم وعاداتهم وتكوين خلفية ثقافية حول الشعوب والطوائف الأخرى من خلال الانفتاح عليهم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (1) ، وهذا الانفتاح والتبادل الثقافي والمعرفي يساهم بشكل كبير في عملية الحوار الحضاري والنقاشات البناءة وتبادل الخبرات في شتى مجالات العلم

ص: 24


1- الحجرات (13) .

والمعرفة، مما يسبب توفر أجواء مناسبة جداً لتقدم البلدان حضارياً على جميع الأصعدة، والبلدان الذي شهدت هذه الحالة خير دليل على ذلك. (1)

سهولة إيصال صوت المعتقدات الحقة للآخرين واقناعهم بضرورة اعتناقها، قال تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ) (2) ،وقال تعالى:(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ). (3)

تحقيق مبدأ الإنسانية الفطرية والنظرة الإسلامية في حالة التعايش السلمي مع الآخر، بعدم الركون إلى الاكراه والقوة في نشر المعتقدات والافكار، ولكل إنسان حق حرية اعتناق المعتقد الذي يقتنع به بشرط ان يؤذي الآخرين أو يتمدد على حساب حقوقهم وثوابتهم الشرعية والأخلاقية، قال تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ). (4) وقال تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ). (5) وقال تعالى أيضاً: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ). (6)

عكس صورة طيبة عن الدين الاسلامي وعن أخلاقيات المسلمين مع باقي أتباع الأديان الأخر لكي يقتنع الناس بالإسلام وبتشريعاته وتعاليمه السمحاء ويعتنقونه كدين سماوي حق، وكذلك عكس صورة طيبة عن مذهب التشيع مع الطوائف الإسلامية الأخرى، فعن الإمام الصادق (علیه السلام) : (كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير، فإن ذلك داعية) ، وورد عنه (علیه السلام) أيضاً: (رحم الله عبداً استجر مودة الناس إلى نفسه وإلينا، بأن يظهر لهم ما يعرفون ويكف عنهم ما

ص: 25


1- نذكر منها على سبيل المثال، دولة سنغافورا والصين الشعبية والهند ودولة إيران الإسلامية والأمارات وغيرها الكثير.
2- التوبة (6) .
3- آل عمران (64) .
4- البقرة (256) .
5- الكافرون (6) .
6- البقرة (272) .

ينكرون). وورد عن الإمام الهادي (علیه السلام) : (اتقوا الله وكونوا زينا ولا تكونوا شينا، جروا إلينا كل مودة، وادفعوا عنا كل قبيح).

حصول حالة من التماسك بين أفراد المجتمع وقوة الترابط بين أبنائه وزيادة اللحمة الانسانية بين الطوائف المختلفة التي تعزز نجاحهم في العديد من ميادين الحياة، لأن التنازع والتناحر وخلق المشكلات بطبيعة الحال يؤدي إلى الفشل والعجز والتخريب ولا يجني منها المتخاصمون خير الخسران، فقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) : (إنّه لم يجتمع قوم قطّ على أمر واحد إلاّ اشتدّ أمرهم واستحكمت عقدتهم) ، وورد عنه (علیه السلام) أيضاً: (ألزموا السوادَ الأعظم، فإنّ يد الله على الجماعة، وإيّاكم والفرقة، فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان، كما أنّ الشاذ من الغنم للذئب).

الضرورة الحضارية، فإن فقدان ثقافة التعايش السلمي بين أبناء المجتمع الواحد، تُعد حالة جاهلية، منبثقة من الجهل والتعصب والتطرف، في حين إن الفرد المتحضر والواعي يتعامل بمنطق التفاهم والحوار المثمر ولغة التعاون البناء وغيرها من صور التعاملات الحضارية التي تبني جيلاً مستقراً ينعم بالتكامل والرقي بعيداً عن التخلف الفكري المتحجر والسلوكيات الرعناء التي لا تنسجم مع المبادئ الإنساني للإنسان الذي هو فيحقيقته خليفة الله تعالى في الأرض ومسؤوليته إعمارها لا تخريبها، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ). (1)

أما أضرار ونتائج عدم تحقق مبدأ التعايش السلمي بين أفراد المجتمع، فهي عديدة، وأبرزها ما يلي:

زعزعة أمن واستقرار الناس وذهاب الطمأنينة والعيش الرغيد الذي ترنو إليه كل شعوب العالم.

عدم التقدم والتكامل وتأخر الركب الثقافي والحضاري للمجتمع، بسبب عدم وجود روح التعاون والعمل المشترك.

الضعف والوهن والتشتت والضياع الذي يلحق بالمجتمع جراء التفرق والاقتتال والتنازع الدائم.

ص: 26


1- البقرة (30) .

انهاك قوى الدولة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وذهاب هيبتها المادية والمعنوية.

ص: 27

مبدأ التعايش السلمي بين الإفراط والتفريط

يكتنف مبدأ التعايش السلمي عند البعض أحياناً بحالة من الإفراط أو التفريط، أما حالة الإفراط فتتجلى صورتها بالتنازل عن المبادئ والقيم والتسامح بتطبيق الثوابت الشرعية أو الأخلاقية أو الإنسانية، طلباً لرضا المخالفين، ونزولاً عند رغباتهم ومعتقداتهم، وبحجة المداراة أو بحجة تطبيق مبدأ التعايش السلمي أو غير ذلك. وفي الحقيقة إن الذي يصنع مثل ذلك فهو ممن يمارس أسلوب ما يصطلح عليه البعض بسياسة (الانبطاح) وهو أيضاً ممن ضيع حدود هذا المبدأ السامي، لا أنه يصونه أو يطبقه على أرض الواقع، وهذا ما عبّر عنه المرجع اليعقوبي في إحدى كلماته المباركة، عندما نقد هذه الحالة من الإفراط غير المبرر في مداراة الآخرين لحد التساهل وتضييع حقوق الشعب، حيث قال (دام ظله) : (لقد صرنا -ونحن أغلبية- نستجدي رضا غيرنا وهم أقلّية، حيث الانبطاح أمام مطالب متظاهرين بالآلاف (1)

بينما تغمط حقوق أصحاب المسيرات المليونية إلى كربلاء المقدّسة إلى درجة أن ضحايا النظام الصدامي الذين صودرت أو حجزت أملاكهم لم تسترجع إلى حد الآن) (2).

وكذلك الحال بالنسبة لمن يعيش حال التفريط بتطبيق مبدأ التعايش السلمي، ويكون ذلك بالتعصب للمعتقدات والتزمت للأفكار وعدم مداراة حال الآخرين، ومراعاة الظروف والأحوال، وهذه السلوكيات كلها مخالفة لتعاليم الشريعة الإسلامية السمحاء. لذا فعلى الفرد ووفقاً للمنهج الإسلامي الصحيح أن يسير في منهجية حياته سيراً متزناً، وبتعقل واعتدال ووسطية، قال تعالى: (...وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (3) وعلى الفرد أيضاً أن لا يميل عن الحق طمعاً لنيل المصالح الشخصية أو خوفاً من اغضاب المخالفين والمنكرين، أو بدعوى تحقيق الوحدة ونحوها من الذرائع والحجج (فإن الدعوة للم الشمل لا تعني المداهنة في أمر الله سبحانه وإنما الذي أقوله هو نبذ العنف والتفسيق

ص: 28


1- إشارة إلى اعتصامات محافظات الأنبار وصلاح الدين والموصل وكركوك.
2- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج8، (محافظة المثنى: نموذج بائس لتردّي أحوال شعبنا) .
3- الإسراء (110) .

والتكفير والسب والشتم وتبادل التهم والتعويض عنه بلغة الحوار والإدلاء بالحجة (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ). (1)وحالة الإفراط أوالتفريط هي من الظواهر الإنسانية التي حذرنا من عواقبها أئمة الهدى (عليهم الصلاة والسلام) فقد جاء في الروايات الشريفة الواردة عنهم:

عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) : (ثمرة التفريط الندامة، وثمرة الحزم السلامة).

وعنه (علیه السلام) : (احذروا التفريط، فانه يوجب الملامة).

وعنه (علیه السلام) : (إياكم والتفريط، فتقع الحسرة حين لا تنفع الحسرة).

الإمام الصادق (علیه السلام) : (من فرط تورط).

وعنه (علیه السلام) : (لاترى الجاهل إلا مفرطا أو مفرطاً). (2)

وجاء في تفسير الأمثل، في تفسير، قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) حول بيان حال الأمة الإسلامية المرحومة بأنها: (معتدلة في (الرّوابط الاجتماعية) لا تضرب حولها حصاراً يعزلها عن العالم، ولا تفقد استقلالها وتذوب في هذه الكتلة أو تلك، كما نرى الذائبين في الشرق والغرب اليوم، ومعتدلة في (الجانب الأخلاقي)..في عباداتها... في تفكيرها... وفي جميع أبعاد حياتها، والمسلم الحقيقي لا يمكن إطلاقاً أن يكون إنساناً ذا بعد واحد، بل هو إنسان ذو أبعاد مختلفة... مفكر، مؤمن، عادل، مجاهد، مكافح، شجاع، عطوف، واع، فعّال، ذو سماح. عبارة الاُمّة الوسط توضّح من جانب مسألة شهادة الاُمّة الإسلامية، لأن من يقف على خطّ الوسط يستطيع أن يشهد كل الخطوط الإِنحرافية المتجهة نحو اليمين واليسار). (3)

وإن (العدل هو القانون الذي تدور حول محوره جميع أنظمة الوجود، وحتى السماوات والأرض فهي قائمة على أساس العدل (بالعدل قامت السماوات والأرض) والمجتمع الإِنساني الذي هو جزء صغير في كيان هذا الوجود الكبير، لا يقوى أن يخرج عن قانون العدل، ولا يمكن تصور مجتمع ينشد السلام يحظى بذلك دون أن تستند أركان

ص: 29


1- (المعالم المستقبلية للحوزة العلمية) ، (وصايا ونصائح إلى الخطباء وطلبة الحوزة الشريفة) للمرجع اليعقوبي.
2- ينظر ميزان الحكمة، الشيخ محمد الري شهري، باب التفريط.
3- تفسير الأمثل،ج1، ص406 -410.

حياته على أُسس العدل في جميع المجالات. ولما كان المعنى الواقعي للعدل يتجسد في جعل كل شيء في مكانه المناسب، فالإِنحراف والإِفراط والتفريط وتجاوز الحد والتعدي على حقوق الآخرين، ما هي إِلاّ صور لخلاف أصل العدل). (1) كما وجه هذا التفسير قوله تعالى: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا) (2) توجيهاً سلوكياً ومنهجياً في الحياة يقوم مسيرة الأفراد في تبني الأفكار والتوجهات واعتدال جميع التعاملات مع الآخرين، حيث جاء فيه: (..الإِخفات والجهر في الصلواتاليومية... هذا الحكم الإِسلامي في الدعوة إلى الإِعتدال بين الجهر والإِخفات يعطينا فهماً وإِدراكاً من جهتين: الأُولى:... والثّانية: يجب أن يكون هذ التوجيه مبدأ لنا في جميع أعمالنا وبرامجنا الإِجتماعية والسياسية والإِقتصادية، وتكون جميع هذه الأُمور بعيدة عن الإِفراط والتفريط، إِذ الأساس هو: (وابتغِ بين ذلك سبيلاً). (3)

وفيما يلي نعطي مثالاً وشاهداً تأريخياً يُبين الأضرار الناتجة عن اتباع منهجية الافراط أو التفريط في الحياة، وسنسلط الضوء على المسار والمنهج الغربي الإفراطي (لو صح التعبير) الذي اتبعه الغربيون تجاه التعامل ما مرت به المجتمعات الغربية بعد حقبة العصور الوسطى التي سُميت بالعصور المظلمة، فبعدما (مرّ المجتمع الغربي في القرون الأخيرة من عصر النهضة الأوربية، بموجة من تيار العنف والإرهاب، نشأ تيار معاكس لذلك الواقع الا وهو فكر التسامح والتساهل، والكلمة التي استعملت في هذا المعنى عندهم هي (Toleration) بمعنى التحمل والإجازة والابقاء في مقابل العنف كما يعبر عنها ب (تولرانس) بالفرنسية وتالرنس بالإنكليزية، والمقصود من التسامح والتساهل إصطلاحاً ؛ هو عدم التدخل والمنع في ما يتعلق بأعمال الآخرين وعقائدهم وإن كانت غير مرضية لدى الشخص المتسامح، وينقسم التساهل إلى التساهل السياسي والديني والأخلاقي حسب الحوزة التي يلاحظ فيها.

والدوافع التي حدت بالمفكرين الغربيين إلى طرح تلك الفكرة مختلفة، يجمعها الواقع المتردي الذي يشاهدوه في مجتمعهم بسبب أعمال العنف والإرهاب التي كانت

ص: 30


1- المصدر نفسه، ج8، ص296- 297.
2- الإسراء (110) .
3- يُنظر تفسير الأمثل، ج9، ص180.

تقوم بها الحكومات أو المنظمات السياسية والدينية كالحروب الضارية التي اندلعت أثر النهضة الأوربية في القرن الخامس عشر خاصة بين الكنيسة الكاثوليكية وهواة المذهب البروتستانتي. حيث إن الطابع العام لتلك الحروب كان دينياً على الأغلب وإن كانت الأحاسيس الوطنية والعصبية العنصرية وكذلك الأطماع التوسعية هي العلل الرئيسية لتلك الفتن، وكذلك العقوبات التي كانت تفرض على المجرمين في المحاكم فإنها كانت تتسم بالتطرف والقسوة إلى أبعد الحدود كإحراق المحكومين بالنار وهم أحياء أو شق بطونهم وإخراج أمعائهم وإحراقها بمرأى من نفس المحكومين وهم يلفظون أخر أنفاسهم ثم قطع رؤوسهم وتقطيعهم إرباً إرباً. ولاشك إن هذا التطرف في أعمال العقوبات وتنفيذها في الملأ العام مما يربي المتفرجين على العنف والقسوة. ولاريب أن ظروف الإرهاب والعنف المذكورة من شأنها أن تقضي على العدالة والحرية الإنسانية وتسلب الأمان والاستقرار. وهذا ما ساق المفكرين من الفلاسفة وعلماء النفس والحقوق والأخلاق والاجتماع للوقوف أمام ذلك الواقعالمر ومكافحة الإرهاب وإصلاح المجتمع على أساس التعايش السلمي إلى أتخاذ فكرة التساهل والتسامح تارة وإلى تبني حقوق الإنسان تارة أخرى، ووضع قوانين عارية عن القسوة اللاذعة في مجال العقوبات.

ونظرية التسامح والتساهل بدأت بصورة بسيطة ثم تطورت إلى مراحل معقدة آخذة في التطرف من جانب آخر فالنظرية في المرحلة الأولى طرحت من أجل إخماد نار الحرب بالدعوة إلى تحمل أصحاب العقيدة المخالفة ومذمة استعمال العنف والقسوة تجاههم كفعل مناف للأخلاق الدينية والإنسانية ثم تدرجت إلى إعطاء الحرية لأصحاب الديانات والمذاهب المختلفة في تبليغ معتقداتهم وصيانتهم من تعدي الآخرين عليهم ثم انتهت إلى الاعتقاد بالبولارية والتعددية ونسبية الحق بمعنى عدم كون مذهب على الحق المطلق أو انبساط الحق على جميع المذاهب والآراء.

وقد تطرف البعض إلى القول بمذمة العنف مطلقاً حتى ما يستعمل بصورة قانونية لمجازات المجرمين وتربيتهم وتجاوز البعض هذه الحدود وألغى الإعدام مطلقاً داعياً إلى الاقتصار على الحبس حتى بالنسبة للسفاكين والقتلة كما أن الحرية المقصودة في ميثاق حقوق الإنسان تنص على إطلاقها ما لم تحدد حرية الآخرين فتعطي الحق لأي أحد بأن

ص: 31

يختار أي مذهب ويرتد عن أي دين ويُبلغ لأي دين وفي ضوء ذلك ترى المجرمين يبررون إهانة جميع الأديان السماوية. (1)

المباني الفلسفية للتسامح الغربي:

إن المفكرين الغربيين الذين تبنوا فكرة التسامح والتساهل انطلق كل واحد منهم أو كل مجموعة منهم من مبنى فلسفي خاص.

وفيما يلي نستعرض أهم هذه الآراء وأهم مبانيهم الفكرية والفلسفية:

1) جون لوك: ويُعد من أكبر الفلاسفة الغربيين الذين أبدعوا في نظرية المعرفة وفي الفلسفة السياسية، وقد تبنى (لوك) نظرية التساهل وألف كتاباً أسماه (مكتوب في باب المداراة).

2) بيير بيل: هو من أهالي فرنسا ومعتنقٌ للمذهب البروتستانتي، وكان في طليعة المنظرين لنظرية التساهل، وألف رسالة أسماها (التساهل العام) وتُبتنى نظريته على أساس الأخلاق، أما الركيزة الثانية لنظريته فهي عجز العقل عن معرفة الحقائق، وإن الناس نظراً إلى اختلافاتهم الذهنية والبيئية والثقافية يرون الحقيقة بأشكالمتعددة، وعليه فليس لأحد دعوى الحصول على الحقيقة المطلقة (البلوراليّة النظرية). ولم تسلم نظرية (بيل) ومبانيه من الإشكالات العديدة التي وجهت إليه من قِبل المفكرين. (2)

3) ميل، جون استوارت: وهو من المنظرين لفكرة التساهل وألف كتاباً أطلق عليه اسم (في باب الحرية) وتبتني نظريته على دعامتين:

الأولى: أصالة الفائدة والنفع.

الثانية: أصالة الفرد.

وانطلق من الدعامة الأولى إلى أن التساهل ينسجم مع أصالة الفائدة وعدم التساهل خلاف النفع، وكل ما يجر النفع إلى الإنسان يسبب وصوله إلى السعادة، ومن الدعامة الثانية إلى أن مراعاة حرية الإنسان في اختيار عقيدته من لوازم أصالة الفردية،

ص: 32


1- الإرهاب والعنف في ضوء القرآن والسنة والتأريخ والفقه المقارن، الشيخ محسن الحيدري، ج1، ص52-53.
2- راجع كتاب (تساهل وتسامح أخلاقي، ديني، سياسي) محمود فتحعلي، ص114-117.

فلا يجوز مزاحمته في اختيار عقيدته أياً كانت لأن حريته الفردية يجب أن تحترم على أي حال، والعقيدة سواء كانت صائبة أو خاطئة يجب أن تحترم ولا يمكن قمعها، ثم إن فسح المجال لطرح العقائد المتعارضة يوجب مناخاً لاختيار العقيدة الأحسن والأصوب.. والظاهر إن هذه النظرية من جملة المنطلقات لمدرسة الليبرالية الغربية، وهناك بعض المفكرين الغربيين ممن عارض آراء (ميل) وكتب كتاباً سماه (الحرية والمساواة والأخوة) (1). (2)

تقييم نظرية التساهل وآثارها على الحضارة الغربية:

ولكن هل نجحت نظرية التساهل في القضاء على روح الإرهاب وخلق مجتمع خالٍ من العنف والتعسف ومليء بالأمن والاستقرار؟

الواقع المر لتاريخ الغرب، خاصة في القرنين الأخيرين أحسن شاهد على عدم نجاح هذه النظرية في المهمة الأولى التي وضعها المنظرون من أجلها ألا وهي مكافحة الإرهاب والعنف!

وهذه الحالة ليس فقط أنها لم تعالج بل ازدادت ضراوة واتساعاً لم تشهد لها الإنسانية نظيراً في تأريخها. وإحصائيات القتلى والمجروحين والتدمير الشامل في الحربين العالميتين الأولى والثانية أكبر برهان على ذلك مضافاً إلى اتساع حجم الاغتيالات السياسية وخطف الطائرات وحجز الرهائن والاعتداء السافر على أهل الديانات الأخرى، كما حدث في البوسنة والهرسك في الاعوام الاخيرة، وهذا كله حدث في نفس البلدانالغربية. وأما ما اتحفه الغرب بعد رواج تلك النظرية إلى العالم الشرقي والافريقي وخاصة في البلدان الإسلامية من استعمار واعتداء وقتل وتشريد ونهب للثروات فحدت عنه ولا حرج فإن ذلك حديث ذو شجون!

والسِر في عدم نجاح نظرية التساهل يكمن في عدم إلمام المفكرين بالدوافع الرئيسة لنشوب الحروب واستعمال المجرمين لأعمال العنف والإرهاب. إنهم خالوا ان السبب

ص: 33


1- راجع المصدر نفسه، ص126-130.
2- يُنظر الإرهاب والعنف في ضوء القرآن والسنة والتأريخ والفقه المقارن، الشيخ محسن الحيدري، ج1، ص53-56.

الرئيسي هو التعصب الديني والالتزام المذهبي فوجهوا حرابهم نحو ذلك. وحسبوا أن العلاج الوحيد هو بث روح التساهل والدعوة إلى الانسلاخ عن العلائق المعنوية والجنوح إلى الوشائج المادية، ولعل التاريخ يعذرهم بذلك الانزلاق لأنهم لم يفتحوا أعينهم إلا في أحضان الكنيسة المتسمة بالانحراف عن المبادئ السماوية والواقعة في أيدي أناسٍ يحمل الكثير منهم روح الإجرام والهُوِيّ في المستنفعات المادية والارتطام في الجهل والحماقة والقيام بأعمال العنف والإرهاب وشنق العلماء وإحراق المفكرين باسم الدين وعرض الأفكار الخرافية باسم الكلام السماوي. وكانوا لا يرون معنى الدين إلا القوانين الجافة والمعوجة التي يروجها رجال الكنيسة. ولم يكونوا قد سمعوا باسم دين جامع ملؤه الرحمة للبشرية واسعادهم في الحياة الدنيا والآخرة والرفع من مقام العلم والعلماء ومنح الحرية الحقيقية والصحيحة في مجال العقيدة والسياسة والفرد والاجتماع ومنع التعصب المقيت ومكافحة الظلم والفجور.

نعم لربما لو سمع أولئك المفكرون بالإسلام وعرفوا مزاياه وكمالاته لجنحوا إليه، استبدلوه بالمسيحية المحرفة وساقوا الناس إلى منهجه، كما صنع أضرابهم من الغربيين نظير (جان ديون بورت) و (مونت مرى وات) و (غوستاف لوبون) وغيرهم.

وعلى أي تقدير سواء لم تتم على دعاة التساهل الحجة الإلهية أو تمت، لكنهم تساهلوا في أمر الفحص عن الحقيقة ووقفوا مستميتين في مقابل الدين زعماً منهم أنه هو السبب لذلك الوضع المأساوي ولم يلتفتوا إلى أن الإرهاب والعنف القائمين على قدم وساق سواء في أوربا أو أي مكان أخر لهما أسباب حقيقية تكمن في الطبيعة البشرية حيث الأنانيات والأطماع التوسعية والحب و الاستعلاء والطغيان والاستغناء عن الله تعالى (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (1).

ونتيجة لغفلتهم أو تغافلهم عن تلك الأسباب الحقيقية وعدم برمجتهم لضبطها أو التخفيف من وطأتها استغل الطغاة وأصحاب القدرة تلك الأجواء والظروف المؤاتية بسبب شيوع روح التساهل ورقي التكنلوجيا فاستخدموا العلم والعلماء المتخصصين لصنع أسلحة الدمار الشامل وحتى القنبلة الذرية. فسعروا نيران الحروب ونفخوا في كير الإرهاب وصنعوا المجازر وصبغوا الأرض بالدم الأحمر!

ص: 34


1- العلق (6 – 7) .

ولم تنحصر ويلات مدرسة التساهل في هذا فإنها مهدت الأرضية لهبوط المجتمع الغربي من سُلم الإرتقاء نحو سماء الأخلاق الفاضلة، وسقوطه في مستنقعات المادية العمياء وعبادة شيطان الأرض، فلم يلاقوا من جراء التساهل إلا تفكك العُرى الأخلاقية في مجال الفرد والمجتمع خاصة في مجال الأسرة، حيث بَرَد دفء العاطفة في كانون الأسرة، وتقطعت أواصر المحبة بين الزوج وزوجته وأولادهما وأرحامهم، واستشرت الأمراض النفسية الناشئة عن التربية الخاطئة والتعقيدات الروحية، فكثر الانتحار، خاصة بين الفتيان والفتيات، مضافاً إلى تصاعد إحصائيات الإجرام والنهب والسلب وانتشار الفسق والمجون، وانحطاط المرأة من أوج كرامتها إلى أحضان الرجال كألعوبة يُستفاد منها في إطفاء نيران شهواتهم والوصول إلى مآربهم السياسية والاقتصادية. وهذا كله فعلوه باسم الحركة النسوية وتحريرها وإعطائها حق المساواة بالرجال، الأمر الذي أودى بالحضارة الغربية إلى مشارف السقوط والإنهيار. هذا الواقع المأساوي هو ما أدركه الوعاة من العلماء الغربيين أنفسهم فجعلوا يصرخون بأعلى أصواتهم وينذرون مجتمعهم بالهلاك والإنحطاط. (1)

دور المستغربين في تسريب سياسة التساهل إلى البلدان الإسلامية:

إن من محاور سياسة الغزو الثقافي الغربي الذي يراه المستعمرون ضرورياً لسيطرتهم على البلدان الإسلامية، تسريب سياسة التساهل والتسامح إلى تلك البلدان والهدف منها بث روح الفتور وذبح الغيرة والتحمس الديني والوطني على أعتاب مصالح الاستعمار وتخدير الأفكار وإيجاد الميوعة والجنوح إلى الخلاعة والانسلاخ عن مبادئ التقوى والابتعاد عن مباني العقيدة والتمهيد لقبول الثقافة الغربية ونزع روح النشاط والدفاع الديني والوطني خاصة في ما بين الجيل الجديد، حتى يتمكن الغزاة من الوصول إلى مآربهم من دون أن يواجهوا أي مقاومة جادة في طريقهم، والعوامل التي يستفيد منها المستعمرون في هذا المجال كثيرة أهمها الاستفادة من العناصر الوطنية المنبهرة أمام الثقافة الغربية والمعتقدة بها، بحيث يمكن اعتبارهم من المستغربين وهؤلاء يرفعون شعار

ص: 35


1- يُنظر الإرهاب والعنف في ضوء القرآن والسنة والتأريخ والفقه المقارن، الشيخ محسن الحيدري، ج1، ص57-60

الاصلاح الذي ينطلي على كثير من السذج من الناس فيحسبونهم مصلحين صادقين ولم يعلموا أنهم هم المفسدون وهؤلاء المدعون للإصلاح يزمرون ويطبلون لنظرية التساهل الغربية ويحاولون إضفاء لباس المشروعية والإسلام عليها ويستندون إلى بعض النصوص الدينية كالحديث النبوي الشريف: (إنما بعثت بالشريعة السمحة السهلة) والحال أن هذا الاستناد يعتبر نوعاً من التفسير بالرأي والتفكير الالتقاطي لأن بين التساهل الغربي والسماحة والسهولة في الشرعية الإسلامية بوناً بعيداً). (1)

ص: 36


1- يُنظر المصدر نفسه، ص62.

مبدأ التعايش السلمي في القرآن الكريم

اشارة

تحث العديد من آيات القرآن الكريم على مبدأ التعايش السلمي في المجتمع، بل وتأصّل لهذا المبدأ لكي يسعد الإنسان في تعايشه مع أخيه الإنسان دون مشكلات ومنغصات، وأعجبني تعبير أحدهم وهو يصف مباديء اللاعنف التي يهدف إليها القرآن المجيد، حيث قال: (إن القرآن يمنح الحق في الدفاع عن النفس، لكنه مع ذلك يدعو للتخلي التام عن العنف).

وقد جاء دين الإسلام ليضع عن الناس آصارهم وأغلالهم الفكرية والاجتماعية وعقائدهم الباطلة، قال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ). (1)

فبعدما كانت المجتمعات تعيش في الجاهلية الجهلاء قبل الإسلام، والتي من أحد إفرازاتها السيئة هو أسلوب التعايش غير السلمي بين أفراد المجتمع، لذا وضع الدين الإسلامي عدة أحكام وتشريعات تقنن هذا المبدأ الكريم، وتحاول نشره بين الناس، كما كرس الإسلام من خلال آيات القرآن الكريم كل متطلبات ودعائم التعايش وما ينعشه ويضمنه بصورة مستديمة كالقسط و العدل والإنصاف والعفو والصفح وإحقاق الحق ونفي الظلم وحسن الظن وما إلى ذلك من أسس أخلاقية تدعم مبدأ التعايش السلمي. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). (2)

ونحن كبشر متنوعون (قَدَراً) في أشكالنا وأعراقنا ولغاتنا وألواننا: ﴿ وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّمواتِ وَالأَرْضَ واخْتِلافُ أَلسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ في ذَلِكَ لآياتٍ لِلٍعَالِمِيْنَ﴾ ومكلَّفون بالوحدة ضمن دائرة الإنسانية وإنتاجها المعرفي والتعارفيِّ :﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ

ص: 37


1- الأعراف (157) .
2- المائدة (8) .

ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوْبَاً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ﴾. فما بالنا لا نعمِّم التنوّعَ وضرورته على المبادئ والأديان والفرق والمذاهب؟ لنعدَّهُ تسليماً بنتائجَ طبيعية لمسارات تفكيرية متنوعة مقبولةٍ عقلاً، ودينونةَ لله بشكل عامٍّ : ﴿وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ ﴾. ﴿ فَمَنْ شَاءَ فَليُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيكْفُرْ ﴾ وبعد ذيَّاك التسليم يتتابع التكليف ليتشكَّل سعياً جادَّاً لدعوة كل منا الآخرَ إلى نوعه المبدئي والدينيِّ بالتي هي أحسن : ومع الدعوة - التي هي حوار ونقاشوجدال منصِف - يتنزَّل التكليف في بحث عن تعايش آمن مومِّن، سالم مسلِّم :﴿ يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ في السِّلْمِ كَافَّةً ﴾. (1) كما يقوم الإسلام على احتواء الآخر، والانصهار معه في بوتقة الإنسانية ولا يعمل على إلغائه وإقصائه كما في الخطاب القرآني في قوله تعالى : (إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون). (2)

وأيضاً أمرت الشريعة الإسلامية بضرورة تحقيق أمن المجتمع بحد من حدود الله، وذلك في قوله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) فمحاولة الإخلال بأمن المجتمع المسلم عن طريق ارتكاب جرائم القتل أو النهب أو حتى إرهاب الناس ونزع الشعور بالأمن من نفوسهم، يعتبر من الناحية الشرعية محاربة لله ورسوله (صلی الله علیه و آله) وتستوجب إقامة الحد.

ومن الشواهد القرآنية التي نستدل بها على عظيم اهتمام الدين الإسلامي على ضرورة تحقيق مبدأ السِلم في العالم، هو ما أكدت عليه الإشارات القرآنية، في مدلولاتها العميقة والمؤثرة، حيث (ورد مصطلح (السلام) في القرآن الكريم بمختلف اشتقاقاته (31) مرة، منها أنها صفةٌ لله تعالى (الملك القدوس السلام)، وصفة للأنبياء والرسل (وسلام على المرسلين) وصفة للمؤمن (ولا تقولوا لمن ألقي إليكم السلام لست مؤمنا)؛ ومن أجل هذا فإن الله أمرنا أن نبذل ما نستطيع لننعم بهذه النعمة، فقال تعالى: (ادخلوا في السلم كافة) وقال: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، هنا أمر بالسلام الدولي، وهذه

ص: 38


1- التنوع والتعايش، الشيخ حسن موسى الصفار.
2- مظاهر التعايش الاجتماعي بين الناس، الدكتور مرتضى الشاوي.

مسؤولية صانعي القرار في الدول، بيد أن هذا السلام لا يغني عن التعايش السلمي بين أفراد المجتمع الواحد). (1)

ونذكر أيضاً نموذجاً آخر من صور التعامل الإسلامي لأجل إشاعة روح المحبة والسلام ولأجل مد جسور العلاقة مع أبناء الأديان الأخرى، ضمن التأطير القرآني، التي تأصل مفاهيم التعايش السلمي، حيث توجد في القرآن الكريم سورتان كريمتان سميتا تبعاً لطائفتين من أهل الكتاب. فسورة بني اسرائيل (الإسراء) وهي سورة تهتم بذكر أحداث قوم النبي موسى (علیه السلام) ، وسورة الروم التي سميت تبعا للمسيحيين - لأن الرومانيين كانوا على دين النبي عيسى (علیه السلام) - فإذا قارنا سورة بني اسرائيل بسورة الروم نستنتج إن القرآن الكريم يهتم بالديانات السابقة ويحترمها. فمع أن تلك الديانات نسخت بالإسلام و (ان الدين عند الله الاسلام) الا أن ذلك لا يعني إن لا يكون في تلك الديانات أي جانب مشرق. فنزلت سورة بني اسرائيل لليهود وسورة الروم للمسيحيين.لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما هو مغزى هذا الاحترام لأهل الديانات الاخرى مع ان الله لا يقبل الا الاسلام؟ والله هو القائل (ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه). الخطابات القرآنية ودلالاتها للإجابة على هذا السؤال نقول ان الخطابات الالهية في القران الكريم على عدة أنواع:

أولاً: تارة ينادي جميع البشرية ويقول: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) أو (يا أيها الانسان انك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه) أو (يا ايها الناس اتقوا ربكم ان زلزلة الساعة شيء عظيم) فهذه النداءات تأتي متناغمة مع الفطرة البشرية، فكل انسان في اي مكان او زمان تسعه هذه الآيات بل وتجذبه لأنه يجدها متوافقة مع فطرته الداخلية.

ثانياً: تارة يكون خطاب القران الى اهل الكتاب فيقول: (يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم).

ثالثاً: تارة خطاب القرآن الكريم إلى المسلمين عامة.

رابعاً: تارة خطاب القرآن الكريم إلى المؤمنين خاصة (يا أيها الذين ءامنوا إذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وايديكم الى المرافق).

ص: 39


1- محاضرتان عن فن الاتصال والحضارة الإسلامية، الدكتور علاء إسماعيل الحمزاوي، بتصرف بسيط.

خامساً: نجد ان هناك خطاباً خاصاً بالرسل والانبياء (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً).

سادساً: نجد ان الخطاب يختص بنبينا الاكرم محمد (صلی الله علیه و آله) : (يا ايها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك) فهذه الخطابات تدل على مرتبة المخاطب من حيث المنزلة ومن حيث الدرجة ومن حيث الادراك، فالخطاب لابد ان يتناسب مع توجهات الفرد ومعارفه. فمن هنا نجد ان القران الكريم لا تكون خطاباته للمؤمنين فقط، بل وتشمل الكفار والمشركين - بصفتهم بشر- وتشمل أهل الكتاب ايضا. فالقرآن الكريم لديه تعاليم للآخرين أيضاً وأوامر إليهم تتناسب معهم. (1)

ولأجل أن تنظم الشريعة الإسلامية العلاقات والروابط بين المسلمين فيما بينهم ولتؤكّد على ثقافة التسامح والتساهل مع أصحاب الأديان الأخرى، جعل الله تبارك وتعالى علاقات البشر فيما بينهم مبنيّة على أساس الأخوة والألفة: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) بعيداً عن الغضب والتعصب الطائفي والعشائري: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ) فقد كانت سيرة النبي (صلی الله علیه و آله) مبنيّة على ذلك. كما يوصي القرآن الكريم المسلمين أن يتعاونوا فيما بينهم لحل الأمور العالقة: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ). وقد ورد في بعض الروايات أن الإمام علي (علیه السلام) لم يتّهم أعدائه في الحروبالثلاثة (الجمل وصفين والنهروان) التي فرضت عليه بل كان يصفهم قائلاً (علیه السلام) : (كانوا أخواناً لنا فظلمونا) وكان يحسن إليهم كسائر المسلمين.

وحذّر القرآن الكريم المسلمين من الظلم لأعدائهم المشركين ونهاهم عن سَبّهم وشتم عقائدهم، (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) حيث أوجب الله تعالى في كل زمان ومكان الالتزام بهذه الآداب للمعاشرة، وعدم الانتقاص منهم ومن عقائدهم. فيمكن التعايش مع الكفار وإقامة روابط صلح ما داموا لم يلحقوا الأذى بالمسلمين: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) وأما في حالة الاعتداء فلابد للمسلمين المقابلة بالمثل: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ) وهذا أمر يتّفق عليه

ص: 40


1- بصائر من سورة الروم، المرجع السيد محمد تقي المدرسي.

كل العقلاء. وقد أمر الإسلام بالصلح مع الكفار عند ميلهم إليه، ويجب على المسلمين قبول ذلك منهم: (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ). وهناك أحكام خاصة في حالة الحرب أو الصلح منها، أنه يجب عدم إلحاق الأذى أو قتل طاعني السن والنساء والأطفال وكذلك الأسرى، ويمنع من قطع الماء على الأعداء، وأيضاً لا يمكن التمثيل بجثث القتلى، بل القرآن يأمر بالتساهل والتسامح حتى مع الأعداء، فيوصي المسلمين بالعفو والصفح وغضّ النظر عن أعمالهم قدر الإمكان: (…وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلًا مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) كما يوصي المسلمين بالمحافظة على حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية، فلعل العطف والمحبة التي يلاقوها من الإسلام تجعل قلوب الكفار تتجه نحو الإسلام.

والظاهر من بعض الآيات أنها تنهى المسلمين عن الصداقة مع غير المسلمين : (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء) ولكن عند التدبّر والتمعن في سياق الآيات الأخرى يتبين المراد منها، واختصاص حكمها بغير المسلمين الذين هم في صدد إيجاد الفتنة وإلحاق الضرر بالإسلام : (ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) أما إيجاد الصداقة مع غير أولئك فلا إشكال فيه، وقد صرّحت بعض الآيات بذلك : (عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً…).

وهناك بعض الأحكام يعتقد البعض أنها تخالف التسامح والتساهل مع غير المسلمين، كفرض الجزية على غير المسلمين في حال تواجدهم تحت راية الإسلام، ولكن بعد التمعن في هذه الأحكام نجد أنها وضعت لأجل تقوية البنية الاقتصادية للدولة الإسلامية وتساعدها على إدارة الأمور وحالها حال ما يؤخذ من المسلمين من ضرائب خاصة كالخمس والزكاة وغيرها. وعلى عكس رأي بعض المفسّرين - وهم قلّة - فإن الآية (حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) لا تستلزم الإهانة والاستحقار لغير المسلمين بسبب تواجدهم في بلادالمسلمين، بل ذهب أكثر الفقهاء (1)

والمفسّرين (2) ، في تفسيرهم للآية أن كلمة ((صاغرون)) تعني التمكين والطاعة من قبل غير المسلمين للحكومة

ص: 41


1- المبسوط،2/ 38؛ الاحكام السلطانية والولايات الدينية، ص227؛ جواهر الكلام، 21/ 247.
2- المنار، 10/ 389. الميزان، 9/ 246.

الإسلامية. وعند مقارنة الآية مع الآيات الأخرى والتي تنص على التودّد لغير المسلمين في صورة عدم سعيهم بالحاق الأذى بالإسلام والمسلمين، نجد أن الرأي الاخير هو الأقرب إلى ثقافة القرآن الكريم، مضافا إلى ذلك الروايات الكثيرة وسيرة النبي والأئمة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) المبنيّة على إيجاد المحبة والألفة مع غير المسلمين. (1)

وباستقراء النصوص القرآنية نجد أن التسامح يمكن تقسيمه باعتبار دائرته إلى عدة أنواع في القرآن الكريم، وهي كما يلي:

1- التسامح بين الأفراد: وهو ما ينبغي أن تكون عليه علاقات الأفراد فيما بينهم بحيث يتبادلون الاحترام و يتعاملون بالحسنى ويتغاضون عن جهالات الآخرين، ومن الآيات التي تجسد هذا النوع قوله تعالى: (خذ العفو و أمر بالعرف و أعرض عن الجاهلين) فلما أنزلت هذا الآية قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : ما هذا يا جبريل ؟ قال إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك و تعطي من حرمك و تصل من قطعك.

2-التسامح بين الزوجين في الأسرة الواحدة: وهذا النوع من التسامح من الأمور الواجبة شرعاً للوفاء بما التزمه الزوجان من المعاشرة الطيبة والألفة والمودة والتراحم والتوادد، ويدل عليه قوله تعالى: (وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً) أي طيِّبوا أقوالكم لهن وحسِّنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم كما تحب ذلك منها.

3-التسامح بين الجماعات: والمفروض في هذا النوع أن الجماعة قد تتعرض للضغط والظلم والتغليظ بالقول من قِبَل جماعة أخرى،.. ومن كمال التسامح للدين الإسلامي أنه لم يأمر أتباعه بالقتال والمواجهة الساخنة أول الأمر بل فتح باباً للموادعة وتهدئة الأوضاع كما في قوله تعالى: (ودَّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا وأصفحوا حتى ياتي الله بأمره إن الله على كل شىء قدير) قال صاحب الكشاف: فاسلكوا معهم سبيل العفو و الصفح عما يكون منهم من الجهل و العداوة.

4-التسامح بين الشعوب والدول: وهذا النوع من التسامح هو الذي يركز عليه القرآن الكريم في رؤيته لخريطة العالم العقدية والسياسية، ففيما يتصل بالعقيدة يؤكد أنه

ص: 42


1- مقالة بعنوان: (التعايش السلمي و حسن الجوار في القرآن الكريم) ، ندى الحجاج.

لا سبيل لفرض العقيدة بالقوة كما في قولهالقاطع :) لا إكراه في الدين قد تبيَّن الرشد من الغَيّ (. أي لاتكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام فإنه بيِّن واضح جلِيٌّ. وقد هيّا القرآن أتباعه نفسياً لقبول التعدد و التنوع الديني بذكره مرارا و تكرارا لقصص السابقين من الأقوام و الملل وأنه لا يتوقع هداية كل الناس وأن الاختلاف بينهم أمر طبيعي وكائن، كما في طائفة من النصوص لعل من أصرحها قوله عزوجل :) أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً (. جاء ذلك في سياق تأكيده على إعجاز القرآن و كفايته في الدلالة على سبل الخير و الفلاح لكل من تدبر فيه و لم يتمادَ في إتباع الهوى، فإذا وجدنا مع قوة هذا القرآن المعجز في منطقه الواضح واستدلاله الناصع أقواما لا يدينون به ولا يتخذونه مرجعا و إماما فهذا أمر طبيعي لا ينبغي أن يصيبنا بفتور أو إحباطٍ في الدعوة إلى الحق.

أما مرتكزات وأُسس التسامح والتعايش السلمي في القرآن الكريم فقد اندرجت تحت النظام الاخلاقي فيه، بدأ من الفرد ومروراَ بالأسرة والمجتمع والدولة وانتهاءَ بالمجتمع الإنساني الدولي وفي كل دائرة من هذه الدوائر يتميز التعليم القرآني بالتركيز على العلم والتزود بزاد الحكمة و التقوى. ومن أهم المرتكزات في هذه العملية ما يأتي:

1- طهارة النفس، في قوله تعالى: (ونفس وماسواها فالهمها فجورها وتقواها قد افلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها) وقوله تعالى: (يوم لاينفع مال ولابنون إلا من أتى الله بقلب سليم).

2- الدعوة إلى كظم الغيظ : قال تعالى : (وسارعوا الى مغفرة من ربكم

وجنة عرضها السموات و الارض اعدت للمتقين. الذين ينفقون في السراء و الضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين). وكظم الغيظ كما جاء في الكشاف هو أن يمسك على ما في نفسه منه بالصبر ولا يظهر له اثراَ، وقد روي عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال : من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه امنا وايمانا. وهو بهذا المعنى يرادف صفة التروي و الرفق في التعامل مع جهالات الآخرين، فلا يعملون غضبهم في الناس بل يكفّون عنهم شرهم ويحتسبون ذلك عند الله عزوجل ومع ذلك يعفون عمن ظلمهم في انفسهم فلا يبقى في أنفسهم موجدة على أحد.

ص: 43

3- مخالفة الهوى: ولا يخفى ما للأهواء من دور في تمادي الإنسان و إعراضه عن الحق واستخفافه بالآخر وعدم انصياعه لثقافة التسامح، ولهذا فليس إعتباطاً ما نجده من تحذيرات قرآنية متكررة من إتباع الهوى، كما في قوله تعالى: (ولاتتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) وهذه وصية من الله عزوجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده تبارك و تعالى و لايعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله. وجه الدلالة أن الله تبارك وتعالى جمع لداود (علیه السلام) النبوة والخلافة وأعطاه من الحكمة ما يكفي مع هذا توعده بالعذاب الشديد إنهو اتبع الهوى و لم يحكم بين الناس بالحق اي بالعدل، وهذا يعني أن شمول الوعيد لغيره بسبب

العدول عن الحق و العدل أولى وآكد. ذلك أن الهوى هو المانع من العدل بين الناس في التعامل و التقييم، ولهذا جاء قوله عزّوجل أصرح في التأكيد على المراد: (فلاتتبعوا الهوى أن تعدلوا، وإن تَلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً). و المعنى كما يقول المفسرون: أن الشهادة بحق الناس يجب أن تكون على أساس الحق و العدل لا على أساس مصلحة القرابة و الود او مصلحة الغنى و المال، فكل تحريف للشهادة و إعراض عن أدائها على الوجه الصحيح و المطلوب يعد جريمة تستحق المجازاة.

4- تمهيد القرآن الكريم لأجل بسط ثقافة التسامح بإعطاء دروس بليغة في الأخلاق الاجتماعية لعلّ أهمها: التحفظ في الأحكام باجتناب الظنون في تقييم سلوكيّات الآخرين (يا أيها الذين آمنوا إجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم) ، وعدم الثقة بما يشيع من أنباء و أفكار بل إخضاعها لضوابط التبيّن و الإستيثاق (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبإٍ فتبيّنوا، أن تصيبوا قوماً بجهالةٍ فتصبحوا على مافعلتم نادمين)

وهذا يعني أن السبيل الوحيد لمعرفة الآخرين هو العلم الصحيح و الدقيق وأن على الإنسان مسئولية كبيرة لا بدّ من أدائها وعدم التقصير فيها (ولاتقف ما ليس لك به علم إن السمع و البصر و الفؤاد كل اولئك كان عنه مسئولاً).

5- وقد علمنا القرآن الكريم أن الغاية الأساسية من رسالات الأنبياء هي السعادة البشرية قاطبة والسبيل إلى ذلك يتمثل في القسط بين الناس دون تمييز بين مؤمن و كافر، وهذا ما ينطق به القرآن بجلاء و وضوح: (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لايظلمون) كما أن وظيفة الأنبياء لا تعني إرغام الناس على قبول

ص: 44

العقيدة و إكراههم على الدين، بخلاف ما يروِّج له دعاة العنف، لأننا لا نجد في كتاب الله و سنة نبيه (صلی الله علیه و آله) ولا في سيرة الخلفاء الراشدين الهداة المهديين ما يجيز هذا الأسلوب بل إننا نستنتج بما لا يدع مجالاً للشك أن العكس هو الصحيح، كيف أننا ملزمون بمنهج الحوار الهادىء الرصين الذي يحفظ للإنسان خصوصيته و كرامته وحقه في المخالفة وحتى مخاطبته بالرفق و المداراة، فلننظر الى الأدب الرفيع والحوار المنفتح الحميم الذي تتضمنه الآيات القرآنية الكريمة في سياق الدعوة الى الله: (قل من يرزقكم من السموات والأرض قل الله و إنا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين – قل لا تسألون عمّا أجرمنا و لانسئل عما تعملون – قل يجمع بيننا ربنا بالحق وهو الفتّاح العليم).

6- وحين نصل إلى باب الجهاد والقتال وهو من أهم أبواب السياسة الشرعية والذريعة التي يتذرع بها منظِّرو العنف في الجماعات الإسلامية نرى أن القرآن الكريم يشترط في الجهاد الشرعي و المطلوب أن يكون في سبيل الله وحده ومن أجل إقامة القسط والعدل، لا أن تكون غاية القتال الوصول الى سدة الحكم او الثأر والإنتقام أو التسلط على رقاب العباد، لأن طرق الدعوة السلمية مادامت سالكة فلا يجوز العدول عنها، كمايدل عليه قوله تعالى: (فقاتل في سبيل الله لا تكلّف إلا نفسك وحرِّض المؤمنين عسى الله أن يكفَّ بأس الذين كفروا و الله أشدُّ بأساً و أشدُّ تنكيلاً) وحتّى إذا وصل الموقف الى المواجهة فهذا لايعني سد باب الحوار والموادعة و لا يعني المضي في خيار الحرب دون عودة، خاصة حين يلوح في أفق الموازنات العسكرية ما يعني غلبة المؤمنين وسيطرتهم على الأوضاع مما يعني عدم الاكتراث بالمكاسب المادية و اللوجستية على حساب الدعوة والسلام، فلنتأمل قوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيَّنوا و لاتقولوا لمن ألقى اليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عَرَضَ الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمنّ الله عليكم فتبيّنوا إن الله كان بما تعملون خبيرا). قيل في سبب نزول هذه الآية أن رجلا من بني سليم مر بنفر من أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) يرعى غنماً له فسلّم عليهم فقالوا: ما سلّم علينا إلا ليتعوّذ منا فعمدوا اليه فقتلوه فأتوا بغنمه فنزلت، إيجابا للتثبت و الأخذ بظواهر الأمور و حقنا لدماء الناس وقيل في سبب نزولها غير ذلك، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في علم الأصول، ولهذا نقول: إن دلالة الآية اوسع و أعمق من ذلك بكثير إذ أن مدلولها باللفظ و السياق

ص: 45

يعني أن المكاسب المادية و شهوة النصر على الأعداء أمور مغرية قد تودي بالدعوة و أصحابها وتحوِّل المسألة من مسألة دعوة وهداية و دين الى مسألة كسب و تجارة وهوىً، الشارع الحكيم حين دعانا الى إمتثال هذه التعاليم في سوح القتال وفي أحرج اللحظات يعلم كل ما يجول بخاطر المقاتلين من أفكار وتمنيات لأنه الخبير ببواطن الأمور و عواقبها وليس الجهاد في سبيل الله بحد ذاته سوى وسيلة لتصفية الإنسان من الرذائل والمهلكات، فمتى تحققت الغايات السامية و النبيلة بوسائل أخرى يكون الاحتكام الى الحرب خروجاً من القاعدة الأساسية في التعامل مع الناس، ومظنة الوقوع في شراك الهوى وهو الأقرب الى طبيعة وسلوك المتطرفين فيما نشاهده من أعمال تخريبية وإرهابية ترتكب بحق الأبرياء والمدنيين أو علامة التمادي في العصبية للحزب و الطائفة والجهل بمتطلبات التغيير الإجتماعي وسنن الدعوة الى الله في أحسن الحالات، الأمر الذي ينطبق على القواعد التنظيمية لهذه الجماعات التي تنفذ ولا تناقش.

وتوجد أيضاً الكثير من الآيات القرآنية المباركة التي تُعد منطلقاً لأجل بسط ثقافة التسامح، نذكر منها ما يأتي:

1-التمسك بالحق بغض النظر عن قائله وصاحبه و إنصافه ما أمكن كما قوله تعالى: و أوفوا الكيل و الميزان بالقسط لانُكَلَّفُ نفساً إلاّ وسعَها وإذا قُلتُم فاعدِلوا ولو كان ذا قربى وبعهدِ الله أوفوا ذلكم وَصّاكم به لعلَّكم تذكَّرون.

2-الإيثار البطولي: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون).3-رد التحية بأحسن منها في التعامل مع الغير مما يؤدي لا محالة الى إشاعة روح التفاهم و التعارف: وإذا حييتم بتحية فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها.

4- استعمال أطيب العبارات: (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن، إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً).

5- الحرية القانونية للأقليات الدينية في المجتمع الإسلامي: (فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط، إن الله يحب المقسطين).

ص: 46

6- الإعتراف بكافة الأديان: (إن الذين آمنوا والذين هادوا و النصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون).

7- الاعتراف بجميع القوميات: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم).

8- التأكيد على العمل الصالح والإيمان به تعالى وباليوم الآخر والاعتراف بسعيه و عدم التفريط في كتابته وتسجيله: (فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه و إنا له كاتبون).

9- التعامل بالحسنى والقسط مع كل الناس: قال تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم و تقسطوا اليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم و ظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم ومن يتولّهم فأولئك هم الظالمون) وفي هذه الآية الكريمة (أمرٌ من الله سبحانه يتوجه إلى جميع المسلمين في جميع عصورهم بالتعايش السلمي مع بقية الطوائف والجماعات بالبِرّ والقسط لهم بضابطة قررتها الآية (لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم) والدين في المقام يتسع ليشمل العقائد فضلاً عن الأحكام والتشريعات.. والآية لم تخصص جماعة بعينها، كأن يكونوا يهوداً أو نصارى أو صابئة أو مجوس أو مسلمين ؛ بل المهم أنهم لم يقاتلوا المسلمين بالدين ولم يخرجوهم من ديارهم بالتهجير والإبعاد والإجلاء، كما نراه يحصل في بقاع يقطنها مسلمون هنا وهناك. فمثل هؤلاء لم ينه اللهُ المسلمين أن يبروهم ويقسطوا إليهم جزاءً لحسن سمتهم وجودة صنيعهم بالمسلمين الذين يجاورونهم وهم ضعفاء اقتصادياً وعسكرياً، كما يتوقع من لحن القول في هذه الآية ؛ وإلاّ لم تقع المقاتلة في الدين والإخراج من الديار لو كان المسلمين أقوياء ، ولم يبق ثمة داع لهذا الخطاب من الأساس، إذن القرآن الكريم يحث المسلمين على التعايش السلمي مع بقية الأقوام بصرف النظر عن عقائدهم التي يعتقدون بها، ومن هنا قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) لمالك الأشتر في عهده المشهور : الناس صنفان إما أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق. ولكننا لو عطفنا النظر إلى الآية اللاحقة لهذه، وهي الآيةالتاسعة من السورة نجدها تقرر حكماً متمماً لهذا الحكم الإلهي بقولها:

ص: 47

(إنما ينهكم عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أنْ تولوهم ومَن يتولهم فأولئك همُ الظالمون) كذلك فإننا نجد أن هذه الآية لم تذكر عقيدة العدو أيضاً، كأن يكون يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً أو صابئياً أو حتى مسلماً، ذلك أن البعض من المسلمين أهل القبلة يعمدون إلى مقاتلة المسلمين الذين يخالفونهم بالرأي مكفّرين لهم، ويهجرونهم من ديارهم، ويتآمروا مع غير المسلمين على تهجيرهم، وذلك بسلوك طريق التكفير لهم حتى يسوغ لهم فعل ما تذكره الآية!

المقاتلة في الدين والتهجير من الديار يحصل من مسلمين ضد مسلمين يخالفونهم في العقيدة التي يعتقدون بصوابها، أو يحصل من غير المسلمين، فإذا كان المقصودون هم غير المسلمين فالأمر ليس فيه غموض يستدعي البيان لأنه يقع من باب الأولى، ولكن ما بالك إذا كان الفاعل لهذين الفعلين من المسلمين؟ فهؤلاء لا يجوز اتخاذهم أولياء بمعنى إعطاء الولاية لهم بجعلهم ولاة للأمر على المسلمين وإن كانوا من أهل القبلة!

والخلاصة: إنّ الضابطة التي تشيع ثقافة التعايش السلمي بين مختلف أهل الأديان تلكم الثقافة التي أرساها القرآن العظيم تتمحور حول مسألتين أساسيتين هما:

المسألة الأولى: نبذ العنف والقتال الذي يوقعه مسلمون وغير مسلمين على المسلمين بدعاوى متنوعة.

المسألة الثانية: أمن المسلمين في ديارهم وذلك بعدم تعرّضهم إلى التهجير القسري الذي قد يقوم به مسلمون أو غير مسلمين. (1)

10- الدعوة الى الله بالسبل السلمية و الحضارية أي بالحكمة والموعظة والجدال بالتي هي أحسن: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

11- ومع أنه ينبغي الحذر الشديد من مؤامرات الأعداء و مكائدهم ومن الإستسلام للأمر الواقع لأن للسياسة موازينها و تقلباتها المعروفة إلا أن للمعاهدات المبرمة حرمتها وحكمها بضرورة الوفاء والإلتزام بها ومواجهة الخيانة بحزم: (يا ايها الذين آمنوا أوفوا بالعقود. وإما تخافنّ من قوم خيانة فانبذ اليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين).

ص: 48


1- التعايش السلمي في القرآن والطائفية، كاظم الحسيني الذبحاوي.

12- الوفاء بالشروط وإن كانت مضرة غير مواتية: وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم و لاتنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً – إن الله يعلم ما تفعلون – ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاتتخذون أيمانكم دَخَلاً بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون).

13- الرباط الإنساني رباط مقدّس فوق اعتبارات الجنس و النوع: يا ايها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً. (1)

14- تأصيل مبدأ العفو والإحسان للناس، وذلك متضمن في الآيات الشريفة التالية:

) وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ). (2)

(وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). (3)

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). (4)

(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ). (5)

(وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). (6)

(وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). (7)

أما حرمة النفس الإنسانية وكرامتها في تعاليم القرآن الكريم، فإننا نراها وبكل وضوح متجلية في الفقه الجنائي الإسلامي، وهذه بعض الشواهد القرآنية التي نستدل بها على هذه الحقيقة المهمة:

ص: 49


1- نصوص قرآنية في التسامح و التعايش السلمي، الدكتور صباح البرزنجی، بتصرف بسيط.
2- القصص (77) .
3- البقرة (195) .
4- النحل (90) .
5- الشورى (40-41) .
6- آل عمران (134) .
7- النور (22) .

1- قال تعالى: (ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر و البحر و رزقناهم من الطيبات و فضَّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)

قال صاحب الكشاف: قيل في تكرمة إبن آدم: كرّمه الله بالعقل و النطق و التمييز و الخط و الصورة الحسنة والقامة المعتدلة وتدبير أمر المعاش و المعاد.2-قال تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرَم الله إلاّ بالحق) مما يدل بإطلاقه و عمومه أن النفس الإنسانية مصونة و معصومة لا سيَما إذا كانت في دار المسلمين و تحت سلطتهم. وقال تعالى: (أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً). ولم تقيّد النفس في هذه الآيات بالإيمان و الإسلام، فمن أين للتكفيريين كل هذا العبث بأرواح الناس وفيهم الأبرياء قطعاً ممن لاصلة لهم بالسياسة و أمور الدولة وفيهم الأطفال و النساء و الشيوخ والعجزة، ونحن نعلم علم اليقين أن ايذاء المؤمنين والمؤمنات دون داعٍ من الكبائر و الأمور المحرّمة قطعاً، كما يدل عليه قوله تعالى: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا و إثماً مبيناً). فإن مجرد الإيذاء بالقول أو العمل يعدّ جريمة تستحق العقوبة التعزيرية على أقل تقدير، وفي هذا ضمان لكل مؤمن و مؤمنة أن ينعم بعيش رغيد يأمن فيه على كرامته ونفسه وماله وأسرته. ثم اليس في الأعمال الإرهابية و التخريبية التي يقوم بها هؤلاء من الغدر و الغش و الخداع والتواطؤ على الشر ما يؤكِّد انحرافهم عن جادة الصواب والحق ونحن نوقن أن الشريعة الإسلامية حرّمت كل نوع من أنواع الشر والغدر والتواطؤ عليه بنصوص قاطعة ومحكمة، مثل قوله تعالى: (إن الله لايحب من كان خوّاناً أثيماً يستخفون من الناس ولايستخفون من الله) وقوله عزّ من قائل: (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان). (1)

ولأهمية تحقيق مبدأ السِلم الاجتماعي بين الناس، ترى القرآن الكريم يعرض لنا صورة لطيفة عن حياة أهل الجنة الذين لم يتحقق لهم التنعم برغيد العيش هناك إلا بعدما نزعوا من قلوبهم كل الخصال الذميمة من الحسد والحقد والبغضاء، قال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ

ص: 50


1- نصوص قرآنية في التسامح و التعايش السلمي، الدكتور صباح البرزنجی، بتصرف بسيط.

إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) (1) ولتحقيق العيش الرغيد في الدنيا فعلينا اتباع هذه الوصفة القرآنية الرائعة، وفي هذه الآية الكريمة (بيان لثلاث نعم معنوية أُخرى: (ونزعنا ما في صدوركم من غل) أيْ: الحسد والحقد والعداوة والخيانة (2). (إخواناً) تربطهم أقوى صلات المحبة. (على سرر متقابلين) إِن جلساتهم الإِجتماعية خالية من القيود المتعبة التي يُعاني منها عالمنا الدنيوي، فلا طبقية ولا ترجيح بدون مرجع والكل إخوان، يجلسون متقابلين في صف واحد ومستوىواحد، وبطبيعة الحال، فهذا لا ينافي تفاوت مقاماتهم ودرجاتهم الحاصلة من درجة الإِيمان والتقوى في الحياة الدنيا، ولكنّ ذلك التساوي إِنما يرتبط بجلساتهم الاجتماعية). (3)

لذا (تعالوا لنجعل من هذه الدنيا جنّة.. فإِنّ النعم المادية والروحية الأخروية التي صورتها الآيات السابقة في حقيقتها تشكل أصول النعم لهذا العالم، ولعل القرآن الكريم يريد أن يفهمنا بأنّنا يمكن أن نوجد جنّة صغيرة في حياتنا تكون شبيهة بتلك الجنّة الكبيرة، فيما لو استطعنا أن نوفر شرائطها المطلوبة اللازمة، فلو طهرنا قلوبنا من الحقد والعداوة، وقوّينا بيننا روابط الأخوّة والمحبة، وحذفنا من حياتنا تلك الاعتبارات واشكال الترف الزائدة والمفرقة، وإِذا ما عملنا لتحقيق الأمن والسلام في مجتمعنا، وإذا أدرك الناس بأنّه لا استعباد ولا استغلال ولا طبقية فيما بينهم.. فإِنّنا - والحال هذه - سنكون في جنّة الحياة الدنيا).. ومن لطيف ما يلاحظ في هذه الآيات المباركة أنّها بعد أن ذكرت نعمة السلامة والأمن، وقبل أن تتعرض لبيان حال الأخوّة والألفة التي سيكون عليها أهل الجنّة، أشارت إِلى مسألة نزع الصفات المانعة للأخوّة، كالحقد والحسد والغرور والخيانة، جامعة كل ذلك بكلمة ((الغل)) ذات المفهوم الواسع، وفي الحقيقة، إِنّ قلب الإِنسان ما لم يطهر من هذا ((الغل)) فسوف لا تتحقق نعمة السلامة والأمن ولا الأخوّة والمحبّة، بل الحروب والمظالم والمجابهات والصراعات على الدوام، وهو ما يؤدي إِلى قلع جذور

ص: 51


1- الحجر (45- 48) .
2- الغل: في الأصل بمعنى النفوذ الخفي للشيء، ولهذا يطلق على الحسد والحقد والعداوة التي تنفذ بخفاء في نفس الإِنسان، فالغل مفهوم واسع يشمل الكثير من الصفات الأخلاقية القبيحة.
3- تفسير الأمثل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي،ج8، ص81.

الأخوّة والسلامة والأمن من الحياة.. وعبارة (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين) إِشارة إِلى نفي أي نوع من الآلام والمعاناة الروحية (النفسية). (1)

وقال العلامة الشيخ حسن الصفار في إحدى محاضراته التي كانت بعنوان (مبادئ التعايش رؤية قرآنية) : (لابدّ علينا من الرجوع إلى القرآن الكريم، وهو المصدر الأساس للعقيدة والتشريع الإسلامي، لمعرفة الرؤية الدينية، والمنهج التشريعي للتعامل مع الآخر الديني، من خلال الرؤية القرآنية الآتية:

1- الشراكة الإنسانية:

ما يجب أن يستحضره المؤمن هو أن الآخر مهما كان دينه ومذهبه وعقيدته فهو شريك له في هذه الحياة، ولا بدّ من التعامل معه على هذا الأساس، ذلك أن الله تعالى هو خالق الكون والحياة، وهو مالك كل شيء من ثرواتها وخيراتها، وقد أعطى حق الحياة والاستمتاع بخيراتها لجميع أبناء البشر، من آمن به ومن كفر، فجميع البشر شركاء على نحو التساوي في فرص الاستفادة من إمكانات الوجود. ولا يحق لمن يدعي الإيمان بالله تعالى أن يصادر حق أحد من عباده ولو كان كافرًا، في التمتع بشيء من خيرات الحياة، لأنه بذلك يكون قدخالف إرادة الله، ومارس الظلم والجور، كان يمكن لله تعالى أن لا يخلق من لا يؤمن به، أو أن يسلب نعمة الوجود من الكافرين والعصاة، أو يحرمهم من بعض قدرات الحياة وامتيازاتها، لكن حكمته تعالى شاءت أن تتسع الحياة للجميع، وأن يغمر فضله ونعمه الجميع. ولنتأمل نماذج من الآيات الكريمة التي تؤكد هذه الحقيقة: يقول تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ والخطاب في قوله تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً﴾ موجه إلى البشر مؤمنهم وكافرهم، بدليل سياق الآية مع التي قبلها والتي تخاطب الكافرين. وقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾ وتشير جملة من الآيات الكريمة إلى أن الله تعالى قد منح الإنسان فرصة

ص: 52


1- ينظر المصدر نفسه، ج8، ص85.

الجمع بين متع الدنيا وثواب الآخرة، عن طريق الإيمان به والالتزام بدينه، لكن من يريد حرمان نفسه من ثواب الآخرة، بالكفر بخالقه والصدّ عن دينه، فإن فرصته في التمتع بملذات الدنيا محفوظة له، يقول تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ﴾.

ويقول تعالى: ﴿كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾ فنعم الله تغمر هؤلاء المؤمنين وهؤلاء الكافرين، ولا يحظر على الكافرين شيء من عطاء الله في هذه الحياة. هذه الآيات الكريمة وأمثالها كثير في القرآن الكريم، تؤكد على تكافؤ الفرص بين أبناء البشر في هذه الحياة، وأنه لا يحق لأحد أن يصادر حق أحد في الاستمتاع بخيرات الدنيا مهما كان دينه أو عقيدته، مؤمنًا كان أو كافرًا، لأن ذلك منحة وعطاء إلهي للخلق. ويمكننا أن نستشهد بقاعدة في الفقه الإسلامي تنبثق من هذه الرؤية وهي قاعدة الإحياء، فمن بادر لأرض مهملة غير مملوكة فأحياها بجهده ونشاطه، ببناء أو زرع أو ما أشبه من طرق الاستفادة، فإنه يتملكها. يقول الفقهاء: ((يجوز لكل أحد إحياء الموات بالأصل، والظاهر أنه يملك به من دون فرق بين كون المحيي مسلمًا أو كافرًا)) ولا يشترط عند الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة) كون المحيي مسلمًا. فلا فرق بين المسلم والذمي في الإحياء، لعموم قول النبي (صلی الله علیه و آله) : ((من أحيا أرضًا ميتة فهي له)) ولأن الإحياء أحد أسباب التمليك فاشترك فيه المسلم والذمي كسائر أسباب الملكية وهناك قاعدة: ((من حاز ملك)) فمن استولى على شيء غير مملوك لأحد من خيرات الكون، يصبح ملكًا له، مسلمًا كان أو غير مسلم.

2- الاعتراف والإقرار بوجود الآخر:

كما أنك موجود فكذلك الآخر موجود، حيث لا يستطيع أحد إلغاء أحد، وكما لا يرضيك أن يتنكَّر الآخر لوجودك، فإنه لا يقبل أن تنكر وجوده، وهنا يجب أن نفرق بين مشروعية الوجود، وحقانية الوجود، فكل صاحب دين أو مذهب يرى الحقانية في عقيدته، وأن المعتقدات الأخرى باطلة، لكنه لا يملك حق إلغاء المعتقدات الأخرى، فلها وجودها وأتباعها، ومن حقهم أن يعبّروا عن ذاتهم الدينية والمذهبية، وقد حاول بعض من أتباع مختلف الديانات والمذاهب أن يصادروا الوجودات الدينية والمذهبية المخالفة

ص: 53

لهم، لكن هذه المحاولات غالبًا ما تبوء بالفشل، ولا تنتج إلا الحروب القذرة، والعنف المتبادل باسم الدين.

إن الدين والمعتقد قد يصبح هويّة وجودية للمجتمع، لا يتخلى عنها تحت ضغط التهديد، ولا الخضوع لمنطق الأدلة والبراهين. وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾. ويروّض القرآن الكريم نفوس المؤمنين ليتعايشوا مع واقع التنوع الديني فهو قدر البشرية إلى يوم القيامة، فلا يتوهمن أحد إمكانية الفصل والحسم بين الديانات في هذه الحياة الدنيا، إذ أنها مهمة مؤجلة إلى يوم القيامة. وتتم بين يدي الله سبحانه تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾، ﴿إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾. وتكريسًا لهذا المبدأ يعترف القرآن بوجود أتباع الديانات الأخرى، إلى جانب وجود أتباعه المؤمنين، في إطار هوياتهم الدينية يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾.

3-حرية الرأي والمعتقد:

غالبًا ما يندفع الإنسان للتبشير برأيه وعقيدته بدافع وجداني، لأنه يؤمن بصحة رأيه، ويرغب أن يشاركه الآخرون الإيمان به، ويكسب المزيد من الثقة والاطمئنان برأيه حين تتسع رقعه المقتنعين به. وقد يكون الدافع للتبشير بالرأي والمعتقد دافعًا مصلحيًا، حين يكون وسيلة لاستتباع الآخرين، وأخذ موقع التأثير عليهم، والقيادة لهم، بما يحقق أطماع الهيمنة والسيطرة. وتشجع معظم الديانات أتباعها على التبشير بها ونشر معتقداتها، انطلاقًا من حقانيتها، ولأن ذلك يجلب رضا الرب سبحانه. وقد يؤدي التبشير بالرأي والمعتقد إلى حالة من الصدام والصراع بين أتباع الديانات والمذاهب والأفكار، وخاصة حين يأخذ منحى الفرض والإكراه.

وهنا يؤكد القرآن الكريم على احترام حرية الرأي والمعتقد، ويرفض أي محاولة لإكراه الآخرين على تبني معتقد أو قبول رأي. يقول تعالى ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ ويقول تعالى: ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ إن الأنبياء الذين بعثهم الله برسالاته

ص: 54

وشرائعه، تنحصر مهمتهم في تبيين الدين وتبليغه، ولا يحق لهم أبدًا فرض الدين أو إجبار الناس على اعتناقه. يقول تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ ويقولتعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ ويقول تعالى: ﴿ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾. لقد شاءت إرادة الله وحكمته أن يكون الإنسان في هذه الدنيا حرًّا في قناعاته وأفكاره، حتى في مبدأ الإيمان بالله تعالى، حيث لم يفرض الله على خلقه الإيمان به إجبارًا وإكراهًا، ولم يمنح لأحد حق هذه الوصاية والممارسة. يقول تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ ويقول تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ هكذا يؤكد القرآن الكريم احترام حرية الرأي والمعتقد، ولا يسمح للمؤمنين به استخدام العنف والقوة في الدعوة إليه، حتى عنف اللفظ والكلام غير مقبول عند الله كأسلوب للدعوة إلى دينه، يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ ويقول تعالى: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾.

4- سيادة العدل وحفظ الحقوق:

إن التمايز الديني والمذهبي لا يعطي لأحد الحق في الاستعلاء على الآخر، ومصادرة شيء من حقوقه الإنسانية، أو النيل من كرامته. فاعتقادك بأحقية دينك وبطلان دين الآخر لا يمنحك مبررًا للتسلط عليه أو امتهان كرامته، ذلك أن الإنسان بما هو إنسان وقبل أي عنوان آخر ديني أو عرقي أو طبقي، له قيمته وكرامته التي يجب أن تحفظ وتحترم في هذه الحياة، أما في الآخرة فحسابه عند ربه. يقول تعالى: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم﴾ ويقول تعالى: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ ولتأكيد هذه القيمة الإنسانية تحدثت آيات القرآن الكريم عن مكانة الإنسان وخصائصه الفريدة، فهو الذي جعله الله خليفته في الأرض، وجعل تحت تصرفه كل موجودات الكون والحياة، يقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ وقد خلقه في أحسن تقويم، وأسجد له ملائكته، ومنحه الكرامة والقيمة العالية، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ

ص: 55

الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ كل هذه المكانة والامتيازات للإنسان بما هو إنسان، دون النظر إلى عرقه أو دينه أو عقيدته، كما هو مفاد الإطلاق في الآيات الكريمة، وصحة العقيدة والدين والالتزام القيمي يضيف إلى صاحبه في المكانة والاعتبار عند الله، وفي ثواب الآخرة، أما في الحياة الدنيا فأبناء البشر يتساوون في تلك الميزات الأساس.

يقول السيد محمد حسين الطباطبائي في تفسيره للآية الكريمة ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾: ((يظهر أن المراد بالآية بيان حال لعامة البشر مع الغض عما يختص به بعضهم من الكرامة الخاصة الإلهية، والقرب والفضيلة الروحية المحضة، فالكلام يعم المشركين والكفار والفساق)) وقال الآلوسي البغدادي: ((﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ أيجعلناهم قاطبة برهم وفاجرهم ذوي كرم، أي شرف ومحاسن لا يحيط بها نطاق الحصر)) إن القرآن الكريم يقرر مبدأ كرامة الإنسان لإنسانيته أولًا وقبل كل شيء، فمن أي عرق انحدر، وإلى أي دين وعقيدة انتمى، فهو إنسان له كرامته الذاتية، ويجب أن يتمتع بحقوقه الإنسانية الكاملة.

وانطلاقًا من هذا المبدأ يقرر القرآن الكريم سيادة شرعه: العدل واحترام حقوق الإنسان كمنهج ونظام للعلاقة بين بني البشر في هذه الحياة. يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ﴾ ويقول تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ والأنبياء إنما بعثهم الله برسالاته وشرائعه ليقيموا العدل بين الناس: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ والعدل شرعة عامة لبني البشر، دون نظر لأعراقهم وأديانهم، هكذا يأمر الله رسوله (صلی الله علیه و آله) أن يخاطب غير المؤمنين به، يقول تعالى: ﴿وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾. إن وجود عداوة أو خصومة مع الطرف الآخر لا يبرر الجور عليه، وتخطي حدود العدل في التعامل معه، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ إنه لا يجوز النيل من أي حق من حقوق أحد من الناس المادية أو المعنوية يقول تعالى: ﴿وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ وقد تكررت هذه الجملة في ثلاثة موارد من القرآن الكريم.

ص: 56

هذه مبادئ أساسية يقررها القرآن الكريم لتوطيد السِلم العالمي، ولتحقيق التعايش بين بني البشر، لكن المؤسف تجاهل هذه المبادئ في أوساط أبناء الأمة الإسلامية، بل سيادة توجهات على النقيض منها تحت عنوان الجهاد، أو الولاء والبراء، أو مواجهة أهل البدع).

آيات السِلم الاجتماعي:

ونذكر فيما يأتي جملة من النصوص القرآنية التي تحث على نبذ العنف والإرهاب، وتأصّل لإيجاد مبدأ التعايش السلمي بين المجتمعات، سواء بين المسلمين أنفسهم أو بين المسلمين وسائر أبناء الطوائف الدينية الأخرى:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (1) وانطلاقاً من مفهوم هذه الآية الكريمة، يكون الذي يعكر أجواء السِلم والأمان في المجتمع هو الشيطان وجنوده، الذي يُعد المصر الأساس لخلق المشكلات والتناحر والتفرقة، والآية تحذر المسلمين من الانخداع بأباطيله والسير وراء وساوسه وخطواته العدوانية.(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (2) وهذه الآية الشريفة تدعوا إلى وجوب التريث وعدم التسرع في اصدار الحكم على الآخرين، نظراً لظاهرهم، أو تبعاً للمصالح الشخصية.

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (3) وهذه الآية تشير إلى أن الأصل الأولي هو السلم وتحكيم السلام في المجتمع حتى مع الكفار إن جنحوا إلى السلم، نعم إن لم يجنح الكفار إلى السلم وأرادوا تعكير الأجواء بالاعتداء على المسلمين فعند ذلك يجب على المسلمين التهيؤ لصد هجماتهم وإعداد

ص: 57


1- البقرة (208) .
2- النساء (94) .
3- لأنفال (61) .

القوة لإرهابهم حتى لا يطمعوا بالمسلمين، ويضطروا إلى الجنوح للسلم، كما تشير إلى ذلك الآية الكريمة (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (1) فالإرهاب المباح بل المأمور به في الشريعة ليس إرهاباً لعباد الله بل إرهاب لإعداء الله من أجل تامين السلام والأمان للناس.

(فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا) (2) هذه الآية تنفي سبيل الحرب وقتال الكفار الذي يعتزلون الحرب ويلقون السلم إلى المسلمين، نعم إذا لم يعتزلوا ولم يجنحوا إلى السلم فيجب مواجهتهم بشدة صارمة كما تبينه الآية الكريمة (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا) (3) وهذه الآية وزانها وزان الآية التي تنهى عن الاستسلام والوهن والخنوع أمام الكفار المعتدين المتغطرسين (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ). (4)

(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) (5) فهذه صفة من صفات عباد الرحمن حيث يقابلون الجهلاء بسماحة وحلم ولا يُسمعونهم كلاماً بذيئاً كما سمعوا منهم البذيء، بل يقابلونهم بالسلم والسلام، كما ينقل القرآن الكريم سيرة النبي إبراهيم الخليل (علیه السلام) مع عمه آزر المشرك حيثقال له: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا). وهذا هو ديدن جميع أولياء الله تعالى في كل زمان ومكان، حيث يصفهم القرآن الكريم بقوله: (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ). (6) كما

ص: 58


1- الانفال (60) .
2- النساء (90) .
3- النساء (91) .
4- محمد (35) .
5- الفرقان (63) .
6- القصص (54 - 55) .

يرشد رسوله الكريم (صلی الله علیه و آله) إلى ذلك الصفح والعفو والسماحة والمواجهة السلمية مع الذين لا يؤمنون بقوله: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (1). (2)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (3) أي يجب على الفرد في حل المشكلات والتنازعات أن يعتمد على النصوص والأحكام الشرعية الصادرة من الله تعالى ومن الذين أمرنا بالرجوع إليهم وهم النبي الأعظم وأهل بيته الأطهار (صلوات الله عليهم) والعلماء المخلصين لا أن يعتمد على آرائه الشخصية أو اتباع الاشخاص الذين لا حجة شرعية في اتباعهم، لأنهم يفضون إلى ما لا يرضى به الله سبحانه، ويعقّد العلاقات بين أبناء المجتمع.

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). (4)

بيان مبدأ التعارف العالمي بين الشعوب والقبائل المختلفة، لأن التعارف يولد التقارب والألفة، في حين إن الجهالة تولد النفرة والعداوة، لأن (الناس أعداء ما جهلوا).

(...وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). (5)

الآية الكريمة توصي بصيانة عفة النساء وتُحرم إكراههن لأجل ممارسة الفاحشة وتكسب المال من وراء ذلك.

(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ). (6)

الآية الشريفة على الرغم أنها توجب فريضة الجهاد على المسلمين إلا أنها تحرم الاعتداء على الاخرين بغير حق، الذي قد يصدر منالمجاهدين جراء ممارسة العمل

ص: 59


1- الزخرف (89)
2- الإرهاب والعنف في ضوء القرآن والسنة والتأريخ والفقه المقارن، الشيخ محسن الحيدري، ج2، ص109 - 111
3- النساء (59) .
4- الحجرات (13) .
5- النور (33) .
6- البقرة (190) .

العسكري، والانهماك بالحرب وصد هجمات العدو، فينسى أو يتناسى البعض الأدبيات الإسلامية الخاصة بالمجاهدين التي يمليها عليهم الدين الإسلامي الحنيف.

(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (1) نلاحظ بوضوح في هذه الآية الكريمة، كيف أن الملائكة شخصت الركن الأساسي والرئيسي لتعمير الأرض وإقامة الخلافة الربانية التي يسعد البشر بها على ظهرها، ألا وهو مبدأ السلِم والأمان الاجتماعي، حيث قالت متسائلة: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) فالملائكة التفتت لهذا العنصر المهم دون العناصر الحياتية الأخرى، لأن السلِم والأمان الاجتماعي بمعية العنصر الاقتصادي، إذا لم يتوفر فإن بقية العناصر الحياتية للإنسان تكون عديمة الفائدة، أو على أقل التقادير، مشلولة ومعطلة، بسبب انتشار حالة الخوف والجوع في المجتمع، لذا نرى في مدرسة القرآن الكريم التركيز على ذكر هاتين النعمتين المهمتين اللتين يذكر الله سبحانه بهما عباده في أكثر من آية، ليس فقط في الحياة الدنيا بل حتى الحياة في الجنة التي ترفل وتنعم بالأمن والسلام العميم، حيث يقول جل شأنه:

(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ). (2)

(يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ). (3)

(..ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ). (4)

(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ). (5)

(مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ). (6)

ص: 60


1- البقرة (30) .
2- قريش (3-4) .
3- الزخرف (68) .
4- الأعراف (49) .
5- النحل (112) .
6- سبأ (37) .

(مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ). (1)

(وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (2) إن حالة المقاطعة الاجتماعية بين أفرادالمجتمع، تُعد نوعاً من أنواع العذاب النفسي الذي ينغص العيش، وهي بعيدة عن روح السٍلم والتسامح الاجتماعي، لذا وصف الله سبحانه حال المخلفين الثلاثة بأنهم قد (ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا) فلا يجني المتخاصمون والمتناحرون في غير مرضاة الله سوى الأذى الباطني وعدم راحة البال.

أما الآيات التي تحث على مكارم الأخلاق وعلى العفو وتنزيه النفس واللسان تجاه الآخرين فهي:

(وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ...). (3)

(.. وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا..). (4)

(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ). (5)

(وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ). (6)

(وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم). (7)

(وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). (8)

ص: 61


1- النمل (89) .
2- التوبة (118) .
3- الأنعام (108) .
4- البقرة (83) .
5- آل عمران (159) .
6- فصلت (34) .
7- البقرة (237) .
8- التغابن (14) .

(وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ). (1)

الآيات التي تحث على ضرورة التعاون والتكاتف الاجتماعي، وتحث على التصالح ونبذ التقاطع والتخاصم بين المسلمين:

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ). (2)

(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ). (3)(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). (4)

(وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). (5)

الآيات التي تسّن مبدأ الحرية الدينية، ونبذ كل أشكال الإكراه الاعتقادي:

(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ). (6)

(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ). (7)

﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾. (8)

ص: 62


1- الحشر (10) .
2- الحجرات (10) .
3- الأنفال (46) .
4- آل عمران (103) .
5- الحجرات (9) .
6- البقرة (256) .
7- الكافرون (6) .
8- البقرة (272) ،

﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ﴾. (1)

(وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ). (2)

(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ). (3)

(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ..). (4)

الآيات التي ترسم خارطة طريق لكيفية التعامل الإسلامي، مع المشركين وأهل الكتاب والمؤلفة قلوبهم ومَن على شاكلتهم:

(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ). (5)(إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ). (6)

(إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). (7)

(يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا)

ص: 63


1- الشورى (48) .
2- يونس (41) .
3- يونس (99) .
4- الكهف (29) .
5- آل عمران (64) .
6- التوبة (4) .
7- التوبة (60) .

(لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ).

(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ) (1) وهذه الآية الكريمة تُعد صورة مشرقة من صور العدل والإحسان إلى غير المسلمين وتجيز مخالطتهم لاسيما أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى، وذلك بأكل طعامهم وإطعامهم من طعام المسلمين ومناكحة المحصنات أي العفيفات من أهل الكتاب، ومن صور العدل والإحسان إلى غير المسلمين أيضاً إجارتهم أي حمايتهم وتأمينهم ونصرتهم ومعونتهم إذا طلبوا ذلك من المسلمين. وعن ذلك يقول الله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ). (2)

قال تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ التعاون ضمن إطار البر والتقوى وهو مبدأ من مبادئ التعايش، الذي ينبغي أن يكون بين البشر بعد إدراك حقيقة الكرامة الإنسانية، والتسليم بواقع التنوع البشري، والسعي للتعارف، فمن دون الإيمان بمبدأ (التعاون) والالتزام العملي به تبقى المبادئ السابقة معطلة وشكلاً بلا مضمون، فالتعاون هو الإطار العام الذي ينبغي أن تتحرّك ضمنه كافة صيغ التعايش الضرورية والممكنة. ولكن حتى يكون التعايش حقيقيًّا ينبغي أن يكون التعاون من أجله قائماً على دعامتين لتشكّلا معاًروح التعايش الفاعل وهما: البر: وهو التوسع في فعل الخير، والتقوى: وهي ضبط النفس والتسلط على الشهوات. هذا كله في الجانب الإيجابي المقوّم للتعايش القائم على التعاون ودعامتيه. أما في الجانب السلبي فينبغي الحذر من الخروج عن تلك الحدود والارتماء في تعاون لا يهدف إلَّا الإثم والعدوان، وهما آفة كلّ محاولة تعايش تتطلّع للأمن والاستقرار وتحقيقِ أكبرَ قدر من العدالة بين بني البشر ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ والنتيجة أنه لا معنى للتعايش بلا

ص: 64


1- (المائدة 5:5) .
2- (التوبة 6:9) .

تعاون، كما أنه لا طريق للتعاون بلا تعايش، وبأيهما تعلّقت به الإرادة البشرية وجعلته خيارها قادها للآخر لا محالة. فكلٌّ منهما هو أحد المقاصد العليا التي يتطلّع إليها القرآن الكريم في الموقف من واقع التنوّع البشري وحفظ الكرامة الإنسانية.

هذه هي مبادئ التعايش التي تشكّل في مؤدياتها منطلقات الدعوة للتعايش وأهدافه وضوابط آلياته العامة، وما عداها فهي متفرعة عنها راجعة إليها. أما الصيغ العملية الجزئية للتعايش فهي تختلف بطبيعة الحال باختلاف مساحة التنوع ونوعيته وظروفه الموضوعية وزمانه ومكانه وأحواله ومدى الإيمان به والالتزام بمبادئه على الأرض.. قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ وهي على -ما نعتقد- الآيةُ الأصلُ التي يمكن الاتِّكاء عليها في التأصيل القرآني (للتعايش) بين بني البشر على اختلاف تنوّعهم في الأديان والمذاهب واختلافهم في الثقافات والعادات، فهي بحق آية (التعايش) بكل امتياز.

وذلك لجملة الحيثيات التالية:

أولاً: دلالتها الصريحة في الدعوة إلى التعايش بين بني البشر، وهو ما نجده في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ﴾ فهي دعوة صريحة وعامة ولا خصوصية في المخاطب تمنع من ظهورها في العموم والشمول، والمورد لا يُخصّص الوارد.

ثانياً: بيانها المحدد للقواسم المشتركة التي يمكن الالتقاء عليها في التعايش. وهو ما نصت عليه الآية بقولها:

(1- ألَّا نعبد إلَّا الله 2- ولا نشرك به شيئاً 3- ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله). وهي في فهمنا:

• نفي الاستحقاق للعبادة عن غير الله تعالى، ولازمه أن لا معبود إلَّا الله ولا عبادة إلَّا له. فلا طاعة مطلقة ولا تسليم إلَّا لله تعالى.

• نفي الشركاء في الإلوهية والربوبية والالتزام العملي بذلك، وعدم الخروج عنه، وفيه تأكيد لمبدأ التوحيد وتحديد للمعبود الواحد وجهة العبادة.

ص: 65

• إن البشر كلهم على تنوّعهم في مستوى واحد من حيث الإنسانية ومن حيث الحقوق والواجبات الطبيعية، وبالتالي لا حق لأحد بالأصالة في الاستعلاء على أحد والتميُّز عليه في الحقوق والواجبات في أي مرتبة من المراتب.

ثالثاً: الموقف المبدئي الإيجابي من الحالات الرافضة لدعوات التعايش العادلة. وهو ما تؤسّس له الآية في خاتمتها بقولها: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾، ففي مقابل الموقف السلبي من مشروع التعايش على القواسم المشتركة ومقاطعته، ينبثق الموقف الإيجابي الموحد في تأكيد الانتماء والتمحور حول الهوية.

رابعاً: اشتمالها على أصول وآداب وسنن الدعوة الصحيحة للتعايش الحقيقي حيث تتكشف كلما ازدادت عملية التدبر دقة وعمقاً، ومن جملتها:

• أخذ زمام المبادرة في الدعوة إلى التعايش والمشاركة فيه امتثالاً لنداء القرآن وتأسياً بسيرة نبي الإسلام في ذلك كله، مما يمكن استفادته من كلمة الأمر (قل) في قوله تعالى مخاطباً به نبيه العظيم (صلی الله علیه و آله) : ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا﴾.

• التلطف في خطاب التعايش بما يكون للدعوة أثرها في نفسية المخاطب، تماماً كما وجدنا الآية في خطابها لأهل الكتاب حيث كان نداؤها لهم: ب﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ وربما فيه تذكير لهم بما ينبغي أن يكونوا عليه من منطلقاتٍ في الموقف من دعوات التعايش، بألَّا يكون ذلك منهم خارجاً عن مرجعيتهم الأولى.

• التوازن في الخطاب بالابتعاد فيه عن الأساليب الفوقية أو الاستعلائية التي من شأنها أن تُثير حفيظة الآخر أو تحرّك حميته وترفع مستوى العصبية وروح الممانعة في الاستجابة لنداءات التعايش. قال تعالى: ﴿تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾. أي كلمة عدل مستوية بيننا وبينكم.

• الدعوة في مشاريع التعايش إلى الالتقاء على القواسم المشتركة المتفق عليها بين الأطراف المعنية، والابتعاد قدر الإمكان عن الخوض في نقاط الخلاف وتفاصيلها، لا سيما فيما من شأنه أن يُجهض المبادرات أو يُعرقل المساعي. وهو ما يمكن أن نتعلّمه من قوله تعالى ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ

ص: 66

اللهِ﴾. وهو ما لم تختلف فيه الرسالات الإلهية قطعاً وهو حجة تامة على أهل الكتاب -مثلاً- فيما لو لم يقبلوا بالتعايش بعد رفضهم للدخول في الإسلام. (1)

ص: 67


1- مبادئ التعايش في الرؤية القرآنية، مجلة البصائر، الشيخ إبراهيم الميلاد.

مبدأ التعايش السلمي في روايات المعصومين (علیهم السلام)

نذكر فيما يأتي بعض الروايات الشريفة الواردة عن المعصومين (علیهم السلام) والتي تحث على ضرورة تحقيق حالة السِلم الاجتماعي بين أبناء الأمة، بل بين سائر أفراد البشرية، وهذه الروايات الشريفة تُعد بعض النماذج القليلة التي هي المنطلق الأخلاقي والانساني للتعامل مع الناس وفق المنهج الاسلامي الذي يريده النبي الأكرم واهل بيته الأطهار (عليهم الصلاة والسلام) :

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (ألا انبئكم لم سمي المؤمن مؤمناً؟ لإيمانه الناس على أنفسهم وأموالهم) فالإيمان بالله ملازم لإيجاد الأمن للناس على انفسهم وأموالهم. (1)

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (ألا انبئكم من المسلم؟ من سلم الناس من يده ولسانه). فالذي يعنّف الآخرين ويؤذيهم ليس فيه وصف المسلم، حسب هذا الحديث. (2)

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن يسمع رجلا ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم) فالمسلم ليس فقط لا يظلم الآخرين، بل يحاول الظلم عن الآخرين وإن لم يكونوا مسلمين، ولا شك أن المسلمين لو التزموا بهذا المبدأ الأخلاقي لاستتب الأمن وانتشر السلام في حدود ما حكمه الإسلام. (3).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (ألا أخبركم بخير أخلاق أهل الدنيا والاخرة؟ قالوا: بلى يا رسول الله: فقال: إفشاء السلام في العالم). (4)

ص: 68


1- بحار الأنوار، ج 64،ص60.
2- المصدر نفسه.
3- ينظر الإرهاب والعنف في ضوء القرآن والسنة والتأريخ والفقه المقارن، الشيخ محسن الحيدري، ج2، ص111 – 112.
4- بحار الأنوار،ج 73، ص12.

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام، و السابق يسبق إلى الجنة).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (المسلم اخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه، ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام، عرضه وماله ودمه، التقوى ها هنا بحسب امرئ من الشر أن يحتقر أخاه المسلم).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (رأس العقل بعد الدين التودد إلى الناس، واصطناع الخير إلى كل أحد بر وفاجر).وعنه (صلی الله علیه و آله) : (للمسلم على أخيه ثلاثون حقاً لا براءة له منها إلا بالأداء أو العفو: يغفر زلته، ويرحم عبرته، ويستر عورته، ويقيل عثرته، ويقبل معذرته، ويرد غيبته، ويديم نصيحته، ويحفظ خلته، ويرعى ذمته، ويعود مرضته، ويشهد ميته، و يجيب دعوته، ويقبل هديته، ويكافئ صلته، ويشكر نعمته، ويحسن نصرته، و يحفظ حليلته، ويقضي حاجته، ويشفع مسألته، ويسمت عطسته، ويرشد ضالته، ويرد سلامه، ويطيب كلامه، ويبر إنعامه، ويصدق أقسامه، ويوالي وليه، ولا يعاديه، وينصره ظالما ومظلوما: فأما نصرته ظالما فيرده عن ظلمه، وأما نصرته مظلوما فيعينه على أخذ حقه، ولا يسلمه، ولا يخذله، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه ويكره له من الشر ما يكره لنفسه. ثم قال (علیه السلام) : سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: إن أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئا فيطالبه به يوم القيامة فيقضى له وعليه). (1)

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (خير المؤمنين من كان مألفة للمؤمنين، ولا خير فيمن لا يؤلف ولا يألف).

وكان الرسول الكريم (صلی الله علیه و آله) يحذر المؤمنين من الاتصاف بالأخلاق الذميمة، ويمنعهم من التعامل بها مع الاخرين، ومن هذه التوصيات النبوية ما روي عنه (صلی الله علیه و آله) : (ألا أنبئكم بشرار الناس؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال:

ص: 69


1- بحار الأنوار، ج 71، ص236.

من نزل وحده ومنع رفده وجلد عبده، ألا أنبئكم بشر من ذلك؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: من لا يقبل عثرة ولا يقبل معذرة. ثم قال (صلی الله علیه و آله) : ألا أنبئكم بشر من ذلك؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره. ثم قال: ألا أنبئكم بشر من ذك؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: من يبغض الناس ويبغضونه).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (أيّها الناس اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمنّ أنّ كلّ مسلم أخ للمسلم، وإنّ المسلمين أخوة، فلا يحلّ لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمنّ أنفسكم اللهُمَّ هل بلغت).

وورد عنه (صلی الله علیه و آله) الدّعاء التالي ذكره والذي يُستحب الدعاء به في شهر رمضان بعد كلّ فريضة، والذي يُستظهر منه التعاطف والتعاطي مع جميع أبناء البشرية- والدعاء لهم بالرحمة والسلام والصلاح والهداية: (اَللّهُمَّ اَدْخِلْ عَلى اَهْلِ الْقُبُورِ السُّرُورَ اَللّهُمَّ اَغْنِ كُلَّ فَقير، اَللّهُمَّ اَشْبِعْ كُلَّ جائِع، اَللّهُمَّ اكْسُ كُلَّ عُرْيان، اَللّهُمَّ اقْضِ دَيْنَ كُلِّ مَدين، اَللّهُمَّ فَرِّجْ عَنْ كُلِّ مَكْرُوب، اَللّهُمَّ رُدَّ كُلَّ غَريب، اَللّهُمَّ فُكَّ كُلَّ اَسير، اَللّهُمَّ اَصْلِحْ كُلَّ فاسِد مِنْ اُمُورِ الْمُسْلِمينَ، اَللّهُمَّ اشْفِ كُلَّ مَريض، اللّهُمَّ سُدَّ فَقْرَنا بِغِناكَ، اَللّهُمَّ غَيِّر سُوءَ حالِنا بِحُسْنِ حالِكَ، اَللّهُمَّ اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَاَغْنِنا مِنَ الْفَقْرِ، اِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيء قَديرٌ).قيل لرسول الله (صلی الله علیه و آله) : إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وهي سيئة الخلق تؤذي جيرانها بلسانها فقال (صلی الله علیه و آله) : (لا خير فيها هي من أهل النار). (1)

عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) : (إنّه لم يجتمع قوم قطّ على أمر واحد إلاّ اشتدّ أمرهم واستحكمت عقدتهم).

وعنه (علیه السلام) : (لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً).

عن الإمام الصادق (علیه السلام) : (ينبغي للمؤمن أن تكون فيه ثمان.. لا يظلم الأعداء، ولا يتحامل للأصدقاء، بدنه منه في تعب، والناس منه في راحة). (2)

وعنه (علیه السلام) : (من لقى أخاه بما يؤنبه أنبه الله في الدنيا والاخرة).

وعنه (علیه السلام) : (من يضمن لي أربعة بأربعة أبيات في الجنة؟ من أنفق ولم يخف فقرا، وأنصف الناس من نفسه، وأفشى السلام في العالم، وترك المراء وإن كان محقاً).

ص: 70


1- بحار الأنوار، ج 68، ص (394) .
2- المصدر نفسه.

وعنه (علیه السلام) : (صانع المنافق بلسانك واخلص ودك للمؤمن، وإن جالسك يهودي فأحسن مجالسته).

وروي عن أبي أسامة زيد الشحام قال: قال لي أبو عبدالله (علیه السلام) : اقرأ على من ترى أنه يطيعني منهم ويأخذ بقولي السلام، واوصيكم بتقوى الله عزّ وجّل، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد (صلی الله علیه و آله) أدوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها براً أو فاجراً، فإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط. صلوا عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل هذا جعفري، فيسرني ذلك ويدخل عليّ منه السرور، وقيل هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك دخل عليّ بلاؤه وعاره، وقيل هذا أدب جعفر. والله، لحدثني أبي (علیه السلام) إن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي (علیه السلام) فيكون زينها آداهم للأمانة، وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، تسأل العشيرة عنه فتقول من مثل فلان إنه آدانا للأمانة، وأصدقنا للحديث). وقد أوصى الإمام الصادق (علیه السلام) في هذا الحديث أتباعه بهذه الوصايا الأخلاقية التي إذا تحققت في حياتنا الفردية والاجتماعية فإننا سننعم بالجنة في الدنيا قبل أن نرحل إلى الأخرة، ونعيش حالة من السلم والوئام الاجتماعي،

وهذه الوصايا المباركة تتعلق بتنظيم العلاقات بين أتباع الإمام (علیه السلام) وبقية المذاهب الإسلامية، وكذلك وضح (علیه السلام) بكل دقة الآثار الاجتماعية الإيجابية عند العمل بهذه الوصايا، والتداعيات السلبية عند إهمالها، فعندنا يقول (علیه السلام) على سبيل المثال: (وعودوا مرضاهم) فإن الجميع يمرض بشكلٍ طبيعي ولكنه (علیه السلام) يريد اغتنام هذهالفرصة لإيجاد حالة من الوحدة والمحبة بين أفراد الأمة الإسلامية، ونحقق حالة التعايش المرضي عنه الله سبحانه، بعيداً عن التقاطع والتفرق والتخاصم، ويشير (علیه السلام) أيضاً

إلى أداء جميع الحقوق إلى أصحابها ومن غير تميزٍ في هذا الجانب بين المذاهب، قائلاً: (وأدوا حقوقهم) لكي لا يظنّ أحد من الشيعة أنه يحق له التفريط في أداء حقوق إخوانه من بقية المذاهب، والإمام الصادق (علیه السلام) بالعكس من ذلك فإنه يأمرنا ويؤكد علينا بأداء جميع الحقوق للمسلمين، حتى وإن كان من مذاهب أخرى (فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه

ص: 71

وصدق الحديث وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل هذا جعفري، فيسرني ذلك ويدخل عليّ منه السرور، وقيل هذا أدب جعفر).

ص: 72

توصيات المعصومين (علیهم السلام)

بضرورة التعامل السِلمي مع المخالفين ومع غير أهل الملة والعِرق وتصحيح النظرة تجاههم

فيما يلي نذكر بعض النماذج من الروايات الشريفة التي تُبين حث النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) والأئمة الأطهار (علیهم السلام) على كيفية التعامل مع المخالفين ومع غير المسلمين، وهذه الروايات الشريفة تعطينا بكل وضوح الرؤية الإسلامية الناصعة، تجاه مبدأ التعايش السلمي، الذي يحبذ قادة الإسلام إشاعته بين عامة الناس، فضلاً عن إشاعته بين أبنائه، وينبغي أن لا يفوت القاريء الكريم إن هذه الثقافة المملؤة بالتسامح وروح التعاطي مع المخالفين، موجودة في ذلك الزمان الذي لم يعرف الناس - إلا ما ندر - أي لون من ألوان المساحة وثقافة تقبل الآخر واحتوائه، بل إن لغة العنف والمقارعة بالسيف والصراع المحتدم هي اللغة الغالبة في المجتمعات القريبة العهد بالجاهلية الجهلاء التي اشرقت عليها فيما بعد تعاليم الإسلام العظيم فجعلت بعضهم قادة للأمم وساسة للبلاد بفضل تعاليم وارشادات النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) والأئمة الأطهار (علیهم السلام) :

عن عبدالله بن سنان قال: (قذف رجل رجلاً مجوسياً عند الإمام الصادق (علیه السلام) فقال: مه، فقال الرجل: إنه ينكح أمه وأخته، فقال: ذلك عندهم نكاح في دينهم). (1)

قال أحد الصحابة: (كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ كَلاَمٌ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً، فَنِلْتُ مِنْهَا، فَذَكَرَنِي إِلَى النَّبِيِّ (صلی الله علیه و آله) ، فَقَالَ لِي : أَسَابَبْتَ فُلاَنًا ؟ قُلْتُ : نَعَمْ. قَالَ :أَفَنِلْتَ مِنْ أُمِّهِ؟ قُلْتُ : نَعَمْ. قَالَ : إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّة) وفي رواية مشابهة أخرى يذكرك (إن أحد الصحابة عير رجلاً على عهد النبي (صلی الله علیه و آله) بأمه، فقال له: يا بن السوداء وكانت أمه

ص: 73


1- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج21، ص199.

سوداء فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): تعيره بأمه.. قال: فلم يزل هذا الصحابي يمرغ وجهه في التراب ورأسه حتى رضي رسول الله (صلی الله علیه و آله) عنه).

عن أبي بكر الحضرمي قال: (قال علقمة أخي لأبي جعفر (علیه السلام) : إن أبا بكر قال: يغالي الناس في علي (علیه السلام) فقال لي أبو جعفر: إني أراك لو سمعت إنساناً يشتم علياً (علیه السلام) فاستطعت أن تقطع أنفه فعلت، قلت: نعم، قال: فلا تفعل، ثم قال: إني لاسمع الرجل يسب علياً (علیه السلام) وأستتر منه بالسارية، وإذا فرغ أتيته فصافحته). (1)

روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال لمعاذ بن مسلم النحوي: (بلغني أنك تقعد في الجامع فتفتي الناس؟ قلت: نعم، وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج، إني أقعد في المسجد فيجئ الرجل فيسألني عن الشئ،فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون، ويجئ الرجل أعرفه بمودتكم وحبكم فأخبره بما جاء عنكم، ويجئ الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو فأقول: جاء عن فلان كذا، وجاء عن فلان كذا، فأدخل قولكم فيما بين ذلك، فقال لي: اصنع كذا فإني كذا أصنع). (2)

أسلم شاب نصراني ودخل على الإمام الصادق (علیه السلام) فدعا له وقال له: سلْ عما شئت يا بني، فقال الشاب : إن أبي وأمّي وأهل بيتي على النصرانية، وأمي مكفوفة البصر، أنا أعيش معهم وآكل في آنيتهم، فقال الإمام (علیه السلام) : أيأكلون لخم الخنزير؟ فقال الشاب: كلاّ، فقال الإمام (علیه السلام) : كل معهم، وأوصيك بأمّك فلا تقصر في برّها، وكن أنت الذي تقوم بشأنها، وعاد الشاب إلى الكوفة، فرأت أمّه منه أخلاقاً حسنة لم ترها من قبل، فقالت: يا بني ما كنت تصنع بي هذا وأنت على ديني، فما الذي أرى منك منذ هاجرت ودخلت في الحنيفية؟ فقال الشاب: أمرني بهذا رجلٌ من ولد النبي محمد (صلی الله علیه و آله) فقالت أمّه: أهو نبي؟ فقال الشاب: لا، ولكنه ابن نبي. فقالت الأم: دينك خير الأديان اعرضه عليّ، فعرض الابن على أمّه دين الإسلام فأسلمت، وعلّمها الصلاة.

قال معاوية بن وهب للإمام الصادق (علیه السلام) : قلت له: كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ممن ليسوا على أمرنا؟ فقال: (تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون، فو الله إنهم ليعودون مرضاهم،

ص: 74


1- بحار الأنوار، ج 72، ص400.
2- ميزان الحكمة، ج8، باب الفتوى.

ويشهدون جنائزهم، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم، ويؤدون الأمانة إليهم)..كلمة الناس تأخذ غالباً في أدبيات روايات مدرسة أهل البيت معنيين، ألأول: المعنى اللغوي والاصطلاحي وتعني عامة الناس، ولكن هناك معنى ثان استخدم في هذه الرواية : بمعنى أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى لا سيما أهل السنة، مثل رواية الإمام الرضا (علیه السلام) حيث قال: (لو علم الناس محاسن كلامنا لاتبعونا) وفي هذه الرواية قرينة حيث يقول: (ممن ليسوا على أمرنا) وتعني الذين لا يقبلون ولاية أهل البيت (علیهم السلام) وبهذه القرينة يصبح استخدام كلمة (الناس) بالمعنى الثاني أكثر وضوحاُ. إن بعض المصطلحات أتت بشكل الكناية في روايات أهل البيت (علیهم السلام) بسبب الظروف الأمنية والسياسية الصعبة، وهذه الظاهرة تبين دقة أهل البيت (علیهم السلام) ومنهجهم الوحدوي حتى في استخدام مصطلحاتهم وأدبيات رواياتهم. إلى هنا وضح السؤال، لقد أعطى الإمام جواباً شافياً ووافياً ويوجد به الكثير من الدروس والعبر والعمل بها وبالأحاديث المشابهة لها يضمن خروج الأمة الإسلامية من أزمات الفتن المذهبية إلى الأبد. هكذا قال: (فقال تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم). ألسنا نحن أئمتكم وتنظرون إلينا؟ (فتصنعون ما يصنعون). هكذا كانت أخلاق أهل البيت (علیهم السلام) مع أهل السنة، يا أيها الشيعة اجعلوا من هذا التعامل ميزاناً لسلوككم الاجتماعي، وفي الحقيقة هذا ليس واجباً عسيراً أن لا نتقدم عليهم ولا نتأخر عنهم بل نتبع خطاهم في هذا المجال، هنا يحلف الإمام فكأنبعضنا يشك في أن أهل البيت يتعاملون معهم بالأخلاق الحسنة، ولكنهم يقسمون حتى يأكدوا لنا ذلك، ويجب علينا أن نزيل شكوكنا في ذلك الإمام يقسم بلفظ الجلالة: (فوالله أنهم لیعودن مرضاهم و یشهدون جنائزهم ویقیمون الشهادة لهم وعلیهم ویؤدون الأمانة إلیهم). (1)

عن زرارة قال: (سئل الإمام الصادق (علیه السلام) وأنا جالس عن قول الله تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) يجري لهؤلاء ممن لا يعرف منهم هذا الأمر؟ فقال: لا إنما هذه للمؤمنين خاصة قلت له: أصلحك الله أرأيت من صام وصلى واجتنب المحارم وحسن ورعه ممن لا يعرف ولا ينصب؟ فقال: إن الله يدخل أولئك الجنة برحمته). (2)

ص: 75


1- مقتطف من محاضرة للشيخ غريب رضا، حول الوحدة والتعايش السلمي.
2- بحار الأنوار، ج 27، ص183.

روي عن النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) - في خطبة الوداع -: (يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لافضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم. ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فليبلغ الشاهد الغائب). (1)

عن أبي نعيم محمد بن أحمد الانصاري قال: (وجه قوم من المفوضة والمقصرة كامل بن إبراهيم المدني إلى أبي محمد (علیه السلام) قال كامل: فقلت في نفسي: أسأله لا يدخل الجنة إلا من عرف معرفتي وقال بمقالتي، قال: فلما دخلت على سيدي أبي محمد نظرت إلى ثياب بياض ناعمة عليه، فقلت في نفسي: ولي الله وحجته يلبس الناعم من الثياب ويأمرنا نحن بمواساة الاخوان، وينهانا عن لبس مثله، فقال متبسما: يا كامل وحسر ذراعيه فإذا مسح أسود خشن على جلده، فقال: هذا لله وهذا لكم. فسلمت وجلست إلى باب عليه ستر مرخى فجاءت الريح فكشفت طرفه فإذا أنا بصبي كأنه فلقة قمر من أبناء أربع سنين أو مثلها، فقال لي: يا كامل بن إبراهيم فاقشعررت من ذلك والهمت أن قلت: لبيك يا سيدي، فقال: جئت إلى ولي الله وحجته وبابه تسأله يدخل الجنة إلا من عرف معرفتك، وقال بمقالتك ؟ فقلت: إي والله قال: إذن والله يقل داخلها، والله إنه ليدخلها قوم يقال لهم: الحقية، قلت: يا سيدي ومن هم ؟ قال: قوم من حبهم لعلي يحلفون بحقه ولا يدرون ما حقه وفضله). (2)

جاء في الروضة من الكافي، خرجت هذه الرسالة من الإمام الصادق (علیه السلام) إلى أصحابه: (بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فاسألوا ربكم العافية وعليكم بالدعة والوقار والسكينة وعليكم بالحياء والتنزه عما تنزه عنهالصالحون قبلكم وعليكم بمجاملة أهل الباطل، تحملوا الضيم منهم وإياكم ومماظتهم دينوا فيما بينكم وبينهم إذا أنتم جالستموهم وخالطتموهم ونازعتموهم الكلام، فإنه لا بد لكم من مجالستهم ومخالطتهم ومنازعتهم الكلام بالتقية التي أمركم الله أن تأخذوا بها فيما بينكم وبينهم فإذا ابتليتم بذلك منهم فإنهم سيؤذونكم وتعرفون في وجوههم المنكر ولو لا أن الله تعالى يدفعهم عنكم لسطوا بكم وما في صدورهم من العداوة والبغضاء أكثر مما يبدون لكم، مجالسكم

ص: 76


1- ميزان الحكمة، باب التقوى.
2- بحار الأنوار، ج 69، ص163.

ومجالسهم واحدة وأرواحكم وأرواحهم مختلفة لا تأتلف، لا تحبونهم أبداً ولا يحبونكم غير أن الله تعالى أكرمكم بالحق وبصركموه ولم يجعلهم من أهله فتجاملونهم وتصبرون عليهم وهم لا مجاملة لهم ولا صبر لهم على شيء وحيلهم وسواس بعضهم إلى بعض فإن أعداء الله إن استطاعوا صدوكم عن الحق، فيعصمكم الله من ذلك فاتقوا الله وكفوا ألسنتكم ألا من خير. وإياكم أن تزلقوا ألسنتكم بقول الزور والبهتان والاثم والعدوان فإنكم إن كففتم ألسنتكم عما يكرهه الله مما نهاكم عنه كان خيرا لكم عند ربكم من أن تزلقوا ألسنتكم به فإن زلق اللسان فيما يكره الله وما (ي) نهى عنه مرداة للعبد عند الله ومقت من الله وصم وعمي وبكم يورثه الله إياه يوم القيامة فتصيروا كما قال الله: " صم بكم عمي فهم لا يرجعون " يعني لا ينطقون " ولا يؤذن لهم فيعتذرون ". وإياكم وما نهاكم الله عنه أن تركبوه وعليكم بالصمت إلا فيما ينفعكم الله به من أمر آخرتكم ويأجركم عليه وأكثروا من التهليل والتقديس والتسبيح والثناء على الله والتضرع إليه والرغبة فيما عنده من الخير الذي لا يقدر قدره ولا يبلغ كنهه أحد، فاشغلوا ألسنتكم بذلك عما نهى الله عنه من أقاويل الباطل التي تعقب أهلها خلوداً في النار من مات عليها ولم يتب إلى الله ولم ينزع عنها....فاتقوا الله أيتها العصابة الناجية إن أتم الله لكم ما أعطاكم به فإنه لايتم الامر حتى يدخل عليكم مثل الذي دخل على الصالحين قبلكم وحتى تبتلوا في أنفسكم وأموالكم وحتى تسمعوا من أعداء الله أذى كثيرا فتصبروا وتعركوا بجنوبكم وحتى يستذلوكم ويبغضوكم وحتى يحملوا (عليكم) الضيم فتحملوا منهم تلتمسون بذلك وجه الله والدار الآخرة وحتى تكظموا الغيظ الشديد في الاذى في الله عزوجل يجترمونه إليكم وحتى يكذبوكم بالحق ويعادوكم فيه ويبغضوكم عليه فتصبروا على ذلك منهم ومصداق ذلك كله في كتاب الله الذي أنزله جبرئيل (علیه السلام) على نبيكم (صلی الله علیه و آله) سمعتم قول الله عزوجل لنبيكم (صلی الله علیه و آله): (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم) ثم قال: (وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا واوذوا) فقد كذب نبي الله والرسل من قبله وأوذوا مع التكذيب بالحق فإن سركم أمر الله فيهم الذي خلقهم له في الاصل - أصل الخلق من الكفر الذي سبق في علم الله أن يخلقهم له في الاصل ومن الذين سماهم الله في كتابه في قوله: (وجعلنا منهم أئمة يدعون إلى النار) فتدبروا هذا واعقلوهولا تجهلوه فإنه من يجهل هذا وأشباهه مما

ص: 77

افترض الله عليه في كتابه مما أمر الله به ونهى عنه ترك دين الله وركب معاصيه فاستوجب سخط الله فأكبه الله على وجهه في النار). (1)

ص: 78


1- الروضة الكافي، الشيخ الكليني، ج8، ص1-5.

التطبيقات العملية لمبدأ التعايش السلمي في سيرة المعصومين (عليهم الصلاة والسلام)

النقطة الأولى:

اشارة

النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) مؤسس مبدأ التعايش السلمي:

وجد النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) في المدينة مزيجاً إنسانياً متنوعاً من حيث الدين والعقيدة، وحيث الانتماء القبلي والعشائري، ومن حيث نمط المعيشة. المهاجرون من قريش، والمسلمون من الأوس والخزرج، والوثنيون من الأوس والخزرج، واليهود من الأوس والخزرج، وقبائل اليهود الثلاثة : بنو قينقاع وبنو النظير وبنو قريظة والأعراب الذين يساكنون أهل يثرب، والموالي، والعبيد، وغيرهم. مهاجرون، أوس وخزرج، منهم مسلمون، منهم وثنيون، منهم يهود. قبائل اليهود الثلاثة، أعراب، عبيد، بالمصطلح الحديث: مجتمع فسيفسائي، كبعض البلاد الإسلامية، التي يقتتل أهلها. فكيف وفق النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) بين هذه الانتماءات؟.. هذا الذي نحن في أمس الحاجة إليه، كي نستطيع أن نقف في وجه أعدائنا الذين يتربصون بنا الدوائر. (1)

وقد انتهج نبي الرحمة (صلی الله علیه و آله) من خلال نظامه الإسلامي المبارك أسلوب التعايش السلمي وكتابة الوثاق والمعاهدات، لذا فقد سبق الاتفاقيات الدولية التي تبرمها دول العالم اليوم. ووثيقة المدينة التي حررها خاتم الانبياء (صلی الله علیه و آله) للتعايش مع قبائل اليهود دليل ساطع على ذلك. (2)

وقد تعايش النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) مع ثقافات مختلفة وأصحاب عقائد مختلفة بصدر رحب ودون أي محاولة منه للمسّ بهذه الثقافات. ومن أمثلة ذلك، تعايش النبي (صلی الله علیه و آله) مع اليهود، حيث عاش معهم منذ قدومه إلى المدينة المنورة بكل سلام، وكان يعاملهم بأخلاقيات الإسلام، فيزور المريض منهم، ويتحمل إساءة الجار اليهودي، ويقوم لجنازة رجل يهودي. وروي إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) مرت عليه جنازة يهودي، فقام (صلی الله علیه و آله) لها،

ص: 79


1- يُنظر موقع الدكتور محمد راتب النابلسي، قسم السيرة.
2- ينظر بحث الإسلام والتعايش، حسن سلمان.

فقيل له: إنها جنازة يهودي فقال: (أليست نفساً) (1) ومنذ بداية وجود النبي (صلی الله علیه و آله) في المدينة، ظهر حرصه على عدم عداوة اليهود، بل وقّع معهم عهداً جميلاً يدل على رغبة في العيش بسلام مع الطرف الآخر. (2)

وإن جميع الناس وفق النظرة الإسلامية سواسية لا فضل لأحدهم على الآخر إلا بالتقوى، فقد ورد عن جابر بن عبد الله قال خطبنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) في خطبة الوداع فقال: (يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد ألا إن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلابالتقوى إن أكرمكم عند الله أتقاكم ألا هل بلغت قالوا بلى يا رسول الله قال فليبلغ الشاهد الغائب) (3) ، ولكن هل هذا الدستور النبوي موجود في دول الإسلام اليوم سواء للمسلمين أو لغيرهم. (4)

إن النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) عندما قدم إلى المدينة غرس فيها بذور التسامح بين المسلمين وغيرهم فأقام معاهدة مع اليهود تنص على السماحة والعفو والتعاون على الخير والمصلحة المشتركة وحافظ (صلی الله علیه و آله) على هذا الميثاق - ميثاق التعايش السلمي - لكن اليهود سرعان ما نقضوه. ولما جاء وفد نصارى نجران أنزلهم (صلی الله علیه و آله) في المسجد ولما حان وقت صلاتهم تركهم يصلون في المسجد فكانوا يصلون في جانب منه، ولما حاوروا النبي (صلی الله علیه و آله) تحدث معهم بسعة صدر ورحابة فكر وجادلهم بالتي هي أحسن، ومع أنه أقام الحجة عليهم إلا أنه لم يكرههم على الدخول في الإسلام بل ترك لهم الحرية في الاختيار، وقد أسلم بعضهم بعدما رجعوا إلى نجران. (5) وسوف نتطرق لاحقاً إن شاء الله تعالى لنصوص المعاهدات والمواثيق التي أبرهما النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) مع لأهل الكتاب ومع غيرهم.

ص: 80


1- بحار الانوار، ج 78، ص273.
2- ينظر نبي الرحمة، عبد الرحمن عبد الله (المكتبة الشاملة) ، ص21.
3- ميزان الحكمة، الري شهري، ج11، باب التقوى، ص288.
4- ينظر الإمام علي (علیه السلام) والمساواة في المواطنة، الشيخ حسين الراضي، نقلاً عن موقع مكتب الهداية، صحيفة الساحل.
5- صورٌ من سماحة الإسلام، أحمد بن محمد الشرقاوي. بتصرف بسيط.

كما أعطى النبي (صلی الله علیه و آله) المؤلفة قلوبهم وهم رؤوس الشرك عند إسلامهم عطايا مالية جزيلة وذلك تأليفاً لهم ولأقوامهم، ولسائر قريش من أهل مكة، وهكذا أعطى آخرين من القبائل العربية، فإن البعير الواحد ذلك اليوم كان يعد ثروة للإنسان، تماماً مثل من يملك اليوم سيارة فخمة أو نحوها، بل وأكثر من ذلك.. فالبعير الواحد كان بمثابة سيارة، كما كان يؤكل لحمه، ويشرب لبنه، ويلبس وبره.

الأخلاق العملية للرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) :

نستعرض فيما يأتي بعض المعالم المشرقة من أخلاق الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) التي تُعد بحد ذاتها، من الشواهد التأريخية (1) التي تُبين مدى حرصه (صلی الله علیه و آله) على التعامل مع الآخرين وفق مبدأ التعايش السلمي بالمعنى الذي نتبناه في هذا الكتاب:

خُلُقه الكريم مع مَن يخدمه:

روى بعض خدمه، أنه قال: خدمت رسول الله (صلی الله علیه و آله) عشر سنين، فما قال لي: أفٍ قط، وما قال لشيء صنعته، لم صنعته؟ ولا لشيء تركته، لم تركته؟.

قضائه لحوائج الناس:

كان (صلی الله علیه و آله) لا يأتيه أحد إلا قام معه في حاجته، ولو كانت أمَة، ولا يجلس متكئاً، ولا يثبت بصره في وجه أحد، ويقبل الهدية ولو كانت جرعة لبن، وروى بعض أصحابه، أنه قال: كان (صلی الله علیه و آله) إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه، فإن كان غائباً دعا له، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده (2)

، وكان لا يدع أحداً يمشي معه إذا كان راكباً حتى يحمله معه، فإن أبى قال: تقدم أمامي وأدركني في المكان الذي تريد (3).

ص: 81


1- راجع كتاب السبيل إلى إنهاض المسلمين، للسيد محمد الشيرازي ص (277 – 281) حيث اقتطفنا هذه الشواهد منه، بتصرف وإضافة.
2- - مكارم الأخلاق، الطبرسي، ص22.
3- - بحار الأنوار: ج16 ص235.

يخدم كأحد أصحابه:

كان (صلی الله علیه و آله) يتعاون مع أصحابه، كأنه أحدهم لا يترفع عليهم في قليل ولا كثير. فقد كان في سفر فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل: يا رسول الله علي ذبحها، وقال آخر علي سلخها، وقال آخر: علي طبخها، فقال (صلی الله علیه و آله) : وعلي جمع الحطب، فقالوا: يا رسول الله نحن نكفيك، فقال: قد علمت أنكم تكفونني، ولكني أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه مميزاً بين أصحابه، ثم قام فجمع الحطب.

في تعامله مع الضيف:

كان يكرم (صلی الله علیه و آله) ضيفه، وربما بسط إليه ثوبه ويؤثره بفراشه الذي كان تحته، ويكني أصحابه، ويدعوهم بأحب أسمائهم، تكرمةً لهم، ولا يقطع على أحد حديثه، وقد روى سلمان (رضوان الله عليه) قال: دخلت على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو متكئ على وسادة، فألقاها إلي، ثم قال: يا سلمان ما من مسلم دخل على أخيه المسلم فيلقى له الوسادة إكراماً له إلا غفر الله له، وإذا كان يصلي وجلس إليه أحد خفف صلاته حتى يفرغ منها مسرعاً ليسأله عن حاجته فإذا فرغ عن جواب السائل عاد إلى صلاته. وكان أكثرهم تبسماً، وأطيبهم نفساً. وروي عن جرير بن عبد الله قال: (إن النبي (صلی الله علیه و آله) دخل بعض بيوته فامتلأ البيت، ودخل جرير فقعد خارج البيت فأبصره النبي (صلی الله علیه و آله) فأخذ ثوبه فلفه فرمى به إليه وقال: (اجلس على هذا) فأخذه جرير فوضعه على وجهه فقبّله، فإنه (صلی الله علیه و آله) يرمي بثوبه إلى واحد من المسلمين لكي يجلس عليه ولا يجلس على التراب تعميماً لوحدة أسلوب المعيشة بين القاعدة وبين قائدها.

النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) يجلب رضا الناس:

وكان لا يترك أحداً حتى يرضيه، وإذا غضب عليه إنسان ثم رضي عنه كان يطلب منه: أن يعلن لأصحابه أنه رضي عنه، وقد ورد: أن أعرابياً جاءه يطلب منه شيئاً، فأعطاه ثم قال له: أحسنت إليك؟ قال الأعرابي: لا ولا أجملت، فغضب المسلمون وقاموا إليه، فأشار إليهم (صلی الله علیه و آله) أن كفّوا، ثم قام ودخل منزله، وأرسل إليه وزاده شيئاًثم قال (صلی الله علیه و آله) : أحسنت إليك؟ قال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً. فقال له النبي

ص: 82

(صلی الله علیه و آله) : إنك قلت ما قلت، وفي نفس أصحابي من ذلك شيء فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم عليك؟ قال: نعم. فلما كان الغداة أو العشيّ جاء فقال (صلی الله علیه و آله) : إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه، إنه رضي أليس كذلك؟ قال الأعرابي: نعم، جزاك الله من أهل وعشيرة خيراً. ثم قال (صلی الله علیه و آله) لأصحابه: (ان مثلي ومثل هذا الاعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً. فقال صاحب الناقة: خلوا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها وأعلم بها فتوجه إليها صاحب الناقة فأخذ لها من قُمام الأرض ودعاها حتى جاءت واستجابت وشد عليها رحلها واستوى عليها ولو أني أطعتكم حيث قال دخل النار) (1).

يجعل من العدو صديقاً:

جاء في رواية أن أعرابياً من بني سليم جاء إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلما وقف بإزائه ناداه: يا محمد يا محمد، أنت الساحر الكذاب الذي ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة هو أكذب منك، إنك الذي تزعم أن لك في هذه الخضراء إلهاً بعث بك إلى الأسود والأبيض، واللات والعزّى لولا إني أخاف أن قومي يسمونني العجول لضربتك بسيفي هذا ضربة أقتلك بها فأسود بك الأولين والآخرين، فوثب إليه أحد الصحابة ليبطش به، فقال النبي (صلی الله علیه و آله) : إجلس فقد كاد الحليم أن يكون نبياً، ثم التفت النبي (صلی الله علیه و آله) إلى الأعرابي، فقال له: يا أخا بني سليم هكذا تفعل العرب؟ يتهجمون علينا في مجالسنا يجابهوننا بالكلام الغليظ؟ يا أعرابي والذي بعثني بالحق نبياً إن من ضرَّ بي في دار الدنيا هو غداً في النار يتلظى (2). وفي الخبر أنه أسلم الرجل وصار داعياً إلى الإسلام في قبيلته فكثر فيهم المسلمون حتى وصلوا إلى خمسمائة إنسان، فكان ذلك ببركة أخلاق رسول الله (صلی الله علیه و آله) وحلمه وعفوه وصفحه.

ص: 83


1- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ج9، ص16.
2- بحار الأنوار، ج39، ص70.

الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) وكظم الغيظ والعفو عن المسيئين:

عن أنس بن مالك قال: إن النبي (صلی الله علیه و آله) أدركه أعرابي فأخذ بردائه فجبذه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عنق رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد أثرت به حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال له: يا محمد مر لي من مال الله الذيعندك، فالتفت إليه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فضحك وأمر له بعطاء. (1) وكان (صلی الله علیه و آله) إذا أساء أحد الأدب رده رداً جميلاً، عن الإمام السجاد (علیه السلام) : (إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يضرب امرأة ولا خادماً ولا ضرب بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله. وعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ وَأَصْحَابُهُ مَعَهُ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُهُ مَهْ مَهْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) لَا تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ الْقَذَرِ وَالْبَوْلِ وَالْخَلَاءِ أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) إِنَّمَا هِيَ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) لِرَجُلٍ مِنْ الْقَوْمِ قُمْ فَأْتِنَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشُنَّهُ عَلَيْهِ فَأَتَاهُ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ. (2)

ولما دخل النبي (صلی الله علیه و آله) مكة المكرمة وجاءه أبو سفيان وكل أصابعه العشر تقطر من دماء أهل بيت النبي (صلی الله علیه و آله) وأصحابه.. وملئ قلبه الحقد والحنق على رسول الله (صلی الله علیه و آله) والإسلام، وملئ عينيه الشر والدمار. ولم يكن أي إنسان في موقف النبي (صلی الله علیه و آله) إلا ويواجه مثل (أبي سفيان) شيخ المؤامرات والفساد بأقسى مواجهة وينكل به أشد تنكيل.. لكن صنيع رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان بالعكس.. فعفا عنه، وصفح وقال (صلی الله علیه و آله) في رفق ولطف له: (أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله) ؟ فقال: بأبي أنت وأمي ما أكرمك، وأوصلك، وأحلمك.

ومن عظيم عفوه (7) معاملته مع أهل مكة. أهل الشرك والكفر.. أهل الجحود والعصبية.. الذين قتلوا أصحابه وأنصاره وأقرباءه في عشرات الحروب. والذين أخرجوه (صلی الله علیه و آله) من مسقط رأسه الشريف وبلد الله وبلد آبائه ومحل عبادته نصف قرن. والذين عذبوا المهاجرين بأنواع التعذيب وقتلوا العديد منهم. والذين تآمروا على قتله (صلی الله علیه و آله) عدة مرات وكلها باءت بالفشل. والذين مارسوا مع النبي (صلی الله علیه و آله) وأنصاره كل أنواع المظالم والفضاضة، هؤلاء جاءهم النبي (صلی الله علیه و آله) فاتحاً منتصراً عليهم.. أترى ماذا كان يفعل إنسان

ص: 84


1- بحار الأنوار، ج 16، ص230.
2- مسند أحمد، الحديث رقم (12515) .

آخر لو كان في موقع النبي (صلی الله علیه و آله) إنه بلا شك كان يقيم مجزرة رهيبة.. فالموجودون هم الظالمون بأنفسهم لا أبناؤهم. أبو سفيان.. وهند، وأضرابهما من الرجال والنساء. ولكن في فتح مكة عندما حمل الراية سعد بن عبادة وجعل يرفل في طرقات مكة ويهز الراية وينادي: (اليوم يوم الملحمة اليوم تسبى الحرمة) يقصد بذلك: إننا سنكثر من القتل في أهل مكة حتى تتراكم جثث ولحوم القتلى بعضها على بعض، وإلى جنب بعض، وسنسبي نساء مكة سبي الكفار المحاربين. وكان أهل مكة يتوقعون مثل هذا الصنيع من مثل هذا الجيش المطرود أفراده من مكة سنوات طوال، والمعذب من قبل أهل مكة هؤلاء، والمهدور حرماتهم وأموالهم وكراماتهم من قبل هؤلاء أنفسهم. ولو كان أهل مكة بمكان الجيش الإسلامي، وكانوا هم المنتصرين على المسلمين لصنعوا بهم أسوء من هذاالصنيع، وبالفعل كان قد سبق أهل مكة إلى (الملحمة) (وسبي الحرمة) قصاصاً منهم قبل الجناية، فكيف بأهل مكة لو كان لهم حق القصاص في ذلك. أكيداً كان أهل مكة سيبيدون المسلمين لو كانوا مكانهم..

لكن رسول الله (صلی الله علیه و آله) رسول الرحمة، رسول العفو رسول الإنسانية، رسول الإسلام.. أبى ذلك أشد الإباء. بل بالعكس سجل نقطة مشرفة في تاريخ الإسلام والإنسانية، فأمر الصحابي المنادي بالقفول، وأمر أمير المؤمنين علياً (علیه السلام) بحمل الراية وأن يدخل مكة برفق وهدوء وأن ينادي في أهل مكة بلين ولطف بعكس ذلك النداء. ونادى الإمام علي (علیه السلام) في طرقات مكة وهو يكرر النداء: (اليوم يوم المرحمة اليوم تصان الحرمة). ثم جمع النبي (صلی الله علیه و آله) أهل مكة، فنادى فيهم: ما تقولون إني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. فقال (صلی الله علیه و آله) : أقول لكم كما قال أخي يوسف (علیه السلام) : (لا تثريب عليكم) ثم قال (صلی الله علیه و آله) : (اذهبوا فأنتم الطلقاء) ثم قال (صلی الله علیه و آله) : ((أيها الناس: من قال لا إله إلا الله فهو آمن)).. ((ومن دخل الكعبة فهو آمن)).. ((ومن أغلق بابه وكف يده فهو آمن)).. ((ومن ألقى سلاحه فهو آمن)).. ((ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن)).. ((ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن)).

ص: 85

في مداراته (صلی الله علیه و آله) للناس:

ومن الأمثلة على مداراة الناس في منهاج الرسول (صلی الله علیه و آله) عدم قتله لمنافقين كانوا يستحقون القتل وذلك، لئلا يساء فهم الإسلام من بعض الناس فيتركوه، فقد روي عن النبي (صلی الله علیه و آله) : (لولا أني أكره أن يقال: إن محمداً استعان بقوم حتى إذا ظفر بعدوه قتلهم، لضربت أعناق قوم كثير) لاشك أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لا يقدم على قتل أحد إلا إذا كان مستحقاً للقتل، لأن القتل أمر دائر بين الواجب والحرام حسب تعبير الفقهاء ولا يوجد قتل مستحب أو مكروه أو مباح كما هو الحال في الفرائض كالصوم مثلاً فهناك صوم واجب وصوم حرام وصوم مستحب وصوم مكروه، أما القتل فليس فيه سوى الوجوب كمن هدر دمه. لذا فقوله (صلی الله علیه و آله) : (لضربت أعناق قوم كثير) يعني لاستحقاقهم القتل بالحكم الأولي غير أن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يجر الحكم لأمر أهم وهو عدم لحوق تهمة بالإسلام قد تؤدي إلى ابتعاد الناس عنه. (1)

أخلاقه الاجتماعية (صلی الله علیه و آله) مع اليهود:

تعامل النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) مع اليهود بمنتهى الأخلاق العالية، وبأروع صور المسامحة التي يقرها مبدأ التعايش السلمي الذي أسس له نبي الرحمة، على الرغم من نكث اليهود للعهود والمواثيق والغدر بالمسلمين، ومنالشواهد التأريخية التي نذكرها ما ورد عن الإمام الباقر (علیه السلام) : (إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أتي باليهودية التي سمت الشاة للنبي (صلی الله علیه و آله) فقال لها: ما حملك على ما صنعت؟ فقالت: قلت إن كان نبياً لم يضره، وإن كان ملكاً أرحت الناس منه. قال (علیه السلام) : فعفا رسول الله (صلی الله علیه و آله) عنها).

وروي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) : إن يهودياً كان له على رسول الله (صلی الله علیه و آله) دنانير فتقاضاه، فقال له: يا يهودي ما عندي ما أعطيك، فقال: فأني لا أفارقك يا محمد (صلی الله علیه و آله) حتى تعطيني فقال (صلی الله علیه و آله): إذا أجلس معك، فجلس (صلی الله علیه و آله) معه، حتى صلى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة، وكان أصحاب رسول الله يتهددونه ويتواعدونه. فنظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إليهم، فقال: ما الذي تصنعون به ؟ فقالوا : يا رسول

ص: 86


1- ينظر ثقافة التعايش، الشيخ ناصر الأسدي، ص245.

الله يهودي يحبسك؟ فقال (صلی الله علیه و آله): لم يبعثني ربي عزوجل بأن أظلم معاهدا ولا غيره، فلما علا النهار قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وشطر مالي في سبيل الله، أما والله ما فعلت بك الذي فعلت إلا لأنظر إلى نعتك في التوراة، فإني قرأت نعتك في التوراة : محمد بن عبد الله مولده بمكة، ومهاجره بطيبة، ولا بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب ولا متزين بالفحش، ولا قول الخناء، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وهذا مالي فاحكم فيه بما أنزل الله عزوجل، وكان اليهودي كثير المال. (1)

ويروى إن رجلاً يهودياً كان يضع قمامته على باب بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو يصبر على أذى هذا الجار اليهودي، إلى أن افتقده في يوم من الأيام، فسأل النبي (صلی الله علیه و آله) أصحابه عنه فأخبروه بأن اليهودي قد مرض، فذهب (صلی الله علیه و آله) مع أصحابه لزيارته في بيته، فلما رأى هذا اليهودي الأخلاق السامية لنبي الإسلام (صلی الله علیه و آله) أسلم.

وقد (تناقلت مصادر السيرة النبوية الصحيحة أن بعض سفهائهم اعتدوا على امرأة مسلمة، واحتالوا على كشف عورتها حينما كانت تقضي بعض حاجاتها في السوق، فاستغاثت بالمسلمين، فوثب رجل منهم على يهودي فقتله، واجتمعت اليهود على المسلم فقتلوه، ولهذا لم يجد النبي (صلی الله علیه و آله) بداً من غزوهم بعد أن نقضوا العهد بهذا الاعتداء الشنيع على امرأة مؤمنة. فحاصرهم المسلمون خمسة عشر يوماً حتى نزلوا على حكم اللَّه ورسوله، وهو الجلاء، هذا هو السبب وقد تجاهلته الموسوعة الإسلامية. وبهذا قابل اليهود سماحة الإسلام بالغدر والأذى). (2) كما (رد النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) عشرات الحروب والاعتداءات التي شنها أهل الكتاب دون أن يجبر أحداً منهم على الإسلام ولم يسجل التاريخ ولو حالة واحدة يكون فيها رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد أجبر ذمياً على اعتناق الإسلام مع أنه سجل وحفظ الدقائق عن حياته. فالعلامة المجلسي (رحمه الله) وحده خصّص في موسوعته (بحار الأنوار) عشرة مجلدات ذات اربعمائة صفحة أي ما مجموعة أربعة آلاف صفحة أو أكثر كلهاعن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وحروبه واخلاقه وسيرته مع المسلمين ومع المشركين وأهل الكتاب ولم نجد فيها موقفاً واحداً لرسول الله (صلی الله علیه و آله) أجبر

نصرانياً أو يهودياً على اعتناق الإسلام بل نجد أنه كان له صديق مسيحي أو جار يهودي

ص: 87


1- حلية الأبرار، السيد هاشم البحراني، ج 1، ص199.
2- السيرة النبوية، إعداد د. أحمد أبو زيد... تقديم الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري.

دون أن يجبره على اعتناق الإسلام مع أنه (صلی الله علیه و آله) كان الحاكم الأعلى في الجزيرة العربية وكان بيده السيف والمال والقوة الكافية). (1)

تأصيله (صلی الله علیه و آله) لمبدأ التسامح ونبذ الفوارق الاجتماعية:

يروى أنه دخل الصحابي الجليل سلمان الفارسي (رضي الله عنه) مجلس رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذات يوم فعظموه وقدموه وصدروه إجلالا لحقه وإعظاما لشيبته واختصاصه بالمصطفى وآله، فدخل عمر فنظر إليه فقال: من هذا العجمي المتصدر فيما بين العرب، فصعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) المنبر فخطب فقال: إن الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط، لا فضل للعربي على العجمي ولا للأحمر على الاسود إلا بالتقوى، سلمان بحر لا ينزف، وكنز لا ينفد، سلمان منا أهل البيت، سلسل يمنح الحكمة ويؤتى البرهان.

وعن الإمام الصادق (علیه السلام) : جاء رجل موسر إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) نقي الثوب فجلس إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فجاء رجل معسر درن الثوب فجلس إلى جنب الموسر فقبض الموسر ثيابه من تحت فخذيه، فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): أخفت أن يمسك من فقره شئ؟ قال: لا، قال: فخفت أن يصيبه من غناك شئ؟ قال: لا، قال: فخفت أن يوسخ ثيابك ؟ قال: لا؟ قال: فما حملك على ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله إن لي قرينا يزين لي كل قبيح ويقبح لي كل حسن، وقد جعلت له نصف مالي، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) للمعسر: أتقبل؟ قال: لا، فقال له الرجل: لم ؟ قال: أخاف أن يدخلني ما دخلك. (2)

أخلاقيات الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) الأخرى:

وكان من عادته (صلی الله علیه و آله) أنه يجيب من يناديه بأحسن جواب، فكان إذا ناداه أحد قال له: (لبيك) ، وعن جرير بن عبد الله قال: ما حجبني رسول الله (صلی الله علیه و آله) قط منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم، وكان يمازح أصحابه، ويخالطهم، ويحادثهم، ويداعب صبيانهم ويجلسهم في حجره، ويجيب دعوة من دعاه، ويعود المرضى حتى في أقصى المدينة، ويقبل

ص: 88


1- ثقافة التعايش، الشيخ ناصر الأسدي، ص366.
2- بحار الأنوار / ج69 / ص13.

عذر المعتذر، ولا يترفع على أحد حتى على عبيده وإمائه، في مأكل ولا ملبس (1) ، وكان خدم أهل المدينة يأتون إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا صلى الغداة بأوانيهم وفيها المياه ليغمس يده فيهافيتبركون بتلك المياه، فما يؤتى بآنية إلا غمس يده فيها، وربما كان ذلك في الغداة الباردة فلا يأبى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يغمس يده في تلك الأواني.

وعندما كان في سفر من أسفاره (صلی الله علیه و آله) نزل إلى الصلاة، ثم كرّ راجعاً، فقيل: يا رسول الله أين تريد؟ قال: أعقل ناقتي، قالوا: نحن نعقلها، قال: لا يستعين أحدكم بالناس، ولو في قضمة من سواك. وكان (صلی الله علیه و آله) إذا استمع إلى أحد من الناس كان يدير رأسه إليه، حتى يكون الرجل هو الذي يدير رأسه، وكان إذا أخذ بيده أحد لا يرسل يده حتى يرسل ذلك الإنسان يدهُ منه (صلی الله علیه و آله). وما قعد إلى رجل قط فقام حتى يقوم ذلك الرجل، ولم ير مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له، وكان يبدأ من لقيه بالسلام حتى الأطفال والنساء، ويبدأ أصحابه بالمصافحة. وكان إذا جلس إليه أحد تزحزح له شيئاً، وذات مرة قال له رجل: يا رسول الله في المكان سعة، فقال: نعم، لكن إن من حق المسلم على المسلم إذا رآه يريد الجلوس أن يتزحزح له. كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا مر على جماعة بدأهم بالسلام، حتى قال بعض أصحابه: إنه كلما أراد أن يبدأ النبي (صلی الله علیه و آله) بالسلام إذا التقى به فإذا بالنبي (صلی الله علیه و آله) يسبقه ويسلّم عليه، وكان (صلی الله علیه و آله) يسلم على الصبيان لكي تكون سنة من بعده، وإذا صلى لوحده أطال في صلاته وأكثر في أذكار الركوع والسجود، وقراءة القرآنة، والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير.. وإذا صلى جماعة خفف فيها. حتى ورد في الحديث الشريف: ((أنه (صلی الله علیه و آله) كان أخف صلاة إذا صلى جماعة، وأطول صلاة إذا صلى لوحده)). وذكروا: أنه (صلی الله علیه و آله) كان يخفف من صلاته رحمة بالأطفال الذين يأتون المسجد مع أمهاتهم، وروى زيد بن ثابت: (إن النبي (صلی الله علیه و آله) كنا إذا جلسنا إليه (صلی الله علیه و آله) إن أخذنا بحديث في ذكر الآخرة أخذ معنا، وإن أخذنا في ذكر الدنيا أخذ معنا، وإن أخذنا في ذكر الطعام والشراب أخذ معنا، فكل هذا أحدثكم عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) الدنيا، والطعام، والشراب، هي التي لا يفكر فيها رسول الله (صلی الله علیه و آله) إطلاقاً وأبداً، ولكنه لكي يستبقي على عواطف المسلمين، ولكي لا ينفروا منه كان يدخل في الحديث معهم في الدنيا، والطعام، والشراب.

ص: 89


1- - بحار الأنوار: ج16ص227ح34، مكارم الأخلاق: ص19.

وعن ابن عباس قال: (كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعتقل الشاة، ويجيب دعوة المملوك على خبز الشعير. وهذا تنفيذ عملي لوحدة الحياة والمعيشة في المستوى الواحد بين الرسول (صلی الله علیه و آله) وبين المرسل إليهم، إذ كان عدد من المسلمين لا يجدون - آنذاك - غير التراب يجلسون عليه، أو يأكلون عليه.

المواثيق والمعاهدات النبوية:

اشارة

عقد (صلی الله علیه و آله) العديد من المواثيق والمعاهدات مع أطراف شتى، حتى إن بعض المؤلفين عقد كتباً خاصة حول هذا الموضوع. وتهدف هذه المعاهدات النبوية إلى تحقيق الأمن والسلام والحرية والأخوة بين أفراد المجتمع،وتمنع من مظاهر التعدي والعدوان على حقوق الآخرين، ويمكننا أن نقسم هذه المواثيق والمعاهدات إلى قسمين، هما:

أولاً/ المعاهدات وعقود الأمان على المستوى الفردي:

أسّس قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قومٌ لا يعلمون) مشروعية عقد الأمان مع غير المسلمين، كما فعل النبي (صلی الله علیه و آله) ذلك عملياً حيث أجار من أجارت ابنته زينب وهو زوجها العاص بن الربيع وكان لم يزل مشركًا حينها، وأجار النبي (صلی الله علیه و آله) كذلك من أجارت أم هانىء ابنة عمه أبي طالب، وأكد (صلی الله علیه و آله) أنه يجير على المسلمين أدناهم، ولو كان طفلاً أو امرأة أو عبدًا، فيجب على جميع المسلمين احترام هذا الجوار وتأمين المشرك الذى يتمتع به حتى يبلغ مأمنه. (1) ولما كان يوم فتح مكة هرب عكرمة بن أبي جهل إلى اليمن، و خاف أن يقتله رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وكانت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام امرأة لها عقل، وكانت قد اتبعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) فجاءت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالت: إن ابن عمي عكرمة قد هرب منك إلى اليمن، وخاف أن تقتله فآمنه، قال: (قد آمنته بأمان الله، فمن لقيه فلا يتعرض له) فخرجت في طلبه فأدركته في ساحل من سواحل تهامة وقد ركب البحر، فجعلت تلوح إليه وتقول: يا ابن عم جئتك من عند أوصل الناس وأبر الناس وخير الناس، لا تهلك نفسك وقد استأمنت لك فآمنك، فقال: أنت فعلت ذلك ؟ قلت:

ص: 90


1- الإسلام والآخر الحوار هو الحل، حمدي شفيق، بتصرف بسيط.

نعم أنا كلمته فآمنك، فرجع معها فلما دنا من مكة قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأصحابه: (يأتيكم عكرمة مهاجرا فلا تسبوا أباه فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ) ، قال: فقدم عكرمة فانتهى إلى باب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وزوجته معه متنقبة، قالت: فاستأذنت على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فدخلت فأخبرت رسول الله بقدوم عكرمة فاستبشر، وقال: أدخليه، فقال: يا محمد إن هذه أخبرتني أنك آمنتني، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : " صدقت فأنت آمن " قال عكرمة: فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، و أنك عبده ورسوله، وقلت: أنت أبر الناس وأوفى الناس، أقول ذلك وإني لمطأطيء الرأس استحياء منه، ثم قلت: يا رسول الله استغفر لي كل عداوة عاديتكها أو مركب أوضعت فيه اريد به إظهار الشرك، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (اللهم اغفر لعكرمة كل عداوة عادانيها، أو منطق تكلم به، أو مركب أوضع فيه يريد أن يصد عن سبيلك) فقلت: يا رسول الله ، مرني بخير ما تعلم فأعمله، قال: " قل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وجاهد في سبيل الله " ثم قال عكرمة: أما والله لا أدع نفقة كنت أنفقها في صد عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قتالاً كنت أقاتل في صد عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله..). (1)

ثانياً/ المعاهدات وعقود الأمان على المستوى المجتمعي:
أ/ صلح الحديبية:

عقد النبي (صلی الله علیه و آله) في السنة السادسة للهجرة صلحاً مع مشركي مكة في منطقة تدعى (الحديبية) فعندما أرادوا كتابة معاهدة الصلح، قال النّبي (صلی الله علیه و آله) للإمام علي (علیه السلام) (علیه السلام) : ((اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم...)) قال سهيل بن عمرو ومعه المشركون: نحن لا نعرف الرحمان! وإنّما هناك رحمان واحد في اليمامة ((وكان قصدهم مسيلمة الكذّاب)) بل اكتب ((باسمك اللّهم)) كما كانوا يكتبونه في الجاهلية، ثمّ قال النّبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام) : ((اُكتب: هذا ما اتّفق عليه محمّد رسول الله...)) فقال المشركون: إذا كنت رسول الله فإنّه لظلمٌ كبير أن نقاتلك ونمنعك من الحجّ، ولكن اُكتب: هذا ما اتّفق عليه محمّد بن عبدالله، وفي هذه الأثناء غضب صحابة الرّسول (صلی الله علیه و آله) وقالوا: دعنا

ص: 91


1- بحار الأنوار، ج 21، ص144- 145.

نقاتل هؤلاء المشركين، ولكنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: ((لا، أُكتب كما يشاؤون)). (1) وتمّ عقد الصلح بين الطرفين وكان من موادّه هو أن يغض المسلمون النظر عن موضوع العمرة لذلك العام وأن يأتوا في العام القابل الى مكّة شريطة أن لا يمكثوا في مكّة أكثر من ثلاثة أيّام وأن لا يحملوا سلاحاً غير سلاح السفر كما كان من مواد العقد أُمور أُخرى تدور حول سلامة الأرواح والأموال التي تعود للمسلمين والذين يأتون مكّة منهم (من قِبَل المدينة) ومن مواد العقد أيضاً إيقاف القتال بين المسلمين والمشركين لعشر سنين وأن يكون مسلمو مكّة أحراراً في أداء مناسكهم وفرائضهم الإسلامية. وكان هذا العقد(أو هذه المعاهدة) بمثابة عدم التعرض لكلا الجانبين ولحسم المعارك المستمرّة بين المسلمين والمشركين بصورة مؤقتة. وكان مؤدّى هذه المعاهدة وما يتضمّنه عقد الصلح بالنحو التالي:

((قال النّبي (صلی الله علیه و آله) للإمام علي (علیه السلام) : اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم: فقال سهيل بن عمرو الذي كان سفير المشركين لا أعرف هذه العبارة بل ليُكتبْ بسمِكَ اللّهمّ! فقال النّبي لعلي اكتب: بسمك اللّهمّ: ثمّ قال النّبي لعلي اُكتبْ: هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله سهيل بن عمرو، فقال سهيل: لو كنّا نعرفك رسول الله لما حاربناك فاكتب اسمك واسم أبيك فحسب. فقال النبيّ: لا مانع من ذلك اُكتب هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله سهيل بن عمرو أن يترك القتال عشر سنين ليجد الناس مأمنهم ثانية، وإضافة إلى ذلك من يأتِ محمّداً من قريس مسلماً دون إذن وليّه فيجب إعادته الى أهله ومن جاء قريشاً من أصحاب محمّد فلا يجب إعادته إلى محمّد، والجميع أحرار فمن شاء دخل في عهد محمّد ومن شاء دخل في عهد قريش، ويتعهّد الطرفان أن لا يخون كلّ منهما(صاحبه) الآخرَ وأن يحترم ماله ونفسه! ثمّ بعد هذا ليس لمحمّد هذا العام أن يدخل مكّة، لكن في العام المُقبل تخرج قريش من مكّة لثلاثة أيّام ويأتي محمّد وأصحابه إلى مكّة على أنلا يمكثوا فيها أكثر من ثلاثة أيّام ويؤدّوا مناسك العمرة ثمّ يعودوا إلى أهلهم شريطة أن لا يحملوا معهم سلاحاً سوى السيف الذي هو من عُدة السفر وأن يكون في الغمد وشهد على هذه المعاهدة جماعة من المسلمين وجماعة من المشركين وأملى المعاهدة علي بن أبي طالب (علیه السلام)) ). وذكر العلاّمة المجلسي في ((بحار الأنوار)) مواد

ص: 92


1- تفسير الأمثل، ج7، ص412 -413.

أُخرى منها: ((ينبغي أن يكون الإسلام في مكّة غير خفي وأن لا يُجبر أحد في اختيار مذهبه وأن لا ينالَ المسلمين أذى من المشركين)) وهذا المضمون كان موجوداً في التعبير السابق بصورة إجمالية. (1)

وتدل معاملة (صلی الله علیه و آله) مع مشركي قريش وقبوله بشروط الصلح التي في ظاهرها إجحاف واعتساف،على الروح السامية التي كان يتمتع بها نبي الإسلام الكريم، وحبه (صلی الله علیه و آله) لتحقيق مبدأ التعايش السلمي بين الناس، كيف لا، وهو الوارد عنه (صلی الله علیه و آله) قوله: (والله لا تدعوني قريش إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلاّ أعطيتهم إياها) وأعظم من ذلك أن الله تعالى سمى هذا الصلح بالفتح المبين، حيث نزلت فيه سورة قرآنية سميت بسورة الفتح.

ب/ وثيقة المدينة:

كان أول لقاء بين الإسلام كدولة وبين غير المسلمين كمواطنين في دولة إسلامية هو الذي حدث في المدينة المنورة غداة الهجرة النبوية إليها، وكان لا بد للدولة من نظام يرجع أهلها إليه، وتتقيد سلطاتها به عندئذ كُتبت بأمر الرسول (صلی الله علیه و آله) والغالب أنها كُتبت بإملائه شخصياً الوثيقة السياسية الإسلامية الأولى المعروفة تاريخياً باسم (وثيقة المدينة) أو (صحيفة المدينة) أو (كتاب النبي (صلی الله علیه و آله) إلى أهل المدينة) ، أو كما يسميها المعاصرون (دستور المدينة) (2) ، وبموجب هذه الوثيقة حقق النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) المؤاخاة بين المؤمنين، وأزاح بها ما كان بينهم من حزازات في الجاهلية، وما كانوا عليه من نزعات قبلية جائرة، واستطاع بفضلها إيجاد وحدة إسلامية شاملة، لكي يعيش الجميع تحت مضلة مبدأ التعايش السلمي، وفيما يلي نص هذه الوثيقة النبوية التأريخية المباركة:

(بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبيّ رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش (وأهل) يثرب ومن تبعهم فلحق بهم (فحلّ معهم) وجاهد معهم: إنهم أمّة واحدة من دون الناس المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم (معاقلهم الأولى) وهم يفدون عانيهم بالمعروف

ص: 93


1- الأمثل، ج 16، ص413 -415.
2- يُنظر نبي الرحمة، عبد الرحمن عبد الله، (المكتبة الشامة) .

والقسط بين المؤمنين و (المسلمين) وبنو عوف على ربعهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة (منهم) تفدي عانيهابالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو ساعدة على ربعهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو جشم على ربعهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة (منهم) تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو البيت على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة (منهم) تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وإن المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم، أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل، ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وإن المؤمنين المتقين (أيديهم) على (كل) من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر ولا ينصر كافراً على مؤمن، وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس. وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر (والمعروف) والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، وإن سلم المؤمنين واحدة (و) لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلاّ على سواء وعدل بينهم، وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاّ، وإن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله، وإن المؤمنين المتّقين على أحسن هدى وأقومه، وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً ولا يحول دونه على مؤمن. وإنّه من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بيّنة فإنّه قود به، إلا أن يرضى ولى المقتول (بالعقل) وإن المؤمنين عليه كافّة، وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصّحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً ولا يؤويه، وإنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه (إلى) يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وإنّكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مردّه إلى الله عز وجل، وإلى محمّد (الرسول). وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين، ما داموا محاربين،

وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلاّ من ظلم وأثم فإنّه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته؛ وإن ليهود بني النجار مثل

ص: 94

ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم فإنّه لا يوتغ إلاّ نفسه وأهل بيته؛ وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم، وإن لبني الشطبة مثل ما ليهود بني عوف. وإن البرّ دون الإثم، وإن موالي ثعلبة كأنفسهم، وإن بطانة يهود كأنفسهم وإنّه لا يخرج منهم أحدإلاّ بإذن محمّد؛ وإنّه لا ينحجز على ثأر جرح، وإنّه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته إلاّ من ظلم. وإن الله على أبرّ هذا، وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصّحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة؛ والبرّ دون الإثم، وإنّه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم؛ وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة؛ وإن الجار كالنفس غير مضارّ ولا آثم، وإنّه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها؛ وإنّه ما كان بين أهل هذه الصّحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مردهّ إلى الله عز وجل، وإلى محمّد رسول الله، وإن الله على أتقى ما في هذه الصّحيفة وأبرّه. وإنّه لا تجار قريش ولا من نصرها؛ وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا (اليهود) إلى صلح (حليف لهم فإنهم) يصالحونه ويلبسونه، وإنّهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنّه لهم على المؤمنين؛ إلا من حارب الدين، (و) على كل أناس حصّتهم من جانبهم الذي قبلهم، وإن اليهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصّحيفة مع البرّ الحسن (المحسن) من أهل هذه الصّحيفة... وإن البرّ دون الإثم لا يكسب كاسب إلاّ على نفسه، وإن الله على أصدق ما في هذه الصّحيفة وأبرّه، وإنّه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم؛ وإنّه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم أو أثم، وإن الله جار لمن برّ واتّقى ومحمد رسول الله).

وقد اعتبرت هذه الوثيقة اليهود من مواطني الدولة الإسلامية، وعنصرًا من عناصرها.. وهكذا نرى إن الإسلام قد اعتبر أهل الكتاب، الذين يعيشون في أرجائه مواطنين، وأنهم أمة مع المؤمنين، ما داموا قائمين بالواجبات المترتبة عليهم، فاختلاف الدين ليس - بمقتضى أحكام الصحيفة- سببا للحرمان من مبدأ المواطنة. كما عملت هذه الوثيقة على استبدال مفهوم الفرقة والصراع بين الشعوب والقبائل؛ بمفهوم الأمة القائم على الوفاق

ص: 95

والتعايش مع حفظ الخصوصيات، حيث تكوَّن لأول مرة في المدينة مجتمع تتعدد فيه علاقات الانتماء إلى الدين والجنس، ولكن تتوحد فيه علاقة الانتماء إلى الأرض المشتركة، هي أرض الوطن، ورسخت الأيام والمواقف هذا الاتفاق بين النبي (صلی الله علیه و آله) واليهود، وإن قابله اليهود بالغدر والخيانة، إلا أن النبي (صلی الله علیه و آله) ظل على خلقه الكريم معهم، في تمسكه ببنود هذه الوثيقة. (1)

ويتبين من هذه المعاهدة أيضاً منهجية الإسلام في التعامل مع غير المسلمين من أهل الكتاب، والملاحظ أن الوثيقة لم تذكر شيئاً عن الجزية فهي أول وثيقة تقر حقوق المواطنة حيث أقرت الوثيقة الاشتراك في الحقوق والواجبات، والاشتراك في مكاسب السِلم وتكاليف الحرب، وإقامة الدولة على قدم المساواة حيث لم يظهرأي تمييز بين يهودي أو مسلم فهذه الوثيقة تظهر أن الدولة الإسلامية المدنية أعطت حق المواطنة لجميع مواطنيها الذين كانوا يختلفون بطبيعة الحال من الناحية الدينية لكن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يفرق بين مواطني دولة المدينة الأولى، مسلمين أو يهود ففي الوقت الذي تتفاخر بعض الدول أنها أعطت حق المواطنة لمواطنيها بلا تفرقة بينهم في لون أو جنس أو دين أو لغة فان الدولة الإسلامية المدنية سبقت كل ذلك منذ أربعة عشر قرن فلنكن يداً واحدة وتكون غايتنا وطننا وتقدمه ورفعته. (2)

وأهم معالم القيم الحضارية التي نراها جلية في هذا الدستور، هي:

أولاً: الأمة الإسلامية فوق القبلية: قال الدستور في ذلك: (إنهم - أي الشعب المسلم - أمة واحدة من دون الناس) ، وبهذا البند اندمج المسلمون على اختلاف قبائلهم وأنسابهم إلى جماعة الإسلام، فالانتماء للإسلام فوق الانتماء للقبيلة أو العائلة، وبهذا نقل رسول الله العرب من مستوى القبيلة إلى مستوى الأمة.

ثانياً: التكافل الاجتماعي بين فصائل الشعب: وفي هذه القيمة كُتبت البنود التالية: (المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها

ص: 96


1- ينظر الإمام علي (علیه السلام) والمساواة في المواطنة، الشيخ حسين الراضي، نقلاً عن موقع مكتب الهداية، صحيفة الساحل.
2- ينظر مكاتيب الرسول (7) ،الأحمدي، (المكتبة الشاملة) ، ص261.

بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو سَاعِدَةَ على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو جُشَمٍ على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين... بنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين...وَبَنُو الْأَوْسِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى، وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ.. وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتْرُكُونَ مُفْرَحًا بَيْنَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي فِدَاءٍ أَوْ عَقْلٍ).

ثالثاً: ردع الخائنين للعهود: وفي هذا الحق كُتب البند التالي: (وإن المؤمنين المتقين (أيديهم) على (كل) من بغى منهم أو ابتغى دسيعة (1)

ظلم أو إثما أو عدوانا أو فساداً بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولد أحدهم) وهذا نص في جواز حمل السلاح على أي فصيل من فصائل المدينة إذا اعتدى على المسلمين.. وبموجب هذا النص حُكم بالإعدام على مجرمي قريظة – بعد معركة الأحزاب، لما تحالفوا مع جيوش الأحزاب الغازية للمدينة، وبغوا وخانوا بقية الفصائل، على الرغم من أنهم أبناء وطن واحد.

رابعاً: احترام أمان المسلم: وجاء في هذا الأصل الأخلاقي البند التالي: (وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس...فلأي مسلم الحق في منح الأمان لأي إنسان، ومنثم يجب على جميع أفراد الدولة أن تحترم هذا الأمان، وأن تجير من أجار المسلمُ، ولو كان المجير أحقرهم. فيُجير على المسلمين أدناهم، بما في ذلك النساء، وقد قال النبي (صلی الله علیه و آله) لأم هانئ: " أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمّ هَانِئٍ).

خامسا: حماية أهل الذمة والأقليات غير الإسلامية: وجاء في هذا الأصل: (وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم) ، وهو أصل أصيل في رعاية أهل الذمة، والمعاهدين، أو الأقليات غير الإسلامية التي تخضع لسيادة الدولة وسلطان المسلمين.. فلهم – إذا خضعوا للدولة– حق النصرة على من رامهم أو

ص: 97


1- من الدسع وهو الدفع.

اعتدى عليهم بغير حق سواء من المسلمين أو من غير المسلمين، من داخل الدولة أو من خارجها..

سادسا: الأمن الاجتماعي وضمان الديات: وجاء في هذا الأصل: (وإنه من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول (بالعقل) ، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه). (1)

ج/ معاهدة النبي (صلی الله علیه و آله) مع أهل ثقيف:

كما أجرى الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) معاهدة مع أهل ثقيف المجاورين للمدينة، وقد نصت على الآتي:

إعطاء الأمان لأهل ثقيف بذمة الله والرسول (صلی الله علیه و آله) ،

تقديس وادي (وج) كحرم وإكسابه مركزاً مرموقاً ومكانة خاصة من الناحية

الدينية،

استقلال وأحقية أهل ثقيف في وادي (وج) بالبناء والتعمير والتجارة والزراعة وانتزاع حق الغير في المشاركة في الأموال والتجارة خاصة القرشيين،

إعطاء قبيلة ثقيف حُكم ذاتي وأن حاكمه وأميرهم منهم دون تولية الغير والسيطرة التامة على واديهم بمنع دخول غيرهم إلا بإذنهم،

كما أباحت المعاهدة لثقيف حق دخول الأراضي الإسلامية في أي مكان وزمان،

إعفائهم من المشاركة العسكرية للدولة الإسلامية إلاّ برضاهم وإرادتهم،

إعفائهم من جلب زكاة المواشي، وتكليف الجابي بالمثول إلى ديارهم وجبايتها،

رفع الظلم عن قبيلة ثقيف وإعطائهم حق المقاومة وعلى الرسول (صلی الله علیه و آله) نصرتهم والوقوف معهم ضد أي اعتداء،

وإعطاء ثقيف أحقية المشاركة في غلاّت ألأرض والمزارع التي كان يمتلكها القرشيون في ضمن المنطقة الجغرافية لديار ثقيف،

ص: 98


1- دولة النبي (صلى الله عليه وآله) في المدينة المنورة، الشيخ فوزي ال سيف.
د/ عهد النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) للنصارى عموماً:

(بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب: كتبه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله إلى الناس كافّة، بشيراً ونذيراً، ومؤتمناً على وديعة الله في خلقه، ولئلاّ يكون للناس على الله حجّة بعد الرسل، والبيان، وكان الله عزيزاً حكيماً. للسيد بن الحارث بن كعب ولأهل ملّته، ولجميع من ينتحل دعوة النصرانية في شرق الأرض وغربها، قريبها وبعيدها، فصيحهاً وأعجمها، معروفها ومجهولها كتاباً لهم عهداً مرعيّاً وسجلاً منشوراً سُنّة منه وعدلاً وذمة محفوظة، من رعاها كان بالإسلام مستمسكاً، ولما فيه من الخير مستأهلاً، ومن ضيّعها ونكث العهد الذي فيها وخالفه إلى غيره، تعدى فيه ما أمرت كان لعهد الله ناكثاً، ولميثاقه ناقضاً، وبذمته مستهيناً، وللعنة مستوجباً، سلطاناً كان أو غيره، بإعطاء العهد على نفسي بما أعطيتهم عهد الله وميثاقه، وذمة أنبيائه وأصفيائه، وأوليائه من المؤمنين والمسلمين في الأولين والآخرين، ذمتي وميثاقي وأشد ما أخذ الله على بني إسرائيل من حق الطاعة وإيثار الفريضة والوفاء بعهد الله، أن أحفظ أقاصيهم في ثغوري بخيلي بعيداً كان أو قريباً، سلماً كان أو حرباً، وأن أحمي جانبهم وأذبّ عنهم وعن كنائسهم وبيعهم وبيوتهم صلوات ومواضع الرهبان وموطن السياح، حيث كانوا من جبل أو واد أو مغار أو عمران أو سهل أو رمل، وأن أحرص على دينهم وملتهم أين كانوا من بر أو بحر شرقاً وغرباً بما أحفظ به نفسي وخاصتي وأهل الإسلام من أهل ملتي، وأن أدخلهم في ذمتّي وميثاقي وأماني، ومن كل أذى ومكروه أو مؤونة أو تبعة، وأن أكون من ورائهم ذابّاً عنهم كل عدو يريدني وإيّاهم بسوء بنفسي وأعواني وأتباعي وأهل ملّتي وأنا ذو السلطة عليهم، ولذلك يجب عليّ رعايتهم وحفظهم من كل مكروه، ولا يصل ذلك إليهم حتى يصل إلي وأصحابي الذابّين عن بيضة الإسلام معي، وأن أعزل عنهم الأذى في المؤن التي يحملها أهل الجهاد من الغارة والخراج إلا ما طابت به أنفسهم، وليس عليهم إجبار ولا إكراه على شيء من ذلك، ولا تغيير أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، ولا سائح عن سياحته، ولا هدم بيت من بيوت بيعهم، ولا إدخال شيء من بنائهم في شيء من أبنية المساجد، ولا منازل المسلمين، فمن فعل ذلك فقد نكث عهد الله وخالف رسوله، وحال عن ذمة الله، وأن لا يحمل الرهبان والأساقفة ولا من تعبّد منهم، أو لبس الصوف أو توحد في الجبال والمواضع المعتزلة عن

ص: 99

الأمصار، شيئاً من الجزية أو الخراج، وأن يقتصر على غيرهم من النصارى ممّن ليس بمتعبد ولا راهب ولا سائح على أربعة دراهم في كل سنة، أو ثوب حبرة أو عصب اليمن إعانة للسلمين وقوّة في بيت المال، وإن لم يسهل الثوب عليهم طلب منهم ثمنه ولا يقوم ذلك عليهم إلا بما تطيب به أنفسهم ؛ ولا تتجاوز جزية أصحاب الخراج والعقارات والتجارات العظيمة في البحر والأرض، واستخراج معادن الجوهر والذهب والفضة، وذوي الأموال الفاشية والقوة ممّن ينتحل دين النصرانية أكثر من اثني عشر درهماً من الجمهور فيكل عام إذا كانوا للمواضع قاطنين، وفيها مقيمين، ولا يطلب ذلك من عابر سبيل ليس من قطان البلد، ولا أهل الاجتياز ممّن لا تعرف مواضعه، ولا خراج ولا جزية إلا (على) من يكون في يده ميراث من ميراث الأرض ممّن يجب عليه فيه للسلطان حق فيؤدّي على ذلك ما يؤديه مثله ولا يجار عليه ولا يحمل منه إلا قدر طاقته وقوته على عمل الأرض وعمارتها وإقبال ثمرتها ولا يكلف شططاً ولا يتجاوز به حدّ أصحاب الخراج من نظرائه، ولا يكلف أحد من أهل الذمة منهم الخروج مع المسلمين إلى عدوّهم لملاقاة الحروب ومكاشفة الأقران، فإنّه ليس على أهل الذمة مباشرة القتال، وإنّما أعطوا الذمة على أن لا يكلفوا ذلك ؛ وأن يكون المسلمون ذبّاباً عنهم وجداراً من دونهم ولا يكرهوا على تجهيز أحد من المسلمين إلى الحرب الذي يلقون فيه عدوهم بقوّة وسلاح أو خيل إلا أن يتبرعوا من تلقاء أنفسهم، فيكون من فعل ذلك منهم وتبّرع به حمد عليه وعرف له وكوفئ به.

ولا يجبر أحد ممّن كان على ملّة النصرانية كرهاً على الإسلام، ولا تجادلوا (أهل الكتاب) إلاّ بالتي هي أحسن، ويخفض لهم جناح الرحمة، ويكفّ عنهم أذى المكروه حيث كانوا وأين كانوا من البلاد. وإن أجرم أحد من النصارى أو جنى فعلى المسلمين نصره والمنع والذبّ عنه، والغرم عن جريرته، والدخول في الصلح بينه وبين من جنى عليه، فإمّا منّ عليه أو يفادى به. ولا يرفضوا ولا يخذلوا ولا يتركوا هملاً، لأني أعطيتهم عهد الله على أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وعلى المسلمين ما عليهم بالعهد الذي استوجبوا حق الذمام والذب عن الحرمة، واستوجبوا أن يذبّ عنهم كل مكروه حتى يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم. ولا يحملوا في النكاح شططاً لا يريدونه، ولا يكره أهل البنت على تزويج المسلمين ولا يضاروا في ذلك إن منعوا

ص: 100

خطاباً وأبوا تزويجاً، لأن ذلك لا يكون إلا بطيبة قلوبهم ومسامحة أهوائهم إن أحبوه ورضوا به، وإذا صارت النصرانية عند المسلم فعليه أن يرضى بنصرانيّتها ويتّبع هواها في الاقتداء برؤسائها والأخذ بمعالم دينها ولا يمنعها ذلك، فمن خالف ذلك وأكرهها على شيء من أمر دينها فقد خالف عهد الله، وعصى ميثاق رسوله وهو عند الله من الكاذبين.

ولهم إن احتاجوا في مرمّة بيعهم وصوامعهم، أو شيء من مصالح أمورهم ودينهم، إلى رفد من المسلمين وتقوية لهم على مرمّتها أن يرفدوا على ذلك، ويعاونوا، ولا يكون ذلك ديناً عليهم، بل تقوية على مصالحة دينهم، ووفاء بعهد رسول الله لهم ومنّة لله ورسوله عليهم. ولهم أن لا يلزم أحد منهم بأن يكون في الحرب بين المسلمين وعدوهم رسولاً أو دليلاً أو عوناً أو متخبراً، ولا شيئاً ممّا يساس به الحرب، فمن فعل ذلك بأحد منهم كان ظالماً لله، ولرسوله عاصياً، ومن ذمّته متخلياً، ولا يسعه في إيمانه إلا الوفاء بهذه الشرائط التي شرطها محمد بن عبد الله رسول الله لأهل ملّة النصرانية، واشترط عليهم أموراً يجب عليهم في دينهم التمسكبها والوفاء بما عاهدهم عليه، منها: ألا يكون أحد منهم عيناً ولا رقيباً لأحد من أهل الحرب، على أحد من المسلمين، في سرّه وعلانيته، ولا تأوي منازلهم عدوّ للمسلمين يريدون به أخذ الفرصة وانتهاز الوثبة، ولا ينزلوا أوطانهم ولا ضياعهم ولا في شيء من مساكن عبادتهم ولا غيرهم من أهل الملّة، ولا يرفدوا أحداً من أهل الحرب على المسلمين بتقوية لهم بسلاح ولا خيل ولا رجال ولا غيرهم ولا يصانعوهم وأن يقروا من نزل عليهم من المسلمين ثلاثة أيام بلياليها في أنفسهم ودوابهم حيث كانوا وحيث مالوا يبذلون لهم القرى الذي منه يأكلون ولا يكلفوا سوى ذلك فيحملوا الأذى عليهم والمكروه، وإن احتيج إلى إخفاء أحد من المسلمين عندهم وعند منازلهم ومواطن عباداتهم أن يؤووهم ويرفدوهم ويواسوهم فيما يعيشون به ما كانوا مجتمعين، وأن يكتموا عليهم ولا يظهروا العدوّ على عوراتهم، ولا يخلوا شيئاً من الواجب عليهم. فمن نكث شيئاً من هذه الشرائط، وتعدّاها إلى غيرها، فقد برئ من ذمة الله وذمة رسوله، وعليهم العهود والمواثيق التي أخذت عن الرهبان وأخذتها، وما أخذ كل نبيّ على أمّته من الأمان والوفاء لهم وحفظهم به ولا ينقض ذلك ولا يغير حتى تقوم الساعة إن شاء الله).

ص: 101

ه/ عهد النبي (صلی الله علیه و آله) لنصارى نجران:

لما توسعت رقعة الدولة الإسلامية في عهد النبي (صلی الله علیه و آله) كان هناك مجموعة كبيرة من القبائل المسيحية العربية، وبخاصة في نجران، فتعامل معهم النبي (صلی الله علیه و آله) بقبول لوجودهم في كنف الدولة الإسلامية، وعقد معهم معاهدة من شأنها أن تُؤمن لهم حرية ممارسة شعائرهم، والاعتقاد بما يعتقدون من ديانة. فكتب (صلی الله علیه و آله) لهم عهداً بعد عودته من غزوة تبوك عام (9) ه، والذي يدل على قمة العدل، والسماحة والحرية، حيث أعطاهم الحرية الدينية، والحماية والجوار، ولم يفرض عليهم إلاّ جزية عينية متواضعة، (1) وقد جاء فيه: (...ولنجران وحاشيتهم جوار الله... ومن سأل منهم حقاً فبينهم النصّف غير ظالمين ولا مظلومي...، ولا يؤاخذ أحد منهم بظلم آخر، وعلى ما فيه هذه الصحيفة جوار الله، وذمة النبي (صلی الله علیه و آله) أبداً حتى يأتي الله بأمره إن نصحوا وأصلحوا فيما عليهم). (2)

و/ عهد النبي (صلی الله علیه و آله) لليهود:

أعطى الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) العهد والأمان لليهود حتى بعدما حدث منهم في المدنية يوم الأحزاب من خيانة، حيث كتب (صلی الله علیه و آله) لعدد من التجمعات اليهودية في شمال الجزيرة بعدة غزوة خيبر بفترة، إذ بعث إلى بني جنبة بمقنة القريبة من أيلة على خليج العقبة: (أما بعد فقد نزل عليّ رسلكم راجعين إلى فريتكم، فإذا جاءكمكتابي هذا فإنكم آمنون، لكم ذمة الله وذمة رسوله، وإن رسول الله غافر لكم سيئاتكم … ولا ظلم عليكم ولا عدي، وإن رسول الله جاركم مما منع منه نفسه.. وأن عليكم ريع ما أخرجت نخلكم... فإن سمعتم وأطعتم فإن على رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يكرم كريمكم ويعفو عن مسيئكم، وأن ليس عليكم أمير إلاّ من عند أنفسكم، أو من أهل رسول الله...) (3) ، وهكذا فعل مع بني غاديا، وأهل حرباء، وأذرح من اليهود (وبذلك تمكن الرسول (صلی الله علیه و آله) من تحويل هذه التجمعات اليهودية إلى جماعات من المواطنين في الدولة الإسلامية يدفعون لها ما تفرضه عليهم من ضرائب نقدية أو عينية، ويحتمون بقوتها وسلطانها،

ص: 102


1- دراسة في السيرة، الدكتور عماد الدين خليل.
2- تأريخ اليعقوبي، تحقيق محمد صالح بحر العلوم ج2، ص (71- 72) .
3- طبقات ابن سعد (1/2/28- 30) .

ويتمتعون بعدلها وسماحتها..، وهناك الكثير من الروايات والنصوص التاريخية التي تدل على أن الرسول (صلی الله علیه و آله) كان يعامل اليهود بعد غزوة خيبر بروح التسامح حتى أنه أوصى عامله معاذ بن جبل: (بأن لا يفتن اليهود عن يهوديتهم) ، وعلى هذا النحو عومل يهود البحرين إذ لم يكلفوا إلا بدفع الجزية وبقوا متمسكين بدين آبائهم). (1)

والتحقيق أن الإسلام كان ينطلق من سنة حتمية الخلاف (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) إلى قبول الآخر والحفاظ عليه، وأن الجزية ما هي في احقيتها إلاّ قبول الآخر والاعتراف بحق مواطنته، وتكليفه بأداء حقوقه المالية ونحوها في مقابل توفير الأمن والأمان له. (2)

النقطة الثانية:

اشارة

الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) زمن إمامته وحكومته (مُعارِضاً وحاكماً ومُعارَضاً) :

لقد اجتهد الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) في نشر ثقافة التعايش السلمي بشكل ملحوظ، بل وساهم في إنشاء وصناعة وعي فردي وجمعي من أجل تعايش إيجابي مستدام ومسؤول، فكان في سلوكه الرسمي وغير الرسمي والفردي والاجتماعي وفي كلّ الظروف والأحوال آية وقدوة للتعايش، لينقل التعايش بمقوّماته من الرصيد المعلوماتي للبشرية إلى الرصيد المعرفي كي يترجم التعايش في السلوك والقرار. (3)

حتى أنه (علیه السلام) كان في سلوكه الفردي وتعامله مع عبيده فضلاً عن سائر رعاياه من المسلمين يتعامل بمنتهى الشفافية والرحمة والعفو، والتأريخ مليء بنماذج مشرقة تعكس لنا بكل وضوح هذه الحقيقة التي لا يعتريها أدنى ريب، نذكر على سبيل المثال الرواية التالية التي تؤكد لنا هذا المعنى، حيث يذكر أنه (علیه السلام) نادى بصوته المبارك بعض عبيده فلم يجبه فدعاه مراراً فلم يجبه، فدخل عليه رجل وقال: يا أمير المؤمنين، إنه بالباب واقف وهو يسمع صوتك ولا يكلمك، فلما حضر العبد عنده، قال له الإمام (علیه السلام) : (أما

ص: 103


1- المسلم والآخر.. رؤية تأريخية، الدكتور عماد الدين خليل، مجلة إسلامية المعرفة، العدد 33-34 سنة 2003.
2- يُنظر مقالة: الإسلام ينطلق من حتمية الخلاف إلى قبول الآخر، الدكتور علي القره داغي. موقع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
3- يُنظر الإمام علي (علیه السلام) باني اُسس التعايش، المهندس فؤاد الصادق. بتصرف بسيط.

سمعت صوتي) ،قال: بلى قال: (فما منعك من إجابتي؟) قال: أمنت عقوبتك. فقال له الإمام علي (علیه السلام) : (الحمد لله الذي جعلني ممن يأمنه خلقه).

أما على المستوى الساسي والحكومي فقد أعلن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) أمام المسلمين معالم سياسته التي تميزت بتقدم حضاري وأنساني ملموس خاصة في عاصمة الخلافة الجديدة في الكوفة، وأكّد الامام (علیه السلام) من خلال سياسته على حقوق الرعية في مواضع مختلفة من مناحي الحياة. فقد تبنى (علیه السلام) مبدأ المساواة بين الناس فلا يميز أحداً دون الآخر، وساوى في العطاء بين المسلمين وغيرهم من أبناء الذمة فلا يقدم مسلم على مسيحي ولا عربي على أعجمي، وقد نجمت عن تلك السياسة مشكلات في الأوساط الرأسمالية مما دفع البعض منهم إلى إعلان الحرب على حكومة الإمام (علیه السلام) وشق صفوف المؤمنين. (1)

وإن المشروع الإسلامي لبناء المجتمع الآمن وفق رؤية الإمام علي (علیه السلام) يتمثل بعدة أبعاد نذكر منها مايلي:

الأمن المعنوي أو الروحي والسعي لإشاعة مفاهيم وسلوكيات التقوى والهداية: (فان جار الله امن وعدوه خائف).

الأمن القضائي.

الأمن الاقتصادي.

الأمن الداخلي والحدودي: إذ يقول (علیه السلام) عن أحد ثقاته: (وأسد به لهاة الثغر المخاوف) ويمتدح (علیه السلام) القوة العسكرية قائلاً: (فالجنود بإذن الله حصون الرعية وزين الولاة وعز الدين وسبل الامن وليس تقوم الرعية إلا بهم) ومن واجبات الحكومة والحاكم أن (تأمن فيه السبل).

الأمن الخارجي واستباب السلام الذي جعله الإمام (علیه السلام) هدفاً لسياسة الحاكم وحق للأمة، إذ يقول (علیه السلام) : (لا تدفعن صلحاً دعاك اليه عدوك لله فيه رضى فان في الصلح دعة لجنودك وراحة لهمومك وامناً لبلادك).

ص: 104


1- مقالة بعنوان: حقوق الرعية في حكومة الإمام علي (علیه السلام) ، صفحة (حقوق الانسان) على شبة التواصل الاجتماعي، بتصرف بسيط.

الأمن السياسي والاجتماعي: في هذا المضمار يرفض الإمام (علیه السلام) أن يروع الإنسان وان تكون السلطة، مهما كان موقعها في المجتمع (سلطة الاب، الزوج، رئيس العشيرة، رجل دين، والي أو موظف كبير، رئيس دولة) عامل لإثارة الخوف في نفوس الآخرين إذ يقول (علیه السلام) : (لا يحل لمسلم ان يروع مسلماً) وكذلك فأن

(من نظر الى مؤمن ليخيفه أخافه الله يوم القيامة). (1)ونلاحظ بوضوح إن تحقيق السِلم والأمن المجتمعي بكل ميادينه ومجالاته، هو من اهتمامات الحكومة الإسلامية العلوية، حتى أنه ورد عنه (علیه السلام) قوله: (لا نعمة اهنأ من الامن) ، كما أنه (علیه السلام) يعُد البلاد التي لا يتحقق فيها البُعد الأمني والاقتصادي، من شر البلاد، حيث قال (علیه السلام) : (شر البلاد بلد لا أمن فيه ولا خصب).

وسنستعرض فيما يلي وبشكل مختصر، بعض ملامح الحكومة العلوية العادلة التي ضربت أروع الصور في التسامح والعدالة وإرساء حقوق الإنسان، وكانت مثالاً يُقتدى به للدولة الفاضلة، المبنية على مبدأ التعايش السلمي، والقيم الأخلاقية النبيلة التي لن يكررها التأريخ إلا في زمن ظهور حفيده الإمام المنتظر المهدي (علیه السلام) حيث يملأها قسطاً وعدلاً بعد أن تُملأ ظلماً وجوراً:

أولاً/ حقوق المواطنة:

سنقتطف من بستان الدوحة العلوية بعض الأزهار التي نستنشق منها رائحة العدل والسماحة التي فاحت في ظل حكومة الامام أمير المؤمنين (علیه السلام) والتي حققت للمجتمعات التي كان يحكمها الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) آنذاك مبدأ التعايش السلمي، بأروع صوره المشرقة، التي أبهرت العقول وأدهشت النفوس، ومنها ما جاء في عهده (علیه السلام) الخالد لمالك الأشتر النخعي (رحمه الله) لما ولاه على مصر وأعمالها، حيث جاء فيه:

(... وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ اَلرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَ اَلْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَ اَللُّطْفَ بِهِمْ وَ لاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي اَلدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي اَلْخَلْقِ

ص: 105


1- حقوق الانسان عند الإمام علي بن ابي طالب (علیه السلام) ،رؤية علمية، الدكتور غسان السعد، ص65-66.

يَفْرُطُ مِنْهُمُ اَلزَّلَلُ وَتَعْرِضُ لَهُمُ اَلْعِلَلُ ويُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي اَلْعَمْدِ والخطأ فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلِ اَلَّذِي تُحِبُّ وَ تَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اَللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَوَالِي اَلْأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ وَاَللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلاَّكَ وَقَدِ اِسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ وَاِبْتَلاَكَ...وَلْيَكُنْ أَحَبَّ اَلْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي اَلْحَقِّ وَأَعَمُّهَا فِي اَلْعَدْلِ وَأَجْمَعُهَا لِرِضَا لِرِضَى اَلرَّعِيَّةِ فَإِنَّ سُخْطَ اَلْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَا بِرِضَى اَلْخَاصَّةِ وَإِنَّ سُخْطَ اَلْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَا رِضَى اَلْعَامَّةِ... إِنَّمَا عَمُودُ عِمَادُ اَلدِّينِ وَ جِمَاعُ اَلْمُسْلِمِينَ وَاَلْعُدَّةُ لِلْأَعْدَاءِ اَلْعَامَّةُ مِنَ اَلْأُمَّةِ فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ). (1)

نلاحظ في هذا النص التشريعي والسياسي في الوقت نفسه يحتوي على مضامين أخلاقية وتربوية سامية، حيث يأمر الحاكم الإسلامي بلزوم تطبيق مبدأ التعايش السلمي بين أبناء الوطن الواحد، وعدم التفريق بينهم من ناحية الرعاية الحكومية، فضلاً عن سائر الاستحقاقات المالية والخدمية، وضرورة نبذ عنصر التفرقة على أساس ديني أو عرقي أو قومي، فالرعية وفق النظرة العلوية الشريفة على صِنْفَينِ: (إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي اَلدِّينِ وَ إِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي اَلْخَلْقِ) ولم يكتف الإمام (علیه السلام) بهذا بل تعداه ليحث واليه المخلص (رضوان الله عليه) بمراعاة أحوال الرعية واتخاذ سياسة اللين والعفو ومبدأ المسامحة معهم فلا يكونن عليهم سبعاً ضارياً، حيث قال(وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً، تغتنم أكلهم، فهم صنفان إما أخ لك في الدين، أو نظير في الخلق). فقد ألزم الإمام (علیه السلام) ولاته وعماله في أقطار الدولة الإسلامية على تطبيق المساواة الكاملة بين الرعية في القانون، حيث كتب (علیه السلام) لولاته رسائل عديدة، ومما جاء في إحدى رسائله (C) التي كتبها لبعض ولاته: (فَاخْفِضْ لَهُمْ جَناحَكَ، وَألِنْ لَهُم جَانِبَكَ، وَابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ، وَآسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَالنَّظْرَةِ، حَتّى لا يَطْمَعَ العُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ لَهُمْ، وَلا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ).

وهناك شواهد تأريخية أخرى تُثبت لنا مدى الحرية التي يعطيها الإمام (علیه السلام) للناس، ومدى عفوه وسعة صدره عن المسيئين، والمساحة الكبيرة التي يتمتع بها الفرد في الدولة العلوية المباركة، فعن الأصبغ بن نباتة قال: أمرنا أمير المؤمنين (علیه السلام) بالمسير إلى المدائن من الكوفة فسرنا يوم الأحد، وتخلف عنا عمرو بن حريث في سبعة نفر، فخرجوا

ص: 106


1- دراسات في نهج البلاغة، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، ص131.

إلى مكان بالحيرة يدعى الخورنق، وقالوا: إذا كان يوم الاربعاء خرجنا ولحقنا العسكر، فخرج عليهم فيماهم فيه من حديثهم ضب فاصطادوه، فأخذه عمرو بن حريث فنصب كفه وقال لأصحابه: بايعوه، هذا أمير المؤمنين. فبايعوه -مستهزئين- ثم خرجوا وقدموا المدائن يوم الجمعة وأمير المؤمنين (علیه السلام) على المنبر يخطب، فنزلوا بأجمعهم على باب المسجد، ثم دخلوا مستخفين، فرآهم الإمام علي (علیه السلام) فقال: يا أيها الناس إن رسول الله أسر فيما أسر إلي من العلم حديثاً، فيه ألف باب، وكل باب يفتح منه ألف باب، وإني سمعت الله يقول: (يوم ندعوا كل اناس بإمامهم) وإني أقسم بالله قسماً حقاً ليبعثن يوم القيامة ثمانية نفر من عسكري يدعون أنهم أصحابي لحقوا بنا آنفا، إمامهم ضب اصطادوه في طريقهم وبايعوه، ولو شئت أن اسميهم لفعلت. قال: فرأينا عمرو بن حريث ينتفض مثل السعفة جبناً). (1)

ونلاحظ في هذه الحادثة كيف أن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) اكتفى بوعظهم وبالتعريض التلميحي دون أن يعاقبهم أو حتى يعاتبهم صراحة أمام الناس، وفي هذا الاسلوب لون من ألوان الحرية في حكومة العدل العلوية المباركة، علماً إن الحكم الفقهي لمن يسب النبي (صلی الله علیه و آله) أو الإمام (علیه السلام) هو القتل (2) ، إلا أنه (علیه السلام) ترفع عن ذلك وعفى عنهم، مثل هذه الحرية لا توجد إلا في الإسلام. ولا يمثلها إلا حاكم إسلامي عادل مثل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) ومن كانت سيرته متابعة لسيرتهما.

ونقرأ في سيرة الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ما لا نجده في سيرة أي حاكم أو قائد عسكري آخر، فبعد انتصاره (علیه السلام) على الخوارج في حرب النهروان طلب (علیه السلام) من به رمق منهم فوجدوهم أربعمائة رجل، فأمر أن يسلموهم إلى عشائرهم قائلاً : (احملوهم معكم فداووهم فإذا برئوا فوافوا بهم الكوفة وخذوا ما في عسكرهم من شيء، وأمّاالسلاح والدواب وما شهدوا عليه الحرب فقسّمه بين المسلمين، وأمّا المتاع والعبيد والإماء فإنّه حين قدم ردّه على أهله). (3)

وهذا الخُلق الرفيع قل نظيره في التأريخ، وهو

ص: 107


1- الخرائج والجرائح، الراوندي، ج2، ص255.
2- ينظر منهج الصالحين، الشهيد الصدر الثاني، ج3، كتاب القذف، ص480.
3- موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) في الكتاب والسنة والتاريخ، الشيخ محمد الري شهري، ج6، ص581.

يكشف لنا بوضوح كيفية تعامل الحاكم الإسلامي مع الجماعات المتمردة على حكمه المشروع، ويضمن لهم حقوق الرعاية والمداواة الطبية بالرغم من كونهم محاربين للدولة الإسلامية وخارجين على القانون الإلهي، ويضمن لهم حقوق المواطنة الأخرى.

ثانياً/ مبدأ المساواة:

وتبنّى الإمام (علیه السلام) في جميع مراحل حكمه المساواة والعدالة بين الناس، فلا امتياز لأي أحد على غيره، وهذه بعض مظاهر مساواته:

أ) المساواة في العطاء: لقد ساوى الإمام (علیه السلام) في العطاء بين المسلمين وغيرهم، فلم يقدّم عربياً على غيره، ولا مسلماً على مسيحي، ولا قريباً على غيره، وعندما اعترضت امرأة من العرب على مساواتها في العطاء مع أخرى من العجم فأجابها الإمام (علیه السلام) بعد أن أخذ بين يديه كفين من التراب: (والله لا اجد لبني اسماعيل في هذا الفيء فضلا على بني اسحاق) وعلى وفق هذا الموقف في رفض التمايز العرقي يحدد الإمام (علیه السلام) إطاراً آخر للمساواة العادلة في جانبها الاقتصادي. (1)

وهذه العدالة العلوية تسببت في تنكّر الأوساط الرأسمالية له وأعلنوا عليه الحرب.

ب) المساواة أمام القانون: ألزم الإمام (علیه السلام) عمّاله وولاته على الأقطار بتطبيق المساواة الكاملة بين الناس في القضاء وغيره، قال (علیه السلام) في إحدى رسائله إلى بعض عمّاله: (فَاخْفِضْ لَهُمْ جَناحَكَ، وَألِنْ لَهُم جَانِبَكَ، وَابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ، وَآسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَالنَّظْرَةِ، حَتّى لا يَطْمَعَ العُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ لَهُمْ، وَلا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ) ، كما أنه (علیه السلام) قد طبق ذلك عملياً، حيث كان يمشي (علیه السلام) بنفسه مع النصراني إلى قاضيه، ليتحاكم كأحد الرعية، وقاضيه يقضي عليه غير مصيب، فلا يرفض (علیه السلام) الحكم. فقد روى ابن الأثير في التاريخ (الكامل) أن علياً (علیه السلام) وجد درعاً عند نصراني فأقبل إلى شريح قاضيه وجلس إلى جانبه يخاصم النصراني مخاصمة رجل من رعاياه، وقال: إن هذه درعي لم أبع ولم أهب، فقال للنصراني: ما يقول أمير المؤمنين؟ فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي، وما أمير المؤمنين عندي إلا بكاذب، فالتفت شريح إلى علي (علیه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين هل من بيّنة؟ قال: لا، فقضى شريح بها للنصراني،

ص: 108


1- حقوق الانسان عند الإمام علي بن ابي طالب (علیه السلام) ،رؤية علمية، الدكتور غسان السعد، ص96.

فمشى هنيئة ثم أقبل فقال: أما أنافأشهد أن هذه أحكام النبيين، أمير المؤمنين يمشي بي إلى قاضيه، وقاضيه يقضي عليه! أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنّ محمداً عبده ورسوله، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين. (1)

وإذا أردنا أن نذكر شاهداً تأريخياً آخر يُبين مدى عدالة الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) فهذا نص يضمن للمواطن أدق الحقوق مع خصومه في القضاء، حيث ذكر إبن أبي الحديد المعتزلي حادثة زمن حكومة عمر عندما استعدى أحدهم على الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) (أي طلب الإمام للقضاء والمحاكمة) التفت عمر إلى الإمام (علیه السلام) فقال له: قم يا أبا الحسن فاجلس مع خصمك فقام (علیه السلام) وجلس معه و تناظرا ثم انصرف الرجل و رجع الإمام (علیه السلام) إلى محله فتبين عمر التغير في وجهه (علیه السلام) فقال عمر: يا أبا الحسن ما لي أراك متغيراً أكرهت ما كان؟ قال: نعم. قال: وما ذاك، قال (علیه السلام) : (كنيّتني بحضرة خصمي، هلا قلت: قم يا علي فاجلس مع خصمك) فاعتنق عمر علياً (علیه السلام) و جعل يقبل وجهه، وقال: بأبي أنتم بكم هدانا الله و بكم أخرجنا من الظلمة إلى النور. (2)

وهناك شواهد أخرى في نفس سياق هذا المعنى، تُبين مدى حرص الإمام (علیه السلام) على ضرورة تطبيق العدالة وضمان حقوق الرعية حتى في أبسط الأمور، لكي لا يبخس حق أحد، حتى وإن كان المواطن في معرض المسائلة والمحاكمة، فقد نُقل عنه (علیه السلام) إنه قام بعزل أحد قضاته وهو أبو الأسود الدؤلي وعندما سأل الخير عن سبب عزله قائلاً: لم عزلتني و ما خنت و ما جنيت ؟، فقال له الإمام (علیه السلام) : (إني رأيت كلامك يعلو كلام خصمك). (3)

ويروي لنا حفيده الإمام الصادق (علیه السلام) الرواية الآتية التي تؤكد هي الأخرى هذه المضامين التربوية والحقوقية في آداب الحكم والقضاء الإسلامي، حيث قال: قال أمير

ص: 109


1- بحار الأنوار، ج 97 - ص 291.
2- ينظر شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي، (المكتبة الشاملة) ، ج17، ص65.
3- ميزان الحكمة، الشيخ محمد الرس شهري، ج8، ص292.

المؤمنين (علیه السلام) : (من ابتلي بالقضاء فليواس بينهم في الاشارة وفي النظر و في المجلس). (1)

ونصح الإمام علي (علیه السلام) قاضية شريح قائلاً: (ثم واس بين المسلمين بوجهك ومنطقك ومجلسك، حتى لا يطمع قريبك في حيفك، ولا ييأس عدوك من عدلك). (2) وعنه (علیه السلام) أيضاً: (ينبغي للحاكم أن يدع التلفت إلى خصم دون خصم، وأن يقسم النظر فيما بينهما بالعدل، ولا يدع خصما يظهر بغيا على صاحبه). (3)كما أعلن أمير المؤمنين (علیه السلام) أن رئيس الدولة وولاته وكبار موظفيه وصغارهم يخضعون على حدٍ سواء لقانون صيانة الدماء، أي القصاص فيقول في عهده للأشتر: (إياك والدماء وسفكها بغير حلها فإنه ليس شيء أدعى لنقمة ولا اعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة، وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها، والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد، فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام، فان ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد لان فيه قود البدن) والحقيقة هناك جملة من الأمور يمكن تلمسها في هذا النص، منها:

تأكيد حرمة الدماء وان حق الحياة مكفول للجميع، إذ كان الحديث عن الدماء بصورة عامة وليس دماء المسلمين دون غيرهم.

المساواة بين الحاكم والمحكوم، من حيث لا ضمانات للمنصب او شاغله في موضوع التعدي على الدماء والحياة.

ان سفك الدماء يثير الغضب والنقمة بين الشعب مما يؤدي إلى الاضطراب وهو من الأسباب المهمة للثورات لأن (لكل دم ثائراً، ولكل حق طالباً) على وفق وصف الإمام (علیه السلام). (4)

ص: 110


1- موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) في الكتاب والسنة والتاريخ، الشيخ محمد الري شهري، ص208.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه.
4- حقوق الانسان عند الامام علي بن ابي طالب (علیه السلام) ،رؤية علمية، الدكتور غسان السعد، ص70.

ج) المساواة في الحقوق والواجبات: ومن مظاهر المساواة العادلة التي أعلنها الإمام (علیه السلام) المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، فلم يفرض حقّاً على الضعيف ويعفُ عن القوى، بل الكلّ متساوون أمام عدله. وجاء في خطبة له (علیه السلام) يُعرب فيها عن أسفه وألمه لما يحل برعيته من ظلم جراء الغارات والهجمات المسلحة التي يقوم بها أتباع معاوية على القرى الآمنة، فيبدي تحسره على الأذى الذي يصيبهم دون أن يميز بين المسلم عن غيره، حيث قال (علیه السلام) : (..أَلاَ وَ إِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ لَيْلاً وَ نَهَاراً وَ سِرّاً وَ إِعْلاَناً وَ قُلْتُ لَكُمُ اُغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ فَوَاللَّهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلاَّ ذَلُّوا فَتَوَاكَلْتُمْ وَ تَخَاذَلْتُمْ حَتَّى شُنَّتْ اَلْغَارَاتُ عَلَيْكُمُ وَمُلِكَتْ عَلَيْكُمُ اَلْأَوْطَانُ وَهَذَا أَخُو غَامِدٍ وَقَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ اَلْأَنْبَارَ وَقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ اَلْبَكْرِيَّ وَ أَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا وَ لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ اَلرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى اَلْمَرْأَةِ اَلْمُسْلِمَةِ وَ اَلْأُخْرَى اَلْمُعَاهِدَةِ فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَ قُلُبَهَا وَ قَلاَئِدَهَا وَ رُعَاثَهَا مَا تَمْنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالاِسْتِرْجَاعِ وَ اَلاِسْتِرْحَامِ ثُمَّ اِنْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ وَ لاَ أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ فَلَوْ أَنَّ اِمْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً..) فلاحظوا العدالة والنظرة الأبوية الرحيمة للحاكم الإسلامي تجاه مواطني دولته التي لاتميز بين دين أو قومية أو أية مميزات أخرى، ولا يوجد في عُرف الدولة العلوية الإسلامية، كما هو الحال اليوم في بعض دول العالم، مواطن من الدرجة الأولى أو الدرجة الثانية.

وجاء ضمن وصاياه (علیه السلام) إلى واليه محمد بن أبي بكر في حق الرعية ومداراتهم: (وآس بينهم في اللحظة والنظرة، حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، و لا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم). (1)

وقد برزت في رؤية الإمام (علیه السلام) المساواة في التمكن من أسباب العيش والعمل والرفاه للإنسان بغض النظر عن أي انتماء أو وصف آخر حيث كانت فكرته (علیه السلام) أن: (الناس في المعاش أسوة) ويحذر (علیه السلام) أحد قادته بقوله: (إياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة) وكان دائماً (علیه السلام) يردد قائلاً: (إن الناس عندنا في الحق أسوة). (2)

ص: 111


1- الإمام علي بن ابي طالب (علیه السلام) من حبه عنوان الصحيفة، أحمد الرحماني الهمداني، ص132.
2- حقوق الانسان عند الامام علي بن ابي طالب (علیه السلام) ،رؤية علمية، الدكتور غسان السعد، ص92.

ثالثاً/ مبدأ الحرية:

اشارة

من المبادئ التي طبّقها الإمام (علیه السلام) في أيام حكومته منح الناس الحرية الكاملة شريطة أن لا تستغلّ في الاعتداء على الناس، ولا تضرّ بمصالحهم، وأن لا تتنافى مع قواعد الشرع، ومن معالمها الحرية السياسية ؛ ونعني بها أن تتاح للناس الحرية التامّة في اعتناق أي مذهب سياسي من دون أن تفرض السلطة عليهم رأياً معاكساً، وقد منح الإمام (علیه السلام) هذه الحرية حتى لأعدائه الذين أعلنوا رفض بيعته التي قام عليها إجماع المسلمين، ويتفرّع عن الحرية السياسية ما يلي:

أ) حرية الانتخاب والديمقراطية في الحكم:

أشار المرجع اليعقوبي إلى معنى الديمقراطية موضحاً معناها قائلاً: (الديمقراطية : أي احترام إرادة الشعب والرجوع إليه في تقرير مصيره فإن الإسلام أول من وضع أصوله ومبادئه وسار عليه قادة الإسلام بمنتهى الصراحة والشفافية فتجد في سيرة رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه حينما خرج مع المسلمين على غير استعداد للقتال لاعتراض قافلة قريش التجارية ولما أفلتت القافلة وأصبح المسلمون في مواجهة قريش استشارهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) في المضي نحو القتال أو الرجوع، وقبل معركة أحد استشارهم (صلی الله علیه و آله) في التصدي لقريش داخل شوارع المدينة وأزقتها أو خارج المدينة واستشارهم في كيفية مواجهة الأحزاب حتى أشار سلمان الفارسي بحفر الخندق). (1)

وفي خضم الأحداث الجسام أتى الإمام علي (علیه السلام) وهو المواكب لتلك الأحداث وتسلم الأمر مكرهاً ومجبراً بعد الالحاح عليه وانتخابه من جمهور المسلمين، فأجابهم قائلاً : (دعوني والتمسوا غيري أيها الناس إنامستقبلون أمراً له وجوه وله ألوان لا تثبت له العقول ولا تقوم له القلوب). وناشدوه مرات ومرات بأنه لابد للناس من أمام ولا نجد اليوم أحق بهذا الأمر منك ولا أقدم سابقة ولا أقرب من رسول الله (صلی الله علیه و آله).. وبعد رويّة أجابهم بأنه إن تولى أمرهم حملهم على كتاب الله وسنة رسوله الكريم (صلی الله علیه و آله) ، وقال (علیه السلام) : (إني إن اجبتكم ركبت فيكم ما أعلم...) وألح القوم عليه وخوفاً من حدوث الفتنة والانشقاق بين صفوف المسلمين قال لهم: (إن كان لابد من ذلك ففي المسجد فإن

ص: 112


1- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج4، (الإسلام والديمقراطية وحقوق الإنسان) .

بيعتي لا تكون خفية ولا تكون إلا عن رضى المسلمين وفي ملأ جماعتهم) ، لقد أراد الإمام (علیه السلام) أن يكون انتخابه حراً وعاماً يستوعب فيه جميع المسلمين ولا يكون بالقهر والغلبة ولا بشهر السيوف والحروب.

وفي هذا السياق جاء في النصوص التأريخية أيضاً عن ارهاصات هذه الحقبة: (إن جمعاً من الأنصار والمهاجرين اجتمعوا في مسجد رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله) اجتمع رأيهم على مبايعة الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) فأتوه واستخرجوه من داره، وسألوه بسطَ يده، فقبضها، فتداكّوا عليه تداكّ الإبل الهِيم على وِردها، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً، فلمّا رأى منهم ما رأى سألهم أن تكون بيعته في المسجد ظاهرة للناس، وقال (علیه السلام) : (إن كرهني رجلٌ واحد من الناس لم أدخل في هذا الأمر) فنهض الناس وبايعوا إلّا محمّد بن مسلمة، وعبداللَّه بن عمر، واُسامة بن زيد، وسعد بن أبي وقّاص، وكعب بن مالك، وحسّان بن ثابت، وعبداللَّه بن سلام. فأمر بإحضار عبداللَّه بن عمر، فقال له: بايع. قال: لا اُبايع حتى يبايع جميع الناس. فقال له (علیه السلام) : فأعطني حميلاً أن لا تبرح. قال: ولا اُعطيك حميلاً. فقال الأشتر: يا أمير المؤمنين، إنّ هذا قد أمن سوطَك وسيفَك، فدعني أضرب عنقه! فقال: لستُ اُريد ذلك منه على كره، خلّوا سبيله. فلمّا انصرف قال أمير المؤمنين (علیه السلام) : (لقد كان صغيراً وهو سيّئ الخلق، وهو في كبره أسوأ خلقاً) ثمّ اُتي بسعد بن أبي وقّاص، فقال (علیه السلام) له: بايع. فقال: يا أبا الحسن خلّني، فإذا لم يبقَ غيري بايعتُك، فو اللَّه لا يأتيك من قبلي أمر تكرهه أبداً. فقال (علیه السلام) : صدق، خلّوا سبيله. ثمّ بعث إلى محمّد بن مسلمة، فلمّا أتاه قال له: بايع. قال: إنّ رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله) أمرني إذا اختلف الناس وصاروا هكذا - وشبّك بين أصابعه - أن أخرج بسيفي فأضرب به عرض اُحد فإذا تقطّع أتيت منزلي، فكنت فيه لا أبرحه حتى تأتيني يد خاطية، أو منيّة قاضية. فقال له (علیه السلام) : فانطلق إذاً، فكن كما اُمرت به. ثمّ بعث إلى اُسامة بن زيد، فلمّا جاء قال (علیه السلام) له: بايع. فقال: إنّي مولاك، ولا خلاف منّي عليك، وستأتيك بيعتي إذا سكن الناس. فأمره بالانصراف، ولم يبعث إلى أحد غيره. وقيل له: ألا تبعث إلى حسّان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبداللَّه بن سلام؟ فقال: لا حاجة لنا فيمن لا حاجة له فينا). ونشاهد في هذا النص التأريخي وضوح معالم الحرية وعدم إكراه الناس على مبايعة الحاكم في سياسية الإمام علي (علیه السلام) مع المراوغين والممتنعين عن بيعته الشريفة.

ص: 113

ولقد كرّر (علیه السلام) القول لهم: (إني كنت كارهاً لأمركم فأبيتم إلا أن أكون عليكم ليس لاحد فيه حق إلا من أمرتم وقد افترقنا بالأمس على أمر فإن شئتم قعدت لكم وإلا فلا أحد على حد رضيتم بذلك..) قالوا: نعم نعم، فقال (علیه السلام) : (اللهم اشهد عليهم) وتدافع الناس وفي طليعتهم كبار المهاجرين والانصار فامتدت يد طلحة والزبير وبقية المسلمين وعمت الافراح والبهجة الجميع (إلا من في قلبهم مرض وللحق كارهون) لأن حكومة الحق اطلت وحكومة العدل بانت وتقلد الخلافة أبو الفقراء والمستضعفين وناصر المظلومين والداعي لحقوق الانسان، فلا استغلال ولا استبداد ولا مواربة ولا انقياد للنزعات والعواطف. (1)

وبالنسبة لموضوع البيعة، فعلى الرغم من الأحوال السياسية والتاريخية المتأزمة قبل بيعته وبعدها، إلا أن الإمام (علیه السلام) أتاح (للناس الحرية التامة في اعتناق اي مذهب سياسي، من دون ان تفرض السلطة عليهم رأياً معاكسا، وقد منح الإمام (علیه السلام) هذه الحرية حتى لأعدائه الذين رفضوا بيعته التي قام عليها اجماع معظم المسلمين كسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وغيرهم... فلم يجبرهم الإمام (علیه السلام) على بيعته ولم يتخذ معهم أي إجراء حاسم) (2) ، ونلاحظ الإمام (علیه السلام) بعد أن تمت بيعته، لم ير غضاضة في قول أحدهم له : (لن أأتم بك، ولن أشهد معك الصلاة، ولن أأتمر بأمرك، ولن يكون لك عليَّ سلطان، فقال له الإمام (علیه السلام) : لك ذلك مع عطائك كاملاً غير منقوص، على شريطة أن لا تتعدى على أحد، فإن اعتديت عاقبتك بما تستحق) (3) ، واحتج (علیه السلام) بشرعية بيعته كونها كانت حرة حتى على من ناصبه العداء. فكان يقول لطلحة والزبير: (انشدتكما الله هل جئتماني طائعين للبيعة ودعوتماني إليها وأنا كاره لها؟ قالا: نعم. فقال (علیه السلام) : غير مجبرين ولا مقسورين فاسلمتما لي بيعتكما وأعطيتماني عهودكما. قالا: نعم). (4) وهذه الوقائع التأريخية من أروع صور روح المواطنة والسِلم السياسي

ص: 114


1- أضواء من سلطة الحق وحقوق الإنسان في حكومة أمير المؤمنين (علیه السلام) ، سعدي جواد الحاج مسلم.
2- موسوعة أمير المؤمنين (علیه السلام) ، القرشي، ج11، ص41.
3- فضائل الامام علي (علیه السلام) ، محمد جواد مغنية، ص76.
4- حقوق الانسان عند الامام علي بن ابي طالب (علیه السلام) ،رؤية علمية، الدكتور غسان السعد، ص150 – 151.

والحكومي، التي كان ينتهجها الإمام (علیه السلام) مع رعيته التي تجلت بوضوح وبشكل عملي في سيرته الصالحة. حيث يتيح للفرد انتخاب من يرغب فيه.

ب) حرية النقد والخروج بالمظاهرات والمعارضة:

ومنح الإمام (علیه السلام) الحرية الواسعة لنقد حكمه، ولم يتعرّض للناقدين له بسوء، والمعترضين على حكمه، وفي مقدمتهم الخوارج، وكان ابن الكوّاء أحدهم بل هو من ألد أعدائه، فقد اعترض على الإمام (علیه السلام) مرات عديدةولم يتّخذ الإمام (علیه السلام) ضدّه أي إجراء وإنّما عفا عنه وأخلّى سبيله، نذكر منها قوله للإمام (علیه السلام) : عدة مرات) لئِنْ أشْرَكتَ ليحبَطَنَّ عَمَلُكَ) ، فردّ عليه (علیه السلام) : (فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّك الذين لا يوقنون) ، أما حرية المظاهرات السلمية ضد الحاكم فنذكر ما جرى من تظاهر بعض الناس عليه مطالبين بالسماح لهم بإقامة صلاة التراويح التي منعها الإمام (علیه السلام) لأنها بدعة وليست من الشريعة في شيء وهذه الواقعة تكشف لنا بوضوح على تطبيق مبدأ الحرية والمواطنة في سلطة الحق العلوي، وهذه الحالة من مصاديق الحرية في الإسلام حيث يسمح الحاكم الإسلامي للناس بحرية مخالفته، ولا يعاقبهم بشيء. (1) وسنذكر تفاصيل هذه الحادثة لاحقاً، وهناك شواهد تأريخية عديدة جداً تبين بوضوح هذه السياسة العادلة والحكيمة للإمام (علیه السلام) ، لذا سنفرد لها قريباً إن شاء الله تعالى مبحثاً مستقلاً.

ج) حرية الكلمة والتعبير:

من مظاهر الحرية الواسعة التي منحها الإمام (علیه السلام) للمواطنين حرية القول، وإن كان في غير صالح الدولة ما لم يتعقّبه فساد، فالعقاب يكون عليه، فقد روى المؤرّخون أنّ الإمام (علیه السلام) لمّا رجع من النهروان استقبل بمزيد من السبّ والشتم، فلم يتّخذ الإمام مع القائلين أي إجراء، ولم يقابلهم بالعقوبة والحرمان. وقد التقى أبو خليفة الطائي بجماعة من اخوانه وكان فيهم أبو العيزار الطائي وهم ممّن يعتنق فكرة الخوارج فقال لعدي بن حاتم: يا أبا طريف، أغانم سالم أم ظالم آثم؟ وقد عرّض بذلك إلى الإمام أمير

ص: 115


1- وضوابط هذه المسألة طبعاً يقدر مصلحتها وأضرارها الحاكم الإسلامي، ويتحرك وفقاً لذلك لإصلاح شأن المجتمع، لذا قد يطلب الأمر منه الحزم والعقوبة، وتارة أخرى قد لا يجب عليه ذلك، فيسمح لهم بفعل ما يرغبون به إذا لم يترتب على ذلك مفسدة.

المؤمنين (علیه السلام) فقال له عدي: بل غانم سالم.. الحكم ذاك إليك..وأوجس منه خيفة الأسود بن زيد، والأسود بن قيس، فألقيا القبض عليه، ونقلا كلامه المنطوي على الشرّ والخبث إلى الإمام، فقال الإمام لهما : ما أصنَعُ؟..›. نقتله..‹أقْتُلُ مَنْ لا يَخْرُجُ عَلَيَّ؟›. تحبسه..‹لَيْسَ لهُ جنايَة، خلّيا سبيلَ الرَّجُلِ›. ولم يشاهد الناس مثل هذه الحرية في جميع مراحل التأريخ، فلم يحاسب الإمام (علیه السلام) الناس على ما يقولون وإنّما تركهم وشأنهم، فلم يفرض عليهم رقابة تحول بينهم وبين حرّيتهم. وينقل أنه (علیه السلام) سمع رجلاً يشتم قنبراً وقد رام قنبر (رضوان الله عليه) أن يرد عليه، فناداه أمير المؤمنين (علیه السلام) : مهلا يا قنبر، دع شاتمك مهانا ترضي الرحمن وتسخط الشيطان وتعاقب عدوك، فو الذي فلق الجنة وبرأ النسمة، ما أرضى المؤمن ربه بمثل الحلم، ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت، ولا عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه. (1)كما نتلمس عملية الحراك الفكري والتعليمي الذي أثاره الإمام (علیه السلام) ، لاسيما في مدة حكمه، فطالما كان ينادي (سلوني). فهذا الشعار مع توفير حرية السؤال والاستفهام وسماحة الجواب ودقته في تعامل الامام مع السائلين والحيارى من طلاب المعرفة أو خصوم خطه الفكري كان مبدأ آمن به وعمل له علي بن ابي طالب فحين خطب (علیه السلام) قائلاً: (سلوني فأني لا أسأل عن شيء إلا اجبت فيه... فقام رجل من جانب مجلسه وفي عنقه كتاب كأنه مصحف... فقال رافعا صوته لعلي: ايها المدعي ما لا يعلم والمقلد ما لايفهم أنا السائل فأجب، فوثب إليه أصحاب الإمام (علیه السلام)... فنهرهم وقال لهم دعوه ولا تعجلوه فإن الطيش لا يقوم به حجج الله ولا به تظهر براهين الله، ثم التفت إلى الرجل وقال له: سل بكل لسانك وما في جوانحك فاني اجيبك). ومن هنا يتضح تماماً منطق الحرية عند الامام وهو منطق الكلمة التي تعمل على الحوار مع الرأي الاخر دونما اضطهاده او قمعه، وسماحة لمن خالفه في تصوره وتفكيره ومسلكه ومذهبه بان يفكر وينظر ثم يكون من امره على مايبدو له، أي انه كان يأذن له بأن يفكر حرا ويتجه حيث دله التفكير الحر والنزعة المستقلة عن أي ضغط أو إكراه. (2) ويروى عنه (علیه السلام) في هذا

ص: 116


1- بحار الأنوار، للعلامة المجلسي، ج 68 نص424.
2- حقوق الانسان عند الإمام علي بن ابي طالب (علیه السلام) ،رؤية علمية، الدكتور غسان السعد، ص125- 126.

الصدد قوله: (أيها الناس، أنا أحب أن أشهد عليكم أن لا يقوم أحد فيقول: أردت أن اقول فخفت، فقد أعذرت بيني وبينكم) وهنا يبرز الإمام (علیه السلام) ويؤكد حق الأفراد في إبداء آرائهم والتعبير عن معتقداتهم وأفكارهم السياسية في ظل جو من الأمن واحترام الرأي الآخر أشاعته الحكومة العلوية، حتى أنه كان يأمر عماله بإيجاد وتغذية روح النقد وحرية الرأي كركيزة رئيسة في تربية الامة فيوجه رسالته الى احد ولاته حول صيغ التعامل مع الامة في عصر دولة الامام وتطبيق الاسلام قائلاً : (أحلل عقدة الخوف عن راهبهم بالعدل والانصاف إن شاء الله تعالى). (1)

د) حرية التنقّل لرموز المعارضة:

حيث لم يفرض الإمام (علیه السلام) الإقامة الجبرية على أي أحد من الصحابة وغيرهم، كما فرضها عمر بن الخطّاب أيام حكمه، وقد سمح الإمام علي (علیه السلام) لطلحة والزبير بالخروج من المدينة مع علمه أنّهما يريدان الغدرة لا العمرة.

ه) حرية المشاركة في الحروب:

منع الإمام علي (علیه السلام) اسلوب السخرة العسكرية مهما كانت المسوغات إلا في مجالها الشرعي المحدود، وكانت استراتيجيته متجسدة في كتابه إلى أمراء الجند قائلاً : (استغن بمن انقاد معك عمن تقاعس عنك، فانالمتكاره مغيبه خير من مشهده، وقعوده اغنى من نهوضه) وكذلك رفض (علیه السلام) انسياق الناس إلى الهيجاء إلا بعد التثبت من أسباب الحرب وأهدافها ؛ فقد سأل أحدهم قبل مسير جيش الإمام (علیه السلام) إلى البصرة: (يا أمير المؤمنين أي شيء تريد وأين تذهب بنا؟ فقال : أما الذي نريد وننوي فالإصلاح إن قبلوا منا وأجابونا إليه. قال فإن لم يجيبونا اليه؟ قال : ندعهم بعذرهم ونعطيهم الحق ونصبر، قال فان لم يرضوا؟ قال : ندعهم ماتركونا، قال فان لم يتروكونا؟ قال امتنعنا منهم، قال المتحدث : فنعم إذا) وسمح (علیه السلام) بالحوارات والبحث عن شرعية الحرب حتى في أثناء المعركة، وبمناقشة نتائج الحرب وشرعيتها بعد المعركة، أما غير المشتركين في الحرب فقد احترم الإمام (علیه السلام) آراءهم السياسية في هذا الصدد وكان (علیه السلام) يقول: (من كره منكم أن يقاتل معنا معاوية فليأخذ عطاءه وليخرج إلى الديلم فيقاتلهم) واتت

ص: 117


1- المصدر نفسه، ص147. بتصرف بسيط.

مجموعة وهم يومئذ اربعمائة رجل فقالوا : انا شككنا في هذا القتال على معرفتنا بفضلك، ولا غنى بنا ولا بك ولا المسلمين عمن يقاتل العدو، فدعنا لبعض الثغور فنكون به ثم نقاتل عن اهله، فوجههم على ثغر الري. (1)

و) حرية الانتماء السياسي والحزبي:

أجاز الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) حرية تبني المواقف السياسية للأفراد والجماعات، فكان يقول (علیه السلام) لمعارضيه، وهم تحت سلطانه: (كن من أمرك ما بدا لك). (2) ومما يلاحظ أن قائمة العقوبات العلوية تخلو من أي عقوبة بالقتل لأغراض سياسية، كالانتماء لجهة معارضة، أو نقد وشتم الحاكم أو عدم مبايعة أو ما شابه، وهذا يدل على حرية المعارضة في فكر الإمام (علیه السلام). (3)

رابعاً/ حرية العبادة والمعتقد:

إن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) يؤمن بحرية العقيدة كحق مصان للإنسان وهذا الايمان يأخذ مجريين:

الأول: الحرية في إطار الإسلام، أي في دائرة المسلمين أنفسهم.

الثاني: الحرية في إطار حق الأديان الأخرى إزاء المسلمين.

ففي الساحة الاسلامية، فتح الإمام (علیه السلام) باب الحرية على مصراعيه امام الحوار والسؤال والنقاش. وقد روي ان شعاره (علیه السلام) كان (أمرؤ وما اختار)...ويقف (علیه السلام) من أصحاب الديانات الأخرى بانفتاح اسلامي وحضاري وانساني مميز إذ يمنحهم معظم الحقوق التي للمسلمين إلا من ناحية المناصب السيادية كالحكم وتولي القضاء حيث (إن الدولة الاسلامية في حقيقة امرها دولة قائمة على (المبدأ) … (وإنها ) تقسم القاطنين بينحدودها على قسمين: قسم يؤمن بالمبادئ التي قد قامت عليها الدولة وهم المسلمون : وقسم لا يؤمن بتلك المبادئ وهم غير المسلمين… وان الحكومة في الدولة الاسلامية لا يسير دفتها الا الذين يؤمنون بها) إن هذا الموقف الاعتقادي يجد له جذورا في الادبيات

ص: 118


1- المصدر نفسه،ص151 – 152.
2- المصدر نفسه، ص152.
3- يُنظر المصدر نفسه.

الاسلامية الاولية، ومنها ما ورد عن الامام علي حيث يقول لاحد عماله : (أما بعد، فان دهاقين عملك شكوا غلظتك ونظرت في أمرهم فما رأيت إلا خيراً، فلتكن منزلتك بين منزلتين : جلباب لين بطرف من الشدة في غير ظلم ولا نقص فخذ مالك عندهم وهم صاغرون، ولا تتخذ من دون الله وليا.. فقد قال الله عز وجل: (لا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء ) وإياك ودماءهم والسلام) ولكن الدولة في زمن الامام على وفق التوجيه العلوي اعلاه قد اعطت لغير المسلمين معظم الحقوق سوى تولي المناصب السياسية والقضائية العليا، ولعل اهم تلك الحقوق هي:

حفظ حياتهم واحترام عقيدة غير المسلمين فلقد عُرف عن الإمام (علیه السلام) احترامه العميق للأديان والمعتقدات السماوية، التي سبقت الديانة الاسلامية فيقول الإمام (علیه السلام) : (لو استقامت لي الامرة وثنيت لي الوسادة لحكمت لأهل التوراة بما انزل الله في التوراة... ولحكمت لأهل الانجيل بما انزل الله في الانجيل … ولحكمت لأهل القرآن بما انزل الله في القرآن) ،وهذا تأكيد صريح من الامام بوجوب احترام اهل هذه الديانات وعقائدهم ورجال دينهم وأماكن عبادتهم وممارسة شعائرهم واعيادهم، وضمان تمييزهم بالقوانين الشخصية الخاصة بهم وحرية أداءهم لبعض ما هو محرم في الإسلام كشرب الخمر إذا لم يجاهر به، وما ذكر سابقا مفصل في كتب الفقه الاسلامي عامة، ومن الملاحظ اعتماد هذه الكتب في هذا المجال على اقوال الامام على الرغم من تغافلها عن آرائه في مسائل أخرى، وهذا يدلنا على مدى الحرية الفكرية والتسامح الديني الذي تميز به الامام ازاء المعتقدات الاخرى. بل ان حرية المعتقد التي اطلقها الامام شملت بعض الاحيان عبادة غير الله، فقد روي أن الإمام (علیه السلام) حين بعث (محمد بن أبي بكر أميراً على مصر، فكتب إلى الإمام (علیه السلام) يسأله عن زنادقة منهم من يعبد الشمس والقمر ومنهم من يعبد غير ذلك... فكتب (علیه السلام) إليه (أن يتركوا ) ويعبدون ما شاءوا).. وفي هذا السياق يمكن التطرق الى موضوع الجزية التي تؤخذ من غير المسلمين في الدولة الاسلامية والتي يبررها الامام قائلاً : (إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا واموالهم كأموالنا). (1)

ص: 119


1- المصدر نفسه،ص127- 133.

وقد جاء في كتاب سائل الشيعة، عن عمار، عن الإمام الصادق (علیه السلام) : لما قدم أمير المؤمنين (علیه السلام) الكوفة أمر الحسن بن علي (علیه السلام) أن ينادي في الناس: لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة، فنادى في الناس الحسن بن علي (علیه السلام) بما أمره به أمير المؤمنين (علیه السلام) فلما سمع الناس مقالة الحسن بن علي (علیه السلام) صاحوا: واعمراه،واعمراه، فلما رجع الإمام الحسن (علیه السلام) إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) قال له: ما هذا الصوت؟ قال: يا أمير المؤمنين، الناس يصيحون: واعمراه، واعمراه، فقال أمير المؤمنين (علیه السلام) : قل لهم صلوا). (1) لاحظوا، فعلى الرغم من كون صلاة التراويح بدعة أسسها عمر بن الخطاب من عنده، وليس لها أي مستند شرعي، إلا أن الإمام (علیه السلام) لم يمنع الناس بالقوة من أدائها.

وعندما كان الإمام علي (علیه السلام) عائداً من معركة النهروان وفي أثناء الطريق طلب من أصحابه أن يجدو له مكان يستتر به ليغتسل وبعد البحث وجدو له مكاناً مهجوراً لبناء قديم لم يبق منه إلا الجدران. وعندما دخل الإمام (علیه السلام) وأصحابه إلى المكان وجدوا على الجدران رسوم وكتابات توحي إلى أنه كان في الماضي كنيسة للنصارى (دير) فقال أحدهم (لنخرج من هنا يا أمير المؤمنين فلطالما (اشرك بالله ها هنا) ، فقال له الإمام (علیه السلام) نعم سوف نخرج لأنها دار عباده ولطالما (عُبد الله ها هنا) فاستغرب أصحابه من كلامه وقالو له ألم يكونوا مشركين بوحدانية الله. فقال لهم نعم ولكنهم كانوا يعتقدون أنهم على الصواب وعبادتهم هي الصحيحة ولو كانوا يعلمون أنهم على خطأ لتركوا عبادتهم واتبعوا الطريق الصحيح، ولكنهم أرادوا التقرب إلى الله بعبادتهم هذه، فلاحظوا نظرة الإمام (علیه السلام) تجاه معتقدات الآخرين ومقدساتهم وطقوسهم، فهو لا يقابلها بالسخرية والاستهزاء بل يقابلها بالاحترام والتقدير، وإن كان (علیه السلام) يعتقد بعدم صحة هذا المنهج العقائدي أو العبادي.

خامساً/ ضمان الحقوق المالية للرعية:

لقد ساوى الإمام علي (علیه السلام) بين الرعية في العطاء بدون تمييز، كما ذكرنا ذلك قبل قليل في باب المساواة، بل إنه (علیه السلام) لم يمنع العطاء المالي حتى عن خصومه ومحاربيه من

ص: 120


1- سائل الشيعة، الحر العاملي، ج8، ص46.

الخوارج. (1) كما أصدر الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) مرسوماً ينص بأن من كانت له حوائج معينة فليكتبها في رقعة ولا يكتب أسمه فيهان، حفظاً لماء وجوه أصحاب الحوائج، حيث قال (علیه السلام) لأصحابه: (مَنْ كانَتْ لَهُ إلَيَّ مِنكُم حاجَة فليرفَعْها فِي كتابٍ لأصُونَ وُجُوهَكُم مِن المسألَةِ). ويروى أن شيخاً كبيراً مكفوف البصر كان يستعطي الناس، وكان نصرانياً، فما رآه أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: ما هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين نصراني، فقال (علیه السلام) : (استعملتموه فإذا كبر و عجز منعتموه انفقوا عليه من بيت المال) ، وورد عنه (علیه السلام) أيضاً قوله بخصوص ضمان الحقوق المالية للرعية:

(لو كان المال لي لسويت بينهم فكيف وانما المال مال الله). (2)(والله لان ابيت على حسك السعدان (3)

مسهداً، او أجَر في الأغلال مصفداً، أحب إلي من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد وغاصباً لشيء من الحطام). (4)

(والله لو أُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته). (5)

(...وأيما رجل استجاب لله وللرسول فصدق ملتنا ودخل ديننا واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الاسلام وحدوده فانتم عباد الله، والمال مال الله يقسم بينكم بالسوية، لا فضل فيه لاحد على أحد، وللمتقين عند الله غداً أحسن الجزاء وأفضل الثواب، لم يجعل الله الدنيا للمتقين أجراً ولا ثواباً وما عند الله خير للأبرار. وإذا كان غداً إن شاء الله فاغدوا علينا فان عندنا مالا نقسمه فيكم، ولا يتخلفن أحد منكم عربي ولا أعجمي كان من أهل العطاء أو لم يكن إلا حضر). (6)

ص: 121


1- بحار الأنوار، للعلامة المجلسي، ج32، ص124.
2- نهج البلاغة الشريف الرضي، تعليق وفهرسة د. صبحي، خطبة 183، ص126.
3- الشوك.
4- نهج البلاغة الشريف الرضي، تعليق وفهرسة د. صبحي، خطبة 223،ص437.
5- المصدر نفسه، ص439.
6- موسوعة علي بن ابي طالب (علیه السلام) ، الشيخ محمد الري شهري، م4، ق5، ص106-107.

وقد أشار المرجع اليعقوبي إلى مدى تحقيق قادة الإسلام للعدالة التي يتمتعون بها في تعاملهم مع الناس، وكيفية ممارستهم لمبدأ المساواة بأروع صوره، حيث قال: (إن قادة الإسلام وعلى رأسهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) هم أكمل من جسّد النزاهة والعفاف والطهر في حياتهم. فأمير المؤمنين (علیه السلام) وهو رئيس دولة تمتد من أواسط آسيا شرقاً إلى شمال أفريقيا غرباً يصعد على منبر الكوفة ويقول: (لو خرجت منكم بغير هذه القطيفة التي جئتكم بها من المدينة لكنت خائناً) ويرقّع مدرعته حتى استحيا من راقعها ويلبس النعل البالي، وحادثته مع أخيه عقيل الذي طلب منه مساعدة لعياله تثبت ذلك بكل وضوح وكان المال الذي يأتيه لا يبيت عنده حتى يوزّعه على مستحقيه، فليس صحيحاً ما يقال أن (مفوضية النزاهة) هي من ابتكارات الحضارة الغربية لتوفير الضمانات الدستورية والرقابة على تصرفات الأجهزة الحكومية). (1)

سادساً/ الأمر باتباع سياسة العدل والرحمة بالرعية:

كان العدل والرحمة هما أساس حكم أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وقد جاء عنه (علیه السلام) : (ما عمرت البلدان بمثل العدل) ومن ذلك أيضاً، ما أوصى به ولاته في أهل الكتاب، ومنهم اليهود الذين وصفهم القرآن الحكيم بأنهم (أشد الناس عداوة للذين آمنوا) فقد أخرج الكليني في (الكافي) بسنده عن رجل من ثقيف، وكان من عمال أميرالمؤمنين (علیه السلام) قال: استعملني علي بن أبي طالب (علیه السلام) على (بانقيا) وسواد من سواد الكوفة، فقال (علیه السلام) لي: (إياك أن تضرب مسلماً أو يهودياً أو نصرانياً في درهم خراج أو تبيع دابة عمل في درهم، فإنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو) ومن صور عزوف الإمام علي (علیه السلام) عن إجراء بعض العقوبات من باب تأكيد احترامه لإنسانية الإنسان، وحفاظه على كرامته، يروى أنه أتت إليه امرأة وقالت: إن زوجي وقع على جاريتي بغير أمري (أي قاربها). فقال (علیه السلام) للرجل: ما تقول؟ قال: ما وقعت عليها إلا بأمرها، قال (علیه السلام) متوجهاً للمرأة: إن كنت صادقة رجمته وإن كنت كاذبة ضربناك حداً. وأقيمت الصلاة وقام (علیه السلام) ليصلي. ففكرت المرأة في نفسها فلم تر لها فرجاً في رجم زوجها ولا في ضربها الحد، فخرجت ولم تعد. ولم يسأل عنها الإمام (علیه السلام) ، هذا في الوقت الذي

ص: 122


1- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج4، خطاب: (مفوضية النزاهة مطالبة بالمصداقية) .

كان (علیه السلام) يستطيع أن يأمر بإلقاء القبض عليها وإحضار زوجها ويحد أحدهما.. لكنه كان يتنفر من إجراء العقوبات، مع المحافظة على الحقوق والنظام.. ولم يكن يحمل في قرارة نفسه عقدة تعذيب الناس، وكان يعفو قدر استطاعته. (1)

وروي عن أحد رجال الدولة في زمن الإمام (علیه السلام) قوله: (استعلمني علي بن أبي طالب على مدرج سابور فقال: لا تضربن رجلاً سوطاً في جباية درهم ولا تبيعن لهم رزقاً ولا كسوة شتاء ولا صيفاً ولا دابة يحتملون عليها ولا تقيمن رجلاً قائماً في طلب درهم،قلت يا أمير المؤمنين إذن أرجع إليك كما ذهبت من عندك قال (علیه السلام) : وإن رجعت ويحك أُمرنا ان نأخذ منهم العفو (أي الفضل). (2)

كما ابتكر الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ما يُطلق عليه ب (صندوق القصَص) (3) ليضع فيه المظلومون

شكواهم والمطالبة بحقوقهم وكان الإمام (علیه السلام) يقرأ تلك الرقاع بنفسه حتى يكون قريبا من نبض الناس ويرفع الظلم والحيف عنهم،ولكي يعطي مثلاً على امكانية ايجاد الوسائل والسبل لتحقيق العدالة سواء من السلطة أم من قبل الشعب. (4)

سابعاً/ ابعاد شبح الحرب واتباع الطرق السلمية مع المعارضين:

حاول الإمام (علیه السلام) جاهداً أن ينشر السلام والمحبة في أرجاء دولته العادلة، ويحقق للجميع التعايش السلمي تحت ظلها، حتى مع خصومه ومعارضيه، فحاول ابعاد شبح الحرب الداخلية عن الناس، ولكن دون جدوى، ف (لم يكن الإمام (علیه السلام) ممن يعشقون الحرب، بل كانت الحرب من المحظورات التي تبيحها الضرورات، فالحرب بدمارها وقتلها للإنسان -أي إنسان- وهو إما أخ لنا في الدين أو نظير لنا في الخلق، لاتشكل خيارالإمام الأول، بل هي خياره الأخير، فهو يؤخّر الحرب طمعاً في هداية الناس وتجنباً للقتال وحقناً للدماء: (فوالله ما دفعت الحرب يوما إلا وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة

ص: 123


1- يُنظر التعامل الإنساني في سيرة الإمام علي (علیه السلام) ،الشيخ حسن موسى الصفار.
2- اسد الغابة، ابن الاثير، ج4، ص24.
3- موسوعة علي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام) ، الري شهري، م4، ق1، ص243.
4- يُنظر حقوق الانسان عند الامام علي بن ابي طالب (علیه السلام) ،رؤية علمية، الدكتور غسان السعد، ص103-104.

فتهتدي بي، وتعشو إلى ضوئي، و ذلك أحب إلي من أن أقتلها على ضلالها، وإن كانت تبوء بآثامها)). (1) وكان (علیه السلام) يتحسر ويبكي ألماً بأبي وأمي، على الأرواح التي تزهق والدماء التي تسفك من الجانبين جراء تعنت أعدائه وإصرارهم على الحرب.

لذا جعل الإمام (علیه السلام) من عملية اعطاء التبليغ أو الاعذار بالحرب من المبادئ القانونية الاساسية في ضمن رؤيته لأخلاقيات الحرب إذ (كان الامام علي (علیه السلام) يهتم بموضوع (الاعذار) والاعذار هو ايضاح الأمر لدى الخصم ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة) وكان (علیه السلام) يأمر قادته العسكريين قائلاً : (إياك ان تبدأ القوم بقتال الا ان يبدؤوك حتى تلقاهم وتسمع منهم ولا يجرمنك شنانهم على قتالهم قبل دعائهم والاعذار اليهم مرة بعد مرة). وكان أحد القادة العسكريين من جيش الامام يقول: (كان يأمرنا في كل موطن لقينا معه عدوه يقول: لا تقاتلوا القوم حتى يبدؤكم) ولقد كان الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) حريصاً على تطبيق هذا المبدأ في الحروب التي خاض غمارها.

وإذا ما اعترض من يقول إن عملية الاعذار هذه نوع من المثالية قد تضيع مكاسب عنصر المباغتة، ولاسيما مع تطور وسائل الحرب واستراتيجية الضربة الأولى للخصم، يمكن الرد على ذلك بالقول إن رؤية الإمام (علیه السلام) للحرب هي ليست تحطيم الخصم أو قهر ارادته بقدر ما هي تقويم لذلك الخصم ومنع شره من أن يطال الآخرين ومن ثم فإن تحقيق الكسب العسكري لا يكون على حساب المبادئ الرسالية التي تسعى الحرب إلى تحقيقها وتكتسب شرعيتها منها هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن الامام (علیه السلام) أصر على معرفة الخصم -كقيادة وأفراد- لماذا يقاتلون وعلى ماذا يستحل دماءهم حتى يجنبهم أي تضليل أو اختلاط في المواقف والرؤى اوجدته قياداتهم السياسية والدينية، اذ يقول (علیه السلام) : (لا يغز قوم حتى يُدعوا، وان بلغتهم الدعوة واكدت الحجة عليهم بالدعاء فحسن) ومن جهة ثالثة فإن تأكيد الإمام (علیه السلام) في مسألة الاعذار تأتي في سعيه نحو

ص: 124


1- السلم والتعايش الإنساني من منظار نهج البلاغة، الدكتور محمد أديبي مهر والدكتور يد الله ملايري.

السلام إلى اخر لحظة فهو يرجو اذاً اذنهم بالقتال أن يثوبوا إلى الرشد ويرجعوا عن العصيان، (1)

ص: 125


1- يُنظر حقوق الإنسان عند الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) رؤية علمية، الدكتور- غسان السعد، بتصرف.

ثامناً/ صيانة حقوق الأقليات ومساواتهم مع الجميع:

كان المسلمون واليهود والنصارى والمجوس والمشركون بل كل البشر يعيشون في ظل الإسلام عيشة محترمة هانئة، في عزة ورفاه في عصر الإمام علي (علیه السلام) ، وقد أثر عنه (علیه السلام) في هذا المجال: (الناس إما أخ لك في الدين،أو نظير لك في الخلق) ، وهذه الكلمة الفذة العظيمة الخالدة تفسح المجال لاحترام البشر بما هو بشر، لكي ينظر إليه الناس من هذا المنظار فتجمعهم جميعاً كلمة العدل وحق الإنسانية. وقد تحقق الوئام والسلام لجميع أفراد المجتمع في حكومة أمير المؤمنين (علیه السلام) بفضل مرتكزات الإسلام الإنسانية القائمة على احترام حقوق الجميع، ومنها حقوق الآخر وحقوق الأقليات. يقول السيد محمد الشيرازي (قدس سره) في موسوعته الفقهية، من كتاب (السياسة) : (إن الأقليات غير الإسلامية محترمون نفساً ومالاً وعِرضاً، إذ أن الإسلام لا يتعرض لهم بسوء ويدافع عنهم، فالإسلام لا يجبر أحداً على اعتناقه، ولذا قال عزوجل: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين). (1)

وقد رفض الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) منهج التقسيم على أساس العرق أو العنصر القومي مع أنه شخصياً من أكرم الأصول، وفي ذلك ورد عنه قوله (علیه السلام) : (من ابطأ به عمله لم يسرع به نسبه... والذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه) ويوجه كلامه للباحثين عن الجنس النقي وسلالات العوائل والاقوام: (أطهر الناس اعراقا احسنهم اخلاقاً) و (أفضل الناس أنفعهم للناس) وإن فكرة المساواة الانسانية عند الإمام (علیه السلام) لم تكن تعني رفض الخصوصية العرقية أو القومية في جانبها الايجابي، بل كان (علیه السلام) يجعلها عامل توحد وليس عنصر تفرقة، إذ يقول (علیه السلام) : (السباق خمسة، فأنا سابق العرب، وسلمان سابق الفرس، وصهيب سابق الروم، وبلال سابق الحبش، وخباب سابق النبط) وفي هذا الكلام نلاحظ الثناء

ص: 126


1- مقتطف من كلام للسيد صادق الشيرازي، بتصرف.

على شخصيات من قوميات مختلفة للتدليل على عالمية الرسالة الاسلامية، من جهة وعالمية المشاركة في ارساء دعائمها من جهة أخرى. ولذلك فان منطلق الفضل لم يكن الانتماء العرقي او القومي وانما مدح الفعل ذاته وهو السبق للإيمان بالله ورسوله (صلی الله علیه و آله) وهذا ما يتفق مع نظرة الإمام للمساواة العادلة.

لقد واجه الإمام (علیه السلام) تحدي الانقسام بين العرب والموالي، وهم من غير العرب أو من العرب الذين تخلت عنهم قبائلهم سواء من المسلمين وغير المسلمين الذين قبلوا بالحكم الاسلامي لكنهم راوا أن حياتهم تحولت إلى وضع سيء لا يطاق وخصوصاً أبان العهد الأموي ولم تختلف عما كانت عليه قبل الاسلام بينما كان المسلمون قد بشروهم بحياة سعيدة سمتها العدل والمساواة (1). وكانت حالة الترفع العِرقي قد بلغت حداً شكا فيها الموالي وضعهم السيء إلى الإمام (علیه السلام) مستشهدين بحالة المساواة التي سادت في عهد النبوة، فغضب الإمام (علیه السلام) لمثل تلك الحال في دولته فوجه لومه أولاً لأولئك المتعالين على المسلمين من غير العرب، وعاد ليخاطب الموالي بقوله : (يا معشر الموالي، إن هؤلاء قد صيروكم بمنزلة اليهود والنصارى يتزوجون اليكم ولايزوجونكم ولا يعطونكم مثل ما يأخذون، فاتجروا بارك الله فيكم. (2) وإن هذه الحادثة تكشف امامنا عددا من الملامح التي وجدت - إلى حد ما - في ذلك الزمن المبكر في التاريخ الاسلامي منها :

تفاقم المشكلة بين القوميات، نتيجة تراكمات جاهلية ظلت عالقة في اذهان كثير من الناس على الرغم من اعتناقهم للعقيدة الاسلامية الرافضة للتمييز العنصري، وتكريس هذه الحالة ببعض السياسات الخاطئة بعد عهد الرسول (r) ، والفهم المجتزئ للإسلام عند بعض المسلمين والنظرة الاستعلائية التي رافقت سلوكهم الواقعي.

إيمان الموالي برفض الإمام (علیه السلام) لمثل هذا الفكر والسلوك التمييزي، لذلك لجأوا إليه مشتكين، وغضبه الصارخ حينما لم ير استجابة لطروحاته عند المتكبرين وإن كانوا مسلمين.

ص: 127


1- التاريخ الاسلامي (دروس وعبر) ، السيد محمد تقي المدرسي، ص44.
2- حلية الابرار في احوال محمد واله الاطهار، السيد هاشم البحراني، ج2، ص287.

البحث عن الحل العملي وتقديمه وهو من ميزات تجربة الإمام (علیه السلام) بدمج الفكر النظري مع الحل الواقعي، ويتضح ذلك بنصحه للموالي بأن يتحولوا للعمل التجاري كونه من المهن المربحة والمحترمة اجتماعيا، ولمعرفة الإمام (علیه السلام) أن التفرقة العنصرية كانت في جزء منها تغطية للمصالح السياسية والاقتصادية.

وهذه المعالجة العملية عززها الإمام في عدة خطب ومقولات صدرت عنه لتجاوز هذا الواقع، من ذلك قوله : (فافضل الناس، أيها الناس، عند الله منزلة واعظمهم عند الله خطرا، اطوعهم لأمر الله واعملهم لطاعة الله، واتبعهم لسنة رسول الله واحياهم لكتاب الله...- ثم صاح بأعلى صوته - يا معاشر المهاجرين والانصار، يا معاشر المسلمين اتمنون على الله وعلى رسوله بإسلامكم ولله ولرسوله المن ان كنتم صادقين - ثم قال - الا انه من استقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا، وشهد أن لا اله الا الله وان محمداً عبده ورسوله اجرينا عليه أحكام القرآن وأقسام الإسلام ليس لأحد فضل على أحد إلا بتقوى الله وطاعته) وإن (من كان في قلبه مثقال خردلة من عصبية جعله الله تعالى يوم القيامة مع أعراب الجاهلية). (1)

ومما يُذكر في هذا الصدد أيضاً إنه (بعد الفتوحات الإسلامية، استنكف جماعة من أهل الشام من اسم الجزية وارتضوا أن يدفعوها بشرط تغيير اسمها ولكن عمر بن الخطاب وبعض مشاوريه أصروا على دفع الجزية وهم صاغرون باسم الجزية فاحتكموا إلى الإمام علي (علیه السلام) فاقنع عمر أن يقبل منهم الجزية باسم (صدقة تطهرهم) فلما اقتنع عمر انتهى الموقف المتأزم، بل ودخل عدد منهم الإسلام، وهنا نرى مسالة الانفتاح الانساني على الأديان والشعوب الأخرى. وجعل الإسلام عامل تقارب وتفاعل وليس عامل عداء وتنافر). (2)وبذلك كانت الحكومة العلوية بعد الحكومة النبوية، أفضل تجسيد عملي لهذه القيم والمبادئ الإسلامية، وهذا هو الذي يفسر (سر ارتباط الفرس بالإمام علي (علیه السلام) وآل البيت (عليهم الصلاة والسلام) من بعده، إذ وجدوا في خطبهم الخلاص من الظلم

ص: 128


1- حقوق الانسان عند الامام علي بن ابي طالب (علیه السلام) ،رؤية علمية، الدكتور غسان السعد، ص92-94.
2- المصدر نفسه،ص37.

والتفرقة العنصرية التي كانوا يعيشونها) (1) وهذا الرأي يبدو أقرب للصواب في تفسير هذه الظاهرة إذ إن العدل والمساواة إنما هو مطلب إنساني قائم بذاته ومهم في جوهره عظيم في أثره على الفرد والمجتمع. (2)

تاسعاً/ التعامل السلمي للإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) مع معارضيه:

1- سياسة المعارضة السلمية للإمام علي (علیه السلام) مع مغتصبي الخلافة:

بعد استشهاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) سنة (11) ه- حاصر المنقلبون على أعقابهم دار الإمام علي (علیه السلام) واعتدوا عليه وعلى زوجته الطاهرة وارغموه على بيعتهم وخشي إن خالف أن تقع الفتنة بين المسلمين والاقتتال وتعود الناس إلى جاهليتها فصبر وفي العين قذى وفي الحلق شجى وبقي جليس الدار، لكنه لم يبخل عليهم بالنصح والارشاد وتبليغ ما خفي عنهم من الأحكام، وتقديم الآراء الصائبة التي حفظت الإسلام والمسلمين إلى سنة 35 هجرية حيث قتل الخليفة الثالث وبويع بالخلافة. (3)

حيث تصدى الامام علي (علیه السلام) للأسئلة والاستفسارات التي كان يثيرها علماء اليهود والنصارى عقب وفاة الرسول (صلی الله علیه و آله) وكانت الخلافة آنذاك تعجز عن الاجابة عليها مما كان يهدد كرامة الدولة الإسلامية ويشكك في أصالتها ومصدرها... فلا يمكن فهم هذه المحاولات المتكررة من اليهود والنصارى بسذاجة على أنها لمجرد السؤال والجدال العلمي وإنما هي مؤامرة منسقة ومتتالية الحلقات وذات نهج خبيث التجأ اليها أعداء الاسلام بعد فشل المواجهات العلنية والمباشرة مع الدين الجديد مستغلين رحلة الرائد الاعظم (صلی الله علیه و آله) وتولي مكانه من قبل ناس ليس لهم كفاءة مواصلة دوره القيادي ويؤكد رأينا هذا ذهاب المخلصين من صحابة النبي (صلی الله علیه و آله) والحريصين على مصلحة الاسلام الى أمير المؤمنين (علیه السلام) بسرعة وإخباره بحراجة الموقف فكان الامام (صلی الله علیه و آله)

ص: 129


1- السيف والسياسة (الصراع بين الاسلام النبوي والاسلام الاموي) ، صالح الورداني، ص187.
2- حقوق الانسان عند الامام علي بن ابي طالب (علیه السلام) ،رؤية علمية، الدكتور غسان السعد، ص95.
3- دور الأئمة في الحياة الاسلامية، المرجع اليعقوبي، ص367، بتصرف بسيط.

بالمرصاد لأمثال هذه المؤامرات وغيرها وكان بحق القيّم على هذا الدين بعد رحيل القائد الاعظم (صلی الله علیه و آله). (1)ويقول أحد الرواة: (كنت على الباب يوم الشورى، فارتفعت الأصوات بينهم، فسمعت عليًا (علیه السلام) يقول: (بايع الناس أبا بكر وأنا والله أولى بالأمر منه، وأحق به منه! فسمعت وأطعت مخافة أن يرجع القوم كفارًا، ويضرب بعضهم رقاب بعض بالسيف) إذن هذا ما حمل الإمام (علیه السلام) على الصبر وتحمل الأذى من القوم، إنه (علیه السلام) ضحى بحقه الشخصي (2) لأجل حقن دماء الناس، وصيانة دينهم، وقال (علیه السلام) في خطبة له بذي قار: (قد جرت أمور صبرنا فيها وفي أعيننا القذى؛ تسليمًا لأمر الله تعالى فيما امتحننا به ؛ رجاء الثواب على ذلك، وكان الصبر عليها أمثل من أن يتفرق المسلمون، وتسفك دماؤهم).

كما أعرب الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) أيام خلافته الشريفة، في خطبته البليغة المعروفة ب (الشقشقية) عما في مكنونات صدره من آلام وحسرات على الظلم الذي لحق به وبالأمة، بسبب الاجراءات التعسفية لمغتصبي الخلافة، قائلاً: (أَمَا وَاَللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلاَنٌ وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ اَلْقُطْبِ مِنَ اَلرَّحَى يَنْحَدِرُ عَنِّي اَلسَّيْلُ وَ لاَ يَرْقَى إِلَيَّ اَلطَّيْرُ فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ يَهْرَمُ فِيهَا اَلْكَبِيرُ وَ يَشِيبُ فِيهَا اَلصَّغِيرُ وَ يَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ فَرَأَيْتُ أَنَّ اَلصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وَفِي اَلْعَيْنِ قَذًى وَفِي اَلْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً حَتَّى مَضَى اَلْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلاَنٍ بَعْدَهُ... فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا وَ يَخْشُنُ مَسُّهَا وَيَكْثُرُ اَلْعِثَارُ فِيهَا وَاَلاِعْتِذَارُ مِنْهَا فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ اَلصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَ إِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ فَمُنِيَ اَلنَّاسُ لَعَمْرُ اَللَّهِ بِخَبْطٍ وَشِمَاسٍ وَ تَلَوُّنٍ وَ اِعْتِرَاضٍ فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ اَلْمُدَّةِ وَ شِدَّةِ اَلْمِحْنَةِ حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا

ص: 130


1- المصدر نفسه، ص98 – 99.
2- مع التحفظ على هذه العبارة طبعاً، لأن حق الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) الشخصي هو حق مجعول من قِبل الله تعالى، وحق مشروع، وفيه مصلحة عامة للأمة وليس فقط فيه مصلحة شخصية للإمام علي (علیه السلام) .

فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ فَيَا لَلَّهِ وَلِلشُّورَى مَتَى اِعْتَرَضَ اَلرَّيْبُ فِيَّ مَعَ اَلْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ اَلنَّظَائِرِ لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ وَمَالَ اَلْآخَرُ لِصِهْرِهِ مَعَ هَنٍ وَهَنٍ إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ اَلْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ وَمُعْتَلَفِهِ وَقَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اَللَّهِ خِضْمَةَ اَلْإِبِلِ نِبْتَةَ اَلرَّبِيعِ إِلَى أَنِ اِنْتَكَثَ فَتْلُهُ وَ أَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَ كَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ فَمَا رَاعَنِي إِلاَّ وَ اَلنَّاسُ كَعُرْفِ اَلضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ اَلْحَسَنَانِ وَشُقَّ عِطْفَايَ مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ اَلْغَنَمِ فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ وَ مَرَقَتْ أُخْرَى وَ قَسَطَ آخَرُونَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا كَلاَمَ اَللَّهَ حَيْثُ يَقُولُ تِلْكَ اَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَلا فَساداً وَاَلْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ بَلَى وَاَللَّهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَوَعَوْهَا وَلَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ اَلدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَرَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا أَمَا وَاَلَّذِي فَلَقَ اَلْحَبَّةَ وَ بَرَأَ اَلنَّسَمَةَ لَوْ لاَ حُضُورُ اَلْحَاضِرِ وَ قِيَامُ اَلْحُجَّةِ بِوُجُودِ اَلنَّاصِرِ وَ َاأَخَذَ اَللَّهُ عَلَى اَلْعُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَ لاَ سَغَبِ مَظْلُومٍ لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَ لَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا وَ لَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ) ومع كل هذه المظالم وغيرها، فإنه (علیه السلام) لم يقابل القوم بالمواجهة المسلحة، ولم يتعامل معهم بدوافع شخصية أو دوافع حاقدة وناقمة، بل تعامل معهم بكل انسانية صادقة، متجردة عن كل خصال الحقد والضغينة، ممارساً معهم أسلوب المعارضة الايجابية، والتي نعني بها مقاطعة السلطة سياسياً وحكومياً، فلم يتسلم عندهم أي منصب في دوائر دولتهم، ولم يشاركهم في قيادة السلطة، وما عدا ذلك، فقد قدّم (علیه السلام) للسلطة الكثير الكثير من الخدمات، لأجل تيسير وتسهيل مهمتها في إدارة الأمور، ولم يمنعهم من مشورته الحكيمة، وآرائه الصائبة، في مجال القضاء والإدارة العسكرية والإجابة على أسئلة السائلين والمشككين ونحوها من الأمور، لا لأنهم أهل للخلافة ولا اعترافاً منه (علیه السلام) بأحقيتهم، كلا، وإنما لأجل المحافظة على مصلحة الإسلام العليا، التي تمثلت برأس هرم السلطة الفاقد للشرعية الإلهية، وهذه الأخلاق العلوية مع هؤلاء القوم الذي كان الإمام (علیه السلام) مُعارِضاً لهم كانت أساساً إسلامياً مشرقاً يوضع معالم المعارضة البناءة والايجابية، وهي أيضاً شاهد تأريخي على تأسيس الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) لمبدأ التعايش السلمي في الحياة السياسية.

2- سياسة الإمام علي (علیه السلام) مع الناكثين (أصحاب الجمل) :

ص: 131

من القضايا المصيرية المهمة التي عصفت بالأمة ما واجهته في بداية خلافة أمير المؤمنين (علیه السلام) عندما انقسم أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) ومن خلفهم بقية الناس الى فئات يضرب بعضها رقاب بعض وكلٌ يجر النار الى قرصه ولم تكن قد حدثت مثل هذه الحالة من قبل وليس بين يدي الأمة حادثة في حياة النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) مثلها وإن كان معدن العلم وأهل بيت الوحي يعلمونها والتزم الحياد عدد منهم -كسعد بن أبي وقاص- زاعمين أن الموقف غامض وأنه لو وجد سيفاً يفرق بين المؤمن والكافر لقاتل به وهنا قال الإمام علي (علیه السلام) وقلبه يتقطع ألماً على هذه الأمة المضللة المغرر بها: (ولقد ضربت أنف هذا الأمر وعينه وقلبت ظهره وبطنه فلم أرَ فيه الا القتال او الكفر بما جاء محمد (صلی الله علیه و آله) به) وقال (علیه السلام) : (وقد قلبت هذا الامر بطنه وظهره حتى منعني النوم فما وجدتني يسعني إلا قتالهم أو الجحود بما جاء به محمد (صلی الله علیه و آله) فكانت معالجة القتال أهون علي من معالجة العقاب، وموتات الدنيا أهون عليّ من موتات الآخرة) فلم يكن أمام أبي الحسن (علیه السلام) إلا القتال حتى يفيئ الباغي وترتفع الفتنة ويعود الحق الى مقره فشرع الامام بذلك حكم البغاة وما تفرع عليه من أحكام أخرى كقتال البغاة الذين لهم فئة - كأصحاب معاوية - والذين ليس لهم فئة - كأصحاب الجمل - وسلبهموالاجهاز على جريحهم فيجوز في الأول دون الثاني حتى قال أحد ائمة المذاهب: (لولا قتال علي (علیه السلام) لأهل الجمل وصفين لما عرفنا حكم البغاة). (1)

فبعدما وضعت معركة الجمل أوزارها وانتصر الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) جاء بذاته إلى عائشة وضرب هودجها بالقضيب، وقال: (يا حميراء هل رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمرك بهذا الخروج عليّ، ألم يأمرك ان تقري في بيتك، والله ما أنصفك الذين أخرجوك من بيتك، إذ صانوا حلائلهم وأبرزوك) ثم أنه (علیه السلام) أمر أخاها محمداً أن ينزلها في دار آمنة بنت الحارث، وأمر (علیه السلام) بإعادتها باحترام إلى المدينة، وزارها في اليوم الثاني، ومعه جميع أولاده وإخوته وبنو هاشم، فدخلوا عليها فلما أبصرته صاحت مع من عندها من النسوة في وجهه (علیه السلام) يا قاتل الاحبة، فقال (علیه السلام) : (لو كنت قاتل الأحبة لقتلت من في هذا البيت) وهو يشير الى احد تلك البيوت، قد اختلى فيه مروان بن الحكم، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عامر، وجماعة من بني أمية.. وقال (علیه السلام) لها بعد حوار

ص: 132


1- دور الائمة في الحياة الاسلامية، المرجع اليعقوبي.

دار بينهما : (بل ارجعي إلى البيت الذي تركك فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله)) وأعطى الأمان لابن أختها عبد الله بن الزبير، ولمروان بن الحكم، ولعمرو بن العاص وغيرهم ممن خرج لقتاله ونكث بيعته، وعفا عنهم، وقد قال (علیه السلام) : (إذا ظفرت بعدوك فليكن العفو أحلى الظفرين).

3

3- سياسة الإمام علي (علیه السلام) مع المارقين (الخوارج) :

نذكر فيما يلي بعض الشواهد التأريخية عن سياسة الإمام علي (علیه السلام) وكيفية تعامله مع هذه الفئة الضالة، التي تتصف برحابة الصدر والأريحية المنقطعة النظير، فكان (علیه السلام) رائداً عظيماً من رواد التعايش السلمي في كيفية تعامل الحاكم الإسلامي العادل مع معارضيه وخصومه:

عن كثير بن نمر، قال: دخلت مسجد الكوفة عشية جمعة، وعلي يخطب الناس، فقاموا في نواحي المسجد يحكمون. فقال بيده هكذا، ثم قال (علیه السلام) : (كلمة حق يراد بها باطل، حكم الله أنتظر فيكم. أحكم فيكم بكتاب الله، وسنة رسوله (صلی الله علیه و آله) وأقسم بينكم بالسوية، ولا نمنعكم من هذا المسجد أن تصلوا فيه، ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا) وفي نص آخر:) لكم علينا ثلاث، لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بقتال). ومن الواضح أن أدنى ما يمكن توقعه من أي حاكم من الحكام الزمنيين، الذين رأينا عبر القرون والأحقاب أنحاء تعاطيهم مع أمور كهذه هو - أنه حين يواجه أمثال هؤلاء، ويكون في موقف كهذا، أن يأمر باعتقال كل الذين يطلقون شعاراً يسيء إلى حكمه، وإلى موقعه، ثم يحاسبهم ويعاقبهم بالصورة التي تضمن عدم تكرار ذلك منهم، بحيث يكون ذلك عبرة لغيرهم. ولكن أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) - وهو الحاكم الإلهي المعصوم - لايقيم وزناً للحكم بما هو حكم؛ لأن الحكم عنده إنما هو وسيلة لإقامة الحق، ودفع الباطل. فليس الحكم بما هو حكم امتيازاً، وإنما هو مسؤولية وأمانة، لابد من القيام بها على أحسن وجه، وأدائها إلى أصحابها. ومن هنا.. يصبح من الطبيعي أن نجده (علیه السلام) لا ينطلق في مواقفه من مبدأ هيبة الحكم، وهيمنة السلطان، ولا يعاقب على الجرأة على ذلك ولا يهتم له. فان ذلك ليس إلا مجرد اعتبارات وعناوين صنعها ضعف الإنسان، وصورها له خوفه من فقدان ما يراه امتيازاً شخصياً له. أما الإمام علي (علیه السلام)

ص: 133

فإنه - يسجل مبدأه في التعامل مع الآخر، وأنه من موقع التكليف الشرعي والمسؤولية الإلهية، فلا تثيره تلك الشعارات، ولا تخرجه عن حالة التوازن، بل هو يقرر القاعدة الإسلامية التي تقوم على الأسس الأربعة التالية:

الحكم فيهم بكتاب الله، وسنة نبيه.

يقسم بينهم الفيء بالسوية.

لا يمنعهم من مساجد الله سبحانه أن يصلوا فيها، ما دامت أيديهم مع أيديهم.

لا يبدؤهم بقتال حتى يبدؤوه. (1)

وروى أن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) كان جالساً مع أصحابه إذ مرت بهم امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم فقال (علیه السلام) : إن أبصار هذه الفحول طوامح، وإن ذلك سبب هبابها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلمس أهله فإنما هي امرأة كامرأة. فقال رجل من الخوارج: قاتله الله كافراً ما أفقهه! فوثب القوم ليقتلوه، فقال (علیه السلام) : رويداً إنما هو سب بسب أو عفو عن ذنب. (2)

وكان ابن الكواء رجلاً منافقاً خارجياً ملعوناً مشاكساً لعلي بن أبي طالب (علیه السلام) في أوج حكومته الواسعة التي كانت ذلك اليوم أوسع حكومة على وجه الأرض، وكان الإمام علي (علیه السلام) بالإضافة إلى أنه إمام من عند الله والرسول (صلی الله علیه و آله) وأكبر حاكم على كرة التراب، فكان يلقي اعتراضاته على أمير المؤمنين (علیه السلام) في أوساط العامة وبصورة شرسة، فقد أخرج العلامة المجلسي رحمه الله عن كتاب المناقب بسنده: كان الإمام علي (علیه السلام) في صلاة الصبح فقال ابن الكوا من خلفه: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) فأنصت (علیه السلام) تعظيماً للقرآن. ثم عاد الإمام في قراءته. فأعاد ابن الكوا: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ). فأنصت (علیه السلام) أيضاً تعظيماً للقرآن. فلما أتم ابن الكوا قراءة الآية للمرة الثالثة قرأ الإمام علي (علیه السلام) : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَيُوقِنُونَ) ثم أتم السورة وركع (علیه السلام)) (3) أية حرية للناسهذه التي تسمح لرجل منافق أن يقدر

ص: 134


1- علي والخوارج، جعفر مرتضى العاملي، ج 1،ص336.
2- بحار الانوار، ج 33، ص435 -434.
3- أنظر بحار الأنوار، ج41، ص48.

الرد على الرئيس الأعلى للعالم الاسلامي وهو مثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) في حال الصلاة، ويتعرض له (علیه السلام) بالشرك والحيط، ثم ينصت له الإمام (علیه السلام) تعظيماً للقرآن الكريم. ويتكرر الأمر ثلاث مرات. ويتم الإمام (علیه السلام) صلاته دون أن يفعل بابن الكواء شيئاً. ويعود ابن الكوا إلى مسيرته السابقة كأن لم يكن شيء مذكوراً. أين هذه الحرية من حرية البلاد في عالم اليوم؟ وهل يجرأ إنسان عادي لمثل ذلك مع أي رئيس أو زعيم؟ وإن حصل هذا فهل يمر بسلام؟ لا يجيب عليه التاريخ الا بالنفي، حتى في هذا اليوم، في أكثر بلاد العالم حرية، وهذا ماطبقة علي (علیه السلام) من الحرية الإسلامية. فليسمع الذين يقولون لا حرية في الإسلام. (1)

ومع أن الخوارج حاربوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) وشهروا السيوف عليه وعلى أصحابه. وقتلوا الألوف من المؤمنين والمؤمنات من أصحاب الإمام علي (علیه السلام) وشيعته. وأقاموا عليه حرباً عظيمة. ومع ذلك كله حفظ التاريخ لأمير المؤمنين (علیه السلام) : (انه لم يقطع عطاء الخوارج من بيت المال) كما إنه (علیه السلام) لم يصف منْ رفع السلاح بوجهه ومارس الإرهاب ضده بالشرك أو النفاق ولكنه كان يقول: (هم أخواننا بغوا علينا).

4

4- سياسة الإمام علي (علیه السلام) مع القاسطين (معاوية وأتباعه) :

ومن الشواهد الانسانية في التعامل الانساني لحياة الإمام (علیه السلام) ما حدث في معركة صفين عندما سبق جيش معاوية جيش الإمام علي (علیه السلام) إلى ميدان القتال واستولوا على مشرعة الفرات ومنعوا جيش الإمام (علیه السلام) من الوصول الى الماء، فضج أصحابه وأفراد جيشه من ذلك السلوك العدواني بعد أن قام خطيب من جيش معاوية وقال: (الموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين، رووا سيوفكم من الدماء ترووا من الماء) فأستنهض الامام بجيشه للوصول إلى مشرعة الفرات للاستيلاء عليها وعندما حصل ذلك وجلا جيش معاوية بقوة السلاح والسيطرة عليها، فقد تصايحت أصوات جيش الإمام (علیه السلام) بقولهم: (نمنعهم من الماء كما منعونا ونقتلهم بسيف العطش) ولكن الإمام علي (علیه السلام) رفض ذلك وقال: (خذوا حاجتكم من الماء وارجعوا الى معسكركم وخلوا بينهم وبين الماء فاني لا افعل ما فعله الجاهلون) هذه الأخلاق التي يتمتع بها أمير

ص: 135


1- الحريات في الإسلام، السيد صادق الشيرازي.

المؤمنين (علیه السلام) هي أخلاق الإسلام في بعدها الإنساني الكبير. (1)

فهو يضرب لنا مثلاً يحتذى به في رفضاستخدام الحصار والتضييق، ومنع ضرورات الحياة عن العدو، الذي يخوض معه معركة حاسمة، حتى وإن لجأ العدو إلى أساليب غير إنسانية. (2)

وروي أنه خرج حجر بن عدي وعمرو بن الحمق (رضوان الله تعالى عليهما) يُظهران البراءة من أهل الشام، فأرسل الإمام علي (علیه السلام) إليهما أن كفا عما يبلغني عنكما فأتياه فقالا: يا أمير المؤمنين ألسنا محقين؟ قال: بلى. قالا: فلم منعتنا من شتمهم؟ قال: كرهت لكم أن تكونوا لعانين شتامين تشتمون وتبرؤن ولكن لو وصفتم مساوئ أعمالهم فقلتم: من سيرتهم كذا وكذا ومن أعمالهم كذا وكذا كان أصوب في القول وأبلغ في العذر و لو قلتم مكان لعنكم إياهم وبراءتكم منهم: (اللهم احقن دماءهم ودماءنا وأصلح ذات بينهم وبيننا واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق منهم من جهله

ص: 136


1- مقالة بعنوان: حقوق الرعية في حكومة الإمام علي (علیه السلام) ، صفحة (حقوق الانسان) على شبة التواصل الاجتماعي، بتصرف بسيط.
2- حينما تبحث عن هذه الرؤية في الواقع العالمي الدولي، تجد أنها غائبة عن قاموس السياسة الدولية اليوم، فها أنت ترى الدول الكبيرة والمتحكمة، تمارس الحصار والمقاطعة ضد الشعوب الضعيفة، بحجة تصفية خلافاتها مع بعض الأنظمة والحكام، رغم أنهم يعلمون أن ضحية هذا الحصار هو الشعب نفسه، فحينما فرضت أميركا والدول الغربية الحصار على الشعب العراقي، فهم يعلمون يقيناً أن الحصار لن يغير من واقع تسلط الحكم العراقي شيئاً، ولن يؤدي إلى تغيير سياسي فيه، بل على العكس من ذلك سوف يزداد الموقف الشعبي تجاه النظام ضعفاً، لأن الناس سوف يكون همهم الحصول على لقمة العيش والكفاف، أما النظام فإنه سيستفيد من هذه الحالة في سن قوانين تحكم قبضته، وتوسّع من صلاحياته، ويجد في الحصار المفروض مادة دعائية في اختلاق عدو خارجي، وفي الإبقاء على حالة طوارئ غير معلنة، وبالتالي قمع كل اعتراض. فهل تضرر الحاكم العراقي السابق من الحصار؟ وهل أن الأطفال الذين يموتون بسبب نقص الدواء والغذاء هم من أبناء الرئيس المخلوع أو الوزراء أو الضباط الكبار؟ إن الغرب يعلم أن الأطفال الذين يموتون نتيجة للحصار إنما هم أطفال الناس الفقراء والمعدمين، أما أطفال أولئك فلا يولدون إلا وفي أفواههم ملعقة من ذهب كما يقال. وقد فرض الغرب الحصار على ليبيا عدة سنوات لمشكلة له مع النظام، ورأيناه يمارس ما هو أكثر من ذلك مع السودان، حتى يصل الأمر إلى حد قصف وتدمير مصانع الدواء في بلد فقير، يعاني أصلاً من نقص كبير في هذا المورد، ويموت بعض مواطنيه بسبب النقص الحاد في الدواء وسوء التغذية، فأين الإنسانية من كل هذا.. أو ليس ذلك دليلاً على غياب البعد الإنساني من فكر الحضارة الغربية ورؤيتها للحياة..؟ وعلى العكس من ذلك نجد الحضارة الإسلامية ورموزها. (يُنظر: التعامل الإنساني في سيرة الإمام علي (علیه السلام) ،الشيخ حسن الصفار) .

ويرعوي عن الغي والعدوان منهم من لج به) لكان أحب إلي وخيرا لكم. فقالا: يا أمير المؤمنين نقبل عظتك ونتأدب بأدبك. (1)

وقصة (عبيد الله بن الحر الجعفي) خير شاهد ودليل على سلوك الامام (علیه السلام) وتعامله مع خصومه. فقد كان عبيد الله من أصحاب الإمام (علیه السلام) ومن العاملين في جيشه، وقد خان الإمام (علیه السلام) والتحق بجيش معاوية في جوفالليل عندما كانت نيران الحرب قائمة في معركة صفين. وفي الحروب كما هو معروف توجد قوانين تنظم حقوق وواجبات المقاتلين، حيث كانت عقوبة الخيانة هي الاعدام. وقد أستطاع الخائن عبيد الله أن يقدم لمعاوية خدمات كثيرة وكبيرة في ميدان الحرب المعلوماتية، وكانت زوجته من أهل الكوفة عاصمة الإمام علي (علیه السلام) ولما سمعت الزوجة خبر هلاك عبيد الله، أعدت عدة الوفاة وبعد ذلك تزوجت برجل من أهل الكوفة، في الوقت الذي كان عبيد الله حياً في الشام وبقرب سيده معاوية، وحين أخبر عبيد الله الجعفي بخبر زوجته تسلل ليلاً من نحو الكوفة من أجل الوصول الى زوجته ومعرفة حقيقة الخبر.

ولما وصل بيت زوجته وطرق بابها خرجت الزوجة منقبة وبعد حوار بينها وبين عبيد الله أخبرته بحقيقة خبر زواجها من رجل آخر. فقد رأى عبيد الله أن أبواب العودة موصدة

بوجهه، ولا يوجد حل ومخرج إلى بقضاء الإمام علي (علیه السلام) العادل ومعرفته الفقهية بأمور الدين، فقرر الذهاب إلى الإمام ليخبره بقصته، وعندما وقف بين يدي أمير المؤمنين (علیه السلام) منكس الرأس خجلاً بسبب خيانته، فقد أجابه الإمام (علیه السلام) مستنكراً هل (أنت عبيد الله الخائن) فقال: نعم. هل أنت ذلك الرجل الذي يعرف علياً رجل الحق والعدل. فقال نعم. فأنتهز الفرصة وقال: هل أن خيانتي تمنعك من العدل يا أمير المؤمنين؟ فأجابه الإمام (علیه السلام) ، كيف؟ وقص قصته للإمام (علیه السلام) وطلب من الإمام أن يغيثه ويعينه على أمره. فأمر (علیه السلام) بإحضار زوجته وزوجها الثاني وقال (علیه السلام) : على المرأة أن تنفصل عن زوجها الثاني وتبدأ بالعدة من الآن، وبعد الانتهاء من عدتها تعود إلى زوجها الأول إن لم تكن حاملاً، وإذا كانت حاملاً لا يعود لها الزوج الأول حتى تضع حملها.. وبعد ذلك تعود المرأة الى زوجها الأول. وهذه الأحكام العدلية في القضاء لا تبتعد عن البعد الانساني الذي لا يفارق الإمام (علیه السلام) لحظة واحدة في كل

ص: 137


1- بحار الانوار، ج 32، ص399.

سلوكياته العملية اتجاه رعيته، فلا ينظر إلى الأمور من زاوية ضيقة ولا من حيث الكيل بغلة الأحقاد كما ينظرها الآخرون من ساسة وقضاة وعاملين. فهو الإمام المنزه والمعصوم فهماً وسلوكاً. (1)

5

5- السياسة العامة لأمير المؤمنين (علیه السلام) مع معارضيه:

لقد رفض الإمام علي (علیه السلام) أسلوب التصفية الجسدية للمعارضة، وان كان هذا الاسلوب من متبنيات تلك المعارضة، إذ ذهب (علیه السلام) ضحيته، فمثلاً عندما أتوه برجل وسأل (علیه السلام) عن سبب إلقاء القبض عليه أجاب السامع (سمعت هذا يعاهد الله ان يقتلك...فقال الإمام (علیه السلام) : خل عنه، فقال الرجل: أُخلي عنه وقد عاهد الله أن يقتلك، فقال الإمام (علیه السلام) : انقتله ولم يقتلني، قال: وانه قد شتمك، قال الإمام (علیه السلام) : فاشتمه إن شئت أو دعه. (2)6

6- تعامله (علیه السلام) مع قاتله وأسيره ابن ملجم لعنة الله عليه:

ما أروع صور الحالة الإنسانية في حياة أمير الموحدين (علیه السلام) ومنها ما تجلت في الساعات الأخيرة من حياته الشريفة، مع الرجل الذي ضربه بالسيف وهو في محراب صلاته، فقد هرب عبد الرحمن بن ملجم من المسجد يريد الفرار، غير أن الصيحات التي تعالت في سماء الكوفة أخرجت الكثيرين من بيوتهم بحثاً عن قاتل أمير المؤمنين، فانسدت طرقات الكوفة وسككها في وجه ابن ملجم، حتى قبض عليه بعض أصحاب الإمام علي (علیه السلام) فجاءوا به إليه، وهو بعد متأثراً بضربة السيف المسموم والدماء تنزف من مفرق رأسه، فقال الإمام الحسن (علیه السلام) لأبيه (علیه السلام) : (هذا عدو الله وعدوك ابن ملجم قد أمكن الله منه وقد حضر بين يديك) ، ففتح أمير المؤمنين (علیه السلام) عينيه ونظر إلى قاتله وهو مكتوف وسيفه معلق في عنقه، فقال له (علیه السلام) بهدوء وسكينة وبصوت ملؤه الرأفة والرحمة: (يا هذا لقد جئت عظيماً وخطباً جسيماً أبئس الإمام كنت لك حتى جازيتني بهذا الجزاء) ، ثم التفت (علیه السلام) إلى ولده الحسن (علیه السلام) وقال له: (ارفق يا ولدي بأسيرك وارحمه وأحسن إليه وأشفق عليه، ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في أمّ

ص: 138


1- مقالة بعنوان: حقوق الرعية في حكومة الإمام علي (علیه السلام) ، صفحة (حقوق الإنسان) على شبكة التواصل الاجتماعي، بتصرف بسيط.
2- حقوق الإنسان عند الإمام علي بن ابي طالب (علیه السلام) ، رؤية علمية، الدكتور غسان السعد، ص80.

رأسه، وقلبه يرجف خوفاً ورعباً وفزعاً) فقال له الإمام الحسن (علیه السلام) : (يا أباه قد قتلك هذا اللعين الفاجر وأفجعنا فيك وأنت تأمرنا بالرفق به؟!) فقال له: (نعم يا بني، نحن أهل بيت لا نزداد على الذنب إلينا إلاّ كرماً وعفواً، والرحمة والشفقة من شيمتنا لا من شيمته، بحقي عليك فأطعمه يا بني مما تأكله، واسقه مما تشرب، ولا تقيد له قدماً، ولا تغل له يداً، فإن أنا متّ فاقتص منه بأن تقتله وتضربه ضربة واحدة، ولا تمثل بالرجل فإني سمعت جدك رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور، وإن عشت فأنا أولى بالعفو عنه، وأنا أعلم بما أفعل به، فإن عفوت فنحن أهل بيت لا نزداد على المذنب إلينا إلاّ عفواً وكرماً).

واستمر تعامله الإنساني الرائع معه حتى آخر لحظة من حياته، فحينما وصف الأطباء اللبن دواءً وغذاء للإمام (علیه السلام) فبادر الناس حتى الفقراء والمعدمون في الكوفة بجلب ما يتمكنون من اللبن إلى بيت الإمام (علیه السلام) ، وحمل الإمام الحسن (علیه السلام) واحداً من أقداح اللبن إلى أبيه الجريح، فلما شرب منه قليلاً ناول ولده بقية القدح، وقال (علیه السلام) : (خذوه لأسيركم، أطعموه مما تأكلون واسقوه مما تشربون اللَّه اللَّه في أسيركم) وليس غريباً نتيجة لذلك ما يعتقده بعض من أن الإمام لو عاش لعفا عن ابن ملجم، وهذا ما يتناسب مع عفو الإمام دائماً. (1)

الحكومة العلوية في نظر الرأي العالمي:

بعدما اطلع الكاتب الأمريكي المعاصر (ميشيل هاملتون) (2) على التعليمات الإدارية والوصايا التي أصدرها الإمام علي (علیه السلام) إلى واليه مالك الأشتر يحثه على معامله أهل الذمة من غير المسلمين بالبر والاحسان، مؤكداً على ضرورة مساواة اليهود

ص: 139


1- يُنظر التعامل الإنساني في سيرة الإمام علي (علیه السلام) ،الشيخ حسن الصفار.
2- (مايكل هاميلتون مورجان) هو عالم سياسي مؤثر وكاتب وروائي أمريكي. وقد اكتسب شهرة واسعة. وهو صاحب كتاب (خسارة التاريخ) الذي كتب عن السياسة الحكيمة للإمام علي (علیه السلام) كون المؤلف اطلع على رسائله التي حررها إلى ولاته في الامصار الاسلامية ومنهم مالك الأشتر مؤكداً عليهم أن يعاملوا المواطنين من غير المسلمين بروح العدل والمساواة في الحقوق والواجبات. فهذا الكاتب اعتبر ذلك انعكاسا صادقاً لسلوكيات الخليفة الحميدة والرائدة في دنيا الأخلاق فأصبح مؤهلاً وبكل جدارة للدخول في تاريخ الإنسانية من أبوابه العريضة.

والنصارى بالمسلمين بالحقوق والواجبات، أبدى اعجابه الفائق بالسياسة الحكيمة للإمام علي (علیه السلام) معتبراً ذلك انعكاساً صالحا لسلوكيات هذا الإمام المعصوم والمؤطرة بمكارم الأخلاق. وحقاً إن الإمام علي (علیه السلام) قد انتهج في ادارته للخلافة الاسلامية سياسية المسامحة واللين على هامش القيم النبيلة، فكان لا يقتل الأسرى ولا يعذبهم بل كان يعفو عنهم ثم يخصهم بدروس تهذيبية لتصقل عاداتهم المنحرفة فقد كان الانسان عند الإمام علي (علیه السلام) قيمته عُليا في المجتمع إن كان مسلماً أو غير مسلم لان الله كرمه وهذا هو جوهر الديمقراطية الاسلامية الانسانية. (1)

أما وصية الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) لمالك الأشتر، فقد باتت معروفة عالمياً بالدستور العلوي، حيث أجاد حقاً المفكّر المسيحي جورج جرداق في تعليقه على هذا الدستور بقوله: (فليس من أساس بوثيقة حقوق الإنسان التي نشرتها هيئة الأمم المتحدة إلا وتجد له مثيلاً في دستور ابن أبي طالب ثم تجد في دستوره ما يعلو ويزيد…) أما الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان فقال: (قول علي بن أبي طالب: (يا مالك إن الناس إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) هذه العبارة يجب أن تعلَّق على كلّ المنظمات، وهي عبارة يجب أن تنشدها البشرية). (2)

وقد اقترح (كوفي عنان) الأمين العام السابق للأمم المتحدة أن تكون هناك مداولة قانونية حول كتاب الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) إلى مالك الأشتر.، وبعد مراحل من المدارسات الطويلة وأخذ الآراء، طرحت اللجنة القانونية في الأمم المتحدة هذا الكتاب للتصويت، وتم ترشيحه بأنه أحد مصادر التشريع الدولي. (3)وأصدرت سكرتارية الأمم المتحدة للجنة حقوق الإنسان في نيويورك في عام 2002م برئاسة أمينها عام (كوفي عنان) قرارها التاريخي، حول الإمام علي (علیه السلام) وهذا نصه: (يعتبر خليفة المسلمين علي بن ابي طالب (علیه السلام) أعدل حاكم ظهر في تاريخ البشر) مستندة بوثائق شملت (160) صفحة باللغة الإنكليزية، كما اعتبرت الأمم المتحدة رسالة الإمام علي (علیه السلام) إلى مالك الاشتر حين ولاه على مصر إحدى وثائق حقوق الإنسان

ص: 140


1- الديمقراطية الإسلامية في حكومة الإمام علي بن ابي طالب (علیه السلام) . فؤاد مهدي شريف.
2- الإمام علي (علیه السلام) باني اُسس التعايش، المهندس فؤاد الصادق.
3- المصدر نفسه.

التاريخية. ونصحت الأمم المتحدة البلدان العربية على اتخاذ الإمام علي (علیه السلام) مثالاً في اقامه وتأسيس النظام المبني على أساس العدل والديمقراطية وتشجيع العلم والمعرفة في تقريرها لعام 2002م الخاص بتطور الإنسان العربي والمنشور في عدة انحاء من العالم. وقد ادرج برنامج الامم المتحدة الانمائي ستة مقولات تخص المشاورة بين الحاكم والمحكوم والوقوف بوجه الفساد بجميع انواعه والظلم وضمان العدل للجميع وتحقيق التطور والتنمية المحلية وهي مأخوذة من رساله الامام علي (علیه السلام) الى مالك الاشتر حين ولاه على مصر. وذكر برنامج الأمم المتحدة الانمائي بأن أغلب البلدان العربية لازالت بعيدة كل البعد عن الأمم الأخرى في مجال الديمقراطية والتمثيل السياسي. وقد اقتبس برنامج الأمم المتحدة الانمائي من أقوال الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) في تقرير تنمية الانسان العربي عام 2002م هذه المبادئ التالية:

1- من نصب نفسه اماماً على الناس عليه بتعليم نفسه قبل تعليم الناس وتعلميه للناس لابد أن يكون مثالاً لأعماله بدلاً من أقواله لأن من يبدأ بتهذيب وتعليم نفسه ويكون أهلاً للطاعة والاحترام أكثر من ذلك المرء الذي يعلم ويرشد الاخرين.

2- تفقد ما يصلح أهل الخراج فان في صلاحه وصلاحهم حلاً لمن سواهم ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم لان الناس كلهم عيال على الخراج واهله فليكن نظرك في عمارة الارض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج (الضريبة) فان الجلب لا يدرك إلا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عماره خرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم له امره.

3- أكثر مدارسة العلماء ومجالسة الحكماء في تثبيت ماصلح عليه أهل بلادك واقامة ما استقام به الناس من قبلك فإن ذلك يحق الحق ويدفع الباطل.

4-لاخير في السكوت عن ظالم أو جاهل.

5- أهل الحق هم رجال الفضيلة من عقلهم الرجاحة والمنطق لباسهم الزهد طريقهم التواضع افعالهم كبيرة ولا يأبهون بالمخاطر.

6- اختر الأصلح من قومك ليزن بالقسط بينهم واختر من لا يبيع نفسه بسهولة، الذي لا يبالي بصغائر الامور، غير الظالم الذي لا يتردد في اتباع الحق حال علمه به، غير الجشع من لا يدخل الطمع الى قلبه، من لايرضىبتقليل صغير دون البحث عن الفهم

ص: 141

الواسع والكبير، من يصمد في ساعة الشدة، من له حيز في تقويم اعوجاج الخصم، من يصبر في سبيل اتباع الحق، من لا يأبه بالمتملقين ولا يعطى اهتماما لهواه. (1)

وينقل أحد الأساتذة ما حصل له في رحلته إلى الصين واستضافته من قِبل أحد الأشخاص الذين لهم مركز اجتماعي هناك وخلال مرافقته في أحد الشوارع الرئيسية أشار له بأن ينظر إلى عمارة شاهقة مكتوب عليها عبارة باللغة الصينية اتخذوها شعاراً لهم في حياتهم وهي لرجل عربي، فسأله الاستاذ: ما هي المقولة ولمن؟ فأجابه، هي لرجل عندكم يدعى علي بن أبي طالب ويقول فيها: (لو كان الفقر رجلا لقتلته).

النقطة الثالثة:

الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) وبنود الصلح:

كان من أوليات القضايا المهمة في نظر الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) هو تحقيق الأمن والسِلم الاجتماعي لأبناء الأمة الإسلامية، لاسيما وإن معاوية بن أبي سفيان المتربع على عرش سلطة الشام الفاقد للشرعية، كان يسوم المسلمين وبالخصوص الشيعة منهم سوء العذاب وحاله حال فرعون مع بني إسرائيل، الذي حكى عنه الله تعالى قائلاً: (إن فرعون عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ...) (2) لذا أراد الإمام المجتبى (علیه السلام) من خلال الشروط التي أملاها على معاوية لعقد الصلح معه (3) ، أن يحقق مبدأ التعايش السلمي والذي لا يعرف بنو أمية أي معنى له، بل إن مبدأهم الدائم هو سياسة العنف والارهاب ولغة التعصب والطائفية القبلية المقيتة.

والإمام المجتبى (علیه السلام) حاول أن يتكفل للأمة الاسلامية بأكثر من صك أمان واستقرار لها على الصعيد الاجتماعي والسياسي والعسكري والاقتصادي، والمحاولة في

ص: 142


1- الديمقراطية الإسلامية في حكومة الإمام علي بن ابي طالب (علیه السلام) . فؤاد مهدي شريف.
2- القصص (4) .
3- قال المرجع اليعقوبي حول بيان نوع هذه الخطوة المهمة التي أقدم عليها الإمام الحسن (علیه السلام) : (موقف الإمام الحسن (علیه السلام) لم يكن صلحاً مع معاوية ولا هدنة ولا أي شيء آخر مما يرتبط بمعادلة الصراع معه، وإنما هو مرتبط بطاعة الأمة و التفافهم حول قيادتهم وبمقومات قيامه بولاية أمر الأمة، وإذا ورد لفظ الصلح في الوثيقة فليس هو معنى الصلح بالمصطلح العسكري و السياسي، بل بالمعنى المعروف فقهياً الذي هو الاتفاق بين طرفين على أمر ما) . يُنظر المجلد السابع من خطابات المرحلة، خطاب بعنوان: درس حركي من كلمة أمير المؤمنين (علیه السلام) (فزت ورب الكعبة) وصلح الإمام الحسن (علیه السلام) .

نبذ لغة التعصب الطائفي والقبلي الذي جر الويلات والحروب للامة الاسلامية، وأراد (علیه السلام) حقن دماء شيعة أبيه (علیه السلام) الذين يتعرضون للإبادة الفردية والجماعية على يد السلطة الاموية الإرهابية، ونذكر فيما لي بعض بنود معاهدة الصلح التي اشترطها الإمامالمجتبى (علیه السلام) لأجل قبول عرض معاوية في الهدنة، والتي تتعلق ببحثنا حول مبدأ التعايش السلمي، بغض النظر عن الاختلاف الحاصل بالنقل التأريخي لها:

(أن يترك سب الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وان لا يذكره (علیه السلام) إلا بخير).

وهذا الشرط يكشف بجلاء استهتار معاوية بالأخلاق والتعاليم الإسلامية وإلا فبأي حق يسب مسلم مسلماً، فكل المسلم على المسلم حرام: نفسه وماله وعرضه ولكن أين معاوية من الإسلام وأحكامه؟ وإذا كان كذلك حق المسلم فما بالك بالإمام علي (علیه السلام) الذي عظمه القرآن ومجده الرسول وكان من أهل البيت الذين فرض الله على كل المسلمين مودتهم (قُل لاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَىَ).

والبند الآخر: (أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله في شامهم وعراقهم وحجازهم ويَمَنهم وأن يؤمّن الأسود والأحمر وأن يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم وأن لا يتبع أحد بها بما مضى وأن لا يأخذ أهل العراق بأحنة وعلى أمان أصحاب علي حيث كانوا وان لا ينال أحد من شيعة علي بمكروه وأن أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم وان لا يتعقب عليهم شيئاً ولا يتعرض لأحد منهم بسوء ويوصل إلى كل ذي حق حقه وعلى ما أصاب أصحاب علي (علیه السلام) حيث كانوا. وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولأحد من أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) غائلة سراً ولا جهراً ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق). وهذا البند ينصّ على ضرورة تحقيق الأمن العام لشيعة الإمام علي (علیه السلام) وأنصار الإمام الحسن (علیه السلام) حيثما كانوا، وعدم التعرض بسوء لشخص الإمام الحسن والإمام الحسين (علیه السلام) ولا لأحد من أهل البيت (علیهم السلام) ، ولكنها سُنة معاوية في الغدر، ونقض العهود فالتاريخ يعج بالقصص والأحداث التي تحكي ما فعله معاوية بشيعة الإمام علي (علیه السلام) من تجويع وتعذيب وقتل وسجن وتشريد. ومن الأسماء البارزة التي نالت شرف الشهادة تحت بطش معاوية وأعوانه: حجر بن عدي الكندي وأصحابه ورشيد الهجري وعمرو بن الحمق الخزاعي وجويرية بن مسهر العبدي وأوفى بن حص، وأما الذين روعوا وعذبوا

ص: 143

فلا مجال لإحصائهم. باختصار، لقد انتهك معاوية هذا البند ليحقق بجدارة أوليات بكر في أفاعيل منكرة وبوائق فريدة في حق شيعة أهل البيت (علیهم السلام) ((فكان أول رأس يطاف به في الإسلام (من أصحاب علي) بأمره (معاوية) يطاف به، وكان أول إنسان يدفن في الإسلام منهم وبأمره يفعل به ذلك وكانت أول امرأة تسجن في الإسلام منهم وهو الآمر بسجنها وكان أول شهداء يقتلون صبراً في الإسلام منهم وهو الذي قتلهم)). (1)

فلاحظوا كيف أن الإمام المجتبى (علیه السلام) لم يقبل بالصلح دون شروط بل أراد أن يلجم هذا الثور الهائج (وهو معاوية) بشروط تقيد حركته الإرهابية وعمله الإجرامي في الأمة، وعلى أقل التقادير تكشف زيف ادعاءاتهالباطلة وقداسته المزيفة أمام الناس فيما إذا لم يلتزم ببنود وثيقة الصلح وهذا ما حصل بالفعل، حيث نقض معاوية كل بنود المعاهدة، وهذا ليس ببعيد عن شخص مثله، فقد صرّح قائلاً وحبر المعاهدة لم يجف بعد: (وكل شرط شرطته فتحت قدميّ هاتين).

وإن مجرد توقف الإمام المجتبى (علیه السلام) عن المسير قُدماً في طريق العمل العسكري المسلح ضد معاوية -مؤقتا-ً إنما كان في صالح الأمة الإسلامية وحقن دماء أبنائها، لأن الحرب لم تكن متكافئة فجيشه (علیه السلام) للأسف لم يكن مؤهلاً أبداً لخوض غمار الحرب بل كان مشلولاً ومتهرئاً من الداخل، وجله من المنافقين والخونة والمرتزقة والطامعين بحطام الدنيا ولم يكن في الجيش إلا القليل من الثلة المؤمنة والمخلصة، الذين أراد الإمام (علیه السلام) الحفاظ عليهم من القتل والإبادة، وأن لا يزج بهم في أتون معركة خاسرة عسكرياً ومعنوياً، لذا قرر الإمام (علیه السلام) تأجيل الصراع العسكري إلى الوقت الذي تتوفر فيه الشروط المناسبة لمقارعة الباطل ضمن الخيار المسلح، وإلى ذلك الحين زاول الإمام (علیه السلام) مهامه المباركة لصد التضليل الأموي وإزالة جهل الناس ونشر معالم الإسلام الأصيل ضمن خيارات اصلاحية أخرى وفق ما تسمح به الظروف آنذاك، وعندما نطالع النصوص التاريخية المتعلقة بهذه الأحداث ندرك بوضوح صدق ما أشرنا إليه قبل قليل.

وإن معاوية كان يعلم أن الأمر لن يستتب له ولبني أمية لو عرف المسلمون القادة الربانيين الحقيقيين، من هنا لم يفتأ يفتري ويروج الأكاذيب عن الإمام علي وآله (صلوات الله عليهم). ورغم التزامه بعدم سب أمير المؤمنين (علیه السلام) في عهد الصلح مع

ص: 144


1- يُنظر صلح الإمام الحسن (علیه السلام) من منظور آخر، الأسعد بن علي، ص67.

الإمام الحسن (علیه السلام) لكنه لم يف بعهده ((فقد دأب على لعن الإمام علي (علیه السلام) ويقنت في صلاته وجعلها سنة في خطب الجمعة والأعياد، وبدل سنة محمد (صلی الله علیه و آله) في خطبة العيدين المتأخرة عن صلاتهما وقدمها عليه لإسماع الناس لعن الإمام الطاهر)). ولم يزل معاوية وعماله دائبين على ذلك حتى تمرن عليه الصغير وهرم الشيخ فكانت العادة مستمرة منذ شهادة أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى سُنة عمر بن عبد العزيز طيلة أربعين سنة على صهوات المنابر وفي الحواضر الإسلامية كلها من الشام إلى الري إلى الكوفة إلى البصرة إلى عاصمة الإسلام المدينة المشرفة إلى حرم الله مكة المعظمة إلى شرق العالم الإسلامي وغربه. وقد صارت سنة جارية ودعمت في أيام الأمويين سبعون ألف منبر يلعن فيها أمير المؤمنين، وطفق معاوية يوزع الأموال بسخاء والمناصب على الصحابة والتابعين الذين استجابوا له في وضع الأكاذيب في حق علي وتحريف أحاديث عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) تقتضي الطعن في علي والبراء منه والعياذ بالله. ومن أمثال هؤلاء: أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وسمرة بن جندب وعروة بن الزبير. (1)ومما لابد من قوله في ختام هذا البحث إنه (لم يدرك بعض المعاصرين للإمام الحسن (علیه السلام) ، حتى أصحابه، الأبعاد الحقيقية للصلح فاعترضوا على الإمام (علیه السلام) بل جابهه بعضهم بكلمات قاسية زادت من محنته وعمقت حزنه.. هذا الغموض الذي اكتنف الصلح وسربله في حجب كثيفة، استعصى على العقول معها إدراك أبعاده، امتد إلى يومنا الحاضر. فانبرى عدد من المؤرخين المعاصرين يفسرون صلح الحسن (علیه السلام) تفسيرات خاطئة فبعضهم يطعن في قدرات الإمام (علیه السلام) وصلاحيته للقيادة وبعضهم يعزو الصلح إلى حالة جبن وخوف على النفس وآخر يرجعه إلى ميولات عثمانية عميقة في نفس الإمام الحسن (علیه السلام) حجبها وجود أبيه (علیه السلام) أو هو اندفاع من الإمام لتحقيق نبوة لرسول الله (صلی الله علیه و آله).

هذه الاجتهادات في تفسير الحدث لم تكن لتدرك حقيقة المعاهدة وواقع أمرها لأنها أولاً: اعتمدت على رؤية تجزيئية انتخابية تستند إلى مفردة واحدة في سياق حدث معقد تتداخل فيه العوامل وتتضارب معه النصوص التاريخية. فمثلا بعضهم يستند إلى حديث

ص: 145


1- يُنظر المصدر نفسه، ص65-66.

الرسول (صلی الله علیه و آله) : (إن ابني هذا سيد سيصلح الله به بين فئتين من المسلمين) ليعلل الصلح بأنه رغبة من الإمام (علیه السلام) في تحقيق هذه النبوة.

ولأنها ثانياً: لم تعرف شخصية الحسن حقاً، وتعاملت معه كأي قائد سياسي بمعزل عن مشروعيته الدينية وموقعه الرسالي المتقدم والتسديد الإلهي الذي يلازمه، فإن إلغاء جانب الإمامة الإلهية في شخصية الإمام الحسن (علیه السلام) وعدم الاعتراف بها يجعل هؤلاء الباحثين يتيهون في تفاصيل الحدث بل يضيعون في ركام كبير من الروايات الضعيفة والأقاصيص المفتعلة ويجعلهم يعتقدون أنه قادر على التصرف كيفما شاء دون ضوابط ومرجعية شرعية). (1)

النقطة الرابعة:

وقفة مع الإصلاحات الاجتماعية للإمام السجاد (علیه السلام) :

كان الإمام زين العابدين (علیه السلام) مثالاً رائعة ونموذجاً مشرقاً يُحتذى به في تحقيق مبدأ التعايش السلمي، ومن الشواهد التأريخية التي نستدل بها على ذلك هي سيرته العطرة في هذا الميدان، ونذكر منها - على سبيل المثال - ما حصل أيام واقعة الحرة (حيث كان الإمام (علیه السلام) ملجأً للكثير من العوائل، حتّى من عوائل بني أمية نفسها فقد التجأ إليه مروان بن الحكم هو وأهله وزوجته وهي عائشة ابنة عثمان بن عفان، فأصبحوا تحت حمايته، مع أربعمائة عائلة من بني عبد مناف، مدّة وجود الجيش الأموي في المدينة، فأمنوا من استباحتهم لها وهتكهم الأعراض فيها، فكان مروان شاكراً للإمام علي بن الحسين (علیه السلام) ذلك). (2) وهذه الحادثة تعدواحدة من الكثير من الشواهد في هذا المجال، فضلاً عن المواقف الأخرى للإمام (علیه السلام) في سائر الجوانب الحياتية التي تُعد أيضاً مشعلاً وضاءاً يهتدى به.

ولاريب إن الصفة البارزة في السيرة المباركة للإمام زين العابدين (علیه السلام) ، هي انتهاجه لأسلوب الدعاء والمناجاة مع الله تعالى، وترغيب الناس بالعبادة واللجوء إلى أحضان القُرب الإلهي عن طريق هذه القنوات الروحانية الصافية. وإن أدعيته (علیه السلام) في زبوره المقدس وصحيفته المباركة الموسومة بالصحيفة السجادية (تُعد بعد القرآن الكريم

ص: 146


1- المصدر نفسه، ص69- 71.
2- ينظر جهاد الامام السجاد (علیه السلام) للسيد محمد رضا الجلالي، ص69، ص207،ص 187.

ونهج البلاغة من أعظم وأهمّ كنوز المعارف الإلهية القيّمة، بحيث لقبت ومنذ زمن بعيد من قبل العلماء البارزين ب (أُخت القرآن) ، و (إنجيل أهل البيت) و (زبور آل محمّد) صلوات الله عليهم أجمعين.. فالصحيفة السجادية لا تقتصر على التضرع للّه والدعاء والخشوع وبيان الحاجة في ساحة قدسه، بل هي بحر بلا شاطئ من العلوم والمعارف الإسلامية قدم فيها القضايا العقائدية والثقافية والاجتماعية والسياسية وقسماً من القوانين الطبيعية والأحكام الشرعية في إطار الدعاء). (1) وأراد (علیه السلام) من خلال الدعاء والمناجاة وسائر المظاهر العبادية توظيف بعدها الروحاني لإصلاح شأن الفرد والمجتمع.

فمن خلال تلاوته (علیه السلام) لآيات القرآن الحكيم والأدعية المباركة وما فيهما من بركات تشد العباد الى ساحة الغيب حاول (علیه السلام) خلق حالة روحانية في المجتمعات لكي يحقق نقلة نوعية في نفوسهم ويذكرهم بالله تعالى وبالآخرة وبالمصير وبالقيم والمثل الأخلاقية، وهذا ما حصل بالفعل، وهذه الممارسة السجادية - لو صح التعبير - تعد عملية تربوية مؤثرة أيما تأثير في عقول الناس وقلوبهم ونفوسهم، فلا يكاد يسمعه أحد إلا ويتأثر به، يقول الرواة: (إن السقائين الذين يمرون ببابه كانوا يقفون لاستماع صوته ). (2)

(وهكذا نعرف أنّ الصحيفة السجّادية تعبّر عن عمل اجتماعي عظيم كانت ضرورة المرحلة تفرضه على الإمام (علیه السلام) ، إضافةً إلى كونها تراثاً ربّانياً فريداً يظلّ على مرّ الدهور مصدر عطاء ومشعل هداية ومدرسة أخلاق وتهذيب وتظلّ الإنسانية بحاجة إلى هذا التراث المحمّدي العلوي، وتزداد حاجةً كلّما ازداد الشيطان إغراءً والدنيا فتنة). (3)

وقد مرت الأمة الإسلامية في عصر الإمام زين العابدين (علیه السلام) بمنعطف خطر وعلى جميع الأصعدة، فاختار الإمام (علیه السلام) استراتيجية ناجحة بكل المعايير والتي فتحت الباب على مصراعيه أمام الإمام (علیه السلام) لأجل تربيتها في الجانب الأخلاقي والعقدي والعبادي وغيرها، وهذا الأسلوب هو أسلوب الدعاء والمناجاة مع الحق تباركوتعالى، لكي ينتشل الامة من واقع الضياع والتيه والانحراف الذي تتعرض له، حيث (تميز عصر

ص: 147


1- سيرة الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) ، مهدي البيشوائي، ص240.
2- ينظر الإمام السجَّاد (علیه السلام) جهاد وأمجاد، الدكتور حسين الحاج حسن، ص114. نقلاً عن أصول الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص608.
3- مقدمة الصحيفة السجادية، السيد محمد باقر الصدر، ص10.

الإمام زين العابدين (علیه السلام) بالانفتاح على الحضارات الأخرى ودخول الأفواج الكبيرة في رحاب الدولة الإسلامية المترامية الأطراف والفتوحات ذات الغنائم والمكاسب المادية الكثيرة المؤدية إلى المسخ الثقافي والأخلاقي بالتدريج، فكانت المرحلة تتطلب من الإمام (علیه السلام) أن يقف أمام هذا المسخ الخطير. وكانت جهوده العلمية والتربوية هي الحصن المنيع أمام المسخ الثقافي. وأما المسخ الأخلاقي فقد تطلب جهداً من نوع آخر توجّه إليه الإمام (علیه السلام) ووجّه إليه الأمة بشكل عام، والجماعة الصالحة بشكل خاصّ. ومن هنا برزت في مدرسة أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) ظاهرة الدعاء التي ميزتها عن سائر المدراس الإسلامية. (1)

وعبّر السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) عن هذه المرحلة التي مرت بها الأمة الإسلامية قائلاً: إنّ المسلمين في عصر الإمام زين العابدين (علیه السلام) واجهوا خطرين كبيرين خارج النطاق السياسي والعسكري، وكان لا بدّ من البدء بعمل حاسم للوقوف في وجههما:

أحدهما: الخطر الذي نجم عن انفتاح المسلمين على ثقافات متنوّعة وأعراف تشريعية وأوضاع اجتماعية مختلفة بحكم تفاعلهم مع الشعوب التي دخلت في دين الله أفواجاً، وكان لا بدّ من عمل على الصعيد العلمي يؤكّد في المسلمين أصالتهم الفكرية وشخصيتهم التشريعية المتميزة المستمدة من الكتاب والسنّة، وكان لا بدّ من حركة فكرية اجتهادية تفتح آفاقهم الذهنية ضمن ذلك الإطار لكي يستطيعوا أن يحملوا مشعل الكتاب والسنّة بروح المجتهد البصير والممارس الذكيّ الذي يستطيع أن يستنبط منها ما يفيده في كلّ ما يستجدّ له من حالات، كان لا بد إذن من تأصيل للشخصية الإسلامية ومن زرع بذور الاجتهاد، وهذا ما قام به الإمام عليّ بن الحسين (علیه السلام) فقد بدأ حلقة من البحث والدرس في مسجد الرسول (صلی الله علیه و آله).

وأمّا الخطر الآخر: فقد نجم عن موجة الرخاء التي سادت المجتمع الإسلامي في أعقاب ذلك الامتداد الهائل، لأنّ موجات الرخاء تعرّض أيّ مجتمع إلى خطر الانسياق مع ملذّات الدنيا والإسراف في زينة هذه الحياة المحدودة وانطفاء الشعور الملتهب بالقيم الخلقية والصلة الروحية بالله واليوم الآخر، وبما تضعه هذه الصلة أمام الإنسان من

ص: 148


1- راجع تأريخ الإسلام, لجنة التاريخ في المنظمة العالمية للحوزات والمدارس الإسلامية، ج2، ص283.

أهداف كبيرة، وهذا ما وقع فعلاً، وتكفي نظرة واحدة في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني ليتّضح الحال.

وقد أحسّ الإمام عليّ بن الحسين (علیه السلام) بهذا الخطر، وبدأ بعلاجه، واتّخذ من الدعاء أساساً لهذا العلاج، وكانت الصحيفة السجادية من نتائج ذلك، فقد استطاع هذا الإمام العظيم بما اُوتي من بلاغة فريدة وقدرة فائقة على أساليب التعبير العربي وذهنية ربّانية تتفتّق عن أروع المعاني وأدقّها في تصوير صلة الإنسان بربّه ووجده بخالقهوتعلّقه بمبدئه ومعاده وتجسيد ما يعبّر عنه ذلك من قيم خلقية وحقوق وواجبات...وقد استطاع الإمام عليّ بن الحسين (علیه السلام) بما اُوتي من هذه المواهب أن ينشر من خلال الدعاء جوّاً روحياً في المجتمع الإسلامي يساهم في تثبيت الإنسان المسلم عندما تعصف به المغريات، وشدّه إلى ربّه حينما تجرّه الأرض إليها وتأكيد ما نشأ عليه من قيم روحية، لكي يظلّ أميناً عليها في عصر الغنى والثروة كما كان أميناً عليها وهو يشدّ حجر المجاعة على بطنه. (1)

وهناك سبب آخر مهم جعل الإمام السجاد (علیه السلام) ينتهج هذا النهج في أداء حركة الإصلاحية والرسالية، ألا وهي وجود (حالة القمع والإبادة، ومطاردة كلّ المناضلين الأحرار، وتتبع آثارهم وخنق أصواتهم. كان قرار الإمام زين العابدين (علیه السلام) باتّباع سياسة الدعاء، أنجح وسيلة لبثّ الحقائق وتخليدها، وأأمن طريقة، وأبعدها عن إثارة السلطة الغاشمة، وأقوى أداة اتصال هادئة وموثوقة). (2)

فلم يتسن للإمام السجاد (علیه السلام) أيام البطش الأموي أن يزاول مهام إمامته بشكل علني لا سيما وإنه ابن أعظم ثائر على الدولة الأموية، بل ابن أعظم ثائر على الظلم عرفه التأريخ، لذا لازالت أعين السلطة وجواسيسها تراقب تحركاته وسكناته، فكان النهج العبادي والدعائي - لو صح التعبير - أسلوباً إصلاحياً لا يثير حساسية السلطة تجاهه، ولا يعد في نظرها يشكل خطراً على مصالحها، حتى إن السلطة الأموية عندما أمنت جانبه لقبته ب (علي الخير) فمضى الإمام (علیه السلام) قُدماً في مشروعه الرسالي دون أن

ص: 149


1- مقدمة الصحيفة السجادية، السيد محمد باقر الصدر، بتصرف بسيط.
2- جهاد الإمام السجاد (علیه السلام) ،السيد محمد رضا الجلالي، ص188.

تعترض طريقه معارضات الدولة الأموية الحاكمة الظالمة. (1) وهذا يرجع إلى التسديد والتأييد الإلهي أولاً وإلى الحكمة والكياسة التي كان يتحلى بها ثانياً. (2)

لقد اعتنى الإمام السجاد (علیه السلام) بشكل كبير بالجانب التربوي لأجل صقل هوية أبناء الأمة الإسلامية وبنائها من جديد لا سيما وهي تمر آنذاك في منعطف خطير من الرفاه والانتعاش الاقتصادي والترف المادي والانغماس في الملذات والشهوات الدنيوية التي أخذت تبعد أبناء الأمة عن الجانب العبادي والروحي. وحاول (علیه السلام) تعزيز القيم النبيلة في نفوسهم ومنها مبدأ التعايش السلمي بالمفهوم الذي أوضحنا في كتابنا هذا.

وفيما يأتي نذكر بعض النماذج والصور المختصرة من الأدعية التي صدرت من الإمام (علیه السلام) في هذا المضمار:1) الدعاء لأجل إصلاح الباطن، وإصلاح شأن الفرد مع سائر الناس:

(وَأَغْنِنِي وَأَوْسِعْ عَلَىَّ فِي رِزْقِكَ، وَلاَ تَفْتِنِّي بِالنَّظَرِ، وَأَعِزَّنِي، وَلا تَبْتَلِيَنِّي بِالْكِبْرِ، وَعَبِّدْنِي لَكَ وَلاَ تُفْسِدْ عِبَادَتِي بِالْعُجْبِ، وَأَجْرِ لِلنَّاسِ عَلَى يَدَيَّ الْخَيْرَ، وَلا تَمْحَقْهُ بِالْمَنِّ، وَهَبْ لِي مَعَالِيَ الاَخْلاَقِ، وَاعْصِمْنِي مِنَ الْفَخْرِ. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَلا تَرْفَعْنِي فِيْ النَّاسِ دَرَجَةً إلاّ حَطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَهَا، وَلا تُحْدِثْ لِي عِزّاً ظَاهِرَاً إلاّ أَحْدَثْتَ لِي ذِلَّةً بَاطِنَةً عِنْدَ نَفْسِي بِقَدَرِهَا).

(وَأَبْدِلْنِي مِنْ بِغْضَةِ أَهْلِ الشَّنَئانِ الْمَحَبَّةَ وَمِنْ حَسَدِ أَهْلِ الْبَغْيِ الْمَوَدَّةَ، وَمِنْ ظِنَّةِ أَهْلِ الصَّلاَحِ الثِّقَةَ، وَمِنْ عَدَاوَةِ الاَدْنَيْنَ الْوَلايَةَ، وَمِنْ عُقُوقِ ذَوِي الاَرْحَامِ الْمَبَرَّةَ، ومِنْ خِذْلانِ الاَقْرَبِينَ النُّصْرَةَ، وَمِنْ حُبِّ الْمُدَارِينَ تَصْحيحَ الْمِقَةِ، وَمِنْ رَدِّ الْمُلاَبِسِينَ كَرَمَ الْعِشْرَةِ، وَمِنْ مَرَارَةِ خَوْفِ الظَّالِمِينَ حَلاَوَةَ الاَمَنَةِ).

(وَسَدِّدْنِي لاِنْ أعَارِضَ مَنْ غَشَّنِي بِالنُّصْحِ، وَأَجْزِيَ مَنْ هَجَرَنِي بِالْبِرِّ وَاُثِيبَ مَنْ حَرَمَنِي بِالْبَذْلِ وَاُكَافِيَ مَنْ قَطَعَنِي بِالصِّلَةِ واُخَالِفَ مَنِ اغْتَابَنِي إلَى حُسْنِ الذِّكْرِ، وَأَنْ أَشْكرَ الْحَسَنَةَ وَاُغْضِيَ عَنِ السَّيِّئَةِ).

ص: 150


1- ينظر جهاد الإمام السجاد (علیه السلام) ،السيد محمد رضا الجلالي، ص73. وينظر سيرة الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) ، مهدي البيشوائي، ص240.
2- ينظر جهاد الإمام السجاد (علیه السلام) ،السيد محمد رضا الجلالي، ص190 - 191.

2) الدعاء بالتنزه عن الرذائل الأخلاقية التي تسبب الانحرافات والمشكلات الاجتماعية، ومنها:

الحسد: (اللهم إني أعوذ بك من... وغلبة الحسد) ، (اللهم صل على محمد وآله وخلصني من الحسد) ، (وارزقني سلامة الصدر من الحسد حتى لا أحسد حداً من خلقك على شيء من فضلك، وحتى لا أرى نعمة من نعمك على أحد من خلقك في دين أو دنيا أو عافية أو تقوى أو سعة أو رخاء إلا رجوت لنفسي أفضل ذلك بك ومنك وحدك لا شريك لك).

غصب حقوق الآخرين: (اللهم إني أعوذ بك من... نروم ما ليس لنا بحق) ، (اللهم وعليّ تبعات قد حفظتهن، وتبعات قد نسيتهن، وكلهن بعينك التي لا تنام، وعلمك الذي لا ينسى، فعوض منها أهلها، واحطط عني وزرها، خفف عني ثقلها، واعصمني من أن أقارف مثلها).

اتباع الهوى والشهوات: (وحل بيني وبين عدو يضلني، وهوى يوبقني، ومنقصة ترهقني) ، (فيا غوثاه ثم وا غوثاه بك يا الله من هوى قد غلبني، ومن عدو قد استكلب عليّ، ومن دنيا قد تزينت لي، ومن نفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي).

الغفلة: (ولا تنسني ذكرك، ولا تذهب عني شكرك، بل إلزمنيه في أحوال السهو عند غفلات الجاهلين لألائك) ، (ونبهني لذكرك في أوقات الغفلة) ، (ونبهني من رقدة الغافلين).

التفاخر والتكبر: (اللهم إني أعوذ بك من...ومباهات المكثرين) ، (واعصمني من الفخر) ، (اللهم إني أعوذ بك من الفخر والكبر) ، (وأعزني ولا تبتليني بالكبر).

العجب: (اللهم إني أعوذ بك من...وأن نعجب بأعمالنا) ، (وعبدني لك ولا تفسد عبادتي بالعجب).الرياء: (وابرأ قلبي من الرياء والشك، والسمعة في دينك حتى يكون عملي خالصا لك) ، (واجعل ما اعتقدته من ذكرك... محصناً من لواحق الرياء).

طول الأمل: ((اللهم إني أعوذ بك من... ونمد في آمالنا) ، (واكفنا طول الأمل، وقصره عنا بصدق العمل حتى لا نؤمل استتمام ساعة بعد ساعة ولا استيفاء يوم بعد يوم، ولا اتصال نفس بنفس، ولا لحوق قدم بقدم).

ص: 151

مفاسد اللسان: (وأعني على صالح النية ومرضي القول) ، ( ولألسنتنا - بالقرآن - عن الخوض في الباطل من غير ما أفة مخرساً).

3) الدعاء بالتحلي بمحاسن الأخلاق التي تجلب السعادة الاجتماعية، وتحقق مبدأ السٍلم الاجتماعي، ونذكر منها:

النية الصادقة وصفاء السريرة: (وانته بنيتي إلى أحسن النيات) ، (وأعني على صالح النية) ، (اللهم إني أعوذ بك من... ونعوذ بك من سوء السريرة).

الوِد: (واجعل لنا في صدور المؤمنين وداً) ، (وأبدلني من بغضة أهل الشنان المحبة، ومن حسد أهل البغي المودة) ، (وأنزع الغل من صدري للمؤمنين، واعطف بقلبي على الخاشعين).

القناعة: (اللهم إني أعوذ بك من... وقلة القناعة).

البر والانفاق: (ووجه في أبواب البر إنفاقي) ، (وأجزي من هجرني بالبر، وأثيب من حرمني بالبذل) ، (ووفقنا فيه لأن نصل أرحامنا بالبر والصلة، وأن نتعاهد جيراننا بالإفضال والعطية).

النصيحة: (وسددني لان أعارض من غشني بالنصح).

الصبر: (اللهم حبب إلي صحبة الفقراء، وأعني على صحبتهم بحسن الصبر).

عمل الخير ونبذ الشر: (ووفقنا في يومنا هذا وليلتنا هذه وفي جميع أيامنا لاستعمال الخير، وهجران الشر، وشكر النعم، واتباع السنن ومجانبة البدع، والامر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وحياطة الإسلام، وانتقاص الباطل وإذلاله، ونصرة الحق وإعزازه).

إغاثة الملهوف: (ووفقنا... وإرشاد الضال، ومعاونة الضعيف، وإدراك اللهيف).

4) الأدعية ذات الأبعاد الاجتماعية البحتة، والتي يطلب الإمام (علیه السلام) فيها من الله تعالى، أن يكون حسن السيرة مع سائر أفراد المجتمع وباراً بهم ووصولاً لهم، لاسيما الذين يكون لهم حقُ عليه، ويطلب أن لا يقصر فيذلك، بل يذكر حتى المنهج الصحيح

ص: 152

الذي لابد أن يسير عليه الفرد مع أعدائه. وهذه المفردات السامية تمثل بكل وضوح أُسس التعايش السلمي، والمرتكزات الرئيسية لهذا المبدأ الاجتماعي المهم، ونذكر منها:

بر الوالدين: (اللهم اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف، وأبرهما بر الأم الرؤوف، واجعل طاعتي لوالدي وبري بهما أقر لعيني من رقدة الوسنان، وأثلج لصدري من شربة الظمآن حتى أوثر على هواي هواهما، وأقدم على رضاي رضاهما، وأستكثر برهما بي وإن قل، وأستقل بريّ بهما وإن كثر، اللهم خفض لهما صوتي، وأطب لهما كلامي وألن لهما عريكتي، وأعطف عليهما قلبي، وصيرني بهما رفيقاً، وعليهما شفيقاً، اللهم اشكر لهما تربيتي، أثبهما على تكرمتي، واحفظ لهما ما حفظاه مني في صغري).

صلة الأرحام: (ووفقنا فيه لأن نصل أرحامنا بالبر والصلة) ، (وأبدلني من...عقوق ذوي الارحام المبرة، ومن خذلان الاقربين النصرة).

تربية الأولاد: (اللهم ومن عليّ ببقاء ولدي، وبإصلاحهم لي، وبإمتاعي بهم، إلهي أمدد لي في أعمارهم، وزد لي في اجالهم، ورب لي صغيرهم، وقو لي ضعيفهم، وأصح لي أبدانهم وأديانهم وأخلاقهم، وعافهم في أنفسهم وفي جوارحهم وفي كل ما عنيت به من أمرهم).

حُسن معاملة الجيران: (ووفقنا... وأن نتعاهد جيراننا بالإفضال والعطية) ، (اللهم صل على محمد وآله، وتولني في جيراني).

التعامل مع الأصدقاء: (وهب لي الانس بك وبأوليائك وأهل طاعتك ولا تجعل لفاجر ولا كافر علي منّة، ولا له عندي يدا، ولا بي إليهم حاجة، بل اجعل سكون قلبي وأنس نفسي واستغنائي وكفايتي بك وبخيار خلقك، اللهم صل على محمد وآله، واجعلني لهم قرينا، واجعلني لهم نصيراً)

التزام الجماعة: (اللهم صل على محمد وآله...ولا مجامعة من تفرق عنك، ولا مفارقة من اجتمع إليك).

التعامل مع الأعداء: (اللهم فصل على محمد وآله، وخذ ظالمي وعدوي عن ظلمي بقوتك وافلل حده عني بقدرتك، واجعل له شغلاً فيما يليه، وعجزاً عما يناويه، اللهم وصل على محمد وآله، ولا تسوغ له ظلمي، وأحسن عليه عوني، واعصمني من

ص: 153

مثل أفعاله، ولا تجعلني في مثل حاله، اللهم صل على محمد وآله وأعدني عليه عدوى حاضرة، تكون من غيظي به شفاء، ومن حنقي عليه وفاء) ، (اللهم وإن كانت الخيرة لي عندك في تأخير الأخذ لي، وترك الانتقام ممن ظلمني إلى يوم الفصل ومجمع الخصم، فصل على محمد وآله، وأيدني منك بنية صادقة، وصبر دائم، وأعذني من سوء الرغبة، وهلع أهل الحرص، وصور في قلبي مثال ما ادخرت لي من ثوابك، وأعددت لخصمي من جزائك وعقابك، واجعل ذلك سببا لقناعتي بما قضيت وثقتي بما تخيرت).ومن دعائه (علیه السلام) في الاعتذار من تبعات العباد ومن التقصير في حقوقهم: (اللهم إني أعتذر إليك من مظلوم ظلم بحضرتي فلم أنصره ومن معروف أسدي إلي فلم شكره، ومن مسيئ أعتذر إلي فلم أعذره، ومن ذي فاقة سألني فلم أوثره، ومن حق ذي حق لزمني لمؤمن فلم أوفره، ومن عيب مؤمن ظهر لي فلم أستره، ومن كل إثم عرض لي فلم أهجره، أعتذر إليك يا إلهي منهن ومن نظائرهن اعتذار ندامة يكون واعظا لما بين يدي من أشباههن، فصل على محمد وآله، واجعل ندامتي على ما وقعت فيه من الزلات، وعزمي على ترك ما يعرض لي من السيئات، توبة توجب لي محبتك، يا محب لتوابين).

5) الدعاء لتحقيق السِلم السياسي في المجتمع، والذي هو أحد مصاديق التعايش السلمي، حيث تعرّض الإمام السجاد (علیه السلام) في أدعيته مرات عديدة للقضايا السياسية خصوصاً حول قضية الإمامة وقيادة المجتمع الإسلامي، وفيما يلي نورد قسماً منها:

التسلط السياسي: (واكفنا حد نوائب الزمان وشر مصائد الشيطان، ومرارة صولة السلطان). (ونعوذ بك من...أو ينكبنا الزمان، أو يتهضمنا السلطان) ، (وأعذني وذريتي... ومن شر كل شيطان مريد، ومن شر كل سلطان عنيد).

عدالة القيادة: (اللهم إني أعوذ بك من... وسوء الولاية لمن تحت أيدينا).

الدعوة لإصلاح وهداية الناس: (اللهم وأتباع الرسل ومصدقوهم من أهل الارض بالغيب عند معارضة المعاندين لهم بالتكذيب، والاشتياق إلى المرسلين بحقائق الايمان، في كل دهر وزمان).

الدعوة لإصلاح وهداية الناس: (ووفقنا في يومنا هذا وليلتنا هذه وفي جميع أيامنا لاستعمال الخير، وهجران الشر، وشكر النعم، واتباع السنن ومجانبة البدع، والامر

ص: 154

بالمعروف، والنهي عن المنكر، وحياطة الاسلام، وانتقاص الباطل وإذلاله، ونصرة الحق وإعزازه، وإرشاد الضال، ومعاونة الضعيف، وإدراك اللهيف).

أما رسالة الحقوق التي أبرزها الإمام السجاد (علیه السلام) إلى المجتمع والتي تحوي قرابة (خمسين حقاً) تُعد خارطة طريق مضيئة بالنفحات الإنسانية والتعاليم الإسلامية السمحاء التي تحقق السعادة للبشرية جمعاء، بغض النظر عن معتقداتهم وأعراقهم ولغاتهم. والإمام (علیه السلام) بذلك يُبين لوناً من ألوان التسامح الإنساني والتعايش السلمي الذي يتميز به الدين الإسلامي الحنيف، كما يُبين مدى الضمانات والحقوق المنصوصة التي يؤكد عليها الإسلام والتي يُحاسب الفرد على التقصير فيها يوم القيامة.فهذه الرسالة تُعد نادرة عز نظيرها في العالم القديم والمعاصر، فما أحوجنا اليوم لمضامينها السامية، لاسيما بعدما امتلأت الدنيا بضجيج الظالمين، وفوضى انتهاك الحقوق والحرمات، وبعدما سادت لغة العنف والبقاء للأقوى، وأكل حق الضعيف، وتفشي لغة تكميم الأفواه، وشراء الضمائر والذمم.

إن هذه الرسالة الحقوقية المعصومة انطلقت من رحم المعاناة، وضياع الحقوق وانفلات القوانين الإنسانية، لتثبت لنا -هذه الرسالة- مالنا وما علينا من واجبات وحقوق تجاه الرب تعالى، وتجاه انفسنا وتجاه الآخرين، وإن اختلف مع الآخر في المعتقد أو الأفكار أو اللغة أو الموقف. لقد سبق الإمام زين العابدين (علیه السلام) كل المنظمات واللجان والهيئات الدولية المعاصرة التي نادت وسنّت حقوق الإنسان. ونحن بين يدي لائحة حقوقية فريدة من نوعها فلا يشوبها خطأ ولا يجري عليها تعديل من إضافة أو حذف، كما هو حال كل دساتير وقوانين البشرية.

ومن معالم التميز الأخرى التي تتمتع بها رسالة الحقوق السجادية أيضاً إنها وضعت حقوقاً وواجبات على مسائل دقيقة مغفول عنه ا، كجوارح الإنسان وحق الناصح والمستنصح، وحق المستشير وحق المال وحق الغريم بل حتى حق الخصم، فما بال بمن هو أعلى منه رتبة في سُلم الحقوق؟!

ص: 155

النقطة الخامسة:

اشارة

الإمام المهدي (علیه السلام) ودولة العدل الإلهي والسلام العالمي

توجد ملامح واضحة للتعايش السلمي في دولة الإمام المهدي (عجل الله فرجه) بل إن دولته المباركة هي المصداق الأجلى والأوضح لمبدأ التعايش السلمي التي تحقق هذا المبدأ في طول الأرض وعرضها وبشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية.

فعندما نطالع الروايات الشريفة التي تتحدث عن الأوضاع الاجتماعية والأمنية والاقتصادية والسياسية والعمرانية للدولة المهدوية المرتقبة نجد أن جميع البشرية آنذاك تعيش حالة عامة من السلام والوئام والتكاتف والرخاء والأمان وهذه الحالة ستتفرد الدولة المهدوية بعناصرها ومميزاتها الخاصة والمشرقة وبأفضل ما يكون وتحوز قصب السبق في تحقيق ذلك وعلى كافة الأصعدة، حتى أن الأنبياء والأولياء (علیهم السلام) السابقون على عصره - على الرغم من جهودهم المخلصة والمضنية لأجل تحقيق السلام والسعادة للبشرية - إلا أن النجاح التام لم يكتب لهم من هذه الناحية وذلك لا لقصور في أهليتهم للقيادة أو عدم امتلاكهم القدر الكافي من المؤهلات الذاتية _ معاذ الله _ فإن ذلك مخالف للثوابت الدينية الحقة وهو نقض للغرض الإلهي الذي من دواعيه اصلاح شأن الناس على يد الأنبياء الكرام (علیهم السلام) ، وإنما يرجع سبب عدم تحقيق النجاح التام إلى أسباب موضوعية تتعلق بالمجتمعات المعاصرة لهم بكل تأكيد، كتدني مستوى الوعي والثقافة لديهم وعدم انصياعهم للأوامر والتوجيهات الإلهية ومحاربتهم ومعاندتهم للمصلحين وغير ذلك من الأسباب.

والآن نتعرض لأهم الأمور والموضوعات المتعلقة بالإمام المهدي (عجل الله فرجه) وبدولته المباركة من زاوية تحقيقه لمبدأ التعايش السلمي والرفاه والأمان العالمي، والتي هي:

أولاً) صفات الدولة المهدوية ومميزاتها على لسان الروايات الشريفة:

فيما يلي بعض الروايات التي تصف ما عليه دولة الإمام المهدي (عجل الله فرجه) العالمية وما تنعم به البشرية من أمان ورخاء اقتصادي وتعايش سلمي:

روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: (إن ذا القرنين كان عبداً صالحاً... إلى أن قال (صلی الله علیه و آله) : وإن الله سيجري سنته في القائم

ص: 156

من ولدي... ويظهر الله له كنوز الأرض ومعادنها وينصره بالرعب ويملأ الأرض به عدلاً وقسطاً، كما ملئت جوراً وظلماً). (1)

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده). (2)عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) : (ولو قد قام قائمنا لانزلت السماء قطرها، ولا خرجت الارض نباتها، ولذهبت الشحناء من قلوب العباد، واصطلحت السباع والبهائم، حتى تمشي المرأة بين العراق إلى الشام، لا تضع قدميها إلا على النبات، وعلى رأسها زبيلها (3) لا يهيجها سبع ولا تخافه) (4). وهذا يعني أن السلام والوئام سيشمل حتى الحيوانات الضارية مع بعضها البعض، فضلاً عن البشر.

عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) : (...وتعطي السماء قطرها، والشجر ثمرها، والأرض نباتها وتتزين لأهلها، وتأمن الوحوش حتى ترتعي في طرق الأرض كأنعامهم، ويقذف في قلوب المؤمنين العلم فلا يحتاج مؤمن إلى ما عند أخيه من علم، فيومئذ تأويل هذه الآية (يغني الله كلا من سعته). وتخرج لهم الأرض كنوزها، ويقول القائم: كلوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية، فالمسلمون يومئذ أهل صواب للدين، اذن لهم في الكلام فيومئذ تأويل هذه الآية (وجاء ربك والملك صفا صفاً) فلا يقبل الله يومئذ إلا دينه الحق (ألا لله الدين الخالص) ، فيومئذ تأويل هذه الآية (أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينصرون فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون)). (5)

ص: 157


1- ينظر موسوعة الإمام المهدي (علیه السلام) ، تاريخ ما بعد الظهور، السيد الصدر الثاني (قدس سره) .
2- ميزان الحكمة، الشيخ محمد الري شهري، ص187، نقلاً عن كنز العمال.
3- وفي تحف العقول: وعلى رأسها زنبيلها.
4- بحار الأنوار،ج 52،ص 316.
5- بحار الأنوار، ج 53، ص (85 -86) .

عن الإمام الصادق (علیه السلام) : (إذا قام القائم  حكم بالعدل، وارتفع في أيامه الجور، وأمنت به السُبل، وأخرجت الأرض بركاتها، ورُدَّ كلُّ حق إلى أهله، ولم يبق أهل دين حتى يظهروا الاسلام ويعترفوا بالإيمان). (1)

عن الإمام الباقر (علیه السلام) : (القائم منا منصور بالرعب مؤيد بالنصر، تطوى له الأرض، وتظهر له الكنوز... ولا يبقى في الأرض خراب إلا عُمر). (2)

وعنه (علیه السلام) : (يقاتلون (3)

والله حتى يوحّد الله ولا يشرك به شيئاً، وحتى تخرج العجوز الضعيفة من المشرق تريد المغرب ولا ينهاها احدٌ). (4)

عن الامام الصادق (علیه السلام) : في تفسير الآية الشريفة: (سيروا فيها ليالي وايّاماً آمنين) فقال (علیه السلام) : (مع قائمنا أهل البيت). (5)عن الامام الرضا (علیه السلام) : (فإذا خرج أشرقت الأرض بنور ربِّها ووضع ميزان العدل بين الناس فلا يظلمُ أحدٌ أحداً). (6)

وعلى الصعيد الاقتصادي والمعاشي، روي عن النبي (صلی الله علیه و آله) : (تنعم أمتي في زمن المهدي نعمة لم ينعموا مثلها قط، ترسل السماء عليهم مدراراً ولا تدع الأرض شيئاً من النبات إلاّ أخرجته) ،

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (فحينئذ تظهر الأرض كنوزها وتبدي بركاتها، ولا يجد الرجل منكم يومئذ موضعاً لصدقته، ولا برّه، لشمول الغنى جميع المؤمنين).

وعن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: (وتُجمع اليه أموال الدنيا ما في بطن الأرض وظهرها فيقول للناس: تعالوا إلى ما قطعتهم فيه الأرحام وسفكتم فيه الدماء، وركبتهم فيه محارم الله عز وجل فيعطى شيئاً لم يُعطَ أحد كان قبله). (7)

ص: 158


1- الارشاد، الشيخ المفيد، ج 2، ص 384.
2- يُنظر موسوعة الإمام المهدي (علیه السلام) ، تاريخ ما بعد الظهور، السيد الصدر الثاني (قدس سره) .
3- في الترجمة (يقاتل عليه السلام واصحابه والله حتى يوحد الخلق الله...)
4- تفسير العياشي: ج 2، ص 61، ح 49.
5- علل الشرائع، الشيخ الصدوق، ص 91، باب 81، ح 5 -
6- كمال الدين، الشيخ الصدوق، ج 2، ص 372، ح 25
7- ينظر خطاب المرحلة، رقم (452) ، بعنوان: (الجامعة الدينية المفتوحة: تمهيد للتكامل المعرفي في زمن الظهور) .

ثانياً) الإمام المهدي (عجل الله فرجه) لا يستخدم القوة العسكرية إلا عند الضرورة:

يتصور الكثير من الناس أن الإمام المهدي (عجل الله فرجه) سيُعمل الجانب العسكري ويُكره الناس بقوة السلاح لأجل تحقيق الانتصار على أعدائه وبسط دولته في الأرض وأن السمة العامة لحركته الاصلاحية ستكون بهذا الشكل وبهذا الأسلوب القسري، وهذا خطأ كبير بل هو تجني على حريم هذه العقيدة المقدسة ومحاولة لتشويه سمعة الإمام المهدي (عجل الله فرجه) ونهج أهل البيت (علیهم السلام) والدولة المهدوية المباركة، في حين أن الإمام المهدي (عجل الله فرجه) وكما نصت الروايات الشريفة سينتهج أسلوباً حكيماً ومسالماً يحاول من خلاله إبعاد شبح الحرب والدمار عن الشعوب والمجتمعات قدر المستطاع، وقدر ما تسمح به الظروف، وسيكون إعمال السيف والخيار العسكري آخر الدواء الذي سيلجأ إليه عند الاضطرار، كما هو نهج أسلافه الصالحين من آبائه وأجداده الطاهرين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) (1) ، لأنه (عجل الله

ص: 159


1- توجد في التأريخ الإسلامي شواهد كثيرة جداً تكشف لنا وبكل وضوح مدى تحقيق النبي الأعظم وأهل بيته (عليهم الصلاة والسلام) لمبدأ السلام وحرصهم على حقن دماء الناس، سواء في ظرف السلم أو في ظرف الحرب، أنظر ما قاله المرجع اليعقوبي وهو يصف السيرة العطرة للنبي الأكرم وأهل بيته الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين) التي جسدوا فيها وبكل امتياز الصورة المشرقة لسماحة الإسلام ودعوته لتحقيق مبدأ التعايش السلمي، وحب حقن الدماء، حتى في أحلك الظروف وفي أشد ساعات النزال في المعارك: (وقد جسّد الأئمة (سلام الله عليهم أجمعين) هذا الأدب في حياتهم بصوره المتنوعة، فقد انتظر أمير المؤمنين (علیه السلام) ما يقارب السنة قبل أن يتوجه لمقاتلة الباغين معاوية وأصحابه وأكثر إرسال المواعظ اليهم لعلهم يعودون الى الهدى والرشد حتى بدأ المرجفون والمنافقون يشيعون أن علياً (علیه السلام) شاك في أمر أهل الشام ولا يجد مسوغاً لقتالهم فصعد الإمام (علیه السلام) على المنبر وبيّن لهم أنه لم يشكّ طرفة عين في ظلال معاوية وأصحابه وكونهم بغاة يستحقون القتل والقتال وانما تأخّر إمهالاً لهم لعلهم يثوبوا الى رشدهم ويفيئوا الى أمر الله وليستضيئوا بنور أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (علیه السلام) : (أما قولكم: أكلُّ ذلك كراهية الموت، فوالله ما أبالي، دخلتُ الى الموت أو خرج الموت إليَّ، وأما قولكم شكاً في أهل الشام! فوالله ما دفعتُ الحرب يوماً إلا وأنا أطمع ان تلحق بي طائفة فتهتدي بي وتعشو الى ضوئي، وذلك أحبُّ إليَّ من أقتلها على ضلالها، وإن كانت تبوء بآثامها) ومن رسالة له (علیه السلام) بعثها الى معاوية قال: (وليس أبطأني عنك إلا ترقباً لما أنت له مكذب وأنا له مصدّق) وقال (علیه السلام) : (اني قلبت أمري وأمرهم ظهراً لبطن، فما وجدت إلا قتالهم أو الكفر بما جاء محمد (صلى الله عليه وآله) كما كان (علیه السلام) يمنع أفراد جيشه من أن يدعو أحدهم للمبارزة، وكانوا لا يبدؤون اعداءهم بقتال ففي يوم عاشوراء حينما حاول بعض أصحاب الإمام الحسين (علیه السلام) أن يرمي شمراً أو بعض الأعداء أن يرميه بسهم فمنعه لهذا الغرض النبيل حتى رمى عمر بن سعد بسهم نحو معسكر الحسين (علیه السلام) وتبعه جيشه لهذا نادى الإمام (علیه السلام) أصحابه قائلاً؛ (قوموا إلى الموت الذي لابد منه فهذه رُسل القوم إليكم) . وقد أثمر هذا الأدب عن توبة قائد كبير في جيش بني أمية وهو الحر الرياحي ولو استعجل الإمام (علیه السلام) مواجهته في الطريق لما حظي بهذه السعادة الابدية) . يُنظر خطاب المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج10، خطاب رقم (500) : (وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ) . وقال (دام ظله) أيضاً: (كان رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) كلما بعث أميراً أو قائداً عسكرياً أوصاه بجملة وصايا رغم أنهم كانوا من الصحابة الذين عايشوه واستمعوا إلى الوحي والتنزيل فيقول لهم (لا تقتلوا امرأة ولا طفلاً ولا شيخاً ولا تقطعوا شجرة ولا تجففّوا مصدراً مائياً ولا تلقوا السم في مأكل ومشرب الخصوم ولا تجهزوا على جريح ولا تبتدؤوهم بقتال واعرضوا عليهم الإسلام أولاً [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]..) . يُنظر خطاب المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج4، (المبادئ الثابتة في السياسة) . كما روي أن الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) قال لجيشه قبل نشوب الحرب مع الخوارج: (لا تبدؤوهم بقتال حتّى يكونوا هم الذين يبدؤوكم) .

فرجه) جاء أصلاً من أجل انقاذ شعوب العالم المستضعفة من ويلات الحروب والظلم والاستعباد.ووفقا لهذا الفهم المتولد من رحم النصوص الشرعية الصحيحة، أكد علمائنا الأعاظم على هذه الحقيقة التي يروم أعدائنا تشويهها واخفائنا عن الأنظار. فقد ذكر مرجعنا اليعقوبي في كتابه (شكوى الإمام (عجل الله فرجه)) متحدثاً عن هذا الإسلوب الذي سيتبعه الإمام (عجل الله فرجه) بعد ظهوره المبارك: (إن الإمام المهدي (عجل الله فرجه) يظهر رحمة للناس وشفقة عليهم كجده المصطفى (صلی الله علیه و آله) الذي اُرسل رحمة للعالمين، لذا فهو سينشر دعوته بالإقناع والحوار لا بالسيف خصوصاً وأن شعوب العالم ستكون واعية ومثقفةومدركة لظلم المستكبرين ومرتاحة لدعوة الإمام (عجل الله فرجه) ومن يعتقد أنه (لا يبقي ولا يذر) فهو واهم، بل سيتورط في تنفير الناس من الإمام (عجل الله فرجه) ونشر بغضه في القلوب – والعياذ بالله – وإنما يستعمل السيف في الضرورات القصوى. وقد علمنا ألطافه ورعايته بالبشر وهو غائب لا يُعرف فكيف ستكون رعايته وهو حاضر وظاهر ثم إنه واجداده مظهر الرحمة الإلهية وسائر الصفات الحسنى إلا ما اختص الله تبارك وتعالى به وهو الغني وقد جربنا وجرب معنا الكثيرون

ص: 160

أن ندبه (عجل الله فرجه) : (يا أبا صالح المهدي أدركني) تيسر الكثير من الأمور وتقضي الحوائج اليسيرة والعسيرة).

ومن خلال ما تقدم نستطيع أن نفهم ونوجه الروايات الشريفة التي تتحدث عن القيام المهدوي بالسيف، فهذا الإصلاح المهدوي سيكون ذا صبغة فسيفسائية يجمع بين طياته ألواناً مختلفة من الأساليب الاصلاحية، يكون أحدها طبعاً ومما لا مناص منه إعمال السيف والقوة العسكرية عند الحاجة إلى ذلك كما ذكرنا، ولكننا ننكر في الوقت ذاته أن يكون هذا الاسلوب وهذا الخيار الإصلاحي هو الصفة العامة والسمة الأبرز للقيام المهدوي المقدس وهذا ما نبهنا منه سابقاً وقلنا أن هذه الفكرة الخاطئة هي من اتهامات الأعداء ومن مخططاتهم الدعائية المغرضة التي يهدفون من ورائها اخافة شعوب العالم من اسم الإمام المهدي (عجل الله فرجه) وكل ما يتعلق به، لكي تنتج هذه الفكرة الخبيثة العمل على محاربته ومعاداته إذا لم يفلحوا في ميدان انكار عقيدته وزعزعة وجودها في قلوب الناس.

وبحسب مراكز الدراسات الغربية فإنهم يظنون (أن الإمام المهدي (عجل الله فرجه) حينما يظهر فإنه سيبيدهم جميعاً فيبحثون عن طريقة لمنعه من ذلك. أقول كلا.. في ذلك اليوم هم الذين يأتون سعياً إليه يدخلون تحت رايته أفواجاً بعد ما ذاقوا الويلات على أيدي حكامهم وبعد ما يرون عدل الإمام (عجل الله فرجه) ورحمته وكرمه، بل وحينما يرون أن عيسى بن مريم (علیه السلام) يصلي خلف الإمام (عجل الله فرجه) ويدعو أليه فيؤمن أهل الديانات الأخرى به ولا يحتاج الإمام إلى الحرب إلا بشكل محدود) (1).

وتوجد العديد من الروايات الشريفة التي تكشف لنا النقاب عن المنهج المستقبلي للإصلاح المهدوي الذي يتسم بالصبغة المسالمة، نذكر منها على سبيل المثال مايلي:

عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) : (إذا بعث السفياني إلى المهدي جيشاً فخسف بهم البيداء... وتنقل إليه الخزائن، ويدخل العرب والعجم وأهل الحرب والروم وغيرهم في طاعته من غير قتال، حتى يبني المساجد بالقسطنطينية وما دونها... الحديث).وعن أبي بصير عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: قال لي: يا أبا محمد، كأني أرى نزول القائم في مسجد السهلة، بأهله وعياله، قلت يكون منزله؟ جعلت فداك! قال:

ص: 161


1- بصائر من سورة الروم، السيد محمد تقي المدرسي.

نعم... قلت: جعلت فداك لا يزال القائم فيه أبداً. قال: نعم. قلت: فمن بعده؟ قال: هكذا من بعده إلى انقضاء الخلق. قلت: فما يكون من أهل الذمة عنده؟ قال: يسالمهم، كما سالمهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ويؤدون الجزية عن يد وهم صاغرون... الحديث.

وروي عن الإمام الباقر (علیه السلام) : (إذا قام القائم (عجل الله فرجه) أقام في أقاليم الأرض، في كل إقليم رجلاً، يقول: عهدك كفّك، فإذا ورد عليك ما لا تفهمه، ولا تعرف القضاء فيه، فانظر إلى كفّك واعمل بما فيها. ويبعث جنداً إلى القسطنطينية، فإذا بلغوا إلى الخليج، كتبوا على أقدامهم شيئاً، ومشوا على الماء، فإذا نظر إليهم الروم، يمشون على الماء، قالوا: هؤلاء أصحابه: يمشون على الماء، فكيف هو؟ فيفتحون لهم باب المدينة، فيدخلونها فيحكمون فيها بما يريدون) أي أن الإمام لا يتعامل معهم عسكرياً بل يفتح بعض البلدان بطرق سلمية.

ثالثاً) أسباب نجاح الإمام المهدي (عجل الله فرجه) في نشر السلام والأمان للبشرية

وضّح السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في موسوعته المهدوية عدة من نقاط القوة المتوفرة في مضامين هذه الروايات التي تدعم فكرة التحرك السلمي للنهضة المهدوية وكيف أنه (علیه السلام) سيفتح العالم سلمياً، وهي كما يلي:

الزاوية الأولى:.. شعور الرأي العام العالمي بوضوح - يومئذ - فشل كل التجارب والأطروحات التي ادعت حل مشاكل العالم. إلى حد أصبح الفرد الإعتيادي (غير المرتبط مصلحياً بهذه التجارب) مستعداً للتنازل عن أي حكم يتبنى شيئاً منها إلى الحكم الجديد الذي يأمل فيه الخير والرفاه.

الزاوية الثانية:.. قابليات الإمام المهدي (عجل الله فرجه) نفسه في الإطلاع على نقاط الضعف في الدول والحكام، الأمر الذي ييسر له أحسن النتائج وأسهلها خلال الفتح العالمي.

الزاوية الثالثة: إن الدولة التي سيؤسسها المهدي (عجل الله فرجه) في منطقة من العالم قبل استيعاب الفتح العالمي، ستكون نموذجاً حياً للأطروحة العادلة الكاملة،

ص: 162

وسيرى العالم كله ما يشملها من الرفاه والأخوة والعدل. الأمر الذي يجعل أنظار العالم مركزة على هذا النظام الجديد وراغبة فيه بشغف شديد.

الزاوية الرابعة: ما يقوم به المهدي (عجل الله فرجه) من مناقشات فكرية وعقائدية ودينية، لإثبات الفكر الحق ودحض كل ما يخالف من الأساليب والإيدولوجيات وسيكون ذلك على نطاق واضح وواسع ومقنع، مضافاً إلى أن المسيح عيسى بن مريم (علیه السلام) عند نزوله سيقوم بمثل هذه الحملة أيضاً. وهذا ما اشير إليه في بعض الحدود في الروايات، وإن الراهب الذي ترسله رومية (روما - أوروبا) سوف يؤمن بالمهدي ويشهد بوجودصفاته في الكتب الدينية القديمة الموجودة عنده، وأن المهدي هو (صاحب رومية) يعني أن مستقبلها سيكون إليه لا محالة.

الزاوية الخامسة: الفتح الإعجازي عند انحصار الأمر فيه، بحيث يكون مطابقاً لقانون المعجزات. وهذا ما قد تعن الحاجة إليه أحياناً. ونستطيع أن نتصور رد الفعل العالمي لو حدث ذلك مرة واحدة أن كل الدول الأخرى سوف تنهار معنوياً وتعلم بنهايتها، طبقاً لقول الشاعر:

من حلقت لحية جار له*** فليسكب الماء على لحيته

لأنها تعلم أن الجيش المهدوي سيغزوها لا محالة، فإن أمكن بالطريق الطبيعي فهو... وإلا فسيدخلها بالمعجزة... وهذا من أقوى أسباب الرعب الذي سمعنا انتشاره بين أعداء المهدي (عجل الله فرجه) من الروايات.

فهذه الزوايا الخمس المتوفرة للإمام المهدي (عجل الله فرجه) تيسر الفتح العالمي السلمي بكل وضوح. مضافاً إلى الضمانات الأخرى لإنتصاره، والتي تتناسب مع السلم كما تتناسب مع الحرب. وإذا تمت هذه الزوايا كانت مؤيدة للأخبار الدالة على الفتح السلمي. فيصبح من الممكن القول بأن هذه الأخبار صحيحة من هذه الناحية لا غبار عليها.

ثم أردف السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) قائلاً بعد عرضه لهذه التأييدات لفكرة الحركة السلمية للإمام المهدي (عجل الله فرجه) : (وعلى أي حال، فهذه الفكرة تكشف لنا عن أن التخطيط الذي يتخذه المهدي (عجل الله فرجه) في مناطق العالم

ص: 163

المختلفة غير التخطيط الذي يتخذه في الشرق الإسلامي، ويبقى التعرف على التفاصيل مصوناً في ضمير الغيب إلى حين مجيء ذلك الزمان). (1)

كما يجدُر الإشارة إلى أنه إذا حصل في صفوف المعادين للنهضة المهدوية قتلاً ذريعاً فلا ينبغي (أن يتوجه العتب إلى السيف المهدوي بكثرة القتل من حيث كونه مسؤولاً عن تطبيق العدل الذي يتوقف على هذه الكثرة كما عرفنا. بل ينبغي أن يتوجه العتب إلى الأفراد المنحرفين أنفسهم، في انهم أصبحوا بسوء تصرفهم وممارستهم أشكالاً من الظلم، بشكل يتنافى وجودهم بكل أقوالهم وأفعالهم مع المجتمع الفاضل والنظام العادل، فاستحقوا القتل بالسيف المهدوي الصارم). (2)

ومضافاً إلى ما ذكره السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) قبل قليل من دواعي وأسباب تحقق النصر المهدوي بشكل سلمي يمكننا الإشارة إلى أسباب أخرى ستُسهم في إنجاح الإمام المهدي (عجل الله فرجه)لتحقيق السلام العالمي منها؛ تكامل البشرية وحكمته العالية في قيادة العالم بصفته الإمام المعصوم والمسدد من السماء التي منحته مميزات فريدة في شتى الصفات الإنسانية، ونذكر منها على سبيل المثال كشاهد على ما قلناه، هو إنه (إنما سمي المهدي لأنه يهدي لأمر خفي. حتى أنه يبعث إلى رجل لا يعلم الناس له ذنب فيقتله... الحديث. وأمثال هذه التصرفات، وهي واقعية الصحة، مجهولة لدى الناس، تجعل الفرد- كل فرد - يعيد النظر بجدية بالغة في قيامه بأي انحراف أو عصيان. فبهذه العوامل ونحوها، تكتسب الدولة المهدوية هيبتها في صدور الناس على كل المستويات، الأمر الذي يجعل عصيان قانونها صعباً جداً، ومن ثم يكون أخذها بزمام المبادرة للتربية والتطبيق العادل سهلاً ميسراً (3).

مضافاً إلى سمات مسلكه الشخصي سلام الله عليه (وهو ما صرحت به بعض هذه الأخبار، من أن لباسه الخشن الغليظ وطعامه الشعير الجشب، وفي الخبر إيراد القسم على ذلك. وهذا هو المسلك الصحيح لرئيس الدولة الإسلامية العادلة على طول الخط. فإنه قد أخذ الله تعالى على كل إمام عادل يتولى الحكم الفعلي في المجتمع أن يعيش في طعامه

ص: 164


1- يُنظر موسوعة الإمام المهدي (علیه السلام) ، السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) ، ج3. بتصرف بسيط.
2- المصدر نفسه.
3- موسوعة الإمام المهدي (علیه السلام) ، تاريخ ما بعد الظهور، السيد الصدر الثاني، ص472-473.

ولباسه على شكل أو أسلوب أقل أفراد شعبه. والحكمة من ذلك، أوضح من أن تخفى، وهو أن لا يدعوه المنصب الكبير والمال الوفير إلى تناسي الفقراء من أبناء شعبه ومحكوميه. وهذا المسلك هو الذي طبقه رسول الله (صلی الله علیه و آله) على نفسه حين تولى رئاسة الدولة الإسلامية بعد فتح مكة، واتخذه الخلفاء الأوائل الذين حكموا بعده إلى عصر خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) ، وكذلك سوف يكون الإمام المهدي (عجل الله فرجه) حين يمارس الحكم العالمي العادل، لأنه سيكون من الواجب عليه أن يكون في عيشه مماثلاً لأقل فرد جائع ومسكين في العالم كله. وسيكون أيضاً على هذا المسلك، اصحابه الخاصة الذين يوزعهم حكاماً على الأرض، لأن الفرد منهم سيكون رئيساً عادلاً لمنطقة من الأرض، فيجب عليه أن يكون في حياته مماثلاً لأقل فرد في منطقته). (1)

علاوة على هذا كله تدخل العنصر الغيبي والاعجازي الذي ألمح إليه السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) ضمن النقاط السابقة والذي سيكون عامل تأييد وتسديد للحركة الاصلاحية المهدوية العالمية، وسيتجلى هذا التأييد الإلهي بصور شتى أبرزها ظهور الكرامات الخارقة لنواميس الطبيعة والتأييد بالرعب وظهور شخصيات معينة لها مدخلية كبيرة ومهمة جداً في عملية التغيير والاصلاح المهدوي كنزول السيد المسيح (علیه السلام) وظهور الخضر وأصحاب الكهف وغيرهم من الشخصيات الذين سيبعثون للحياة من جديد وفق مبدأ الرجعة.

رابعاً) ضمانات تحقيق السعادة والسلم العالمي على يد الإمام المهدي (عجل الله فرجه) :

تتوفر عدة أسباب وضمانات تُتيح للإمام المهدي (عجل الله فرجه) تطبيق العدالة الإلهية في الأرض ولأول مرة في تاريخ البشرية، وقد ذكرها السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في موسوعته المباركة وهي على ثلاثة أقسام:

القسم الأول: الضمانات الموضوعية للدولة المهدوية... أعني المتوفرة له في الواقع على صعيد المجتمع والحياة.

ص: 165


1- موسوعة الإمام المهدي (علیه السلام) ، تاريخ ما بعد الظهور، السيد الصدر الثاني، ص547 – 548.

الضمان الأول: وجود الأطروحة العادلة الكاملة المعدة للتطبيق في العالم، ضمن التخطيط العام السابق على الظهور، متمثلة بالإسلام.

الضمان الثاني: نقصان البشرية نقصاناً كبيراً. كما سبق أن سمعنا من الأخبار، وفهمنا أنه إنما يكون مع وجوب حرب عالمية مدمرة قبل الظهور.

الضمان الثالث: زوال الناس المنحرفين الفاشلين في التمحيص، وغير القابلين للتربية في التخطيط العام الجديد.

الضمان الرابع: الهيبة والرهبة التي يكتسبها الحكم المهدوي في قلوب الناس، الأمر الذي يجعل عصيان قانونه والخروج على تعاليمه - ولو في الخفاء - أمراً متعذراً.

القسم الثاني: الضمانات المنبثقة من شخص الإمام المهدي (عجل الله فرجه) ، باعتبار ما يملك من خصائص وصفات:

الخصيصة الأولى: العصمة التي تمثل درجة عالية جداً، وضرورية التأثير... من الإخلاص والإيمان وتقديم مصالح الهدف الأعلى الإلهي على كل مصلحة. وبالتالي فهي تقتضي فعل كل ما هو مشروع ومطلوب في الشرع الإلهي، وترك كل ما هو غير مشروع منه. ونعني بما هو مشروع وغير مشروع معناه الدقيق الشامل لمسؤوليات القيادة، وليس لمسؤوليات الفرد الإعتيادي فقط.

الخصيصة الثانية: أنه متى ما أراد أن يعلم شيئاً أعلمه الله تعالى إياه، كما نطقت بذلك الروايات،

الخصيصة الثالثة: تكامل القيادة في شخصه (عجل الله فرجه) بدرجات أعلى من (مجرد) العصمة... وإطلاعه على قوانين المجتمع والتاريخ البشري، بشكل لا يمكن لأحد غيره الإطلاع عليها... والقائد المعصوم عموماً، قابل للقيادة العالمية، إلا أن المهدي ببقائه الطويل ومعاصرته لمئات الأجيال البشرية، طبقاً للفهم الإمامي، تتكامل فيه صفة القيادة، ويكون في إمكانه الوصول إلى الأهداف المنوطة به والموكولة إليه، بشكل أسرع وأسهل وأعمق.

ص: 166

القسم الثالث: الضمانات المنبثقة من صفات أصحابه عليه و(علیهم السلام)... من شجاعتهم وإخلاصهم للعقيدة والهدف ولإمامهم القائد، فإن كل ذلك يشكل نقطة قوة وضمانات لإنتصار المهدي. (1)

خامساً) موقف الإمام المهدي (عجل الله فرجه) من الأمور التالية:

من الاديان الاخرى:

سيكون تعامل الإمام (عجل الله فرجه) مع الأديان الأخرى في زمن ظهوره المبارك على أساس (إلغاء الشرائع الخاطئة وإظهار الشريعة الصحيحة, ونجد في الأحاديث الواردة: أنه (عجل الله فرجه) يرسل جيشه فيستخرج من غار بانطاكية تابوت السكينة وفيه نسخ من التوراة والإنجيل وتتم المحاججة مع الاديان الاخرى على هذا الاساس. ان هذا الامر مع ما فيه من علم، أي علم بالمكان وما فيه وما يترتب عليه من نتائج يمثل أمرين:

الأول: أهمية مسألة المحاججة لإثبات الشريعة الحقة ليدخل فيها من يشرح الله قلبه للإيمان،

والثاني: هو إمداد إلهي ومعجزة غير متوقعة لأتباع الديانات الاخرى قد تكون فاتحة خير لدخول جماعة منهم في الاسلام وليس هذا إلا لنشر العقيدة الصحيحة. إن الظهور المقدس وما يتبعه لا يقتصر على المحاججة انما يكون هناك إمداد الهي أكبر وأوسع فان نزول النبي عيسى  وصلاته خلف المهدي (سلام الله عليهما) ليس الا تنويه لأَتباع الديانة المسيحية بإتباع المهدي لما يكون من تأثير ودور للنبي عيسى (علیه السلام) - والكلام للشيخ علي الكوراني - قد يكون الله قد ادخر النبي عيسى لهذا الغرض لأهمية قضية إظهار الدين خاصة وأن المسيحية الآن منتشرة بشكل كبير وتمثل قوة وسلطة في العالم فما يقوم به الإمام هدفه الأساسي إظهار الشريعة وتوضيحها للناس لكي يتبعوها وعلى هذا فان دولة المهدي  انتقال إلى الوحدة الفكرية والمذهبية...لطالما كان الإلغاء والتعايش بين الأديان هو هاجس يعيش عليه البشر حيث يحاول دعاة السلام السعي الى التعايش السلمي بين الأديان ويحاول البعض إلغاء الأديان الأخرى والتمسك بديانتهم ومحاولة

ص: 167


1- موسوعة الإمام المهدي (علیه السلام) ، تاريخ ما بعد الظهور، السيد الصدر الثاني، ص470- 477.

نشرها الا انهم يقعون في التمسك بشرائع خاطئة محرفة. إن ظهور الإمام وتحقيقه للوعد الإلهي ونشر الدين ليس إلغاءً للأديان الأخرى إنما إلغاء لما حرف من الشرائع والتمسك بالحق. فهو يقوم بإظهار الحق وتبيان الخطأ فيما وصلنا وتمسكنا به من الشريعة الاسلامية فما بال الشرائع المحرفة التي يعترف أتباعها بتحريفها وكونها غير ما نزل على أصحابها وليس هذا إلا إظهاراً للحق وإرضاءً لله تعالى). (1)

من العنصرية:إن موقف الإمام المهدي (عجل الله فرجه) من العنصرية دائماً موقف سلبي ومعارض... بل دعوته ودولته عالمية تصل إلى كل البشر على حد سواء بدون تفضيل لجماعة على أخرى.. وحيث كانت دعوة المهدي (عجل الله فرجه) عالمية، إذن، فهي تنافي العنصرية كأي دعوة عالمية أخرى. بمعنى أنه بمجرد أن يتخذ بعض شعارات العنصرية فإن دائرة دعوته ستكون ضيقة، وسيتعذر عليه بأي حال، أن تبقى دعوته عالمية، وهذا خلاف الضرورة والتواتر عن دعوة المهدي (عجل الله فرجه). وسيخل بتأسيس الدولة العالمية، وهو خلاف ما استهدفه هذا القائد العظيم في ظهوره والغرض الأساسي الذي وجد التخطيط الإلهي من أجله... إلا أن استيلاء الإمام المهدي (عجل الله فرجه) على العالم ليس مجرد غزو عسكري بل هو دعوة عقائدية وأطروحة عادلة يريد نشرها وتطبيقها على البشرية أجمعين وتربية البشر على أساسها تربية صالحة. لتتحقق العبادة المحضة لله عزّ وجلّ على وجه الأرض، كما هو الغرض الأساسي من الخلق ومن اليوم الموعود. والدعوة إذا كانت عالمية بهذا الشكل، فإنها تكون منافية للعنصرية بالمرة وذلك بعد الإلتفات إلى مجموع أمرين:

الأمر الأول: إن التطبيق الحقيقي للعدل والتربية العادلة، لا يمكن إتمامه إلا بجو من الإنسجام والتقبل النفسي للفرد والجماعة، لكي تترسخ القواعد الأساسية والسلوك الصالح في عالم الحياة. وأما مع جوّ الإنزجار والتأفف والتباعد، فلا يمكن أن تنال البشرية مثل تلك النتائج الصالحة، ومن ثم لا يمكن تطبيق العبادة الكاملة على تلك الجماعة فيكون مخلاً بالغرض الأساسي لخلق البشرية.

ص: 168


1- دولة العدل الإلهي معالم من دولة الإمام المهدي (علیه السلام) أبو محمد العطار.

الأمر الثاني: إن الإعتراف بالعنصرية بأي شكل من أشكالها، يعني أن العنصر الآخر، الذي لم يعترف به من البشر، وقام النظام على الإلتزم بتسافله وخسته أمام العنصر المفضل، إن هذا العنصر سوف يشعر بالغربة في ذلك النظام وبالتعقيد النفسي والإنزجار والتأفف تجاهه. بطبيعة الحال. (1)

من الحياة العامة ووسائل الحياة التقليدية:

إن الإمام المهدي (عجل الله فرجه) في دولته العادلة العالمية، سوف لن يلغي الإذاعة والتلفزيون ولا المسرح ولا السينما ولا المصايف ولا المسابح ولا المدارس ولا المستشفيات ولا البنوك ولا الصحف ولا المجلات ولا المسلسلات. فإن أساس الفكرة من وجود كل هذه الأمور أنها موجودة لخير البشرية وتسهيل الحاجات الإجتماعية والفردية، فمن الطبيعي أن تأخذ دولة العدل بزمام المبادرة لإتخاذ هذه الأمور وسيلة نحو التكامل وزرع الأخلاق والفضيلة والتكافل والتراحم بين البشر، وبالتالي وسيلة لتربية البشرية بشكل عام، والوصول بها إلى كمالها الأعلى المنشود. فالإذاعة والتلفزيون والمسرح والسينما والصحف، ستكون وسائل نشر الأفكار الهادية العادلة، وللترفيه البريء. والمصايف والمسابح ستكون موجودة بدون الإنحدار اللاأخلاقي، بل معالإرتفاع بها إلى مستوى العدل والمصلحة الحقيقية. فإن الترفيه غير مقتصر على الإنحدار الحيواني ومباشرة الرذيلة كما هو معلوم. فإن في صور الطبيعة الكونية من العجائب والطرائف ما يعجب النفس ويسر الخاطر ويبهج الفؤاد، الشيء الكثير، ولا يكون الإقتصار على الترفيه المنحدر، إلا نتيجة لسوء السلوك وقصور التصور، وبالتالي لنتيجة الفشل في التمحيص العام. وأما المدارس على اختلاف مستوياتها وأنواعها... فستكون طرقاً لتربية الفرد وتثقيفه وتكامله، بالشكل الحق الذي يربط الكون بخالقه العظيم ايجاداً وتشريعاً، ربطاً وثيقاً، والسير بالبشرية في هذا الطريق... وتهمل كل الجهات التي تحمل الفرد على الإنحراف واللاأخلاقية والعنصرية وعبادة المادة. ومجمل القول: أن مناهج المدارس بشكل عام ستحافظ على شكلها المنهجي الأكاديمي. ولكنها لن تحافظ على شكلها العقائدي الجديد العادل المطلوب لتربية البشرية في خطها الطويل. وسيكون سفور النساء، بمعنى انكشافهن لأعين الرجال بشكل لا أخلاقي ولا إسلامي، ممنوعاً بطبيعة

ص: 169


1- موسوعة الإمام المهدي (علیه السلام) ، تاريخ ما بعد الظهور، السيد الصدر الثاني (قدس سره) .

الحال ومعاقباً عليه، فضلاً عن الإنحدار نحو الرذيلة بأي شكل من أشكالها. ولكن ذلك لن يمنع بأي حال من دراسة المرأة لأعلى العلوم وتلقيها لأدق المعارف وحصولها على أحسن وأوسع النتائج، ولا يمنع حفاظها من قيامها بأي شكل من أشكال التجارة والعمل، ولا يمنع اتصالها بالمجتمع وإزجائها لحاجتها المشروعة، مع الرجال والنساء معاً، وستنظم الدولة العلاقة الإجتماعية بين الجنسين بقانون، وسيكون التحاقد الطبقي منعدماً في المجتمع المهدوي، باعتبار ما سنعرف من توفير الدولة فرص العمل للجميع بسخاء وترتيب، وما سيناله كل فرد من أرباح وما يتقاضاه من الدولة من هبات، ما يغنيه عن التفكير في الحقد الطبقي أساساً. فضلاً عن التثقيف الإيديولوجي ضد هذا المفهوم الذي يتضمن الإنشقاق الإجتماعي المروع، وسيكون التحاقد العنصري بين ذوي اللغات المختلفة، غير موجود أيضاً بل سيكون الجميع أخوة في العقيدة والهدف، أخوة في الإيمان والعمل، لا تفاضل بينهم إلا بحسب ما يناله كل فرد من كمال حقيقي. (1)

المنهج التربوي الجديد للمجتمع:

وقد لخص السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) المنهج المحتمل الجديد الذي سينتهجه الإمام المهدي (عجل الله فرجه) بعد ظهوره المبارك لأجل تربية البشرية، ضمن النقاط الآتية:

النقطة الأولى: إن التثقيف الخاص والعام، يصبح موجهاً نحو طاعة الله وعبادته، في كل حقولها ومستوياتها، والخلق الرفيع، وذلك عن طريق كل ألسنة المهدوية... ابتداء بالتوجيهات العليا الصادرة من الإمام (عجل الله فرجه) نفسه، وانتهاء بأجهزة الإعلام كالإذاعة والتلفزيون والصحف. وكذلك المناهج التربوية في المدارس والمعاهد العلمية في كل العالم.النقطة الثانية: إن الضغط بدل أن يكون موجهاً نحو تطبيق القانون المنحرف، سيكون موجهاً ضده، وسيستأصل كل منحرف وفاشل في التمحيص الإلهي كما رأينا وسمعنا. وبذلك تنقطع الأرضية العامة لنمو الفساد انقطاعاً كاملاً، ويطبق القانون العادل الكامل تطبيقاً كاملاً.

ص: 170


1- موسوعة الإمام المهدي (علیه السلام) ، تاريخ ما بعد الظهور، السيد الصدر الثاني، ص466-467.

النقطة الثالثة: إن التنافس سوف يكون موجهاً ومركزاً نحو الخير والصلاح طبقاً للمفاهيم والقوانين العامة التي تصبح سائدة في ذلك العصر.

النقطة الرابعة: إن الحاجة المالية، وهي من أعظم أسس الجريمة في العالم اليوم، سوف ترتفع تماماً بعد الذي سنسمعه في الفصل الآتي، من توفير المهدي للمال وفرة كبيرة جداً يرتفع فيه الدخل لكل أحد، ارتفاعاً كبيراً. وتتوفر فرصة العمل لكل الأفراد توفراً حقيقياً بشكل متساوي، على ما سنسمع أيضاً.

النقطة الخامسة: إن الإغراء الجنسي المنحرف، ينعدم بالمرة، بعد تطبيق الأحكام الإسلامية في تنظيم العلاقة بين الجنسين. إذ بعد بناء النفوس والأفكار بناء صالحاً عن طريق التثقيف العام والخاص، سوف تتمثل هذه العلاقة على أرفع صورها وأعدل أشكالها. ومع اجتماع هذه النقاط، سوف يصدر الفرد عن قناعة وإخلاص، إلى ضرورة إقامته للخير والسلوك العادل ومواكبة الأطروحة العادلة الكاملة، التي يدعو إليها المهدي (عجل الله فرجه) ويطبقها. وسيشعر الفرد بوضوح: أن السلوك الشرير على خلاف مصلحته الخاصة والعامة، على طول الخط، فضلاً عن كونه خروجاً عن الخط العبادي لله عزّ وجل، ومستوجباً للعقاب في الدنيا والآخرة. (1)

سادساً) انجازات الإمام المهدي (عجل الله فرجه) بعد ظهوره

(لعل من الواضح أن الإطلاع على التفاصيل الكاملة لهذه المنجزات، متعذر تماماً لإنسان ما قبل الظهور. مهما كان عبقرياً. غير أن المهم هو محاولة الإطلاع على بعض هذه المنجزات في حدود ما تدلنا عليه القواعد العامة الإسلامية من ناحية، والأخبار الخاصة الدالة على هذه المنجزات في الدولة العالمية، من ناحية أخرى) (2) ويلخص لنا المرجع اليعقوبي معالم هذه الدولة الكريمة التي ترفل بالسلام والأمان والرفاه، قائلاً: (يشهد عصر الظهور الميمون تكاملاً في المجتمع البشري على جميع الصُعُدْ، فعلى الصعيد الديني رُوي عن الإمام الباقر (علیه السلام) : (ويُظهِر الله عز وجل به دينًه ولو كرِهَ المشركون فلا يبقى في الأرض خرابٌ إلاّ عُمِّر).

ص: 171


1- موسوعة الإمام المهدي (علیه السلام) ، تاريخ ما بعد الظهور، السيد الصدر الثاني، ص532 – 533.
2- المصدر نفسه.

وعلى الصعيد السياسي، تُقام الحكومة الإلهية التي تملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما نطقت به الروايات المتواترة ومنها النبوي الشريف؛ (لو لم يبقَ من الدنيا إلاّ يومٌ واحدٌ لطوّلَ الله ذلك اليوم حتى يخرج رجلٌ من ولدي فيملأها عدلاً وقسطاً كما مُلئت ظلماً وجوراً) وغايةُ ما تطمح اليه الإنسانية هو إقامة الحق والعدل وإزالةكل ظلم وجور وعدوان (أين المُعَدّ لقطع دابر الظلمة، أين المنتظر لإقامة الأمتِ والعوج، أين المرتجى لإزالة الجورِ والعدوان) وبفضل ذلك يبلغ حينئذ الأمن والاستقرار درجته التامّة، ففي الحديث عن الإمام الصادق (علیه السلام) : (اذا قام القائم حكم بالعدل وارتفع في ايامه الجور، وامنت به السبل) وورد أيضاً عن الامام الباقر (علیه السلام) : (تخرج العجوز الضعيفة من المشرق تريد المغرب لا ينهاها أحد).

وعلى الصعيد الاقتصادي والمعاشي، روي عن النبي (صلی الله علیه و آله) : (تنعم امتي في زمن المهدي نعمة لم ينعموا مثلها قط، ترسل السماء عليهم مدراراً ولا تدع الأرض شيئاً من النبات إلاّ أخرجته) وقوله (صلی الله علیه و آله) : (فحينئذ تظهر الأرض كنوزها وتبدي بركاتها، ولا يجد الرجل منكم يومئذ موضعاً لصدقته، ولا برّه، لشمول الغنى جميع المؤمنين) ، وعن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: (وتُجمع اليه أموال الدنيا ما في بطن الأرض وظهرها فيقول للناس: تعالوا الى ما قطعتهم فيه الأرحام وسفكتم فيه الدماء، وركبتهم فيه محارم الله عز وجل فيعطى شيئاً لم يُعطَ أحد كان قبله)).

وأما على صعيد التكامل المعرفي والعلمي فقد روي عن الإمام الباقر (علیه السلام) قوله: (وتؤتون الحكمة في زمانه حتى أن المرأة لتقضي في بيتها بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله (صلی الله علیه و آله)) ويذكر الحديث الشريف المرأة لأنها الفرد الأضعف والأبعد عادةً عن مصادر العلم والمعرفة والثقافة بسبب القيود الاجتماعية المفروضة، ومع ذلك فإنها تفتي على طبق الكتاب والسنة وتقضي في الخصومات بأحكامهما، فالمرأة في بيتها تبلغ رتبة الإجتهاد في الفقه أو ما يقرب منها، وهذا كاشف عن التكامل العلمي والمعرفي الذي يسود المجتمع. لكن هذا المستوى السامي لا يحصل للمجتمع في عصر الظهور تلقائياً

ص: 172

وبجرة قلم كما يُقال أو بمعجزةٍ (كن فيكون) ، وإنما يصل اليه المجتمع بعد إعدادٍ مكثّفٍ وتربيةٍ معمقةٍ طويلةٍ). (1)

إذن سيحقق الإمام المهدي (عجل الله فرجه) مبادئ السلام في جميع مرافق الحياة- وستنعم البشرية بالأمان والسعادة، فعلى مستوى: السلام السياسي: ستخضع الأرض لقيادة واحدة حكيمة فلا صراعات ولا استعمار. وعلى مستوى السلام الاجتماعي: فلا حقد ولا حسد ولا بغضاء ولا شحناء ولا نفاق ولا تفرقة بين الناس وسيتم القضاء التام على كل الأمراض النفسية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها. فالإمام علي (علیه السلام) يقول: (لو قام قائمنا (يعني المهدي) أذهبت الشحناء من قلوب العباد واصطلح السباع والبهائم حتى إن المرآة تمشي من العراق إلى الشام لا يهيجها سبع ولا تخافه) وهذا يعني السلام يشمل حتى بين الحيوانات الضارية مع بعضها وأيضاً مع البشر, وعن الأمام الباقر (علیه السلام) قال: (حتى تخرج العجوز الضعيفة من المشرق تريد المغرب لا ينهاهاأحد) وهذا يعني لا مشكلة أمنية أو حدود أو أي اعتراض أو لغة وغير ذلك. و ورد في صحف إدريس: وألقى في ذلك الزمان الأمانة على الأرض فلا يضر شئ عن شيئا ولا يخاف شيء عن شيء وثم تكون الهوام بين الناس والمواشي لا يؤذي بعضها بعضا، وانتزع حمة كل ذي حمة من الهوام وغيرها واذهب سم كل ما يلدغ. إذن بعد هذا التعايش السلمي مع كل مفردات الحياة والطبيعة، أليس هذا هو السلام الكوني الحقيقي المنشود. (2)

وقد تعرض السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في موسوعته المباركة، لمعالم هذه الدولة، قائلاً: (إذا نظرنا من زاوية الاخبار الواردة في هذا الصدد، فنجد أمثلة متفرقة تعطينا صوراً كافية عن السلوك الصالح والمستوى الثقافي والإيماني، الذي يصله الأفراد بعد استتباب دولة المهدي (علیه السلام). فمن ناحية الأخوة في الهدف المشترك، والتصافي بين أفراد المجتمع، نسمع الأخبار التالية:

ص: 173


1- خطاب المرحلة: (452) خطابا بعنوان: (الجامعة الدينية المفتوحة: تمهيد للتكامل المعرفي في زمن الظهور) .
2- يُنظر دولة العدل الإلهي معالم من دولة الإمام المهدي (علیه السلام) ، ابو محمد العطار.

عن الإمام علي (علیه السلام) قال: يا رسول الله، أمنّا آل محمد المهدي أم من غيرنا؟ فقال: لا بل منّا، يختم الله به الدين كما فتح بنا، وبنا يؤلف الله قلوبهم بعد عداوة الفتنة إخواناً في دينهم. أقول: وهذا حديث مشهور أوردته الكثير من مصادر الفريقين. وأخرج مسلم عن أبي هريرة في حديث عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: لتذهبن الشحناء والتباغض. وعن عميرة بنت نفيل، قالت: سمعت الحسن (الحسين) بن علي (علیه السلام) يقول: لا يكون الأمر الذي تنظرون، حتى يبرأ بعضكم من بعض، ويتفل بعضكم في وجوه بعض فيشهد بعضكم على بعض بالكفر ويلعن بعضكم بعضاً. فقلت له: ما في ذلك الزمان من خير! فقال الحسين (علیه السلام) : الخير كله في ذلك الزمان، يقوم قائمنا ويدفع ذلك كله. عن بريد العجلي، قال: قيل لأبي جعفر (علیه السلام) : إن أصحابنا في الكوفة جماعة كثيرة، فلو أمرتهم أطاعوك واتبعوك فقال: يجيء أحدهم إلى كيس أخيه فيأخذ منه حاجته فقال: لا. فقال: هم بدمائهم أبخل!... ثم قال: إن الناس في هدنة، نناكحهم ونوارثهم ونقيم عليهم الحدود ونؤدي أماناتهم، حتى إذا قام القائم جاءت المزايلة، ويأتي الرجل إلى كيس أخيه فيأخذ حاجته ولا يمنعه.

أقول والكلام للسيد الصدر الثاني (قدس سره) : المزايلة هي الفارقة والمباينة بين أهل الحق وأهل الباطل والكيس المراد به محل حفظ النقود. وهذه الصورة كافية لأن نستشف من خلالها حياة الأخوة التي يبذرها الإمام القائد في مجتمعه العادل، لو أخذنا بنظر الإعتبار أنها أخبار قيلت طبقاً لفهم المجتمع الذي صدرت فيه). (1)ثم استعرض السيد الصدر الثاني (قدس سره) بعض اللمحات حول السياسة المالية للدولة المهدوية، قائلاً: (أول ما يواجهنا في الاخبار المستفيضة من الفريقين، هو ما نصت عليه من وفرة المال وكثرته بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ وان الافراد كلهم يكونون من الغنى المالي. بحيث قد يكون للرجل زكاة أو صدقة، فيبحث عن الفقير لكي يعطيها، فلا يجد فيعرضها على الناس فيرفضون اخذها استغناء. وان الامام المهدي (عجل الله فرجه) يعرض الاموال أمام الناس ويعلن التوزيع المجاني، لكي يحمل كل فرد منهم ما يستطيع حمله. الا ان الناس لا يرغبون به ولا يأخذون منه شيئاً، غير واحد يأتي ويأخذ ثم يندم لأنه أصبح الوحيد الطامع بالمال، ثم يحاول إرجاعه فيرفض طلبه. وكلا هاتين

ص: 174


1- موسوعة الإمام المهدي (علیه السلام) ، تاريخ ما بعد الظهور، السيد الصدر الثاني، ص534 – 535.

الصورتين المعروضتين في الأخبار، صريحتان في شمول الغنى المالي الواسع لكل الناس في المجتمع، وأن المال والذهب والفضة والأحجار الكريمة قد سقطت عن الرغبة الإجتماعية، باعتبار توفرها كالماء والتراب). (1)

أما المستوى الصحي في عصر الإمام المهدي (عجل الله فرجه) فسيتم القضاء على ما عجز الطب عن معالجته من الأمراض مثل العمى والبرص والجنون والإيدز والسرطانات وحتى الأنفلونزا وغيرها، حيث ورد في الحديث _إن الله قال لنبيه ليلة الإسراء أني أبرء به (بالإمام المهدي) الأكمه والأعمى واشفي به المريض). وعن الإمام زين العابدين (علیه السلام) : (إذا قام قائمنا أذهب الله عن شيعتنا العاهة، وجعل قلوبهم كزبر الحديد، وجعل قوة الرجل منهم قوة أربعين رجلا، ويكونون حكام الأرض وسنامها). (2)

وعمر الإنسان في زمن الإمام المهدي (عجل الله فرجه) يطول أكثر وأكثر بسبب القضاء على اغلب الأسباب المؤدية إلى الوفاة وهناك أحاديث في ذلك. وقوى الإنسان تتضاعف ففي الحديث: (إن قائمنا إذا قام مد الله لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم حتى لا يكون بينهم وبين القائم بريد يكلمهم فيسمعونه وينظرون إليه وهو في مكانه) وهنا قوة النظر والسمع تتضاعف فتصبح شبيه بعين البرزخية. (3)

وستكون (حضارة الإمام المهدي (عجل الله فرجه) قائمة على أساس الدين أو الفكر الواحد وهو الإسلام بعد إسلام الجميع بكل حرية وقناعة بدون أجبار (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) أذن فلا صراع أيدلوجي فكري مع إدارة واحده حكيمة للأرض ودين واحد، والصراع الاقتصادي ينتهي إذا زالت الطبقية وساد الرخاء والاكتفاء الاقتصادي وساد العدل وأزيل الطمع والجشع وانعدام الفقر والعوز وغيره) (4).

ص: 175


1- المصدر نفسه، ص 557 – 558.
2- ميزان الحكمة ص187.
3- دولة العدل الإلهي معالم من دولة الإمام المهدي (علیه السلام) ، أبو محمد العطار.
4- المصدر نفسه.

ونكتفي بهذا العرض المختصر، فهناك انجازات عديدة لهذه الدولة الكريمة أعرضنا عن ذكرها خشية الإطالة وخشية الخروج عن صلب موضوعنا الأساسي في هذا الفصل وهو الحديث عن تحقيق مبدأ التعايش السلمي في ظل الدولة المهدوية المباركة.

النقطة السادسة:

نماذج مشرقة من عفو المعصومين (عليهم والسلام) وكظمهم للغيظ:

إن السيرة العملية للمعصومين (علیهم السلام) في الميدان الاجتماعي، يتجلى فيها بوضوح مدى تحليهم (علیهم السلام) بروح المحبة والسلام والعفو عن المسيئين، ونحوها من مكارم الأخلاق، التي هي في الحقيقة، الركائز الأساسية لمبدأ التعايش السلمي في المجتمع، والتي سنشير إليها لاحقاً إن شاء الله في طيات هذا الكتاب.

والآن نستعرض بعض النماذج من هذه الصور المشرقة لسيرتهم العطرة (علیهم السلام) في هذا الميدان:

يذكر لنا التأريخ كيف عفا رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن مثل: وحشي، قاتل عمه حمزة سيد الشهداء (علیه السلام) مع ما ارتكبه من عظيم الإثم وكبير الجرم، وكذلك عفوه (صلی الله علیه و آله) العام عن مشركي أهل مكة، مع أنهم كانوا وراء كل المؤامرات التي حيكت ضدّه (صلی الله علیه و آله) وأصحابه، من أول البعثة إلى أواخر عمره الشريف.

وجاء أعرابي إلى النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) والبرد على كتفيه (صلی الله علیه و آله) فجذب الأعرابي أطراف الرداء جذبة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عاتقه وهو يقول بخشونة بالغة: يا محمد، احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك، فإنك لاتحمل لي من مالك ولا من مال أبيك.. فسكت النبي (صلی الله علیه و آله) هنيئة، ثم قال (صلی الله علیه و آله) : المال مال الله وأنا عبده، وقال (صلی الله علیه و آله) : ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي؟

قال: لا؟، قال (صلی الله علیه و آله) : ولم؟ قال: لأنك تعفو وتصفح، ولا تكافئ بالسيئة السيئة، فضحك النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) ثم أمر (صلی الله علیه و آله) أن يحمل له على بعير شعير وعلى الآخر تمر.

وعن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) أنّه قال: انّ يهودياً كان له على رسول الله (صلی الله علیه و آله) دنانير فتقاضاه، فقال له : يا يهوديّ ما عندي ما أعطيك، فقال : فانّي لا أفارقك يا محمد حتى تقضيني، فقال (صلی الله علیه و آله) : اذاً أجلس معك، فجلس معه حتى صلى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة، وكان أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسلّم

ص: 176

يتهدّدونه ويتواعدونه، فنظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إليهم فقال : ما الذي تصنعون به ؟ فقالوا : يا رسول الله يهوديّ يحبسك ؟ فقال (صلی الله علیه و آله) : لم يبعثني ربّي عزّوجلّ بأن أظلم معاهداً ولا غيره. فلما علا النهار قال اليهوديّ : أشهد أن لا اله الاّ الله، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، وشطر مالي في سبيل الله، أما والله ما فعلت بك الذي فعلت الاّ لأنظر إلى نعتك في التوراة، فانّي قرأت نعتك في التوراة : (محمد بن عبدالله مولده بمكة، ومهاجره بطيبة وليس بفظّ ولا غليظ، ولا سخّاب، ولا متزيّن بالفحش، ولا قول الخناء) وأنا أشهد أن لا اله الاّ الله، وأنّك رسول الله، وهذا مالي فاحكم فيه بما أنزل الله، وكان اليهودي كثير المال.وبمثل هذا العفو جمع النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) الناس حول الإسلام واستقطب مختلف الفئات وأصحاب العديد من الأديان والمبادئ.

وقد عفا الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) عن أهل الجمل مع عظيم ما اقترفوه ضده، وكبير ما جنوه في حقه، فلما تمَّ القبض على عبد الله بن الزبير، ومروان بن الحكم، وسعد بن العاص عفا عنهم وأحسن إليهم، علماً إنهم من ألدّ أعدائه، والمؤلّبين عليه، مع ذلك عفا عنهم، ولم يتعقّبهم بسوء.ولما ظفر (علیه السلام) بعمرو بن العاص، وهو أخطَر عليه مِن جيش ذي عدّة، أعرض عنه، وتركه ينجو بحياته حين كشف عن سوأَته اتّقاءً لضربته.

كما عفا (علیه السلام) عن عائشة التي قادت حرب الجمل ضده، وودعها أكرم وداع، وسار في ركابها أميالاً، وأرسل معها مَن يخدمها ويحميها. وبعد معركة الجمل مر الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) بنساء يبكين بفناء دار فلما نظرن إليه صحن صيحة واحدة وقلن: هذا قاتل الأحبة، فقال (علیه السلام) : لو كنت قاتل الأحبة لقتلت من في هذه الحجرة وأومأ بيده إلى ثلاث حجرات. تقول صفية فذهبت إليهن فما بقيت في الدار صائحة إلا سكتت، ولا قائمة إلا قعدت، وكان في إحدى الحجرات عائشة ومن معها من خاصتها، وفي الأخرى مروان بن الحكم وشباب من قريش، وفي الثالثة عبد الله بن الزبير وأهله. وروي أنه بعد أن ضرب ابن ملجم اللعين الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وكان طريح الفراش جيء إليه بقعبٍ من لبن (حليب) فشرب منه قليلاً ثم نحاه عن فيه وقال (علیه السلام) : (احملوه إلى أسيركم) (أي ابن ملجم).

ص: 177

وعفا الإمام الحسن (علیه السلام) عمن كان يسبه بأمر مروان، حين أقدم الإمام الحسين (علیه السلام) على تأديبه، ويروى أيضاً أن رجلاً شامياً رأى الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) راكباً، فراح هذا الشامي يلعن الإمام (علیه السلام) والإمام لا يرد فلما فرغ أقبل الإمام الحسن (علیه السلام) فسلم عليه وضحك فقال: أيها الشيخ أظنك غريبا، ولعلك شبهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإن كنت جائعا أشبعناك، وإن كنت عريانا كسوناك، وإن كنت محتاجا أغنيناك، وإن كنت طريدا آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حركت رحلك إلينا، وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لان لنا موضعا رحبا وجاها عريضاً ومالاً كثيراً. فلما سمع الرجل كلامه، بكى، ثم قال: أشهد أنك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إلي والان أنت أحب خلق الله إلي وحول رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقدا لمحبتهم. بيان: تقول: استعتبته فأعتبني أي استرضيته فأرضاني. (1)وقد عفا الإمام الحسين (علیه السلام) عن الحر بن يزيد الرياحي الذي كان في جيش عمر بن سعد، ثم تاب عن مناصرته للظالمين. وهكذا سائر الأئمة (علیهم السلام) فهذا الإمام علي بن الحسين زين العابدين (علیه السلام) يعفو عن مثل مروان، مع أن مروان كان من أعدى أعدائه وأعداء أبيه (علیه السلام) ، فإنه آذى الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وأقام عليه حرباً شعواء، وآذى الإمام الحسن (علیه السلام) وسبه ورمى جنازته بالنبال، وآذى الإمام الحسين (علیه السلام) وشتمه، وكان شريكاً في التضييق عليه حتى اضطر (علیه السلام) إلى الخروج من وطنه إلى حيث قتل، ثم فرح مروان بذلك، وآذى الإمام السجاد (علیه السلام) بنفسه مرات عديدة، ومع ذلك كله، نراه (علیه السلام) يعفو عنه.

وكان من عفو الإمام السجاد (علیه السلام) أيضاً عن مروان أنه لما أرسل يزيد بن معاوية جيشاً لإباحة المدينة المنورة - فأباحوها في يوم الحرة - إذا بمروان يأتي إلى علي بن الحسين (علیه السلام) ويقول له: إن لي حرماً، وحرمي يكون مع حرمك، فقال الإمام (علیه السلام) : افعل، فبعث مروان بامرأته، وهي عائشة ابنة عثمان بن عفان وسائر حرمه إلى الإمام علي بن

ص: 178


1- بحار الأنوار، ج 43، ص 344.

الحسين، فخرج الإمام (علیه السلام) بحرمه وحرم مروان إلى ينبع فما أصيب حرم مروان بشيء.

ومن ذلك ما قصّه الرواة من حلم الامام زين العابدين (علیه السلام) فقد كان عنده أضياف، فاستعجل خادماً له بشواء كان في التنور، فأقبل به الخادم مسرعاً، فسقط منه على رأس بُنيّ لعلي بن الحسين (علیه السلام) تحت الدرجة، فأصاب رأسه فقتله، فقال الإمام (علیه السلام) للغلام وقد تحير الغلام واضطرب: أنت حرّ، فانك لم تتعمده، وأخذ في جهاز ابنه ودفنه (. وهذا الإمام الباقر (علیه السلام) يعفو عن ذلك النصراني الذي قال له وبكل صلافة: أنت بقر. فقال (علیه السلام) : لا، أنا باقر، قال: أنت ابن الطباخة. فقال (علیه السلام) : ذاك حرفتها. قال: أنت ابن السوداء الزنجية البذية. فقال (علیه السلام) : إن كنت صدقت غفر الله لها، وإن كنت كذبت غفر الله لك، فأسلم النصراني.

وهكذا كان دأب سائر أئمة أهل البيت (علیهم السلام) مما هو مذكور في كتب الأخبار والتواريخ، حيث قد ضربوا بذلك أروع الأمثلة، وأعطوا أجمل الصور والنماذج، في نظافة التعامل حتى مع الأعداء، فكيف بالتعامل مع الأحبة والأولياء؟.

ويُنقل أن رجلاً شتم الإمام علي بن الحسين (علیه السلام) فلم يكلمه الإمام (علیه السلام) فلما انصرف قال: لجلسائه: لقد سمعتم ما قال هذا الرجل، وأنا احب أن تبلغوا معي إليه حتى تسمعوا مني ردي عليه، قال: فقالوا له: نفعل ولقد كنا نحب أن يقول له ويقول، فأخذ نعليه ومشى وهو يقول: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) فعلمنا أنه لا يقول له شيئاً. قال: فخرج حتى أتى منزل الرجل فصرخ به فقال: قولوا له: هذا علي بن الحسين، قال: فخرج إلينا متوثبا للشر وهو لا يشك أنه إنما جاء مكافئا له على بعض ما كان منه، فقال له الإمام علي بن الحسين (علیه السلام) : يا أخي إنك كنت قد وقفت عليّ آنفا فقلت وقلت، فإن كنت قلت ما فيّفأستغفر الله منه، وإن كنت قلت ما ليس فيّ فغفر الله لك، قال: فقبّل الرجل بين عينيه وقال: بل قلت فيك ما ليس فيك وأنا أحق به. (1)

ص: 179


1- بحار الأنوار، ج 46، ص 54.

ومن صور أخلاق الإمام السجاد (علیه السلام) أن أحدهم قام بشتمه، فقال له الإمام (علیه السلام) : يا فتى إن بين أيدينا عقبة كؤوداً، فإن جزت منها فلا أبالي بما تقول، وإن أتحير فيها فأنا شر مما تقول.

وفي حادثة أخرى جاء رجل وسبّه، فسكت الإمام (علیه السلام) عنه فقال الرجل: إياك أعني، فقال (علیه السلام) : وعنك أغضي. وكسرت جارية له قصعة فيها طعام فاصفر وجهها، فقال لها: اذهبي فأنت حرة لوجه الله. (1)

ويُنقل من القصص المشهورة في هذا المجال أن رجلا من آل عمر بن الخطاب كان يشتم الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) إذا رأى الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) ، ويؤذيه إذا لقيه. فقال له بعض مواليه وشيعته: دعنا نقتله: فقال: لا. ثم مضى راكباً حتى قصده في مزرعة له، فتواطأها بحماره، فصاح: لا تدس زرعنا، فلم يصغ إليه، وأقبل حتى نزل عنده فجلس معه وجعل يضاحكه. وقال له: كم غرمت على زرعك هذا؟ قال: مائة درهم، قال: فكم ترجوا ان تربح؟ قال: لا أدري، قال: إنما سألتك كم ترجو؟ قال: مائة اخرى. قال: فاخرج ثلاثمائة دينار فوهبها له، فقام فقبّل رأسه. فلمّا دخل المسجد بعد ذلك وثب العمري فسلّم عليه، وجعل يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته...وكان بعد ذلك كلما دخل الإمام (علیه السلام) خرج يسلّم عليه ويقوم له. فقال الإمام (علیه السلام) لمن قال ذلك القول: أيما كان خيراً ما أردتم أو ما أردت؟

وتوجد في التأريخ الإسلامي الكثير الكثير من هذه المواقف المشرفة لقادة الإسلام وساسة العباد (صلوات الله عليهم) لكننا نكتفي بهذا القدر كنماذج، فالقليل خير من الحرمان.

ص: 180


1- ينظر بحار الأنوار، ج 46، ص 96.

توظيف العبادات الإسلامية لنشر ثقافة التعايش السلمي

اشارة

إن الإسلام العزيز يحاول بشتى السُبل أن ينشر روح المحبة والألفة بين الناس من خلال تشريعاته وتعاليمه السمحاء، حتى في أبسط المسائل التي تتعلق بالتعاملات الاجتماعية، كالمخاطبات التي تحصل بين الأفراد من إلقاء التحية والسلام، فضلاً عما هو أعظم من ذلك في دنيا التعاملات الاجتماعية.

أولاً/ فريضة الصلاة وما يتعلق بها:

اشارة

تحتوي الصلاة وما يتعلق بها من أحكام، الكثير من المعاني التي تُفعِل مبدأ التعايش السلمي بين أبناء المجتمع، فكما إن للصلاة ابعاداً روحانية وأخلاقية فإن لها أيضاً أبعاداً اجتماعية مركوسة في طيات هذه الشعيرة المباركة، ويمكننا أن نوجز هذه الأبعاد الاجتماعية ضمن النقاط الأتية:

1

1- صيغة السلام في الصلاة:

يفتتح المصلي صلاته بالتكبير ويختتمها بالسلام، قائلاً: (السلام عليكم أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) وفي هذه المفردات مدلولات عميقة، منها ؛ إنها تثبت مبدأ السلام وروح المحبة مع نبي الإسلام العظيم (صلی الله علیه و آله) ومع النفس ومع الأولياء الصالحين، وفي هذا السلام تصريح للإعلان عن هذا المبدأ المهم في الحياة، الذي يعني فيما يعنيه أن يكون الفرد مسالماً وليس محارباً أو معادياً للنبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) وللأولياء والمؤمنين الصالحين، بل لسائر أفراد المجتمع، وهذه إحدى المعطيات التي تثقف عليها زيارة عاشوراء المباركة، حيث جاء فيها: (اِنّي سِلْمٌ لِمَنْ سالَمَكُمْ وَحَرْبٌ لِمَنْ حارَبَكُمْ وَوَلِىُّ لِمَنْ والاكُمْ وَعَدُوُّ لِمَنْ عاداكُمْ). ولا يكون الفرد كذلك بمجرد التلفظ بهذه الكلمات فحسب، بل لابد من تطبيق هذه المناهج العبادية اليومية بشكل عملي، ويكون ذلك بالابتعاد عن ارتكاب المعاصي لأنها تؤذي الله ورسوله وأوليائه، كما ورد في الروايات الشريفة (إن ذنوبكم

ص: 181

لتؤذينا). (1) وورد عن الإمام الصادق (علیه السلام) : (..فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل هذا جعفري، فيسرني ذلك ويدخل عليّ منه السرور، وقيل هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك دخل عليّ بلاؤه وعاره، وقيل هذا أدب جعفر..). (2)

وكذلك من معاني التجسيد العملي هو الابتعاد عن إيذاء الناس بالقول والفعل فقد ورد عن النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) أنه قد قيل له (صلی الله علیه و آله) : إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وهي سيئة الخلق تؤذي جيرانها بلسانها فقال (صلی الله علیه و آله) : (لاخير فيها هي من أهل النار). (3)

إذن من المعاني السامية التي تؤكد عليها شعيرة الصلاة التي نؤديها باليوم الواحد على الأقل خمس مرات هو مبدأ السلام الديني والاجتماعي. ويتحقق إيذاء النفس بتوريطها بارتكاب المخالفات الشرعية، التي نهى الله تعالى عنها، وعندها تستحق هذه النفس العاصية العقاب، وبهذا يكون العاصي قد آذى نفسه بنفسه، لذا فالمصلي في نهاية صلاته وقبل أن ينصرف إلى أعماله الحياتية والانخراط مع الناس والتعامل معهم يقوم بالسلام على نفسه ويعلن ذلك مذكراً أياها بانه سِلمٌ لها ولسائر عباد الله الصالحين. نعم، وكما بينا في بداية الكتاب يكون السِلم مع النفس بمحاربتها ومراقبتها لكي تصل إلى بر الأمان والتكامل.

2

2- الدعاء للمؤمنين والاستغفار لهم:

حيث يستحب القيام بذلك عند الأسحار فهي من المستحبات المؤكدة في الشريعة الإسلامية. ففي صلاة الليل يُستحب الاستغفار لأربعين مؤمناً بأسمائهم وطلب المغفرة لجميع المؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. فهل يصح أن يكون المصلي بهذه الحالة في الليل، وفي النهار يكون مؤذياُ للناس في تعامله معهم؟! إن هذا درس إسلامي رائع يمرن الفرد المسلم سلوكياً ونفسياً وهو في خلوة مع ربه العظيم على حب الخير لعامة المسلمين، ويحثه على طلب السعادة والمغفرة والرحمة لهم ليكون بذلك فرداً مسالماً في المجتمع، بل ونافعاً للآخرين الذين قد يكونون حينئذ في عداد الموتى أو النيام الغافلين.

ص: 182


1- ظواهر اجتماعية منحرفة، المرجع اليعقوبي.
2- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ص6.
3- بحار الأنوار، ج 68، ص394.

ولهذا سيشعر الفرد الممارس لهذه العبادة نفسياً بسمو ذاته وإيثارها ونبلها، لأنه في هذا الليل يترك راحته ونومه ليدعو للأخرين في جو عبادي مميز، لا يصل إليه العبد إلا بالجهد والتوفيق الإلهي. وهذا الصنيع يذكرنا بأخلاقيات أهل البيت (علیهم السلام) ومنهم سيدتنا فاطمة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) ، فقد ورد عن الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) أنه قال: (رأيت أمي فاطمة (I) قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشئ، فقلت لها: يا أماه لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بني، الجار ثم الدار). (1)

3

3- وجوب رد السلام عل الُمسلِم أثناء الصلاة؛

فالواجب شرعاً على المصلي رد السلام على من يُلقي عليه التحية الشرعية قائلاً: (السلام عليكم) أو (عليكم السلام) أو نحو ذلك من صيغ السلام الشرعي وفي هذا الحكم الإسلامي أدب أخلاقي واجتماعي لطيف جداً، حيث يؤدبنا الله تعالى على لزوم احترام الأخ المسلم وتقدير مكانته ومداراة شعوره فعلى الرغم منانشغال المصلي بأداء الصلاة سواء كانت واجبة أو مستحبة فيلزمه عند إلقاء لسلام عليه رده بالمثل. وإذا لم يفعل ذلك يكون عندئذ مأثوماً، فلاحظوا كيف يأمرنا الله تعالى بأن نقطع استرسالنا في الصلاة والذكر والمناجاة والدعاء، رغم إنها صله معه سبحانه، ويأمرنا جل شأنه أن نتوجه للأخ المُسلم وأن نرد عليه التحية الشرعية وأن لا نكسر قلبه، ونهمل اجابته، وإن كنا في محضر الرب المتعال جل ذكره، لأن هذا العمل هو عمل عبادي أيضاً، ولكن في الميدان الأخلاقي والاجتماعي الذي يختبرنا الله تعالى فيه.

أفلا نتدبر هذه المعاني والدلالات العميقة في هذا الحكم الإسلامي، ونتأمل كيف يجب على الفرد أن يكون مسالماً ورفيقاً بالناس، حتى الصبي الصغير والمرأة، فإذا كان مجرد رد التحية

السلام واجب في الصلاة فما بالك بالسلام العملي والسلوك الاخلاقي والاجتماعي الحسِن مع الناس، أليس من باب الأولى أن يكون ذلك. نعم إنها الحقيقة التي غفل عنها البعض فيكتفون بتلفظ كلمة السلام دون أن يكون الفرد منا مسالماً للجميع لذا ورد في الحديث الشريف عن النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) : (المسلم من سلم

ص: 183


1- بحار الأنوار، ج 43، ص82.

المسلمون من لسانه ويده) وعنه (صلی الله علیه و آله) أيضاً: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يشتمه) ، وعنه (صلی الله علیه و آله) أيضاً: (المسلم أخو المسلم، لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله).

ومما يجدر ذكره إن عبارات التحية التي يُلقيها الفرد على الآخرين، سواء من ناحية التركيبة الكلامية أو من ناحية كيفية أدائها، لها تأثير فعال في توحيد القلوب. وشعار الإسلام هو في تحية المسلم التي يلقيها إلى الناس حيث يقول: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) التي تنطلق من هدفية الدين الإسلامي في نشر السلام والأمان والرحمة بين البشر، وقد أوجب الله تعالى الإجابة على هذه التحية وحرّم عدم الرد عليها، حتى وإن كان المُسلِم في حال الصلاة، بل وحبذ الشرع الإسلامي أن يرد على التحية بأحسن منها، قال تعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًاً). (1)

وذلك لأجل تعزيز روح التواصل وتقوية أواصر المحبة والعلقة الاجتماعية بين الناس، ناهيك عن التعاليم والتشريعات الإسلامية الأخرى التي ترتبط بالتعاملات والعلاقات الإنسانية كمعاملات الزواج والطلاق والبيع والشراء والإجارة وغير ذلك.

4

4- حضور المساجد والصلاة فيها:

من المستحبات الأكيدة هو الحضور في المساجد فإن في ذلك ثواباً وأجراً كبيراً، كما إن لهذا العمل عدة آثار وفوائد جليلة، أشارت إليها الروايات الشريفة، نذكر منها على سبيل المثال ما يأتي:عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (من أدمن إلى المسجد أصاب الخصال الثمانية: آية محكمة، أو فريضة مستعملة، أو سنة قائمة، أو علم مستطرف، أو أخ مستفاد، أو كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى، وترك الذنب خشية أو حياء).

رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (لا يرجع صاحب المسجد بأقل من إحدى ثلاث: إما دعاء يدعو به يدخله الله به الجنة، وإما دعاء يدعو به ليصرف الله به عنه بلاء الدنيا، وإما أخ يستفيده في الله عز وجل).

رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (يا أبا ذر ! إن الله تعالى يعطيك مادمت جالساً في المسجد بكل نفس تنفست درجة في الجنة، وتصلي عليك الملائكة، وتكتب لك بكل نفس تنفست فيه عشر حسنات، وتمحي عنك عشر سيئات).

ص: 184


1- النساء (86) .

عنه (صلی الله علیه و آله) : (الجلوس في المسجد لانتظار الصلاة عبادة، ما لم يحدث، قيل: يا رسول الله وما الحدث؟ قال: الاغتياب).

وقد أوصى الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ضمن وصيته عند استشهاده بضرورة الاعتناء بحضور المساجد، وذلك لبيان أهمية الموضوع، حيث قال (علیه السلام) : (اَللَّهَ اَللَّهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ لاَ تُخَلُّوهُ مَا بَقِيتُمْ فَإِنَّهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا).

ومن الفوائد التي نريد أن نسلط الضوء عليها نظراً لما يعمنا في مبحث هذا الكتاب هو البعد الاجتماعي والاخلاقي المتعلق بمؤسسة المسجد المباركة، فإن الفرد بحضوره لأداء العبادات لاسيما الصلاة في المسجد فإنه يحتك تلقائياً بالآخرين، وتنشأ بسبب ذلك علاقات وروابط اجتماعية، بل أن دور الصلاة الموحدة والعبادات والشعائر الاجتماعية والجماعية، كصلاة الجمعة والجماعة والعيدين، وسُنة الاعتكاف وإحياء المجالس الحسينية لها كبير الأثر في تقوية الأواصر الاجتماعية، بل والروح الإيمانية أيضاً، وتعطي للفرد مساحة طيبة مع التعامل الحسِن مع الآخرين، وتذكره بحرمة عباد الله تعالى، وإنهم اخوانه في الله تعالى، وعليه أن لا يظلم أو يغتاب أو يؤذي أحداً منهم، بل يجب أن يمد لهم يد العون والمساعدة لاسيما المحتاج منهم، فكيف يظلم الفرد إخوانه الذين يتوجهون معه سوية إلى الله تعالى، وبشكل يومي أو شبه يومي، إنه من التناقض أن يعيش الإنسان حالة الازدواجية النفسية في التعامل مع الناس بشكل يتنافى مع ما يمارسه من طقوس عبادية بشكل جماعي في بيت من بيوت الله تعالى، فهذه الروحانيات الصافية تنشر روائحها الزكية في أرجاء المساجد لكي يستنشقها المصلون فتطيب نفوسهم وقلوبهم بالمحبة والود والألفة بين بعضهم البعض، ويتعلقون بشكل أعمق وآكد مع خالقهم الجليل الجميل، قال تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِالسُّجُودِ). (1) وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ). (2)

فهذه هي الصفات

ص: 185


1- الفتح (29) .
2- المائدة (54) .

الأخلاقية السامية للمؤمن الحقيقي الذي عمّر قلبه بالمحبة والصفاء تجاه اخوانه وشركائه في الإيمان والعقيدة.

إذن فالمسجد مؤسسة عبادية، وكذلك مدرسة تربوية لتهذيب النفس وتزكية القلوب وتطهيرها. وهذه المؤسسة العبادية الاجتماعية تجعل الفرد يعيش مع اخوانه تعايشاً سلمياً بعيداً عن التقاطع والصراع والاختلاف والتنازعات والشحناء ونحوها من المعاني المعكرة لصفو العلاقات الفردية والاجتماعية ولو بشكل نسبي، لذا نرى الحث الأكيد في الشريعة الإسلامية على استحباب الحضور في المساجد، وفيما يلي نذكر بعضاً مما جاء في الروايات الشريفة، حول هذا الموضوع:

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (اتاني جبرئيل مع سبعين الف ملك (إلى أن تقول الرواية).. قلت: يا جبرئيل , وما لامتي في الجماعة ؟ قال: يامحمد, إذا كانا اثنين , كتب اللّه لكل واحد بكل ركعة مائة وخمسين صلاة , واذا كانوا ثلاثة كتب اللّه لكل منهم بكل ركعة ستمائة صلاة , واذا كانوا اربعة كتب اللّه لكل واحد بكل ركعة الفا ومائتي صلاة , واذا كانوا خمسة كتب اللّه لكل واحد بكل ركعة الفين واربعمائة صلاة , واذا كانوا ستة كتب اللّه لكل واحد منهم بكل ركعة اربعة آلاف وثمانمائة صلاة ,واذا كانوا سبعة كتب اللّه لكل واحد منهم بكل ركعة تسعة آلاف وستمائة صلاة , واذا كانوا ثمانية كتب اللّه تعالى لكل واحد منهم بكل ركعة تسعة عشر الفا ومائتي صلاة واذا كانوا تسعة كتب اللّه تعالى لكل واحد منهم بكل ركعة ستة وثلاثين الفا واربعمائة صلاة , واذا كانوا عشرة كتب اللّه تعالى لكل واحد منهم بكل ركعة سبعين الفا والفين وثمانمائة صلاة ,فان زادوا على العشرة فلو صارت بحار السماوات والارض كلها مدادا, والاشجار اقلاما, والثقلان مع الملائكة كتابا, لم يقدروا ان يكتبوا ثواب ركعة واحدة , يا محمد, تكبيرة يدركها المؤمن مع الامام , خير له من ستين الف حجة وعمرة , وخير من الدنيا وما فيها سبعين الف مرة , وركعة يصليها المؤمن مع الامام , خير من مائة الف دينار, يتصدق بها على المساكين , وسجدة يسجدها المؤمن مع الامام في جماعة , خير من عتق مائة رقبة.

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (صلاة الرجل في جماعة خير من صلاته في بيته أربعين سنة، فقيل يا رسول الله صلاة يوم؟ فقال: (إذا كان العبد خلف الإمام كتب الله له مائة ألف ألف وعشرين درجة).

ص: 186

وعنه (صلی الله علیه و آله) قال ما معناه: (من لزم الجماعة مرّ على الصراط كالبرق وظفر بالجنة).وفي رواية: أن رجلاً أعمى دخل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: (يا رسول الله أنا ضرير البصر وربما أسمع النداء ولا أجد من يقودني إلى الجماعة والصلاة معك فقال له النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) : (شدّ من منزلك إلى المسجد حبلاً واحضر الجماعة).

5

5- صلاة الجمعة وصلاة العيدين:

تحتوي صلاة الجمعة وصلاة العيدين على فوائد جمة، وفي أبعاد مختلفة، تتشابه في فوائدها إلى حدٍ ما بعض فوائد فريضة الحج المباركة، حتى إن النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) عبّر عن صلاة الجمعة ب- (حج المساكين). وإننا سوف نركز في حديثنا هنا على الفوائد الثقافية والإجتماعية لصلاة الجمعة فقط، نظراً لما يرتبط بموضوع الكتاب. فعلى الصعيد الثقافي، إن خُطب صلاة الجمعة وصلاة العيدين، يمكننا أن نظمّنها ثقافة إسلامية واعية وأصيلة، توجّه الناس بالوجهة السليمة، نحو ثقافة السٍلم الإجتماعي، والحث على لم الشمل، ونحو تعمير القلوب بحب الآخرين، وإصلاح الذات، والسعي في مساعدتهم وقضاء حوائجهم. ومن جانب آخر التركيز على لزوم نبذ التعصب والتفرقة والتخاصم ونحوها من المفاهيم والسلوكيات التي تشل حركة المجتمع، وتمنع من تطبيق مبدأ التعايش السلمي بين أبنائه.

ويُعلم عظيم أهمية صلاة الجمعة من مدى شدة حرص قادة الإسلام العظام (صلوات الله عليهم) في الحث على حضورها، حتى ورد إن الإمام علي (علیه السلام) كان يأمر بإحضار السجناء إلى صلاة الجمعة مع المراقبة أو بضمان من عوائلهم (1)

، ليجعلهم يعيشون في الأجواء الإيمانية، ويختلطون بالمؤمنين، ويستمعون للوعظ والإرشاد ويتربون تربية صالحة.

إن الحضور الجماعي والفعلي للناس على صعيد واحد وهدف واحد، وحصول اللقاء الودي والإيماني بشكل أسبوعي (كما في صلاة الجمعة) أو موسمي (كما في صلاة العيدين) يلعب دوراً كبيراً وفاعلاً في تأليف القلوب ورص الصفوف وجمع الكلمة على الإيمان والتوحيد والمحبة والتعاون، وهذا ما تشهد به الوقائع التاريخية الملموسة على

ص: 187


1- يُنظر مستدرك الوسائل، العلامة النوري، ج6، ص27.

أرض الواقع، كالتي حصلت على سبيل المثال، أيام نهضة الشهيد الصدر الثاني (قدس الله سره) حيث جعل من صلاة الجمعة المحور الرئيس في نهضته الإصلاحية، فجمع من خلالها قوة جماهيرية موحدة وكبيرة ومتفاعلة فيما بينها، بعدما كانوا أشتاتاً متفرقين. حتى إن هذه الحالة الاجتماعية والإيمانية الحاصلة بفضل صلاة الجمعة أرعبت النظام الطاغوتي الصدامي، الذي أُسقط ما في يده حيال النتائج الطيبة لصلاة الجمعة المباركة.ومن الأبعاد الاجتماعية الطيبة لصلاة العيدين في الشريعة الإسلامية، إنه يستحب للفرد بعد أداء صلاة العيد في المسجد أن يرجع من غير الطّريق الذي ذهب منه، وأن يدعو لإخوانه المؤمنين بقبول أعمالهم. ولعل السر في هذه التشريعات هو لتقوية اللحمة والعلاقة الأخوية بين المسلمين. فعلى سبيل المثال نرى في الحكم آنف الذكر يستحب أن يسير الفرد يوم العيد في طريق العودة خلاف الذي جاء منه وعلى ما يبدو إن في ذلك فرصة أفضل للقاء أكبر قدر ممكن من الإخوة والأصدقاء للسلام عليهم والسؤال عن حالهم وتفقدهم، وتبادل التهانئ بمناسبة العيد، ونحو ذلك من المجاملات الأخوية والإيمانية، التي تزيد من قوة ترابط المجتمع في هذه المناسبة المفرحة، وتكون فرصة إلهية طيبة، لإنهاء التخاصم والاختلاف والتقاطع بين أفراد المجتمع.

وتُعد هذه المناسك العبادية المباركة جرس إنذار أسبوعي وموسمي يقرع أسماع الناس ليذكرهم تارة ويحذرهم تارة أخرى. ويجعلهم ولو بشكل نسبي على حالة جيدة من الوعي الثقافي والسياسي والاجتماعي، بالإضافة إلى المكتسبات الايمانية والروحية التي تُعد من النفحات الذاتية واللصيقة بهذه السنن الإلهية الشريفة. وأيضاً يساهم الخطاب الجمعوي على إحياء الضمائر وترسيخ القيم الإنسانية والأخلاقية النبيلة، شريطة أن يعتلي المنبر من هو أهل لهذا المنصب الحساس والمهم، ويتصف بالإخلاص والوعي الكافي، لتحمل هذه المسؤولية الدينية الخطيرة.

لأنه إذا تسنم المنبر الديني - لو صح التعبير - من هو على خلاف هذه المواصفات، فإن النتائج بطبيعة الحال ستكون معكوسة وسلبية بشكل مضر، كما حصل ذلك في التأريخ القديم والمعاصر، حيث حصل في زماننا الحالي للأسف الشديد، أن يعتلي منابر المسلمين بعض النكرات من شذاذ الفاق ووعاظ السلاطين، وخطباء السوء الذي لا هم لهم سوى تأجيج الصراعات الطائفية بين المسلمين، وبث ثقافة التكفير وتحريض الشباب

ص: 188

المتحمس للانخراط في الجماعات الإرهابية المسلحة، بدواعي الجهاد والمقاومة ونيل الشهادة ونحوها من العناوين البراقة التي يغسلون بها أدمغة السذج والبسطاء والمغرورين، فيزجون بهم في لهوات الموت، ويحرقون زهرة شبابهم بدم بارد، لأجل تحقيق أجندات أسيادهم من دول الاستكبار العالمي.

إذن فمسؤولية مخاطبة الجماهير لاسيما عن طريق الإعلام العبادي - لوصحت التسمية - في صلاة الجمعة والعيدين له دور كبير وحساس في نفوس الناس، وذلك لما يحتله منبر الجمعة من قداسة ومن شرفية دينية. ومن هذا المنطلق حذّر المرجع اليعقوبي وأكد أيضاً على ضرورة أن يتسنم هذا المنصب من هو أهل له، وأن يتمتع على الأقل بثلاثة عناصر أساسية ومهمة، والتي هي في الحقيقة مقومات شخصية الخطيب الناجح:

الأول: الاتجاه العلمي: ونعني به التزود من العلوم والمعارف الاسلامية والعصرية.الثاني: الاتجاه الأخلاقي: فلابد من تهذيب النفس والسعي إلى تكميلها بالفضائل وتطهيرها من الرذائل وتوطيد الصلة بالله تعالى ومراقبته في كل صغيرة وكبيرة

الثالث: في الوعي الاجتماعي: فلا بد من اتصاف الحوزوي بالوعي والحس المرهف لما يجري حوله والبصيرة فيما يدور في المجتمع من مشكلات وفتن وشبهات تعصف به وتبلبل أفكاره تحت شتى العناوين مستفيدة من الجهل المتفشي بين أبناء الأمة. وان يكون عارفاً بإسلوب مواجهتها وتحصين الأمة من الوقوع فيها وتنبيهه الى الأخطار المحدقة به التي تريد ان تسلب اعز ما عنده، دينه وكرامته وعزّته ومبادئه. (1)

أما فوائد صلاة الجمعة في أبعادها المختلفة، فقد تطرق سماحته (دام ظله) حول هذا الموضوع في أكثر من مناسبة، نذكر منها على سبيل المثال ما يلي:

إنها نافذة وإطلالة الإسلام برمته وعظمته وتعاليمه وشؤونه على أفراده الذين زيفت حقيقة الإسلام في نظرهم بسب أعدائه.. إذن ترك هذا التشريع يعني إيجاد فراغ كبير لا يرتق في توجيه المجتمع نحو أهدافه السامية ومصالحه القويمة.

الجمعة تشريع سماوي...ومن المؤكد إن لها آثاراً جلية مهمة وإلا لماذا شددت وأكدت الآيات والروايات على إقامتها.

ص: 189


1- ينظر المعالم المستقبلية للحوزة العلمية، المرجع اليعقوبي.

إن صلاة الجمعة تمثل التعليمات الإلهية الواسعة الشاملة العادلة الكاملة للشريعة الإسلامية ولها طبعاً استعدادها الزماني والمكاني في استيعاب كافة البشر.

صلاة الجمعة أثبتت أن الإسلام حي ناطق ينبض بالحياة مهما اجتاحه أعداؤه بعدتهم وعددهم. ثم توجهت هذه النافذة إلى الأعداء واثبت لهم أن الإسلام ما زال يقود أفراده وأبناءه مهما تكن الظروف.

إن كل فكرة لا تحظى بالنجاح ما لم يكن هناك وسط مؤمن بها يؤدي دوراً في إذاعتها ونشرها والدفاع عنها وهذا ما حصل في قضية صلاة الجمعة وما سبقها من أفكار.

كما بيّن (دام ظله) في هذا السياق أيضاً مدى تأثير الخطابة والكلمة الصادقة في عقول الناس ونفوسهم، وما ينبغي على الخطباء فعله حيال مسؤولية الكلمة الموجهة إلى الناس لاسيما في الوضع الحالي الذي يشهد فيه العالم انفتاحاً إعلامياً واسعاً:

(نلفت نظر الخطباء الأعزاء الذين يظهرون على شاشات التلفزيون أو المثقفين الذين ينشرون على مواقع التواصل الإجتماعي إلى أن يكون خطابهم عاماً شاملاً مؤثراً في كل التنوعات الإنسانية وليس مقتصراً علىالفئة أو الشريحة التي ينتمي إليها أو الموجودة أمامه، فاستحضر إنك تخاطب الموجودين في المغرب أو الجزائر ومصر أو في اليمن والخليج أو الهند وباكستان وروسيا وأوربا وأمريكا وغيرها من بقاع العالم). (1)

(نؤكد على أهمية الكلمة الصادقة وتأثيرها الفاعل في الإصلاح والتغيير اذا انطلقت وفق آليات مناسبة ويمكن لكلمة واحدة أن تغيّر مجرى حياة الإنسان كما يروي التاريخ عن العارف بشر الحافي الذي كان مولعاً بالشراب واللهو مدة من حياته...وغيَّر مجرى حياته وأصبح العارف الشهير لأن كلمة الإمام الكاظم (علیه السلام) وقعت في قلبه وذكرته بتمرده على سيده وخالقه وخروجه عن وظائف العبودية لله تبارك وتعالى). (2)

(إنّ الوسيلة الأهم (لأداء رسالة التوجيه والإصلاح) هي الخطابة بكل أشكالها، خصوصاً خطابة المنبر الحسيني الذي يمزج العاطفة بالوعي، فإذا انضم إليها الولاء والإخلاص والإيمان فقد تكاملت لديه أسباب النجاح). (3)

ص: 190


1- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبين ج9، خطاب رقم: (431) ، (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) .
2- صحيفة الصادقين، العدد (35) ، (تأثير الكلمة الصادقة) .
3- نحن والغرب، المرجع اليعقوبي.

(ينبغي أن ندرك أهمية دور الخطباء في المجتمع وعظيم مسؤوليتهم فليس دورهم إبكاء الناس واستدرار دموعهم وإن كان هذا مهماً، ولكن الأهم ايصال الفكر إليهم لان مشكلتنا الرئيسية وعدونا الأول هو الجهل، الجهل بعقائدنا ومبادئنا وأخلاقنا وشرائعنا). (1)

((الكلمة) من أوسع القنوات الموصلة إلى رضا الله تبارك وتعالى فمن خلالها تكون النصيحة وبها تتم الموعظة وتجري الهداية ويتحقق الإصلاح وينتشر العلم والمعرفة وتُبنى الحضارة وتتقدم الإنسانية وتتكامل التربية فهي وعاء لهذه الطاعات العظيمة وغيرها). (2)

ثانياً/ فريضة الصوم:

إن واحدة من المعاني التي تهدف إليها فريضة الصوم المباركة إنها تذكر المسلمين بجوع الفقراء و عطشهم و وتجعلهم مع تماس حقيقي وملموس بما يعانونه من عوز مادي فإذا كان حال الصائم لمدة شهر واحد (وهو شهر رمضان المبارك) معلوم الحال في جهة الجوع والعطش والجهد فما هو حال الفقراء والمساكين الذين ينهكهم العوز المادي طول حياتهم. وهذه القضية هي إحدى العلل التي من أجلها شرع الله تعالى فريضة الصوم، فقد ورد في كتاب علل الشرايع للشيخ الصدوق (قدس سره) في بيان العلة التي من أجلها جعلالصيام على الناس، عن محمد بن سنان، إن أبا الحسن علي بن موسى الرضا (علیه السلام) كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله علة الصوم (لعرفان مس الجوع والعطش ليكون العبد ذليلاً مستكيناً مأجوراً محتسباً صابراً فيكون ذلك دليلاً على شدائد الآخرة مع ما فيه من الانكسار له عن الشهوات واعظا له ما في العاجل دليلا على الآجل ليعلم شدة مبلغ ذلك من أهل الفقر والمسكنة في الدنيا والآخرة).

وجاء في هذا المصدر أيضاً عن هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن علة الصيام قال: (العلة في الصيام ليستوي به الفقير والغنى وذلك لأن الغني لم يكن ليجد مس الجوع فيرحم الفقير لأن الغني كلما أراد شيئاً قدر عليه فاراد الله أن يسوى

ص: 191


1- وصايا ونصائح إلى الخطباء وطلبة الحوزة الشريفة، المرجع اليعقوبي.
2- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج4، (مسؤولية الكلمة) .

بين خلقه وأن يذيق الغني مس الجوع والألم ليرق على الضعيف ويرحم الجائع). (1) إذن فالصوم يدفع المسلم للتفاعل مع حال المحتاجين ويدعوه إلى أن يكون كالأب الحنون معهم وان يتذكر مسوليته الاجتماعية تجاههم وبهذا يكون الصوم (هذه الفريضة الروحية السامية) هي احدى العبادات التي تؤسس وتركز على مبدأ التعايش السلمي.

ثالثاً/ الحقوق المالية الشرعية الواجبة والمستحبة:

ونقصد بالحقوق المالية الشرعية ؛ الكفارات والخمس والزكاة ورد المظالم والفدية والصدقات وغير ذلك. وهذه التشريعات الاقتصادية - لوصح التعبير- هي إحدى المنطلقات الأساسية التي اعتنى بها الإسلام العزيز، لأجل توفير الحياة السعيدة والعيش الهانئ قدر المستطاع للمحتاجين.

حيث اهتمت الشريعة الإسلامية أيما اهتمام بمسألة التكافل الاجتماعي والاقتصادي الخاص بالمسلمين وسنت عدة احكام وآداب تلزم المسلمين بأداء الحقوق المالية للمحتاجين، تارة على نحو الوجوب كالخمس والزكاة والكفارات والنفقة ونحوها، وتارة على نحو الاستحباب ومواردها كثيرة جداً، كالصدقات والهدايا ونحوها. وإن كان الغالب في جميع هذه الموارد المستحق لهذه العناوين هم المحتاجين من الفقراء والمساكين، إلا أن غيرهم ممن لا يصدق عليهم حالة الفقر والاحتياج المادي (2) يُستحب بذلَ المال لهم لإدخال الفرح والسرور على قلوبهم كالمبادرة بالهدية والإطعام والكسوة وغير ذلك. وعلى كل حال فإن البذل المالي ضمن هذه العبادات الشرعية تُعد ضرباً من ضروب السِلم الاجتماعي والاقتصادي، إذ يرى الإسلام الكريم ضرورة أن لا يضيع الفقير واليتيم والمحتاج عموماً بحضرة المسلمين. وقد اوصى قادة الاسلام بشكل مؤكد على هذه المسألة، حيث ورد عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) في وصيته الشريفة قبل استشهاده: (اَللَّهَ اَللَّهَ فِي اَلْأَيْتَامِ فَلاَ تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ وَ لاَ يَضِيعُوا بِحَضْرَتِكُمْ).ونلاحظ من لطائف التشريع الاسلامي الحكيم، أنه قد أوجب على أغنياء المسلمين أن يتصدقوا بما يسمى ب (زكاة الفطرة) يوم عيد الفطر، أي بعد انتهاء شهر رمضان

ص: 192


1- علل الشرايع للشيخ الصدوق، الشيخ الصدوق، العلة رقم (108) .
2- ما عدا الزوجة حيث يحب النفقة عليها من قِبل الزوج وإن كانت الزوجة ميسورة الحال مادياً.

المبارك وحلول يوم العيد، هذا اليوم الذي يريد الله تعالى أن يفرح قلوب الفقراء المسلمين بعطف القلوب عليهم والتذكير بمعاناتهم في مناسبة سعيدة يكون أغلب الناس منشغلين بما يتعلق بالعيد من تزاور وابتهاج وتحضير الطعام الجيد والملابس الجديدة ونحوها من المظاهر التي يعجز الفقير عن إجادها لنفسه أو لعائلته. فهذه الفريضة وأعني بها زكاة الفطرة تصُب في رافد التعايش السلمي الذي يجب أن يسلكه المسلمون مع الفقراء والمساكين وأن لا يعيشوا حالة التعالي عليهم أو أن ينسوهم أو يتناسوهم. فقد ورد في الرواية الشريفة: عن الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) : (من أصبح من أمتي وهمته غير الله فليس من الله، ومن لم يهتم بأمور المؤمنين فليس منهم) ، وورد عنه (صلی الله علیه و آله) أيضاً: (من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم). (1)

وقد ذكر المرجع اليعقوبي ضمن كلماته ومؤلفاته المباركة عدة فوائد وآثار لدفع الحقوق المالية الشرعية، منها قوله (دام ظله) : (دفع الحقوق المالية يطهّر الإنسان من البخل والشح والأنانية وحب الدنيا ويعلّمه التراحم والتعاون ويطهّر ماله لان المتبقي بعد دفع الخمس يكون له حلالاً هنيئا، ويزكو عمل الإنسان وينمو بزيادة من الحسنات لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ). وقد وعد الله تبارك وتعالى بالخلف والتعويض لمن انفق في سبيل الله فيعود إليه ماله بأزيد مما أعطى مع ما حصل عليه من ثواب الآخرة، قال تعالى: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

وقال (دام ظله) أيضاً في موضع آخر مُبيناً فوائد أداء هذه الفرائض والسنن المالية:

إنها تقضي على الفقر وتنمي الاقتصاد وتزدهر بها أحوال الناس، لأنّ الناس إذا كانوا فقراء فإنّهم لا يمتلكون قدرة على الشراء فيصاب السوق بالكساد، فإذا توفّر لديهم المال تحرّك السوق وعاد بالنفع على نفس دافعي الزكاة وسائر الحقوق الشرعية وهذه الحقيقة يعرفها دافعوا الضرائب في الدول الصناعية والبنوك العالمية المموّلة.

إنّها من أعظم القربات إلى الله تعالى وانها مقرونة بالصلاة.

توجب المحبة الإلهية للعبد وشموله بالرحمة العظيمة.

ص: 193


1- ميزان الحكمة، الشيخ محمد الري الشهري، باب (ما ينبغي عند الصبح وما لا ينبغي) .

إنّها تُطفئ غضب الرب، وتوجب كفّارة الذنوب وإنها حجاب ووقاية من النار.إنّها اختبار يعطي فرصة للعبد لكي ينجح فيه فيستحق الجائزة، فبدون خوض الامتحان لا يرتقي الإنسان إلى مرحلة أعلى وأكمل، وإنّ امتحان إخراج شيء من المال صعبٌ على الإنسان لكنّه منتج ومثمر. عن الإمام الصادق (علیه السلام) : (ما بلى الله عز وجل العباد بشيء أشد من إخراج الدرهم).

انها سبب لزيادة النعم ودوامها.

تحصّن المال من التلف والخسارة، وإنّ من يبخل بالزكاة يخسر أكثر منها من المال بتلف أو سرقة أو خسارة فيخسر الدنيا والآخرة.

رابعاً/ فريضة الحج دورة تدريبية للتعايش السلمي:

اشارة

من الأحكام المسلمة في جميع الشرائع الإلهية، منذ زمن النبي إبراهيم الجليل (علیه السلام) إلى النبي الخاتم (صلی الله علیه و آله) إضفاء القداسة والحرمة على بيت الله الحرام (الكعبة المشرفة) وتشريف مكة وحرمها بهذه المثابة، وتشريع أحكام خاصة تضمن الأمن والسلام فيها. وهذه الأحكام وإن لم تكن تكوينية بأن يُقسر الناس على مراعاتها لأنها تشريعية صرفة، إلا أنها كانت مطبقة للغاية وقد أثرت تأثيراً بالغاً في أهل مكة وعموم الناس في الجزيرة العربية، حتى إن المشركين منهم كانوا ملتزمين بها على الأغلب، تعصباً منهم لما يتوارثونه من آبائهم وأجدادهم من عادات وتقاليد، وإن انحرفوا عن التوحيد وعبدوا الأوثان بدل عبادة الله، لذلك أصبحت مكة بلداً آمناً على سطح الكرة الأرضية. وهذا ما صرّح به القرآن الكريم في عدة آيات إذ يصف مكة بالبلد الأمين والآمن وما إلى ذلك:

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ). (1)

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا..). (2)

ص: 194


1- البقرة (125) .
2- آل عمران (96 _ 97) .

(وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ). (1)

(إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ). (2)(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ). (3)

(وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ). (4)

(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (5). (6)

ومن الأحكام الشرعية التي يوجبها الإسلام على حجاج بيت الله الحرام، هو تحريم صيد الحيوانات البرية أو قتلها، سواء أكان الفرد مُحرماً أو كان في منطقة الحرم، وإن كان الصائد محلاً، حتى وإن كان الصيد غير محلل الأكل. كما توجد أحكام خاصة أخرى تجب على المُحرم، لها علاقة بموضوع الكتاب، نذكر منها ما يأتي:

حرمة الإعانة على صيد الحيوان البري، ولو بالإشارة.

حرمة إمساك الصيد البري والاحتفاظ به، وإن كان اصطياده له قبل احرامه.

حرمة أكل لحم الصيد، وإن كان الصائد محلاً.

الجراد يلحق بالحيوان البري لذا يحرم صيده وإمساكه وأكله.

حرمة قتل السباع إلا فيما إذا خيف منها على النفس، أو على حمام الحرم.

يجب على المحرم أن ينحرف عن الجادة إذا كان فيها الجراد، فإن لم يتمكن فلا بأس حينئذ بقتلها.

ص: 195


1- القصص (57) .
2- النمل (91) .
3- العنكبوت (67) .
4- التين (3) .
5- قريش (3-4) .
6- الإرهاب والعنف في ضوء القرآن والسنة والتأريخ والفقه المقارن، الشيخ محسن الحيدري، ج2، ص113 – 115. بتصرف بسيط.

من كان معه صيد ودخل الحرم أو دخل في الإحرام يجب عليه ارساله، فإن لم يرسله حتى مات لزمه الفداء.

تجب الكفارة في قتل الصيد وأكله سواء أكان ذلك عن عمد أو جهل أو سهو.

لا يجوز للمُحرم قتل القُمل، ولا القاؤه من جسده، ولا بأس بنقله من مكان إلى مكان آخر، أما البق والبرغوث وأمثالهما فالأحوط عدم قتلهما إذا لم يكن هناك ضرر يتوجه منهما على المحرم، والأحوط ترك دفعهما أيضاً.

لا يجوز للمحرم حمل السلاح كالسيف والرمح وغيرهما، مما يصدق عليه السلاح عرفاً في حال الاختيار ويجوز حمل السلاح عند الاضطرار.

الأمن المكاني (الحرم المكي) :

محرمات الحرم المكي وهي تعم حرمتها على المُحرِم والمحل، وهي أمور:الأول/ الصيد في الحرم، فإنه يحرم على المحل والمحرم كما تقدم.

الثاني/ قلع كل شيء نبت في الحرم أو قطعه من شجر وغيره، إلا بعض المستثنيات من هذا الحكم. (1) بل حتى الشجرة التي يكون أصلها في الحرم وفرعها في خارجه أو بالعكس، يحرم قلعها.

الثالث/ ويرى بعض الفقهاء إنه من أحدث ما يوجب حداً أو تعزيراً أو قصاصاً ولجأ إلى الحرم ضيق عليه في المطعم والمشرب ولا يكلم ولا يبايع ولا يؤوى حتى يضطر إلى الخروج منه، فإذا خرج من الحرم فيؤخذ حينئذ ويعاقب على جنايته. ولو أحدث في الحرم قوبل بما تقتضيه جنايته فيه.. وقد ألحق بعض الفقهاء المشاهد المشرفة بهذا الحكم.

الرابع/ حرمة قتال المشركين في الحرم، قال تعالى: (وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ) (2) ف (إنّ على

ص: 196


1- ولا بأس بما يقطع عند المشي على النحو المتعارف، كما لا بأس بان تترك الدواب في الحرم لتأكل من حشيشه، ويستثنى من حرمة القلع أو القطع موارد: [1]النخل [2] شجر الفاكهة [3] الاعشاب التي تجعل علفاً للابل [4] الاشجار أو الاعشاب التي تنمو في دار نفس الشخص أو في ملكه، أو يكون الشخص هو الذي غرس ذلك الشجر أو زرع العشب، واما الشجرة التي كانت موجودة في الدار قبل تملكها فحكمها حكم سائر الاشجار.
2- البقرة (191)

المسلمين أن يحترموا المسجد الحرام دائماً وأبداً، ولذلك لا ينبغي قتال الكفّار عند المسجد الحرام، إلاّ أن يبدؤا المسلمين بالقتال... لأنّهم عندما كسروا حرمة هذا الحرم الإلهي الآمن فلا معنى للسكوت حينئذ ويجب مقابلتهم بشدّة لكي لا يسيئوا الاستفادة من قداسة الحرم واحترامه) (1). وبهذا الأدب القرآني يدرب الله سبحانه وتعالى عباده على كيفية رعاية الأمن والسلام في حَرَمِه الآمن وكذلك في غيره من بقاع الأرض.

الخامس/ أخذ لقطة الحرم على قول، ويرى بعض الفقهاء إن المنع من أخذها محمول على الكراهة.

الأمن الزماني (الأشهر الحُرُم) :

قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ..) (2) فهذه الآية المباركة (تُعلن عن حرمة القتال وأنّه من الكبائر (قل قتال فيه كبير) أي إثم كبير، وبهذا يُمضي القرآن الكريم بجديّة السنّة الحسنة الّتي كانت موجودة منذ قديم الأزمان بين العرب الجاهليّين بالنسبة إلى تحريم القتال في الأشهر الحُرم (رجب، ذيالقعدة، ذي الحجّة، محرم) ، ثمّ تضيف الآية أنّ هذا القانون لا يخلوا من الإستثنائات، فلا ينبغي السّماح لبعض المجموعات الفاسدة باستغلال هذا القانون في إشاعة الظلم والفساد، فعلى الرّغم من أنّ الجهاد حرام في هذه الأشهر الحُرم، ولكنّ الصد عن سبيل الله والكفر به وهتك المسجد الحرام وإخراج الساكنين فيه، وأمثال ذلك أعظم إثماً وجرماً عند الله (وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله).(3)

كما تُعد فريضة الحج من أهم الفرائض الإسلامية التي توحد المسلمين على اختلاف مذاهبهم وأعراقهم واتجاهاتهم، وتجعلهم يؤدون مناسكهم وطقوسهم العبادية

ص: 197


1- تفسير الأمثل، ج2، ص23.
2- البقرة (217) .
3- ينظر تفسير ألأمثل، ج2، ص106- 107.

على صعيد واحد، وبذلك تذلل هذه الفريضة المباركة حدة التوتر والتشنج الحاصل بين بعض أبناء المذاهب الإسلامية، بسبب عدم تعرف كل منهم - بشكل حقيقي وعن قُرب - على متبنيات وآراء الآخر. وفريضة الحج علاوة على قدرتها في جمع الناس في عدة مناسك عبادية فهي أيضاً توفر فرصة طيبة ومناخاً مناسباً للتقارب المذهبي وللحوار الهادف الهادئ، والتذكير بالأهداف المشتركة والمقدسات المشتركة وغيرها من الفوائد العديدة التي يعسر احصائها، وهي لاريب من ضمن الفوائد المعنوية للحج التي أشارت إليها الآية الكريمة ضمناً: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ). (1)

وإذا كان المسلمون لم يتمكَّنوا من تحقيق الوحدة الحقيقية من خلال فريضة الحج، فإنّ ذلك لا يقلِّل من شأن الحجّ؛ لأنّ هذا الخلل إنما هو بسبب الظروف السياسيّة والفكريّة الحاكمة، وليس بسبب الحجّ، وهذا التحليل ما صرّح به الشهيد الصدر الأول (قدس سره).

وممّا يؤسَف له أن الحجّ لا يقام كما أمر الإسلام. فالمسلمون غير ملتفتين إلى فلسفة الحجّ وأهداف هذه الفريضة العظمى. كما أن الحكومات العميلة ترى بقاءها في إبقاء الناس على جهلهم. لذا تحاول هذه الحكومات إثارة بعض القضايا المضلِّلة؛ كي لا يلتفت المسلمون إلى أسرار الحج الواقعيّة، فيقودهم إلى الاتحاد والانتفاض في وجه الظلم.

ويرى الشهيد الصدر الأول (قدس سره) أنه إذا وعى المسلمون أداء هذه الفريضة كما يجب، وابتعدوا عن مسبِّبات التفرقة والانشقاق والعداء، فلا شكّ أنهم سيحقِّقون جميع تلك الأهداف، كما يعتقد (قدس سره) إن إثارة النعرات القومية والعرقية إنّما هي من مؤامرات الاستعمار. وكان يرى أن الأمة الإسلاميّة لا تتوحَّد على أساس العرق واللون؛ لأن الوحدة الإسلاميّة تشمل جميع الأعراق والأمم. كما أنها لا تتوحّد على أساس جغرافيّ؛ لأن أفراد الأمة هم من شتّى البقاع، ولا على لغة بعينها؛ لأنها تشمل شعوباً متعدّدة اللغات.كان بنو أمية قد دعموا الحسّ العربيّ على حساب الطابع الإسلاميّ. وهذا ما بدأت تتعامل به بعض الدول الإسلاميّة في القرون الأخيرة على نحو كبير، فأخضعوا

ص: 198


1- الحج (27-28) .

الإسلام وقيمه الفذّة للعصبيات القبليّة. وإنّما هذا عودةٌ إلى الوراء، إلى عصور الجاهليّة. ولابدّ من الالتفات إلى هذا الموضوع وإصلاحه من قبل المفكّرين الإسلاميّين.

وكما ذكرنا فإن الشهيد الصدر (قدس سره) كان ينطلق من مبدأ الإسلام، بدلاً من القومية ونزعتها. فكان يرى نفسه مسؤولاً أمام جميع مسلمي العالم، ولم يكن للعرب والعجم والشيعة والسنّة معنى لديه. فعندما سُئل ذات مرة: هل أنت عربيّ؟ فلماذا تدافع عن الفرس والثورة الإيرانيّة؟ كان ردّه: لديّ مسؤوليّة تجاه جميع المسلمين، ولابدّ أن أعمل بواجبي إزاء الجميع. (1)

خامساً/ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

من المميزات التي تتمتع بها فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنها تعد حصناً منيعاً وسوراً متيناً يحمي أحكام الإسلام ويصون الناس من الشبهات والانحرافات بشتى أنواعها. وهذه الحقيقة أكدتها روايات عديدة عن أئمة الحق والهدى (صلوات الله وسلامه عليهم). ولهذه الأهمية الكبيرة التي تتربع عليها هذه الفريضة المعطلة بحفظ الدين نرى المرجع اليعقوبي قد عكف على تدريس مباحثها الفقهية في بحثه الخارج، ليزيل شيئاً من غفلة الناس حيال فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المباركة ولكي يخرجنا من حد التقصير في أداها، لاسيما قادة المجتمع وأصحاب المسؤولية الدينية وفي مقدمتهم أبناء المجتمع الحوزوي من علماء وطلبة، الذين تقع عليهم بالدرجة الأولى مهمة تفعيلها في المجتمع وإن كانت في الحقيقة هي مسؤولية الجميع، وليست مسؤولية البعض دون الآخر. ومن الشواهد الأخرى التي يتضح من خلالها اهتمام المرجع اليعقوبي لإحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أنه عقد باباً خاصاً في رسالته العملية للمسائل التي تتعلق بهذا الموضوع، خلافاً لما عتاد عليه بعض العلماء من ترك التعرض لمسائلها في باب العبادات.

ومما جاء في رسالته المباركة الموسومة ب (سُبل السلام) حول بيان أهمية هذه الفريضة المباركة:

ص: 199


1- الشهيد محمد باقر الصدر رائد المشروع الوحدويّ، موقع نصوص معاصرة، الدكتور محمد صادق مزيناني. بتصرف.

لا شك أن من أعظم الواجبات الدينية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. بحسب ما ورد في القرآن الكريم والسنة الشريفة، قال الله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، وقال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)وغيرها من الآيات. أما الروايات - وتبلغ المئات - فقد وصفت الفريضة بانها (غاية الدين) و (قوام الشريعة) و (أسمى الفرائض واشرفها) وإن فيه (مصلحة للعوام) و (ردعاً للسفهاء).

وروي عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: (لا تزال امتي بخير ما امروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البر، فاذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الارض ولا في السماء. (1)

وعن الإمام الباقر (علیه السلام) : (إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الانبياء ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب وتحل المكاسب وتُرَّد المظالم وتعمر الارض وينتصف من الاعداء ويستقيم الامر). وورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قوله: (ما اعمال البر كلها والجهاد في سبيل الله عند الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الا كنفثة في بحر لجي وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقربان من أجل ولا ينقصان من رزق وأفضل من ذلك كله كلمة عدل عند إمام جائر).

وأما دخالة هذه الفريضة في بحثنا حول مبدأ التعايش السلمي، فتوجد شواهد عديدة على توظيف الإسلام العزيز لهذه الفريضة المباركة، لأجل تحقيق هذا المبدأ السامي، في المجتمع.

ونذكر منها على سبيل المثال النماذج الآتية:

إن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحاول أن تقف في وجه أصحاب الانحرافات الأخلاقية والعقائدية، ومثيري الفتن والمشكلات في المجتمع الإسلامي.

إن هذه الفريضة تكون بمثابة المنقذ للإنسان من نفسه الأمارة ومن شرورها إذا ما أطلق لها العنان في إشباع رغباتها وشهواتها على خلاف ما يرضى به الله تعالى.

إن هذه الفريضة تحافظ على هيبة الدين وأحكام شريعة السماء، وتحث الناس على عدم انتهاك حرمة هذه المقدسات، وأن نكون مسالمين لا محاربين لشرع الله في حلاله

ص: 200


1- رسالة سُبل السلام، المرجع اليعقوبي، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وحرامه، فإن حقيقة المتجاهر بالفسق والمعلن عن - علم وعمد - بمعصيته لله تعالى، هو بمثابة عقد لواء المحاربة له سبحانه، كالمتبرجة والسافرة أمام أنظار الرجال الأجانب، والمفطر بغير علة في نهار الصوم، والذي يشرب المسكر أمام الناس، ونحوها من الموبقات والمعاصي.

وبهذا تكون هذه الفريضة المباركة صمام أمان لتوفير السلام والسعادة والرخاء الاجتماعي للفرد والمجتمع. وفي الحقيقة إن نيل هذه المكتسبات التي ترنو إليها كل طوائف البشرية، إنما تتوفر عندما يطبق الناس التعاليم الإلهية، والسُنن الربانية، التي سنها الحق المتعال في شريعته الإسلامية السمحاء (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَوَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ..) (1) ، وأيضاً تؤكد هذه الحقيقة الخطيرة الروايات الشريفة، فعن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) : (لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم) ، وعن الإمام الكاظم (علیه السلام) : (لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم) إذن واحدة من طرق تحقيق السِلم الاجتماعي في الأمة، هو المباشرة الفعلية بإحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلا فإن الفساد المتراكم بسبب ترك هذه الفريضة أو بسبب إهمالها، يفرز شخصيات انتهازية وشريرة تنتقم من المجتمع ولا ترحم أبنائه. بل حتى أبواب الرحمة الإلهية والأسباب الغيبة تغلق أبوابها في وجه المقصرين والمهملين لسنة الأنبياء والمرسلين. فتأمل معي - أخي القاريء اللبيب - الأهمية الكبيرة التي تتسنمها هذه الفريضة في تحقيق العدالة الاجتماعية والسِلم المجتمعي. وقد وضح المرجع اليعقوبي مضار ترك هذه الفريضة، التي أشارت إليها النصوص المباركة، حيث قال (دام ظله) : (قد بيَّنتْ كثيرٌ من الأحاديث العلاقة الحميمة بين ترك هذه الفريضة (أي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وتسلّط الأشرار وعدم استجابة الدعاء، لأن شكل المتسلطين مناسب للاتجاه العام في المجتمع ومن إفرازاته، ولا يمكن له الدوام والبقاء إذا كان من سنخ مغاير، لذا لما استشرى في المجتمع الميل إلى الدنيا وحب الدِّعة والراحة، وترك العمل من أجل الله سبحانه والتضحية في سبيله، كانت النتيجة الحتمية أن لا يدوم الأمر لأمير المؤمنين (علیه السلام) والإمام الحسن (علیه السلام) مما اضطره

ص: 201


1- المائدة (66) .

إلى التصالح والمهادنة، وعلى العكس حينما تقوى إرادة الأمة وترفض الواقع المنحرف، فسوف لا تكون فرصة البقاء متاحة أمام الأشرار، قال تعالى: (فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ).

ونستعرض أيضاً فيما يلي أقوالاً أخرى للمرجع اليعقوبي يؤكد فيها على أهمية هذه الفريضة، ويبين مخاطر إهمالها على ضوء الرؤية الإسلامية، لاسيما في البُعد الاجتماعي الذي يهمنا في مبحث هذا الكتاب:

(إن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شرعت لتكون صمام أمان للمجتمع من الانحراف والفتن ولتحصينه من نخر الأعداء الداخليين الذين ينشرون البدع والضلالات والانحراف في مجتمع المسلمين والذين وقعوا في شراكهم عن جهل وسذاجة. فهي كالجهاد في الأهمية الذي شرع ليحمي بلاد المسلمين من الخارج).

(ركز الإسلام -- في تشريعاته وأساليب هدايته للناس -- على الإجتماع أشد التركيز، قال الله سبحانه وتعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فهذه هيأهم فريضة في الإسلام، ألا وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأسلوب الأنفع فيها والذي فيه الفلاح كما عبر القرآن هو الأسلوب الجماعي (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ) ويمكن القول في هذا الصدد أن السلوك الجمعي له أثر فعال في خلق ظرف موضوعي لتحقق ما مطلوب من ذلك التشريع بأقصر الطرق. لذلك فالأمر بالمعروف الجماعي له قوة في التأثير على المقابل أكثر من الأسلوب الفردي، قال الله تعالى في كتابه العزيز: (إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ) وما ذلك إلا لإحداث تيار عام في المجتمع بتكثير الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أو إقامة الحجة أو غيرها من وجود الحكمة المحتملة. كما نلاحظ للسلوك الجمعي أثر في الصلاة نفسها، فلنأخذ مثلاً صلاة الجماعة لنرى وجداناً ما تخلقه الجماعة في الفرد من إقبال نحو الصلاة وانشداد إليها فيؤديها بصورة أفضل من ناحية الخشوع وحضور القلب مما لو أداها فرادى).

(إن عملية الإصلاح التي هي رسالة الأنبياء والأئمة (سلام الله عليهم أجمعين) (إنْ أُريدُ إلا الإصْلاحَ مَا استَطَعْتُ وَمَا تَوفِيقِيَ إلا بِاللهِ) إنما تتحرك وتُنفَّذ على

ص: 202

أرض الواقع من خلال هذه الفريضة المباركة والدعوة إلى الخير، فإحياء هذه الفريضة يعني مواصلة تأدية رسالة الرسل والأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) في كل ميادين الإصلاح السياسي والاجتماعي والفكري والأخلاقي والتشريعي والاقتصادي).

(من أعظم الفرائض الإلهية، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وورد في الأحاديث ما يبين قيمة هذه الفريضة ودورها في إنشاء المجتمع الفاضل الكامل، فقال الإمام الباقر (علیه السلام) في صفة هذه الفريضة الإلهية: (فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب وتحلّ المكاسب وترد المظالم وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر). فإذا كانت كل هذه البركات موجودة في هذه الفريضة فلماذا التقاعس عن أدائها؟! وإذا ضممنا إليها الآية الشريفة: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) خرجنا بنتيجة هي تكليفنا الشرعي أمام الله ورسوله وأمير المؤمنين وإمام العصر والزمان وهي ألاَّ نقف مكتوفي الأيدي أمام حالات الانحراف والفساد بل ننكرها ونعمل على إزالتها ونتعاون على إيجاد الحلول الشرعية لها، وحينئذ يمكننا أن نطمع بشفاعة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الطاهرين: (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)).

(وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة (سيادية) بالمصطلح السياسي المتداول؛ لقيام وجود الأمة وديمومتها وحفظ رسالة الإسلام من التحريف والتشويه والدس والتأويل بغير ما أنزل الله تعالى بهذه الفريضة، ولولا قيام من انتجبهم الله تعالى بها لما بقي من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن رسمه، كالذي حلّ بالديانات السابقة على الإسلام. ففي الحديث الشريف عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (ويحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين، وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين، كما ينفي الكير خبث الحديد) ولكنالقائمين بهذه الفريضة قليل، والجهد المطلوب لمكافحة الانحراف والفساد والتزوير كبير جداً؛ لذا انحرفت سيرة المسلمين ومسيرتهم منذ اللحظة الأولى بعد رحيل رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى الرفيق الأعلى).

(إن الذين ينشرون الفساد والرذيلة في المجتمع ويشككون الناس في عقائدهم الحقة ويدعونهم إلى الإلحاد والإنحلال الخلقي ونبذ الدين تحت مسميات عديدة منها قديمة كالدين أفيون الشعوب والمضي على ما كان عليه الاباء (أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ) أو حديثة تحت عناوين متعددة معروفة لا يقلّون خطراً واجراماً عن الجماعات

ص: 203

الارهابية الذين ينشرون القتل والخراب في كل مكان، بل إن الجماعة الأولى أكثر اجراماً من الثانية لأن القتل المعنوي بحسب هذه الحقيقة القرآنية اعظم في الواقع من القتل المادي، وفي مقابل ذلك فان من يحيي وظيفة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ويقيم الدين في المجتمع امتثالا لقوله تعالى: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) وينصح الناس ويرشدهم ويقوّي عقائدهم، ويدفع عنهم الشبهات والأباطيل التي يبثها أعداء الله ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، ويهدونهم إلى الحياة الباقية هم أعظم اجراً ومنزلة عند الله من المجاهدين المقاتلين الذين يضحّون بدمائهم من اجل حماية ارواح الناس وحفظ حياتهم المادية. وفي ضوء هذه الحقيقة نفهم الحديث الشريف عن الإمام الصادق (علیه السلام) : (اذا كان يوم القيامة جمع الله عز وجل الناس في صعيد واحد ووضعت الموازين، فيوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء) وليس المراد مطلق المداد والحبر على الورق ما لم يكن علماً ينتفع الناس به ولا يكتفي صاحبه بحمله بل يعمل به وينشره بين الناس ويدعوهم إليه حتى يهتدوا به).

(فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موجهة للمجتمع وهي بذلك من الوظائف الموجهة إلى المجتمع ككل، وليس تكليفاً للأفراد مستقلين ويحاسب الجميع عن أي تقصير يقع. وإذا أُديت الفريضة كما ينبغي تنعم الجميع ببركتها، وإن لم يؤدها كما ينبغي عانى الجميع من ويلات تركها وإن قام بها بعضهم، وهذا واضح من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، والحوادث التأريخية شاهدة على ذلك؛ فالإمام الحُسين (علیه السلام) وإن أدى هذه الوظيفة أًحسن أداء إلاّ إنه أيضاً ذهب ضحية تضييع المجتمع لها).

سادساً/ فريضة الجهاد:

قال المرجع اليعقوبي مُبيناً فلسفة تشريع الجهاد في الإسلام وأهدافه: (إن الاسلام لم يأمر بالقتال ليبسط نفوذه وليجني أمولاً ودنيا أو لمجرد تلبية غرائز حب التسلط على رقاب الناس وإنما قاتل ليحرر الناس من عبادة الطواغيت ويترك لهم الخيار والحرية التامة في اعتناق العقيدة التي يشاؤون ولو اذن كسرى لصوت الاسلام ان يُعرض على الفرس ويسمح لهم بالاختيار بحرية لما قاتله المسلمون ولكنه لما عتى وتجبَّر وأصرَّ على استعباد قومه قاتله المسلمون وكسروا شوكته ولما أمَّنوا هذه الحرية للناس تركوا لهم حرية

ص: 204

المعتقد وكان اتباعاهل الديانات الاخرى يعيشون في عاصمة الاسلام وغيرها من الحواضر وتوفر الدولة كل حقوقهم حتى أن أمير المؤمنين (علیه السلام) وبخ أصحابه حين رأى مسيحياً يستعطي في عاصمته الكوفة لأنه كبر وعجز عن العمل وامر اصاحبه بصرف راتب تقاعدي له من بيت مال المسلمين. ويؤكد قوله تعالى هذه الحقيقة (لا إكراه في الدين) ولكن بعد أن تؤمن حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر للناس جميعاً. ولذا قاتل المسلمون بشرف وجسدوا أسمى ثقافة للقتال فعندما دخل المسلمون مكة فاتحين كان سعد بن عبادة يحمل راية الانصار فأخذه زهو الانتصار وتراءى له شريط طويل من ذكريات قريش الظالمة المعتدية مع النبي (صلی الله علیه و آله) فاخذ يرتجز ويقول:

اليوم يوم الملحمة*** اليوم تُسبى الحُرَمة

فما بلغ النبي (صلی الله علیه و آله) هذا الموقف أرسل ابن عمه عليَ بن أبي طالب (علیه السلام) وأمره بأخذ الراية من سعد وأن ينادي:

اليوم يوم المرحمة*** اليوم تُصان الحُرمة

هذه هي أخلاق الاسلام وأهدافه ومبادئه التي جاء لتأصيلها في الامة (وما ارسلناك الا رحمة للعالمين) فكلُّه خير وعطاء ونفع عميم للبشرية ومواقف امير المؤمنين مع خصومه الذين شنّوا عليه الحروب وازهقوا الاف النفوس مما يطأطئ له الرأس إجلالاً وإعظاماً). (1) وقال (دام ظله) أيضاً مُخاطباً من لا يعرف حقيقة الإسلام، ومن ينكر حقانيته، وكذلك مُشيراً إلى الأبعاد الإنسانية الرائعة في تعاليم الإسلام التي تخص جهاد العدو: (نحن اليوم نطالب العلمانيين في معاقلهم في أوربا وحيثما امتدت دعوتهم إلى أن يعيدوا النظر في تقييمهم لدور الدين في الحياة، بعد أن هدأت ثورتهم ولم يبق ما يخافون منه، لأنهم في كثير من المبادئ التي يؤمنون بها كحقوق الإنسان بل الحيوان وسائر معاهداتهم الإنسانية كالحد من أسلحة الدمار الشامل أو الحفاظ على البيئة سيجدونها في الدين الإسلامي العظيم فمثلاً توجد روايات عن أئمة أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) تمنع من إلقاء السم في مياه المشركين المحاربين، فضلاً عن غير المحاربين وهو معنى مطابق لما يطالبون به اليوم من منع استعمال الأسلحة الكيمياوية، ولو أجروا هذه

ص: 205


1- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبين ج4، خطاب بعنوان: (إننا بحاجة إلى مشاريع إعمار كما نحن بحاجة إلى مشاريع استشهاد) .

المراجعة اليوم مع عرضٍ مقنع منّا وحوار شفاف سنجد إقبالاً واسعاً على الدين من دون تخوّف صنعه التجّار بالدين والذين أساؤوا استعماله والذين خلطوا الأوراق ولبّدوا الأجواء لتأييد جهة أو تسقيط جهة أخرى. وسوف يجد العلمانيون المنصفون أن الدينهو وصفة جاهزة متكاملة ينقذ البشرية مما هي فيه من كوارث ولا يجعل الناس حقل تجارب للنظم والقوانين الأرضية ثم تثبت فشلها بعد ثمن باهض من أرواح الناس وممتلكاتهم). (1)

أما المرجع الشيخ جعفر سبحاني فقد قال حول هذا الموضوع: (لم يكن الغرض من تشريع الجهاد قتل النفوس وإراقة الدماء وتخريب البلد، بل إن الغاية من تشريعه هي تحرير البلاد من أيدي الظالمين الذي يصادرون حريات شعوبهم، ويقفون سداً أمام رسل الله والدعاة إليه. وقد سنّ الشارع قوانيناً وسنناً للمجاهدين لكي يؤدوا وظيفتهم الرسالية بشكل يصدهم عن تجاوز منهج الحق والعدل، ويوقفهم على واجباتهم في هذا المضمار حتى لا يختلط الجهاد بالإرهاب). (2) وفيما يلي نستعرض بعض أحكام وآداب فريضة الجهاد في الإسلام (3)

، والتي تكشف بوضوح مدى حرص المشرع الإسلامي على تحقيق الأمن والأمان والسلام للناس، ومدى الرحمة بهم، واحترام إنسانية الإنسان، وإن كان من الأعداء أو الأشرار. كما تكشف هذه التعاليم والأحكام الإسلامية كيفية محافظة المشرع الأقدس على حياة البشر، واحترام مقدراته ومتعلقاته، وعدم الانجرار للعمل المسلح إلا بعدما تنفذ كل الحلول والطرق السلمية المشروعة، وبهذا نتعرف على القيمة العظيمة لديننا الإسلامي، الذي يسعى قادته العظام وهم المعصومون (علیهم السلام) ومراجع الدين المخلصين، بكل ما أوتوا من قوة إلى تحقيق مبدأ التعايش السلمي بين بني البشر:

1) يحرم القتال في الأشهر الحُرُم وهي: رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم، إلا في صورتين:

ص: 206


1- خطاب المرحلة، خطاب رقم (169) ، (حوارات في الفكر الإسلامي.. الحوزة العلمية والتيارات الوافدة) .
2- الإرهاب والعنف في ضوء القرآن والسنة والتاريخ والفقه المقارن، الشيخ الدكتور محسن الحيدري.
3- اعتمدنا في ذلك على رسالة منهج الصالحين، للشهيد الصدر الثاني (قدس الله سره) ، من كتاب الجهاد.

الصورة الأولى: إذا بدأ الكفار بالقتال في تلك الأشهر جاز قتالهم فيها. على أساس انه دفاع في الحقيقة ولا شبهة في جوازه عندئذ.

الصورة الثانية : إذا كان القتال قصاصا، كما إذا كان الكفار بادئين بالقتال في شهر من تلك الأشهر، جاز للمسلمين أن يبدأوا به في شهر آخر منها في تلك السنة أو في سنة قادمة، وان كان الأحوط استحباباً خلافه.

2) يحرم قتال الكفار في الحرم المكي، إلا أن يبدأ الكفار بالقتال فيجوز قتالهم عندئذ.

3) لا يجوز البدء بقتال الكفار إلا بعد دعوتهم إلى الإسلام، بترغيبهم بما يترتب عليه من مصالح الدنيا والآخرة، والطلب من أفرادهم اعتناقه بالتلفظ بالشهادتين، فإذا رفضوا جاز قتالهم. وإذا بدأ المسلمون بالقتالقبل دعوتهم إلى الاسلام، كانوا آثمين. ويستثنى من قتل الكفار قتل الشيخ الفاني والنساء والأطفال، فلا يجوز قتلهم إلا أن يعرف منهم الشر.

4) لو تترس الكفار بالنساء والاطفال منهم، أي جعلوهم أمامهم لمنع تقدم المسلمين، وجب الكف عنهم مؤقتاً، إلا في حال التحام الحرب. وكذا لو تترسوا بأُسراء المسلمين، فيجوز خلال الحرب قتلهم إذا كان ذلك سبباً للنصر.

5) يحرم على الأحوط إلقاء السم على الكفار، ويلحق على الأحوط به إلقاء المرض فيهم بالقنابل الجرثومية أو غيرها، ما لم تدع الضرورة القصوى إلى ذلك.

6) لا يجوز التمثيل بالمقتولين من الكفار، بل لا يجوز ذلك بأي ميت مهماً كان دينه، بل لايجوز التمثيل بالحيوان فضلاً عن الإنسان، وبالميت فضلاً عن الحي، ويراد به تقطيع اعضائه، والظاهر شموله ولو لقطع واحد.

7) يجب حفظ ضروريات الحياة للأسير من الطعام والشراب وغيرهما، وان وجب قتله، ويقبل إسلام الأسير خلال الحرب وبعدها.

إذا أسلم الحربي في دار الحرب، حقن دمه وماله مما ينقل، كالذهب والفضة والامتعة، وألحق به أولاده غير البالغين، وكانوا بحكم المسلمين حتى الحمل.

8) لايجوز قتل الأسرى من النساء، ولو كانت الحرب قائمة، وإنما يملكن بالسبي ويقسمن تقسيم الغنيمة وكذلك الحال في الذراري غير البالغين والشيوخ وغيرهم ممن لا

ص: 207

يجوز قتله.

9) لايجوز قتل الأسرى من الرجال إذا تم أسرهم بعد انقضاء الحرب، ما لم تكن هناك مصالح عامة ثانوية.

أحكام الدفاع عن النفس وحمايتها من القتل أو الأذى وغير ذلك:

1) يجب دفع المقاتل مع الإمكان عن النفس والغير من العائلة أو غيرها من المؤمنين. والمقصود من المقاتل : المهاجم بقصد القتل، سواء كان واحداً أو متعدداً، ولا أقل احراز أنه لا مانع له من القتل، وإن استهدف السرقة أو غيرها. وان قتل المهاجم خلال ذلك كان دمه هدراً، ولا يختلف في الاعتداء على العرض بين الزوجة والحليلة، والبنت والاخت والخادمة، أو أية مؤمنة.

2) يجب الاقتصار في الدفاع على الايسر فالأيسر، فان اندفع المهاجم بالأقل لم يجز الزائد، فما كان من الحوادث ضمن الدفاع كان هدراً، وما كان زائداً على ذلك كان مضمونا، فلو اندفع المهاجم بالتنبيه، كالتنحنح مثلاً فعل، ولو لم يندفع الا بالصياح والتهديد اقتصر عليه، وان لم يندفع الا باليد اقتصر عليها، أو بالعصا اقتصر عليها، أو بالجرح اقتصر عليه، أو بقطع عضو اقتصر عليه. وإن لم ينفع في الدفع إلا القتل جاز،بل وجب. وهذا الترتيب إنما تجب مراعاته مع الإمكان، اما لو خاف فوت الفرصة سقط الوجوب بمقدار ما يكفي للدفاع.

3) لو امكن التخلص من القتال بالهرب ونحوه، فهل يجوز أو يجب؟ لا اشكال انه جائز، بل احوط، ما لم يكن المدافع عالما بحصول ضرر عظيم نفساً أو مالا. فيجب المبادرة إلى الدفع، مع ظن الانتصار.

4) لو هجم عليه لص أو نحوه، وعلم الفرد أنه لا يمكن له تحصيل المقصود لمانع, كنهر أو جدار، كف عنه، ولا يجوز له الاضرار به، جرحاً أو نفساً أو غيرهما، ولو أضر به ضمن.

5) لو هجم المعتدى على أحد ما، ولكنه قبل الوصول إليه اظهر الندامة، لم يجز له الإضرار به بشيء، ولو فعل ضمن. نعم، لو خاف أن يكون ذلك خدعة، فلا يبعد جواز الدفاع. لكنه يضمن لو كان المهاجم صادقاً في ندمه.

ص: 208

6) لو اخذ أحدهم اللص أو المحارب وربطه أو حبسه وعطله عما قصده من السوء، لم يجز له الإضرار به، قتلاً أو جرحاً، فلو فعل ضمن.

7) للإنسان دفع الدابة الصائلة عن نفسه وعن غيره وعن ماله المعتد به. فلو تعيبت أو تلفت مع توقف الدفع عليه فلا ضمان. أما لو تمكن من الهرب بسهولة، فالظاهر عدم جواز الاضرار بها. فلو أضر بها عندئذ ضمن.

أحكام قتال أهل البغي من المسلمين:

اشارة

أهل البغي أو البغاة، هم المسلمون البادئون بالقتال مع المسلمين ظلماً، والقدر المتيقن منهم هم الخارجون على الأمام المعصوم (علیه السلام) والظاهر إنها تشمل كل إمام عادل، بل كل مجتمع مسلم مظلوم، وان لم يكن فيه امام عادل، وحرب البغاة دائماً حرب دفاعية، وهي جائزة على كل حال. ولكن الأحوط اشتراط الخوف من المهاجمين على بيضة الاسلام، كالكفار، وإن كانوا يدعون الإسلام. ولا يجوز قتل أسرائهم، ولا الاجهاز على جريحهم، ولا يتبع مدبرهم، إذا لم تبق منهم فئة يرجعون إليها ويعتمدون عليها. وإلا جاز كل ذلك فيهم، كما لا تسبى ذراري البغاة، ولا تملك نسائهم. وكذا لا يجوز أخذ أموالهم التي لم يحوها العسكر، بل يرجع كل مال إلى مالكه وان كان سلاحاً ونحوه، ما لم تقتض المصلحة العامة خلافه. بل لا يجوز أخذ ما حواه العسكر أيضاً من الأموال على التفصيل نفسه. وإن أخلاقيات المجاهدين المسلمين التي نلمسها في التأريخ الإسلامي كان لها أثر كبير في انتشار الإسلام، بل وترسيخ الإيمان العميق في قلوب المسلمين أنفسهم.

وفيما يلي نذكر بعض أخلاقيات الحرب في الإسلام، وفقاً لأحاديث النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) لكي نتعرف على شيء من عظمة هذا الدين الحنيف، والنفس الكبيرة التي يتمتع بها نبي الرحمة (صلی الله علیه و آله) حيال أعدائه فضلاً عن أتباعه:

1- ألا يقتل إلاَّ المقاتل:

ص: 209

فقد وردت عدة آيات مباركة وروايات شريفة تسن هذا الحكم الإسلامي، وتمنع من قتل الأطفال والنساء وكبار السن من الرجال وغيرهم من شرائح المجتمع التي بينتها الشريعة الإسلامية. فعن النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) : (مَن ألْقى السِّلاح فهو آمِن، ومَن أغلق بابَه فهو آمن). وروي عنه أيضاً أنه قال (صلی الله علیه و آله) - في غزوة قتل فيه أبناء من المشركين: ألا إن خياركم أبناء المشركين، ثم قال: ألا، لا تقتلوا ذرية، كل مولود يولد على الفطرة، فما يزال عليها حتى يعرب عنها لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. وكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا؛ ثُمَّ قَالَ: (اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّو، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ، فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ؛ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ) ،

2- صيانة الأعراض والأموال:

إن الحرب في الإسلام لا تشن للعدوان والبغي والانتقام بل إنها لتوطيد أركان السلام وتصون الأرواح وتحفظ الأعراض والأموال. وقد كانت أخلاقيات الحرب في الإسلام سببا رئيسيا لدخول كثير من الناس إلى هذا الدين أفواجا وجماعات لقناعتهم بأنه دين الرحمة والسلام.

يقول (مونتغمري) عن أخلاقيات الحرب في الإسلام: (كان المسلمون يُستَقْبَلون في كل مكان يَصِلون إليه كمحررين للشعوب من العبودية وذلك لما اتصفوا به من التسامح والإنسانية والحضارة، مما زاد من إيمان الشعوب بهم علاوة على تميزهم بالشجاعة والصلابة في القتال وقد أدى هذا إلى اعتناق معظم الشعوب التي انتصر عليها العرب الدين الإسلامي). هذه شهادة الأعداء وليس الأصدقاء لذا فهي بريئة من التحيز

ص: 210

والتزلف. وهل هناك أعظم من وصايا الرسول الكريم لجنده عند خروجهم للقتال؟ فها هو يوصيهم فيقول: (اغزوا باسم الله، لا تمثلوا ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع). وقد نهى النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) عن قتلالضعفاء والنساء والأطفال. وقد بلغت إنسانية النبي الكريم محمد (صلی الله علیه و آله) لدرجة أنه نهى أصحابه أن يدخلوا بيوت اليهود إلا بإذنه. ومنعهم أن يضربوا نساء اليهود أو أن يعتدوا على ثمارهم في عزوة خيبر. فقد حافظ على أعراض أعدائه اليهود ولم يرد لأصحابه أن ينتهكوا حرمات البيوت أو يطلعوا على أستارها حتى ولو كانت لأعدائه. (1)

3- عدم الاعتداء على المتعبدين:

لقد كان من قواعد الحرب في الإسلام احترام المتعبدين في صوامعهم حتى ولو كانوا على غير دين الإسلام، وهذا يدل على سماحه وعدل الإسلام وأنه لا يجبر أحدا على ترك دينه والتحول الى الإسلام لأن قاعدته هي؛ (لا إكراه في الدين). ومن وصية الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) إلى أحد قادة جيشه حين قال له: (...اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع) أي المتعبدين في صوامعهم ودور العبادة الخاصة بهم. وروى ابن عباس أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (لا تقتلوا أصحاب الصوامع) أي الرهبان والمتعبدين.

يقول (ارنولد توينبي) عن انتشار الإسلام بين مسيحيي مصر من الأقباط: (ليس هناك شاهد من الشواهد يدل على ان دخولهم في الإسلام على نطاق واسع كان راجعا الى اضطهاد او ضغط يقوم على عدم التسامح من جانب حكامهم الحديثين، بل لقد تحول كثير من القبط الى الإسلام قبل ان يتم الفتح حين كانت الإسكندرية حاضرة مصر وقتئذ لا تزال تقاوم الفاتحين) وقد بلغ من كرم الإسلام ورحمته أن اسقط الجزية عن الرهبان والمنقطعين للعبادة، فأي إنسانيه أعظم من ذلك ؟. فهو لم يأمر بإبادة المدن عن بكرة أبيها ومسحها عن وجه الأرض كما فعل كثير من القادة العسكريين أثناء حروبهم فها هو هتلر يقول لجنوده في الحرب العالمية الثانية : (يجب محو موسكو ولينينغراد من على الأرض).

ص: 211


1- من هذه النقطة إلى النقطة رقم (7) نقلاً عن أخلاقيات الحرب والقتال في الإسلام ج2، بتصرف بسيط.

ولينين القائد الشيوعي يقتل أكثر من (5) ملايين مسلم في روسيا، ويقوم ستالين بقتل أكثر من (10) ملايين مسلم في روسيا ودول الاتحاد السوفيتي سابقاً، وكلا الأثنين قاما بمحو قرى ومدن وحرقها وقتل أهلها، ولم يفرقوا بين كبير ولا صغير، وبين امرأة أو رجلاً، ولا ننسى ما فعلته أمريكا بمحو (هيروشيما وناكازاكي) عن الوجود برمي قنبلتين ذريتين على كل منهما. ويأتي مثقفو وعلماء هذه الدول للاستهزاء بالنبي محمد (صلی الله علیه و آله) والسخرية منه؟!

وكذلك فعل القائد الروماني (ماريوس) عندما غزا بلاد اليونان حيث قال لجنده: (لا تدعوا على ظهرها إنساناً حياً إلا قتلتموه ولا زرعاً الا أحرقتموه ليعرف الناس إنكم الرومان) إنه تناقض رهيب بين مبادئ الإسلامالسمحة القائمة على الرحمة والتسامح والفضيلة والأخلاق الكريمة وبين من يدعوا إلى القتل والابادة والدمار والهلاك. ان هذا وغيره من الأدلة الكثيرة دليل على أن حرب الإسلام هي حرب أخلاقية مثالية سمحة.

4- عدم هدم البيوت وتخريب العمران:

بما أن الحرب في الإسلام غايتها بعيدة كل البعد عن الحقد والانتقام، ولم يخرج لها المسلمون إلا مجبرين، ورغم تمتعهم بالقوة والتفوق على أعدائهم. كل ذلك لم يجعلهم متغطرسين حاقدين، بل إنهم لم يتخلوا عن أعظم القيم السامية والمثل الأخلاقية الطيبة في أحلك الظروف، ورغم قدومهم إلى بلاد هي غريبة بالنسبة لهم. ومن عادة الجيوش القادمة للحرب أن تدمر وتخرب وتسعى إلى ما يسمى (بسياسة الأرض المحروقة) من أجل تحطيم معنويات العدو والتأثير على قوته، لكن ذلك لم يحصل ولا في معركة من معارك الإسلام،

وان وصايا الرسول الكريم إلى أصحابه وجنده المتوجهين الى القتال لهي خير شاهد على ذلك، فها هو النبي محمد (صلی الله علیه و آله) يوصي جيشه الخارج إلى مؤته بأن (لا يقتلوا النساء ولا الأطفال ولا المكفوفين ولا يهدموا المنازل ولا يقطعوا الشجر..).

5- احترام السفراء والرسل:

تبادل الرسول الكريم (صلی الله علیه و آله) السفراء مع الدول المجاورة له، وبعث الرسل إلى الملوك والأمراء والزعماء يدعوهم الى الدين الجديد أو لإجراء المفاوضات حول أمر ما سواء كان امرا حربيا أم سلميا، فكانت تأتيه الرسل للرد على رسائله أو لتبين له موقف بلادهم ورأيها في الدين الجديد أو في القضية المتفاوض حولها. وقد كان لهؤلاء الرسل

ص: 212

عند نبينا الكريم (صلی الله علیه و آله) كل الاحترام والتقدير وتوفير الحماية لهم

ومنع التعرض أو الاعتداء عليهم بأي شكل من الأشكال، لان أخلاقيات الإسلام العظيم ومكارم الأخلاق النبوية تأبى ذلك. لذا فإن الرسل في الإسلام آمنون لا يقتلون ولا يُعتَدى عليهم ولهم حق الجوار والعهد ما داموا داخل ديار الإسلام. ومن سيرة النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) في هذا الخصوص أنه قال لرسولَي مُسيلَمَة الكذاب عندما سمع منهما كلاماً جارحاً: (لو كنت قاتلا ًرسولاً لقتلتكما) وقد كان لهذه السُّنة الكريمة أثر كبير في بيان أخلاق الإسلام للشعوب الأخرى مما دفع بالكثير من الرسل وملوكهم وشعوبهم إلى الدخول في الإسلام أفواجاً وجماعات، وقصة أبي رافع رسول قريش تؤكد صحة ذلك، حيث قدم أبو رافع رسولا ًلقريش للنبي محمد (صلی الله علیه و آله) فقال له: (يا رسول الله إني لن ارجع إليهم أبداً) فقال له الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) : (أما إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ولكن ارجع فان كان في قلبك الذي في قلبك فارجع) قال: فرجعت، ثم أقبلت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأسلمت. هذه هي الأخلاق النبوية التي كانت القدوة الحسنة والحافز والدافع لكثير من أمم الأرض للدخول في هذا الدين والانضمام تحت لواءه وذلك لأن النبي محمد (صلی الله علیه و آله) قال عن نفسه: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).ولقد استقت القوانين الدولية من هذه السُّنة الكثير حيث منعت الاعتداء على البعثات الدبلوماسية والقنصلية واعتبرت ذلك من الأمور الخطيرة التي يؤدي إلى توتر العلاقات الدولية وقد تؤدي الى حروب طاحنة، ولعل تاريخ العلاقات الدولية يحفل بالكثير من القضايا في هذا الخصوص.

6- العفو والصفح:

قد سجل التاريخ مواقف كثيرة من سيرة الفتوحات التي قام بها جند الإسلام تدل على الرحمة والتسامح والعفو والصفح مما ترك أثارا عميقة في نفوس سكان الديار المفتوحة فكان دافعا لهم ليدخلوا في دين الإسلام عن رغبه ومحبه. فقد كتب المسيحيون في بلاد الشام إلى أبي عبيدة عندما نزل في طبقه فحل أثناء فتح الشام يقولون له: (يا معشر المسلمين أنتم أحب إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا وأنتم أوفى لنا وارأف بنا وأكف عن ظلمنا وأحسن ولاة علينا...) هذه شهادة أهل البلاد المفتوحة في المسلمين. ومثل حال هؤلاء القوم الكثير، كالفرس الذين لم يقاوموا المسلمين الفاتحين لبلادهم لأن

ص: 213

حكامهم قد استبدوا وظلموا، وكذلك الحال في إسبانيا عندما دخلها المسلمون فوجدوا سكانها يتعرضون للمذلة والإهانة على يد القوط فرحب السكان بهم وفتحوا البلاد بسهولة ويسر. يقول الكونت (هنري دي كاستري) : (إن المسلمين امتازوا بالمسالمة وحرية الأفكار في المعاملات ومحاسبتهم المخالفين..).

وهذه شهادات وشواهد كثيرة تدل على رحمة الرسول الكريم (صلی الله علیه و آله) في أشد المواقف وأعسرها وفي أحلك ساعات القتال بل وهو في أوج قوته، ويكفي ان نتذكر هنا موقفه من الناس الذين أذوه وضربوه وطردوه من بلدته التي ولد فيها، فعندما جاءها

فاتحا وهو في عز قوته، قال لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء). إنها رحمة إنسانية ليس بعدها رحمة، حتى أنها طالت الحيوان قبل الإنسان، فها هو يأمر جنده الذين أفزعوا الطيور من أعشاشها فيقول لهم: (من فجع هذه بولدها ردوا ولدها إليها). أي رحمه وأية رأفة هذه التي يتصف بها هذا النبي الكريم، وهذا بيان واضح مدعم بالأدلة القوية للجاحدين المنكرين لأن يعلموا أن محمداً لم يكن إرهابيا قاتلا ولم يكن دمويا مخربا بل كان رحمة مهداة ونعمة مسداة لكل العالمين.

7- عقد الصلح والمعاهدات:

أمر الله سبحانه وتعالى نبيه (صلی الله علیه و آله) أن يرضى بالصلح وان يقبل دعوة السلم إذا ما دعي إليها حيث قال تعالى: (وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) والهدنة هي اتفاق بين الطرفين المتحاربين على وقف القتال لمدة يتفق عليها الطرفان وهي أنواع: فهي إما عامة أو جزئية (محلية) ، فالهدنة العامة: يسري وقف إطلاق النار فيها على كل القوات المتحاربة وعلى كل جبهات القتال. والهدنة الجزئية :هي التي يقتصر وقف إطلاق النار فيها على جزء من القوات المتحاربة وليس كلها، وشروط الصلح فيالإسلام أن يكون فيه مصلحة عامة وأن لا يكون فيه إباحة لما حرمته الشريعة أو تحريم لما أباحته الشريعة مصداقا لقول النبي محمد (صلی الله علیه و آله) : (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً) (1) ، وعنه (صلی الله علیه و آله) - يوْم الحديبية: (والله، لا تدْعوني قريشٌ إلى خُطَّة توصَل بها الأرحام، وتَعْظُم فيها الحُرُمات إلاَّ أعطيتُهم إيَّاها).

ص: 214


1- أخلاقيات الحرب والقتال في الإسلام ج2

8- النهي عن الغدر والمثلة:

ورد عن الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) : (اغزوا، ولا تَغُلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا).

9) إكرام الأسير:

فقد روي عن سيرة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) أنه يُؤتى بالأسير، فيدفعه إلى بعْض المسلمين ويقول (صلی الله علیه و آله) : (أَحسنْ إليه).

حكم التعامل مع الكفار في الفقه الإسلامي:

من الأبعاد الهامة التي ركز عليها الإسلام لإحلال الأمن والسلام في المجتمعات البشرية، مبدأ التعايُش السلميّ مع الكفار. ففي ضوء التعاليم الإسلامية وضع الفقهاء مقررات للتعايش السلمي مع غير المسلمين بصورة تكفل الأمن والرخاء حتى لغير المسلمين، إلا الذين يبغون للإسلام والمسلمين الغوائل، فإنهم حربيون، وقد وُضعت برامج خاصة لمواجهتهم وصد اعتداءاتهم وتأديبهم. (1)

فما هي نظرة الإسلام إلى أهل الكتاب؟ وما هي طبيعة علاقة المسلمين معهم؟ هل يتساوى المسيحي أو اليهودي مع غير المسلمين كالكفار؟

والجواب: كلا.. فمن الناحية الفقهية لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، ويسمح لهم وبكل حرية ان يمارسوا شعائرهم وأن يحافظوا على كنائسهم وديرهم وصوامعهم. ومن الناحية الشرعية لابد للمسلمين ان يحترموا جميع الانبياء والرسل لأن كل الرسل لهم ارتباط بالله سبحانه، بل وغير المسلمين لهم ارتباط بالله سبحانه وتعالى عبر الادعية والمناجاة الخاصة بهم – ولو كان ذلك قليلاً- فنحن نحترمهم لذلك. طبعا لا نقول ان نحترم شركهم، بل نحترم ايمانهم اي الجانب المشرق من دينهم ومن عقائدهم، فحينما نقرأ في الروايات، نجد أن أمير المؤمنين علياً (علیه السلام) مرّ على كنيسة، فقال رجل: هذا مكان لطالما اشرك الله فيه. فأجابه الامام (علیه السلام) : هذا مكان لطالما عبد الله فيه. وفي القران الكريم يأمرنا الله سبحانه وتعالى بالدفاع عن اماكن العبادة بمافيها الصوامع والبيع.

ص: 215


1- الإرهاب والعنف في ضوء القرآن والسنة والتأريخ والفقه المقارن، الشيخ محسن الحيدري، ج2، ص119.

حيث يقول في سورة الحج: (و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره) فمن هنا نعرف سبب تسمية سورة الروم كان تبيينا لاحترام المسلمين للمسيحيين وإيماناً بما جاء به الرسل السابقون. ويتبين هذا الاحترام من البشارة الالهية بنصرتهم، ثم يقول: (يفرح المؤمنون، بنصر الله). (1)

وقبل أن نسرد التعاليم والأحكام الشرعية في الدين الإسلامي التي تحدد كيفية التعامل مع الكفار، نذكر تقسيمات المجتمع الإنسانيّ على أساس عقائديّ، ليتبين للقارئ الكريم الرؤية العقائدية في المدرسة الإسلامية أولاً، ومن ثم نسرد الأحكام الفقهية المتعلقة بالكفار، لتكون الرؤية الإسلامية أوضح وأشمل:

ينقسم المجتمع البشريّ في نظر الإسلام إلى قسمين: هما المسلم والكافر، ثم توجد عدّة تقسيمات تخص الكافر (2)

:

أوّلاً: ينقسم على أساس الكتابيّة وعدمها إلى:

1 - الكافر الكتابيّ (وهم اليهود والنصارى ، وفي حكمهما المجوس، بل والصابئة - على رأي - ولو في الجملة).

2 - الكافر غير الكتابيّ.

ثانياً: ينقسم كلٌّ منهما على أساس الحربيّة وعدمها إلى:

1 - الكافر الحربيّ.

2 - الكافر غير الحربيّ.

ثالثاً: ينقسم خصوص الكافر غير الحربيّ من ناحيةٍ حكميّة إلى:

1 - الذمّيّ: وهو من ارتبط بالدولة الإسلاميّة برابطة (عقد الذمّة) المنظّم بأحكام فقهيّة مقرّرة في محلّها من كتب الفقه. ويختصّ بالكافر الكتابيّ الّذي يكون بمقتضى الذمّة آمناً في الذات والمتعلّقات ولا يحلّ قتاله، بل ولا إيذاؤه، بل ويكون الذمّيّ بمقتضى (عقد الذمّة) مواطناً - بالمصطلح الحديث - يتمتّع بكافّة امتيازات المواطنة الصالحة الّتي يقرّرها

ص: 216


1- يُنظر بصائر من سورة الروم، السيد محمد تقي المدرسي.
2- ينظر (مبدأ التعايُش السلميّ في الفقه الإسلاميّ) ، الشيخ فاضل المالكي.

التشريع الإسلاميّ لمواطني الدولة الإسلاميّة، وعليه مثلها من الواجبات، نعم، لو قام الذمّيّ بخرق شروط عقد الذمّة، فلا ذمّة له.

2 - المعاهد: وهو كلّ من ارتبط بالدولة الإسلاميّة أو المجتمع الإسلاميّ بمعاهدةٍ تقرّر السلام بين الطرفين. ولا يجوز بموجبها خرق ما نصّت عليه المعاهدة من أمن الكافر سواء كان كتابيّاً أم غيره. وقد عظّم اللَّه تعالىأمر العهد ولزوم الوفاء به في عدّة مواضع من كتابه المبين ؛ فقد قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤولاً) ونصّت السنّة النبويّة المطهّرة على وجوب الوفاء بالعهد للبرّ والفاجر والمسلم والكافر. يقول ابن القيّم: ثبت عنه (صلی الله علیه و آله) أنّه قال لأبي رافع وقد أرسلته إليه قريش، فأراد المقام عنده، وأنّه لا يرجع إليهم، فقال: (إنّي لا أخِيس بالعهد، ولا أحبس البُرُد، ولكن ارجع إلى قومك، فإن كان في نفسك الّذي فيها الآن فارجع). وثبت عنه أنّه ردّ إليهم أبا جندل للعهد الّذي كان بينه وبينهم أن يردّ إليهم من جاءه منهم مسلماً، ولم يردّ النساء، وجاءت سُبيعة الأسلميّة مسلمة، فخرج زوجها في طلبها، فأنزل اللَّه عزّوجلّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ) فاستحلفها رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله) أنّه لم يُخرجها إلّا الرغبة في الإسلام، وأنّها لم تخرج لحدثٍ أحدثته في قومها، ولا بغضاً لزوجها، فحلفت، فأعطى رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله) زوجها مهرها، ولم يردّها عليه. وقال (صلی الله علیه و آله) : (من كان بينه وبين قومٍ عهد فلا يحلّنّ عقداً، ولا يشدّنّه حتّى يمضي أمده، أو ينبذ إليهم على سواء).

ولمّا أسرت قريش حذيفة بن اليمان وأباه أطلقوهما، وعاهدوهما أن لا يقاتلاهم مع رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله) وكانوا خارجين إلى بدر، فقال رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله) : (انصرفا، نفي لهم بعهدهم، ونستعين باللَّه عليهم). وأمر الله تعالى بالتحلّي بضبط النفس في مواقع القوّة، وكفّها عن نقض العهد المبرم في عهد الضعف أو القوّة الأدون، ونهاهم عن ارتكاب ذلك اغتراراً بتعاظم قوّتهم، قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ). وقال تعالى - مستثنياً من براءة – (إلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ

ص: 217

أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) وقال عزّ من قائل: (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (. فإذا عمد الطرف المُعاهد إلى نقض عهدهِ، ساغ حينئذٍ نبذ عهده إليه ؛ قال تعالى: ) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (، والخوف هنا بمعنى اليقين بالنبذ من خلال ظهور أماراتهِ الكاشفة عنهُ ؛ نظير قوله تعالى: ) وَاللَاتِيْ تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ (. ومن الجدير بالذكر أنّ العُرف الدوليّ قاضٍ بأنّ توقيع الدولة الإسلاميّة على عضويّتها في المؤسّسات والهيئات الدوليّة إمضاءٌ ضمنيّ منها لما تفرضه هذه العضويّة من شروط منها: الالتزام بأحكام القانون الدوليّ، والعمل بمقرّرات المجامع الدوليّة، والتقيّد بالمعاهدات، وتنفيذ القرارات الجماعيّة الصادرة عن أعضاء المجتمع الدوليّ في المجالات المختلفة، والّتي تدخل الدولة الإسلاميّة طرفاًفيها. ذلك أنّ العضويّة الدوليّة نوع تعاهد بين الدول الأعضاء. نعم، لو لم تستلزم العضويّة ذلك، أو نُصّ على خلافه، فالدولة الإسلاميّة في حِلٍّ منه. نعم، هنالك أحكام شرعيّة إسلاميّة للقانون الدوليّ الإسلاميّ يجب الاستناد إليها والعمل بموجبها، سواء اصطبغت بصبغة المعاهدة الدوليّة أم لا، كالقسم الإلزاميّ من أحكام البرّ والقسط. وأمّا ما عدا ذلك من القوانين والمقرّرات الدوليّة، فلا مُلزم يُلزم الدولة الإسلاميّة بمقتضاها سوى التعاهد، وبخاصّة تلك القوانين والمقرّرات الّتي وُضعت لصالح القوى الاستكباريّة - كحقّ الفيتو - على حساب مصالح المستضعفين في العالم، ونخصّ بالذكر ما يصادر سيادة أو كرامة أو استقلال الدول المستضعفة، قال تعالى: (وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً).

3 - المستأمِن: وهو كلّ من يتمتّع بأمان المسلمين دولة أو اُمّة، جماعات أو أفراداً، وذلك طبقاً للقاعدة القانونيّة الإسلاميّة القاضية بأنّ المسلمين (يسعى بذمّتهم أدناهم) بتعبير الحديث الشريف عن الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله). يقول ابن القيّم: ثبت عنه (صلی الله علیه و آله) أنّه قال: (ذمّة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً، فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل اللَّه منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً). وقال : (المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يَدٌ على من سواهم، ويسعى بذمّتهم أدناهم، لا يُقتل مؤمنٌ بكافر، ولا ذو عهد في عهده، من أحدث حدثاً فعلى نفسه، ومن أحدث حدثاً أو

ص: 218

آوى محدثاً فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين). وثبت عنه (صلی الله علیه و آله) أنّه قال: (من كان بينه وبين قومٍ عهد فلا يحلّنّ عقدةً ولا يشدّها حتّى يمضي أمده، أو ينبذ إليهم على سواء). وقال: (من أمّن رجلاً على نفسه فقتله فأنا بري ء من القاتل). وفي لفظ: (اُعطي لواء غدر). وقال: (لكلّ غادرٍ لواءٌ عند استه يوم القيامة يُعرف به، يُقال: هذه غدرة فلان بن فلان). ثمّ إنّ إبرام الأمان إنشاء قانونيّ عقديّ ثنائيّ (أي ذو طرفين) أحدهما مسلم والآخر كافر.

وينقسم إلى قسمين:

الأوّل: طويل الأجل شبيه بعقد الإقامة في لغة القانون الدوليّ الخاصّ الحديث كأمان أعضاء السلك الرسوليّ، أو الهيئات الدبلوماسيّة رؤساء وأعضاء وسفراء وغيرهم. فقد رُوي عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) قوله: (إنّ الرُسل لا تُقتل).

الثاني: قصير الأجل. وهو شبيه بتصريح الدخول المؤقّت (الفيزا) أو الإقامة المؤقّتة. وله أمثلة عديدة منها:

الحصانة الدبلوماسيّة:

أ: أمان المبعوث الرسوليّ، أو المندوب الدبلوماسيّ، أو الوفد الدوليّ لمهمّة مؤقّتة. قال ابن هشام: قد كان مسيلمة (الكذّاب) بن حبيب كتب إلى رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله) : من مسيلمة رسول اللَّه إلى محمّد رسول اللَّه، سلامٌ عليك، أمّا بعد فإنّي اُشركت في الأمر معك، وإنّ لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكنّ قريشاً قومٌ يعتدون. فقدم رسولان لمسيلمة الكذّاب بهذا الكتاب على رسول اللَّه محمّد (صلی الله علیه و آله) ، فقال (صلی الله علیه و آله) لهما: فما تقولانأنتما ؟ قالا: نقول كما قال. فقال (صلی الله علیه و آله) : أما واللَّه ! لو لا أنّ الرُسُل لا تُقتل لضربت أعناقكما ! ثمّ كتب (صلی الله علیه و آله) إلى مسيلمة: بسم اللَّه الرحمن الرحيم من محمّد رسول اللَّه إلى مسيلمة الكذّاب: السلام على من اتّبع الهدى. أمّا بعد ؛ فإنّ الأرض للَّه يُورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين. وذلك في آخر سنة عشر للهجرة، وكان أبو سفيان ممّن جرى عليه حكم انتقاض العهد ولم يقتله رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله) إذ كان رسول قومه إليه. ومن صور هذا الأمان القصير أمان الوفود الّذين تواتروا على رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله) عام تسعة هجريّة.

ص: 219

ب: أمان المستجير ؛ قال تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ) ويدخل في جملته اللاجئ السياسيّ وشبهه. يقول ابن القيّم: وثبت عنه (صلی الله علیه و آله) أنّه أجار رجلين؛ أجارتهما اُمّ هانئ ابنة عمّه، وأجار أبا العاص ابن الربيع لمّا أجارته ابنته زينب، ثمّ قال: (يجير على المسلمين أدناهم). وبذلك يكون المشرّع الإسلاميّ قد سبق القانون الدستوريّ والقانون الدوليّ الخاصّ الحديثين إلى تقرير مبدأ (تسليم اللاجئين السياسيّين محظور) نعم، لو انقضى أمانه سُلّم إلى مأمنه لا إلى من يُخاف منه عليه، بل إنّ ظاهر قوله تعالى: ((ثُمَّ أَبْلغه مَأْمَنَه)) عدم كفاية الإذن للمستجير في بلوغ مأمنه، بل يلزم إبلاغه مأمنه بتيسير ذلك له وتمكينه منه، فما أعظم الإسلام !

ج: أمان الزائر لأيّ غرضٍ غير ممنوع أو مشروع (تجاريّاً كان، أم اجتماعيّاً، أم سياحيّاً، أم غيره) فإنّه يدخل بجوار وحماية المسلمين، فيكون مشمولاً لما تقدّم من قوله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ). فالظاهر منه أنّ سماع كلام اللَّه تعالى غاية للإجارة لا للاستجارة، ومن صور ذلك بعض وفود القبائل الّذين عقدت لهم كتب التاريخ والسير فصولاً مستقلّة، فقد كان فيهم المسلم والكافر.

د: المُؤمَّنْ - بتشديد الميم المفتوحة - وهو من كان أمانه بتعهّدٍ إيقاعيّ لا عقديّ ولو من أدنى المسلمين، وبلا فرق بين وقوعه بإنشاء عهدٍ شرعيّ أو عادي، بل وتكفي شبهة الأمان ؛ كما هو مبسوط في مصادر الفقه الإسلاميّ. وفرقه عن سابقه أنّه (تعهّد) أي من طرفٍ واحدٍ، وأنّه ابتدائيّ دائماً، بينما كان الاستئمان (تعاهداً) من طرفين، وربّما كان ابتدائيّاً أو تلبيةً لطلب. وفي صحيحة جميل عن الصادق (علیه السلام) قال: كان رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله) إذا أراد أن يبعث سريّة دعاهم فأجلسهم (صلی الله علیه و آله) بين يديه، ثمّ يقول:... وأيّما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحدٍ من المشركين فهو جارٍ حتّى يسمع كلام اللَّه، فإن تبعكم فأخوكم في الدين، وإن أبى فأبلغوه مأمنه واستعينوا باللَّه. وجاء في طيّ هذه الصحيحة ما يفيد عدم جواز الغلول من الكفّار بعد الأمان، فإنّه خيانة.

ه: المسالم: وهو وإن تناول الأقسام الأربعة المتقدّمة إلا أنّنا جعلناه اصطلاحاً مختصّاً بغيرها ممّن لا يقاتل المسلمين ولا يقاتلونه دون أن تنطبق عليه إحدى البنود الشرعيّة والموادّ القانونيّة المتقدّمة، والأصل في القانونالدوليّ الإسلاميّ في الموقف الشرعيّ من

ص: 220

هؤلاء أن يتّبع في حقّهم ما تقتضيه المصلحة الإسلاميّة العليا ؛ ولا يخفى على الخبير بالساحة الدوليّة عادةً أنّ المصلحة الإسلاميّة العليا تقتضي مسالمة من سالم.

وفيما يأتي نذكر الأحكام الإسلام الشرعية التي تتعلق بالكفار (1) :

1/ حرمة قتالهم في الأشهر الحرم، إلاّ أن يُبدؤا فيها، قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الْدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)). وقال تعالى: ((فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الْصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)). وقال تعالى: ((الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)) أو كانوا ممّن لا يرى لها حرمة.

2/ حرمة قتالهم في المسجد الحرام إلى أن يُبدؤا فيه، قال تعالى: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ).

3/ حرمة قتالهم قبل دعوتهم إلى الإسلام أو قبول الجزية وشروط الذمّة إن كانوا كتابيّين، وإن كانوا غيرهم خُيِّروا بين الخصلتين الاُوليين فقط ((الإسلام أو القتال)).

4/ حرمة خيانة أماناتهم، فقد اتّفق المسلمون على حرمة خيانة أمانة البرّ والفاجر، والمسلم والكافر ؛ الشامل بإطلاقه للحربيّ، رغم إطلاق عدم حرمته، لكنّ عمومات الأمانة صالحة لتقييده؛ فتأمّل جيّداً. وفي معتبرة مسعدة بن صدقة نهى النبيّ (صلی الله علیه و آله) عن الغلول. وسأل أحدهم الإمام الصادق (علیه السلام) عن حكم اغتيال الناصبيّ - بعد أن منعه عن اغتيال غيره في معيشته – فقال (علیه السلام) : أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، وأراد منك النصيحة، ولو إلى قاتل الحسين (علیه السلام) وعنه (علیه السلام) قوله: لو أنّ قاتل عليّ (علیه السلام) ائتمنني على أمانة لأدّيتها إليه. وعن السجّاد (علیه السلام) : لو أنّ قاتل أبي الحسين (علیه السلام)

ص: 221


1- نقلاً عن (مبدأ التعايُش السلميّ في الفقه الإسلاميّ) ، للشيخ فاضل المالكي.

ائتمنني على السيف الّذي قتله به لأدّيته إليه. كما لا تجوز السرقة من الغنيمة على أساس أنّها مِلْكٌ عامّ لجميع المقاتلين.5/ عدم جواز قتل النساء والصبيان والشيوخ - وزاد بعضهم - المجانين والخُناثى والزمنى كالمقعد والأعمى ممّن لا رأي لهم ولا قتال، إلاّ أن يتوقّف الفتح عليه اضطراراً كجواز قتل أسرى المسلمين إذا تدرّع بهم العدوّ، وجعلهم له تِرساً، وتوقّف الفتح عليه، وإلاّ فلا.

6/ حرمة استخدام الوسائل غير المشروعة دينيّاً؛ ففي معتبرة السكوني عن الإمام عليّ (علیه السلام) قال: نهى رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله) عن إلقاء السموم في بلاد المشركين. نعم، يجوز لقتل المحاربين فقط، بل وغيرهم إذا توقّف عليه الفتح ؛ كما جاز قتل أسرى المسلمين إذا توقّف عليه الفتح أيضاً.

7/عدم جواز قتل أسراهم الذكور البالغين بعد الإثخان والغلبة، وإنّما يُخيّرون بين الخصال الثلاث ((المنّ، أو الفداء، أو الاسترقاق)). ولا تسقط هذه الخصال عنهم باختيارهم الإسلام. وأمّا لو اُسروا أثناء الحرب، فيتعيّن إسلامهم أو قتلهم - باستثناء الشيوخ. وجاء في قصّة ثمامة بن آثال لمّا جي ء به أسيراً ورُبط في سارية المسجد - وكان معروفاً بعداوته - وبعد أن أصبح عاجزاً عن القتال لم يمنعهم من الإحسان إليه، فكان يُراح عليه كلّ يوم بحليب سبع نياق حتّى فُكّ أسره، فأسلم طواعيةً. وفادى النبيّ بعض أسارى بدر، ومنَّ على أبي عزّة الجمحيّ الشاعر الّذي كان معروفاً بعداوته والتأليب على النبيّ بنفسه ولسانه، ثمّ خرج يوم اُحد فاُسر، فطلب المنّ من النبيّ فقال: إنّ المؤمن لا يُلدغ من جُحرٍ مرّتين ! لا ترجع إلى مكّة تمسح عارضيك. فتقول: سخرتُ بمحمّد مرّتين. ثمّ أمر عاصم بن ثابت فضرب عنقه.

8/ عدم جواز تدمير المواقع الاقتصاديّة - صناعيّة، أو زراعيّة، أو حيوانيّة، أو تجاريّة، أو سكنيّة - وشبه ذلك من ضروب التخريب لغير ضرورة كضرورة النبيّ في غزوتي ((الطائف)) و ((بني النضير)). وإن اكتفى بعضهم بكراهة ذلك، لكنّ الظاهر من عموم قوله تعالى: (وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ) حرمته، لشموله لكلّ إتلافٍ من هذا القبيل، فإنّه إفسادٌ في الأرض، وهدر لطاقات وثروات يُمكن استثمارها

ص: 222

من قبل المسلمين. وشرط الشهيد الثاني في ((الروضة)) لجواز التخريب توقّف الفتح عليه).

9/ حرمة التمثيل بهم، لقول النبيّ (صلی الله علیه و آله) : (إيّاكم والمُثلة، ولو بالكلب العقور).

10/ وجوب العدل فيما بينهم في القضاء، وبينهم وبين غيرهم؛ تمسّكاً بعمومات الأمر بالعدل.

11/ وجوب برّ الوالدين الكافرين؛ قال تعالى: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً) ونقل القرطبيّ أنّ قوله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) نزلت في اُمّ أسماء بنت أبي بكر ؛ جاءت إليها قبل أن تسلم - وكان بعد الهجرة - ومعها هدايا لابنتها، فأبت أن تقبلها منها وأن تستقبلها حتّى تستأذن رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله) ، فأذن لها وأمر بصلتها. مضافاً إلى أنّ المرأة لا تُقتل مطلقاً - اُمّاً كانت أملا - إلاّ اضطراراً ؛كما مرّ. بل ربّما يستفاد من عمومات الأمر بصلة الرحم شمولها للكافر مطلقاً. وروى الرازيّ أنّ المسلمين استأمروا رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله) في أقربائهم المشركين، فأمرهم بصلتهم.

هذه جملة من أحكام القسط في معاملة الكافر مطلقاً، والتخلّف عنها عدوان، واللَّه تعالى يقول: ((وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)).

وهذه أيضاً جملة اُخرى من الأحكام الإسلامية التي تحدد نمط المعاملة مع الكفار:

1 - عدم المقاطعة الاقتصاديّة غير الضارّة بالمسلمين، فقد حبس ثمامة الميرة عن أهل مكّة، فسألوا رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله) أن يأذن له أن يميرهم، فأذن له، فمارهم.

2 - الإحسان إلى اُسرائهم، وشأن نزول الآية الكريمة ((وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً)) أشهر من أن يذكر، من غير فرقٍ - في الآية - بين الأسير المسلم وغيره.

3 - كراهة تبييت العدوّ بالإغارة عليه ليلاً. وقد جاء في المرويّ عن الصادق (علیه السلام) قوله: ما بيَّت رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله) عدوّاً قطّ ليلاً إلاّ إذا لزم ذلك لضرورة. يقول ابن القيّم: قد كانت سرايا رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله) يُبيّتون الكفّار، ويغيرون عليهم بإذنه بعد أن بلغتهم

ص: 223

دعوته.. ولا يُنافي ذلك ما رواه البيهقيّ: إنّ رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله) كان إذا طرق العدوّ لم يغز حتّى يُصبح. لظهور ذلك في غزوات النبيّ (صلی الله علیه و آله) ،

4 - التعامل معهم من منطلق الإنسانيّة - إلّا ما أخرجه الدليل الشرعيّ - قال أمير المؤمنين (علیه السلام) في عهده للأشتر رضى الله عنه: وأشعر قلبك الرحمة للرعيّة، والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً ؛ تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين، أو نظيرٌ لك في الخلق.

5 - يكره عند المحقّق الحلّيّ (قدس سره) رمي النار وتسليط المياه على المحاربين إلا لضرورة.

6 - سقوط الجزية عن الصبيان والنساء والمجانين والمُقعد والأعمى والشيخ الهِمِّ - على التحقيق.

7 – ضمان الحقوق المالية.

8 - ذهب بعضهم إلى ردّ الذمّيّ إلى مأمنه إذا خرق شروط الذمّة، بينما ذهب آخرون إلى جواز قتله حينئذ أو استرقاقه إذا أبى الإسلام. استناداً إلى ذيل صحيحة زرارة عن الصادق (علیه السلام) قال - بعد عدّ منافيات الذمّة : ((فمن فعل ذلك منهم برئت منه ذمّة اللَّه وذمّة رسوله (صلی الله علیه و آله)) ) ممّا يعني عدم أمانهم، ومنه عدم ردّهم إلى مأمنهم. لكن قد يقال: إنّ براءة الذمّة أعمّ من عدم ردّهم إلى مأمنهم الثابت للمستجير المُخِلّ بشرط الجواز، فإنّ مقتضى الإطلاق وجوب ردّه إلى مأمنه مطلقاً، ولا يبعد أولويّة الذمّيّ منه بذلك - كما لا يخفى - فيكون ذلك تخصيصاً لعموم البراءة منهم الشامل لدار الإيمان ودار المأمن ؛ فتدبّر جيّداً.

9 - عدم أخذهم غرّة، وإنّما يُؤخذون بعد إعلان البراءة منهم.10 - منحهم مهلة معيّنة بعد البراءة منهم ؛ قال تعالى:(فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِين) ولروعة هذه القصّة وبليغ سياسة رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله) فيها رأيت إيرادها :

روى الحديديّ عن الواقديّ قال - بعد فتح مكّة - : وأمّا صفوان بن اُميّة، فهرب حتّى أتى الشعبة (جدّه) ، وجعل يقول : لغلامه يسار - وليس معه غيرُه: ويحك ! انظر من تَرى ! فقال: هذا عُمَير بن وهب، قال صفوان: ما أصنع بعُمير ؟ واللَّه ما جاء إلّا

ص: 224

يُريد قَتْلي، قد ظاهَرَ محمّداً عليَّ فلحقه، فقال صفوان: يا عُمَير، مالك ؟ ما كفاك ما صنعتَ، حمّلتني دينك وعيالك، ثمّ جئتَ تريد قَتلي؟! فقال: يا أبا وهب، جُعلتُ فِداك ! جئتُك من عند خير الناس، وأبرّ الناس، وأَوصل الناس، وقد كان عميرٌ قال لرسول اللَّه (صلی الله علیه و آله) يا رسول اللَّه، سيّد قومي صفوان بن اُميّة خرج هارباً ليقذف نفسه في البحر، خاف ألاّ تؤمِّنَه، فأمِّنه فداك أبي واُمّي ! فقال: قد أمّنتُه، فخرج في أثره، فقال: إنّ رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله) قد أمّنك، قال صفوان: لا واللَّه حتّى تأتيني بعلامةٍ أعرفُها، فرَجَع إلى رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله) فأخبره وقال: يا رسول اللَّه، جئته وهو يريدُ أن يَقتل نفسه، فقال: لا أرجع إلّا بعلامة أعرِفها، فقال: خذ عمامتي، فرجع عمير إليه بعمامة رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله) - وهي البُردُ الّذي دخل فيه رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله) مكّة معتجراً به، برد حِبرة أحمر. فخرج عمير في طلبه ثانيةً حتّى جاءه بالبُرد، فقال: يا أبا وَهب، جئتك من عند خير الناس، وأوصل الناس، وأبرِّ الناس، وأحلم الناس، مجدُه مجدُك، وعِزّه عِزّك، ومُلكه مُلكك، ابنُ أبيك واُمّك، اُذكِّرك اللَّه في نفسك، فقال: أخافُ أن اُقتل، قال: فإنّه دَعاك إلى الإسلام فإن رضيتَ وإلّا سيَّرك شهرين، فهو أوفى الناس وأبرّهُم، وقد بعث إليك ببردِه الّذي دخل به معتجراً، أتعرِفه؟ قال: نعم، فأخرجه. فقال: نعم هو هو، فرجع صفوانٌ حتّى انتهى إلى رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله) فوجده يصلّي العصر بالناس. فقال: كم يصلّون؟ قالوا: خمس صلوات في اليوم والليلة. قال: أمحمّدٌ يصلّي بهم ؟ قالوا: نعم، فلمّا سلّم من صلاته صاح صَفْوان، يا محمّد، إنّ عميرَ بن وهب جاءني ببُردك، وزَعَم أنّك دعوتني إلى القدوم إليك، فإن رضيت أمراً، وإلّا سيّرتني شهرين. فقال رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله) : انزل أبا وهب، فقال: لا واللَّه أو تبيّنَ لي. قال: بل سِر أربعة أشهر. فنزل صفوانُ وخرج معه إلى حُنين وهو كافر، وأرسل إليه يستعير أدْراعه - وكانت مائة دِرع. فقال: أطوعاً أم كَرْهاً ؟ فقال (صلی الله علیه و آله) : بل طَوعاً عاريةً مؤدّاة، فأعاره إيّاها، ثمّ أعادها إليه بعد انقضاء حُنين والطائف، فلمّا كان رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله) بالجعرانة يسير في غنائم هوازن ينظر إليها، فنظر صفوان إلى شعبٍ هناك مملوء نَعَماً وشاءً ورعاءً، فأدَام النظر إليه ورسول اللَّه (صلی الله علیه و آله) يَرْمُقه. فقال: أبا وهب، يعجبك هذا الشِّعب! قال: نعم، قال: هو لك وما فيه. فقال صفوان: ما طابت نفسُ أحدٍ بمثل هذا إلا نفس نبيّ، أشهد أن لا إله إلّا اللَّه، وأنّك رسول اللَّه. وتوفّي صفوان بمكّة عند خروج الناس إلى البصرة يوم الجمل.

ص: 225

11 - تأليف قلوبهم رجاء أن يُسلموا؛ كما صنع النبيّ (صلی الله علیه و آله) مع وفود المشركين القادمين عليه عام تسعة للهجرة.12 - عدم ابتدائهم بالقتال حتّى يبدؤا.

13 - عدم قطع الماء عنهم إلا لضرورة رجاء إسلامهم. كلّ هذا فضلاً عن دخول صنوف العدل في جملة البرّ، فإنّه أعمّ من العدل كما لا يخفى.

الأحكام الفقهية المتعلقة بأهل الذمة:

أهل الذمة: الذمة في اللغة تعنى العهد والأمان والضمان، وفى الشرع تعنى عقدًا مؤبدًا يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم وتمتعهم بأمان الجماعة الإسلامية وضمانها بشرط بذلهم الجزية وقبولهم أحكام دار الإسلام في غير شؤونهم الدينية، وهذا العقد يعطى لكل طرف حقوقًا ويفرض عليه واجبات، وليست عبارة أهل الذمة عبارة تنقيص أو ذم، بل هو شرف لهم أن يكونوا فى ذمة الله ورسوله، وهى عبارة توحي بضرورة وأهمية حفظ العهد والوفاء تدينًا وامتثالاً للشرع. (1)

وبتعبير آخر هو ادخال الكافر في ذمة الإسلام وضمان الأمان له، وهو أمر جائز شرعاً، وإذا حصل وجب الوفاء به من قبل جميع المسلمين فانهم يسعى بذمتهم أدناهم كما ورد في الخبر، ونذكر بعض المسائل الفقهية المتعلقة بأهل الذمة، الواردة في كتاب منهج الصالحين، للشهيد الصدر الثاني، وفق النقاط الآتية:

الأمان كما هو شامل لنفس الكافر، فقد يشمل ماله وعرضه، وكما يشمل الواحد يشمل المتعدد منهم، كالأسرة أو الحصن أو البلدة وهكذا. والمتكفل للذمام قد يكون فردا من المسلمين، وقد يكون جماعة، ولا يتعين أن يكون هو ولي الأمر، إلا إذا عاد الامر إلى المصلحة العامة. (2)

لا يشترط أن يكون الأمان أو الذمام بعد مطالبة الكافر به، بل يصح ابتداء، كما لا يشترط فيه ترتب مصلحة عليه، كالذي اشارت إليه الآية الكريمة: (حتى يسمع كلام الله) ، بل يصح بدون ذلك، وأن كان مع وجود المصلحة أفضل وأوكد. نعم، لا يبعد

ص: 226


1- الإسلام والآخر الحوار هو الحل، حمدي شفيق.
2- يُنظر منهج الصالحين، السيد الشهيد الصدر الثاني.

اشتراط عدم تحقق المفسدة وخاصة إذا كانت عامة.

لو طلب الكفار الأمان من المسلمين، فرفض المسلمون، ولكنهم ظنوا انهم قبلوا ذلك، فنزلوا عليهم امنين. فلا يجوز للمسلمين ان يقتلوهم أو أن يسترقوهم، بل يجب ردهم إلى مأمنهم. وكذا إذا دخل المشرك دار الاسلام بتخيل الامان لجهة من الجهات.

يجب الدفاع في مصلحة المستأمن ضد اعتداء المسلمين عليه، ما لم يبلغ إلى النفس، فيجب أخذ الأذن به. وأما الدفاع ضد اعتداء الكفار عليه، فهو أفضل وأحوط، إلا أنه ليس بواجب. وعلى كل تقدير لو اعتدى عليهمعتدٍ كان ضامناً، ولم يكن عاقد الذمام ضامناً. واما اعتداء العاقد نفسه، (وإذا كانوا جماعة فبعضهم أو كلهم) على المستأمن، فهو حرام ومضمون بمقدار دية الذمي نفساً أو ما دونها.

ولسريان ونفاذ أحكام الذمة يجب توفر شرائط الذمة الآتية، وهي ستة شرائط:

الأول: الموافقة على دفع الجزية.

الثاني: أن لا يفعلوا ما ينافي الامان ضد المسلمين، مثل العزم على حرب المسلمين، أو امداد المشركين بالمال والسلاح.

الثالث: أن لا يؤذوا المسلمين، كالزنا بنسائهم واللواط بصبيانهم والسرقة لأموالهم، وايواء عين المشركين ضدهم.

الرابع: أن لا يتظاهروا بالمنكرات، كشرب الخمر والزنا وأكل لحم الخنزير ونكاح المحارم. ومن ذلك أن يحدثوا كنيسة جديدة أو بيعة أو يضربوا ناقوساً، وما شاكل ذلك.

الخامس: أن يجري عليهم أحكام المسلمين من ناحيتي الولاية والقضاء.

السادس: أن لا يربوا أولادهم بالمنع عن معرفة الدين الاسلامي، ولا غير أولادهم ممن يريد ذلك، بل يجب عليهم اعطائهم الحرية والاختيار في الدين، كمطالعة الكتب الإسلامية وحضور مجالس المسلمين ونحو ذلك. فانهم بطبيعة الحال سوف يختارون الطريقة الموافقة للفطرة وهي الإسلام، كما إن الدين الإسلامي أعمق وأوضح في العقل مما سواه، فلو اُشترطت عليهم هذه الشرائط أو غيرها، وجب على الكفار الالتزام بها، وإن اخلوا بها مع الشرط فقد اخلوا بالذمة وخرجوا عن ذمة الإسلام.

وإذا التزموا بالشروط:

يرتفع عنهم القتال والاستعباد.

ص: 227

ويقرون على أديانهم.

ويسمح لهم بالسكنى في دار الإسلام آمنين على أنفسهم وأموالهم.

بل يجب ضمان الدفاع عنهم إذا اعتدى عليهم معتد، فإن هذا هو معنى دخولهم في ذمة الإسلام.

كما يجب عليهم أن يدافعوا عن المسلمين لو حصل الاعتداء عليهم، ولكن لو تركوا ذلك فقط، لم يخلوا بشرائط الذمة ما لم يكن مشترطاً عليهم في العهد الأصلي، وأحكام الذمة وشرائطها مشروعة عندما يكون الحرب والجهاد مشروعاً، هجوماً أو دفاعاً، وأما بدونه فلا. ومنه يظهر انه ليس في أيامنا هذه من الكفار ممن هو من أهل الذمة، لعدم تحقق هذه الشرائط ولا تلك.ومن حقوق أهل الكتاب على المسلمين أيضاً؛ إذا احتاج النصارى في مرمة بيعهم وصوامعهم أو شيء من مصالح أمورهم ودينهم إلى رفد (مساعدة) من المسلمين وتقوية لهم على مرمتها أن يرفدوا ذلك ويعاونوا ولا يكون ذلك دينا عليهم بل تقوية لهم على مصلحة دينهم ووفاء بعهد رسول الله، وموهبة لهم، ومنة من الله ورسوله عليهم، (لأني أعطيتهم عهد الله أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين وعلى المسلمين ما عليهم حتى يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم).. هكذا قرر الإسلام كامل حقوق المواطنة -لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين وعلى المسلمين ما عليهم- حتى يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم...

يقول المستشرق الروماني جيورجيو: (حوى هذا الدستور اثنين وخمسين بندا، كلها من رأي رسول الله. خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، ولاسيما اليهود وعبدة الأوثان. وقد دُون هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء. وضع هذا الدستور في السنة الأولى للهجرة، أي عام 623م. ولكن في حال مهاجمة المدينة من قبل عدو عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده). (1)

ومن ضمن التعاملات الاجتماعية بين الفرد المسلم وزوجته الكتابية، التي حددها الإسلام، إنه (إذا صارت

ص: 228


1- دولة النبي (7) في المدينة المنورة، الشيخ فوزي ال سيف.

النصرانية عند المسلم (زوجة) فعليه أن يرضى بنصرانيتها ويتبع هواها في الاقتداء برؤسائها والأخذ بمعالم دينها ولا يمنعها ذلك فمن خالف ذلك وأكرهها على شيء من أمر دينها فقد خالف عهد الله وعصى ميثاق رسوله (صلی الله علیه و آله) وهو عند الله من الكاذبين. (1)

إنّ السياسة الإسلامية مع الأقليات المسيحية واليهودية التي كانت تعيش في الحكومة الإسلامية كانت مبنيّة على أساس المعاهدات المتقابلة والتعايش السلميّ، ومع كل ما كان للحكومة الاسلامية من قوة وقدرة ما كان المسلمون ليعاملوهم معاملة خشنة. واليهود حول المدينة ماداموا يعاملون عل معاهداتهم المتقابلة كانوا يعيشون الى جانب المسلمين من دون أي ظلم أو خشونة معهم، وحتى روي عن النبيّ (صلی الله علیه و آله): (من آذى ذميّاً فقد آذاني ألا ومن ظلم مُعاهداً أو كلّفه ما لا يطيق أو أخذ منه مالاً بغير رضاه فانا خصيمه يوم القيامة). (2)

وقد أثرت بشكل كبير هذه التعاليم والأحكام الإسلامية في نفوس أبناء الديانات الأخرى، لاسيما المثقفين والمفكرين منهم، لما رأوه من عظيم السماحة التي يحملها الإسلام في قيمه ومبادئه، لذا يقول الدكتور(واجليري) وهو اُستاذ جامعة نابولي: (إن حياة الشعوب المغلوبة المفتوحة وحقوقها المدنية وأموالها أصبحت موضع حماية الحكومة الإسلامية بحيث كانت حقوقهم تقريباً تشابه الحقوق التي كان المسلمون يتمتعون بها، إن العرب في أوج قدرتهم وانتصارهم كانوا مستعدين دائماً ليقولوا لأعدائهم : لا تحاربونا وادفعوا إلينا ضرائب مالية معتدلة ثم تمتّعوا منا بحماية كاملة، تكون لكم من الحقوق مثل ما لنا. إنّنا لو التفتنا الى أقوال محمّد (صلی الله علیه و آله) أو فتوحات أصحابه في صدر الإسلام لرأينا بسهولة ويُسر كيف أن القول بأن الإسلام حمل نفسه على الناس بقوة السيف من الكذب القبيح، فالقرآن يقول : ((لا إكراه في الدين). (3)

وتقول المستشرقة الألمانية (زيغريد هونكه) : (العرب لم يَفرِضوا على الشعوب المغلوبة الدخولَ في الإسلام؛ فالمسيحيون والزرادشتية واليهود الذين لاقوا قَبْل الإسلام أبشعَ أمثلة للتعصب الديني وأفظعها، سُمِح لهم جميعًا دون أي عائق يَمنعهم بممارسة

ص: 229


1- المصدر نفسه.
2- الإسلام والحضارة الغربية. السيد مجتبى الموسوي اللآري.
3- الإسلام والحضارة الغربية. السيد مجتبى الموسوي اللآري.

شعائر دينهم، وترَك المسلمون لهم بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون أن يَمسُّوهم بأدنى أذى، أوَليس هذا منتهى التسامح؟ أين روى التاريخ مِثل تلك الأعمال ومتى؟ ومَن ذا الذي لم يتنفَّس الصُّعداء بعد الاضطهاد البيزنطي الصارخ، وبعد فظائع الإسبان واضطهاد اليهود؟ إن السادة والحكام المسلمين الجُدد لم يزجوا أنفسهم في شؤون تلك الشعوب الداخلية، فبطريرك بيت المقدس يكتب في القرن التاسع لأخيه بطريرك القسطنطينية عن العرب: إنهم يمتازون بالعدل ولا يَظلِموننا ألبتَّة، وهم لا يستخدمون معنا أي عنف). (1)

وكتب العالم والمؤرخ الفرنسي الدكتور (غوستاف لوبون) : (إن المسلمين كانوا خلال بضع قرون قد غيّروا بلاد الاندلس علمياً واقتصادياً حتى جعلوها تاجاً من الفخر على مفرق أوربا، ولم تكن هذه الثورة في الأمور المالية والعلمية فقط بل حتى في الأخلاق، فانّهم علّموا النصارى خصلة قيّمة إنسانية عالية - أو حاولوا أن يعلّموهم - وهي التعايش السلميّ مع أتباع ساير الأديان. إن سلوك المسلمين مع الشعوب المغلوبة كان من اللين بحيث كان يُسمح لرؤساء الاساقفة أن يشكّلوا لأنفسهم مجالس دينية، كما أقاموا لأنفسهم مجالس دراسة دينية سنة (872) ميلادية في اشبيلية، وسنة (852) ميلادية في قرطبة. ومن الكنائس الكثيرة التي كانت قد بُنيت في عهد الحكومة الإسلامية يمكننا أن ندرك مدى احترامهم وتقديرهم لأديان الشعوب المغلوبة، نعم أسلم كثير من النصارى في حين لم تكن ضرورة تدعوا الى ذلك، في حكومة المسلمين كان اليهودوالنصارى يشاركون المسلمين في حقوق متقاربة. وكان بإمكانهم أن يتسنّموا مناصب ومقامات ويزاولوا أشغالاً في بلاط الخلافة). (2)

وقد دفعت مداراة المسلمين وحسن معاشرتهم ومعاملتهم لأهل الكتاب في أن يجدوا أمنهم المطلوب في كنف المسلمين، ويحسّوا بالطمأنينة في ظلال الحكومة الإسلاميّة والنظام الإسلاميّ حتّى أنّ الأدلّة التاريخيّة والشواهد القطعيّة الكثيرة تشهد على أنّ الكثير من النصارى الذين كانوا يطاردون من قبل الكنيسة الرسميّة في بيزنطية كانوا يلجأون إلى البلاد الإسلاميّة حصولا على الحماية والأمن والاستقرار ولأجل هذا نجد

ص: 230


1- شمس العرب تَسطَع على الغرب. زيغريد هونكه، ص364.
2- الإسلام والحضارة الغربية، السيد مجتبى الموسوي اللآري.

أنّ أجمل الكنائس والصلوات هي تلك التي بنيت في أرض الإسلام أيّام مجد المسلمين ودولتهم وهذا أمر ملحوظ في جميع البلاد الإسلاميّة الحاضرة، هذا مضافاً إلى أنّ الأقليّات الدينيّة كانت ولا تزال تتمتّع بالحريّة الاقتصاديّة والتجاريّة والمعيشيّة، دون أن تحسّ بحاجة إلى التحزّب والتمركز والتجمّع لمواجهة أيّ خطر. (1)

مبدأ التعايش السلمي في مدرسة الشعائر الحسينية:

يأتي لأداء سُنة المشي لزيارة مرقد سيد الشهداء (علیه السلام) الكثير من أبناء السُنة وكذلك أبناء الطوائف الدينية غير المسلمة ومن مختلف بلدان العالم، لأجل إحياء هذه الشعيرة المقدسة، عِرفاناً منهم بأحقية المبادئ الحسينية الأصيلة، وتلاحماً مع المسلمين العارفين بحقه ومظلوميته التي يريدون الدفاع عنها بكل ما أوتوا من قوة، وإن ابتعدوا عنه زماناً ومكاناً ومذهباً، لذا فإننا نرى مواكب اطعام الطعام وسقي الماء والخدمة الحسينية لإخواننا من أبناء السُنة وكذلك إخواننا من الطائفة المسيحية والصابئة وحتى بعض اليهود والآيزيديين وغيرهم، منشرة في الأوساط الاجتماعية. وبهذا يكون الصوت الحسيني والهدف الحسيني المبارك من العلامات البارزة التي توحد شعوب العالم، على قضية دينية وانسانية مشتركة واحدة، وتجعلهم يتعايشون بشكل سلمي فيما بينهم ضمن هذا الرابط الديني وضمن هذا الإطار المقدس، الذي يدفعهم بدوره نحو التحرر من كل أنواع الظلم والعدوان.

ومن الجدير بالذكر إن أبناء طائفة الصابئة يحترمون العقيدة الإسلامية، ولم يسجل لهم اهانة للمسلمين بل أنّهم يتخاطبون بتحية الإسلام الصريحة (السلام عليكم) ويحضرون أماكن التعزية للناس، وكذلك يشاركون بالحزن لمقتل سيد الشهداء (علیه السلام) وهذا أمر ملموس منهم قديماً وحديثاً على الرغم من قلة عدد أبناء هذه الطائفة، وأحياناً يصل بهم الأمر إلى إغلاق محال تجاراتهم في يوم عاشوراء ويوم أربعينية الإمام الحسين (علیه السلام) احتراماً وتقديراً لهذه المناسبة المؤلمة.وعلى صعيد الشواهد التأريخية التي تروي لنا ظاهرة التعاطف واللحمة المتحققة بين المسلمين وأبناء طائفة الصابئة، هو ما ذُكر بأن السيد الشريف الرضي (قدس سره) كان

ص: 231


1- مفاهيم القرآن، الشيخ جعفر سبحاني، ج2، ص468 – 470.

له صديقاً صابئياً يدعى (أبو هلال بن المحسن الصابئي) ولما مات صديقه هذا، رثاه السيد الرضي (قدس سره) بقصيدة رائعة ومؤثرة مطلعها:

أرأيت من حملوا على الأعواد أرأيت كيف خبا ضياء الوادي

فعاتبه بعض أصدقائه، وقالوا ل : إنّه (صابئي) وليس (مسلماً) ، فقال: إنّما رثيت فضله.

وقد أكد المرجع اليعقوبي على ضرورة إحياء شعائر الإمام سيد الشهداء (علیه السلام) وأشار في أكثر من مناسبة إلى مدى أهميتها وفوائدها الجليلة على الأمة، لاسيما من هذه الزاوية، فضلاً عن الزوايا المشرقة الأخرى، حيث قال (دام ظله) : (إنها توحّد الأمة بكل طوائفها وقومياتها وتوجهاتها الاجتماعية والسياسية ومختلف انتماءاتها الجغرافية والعشائرية، وهذا واضح حيث يذوب الجميع في حب الإمام الحسين (علیه السلام) وبعضهم لبعض مما يستحيل تحقيقه في غير هذا الهدف قال تعالى: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ)).

كما ذكر (دام ظله) جملة من الفوائد للشعائر الحسينية الخاصة بهذا الجانب، نذكر منها ما يأتي:

(إن وحدة الهدف والغاية لهذه الملايين الزاحفة يوحد الأمة ويذوب خلافاتها وما أحوجنا اليوم لهذه الوحدة).

(تبقى شعيرة الذهاب إلى كربلاء سيراً على الأقدام أهم الوسائل الحضارية التي تعبر الاُمة من خلالها عن مطالبها وأهدافها وهو أسلوب أثبت نجاحه عبر التاريخ واستفاد منه القادة العظماء وأولهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي أمر المسلمين بالتوجه إلى مكة في عمرة القضاء في السنة السابعة للهجرة والسيوف في إغمادها مما اضطر قريش إلى الاستسلام وسحب المبررات من اتخاذ أي أجراً مسلح وانهزمت بعدها قريش).

(إن الشعائر الحسينية ليست انفعالات وردود فعل عاطفية هوجاء لا معنى لها وإنما هي مدرسة يستلهم منها العلماء والمفكرون وطالبوا الفضيلة كل معاني السمو والكمال وبهذا وغيره من عناصر القوة).

(المأمول إدامة هذه الآثار المباركة التي عاشها الجميع خلال أيام المناسبة لتكون خصالاً ثابتة في سلوكنا، مثلاً رغم مشاركة الملايين في الزيارة إلا أنه لم يحصل خلاف أو

ص: 232

شجار بين الزوار بل إذا وقع خطأ –كارتطام سيارتين مثلاً- كان المجني عليه يسبق الجاني للاعتذار منه وتحمّل نفقات إصلاح سيارته. أقول: هذا السمو وهذا النبل لماذا نتخلى عنه عندما نعود إلى أهلنا وديارنا فتحصل النزاعات لأمور تافهة عند الله تبارك وتعالى، أليس هذان المختلفان هنا هما من تعاملا بذلك النبل في رحاب أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) وكلاهما شيعة علي والحسين (H) ؟ فما حدا مما بداً!).(إذا التفتنا إلى أمرين علمنا أهمية سير المؤمنين مشياً على الأقدام إلى كربلاء وسائر المشاهد المقدسة خصوصاً في زيارة الأربعين: الأول: أن السير على الأقدام من أجل تحقيق مطلب معيّن أو إلفات النظر إلى قضية معينة وسيلة حضارية اتخذتها الأمم وفرضت بها إرادتها، وهناك شواهد عديدة من التأريخ القديم والجديد ففي السنة السادسة للهجرة خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) بألف وبضع مئات من أصحابه يريد مكة لأداء العمرة بمسيرة سلمية فلما علم مشركو قريش بذلك أسقط ما في أيديهم ولم يستطيعوا قتالهم وأوقعوهم في حرج شديد لئلا تقول العرب أنهم قتلوا ناساً عزّلاً من السلاح جاؤوا قاصدين البيت الحرام، واضطروا للصلح مع النبي (صلی الله علیه و آله) في الحديبية وعدّه الله تبارك وتعالى فتحاً مبيناً في سورة الفتح، ومن التأريخ الحديث ثورة الملح والمسيرة التي قادها غاندي وأنهى على أثرها الاحتلال البريطاني للهند، والمسيرات المليونية التي أسقطت شاه إيران ولم يكن المتظاهرون يقابلون النار التي يطلقها جلاوزة الشاه إلا بالورود حتى خجل الجيش من نفسه وانسحب من المواجهة تاركاً الشاه وجلاوزته فانتصرت الثورة الإسلامية في إيران...). (1)

أما فوائد المشي لزيارة المراقد المشرفة لاسيما مرقد الإمام الحسين (علیه السلام) فقد ذكر (دام ظله) عدة فوائد لها، نذكر منها مايلي:

إن التوجّه سيراً على الأقدام من مسافات بعيدة مع ما يرافقه من العناء والمشقّة فيه تعبير عن عميق المودّة والولاء للإمام (علیه السلام) التزاماً بقوله تعالى (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى).

إنّ فيه إظهاراً لعظمة الإمام المقصود بما عظّمه الله تعالى، كما سار الإمامان الحسن والحسين (H) ماشيين إلى مكة المكرمة تعظيماً لبيت الله الحرام.

ص: 233


1- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج4، (المسيرات الراجلة ظاهرة حضارية) .

إنّ فيها إدخالاً للسرور على قلب النبي وأهل بيته المعصومين (صلوات الله عليهم) ومواساة لهم على عظيم مصابهم، وفيه إحياء لأمرهم والتزام بما وجهوا إلهيا (أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا).

الثواب العظيم الذي رصد لمن يقصد زيارة الإمام الحسين (علیه السلام) ماشياً وقد وردت في ذلك روايات عديدة منها عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (من أتى قبر الحسين (علیه السلام) ماشياً كتب الله له بكل خطوة ألف حسنة ومحا عنه ألف سيئة ورفع له ألف درجة).

إنها وسيلة هداية للآخرين، فقد اهتدى بشعائر الحسين (علیه السلام) إلى الحق كثيرون وعادوا إلى الصلاح والرشد في حين عجزت كل الوسائل عن إصلاحهم، وهذه من بركات الإمام الحسين (علیه السلام) فإنه (مصباح هدى وسفينة نجاة).إنها توحّد الأمة بكل طوائفها وقومياتها وتوجهاتها الاجتماعية والسياسية ومختلف انتماءاتها الجغرافية والعشائرية، وهذا واضح حيث يذوب الجميع في حب الإمام الحسين (علیه السلام) وبعضهم لبعض مما يستحيل تحقيقه في غير هذا الهدف قال تعالى: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ).

إنّ المسيرات السلمية وسيلة حضارية تتبعها كل الأمم المتحضرة لإلفات النظر إلى قضاياها والمطالبة بحقوقها ودفع الآخرين للسؤال والفحص عن المشروع المحرِّك لها، وهذا ما تحقق إذ صار العالم كله يتساءل اليوم عن الإمام الحسين وأهل البيت والشيعة، والسؤال مفتاح الوصول إلى الحقيقة.

إنها تحبط محاولات الأعداء المتنوعين التي تستهدف الشعب العراقي الأبي وهذا البلد الكريم، لإفساده وإخضاعه وإرعابه وتدجينه وسلخه من هويته الإسلامية الأصيلة، فقد حاول الإرهابيون بكل وسائل القتل والتدمير والجريمة إخافته، وحاول الاحتلال تدجينه وتحويله إلى جزء من مشروع الشرق الأوسط الكبير بل رأس الحربة فيه، وحاولت تقنيات الإغراء والغواية والتضليل إفساده وإبعاده عن إسلامه الأصيل ففشل الجميع، ببركة هذه المسيرات المليونية.

ص: 234

إنها ممارسة تعبوية تحافظ على جاهزية الأمة وحضورها في الميدان على الدوام وبدونها يصاب الشعب بالخمول والكسل والاسترخاء فيكون مكشوفاً وهدفاً سهلاً لكل استهداف.

إنها تقوّي الإرادة والتحمل وتوطين النفس على الصعاب مما يعجز عن تحقيقه أي ممارسة أخرى وتشكّل بذلك فقرة مهمة من عملية الاستعداد لنصرة الإمام الموعود (عجل الله تعالى فرجه) والمشاركة الفاعلة في التمهيد لدولته المباركة ونصرته.

إن أجواء الزيارة والمشاعر الروحية فيها تعطي للنفس زاداً معنوياً وحصانة وغذاءً روحياً يبقى تأثيره ولذته إلى أمد بحسب استحقاق كل شخص واستعداده، وكما يقال بحسب سعة إنائه ووعائه فإنه يغترف من هذه الألطاف الإلهية (فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا).

بهذه الحركة المليونية يبرز الشعب العراقي انتماءه للإسلام ولمذهب أهل البيت ويبرز هويته في عملية إحصاء سكّاني صادق ودقيق لا يقبل الخطأ والتزوير وليردّ بذلك على بعض الجهات التي تحاول القفز على الواقع وتدّعي خلافه.

إن فيها مواساة لآل النبي (صلی الله علیه و آله) وعيالات الحسين (علیه السلام) الذين اقتيدوا أسارى في الصحراء بلا غطاء ولا وطاء من كربلاء إلى الكوفة ثم إلى دمشق ثم أعيدوا إلى كربلاء ثم إلى مدينة جدهم (صلی الله علیه و آله) وهن عشرات النسوة وأزيد منهم من الأطفال بلا محامِ ولا كفيل وإنما يحوطونهم قتلة الطيبين من آل رسول الله (صلی الله علیه و آله).إن هذه الحركة الجماعية تنمي روح العمل الجماعي الذي إن تعودت عليه الأمة حصلت لها بركات كثيرة.

إن وحدة الهدف والغاية لهذه الملايين الزاحفة يوحد الأمة ويذوب خلافاتها وما أحوجنا اليوم لهذه الوحدة.

إن كثيراً من الناس يتحركون بفعل ما يسمى ب (العقل الجمعي) فقد لا يكون الشخص مندفعاً نحو التدين وتعظيم شعائر أهل البيت (علیهم السلام) لكنه لا يملك نفسه دون أن ينخرط في هذه الحركة المليونية المباركة ويتأثر بها فتكون خير وسيلة للهداية والإصلاح كالذي تفعله صلاة الجمعة ونحوها.

ص: 235

إنها تقوي الإرادة وتحقق النصر على النفس الأمارة بالسوء التي تميل إلى الدعة والراحة وتكره العنت والمشقة وهي بذلك تحقق قفزة كبيرة على صعيد تهذيب النفس والسلوك إلى الله تبارك وتعالى.

إن هذه الحركة تعزز الانتماء إلى الإمام الحسين (علیه السلام) ونهضته المباركة وما أحلاه من انتماء وما أشرفه وما أعظمه وهذه الهوية تحتوي على الكثير من الخصائص والعلامات المميزة له عن غيره التي ينبغي للسائر إلى الإمام الحسين (علیه السلام) أن يعيها ويلتفت إليها ويجسدها في حياته.

والفوائد الصحية التي ربما هي أخر ما يفكر بها السائر إلى الحسين (علیه السلام) لأنه يرنو ببصره إلى المعنويات والآثار الروحية، لكن هذه الآثار الطيبة على الصحة ليست قليلة، ونحن نعلم أنَّ كل أحكام الشريعة إنما جعلت لمصالح يجنيها الفرد أو مفاسد يراد دفعها عنه، وقد ذكروا أن المشي يقلل من خطر ارتفاع ضغط الدم ويحسن أداء القلب ويساهم في خفض نسبة الدهون في الدم (الكوليسترول) المسبب لتصلب الشرايين، ويقوم بتقوية العظام ويحافظ على صحة المفاصل والعضلات ويخفف من حدة التوتر النفسي وغيرها كثير.

ولما رأى أعداء الدين وأعداء الانسانية ما تحققه هذه الشعائر المباركة من ثمار طيبة تهدم ما يخططونه من مؤامرات ومن أعمال اجرامية، راحوا وبكل ما أُوتوا من قوة يقفون بوجه هذه الشعائر وبشتى السبل والأشكال. وفي مقدمة هذه المواجهة الشيطانية الأعمال الارهابية التي تستهدف المراقد المقدسة والزوار الأبرياء، وقد سجل التأريخ كيف إنهم أرادوا فصل أبناء الشيعة عن اخوانهم من أبناء السُنة في حادثة جسر الأئمة، هذا الجسر الذي أطلق عليه أحدهم أسم (جسر التعايش) لأنه يربط بين محل سكناهم، فعلى أحد طرفي هذا الجسر تجد المشهد الشريف للإمامين موسى الكاظم ومحمد الجواد (علیه السلام) وفي الطرف الأخر له مرقد إمام المذهب الحنفي الإمام أبو حنيفة النعمان. فالكاظمية التي تنسب للإمامين الجوادين (علیه السلام) يقطنها أتباع مذهب أهل البيت، والأعظمية المنسوبة للإمام أبي حنيفة يسكنها أهل السنة، لذا فهذا الجسر أصبح رمزاً للتعايش السلمي بين الشيعة والسنة ، وفي كل سنة في ذكرى شهادة الإمام الكاظم (علیه السلام) يأتي الملايين من أهل العراق - والكثير من خارج العراق - مشياً على الأقدام

ص: 236

لزيارة الكاظمية، لأجل إحياء الشعائر الدينية المقدسة. ومن الطبيعي أن يعبر الكثير من الزوار هذا الجسر. وقبل عدة سنوات، وفي يوم شهادة الإمام الكاظم (علیه السلام)وعندما اكتظ الجسر بالزوار والناس، حذر أحد الأشخاص من أن انتحارياً سينفذ عملية ارهابية على الجسر، وفي نفس هذه اللحظة سمع صوت انفجار في منطقة الأعظمية مما سبب إلقاء الناس أنفسهم من أعلى الجسر إلى النهر. أحد شباب أهل السنة من سكان الأعظمية يدعى (عثمان العبيدي) وكان سباحاً ماهراً ألقى بنفسه في الماء وأنقذ تسعة أشخاص من الغرق المحتم وعندما ذهب لإنقاذ الشخص العاشر غرق واستشهد. وقد سجلت هذه التضحية الوحدوية في ذاكرة التاريخ، وهذه الحادثة تُعد من النتائج الطيبة التي افرزتها الشعائر الدينية التي يحييها أبناء مختلف الطوائف والأديان. لذا نكرر ما قلناه بأن الشعائر الدينية لا سيما الحسينية منها - لما تتمتع به من مميزات - ترص الصفوف وتوحد الكلمة وتلهب حماسة الجماهير، وتخلق مجتمعاً متفاهماً ومتعاوناً ومتحداً، فضلاً عن السمات الطيبة الأخرى التي تفرزها هذه الشعائر المباركة.

حقوق غير المسلمين في المجتمع الإسلامي:

إن المواطنين من غير المسلمين أقرّ الإسلام لهم حقوق المواطنة منذ عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل أربعة عشر قرناً بما لم يكن من قبله مثله، فقد تعامل مع اليهود والنصارى بحقوق المواطنة بأن أعطاهم حقوقهم ولم يجبرهم على دخول الإسلام بل ترك لهم حرية الاختيار أو المقام على دينهم، مع ما لاقاه منهم من مؤامرات وتربص بالإسلام والمسلمين. وفيما يتعلق بدور عبادتهم، لم يكتف الإسلام بإباحة إقامة هذه الدور من الكنائس والبيع وإنما أعلن التزام الدولة الإسلامية بإعانتهم على إقامتها. وفي حرية الاعتقاد، جعلها رسول الله (صلی الله علیه و آله) فريضة إسلامية مقدسة، وليست مجرد حق من حقوق الإنسان، يمنحها حاكم ويمنعها آخرون قال تعالى: (ولا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلاَّ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إلَيْنَا وأُنزِلَ إلَيْكُمْ وإلَهُنَا وإلَهُكُمْ واحِدٌ ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون) (1)

ص: 237


1- العنكبوت (46) .

ومع تقرير كل هذه الحقوق، حقوق المواطنة لغير المسلمين، فإن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وعلى المسلمين ما عليهم، حتى يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم من حماية الأنفس والدماء والأموال والأعراض وأماكن العبادة والحريات فمع تقرير هذه الحقوق، قررت الشريعة الإسلامية واجبات المواطنة، فنصت على أن يكون الولاء والانتماء للوطن، وليس للأعداء الذين يتربصون بهذا الوطن ويكيدون لأهله.. هكذا قررت الشريعة الإسلامية كامل حقوق المواطنة وواجباتها منذ اللحظة الأولى لقيام دولة الإسلام، الأمر الذي جعل الدولة الإسلامية قائمة على التعددية الدينية طوال تاريخ الإسلام.

هذا مع أهل الكتاب وليس بعيداً عن ذلك أهل الذمة، وأهل الذمة هم الذين يدفعون الجزية مقابل عدم الجهاد مع المسلمين وقد يكونون يهوداً أو مسيحاً أو مجوساً أو غير ذلك ومقابل دفع الجزية يضمن لهمالإسلام الأمان على مالهم ودمائهم وأعراضهم ويدافع عنهم أبناء الإسلام ويتمتعون بجميع حقوق المواطنة كالمسلمين. أما أهل الكتاب فإذا شاركوا المسلمين في جهادهم فإنه يسهم لهم بسهم من الغنائم كالمسلمين. وعن رسول اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) قال: (ألا من ظَلَمَ مُعَاهِدًا أو انْتَقَصَهُ أو كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أو أَخَذَ منه شيئا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يوم الْقِيَامَةِ) وماذا لو كان مسلماً فهل سيحاججه رسول الله أم لا ؟! (1)

ومن أهم هذه الحقوق التي أقرها الدين الإسلامي للمواطنين من غير المسلمين هي:

حق حماية الدماء والأبدان: فأول حقوق أهل الكتاب في الإسلام حمايتهم من كل عدوان خارجي، فإذا اعتدي عليهم وجب على المسلمين الدفاع عنهم، وقد اتفق العلماء على أن دماء أهل الذمة محفوظة، والاعتداء عليها كبيرة من الكبائر، استناداً لأحاديث النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) الواردة في هذا الباب، وهذه بعض منها:

(من قتل رجلاً من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاماً). (2)

ص: 238


1- ينظر الإمام علي (علیه السلام) والمساواة في المواطنة، الشيخ حسين الراضي، نقلاً عن موقع مكتب الهداية، صحيفة الساحل.
2- بحار الانوار، ج97، ص48.

(ريح الجنة يوجد من مسيرة مائة عاًم وما من عبد يقتل نفساً معاهدة إلا حرم الله عليه الجنة ورائحتها أن يجدها). (1)

(من قتل قتيلاً من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً). (2)

(من قتل معاهداً في غير كنهه حرم الله عليه الجنة). (3)

(من قتل نفساً معاهدا بغير حلها حرم الله عليه الجنة أن يشم ريحها). (4)

(ألا من قتل معاهداً له ذمة الله وذمة رسوله (صلی الله علیه و آله) فقد خفر ذمة الله ولا يرح ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً). (5)

هذا إن كان ذمياً أو معاهداً وماذا لو كان مسلماً فهل القاتل سيجد ريح الجنة؟ وهكذا إلى عشرات الأحاديث التي منعت من أذية أو ظلم غير المسلمين أو قتلهم فكيف حينئذ بالمسلمين الذين يتشهدون الشهادتين. وفي جانب المسلم فضلاً عن المؤمن فقد تواترت الأحاديث في حرمته وعدم المساس به. (6)حماية الأموال وتغريم من يتلفها: ويبلغ من رعاية الإسلام لحرمة أموالهم وممتلكاتهم أنه يحترم ما يعدونه - حسب دينهم- مالاً وإن لم يكن مالاً في نظر المسلمين. فالخمر والخنزير لا يجوز لمسلم أن يمتلكهما، ولو أتلفهما المسلم ضمنها للذمي فيغرم قيمتها إذا كان الذمي يستخدمهما سراً. (7)

ص: 239


1- السنن الكبرى، البيهقي، المكتبة الشاملة، ج8، ص133.
2- السنن الكبرى، النسائي، ج4، ص221.
3- المصدر نفسه.
4- المصدر نفسه.
5- سنن الترمذي، الترمذي، المكتبة الشاملة، ج5، ص439.
6- ينظر الإمام علي (علیه السلام) والمساواة في المواطنة، الشيخ حسين الراضي، نقلاً عن موقع مكتب الهداية، صحيفة الساحل.
7- ينظر منهج الصالحين، الشهيد الصدر الثاني، ج3، كتاب الغصب، مسألة 1859، ص323.

حماية الأعراض: فعرض الذمي محفوظة في الإسلام كعرض المسلم (فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة، فقد ضيَّع ذمة الله، وذمة رسوله (صلی الله علیه و آله) وذمة دين الإسلام) (1) والنصوص في ذلك متوافرة وكثيرة وقد مر عليك بعضاً منها آنفاً.

التأمين المعاشي عند العجز والشيخوخة والفقر: بل يضمن الإسلام لغير المسلمين كفالة المعيشة الملائمة لهم ولمن يعولونه؛ لأنهم رعية للدولة المسلمة وهي مسئولة عن كل رعاياها، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : كلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته، والقصة المشهورة عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) مع الرجل النصراني الأعمى الذي شاهده الإمام (علیه السلام) وهو يستعطي أيام حكمه خير شاهد على ذلك.

حق الاعتقاد: ومن تلك الحقوق أن الإسلام لم يكره أهل الذمة على اعتناق الإسلام، فلكل ذي دين دينه ومذهبه، لا يُجبر على تركه إلى غيره، ولا يُضغط عليه ليتحول منه إلى الإسلام. وأساس هذا الحق قوله تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) (2) وقوله سبحانه: (أفأنت تُكرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين) (3) وقد صان الإسلام لغير المسلمين معابدهم ورعى حرمة شعائرهم، وقد اشتمل عهد النبي (صلی الله علیه و آله) إلى أهل نجران أن لهم جوار الله وذمة رسوله على أموالهم وملَّتهم وبِيَعهم، وسنذكر كتب ومعاهدات النبي (صلی الله علیه و آله) لاحقاً إن شاء الله تعالى.

حق العمل والكسب: كما كفل الإسلام لغير المسلمين حق العمل والكسب؛ فلهم كل الأنشطة التجارية من بيع وشراء وإجارة ووكالة وغيرها إلا الربا؛ لما رُوِي أن النبي (صلی الله علیه و آله) كتب إلى مجوس هجر: (إما أن تذروا الربا أوتأذنوا بحرب من الله ورسوله) (4) ، يضاف إلى هذا بيع الخمور ولحم الخنزير في أمصار المسلمين، وما سوى هذا فلهم الحرية في التعامل. (5)

ص: 240


1- ينظر فتاوى واستشارات موقع الإسلام اليوم، مجموعة من علماء وطلبة علم، www.islamtoday.net.
2- البقرة (256) .
3- يونس (99) .
4- ينظر أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام، عبد الكريم زيدان، موقع المكتبة الشاملة الإلكتروني، ص110.
5- ينظر،المواطنة حقوق وواجبات، محمد فوزي منصور، موقع منتدى المواطنة الإلكتروني.

مقومات المواطنة في الإسلام:

مع تنوع أطياف الشعب دينياً ومذهبياً وعرقياً في الوطن الواحد إلا إن الإسلام يضمن للجميع حقوقهم، ومن أبرز هذا الحقوق هي:

حق الكرامة: إذا توفرت للإنسان أسباب ومدارك الكرامة، وشعر بأن كرامته تحظى بالاحترام، يكون ذلك سبباً في انشداده إلى تراب وطنه ويعمق إحساسه بالانتماء إليه والولاء للجماعة فيه إذ يقر لهم بالاحترام مقابل احترامهم له، والقرآن الحكيم يتحدث عن أولئك الناس الذين تصادر كرامتهم في أوطانهم، ولا يكونون قادرين على الدفاع عن حرياتهم الأساسية في بلادهم، فهم مخيرون بين العيش في الوطن أذلاء مهانين أو الهجرة عنه طلباً لأجواء الحرية والكرامة، وحينئذ فالخيار الثاني هو المطلوب. يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (1)

فالإنسان يجب أن لا يرضى لنفسه الإذلال والاستضعاف، وأن تصادر كرامته، إنما ينشد إلى وطنه، حينما تتوفر له الكرامة فيه، واحترام الآخرين له.

حق البقاء في الوطن: فلا يحق لأحد إخراجه منه قهراً، أو محاربته، لذا نجد القرآن الكريم في أكثر من مورد يذم الكفار الذين حاربوا الأنبياء (علیهم السلام) وهجروهم من أوطانهم ومحل سكنهم، قال تعالى: (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) (2) ، (أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ..) (3) ، (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ). (4)حق الأمن والحماية: فقد ورد عن النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) أنه قال: (لا خير في الوطن إلا بالأمن والسرور) (5) ، كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وهو يستنهض

ص: 241


1- النساء: 97.
2- الأعراف: 82
3- التوبة: 13.
4- الأعراف: 88.
5- ميزان الحكمة، الري شهري، ج11، ص198.

المسلمين للوقوف أمام هجمات أتباع معاوية: (..وَ هَذَا أَخُو غَامِدٍ قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ اَلْأَنْبَارَ وَ قَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ اَلْبَكْرِيَّ وَ أَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا وَ لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ اَلرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى اَلْمَرْأَةِ اَلْمُسْلِمَةِ وَ اَلْأُخْرَى اَلْمُعَاهِدَةِ فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَ قُلُبَهَا وَ قَلاَئِدَهَا وَ رُعُثَهَا مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالاِسْتِرْجَاعِ وَ اَلاِسْتِرْحَامِ ثُمَّ اِنْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ وَ لاَ أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ فَلَوْ أَنَّ اِمْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً). (1)

حق المساواة: أي المساواة العامة بين الرعية فلا فرق لعربي على أعجمي في الوطن ولا بين الأسود والأبيض ولا المنتمي لهذه الطائفة وتلك فهم سواسية من عدة جهات:

أ- في القيمة الإنسانية: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا). (2) وقال تعالى أيضاً: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (3) ولم يشر الله تعالى في هاتين الآيتين في ذلك إلى المسلم أو المؤمن بل قال الناس، وفي ذلك إشارة عامة إلى المساواة بين الناس في إنسانية الإنسان وحقوقه الوطنية، ومما ينسب إلى الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) في هذا الباب:

الناس من

جهة التمثيل أكفاء***

أبوهم آدم

والأم حواء

نفس كنفس

وأرواح مشاكلة***

وأعظم خلقت

فيهم وأعضاء

فإن يك لهم

من أصلهم حسب***

يفاخرون به

فالطين والماء

ما الفضل

إلا لأهل العلم إنهم***

على الهدى

لمن استهدى أدلاء

ص: 242


1- نهج السعادة، المحمودي، ج 2، ص562. (المكتبة الشاملة)
2- النساء: 1.
3- الحجرات: 13.

وقدر كل

امرئ ما كان يحسنه***

والجاهلون

لأهل العلم أعداء (1)

ب- المساواة في الحقوق: سواء على مستوى الحكم بأن يكون الحكم بالحق لمن له الحق كما خاطب الله تعالى نبيه داود (علیه السلام) آمرا إياه بالعدل المطلق بين الناس: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (2) أو على مستوى العطاء بأن يعطي لكل فرد حقه باعتباره مواطناً له ما للجميع وعليه ما على الجميع، كما يجب على الحاكم العدالة بين أفراد الشعب بأن يعدل بين أبناء رعيته بدون تمايز بين الأفراد بعضهم مع بعض، مع المسلمين وغير المسلمين، مع المتنفذين وغيرهم دون مفارقة بين أفراد الشعب، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) (3) ،وقال سبحانه أيضاً: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (4) فأوصى بأن يحكم بالعدل للجميع، وفي قوله سبحانه: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (5) تنبيه بالعدل مع الخصومة، وفي قوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّ-هِ إِذَا عَاهَدتُّمْ) (6) أمر بالوفاء بالعهد أما قوله تعالى: (وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّ-هَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (7) ففيه تحذير من الاعتداء على حق الآخر. (8)

حق ضمان الحرية، وهي على أنحاء متعددة منها:

الحرية الدينية وعدم التضييق على المواطن من قبل الآخر حتى وإن كان الآخر أكثرية أو بيده السلطة فللمواطن حق الحرية ب (المعتقد، الطقوس العبادية، والشعائر

ص: 243


1- ينظر زهر الأكم في الأمثال والحكم، اليوسي، موقع الوراق، www.alwarraq.com.
2- ص: 26.
3- النحل:90.
4- المائدة: 2.
5- المائدة: 8.
6- النحل: 91.
7- المائدة: 87.
8- ينظر الإمام علي (علیه السلام) والمساواة في المواطنة، الشيخ حسين الراضي، نقلاً عن موقع مكتب الهداية، صحيفة الساحل.

الدينية و الانتماء لطائفة معينة) قال تعالى:(لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّين) (1) وعندما ابتدع عمر صلاة التراويح جماعة وحرّمها الإمام علي (علیه السلام) أيام حكمه ضجّ الناس في الكوفة وبكوا على صلاة التراويح، فقال الإمام علي (علیه السلام) : دعوهم وما يريدون وسمح الامام(علیه السلام) لهؤلاء بإقامة تلك الصلاة البدعية ولم يقتلهم ولم يسجنهم بل أعطاهم حرية كاملة في عباداتهم وأقوالهم. (2)

حرية الانتخاب والانتماء السياسي والحزبي، فقد روى التأريخ لنا إنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) لمّا همّ بالمسير إلى البصرة، بلغه عن سعد بن أبي وقّاص وابن مسلمة واُسامة بن زيد وابن عمر تثاقل عنه، فبعث إليهم. فلمّا حضروا قال لهم: قد بلغني عنكم هناتٍ كرهتُها، وأنا لا اُكرهكم على المسير معي، ألستم على بيعتي؟ قالوا: بلى. قال: فما الذي يُقعدكم عن صحبتي؟ فقال له سعد: إنّي أكره الخروج في هذا الحرب؛ لئلّا اُصيب مؤمناً، فإن أعطيتَني سيفاً يعرف المؤمن من الكافر، قاتلتُ معك! وقال له اُسامة: أنت أعزّ الخلق عليَّ، ولكنّي عاهدتُ اللَّه أن لا اُقاتل أهل لا إله إلّا اللَّه... وقال عبداللَّه بن عمر: لست أعرف في هذا الحرب شيئاً، أسألك ألّا تحملني على ما لا أعرف. فقال لهم أمير المؤمنين (علیه السلام) : ليس كلّ مفتون معاتب، ألستُم على بيعتي؟ قالوا: بلى. قال: انصرفوا فسيُغني اللَّه تعالى عنكم. (3)

حرية الكلمة كالنقد والاعتراض والاحتجاج والمشاركة في المظاهرات السلمية.. روي أنه قدم على الإمام علي (علیه السلام) وفد من أهل البصرة فيهم رجل من رؤساء الخوارج يقال له الجعد بن نعجة وقال له في لباسه فقال: هذا أبعد لي من الكبر وأجدر أن يقتدي بي المسلم. فقال له اتق الله فإنك ميت قال: ميت بل والله قتلا ضربة على هذه تخضب هذه قضاء مقضيا وعهدا معهودا وقد خاب من افترى. (4) وروي أنه (علیه السلام) كان جالساً في أصحابه إذ مرت به إمرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم فقال (علیه السلام) : إن

ص: 244


1- البقرة 256.
2- ينظر السياسة من واقع الإسلام، السيد صادق الشيرازي، ص114 - 115.
3- موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) في الكتاب والسنة والتاريخ، الري شهري، باب حب الوطن،ج5، ص60 وما بعدها.
4- بحار الانوار، ج33، ص435.

أبصار هذه الفحول طوامح، وإن ذلك سبب هبابها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلمس أهله فإنما هي امرأة كامرأة. فقال رجل من الخوارج: قاتله الله كافراً ما أفقهه !! فوثب القوم ليقتلوه فقال (علیه السلام) : رويدا إنما هو سب بسب أو عفو عن ذنب. (1)

وروي إن أمير المؤمنين (علیه السلام) خطب يوماً فقال: سلوني فإني لا اسأل عن شيء دون العرش إلا أجبت فيه لا يقولها بعدي إلا جاهل مدع أو كذاب مفتر. فقام رجل من جانب مسجده في عنقه كتاب كأنه مصحف وهو رجل آدم ضرب طوال، جعد الشعر. كأنه من مهودة العرب، فقال رافعا صوته لعلي: أيها المدعي ما لا يعلم والمقلد ما لا يفهم ! أنا السائل فأجب. فوثب به أصحاب علي وشيعته من كل ناحية فهموا به فنهزهم الإمامعلي (علیه السلام) قال لهم: دعوه ولا تعجلوه ! فإن الطيش لا تقوم به حجج الله ولا به تظهر براهين الله. ثم التفت إلى الرجل وقال له: سل بكل لسانك وما في جوانحك فإني اجيبك،...ثم أجابه الامام (علیه السلام) عن كل أسئلته، فحرك الرجل رأسه وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. (2)

حرية التعددية الدينية: حيث يجيز الإسلام مبدأ التعددية وحرية الأديان واحترامها فلاشك أن توفير المساواة والشورى والعدالة يستوجب حرية واحترام الأديان والأقليات الموجودة فالإسلام لا يفرض على أحد الإيمان بالقوة فهو دين قائم على العدل، يقول الله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) ويقول الله تعالى أيضاً في كتابه الكريم: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ). (3) فالقرآن يقبل التعددية مع غير الإسلام من ديانات وإلحاد وهو يعتبر المسؤولية فردية لا جماعية وهو لا يمنع الكافر من ممارسة طريقته في الحياة ولا يُجبر على ممارسة العبادات وفي ذلك تأكيد على ممارسة المواطنة. (4)

ولو طالعنا صفحات التأريخ الإسلامي لاسيما في سيرة الحكومة النبوية الشريفة والحكومة العلوية المباركة لتبين لنا بوضوح كيفية تعامل قادة الإسلام العظام مع

ص: 245


1- المصدر نفسه، ج33،ص435.
2- المصدر نفسه، ج45، ص231.
3- البقرة : 256.
4- ينظر المواطنة في التاريخ العربي الإسلامي، هيثم مناع، ص 22.

غير المسلمين الذين منحوا لهم كافة الحقوق والامتيازات اللائقة بهم سواء أكانت دينية أو اجتماعية أو اقتصادية أو غير ذلك.

ص: 246

الموانع الأخلاقية للتعايش السلمي في المجتمع

اشارة

إن انتشار عنصر الجريمة والعنف في المجتمع، منشؤه وجود عدة عوامل ومقدمات فاسدة، من أبرزها؛ العوز المادي والجهل والبطالة والعنف الأسري والتربية غير الصالحة والتمييز العنصري وأصدقاء السوء والأمراض النفسية وغير ذلك، التي تُعد حواضن من الطراز الأول لتنمية اللاسلم الإجتماعي. وللتربية الأخلاقية دور فعال في بناء المجتمع الصالح الذي تسوده المحبة والسلام، وبالعكس فإن الأسُس الأخلاقية الفاسدة هي التي تدفع الفرد للتعايش غير السلمي مع الآخرين.

وهذا ما أكد عليه المرجع اليعقوبي في عدة من أقوالة المباركة، حيث قال (دام ظله) : (ما هذه المفاسد التي نعاني منها كالخلاف والبغضاء وتبادل الاتهامات والتمزق إلا نتيجة النفس الأمارة بالسوء وعدم الإمساك بقيادها، والا لو كان الجميع مخلصين لله سبحانه وهدفهم واحد هو رضا الله سبحانه: لتآخوا ولتحابّوا ولشكربعضهم بعضاً على معاونته اياه في هذا الطريق، أترى لو أن جميع الأنبياء - وهم مئة وأربعة وعشرون الفاً- جُمعوا في مكان واحد وزمان واحد ماذا ستكون العلاقة بينهم؟ هل الشجار والخلاف كما يحصل بيننا ونحن شرذمة قليلون ؟!). (1)

وقال (دام ظله) أيضاً: (قال تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).. لا يختص الفشل وذهاب الريح والقوة بالجانب المادي وما يتعلق بالدنيا، بل تذهب القوة المعنوية أي روح الايمان وطمأنة القلب أيضاً، فتخسر الأمة ريحها ورُوحها ورَوْحها لأن التنازع يوقع صاحبه في الكبائر من أجل تحقيق الغلبة فيتورط في الغيبة والكذب والبهتان والإفتراء والتجسس على خصمه ليضعفه وهذه كلها من الكبائر الموبقة، ويبرّر لنفسه المداهنة والسكوت عن الباطل عند من يريد الاستقواء به على خصمه وينشغل تفكيره بالمجادلات والمنازعات عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وهو من فعل الشيطان بهم وهكذا يذهب في منزلق خطير نحو الهاوية، وهذه

ص: 247


1- (المعالم المستقبلية للحوزة العلمية) و (وصايا ونصائح إلى الخطباء وطلبة الحوزة الشريفة) للمرجع اليعقوبي.

الامور مجرّبة ومعروفة في كل المنازعات مهما صغرت دائرتها او اتسعت كالخلاف بين الزوجين أو بين العائلة الواحدة على الميراث مثلاً أو النزاع بين عشيرتين أو حزبين سياسيين أو بين جماعتين أو بين مقلدي المرجعيات الدينية المتعددة، أو بين طائفتين). (1) وفيما يأتي نذكر الأسُس الأخلاقية الفاسدة التي تُعد الركائز الأساسية والمقومة للتعايش غير السلمي في المجتمع، ونذكر معها الآيات المباركة والأحاديث الشريفة التي حذّرت البشرية من مغبتها وخطرها:

1- الغش والخيانة:

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (المسلم أخو المسلم، ولايحل لمسلم باع من أخيه بيعا فيه عيب إلا بينه له).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (المؤمنون بعضهم لبعض نصحة وادون وإن بعدت منازلهم وأبدانهم، والفجرة بعضهم لبعض غششة متخاونون وإن اقتربت منازلهم وأبدانهم).

عن الإمام علي (علیه السلام) : (المؤمن لا يغش أخاه، ولا يخونه، ولايخذله، ولايتهمه).

وعنه (علیه السلام) : (الغش يكسب المسبة).

وعنه (علیه السلام) : (شر الناس من يغش الناس).

وعنه (علیه السلام) - من عهده إلى بعض عماله -: (إن أعظم الخيانة خيانة الأمة، وأفظع الغش غش الأئمة).

عن الإمام الكاظم (علیه السلام) : (ملعون من غش مسلماً أو ماكره أو غره).عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : إفشاء سر أخيك خيانة، فاجتنب ذلك).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (ليس منا من خان بالأمانة).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (لا تخن من خانك فتكون مثله).

عن الإمام علي (علیه السلام) : (لا تخن من ائتمنك وإن خانك، ولا تشن عدوك وإن شانك).

وعنه (علیه السلام) : (الخيانة غدر).

ص: 248


1- خطاب المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج9، خطاب رقم (455) : (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا) .

وعنه (علیه السلام) : (الخيانة رأس النفاق).

وعنه (علیه السلام) : (شر الناس من لا يعتقد الأمانة ولا يجتنب الخيانة).

عن الإمام الصادق (علیه السلام) : (يجبل المؤمن على كل طبيعة إلا الخيانة والكذب).

2- العصبية والتعصّب:

قال تعالى: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا).

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) - لما سئل عن العصبية -: (أن تعين قومك على الظلم).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (من تعصب أو تعصب له فقد خلع ربق الإيمان من عنقه) وفي نقل آخر: فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية).

عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) : (إن كنتم لا محالة متعصبين فتعصبوا لنصرة الحق وإغاثة الملهوف).

وعنه (علیه السلام) : (إن الله يعذب الستة بالستة: العرب بالعصبية، والدهاقين بالكبر).

وعنه (علیه السلام) - من كتابه للأشتر -: (املك حمية أنفك، وسورة حدك، وسطوة يدك، وغرب لسانك).

وعنه (علیه السلام) في خطبته الشريفة المسماة بالقاصعة: (.. إلا إِبْلِيسَ اِعْتَرَضَتْهُ اَلْحَمِيَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ وَ تَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِأَصْلِهِ فَعَدُوُّ اَللَّهِ إِمَامُ اَلْمُتَعَصِّبِينَ وَ سَلَفُ اَلْمُسْتَكْبِرِينَ اَلَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ اَلْعَصَبِيَّةِ وَ نَازَعَ اَللَّهَ رِدَاءَ اَلْجَبَرِيَّةِ وَ اِدَّرَعَ لِبَاسَ اَلتَّعَزُّزِ وَخَلَعَ قِنَاعَ اَلتَّذَلُّلِ أَ لاَ تَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اَللَّهُ بِتَكَبُّرِهِ وَ وَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ فَجَعَلَهُ فِي اَلدُّنْيَا مَدْحُوراً وَ أَعَدَّ لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ سَعِيراً).

ص: 249

عن الإمام سيد الشهداء (علیه السلام) : (من تعصب عصبة الله بعصابة من نار).عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) - لما سئل عن العصبية -: (العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم).

عن الإمام الصادق (علیه السلام) : (من تعصب أو تعصب له، فقد خلع ربقة الايمان من عنقه).

وعنه (علیه السلام) : (مَن تعصب عصبه الله عزوجل بعصابة من نار).

وعنه (علیه السلام) : (إن الملائكة كانوا يحسبون أن إبليس منهم، وكان في علم الله أنه ليس منهم، فاستخرج ما في نفسه بالحمية والغضب فقال: خلقتني من نار وخلقته من طين).

وقال المرجع اليعقوبي: (من أسباب الفرقة والتنازع التعصب لشخص أو اتجاه معين وهو سلوك باطل لأن التعصب يجب أن يكون للحق، ولنتأمل طويلاً في قولهم (علیهم السلام) : (لا يعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله) فليس الرجال معياراً لمعرفة الحق بل الحق معيار لتقييم الرجال).

3- الغيبة:

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ).

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (أيها الناس إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، إن الله حرم الغيبة كما حرم المال والدم).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (الغيبة ذكرك أخاك بما يكره).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (من تطول على أخيه في غيبة سمعها فيه في مجلس فردها عنه، رد الله عنه ألف باب من السوء في الدنيا والآخرة).

ص: 250

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (من اغتيب عنده أخوه المسلم، فاستطاع نصره فلم ينصره، خذله الله في الدنيا والآخرة).

عن الإمام علي (علیه السلام) : (إياك أن تجعل مركبك لسانك في غيبة إخوانك، أو تقول ما يصير عليك حجة، وفي الإساءة إليك علة

وعنه (علیه السلام) : (إياك والغيبة، فإنها تمقتك إلى الله والناس، وتحبط أجرك).

عن الإمام الصادق (علیه السلام) : (لا تغتب فتغتب، ولا تحفر لاخيك حفرة فتقع فيها فإنك كما تدين تدان).

وعنه (علیه السلام) : (مَن قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته اذناه، فهو من الذين قال الله عز وجل: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة).عن الإمام الكاظم (علیه السلام) - في خطابه إلى محمد بن الفضيل -: (يا محمد! كذب سمعك وبصرك عن أخيك، وإن شهد عندك خمسون قسامة وقال لك قولا فصدقه وكذبهم، ولاتذيعن عليه شيئا تشينه به، وتهدم به مروءته، فيكون من الذين قال الله عزوجل: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة...).

وقال المرجع اليعقوبي: (إن قوتنا في وحدتنا ولا تتحقق الوحدة إلا برص الصفوف وتجنب الخلاف والعمل سوية في إطار المرجعية الشريفة هذه وصيتي فمن كان يحبّني فليعمل بها ليكون ذلك أعظم رد توجهونه إلى الأعداء الذين يتربصون بكم الدوائر عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم حتى لو استفّزكم بعضهم بكلام عليَّ او عليكم وتشويه صورتي ومحاولة تسقيطي في أعين الناس فلا تردّوا عليهم بالمثل ولا تذكروا الجهة التي يرجعون اليها بسوء، الا يكفيكم في الجواب عليهم قول الامام (علیه السلام) : (كفى بك نصراً على عدوك ان يعصي الله فيك) لأنه سيقحم نفسه في كبائر عديدة كالغيبة والكذب والبهتان، الا يكفيكم في جوابه قول الامام (علیه السلام) : (من روى رواية على أخيه المؤمن يبتغي بها شينه وهدم مروته وليسقطه في أعين الناس أخرجه الله من ولايته الى ولاية الشيطان ثم لا يقبله الشيطان)).

ص: 251

4- التخاصم والتقاطع:

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (أيما مسلمين تهاجرا فمكثا ثلاثا لايصطلحان إلا كانا خارجين من الإسلام، ولم يكن بينهما ولاية، فأيهما سبق إلى كلام أخيه كان السابق إلى الجنة يوم الحساب).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (لا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانا، هجر المؤمنين ثلاثا، فإن تكلما وإلا أعرض الله عزوجل عنهما حتى يتكلما).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (لا يتهاجر الرجلان قد دخلا في الإسلام إلا خرج أحدهما منه، حتى يرجع إلى ما خرج منه، ورجوعه أن يأتيه فيسلم عليه).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام).

عن الإمام علي (علیه السلام) : (ألزموا السوادَ الأعظم، فإنّ يد الله على الجماعة، وإيّاكم والفرقة، فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان، كما أنّ الشاذ من الغنم للذئب).

وعنه (علیه السلام) : (المخاصمة تبدي سفه الرجل ولا تزيد في حقه).عن الإمام الباقر (علیه السلام) : (إياكم وأصحاب الخصومات والكذابين فإنهم تركوا ما أمروا بعلمه، وتكلفوا ما لم يؤمروا بعلمه حتى تكلفوا علم السماء).

وعنه (علیه السلام) : (مامن مؤمنين اهتجرا فوق ثلاث إلا وبرئت منهما في الثالثة، فقيل له: يا بن رسول الله هذا حال الظالم فما بال المظلوم؟ فقال (علیه السلام) : مابال المظلوم لا يصير إلى الظالم فيقول: أنا الظالم حتى يصطلحا).

عن الإمام الصادق (علیه السلام) : (إياكم والخصومة، فإنها تشغل القلب، وتورث النفاق، وتكسب الضغائن).

عن الإمام المهدي (علیه السلام) : (وَلَوْ أَنَّ أَشْياعَنا - وَفَّقَهُمُ اللّهُ لِطاعَتِهِ - عَلَى اجْتِماع مِنَ القُلُوبِ فِي الْوَفاءِ بِالْعَهْدِ عَلَيْهِمْ لَما تَأَخَّرَ عَنْهُمُ الْيُمْنُ بِلِقائِنا، وَلَتَعَجَّلَتْ لَهُمُ السَّعادَةُ بِمُشاهَدَتِنا عَلى حَقِّ الْمَعْرِفَةِ وَصِدْقِها مِنْهُمْ بِنا، فَما يَحْبِسُنا عَنْهُمْ إِلاّ ما يَتَّصِلُ بِنا مِمّا نُكْرِهُهُ وَلانُؤْثِرُهُ مِنْهُمْ، واللّهُ الْمُسْتَعانُ، وَهُوَ حَسْبُنا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَصَلواته عَلى سَيِّدِنَا الْبَشيرِ النَّذيرِ مُحَمَّد وَآلِهِ الطّاهِرِينَ وَسَلَّمَ).

ص: 252

وقال المرجع اليعقوبي: (قال تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) الآية تنهى المؤمنين عن التنازع والتخاصم فيما بينهم وتحذرهم، بأن عاقبة هذا التنازع هو الفشل والضعف والانهزام لأنهم سينشغلون بهذا الصراع الداخلي عن الاستعداد لمواجهة الأعداء وسينهك قواهم وسيفقدهم الثقة بأنفسهم ويحطّم شخصياتهم ويذهب بحرمتهم وكرامتهم لأن كلاً من الطرفين المتنازعين يريد أن يتغلب على الآخر بأي ثمن فيبذل طاقته في تسقيط الآخر والبحث عن عيوبه ونقائصه وإظهارها للأخرين لكي يثبت أحقيته وغلبته، فيسقط الجميع بهذا الانتقاص المتبادل ويفشلون، ويؤدي الفشل الى ذهاب ريحهم أي عزّتهم وقوتهم وغلبتهم وتسير الامور على غير ما يريدون، وفي التعبير عن القوة بالريح رمزية وكناية دقيقة عن هذا المعنى لأن الريح هي التي ترفع الأشرعة وتعطي القدرة لاندفاع السفن في البحار فإذا توقفت الريح فإن السفن تعجز عن الحركة ولم يتحقق الوصول إلى الهدف المطلوب، كذلك فإن الريح تجعل الأعلام والألوية ترفرف مرتفعة في ساحة الحرب فتشعر بالقوة فإذا ذهبت الريح انتكست الأعلام وخارت القوى).

وقال (دام ظله) أيضاً: (احفظوا وحدتكم أيها الأحبة ولا تعطوا فرصة للأعداء ليوقعوا بينكم فلا يوجد شيء يستحق الاختلاف بيننا).

5- سوء الظن وإصدار الأحكام المسبقة تجاه الاخرين:

(إن العناصر المنحرفة السيئة تجد نفسها معنية بتتبع العثرات والأخطاء التي تصدر من هذا وذاك لتبرر لذاتها الانحراف وحتى تتوجه الأنظار إلى أخطاء غيرهم بدل التركيز عليهم وأيضاً للتخفيف من وقع انحرافاتهم في الوسط الاجتماعي مادام غيرهم يشاركهم فيها، يقول الإمام علي (علیه السلام) : (ذوو العيوب يحبون إشاعة معايبالناس، ليتسع لهم العذر في معايبهم) (1) كما تجد هذه الفئة نفسها في مواجهة مع المؤمنين الصالحين فتسعى لتشويه سمعتهم والتشكيك في نياتهم، لذلك فإن من يقترب من هذه الأجواء السيئة، يتأثر بالإشعاعات التي تدور فيها وتتسرب إليه الظنون السيئة تجاه الاخرين الأبرياء يقول

ص: 253


1- ميزان الحكمة، محمدي الري شهري، باب الغيبة.

الامام علي (علیه السلام) : (مجالسة الاشرار تورث سوء الظن بالأخيار) (1) وقد نجد مثل هذه الحالة بين الاتجاهات المختلفة فإذا كانت هناك فئة متدنية ذات نشاط وفعالية اجتماعية فإن الفئة الأخرى التي ليس لها دور ولا نشاط قد تشعر بنوع من الحرج داخل نفسها وأمام الآخرين ولدفع هذا الحرج فإنها تبحث عن أخطاء العاملين المصلحين وتضخم الهفوات وتشكك في سلامة نياتهم واستقامة مسيرتهم وذلك يخلف أثراً على نفوس المحيطين بهذه الفئة، والقريبين من أجوائها فيصبح لديهم شيء من التحفظ والارتياب تجاه الفئة العاملة التي تخدم قضايا الدين والمجتمع). (2) وفيما يأتي نذكر النصوص الشريفة الواردة في هذا الباب:

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ).

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (إن الجبن والبخل والحرص غريزة واحدة يجمعها سوء الظن).

عن الإمام علي (علیه السلام) : (اطرحوا سوء الظن بينكم، فإن الله عزوجل نهى عن ذلك).

وعنه (علیه السلام) : (إياك أن تغلبك نفسك على ما تظن ولا تغلبها على ما تستيقن، فإن ذلك من أعظم الشر).

وعنه (علیه السلام) : (لا دين لمسئ الظن).

وعنه (علیه السلام) : (لا إيمان مع سوء الظن).

وعنه (علیه السلام) : (سوء الظن يفسد الامور ويبعث على الشرور).

وعنه (علیه السلام) : (سوء الظن بمن لا يخون من اللؤم).

وعنه (علیه السلام) : (سوء الظن بالمحسن شر الإثم وأقبح الظلم).

وعنه (علیه السلام) : (شر الناس من لا يثق بأحد لسوء ظنه، ولا يثق به أحد لسوء فعله).

ص: 254


1- بحار الأنوار، ج71، ص191.
2- ثقافة التعايش، الشيخ ناصر الأسدي، ص77-78.

عن الإمام السجاد (علیه السلام) : (.. فَإنَّ الشُّكُوكَ وَالظُّنُونَ لَواقِحُ الْفِتَنِ، وَمُكَدِّرَةٌ لِصَفْوِ الْمَنآئِحِ وَالْمِنَنِ). (1)

عن السيد المسيح (علیه السلام) : (يا عبيد السوء تلومون الناس على الظن، ولا تلومون أنفسكم على اليقين).

6- الإيذاء والإهانة والاحتقار:

قال تعالى: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً).

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (من آذى مؤمناً فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فهو ملعون في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان). وفي خبر آخر: (فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (من أحزن مؤمناً ثم أعطاه الدنيا لم يكن ذلك كفارته ولم يؤجر عليه).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (من نظر إلى مؤمن نظرة يخيفه بها أخافه الله تعالى يوم لا ظل إلا ظله).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (لا يحل للمسلم أن يشير إلى أخيه بنظرة تؤذيه).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (ألا انبئكم بالمؤمن! من ائتمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم. ألا انبئكم بالمسلم! من سلم المسلمون من لسانه ويده. والمؤمن حرام على المؤمن أن يظلمه أو يخذله أو يغتابه أو يدفعه دفعة).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (قال الله تبارك وتعالى: من أهان لي ولياً فقد ارصد لمحاربتي).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (قال الله عز وجل: قد نابذني من أذل عبدي المؤمن).

عن الإمام الصادق (علیه السلام) : (قال الله عز وجل: ليأذن بحرب مني من آذى عبدي المؤمن).

ص: 255


1- الصحيفة السجادية الكاملة، المناجاة السابعة: مناجاة المطيعين لله.

وعنه (علیه السلام) : (إذا كان يوم القيامة، نادى مناد: أين المؤذون لأوليائي؟ فيقوم قوم ليس على وجوههم لحم، فيقال: هؤلاء الذين آذوا المؤمنين ونصبوا لهم وعاندوهم وعنفوهم في دينهم. ثم يؤمر بهم إلى جهنم).

وعنه (علیه السلام) : (إن الله تبارك وتعالى يقول: من أهان لي ولياً فقد أرصد لمحاربتي، وأنا اسرع شيء إلى نصرة أوليائي).

وعنه (علیه السلام) : (من حقر مؤمناً مسكيناً أو غير مسكين، لم يزل الله عز وجل حاقراً له ما قتاً، حتى يرجع عن محقرته إياه).

7- تعذيب الناس:

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (يقال للرجال يوم القيامة: اطرحوا سياطكم وادخلوا جهنم).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (يقال للجلواز يوم القيامة: ضع سوطك وادخل النار).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (يكون في آخر الزمان في هذه الأمة اناس معهم سياط كأنها أذناب البقر، يغدون في سخط الله ويروحون في غضبه).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (لا تعذبوا صبيانكم بالغمز، وعليكم بالقسط).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (إن الله تعالى يعذب يوم القيامة الذين يعذبون الناس في الدنيا).وعنه (صلی الله علیه و آله) : (لا يقفن أحدكم موقفاً يضرب رجل فيه سوطاً ظلماً، فإن اللعنة تنزل على من حضره حيث لم يدفعوا عنه).

عن الإمام علي (علیه السلام) : (من ضرب رجلاً سوطاً ظلماً ضربه الله سوطاً من النار).

8- القتل:

قال تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا..) (1)

ص: 256


1- المائدة (32) .

وقال تعالى أيضاً: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). (1)

وقال تعالى أيضاً: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيماً). (2)

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (لا يزال قلب العبد يقبل الرغبة والرهبة حتى يسفك الدم الحرام، فإذا سفكه نكس قلبه، صار كأنه كير محم أسود من الذنب، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكراً).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (لا يزال قلب العبد يقبل الرغبة والرهبة حتى يسفك الدم الحرام، فإذا سفكه نكس قلبه، صار كأنه كير محم أسود من الذنب، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكراً).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (أعتى الناس من قتل غير قاتله أو ضرب غير ضاربه).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (إذا التقى المسلمان بسيفيهما على غير سنة فالقاتل والمقتول في النار، فقيل: يا رسول الله (صلی الله علیه و آله) هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال: لأنه أراد قتلاً).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (لزوال الدنيا جميعا أهون على الله من دم سفك بغير حق).

عن الإمام الباقر (علیه السلام) : (ما من نفس تقتل برة ولا فاجرة إلا وهي تحشر يوم القيامة متعلقة بقاتله بيده اليمنى ورأسه بيده اليسرى وأوداجه تشخب دما يقول: يا رب سل هذا فيم قتلني، فإن قال قتله في طاعة الله اثيب القاتل الجنة واذهب بالمقتول إلى النار، وإن قال في طاعة فلان قيل له: اقتله كما قتلك، ثم يفعل الله عزوجل فيهما بعد مشيئة).وعنه (علیه السلام) : (أول ما يحكم الله فيه يوم القيامة الدماء فيوقف ابني آدم فيفصل بينهما، ثم الذين يلونهم من أصحاب الدماء حتى لا يبقى منهم أحد، ثم الناس بعد ذلك فيأتي المقتول قاتله فيشخب دمه في وجهه فيقول: هذا قتلني، فيقول أنت قتلته ؟ فلا يستطيع أن يكتم الله حديثاً).

ص: 257


1- الأنعام (151) .
2- النساء (93) .

وعنه (علیه السلام) : (من قتل مؤمناً متعمداً أثبت الله تعالى عليه جميع الذنوب، وبرئ المقتول منها، وذلك قول الله تعالى: (إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار).

عن الإمام الرضا (علیه السلام) : (حرّم الله قتل النفس لعلة فساد الخلق في تحليله لو أحل، وفنائهم وفساد التدبير).

عن إسحاق بن عمار قال: قلت لابي الحسن (علیه السلام) : (المرأة تخاف الحبل فتشرب الدواء فتلقي ما في بطنها؟ قال: لا، فقلت: إنما هو نطفة، فقال: إن أول ما يخلق نطفة).

9- الاستهزاء والسخرية:

يجب على الفرد عدم الانتقاص من شأن الآخرين أو من مكانتهم الاجتماعية، بالسخرية والاستهزاء أو عن طريق التعيير. وكذلك تجنب الاعتداء على حقوق وحريات الآخرين، وتجنب المساس بمقدساتهم ورموزهم الدينية والوطنية، وبثوابتهم وقيمهم التي يؤمنون بها، ويقدسونها، لأن الطرف الذي يُعتدى عليه بما يخص هذه الأمور التي تُعد مهمة بالنسبة إليه، لن يظل مكتوف الأيدي دائماً ولعله يرد بالمثل أو أكثر من ذلك، وحينئذ ستنشب الصراعات وتزرع التفرقة وتُأجج الفتن بين الأطراف المتصارعة، لذا نهانا الله سبحانه بأن نقابل الآخرين بالسب أو الانتقاص منهم لكيلا نتسبب نحن بإيجاد هذه المضاعفات الخطيرة، قال تعالى: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ...) (1) وقال جل شأنه أيضاً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). (2)

وورد عن النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) أنه أوصى بترك التعيير قائلاً: (عليك بتقوى الله فإن امرؤ عيرك بشئ يعلمه فيك فلا تعيره بشئ تعلمه فيه، يكن وباله عليه وأجره

ص: 258


1- الانعام (108) .
2- الحجرات (11) .

لك) (1) ، وعنه (صلی الله علیه و آله) أيضاً: (إن عيرك أخوك المسلم بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه، يكون لك أجرا وعليه إثم) (2) وقد دعا المرجع اليعقوبي أبناء الأمة لتجنب هذه السلوكيات الخاطئة لأجل تحقيق الوحدة ولم الشمل، حيث قال (دام ظله) : (إن الدعوة للم الشمل لا تعنيالمداهنة في أمر الله سبحانه وإنما الذي أقوله هو نبذ العنف والتفسيق والتكفير والسب والشتم وتبادل التهم والتعويض عنه بلغة الحوار والإدلاء بالحجة (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)).

10- الأنانية والتكبر والافتخار الزائف على الآخرين:

وهي التي تحصل تجاه الآخرين، بدوافع دينية أو اجتماعية أو اقتصادية أو عنصرية أو حتى علمية، وغيرها من المميزات والفوارق الشخصية، وهي تنشأ في النفس الأمارة بالسوء بسبب وهنها وقلة قدرها.

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (اجتنبوا الكبر، فإن العبد لا يزال يتكبر حتى يقول الله عزوجل: اكتبوا عبدي هذا في الجبارين).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (المسلمون إخوة، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (إياكم والكبر، فإن إبليس حمله الكبر على أن لا يسجد لآدم).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا، حتى لايفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد).

عن الإمام علي (علیه السلام) : (احذر الكبر فإنه رأس الطغيان ومعصية الرحمن).

وعنه (علیه السلام) : (أهلك الناس اثنان: خوف الفقر، وطلب الفخر).

وعنه (علیه السلام) : (إياك والكبر، فإنه أعظم الذنوب وألأم العيوب، وهو حلية إبليس).

وعنه (علیه السلام) : (أقبح الخلق التكبر).

ص: 259


1- ميزان الحكمة، الشيخ محمد الري شهري، باب التعيير.
2- .المصدر نفسه.

وعنه (علیه السلام) : (فأطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبية وأحقاد الجاهلية، فإنما تلك الحمية تكون في المسلم من خطرات الشيطان ونخواته، ونزغاته ونفثاته، واعتمدوا وضع التذلل على رؤوسكم، وإلقاء التعزز تحت أقدامكم، وخلع التكبر من أعناقكم، واتخذوا التواضع مسلحة بينكم وبين عدوكم إبليس).

قال المرجع اليعقوبي حول ملازمة حالة الغنى مع حالة التعالي على الآخرين: (لنحوّل القرآن الكريم إلى واقع عملي، فإنّ هذه المتلازمة المنافية لمنطق العقل تتجلى في حياة الإنسان فرداً ومجتمعاً، ولنبدأ من داخل الأسرة حيث يغترّ الرجل بسلطته وقيمومته فيطغى ويظلم أهل بيته وكم رأينا من رجال لما صار بأيديهم مال أهملوا أهلهم وتوجهوا إلى اللهو والمتعة أو الوقوع في أسر الشهوات الجنسية أو عدم مراعاة مشاعر زوجته ونحو ذلك فيخرب بيته بيده، والمرأة تعتدّ بنفسها لجمالها أو لأنها من الأسرة الفلانية أو لأن لها مرتباً شهرياً جيداً أو لشهادتها الراقية ونحو ذلك فتشعر بالاستغناء عن الرجل وتطغى وتتمرد وتتعالى وتقصّر في واجباتها فتنهدم أواصر العلاقة الزوجية، ومن الأمثلة على ذلك طغيان بعض حملة العلم واستعلاؤهم وترفعهم عنالآخرين ورفضهم النصح والتذكير واستهزاؤهم بمن يقوم بذلك، وفرض وضع خاص للتعامل معهم كعدم الرضا الا بتقبيل اليد وإظهار التبجيل والتعظيم لهم ونحو ذلك، أما طغيان الزعامات ومن بيدهم شيء من السلطة فقد ملأ التاريخ بمصائبه وكوارثه، وكذا الزعامات الاجتماعية كبعض رؤساء العشائر والمتنفذين وأمثالهم، خذ مثلاً أيضاً الغرب الذي اغترّ بالتقدم العلمي الذي توفّر لديه حتى غزا الفضاء وظن أنه قادرٌ على أن يحقق كل ما يريد فطغى وتجبر واستغنى عن ربّه وكفر به وصار التفكير المادي هو قائده ورائده ونسي ضعفه وعجزه وقصوره ونحوها من اللوازم لذاته).

11- الاحتجاب عن الناس وعدم قضاء حوائجهم:

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (من منع طالباً حاجته وهو قادر على قضائها فعليه مثل خطيئة عشار).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع رجلا ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم).

ص: 260

عن الإمام الباقر (علیه السلام) : (من بخل بمعونة أخيه المسلم والقيام له في حاجته إلا ابتلي بمعونة من يأثم عليه ولا يؤجر).

وعنه (علیه السلام) : (أيما مسلم أتى مسلماً زائرا أو طالب حاجة وهو في منزله، فاستأذن له ولم يخرج إليه، لم يزل في لعنة الله عزوجل حتى يلتقيا).

عن الإمام الصادق (علیه السلام) : (من سأله أخوه المؤمن حاجة من ضر فمنعه من سعة وهو يقدر عليها من عنده أو من عند غيره، حشره الله يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه حتى يفرغ الله من حساب الخلق).

وعنه (علیه السلام) : (من صار إلى أخيه المؤمن في حاجته أو مسلماً فحجبه، لم يزل في لعنة الله إلى أن حضرته الوفاة).

وعنه (علیه السلام) : (أيما مؤمن كان بينه وبين مؤمن حجاب ضرب الله عزوجل بينه وبين الجنة سبعين ألف سور ما بين السور إلى السور مسيرة ألف عام).

وعنه (علیه السلام) : (ما من مؤمن يخذل أخاه وهو يقدر على نصرته إلا خذله الله في الدنيا والآخرة).

وعنه (علیه السلام) : (ما من مؤمن بذل جاهه لأخيه المؤمن إلا حرم الله وجهه على النار ولم يمسه قتر ولا ذلة يوم القيامة، وأيما مؤمن بخل بجاهه على أخيه المؤمن وهو أوجه جاها منه إلا مسه قتر وذلة في الدنيا والآخرة، وأصابت وجهه يوم القيامة لفحات النيران معذباً كان أو مغفوراً له).عن الإمام الكاظم (علیه السلام) : (من أتاه أخوه المؤمن في حاجة فإنما هي رحمة من الله تبارك وتعالى ساقها إليه، فإن فعل ذلك فقد وصله بولايتنا، وهو موصول بولاية الله، وإن رده عن حاجته وهو يقدر على قضائها سلط الله عليه شجاعاً من نار ينهشه في قبره إلى يوم القيامة).

وعنه (علیه السلام) : (من قصد إليه رجل من إخوانه مستجيراً به في بعض أحواله فلم يجره بعد أن يقدر عليه، فقد قطع ولاية الله عزوجل).

12- النميمة والبهتان:

قال تعالى: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ).

ص: 261

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (من قال في امرئ مسلم ما ليس فيه ليؤذيه حبسه الله في ردغة الخبال يوم القيامة، حتى يقضي بين الناس).

عن الإمام علي (علیه السلام) : (الساعي كاذب لمن سعى إليه، ظالم لمن سعى عليه).

وعنه (علیه السلام) : (شر الناس من سعى بالإخوان ونسي الإحسان).

وعنه (علیه السلام) : (من سعى بالنميمة حاربه القريب ومقته البعيد).

وعنه (علیه السلام) : (بئس السعي التفرقة بين الأليفين).

وعنه (علیه السلام) : (إياك والنميمة، فإنها تزرع الضغينة وتبعد عن الله والناس).

وعنه (علیه السلام) : (إياكم والنمائم، فإنها تورث الضغائن).

عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) : (من رمى الناس بما فيهم رموه بما ليس فيه.الإمام الصادق (علیه السلام) : إياك والنميمة، فإنها تزرع الشحناء في قلوب الرجال).

عن الإمام الصادق (علیه السلام) : (إن من أكبر السحر النميمة، يفرق بها بين المتحابين، ويجلب العداوة على المتصافيين، ويسفك بها الدماء، ويهدم بها الدور، ويكشف بها الستور، والنمام أشر من وطئ على الأرض بقدم).

13- الكذب:

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثاً هو لك مصدق وأنت به كاذب).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، ولا أن يعد الرجل ابنه ثم لا ينجز له، إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار).

عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) : (الكذب فساد كل شيء).

عنه (علیه السلام) : (الكذب يوجب الوقيعة).عنه (علیه السلام) : (الصدق أمانة، والكذب خيانة).

عنه (علیه السلام) : من عرف بالكذب قلت الثقة به، من تجنب الكذب صدقت أقواله).

ص: 262

عن الإمام الباقر (علیه السلام) : (إن الله عزوجل جعل للشر أقفالا، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، والكذب شر من الشراب).

عن الإمام الصادق (علیه السلام) - وقد سأله الحسن بن محبوب: يكون المؤمن بخيلا ؟ -: (نعم، قلت: فيكون جبانا ؟ قال: نعم، قلت: فيكون كذابا ؟ قال: لا، ولا خائنا، ثم قال: يجبل المؤمن على كل طبيعة إلا الخيانة والكذب).

وعنه (علیه السلام) : (لا تستعن بكذاب... فإن الكذاب يقرب لك البعيد، ويبعد لك القريب).

14- الجهل:

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) - وقد سئل عن أعلام الجاهل -: (إن صحبته عناك، وإن اعتزلته شتمك، وإن أعطاك من عليك وإن أعطيته كفرك وإن أسررت إليه خانك).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (صفة الجاهل: أن يظلم من خالطه، ويتعدى على من هو دونه، ويتطاول على من هو فوقه، كلامه بغير تدبر، الحديث).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (ما أعز الله بجهل قط).

عن الإمام علي (علیه السلام) : (إن الجاهل من عد نفسه بما جهل من معرفة العلم عالما، وبرأيه مكتفيا، فما يزال للعلماء مباعدا وعليهم زاريا، ولمن خالفه مخطئا، ولما لم يعرف من الامور مضللا، فإذا ورد عليه من الامور ما لم يعرفه أنكره وكذب به وقال بجهالته: ما أعرف هذا، وما أراه كان، وما أظن أن يكون، وأنى كان ؟ وذلك لثقته برأيه وقلة معرفته بجهالته !. فما ينفك بما يرى مما يلتبس عليه رأيه مما لا يعرف للجهل مستفيدا، وللحق منكرا، وفي الجهالة متحيرا، وعن طلب العلم مستكبراً).

وعنه (علیه السلام) : (إن قلوب الجهال تستفزها الأطماع، وترهنها المنى، وتستعلقها الخدائع).

وعنه (علیه السلام) : (الجهل في الإنسان أضر من الآكلة في البدن).

وعنه (علیه السلام) : (الجهل داء وعياء).

وعنه (علیه السلام) : (الجهل مطية شموس، من ركبها زل).

وعنه (علیه السلام) : (الجهل يزل القدم).

ص: 263

وعنه (علیه السلام) : (الجهل فساد كل أمر).

وعنه (علیه السلام) : (الجهل أصل كل شر).وعنه (علیه السلام) : (الجهل معدن الشر).

عن الإمام الصادق (علیه السلام) : (من أخلاق الجاهل الإجابة قبل أن يسمع، والمعارضة قبل أن يفهم، والحكم بما لا يعلم).

وعنه (علیه السلام) : (الجهل في ثلاث: في تبدل الإخوان، والمنابذة بغير بيان، والتجسس عما لا يعني).

عن الإمام الرضا (علیه السلام) : (صديق الجاهل في تعب).

15- النفاق:

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (المنافق من إذا وعد أخلف، وإذا فعل أفشى، وإذا قال كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا رزق طاش، وإذا منع عاش).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (أربع من كن فيه فهو منافق، وإن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر).

عن الإمام علي (علیه السلام) : (المنافق لنفسه مداهن، وعلى الناس طاعن).

وعنه (علیه السلام) : (ما أقبح بالإنسان أن يكون ذا وجهين).

وعنه (علیه السلام) : (الخيانة رأس النفاق).

وعنه (علیه السلام) : (المنافق قوله جميل، وفعله الداء الدخيل).

وعنه (علیه السلام) : (المنافق لسانه يسر، وقلبه يضر).

وعنه (علیه السلام) : (المنافق مكور مضر مرتاب).

عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) : (المنافق.. إن حدثك كذبك، وإن وعدك أخلفك، وإن ائتمنته خانك، وإن خالفته اغتابك).

عن الإمام الصادق (علیه السلام) : (للمنافق ثلاث علامات: يخالف لسانه قلبه، وقلبه فعله، وعلانيته سريرته).

ص: 264

16- الحسد والحقد:

عن الإمام علي (علیه السلام) : (إذا أمطر التحاسد نبت التفاسد).

وعنه (علیه السلام) : (من ترك الحسد كانت له المحبة عند الناس).

وعنه (علیه السلام) : (الحسد مطية التعب).

وعنه (علیه السلام) : (الحاسد يفرح بالشرور ويغتم بالسرور).

وعنه (علیه السلام) : (الحاسد يرى أن زوال النعمة عمن يحسده نعمة عليه).

وعنه (علیه السلام) : (الحاسد يظهر وده في أقواله، ويخفي بغضه في أفعاله، فله اسم الصديق وصفة العدو).وعنه (علیه السلام) : (الحسود لا خلة له).

عن الإمام الصادق (علیه السلام) : (قال لقمان لابنه: للحاسد ثلاث علامات: يغتاب إذا غاب، ويتملق إذا شهد، ويشمت بالمصيبة).

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (أما علامة الحاسد فأربعة: الغيبة والتملق والشماتة بالمصيبة).

عن الإمام علي (علیه السلام) : (الحقد مثار الغضب).

وعنه (علیه السلام) : (الحقد شيمة الحسدة).

وعنه (علیه السلام) : (الحقد من طبائع الأشرار).

وعنه (علیه السلام) : (سبب الفتن الحقد).

وعنه (علیه السلام) : (سلاح الشر الحقد).

وعنه (علیه السلام) : (من زرع الإحن حصد المحن).

وعنه (علیه السلام) : (احصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك).

17- غيرة النساء:

فإنها تسبب الكثير من المشكلات بين الزوج وزوجته، وتعكر صفو العلاقة بينهما، وبهذا تكون المرأة مصدر أذية وإزعاج لزوجها.

عن الإمام علي (علیه السلام) : (غيرة المرأة عدوان).

وعنه (علیه السلام) : (غيرة المرأة كفر، وغيرة الرجل إيمان).

ص: 265

عن الإمام الباقر (علیه السلام) : (غيرة النساء الحسد، والحسد هو أصل الكفر، إن النساء إذا غرن غضبن، وإذا غضبن كفرن إلا المسلمات منهن).

18- قذف المحصنات والنظرة المحرمة:

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا). (1)

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا).

وقال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ). (2)عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (إياك والنظرة بعد النظرة، فإن الاولى لك والثانية عليك).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (النظر سهم مسموم من سهام إبليس، فمن تركها خوفا من الله أعطاه الله إيمانا يجد حلاوته في قلبه).

الإمام الرضا (علیه السلام) : (حَرّم الله قذف المحصنات، لما فيه من إفساد الأنساب ونفي الولد وإبطال المواريث وترك التربية وذهاب المعارف، وما فيه من المساوئ والعلل التي تؤدي إلى فساد الخلق).

قال المرجع اليعقوبي: (من كمال الشابة الالتزام بغطاء الوجه (البوشية) كلما أمكن ذلك، فإن فيه حماية لها والآخرين، لأن وجه الشابة عموماً مما يسبب إثارة وانجذاب، فلا تكن سبباً لفتنة الآخرين وهي بذلك تكون مطبقة لوصية الزهراء () عندما سأل أبوها (صلی الله علیه و آله) عما هو خير للنساء، قالت: إن أكمل صفة في المرأة أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل).

وقال (دام ظله) أيضاً: (إن المرأة أداة مهمة في عملية إفساد المجتمع وتدمير أخلاقه فيما إذا أقنعوها بخلع جلباب العفة والحياء والطهارة وفي الروايات أن أحد الأنبياء

ص: 266


1- الأحزاب (59) .
2- النور (30) .

التقى بإبليس ومعه أدوات غوايته فكانت المرأة من أهمها وقال (قرة عيني في النساء) ووصف أمير المؤمنين (علیه السلام) أخاً له في الله تبارك وتعالى ومن أوصافه التي ركز عليها (إنه لم يستسلم لشهوة فرجه) ولا نحتاج إلى إسهاب لكي نبين الجريمة الكبرى التي ترتكبها المرأة المتبرجة التي تظهر مفاتنها أمام الرجال مما يؤدي إلى عدة نتائج سيئة كالوقوع في الفاحشة ومعصية الله تبارك وتعالى أو الكبت لمن يضغط على نفسه لمنعها من الوقوع في الحرام وكم من أسر دُمِّرت وحصل الفراق بسبب تداعيات وآثار الانحلال الجنسي). (1)

وقال أيضاً: (شدّد القرآن في مسألة اختلاط الجنسين والتعامل غير الشريف بينهما فنهى النساء على ترقيق الصوت وجعله مثيراً، فقال تعالى: (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) وأمر النساء بالحجاب والستر وإخفاء أجسادهن وما عليها من زينة (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُن) وأمر الطرفين بغض البصر وعدم اختلاس النظرات وملء العين من النظر إلى الجنس الآخر (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ) كل هذه الاحتياطات وأزيد منها مما ورد في الأحاديث الشريف اتخذها الشارع المقدس لسد منافذ الشيطان الذي يعترف بأن أقوى سلاح بيده هو سلاح الشهوة الجنسية فمن أراد لنفسه راحة البال والسعادة في الدارين: الدنيا والآخرة فليلتزم بهذه التعاليم الإلهية الشريفة وعصيان نفسه فإن اتباع الشهوات وان كان يبدو لأول مرةلذيذاً وموافقاً للنفس إلا أنه يورث النكد والشقاء والتعاسة فيما بعد ولا ينبغي لعاقل أن يضيع حياته الباقية الخالدة بلذة فانية زائلة فكم من لذة أورثت حسرة وندامة دائمة فالمؤمن الحقيقي من ملك زمام نفسه ولا يترك لها حبلها على غاربها فإنها كالدابة الصعبة إن لم يمسك بها راكبها أقحمته في المهالك). (2)

وبعد سرد هذه القائمة الطويلة من المفاسد الأخلاقية، يجب علينا أن نحرر المجتمع من ربقتها، لاسيما وإن (أغلب مجتمعاتنا الإسلامية اليوم تعيش واقعاً لا يتطابق مع تعاليم ديننا الحنيف، ولا يرتضيه العقل، حيث التخلف الشامل، والأزمات الخانقة،

ص: 267


1- خطاب المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج3، (دور المرأة في بناء العراق الجديد) .
2- كتاب ظواهر اجتماعية منحرفة مختلفة، المرجع اليعقوبي.

والأمراض المتفشية، والخضوع للظلم والإذلال، والنزاعات والصراعات، ومن أجل إصلاح هذا الواقع السيئ، لا بد من التوجه إلى دراسة الجذور والأسباب العميقة، ومكمنها نفسيات أفراد المجتمع، فواقع كل فرد انعكاس لحالته النفسية، كما أن واقع المجتمع انعكاس لحالات الأفراد. فإذا ما رأينا أغلب أفراد مجتمعنا يعيشون اللامبالاة والهروب من تحمل المسؤولية والانهزام أمام التحديات، فلا بد وأن نعرف أن الأمراض تعشعش في نفوسهم. ومن دون معالجة تلك الأمراض النفسية الروحية لا يمكن إصلاح واقع الأفراد الذي هو السبيل إلى صلاح واقع المجتمع، لذلك يقول ربنا الحكيم العارف بخبايا وأسرار خلقه: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) وانطلاقاً من هذه الحقيقة الصادقة الثابتة فإن على من يفكر في إصلاح المجتمع أن يهتم بمعالجة الأمراض النفسية الروحية لأفراد المجتمع). (1)

وإذا أردت أن أُجمل هذا الموضوع ضمن كلمات مختصرة، فإنني سأكتفي بذكر ما قاله المرجع اليعقوبي، الذي بيّن بكلمات جامعة أسباب ومخاطر الانحدار الأخلاقي الذي يفضي إلى إيجاد حالة من التعايش غير السلمي في المجتمع، حيث قال (دام ظله) : (إن تردي أخلاق الأمة وضعف همتها وانحدار مستوى الوعي لديها سبب لتصدي هذين الصنفين الفاسدين (أي الفقهاء والأمراء) وفسادهما يؤدي إلى مزيد من الفساد في أحوال الأمة لذا اشتهرت الكلمة المعروفة (كيفما تكونون يولى عليكم) فصلاح أحوال المسلمين يبدأ من إصلاح أنفسهم وتمسكهم بدينهم وزيادة وعيهم في اختيار قياداتهم الدينية والسياسية وحينئذٍ تنصلح أمورهم وتتغيرا أحوالهم نحو الأفضل بأذن الله تعالى).(2)وقال (دام ظله) أيضاً: (..وهذا هو طريق النجاة أن نقوم لله تعالى مثنى وفرادى متآلفين ومتحابين أنقياء القلوب أصفياء النفوس ونعمل بوصايا المعصومين (علیهم السلام) ونتأدب بأدبهم ونترك التعصب والتشنج والتطرف والأنانية وحب الدنيا (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا

ص: 268


1- أحاديث في الدين والثقافة والاجتماع، الشيخ حسن الصفار.
2- خطاب المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج9، خطاب رقم (457) : (اَللّهُمَّ اَصْلِحْ كُلَّ فاسِد مِنْ اُمُورِ الْمُسْلِمينَ) .

أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصلاح مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ). (1)

ص: 269


1- خطاب المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج3، (الحل والعلاج في العودة إلى الله تبارك وتعالى) .

الأُسس الأخلاقية لتحقيق مبدأ التعايش السلمي

(إن الإنسان لم يخلق ليعش فرداً واحداً و أنما خلق ليعيش في المجتمع وهذا ما تدعوه إليه فطرته ولذلك قيل: إن الإنسان مدني بطبعه، ومن هنا مالَ الإنسان بإيجاد من فطرته إلى تشكيل خلايا اجتماعية ومجموعات بشرية كالأسرة والعشيرة والقرية والمدينة والوطن والأمة وكذلك التجمعات الدينية والسياسية والصنفية والأممية ومعلوم أن استمرار حياة تلك المجموعات رهين بوجود العلاقات والاواصر التي تربط أفراد تلك المجموعة بعضهم ببعض وتصبح حياة تلك المجموعة مهددة بالخطر إذا انفصمت عرى تلك العلاقات. ولحفظ تلك العلاقات ثم عوامل مختلفة منها: إحساس الحاجة عند كل فرد إلى تشييد الاواصر وتقويتها. ولكن هذا العامل موقت وليس دائمياً، فعند ارتفاع الحاجة يزول ذلك الاحساس، وبزواله تضعف العلاقة، إلا ان هناك عاملاً آخر أقوى وأدوم وإن انتفت جميع الحاجات ألا وهو الحب والوداد وإحساس الأخوة بين افراد المجموعة. ومن هذا المنطلق نرى الشريعة الإسلامية تؤكد أكيداً بالغاً على تقوية ذلك العامل والتصدي لإزاحة الموانع التي تمتع من تقويته أو تؤدي إلى انفصام عرى العلاقات الاجتماعية. بل يذهب الإسلام إلى أبعد الحدود ويحاول تشكيل مجتمع عالمي وأممي مبتنٍ على اهم الاواصر والعلاقات ألا وهو الاخاء الديني والحب الإيماني فهذان الإخاء والحب يربطان أفراد المجتمع في ما بينهم وإن لم تكن بينهم علاقة الأسرة والدم والوطن واللغة متجاوزين جميع الحدود الجغرافية والإقليمية. إذ يقول سبحانه : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (1) وهذه الاخوة الإيمانية هي المعجزة الخالدة التي ربي رسول الله (صلی الله علیه و آله) عليها أفراد ذلك المجتمع الجاهلي المبتني على العداء والبغضاء، وهي من مفاخر رسول الإسلام والنعمة الإلهية الكبرى التي منّ الله سبحانه بها على العباد، إذ يقول جل شأنه: (.. وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا

ص: 270


1- الحجرات (10) .

كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (1) وقد قام الإسلام بتأسيس نظمه الأخلاقية والإجتماعية على ذلك الأساس الإنساني الرفيع، وفي الوقت نفسه لم يغفل عن الأواصر الإجتماعية في المجموعات البشرية الأخرى بل اعتنى بها كمال الاعتناء وركز على تقوية المحبة فيما بين أفرادها ولم يجعل تلك المجموعات في عَرض الأمة الإسلامية والمجتمع العقائدي بل جعلها في طولها، وقضى على أي عاملكالتعصبات الشخصية والطائفية والقومية التي بإمكانها تمزيق عُرى العلاقات الإيمانية، فتلك الأواصر مقبولة لدى الإسلام مالم تضر بالمجتمع الإسلامي وكيانه). (2)

(إننا كمسلمين وموالين لأهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) ملزمون بالتعايش السلمي فيما بيننا، وملزمون بأن ندعو الآخرين إلى ذلك، فنعترف ببعضنا، ونتنافس تنافساً شريفاً وكريماً قائماً على أساس التقوى، وليس على أساس العدوان. فإذا كانت دعوتنا إلى الناس هي التعايش والتنافس، فيكون من الأحرى بنا أن ندعو أنفسنا قبل ذلك بهذه الدعوة. لقد أضحى من المؤسف جداً أن القاعدة التي تقوم عليها مجتمعاتنا قاعدة هشة مضطربة، إذ ما أن تحدث مشكلة ما، أو يقع اختلاف بين مجموعتين أو شخصين مشتركين في العمل، حتى تراهما يفترقان في خضم جوٍ من تبادل التهم والافتراءات.. وهذا الواقع المؤسف ليس هو الذي حرضنا عليه ربنا وشريعتنا في الحياة!! فإلى مَ نعيش مثل هذه الأجواء الموجودة؟ ومتى نحاسب أنفسنا ونقودها باتجاه ما أوصى به القرآن وما دعانا إليه النبي وأهل بيته (علیهم السلام)؟

وقد قال الشاعر:

إنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيت*** فإنْ هُمُ ذهبتْ أخلاقُهم ذهبوا

أما الحديث الشريف المروي عن الإمام محمد الباقر (علیه السلام) ، يقول: (وإنَّ اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم لتذران الديار بلاقع من أهلها) فترى ما هي العلاقة بين اليمين الكاذبة وبين انهدام المجتمع وتلاشي الحضارة وخراب البلاد؟! والجواب؛ إن ما يجمع الناس هو الثقة، وأن أساس الحضارة هو الثقة المتبادلة بين أفرادها، فإذا تبخرت الثقة

ص: 271


1- آل عمران (103) .
2- الإرهاب والعنف في ضوء القرآن والسنة والتأريخ والفقه المقارن، الشيخ محسن الحيدري، ج2، ص81 – 82.

تبخرت معها الحضارة وتهدمت وتلاشت. واليمين الكاذبة لا تعني إلا محاولة قائلها استغفال الآخرين لاستغلالهم، وحينما تتفشى ثقافة الاستغلال هذه تذهب الحرمات. ولا شك أنه لا حضارة دون قوانين وحرمات، والالتزام بالقوانين ورعاية للحرمات..

وبهذا الصدد يقول الكاتب الجزائري مالك بن نبي كلمة جميلة - رغم تحفظنا عليها من وجهة النظر التاريخية والعقائدية-: لقد ارتفعت الأمة الإسلامية وسمت يوم آخى رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله) بين الأنصار والمهاجرين.. ولكن العد العكسي لهذا الارتفاع سرعان ما بدأ حينما اقتتل المسلمون في حرب صفين، فأصبح مجتمعاً بلا أُخوّة). (1) وفيما يلي نستعرض أبرز الأخلاق الحميدة التي تُعد بمثابة ركائز وأُسس لمبدأ التعايش السلمي، مع تعزيزها ببعض نصوص الآيات المباركة، والروايات الشريفة:

حُسن الظن:

قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم)

رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (أطلب لأخيك عذراً، فإن لم تجد له عذراً فالتمس له عذراً).

الإمام علي (علیه السلام) : (ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملاً).

وعنه (علیه السلام) : (من عرف من أخيه وثيقة دين وسداد طريق فلا يسمعن فيه أقاويل الرجال، أما أنه قد يرمي الرامي وتخطئ السهام).

وعنه (علیه السلام) : (من حَسُن ظنه بالناس حاز منهم المحبة).

وعنه (علیه السلام) : (اطرحوا سوء الظن بينكم، فإن الله عزوجل نهى عن ذلك).

وعنه (علیه السلام) : (إياك أن تغلبك نفسك على ما تظن ولا تغلبها على ما تستيقن، فإن ذلك من أعظم الشر).

ص: 272


1- الحضارة الإسلامية آفاق وتطلعات، السيد محمد تقي المدرسي.

الرفق والمداراة:

إن المداراة عبارة عن مواجهة الطرف المقابل بلين وحكمة حتى تدفع بذلك شره، وعليه فالمداراة تستعمل غالباً في مواجهة الأعداء والمخالفين، بخلاف الرفق فإن له مفهوماً عاماً يشمل استعمال اللين مع العدو والصديق، وقال العلامة النراقي في كتابه جامع السعادات: (المداراة: قريب من الرفق معنى، لأنها ملائمة الناس وحُسن صحبتهم، واحتمال أذاهم، وربما فُرّق بينهما باعتبار تحمل الأذى في المداراة دون الرفق). (1)

المداراة في القرآن:

(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ..). (2)

(وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ). (3)

(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا). (4)(وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ). (5)

(وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا...). (6)

(فَقُولاَ لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى). (7)

ص: 273


1- الإرهاب والعنف في ضوء القرآن والسنة والتأريخ والفقه المقارن، الشيخ محسن الحيدري، ج2، ص59.
2- آل عمران (159) .
3- الحجر (88) .
4- الفرقان (63) .
5- فصلت (34) .
6- البقرة (83) .
7- طه (44) .

المداراة في الروايات الشريفة:

رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (إن الأنبياء إنما فضلهم الله على خلقه بشدة مداراتهم لأعداء دين الله، وحسن تقيتهم لأجل إخوانهم في الله).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (ثلاث من لم يكن فيه لم يتم له عمل: ورع يحجزه عن معاصي الله، وخلق يداري به الناس، وحلم يرد به جهل الجاهل).

الإمام علي (علیه السلام) : (ليس الحكيم من لم يدار من لا يجد بداً من مداراته).

وعنه (علیه السلام) : (دار الناس تستمتع بإخائهم، والقهم بالبشر تمت أضغانهم).

وعنه (علیه السلام) : (سلامة العيش في المداراة).

وعنه (علیه السلام) : (سلامة الدين والدنيا في مداراة الناس).

وعنه (علیه السلام) : (من دارى أضداده أمن المحارب).

الإمام الباقر (علیه السلام) : (في التوراة مكتوب فيما ناجى الله عزوجل به موسى بن عمران (علیه السلام) : يا موسى اكتم مكتوم سري في سريرتك، وأظهر في علانيتك المداراة عني لعدوي وعدوك من خلقي، ولا تستسب لي عندهم بإظهار مكتوم سري فتشرك عدوك وعدوي في سبي).

وعنه (علیه السلام) : (إني لأسمع الرجل يسب علياً وأستتر منه بالسارية، فإذا فرغ أتيته فصافحته).

الإمام الصادق (علیه السلام) : - في قوله تعالى: (وقولوا للناس حسنا) : (أي للناس كلهم مؤمنهم ومخالفهم، أما المؤمنون فيبسط لهم وجهه، وأما المخالفون فيكلمهم بالمداراة لاجتذابهم إلى الإيمان، فإنه بأيسر من ذلك يكف شرورهم عن نفسه، وعن إخوانه المؤمنين).وعنه (علیه السلام) : (إن قوماً من قريش قلت مداراتهم للناس فنفوا من قريش، وأيم الله ما كان بأحسابهم بأس، وإن قوماً من غيرهم حسنت مداراتهم فالحقوا بالبيت الرفيع. ثم قال: من كف يده عن الناس فإنما يكف عنهم يدا واحدة، ويكفون عنهم أيادي كثيرة).

ص: 274

الإمام الرضا (علیه السلام) - عندما سئل عن العقل -: (التجرع للغصة، ومداهنة الأعداء، ومداراة الأصدقاء).

التغافل:

الإمام علي (علیه السلام) : (إن العاقل نصفه احتمال، ونصفه تغافل).

وعنه (علیه السلام) : (تغافل يحمد أمرك).

وعنه (علیه السلام) : (أشرف أخلاق الكريم تغافله عما يعلم).

وعنه (علیه السلام) : (من أشرف أعمال (أحوال) الكريم غفلته عما يعلم).

وعنه (علیه السلام) : (من لم يتغافل ولا يغض عن كثير من الامور تنغصت عيشته).

وعنه (علیه السلام) : (لا حلم كالتغافل، لا عقل كالتجاهل).

وعنه (علیه السلام) : (إصلاح حال التعايش والتعاشر ملء مكيال ثلثاه فطنة وثلثه تغافل).

الإمام زين العابدين (علیه السلام) - من وصاياه -: (اعلم يا بني أن صلاح الدنيا بحذافيرها في كلمتين: إصلاح شأن المعايش مل ء مكيال ثلثاه فطنة وثلثه تغافل، لأن الإنسان لا يتغافل إلا عن شئ قد عرفه وفطن له).

الإمام الصادق (علیه السلام) : (صلاح حال التعايش والتعاشر مل ء مكيال: ثلثاه فطنة وثلثه تغافل).

حُسن الخلق:

رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (خياركم أحاسنكم أخلاقاً، الذين يألفون ويؤلفون).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (أقربكم مني غدا في الموقف... أحسنكم خلقاً وأقربكم من الناس).

الإمام علي (علیه السلام) : (السيئ الخلق كثير الطيش منغص العيش).

ص: 275

وعنه (علیه السلام) : (سوء الخلق نكد العيش و عذاب النفس).

وعنه (علیه السلام) : (من لان عوده كثفت اغصانه).

وعنه (علیه السلام) : (بحسن الأخلاق يطيب العيش).

وعنه (علیه السلام) : (لا عيش أهنأ من حسن الخلق).

وعنه (علیه السلام) : (من حسنت نيته كثرت مثوبته و طابت عيشته و وجبت مودته).

قال المرجع اليعقوبي: (من النعم المعنوية حُسن الخلق وبها امتدح الله تعالى نبيه الكريم: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) والناس لا تلتفت إلى هذه النعم ولا تعيرها اهتماماً ولذا فإنهم لا يحسدون صاحبها عليها، وقد ورد فيالتواضع ما مضمونه انه نعمة لا يحسد عليها صاحبها، فهل يلتفت المجتمع إلى تهنئة من يكتسب خلقاً كريماً أو يؤدي طاعة عظيمة كصلاة الليل أو بر الوالدين أو قضاء حوائج الناس أو المواظبة على صلاة الجماعة في المساجد كما يهنئون من يرزق مالاً أو ولداً، وهل يعزّون أحداً على فوات شيء من ذلك كنومه عن صلاة الصبح أو عقوق الوالدين أو الإفطار في شهر رمضان كما يعزون على فقدان عزيز أو حصول خسارة).

الانصاف:

الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) : (اجعل نفسك ميزانا بينك و بين غيرك و أحب ) أحبب(له ما تحب لنفسك و أكره له ما تكره لها و أحسن كما تحب أن يحسن إليك و لا تظلم كما تحب أن لا تظلم). (1)

وعنه (علیه السلام) : (عامل سائر الناس بالإنصاف، وعامل المؤمنين بالإيثار).

وعنه (علیه السلام) : (الإنصاف زين الإمرة).

وعنه (علیه السلام) : (الإنصاف يستديم المحبة).

وعنه (علیه السلام) : (الإنصاف يألف القلوب).

وعنه (علیه السلام) : (الإنصاف يرفع الخلاف، ويوجب الائتلاف).

وعنه (علیه السلام) : (بالنصفة تدوم الوصلة).

وعنه (علیه السلام) : (بالنصفة يكثر المواصلون).

وعنه (علیه السلام) : (المنصف كثير الأولياء والأوداء).

وعنه (علیه السلام) : (المؤمن ينصف من لا ينصفه).

وعنه (علیه السلام) : (أعدل الناس من أنصف من ظلمه).

ص: 276


1- غرر الحكم ودرر الكلم، العلامة الآمدي حكمة رقم (11031) .

وعنه (علیه السلام) : (إن من فضل الرجل أن ينصف من نفسه، ويحسن إلى من أساء إليه).

الإمام الصادق (علیه السلام) : (ليس من الإنصاف مطالبة الإخوان بالإنصاف).

الايثار:

الإمام علي (علیه السلام) : (عامل سائر الناس بالإنصاف، وعامل المؤمنين بالإيثار).

وعنه (علیه السلام) : (بالإيثار يسترق الأحرار).

وعنه (علیه السلام) : (بالإيثار على نفسك تملك الرقاب).

وعنه (علیه السلام) : (من آثر على نفسه بالغ في المروة).

الرحمة بالناس وقضاء حوائجهم والإحسان إليهم:

إن صفة الإحسان صفة انسانية وأخلاقية سامية لها قابلية جذب عجيبة، أثبتت ذلك وقائع وشواهد حياتية كثيرة جداً، وقد ورد في الحث عليها روايات عديدة، نذكر منها:

رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (من قضى لمؤمن حاجة قضى الله له حوائج كثيرة أدناهن الجنة).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (من قضى لأخيه المؤمن حاجة كان كمن عبد الله دهره).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (من مشى في عون أخيه ومنفعته فله ثواب المجاهدين في سبيل الله).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (من سعى في حاجة أخيه المؤمن فكأنما عبد الله تسعة آلاف سنة، صائما نهاره قائما ليله).

عن الصادق (علیه السلام) : (قال الله عزوجل: الخلق عيالي، فأحبهم إلي ألطفهم بهم، وأسعاهم في حوائجهم).

وعنه (علیه السلام) : (من قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى الله عزوجل له يوم القيامة مائة ألف حاجة من ذلك أولها الجنة).

وعنه (علیه السلام) : (ما قضى مسلم لمسلم حاجة إلا ناداه الله تبارك وتعالى: علي ثوابك، ولا أرضى لك بدون الجنة).

ص: 277

وعنه (علیه السلام) : (لقضاء حاجة امرئ مؤمن أفضل من حجة وحجة وحجة، حتى عد عشر حجج).

وعنه (علیه السلام) : (قضاء حاجة المؤمن أفضل من ألف حجة متقبلة بمناسكها، وعتق ألف رقبة لوجه الله، وحملان ألف فرس في سبيل الله بسرجها ولجمها).

الإمام الكاظم (علیه السلام) : (إن خواتيم أعمالكم قضاء حوائج إخوانكم والإحسان إليهم ماقدرتم، وإلا لم يقبل منكم عمل).

قال المرجع اليعقوبي: (وردت أحاديث كثيرة تدعوا إلى أن يكون الإنسان مصدر خير وعطاء وعنصراً مثمراً في المجتمع كالأحاديث التي تحث على السعي في قضاء حوائج الناس ومساعدتهم وإدخال السرور عليهم ورفع الأذى عنهم وفعل المعروف لجميع الناس بغضّ النظر عن الدين أو القومية أو النسب ونحو ذلك وتذكر لهذه الأعمال الإنسانية الصالحة ثوابا عظيما يفوق اكثر العبادات أهمية، وأكمل الشارع المقدس هذه الصورة الحسنة لسلوك المؤمن فطالبهُ بالعفو والصفح عن إساءة الآخرين، قال تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) وأمر بنسيان إساءة الآخرين وكأنها لم تقع وان يبقى دائماً يتذكر إحسان الآخرين إليه بل دعا إلى مقابلة السيئة بالحسنة (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) كما أمر بأن يكون على عكس ذلك في العلاقة مع نفسه، وذلك بان يتذكر دائماً إساءته للآخرين حتى يكون رادعاً عن تكرارها، وأن ينسى إحسانه للآخرين حتى لا يحصل عنده شعور بالعجب والمنّ والتفضّل عليهم فيمنعه ذلكمن الاستمرار في فعل المعروف، ففي الحديث الشريف: (إنس اثنين: إحسانك إلى الغير وإساءة الغير اليك، واذكر اثنين: أساءتك إلى الغير وإحسان الغير إليك).

وقال (دام ظله) أيضاً: (ورد عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) : (وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم) أي إن قلبك حتى لو كان غير ممتلئ بالرحمة التي هي ضرورية لنجاح عملك فعليك أن تتكلفها وتدرّب قلبك عليها وتستثيرها في باطنك حتى تصبح ملكة راسخة،فان الصفات والملكات الحسنة يمكن تحصيلها بالتهذيب والتدريب. وهذه الصفة يحتاج الى استشعارها كل أحد لأننا كلنا مسؤولون وإن كان بدرجات متفاوتة، ففي الحديث الشريف: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) فرّب

ص: 278

الاسرة مسؤول عن أسرته ومدير الدائرة كذلك عن دائرته ومثله المعلم عن طلبته والوزير عن وزارته والضابط عن جنوده والمرأة عن بيتها واطفالها وهكذا، ولما سُئِل أحدهم من هو أحبُّ أبنائك اليك؟ لم يجب بأنه فلان أو فلان ,وانما قال: الصغير حتى يكبر والمريض حتى يشفى والغائب حتى يعود، والجامع المشترك لهؤلاء هو حاجتهم الى الرحمة والشفقة أكثر من غيرهم) (1) وإن تقديم يد العون والمساعدة للآخرين عند الحاجة لذلك، والتحلي بصفة الإحسان، حتى وإن كانوا من غير الفئة والجماعة التي ننتمي إليها، تُعد من المواقف النبيلة والإنسانية التي تعزز روح الألفة والمحبة، لأن النفس البشرية مجبولة على حُب من أعطاها، وأحسن إليها، ولذلك قال الشاعر:

أحسِن إلى الناسِ تستعبد قلوبهم*** فلطالما استعبد الإنسان إحسانُ

إصلاح ذات البيّن:

قال تعالى:

(مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا...). (2)

(...فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ..). (3)

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). (4)

(إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا). (5)(وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). (6)

ص: 279


1- خطابات المرحلة، ج8، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ) .
2- النساء (85) .
3- الأنفال (1) .
4- الحجرات (10)
5- النساء (114) .
6- البقرة (224) .

رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (ألا اخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ؟ إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (يا أبا أيوب، ألا اخبرك وأدلك على صدقة يحبها الله ورسوله ؟ تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتباعدوا).

الإمام علي (علیه السلام) : (ثابروا على صلاح المؤمنين والمتقين).

وعنه (علیه السلام) : (من كمال السعادة السعي في صلاح الجمهور).

وعنه (علیه السلام) : (من استصلح الأضداد بلغ المراد).

الإمام الصادق (علیه السلام) : (صدقة يحبها الله: إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم إذا تباعدوا).

وعنه (علیه السلام) : (الكلام ثلاثة: صدق وكذب وإصلاح بين الناس... تسمع من الرجل كلاما يبلغه فتخبث نفسه، فتلقاه فتقول: سمعت من فلان قال فيك من الخير كذا وكذا، خلاف ما سمعت منه).

وعنه (علیه السلام) : (المصلح ليس بكاذب).

الصدق والأمانة:

قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)

رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم، وكثرة الحج، والمعروف، وطنطنتهم بالليل، ولكن انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة).

الإمام علي (علیه السلام) : (لا تخن من ائتمنك وإن خانك، ولا تذع سره وإن أذاع سرك).

وعنه (علیه السلام) : (الصادق على شفا منجاة وكرامة، والكاذب على شرف مهواة ومهانة).

وعنه (علیه السلام) : (أدوا الأمانة ولو إلى قتلة أولاد الأنبياء (علیهم السلام)).

الإمام الباقر (علیه السلام) : (ثلاث لم يجعل الله عزوجل لأحد فيهن رخصة: أداء الأمانة إلى البر والفاجر، والوفاء بالعهد للبر والفاجر، وبر الوالدين برين كانا أو فاجرين).

ص: 280

الإمام الصادق (علیه السلام) : (أيما مسلم سئل عن مسلم فصدق وأدخل على ذلك المسلم مضرة كتب من الكاذبين، ومن سئل عن مسلم فكذب فأدخل على ذلك المسلم منفعة كتب عند الله من الصادقين).

وعنه (علیه السلام) : (أدوا الأمانة ولو إلى قاتل الحسين بن علي).وعنه (علیه السلام) : (إن الله عزوجل لم يبعث نبيا إلا بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البر والفاجر).

وعنه (علیه السلام) : (والله، لحدثني أبي (علیه السلام) أن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي (علیه السلام) فيكون زينها آداهم للأمانة، وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، تسأل العشيرة عنه فتقول من مثل فلان إنه آدانا للأمانة، وأصدقنا للحديث).

قصة وموعظة: (يروى إن يهودياً كان يتعاطى الصياغة في بلدٍ مسلم، فضاعت منه خواتم ثمينة، فجاء إلى عالم المدينة- باعتباره الزعيم المتنفذ فيها- وأعلمه بالأمر وطلب مساعدته في العثور عليها، وقام العالم بدوره بإعلام الناس وإنّ من عثر على الخواتم فليجلبها إليه، وبينما هو في مجلسه إذ دخل عليه رجل بسيط رث الثياب وقدّم إليه الخواتم، فأكبر العالم في نفسه أمانة الرجل لكنه أراد أن يمتحنه فسأله عن عمله ومقدار كسبه فوجده لا يكاد يكفي لسد رمقه وعائلته فقال له: هلاّ تصرّفت بالخواتم حيث لا يعلم أحد بأنك وجدتها، وإن واحداً منها يكفي ثمنه لتحسّن وضعك المعاشي، ومالكها رجل غير مسلم، فقال الرجل وهو يظن أن العالم جادٌ بعرضه ذاك - ما كنت أظنك تقول مثل هذا الكلام! أتريد أن يدخل الحياء والخجل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم القيامة حينما يقول له النبي موسى (علیه السلام) أمام الملأ: إن رجلاً من أمتك سرق خواتم من رجل من أمتي، فبماذا أجيب).

العفة:

رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (أكثر ما تلج به امتي النار الأجوفان: البطن والفرج).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (إن الله يحب الحيي المتعفف، ويبغض البذي السائل الملحف).

ص: 281

عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) : (ما المجاهد الشهيد في سبيل الله بأعظم أجرا ممن قدر فعف، لكاد العفيف أن يكون ملكا من الملائكة).

وعنه (علیه السلام) : (العفة رأس كل خير).

الإمام الصادق (علیه السلام) : (عفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم).

ويروى أنه كانت إحدى النساء على عهد داود (علیه السلام) يأتيها رجل يستكرهها على نفسها، فألقى الله عزوجل في قلبها فقالت له: إنك لا تأتيني مرة إلا وعند أهلك من يأتيهم. قال: فذهب إلى أهله فوجد عند أهله رجلاً، فأتى به داود (علیه السلام) فقال: يا نبي الله اتى إلي ما لم يؤت إلى أحد، قال: وما ذاك؟ قال: وجدت هذا الرجل عند أهلي، فأوحى الله تعالى إلى داود (علیه السلام) : قل له: (كما تدين تدان).

العفو والصفح:

قال تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين) ، (إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديراً) ، (الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين).

رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (ألا اخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة، العفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، والإحسان إلى من أساء إليك، وإعطاء من حرمك).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (إذا عنت لكم غضبة فادرؤوها بالعفو، إنه ينادي مناد يوم القيامة: من كان له على الله أجر فليقم، فلا يقوم إلا العافون، ألم تسمعوا قوله تعالى: (فمن عفا وأصلح فأجره على الله).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (تعافوا تسقط الضغائن بينكم).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (عليكم بالعفو، فإن العفو لا يزيد العبد إلا عزاً، فتعافوا يعزكم الله).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (من كثر عفوه مد في عمره).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (تجاوزوا عن عثرات الخاطئين يقيكم الله بذلك سوء الأقدار).

الإمام علي (علیه السلام) : (كن عفوا في قدرتك، جوادا في عسرتك، مؤثرا مع فاقتك، يكمل لك الفضل).

ص: 282

وعنه (علیه السلام) - من كتابه للأشتر لما ولاه مصر -: (ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه... ولا تندمن على عفو، ولا تبجحن بعقوبة).

الإمام الصادق (علیه السلام) : (الصفح الجميل أن لا تعاقب على الذنب).

قال المرجع اليعقوبي: (إننا كما نسأل الله تعالى أن لا يدقّق معنا في الحساب وأن يعاملنا بفضله وكرمه ونخاف من المداقّة في الحساب، علينا أن نتأدب بهذا الأدب الإلهي في تعاملاتنا فإن سوء الحساب يعني المطالبة باستيفاء الحق كاملاً غير منقوص من دون مراعاة لما يحسن فعله بلحاظ حالة الطرف الآخر وظروفه وإمكانياته، لذا سُمّيَ أخذ الحق في بعض الحالات عدواناً عندما يكون الأليق هو التسامح والعفو والتكرّم، والعدوان هو التجاوز والقيام بما ينافي الفعل الذي يناسب صدوره منه على ذلك الحال، قال تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) فكأن المرجو والفعل اللائق بناءاً على هذا التفسير هو تعامله بالعفو والصفح كما أمر تعالى، فكان ما يخالفه عدواناً أي تجاوزا للمتوقع منه وإن كان محقاً وهو أحد وجوه تفسير قوله تعالى: (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَفَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) فسمّى الرد على السيئة بمثلها سيئة، مع أن مقتضى العدالة المقابلة بالمثل).

الحلم وكظم الغيظ:

الإمام علي (علیه السلام) : (بالحلم تكثر الأنصار).

وعنه (علیه السلام) : (تعلموا الحلم، فإن الحلم خليل المؤمن ووزيره).

وعنه (علیه السلام) : (الحليم من احتمل إخوانه).

وعنه (علیه السلام) : (من حلم ساد).

وعنه (علیه السلام) : (السلم ثمرة الحلم).

وعنه (علیه السلام) : (الحلم حلية العلم وعلة السلم).

ص: 283

وعنه (علیه السلام) : (من حلم من عدوه ظفر به).

وعنه (علیه السلام) : (الحلم يطفئ نار الغضب، والحدة تؤجج إحراقه).

وعنه (علیه السلام) - من كتاب له إلى الحارث الهمداني -: (واكظم الغيظ، وتجاوز عند المقدرة، واحلم عند الغضب، واصفح مع الدولة، تكن لك العاقبة).

الإمام زين العابدين (علیه السلام) : (ما تجرعت جرعة أحب إلي من جرعة غيظ لا اكافي بها صاحبها).

الإمام الباقر (علیه السلام) : (من كظم غيظا وهو يقدر على إمضائه حشا الله قلبه أمنا وإيمانا يوم القيامة).

الإمام الصادق (علیه السلام) : (من كظم غيظا ولوشاء أن يمضيه أمضاه، أملا الله قلبه يوم القيامة رضاه).

الرفق ولين الجانب:

قال تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) ، (واخفض جناحك للمؤمنين) ، (وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً).

رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (ما اصطحب اثنان إلا كان أعظمهما أجرا وأحبهما إلى الله عزوجل أرفقهما بصاحبه).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم باب رفق).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (المؤمن هين لين، حتى تخاله من اللين أحمق).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (الرفق نصف المعيشة).

الإمام علي (علیه السلام) : (الرفق يؤدي إلى السِلم).

وعنه (علیه السلام) : (الرفق بالأتباع من كرم الطباع).وعنه (علیه السلام) : (الرفق لقاح الصلاح وعنوان النجاح).

وعنه (علیه السلام) : (رأس السياسة استعمال الرفق).

وعنه (علیه السلام) : (نِعم السياسة الرفق).

ص: 284

وعنه (علیه السلام) : (عليك بالرفق فإنه مفتاح الصواب وسجية أولي الألباب).

وعنه (علیه السلام) : (ليس برفيق محمود الطريقة من أحوج صاحبه إلى مماراته).

وعنه (علیه السلام) : (إنما سمي الرفيق رفيقا لأنه يرفقك على صلاح دينك فمن أعانك على صلاح دينك فهو الرفيق الشفيق).

الإمام الصادق (علیه السلام) : (إن الإيمان عشر درجات بمنزلة السلم، يصعد منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولن صاحب الاثنين لصاحب الواحد لست على شيء حتى ينتهي إلى العاشر، فلا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك، وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق، ولا تحملن عليه ما لا يطيق فتكسره، فإن من كسر مؤمناً فعليه جبره).

التواضع:

الإمام علي (علیه السلام) : (طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وتواضع من غير منقصة).

وعنه (علیه السلام) : (ثلاث هن رأس التواضع: أن يبدأ بالسلام من لقيه، ويرضى بالدون من شرف المجلس، ويكره الرياء والسمعة

وعنه (علیه السلام) : (ثمرة التواضع المحبة، ثمرة الكبر المسبة).

وعنه (علیه السلام) : (التواضع يكسبك السلامة).

وعنه (علیه السلام) : (بخفض الجناح تنتظم الأمور).

وعنه (علیه السلام) : (التواضع سلم الشرف، التكبر أُس التلف).

وعنه (علیه السلام) : (التواضع ينشر الفضيلة).

الإمام الصادق (علیه السلام) : (التواضع أن ترضى من المجلس بدون شرفك، وأن تسلم على من لاقيت، وأن تترك المراء وإن كنت محقا، ورأس الخير التواضع).

الإمام الرضا (علیه السلام) - لما سئل عن حد التواضع -: (أن تعطي الناس من نفسك ما تحب أن يعطوك مثله).

قال المرجع اليعقوبي: (إن التواضع المحمود على قسمين: الاول: تواضع من يرى لنفسه شأناً ما، ولكنه يتواضع لما بلغه من حسن التواضع، والأجر الذي يُعطى للمتصف

ص: 285

به، والحمد والثناء على صاحبه، فيتواضع. والثاني: تواضع المعرفة بحقيقة العبودية، وأنه لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولانشوراً، تواضع الفقر والحاجة والإضطرار، فهو لا يرى لنفسه قيمة ولا شأناً، فيكون التواضع طبيعة له وعلى القاعدة، وليس إستثناءاً يتكلفه، لأنه لا يملك شيئاً يتعالى به، أو، يتكبر، أو، يطغى من أجله، فتكون هذه الصفات عنده سالبة بانتفاء الموضوع، ومثله لا يحتاج إلى دليل على حسن التواضع ومدح صاحبه ليتواضع).

البِشر والبشاشة:

رسول الله (صلی الله علیه و آله) : إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فالقوهم بطلاقة الوجه وحسن البشر).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (إن الله يبغض المعبس في وجه إخوانه).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (حسن البشر يذهب بالسخيمة).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (الق أخاك بوجه منبسط).

الإمام علي (علیه السلام) : (البشاشة حبالة المودة).

وعنه (علیه السلام) : (البشاشة فخ المودة).

وعنه (علیه السلام) : (البشر إسداء الصنيعة بغير مؤونة).

وعنه (علیه السلام) : (سبب المحبة البشر).

وعنه (علیه السلام) : (حُسن اللقاء يزيد في تأكد الإخاء).

وعنه (علیه السلام) - في صفات المؤمن -: (هشاش بشاش، لا بعباس ولا بجباس).

وعنه (علیه السلام) : (إذا لقيتم إخوانكم فتصافحوا، وأظهروا لهم البشاشة والبشر، تتفرقوا وما عليكم من الأوزار قد ذهب).

وعنه (علیه السلام) : (إن أحسن ما يألف به الناس قلوب أودائهم ونفوا به الضغن عن قلوب أعدائهم حسن البشر عند لقائهم، والتفقد في غيبتهم، والبشاشة بهم عند حضورهم).

ص: 286

قال المرجع اليعقوبي: (ما أجمل أن تستقبل الناس دائماً بالبشاشة والانفتاح وتتودد لهم والبسمة دائماً على وجهك حتى في أحلك الظروف وليس أن تكون عبوساً في وجوه الناس).

التهادي والتزاور:

رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (الزيارة تنبت المودة).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (الهدية تذهب الضغائن من الصدور).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (تهادوا تحابوا، تهادوا فإنها تذهب بالضغائن).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (تهادوا، فإن الهدية تسل السخائم، وتجلي ضغائن العداوة والأحقاد).وعنه (صلی الله علیه و آله) : (الهدية تورث المودة، وتجدر (1)

الأخوة، وتذهب الضغينة، تهادوا تحابوا).

الإمام علي (علیه السلام) : (لقاء أهل الخير عمارة القلب).

الإمام الصادق (علیه السلام) : (مَن زار أخاه لله لا لغيره التماس موعد الله وتنجز ما عند الله وكل الله به سبعين الف ملك ينادونه: ألا طبت وطابت لك الجنة).

وعنه (علیه السلام) : (تزاوروا فإن في زيارتكم إحياء لقلوبكم، وذكرا لأحاديثنا، وأحاديثنا تعطف بعضكم على بعض، فإن أخذتم بها رشدتم ونجوتم، وإن تركتموها ضللتم وهلكتم، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم).

الإمام الكاظم (علیه السلام) : (ليس شيء أنكى لإبليس وجنوده من زيارة الإخوان في الله بعضهم لبعض).

نكران الذات:

عن الامام علي الرضا (علیه السلام) : لا يتم عقل امرء مسلم حتى تكون فيه عشر خصال: (الخير منه مأمول والشر منه مأمون يستكثر قليل الخير من غيره ويستقل كثير الخير من نفسه لا يسأم من طلب الحوائج إليه ولا يمل من طلب العلم طول دهره الفقر في

ص: 287


1- أي حوطها وحجزها.

الله أحب إليه من الغنى والذل في الله أحب إليه من العز في عدوه والخمول أشهى إليه من الشهرة ثم قال (علیه السلام) : العاشرة وما العاشرة، قيل له: ماهي ؟ قال (علیه السلام) : لا يرى أحدا إلا قال: هو خير مني وأتقى. إنما الناس رجلان: رجل خير منه وأتقى، ورجل شر منه وأدنى، فإذا لقى الذي شر منه وأدنى قال: لعل خير هذا باطن وهو خير له، وخيري ظاهر وهو شر لي. وإذا رأى الذي هو خير منه وأتقى تواضع له ليلحق به، فإذا فعل ذلك فقد علا مجده، وطاب خيره، و حسن ذكره، وساد أهل زمانه).

وقال المرجع اليعقوبي: (إننا حينما نتعرض لمشكلة أو خلاف بين زوجين أو أخوة أو جيران وغير ذلك علينا أن نراجع أنفسنا طويلاً قبل أن نلقي اللوم على الآخرين فلعل السبب فينا ونحنُ لا نعلم، ولو تعاملنا مع مشاكلنا بهذه الطريقة لاستطعنا تجاوز الكثير منها، لأنّنا سنكتشف أننا مسؤولون عنها فنحن لسنا معصومين وحينئذ نعالج السبب، كما أن الطرف الآخر حينما يراك تتهّم نفسك بكل تواضع ونكران ذات ولا تتعرض له فإنّه سيقابلك بنفس الشعور ويتنازل عمّا يشعر به من التشنّج والانفعال والعصبية، وهذا مما يفسّر وصايا المعصومين (علیهم السلام) بأن ننسى إساءة الآخرين إلينا ونذكر إساءتنا للآخرين بمعنى أنّه حتى لو أساءَ الآخر إليك فتغافل عنها وتناساها وفتّش عن عيوبك أنت وتقصيراتك، وهذا السلوك وإن كان صعباً ويحتاج إلى شجاعة إلاّ أنّه مقدور ويتّبعه ثواب عظيم ومنزلة رفيعة عند الله تعالى وعند عباده الصالحين، والذي يؤسف له أنّ السلوك الجاري في المجتمع عكس هذا الأدب النبوي الشريف، إذ ما إن تحصل مشكلة حتّى يبدأ كلطرف بالبحث والتنقيب عن كل عيب أو نقيصة يلصقها بالآخر ليبرّئ نفسه ويبرّر موقفه، فتتعاظم المشكلة وتتحوّل إلى صراع وتنقطع سبل الوئام).

البر والاحسان الاجتماعي:

وسوف نذكر لاحقاً إن شاء الله تعالى في مبحث مستقل الأفراد الذين يجب الإحسان إليهم، والتواصل معهم، ومعاملتهم بالحسنى، لذا أكتفي بذكر روايتين في هذا الباب، وأترك ذكر بقية الروايات الشريفة هناك، طلباً لعدم التكرار:

الإمام علي (علیه السلام) : (لا والله لا يكون المؤمن مؤمنا أبداً حتى يكون لأخيه المؤمن مثل الجسد إذا ضرب عليه عرق واحد تداعت له سائر عروقه).

ص: 288

الإمام الصادق (علیه السلام) : (المؤمنون في تبارهم، وتراحمهم، وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى تداعى له سائره بالسهر والحمى).

وقد ذكر المرجع اليعقوبي ضمن كلماته الحكمية العديد من التوصيات والنصائح التي تحث على مكارم الأخلاق، وتبين الآثار الايجابية لها، في تعاملاتنا مع الآخرين، ونستعرض فيما يأتي بعضاً منها:

(حثّنا الله تبارك وتعالى على أن نتعامل بيننا –كإخوة مؤمنين- بهذا الأسلوب (أي عدم التدقيق في محاسبة الاخرين) قال تعالى: (وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي لا تنسوا معاملة الآخرين بالتفضل والتسامح في كل المعاملات والعلاقات، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (رحم الله عبداً سَمِحاً إذا باع، سَمِحاً إذا اشترى، سَمِحاً أذا قضى، سَمِحاً أذا اقتضى) ولما كان الجزاء يوم القيامة منسجماً مع سلوك الإنسان وعمله في الدنيا، فإن كان متسامحاً في تعامله مع الناس حوسب باليسر والكرم، وإلا شدد عليه مقاصة له لأنه التزم بهذه الطريقة من التعامل في الدنيا، قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً، وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) وفي مقابلهم أصحاب الشمال (فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً) والملفت أن الله تعالى لم يصف نفسه في القران الكريم بأنه عادل ولم يرد هذا الاسم في الأسماء الحسنى على كثرتها لأن كرمه ورحمته وفضله سبقت عدله، فهو تعالى لا يؤاخذ بالمثل ولا يعاملنا بهذا المعنى من العدل، نعم، وصف تعالى نفسه بما يلزم من العدل وهو إنصاف المخلوقين وعدم بخسهم اشيائهم وعدم الجور في الحكم عليهم وهو حسنٌ دائماً (وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِّلْعَبِيدِ) فالعدل المقصود هو عدم الجور والظلم وأن من حقه تعالى الجزاء بالمثل إنْ أراد، ولذا أردف الله تعالى الإحسان بالعدل حينما لخّص جوهر الرسالات السماوية وما يريده الله تبارك و تعالى، قال سبحانه: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ)لأن العدل قد يكون منافياً لمقتضى الإنصاف والإحسان فيكون غير محبوب بل قد يكون ظلما في بعض المراتب ولو أخلاقياً).

(لو استوعبنا هذا الدرس الأخلاقي (أي عدم التدقيق في محاسبة الآخرين والتعامل معهم بالحسنى) وطبقناه في حياتنا لاستطعنا تجنب الكثير من المشاكل في المجتمع التي منشأها التدقيق في محاسبة الآخرين على كل صغيرة وكبيرة ومطالبة كل طرف

ص: 289

باستقصاء حقه من الآخر من دون مراعاة لحاله وظروفه، وأمثلة ذلك من الواقع كثيرة، كما يحصل بين الورثة حينما يطالب البعض مثلاً بحصته من الدار التي يسكنها الورثة الآخرون وهو يعلم أنهم لا يتمكنون من إعطائه وأن بيع الدار فيه مشقّة عليهم ولكنه يصرّ على طلبه، أو الزوج يحاسب زوجته على كل تقصير أو غفلة والزوجة تراقب زوجها وتسأله عن كل تصرفاته ويحاول كل منهما أن يفرض إرادته ورأيه على الآخر فيتخاصمان وتذهب المودّة بينهما وقد يخرب بيتهما بسبب إصرار كل منهما على انتزاع ما يتصور أنها حقوقه دون مراعاة لظروف الآخر، أو دائن يلحّ على المدين بالتسديد وهو في حرج وصعوبة وقد يضطر لبيع داره أو حاجاته الشخصية فهذا من سوء الحساب ومخالف لسيرة المعصومين (علیهم السلام) وأصحابهم البررة).

(قال تعالى: (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ).. هذه الآية عامة لا تختص بالمؤمنين فكل من يصدر منه فعل الاحسان يكافئه الله تعالى بالإحسان مؤمنا كان أو غير مؤمن على اختلاف درجاتهم في الكفر و الشرك أو الجهل بالخالق، فعن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : ما أحسن محسن من مسلم، ولا كافر إلا أثابه الله: فقلنا: يا رسول الله، ما إثابة الكافر؟ قال : إن كان قد وصل رحما، أو تصدق بصدقة، أو عمل حسنة أثابه الله المال والولد والصحة وأشباه ذلك، قال: فقلنا: فما إثابته في الآخرة ؟ قال: عذاباً دون العذاب، وقرأ (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) هذا بالنسبة للمعاند اما غير المعاند فيكافئه الله تعالى بالهداية إلى الإسلام والايمان وطريق الجنة والشواهد كثيرة على حصول مكافأة كبيرة لمن قام بعمل يسير كتلك المرأة الفاسقة التي دخلت الجنة لأنها سقت قطة عطشى ماءاً، أو الحر الرياحي الذي لم يرّد على الإمام الحسين (علیه السلام) حين قال له ثكلتك أمك يا حر لأن أمه الزهراء () فكوفئ بنيل الشهادة والسعادة الابدية، ونقل بعض المفسرين إن شخصاً مسلماً شاهد امرأة كافرة تنثر الحب للطيور في الشتاء فقال لها: لا يقبل العمل من امثالك، فأجابته: إني أعمل هذا سواء قبل أم لم يقبل، ولم يمض وقت طويل حتى رأى الرجل هذه المراءة في حرم الكعبة، فقالت له يا هذا إن الله تفضل عليّ بنعمة الإسلام ببركة الحبوب القليلة).

الثمرة العملية للإحسان... أراد الله تعالى بتذكيرنا بهذا القانون الفطري وبتعامله معنا على أساسه أن يؤدبنا بهذا الأدب وان نتعامل بهذه القاعدة العقلائية

ص: 290

الفطرية مع الله تبارك وتعالى المحسن المتفضل، وكذلكبيننا نحن البشر وإن خالفونا في الدين، فنجازي الإحسان بالإحسان، روى علي بن سالم قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: آية في كتاب الله مسجّلة، قلت: وما هي؟ قال: قول الله تبارك وتعالى: (هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان) جرت في المؤمن والكافر والبرّ والفاجر، من صُنِع إليه معروف فعليه أن يكافىء به، وليس المكافأة أن يصنع كما صنع به، بل حتّى يرى مع فعله، لذلك ان له فضل المبتدئ) وقد حثت الآيات الكريمة والروايات الشريفة على اتباع طريقة الاحسان في التعامل مع الاخرين وانه من افضل القربات التي توجب المحبة الالهية، قال تعالى (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ).

حُسن الخلق له معنيان (ضيق) و (وواسع) ، فالأول: يُراد به حُسن التعامل مع الآخرين، والثاني: يُراد به مطلق الملكات الفاضلة، وهي على قسمين: الأول: الجوانحية، ونعني بها صفاته الشخصية الذاتية، وملكاته النفسية والعقلية والقلبية، كالإخلاص لله تبارك وتعالى، والعلم، ونكران الذات، والتخلِّي عن الحسد والعجب والكبر وعدم الحقد على الآخرين، والرحمة والرقة والكرم والشجاعة والحلم والحزم والصبر، وغيرها. والثاني: الجوارحية، أي المرتبطة بسلوكه الخارجي، وهي على صنفين :

أ- الفردية: وهي أعماله وسلوكياته الخاصة به، كالإلتزام بالنوافل الراتبة، وخصوصاً صلاة الليل، والكون على طهارة دائماً، وإطالة السجود، والبكاء خوفاً من الله سبحانه، او شعوراً بالتقصير بين يديه، وتألماً على ما حصل من مصائب على أولياء الله تبارك وتعالى، وأهل بيت نبيه (صلی الله علیه و آله).

ب- الاجتماعية: وأعني بها تعامله (صلی الله علیه و آله) مع غيره، وسلوكياته العامة، كالإحسان إلى الآخرين، والصبر على أذاهم، وقضاء حوائجهم، والتواضع لهم، ومداراتهم، وإدخال السرور عليهم، ويمكن أن تدرس هذه الآداب والأخلاق ضمن عدة دوائر، أولها دائرة بيته وأهله ثم أمته، مجتمعه وخصومه، وتصرفاته كقائد دولة ضمن دولته مع الدول الأخرى، وهكذا.

أخلاق القسم الأول هي الأهم، لأنها الأصل، أما القسم الثاني بصنفيه فهي من آثار ورشحات وملازمات القسم الأول وهي طريقة القرآن في تربيته البشر وهدايتهم

ص: 291

وتكميل نفوسهم، فإنه إذا حصل في القلب والنفس والعقل تلك الملكات حصلت تصرفات القسم الثاني تلقائياً، وعلى السجية، لذا كان القسم الأول هو الأهم والأسرع في التكامل، لأنها تربية مباشرة للقلب، حتى يتحقق القلب السليم، حيث (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ، إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) ، مضافاً إلى خصيصة أخرى تميز القسم الأول وهي: أن مفردات هذه الأخلاق خالية من الشوائب، ومن محبطات الأعمال، أما الثانية فيمكن أن يشوبها الرياء، ومجاملة الآخرين، وطلب السمعة والجاه والأنا، وحب المدح والثناء، فتتجرد عن القيمة والمصداقية، ولا يترتب عليها الأثرالمطلوب، لأنها لا تكون منتجة إلا إذا ترشَّحت عن الأولى، وكانت ناشئة عن إخلاص لله سبحانه، فالجهاد مثلاً الذي هو أشَقُّ أعمال الجوارح وأثقلها إذا كان لغير الله سبحانه كطمع في مال، أو جاه، أو طلباً للمدح والثناء، فيكون وبالاً على صاحبه، ويقال له يوم القيامة: خذ أجرك ممن عملت له. لذا تجد العارفين والأخلاقيين يهتمون بتربية قلوبهم، وإذا اهتموا بأعمال الجوارح فلأنها تؤدي الى تصفية القلب، لذا يسمون (أرباب القلوب).

الأفراد الذين أكد الإسلام على معاملتهم بالحسنى وروح التسامح:

اشارة

وإن كان الإنسان مطالباً بأن ينتهج مبدأ التعايش السلمي مع جميع الناس، إلا أن هذا الأمر يتأكد مع جملة منهم، نظراً للحقوق والواجبات التي يجب تأديتها تجاههم، لذا حث قادة الإسلام العظام (صلوات الله عليهم) على ضرورة مراعاة هذه المسألة، وفيما يلي نذكر أبرز هذه الفئات الاجتماعية، مع ذكر بعض النصوص الشريفة الواردة في حقهم:

أ/ الأبوين:

قال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا). (1)

الإمام الصادق (علیه السلام) : (إن أحببت أن يزيد الله في عمرك فسر أبويك).

ص: 292


1- الاسراء (23 - 24) .

وعنه (علیه السلام) : (يا ميسر، قد حضر أجلك غير مرة ولا مرتين، كل ذلك يؤخر الله أجلك لصلتك قرابتك، وإن كنت تريد أن يزاد في عمرك فبر شيخيك، يعني أبويه).

عن الإمام الصادق (علیه السلام) : (بر الوالدين من حُسن معرفة العبد بالله إذ لا عبادة أسرع بلوغا لصاحبها إلى رضاء الله من بر الوالدين المؤمنين لوجه الله تعالى لأن حق الوالدين مشتق من حق الله تعالى إذا كانا على منهاج الدين والسنة ولا يكونان يمنعان الولد من طاعة الله إلى طاعتهما ومن اليقين إلى الشك ومن الزهد إلى الدنيا ولا يدعوانه إلى خلاف ذلك فإذا كان كذلك فمعصيتهما طاعة وطاعتهما معصية قال الله تعالى وَإنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ وأما في باب المصاحبة فقاربهما وارفق بهما واحتمل أذاهما بحق ما احتملا عنك في حال صغرك ولا تضيق عنهما في ما قد وسع الله تعالى عليك من المأكول والملبوس ولا تحول وجهك عنهما لاترفع صوتك فوق صوتهما فإن تعظيمهما من أمر الله قل لهما بأحسن القول والطف بهما فإن الله لا يضيع أجر المحسنين). (1)

وعن النبي الأعظم (صلی اللّه علیه وآله) : (مَا مِنْ وَلَدٍ بَارٍّ يَنْظُرُ إِلَى وَالِدَيْهِ نَظَرَ رَحْمَةٍ إِلَّا كَانَ لَهُ بِكُلِ نَظْرَةٍ حِجَّةٌ مَبْرُورَةٌ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَ إِنْ نَظَرَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ قَالَ نَعَمْ اللَّهُ أَكْبَرُ وَ أَطْيَب. (2)

وعنه (صلی الله علیه و آله) - في وصيته لرجل -: ووالديك فأطعهما وبرهما حيين كانا أو ميتين، وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك فافعل، فإن ذلك من الإيمان. (3)

الإمام الباقر (علیه السلام) : إن العبد ليكون بارا بوالديه في حياتهما، ثم يموتان فلا يقضي عنهما ديونهما ولا يستغفر لهما فيكتبه الله عاقا، وإنه ليكون عاقا لهما في حياتهما غير بار بهما، فإذا ماتا قضى دينهما واستغفر لهما فيكتبه الله عزوجل باراً. (4)

ص: 293


1- مصباح الشريعة، ص71.
2- روضة الواعظين وبصيرة المتعظين، ص368.
3- ميزان الحكمة، الشيخ محمد الري شهري، باب الاحسان إلى الأبوين.
4- المصدر نفسه.

الإمام الرضا (علیه السلام) : بر الوالدين واجب وإن كانا مشركين، ولا طاعة لهما في معصية الخالق. (1)

الإمام الصادق (علیه السلام) - لرجل كان أبواه من المخالفين -: برهما كما تبر المسلمين ممن يتولانا. (2)

الإمام الباقر (علیه السلام) : ثلاث لم يجعل الله عزوجل لأحد فيهن رخصة: أداء الأمانة إلى البر والفاجر، والوفاء بالعهد للبر والفاجر، وبر الوالدين برين كانا أو فاجرين. (3)

الإمام زين العابدين (علیه السلام) - كان من دعائه لأبويه -: اللهم اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف، وأبرهما بر الام الرؤوف، واجعل طاعتي لوالدي وبري بهما أقر لعيني من رقدة الوسنان، وأثلج لصدري من شربة الظمآن، حتى اوثر على هواي هواهما. (4)

ب/ الزوج والزوجة:

اشارة

إن الأسرة أهم خلية يتشكل منها المجتمع البشري، وهي أول مجموعة يفتح الطفل عينه عليها، وفيها ينشأ وتحت ظلالها ينمو ويتربى إلى أن تتكون شخصيته وهي تتشكل أصلاً من الزوج والزوجة وأولادهما، وقدقُررت وظائف وتكاليف على كل واحد من أفراد الأسرة، كما عُينت لهم حقوق على سائر أفرادها، وقد جعل الله تعالى الحب المتبادل والمودة الفطرية والرفق أساساً لتلك التكاليف والحقوق. (5) وقد نهى الإسلام الزوجين عن إيذاء أحدهما الآخر، لأن الإيذاء واستعمال العنف مما يُطفيء لهب الحب المتوقد داخل كيان الأسرة، وفيما يأتي بعض الروايات الشريفة التي تذكر الحقوق والواجبات والأدبيات العامة المتعلقة بالزوج والزوجة:

ص: 294


1- المصدر نفسه.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه.
4- المصدر نفسه.
5- الإرهاب والعنف في ضوء القرآن والسنة والتأريخ والفقه المقارن، الشيخ محسن الحيدري، ج2، ص83.

رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (ألا وإن الله ورسوله بريئان ممن أضر بامرأة حتى تختلع منه). (1)

الإمام علي (علیه السلام) - فيما أوصى ابنه الحسن (علیه السلام) -: (لا يكن أهلك أشقى الخلق بك). (2)

رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (من صبر على سوء خلق امرأته واحتسبه أعطاه الله تعالى بكل يوم وليلة يصبر عليها من الثواب ما أعطى أيوب (علیه السلام) على بلائه، وكان عليها من الوزر في كل يوم وليلة مثل رمل عالج). (3)

رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (من صبرت على سوء خلق زوجها أعطاها مثل ثواب آسية بنت مزاحم). (4)

عن الإمام الصادق (علیه السلام) : (أتي رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقيل له: إن سعد بن معاذ قد مات، فقام رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقام أصحابه معه، فأمر بغسل سعد وهو قائم على عضادة الباب، فلما أن حنط وكفن وحمل على سريره تبعه رسول الله (صلی الله علیه و آله) بلا حذاء ولا رداء، ثم كان يأخذ يمنة السرير مرة ويسرة السرير مرة حتى انتهى به إلى القبر، فنزل رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى لحده وسوى اللبن عليه، وجعل يقول: ناولوني حجرا، ناولوني ترابا رطبا، يسد به ما بين اللبن، فلما أن فرغ وحثا التراب عليه وسوى قبره قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إني لأعلم أنه سيبلى ويصل البلى إليه، ولكن الله يحب عبدا إذا عمل عملا أحكمه، فلما أن سوى التربة عليه قالت ام سعد: يا سعد هنيئا لك الجنة، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا ام سعد مه، لا تجزمي على ربك فإن سعدا قد أصابته ضمة، قال: فرجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) ورجع الناس فقالوا له: يارسول الله لقد رأيناك صنعت على سعد ما لم تصنعه على أحد، إنك تبعت جنازته بلا رداء ولا حذاء، فقال (صلی الله علیه و آله): إن الملائكة كانت بلا رداء ولا حذاء فتأسيت بها، قالوا: وكنت تأخذ يمنة السرير مرة، ويسرة السرير مرة، قال: كانت يدي في يد

ص: 295


1- ميزان الحكمة، الشيخ محمد الري شهري، باب إيذاء الزوجة، وباب الصبر على سوء خلق الزوج والزوجة.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه.
4- المصدر نفسه.

جبرئيل آخذ حيث يأخذ، قالوا: أمرت بغسله وصليت على جنازته ولحدتهفي قبره ثم قلت: إن سعدا قد أصابته ضمة! قال: فقال (صلی الله علیه و آله) : نعم إنه كان في خلقه مع أهله سوء). فإيمان سعد بن معاذ وجهاده وصحبته للرسول (صلی الله علیه و آله) وشهادته في سبيل الله تعالى كل ذلك لم يسقط عنه جزاء سوء خلقه مع أهله، فلكن حذرين جداً في تعاملنا مع الآخرين وحتى عوائلنا وآبائنا فإننا محاسبون أمام الله تعالى عن تصرفاتنا مع الناس، ولن تغني صلاتنا ولا عباداتنا إذا ما قصّرنا أو تجاوزنا على حقوق الاخرين المادية او المعنوية). (1)

عن الإمام الصادق (علیه السلام) : (مَن حسن بره بأهل بيته زيد في عمره). (2)

عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) : (دخل علينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفاطمة (علیه السلام) جالسة عند القِدر، وأنا انقي العدس، قال: يا أبا الحسن، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: اسمع وما أقول إلا ما أمر ربي، ما من رجل يعين امرأته في بيتها إلا كان له بكل شعرة على بدنه، عبادة سنة صيام نهارها وقيام ليلها، واعطاه الله من الثواب ما اعطاه الله الصابرين، وداود النبي ويعقوب وعيسى (علیهم السلام) يا علي من كان في خدمة عياله في البيت ولم يأنف، كتب الله اسمه في ديوان الشهداء، وكتب الله له بكل يوم وليلة ثواب ألف شهيد، وكتب له بكل قدم ثواب حجة وعمرة، وأعطاه الله تعالى بكل عرق في جسده مدينة في الجنة يا علي، ساعة في خدمة البيت، خير من عبادة ألف سنة، وألف حج، وألف عمرة، وخير من عتق ألف رقبة، وألف غزوة، وألف مريض عاده، وألف جمعة، وألف جنازة، وألف جائع يشبعهم، وألف عار يكسوهم، وألف فرس يوجهه في سبيل الله، وخير له من ألف دينار يتصدق على المساكين، وخير له من أن يقرأ التوراة والانجيل والزبور والفرقان، ومن ألف أسير اشتراها فأعتقها، وخير له من ألف بدنة يعطي للمساكين، ولا يخرج من الدنيا حتى يرى مكانه من الجنة. يا علي، من لم يأنف من خدمة العيال دخل الجنة بغير حساب، يا علي خدمة العيال كفارة للكبائر، ويطفىء غضب الرب، ومهور حور العين، ويزيد في الحسنات والدرجات، يا علي، لا يخدم العيال الا صديق أو شهيد أو رجل يريد الله به خير الدنيا والاخرة). (3)

ص: 296


1- ثقافة التعايش، الشيخ ناصر الأسدي، ص123.
2- ميزان الحكمة، محمدي الري شهري، باب ما يزيد في العمر.
3- جامع الأخبار، الشيخ محمد السبزواري، ص 275.

وجاء في وصية الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) لأبنته السيدة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) حول ما يخص الواجبات الملقاة على عاتق المرأة تجاه زوجها:

يا فاطمة ما من امرأة طحنت بيديها إلا كتب الله لها بكل حبة حسنة ومحا عنها بكل حبة سيئة.

يا فاطمة ما من امرأة عرقت عند خبزها، إلا جعل الله بينها وبين جهنم سبعة خنادق من الرحمة.يا فاطمة ما من امرأة غسلت قدرها، إلا وغسلها الله من الذنوب والخطايا.

يا فاطمة ما من امرأة نسجت ثوباً، إلا كتب الله لها بكل خيط واحد مائة حسنة، ومحا عنها مائة سيئة.

يا فاطمة ما من امرأة غزلت لتشتري لأولادها أو عيالها، إلا كتب الله لها ثواب من أطعم ألف جائع وأكسى ألف عريان.

يا فاطمة ما من امرأة دهنت رؤوس أولادها، وسرحت شعورهم، وغسلت ثيابهم وقتلت قملهم إلا كتب الله لها بكل شعرة حسنة، ومحا عنها بكل شعرة سيئة، وزينها في أعين الناس أجمعين.

يا فاطمة ما من امرأة منعت حاجة جارتها إلا منعها الله الشرب من حوضي يوم القيامة.

يا فاطمة أفضل من ذلك كله رضا الله ورضا الزوج زوجته.

يا فاطمة والذي بعثني بالحق بشيراً ونذيراً لو متِ، وزوجك غير راضٍ عنكِ ما صليت عليكِ.

يا فاطمة أما علمت أن رضا الزوج من رضا الله، وسخط الزوج من سخط الله؟

يا فاطمة طوبى لامرأة رضي عنها زوجها، ولو ساعة من النهار.

يا فاطمة ما من امرأة رضي عنها زوجها يوماً وليلة، إلا كان لها عند الله أفضل من عبادة سنة واحدة صيامها وقيامها.

يا فاطمة ما من امرأة رضي عنها زوجها ساعة من النهار، إلا كتب الله لها بكل شعرة في جسمها حسنة، ومحا عنها بكل شعرة سيئة.

يا فاطمة إن أفضل عبادة المرأة في شدة الظلمة أن تلتزم بيتها.

ص: 297

يا فاطمة جلسة بين يدي الزوج أفضل من عبادة سنة، وأفضل من طواف.

إذا حملت المرأة تستغفر لها الملائكة في السماء والحيتان في البحر، وكتب الله لها في كل يوم ألف حسنة، ومحا عنه ألف سيئة، فإذا أخذها الطلق كتب الله لها ثواب المجاهدين وثواب الشهداء والصالحين، وغسلت من ذنوبها كيوم ولدتها أمها، وكتب الله لها ثواب سبعين حجة، فإن أرضعت ولدها كتب لها بكل قطرة من لبنها حسنة، وكفر عنها سيئة، واستغفرت لها الحور العين في جنات النعيم.

يا فاطمة ما من امرأة عبست في وجه زوجها، إلا غضب الله عليها وزبانية العذاب.

يا فاطمة ما من امرأة قالت لزوجها أُفاً لك، إلا لعنها الله من فوق العرش والملائكة والناس أجمعين.

يا فاطمة ما من امرأة خففت عن زوجها من كآبته درهماً واحداً، إلا كتب الله لها بكل درهم واحد قصراً في الجنة.يا فاطمة ما من امرأة صلت فرضها ودعت لنفسها ولم تدع لزوجها، إلا رد الله عليها صلاتها، حتى تدعو لزوجها.

يا فاطمة ما من امرأة غضب عليها زوجها ولم تسترض منه حتى يرضى إلا كانت في سخط الله وغضبه حتى يرضى عنها زوجها.

يا فاطمة ما من امرأة لبست ثيابها وخرجت من بيتها بغير إذن زوجها إلا لعنها كل رطب ويابس حتى ترجع إلى بيتها.

يا فاطمة ما من امرأة نظرت إلى زوجها ولم تضحك له، إلا غضب عليها في كل شيء.

يا فاطمة ما من امرأة كشفت وجهها بغير إذن زوجها، إلا أكبها الله على وجهها في النار.

يا فاطمة ما من امرأة أدخلت إلى بيتها ما يكره زوجها، إلا أدخل الله في قبرها سبعين حية وسبعين عقربة، يلدغونها إلى يوم القيامة.

يا فاطمة ما من امرأة صامت صيام التطوع ولم تستشر زوجها، إلا رد الله صيامها.

يا فاطمة ما من امرأة تصدقت من مال زوجها، إلا كتب الله عليها ذنوب سبعين سارقاً.

ص: 298

فقالت له السيدة فاطمة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) : يا أبتاه متى تدرك النساء فضل المجاهدين في سبيل الله تعالى؟ فقال لها: ألا أدلك على شيء تدركين به المجاهدين، وأنت في بيتك؟ فقالت: نعم يا أبتاه. فقال: تصلين في كل يوم ركعتين تقرئين في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة، و (قل هو الله أحد) ثلاث مرات، فمن فعل ذلك كتب الله له ولها ثواب المجاهدين في سبيل الله تعالى.

وفي يلي نذكر أيضاً بعض الروايات الواردة في كتاب وسائل الشيعة، للشيخ الحر العاملي، والتي تخص هذا الموضوع وتتمم الفائدة:

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (أوصاني جبرئيل بالمرأة حتى ظننت انه لا ينبغي طلاقها إلا من فاحشة مبينة).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي).

قال (صلی الله علیه و آله) : (عيال الرجل اسراؤه وأحب العباد إلى الله عزّ وجلّ أحسنهم صنعا إلى أسرائه).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (ملعون ملعون من ضيع من يعول).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (ومن صبر على خلق امرأة سيئة الخلق واحتسب في ذلك الاجر أعطاه الله ثواب الشاكرين).

وعنه (صلی الله علیه و آله) قال للنساء: (لا تطولن صلاتكن لتمنعن ازواجكن).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (من كان له امرأة تؤذيه لم يقبل الله صلاتها ولا حسنة من عملها حتى تعينه وترضيه وان صامت الدهر وقامت وأعتقت الرقاب وانفقت الاموال في سبيل الله وكانت أول من ترد النار، ثم قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله) : وعلى الرجل مثل ذلك الوزر والعذاب إذا كان لها مؤذيا ظالما ومن صبر على سوء خلق امرأته واحتسبه أعطاه الله (بكل مرة) يصبر عليها من الثواب مثل ما اعطى ايوب على بلائه وكان عليها من الوزر في كل يوم وليلة مثل رمل عالج فإن مات قبل ان تعتبه وقبل ان يرضى عنها حشرت يوم القيامة منكوسة مع المنافقين في الدرك الاسفل من النار، ومن كانت له امرأة ولم توافقه ولم تصبر على ما رزقه الله وشقت عليه وحملته ما لم يقدر عليه لم يقبل الله لها حسنة تتقي بها النار وغضب الله عليها ما دامت كذلك).

ص: 299

عن الإمام الصادق (علیه السلام) : (أيما امرأة باتت وزوجها عليها ساخط في حق لم يتقبل منها صلاة حتى يرضى عنها، وأيما امرأة تطيبت لغير زوجها لم يقبل الله منها صلاة حتى تغتسل من طيبها كغسلها من جنابتها).

وعنه (علیه السلام) : (ثلاثة لا يرفع لهم عمل: عبد آبق، وامرأة زوجها عليها ساخط، والمسبل ازاره خيلاء).

وعنه (علیه السلام) : (أيما امرأة قالت لزوجها: ما رأيت قط من وجهك خيرا فقد حبط عملها).

وعنه (علیه السلام) : (رحم الله عبدا أحسن فيما بينه وبين زوجته فإن الله عزّ وجلّ قد ملكه ناصيتها وجعله القيم عليها).

وعنه (علیه السلام) : (اتقوا الله في الضعيفين، يعني بذلك اليتيم والنساء).

وعنه (علیه السلام) : (إن امرأة أتت رسول الله (صلی الله علیه و آله) لبعض الحاجة فقال لها: لعلك من المسوفات، قالت: وما المسوفات يا رسول الله؟ قال: المرأة التي يدعوها زوجها لبعض الحاجة فلا تزال تسوفه حتى ينعس زوجها فينام فتلك التي لا تزال الملائكة تلعنها حتى يستيقظ زوجها).

وعنه (علیه السلام) : (جاءت امرأة إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فسألته عن حق الزوج على المرأة، فخبرها ثم قالت: فما حقها عليه قال : يكسوها من العري ويطعمها من الجوع وإذا أذنبت غفر لها، قالت: فليس لها عليه شيء غير هذا ؟ قال: لا، قالت: لا والله لا تزوجت أبداً ثم ولت فقال النبي (صلی الله علیه و آله) : ارجعي، فرجعت فقال (صلی الله علیه و آله) : إن الله عزّ وجلّ يقول: (وإن يستعففن خير لهن).

وعنه (علیه السلام) : (إن قوماً أتوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا : يا رسول الله، إنا رأينا اناسا يسجد بعضهم لبعض فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : لو أمرت أحدا أن يسجد لاحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها).

عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: لا ينبغي للمرأة ان تعطل نفسها ولو ان تعلق في عنقها قلادة ولا ينبغي ان تدع يدها من الخضاب ولو ان تمسحها مسحا بالحناء وان كانت مسنة.

ص: 300

عن إسحاق بن عمار قال : قلت لابي عبدالله (علیه السلام) : (ما حق المرأة على زوجها الذي إذا فعله كان محسنا ؟ قال: يشبعها ويكسوها وان جهلت غفر لها، وقال أبو عبدالله (علیه السلام) : كانت امرأة عند أبي (علیه السلام) تؤذيه فيغفر لها).عن علي بن جعفر (علیه السلام) في كتابه عن أخيه (علیه السلام) قال: (سألته عن المرأة المغاضبة زوجها، هل لها صلاة أو ما حالها؟ قال: لا تزال عاصية حتى يرضى عنها).

مسألة ضرب الزوجة:

في طبيعة الحال توجد أمور طارئة في الحياة الزوجية يبيح فيها الإسلام للزوج ضرب زوجته، في ظروف خاصة وذلك عندما تمارس الزوجة حالة النشوز والعصيان وعندما يحصل اليأس من جميع المحاولات السلمية لإصلاحها بالوعظ والإرشاد والنصيحة بالحسنى والهجر في الفراش، وهذا ما دلت عليه الآية الكريمة: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) (1) ، وقد فُسّر الضرب في الأحاديث الشريفة بإيجاد التضييق في المأكل والملبس عليها حتى تفيء إلى وظائفها الشرعية، لا الضرب بالعصا وما شاكل ذلك، كما جاء في الحديث عن النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) : (إني أتعجب ممن يضرب امرأته وهو بالضرب أولى منها، لا تضربوا نساءكم بالخشب فإن فيه القصاص، ولكن اضربوهن بالجوع والعرى حتى تريحوا في الدنيا والاخرة) (2). (3) كما جاء في معنى الضرب أيضاً عن الإمام الباقر (علیه السلام) إنه يكون بالسواك. (4)

ص: 301


1- النساء (34) .
2- بحار الأنوار، ج 100، ص249.
3- ينظر الإرهاب والعنف في ضوء القرآن والسنة والتأريخ والفقه المقارن، الشيخ محسن الحيدري، ج2، ص84.
4- ينظر تفسير مجمع البيان ج 2، ص 44.

ج/ المرأة بشكل عام:

اشارة

مارست العديد من الأنظمة الاجتماعية والسياسية قديماً وحديثاً ظلماً متعاقباً تجاه المرأة، وعندما جاء الإسلام غير كل هذه المعايير الظالمة في المجتمع البشري، ومنها الأحكام والتعاليم الإسلامية التالية:

أولاً/ الرجل والمرأة من نفس واحدة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً). (1) والآية في صدد بيان أن الرجال والنساء متحدون في الحقيقة الإنسانية.ثانياً/ الأحكام المشتركة بين الرجل والمرأة: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا). (2)

ثالثاً/ التنديد الصارم بالأجرام الجاهلي في واد البنات: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (3) ، (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) , (4)

رابعاً/ النهي عن نكاح المقت: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا). (5)

خامساً/ النهي عن الإضرار بالنساء وتضييق حريتهن:

(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ). (6)

ص: 302


1- النساء (1) .
2- النساء (32) .
3- التكوير (8-9) .
4- النحل (58-59) .
5- النساء (22) .
6- البقرة (232) .

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ). (1)

(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ). (2)

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ). (3)

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى). (4)سادساً/ الأمر بمعاشرة النساء بالمعروف والإحسان: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (5). (6)

التشريع الإسلامي وحفظ حقوق المرأة:

حفظ الإسلام حقوق المرأة في كافة مراحل حياتها، وما يتعلق بها، وسنذكرها وفقاً لما يأتي:

وهي في بطن أمها، فإن طُلقت أمها وهي حامل بها، أوجب الإسلام على الأب أن ينفق على الأم فترة الحمل بها (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُن) وبحيث لا يُقام على أمها الحد، حتى لا تتأثر وهي في بطن أمها، وكذلك حال الرضاعة فلا يقام على الأم الحد حتى تفطم وليدها.

ص: 303


1- النساء (19) .
2- البقرة (231) .
3- الطلاق (1) .
4- الطلاق (6) .
5- النساء (19) .
6- ينظر الإرهاب والعنف في ضوء القرآن والسنة والتأريخ والفقه المقارن، الشيخ محسن الحيدري، ج2، ص212 – 215.

وهي وليدة من حيث النفقة والكسوة (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف).

وهي في فترة الحضانة التي تمتد إلى بضع سنين، وأوجب على الأب النفقة عليها في هذه الفترة لعموم أدلة النفقة على الأبناء.

حقها في الميراث عموماً، صغيرة كانت أو كبيرة قال تعالى: (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ).

حقها في اختيار الزوج المناسب، فلها أحقية القبول أو الرد إذا كانت ثيباً، جاء في الحديث الشريف: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر) وإذا كانت بكراً فلا تزوج إلا بإذنها كما جاء في الحديث الشريف: (ولا تنكح البكر حتى تستأذن).

حقها في الصداق، حيث أوجب لها المهر (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً).

حقها كمطلقة (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ).

حقها كأرملة وجعل لها حقاً في تركة زوجها، قال تعالى: (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ).

حقها كأم، فقد أوجب لها الإحسان، والبر، وحذر من كلمة أف في حقها، قال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا). (1)حقها كمُرضِعة، فجعل لها أجراً، وهو حق مشترك بين الراضعة والمرضعة (فإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)

حقها كامرأة حامل، وهو حق مشترك بينها وبين المحمول (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ).

حقها كيتيمة، وجعل لها من المغانم نصيباً، قال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى) وجعل لها من بيت المال نصيباً قال تعالى: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى

ص: 304


1- الإسراء (23) .

وَالْيَتَامَى) وجعل لها في القسمة نصيباً (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى) وجعل لها في النفقة نصيباً (قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِين َ وَالْيَتَامَى).

حقها في معاقبة من رماها بالفاحشة، من غير بينة بالجلد (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً).

حقها في السكن، قال تعالى: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ).

حقها في الاستثناء من وجوب العبادة التي تضر بصحتها، أو أنوثتها حيث أسقط عنها الصيام إذا كانت مرضعة مضعف أو حامل يضر بها أو بجنينها، وأسقط عنها الجهاد وصلاة الجمعة وغيرها من التكاليف العبادية.

حقها في الوصية، فلها أن توصي لِما بعد موتها (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ).

وقد اهتم المرجع اليعقوبي بقضايا المرأة أيما اهتمام، وأفرد للموضوعات المتعلقة بها حصة كبيرة ضمن خطاباته ومؤلفاته المباركة، وفيما يأتي نذكر بعض الكلمات الحكمية لسماحته الواردة في هذا الباب:

الإسلام وتكريم المرأة:

إن الشريعة الإسلامية هي أفضل القوانين التي كرمت المرأة ونظرت إليها بتوازن وعرّفت حقوقها وواجباتها في ضوء المسؤوليات المناطة بها، ولا غرابة في ذلك فان هذه الشريعة من وضع الله تبارك وتعالى صانع الإنسان وخالقه والخبير بما يصلحه ويوازن بين عوالمه (عالم الروح والنفس والعقل والقلب والجسد) فليس فيها إفراط الحضارات المادية التي ألقت حبل المرأة على غاربها فحولتها إلى سلعة بيد الرجال فامتهنوا شرفها وكرامتها ثم يرمونها على قارعة الطريق بعد قضاء وطرهم أو بوار سلعتها، وليس فيها تفريط الجهلة والمتعصبين الذين ينظرون إليها بتعالي وقهر وكأنها مملوكة لهم إلى حد استعمال الأساليب الوحشية.

ص: 305

تأسيس يوماً عالمياً للمرأة:

بمناسبة مولد الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء ().. هو أفضل مناسبة ليكون يوم المرأة المسلمة تجدد الأمة النظر في قضايا المرأة وما ينبغي أن نفعله لتأخذ المرأة بموقعها الكريم الذي جعلها الله تبارك وتعالى فيه واعادة تقييم عملنا في هذا الاتجاه.

نتائج إهمال المرأة:

1- تعطيل هذه الشريحة التي تمثل نصف المجتمع عن أداء دورها الرسالي العظيم للأمة وفي ذلك خسارة جسيمة.

2- تمرير الغرب لمؤامرته في تدمير عقيدة المجتمع واخلاقه من خلال تشويه صورة المرأة في الإسلام ومن خلال التلويح بمصطلحات براقة خادعة كحرية المرأة ومساواتها للرجل.

3- نفور عدد من النساء من الشريعة وأهلها بسبب عدم فهم وجهة نظر الشريعة أو سوء التطبيق لجملة من احكامها كقيمومة الرجل على المرأة أو تنصيف حصتها في الميراث والشهادة ونحوها.

4- كثرة المشاكل وتعقيد الحياة بسبب عدم فهم المرأة لدورها وما هو المطلوب منها وما هي الاولويات التي يجب عليها الاهتمام بها فمثلاً تتصور أهميتها تكمن في غلاء مهرها أو منافستها لقريناتها في ارتداء احدث الموديلات أو قابليتها على اجتذاب الجنس الاخر وغيرها من المفاهيم الخاطئة لذا احتجنا إلى حملة واسعة للنهوض بواقع المرأة والبلوغ بها إلى ما نطمح إليه بأن تكون بالصورة التي أرادها الله تبارك وتعالى لها.

قيمومة الرجل:

قال تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) ورغم إن القيمومة للرجل مسألة إدارية تنظيمية لأن الأسرة تجمع يشكل نواة المجتمع فلا بد من رأس يديرها وقد ذكرت الآية علة إعطاء هذا الموقع للرجل وانه يرجع إلى سببين أولهما ذاتي يعود إلى نفس تركيبة الرجل الفسلجية والنفسية والعقلية وثانيهما الموضوعي فإن الرجل غالباً هو المنفق على الأسرة ويدبر شؤونها لكن

ص: 306

الكثير حولوا هذه المسألة الفنية إلى ظلم وتعسف واستبداد بسوء تطبيقهم مما انعكس سلبياً على فهم هذا التشريع.

توضيح معنى القيمومة:

القيمومة لم تُعطَ للرجال من باب تفضيل الذكور على الإناث، وإن المجتمع الإسلامي (ذكوري) كما يزعمون، بل لأمرين: بعض الخصائص التي اتّصفوا بها مما يؤهلهم للقيام بهذه المسؤوليات، ولأنّهم المسؤولون عن الإنفاق على الأسرة، ولكن هذا لا ينافي العدالة في توزيع المسؤوليات ومنح الاستحقاقات من الثواب والعقاب، لأن العدالة لا تعني بالضرورة المساواة أي التماثل بنحوٍ مطلق، والمطلوب هو تحقيقالعدالة، أما المساواة فقد تكون من العدالة وقد لا تكون، مثلاً هل من العدالة أن يساوى المحسن بالمسيء؟ أو أن يعطى الطلبة الذين يجرى لهم امتحان درجات متساوية؟ أو أن يعطي الطبيب لجمع المرضى الذين يراجعونه دواءً موحداً وإن اختلفت أمراضهم؟ فلا معنى للمساواة إلا إذا تحققت بها العدالة، وهي متحققة بين الرجال والنساء، فهذه الصيحات المطالبة بالمساواة إما منافقة أو جاهلة أو مأجورة تنفّذ أجندات معيّنة، هذه مقدمة لما نريد أن نقوله، وهو أنه إذا كانت المرأة لا تختلف عن الرجل في الحقوق والواجبات ولهما فرص متكافئة لنيل الكمالات والقرب من الله تعالى وقد زُوِّد الرجل والمرأة على حد سواء بما يعينهم على التكامل من قوى ذهنية وجسدية.

المرأة والعمل:

مما خدعوا به المرأة وأخرجوها من بيتها ضرورة عمل المرأة وأن جلوسها في البيت تعطيل لنصف المجتمع وضرب المثل بالمرأة الغربية التي خرجت للعمل وكل هذه أباطيل فان ممارسة المرأة لوظيفتها الإلهية في بناء اسرة متكاملة أهم من خروجها للعمل الذي ادى إلى تعطيل دورها ودور الآخرين باشغالهم وفتنتهم بها فتعطل المجتمع كله، وهل اننا وفرنا فرصة عمل لكل رجل حتى نحتاج إلى خروج المرأة وان مقارنة المرأة المسلمة للمرأة الأوربية باطل فان المرأة في الإسلام مكفولة الرزق ضمن نظام أسري قبل الزواج وبعده أما الأوربية فليست كذلك كما أن أوربا مرت بظروف الثورة الصناعية في القرن

ص: 307

الثامن عشر والحروب الكارثية التي اضطرت المرأة للعمل وليس حالنا مثلها ومحل الشاهد أننا نحتاج إلى عرض هذه الشبهات التي ظللوا بها نساءنا والاجابة عنها وبيان مساوئ الخروج العشوائي وغير المنتظم والمبرمج للمرأة إلى ميدان الحياة العامة مما يسوق الأمة إلى التردي والاضمحلال.

المساواة بين الرجل والمرأة:

خدع الأعداء كثيراً من أبنائنا بهذه الدعوى من دون أن يعرفوا بدقة مغزاها ويتخبطون بمجرد أن نسألهم عن معنى المساواة وهم بأنفسهم يحجبون المرأة عن كثير من الأعمال والمسؤوليات التي لا تناسب المرأة ولا يفرقون بين المساواة والمماثلة فان الإسلام هو مؤسس العدل والمساواة الا ان ذلك لا يعني المماثلة في الحقوق والواجبات واضرب لذلك مثالاً فلو ان رجلاً يملك أموالاً وعقارات ومعامل فأراد ان يوزع ممتلكاته بالتساوي فقد يعطي لأحدهم نقداً ولآخر عقارات بنفس القيمة ولآخر معامل بنفس القيمة مراعياً حال كل منهم وما يناسبه وما يحسنه من أعمال فهل يؤاخذ الأب على ذلك أم يحمد لأنه ساوى بين اولاده وبالشكل الذي يصلحهم وان لم يماثلهم في العطاء فهكذا فعلت الشريعة تساوي الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات وان لم يتماثلوا فيها.

المرأة والتعليم:

لا يوجد ما يدل على منع المرأة من التعليم بل على العكس فإن المرأة كالرجل مشمولة بمئات الآيات والروايات التي حثت على طلب العلم النافع والتدبر في آيات الله والتفكير فيها وتفضيل أهل العلم على غيرهم درجات لكن لابد من تعيين الآليات المناسبة لتعليم المرأة بما يصون عفتها وحجابها ولا يجعلها فتنة للآخرين ومن دون أن تخل بمسؤولياتها تجاه زوجها واطفالها وأن تقنن العلوم التي تدرسها بما يناسب حاجتها ورسالتها ويمكن تقديم عدة اطروحات وأفكار في هذا المجال.

ص: 308

تعدد الزوجات:

هو موضوع صوّره الأعداء وكأنه ظلم للمرأة وتجاوز على عواطفها فنفروا المرأة من الشريعة بسببه فما فلسفة هذا التشريع وما هي الحكمة وراءه والمشاكل التي يعالجها هذا التشريع وكيف اضطرت الكثير من الأمم إلى اباحته بعد ان منعته لما وجدت ان عاقبته تدمير كيان المجتمع وانحلال روابطه، راجع تفسير الميزان وفي ظلال القرآن وشبهات حول الإسلام لمحمد قطب والمرأة في الإسلام وغيرها.

مفهوم المساواة:

هل المساواة مطلب عقلائي؟ وبتعبير آخر هل إن المساواة حق دائماً؟ والجواب هو النفي، نعم إذا كان المطلوب مساواة الرجل والمرأة بالاستحقاق والجزاء فهذا حق وقد كفله الشارع المقدّس: (أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ) ، (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) سواء كان ذكراً أو أنثى.. أما إذا أرادوا بالمساواة مماثلة المرأة للرجل في الوظائف والأعمال التي يؤديانها فهذا مطلبٌ غير عقلائي، بل فيه ظلمٌ للمرأة، لأن طبيعة خلقها وفسيولوجيتها وسيكولوجيتها تنسجم مع وظائف غير ما كُلّف به الرجل، فالمساواة هنا من الظلم وليس من العدالة، ومثله كمثل الطبيب الذي يعطي نوعاً واحداً من الدواء إلى مرضى متنوعين، وكالمدرّس الذي يعطي درجة واحدة لكل طلبته في الامتحان مع تفاوت إجاباتهم، وهذا هو الظلم بعينه والمطلوب تحقيق العدالة وهي قد تقتضي المساواة وقد لا تقتضي المساواة بحسب الموارد وهذا ما كفلته الشريعة المقدسة، فلو أعطينا للولد ميراثاً بقدر البنت لكان ظلماً، لأن الرجل هو الذي يصرف على المرأة ويكفل لها كل احتياجاتها فهي تشاركه في حصته، ولا يشاركها في حصتها فكيف يتساويان في الاستحقاق.. فهذه المراعاة لتكوين كل من الرجل والمرأة وطبيعة وظائفهما مما تقتضيه الفطرة، وجرت عليه سيرة العقلاء، ويشهد به الواقع وخذ نماذج عشوائية من تركيبة مجتمعات الغرب المدعيّة للتحضّر وانظر هذهالمراعاة، كتشكيلة الحكومة أو عدد الطيارين أو عدد قادة الوحدات العسكرية وقيادات الجيش وانظر نسبة النساء إلى الرجال ستجدها ضئيلة فأين المساواة التي يريدون تسويقها إلينا؟.

ص: 309

مساواة المرأة مع الرجل:

شبهة وَفِرْية يرددها أعداء الإسلام لخلط الأوراق وتضليل الناس بإثارة هذه الأمور لينفّروا المرأة من الإسلام من خلال إيهامها بوجود ظلم لها في الشريعة، وقد استعر هذا الهجوم بعد مجيء قوات الاحتلال وانفتاح الساحة على جميع الاتجاهات حتى الإباحية؛ لذا بادرنا ووجهنا إلى تأليف كتاب يشرح فلسفة تشريعات المرأة ليجد فيها المساواة في الحقوق والواجبات بين المرأة والرجل قال تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثَى) ، (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) فالمساواة موجودة. نعم، لا توجد مماثلة في الوظائف بينهما لمراعاة التركيبة النفسية والفسيولوجية والاجتماعية لكل منهما، ولتقريب الفكرة ننقل المثال التالي لو أن شخصاً أراد أن يوزع أمواله على أولاده الثلاثة وكان يملك نقداً بمقدار مليون دينار ومصنعاً بقيمة مليون ومزرعة بقيمة مليون وكان أحد أولاده يحسن التجارة والآخر يجيد الحرفة والصناعة والآخر يجيد الزراعة فأعطى الثلاثة للثلاثة على الترتيب فالأب هنا ساوى بين أولاده لكنه لم يماثل بينهم مراعياً ما يناسب كل واحد منهم، وهكذا الرجل والمرأة فإنهم متساوون من حيث المسؤولية والاستحقاقات ولكن توزيعها عليهما روعيت فيه المناسبة، فالقيمومة للرجل والحضانة للمرأة والنفقة على الرجل وإن كانت المرأة موسرة مقابل زيادة حصته في الميراث وهكذا، ولا تعني المساواة أبدا إعطاءهم نفس الوظائف وتستطيع أن تكتشف أن هؤلاء المتحمسين للدفاع عن مساواة المرأة في دول الغرب لا تشغل المرأة نسبة خمسة بالمائة من رؤساء الحكومات والوزراء والقادة العسكريين ورؤساء الجامعات والمتحكمين في الأسواق والبورصات ومدراء الشركات الكبرى وغيرها مما لا تناسب طبيعة المرأة، فإذن هم سائرون عملياً على هذا التوزيع الطبيعي للأمور وإنما يثيرون هذه الفقاعات لاستدراج الضحلين والغوغاء لإبعاد الأمة عن عقيدتها وأخلاقها. وهذا هو ما درج عليه الإسلام في تشريعاته فإن القضاء بما يتطلبه من احتكاك واسع بالناس والتعرض لمماحكات طويلة لا يناسب طبيعة المرأة وكذا ولاية أمر الأمة ويدعوها إلى التصدي للوظائف التي تناسبها كالتعليم والتمريض ورعاية الأسرة وتربية الجيل وصناعة الإنسان.

ص: 310

كيف نوجه الأحاديث الذامة للمرأة؟

إذا كانت المرأة لا تختلف عن الرجل في الحقوق والواجبات ولهما فرص متكافئة لنيل الكمالات والقرب من الله تعالى وقد زُوِّد الرجل والمرأة على حد سواء بما يعينهم على التكامل من قوى ذهنية وجسدية، إذن كيف نفهم الأحاديث الكثيرة الواردة في ذم النساء (منها) أن بعض الأحاديث محمولة على امرأة معيّنة ضلّت وأضلّت مستفيدة من عنوانها الكبير في المجتمع الإسلامي (ومنها) أن أحاديث شريفة أخرى ظاهرها ذم النساء إلا أنها في الحقيقة لا تحمل هذا المعنى وإنما وردت لتحذير الرجال من الوقوع في فتنة النساء وارتكاب المعصية بسببهنّ، كالحديث النبوي الشريف (ما لإبليس جند أعظم من النساء والغضب) (ومنها) أن تكون الأحاديث غير مطلقة وإنما ناظرة إلى حالات معينة، كالنهي عن مشاورة النساء ومما دلّ على عدم عمومية هذه النصيحة الاستثناء الوارد في كلام له (علیه السلام) قال: (إياك ومشاورة النساء إلا من جُرِّبت بكمال عقل فإن رأيهنّ يجر إلى الأفن وعزمهنّ إلى الوهن) وبالرغم من هذه التوجيهات لكلام المعصومين (علیهم السلام) إلا أنه مما لا يمكن إنكار حقيقة في النساء تمثّل الوجه الرابع الذي هو ظاهر بعض هذه الأحاديث، وهي أن الحالة العامة للنساء عدم الاهتمام بالأمور المعنوية والنزوع إلى الارتقاء في مدارج الكمال. فهذا الذم للنساء بلحاظ الحالة الغالبة وليس بالضرورة أنه يشمل كل امرأة.

استحقاقات المرأة وواجباتها:

الآيات الشريفة واضحة وصريحة في تكافؤ الفرص والاستحقاقات بين المرأة والرجل، إلا أنه قد يختلف الرجال عن النساء بنوع المسؤوليات والواجبات بحسب اختلاف تركيبتهم التكوينية أي الفسيولوجية، وبحسب الدور الذي أنيط بهم في هذه الحياة قال تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ) فالقيمومة لم تُعطَ للرجال من باب تفضيل الذكور على الإناث، وإن المجتمع الإسلامي (ذكوري) كما يزعمون، بل لأمرين: بعض الخصائص التي اتّصفوا بها

ص: 311

مما يؤهلهم للقيام بهذه المسؤوليات، ولأنّهم المسؤولون عن الإنفاق على الأسرة، ولكن هذا لا ينافي العدالة في توزيع المسؤوليات ومنح الاستحقاقات من الثواب والعقاب، لأن العدالة لا تعني بالضرورة المساواة أي التماثل بنحوٍ مطلق، والمطلوب هو تحقيق العدالة، أما المساواة فقد تكون من العدالة وقد لا تكون مثلاً هل من العدالة أن يساوى المحسن بالمسيء؟ أو أن يعطى الطلبة الذين يجرى لهم امتحان درجات متساوية؟ أو أن يعطي الطبيب لجمع المرضى الذين يراجعونه دواءً موحداً وإن اختلفت أمراضهم؟ فلا معنى للمساواة إلا إذا تحققت بها العدالة، وهي متحققة بين الرجال والنساء.

د/ الأبناء:

اشارة

أما الأبناء وكيفية تعامل الأبوين معهم فقد قننت الأحاديث الشريفة كيفية ذلك، وأمرتهم بالتعامل معهم بالحسنى، وهذه بعض منها:

عن النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) : (نظر إلى رجل له ابنان فقبل أحدهما وترك الآخر فقال له النبي (صلی الله علیه و آله) : (فهلا آسيت بينهما). (1)

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (اعدلوا بين أولادكم وكما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف). (2)

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (أكثروا من قبلة أولادكم، فان لكم بكل قبلة درجة في الجنة مابين كل درجة خمسمائة عام). (3)

عن الإمام الصادق (علیه السلام) : (إن الله ليرحم العبد لشدة حبه لولده). (4)

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (أحبوا الصبيان وارحموهم وإذا وعدتموهم شيئاً ففوا لهم فإنهم لا يرون إلا أنكم ترزقونهم). (5)

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (من قبّل ولده كتب الله له حسنة). (6)

ص: 312


1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج101، ج92.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه.
4- الوسائل،ج21،ص483.
5- المصدر نفسه.
6- المصدر نفسه.

عن الإمام الصادق (علیه السلام) : (قال موسى بن عمران (علیه السلام) : يا رب أي الاعمال أفضل عندك؟ - فقال: حب الاطفال فأني فطرتهم على توحيدي، فان أمتهم أدخلتهم برحمتي جنتي). (1)

ومن صفات الوالد الرحيم التي ينبغي أن يتصف بها الأب تجاه أبنائه، وفقاً لمدرسة القرآن الكريم والسُنة الطاهرة، فهي:

1- الصفة الاولى: الحب للولد: عن النبي (صلی الله علیه و آله) : (نظر الوالد الى ولده عبادة).

2- الصفة الثانية: الرحمة: قال تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم و لو كنت فض غليظ القلب لنفضوا من حولك).

3- الصفة الثالثة: التغافل وغض النظر عما يصدر منه من أفعال قدر الامكان ما دام يمكن غض النظر والتغافل مع حذر ومراقبة و عناية فعن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) : (إن العاقل نصفه احتمال و نصفه تغافل).4- الصفة الرابعة: استعمال اسلوب المدارة واللين: عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (امرني ربي بمدار ة الناس كما امرني بأداء الفرائض).

5- الصفة الخامسة: العفو: قال تعالى: (يسلونك ماذا ينفقون قل العفو).

6- الصفة السادسة: المشاورة و المشاركة بالرأي: (حق على العقل ان يضيف الى رأيه راي العقلاء بالمشاورة ويضم الى عمله علوم الحكماء) ، (من شاور الرجال شاركها عقولها).

7- الصفة السابعة: بر الولد و اعانته على البر : قال رجل من الانصار للنبي (صلی الله علیه و آله) : من أبر فقال (صلی الله علیه و آله) : (بر والديك) قال قد مضيا فقال: (صلی الله علیه و آله) : (بر ولدك).

8-الصفة الثامنة: التصابي للأبناء أو على صعيد المسؤولية العامة رفع الحواجز معهم: فعن النبي (صلی الله علیه و آله) : (من كان عنده صبي فليتصابى له).

9- الصفة التاسعة: العدل و المساواة بينهم: عن النبي (صلی الله علیه و آله) : (اتقوا الله و اعدلوا بين اولادكم).

ص: 313


1- كتاب المحاسن للبرقي ص [293].

10- الصفة العاشرة: الاكرام والاحسان والتآلف: عن النبي (صلی الله علیه و آله) : (أكرموا أولادكم واحسنوا آدابهم) وعنه (صلی الله علیه و آله) أيضاً: (رحم الله عبداً أعان ولده على برّه بالإحسان إليه والتألف له، وتعليمه وتأديبه).

11- الصفة الحادي: عشر الشفقة: عن الامام علي (علیه السلام) : (يجب عليك ان تشفق على ولدك اكثر من اشفاقه عليك).

12- الصفة الثانية: عشر الوفاء بالوعد: عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (أحبّوا الصبيان وارحموهم، وإذا وعدتموهم شيئاً فَفُوا لهم فإنهم لا يرون إلاَّ أنكم ترزقونهم).

ونذكر فيما يأتي بعض الكلمات الحكمية للمرجع اليعقوبي في هذا الباب:

القتل المعنوي للأبناء:

...ولا نغفل عن قتل معنوي آخر من خلال إهمال تربية الأطفال تربية صالحة فيصبحوا أفراداً سيئين منحرفين وربما يتحولون إلى مجرمين ويجلبون الشر للمجتمع، ومن أمثلتها أيضاً الهجرة إلى الغرب وعموم بلاد الكفر وتعريض الأبناء لتلك الضغوط والمغريات والشهوات فيبتعدون عن الدين ويلتحقون بالمجتمعات الضالة فهذا كله قتل معنوي للإنسان على خلاف ما أراده الله تعالى ورسوله.

أهمية مصادقة الآباء للأبناء:

أهمية التفات الوالدين إلى أن يكونا صديقين لأولادهما منسجمين مع تفكيرهم ولا يشعرونهم بالفوارق بينهم - مع مراعاة الآداب طبعاً- وينزلان إلى مستوى اهتماماته وتوجهاته لينفتح عليهما بكل شيء ولا يلتجأ إلى أقرانه السيئين، وفي أحسن الأحوال هم جهلة وقاصرون مثله فيقوم الأبوان تارة بابتداء ولدهما بتعليمه وإرشادهوإلفات نظره إلى بعض الأمور، وأحياناً بالاستماع إلى أسئلته واستفهاماته والإجابة عليها بما يناسبه، ومن هنا وردت الوصايا عن المعصومين (علیهم السلام) في تربية الأولاد ومنها (اتركوهم سبعاً، وأدّبوهم سبعاً، واصحبوهم سبعاً).

ص: 314

ثمار مصاحبة الأبناء:

إن التعليم والتأديب ينبغي أن يقترن بمصاحبة الصبي والصبية واتخاذهما صديقين وصاحبين لإلغاء الحواجز النفسية، وأن يصحبوهم معهم إلى الأماكن والتجمعات واللقاءات والزيارات التي تعزّز تلك التربية والتأديب والتعليم، وتمارس تلك الأفكار على ضوء تطبيقات عملية ومشاهدات.

تنبيه تربوي مهم:

تقتضي الطفولة لعب الأطفال مع بعضهم وأحياناً يكونون من الجنسين، وقد يستمر هذا اللعب إلى ما بعد البلوغ، فالبنت تصل التاسعة من العمر وهي ما زالت تلعب مع أقرانها، وهذه مشكلة يجب التنبه لها في وقت مبكر، فيفصل بين الجنسين من عمر الخامسة ويُعَلَّمون أن هذا الاختلاط غير صحيح وعاقبته وخيمة وأضراره كثيرة.

من الأخطاء في تربية الأبناء:

من الأخطاء في تربية الأبناء حصول حواجز من الحياء أو الخوف أو الجهل أو عدم التوافق والانسجام بين الوالدين والأبناء تمنعهم من الانفتاح بصراحة وشفافية على الأبوين في حل مشاكلهم الخاصة والإجابة على تساؤلاتهم واستفهاماتهم، خصوصاً في مرحلة المراهقة التي يشهد فيها الصبي والصبية تغيّرات جسمية ونفسية يحتاج إلى الاستفهام عنها ومعرفة التصرف الصحيح إزاءها، فإذا كان الفتى والفتاة لا يستطيعان مفاتحة الوالدين بذلك، فإن كلاً منهما سيلجأ إلى أقرانه وسيأخذ منه ويتأثّر به، وهو - أي ذلك المستشار من أقرانهم- مثلهم وربما أقل منهم، بل الغالب فيه أن يكون متمرداً مشاكساً كذاباً يدعو إلى مخالفة الأخلاق و الدين والتقاليد الاجتماعية.

أضرار التجسس على الأبناء:

إن التجسس من المحرمات قال تعالى: (وَلَا تَجَسَّسُوا) وإن الهدف قد يكون صحيحاً ولكن الوسيلة يجب أن تكون مشروعة أيضاً و (الغاية لا تبرر الوسيلة) إذا كان غير مشروعة

وإن الأب والأم قد يكتشفان خطأ في تصرف أبنائهم بهذا التجسس ويعالجانه

ص: 315

إلا إنهم بذلك يخسرون ثقة أبنائهم ويفقدون الصراحة والشفافية بينهم وهذه مرحلة خطيرة من العلاقة بين الوالدين وأولادهم، فالصحيح متابعة الابناء بحذر وفطنة ومن دون التجاوز على حرياتهم الشخصية.. ونفس الحكم يجري على الزوجين فلا يحق لأي منهما التفتيش فيحاجيات الآخر لاحتمالات وشكوك يتوهمها كل طرف باتجاه الآخر لأنه يؤدي كما قلنا الى فقدان الثقة والصراحة والشفافية.

ه/ سائر الأرحام والعشيرة:

من الأفراد والمجموعات الاجتماعية التي أمرنا المشرع الأقدس بالتعامل معهم بالتي هي أحسنن وأن نتعايش معهم ضمن الإطار السلمي المملوء بالمحبة والتواصل والتعاون، هم الأرحام والعشيرة، فالعشيرة أو القبيلة أو الطائفة أو مجموعة بشرية أخرى أوسع وأكثر من الأسرة يربط أفرادها النسب والدم فالإخوان وأبناء الإخوان والأعمام وأبناؤهم وغيرهم قربوا أو بعدوا يعدون أبناء قبيلة واحدة ويتحمسون بعضهم للبعض ويشعرون بالقرابة والمسئولية تجاه سائر أفراد العشيرة أكثر من غيرهم وهذا الأمر مما ركز عليه القرآن الكريم وعبّر عنه بصلة الأرحام وحبذ للأرحام التواصل ونهاهم عن التقاطع والتدبر في عدة آيات مباركة (1)

، منها:

(.. وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). (2)

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ). (3)

(وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ). (4)

ص: 316


1- ينظر الإرهاب والعنف في ضوء القرآن والسنة والتأريخ والفقه المقارن، الشيخ محسن الحيدري، ج2، ص 90.
2- الأنفال (75) .
3- محمد (22-23) .
4- الرعد (21) .

(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ). (1)

(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ). (2)

أما الروايات الشريفة الواردة في هذا الباب، فنذكر منها ما يأتي:

عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) : (لا يستغني الرجل وإن كان ذا مال وولد عن عشيرته، وعن مداراتهم، وكرامتهم، ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم). (3)رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (ثلاث من كن فيه حاسبه الله حسابا يسيرا وأدخله الجنة برحمته، قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: تعطي من حرمك، وتصل من قطعك، وتعفو عمن ظلمك). (4)

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه).

روي أن الإمام الصادق (علیه السلام) قال لإسحاق بن عمّار: (ماذا فعلت حتى دفع عنك الموت مرتين، وزاد في عمرك ثلاثين سنة؟ قال: يابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) إني أكتسب كل يوم درهمين، ولي عمّة وخالة فدفعت الدرهمين إليهما، فقال الإمام (علیه السلام) : من أجل ذلك فعل الله بك ما ذكرت).

وورد عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) نقلاً عن كتاب غرر الحكم و درر الكلم، للعلامة الآمدي (5) الروايات الآتية:

(الشرف اصطناع العشيرة).

(أكرم عشيرتك فإنهم جناحك الذي به تطير و أصلك الذي إليه تصير و يدك التي بها تصول).

ص: 317


1- الرعد (25) .
2- البقرة (27) .
3- بحار الأنوار، ج71،ص101.
4- بحار الأنوار،ج7، ص 96.
5- من الحكمة رقم (9328) إلى الحكمة رقم (9338) .

(أكرم ذوي رحمك و وقر حليمهم و احلم عن سفيههم وتيسر لمعسرهم فإنهم لك نعم العدة في الشدة و الرخاء).

(ألا لا يعدلن أحدكم عن القرابة يرى بها الخصاصة أن يسدها بالذي لا يزيده إن أمسكه و لا ينقصه إن أنفقه).

(بر الرجل ذوي رحمه صدقة).

(عليكم بصنائع الإحسان و حسن البر بذوي الرحم و الجيران فإنهما يزيدان في الأعمار و يعمران الديار).

(من يقبض يده عن عشيرته فإنما يقبض يدا واحدة عنهم و يقبض عنه أيدي كثيرة منهم).

(رب عشير غير حبيب).

(رب قريب أبعد من بعيد).

(عداوة الأقارب أمر من لسع العقارب).

(من جفا أهل رحمه فقد شان كرمه).

و/ الشيوخ والصبيان:

ونظراً للبنية الجسدية الضعيفة التي يتصف بها الأطفال والشيوخ، وكذلك تقديراً للشيبة التي شابت في الإسلام، واحتراماً للعمر الكبير، والتجارب الكثيرة، والبراءة الطيبة وغيرها من المزايا والخصال لهاتين الشخصيتين من المجتمع، أكد الإسلام على ضرورة الاعتناء بهما، وتقديم الاحترام والاهتمام اللائق بهما، وهذه بعض الروايات الشريفة التي تنص على ذلك:

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (من وقر ذا شيبة في الاسلام آمنه الله من فزع يوم القيامة). (1)

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (..وإن من عظم جلال الله إكرام ثلاثة: في الشيبة في الاسلام، والإمام العادل، وحامل القران غير الغالي فيه ولا الجافي عنه). (2)

ص: 318


1- بحار الأنوار، ج7، ص302.
2- بحار الأنوار، ج 72، ص137.

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (من عرف فضل شيخ كبير فوقره لسنه آمنه الله من فزع يوم القيامة، وقال: من تعظيم الله عزوجل إجلال ذي الشيبة المؤمن). (1)

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (ما أكرم شاب شيخاً إلا قضى الله له عند سِنه من يكرمه). (2)

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (البركة مع أكابركم). (3)

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (الشيخ في أهله كالنبي في أمته). (4)

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (من إكرام جلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم). (5)

عن أحد الصحابة قال: أوصاني رسول الله (صلی الله علیه و آله) بخمس خصال فقال فيه: (ووقر الكبير تكن من رفقائي يوم القيامة). (6)

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا ويعرف حقنا). (7)

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (مَن عرف فضل كبير لسِنه فوقره آمنه الله تعالى من فزع يوم القيامة). (8)وعنه (صلی الله علیه و آله) : (أحبوا الصبيان وارحموهم فإذا وعدتموهم ففوا لهم فانهم لا يرون إلا أنكم ترزقونهم). (9)

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (بجلوا المشايخ، فان من إجلال الله تبجيل المشايخ). (10)

وجاء في وصية الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) عند استشهاده: (وارحم من أهلك الصغير ووقر منهم الكبير). (11)

ص: 319


1- بحار الأنوار، ج 72، ص137.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه.
4- المصدر نفسه.
5- المصدر نفسه.
6- المصدر نفسه.
7- المصدر نفسه.
8- المصدر نفسه.
9- المصدر نفسه.
10- المصدر نفسه.
11- المصدر نفسه.

عن الإمام الصادق (علیه السلام) : (عظموا كباركم، وصلوا أرحامكم، وليس تصلونهم بشئ أفضل من كف الاذى عنهم). (1)

أما أدبُ النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) مع الصبيان، فقد كان ملفتاً للنظر، وهذه بعض النقولات التأريخية التي تُبين عظيم اهتمام نبينا الكريم (صلی الله علیه و آله) بمداراة الصبيان والرحمة بهم:

فعن الإمام الباقر (علیه السلام) : (كان يسمع صوتَ الصبي يبكي وهو في الصلاة فيخفف الصلاة فتصير إليه اُمُه).

وعن الإمام الرضا (علیه السلام) : (كان (صلی الله علیه و آله) إذا أصبح مَسَحَ على رؤوس ولده، و ولد ولده).

وعن عبد الله بن جعفر (رضوان الله عليه) : (كان (صلی الله علیه و آله) إذا قدم من سفر تُلقّيَ بصبيان أهل بيته).

وورد في كتب العامة إنه (صلی الله علیه و آله) إذا اُتي بباكورة الثمرة وضعَها على عينيه ثم على شفتيه وقال: اللّهم كما أريتَنا أوّلَه فارنا آخره، ثم يعطيه مَن يكونُ عنده مِن الصبيان وكان إذا يؤتى بالصغير ليَدعوَ بالبركة، أو يسمّيه فيأخذُه فيضعُه في حجره تكرمةً لأهله فربما بالَ الصبيُ عليه فيصيحُ بعضُ من رآه حين يبول فيقول (صلی الله علیه و آله) : لا تَزرِمُوا بالصبيّ، فيدعُه حتى يقضي بولَه ثم يفرغ له من دعائه أو تسميَته ويبلغُ سرورُ أهلِه فيه، ولا يرون أنه يتأذى ببول صبيّهم، فإذا أنصرفوا غَسَلَ ثوبه، وكان أرحمَ الناس بالصبيان والعيال، وكان يزور الأنصار ويسلّم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم، وإذا مرُّ بالصبيان سلّم عليهم وكان يكنّي الصبيان فيستلين به قلوبَهم، كان (صلی الله علیه و آله) يؤتى بالصبيان فيبرّكُ عليهم ويحنِّكُهُم ويدعُو لهم.

و/ الفقراء والمساكين:

كثيرة هي النصوص الشريفة الواردة في الحث على رعاية المحتاجين من الفقراء والمساكين، وضرورة انشاء التكافل الاجتماعي للنهوض بمجتمع متكامل رصين، يحمي حقوق الضعفاء ويسد حاجة المعوزين، وفيما يلي بعض الآيات المباركة والروايات الشريفة التي انتقيتها لهذا الباب:

ص: 320


1- المصدر نفسه.

قال تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا).

وقال تعالى أيضاً: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين).

عن النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) : (ألا ومن استخف بفقير مسلم فقد استخف بحق الله، والله يستخف به يوم القيامة إلا أن يتوب).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (من أكرم فقيراً مسلماً لقى الله يوم القيامة وهو عنه راض).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (من استذل مؤمنا أو مؤمنة أو حقره لفقره أو قلة ذات يده، شهره الله تعالى يوم القيامة ثم يفضحه).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (ألا ومن استخف بفقير مسلم فقد استخف بحق الله، والله يستخف به يوم القيامة، إلا أن يتوب).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (من أكرم فقيرا مسلما لقي الله يوم القيامة وهو عنه راض).

عن الإمام علي (علیه السلام) : (لا تحقروا ضعفاء إخوانكم، فإنه من احتقر مؤمنا لم يجمع الله عز وجل بينهما في الجنة إلا أن يتوب).

عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) : (اتخذوا عند الفقراء أيادي، فإن لهم دولة يوم القيامة).

عن الإمام الباقر (علیه السلام) : (قال الله تعالى لموسى (علیه السلام) : يا موسى ! لاتستذل الفقير، ولا تغبط الغني بالشئ اليسير).

عن الإمام الصادق (علیه السلام) : (من حقر مؤمناً مسكيناً لم يزل الله حاقداً ماقتاً حتى يرجع عن محقرته إياه).

وعنه (علیه السلام) : (مَن لقى فقيراً مسلماً فسلم عليه خلاف سلامه على الغني لقى الله عز وجل يوم القيامة وهو عليه غضبان).

وعنه (علیه السلام) : (من حقّر مؤمنا مسكينا لم يزل الله له حاقرا ماقتا حتى يرجع عن محقرته إياه).

ص: 321

عن الإمام الرضا (علیه السلام) : (من لقي فقيراً مسلماً فسلم عليه خلاف سلامه على الغني، لقي الله عزوجل يوم القيامة وهو عليه غضبان).

ز/ اليتيم:

اشارة

من أجلى مصاديق المواقف الدفاعية عن المضطهدين في الإسلام ومقاومة الأساليب العنيفة للدفاع عن شخصية اليتيم وحقوقه وكرامته، وذلك لأن اليتيم هو الذي يفقد أباه في طفولته، والطفولة مظهر بارز من مظاهر الضعف، فهو غير قادر على الدفاع عن حقوق نفسه ولذلك يقع في معرض طمع الانتهازيين.. وقد جعل الإسلام على المسلمين والدولة الإسلامية فريضة كفالة اليتيم والاعتناء بشأنه وحذّر الانتهازيين أشد مايكون من التحذير بالنسبة إلى الاعتداء على كرامته وأكل ماله وإيذائه باستعمال الأساليب العنيفة تجاهه. (1)

وهذه بعض النماذج من المواقف الصارمة التي اتخذها المشرع الإسلامي في هذا الصدد:

الحث على رعاية الأيتام في القرآن الكريم:

(وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لاتعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون)

(وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ).(2)

وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا). (3)

إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا). (4)

ص: 322


1- الإرهاب والعنف في ضوء القرآن والسنة والتأريخ والفقه المقارن، الشيخ محسن الحيدري، ج2، ص215.
2- البقرة (177) .
3- النساء (2) .
4- النساء (10) .

وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا). (1)

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا). (2)

الحث على رعاية الأيتام في السُنة الشريفة:

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (من عال يتيماً حتى يستغني عنه أوجب الله عزوجل له بذلك الجنة كما أوجب الله لآكل مال اليتيم النار).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (كن لليتيم كالأب الرحيم، واعلم أنك تزرع كذلك تحصد).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (إن في الجنة داراً يقال لها: دار الفرح لا يدخلها إلا من فرح يتامى المؤمنين).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (من قبض يتيماً من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه أدخله الله الجنة البتة، إلا أن يعمل ذنباً لا يغفر).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (من عال ثلاثة من الأيتام كان كمن قام ليله، وصام نهاره، وغدا وراح شاهرا سيفه في سبيل الله، وكنت أنا وهو في الجنة أخوين كما أن هاتين اختان - وألصق إصبعيه السبابة والوسطى).وعنه (صلی الله علیه و آله) - لرجل يشكو قسوة قلبه -: (أتحب أن يلين قلبك، وتدرك حاجتك ؟: ارحم اليتيم وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، يلن قلبك وتدرك حاجتك).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (شر المآكل أكل مال اليتيم ظلماً).

عن الإمام علي (علیه السلام) : (مامن مؤمن ولا مؤمنة يضع يده على رأس يتيم ترحماً له إلا كتب الله له بكل شعرة مرت يده عليها حسنة).

ص: 323


1- النساء (36) .
2- الإسراء (34) .

وعنه (علیه السلام) : (الله الله في الأيتام، فلا تغبوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم، فقد سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: من عال يتيما حتى يستغني أوجب الله عز وجل له بذلك الجنة كما أوجب لآكل مال اليتيم النار).

وقال المرجع اليعقوبي أيضاً ضمن كلماته الحكمية على ضرورة رعاية الأيتام وتبنيهم وعدم التعرض إلى ظلمهم، حيث قال (دام ظله) : التبني (بمعنى احتضان أبناء الآخرين ورعايتهم وتربيتهم) عمل إنساني جليل لما يتضمن من إيجابيات عديدة منها:

1- توفير الفرصة لمن حرموا من الذرية أن يشعروا بهذه النعمة من خلال هؤلاء المتبنين.

2- حفظ حياة الأبناء الذين يتخلون عنهم أهلهم لسبب أو لآخر ويحاولون التخلص منهم إما برميهم بالشوارع العامة، أو في دور اللقطاء والأيتام.

3- التخفيف عن كاهل بعض الأسر التي تشعر بأعباء الإنفاق على العيال الكثيرين، لذا ورد في الحديث: (قلة العيال أحد اليسارين).

4- قد يكون المتبنى يتيماً فيفوز كافله بثواب عظيم، ذكره الحديث الشريف: (أنا وكافل اليتيم كهاتين) وأشار إلى أصبعين متجاورين له (صلی الله علیه و آله) إشارة إلى منزلة كافل اليتيم منه (صلی الله علیه و آله) يوم القيامة). (1)

وقال (دام ظله) أيضاً: (تتجلى الرحمة الإنسانية بوضوح في عملية التبني، وهي مشتقة من رحمة الله تعالى التي هي أحب صفاته تبارك وتعالى إليه حتى اختار اسمين من الرحمة (الرحمن، الرحيم) دون غيرهما من الأسماء الحسنى في البسملة ليفتتح بها كل شيء، وفي الحديث: إن الله يحب من عباده الرحماء ويحب رقة القلب ويثيب عليها بلا حساب، لأنه كريم ولا يسبقه أحد، فإذا كان المخلوق يحمل هذه الرحمة فكيف سيجازيه.. لكن هذه العملية الإنسانية (أعني التبني) يجب أن تكون ضمن الضوابط الشرعية؛ لأن الفوضى مرفوضة خصوصاً في الأنساب، وما نزلت الشريعة إلا لتنظيم حياة البشر وإسعادهم في الدنيا والآخرة، ومنالمؤسف أن المجتمع غير ملتفت لهذه الأحكام الشرعية للتبني، مما سبب مفاسد كثيرة واختلالاً في الحقوق والواجبات). (2)

ص: 324


1- الاستفتاءات والتوجيهات الاجتماعية.
2- المصدر نفسه.

ح/ الجار:

من التعاليم الفاضلة التي ركز عليها الدين الاسلامي هو الإحسان إلى الجيران وتكريمهم وكف الأذى عنهم وحسن العشرة معهم بعد ذوي القربى والوالدين واليتامى والمساكين، قال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا). (1) وليس المقصود من الجار خصوص ما كان منزله ملاصق لمنزل الشخص بل كل من كان منزلة في حي واحد يعتبر جار ولذلك ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (أربعون داراً جار) ، الإمام علي (علیه السلام) : (حريم المسجد أربعون ذراعا، والجوار أربعون دارا من أربعة جوانبها) (2). وورد في كتاب ميزان الحكمة في باب حُسن الجوار، وباب إيذاء الجار، الروايات التالية:

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) - في حقوق الجار -: (إن استغاثك أغثته، وإن استقرضك أقرضته، وإن افتقر عدت عليه، وإن أصابته مصيبة عزيته، وإن أصابه خير هنأته، وإن مرض عدته، وإن مات اتبعت جنازته، ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، وإذا اشتريت فاكهة فأهد له، فإن لم تفعل فأدخلها سراً، ولا تخرج بها ولدك تغيظ بها ولده، ولا تؤذه بريح قدرك إلا أن تغرف له منها).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (ما زال جبرئيل (علیه السلام) يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (حرمة الجار على الإنسان كحرمة أمه).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (ما آمن بي من بات شبعان وجاره طاوياً، ما آمن بي من بات كاسياً وجاره عارياً).

الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) : (الله الله في جيرانكم فإنهم وصية نبيكم، ما زال يوصي بهم حتى ظننا أنه سيورثهم).

وعنه (علیه السلام) : (من حُسن الجوار تفقد الجار).

ص: 325


1- النساء (36) ,
2- ميزان الحكمة، الشيخ محمد الري شهري، باب حد الجار.

عن الإمام الكاظم (علیه السلام) : (ليس حُسن الجوار كف الأذى، ولكن حسن الجوار الصبر على الأذى).عن الإمام الرضا (علیه السلام) : (ليس منا من لم يأمن جاره بوائقه (1).

عن عمرو بن عكرمة قال: دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) فقلت له: إن لي جاراً يؤذيني فقال: ارحمه، قال قلت: لا رحمه الله، فصرف وجهه عني، قال: فكرهت أن أدعه: فقلت جعلت فداك إنه يفعل بي ويفعل ويؤذيني فقال: أرأيت إن كاشفته انتصفت منه؟ قال: قلت بلى أولى عليه، فقال (علیه السلام) : إن ذا ممن يحسد الله على ما آتاهم الله من فضله، فإذا رأى نعمة على أحد وكان له أهل جعل بلاءه عليهم، وإن لم يكن له أهل جعل بلاءه على خادمه، وإن لم يكن له خادم سهر ليله، واغتاظ نهاره، إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أتاه رجل من الانصار فقال: يا رسول الله إني اشتريت داراً في بني فلان، وإن أقرب جيراني مني جواراً من لا أرجو خيره، ولا آمن شره، قال: فأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) علياً وسلمان وأبا ذر قال: ونسيت واحداً وأظنه المقداد فأمرهم أن ينادوا في المسجد بأعلى أصواتهم أنه لا إيمان لمن لم يأمن جاره بوائقه فنادوا ثلاثاً ثم أمر فنودي إن كل أربعين داراً من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله يكون ساكنها جاراً له روي أنه جاء رجل إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وقال: إن فلاناً جاري يؤذيني قال: اصبر على أذاه كف أذاك عنه فما لبث أن جاء وقال: يا نبي الله إن جاري قد مات فقال (صلی الله علیه و آله): كفى بالدهر واعظاً وكفى بالموت مفرقاً. (2)

وعن الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) : (من آذى جاره بقتار قدره (3) فليس منا).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (من خان جاره بشبر من الأرض, طوقه اللّه يوم القيامة إلى الأرض السابعة حتى يدخل النار).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (من منع الماعون من جاره إذا احتاج إليه, منعه اللّه فضله يوم القيامة).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (إذا ضربت كلب جارك فقد آذيته).

ص: 326


1- البوائق: جمع بائقة، وهي الظلم أو الداهية والشر.
2- بحار الأنوار، ج 71،ص152 وما بعدها.
3- أي برائحة الطعام الذي يطبخ في القدر.

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (من اذى جاره فقد آذاني، و من حاربه فقد حاربني).

وعن الإمام الصادق (علیه السلام) : (ملعون ملعون من آذى جاره).

وعلى المستوى الفقهي فقد وردت أحكاماً شرعية في الإسلام تقنن علاقة الفرد مع جاره، ومنها؛ إنه لا يجوز إزعاج الجار من دون مبرّر حتى وإن كان الجار يهودياً، أو مسيحياً، أو كان الجار لا يؤمن بدينٍ أصلاً،كما يجب على الفرد مراجعة جاره لأجل عطف أغصان شجرته المتدلية على داره، ولا يجوز قطعها إلا بعد أخذ إذنه، كما ويستحب للفرد أخذ الأذن من جاره إذا أراد وضع شيء على الحائط الذي بينهما كوضع خشبه على سبيل المثال عند الحاجة لذلك، كما ورد ضمن الأدبيات الإسلامية التي استقيت من تعاليم المعصومين(عليهم الصلاة والسلام) إنه يحبذ للرجل إذا اشترى بعض الألعاب أو فاكهة او حلوى أو شيء من هذا القبيل أن يطلب من أولاده أن لا يخرجوها أمام أولاد الجيران إذا كانوا ممن لا يتمكن ذويهم من شراء نظائرها لهم، خشية أن تنكسر قلوبهم.

ط/ الصديق (الإخوان في الله) :

إن قضاء حوائج الإخوان وخاصة تلك التي لابد منها لاستمرار العيش الكريم يرفعها الرسول (صلی الله علیه و آله) إلى درجة العبادة العملية التي تستلزم الثواب الأخروي الجزيل. وكان الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) يحثّ على صون كرامة الأخ المؤمن وعدم إراقة ماء وجهه بعدم تكليفه الطلب عند حاجته. لذلك يدعو إلى المبادرة بقضاء حوائجه بمجرد الشعور بحاجته إلى المساعدة وهذه توصية حضارية في غاية الأهمية، فقد روي عن النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) : ((لا يكلّف المؤمن أخاه الطلب إليه إذا علم حاجته)). ونسجت مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) على هذا المنوال بأقوال عديدة تعكس حالة التضامن والتكافل التي ترغب في إشاعتها بين أفراد المجتمع فعن الإمام علي (علیه السلام) : ((خير الاخوان من لا يحوج إخوانه إلى سواه)).

ونجد أحاديث أهل البيت (علیهم السلام) تُسهب في إيراد الشواهد على الثواب الجزيل الذي ينتظر كلّ من قضى حوائج إخوانه وتبشّره بالأمن يوم الحساب، فعن الإمام الصادق (علیه السلام) : ((من سعى في حاجة أخيه المسلم طلب وجه اللّه، كتب اللّه له ألف ألف

ص: 327

حسنة)) ، وعنه (علیه السلام) أيضاً: ((من قضى لأخيه المؤمن حاجةً قضى اللّه عزّ وجل له يوم القيامة مائة ألف حاجة من ذلك أوّلها الجنة)).

وفي مقابل ذلك نجد التحذير الكثير لكل من يقصر في حق إخوانه ولهذا التحذير والإنذار آثار عملية تتمثّل في المحافظة على الجدار الاجتماعي من أي تصدّع وفي الحدّ من التحولات الاجتماعية التي تخل بقواعد العيش المشترك، عن الإمام الصادق (علیه السلام) : (من صار إلى أخيه المؤمن في حاجته فحجبه لم يزل في لعنة اللّه إلى أن حضرته الوفاة). وعنه (علیه السلام) أيضاً: ((أيّما رجل مسلم أتاه رجل مسلم في حاجة، وهو يقدر على قضائها فمنعه إيّاها،عيّره اللّه يوم القيامة تعييرا شديد، وقال له : أتاك أخوك في حاجة قد جعلت قضاؤها في يدك فمنعته إيّاها زهدا منك في ثوابها، وعزّتي لا أنظر إليك اليوم في حاجةٍ معذّبا كنت أو مغفورا لك).

وعن الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) : ((من استذلّ مؤمنا أو مؤمنة أو حقّره لفقره وقلّة ذات يده، شهره اللّه تعالى يوم القيامة ثمّ يفضحه)) وعنه (صلی الله علیه و آله) أيضاً: (للمسلم على أخيه ثلاثون حقاً لا براءة له منها إلا بالأداء أو العفو يغفر زلته، ويرحم عبرته، ويستر عورته، ويقيل عثرته، ويقبل معذرته، ويرد غيبته، ويديم نصيحته، ويحفظ خلته، ويرعى ذمته، ويعود مرضته، ويشهد ميته، و يجيب دعوته، ويقبل هديته، ويكافئ صلته، ويشكر نعمته، ويحسن نصرته، و يحفظ حليلته، ويقضي حاجته، ويشفع مسألته، ويسمت عطسته، ويرشد ضالته ويردسلامه، ويطيب كلامه، ويبر إنعامه، ويصدق أقسامه، ويوالي وليه، ولا يعاديه، وينصره ظالما ومظلوما: فأما نصرته ظالما فيرده عن ظلمه، وأما نصرته مظلوما فيعينه على أخذ حقه، ولا يسلمه، ولا يخذله، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه ويكره له من الشر ما يكره لنفسه. ثم قال : سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: إن أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئا فيطالبه به يوم القيامة فيقضى له وعليه). (1)

وبهذا أراد أئمتنا (علیهم السلام) من شيعتهم أن يرتقوا إلى مستوى إيماني رفيع يقرن العبادة والمحافظة عليها بالمعاملة الحسنة من أجل بناء محيط اجتماعي سليم، وبذلك يظهر بأن الإيمان الكامل لا يتحقق على نحو مثالي إلا بالتكافل وكلما تكاتف الفرد المسلم مع إخوانه وتعاون معهم كلما ارتقى إلى مدارج إيمانية عالية. ولقد سبق أئمتنا (علیهم السلام) علماء

ص: 328


1- بحار الأنوار، ج 71، ص 236.

الاجتماع في الدعوة إلى تقوية الأواصر الاجتماعية لدى الناس وقد ثبت أن ذلك يؤدي إلى ارتقاء الإنسان، لذلك حثوا شيعتهم على تحقيق أعلى درجة من الاندماج والتعاون.

ي/ الأجير:

لم يغفل الإسلام عن سنّ القوانين التي تضمن حقوق الناس فحسب، بل وضع الأحكام والتعاليم لأدق التفاصيل، لكي لا يقع الناس في ظلم بعضهم البعض، ومن التعاملات الحساسة التي هي محل ابتلاء الناس، هي مسألة الإجارة، فالأجير يجب أن يستوفي حقه ولا يجوز للمستأجر أن يأكل شيئاً من حقه وإن كان بسيطاً، بل إن الإسلام أمر بإعطاء حقه قبل أن يجف عرقه.

ونكتفي بذكر بعض الروايات التي تُبين هذه التعاليم السمحاء:

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (من ظلم أجيرا أجره أحبط الله عمله وحرم عليه ريح الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة خمسمائة عام).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (إن الله عزوجل غافر كل ذنب إلا من أحدث دينا أو أغصب أجيرا أجره أو رجل باع حراً).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه، وأعلمه أجره وهو في عمله).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (إن الله عزوجل غافر كل ذنب إلا رجل اغتصب أجيراً أجره أو مهر امرأة).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (ظلم الأجير أجره من الكبائر).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره).

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (ألا من ظلم أجيراً اجرته فلعنة الله عليه).

عن الإمام الصادق (علیه السلام) : (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يستعملن أجيرا حتى يعلمه ما أجره).

ك/ الرعية:

وهي الشريحة الاجتماعية الأخيرة التي سنذكرها في هذا الباب، وهي تمثل غالبية المجتمع بطبيعة الحال، وقد ورد في الشرع الإسلامي الحث الأكيد على لزوم تحلي ولاة

ص: 329

الأمر والحكام بصفة العدل والانصاف، ومعاملة الرعية بالرحمة والشفقة، وفق قيم ومباديء سنها الإسلام بشكل نظري وعملي من خلال سيرة النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) في تسيير حكومته العادلة والإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) أبان تسلمه زمام الدولة، وفيما يلي بعض الروايات الشريفة الواردة في هذا الباب:

الإمام علي (علیه السلام) : (وأعظم ما افترض الله سبحانه من تلك الحقوق، حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي).

وعنه (علیه السلام) : (ما حصن الدول بمثل العدل).

وعنه (علیه السلام) : (ثبات الدول بإقامة سنن العدل).

وعنه (علیه السلام) وهو يوصي أحد عماله: (استعمل العدل، واحذر العسف والحيف، فإن العسف يعود بالجلاء، والحيف يدعو إلى السيف).

وجاء في عهده (علیه السلام) لمالك الأشتر النخعي (رحمه الله) لما ولاه على مصر وأعمالها: (... وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ اَلرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَ اَلْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَ اَللُّطْفَ بِهِمْ وَ لاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي اَلدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي اَلْخَلْقِ يَفْرُطُ مِنْهُمُ اَلزَّلَلُ وَتَعْرِضُ لَهُمُ اَلْعِلَلُ ويُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي اَلْعَمْدِ والخطأ فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلِ اَلَّذِي تُحِبُّ وَ تَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اَللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَوَالِي اَلْأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ وَاَللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلاَّكَ وَقَدِ اِسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ وَاِبْتَلاَكَ...وَلْيَكُنْ أَحَبَّ اَلْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي اَلْحَقِّ وَأَعَمُّهَا فِي اَلْعَدْلِ وَأَجْمَعُهَا لِرِضَا لِرِضَى اَلرَّعِيَّةِ فَإِنَّ سُخْطَ اَلْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَا بِرِضَى اَلْخَاصَّةِ وَإِنَّ سُخْطَ اَلْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَا رِضَى اَلْعَامَّةِ... إِنَّمَا عَمُودُ عِمَادُ اَلدِّينِ وَ جِمَاعُ اَلْمُسْلِمِينَ وَاَلْعُدَّةُ لِلْأَعْدَاءِ اَلْعَامَّةُ مِنَ اَلْأُمَّةِ فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ). (1)

نلاحظ أن هذا النص التشريعي والسياسي في الوقت نفسه يحتوي على مضامين أخلاقية وتربوية سامية، تفوح منها رائحة حث الحاكم الإسلامي على مبدأ التعايش السلمي بين أبناء الوطن الواحد، وعدم التفريق بينهم من ناحية الرعاية الحكومية فضلاً عن سائر الاستحقاقات المالية والخدمية، ونبذ عنصر التفرقة على أساس ديني أو عرقي أو قومي، فالرعية على صِنْفَينِ وفق النظرة العلوية الشريفة: (إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي اَلدِّينِ وَ إِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي اَلْخَلْقِ). ولم يكتف الإمام

ص: 330


1- دراسات في نهج البلاغة، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، ص131.

(علیه السلام) بهذا بل تعداه ليحث واليه المخلص (رضوان الله عليه) بمراعاة أحوال الرعية واتخاذ سياسة اللين والعفو ومبدأ المسامحةمعهم فلا يكونن عليهم سبعاً ضارياً، حيث قال: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً، تغتنم أكلهم، فهم صنفان إما أخ لك في الدين، أو نظير في الخلق).

العوامل الاستراتيجية لتشييد ثقافة التعايش السلمي في المجتمع:

توجد مجموعة من العوامل الأساسية التي على أركانها يتم تشييد ثقافة ومبدأ التعايش السلمي في المجتمع، وبتوفر هذه العوامل _ ولو بشكل جزئ _ يمكننا أن نوجد هذا المبدأ السامي بين الناس، ونُخلص المجتمع من ويلات التناحر والتشاجر والتفرق والتقاتل. ويعتمد توفر هذه العوامل بين أبناء المجتمع بالدرجة الأساس على الطبقة الواعية والمثقفة منهم. وسوف نذكر لاحقاً في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، مَن تقع عليهم مسؤولية نشر ثقافة هذا المبدأ بين أبناء المجتمعات، وفيما يأتي نذكر أهم هذه العوامل الاستراتيجية:

أول هذه العوامل هو ضرورة الاعتراف بوجود الآخر، على نحو من الشراكة الدينية أو المجتمعية أو السياسية، ورفض مبدأ إقصاء الذين نختلف معهم أو تهميشهم أو أي لون من ألوان إلغاء الآخر، فينبغي على الأمة أن تستوعب ثقافة الاختلاف، وأن لا تجعل منه منطلقاً للتناحر والتباغض والاقتتال، بل يجب أن يتفهم كل فرد متبنيات الآخر ويعترف بوجوده، كشريك له بالحياة والإنسانية أو شريك له بالدين أو المذهب، وهذه القاعدة أسسها الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) في عهده لمالك الأشتر (عليه رضوان الله) إذ صنف الناس إلى صنفين، قائلاً: (..فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي اَلدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي اَلْخَلْقِ) ، ومما أكد عليه المرجع اليعقوبي ضمن توصياته هو إشاعة ثقافة تقبل الأخر الذي نختلف معه وأن لا نحول الاختلاف إلى عقدة تجمع معاني الفرقة والتقاطع، حيث قال (دام ظله) : (إن الاختلاف بوجهات النظر لا يستلزم التناحر والتشاجر ومن ثم التكفير وربما الحكم باستحقاق القتل، إن الاختلاف بالرأي سنة جارية بين أبناء البشر وقد قصَّ القرآن شواهد على ذلك حتى بين الأنبياء (علیهم السلام) وهم معصومون من الخطأ

ص: 331

فعندما عَبَدَت بنو إسرائيل العجل وكان موسى (علیه السلام) غائباً فلم يتخذ أخوه هارون (علیه السلام) إجراءً حاسماً خشية تفرق بني إسرائيل).

إشاعة روح التعارف والتطلع الثقافي لمعرفة متبنيات الآخرين وأفكارهم عن قرب، وذلك من خلال مطالعة المتبنيات الفكرية لعلماء هذه الطائفة أو تلك، والنظر في كتبهم ومناهجهم، لا من خلال سماع مناوئيهم ومعاديهم ومن يتحدث نيابة عنهم، فإن الإنسان بطبيعته يتعامل مع الآخرين من خلال الصور الذهنية التي يحملها عن الآخر، ويمارس سلوكيات الحب أو الكراهية تجاههم من خلال هذه الصور، لذا فعلى الإنسان أن لا يتسرع في الحكم على الآخرين إلا بعد أن يتعرّف على واقعهم بدقة، وتكون لديه رؤية واضحة لا يشوبها شك، والتعرف عن كثب يدفع حالة الجهل بالآخرين التي تجلب أحياناً الكراهية وسوء الظن، لأن (الناسأعداء ما جهلوا) (1) كما روي عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وهذه الركيزة المهمة _ أعني ممارسة أسلوب التعارف على الآخرين _ هو أحد المنطلقات التي حثنا القرآن الكريم على السير عليها في تعاملنا مع سائر شعوب العالم وقبائله، حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (2).

يجب على جميع صنّاع القرار ومَن تقع عليهم مسؤولية إدارة البلاد وحفظ كيانها، أن يأخذوا دورهم في نشر ثقافة التعايش السلمي، وفي مقدمتهم مراجع الدين والسلطات الحكومية، وكذلك على الجهات والشخصيات المعنية بإرشاد الناس وتوجيههم ومعالجة مشكلاتهم أن يأخذوا دورهم في هذا الاتجاه كالخطباء والمؤسسات التعليمية والتربوية ومؤسسات المجتمع المدني والمؤسسة الإعلامية، وغيرها. وكل جهة من هذه الجهات لها نصيبها من الواجبات والالتزامات لتحقيق مبدأ التعايش السلمي لأبناء المجتمع، وفي الجملة فإن المسؤولين في البلاد وصنّاع القرار فيها إذا أرادوا أن يحققوا الوحدة بين أبناء المجتمع فإن ذلك مشروط _ حسب رؤية المرجع اليعقوبي _ ب (خلق ثقافة المحبة والأخوة واحترام الرأي الآخر والشراكة معه، ولا تتحقق هذه الثقافة إلا بقيام صنّاع الرأي في الأمة من علماء ومفكرين وكتّاب وخطباء وأدباء وصحفيين وإعلاميين في

ص: 332


1- غرر الحكم و درر الكلم، الشيخ الآمدي، حكمة رقم (869) .
2- الحجرات (13) .

إشاعة هذه الأجواء الايجابية وحينئذ ستتوجه الأمة كلها بهذا الاتجاه إما أن تكون اللغة السائدة هي التكفير والإلغاء والاتهام والحقد فلا معنى للحديث عن الوحدة والمؤاخاة). (1) وقد شرحنا مهمة كل جهة من هذه الجهات والمسؤولية الملقاة على عاتقها في هذا المضمار، في مبحث مستقل من مباحث هذا الكتاب، تأتي لاحقاً إن شاء الله تعالى.

على الأحزاب السياسية المتنفذة في الحُكم، اعتماد أُسس ومبادئ المواطنة وإعادة النظر في برامجها ذات الطبيعة الطائفية والعِرقية، بما ينسجم مع المصالح الوطنية قولاً وفعلاً، والابتعاد عن نظام المحاصصة واعتماد البرامج السياسية والتنموية بديلاً عن العاطفة العرقية والطائفية وسائر الانتماءات الأخرى، فإن كل هذه المظاهر السلبية في العملية السياسية تُلقي بضلالها على طبيعة المجتمع، وينعكس سلباً على سلوك الأفراد وسياسة المؤسسات الحكومية، وما يحصل في الشارع العراقي جراء اعتماد الأحزاب الحاكمة لهذه السياسات الخاطئة خير دليل على ذلك. وهذا ما حذّر منه المرجع اليعقوبي مراراً ضمن خطاباته المباركة، حيث قال (دام ظله) مُشخصاً مواطن الخلل التي تتسبب بالأزمة العراقية: (إن الأزمة في العراق اليوم ليست أزمة ماليةكما يعلنون لأن مدخولات العراق الحالية تناهز (50 مليار دولار) أو أكثر وهي كافية لمثل سكان العراق، ولا أن سببها وجود الأجندات الخارجية ولا غيرها وان كان لكل منها شيء من التأثير، وانما سبب خراب العراق وانهيار الدولة حتى اصبحت نهباً للعابثين والطامعين والحاقدين هو فشل المتصدين وسوء ادارتهم وتنازعهم فيما بينهم على تحقيق مآربهم الشخصية والفئوية، فغطّوا فشلهم بالتنازع وادّى تنازعهم إلى الفشل) (2) وقال (دام ظله) أيضاً: (لقد أكدنا مراراً إن الصراع الجاري في العراق إنما هو صراع سياسي وليس صراعاً سنياً شيعياً (طائفي).. لكن بعض الساسة عملوا على استغلاله طائفياً لغرض التحشيد لمصالحهم الشخصية او لصالح الجهات التي يعملون لحسابها وقد عاش العراقيون لعقود طويلة بسلامٍ من دون مشاكل من هذا القبيل). (3)

ص: 333


1- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج4، (الصدق في الدعوة إلى الوحدة والمؤاخاة) .
2- خطاب المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج9، خطاب رقم (455) ، (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا) .
3- المصدر نفسه، مقتطف من معرض حديثه (دام ظله) مع السفير الاندونيسي.

اعتماد اسلوب الحوار الهادف والبناء في النقاشات مع المخالفين لنا في العقيدة أو الرأي أو غير ذلك، والابتعاد عن اسلوب المراء والجدال والمهاترات الكلامية، التي لا طائل منها والتي تجلب البغضاء والعداوة، واستخدام الأساليب المؤدبة في مخاطبة الآخرين، والتي تجعلنا أكثر مقبولية ومحبوبية لديهم، والابتعاد عن المسميات والعبارات المنفرة، ونتعلم من الأدب القرآني المبارك، كيف إن الله تعالى خاطب اليهود والنصارى بعبارة لطيفة وهي: (أهل الكتاب) حيث قال جل ذكره: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (1) ، ولابأس بأن نتحاور بصراحة ووضوح وشفافية مع الآخرين بعيداً عن المجاملة لكي نقف على نقاط الاختلاف الرئيسية التي تسبب التنافر والتناحر، بشرط أن تكون طاولة النقاش بأجواء مملوءة بالأريحية وسعة الصدر التي تبتعد عن المحاورات المتشنجة، التي لا تغني ولا تسمن، بل تزيد من الطين بلة وتأجج الصراع والاحتقان، وهذا ما حث عليه القرآن الكريم، قال تعالى: (اُدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (2) ، وقال تعالى أيضاً: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (3). و (إن المؤمن الحقيقي إذا بلغه نقد أو توبيخ نظرفإن كان الذي قيل موجوداً فيه حمد الله تعالى على هذه النصيحة والهدية الثمينة وسعى في تجاوز هذا الخطأ وعلاجه خصوصاً إذا كان صادراً من مؤمن، وان لم يكن فيه حمد الله على السلامة ولا يرد الصاع صاعين) (4). ومما يجدر الإشارة إليه هو إن كثرة الجدال الباطل، من علامات غضب الله سبحانه، كما ورد في الحديث الشريف: (إذا غضب الله على قوم ابتلاهم بكثرة الجدل وقلة العمل). وفيما يأتي بعض الروايات

ص: 334


1- آل عمران (64) .
2- النحل (125) .
3- العنكبوت (46) .
4- المعالم المستقبلية للحوزة العلمية، المرجع اليعقوبي.

الشريفة الواردة عن النبي الخاتم وأهل بيته (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) التي تنهى عن المراء والجدل العقيم:

عن الإمام الرضا (علیه السلام) : (لا تمارين العلماء فيرفضوك ولا تمارين السفهاء فيجهلوا عليك). (1)

عن عبد الله بن سنان قال: (أردت الدخول على أبي عبد الله (علیه السلام) فقال لي مؤمن الطاق: استأذن لي على أبي عبد الله (علیه السلام). فقلت له: نعم. فدخلت عليه فأعلمته مكانه. فقال: لا تأذن له عليّ. فقلت: جعلت فداك: انقطاعه إليكم، وولاؤه لكم، وجداله فيكم، ولا يقدر أحد من خلق الله أن يخصمه. فقال: بل يخصمه صبي من صبيان الكُتّاب، فقلت: جعلت فداك هو أجدل من ذلك وقد خاصم جميع أهل الأديان فخصمهم فكيف يخصمه غلام من الغلمان وصبي من الصبيان؟! فقال: يقول له الصبي: أخبرني عن إمامك أمرك أن تخاصم الناس؟ فلا يقدر أن يكذب عليّ فيقول: لا. فيقول له: فأنت تخاصم الناس من غير أن يأمرك إمامك فأنت عاص له. فيخصمه. يا ابن سنان لا تأذن له عليّ فإن الكلام والخصومات تفسد النية وتمحق الدين). (2)

عن أبي عبيدة الحذاء قال: قال لي أبو جعفر (علیه السلام) - وأنا عنده -: (إياك وأصحاب الكلام والخصومات ومجالستهم فإنهم تركوا ما امروا بعلمه، وتكلفوا ما لم يؤمروا بعلمه حتى تكلفوا علم السماء. يا أبا عبيدة خالط الناس بأخلاقهم وزائلهم بأعمالهم. يا أبا عبيدة إنا لا نعد الرجل فقيها عالما حتى يعرف لحن القول وهو قول الله عز وجل: ولتعرفنهم في لحن القول). (3)

عن الإمام الرضا (علیه السلام) : (يا عبد العظيم! أبلغ عني أوليائي السلام، وقل لهم: أن لا تجعلوا للشيطان على أنفسهم سبيلا، ومرهم بالصدق في الحديث وأداء الأمانة، ومرهم بالسكوت وترك الجدال فيما لا يعنيهم). (4)

ص: 335


1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي،ج2، ص 137.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه.
4- ميزان الحكمة، الشيخ محمد الري شهري، باب المراء.

عن النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) : (ثلاث من لقي الله عزوجل بهن دخل الجنة من أي باب شاء: من حسن خلقه، وخشي الله في المغيب والمحضر، وترك المراء وإن كان محقاً).(1)

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (لايستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وإن كان محقاً). (2)

الإمام علي (علیه السلام) : (إياكم والمراء والخصومة، فإنهما يمرضان القلوب على الإخوان، وينبت عليهما النفاق). (3)

وعنه (علیه السلام) : (ثمرة المراء الشحناء).

وعنه (علیه السلام) : (المراء بذر الشر). (4)

وعنه (علیه السلام) : (من صح يقينه زهد في المراء). (5)

وعنه (علیه السلام) : (سبب الشحناء كثرة المراء). (6)

وعنه (علیه السلام) :

(جماع الشر اللجاج وكثرة المماراة). (7)

وعنه (علیه السلام) : (لا محبة مع كثرة مراء). (8)

الإمام الصادق (علیه السلام) : (إياك والمراء فإنه يحبط عملك، وإياك والجدال فإنه يوبقك، وإياك وكثرة الخصومات فإنها تبعدك من الله). (9)

الإمام الهادي (علیه السلام) : (المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحلل العقدة الوثيقة، وأقل ما فيه أن تكون فيه المغالبة، والمغالبة اس أسباب القطيعة). (10)

ص: 336


1- ميزان الحكمة، الشيخ محمد الري شهري، باب المراء.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه.
4- المصدر نفسه.
5- المصدر نفسه.
6- المصدر نفسه.
7- المصدر نفسه.
8- المصدر نفسه.
9- المصدر نفسه.
10- المصدر نفسه.

أما المرجع اليعقوبي فقد حث مراراً ضمن كلماته الحكمية ونصائحه القيمة على ضرورة التحلي بأدب الحوار البناء والمجادلة بالتي هي أحسن، ونذكر فيما يلي بعضاً من هذه النصائح القيمة:(فليكن حوارنا مبنياً على أسس وموازين علمية بعيداً عن التحزبات والاهواء والولاءات الشخصية لكن لا نفقد الرؤية الصحيحة (اللهم ارني الحق حقاً وارزقني اتباعه والباطل باطلاً وارزقني اجتنابه ولا تجعله علي متشابهاً فاتبع هواي بغير هدى منك). (1)

(في عالم اليوم غابت فيه الحكمة والتعقل وأصبح العنف ولغة السلاح الذي يفترض إن يكون آخر العلاج أو ليس علاجاً أصلاً أصبح هو أداة التعامل وتحوّل الحوار والجدال بالحكمة والموعظة الحسنة الى حرب تهلك الحرث والنسل واختلطت الأوراق على الناس بمن فيهم المسلمون ولم يعودوا يعرفون متى تستخدم القوة وفي أي مورد ومن أجل ماذا فتخبطوا وهلكوا وأهلكوا وتبادلوا التهم الى حد تكفير بعضهم بعضاً). (2)

(الذي يلجأ إلى العنف هو من لا حجة له فيصمّ اذنه عن سماع الحق كما كان يفعل المشركون والكفار عند مواجهة الأنبياء والرسل لهم بالهدى والبينات أما المؤمن فهو قوي بحجته وإيمانه لا يتزلزل والقرآن الكريم حافل بالحوارات بين المؤمنين والكافرين فلنتأدب بأدبه). (3)

(الحوار والعمل المشترك مع كل من ترتبط به بقواسم مشتركة سواء أكانت دينية أو وطنية أو إنسانية فإنه أدعى لتحقيق الرفاه والسعادة وتجنب المشاكل والأخطار وحماية الأمة من الكوارث والويلات، والالتزام بهذا الأسلوب ما وجد إليه سبيلا فإنه يريح البال ويوفر الدعة والأمان والسلام للرعية ويوفر الفرصة للإعمار والبناء عكس لغة العنف والمواجهة والاحتراب). (4)

ص: 337


1- وصايا ونصائح إلى الخطباء وطلبة الحوزة الشريفة، المرجع اليعقوبي.
2- دور الائمة في الحياة الاسلامية، المرجع اليعقوبي.
3- المعالم المستقبلية للحوزة العلمية، المرجع اليعقوبي.
4- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج4، (المبادئ الثابتة في السياسة) .

وللحوار البنّاء والنقاش الهادئ لأجل التوصل للحقائق، وتقصي المعلومات، دون تعنت ومكابرة ومراء، فوائد عديدة، منها:

كسب حُب الآخرين والتواصل معهم، فالحوار المثمر من أهم أدوات التآلف والتحبب وتكوين علاقات طيبة وقوية مع الآخرين.

يُعد من أهم وسائل الاتصال والتأثير في الاخرين، حيث الاتصال المباشر المتبادل الذي يحقق سرعة التفاهم ويضمن تواصل القيم وتجلية الحقائق أكثر وافضل وأسرع من وسائل الاتصال والتأثير الاخرى غير المباشر مثل المحاضرة والخطبة والتلفاز.الحوار وسيلة للإصلاح بين الناس وإشاعة الحب والود بما يحققه المجتمع وتماسكه ويضمن السلام والامن الاجتماعي من خلال تقريب وجهات النظر والتفاهم والتنسيق المشترك.

الحوار وسيلة لتغيير اتجاهات الاخرين وميولهم عقلياً ووجدانياً بمفاهيم ومعان جديدة أو مغايرة لما يؤمنون به ويعتقدونه سابقاً من خلال الحوار المتبادل القائم على الحجج والبراهين والادلة.

يُعد أيضاً وسيلة دعوية ناجحة فعن طريقه يمكن أجلاء الحقائق وارشاد الناس لمصالحهم وتعليمهم أمور دينهم بتفسير المبهم المتشابه وإبراز الحقائق والرد على الشبهات.

هو وسيلة للرد على الهجوم والشبهات بأسلوب حضاري بالحوار الهادف الذي يتناول هذه الشبهات بشكل موضوعي مركز دون اتهام او بحث في أسباب ودوافع القائلين بهذه الشبهات.

عن طريق الحوار يمكن الحفاظ على الحقائق والمصالح حيث إن الحوار هو الأداة الرئيسية في التفاوض في جميع المجالات على المستويات كافة.

تناسي الخلافات والصراعات، وغض الطرف عن الهفوات والأخطاء التي تصدر من البعض، ومحاولة سترها، لا أن نقوم بعكس ذلك فنعمد إلى التشهير بأخطاء الناس وتأجيج الخلافات والخصومات، فإن هذه الحالة تُعد المادة الأولية لإشعال فتيل الفتنة بين أبناء المجتمع، وقد حث الشارع الأقدس على ستر عيوب الناس ومعاصيهم وأخطائهم، لكي نجعل لهم خط رجعه نحو الصلاح ولكي لا تشيع الفاحشة بين عامة

ص: 338

الناس، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (1) ، ومما ينسب إلى لقمان الحكيم (علیه السلام) في وصيته لابنه قوله: (اذكر اثنين وانسى اثنين اذكر الله والموت وانسى احسانك إلى الناس واساءتهم اليك) كما ورد عدة روايات في هذا الباب، نذكر منها على سبيل المثال ما جاء عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) : (إصلاح حال التعايش والتعاشر ملء مكيال ثلثاه فطنة وثلثه تغافل). (2) وعنه (علیه السلام) : (من لم يتغافل و لا يغض عن كثير من الأمور تنغصت عيشته). (3) وعنه (علیه السلام) : (نصف العاقل احتمال ونصفه تغافل). (4)

وعنه (علیه السلام) : (من أشرف أفعال (أخلاق) الكريم تغافله عما يعلم). (5) وعنه (علیه السلام) : (تغافل يحمد أمر). (6)

أما ما جاء في كلمات المرجع اليعقوبي في حثه على هذا الخُلُق الإسلاميالرفيع، قوله (دام ظله) : (في وجوب ستر عيوب الآخرين ورد عن الإمام الباقر (علیه السلام) : (يجب للمؤمن على المؤمن أن يستر عليه سبعين كبيرة) وإن الخلاف اليوم بين المؤمنين لم يصل إلى حد الكبيرة فإن أحدهم لم يزنِ ولم يشرب الخمر بل نجد الخلاف لا يتجاوز الاختلاف في الرأي، فهل يوجب ذلك القطيعة والحقد والتشهير والتسقيط على المنابر) ، وقال (دام ظله) أيضاً: يجب أن نلتفت إلى أن المخالفين لنا في الرأي على صنفين:

الأول: وهو مجرد مخالف لنا في الرأي فهذا الذي ننظر إلى نقاط الالتقاء معه ونغض النظر عن نقاط الخلاف، وما لم نعاديه فإنه لا يعادينا.

الثاني: الذي لا يكتفي بمجرد المخالفة وانما يتربص بنا الدوائر ويقف حجر عثرة في طريق الاصلاح ومهما حاولنا ثنيه عن ذلك لا ينثني، فهذا الذي نعاديه إذا استنفدنا كل الطرق للتقارب معه. وبهذا التصنيف نستطيع أن نفهم طائفتين من الآيات الشريفة:

ص: 339


1- النور (19) .
2- تحف العقول، للحراني، ص359.
3- غرر الحكم و درر الكلم، الشيخ الآمدي.
4- المصدر نفسه.
5- المصدر نفسه.
6- المصدر نفسه.

الأولى: مثل قوله تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ). والثانية: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ) ، (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ).

عدم الحُكم على الناس من خلال المظاهر، أو لمجرد السماع للقال والقيل الواردة من بوق الوشايات أو الإشاعات أو الإعلام، ورفض ثقافة قالوا.. سمعنا.. شعرنا.. ونحوها من العبارات، التي لا تنم عن التحقق والتقصي في معرفة حقائق الأمور، لذا ينبغي على الفرد عدم الركون إلى الشك بمصداقية الأصدقاء والرجال الصالحين أو السماع للأحاديث التي تشوه سمعتهم، ف (إن الإنسان المهتم بكسب محبة الآخرين يحرص على توفير فرص الانفتاح عليهم والإقتراب منهم، لذلك يربي نفسه على التعاطي الإيجابي مع الاخرين بدأً من النظر إليهم والتفسير لأعمالهم ومواقفهم عدا الحالات التي يتأكد من عدم صلاحها. أما الإنسان المعقد الذي يميل إلى المشاكسة والمنازعة فإنه يرمق الاخرين دائماً بنظرات الشك والريب ليبرر مشاكسته لهم وابداء الإساءة تجاههم فهو قد ينتج فتوراً في العلاقة أو قطيعة تامة، كما قد يتحول من مجرد ظن وارتياب داخل نفس الإنسان إلى افتراء على الجهة التي علق بها حيث يشيع الإنسان ظنونه وشكوكه لدى أخرين وبالتالي فإنه ينال من سمعة ذلك الطرف ويشوه شخصيته ويصنع عليه جواً من الدعاية المضادة كل ذلك اعتماداً على ظن مجرد ودون أثبات او دليل، فيجد الطرف الآخر نفسه في قفص الاتهام ومحاطاً بالشكوك والتساؤلات، روي عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) : (فَإنَّ الشُّكُوكَ وَالظُّنُونَ لَواقِحُ الْفِتَنِ، وَمُكَدِّرَةٌ لِصَفْوِ الْمَنآئِحِ وَالْمِنَنِ) (1) لذلك تؤكد التعاليم الإسلامية أهمية اجتناب سوء الظن وعدم جواز ترتيب أي أثر عليه في التعامل مع الآخرين، فالفقهاء يذكرون في فتاواهم إن أي شك ينتابك فيمن كنت واثقاً من عدالته فإن ذلك الشك لاقيمة له بل تستصحب الحالة السابقة ولست مكلفاً بالفحص فإذا قلدت مرجعاً دينياً لعلمك باجتماع شرائط التقليد فيه ثم شككت في زوال شيء من المواصفات فإن عليك أن تبقى على تقليده حتى يتوفر لك العلم وليس الظن أو الشك، وكذلك لو كنت تصلي جماعة خلف إمام تثق بعدالته

ص: 340


1- مناجاة المطيعين لله تعالى.

ثم طرأ لك ظن أو شك في بقائه على العدالة، فإنك لا تبالي بذلك الظن أو الشك وتستمر في البناء على عدالته والصلاة خلفه). (1)

وقال المرجع اليعقوبي في بيان الموقف الصحيح الذي يجب أن نتخذه حيال الآخرين من حُسن الظن بهم وطلب العذر لهم: (طلب الشارع المقدس أن تختار الأحسن والأفضل للآخرين عندما تكون بين خيارين أو بين موقفين أو سلوكين فأمر بأن تحمل فعل أو قول أخيك على سبعين محملاً حسناً، وإن كان ظاهره السوء، لكنه مادام يحتمل أن يكون حسناً فلا تقصّر في الأخذ بهذا الاحتمال، حتى وان تجاوزت السبعين احتمالاً، وهو رقم يقال للتعبير عن الكثرة فلا يمنع من الأزيد، وان يكون هذا هو منهج حياتك بان تفتش عن أحسن ما عند الآخرين فتنظر اليه على أساسه، وإن تفتش عن أسوء ما في نفسك فتُقيّمها على أساسه لتكون بين هذا وذلك أنساناً صالحاً يسعى نحو الكمال ويحب الخير للناس، روي أن أخوة يوسف الصديق (علیه السلام) لما تعارفوا معه واعترفوا بجريمتهم تملكهم الحياء مما صنعوا به لكنه خففّ عليهم واعتبرهم أصحاب فضل عليه لانهم عرفّوه إلى أهل مصر انه ابن الأنبياء الكرام وكان يُنظر اليه على انه عبد كنعاني أُشتريَ من سوق النخّاسين، فهل يوجد سمو في التعاطي مع الأمور مثل هذا؟ فيما روي من مواعظ النبي الكريم عيسى (علیه السلام) إنه مرَّ هو وأصحابه على جيفة كلب ميت فقال بعضهم ما أنتن ريحه وقال الآخر ما أقبح منظره وهكذا، لكن النبي الكريم المتأدب بخلق الله تعالى قال: (ما اشَّد بياض أسنانه) إن الإنسان حينما يسير وفق هذه الرؤية ويتبع هذا المنهج من التفكير يحصل على ثمرات عديدة، منها القرب إلى الله تعالى، وراحة البال، والسعادة وحسن الذكر عند الناس مضافاً إلى شيء مهم يحسُن الالتفات إليه وهو انه ستتجاوب معه كل عناصر الخير في الكون لأنه محكوم بسنن الهية ثابتة فمن اخذ بها نال كل خيراتها وبركاتها (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)). (2) كما بيّن (دام ظله) سبباً مهماً من أسباب اختلاف الناس، قائلاً: (إن الخلاف بين الناس يمكن أن يحصل بسبب اختلاف الفهم أو النوايا أو بسبب تدخل الآخرين والعوامل الخارجية ونحو ذلك، وهو بهذا المقدار يبقى ضمن الاطار

ص: 341


1- ثقافة التعايش، الشيخ ناصر الأسدي، ص78 -79.
2- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي،ج8، خطاب: (تعاملوا في حياتكم بإيجابية) .

الطبيعي مادام المختلفون عازمين على أن يعودوا الى حكم الشريعة وحاكمها والقيادة الشرعية الرسالية ليفصل بينهم وعليهم التسليم له وان يكون مبتغاهم دائما معرفة الحق واتباعه، فالتنازع المذموم انما يقع من نقطة الابتعاد عن حكم الشريعة وأوامرالقيادة الرسالية الحقّة والتشكيك فيها والتمرد عليها، ومن نقطة اتباع الأهواء والانانيات والتعصب بحيث يجعل هواه وارادته هي المتبعة والحاكمة في الاختلاف وحينئذ يقترن به الشيطان ويسوّل له إن الرضوخ للحق هو هزيمة واهانة واذلال بينما الصحيح هو إن الحق احق ان يتبع وطالبه هو الغالب دائماً). (1)

ضرورة وجود الرغبة الجادة لأجل تحقيق مبدأ التعايش السلمي في المجتمع، وعدم الدعوة إلى هذا المبدأ مجرد شعارات وهتافات خاوية عن التطبيق وعارية عن الصحة، فإن الله سبحانه إذا لمس من العبد صدّق النية والارادة الحقيقية في انجاز عمل صالح ما، فإنه تعالى يوفق العبد لإنجازه واتمامه، قال تعالى: (.. إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا..). (2)

ويُعد أتباع مذهب أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) من السباقين والمبادرين لتحقيق هذا المبدأ الاجتماعي مع سائر المذاهب والفرق الدينية، لأن لديهم نية صادقة ورغبة حقيقية في ذلك، وهذا الأمر شهد به المرجع اليعقوبي، حيث قال (دام ظله) : (إن الشيعة بطبعهم يحبون التعايش بسلام مع الآخرين مهما كانت بينهم اختلافات دينية أو مذهبية أو قومية والشواهد التاريخية والحاضرة أكثر من أن تحصى، لاحظ مثلاً عندما حصل التهجير القسري من محافظات شمال العراق بعد سقوط الموصل فتحت النجف وكربلاء أبوابها للنازحين من دون تمييز بين المسلم والمسيحي والآيزيدي، وهذه من الأدبيات التي تعلموها من أئمتهم (علیهم السلام)). (3)

وقال (دام ظله) أيضاً مشدداً على ضرورة وجود عنصر الجدية في تحقيق مبدأ التعايش والوحدة بين أبناء الأمة: (يتحتم علينا كنخبة واعية هادفة نتعامل مع الأمور بجدية، ولا مكان للهو والعبث

ص: 342


1- خطاب المرحلة، المرجع اليعقوبي،ج9، خطاب رقم (455) ، (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا) .
2- النساء (35) .
3- خطاب المرحلة، المرجع اليعقوبي،ج9، خطاب رقم (434) .

وإزجاء الوقت في فراغ، أن نقيّم هذا المشروع الإصلاحي العظيم وأعني به تحقيق وحدة الأمة ومؤاخاة أبنائها). (1)

الدعوة إلى الوحدة الحقيقية، والتركيز على القواسم المشتركة، التي تجمعنا مع الآخرين، وإن اختلفنا معهم في بعض الجزئيات، ف (إن المشتركات مع الآخر (الإنسان) أكثر من أن تحصى.. والمشتركات مع الآخر الذي يشهد الشهادتين ويحمل على جبينه وسام التوحيد وعلى رأسه تاج الإسلام فالمشتركات أيضاً بالألاف تضاف إلى ما قبلها، والمشتركات المذهبية والوطنية مع الآخر المنتمي إلى المدرسة أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) أيضاً بالألاف تضاف إلى سابقاتها فإلى أي مدى تتسع دائرة المشتركات مع الأخر؟) (2) وإنمسألة الدعوة إلى الوحدة تُعد من الضروريات التي دعت إليها الديان السماوية، وقد نادى بها القرآن الكريم في عدة آيات شريفة، منها قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (3) كما حث المرجع اليعقوبي ضمن كلماته ونصائحه على هذه المسالة وبيّن المعنى الحقيقي المراد من مصطلح (الوحدة) الذي ينادي به الجميع إما صدقاً أو كذباً وزوراً، وإن سبب تركيز سماحته (دام ظله) على هذا الأمر هو لأن المرحلة التي يمر بها الشعب هذه الأيام تعصف به ريح التفرق والتحزب المنبوذ، والتكتلات المتناحرة، في مختلف مرافق الدولة ومؤسساتها، بل نقول وبكل صراحة، حتى في بعض الأروقة الدينية للأسف الشديد، وفيما يلي نستعرض بعض النماذج من الكلمات الحكمية للمرجع اليعقوبي التي يحث من خلالها على الوحدة ونبذة التفرقة، وما يتعلق بهذا الموضوع من صلة:

(ترانا ندعو إلى الوحدة مع بقية مذاهب المسلمين بل مع البشرية جميعاً وهو شيء حسن دعانا إليه الإسلام فالناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق-

ص: 343


1- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي،ج4، (الصدق في الدعوة إلى الوحدة والمؤاخاة) .
2- ينظر ثقافة التعايش= حياة سعيدة + تقدم، الشيخ ناصر الأسدي، ص52.
3- آل عمران (103) .

على تعبير أمير المؤمنين (علیه السلام) - لكن لماذا ننسى هذا الشيء فيما بيننا نحن أبناء الحوزة والمذهب الواحد إنه للعجب العجاب!!).

(لقد نهى الله تبارك وتعالى عن كل ما يوجب الفرقة والتشتت والخصام والنزاع بقوله: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ) وكلما ازدادت المشتركات بين فئتين وجب مراعاة هذا الأمر أزيد، وإذا عجزت هذه المشتركات الكثيرة عن توحيد صفوفنا فليوحّدنا العدو المشترك الذي لا يرقب فينا جميعاً إلاّ ولا ذمة ولا يتورع عن انتهاك أقدس المقدسات وارتكاب أعظم المحرمات).

(الوحدة مع الاتجاهات الأخرى من المسلمين لايعني تخلّي الشخص عن قناعته ومعتقداته التي ثبتت عنده بدليل قطعي معتبر، وانما تبتني على أسس ثلاثة:

الاول: تناسي الخلافات وعدم إثارة النعرات الطائفية وتعنيف من يقوم بذلك.

الثاني: الالتفات الى القواسم المشتركة التي تجمع المسلمين كلهم فربُّهم واحد وكتابهم واحد وقبلتهم واحدة.

الثالث: احترام كل طرف قناعة الطرف الآخر ما دام قد استند فيها الى حجة ودليل معتبر شرعاً، والحوار بالتي هي أحسن للوصول الى الحقيقة التي هي مطلب كل عاقل).(إن الوحدة والوئام تؤدي الى الانتعاش الاقتصادي والعلاقات الاجتماعية الطيبة وارتفاع الهمّة والحماس للعمل والبناء عكس أيام الفتن والحروب).

(إن تحقق أية وحدة يجب أن يتضمن أمرين:

أ. احترام كل من الطرفين وجهة نظر الآخر ما دام الطرف الآخر مقتنعاً بها بالحجة المعتبرة عنده (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ).

ب. التركيز على نقاط الالتقاء وغض النظر عن نقاط الاختلاف ولا شك إن نقاط الالتقاء كثيرة وتجمعنا أواصر عديدة هي أهم بكثير من المسائل الفرعية التي نختلف فيها).

(إنّ الوحدة والتقارب والتعايش مع الطوائف الإسلامية أو مع الديانات الأخرى أو مع الشرائح المتنوّعة لا تستلزم التنازل عن المبادئ والمعتقدات التي ثبتت صحتها، فليعمل كلٌ بما ثبت عنده صحته بالحجة والبرهان، وإذا كان غير متثبّت من معتقداته وانتماءاته فيجب عليه إعادة النظر فيها ومراجعتها وطلب الدليل عليها، وليس اخفاؤها والمجاملة فيها).

ص: 344

(الوحدة بين المسلمين تتحقق بالعودة إلى كتاب الله تبارك وتعالى وسنّته الشريفة الصحيحة بعد تنقيحها من التلاعب والتزوير والدس الذي قام به المنافقون، وحينئذ سيلتقي جميع المسلمين عند الحقائق التي يعلمها الله تبارك وتعالى والوصول إلى الحقيقة وكشفها للناس وظيفة العلماء الأجلاء، ولا نصل إلى الحقيقة إلا بتحرير العقول من التقليد والتعصب والتحجّر).

(إن لجمع الكلمة ركيزتين: الأولى: الالتفات إلى ان القواسم المشتركة بيننا كثيرة، فربنا واحد ونبينا واحد وكتابنا واحد وقبلتنا واحدة وعدونا واحد وهمومنا واحدة ومصالحنا واحدة ومستقبلنا واحد وأسس ديننا واحدة، وهي التي اشارت اليه الآية المباركة السابقة بالاعتصام به وجعلته المحور الذي يجتمع عليه المسلمون، فلماذا نعرض عنها جميعاً ونركز على النقاط الفرعية جداً التي نختلف عليها. الثانية: احترام كل طرف قناعة الآخر ورأيه مادام قد توصل إليه بطريق صحيح أو ما نعبر عنه بحجة شرعية تبرر له عند الحساب الاعتماد عليها، وأن نعلم أن الاختلاف في الرأي سنة طبيعية، فحتى داخل الأسرة الواحدة تجد القناعات مختلفة ولم يعكر ذلك صفو العائلة و (لم يفسد في الود قضية) كما يقول الشاعر، فلماذا لا نتصرّف بنفس الأسلوب داخل أسرتنا الكبيرة وهو المجتمع فإنه أهم من أسرتنا الصغيرة وأعظم شأناً).

تأصيل القيم والمبادئ الأخلاقية بين أبناء المجتمع، لاسيما الأخلاق التي تشيع مبدأ التعايش السلمي، وتزرع المحبة بين الناس، فكما هو معلوم إن للأخلاق سحراً خاصاً وجاذبية كبيرة، قال تعالى: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَالْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (1) وقد أفردنا فيما سبق ضمن هذا الكتاب مبحثاً مستقلاً يتضمن هذه الأسس الأخلاقية المهمة، مُعززة بالشواهد القرآنية والروائية، فمن أراد التفصيل فليراجع هذا المبحث في محله، ولكن نؤكد ما قلنا سابقاً إلى ضرورة تعامل الفرد مع الآخرين بدافع إنساني بحت، وممزوج بالمحبة والرحمة، وبالأخلاق الصادقة الكريمة، بعيداً عن الدوافع المصّلحية والنفعية، وهذا ما حثت عليه آيات القرآن الكريم والروايات الشريفة، فكل إنسان بطبيعة الحال هو (إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي اَلدِّينِ وَ إِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي اَلْخَلْقِ) على حد تعبير الإمام علي

ص: 345


1- آل عمران (159) .

(علیه السلام) ، قال تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا..) (1) ، بل ينبغي وفق الأدب القرآني أن نتعامل بلطف وأخلاق كريمة حتى مع الذين بيننا وبينهم سوء تفاهم، قال تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (2) كما ورد بهذا الخصوص في الرواية عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: (صانع المنافق بلسانك وأخلص ودك للمؤمن، وإن جالسك يهودي فأحسن مجالسته). (3) ومن الطبيعي أن المؤمن لا يحب المنافق إلا أن الإمام (علیه السلام) يأمرنا هنا بأن نصانعه بلساننا أي نجامله في الحديث، لأن من الأخلاق الحميدة للمؤمن أن لا يُظهر الكراهية أتجاه الشخص الذي يتوافق معه وإن كان منافقاً ومتآمراً فكيف إذا كان مؤمناً؟). (4)

ضرورة عقد الندوات والمهرجانات، التي من شأنها رفد مبدأ التعايش السلمي، ورفع المستوى الثقافي للفرد والمجتمع بهذا الخصوص، وكذلك فإنها تزيد من شعور الأمة بالمسؤولية تجاه هذا الموضوع المهم والحساس ولو نسبياً، وتعمل هذه الندوات أيضاً على بيان مكامن الخطر والأضرار الناتجة جراء تخلي الناس عن مبدأ التعايش وثقافة السلِم الإجتماعي، الذي يولد التناحر والاحتقان الطائفي بين أبناء المجتمع، والويلات التي تنتجها هذه الظواهر الفتاكة، فمن خلال تكثير هذه الندوات والمهرجانات يكون المجتمع على دراية جيدة بخطورة الموقف، وعلى علم بعِظم المسؤولية الملقاة على عاتقه، وكذلك ينبغي إقامة المؤتمرات الدولية أيضاً، التي من شأنها أن تدرس وضع البلدان والمدن التي تنتشر فيها حالات العنف والارهاب، وينبغي أن تُشكل على أساسها لجاناً متخصصة لوضع الحلول والعلاجات الأمنية والتوافات السياسية، ومن الضروري إشراك رجال الدين وصنّاع القرار في عمل هذه المؤتمرات للخروج بنتائج مثمرة وايجابية وتكون لها مقبوليةفي الأوساط الشعبية، ويمكننا القول إن هذه الندوات والمؤتمرات هي إحدى مصاديق المجالس التي يحبها الأئمة المعصومين (علیهم السلام) إذا كان فيها أهدافاً اصلاحية وانسانية، فقد ورد إن الإمام الصادق (علیه السلام) سأل أحد أصحابه قائلاً: (أتجلسون

ص: 346


1- البقرة (83) .
2- فصلت (34)
3- بحار الأنوار، ج 71، ص152.
4- ينظر ثقافة التعايش، الشيخ ناصر الأسدي، ص306.

وتتحدثون) ؟ فقال الرجل: نعم يا ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال (علیه السلام) : (تلك المجالس أحبها فأحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا). (1) وقبل أن نختم هذه النقطة يجب أن نذكر شرطاً مهماً لنجاح عمل هذه الندوات والمهرجانات والمؤتمرات، وهذا الشرط هو وجود الارادة الجادة والنية الصادقة والتعاون الحقيقي، فمن غير توفر هذا الشرط لا يمكن أن تقدم هذه المؤتمرات أي نتيجة مرجوة، وهذه الحقيقة التي قد لا تكون واضحة عند البعض، أكدها المرجع اليعقوبي في احدى كلماته المباركة، حيث قال: (إن عقد المؤتمرات وحده غير كاف في حل مشاكلنا والشاهد على ذلك كثرة المؤتمرات التي تعقد من دون نتيجة تذكر، أن أساس النجاح هو الصدق و الجدّية في إرادة الحل ومعالجة المشاكل، أما بقاء كل طرف على تَعنُّتِه وتعصبه لرأيه واستئثاره بالخير كله لنفسه الذي هو طبع للنفس الأمارة بالسوء (وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحّ) (2)

فلا ينفع ألف مؤتمر، وإن هذا الاستئثار والتفرد والديكتاتورية وإلغاء الآخر وفرض الرأي عليه هو الذي يؤجج الصراعات ويدفع الآخر إلى فعل كل شيء حتى الأفعال الإجرامية ليثبت ذاته و ينال استحقاقه). (3)

وعندما أقيمت العديد من المؤتمرات سواء في العراق أو في خارجه لم يحصل التغيير المطلوب ولم تحرز أي تقدماً أو نجاحاً لتحقيق الوحدة بين الصفوف المتناحرة، ولم تطفيء لهيب نيران الفتن المشتعلة في العراق، مما حدى بالمرجع اليعقوبي أن يبدئ أسفه وتذمره حيالها، قائلاً وبكل صراحة: (تقييم نتائج هذه المؤتمرات التي تواصلت عقوداً من الزمان وهل إنها حققت نتائجها المنشودة؟ يؤسفني أن أقول لا على الأقل من الزاوية التي أنظر إليها وأعيش همومها وقضاياها) (4). وعلى كل حال فإن هذه المؤتمرات إن لم تحقق الأهداف المرجوة فلنجعلها على أقل التقادير محاولة جادة نحو الاصلاح تجمع بين أحضانها الفرقاء والمتخاصمين تحت مظلة واحدة، لمداولة النقاش والحوار البناء الذي يرنو لتحقيق مبدأ التعايش السلمي في المجتمع.

ص: 347


1- بشارة المصطفى (صلى الله عليه وآله) لشيعة المرتضى (علیه السلام) ، عماد الدين الطبري، ج11، ص 425.
2- النساء (128) .
3- خطاب المرحلة، المرجع اليعقوبي، خطاب رقم (119) ، (فضل العراق والحوزة العلمية على العرب وآداب اللغة العربية) .
4- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج4، (الصدق في الدعوة إلى الوحدة والمؤاخاة) .

التعاون في إنشاء برامج ومشاريع مشتركة تبني المجتمع وتُعمر الوطن، وتحقق للجميع التقدم والازدهار، فإن هذه الأعمال المشتركة توحد الصفوف وتخلق أهدافاً موحدة، وبالتالي تتوحد القلوب بشكل تدريجي، إذاكانت النوايا سليمة ومخلصة، قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (1) والتجارب العملية قد أثبتت ذلك، ف (إن كثيراً من الناس يتحركون بفعل ما يسمى ب (العقل الجمعي)) (2) في حين إن المشاريع والأعمال المتفرقة والمشتتة تساهم في إبعاد الفرد عن الآخرين، وتتشكل إثر ذلك مجاميع متنافرة، وأحياناً يتقاطع عمل إحداها مع الآخر فتحصل الفوضى ويعم الاختلاف والتناحر، بخلاف ما إذا كان الهدف والعمل مشترك بين الجميع، ومن بركات العمل الجماعي على العمل الصالح، ما أشار إليه رسول الله (صلی الله علیه و آله) حيث قال: (ما اجتمع قوم على ذكر الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة). (3) كما وردت عدة روايات عن الإمام علي (علیه السلام) تحث على التعاون المشترك وتبين فضله، نذكر منها قوله (علیه السلام) : (..من واجب حقوق الله على عباده النصيحة بمبلغ جهدهم، والتعاون على إقامة الحق بينهم) (4) ، وعنه (علیه السلام) أيضاً: (طلب التعاون على إقامة الحق ديانة و أمانة) (5) ، وعنه (علیه السلام) أيضاً: (تبتنى الأخوة في الله على التناصح في الله والتباذل في الله والتعاون على طاعة الله والتناهي عن معاصي الله والتناصر في الله وإخلاص المحبة) (6) ، وجاء في نصائح وارشادات المرجع اليعقوبي التي تخص هذا الموضوع قوله (دام ظله) : (الحوار والعمل المشترك مع كل من ترتبط به بقواسم مشتركة سواء أكانت دينية أو وطنية أو إنسانية فإنه أدعى لتحقيق الرفاه والسعادة وتجنب المشاكل والأخطار وحماية الأمة من الكوارث والويلات، والالتزام بهذا الأسلوب ما وجد إليه سبيلا فإنه يريح البال ويوفر الدعة والأمان والسلام للرعية ويوفر الفرصة للإعمار والبناء

ص: 348


1- المائدة (2) .
2- ينظر خطاب المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج4، (المسيرات الراجلة ظاهرة حضارية) .
3- الرواشح السماوية، العلامة محمد باقر المرعشي.
4- ميزان الحكمة، الشيخ محمد الري شهري، باب الحقوق.
5- غرر الحكم ودرر الكلم، العلامة الآمدي، حكمة رقم (977) .
6- المصدر نفسه، حكمة رقم (9691) .

عكس لغة العنف والمواجهة والاحتراب) (1). وقال أيضاً (دام ظله) : (إن قوتنا في وحدتنا ولا تتحقق الوحدة إلا برص الصفوف وتجنب الخلاف والعمل سوية..) (2).

وكما يُعد العمل الجماعي والمشترك لإنجاز الأعمال الصالحة، فضيلة وأمر له مكانته في التقدم والرقي، فكذلك يُعد العمل الجماعي لإنجاز الأعمال الطالحة والتعاون لإشاعة الباطل والمنكر، عملاً مشيناً جداً، بلهو جريمة وخيانة للمجتمع، فعن الإمام علي (علیه السلام) : (طلب التعاون على نصرة الباطل جناية وخيانة) (3) وهذا ما جناه الشعب العراقي للأسف الشديد من بعض صنّاع القرار في البلاد حيث اجتمعوا على الباطل، وتفرقوا عن الحق، فوصل بنا الحال لما نحن عليه اليوم، من تردي في مستوى الخدمات وضياع للحقوق والمصالح العامة.

عدم افتعال الخصومات والنزاعات وخلق المشكلات مع الناس، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ (4) فإن هذه الأمور مما تزيد في تنفر الناس من بعضهم البعض، وتُعكر صفو العلاقة بينهم، كما أنها تُعد حجر الزاوية في تحقيق حالة الفشل والخسران، وقد وردت العديد من الروايات الشريفة الواردة في النهي عن التخاصم والنزاعات، وقد ذكرنا في مبحث سابق بعض الروايات الشريفة التي تخص هذا الموضوع، لذا سنعرض عن ذكرها طلباً لعدم التكرار.

ضرورة مواجهة الإعلام المضل، الذي يؤجج الفتن الطائفية ويثير نعراتها بين الناس، وكذلك الحزم في منع الشخصيات الدينية والسياسية ومَن لهم كلمة مسموعة في المجتمع، من ممارسة أسلوب التحريض الطائفي، وبث الخطابات التي تزرع الفتنة وتبث ثقافة التطرف بين الناس، وعلى الدولة محاسبة هؤلاء لكي يرتدع من تسول له نفسه في زعزعة أمن البلاد، سواء عبر وسائل الإعلام أو من خلال التثقيف المباشر كإلقاء الخطب والمحاضرات أو اصدار البيانات أو غيرها من وسائل التواصل مع المجتمع. وهذا الأمر يُعد من الأسلحة الأكثر فتكاً بالمجتمع ألا وهو سلاح الإعلام الضال والمضل، لأن (حال

ص: 349


1- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي ج4، (المبادئ الثابتة في السياسة) .
2- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج3، (جماعة الفضلاء: الأهداف والأعمال) .
3- غرر الحكم ودرر الكلم، العلامة الآمدي، حكمة رقم (10531) .
4- الأنفال (46) .

أغلب الناس ينعقون مع كل ناعق ويميلون مع كل ريح بحسب أهوائهم وامزجتهم وانفعالاتهم فيصبحون لقمة سائغة لكل من يريد أن يعبّئهم لمشروعه الخاص. وتراهم ويستسلمون للإشاعات والأكاذيب التي تروجها وسائل الاعلام وكأنها حقائق حتى أصبحت هذه الاشاعات من أفتك الاسلحة التي توجه الى الخصوم لتقضي عليهم من دون قتال وتم القضاء معنوياً على جيوشٍ وعلى شخصياتٍ بالإشاعة والافتراء والتسقيط... ولو أخذ الناس بالتعاليم القرآنية وتحققوا عن مصادر الخبر لما وقعوا في الأوهام والشكوك قال تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)). (1)

ويمكننا أن نحول هذه الصورة البشعة إلى صورة مشرقة وأن نواجه هذه الحرب المضادة ونجعل نتائجها لصالحنا، وذلكبأن نستثمر نفس وسيلة الإعلام لخدمة الناس وهدايتهم من خلال التوظيف الهادف والبناء للمواد الإعلامية التي لها تأثر ساحر على عقول الناس وقلوبهم، وهذا ما أشار إليه المرجع اليعقوبي في عدة من كلماته المباركة، حيث قال (دام ظله) : (إن الفن مؤثر في ثقافة الآخر وسلوكه وحتى معتقداته وسياسته اذا استطاع انتزاع الاعجاب والتأثر، وتستطيع الدول اليوم أن تحقق من خلال الانتاج الفني من التأثير في الدول الاخرى وجذبها إلى سياساتها واقناعها بأجنداتها ما لم تستطع تحقيقه بالاحتلال العسكري الذي يكون عادة مبغوضاً ومرفوضاً) (2). وقال أيضاً (دام ظله) : (إن الفن رسالة إنسانية تتجاوز حواجز اللغة والانتماء ويستطيع الفنان أن يختصر بلوحته مجلداً ضخما من الكلام ويوصل المعنى بشكل مؤثر ولكن الفن التشكيلي كسائر الفنون والآداب لا تجد رعاية ولا اهتماماً من المسؤولين لذا فان الأمة غافلة عنها ومحرومة من الاستفادة من قوة تأثيرها). (3)

ص: 350


1- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج9، خطاب رقم (421) {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}.
2- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج9، (القوى الناعمة والمنبر الحسيني) .
3- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج4 (الفن رسالة إنسانية مؤثرة) .

الجدية في تنفيذ حُكم القِصاص بالقتلة والإرهابيين ومن يمارس الجرائم التي تزعزع أمن الناس واستقرارهم، وعدم التسويف أو التهاون بهذه المسألة مطلقاً، وهذا ما قد يحصل _للأسف الشديد _ بسبب ما يرتكبه بعض المسؤولين من خيانة المهنة لأجل الحصول على الأموال أو بسبب مجاملة بعض الأطراف أو بسبب انجاح الصفقات السياسية وغيرها من الدواعي التي تدفع بعض المسؤولين في الدولة بعرقلة عمل القضاء وإنزال العقوبات الصارمة بحق المجرمين، وهذه الحالة تُعد خيانة كبرى للشعب، لأنها تساهم في تمادي الإرهابيين وتشجعهم على أعمالهم الإجرامية، ف (من أمن العقاب أساء الأدب) وبذلك يدفع الشعب غرامة كبيرة من دمائه وأمنه واستقراره، وهذا ما نبّه إليه القرآن الكريم، حيث قال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (1) وقد أبدى المرجع اليعقوبي للمسؤولين في البلاد استيائه بسبب عدم الحزم في التعامل مع القتلة والمجرمين وأعداء الشعب الذين ولغوا في دماء الأبرياء ورتعوا في الجريمة بإقرارهم وبما لا يحتاج إلى دليل. (2)ضرورة الاتصاف بالحيادية وعدم الركون إلى التطرف والتعصب والتحزب المنبوذ، وخصوصاً مؤسسات ودوائر الدولة والمسؤولين في البلاد، فإن الفرد إذا لم يتصف بالمرونة والحيادية سوف يميل حتماً للتطرف والتعصب المنبوذ في تعامله مع الآخرين، وهذه الصفات تُعد مادة أولية للتفرق والتنازع لأن (من أسباب الفُرقة والتنازع، التعصب لشخص أو اتجاه معين وهو سلوك باطل لأن التعصب يجب أن يكون للحق، ولنتأمل طويلاً في قولهم (علیهم السلام) : (لا يعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله) فليس الرجال معياراً لمعرفة الحق بل الحق معيار لتقييم الرجال) (3) ومن هذا المنطلق فقد دعا المرجع اليعقوبي إلى تأسيس شعبة للتوجيه الوطني والأخلاقي تغذي منتسبي القوات الأمنية بروح الولاء للوطن وخدمة المواطن ونبذ الولاءات الحزبية والطائفية والمناطقية ونحوها وكذلك تعليمهم أخلاقيات المهنة تأسياً برسول الله (صلی الله علیه و آله)

ص: 351


1- البقرة (179) .
2- ينظر خطابات المرحلة، ج4 (ما هي تقصيرات الحكومة التي أوجبت استياء المرجعية الشريفة والجماهير؟) .
3- المعالم المستقبلية للحوزة العلمية، المرجع اليعقوبي.

الذي كان لا يرسل سرية أو جيشاً _ وهم من كبار الصحابة _ حتى يوصيهم بأخلاقيات العمل العسكري ومواصفات المقاتل الشريف وهذا ما نفتقده لدى الكثيرين، مما استوجب تأسيس مثل هذه الشعبة. إن العنصر الأهم في (المصالحة الوطنية) وحل المشكلة الأمنية التي يعاني منها العراق الجريح اليوم يكمن في إصلاح الخطاب السياسي والديني والاجتماعي لتحل مصطلحات الإخاء والتسامح والتآلف والشراكة في بناء الحياة وإعمارها ونحوها بدلا من مصطلحات العنف والتكفير والتطرف والإقصاء والطائفية والأنانية. وتأسيس مثل هذه الشعبة سيساهم في زرع المعاني النبيلة والقيم الإنسانية العليا في نفوس القوات الأمنية بإذن الله تعالى). (1)

وعلى المستوى الاجتماعي فقد دعا المرجع اليعقوبي أيضاً إلى انتهاج نفس الاسلوب في حل المشكلات التي تقع بين الزوجين، إذ لا ينبغي للفرد أن يتطرف أو ينحاز إلى جهة ما دون حق وأن يحاسب نفسه قبل الآخرين، وهذا نص ما قاله (دام ظله) : (إننا حينما نتعرض لمشكلة أو خلاف بين زوجين أو أخوة أو جيران وغير ذلك علينا أن نراجع أنفسنا طويلاً قبل أن نلقي اللوم على الآخرين فلعل السبب فينا ونحنُ لا نعلم، ولو تعاملنا مع مشاكلنا بهذه الطريقة لاستطعنا تجاوز الكثير منها، لأنّنا سنكتشف أننا مسؤولون عنها فنحن لسنا معصومين وحينئذ نعالج السبب، كما أن الطرف الآخر حينما يراك تتهّم نفسك بكل تواضع ونكران ذات ولا تتعرض له فإنّه سيقابلك بنفس الشعور ويتنازل عمّا يشعر به من التشنّج والانفعال والعصبية، وهذا مما يفسّر وصايا المعصومين (علیهم السلام) بأن ننسى إساءة الآخرين إلينا ونذكر إساءتنا للآخرين بمعنى أنّه حتى لو أساءَ الآخر إليك فتغافل عنها وتناساها وفتّش عن عيوبك أنت وتقصيراتك، وهذا السلوك وإن كان صعباً ويحتاج إلى شجاعة إلاّ أنّه مقدور ويتّبعه ثواب عظيم ومنزلة رفيعة عند الله تعالى وعند عباده الصالحين، والذي يؤسف له أنّالسلوك الجاري في المجتمع عكس هذا الأدب النبوي الشريف، إذ ما إن تحصل مشكلة حتّى يبدأ كل طرف بالبحث والتنقيب عن كل عيب أو نقيصة يلصقها بالآخر ليبرّئ نفسه ويبرّر موقفه، فتتعاظم المشكلة وتتحوّل إلى صراع وتنقطع سبل الوئام). (2)

ص: 352


1- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج4، (التوجيه الوطني والأخلاقي لعناصر الأمن) .
2- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج8 (نعيب زماننا والعيب فينا رزية يوم الثلاثاء نموذجاً) .

المحاولة بشتى السُبل إلى رفع المستوى الثقافي والفكري للفرد والمجتمع، من خلال المؤسسات التعليمية أو من خلال التثقيف الديني أو من خلال وسائل الإعلام المتنوعة أو غير ذلك، لأن إشاعة روح التعايش السِلمي في المجتمع رهن وعي أبنائه، ولأن الحالة التوعوية تحصنهم من الانزلاق وراء الفتن والأباطيل والانحرافات، وتجعلهم مجتمعاً حضارياً مُتفتحاً ومُنفتحاً، ويمكنهم حينئذ أن يعوا أبعاد الرسالة الإلهية وأهدافها السمحاء، ويعوا مسؤولية خلافة الإنسان على الأرض، في حين إن الجهل يجر الويلات للمجتمع الذي يحل فيه، وإن كل عمل صالح ومثمر ينبع في حقيقته من معين الوعي والتعقل، أما منطق العنف والتخاصم فلا ينبُت إلا في أرض الجهل والتخلف وضحالة الثقافة والوعي، وهذه الحقائق أشار إليها الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) بوضوح في حِكم عديدة منها قوله المأثور في نهج بلاغته (علیه السلام) : (إِنَّ هَذِهِ اَلْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا فَاحْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ اَلنَّاسُ ثَلاَثَةٌ فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ وَ هَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ اَلْعِلْمِ وَ لَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ). (1)

ولابأس أن نذكر بعض الحِكم العلوية المباركة الواردة في كتاب (غرر الحكم ودرر الكلم) للعلامة الآمدي (رحمه الله) ، لنتعرف على مدى خطورة الجهل، الذي حذّر منه أمير التقى والبلاغة والبيان (علیه السلام) ونعمل جاهدين إلى تحصين أنفسنا ومجتمعنا من أضراره الجسيمة:

(اَلجَهْلُ فِي الإنْسانِ أضَرُّ مِنَ الآكِلَةِ فِي البَدَنِ).

(اَلجَهْلُ مَطِيَّةٌ شَمُوسٌ، مَنْ رَكِبَها زَلَّ، وَ مَنْ صَحِبَها ضَلَّ).

(اَلجَهْلُ وَبالٌ).

(اَلجَهْلُ مَوتٌ).

(اَلنَّاسُ أعْداءُ ما جَهِلُوا).

(اَلجَهْلُ داءٌ وَعَياءٌ).

(اَلجَهْلُ يَجْلِبُ الغَرَرَ).

(اَلجَهْلُ أصْلُ كُلِّ شَرّ).

(اَلجَهْلُ فَسادُ كُلِّ أمْر).

ص: 353


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، العلامة حبيب الله الخوئي، الحكمة رقم (139) .

(اَلجَهْلُ يُزِلُّ القَدَمَ، وَ يُورِثُ النَّدَمَ).

(بِالجَهْلِ يُسْتَثارُ كُلِّ شَرّ).

(شَرُّ المَصائِبِ الجَهْلُ).

(مِنْ أشَدِّ المَصائِبِ غَلَبَةُ الجَهْلِ).

(رَأسُ الجَهْلِ مُعاداةُ النّاس).

(اَلجاهِلُ صَخْرَةٌ لا يَنْفَجِرُ ماؤُها، وَشَجَرَةٌ لا يَخْضَرُّ عُودُها، وَأرضٌ لا يَظهَرُ عُشْبُها).

وإذا أردت أن أُجمِل موضوع العوامل الاستراتيجية التي تشيع مبدأ التعايش السلمي بكلمة جامعة فأنني أكتفي بكلمتين قالها المرجع اليعقوبي في إحدى خطاباته المباركة، حيث قال (دام ظله) : (علينا نبذ الفرقة والخلاف باجتناب أسبابه التي أهمها التعصب للانتماءات سواء كانت للأشخاص أو الجهات ومحاولة إلغاء الآخر والتطرف في المعتقدات والتحجر في الأفكار، فلابد أن نحترم وجهات نظر الآخرين خصوصاً اخواننا في المذهب والدين، ونعتقد أن الانماط المختلفة من السلوك إنما هي أدوار مختلفة يؤديها اصحابها لتصب في هدف واحد واذا اريد اقناع الآخرين فبالحوار والدليل والحكمة والموعظة الحسنة وليس القسر والإكراه). (1)

وقال (دام ظله) حول كيفية تحقيق الاندماج الطائفي: (لا ينصلح الحال إلا بوجود قوة مُصلِحة ومخلصة وشجاعة قادرة على الزام السياسيين بمسؤولياتهم وطرد الفاسد منهم ولا يقدر على أداء هذا الدور غير المرجعية الدينية التي تملك زمام الأمور، أما ما نحتاجه فهو وجود ارادة مخلصة جديّة لدى السياسيين للإصلاح والتغيير نحو الأفضل، وحوار شفاف منفتح، وتغليب للمصالح العليا، والاستعانة بالخبرات والكفاءات في جميع المجالات لوضع خطط مدروسة وناجحة، ونهضة فكرية يشارك فيها العلماء والمثقفون والإعلاميون والكتّاب لتأسيس ثقافة صالحة لحياة سعيدة وإزالة العقد الفكرية والاجتماعية التي ساعدت على تأزيم المواقف، وأمور أخرى). (2)

ص: 354


1- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج3، (ما هو تكليفنا في المرحلة الراهنة؟) .
2- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج9 خطاب رقم (434) ، (حوارات سياسية: شيعة العراق وبناء الدولة والأمة) .

المرجع اليعقوبي رائد التعايش السلمي في العراق المعاصر

من الأسس العامة لحركة مرجعية الشيخ اليعقوبي (دام ظله) هي تحقيق الوحدة والتآلف واحترام التنوع في أداء الأدوار والتسامي عن التقاطع والتشاحن والتزاحم المؤدي إلى الفرقة والتشتت، وترسيخ مبدأ التعايش السلمي في أبعاده المختلفة، عن طريق الحث والارشاد النظري وكذلك عن طريق تطبيق هذه الرؤى عملياً وتطبيقياً، كما سنتطرق لذلك إن شاء الله تعالى قريباً في هذا البحث، وإن هذه المسؤولية التي تتحملها المرجعية الرشيدة- باعتبارها قمة الهرم واستشعارها لآلام المجتمع وتفاعلها مع قضاياه وسعيها لتخليصه من العَنَتْ بمقدار ما ييسره الله تبارك وتعالى ليس تفضلاً منها، وإنما هو من صميم عملها ومسؤولياتها، وهذه الحقيقة أكدها المرجع اليعقوبي بنفسه حيث قال:

(إن مسؤولية نشر ثقافة الوعي السِلمي الاجتماعي واحترام المقدسات، هي مسؤولية تضامنية ويشترك فيها الجميع.. علماء الدين والسياسيين والمؤمنين كل من موقعه، وهو أحد مصاديق إحياء النفس لأن من صور الاحياء صيانة النفس وحمايتها من القتل) وقد أصدر سماحته سنة 2017م خطاباً حول مبدأ التعايش السلمي يحمل عنوان: (التعايش السلمي وحفظ حقوق الأقليات في الإسلام) بيّن فيه الأبعاد الإنسانية والتربوية التي تتضمنها المباديء والأحكام الإسلامية، وكذلك نظرة الإسلام تجاه الأقليات المتواجدة في المجتمع الإسلامي، وكيفية تعاملها بإحسان وانصاف، دون تعدي أو عدوان، وكان هذا الخطاب هو السبب في شروعي بتأليف هذا الكتاب، ومما جاء في هذا الخطاب الذي يُبين إحدى الرؤى الفكرية التي تتبنها المرجعية الرشيدة، تجاه مبدأ التعايش السلمي:

(يكثر اليوم الحديث عن التعايش السلمي بين مكونات المجتمع وحفظ حقوق الأقليات في المجتمع المسلم ويراد معرفة رأي الإسلام فيها بعد الممارسات الاجرامية التي قام بها بعض من يدّعون الإسلام زوراً وبهتاناً أو يرفعون شعارات إسلامية مكراً وخداعاً، وفي مقام الإجابة نقول: لا يعبّر عن موقف الإسلام الأصيل في أي قضية الا قادته العظام من خلال سيرتهم وأقوالهم.. عن الامام الصادق (علیه السلام) : (أن علياً (علیه السلام) صاحب رجلا ذميا) أي من غير المسلمين الذين يعيشون في ظل دولة الإسلام (فقال له

ص: 355

الذمي: أين تريد يا عبد الله؟) وهو لا يعرفه أنه أمير المؤمنين ورئيس الدولة لأنَّ علياً (علیه السلام) لم يكن يتميز بأي وضع عن الآخرين (قال: أريد الكوفة، فلما عدل الطريق بالذمي عدل معه علي) أي لما وصلا الى مفترق طريق ويذهب كل منهما الى وجهته لم يذهب أمير المؤمنين (علیه السلام) في طريق الكوفة كما أراد (فقال له الذمي: أليس زعمت تريد الكوفة؟ قال: بلى، فقال له الذمي: فقد تركت الطريق، فقال: قد علمت، فقال له: فلم عدلت معي وقد علمت ذلك؟ فقال له الإمام علي (علیه السلام) : هذا من تمام حسن الصحبة أن يشيع الرجل صاحبه هنيئة إذا فارقه وكذلك أمرنا نبينا، فقال له: هكذا؟ قال: نعم، فقال له الذمي: لا جرم إنما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة، وأنا أشهدك أني علىدينك، فرجع الذمي مع الإمام علي (علیه السلام) ، فلما عرفه أسلم) (1) ، أقول: هذه الرواية تبيّن واحداً من آداب الصحبة والمعاشرة وقد التزم بها أمير المؤمنين (علیه السلام) مع غير المسلم كما مع المسلم على حد سواء وهو في موقع قمة الهرم دينياً وسياسياً. وروى الشيخ الطوسي (قدس) في كتاب التهذيب بسنده عمّن بلغ به أمير المؤمنين (علیه السلام) قال (مر شيخ مكفوف كبير يسأل فقال أمير المؤمنين (علیه السلام) : ما هذا؟ فقالوا: يا امير المؤمنين نصراني قال: فقال أمير المؤمنين (علیه السلام) : استعملتموه حتى إذ كبر وعجز منعتموه!! أنفقوا عليه من بيت المال) (2) ، أقول: يعني أن وجود فقير يستعطي الناس كانت حالة غريبة في دولة علي (علیه السلام) فأستغرب من وجود هذه الحالة لان جميع الحقوق المواطنين مكفولة على حد سواء في دولة أمير المؤمنين (علیه السلام).

وحتى حينما لا يكونون من مواطني دولة الإسلام لكنهم يأتون في زيارة دبلوماسية أو علمية أو استطلاعية ونحو ذلك فأنهم يحظون بنفس اللياقات والاحترام، في تفسير القمي بسنده عن أبي عبدالله (علیه السلام) : (أن نصارى نجران لما وفدوا على رسول الله وكان سيدهم الاهتم والعاقب والسيد، وحضرت صلواتهم فأقبلوا يضربون بالناقوس وصلوا، فقال أصحاب رسول الله: يا رسول الله هذا في مسجدك؟ فقال: دعوهم، فلما فرغوا دنوا من رسول الله فقالوا: إلى ما تدعوا؟ فقال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وأن عيسى عبد مخلوق يأكل ويشرب ويحدث قالوا: فمن أبوه؟) وكأنهم أرادوا

ص: 356


1- - بحار الانوار: 41/53 ح 5
2- - تهذيب الاحكام : 6 / 287 كتاب القضايا والاحكام، باب 92 في الزيادات، ح 18

أن يحرجوه (صلی الله علیه و آله) بهذا السؤال ليثبتوا أنه ابن الله (فنزل الوحي على رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقال: قل لهم: ما يقولون في آدم؟ أكان عبداً مخلوقاً يأكل ويشرب ويحدث وينكح؟ فسألهم النبي (صلی الله علیه و آله) فقالوا: نعم، فقال: فمن أبوه؟ فبقوا ساكتين، فأنزل الله: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم) (1). إلى آخر الآيات.

وفي رواية أخرى يبيّن أمير المؤمنين (علیه السلام) الصورة الحقيقة الأصلية لشعائرهم قبل أن يحرّفها أصحاب الاطماع حتى ضاعت الحقيقة تحت ركام الأوهام والضلالات والخرافات والانحرافات، في كتاب الأمالي للشيخ الصدوق بسنده عن الحارث الهمداني قال (بينا أنا أسير مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) في الحيرة إذا نحن بديراني يضرب بالناقوس، قال: فقال علي بن أبي طالب (علیه السلام) : يا حارث أتدري ما يقول هذا الناقوس؟ قلت: الله ورسوله وابن عم رسوله أعلم. قال: إنه يضرب مثل الدنيا وخرابه ويقول: لا إله إلا الله حقا حقاً، صدقا صدقاً، إن الدنيا قد غرتنا وشغلتنا و استهوتنا واستغوتنا، يا ابن الدنيا مهلا مهلاً، يا ابن الدنيا دقاً دقاً، يا ابن الدنيا جمعاً جمعاً، تفني الدنيا قرناً قرناً، ما من يوم يمضي عنا، إلا أوهى منا ركنا، قد ضيعنا دارا تبقى،واستوطنا دارا تفنى، لسنا ندري ما فرطنا، فيها إلا لو قد متنا. قال الحارث: يا أمير المؤمنين النصارى يعلمون ذلك؟ قال: لو علموا ذلك لما اتخذوا المسيح إلها من دون الله عز وجل) لكنه التحريف واخفاء الحقيقة وتجهيل الناس وابتداع الطقوس والخرافات والتشبث بالأوهام كما يحدث الكثير في أمتنا حتى صار المصلحون والمطالبون بتنقية الدين من الشوائب والبدع غرباء محاربين (قال: فذهبت إلى الديراني فقلت له: بحق المسيح عليك لما ضربت بالناقوس على الجهة التي تضربها. قال: فأخذ يضرب وأنا أقول حرفاً حرفاً حتى بلغ إلى قوله: إلا لو قد متنا. فقال: بحق نبيكم من أخبرك بهذا؟ قلت: هذا الرجل الذي كان معي أمس، قال: وهل بينه وبين النبي من قرابة؟ قلت: هو ابن عمه، قال: بحق نبيكم أسمع هذا من نبيكم؟ قال: قلت نعم. فأسلم ثم قال: والله إني وجدت في التورية أنه يكون في آخر الأنبياء نبي وهو يفسر ما يقول الناقوس) (2). (3)

ص: 357


1- - بحار الانوار: 21/ 340
2- بحار الانوار، العلامة المجلسي، ج2، ص321.
3- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، خطاب بعنوان: (التعايش السلمي وحفظ حقوق الأقليات في الإسلام) .

وفيما يأتي نستعرض أبرز الانجازات والنشاطات الرسالية للمرجع اليعقوبي التي سعى من خلالها لتحقيق مبدأ التعايش السلمي سواء في العراق خاصة أو في العالم عموماً:

تشخيص أسباب وعلاج حالة العنف والارهاب في العراق:

وضع المرجع اليعقوبي العديد من الحلول والعلاجات للأزمات والمشكلات التي يعاني منها الشعب العراقي، لاسيما للمشكلات التي ظهرت على الساحة العراقية بشكل مكثف بعد قدوم المحتل الأمريكي للعراق سنة 2003م،كما عيّن (دام ظله) أسباب هذه المشكلات والانحرافات الحاصلة في المجتمع العراقي، ومن بين أبرز تلك المشكلات الخطيرة التي راحت تفتك بأبناء الشعب العراقي هي (فتنة الطائفية) ، وكذلك سوء تعامل بعض الساسة مع فرقائهم السياسيين وتعاملهم مع جماعات معينة من الشعب على أسس طائفية وعنصرية، الأمر الذي أنتج فيما بعد صراعات دامية راح ضحيتها الكثير من الأبرياء من أبناء هذا الشعب المظلوم، ووفق رؤية المرجع اليعقوبي فإن وجود حالة العنف الطائفي في العراق، لها عدة أسباب قد بينها (دام ظله) وأشار إليها ضمن خطاباته المباركة، ونذكر منها ما يلي:

(التكفير وما تتبعه من القتل الوحشي والتدمير الشامل بدأ من فتاوى علماء التكفير). (1)(إن ما نعانيه في العراق له أسباب ومناشئ عديدة بعضها داخلية نابعة من الظروف التي مر بها الشعب العراقي، وبعضها خارجي يعود إلى أجندات الدول الإقليمية والكبرى، فالخطوة الأولى على طريق الحل يبدأ من تشخيص هذه الأسباب وفتح ملفات لكل منها وتعكف لجنة متخصصة على دراسة كل ملف على حدة وليقل كل طرف ما عنده من هواجس ومشاعر ومخاوف ومبررات ومطالب لتنقيحها وتحليلها

ص: 358


1- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج9، رقم الخطاب (457) بعنوان: (اَللّهُمَّ اَصْلِحْ كُلَّ فاسِد مِنْ اُمُورِ الْمُسْلِمينَ) .

من أجل الوصول إلى الحلول والتوصيات المناسبة، فربما حمل بعضهم السلاح خوفاً على هويته ووجوده، وآخر لشعوره بالإقصاء وعدم إعطائه الحق في المشاركة في العملية السياسية، والآخر لمقاومة المحتل وردعه عن عدوانه وظلمه وغطرسته واستخفافه بالمحرمات وهكذا) ، (1)

(العنف السياسي الناشئ من الصراع على السلطة، والاستئثار بثروات الشعب، والاستبداد بالقرار، ونظر الكتل السياسية بعضها إلى بعضها على أنهم خصوم وليسوا شركاء في بلد واحد وركاب سفينة واحدة، والتسابق إلى حيازة المغانم على حساب حرمان الشعب من أبسط حقوقه، واعتبار السلطة على أنها وسيلة للإثراء غير المشروع وليست وسيلة لخدمة المواطن وإعمار البلد، وتوزيع المناصب على أساس الولاء للكيان لا على أساس الكفاءة والنزاهة والإخلاص للوطن والشعب، وهذا هو الذي مزّق الشعب وخرّب الدولة وجعل الكتل السياسية منشغلة عن الشعب وهمومه بعقد الصفقات والتسابق على قضم أكبر مقدار ممكن مما يسمونه بالكعكة وسحق الخصوم حتى لو احتاج الأمر إلى التواطؤ مع الجهات الخارجية). (2)

(..فسادُ النظام السياسي الحاكم سببٌ لنشوء هذا الإرهاب، والتدهور الاقتصادي سبب آخر، وتفكك البنية الاجتماعية وضعف الرادع الأخلاقي وتشوّش القيمِ الدينيةِ واختلاطها بالشبهات والانحرافات والضلالات كلها أسبابٌ لسقوطِ الشخص في فخِّ العملِ الإرهابي، وهذا يفسّر الظاهرةَ التي عجز المحللون السياسيون والأمنيون في بلاد الغرب عن معرفةِ أسبابها وهي التحاق آلاف الشباب بالمجاميع الإرهابية وهم من دول مرفَّهةٍ اقتصادياً والحريات السياسية والاجتماعية متوفرة بأوسع أشكالها، والسبب هو الشبهات والضلالات العقائدية والفكرية التي لوثت أدمغتهم). (3)

ص: 359


1- خطاب المرحلة، المرجع اليعقوبي، رقم (119) بعنوان: (فضل العراق والحوزة العلمية على العرب وآداب اللغة العربية) .
2- ينظر خطاب المرحلة، ج5، خطاب رقم (161) : (أعداء الشعب ثلاثة: الاحتلال، الإرهاب، فساد الحكومة) .
3- خطاب المرحلة، ج9، رقم (466) : (المرجع اليعقوبي: تحقيق الأمن مسؤولية الجميع ونتاج منظومة كاملة من الفعاليات) .

(نحن وإن حملنا الاحتلال بعض المسؤولية عن العمليات الإرهابية إلا أن هذا لا يفسر قيام الانتحاريين بتفجير أنفسهم في الأسواق والحسينيات وتجمعات الناس الأبرياء، فهذا الانتحاري ليس أمريكياً وإنما هم أشخاص جاؤوا ليعانقوا الحور العين بمجرد قتلهم بموجب فتاوى دينية، فهذا التيار يحتاج إلى معالجة شاملة لا تكتفي بالعمل العسكري والأمني وإنما تتعداها إلى الإصلاح الفكري وخلق ثقافة احترام الرأي الآخر وقبوله وعدم الاعتداء والظلم وإصلاح منظومة الأفكار والثقافات التي توجه الرأي العام..). (1)

(إن الإعلام يمارس دوراً خطيراً في حياة الأمة ويستطيع توجيه الرأي العام بالاتجاه الذي يريده أصحاب وسائل الأعلام، وهو في الغالب بعيد عن الإنصاف والموضوعية والضمير الحي، لذا فهو المسؤول الأول عما نعانيه من كوارث، ولو كان هناك جهات تشرف على تربية هؤلاء الإعلاميين وتهذيبهم وتوجيههم نحو الأهداف السامية لخرجنا بخطاب مصلح بناء يعمل من أجل خير الأمة وازدهار البلد). (2)

(ما هذه المفاسد التي نعاني منها كالخلاف والبغضاء وتبادل الاتهامات والتمزق إلا نتيجة النفس الأمارة بالسوء وعدم الإمساك بقيادها، وإلا لو كان الجميع مخلصين لله سبحانه وهدفهم واحد هو رضا الله سبحانه: لتآخوا ولتحابّوا ولشكر بعضهم بعضاً على معاونته اياه في هذا الطريق، أترى لو أن جميع الأنبياء - وهم مئة وأربعة وعشرون الفاً- جُمعوا في مكان واحد وزمان واحد ماذا ستكون العلاقة بينهم؟ هل الشجار والخلاف كما يحصل بيننا ونحن شرذمة قليلون ؟!). (3)

كما نبّه المرجع اليعقوبي إليه من ضرورة الالتفات إلى العلل (الأسباب) قبل أن نلتفت إلى المعلولات ونهتم بها، حيث قال (دام ظله) : (.. ينبغي على كل مُصلح يريد أن يتأسى بقيادة القادة وسادة السادة ويسعى للتغيير في النفس والمجتمع أن يلتفت إلى

ص: 360


1- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي،ج4، حوارات سياسية (الحلقة الثالثة) ؛ (عن مبررات وجوب المشاركة في الانتخابات والمشروع الإسلامي في العراق) .
2- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج4 خطاب رقم (126) : (وضع قوانين تنّظم أخلاق ممارسة مهنة الإعلام و كل مهنة) .
3- المعالم المستقبلية للحوزة العلمية، المرجع اليعقوبي.

جانب العلل قبل جانب المعلولات، وإذا فكر بعكس ذلك فانه سيتعب نفسه ويضيِّع جهوده، ولا تتحقق إلا نتائج بسيطة لا تناسب حجم الجهد المبذول، ومثاله في طب الأبدان: أن الطبيب الحاذق لا يكتفي بمعالجة الأعراض والظواهر كارتفاع درجة الحرارة، أو الألم وعدم الشهية ونحوها، وإنما يشخِّص العلة الحقيقية وراء هذه الأعراض فيعالجها، ولو اكتفى بمعالجة الأعراض والآثار والمعلولات دون العلة فهو ليس بطبيب، ونفس الكلام يأتي في طب النفس والمجتمع، فإذا كانالمجتمع يعاني من تسلط الاشرار، وما أكثر ابتلاء أمتنا الإسلامية عبر التاريخ والى اليوم بهذا البلاء، فليس من الحكمة أن تعمل لإزالة الأشرار بالسلاح ونحوه، مع بقاء السبب لوجودهم، وهو انتفاء الإخلاص لله سبحانه في العمل، وابتعاد الأمة عن تطبيق الشريعة وعدم ارتقائها إلى مستوى المسئولية، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). (1) وقال (دام ظله) أيضاً ضمن هذا الإطار: (إن الطبيب الحاذق هو من يشخص بدقة العلّة الحقيقية وراء الأعراض المرضية التي هي معلولات لها فيزيل العلة من أساسها، وليس من الحكمة أن يعالج الأعراض ويترك العلة الأساسية). (2)

ويجدر بنا أن نُفكر ملياً بهذه الأسباب آنفة الذكر وبغيرها مما قد غفلنا عنه، لأجل تحقيق مبدأ التعايش السلمي في المجتمع، ونبذ الاحتقان الطائفي، كما أجمل المرجع اليعقوبي أسباب وجود حالة العنف الطائفي في البلاد بكلمة موجزة، وأشار من خلالها إلى علاج لهذه المشكلة الخطيرة، وهذا نص كلمته (دام ظله) التي على أساسها تم تأسيس مجلس (صحوة الأنبار) : (..نعم هي حرب طائفية باتجاه واحد لكنها ليست هي حرب أهل السنة على الشيعة لأننا نعلم أن شريحة كبيرة منهم رافضة لهذه الحالة لكنها مغلوبة على أمرها بقوة السلاح وضجيج الأصوات الطائفية، فهي حرب الفئات الضالة التي يشنها تحالفٌ مشؤوم - يدفعه الحقد والحسد والجهل والتحجر- ضّمَ التكفيريين والصداميين والطائفيين والمتجردين من القيم الإنسانية الذين يدوسون كل شيء من أجل تحقيق مصالح زائفة. ويتحمل مسؤوليتها بدرجة من الدرجات أبناء العشائر والمناطق السنّية التي تؤوي هؤلاء القتلة وتحتضنهم وتقدم لهم الدعم والخدمات وينطلقون من بين

ص: 361


1- الأسوة الحسنة للقادة والمصلحين، المرجع اليعقوبي.
2- الحوزة وقضايا الشباب، المرجع اليعقوبي.

ظهرانيهم، فأين العروبة التي يدّعونها؟ بينما تجد أبنائهم يعيشون في كل سلام في المحافظات الشيعية ويتسنمون أعلى المواقع فهل هذا من الإنصاف؟ (1). (2)

أما من بين أهم العلاجات لفتنة الطائفية، وفق نظر المرجع اليعقوبي فهو يكمن في تفعيل مبدأ المواطنة والشراكة الوطنية الحقيقية في الحقوق والواجبات، وهذه بعض نصوص كلماته (دام ظله) الواردة في هذا الباب والتي اقتطفناها من خطاباته المباركة التي وجهها لعموم المجتمع:(إن الأمن لا يتحقق بالقوة العسكرية فقط، وإنما هو نتاجُ مجموعةٍ من الفعاليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والأخلاقية والفكرية، وأي خللٍ أو تقصيرٍ في أحد هذه الجوانب يُحدِثُ ثغرةً أو اختراقاً أمنياً، لذا فإن معالجة الوضع الأمني لابد أن تشمل جميع هذه الجوانب ويشترك فيها المعنيون بكل هذه المجالات). (3)

(جاء في الحديث: (صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل: يا رسول الله، ومن هما؟ قال (صلی الله علیه و آله) : الفقهاء والأمراء) فالصلاح والفساد في أمور المسلمين يرجع إلى طريقة أداء هذين الصنفين وصفاتهم الذاتية، فنفس الجهة التي يأتي منها الفساد يأتي منها الصلاح؛ لذا قيل: (لا ينتشر الهدى إلا من حيث انتشر الضلال) أي علينا أن نشخّص الجهة المسؤولة عن الفساد فتبدأ عملية الصلاح من هذه الجهة، فمثلاً التكفير وما تتبعه من القتل الوحشي والتدمير الشامل بدأ من فتاوى علماء التكفير فإذا أرادوا محاربة الجماعات الإرهابية التكفيرية حقيقة فعليهم أن يبدأوا بهؤلاء المشرّعين لفتاوى التكفير فيصلحون عقولهم ويطهرون قلوبهم من أغلال التعصب والحقد والأنانية ويعيدوا تقييم تأريخهم والأشخاص الذين يقدسونهم ممن أسسوا لهذه الثقافة، وستتغير الأمور عندما يلتفتون إلى القيادة الصالحة الحقّة التي ربّت الأمة على رفض التكفير، روي عن الامام علي (علیه السلام) إنه سئل عن الذين خرجوا على إمامته الحقّة

ص: 362


1- استثارت دعوات سماحته (دام ظله) هذه نخوة عشائر الأنبار وتنادوا لتأسيس مجلس (صحوة الأنبار) وتكاتفوا لطرد مجرمي القاعدة من بين ظهرانيهم.
2- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج4، (ماذا بقي من الحرب الطائفية؟) .
3- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، رقم (466) بعنوان: (تحقيق الامن مسؤولية الجميع ونتاج منظومة كاملة من الفعاليات) .

وقاتلوه: (أمشركون هم؟ قال: من الشرك فرّوا، فقالوا : أفمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، قيل: فما هم يا أمير ألمؤمنين؟ قال: إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم علينا) مشيراً إلى الآية الكريمة: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) كما أن هذه الكلمة (لا ينتشر الهدى الا من حيث انتشر الضلال) يمكن فهمها على أساس الأدوات أي أن نفس الأداة التي سببت الفساد كالتلفزيون أو القوانين الظالمة المخالفة للشريعة أو مناهج التعليم علينا أن نصلحها لتساهم في صلاح الأمة، ويمكن ان نفهم هذه الكلمة على اساس الحالات والاوضاع التي انتجت الفساد فنعالجها كالفقر او الجهل او التخلف او العصبية، أو الاستبداد السياسي أو الانهيار الاقتصادي أو عدم الامن والاستقرار فاذا اريد نشر الهدى والصلاح فلا بد من اصلاح هذه الاوضاع والبيئة المنتجة، قال تعالى: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) فصلاح الأمة يكون بصلاح هذين الصنفين كما أن فسادها بفسادهما). (1)(إن البلد - أي بلد - لا يستقر، والملك لا يدوم إلا بالعدل والمساواة في حقوق المواطنة وواجباتها، وإن المكابرة والقفز على الحقائق والهروب الى الأمام لا يحلّ أي مشكلة، وقد اثبتت التجارب ذلك وان كانت القضية لا تحتاج إلى إثبات). (2)

(إن الذين يرفعون لواء الدفاع عن قوميتهم أو مذهبهم أو طائفتهم لو كانوا صادقين في دعواهم لعملوا على إحياء مشروع وطني ينضّم إليه الجميع ويعتمد الشراكة الحقيقية وتقديم الأكفأ وإعطاء كل ذي حق حقه لان الوطن حاضنه الدين والطائفة والقومية فإذا كان الوطن سليماً معافى ومزدهراُ مستقراُ كانت خصوصيات جميع مكوناته محفوفة بخير والعكس بالعكس). (3)

(إن العملية السياسية الناجحة تُبنى على الشراكة).

ص: 363


1- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج9، رقم الخطاب (457) بعنوان: (اَللّهُمَّ اَصْلِحْ كُلَّ فاسِد مِنْ اُمُورِ الْمُسْلِمينَ) .
2- ينظر خطابات المرحلة، بعنوان: (الموقف من الانتخابات البرلمانية في مملكة البحرين) .
3- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، خطاب (مستقبل العراق يصنعه أبناؤه) ،ج5، ص408.

(إن الحكومة الحالية لا تناسب الوضع السياسي والاجتماعي في العراق اليوم ولابد من العودة إلى حكومة الشراكة والوحدة الوطنية فإن الاستئثار والتفرد هو الذي يؤدي إلى العنف ويقود إلى الخراب).

(إن الذين يرفعون لواء الدفاع عن قوميتهم أو مذهبهم أو طائفتهم لو كانوا صادقين في دعواهم لعملوا على إحياء مشروع وطني ينضّم إليه الجميع ويعتمد الشراكة الحقيقية وتقديم الاكفأ واعطاء كل ذي حق حقه لان الوطن حاضنه الدين والطائفة والقومية فإذا كان الوطن سليما معافى ومزدهراُ مستقراُ كانت خصوصيات جميع مكوناته محفوفة بخير والعكس بالعكس).

(إن التذرع بالدستور وصناديق الاقتراع وحده لا يكفي في بلد جديد العهد بالتجربة الديمقراطية ويعاني من موروثات معقدة ومخلّفات عهود طويلة مظلمة، وتتشكل فيه الكتل السياسية على أساس المكونات الاجتماعية وليس البرامج السياسية الوطنية، وهذا أحد أسباب دعوتنا الكتل السياسية لتغيير اصطفافاتها والخروج من تخندقها الطائفي والقومي. فلا بد في المرحلة الحالية من بناء العملية السياسية على التوافقات التي تعتمد الشراكة الحقيقية والثقة المتبادلة).

(إن تعدّد الأديان والطوائف في المجتمع الواحد، كالموجود عندنا في العراق، وهي حالة طبيعية، قد تعامل المشرِّع الإسلامي معها كواقع موجود نتيجة حرية الاختيار وهو مبدأ أساسي في الشريعة الإسلامية (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) وقد منحتهم الدولة الإسلامية تمام الحقوق التي تُمنح لرعايا الدولة، لأنّ أساس الاستحقاق هي المواطنة التي يشترك فيها الجميع، أمّا الدين والمذهب والقوميةونحوها فلا تؤثر في استحقاق المواطنين، بل تحمّل أمير المؤمنين (علیه السلام) انشقاقات رموز كبيرة في المجتمع أدّت إلى حروب طاحنة بسبب سياسته العادلة هذه بينما أراد الآخرون أن تتمايز الطبقات في الاستحقاقات والامتيازات، وهي ثقافة كان قد تطبّع عليها المجتمع وسار عليها، لكنّها مرفوضة في سيرة أمير المؤمنين (علیه السلام) ربيب رسول الله (صلی الله علیه و آله). والشواهد في حياة أمير المؤمنين (علیه السلام) كثيرة كحادثته مع النصراني المكفوف حيث كان الإمام (علیه السلام) في شوارع الكوفة.. فمر بشخص يتكفف

ص: 364

وهو شيخ كبير السن، فوقف (علیه السلام) متعجباً وقال (عليه الصلاة والسلام) : (ما هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين إنه نصراني قد كبر وعجز ويتكفّف، فقال الإمام (علیه السلام) : ما أنصفتموه.. استعملتموه حتى إذا كبر وعجز تركتموه) (1). ولما ولّى أمير المؤمنين (علیه السلام) مالك الأشتر مصراً، كتب له عهداً مطوّلاً في كيفية إدارة الدولة وكانت وصيّته للرعيّة - أي المواطنين - جميعاً على حدٍّ سواء، كقوله (علیه السلام) : (وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ) وغيرها من دون ملاحظة أي اختلافٍ بينهم، فهم متساوون في حقوق المواطنة، بل تصل حالة التعاطف والنظرة المتساوية للجميع على حدٍّ سواء إلى درجة بحيث يتقطّع قلب أمير المؤمنين (علیه السلام) أسفاً ويجد الموت أهون عليه لمّا بلغه أن جنداً لمعاوية أغاروا على الأنبار وسلبوا النساء وفيهنّ غير مسلمات (معاهدات) ، قال (علیه السلام) : (وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ، وَالأُخْرَى المُعَاهَدَةِ، فيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلْبَهَا وَقَلاَئِدَهَا، وَرِعَاثَهَا، ما تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالإِسْتِرْجَاعِ وَالإِسْتِرْحَامِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ، مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ، وَلاَ أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ، فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِن بَعْدِ هَذا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً) ويشهد التأريخ الإسلامي بأنّ المسيحيين واليهود والصابئة تبوّأوا مواقع رفيعة في حكومات الدولة الإسلامية وبرعوا في أنواع العلوم وأسماؤهم معروفة وبعضهم مشهور ممّا يعني أنّهم نالوا فرصاً متساوية مع المسلمين. (2)

(لقد قلنا آنذاك ونكرر الآن أن الحل العسكري لا يكفي وحده مالم يقترن بإصلاح سياسي يؤدي الى سلمٍ اجتماعيٍ ورفاهٍ اقتصاديٍ، وهذا يتطلب تنازلات عن الاستئثار والاستبداد من البعض والى إنصاف وصبر من البعض الآخر ويتم ذلك من خلال تواصل صريح وشفاف وحكيم بين القيادات الدينية والسياسية والاجتماعية المؤثرة في مكونات الشعب العراقي، ولابد أن يُبنى هذا الحوار والتواصل على أسس يتفق عليها الجميع ومنها:1. الإيمان بوحدة العراق ارضا وشعبا وتساوي جميع الافراد في الحقوق والواجبات على اساس المواطنة والانتماء للعراق.

ص: 365


1- وسائل الشيعة إلى تحصيل مقاصد الشريعة, الحُر العاملي، ج11 ص49 باب19 ح1.
2- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، خطاب: (التعدُّديّةُ الدينيةُ في أفُقِ حِوارِ الحضارات) ، ج8، ص420.

2.احترام منجزات العملية السياسية التي ضحى الشعب من اجل تحقيقها كالدستور باعتباره مرجعية سياسية والانتخابات كآلية ديمقراطية ومؤسسات الدولة، وان اي مطالبة بالتعديل والتغيير لابد ان يكون ضمن الاليات التي كفلها الدستور لموافقه اغلبية الشعب عليه وليس من المعقول المطالبة بالرجوع الى خط الشروع الصفري لان فيه هدرا لتضحيات الشعب وارادته.

3.رفض الابتزاز السياسي واتخاذ الارهاب وسائر المشاكل وسيلة لتحصيل المزيد من المكاسب التي تتجاوز السقوف العادلة للاستحقاقات ورفض كل الوسائل غير الدستورية.

4.مراعاة ضوابط الوطنية والمهنية والنزاهة والكفاءة في اختيار قيادات البلاد المدنية والعسكرية والسعي لإصلاح بناء الدولة ومؤسساتها على أسس صحيحة ونحو ذلك من المبادئ). (1)

كما جعل (دام ظله) من بين علاج مشكلة التفرق والطائفية، العمل المشترك ضمن أطار المرجعية الدينية الرشيدة، لأنها صمام الأمان للمجتمع، وهي بعيدة كل البعد عن الأنانية، والأفكار الضيقة، والنظر للأمور من زاوية واحدة، والترفع عن الخوض في المنازعات الشخصية والهامشية، حيث قال (دام ظله) : (إن قوتنا في وحدتنا ولا تتحقق الوحدة إلا برص الصفوف وتجنب الخلاف والعمل سوية في إطار المرجعية الشريفة. هذه وصيتي فمن كان يحبّني فليعمل بها ليكون ذلك أعظم رد توجهونه إلى الأعداء الذين يتربصون بكم الدوائر عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم حتى لو استفّزكم بعضهم بكلام عليَّ أو عليكم وتشويه صورتي ومحاولة تسقيطي في أعين الناس فلا تردّوا عليهم بالمثل ولا تذكروا الجهة التي يرجعون إليها بسوء، الا يكفيكم في الجواب عليهم قول الإمام (علیه السلام) : (كفى بك نصراً على عدوك ان يعصي الله فيك) لأنه سيقحم نفسه في كبائر عديدة كالغيبة والكذب والبهتان، ألا يكفيكم في جوابه قول الإمام (علیه السلام) : (من

ص: 366


1- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج9، (بعد عامٍ على سقوط الموصل: لا زالَ الأمل بإعادة إنتاج عراقٍ مزدهرٍ موحّد) .

روى رواية على أخيه المؤمن يبتغي بها شينه وهدم مروته وليسقطه في أعين الناس أخرجه الله من ولايته الى ولاية الشيطان ثم لا يقبله الشيطان)). (1)

ووفق رؤيته (دام ظله) أيضاً إنه يرى أن الإنسان لكي يتلافى ما تقدم ذكره من منغصات ومشكلات في الحياة العقائدية والاجتماعية والسياسية وغيرها، لابد أن يصلح مفاهيمه العقائدية ويكون معطاءً ومحباًللآخرين، ويتحلى بالقيم الأخلاقية والانسانية، التي تجعله يعامل الآخرين على أساس الشراكة في الحياة، والتفاني في خدمتهم، (لكي يكون الإنسان معطاءً محّباً للخير صبوراً عند الشدائد متفائلاً عليه أن يصلح عقائده وتصوراته ونظرته للحياة أولاً، لأنها هي التي توجّه سلوكه، لذا ينبغي أن يلتفت إلى أمور، منها؛..إن كل ما حوله هو خلق الله وان الناس عيال الله تعالى، عن النَّبيّ (صلی الله علیه و آله) : (الخلقُ كُلُّهم عِيالُ الله عزَّ وجلَّ، فأَحَبُّ خلقِه إليه أنفعُهم لعِيالِه) وفي دعاء الإمام السجاد (علیه السلام) برواية أبي حمزة الثمالي: (والخلق كلهم عيالك) فلابد أن يكون كريماً معهم رحيماً بهم محبّا لهم مهما كانوا...). (2)

المشاركة في المؤتمرات المحلية والعالمية الداعية للسلام ونبذ العنف الطائفي:

اشارة

شارك المرجع اليعقوبي في العديد من المؤتمرات المحلية والعالمية الداعية للسلام ونبذ العنف الطائفي والتي تدعو أيضاً للقضاء على ظاهرة الإرهاب والتكفير الديني، وتأسس لمبدأ التعايش السلمي في العراق الذي أصبح وللأسف عرضة للتصدع والانكماش بين أوساط الشعب الواحد، فكان له (دام ظله) حضور مميز في مثل هكذا مؤتمرات وندوات من خلال الخطابات والرسائل التي يوجهها إليهم عبر وسائل الإعلام أو من خلال من ينوب عنه، لكي يُرسي ركائز وأُسس هذه المفاهيم الإسلامية الأصيلة، والقيم الأخلاقية والإنسانية النبيلة، ولكي يُسعف المؤتمرين من علماء الدين والمفكرين والكتّاب والمثقفين وغيرهم، بالإشارة للحلول الواقعية الناجعة، وتشخيص الأسباب الكامنة وراء هذه الحالة المأساوية، ونذكر منها على سبيل المثال ما يأتي:

ص: 367


1- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، (جماعة الفضلاء: الأهداف والأعمال) .
2- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج8، (تعاملوا في حياتكم بإيجابية) .

1- رسالته (دام ظله) إلى مؤتمر الوحدة الإسلامية المنعقد في طهران:

أرسل (دام ظله) رسالة تحت عنوان: (الصدق في الدعوة إلى الوحدة والمؤاخاة) إلى مؤتمر الوحدة الإسلامية الذي عُقد في طهران برعاية المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، للفترة بين 15 – 17 ربيع الأول عام 1426، وقد قرأ الشيخ التسخيري رئيس المؤتمر ورئيس المجمع، مقاطعاً منها في الجلسة الأخيرة. واغتنم المرجع اليعقوبي هذه الفرصة ليعبر من خلال رسالته عن الهموم الإسلامية، وما يتعرض له الإسلام من انتهاك لمقدساته واستهداف لرموزه، وعبّر عن فهمه للوحدة الحقيقية، كما عَرَضَ (دام ظله) بعض الحلول لتفادي مشكلة التفرقة والتشتت والاحتقان الطائفي، التي يمكن دفعها بخلق ثقافة المحبة والأخوة واحترام الرأي الآخر والشراكة الهادفة والمثمرة والصادقة، وبيّن (دام ظله) أيضاً دور ومسؤولية صُناع الرأي في الأمة من علماء ومفكرين وكتّاب وخطباء وأدباء وصحفيين وإعلاميين بضرورة إشاعة هذه الأجواء الإيجابية بين أفرادالمجتمعات، فعند تحقق ذلك ستتوجه الأمة كلها بهذا الاتجاه، كما صرّح سماحته في رسالته قائلاً؛ إنه لا معنى للحديث عن الوحدة والمؤاخاة إذا كانت اللغة السائدة هي لغة التكفير والالغاء والاتهام والحقد. (1)

2- كلمته (دام ظله) في مؤتمر جامعة الكوفة، حول التعددية الدينية:

ألقى (دام ظله) كلمة تحت عنوان: (التعدُّديّةُ الدينيةُ في أفُقِ حِوارِ الحضارات) تلبية لدعوة وجّهتها رئاسة جامعة الكوفة لسماحته للمشاركة في مؤتمرها الذي عُقد بالتعاون مع معهد الدراسات العقلية في النجف الأشرف تحت نفس العنوان سنة 2014م، وبحضور علماء ومفكرين ومهتمين بقضية التقارب بين الأديان من عدد من الدول الإسلامية. وفيما يلي بعض الفقرات من هذه الكلمة: (لابد من تحديد معنى التعدّدية الدينية قبل الحديث عن دورها في حوار الحضارات، ويمكن أن يُراد بالتعدّدية الدينية معنيان:

المعنى الأول: تعدّد الأديان والطوائف في المجتمع الواحد، كالموجود عندنا في العراق، وهي حالة طبيعية وقد تعامل المشرِّع الإسلامي معها كواقع موجود نتيجة حرية الاختيار وهو مبدأ أساسي في الشريعة الإسلامية (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ

ص: 368


1- راجع نشرة الصادقين العدد (21) ، وخطاب المرحلة، ج4، رقم (75) .

وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) وقد منحتهم الدولة الإسلامية تمام الحقوق التي تُمنح لرعايا الدولة، لأنّ أساس الاستحقاق هي المواطنة التي يشترك فيها الجميع، أمّا الدين والمذهب والقومية ونحوها فلا تؤثر في استحقاق المواطنين، بل تحمّل أمير المؤمنين (علیه السلام) انشقاقات رموز كبيرة في المجتمع أدّت إلى حروب طاحنة بسبب سياسته العادلة هذه بينما أراد الآخرون أن تتمايز الطبقات في الاستحقاقات والامتيازات، وهي ثقافة كان قد تطبّع عليها المجتمع وسار عليها، لكنّها مرفوضة في سيرة أمير المؤمنين (علیه السلام) ربيب رسول الله (صلی الله علیه و آله). والشواهد في حياة أمير المؤمنين (علیه السلام) كثيرة كحادثته مع النصراني المكفوف حيث كان الإمام (علیه السلام) في شوارع الكوفة.. فمر بشخص يتكفف وهو شيخ كبير السن، فوقف (علیه السلام) متعجباً وقال (عليه الصلاة والسلام) : (ما هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين إنه نصراني قد كبر وعجز ويتكفّف، فقال الإمام (علیه السلام) : ما أنصفتموه.. استعملتموه حتى إذا كبر وعجز تركتموه).

ولما ولّى أمير المؤمنين مالك الأشتر مصراً، كتب له عهداً مطوّلاً في كيفية إدارة الدولة وكانت وصيّته للرعيّة - أي المواطنين - جميعاً على حدٍّ سواء، كقوله (علیه السلام) : (وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ) وغيرها من دون ملاحظة أي اختلافاً بينهم، فهم متساوون في حقوق المواطنة. بل تصل حالة التعاطف والنظرة المتساوية للجميع على حدٍّ سواء إلى درجة بحيث يتقطّع قلب أمير المؤمنين (علیه السلام) أسفاً ويجد الموت أهون عليه لمّا بلغه أن جنداً لمعاوية أغاروا على الأنبار وسلبوا النساء وفيهنّ غير مسلمات (معاهدات) ، قال (علیه السلام) : (وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَيَدْخُلُ عَلَى المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ، وَالأُخْرَى المُعَاهَدَةِ، فيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلْبَهَا وَقَلاَئِدَهَا، وَرِعَاثَهَا، ما تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالإِسْتِرْجَاعِ وَالإِسْتِرْحَامِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ، مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ، وَلاَ أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ، فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِن بَعْدِ هَذا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً) ويشهد التأريخ الإسلامي بأنّ المسيحيين واليهود والصابئة تبوّأوا مواقع رفيعة في حكومات الدولة الإسلامية وبرعوا في أنواع العلوم وأسماؤهم معروفة وبعضهم مشهور ممّا يعني أنّهم نالوا فرصاً متساوية مع المسلمين.

ص: 369

المعنى الثاني: تعدّد الآراء الفقهية والرؤى الاجتهادية تبعاً للاختلاف في فهم نصوص التشريع حتّى تصل أقوال الفقهاء في مسألة واحدة إلى أكثر من عشرة، وهذه حالة إيجابية أصّل لها المشرِّع الإسلامي وتدل بعض الروايات على أنّ الأئمة (علیهم السلام) كانوا يتعمّدون إلقاء أجوبة مختلفة في الموارد الممكنة لمصالح مهمّة ذكروها، وتُعدُّ من المفاخر التي ورّثها أئمة أهل البيت (علیهم السلام) لأتباعهم هو فتح باب الاجتهاد وإعطاء حريّة النظر والاستنباط من المصادر الأصلية للتشريع (أعني القرآن الكريم والسنة الشريفة)

ليعطي الفرصة لكل جيل أن يفهم النصوص الشرعية وفق ما تراكم لديه من إرث علمي وثقافي ونفسي واجتماعي مع مستجدات الواقع الذي يعيشه، والاستفادة من كل الأدوات المتوفّرة لديه بعيداً عن التقليد والجمود... والخلاصة إن وجهة نظر الإسلام في التعدّدية الدينية بنّاءة وحضارية على كلا المعنيين.

أما على الأول؛ فإنها تساهم بشكل بنّاء في حفظ وحدة المجتمع وحفظ حقوقه على أساس المواطنة التي يتساوى فيها الجميع، وعلى المعنى الثاني؛ تساعده على تطبيق الدين بمرونة في حياة الفرد والمجتمع وتحلّ الإشكالية بين الدين والثقافة أو العصرنة أو الحداثة ونحو ذلك.

لكنّ هذا المنهج النقي السامي لتعاطي الشريعة الإسلامية مع التعدّدية الدينية تَعرّضَ بكِلا معنييه إلى الاستغلال السيّئ، فتحوّل المعنى الأول إلى حالة من الاحتراب والطائفية والتعصّب على يد تجّارٍ مستفيدين من هذه الصراعات لتنفيذ مآربهم وتحقيق مصالحهم الخاصة ولا دخل للدين فيها). (1)

3- الكلمة المُعدة للمشاركة في المؤتمر الثالث لمنظمة المؤتمر العالمي للأديان من أجل السلام:

أعد (دام ظله) كلمة لكي يلقيها أحد الفضلاء نيابة عنه في المؤتمر الثالث لمنظمة المؤتمر العالمي للأديان من أجل السلام الذي افتتح في عمان سنة 2004م (2) ، وكانت الكلمة تحمل عنوان؛ (الدين الإسلامي طريق السلام والسعادة) وفيما يأتي بعض منها:

ص: 370


1- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج8، (التعدُّديّةُ الدينيةُ في أفُقِ حِوارِ الحضارات) .
2- ولكن للأسف لم يتيسر لممثل المرجعية الرشيدة السفر بسبب إجراءات إدارية وفنية.

(...الدين حافل بالمثل العليا بل يجعلها الهدف الرئيسي من بعثة النبي محمد (صلی الله علیه و آله) برسالة الاسلام وهي تكميل اخلاق البشر قال (صلی الله علیه و آله) : (إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق). فهو يدعوا إلى السلام قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) وتحيته هي السلام ومن آدابه التي حث عليها إفشاء السلام في المجتمع ويأمر بالعدل والاحسان (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) حتى إلى غير المسلمين ما داموا لا يعتدون قال تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) ويدعوا إلى الحوار مع الديانات الأخرى (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) وينظم اسلوب الحوار مع الآخرين (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وقال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ويعطي الحرية كاملة للإنسان كي يعتنق العقيدة التي يقتنع بها قال تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) بل انه يأمر بتوفير الامن وسائر الظروف المناسبة لأي احد يبحث عن الحقيقة ويترك له حرية اتخاذ القرار (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) ويعتبر إرسال النبي (صلی الله علیه و آله) رحمة بالناس من أجل انقاذهم واسعادهم قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) ولم يقل للمسلمين فقط لانه رحمة لجميع المخلوقات ولا أريد أن اطيل عليكم بكثرة الشواهد وان كان هذا الحديث نافعاً وشيقاً ومثيراً، إنكم حين أسستم (منظمة المؤتمر العالمي للأديان من أجل السلام) اضطلعتم بمسؤولية كبيرة لكنها سامية ومثيرة للإعجاب والاحترام والشكر والثناء، وأنتم مدعوون لتفعيل دورها في تأسيس هذه المبادئ العظيمة ونشر ثقافة المحبة والسلام والتآلف واحترام الآخرين لا ثقافة التطرف والتعصب والاحتراب الذي أهلك الحرث والنسل). (1)

ص: 371


1- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج 3، (الدين الإسلامي طريق السلام والسعادة) .

4- كلمته (دام ظله) التي ألقيت نيابة عنه في العاصمة الألمانية (برلين) بمناسبة عيد الغدير:

حيث ألقاها نيابة عنه أحد السادة الأفاضل في الحفل الذي أقامته ممثلية المرجعية الرشيدة بمناسبة عيد الغدير الأغر لسنة 1428- 2007م، وقد جاء فيها: (..يتحدث المسلمون بجميع طوائفهم عن ضرورة الوحدة ونبذ الخلاف ويعقدون المؤتمرات و الندوات والحوارات تحت هذا العنوان وتصرف الأموال الضخمة في هذا السبيل دون أن يتحقق تقدّم يذكر وربما ازدادوا بعداً عن بعضهم، فأين الخلل ولماذا هذا العجز عن الوصول إلى الحل؟ يدلّنا القرآن الكريم على ما تتحقق به الوحدة بين المسلمين فانه يقول: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِاللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) وقد وردت الروايات في تفسير الآية بأن حبل الله هو القرآن الكريم وولاية علي بن أبي طالب والأئمة المعصومين (سلام الله عليهم) من ذريته، وتشهد نفس الآية على هذا التفسير، لأنها ذكرت أن العرب كانوا أعداء متباغضين فوحدّهم الله تبارك وتعالى وجمع كلمتهم بنعمة الإسلام، وقد أشارت آية أخرى إلى أن تمام هذه النعمة ونظام عقدها ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) ، قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً) وقد روى المفسرون من الطائفتين أنها نزلت بعد تنصيب رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأخيه وابن عمه علي بن أبي طالب (علیه السلام) خليفة وولياً وهادياً للأمة بعده يوم الغدير بعد حجة الوداع. وإلى هذا أشارت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء في خطبتها في مسجد أبيها (صلی الله علیه و آله) : (فجعل إمامتنا نظاماً للملة، وطاعتنا أماناً من الفرقة) وولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) ليست قضية عاطفية تجاه شخصيته العظيمة ولا عقيدة نظرية نؤمن بها وإنما هي باب ينفتح منه ألف باب من الاعتقادات والأحكام والآداب تكون برنامجاً كاملاً في المعتقد والسلوك على صعيد الفرد والأمة. والأمة لم تقع فيما وقعت فيه من التخبّط والصراع والفتن المضلّة التي تسببت في إزهاق أرواح الأجيال بعد الأجيال من الأبرياء وخراب البلاد وانهيار الحضارة وعدم الاهتداء إلى الحق إلا بسبب عدم تمسكها بحبل الله المتين وصراطه

ص: 372

المستقيم وعروته الوثقى التي لا انفصام لها). (1)

5- الخطاب التأريخي الموجه للمشاركين في مؤتمر علماء الدين العراقيين من السُنة والشيعة في مكة:

اشارة

وجه المرجع اليعقوبي عبر وسائل الإعلام خطاباً للمشاركين في مؤتمر علماء الدين العراقيين من السنة والشيعة في مكة المكرمة قبل عقده بيوم واحد، وذلك تأييداً ودعماً منه (دام ظله) لهذا المؤتمر الذي أُطلق عليه مؤتمر (وثيقة مكة) ، والذي عُقد لأجل حقن الدماء التي تسفك جراء الفتن الطائفية التي تعصف بالبلاد، وكاد المؤتمر أن يفشل بسبب عدم تمثيل المرجعيات الدينية وعدم حضور العلماء من الصف الأول، ولكن التشجيع والدعم الذي حصل عليه الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي البروفيسور (أكمل الدين إحسان أوغلو) خلال اتصاله الهاتفي مع المرجع ووعد سماحته (دام ظله) بإنجاح المؤتمر بكل ما يتيسر له ومنها تأييد الوثيقة بهذا الخطاب القوي المحكم، كما بعث (دام ظله) وفداً رفيع المستوى للمشاركة في المؤتمر ووزع الوفد نسخاً من الخطاب على كل الحاضرين، وقد تلا مستشار الأمين العام فقرات مهمة من الخطاب على المشاركين في المؤتمر بعد التوقيع على الوثيقة، وفيما يلي نص هذا الخطاب المبارك:(إننا في العراق نشعر بجزيل الشكر والامتنان للسادة الذين عملوا بجد وإخلاص لتنظيم مؤتمر علماء الدين الإسلامي في مكة المكرمة من أجل حقن الدم العراقي الذي يسفك يومياً بلا مبرر، ولقد أبلغت شكري هذا إلى السيد الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي الذي اتصل بي هاتفيا من جدة يدعوني لحضور هذا التجمع المبارك ونقلت له حرص المرجعية الرشيدة في النجف الأشرف عاصمة العلم والفكر والسلام على إنجاح هذا المؤتمر، وأن يكون بداية النهاية لهذه الفتنة العمياء التي تعصف بالعراق.

أيها الأحبة: المجتمعون في أشرف بقعة عند بيت الله الحرام وفي أشرف زمان وهي العشر الأواخر من شهر رمضان التي تتضمن ليلة هي عند الله خير من ألف شهر، إننا وان كنا لم نحضر معكم بأبداننا إلا أن مشاعرنا وآمالنا متعلقة بكم وقد أرسلنا وفداً رفيع المستوى ليوقع على الوثيقة الصادرة عنكم، وقد اطلعت على كل بنودها فوجدتها جامعة

ص: 373


1- يُنظر خطابات المرحلة، ج5، ص252.

لخصال الخير والسلام والتسامح والاتفاق على بناء أسس الحياة الكريمة، لذا فاني ألزم جميع العراقيين بالعمل بما ورد في الوثيقة الموقع عليها ولا يجوز لأي أحد خرقها ومخالفتها ومن يفعل ذلك فانه ليس فقط يظلم نفسه وإنما يظلم أمته، ويجب على كل الدول التي لها تأثير في أحداث العراق أن تلتزم بها لأن الفتنة إذا وقعت –لا سامح الله- فإنها لا تقتصر على المباشرين لها، قال تعالى (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً) وهذا الحكم واجب الإتباع ليس فقط على أتباع المرجعية التي أصدرته وإنما على الجميع؛ لأن من الثابت فقهياً إن حكم الحاكم الشرعي لا يجوز نقضه حتى لمجتهد غيره،لقد بدأنا بمثل هذه الخطوة المباركة في محافظة البصرة قبل شهر رمضان المبارك وتنعّم بثمارها الطيبة كل أهل البصرة وشهد العدو والصديق بنجاحها في وقف العنف؛ لإيمان الجميع بضرورة الالتزام بها، ونحن اليوم مدعوون إلى تعميمها إلى كل أنحاء العراق.

إن الشعب العراقي بكل طوائفه وأعراقه يطلب من حملة السلاح تحت أي مبرر كان عدا القوات الرسمية المسؤولة عن بسط الأمن وسيادة القانون إلى إلقائه من حين التوقيع على هذه الوثيقة المباركة حتى نعطي الفرصة للحوار وحل كل العقد التي أدت بنا إلى هذا الحال، وقد كان عندي أمس السيد رئيس الوزراء وعبر بوضوح عن استعداده الكامل للتقدم في كل اتجاه يخرج العراق من محنته.

وإذا كان عندكم مانع من الحوار مع البعض لسبب أو لآخر فأنا بخدمتكم وقلبي وعقلي مفتوح لكم ولا يوجد عندي ما يوجب صدودكم، فأنا مسلم اشهد أن لا اله إلا الله وان محمد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وأنا عربي أصيل يرجع نسبي إلى قبيلة الأوس الأنصارية التي آوت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونصرته، وأنا عراقي ولدت أنا وآبائي وأجدادي في النجف الأشرف وعشت محنة شعبي في كل مراحلها ولم أغادر بلدي، وليس لأحد في الشرق ولا في الغرب تأثير علي ولا سلطان علي إلا الله تبارك وتعالى ولا اتبع إلا الحق، ومواقفي الوطنية مشهودةوآخرها الوقوف بحزم ضد كل مشاريع تفتيت العراق وتجزئته تحت مختلف المسمّيات، ويمكن التواصل معي مباشرة أو عبر الهاتف أو من خلال قنوات موثوقة وسأكون خير عون بلطف الله تبارك وتعالى لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، فاتركوا السلاح جانباً وأعطوا فرصة للحوار لا تقل عن شهرين لتجتمع كل الأطراف المعنية في موسم الحج المبارك وتدرس النتائج التي ستكون حتماً مباركة طيبة لأنها تحظى

ص: 374

برعاية الله عظمت آلاءُه، إنكم بالتزامكم جميعاً بهذه الوثيقة ستسحبون الذرائع من قوات الاحتلال التي تبرر وجودها بتردي الوضع الأمني، وتفشلون مشاريع تقسيم العراق التي تجعل العنف الطائفي سبباً وتصور التقسيم وكأنّه الحل الوحيد لإنهاء هذه الحالة.

أيها الإخوة في الله تعالى: إني أعلم وأنتم تعلمون أن العنف الذي يشهده العراق ليس طائفياً فقد عشنا في كل الأزمنة السابقة وحتى الآن سنة وشيعة متآخين متحابين، وإنما هو في الغالب سياسي ويتولى كِبَره سياسيون طامعون في السلطة والإثراء بغير حق (لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً) وإنما يلبسونه ثوب الطائفية ليعبّئوا لمعركتهم هذه من يسير على غير هدى، لذا لابد من الشروع فور البدء بالالتزام بوثيقة مكة المكرمة بإصلاحات سياسية جذرية، وقد تداولت مع عدد من الأخوة المسؤولين بأفكار مهمة في هذا المجال تجعل كل شيء قابلاً للنقاش إلا ما حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً في شريعة سيد المرسلين.

أيها الأحبة: إن الشعب العراقي متدين ومنصاع إلى علمائه وهذا من لطف الله تعالى بنا، فاستثمروا هذه الحالة لضبط حركته وتوجيهه نحو ما يصلح حاله، وإذا لم نقم بواجبنا هذا فنحن مسؤولون أمام الله تعالى عن هذا التقصير والخذلان (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) وأذكر الجميع بالحديث النبوي الشريف (صنفان إذا صلحا صلحت الأمة وإذا فسدا فسدت الأمة: العلماء والأمراء) إن العلماء ورثة الأنبياء وكان الأنبياء خصوصاً نبيّنا العظيم محمد (صلی الله علیه و آله) رحمة للعالمين فلنكن كذلك رسل رحمة وسلام لكل البشر وليس لطائفة دون أخرى أو قومية دون أخرى). (1)

وفيما يلي نص وثيقة مكة المكرمة المتفق عليه بين علماء العراق من السُنة والشيعة:

بناءً على ما آلت إليه الأوضاع في العراق، وما يجري فيه يومياً من إهدار للدماء وعدوان على الأموال والممتلكات تحت دعاوى تتلبس برداء الإسلام، والإسلام منها براء، وتلبية لدعوة الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وتحت مظلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع للمنظمة.. نحن علماء العراق من السنة والشيعة، اجتمعنا في مكة

ص: 375


1- خطاب المرحلة، ج4، (134) بعنوان: (الآمال معلقة بوثيقة مكة المكرمة لإنهاء العنف في العراق) .

المكرمة، في رمضان من عام 1427ه- وتداولنا في الشأن العراقي، وما يمر به أهله من محن ويعانونه من كوارث، وأصدرنا الوثيقة الآتي نصها:أولاً: المسلم هو من شهد أنه لا إله لا الله وأن محمداً رسول الله، وهو بهذه الشهادة يعصم دمه وماله وعرضه إلا بحقها وحسابه على الله. ويدخل في ذلك السنة والشيعة جميعاً، والقواسم المشتركة بين المذهبين أضعاف مواضع الاختلاف وأسبابه، والاختلاف بين المذهبين –أينما وجد - هو اختلاف نظر وتأويل وليس اختلافاً في أصول الإيمان، ولا في أركان الإسلام، ولا يجوز شرعاً لأحد من المذهبين أن يكفر أحداً من المذهب الآخر؛ لقول رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما) ، ولا يجوز شرعاً إدانة مذهب بسبب جرائم بعض أتباعه.

ثانياً: دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم عليهم حرام. قال الله تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما)، وقال النبي (صلی الله علیه و آله) : (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) ، وعليه فلا يجوز التعرض لمسلم شيعي أو سني بالقتل أو الإيذاء، أو الترويع أو العدوان على ماله أو التحريض على شيء من ذلك، أو إجباره على ترك بلده أو محل إقامته أو اختطافه أو أخذ رهائن من أهله بسبب عقيدته أو مذهبه، ومن يفعل ذلك برئت منه ذمة المسلمين كافة مراجعهم وعلماؤهم وعامتهم.

ثالثاً: لدور العبادة حرمة، وهي تشمل المساجد والحسينيات وأماكن عبادة غير المسلمين، فلا يجوز الاعتداء عليها أو مصادرتها أو اتخاذها ملاذاً للأعمال المخالفة للشرع، ويجب أن تبقى هذه الأماكن في أيدي أصحابها، وأن يعاد إليهم ما اغتصب منها وذلك كله عملاً بالقاعدة الفقهية المسلمة عند المذاهب كافة أن (الأوقاف على ما اشترطه أصحابها) وأن (شرط الواقف كنص الشارع) وقاعدة أن (المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً).

رابعاً: إن الجرائم المرتكبة على الهوية المذهبية كما يحدث في العراق هي من الفساد في الأرض الذي نهى الله عنه وحرمه في قوله تعالى: (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد)، وليس اعتناق مذهب، أياً ما كان،

ص: 376

مسوّغاً للقتل أو العدوان ولو ارتكب بعض أتباعه ما يوجب عقابه إذ (ولا تزر وازرة وزر أخرى).

خامساً: يجب الابتعاد عن إثارة الحساسيات والفوارق المذهبية والعرقية والجغرافية واللغوية، كما يجب الامتناع عن التنابز بالألقاب وإطلاق الصفات المسيئة من كل طرف على غيره، فقد وصف القرآن الكريم مثل هذه التصرفات بأنها فسوق قال تعالى: (ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون).

سادساً: ومما يجب التمسك به وعدم التفريط فيه، الوحدة والتلاحم والتعاون على البر والتقوى، وذلك يقتضي مواجهة كل محاولة لتمزيقها قال تعالى: (إنما المؤمنون إخوة)، وقال (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأناربكم فاتقون)، ومن مقتضى ذلك وجوب احتراز المسلمين جميعاً من محاولات إفساد ذات بينهم وشق صفوفهم وإحداث الفتن المفسدة لنفوس بعضهم على البعض الآخر.

سابعاً: المسلمون من السنة والشيعة عون للمظلوم ويد على الظالم، يعملون بقول الله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)، ومن أجل ذلك يجب العمل على إنهاء المظالم، وفي مقدمتها إطلاق سراح المختطفين الأبرياء والرهائن من المسلمين وغير المسلمين. وإرجاع المهجرين إلى أماكنهم الأصلية.

ثامناً: يذكّر العلماء الحكومة العراقية بواجبها في بسط الأمن وحماية الشعب العراقي وتوفير سبل الحياة الكريمة له بجميع فئاته وطوائفه، وإقامة العدل بين أبنائه، ومن أهم وسائل ذلك إطلاق سراح المعتقلين الأبرياء، وتقديم من تقوم بحقه أدلة جنائية إلى محاكمة عاجلة عادلة وتنفيذ حكمها، والإعمال الدقيق لمبدأ المساواة بين المواطنين.

تاسعاً: يؤيد العلماء من السنة والشيعة جميع الجهود والمبادرات الرامية إلى تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة في العراق عملا بقوله تعالى: (والصلح خير)، وبقوله (وتعاونوا على البر والتقوى).

عاشراً: المسلمون السنة والشيعة يقفون بهذا صفا واحدا للمحافظة على استقلال العراق، ووحدته وسلامة أراضيه، وتحقيق الإرادة الحرة لشعبه؛ ويساهمون في بناء

ص: 377

قدراتهم العسكرية والاقتصادية والسياسية، ويعملون من أجل إنهاء الاحتلال، واستعادة الدور الثقافي والحضاري والإسلامي والإنساني للعراق.

وبعد مرور عام على الاتفاق المبرم على هذه الوثيقة، تطرق المرجع اليعقوبي في إحدى خطب صلاة العيد للنتائج والأهداف من وراء إبرامها، وبيان مدى نجاحها، وكذلك الإشارة إلى بعض الأسباب التي أدت إلى عدم النجاح في القضاء التام على منابع الارهاب وحالة العنف في البلاد، حيث قال (دام ظله) : (مرَّ عامٌ كامل على توقيع وثيقة مكة المكرمة التي وصفناها في كلمتنا إلى المؤتمرين وعبر وسائل الإعلام بأن الآمال معلّقة عليها، ولم نكن نتوقع أن مثل هذه الخطوة تقضي على كل أشكال العنف الجاري على الأرض العراقية؛ لأن بعضه يرجع إلى دوافع إرهابية كالذي يقوم به التكفيريون، وبعضه ناشئ من أغراض إجرامية كالسرقة والقتل لعداوات شخصية والخطف للابتزاز ونحوها، ومثل هذه الأصناف لها حلولها الخاصة كتجفيف المنابع اللوجستية للإرهاب وإصلاح المنطلقات الفكرية التي يستند إليها وتقوية الأجهزة الأمنية والعسكرية لمحاربته وفرض سلطة الدولة والقانون لمكافحة الجريمة وغيرها.

وإنما كنّا نأمل بتلك الخطوة أن تعالج العنف السياسي الذي يوفّر المناخ المناسب لنشوء كل الأشكال الأخرى من العنف والكوارث، وأن تعالج جانباً من الإرهاب عُزِّز به فجاءت الوثيقة لتصحح مستندهالعقائدي، وقد تحققت تلك الآمال في الأسابيع الأولى من عمر الوثيقة حيث أفادت التقارير الأمنية في حينها أن انخفاضاً ملحوظاً في مستوى العنف قد تحقق قدّره بعض الخبراء في حينه بعشرين بالمئة وهو رقم طيّب يمكن تحقيقه خلال أسبوعين، ولكن ما لبثت تلك الآمال أن تلاشت وعادت دوّامة العنف تلفّ البلد وتزهق آلاف الأرواح البريئة وتهجّر مئات الآلاف وتخرِّب الممتلكات، فلماذا حصل هذا التراجع؟

ولست الآن بصدد تعداد كل الأسباب وتأثير الاحتلال والأجندات الإقليمية والدولية لأن هذه كلها على خطورتها يمكن تحجيم أثرها إذا توفرت لدى ساسة العراق الإرادة الصادقة لحل المشاكل وإنقاذ البلد وأهله؛ قال تعالى (إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا) ولكنني أريد أن أُنبِّه إلى سبب مهم أشرتُ إليه في نفس رسالتي إلى المؤتمر ويمثّل الخطوة الثانية من بناء عملية مصالحة حقيقية بعد الخطوة الأولى وهي التوقيع والتعهد

ص: 378

بالالتزام ببنود الوثيقة فقلت في حينها: (إن العنف الذي يشهده العراق ليس طائفياً فقد عشنا في كل الأزمنة السابقة وحتى الآن سُنَّةً وشيعةً متآخينَ متحابِّينَ وإنما هو في الغالب سياسي ويتولى كِبْرَهُ سياسيون طامعون في السلطة والإثراء بغير حق (لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً)، وإنما يلبسونه ثوب الطائفية ليعبّئوا لمعركتهم هذه مَن يسير على غير هدى، لذا لا بد من الشروع فور البدء بالالتزام بوثيقة مكة المكرمة بإصلاحات سياسية جذرية، وقد تداولت مع عدد من الأخوة المسؤولين بأفكار مهمة في هذا المجال تجعل كل شيء قابلاً للنقاش إلا ما حرَّمَ حلالاً أو أحلَّ حراماً في شريعة سيّد المرسلين) هذه هي الخطوة الثانية التي لم يقم بها السياسيون، وبقي الجميع متمسّكين بمواقعهم ومواقفهم). (1)

6- مؤتمر حوار الأديان في كوريا الجنوبية:

أقيم في العاصمة الكورية (سيؤول) مؤتمر يحمل عنوان (حوار الأديان) ، الذي أقامتةُ منظمة (HWpl) العالمية في كوريا الجنوبية، والذي يضم مختلف ممثلي الأديان والطوائف الدينية حيث كان عدد المشاركين في المؤتمر تجاوز (260) شخصية يمثلون مختلف الديانات من (40) دولة وقد وجه المؤتمر دعوه إلى سماحته فأنتدب أحد طلبة الحوزة الشريفة لكي يكون ممثل عنه في هذا المؤتمر، وكان ممثل سماحته الوحيد الذي يمثل المذهب الشيعي عموماً والنجف الاشرف خصوصاً،

وقد ألقى المندوب عنه كلمته الموسومة ب- (خلق ثقافة السلام في الاديان بالاعتماد على النصوص الدينية) والتي لاقت ترحيباً كبيراً من قِبل الحضور، وأبدوا اعجابهم واكبارهم للمعاني السامي والداعية للسلام المنبعثة من كلمته، والتي كشف فيها عن الرؤية والأفكار الإسلامية الاصيلة التي يحملها الدين الإسلامي عموماًوالمذهب الشريف والحوزة العملية في النجف الاشرف للبشرية جميعاً باعتبار الدين الاسلامي الحنيف خاتم الأديان ولكل البشرية وهو دين الرحمة والمحبة والسلام لا كما يصوره اعداء الاسلام وبعض المتشددين المحسوبين على الإسلام بأنه دين القتل والإرهاب لتشوية الصورة الحقيقية للإسلام المحمدي الأصيل. وقد صححت هذه الكلمة الأفكار والمفاهيم التي يحملها الحضور عن الإسلام وعلى إثرها تم توجيه العديد من الدعوات

ص: 379


1- خطاب المرحلة،ج5،رقم (173) ، خطبة صلاة عيد الفطر لعام 1428ه-، بعنوان: (العيد والمصالحة الحقيقية) .

الى المرجع اليعقوبي لأجل المشاركة في مؤتمرات دولية أخرى اعجاباً منهم بالفكر الإسلامي الانساني المعتدل الذي تحمله هذه المرجعية المباركة.

ص: 380

المرجع اليعقوبي والممارسات العملية لتأصيل مبدأ التعايش السلمي على أرض الواقع

اشارة

توجد العديد من الأنشطة الرسالية التي مارسها المرجع اليعقوبي بشكل عملي، ناهيك عن الجانب النظري الذي تطرقنا له آنفاً، لأجل تعزيز وجود حالة التعايش السلمي في المجتمع، لاسيما بعدما عصفت بالبلاد موجة من الفتن الطائفية، والاحتراب السياسي الذي راح ينفخ في نار هذه الفتن الداخلية، وقد أخذت هذه الأنشطة العملية للمرجعية الرشيدة، عدة أشكال وعدة اتجاهات مختلفة، نستعرض بعضاً منها فيما يلي:

أولاً/ حدّد (دام ظله) بعض المناسبات الدينية المباركة لكي يُحتفل بها عالمياً

ويهتدى بإحيائها وبذكراها، وهذا الشيء اعتاد عليه المجتمع الدولي في تأسيس المناسبات السنوية العالمية، كما أشار إليها (دام ظله) في حديث له، حيث قال: (توجد سيرة لدى المجتمع الدولي وهي جعل يوم عالمي لبعض القضايا التي تهم البشرية يكون محطة سنوية للمراجعة والتقييم لما بُذِلت من جهود ايجابية إزاء تلك القضايا ودراسة المعوقات وتشخيص المعالجات وإلفات نظر العالم إلى تلك القضايا، فجعلوا يوماً عالمياً لمكافحة الإيدز و يوماً للعمال وآخر للمرأة وآخر لمكافحة التدخين وآخر للبيئة وهكذا، وهذه آلية حسنة للمساهمة والتقدم في تخليص البشرية من المشاكل التي تعانيها وتفتك في كيانها، مع توفر إخلاص النية والسعي الجدي للمعالجة..) (1) ومن هذه المناسبات السنوية التي حددها المرجع اليعقوبي كأيام يُحتفل بها عالمياً والتي تخص موضوع كتابنا هذا:

1) توحيد كلمة المسلمين في ذكرى ولادة النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) حيث قال عن هذه المناسبة: (كنا من المبادرين لإعلان الأيام المتخللة بين الثاني عشر والسابع عشر من ربيع الأول المتشرفة بذكرى ولادة الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) أسبوعا للمؤاخاة تأسياً بسيرته

ص: 381


1- خطاب المرحلة، ج5، خطاب رقم (143) ، (يوم عرفة... اليوم العالمي للتوبة) .

الشريفة (صلی الله علیه و آله)) (1) فجعل (دام ظله) مورد الاختلاف في تحديد يوم ولادة نبي الإسلام (صلی الله علیه و آله) أسبوعاً للمؤاخاة وسبباً لتوحد كلمة المسلمين، لأن علماء اخواننا أهل السنة يرون أن تاريخ الميلاد النبوي يوم (12) ربيع الأول في حين يرى مشهور علماء الشيعة الإمامية إنه في يوم (17) منه.

2) أسبوع أمير المؤمنين (علیه السلام) اسبوعاً للنزاهة وللعدالة وللمساواة ولإنصاف المظلومين وهو من يوم (18 إلى25) من شهر ذي الحجة، وفي هذا الأسبوع أراد المرجع اليعقوبي أن يحقق حالة التعايش السلمي على أبعاد مختلفة، منها:

البُعد الطائفي: وذلك بتوحيد كلمة السنة والشيعة باختيار يوم عيد الغدير يوماً للوحدة الإسلامية.البُعد الإجتماعي: وذلك بلفت نظر المجتمع للمحتاجين والمعوزين بمناسبة ذكرى تصدق الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) بخاتمه وهو راكع.

البُعد السياسي: وذلك للحد من الفساد الإداري والمالي المستشري في أروقة الدولة، حيث ذكّرهم بنزاهة أمير المؤمنين (علیه السلام) وبعدالته في الحُكم، وانصافه للمحرومين.

وقد أعرب (دام ظله) عن هذه الحاجات الملحة بكلمة له تُبين بعض أهدافه من وراء سَنّ هذه المناسبات الشريفة كأيام عالمية أو إسلامية على أقل التقادير، ليحتفل بها الناس لمراجعة حساباتهم، ولتذكيرهم بمسؤولياتهم المناطة بهم. حيث قال (دام ظله) : (هذا الأسبوع الذي يبتدئ من عيد الغدير هو أسبوع أمير المؤمنين (علیه السلام) بامتياز - كما يقال- لكثرة ما حباه الله تبارك وتعالى من مناقب في هذا الأسبوع، ففي الثامن عشر كان حفل تنصيبه خليفة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وإماماً وهادياً للأمة بعده وأولى بالناس من أنفسهم وأمر النبي (صلی الله علیه و آله) المسلمين ببيعته (علیه السلام) على ذلك، وهو عيد إكمال الدين وإتمام النعمة. وفي الرابع والعشرين كانت مباهلة النبي (صلی الله علیه و آله) نصارى نجران بنفسه الشريفة وبأمير المؤمنين (علیه السلام) وبفاطمة الزهراء والحسن والحسين (عليهم الصلاة والسلام) ونزول آية المباهلة في حقهم. وفيه أيضاً أدخلهم النبي (صلی الله علیه و آله) تحت كسائه ونزل جبرئيل بآية التطهير. وفيه تصدّق أمير المؤمنين بخاتمه للسائل أثناء الركوع فنزلت آية (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ

ص: 382


1- خطابات المرحلة، ج4، (الصدق في الدعوة إلى الوحدة والمؤاخاة) .

وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) وفي الخامس والعشرين نزل في حقهم (عليهم الصلاة والسلام) سورة هل أتى لما تصدقوا بإفطارهم على المسكين واليتيم والأسير، وفي هذا الأسبوع بعد خمس وعشرين سنة بويع لأمير المؤمنين (علیه السلام) بالخلافة بإجماع الأمة بعد حصار عثمان في الثامن عشر ومقتله، وبذلك فقد شهد هذا الأسبوع البيعة الواقعية والظاهرية لأمير المؤمنين كي يتولى أمور الأمة. ولما كان هذا الأسبوع لأمير المؤمنين (علیه السلام) ، فإنه يكون اسبوعاً لكل ما كان يتصف به أمير المؤمنين (علیه السلام) من صفات الكمال، ولكل ما كان لعلّي (علیه السلام) من حقوق على الأمة، ولكل ما كان يمثله أمير المؤمنين (علیه السلام) من منازل ومواقع ومقامات، فهو أسبوع الولاية والإمامة والخلافة الإلهية والقيادة الربانية للأمة وللبشرية جمعاء، لذا اقترحتُ في يومٍ ما قبل سنين أن يكون اسبوعاً للنزاهة وللعدالة وللمساواة ولإنصاف المظلومين ولاسترداد ما نهب من المال العام وللقضاء على الفساد المالي والإداري وخلع المتصدين للمواقع بغير حق وتعيين المؤهّلين فيها، لأن هذه المعاني كلها وغيرها جسّدها أمير المؤمنين (علیه السلام) عندما تولى الخلافة). (1)

ثانياً/ السعي لتحقيق الإصلاح الوطني والتعايش السلمي في البصرة لتكون نموذجاً يُحتذى به:

بعد فشل الكثير من دعوات (المصالحة الوطنية) والمشاريع التي تسعى لإخراج العراق الجريح من أزمة الاحتقان الطائفي وما نتج عنه من مظاهر للعنف والإرهاب والتكفير، رأى المرجع اليعقوبي أن يبدأ مشروعاً لحل الأزمة في محافظة معينة ويهيئ أسباب نجاحه الذي إن تحقق فإنه يمكن توسيع دائرته إلى سائر محافظات العراق. وقد اختار (دام ظله) محافظة البصرة للبدء بها، فبعث وفداً للقاء محافظ البصرة ورئيس وأعضاء مجلس المحافظة والواجهات الدينية والسياسية والعشائرية فيها، ودعوتهم إلى تبني المشروع على أنه مشروعهم. كما بعث (دام ظله) بيد الوفد خطاباً ذكر فيه أسباب تلكؤ عملية المصالحة الوطنية ومبررات اختيار محافظة البصرة كأول ساحة لتنفيذه، ثم

ص: 383


1- يُنظر خطابات المرحلة، ج8، ص64.

حثّ المسؤولين على إنجاح المشروع وتهيئة المقدمات لذلك، وفيما يلي نص الخطاب الذي يحمل عنوان: (البصرة رائدة الإصلاح الوطني) :

(مع شكرنا لكل الجهود المخلصة والمساعي الحثيثة لإنقاذ العراق الجريح من معاناته التي يمر بها التي تدمي قلب كل غيور وشريف، إلا أن هذه الجهود لم تؤتِ النتائج المطلوبة لتعقيد الحالة، وتشابك المصالح، وتباين الإيديولوجيات وغياب الحس الوطني لدى الكثيرين، وطبيعة الاصطفافات الموجودة، وعدم صحّيّة الأجواء التي ترافق الحالة، فبدلاً من شعور الأطراف بأنهم أخوة وأبناء بلد واحد وهو العراق وركاب سفينة واحدة أن غرقت غرق الجميع وان سلمت سلم الجميع، تجدهم يتصرفون كفرقاء متخاصمين يريد كل منهم أن يقضم من مساحة الآخر اكبر ما يستطيع إلى غيرها من الأسباب التي تحتاج إلى دراسة مستقلة، لذا فأرى من الصحيح أن نبدأ بتأسيس نموذج للتعايش السلمي والوحدة الوطنية ونشر ثقافة احترام الآخر بكل خصوصياته وحقوقه في إحدى محافظات العراق والمؤمل نجاحه بفضل الله تبارك وتعالى وبالإعداد الجيد له، ومن ثم الانطلاق به إلى سائر المحافظات الأخرى بعد أن يقنع الجميع بنجاحه.

والبصرة الفيحاء نموذج صالح لقيادة هذا المشروع لوعي أهلها ووطنيتهم المشهود لها وحرصهم على تنظيف مدينتهم من كل مظاهر العنف والتخريب والاضطراب والإرباك والفساد، ورغبتهم أن يروا مدينتهم عاصمة اقتصادية ليس للعراق فحسب بل للخليج كله، ومن بؤر الاستقطاب الاقتصادي العالمي، وهي مؤهلة لممارسة هذا الدور بما يتوفر فيها من ثروات ومنافذ مائية وبرية وطرق جوية وخزين بشري أكاديمي متخصص ومهني وخبرات متراكمة، وما يتمتع به أبناؤها من أخلاق طيبة وخصال حميدة حببتهم إلى كل العراقيين بل أبناء المنطقة والعالم.

إن كل أبناء البصرة المسلمين سُنة وشيعة وغير المسلمين من كافة الطوائف والأعراق تواقون لهذا المشروع، وليس من مصلحة أحد عدم المساهمة فيه فضلاً عن معارضته، فالكل حريص على رؤية بصرة مستقرة آمنة مرفهة تتمتع في حقوقها المشروعة في ثرواتها وتستقطب كل الاستثمارات في العالم، ولا يوجد عاقل يحباستمرار حالة العنف وانفلات الأمن والجميع يذهب ضحيته، وإذا استمر الحال هكذا فإن الاحتمالات المتصورة كلها كارثية كتقسيم العراق أو إنشاء مناطق وجيوب طائفية وعرقية لا تقف

ص: 384

الحروب والنزاعات بينها، فهل يوجد من يفضل هذا على عراق موحد قوي مزدهر يتآخى فيه أبناؤه ويعيشون بمودة ووئام، كما أن من مصلحة قوى الاحتلال والدول الإقليمية ذلك وهي واهمة إذا ظنت أن حالة البلبلة والفوضى حتى المسيطر عليها أو البناءة ((1) كما يسمونها في العراق تخدمها، حتى وان بدا ذلك على المدى القريب فإنه عكس ذلك على المدى البعيد فلتنظر الخير لأنفسها.

حضرة السيد رئيس مجلس محافظة البصرة المحترم

حضرة السيد محافظ البصرة المحترم

حضرات السادة أعضاء مجلس محافظة البصرة الموقرين

حضرات السادة ممثلي المرجعيات والطوائف الدينية والأحزاب السياسية والكيانات الاجتماعية

حضرات السادة رؤساء العشائر ووجهاء محافظة البصرة

حضرات السادة ممثلي الدول العربية والإسلامية والأجنبية في البصرة

إنكم أولى من يحمل هذه الأمانة ويشمّر عن ساعد الجد لإنجاح هذا المشروع مستفيدين من أجواء الصفاء والنقاء والتسامح والأخوة التي يشيعها شهر رمضان المبارك.

وقد هيأت المرجعية الرشيدة الأرضية لنجاح مشروعكم، حينما حرّمت على غير الجهات الرسمية القتل وأعمال العنف حتى على مستحقه بسبب إفضائه إلى اختلال النظام الاجتماعي العام، وهو من اكبر المخاطر التي يريد الشارع المقدس دفعها وإيكال أمر محاسبتهم ومعاقبتهم إلى الجهات التنفيذية والقضائية، وهذا حكم نافذ على الجميع مهما تنوعت مرجعياتهم وطوائفهم لعدم جواز نقض حكم الحاكم الشرعي حتى لمجتهد غيره، كما أن وثيقة (إسناد القانون في البصرة) التي وقّعتها كل الأحزاب والشخصيات الفاعلة في البصرة تصلح ورقة أولية لانطلاق هذا المشروع المبارك، إن الآمال المعقودة على مساعيكم المباركة، وإن كل بسمة تعود إلى شفتي مظلوم أو محروم أو مضطهد أو خائف لهي حسنة تثقل بها موازينكم وإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً وإن كل

ص: 385


1- (1) إشارة إلى مشروع (الفوضى الخلاّقة أو البنّاءة) الذي دعت إليه وزيرة الخارجية الأمريكية (كوندوليزا رايس) وسعت إلى تنفيذها في العراق والمنطقة.

مشروع ايجابي تؤسسونه وتعملون على إنجاحه إنما هي صدقة جارية يأتيكم أجرها بعدد من ينتفع منها (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ). (1)وبحمد الله تعالى وفضله فقد نجحت هذه المبادرة الكريمة التي سعت إلى تحقيقها المرجعية الرشيدة ولاقت تجاوباً واسعاً من مختلف الجهات السياسية والدينية والاجتماعية بالإضافة إلى تفاعل أبناء المرجعية الرشيدة وجهودهم المبذولة لإنجاح هذا المشروع الإنساني، لكن بعض الأطراف - للأسف الشديد - ترى في نجاح المرجعية وأذرعها الفاعلة في المجتمع تهديداً لمصالحها، فأصبح همها إفشال عمل أبناء هذا الخط الشريف ولو كان على حساب البصرة وأهلها، فسارعوا إلى اتخاذ قرارات عملية مستغلين هيمنتهم على الحكومة المركزية فسحبوا الصلاحيات الأمنية من محافظة البصرة وشكّلوا لجنة أمنية هزيلة سمحت للعصابات المسلحة التي تخدم أجندات أجنبية بالعبث بأمن البصرة فقامت باغتيالات شملت الأطباء والأساتذة الجامعيين والنساء وعلماء الدين والكسبة، ثم فرضت الإتاوات على الناس وتدخلت في عمل مؤسسات الدولة وسيطرت على الموانئ والكمارك والنفط وغيرها من المصالح الوطنية، وإلصاق التهم وإشاعة الأكاذيب لتسقيط مرجعية سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) وأتباعه وإحباط تقدمهم وكذبوا بقوة حتى صدّقهم الكثير من الناس للأسف الشديد.

ومع ذلك فقد عبّر سماحته (دام ظله) عن نجاح هذا المشروع بكلمة حملت عنوان (تجربة البصرة في المصالحة الوطنية والازدهار مراجعة وتقييم) بالرغم كل محاولات التضليل والتشوية وقلب الحقائق التي مارسها المناؤون لخط المرجعية الرشيدة: (..هاهي تجربة إدارة محافظة البصرة تثبت نجاحاً عجز عن تحقيقه الآخرون في محافظات لا تقاس بالبصرة من حيث تعقيد الحالة وكثرة التدخلات والتنوع الطائفي والديني والعرقي وكثرة المنافذ والثغور وشدة الأطماع من الداخل والخارج، وقد حاول الآخرون أن يشوهوا هذه التجربة ويفتروا عليها وسخّروا الإعلام لقلب الحقائق لكنهم باؤوا بالفشل وعاد الجميع ليعترف بنجاح التجربة في البصرة وقدرتها على أن تكون نموذجاً صالحاً للتعايش السلمي والتصالح الوطني والرقي والازدهار والانفتاح على العالم كله وهو ما توقعناه حينما أطلقنا مبادرة المصالحة الوطنية من البصرة لتعلِّم العاجزين الفاشلين في مراكز

ص: 386


1- خطابات المرحلة، ج4، خطاب: (البصرة رائدة الإصلاح الوطني) .

القرار كيف يتصرفون ليخرجوا العراق من أزمته الخانقة إذا كانت لهم إرادة حقيقية في الصلاح والإصلاح). (1)

ثالثاً/ الدعوة إلى تشكيل مجلس الأعيان والحكماء وفق تقنين دستوري:

حث (دام ظله) حكماء المجتمع وزعماء العشائر وأعيان البلد على التحرك والمشاركة في حل المشاكل ومعالجة القضايا المهمة، على أن يكون ذلك وفق تقنين دستوري كتشكيل مجلس للأعيان أو الحكماءيضمّهم جميعاً. وعند لقاء سماحته بجمع من شيوخ ووجوه العشائر من السُنة والشيعة، قال: (إن هذا المجلس يُمكن أن يأخذ دوره الفاعل في عدة قضايا:

حل النزاعات والصراعات التي تحصل بين العشائر كالذي حصل مؤخرا في شمال البصرة وادى الى مقتل وجرح العديد من الاشخاص وترويع المدنيين والابرياء وانقطاع ارزاق المئات من الناس وفصل عدد كبير من الموظفين وطلبة الجامعات لعدم قدرتهم على الدوام وغير ذلك من التداعيات.

المشاركة في تعبئة المقاتلين لصد الارهاب ودحره وحماية النفوس والاعراض والممتلكات من الفساد والتخريب.

بذل الجهود في اقناع الكثير من الشباب الذي تورطوا في الانضمام الى الجماعات الارهابية بسبب غسيل الدماغ الذي تعرضوا له والحرمان الذي يعيشونه فيقوم المجلس بترشيدهم وكفالتهم واعادة دمجهم في المجتمع والسعي لإيجاد حياة كريمة لهم.

حفظ وحدة المجتمع وتماسكه وردم الفجوات التي يصنعها البعض لمصالح يراها، ولأن الكثير من العشائر تضم تنوعاً طائفياً داخلها وعلاقات المصاهرة وروابط اجتماعية فيما بينها على تمام مساحة العراق فإنها أقدر من ألف مؤتمر للمصالحة الوطنية على حفظ هذه الوحدة وإعادة كلمة الاخوّة لأبناء الوطن الواحد، ولدينا نموذج صالح على ذلك في التعاون الصادق بين اهالي بلد والضلوعية مما جعلهم قادرين على مقاومة كل هجمات الارهابيين الشرسة على الضلوعية طيلة ستة اشهر حتى قضوا عليها تمام بفضل الله تبارك وتعالى.

ص: 387


1- خطابات المرحلة، ج5، ص81.

بث الروح الوطنية ومقاومة مشاريع التقسيم والتفتيت التي ينادي بها البعض في داخل العراق وخارجه، وان انتشار العشائر على تمام محافظات العراق كفيل بحفظ وحدة العراق والشعور بالهوية الوطنية.

ممارسة الدور الرقابي على أداء السياسيين وسائر موظفي الدولة باعتبارهم سلطة خامسة يستطيعون من خلالها خلق رأي عام وموقف موحد لتصحيح الفساد والانحراف وفضح المسيئين، وحينئذٍ سنستطيع الحد من الفساد الذي خرّب مؤسسات الدولة وأهدر المال العام وأضاع مصالح البلاد.

إيصال صوت المحرومين والمظلومين واصحاب الحقوق من عامة الشعب الذين لا يستطيعون ايصال صوتهم ولا يصغي اليهم احد من المسؤولين.إن هذه الاعمال التي يؤديها المجلس وغيرها تُجعل في نظامه الداخلي كوظائف له وكأغراض موجبة لتأسيسه، وأعتقد إنها كافية لإقناع الجميع بضرورة قيام هذا المجلس ونترك للمعنيين مهمة وضع التفاصيل). (1)

وبعد مرور شهر تقريباً من الدعوة إلى هذه المبادرة، جدّد سماحته عند استقباله لعدد من زعماء بعض العشائر تأكيده على ضرورة تأسيس هذا المجلس حتى إلى ما بعد دحر الإرهاب وتحسن الوضع الأمني، لأجل القيام بالوظائف المذكورة آنفاً، لأن هذه الأهداف تستحق بذل جهود عظيمة لإنجاح هذا المشروع. كما رحَّب سماحته بتبني عدد من القيادات السياسية البارزة في البلد لهذا المشروع وإجراء محادثات جدّية حوله. (2)

رابعاً/ الدعوة إلى تفكيك الائتلافات والتحالفات على أسس طائفية أو عرقية والسماح بتحالف الأحزاب والقوى السياسية على أُسس وطنية ومهنية:

عندما سُئل (دام ظله) من قِبل مدير مكتب (صحيفة نيوزويك) الأمريكية عن أمكانية تفادي الحرب الأهلية، بشكل عملي، أجاب وبشكل تفصيلي قائلاً: (نعم يمكن تفادي الحرب الأهلية بالقضاء على أسبابها ومناشئها، وذلك من خلال عدة خطوات:

ص: 388


1- ينظر صحيفة الصادقين، العدد (151) .
2- ينظر المصدر نفسه.

أ- توفر القناعة لدى المحرضين عليها و الداعمين لها من الأطراف الداخلية والخارجية بعدم جدواها و إنها تعود بالضرر عليهم (وَلا يَحِيقُ المَكرُ السَيّئُ إلا بِأَهلِهِ) وأن ما يريدون تحقيقه - إنْ كان حقا وعدلا - فإنهم سينالونه بالحوار والعملية السياسية والمطالبة المستندة إلى الحجة والدليل، فإذا توفرت هذه القناعة وحصلت الإرادة الجدية لحل المشكلة فإنها ستحل فوراً، أما الصيحات والدعوات التي نسمعها هنا وهناك فإنها منافقة وغير صادقة ولا مبتنية على أسس صحيحة و إنما يريد كل طرف تكريس مصالحه والتمدد على حساب الآخرين أزيد ما يمكن.

ب- نبذ الخطاب الطائفي و القومي و الأناني و الفئوي و التحول إلى خطاب أنساني يتسامى عن هذه النظرات الضيقة و أن يتقوا الله في هذه الأمة فقد اهلكوا العباد وخربوا البلاد.

ج-- قيام الخطباء والعلماء والمثقفين و أئمة المساجد وصانعي الرأي العام من إعلاميين و كتاب بخلق حالة عامة من الوعي ضد التطرف والتشنج و التعصب والعنف والطائفية ونحوها من أسباب الفتنة.

د- إنهاء حالة الاحتلال واقتصار الجهد الدولي على المساعدة بالمقدار الذي يحتاجه العراقيون من دول العالم، فإن العراق بحاجة أكيدة إلى المساعدة لكي يداوي جراحه ويعمر بيته و يبني مؤسساته وينهض منالكارثة التي حلت به منذ عقود ويقف على قدميه من جديد ويجاري الدول المتحضرة، وهو قادر على الوصول إلى هذه المرحلة بسرعة لتوفر عناصر القوة و الازدهار والتقدم والثروة عنده.

ه-- إجراء إصلاحات سياسية جذرية و إعادة النظر في جملة من القرارات الخاطئة التي اتخذت (ومن) هذه الإصلاحات:

1- تفكيك الائتلافات والتحالفات على أسس طائفية أو عرقية والسماح بتحالف الأحزاب والقوى السياسية على أساس البرامج السياسية لإنهاء حالة التخندق الطائفي.

2- إجراء انتخابات برلمانية تكميلية أو تعديلية كل سنتين في هذه المرحلة الانتقالية من تاريخ العراق لتسارع التغيرات و التحولات فيكون من الضروري امتصاص احتقان الذين لم تتوفر لهم فرصة المشاركة في البرلمان لسبب أو لآخر، لأن جزءاً من التوجه

ص: 389

لحمل السلاح بسبب هذا الابتعاد الذي كان قسرياً في بعض الأحيان فتستثمر التحولات السياسية لإعادة الفرصة إليهم من جديد.

3- إعطاء دور للأحزاب والقوى التي تتبنى المعارضة الايجابية البناءة لا يقل عن دور المشاركين في الحكومة من خلال المؤسسات الرقابية كهيئة النزاهة وديوان التفتيش العام و ديوان الرقابة المالية و نحوها وهي مؤسسات بدرجة وزارة يمكن أن تقنع هذه الأحزاب المعارضة وتسحبها من تبني المواجهة المسلحة، وقد ذكرت جدوى ومبررات هذا المقترح وآلياته التفصيلية في خطاب صدر أخيراً من سلسلة خطاب المرحلة وهو منشور وتوجد مقترحات أخرى سأبينها بأذن الله تعالى عندما تتحقق الإرادة الجدية للحل). (1)

وقد حظيت فكرة (تفكيك الائتلافات والتحالفات على أسس طائفية أو عرقية) باهتمام واسع من لدن الإعلاميين والمُحللين والسياسيين وأثارت جدلاً وحوارات عبر الفضائيات استمرت عدة أسابيع بشكل لم يسبق لحدث أو فكرة أن ينال مثله وترك أثره الكبير حيث وجد حِراكاً سياسياً فاعلاً وانفصلت عدة كتل صغيرة من الكتل الكبيرة ومهدت للقضاء على الاقتتال الطائفي الناتج من التخندق الطائفي.

خامساً/ دعوة المرجعية الرشيدة لعلماء أهل السُنة بفتح باب الاجتهاد:

جدّد سماحته دعوته لعلماء أهل السُنة بفتح باب الاجتهاد كواحدة من آليات تحقيق الوحدة بين المسلمين، وقال (دام ظله) معللاً ذلك: (..لأن ممارسة عملية استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها الأصلية أعني القران الكريم والسنة الشريفة سيكشف للعلماء أن النصوص التي تستند إليها كلا المدرستين متطابقة وإنما نشأت الخلافات من تراكم التأويلات والتأثيرات السياسية وغيرها، وقد وجدت لدى مراجعتي لأقوال أئمة المذاهب وأدلتهم أن نسبة كبيرة من النصوص موجودة بنفسها لدى الفريقين، وأعتقد بوجود ثلة من كبار العلماءالمؤهلين لممارسة هذا الدور كالأستاذ الدكتور (وهبه

ص: 390


1- خطابات المرحلة، ج5، رقم الخطاب (140) .

الزحيلي) (1) الذي أعرفه من خلال كتابه (الفقه الإسلامي وأدلته) ويكون التأسيس بأن يمنح مجتهدو الشيعة إجازة الاجتهاد للمؤهلين لها من علماء السُنة، وبعد هذه الخطوة التأسيسية يكون العلماء المجتهدون من أهل السنة هم الذين يمنحونها لمن يستحقها). (2) كما دعا سماحته لهذا الأمر وعبر اتصال هاتفي مطول أحد علماء إخواننا أبناء السُنة في فلسطين، وهو (الشيخ محمود عبد العزيز جوده) المقيم في غزة ومن المهتمين بالتقريب بين المسلمين، وحثه (دام ظله) على أن يتخذ خطوتين على الطريق الصحيح لأجل التقريب بين المذاهب الإسلامية:

الأولى: فتح باب الاجتهاد لاستخراج الأحكام الشرعية من مصادرها الأصلية وهي الكتاب والسنة الشريفة لأنهما المصدران للتشريع أما كلمات الفقهاء فمع إجلالنا إلا أنها تمثل فهمهم وما بلغه نظرهم في الدليل الشرعي وان الأدوات المتوفرة لدى الأجيال اللاحقة أعظم من السابقين تبعاً لتطور العلوم وتعميقها ثم أن الحوادث متجددة ومتنوعة وإن كثيراً منها لم يتعرض لها السلف الصالح.

ص: 391


1- هو الشيخ وهبه بن مصطفى الزحيلي، أحد أبرز علماء أهل السنة والجماعة في العصر الحديث، وهو عضو المجامع الفقهية بصفة خبير في مكة وجدة والهند وأمريكا والسودان. ورئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه بجامعة دمشق، كلية الشريعة. حصل على جائزة أفضل شخصية إسلامية في حفل استقبال السنة الهجرية التي أقامته الحكومة الماليزية سنة 2008م في مدينة بوتراجايا. ولد في ريف دمشق عام 1932م، درس الابتدائية في بلد الميلاد في سوريا، ثم المرحلة الثانوية في الكلية الشرعية في دمشق مدة ست سنوات وكان ترتيبه الامتياز والأول على جميع حملة الثانوية الشرعية عام 1952 وحصل فيها على الثانوية العامة الفرع الأدبي أيضاً. وقد تابع الشيخ الزحيلي تحصيله العلمي في كلية الشريعة بالأزهر الشريف، فحصل على الشهادة العالية وكان ترتيبه فيها الأول عام 1956 ثم حصل على إجازة تخصص التدريس من كلية اللغة العربية بالأزهر، وصارت شهادته العالمية مع إجازة التدريس. درس أثناء ذلك علوم الحقوق وحصل على ليسانس الحقوق من جامعة عين شمس بتقدير جيد عام 1957. نال دبلوم معهد الشريعة الماجستير عام 1959م من كلية الحقوق بجامعة القاهرة، حصل على شهادة الدكتوراه في الحقوق (الشريعة الإسلامية) عام 1963 بمرتبة الشرف الأولى مع توصية بتبادل الرسالة مع الجامعات الأجنبية، وموضوع الأطروحة (آثار الحرب في الفقه الإسلامي، دراسة مقارنة بين المذاهب الثمانية والقانون الدولي العام) ، علماً إنه من ضمن العلماء الذين وقعوا على وثيقة مكة المكرمة ودعموها. يُنظر موسوعة ويكيبيديا الإلكترونية، بتصرف.
2- يُنظر صحيفة الصادقين، العدد (63) .

الثاني: عدم تسييس الدين وامتناع الفقهاء من السير في ركاب السلطة وإضفاء الشرعية على تصرفاتها المبنية على المصالح الدنيوية الضيقة وهي متقاطعة بين متسلط وآخر مما يولد نفوراً من الدين وتعارضاً بينمواقف العلماء وتصل إلى التشاجر والقتال، ولو تسامى الفقهاء عن حب الدنيا وعملوا مخلصين لله تبارك وتعالى وتكون علاقتهم بالحكام من أجل التوجيه والإرشاد والموعظة وتصحيح المسيرة وإصلاح الخط والفساد وتقديم المشورة وهذا الشرط أساسي في مراجع الشيعة وسموه (بالعدالة).

ثم أردف سماحته قائلاً: ولتحقيق هاتين الخطوتين يتطلب الأمر إجراء تعديلات في مناهج دراسة العلوم الدينية لتنتج مجتهدين، وأن تؤسس هذه الحواضن للدراسات الدينية بعيداً عن تدخل السلطات الحاكمة كالحوزات العلمية الشيعية المستقلة عبر أكثر من ألف عام عن تدخل الحكومات، وأأمل أن يمنّ الله تبارك وتعالى على بغداد الحبيبة بالأمن والاستقرار والاستقلال والحرية لتكون هي الحاضنة لهذا الصرح العلمي العظيم كما كانت في عصورها المزدهرة، فقد كانت للشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي كما كانت لأبي حنيفة والشيباني والغزالي والكيلاني). (1) وقد جدّد سماحته هذه الدعوة عدة مرات من خلال خطاباته المباركة (2)

، وذلك لأهمية هذا الموضوع، لأن فتح باب الاجتهاد يمنع من تأويل آيات القرآن الكريم وتفسيرها حسب الأهواء والمشتهيات الشخصية، التي بسببها سُفكت الدماء المحرمة واُهلك الحرث والنسل.

سادساً/ مساعي المرجعية الرشيدة في خلق حالة من التعايش السلمي السياسي بين الأحزاب الحاكمة:

ونذكر على صعيد النجاحات التي حققتها المرجعية الرشيدة في ميدان التعايش السلمي السياسي، بعض الانجازات التي كان لها أثر واضح في ترسيخ مبدأ التعايش السلمي في بُعده السياسي، نذكر منها على سبيل المثال:

أ) أمر المرجع اليعقوبي (دكتور نديم الجابري) بسحب ترشيحه لرئاسة الوزراء حفاظاً على المصلحة العامة:

ص: 392


1- يُنظر خطابات المرحلة، ج5، ص124. وخطاب المرحلة، رقم (159) .
2- راجع خطاب المرحلة رقم (169) ، ورقم (183) .

بعدما أِذن المرجع اليعقوبي للدكتور نديم الجابري الأمين العام لحزب الفضيلة الإسلامي بالترشيح لمنصب رئاسة الوزراء داخل كتلة الائتلاف العراقي الموحد، لأجل التخفيف من الاحتقانات والاختناقات الناتجة بسبب الصراع الشديد الذي حصل بين مرشحي الدعوة والمجلس الأعلى، اتحدت كتل الائتلاف لتسقيط شخصية الدكتور الجابري وتشويه صورته وإلصاق التهم الكاذبة بحزب الفضيلة الإسلامي ثم أطلقوا التهديدات بالتصفية والاستئصال؛ لأنهم يعتقدون أن الأمر يجب أن لا يخرج من دائرتهم، ولما كشف القوم عن خباياهم وعلم المرجع اليعقوبي أنهم يرفضون بشكل قاطع ترشيح الدكتور الجابري أمره المرجع اليعقوبي بسحب ترشيحه، إلا أنه ونتيجة قناعته التامة بجدوى المشروع في حل جملة من مشاكل البلاد ووسط تأييدعدة كتل نيابية خارج الائتلاف خطط لانسحاب حزب الفضيلة الإسلامي من كتلة الائتلاف وانضمام الكتل الأخرى إليه وهو ما يحقق له أغلبية في البرلمان تمكنه من تشكيل حكومة، إلا أن سماحة الشيخ كان يرى أن الظروف لا تسمح بهكذا مشروع فيه إضعاف للائتلاف الشيعي فلم يجد بُدّاً من إقالة الأمين العام للحزب حرصاً على وحدة وقوة الائتلاف الشيعي الذي لم يُقدِّر هذا الموقف واستمر في حربه الظالمة التي طالت المرجعية الرشيدة وأبناءها. (1)

ب) كما أصدر (دام ظله) بياناً مهماً يخص التغيرات التي حصلت في قيادات حزب الفضيلة الإسلامي، وأراد من خلال البيان والتغيرات أن يوصل رسائل مهمة لعدة أطراف. وبالفعل فهمت هذه الأطراف رسائل المرجعية الرشيدة وآتت ثمارها بشكل جيد. وقد صرّح المرجع اليعقوبي بأسماء هذه الجهات التي قصدها بتوجيه البيان لها قائلاً: (وأول الجهات الولايات المتحدة التي حذرناها من اللعب بنار الطائفية والحرب الأهلية من خلال تصريحات سفيرها وبعض المواقف العملية غير الحكيمة، وقد استوعبت الإدارة الأمريكية الرسالة ووبخت سفيرها على تصريحاته ومنعته من الإدلاء بمثلها ولا شك إنكم لاحظتم صمته طيلة الأسابيع الثلاثة الماضية رغم سخونة حركة العملية السياسية وأنذرتْه بالعزل إذا عاد إلى مثلها.

وثاني الرسائل إلى المرجعيات الأخرى حتى تكون أكثر حزماً مع السياسيين وتتخذ

ص: 393


1- يُنظر خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج4، (ثمرات تلاحم الجماهير المؤمنة والمرجعية الرشيدة) .

قرارات شجاعة إذا لم يعملوا بجدّ على إنقاذ الأمة وإصلاح حالها ومعالجة مشاكلها واكتفوا بحساب مصالحهم الشخصية والفئوية، وقد تحركت المرجعية فوراً ودعت القادة السياسيين إلى التخلي عن بعض مواقعهم من أجل حلحلة الأمور وتحريك العملية السياسية إلى الإمام ومارست تدخلاً مشكوراً لتحقيق هذه النتيجة.

وثالث الرسائل إلى مكونات الائتلاف الذين أحاطوا إخوانكم من أبناء الفضيلة بكثير من الشك وسوء الظن بل إن بعضهم أصدر البيانات للتسقيط وتشويه السمعة، فأثبتنا أن أبناء الفضيلة منضبطون بالمرجعية وهي التي تحاول تصحيح المسيرة إذا حصل شيء مما يخافون منه.

ورابع الرسائل دعوة إلى المتصدين كي يؤثروا مصلحة الأمة على كل مكاسب شخصية وفئوية مهما كانت كبيرة على الأرض وقد رأيتم بعدها كيف توالت الانسحابات وحُلَّت مشكلة تسمية الرئاسات الثلاث التي امتدت ثلاثة أشهر في جلسة برلمانية واحدة استمرت ثلاث ساعات.

وخامس الرسائل إلى الكتل السياسية المقابلة للائتلاف التي تلعب على حبال تعدد المرشحين لتمارس المزيد من الابتزاز وبهذا القرار دخل اليأس عليها وأسقط ما في أيديها وأذعنت لقرار الائتلاف، كما شعر الائتلاف بالقوة والعزة التي استمدها من عزة وقوة القرار وتوقفت التداعيات المهينة من تشكيل المجلس السياسيللأمن الوطني، إلى تسليم الملف الأمني إلى نائب رئيس الوزراء وإفراغ منصب رئيس الوزراء من كل محتوى رغم أنه بحسب الدستور أهم منصب في الدولة، هذا بعض ما تحقق بفضل الله تبارك وتعالى ومن حق الأمة أن تفخر بإنجازاتها حيث تسعى إلى تجسيد الحديث الشريف: (ما تقدست أمة لا يأخذ ضعيفها حقه غير متعتع). والحمد لله وحده فهو مبدئ النعم ومعيدها). (1)

ج) المرجعية الرشيدة تأمر حزب الفضيلة من الانسحاب من تشكيلة الحكومة لتعطيهم درساً مبدأ التعايش السياسي السلمي:

لقد شرح المرجع اليعقوبي سبب انسحاب أبناء الفضيلة من تشكيلة الحكومة بأنها تعود إلى السياسة الأنانية التي تدير بها بعض الجهات حركة الائتلاف وحولته بذلك إلى أداة لتمرير مصالحها الشخصية من دون النظر إلى مصالح الأمة والبلد وأصبح معيار

ص: 394


1- يُنظر خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج4، (ثمرات تلاحم الجماهير المؤمنة والمرجعية الرشيدة) .

اختيار الوزير هو تحقيق هذه المنافع الشخصية واستفادت من نفوذها السياسي لفرض هيمنتها على قرار الائتلاف بعيداً عن الاستحقاقات والشراكة في الرأي التي يفترض أنها من أُسس تشكيل الائتلاف. وبذلك فقد رفضت المرجعية الرشيدة الرسالية إن تكون مظلة شرعية لهذه السياسة أو جزءا منها، لكنها دعت بنفس الوقت أبناء الفضيلة إلى أن يساهموا مساهمة فعالة في بناء الدولة العراقية الجديدة، من خلال شغل المواقع المختلفة فيها لأنهم الاجدر ببناء العراق الحر الكريم المزدهر لما يتمتعون به من نزاهة وكفاءة وإخلاص، وطالبهم بالتفريق بين الحكومة التي تتغير وبين الدولة الباقية بمؤسساتها ومرافقها والتي هدفها الأساسي خدمة الإنسان وتوفير حقوقه الأساسية وبناء البلد المزدهر الحر. (1)

وبذلك علّمت المرجعية الرشيدة هؤلاء المستأثرين درساً في السمو والنبل حين أمرت أبناء الفضيلة بالانسحاب من تشكيلة الحكومة لتريهم أن ما يتصارعون عليه هو وهم زائل وسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءاً ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تسفك الدماء وتخرب البلاد وتهجّر العوائل الآمنة وتعطل الحياة من أجلها، ورغم انسحابهم فقد أمرتهم المرجعية بالتصويت ب- (نعم) في البرلمان عند التصويت على نيل الحكومة ثقة البرلمان لإعطائها الفرصة حتى تعمل كل ما يصلح حال الشعب ويبني البلد.(2)ومضافاً إلى هذا كان بيان انسحاب حزب الفضيلة الإسلامي مهذّباً وواعياً وبعيداً عن إثارة كل هذه التظلمات والشكاوى، حرصاً على سمعة الائتلاف وكرامته وركز على مبرّره الرئيسي وهو تأسيس مشروع وطني لإنقاذ العراق وشعبه وإخراجه من أزمته.(3)

ص: 395


1- يُنظر خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج4، (الانسحاب من الحكومة لا يعني الانسحاب من الدولة) .
2- يُنظر خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج5، خطاب رقم (145) (استئثار السلطة والعنف السياسي).
3- يُنظر خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج5، رقم (153) ، (المرجعية الشاهدة تدين ردود أفعال كتلة الائتلاف)

سابعاً/ وضع الحلول لمعالجة مشكلة الإرهاب والعنف الطائفي:

طرح المرجع اليعقوبي ومنذ الأيام الأولى لعمر الاحتلال العديد من العلاجات العملية لمشكلة الإرهاب في العراق، كالدعوة إلى تجفيف منابعه اللوجستية وتفعيل دور العشائر وإصلاح المنطلقات الفكرية التي يستند إليها الإرهابيون والتكفيريون، وتقوية الأجهزة الأمنية والعسكرية ودعمها لمحاربته، وفرض سلطة الدولة والقانون لمكافحة الجريمة وإنجاح المؤتمرات التي تساهم في تخفيف الاحتقان الطائفي وغير ذلك. وفيما يأتي نستعرض بعضاً من هذه النشاطات الرسالية للمرجع اليعقوبي في هذا الباب:

أ/ المطالبة بتفعيل دور العشائر للقضاء على الإرهاب والعنف الطائفي:

دعا المرجع اليعقوبي مراراً إلى ضرورة فسح المجال أمام أبناء العشائر المخلصين والغيارى، لأجل القضاء على حالة العنف الطائفي، والحد من الجرائم التي ترتكب بحق الشعب العراقي، وزعزعت حالة الأمن والتعايش السلمي فيه. كما أشار إلى المسبب الرئيسي في إقصاء هذه الشريحة المهمة من المجتمع عن العملية السياسية والوطنية، حيث قال (دام ظله) : (جاءت الأحزاب اليوم لتمعن في ظلم العشائر وحرمانها فبالرغم من أنها وصلت إلى مواقع الحكم بأصوات أبناء العشائر، إلا أن الأحزاب استأثرت بالمغانم ولم تعط للطليعة والنخب من أبناء العشائر الفرصة الكافية لإدارة مفاصل الدولة، فبقي التهميش والإقصاء للعشائر، وهذا ما يدعونا إلى إعادة النظر ومراجعة الحالة ووضع البرامج الكفيلة باستعادة العشائر دورها وثقلها الاجتماعي، وأعتقد أنهم قادرون على بناء بلدهم وحل مشاكله أفضل من الذين قدموا من الخارج بعد انقطاع عن بلدهم وشعبهم أزيد من عشرين عاماً، وأعتقد أيضا أن للعشائر فرصة طيبة في حل المشكلة الأمنية لامتدادها في الطائفتين، ووجودها في كل المدن الساخنة حتى أن بعض أبناء العشيرة الواحدة من السُنة وآخرين من الشيعة، فالمطلوب إنشاء كيان عشائري مستقل عن الأحزاب ويضم لجان متعددة تتكفل كل واحدة منها بتحريك وجه من أوجه النشاط المطلوبة كتثقيف العشائر وتوعيتها وتعليمها الأحكام الشرعية والمخالفات التي يتورط بها البعض، وان تتخصص لجنة لمتابعة الحقوق السياسية، وأخرى اجتماعية فتسعىفي الإصلاح والتوفيق بين المتخاصمين وحل المشاكل وتقريب وجهات النظر وهكذا،

ص: 396

ويحسن أن يكون المقر المركزي في النجف الأشرف لإعطائه زخما وقوة لاحتضان المرجعية له عن قرب ويقوم بمتابعات ميدانية في جميع المدن والقرى والأرياف). (1)

وقد أثمرت هذه الدعوة المخلصة بحمد الله تعالى حيث تم إنشاء مجالس صحوة العشائر التي تصدت لمكافحة الإرهاب والقضاء على تنظيم القاعدة ودولتهم الإسلامية المزعومة.

ب/ الدعوة إلى الإصلاح العقائدي والفكري، لاسيما إصلاح حال شريحة الشباب الذين يتعرضون لغسيل دماغ بشكل منظم ومركز من قبل أعداء الإنسانية، المتمثل بالفكر الوهابي الذي تمده المنظمات الماسونية الصهيونية، فإن الإصلاح الفكري، يوفر على الامة الكثير من العناء والجهد، ويقلص حجم الخسائر، ناهيك عن إصلاح حال نفس هؤلاء الشباب المُغرر بهم، وانقاذهم من عملية الإبادة الجسدية، التي يتعرضون لها وهم في زهرة الشباب. وهذه الدعوة أكدها المرجع اليعقوبي في عدة من خطاباته المباركة، وحمّل الجهات المثقفة والواعية من حملة العلم وخصوصاً المؤسسة الحوزوية القيام بهذه المهمة. وهذه بعض كلمات سماحته حول هذا الموضوع:

(أدعو إلى عدم الاقتصار على أسلوب الصِّدام والاستئصال في المواجهة مع التنظيمات الارهابية لأن آخر الدواء الكيّ كما قيل في الكلمة المشهورة، وانما علينا ان نسير معه بخط موازٍ له من خلال الحوار والاقناع بعدم سلامة الطريق الذي انتهجوه وعبثية الغاية التي يريدونها وضلالة الذين غَرَّروا بهم وخدعوهم فإن الكثير ممن التحقوا بهذه التنظيمات خصوصاً من الدول المتحضرة تعرضوا لغسيل دماغٍ وتشويهٍ للحقائق وخداعٍ بعناوين مقدسة تستهوي الشباب المتحمس المندفع، فهؤلاء غير أصحّاء وحالهم كحال سائر المرضى الذين تجب رعايتهم والشفقة عليهم وتشخيص عللهم ووصف الدواء المناسب لهم). (2)

(إن الإسلام النقي لو عُرض بأصالته وقوة حججه قادرٌ على إعادة إنتاج عقول هؤلاء (أي الإرهابيين) وإزالة ما علق في أذهانهم من أوهام وشبهات وضلالات

ص: 397


1- خطاب المرحلة، ج4، خطاب رقم (117) ، (كيف نستعيد دور العشائر في بناء العراق الجديد) .
2- خطاب المرحلة، ج9، خطاب رقم الخطاب (435) ، (لا تيأسوا من اصلاح الإرهابيين المُغَرّر بهم قبل قتالهم) .

ومساعدتهم على الاندماج من جديد في المجتمع وتطبيع حياتهم الاجتماعية، وحينئذٍ سنربح كثيراً بإعادتهم إلى الصواب وحماية بلادنا وأبنائنا وثرواتنا من التدمير والضياع في هذه الحروب العبثية التي يصنعها ويحرّكها اصحاب الأجندات الشيطانية، ومن الشواهد التاريخية على هذه القدرة العظيمة للإسلام تأثر المغول المتوحشين الذين هجموا على بلاد المسلمين وملأواالارض والماء بجثث القتلى لكنهم بعد جيل واحد فقط من احتلال العاصمة الإسلامية بغداد دخلوا في الإسلام وحملوا رايته واعتنق كثيرٌ منهم مذهب أهل البيت (علیهم السلام) إن كثيراً من هؤلاء المخدوعين عادوا إلى بلادهم نادمين ويحاول غيرهم التخلص من هذه الورطة التي وقعوا فيها بعد ان اطلعوا على وحشية زعمائهم وبراءة الإسلام من أفعالهم). (1)

(إن القضاء على الإرهاب يتطلب أولاً تجفيف منابعه الفكرية التكفيرية، وإلا ما الفائدة من قتل أفراد منهم مهما كثُر عددهم مادامت البيئة والحاضنة التي تُفرِّخهم موجودة، فالإمام الحسين (علیه السلام) وهو يمارس دوره في إمامة الأمة وهدايتها يرشدنا إلى أهمية العمل الديني الاجتماعي والتحرك برسالة الإسلام في أوساط الأمة، ونشر تعاليم أهل البيت (علیهم السلام) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصيانة عقيدة المجتمع واخلاقه من الشبهات والانحرافات، وإن هذا العمل هو من أهم الواجبات الدينية واعظم المسؤوليات الملقاة على عاتقنا خصوصا نحن الحوزة العلمية والمثقفين والكتاب والمفكرين والاعلاميين؛ لان انحراف العقيدة وتلوّث الغذاء الفكري الذي يتلقاه المجتمع خصوصا الشباب هو الذي يحوّله الى سرطان خبيث يسري في جسد الأمة ويرى أن أقرب القربات إلى الله تعالى قتل الأبرياء وسبي وتهجير النساء والأطفال وتدمير المقدسات وتخريب الحياة كاللوثة التي اصابت عقول الخوارج فاستحلوا الحرمات وبقروا بطون الحوامل وقتلوا الاجنّة). (2)

ج/ توبيخ أهل السنة المتواطئين مع الإرهابيين واستعراض نتائج السكوت عنهم:

وجّه (دام ظله) توبيخاً وتعريضاً صريحاً لأبناء السُنة المتعاونين منهم مع الإرهابيين القتلة، قائلاً: (بعد سقوط صدام شعر أهل السنة بالقلق وتركوا منازلهم وعطلوا

ص: 398


1- المصدر نفسه.
2- خطاب المرحلة، ج9، رقم الخطاب (431) ، (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ).

مساجدهم ظناً منهم أن الشيعة ستنتقم منهم جراء الظلم والاضطهاد الذي لحق بهم من الأنظمة المستبدة المتعاقبة خصوصاً نظام صدام، لكننا أفهمناهم من اليوم الأول إننا وأنتم أخوه على دين واحد وأبناء وطن واحد ولا نشعر تجاهكم بأي حزازة، ونحن لم نُظلم منكم بل من عصابة مجرمة لا إنسانية لا تعبأ بأي قيم أو مبادئ وقد أصابكم أنتم شيء من ظلمهم، وقد وصف الدكتور محسن عبد الحميد في زيارته لي عندما كان رئيساً لمجلس الحكم إن هذه الحالة تشبه المعجزة، ثم سارت العملية بنفس الهدوء والحكمة منطلقين من ثوابتنا الدينية والأخلاقية والتي عززتها القوانين الدولية التي أجمع عليها العالم المتحضر أنهُ لا يجوز مؤاخذة البريء بجريمة الجاني وأن (لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى) وملتزمين بقول الله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَيَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) ولكن هل قابل الآخرون هذا الموقف النبيل بالحسنى كما أمر الله تبارك وتعالى (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ) كلا، بل قابلوه بالنقيض فاستقدموا القتلة والمجرمين عن طريق الدول المجاورة وتحالفوا معهم ووفروا لهم حواضن الإرهاب، وبدأوا باغتيال الرموز السياسية والدينية من الشيعة.. وقتلوا المئات من الموالين لأهل البيت (علیهم السلام) المفجوعين بمصابهم، وصنعوا مثلثاً للموت حسبما يتبجحون به في اللطيفية واليوسفية للذبح على الهوية، وهكذا توالت الاغتيالات والتفجيرات فطالت المدارس والأسواق وتجمعات الناس والمساجد والحسينيات، ونحن صابرون محافظون على تعاليم الله تبارك وتعالى ملتزمون بأن الحل هو في بناء قوات مسلحة وطنية تحمي المواطنين جميعاً وتمنع من تعدد الجهات الحاملة للسلاح عدا الدولة لئلا تقع حالة الفوضى والحرب الأهلية. لكن الذي حصل أن هذا الموقف العقلاني أدى إلى نتيجتين عكسيتين مع الأسف:

الأولى: تمادي هؤلاء المجرمين في غيهم وولوغهم في المزيد من الجرائم حتى بلغ بهم الحال إلى تفجير العتبات المقدسة وتهجير أكثر من عشرة ألاف عائلة إلى الآن وقتل العشرات من الأبرياء يومياً.

الثانية: إن الولايات المتحدة أيضاً لم تحترم هذه الحكمة وبدأت تخضع لمبدأ الابتزاز الذي يمارسه هؤلاء المجرمون وبدأت تغير استراتيجيتها ومن آليات عملها لتتناغم مع عمل هؤلاء المجرمين، وكأنها تريد أن تقول لهم: إنكم إذا دفعتم شَرَكم عن قواتنا

ص: 399

فأعملوا بالعراقيين ما تشاؤون، والمهم أن لا تتعرضوا لنا وكأنها مسؤولة عن أمن الجندي الأمريكي فقط ولا يهمها أمر المواطن العراقي). (1)

د/ إصدار الخطاب التأريخي الذي أعطى فيه الإذن الشرعي بتشكيل المجاميع الشعبية المسلحة، لصد الإرهابيين:

سادت روح الخنوع والاستسلام لدى بعض القيادات الدينية والسياسية في العراق، تجاه الأحداث الطائفية الجارية فيه، والتي أهلكت الحرث والنسل، وحصدت أرواح آلاف الأبرياء، دون أن يحرك أصحاب القرار ساكناً، بحجة عدم الانجرار إلى حرب طائفية، مما شجّعت هذه الحالة المتطرفين من أهل السُنة إلى الانضمام إلى التكفيرين والصداميين فتمادوا في استئصال الشيعة حتى أفرغوا مدناً كاملة منهم، وسيطروا على الطريق الموصّل من بغداد إلى الحلة وكربلاء وباتت جهة الكرخ من بغداد تحت سيطرتهم وتهيّئوا للانقضاض على ما تبقى. فبادر المرجع اليعقوبي بتوجيه خطاباً إلى الأمة من خلال صلوات الجمعة الموحدة في بغداد والمحافظات سنة 2006م لأجل إحداث حالة التوازن في الرعب والردع، والدفاع عن النفسوالمقدسات، وقد ألهب هذا الخطاب حماس الجماهير وأوجد فيهم روحاً جديدة، وفيما يأتي مقتطفات من هذا الخطاب الثوري الذي يحمل عنوان (ماذا بقي من الحرب الطائفية؟) :

(يحاول رموز الإدارة الأمريكية نفي وجود حرب طائفية في العراق وهم بذلك إما مضللون بالتقارير الفاقدة للموضوعية والمصداقية التي يرفعها السفير الطائفي (2)

لأمريكا في العراق وأمثاله، أو إنهم ينكرون عن علم وعمد هذه الحقيقة... والغريب إن رموز الحكومة العراقية ينفون هذه الحقيقة المؤلمة التي ملأت قلب كل غيور وكل من يحمل في قلبه ذرة من الإنسانية ألماً وكمداً وقيحاً، وهم يعلمون جيداً أنهم كالنعامة التي حينما تواجه خطراً تدفن رأسها في التراب لكيلا تراه وهو آتٍ إليها ولا تقوم بما يجب عليها من رد هذا الخطر ودفعه، وإلا بماذا يفسّر كل هؤلاء مقتل العشرات من الأبرياء يومياً في

ص: 400


1- خطابات المرحلة، ج4، من حديث سماحته (دام ظله) مع السيد أشرف قاضي رئيس بعثة الأمم المتحدة في العراق.
2- سفير أمريكا في تلك الفترة (زلماي خليل زاد) المتنفذ في إدارة العراق وكانت الطائفية بادية على قراراته وتصرفاته.

الأسواق والشوارع والمدارس ومحطات تعبئة الوقود والمخابز وسائر أماكن التجمع لا لشيء إلا لأن منطقتهم تنتسب لأهل البيت (علیهم السلام)؟

وبماذا يفسر تفجير العتبات المقدسة والاعتداءات على زائري الأئمة الأطهار وقتل المشاركين بالشعائر الدينية؟ وبماذا تفسرون الذبح على الهوية؟ وقاصمة الظهر هذا التهجير الجماعي لآلاف العوائل وتهديدهم بالقتل لتوسيع مشروعهم الطائفي والتمدد اللامشروع؟ ولو هجّر عُشر هذا العدد في أي بقعة في العالم لضجّت الدنيا من هذه التصفية العرقية والطائفية وهي تستحق مثل هذه الضجة للوقوف في وجه هذه التصرفات الوحشية، لقد بلغ عدد الضحايا في هذه العمليات الإجرامية ما يفوق كل قتلى الحرب الطائفية اللبنانية خلال أزيد من خمسة عشر عاماً، فإذا لم تكن هذه حرباً طائفية فما هي معالم هذه الحرب؟

نعم هي حرب طائفية باتجاه واحد لكنها ليست هي حرب أهل السنة على الشيعة لأننا نعلم أن شريحة كبيرة منهم رافضة لهذه الحالة لكنها مغلوبة على أمرها بقوة السلاح وضجيج الأصوات الطائفية، فهي حرب الفئات الضالة التي يشنها تحالفٌ مشؤوم - يدفعه الحقد والحسد والجهل والتحجر - ضّمَ التكفيريين والصداميين والطائفيين والمتجردين من القيم الإنسانية الذين يدوسون كل شيء من أجل تحقيق مصالح زائفة.

ويتحمل مسؤوليتها بدرجة من الدرجات أبناء العشائر (1) والمناطق السنّية التي تؤوي هؤلاء القتلة وتحتضنهم وتقدم لهم الدعم والخدمات وينطلقون من بين ظهرانيهم، فأين العروبة التي يدّعونها؟ بينما تجد أبنائهم يعيشون في كل سلام في المحافظات الشيعية ويتسنمون أعلى المواقع فهل هذا من الإنصاف؟لقد دعونا الكيانات السياسية إلى عدم قبول أي طرف في العملية السياسية حتى يتبرأ من الإرهاب الأعمى، ويؤمن بالتداول السلمي للسلطة وفق الاستحقاقات، لكنهم لم يفعلوا ذلك وقبلوا مشاركتهم تحت الضغط والابتزاز الأمريكي والإقليمي فاتخذوا وجودهم في العملية السياسية واجهة لترويج الإرهاب ودعمه وتبريره وخنق الحريات واغتيال الشرفاء وتخريب مؤسسات البلاد، واستمروا في الابتزاز وكان آخرها (مجلس

ص: 401


1- استثارت هذه الدعوات نخوة عشائر الأنبار وتنادوا لتأسيس مجلس (صحوة الأنبار) وتكاتفوا لطرد مجرمي القاعدة من بين ظهرانيهم.

أهل الحل والعقد) أو (مجلس الأمن الوطني) أو (المجلس الوطني للسياسات الاستراتيجية) ونحوه من الأسماء وهو مخالف للدستور أولاً وانقلابٌ على العملية الديمقراطية –لأنه يصادر استحقاقاتها- ثانياً، وليت المعترضين على هذا المشروع حينما قبلوا به اشترطوا على المطالبين به التعهد بالتخلي عن دعم الإرهاب وترويجه وحمايته وتوفير الملاذات الآمنة له!! لكن شيئاً من هذا لم يحصل فتبّاً لهذه الصفقة وترحا، وهذا ما دفع هذه الواجهات التي تعلن ارتباطها بالإرهابيين وشكرها لهم على مواقفهم إلى الإيعاز لمجرميهم بالتمادي في العدوان والغي (ما دامت وسيلة ناجحة في الابتزاز) وأوصلوا الحال إلى المأساة التي نعيشها.

إنها حقيقةً مؤلمة وكارثةٌ مرعبة يجب الاعتراف بها والتحرك لمعالجتها قبل أن ينفلت الزمام ويخرج عن حد السيطرة؛ لأن الصبر على مثل هذه الانتهاكات الفظيعة له حدود، وإذا كان يقنع المظلوم والمعتدى عليه إلى الآن محاولة ضبط النفس لمنع الانجرار إلى حربٍ طائفية أو منع اختلال النظام الاجتماعي العام الذي به تقوم الحياة فما الذي نقنعهم به بعد الآن وقد بلغ الظلم والعدوان والفساد كل هذا الحد؟ بل هل تعتقد إن أحدا سينتظر الإذن من المرجعية الدينية أو أية جهة كانت للتحرك وهو يرى بعينه قتل الأبرياء وانتهاك المقدسات وهتك الأعراض وتخريب الممتلكات وتعطيل الحياة؟

إن أخطر ما يحصل للشعوب حينما تفقد الأمل ولا يبقى عندها شيء تخاف عليه بعد أن تكون قد فقدت كل شيء فلا يكون أمامها طريق إلا الموت لاستعادة الآمل بحياة أفضل أما لهم أو لأجيالهم اللاحقة على الأقل، وهذا ما سيقع والعياذ بالله في المدى القريب إذا استمر سفير الإدارة الأمريكية في سياساته الطائفية الحاقدة وإذا استمر الإرهابيون المجرمون بأعمالهم الشريرة بمساعدة القوى الحاقدة من دولٍ إقليمية وعالمية، وإذا بقي الأداء الضعيف للحكومة.

إن الدعم السياسي الذي يمنحه السفير الأمريكي ومعه طواغيت الدول العربية للواجهات السياسية للإرهابيين، وغطاء الحماية الذي توفره قوات الاحتلال للمناطق التي ينطلق منها الإرهابيون وعدم اتخاذها الإجراءات اللازمة لردعهم إلا بمقدار ما يحفظ أمنهم هم لا أمنَ وسلامة المواطن العراقي، وعلى العكس فإنهم يقومون بتجريد سلاح اللجان الشعبية التي ينظمها الناس لحماية مناطقهم من الإرهابيين واعتقالهم وتحجيم

ص: 402

دور القوات المسلحة الوطنية المخلصة في القضاء على الإرهاب، وضعف الحكومة عن اتخاذ القرارات الحاسمةوتنفيذها وتغلغل العناصر الداعمة للإرهاب في مفاصل الدولة، كل ذلك ساعد على إيصال الوضع إلى ما نحن عليه الآن من مصائب والآم. ليعلم كل هؤلاء المتواطئين على ظلم هذا الشعب الأبي الغيور الكريم أن البركان إذا انفجر فإنه لا أحد منهم في داخل العراق أو الدول الإقليمية سيكون في مأمن من حمم البركان؛ لأن موقع العراق الجغرافي ووشائجه الاجتماعية مع شعوب المنطقة وتأثيراته العقائدية والروحية في نفوس الملايين في الدول الإقليمية وغيرها سوف يشعل بنار الفتنة كل الذين يلعبون بالنار. في ضوء ذلك كله فإننا أمام عدة استحقاقات:

1- على جميع الأطراف المعنيّة قراءة هذه الرسالة بإمعان وفهمها وأولهم الإدارة الأمريكية (1)

فعليها أن لا تخضع لابتزاز الإرهابيين وتقع في وهم وتضليل الطائفيين والحاقدين، وإذا أرادت أن تحمي نفسها من مزيد من الفشل والانهيار فلتبدّل سفيرها في العراق، وعليها أن تساعد بصدقٍ وبجدّية في بناء قوات وطنية مسلحة قوية ومتماسكة وقادرة على حفظ امن البلاد والعباد وإنهاء ذرائع الاحتلال الذي هو السبب الرئيسي لنشوء الإرهاب.

2- أن لا تجعل الأجنحة المتصارعة في الإدارة الأمريكية من بنتاغون ووزارة خارجية ووكالة الاستخبارات وسائر الصقور والحمائم من الشعب العراقي ساحةً لتصفية (2)

حساباتها ولإفشال هذا الطرف أو إنجاح ذاك، فإن هذا السلوك اللا إنساني المنحط ليس فقط يؤثر على سمعة الحضارة الغربية التي بلغت الحضيض، وإنما يسقطهم جميعاً ويفشل إداراتهم ولا يظن أحد منهم أن إفشال الآخر بهذا الشكل نجاحٌ له بل هو فشلٌ وهزيمة للجميع.

ص: 403


1- وصل البيان إلى الإدارة الأمريكية عن طريق بعض العراقيين المقيمين هناك فأوعزت إلى سفيرها بترك تصريحاته و (طمأنة زعماء الشيعة) حسب تعبيرهم ولوّحوا له بالعزل وقد غاب السفير فعلاً عدة أسابيع عن وسائل الإعلام. وقد قدّم السفير طلباً لمقابلة سماحة المرجع اليعقوبي عدة مرات إلا أنه (دام ظله) رفض بشكل قاطع مقابلة كل رموز الاحتلال.
2- إشارة إلى قيام بعض هذه الأجنحة بدعم عمليات وفصائل إرهابية لإفشال الحزب الحاكم ومؤسساته وخسارتهم في الانتخابات.

3- أن تكون الحكومة حازمة في مواجهة عناصر هذه الحرب الطائفية من واجهات سياسية أو عناصر إرهابية أو حواضن أو ممولين، ولا يبرّر تقاعسها أنها حكومة تصريف أعمال وغيرها من الأعذار فالدم الحرام من أعظم المقدسات ويجب صونه بكل الإمكانيات.

4- أن تقوم الحكومة ببناء مجمعات سكنية في بغداد وبأقصى سرعة لإسكان العوائل المهجرّة و المحرومة التي منعها صدام وأزلامه حتى من بضعة أمتار يسكنون بها عوائلهم فصار البيت الواحد الذي لا تزيد مساحتهعن مئة متر مربع في مدينة الصدر يضم عشرين فرداً أو أكثر وأن يتم اختيار مناطق لهذه المجمعات تكون شوكة في عيون الإرهابيين والطائفيين. (1)

5- احترام حقوق مكونات الشعب العراقي بحسب أحجامها وتجنب الألاعيب السياسية التي تغمط الحقوق وتضيعها على أهلها فإن الشعب العراقي واعِ ومتابع وحاضر في الساحة ولا تنطلي عليه هذه الألاعيب.

6- على الأمة وخصوصاً الشباب الرسالي المضحي وأبناء العشائر الغيارى أن ينظّموا أنفسهم في لجانٍ ومجاميع (2) للدفاع عن أنفسهم ومقدساتهم واجتثاث أصول الفساد بعد التوكل على الله تبارك وتعالى والاعتماد على قدراتهم فإنه لا أحد يفكّر بهم وبآلامهم مثلهم وعلى بقية الأمة أن تقدم الدعم والإسناد لكل ما تحتاجه هذه الطليعة المباركة. (3)

وقد أنتج هذا الخطاب المبارك عدة ثمار طيبة نلخصها ضمن النقاط الآتية:

تغيير السفير الأمريكي (زلماي خليل زاده) لنمط تصريحاته الطائفية، ومحاسبته

ص: 404


1- فصّل سماحته (دام ظله) هذا المقترح لمستشار الأمن القومي (موفق الربيعي) في إحدى زياراته واقترح إقامة حزام أمني من تجمعات سكنية على شكل هلال يطوّق غرب بغداد من شمالها إلى جنوبها لحل أزمة السكن وليكون مصدراً يمنع وصول الإرهابيين، فاستحسن الفكرة، لكنها لم تُنفّذ.
2- لبّى الشباب هذه الدعوة بكل بسالة وشجاعة واقتحموا بؤر الإرهاب في معاقلها وشنّوا عليهم حرباً مضادة أدّت إلى ردعهم وخلق حالة التوازن في الرعب والقوى، بل تفوقّوا عليهم فانحسر نفوذ الإرهاب بعد ذلك بعد أن كادت بغداد تسقط بأيديهم خصوصاً غربها، وقد حمّست اندفاعتهم شباباً من التيارات الأخرى للانضمام إلى عملية الردع هذه بعد أن كانت تحذّرهم دعوات الخنوع والاستسلام للأمر الواقع. وقد شرح سماحة الشيخ (دام ظله) أبعاد هذه الدعوة في الخطاب التالي.
3- خطابات المرحلة،ج4، ص238.

من قِبل أسياده الأمريكان على سوء تصرفاته ولوحوا له بالعزل عن منصبه، بعدما هددهم سماحة الشيخ المرجع (دام ظله) من خلال هذا الخطاب.

تحذير المرجعية الرشيدة للإدارة الأمريكية وتعريفها بمقدار حجمها وأن لا تلعب بالنار، من خلال تأجيج الحرب الطائفية من خلال سفيرها في العراق.

تشكيل مجاميع شبابية مسلحة ومنظمة تدفع شرور الإرهابيين والتكفيريين عن المواطنين الأبرياء.

القضاء على بؤر الإرهاب واقتحامها من قِبل الشباب المتحمس الرسالي والغيارى من أبناء العشائر، وانحسار المد الإرهابي في المناطق التي كانت خاضعة تحت نفوذهم.خلق حالة طيبة من الوحدة والألفة والتكاتف بين أبناء التيارات المختلفة لمجابهة العدو التكفيري الإرهابي الذي عاث في الأرض فساداً.

انبثاق روح الحماسة والشجاعة في نفوس أبناء المجتمع من جديد بعدما انطفأت بسبب تصريحات ومنهجية بعض الجهات الدينية والسياسية التي رضخت وخنعت مستسلمة للذل والهوان، مما أدى لدفع الثمن من دماء العراقيين الأبرياء.

تأسيس مجلس (صحوة الأنبار) وتكاتف أبنائها لطرد مجرمي القاعدة من بين ظهرانيهم.

ونذكر في ختام بحثا هنا كلمة المرجع اليعقوبي التي بيّن فيها نتيجة خطيرة جداً بسبب عدم وجود مبدأ التعايش السلمي في العراق، وهذه النتيجة هي حصول ظاهرة هجرة العراقيين للخارج، طلباً للحياة الهانئة والعيش الرغيد - حسب فهمهم وكما يصوره لهم أصحاب التضليل والأباطيل - بسبب ما يعانيه الفرد العراقي من ظلم وعدوان وفقر وانتهاك للحقوق وانتشار ظاهرة الارهاب والعنف الطائفي، وغير ذلك، حيث قال (دام ظله) : (...وهي الظاهرة التي غزت شبابنا والهوس الذي أصاب كثيرين منهم هذه الأيام لدفعهم باتجاه التغرّب أو التعرّب بعد الهجرة سعياً وراء ما يسمونه بتحسين وضعهم المعاشي والحياة المادية المترفة، هذا القرار غير الحكيم يبتدئ من طائف شياطين الإنس والجن الذين يصوّرون للشاب هذه الرحلة وكأنها الى الفردوس المنتظر وييسِّرون له أمرها ويرسمون له الأحلام الوردية ويسوّدون صورة واقعه المعاش فهنا إنْ

ص: 405

تذكّر أن في هذا الفعل ضياع دينه واسرته والتفريط بأهله واخوانه وبلده، أبصر طريقه واتخذ القرار الصحيح بالبقاء ولو كلّفه بعض الصعوبات فإن تحملها في جنب الله سعادة، وإن مضى في غفلته سقط في هذا الفخ الذي نصبه من لا يؤتمنون على العاقبة الحسنة في الدنيا ولا في الاخرة، وقد ابتلع البحر الأبيض مئات الالاف من اللاجئين في هذه السنة والتي سبقتها، هذه الظاهرة مليئة بالغرائب، فإن الدولة التي يتجمع فيها الإرهابيون من شتى أنحاء العالم لينتقلوا منها الى سوريا والعراق، هي نفسها التي امتلأت بشبكات التهريب لتنقل الفارّين من جحيم الإرهاب إلى أوربا، والدول الأوربية التي ترفض إعطاء الإقامة لمن قصدها باحترام عن الطريق الرسمي والسفر بسمة الدخول ترحب بهم كلاجئين عبر طرق الموت والمعاناة وابتزاز المهرّبين، إنها مفارقة حمقاء). (1) وقد نبه (دام ظله) إلى خطر هذه الظاهرة منذ زمن بعيد، ولفت انتباه أصحاب القرار والمسؤولية في البلاد إليها، ولكن للأسف لم يُعطوا له آذان صاغية، ولم يتحركوا عملياً بتجاهتغيير حال المشهد العراقي المتردي وإصلاح أوضاعه التي تلبي طموحات الفرد العراقي وتضمن له الحقوق والعيش الرغيد.

ص: 406


1- خطاب المرحلة، ج9، رقم (468) : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) .

ملامح المجتمع العراقي بعد الاحتلال الأمريكي سنة 2003م

خطّطت الإدارة الأمريكية وحلفائها لأجل رسم معالم مستقبلية، للوضع الذي ستكون عليه منطقة الشرق الأوسط عموماً والعراق خصوصاً، وكان من ضمن هذا المخطط الشيطاني نزول أمريكا بنفسها في معترك هذه الساحة، وقادت ركب الأحداث فيها نحو ما ترمي إليه من مساعي ومؤامرات تصب في مصلحتها. وبالفعل تسارعت الأحداث بشكل مثير لاسيما بعد حاثة تفجير برجي التجارة العالمي في الحادي عشر من أيلول سنة 2001م، وأشعلت أمريكا بدهائها فتيل الحروب في عدة دول في الشرق الأوسط كأفغانستان والعراق وسوريا، فانعدم السلام، وتلكأت حالة الأمن الدولي فيها، وهذا لا يعني إن هذه الدول كانت ترفل بالأمن والسلام قبل هذا، ولكن مراد القول إن قوى الاستكبار العالمي أوجدت ما يمزق حالة الاستقرار النسبي فيها، وسعت بكل جهدها لأجل إنشاء قوى سياسية متصارعة، وجماعات إرهابية متعاونة معها، وتخدمها لتنفيذ وتمرير مخططاتها الشيطانية كالعصابات الإجرامية والجماعات التكفيرية، وبعض الرموز السياسية الطامحة للسلطة والاستئثار بالمكاسب الدنيوية الرخيصة، والتي قد تعمل أي شيء لأجل خدمة أهدافها ومصالحها الشخصية، حتى وإن كان ذلك على حساب المصالح العامة، بل حتى وإن كان الثمن هو سفك دماء الأبرياء!ولو أردنا أن نسلط الضوء على المشهد العراقي فإنه قد تمخض بعد مجيء قوات الاحتلال الأمريكي سنة 2003م، ببروز عدة ظواهر سلبية ومأساوية تطفو على السطح، وهذه الظواهر ساهمت بشكل كبير في خلخلت مبدأ التعايش السلمي في العراق، وقطّعت الكثير من وشائج العلاقات الطيبة بين أبناء الشعب، وفيما يأتي نذكر أبرزها:

الاصطفافات والتحزبات والتناحرات السياسية، التي اعدمت حالة التعايش السياسي السلمي المتعاون والمتكاتف، وهذه الحالة كانت غير موجودة زمن الطاغية صدام الذي تفرد بالسلطة واعتمد النظام الديكتاتوري في سياسته، ولكن لما تم ايجاد مساحة كبيرة من العمل السياسي تحت النظام الديمقراطي المعمول به بعد سقوط الطاغية، ظهرت هذه الصراعات والاصطفافات الحزبية ضمن العمل السياسي بشكل

ص: 407

واضح جداً، وطبعاً أُسُس هذه الصراعات السياسية كانت متراكمة بشكل مشترك بين تعمد القوى الاستكبارية ومطامع المسؤولين، فتظافرت لكي تنتج لنا هذا الصراع المحتدم الذي يُعد الشعب العراقي هو الخاسر الأول فيها، لما انتجته من إفشال للعملية السياسية وتمزيق لوحدة العراق وبعثرة الطاقات والقدرات الوطنية، وسرقة واهدار المال العام، ونقص الخدمات وتعمير البلاد، وذلك لأن كل جهة تجر النار إلى قرصها، ومن جهة أخرى تحاول كل جهة سياسية أفشال مشاريع وبرامج الجهات الأخرى، وبذلك قادت الكثيرة من الأحزاب السياسية البلاد نحو الدمار والخراب، قال المرجع اليعقوبي: (لو كان قادة هذا الشعب متوحدين في مشروع وطني يحافظ على وحدة العراق شعباً وأرضاً وعلى حرّيته واستقلاله وكرامته، لكنهم مع الأسف ظلّوا يدورون في فلك مصالحهم الشخصية والفئوية الضيّقة). (1)

وجود حالة من الفوضى الحكومية التي تتصف ب- (الفساد المالي والإداري) ومن مصاديقه سرقة المال العام، واعتماد الرشوة والمحسوبية في تمشية وتسيير المعاملات الرسمية، وغيرها من أنظمة الفساد الحكومي في دوائر الدولة، وقد عبّر المرجع اليعقوبي عن أسفه بسبب الوضع المزري من عدم الشعور بالمسؤولية الذي عليه بعض المسؤولين في البلاد، قائلاً: (إن مشكلة بعض المتمسكين بالسلطة اليوم أنهم لا يرون وجود أزمة يعاني منها البلد ما دامت مصالحهم قائمة ووضعهم في السلطة مستقراً فليبق الحال على ما هو عليه، وعلى الجميع أن ينصاع لهذا الوضع أما عشرات آلاف الضحايا، وملايين المهجّرين، وشلل الخدمات، وتفشي الفساد المالي والإداري، وتعطيل الاقتصاد والزراعة والصناعة، وهجرة الكفاءات خشية الاغتيال، وملايين العاطلين، وهدر المال العام وسرقته، وغيرها من المعضلات التي دفعت بالأمين العام للأمم المتحدة أن يصف القضية العراقية بأنها مشكلة العالم كله؛ أقول: أما هذا كله فليس مشكلة في نظر البعض حتى يقدّموا تنازلات أوأفكار أو مشاريع لحلّها وحتى لو كانت هناك مشكلة فليسوا هم المسؤولين عنها وإنما هي مشكلة الآخرين، ويبدو أنهم بحاجة إلى تذكيرهم بكلمة أمير المؤمنين (علیه السلام) لمّا سئل عن تفسير الأحداث التي انتهت بمقتل الخليفة عثمان، قال (علیه السلام) : (استَأثرَ فَأساءَ الأثَرَةَ، وَجَزَعْتُم فَأسَأتمُ الجزع، وللهِ حُكمٌ واقِعٌ في المُستَأثِرِ والجَازِعِ)

ص: 408


1- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي،،ج5، خطاب رقم (173) بعنوان: (العيد والمصالحة الحقيقية) .

فالسلطة تتقاسم المسؤولية عما يحدث في البلاد مع المنفّذين المباشرين من خلال استئثارهم مما يستفزّ الآخر ويدفعه إلى الوقوع في الخطأ بل الخطيئة حين يفقد الصبر من أجل حفظ المصالح العليا للبلاد والعباد). (1)

انتشار العصابات الإرهابية والجماعات التكفيرية التي رسمت لها الإدارة الأمريكية واللوبي الصهيوني خططاً استراتيجية في البلاد لأجل القضاء على حالة الأمن والتعايش السلمي، تحت ذرائع وحجج دينية مزيفة، تبيح لهم إراقة الدماء الزكية وإزهاق أرواح الأبرياء تحت مسميات الجهاد والمقاومة الإسلامية. وهذا ما نبّه إليه المرجع اليعقوبي حيث دعى إلى ضرورة تصحيح المفاهيم (ومن أمثلتها اليوم ما تتعرض له البلاد من تخريب ودمار وقتل للأبرياء تحت عنوان المقاومة الذي هو بنفسه عنوان برّاق ومثير للحماس لكنهُ جُعِل غطاءاً لمثل تلك الجرائم، وغرّر بالكثيرين من البسطاء والجهلة والمخدوعين فانخرطوا فيه، وعنوان المقاومة بريء من هذه الأفعال المنكرة. فيكون حينئذٍ جزء كبير من الحل مبنياً على تصحيح هذه المفاهيم وإزالة الخلط والغموض. لما سُئل أمير المؤمنين (علیه السلام) عن قتال الخوارج مع من بعده، قال (علیه السلام) : (لا تقاتلوا الخوارج بعدي فإن من طلب الحق فأخطأه ليس كمن طلب الباطل فأدركه). (2)

نشوء حالة مزرية من التناحر الطائفي والعرقي، ضمن مجاميع من التكتلات العنصرية والفئوية، فتمخض الصراع فيها عن صراع سني شيعي أو كردي عربي، بل اتسعت دائرة هذه الصراعات والتقاطعات لتشمل الصراع بين أبناء الطوائف المذهبية والعِرقية نفسها، وكانت هذه الصراعات الداخلية هي ما تراهن عليه دول الاستكبار العالمي لأجل اسقاط هيبة المسلمين، وهذا ما حذرنا من القرآن الكريم، قال تعالى: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ). (3)

انعدام السِلم الاجتماعي بسبب انتشار ظاهرة الانحراف الأخلاقي وتفشي عنصر الجريمة من ابتزاز وخطف وقتل وتهجير وسرقة واغتصاب ونحو ذلك من الجرائم.

ص: 409


1- المصدر نفسه.
2- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج7، (السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وتصحيح المفاهيم) .
3- الأنفال (46) .

وإن ملف الانحرافات الأخلاقية لاسيما بعدالانفتاح الاعلامي والاجتماعي الكبير الذي شهده العراق أعقاب الاحتلال الأمريكي يُعد ملفاً كبيراً وخطيراً، حيث ولّد هذا الانفتاح الكبير علاوة على المفاسد الذاتية فيه، نشوء ما يعكر صفو الحياة الاجتماعية الهانئة. كما زعزع الإعلام الفاسد والموجه الأمن الأسري والاجتماعي للكثير من العوائل المسلمة، فكثرت فيها حالات الطلاق المبكر والشجار الزوجي وانتشار ظاهرة العنوسة للفتيات، وانفلات زمام الشباب وراء الملذات الزائفة والشهوات الفانية، التي تحطم كيانهم ودينهم وتخلف لهم الويلات والمشكلات على المستوى الدنيوي والأخروي، إلى غير ذلك من قائمة الانحرافات والمشكلات الأخلاقية والاجتماعية، وأيضاً من ضمن قائمة هذه المشكلات هو نشوء الصراعات العشائرية، التي قد تصل في بعض الأحيان إلى درجة الاقتتال العسكري، وأحد أسباب هذا الانفلات الأمني والاجتماعي هو عدم سيادة القانون وعدم تطبيقه على الجميع، وكما قيل في الحكمة: (من أمن العقاب أساء الأدب).

الفوضى الإعلامية المبرمجة لتحطيم الشخصية المسلمة بشكل عام والشخصية العراقية بشكل خاص دينياً واخلاقياً وثقافياً واجتماعياً ووطنياً. وقد خصّص المرجع اليعقوبي ضمن كلماته المباركة حصة كبيرة من اهتمامه بهذا الجانب، وكان خطابه (دام ظله) الموسوم (جهاز الستلايت أول هدية بعد سقوط النظام) من أوائل الخطابات التي ألقاها بعد سقوط (الطاغية صدام) مباشرة حيث كانت أول هدية قدمها الاحتلال للشعب العراقي هي مليون جهاز ستلايت لأجل إفساده، وفيما يلي مقتطفات من نص هذا الخطاب المبارك: (إن من أهم أسباب تفكيك الأسرة وعدم الترابط بينهم هو الانشداد إلى هذه الأجهزة بدلاً من أن يجتمعوا وينشد بعضهم إلى بعض، إضافة إلى ما يشاهدونه من انهيار اجتماعي من خلال المسلسلات فيتركز عندهم عدم الثقة بالنفس ولا بالآخرين، فلا بد من الحذر والحيطة خصوصاً وأن بلدنا أصبح مفتوحاً لكل غزو فكري وأخلاقي واجتماعي، فإذا لم نحصّن مجتمعنا بالوعي والإيمان فإن الانهيار والسقوط متحقق، والعياذ بالله؛ لأن أدوات الفساد قوية ومثيرة وتبهر الإنسان إلا من عصم الله. وقد نقلت بعض الأخبار أن (1000) حالة طلاق تحصل في الكويت البلد المسلم كل كذا مدة بسبب جهاز الستلايت وذلك من عدة وجوه:

أ/ إنه يفكك العلاقة الأسرية ويجعل الجميع مرتبطين بهذا الجهاز بدلاً من أن

ص: 410

يرتبطوا ببعض فتضعف العلاقة بينهم حتى تذوب وتنتهي.

ب/ إنه يدفع الرجل وكذا المرأة إلى ممارسة الفاحشة بما يثير عندهم من الشذوذ الجنسي مما يجعل الطرف الآخر يشمئز من الاستمرار معه.

ج/ إنه يجعل الرجل لا يكتفي بزوجته ويزدري بها بعد أن يطلع على وجوه وأجساد جذابة فاتنة فينبذ زوجته وكذا العكس، وهو أثر خطير يحصل من كل نظرة إلى الجنس الآخر سواء عبر الصورة في الجرائدوالمجلات أو في التلفزيون أو في الشارع؛ لذا شدد الشرع المقدس في وجوب غض البصر من الجنسين وهذا الأثر الخطير يحصل أيضاً من انتشار الصورة الخلاعية في كل شيء حولنا.

د/ إن ما يعرض في هذه الأجهزة يعتمد زرع الشك في قلب كلا الزوجين لكثرة ما يعرضه من الخيانة الزوجية، حتى يخيَّل للمشاهد أنه لا يوجد طرف نظيف وعفيف في الحياة الزوجية، فإذا حصل الشك فسيفسّر كل طرف تصرف الطرف الآخر على أنه ناشئ من هذه النظرة فإذا عنف زوجته لأمرٍ ما أو أعرض عنها أو لم يلبّ طلباً فذاك من وجهة نظرها لأنه لم يعد يحبها وارتبط بغيرهاً وتبدأ المشاكل بالتضاعف. إن الشيطان الأكبر جاء بنفسه إلى هنا بعد أن رأى أن شياطينه فشلوا في استئصال عناصر القوة في الأمة الإسلامية وهي العقيدة والأخلاق والعلم والغيرة والتضحية من أجل الدين، وهي أسلحة الدمار الشامل التي جاؤوا لينتزعوها لأنها القوة الحقيقية عند الأمة وبها سينتصر الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) عليهم، فنحن أمام تحدي خطير لأنه يعني إما بقاء الأمة أو فناءها ولا أعني فناءها المادي فإنه ليس ذا قيمة، وما قيمة الإنسان إذا كان بلا روح ولا قيم ولا إيمان (إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)، ويبدأ الحل بتوعية الأمة إلى هذه المخاطر والآثار السلبية على النفس وعلى الكيان الاجتماعي عموماً، والتي تسرق أول ما تسرق الدين والشرف والكرامة وتجعل صاحبها عبداً ذليلاّ طائعاً لغير الله تعالى فقد ورد في الحديث الشريف (من أصغى إلى ناطق فقد عبده) فإن كان ينطق عن الرحمن فقد عبد الرحمن وان كان ينطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان، فلينظر الإنسان وليتأمل في الجهة التي يوصلها إليه هذا المعروض بهذا الجهاز، والخطوة الأخرى في العلاج هي توفير البدائل المفيدة كالمسلسلات الدينية والبرامج الثقافية والعلمية والمسابقات النافعة، ويمكن تقليل فترة استعمال الجهاز إلى أقل قدر ممكن فلا يؤذن بفتحه

ص: 411

في أوقات الصلاة ولا في المناسبات الدينية ولا الليالي الشريفة، والاهتمام بالجلسات العائلية للاطلاع على تفاصيل حياتها، والإكثار من زيارة المؤمنين، والحضور في المساجد والمشاركة في الشعائر الدينية، والحث على قراءة الكتب والمجلات النافعة، وإعطاء جزء من الوقت للكسب والعمل وغير ذلك). (1)

انتشار ظاهرة الهجرة خارج البلاد، طلباً لحلم السعادة والعيش الرغيد، وتُعد شريحة الشباب هي الشريحة الأكبر من بين أبناء المجتمع التي سعت لاهثة وراء هذا الحلم الزائف، وساعدهم على السعي وراء هذا الوهم أجندات داخلية وخارجية تهدف إلى تدمير العراق، وتحطيم قدراته البشرية والعلمية، وثرواته الاقتصادية، وقد حذّر المرجع اليعقوبي من هذه الظاهرة منذ زمن بعيد وذلك سنة 2007م أي قبل انتشار هذه الظاهرة وخروجصيحات الاستغاثة التي تعالت في البلاد هنا وهناك لأجل ايجاد حل لهذه المشكلة، فقال (دام ظله) منبهاً لأصحاب القرار والمسؤولية من عواقب هجرة الشباب للخارج:

من القضايا التي تجب دراستها بدقه وإمعان ووضع الحلول لها ظاهرة السفر إلى الخارج، والتي قد تكون لها مبرراتها أحيانا إلا إنها في كثير من الأحوال لا تكون مشروعة، لأنها ليس لها هدف إلا التمتع بالدنيا والاستزادة منها والهروب من المسؤولية ومن واقع المحن والبلايا، وأول نتيجة لمثل هؤلاء هي عدم تشرفهم بنصرة الإمام (عجل الله فرجه) لأن من يفرّ من هذا البلاء ولا يصبر عليه ولا يسعى إلى تغييره نحو الأفضل، لا يستطيع تحمل أعباء نصرة الإمام (علیه السلام) وإن كثيراً من الشباب الذين سافروا ضعف التزامهم الديني وربما اضمحل، لأن الانحراف هناك يضغط بشدة ولا يستطيع أكثر الشباب مواجهته لضعف حصانتهم الدينية وتربيتهم الأخلاقية وعدم قدرتهم على السيطرة على أنفسهم، فيكون السفر عندئذ من أوضح مصاديق (التعرّب بعد الهجرة) الذي هو من كبائر الذنوب، وحتى لو استطاع أن يسيطر على نفسه فإنه لا يضمن السيطرة على أبنائه والأجيال اللاحقة، فسيضيعون في ذلك المجتمع الفاسد ويكون هو المسؤول عن ضياعهم، لأنه ألقاهم في مستنقع الرذيلة، ونحن نرى أننا من الصعب أن نسيطر على أبنائنا ونحن في بلاد الإسلام والإيمان، فكيف نسيطر عليهم في بلاد الكفر

ص: 412


1- خطاب المرحلة: ج3 ص62 بعنوان: (جهاز الستلايت أول هدية بعد سقوط النظام) .

والانحراف؟

الظاهرة التي غزت شبابنا والهوس الذي أصاب كثيرين منهم هذه الأيام لدفعهم باتجاه التغرّب أو التعرّب بعد الهجرة سعياً وراء ما يسمونه بتحسين وضعهم المعاشي والحياة المادية المترفة، هذا القرار غير الحكيم يبتدئ من طائف شياطين الإنس والجن الذين يصوّرون للشاب هذه الرحلة وكأنها الى الفردوس المنتظر وييسِّرون له أمرها ويرسمون له الأحلام الوردية ويسوّدون صورة واقعه المعاش فهنا إنْ تذكّر أن في هذا الفعل ضياع دينه واسرته والتفريط بأهله واخوانه وبلده ابصر طريقه واتخذ القرار الصحيح بالبقاء ولو كلّفه بعض الصعوبات فإن تحملها في جنب الله سعادة، وإن مضى في غفلته سقط في هذا الفخ الذي نصبه من لا يؤتمنون على العاقبة الحسنة في الدنيا ولا في الاخرة، وقد ابتلع البحر الأبيض مئات الالاف من اللاجئين في هذه السنة والتي سبقتها، هذه الظاهرة مليئة بالغرائب، فإن الدولة التي يتجمع فيها الإرهابيون من شتى أنحاء العالم لينتقلوا منها الى سوريا والعراق، هي نفسها التي امتلأت بشبكات التهريب لتنقل الفارّين من جحيم الإرهاب الى أوربا، والدول الاوربية التي ترفض إعطاء الإقامة لمن قصدها باحترام عن الطريق الرسمي والسفر بسمة الدخول ترحب بهم كلاجئين عبر طرق الموت والمعاناة وابتزاز المهرّبين، إنها مفارقة حمقاء.

إن الأمم التي تقل نسبة الشباب فيها تقل قابليتها على النمو والازدهار كما هو حال أوربا اليوم حتى صارت تسمى (القارة العجوز) وقد جنت على نفسها بذلك لحماقتها واتباعها لشهواتها حيث العلاقات الجنسية غيرالمشروعة كبديل عن الزواج والتشجيع على قلة الانجاب وإباحة الإجهاض والشذوذ الجنسي للمثليين، ونحو ذلك، ومن الحلول التي ابتدعتها تشجيع هجرة ولجوء الشباب من الدول الأخرى خصوصاً الاسلامية التي تتمتع بنسبة عالية من الشباب لتعوّض نقص الأيدي العاملة فيها.

...ولا نغفل عن قتل معنوي آخر من خلال إهمال تربية الأطفال تربية صالحة فيصبحوا أفراداً سيئين منحرفين وربما يتحولون إلى مجرمين ويجلبون الشر للمجتمع، ومن أمثلتها أيضاً الهجرة إلى الغرب وعموم بلاد الكفر وتعريض الأبناء لتلك الضغوط والمغريات والشهوات فيبتعدون عن الدين ويلتحقون بالمجتمعات الضالة فهذا كله قتل معنوي للإنسان على خلاف ما أراده الله تعالى ورسوله.

ص: 413

...وبدلاً من أن تساهم الحكومة العراقية في معالجة أسباب التهجير وتضمن العودة السريعة للمهجرين إلى منازلهم تدعو دول العالم لاستقبالهم وكأن مشروعاً خفياً يجري لتغيير ديموغرافية العراق وتركيبته السكانية بإفراغه من أهله والمجيء بناس من دول أخرى لا نعلمهم سوى أنهم منسجمون مع مصالح أصحاب هذه الخطة، إن المهجرين يغادرون منازلهم وعيونهم عليها وقلوبهم معها وآمالهم مشدودة إلى اليوم الذي يعودون فيه إليها حتى وهم في أقصى نقاط العالم، لذا لا تجد أحداً منهم يبيع بيته أو أثاثه أو يصفي أملاكه إلا النادر وهذا يعني أنهم غير عازمين على هجر بلدهم وتركه، فانتبِهوا إلى هذه المؤامرة الخطيرة على الشعب العراقي التي تشترك فيها دول عدة ويديرها عملاء هذه الدول الذين ينفذون أجنداتهم. (1)

إن السفر لغرض الدراسة في الخارج لا بأس به بعنوانه الأولي بل ضروري لنقل علوم وتكنولوجيا الآخرين إلينا ولكن المشكلة تكمن في السلبيات التي ترافقه كضياع الدين وذوبان الفرد المسلم في العادات والتقاليد الكافرة فيكون السفر حينئذ من الكبائر المعبر عنها (التعرب بعد الهجرة) كما أن السفر الآن لم يأخذ هذا الشكل أي نقل علوم العصر إلينا بل العكس حيث أصبح السفر هجرة للعقول المسلمة إلى الغرب من أجل حفنة من الدولارات بحيث يخشى أن يأتي اليوم الذي يخلو فيه البلد من العقول الفعالة وفي ذلك تضييع لمستقبل هذا البلد، ولا أجد الحصول على بعض الدولارات مهما كثر مبرراً كافياً لترك بلد الإسلام ومهوى أفئدة العالم الذي يدفع الملايين لزيارة هذه الأرض المباركة ومن حل فيها من الأئمة الطاهرين (علیهم السلام) وبلد الحوزة العلمية الشريفة وهي إضافة إلى ذلك عاصمة الإمام المنتظر أرواحنا له الفداء.إنها خدمة مجانية تقدمها على طبق من ذهب إلى أعدائك ليتقووا على قتل إخوانك، فتباً لها من خاسرة أن تهب هذه الطاقات التي بذلت الجهود الجبارة في تربيتها وتكوينها إلى الأعداء مقابل مبلغ من المال مهما زاد فإنه يبقى زهيداً بإزاء الطاقات التي سيقدمها لهم هذا بالنسبة للبلاد الكافرة.

ص: 414


1- وهذا تنبأ من سماحته (دام ظله) الذي صرّح به عام 2007م وحذّر الجهات المعنية من خطر هذه الظاهرة قبل أن تظهر للعلن بشكلها الغريب والملفت للنظر سنة 2015م.

ولو أردنا أن نطّلع بشكل دقيق على حال المشهد العراقي بعد مجيء قوات الاحتلال الأمريكي، فعلينا أن ننظر له من زاوية ما يراه ويقرأه المرجع اليعقوبي، لما يتمتع به هذا المرجع المفكر من نظرة ثاقبة ورؤية واعية، لذا سنكتفي باستعراض بعض ما قاله (دام ظله) في خطاباته الشريفة التي يستقرأ ويحلل فيها الأوضاع التي مرّ ويمر بها العراق، وما يكتنفه من تحديات داخلية وخارجية، ومن خلال هذه الكلمات شخّص (دام ظله) لنا العديد من الأمور المهمة التي لم يلتفت لها الكثيرون، حيث قال (دام ظله) :

(الاحتلال هو أول هذه التحديات وقد قلنا في عدة خطابات منذ الأيام الاولى للاحتلال أنه لا يقتصر على الاحتلال العسكري لأن مجيء القوات المحتلة ومكثها إنما هو أداة ووسيلة لفرض واقع جديد له عدة أبعاد منها:

الهيمنة على القرار السياسي.

ودمج العراق في نظامهم العالمي الجديد.

وتبعية الاقتصاد لنظامهم الحر كما يصفون والاستحواذ على خيراته.

والافساد الأخلاقي.

وتبديل الثقافة والتقاليد التي يبنى عليها سلوك الفرد والمجتمع، والانسلاخ من القيم والمبادئ.

وتصل حتى التغيير الديمغرافي لأجل مصالح معينة وبقيت هذه الأخطار تنخر في جسد العراق وشعبه حتى بعد رحيل القوات العسكرية للمحتلين.

وجاء مع هذه التحديات التي جلبها الاحتلال الإرهاب الذي اتخذ من مقاومة الاحتلال غطاءً لخداع المغفلين حتى يلتحقوا به وينفذوا جرائمه، ووفر هذا التحديان بيئة مناسبة لانخراط الكثير من الشباب في جماعات العنف التي تمارس القتل والخطف والابتزاز والسرقة والاعتداء على الممتلكات العامة ورغم خطورة هذه التحديات إلا أن الأخطر منها هو فساد المتسلطين الماسكين بمفاصل الدولة واستئثارهم بالمال العام وسرقته تحت عناوين وهمية وتهريبه الى خارج العراق وقد تفننوا بهذا بشكل لا نظير له في التاريخ ولا في الجغرافيا كما يقولون.ورافق هذه المسارات تدمير ممنهج لمؤسسات الدولة المدنية والعسكرية لإضعافها وجعلها عاجزة عن القيام بمسؤولياتها في حفظ النظام وحماية المواطنين وحقوقهم والنهوض بالبلاد والقيامبالمشاريع التنموية ومحاسبة

ص: 415

المفسدين، ليغطوا بذلك على فشلهم وفسادهم وشغلوا الناس بنزاعاتهم وصراعاتهم.. وأسوأ ما خلّفه الاحتلال وجاء به سياسيو العصر الجديد، وكان التحدي الخطير الآخر تبعية أغلب الطبقة الحاكمة لأجندات أجنبية ينفذونها على حساب العراق ومصالح أهله..ومن مشكلات العراق المعاصر عملية التجهيل والتضليل وتسطيح لعقول الناس لأن الجاهل يسهل قياده حيث يشاؤون مما أدى الى نقص معرفي وثقافي عام وصل حد التخلف أحياناً ومن المؤسف ممارسة القيادات لذلك حتى بعض الزعامات الدينية ومحاربة من يوقظ الناس وينبهها الى حقوقها ومصالحها وتسقيطه وافتراء الشبهات عليه لخوفهم من يقظة الناس ووعيهم وبصيرتهم في الأمور.. وإن أخطر المشاكل التي صنعوها للعراق وأقذرها فتنة الحرب الطائفية التي لا ثمرة فيها ويخرج الجميع منها خاسرين والمشكلة الخطيرة الاخرى مشروع تقسيم البلاد التي تؤدي الى تمزيق أهله وإدخالهم في صراعات دموية مدمرة لا نهاية لها، ومنها سوء إدارة اقتصاد البلد وعدم وجود خطط مدروسة لاستثمار ثرواته فضاع بسبب ذلك مئات المليارات من الدولارات واقصي المتخصصون والخبراء المهندسون، وهذا ما حصل في كل مؤسسات الدولة التي عبثت بها الأحزاب ورؤساؤها من أمراء الحروب). (1)

وقال (دام ظله) وهو يصف حال المسؤولين في العراق: (..جعلوا دم الإنسان العراقي المضطهد المحروم ورزقه وتاريخه وحضارته وعزّته وكرامته ثمناً لصفقاتهم ولصراعهم على الغنائم وعلى المصالح وتقاسم النفوذ والهيمنة. وإن كل واحد من المشاركين في ظلم الشعب العراقي بأي درجة من الدرجات سيلاقي عاقبة بغيه فإن ظلم العباد بعضهم لبعض من الذنوب التي لا يتركها الله سبحانه، ولو بغى جبل على جبل لتدكدك، ففي كل يوم تسفك دماء بريئة من التي وصفها الحديث الشريف (إن دم المؤمن أشد حرمة عند الله من الكعبة) ، وفي كل يوم يُضاف عدد جديد إلى الملايين الأربعة من المهجرين في داخل العراق وخارجه الذين أجبروا على التخلي عن وطنهم ومساكنهم وحصيلة جهود السنين المتطاولة، وفي كل يوم تنضمّ أعداد جديدة إلى جيوش العاطلين عن العمل حيث تتعطل المصانع وتتوقف الزراعة والتجارة والأعمال، وكم رأينا وسمعنا عن جسر يُدمّر أو بناية تُخرَّب أو مشروع خدمي يتعطل من دون أن تقوم الحكومة

ص: 416


1- خطاب المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج9، رقم (463) بعنوان: (تحديات العراق المعاصر) .

بإصلاح شيء منها فها هي أنقاض تفجير الروضة العسكرية لم ترفع منذ سنة وأربعة أشهر فضلاً عن إعماره، وها هو جسر الصرافية ((1) على حاله يحكي قصة القطيعة التي يريدون فرضها على أبناء الشعب، وها هو شارع المتنبي ((2) يندبالثقافة والأدب والعلم والفكر، وفي كل مرة نسمع بتشكيل لجان تحقيقية من دون أن نعرف نتيجة واحد منها رغم وضوح أسباب بعض الجرائم كاستشهاد ألف من المؤمنين المعزين بذكرى استشهاد الإمام الكاظم (علیه السلام) على جسر الأئمة قبل سنتين ولم تظهر النتائج إلى الآن، نعم كل الذي نسمعه فضائح سرقة أموال الشعب حتى تصدّر العراق بلدُ الحضارة والأئمة والعلماء قائمةَ الدول التي استشرى فيها الفساد في تقرير منظمة الشفافية العالمية.. إن الاحتلال والإرهاب خطران عظيمان يواجهان العراق وشعبه وسببان للمصائب والويلات التي حلّت بهما لكنهما لا يفسران كل ما حصل في العراق من كوارث؛ لأن الأخطر منهما حاضراً ومستقبلاً والذي يوفر لهما عناصر البقاء والنمو هو العنف السياسي الناشئ من الصراع على السلطة، والاستئثار بثروات الشعب، والاستبداد بالقرار، ونظر الكتل السياسية بعضها إلى بعضها على أنهم خصوم وليسوا شركاء في بلد واحد وركاب سفينة واحدة، والتسابق إلى حيازة المغانم على حساب حرمان الشعب من ابسط حقوقه، واعتبار السلطة على أنها وسيلة للإثراء غير المشروع وليست وسيلة لخدمة المواطن وإعمار البلد، وتوزيع المناصب على أساس الولاء للكيان لا على أساس الكفاءة والنزاهة والإخلاص للوطن والشعب، وهذا هو الذي مزّق الشعب وخرّب الدولة وجعل الكتل السياسية منشغلة عن الشعب وهمومه بعقد

ص: 417


1- كان جسر الصرافية هو المنفذ للتنقل بين الكرخ والرصافة خصوصاً لمحبي أهل البيت (عليهم السلام) الذين يتوجهون من شرق بغداد لزيارة الإمامين الكاظمين بعد تعذر المرور عبر الجسور الأخرى بسبب اشتداد الفتنة الطائفية، فكان تفجيره وسقوط قطعة كبيرة منه في نهر دجلة ذا بعد معنوي إن قطع هذا التواصل بين طرفي بغداد ورسّخ القطيعة إضافة إلى ما يختزن من ذكريات لأهل بغداد حيث ناهز عمره (60) عاماً.
2- استهدف تفجير شارع المتنبي في بغداد الذي يمثل نافذة بغداد الثقافية والتأريخية وأحرقت العديد من المكتبات والمعالم الأثرية وأزهقت الأرواح.

الصفقات والتسابق على قضم اكبر مقدار ممكن مما يسمونه بالكعكة وسحق الخصوم حتى لو احتاج الأمر إلى التواطؤ مع الجهات الخارجية). (1)

ص: 418


1- خطاب المرحلة (161) بعنوان: (أعداء الشعب ثلاثة: الاحتلال، الإرهاب، فساد الحكومة) .

العنف العشائري إلغاء لمبدأ التعايش السلمي

يُعرف مصلح العنف بأنه: كل تصرف يؤدي إلى إلحاق الأذى بالآخرين، وقد يكون الأذى جسدياً أو نفسياً كالسخرية والاستهزاء من الفرد، أو فرض الآراء بالقوة، أو إسماع الكلمات البذيئة وجميعها أشكال مختلفة لنفس الظاهرة. وقيل أيضا: أن مفهوم العنف يعني كل فعل يمارس من طرف جماعة أو فرد ضد فرد أو أفراد آخرين عن طريق التعنيف قولاً أو فعلاً وهو فعل عنيف يجسد القوة المادية أو المعنوية، والعنف ليس ظاهرة حديثة لأنها موجودة منذ وجود الإنسان وينقسم إلى:

عنف مادي: ويتمثل بالضرب والسجن والأذى الجسدي بأنواعه.

وعنف معنوي: ويتمثل باللفظي مثل التجريح بالكلام والسب والشتم أو الإهمال والتهميش والإيذاء النفسي والعاطفي. ويمكن من خلال ذلك تعريف العنف العشائري بأنه العنف الذى تباشره مجموعة من الأفراد تنتمى لعشيرة ما ضد مجموعة أخرى من الأفراد تنتمى لعشيرة أخرى وهو اكثر أنواع العنف المجتمعي خطورة لأنه يستخدم فيه جميع أنواع الأسلحة والقوة والتي قد تودى بحياة الكثيرين وإصابات العديد، والتي أحيانا لايمكن السيطرة عليه.

ويندرج تحت العنف العشائري أيضاً العنف ضد الأطفال حيث يؤنب الطفل أو يعنف بما لا يتناسب مع سنه و قدرة تحمله أو عمل الأطفال بفرض من ذويه وأهله وأيضاً وأد البنات الذي يندرج تحت عنوان العنف بكافة أشكاله من بينها العنف العشائري الذي سمح للأب بقتل ابنته خشية الفقر أو الفضيحة، ويندرج ايضا قتل الشرف وكم من فتاة بريئة ذهبت بذنب الشك والريب الذي ليس بمحله، كما يمكننا أن نصنف الثأر على أنه ضمن العنف العشائري، والتفاخر الذي يفوق الحد بما يفقد الآخرين كرامتهم بالاستعلاء عليهم و معايرتهم فهو عنف عشائري يتقصد النفسية وكيان الإنسان واحترامه، وأيضاً العنف الذي قد يتعرض له العاملين لدى أبناء العشائر من موظفين او مزارعين او خدم أو مربين وغيرهم ممن هم بعهدتهم.

ص: 419

ومن المعروف عن أصالة أبناء العشائر الغيارى أنهم يكرمون الغريب ويحسنون للضعيف ويستقبلون الضيف ولا يظلمون أحداً ويحبون مبدأ التعاون على فعل الخير والمعروف، ويحافظون على شرف الناس ويغارون على أعراضهم، ويحمون ممتلكاتهم، إلا أن لكل قاعدة شواذ ومن الممكن أن يكون هناك إستثناءات لهذه القيم ممن يسيئون التعامل مع من يحتاج اليهم بقوت يومه أو يعمل لديهم تحت أي مسمى و هنا سيندرج هذا الأمر تحت العنف العشائري أيضاً. (1)ومن أهم الأسباب التي أدت إلى انتشار العنف العشائري في الفترة ألأخيرة:

تردي الوضع الأمني في العراق وهذا يرجع لعدة أمور لعل أبرزها عدم الاعتماد على القيادات الأمنية المهنية والمؤهلة بما لديها من خبرة في وضع خطط أمنية تتلائم مع طبيعة المكان والسكان إذ لا يمكن آن تكون الخطط الامنية موحدة أو متشابهة مع وجود الاختلاف في طبيعة المكان وطباع المجتمع العراقي ومحافظات العراق فضلاً عن عدم وجود القدرة العالية لدى أجهزة الدولة على امتصاص زخم تلك المعارك والانتهاكات الامنية من قبل العشائر.

عدم احترام القانون لعدة أسباب لعل أهمها ضعف تطبيق القانون من قبل القيادات الأمنية او المجاملة في تطبيقه بسبب تفشي المحسوبية وبالتالي فان المواطن لا يشعر بوجود سلطة حقيقية للدولة او هيبة لهذه السلطة ويرى إن الاحتكام إلى العشيرة اضمن في استيفاء حقه أو تحقيق أهدافه.

غض النظر من قبل الحكومات التي تعاقبت على حكم العراق عن الكثير من الظواهر السلبية الموجودة في المجتمع، كالمشاجرات شبه اليومية في الدوائر الحكومية وغيرها.

شيوع النعرات العشائرية وهيمنة العادات والتقاليد المتخلفة، وانتشار شتى أنواع الأسلحة من بنادق وقاذفات ومدافع هاون وأسلحة رشاشة في المناطق الريفية ولعل عدم إحكام الحدود بين العراق وجيرانه سبب مهم لانتشار التهريب للأسلحة ولغيرها من الممنوعات.

ص: 420


1- يُنظر العنف العشائري، سارة طالب السهيل. موقع مركز النور. بتصرف.

ضعف الإعلام وقلة برامج الترويج لقيم السلم والمحبة والتآخي والتراحم ونبذ العنف من خلال النشاطات الثقافية والعلمية والإعلامية كالسينما والأعمال التلفزيونية والدرامية وغيرها من البرامج والتحذير من تأثيرها على المجتمع وسلبيتها وإيذائها للناس واعتدائها على حرية الأفراد أحيانا أو كرامتهم أو إنسانيتهم أو سلبهم أرواحهم.

وجود أجندات خارجية وواجهات محلية تسعى لتنفيذ مخطط دولي يسعى لتفتيت بنية المجتمع العراقي العشائرية ولعل هذا الامر يعود لعدة أسباب منها تخوف القوى الدولية والاستعمارية من المرجعية الدينية باعتبارها قوة دينية عظمى لها من القوة ما يمكنها من إفشال مخططات هذه الدول لعل الأداة المهمة التي ترتكز عليها المرجعية الدينية هي العشائر العراقية المطيعة لكل ما يصدر منها. (1)الوضع الاقتصادي السيئ للفرد تبعاً الأحوال الاقتصادية المتردية التي يمر بها البلد والبطالة أو فقدان العمل هي أسباب كلها تؤدي لحالات نفسية أولاً وفراغاً ثانياً وحاجة ثالثاً وقيام الفرد بالبحث عن طرق أخرى لتمويل نفسه وإعالة أسرته وربما يتخذ الطرق السيئة لفقد الوازع الأخلاقي والديني.

ومن أهم أسباب انتشار العنف بين القبائل عدم توحيد كلمتها وموقفها و عدم وجود دستور للقبيلة يسري على الجميع عبر مواثيق شرف يتعاهد عليها افراد القبيلة و يكون ذلك تحت اشراف كبير القبيلة الذي يوقع العقاب بمن لا يلتزم بهذه المواثيق كما يقوم بتكريم صاحب الفضل والمبادرات الطيبة في ازاء هذه المواضيع.

ازدياد عدد الرؤوس الكبيرة لرئاسة العشيرة الواحدة وعدم استقرار أفراد العشيرة على أمير واحد وبالتالي تتشتت كلمتهم وتذهب ريحهم، وتنشأ التكتلات وتكثر الخلافات والصراعات الداخلية بسبب ذلك.

ربما بسبب ما يمر به الفرد من ظروف خاصة قد تكون من الممكن أنها جزء من مشكلة عامة متعلقة بالوضع النفسي للفرد أو الوضع الاقتصادي السيء تبعاً الأحوال الاقتصادية المتردية. وبسبب غلاء معيشة، أو بسبب تربية خاطئة، أو معتقدات منحرفة أو غير ذلك.

ص: 421


1- بحث بعنوان: (الصراعات العشائرية... الأسباب والتداعيات)، جاسم عمران الشمري، موقع مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية.

وتوجد أسباب صادمة من تفاهتها فبعض النزاعات و المشاجرات العشائرية والمعارك القبلية كان سببها مثلا الطقس الحار أو مباريات رياضية كلعبة كرة القدم أو كرة السلة أو خلاف على طابور لشراء الخبز أو الأسبقية في محطات البنزين أو شابين يتسابقان في شوارع البلد بسياراتهم الحديثة فيقول له: كيف تسبقني و أنا ابن القبيلة الفلانية و بعضها ليس تافه بل لأسباب من المتوقع أن يكون لها تأثير سلبي على الحالة النفسية للأشخاص و تنعكس على تصرفاتهم كالتي قد تلحق بشخص عاطل عن العمل أو فقد أحد قدميه أو حواسه بسبب الحرب أو الإرهاب أو فقد عزيز عليه بانفجار والأجواء الغير صحيه من قتل وتفجيرات وإرهاب وعدم الإحساس بالأمن والاستقرار. (1)

والعنف العشائري (يكاد يكون مختصاً بالشرق الأوسط عامة والبلدان العربية خاصة كونه أكثر صراحة ووضوح عن باقي بلدان العالم التي و إن كانت في فترات سابقة قائمه على القبلية فهي تجاوزتها مع الأيام و قضت عليها تدريجيا مع مرور الوقت حيث لم يعد للقبيلة وجود قوي أو تأثير واضح في ضل المدنية والدول القائمة على احترام القانون والدستور الذي يحكم ويسود،كما أن الجميع يقودهم نفس المرجع ونفس الرقيب و نفس القصاص بالعدالة والمساواة إلى حد كبير، إلا أننا في دولنا العربية والشرق أوسطيه مازلنا نعيش في مجتمع قائم على القبلية والعشائرية بشكل واضح، والعنف العشائري للأسف أصبح ظاهرة ولم يستطع التقدمبأساليب العيش ووسائل المعيشة الحديثة أن تقضي عليه تماماً فمن العجيب انك تجد أحداً من الممكن ان يكون حاصلا على مستوى تعليمي مرتفع و من دول اجنبيه ويمارس حياة في منتهى العصرية بتفاصيلها من المأكل و الملبس و السكن وغيرها إلا انه مازال متشبثا بقبليته و عندما ينادي احد افراد قبيلته بما يُصطلح عليه ب- (الفزعه) تجده يركض لأجل أن يفزع لابن عمه الذي يلتقي معه بجده السابع أو الثامن فهذه النخوة و المروءة برأيي أمر رائع ومدعاة للفخر فنحن نحترم جداً من يقف لأخيه الإنسان ويساعده ويكن له سنداً و عونا في الشدائد إلا أننا نشجب الممارسات الخاطئة،منها التي بها تعدي أحيانا على الآخرين بما يتنافى مع القيم الأصيلة التي نتباهى و نزهو بها.

ص: 422


1- يُنظر العنف العشائري، سارة طالب السهيل، بتصرف.

والعشائر في بعض البلدان لها دور كبير في بناء الدولة وتأسيسها واستقرارها وأمانها من خلال قوتهم بالرجال والسلاح ووقوفهم بوجه العدو حفاظا على الارض و الشعب من خلال العادات و المفاهيم التي توارثوها، ودافعت القبائل عن دولهم بكل قوتهم وكان لها دور مهم في الحفاظ على النظام ومؤسسات الدولة كونها مركز ثقل لأسباب عديده إلا أن أعداء الوطن في بعض البلدان يحاولون التغلغل بين بعض القبائل والتأثير عليها واستغلالها في الوصول لمآربهم لأنهم يدركون أن العشائر هي الملاذ للحكم والأمن والنظام والإستقرار فيحاولون استغلال الخلافات داخل العشائر للإفساد أو الخلافات بين القبائل المختلفة لخلق بلبله وضوضاء وعدم استقرار و يكون ذلك عبر التأثير على عقولهم أو تميل قلوبهم بالتأثير على عواطفهم أحيانا بالجانب المادي والمصلحي، والعشائر بمميزاتها ومساوئها هي ركيزة من ركائز الدولة فهي نظام إجتماعى رئيسي في المجتمع الذى يقوم على النظام العشائري وبما ان لكل أمر ايجابيات وسلبيات وتتزايد السلبيات حسب الظروف التي تمر بها البلاد في بعض الاوقات من ظروف سياسية واقتصادية صعبه من الممكن أن يكون تأثيرها مباشر على العشيرة بشكل خاص وجميع المواطنين بشكل عام). (1)

وقد شخّص المرجع اليعقوبي محاسن ومساوئ النظام العشائري الذي تنتهجه العشائر، لذا اهتم (دام ظله) بهذا الجانب الإجتماعي بشكل كبير، وأولاه عناية خاصة على المستوى النظري والمستوى العملي، فعلى المستوى النظري، لقد تعرّض (دام ظله) لتشخيص مكامن القوة والضعف في النظام العشائري وبيّن محاسنه وإيجابياته وكذلك سلبياته، وذلك من خلال عدة مناسبات بدأ من زمن الطاغية المقبور وإلى يومنا هذا، وفيما يلي نذكر بعض النصوص من كلماته المباركة في هذا الصدد:

(بالرغم مما ينطوي عليه النظام العشائري من حسنات وإيجابيات كالاتحاد والتآزر والتواصل وسد الحاجة، وما تنطوي عليه العشائر من خصال حميدة كالكرم والشجاعة والوفاء والغيرة والنخوة، لكن هذا كله يجب أنيكون في قالب الدين

ص: 423


1- يُنظر المصدر نفسه.

والشريعة ولا يزيغ عنها، ولا يجوز أن يكون ضغط العرف العشائري أكثر من الوازع الديني بل يجب تهذيب وتعديل هذا العرف بما ينسجم مع الشريعة). (1)

وقال (دام ظله) حول مظلومية المرأة الريفية وما تعانيه من حالات تعسفية جراء النظام الأسري والعشائري الظالم: (إن وضع المرأة في الريف والمناطق العشائرية نموذج للتطبيق السيئ لقيمومة الرجل على المرأة، والشواهد على ذلك كثيرة؛ منها ما يتعلق بجعلها (فصلية) أي ضمن دية القتل، ومنها (النهوة) التي تؤدي إلى تعطيل النساء عن الزواج، ومنها القتل لأتفه الأسباب مما يسمونه (بغسل العار) ، ومن الشواهد على عدم الإنصاف والمروءة والرحمة في توزيع الأعمال على الجنسين، فالمرأة تستيقظ من النوم قبل الفجر لتعجن الطحين، ثم تخبز وتهيئ طعام الإفطار، ثم تجلب الماء وتطبخ الطعام وتحرث وتزرع وتجني وتحلب الدواب وغيرها كثير، مضافاً إلى مسؤولياتها العائلية كالحمل والإنجاب والرضاع وقضاء حاجة الزوج وخدمة أفراد العائلة، فبماذا استحق الرجل كل هذه الخدمة؟! وماذا جنت المرأة حتى تعاقب بهذه (الأشغال الشاقة) التي يُحكَم بأقل منها على الجناة ومرتكبي الجرائم؟! وإني لأعجب لهؤلاء الرجال الذين ينبض فيهم عرق الغيرة لأقل كلمة يسمعونها في شرفهم من دون التحقق من صدقها، وقد يكون قائلها مغرضاً يريد الانتقام من هذا (الغيور) ومن شرفه، فتراق الدماء التي حرمها الله تبارك وتعالى، وجعل حرمة دم المؤمن أعظم عند الله من الكعبة كما ورد في الحديث النبوي الشريف. فبينما تراهم بهذا المستوى من (الغيرة) الجوفاء تراهم يرسلون نساءهم إلى مسافات بعيدة لجلب الماء وفي طرق خالية، مما يعرضهن إلى اعتداء الذئاب البشرية وهن ساذجات جاهلات يسهل خداعهن وإيقاعهن في الفاحشة، فهل يقع اللوم الأكثر عليهن أم على أولياء أمورهن الذين يجبرونهن على القيام بهذه الأعمال وهم يعلمون هذه النتائج سلفاً؟! وإذا ما حدث الخطأ - والعياذ بالله- أنزلوا العقوبة الشديدة بهن. فلماذا يستنكف الرجل من القيام بهذه الأعمال وقد هيّأ الله أبدانهم للقيام بهذه الأعمال الشاقة؟! وقد يخشى التعيير بذلك، لكن طاعة الله وتجنب معصيته والعمل بما تقتضيه الأخلاق والشرف والعفة والحياء ليس عاراً، بل العار هو ما يفعله هؤلاء الناس حيث حذّر رسول الله (صلی الله علیه و آله) من مثل هذا الزمان الذي يرى الناس فيه المعروف منكراً

ص: 424


1- الاستفتاءات والتوجيهات الاجتماعية، المرجع اليعقوبي.

والمنكر معروفاً، وحتى لو كان عاراً فهو أولى من دخول النار، كما كان يرتجز الإمام الحسين (علیه السلام) يوم عاشوراء:

الموت أولى من ركوب العارِ *** والعار أولى من دخول النارِ

وإن قلبي ليتمزق ألماً وأسفاً لوقوع مثل هذه التصرفات المنافية للدين والأخلاق، وفي هذا البلد الذي يحتضن المرجعية الشريفة ومراقد الأئمة الأطهار (علیهم السلام) ويعد مركز إشعاع الفكر الإسلامي للعالم كله، وسيكون عمّاقريب عاصمة الإمام المهدي (عجل الله فرجه) فهل ترجون نصرة الإمام ونيل رضاه بهذه الهمجية والجاهلية. (1)

أما ظاهرة عدم تزويج العلويات من غير الهاشمين، التي تنتهجها بعض العشائر العلوية للأسف الشديد، فقد تعرض (دام ظله) لهذا الموضوع أكثر من مرة، ونقده بشدة قائلاً: (إن منشأ ذلك شعور بالعصبية الجاهلية وروح الاستعلاء وأن الآخرين هم أدنى مرتبة فلا يستحقون التزويج منهم، وإنما سمّيتها بالجاهلية لأن القرآن يسمي كل عقيدة أو سلوك بعيداً عن المنهج الالهي (جاهلية) وقد كان قوم في الجاهلية لا يزوّجون نساءهم إلى غيرهم ويعتقدون بأفضليتهم على الناس ويسمون أنفسهم (الحمس) وقد تسربت هذه الروح إلى المسلمين فكان العرب الفاتحين يرون أنفسهم أفضل من غير العرب فلا يزوّجونهم ويسمونهم (الموالي) وقد شكى الموالي ذلك إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) فخرج إليهم وهو مغضب ووبخهم، لكنهم عصوا أمره وأصرّوا على استكبارهم) (2) ،كما وصف (دام ظله) هذه الظاهرة بأنها (ظاهرة ظالمة) حيث قال: (روي عن الإمام الباقر (علیه السلام) أنه قال: (لما حضر علي بن الحسين (علیه السلام) الوفاة ضمّني الى صدره، ثم قال: يا بنيّ: أوصيك بما أوصاني به أبي (علیه السلام) حين حضرته الوفاة، بما ذكر أن أباه أوصاه به، قال: يا بنيَّ، إيّاك وظلم من لا يجد عليك ناصراً الا الله) فلنتذكر هذه الوصية التي تواصى بها الائمة المعصومون (علیهم السلام) واحداً بعد واحد في لحظاتهم الأخيرة. وهذه الوصية تنطبق بشكل واضح على ظلم المرأة العفيفة المصونة الصابرة لأنها لا تجد ناصرا على من ظلمها الا الله تعالى، فلا تملك الا ان تخلو مع ربها وتُفضي بآلامها اليه سبحانه وتدعو على من ظلمها، في الحديث الشريف عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: (اتقوا دعوة المظلوم

ص: 425


1- ظواهر اجتماعية منحرفة، المرجع اليعقوبي.
2- المصدر نفسه.

وان كان كافراً، فانه ليس دونه حجاب) بل إن ظلم المرأة من افحش الظلم لأنها مستضعفة، كما ورد في الحديث الشريف عن النبي (صلی الله علیه و آله) : (اتقوا الله في الضعيفين: المرأة واليتيم) وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) : (ظلم الضعيف افحش الظلم) ونريد ان ننبّه اليوم الى واحدة من المظالم التي تتعرض لها المرأة، حيث يوجد عُرُف لدى بعض العشائر من السادة المنتسبين إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهي عدم تزويج بناتهم إلى غير السادة، حتى لو أدّى ذلك إلى تعطيل البنت وحرمانها من الزواج، وفي ذلك ظلم للمرأة وحرمان لحق من حقوقها وقد بالغ بعض السادة فمنعوا من تزويج بناتهم من سادة آخرين لا يرونهم بمستواهم، كما نُقل لنا عن بعض السادة، حيث استردّ ابنته كرهاً من زوجها الذي هو من سادة غيرهم، واعتبر ذلك الزواج غير شرعي (زنا) بنظره. وقد سَرَتْ هذه الثقافة إلى بعض العشائر من غير السادة أيضاً.. إن روح الاستعلاء هذه من نزعات الشيطان وتسويلات النفس الأمّارة بالسوء، فعلى الأخوةالمؤمنين نبذها وتركها والاستنان بسنة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإني أقول قولي هذا مراعاة لذرية الزهراء (علیه السلام) فقد بلغني أن الكثير من العلويات تعنس ويفوتها الزواج بسبب هذه العادة الظالمة، حيث ينهى عنها أولاد عمها ولا يتزوجونها، فيحرمونها من ممارسة حقها في الحياة كزوجة وكأم لأولاد يرعونها في الكبر، وهذا ظلم، لان معنى الظلم حرمان الاخر من حقه والزواج من الحقوق الإنسانية التي اهتم بها الشرع المقدس حتى قال فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (من سنتي التزويج، فمن رغب عن سنتي فليس مني) وحرمان المرأة من هذا الحق ظلم كبير فلماذا هذا الظلم؟! ألم يبلغهم ما ورد عن المعصومين (سلام الله عليهم) من التهديد والوعيد الشديدين في من يمارس الظلم، ومنها الحديث عن النبي (صلی الله علیه و آله) : (انه ليأتي العبد يوم القيامة وقد سرته حسناته فيجيئ الرجل فيقول: يا رب ظلمني هذا، فيؤخذ من حسناته فيجعل في حسنات الذي سأله، فما يزال كذلك حتى ما يبقى له من حسنة، فاذا جاء من يساله نظر الى سيئاته فجعلت مع سيئات الرجل، فلا يزال يستوفي منه حتى يدخل النار). (1)

وعبّر (دام ظله) أيضاً عن هذه الظاهرة بأنها (ظاهرة جاهلية) حيث قال (دام ظله) : (..بلغني أن بعض السادة حرموا إحدى بناتهم من زوجها لأنه من سادة غيرهم،

ص: 426


1- خطاب المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج9، خطاب رقم (432) بعنوان: (عادة ظالمة: عدم تزويج العلويات لغير السادة) .

ويعتبرون بقائها معه (زنا) والعياذ بالله؟! وهذه جناية كبيرة أن يتكبر أحدهم حتى على أولاد عمه من ذرية رسول الله (صلی الله علیه و آله) إنها (الجاهلية) تعود من جديد بشعارات دينية وعلى جميع الخطباء والمثقفين ان يقوموا بنهضة اصلاحية وخلق ثقافة عامة ضد هذه العادات الظالم. فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون، وعودوا إلى كتاب ربكم وسنة نبيكم (صلی الله علیه و آله) واستغفروا الله من ظلمكم للنساء؛ فإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أوصى بهن، وقال: اتقوا الله في الضعيفين - المرأة واليتيم- وفي حديث آخر ما أكرمهن الا كريم وما أهانهن إلا لئيم). (1)

أما على المستوى العملي فقد مارس المرجع اليعقوبي مهامه ومسؤوليته كقائد ومرجع دين للأمة، وحاول جاهداً ان يرشد العشائر التي تنتهك حقوق الأخرين وتتعرض لهم بالأذية والسوء، ونذكر على ذلك شاهداً تأريخياً مشرقاً ومشرفاً، حيث أرسل سماحة (دام ظله) رسالة نصية إلى رئيس إحدى العشائر التي لاقى المواطنون منها في مدينة البصرة الكثير من الأذى جراء عمليات السلب والنهب والقتل، وطلب (دام ظله) في هذه الرسالة من شيخ هذه العشيرة أن يحل عليه ضيفاً في مكتبه في النجف الأشرف، لكي يتباحث معه حول أمر هذه الظاهرة الخطيرة، ويحد من حصولها، حيث جاء فيها:(لقد بلغني أنباء غير سارة وتثير قلقي ورفضي ومعي جميع المؤمنين والغيارى من أبناء هذا البلد الكريم الذي شرفه الله تعالى بأن جعله مهبط أنبيائه ورسله والأئمة الطاهرين، حيث تجد مشاهدهم ومعالمهم منتشرة فيه وقد اختاره الله تبارك وتعالى ليكون عاصمة الإمام المنتظر الموعود (علیه السلام) ومنطلق دعوته المباركة التي تشرق بنورها على جميع المعمورة، أفبعد كل هذا نسمع أن مجموعة ممن نسبوا إلى عشيرة (.....) (2) في محافظة البصرة الفيحاء يعيثون في الأرض فساداً فيقتلون ويسلبون ويخربون المنشآت الحيوية في البلد، وها قد كتبت لكم لأستعلم الخبر اليقين، هل أن مثل هذه الأفعال تصدر من أناس ينتسبون إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي أرسله الله رحمة للعالمين وليقيم العدل والقسط وينشر الهدى والسلام والطمأنينة هل أن مثل هذه الأفعال تصدر من أناس ينتمون إلى علي بن أبي طالب رمز العدالة والإنسانية والذي كرّس حياته لإزالة الظلم والفساد من الأرض حتى مضى شهيدا، هل أن مثل هذه الأفعال تصدر من

ص: 427


1- المصدر نفسه.
2- أعرضنا عن ذكر اسم هذه العشيرة صوناً لماء وجهها وحفاظاً على سمعتها.

أنس يؤمنون بوجود الإمام المهدي (علیه السلام) وينتظرون ظهوره المبارك ليملأ الأرض قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلماً وجوراً، فكيف ينصرونه وهم يملؤون الأرض خراباً وفساداً وتصيح الناس من ويلاتهم، هل أن مثل هذه الأفعال تقع على التربة التي شرفها الله تعالى كما قلنا؟ هل أن هذه المظالم والجرائم تقع على الشعب الطيب المضطهد المحروم الذي عانى الويلات والكوارث من صدام وظن انه سيتنفّس الصعداء بعد زواله فعادت إليه المحن الفظيعة.

هل يعلم هؤلاء أنهم ينفذون خطط أعداء الإسلام والعروبة في تخريب العراق وتدمير بنيته التحتية ونهب ثرواته وقتل شعبه لأنه معقل الوعي والحرية والأخلاق الفاضلة. هل تستحق مصالح شخصية محدودة وزائلة وعبارة عن أوهام وسراب لا يلبث أن يراه أنه لا شيء وأنه أفنى عمره بما يضره ولا ينفعه. أو يؤمن هؤلاء بالمعاد والحساب والموت والقبر حيث يقول الله العظيم المنتقم الجبار خالق السماوات والأرض (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) حيث تعرض صحائف أعمال العباد عليهم فينظر المسيء إلى كتابه المليء بالجرائم والمعاصي ويصف لنا الله تعالى حاله يومئذٍ بقوله: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) ألم يسمعوا من الخطباء والوعّاظ ويقرأوا في الكتب ما جاء عن المعصومين في شدة نزعات الموت وعذاب القبر وأهوال البرزخ وشدائد القيامة حيث يصفها الله تبارك وتعالى (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) وفوق كل ذلك الحياء والخجل من النبي الكريم محمد (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) وفاطمة الزهراء والحسن والحسين وأبي الفضل العباس والأئمة الطاهرين (علیهم السلام) حيث تعرض عليهم صحائف الأعمال وهم ينظرون فيها تارة وينظرونإلى صاحب الكتاب تارة أخرى قد ملأت عيونهم الشريفة بالعتب والتعجب والتساؤلات الكثيرة فهل يتحمل عاقل هذا الموقف أم يود أن تبتلعه الأرض حيث لا ينفع الندم؟

ص: 428

لقد وجهت إليك رسالتي لعلمي بأن لك مكانة اجتماعية مرموقة وتمتلك تأثيراً كبيراً على أبناء تلك المنطقة، وهذا الجاه يحمّلك مسؤولية مضاعفة في السعي الحثيث للقضاء على هذه الحالة وان كان لهؤلاء الناس مطالب فيمكن أن تستحصل بالحوار، وسوف لا أقصر في تحقيق مطالبكم المشروعة فإني أرى السعادة في السعي لقضاء حوائج المؤمنين فهذه فرصة عظيمة لتحصيل الأجر ولإدخال السرور على قلب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين وفاطمة الزهراء والإمام المهدي (علیهم السلام) قد حباك الله تعالى بها وأنت جدير بان تغتنمها. وأكون مسروراً لو لبيت دعوتي لزيارة مرقد أمير المؤمنين (علیه السلام) والحلول ضيفاً في داري التي هي دار كل المؤمنين والشرفاء حتى نناقش تفاصيل الحالة وكيفية علاجها. وأملي بكم كبير أن تبذلوا جهودكم بأقصى حدودها لإرضاء الله تبارك وتعالى وإدخال السرور على المؤمنين وتقبلوا شكري لتفضلكم بالإصغاء إلي ودعائي لكم بالتوفيق). (1)

وبفضل الله تعالى وغيرة المرجعية الرشيدة أثمرت الرسالة وتوقفت عمليات السلب والنهب والقتل الذي يقوم به قطاع الطرق من أبناء العشائر على طريق البصرة – القرنة.

وبعدما أوصل أحد الأخوة المؤمنين رسالة المرجعية الرشيدة إلى شيخ هذه العشيرة لبى الأخير دعوة المرجعية وحل ضيفاً عليها مع عدد من رؤساء الأفخاذ ورافقهم بعض الفضلاء والإخوة المرتبطين بالحكومة المحلية، وقد تحدثوا عن الوضع السيئ الذي تعيشه المنطقة وحرمانهم من فرص العيش الكريمة طيلة فترة النظام الصدامي وبعده، مما دفع بعض أبناء تلك العشائر (وليس فقط عشيرة.....) إلى أعمال غير مشروعة لا يرتضيها المسلم الغيور مما سبب سمعة سيئة لعشائر تلك المنطقة، وطالبوا بتوفير فرص العمل في حماية المؤسسات الحيوية لينالوا رزقهم بكرامة وليكونوا جزءا من حماة الوطن ومصالحه بدلاً من أن يكونوا سبباً لإشاعة المشاكل والجرائم. وأبدوا استعدادهم لطاعة المرجعية الشريفة وطلبوا مساعدتها في تحقيق مطالبهم، وقد رحب بهم سماحة الشيخ وشكرهم على تلبيه الدعوة واثني على الخصال الحميدة للعشائر، ودعاهم إلى التحلي بالصبر واتباع الوسائل السلمية السياسية لتحقيق المطالب لكيلا تقع فيما هو أسوأ ووعدهم بالسعي لمساعدتهم في تحقيق مطالبهم المشروعة. (2)

ص: 429


1- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج3، (رسالة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) إلى شيخ عشيرة.....) .
2- المصدر نفسه.

والموقف المشرّف الآخر لمرجعيتنا الرشيدة في هذا الصدد هو مباركة البيان الختامي لتجمع (آل بو محمد) حيث اجتمع أكثر من ثلاثة آلاف ما بين شيوخ عامين ورؤساء عشائر ووجهاء آل بو محمد سنة 2005م وحضر اللقاء عدد من السادة الأشراف وشيوخ عامين ورؤساء عشائر أخرى وصدر عن التجمع بيان ختامي تضمن عدة نقاط وقد أرسلت نسخة منه إلى المرجع اليعقوبي (دام ظله) فكتب الرسالة التالية لمباركة هذا التجمع وما تمخّض عنه من نتائج ايجابية:

إلى جناب الشيخ عبد الصاحب محمد العريبي وسائر إخوانه من شيوخ تجمع قبيلة آلبو محمد (دامت توفيقاتهم).

سررت بهذا التجمع المبارك وما تمخّض عنه من اتفاق أشهدتم الله تبارك وتعالى ورسوله عليه وصالح المؤمنين، وإني مع كل مسلم غيور متفاءل بهذه الخطوة الجليلة راجياً من كل عشائرنا الكريمة أن تحذو حذوكم ولكم بذلك اجر كل من قام بهذا العمل المبارك لأنكم سننتم هذه السنة الطيبة.

أعزائي وأحبائي: لتعزيز الميثاق المبارك والالتزام به ينبغي نشر الوعي الإسلامي في العشائر من خلال عقد محاضرات ومجالس لشرح كتاب (فقه العشائر) لسيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره) وكتاب (رؤى إسلامية في أحكام العشائر وتقاليدها) الذي كتب بأشرافي وبيانات أخرى، فإنها الضمانة للارتقاء بعشائرنا إلى المستوى الذي يحظى برضا إمام العصر (أرواحنا له الفداء) المطلع على أعمالنا لتزكيتها ومباركتها، وان حفظ الأمن لطرق المسلمين وبيوتهم وأموالهم والمراكز الانتخابية والوقوف بحزم في وجه من يعكّر صفو ذلك لهي من أعظم القربات إلى الله تبارك وتعالى ويشكرها الخالق والمخلوق. وإني أدعو السلطات المختصة بتقديم وسائل الدعم والمساندة لهؤلاء الغيارى الذين هبوا لنصرة بلدهم وأمتهم وليمسحوا على رؤوس المحرومين والمضطهدين عسى أن تتحقق الآمال ويولد بلد حرّ وأمة كريمة ونظام عادل (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (سيجعل الله بعد عسر يسراً) ، (إن مع العسر يسراً) أكرر شكري ودعائي وتحياتي. (1)

ص: 430


1- المصدر نفسه.

ولأجل علاج ظاهرة العنف العشائري لابد من القيام بعدة خطوات تدريجية نستطيع من خلالها بناء مجتمع متماسك خالي من الظواهر السلبية ولعل أهم هذه الخطوات ما يلي:

إشاعة ثقافة التعارف والتواصل الاجتماعي والمحبة والتسامح بين أبناء المجتمع العراقي بمختلف عشائره وطوائفه وقومياته ومذاهبه وإشاعة ثقافة حقوق الإنسان وتطبيق مبدأ التعايش السلمي في هذا البلد الذي يعتبر وطنا للجميع وان أمنه وحماية سيادته واجب ومسؤولية الجميع.نشر الوعي والمعرفة لدى فئات المجتمع كافة وتوفير كل الوسائل اللازمة لذلك والتركيز على المجتمعات الريفية بالذات وذلك من خلال تطبيق قانوني التعليم الإلزامي ومحو الأمية ونشر الثقافات الحميدة وزرع القيم من خلال المدارس والجامعات ودور العبادة ومن ثم سن القوانين الصارمة وفرضها بشدة وحزم من قبل الأجهزة الأمنية والتنفيذية والحكومية.

تهذيب الأعراف العشائرية التي تخالف الشرع والقانون أو تنتهك حقوق الإنسان وتكليف المديرية العامة لشؤون العشائر بتبني هذا الموضوع شرط الاعتماد على أصحاب الخبرة من شيوخ العشائر وبالأخص من هو مهتم بالشأن العشائري اهتمام شرعي وأكاديمي وعلمي.

القضاء على البطالة وتأمين مصادر الرزق لأبناء العشائر والقيام بمختلف النشاطات والفعاليات المجتمعية التي تثقف الشباب وتشغلهم عن التفكير بشكل رجعي.

مصادرة السلاح غير مرخص والعمل على حل النزاعات وبحضور واضح من الدولة في كل نزاع إن استطاعت الحل حلته وان استعصى الحل تطبق القانون بحرفيته، لأنه ضمانة لحماية حقوق الأشخاص والأموال والحريات وغير ذلك.

لابد أن يكون هناك دور للعشيرة نفسها (باعتبارها سلطة الضبط الاجتماعي) في ردع أبنائها والسيطرة عليهم من جهة وتوعيتهم وتثقيفهم من جهة أخرى ووضع منهاج ومواثيق تحدد لكل فرد ما له وما عليه في هذه العشيرة شرط أن لا تكون منافية للقانون أو النظام العام والآداب العامة ويجب أن تكون العشيرة نفسها هي أول من يعاقب من يتعدى على الآخرين بغير وجه حق.

ص: 431

نبذ الظواهر السلبية الدخيلة على المجتمع العراقي وتقاليد وأعراف العشائر العراقية الأصيلة، ومنها حرق البيوت وفيها النساء والأطفال، والكتابة على المحلات والدور بكلمات (مطلوب عشائريا) فضلا عن استخدام السلاح بطرق غير قانونية وابتزاز الناس والاعتداء عليهم بالأسلحة المختلفة.

اعتبار أي عمل يخل بالأمن من قبيل المنازعات العشائرية عمل إرهابي ومنع التهديد العشائري للموظفين وخاصة منتسبي القوات الامنية والأطباء والتجاوز على القانون دعم وإسناد الأجهزة الامنية وخاصة في المعلومة التي تسهم في ضبط الأمن.عقد الندوات والمؤتمرات بشكل مستمر في دواوين العشائر وتبادل المعلومات وتوثيق الاجتماعات ومناقشة تعامل القوات الامنية مع المواطنين والسيطرات خاصة. والاعتماد على قوة العشيرة وتوظيفها في خدمة الدين والوطن والدفاع عن البلد والشعب والمقدسات. (1)

الانتباه لأهمية الإعلام والدعاية والاعلان للترويج لقيم السلم والمحبة والتآخي والتراحم ونبذ العنف واظهاره بالسينما والأعمال التلفزيونية والدرامية وغيرها من البرامج بصورتها السيئة والتحذير من تأثيرها على المجتمع و سلبيتها وايذائها للناس واعتدائها على حرية الأفراد أحياناً أو كرامتهم أو انسانيتهم أو سلبهم أرواحهم، فضُعف ما تقدمه وسائل الإعلام من توعيه اضافة لضعف التوجيه الأسري والديني والأخلاقي في البيت والمدرسة ودور العبادة كل هذا يؤدي إلى زيادة هذه الظاهرة السيئة.

لابد من الاختلاط بالشعوب والانفتاح على الحضارات والثقافات العالمية وذلك من خلال اولا التعليم الاجباري و نشر الثقافات المختلفة الحميدة و زرع القيم من خلال المدارس والجامعات ودور العبادة ومن ثم سن القوانين الصارمة والعمل بها بشدة وحزم من قبل الأجهزة الأمنية والتنفيذية والحكومية، كما يجب نبذ فكرة أخذ حقك بيدك شجاعة وقوة في عقول أبناء العشائر و إقناعهم ان هذه الفكرة كانت سائدة ما قبل قيام الدول بمؤسساتها التي تكفل للمواطن حقوقه.

ص: 432


1- بحث بعنوان: (الصراعات العشائرية... الأسباب والتداعيات) ، جاسم عمران الشمري، موقع مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية.

على القبيلة نفسها أن تردع أبنائها وتوعيهم وتثقفهم، كما يجب أن يقوم أمير القبيلة بوضع منهاج للصلح العشائري ومواثيق تحدد ما له و ما عليه لكل مواطن في هذه القبيلة وإن يوضع لجان للصلح وسن قانون وصياغة عقود بان لا تكون منافيه للقانون العام للبلد ولا منافيه للأخلاقيات المتعارف عليها بل مؤكده لها بما يتناسب مع عادات القبيلة بإطار يستوعبه الرجل القبلي و يجب الأخذ بعين الاعتبار أن هذه المواثيق لن تكون حامياً للمذنب من الحق العام وإن استطاع التملص من الحق الخاص عبر الجاه أو الدية أو الفدية أو العطوة وخلافها من المفاهيم العشائرية المتعارف عليها لهذا يجب أن لا يركن الجاني أو المعتدي على الصلح العشائري فلا يتوارى عن جريمته معتمداً على صلح يستهوونه مسبقاً.

إذن خطورة هذه الظاهرة تتطلب منا بذل جهود متظافرة لأجل السيطرة عليها عن طريق الحكومة والأسرة والمجتمع بالتعاون مع المدارس والجامعات ووسائل الإعلام وبالتنسيق من قبل الحكومة مع هذه المؤسسات ووضع خطة محكمة أساسها التوعية والتحذير والبداية تكون في عقل الشخص مرتبطة بثقافته ومستوى إدراكه وتقبله للأفكار الجديدة ومقدرته على السماع وفتح باب الحوار كي يسمع ويقتنع و لابد أن يكون هذا منمرحلة الطفولة المبكرة حتى يتسنى لنا تربية الاطفال في أجواء حياتية ملائمه لنمو نفسي وجسدي سليم ومتكامل، وذلك يكون تفادياً للمشكلة وللوقاية منها قبل حدوثها أو في بداياتها. وكذلك عن طريق الوعظ والنصح من خلال التعاليم الدينية كل حسب دينه والتي جميعها يدعو للقيم النبيلة ويعطي منهاجاً للعيش ببيئة صالحة عبر التآخي والتراحم، والمحبة والسلام، التسامح والعفو، الصبر واحتواء الآخرين واحترام الغير وتقبل الرأي المخالف، ويكون أيضاً من خلال التربية الصحيحة وإشغال وقت الطفل والشاب بالهوايات والنشاطات المفيدة. (1)

ولما كان رئيس العشيرة ورؤساء الأفخاذ والوجهاء من المؤمنين يتحملون مسؤولية شرعية أمام الله تعالى وأمام المجتمع بضرورة توجيه الأفراد وتحديد السلوك في اغلب الأحيان لما يربطهم بالمجتمع من علاقات اجتماعية ومصالح مشتركة طبقاً لمضمون الحديث النبوي الشريف: (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته ترسيخ مفهوم الدولة في المجتمع

ص: 433


1- يُنظر العنف العشائري، سارة طالب السهيل، موقع النور.

ورفض وجود أشخاص فوق القانون أو تطبيق شيء غير القانون سواء سنة عرفية أو عشائرية -و شرعية وغيرها، فالأساس هو القانون الذي لا يختلف مع جوهر الدين والعشائرية الصحيحة التي تقوم على أساس المحبة والتسامح). (1)

ص: 434


1- بحث بعنوان: (الصراعات العشائرية... الأسباب والتداعيات) ، جاسم عمران الشمري، موقع مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية. بتصرف بسيط.

الرفق والتعايش السلمي مع الحيوانات (شركائنا في الحياة)

في المنظور الإسلامي

تكفلت الشريعة الإسلامية بحفظ حقوق جميع المخلوقات، فكما إن التشريع الإلهي رمى على عاتق العقلاء من الناس التكاليف الشرعية والالتزامات والواجبات الفقهية والأخلاقية فإنه في الوقت نفسه أكد على ضرورة أداء الحقوق لكل فرد من أفراد البشر حسب منزلته وحسب علاقته بالإنسان الآخر. كما إنه ضمن أيضاً الحقوق والواجبات التي يجب أن يؤديها الإنسان تجاه الحيوانات بل والنباتات أيضاً، ويبدو لنا من ذلك واضحاً وجلياً دقة التشريع الإسلامي ومن جهة أخرى معالم العطف والرحمة والحنان التي يوليها المشرع الإسلامي للحيوان، فالإسلام الذي يعتني بحرمة الحيوان ويحث وبشكل مؤكد بالعطف عليه ويضمن حقوقه بل ويحاسب على التقصير في ذلك، ألا يعتني بخليفة الله في الأرض وهو الإنسان ويضمن حقوقه ويقنن تعاملاته مع الآخرين، ويحثه على اعتناق قيم المحبة والرحمة والعطف ونحوها من القيم الإنسانية السامية.

فعندما نطالع الروايات الشريفة الواردة عن أهل بيت العصمة (عليهم الصلاة والسلام) وكذلك القصص التي رويت عنهم (عليهم الصلاة والسلام) نكتشف كيف إنهم كانوا يكرمون الحيوانات ويحفظون كرامتها ويصونون حقوقها، بل يحرص الإسلام حتى على مداراة مشاعر الحيوان وعدم اخافته، فضلاً عما هو أشد من ذلك.

فقد نُقل عن الإمام أمير الموحدين علي (علیه السلام) أنه قال: (إذا مررت بعصفور يشرب من بركة ماء فلا تمر بجانبه لتخيفه وابتغ بذلك وجه الله عسى أن يؤمنك من الخوف يوم تبلغ القلوب الحناجر) فأنظر إلى عظمة الإسلام وعظمة تشريعاته السمحاء التي يحير القلم ماذا يكتب عنها وماذا يتحدث اللسان عن سمو رفعتها في زمن غابت فيه القيم ومعالم الرحمة والسلام والرأفة بالآخرين؟!.. أليست هذه الصورة الإسلامية التي ترسمها هذه الرواية العلوية الشريفة، كافية لكي تعطينا درساً بليغاً في التعامل مع

ص: 435

الآخرين، وفق مبدأ التعايش السلمي، نعم التعايش السلمي مع الحيوان، فضلاً عن الإنسان!

كما وعد الإسلام الحنيف بثواب عظيم لمن يرفق بالحيوانات ويعطف عليها لكي يشجع الإنسان على الرفق بها ولا يظلمها لأنها شريكة له في هذه الحياة الدنيا، والحيوانات فيما يظهر لنا أنها عجماء لا تتكلم ولكنها في الحقيقة تتكلم وتخاطب بعضها بعضاً وقد تخاطب غيرها، والله تعالى قد يطلع أحد خلقه على ذلك معجزة له أو كرامة، ومن ذلك ما حصل لنبي الله سليمان (علیه السلام) وغيره، قال تعالى: (حتى اذا أتوا على واد النملقالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لايشعرون) والهدهد تكلم وقال: (أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين).

وكما

هو معلوم فإن الله تعالى خلق الإنسان وكرمه، وسخّر له الحيوانات لتخدمه في قضاء حوائجه فيستفيد من لحومها وألبانها، ويرتدي الملابس من صوفها وجلودها، ويتخذ من بعضها زينة وطيبًا. قال تعالى: (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون. ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون. وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم. والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون) ومن الآداب التي ينبغي أن يلتزم بها المسلم عند تعامله مع الحيوان هو شكر الله على هذه النعمة وذلك بحسن استخدامها ورحمتها والاستفادة منها، وأداء حق الله فيها من الحقوق الشرعية والزكاة والصدقات.

جملة من حقوق الحيوان في الشريعة الإسلامية:

لم تقتصر دعوة الإسلام العزيز إلى اللاعنف والتعايش السلمي فيما بين بني البشر وحسب، وإنّما تعدّت وصاياه عن ذلك لتشمل تعامل الإنسان مع سائر الموجودات الاُخرى.فمن خلال الروايات يتجلّى واضحاً أنّ الإسلام يدعو إلى اللاعنف واللين حتّى مع الحيوانات، وفيما يأتي جملة من حقوق الحيوان التي سنها المشرع الإسلامي بهذا الخصوص:

ص: 436

حرمة تعذيب الحيوان وإيذائه:

حث

الإسلام على الرحمة والشفقة، لذلك فإن المسلم الحقيقي لا يعذب حيوانًا أو طائرًا، بل حتى الحشرات، خاصة إذا كان هذا التعذيب بالنار، فقد ورد النهي عن ضرب وجوه البهائم وعن الوسم في وجوه البهائم، أو أن يقتل شيء من الدواب صبراً، والصبر هو الحبس دون طعام ولا شراب حتى الموت. ويروى في هذا الباب إن النبي (صلی الله علیه و آله) رأى قرية نمل حرقها الصحابة، فقال: (من حَرَّق هذه؟) فقالوا: نحن، قال: (إنه لا ينبغي أن يعذِّب بالنار إلا رب النار).

كما لا يجيز الإسلام وسم الحيوان كياً في وجهه فإنه أمر منهي عنه لقول رسول الله (صلی الله علیه و آله) عندما مرّ بحمار قد وسم في وجهه: (لعن الله الذي وسمه، أما بلغكم أني لعنت من وسم البهيمة في وجهها أو ضربها في وجهها) وعن الإمام أبي عبد الله (علیه السلام) انه قال: إن لكل شيء حرمة وحرمة البهائم في وجوهها، كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : لا تضربوا وجوه الدواب، وكل شيء فيه الروح فإنه يسبح بحمد الله. ويروى في سيرة الإمام زين الساجدين (علیه السلام) إنه حج على ناقة أربعين حجة فما قرعها بسوط. وهذه منالأدبيات التي يعلمنا إياها الإمام (علیه السلام) في التعامل مع الحيوان. وروي في مكان آخر إنه (علیه السلام) حج على ناقته عشر سنين فما قرعها بسوط، ولقد بركت به سنة من سنواته فما قرعها بسوط. وعن إبراهيم بن علي، عن أبيه قال : حججت مع علي بن الحسين (علیه السلام) فالتاثت عليه الناقة في سيرها، فأشار إليها بالقضيب، ثم قال : (آه لولا القصاص ورد يده عنها). كما نهى الإسلام عن نتف ريش الطائر وهو حي، فقد ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: (كان رجل شيخ ناسك يعبد الله في بني إسرائيل، فبينا هو يصلي وهو في عبادته إذ بصر بغلامين صبيين قد أخذا ديكاً وهما ينتفان ريشه، فأقبل على ما فيه من العبادة ولم ينههما عن ذلك، فأوحى الله إلى الأرض: أن سيخي بعبدي، فساخت به الأرض، فهو يهوي في الدردور أبد الآبدين، ودهر الداهرين). كما نهى الإسلام عن حرق الحيوان، أو حرق شيء منه لحديث النبي (صلی الله علیه و آله) الوارد في مناهيه، وإن كان هذا العمل مما ترفضه الفطرة الإنسانية فضلاً عما جاء به نبينا الكريم ((صلی الله علیه و آله)) من تشريعات سمحاء.

ص: 437

ونهى الاسلام عن ضرب الدابة وخصوصاً في وجهها، طبعاً إلا إذا استعصت على صاحبها، وسببت له أذية معتد بها، فقد ورد عنه (صلی الله علیه و آله) : (اضربوها على النفار ولا تضربوها على العثار) وضربها على النفار تأديب لها على الوضع الطبيعي الذي لا يخرجها عن مهمتها التي شائها الله تعالى لها فهي مسخرة للإنسان، وقد ذللها الله له، أي جعلها سهلة الانقياد، والضرب حال ترويضها وتأديبها عندما تنفر لا يمنع منه الاسلام ويقبله العقل. فيضربها ضرباً خفيفاً على ردفها ولا يجوز ضربها بشدة أو أن يضربها على وجهها.

هذه التعاليم المباركة قد لا يجد فيها إنسان العصر الحديث شيئاً جديداً في الرفق واللطف، أما في ذلك الزمن البعيد وقبل أربعة عشر قرن فهي تعاليم جديدة أوقدت مصباح الرفق في دنيا الغلظة وحنادس الجهل.

يحرم حبس الحيوان والتضييق عليه:

ورد عنه (صلی الله علیه و آله) أنه قال : عذبت امرأة في هر ربطته حتى مات ولم ترسله فيأكل من خشاش الأرض، فوجبت لها النار بذلك (1). وورد في رواية مشابهة عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: إن امرأة عذبت في هرة ربطتها حتى ماتت عطشاً. وقد مر عليك فيما سبق روايات عديدة في نهي الشريعة عن إيذاء الحيوان والتأكيد على احترامها.

عدم إرهاقه في العمل وتحميله ما لا تُطيق:

وهذا بطبيعة الحال حق من حقوق الحيوان على الإنسان، وإذا ما قصّر في ذلك فإنه سوف يحاسب عنه يوم القيامة. يروى في هذا الباب إنه أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) من كان عنده رقيق (أي عبيد) أن لا يكلفهم مالا يطيقون وأن فعل أن يعيينهم بنفسه، فكيف بمن

ص: 438


1- قد يقول قائل: هذا سبب تافه لدخول النار فكم يساوى هذا الحيوان عند الله ليحرق بسببه امرأة ويعذبها في النار؟ والجواب: إن الفكرة ليست في قيمة أو أهمية هذا الحيوان أو ذاك، ولكن الفكرة في الرحمة التي ينبغي أن تملأ قلب المسلم لأنك إذا رحمت حيواناً ضعيفاً لا حول له ولا قوة سترحم من هو أعظم وأقوى منه، ومن جهة أخرى إن الحيوان له روح ومشاعر كما للإنسان وهو بطبيعته يحس ويشعر بالألم كما يحس بموجبات الارتياح، فينبغي على الإنسان ان يلحظ ذلك في تعامله معه الحيوانات.

يرهق عماله وخدمه ومستخدميه وموظفيه الأحرار، ثم يأكل حقوقهم وأموالهم بالباطل. وورد عن إمامنا الصادق (علیه السلام) في هذا الصدد قوله: للدابة على صاحبها ستة حقوق : لا يحملها فوق طاقتها ولا يتخذ ظهرها مجالس " مجلسا " يتحدث عليها.. إلخ. وعنه (صلی الله علیه و آله) : (إن الله تبارك وتعالى رفيق يحب الرفق، ويرضى به، ويعين عليه ما لا يعين على العنف، فإذا ركبتم هذه الدواب العجم (التي لا تتكلم) فأنزلوها منازلها (أريحوها في المواضع التي اعتدتم الاستراحة فيها أثناء السفر) ، وعنه (صلی الله علیه و آله) إنه قال: لما أبصر ناقة معقولة وعليها جهازها، قال: أين صاحبها؟ مروه فليستعد للخصومة. لاحظوا كيف إن النبي الكريم (صلی الله علیه و آله) ينصب محكمة لمن يترك الحمل على البعير في حالة توقفه عن السير ولا يدعه يستريح خلال هذا التوقف، ولا يرضى للمسلمين بهذا السلوك مع الحيوانات.

ويروى إن النبي الكريم (صلی الله علیه و آله) دخل ذات يوم بستانًا لرجل من الأنصار، فوجد جملاً، فلما رأى الجملُ النبي (صلی الله علیه و آله) حنَّ، وانهمرت الدموع من عينيه، فذهب النبي (صلی الله علیه و آله) إلى الجمل ومسح خلف أذنيه فسكت، ثم سأل عن صاحبه، فجاء فتى من الأنصار، فقال: أنا صاحبه يا رسول الله. فقال (صلی الله علیه و آله) : (أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملَّكك الله إياها؛ فإنه شكا إلى أنك تُجيعه وتُدئبه (تتعبه وترهقه). وورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام) : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : لا يرتدف ثلاثة على دابة فإن أحدهم ملعون.

استخدامه فيما خلق له، وعدم استخدامه في غير ما سخّر له:

كاستخدام البقر والأغنام مثلاً لحمل الأثقال. أو البقاء على ظهر الدابة مدة من الزمن متخذها مجلساً للحديث مع غيره، فعن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : للدابة على صاحبها خصال :...ولا يقف على ظهرها إلا في سبيل الله... إلخ الحديث.

ص: 439

وعنه (صلی الله علیه و آله) : اركبوا هذه الدواب سالمة ودعوها سالمة، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكرا لله تبارك وتعالى منه. وعن الإمام الصادق (علیه السلام) : للدابة على صاحبها ستة حقوق : لا يحملها فوق طاقتها ولا يتخذ ظهرها مجالس (مجلساً) يتحدث عليها.. إلخ الحديث.

احترام مشاعر الحيوان:

نعم احترام مشاعره، فقد نهى النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) أن يحد السكين بحضرة الحيوان الذي يذبح، لأن ذلك مما يخيف الحيوان ويدخله في حالة رهبة وخوف، حيث يروى إن النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) مر على رجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحد شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها، فقال (صلی الله علیه و آله) : (أفلا قبل هذا! أتريد أن تميتها موتتين؟) بل إن الإسلام راعى حق الأمومة عند الحيوان، فعن ابن مسعود (رضي الله عنه) قال: كنّا مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في سفر فانطلق لحاجته، فرأينا حمرةً معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تعرّش، فجاء النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: (من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها!). كما ورد في الروايات النهي عن تقبيح وجوه الدواب. فلاحظ معي أخي القارئ إلى مدى الاحترام الذي يوليه الإسلام لهذه الحيوانات المسكينة. وورد عن النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) النهي حتى عن لعنه، وقال: إن الدواب إذا لعنت لزمتها اللعنة.

توفير الغذاء والماء للحيوان:

وهذه من الضروريات الأساسية للحياة كما هو معلوم وتتأكد هذه المسألة في السفر لأن فيه مشقة وتعب على الإنسان والحيوان على حد سواء، ومن جهة اخرى قد يكون الانسان في السفر على عجلة من أمره فلا يعطي الحيوان حقه من الاكل والتغذية فيكون بذلك قد خالف هدي رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالحرص على إطعام الحيوان سواء في الحضر أو السفر حيث ورد عنه (صلی الله علیه و آله) : (إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حقها، واذا سافرتم في الجدب فأسرعوا السير..) فهذا أمر من المصطفى (صلی الله علیه و آله) بالتمهل في المسير وعدم ارهاقها وإعجالها بالمرور اذا كانت الارض خصبة، أما اذا كانت الارض جدباء فقد أمر (صلی الله علیه و آله) بمواصلة السير فيها لتحصل للحيوان الاستراحة بالخروج منها، وما النهي عن التريث فيها إلا لما يسببه من شدة وصعوبة على الحيوان والانسان.

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (.. فإذا ركبتم الدواب العجف فأنزلوها منازلها، فإن كانت الأرض مجدبة فانجوا عنها، وإن كانت مخصبة فأنزلوها منازلها إنها تحملكم وتحمل أثقالكم، وكل عزائها أن تمر بأرض مخصبة تنهش منها أو ترتع فيها فتقوى على أمرها وتخفف العناء عن نفسها، فلا تصنعوا معها صنع الحانق الناقم، أو الغافل الذي همه نفسه وقد هيأ لها الماء

ص: 440

والزاد والراحلة دون أن يشعر بأن راحلته لها روح مثله، فهي تضمأ وتجوع وتجهد مثله) بل أكثر من ذلك فهو يحث المسلمين على أن يسقوا دوابهم ويطعموها قبل سقي أنفسهم وإطعامها عند الاستراحة من السفر، حيث قال (صلی الله علیه و آله) : (من سافر منكم بدابة فليبدأ حين ينزل بعلفها وسقيها قبل ان ينشغل بطعام نفسه وسقيها).

ويروى إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) مر ببعير قد لصق ظهره ببطنه من شدة الجوع فقال: (اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة). وكان (صلی الله علیه و آله) لا يرضى بأن تعقل الدابة وليس عندها شيء من الماء أو الطعام تقتات منه، فعندما أبصر (صلی الله علیه و آله) ناقة معقولة وعليها جهازها، فقال: أين صاحب هذه الراحلة، ألا تتقي اللهفيها، إما أن تعلفها، وإما أن ترسلها حتى تبتغي لنفسها). وتروي لنا السيدة أم كلثوم () شيئاً من سيرة أبيها أمير المتقين (علیه السلام) في أدبه وحنانه على الحيوان، حيث قالت (عليها سلام الله) :..ثم نزل إلى الدار، وكان في الدار أوز قد اُهدي إلى أخي الحسين (علیه السلام) فلما نزل خرجن وراءه ورفرفن وصحن في وجهه وكان قبل تلك الليلة لم يصحن.. ثم قال: يا بنية بحقي عليك إلا ما أطلقتيه، فقد حبست ما ليس له لسان ولا يقدر على الكلام إذا جاع أو عطش، فأطعميه واسقيه وإلا خلي سبيله يأكل من حشائش الأرض.

وعن الإمام الباقر (علیه السلام) : إن الله تبارك وتعالى يحب إبراد الكبد الحرى، ومن سقى كبدا حرى من بهيمة أو غيرها أظله الله يوم لا ظل إلا ظله. وجاء في وصية لقمان (علیه السلام) لابنه إذا أراد السفر: وإذا قربت من المنزل فانزل عن دابتك، وابدأ بعلفها قبل نفسك، وهناك رواية جميلة عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) - من وصيته لمن يستعمله على الصدقات – تبين كيفية التعامل مع الدواب والحرص على إطعامها وشرابها وراحتها البدنية ونفسية أيضاً حيث قال (علیه السلام) :.. ثم احدر (1) إلينا ما اجتمع عندك نصيره حيث أمر الله به، فإذا أخذها أمينك فأوعز إليه ألا يحول بين ناقة وبين فصيلها (2) ، ولا يمصر (3) لبنها فيضر ذلك بولدها، ولا يجهدنها ركوباً، وليعدل بين صواحباتها في

ص: 441


1- أي سق إلينا سريعاً.
2- فصيل الناقة: ولدها وهو رضيع.
3- مصر اللبن: حلب ما في الضرع جميعه.

ذلك وبينها، وليرفه على اللاغب (1)

وليستأن (2) بالنقب (3) والظالع (4) ، وليوردها ما تمر به من الغدر (5) ، ولا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جواد الطرق (6)

، وليروحها في الساعات، وليمهلها عند النطاف (7)

والأعشاب، حتى تأتينا بإذن الله بدناً (8) منقيات (9) غير متعبات ولا مجهودات (10).وقد ورد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في هذا المضمار إن الله تعالى غفر لامرأة مومسة مرت بكلب على رأس ركي يلهث كاد يقتله العطش، فنزعت خفها فأوثقته بخمارها فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك. بل حتى الحيوانات والهوام التي في الصحاري حث الإسلام على ترك ما تبقى من طعام المائدة لها، وعدم التقاطه بغية أن تأكله، فلاحظوا رحمة الاسلام الكبيرة حتى بحيوانات البراري والقفار. فعن معمر بن خلاد قال : سمعت أبا الحسن الرضا (علیه السلام) أنه قال : (من أكل في منزله طعاماً فسقط منه شيء فليتناوله، ومن أكل في الصحراء أو خارجاً فليتركه للطير والسبع). ووردت رواية أخرى عن ميسر بن محمد بن الوليد بن يزيد قال: أتيت أبا جعفر (علیه السلام) فوجدت في فناء داره قوماً كثيراً.. إلى أن قال: ثم عدت من الغد، وما معي خلق ولا ورائي خلق، وأنا أتوقع أن يأتي أحد، فضاق ذلك علي حتى اشتد الحر، واشتد علي الجوع (حتى جعلت أشرب الماء وأطفئ به حر ما أجد من الحر والجوع) فبينا أنا كذلك إذ أقبل نحوي غلام قد حمل خواناً عليه ألوان طعام، وغلام آخر معه طست وإبريق، حتى وضعه بين يدي، فقال لي: مولانا يأمرك أن تغسل يدك وتأكل. فغسلت يدي وأكلت، فإذا أنا بأبي جعفر (علیه السلام) قد أقبل،

ص: 442


1- أي ليرح ما ألغب أي أعياه التعب.
2- ليستأن: أي يرفق، من الأناة بمعنى الرفق.
3- النقب - بفتح فكسر - ما نقب خفه - كفرح -: أي تخرق
4- ظلع البعير: غمز في مشيته.
5- الغدر - جمع غدير -: ما غادره السيل من المياه.
6- أي الطرق التي لا مرعى فيها.
7- النطاف - جمع نطفة -: المياه القليلة، أي يجعل لها مهلة لتشرب وتأكل.
8- البدن - بضم الباء وتشديد الدال -: السمينة.
9- المنقيات: اسم فاعل من أنقت الإبل إذا سمنت.
10- مجهودات: بلغ منها الجهد والعناء مبلغا عظيماً.

فقمت إليه، فأمرني بالجلوس والأكل، فجلست وأكلت، فنظر إلى الغلام يرفع ما يسقط من الخوان، فقال له : ((كل معه)) حتى إذا فرغت ورفع الخوان، ذهب الغلام يرفع ما سقط من الخوان على الأرض، فقال (علیه السلام) له: ما كان في الصحراء فدعه ولو فخذ شاة، وما كان في البيت فتتبعه والقطه وكله، فإن فيه رضى الرب، ومجلبة للرزق، وشفاء من كل سقم.. الخبر.

كما حكى رسول الله (صلی الله علیه و آله) لصحابته أن رجلاً كان يمشي بطريق، فاشتد عليه العطش فبحث عن ماء ليشرب، فوجد بئرًا فنزل فيها وشرب، ثم خرج، فرأى كلباً يلهث ويأكل التراب المبلل من شدة العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني. فنزل البئر فملأ حذاءه بالماء، ثم أمسكه بفمه، وصعد إلى أعلى البئر، وسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له. فقال الصحابة: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ فقال (صلی الله علیه و آله) : (في كل ذات كَبِد رَطْبَة أجر) أي في إرواء كل ذي كبد حية من حيوان أو إنسان أجر حاصل.

وروي عن الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) رواية لطيفة تكشف مدى حب قادة الإسلام العظام الرحمة بالآخرين سواء أكان إنساناً أم حيواناً، حيث روي أنَّهُ (علیه السلام) كان مارَّاً في بعضِ حيطان المدينة (أي بساتينها) فرأى أسوداً (أي عبداً أسوداً) بيدهِ رغيف يأكلُ لقمة ويطعم الكلب لقمة إلى أن شاطرهُ الرغيف، فقال لهُ الإمام الحسن (علیه السلام) : ماحملك على أن شاطرتهُ ولم تغابنهُ فيهِ بشيء؟ فقال: استحت عيناي من عينيهِ أن أُغابنهُ. فقال لهُ: غلام من أنت؟ قال: غلام أبان بن عُثْمَان. فقال لهُ: والحائط؟ قال: لأبان بن عُثْمَان. فقال لهُ الإمام الحسن (علیه السلام) : أقسمت عليك لابرحت حتى أعود إليك فمرَّ فاشترى الغلام والحائط وجاء إلى الغُلام فقال: ياغُلام قد اشتريتك فقام قائماً فقال: السمع والطاعة للّهِ ولرَسُولهِ ولك يامولاي. قال: وقد اشتريتُ الحائط وأنتَ حُرٌّ لوجهِاللَّه والحائط هبةٌ منِّي إليك. قال: فقال الغلام: يامولاي قد وهبتُ الحائط للذي وهبتني له، وتوجد رواية أخرى عن الإمام الحسن (علیه السلام) أيضاً في مضمون مشابه للقصة السالفة تروى عن نجيح حيث قال: رأيت الإمام الحسن بن علي ((علیه السلام)) يأكل وبين يديه كلب، كلما أكل لقمة طرح للكلب مثلها، فقلت له: يا ابن رسول الله ألا أرجم هذا

ص: 443

الكلب عن طعامك؟ قال: دعه، إني لأستحيي من الله عز وجل أن يكون ذو روح ينظر في وجهي وأنا آكل ثم لا أطعمه.

وقد ورد في الرسائل العملية لفقهاء الإمامية، أحكاماً شرعية، توجب على المكلف رعاية الحيوان ووجوب توفير الماء والغذاء والأمان له، وإذا امتنع المكلف عن أداء هذا الواجب، يجبره الحاكم الشرعي على ذلك، وفيما يلي نماذج من هذه المسائل الشرعية:

يجب الإنفاق على البهائم ما دامت حية في ملكه، بمقدار الكفاية من الطعام و الشراب، و أقل ما يجزي في ذلك: ما لا يؤدي إلى ظلمها أو التبذير بقيمتها تبذيرا محرماً، و هذا يشمل غير الطعام و الشراب من حمايتها من أنواع الخطر كالوحوش والحر والبرد والضياع و غير ذلك.

قلنا انه يجب الإنفاق على البهائم ما دامت حية في ملكه، فالواجب حقيقة تخييري بين النفقة أو البيع أو الذبح مما يذبح وينتفع به بعد ذبحه، بمعنى إن الامتناع عن مجموع هذه الثلاثة حرام على المالك، فلو امتنع اجبره الحاكم الشرعي على إحداها.

يشمل هذا الوجوب الذكر و الأنثى من الحيوان والصغير والكبير والمأكول والمركوب وغيرهما حتى الوحش إذا كان بحيازته، بل حتى النبات المملوكة بأنواعها إذا كان في تركها تبذيراً بقيمتها.

إذا كان الحيوان مما لا يرغب فيه عادة ولا قيمة له عرفا، تخير الفرد بين إطلاقه أو الإنفاق عليه، فان امتنع عنهما أجبره الحاكم. (1)

عدم اتخاذها غرضًا للرمي:

فإن هذا الأمر مما يعرض الحيوان للخوف والألم ولا يحق لأحد ان يعذب الحيوان بهذه الطريقة البشعة لمجرد التسلية واللهو، لذا حرّم الاسلام أن تجعل الطيور أو سائر الحيوانات هدفًا للرمي، ويروى في هذا الصدد إنه مر أحد الصحابة بفتيان من قريش قد نصبوا طيراً وهم يرمونه، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوه تفرقوا، فقال: الصحابي: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعن

ص: 444


1- منهج الصالحين، السيد الصدر الثاني (قدس سره) ، مسألة [297] و[298] و[299] و[300].

من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً. ورأى أنس بن مالك غلمانًا ربطوا دجاجة، وأخذوا يرمونها بنبالهم، فقال: نهىالنبي

(صلی الله علیه و آله) أن تُصَبَّر البهائم (أي تُتخذ هدفًا) ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام) : (إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) مرّ على قوم قد نصبوا دجاجة حية وهم يرمونها فقال: من هؤلاء، لعنهم الله؟).

عدم التفريق بين الحيوان وبين صغاره:

وهذه

من المواطن الأخرى التي تؤكد على إن الإسلام دين رحمة وشفقة بيد أنه يحرص على مداراة مشاعر الحيوان، وعدم إيذائه نفسياً فضلاً عن الإيذاء الجسدي الذي ينهى عنه أشد النهي، ومن الشواهد التأريخية التي تبين بوضوح هذا الأمر هو ما نُقل إن نبينا الكريم (صلی الله علیه و آله) كان في سفر مع الصحابة، ووجد الصحابة حُمَّرة (طائرًا كالعصفور) ومعها فرخان صغيران، فأخذوا فرخيها، فجاءت الحُمرة إلى مكان الصحابة وأخذت ترفرف بجناحيها بشدة، وكأنها تشتكي إليه.. ففهم النبي (صلی الله علیه و آله) ما تقصد إليه الحمرة، فقال: (من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها).

عدم قتلها إلا لضرورة عقلائية:

فقد نهى الإسلام عن قتل كل ذي روح إلا لأجل الاستفادة منه أو لأن حيوان يؤذي الآخرين. فقد ورد عنه (صلی الله علیه و آله) : (ما من إنسان قتل عصفوراً فما فوقها، بغير حقها إلا سأله الله عز وجل عنها، قيل: يارسول الله، وما حقها؟ قال يذبحها فيأكلها، ولا يقطع رأسها يرمي بها). وعنه (صلی الله علیه و آله) : (من قتل عصفوراً عبثاً عج إلى الله عز وجل يوم القيامة يقول: يارب إن فلاناً قتلني عبثاً ولم يقتلني لمنفعة).

وقد

يؤدي سوء تعامل الإنسان مع بعض الأنواع من الحيوانات إلى الإخلال بالتوازن البيئي، فمثلا: في بعض المناطق لجأ الإنسان إلى قتل القطط، فازداد عدد الفئران، وأصبحت تمثل خطرًا على المحاصيل، مما كلف الإنسان أموالا طائلة، لصنع سموم ومبيدات للتخلص من الفئران.

ص: 445

علاج الحيوان إذا مرض:

إن

الدافع الشرعي والإنساني يحتم على الفرد أن يحرص على مداواة الحيوان الذي يملكه إذا ما مرض او أصابه كسر أو جرح أو نحو ذلك، وعليه أن يتعامل معه برفق وحنان لكي يتماثل بالصحة والشفاء. فإن الحيوانات كما هو معلوم تحس بالألم وهي علاوة على ذلك لا تستطيع التصريح بذلك أو أن تشكو لنا بآلامها وأوجاعها. فعلينا ان نتحسس منها ذلك ونبادر لمراعات الجانب الصحي للحيوانات المريضة. (1)

وقد جسّدَ المسلمون من أهل اليمن، وربّما كان هناك غيرهم - أخلاق الاسلام في الرحمة بالحيوان والرفق به في أحد أسواق صنعاء المعروفة ب- (سوق العرج) حيث تربط في إحدى ساحات السوق الخيول الضعيفةوالحمير المتعبة أو التي كسرت أرجلها بعد أن يُهيّأ لها الماء والعلف حتى تنفق، أي تترك هناك بلا استعمال حتى يأتيها الموت، وهذه البادرة تعرف اليوم بجمعيات ومؤسسات حقوق الحيوان.

النهي عن التحريش بين البهائم:

حيث نهى النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) عن التحريش بين البهائم وتهييج بعضها على بعض كما في مصارعة الثيران ومقارعة الاكباش وعراك الديكة ونحو ذلك، وعد ذلك من قبيل العبث المنهي عنه لما يسببه من إيلام وإتعاب لها وغالباً ما يفقد الحيوان المصارع حياته من أجل إشباع هوايات منحرفة في نفوس بعض بنى البشر. ونذكر هذا الشاهد التأريخ الذي يؤكد صحة ذلك، حيث روي إن المتوكل العباسي (عليه لعنة الله) كان له أكباش يهين بها بعض أهل الوقار والمتانة من الناس، وفي أحد الأيام كان من المقرر أن يلاقي الإمام علي الهادي (علیه السلام) المتوكل بإحضار الأكباش وتحريضهن على الصراع ليضربن إمام الشيعة حين دخوله وعندما دخل الإمام (علیه السلام) كانت الأكباش تتصارع وينطح بعضها البعض وكان المتوكل وحاشيته يتوقعون هجوم الأكباش على الإمام فور وصوله ولكن كانت الأكباش وقفت على جنبي الطريق واخذن يطأطأن رؤوسهن تعظيماً للإمام واحتراماً له. فتعجب المتوكل وجميع الحاضرين ولما جلس الإمام (علیه السلام) قال: ايها

ص: 446


1- ينظر حقوق الحيوان في الاسلام - ناصر محمد الأحمد.

الخليفة لقد منع جدي رسول الله (صلی الله علیه و آله) تشجيع الحيوانات على المصارعة, ثم إنني سمعت إنك تدعو بعض الناس من أهل الوقار والمتانة أثناء المصارعة أكباشك، لتضربه الأكباش وتسقطهم على الأرض وتستهزئ انت وحاشيتك بهم أولم تسمع قول الله تعالى: (من أهان عبداً لي فقد دعاني لقتاله). ولكن الإنسان غافل ولا يعلم بان البزاز قد احضر كفنه والعطار قد اشترى كافور غسله وهو مشغول بلهوه ولعبه فلم تمض إلا ليلتان أو ثلاث وقتل المتوكل، لاحظوا كيف انتصر الله لوليه وخذل عدوه، وانقلب السحر على الساحر، وراح يجر أذيال الخيبة، فكلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله تعالى.

إكرام الحيوان واحترامه:

وردت روايات عدة تحث على ضرورة إكرام الحيوان واحترام وجوده كخلق من مخلوقات الله تعالى أوجدها خدمة للإنسان. ومن معالم شكر الله سبحانه حسن تعاملنا مع خلقه سواء أكان إنساناً أو حيواناً أو نباتاً. ولم يرد في الروايات احترام خصوص الحيوانات والأنعام ذات المنافع المحللة المعروفة من حليب أو لحم أو صوف أو التنقل عليها وغير ذلك كما هو حال الاستفادة من الأبقار والأغنام والحمير والخيل ونحوها، بل حتى الحيوانات غير مأكولة اللحم التي لا تعود علينا بمثل هذه المنافع، كالقطط على سبيل المثال، فقد ورد عن نبينا الكريم (صلی الله علیه و آله) أنه قال: أكرموا الهرة فإنها من الطوافين عليكم والطوافات. كما ورد في الرواية الشريفة أيضاً لأحد المعصومين (سلام الله عليهم) : إني أستحي من الله أن أدع طعاماً لأن الهرة أكلت منه. وقدحثت الروايات الشريفة بضرورة مسح رغام أنوف الأغنام، وضرورة تنظيفها وتكريمها، فعنه (صلی الله علیه و آله) قال: (امسحوا رغام (1)

الغنم، وصلوا في مراحها، فإنها دابة من دواب الجنة) ، وقد ورد في الروايات إنه (صلی الله علیه و آله) كان يمسح وجه فرسه بردائه الشريف، فهل أحد منا يفعل مثل ذلك؟! وهل وصلت درجة العطف عندنا على الحيوانات لهذه الدرجة فلعل بعضنا يستنكف ويترفع من أن يمسح وجه ولده بمنديله أو ردائه فضلاً عن الحيوان، وكان النبي الاكرم (صلی الله علیه و آله) ينهى عائشة عن التعامل السيئ مع بعيرها حيث نقل إنها خرجت في سفر

ص: 447


1- الرغام : هو ما يخرج من أنوفها.

معه (صلی الله علیه و آله) فركبت بعيرًا، وكانت ترجعه بشدة، فقال لها الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) : (عليكِ بالرفق).

ويروى إنه مَرَّ بِنبي الله عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ (علیه السلام) خِنْزِيرٌ، فَقَالَ (علیه السلام) : (مُرَّ بِسَلامٍ) ، فَقِيلَ: يَا رُوحَ اللَّهِ، لِهَذَا الْخِنْزِيرِ تَقُولُ؟ قَالَ: (أَكْرَهُ أَنْ أُعَوِّدَ لِسَانِي الشَّرِّ) لاحظوا أدب أنبياء الله تعالى مع المخلوقات، ولاحظوا احترامهم للآخرين حتى لحيوان منبوذ كالخنزير، فما بالك بتعاملاتهم مع البشر، أليس هذا درس عملي لمبدأ التعايش السلمي؟!.

عدم التمثيل بالحيوان وهو حي:

فإنه لا يجوز إيذاء الحيوان سواء بقطع آذانه أو عضو من أعضائه وهو حي، فقد روي أن النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) أنه قال: (من مَثَّل بحيوان فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) وعنه (صلی الله علیه و آله) أيضاً : (لعن الله من مثل بالحيوان) وقد عاب القرآن الكريم على أهل الجاهلية ماكانوا يفعلونه من شق آذان الانعام وجب سنام الجمل وإلية الشاة وهي حية، فجاء النهي الالهي وأبطل هذا العمل وبيَّن أنه عمل من الشيطان، قال الله تعالى: (إن يدعون من دونه إلا اناثا وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً، لعنه الله، وقال لأ تخذنَّ من عبادك نصيبا مفروضا، ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنّهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنّهم فليغيرن خلق الله، ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسرانا مبيناً) ومعنى قوله فليبتكن، أي فليقطعن أو فليشقن آذان الأنعام، كما أكد الرسول (صلی الله علیه و آله) على حرمة قطع إلية الشاة واعتبر ما قطع منها ميتة لا يجوز الانتفاع به فقال: (ما قطع من البهيمة وهي حية، فما قطع منها فهو ميتة) وفي النهي عن اقتطاع جزء من الحيوان وهو حي، إنما هو نهي عن تعذيبه وايلامه، وفيه حث على وجوب الاهتمام بالحيوان ورعايته والرفق به، وقد ذهب الاسلام إلى أبعد من هذا، حيث نهى عن قطع أي شيء من الحيوان قد يضرُّ به مستقبلاً كأن يقطع ذيله، فقد روي عنه (صلی الله علیه و آله) : (لا تقصوا نواصي الخيل ولا معارفها ولا أذنابها، فإن أذنابها مذابها، ومعارفها دفاؤها، ونواصيها معقود فيها الخير).

ص: 448

حرمة التعدي على الحيوان جنسياً:

فقد روي عن سماعة قال: سألت الإمام الصادق (علیه السلام) عن الرجل يأتي بهيمة أو شاة، أو ناقة، أو بقرة (أي ينكحها) قال: فقال: (عليه أن يُجلد حداً غير الحد ثم ينفى من بلاد إلى غيرها) وذكروا أن لحم تلك البهيمة محرم ولبنها) وروى ابن عباس عن النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) أنه قال: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط (علیه السلام) فاقتلوا الفاعل والمفعول به، ومن وجدتموه يأتي بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة معه).

كما توجد جملة أخرى من الحقوق والآداب التي أمر بها الإسلام تجاه رعاية الحيوان وتلبيه حاجاته الأساسية وللحفاظ على سلامته وراحته، نذكرها باختصار كالآتي:

أن لا يجر الحيوان من أذنه، وإنما من رقبته، فقد روي عن النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) مر برجل يجر شاة بأذنها، فقال (صلی الله علیه و آله) : دع أذنها وخذ بسالفتها.

أن يفرق ركوبه على ما معه من الدواب، ولا يحصره بواحدة منها.

أن يراعي حال الجمل الذي نقب خفه وتخرق.

أن يراعي حال الجمل الذي يغمز في مشيته. ولعل هذا الحكم وأشباهه لا يخص فقط الجمل بل مطلق الدواب.

أن لا يركبها إلا إذا كانت صحيحة سالمة.

أن لا يخصي البهائم.

أن لا يورد ذا عاهة منها على مصح. فعن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (لا يورد ذو عاهة على مصح) خشية أن تنتقل لها الأمراض بالعدوى.

أن لا يشتمها أو يلعنها، بأن يقول لها: قبح الله وجهك مثلاً.فقد ورد في الرواية: (..لا تقبحوا الوجوه).

أن لا ينام على الدابة، فإن ذلك يسرع في دبرها (أي في ظهور التقرحات، والجروح في ظهرها) فعن الإمام الصادق (علیه السلام) : قال لقمان لابنه : (ولا تنامن على دابتك، فإن ذلك سريع في دبرها، وليس ذلك من فعل الحكماء، إلا أن تكون في محمل يمكنك التمدد).

ص: 449

يُستحب لمن يحلب الحيوان أن يقلم أظافره، حتى لا يؤذي ضرع الحيوان بأظافره حال الحلب، فقد روى سوادة بن الربيع قال: أتيت النبي (صلی الله علیه و آله) فسألته، فأمر لي بذود (1) ، ثم قال لي: (إذا رجعت إلى بيتك فمرهم فليحسنوا غذاء رباعهم (2)

، ومرهم فليقلموا أظفارهم، ولا يغبطوا (ولا يعبطوا) بها ضروع مواشيهم إذا حلبوا).الاهتمام بحفظ الدواب من الأخطار أو الضياع. فعن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام): (إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) نهى أن تحمل الدواب فوق طاقتها، وأن تضيع حتى تهلك).

تحضير العلف الجيد للدواب، ليصبحن سماناً، وأن تكون الدابة فارهة. فعن الإمام أبي الحسن (علیه السلام) أنه قال: (من مروَّة الرجل أن يكون دوابه سماناً، وورد عنه (علیه السلام) أيضاً: (ثلاث من المروة : فراهة الدابة، وحسن وجه المملوك. والفرس السري).

أن لا يصري الضرع (والتصرية: هو ترك ذات اللبن مدة من الزمن دون أن تحلب، ليجتمع اللبن في ضرعها فيُرى غزيراً) فعن رسول الله (((صلی الله علیه و آله): (من اشترى مصراة فهي خلابة، فليردها إن شاء إذا علم، ويرد معها صاعاً من تمر). وقد يكون هذا النهي ليس لأجل الرفق بالدابة فحسب، وإنما لأنه يستبطن تدليساً، أو غشاً للمشتري أيضاً.

وجاء في باب استحباب اعتدال حمل الدابة وتأخره وكراهة ميله، عن حماد اللحام قال: مر قطار لأبي عبدالله (علیه السلام) فرأى زاملة قد مالت، فقال: يا غلام، اعدل على هذا الجمل فإن الله تعالى يحب العدل. وفي خبر آخر قال النبي (صلی الله علیه و آله) : أخروا الأحمال، فإن اليدين معلقة، والرجلين موثقة.

أحكام وآداب صيد الحيوان في الإسلام:

قال تعالى في كتابه العزيز مستعرضاً لأحكام الصيد :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ )، (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

ص: 450


1- الذَّوْدُ من الإبل: ما بين الثَّنتين إلى التِّسْع. وقيل ما بين الثَّلاثِ إلى العَشْر.
2- الرباع : هو ما وُلد من الإبل في الرَّبيع. وقيل ما وُلد في أوّل النّتاج.

أجازت الشريعة الإسلامية صيد الحيوانات والأنتفاع منها في الشؤون المختلفة كأكل لحمها واستعمال جلودها ونحو ذلك، ولكن هذه الإجازة من المشرع الإلهي الشريف قد حُددت بعدة وصايا وآداب وأحكام شرعية يلزم على الإنسان إتباعها لأجل استحصال العناية اللازمة للحيوان ولأجل الاستفادة منه بالشكل السليم والصحيح، وإن كان هذا الحيوان غرضاً للقتل وهدفاً للصيد فقد أشارت الشريعة الإسلامية من خلال وصايا في مسألة صيد الحيوان أن لا يخرج الإنسان من إطار الرحمة وحدود الإنسانية السليمة. ومن جهة أخرى أشارت الشريعة إلى ضرورة الرفق بذات الحيوان وعدم التعامل معه على كونه كائنا جامدا لا يشعر ولا يحس بالآلام والخوف والذعر ونحوها من الأحاسيس. وفيما يلي نستعرض بعض النصوص الشرعية الواردة عن أئمة الهدى (عليهم الصلاة والسلام) والتي ينبغي على الصياد مراعاتها في مسألة صيد الحيوانات.جاء في الرواية عن الإمام أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) : (لايرمى الصيد بشيء هو أكبر منه) ونلاحظ في هذه الرواية كيف يحافظ المشرع الأقدس على ضرورة مراعاة حجم الصيد فلا ينبغي إيذاءه بآلة صيد أكبر منه فقد تتسبب بتعذيبه أو موته دون وجه شرعي.

وجاء في روايات أخرى تمنع من صيد الحيوان في أزمنة معينة كوقت الليل لأنه وقت راحتها ونومها، فالليل هو الزمان الذي يعد سكناً لكل المخلوقات، قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً) وقال تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً). كما منع المشرع الإسلامي من الصيد في يوم الجمعة قبل الصلاة كما منع من الصيد في حالات معينة كالتي تنهى من صيد الطيور الصغيرة التي لم يبلغ أوانها للاستقلال بالطيران أو صيدها وهي نائمة لأن ذلك مما يفزعها ويدخل على قلبها الرعب وهي في تلك الحالة من الاطمئنان والسكينة والهدوء.

فعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : لا تأتوا الفراخ في أعشاشها، ولا الطير في منامه حتى يصبح، فقال له رجل : ما منامه يا رسول الله!؟ قال : الليل منامه، فلا تطرقه في منامه حتى يصبح، ولا تأتوا الفراخ في عشه حتى يريش ويطير، فإذا طار فأوتر له قوسك، وانصب له فخك.

وروي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أيضاً، أنه قال: نهى رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن بيات الطير بالليل، وقال: إن الليل أمان لها. ونقل عنه (علیه السلام) أيضاً: نهى أمير المؤمنين (علیه السلام)

ص: 451

أن يتصيد الرجل يوم الجمعة قبل الصلاة، وكان (علیه السلام) يمر بالسماكين يوم الجمعة، فينهاهم أن يصيدوا من السمك يوم الجمعة قبل الصلاة.

فنلاحظ من خلال هذه الروايات الشريفة إن المشرع الأقدس يحرص على توفير الأمان والطمأنينة للحيوان من جانب الإنسان في كل يوم زمناً معيناً وهو وقت الليل كما يضمن الإسلام الأمان للحيوانات في كل أسبوع يوماً واحداً وهو يوم الجمعة لأنه يوم عبادة وتوجه لله تعالى ويوم رحمة لكل الكائنات. كما يحث الإسلام على توفير العطف والشفقة على صغار الحيوانات لاسيما الطيور التي لم تستقل بالطيران بعد، وقد يكون السبب في ذلك هو عدم صيانة تلك الطيور الصغيرة كما ينبغي وإيذائها أو إيذاء أمهاتها بسبب فقدانها وهن صغار.

فالحيوان بطبيعته يعتني بصغاره ويحن عليها مادام صغيراً وتقل هذه الرعاية والحنان كلما استقل وكبر فرخه لذا قد يكون صيد صغار الطير موجباً لأذية أمهاتها، كما إن الطيور الصغيرة في الغالب لاتجلب منفعة معتدة بها، كما هو الحال بالنسبة للطيور الكبيرة.

ومما ندبت له الشريعة الإسلامية في تعاليمها السمحاء أيضاً أن يجير الإنسان الطير إذا استجار به، فلا يعد إلى اصطياده، كما حثت على عدم ذبح الطير إذا دخل إلى المنزل. حيث ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال فيمايخص طائر الخطاف: (...هو مما يؤكل لحمه، ولكن كره أكله، لأنه استجار بك، وأوى إلى منزلك، وكُل طير يستجير بك فأجره).

كما نهت الشريعة عن الصيد العبثي وهو قتل الحيوان لغير حاجة الانتفاع منه بل لمجرد اللهو والعبثية والتسلية، وجعلت حتى السفر بهذه النية سفر معصية يستوجب فيه على العبد عدم القصر في صلاته، وإليك الروايات الواردة بهذا الخصوص:

فعن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : ما من دابة - طائر ولا غيره - يقتل بغير الحق إلا ستخاصمه يوم القيامة، وعنه (صلی الله علیه و آله) : من قتل عصفوراً عبثا عج إلى الله يوم القيامة منه يقول : يا رب إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني لمنفعة. وعنه (صلی الله علیه و آله) : من قتل عصفوراً بغير حقه سأله الله تعالى عنه يوم القيامة، قالوا : وما حقه ؟ قال: يذبحه ذبحاً ولا يأخذ بعنقه فيقطعه.

ص: 452

وعنه (صلی الله علیه و آله) :ما من انسان قتل عصفوراً فما فوقها، بغير حقها الا سأله الله عز وجل عنها، قيل: يارسول الله، وما حقها؟ قال يذبحها فيأكلها، ولا يقطع رأسها يرمي بها.

وبهذه التعاليم السامية والرحيمة يربي الإسلام أتباعه على الهدفية والحكمة في التصرف هذا من جهة ومن جهة أخرى يعلمهم على الرفق بالحيوان وعدم الاستهانة والاحتقار للموجودات الأخرى.

أحكام وآداب ذبح الحيوان في الإسلام:

خلق الله تعالى الإنسان وكرمه، وسخر له الحيوانات لتخدمه في قضاء حوائجه؛ فيستفيد من لحومها وألبانها، ويرتدي الملابس من صوفها وجلودها، ويتخذ من بعضها زينة وطيبًا. قال تعالى: (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون. ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون. وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم. والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون).وقال تعالى :(وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ )، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيد). وقال تعالى :(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ).

فالشريعة الإسلامية أحلت للإنسان ذبح وأكل بعض الحيوانات وحرمت أكل غيرها لمقاصد معينة تصب في مصلحة الإنسان. وكما أباحت الشريعة للإنسان ذلك فإنها في الوقت نفسه وضعت أحكاما وآداباً ووصايا تحكم هذا العمل وتقننه بالشكل الذي يخدم الإنسان والحيوان على السواء.فالإسلام يريد من الإنسان أن يتعامل مع الحيوانات بغاية الرحمة والشفقة عندما يعمد إلا ذبحها، وأن لا يعاملها معاملة قاسية فارغة من أي رحمة وإنسانية بحجة كونها كائنات مسخرة لأجلنا ومخلوقات لا تفهم ولاتعي من أمرها شيء، ونحو ذلك من الكلام فلا نعتني بمشاعرها ولا نكترث بآلامها.

ص: 453

لذا نجد الإسلام قد وضع ضوابطاً وآداباً شرعية لكيفية الذبح ووضع تعاليم معينة تخص هذه المسألة رفقاً بالحيوان وعطفاً عليه من جهة ومن جهة أخرى لأجل مصلحة للإنسان ومنفعته. وفيما يلي سنبين - إن شاء الله تعالى - جملة من تلك السنن والآداب الشرعية التي ينبغي مراعاتها مع الحيوان:

عن الإمام الصادق (علیه السلام) : إذا ذبحت فأرسل ولا تكتف، ولا تقلب السكين لتدخلها تحت الحلقوم، وتقطعه إلى فوق... وان كان شيء من الغنم فامسك صوفه أو شعره، ولا تمسكن يداً ولا رجلاً، فأما البقر فأعقلها، وأطلق الذنب، وأما البعير فشد اخفافه إلى آباطه، وأطلق رجليه..)

لاحظ أخي القارئ المكرم الآداب والتعاليم التي ملؤها الرحمة والشفقة بالحيوانات المسكينة التي أُعدت للذبح، كيف يتعامل معها المشرع الإسلامي المقدس لكي يريحها بسرعة من عناء خروج روحها أثناء عملية الذبح، بالرغم من كونها محللة بفضل الله تعالى الذي سخرها وأحلها لنا، وبالرغم من كون الحيوان بهيمة لا تعقل، إلا أن المشرع يترك للحيوان متنفساً من إطلاق يده أو رجله أو ذنبه يلوذ بتحريكها يمنة ويسرة ويضرب بها الأرض لأجل تحمل الألم عند إزهاق روحه ويمنع من تكتيفه كي لا يزيد من معاناته وآلامه.

ومن الآداب الإسلامية الأخرى الواردة في هذا المضمار كراهة قطع رأس الذبيحة عمداً قبل موتها، وكراهة نخعها، ويقصد بنخع الذبيحة: هو تجاوز منتهى الذبح إلى النخاع، وهو الخيط الأبيض الذي في جوف الفقار، لورود نهي عن ذلك، فقد جاء عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: (لاتنخع الذبيحة حتى تموت، فإذا ماتت فانخعها) فنخع الذبيحة قبل إزهاق روحها بالذبح مما يزيد في آلامها وأذيتها، لذا فعلى المسلم الانتظار قليلاً ريثما تموت الذبيحة ثم ينخعها إذا شاء. وفيما يأتي جملة من الروايات الشريفة التي تبين لنا معالم أخرى من الآداب الإسلامية في التعامل مع الحيوان عند الذبح:

عن النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) أنه قال : (من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه الله يوم القيامة).

وعن محمد بن مسلم، عن الإمام أبي جعفر (علیه السلام) قال : سألته عن الذبيحة فقال : استقبل بذبيحتك القبلة، ولا تنخعها حتى تموت.

ص: 454

وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) : (لا تذبح الشاة عند الشاة، ولا الجزور، وهو ينظر إليه) لأن هذا المنظر مما يدخل عليها الخوف والرهبة ويتسبب لها بأذية نفسية.كما نهى النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) من أن يحد الرجل سكينته أمام ذبيحته رحمة بها، ويستحب ان يخفي السكينة عن نظر الحيوان قبل ذبحه، فعن ابن عباس أن رجلاً أضجع شاة وهو يحد شفرته فقال له النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) : (أتريد أن تميتها موتتين؟ هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها) لاحظوا مدى رحمة الإسلام وشفقته، فقلمي عاجز عن بيان عظمة هذه التشريعات المباركة التي سنها لنا معلمنا الأول ونبينا الأكرم محمد وأهل بيته المعصومين صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين.

على الذابح أن لا يشرع بسلخ جلد البهيمة قبل خروج الروح. فقد ورد : أن رسول الله ((صلی الله علیه و آله)) نهى عن أن تسلخ الذبيحة، أو يقطع رأسها حتى تموت وتهدأ.وورد عن أبي الحسن الرضا (علیه السلام) أنه قال: إذا ذبحت الشاة وسلخت، أو سلخ شيء منها قبل أن تموت لم يحل أكلها.

وجعل من حق الحيوان علينا أن نحسن تذكيته فلا نعذبه أثناء ذبحه كأن نذبحه بآلة غير حادة، أو نتأخر بعملية الذبح، ولا نسرع في ذلك، بل إن المشرع الإسلامي ذهب إلى أبعد من هذا فقد نهى عن ذبح الحيوان أمام غيره من البهائم، فقد ورد في الرواية عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه أمر بحد الشفار وأن نواري عن البهائم وقال: (إذا ذبح أحدكم فليجهز) أي يسرع في انجاز الذبح بسرعة.

وعن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) قال : كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يكره الذبح وإراقة الدم يوم الجمعة قبل الصلاة إلا عن ضرورة.

وعن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) قال: كان علي بن الحسين (علیه السلام) يأمر غلمانه أن لا يذبحوا حتى يطلع الفجر.

وعن أبان بن تغلب، قال: سمعت علي بن الحسين (علیه السلام) وهو يقول لغلمانه : لا تذبحوا حتى يطلع الفجر، فإن الله عزوجل جعل الليل سكناً لكل شيء، قال: قلت جعلت فداك فإن خفت؟ قال: ان كنت تخاف الموت فاذبح.

وعن محمد بن الفضيل، عن الإمام أبي الحسن (علیه السلام) قال : قلت له : كان عندي كبش سمنته لأضحي به، فلما اخذته واضجعته نظر إلي فرحمته ورققت له ثم إنّي

ص: 455

ذبحته، قال : فقال : ما كنت أحب لك أن تفعل، لا تربين شيئاً من هذا ثم تذبحه. لاحظوا كيف يربي الاسلام أبناءه على الرقة والعطف والرحمة بالآخرين حتى مع البهائم والطيور، ويبعده عن الموارد التي تقسي القلوب، فالذي يربي طائراً أو بهيمة فبطبيعة الحال ستنشأ له مع هذه الحيوانات علاقة قلبية وعاطفية حميمة، وخلاف المروءة والرحمة أن يعمد المربي إلى ذبح ما رباه بيده بل يدع هذا الأمر لغيره لكي لا يجعل للقساوة والغلظة إلى قلبه طريقاً.وروي عن الوضين بن عطاء قال : إن جزاراً فتح باباً على شاة ليذبحها، فانفلتت منه حتى أتت النبي ((صلی الله علیه و آله)) ، واتبعها، فأخذها يسحبها برجلها، فقال لها النبي الأكرم ((صلی الله علیه و آله)) : إصبري لأمر الله، وأنت يا جزار، فسقها إلى الموت سوقاً رفيقاً.

وورد عن النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) : من قتل عصفوراً بغير حقه سأله الله تعالى عنه يوم القيامة، قالوا : وما حقه؟ قال : يذبحه ذبحاً ولا يأخذ بعنقه فيقطعه.

وعن أبي الصحاري، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: قلت له : الرجل يعلف الشاة والشاتين ليضحي بها قال: لا أحب ذلك. قلت: فالرجل يشتري الجمل أو الشاة، فيتساقط علفه من هيهنا وهيهنا، فيجيء الوقت وقد سمن، فيذبحه؟ فقال : لا، ولكن أذا كان ذلك الوقت فليدخل سوق المسلمين، وليشتر منها ويذبحه.

ويستحب أن يسقي الحيوان قبل ذبحه، فقد روي: أن الإمام السجاد (علیه السلام) مر على قصاب يذبح كبشاً، فقال له : هل سقيت؟!

وقد استلخص الفقهاء من هذه الروايات الشريفة العديد من الآداب، فدونوها في رسائلهم العملية في باب آداب الذباحة والنحر، ومنها :

(يستحب عند ذبح الغنم أن تربط يداه وإحدى رجليه، وتطلق الاخرى ويمسك صوفه أو شعره حتى يبرد، وعند ذبح البقر أن تعقل يداه ورجلاه ويطلق ذنبه، وعند نحر الابل أن تربط يداها ما بين الخفين إلى الركبتين أو إلى الابطين وتطلق رجلاها، هذا إذا نحرت باركة، أما إذا نحرت قائمة فينبغي أن تكون يدها اليسرى معقولة، وعند ذبح الطير أن يرسل بعد الذباحة حتى يرفرف، ويستحب عرض الماء على الحيوان قبل أن يذبح أو ينحر، ويستحب أن يعامل مع الحيوان عند ذبحه أو نحره عملا يبعده عن الاذى والتعذيب بأن يحد الشفرة ويمر السكين على المذبح بقوة ويجد في الإسراع وغير ذلك).

ص: 456

أما في باب مكروهات الذباحة والنحر فذكروا النقاط الآتية:

سلخ جلد الذبيحة قبل خروج روحها.

أن تكون الذباحة في الليل أو يوم الجمعة قبل الزوال من دون حاجة.

أن تكون الذباحة بمنظر من حيوان آخر من جنسه.

أن لا يذبح ما رباه بيده من النَعم.

أن لا يذبح الدابة التي خدمته خدمة حسنة مدة من الزمن.

أن لا يذبح ذات الجنين لغير علة.

أن لا يذبح ذات الدَر. أي التي تُحلب.أن لا يكسر رقبة الذبيحة.

أن لا يركلها برجله ليعجل خروج نفسها.

أن لا يحرك الذبيحة من مكانها حتى تفارق الروح.

أن لا يُجر الحيوان من رجله إلى الذبح.

أن لا تذبح البهيمة وهي واقفة بل يضجعها برفق ولا يضربها قبل الذبح.

أن لا يُجر الحيوان إلى الذبح بعنف.

وبعد مطالعة هذه الأحكام والتعاليم الفقهية الخاصة بكيفية ذبح الحيوان نتعرف بوضوح على رحمة الإسلام وعنايته الكبيرة بمشاعر جميع الكائنات لأن مُشرع هذا الدين الحنيف هو رب الرحمة ومعدن الحكمة. هذه الرحمة هي التي جعلت النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) يقول: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) وللسبب نفسه جعل الله للذبح طريقة لا تؤلم المذبوح وهى قطع شرايين العنق، أو بمعنى أصح قطع الأوداج التي هي الحلقوم والمرئ.

يقول بعض العلماء أن هذه الطريقة تؤدى إلى عدم إحساس الحيوان بالألم أثناء خروج الروح، وقد يتساءل البعض فلماذا إذن يترنح المذبوح يمنة ويسرة بعد ذبحه؟ يجيبنا العلماء أن الشرايين عندما تقطع يتدفق الدم فيرسل القلب رسالة إلى المخ طالبا منه أن يمده بالدم فيرسل له المخ مزيدا من الدماء فتتحرك الذبيحة بهذا الشكل نتيجة التدفق السريع للدم.. ومن آداب الذبح ألا يقوم الجزار بذبح حيوان أمام حيوان آخر حتى لا يفزعه، وأن لا يريه السكين التي سيذبحه به. وقد أثبتت الدراسات فعلا أن الحيوان الذى

ص: 457

يذبح بغير الطريقة الإسلامية يؤثر ذلك في ملمس لحمه وطعمه وشكله، حيث تفرز غدة الأدرينالين عند الخوف ما يعكر صفو اللحم ومذاقه.

الحرمين المكي والمدني ومناسك الحج وحماية الحيوان:

أوجب المشرع الأقدس على المُحرِم أن لا يؤذي أو يقتل هوام الجسد كالقمل والذباب ونحوها، وفرض عليه كفارات كضريبة مالية عند عدم الإلتزام بذلك، وإذا قام بالصيد مرة ثانية فإن الكفارة ترتفع حينئذ ويستحق العقاب الإلهي لقوله تعالى: (وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ).

وبهذه التعاليم يُربي الإسلام الإنسان على كيفية التعامل برفق مع الكائنات الأخرى وضرورة إحترام إخوانه في الوجود.

هذا في حال إحرام الحاج، ومضافاً لذلك - كما أشرنا إلى ذلك - فقد حدد الشارع الأقدس رقعة مكانية حرّم فيها على المسلمين ممارسة الصيد سواء أكان محلاً أم محرماً، وقد أُطلق على هذا المكان ب- (الحرم) فمنطقةالحرم المكي والمدني أرض الله الآمنة التي يأمن فيها الإنسان والحيوان والنبات. وهي بالإصطلاح المعاصر نسميها ب- (المحمية الحيوانية) وكذلك بالنسبة للنباتات فإنه شرعاً لا يجوز للمحل أو المحرم قطع أو كسر أو قلع شجر الحرم، طبعاً إلا ما استثني من الموارد التي ذكرها الفقهاء في رسائلهم العملية.

وبذلك يتقيد المسلم الحاج طوال سفرته وهجرته إلى بيت الله الحرام بهذه التعاليم والقيود التربوية،فهذه الفريضة المقدسة يتعلم الفرد المسلم من خلالها صفة الرفق والعطف بالحيوان وبذلك تكون هذه التعاليم أيضاً دورة تأهيلية وتربوية سريعة تدرب العبد على كيفية احترام الآخرين والرفق بهم ومعاملتهم بإحسان وتركهم يعيشون معه بحرية وسلام دون أن يلحقهم منه أي أذى. وهذا الكلام ذكرني بأدب نبينا الكريم عيسى بن مريم (علیه السلام) في تعامله مع الخنزير بالرغم من نجاسة هذا الحيوان وقذارته، إلا أنه يروى عنه (علیه السلام) إنه عندما رأى الخنزير يعترض طريقه قال له: (مر بسلام).

وفيما يأتي بعض الأحكام الشرعية الواردة في الرسائل العملية والخاصة بصيد الحيوان البري بالنسبة للمُحرم أو للمتواجد في منطقة الحَرَم:

ص: 458

لا يجوز للمحرم استحلال شيء من صيد البر، سواء في ذلك اصطياده وقتله وجرحه وكسر عضو منه، بل ومطلق إيذائه.

لا يجوز للمحل صيد الحيوان البري في الحرم.

تحرم على المحرم إعانة غيره - محلا كان أو محرماً - على صيد الحيوان البري، حتى بمثل الاشارة إليه، بل الأحوط عدم إعانته في مطلق ما يحرم على المحرم استحلاله من الصيد.

لا يجوز للمحرم إمساك الصيد البري والاحتفاظ به، سواء اصطاده هو - ولو قبل إحرامه - أم غيره في الحل أم في الحرم.

لا يجوز للمحرم أكل شيء من الصيد وإن كان قد اصطاده المحل في الحل، كما يحرم على المحل على الأحوط ما اصطاده المحرم في الحل فقتله بالاصطياد أو ذبحه بعد اصطياده، وكذلك يحرم على المحل ما اصطاده أو ذبحه المحرم أو المحل في الحرم.

من سيرة النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله)

في تعامله مع الحيوان:

روي إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وضع الإناء حتى يتوضأ، إذ لاذ به هر في البيت، فعرف النبي (صلی الله علیه و آله) أنه عطشان فأدنى إليه الإناء حتى شرب منه الهر، ثم توضأ (صلی الله علیه و آله) بما بقي من الماء.

وذات مرة، كان (صلی الله علیه و آله) يأكل التمر ويضع النواة في كفه اليسرى، فمرت بع عنزة فأشار إليها بأن تتقدم فتقدمت وأخذت تأكل من يد رسول الله (صلی الله علیه و آله) النوى.وروي إنه (صلی الله علیه و آله) كان جالساً أو نائماً، فجاءت هرة ونامت على كمه، فلما أراد أن يقوم عمد إلى كمه وقطع منه القطعة التي كانت الهرة قد نامت عليها حتى لا يزعج منامها.

وجاء في حادثة فتح مكة المكرمة إن النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) أمر جيشه الكبير المتوجه نحو مكة ليفتحها بتغيير مسار طريقه إلى طريق آخر، وذلك لأنه علم (صلی الله علیه و آله) إن في طريق جيش المسلمين هناك كلبة ترضع جرائها فلم يرغب (صلی الله علیه و آله) بإخافتها أو إخافة الكلاب الصغيرة وهي ترضع من أمها، لذلك غير مسار الجيش ولم يغفل (صلی الله علیه و آله) عن هذه الجزئيات البسيطة بالرغم من عظم المسؤولية والمصاعب التي يلاقيها في تلك الأيام.

ص: 459

خرج النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) يوماً في سفر من أسفاره وكان معه زوجته عائشة، وكانت تركب على بعير وكانت تعامله بشدة وقسوة، وكانت ترجعه بشدة، فقال لها نبي الرحمة (صلی الله علیه و آله) : (عليكِ بالرفق) لينهاها عن هذا الأسلوب السيء في التعامل مع الحيوان.

عن جابر، قال: خرجنا مع رسول الله ((صلی الله علیه و آله)) في غزوة ذات الرقاع، حتى إذا كنا (بحرة وأقم) أقبل جمل يرفل حتى دنا من رسول الله ((صلی الله علیه و آله)) فجعل يرغو على هامته. فقال ((صلی الله علیه و آله)) : إن هذا الجمل يستعديني على صاحبه، يزعم أنه كان يحرث عليه منذ سنين حتى أجربه، وأعجفه، وكبر سنه أراد نحره، اذهب يا جابر إلى صاحبه فأت به، قال : ما أعرفه. قال: إنه سيدلك عليه، قال: فخرج بين يدي معنفاً حتى وقف بي مجلس بني حطمة، فقلت : أين رب هذا الجمل؟! قالوا : هذا لفلان بن فلان، فجئته. فقلت: أجب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فخرج معي حتى إذا جاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: إن جملك يزعم أنك حرثت عليه زماناً، حتى إذا أجربته، وأعجفته، وكبر سنه أردت نحره، قال: والذي بعثك بالحق إن ذلك كذلك، قال ((صلی الله علیه و آله)) : ما هكذا جزاء المملوك الصالح، ثم قال: بعنِيه. قال: نعم. فابتاعه منه، ثم أرسله ((صلی الله علیه و آله)) في الشجر حتى نصب سنامه. وكان إذا اعتل على بعض المهاجرين والأنصار من نواضحهم شيء أعطاه إياه فمكث كذلك زماناً.

روي إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) دخل بستانًاً لرجل من الأنصار، فوجد جملاً فلما رأى الجملُ النبي (صلی الله علیه و آله) حنَّ وانهمرت الدموع من عينيه، فذهب (صلی الله علیه و آله) إلى الجمل، ومسح خلف أذنيه فسكت، ثم سأل عن صاحبه، فجاء فتى من الأنصار، فقال: أنا صاحبه يا رسول الله. فقال (صلی الله علیه و آله) : (أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملَّكك الله إياها؛ فإنه شكا إلى أنك تُجيعه وتُدئبه (تتعبه وترهقه). ألا فليسمع هذا دعاة حقوق الانسان وأولئك الذين يظلمون الناس ويأكلون حقوقهم،

وروي إن جملاً أتى للنبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) يشكو أن أصحابه يحملونه ما لا يطيق ثم بكى، فربت النبي (صلی الله علیه و آله) عليه وأوصى أصحابه به،فقالوا له: والله لنريحنه من العمل الشاق إكراماً لك يا رسول الله.

قصص رفق بالحيوان عند المسلمين:

رحمة الإمام الخميني (قدس سره) الكبيرة بالحيوانات:

يقول أحد أحفاد الإمام الخميني (قدس سره) كان الإمام يعطف كثيراً على الحيوانات لصفاء نفسه ونقاوتها فقد كان في بيت الإمام (قدس سره) عدد من القطط وعندما كان الإمام يذهب إلى غرفته ليتناول وجبة الغداء، كانت القطط تقف في باب الغرفة وكان الإمام (قدس سره) يعطيهن من الأكل الموجود على المائدة،وفي بعض الأحيان كان يعطيهن اللحم الموجود في طعامه، وفي أحد الأيام حيث كنا في بيت الإمام (قدس سره) رأيناه يعطي اللحم الموجود في الطعام إلى القطط فقالت أمي: يا سيدي لماذا تعطي اللحم إلى القطط في وضع غلاء المعيشة هذا؟ فقال لها الإمام (قدس سره) : إن هذه القطط لهن حياة مثل ما لنا ويتنفسن مثلنا فإن لم نعطهن الأكل فمن سيعطيهن قوتهن؟ كما إنه لا يقدم على قتل الذباب بل يعمد إلى إخراجها من النوافذ عن طريق قطعة قماش يلوح بها بيده، حتى إنه كان يوصي بعدم قتل الفأرة التي تمسكها المصيدة وهي على قيد الحياة، ويكرر لمن يمسكها قائلاً: (لا تقتلوها.. لا تقتلوها) !.

من أخلاقيات جيش المسلمين مع الحيوان

كان اسم مدينة القاهرة (العاصمة المصرية المعروفة) التي بناها الفاطميون في صدر الإسلام ب- (الفسطاط) ، وسبب التسمية حسب ما روي؛ أن جيش المسلمين لما كان متوجهاً لفتح بلاد شمال أفريقيا توقف في هذه المنطقة ونصب عدة خيم للاستراحة، وكانت الخيمة تسمى (فسطاطاً) ، وعندما عزم الجيش على الرحيل، قاموا بجمع الخيم، لكنهم وجدوا على ظهر إحدى الخيم حمامة قد أنشأت عشاً لصغارها، ولكي لا يزعجوا الحمامة تركوا الفسطاط في مكانه رحمة بها وبصغارها ورحلوا.

الجهات المسؤولة عن نشر ثقافة التعايش السلمي:

اشارة

من المؤكد إن كل أبناء المجتمع مسؤولون عن نشر ثقافة التعايش السلمي، ولكن كلاً بحسبه، حيث تقع على شريحة معينة منهم مسؤولية أكبر وأعظم، لاسيما من أصحاب القرار والمسؤولية في المجتمع، و سنشير إلى أهمية أدوار هؤلاء في هذه المَهمّة، لذا على كل

ص: 460

فرد من زاويته أن ينطلق تجاه تعزيز روح التعايش والتآلف مع الآخرين، لكي نخلق جيلاً واعياً يستوعب مبدأ التعايش السلمي، ونجعل مسألة تقبّل الآخر واحترامه واحترام خصوصياته مسألة طبيعية بيننا، ومُسَلم بها، ونرفض أي لون من ألوان التعصب والتخاصم وازدراء الآخر، سواء بسبب عقيدته أو فكرته أو قوميته، أو غير ذلك.

وهذا الأمر أكد عليه المرجع اليعقوبي، إذ جعل شرط تحقق الوحدة ب- (خلق ثقافة المحبة والأخوة واحترام الرأي الآخر والشراكة معه، ولا تتحقق هذه الثقافة إلا بقيام صناع الرأي في الأمة من علماء ومفكرين وكتّابوخطباء وأدباء وصحفيين وإعلاميين في إشاعة هذه الأجواء الايجابية وحينئذ ستتوجه الأمة كلها بهذا الاتجاه إما أن تكون اللغة السائدة هي التكفير والإلغاء والاتهام والحقد فلا معنى للحديث عن الوحدة والمؤاخاة) (1). وفيما يأتي نذكر الجهات المسؤولة في المجتمع عن نشر ثقافة التعايش السلمي:

أولاً) دور العلماء ومراجع الدين.

ثانياً) دور الدولة ضمن تشريعاتها الدستورية والبرلمانية.

ثالثاً) دور مؤسسة الأسرة (البناء التربوي).

رابعاً) دور مؤسسة المسجد (البناء الروحي والعقائدي).

خامساً) دور المؤسسة التعليمية (المدرسة والجامعة) ، (البناء العلمي والثقافي).

سادساً) دور المؤسسة الإعلامية بكل قنواتها.

سابعاً) دور مؤسسات المجتمع المدني التربوية والثقافية.

ثامناً) دور مراكز الدراسات التخصصية.

أولاً) دور العلماء ومراجع الدين:

يُعد كلام العلماء ومواقفهم حجر الزاوية والركيزة الأساسية التي ينطلق منها المجتمع لتحقيق حالة التعايش السلمي الأمثل بين أبنائه، والعكس صحيح، وهذه الحقيقة أكدها الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) حيث ورد عنه في هذا المعنى (إِنَّ كَلاَمَ اَلْحُكَمَاءِ إِذَا كَانَ صَوَاباً كَانَ دَوَاءً وَ إِذَا كَانَ خَطَأً كَانَ دَاءً). فالتحارب والاقتتال الطائفي كثيراً ما ينتج بسبب توجيه علماء السوء ورجالات الدين المنحرفين، لأن كلام العلماء _ بغض

ص: 461


1- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج4: (الصدق في الدعوة إلى الوحدة والمؤاخاة) .

النظر عن واقعهم وحقيقتهم عند الله تعالى _ له وقع كبير في نفوس الناس، وله تأثيراً على نمط حياتهم وسلوكهم، لما يحضون به من مكانة اجتماعية مهمة، وقداسة دينية مرموقة.

لذا يمكن لرجالات الدين الصالحين من العلماء والخطباء وأئمة المساجد أن يستثمروا هذه الخصائص والمميزات وهذا الزخم العاطفي لخدمة الناس، وبث روح الألفة والتسامح بين أبناء المجتمع، بل بين سائر المجتمعات، الذي يضم مختلف الشرائح الاجتماعية على تنوعها الديني والمذهبي والعرقي، ويمكن للعلماء بسهولة نشر روح التعايش السلمي مع الآخرين، ويحثوا الناس على اعتماد لغة التحاور ولغة الرأي والرأي الآخر، وحب التعايش على أساس الشراكة الإنسانية والدينية والوطنية، وعلى العلماء أيضاً أن يرشدوا الناس من خلال فتاواهم وإرشاداتهم إلى حرمة دم الإنسان وحرمة ماله وعرضه، ووجوب الالتزام بسلامة الاخرين وعدم أذية أي أحد منهم، دون مسوغ شرعي أو عقلي.وقد سجل لنا التأريخ العديد من المواقف التي حقن العلماء الصالحون بها دماء المسلمين ودفعوا عنهم شر الاقتتال الطائفي وويلات الحروب الداخلية، التي كادت تفتك بهم، ونذكر منهم على سبيل المثال السفير الثالث للإمام المهدي (علیه السلام) أبو القاسم الحسين بن روح النوبختي (رضوان الله عليه) ، (فإنه رغم عظمته في التشيع الا أن أحداً من العامة لم يصدق انه من غيرهم لحسن تصرفاته وحكمته وحدث ان تنازع اثنان فقال أحدهما أن ابا بكر أفضل الناس بعد رسول الله (وبعده عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان ويأتي علي بن أبي طالب من بعده، وقال الثاني: إن علياً أفضل الخلق بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) واشتد النزاع بينهما في مجلسه وفيه حشود من السنة والشيعة - وكانت الفتن الطائفية في أوجها آنذاك - فحسم النزاع بالاسلوب الحكيم الذي اعتاد عليه الذي يظهر منه شيء لأول وهله لكن التأمل الدقيق يظهر انه موافق لمذهبه وقال: الذي اجمعت عليه الصحابة هو تقديم الصديق وبعده الفاروق وبعده عثمان ثم علي الوصي وأصحاب الحديث على ذلك وهو الصحيح عندنا، فتعجب الحاضرون من قوله ورفعه العامة على رؤوسهم وطعنوا على من يرميه بالرفض (أي سب الشيخين). (1)

ص: 462


1- دور الأئمة في الحياة الإسلامية، المرجع اليعقوبي (دام ظله) .

كما أشار المرجع اليعقوبي إلى وجود طريقتين مهمتين لحل النزاعات، انطلاقاً من هدي القرآن الكريم، وتُعد الطريقة الأولى منهما محل الشاهد في الكلام، وفيما يلي نص كلمته (دام ظله) : (قال تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)..الآية الكريمة تعطي الحل لحسم النزاع وانهائه وهما أمران كفيلان بإزالة أسباب النزاع ومنعه من أصله، وبتركهما يحصل التنازع وهما:

التحاكم الى علماء الشريعة في كل اختلاف والتسليم والاذعان لحكمها سواء كان لمصلحته أو على خلافها، ولذا ابتدأت الآية بالأمر بطاعة الله تعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله) وطاعة القيادة الحقة التي جعلها الله تعالى حجة على عباده، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) فالالتزام بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآلة وسلم) والرجوع الى القيادة الحقة هما الضمان من وقوع التنازع أو الانجرار اليه بسبب الاختلافات فالآية تشير الى سبيل تحقيق وحدة المسلمين ومنع تشرذمهم وهو ما عبرت عنه الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء () بقولها (وجعل امامتنا نظام للملة وامانا من الفرقة).

الالتزام بالصبر لأن الاحتكام الى الشرع والعمل بالتوجيهات الشرعية على خلاف هوى النفس يحتاج الى مجاهدة ومصابرة فيأمرنا الله تعالى بالصبر ويعدنا بأحسن الجزاء وهو(إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) معهم مطلقاً أي في كل الأحوال وفي الدنيا والاخرة، وكفى بهذه المعية حافزاً ودافعاً للصبر على القيام بما يريده الله تباركوتعالى. والآية صريحة بان التنازع يؤدي الى الفشل، لكن المستفاد من غير موضع عكس ذلك أي أن الفشل هو سبب التنازع، قال تعالى فيما يتعلق بواقعة اُحُد (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ ) وقال تعالى في معركة بدر: (وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) فالعلاقة بين الفشل والتنازع جدلية تلازمية حيث يؤدي كل منهما إلى الآخر بمرتبة من المراتب، وقد اتضحت صورة أداء التنازع إلى الفشل). (1)

ص: 463


1- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج9: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا) .

ومن منطلق مسؤولية العلماء فقد كان الإمام الخميني (قدس سره) كثيراً ما يؤكد على الضرورة العقلية والشرعية للوحدة والتضامن بين المسلمين والمجتمعات الإسلامية، حتى أن سماحته كان يعتبر (الوحدة) أحياناً (واجباً إلهياً) : (من الواجب علينا نحن أبناء الشعب جميعاً في أي موقع كنا.. وجوباً إلهياً، بأن نتكاتف ونتحد فيما بيننا). هذا في وقت تعتبر التفرقة والتشتت من أبرز عوامل انحطاط المجتمعات وضعفها وتخلفها وهزيمتها. وهو أمر يمكن البرهنة عليه سواء على الصعيد التاريخي أو النظري. وفي عصرنا الحاضر شهد العالم الإسلامي العديد من الاختلافات المدمرة نتيجة لمؤامرات الأجانب وعوامل عديدة أخرى، مما مهّد الأرضية لهجوم الغرب وأعداء الأمة الإسلامية. حيث شكّلت الاختلافات والتفرقة تهديداً حقيقياً للعالم الإسلامي ولكل مجتمع من مجتمعاته.

ثانياً) دور الدولة ضمن تشريعاتها الدستورية والبرلمانية:

يجب على السلطات الحكومية أن تكون جادة وحازمة في بسط العدل وتطبيق القانون ومحاسبة كل من ينشر ثقافة العنف والتطرف ويحرّض على التقاتل والاحتقان الطائفي، ويمارس الأعمال الإرهابية والاجرامية، وكذلك عليها أن تضع ضوابطاً رقابية تحاسب من خلالها كل من ينشر المعاني العنصرية أو الطائفية سواء في الإعلام أو من خلال طباعة ونشر الكتب والمجلات والملصقات ونحو ذلك. وعليها مراقبة كل المطبوعات التي تُطبع داخل البلاد أو تستورد إلينا من الخارج، وكذلك محاسبة كل من يوظف العروض الفنية لهذا الجانب في التلفاز أو السينما أو المسرح، أو غير ذلك من النوافذ الإعلامية التي يصل صوتها وتأثيرها إلى الناس، ومن جانب آخر ينبغي على الدولة أن تساهم في إشاعة روح الألفة والمحبة وثقافة التعايش السلمي، كل هذه الأدوار لابد أن تتحمل مسؤوليتها الدولة، لكونها الجهة التي بيدها عصمة القانون الحاكم على الجميع، ولأهمية دور الدولة في بسط مبدأ السِلم الاجتماعي فقد ألزمها المرجع اليعقوبي بأن (تكون حازمة في مواجهة عناصر الحرب الطائفية من واجهات سياسية أو عناصر إرهابية أو حواضن أو ممولين، ولا يبرّرتقاعسها أنها حكومة تصريف أعمال وغيرها من الأعذار فالدم الحرام من أعظم المقدسات ويجب صونه بكل الإمكانيات). (1)

ص: 464


1- ينظر خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي،

ومن الشواهد التي نذكرها هنا هو ما حصل في دولة (سنغافورا) حيث قامت بسن قوانين تحظر فيها كل مظاهر العنصرية والطائفية، لكي تمنع إثارة المشكلات بين أبنائها، ومنها على سبيل المثال سن قانون يعاقب كل من يتلكم بكلام طائفي، فضلاً عما هو أعظم من ذلك.

ثالثاً) دور مؤسسة الأسرة (البناء التربوي) :

تُعد مؤسسة الأسرة هي المنطلق الأول والأساس في الكثير من الحيان لتطلعات الإنسان وأفكاره ومبادئه وعقيدته وتربيته الشخصية. ويتمتع خصوص الأبوين بمساحة كبيرة في صياغة شخصية أبنائهم وتربيتهم بالشكل الذي يريدونه ولو في الجملة وهذا ما أكده الحديث النبوي الشريف: (كل مولود يولد على الفطرة، فما يزال عليها حتى يعرب عنها لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) فيمكن للأبوين أن يساهما في جعل الأبناء في بادئ الأمر أن يحب بعضهم بعضا ويتفانى أحدهم في معونة الآخرين، ويربونهم على روح التسامح وغض الطرف عن الأخطاء الصغيرة، ونبذ التشاجر والتخاصم، وكذلك على الأبوين عدم التواني في توجيه النصح والإرشاد لهم في كيفية التعامل مع إخوانهم من أبناء الأقارب والأصدقاء والجيران الذين يختلفون معهم بطبيعة الحال في الشكل والتربية والطباع، ويحذرونهم بأن لا يزدرون احداً ولا يعيرون أحداً ولا يمنعون حق أحد ونحوها من الإلتزامات الشرعية والأخلاقية.

فالطفل الذي ينشأ ومنذ الصِغر على مبدأ احترام الآخر واحترام خصوصياته وعدم انكار حقه في تبني الأفكار وامتلاك الأشياء يكون من السهل جداً أن يتقبل فكرة التعايش السلمي اجتماعياً وفكرياً ونفسياً.

ومن خير العوامل التربوية التي تحقق للأبوين بل وسائر المربين أسلوباً ناجحاً في عالم التربية والتعليم، هو عامل (الإيحاء النفسي) وأقصد به القدوة الحسنة والتأثير العملي. فعندما يرى الطفل أبويه أو أحدهما يمارس وبشكل عملي سلوكاً معيناً فإنه يتأثر به بشكل كبير جداً يعلو على تأثره فيما إذا سمع بهذا السلوك بشكل نظري دون تطبيق، فالطفل الذي يرى أبويه على مستوى من الإنضباط الديني أو السلوك الأخلاقي الجيد فهو- بشكل لا إرادي - سوف يتأثر بهما ويأخذ من طباعهما ولو بنسبة ما، في حين لو

ص: 465

رأى الأبن - على سبيل المثال - أباه وهو يظلم أمه أو أخوه أو أحداً آخر، ويتعامل مع الناس بخشونه وفضاضة، فإن الأبن سيتقمص هذه السلوكيات ويتخذ أباه قدوة له ولو بشكل لا إرادي، لأن الأبوين والكبار عموماً يعدون بمثابة قدوة ومثل أعلى لأبنائهم وللأطفال الصغار.ومن المشاهد المألوفة التي نراها في أسرنا، حالة التخاصم والتشاجر التي تنشب بين الأطفال حول الألعاب أو الطعام أو حول مسألة الخروج مع أحد الوالدين خارج الدار ونحو ذلك. فعلى الأبوين أن يكونا على درجة طيبة من الوعي والذكاء الاجتماعي والحس التربوي لكي يمارسا دورهما ومسؤولياتهما في تعليم أبنائهما على كيفية تلافي هذه المشكلات الصغيرة فيما بينهم داخل الأسرة. فهذه الحالات الاجتماعية التي ذكرناها على بساطتها قد تترك أثراً سيئاً في نفسية الطفل وتخلق له عقداً نفسية وتربوية يصعب حلها فيما بعد إذا كبرت معه، وهذه الحقيقة التربوية تؤكدها الشواهد التاريخية، حيث حصلت العديد من الجرائم والحوادث المؤلمة كان أبطالها بعض المنحرفين الذين نشأوا منذ الصِغر على نمط من سلوكيات خاطئة مارسها بحقهم آبائهم أو القريبون منهم اجتماعياً، لدرجة أن بعض المشردين ممن حرموا عطف الأب وحنان الأم والرعاية التربوية الكافية، أصبحوا يتسنمون مراكز مهمة في دول العالم فأحرقوا الأخضر واليابس وأهلكوا الحرث والنسل وأدخلو ا شعوبهم حروباً طاحنة راح ضحيتها ملايين البشر.

كما يجب على الأبوين خصوصاً الحذر من الانعكاس السلبي للتكنولوجيا الحديثة إذا تم استخدامها بشكل خاطئ مثل النت و بعض المواقع الإلكترونية التي تحيي في الطفل روح القتال و النزاع و تزرع في نفسه العنف والعدائية، وبعض البرامج التي تروج للحروب و الدماء، و الألعاب الإلكترونية التي تدور في محور الأسلحة والقتال وتهون عليهم فكرة استخدام الآلات العنيفة الإلكترونية منها أو السلاح الأبيض، و تهّون عليهم مشاهد الموت والاستخفاف بإزهاق الأرواح و كأنها أمر طبيعي. (1)

وهذا الحقائق التربوية التي تطرقنا لها بعض الناس يدركونها نظرياً، إلا أنهم وللأسف لا يطبقونها عملياً، فلا نجد الكم الكافي من التربية والتعليم من الأبوين حيال ابنائهم، وهذا ما يجعل كيان الأسرة معملاً ينتج للمجتمع شخصيات هزيلة ومهزومة

ص: 466


1- مقال: العنف العشائري، سارة طالب السهيل.

ومعقدة، وفي أسوء الحالات قد تنتج سراق وقتلة ومحتالين، قد ماتت ضمائرهم وملئت نفوسهم بالحقد والحسد والضغينة.

وقد أكد المرجع اليعقوبي على أهمية دور الأسرة في تربية وبناء شخصية الأبناء في كلمات عديدة، نذكر منها ما أشار فيها إلى مناشيء وملاكات المسؤولية الأسرية المستفادة من الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) حيث قال (دام ظله) :

إن هذا التأكيد وقرن الأهل بالنفس في الخير والشر يلاحظ أمراً فطرياً ونزعة لدى الإنسان فإنه يعتبر أهله كنفسه يصيبه ما يصيبهم، من وصية أمير المؤمنين (علیه السلام) لولده الحسن (علیه السلام) قال: (ووجدتك بعضي بل وجدتك كلي حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني، وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي)وقد حكى القرآن الكريم عن جملة من الأنبياء (علیهم السلام) هذه الغريزة الإنسانية، قال تعالى عن إبراهيم (علیه السلام) : (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي) وقال عن النبي نوح (علیه السلام) : (وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ) وقال تعالى عن النبي لوط (علیه السلام) : (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) ومن الأدعية التي وردت في القرآن الكريم (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي).

إن للشخص سلطنة وقيمومة وولاية عرفية واجتماعية وشرعية خاصة على أهله وذويه مما تعطيه قوة في التأثير ومن غير المتوقع وجود موانع من ممارسة الفريضة كالتي يمكن أن تحصل مع الغير مثل حصول الضرر أو اختلال النظام ونحو ذلك، فتكون مسؤوليته أكبر لأن وجود المقتضي أقوى والمانع يكاد يكون مفقوداً.

إن الأسرة هي الوحدة الأساسية للمجتمع فإذا صلحت هذه الأسرة وتلك صلح المجتمع، فصلاح المجتمع –الذي هو الهدف- يتحقق بقيام كل فرد بإصلاح أسرته، فكأن الشارع المقدس بتأكيده على إصلاح الأسرة يضع لنا المنهج والطريق لإصلاح المجتمع.

إن الفرد مسؤول، اجتماعياً، عن أسرته فإذا صدر منهم ما يزين كان له، وإذا صدر منهم ما يشين كان عليه؛ لذلك ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام) مخاطباً شيعته:

ص: 467

(كونوا زيناً لنا ولا تكونوا علينا شيناً) لأنهم محسوبون على الإمام (علیه السلام) يتسمون باسمه، فإصلاح الفرد لأسرته إنما هو عمل يقدّمه لنفسه لأن الثناء يعود إليه فيما لو صلحوا وأحسنوا، كما أن الولد المنحرف يعيَّر به ويعتذر عن إساءته.

إن عدم صلاح الأهل يضعف موقف الفرد عند قيامه بواجبه في ممارسة الأمر والنهي في المجتمع؛ لأنهم سيردّون عليه بأنه ليبدأ أولاً بإصلاح أهله، مما يجعله في حرج من ممارسة هذه الفريضة العظيمة.

إن الأسرة وحدة مصغرة من المجتمع وفيها تنوع نفسي وفكري وثقافي فتصلح أن تكون معسكراً تدريبياً –كما يقال- لأداء الوظيفة في المجتمع فيستفيد العامل من كيفية التعاطي مع الأهل مع تنوعهم في التعاطي مع المجتمع وهو أحد وجوه فهم الحديث النبوي الشريف (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله) وكذلك حديث (من عرف نفسه فقد عرف ربّه).

وقد أشار (دام ظله) مراراً على ضرورة الاهتمام بدور المرأة في البناء التربوي والتعليمي للأبناء، لأن المرأة كما هو واضح تُعد عنصراً مهماً وفعالاً لأجل ايجاد جيل واعي ومثقف في المجتمع.

ومن الكلمات الواردة في هذا الباب لسماحته نذكر منها مايلي:(إن المرأة عنصر مهم في تربية المجتمع فإن كانت واعية وصالحة وملتزمة فإنها تكون قادرة على إنشاء جيل صالح لأنها المربي المباشر للأبناء باعتبار انشغال الرجال في اعمالهم خارج البيت وقد سمعنا عن الكثير من النساء اللواتي كن سبباً في هداية أزواجهن وبقية ذويهن).

(إن المرأة عنصر فعال في بناء المجتمع فهو نصفه عدداً وإن كان كله بالأهمية التربوية لأنه المربي المباشر للأسرة التي هي نواة المجتمع ولقد صدق الشاعر اذ قال:

الأم مدرسة إذا أعددتها*** أعددت شعباً طيب الأعراقِ).

(قد أدى جهل الأم وضعف تربيتها إلى انحراف أبناء المجتمع وضياعهم ووقوعهم بأيدي غير كفوءة).

ص: 468

(إن تخلّف المرأة يعني تخلف نصف المجتمع بل كل المجتمع لأنها المدرسة الأولى التي تحتضن الطفل وترعاه وتربّيه فإذا كانت متعلمة متدينة سهّلت المسير لأبنائها نحو الكمال).

(إن المجتمعات تبقى واهية مع بقاء هذا النصف (أي المجتمع النسوي) معطلاً عن التفاعل في بناء المجتمع).

رابعاً) دور مؤسسة المسجد (البناء الروحي والعقائدي) :

تُعد المساجد من أفضل المراكز الاجتماعية لتجمع المسلمين وتعارفهم وتحشيد قواهم ونشر الوعي بينهم وتهذيب أخلاقهم وصيانة عقائدهم، وتوحيد صفوفهم وكلمتهم، وقد ذكر المرجع اليعقوبي العديد من الفوائد الاجتماعية والتربوية والثقافية لمؤسسة المسجد، نذكر أبرزها فيما يلي:

تقوية الأواصر الأخوية الإيمانية بين أفراد المجتمع عند حضورهم في المساجد، وإحساسهم بقوة الإسلام، ووحدة صف المسلمين ويوحى بهذا صلاة الجماعة أو الجمعة وكذا الآيات والعيدين والطواف وصلاة الطواف جماعة والتي هي من أبرز مظاهر الوحدة وقوة الإسلام والمسلمين.

الترابط الاجتماعي بين المسلمين من خلال تعرف بعضهم على بعض.

حصول الاستقرار والسكون في نفس الإنسان المؤمن عند لقائه بإخوانه في المسجد، ويدل على ذلك قول الإمام الصادق (علیه السلام) : (أن المؤمن ليسكن إلى المؤمن كما يسكن الضمآن إلى الماء البارد).

مهمة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والتي أشار إليها الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) بقوله: (أو كلمةً ترده عن ردى أو يسمع كلمةً تدله على هدى) فهي من الأمور المتحصلة عند الحضور إلى المسجد.

يعتبر المسجد المشخص الأول لما موجود في المجتمع من سلبيات لأنه ملتقى كل الطبقات وإليه ترد جميع أنواع السلبيات والمشاكل، وبذلك فالتوجيهات بخصوص هذه المشاكل تصدر منه، لذا فالمجتمع ميدان لتطبيق ما يأمر به المسجد.

ص: 469

إطلاع المسلمين على القضايا المعاصرة التي تهمهم خاصة تلك التي تهدد كيان الإسلام ووحدته.

المسجد يزرع روح الأخوة الحقيقية والمسؤولية المشتركة فيما يتعرض له الإسلام من تحديات داخلية وخارجية، وهو بهذا يمثل دعوةً للتقريب بين المذاهب الإسلامية.

يمثل المسجد جهة إعلامية مرعبة لأعداء الإسلام، وذلك لأنه المبرز لنقاط القوة في الدين الإسلامي والتي تميزه عن باقي الأديان والاعتقادات والأيديولوجيات وهذه النقاط متمثلة بالأسلوب الاجتماعي في التشريع والدعوة.

المسجد وسيلة مهمة لتقليل الفوارق الطبقية الاجتماعية والاقتصادية بين أفراد المجتمع ولعل أوضح مصداق من المساجد في تطبيق هذه الفائدة هو المسجد الحرام وذلك أثناء مراسيم الحج حيث اللباس الواحد والحركة الواحدة.

ونختم الفوائد الاجتماعية للمساجد بفائدة كبيرة ومهمة ومؤثرة في نشر الوعي والإيمان داخل صفوف المجتمع، ألا وهي إحياء الشعائر الدينية. (1)

أما مسؤوليات إمام جماعة المسجد فهي:

على الصعيد الاجتماعي:

1 -- مد الصِلات والروابط الاجتماعية خارج المسجد وذلك عن طريق مشاركة الناس أفراحهم وأحزانهم وكل مناسبة لهم ويكون السّباق إلى ذلك.

2 -- حل المشاكل الاجتماعية وعلى المستويين الفردي والجماعي، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عن طريق حث الوجهاء والمتدينين لحل المشاكل بين الناس.

3 -- التعامل مع أفراد المجتمع وفقاً لمستوياتهم واستحقاقاتهم فلا يبخس حقاً لأحد.

4 -- معالجة الظواهر السلبية التي تسود المجتمع بالطرق الناجحة والمؤثرة، وكل ذلك يعتمد على مدى إدراكه ووعيه وحسه الاجتماعي، وتطبيقه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

5 -- تعزيز الروابط الأخوية بين أفراد مجتمعه، ويكون ذلك -- مثلاً -- عن طريق اشتراكهم في بعض الأعمال أو النشاطات وكل حسب استعداده وطاقته.

ص: 470


1- شكوى المسجد، المرجع اليعقوبي.

6 -- السعي في التوفيق بين المؤمنين والمؤمنات من غير المتزوجين لأجل الزواج.

على الصعيد الاقتصادي:

1- رعاية الطبقات الفقيرة والمعوزة بما يسمح له من التصرف في قسم من الحقوق الشرعية أو عن طريق إنشاء صندوق خيري لجمع التبرعات، والصندوق إما أن يكون ثابتاً في أحد جدران المسجد أو متحركاً بين صفوف المصلين بعد الصلاة.

2 -- البحث عن فرص عمل عند بعض أرباب المهن والأعمال ممن يرتادون المساجد، لانتشال مجموعة من الشباب العاطل والمحتاج.

3 -- السعي في أجراء عقود القرض والدين لإنجاز أعمال بعض المحتاجين مستغلاً وجاهته وتأثيره في المجتمع.

4 -- التنسيق مع الأطباء والصيادلة المؤمنين وتوفير سبل العلاج السهلة للمرضى المعوزين.

على الصعيد الثقافي:

1 -- إنشاء مكتبة خاصة بالمسجد، وفتح باب التبرعات بالكتب لإغناء هذه المكتبة منتقياً عناوين الكتب التي تبني الإنسان وتكون شخصيته الدينية والإيمانية متجنباً كل عنوان يثير حفيظة ومشاعر أي جهة أخرى.

2 -- استثمار بعض المناسبات الإسلامية وغيرها مما يراها مناسبة لإقامة المسابقات في شتى فروع المعارف والعلوم، وإلقاء الخطب والمواعظ.

3 -- إجراء دورات فقهية في أحكام الرسالة العملية للمصلين.

4 -- القيام بفتح دورات تحفيظ القرآن وتلاوته والتركيز على الأطفال والأحداث والشباب. هذا وعلى إمام الجماعة أن يركز علاقته مع الشباب لأنهم الأرض الصالحة لزرع الأفكار الجديدة البناءة.

وآخر ما يمكن أن يقال تحت عنوان مسؤوليات إمام الجماعة أو المعمم، هو أن هذه المسؤوليات تختلف من مجتمع إلى آخر ومن زمان إلى آخر، فلا يمكن حصرها أو استقصاؤها جميعاً في نقاط، لأن بعض مفردات المسؤوليات تمليها ظروف المنطقة أو

ص: 471

المرحلة الزمانية، لذا فهي خاضعة لشخصية الوكيل ومقوماته الفكرية والإيمانية والثقافية.(1)

وقد (أدرك أعداء الدين والإسلام ومنذ زمان بعيد هذه الفوائد الدينية والاجتماعية للمسجد وعرفوا من خلالها بأن المسجد بالنسبة للدين الإسلامي بمثابة الراية إلى الجيش فحاولوا بشتى الوسائل الإيقاع بتلك الراية لينهار الجيش كله وحاولوا ذلك بشتى الوسائل الخبيثة المتاحة لهم، فكانت محاولاتهم تلك وردّها من قبل الخلّص من المسلمين سجالاً على مر التاريخ: (كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) وكانت محاولاتهم تلك على محورين:الأول: من ناحية هدم أبنية الجوامع والسعي في خرابها على شكل هجوم عدواني مباشر أو تحت ذرائع أخرى واهية غير متسمة ظاهراً بالعدوانية.

والثاني: محاولة تفريغ الجامع من دوره الحقيقي عن طريق عرقلة فوائده، بمنع الآذان مرة ومنع الصلاة أخرى أو مضايقة الأفراد البارزين المرتادين لتلك الجوامع أو محاربة الأفكار المؤثرة في المجتمع والتي يبثها المسجد عن طريق إذكاء نقائضها وبث الإشاعات ضدها ومحاولة إخماد أثرها). (2)

خامساً) دور المؤسسة التعليمية (المدرسة والجامعة) ، (البناء العلمي والثقافي) :

كما تُعد المدرسة (المؤسسة التعليمية) هي البيت الثاني للإنسان وأفرادها بمثابة أخوة له. والمدرسة والجامعة وإن كانت تُعد واقعاً مؤسسة تعليمية إلا انها شئنا أم أبينا تُعد مؤسسة تربوية أيضاً، لأن الإنسان يأخذ جملة من القيم والأخلاقيات من أساتذته وأقرانه هناك، بل قد يتفوق تأثير الاستاذ والزميل الدراسي على الطالب على تأثير الأبوين فيه، وذلك لأن الصداقة والزمالة خارج نطاق الأسرة ممزوجة بروابط المحبة والعاطفة غالباً وتنشأ باختيار الفرد نفسه لتلك الشخصيات المحببة إلى قلبه، في حين إن الأبوين لا يتم اختيارهم من قبل الأبناء بطبيعة الحال، ناهيك عن التقارب العمري

ص: 472


1- المصدر نفسه.
2- المصدر نفسه.

وتقارب الأفكار والطموحات والهموم وتبادل الإهتمامات وغيرها من العوامل التي قد يفتقر لها الجو الأسري، مما يزيد اندفاع الإنسان إلى أحضان خارج نطاق الأسرة. ويجب على المؤسسات التعليمية والتربوية أن توظف المناهج الدراسية والتربوية لنشر ثقافة التعايش والتآلف مع الآخرين وإن اختلفنا معهم في المعتقد والفكر واللغة وغير ذلك.

ويذكر إنه (يعيش في دولة (سنغافورا) أربعة أعراق وهم: (الصيني والماليزي والهندي والأوربي) لا يجمعهم دين ولا مذهب ولا لغة، الذي يجمعهم فقط هو الوطن والمصلحة الإنسانية المشتركة، فأسس المسؤولون في هذه الدولة منهجاً تربوياً لأجل إشاعة روح التعايش السلمي المشترك، وكان النواة الأولى لهذا المنهج التربوي في المراحل التعليمية الابتدائية للأطفال، والتي تركز على تنمية قواعد الإحترام المتبادل، حيث يتم - على سبيل المثال - تعليمهم على نطق كلمة (شكراً) بأربع لغات، ويجلس الطفل على طاولة مستديرة يقابله ثلاثة من نظرائه من الأعراق الأخرى، لغرض التمرن على ثقافة الإحترام المتبادل والتعايش المشترك ومناقشة ما يهم الجميع،. كما اخترعوا بعض الألعاب التي تنمي هذه الثقافة وهذه المبادئ الأخلاقية السامية، كما سنّوا قانوناً جزائياً يعاقب بالسجن كل من يتفوه بكلمة عنصرية فيها إهانة للعنصر الآخر. وقد سبق نبي الإسلام (صلی الله علیه و آله) العالم المتحضر بهذه الإجراءات، حيث ينقل لنا التأريخ إن (غلاماً من المهاجرين ضرب غلامًا من الأنصار،واستغاث الأول: يا لَلْمهاجرين، ونادى الآخر: يا لَلأنصار، ولما سمِع ذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (مَا بَالُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّة) ، ثم قال (صلی الله علیه و آله) : (دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ) أي إنها تنطوي على عفونة التفرقة والعنصرية الجاهلية.

وإن واقع التعايش السلمي في هذه البلاد وغيرها هو تجسيد للرواية الشريفة القائلة: (المؤمنون في تبارهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائره بالسهر والحمى) إلا أنهم ليسوا مسلمين لكن مبدأ التعايش السلمي هو إسلامي بامتياز). (1)

كما (إن المؤسسات التعليمية تُعد الشريك الأساسي في القضاء على التطرف، وذلك يحتاج إلى وضع مناهج تعليمية تنمي المواهب والفنون و الفكر و الإعتدال والثقافة، من خلال وضع مناهج جديدة لجميع المراحل التعليمية على يد خبراء حتى

ص: 473


1- ينظر ثقافة التعايش، الشيخ ناصر الأسدي، ص23. بتصرف بسيط.

نربي جيلاً جديداً معتدل الفكر ومتزناً يسمع ويقبل ويحاور. وهناك جانب اخر لا يقل أهمية وهو المعلم الذي يجب تأهيله واجتيازه العديد من الإختبارات النفسية على يد خبراء في جميع المجالات للتأكد من أنه قادر أن يربي جيلاً سوياً صالحاً للوطن. وأيضاً يجب التأكد من خلال المتابعة المستمرة أن المعلم لا يقوم ببث أي فكر متطرف، فهناك دور مهم للمؤسسات الثقافية والفنية من سينما ومسرح، من خلال الأعمال الفنية والندوات التي تشكل جزءاً كبيراً من الوعي و الثقافة عند الشباب و الأندية الرياضية والإجتماعية وباقي المجتمع المدني لأنه القاطرة الأساسية في التنمية و التوعية). (1)

سادساً) دور المؤسسة الإعلامية بكل قنواتها:

لوسائل الإعلام دور كبير في تغيير الرأي العام، كما لها التأثير البالغ في عقول الناس ونفوسهم، ومن هذا المنطلق يمكن تجنيد الإعلام الصالح لخدمة المباديء والقيم النبيلة، وتأسيس مجتمعات صالحة، مبنية على الصدق والأمانة والمحبة والتعاون، ونبذ التخاصم والتفرقة والكراهيةن وهذه الحقيقة المهمة أشار إليها المرجع اليعقوبي ضمن كلماته وتوجيهاته مراراً، حيث قال (دام ظله) : (إن الإعلام يمارس دوراً خطيراً في حياة الأمة ويستطيع توجيه الرأي العام بالاتجاه الذي يريده أصحاب وسائل الأعلام، وهو في الغالب بعيد عن الإنصاف والموضوعية والضمير الحي، لذا فهو المسؤول الأول عما تعانيه من كوارث، ولو كان هناك جهات تشرف على تربية هؤلاء الإعلاميين وتهذيبهم وتوجيههم نحو الأهداف السامية لخرجنا بخطاب مصلح بناء يعمل من أجل خير الأمة وازدهار البلد). (2)كما سجّل (دام ظله) ملاحظة على الإعلاميين وأصحاب وسائل الإعلام كالفضائيات وغيرها، قائلاً: (إنهم يركّزون على الخطاب التحريضي الطائفي التأجيجي الشاذ فيظهر وكأنه المعبِّر عن توجهات هذه الطائفة وهذه الجهة أو تلك، ويتغافلون عن الخطاب المعتدل البنّاء الحضاري وكأن هذا لا يهمّهم بشيء، لأن مصالحهم تقتضي الفتنة

ص: 474


1- مقال بعنوان: (دور المجتمع المدني و الدولة في مكافحة الارهاب) حاد عدنان.
2- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج4 خطاب رقم (126) : (وضع قوانين تنّظم أخلاق ممارسة مهنة الإعلام و كل مهنة) .

والتفرقة والطائفية والصراع والخلاف، أو لأن الأول مثير وجاذب دون الثاني، فيبدو المشهد الثقافي وكأنه من الأول خلافاً للواقع لكن الاعلام هو الذي أبرز الأول وغيًّب الثاني، وهذا يعني أن بعض الإعلاميين مؤدلجون ويعملون بلا مهنية وموضوعية وإنما هم مجنّدون للجهات التي تدفع لهم، وهو أحد أسباب استهدافهم وقتلهم حتى عادت الساحة العراقية أخطر الساحات في العالم للإعلاميين. أقول هذا مع إدانتي لما يتعرضون له من ضغوط ومضايقات ومن إرهاب، لأن عمل الإعلامي محترم ولا يحق لأحد أن يمسّه بسوء، وكانوا ينقلون الوقائع والأحداث حتى الحروب ولا يجعلهم أحدٌ جزءاً من القتال). (1)

ويُعد الإعلام من مصادر القوة بالنسبة للدول، ويسمونه بالسلطة الرابعة بكل أدواته المؤثرة، وهو أيضاً أحد مصاديق ما أطلق عليه ساسة الغرب ب- (القوة الناعمة) لشدة تأثيره الخفي على الناس، الذي لا يحتاج معه إلى استخدام الأساليب الخشنة أو ما يسمونها بالصلبة والتي تتمثل بالقوة العسكرية أو الاقتصادية أو السياسية. (2)

سابعاً) دور مؤسسات المجتمع المدني التربوية والثقافية:

تُعرف مؤسسات المجتمع المدني بأنها عبارة عن تنظيمات غير حكومية (أهلية) تملأ المجال العام بين الأسرة، والدولة، والسوق، وتنشأ بالإرادة الحرة الطوعية لأصحابها من أجل قضية أو مصلحة أو للتعبير عن مشاعر معينة ملتزمة بقيم التراضي والتسامح والإرادة السلمية ومستقلة عن السلطة السياسية (الحكومة) ، وتقاس هذه التنظيمات بمدى استقلاليتها عن السلطة السياسية. ومن أهم السمات التي تمتاز بها هذه المنظمات القدرة على التكيف، إذ إنها تمتلك القدرة القانونية والتنظيمية بشكل يمكّنها من التكيف مع المتغيرات في البيئة التي تعمل بها، كذلك الاستقلال بالرأي والقرار عن السلطة السياسية، وهي ليست تابعة لجهة حكومية ولا تكون خاضعة لغيرها من المنظمات والمؤسسات، ناهيك عن التجانس، حيث تعمل وفق منظومة متكاملة وبرامج مدروسة

ص: 475


1- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج8: (التجديد في الخطاب الديني) .
2- وللمزيد من التفاصيل راجع خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج9، رقم (426) : (القوى الناعمة والمنبر الحسيني) .

وبشكل توافقي، مما لا يؤدي إلى صراعات واختلافات داخل المؤسسة. (1) وإن المجتمع المدني و المؤسسات التربوية ودوائر الدولة تساعد على ترسيخ مفهوم المواطنة فينفسية المواطن ليتمكن بدوره من اتخاد قراراته بنفسه داخل المؤسسات التي يعمل ضمن مجالاتها و التضحية بالغالي و النفيس دون التأثير بالأفكار التي يروجها العصابات الإرهابية و التكفيرية وفئاتها الضالة التي انحرفت عن مسار السلوك القويم للمجتمع قاطبة واستغلال الفرص من أجل الهيمنة للنيل بمقدوراته. (2)

وفيما يلي أهم الشروط التي ينبغي تفعيلها لأجل انجاح عمل المؤسسات المدنية في مواجهة خطر التطرف والإرهاب، ونشر ثقافة التعايش السلمي في المجتمع:

1- إن المجتمع المدني يمثل جزءاً من هذا الكل الذي هو الاطار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي بالتفاعل معه سلبا وإيجابا بحيث يؤثر فيه ويتأثر به المجتمع المدني ومن ثم هو مجموعة كيانات داخل المجتمع يعاني مما يعانيه المجتمع ككل.

2- إن اسهام المجتمع المدني في مواجهة التطرف والارهاب وقيامه بدور فعال يتوقف على عدة متغيرات ابرزها قدراته البشرية والمادية والاطار التشريعي الذي يتحرك من خلاله والمنظور الأمني لتعامل الدولة معه ثم طبيعة القيادات والنخب في مؤسسات المجتمع المدني.

3- يتوقف نجاح عمل مؤسسات المجتمع المدني إلى حد كبير على قدرتها في الالتحام بالقواعد الشعبية والخروج من إطار النخبوية إلى الجماهير وتبني خطاب سياسي مبسط وآليات ومنهج مختلف.

4- توفير الكفاءات والمهارات للعاملين والمتطوعين وبناء قدراتهم بشكل هادف ورفع كفاءة أداء المنظمة ككل بحيث تنعكس على رسالتها وأهدافها وتنعكس على تفعيل علاقتها بالمجتمع، وأول ملامح بناء القدرات والكفاءات تبدأ من الرؤية التي يجب أن يتسلح بها نخب المجتمع المدني ومن أبرز ملامحها أن تكون مؤسسات المجتمع المدني فاعلة في عملية التغيير الاجتماعي وأن تتسم بمرونة كبيرة في استجابتها للبنية الاجتماعية والنزوع للعمل الطوعي وتقويته وأن تمتلك تصوراً واضحاً للخريطة الاجتماعية

ص: 476


1- ينظر مقالة بعنوان: (دور مؤسسات المجتمع المدني في محاربة التطرف) الدكتور أمين مشاقبة.
2- مقال بعنوان: (دور المجتمع المدني و الدولة في مكافحة الارهاب) حاد عدنان.

والسياسية ومصادر القوة فيها وأن تعمل من منطلق التضمين وليس الإقصاء وعليها أن تنتقل من الدور الإلحاقي إلى الدور البادئ أو المبادرة أي لا تعمل وفقا لردود أفعال. (1)

ثامناً) دور مراكز الدراسات التخصصية:

ونقصد بها المراكز التي تتبنى دراسة الظواهر الاجتماعية السلبية، سواء كانت عنصرية أو فئوية أو دينية أو قومية أو غير ذلك، وتحصي النسب والأرقام ضمن استبيانات ودراسات متخصصة وممنهجة، بشكل علميرصين، ثم تشخص العلاج المناسب لهذه الظواهر وتضعها بين يدي المسؤولين وأصحاب القرار في المجتمع، لكي يتخذوا اللازم. وهذه المبادرة الحضارية قد سبقنا المجتمع الغربي في الاستفادة منها، حيث تتواجد في البلدان الأجنبية العديد من هذه المراكز العلمية المتخصصة في شتى المجالات وهي تختزل على المسؤولين السياسيين وقادة البلدان الكثير من الجهد والمال والزمن، في تحديد نوع المشكلات أو الصعوبات والعقبات ونسبة تأثيرها، وعدد المشاركين فيها، وما إلى ذلك من تفاصيل. وبالإضافة إلى ذلك فهذه المراكز لا تكتفي بهذا المقدار بل تشخص الحلول والعلاجات من خلال رؤية كوادر من الخبراء والمهنيين المتخصصين.

وقد أسهم عمل هذه المراكز في معالجة العديد من المشكلات وتلافي الصعوبات، وانتجت ثماراً طيبة في تلك البلدان، لأنها محل اعتماد في الجانب السياسي والاجتماعي والاقتصادي والاعلامي، وهي تترك اثراً فعالاً في هذه الميادين.

وقد أكّد المرجع اليعقوبي على ضرورة وجود مراكز بحوث ودراسات تقدّم للسياسيين كل ما يرتبط بعملهم، فالذي يراقب مجريات العملية السياسية يجد الجهل والتخبط والارتجال وعدم التخطيط واضحاً فيها بسبب عدم الإلمام الكافي بالقضايا التي يناقشونها والقرارات التي تعرض على البرلمان وغيره من مؤسسات القرار، وهي متنوعة ففيها الاقتصاد والسياسة والاجتماع والتنمية والتخطيط والمشاريع الفنية وغيرها كثير مما

ص: 477


1- الدراسة بعنوان: دور مؤسسات المجتمع المدني في مكافحة التطرف والإرهاب، د. عبدالرحمن العنزي، بتصرف.

لا يعقل خوض شخص واحد فيها من دون إحاطته الجيدة بالموضوع من خلال رفد المؤسسات البحثية والاستشارية له. (1)

ويمكننا من خلال وجود هذه المراكز العلمية المتخصصة ايجاد حالة من التواصل المشترك والفعال مع الجهات المعنية سواء في مؤسسات الدولة أو في غيرها لأجل وضع الحلول والعلاجات للمشكلات التي تواجه المجتمع، ومنها حالة العنف والتطرف اللذان يرفدان ظاهرة الارهاب بشكل مباشر ورئيسي، ومحاولة دراستها بشكل علمي وافي، وايجاد الأجوبة الشافية على منظومة الأسئلة التالية حول هذه الظواهر الخطيرة:

كيف يمكننا الحصول على تعريف واف يطلعنا على ماهية ظاهرة الإرهاب وأهم مفاهيمه وأنواعه؟

ما هي الاتجاهات القديمة والحديثة للإرهاب وحالة العنف والتطرف في المجتمع؟

ما هي أهم الأهداف والدوافع الأساسية التي أدت إلى ظهور هذه الآفة الخطيرة في مجتمعنا وماهي مناشئه وأسبابه؟ما هي أهم آثار الأساليب العنفية والعدوانية التي تخلفها العمليات التي تقوم بها العصابات المسلحة في نفوس الفرد والمجتمع، وما يترتب عليها من نتائج سلبية على الصعيد المحلي والعالمي؟

هل هناك أدوار جادة سعت بوضعها أو تم تنفذيها من قبل مؤسسات الدولة أو منظمات المجتمع المدني للحد من هذه الظواهر ؟

ماهي المنابع والحواضن التي ترفد هذه الظواهر بالنمو والانتشار بين الناس.

كيف يمكن لأصحاب القرار والمسؤولية في البلدان نشر ثقافة التعايش السلمي، واشاعة روح المحبة والألفة بدلاً من التعامل بالسلوكيات العدوانية المتطرفة، وماهي أفضل الطرق للوصول إلى سُبل ناجحة تحد من ظاهرة العنف والارهاب في المجتمع.

أسباب الاحتقان والاقتتال الطائفي وأعمال الإرهاب والعنف:

اشارة

قبل أن نشرع ببيان الأسباب التي تؤدي إلى الاحتقان والاقتتال الطائفي بين أبناء المجتمع، ينبغي أولاً أن نوضح معنى (الطائفية) ونحدد مفهومها لدى الأذهان، لكي لا يقع

ص: 478


1- يُنظر صحيفة الصادقين، العدد (70) .

خلط في تحديد ما ينتهجه البعض من سلوكيات قد تكون صحيحة، دينياً واجتماعياً، في حين إنه يُتهم بالطائفية والتطرف والإرهاب ونحوها من المصطلحات التي تُرك تحديد معاييرها وضوابطها في الميدان السياسي، وذلك لكي يحلو لإعداء الدين والإنسانية وصم من شاءوا بهذه التُهم وتسقيطه أمام الرأي العام. ومن هذا المنطلق المهم، نرى المرجع اليعقوبي قد شَمّر عن ساعديه في تحديد معنى المصطلحات والمفاهيم المتداولة في شتى مجالات الحياة، لاسيما السياسية منها (1) ، لكي لا يقع هذا المحذور أو غيره من النتائج السلبية في خضم الصراعات وحمى التسقيط والنزاعات التي يشدها العراق في الظرف الراهن. فقد عَرّف (دام ظله) مفهوم الطائفية أو القومية بأنها : (لا تعني أن يكون للشخص خصوصية عرقية أو دينية فهذا أمر طبيعي ولا ضير بأن يضّم كيان أبناء طائفة معينة أو قومية محددة، وإنما تنشأ المشكلة من انغلاق كل مكّون على نفسه ومحاولة التمدد على حساب الأخر وإقصائه واستلاب حقوقه). (2)

وقال (دام ظله) في موضع آخر: (إن الطائفية لاتعني اعتزاز الإنسان بهويته وخصوصياته والعمل من أجلها من دون التجاوز على حقوق الآخرين لكن الطائفية تعني أن يتعصب الشخص لانتمائه ويقتصر عليه ويلغي الآخر ويحرمه حقوقه وهذا ما لا يرتضيه عاقل لأنه عين الظلم والعدوان أما أن نراعي مكونات الشعب العراقيونلحظ خصوصياته ونوزع الاستحقاقات عليها فليست طائفية وإنما هي عين العدالة والذي يزعم خلاف ذلك اما ساذج انطلت عليه الحيلة او خبيث يخلط السم بالعسل). (3)

والآن نستعرض أبرز الأسباب المؤدية لزرع الاحتقان والاقتتال الطائفي في المجتمع:

إن من أبرز الأسباب التي تؤدي إلى زرع الفتن والحروب الطائفية هي الفتاوى المغرضة لعلماء السوء ووعاظ السلاطين الذين ينشرون الضغينة والعِداء بين أبناء المجتمعات. وهؤلاء العلماء هم في الحقيقة ورقة رابحة بالنسبة للدول الاستكبارية

ص: 479


1- راجع كتاب (المرجع اليعقوبي وتصحيح المفاهيم) ، للمؤلف.
2- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج5، خطاب رقم (155) : (المشروع الوطني للإصلاح السياسي).
3- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج4 (مراعاة الانتماءات والخصوصيات لمكونات الشعب العراقي ليست من الطائفية المقيتة) .

يحركونهم كيفما شاءوا، بعدما يملؤون جيوبهم بالأموال ويغدقون عليهم بالعطايا والهبات. وتوجد شريحة منهم يتحركون لتأجيج الصراعات الطائفية بدافع الحقد والحسد والانانية، المتجذر في نفوسهم، ولا يحتاجون بذلك لمن يحثهم بالمال أو بالمنصب إلى إصدار الفتاوى والبيانات المغرضة، بل إن دوافعهم الذاتية وأفكارهم المريضة كفيلة بزجهم في هذه المؤامرة الخطيرة. وقد حمّل المرجع اليعقوبي علماء السوء مسؤولية ما يفعله الإرهابيون من تفجير واجرام بحق الشعوب، حيث قال: (نحن وإن حملنا الاحتلال بعض المسؤولية عن العمليات الإرهابية إلا أن هذا لا يفسر قيام الانتحاريين بتفجير أنفسهم في الأسواق والحسينيات وتجمعات الناس الأبرياء، فهذا الانتحاري ليس أمريكياً وإنما هم أشخاص جاؤوا ليعانقوا الحور العين بمجرد قتلهم بموجب فتاوى دينية، فهذا التيار يحتاج إلى معالجة شاملة لا تكتفي بالعمل العسكري والأمني وإنما تتعداها إلى الإصلاح الفكري وخلق ثقافة احترام الرأي الآخر وقبوله وعدم الاعتداء والظلم وإصلاح منظومة الأفكار والثقافات التي توجه الرأي العام، وتجند بالاتجاهات التي تخدم سياساتها ففي أوربا يوجد واحد وعشرون مكتباً لتجنيد الإرهابيين وبعثهم إلى العراق، وقبل يومين أعلن عن قيام فتاة بلجيكية أعلنت إسلامها بعملية انتحارية في العراق فأي غسيل دماغ تعرضت له هذه المرأة حتى قذفت بنفسها في هذه الهاوية المهلكة والآن بعد أن ضربهم الإرهاب في الأردن والسعودية والكويت وغيرها صاروا يحشدون القوى لاستئصاله، إلا أنهم مع الأسف حينما تصل القضية إلى العراق يصبح الإرهاب مقاومة شريفة وهذا هو عين الكيل بمكيالين). (1) وقال أيضاً (دام ظله) : (جاء في الحديث: (صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل: يا رسول الله، ومن هما؟ قال (صلی الله علیه و آله) : الفقهاء والأمراء) فالصلاح والفساد في أمور المسلمين يرجع إلى طريقة أداء هذين الصنفين وصفاتهم الذاتية، فنفس الجهة التييأتي منها الفساد يأتي منها الصلاح؛ لذا قيل: (لا ينتشر الهدى إلا من حيث انتشر الضلال) أي علينا أن نشخّص الجهة المسؤولة عن الفساد فتبدأ عملية الإصلاح من هذه الجهة، فمثلاً التكفير وما تتبعه من القتل الوحشي والتدمير الشامل بدأ من فتاوى علماء التكفير فإذا أرادوا

ص: 480


1- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي،ج4، حوارات سياسية (الحلقة الثالثة) ؛ (عن مبررات وجوب المشاركة في الانتخابات والمشروع الإسلامي في العراق) .

محاربة الجماعات الإرهابية التكفيرية حقيقة فعليهم أن يبدأوا بهؤلاء المشرّعين لفتاوى التكفير فيصلحون عقولهم ويطهرون قلوبهم من اغلال التعصب والحقد والانانية ويعيدوا تقييم تأريخهم والاشخاص الذين يقدسونهم ممن أسسوا لهذه الثقافة، وستتغير الأمور عندما يلتفتون إلى القيادة الصالحة الحقّة التي ربّت الأمة على رفض التكفير، روي عن الإمام علي (علیه السلام) إنه سئل عن الذين خرجوا على إمامته الحقّة وقاتلوه: (أمشركون هم؟ قال: من الشرك فرّوا، فقالوا : أفمنافقون ؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، قيل: فما هم يا أمير ألمؤمنين؟ قال: إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم علينا) مشيراً إلى الآية الكريمة: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) كما أن هذه الكلمة (لا ينتشر الهدى الا من حيث انتشر الضلال) يمكن فهمها على أساس الأدوات أي أن نفس الأداة التي سببت الفساد كالتلفزيون أو القوانين الظالمة المخالفة للشريعة أو مناهج التعليم علينا أن نصلحها لتساهم في صلاح الأمة، ويمكن ان نفهم هذه الكلمة على اساس الحالات والاوضاع التي انتجت الفساد فنعالجها كالفقر او الجهل او التخلف او العصبية، أو الاستبداد السياسي أو الانهيار الاقتصادي أو عدم الامن والاستقرار فاذا اريد نشر الهدى والصلاح فلا بد من اصلاح هذه الاوضاع والبيئة المنتجة، قال تعالى: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) فصلاح الأمة يكون بصلاح هذين الصنفين كما أن فسادها بفسادهما). (1)

السبب الثاني هو تحريض خطباء منابر السوء والكتّاب المأجورين الضالين، الذي يساهمون في إيجاد حالة من التصعيد الطائفي والفئوي بين أبناء المجتمع، وهذا العامل يُعد من عوامل التلويث الفكري وغسيل أدمغة الناس بالآراء المسمومة التي تدفعهم للحقد والعداء والضغينة تجاه من يخالفهم بالعقيدة والرأي، لذا حرّم الشارع المقدس بيع وتداول كتب الضلال التي تؤدي إلى مفاسد عديدة وهذه أحداها.

الإعلام الموجه والضال، وهو عامل لا يقل شأناً عن سابقيه، بل إن الإعلام هو أحد أشد الأسلحة الفتاكة الحديثة، وهو من مصاديق (القوة الناعمة) أو (الحرب

ص: 481


1- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج9، رقم الخطاب (457) بعنوان: (اَللّهُمَّ اَصْلِحْ كُلَّ فاسِد مِنْ اُمُورِ الْمُسْلِمينَ) .

الناعمة).ويمكن من خلال وسائل الإعلام المتعددة تغيير أفكار الناس وزرع قناعات جديدة بكل سهولة ويسر، كما يمكن من خلال الاعلام توجيهالرأي العام باتجاه معين، حسب ذوق ورؤية أتباعه. ومن هنا يكمن الخطر تجاه القنوات الاعلامية الغربية ومن تبعها في التوجهات ببث سمومها ليل نهار دون رقيب أو حسيب. وهذه الحقائق أكدها المرجع اليعقوبي في العديد من كتبه وخطاباته وتوجيهاته التي أصدرها منذ زمن الطاغية المقبور، فضلاً عما نحن عليه اليوم من الفيضان الاعلامي الجارف الذي لا تحده أية رقابة أو ضوابط، وفيما يلي نستعرض بعضاً من كلماته (دام ظله) :

(إن الإعلام يمارس دوراً خطيراً في حياة الأمة ويستطيع توجيه الرأي العام بالاتجاه الذي يريده أصحاب وسائل الأعلام، وهو في الغالب بعيد عن الإنصاف والموضوعية والضمير الحي، لذا فهو المسؤول الأول عما نعانيه من كوارث، ولو كان هناك جهات تشرف على تربية هؤلاء الإعلاميين وتهذيبهم وتوجيههم نحو الأهداف السامية لخرجنا بخطاب مصلح بناء يعمل من أجل خير الأمة وازدهار البلد). (1)

(قد بيّن القران الكريم علاج تأثير الإعلام المضاد والاشاعات ومنع تداعياته بالتثبّت والتبّين والرجوع إلى أولياء الأمور العارفين الذين لا تهجم عليهم اللوابس والشبهات ولا تنطلي عليهم الحيل، قال تعالى: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) فليس من الصحيح التصديق مباشرة بالأقاويل وترتيب الاثر عليها واتخاذ المواقف على طبقها، فهذا الاندفاع والانفعال والتأثر قبل التثّبت حماقة، وقيل عن امير المؤمنين (علیه السلام) : (كفى بالمرء حمقاً أن يصدّق كل ما يسمع أو كل ما يُقال (. (2)

(نسجّل ملاحظة على الإعلاميين وأصحاب وسائل الإعلام كالفضائيات وغيرها فإنهم يركّزون على الخطاب التحريضي الطائفي التأجيجي الشاذ فيظهر وكأنه

ص: 482


1- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج4 خطاب رقم (126) : (وضع قوانين تنّظم أخلاق ممارسة مهنة الإعلام و كل مهنة) .
2- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج9 (القوى الناعمة والمنبر الحسيني) .

المعبِّر عن توجهات هذه الطائفة وهذه الجهة أو تلك، ويتغافلون عن الخطاب المعتدل البنّاء الحضاري وكأن هذا لا يهمّهم بشيء، لأن مصالحهم تقتضي الفتنة والتفرقة والطائفية والصراع والخلاف، أو لأن الأول مثير وجاذب دون الثاني، فيبدو المشهد الثقافي وكأنه من الاول خلافاً للواقع لكن الاعلام هو الذي أبرز الأول وغيًّب الثاني، وهذا يعني أن بعض الإعلاميين مؤدلجون ويعملون بلا مهنية وموضوعية وإنما هم مجنّدون للجهات التي تدفع لهم، وهو أحد أسباب استهدافهم وقتلهم حتى عادت الساحة العراقية أخطر الساحات في العالم للإعلاميين، أقول هذا مع إدانتي لما يتعرضون له منضغوط ومضايقات ومن إرهاب، لأن عمل الإعلامي محترم ولا يحق لأحد أن يمسّه بسوء، وكانوا ينقلون الوقائع والأحداث حتى الحروب ولا يجعلهم أحدٌ جزءاً من القتال). (1)

كما وجه (دام ظله) موعظة للإعلاميين والصحفيين قائلاً: (جاء في الحديث الشريف: (طالبان منهومان لا يشبعان طالب العلم وطالب المال) إن الصحفيين نهمون أيضاً في اقتناص الأخبار وتغطية الأحداث وتحقيق السبق الصحفي، فمن أي الفريقين هم؟ إنهم يمكن أن يكونوا من الأول ويمكن أن يكونوا من الثاني فإذا عملوا بمهنية وموضوعية وحيادية وإنصاف في كشف الحقائق وإيصال المعلومة الصحيحة كانوا من الأول لان العلم هو انكشاف الحقيقة كما هي في الواقع، وإن خضعوا للإغراءات وباعوا أمانتهم وشرف مهنتهم بثمن بخس فأصبحوا أبواقاً تردد ما تطلبه منهم الجهة التي تدفع لهم كانوا من الثاني، والأول هو الإعلامي الناجح الذي يحظى بالرضا والقبول). (2)

الفساد السياسي، فإن ضلال بعض الرموز السياسية في البلاد وحبهم للسلطة والجاه واللهث وراء المطامع الدنيوية، دفعهم للتخطيط في ادارة دفة الصراع الطائفي واشعال الفتن بين أبناء الشعب العراقي الواحد، لكي يعتاشوا على ما تنتجه هذه الصراعات الداخلية لهم من مكاسب، وفق حساباتهم الدنيئة، بالإضافة إلى التلكؤ الحاصل في العملية السياسية وضبابية المشروع السياسي العراقي للتغيير، علاوة على اعتماد الأحزاب السياسية العراقية على الانتماء الطائفي والعرقي بديلاً عن البرامج

ص: 483


1- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج8 (التجديد في الخطاب الديني) .
2- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج5 خطاب رقم (180) حوارات سياسية، (الحلقة الخامسة) .

السياسية، وعدم تخلص الكثير من هذه الأحزاب (العرقية والطائفية) من موروثها الاستبدادي. وهذه الحقائق أشار إليها المرجع اليعقوبي في العديد من خطاباته المباركة، ليضع لها العلاج، وأيضاً لأجل أن يكشف النقاب عن خُبث هؤلاء الساسة الفاسدين، وكذلك ليعلن للجميع أن الشعب العراقي شعب يحب التآخي والسلام فيما بين أفراده، وإن الصراع الناتج في العراق إنما هو صراع سياسي وراء المغانم الدنيوية وليس صراعاً طائفياً، والشواهد التاريخية خير دليل على ذلك. وهذا نص كلمته (دام ظله) : (لقد أكدنا مراراً إن الصراع الجاري في العراق إنما هو صراع سياسي وليس صراعا سنياً شيعياً (طائفي).. لكن بعض الساسة عملوا على استغلاله طائفياً لغرض التحشيد لمصالحهم الشخصية أو لصالح الجهات التي يعملون لحسابها وقد عاش العراقيون لعقود طويلة بسلامٍ من دون مشاكل من هذا القبيل). (1)وفي هذا السياق قال (دام ظله) أيضاً: (إن العنف الذي يشهده العراق ليس طائفياً فقد عشنا في كل الأزمنة السابقة وحتى الآن سُنَّةً وشيعةً متآخينَ متحابِّينَ وإنما هو في الغالب سياسي ويتولى كِبْرَهُ سياسيون طامعون في السلطة والإثراء بغير حق (لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً) وإنما يلبسونه ثوب الطائفية ليعبّئوا لمعركتهم هذه مَن يسير على غير هدى، لذا لا بد من الشروع فور البدء بالالتزام بوثيقة مكة المكرمة بإصلاحات سياسية جذرية، وقد تداولت مع عدد من الأخوة المسؤولين بأفكار مهمة في هذا المجال تجعل كل شيء قابلاً للنقاش إلا ما حرَّمَ حلالاً أو أحلَّ حراماً في شريعة سيّد المرسلين.. هذه هي الخطوة الثانية التي لم يقم بها السياسيون، وبقي الجميع متمسّكون بمواقعهم ومواقفهم). (2) وقد أوعز (دام ظله) سبب تراجع وتفكك الصلات الوثيقة التي كانت بين مكونات الشعب العراقي، إلى السبب السياسي وليس إلى السبب العقائدي (لأن التنوع في العقيدة كان موجوداً ولم يؤدّي إلى هذا الانفصال وإنما بالصراعات السياسية وسوء تصرف السياسيين الذين وجدوا إن الشحن الطائفي والتخندقات القومية والمذهبية تخدم مصالحهم وتطيل بقائهم في السلطة فأثاروا الخلافات واجّجوها ولازالوا يعتاشون عليها

ص: 484


1- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج9، (في معرض حديثه (دام ظله) مع السفير الاندونيسي) .
2- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج4 رقم (134) : (الآمال معلقة بوثيقة مكة المكرمة لإنهاء العنف في العراق) .

ومن ورائهم مصالح الدول الاقليمية والخارجية التي يدورون في فلكها وينفذون اجنداتها، وهكذا ذابت قيم التوحد والتعايش ونشأت على انقاضها قيم الكراهية والعنصرية والتمزق وذهب ضحيتها الشعب المسكين الذي لم يحصد منها إلا الموت والخراب). (1)

ومن الحلول التي طرحها المرجع اليعقوبي لعلاج مشكلة العنف الطائفي المستشري في العراق، هو إصلاح الشأن السياسي، وعدم الاكتفاء بالخيار المسلح فقط، وقد علّل (دام ظله) قائلاً: (إن الحل العسكري لا يكفي وحده مالم يقترن بإصلاح سياسي يؤدي الى سلمٍ اجتماعيٍ ورفاهٍ اقتصاديٍ، وهذا يتطلب تنازلات عن الاستئثار والاستبداد من البعض والى إنصاف وصبر من البعض الآخر ويتم ذلك من خلال تواصل صريح وشفاف وحكيم بين القيادات الدينية والسياسية والاجتماعية المؤثرة في مكونات الشعب العراقي، ولابد أن يُبنى هذا الحوار والتواصل على أُسُس يتفق عليها الجميع ومنها:

الإيمان بوحدة العراق ارضا وشعبا وتساوي جميع الافراد في الحقوق والواجبات على اساس المواطنة والانتماء للعراق.احترام منجزات العملية السياسية التي ضحى الشعب من اجل تحقيقها كالدستور باعتباره مرجعية سياسية والانتخابات كآلية ديمقراطية ومؤسسات الدولة، وان اي مطالبة بالتعديل والتغيير لابد ان تكون ضمن الآليات التي كفلها الدستور لموافقه اغلبية الشعب عليه وليس من المعقول المطالبة بالرجوع الى خط الشروع الصفري لان فيه هدرا لتضحيات الشعب وارادته.

رفض الابتزاز السياسي واتخاذ الارهاب وسائر المشاكل وسيلة لتحصيل المزيد من المكاسب التي تتجاوز السقوف العادلة للاستحقاقات ورفض كل الوسائل غير الدستورية.

ص: 485


1- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج9 خطاب رقم (434) : (حوارات سياسية: شيعة العراق وبناء الدولة والأمة) .

مراعاة ضوابط الوطنية والمهنية والنزاهة والكفاءة في اختيار قيادات البلاد المدنية والعسكرية والسعي لإصلاح بناء الدولة ومؤسساتها على اسس صحيحة ونحو ذلك من المبادئ). (1)

تخطيط أعداء الإسلام والانسانية، من دول الاستكبار العالمي وفي مقدمتها الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بالإضافة إلى أذنابهم من بعض الدول العربية التي تعمل لتحقيق نواياهم ومخططاتهم الماسونية، للوقيعة بين بني البشر، ومن ضمن هذه المخططات التي تأجج الاقتتال الطائفي وأعمال الإرهاب والعنف في البلدان إيجاد العصابات الإجرامية والمجاميع التكفيرية التي تعمل ضمن برامج مدروسة سلفاً لأجل زعزعة الأمن والاستقرار في البلدان (2)

ولأجل إفشال العملية السياسية، وتوسيع هوة الفرقة بين الطوائف والفرق الدينية، ونحوها من النوايا الخبيثة.

ومما يؤكد هذه الحقائق الخطيرة هو ما قاله الجاسوس البريطاني همفر في مذكراته، حيث جاء فيها: (ذات مرة ذكرت لبعض رؤسائي في الوزارة اختلاف السُنة والشيعة وقلت لهم؛ إنهم لو كانوا يفهمون الحياة لتركوا النزاع ووحدوا كلمتهم. فنهرني الرئيس قائلاً الواجب عليك أن تزيد الشقة لا أن تحاول جمع كلمة المسلمين، وبهذه المناسبة قال السكرتير (3) لي في إحدى الجلسات التي اجتمعت معه قبل سفري إلى العراق: اعلم يا همفر أن هناك نزاعات طبيعية بين البشر منذ أن خلق الله (هابيل وقابيل) وستبقى هذه النزاعات إلى أن يعود المسيح (علیه السلام) فمن النزاعات لونية ومن النزاعات قبَلية ومن النزاعات إقليمية ومن النزاعات قومية ومن النزاعات دينية، ومهمتك في هذه السفرة أن تتعرف على هذه النزاعات بين المسلمين وتعرف البركان المستعد للانفجار منها، وتزود الوزارة بالمعلومات الدقيقة حول ذلك، وإن تمكّنت من تفجير النزاع كنت في قمة الخدمةلبريطانيا العظمى. فإننا نحن البريطانيون لا يمكننا العيش في الرفاه إلا بإلقاء الفتن والنزاع

ص: 486


1- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج9 رقم (453) : (بعد عامٍ على سقوط الموصل لا زالَ الأمل بإعادة إنتاج عراقٍ مزدهرٍ موحّد) .
2- وما يوجد في العراق خير شاهد على هذه الحالة.
3- هو سكرتير في وزارة المستعمرات البريطانية.

في كافة المستعمرات، وقال مسؤول في وزارة المستعمرات البريطانية للجاسوس همفر أيضاً: لقد وضعت الوزارة خطة دقيقة لأن ينفذها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهي:

تكفير كل المسلمين وإباحة قتلهم وسلب أموالهم وهتك أعراضهم وبيعهم في أسواق النخاسة، رجالهم جعلهم عبيداً ونسائهم جواري.

المحاولة في هدم الكعبة إن أمكن بحجة أنها آثار وثنية ومنع الناس عن أداء مناسك الحج وإغراء القبائل بسلب الحجاج وقتلهم.

هدم القباب والأضرحة والأماكن المقدسة عند المسلمين في مكة والمدينة وسائر البلاد التي يمكنه ذلك فيها بحجة إنها آثار وثنية وشرك ونحو ذلك.

الاستهانة بشخصية النبي (محمد) وخلفائه ورجال الإسلام بما يتيسّر.

نشر الفوضى والإرهاب في البلاد حسب ما يمكنه.

نشر قرآن جديد فيه تعديل من زيادة أو نقيصة.

وقال هذا المسؤول لهمفر بعدما بيّن البرنامج المذكور: لا يهولنّك هذا البرنامج الضخم فإن الواجب علينا أن نبذر البذرة وستأتي الأجيال الآتية ليكملوا المسيرة، وقد اعتادت حكومة بريطانيا العظمى على النفس الطويل، والسير خطوة خطوة، وهل محمد النبي إلا رجل واحد تمكن من ذلك الانقلاب المذهل؟ فليكن (محمد عبد الوهاب) مثل نبيّه (محمد) ليتمكن من هذا الانقلاب المنشود. (1)

وهذا المد الوهابي التكفيري يُعد مؤامرة إرهابية عالمية خطيرة جداً، أسستها الماسونية اليهودية للإطاحة بالدين الإسلامي، وتشويه صورته، والقضاء على المسلمين، بالدرجة الأولى، ولزعزعة نُظم دول العالم بالدرجة الثانية، وهذه الجماعة السلفية المتطرفة تم غسل أدمغتهم بالأفكار الشيطانية، لكي يحولوا الأمن والاستقرار والسلم العالمي إلى عنف وتكفير وقتل وتشريد وما أشبه ذلك، ويجعلوا شعوب العالم تنفر من النُظم الدينية والقيم السماوية، وفي مقدمتها الدين الإسلامي الحنيف، الذي يخشون انتشاره في أوساط المجتمعات العالمية، لأن تعاليمه السمحاء تتعارض وتتقاطع مع مصالحهم ومطامعهم في السيطرة على مقدرات الشعوب.

ص: 487


1- يُنظر مذكرات الجاسوس البريطاني همفر مع مؤسس الحركة محمد بن عبد الوهاب.

وهذه المؤامرات الشيطانية، كشف المرجع اليعقوبي النقاب عنها، حيث قال: (هؤلاء المجرمون لا يمثلون أنفسهم، وإنما وراءهم أمة من الناس تؤويهم وتقدّم لهم الدعم والخدمات وتخفيهم عند الاضطرار وتحتفظ برهائنهم ومخطوفيهم، وتقدّم لهم المعلومات الاستخباراتية الدقيقة عن ضحاياهم، كما أن وراءهممن يبرر أفعالهم من علماء السوء ويعطيهم المشروعية ويبارك لهم سفك الدم الحرام في البلد الحرام في الشهر الحرام، ويجعلها من أقرب الطاعات لله تبارك وتعالى وأقصر الطرق إلى الجنة؟). (1)

وقال (دام ظله) أيضاً: (إن ما نعانيه في العراق له أسباب ومناشئ عديدة بعضها داخلية نابعة من الظروف التي مر بها الشعب العراقي، وبعضها خارجي يعود إلى أجندات الدول الإقليمية والكبرى..) (2) كما وضع (دام ظله) يده على جزء مهم من العلاج وذلك من خلال إبعاد هذه العصابات الإجرامية والمجاميع التكفيرية عن البلاد، لكي ينعم أهله بالسلام والأمان، حيث قال: (إن حالة العنف التي تغطي ساحة العراق بصورتها القائمة المقزّزة طارئة على الشعب العراقي وثقافة غريبة عليه، وقد عاشت طوائفه وأعراقه قروناً من الألفة والتسامح والشراكة لم ينغصها هذا الجنون والتوحش والولع في سفك الدماء إلا من العصابات الإجرامية كالصداميين الأشرار والتكفيريين المتحجرين، لذلك إذا عُزِل هؤلاء القتلة فإن جميع مكونات الشعب العراقي قادرة على الحوار وحل المشاكل).(3)

وجود ظاهرة التعصّب والعصبية التي تدفع الإنسان للركون إلى بني نوعه، وتمييزه عن غيره، كما تدفع العصبية الإنسان لازدراء الآخرين واحتقارهم، بل وسلب حقوقهم، ويُعرف التعصب الديني بأنه مصطلح لوصف التمييز على أساس الدين، إما بدافع تعصب المرء تجاه المعتقدات الدينية أو التعصب ضد الآخر، أو معتقداتهم الدينية. (4) وقد حذر الرسول الكريم (صلی الله علیه و آله) من التعصب والعصبية، إذ روي عنه (صلی الله علیه و آله) : (من

ص: 488


1- خطابات المرحلة، ج4، خطاب: (الصدق في الدعوة إلى الوحدة والمؤاخاة) .
2- خطاب المرحلة، المرجع اليعقوبي، رقم (119) : (فضل العراق والحوزة العلمية على العرب وآداب اللغة العربية) .
3- المصدر نفسه.
4- نقلاً عن موسوعة ويكبيديا الحرة الإلكترونية.

كان في قلبه حبة خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة من أعراب الجاهلية) ، وعنه (صلی الله علیه و آله) أيضاً: (من تعصَّب أو تُعُصِّب له فقد خلع رِبقَ الإيمان من عنقه) وكذلك قوله (صلی الله علیه و آله) : (ليس منا من دعا إلى عصبية أو قاتل على عصبية) ، وعنه (صلی الله علیه و آله) : (من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثه الله تعالى يوم القيامة مع أعراب الجاهلية). (1) وعن الإمام الصادق (علیه السلام) : من تعصب عصبه الله بعصابة من نار). (2) وعن الزهري قال: سُئل الإمام علي بن الحسين (علیه السلام) عن العصبية، فقال (علیه السلام) : (العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن من العصبية أن يعين قومهعلى الظلم). (3) وعادة ما يرتبط التعصب بالإرهاب ويرتبط به أيضاً كممارسة وظاهرة عدة ظواهر أخرى مصاحبة على المستوى الشخصي والجماعي، وتستحكم كمرتكزات للنشاط الفكري والثقافي والسياسي، كالغلو (4) والتطرف والانغلاق الفكري (5)... وهذه الظواهر متجانسة فيما بينها وكل ظاهرة سبباً في إجاد اخرى في العديد من الاحيان فالانغلاق الفكري يودي إلى التعصب، والتعصب يؤدي إلى التطرف والغلو، وكلاهما يؤدي إلى بروز الإرهاب في نهاية الأمر. من ناحية أخرى من خلال رصد بعض جوانب السلوك الإنساني نلاحظ أن الانغلاق والغلو والتطرف عادة ما تمتزج في ظاهرة واحدة ألا وهي (التعصب) الذي يعبر عن ذات إنسانية منغلقة في إرسالها واستقبالها الثقافي والحركي وتشخص في كونها ذات سلبية يغلب عليها ظاهرة التعصب إلا أنها تعاني من عدة أعراض تمثل الظواهر الممتزجة في النفس والشخصية العامة والثقافة الإدراكية. (6)

وقد عد المرجع اليعقوبي صفة التعصب من صفات غير المؤمنين، استناداً للفهم الإسلامي السليم، حيث قال (دام ظله) : (من صفات المؤمن.. أنه لا يتعصب لنفسه أو لعشيرته أو قوميته أو أي شيء آخر سوى الله تبارك وتعالى قال الإمام الصادق (علیه السلام)

ص: 489


1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج70، ص284.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه.
4- الغلو في اللغة: هو مجاوزة القدر في كل شيء، فيقال غلوت في الأمر إذا جاوزت فيه الحد وأفرطت فيه.
5- ويعني الاقتصار في التلقي الثقافي على ثقافة معينة دون غيرها والانكفاء على معطياتها فكراً وسلوكاً واداء.
6- الإرهاب والتعصب عبر التأريخ، رائد قاسم، ص (37 – 38) .

: (من تعصّب أو تُعصِبَ له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه). (1)

الفهم الخاطئ للآيات المباركة والروايات الشريفة، وعدم توجيهها بالشكل الصحيح الذي عَنته هذه النصوص المباركة. وهذه الحالة لخطورتها على المجتمع، لأنها تؤدي إلى الانحراف والزيغ عما تريده الشريعة الإلهية، حذّر منها المرجع اليعقوبي في مواطن عديدة، قائلاً: (..قد قلنا مراراً أن جوهر الكثير من مشاكلنا هو ثقافي أي في فهم الأفكار والمعاني بالشكل الصحيح، فإذا خُلطت الأوراق وحُرِّفت الكلمات عن معانيها الحقيقية حصلت الشبهات والفتن والضلالات وسيق الناس للوقوع فيها، كالعنف والإرهاب الذي يساق إليه الجهلة والغوغاء والمتحجرون بتحريف كلمات القرآن وأحكام الشريعة عن معانيها). (2) وفيما يلي نستعرض بعضاً من نصوص الآيات والروايات التي يستدل بها البعض - خطأً - على شرعية أعمالهم الاجرامية:

أولاً/ الآيات المباركة:

(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). (3)

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ). (4)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ). (5) ومن الجمع بين هذه الآيتين يستنبط بعضهم وجوب

ص: 490


1- ينظر كتاب شكوى الإمام (علیه السلام) ، المرجع اليعقوبي.
2- خطاب المرحلة، المرجع اليعقوبي. ج5، خطاب رقم (184) : (الرياضة المهذَّبة في الإسلام) ،
3- التوبة (111) .
4- المائدة (44) .
5- التوبة (123) .

مقاتلة الكفار، وشرعية سفك دمائهم، ودماء من يعولهم ونحوها من الأفهام والاجراءات الخاطئة.

(سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا). (1)

(...وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ...). (2)

وقد وضح السيد الطباطبائي (قد سره) في تفسيره المبارك (تفسير الميزان) عند تعرضه لآيات القتال، الرؤية الإسلامية السليمة تجاه مجاهدة المسلمين للكفار والمشركين، وكيفية التعامل معهم من هذه الزاوية، وبيان الأسباب وراء ذلك:

(إن القرآن يذكر أن الإسلام ودين التوحيد مبني على أساس الفطرة وهو القيم على إصلاح الإنسانية في حياتها كما قال تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) فإقامته والتحفظ عليه أهم حقوق الإنسانية المشروعة كما قال تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه). ثم يذكر، أن الدفاع عن هذا الحق الفطري المشروع حق آخر فطري، قال تعالى: (ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) فبين أن قيام دين التوحيد على ساقه وحياة ذكره منوط بالدفاع،ونظيره قوله تعالى: (ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) ، وقال تعالى في ضمن آيات القتال من سورة الأنفال: (ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) ثم قال تعالى: بعد عدة آيات: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم) فسمى الجهاد والقتال الذي يدعى له المؤمنون مُحيياً لهم، ومعناه أن القتال سواء كان بعنوان الدفاع عن المسلمين أو عن بيضة الإسلام أو كان قتالاً ابتدائياً كل ذلك بالحقيقة دفاع عن حق

ص: 491


1- النساء (91) .
2- البقرة (191) .

الإنسانية في حياتها، ففي الشرك بالله سبحانه هلاك الإنسانية وموت الفطرة، وفي القتال وهو دفاع عن حقها إعادة لحياتها وإحياؤها بعد الموت.

ومن هناك يستشعر الفطن اللبيب: أنه ينبغي أن يكون للإسلام حكم دفاعي في تطهير الأرض من لوث مطلق الشرك وإخلاص الإيمان لله سبحانه وتعالى فإن هذا القتال الذي تذكره الآيات المذكورة (1) إنما هو لإماتة الشرك الظاهر من الوثنية، أو لإعلاء كلمة الحق على كلمة أهل الكتاب بحملهم على إعطاء الجزية، مع أن آية القتال معهم تتضمن أنهم لا يؤمنون بالله ورسوله (صلی الله علیه و آله) ولا يدينون دين الحق فهم وإن كانوا على التوحيد لكنهم مشركون بالحقيقة مستبطنون ذلك، والدفاع عن حق الإنسانية الفطري يوجب حملهم على الدين الحق...وبما مر من البيان يظهر الجواب عما ربما يورد على الإسلام في تشريعه الجهاد بأنه خروج عن طور النهضات الدينية المأثورة عن الأنبياء السالفين فإن دينهم إنما كان يعتمد في سيره وتقدمه على الدعوة، والهداية دون الإكراه على الإيمان بالقتال المستتبع للقتل والسبي والغارات، ولذلك ربما سماه بعضهم كالمبلغين من النصارى بدين السيف والدم، وآخرون بدين الإجبار والإكراه!.وذلك أن القرآن يبين أن الإسلام مبني على قضاء الفطرة الإنسانية التي لا ينبغي أن يرتاب أن كمال الإنسان في حياته هو ما قضت به وحكمت ودعت إليه (الفطرة) ، وهي تقضي بأن التوحيد هو الأساس الذي يجب بناء القوانين الفردية والاجتماعية عليه، وأن

ص: 492


1- آيات القتال مع مشركي مكة ومن معهم بالخصوص، كقوله تعالى: "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا و إن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله:" الحج - 40، و من الممكن أن تكون هذه الآية نزلت في الدفاع الذي أمر به في بدر و غيرها، و كذا قوله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما تعملون بصير و إن تولوا فاعلموا أن الله موليكم نعم المولى و نعم النصير:" الأنفال - 40، و كذا قوله تعالى: "و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين:" البقرة – 190. ومنها آيات القتال مع أهل الكتاب، قال تعالى: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله و رسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون:" التوبة – 29. ومنها آيات القتال مع المشركين عامة، و هم غير أهل الكتاب كقوله تعالى: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم:" التوبة - 5، و كقوله تعالى: "قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة:" التوبة – 36.ومنها ما يأمر بقتال مطلق الكفار كقوله تعالى: "قاتلوا الذين يلونكم من الكفار و ليجدوا فيكم غلظة:" التوبة - 123. (تفسير الميزان) .

الدفاع عن هذا الأصل بنشره بين الناس وحفظه من الهلاك والفساد حق مشروع للإنسانية يجب استيفاؤه بأي وسيلة ممكنة، وقد روعي في ذلك طريق الاعتدال، فبدأ بالدعوة المجردة والصبر على الأذى في جنب الله، ثم الدفاع عن بيضة الإسلام ونفوس المسلمين وأعراضهم وأموالهم، ثم القتال الابتدائي الذي هو دفاع عن حق الإنسانية وكلمة التوحيد ولم يبدأ بشيء من القتال إلا بعد إتمام الحجة بالدعوة الحسنة كما جرت عليه السُنة النبوية، قال تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) والآية مطلقة، وقال تعالى: (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة).

وأما ما ذكروه من استلزامه الإكراه عند الغلبة فلا ضير فيه بعد توقف إحياء الإنسانية على تحميل الحق المشروع على عدة من الأفراد بعد البيان وإقامة الحجة البالغة عليهم، وهذه طريقة دائرة بين الملل والدول فإن المتمرد المتخلف عن القوانين المدنية يدعى إلى تبعيتها ثم يحمل عليه بأي وسيلة أمكنت ولو انجر إلى القتال حتى يطيع وينقاد طوعا أو كرها، على أن الكره إنما يعيش ويدوم في طبقة واحدة من النسل، ثم التعليم والتربية الدينيان يصلحان الطبقات الآتية بإنشائها على الدين الفطري وكلمة التوحيد طوعاً.

وأما ما ذكروه: أن سائر الأنبياء جروا على مجرد الدعوة والهداية فقط فالتاريخ الموجود من حياتهم يدل على عدم اتساع نطاقهم بحيث يجوز لهم القيام بالقتال كنوح وهود وصالح (علیه السلام) فقد كان أحاط بهم القهر والسلطنة من كل جانب، وكذلك كان النبي عيسى (علیه السلام) أيام إقامته بين الناس واشتغاله بالدعوة وإنما انتشرت دعوته وقبلت حجته في زمان طرو النسخ على شريعته وكان ذلك أيام طلوع الإسلام.

على أن جمعا من الأنبياء قاتلوا في سبيل الله تعالى كما تقصه التوراة، والقرآن يذكر طرفا منه، قال تعالى: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا و الله يحب الصابرين وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) وقال تعالى - يقص دعوة موسى قومه إلى قتال العمالقة -: (وإذ قال موسى لقومه، إلى أن قال: يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا

ص: 493

خاسرين إلى أن قال تعالى: قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) وقال تعالى: (أ لم تر إلى الملإ من بني إسرائيل إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله...) إلى آخر قصة طالوت وجالوت. وقال تعالى في قصة سليمان وملكة سبإ: (ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين) - إلى أن قالتعالى : (ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون) ولم يكن هذا الذي كان يهددهم بها بقوله: (فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها..إلخ) إلا قتالاً ابتدائياً عن دعوة ابتدائية.

ثانياً/ الروايات الشريفة:

عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : (من مات ولم يغز، ولم يحدث به نفسه، مات على شعبة من نفاق). (1)

وعنه (صلی الله علیه و آله) : (من لقي الله بغير أثر من جهاد لقي الله وفيه ثلمة). (2)

كما ورد عنه (صلی الله علیه و آله) : (أتسمعون يا معشر قريش أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح)... (أنا نبي الحرب)... (نصرت بالرعب)... (إن الله يحب إهراق الدماء).

ولتوجيه هذه الأحاديث الشريفة، ينبغي مراعاة الأمور الآتية:

التأكد من مصدر الرواية واعتبارها السندي، والتدقيق في حال الرجال الذين نقلوها.

ملاحظة القرائن اللفظية والحالية للرواية واجراء دراسة موضوعية للملابسات والظروف المحيطة بالنص الشرعي، ليتم تحليله ودراسته بشكل صحيح، ودون التباس.

فهم المقصود من كلام المعصوم (علیه السلام) والتدقيق في المعنى الصحيح الذي يشير له مضمون الرواية، كالرواية القائلة: (إن الله يحب إهراق الدماء) فإن المقصود هنا هو ذبح الأنعام والحث على استحباب اطعام الطعام للناس، وليس المعنى المقصود منه هو سفك دماء الناس.

ص: 494


1- ميزان الحكمة، محمدي الري شهري، ص444. باب الجهاد.
2- المصدر نفسه.

مقارنة ما يخالف أو يعارض أو يقيد هذه الأحاديث بأحاديث أخرى، كقوله (صلی الله علیه و آله) : (أنا نبي الحرب) بقوله: (صلی الله علیه و آله) : (أنا نبي السلم) ، وب- (جئتكم بالحنيفية السمحاء) ، وب- (يسروا ولا تعسروا).....إلخ. (1)

الاتصاف بالجهل، فإنه من أعدى أعداء الإنسان، لذا حذّر القرآن الكريم وقادة الإسلام الكرام (صلوات الله عليهم) من مغبته بكثرة، كما حذروا من السلوكيات التي تصدر من الجهلة وقليلي الوعي، لأن (الجهل وفقدان المعارف الإلهيّة، يؤثر تأثيراً شديداً على دعامات واُسس الفضيلة، و يهبط بالمستوى الأخلاقي للفرد، في خطّ الإنحراف والباطل). (2) ورد عن الإمام علي (علیه السلام) : (العلم أصل كل خير، الجهل أصل كل شر). (3)

وعنه (علیه السلام) أيضاً: (اَلنَّاسُ ثَلاَثَةٌ فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ وَ مُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ وَ هَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّرِيحٍ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ اَلْعِلْمِ وَ لَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ). (4) وإحدى المنطلقات المهمة التي تشير إليها الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (5) هو مبدأ التعارف بين شعوب العالم الذي ينفي حالة الجهالة والتطلع إلى حال الآخرين، وهذا التعارف والتقارب الفكري والمعرفي والثقافي يكون أحد أسباب الألفة والمحبة، في حين إن الجهل أحد أسباب العداوة والبغضاء، كما ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام) : (الناس أعداء ما جهلوا). (6)

وورد عنه (علیه السلام) أيضاً:

(اَلجَهْلُ مَعْدِنُ الشَّرِّ).

(بِالجَهْلِ يُسْتَثارُ كُلِّ شَرّ).

(شَرُّ المَصائِبِ الجَهْلُ).

(مِنْ أشَدِّ المَصائِبِ غَلَبَةُ الجَهْلِ).

ص: 495


1- يُنظر ثقافة التعايش، الشيخ ناصر الأسدي، ص339.
2- الأخلاق في القرآن، الشّيخ ناصر مكارم الشيرازي، ص151.
3- ميزان الحكمة، الشيخ محمد الري شهري، باب فضل العلم.
4- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، الشيخ الشوشتري، الحكمة رقم (147) .
5- الحجرات (13) .
6- غرر الحكم و درر الكلم، الشيخ الآمدي، حكمة رقم (869) .

(اَلجَهْلُ يُزِلُّ القَدَمَ، وَ يُورِثُ النَّدَمَ).

(اَلجَهْلُ يَجْلِبُ الغَرَرَ).

(اَلجَهْلُ أدْوَأُ الدّاءِ). (1)

عدم قيام الحكومات بدورها كما ينبغي من ناحية سنّ القوانين التي تمنع من التطرّف والاحتقان الطائفي، وعدم محاسبة المتورطين بهذه الأعمال المشينة، بل إن بعض الحكومات العربية والغربية هي من تتعمد في خلق هذه الفتن الطائفية، ضمن مخططات شيطانية مدروسة سلفاً، لكي تعتاش على موائد الجهلاء المتناحرين، وتنهب ثروات بلادهم، وتجعلهم في حالة ضعف دائم، فيسهل قيادهم وتشتيت قدراتهم، وبعثرة امكانياتهم، كما يمكن للدول الاستكبارية الحصول على الاسترباح الاقتصادي جراء هذا التناحر الطائفي بين الشعوب من خلال بيع الأسلحة، أو غيرها من البضائع الأخرى، وبالإضافة إلى هذا السبب فإن الحالة العراقية تعيش أيضاً ضعفاً في النظام القانوني والقضائي وعدم وجود مؤسسات حاكمة قوية في الدولة العراقية تسير الوضع بشكل جيد، وذلك بسبب شخصنة الدولة.التعجّل في إصدار الأحكام والآراء حيال الآخرين، وعدم التحلي بروح المسامحة ولغة الحوار واعطاء الاخرين فرصة للدفاع عن أنفسهم تجاه التهم المنسوبة إليهم، وإضمار الآراء المسبقة في النفس تجاه الآخرين، بالإضافة إلى اشاعة ثقافة التخوين والتجريم واعتماد أساليب الاغتيالات والتصفيات والتفجيرات الانتحارية بديلاً عن لغة الحوار والتفاهم. قال المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي (قدس سره) حرصاً منه على بث ثقافة التعايش السلمي: (إن من أهم أسباب الأزمة التي نعانيها تتلخص في انعدام الحوار على اعتبار أنه إحدى أهم مسؤولياتنا هي قراءة واقع الأمة والمجتمع ووضع الخطط اللازمة لنقلها إلى حالات التطور والتقدم ولا يأتي ذلك إلا عبر المزيد من الحوار والنقاش الهادئ بين مختلف الأطراف والتيارات الواعية ومن يمثلها حيث أن الاستبداد الفكري قرين الاستبداد السياسي وهما معاً من نتائج التخلف ومن أسبابه حقاً فلا بد من فتح باب الحوار الفكري مع الثقافات الأخرى على أساس من الشعور بالعزة والاستقلال).

ص: 496


1- المصدر نفسه.

اتباع أهواء النفس والتسويلات الشيطانية، التي تُلقى في نفس الإنسان لأجل إيقاع التخاصم والبغضاء والشحناء بينهم، وهذا ما حذّر القرآن الكريم منه عند تحريمه جملة من الأمور، لكي لا تحصل هذه الخصومات بين المسلمين. وقد علّق المرجع اليعقوبي نتائج ما يحصل من خلافات بين الناس في عُنق النفس الأمارة بالسوء، حيث قال (دام ظله) : (ما هذه المفاسد التي نعاني منها كالخلاف والبغضاء وتبادل الاتهامات والتمزق إلا نتيجة النفس الأمارة بالسوء وعدم الإمساك بقيادها، وإلا لو كان الجميع مخلصين لله سبحانه وهدفهم واحد هو رضا الله سبحانه: لتآخوا ولتحابّوا ولشكر بعضهم بعضاً على معاونته اياه في هذا الطريق، أترى لو أن جميع الأنبياء - وهم مئة وأربعة وعشرون الفاً- جُمعوا في مكان واحد وزمان واحد ماذا ستكون العلاقة بينهم؟ هل الشجار والخلاف كما يحصل بيننا ونحن شرذمة قليلون ؟!). (1)

وقال (دام ظله) أيضاً: (إن التنازع لم يحصل إلا عندما استسلم لهواه واطماعه وفشل في مجاهدة نفسه، والالتزام بما يريده الله تبارك وتعالى كالذي حصل في معركة اُحُد حينما اتبعوا أهواءهم وعصوا وصايا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتركوا مواقعهم لكي يشاركوا إخوانهم في جمع الغنائم (مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّون) فحصل الفشل ثم التنازع). (2) ومن هذا المنطلق تكون حينئذ التربية الفاسدة والعُقد النفسية من أشد المخاطر فتكاً بالإنسان حيث يدفعه الحسد والحقد والانانية والشعور بعقدة الحقارة ونحو ذلك للإنتقام من المخالفين له بالعقيدة أو بالرأي أو في أي شيء آخر يتميزون به عليه.ومن الأسباب التي تؤدي إلى الاحتقان والاقتتال الطائفي أيضاً وجود الأحاديث المدسوسة والمكذوبة على نبي الرحمة (صلی الله علیه و آله) والتي دسها حكّام الجور الأموي والعباسي في التراث الإسلامي ليشرعنوا ظلمهم وطغيانهم، وقد اتخذها البعض راية لإرهابهم وشريعة لفسادهم، الذي أهلك الحرث والنسل، فشوهوا بذلك سمعة الإسلام العظيم، وسمعة نبينا الكريم (صلی الله علیه و آله) الذي هو منهم ومن أعمالهم الإجرامية براء، ونذكر على سبيل المثال من هذه الأحاديث المكذوبة ما نُسب للنبي (صلی الله علیه و آله) زوراً أنه: (بعث بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي

ص: 497


1- المعالم المستقبلية للحوزة العلمية، المرجع اليعقوبي.
2- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج9، خطاب رقم (455) ، (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا) .

وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم) (1).

ويقول الكاتب المصري صالح الورداني في كتابه دفاع عن الرسول ضد الفقهاء والمحدثين: (إن فقهاء السوء أعطوا الحكام صلاحيات العمل بالسيف وهم أحلوهم بذلك مكان الرسول (صلی الله علیه و آله) وفق روايات مخترعة.. وهؤلاء الفقهاء قد عبّدوا الأمة للرجال وعلى رأسهم الحكام.. وهم يريدون منا أن نقر تلك المجازر الوحشية التي ارتكبها الحكام باسم الإسلام تحت شعار الجهاد في سبيل الله.. ويريدون منا أن نقر تلك المذابح التي قام بها هؤلاء الحكام ضد المسلمين باسم البغي والخروج على جماعة المسلمين.. ويريدون منا أن نقر عمليات التصفية الجسدية والإطاحة برقاب أصحاب الرأي تحت شعار الزندقة). (2)

وهذه بعض النماذج الأخرى من هذه الأحاديث الموضوعة الواردة في كُتب إخواننا من أبناء العامة، والمنسوبة للنبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) والتي تُشرعن حالة الإرهاب والعنف، ومن جهة أخرى تُدجن الأمة وتجهلهم لكيلا يرفعوا عقيرتهم في وجه الظلم والاستبداد (3)

:

(يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، فقال حذيفة: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع وإن ضُرِبَ ظهرك وأُخِذَ مالك، فاسمع وأطع). (4)

(مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ فَلَا يُبْدِ لَهُ عَلَانِيَةً وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ فَيَخْلُوَ بِهِ فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ). (5)(خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ)). قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ

ص: 498


1- رواه أحمد والطبراني. أنظر الحكم الجديرة بالإذاعة من قول النبي (صلى الله عليه وآله) : (بعث بالسيف بين يدي الساعة لابن رجب الحنبلي) .
2- يُنظر دفاع عن الرسول ضد الفقهاء والمحدثين، صالح الورداني، ص305، بتصرف بسيط.
3- وللإطلاع على المزيد من العوامل الأخرى التي تساهم في تدجين الأمة، راجع كتاب (ظاهرة تدجين الشعوب) ، للمؤلف.
4- رواه البخاري حديث رقم: (7084) . ومسلم، حديث رقم: (1847 (.
5- مسند احمد، حديث رقم (14792) .

أَفَلاَ نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ فَقَالَ ((لاَ مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاَةَ وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلاَتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ وَلاَ تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ). (1)

(مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً). (2)

(تَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ جَمِيعٌ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ). (3)

(مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ). (4)

(السلطان ظل الله في الأرض فمن أكرمه أكرمه الله ومن أهانه أهانه الله). (5)

(اسمع وأطع في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك، وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك، إلا أن يكون معصية). (6)

(أَطِيعُوا أُمَرَاءَكُمْ مَا كَانَ فَإِنْ أَمَرُوكُمْ بِمَا حَدَّثْتُكُمْ بِهِ فَإِنَّهُمْ يُؤْجَرُونَ عَلَيْهِ وَتُؤْجَرُونَ بِطَاعَتِكُمْ وَإِنْ أَمَرُوكُمْ بِشَىْءٍ مِمَّا لَمْ آمُرُكُمْ بِهِ فَهُوَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتُمْ مِنْهُ بُرَآءُ ذَلِكَ بِأَنَّكُمْ إِذَا لَقِيتُمُ اللَّهَ قُلْتُمْ رَبَّنَا لاَ ظُلْمَ فَيَقُولُ لاَ ظُلْمَ فَتَقُولُونَ رَبَّنَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رُسُلاً فَأَطَعْنَاهُمْ بِإِذْنِكَ وَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْنَا خُلَفَاءَ فَأَطَعْنَاهُمْ بِإِذْنِكَ وَأَمَّرْتَ عَلَيْنَا أُمَرَاءَ فَأَطَعْنَاهُمْ قَالَ فَيَقُولُ صَدَقْتُمْ هُوَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتُمْ مِنْهُ بُرَآءُ). (7)

(مَا مِنْ قَوْمٍ مَشَوْا إِلَى سُلْطَانِ اللهِ لِيَذِلُّوهُ إِلاَّ أَذَلَّهُمُ اللَّهُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ). (8)

ص: 499


1- صحيح مسلم، حديث رقم (4910) .
2- صحيح البخاري، حديث رقم (7053) .
3- مسند أحمد، حديث رقم (17579) .
4- سنن البيهقي، حديث رقم (17136) .
5- شعب الإيمان، حديث رقم (7373) .
6- صحيح ابن حبان، حديث رقم (4645) .
7- سنن البيهقي، حديث رقم (17069) .
8- مسند البزار، حديث رقم (2848) .

وعنه (صلی الله علیه و آله) لما سأله رجل: يا نبي الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم ويمنعوننا حقنا فما تأمرنا؟ فقال: (اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم). (1)

وظلت هذه الروايات هي الأعمدة والقواعد التي قام عليها الفكر السلفي وكل المؤسسات الدينية الرسمية التابعة للسلطة في شتى عصور التاريخ الإسلامي وحتى الآن، وقد تبنت السلطات الحاكمة الآن في الدولالعربية تروج هذه الأفكار من خلال وسائل الإعلام لأجل إضفاء الشرعية الدينية لحاكميتها المستبدة، بدعوى وجوب طاعة ولي الأمر، وحرمة الخروج على ولاة الأمر مهما فعلوا بالأمة من ظلم وطغيان وسرقة وفساد وتنكيل. (2)

وهذه الأكاذيب يوجد مثيلاتها في الديانة اليهودية والمسيحية، وإليك بعض النماذج من تعاليم النصارى واليهود في كتبهم المقدسة التي تستبطن مبادئ العنصرية والتعصب والحث على الإرهاب والعنف:

سفر يشوع 1/ 18: (كل من يخالف أمرك ولا يسمع كلامك في جميع ما تأمر به يُقتل، اما أنت فتشدد وتشجع). (3)

سفر يشوع، الإصحاح، 6/ 20. (فهتف الشعب، ونفخ الكهنة في الأبواق. وكان هتاف الشعب لدى سماعهم صوت نفخ الأبواق عظيما، فانهار السور في موضعه. فاندفع الشعب نحو المدينة كل إلى وجهته، واستولوا عليها).

سفر يشوع، الإصحاح، 6/ 21. (ودمروا المدينة وقضوا بحد السيف على كل من فيها من رجال ونساء وأطفال وشيوخ حتى البقر والغنم والحمير).

سفر الرؤيا 2/ 21_ 32: (إن مسيح المحبة قال عن امرأة تُسمى (إيزابل) تدعي إنها نبيه: (وقد أمهلتها مدة لتتوب تاركة زناها، ولكنها لم تتب، فإني سألقيها على فراش، وأبتلي الزانين معها بمحنة شديدة، إن كانوا لا يتوبون عن أعمالهم، سأبيد

ص: 500


1- رواه مسلم، حديث رقم (1846) .
2- ينظر مقال: (رجال الدين وشرعنة الطغيان والاستبداد) ، نهرو عبد الصبور طنطاوي.
3- الإرهاب والتعصب عبر التأريخ، رائد قاسم، ص112.

أولادها بالموت، فتعرف الكنائس كلها أنني أنا الذي أفحص الأفكار والقلوب، وأجازي كل واحد منكم بحسب أعماله). (1)

إنجيل متى 10: 34- 35 : (لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا. فَإِنِّي جِئْتُ لأُفَرِّقَ الإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ، وَالابْنَةَ ضِدَّ أُمِّهَا، وَالْكَنَّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا).

سفر العدد الإصحاح 33: 50- 53: (وكلم الرب موسى في عربات موآب على أردن أريحا قائلاً كلم بني إسرائيل وقل لهم: إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم، وتمحون جميع تصاويرهم، وتبيدون كل أصنامهم المسبوكة وتخربون جميع مرتفعاتهم تملكون الأرض وتسكنون فيها لأني قد أعطيتكم الأرض لكي تملكوها).سفر يشوع، الإصحاح 6: 20-21: (فهتف الشعب وضربوا بالأبواق. وكان حين سمع الشعب صوت البوق أن الشعب هتف هتافا عظيما، فسقط السور في مكانه، وصعد الشعب إلى المدينة كل رجل مع وجهه، وأخذوا المدينة، وحرموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف).

سِفر حزقيال: (وَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: اعْبُرْ فِي وَسْطِ الْمَدِينَةِ، فِي وَسْطِ أُورُشَلِيمَ، وَسِمْ سِمَةً عَلَى جِبَاهِ الرِّجَالِ الَّذِينَ يَئِنُّونَ وَيَتَنَهَّدُونَ عَلَى كُلِّ الرَّجَاسَاتِ الْمَصْنُوعَةِ فِي وَسْطِهَا)).. وَقَالَ لأُولئِكَ فِي سَمْعِي: ((اعْبُرُوا فِي الْمَدِينَةِ وَرَاءَهُ وَاضْرِبُوا. لاَ تُشْفُقْ أَعْيُنُكُمْ وَلاَ تَعْفُوا.. اَلشَّيْخَ وَالشَّابَّ وَالْعَذْرَاءَ وَالطِّفْلَ وَالنِّسَاءَ، اقْتُلُوا لِلْهَلاَكِ. وَلاَ تَقْرُبُوا مِنْ إِنْسَانٍ عَلَيْهِ السِّمَةُ، وَابْتَدِئُوا مِنْ مَقْدِسِي)). فَابْتَدَأُوا بِالرِّجَالِ الشُّيُوخِ الَّذِينَ أَمَامَ الْبَيْتِ.. وَقَالَ لَهُمْ: ((نَجِّسُوا الْبَيْتَ، وَامْلأُوا الدُّورَ قَتْلَى. اخْرُجُوا)). فَخَرَجُوا وَقَتَلُوا فِي الْمَدِينَةِ...وَكَانَ بَيْنَمَا هُمْ يَقْتُلُونَ، وَأُبْقِيتُ أَنَا، أَنِّي خَرَرْتُ عَلَى وَجْهِي وَصَرَخْتُ وَقُلْتُ: ((آهِ، يَا سَيِّدُ الرَّبُّ! هَلْ أَنْتَ مُهْلِكٌ بَقِيَّةَ إِسْرَائِيلَ كُلَّهَا بِصَبِّ رِجْزِكَ عَلَى أُورُشَلِيمَ؟)).. فَقَالَ لِي: ((إِنَّ إِثْمَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا عَظِيمٌ جِدًّا جِدًّا، وَقَدِ امْتَلأَتِ الأَرْضُ دِمَاءً، وَامْتَلأَتِ الْمَدِينَةُ جَنَفًا. لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الرَّبُّ قَدْ تَرَكَ الأَرْضَ، وَالرَّبُّ لاَ يَرَى.. وَأَنَا أَيْضًا عَيْنِي لاَ تَشْفُقُ وَلاَ أَعْفُو. أَجْلِبُ طَرِيقَهُمْ عَلَى رُؤُوسِهِمْ).

ص: 501


1- ينظر الإرهاب والتعصب عبر التأريخ، رائد قاسم، ص 113.

سفر التكوين: (اضرب أهل تلك المدينة بحد السيف بجميع ما فيها حتى بهائمها).

كما جاء فيه كلمات حاخامات اليهود وتعاليمهم العنصرية، النصوص الأتية:

قال الحاخام (ابا ربانيل) : الشعب المختار (أي اليهود) فقط يستحق الحياة الأبدية وأما باقي الشعوب فمثلهم مثل الحمير. ولا قرابة بين الأمم الخارجة عن دين اليهود، لأنهم أشبه بالحمير، ويعتبر اليهود بيوت باقي الأمم نظير زرائب للحيوانات. وقال المرابي مناحم: (أيها اليهود إنكم من بني البشر لأن أرواحكم مصدرها روح الله. وأما باقي الأمم فليست كذلك، لأن أرواحهم مصدرها الروح النجسة). وكان هذا رأي الحاخام (اريل) ، لأنه كان يعتبر الخارجين عن دين اليهود خنازير نجسة تسكن الغابات. ويلزم المرأة أن تعيد غسلها إذا رأت عند خروجها من الحمام شيئاً نجساً، ككلب أو حمار، أو مجنون، أو أميّ، أو جمل، أو خنزير، أو حصان، والخارج عن دين اليهود حيوان على العموم، فسمه كلباً أو حماراً أو خنزيراً. والنطفة التي هو منها هي نطفة حيوان.

وقال الحاخام (ابا ربانيل) المرأة غير اليهودية هي من الحيوانات. وخلق الله الأجنبي على هيئة الإنسان ليكون لائقاً لخدمة اليهود الذين خلقت الدنيا لأجلهم، لأنه لا يناسب لأمير أن يخدمه ليلاً ونهاراً حيوان وهو على صورته الحيوانية. كلا ثم كلا فإن ذلك منابذ للذوق والإنسانية كل المنابذة. فإذا مات خادم ليهودي أوخادمة، وكانا من المسيحيين، فلا يلزمك أن تقدم له التعازي بصفة كونه فقد إنساناً، ولكن بصفة كونه فقد حيواناً من الحيوانات المسخرة له!!

وعلى اليهودي أن لا يبالغ في مدح المسيحيين، ولا يصفهم بالحسن والجمال، إلا إذا قصد أن يمدحهم كما يمدح الإنسان حيواناً، لأن الخارج عن دين اليهود يشابه الحيوان.(1)

وأود أن أشير في ختام بيان الأسباب المؤدية للعنف الطائفي، التي سردناها، إلى أهمية ما قد نبّه المرجع اليعقوبي إليه من ضرورة الالتفات إلى العلل (الأسباب) قبل أن نلتفت إلى المعلولات ونهتم بها، حيث قال (دام ظله) : (.. ينبغي على كل مُصلح يريد أن يتأسى بقيادة القادة وسادة السادة ويسعى للتغيير في النفس والمجتمع أن يلتفت إلى جانب العلل قبل جانب المعلولات، وإذا فكر بعكس ذلك فانه سيتعب نفسه ويضيِّع

ص: 502


1- يُنظر الإرهاب والتعصب عبر التأريخ، رائد قاسم، ص114.

جهوده، ولا تتحقق إلا نتائج بسيطة لا تناسب حجم الجهد المبذول، ومثاله في طب الأبدان: أن الطبيب الحاذق لا يكتفي بمعالجة الأعراض والظواهر كارتفاع درجة الحرارة، أو، الألم وعدم الشهية ونحوها، وإنما يشخِّص العلة الحقيقية وراء هذه الأعراض فيعالجها، ولو اكتفى بمعالجة الأعراض والآثار والمعلولات دون العلة فهو ليس بطبيب، ونفس الكلام يأتي في طب النفس والمجتمع، فإذا كان المجتمع يعاني من تسلط الاشرار، وما أكثر ابتلاء أمتنا الإسلامية عبر التاريخ والى اليوم بهذا البلاء، فليس من الحكمة أن تعمل لإزالة الأشرار بالسلاح ونحوه، مع بقاء السبب لوجودهم، وهو انتفاء الإخلاص لله سبحانه في العمل، وابتعاد الأمة عن تطبيق الشريعة وعدم ارتقائها إلى مستوى المسئولية، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). (1)

وقال (دام ظله) أيضاً ضمن هذا الإطار: (إن الطبيب الحاذق هو من يشخص بدقة العلّة الحقيقية وراء الأعراض المرضية التي هي معلولات لها فيزيل العلة من أساسها، وليس من الحكمة أن يعالج الأعراض ويترك العلة الأساسية). (2)

وهذا يحدونا بالتفكر ملياً بهذه الأسباب آنفة الذكر وغيرها مما قد غفلنا عنه، لأجل تحقيق مبدأ التعايش السلمي في المجتمع، ونبذ الاحتقان الطائفي.

كما أجمل المرجع اليعقوبي أسباب وجود حالة العنف الطائفي في البلاد بكلمة موجزة، وأشار من خلالها إلى علاج لهذه المشكلة الخطيرة، وهذا نص كلمته (دام ظله) التي على أساسها تم تأسيس مجلس (صحوة الأنبار) :(..نعم هي حرب طائفية باتجاه واحد لكنها ليست هي حرب أهل السنة على الشيعة لأننا نعلم أن شريحة كبيرة منهم رافضة لهذه الحالة لكنها مغلوبة على أمرها بقوة السلاح وضجيج الأصوات الطائفية، فهي حرب الفئات الضالة التي يشنها تحالفٌ مشؤوم - يدفعه الحقد والحسد والجهل والتحجر - ضّمَ التكفيريين والصداميين والطائفيين والمتجردين من القيم الإنسانية الذين يدوسون كل شيء من أجل تحقيق مصالح زائفة. ويتحمل مسؤوليتها بدرجة من الدرجات أبناء العشائر والمناطق السنّية التي تؤوي هؤلاء القتلة وتحتضنهم وتقدم لهم الدعم والخدمات وينطلقون من بين ظهرانيهم، فأين العروبة

ص: 503


1- الأسوة الحسنة للقادة والمصلحين، المرجع اليعقوبي.
2- الحوزة وقضايا الشباب، المرجع اليعقوبي.

التي يدّعونها؟ بينما تجد أبنائهم يعيشون في كل سلام في المحافظات الشيعية ويتسنمون أعلى المواقع فهل هذا من الإنصاف؟ (1). (2)

ص: 504


1- استثارت دعوات سماحته (دام ظله) هذه نخوة عشائر الأنبار وتنادوا لتأسيس مجلس (صحوة الأنبار) وتكاتفوا لطرد مجرمي القاعدة من بين ظهرانيهم.
2- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج4، (ماذا بقي من الحرب الطائفية) .

شواهد تأريخية حول التعايش غير السِلمي في تاريخ العالم القديم والمعاصر

نستعرض فيما يأتي إن شاء الله تعالى بعضاً من الشواهد التأريخية من التاريخ القديم والمعاصر الذي يُبين معالم التعاملات غير السلمية بين أفراد المجتمع، والتي تتسم بالعنف والتطرف، لكي نقف وقفة إجلال وإكبار لديننا الإسلامي الحنيف الذي انقذنا من كل هذه التبعات والاغلال الجاهلية التي اثقلت كاهل الإنسان.

فنذكر أولاً المجتمع العربي قبل الإسلام حيث (لم يكن يعيش في ظل نظام مركزي عقلاني، بل كان يعتمد في تسيير دفة حياته على أعراف قبلية جامدة غير نابعة في أغلب الأحيان من مركزية عقائدية متطورة، بل من مفاهيم فرضتها الأرض، ومنطق الغلبة والقوة السائدة بين العرب. والنظام الاجتماعي تسيطر عليه قلة من البرجوازية الحاكمة بينما تعيش بقية الأفراد والشرائح في ظل حكم الأقلية وفي أوضاع معيشية مزرية. وتتسم الحياة الإجتماعية والإقتصادية باستحكام نظام العبودية الذي تغذيه الغزوات والحروب التي من خلالها توفر أيدي عاملة مسحوقة الحقوق والإنسانية، وتُسَخر للأعمال القاسية المميتة في بعض الأحيان، بينما تستخدم النساء للبغاء وإنتاج الذرية، والقبيلة هي الوحدة السياسية عند العرب الجاهليين، وتعتبر دولة مصغرة ينتمي إليها الأفراد والجماعات ماعدا الأرض باعتبار أن القبائل العربية كانت تتنقل من مكان لآخر بحثاً عن الماء والغذاء لدوابها). (1)

وقد جاء في خطب الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) التي يصف فيها حال العرب أيام الجاهلية قبل مجيء الإسلام العظيم، قائلاً: (وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ وَ نَجِيبُهُ وَ صَفْوَتُهُ لاَ يُؤَازَى فَضْلُهُ وَ لاَ يُجْبَرُ فَقْدُهُ أَضَاءَتْ بِهِ اَلْبِلاَدُ بَعْدَ اَلضَّلاَلَةِ اَلْمُظْلِمَةِ وَاَلْجَهَالَةِ اَلْغَالِبَةِ وَ اَلْجَفْوَةِ اَلْجَافِيَةُ وَ اَلنَّاسُ يَسْتَحِلُّونَ اَلْحَرِيمَ وَ يَسْتَذِلُّونَ اَلْحَكِيمَ يَحْيَوْنَ عَلَى فَتْرَةٍ وَ يَمُوتُونَ عَلَى كَفْرَةٍ). وقال (علیه السلام) في خطبة أخرى: (بَعَثَهُ وَاَلنَّاسُ ضُلاَّلٌ فِي حَيْرَةٍ وَ حَاطِبُونَ فِي فِتْنَةٍ قَدِ اِسْتَهْوَتْهُمُ اَلْأَهْوَاءُ وَ اِسْتَزَلَّتْهُمُ اَلْكِبْرِيَاءُ وَ اِسْتَخَفَّتْهُمُ اَلْجَاهِلِيَّةُ

ص: 505


1- الإرهاب والتعصب عبر التأريخ، رائد قاسم، ص40.

اَلْجَهْلاَءُ حَيَارَى فِي زَلْزَالٍ مِنَ اَلْأَمْرِ وَ بَلاَءٍ مِنَ اَلْجَهْلِ فَبَالَغَ ص فِي اَلنَّصِيحَةِ وَ مَضَى عَلَى اَلطَّرِيقَةِ وَ دَعَا إِلَى اَلْحِكْمَةِ وَاَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ). وقال (علیه السلام) أيضاً: (إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّداً ص نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ وَ أَمِيناً عَلَى اَلتَّنْزِيلِ وَ أَنْتُمْ مَعْشَرَ اَلْعَرَبِ عَلَى شَرِّ دِينٍ وَ فِي شَرِّ دَارٍ مُنِيخُونَ بَيْنَ حِجَارَةٍ خُشْنٍ وَ حَيَّاتٍ صُمٍّ تَشْرَبُونَ اَلْكَدِرَ وَ تَأْكُلُونَ اَلْجَشِبَ وَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَ تَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ اَلْأَصْنَامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ وَ اَلآْثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ).كما ذكرت السيدة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) في خطبتها الفدكية المباركة استعراضاً تاريخية دقيقاً لحال العرب قبل الإسلام، حيث قالت، () : (..وكنتم على شفَا حُفرة من النارِ، مَذْقَةَ الشَّارب، ونُهْرةَ الطامع، وقَبْسَةَ العَجْلان، ومَوْطِيء الأقدام. تَشْربُون الطَّرْقَ، وتَقْتاتُون القَدَّ، أذِلَّةً خاشعين، يَتخطَّفكم الناسُ مِن حولِكم، فأنقذكم اللهُ بنبيّه (صلی الله علیه و آله) ، بعد اللَّتيَّا والَّتي..). أما حال المرأة عند العرب في الجاهلية فقد كانت أحط من أي سلعة فهي لا ترث، وليس لها حق المطالبة، ويعتبرونها جزءا من الثروة، ولهذا فإن الأرملة كانت تعد ميراثاً لابن الموروث، وتورث كما يورث المتاع، فالولد الاكبر يلقي ثوبه على زوجة أبيه فتكون من نصيبه، أما أمر زواجها فيرجع إلى أمر وليها، وليس لها حق الاعتراض ولا المشورة، حتى أن الولد يمنع أرملة أبيه من الزواج.. وكانت المرأة تمنع من الزواج إلا من قريبها لوجود حق الدَّم عليها، والعرب مثل غيرهم من الشعوب القديمة حيث كانوا يفرحون إذا ولد لهم ولد ذكر، ويغتمون إذا ولد لهم أنثى، إلى حدِّ وأد البنات ودفنها حيَّة. (1) بسبب خوف أن يصيبها الأسر فيلحقهم العار أو

بسبب خوف الفقر والعوز المادي أو لأسباب أخرى عقائدية واجتماعية، كما كانت تستغل المرأة في الجاهلية بالإكراه لممارسة البغاء والفجور كأداة رخيصة لإشباع الشهوات.

أما الرومان فقد كانوا يحتكرون (السيادة والشرف) للجنس الروماني، ويرون في الأخرين والأغيار (برابرة) لا يستحقون حتى أن يطبق عليهم القانون الروماني!.. ولا حق لهم في التدين بغير دين السادة الرومان - وثنّيا كان هذا الدين أو نصرانيًا - ولقد

ص: 506


1- المرأة حقوق وحرية وحجاب، هيئة التأليف والنشر مركز الإمام الخميني (رضوان الله عليه) . بتصرف.

صبوا جام اضطهادهم، فى حقبة الوثنية، على اليهود وعلى النصارى، وفى حقبة تنصرهم، على النصرانية الشرقية - المخالفة لهم في المذهب - فى مصر والشام.

واليهودية التلمودية، قد تحولت إلى (وثنية) جعلت الله، سبحانه وتعالى، إله بنى إسرائيل وحدهم، وللشعوب الأخرى آلهتها، وذلك بدلاً من الإيمان بأنه، سبحانه، هو إله العالمين.. ولقد صبوا جام اضطهادهم على المسيح عيسى بن مريم (علیه السلام) وعلى حوارييه والذين آمنوا به واتبعوه. والنصرانية - هي الأخرى - بادلت الآخرين إنكارًا بإنكار، واضطهادًا باضطهاد.. فبمجرد أن أفاقت - فى مصر مثلاً - من الاضطهاد الوثني الروماني، وفور تدين الدولة الرومانية بالنصرانية، على عهد الإمبراطور (قسطنطين) (274 - 337م) صبت هذه النصرانية جام اضطهادها على الوثنية المصرية، فدمرت معابدها، وأحرقت مكتباتها، وسحلت وقتلت ومزقت وأحرقت فلاسفتها.. وسجل التاريخ كيف قاد بطرك الكنيسة المصرية (تيوفيلوس) (385 - 412م) (حملة اضطهاد عنيفة ضد الوثنيين، واتجه للقضاء على مدرسة الإسكندرية، وتدمير مكتبتها وإشعال النار فيها..وطالت هذه الإبادة مكتبات المعابد.. وتم السحل والتمزيق والحرق لفيلسوفة الأفلاطونية الحديثة، وعالمة الفلك والرياضيات (إناتيه) (370 - 415م) وذلك فضلاً عن تحطيم التماثيل.. والعبث بالآثار..) ثم عادت النصرانية اليعقوبية إلى موقع الضحية والمضطهد من النصرانية الملكانية الرومانية، بعد الاختلاف حول طبيعة المسيح (علیه السلام). (1)

أولاً/ مكانة المرأة لدى ديانات وحضارات العالم:

اشارة

إنَّ الباحثَ في وضْع المرأة ضمن صفحات التاريخ لن يجدَ ما يسرُّه لأنه سيرى نفسَه أمامَ إجماع عالَمي على تجريدِ هذه المخلوقة مِن جميع الحقوق الإنسانيَّة (2). وفيما يلي استعراض مكانة المرأة لدى بعض حضارات وديانات العالم:

ص: 507


1- الإسلام والآخر الحوار هو الحل، حمدي شفيق.
2- ينظر مكانة المرأة في بعض الحضارات القديمة والأديان الأخرى، عبدالرحمن الطوخي.

1- في بلاد الصين:

لقد كانت المرأة الصينية تحتل المنزلة الدُنيا في المجتمع الصيني، مجرد وجود بنت في الأسرة، يُعد بمثابة نذير شؤم لتلك الأسرة، لدرجة جعلت تلك الأُسر تتخلص من بناتها من خلال تركهن في الحقول ليقضي عليهن الصقيع، أو الحيوانات الضالة أو المفترسة، فالبنت الصينية كانت تمثل عبئا ثقيلا على أبيها، نظراً لكونه يقوم بتربيتها، ثم يُرسلها إلى بيت زوجها، لتعمل فيه دون أن يناله منها شئ، فلقد كانت النظرة إلى الفتاة أو البنت الصينية، يشُوبها الكثير من الذل والاحتقار، لدرجة جعلت الصينيون يهمون بتقديم قطع من الطين المجفف إلى الأب الذي تُولد له بنت، وذلك في إشارة إلى أن الطين المجفف كالنساء، لا يثبُت على مر الأزمان، وسرعان ما يُستهدف لعبث الرياح. (1) وكان الصينيون كالعرب في الجاهلية يكرهون البنات، وكان الأب إذا بُشر بمولدها، حملها فوراً إلى السوق بحثاً عمنْ يشتريها بأبخس الأثمان، فإذا لم يجد الشاري وهبها لأول عابر سبيل، أو أخذها إلى أي مكان مهجور وخنقها أو أغرقها أو وأدها وهي حية. (2) ومما يُنسب إلى مشرع الصين الأكبر كنفوشيوس: أن الرجل رئيس فعليه أن يأمر، والمرأة تابعة فعليها الطاعة، ومن المقتضى أن تكون أعمالهما مثل أعمال السماء والأرض متممة لبعضها، تعاونا على حفظ نظام الكون، والمرأة فيالمجتمع مديونة لزوجها بكل ما هي عليه. (3)

فلقد كان سلطان الأب مطلقاً في عهد كنفوشيوس، فكان في وسعه أن يبيع زوجته وأولاده، ليكونوا عبيداً، وكان الرجل يتناول طعامه بمفرده، لا يدعو إليه زوجته ولا أبناءه، وكان من حق الزوج أن يطلب من زوجته ألا تتزوج بعده، وكان يطلب منها أن تحرق نفسها عند موته تكريما له، وظلت حوادث حرق الزوجات تقع في الصين حتى القرن التاسع عشر. (4)

ص: 508


1- ينظر الحب والزواج، بولس باسيلي، ص 324.
2- المرأة والإسلام: غادة الخرساني: ص 22.
3- أستاذ المرأة، محمد سالم البيجاتي، ص17.
4- قصة الحضارة، ول ديورانت، ترجمة محمد بدران، ص 266.

2- عند الإغريق:

كانتِ المرأة عندَ الإغريق محتقرةً مَهينة، حتى سموها رجسًا مِن عمِل الشيطان، وكانتْ كسقط المتاع تُباع وتشترَى في الأسواق، مسلوبة الحقوق، محرومة من حقِّ الميراث وحقِّ التصرُّف في المال، وكانتْ في غايةِ الانحطاط سوء الحال مِن حيث نظرية الأخلاق والحقوق القانونيَّة والسلوك الاجتماعي جميعًا. وممَّا يُذكر عن فيلسوفِهم سقراط قوله: "إنَّ وجودَ المرأة هو أكبر منشأ ومصْدر للأزمة والانهيار في العالَم، إنَّ المرأة تُشبه شجرةً مَسْمومة، حيث يكون ظاهرها جميلاً، ولكن عندما تأكل منها العصافير تموت حالاً، (1) ويقول أرسطو: "إنَّ الطبيعة لم تزودِ المرأةَ بأيِّ استعداد عقلي يُعتَدُّ به؛ ولذلك يجب أن تقتصرَ تربيتُها على شؤون التدبير المنزلي والأُمومة والحَضانة وما إلى ذلك، ثم يقول: "ثلاث ليس لهنَّ التصرُّف في أنفسهنَّ: العبد ليس له إرادة، والطِّفل له إرادة ناقِصة، والمرأة لها إرادة وهي عاجِزة". (2)

3- عند الرومان:

كان شِعر الرومان فيما يتعلَّق بالمرأة: "إنَّ قيْدها لا يُنزع، ونيرها لا يخلع"، وكان الأب غيرَ ملزم بقَبول ضمِّ ولده منه إلى أُسرته ذَكرًا أم أنثى، بل يُوضَع الطِّفْل بعد ولادته عندَ قدميه، فإذا رفَعَه وأخَذه بيْن يديه، كان ذلك دليلاً على أنَّه ضمَّه إلى أُسْرته، وإلا فإنَّه يعني رفْضه لذلك، ومِن عجيب ما ذكرتْه بعضُ المصادر - وهو ممَّا لا يُكاد يُصدَّق - أنَّ "ممَّا لاقته المرأة في العصور الرُّومانية تحتَ شعارهم المعروف "ليس للمرأة رُوح" تَعذيبها بسَكْب الزَّيْت الحار على بَدنِها، وربْطها بالأعمدة، بل كانوا يَربطون البريئاتِ بذُيول الخيول، ويُسرعون بهاإلى أقْصى سُرْعة حتى تموت". وتأريخ الرومان يروي أن مؤتمراً كبيراً انعقد ليبحث عن شؤون المرأة وانتهى إلى اتخاذ القرارات الآتية:

1) إن المرأة موجود ليس لها نفس (شخصية إنسانية) ولهذا فإنها لا تستطيع أن تنال الحياة في الآخرة.

2) يجب على المرأة أن لا تأكل اللحم وأن لا تضحك، وحتى يجب عليها أن لا تتكلم.

ص: 509


1- الحجاب للمودودي ص 12، عودة الحجاب د. محمد المقدم 2/47.
2- مكانة المرأة في بعض الحضارات القديمة والأديان الأخرى، عبدالرحمن الطوخي.

3) إن المرأة رجس من عمل الشيطان، ولهذا فإنها تستحق الذل والهوان في المجتمع.

4) وعلى المرأة أن تعطي كل حياتها في طاعة الأصنام وخدمة زوجها. (1)

4) عند الفُرْس:

كان الفُرْس أُمَّةً حربية، وكانوا يُفضِّلون الذَّكَر على الأنثى؛ لأن الذكور عمادُ الجيش في الحرْب، وأمَّا البنات فإنَّهن ينشأْنَ لغيرهنَّ، ويَستفيد منهنَّ غيرُهنَّ، وخضَعَتِ المرأة الفارسية القديمة للتياراتِ الدِّينيَّة الثلاثة، فمِن الزرادشتية، إلى المانوية، إلى المزدكية، وقد تركتْ كلُّ ديانة من هذه الديانات بصمتَها الواضحة على كيان الأُسرة، تعيش في ذلٍّ، وقهْر، واستعباد. وكانتِ النساء تحتَ سُلطة الرجل المطلَقة الذي يحقُّ له أن يحكُمَ عليها بالموت، أو ينعم عليها بالحياةِ طبقًا لِمَا يراه، وتطيب له نفْسه، فكانتْ كالسلعة بيْن يديه، كما كانتْ بخسة في الأدوار الطبيعيَّة "كالحيْض والنِّفاس"، يُبعدن في وقتِه عن المنازل، ويَقمْنَ في خيام صغيرة تُضرب لهنَّ في ضواحِي المدينة أو البلدة، ولا يجوز مخالطتُهنَّ قطعًا، بل كانوا يعتقدون أنَّهم يتنحسون إذا مسُّوهنَّ أو مسُّوا الخيام أو الأشياء المحيطة بهنَّ. (2)

5- عند الهنود:

في شرائعِ الهندوس أنَّه: "ليس الصبر المقدَّر، والرِّيح، والموت، والجحيم، والسُّم، والأفاعي، والنار، أسوأَ مِن المرأة"! ويقول الدكتور مصطفى السباعي - رحمه الله -: "ولم يكن للمرأةِ في شريعة "مانو" حقٌّ في الاستقلال عن أبيها أو زوْجها أو ولدها، فإذا مات هؤلاء جميعًا وجَب أن تنتمي إلى رجلٍ من أقارب زوْجها، وهي قاصرةٌ طِيلةَ حياتها، ولم يكن لها حقٌّ في الحياة بعْدَ وفاة زوْجها، بل يجب أن تموتَ يومَ مات زوجها، وأن تُحرَق معه وهي حيَّة على موقِد واحد، واستمرَّتْ هذه العادة حتى القرن السابع عشر، حتى أُبطلت على كُرْه من رِجال الدّين الهنود، وكانت تُقدَّم قربانًا للآلهة لترْضَى،

ص: 510


1- مكانة المرأة على مر العصور، شيرين الضاني.
2- المرأة بين القديم والحديث لعمر كحالة 1/132 نقلاً من حقوق المرأة في ضوء السنة النبوية ص 25.

أو تَأمُر بالمطر أو الرِّزق، وفي بعض مناطق الهند القديمة شجرةٌ يجب أن يُقدِّم لها أهلُ المنطقة فتاةً تأكلها كلَّ سَنَة. (1)وعندهم تُتخذ المرأة مملوكة، وينزل الرجل منها منزلة المالك أو المعبود! ثم بعد هذا الهوان والذُّل، يقدِّمونها ضحية على نيران زوجها المتوفى فيلحقونها به وهي حيَّة بإحراقها في النار! وكان الهنود يحرمون المرأة من جميع حقوق الملكية، ومن الإرث أيضاً، وهم يسلمونها إلى أي رجل، بغير رضاها أو مشورتها، وكان الشعب الهندي يعتقد، أن المرأة هي مادة الإثم وعنوان الانحطاط الخلقي والروحي، ولا يسلم لها حتى بوجود الشخصية المستقلة كإنسان كامل. (2)

6- عند اليهود:

كانتْ بعض طوائف اليهود تَعتبر البنتَ في مرتبة الخادم، وكان لأبيها الحقُّ في أن يبيعها قاصِرة، وما كانت تَرِث إلا إذا لم يكن لأبيها ذريةٌ من البنين، وإلا ما كان يتبرَّع لها به أبوها في حياته. والمتأمِّل لحال المرأة في المجتمع اليهودي يَجِدها لا تختلف عن المجتمعاتِ البدائية، فهي مملوكةٌ لأبيها قبلَ الزواج، ثم تُشترَى منه عندَ نِكاحها؛ لأنَّ المهر كان يدفع لأبيها أو لأخيها على أنَّه ثمن شراء، وبذلك تُصبح مملوكةً لزوجها، وهو سيِّدها المطلَق؛ إذ إنَّ العقد في شريعتهم عقد سِيادة لا عقد زواج. والمرأة في الشريعة اليهودية تُورَث كجزء مِن تركة الميِّت، فإذا مات زوجُها وَرِثها وارثُه مع بقية المتروكات، وله أن يبيعَها أو يعضلها، ثم إنَّ المرأة غيرُ طاهرة عندَهم في اليوم الذي تبدأ فيه بالشُّعور بأنَّ عادتها الشهرية قد اقتربَتْ، وحتى إذا لم يكن هناك أثرٌ ظاهِر، وعلى الزَّوْج عدم ملامستها، ولا حتى بأصبعه الصَّغير، ولا يسمح له بمناولتها أي شيء، ولا حتى شيئًا طويلاً، ولا أنْ يأخذ منها شيئًا من يدِه إليها أو العكس غير مسموح به أيضًا، ولا يسمح لها بالأكْل مع زَوْجها على مائدة واحدة، ولا يُسمح له بشُرْب ما تفضل منها في الكوب، ولا يُسمح لهما في المبيت في السَّرير نفْسه، ولا في الرُّكوب معه في عَرَبة واحدة. (3)

ص: 511


1- المرأة بين الفقه والقانون، ص: 18.
2- المرأة حقوق وحرية وحجاب، هيئة التأليف والنشر مركز الإمام الخميني (رضوان الله عليه) . المرأة في ظل الإسلام، مريم نور الدين فضل اللَّه، ص12 وما بعدها.
3- حقوق المرأة في ضوء السنة النبوية، ص 31.

7- عند النصارى:

هالَ رِجالَ النصرانية الأوائل ما رَأَوا في المجتمع الرُّوماني مِن انتشار الفواحش والمنكرات، وما آل إليه المجتمعُ مِن انحلال أخلاقي شَنيع، فاعتبروا المرأةَ مسؤولة عنْ هذا كلِّه؛ لأنَّها كانت تخرج إلى المجتمعات، وتتمتَّع بما تشاء مِن اللهو، وكذلك فقد عدُّوها أصْلَ الخطيئة، ورأس الشر؛ لأنَّها سببُ الفساد، وسبب خروج آدمَ مِن الجنة، فكانت المرأة نتيجةً لذلك مُطالَبةً بنوع من سلوك معيَّن، حتى وهي داخل الكنيسة، فقد أصدر "بولس" أوامرَ صارمة لأتْباعه، وكما يقول صاحب قصَّة الحضارة: "لتصمتْ نِساؤكم داخلَ الكنيسة؛ لأنَّه ليسمأذونًا لهن أن يتكلمْنَ، ولكن إذا كُنَّ يُردْنَ أن يتعلمْنَ شيئًا فليسألْنَ رجالهنَّ في البيت؛ لأنَّه قبيح بالنساء أن تتكلَّم في الكنيسة". (1) وقد وصَمت الكنيسةُ العلاقة الزَّوجيَّة بين الرجل والمرأة بالنجاسة؛ ولذا يجب أن تُجتنب، ولو كانت عن طريق نِكاح مشروع، ومِن هذه النظرة انتشرتِ الرهبانيةُ لدَى كثير من الرجال، وامتنعوا عنِ الزواج، كما انتشرتْ نظرية الازدراء لمَن يكشف عن زواجه؛ لأنَّ علاقة الزواج مبنيَّة على أمرٍ نَجِس. (2) وقد حرَّمت الكنيسةُ الطلاق، مهما بلغ التباغُض بين الزوجين مداه، وأقصى ما يمكن اتخاذُه في مثل هذه الحال أن يفرق بينهما جسديًّا مع امتناع كلٍّ منهما عن الزواج حتى يفرقَ بينهما بالموت. (3)

8- عند اليونان:

إن الاثنيين من اليونان كانوا ينظرون إلى المرأة كمتاع وربما يعرضونها في السوق للبيع ويبيعونها، وكان هذا من حق الزوج على زوجته متى شاء على ما هو المعروف بين مجتمعاتهم، وفوق ذلك فإنهم كانوا يعتبرون النساء عامة رجسا من عمل الشيطان، وعلى هذا الأساس يجعلونهن محرومات عن حقوق الإنسانية، وكان قدماء اليونان يعتقدون أن المصائب في الآمال والفشل في نيل المطلوب إنما هي تأتي من غضب الأصنام المعبودة

ص: 512


1- قصة الحضارة "لول ديورانت" (3/278) نقلاً عن حقوق المرأة في ضوء السنة النبوية، ص 32.
2- مقام المرأة في الإسلام؛ لمحمود بايللي، ص 37.
3- المصدر نفسه.

الباطلة لديهم، ولهذا فإنهم عند حلول أي مصيبة في المجتمع أو خيبة أو فشل كانوا يقدمون البنات قربانا إلى آلهتهم، ويلتجئون إليها بهذه الوسيلة الجاهلية في رفع المصيبة.(1)

9- حال المرأة في العالم الغربي:

عقد الفرنسيون في عام 586م مؤتمراً للبحث حول الأسئلة التالية: (هل تعد المرأة إنساناً أم غير إنسان) ؟! وهل لها روح أم ليست لها روح؟ وإذا كانت لها روح فهل هي روح حيوانية أم روح إنسانية؟ وإذا كانت روحاً إنسانية فهل هي على مستوى روح الرجل أم أدنى منها؟ وأخيراً قرروا أنَّها إنسان، ولكنها خلقت لخدمة الرجل فحسب. وأصدر البرلمان الإنكليزي قراراً في عصر هنري الثامن ملك إنكلترا يحظر على المرأة أن تقرأ كتاب (العهد الجديد) أي الإنجيل (المحرف) ؛ لأنَّها تعتبر نجسة، وفي تقرير للمراكز الأمريكية الحكومية للسيطرة على الأمراض: متوسط عدد النساء اللاتي يقيم معها الرجل الأمريكي علاقات جنسية هو سبع نساء، بل إن 29 % من الرجال قد أقاموا علاقات جنسية مع أكثر من 15 امرأة في حياتهم، ونشر في بي بي سي دراسة أجريت على 14 دولة أظهرت أن 42 ٪ من البريطانيين اعترفوا بإقامة علاقة مع أكثر من شخص في الوقتنفسه، بينما نصف الأمريكيين يقيمون علاقات غير شرعية (مع غير أزواجهم). وكانت النسبة في إيطاليا 38 ٪ وفي فرنسا 36 ٪.

إن العلاقة بين الرجل والمرأة تعني شيئا مختلفا لكليهما فالمرأة حين تحب رجلاً فإنها تتعلق به وحده وتحبه بكل عقلها وقلبها وحين يقطع حبيبها أواصر الحب ويفارقها إلى غيرها، ينكسر قلبها وتتحطم مشاعرها، أما الرجل فيميل بشكل عام إلى التعدد، وقد يقيم العلاقات مع النساء لمجرد نزوات عابرة فينهي علاقته حالما يقضي وطره وفي البيئة الغربية الإباحية حيث حرية العلاقات الجنسية فإنها المرأة التي تتضرر نفسيا وعاطفيا وعليها أن تدفع ثمنا باهظا جدا من أجل ما يسمى بالتحرر (2) ، فيما يلي بعض الإحصائيات المرعبة في العالم الغربي حول الوضع الاجتماعي للأسرة والمرأة:

ص: 513


1- مكانة المرأة على مر العصور، شيرين الضاني.
2- مقارنة بين المرأة الغربية والمسلمة، موقع منتديات شبهات وبيان.

ففي الولايات المتحدة الأمريكية توجد قرابة (10) مليون أسرة تعيلها الأم فقط (دون وجود أب) وفي أمريكا وحدها يُقتل بالإجهاض أكثر من مليون طفل سنويا، وقُدر منذ عام 1973 إلى 2002 تم قتل قرابة (42) مليون جنين بسبب بالإجهاض.

حالات الاغتصاب:

في أمريكا يتم اغتصاب 683 ألف امرأة سنوياً أي بمعدل 78 امرأة في الساعة مع العلم أن 16 % فقط من حالات الاغتصاب يتم التبليغ عنها. نقلاً عن وزارة العدل الأمريكية.

حالة العنف الأسري:

1320 امرأة تقتل سنوياً أي حوالي أربع نساء يقتلن يوميا بواسطة أزواجهن أو أصدقائهن في أمريكا. المصدر تقرير لوزارة العدل الأمريكية، و40 -50 % ممن يقتل من النساء في أمريكا يكون القاتل هو شريكها الحميم (زوج أو صديق) المصدر، وزارة العدل الأمريكية، ويقدر سنوياً حوالي 3 ملايين امرأة في أمريكا يتعرضن لاعتداء جسدي من زوج او صديق. المصدر: الموقع الرسمي الحكومي لولاية نيوجرسي الأمريكية، و22,1 % من النساء في أمريكا تعرضن لاعتداء جسدي من زوج او صديق (حالي أو سابق). نقلاً عن وزارة العدل الأمريكية، وحوالي نصف عدد النساء الأمريكيات ممن تجاوزن سن 75 سنة يعشن وحدهن. نقلاً عن دائرة الإحصاءات الأمريكية.

عمل المرأة الغربية:

أكد تقرير لوزارة العمل الأمريكية أن معظم النساء في الغرب يعملن في الوظائف ذات الأجور المنخفضة والمكانة المتدنية. وحتى مع الضغوط التي تبذلها الحكومة في تحسين وظائف النساء فإن 97 % منالمناصب القيادية العليا في أكبر الشركات يشغلها رجال. وفي تقرير لوزارة العمل الأمريكية إن نسبة 89 % من الخدم وعمال التنظيف هم النساء، وبدلاً من وجود مكان العمل الآمن في المنزل عملت المرأة الغربية واختلطت

ص: 514

بالرجال وتعرضت للاضطهاد والابتزاز والتحرش الجنسي بمعدلات هائلة. فقد أكدت دراسة قامت بها وزارة الدفاع الأمريكية إن نسبة 78 % من النساء في القوّات المسلّحة تعرضن للتحرش الجنسي من قِبل الموظّفين العسكريّين، أما مسالة تهريب النساء اللواتي يتم تهريبهن سنوياً إلى الولايات المتحدة لأجل سترقاقهن وإجبارهن على ممارسة البغاء، فقد قُدر عددهم حوالي بخمسين ألف إمرأة وطفلة، كما تفنن الغرب في جر النساء إلى أعمال مخزية ومهينة نافسوا فيها ظاهرة العبودية القديمة، وذلك باستغلال المرأة بتجارة القضايا الإباحية التي تُعد صناعة عظيمة في العالم الغربي حيث تجلب (12) مليار دولار سنوياً في أمريكا وحدها.

ثانياً/ المعارضون للسلطة الدينية (سلطة الكنيسة في العصور المظلمة نموذجاً) :

عصفت بالدول الاوربية في العصور الوسطى المظلمة رياح الإرهاب الطائفي فأحالت نهارهم ليلاً، وبات الناس في رعب شديد إثر الإجراءات التعسفية التي تمارسها الطوائف المسيحية مع بعضها البعض، نذكر منها على سبيل المثال ما حصل من مأساة حقيقة راح ضحيتها آلاف الأسرى من أبناء الطائفة الكاثوليكية الذين قضوا حرقاً وهم أحياء، على يد إخوانهم!! من أبناء الطائفة الأرثدوكسية، وبعد عدة سنين ينتقم أبناء الطائفة الكاثوليكية فيجمعون أثني عشر ألف أسير من الأرثدوكس في ساحة كبيرة ويرتكبون في حقهم نفس الفعل الشنيع، ويحرقونهم عن بكرة أبيهم، وأمام مرأى ومسمع شعب روما والعالم؟!! هذا هو حال الصراعات الطائفية في القارة الأوربية آنذاك التي أحرقت الأخضر واليابس وأهلكت الحرث والنسل قبل أنى يثوبوا إلى رشدهم، ويتثقفوا بثقافة التعايش السلمي ويتعاملوا فيما بينهم بلغة الحوار والتفاهم.

وقد نقل لنا التاريخ كيف قام رجال الدين المسيحيين بتولي رجال السلطة في أوروبا، ففي القرن الرابع الميلادي اعتنق الإمبراطور قسطنطين المسيحية وقام بفرضها على الإمبراطورية فرضاً. ثم بمرور السنين سجل التاريخ أحداثاً عن ذلك النزاع المرير الذي كان ينشب من حين لآخر بين رجال الدين ورجال السلطة حول من يجب أن يكون له السلطان المطلق على الناس، رجال الدين أم رجال السلطة؟ حتى أن البابا (نقولا

ص: 515

الأول) أصدر بياناً في العصور الوسطى قال فيه: (إن ابن الله أنشأ الكنيسة بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها، وإن أساقفة روما ورثوا سلطات بطرس في تسلسل مستمر متصل، ولذلك فإن البابا ممثل الله على ظهر الأرض يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين حكاماً كانوا أو محكومين).وفي القرون الوسطى مارست السلطة الدينية ذلك السلطان بالفعل أبشع ممارسة على الحكام والمحكومين، مما نشر الطغيان والفساد في الأرض باسم الله وبالتحايل على نصوص الدين. وعاشت أوروبا في ظلام دامس ما يقرب من ألف عام، وتم ذلك حين قام رجال الدين بتفسير الدين وفق مصالحهم وأطماعهم، كفهمهم لكلام السيد المسيح (علیه السلام) الذي يقول: (أعطوا إذاً ما لقيصر لقيصر وما لله لله) حيث زعموا آنذاك أن قيصر يحكم عالم الناس بما شاء وكيف شاء ومتى شاء، ويبقى الله بعيدا عن شؤون الحكم لا يتدخل فيما يفعل قيصر بالناس. وبهذا التفسير الإجرامي لكلام السيد المسيح تم إعطاء قيصر المشروعية الدينية المطلقة في أن يفعل بالجماهير ما يحلو له من تنكيل واضطهاد وفرض ضرائب وقهر واستغلال واستبداد وإقطاع. (1)

وقال مصطفى إنشاصي في مقال له بعنوان: (طغيان الكنيسة في العصور الوسطى الأوروبية) جاء فيها:

(توجت الكنيسة تصرفاتها الشاذة وبدعها الضالة بمهزلة لم يعرف تاريخ الأديان لها مثيلاً، عندما احتاجت إلى مزيد من السلطة الدينية والنفوذ المالي لمواجهة أعدائها، وقد كان ألد وأخطر أعدائها (المسلمون) أثناء الحروب الصليبية التي بدأت تلوح علامات هزيمتها فيها بعد أن بلغ ضعف الحماس الديني في نفوس الأوربيين مبلغاً كبيراً، وفقد المقاتلون ثقتهم في الكنيسة نتيجة لخيبة أملهم في النصر الذي وعدتهم به وعداً قاطعاً، ففكرت في وسيلة تجعل المقاتل يندفع للاشتراك في الحملة الصليبية فكانت تلك الوسيلة هي (صكوك الغفران) ! حيث أصدر المجمع الثاني عشر المعروف باسم (مجمع لاتيران) سنة 1215م قراراً يمنح البابا حق امتلاك الغفران للمذنبين!).

ويقول ول ديورانت: (إن صكوك الغفران كانت توزع على المشتركين في الحروب الصليبية ضد المسلمين. ولم يكن يحظى بالحصول على صك الغفران إلا أحد أثنين؛

ص: 516


1- قصة الحضارة، ول ديورانت، ج14، ص352.

الأول؛ رجل ذو مال يشترى الصك من الكنيسة حسب التسعيرة التي تحددها هي، والثاني؛ رجل يحمل سيفه ويبذل دمه في سبيل نصرة الكنيسة والدفاع عنها وحراسة مبادئها، وقد مثل ذلك ذروة الطغيان الكنسي ضد الفقراء والأمراء على حد سواء، وكانت أول أمرها من أسباب قوة الكنيسة ودعائم شموخها، حيث قويت الكنيسة وتدعمت سلطتها بالجحافل البربرية التي تطوعت للقتال في سبيلها من أجل الحصول على الغفران. ومن مظاهر الطغيان الكنسي أيضاً:

1- الطغيان الديني: بتأسيس (محاكم التفتيش) وهذه المحاكم هي ديوان أو محكمة كاثوليكية نشطت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، مهمتها اكتشاف مخالفي الكنيسة ومعاقبتهم بشدة.

2- الطغيان السياسي: حيث تحول رجال الدين إلى طواغيت وسياسيين محترفين، وتملكتهم شهوة عارمة للتسلط ورغبة كبيرة في الاستبداد، بزعم تطبيق الشريعة وأن البابا ظل الله على الأرض.3- الطغيان المالي: نستطيع أن نقول دون أدنى مبالغة أن الأناجيل (المسيحية) لم تنه عن شيء نهيها عن اقتناء الثروة والمال، ولم تنفر من شيء تنفيرها من الحياة الدنيا وزخرفها، وجاءت القرون التالية فشهدت مفارقة عجيبة بين مفهوم الكنيسة عن الدنيا وبين واقع الكنيسة العملي. (1)

ص: 517


1- انتج هذا الطغيان والاستبداد من جانب الكنيسة آنذاك ردة فعل عنيفة من قِبل المجتمع الأوربي تمخض عن ولادة ما يسمى ب- (العلمانية) التي تقضي بفصل سلطة رجال الدين (رجال الكنيسة) عن السياسة، وإبعاد مفاسدهم عن المجتمع من خلال تقييد هيمنتهم السياسية، لكن للأسف تطور هذا المفهوم ليشمل مصطلح (العلمانية) كل حركة أو جهة معادية للدين وليس لرجال الدين المزيفين والمستبدين فحسب، ف- (إن العلمانية ليست كما يشاع مجرد فصل الديّن عن الدولة، بل هي في نهاية الأمر وحقيقته؛ فصل الديّن عن الحياة، ليتصرف الحاكمون بأمرهم على إشاعة الباطل وتدجين الأمة على قبول الهوان والتبعية للأعداء بتقنين الباطل وحكم الطاغوت ومن العجب أن يتحدث نفر من المنسوبين للإسلام بكل سذاجة وبورع بارد حينما يدعوننا ألا نتحدث عن خطر العلمانية، وألا نفضح العلمانيين، وألا نتهمهم بالخروج والضلال المبين) . وصحّح المرجع اليعقوبي في إحدى كلماته مصطلح (العلمانية) ليبرز المعنى الحقيقي لها، قائلاً: (العلمانية.. صوّرها خصومها الذين يتاجرون بالدين ويتخذونه وسيلة لتحقيق مصالحهم على أنها محاربة الدين ومعاداته وحينئذ سيكون رد الفعل السريع هو الرفض والمواجهة، لكن البعض يعرّفها على أنها إلغاء سلطة رجال الدين الذين يسيئون استخدام الفتوى الدينية والقداسة لتحقيق مصالحهم اللامشروعة بدفعٍ من المستفيدين منهم، فهم - أي العلمانيون - لا صراع لهم مع الدين كتعاليم سامية تتكفل بإسعاد الإنسان وضمان حقوقه في حياة حرةٍ كريمة. وهم بذلك يصلون إلى نصف الحقيقة وعليهم السعي لتحصيل النصف الآخر لأننا جميعاً نرفض استغلال الدين للدنيا وجعله جسراً يعبرون عليه لتحقيق نزواتهم وأهوائهم الشخصية، بل إن أئمتنا المعصومين (سلام الله عليهم) قادوا حملة توعية واسعة لفضح المتسترين بلباس الدين والذين يرفعون اللافتات الإسلامية نفاقاً وقد وصفهم الإمام الحسين (علیه السلام) : (عبيد الدنيا، يحوطونه ما درّت معائشهم، فإذا مُحِصّوا بالبلاء قلَّ الديانون) وحذّروا الأمة من اتباع رجال الدين المزيفين (إذا رأيتم العالم مكبّاً على دنياه فاتهموه في دينه) . والذي يراجع تاريخ نشوء العلمانية التي انطلقت من أوربا قبل قرون يجد أكثر من شاهد على أنها كانت تمرداً على دكتاتورية رجال الدين وتخلّفهم واستعباد الناس وسرقة أموالهم بسلطان الفتوى والتحالف مع الملوك الظالمين المستبدين لكنهم في خضمّ صراعهم مع التطبيقات السيئة للدين تخلّوا عن الدين نفسه وخسروا المبادئ السامية التي تركزها عقيدة التوحيد لأنهم لم يستطيعوا التفكيك بين الدين - كتعاليم وشريعة وعقيدة - والمتلبسين به من طلاب الدنيا) . خطابات المرحلة، ج5، رقم (169) ، خطاب بعنوان: حوارات في الفكر الإسلامي، الحوزة العلمية والتيارات الوافدة.

لذا (كان للكنيسة المسيحية في العصور الوسطى دوراً مركزياً في كبت الحريات العلمية والفلسفية والفكرية والدينية والاجتماعية والتضييق على حركة التطور والعمران الإنساني في أوربا، وعبر محاكمها الدينية حكمت بالموت شنقاً وحرقاً على الآلاف من الرجال والنساء من اناس عاديين ومفكرين وفلاسفة وعلماء في الطبيعة والفلك والطب بدعوى المروق عن الدين والردة عن المسيحية، ومخالفة المُسَلمات الدينية، فعلى سبيل المثال في سنة 1452م- 856ه أسست في روما على يد البابا بولس الثالث لجنة دعيت ب- (اللجنة المقدسة) تتألف من ستة كرادلة يرأسهم البابا نفسه، ومهمتها الأساسية رصد المناوئين للديانة المسيحية، والحكم عليهم بما يتناسب وحجم جرائمهم، وانبثق منها في سنة 1559م- 916ه لجنة أطلق عليها ب- (لجنة التتبيث) وظيفتها تنظيم قائمة بعناوين الكتب المحرم قراءتها، واحرقت كميات ضخمة منها. وفي سنة 1478م عينت محكمة التفتيش الديني في إسبانيا لجنة مكونة من ستة قساوسة للتحقيق في تُهم المروق ومخالفة الدين المسيحي، ومن هذه التهم يُطلق عليها ب (الهرطقة) ويفرض على أصحابها غرامة مالية او كفارة، ثم يصفح عنهم بشرط إعلان التوبة، وأن يقول كل ما يعرفه عن هراطقة

ص: 518

آخرين. ومن الأحكام الجائرة التي سجلها التأريخ عن تسلط الكنيسة في تلك الحقبة ما يلي:

في سنة 1483م إلى 1486م تم حرق (52) شخصاً كما أحرق رفات (1650) شخصاً ممن أعلنوا التوبة، وصودرت أموال حوالي ألف شخص وعوقب (183) تائباً، كما بلغ عدد الضحايا سنة 1480م -1508م حوالي (3112) شخصاً حُكم عليهم بالموت حرقاً، وعوقب (291484) شخصاً بعقوبات مختلفة، وكان بعض المفتشين يعانون من أمراض نفسية سادية، إذ حكم أحدهم في يوم واحد سنة 1439م على (180) شخصاً بالحرق أحياءاً. ومن المعروف إن محاكم التفتيش الكنسي في إسبانيا أقل صرامة من سائر محاكم التفتيش في سائر أوربا، ففي القرن السادس عشر الميلادي، أقر المذهب الانجيليكاني في انكلترا، لذا شُنت حملات واسعة ضد أتباع المذهب الكاثوليكي، وأصدر البابا بيوس الخامس في أوربا مرسوماً سنة 1570م يحرم فيه الملكة اليزابيث من دخول الكنيسة، ويحل رعاياها من الولاء له، وسن القضاء الإنكليزي قوانين صارمة جداً ضد أتباع المذهب الكاثوليكي، تصل إلى الإعدام شنقاً، وكل شخص تثبت ضده تهمة عدم حضور الصلوات الانجيليكانية يعاقب بدفع غرامة شهرية، ويقدر بعض المؤرخين إن عدد ضحايا الكنيسة الأوربية في العصور الوسطى يقدر بحوالي (30,000) شخصاً، تم حرق (22,000) شخصاً منهم وهم أحياء. (1)

ثالثاً/ منع النساء من ارتداء النقاب والحجاب:

اشارة

فيما يلي نستعرض أسماء الدول التي تمنع النساء من ارتداء النقاب والحجاب والذي يُعد حقاً شخصياً ودينياً، وهذا المنع لهذا الحق حصل للأسف حتى في بعض الدول العربية التي تدين بالدين الاسلامي، وكذلك منعت بعض الدول الأوربية ارتداء الحجاب على الرغم من ادعائها لتطبيق نظام الحرية:

1- فرنسا:

كانت فرنسا أول بلد أوروبي يمنع النقاب في الأماكن العامة، وبدأت عام 2004 بالتضييق على الطلبة في المدارس الرسمية بإظهار أية رموز دينية، لكن في 2011، ذهبت

ص: 519


1- الإرهاب والتعصب عبر التأريخ، رائد قاسم، ص236-238، بتصرف بسيط.

الحكومة لأبعد من ذلك، بفرض حظر كامل على غطاء الوجه، ويتم تغريم المرأة التي ترتديه بمبلغ 150 يورو، وأي شخص يجبر امرأة على ارتدائه يغرم بمبلغ يصل إلى 30 ألف يورو. وتعود أسباب المنع حسب ما يعلون إلى دواعي أمنية كما اعتبرت فرنسا إنّ البرقع أو النقاب يحدّ من حقوق المرأة.

2- بلجيكا:

اتبعت بلجيكا خطى مشابهة لفرنسا، فكانت الدولة الثانية بعد فرنسا التي تمنع البرقع والنقاب. وأقرت عام 2011 قانوناً يحظر النقاب، وأي نوع من الملابس يمكن أن تخفي وجوه الناس في الأماكن العامة. ويمكن أن تتعرض المرأة المخالفة للسجن لمدة 7 أيام، أو دفع غرامة بمقدار 1378 يورو، وعلى الرغم من الاحتجاجات التي تمت على إثر هذا القانون إلا أن المحكمة الدستورية في 2012، رفضت إلغاء الحظر.

3- سويسرا:

للمرة الأولى في تاريخ سويسرا، يمنع على المسلمات ارتداء النقاب، سواء كان يغطي العينين أو يظهرهما، ويمكن أن تواجه من ترتديه غرامة تصل إلى 10 آلاف يورو تقريباً. حيث بدأت سويسرا في أواخر 2016 بتطبيق هذا القانون بعد أن تمّ طرحه في 2013.

4- هولندا:

أمّا في هولندا، فقانون منع البرقع والنقاب في الأماكن العامة كان جزئياً، إذ أنّ القانون يُنفذ فقط في بعض الأماكن مثل المباني الحكومية والمدارس والمستشفيات وفي حالات تتطلب الكشف عن الوجه لأسباب أمنيّة. لذا فإنه ليس حظراً كاملاً في الأماكن العامة، لكنه يمنع في الحالات الضرورية والأمنية.

5- بلغاريا:

في أواخر 2016، وافق البرلمان البلغاري على حظر البرقع والنقاب في الأماكن العامة لأسباب أمنية. وجاء القرار بعد اقتراح من تحالف الجبهة الوطنية التي تعتبر أنّ هذا اللباس هو فقط زي وليس رمزاً دينياً. وتُغرّم السلطات كل من يخالف القانون 662 يورو كما تحرمه من الإعانات الحكومية.

ص: 520

6- إيطاليا:

لا يوجد حظر رسمي في إيطاليا على النقاب، لكن في عام 2010 فرضت بلدة نوفارا قيوداً عليه، على الرغم من أنه لا يوجد نظام غرامات حتى الآن، وفي بعض أجزاء البلاد، قامت السلطات المحلية بمنع ملابس السباحة الإسلامية.

7- تركيا:

تم إدخال التعديل على قانون يمنع ارتداء الحجاب في 2008، ولكن تم حظر النقاب، وفي 2013 رفعت تركيا القواعد التي تحظر على النساء ارتداء الحجاب في مؤسسات الدولة في البلاد باستثناء القضاء والجيش والشرطة.

8- روسيا:

حظرت روسيا الحجاب بتأييد الحكم الذي أصدرته المحكمة العليا في روسيا في "يوليو 2013".

9- السنغال:

في نوفمبر 2015 أعلنت السنغال منع المسلمات من ارتداء النقاب وقالت إن ارتداءه يُسهل إخفاء مكونات التفجيرات التي ينفذها المتطرفون.

10- تونس:

سنوات طويلة كان الحجاب محظورًا في المؤسسات التابعة للدولة، باعتباره "زيًا طائفيًا"، ولكن الرئيس التونسي "الباجي السبسي" أصدر قرارًا بمنع ارتداء الحجاب للفتيات القاصرات هذا العام، معتبرًا إياه "من دروب التخلف والعودة بتونس للوراء" وهو ما أثار جدلاً كبيرًا مؤخرًا.

11- الدنمارك:

أعلنت الحكومة الدنماركية في عام 2008 منعها للحجاب والرموز الدينية أو السياسية المماثلة، للعاملين في القضاء، بما في ذلك الصلبان والقلنسوة اليهودية والعمامات، في قاعات المحاكم، وجاء هذا الحظر بعد ضغوط من حزب الشعب الدنماركي المعروف بمعاداته للمسلمين، والذى دعا لأن يمتد الحظر ليشمل معلمي المدارس والعاملين في المجال الطبي.

ص: 521

12- إسبانيا:

العديد من أجزاء كتالونيا في إسبانيا لديها قوانين ضد البرقع والنقاب. وفي سنة 2013 ألغت المحكمة العليا الحظر في بعض الأجزاء، على اعتبار أنه يمس حدود الحرية الدينية، لكن بعض المناطق الأخرى تابعت الحظر، فيما قررت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن منع الحجاب لا يخرق حقوق الإنسان.

13- المغرب:

مُنع في دولة المغرب بيع البرقع وتصنيعه. وجاء القرار كوسيلة لتعزيز الإعتدال الإسلامي في البلاد. وقد نبّهت وزارة الداخلية المغربية المحلات من بيع النقاب من دون إصدار أي قانون رسمي.

14- مصر:

منعت جامعة القاهرة ارتداء النقاب في الفصول الدراسية. ويطال الحظر الطاقم الأكاديمي بعد أن تلقت الإدارة شكاوى من الطلاب بسبب صعوبة التواصل بين التلاميذ والمعلمات. وأيدت المحكمة هذا القرار، في حين منعت الجامعة الممرضات والأطباء من ارتداء النقاب في كليات الطب وفي المستشفيات التعليمية. وأثناء الانتخابات الوطنية التي جرت في تشرين الأول 2015، وقيل إنه يجب على النساء المنقبات أن يزلن الحجاب الكامل إذا أردن التصويت، من أجل التعرف عليهن.

15- بعض الدول الأفريقية:

منعت دولة التشاد النساء من ارتداء الحجاب الكامل بعد هجومين انتحاريين في يونيو 2015. وهناك منع مماثل في أجزاء من الكاميرون ونيجيريا وكذلك الكونغو والغابون.

رابعاً/ منع بناء مآذن المساجد في سويسرا:

أجري في سويسرا هذه الدولة الأوربية التي تُنعت بحارسة حقوق الإنسان، وبلد الصليب الأحمر واتفاقيات جنيف، استفتاءاً شعبياً حول التصويت لمنع بناء المآذن جديدة في سويسرا، وكانت النتيجة 57,5% من الناخبين السويسريون وافقوا على هذه المبادرة، علماً إن نسبة المشاركة في هذا التصويت كانت أعلى من المعتاد بحيث بلغت 53%. وقد

ص: 522

صرح وزير الخارجية الفرنسي (بيرنار كوشنير) في حوار مع إذاعة "RTL" حول هذه المبادرة قائلاً: إنه يشعر "بشيء من الصدمة" جراء "هذا التعبير عن عدم التسامح"، مضيفاً: "آمل أن يعدل السويسريون عن هذا القرار بسرعة" قبل أن يتساءل بنوع من السذاجة المُختلقة: "هل هي جريمة في بلاد الجبال أن تُشي-ّد مباني أعلى بقليل؟". كما اعتبرت الصحافة النمساوية أن هذا التصويت "دم-ّر السِلم الديني بدون مُبرر"، بينما ذك-ّرت الأسبوعية البوسنية "أسلوبودجينجي" بأن اللجنة الفدرالية السويسرية المناهضة للعنصرية قد نعتت المبادرة الشعبية ضد المآذن قبل التصويت عليها ب- "دعوة إلى الكراهية"، وفي لندن، تحدثت صحيفة "فاينانشل تايمز" عن حظر المآذن "الذي يغذي المخاوف منالانتقام". بينما أعربت يومية "وول ستريت جورنال" الأمريكية عن اعتقادها أن هذا التصويت "سلط الضوء على الصراع المستمر بشأن اندماج الجالية المسلمة الأوروبية المتزايدة في المجتمع المدني". وفي مقابل هذا الشعور بالاستياء والقلق، غمرت السعادة صفوف اليمين المتطرف الأوروبي، وقال موريتسيو غاسباري، رئيس مجموعة تحالف سيلفيو بيرلوسكوني في مجلس الشيوخ الإيطالي: "حتى الصبر السويسري سئم من توسع الهجرة والإسلام". وأضاف هذا السيناتور: "في إيطاليا أيضا، ينبغي علينا الاستمرار في انتهاج سياسة صارمة، ولدينا الحق تماماً في ذلك"، ونفس اللهجة اعتمدها وزير التسهيل الإداري، روبيرتو كارديرولي، عضو الحزب الشعبوي والمعادي للأجانب حيث قال: "وصلتنا من سويسرا إشارة واضحة: نعم لأبراج الكنائس، ولا للمآذن". (1)

وقالت وكالة الانباء السويسرية ان نتائج الاستفتاء المتعلق بحظر بناء منارات جديدة للمساجد، وهو مقترح بادرت به احزاب يمينية، اظهرت ان نحو 57.5 في المئة من السويسريين مع مبدأ حظر بناء المنارات. وكانت الحكومة والبرلمان قد رفضا المبادرة على اساس انها انتهاك للدستور، ولمبدأ حرية التعبير والحريات الدينية، والتقاليد السويسرية العريقة في تحمل وقبول الرأي والمعتقد الآخر. وكان المقترح قد طرح من قِبل منظمات مسيحية محافظة وحظي بدعم اكبر احزاب البرلمان السويسري، حزب الشعب السويسري اليميني، بزعم ان السماح ببناء المآذن سيؤدي الى اسلمة البلاد، علماً إنه يعيش في سويسرا نحو أكثر من 300 ألف مسلم، اغلبهم من يوغسلافيا السابقة او تركيا، من

ص: 523


1- يُنظر مقال: حظر المآذن سويسرا تستقطب أنظار العالم، إصلاح بخات.

مجموع سكان البلاد وعددهم قرابة سبعة ملايين، كما يعد الاسلام اكثر الديانات انتشارا في البلاد بعد المسيحية، لكن، وعلى الرغم من وجود أماكن للصلاة، فان المساجد ذات المآذن قليلة جداً ومتباعدة، وفي السنوات الاخيرة رفضت كل طلبات بناء المآذن، وكانت استطلاعات الرأي اشارت الى تنامي التيار المؤيد لهذا المقترح بين السويسريين.

خامساً/ ظاهرة الإسلاموفوبيا في العالم الغربي:

إسلاموفوبيا أو رهاب الإسلام (Islamophobia) هو التحامل والكراهية والخوف من الإسلام أو من المسلمين (1)

، ويُعبّر مصطلح الإسلاموفوبيا عن ظاهرة الخوف المَرَضي مِن الإسلام في الغرب، ومن أبرز أسباب هذه الظاهرة:تاريخ الصراع الطويل بين الإسلام والغرب منذ عهد الرسالة والفتوحات الإسلامية، مرورًا بالحروب الصليبية، وحتى الاحتلال العسكري بعد الحرب العالمية، وما تلاها، وقد أجمل عضو مجلس النواب الأمريكي السابق "بول فندلى" الأسباب التي تقف خلف جهل الأمريكيين والغربيين عمومًا بالإسلام وتبنيهم صورًا نمطية مضللة عنه إلى:

1- دور اللوبي اليهودي في تقديم صورة سيئة عن المسلمين، وتصوير إسرائيل على أنها دولة ضعيفة يهدد العرب والمسلمون أمنها ووجودها.

2- الاقتصار على الحديث عن الأخلاق اليهودية والمسيحية في المجتمع الأمريكي؛ بوصفها الأخلاق العالية المقبولة الجديرة بالاتباع، مع تجنب الإشارة إلى الأخلاق الإسلامية، وتصويرها بشكل سلبي منفر في حال الحديث عنها؛ بحيث غدت اليهودية والمسيحية في نظر الأمريكي أنموذجًا للتقدم والحضارة والأخلاق، وأصبح الإسلام تعبيرًا عن القوة المتخلفة والخطرة.

ص: 524


1- وقد دخل المصطلح إلى الاستخدام في اللغة الإنجليزية عام 1997 عندما قامت خلية تفكير بريطانية يسارية التوجه تدعى رنيميد ترست، باستخدامه لادانة مشاعر الكراهية والخوف والحكم المسبق الموجهة ضد الإسلام أو المسلمين. برغم استخدام المصطلح على نطاق واسع حالياً، إلا أن المصطلح والمفهوم الأساسي له تعرض لانتقادات شديدة. عرف بعض الباحثون "الإسلاموفوبيا" بأنها شكل من أشكال العنصرية. آخرون اعتبروها ظاهرة مصاحبة لتزايد عدد المهاجرين المسلمين في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وربطها البعض الآخر بأحداث 11 سبتمبر.

3- وسم الإسلام بالإرهاب والتعصب، واحتقار المرأة، والافتقار إلى التسامح مع غير المسلمين، ورفض الديمقراطية، وعبادة إله غريب وانتقامي.

4- تخوف الغربيين من خطر إسلامي متصاعد، وخشيتهم من الحرب الإسلامية الغربية القادمة، وتغذية الهيئات الصهيونية لتلك المخاوف؛ حتى لا يتراجع الدعم الغربي للكيان الصهيوني في فلسطين.

5- تركيز وسائل الإعلام الغربي على تصوير الحركات الإسلامية، وبخاصة حركات المقاومة، على أنها حركات إرهابية لا تحترم الديموقراطية وحقوق الإنسان، وعمل تلك الوسائل في بعض الأحيان على فبركة برامج يتم عن طريقها تضخيم دعوات بعض المسلمين إلى محاربة أمريكا وإسرائيل والغرب، وإخراج تلك الدعوات عن سياقها الأصلي.

6- تضارب المصالح، واختلاف القيم من قبيل: حرية المقامرة، وتناول الكحول، والاشتغال بالربا، و"قوننة" ممارسة البغاء والعلاقات الجنسية المثلية، والسماح بالعلاقات الجنسية خارج إطار الزوجية... إلخ.

7- الخلط بين الدين الإسلامي، وواقع المسلمين المتخلف.

8- دور السينما العالمية ووسائل الإعلام المُغرضة في تبنى صورة نمطية سلبية للمسلمين.

9- دور بعض متطرفي المسلمين في ترسيخ الظاهرة كالقاعدة وداعش ونحوهما.ومن مظاهر الإسلاموفوبيا:

10- الطعن في الإسلام، والتشكيك في نبوة محمد (صلی الله علیه و آله).

11- إثارة النزاعات الدينية والطائفية والعرقية والسياسية في بلاد المسلمين.

12- السعي لاحتلال البلاد الإسلامية أو تفتيتها.

13- تفعيل أنشطة التنصير.

14- إقامة علاقات نفعية مع متطرفي العلمانيين العرب.

15- جرائم الكراهية ضد المسلمين بالغرب. (1)

ص: 525


1- ينظر مقال: الإسلاموفوبيا.. الأسباب والمظاهر، طلعت مرزوق.

من أعراض ومظاهر ظاهرة (الإسلاموفوبيا) الأمور الاتية:

أ/ الإساءة لشخص الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) والطعن بالدين الإسلامي:

منذ انبعاث رسالة الإسلام، لم تكد تتوقف الأصوات التي تشكك بصحة تلك الرسالة وصدق صاحبها (علیه السلام). فكما هو معلوم، تعرض الإسلام منذ بزوغ نجمه إلى حملة شرسة من جانب كثير من قبائل العرب واليهود لمحاربته وإجهاض دعوته. حيث أسند إلى الرسول الكريم الكثير من الصفات والنعوت الباطلة التي تطعن فيه على المستوى الشخصي، وترميه بالكذب والجنون والكهانة والسحر والاستبداد والتهالك على الشهوات...الخ، وبطبيعة الحال، لم تقف تلك الاتهامات المغرضة عند حدود الرسول (علیه السلام) ، بل تعدته لتطال الإسلام أيضاً، الذي اتهم من بعض الحاقدين بأنه دين مادي لا يأخذ الأبعاد الروحية بعين الاعتبار، وأنه دين دموي قام وانتشر بقوة السيف، وأنه دين يخلو من الأصالة فيسرق أفكاره من الأديان السابقة عليه كاليهودية والمسيحية...الخ. وفي الواقع، فإن من نافل القول إن من المحال الفصل بين الإسلام ورسوله، فالرسول (علیه السلام) هو صاحب الدعوة إلى الإسلام وهو رمزها الأهم وهو التجسيد العملي لتعاليمها. ومن ثم فإن الإساءة إلى الرسول لا يمكن إلا أن تعد إساءة للإسلام نفسه، والعكس صحيح بكل تأكيد.

وكأمثلة عارضة على ما تقدم، كان التنويري الفرنسي الشهير (فولتير) قد نشر في أواسط القرن الثامن عشر الميلادي كتاباً بعنوان: (التعصب أو النبي محمد) ، وصف فيه الرسول الكريم (صلی الله علیه و آله) بأوصاف سيئة جداً. وقبل ذلك بقرون، أي في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، كانت ملحمة (الكوميديا الإلهية) لكاتبها (دانتي أليغري) قد تطاولت على شخص رسول الإسلام وصورته بما لا يليق به. وهو ما كرر فعله قبل عدة سنواتالكاتب الهندي المرتد (سلمان رشدي) عندما نشر سنة 1988م روايته الشهيرة (آيات شيطانية) ، التي حظيت وصاحبها وما يزالان بدعم الغرب وحمايته وتكريمه، بدعوى الانتصار لحرية التعبير!.

وتأتي الرسومات الكاريكاتورية التي نشرتها صحيفة (يولاندز بوسطن) الدنماركية في الثلاثين من شهر أيلول عام 2005 لتضاف إلى قائمة الإساءات المتعمدة ضد الإسلام

ص: 526

ورموزه. فقد نشرت تلك الصحيفة 12 رسماً هزلياً للرسول محمد (صلی الله علیه و آله) ، وصفت من جانب الكثيرين بأنها في منتهى الصفاقة والانحطاط. (1)

وظاهرة "الإسلاموفوبيا" قد تجسّدت في أبشع صورها؛ إذ تخطت حدود الإساءة لمن يحمل لواء الإسلام، إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، إذ تعرض الرسول الكريم (صلی الله علیه و آله) إلى هجوم حاد وحملة حاقدة في الصحافة الدانماركية، والتي بدأت عندما أراد مؤلف كتب أطفال دانماركي أن يضع على غلاف كتابه صورة للرسول (صلی الله علیه و آله) ورفض رسام الكاريكاتير المكلف بإعداد الغلاف رسم هذه الصورة، فقرر المؤلف إقامة مسابقة لرسم الرسول، حيث تقدم لها (12) رسام كاريكاتير أرسلوا (12) صورة مسيئة لرسولنا الكريم· ولم تفوّت صحيفة (بيو لاندز بوستن) اليمينية المتطرفة والتابعة للحزب الحاكم هذه الفرصة، في التقاط هذه الصور ونشرها استهانة بمشاعر أكثر من مليار و (300) مليون مسلم، بالرغم من أن مسلمي الدانمارك والبالغ عددهم (200) ألف، (الإسلام هو الديانة الثانية في الدانمارك بعد المسيحية البروتستانتية) حاولوا الاحتجاج على القرار، وذلك عن طريق رفع مذكرة إلى الحكومة الدانماركية، إلا أن الجواب كان هو الرفض، وإصرار الحكومة على دعم حملة الهجوم تحت مسمى ''حرية التعبير''

بل كان الموقف الحكومي الدانماركي أكثر شراسة برفض المدعي العام تلبية طلب الجالية الإسلامية برفع دعوى قضائية ضد الصحيفة بتهمة انتهاك مشاعر أكثر من مليار مسلم في العالم، وقال المدعي العام الدنماركي: إن القانون الذي يُستخدم لتوجيه تهم بسبب انتهاك حرمة الأديان لا يمكن استخدامه ضد الصحيفة.

إن حالة العداء للإسلام والمسلمين في الدانمارك تجاوزت كل الخطوط؛ فهناك تعبئة عامة ضد الإسلام، على كافة المستويات بدءاً من التصريح الذي نقل على لسان ملكة الدانمرك (مارجريت الثانية) والذي قالت فيه: "إن الإسلام يمثل تهديداً على المستويين العالمي والمحلي"، وحثت حكومتها إلى "عدم إظهار التسامح تجاه الأقلية المسلمة"، انتهاءً بمواقع الإنترنت التي يطلقها دانمركيون أفراداً ومؤسسات خاصة، تحذر من السائقين المسلمين، لأنهم "إرهابيون وقتلة" مروراً بالحملة العامة في الصحف ومحطة التلفاز العامة التي أعلنت الحرب ضد الإسلام والمسلمين.

ص: 527


1- ينظر مقال: ظاهرة الإسلاموفوبيا قراءة تحليلية، مجلة ثقافتنا - العدد 12، خالد سليمان.

ولاشك أن هذه الإساءة الفجّة لنبي الإسلام تثير حفيظة كل مسلم، فقد قدم سفراء عدة دول عربية وإسلامية كباكستان، وإيران، والبوسنة والهرسك، وإندونيسيا في الدانمرك خطاب احتجاج لرئيس الوزراء (أندرس فو راسموسن) مطالبين فيه باعتذار رسمي للمسلمين، فيما رفضت الصحيفة تقديم أي اعتذارات محتجّة بأن ما نشرته يدخل في إطار حرية التعبير. (1)

ب/ إثارة النزاعات بين المسلمين:

ما انفكت الدول الغربية، وبخاصة الاستعمارية منها، تبدي حرصاً واضحاً على تسليط الأضواء على مواطن الاختلاف القائم على أسس دينية في العالم الإسلامي والعمل على تضخيمها وتطويرها إلى مستوى الخلاف، سعياً إلى إثارة الصراعات بين المسلمين أنفسهم من جانب، والمسلمين والأقليات غير المسلمة من جانب آخر. وفي هذا المقام، ربما كان بالإمكان استذكار الجهود الحثيثة التي بذلتها فرنسا في أوائل القرن الماضي لتمزيق وحدة لبنان وإذكاء نار الخلافات الدينية بين أبنائه، وذلك بعد تمكن الدول الاستعمارية من تشظية المشرق العربي إلى دويلات ضعيفة عقب توقيع معاهدة سايكس بيكو عام 1916، حيث غدا لبنان مسرحاً لتوازنات دينية وطائفية هشة، أثبتت الأيام قابليتها للانهيار وتفجير الصراعات الدموية أكثر من مرة. ويكاد المسلسل ذاته يتكرر في العراق تحت هيمنة قوات الاحتلال الأمريكي. إذ يقف العراق اليوم على شفير حرب أهلية طاحنة تعصف بعشرات الأبرياء من أبنائه كل يوم، مردها الخلافات الطائفية والمذهبية، التي يسهم الاحتلال الأمريكي بتحالفاته المغرضة وتوجهاته المنحازة لبعض الفئات على حساب فئات أخرى في تأجيج اشتعالها.

وفي ذات الإطار، يحسن التنبيه إلى البرامج الأكاديمية التي تحرص الدول الغربية على إنشائها وتطويرها في الجامعات والمراكز الأكاديمية والبحثية، التي تنصرف عناية جزء كبير منها إلى دراسة الاختلافات المذهبية والفرق الغالية التي تزعم انتماءها للإسلام - وهو منها براء - في محاولة لرمي الدين الإسلامي بما ليس فيه من التناقض والانفلات والشذوذ...الخ.

ص: 528


1- ينظر مقال: في الدانمارك (الإسلاموفوبيا) في أبشع صورها، مصري يوسف.

ج/ السعي إلى إخضاع بلاد المسلمين واحتلالها:

كانت حروب الفرنجة على العالم الإسلامي، التي سماها البعض حروباً صليبية، قد انطلقت بذريعة تحرير المدينة المقدسة، أي القدس، من أيدي المسلمين (الوثنيين) في زعمهم. والواقع إن المجازر التي ارتكبها (الصليبيون) في المدن الإسلامية خلال تلك الحملات قد لا تعكس مجرد الخوف المرضي من الإسلام وأتباعه، بل تعكس درجة متقدمة من الحقد والرغبة في الانتقام. وكأن في الانتقام الدموي البشع منالمسلمين ضرباً من ضروب التعويض عن الخوف المزمن منهم ومن دينهم. فقد روي عن أحد شهود العيان من رهبان الفرنجة الذين شهدوا احتلال (الصليبيين) لمدينة القدس سنة (492) ه- قوله: "كان قومنا يجوبون الشوارع والميادين وسطوح البيوت ليرووا غليلهم من التقتيل، وذلك كاللبؤات التي خطفت صغارها! كانوا يذبحون الأولاد والشباب، ويقطعونهم إرباً إرباً، وكانوا يشنقون أناساً كثيرين بحبل واحد بغية السرعة، وكان قومنا يقبضون كل شيء يجدونه فيبقرون بطون الموتى ليخرجوا منها قطعاً ذهبية، فيا للشره وحب الذهب، وكانت الدماء تسيل كالأنهار في طرق المدينة المغطاة بالجثث".

ويصف راهب آخر المجزرة نفسها دون أن يخفي شماتته بقوله: "حدث ما هو عجيب بين العرب عندما استولى قومنا على أسوار القدس وبروجها، فقد قطعت رؤوس بعضهم، فكان هذا أقل ما يمكن أن يصيبهم، وبقرت بطون بعضهم؛ فكانوا يضطرون إلى القذف بأنفسهم من أعلى الأسوار، وحرق بعضهم في النار؛ فكان ذلك بعد عذاب طويل، وكان لا يرى في شوارع القدس وميادينها سوى أكداس من رؤوس العرب وأيديهم وأرجلهم، فلا يمر المرء إلا على جثث قتلاهم، ولكن كل هذا لم يكن سوى بعض ما نالوا".

ويبدو أن تلك الروح (الصليبية) الحاقدة على الإسلام والمذعورة منه قد ظلت تتلبس العالم الغربي حتى أيامنا، وربما كان هذا يفسر جزءاً من الهوس الغربي بمحاربة المسلمين وإخضاعهم إلى هيمنته. فقد ظل العالم الإسلامي محط أنظار المطامع الغربية التي تقنعت خلف الرغبة في نشر رسالة المسيح وإنقاذ ذلك العالم من تخلفه وانحطاطه!. وهو ما ترجم على شكل عشرات الحملات والمؤامرات الاستعمارية التي انتهت باحتلال معظم أرجاء العالم الإسلامي وتمزيق وحدته.

ص: 529

وقبل ذلك بسنوات قليلة، وفي ظل الشعور المستمر بالتهديد المحتمل للإسلام، كانت بريطانيا قد دعت عام 1907 إلى تشكيل لجنة عليا تألفت من سبع دول استعمارية غربية، وذلك لمناقشة الخطر الذي تشكله الخلافة العثمانية الإسلامية على تلك الدول. وقد خلصت اللجنة إلى تقرير أكدت فيه أن مصدر الخطر الحقيقي على تلك الدول يتمثل في "الولايات العربية في الدولة العثمانية، وفي الشعب العربي المسلم الذي يعيش في تلك الولايات". وقد خلص التقرير المذكور إلى الخروج بجملة من التوصيات أبرزها:

1- العمل على خلق حالة من الضعف والتمزق والانقسام في المنطقة.

2- إقامة دويلات مصطنعة تتبع لتلك الدول الاستعمارية وتخضع لها.

3- محاربة أي شكل من أشكال الوحدة والاتحاد الروحي أو الثقافي أو التاريخي بين أبناء المنطقة.4- وكسبيل لتحقيق كل ذلك، ينبغي إقحام حاجز بشري غريب يتمتع بالقوة على المنطقة، بحيث يجسد قوة معادية لسكانها، تنسجم في مصالحها مع مصالح الدول الإستعمارية الراعية لذلك الكيان المختلق، الذي لعب دوره بإتقان مميز الكيان الصهيوني الغاصب.

وتتعدد الشواهد التي تؤكد استمرارية حضور الذهنية التي انطلقت منها (الحروب الصليبية) في أعماق الكثيرين من أبناء الغرب حتى عصرنا الحديث. فعلى سبيل المثال، عندما احتلت القوات البريطانية مدينة القدس سنة 1917 بقيادة الجنرال (اللنبي) الذي كان أول غربي يدخل المدينة منذ تحريرها على يد صلاح الدين الأيوبي، هتف (اللنبي) معلناً: "الآن انتهت الحروب الصليبية" (20). وعندما اجتاحت القوات الفرنسية مدينة دمشق بعد انتصارها في معركة ميسلون عام 1921، توجه قائد القوات الفرنسية الجنرال (غورو) إلى قبر صلاح الدين الأيوبي قائلاً "أنظر يا صلاح الدين ها قد عدنا". ويقال أن في جنوب فرنسا، وفي المكان الذي انطلقت منه الحروب الصليبية على وجه التحديد، جمعية تعقد اجتماعاً دورياً كل عام حتى يومنا هذا لاستحضار الأجواء التي احتضنت ولادة الحروب الصليبية، حيث يتم في الاجتماع إلقاء الخطب المحاكية لخطبة البابا (أوربان الثاني) الذي أعلن عن انطلاق تلك الحروب، كما يجري إعادة تمثيل انطلاق الحملة الصليبية الأولى.

ص: 530

وتشكل (زلة اللسان) الشهيرة للرئيس الأمريكي السابق (جورج بوش) التي انزلق فيها إلى القول بأن حربه على الإرهاب بعد تفجيرات الحادي عشر من أيلول هي (حرب صليبية) مؤشراً مهماً على استيطان فكرة الحروب الصليبية في أذهان كثير من رجال السياسة في العالم الغربي، وتعبيراً عن إرث غربي قديم يتم توارثه (23) ، وبخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية (24) ، التي شهدت بعد تلك التفجيرات استحضاراً صاخباً لتلك الفكرة (25). فعلى سبيل المثال، يجاهر القس الأمريكي (فيليب بينهام) بالدعوة عبر منابر الإعلام إلى إطلاق "الحملة الصليبية ضد الشر لإنقاذ الولايات المتحدة… عن طريق كشف كذبة اسمها الإسلام"

د/ تفعيل أنشطة التنصير:

ربما كان من الجائز القول إن هناك علاقة طردية بين ازدياد المخاوف الغربية من الإسلام وتصاعد وتيرة الأنشطة التنصيرية التي يلجأ إليها، وكأن في السعي إلى تنصير المسلمين وإدخالهم في "المحبة المسيحية" شكلاً من أشكال الحيل الدفاعية للتعويض عن كراهيتهم!. فعلى سبيل المثال، وقبل أن يمضي وقت طويل على جفاف حبر المعاهدة التي وقعتها مملكة إسبانيا مع الأمير (أبو عبد الله الأحمر) آخر أمراء غرناطة سنة 897ه-، تم إنشاء ما عرفت تاريخياً بمحاكم التفتيش، التي تورطت باقتراف كثير من الفظائع والمجازر بغية إجبار المسلمين على ترك دينهم واعتناق الديانة المسيحية. وكان أول ما قامت به تلك المحاكم هو جمع كلالمصاحف والكتب العلمية والدينية وإحراقها على الملأ في ساحة عامة، كخطوة أولى لتنصير المسلمين بقطع صلتهم مع كتبهم الدينية والتراثية والعلمية. ثم عمدت عقب ذلك إلى تحويل المساجد إلى كنائس، وإجبار من تبقى من الفقهاء وأهل العلم على التنصر، ليوافق بعضهم مكرهاً ويواجه بقيتهم القتل شر قتلة، مع التمثيل بجثث الضحايا، وذلك لبث الهلع في صفوف المسلمين وإيصال رسالة لهم مفادها التخيير بين التنصر أو التعذيب والقتل وسلب الأموال والممتلكات.

أما في عالم اليوم، فتشهد عملية التنصير نشاطاً محموماً في العالم الإسلامي، وبخاصة في البلدان الفقيرة التي تعاني من عدم الاستقرار السياسي، التي يؤمن الغرب أنها تشكل بيئة مناسبة لتفريخ ما درج على اعتباره إرهاباً. ففي أفغانستان وحدها على سبيل المثال، التي تولت الولايات المتحدة الأمريكية قيادة حملة عسكرية شعواء لإسقاط

ص: 531

نظام طالبان الإسلامي فيها بذريعة دعمه للإرهاب، هناك حالياً ما لا يقل عن (1000) منظمة أمريكية وأوروبية تعمل في مجالات الإغاثة والتنمية، يمارس كثير منها أنشطة تبشيرية مختلفة. الأمر الذي دفع القس (بن هومان) رئيس إرسالية التنصير المسيحي المجرية إلى أن يصرح في عام 2003، وبعد زيارة استطلاعية استغرقت شهراً كاملاً، عن اعتقاده بنجاح "عقيدة التثليث" في تثبيت أقدامها، وعن إمكان نجاح برنامج التنصير في أفغانستان.

وإن من أفضل السبل لمواجهة ظاهرة الخوف من الإسلام بعث الحياة في الجوانب الحضارية لذلك الدين، عبر إبراز أبعاده المشرقة وتجليتها للعالم، وفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، انطلاقاً من منطق المبادرة الفاعلة الواثقة بقوة هذا الدين وإمكاناته الرحبة غير المتناهية، وليس من منطق ردة الفعل الاعتذارية الخجولة، الذي يحكم حتى الآن تفاعل العالم الإسلامي مع معظم التحديات التي تعترض سبيل تقدمه!.

إن هناك حاجة ملحة للتعرف إلى الإسلام، من جانب أبنائه أولاً، تمهيداً لتعريف العالم به. وهذا يتطلب جهوداً حثيثة صادقة من لدن الحكومات الإسلامية لتعريف الناس بجوهر دينهم وتعاليمه الحقيقية. مع ما يرتبط بذلك من وجوب وضع تلك التعاليم موضع التطبيق الفعلي، سعياً إلى تجاوز حالة النفاق والتذبذب والتنافر المعرفي التي تعيشها المجتمعات الإسلامية، نتيجة التأرجح بين الإيمان بمبادئ عقدية وعدم القدرة على الالتزام السلوكي بها!. (1)

إن الإسلاموفوبيا هي إحدى جبهات الصراع والحرب التي يخوضها الغرب اليوم على الإسلام تحت إسم الحرب على الإرهاب. واقعُها ليس جديداً، ولكنها تتجدد اليوم بسبب يقظة الأمة الإسلامية وتَصاعُدِ وعيها على دينها، وعلى وجوب تطبيق شريعتها بواسطة دولة الخلافة، وعلى وجوب تحررها من الاستعمار الغربي،ومن الرأسمالية ونظمها في الحكم والاقتصاد، كالديمقراطية والاقتصاد الحر والحريات العامة وسائر أفكارها. هذا هو جوهر الموضوع ولبُّه. (2)

ص: 532


1- ينظر مقال: ظاهرة الإسلاموفوبيا قراءة تحليلية، مجلة ثقافتنا - العدد 12، خالد سليمان.
2- ينظر مقال: ماهي الإسلاموفوبيا ولماذا بحثها؟

الأفراد والجماعات الذين أمر الإسلام بمعاقبتهم أو معاملتهم بما يردعهم عن المنكر لتسببهم في زعزعة السِلم الاجتماعي:

اشارة

إن المخالفات الشرعية بطبيعة الحال علاوة على أنها معصية لله تعالى ومخالفه لحكمه سبحانه، فإنها في الكثير من الأحيان لا تضر الفرد نفسه فقط، بل تتسبب بأذية الأخرين، كظلمهم أو إخافتهم، أو إضلالهم عن دينهم أو سائر أنواع الاعتداء الجسدي أو المعنوي، وكل هذه النتائج السلبية، تؤدي إلى زعزعة أمن المجتمع وسلب حالة السلام والاستقرار منه، وهذا ما دعانا إلى التعرض لهذا الموضوع في هذا الكتاب. والدين الإسلامي، لأنه صادر من المشرع الإلهي الحق الحكيم، فهو دين كامل لا نقص فيه، ولا يوجد فيه أي تعد أو ظلم على حق أحد، لذا فيجب أن لا نستغرب من حزم الشريعة في انزال العقوبات التي نراها ظاهراً قاسية وشديدة بحق العصاة والمجرمين، بما لا يتناسب – حسب فهم البعض – مع عدالة الإسلام وسماحته ورأفته المعهودة. والجواب إن هذا الحزم والتخويف الشديد لمرتكبي الجرائم بحق الناس، هو لأجل منع مظاهر الظلم والتعدي على حقوق الآخرين، فإن النفس البشرية مفطورة على مبدأ الثواب والعقاب. وواحدة من سُبل تربية نفس الإنسان - الذي خلقه الله تعالى وهو يعلم ما يصلحه وما يضره - هي التلويح بالعقاب كجزاء عادل لمن يرتكب الجرائم والظلم بحق الآخرين. وهذه العقوبات الشرعية، تجعل الناس بمأمن من شرور المعتدين، وتخوف أصحاب النفوس الضعيفة من ممارسة المنكرات، وهتك الحرمات. وبذلك تكون الحدود الشرعية صمام أمان للمجتمع، وتحفظ حياتهم ودينهم وقيمهم الأخلاقية من السوء والتعدي.

وهذه الحقيقة المهمة أشار إليها المرجع اليعقوبي في إحدى خطاباته المباركة، قائلاً: (إن فرض عقوبات في حالات انتهاك القانون شيء مهم وضروري لاستقامة الحياة وردع المتجاوزين، وبدون وجود عقوبات فستحصل حالات التمرد وانتهاك حقوق الآخرين، قال الله تبارك وتعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وفي المثل السائر (من أمن العقوبة أساء الأدب)). (1)

ص: 533


1- خطاب المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج5، خطاب رقم: (189) ، بعنوان: (أعمال غسل العار بين الشريعة والقانون) .

وإذا ما ثبتت الجريمة على أحد الأفراد فإن تنفيذ العقوبة يكون بأرحم الطرق إذ يقول الإمام علي (علیه السلام) : (لا قود إلا بالاسل) ، والاسل هاهنا كل ما رق من الحديد وارهف كالسنان والسيف والسكين، وبعد تنفيذ العقوبة بالمجرم كان الإمام علي (علیه السلام) في بعض الحالات يصلي عليه بنفسه وكان يأمر دائماً أهل المتوفى بتجهيزه ودفنه بصورة لائقة ومساوية لموتى المسلمين ((1) ،كما إن الشريعة الإسلامية تتشدد في تحقيق العدالة وتؤكد على ضرورة توخي الدقة والمراجعة قبل إقامة الحد والقصاص. (2)

ومن ضمن التحصينات الوقائية التي اتخذتها الشريعة الإسلامية لكي لا يتورط أحد بالمعاصي وظلم الآخرين، ويقع في دائرة العقاب الشرعي، فقد ضعت لنا حاجزاً معنوياً ورادعاً ذاتياً قبل الرادع الجزائي في القضاء الاسلامي، وهي (الزواجر الاخلاقية) وهذا البعد الديني الغيبي قد يشكل رادعاً مهما، ولكن بالتأكيد ليس للجميع فهو غير مجد مع من امتهن الاجرام أو أعماه الطمع،فهناك من يكون (الصورة صورة انسان والقلب قلب حيوان) كما يصفهم الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) فيسعون لتحطيم الكيان البشري وقطع رسالته الحضارية فعندها يجب أن يتصدى لهم الإسلام مادياً وقانونياً وذلك هو العنصر القانوني المادي الخارجي. وبذلك تكون مسألة القصاص إجراء عملي للحد من المعاصي والإجرام، وهذا ما فسر الإمام علي (علیه السلام) بعض ابعاده بقوله: (فرض الله سبحانه القصاص حقنا للدماء) كما أن عملية القصاص تُعد زجراً للآخرين وتخويفاً لهم من ممارسة الظلم والجريمة، وأيضاً تطهيراً للمجتمع من الجريمة التي يضطرب فيها النظام العام ويختل بها. (3)

ومما تجب الإشارة إليه هنا أيضاً هو إن تنفيذ هذه الأحكام القضائية في الدين الإسلامي، موقوفة ولا تنفذ إلا في الدولة الإسلامية المبسوطة اليد في تطبيق هذه الأحكام. وإذا طُبقت هذه العقوبات فإنها تتناسب مع المخالفة بلا إفراط ولا تفريط، وهو

ص: 534


1- كان الامام علي (علیه السلام) ، يحترم الموتى ويأمر بدفنهم وفق الشريعة الاسلامية او بأي طريق لائق اذا لم يكونوا مسلمين وذلك اكراماً للإنسان حتى بعد موته، ينظر في هذه الاحكام عن الامام علي (علیه السلام) ، حسن القبانجي، م4، ص139 – 173.
2- حقوق الإنسان عند الامام علي بن ابي طالب (علیه السلام) ،رؤية علمية، الدكتور غسان السعد، ص81.
3- المصدر نفسه، ص68-69. بحذف وتصرف.

مقتضى العدالة التي ينبغي العمل بها. مضافاً إلى هذا كله فإن باب التوبة مفتوح، والشريعة تتعامل برأفة ورحمة كبيرة مع التائب الذي تورط بارتكاب المحرمات والمخالفات الشرعية. وقد ورد في الرواية الشريفة: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له).وفيما يلي نستعرض بعض النماذج من الأحكام الشرعية القضائية بحق المخالفين للشريعة الإسلامية السمحاء، مع بيان نوع الجُرم المرتكب (1). وقبل ذلك ينبغي أن تعلم إن أسباب الحد الشرعي (2) في الإسلام عديدة ومنها: الزنا واللواط والمساحقة، وما يتبع ذلك، والقذف وشرب الخمر والسرقة وقطع الطريق والارتداد والافساد في الارض، وإن أسباب التعزير (3)

عديدة أيضاً ومنها: البغي وإتيان البهيمة وشهادة الزور وبيع الخمر وافتضاض المرأة حراماً، وغير ذلك. حتى إنه ورد: (إن التعزير على ارتكاب أي محرم) :

1- الارتداد:

اشارة

المرتد (4) الفطري (5) ، يجب قتله، وتبين منه زوجته، وتعتد عدة الوفاة، وتقسم امواله الموجودة في ملكه حال ردته، تقسم بين ورثته. ولا تقبل توبته ظاهراً، وان كان الارجح قبولها باطناً.

أما المرتد الملي (6) فيستتاب. فإن تاب خلال ثلاثة أيام، فهو، والا قتل في اليوم الرابع. ولا تزول عنه املاكه، ولا تقسم بين ورثته، وينفسخ العقد بينه وبين زوجته، وتعتد عدة المطلقة ان كان مدخولاً بها.

أحكام خاصة حول الارتداد:

المرأة المرتدة عن فطرة أو عن ملة، لا تقتل ولا تنتقل أموالها عنها إلا بالموت.

ص: 535


1- اعتمدنا في ذلك على رسالة منهج الصالحين للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وللمزيد من التفاصيل راجع كتاب الحدود والتعزيرات.
2- وهي كل عقوبة مقدرة شرعاً.
3- وهي كل عقوبة ثابتة شرعاً وغير مقدرة قطعاً، بل موكول أمرها إلى الحاكم.
4- المرتد: هو من خرج عن دين الاسلام بعد أن كان فيه. وهو على قسمين باعتباره مسلماً اصلياً أو غيره.
5- المرتد الفطري وهو من بلغ مسلماً ثم أرتد.
6- المرتد الملي: هو من انعقدت نطفته وكلا أبويه كافرين, ثم أسلم قبل بلوغه أو بعده. ثم ارتد بعد بلوغه. فرجع إلى دينه السابق أو إلى دين آخر.

وينفسخ نكاحها. فان كانت مدخولا بها اعتدت عدة الطلاق. والا بانت بمجرد الارتداد. وتحبس ويضيق عليها وتضرب في اوقات الصلاة حتى تتوب. فإن تابت قبلت توبتها.

لا يجوز للمسلمة المرتدة أن تنكح المسلم. وكذا لا يجوز للمسلم المرتد أن ينكح المسلمة.

لا يجوز للمسلمة ان تنكح غير المسلم مطلقاً، اصلياً كان أم مرتداً، كتابياً كان أم غيره، وكذا من حكم بكفره من فرق المسلمين على الأحوط.

إذا ارتد أحد الزوجين قبل الدخول انفسخ الزواج في الحال. وكذلك بعد الدخول اذا ارتد الزوج عن فطرة.لو أسلمت الكتابية دون زوجها قبل الدخول انفسخ العقد وإذا أسلمت بعد الدخول يقف على انقضاء العدة.

يجوز تزويج المرتد بقسميه بالمسلمة، ولكنه شديد المرجوحية، فهو بحكم الإسلام من هذه الناحية. ولا يفرق في ذلك بين المسلمة وغيرها.

2- الزنا:

قبل أن نتطرق للأحكام الشرعية التي تنص على معاقبة من يرتكب هذه الفاحشة، ينبغي أن نشير على مسألة مهمة، وهي (إن الشريعة المقدسة فرضت قيوداً شديدة لإثبات حالة الزنا ومنها شهادة أربعة من الرجال المنزهين عن أي دوافع شخصية غير الشهادة بالحق ويشهدون على رؤيتهم نفس الحالة المعروفة وليس أنهم رأوا مقدماتها أو ملابستها، وهذه الشروط لا تحقق إلا نادراً للسرية التي تحاط بها العملية فكان هدف الإسلام هو الستر على من يمر بحالة ضعف أمام شهوته الجنسية ويرتكب هذا الفعل الشنيع الذي وصفه القرآن الكريم بأنه (كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً). وقد توصل العلم الحديث إلى معنى سوء السبيل هذا حيث يتسبب الزنا وكل الممارسات الجنسية غير المشروعة في كوارث صحية واجتماعية على رأسها مرض الإيدز الفتاك). (1)

ومع ذلك فإن باب التوبة مفتوح للمذنبين في شريعة الله السمحاء، ويجب التعامل معهم برفق ورحمة ومداراة، قال تعالى حول حكم النساء اللواتي يرتكب فاحشة الزنا ثم يتُبن من

ص: 536


1- خطاب المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج5، خطاب رقم: (189) بعنوان: (أعمال غسل العار بين الشريعة والقانون) .

ذلك: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا). (1)

وهذه بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بمرتكبي فاحشة الزنا:

من زنى بذات محرم له، كالأم والبنت والاخت، وما شاكل ذلك، يقتل بالضرب بالسيف في رقبته، ولا يجب جلده قبل قتله. ولا فرق في ذلك بين المحصن وغيره، والحر والعبد، والمسلم والكافر، والشاب والشيخ على الأحوط وجوباً، كما لا فرق في هذا الحكم بين الرجل والمرأة إذا تابعته.

وأن الضربة يجب ان تكون قوية، كما يجب ان تكون واحدة، ولا يجوز ان تتكرر على الأحوط وجوباً، فان بقي حياً بعدها أطلق سراحه.

إذا زنى الكافر بمسلمة، قتل حتى وإن كان كتابياً، وحتى إن كانت المسلمة مطاوعة له.

إذا زنى رجل بامرأة كرهاً فحكمه القتل. من دون فرق في ذلك بين المحصن وغيره.إذا زنا الشيخ الكبير المحصن بامرأة من غير المحارم، فحكمه أن يجلد ثم يرجم، وكذلك الشيخة اذا كانت محصنة. وأما إذا لم يكونا محصنين فيجلدان فقط. وأما إذا كان الزاني شاباً او شابة، فانه يرجم اذا كان محصناً، ويجلد اذا لم يكن محصناً.

لا تجلد المستحاضة وكذا الحائض والنفساء حتى ينقطع الدم، فاذا انقطع جلدت.

لا يجلد المريض الذي يخاف عليه الموت، حتى يبرأ. ومع اليأس من البرء، يضرب بالضغث ((2) المشتمل على العدد مرة واحدة. او المشتمل على نصف العدد مرتين.

ص: 537


1- النساء (15-16) .
2- [ ([1]) ] الضغث: [التباس الشيء بعضه ببعض, وضغث : قبضة من قبضات مختلفة يجمعها اصل واحد, وقيل درن الحزمة, وقيل الحزمة من الحشيش, قدر القبضة مختلطة الرطب باليابس [خذ بيدك ضغثاً فاضرب به] يقال كان حزمة من اسل] لسان العرب، ج 2 ص163.

ولا يعتبر وصول كل شمراخ (1) إلى بدنه.

لو زنى شخص مراراً، وثبت ذلك، بالاقرار او البينة، حد حداً واحداً، الا ان يصبح ممن يريدون اشاعة الفساد في الارض او اشاعة الفاحشة. فيحد بالحد الخاص به، وهو الصلب مع قطع اليد والرجل من خلاف.

اذا كانت المزني بها حاملاً، فان كانت محصنة تربص بها، حتى تضع حملها، وترضعه اللباء، ثم ترجم. وإن كانت غير محصنة، أقيم عليها الحد، إلا اذا خيف على ولدها.

ينبغي إعلام الناس لحضور اقامة الحد. بل الظاهر وجوب حضور طائفة لإقامته، بنحو الوجوب الكفائي، ولا يقام الحد في شدة الحر، ولا في شدة البرد. ويتوخى به في الشتاء وسط النهار، وفي الصيف طرفاه.

3- اللواط:

يقتل اللائط المحصن وإن كان غير محصن على رأي المشهور، ويقتل الملوط به مطلقاً، محصناً كان أم غير محصن، ولا قتل على المجنون ولا على الصبي، فاعلا كان أم منفعلا.

4- المساحقة:

المساحقة أو السحاق: هي وضع الفرجين الانثويين فوق بعضهما، تحصيلاً للذة، وحد المساحقة إذا كانت المرأة غير محصنة مائة جلدة، ويستوي في ذلك المسلمة والكافرة والفاعلة والمنفعلة. وأما إذا كانت أحداهما صبية، فتؤدب. وإذا كانت إحداهما مجنونة، فلا شيء عليها.

4- القيادة:

القيادة يراد بها هنا : الجمع بين الرجال والنساء للزنا، وبين الرجال والرجال او الصبيان للواط، وبين النساء للمساحقة، المشهور انه يضرب القواد ثلاثة ارباع حد

ص: 538


1- الشمراخ: العثكال الذي عليه البسر , واصله واصله في العذق وقد يكون في العنب. الشمروخ : غصن دقيق رخص ينبت في اعلى الغصن الدقيق. لسان العرب ج 3 ص31. شمرخ: عرجون فيه مئة شمراخ , الشمراخ في الكسر والشمروخ يضم العثكال, وهو ما يكون فيه الرطب والجمع شماريخ. [مجمع البحرين ج 2 ص541].

الزاني، خمسة وسبعون سوطاً. وينفى من مصره. وقيل : يحلق ويشهر.

5- محاربة الناس أو إخافتهم:

من شهر السلاح لإخافة الناس المسلمين ونحوهم (وهم الاطفال والذميون) نفي من البلد. ان لم يحصل منه سوى الاخافة، ولا يشمل ذلك كل من: الضعيف الذي لا يؤدي خروجه الى اخافة الناس. ولا الصغير ولا المجنون، ولا اللاعب، ولا من حمل سلاحه للدفاع عن نفسه او عن اي حق، ولا غير القاصد للإخافة، وان حصل ذلك فيه، ومن شهر سلاحه فاعتدى على الاخرين بغير حق، اقتص منه. ثم نفي الى خارج البلد إن بقي حياً.

6- قذف الآخرين بالزنا:

يراد بالقذف اتهام الغير على وجه اليقين بالزنا أو اللواط. وحد القذف ثمانون سوطاً، وإن كل فحش نحو : يا ديوث. او تعريض بما يكرهه المخاطب. ولم يفد القذف في عرفه ولغته، يثبت به التعزير لا الحد. ونحوه قوله : انت ولد حرام، او يا ولد الحرام، او يا ولد الحيض، او يا فاسق، أو يا فاجر، او يا شارب الخمر، او ان يقول لزوجته : ما وجدتك عذراء.

7- شرب المسكر:

من شرب المسكر او الفقاع مع الاختيار والعلم بالحكم والموضوع والبلوغ والعقل، وجب عليه الحد. سواء كان مسكراً فعلا أم لا، سواء شرب منه قليلا او كثيراً. وحد الشرب ثمانون جلدة، سواء كان الشارب رجلا أم امرأة.

8- السرقة:

يعتبر في وجوب حد السارق عدة أمور منها البلوغ والعقل وعدم الاضطرار والاكراه، وأن يكون المال المسروق بمقدار ربع دينار ذهبي مسكوك فأكثر، أو بقيمته من أي عملة كانت، وتوجد شروط وتفاصي أخرى نعرض عن ذكرها طلباً للاختصار، وحد السارق مع اجتماع الشرائط السابقة، وكانت السرقة هي الاولى. بمعنى انه لم يسبق له اقامة الحد. فالحد يكون بقطع الاصابع الاربع من اليد اليمنى، وتترك له الراحة والابهام. ولو سرق ثانياً، قطعت قدمه اليسرى وترك له العقب. وان سرق ثالثة حبس دائماً وأنفق عليه من بيت المال. وان سرق رابعة، ولو في السجن، قتل.

ص: 539

9- حدود شرعية أخرى:

لا بأس بضرب الصبي تأديباً من قبل وليه، خمساً أو ستاً مع رفق. وأما غير الولي، فلا يجوز اكثر من ثلاث تأديباً. واما لغير التأديب فلا يجوز مطلقاً لأي فرد ولياً كان ام غيره، وإلا استحق القصاص.

من اطلع على قوم في دارهم لينظر إلى ما لا يحل له النظر اليه، فلهم زجره. فلو توقف ذلك على أن يفقؤا عينه او يجرحوه فلا دية عليهم.

كما إن النصوص الدينية في القرآن الكريم والسُنة الطاهرة تصرح بمهدورية دم عدة أشخاص منهم:

الكافر الحربي: حيث جاء في القرآن الكريم قوله سبحانه وتعالى: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) (1) الشامل بإطلاقه جميع حالات المأمور بقتلهم سواء كانوا ملتفتين أو غافلين، مجاهرة أو سراً.

مَن يسب شخص النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله). وعند الإمامية على رأي بعض الفقهاء يلحق سب الأئمة المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) والسيدة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) بسب شخص النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) ولا يحتاج جواز قتله إلى الإذن من الحاكم الشرعي.

مدعي النبوة، فمن ادعى النبوة وجب قتله مع التمكن وأمن الضرر، من دون حاجة إلى اذن الحاكم الشرعي.

ساحر المسلمين. فمن امتهن السحر من المسلمين، يقتل. دون من تعلمه أو عمله قليلاً ولكنه يعزر. وأما من امتهن السحر من الكفار، فان كأن جائزاً في دينه لم يقتل، وأما اذا لم يكن جائزاً في دينه قتل. والكلام هنا في الكافر.

المرتد الفطري.

الغُلاة والدعاة إلى البدع.

قاتل المؤمن عمداً فيقتل قصاصاً.

نعم، إن بعض قتل هؤلاء يرجع إلى الحكومة الإسلامية، فيُقتل بعد أن يثبت جرمه، وهكذا بالنسبة إلى الموارد التي ينهى فيها الحاكم الإسلامي من موقع الحكومة الشرعية –

ص: 540


1- البقرة (191) .

عدم إقدام آحاد المسلمين على سفك دماء المهدور – وفي غير تلك الموارد يجوز الإقدام على قتلهم مطلقاً سواء كان مجاهرة او سراً). (1)

وهذه عدة نماذج من الشخصيات التي أهدرت دمائهم من قِبل النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) والأئمة المعصومين (علیهم السلام) :

الأسود العنسي:

واسمه عيهلة بن كعب بن عوف، وكان يلقب بذي الخمار، لأنه يضع خماراً على وجهه، وكان كاهناً يشعبذ ويري الناس الأعاجيب، وقد حظيت حركة الأسود العنسي مدعي النبوة في اليمن بتأييد واسع، وبخاصة أنها نحت اتجاهًا قوميًا، فأرسل النبي (صلی الله علیه و آله) الرسل إلى اليمن يأمر اليمنيين بالقضاء على الأسود العنسي، ويستنهضهم للمواجهة الذاتية معه، ومعنى هذا أنه (صلی الله علیه و آله) لم يرسل جيوشًا من المدينة للقضاء عليه، وإنما اعتمد على القوى المحلية، كما أرسل إلى عماله في تلك الجهات يحثهم على الاستعانة بالثابتين على الإسلام، والصمود أمام المنشقين، والقضاء على رءوس الفتنة، وقد تم قتله والقضاء عليه.

كعب بن الأشرف اليهودي:

إن اليهود كانوا يتوقعون أن يستأصل المشركون شأفة المسلمين والإسلام، وكان لانتصار المسلمين في بدر وقع الصاعقة عليهم، وثارت ثائرتهم، وطاشت عقولهم، ولما أصيب المشركون في بدر؛ بلغ ذلك كعب بن الأشرف، وكَبُر عليه قتل من قتل في بدر، وبكاهم، وهجا النبي ((صلی الله علیه و آله)) وأصحابه في شعره، وكان يشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم، فسار إلى مكة، وحرّض على رسول الله ((صلی الله علیه و آله)) ، ولم يخرج من مكة حتى أجمع أمرهم على حرب رسول الله، فلما عاد إلى المدينة، قال رسول الله ((صلی الله علیه و آله)) : من لي بابن الأشرف؟ فانتدب له (صلی الله علیه و آله) من يقتله، وإن قتل كعب بن الأشرف كان فيه عزة للمؤمنين، وانكسرت بقتله شوكة اليهود الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر ويحيكون المؤامرات ضدهم،

ص: 541


1- الإرهاب والعنف في ضوء القرآن والسنة والتأريخ والفقه المقارن، الشيخ محسن الحيدري، ج2، ص164 – 165. بتصرف وإضافة.

أبو رافع بن أبي الحقيق اليهودي:

وهو من زعماء يهود بني النضير الذي أقاموا في المدينة بعد أن أجلاهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) لإفسادهم في المدينة ونقضهم العهود والمواثيق التي أبرموها مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكان أبو رافع سلام بن الحقيق يظاهر ابن الأشرف في معاداته للنبي (صلی الله علیه و آله) ويؤذيه ويهجوه ويبغي عليه، هو من أكابر مجرمي اليهود الذين حزبوا الأحزاب، وأعانهم بالمؤن والأموال الكثيرة ضد المسلمين، فنال نفس مصير صاحبه المجرم إبن الأشرف.

فارس بن حاتم القزويني المبتدع:

وهو رجل فاسق ومنحرف، ويتكلم بكلام خبيث ويضل الناس، ويحرفهم عن دينهم، وقد لعنه الإمام الهادي (علیه السلام) وأمر بقتله، فقد جاء في كتاب من قِبل الإمام الهادي (علیه السلام) لأحد أصحابه في أمر فارس المبتدع: (..فجد وشد في لعنه وهتكه وقطع أسبابه، وصد أصحابنا عنه، وإبطال أمره، وأبلغهم ذلك مني، واحكه لهم عني، وإني سائلكم بين يدي الله عن هذا الأمر المؤكد، فويل للعاصي وللجاحد). وهناك عدة روايات واردة عنالإمام الهادي (علیه السلام) حول هذه الشخصية الضالة، التي حذر الناس منها وأمرهم بتسقيط شخصيته في المجتمع، لكي يأمنوا شره وضلاله، نذكر منها ما يلي:

كتب عروة إلى أبي الحسن (علیه السلام) في أمر فارس بن حاتم، فكتب: كذبوه واهتكوه، أبعده الله وأخزاه، فهو كاذب في جميع ما يدعي ويصف، ولكن صونوا أنفسكم عن الخوض والكلام في ذلك، وتوقوا مشاورته، ولا تجعلوا له السبيل إلى طلب الشر، فكفانا الله مؤونته ومؤونة من كان مثله.

وعن محمد بن عيسى بن عبيد: أن أبا الحسن العسكري (علیه السلام) أمر بقتل فارس بن حاتم وضمن لمن قتله الجنة، فقتله جنيد، وكان فارس فتاناً يفتن الناس ويدعوهم إلى البدعة، فخرج من أبي الحسن (علیه السلام) : هذا فارس لعنه الله يعمل من قبلي فتاناً داعياَ إلى البدعة، ودمه هدر لكل من قتله، فمن هذا الذي يريحني منه ويقتله، وأنا ضامن له على الله الجنة.

وعن جنيد قال: أرسل إلي أبو الحسن العسكري (علیه السلام) يأمرني بقتل فارس بن حاتم لعنه الله...فصرت إليه، فقال (علیه السلام) : آمرك بقتل فارس بن حاتم، فناولني دراهم من عنده وقال (علیه السلام) : اشتر بهذه سلاحاً فاعرضه علي، فاشتريت سيفاً فعرضته عليه،

ص: 542

فقال (علیه السلام) : رد هذا وخذ غيره، قال: فرددته وأخذت مكانه ساطوراً، فعرضته عليه، فقال (علیه السلام) : هذا نعم، فجئت إلى فارس، وقد خرج من المسجد بين الصلاتين المغرب والعشاء، فضربت على رأسه فصرعته، فثنيت عليه فسقط ميتاً، ووقعت الضجة، فرميت الساطور من يدي واجتمع الناس، وأخذت إذ لم يوجد هناك أحد غيري، فلم يروا معي سلاحاً ولا سكيناً، وطلبوا الزقاق والدور فلم يجدوا شيئاً، ولم يروا أثر الساطور بعد ذلك.

ومما يُذكر في هذا السياق أن الإمام الصادق (علیه السلام) أمر بقتل رجل يدعى (بزيع) لأنه ادعى النبوة، فعن ابن أبي يعفور، قال: قلت لأبي عبدالله (علیه السلام) : (إن بزيعاً يزعم أنه نبي، فقال (علیه السلام) : إن سمعته يقول ذلك فاقتله، قال: فجلست إلى جنبه غير مرة فلم يمكني ذلك). (1) وفي رواية أخرى نقلاً عن نفس الراوي تُبين مصرع مدعي النبوة هذا، عن ابن أبي يعفور، قال: دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام). فقال: ما فعل بزيع؟ فقلت له: قتل، فقال: الحمد لله، أما إنه ليس لهؤلاء المغيرية شيء خير من القتل لأنهم لا يتوبون أبداً.

كما وردت روايات عامة عن النبي وأئمة أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) تهدر دم المنحرفين عقائدياً، نذكر منها:عن النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) : (أيها الناس إنه لا نبي بعدي، ولا سنة بعد سنتي، فمن ادعى ذلك فدعواه وبدعته في النار فاقتلوه، ومن تبعه فإنه في النار، أيها الناس أحيوا القصاص، وأحيوا الحق لصاحب الحق ولا تفرقوا، وأسلموا وسلموا تسلموا (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز). (2)

وعن الإمام أبي جعفر (علیه السلام) أنه قال في وصيته لأبي جعفر محمد بن النعمان: يا ابن النعمان، إنا أهل بيت لا يزال الشيطان يدخل فينا من ليس منا، ولا من أهل ديننا، فإذا رفعه ونظر إليه الناس، أمره الشيطان فيكذب علينا، فكلما ذهب واحد جاء آخر إلى أن قال فإن المغيرة بن سعيد كذب على أبي وأذاع سره، فأذاقه الله حر الحديد، وإن أبا الخطاب كذب علي وأذاع سري، فأذاقه الله حر الحديد.

ص: 543


1- الوسائل، العلامة الحر العاملي، ج28، ص 337.
2- المصدر نفسه.

عن الإمام الرضا (علیه السلام) : وشريعة محمد (صلی الله علیه و آله) لا تنسخ إلى يوم القيامة، ولا نبي بعده إلى يوم القيامة، فمن ادعى بعده نبوّة أو أتى بعده بكتاب فدمه مباح لكل من سمع منه.

وعن الإمام العسكري (علیه السلام) كتب إلى بعض أصحابنا في كتاب في حق الغلاة، قال (علیه السلام) : وإن وجدت من أحد منهم خلوة فاشدخ رأسه بالصخرة). (1)

ويُعلق السيد هاشم معروف الحسني على هذه الروايات الشريفة، مُبيناً السبب في اتخاذ المعصومين (علیهم السلام) لهذه الإجراءات الصارمة تجاه هؤلاء المنحرفين الضالين، قائلاً: (مما لا شك فيه أن الأئمة (علیهم السلام) كانوا يحرصون بكل ما يملكون من قوة وبيان على أن يجعلوا من أصحابهم وشيعتهم ومن يتصل بهم دعاة حق وخير، يمثلون الإسلام، ويجسدون تعاليمه بأفعالهم قبل أقوالهم، كما كانوا يحرصون على تنزيه تعاليم الإسلام من التشويه والتحريف والافتراء، وعلى أنهم عبيد الله لا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم ضراَ، ولا أن يجلبوا لها خيرا إلا بمشيئة الله، وقد تعرضوا في حياتهم لظلم الحكام واضطهادهم، ولما يمكن أن يتعرض له كل إنسان من البلاء وأنواع التقلبات، وعاشوا مع الناس كغيرهم من الناس، ولعنوا من قال فيهم ما لم يقولوه في أنفسهم، ومن نسب إليهم علم الغيب والخلق والرزق وكل ما هو من خصائص الخالق وصفاته، ومع ذلك فقد أضاف إليهم بعض المحبين والمبغضين ما ليس بهم، وأظهر الغلو فيهم أناس عن سوء نية، ولكنهم وقفوا للجميع بالمرصاد، فلعنوا المغالين وتبرأوا منهم، وأعلنوا للناس ضلالهم وجحودهم، وأمروا محبيهم بالاعتدال، ومبغضيهم بالرجوع إلى وصايا نبيهم (صلی الله علیه و آله) في أهل بيته وعترته، وخرجوا من هذه الدنيا وهم من أنصح خلق الله لخلقه، وأحرصهم على دينه وشريعته، وأصبرهم على بلائه، وأخوفهم من سخطه وعقابه.ومما ينبغي الالتفات إليه أن النبي الأعظم والأئمة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) لا يأمرون بقتل أحد إلا إذا اقتضت الضرورة لذلك، ولم تترتب عليه أي مفسدة للمسلمين ولم تكن مندوحة عن ذلك مثل ما إذا أمكن هداية ذلك الشخص المنحرف، وأما إذا امكن ذلك فلا يسمحون لأحد اقتراف القتل، وإن كان ذلك الشخص المهدور الدم ويستحق القتل، وكذلك إذا كان في قتله مفسدة على المؤمنين. وبعبارة

ص: 544


1- المصدر نفسه.

أخرى يعتبر تنفيذ حكم الإعدام على من يستحقه بعنوان (آخر الدواء الكيّ) كما إنهم لا يرضون لمن يقوم باغتيال المستحق لذلك من دون إذن شرعي). (1)

والسيرة العطرة للنبي الأكرم والأئمة الأطهار (عليهم الصلاة والسلام) مليئة بهذه الشواهد التأريخية.

وقد يتخيل البعض أن الاغتيالات التي تحدثنا عنها لا تناسب ما ورد من أن الإسلام قيد الفتك، فلا يفتك مؤمن، ولكن الحقيقة هي إن المقصود بالفتك هو القتل غدراً لمن يكون في أمن من ناحيتك. والغدر أعم من الفتك، وثمة رواية تفيد: أن الفتك لا يجوز إلا بإذن الإمام (علیه السلام) وذلك لأن الفتك لو شاع لانعدم الأمن، وسلبت الراحة من كل أحد، وليس الأمر بالنسبة لليهود كذلك، لأنهم كانوا قد عاهدوا النبي الأكرم ((صلی الله علیه و آله)) : أن لا يحاربوه ولا يظاهروا عليه عدوه، وهؤلاء هم الذين آذوا المسلمين، وهجوهم، وحرضوا المشركين عليهم، وناحوا على قتلى بدر، بل ذهب ابن الأشرف إلى مكة للتحريض عليهم، وشبب بالنساء المسلمات، وحتى بنساء رسول الله ((صلی الله علیه و آله)) إلى آخر ما تقدم، إذاً، فقد صار هؤلاء من أظهر مصاديق (المحاربين) ، وناقضي العهود، ولا بأس بالخدعة على المحارب لقتله؛ فإن (الحرب خدعة).

ص: 545


1- الإرهاب والعنف في ضوء القرآن والسنة والتأريخ والفقه المقارن، الشيخ محسن الحيدري، ج2، ص177.

نماذج من رواد التعايش السلمي والتقريب المذهبي

يحفل التأريخ الإنساني بالكثير من رواد التعايش السلمي ورجالات التقريب المذهبي من العلماء والمفكرين والدعاة الواعين الرساليين، الذين حملوا هموم دينهم وأوطانهم، وكافحوا الصعاب، التي تقف في وجه الوحدة الدينية والمذهبية والقومية والوطنية، ووقفوا سداً منيعاً ضد رياح التضليل والتفرقة والتشتت التي تعصف بالأمم، لا سيما الأمة الإسلامية، جراء المخططات الاستكبارية التي تحاك في الخفاء، للإطاحة بعزة الشعوب وهيبتها، وللسيطرة على مقدراتها وعلى عقول أبنائها. ومن بين الجهود المشرقة التي يُشار لها بالبنان في ميدان التقريب بين المذاهب الإسلامية، هو تأسيس ثلة من علماء الدين المسلمين لدار التقريب، فإن هذه المحاولة الرائدة تُعد (إحدى أهم التجسيد العلمي للفكر الإصلاحي لعلماء الشيعة، بعد أن شخصوا ما كانت تعانيه الأمة الإسلامية من عوامل التدهور الكثيرة، كالجهل والمرض والتخلف والسيطرة الأجنبية. لكن الانقسام بين المسلمين يأتي بوصفه أهم تلك العوامل وأشدها خطراً، لأنها تمزق جسد العالم الإسلامي وتسهم في تضييع جهود بناءه وتبديد ثرواته وانشغال أبناءه في نزاعات جانبية لا تستفيد منها سوى القوى الاستعمارية الجاثمة على صدور المسلمين والمشجعة على تعميق الخلافات وتأجيجها). (1)

وإذا أردنا أن نُعرف بوضوح معالم هذه الدار، فهي بالحقيقة، جمعيّة ورابطة تضم مجموعة من علماء المسلمين من مختلف الطوائف الإسلامية بهدف التقريب بين المذاهب الإسلامية. تأسست الدار في سنة 1947 م على يد عدد من العلماء في القاهرة وكان من أبرزهم الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر، والشيخ محمد تقي القمّي نائباً عن آية الله البروجردي. ولقد تعرّضت فكرة التقريب إلى مصاعب وتحديات، كما أشار إلى ذلك الشيخ محمود شلتوت. وأصدرت الدار مجلة رسالة الإسلام والتي صدر العدد

ص: 546


1- ينظر الشيخ محمد جواد مغنية وآراؤه الإصلاحية التقريب بين المذاهب الإسلامية انموذجاً، علي عبد المطلب علي خان المدني.

الأول منها سنة 1949، واستمرت في الصدور حتى وصلت إلى العدد ستين الذي صدر سنة 1972م، ثم تدخلت بعض الأحداث فأدت إلى إغلاق الدار عام 1979. وواصل بعض العلماء والمفكرين الحريصين على فكرة التقريب عملهم تحقيقاً للهدف الأسمى من وحدة المسلمين فشهدت كثير من العواصم الإسلامية مؤتمرات تدعو إلى وحدة الأمة الإسلامية وذلك من خلال التقريب بين المذاهب الإسلامية، فأقام المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية مؤتمراً دولياً سنوياً في العاصمة الإيرانية طهران (حيث بلغ عدد المؤتمراتحتى الآن في طهران ثمانية عشر مؤتمراً في هذا الموضوع). كما عقدت مؤتمرات أخرى في الموضوع نفسه في كل من الرباط وكوالالمبور والجزائر العاصمة والمنامة.

وقبل أن نذكر ترجمة العلماء الناشطين في هذا المجال، ينبغي أن ننوه إلى أن الرواد الحقيقيين والأوائل في هذا الميدان هم الأنبياء والأوصياء (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين). أما بخصوص سيرة نبينا الكريم محمد (صلی الله علیه و آله) ، فقد عقدنا في هذا الكتاب سلفاً باباً بينا فيه سيرته العطرة في هذا المجال. ومما يذكر عن سيرة النبي عيسى (علیه السلام) في منهجيته الرائدة لتأصيل مبدأ التعايش السلمي فهو نار على علم، وهي منهجية حياتية يُقتدى بها فمن أقواله الشريفة التي تصب في رافد هذا الموضوع قوله (علیه السلام) : (كونوا كالشجرة، ترمى بالحجرة فترمي بالثمرة). وقوله (علیه السلام) للخنزير عندما رأه: (مرّ بسلام).

أما علمائنا العلام فقد كانوا قادة في ميدان التعايش السلمي، وقد اتبعوا آثار الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام). ونذكر على سبيل المثال إنه (قد نقل العلامة المجلسي (رحمه الله) عن السيد ابن طاووس (رحمه الله) في أعمال ليلة القدر، فقال: نظرت في نفسي وقلت: أي الأعمال أؤدي؟ وأي دعاء وأية عبادة أقوم بها في ليلة القدر؟ أدعوا للفقراء بالغنى؟ أم للمرضى بالشفاء؟ أم للمؤمنين بقضاء الحوائج؟ فرأيت أن الفقراء يعيشون فقرهم وهو ليس أمراً أبدياً وأن الله تعالى يمتحنهم به، والمرضى بدورهم ممتحنون ولابد أن الله سيشفيهم في وقت ما، والمؤمنون يتمتعون بالأيمان وهو اسمى النعم والفضائل وليس لديهم ما يطلبونه من الله سبحانه أعلى من ذلك. وفجأة خطر ببالي أن أكثر حاجة إلى الدعاء من غيرهم في هذه الليلة (ليلة القدر) هم الكفار والمشركين لأن عذاباً أبدياً ينتظرهم ولا يمكنهم الخلاص منه مالم يصلحوا أمرهم لذا فإنهم الأكثر حاجة للدعاء

ص: 547

بالهداية فأخذت أدعوا الله (عز أسمه) وأطلب منه أن يهديهم إلى الإسلام). (1) فلاحظوا النفس الكبيرة التي يحملوها هؤلاء الأعاظم تجاه البشرية، وكم هي رحيمة قلوبهم المفعمة بالحب والرحمة.

والآن نذكر بعض الشخصيات الإسلامية العلمائية، الذين كانوا من رواد حركة التقريب المذهبي، ومن كبار الناشطين في ميدان الدعوة إلى الوحدة الاسلامية، وغيرهم من مشاهير العالم الذين دعوا أيضاً إلى مبدأ اللاعنف والتعايش السلمي بين البشر:

أولاً/ علماء ومفكروا الشيعة الإمامية:

السيد روح الله الخميني:

هو المرجع الديني الكبير والعارف والثائر المصلح، الغني عن التعريف، الذي أطاح بالنظام الظالم لشاه إيران المقبور، وعلى الرغم من مرور ثمانية وعشرين عاماً على رحيله (قدس سره) لا يزال العالم يعيش نتائج ثورتهالتي اسهمت في تغييرات استراتيجية سياسيا واقتصاديا وعسكريا فضلا عن مساهمته في احداث انقلاب على مستوى القيم الاجتماعية و الثقافية الحاكمة والسائدة.

فبعدما انتصرت الثورة الإسلامية في إيران بفضل جهود هذا الثائر العارف الفذ، كان من ضمن مهامه الرسالية، توحيد صفوف المسلمين وتقوية شوكتهم، لأجل النهوض والتحرر من سطوة المستبدين ومجابهة حالة الضعف والهوان التي خطط لها الأعداء تجاههم. ومن صور الأعمال الرسالية له (قدس سره) في هذا المجال، هو تأسيس (أسبوع الوحدة الإسلامية) فإنه لما كان هناك اختلاف في الروايات حول موعد مولد النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) بين السُنة والشيعة حيث يرى السُنة أن يوم (12) ربيع الاول هو يوم مولد الرسول الكريم (صلی الله علیه و آله) بينما يرى الشيعة إن يوم مولده هو 17 ربيع الأول كان للسيد الخميني (قدس سره) رؤية جميلة لوحدة المسلمين حيث دعا إلى أن يكون هناك أسبوع للوحدة الاسلامية يمتد من الثاني عشر إلى السابع عشر من ربيع الاول، وقد كان ذلك لدفع مسلمي العالم إلى الاستلهام من تعاليم الاسلام المتعالية واجتثاث بذور التفرقة والاختلاف والوصول بالتالي إلى المجد والعظمة المنشودة،.وقد لاقت هذه الفكرة فيما

ص: 548


1- ثقافة التعايش، الشيخ ناصر الأسدي، ص299.

بعد وإلى الآن رواجاً في مختلف الدول الإسلامية، فها هي الندوات والمؤتمرات تُقام في كل عام وفي أكثر من بقعة من أرجاء هذه المعمورة، ويشارك فيها المسلمون بمختلف مدارسهم العقائدية والفكرية، بل ويعرضون أطروحاتهم الفلسفية والفكرية لمناقشتها وأخذ ما يفيد المسلمين ويعمل على توحيدهم. و قد يحيي هذا الأسبوع في نفوس المسلمين الأمل في الوصول إلى غاية عُظمى وأمنية سامية عالية تهفو إليها القلوب وقد كان هذا الأسبوع مناراً للمسلمين على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم، ومحطة تلاقٍ بين أبناء الدين الواحد، ونقطة التقاء فكري وتعايش سلمي حضاري فيما بينهم.

ومن المواقف المشرقة التي ينبغي ذكرها بما يخص موضوع كتابنا هذا حول التعايش السلمي، هو موقفه الرائع الذي صدر منه خلال إقامته القصيرة في ضاحية (نوفل لوشاتو) وهي بلدة صغيرة في فرنسا، فعندما حل موعد الاحتفال بميلاد السيد المسيح (علیه السلام) في يوم رأس السنة الميلادية، قرّر الإمام (قدس سره) ارسال الهدايا إلى جميع جيرانه لتهنئتهم ويعتذر لهم عن أي إزعاج كان يسببه وجوده. ومن مواقفه أيضاً هو ما حصل أبان ثورة الشعب الإيراني ضد النظام الملكي الجائر، حيث دعى (قدس سره) إلى نزع سلاح الجيش بعيداً عن استخدام أسلوب العنف والصٍدام المسلح، وذلك من خلال تقديم الكلمة الطيبة وباقات الزهور لعناصر الجيش المدججين بالسلاح، لذا كان أفراد الشعب يضعون الزهور في فوهات البنادق، واستسلم الجيش دون مقاومة، وأسقط ما في يد السلطة البهلوية الظالمة. ومن جانب آخر فقد وجه (قدس سره) لجيش النظام فتوىتُحرم رفع السلاح بوجه الشعب الذي انتفض مطالباً بحقوقه المشروعة وعيشه الكريم. وله في مجال التقريب والتوحيد أبحاث ومناظرات هادفة نذكر سطوراً منها:

- على جميع الاخوة، الشيعة والسنة أن يجتنبوا أي خلاف بينهم.

- يجب أن نعي الحقيقة التالية: إننا مسلمون جميعا وإننا اتباع القرآن والتوحيد.

- إن اختلافنا - اليوم - يعود بالفائدة على أولئك الذين لا يعتقدون بمذهب الشيعة، ولا بمذهب السنة ولا بأي مذهب آخر بل يعملون على محو هؤلاء وأولئك معا.

- نحن جميعا اتباع القرآن والرسول الأكرم. إننا جميعا اخوة، لنا وجهة واحدة واتجاه واحد، دين واحد وقرآن واحد.

- إني لآمل أن تتجاوزوا عوامل التفرقة بقوتكم وبالمدد الإلهي.

ص: 549

- إني لأرجو أن يتآخى المسلمون وكل الشعوب الإسلاميّة - اتباعا لأوامر الإسلام والقرآن المجيد - ويتعاملون مع أعداء الإنسانية بالشدة ومع الأقطار الإسلاميّة بمبدأ الأخوّة.

وهذا لا يتحقق إلاّ برفع اليد عن الخلافات الجزئية القائمة بين الحكومات ويعيشوا كما يعيش الأخوة.

- لا يعرف الإسلام شيئا اسمه (العنصر) وليس فيه عربّي وعجميّ وغير ذلك.

- يجب أن ينضوي المسلمون والحكومات الإسلاميّة ويجتمعوا تحت لواء الإسلام والقرآن.

ومن رسالة الامام الخميني (قدس سره) إلى الحجيج:

- ليست الأيدي الملوثة التي توجد الخلاف بين الشيعة والسنة في الأقطار الإسلاميّة بأيد شيعيّة أو سنية وإنّما هي أيدي استعمارية تعمل على أن تسلبنا أقطارنا الإسلاميّة هذه.

- لقد صببت جلّ اهتمامي ليكون المسلمون جميعاً يدا واحدة على الأعداء اتباعا لما يأمر به الإسلام وجماعة واحدة تحقق ما يرمي إليه الإسلام.

- إنّنا نمد يد الأخوّة إلى جميع الشعوب الإسلاميّة ونطلب منها العون والتعاضد لتحقيق الأهداف الإسلاميّة.

- آمل أن تنهض الشعوب الإسلاميّة وتتّحد بعد أن مزقتها دعايات الأجانب فإذا البعض منها يقف في قبال البعض الآخر. فإذا اتحدت عملت على تشكيل الدولة الإسلاميّة العظمى تحت لواء (لا اله إلاّ الله) وانتصرت هذه الدولة على جميع قوى الأرض.

السيد الشهيد الصدر الأول:

هو المرجع الثائر والمجاهد الشهيد، ومن عمالقة الحوزة النجفية المباركة، ومن عباقرة العصر وفلاسفتها، كان واحداً من دعاة الوحدة الحقيقيّين. فهو - كسائر المصلحين والمفكريّن في العالم الإسلاميّ - كان يحسّبالمعاناة وتمزّق المجتمع الإسلاميّ وانقسام المسلمين على أنفسهم، فبقي الهمّ يراوده في إصلاح حال المسلمين. فوظَّف جميع الإمكانات المتاحة من أجل تحقيق هذا الهدف السامي، مستعيناً بجميع قدراته العلميّة

ص: 550

والعمليّة في نيل المراد. فكانت أولى الخطوات مقالة في مجلة (الأضواء) تحت عنوان (رسالتنا يجب أن تكون قاعدة للوحدة) ، حيث دعا من خلالها علماء الدين والأمة الإسلاميّة إلى التكاتف والأخوّة، مذكِّراً بأسس الوحدة ودوافع التفرقة، فحذَّر الأمة الإسلاميّة من مخاطر الفرقة والانشقاق. ومنذ ذلك الحين وحتّى أواخر عمره الشريف ظلّ حريصاً على هذا الهدف المنشود، داعياً رجال الدين الآخرين إلى العمل على تحقيقه، وجعل موضوع (تاريخ الوحدة) أحد دروس المناهج في الحوزة

ويرى الشهيد الصدر أنه ينبغي على الحوزويّين أن يتعاملوا مع (مشروع الوحدة) بوصفه ظاهرة تاريخيّة، وأن يعملوا على دراستها؛ للاطلاع على السوابق ونقاط القوة والضعف فيها، وعلى ما انتهجه دعاة الوحدة في الماضي؛ كي يؤدّوا رسالتهم الدينيّة على أتمّ وجه. لم يبارح هذا الهدف المقدَّس ذهن الشهيد الصدر طرفة عين أبداً. وحين كان محاصراً في أواخر أيامه من قبل البعثيّين أصدر ثلاث رسائل صوتية خاطب بها الشعب العراقيّ، ودعا خلال خطابه الأخير جميع أطياف الشعب، من شيعة وسنّة، وعرب وأكراد، إلى تحمُّل المسؤوليّة في خضم الأوضاع المتدهورة، والاتحاد صفّاً إلى صف في مواجهة الظلم والاستبداد. وقد جاء في خطابه: ((وإني مذ عرفت وجودي ومسؤوليّتي في هذه الأمّة بذلت هذا الوجود من أجل الشيعيّ والسنّي على السواء، ومن أجل العربي والكردي على السواء، حيث دافعت عن الرسالة التي توحِّدهم جميعاً، وعن العقيدة التي تضمّهم جميعاً، ولم أعِشْ بفكري وكياني إلاّ للإسلام، طريق الخلاص وهدف الجميع)). نعم، لم يقتصر جهد السيد الصدر على إصلاح وتنمية المجتمع الشيعيّ فقط؛ لأنّه كان مصلحاً ومجدِّداً بمعنى الكلمة. فالمصلح الإسلاميّ لا يمكنه تجاهل سائر المسلمين، مهما كان انتماؤه ومذهبه. وهذا ما فهمه الكتّاب من المسلمين وغيرهم حيث نعتوا السيد الشهيد بأنه أحد دعاة الوحدة الإسلاميّة، كما جاء على لسان (جويس وايلي) في كتابها (الحركة الإسلاميّة لشيعة العراق) ، فكتبت تقول: ((لم تنحصر حركة الشهيد الصدر في العراق في المكوّن الشيعيّ، فهو صاحب فكرة راسخة، وحركته جزء من الظاهرة الإسلاميّة التي نشاهدها في مختلف البلدان الإسلاميّة، كما أنّ كتاباته لا تحمل أيّ صبغة طائفية))

ص: 551

وتطرّق الشهيد الصدر في خطابه الأخير إلى موضوع الحرب المفروضة على إيران من قبل العراق، فقال: (وأريد أن أقولها لكم، يا أبناء عليّ والحسين، وأبناء أبي بكر وعمر: إنّ المعركة ليس بين الشيعة والحكم السنّي، إنّ الحكم السنّي الذي مثله الخلفاء الراشدون، والذي كان يقوم على أساس الإسلام والعدل، حملعليٌّ السيف للدفاع عنه...) وبعد تذكيره بسيرة الإمام علي (علیه السلام) وتعامله مع الخلفاء يصل الشهيد الصدر إلى هذه النقطة، فيقول: ((هذا خطٌّ عامّ سار الأئمة (علیهم السلام) كلّهم عليه…))

وقال الشهيد الصدر في هذا الصدد: ((إن الحكم السنّي الذي كان يحمل راية الإسلام قد أفتى علماء الشيعة - قبل نصف قرن - بوجوب الجهاد من أجله، وخرج مئات الآلاف من الشيعة، وبذلوا دمهم رخيصاً من أجل الحفاظ على راية الإسلام، ومن أجل حماية الحكم السنّي، الذي كان يقوم على أساس الإسلام))

كما تنبَّه (قدس سره) لقضية الشيعة والسنة قبل أن يثيرها الاستعمار وحزب البعث في العراق بشكلها الطائفي؛ من أجل تفريغ الحركة الإسلاميّة من محتواها، فقال: ((إنّ الحكم الواقع ليس حكماً سنّياً، وإنْ كانت الفئة المتسلِّطة تنتسب تاريخيّاً إلى التسنُّن؛ فإن الحكم السنّي لا يعني حكم شخص واحد ولد من أبوين سنّيّين، بل يعني حكم أبي بكر وعمر، الذي تحدّاه طواغيت الحكم في العراق اليوم في كلّ تصرفاتهم، وهم ينتهكون حرمتهم)) هكذا استرسل الشهيد الصدر في خطابه، حتّى ختم بدعوة الشيعة والسنّة إلى الاتّحاد والتضامن من أجل القضاء على حكم البعث، وإزالة هذا الكابوس عن صدر العراق.

إن أحد السبل المساعدة على خلق التفاهم والوحدة بين المسلمين هو تعزيز الأواصر بين علمائهم ومفكّريهم. وهذا ما حرص عليه الشهيد الصدر. فكما كان مهتمّاً بشأن علماء الشيعة في العراق وخارجه، وعلى اتّصال دائم بهم، ويعمل على نشر أفكاره الإصلاحيّة بشكل مباشر أو غير مباشر، كذلك كان مع علماء أهل السنّة أيضاً. ولعل خطابه الأخير خير دليل على ما يربطه من علاقات طيبة مع علماء إخواننا السنّة. وهذا ما أكَّده الدكتور السيد محمد التيجاني خلال زيارته الشهيد الصدر، فكان الشهيد الصدر على علاقة وطيدة مع إخواننا السنّة، إلى حدّ أن العديد منهم كانوا يستشيرونه في ما أشكل عليهم.

ص: 552

وأكد السيد الشهيد في مقالٍ له تحت عنوان: (رسالتنا والشخصية الإسلاميّة) ، على أن الشخصية الإسلاميّة لم تتضرَّر وحسب، وإنّما قد تلاشت بالكامل، فبدل أن يتكلَّم الإنسان المسلم كلامه ويسير في طريقه بات يقتبس منهاجه من الآخرين. لقد بات المسلم مهتمّاً بهويته العربيّة والفارسيّة والتركية و… أكثر من اهتمامه بهويّته الإسلاميّة. وهذا ما نتج عنه التفرقة، وتسلُّط الحكومات المستبدّة.

وقد دعا (قدس سره) علماء الشيعة والسنّة والشعب العراقيّ إلى الالتحاق بالحركة الإسلاميّة، والانتفاض في وجه حكومة البعث، مؤكِّداً على أن قضية الشيعة والسنّة هي من مؤامرات البعثيين والاستعمار: ((إن الطاغوت وأولياءه يحاولون أن يوحوا إلى أبنائنا البررة من السنّة أن المسألة مسألة شيعة وسنّة؛ ليفصلوا السنّة عن معركتهم الحقيقيّة ضدّ العدوّ المشترك)). لم يكن الشهيد الصدر ليكتفي بإطلاق الشعارات والهتافات، بل كان يقدِّمحلولاً وآليات، فرأى أنّ السبيل الوحيد هو اتّحاد الشيعة والسنّة، والنضال على جميع المستويات. من هنا أفتى بتحريم العمل مع حزب البعث وحكومته، ونهى المؤمنين عن الصلاة خلف الأئمّة المتعاونين مع البعث.

وقد جاء خطابه الأخير الذي يدعو فيه السنّة والشيعة إلى الاتحاد، كما اتحدوا في الحرب العالميّة الأولى، مطالباً الأمة الإسلاميّة بالوقوف ضدّ حكومة البعث وجهاً لوجه: ((يا إخوتي وأبنائي، من أبناء الموصل والبصرة، من أبناء بغداد وكربلاء والنجف، من أبناء سامراء والكاظمية…، من أبناء العراق في كلّ مكان: إني أعاهدكم بأنّي لكم جميعاً، ومن أجلكم جميعاً، هدفي في الحاضر والمستقبل: فلتتوحَّد كلمتكم، ولتتلاحم صفوفكم تحت راية الإسلام، ومن أجل إنقاذ العراق من كابوس هذه الفئة المتسلِّطة، وبناء عراق حرّ كريم، تحكمه عدالة الإسلام…))

وهو يخاطب السنّة والشيعة على حدٍّ سواء: ((فأنا معك يا أخي وولدي السنّي بقدر ما أنا معك يا أخي وولدي الشيعي… إن الطاغوت وأولياءه يحاولون أن يوحوا إلى أبنائنا البررة من السنّة أنّ المسألة مسألة شيعة وسنّة)) لا شكّ أنّ هذا النمط من الخطاب الصادر من مرجعٍ بوزن الشهيد الصدر قد أدّى دوراً كبيراً في توحيد الصفوف، وتعزيز الوحدة بين أبناء المجتمع. ويذكر أنّ التيجاني كان قد أقام عند الشهيد الصدر أربعة أيّام سأله خلالها عمّا بدا له من شبهات، من قبيل: قول ((أشهد أنّ عليّاً وليّ الله)) في

ص: 553

الأذان، ومراسم العزاء، وتزيين قبور الأئمة والأولياء بالذهب والفضّة، والتوسُّل والتبرُّك، وعن عقيدة الشيعة بالصحابة، فما كان من السيد الشهيد إلاّ أن يجيب عن أسئلته بالدليل والبرهان، دون التعرُّض والمساس بعقائد الآخرين. فمن المؤسف أن يكون هناك من العلماء المتطرِّفين مَنْ يرى من واجبه أن يزيد على بيان آراء مذهبه أو تفنيد الرأي الآخر، فيظهر مشاعره وعواطفه الجيّاشة تجاه مذهبه، وكأنّه في ساحة حرب، ويدعو مَنْ ينازله؛ فإنّ هذا النوع من الأساليب لن يعود علينا إلاّ بالتعصُّب وزيادة الخلافات وإثارة الضغائن والعداء. وبالتالي ينشأ النزاع تلو النزاع. ولعلّ أحداث الماضي المؤلمة هي خير شاهد على ذلك. ويذكر أن الشيخ عيسى الخاقاني جاء إلى السيد الشهيد، مبعوثاً من قبل المقبور (صدام) شخصيّاً؛ ليطرح عليه مشروعين، هما:

1- إن عرب الأهواز يقبعون تحت وطأة ظلم الحكومة الإيرانيّة، وعلينا أن نفكر بطريق لخلاصهم.

2- لماذا يبقى قدر الحوزة العلميّة في النجف تابعاً لإشراف الإيرانيّين وسيطرتهم؟ فعلينا أن نؤسِّس لحوزة عربيّة، وأنت زعيمها الأوّل.

فجاء في ردّ الشهيد الصدر: ((إنّ ميزة النجف الأشرف التي يعتزّ بها النجف هي أنّها جامعة مفتوحة لكلّ الجنسيات والقوميات، يدرس فيها العربيّ والفارسيّ وغيرهما، فما معنى أن تكون الحوزة عربيّة فقط؟!)) ، ثم عرّج السيد الشهيد على الموضوع الآخر بامتعاض وغضب، مخاطباً مبعوث صدام، فقال: ((هذا الكلام عارٍمن الصحّة، فعرب خوزستان يعيشون في ظلّ دولة إسلاميّة، لهم ما لغيرهم، وإنّما أنت تختلق ذلك بسبب عدائك لإيران، ثم حال عرب خوزستان أفضل بكثير من عرب العراق. كان عليكم أن تفكِّروا بتحرير الشعب العراقيّ من قيود البعث الأمريكي قبل التفكير بعرب خوزستان، عليكم أن تحزنوا على عرب العراق الذين سلبت ثرواتهم من قبل حكومتكم الجائرة، وتركتهم بالفقر والعراء)). لقد أثبت الشهيد الصدر - عبر مواقفه الشجاعة- أنّ وحدة الإيمان والعقيدة هي مبدأ الأمة الإسلاميّة، خلافاً لمنهج الأنظمة الغربيّة وسياستهم هذه الأيام.

بالإضافة إلى ذلك كان الشهيد الصدر مهتمّاً أيضاً بالإفادة من مصادر وكتب المذاهب الأخرى، والسعي إلى نشر الكتب التقريبيّة بينهم، والتعريف بالتشيُّع ونقل

ص: 554

صورته الحقيقيّة إلى سائر المذاهب الأخرى، مع التأكيد على معالم الوحدة الواقعيّة، والردّ على الشبهات المخلّة بالتواصل والتفاهم مع الآخر، وغير ذلك من النشاطات الوحدويّة التي كان يعنى بها السيد الشهيد، وهي بحاجة إلى بحثٍ مستقلٍّ بذاته. (1)

السيد الشهيد الصدر الثاني:

هو المرجع العارف والثائر والمجاهد الشهيد الذي يُعد من أبرز علماء النجف المعاصرين، وهو رائد الحركة الإسلامية في العراق بعد أستاذه الشهيد الصدر الأول (قدس سره) ، الذي قاد أكبر نهضة شعبية اصلاحية في العراق ضد النظام البعثي، سعة وشمولاً، وتصدى للمرجعية الدينية، وسعى للحفاظ على الحوزة العلمية في النجف الأشرف، وقام بخطوات كبيرة في هذا المجال وفقاً لما تتطلبه الساحة الفكرية والحياة العصرية، كما قام بإرسال طلبة العلوم الحوزوية إلى العديد من أنحاء العراق لممارسة مهامهم التبليغية وتلبية حاجات المجتمع. وعلى المستوى الوحدوي مع إخواننا أهل السنة، فقد كان له دور بارز في هذا المجال، ومن الشواهد على ذلك قوله (قدس سره) في إحدى خطب الجمعة المباركة: (إنني خاطبت إخواننا أهل السنة والجماعة بالصداقة والعلاقة، والحق إن التجاوب واضح ومسر ومنتج لأفضل النتائج) ، وقال (قدس سره) أيضاً: (ومن الطريف الملحوظ في هذه الأيام أن كثيرين من إخواننا أهل السنة من رجال دين وغيرهم يحضرون صلوات الجماعة والجمعة عندنا).

وقد سعى (قدس سره) بشكل حثيث على لم شمل المجتمع طائفياً ومذهبياً، ودفع المجتمع بتجاه الوحدة الدينية والقومية ودحر أسلوب التفريق الاجتماعي الذي يتعمده الحزب البعثي مع أبناء الشعب لذا (حازت خطوات السيد الصدر الثاني (قدس سره) هذه استحسان ورضا الكثير من طبقات المجتمع ولاسيما من أخو أننا أبناء السنة، والنصارى فضلاً عن أبنا المذهب وعبّر البعض منهم عن مشاعرهم هذه قائلين: (إننا لم نسمعبمرجع شيعي بهذه العدالة وبهذا الذكاء والشجاعة والروح الأبوية والتفاني من أجل المجتمع... ويبدو أن السيد الصدر (قدس سره) بنى علاقات مع أهل السنة.. وأصدر توصياته بالانفتاح على الأوساط السنية من أهل الجماعة والتعاون معهم وحضور مساجدهم والصلاة خلفهم. لذلك فقد استطاع (قدس سره) بناء علاقات وثيقة

ص: 555


1- يُنظر الشهيد محمد باقر الصدر رائد المشروع الوحدويّ، د. محمد صادق مزيناني، بتصرف بسيط.

مع أهل السنة بشكل جعلهم يأتون إلى مسجد الكوفة للمشاركة في صلاة الجماعة وكان يستقبلهم ويحييهم في خطبة صلاة في الجماعة. وقد صرّح (قدس سره) في أحدى خطبه قائلاً: (إن الملحوظ في هذه الأيام أن كثيرين من إخواننا من أهل السنة من رجال الدين وغيرهم يحضرون صلوات الجماعة والجمعة عندنا).

وقال (قدس سره) أيضاً: (إنني خاطبت إخواننا أهل السنة والجماعة بالصداقة والعلاقة، والحق إن التجاوب واضح ومسر ومنتج لأفضل النتائج).

وإن اقامته (قدس سره) لصلاة الجمعة في أكثر من سبعين مكاناً مختلفاً في وسط وجنوب العراق، أسهم بشكل كبير جداً في كسر حاجز الخوف الذي سيطر على قلوب العراقيين جراء الممارسات القمعية والاجرامية للسلطة البعثية، حتى إن السيد الشهيد (قدس سره) كان يقول في إحدى لقاءاته المسجلة: (في الحقيقة أنا أعتقد بأننا بُعِثنا من جديد بأننا أحُيينا بعد الموت في وجود صلاة الجمعة المقدسة في الحقيقة حتى لو كنا نقول كما هو الصحيح طبعاً الجمعات مقامة في لبنان وفي غيرها وفي البحرين وفي باكستان وفي إيران لكنه ليس كالجمعات التي هي موجودة الآن ونفذت بعون الله). (1) فقام السيد الصدر (قدس سره) بنقل الجماهير نقلة نوعية من خلال إقامته لصلاة الجمعة المباركة، حيث كانوا بحاجة إلى متنفس.

ومن آثارها المباركة، إنها وحدت صفوف المسلمين من الطائفتين الشيعية والسنية لأن السلطة البعثية الظالمة كانت تحرص على جعل أئمة المساجد وصلاة الجمعة من أبناء العامة من المنتمين لهم ومن المسبحين بحمد النظام الحاكم، لذا فقد وجد بعض اخواننا من أبناء المذهب السني ضالتهم في صلاة الجمعة التي أقامها السيد الشهيد في الكثير من محافظات العراق، وبهذا تكون صلاة الجمعة خير مشروع عبادي وحدوي يقف في وجه المخططات الاستكبارية التي تريد تمزيق وحدة المسلمين.

وعلى صعيد الاهتمام بقضية الوحدة الاجتماعية والوحدة المذهبية بين أبناء الشيعة واخوانهم من أبناء السنة، وتعزيز روابط الأخوة الإيمانية، فقد خصّص خطبة كاملة ركز فيها على هذه المضامين المهمة، مستثمراً مناسبة المولد النبوي الشريف ليكون منطلقاً له في تحقيق هذه الأهداف السامية، حيث قال (قد سره) : (ينبغي أن تكون ذكرى المبعث

ص: 556


1- إحدى اللقاءات المسجلة صوتياً للسيد الشهيد الصدر (قدس سره) .

النبوي الشريف سبباً لأن يبعث في نفوسنا الشعور بأهمية هذا المبعثوبأهمية مضمونه الكريم وهو دين الاسلام العظيم وقدسيته الجليلة ونوره الوضاء واخوته العالية. قال تعالى: (إنما المؤمنون اخوة فاصلحوا بين اخويكم واتقوا الله) وقال: (المؤمنون بعضهم أولياء بعض). والإسلام هو دين الوحدة والاخوة والتماسك والرحمة والانسانية واللطف والتعاطف على مختلف المستويات التي يمكن ان نعرض المهم منها فيما يلي:

المستوى الأول: وحدة الحوزة العلمية واخوة اعضائها والمشاركين فيها بالهدف المشترك وتجاه العدو المشترك وفي الفكر المشترك مهما تباعدت بعض المصالح والاهواء والاساليب. وهذا واقع لا مناص منه ومطبق فعلا فإننا جميعا في الحوزة يد واحدة وروح واحدة كلنا يعمل لمصلحة الدين وكلنا يقول وكلنا يتصرف في حدود استطاعته وفهمه باتجاه الهدف المشترك وهو عز الدين وعز الاسلام وارتفاع وعظمة كلمة التوحيد في كل زمان ومكان وتكثير طاعات الله سبحانه في البشرية وتقليل معاصيه بين البشر وكلنا يد واحدة ضد من ناوانا وعادانا لان من عادى الحوزة فقد عادى الدين ومن كاد للحوزة فقد كاد للدين ومن اعتدى على الحوزة فقد اعتدى على الدين وليس على هؤلاء الناس بأشخاصهم بطبيعة الحال، والحوزة واحدة في كل زمان ومكان لأنها تتوحد بوحدة العاطفة والعلم والعمل والهدف اكيدا وكله واحد بحسب توفيق الله تعالى فليس هناك حوزات متباينة او مختلفة في ما بينها في النجف وفي قم وفي سوريا وفي لبنان وفي خراسان وفي البحرين وفي القطيف وفي الاحساء وفي باكستان وفي الهند وفي غيرها من بلاد الله. بل كلهم رجل وقلب واحد ويد واحدة وعلم واحد لمصلحة الدين وشريعة سيد المرسلين وضد العدو المشترك الموجود ضدنا في كل جيل وفي كل مكان وزمان (كول لا سبحان الله !).

المستوى الثاني: وحدة المؤمنين في المذهب الواحد مهما تكثرت اعمالهم وطبقاتهم ومستوياتهم وعواطفهم فانهم ما داموا يشعرون بأهمية الدين واهمية ولاية امير المؤمنين (عليه افضل الصلاة والسلام) وعصمة القادة الائمة المعصومين (سلام الله عليهم) فهذا يكفي تماما لان يكون الفرد مندفعا نحو طاعة الله متحمسا نحو الهدف المشترك واقفا ضد العدو المشترك منجزا مصلحته العادلة الشخصية والاجتماعية مبتعداً عن الذنوب

ص: 557

والعيوب والموبقات، ومن لم يكن كذلك فنتمنى ان يكون كذلك في اقرب وقت وبحسن توفيق الله وتسديده.

المستوى الثالث: الاخوة في الاسلام وهي الاهم والاتم لأنها تشكل حجر الزاوية في المبعث النبوي الشريف لان المبعث مبعث الاسلام، والاخوة في الاسلام هي الرئيسية لان القرآن واحد والنبي واحد والقبلة واحدة والدين واحد والهدف واحد وان اغلب الاختلافات بين علماء الاسلام طبيعي وموجود بين اي تفكيرين او اي مفكرين وليس ذلك بعيب ولا يشكل نقصا حقيقيا ولا ينبغي ان يكون سببا للعداء والمكر والتضاربوالتحارب والعياذ بالله وانما الهدف مشترك والعمل مشترك والعدو مشترك وخاصة ونحن نعيش في اغلب العصور بل كلها مسيس الحاجة الى ذلك لتكالب الاعداء ضد الاسلام ومكرهم من داخلهم ومن خارجهم وبيده السلاح والمال والتخطيط والاعداد الكامل، في حين نجد المسلمين والمخلصين عزلا من كل ذلك وهذا هو الامتحان الالهي الاتم والاكمل ليحيى من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة...وبطبيعة الحال فان مجرد التفكير في هذه الوحدة قلبيا وعقليا له مرحلة مهمة وجيدة ونافعة تكفي في نتائجها عدم توجيه الحقد والعداء ضد بعضنا البعض والعياذ بالله من مختلف مذاهب الاسلام وانما اختصاص توجيه الحقد والعداء ضد من هو اهل لذلك وهو العدو المشترك المتمثل بالكفر والاستعمار. ويقول المثل (انا وابن عمي ضد الغريب) كما يقول المثل في عادات العشائر انه قد تكون قبيلتان متعاديتين فيما بينهما ومتقاطعتين بشدة الا انهما حين يجابههم العدو المشترك وتغير عليهما قبيلة ثالثة يكونان يدا واحدة وعملاً واحداً وقلباً واحداً تجاه هذا العدو المشترك فاذا دفعوه واستراحوا عادوا الى العداء من جديد فيما بينهما...يضاف الى ذلك الى ان عمل بعض المذاهب ضد بعضها كما يحدث الان من الوهابيين مع شديد الاسف كما قد يفترض حدوثه من اية جهة كانت، يكون بكل تأكيد عمل مبرمج وموجه في مصلحة الاستعمار ولا يستفيد من ذلك ولا يفرح به الا العدو المشترك واسرائيل من حيث نعلم او لا نعلم. بينما لا يستاء العدو المشترك الا من التحابب والتعاون والالفة بين المؤمنين والمسلمين ونحن مأمورون في القرآن الكريم ان نسيء الى قلوبهم كما قال تعالى في محكم كتابه الكريم : (ولا تطأون موطئا يغيض الكفار الا كتب لكم به عمل صالح) اذن فالأخوة مطلوبة في الاسلام على كل حال. وهذا

ص: 558

بطبيعة الحال ليس من طرف واحد بل من كل العاطفة، وليس كلامي هذا استجداءا للعاطفة لأننا لا نخاف من غير الله سبحانه وتعالى وانما هو لإقامة الحجة والفات النظر لمن يريد ان يستجيب الى داعي الله ونصوص الكتاب الكريم والسنة الشريفة ويكون ذلك في مصلحتهم اولا وفي مصلحة الاسلام ثانيا ودفعا للعدو المشترك ثالثا. وهذا لا يعني من ناحية اخرى عدم اهمية الحفاظ على المذهب والعناية بمصالحه ومصالح طائفته فان هذا ضروري ايضا امام الله سبحانه وتعالى لأنه الحق الذي نؤمن به لكن ينبغي ان يكون عمل اي مذهب او قل عمل اي مسلم بحيث لا يضر بالمذاهب الاخرى تحصيلا للوحدة الاسلامية والتكاتف المحمدي او قل يجب الا يعمل اي مسلم عملا يفيد به الاستعمار ويوجد به الفرقة والازعاج في المجتمع الاسلامي ومن عمل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين حتى لو كان هو السيد محمد الصدر نفسه.المستوى الرابع: الشعور بالوحدة والتضامن مع الثورة الفلسطينية المجيدة التي كانت ولا زالت تعطي سيل الشهداء انتصارا للحق المغتصب واحتجاجا على الظلم المكثف والاجحاف الحقيقي الموجود في تلك البلاد المسلمة من قبل مستعمريهم اليهود.

والملاحظ بوضوح أن فكر الثورة الفلسطينية قد مر ميدانياً بتطور وتكامل ملحوظ. فبينما كان عند بدءه قبل حوالي عشرين سنة او اكثر فكرا علمانيا دنيويا لا يريد اكثر من ازالة الحكم الغاشم الظالم في بلاده ولا يفكر في البديل وفي شكل الدولة الجديدة التي يسعى من اجلها حتى كان اكثرهم شيوعين في زمن وجود ما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي وكان بعضهم يميل الى الديمقراطية الرأسمالية وبالتالي كانوا مختلفين وليس لهم هدف محدد وحقيقي، الا انهم تطوروا بكل تأكيد مع تطور الفكر الاسلامي العالمي فاصبح اكثرهم او الاتجاه الاشهر فيهم اتجاها اسلاميا دينيا لطيفا جزاهم الله خير جزاء المحسنين. واصبحوا يجاهدون ويستشهدون حقيقة في سبيل الله ومضادة لأعداء الله وذلك بعد ان اتسعت التجارب الدينية وازدادت الكتب الدينية ووسائل الاعلام الاسلامية. فرأى الجيل المتأخر منهم ان الحق الصحيح انما هو في الدين وان الحل الصحيح انما هو في الدين وليس من المعقول ان اليهود يحاربوننا كيهود ونحن نحاربهم كعرب او كشيوعين او كرأسماليين وانما يقابل اليهودية الاسلام ليس الا، والاسلام هو دين الشهادة ودين

ص: 559

الاخرة ودين العدل ودين الجهاد وليس في المسالك الاخرى ذلك. والاتجاهات الفكرية الاخرى ليس فيها الا الخداع والضلال.

فنحن نعلن من هنا تأييدا لمجمل الحركة الفلسطينية والثورة الفلسطينية ونخص بالتأييد منهم اولئك الذين يشعرون بمسؤوليتهم الاسلامية وعاطفتهم الدينية وهم الاعم الاغلب فيما اعتقد وننصح الباقين منهم الى ان يميلوا الى هذا الطريق ويلتفتوا الى الدين الحق فيصلحوا بذلك دنياهم وآخرتهم ولا تغرنهم الشعارات البراقة التي لا تفيد في الواقع الا الابقاء على اسرائيل وقوتها كما ثبت ذلك ولا زال يثبت بالتجارب المستمرة.

هذا ولو استطعنا من موقعنا هذا أن نمد الثورة الفلسطينية بالفكر اولا وبمال والرجال ثانيا بالشكل الذي نضمن ان فيه رضا الله سبحانه وتعالى فعلنا. ويوجد بعض الاشخاص القلائل خلال السنين المتأخرة ممن يسأل عن تكليفه الشرعي بالمشاركة في الثورة الفلسطينية او العمل ضد العدو الغاشم هناك، ومثل هذا الفرد لا ينبغي نهيه او تثبيط عزمه وشل ارادته بل ينبغي دفعه وتأييده ونصحه بالالتحاق بعد ان يحرز بطبيعة الحال اخلاص القيادة التي يريد الانتماء إليها منهم.

ومن الواضح دينيا ان الثورة الفلسطينية وان كانت هي ثورة الشعب الفلسطيني إلا أنها ثابتة في ذمم المسلمين جميعا بمختلف مذاهبهم واتجاهاتهم ودولهم لكي يكونوا يدا واحدة ومتعاونين دوما على الفعالية والجهاد ضد اعداء الله والاسلام، كما ورد في السنة الشريفة : (المسلمون يسعى بذمتهم ادناهم) يعني يسعي كلهمحتى ادناهم، افضلهم وادناهم جميعا وهم يد على من سواهم. اي انهم يد واحدة وقوة واحدة وجبهة واحدة وخندق واحد ضد كل الاعداء المتربصين والكفار المعاندين كما قال تعالى: (ذلك بانهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطأون موطئا يغيض الكفار ولا ينالون من عدو نيلا الا كتب لهم به عمل صالح ان الله لا يضيع اجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا الا كتب لهم ليجزيهم الله احسن ما كانوا يعملون). وقال الله تعالى : (ان الله اشترى من المؤمنين انفسهم واموالهم بان لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والانجيل والقرآن ومن اوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم). ثم يبين في الآية الاخرة التي بعدها ان هذا الوعد خاص بالخاص من الناس وليس عاما لكل

ص: 560

احد فمن هؤلاء الموعودون قال: (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين). وكما قال الله تعالى : (أُذن للذين يقاتلون بانهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق الا ان يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره ان الله لقوي عزيز). ثم يبين الله تعالى كذلك في الآية الأخرى ان هذا الوعد خاص غير عام فمن هؤلاء الموعودون قال جل جلاله : (الذين ان مكناهم في الارض اقاموا الصلاة واتوا الزكاة وامروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور).

فلننظر نحن ولينظر المسلمون ولينظر الفلسطينيون وكل الناس إلى انطباق نصائح الله عليهم، فان لم يجدو ذلك فعسى ان يرجعوا الى انفسهم ويعيدوا النظر في سلوكهم وافكارهم وافعالهم لكي ينالوا التأييد الالهي الحقيقي الذي هو اعلى واسمى من تأييد كل الخلق من تأييد سيد محمد الصدر بطبيعة الحال لكي نكون جميعا مصداقا لقوله تعالى: (ادعوني استجب لكم) وقوله تعالى: (ان تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم) ولكن متى يتحقق الدعاء الحقيقي لله حتى يستجاب ومتى يتحقق النصر الحقيقي لدين الله حتى ينصرنا الله إلا بحسن توفيق الله وعندئذ لن يقف امامنا وامامكم اي عدو مهما كان). (1)

وبدت النتائج الباهرة لحركة السيد الشهيد (قدس الله سره) ملحوظة جداً، وعلى مختلف الأصعدة، لاسيما ما يعنينا حول موضوع هذا الكتاب، حتى إن المرجع اليعقوبي قال مصرحاً حول الثمار الطيبة للنهضة الاصلاحية لأستاذه الشهيد: (قد جربنا نحن الشعب العراقي قوة تأثير الدين في حياة الأمة عامي 1998 – 1999م حينما أقام السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره) صلاة الجمعة المباركة في العراق واشترك فيهامئات الآلاف كيف قلّصت الجريمة والفساد والانحراف بنسبة (90%) حسب اعتراف المسؤولين رغم الفقر والحرمان والتسلط والفساد الاداري الذي كان متفشياً). (2)

ص: 561


1- الخطبة الثانية من صلاة الجمعة الثانية والثلاثون.
2- خطابات المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج 3، ا (لدين الإسلامي طريق السلام والسعادة) .

وقد ظلت في جعبة السيد الشهيد الصدر (قدس سره) الكثير من الأعمال الاصلاحية التي أراد القيام بها لهداية الأمة، حتى نُقل عنه (قدس سره) أنه قال: (لو بقيت الحياة لرأوا مني الكثير) لكن الأجل كان الأسبق من أنجازها.

السيد محسن الأمين العاملي:

كان (قدس سره) رائد الوحدة، فلم تثنه الإغراءات والعطاءات الفرنسية عن هدفه، فكانت كلمته في جميع مواقفه منطلقة من "إنّما المؤمنون أخوة"، وكان داعية حوار بين المسلمين، ولكن بشرط الانفتاح على أطروحة الآخر ودراستها من مصادرها الأصلية، بعيداً عن كل الخرافات والكذب والتزوير، وإذا ما حصل الخلاف فالقرآن هو الحكم "فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول". في ضوء ذلك، نجد أن الأمين قد انطلق في منهجه الحواري والموضوعي بعيداً عن العصبية والميل إلى الهوى، محاولاً بذلك إعطاء الصورة الحقيقية عن التشيع، وهذا ما يتمثل بقوله: "إن الكثير مما نسبتموه إلينا لا يمثل حقيقة ما نحن فيه، ادرسوا ذلك ونحن مستعدون للحوار". إن سكناه في حي الخراب أو محلة اليهود حي الأمين اليوم وهو الحي مع ما يجاوره من الأحياء هي في الواقع عبارة عن تجمع الاقليات الاثنية في الشام، فحارة اليهود إلى جنب حارة الشيعة إلى جانب حارة المسيحين على اختلاف تنوعهم إلى جانب الاكثرية السنية من أهل الشام، هذا الاختلاط كان أحد عوامل بروز شخصيته المتميزة، إذ مارس سماحة الإسلام وعفويته الحقة في التعامل مع الاخرين ممن يخالفونه في العقيدة بل تعامل من منطلق الاخوة في الإنسانية فشارك الجميع هموم الحياة والمسرات والافراح ودمج جماعته بمحيطهم على أنه أمر طبيعي دونما تلك النظرة الغبية إلى الأمور وصير التباين عنصر غنى وثراء، وهكذا كان، فحاز اعجاب واحترام الجميع وتقديرهم.

السيد علي الخامنئي:

هو مرشد الثورة الإسلامية في جمهورية إيران، بعد رحيل مفجر الثورة وقائد مسيرتها السيد روح الخميني (قدس سره). وللسيد الخامنئي دور كبير في مسألة بث روح الوحدة في العالم الإسلامي بين الأديان والمذاهب، وله دور كبير أيضاً في تنشيط دور العلماء العاملين في مجال التقريب بين المذاهب الإسلامية، وهو الذي أسس في عام 1990م المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية ومن أهداف هذا المجمع:

ص: 562

أ - المساعدة في أمر إحياء ونشر الثقافة والتعاليم الإسلامية والدفاع عن ساحة القرآن وسنة النبي الأكرم ((صلی الله علیه و آله) وصحبه وسلّم).

ب - السعي في سبيل تحقيق التعارف والتفاهم الأكثر بين العلماء والمفكرين والقادة الدينيين للعالم الإسلامي في المجالات العقائدية والفقهية والاجتماعية والسياسية.

ج - إشاعة فكرة التقريب بين المفكرين والشخصيات النخبوية في العالم الإسلامي ونقلها إلى الجماهير المسلمة وتوعيتها بمؤامرات الأعداء المفرقة للأمة.

د - السعي لتحكيم وإشاعة مبدأ الاجتهاد والاستنباط في المذاهب الإسلامية.

ه- - السعي لإيجاد التنسيق وتشكيل الجبهة الواحدة في قبال التآمر الإعلامي والهجوم الثقافي لأعداء الإسلام وذلك وفقاً للمبادئ الإسلامية المسلّم بها.

و - نفي موارد سوء الظن والشبهات بين أتباع المذاهب الإسلامية.

الشيخ محمد تقي القمي:

مؤسس دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بالقاهرة سنة (1947م) وهو رائد التقريب في العصر الحديث بلا منازع، وكان فضيلته يؤمن بأن الفكرة الصحيحة لدى المسلم الحقيقي عامة ورجل الدين خاصة هي أمانة يجب أن تؤدي للناس جميعاً فقرر أن يخرج لكشف تلك الحقيقة فترك إيران عام 1937م وبدأ رحلته الطويلة ضد التعصب والتخلف والتعلق بالأساطير الزائفة المدسوسة في الفقه الشيعي والسني معاً، فالإسلام كما يعلم دعوة الناس كافة إلى كلمة سواء.. كلمة العدل والحق فكتابه هو القرآن الذي لا يختلف سني وشيعي على سورة أو آية أو حتى حرف فيه0وقد تشاور مع علماء الشيعة في العراق ولبنان وهو في طريقه إلى مصر التي اختارها كمنطلق لنشر فكرته وجهاده في التقريب بين المذاهب الإسلامية ففيها أكبر رجال أهل السنة، وكان لها دائماً محبة متبادلة بينها وبين أهل البيت، كما أنها هي الوطن الطبيعي لكل دعوه إسلامية صادقة فإليها أتى جمال الدين الأفغاني وعشرات غيره من المدافعين عن الحق والحقيقة، وعند وصوله إلى مصر اجتمع بشيخ الأزهر الشيخ مصطفى المراغي الذي أيد الدعوة ورحب بالفكرة وهيأ له فرصة الاتصال بعلماء المسلمين كالشيخ عبد المجيد سليم والشيخ مصطفي عبد الرازق وغيرهم والذي تشكلت منهم نواة دعوة التقريب ودار التقريب فيما بعد، كما دعاه لإلقاء محاضرات بالأزهر الشريف حتى تتهيأ فرصة التقارب النفسي والفكري بينه وبين

ص: 563

غيره من علماء السنة، لكن الحرب العالمية الثانية نشبت فاضطر للعودة إلى إيران يبشر بدعواه هناك، وكان آية الله العظمى البروجردي قد استقر في قم عام 1945م حيث التقى به وحاز على تأييده ودعمه لدعوة التقريب وبذلك اكتسبت الدعوة تأييد أكبر أقطاب السنة والشيعة (وكان هذا التأييد من أهم العناصرلنجاح الدعوة) وبعد انتهاء الحرب عاد إلى مصر ثانية والتقى بمن بقي حياً من إخوانه العلماء وتم تأسيس دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة في عام 1947 م وكان من أعضائها المؤسسين الشيخ عبد المجيد سليم والشيخ مصطفى عبد الرازق والشيخ محمود شلتوت والشيخ عبد العزيز عيسى والشيخ حسن البنا والشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، والسيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي، ومحمد علي علويه باشا وغيرهم. وكان الشيخ القمي هو سكرتيرها العام ومؤسسها الأول، وقد تلقى أعلام المسلمين الدعوة منذ نشأتها ففتحوا لها قلوبهم وعقولهم وكان ممن التحق بها لاحقاً: الشيخ أحمد حسن الباقوري، والشيخ محمد الغزالي، والشيخ محمد متولي الشعراوي، وأصدرت الجماعة مجلة (رسالة الإسلام) في يناير 1949 م وظلت تصدر قرابة أربعة عشر عاماً، تضمنت في أعدادها أقلام كبار علماء العالم الإسلامي كما تضمنت تفسير القرآن الكريم للشيخ محمود شلتوت في فصول متتابعة حتى اكتملت كتاباً سوياً. ولعل أهم ما يجسد شخصية الشيخ القمي هو ما ذكره الشيخ محمود شلتوت في مقدمته لقصة التقريب (وكنت أود لو كتب قصة التقريب أحد غير أخي الإمام المصلح محمد تقي القمي ليستطيع أن يتحدث عن ذلك العالم المجاهد الذي لا يتحدث عن نفسه ولا عما لاقاه في سبيل دعوته وهو أول من دعا إلى هذه الدعوى وهاجر من أجلها إلى هذا البلد...بلد الأزهر الشريف – فعاش معها وإلى جوارها منذ غرسها بذرة مرجوة على بركة الله، وظل يتعهد بالسقي والرعاية بما أتاه الله من عبقرية وإخلاص وعلم غزير وشخصية قوية وصبر على الغير وثبات على صروف الدهر حتى رآها شجرة سامقة الأصول باسقة الفروع تؤتي أكلها كل حين – بإذن ربها ويستظل بظلها أئمة وعلماء ومفكرون في هذا البلد وفي غيره..) وظل الشيخ القمي يعمل لآخر أيامه على توحيد صف المسلمين وجمع كلمتهم إلى أن توفاه الله إلى رحمته سنة 1990م).

ص: 564

الشيخ محمد جواد مغنيه العاملي:

هو العلاّمة والمفكر الإسلامي ومن أبرز علماء لبنان، الذي عين قاضياً شرعياً في بيروت ثم مستشاراً للمحكمة الشرعية العليا فرئيساً لها بالوكالة، وكانت لديه لقاءات كثيرة مع أكثر من عالم في أسفار دار فيها حوار ونقاش وبحث وقراءة لأفكارهم ومحاولة الإقناع بالكلمة الطيبة، كما بذل رحمه الله تعالى جهوداً حثيثة في سبيل تحكيم الوحدة الإسلامية. حيث كان يستغلّ كلّ فرصة للانفتاح على علماء أهل السنّة والتحاور معهم، في خصوص الوحدة، وما هي السبل والآليات التي تكفل تحقيقها على أرض الواقع

في عام 1960م التقى بالشيخ محمّد أبي زهرة بدمشق. وفي عام 1970م زاره الدكتور مصطفى محمود. كما كانت له لقاءات مع كلّ من الشيخ الفحّام فقيه الأزهر، والشيخ الشرباصي. وفي سنة 1963م سافر الشيخمحمّد جواد مغنيّة إلى مصر وزار كلاًّ من جامعة الأزهر والقاهرة وعين شمس، كما زار مؤسّسة دار الكتب بعد ذلك التقى بشيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت، ودار بينهما حديث حول الوحدة الإسلامية.

إن سعة الثقافة والفكر في مدينة النجف الأشرف قد تركت أثرها الواضح على فكر وشخصية الشيخ مغنيه (قدس الله نفسه) والتي أعتبرها بداية الحل في تناوله للمشكلات الإنسانية، وذلك بانفتاحهِ على أبعاد المعرفة الإنسانية المختلفة. إذ لا ريب أن أحد أبرز المفاتيح في شخصيته تكمن في خلفيتهُ المعرفية وثقافتهُ الواسعة المتفتحة على آفاق رحبة في الفكر والحياة، وكان يسعى بقلمه وقوله في التقريب بين المسلمين فألف الكتب ونشر المقالات.

الشيخ محمد رضا المظفر:

من كبار المفكرين والعلماء الرساليين في النجف الأشرف، له في مجال التقريب عدة أبحاث ومناظرات نذكر مقتطفات منها بقلمه الشريف: (..إن الباحث الذي يريد أن يدرس مجموعة ما من الحقائق في غير مصادرها الأولى ومظانها الأصلية إنّما يسلك شططا ويفعل عبثا، ليس هو من العلم ولا من العلم في شيء. ومثل هذا ما وقع فيه العلامة (الدكتور أحمد أمين) حين تعرض لمذهب الشيعة في كتبه. فقد حاول هذا العالم أن يجلي للمثقفين بعضا من جوانب ذلك المذهب فورط نفسه في كثير من المباحث الشيعية كقوله ((أن اليهودية ظهرت في التشيع)) ،وقوله: ((أن النار محرمة على الشيعي إلاّ

ص: 565

قليلا)) وقوله: ((بتبعيتهم لعبد الله بن سبأ.)) وغير هذا من المباحث التي ثبت بطلانها وبراءة الشيعة منها، وتصدى لها علماؤهم بالنقد والتجريح وفصّل الحديث فيها العلامة محمد حسين آل كاشف الغطاء في كتابه ((أصل الشيعة وأصولها)). وإني لواثق بأن فكرة التقريب بين المذاهب أصبحت اليوم حاجة ملحة وهدفا رفيعا لكل مسلم غيور على الإسلام مهما كانت نزعته المذهبية ورأيه في المخلفات العقائدية، وليس شيء افضل في التقريب من تولي أهل كل عقيدة أنفسهم كشف دفائنها وحقائقها وهذه الطريقة فيما اعتقد أسلم في إعطاء الفكرة الصحيحة عن المذهب وأقرب إلى فهم الصواب من الرأي الذي يعتنقه جماعته.

ولا يجهل خبير مقدار الحاجة اليوم خاصة إلى التقريب بين جماعات المسلمين المختلفة ودفن أحقادهم إن لم نستطع أن نوحد صفوفهم، وجمعهم تحت راية واحدة أقول ذلك وإني لشاعر مع الأسف أنّا لا نستطيع أن نضع شيئا بهذه المحاولات مع من جربنا من هؤلاء الكتاب كالدكتور أحمد أمين وإضرابه من دعاة التفرقة فما زادهم توضيح معتقدات الإمامية إلاّ عنادا وتنبههم على خطاهم إلاّ لجاجا، وما يهمنا من هؤلاء وغير هؤلاء أن يستمروا على عنادهم مصرين لولا خشية أن ينخدع بهم المغفلون فتنطلي عليهم تلك التخرصات وتورطهم تلك التهجمات في إثارة الأحقاد والحزازات.إن من أعظم وأجمل ما دعا إليه الدين الإسلامي هو التآخي بين المسلمين على اختلاف طبقاتهم ومراتبهم ومنازلهم. بلى إن المسلمين لو وقفوا لإدراك ايسر خصال الاخوة فيما بينهم وعلموا بها لارتفع الظلم والعدوان من الأرض، ولرأيت البشر إخوانا على سرر متقابلين قد كملت لهم أعلى درجات السعادة الاجتماعية، ولتحقق حلم الفلاسفة الأقدمين في المدينة الفاضلة، فما احتاجوا حينما يتبادلون الحب والمودة إلى الحومات والمحاكم ولا إلى الشرطة والسجون، ولا إلى قانون للعقوبات، وأحكام للحدود والقصاص، ولما خضعوا لمستعمر ولا خنعوا لجبار، ولا استبد بهم الطغاة ولتبدلت الأرض غير الأرض وأصبحت جنة النعيم ودار السعادة).

الشيخ مرتضى آل ياسين:

وهو أحد أقطاب هذه الأسرة وفي الطليعة من أعلام رجالها، له في مجال التقريب.. تحت عنوان: (نهضة مباركة) : (انّ لي املا ايقظه في نفسي هذا العمل الصالح، الذي

ص: 566

قامت به حكومة الهند. حين حرمت الخمر على القسم الموبوء بها من بلادهم ومرّد هذا الأمل إلى حسن ظني بجماعة كبار العلماء في الأزهر الشريف الذين نصبوا أنفسهم لمناصرة هذا الدين كلما وجدوا إليها سبيلا، فها انذا ادفع إلى حضراتكم باقتراحي عن طريق جماعة التقريب، عسى أن يأخذ حظه من عنايتهم وتفكيرهم، فيضعوه موضع العلم والتطبيق، في وقت غير بعيد إن شاء الله تعالى. ولما كان من أهم ما تعمل له جماعة التقريب، أن تقوم بالسعي المستمر في كل أمر يعود على المسلمين في شتى البلاد بالخير والصلاح، وأن تسفر بين علماء الأقطار الإسلاميّة من كافة المذاهب، فتنقل إلى كل ما عند الآخرين، وتجمع على قلوبهم ومساعيهم على ما فيه صلاح أمتهم، فقد اتصلت دار التقريب على الفور بحضرتي صاحب الفضيلة العالمين الجليلين الشيخ عبد المجيد سليم والشيخ محمود شلتوت من أعضاء جماعة كبار العلماء وتحدثت إليهما في هذا الشأن فرحبا باقتراح العلامة المرتضى، وشكراه على حسن ظنه، وكريم ثقته في علماء الأزهر، وبشّرانا بأن الجماعة قد اعتزمت القيام على وجه حاسم بواجب الجهاد الديني في محاربة المنكرات، ودرء المفاسد الخلقية وما يوجه إلى الدين من مطاعن، منشؤها الجهالات أو العداوات، وأنها ستجتمع لذلك في وقت قريب، ولا شك إنها ستلتقي مع فكرة الأستاذ الجليل، وتعمل من جانبها على تحقيق ما ترمي إليه من خير للمسلمين).

جمال الدين الأفغاني:

هو فيلسوف الإسلام في عصره، وأحد الرجال الافذاذ الذين قامت على سواعدهم نهضة الشرق الحاضرة، ولد في أفغانستان وسافر إلى الهند. وانتظم في سلك رجال الحكومة، كما رحل إلى مصر، فنفخ فيها روح النهضة الإصلاحية، في الدين والسياسة، وتتلمذ له نابغة مصر الشيخ محمد عبده، وكثيرون. ونفته الحكومةالمصرية (سنة 1296ه-) فرحل إلى حيدر آباد، ثم إلى باريس. وأنشأ فيها مع الشيخ محمد عبده جريدة (العروة الوثقى) ورحل رحلات طويلة وتوفي بالاستانة وكان عارفاً باللغات العربية والافغانية والفارسية والسنسكريتية والتركية وتعلم الفرنسية والانجليزية والروسية. لم يكثر من التصنيف اعتمادا على ما كان يبثه في نفوس العاملين وانصرافا إلى الدعوة بالسر والعلن. له تاريخ الافغان، رسالة في الرد على الدهريين، أما آراوه في التقريب: (لا التمس بقولي هذا أن يكون مالك الأمر في الجميع شخصا واحدا، فإن هذا ربما كان

ص: 567

عسيرا، ولكني ارجو أن يكون سلطان جميعهم القرآن، ووجهة وحدتهم الدين، وكل ذلك ملك على ملكه يسعى بجهده لحفظ الآخر ما استطاع فإن حياته بحياته وبقاءه ببقائه. إلاّ أن هذا بعد كونه أساسا لدينهم تقضي به الضرورة، وتحكم به الحاجة في هذه الأوقات. هذا آن الاتفاق، هذا الاتفاق إلاّ أن الزمان يواسيكم بالفرص وهي لكم غنائم فلا تفرطوا، إن البكاء لا يحيى الميّت، ان الأسف لا يرد الفائت، ان الحزن لا يدفع المصيبة، ان العمل مفتاح النجاح، ان الصدق والإخلاص سلم الفلاح..).

الشيخ فتح الله بن محمد جواد (شيخ الشريعة الأصفهاني) :

كان عالماً فاضلاً واسع الاطلاع كثير الحفظ حسن المحاضرة وله اليد الطولى في الرجال والحديث والتاريخ وكان من المدرسين وأهل المنابر، له في مجال التقريب.. تحت عنوان بيان للمسلمين: (إذا كان الغرض هو إزالة الخلاف بين المذاهب الإسلاميّة وجعلها مذهبا واحد سنيا فقط أو شيعياً أو وهابيا كيف واختلاف الرأي والخلاف في الجملة طبيعة ارتكازية في البشر، ولعل إليه الإشارة بقوله: ﴿ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم﴾ أي للرحمة أو للاختلاف على الخلاف ولكن ينبغي أن يكون من المقطوع به أن ليس المراد من التقريب بين المذاهب الإسلاميّة إزالة اصل الخلاف بينها، بل أقصى المراد وجل الغرض هو إزالة أن يكون هو الخلاف سببا للعداء والبغضاء، الغرض تبديل التباعد والتضارب، بالإخاء والتقارب فان المسلمين جميعا مهما اختلفوا في أشياء من الأصول والفروع فانهم قد اتفقوا على مضمون الأحاديث المقطوع عندهم بصحتها من أن من شهد الشهادتين واتخذ الإسلام دينا له، فقد حرم دمه وماله وعرضه، والمسلم أخو المسلم وان من صلى إلى قبلتنا، واكل من ذبيحتنا، ولم يتدين بغير ديننا فهو منا، له مالنا وعليه ما علينا).

السيد هبة الدين الشهرستاني:

امتاز هذا العالم الجليل من بين جميع اقرانه بأنه كان أفضل من يقوم بتدريس الهيئة (الجغرافية، الرياضية) وان دراسة المواريث في الفقه مما تلزم الفقهاء بأن يدرسوا من الرياضيات، وكان يرى وجوب توسيع الأفكار الحديثة والدعوة إلى الإصلاح اصدر مجلة (العلم) في النجف الأشرف، وقد استوزر بوزارة الكَيلاني الثانية وقد تولى رياسة مجلس التميز الشرعي الجعفري وعلاقة السيد هبة الدين بالعالم الإسلامي علاقة متينة،

ص: 568

فقد عاش للإسلام كله وللمسلمين كلهم. كانت تصل إليه من مختلف الأقطار الإسلاميّة استفتاءات وأسئلة واسترشادات وكان يرد عليها، وله في مجال التقريب بعنوان (رمضان رمز تقريب القلوب وتأليف الشعوب: (...ليس القرآن وسيلة الهدى للعرب فقط وان بدأ بهم، بل اهتدى بأنوار معارفه العالية عامة البشر كما انه ليست الاستفادة من القرآن مقصورة على إصلاح العقائد والعادات فقط بل أقام العالم في توجيههم إلى علوم الطب والطبيعة وأسرار الكائنان وكامنات السماء، وأفاد العرب خصوصا في تقويم اللسان وتقوية البيان وتوسيع فنون اللغة والبلاغة والأدب فإذا أهلّ شهر رمضان فانه يذكر المسلمين بهذا ونبههم إليه تنبيها قويا، وكأني بالقرآن الكريم يطل من علياء سمائه على المسلمين في كل بقعة من بقاع الأرض مع هلال رمضان فيناديهم، أنا الهدى فهل من مهتد؟ أنا النور فهل من مستضيء؟ أنا شعار مجدكم، وعنوان عزكم، ورمز عظمتكم، أنا هدية الله إليكم، أنا رحمة الله فيكم، أنا المنهاج القويم، أنا الصراط المستقيم، بي تعزون، وبمبادئي تسودون، فاعتصموا بي فأنا حبل الله، واستظلوا بلوائي فأنا ظل الله، (وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولاتتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) فإذا أنصت المسلمون إلى هذا النداء، وأجابوا داعي الله فاصلحوا أنفسهم ورجعوا إلى كتاب ربهم فاجدر بهم أن ينالوا مجد الدنيا ومجد الآخرة. أما إذا استقبلوا القرآن على انه كتاب يتلى لمجرد التعبد بتلاوته أو كان تركيمهم إياهم مقصورا على عدم مسه إلاّ على طهارة أو على حمله تفاؤلا باستصحابه أو دفعا لما يتوقع من أخطار أو كتابة بعض آياته في مصاحف منقشة بخط جميل ورسم جميل وتعليقها على حوائط البيوت والمحال أو كانت عنايتهم به في حدود التمرن البلاغي، والتطبيق الأدبي، كما تدرس النصوص الأدبية دراسة لفظية فأهون بهذا كله وما أبعده عما انزل الله له كتابه العزيز، وفيه إشعار المسلمين بأنهم أمة واحدة لا فرق بين قاصيهم ودانيهم ولا بين غنيهم وفقيرهم يصومون معا ويفطرون معا ويشعر بعضهم بشعور بعض).

السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي الموسوي:

هو فقيه إمامي وله اشتغال بالحديث ومشاركة في الحركات السياسية الوطنية ببلاد الشام، وله في مجال التقريب: (ونحن لو محصنا التاريخ الإسلامي، وتبينا ما نشأ فيه من عقائد وآراء ونظريات، لعرفنا أن السبب الموجب لهذا الاختلاف إنّما هو ثورة العقيدة،

ص: 569

ودفاع عن نظرية أو تحزب لرأي، وان اعظم خلاف وقع بين الأُمة اختلافهم في الإمامة فانه ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة، فأمر الإمامة إذن من اكبر الأسباب المباشرة لهذا الاختلاف، وقد طبعت الأجيال المختلفة في الإمامة على حب هذه العصبية والفت هذه الحزبية، بدون تدبر وبدون روية ولو أن كلا من الطائفتين نظرت في بينات الأخرى نظر المتفاهم لا نظر الساخط المخاصم، لحصحص الحق وظهر الصبح لذي عينين). وهو من دعاة الوحدة،ولكن لا بشكلها السلبي الذي يدعو إلى تناسي الماضي والتغافل عنه من أساسه، وإسدال الستار على كل ما فيه من مفارقات على نحو ما تبناها بعضهم ناسين أو متناسين أن السكوت عنها وإسدال الستار لا يذهبان برواسبها المتأصلة في النفوس، وإنّما تبقى تعمل عملها في داخلها إلى أن تظهر بصورة انفجار يلتمس المنفذ له في مناسبة عابرة من المناسبات، فهو يرى أن جملة كبيرة من صور الخلاف بين الفريقين لا تستند على أساس، وإنّما هي وليدة نسب كاذبة ودعايات خلقتها بعض الظروف وغذتها قسم من السلطات في عهود غابرة ولو قدر لها أن تبحث بحثا موضوعياً لآمن الفريقين بمدى بعدها عن الواقع، والخلافات الأخر لا تعدو أن تكون من قبيل الخلافات بين أي مذهب ومذهب، أو مجتهد ومجتهد، وهي لا تستحق التنابذ والتحاقد، وحتى لو أمكن أن تعرض للجدل والنقاش على نحو ما صنعه العلمان في (المراجعات) لقاربت بين وجهات النظر.

السيد محمد حسين الطباطبائي البروجردي:

هو علم من أعلام الفقه، وأستاذ كان يحضر درسه جمع كبير من المجتهدين، والمهم أنه كان صاحب طريقة خاصة في الاستنباط والاستدلال لها علاقة مهمة بالتقريب، من ذلك أنه كان يعتقد بأن الرجوع إلى فتاوى علماء أهل السنة ييسر السبيل لفهم روايات أهل البيت (علیهم السلام) ، لان هذه الروايات صدرت غالبا تعليقا على الفتاوى الرائجة الرسمية آنذاك. وكان السائل يأتي الامام فيذكر الفتوى الرائجة من علماء أهل السنة ويسأله عن رأيه فيها، والامام يجيب.كان السيد يرى أن الرجوع إلى فتاوى علماء السنة على مر التاريخ هو مقدمة للاجتهاد عند الشيعة. والمهم أنه كان يؤكد مرارا أن هذه الطريقة هي سنة علماء السلف من فقهاء الشيعة الإمامية فالقدماء كانوا يهتمون بمقارنة فتاوى أهل السنة والشيعة، وخلفوا لنا في هذا المجال كتبا مهمة سميت بالخلاف، واهتم

ص: 570

السيد البروجردي بهذه الكتب، وحرص على التعليق على كتاب الخلاف للشيخ الطوسي (قدس سره) وظلت هذه السنة الحسنة بعده رائجة في الحوزة العلمية، متمثلة بدراسات الفقه المقارن. والظاهرة الثانية في مدرسة السيد الفقهية، أنه كان يفصل بين الظاهرة الأموية وظاهرة أهل السنة في التاريخ إن سعي الأمويين لتحريف أحكام الإسلام دفع ببعض العلماء لأن يعتقد بأن الأحكام الموجودة لدى أهل السنة قد حرفت عمداً من قبل علماء السلطة. ولكنه كان لا ينظر إلى فقه أهل السنة بهذا المنظار المتشائم، بل كان يجهد لاستبيان علة الاختلاف في الفتوى. وقد كتب إليه الشيخ محمود شلتوت مرة يقول: (أثمن جهودكم، وأسال الله القادر العليم أن يحقق آمالكم الإسلاميّة... وبشراكم فان خطواتكم على طريق التقريب كانت مدعاة للصلاح والسير نحو الله). ومن الظواهر الهامة في نشاط السيد البروجردي على الصعيد العلمي تغيير مسير الحوار بين أهل السنة والشيعة، نحو ما يمكن أن يتفقوا عليه، وإبعاد الحوار عنالمسار الذي لا يمكن أن يتفقوا عليه، وكان السيد البروجردي يتحدث عن شيوخ الأزهر ويتحدث عن الشيخ محمد عبده وغيرهم من علماء أهل السنة بتقدير وإجلال، كما أنه كان يراجع دائما كتاب (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) لابن رشد الأندلسي باعتباره من أحسن الكتب في الفقه المقارن. وطالما رأيت الكتاب مفتوحا أمامه على منضدته. وتعرف طلابه على هذا الكتاب عن طريقه.

الشيخ عبد الكريم الزنجاني:

هو أحد علماء النجف الأشرف الكبار، زار القاهرة وألقى فيها عدة محاضرات محاولاً فيها إثبات التقارب بين المذهبين الإسلاميين الكبيرين مذهب أهل السنة ومذهب الإمامية الاثني عشرية توطئة لإقامة حُسن الظن والمودة بين الجميع، كما عقد في دار المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين بالقاهرة اجتماع كبير حضره أكثر من خمسة آلاف نفر للاحتفال به، كما وجهت إليه دعوة لأجل إلقاء محاضرة في الازهر الشريف. دُعي فيها كبار شخصيات مصر من ادباء وعلماء ومثقفين وشعراء ومدرسين في الأزهر، وكان من بين الحضور عميد الأدب العربي طه حسين، وكان موضوع محاضرة الشيخ الزنجاني (البعد الرابع في نظرية اينشتين) وابدى رأيه الخاص بها، ونظرية اينشتين في ذاك الوقت كانت في بدايتها فلما

انتهى من محاضرته، قال طه حسين لمرافقه خذ بيدي إلى هذا الشيخ

ص: 571

الجليل.. ثم امسك بيد الشيخ عبد الكريم وقبلها إجلالاً واحتراماً للعلم. وقال: (هذه أول يد أقبلها بعد يد أبي رحمه الله وآخر يد أقبلها بإذن الله) ، ثم تابع قوله : (وكأني اسمع ابن سينا بُعث من جديد).

وأقامت جمعية الهداية الإسلاميّة محفلاً علمائياً كبيراً، تم تكريم الشيخ الزنجاني فيه، وطلب الحاضرون منه أن يُلقي على مسامعهم كلمة فوقف الشيخ، وألقى خطبة جامعة بين العلم والأدب والحكمة قوبلت بالتصفيق الشديد والإعجاب التام، جاء فيها: (.. المؤسف أن الأُمة الإسلاميّة مبتلاة منذ مدة طويلة بالجدل العقيم تجادل في الأصول وتجادل في الفروع وتجادل فيما هو أقل شأنا من الأصول والفروع، راضية بهذا الجدل، لاهية عن سر الإسلام وعظمته وعن مقومات الأمم التي لا تستطيع أمة أن تحيا وترفع رأسها إلاّ بها ولم يقف أمر التخاذل بينهم عند التخاذل بين الأمم بل تخاذلوا جماعات وتخاذلوا أفراداً وانقطعت الروابط بينهم كما تقطعت بينهم وبين أهل سائر الأديان السماوية وضيعوا جمال التعاليم الإسلاميّة وجلالها... وإذا قدر لهذا المؤتمر العام أن يقوم بأعماله وهي توحيد شعور المسلمين وتوحيد ثقافتهم وتقريب صلاتهم الدينية وتكوين الأخوّة الإسلاميّة الشاملة فليس له أن يغير شيئاً من جوهر المذاهب الإسلاميّة وعناصرها الأولية، وليس المقصد توحيد المذاهب، لأن حكمة اختلاف الآراء سنة الله في الكون، قال الله تعالى: ﴿ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم﴾ والسر فيه أن بالاختلاف يظهرالحق والحقيقة الناصعة لأن الرأيين المتخالفين كقوتي السلب والإيجاب في الكهرباء اللتين يتولد منهما النور ولكن الشرط المهم فيه حفظ التوازن فإذا فقد التوازن حصل الاحتراق فكذلك حال اختلاف الآراء فإنه يؤدي إلى ظهور الحق إذا روعيت شروط المناظرة والجدل، ولهذا لا تنتج السفسطة شيئاً أصلا سوى الابتعاد عن الحق بل المقصود أن لا يتخذ المسلمون هذه الاختلافات المذهبية معولاً هداماً لأساس الدين وقاطعاً للرابطة الدينية التي هي أقوى من الروابط الاجتماعية والعنصرية والجغرافية سيما في الشرق بعد أن خلت السياسة في الغرب في مكان الدين، وأن ينصرف المسلمون إلى البحث والإسهاب في مواضيع لها أكبر مساس بحياتنا الاجتماعية وتداوي أمراضنا الخلقية، وتهذب عاداتنا القومية، وتعدل اعوجاجاً سرى في طبقاتنا المختلفة فانحلت به روابط الأُمة المؤتلفة فأصابنا التخاذل

ص: 572

والتدابر، وأصبح شعارنا الشكوى والتلاوم، وضعف فيما بيننا أداء ذلك الواجب الذي كنا به خير أمة أخرجت للناس وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء:

وهو من مشاهير علماء الإسلام في الشرق وأبعدهم صيتا وأغزرهم علماً في العالم الإسلامي، بل هو من عظماء المجتمع الإنساني ومن أعاظم فقهاء الشيعة، وله في مجال التقريب أبحاث كثيرة ومناظرات ومساجلات اقتطفنا منها سطوراً: (إذا كان الغرض هو إزالة الخلاف بين المذاهب الإسلاميّة، وجعلها مذهبا واحد سنيا فقط أو شيعيا أو وهابيا، كيف واختلاف الرأي والخلاف في الجملة طبيعة ارتكازية في البشر، ولعل إليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم﴾ أي للرحمة أو للاختلاف على الخلاف، ولكن ينبغي أن يكون من المقطوع به أن ليس المراد من التقريب بين المذاهب الإسلاميّة إزالة اصل الخلاف بينها، أقصى المراد وجلّ الغرض هو إزالة أن يكون هذا الخلاف سببا للعداء والبغضاء، الغرض تبديل التباعد والتضارب، بالإخاء والتقارب، فإن المسلمين جميعا مهما اختلفوا في أشياء من الأصول والفروع فانهم قد اتفقوا على مضمون الأحاديث المقطوع عندهم بصحتها من أن من شهد الشهادتين واتخذ الإسلام دينا له فقد حرم دمه وماله وعرضه والمسلم أخو المسلم، وإن من صلى إلى قبلتنا، واكل من ذبيحتنا، ولم يتدين بغير ديننا فهو منا، له ما لنا وعليه ما علينا.

إن جمعية التقريب لعلها تقول بعد اتفاقهم على كلمة واحدة على أن القرآن العزيز وحي من الله جل شانه وان العمل به واجب، ومنكر كونه وحيا كافر. والقرآن صريح في لزوم الاتفاق والإخاء والنهي عن التفرق والعداء، وقد جعل المسلمين اخوة فقال عز شانه: ﴿إنّما المؤمنون اخوة﴾، ﴿واعتصموا بالله جميعا ولا تفرقوا﴾ ﴿ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء﴾ إلى كثير من أمثالها، فبعد اتفاقهم على وجوب الأخذ بنصوص الكتاب الكريم فأي عذر لهم في هذا التباعد والتباغض والعداء والبغضاء، وكفى بالقرآن جامعاً لهم مهما بلغالخلاف بينهم في غيره، فإن رابطة القرآن تجمعهم في كثير من الأصول والفروع تجمعهم في اشد الروابط من التوحيد والنبوة والقبلة وأمثالها من الأركان والدعائم، واختلاف الرأي فيما يستنبط أو يفهم من القرآن في بعض النواحي، اختلاف اجتهادي لا يوجب التباغض والتعادي. نعم اعظم فرق جوهري، بل

ص: 573

لعله الفارق الوحيد بين الطائفتين: (السنة والشيعة) هو قضية الإمامة حيث وقع الفرقتان منها على طرفي الخط، فالشيعة ترى أن الإمامة اصل من أصول الدين وهي رديفة التوحيد والنبوة، وأنها منوطة بالنص من الله ورسوله، وليس للأمة فيها من الرأي والاختيار شيء كما لا خيار لهم في النبوة بخلاف اخواننا من أهل السنة، فهم متفقون على عدم كونها من أصول الدين ومختلفون بين قائل بوجوب نصب الإمام على الرعية بالإجماع ونحوه، وبين قائل بأنها قضية سياسية ليست من الدين في شيء لا من أصوله ولا من فروعه، ولكن مع هذا التباعد الشاسع بين الفريقين في هذه القضية هل نجد الشيعة تقول أن من لا يقول بالإمامة غير مسلم (كلا ومعاذ الله) أو نجد السنة تقول أن القائل بالإمامة خارج عن الإسلام - لا كلا - إذن فالقول بالإمامة وعدمه لا علاقة له بالجامعة الإسلاميّة وأحكامها من حرمة دم المسلم وعرضه وماله وجوب اخوته، وحفظ حرمته وعدم جواز غيبته إلى كثير من أمثال ذلك من حقوق المسلم على أخيه. والغرض من كل هذا أننا مهما تعمقنا في البحث ومشينا على ضوء الأدلة عقلية أو شرعية وتحررنا من الهوى والهوس والعصبيات فلا نجد أي سبب مبرر للعداء والتضارب بين طوائف المسلمين مهما اتسعت شقة الخلاف بينهم في كثير من المسائل).

السيد محمد تقي المدرسي:

ولد المرجع المدرسي في كربلاء المقدسة عام 1945م في بيت أقيمت دعائمه على اُسس العلم والفضيلة، وهو سليل أسرة ارتدت ثوب المرجعية الدينية لأكثر من قرن من الزمن، ونظراً لتعاظم نشاطاته الفاعلة، وأعماله الرسالية في نشر الثقافة الرسالية ومقاومة الديكتاتورية والطغيان الحاكمة في العراق، تعرض السيد المدرسي لضغوطات سياسية وأمنية، مما اضطرته إلى الهجرة خارج العراق، وعاد إليه بعد سقوط الطاغية عام 2003م. وله نشاطات عديدة وفي مختلف المجالات، كما أثرى المكتبة الإسلامية بمجموعة كبيرة من الدراسات والكتب التي تناولت مجالات متعددة، وعالجت قضايا مختلفة، وخصوصاً المصيرية منها، برؤى إسلامية حديثة استلهمها من القرآن الحكيم وأحاديث النبي وأهل البيت (علیهم السلام).

وهو من دعاة المحافظة على مبدأ التعايش السلمي ومعالجة التوترات والاختلافات بين المذاهب والفرق المختلفة، بالحكمة والموعظة الحسنة ومن الرافضين لمبدأ العنف

ص: 574

والتطرف. وكان ينبه المسؤولين على ضرورة العمل على عدم السماح بأن ت-ُجرّ البلاد إلى أي نوع من التوتر و العنف والعنف المضاد، حتى في النقد والتعبير عن الرأي ما أمكن ذلك، ولطالما طالب بإيجاد حلول ومعالجات عقلانية حكيمة بالحواروالتواصل والمحافظة على أُسس التعايش الوطني السِلمي. وعدم الإنجرار وراء إثارة العصبيات والنعرات الطائفية التي لن تخدم سوى أعداء العراق. وقال (دام ظله) معرباً عن رأيه حول هذا الموضوع: (إلى متى هذا المسلسل الذي يبدو أنه لا ينتهي من العنف والعنف المضاد والتوتر والاضطراب ومن المشاكل التي تتواتر علينا من كل مكان) مؤكداً (أن العراق سفينة جميع أبناء الشعب إن سلمت سلم الجميع ووصلوا إلى بر الأمان وإن غرقت - لا سمح الله - غرقت بالجميع). كما دعا المجتمعات الإسلامية إلى تجنب علماء السوء وعدم الأخذ بالفتاوى التي تصدر عنهم مقابل دولارات النفط والمناصب التي تمنح لهم من قبل الطغاة وحكام الجور، مؤكداً على ضرورة إتباع العلماء الربانيين الذين يدعون المجتمعات إلى الوحدة والوئام ونبذ الاقتتال والتناحر.

أما القضية الفلسطينية فقد تحدث عنها قائلاً: (إن أمام اليهود خياراً واحداً مادونه الحرب والدمار، وهو التعايش السِلمي وعدم الاعتماد على القوى الخارجية) واستمد (دام ظله) قوله هذا من القرآن الكريم، لذا دعا إلى تشكيل حكومة يشترك فيها الفلسطينيون واليهود والمسيحيون بشكل جماعي، والمحاولة على طي صفحة الكيان الصهيوني، مؤكداً عدم جدوائية تشكيل دولتين متعارضتين الاولى لإسرائيل واخرى للسلطة الوطنية الفلسطينية، لان الصراع سيبقى بين هاتين الدولتين، والحل الامثل هو في تشكيل دولة واحدة يعيش فيها اليهود والمسلمون والمسيحيون بصورة متكافئة.

السيد موسى الصدر:

هو علم من الأعلام التي عملت من أجل الدعوة للعيش المشترك ومن أجل الدعوة إلى توحيد الصف الإسلامي – المسيحي، والذي أعطى لدور الطوائف اللبنانية بعداً وطنياً، وأعطى لهذا البعد قضية، وتمكن من تطوير وتمتين عمارة الحياة المشتركة بين المسيحيين والمسلمين وكافة المذاهب، وعمل بشكل حثيث على توحيد كلمة اللبنانيين جميعاً بكل طوائفهم، سواء المسلمون في ما بينهم، أو المسلمون والمسيحيون، فجال على كل القرى اللبنانية، وسعى إلى إنهاء أي فتنة مذهبية، وألقى المحاضرات في الجامعات

ص: 575

والمساجد والحسينيّات والكنائس دعياً إلى ذلك، ممّا انعكس إيجاباً منذ ذلك الزمن وحتّى الزمن الحاضر على مستوى التعايش الإسلامي المسيحي، ليصبح نموذجاً يحتذى في كل العالم، وتحرّك في مختلف قرى جبل عامل ثم في قرى منطقة بعلبك-الهرمل، يعيش حياة سكانها ومعاناتهم من التخلف والحرمان. ثم تجوّل في باقي المناطق اللبنانية، متعرفاً على أحوالها ومحاضراً فيها ومنشئاً علاقات مع الناس من مختلف فئات المجتمع اللبناني وطوائفه، وداعياً إلى نبذ التفرقة الطائفية باعتبار أن وظيفة الدين هي الاستقامة الاخلاقية و (أن الأديانواحدة في البدء والهدف والمصير) وداعياً أيضاً إلى نبذ المشاعر العنصرية وإلى تفاعل الحضارات الإنسانية وإلى مكافحة الآفات الاجتماعية والفساد والإلحاد.

وقد اعتبر السيد موسى الصدر التعايش الإسلامي المسيحي ثروة لا يجب الاستغناء عنها ولابد من المكافحة في سبيل بقائها، وقد قال عنه الأمين العام للجنة الحوار الإسلامي المسيحي (الأب انطوان ضو) مشيداً بدور السيد الصدر: (السيد موسى الصدر هومن أكبر دعاة العيش المشترك وليس منظّراً فقط، هو عاش على الارض هذا العيش المشترك الحقيقي وليس بالشعارات فقط، فحمل هموم الناس وهم الفقراء، وهم الامن وهم التعايش). وقال في حقه رئيس المجلس السياسي الإسلامي الفلسطيني في لبنان (الشيخ نمر زعموت) : (إن هذا الإمام الذي بعثه الله للأمة الاسلامية عامة والعربية واللبنانية خاصة كان دوره على رأب الصدع أولاً بين المسلمين، اذ دعا الى ان يعود المسلمون الى دينهم ولا يعودوا الى مذاهبهم واجتهاداتهم، لأن العودة إلى القرآن وسُنة رسول الله وسيرة آل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين) هي التي ترد المسلمين إلى دينهم بالشكل الحقيقي وتعمل على وحدتهم بالشكل الذي اراده الله لهم، فعمل هذا الامام ما بوسعه ليلاً نهاراً، سرا و جهارا، يدعو الى وحدة المسلمين ونبذ الفرقة والمذهبية والفتنة).

السيد محمد حسين فضل الله:

هو أحد كبار مراجع لبنان المعروفين، كان له الدور البارز في كسر الجمود وتفعيل الحوار بين الأديان والمذاهب، كما كان أحد أبرز أعضاء المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب، وشارك في العديد من الندوات والمؤتمرات في لبنان وإيران ومصر وأفغانستان والولايات المتحدة الأمريكية وسوريا، وليس من السّهل أن تتبع فكراً غزيراً كفكر السيّد

ص: 576

فضل الله، فالحوار يمثّل منهجاً في تكوين فكر السيّد فضل الله. وطبيعة فكر السيّد فضل الله تكمن كفكر متحاور ينضج وينمو في ظلّ الحوار، السمة البارزة عنده هي مبدأ الحوار والوحدة، ومواجهة الغرائز والعصبيّات، فهو الّذي حاور في كلّ الظروف، وحاور كلّ النّاس، وكان محذّراً من الجمود والتحجّر في الموقف والسّلوك مشيراً إلى أنّنا بحاجة إلى حركة علميّة ورؤية تناقش كلّ شيء، وتعيد تعريف المصطلحات حتّى في إطار فهم المقدّسات. وكان يرى أنّ الناس في عمقهم وحدويون، وأن الحقد ليس حقيقة النّاس، ودور الوحدويّين أن يذكّروا النّاس بعمقهم الّذي يطلّ على الوحدة والحوار، ويرى أنّ المستقبل هو مستقبل الدّعاة إلى الوحدة، وليس لدعاة العصبيّة والأحقاد، فهؤلاء عابرو سبيل في طريق البشريّة، والمستقبل هو للكلمة الطيّبة الّتي أصلها ثابت وفرعها في السّماء، وكان وحدويّاً بامتياز، وكانت الوحدة الإسلاميَّة محور عمله في حياته، حيث قال: (إنّ هناك مذهبيَّة عشائريَّة وطائفيَّة وليست فكريَّة في معظم ما نواجهه، وصوَّب ذلك بأنّنا نقبل المذهبيّة الفكريّة ونرفض المذهبيّة العشائريّة).والسيّد فضل الله (رض) كان يؤكّد أنّ المسلم لا يمكن أن يسمح لنفسه بالإساءة إلى مسيحي أو إلى ايّ إنسان، فرسول الله (صلی الله علیه و آله) كان يقول إنّ المسلم هو الّذي سلم الناس من يده ولسانه، فأيّ مسلم هو هذا الّذي يقتل النّفس الّتي حرّم الله، ثم يعتبر أنّ ذلك جهاد؟!.

السيد محمد تقي الحكيم:

هو صاحب كتاب (الأصول العامة للفقه المقارن) الذي بعد طباعته شكلت جامعة بغداد لجنة من أساتذتها واعتبر الكتاب رسالة دكتوراه ومنحوه دكتوراه شرفية دون مناقشة فتعين أستاذاً في معهد الدراسات الإسلاميّة العليا في كلية الآداب في جامعة بغداد، وقد حضر عدة ندوات في مصر أثيرت فيها أحاديث حول التشيع، ومنها ما يتصل بعصمة أهل البيت، وقد حضر ندوة الإسكندرية بعض العلماء الجزائريين والسودانيين والليبيين والمصريين والأردنيين والصوماليين.

الشيخ حسن موسى الصفار:

هو أحد أبرز علماء القطيف وعضو في الجمعية العمومية للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، وله مشاركات في مؤتمرات الحوار الوطني بالمملكة العربية

ص: 577

السعودية، ومؤتمرات مركز الشباب المسلم في الولايات المتحدة الأمريكية، وبعض مؤتمرات وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في الكويت، ووزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في مملكة البحرين، وله دور ريادي كبير في حركة التواصل والانفتاح مع مختلف الأطياف والتوجهات في الساحة الوطنية والإسلامية، وقام بمبادرات لفتح قنوات الحوار بين السلفيين والشيعة في المملكة العربية السعودية. كما استضافته عدد من القنوات الفضائية في برامج حوارية لمناقشة قضايا الحوار المذهبي والوحدة الوطنية. ومن الجدير بالذكر أنه أسس وقاد في وطنه حراكاً اجتماعياً يهدف إلى تعزيز القيم الدينية، وتحقيق مفهوم المواطنة والمساواة بين المواطنين، وتجاوز التمييز الطائفي، والإقصاء الثقافي والمذهبي باعتماد منهجية العمل السياسي والإعلامي والثقافي، ومن أقواله: (لا نحتاج إلى التقیة مع تحقیق ثقافة اختلاف الرأي).

ثانياً/ علماء ومفكروا إخواننا أبناء السُنة والجماعة:

الشيخ محمد عبده:

هو رائد من رواد التقريب بين المذاهب الاسلامية، وهو مفتي الديار المصرية، ومن كبار رجال الإصلاح والتجديد في الإسلام، قام بشرح كتاب نهج البلاغة للسيد الشريف الرضي (قدس سره). وينقل عنه ما يلي حول موضوع التقريب بين المذاهب: (هل يمكن لنا ونحن على ما نرى من الاختلاف والركون إلى الضيم أن ندعي القيام بفروض ديننا. كيف ومعظم الأحكام الدينية موقوف أجراؤه على قوة الولاية الشرعية. فإن لميكن الوفاق والميل إلى الغلب فرضين لذاتهما أفلا يكونان مما لا يتم الواجب إلاّ به ؟ فكيف وهما ركنان قامت عليهما الشريعة كما قدمنا. هل لنا عذر نقيمه عند الله يوم العرض والحساب يوم لا ينفع خلة ولا شفاعة بعد هدم هذين الركنين، وأيسر شيء علينا إقامتهما وعديدنا خمسمائة مليون أو يزيد، هل يتيسر لنا إذا خلونا بأنفسنا وجادلتنا ضمائرنا أن نقنعها ونرضيها بما نحن عليه الآن) ، وقال أيضاً: (إن الميل للوحدة والتطلع للسيادة وصدق الرغبة في حفظ حوزة الإسلام كل هذه صفات كامنة في نفوس المسلمين قاطبة، ولكن دهاهم بعض ما أشرنا إليه في أعداد ماضية فالهاهم كما يوحي به الدين في قلوبهم وأذلهم أزمانا عن سماع صوت الحق يناديهم من بين جوانحهم، فسهوا وماغوَوا،

ص: 578

وزلوا وما ضلوا، ولكنهم دهشوا وتاهوا، فمثلهم مثل جواب للمحاهيل من الأرض في الليالي المظلمة، كل يطلب عونا وهو معه ولكن لا يهتدي إليه. وارى أن العلماء العاملين لو جهلوا فكرتهم لإيصال أصوات بعض المسلمين إلى مسامع بعض، لأمكنهم أن يجمعوا بين بهوائهم في اقرب وقت وليست بعسير عليهم ذلك بعدما اختص الله من بقاع الأرض بيته الحرام بالاحترام وفرض على كل مسلم أن يحجه ما استطاع، وفي تلك البقعة يحشر الله من جميع رجال المسلمين وعشائرهم وأجناسهم فما هي إلاّ كلمة تقال بينهم من ذي مكانة في نفوسهم تهتز إليها أرجاء الأرض، وتضطرب لها سواكن القلوب).

الشيخ محمود شلتوت:

هو أحد أبرز علماء الأزهر الشريف، الشيخ الوحدوي الشجاع، الذي كانت له مواقفه المشهودة في سبيل التقريب بين المسلمين، ومن أبرز تلك المواقف فتواه التاريخية بجواز التعبّد بمذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية، ومنها تأسيس دراسة الفقه المقارن في جامعة الأزهر، بل ومنها إقامته مجلس العزاء في يوم عاشوراء على الإمام الحسين (علیه السلام) في الأزهر. وكم هو الفرق حين يأتي عالم بهذا الوزن من الوعي والمسؤولية وبين أن يشغل هذا المنصب أو ذاك عالمٌ خفيف مأجور، أو متعصب لا يستعظم بشاعة إشعال الفتنة وتحريض هذا المذهب على ذاك؛ فيغرر بالبسطاء وعامة الناس، بإسم الإسلام. والواقع أن المال الوهابي القذر، والسياسة الشمطاء، والتعصب المقيت الأحمق، والجهالة هي المحرّك لا الإسلام، فهو من الفتن والظلم والتقاتل بين المسلمين بريء. ومن مظاهر نشاطه التقريبيّ ارتباطه بمراجع الشيعة وهو على رأس مشيخة الازهر. فقد راسل السيد البروجردي في قم وراسل السيد محسن الحكيم في النجف. وفي عهده بدأ العمل بتنفيذ مشروع "شلتوت - القمي"، ويقضي بجمع أحاديث السنة والشيعة في الموضوعات المختلفة، وهو عمل تقريبي هام يوفّر للباحثين سبل التحقيق، ويوضّح ما بين الفريقين من تقارب في السنّة بعد اتفاقهما الكامل على كتاباللّه تعالى. وكان المشرف على تنفيذ المشروع الشيخ محمد محمد المدني، ثم إجتمع عدد من تلاميذ الشيخ شلتوت ليواصلوا هذه الاطروحة.

ص: 579

العلامة سيد قطب:

هو كاتب ومفكر إسلامي معاصر، تخرج من كلية دار العلوم بالقاهرة وعمل بالصحافة والتدريس. بدأ حياته الفكرية كاتباً وشاعراً ناقداً ولكنه بعد ذلك أخذ يهتم بالدراسات القرآنية. ومن يقرأ مؤلفات سيد قطب – وعلى رأسها كتاب في ظلال القرآن – يلاحظ منهج هذا المفكر في تحقيق الوحدة الإسلاميّة والتقارب بين المذاهب الفقهية فيقول: إن الأمة التي يسود فيها الجدل بغير التي هي أحسن، والتي ينزغ الشيطان بين أبنائها، والتي تستبد بها نوازع العصبية والإقليمية، والتي يتصارع أفرادها لأتفه الأسباب، تصبح لقمة سائغة لعدوها، وتفقد كل الخصائص التي من أجلها كانت خير أمة أخرجت للناس). وتحدث سيد قطب ايضا عن الكتلة الإسلاميّة بصفتها صمام الأمن للبشرية قاطبة فقال: (الكتلة الاسلامية تملك المنهج الصحيح لقيادة الحياة، وأن سواها من الكتلة الشرقية أو الغربية لا تملك هذا المنهج، بل يحكمها التصور المادي والصراع الطبقي، والتمييز العنصري، ومن ثم كانت كل الدعاوى التي تصدر عن قادة هاتين الكلمتين لا تعرف الصدق، وهي لون من ألوان النفاق السياسي والتضليل الفكري، وتخدير الضعفاء حتى يستسلموا للحياة المهانة والدنية والتخلف والعبودية منهج الكتلة الإسلاميّة يحيي في النفوس شعور العزة الإسلاميّة، ويوقظ في الضمائر معاني الأخوة الصادقة ومسؤولية التعاون على الخير والبر، وبذلك يصبح كل مسلم مهما يكن موقعه جندياً مدافعاً عن كيانه، يبذل من نفسه وماله لكي تكون هذه الكتلة ليست مجرد شعور روحي يربط بين المسلمين، وإنما تصبح إلى هذا قوة دولية لها تأثيرها الفاعل ودورها البارز في حماية السلام العالمي، والقضاء على كل ألوان الظلم والامتهان لكرامة الإنسان).

الشيخ محمود أبو ريّه:

وهو من علماء مصر المحققين البارزين من آثاره ((عليّ وما لقيه من أصحاب الرسول - مخطوط)) و ((أضواء على السنة المحمديّة)) و ((أبو هريرة شيخ المضرة)) وله في مجال التقريب بحث اقتطفت منه أقواله..: ((ومن عجيب أمر هؤلاء الذين يقفون في سبيل الحق حتّى لا يظهر ويمنعون ضوء العلم الصحيح أن يبدو، لا يعلمون مقدار ما يجنون من وراء جمودهم، وان ضرر هذا الجمود لا يقف عند الجناية على العلم و الدين

ص: 580

فحسب ؟ بل يمتد إلى ما وراء ذلك. فإن الناشئين من المسلمين وغير المسلمين الذين بلغوبدراستهم الجامعية العلمية إلاّ انّهم لا يفهمون إلاّ لقبولهم، وما وصلوا بعلمهم، قد انصرفوا عن الإسلام لما بدى لهم على هذه الصورة المشوهة التي عرضها هؤلاء الشيوخ عليهم، من أجل ذلك كله كان من الواجب الحتم على العلماء المحققين الذين حرروا أعناقهم من أغلال التقليد، وعقولهم من رقّ التعبد للسلف، أن يشمروا عن سواعد الجد، ويتناولوا تاريخنا بالتمحيص، وان يخلصوه من شوائب الباطل والعصبيّات، ولا يخشون في ذلك لومة لائم ).

الشيخ محمد أبو زهره:

من أكبر علماء الشريعة الإسلاميّة في عصره. قال حول مسألة التقريب: (لقد ضرب لنا محمد - (صلی الله علیه و آله) - مثلاً في إصلاح المجتمع الصغير بالتعاون والإخاء فقد جاء إلى يثرب وكانت مدينة متنابذة متنازعة، مع انها في مجموعها لا تزيد في سكانها عن قرية كبيرة من قرى مصر كانت ثلاث طوائف (الأوس والخزرج واليهود) كان الاوس في نزاع مع الخزرج وكان كلاهما في نفرة مع اليهود الذين يجاورونهم. وجاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى هذا المجتمع المتنافر بعنصر رابع وهو المهاجرين الذين هاجروا معه، فكان لابد من عمل لهذا المجتمع الصغير الذي سيكون نواة لحضارة فاضلة تعلن لأهل الأرض أن في الإمكان أن توجد مدينة فاضلة تحكم بالفضيلة، وتحارب بالفضيلة وتعاهد بالفضيلة، وتمكث في الأرض تحكم بأمر الله ونهيه، وأن ابن الأرض لا يعجز عن أن ينفذ أحكام السماء جملة وتفصيلا إن كان معه إرادة تقية فاضلة، وان الدولة الفاضلة ليست حلما من الأحلام، ولكنها حقيقة الحقائق يستطيعها ابن آدم، واعتزم مخلصا أن يوجدها...لقد آن لنا أن نجتمع لان الإسلام يدعو إلى هذا التجمع، ولأننا إن لم نجتمع بشعار الإسلام وحده، وذهب كل إقليم إلى تجمع لا يحمل شعار الإسلام تقع الحروب بين المسلمين، ويقاتل المسلمون إخوانهم من المسلمين تحت ظل لواء غير لواء الإسلام، ولم يكن ذلك أمرا يتوقع فقط، ولكنه أمر ثابت قد وقع، ففي الحرب العالمية الأولى قاتل كثيرون من المسلمين جنود الأتراك المسلمين، ولم يكونوا في ظل إسلامي إذ يقاتلون، بل كانوا يقاتلون في ظل أعداء الإسلام، والله يقول: ﴿إنّما المؤمنون اخوة فاصلحوا بين أخويكم، واتقوا الله لعلكم ترحمون﴾. (لابد أن يجتمع المسلمون ولا يختلفوا، وان تكون منهم أمة

ص: 581

واحدة، كما قال تعالى: ﴿وان هذه أمتكم أمة واحدة﴾ ولا نقصد بان نكون أمة واحدة أن تحكمنا حكومة واحدة، فإن ذلك لا يمكن أن يتحقق، ولكن يمكن أن يتحقق منا تجمع واحد، أو جامعة إسلامية واحدة، على ما سنشير إلى ذلك في موضعه، إن الأُمة الإسلاميّة تقوم الروابط فيها على وحدة الدين والعقيدة، ووحدة المباديء الخلقية، والعبادات، وكل يوم يشعر المؤمن بالوحدة الإسلاميّة).

الشيخ عبد المجيد سليم:

هو رئيس هيئة الفتاوى في جامعة الأزهر، ومن كبار رواد التقريب، وكان له بصماته التي لا تنسى في خدمة الإسلام والمسلمين، وكان عالماً متحرراً في رأيه فلا يتقيد برأي معين أو مذهب خاص. أما شجاعته في اصدار فتاواه، فلم تكن وليدة شغله منصب الإفتاء، وإنما كانت جزءًا من شخصيته، حتى وهو طالب في المعاهد الأزهرية، ثم وهو قاض شرعي بعد تخرجه من مدرسة القضاء الشرعي. ومن أعماله التي لا تُنسى محاولةُ التقريب بين المذاهب، فقد كان على قناعة بأنَّ تعاون المسلمين وتضامُنهم هو السبيل إلى قهر أعدائهم، وله مقالات في هذا المجال ذكرتها ونشرتها الصحف، نذكر منها؛ مقال؛ (أيها المسلمون.. ثقوا بأنفسكم) ، في هذا المقال صوَّر عيبًا متفشيًا في الدول الإسلاميَّة، وهو ضعف ثقتهم بأنفسهم، ومغالاتهم في تقديس الغربيين، والمقال طويل، ومقال؛ (جماعة التقريب) بيَّن فيه أنَّ الإسلام هو دِين الوحدة، ويصبحُ المسلمون في ظلِّها كالبنيان المرصوص، وحريَّة الفكر في الإسلام مكفولة ما دامت لا تعارضُ أساسًا أو ركنًا من أركان العقيدة. كما أصدرت (جماعة التقريب) مجلة (رسالة الإسلام) فكان الشيخ عبدالمجيد سليم لسان هذه الجماعة، وكانت له مراسلات علمية عديدة دارت بينه وبين كبار علماء المسلمين في شتَّى أنحاء العالم. وكان لتعرف الشيخ عبد المجيد سليم على فقه الشيعة وفهمه لأصول هذا الفقه وسعة أبعاده وقربه من روح الشريعة أثر كبير على اتجاه نشاطات الشيخ. فقد نشر في جوّ الازهر الفقه المقارن، ثم رأى الجوّ مهيئاً لصدور فتوى جواز التعبّد بفقه الشيعة، وكان ذلك قبل عشر سنوات من صدور فتوى الشيخ شلتوت بهذا الشأن، فهيئ الشيخ أذهان جماعة التقريب وأفكارهم لهذا الأمر. وتقرر دراسة صيغة الفتوى في جلسة تعيّن وقتها. وقبل أسبوع من تلك الجلسة المقررة وصلت الى جميع أعضاء جماعة التقريب طرود بريدية مبعوثة من عواصم أوروبيّة مختلفة،

ص: 582

أُرسلت على عناوينهم في محل عملهم، وأرسل نظيرها على عنوانهم في بيوتهم، وهي تحمل ما ينسف فكرة إصدار الفتوى. ففي توقيت دقيق تحركت هذه القوى للوقوف بوجه خطوة هامة من خطوات التقريب.

حضر الأعضاء في الجلسة المقررة وهم يحملون تلك الطرود، وإذا ببعض الاعضاء يرفعون صوتهم قائلين: "أتريدون أن نصدر فتوى في جواز العمل بفقه الشيعة وهم يعادون الصحابة؟"، ثم فتح كل منهم طرده وأخرج منه كتاباً منسوباً الى أحد علماء الشيعة يتحامل فيه على الخليفتين الأول والثاني. وقالوا: "هذه وثيقة تبين طبيعة الشيعة وأفكارهم تجاه الخلفاء فماذا تقولون؟". يقول الشيخ القمّي: "استولى عليّ الوجوم، فما عدت قادراً على الكلام في هذا الجوّ المتشنّج". نظرت الى الشيخ عبد المجيد فرأيته ينظر الى كل واحد من المتكلمين بهدوء وطمأنينة. وعندما تكلم الجميع وساد الجوّ هدوء نسبي، تناول الشيخ سليم الحديث وقال: "هلّا سألتم أنفسكم من أين جاءت هذه الطرود؟ وما هو هدف مرسليها؟ ولماذا أرسلوها في هذا الوقتبالذات؟" ثم استرسل في الحديث قائلاً: " لو أنّ الشيعة والسنّة لم يكن بينهما اختلاف لما احتجنا الى التقريب والى جماعة التقريب ودار التقريب ومجلة رسالة الإسلام، لكننا بعد علمنا بوجود الاختلاف نهضنا بهذا المشروع، كي نركّز على المشتركات ونقلل الاختلافات ونزيل الشبهات. ثم انظروا إلى هذه الأيدي التي فعلت فعلتها بطباعة كتاب يثير حساسيات أهل السنّة تجاه الشيعة في أوروبا، وأرسلته في هذا الوقت الحساس إليكم، أهي حادبة (أي محبّة) على أهل السنّة؟ أيهمها مصلحة المسلمين؟ وهلا سألتم أنفسكم عن صحة نسبة هذا الكتاب الى مؤلّفه؟ ولو قدّر أنّ هذه النسبة صحيحة، فهل ماجاء فيه يخرج المسلم من دائرة الإسلام ويفكّه من رباط الاخوة الاسلامية؟" بعد ذلك هدأ الجوّ، ولكنّ صدور الفتوى تأخر عشر سنوات حين أقدم الشيخ محمود شلتوت على تنفيذ المشروع.

ومن المشاريع التقريبية التي نهض بها الشيخ عبد المجيد سليم أيضاً هو إدخال تفسير "مجمع البيان" الى ساحة العالم الاسلامي. فحين اطلع الشيخ على هذا التفسير وجد فيه بغيته، ورآه التفسير الذي يجمع بين العمق العلمي، والسعة والشمول والوضوح والمنهجية، والابتعاد عن التعصب، والجمع بين آراء أهل السنة والشيعة. فكتب الى دار التقريب رسالة يشيد بهذا التفسير ويستحث الجماعة على طباعته. وكتب في مقدمته على

ص: 583

هذا التفسير: "هو كتاب جليل الشأن غريز العلم كثير الفوائد، حسن الترتيب لا أحسبني مبالغاً اذا قلت إنه في مقدمة كتب التفسير التي تعد مراجع لعلومه وبحوثه". وهذا الحثّ دفع الشيخ محمود شلتوت أن يطالع هذا التفسير بإمعان، فشُغف به حباً يتضح من المقدمة التي دوّنها لهذا التفسير، وطبعات هذا التفسير تتصدرها رسالة الشيخ سليم ومقدمة الشيخ شلتوت.

الشيخ سليم البشري المالكي:

من علماء الأزهر البارين، والذي له مناظرات مع السيد عبد الحسين شرف الدين (قدس سره) في كتابه ((المراجعات)) جاء فيها: (انّي لم أتعرف فيما مضى من أيامي دخائل الشيعة، ولم ابلُ أخلاقهم، إذ لم أجالس آحادهم، ولم استبطن سوادهم، وكنت متلعلعا إلى محاضرة أعلامهم، حران الجوانح إلى تخلل عواملهم، بحثا عن آرائهم، وتنقيبا عن أهوائهم، فلما قدر الله وقوفي على ساحل علمك المحيط، وارشفتني ثغر كاسك المعين، شفى الله بسائغ فراقك أوامي ونضح عطشي، والية بمدينة علم الله ((جدك المصطفى)) وبابها ((أبيك المرتضى)) انّي لم أذق شربة انقع لغليل، ولا أنجع لعليل، من سلسال منهلك السلسبيل. وكنت اسمع أن من رأيكم ((معشر الشيعة)) مجانبة إخوانكم (أهل السنّة) وانقباضكم عنهم، وإنكم تأنسون بالوحشة، وتخلدون إلى الوحدة، وإنكم... لكني رأيت منك شخصا رفيق المناقشة، دقيق المباحثة، شهي المجاملة، قوي المجادلة، لطيف المفاكهة، شريف المعاركة، شكور الملابسة، مبرور المنافسة، فإذا الشيعي ريحانةالجليس، ومُنية كل أديب وانّي لواقف على ساحل بحرك اللجي أستأذن في خوض عبابه والغوص على درره أفإن أذنت غُصنا على دقائق وغوامض تحوك في صدري منذ أمد بعيد وإلا فالأمر إليك، وما أنا فيما ارفعه بباحث عن عثرة، أو متتبع عورة، ولا بمنفذ أو مندد، وإنّما انا نشاد ضالة، وبحاث عن حقيقة، فإن تبين الحق فإن الحق أحق أن يتبع وإلاّ فأنا كما قال القائل:

نحن بما عندنا وأنت بما*** عندك راض والرأي مختلف

وقال في مراجعة أخرى: (اشهد انّكم في الفروع والأصول على ما كان عليه الأئمة من آل الرسول وقد أوضحت هذا الأمر فجعلته جليا وأظهرت من مكنونه ما كان خفيا فالشك فيه خيال والتشكيك تضليل، وقد استشففته فراقني إلى الغاية، وتمخرت ريحه

ص: 584

الطيبة فانعشني قدسي مهبها بشذاه الفياح وكفت (قبل أن اتصل بسببك) على لبس فيكم لما كنت اسمعه من إرجاف المرجفين وإجحاف المجحفين، فلما يسر الله اجتماعنا آويت منك إلى علم هدى ومصباح دجى وانصرف عنك مفلحا منجحا فما أعظم نعمة الله بك علي، وما أحسن عائدتك لدي والحمد لله رب العالمين).

الشيخ حسن البنا:

هو داعية إسلامي مصري، وكان مهتماً بمسألة التقريب بين مذاهب المسلمين انطلاقاً من هدفه، وهو عودة الامة المسلمة الى مكانتها على الساحة التاريخية، وروحه التقريبية هذه سرت الى كثير من مسؤولي جماعة "الاخوان المسلمين" التي أسسها. والشيخ البنا هو الذي سمّى دار التقريب بين المذاهب بهذا الاسم، وكان من أوائل جماعة التقريب، ومن المهتمين بدفع مسيرة الدار. فقد كان الحديث في الأيام الأولى لتشكيل الجماعة يدور عن اسم للمؤسسة التي يهم الشيخ القمي بإنشائها، هل تحمل اسم الوحدة، أو التعارف، أو التعاضد أو..؟ غير أن الشيخ حسن البنا اقترح اسم التقريب لأنه أقرب إلى التعبير عن أهداف الجماعة. وحملت الجماعة والدار اسم التقريب. وكان البنّا مهتماً أن يُنشر في صحيفته ما يقرّب بين أهل السنّة والشيعة، وكان يتعاون مع دار التقريب في إيصال صوتها الى الحجاز التي حظرت هذا الصوت آنذاك. يقول الشيخ القمّي في هذا المجال: بعد حادثة إعدام السيد أبو طالب اليزدي في الحجاز انقطع سفر الايرانيين الى الحج لسنوات، ثم عاد حج الايرانيين، وعمدت دار التقريب الى نشر كتيّبات مناسك الحج على المذاهب الخمسة أي مذاهب أهل السنة الاربعة ومذهب الشيعة الامامية، من أجل إزالة ما علق في الاذهان تجاه الشيعة إثر التشويش الذي حدث بعد إعدام السيد الايراني وخلال سنوات انقطاع الايرانيين عن الحج. ومن الواضح أن هذه الكتيبات سَتُبَيِّن بما لا يقبل الشك أنّ السنة والشيعة متفقان في معظم المناسك إن لم يكن كلها. لكن لم يكن بالإمكان إدخال هذه الكتيّبات الى الحجاز لتوزيعها في موسم الحج، لأن التعليمات هناك لم تسمحبذلك في ذلك الوقت. أما الشيخ حسن البنا فقد وجد الطريق الى إدخالها، فطبع كل هذه المناسك في صحيفته، وأدخلها في موسم الحج الى الحجاز، ووزّعت بين الحجاج وكان لها أبلغ الأثر بين

ص: 585

المسلمين. وفي تلك السنة حجّ الشيخ حسن البنا، والتقى في أيام الحج بآية اللّه الكاشاني؛ الزعيم الديني لحركة تأميم النفط في ايران.

الشيخ أحمد الباقوري:

من أعلام الأزهر الشريف، رشح نفسه مرات في عضوية مجلس الأُمة، حصل على ثقة الحكومة، رغم انتمائه سابقا إلى الإخوان المسلمين، عُين وزيرا للأوقاف بعد ثورة (1952م) ، نجح في إدارة وزارة الأوقاف مدة طويلة. وسعى في نشر كتاب ((المختصر النافع)) في فقه الإمامية، له تقديم لكتاب ((العلم يدعو للإيمان)) و ((وسائل الشيعة ومستدركاتها)) ، وله مشاركة واسعة في المقالات الادبية والدينية، وهو من كبار رجال الفكر الإسلامي ومن دعاة التقريب بين المذاهب الإسلاميّة العاملين لها، يدعو إلى نشر كتب الشيعة للوقوف عليها بغية إزالة الخلاف بينهم وبين إخوانهم أهل السنة. من أقواله وكتاباته في التقريب بين المذاهب: (فما تفرق المسلمون في الماضي إلاّ لهذه العزلة العقلية التي قطعت أواصر الصلات بينهم، فساء ظن بعضهم ببعض، وليس هناك من سبيل للتعرف على الحق في هذه القضية إلاّ سبيل الاطلاع والكشف عما عند الفرق المختلفة من مذاهب وما تدين من آراء، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيى عن بينة. والخلاف بين السنّيين والشيعيين خلاف يقوم أكثره على غير علم حيث لم يتح لجمهور الفريقين اطلاع كل فريق على ما عند الفريق الآخر من آراء وحجج، وإذاعة فقه الشيعة بين جمهور السنيين وإذاعة فقه السنيين بين جمهور الشيعة من أقوى الأسباب وآكدها لإزالة الخلاف بينهما فإن كان ثمة خلاف فإنه يقوم بعد هذا على رأى له احترامه وقيمته).

الشيخ محمد الغزالي:

هو عالم ومفكر إسلامي مصري، يُعد أحد دعاة الفكر الإسلامي في العصر الحديث، ووكيل مراقبة الشؤون الدينية بوزارة الأوقاف، عُرف عنه تجديده في الفكر الإسلامي وكونه من

المناهضين للتشدد والغلو في الدين، وقد قال حول موضوع التقريب بين المذاهب: (لا أنكر أن هناك خلاف نشب بين بعض العلماء والبعض الآخر، بيد أن ذلك لا يسوغ نقله إلى ميدان الحياة العامة ليقسم امتنا ويصدع حاضرها ومستقبلها. هب ذوي الأغراض أو ذوي البلاهة صنعوا ذلك قديماً، فلحساب من يستبقى

ص: 586

هذا الشر، وتعاني الأُمة كلها ويلاته؟ بل لحساب من يستبقى هذا الشر حتّى يجيء من الأجانب من يقول هناك إسلام سني وإسلام شيعي. إن بعض القاصرين يفهمون أن الشيعة قوم غرباء عن الإسلام منحرفون عن صراط... إن الخلاف نشأسياسياً ووسّعت شقته مسالك الحكام ومطامع السلطان وعلى الساسة أن يصلحوا ما افسد أسلافهم، وان يسخّروا قواهم في التجميع بعدما سخرت قديما في الفتق والشتات.. لكن الدور الآن للعلماء فإن العلم تأثر بالحكم دهرا، وتلونت الدراسات الدينية بمآرب الحاكمين، ثم ذهب المنتفعون من ذوي السلطة، وبقي المخدوعون من أهل العلم اعني العامة وأشباههم).

نماذج أخرى:

وتوجد في عالمنا الإسلامي من أبناء أهل السنة والجماعة، شخصيات بارزة أخرى أمثال:

الداعية اللبناني الشيخ الدكتور فتحي يكن، وهو مؤسس للفرع السني للمقاومة في لبنان وجمعته لقاءات كثيرة بالسيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله، وكان على يقين بمشروع مقاومة الأمة بكل طوائفها ومذاهبها.

والدكتورة بنت الشاطيء التي تُعد من رواد الفكر الذين حملوا راية التقريب في مصر وهي شاعرة وكاتبة عظيمة ورائدة للإسلام الوسطي في بحر الكفر والالحاد. والشيخ خالد عبد الوهاب الملا، رئيس فرع الجنوب عن جماعة علماء العراق، الذي يمثل نموذجاً حسناً لرجل الدين السني المعتدل، والمنفتح، وينقل إنه قد أصدر مقالة أسمها: (الصدر الأول تاريخ وقضية) ووصف السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) بأنه؛ (رجل كتب له الخلود) وأنه؛ (رجل أمة).

ثالثاً/ شخصيات أخرى من مشاهير العالم:

النجاشي ملك الحبشة:

وصفه رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالملك الصالح والملك الذي لا يُظلم عنده أحد، ويقال عنه أنه كان عبداً صالحاً لبيباً زكياً، عادلاً عالماً، اسمه أصحمة ويعني "عطية" ويقال أن كلمة "نجاشي" هي لفظ من الحبشة يطلق على الحاكم أو الملك مثل "قيصر" لملك الروم،

ص: 587

و"كسرى" لملك الفرس، وفرعون لملك مصر وهكذا، واشتهر النجاشي بعدله في الحكم وتجاوزت سيرته الطيبة الحبشة وانتشرت في العديد من البلدان. وقد نصح الرسول (صلی الله علیه و آله) المسلمين عندما اشتد أذى المشركين بهم بترك مكة والهجرة إلى الحبشة لأن بها ملك عادل في حكمه لا يًظلم عنده أحد، وللنجاشي العديد من المواقف التي ساعد بها المسلمين منها؛ استقباله للمسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة هروباً من اضطهاد قريش خير استقبال، وجعلهم يعيشون في بلاده بأمن وسلام، حيث يذكر التأريخ إنه بعدما اشتدت الأزمة بالنبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) بعد وفاة المولى أبي طالب (علیه السلام) لأن قريشاً أجمعت أمرها على سحق المسلمين ومحق الدعوة الإسلامية، فقامت بضغط عنيف على المسلمين، وبأذىً كثير للنبيِّ (صلی الله علیه و آله) وحاولوا مراتٍ عديدةً قتله إلاّ أنَّ الله منعه منهم. فأخذ النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) يعدّ تدابير لهذه الأزمةالمحيطة به وبالمسلمين.. فبالنسبة إلى المسلمين أمرَهم بالهجرة إلى الحبشة.. وقد تمت هذه الخطة بترحيل طائفتين كبيرتين منهم إليها عن طريق البحر، فتخلصوا من شرّ الكفار وكيدهم، وقد آواهم ملك الحبشة. وأكرم وفادتهم). (1)

وقد أرسل النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) رساله للنجاشي جاء فيها: (بسم اللّه الرحمن الرحيم, من محمد رسول اللّه الى النجاشي الاصحم ملك الحبشة, سلام عليك, فاني احمد اليك اللّه الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن, واشهد ان عيسى بن مريم روح اللّه وكلمته , القاها الى مريم البتول الطيبة الحصينة , فحملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخه, كما خلق آدم بيده ونفخه واني ادعوك الى اللّه وحده لا شريك له, والموالاة على طاعته, وان تتبعني وتؤمن بالذي جائني فاني رسول اللّه , وقد بعثت اليكم ابن عمي جعفرا ومعه نفر من المسلمين , فاذا جاؤوك فاقرهم ودع التجبر. واني ادعوك وجنودك الى اللّه عزوجل.وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصحي.والسلام على من اتبع الهدى).

فلما وصل الكتاب الى النجاشي اخذه ووضعه على عينيه ونزل عن سريره وجلس على الارض اجلالا واعظاما، ثم اسلم ودعا بحق من عاج وجعل فيه الكتاب، ثم احضر جعفرا واصحابه واسلم على يدي جعفر وكتب بذلك إلى رسول الله : (بسم اللّه الرحمن الرحيم، الى محمد رسول اللّه، من النجاشي : الاصحم بن ابجر، سلام عليك يا

ص: 588


1- النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قدوة وأسوة.

نبى اللّه ورحمة اللّه وبركاته، من اللّه الذي لا اله الا هو، الذي هداني الى الاسلام. اما بعد، فقد بلغني كتابك - يا رسول اللّه - فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت ثفروقاً (1)

إنه كما قلت. وقد عرفنا ما بعثت به الينا، وقد قرينا ابن عمك واصحابه، فاشهد أنك رسول اللّه صادقاً مصدقاً، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك، واسلمت على يديه للّه رب العالمين. وقد بعثت اليك بابني ازها ابن الاصحم بن ابجر، فاني لا املك الا نفسي، وان شئت ان آتيك فعلت يا رسول اللّه، فإني أشهد أن ما تقول حق، والسلام عليك يا رسول اللّه).

ولما هاجر المسلمون إلى الحبشة أرسل كبار كفار قريش إلى النجاشي عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد وهما يحملان بهدايا له ولبطارقته وادعيا أمام النجاشي: أنه (قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دينهم، ولم يدخلوا في دينك. وجاؤا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت. وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم، وأعمامهم، وعشائرهم لتردهم إليهم...إلخ) فرفض تسليمهم إليهم حتى يسألهم عن صحة ما جاء به عمرو وعمارة، فجاء المسلمون؟ فسألهم فقال جعفر (علیه السلام) : (أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبدالاصنام، ونأكل الميتة ونأتي الفواحش، ونقطع الارحام، ونسئ الجوار، ويأكل، منا القوي الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده، ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه،من الحجارة والاوثان. وأمرنا بصدق الحديث وأداء الامانة، وصلة الرحم وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتي، وقذف المحصنات، وأمرنا: أن نعبد الله وحده،لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصيام..إلخ) وقرأ عليه جعفر (علیه السلام) شيئاً من القرآن الكريم فبكى النجاشي حتى اخضلت لحيته، وكذلك اساقفته؟ ثم قال النجاشي : إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة انطلقا، فوالله لا أسلمهم اليكما، ولا يكادون. ثم غدا عمرو في اليوم التالي؟ ليخبر النجاشي، بأن المسلمين يقولون : إن عيسى بن مريم عبد؟ فأرسل إليهم؟ فسألهم؟ فقال له جعفر : نقول فيه الذي جاء به نبينا (صلی الله علیه و آله) : هو عبد الله ورسوله، وروحه وكلمته التي ألقاها إلى مريم العذراء البتول،

ص: 589


1- الثُّفْرُوق - بالضمّ - : قِمَع التمرة، أو ما يلتزق به قِمَعها. وما له ثُفْرُوق ؛ أي شيء.

فتناول النجاشي عوداً، وقال : والله، ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود.. ثم قال للمسلمين: إذهبوا فانتم شيوم: أي آمنون، من سبكم غرم - قالها ثلاثاً - ما أحب أن لي دبرا - أي جبلاً - من ذهب وأني آذيت رجلاً منكم. ثم رد هدايا قريش.

المهاتما غاندي:

ولد عام 1869 في الهند وسافر إلى بريطانيا عام 1888 لدراسة القانون وفي عام 1891م عاد إلى الهند وهو يحمل شهادة المحاماة وفي عام 1893 غادرها الى جنوب افريقيا للعمل بمكتب للمحاماة واستمرت مدة بقائه فيها (22) عاماً، وعاد من جنوب أفريقيا إلى الهند عام 1915م وخلال سنوات من العمل الوطني اصبح الزعيم الشعبي الأكثر شعبية وخلال سنوات انتقل للمعارضة المباشرة للسياسة البريطانية بين عامي 1918 و1922م وطالب خلال تلك الفترة بالاستقلال التام، واستمر في عمله الكفاحي. ويُعد غاندي مؤسس الكفاح السلمي أو مبدا اللاعنف أولاً ثم العنف إن لم يكن هنالك خيار آخر. وكان غاندي دائماً يوضح بأن اللاعنف لا يعتبر عجزا أو ضعفا وقد تتخذ سياسة اللاعنف عدة أساليب لتحقيق أغراضها منها الصيام والمقاطعة والاعتصام والعصيان المدني والقبول بالسجن وعدم الخوف من أن تقود هذه الأساليب حتى النهاية إلى الموت، ومن شروط اللاعنف حسب نظرته؛ هي أن نجاح هذه السياسة يعتمد على تمتع الخصم بجزء من ضمير و الحرية تمكنه في النهاية من فتح حوار موضوعي مع الطرف الآخر، وشخصيته تستحق التوقف والنظر في مسيرة الكفاح لهدف نبيل التعايش السلمي بين الهندوس والمسلمين.. واستقلال الهند.. فعلا يستحق بأن يُطلق عليه (الأب الروحي) لشبة القاره الهندية.وقد أسس غاندي ما عُرف في عالم السياسية ب- (المقاومة السلمية) أو فلسفة اللاعنف وهي مجموعة من المبادئ تقوم على أسس دينية وسياسية واقتصادية في آن واحد ملخصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمحتل عن طريق، الوعي الكامل والعميق بالخطر المحدق، وتكوين قوة قادرة على مواجهة هذا الخطر، باللاعنف أولا ثم بالعنف إذا لم يوجد خيار آخر ومن أساليب اللاعنف التي ينتهجها البعض لأجل تحقيق أهدافهم؛ الصيام والمقاطعة والاعتصام والعصيان المدني والقبول بالسجن وعدم الخوف من أن تقود هذه الأساليب حتى النهاية إلى الموت

ص: 590

واللاعنف لا تعنى السلبية والضعف كما يتخيل البعض بل هي كل القوة إذا آمن بها من يستخدمها، ويشترط غاندي لنجاح هذه السياسة تمتع الخصم ببقية من ضمير وحرية تمكنه في النهاية من فتح حوار موضوعي مع الطرف الآخر.

ولم ترق دعوات غاندي للأغلبية الهندوسية باحترام حقوق الأقلية المسلمة واعتبرتها بعض الفئات الهندوسية المتعصبة خيانة عظمى فقررت التخلص منه، وبالفعل في سنة 1948م أطلق أحد الهندوس المتعصبين ويدعى جوتسى ثلاث رصاصات قاتلة سقط على أثرها المهاتما غاندي صريعا عن عمر يناهز 79 عاماً ليخمد بذلك شعلة النضال التي أعادت الأمل للملايين بالحياة الحرة الكريمة.

من أقواله الشهيرة في موضوع السلام والمحبة والحرية ونبذ اللاعنف:

(إن النصر الناتج عن العنف هو مساوي للهزيمة، إذ انه سريع الانقضاء).

(إن العين بالعين تجعل العالم بأكمله أعمى).

(أين يتواجد الحب تتواجد الحياة).

(ليس هنالك طريق للسلام، بل أن السلام هو الطريق).

(إن اللاعنف والجبن لا يتماشيان معاً. بإمكاني القيام بتخيل شخص كامل التسليح هو في داخله جبان. إن حيازة الأسلحة تعني تواجد عنصر خوف، إذا لم يكن جبن. ولكن اللاعنف الحقيقي هو استحالة دون حيازة عدم الخوف الغير زائف).

(إن اللاعنف هو أعظم قوة متوفرة للبشرية. إنها أقوى من أقوى سلاح دمار تم تصميمه ببراعة الإنسان).

(إن حرمان شخص من حريته الطبيعية وإنكاره أسباب الراحة العادية هو أسوأ من تجويع الجسد؛ إذ أن ذلك هو تجويع للروح القاطنة في الجسد).

نيلسون مانديلا:

هو زعيم أفريقي درس القانون في صغره وعمل محامياً وتفرغ في حياته للدفاع عن السود في بلاده ومحاربة العنصرية وعمل على توحيد الأفارقة لاستعادة حقوقهم وحريتهم، تبنى الاحتجاجات وشارك فيها بطريقةمنظمة تبتعد عن العنف، نظم المؤتمرات والفعاليات للمطالبة بحقوق ابناء وطنه، سجن بسبب اتجاهاته قرابة (27) عاماً من سنة (1964) إلى سنة (1990) واطلق سراحه وهو في سن (72) سنة، ثم حصل على

ص: 591

جائزة نوبل للسلام عام 1993م، وانتخب أول رئيس لجنوب افريقيا، وكان مثالاً لدعاة السلام في العالم كله.

وقد أثنى المرجع اليعقوبي على شجاعته وصبره وثباته وعبّر عنه ب- (الثائر الفذ) وأشاد بروحه الوطنية الكبيرة وحبّه لشعبه وبلده وتضحيته من أجل القضاء على التمييز العُنصري ونيل الحريّة من استعباد الأجنبي، ووصف سماحته "مانديلا" بأنّه من الأفذاذ الّذين قلّما يجود بهم الزمن ليحرّروا شعوبهم ويستنقذونهم من العبودية والأغلال كالسيد الخُميني (قدس سره) في جمهورية إيران الإسلامية وغاندي في الهند، ولم تُثنه طول مدة السجن عن مواصلة النضال لتحقيق هدفه وكان يعلن وهو في قفص الاتهام إنّه يعتبر إنهاء هيمنة الأقلية البيضاء هدفاً سامياً وأنّه على استعداد للموت من أجله، وكان لا يقبل المساومة وأنصاف الحلول، ومن كلماته (الحرية لا يمكن أن تُعطى على جرعات، فالمرء إمّا أن يكون حرّاً أو لا يكون حرّاً).

وكان يسخر من الجبناء الذين يقبلون حياة الذلّ والعار ويقول: (الجبناء يموتون مرّات عديدة قبل موتهم والشجاع لا يذوق الموت إلاّ مرّة واحدة) حتى تحوّل سجنه إلى قضية عالميّة وانطلقت حملة (أطلِقوا سراح نيلسون مانديلا). وأضاف المرجع اليعقوبي إنّ مواقف مانديلا تدلّ على إنّ نفسه الكبيرة بقيت مستمرّة، فقد تنحّى عام 1999م عن رئاسة الجمهورية اختياراً في حالة نادرة وسلّمها إلى زعماء أكثر شباباً وتأهيلاً لإدارة اقتصادٍ حديث ومع ذلك فإنّه لم يستسلم للشيخوخة بل أعلن (التقاعد من التقاعد) وقاد حملة عالمية لمكافحة مرض الإيدز حتى توفي... وقد تجاوز التسعين.

كما دعا المرجع اليعقوبي في حديثه إلى استلهام هذه التجارب الإنسانية النبيلة بغض النظر عن القومية والدين، وأضافَ سماحته: (... بل نحن مسؤولون عمّا هو أوسع من ذلك وأنبل، لأننا نمتلك قمم الإنسانية فمن له كنبينا محمد (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين والحسين (صلوات الله عليهم أجمعين) فما أحرانا أن نكون نحن النبراس الذي تهتدي به الأمم).(1)

ومن أقوال المناضل مانديلا: ((إن الضحية لا تنسى الظلم الذي وقع عليها.. لكنها يمكن أن تغفر وتسامح)) ، فبهذه الكلمات استطاع أن يرسي أسس التسامح والمصالحة

ص: 592


1- يُنظر خطاب المرحلة، المرجع اليعقوبي، ج8، (نيلسون مانديلا الثائر الفذّ) . بتصرف بسيط.

التي كانت الأساس في نهضة دولة جنوب إفريقيا وتقدمها بقيادته، وكانت أيضاً الأساس في نشر ثقافة اللاعنف.. وثقافة السلام.. وقيم الحرية والعدالة، في وقت بات العالم في أمس الحاجة إليهم.وروى ((مانديلا)) في مذكراته ((مسيرة طويلة نحو الحرية)) التي كتبها عندما كان معتقلاً، كيف أصبح رمزًا دوليٌّا لمقاومة الفصل العنصري، ثم رمزًا للمبادئ السامية لحقوق الإنسان والحرية، رغم ما عاناه من حياة صعبة وفقيرة يحياها كثير من الملونين مثله عمل خلالها في أحد المناجم، ثم انغمس في هموم هؤلاء من خلال مكتبه للمحاماة؛ حيث حصل على إجازة الحقوق، ثم من خلال العمل السياسي، حين انضم عام 1942 الى المؤتمر الوطني الإفريقي؛ حيث بدأ في المعارضة السياسية لنظام الحكم في جنوب إفريقيا الذي كان بيد الأقلية البيضاء، ذلك الحكم الذي كان ينكر الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية للأغلبية السوداء في بلاده.

وفي عام 1948 صدر قانون التفرقة العنصرية بين البيض والسود، نتيجة وصول الحزب اليميني ((الحزب الوطني)) إلى الحكم، لتتحول هذه التفرقة العنصرية إلى سياسة قومية بتشريعات تطول مناحي الحياة كافة، فلم يسمح لغير البيض بالسكن في أحياء واحدة معهم، أو ركوب الحافلات معهم أو دخول المطاعم التي يرتادونها، وكذلك حرية التنقل من مكان إلى آخر كانت مقيدة. فأصبح ((مانديلا)) في هذه الفترة قائدًا للمعارضة والمقاومة. وقام العديد من العمال السود بإضرابات قوبلت بعنف استمر طيلة خمسين عاماً بعدها، وهو ما جعل ((مانديلا)) يعمل على إقناع المؤتمر الوطني الإفريقي بأن هذه الوحشية من قبل السلطات لن تحل بسياسة اللاعنف، بل لا بد من التخلي عن هذه السياسة.

وبالفعل في عام 1961 خطط ((مانديلا)) إلى مزاولة أعمال المقاومة المسلحة، وفي عام 1963، حُكم عليه بالسجن مدى الحياة، وظل في السجن لمدة تصل إلى سبعة وعشرين عامًا عرض عليه خلالها وتحديدًا عام 1985 إطلاق سراحه مقابل إعلان وقف المقاومة المسلحة، إلا أنه رفض العرض، وطوال فترة بقائه في السجن ظل يحث على المقاومة ضد سياسة الفصل العنصري. ورغم ما كان يفرض عليه من قيود فانه استطاع أن يرسل رسالة الى المؤتمر الوطني الإفريقي قال فيها: ((اتحدوا.. وجهزوا.. وحاربوا..

ص: 593

إذ ما بين سندان التحرك الشعبي، ومطرقة المقاومة المسلحة، سنسحق الفصل العنصري)).

وبعدما خرج ((مانديلا)) من السجن وضع اتفاقية لوقف القتال المسلح، وبعدها بشهور وضع دستورًا جديدًا لجنوب إفريقيا، لم يطلب فيه السيطرة على البلاد، ولكن إقامة نظام ديمقراطي حقيقي تمثل فيه جميع الأطراف. وخلال فترة حكمه شهدت جنوب إفريقيا انتقالا تاريخيٌّا من حكم الأقلية إلى حكم الأغلبية وكانت مؤيدة للقضايا العربية وخاصة الفلسطينية في المحافل الدولية.

وبعد تقاعده عام 1999 ظل ((مانديلا)) يتابع تحركه مع الجمعيات والحركات المنادية بحقوق الإنسان حول العالم، وكان له كذلك العديد من الآراء والمواقف المثيرة للجدل في الغرب والمثيرة للإعجاب عربيٌّا، ولاسيما فيما يتعلق بالقضايا العربية مثل آرائه في القضية الفلسطينية، عندما وصف الفلسطينيين بأنهم ((لا يناضلون من أجل الدولة بل من أجل الحرية والتحرير والمساواة تمامًا كما نناضل لحريتنا في إفريقيا الجنوبية)) ، كما اتهم إسرائيل بأنها ((حرمت ملايين الفلسطينيين من حريتهم وممتلكاتهم وفرضت نظام تفرقة عنصرية قائمًا على التمييز وعدم المساواة)).

أيضًا يُذكر له موقفه حين رفض طلب الرئيس الأمريكي السابق ((بيل كلينتون)) قطع العلاقات مع إيران وليبيا وكوبا بدعوى أن هذه الدول راعية للإرهاب وعلل ((مانديلا)) موقفه بأن هذه الدول وقفت مع نضال شعبه ضد التفرقة العنصرية.. بل إنه خرق الحظر الجوي الذي كان مفروضًا على ليبيا حين استقل طائرته وتوجه بها إلى طرابلس.. كما لا يُنسى له معارضته للحرب على العراق ورفضه استقبال الرئيس الأمريكي السابق ((جورج دبليو بوش)) لهذا السبب، وفي عام 2005 اختارته الأمم المتحدة سفيرًا للنوايا الحسنة.

ويذكر مانديلا في مذكراته، أن أكبر تحدٍّ واجهه عقب خروجه من السجن وتوليه السلطة ((هو أن قطاعًا واسعًا من السود كانوا يريدون أن يحاكموا كل من كانت له صلة بالنظام السابق)) ، لكنه حال دون ذلك، وكان هذا هو الخيار الأمثل ولولاه لانجرفت جنوب إفريقيا إما إلى الحرب الأهلية أو إلى الدكتاتورية من جديد، لذلك شكل ((مانديلا)) ((لجنة الحقيقة والمصالحة)) التي جلس فيها المعتدي والمعتدى عليه وتصارحا

ص: 594

وسامح كل منهما الآخر، فقد كان من الممكن أن يخرج ((مانديلا)) من السجن حاقدًا وحانقًا ليس على البيض حكام البلاد فقط، وإنما على المجتمع ككل بعد أن قضى أكثر من ربع قرن بين جدران السجن، إلا أنه سما بنضاله وكفاحه وإيمانه بحرية وطنه ومقاومته للتمييز العنصري فوق آلامه ومعاناته الشخصية، وهذه العقلية هي التي جعلته على استعداد للعمل مع أعدائه، لإعادة بناء جنوب إفريقيا الحديثة التي من شأنها أن تنظر إلى الأمام وليس إلى الوراء، وبالتالي إعطاؤها فرصة كبيرة للنجاح.

ورغم أنه لم يستطع القيام بذلك الأمر بمفرده، فإن الفضل يعود الى ((مانديلا)) في الإشراف على الانتقال السلمي إلى حد كبير من ظلال نظام الفصل العنصري إلى البدايات المبكرة لنظام ديمقراطي جديد ومتحد. (1)

مارتن لوثر كنغ:

هو دكتور وقس في الكنيسة المعمدانية، وناشط سياسي إنساني أمريكي الجنسية من أصول إفريقية، حاصل على شهادة الاختصاص في علم الاجتماع، وهو من المطالبين بإنهاء التمييز العنصري ضد السّود، ومن أهمالشخصيات التي ناضلت في سبيل الحرية وحقوق الإنسان. حيث قاد نضالاً ضد التفرقة العنصرية في الولايات المتحدة في الستينيات، وكان ملهماً لأنصاره بجزالة خطاباته. وكان مؤيداً لمبدأ الاحتجاج السلمي مؤكدا أن المعارضة ينبغي أن ت-ُعامَل بتسامح وليس بشكل عدواني. في سنة 1954 عُين مارتن لوثر كاهناً في مدينة مونتجومري التي شهدت ما عرف ب- "أزمة الباصات". فقد جاء في قوانين الولاية التي تقع فيها هذه المدينة أنه لا يحق للسود الجلوس في الأماكن التي يجلس فيها البيض في الباصات. وفي سنة 1955 رفضت امرأة سوداء أن تتخلى عن مقعدها في أحد الباصات لرجل أبيض فاعتقلتها الشرطة، فاجتمعت كافة الحركات المناهضة للتمييز العنصري في المدينة في اليوم نفسه وانتخب أعضاؤها بالإجماع مارتن لوثر كينغ رئيساً لتجمعهم الذي أطلقوا عليه اسم " جمعية تطوير مونتجومري". وقرروا رفع الدعوى لإثبات عدم دستورية قوانين التمييز العنصري في الباصات. فردت الشركة بأن أوقفت رحلاتها إلى الأحياء ذات الغالبية السوداء.

ص: 595


1- ينظر مقال: (نيلسون مانديلا) نموذج في التسامح والتصالح، مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية، بتصرف بسيط.

تعرض كينغ لحملة مضايقات من رجال الشرطة بسبب نشاطاته المناهضة للعنصرية، كما تعرض لأعمال عنف من أشخاص عنصريين، وفي سنة 1956 حكمت المحكمة بأن التمييز العنصري في الباصات هو أمر غير دستوري، وقبل نهاية ذلك العام صار يحق للسود الجلوس في مكان واحد مع البيض.

تابع مارتن لوثر كينغ ورفاقه نضالهم من أجل الحقوق المدنية للسود في الولايات المتحدة، وراحوا يحرزون الانتصار تلو الانتصار. ففي 9 ايلول 1957 وافق الكونغرس على مشروع قانون الحقوق المدنية وكان من نتيجة ذلك انشاء مفوضية الحقوق المدنية كهيئة مستقلة، وانشاء دائرة للحقوق المدنية تابعة لوزارة العدل. ومن جهة أخرى تابعت الشرطة مضايقاتها لكينغ، وفي سنة (1959) قام كينغ مع زوجته بزيارة إلى الهند حيث امضيا فترة في دراسة أساليب غاندي في اللاعنف.

وفي سنة 1964 نال كينغ جائزة نوبل للسلام، وكان أصغر شخصية سناً يحصل على هذه الجائزة، اعترافاً بجهوده الحثيثة لمنح السود حقوقهم المدنية باستخدام الوسائل السلمية. وفي عام 1965 شهد انتصارا آخر حين وقع الرئيس نيكسون القانون الذي يمنح السود حق الاقتراع في الانتخابات.

وتابع العنصريون البيض أعمال الشغب لإرهاب السود وثنيهم عم مطالبتهم بحقوقهم. فكانوا يتصدون للمظاهرات السلمية التي يقوم بها هؤلاء، والتي صارت مختلطة باشتراك الكثير من المعتدلين البيض فيها، وكان أسوأ أعمال الشغب ما حصل في مدينة ديترويت سنة 1967 حيث نتج عنها أكثر من (43) قتيلاً و (324) جريحاً. مما دفع الزعماء السود إلى توجيه نداء بوقف أعمال العنف. وفي سنة 1968م وأثناء إلقاء مارتن لوثر لخطاب على الجماهير المحتشدة أمام الفندق الذي كان مقيما فيه، أطلق عليه النار من قِبل أحدالمتعصبين فأصابه في عنقه، ثم توفي في المستشفى بعد ساعات قليلة، منهياً بذلك حياة مليئة بالكفاح والنضال من أجل الحقوق المدنية، ومن أقواله المشهورة حول السلام والنضال السلمي:

(يجب علينا ألا نسمح لتظاهرنا الخلاق أن ينحدر إلى مستوى العنف البدني).

(على كل شخص لديه قناعات إنسانية أن يقرر نوع الاحتجاج الذي يناسب قناعاته، لكن علينا جميعاً الاحتجاج).

ص: 596

(ما يزال لدينا خيار اليوم: إما التعايش السلمي، أو إفناء بعضنا بعضا بشكل عنيف. علينا أن نغير ترددنا في الماضي إلى فعل).

(على الرغم من الانتصارات المؤقتة التي تتحقق بالعنف، إلا أنه لا يجلب سلاما دائما أبداً).

(إننا نتبنى أساليب اللاعنف لأن غايتنا هي مجتمع متصالح مع نفسه. سنسعى لسبل الإقناع بكلماتنا، لكن إن فشلت أقوالنا، فسوف نحاول بأفعالنا).

(ينبغي علينا ألا نكتفي بالتركيز على النبذ السلبي للحرب فحسب، بل علينا أن نركز أيضاً على التأكيد الإيجابي للسلام).

ص: 597

رأي مشاهير العالم من غير المسلمين بسماحة وعظمة الإسلام وبنبيه الكريم (صلی الله علیه و آله)

مما لا شك فيه أن الحضارة الإسلامية هي التي أسست للعلم بمفهومه الحديث، بعد أن كانت أغلب المعارف مشوبة بالخرافات والدجل و عادات الآباء والأساطير، و حتى الحضارات التي سبقتها لم تتمكن من التخلص من الشوائب و الأساطير للتأسيس لفكر علمي صاف يعتمد على العقل والاستنباط الدقيق، ولما جاء الإسلام قدم لأتباعه نموذجاً فكرياً يعتمد على العقل ويدعو إلى التفكر و التدبر في أمور الخلق والبحث عما ينفع الناس في دنياهم و آخرتهم.

ولكن المؤسف أن المسلمين بعد مرحلة انبثاق العلم والتقدم عادو فتقوقعوا على أنفسهم، و بعدما كانوا أمة إقرأ، صاروا في القرون الأربع الماضية قلما تجد فيهم من يقرأ، وقد استغل الآخرون غفلتنا إلى درجة أنهم أقنعوا المسلمين أن عطائهم العلمي يتلخص في نقل و ترجمة ما قاله الفرس والرومان، و هذا كذب مبين، والحق أن المسلمين هم من أسسوا العلم الحديث، وأن الدين الإسلامي يحتل كرسي الصدارة بين الأديان التي تدعوا وتأسس لمبدأ التعايش السلمي، وفيما يأتي شهادات منصفة عن ما قدمته الحضارة الإسلامية للإنسانية:

المؤرخ الانجليزي ويلز : (كل دين لا يسير مع المدنية في كل أطوارها فاضرب به عرض الحائط، وإن الدين الحق الذي وجدته يسير مع المدنية أينما صارت هو الإسلام.. ومن أراد الدليل فليقرأ القرآن وما فيه من نظرات ومناهج علمية وقوانين اجتماعية، فهو كتاب دين وعلم واجتماع وخلق وتاريخ، وإذا طُلِب مني أن أحدد معنى الإسلام فإنني أحدده بهذه العبارة: (الإسلام هو المدنية).

زيغريد هونكه تقول في كتابها القيم : (شمس الله تسطع على الغرب) : (إن هذه القفزة السريعة المدهشة في سلم الحضارة التي قفزها أبناء الصحراء، والتي بدأت من اللاشيء لهي جديرة بالاعتبار في تاريخ الفكر الإنساني… وإن انتصاراتهم العلمية

ص: 598

المتلاحقة التي جعلت منهم سادة للشعوب المتحضرة لفريدة من نوعها، لدرجة تجعلها أعظم من أن تُقارَن بغيرها، وتدعونا أن نقف متأملين كيف حدث هذا ؟! وكيف أمكن لشعب لم يمثل من قبل دورا حضاريا أو سياسيا يذكر، أن يقف مع الإغريق في فترة وجيزة على قدم المساواة؟ إنَّ ما حققه العرب لم تستطع أن تحققه شعوب كثيرة أخرى كانت تمتلك من مقومات الحضارة ما قد كان يؤهلها لهذا، بيزنطية وريثة الحضارتين الشرقية والإغريقية بقيت على جهالتها مع أنها بلغتها اليونانية كانت أقرب للناس إلى الحضارة الإغريقية والسوريون هم تلامذة الإغريق كان لهم من الحضارة قبل الإسلام حظ وفير ولقد غفلوا عن طريق الترجمة كثيراً من أعمال الإغريق إلى لغتهم ولكنهم أيضاً كبيزنطة فشلوا فيأن يجعلوا مما اقتبسوه من الإغريق بذرة الحضارة تزدهر كما فعل العرب فيها بعد، ولم تكن فارس التي اكتسبت من حضارات الصين والهند والإغريق بأسعد حظاً من بيزنطيه أو سوريا وبرغم تحسن الحالة الاقتصادية في تلك البلاد ورعاية الدولة للعلوم والعلماء فإنه لم يسمح لحضارة تلك البلاد أن تصبح حضارة مبتكرة مؤثرة إلا في جو عقلي آخر وفي ثنايا حضارة ثانية أنجع هي الحضارة العربية).

ليوبولد وايس: (لسنا نبالغ إذ قلنا إن العصر العلمي الحديث الذي نعيش فيه، لم يُدشّن في مدن أوربة، ولكن في المراكز الإسلامية في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة …نحن مدينون للمسلمين بكل محامد حضارتنا في العلم والفن والصناعة، وحسب المسلمين أنهم كانوا مثالاً للكمال البشري، بينما كنا مثالاً للهمجية).

يقول أناتول فرانس في كتابه (الحياة الجميلة) : (أسوأ يوم في التاريخ هو يوم معركة (بواتييه) عندما تراجع العلم والفن والحضارة العربية أمام بربرية الفرنجة، ألا ليت شارل مارتل قطعت يده ولم ينتصر على القائد الإسلامي عبد الرحمن الغافقي).

رينان : (ما يدرينا أن يعود العقل الإسلامي الوَلود إلى إبداع المدنية من جديد؟ إن فترات الازدهار والانحدار مرت على جميع الأمم بما فيها أوربة المتعجرفة).

جورج سارتون : (المسلمون عباقرة الشرق، لهم مأثرة عظمى على الإنسانية، تتمثل في أنهم تولّوا كتابة أعظم الدراسات قيمة، وأكثرها أصالة وعمقاً، مستخدمين اللغة العربية التي كانت بلا مراء لغة العلم للجنس البشري… لقد بلغ المسلمون ما يجوز تسميته معجزة العلم العربي).

ص: 599

المستشرق درايبر : (ينبغي أن أنعي على الطريقة التي تحايل بها الأدب الأوربي ليخفي عن الأنظار مآثر المسلمين العلمية علينا ! إن الجور المبنّي على الحقد الديني، والغرور الوطني لا يمكن أن يستمر إلى الأبد).

الباحث اليهودي “فرانز روزانتال” : (إن ترعرع هذه الحضارة هو موضوع مثير ومن أكثر الموضوعات استحقاقًا للتأمل والدراسة في التاريخ. ذلك أن السرعة المذهلة التي تم بها تشكل وتكوّن هذه الحضارة أمر يستحق التأمل العميق، وهي ظاهرة عجيبة جدًّا في تاريخ نشوء وتطور الحضارة، وهي تثير دومًا وأبدًا أعظم أنواع الإعجاب في نفوس الدارسين. ويمكن تسميتها بالحضارة المعجزة، لأنها تأسست وتشكلت وأخذت شكلها النهائي بشكل سريع جدًّا ووقت قصير جداً، بحيث يمكن القول إنها اكتملت وبلغت ذروتها حتى قبل أن تبدأ).

تومبسون: (إن انتعاش العلم في العالم الغربي نشأ بسبب تأثر شعوب غربيِّ أوربا بالمعرفة العلمية العربية وبسبب الترجمة السريعة لمؤلفات المسلمين في حقل العلوم ونقلها من العربية إلى اللاتينية لغة التعليم الدوليةآنذاك.” ويقول في مكان آخر: “إن ولادة العلم في الغرب ربما كان أمجد قسم وأعظم إنجاز في تاريخ المكتبات الإسلامية).

(ول ديورانت) مؤلف كتاب (قصة الحضارة) : (القرآن يبعث في النفوس أسهل العقائد وأقلها غموضاً وأبعدها عن التقيد بالمراسم والطقوس وأكثرها تحرراً من الوثنية).

اللورد إستانلي اولدري: (وقعت مرة في كتاب الله تعالى فما فرغت من تلاوته حتى اجتاحني مدد البكاء فنفضت عن نفسي التعصب الممقوت واصبحت من المسلمين)

الممثلة البريطانية (مارشيلا مايكل انجلو) : (لما رأيت المسجد أول مره احسست ان شيئاً ما في اعماقي يتحرك ويفعل فعل السحر لقد احسست اني مسلمة قبل ان اعلن اسلامي انني اشعر كما لو كنت قد ولدت من جديد لقد خرجت من اعماقي تاركة غلافي القديم آمنت بالله، لا إله إلا الله).

الفيلسوف (اوغست كونت) : (لايسعني عندما انظر للمسليمن عندما يصلون في جماعة والسكينة والايمان العذب يغشيانهم الا ان اكبر عظمة هذا الدين ولقد اشتهيت ان اكون يوما احد افراد الامواج الساجدة لربها).

ص: 600

المخرج السينمائي الامريكي (وكس انجرام) : (في ليلة قمت اصلي وبقيت اصلي مدة طويلة وفي صباحها قلبت ظهري لعملي وابتعدت عن اخاديع هوليود ومغرياتها واعطيت جسمي ونفسي وحياتي لرب محمد صلى الله علية وسلم وأنا اليوم احد ابناء الاسلام).

الشاعر الفرنسي الشهير (لامارتين) : (أعظم حدث في حياتي هو انني درست حياه الرسول الله (صلی الله علیه و آله) دراسة وافية وادركت مافيها من عظمة وخلود). وقال أيضاً: (أي رجل ادرك من العظمة الانسانية مثلما محمد (صلی الله علیه و آله) ؟ واي انسان بلغ مراتب الكمال مثل ما بلغ؟ لقد هدم الرسول المعتقدات الباطلة التي تتخذ واسطة بين الخالق والمخلوق).

الكاتب الامريكي (مايكل هارت) : (لا يوجد في تاريخ الرسالات كتاب بقى بحروفة كاملا دون تحوير سوى القرآن الذي نزل على محمد (صلی الله علیه و آله)

الملاكم العالمي (مايك تايسون) : (درست القرآن فوجد ان فيه الاجابات عن كل الاسئلة في الحياة) وقال أيضاً: (اليهود لا يعترفون بالمسيح والمسيحيون لا يعترفون بمحمد (صلی الله علیه و آله) ولكن المسلمين يعترفون بموسى والمسيح)

(ليبولد فايس) نمساوي من أسرة يهودية عرف بعد الاسلام باسم محمد أسد: (جاء الاسلام متسللا كالنور إلى قلبي المظلم ولكن ليبقى فيه الابد)(هانوتو) وزير خارجية فرنسا سابقاً: (لا يوجد مكان على سطح الارض الا واجتاز الاسلام حدوده وانتشر فيه فهو الدين الوحيد الذي يميل إلى اعتناقه بشدة تفوق كل دين آخر)

المهندس اللورد هيدلي من أغنى البريطانيين ومن أعلى اسرهم حسباً: (إذا كنت وقد ولدت مسيحياً فهذا لا يحتم على ان ابقى كذلك طوال حياتي فقد كنت لا اعرف كيف استطيع ان أومن بالمبدا القائل اذا لم تآكل من جسد المسيح وتشرب من دمه فلن تنجو من عذاب جهنم الابدي).

المستشرق النرويجي (د. إنيربرج) : (يعتبر الطفل في الاسلام مولوداً على الفطرة اما المسيحيون فيحكمون على الطفل انه يولد متحملا للخطيئة وقبل مائة سنة كانوا

ص: 601

يغطسون الاطفال في الماء حتى يطهروهم من الخطيئة فإذا ماتوا قبل الغسيل لم يدفنوهم وإنما يلقونهم في القمامة لانهم متسخون بالخطيئة).

السير مول، الباحث الكبير قال عن أخلاق النبي (صلی الله علیه و آله) : (إن محمداً نبي المسلمين لقب بالأمين منذ الصغر بإجماع أهل بلده لشرف أخلاقه وحسن سلوكه، ومهما يكن هناك من أمر فإن محمداً أسمى من أن ينتهي إليه الواصف، ولا يعرفه من جهله، وخبير به من أمعن النظر في تاريخه المجيد، ذلك التاريخ الذي ترك محمداً في طليعة الرسل ومفكري العالم).

تولستوي: (يكفي محمداً فخراً أنه خلص أمة ذليلة دموية من مخالب شياطين العادات الذميمة، وفتح على وجوههم طريق الرقي والتقدم، وأنّ شريعةَ محمد، ستسود العالم لانسجامها مع العقل والحكمة). ويقول هذا الأديب الروسي في مكان آخر قال "لا يوجد نبي حظي باحترام أعدائه سوى النبي محمد مما جعل الكثرة من الأعداء يدخلون الإسلام" ويتابع الأديب الروسي "أنا واحد من المبهورين بالنبي محمد، الذي اختاره الله الواحد لتكون أخر الرسالات على يديه وقلبه وعقله، ليكون هو أيضاً آخر الأنبياء حيث لم يأت ولن يأت بعده جديد، اعتراف محمد بالأنبياء الذين سبقوه بتكليف من الإله الواحد ليقدموا البناء الاجتماعي العالمي الذي جاء يستكمله دليل لا يقبل الشك فقد جاء محمد ليستكمل بالإسلام البناء الاجتماعي للإنسان في كل مكان". ويكفيه فخراً أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق، وجعلها تجنح للسكينة والسلام، وفتح لها طريق الرقي والمدينة". ويضيف ليو تولستوي في كتابه (حِكَم النبي محمد) هو مؤسس دين ونبي الأسلام الذي يدين به أكثر من مائتي مليون إنسان (الكلام عام 1912م) فأنه قام بعمل عظيم فانه هدى الوثنيين الذين قضوا حياتهم بالحروب الأهلية وسفك الدماء، فأنار أبصارهم بنور الأيمان وأعلن أن جميع الناس متساوون أمام الله.

العلامة الفرنسي جوستاف لوبون يقول: (رأينا من آي القرآن أن مسامحة محمد لليهود والنصارى كانت عظيمة للغاية) وقال أيضاً: (إن محمداً رغم ما يشاع عنه من قبل خصومه ومخالفيه في أوروبا قد أظهر الحلم الوافر والرحابة الفسيحة) ويضيف روبرتسن في كتابه (تاريخ شارلكن) : (إن المسلمين وحدهم الذين جمعوابين الغيرة لدينهم وروح

ص: 602

التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى) كما في: كتاب (حضارة العرب) لجوستاف لوبون - الصفحة 128.

المهاتما غاندي: (أردت أن أعرف صفات الرجل الذي يملك بدون نزاع قلوب ملايين البشر.. لقد أصبحت مقتنعًا كل الاقتناع أن السيف لم يكن الوسيلة التي من خلالها اكتسب الإسلام مكانته، بل كان ذلك من خلال بساطة الرسول مع دقته وصدقه في الوعود، وتفانيه وإخلاصه لأصدقائه وأتباعه، وشجاعته، مع ثقته المطلقة في ربه وفي رسالته… هذه الصفات هي التي مهَّدت الطريق، وتخطت المصاعب وليس السيف“، وأضاف: “بعد انتهائي من قراءة الجزء الثاني من حياة الرسول محمد وجدت نفسي آسِفًا لعدم وجود المزيد للتعرف أكثر على حياته العظيمة).

ساروجنى ندو: ساروجنى ندو شاعرة الهند قالت: "يعتبر الإسلام أول الأديان مناديًا ومطبقًا للديمقراطية، وتبدأ هذه الديمقراطية في المسجد خمس مرات في اليوم الواحد عندما ينادى للصلاة، ويسجد القروي والملك جنب لجنب اعترافًا بأن الله أكبر.. ما أدهشني هو هذه الوحدة غير القابلة للتقسيم والتي جعلت من كل رجل بشكل تلقائي أخًا للآخر".

راما كريشنا راو: (البروفسور رما كريشنا راو في كتابه "محمد النبي") يقول: "لا يمكن معرفة شخصية محمد بكل جوانبها. ولكن كل ما في استطاعتي أن أقدمه هو نبذة عن حياته من صور متتابعة جميلة. فهناك محمد النبي، ومحمد المحارب، ومحمد رجل الأعمال، ومحمد رجل السياسة، ومحمد الخطيب، ومحمد المصلح، ومحمد ملاذ اليتامى، وحامي العبيد، ومحمد محرر النساء، ومحمد القاضي، كل هذه الأدوار الرائعة في كل دروب الحياة الإنسانية تؤهله لأن يكون بطلاً.

ويقول الانجليزي (برناردشو) في كتابه "محمد"، والذي أحرقته السلطة البريطانية: إن العالم أحوج ما يكون إلى رجلٍ في تفكير محمد، هذا النبي الذي وضع دينه دائماً موضع الاحترام والإجلال، فإنه أقوى دين على هضم جميع المدنيات، خالداً خلود الأبد، وإني أرى كثيراً من بني قومي قد دخلوا هذا الدين على بينة، وسيجد هذا الدين مجاله الفسيح في هذه القارة (يعني أوروبا).

ص: 603

(مايكل هارت) في كتابه "مائة رجل في التاريخ" : إن اختياري محمداً، ليكون الأول في أهم وأعظم رجال التاريخ، قد يدهش القراء، ولكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين: الديني والدنيوي. فهناك رُسل وأنبياء وحكماء بدءوا رسالات عظيمة، ولكنهم ماتوا دون إتمامها، كالمسيح في المسيحية، أو شاركهم فيها غيرهم، أو سبقهم إليهم سواهم، كموسى في اليهودية، ولكن محمداً هوالوحيد الذي أتم رسالته الدينية، وتحددت أحكامها، وآمنت بها شعوب بأسرها في حياته. ولأنه أقام جانب الدين دولة جديدة، فإنه في هذا المجال الدنيوي أيضاً، وحّد القبائل في شعب، والشعوب في أمة، ووضع لها كل أسس حياتها، ورسم أمور دنياها، ووضعها في موضع الانطلاق إلى العالم. أيضاً في حياته، فهو الذي بدأ الرسالة الدينية والدنيوية، وأتمها.

المستشرق الأمريكي (سنكس) في كتابه "ديانة العرب" : ظهر محمد بعد المسيح بخمسمائة وسبعين سنة، وكانت وظيفته ترقية عقول البشر، بإشرابها الأصول الأولية للأخلاق الفاضلة، وبإرجاعها إلى الاعتقاد بإله واحد، وبحياة بعد هذه الحياة.

(سنرستن الآسوجي) أستاذ اللغات السامية، في كتابه "تاريخ حياة محمد" : إننا لم ننصف محمداً إذا أنكرنا ما هو عليه من عظيم الصفات وحميد المزايا، فلقد خاض محمد معركة الحياة الصحيحة في وجه الجهل والهمجية، مصراً على مبدئه، وما زال يحارب الطغاة حتى انتهى به المطاف إلى النصر المبين، فأصبحت شريعته أكمل الشرائع، وهو فوق عظماء التاريخ.

(برناردشو) إذا حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثر في الناس، قلنا إن محمداً رسول المسلمين أعظم عظماء التاريخ، فقد كبح جماح التعصب والخرافات، وأقام فوق اليهودية والمسيحية ودين بلاده القديم ديناً واضحاً قوياً، استطاع أن يبقى إلى يومنا هذا قوة ذات خطر عظيم. وقال أيضاً: "قرأت حياة رسول الإسلام جيداً، مرات ومرات لم أجد فيها إلا الخلق كما يجب أن يكون، وأصبحت أضع محمداً في مصاف بل على قمم المصاف من الرجال الذين يجب أن يتبعوا". و"لما قرأت دين محمد أحسست أنه دين عظيم، وأعتقد أن هذا الدين العظيم سيسود العالم ذات يوم قريب مقبل إذا ما وجد الفرصة لانتصاره، ليتعرف العالم عليه بلا تعصب". وقال أيضاً "لو أن محمداً وجد في هذا العالم اليوم لاستطاع بقوة إقناعه أن يحل كل مشكلات العالم وان يجعل الحب

ص: 604

والسلام هم الحياة، ولاشك أن الإسلام ونبي الإسلام، استطاعا أن يجعلاني أقف باحترام شديد للرسالة ورسولها وتمنيت دائماً بأن يكون الإسلام هو سبيل العالم فلا منقذ له سوى رسالة محمد". "أرجوا أن تفهموا نبؤتي فالإسلام قادم ليصبح العالم به في حب وسلام فقد دخل ومايزال يدخل الإسلام كثرة هائلة من بني قومي ومن الأقوام الأخرى حتى ليمكن أن يقال أن تحول أوروبا إلى الإسلام قد بدأ". لم يسجل التاريخ أن رجلاً واحداً، سوى محمد، كان صاحب رسالة وباني أمة، ومؤسس دولة … هذه الثلاثة التي قام بها محمد، كانت وحدة متلاحمة، وكان الدين هو القوة التي توحدها على مدى التاريخ.الأديب الألماني ((جوتة)) : “إننا أهل أوربا بجميع مفاهيمنا، لم نصل بعد إلى ما وصل إليه محمد، وسوف لا يتقدم عليه أحد، ولقد بحثت في التاريخ عن مثل أعلى لهذا الإنسان، فوجدته في النبي محمد … وهكذا وجب أن يظهر الحق ويعلو، كما نجح محمد الذي أخضع العالم كله بكلمة التوحيد".

توماس كارليل الرسول لم يكن من محبي الشهرة المصلح الاجتماعي الإنجليزي توماس كارليل كان مولعاً بالشخصيات التي غيرت مجرى التاريخ، وأفرد في كتابه "الأبطال" فصلاً كاملاً للحديث عن الرسول الكريم (صلی الله علیه و آله).استعرض فيه نواحي العظمة في حياته ورد على افتراءات الكارهين له ولرسالته العظيمة حتى انه اتهم بالتحيز للإسلام. ومما قاله "قوم يضربون في الصحراء عدة قرون لا يؤبه بهم ولهم فلما جاءهم النبي العربي، أصبحوا قبلة الأنظار في العلوم والمعرفات وكثروا بعد قلة، وعزوا بعد ذلة، ولم يمض قرن حتى استضاءت أطراف الأرض بعقولهم وعلومهم". كما يفند كارليل مزاعم الكارهين مدافعاً عن رسول الإسلام والرسالة بقوله: "لم يكن رسول الإسلام من محبي الشهرة كما يدعي البعض لم يكن في فؤاد ذلك النبي العظيم أي طمع دنيوي، لأن الذي يتمسك بحبل الله لا تهمه الظواهر ولا السطحيات، فقد تمسك بحبل الله ضارباً حسابا الربح والخسارة عرض الحائظ غير مهتم بجاه أو شهرة أو سلطان، ولو كان يريد ذلك لركن إلى أقوال الذين ساوموه على ذلك، لكنه أقسم أنهم لو وضعوا في يديه القمر والشمس على أن يترك هذا الدين ما تركه". ويضيف هذا الفيلسوف الإنجليزي الحائز على جائزة نوبل في كتابه الأبطال: " لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متحدث هذا

ص: 605

العصر أن يصغي إلى ما يقال من أن دين الإسلام كذب، وأن محمداً خدّاع مزوِّر. وإن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة ؛ فإن الرسالة التي أدَّاها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرناً لنحو مائتي مليون من الناس، أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائقة الحصر والإحصاء أكذوبة وخدعة ؟!.

الدكتور (شبرك) النمساوي: إنّ البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد إليها، إذ إنّه رغم أُمّيته، استطاع قبل بضعة عشر قرنًا أنْ يأتي بتشريع، سنكونُ نحنُ الأوروبيين أسعد ما نكون، إذا توصلنا إلى قمّته.

الكونت كاتياني يقول في كتابه (تاريخ الإسلام) : أليس الرسول جديراً بأن تقدَّم للعالم سيرته حتى لا يطمسها الحاقدون عليه وعلى دعوته التي جاء بها لينشر في العالم الحب والسلام؟! وإن الوثائق الحقيقية التي بين أيدينا عن رسول الإسلام ندر أن نجد مثلها، فتاريخ عيسى وما ورد في شأنه في الإنجيل لا يشفي الغليل".

المستشرق الإسباني جان ليك في كتابه (العرب) : لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) كان محمد رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوقالمستشرق هيل: يقول في كتابه (حضارة العرب) لقد أخرج محمد للوجود أمة، ومكن لعبادة الله في الأرض، ووضع أسس العدالة والمساواة الاجتماعية، وأحل النظام والتناسق والطاعة والعزة في أقوام لا تعرف غير الفوضى".

فولتير: الشاعر والكاتب الفرنسي فولتير وصاحب حركة الاستنارة الفرنسية في القرن الثامن عشر والذي كان يؤمن بالتسامح الديني عندما تحدث عن رسول الإسلام قال "السنن التي أتى بها محمد كانت كلها ما عدا تعدد الزوجات قاهرة للنفس ومهذبة لها، فجمال تلك الشريعة وبساطة قواعدها الأصلية جذبا للدين المحمدي، أمماً كثيرة أسلمت ويتابع قائلاً "أنه دين يستحق الإعجاب والإجلال والتقدير ذلك لأنه جعل زنوج أواسط إفريقيا، يشعرون بآدميتهم، وجعل سكان جزر البحر الهندي يعرفون أن هناك قوة غير التي اعتادوا عليها" وينفي ما يتردد حول أن الإسلام استولى قهراً وبالسيف على أكثر من نصف الكرة الأرضية، فيقول "هذه شائعات تحاول أن تقلل من

ص: 606

قيمة الإسلام ورسوله، وان الدليل على ذلك أن كثيرين اعتنقوا الإسلام وهم بعيدون عن بلاده وغزوات وفتوحاته، فكيف إذن وصلهم السيف الذي يدعيه مؤرخونا وخطباؤنا". ويضيف الفيلسوف الفرنسي فولتير لقد قام الرسول بأعظم دور يمكن لإنسان أن يقوم به على الأرض … إن أقل ما يقال عن محمد أنه قد جاء بكتاب و جاهد، والإسلام لم يتغير قط.

برتراند راسل: وهو أحد فلاسفة بريطانيا الكبار والحاصل على جائزة نوبل للسلام عام 1950، قال: "لقد قرأت عن الإسلام ونبي الإسلام فوجدت أنه دين جاء ليصبح دين العالم والإنسانية، فالتعاليم التي جاء بها محمد والتي حفل بها كتابه مازلنا نبحث ونتعلق بذرات منها وننال أعلى الجوائز من أجلها". و"كان محمد بتعاليمه وكتابه أحق بكل الجوائز لكنه لم يسع إلى ذلك وترك الأمور تسير بطبيعتها حتى لا يتهم بأن الإسلام بالسيف ساد وانتشر". "لقد كانت ومازالت ديانة محمد توحيداً سهلاً ولم يزعم لنفسه انه إله ولا زعم أتباعه له هذه الطبيعة الإلهية نيابة عنه، لقد كانت الأخلاق الإسلامية منذ محمد وحتى اليوم وغداً هي المفتاح الحقيقي للإنسان الذي يحلم بان يكون لوجوده معنى".

السير ويليام موير: وهو اسكتلندي درس الحقوق في جامعتي أدنبره، وجلاسجو وبدأ يبحث عن الإسلام ويدرس أخلاق نبي الإسلام في بداية وجوده بالهند وله دراسات جديدة منها "سيرة النبي والتاريخ الإسلامي" ويقول في كتابه هذا: "من صفات النبي الجديرة بالتنويه والإجلال "الدقة والاحترام" اللتان كان يعامل بهما أتباعه حتى أقلهم شأناً، فالتواضع والرأفة والإنسانية وإنكار الذات والسماحة والإخاء وثقت به محبة كل من حوله" "ولقد امتاز محمد بوضوح كلامه وسهولة دينه ولقد أتم من الأعمال مالم ولن يستطيعه مصلح اجتماعي، فقد أحيا الأخلاق وحث على الفضيلة، وهذا حال الأنبياء والرسل حينما يربيهم الله ويرسلهمبرسالة حق كما أرسل محمداً بالإسلام الحقيقة والحق ليختم الرسالات وأيضاً ليختم الأنبياء". "صنع محمد أمة من قوم كانوا من قسوة القلب والبداوة بحيث يصعب التأثير فيهم فأصبحوا كما أراد الإسلام ونبيه وراحوا يملأون العالم بعد ذلك علماً ونوراً بعد أن كانوا من الجهالة والجاهلية".

ص: 607

الفليسوف الفرنسي جان جاك روسو: فقد أبدى إعجابه بالنبي محمد (صلی الله علیه و آله) قال: (لم ير العالم حتى اليوم رجلا استطاع أن يحول العقول، والقلوب من عبادة الأصنام إلى عبادة الإله الواحد إلا "محمداً" ولو لم يكن قد بدأ حياته صادقاً أميناً ما صدقه أقرب الناس إليه، خاصة بعد أن جاءته السماء بالرسالة لنشرها على بني قومه الصلاب العقول والأفئدة، لكن السماء التي اختارته بعناية كي يحمل الرسالة كانت تؤهله صغيراً فشب متأملاً محباً للطبيعة ميالا للعزلة لينفرد بنفسه). ويؤكد روسو قائلاً : (لو أن محمداً عاش مدة أطول مما عاش، لأصبح الإسلام ورسوله سادة العالم).

الزعيم الألماني هتلر: حيث قال في شخصية النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) : (اعتقد أنه لو كان محمد في عصرنا هذا لما فعل ما فعلت مع اليهود لكنهم لا يستحقون إلا ما قمت به معهم).

سانت هيلر: (كان محمد رئيساً للدولة وساهراً على حياة الشعب وحريته، وكان يعاقب الأشخاص الذين يجترحون الجنايات حسب أحوال زمانه وأحوال تلك الجماعات الوحشية التي كان يعيش النبي بين ظهرانيها، فكان النبي داعياً إلى ديانة الإله الواحد وكان في دعوته هذه لطيفاً ورحيماً حتى مع أعدائه، وإن في شخصيته صفتين هما من أجلّ الصفات التي تحملها النفس البشرية وهما العدالة والرحمة. (العلامة برتلي سانت هيلر الألماني مستشرق ألماني ولد في درسدن 1793 - 1884 قال في كتابه (الشرقيون وعقائدهم).

إدوار مونته: (عرف محمد بخلوص النية والملاطفة وإنصافه في الحكم، ونزاهة التعبير عن الفكر والتحقق، وبالجملة كان محمد أزكى وأدين وأرحم عرب عصره، وأشدهم حفاظاً على الزمام فقد وجههم إلى حياة لم يحلموا بها من قبل، وأسس لهم دولة زمنية ودينية لا تزال إلى اليوم. (الفيلسوف إدوار مونته الفرنسي مستشرق فرنسي ولد في بلدته لوكادا 1817 - 1894 قال في آخر كتابه (العرب).

المستشرق ميشون: حيث عقد مقارنة بن تسامح الإسلام وتعصب الصليبيين، في كتابه: ((تاريخ الحروب الصليبية)) وقال: (إن الإسلام الذي أمر بالجهاد متسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وهو الذي أعفى البطاركة والرهبان وخدمهم من الضرائب وحرّم قتل الرهبان _على الخصوص _ لعكوفهم على العبادات... في حين ذبح

ص: 608

الصليبيون المسلمين و حرقوا اليهود عندما دخلوا القدس). ويزيد الباحث نفسه في كتابه، (سياحة دينية في الشرق ص 31) متحدثاً عن تاريخ العلاقات الإسلامية المسيحية، وكيف أن المسيحيين تعلموا الكثيرمن المسلمين في التسامح وحسن المعاملة، يقول: (وإنه لمن المحزن أن يتلقى المسيحيون عن المسلمين روح التعامل وفضائل حسن المعاملة، وهما أقدس قواعد الرحمة والإحسان عند الشعوب والأمم، كل ذلك بفضل تعاليم نبيهم محمد).

المستشرق جين لويس ميشون يقول: (إن الاسلام الذي أمر بالجهاد قد تسامح مع أتباع الأديان الأخرى).

جواهر لال نهرو وهو أول رئيس وزراء للهند بعد استقلالها، قال: (فاقت أخلاق نبي الإسلام كل الحدود ونحن نعتبره قدوة لكل مصلح يود أن يسير بالعالم إلى سلام حقيقي).

هربرت جورج ويلز : وهو كاتب وأديب بريطاني معروف، يقول في كتابه (معالم تاريخ الإنسانية) : (إن من أرفع الأدلة على صدق (محمد) كون أهله وأقرب الناس إليه يؤمنون به فقد كانوا مطَّلعين على أسراره ولو شكوا في صدقه لما آمنوا به. حَجَّ محمد (صلی الله علیه و آله) حجة الوداع من المدينة إلى مكة، قبل وفاته بعام، وعند ذاك ألقى على شعبه موعظة عظيمة.. إنَّ أول فقرة فيها تجرف أمامها كل مابين المسلمين من نهب وسلب ومن ثارات ودماء، وتجعل الفقرة الأخيرة منها الزنجي المؤمن عدلاً للخليفة.. إنها أسَّسَت في العالم تقاليد عظيمة للتعامل العادل الكريم، وإنها لتنفخ في الناس روح الكرم والسماحة، كما أنها إنسانية السمة ممكنة التنفيذ، فإنها خلقت جماعة إنسانية يقلّ ما فيها مما يغمر الدنيا من قسوة وظلم اجتماعي، عما في أي جماعة أخرى سبقتها).

ص: 609

نماذج من الدول التي تتمتع بثقافة التعايش السلمي

اشارة

نستعرض فيما يأتي وبشكل موجز سيرة بعض الدول التي تنتهج مبدأ التعايش السلمي، في سياستها الداخلية مع شعوبها، وعلى الرغم من وجود هذه الحالة الطيبة فيها، إلا أن مبدأ التعايش السلمي، بحدود فهمي يختلف نظام تطبيقه من دولة إلى أخرى، وذلك وفقاً للرؤية الدينية والثقافية والسياسية والاجتماعية وحتى الدستورية لهذه البلدان وغيرها من دول العالم، حيث قد يعتبر بعض الحقوقيين والمطالبين بحقوق الإنسان في العالم،إن مسألة فرض دولة معينة أمر ما على أفراد شعبها مسألة مخالفة لمبدأ التعايش السلمي، في حين إن هذا الأمر تم تطبيقه من زاوية دينية أو اجتماعية أو غير ذلك فيها مصلحة الشعب، نذكر على سبيل المثال، منع النساء من التبرج والسفور، ومنع تناول المشروبات الكحولية، ومنع الزواج المثلي ونحوها من القضايا التي يجب منعها لأن فيها أضراراً بالغة على الإنسانية، والدولة التي تسمح بذلك، لايمكن أن ننعتها بأنها دولة متحضرة أو تحمل شعار الحرية والتسامح، لأن هذه الأمور ونظائرها مخالفة لقيم الإنسانية فضلاً عن القيم الدينية الأصيلة، وهذه المظاهر في حقيقتها مظاهر بهيمية وحيوانية، وتجر للناس الكوارث والويلات، لذا حرمت الأديان السماوية، وفي مقدمتها الدين الإسلامي مثل هكذا أمور، لأن المشرع الأقدس وهو الله الخالق المتعال جل ذكره، أعلم وأعرف بما يُصلح الإنسان وما يفسده، كيف لا، وهو الذي خلقه وصنعه بيد قدرته، قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ). (1)

أولاً/ جمهورية إيران الإسلامية:

إن عدد المسيحيين في طهران، يبلغ اليوم، حوالي (300) ألف نسمة، يتبع غالبيتهم الكنيسة الأرمنية، ويتواجدون في أصفهان وطهران وأذربيجان، وقد سمحت العاصمة طهران للطوائف المسيحية بالدخول إلى الجيش، ولهم قوانينهم الخاصة في مجالات الإرث والأحوال الشخصية، وضمن لهم الدستور ممارسة شعائرهم الدينية والاحتفال

ص: 610


1- ق (16) .

بأعيادهم، فضلاً عن اختيار ممثليهم في البرلمان الإيراني، وتخصّص إيران ميزانية سنوية لترميم الكنائس، حيث اعتمدت الحكومة في العام 2006م مبلغ (5) مليارات ريال أي حوالي (200) ألف دولار لهذا الهدف.

ويذكر أن الأرمن بدأوا بنشر صحفهم باللغة الأرمنية بدءاً من العام 1794، حيث انتشرت جريدة ((آليك)) باللغة الأرمنية في العام 1931 ولا تزال تصدر حتى اليوم. وفي طهران 28 مدرسة من إجمالي 50 مدرسة، ليس للمسلمين الحق في دخولها، أما الطلاب الأرمن فلا مانع من تسجيلهم في مدارس المسلمين. ويسمح بتدريس تاريخ أرمينيا ولغتها في بعض مدارس إيران، خصوصاً في أصفهان وتبريز، حيث لا يُستقبل إلا الطلاب الأرمن، مع اتباع المنهج الرسمي الذي تقره الدولة مضافاً إليه التعليم المسيحي. وفي عام 1979، هنأ الإمام الخميني (قدس سره) المسيحيين بالقول: (أهنئ الشعوب المستضعفة في العالم والشعب المسيحي ومواطنينا المسيحيين بمناسبة العيد السعيد لميلاد المسيح.. هذا النبي العظيم الذي بُعث لنصرة المظلومين وارساء العدل والرحمة، والذي دان الظالمين والجائرين بكلامه السماوي وتصرفه الملكوتي ودافع عن المظلومين والمستضعفين).ويقول أحد الدعاة والخطباء المسلمين، معبراً عن المنهج السلمي الذي تتبعه إيران: (إن دولة إيران منذ (150) سنة لم تشن حرباً على أي دولة، وفي طهران العاصمة توجد (7) أديرة لليهود بالإضافة إلى مستشفى يهودي.

ويذكر مصدر آخر أنه في الجمهورية الإسلامية الإيرانية بأجمعها يوجد أكثر من (600) كنيسة في مدن مختلفة، نصيب طهران العاصمة منها (37) كنيسة تتوزّع على مناطق مختلفة. وفي طهران أيضاً يمارس المسيحيون شعائرهم الدينية، فيما تقوم لجان شبابية بتنظيم الاحتفالات والمناسبات الدينية.

ويقول مطران الأرمن في طهران وشمال إيران سبوح سركيسيان إن العلاقة بين إيران الدولة والمسيحيين، وتحديداً الأرمن، وهي الطائفة التي يعتنقها غالبية المسيحيين في البلاد، هي علاقة مواطنين بدولة (نحن قبل كل شيء مواطنون إيرانيون، نتمتع بجميع حقوقنا كأي مواطن آخر، إلا أنه لدينا حقوقنا وقوانيننا الخاصة التابعة للكنيسة).

وبحسب الإحصاءات الرسمية يعيش في إيران حوالى ربع مليون مسيحي، معظمهم من الأرمن، ويأتي السريان بالمرتبة الثانية، ولهؤلاء ثلاثة ممثلين في مجلس الشورى

ص: 611

الإسلامي ينتخبونهم بأنفسهم. يعيش المسيحيون الإيرانيون بشكل أساسي في المدن، ولطهران حصة الأسد منهم، إذ يعيش فيها ما يقارب نصف المسيحيين الإيرانيين. في طهران، عدد كبير من الكنائس لطوائف مسيحية مختلفة، ولدى الطائفة الأرمنية نادٍ خاص يدعى نادي ((آرارات)) يقع في شارع آرارات تقام فيه الاحتفالات غير الدينية.

وحاليًا يوجد في البرلمان الإيراني 290 عضوًا، 14 منهم من غير المسلمين ممثلين لأقليات دينية ما يقارب من (4.8 ٪) من المجلس. والنساء يمثلن 8٪، بينما عالميًا نسبة النساء في المجالس تقارب 13٪.

ويقول أحد الكتّاب: بالرغم من تشجيع حكومات الكيان الصهيوني المختلفة لليهود المنتشرين في دول مختلفة على الهجرة إلى فلسطين، إلا أنها تغظ الطرف عن يهود إيران الأكثر تمسكاً بالبقاء بإيران، وهو ما يفسر تفوق الجالية اليهودية في إيران من حيث العدد، على الجاليات اليهودية في الشرق الأوسط. أو بعبارة أخرى أن يهود إيران باتوا أكبر تجمع يهودي في الشرق الأوسط باستثناء التجمع اليهودي في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وإن المعابد والكنائس اليهودية لم تكن في أي وقت مصدر قلق للأنظمة الإيرانية المتعاقبة، فهناك عشرات المعابد والكنائس اليهودية في طهران وأصفهان، كما تعترف الدولة باليهود اللذين يعيشون في كنفها، وتعتبرهم إلى جانب المسيحية والزرادشتية، أقلية دينية، تحظى بمعاملة لائقة خلافاً للأقليات العرقية والقوميات الأخرى، وهو ما يؤكد عليه يهود إيران أنفسهم، حين يتحدثون عن موقف النظام السياسي منهم، كما أن الممارسات الإيرانية الإيجابية تجاههم، تؤكد بما لا يقبل التأويل، على أنهم مندمجون جيدًا ولا يشعرون بأينوع من التمييز العنصري، وأن المشاكل بين إيران والكيان الصهيوني لا تؤثر عليهم، على اعتبارهم إيرانيين قبل كل شيء، وذلك وفقاً لما يدعيه متدينيهم.

ثانياً/ الإمارات العربية المتحدة:

حصلت دولة الإمارات على المرتبة الأولى عالمياً في التعايش السلمي بين الجنسيات وذلك لاحتضانها (200) جنسية على أرضها، وفقاً للتقرير السنوي لعام 2014م للمنظمة العالمية للسلم والرعاية والإغاثة التابعة للأمم المتحدة، والذي تم كشف النقاب عنه في

ص: 612

الشارقة بمناسبة اليوم الدولي للسلام والذي يوافق (21) سبتمبر من كل عام، وتقدمت الإمارات على الولايات المتحدة التي جاءت في المرتبة الثانية بوجود أكثر من (197) جنسية على أراضيها، في حين احتلت بريطانيا المرتبة الثالثة لوجود (181) جالية من مختلف أنحاء العالم يعشيون فيها. وبهذا تكون الإمارات قد تقدمت على أكثر دول العالم تقدماً في رعاية الأقليات المختلفة التي تعيش على أرضها، بإعطائهم كافة الحقوق والرعاية والتأمين الصحي والمعيشي ونشر ثقافات التعايش بين مختلف الجنسيات على اختلاف أديانهم، وإعلاء كلمة الحق والتسامح والعدل والمساواة واحترام الآخر والتمسك بنهج المحبة والخير.

ففي الوقت الذي تتأزم الحياة الى درجة التقاتل والحروب الطائفية تشهد الإمارات وجود كل الأديان والطوائف المعروفة في العالم من خلال وجود (200) جنسية، يفوق عددها ال- 4 ملايين انسان يعيشون جنباً إلى جنب مع مواطني الدولة بسلام وهدوء، يعملون معا ويتزاملون في مؤسسات العمل ويلتقون في كل مكان دون أن تسجل أي نوع من حوادث الاحتكاكات او التعديات.

ثالثاً/ سلطنة عُمان:

تصنف عُمان باعتبارها ال- (59) البلد الأكثر سلمية في العالم وفقاً لمؤشر السلام العالمي. وتشتهر بأنها أحد أهم مراكز المذهب الإباضي، حيث يعتبر المذهب الأساسي في الحكم، بالإضافة لوجود المذهب السني والمذهب الشيعي وكل المذاهب متجانسة مع بعضها البعض بلا أي خلاف، علماً إن الدستور العُماني لا يسمح بوجود الأحزاب السياسية وبمشاركتها في السلطة، فالحكم في سلطنة عُمان وراثي.

والمذهب الرسمي السائد لدى سكان عُمان هو الإباضية، وينتشر أهل السنة في جميع أجزاء عُمان من أتباع المذهب الحنفي والشافعي والحنبلي، وفيها قلة من الشيعة تتركز في بعض المناطق مثل مطرح في محافظة مسقط وولايات الباطنة خاصة التي تقع على الساحل، ويضرب المثل بسلطنة عمان في التسامح المذهبي، والتعايش بين كافة الطوائف. على الرغم من كون الدستور العماني ينص على أن الدين الإسلامي هو الدين الرسمي للدولة، إلا أن القوانين العمانية تنص على حرية ممارسة الشعائر الدينية

ص: 613

وعدم التمييز على أساسالدين، فضلًا عن توافر أماكن العبادة وممارسة الشعائر لغير المسلمين من كنائس ومعابد، وقد عززت السلطنة قيم الحوار والترابط بين أبناء الوطن العماني، ولاسيما التسامح والاعتدال وقبول الآخر.

وإن سلطنة عمان تأتي دائماً في ذيل قائمة الإرهاب الشرق أوسطيّة، فقد أظهرت التقارير الأخيرة إن ترتيب مؤشر الإرهاب الدولي لعام 2014م، أن سلطنة عمان جاءت في ذيل القائمة كعادتها المشرّفة، وبدرجة بلغت ((صفر)) من 10 نقاط. وتتبني جهات تربوية عمانية غرس فكرة التعايش السلمي ومبادئ والمحبة والتسامح والسلام عند الأطفال، حتى على مستوى الأفلام الكارتونية،

تقول إحدى النساء العُمانيات وهي تصف الحالة الاجتماعية الرائعة التي يتمتع بها الشعب العُماني من ناحية تطبيق مباديء التعايش السلمي: (التعايش الديني في عمان بدأ من البيت ومن التعليم ومن المناهج التي تربي على التعايش والاحترام، وهذا شيء نفتقده بالتعليم عندنا في السعودية، فمثلاً ندرس كل المذاهب، وبالأخير يقول لك: كل هذه المذاهب في النار وكلهم كفار، وأنت الوحيد الذي لك الجنة). ويقول رجل عُماني معرباً عن ملامح هذه الحالة الطيبة بقوله: (المجتمع العماني حالة جديرة بالاهتمام، ومثالٌ رائع للتسامح والتعايش، بين جميع المكونات والمذاهب، والأجمل أنهم محصنون ذاتياً من سلبيات المجتمعات المجاورة لهم).

وتسعى الدولة لتعميق مفهوم التعايش والتسامح الذي بات عالمنا اليوم في حاجة ماسة إليه أكثر من أي وقت مضى، فقد أوضح أحد التقارير إن سلطنة عُمان تنتهج رسالة ((اسلام معتدل ومتسامح)) وهو ما تدل عليه حرية المعتقد الذي يتمتع به أبناء الطوائف الدينية المختلفة في السلطنة حيث يمارسون شعائرهم الدينية دون تضييق. كما أقيمت سنة 2013م، في السلطنة ندوة فكرية تحت عنوان: ((ندوة تطور العلوم الفقهية)) حضرها جمع من علماء الأمة الاسلاميَّة بكافة مشاربهم، سعيًا لبلورة مواقف مشتركة، لتدعيم التعايش مع الآخر، وجسدت الندوة التي استضافت أكثر من مائة عالم ومفكر وباحث، الاهتمام العُماني المتجدِّد بإرساء قيم التعايش والتسامح في هذا العصر، الذي تكثر فيه الصراعات والتوترات، وتسودُ فيه مظاهر اللاتسامح بين شعوب وثقافات كانت فيما مضى تنعم بهذه الفضيلة ولقرون خلت.

ص: 614

رابعاً/ جمهورية الهند:

تُعد الهند ثاني دولة في العالم من حيث تعداد السكان المسلمين بعد اندونيسيا. وبنفس القدر يعتبر عدد السكان الهندوس في الهند، أكبر من أي دولة أخرى في العالم، كما إن سكان الهند المسيحيين أكبر من سكان أي دولة اخرى معترف بها كدولة مسيحية. رغم كل ذلك، فإن الهند ليست دولة هندوسية أو اسلامية او مسيحية، إذ انها تتبع لكل هذه الديانات والملايين من اتباع الديانات الاخرى، وبذلك، فإن ((الوحدة فيالتنوع)) من ضمن المبادئ التي تميز دولة الهند المعاصرة. ولكن هناك جانبا آخر يتمثل في ان الهند تعتبر نموذجا للوحدة المعقدة من خلال التنوع، أي انها تمثل مجتمعا، يعزز التنوع فيه روابط دولتنا الحديثة. فالتنوع في الهند لا يتسم فقط بالتعدد والوفرة، وإنما يمثل عامل نشاط وحيوية وتأكيد على الوحدة، فالديمقراطية البرلمانية التعددية في الهند توفر إطارا يعبر من خلاله الشعب عن آرائه ويتابع تحقيق طموحاته، والامر المثير للاهتمام هو إن شبكات الإرهاب العالمية لا صلة لها بمسلمي الهند، ويعود سبب ذلك إلى أن الإطار السياسي والاجتماعي السائد في الهند يستوعب التعددية بصورة واضحة. ثمة انطباع منتشر في العالم حاليا بأن الاسلام والارهاب لا ينفصلان، مع تجاهل وجود بعد المنظمات الإرهابية التي ينتمي اعضاؤها الى اديان اخرى. الهند نفسها ظلت باستمرار ضحية للإرهاب العابر للحدود الذي استهدف المسلمين والهندوس على حد سواء، نتيجة ما يحدث في ولاية جامو وكشمير، حيث اتضح ان الارهابيين يعملون على تنفيذ السياسة الخارجية للدولة المجاورة لنا من الغرب، ومن الخطأ الاعتقاد بان الدين هو الدافع، لكن ومع ذلك، يجب ان نوضح ان المواقف التي تتبناها والخطوات التي تتخذها تساعد الذين يعملون على إثارة العداء الطائفي داخل الهند. هناك ايضا زعماء دينيون وسياسيون في الجانبين يعملون على إثارة توتر ومشاعر الآخرين. (1)

وإن جميع الاديان الهندية تحث على العيش بسلام والبحث عن السلام الداخلي من خلال التأملات واليوجا والأصوام، ولقد وجدت أن أصحاب الديانات الهندية مُساَلمين يغلب عليهم الهدوء يهتمون بالأخر. إن بعض الأديان الهندية لا تحدث فقط على حماية النفس البشرية إنما الحيوانية أيضا، فيقدر عدد الاشخاص النباتيين بالهند ب-

ص: 615


1- ينظر جريدة الشرق الأوسط، النزاع والتعايش في زمن الإرهاب.. الهند نموذجاً، سونيا غاندي.

(40٪) من عدد السكان الذي يزيد عن المليار و (200) مليون نسمة، ونادراً ما ينظر شخص للآخر من منطلق الدين أو اللون أو الجنس. ويعود الفضل في ذلك إلى المهاتما غاندي أب الدستور الذي أُسس للتعايش في المجتمع الهندي رغم تعدديته. فالدستور الهندي من أطول دساتير العالم وأضخمها لأنه يحتوي على قوانين مفصلة قابلة للتنفيذ لأغلب أفراد الشعب... وتُقدم لنا الهند نموذجاً واقعياً لإمكانية تعايش الأديان معاً. (1)

والهند تتميز بتنوع فريد في السكان والأعراق واللغات وقد نجحت مع ذلك في المحافظة على وحدتها داخل هذا التنوع ما جعلها تمثل نموذجاً للتسامح والتعايش السلمي وهي أول دولة في العالم من حيث عدد اللغات والأعراق فيها، فالهندوسية تعد الديانة الأولى من حيث عدد معتنقيها حيث يشكلون حوالي 80% إلى 82%من التركيبة العرقية للشعب الهندي. كما تعتبر ثاني أكبر الدول الإسلامية بعد إندونيسيا، وتبلغ نسبة المسلمين فيها 13.4% (أو أكثر وفقا لبعض المصادر الأخرى) ، وأظهرت الدراسات البيانية أن المسلمين زادوا بنسبة 36% إلى 138 مليونا مؤخرا، والمسلمون جزء أساسي وفاعل في تركيبة المجتمع الهندي، وقدموا إسهامات هائلة في تاريخ الحضارة والفكر الإسلام، أما باقي الهنود فيتوزعون بين مسيحيين (2.34%) وسيخ (1.94%) وبوذيين (0.76%) إضافة إلى أقليّات دينيّة أخرى، وهم اليهود والزرادشتيّون والقاديانون والبهائيون. وبالرغم من أن أكثر من 80% من السكان يدينون بالهندوسية إلا أنها لا تعد الديانة الرسمية للبلاد، فقد قامت جمهورية الهند بتبني العلمانية في الدستور الذي اقر في 1950م، ولكن علمانية الهند -إذا جاز التعبير- لها خاصية متفردة إذ لا تلغي الدين من الفضاء العام بقدر ما تخلق أنظمة وقوانين تسمح بالتعددية الدينية والثقافية لجميع الأديان والمعتقدات علي حد سواء دون تمييز أو تفضيل، فقد نصت الفقرة 295 من الدستور الهندي على (أن كل من يحاول بسوء نية وبقصد مبيت المس بالمشاعر الدينية لفئة من المواطنين سواء بالكلمة المكتوبة، أو المنطوقة، أو باستخدام علامات معينة، أو سب ومحاولة القيام بذلك سيكون تحت طائلة القانون الذي يعاقب إما بالسجن لمدة ثلاث سنوات على الإساءة للمشاعر الدينية، أو الغرامة، أو هما معاً).

ص: 616


1- ينظر مقال بعنوان: (كنيسة وأديان) مايكل عادل أمين.

وهذا يعكس مدى حرص قادة الهند المؤسسين على الوحدة والسيطرة على الصراعات التي حدثت بسبب العقيدة بعد مرحلة تقسيم شبه القارة الهندية إلى كيانين مستقلين: الهند وباكستان. وقبل التقسيم وبعده حدثت هجرة جماعية للمسلمين إلى باكستان، وأخرى للهندوس والسيخ إلى الهند؛ ما أدى إلى اقتلاع مجتمعات بأكملها من جذورها، وحصول دمار اقتصادي هائل، واندلاع عنف طائفي غير مسبوق، فالمسيحي أو المسلم استطاع أن يتكيف مع القافية الهندية في حياته الثقافية مع بقائه في معتقده المسيحي أو الاسلامي، لقد استطاع أن يهنِّ-د نفسه فأصبح هندياً دون أن يغير دينه. (1)

وقد شاهدت بنفسي عند ذهابي للهند لأجل العلاج في إحدى المستشفيات داراً للعبادة تضم أربعة مباني متلاصقة من الجهات الأربعة، كل واحدة منها تخص طائفة دينية معينة، وهذا دليل واضح على انتشار روح التعايش السلمي والتقارب الديني بين أفراد هذه البلاد المتنوعة الأديان والأعراق.

ومما يذكر في هذا الإطار إنه قد أقيم في الهند حفل زواج متعدد الديانات وهو أكبر حفل زواج جماعي لشبان وفتيات ينتمون لمختلف الطوائف الدينية بالهند في إطار توجهات متنامية من جانب الميسورين مالياً لمساعدة غير القادرين على تحمل التكاليف الباهظة للزواج، حيث تم إجراء مراسم زواج ما يزيد على(2,100) شاباً من مختلف الديانات بحضور عدد كبير من المسؤولين الحكوميين والقيادات الشعبية والدينية إلى جانب أقارب المقبلين على الزواج، ولعله أكبر حفل زواج متعدد الديانات في العالم، وقال منظم الحفل والذي هو رجل دين سيخي إن مراسم الزواج سوف تتم حسب ما تقتضيه التعاليم الدينية الخاصة بكل طائفة وانه أعد قائمة بأسماء المشايخ والقساوسة والرهبان والأحبار الذين سيعهد إليهم بإتمام مراسم الزواج، ومن اهداف هذا المهرجان والاحتفال الكبير هو لأجل تعزيز روح التناغم التآلف بين مختلف الطوائف الدينية في الهند. (2)

ص: 617


1- ينظر مقال بعنوان: (الهند وتجربة التعايش السلمي) ، الدكتورة وداد محمود سعيد.
2- ينظر موقع المستقبل على شبكة الأنترنت، مقال بعنوان: (حفل زواج متعدد الديانات في الهند) .

خامساً/ جمهورية سنغافورا:

هي دولة متعددة الديانات بسبب الخليط العرقي المتواجد فيها، وتقر الدولة بحرية الاعتقاد وفصل الدين عن الدولة، وهي تسعى إلى التآلف بين مختلف الأديان والتقريب في وجهات النظر بينها. إحدى هذه المظاهر معبد (هونج بيك) حيث يعتبر مكانًا لأداء الشعائر الإسلامية والهندوسية والطاوية. وأكثر الأديان انتشاراً فيها هو البوذية، والدين الثاني هو المسيحية وتعتبر المسيحية من الأديان الحديثة العهد في الدولة، ومع ذلك فهي تعتبر من الأديان الأربع الرئيسية فيها، أما الدين الرابع فهو الإسلام، حيث تبلغ نسبة المسلمين فيها (14.9%) من مجموع السكان، وعدد المساجد (80) مسجدًا، وتوجد طائفة باسم (الطاوية) وهي من الأديان القديمة في سنغافورة، وتنتشر معابدها ومراكزها الروحية بوفرة في المدينة، غير أن نسبة معتنقيها في تضاؤل منذ أواخر للقرن العشرين، كما يوجد أيضًا حوالي (1000) نسمة من معتنقني الديانة اليهودية يمارسون شعائرهم الدينية في كنيسين، أما الإلحاد فيأخذ أوجه مختلفة إذ توجد جماعات عديدة من المشككين والماديين.

وقد عُقد في سنغافورة مؤتمراً دولياً حمل عنوان: (التنوع الثقافي ودور المؤسسات الإسلامية في تعزيز ثقافة السلم والوئام) وبمشاركة ممثلين عن مؤسسات ومراكز إسلامية في بلدان جنوب شرق آسيا، وهدف المؤتمر هو إبراز صورة الإسلام الحضارية إلى العالم الخارجي، إثر موجات الإرهاب والتطرف ومحاولة إلصاقها بالإسلام، ونشر ثقافة الإسلام الصحيحة باعتباره دين وسطية وتسامح، ويُعد النموذج السنغافوري مثالاً للمجتمع المتحضر الّذي تتعاون فيه الأديان والثقافات وتتكامل، من أجل مجتمع متماسك ومتسامح، يتميّز بتناغمه الطائفي، وتُكفل فيه الحريات الأساسية للجميع.وهذه الدولة تهتم اهتماماً بالغاً بالتناغم الطائفي كأساس لاستقرار المجتمع، حيث يوجد بها أتباع لديانات متعددة منها؛ الإسلام والمسيحية والبوذية والهندوسية والطاوية والسيخ، ولهذا الغرض تمّ إنشاء مجلس رئاسيّ للتناغم الطائفيّ تحت رعاية رئيس جمهوريّتها مباشرة، لتوطيد الوحدة الوطنية.

*** ****

**** *** **** ****

ص: 618

ومع كل هذا الانتشار الملحوظ لمبدأ التعايش السلمي في بعض دول العالم إلا أن المد الوهابي التكفيري يحاول وبشتى السُبل نشر حالة العنف والإرهاب في دول العالم، مستغلاً الدعم الإسرائيلي والأمريكي والبريطاني، ويحاول جاهداً وبكل ما أوتي من قوة اشعال فتيل الحروب الطائفية وقتل ثقافة التعايش بين الناس، وبدواعي طائفية وعصبية مقيتة، وبتأييد وتحريض من علماء السوء ووعاظ السلاطين اللاهثين وراء مصالحهم الدنيئة.

ص: 619

أقوال مشاهير العالم حول صفة التسامح والعفو والإحسان

فيما يأتي نذكر جملة من أقوال وحِكم مشاهير العالم، التي ينشدون من خلالها نشر ثقافة التسامح ومبدأ التعايش السلمي في العالم:

من أقوال الزعيم الهندي الشهير المهاتما غاندي:

(يجب أن لا تفقدوا الأمل في الإنسانية. أن الإنسانية محيط، وإذا ما كانت بضع قطرات من المحيط قذرة فلا يصبح المحيط بأكمله قذراً).

(إن النصر الناتج عن العنف هو مساوي للهزيمة، إذ انه سريع الانقضاء).

(إن العين بالعين تجعل العالم بأكمله أعمى).

(إذا قابلت الإساءة بالإساءة فمتى تنتهي الاساءة؟).

(أنا لا أريد أن يكون منزلي محاطا بجدار من كافة النواحي ولا أريد نوافذي أن تكون مسدودة. أريد أن تكون ثقافات كافة البلدان منتشرة حول منزلي بحرية. ولكني ارفض أن انسف من قبل أي منها).

(أين يتواجد الحب تتواجد الحياة).

(ليس هنالك طريق للسلام، بل أن السلام هو الطريق).

(إن اللاعنف والجبن لا يتماشيان معا. بامكاني القيام بتخيل شخص كامل التسليح هو في داخله جبان. إن حيازة الأسلحة تعني تواجد عنصر خوف، إذا لم يكن جبن. ولكن اللاعنف الحقيقي هو استحالة دون حيازة عدم الخوف الغير زائف).

(إن اللاعنف هو أعظم قوة متوفرة للبشرية. إنها أقوى من أقوى سلاح دمار تم تصميمه ببراعة الإنسان).

(إن حرمان شخص من حريته الطبيعية وإنكاره أسباب الراحة العادية هو أسوأ من تجويع الجسد؛ إذ أن ذلك هو تجويع للروح القاطنة في الجسد).

(يمكنك أن تقيدني، يمكنك أن تعذبني، يمكنك حتى أن تقوم بتدمير هذا الجسد، ولكنك لن تنجح أبدا في احتجاز ذهني).

ص: 620

قال الدكتور ابراهيم الفقي رائد التنمية البشرية المعروف: (إن الذات السلبية في الإنسان هي التي تغضب وتأخذ بالثأر وتعاقب بينما الطبيعة الحقيقية للإنسان هي النقاء وسماحة النفس والصفاء والتسامح مع الآخرين) ، وقال أيضاً: (لن تستطيع أن تعطي بدون الحب، ولن تستطيع أن تحب بدون التسامح).من عاشر الناس بالمسامحة، زاد استمتاعه بهم _ أبو حيان التوحيدي.

التسامح هو الذي يعطي للصواب قوته وقدراته على الامتداد وتحقيق النصر. - رجاء النقاش.

الغفران هدية تمنحها لنفسك. - سوزان سومرز.

علينا أن نتعلم العيش معاً كإخوة أو الفناء معاً كأغبياء. ماتن لوثر كينغ.

من لا يستطيع التسامح يهدم الجسر الذي يجب أن يعبره هو نفسه. - هربرت جورج ويلز.

لا يوجد انتقام أكمل من التسامح. - جوش بيلينجز.

التسامح هو الشكل الاخير من أشكال الحب. - رينولد نيبور.

كن شديد التسامح مع من خالفك الرأي فإن لم يكن رأيه كل الصواب فلا تكن أنت كل الخطأ بتشبثك برأيك. – فولتير.

من دون التسامح لن يكون هنالك مستقبل. - ديزموند توتو.

التسامح يعني أن تمنح لنفسك الفرصة لكي تبدأ بداية جديدة. - ديزموند توتو.

التسامح هو أن تمنح الكراهية بداخلك غرفة صغيرة جداً في قلبك. - تشول سو.

إن الكُره ليرتجف أمام الحبّ، وإن الحقد ليهتز أمام التسامح، وإن القسوة لترتعش أمام الرقة واللّين. - أيمن العتوم,

مسؤولية التسامح تقع على من لديهم أفق أوسع. - جورج اليوت.

التسامح الحق لا يستلزم نسيان الماضي بالكامل. - نيلسون مانديلا.

الحياة أقصر من أن نقضيها في تسجيل الأخطاء التي يرتكبها غيرنا في حقنا أو في تغذية روح العِداء بين الناس. براتراند راسل.

اغفر للكثير من الأمور لدى الآخرين، ولا تغفر لشيء فيك. – أوسونيوس.

اغفر يا بني، فالإنسان يبقى إنساناً، لا بد أن يخطئ. – فوريبيدز.

ص: 621

التسامح من شيم الشجعان. – إنديرا غاندي.

الغفران كالإيمان. عليك أن تنعشه باستمرار. – ماسون كولي.

الغفران الحقيقي لا ينكر الغضب، لكن يواجهه. – أليس ديور ميلير.

التسامح هو الشك بأن الآخر قد يكون على حق. - كورت توشولسكي.

ص: 622

أهم المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

نهج البلاغة الشريف الرضي، تعليق وفهرسة د. صبحي الصالح

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، الشيخ الشوشتري

الصحيفة السجادية الكاملة، للإمام زين العابدين (علیه السلام).

مصباح الشريعة، المنسوب لإمام الصادق (علیه السلام).

تفسير الميزان، العلامة الطبطبائي.

بحار الأنور، العلامة المجلسي.

تفسير الأمثل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.

وسائل الشيعة، الحر العاملي

مستدرك الوسائل، العلامة النوري

منهج الصالحين، الشهيد الصدر الثاني.

تفسير مجمع البيان، الطبرسي.

تفسير المنار، محمد رشيد رضا الحسيني.

كتاب المحاسن، العلامة البرقي.

خطاب المرحلة، المرجع اليعقوبي

وصايا ونصائح إلى الخطباء وطلبة الحوزة الشريفة، المرجع اليعقوبي.

ظواهر اجتماعية منحرفة مختلفة، المرجع اليعقوبي.

المعالم المستقبلية للحوزة العلمية، المرجع اليعقوبي.

الأسوة الحسنة للقادة والمصلحين، المرجع اليعقوبي.

الاستفتاءات والتوجيهات الاجتماعية، المرجع اليعقوبي.

شكوى المسجد، المرجع اليعقوبي

شكوى الإمام (علیه السلام) ، المرجع اليعقوبي.

نحن والغرب، المرجع اليعقوبي.

الحوزة وقضايا الشباب، المرجع اليعقوبي.

ص: 623

دور الأئمة في الحياة الاسلامية، المرجع اليعقوبي.التنوع والتعايش، الشيخ حسن موسى الصفار.

حقوق الانسان عند الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) ،رؤية علمية، الدكتور غسان السعد.

كتاب سليم بن قيس الهلالي

الكافي، الشيخ الكليني.

جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي

المبسوط، للشيخ الطوسي.

تهذيب الاحكام الشيخ الطوسي.

ثقافة التعايش، الشيخ ناصر الأسدي.

صلح الإمام الحسن (علیه السلام) من منظور آخر، الأسعد بن علي

سيرة الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) ، مهدي البيشوائي

الإمام السجَّاد (علیه السلام) جهاد وأمجاد، الدكتور حسين الحاج حسن

مقدمة الصحيفة السجادية، السيد محمد باقر الصدر

تأريخ الإسلام, لجنة التاريخ في المنظمة العالمية للحوزات والمدارس الإسلامية

جهاد الإمام السجاد (علیه السلام) ،السيد محمد رضا الجلالي

الإرهاب والتعصب عبر التأريخ، رائد قاسم.

التعامل الإنساني في سيرة الإمام علي (علیه السلام) ،الشيخ حسن الصفار

نبي الرحمة، عبد الرحمن عبد الله (المكتبة الشاملة)

الإمام علي (علیه السلام) والمساواة في المواطنة، الشيخ حسين الراضي، نقلاً عن موقع مكتب الهداية، صحيفة الساحل.

السبيل إلى إنهاض المسلمين، للسيد محمد الشيرازي

مكارم الأخلاق، الطبرسي

حلية الأبرار، السيد هاشم البحراني

مكاتيب الرسول (صلی الله علیه و آله) ،الأحمدي، (المكتبة الشاملة) ،

دولة النبي (صلی الله علیه و آله) في المدينة المنورة، الشيخ فوزي ال سيف.

ص: 624

تأريخ اليعقوبي، تحقيق محمد صالح بحر العلوم

الإمام علي (علیه السلام) باني اُسس التعايش، المهندس فؤاد الصادقدراسات في نهج البلاغة، الشيخ محمد مهدي شمس الدين

الخرائج والجرائح، الراوندي

موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) في الكتاب والسنة والتاريخ، الشيخ محمد الري شهري

الإمام علي بن ابي طالب (علیه السلام) من حبه عنوان الصحيفة، أحمد الرحماني الهمداني

التاريخ الاسلامي (دروس وعبر) ، السيد محمد تقي المدرسي

السيف والسياسة (الصراع بين الاسلام النبوي والاسلام الاموي) ، صالح الورداني.

الإرهاب والعنف في ضوء القرآن والسنة والتأريخ والفقه المقارن، الشيخ محسن الحيدري.

الحريات في الإسلام، السيد صادق الشيرازي.

علي والخوارج، جعفر مرتضى العاملي.

الشهيد محمد باقر الصدر رائد المشروع الوحدويّ، د. محمد صادق مزيناني.

ظاهرة تدجين الشعوب، للمؤلف.

اللقاءات المسجلة صوتياً للسيد الشهيد الصدر (قدس سره).

خطب صلاة الجمعة للسيد الشهيد الصدر الثاني

السياسة من واقع الإسلام، السيد صادق الشيرازي

مفاهيم القرآن، الشيخ جعفر سبحاني

شمس العرب تَسطَع على الغرب. زيغريد هونكه

الإسلام والحضارة الغربية. السيد مجتبى الموسوي اللآري.

مبدأ التعايُش السلميّ في الفقه الإسلاميّ، الشيخ فاضل المالكي.

بصائر من سورة الروم، السيد محمد تقي المدرسي.

علل الشرايع للشيخ الصدوق، الشيخ الصدوق

ص: 625

أحاديث في الدين والثقافة والاجتماع، الشيخ حسن الصفار.

الحضارة الإسلامية آفاق وتطلعات، السيد محمد تقي المدرسي.

روضة الواعظين وبصيرة المتعظين، الفتال النيسابوري.

غرر الحكم ودرر الكلم، العلامة الآمدي

جامع الأخبار، الشيخ محمد السبزواري

الأخلاق في القرآن، الشّيخ ناصر مكارم الشيرازيمذكرات الجاسوس البريطاني همفر مع مؤسس الحركة محمد بن عبد الوهاب.

حقوق الحيوان في الاسلام - ناصر محمد الأحمد.

تحف العقول، للحراني.

بشارة المصطفى (صلی الله علیه و آله) لشيعة المرتضى (علیه السلام) ، عماد الدين الطبري.

الرواشح السماوية، العلامة محمد باقر المرعشي.

دفاع عن الرسول ضد الفقهاء والمحدثين، صالح الورداني

المسلم والآخر.. رؤية تأريخية، الدكتور عماد الدين خليل، مجلة إسلامية المعرفة

موسوعة أمير المؤمنين (علیه السلام) ، الشيخ محمد باقر القرشي

فضائل الامام علي (علیه السلام) ، محمد جواد مغنية

اسد الغابة، ابن الأثير.

الإسلام والآخر الحوار هو الحل، حمدي شفيق

أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام، عبد الكريم زيدان

المواطنة في التاريخ العربي الإسلامي، هيثم مناع

الحب والزواج، بولس باسيلي

المرأة والإسلام: غادة الخرساني

مقام المرأة في الإسلام؛ لمحمود بايللي

المرأة حقوق وحرية وحجاب، هيئة التأليف والنشر مركز الإمام الخميني (رضوان الله عليه).

المرأة في ظل الإسلام، مريم نور الدين فضل اللَّه

أستاذ المرأة، محمد سالم البيجاتي

ص: 626

مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، نور الدين الهيثمي.

عودة الحجاب، الدكتور محمد المقدم.

نهج السعادة، المحمودي

سنن الترمذي، الترمذي

السنن الكبرى، النسائي

السنن الكبرى، البيهقي

قصة الحضارة، ول ديورانت.صحيح ابن حبان

مسند البزار

شعب الإيمان

صحيح مسلم

مسند احمد

صحيح البخاري

طبقات ابن سعد

البحوث والمقالات

الصراعات العشائرية.. الأسباب والتداعيات، جاسم عمران الشمري، موقع مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية.

التعايش السلمي و حسن الجوار في القرآن الكريم، ندى الحجاج.

الإسلام والتعايش، حسن سلمان.

الإسلام ينطلق من حتمية الخلاف إلى قبول الآخر، الدكتور علي القره داغي. موقع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

حقوق الرعية في حكومة الإمام علي (علیه السلام) ، صفحة (حقوق الإنسان) على شبكة التواصل الاجتماعي،

دور مؤسسات المجتمع المدني في محاربة التطرف، الدكتور أمين مشاقبة.

دور المجتمع المدني والدولة في مكافحة الارهاب، حاد عدنان.

ص: 627

رجال الدين وشرعنة الطغيان والاستبداد، نهرو عبد الصبور طنطاوي.

حظر المآذن سويسرا تستقطب أنظار العالم، إصلاح بخات.

الإسلاموفوبيا.. الأسباب والمظاهر، طلعت مرزوق.

في الدانمارك (الإسلاموفوبيا) في أبشع صورها، مصري يوسف.

العنف العشائري، سارة طالب السهيل.

ظاهرة الإسلاموفوبيا قراءة تحليلية، مجلة ثقافتنا – العدد (12) ، خالد سليمان.

ماهي الإسلاموفوبيا ولماذا بحثها؟

((نيلسون مانديلا)) نموذج في التسامح والتصالح، مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية.

كنيسة وأديان، مايكل عادل أمين.الهند وتجربة التعايش السلمي، الدكتورة وداد محمود سعيد.

موقع المستقبل على شبكة الأنترنت، مقال بعنوان: (حفل زواج متعدد الديانات في الهند).

مكانة المرأة في بعض الحضارات القديمة والأديان الأخرى، عبدالرحمن الطوخي.

مكانة المرأة على مر العصور، شيرين الضاني.

نصوص قرآنية في التسامح والتعايش السلمي، د. صباح البرزنجي.

مظاهر التعايش الاجتماعي بين الناس، الدكتور مرتضى الشاوي.

محاضرتان عن فن الاتصال والحضارة الإسلامية، الدكتور علاء إسماعيل الحمزاوي.

التعايش السلمي في القرآن والطائفية، كاظم الحسيني الذبحاوي.

مبادئ التعايش في الرؤية القرآنية، مجلة البصائر، الشيخ إبراهيم الميلاد.

مقتطف من محاضرة للشيخ غريب رضا، حول الوحدة والتعايش السلمي.

موقع الدكتور محمد راتب النابلسي، قسم السيرة.

صورٌ من سماحة الإسلام، أحمد بن محمد الشرقاوي.

السيرة النبوية، إعداد د. أحمد أبو زيد... تقديم الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري.

ص: 628

دراسة في السيرة، الدكتور عماد الدين خليل.

أضواء من سلطة الحق وحقوق الإنسان في حكومة أمير المؤمنين (علیه السلام) ، سعدي جواد الحاج مسلم.

الديمقراطية الإسلامية في حكومة الإمام علي بن ابي طالب (علیه السلام). فؤاد مهدي شريف.

فتاوى واستشارات موقع الإسلام اليوم، مجموعة من علماء وطلبة علم، www.islamtoday.net.

المواطنة حقوق وواجبات، محمد فوزي منصور، موقع منتدى المواطنة الإلكتروني.

زهر الأكم في الأمثال والحكم، اليوسي، موقع الوراق، www.alwarraq.com.

الإمام علي (علیه السلام) معجزة الرسول (صلی الله علیه و آله) ، محاضرة للسيد منير الخباز من موقعه الرسمي على الإنترنت،

مقارنة بين المرأة الغربية والمسلمة، موقع منتديات شبهات وبيان.

الشيخ محمد جواد مغنية وآراؤه الإصلاحية التقريب بين المذاهب الإسلامية انموذجاً، علي عبد المطلب علي خان المدني.

جريدة الشرق الأوسط، النزاع والتعايش في زمن الإرهاب.. الهند نموذجاً، سونيا غاندي.

دور مؤسسات المجتمع المدني في مكافحة التطرف والإرهاب، د. عبدالرحمن العنزي.

ص: 629

الفهرس

مقدمة الكتاب 5

تعريف مصطلح (التعايش السلمي) 13

وبيان تأريخ نشوئه 13

أنواع التعايش السِلمي 16

فوائد تحقيق مبدأ التعايش السلمي 24

وأضرار عدم تحققه 24

مبدأ التعايش السلمي بين الإفراط والتفريط 28

المباني الفلسفية للتسامح الغربي: 32

تقييم نظرية التساهل وآثارها على الحضارة الغربية: 33

دور المستغربين في تسريب سياسة التساهل إلى البلدان الإسلامية: 35

مبدأ التعايش السلمي في القرآن الكريم 37

1/ الشراكة الإنسانية: 52

2/ الاعتراف والإقرار بوجود الآخر: 53

3/حرية الرأي والمعتقد: 54

4/ سيادة العدل وحفظ الحقوق: 55

آيات السِلم الاجتماعي: 57

مبدأ التعايش السلمي 68

في روايات المعصومين (علیهم السلام) 68

توصيات المعصومين (علیهم السلام) 73

بضرورة التعامل السِلمي مع المخالفين ومع غير أهل الملة والعِرق وتصحيح النظرة تجاههم 73

التطبيقات العملية لمبدأ التعايش السلمي في سيرة المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) 79

النقطة الأولى: النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) مؤسس مبدأ التعايش السلمي: 79

الأخلاق العملية للرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) : 81

ص: 630

خُلُقه الكريم مع مَن يخدمه: 81

قضائه لحوائج الناس: 81

يخدم كأحد أصحابه: 82

في تعامله مع الضيف: 82

النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) يجلب رضا الناس: 82

يجعل من العدو صديقاً: 83

الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) وكظم الغيظ والعفو عن المسيئين: 84

في مداراته (صلی الله علیه و آله) للناس: 86

أخلاقه الاجتماعية (صلی الله علیه و آله) مع اليهود: 86

تأصيله (صلی الله علیه و آله) لمبدأ التسامح ونبذ الفوارق الاجتماعية: 88

أخلاقيات الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) الأخرى: 88

المواثيق والمعاهدات النبوية: 90

أولاً/ المعاهدات وعقود الأمان على المستوى الفردي: 90

ثانياً/ المعاهدات وعقود الأمان على المستوى المجتمعي: 91

النقطة الثانية: الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) زمن إمامته وحكومته (مُعارِضاً وحاكماً ومُعارَضاً) : 103

أولاً/ حقوق المواطنة: 105

ثانياً/ مبدأ المساواة: 108

ثالثاً/ مبدأ الحرية: 112

رابعاً/ حرية العبادة والمعتقد: 118

خامساً/ ضمان الحقوق المالية للرعية: 120

سادساً/ الأمر باتباع سياسة العدل والرحمة بالرعية: 122

سابعاً/ ابعاد شبح الحرب واتباع الطرق السلمية مع المعارضين: 123

ثامناً/ صيانة حقوق الأقليات ومساواتهم مع الجميع: 125

تاسعاً/ التعامل السلمي للإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) مع معارضيه: 128

الحكومة العلوية في نظر الرأي العالمي: 138

ص: 631

النقطة الثالثة: الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) وبنود الصلح: 141

النقطة الرابعة: وقفة مع الإصلاحات الاجتماعية للإمام السجاد (علیه السلام) : 145

النقطة الخامسة: الإمام المهدي (علیه السلام) ودولة العدل الإلهي والسلام العالمي 155

ثانياً) الإمام المهدي (عجل الله فرجه) لا يستخدم القوة العسكرية إلا عند الضرورة: 158

ثالثاً) أسباب نجاح الإمام المهدي (عجل الله فرجه) في نشر السلام والأمان للبشرية 161

رابعاً) ضمانات تحقيق السعادة والسلم العالمي على يد الإمام المهدي (عجل الله فرجه) : 164

خامساً) موقف الإمام المهدي (عجل الله فرجه) من الأمور التالية: 166

سادساً) انجازات الإمام المهدي (عجل الله فرجه) بعد ظهوره 170

النقطة السادسة: نماذج مشرقة من عفو المعصومين (عليهم والسلام) وكظمهم للغيظ: 175

توظيف العبادات الإسلامية لنشر ثقافة التعايش السلمي 180

أولاً/ فريضة الصلاة وما يتعلق بها: 180

ثانياً/ فريضة الصوم: 190

ثالثاً/ الحقوق المالية الشرعية الواجبة والمستحبة: 191

رابعاً/ فريضة الحج دورة تدريبية للتعايش السلمي: 193

الأمن المكاني (الحرم المكي) : 195

الأمن الزماني (الأشهر الحُرُم) : 196

خامساً/ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 198

سادساً/ فريضة الجهاد: 203

أحكام الدفاع عن النفس وحمايتها من القتل أو الأذى وغير ذلك: 207

أحكام قتال أهل البغي من المسلمين: 208

حكم التعامل مع الكفار في الفقه الإسلامي: 214

الحصانة الدبلوماسيّة: 218

ص: 632

الأحكام الفقهية المتعلقة بأهل الذمة: 225

مبدأ التعايش السلمي في مدرسة الشعائر الحسينية: 230

حقوق غير المسلمين في المجتمع الإسلامي: 236

مقومات المواطنة في الإسلام: 240

الموانع الأخلاقية للتعايش السلمي في المجتمع 246

1) الغش والخيانة: 247

2) العصبية والتعصّب: 248

3) الغيبة: 249

4) التخاصم والتقاطع: 251

5) سوء الظن وإصدار الأحكام المسبقة تجاه الاخرين: 252

6) الإيذاء والإهانة والاحتقار: 254

7) تعذيب الناس: 255

8) القتل: 255

9) الاستهزاء والسخرية: 257

10) الأنانية والتكبر والافتخار الزائف على الآخرين: 258

11) الاحتجاب عن الناس وعدم قضاء حوائجهم: 259

12) النميمة والبهتان: 260

13) الكذب: 261

14) الجهل: 262

15) النفاق: 263

16) الحسد والحقد: 264

17) غيرة النساء: 264

18) قذف المحصنات والنظرة المحرمة: 265

الأُسس الأخلاقية لتحقيق مبدأ التعايش السلمي 269

حُسن الظن: 271

الرفق والمداراة: 272

ص: 633

المداراة في القرآن: 272

المداراة في الروايات الشريفة: 273

التغافل: 274

حُسن الخلق: 274

الانصاف: 275

الايثار: 276

الرحمة بالناس وقضاء حوائجهم والإحسان إليهم: 276

إصلاح ذات البيّن: 278

الصدق والأمانة: 279

العفة: 280

العفو والصفح: 281

الحلم وكظم الغيظ: 282

الرفق ولين الجانب: 283

التواضع: 284

البِشر والبشاشة: 285

التهادي والتزاور: 286

نكران الذات: 286

البر والاحسان الاجتماعي: 287

الأفراد الذين أكد الإسلام على معاملتهم بالحسنى وروح التسامح: 291

مسألة ضرب الزوجة: 300

التشريع الإسلامي وحفظ حقوق المرأة: 302

الإسلام وتكريم المرأة: 304

تأسيس يوماً عالمياً للمرأة: 305

نتائج إهمال المرأة: 305

قيمومة الرجل: 305

توضيح معنى القيمومة: 306

ص: 634

المرأة والعمل: 306

المساواة بين الرجل والمرأة: 307

المرأة والتعليم: 307

تعدد الزوجات: 308

مفهوم المساواة: 308

مساواة المرأة مع الرجل: 309

كيف نوجه الأحاديث الذامة للمرأة؟ 310

استحقاقات المرأة وواجباتها: 310

القتل المعنوي للأبناء: 313

أهمية مصادقة الآباء للأبناء: 313

ثمار مصاحبة الأبناء: 314

تنبيه تربوي مهم: 314

من الأخطاء في تربية الأبناء: 314

أضرار التجسس على الأبناء: 314

الحث على رعاية الأيتام في السُنة الشريفة: 322

العوامل الاستراتيجية لتشييد ثقافة التعايش السلمي في المجتمع: 330

المرجع اليعقوبي رائد التعايش السلمي في العراق المعاصر 354

تشخيص أسباب وعلاج حالة العنف والارهاب في العراق: 357

المشاركة في المؤتمرات المحلية والعالمية الداعية للسلام ونبذ العنف الطائفي: 366

المرجع اليعقوبي والممارسات العملية لتأصيل مبدأ التعايش السلمي على أرض الواقع 380

أولاً/ حدّد (دام ظله) بعض المناسبات الدينية المباركة لكي يُحتفل بها عالمياً 380

ثانياً/ السعي لتحقيق الإصلاح الوطني والتعايش السلمي في البصرة لتكون نموذجاً يُحتذى به: 382

ثالثاً/ الدعوة إلى تشكيل مجلس الأعيان والحكماء وفق تقنين دستوري: 386

ص: 635

رابعاً/ الدعوة إلى تفكيك الائتلافات والتحالفات على أسس طائفية أو عرقية والسماح بتحالف الأحزاب والقوى السياسية على أُسس وطنية ومهنية: 387

خامساً/ دعوة المرجعية الرشيدة لعلماء أهل السُنة بفتح باب الاجتهاد: 389

سادساً/ مساعي المرجعية الرشيدة في خلق حالة من التعايش السلمي السياسي بين الأحزاب الحاكمة: 391

سابعاً/ وضع الحلول لمعالجة مشكلة الإرهاب والعنف الطائفي: 395

ملامح المجتمع العراقي بعد الاحتلال الأمريكي سنة 2003م 406

العنف العشائري إلغاء لمبدأ التعايش السلمي 418

الرفق والتعايش السلمي مع الحيوانات (شركائنا في الحياة) 434

في المنظور الإسلامي 434

جملة من حقوق الحيوان في الشريعة الإسلامية: 435

حرمة تعذيب الحيوان وإيذائه: 436

يحرم حبس الحيوان والتضييق عليه: 437

عدم إرهاقه في العمل وتحميله ما لا تُطيق: 437

استخدامه فيما خلق له، وعدم استخدامه في غير ما سخّر له: 438

احترام مشاعر الحيوان: 439

توفير الغذاء والماء للحيوان: 439

عدم اتخاذها غرضًا للرمي: 443

عدم التفريق بين الحيوان وبين صغاره: 444

عدم قتلها إلا لضرورة عقلائية: 444

علاج الحيوان إذا مرض: 445

النهي عن التحريش بين البهائم: 445

إكرام الحيوان واحترامه: 446

عدم التمثيل بالحيوان وهو حي: 447

حرمة التعدي على الحيوان جنسياً: 448

أحكام وآداب صيد الحيوان في الإسلام: 449

ص: 636

أحكام وآداب ذبح الحيوان في الإسلام: 452

الحرمين المكي والمدني ومناسك الحج وحماية الحيوان: 457

من سيرة النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) في تعامله مع الحيوان: 458

قصص رفق بالحيوان عند المسلمين: 460

من أخلاقيات جيش المسلمين مع الحيوان 460

الجهات المسؤولة عن نشر ثقافة التعايش السلمي: 460

أولاً) دور العلماء ومراجع الدين: 461

ثانياً) دور الدولة ضمن تشريعاتها الدستورية والبرلمانية: 464

ثالثاً) دور مؤسسة الأسرة (البناء التربوي) : 465

رابعاً) دور مؤسسة المسجد (البناء الروحي والعقائدي) : 469

على الصعيد الاجتماعي: 470

على الصعيد الاقتصادي: 471

على الصعيد الثقافي: 471

خامساً) دور المؤسسة التعليمية (المدرسة والجامعة) ، (البناء العلمي والثقافي) : 472

سادساً) دور المؤسسة الإعلامية بكل قنواتها: 474

سابعاً) دور مؤسسات المجتمع المدني التربوية والثقافية: 475

ثامناً) دور مراكز الدراسات التخصصية: 477

أسباب الاحتقان والاقتتال الطائفي وأعمال الإرهاب والعنف: 478

أولاً/ الآيات المباركة: 490

ثانياً/ الروايات الشريفة: 494

شواهد تأريخية حول التعايش غير السِلمي في تاريخ العالم القديم والمعاصر 505

أولاً/ مكانة المرأة لدى ديانات وحضارات العالم: 507

حالات الاغتصاب: 514

حالة العنف الأسري: 514

عمل المرأة الغربية: 514

ثانياً/ المعارضون للسلطة الدينية (سلطة الكنيسة في العصور المظلمة نموذجاً) : 515

ص: 637

ثالثاً/ منع النساء من ارتداء النقاب والحجاب: 519

رابعاً/ منع بناء مآذن المساجد في سويسرا: 522

خامساً/ ظاهرة الإسلاموفوبيا في العالم الغربي: 524

من أعراض ومظاهر ظاهرة (الإسلاموفوبيا) الأمور الاتية: 526

الأفراد والجماعات الذين أمر الإسلام بمعاقبتهم أو معاملتهم بما يردعهم عن المنكر لتسببهم في زعزعة السِلم الاجتماعي: 533

نماذج

من رواد التعايش السلمي والتقريب المذهبي 546

أولاً/ علماء ومفكروا الشيعة الإمامية: 548

ثانياً/ علماء ومفكروا إخواننا أبناء السُنة والجماعة: 578

ثالثاً/ شخصيات أخرى من مشاهير العالم: 587

رأي مشاهير العالم من غير المسلمين بسماحة وعظمة 598

الإسلام وبنبيه الكريم (صلی الله علیه و آله) 598

نماذج من الدول التي تتمتع بثقافة التعايش السلمي 610

أولاً/ جمهورية إيران الإسلامية: 610

ثانياً/ الإمارات العربية المتحدة: 612

ثالثاً/ سلطنة عُمان: 613

رابعاً/ جمهورية الهند: 615

خامساً/ جمهورية سنغافورا: 618

أقوال مشاهير العالم حول صفة التسامح والعفو والإحسان 620

أهم المصادر والمراجع 623

الفهرس 630

ص: 638

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.