نقطة وهدف من القرآن الكريم

هوية الکتاب

نُقْطَةٌ وَهَدَفٌ مِنَ القُرْآنِ الكَرِيْمِ

الشیخ حسين عبدالرضا الاٴسدي

معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية

2020 ميلادي – ١٤٤١ هجري

ص: 1

اشارة

اسم الكتاب:نُقْطَةٌ وَهَدَفٌ مِنَ القُرْآنِ الكَرِيمِ

المؤلف:الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي

إصدار : معهد تراث الأنبياء التابع للعتبة العباسية المقدسة

رقم الإصدار:20

تاريخ الطبعة:2020 ميلادي – ١٤٤١ هجري

التصميم والاخراج الفني: المحسن الخدمات التصميم

جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة للمعهد العراق - النجف الأشرف

ص: 2

الإهداء

إلى الغريب الذي تأنس النفوس بحضرته

إلى باب الله تعالى الذي منه يؤتى...

فتُقضى الحوائج المتعسرة

إلى من رضي بحكم الله تعالى...

فأعطاه الله تعالى الرضا

إليك يا مولاي يا أبا الحسن

أيها الإمام الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ

من عبد مشتاق لثرى روضتك

اقبله يا مولاي، فأنت كريم...

ص: 3

المُقَدِّمَةُ

عَيْنٌ نَاْبِعَةٌ صَاْفِيَةٌ، لَاْ يَنْضُبُ مَاْؤُهَاْ، وَغَيْثٌ فَيَّاْضٌ يَنْتَظِرُ جُوْدَهُ كُلُّ مِنْ يَتَعَطَّشُ لِلْحَيَاْةِ، وَشَجَرَةٌ فَيْحَاْءُ يَسْتِظِلُّ بِفَيْئِهَاْ كُلُّ مَنْ أَنْهَكَتْهُ الْدُّنْيَاْ، وَمَنْهَلُ مَعْرِفَةٍ لَاْ بُدَّ مِنْهُ لِكُلِّ طَاْلِبِ عِلْمٍ.

ذَاْكَ هُوَ الْقُرْآنُ الْكَرِيْمُ.

سُبْحَاْنَكَ رَبِّي!

أَعْجَبُ عِنْدَمَاْ أَسْمَعُ أَنَّ لَهُ سَبْعِيْنَ بَطْنَاً، فَأَنّى لَنَاْ أَنْ نُدْرِكَ عُمْقَهَاْ وَنَحْنُ عِنْدَ ظَاْهِرِهِ غَرِقْنَاْ بِمَعَاْرِفَ لَاْ مُتَنَاْهِيَةَ!

هِيَ بَيْنَ يَدَيْكَ... اسْتِفَاْدَاْتٌ مِنْ شَاْطِئِ ظَاْهِرِ آيَاْتِهِ، وَلِأَمْثَاْلِيَ الْعُذْرُ عِنْ عَدَمِ سَبْرِ عُمْقِهِ، فِلَذَلِكَ أَهْلُهُ وَمَح-َلُّه وَمَعْدِنُهُ.

ص: 4

مقدمة المعهد

معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية، معهد تابع للعتبة العباسية المقدسة، قسم الشؤون الفكرية،

وله العديد من النشاطات، يتبين بعضها بالتالي :

أوَّلاً: أنَّ المعهد مؤسسة علمية حوزوية تُدرس المناهج الدينية المعَدَّة لطلاب الحوزة العلمية في النجف الأشرف، علماً أن الدراسة فيه عن طريق الانترنيت.

ثانياً: أنَّ المعهد يساهم في نشر وترويج المعارف الإسلامية و علوم آل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ ووصولها إلى أوسع شريحة ممكنة من المجتمع، وذلك من خلال توفير المواقع والتطبيقات الإلكترونية التي يقوم بإنتاجها كادر متخصص من المبرمجين و المصممين في مجال برمجة وتصميم المواقع الإلكترونية والتطبيقات على أجهزة الحاسوب والهواتف الذكية.

ص: 5

ثالثاً: المعهد لم يُهمل الجانب الإعلامي، حيث بادر إلى إنشاء مركز القمر للإعلام الرقمي الذي يعمل على تقوية المحتوى الإيجابي على شبكة الانترنيت ووسائل الإعلام الاجتماعي.

رابعاً: يقوم المعهد بطباعة ونشر الإنتاج الفكري والعلمي لطلبة العلم، بعد عرضها على لجنة علمية متخصصة بتقييم الكتب ، ضمن سلسلة من الإصدارات تهدف إلى ترسيخ العقيدة والفكر والأخلاق، بأسلوب د عن التعقيد، يستقي معلوماته من مدرسة أهل البيت عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ الموروثة.

وبين يديك عزيزي القارئ كتاب: نقطة وهدف من القرآن الكريم، الذي عمد فيه مؤلّفه لاستقاء المعارف من آيات الذكر الحكيم، بأسلوب مختصر ومنقط .

نسأل الله عَزَّ وَجَل أن يجعل عملنا في عينه، وأن يتقبله بقبوله الحسن، إنه سميع مجيب.

إدارة المعهد

ص: 6

مَنْفَذٌ غَيْبِيٌ

المدارس، والمعاهد العلمية، منافذ طبيعية لاكتساب العلوم.

الأخذ من الأساتذة والمعلّمين، بالاستماع إليهم، وكتابة العلم عنهم، وسيلة عادية لزيادة المعارف.

الحبو والتدرج في التعلّم، أمرٌ لا بد منه لطرد الجهل، والوصول إلى مرتبة معينة من العلم حسب الجهد المبذول.

لكن هل ينحصر الأمر بهذه الجهات، أو إن هناك منافذ تتعدى المادة والتدرج والمعلّمين من البشر؟

إنه نعم، وهو منفذ التقوى، فإنها تفتح الأفق لاكتساب المعارف بطريق التوفيق الإلهي غير المرئي.

التقوى توحي بالعلم للمرء مثل نور يدخل في القلب من حيث يشعر المرءُ أو لا يشعر، قال تعالى (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة 282]

ص: 1

ضَبْطُ النَّفْسِ

لا تجري الرياح دومًا كما تشتهي، ولا تستقيم لك الأمور أبدًا كما تحب، إنما هي الدنيا، مرة معك، وأخرى عليك، وهكذا تبقى إلى أن يرث الله تعالى الأرض وما عليها.

يمكنك أن تُنفّس عما في داخلك بألف طريقة وطريقة، يمكنك أن تغضب، أن تضرب، أن تصرخ، وحتى أن تكسر.

لكن وحده من يضْبطُ نفسه سينتصر، وسيربح، وسيجني راحة البال ولو بعد حين، ولذلك أسرّها (يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) [يوسف 77]

ص: 2

تَسْلِيْمٌ

قد تسمع من ولدك معلومة أو حلًا لمشكلة معاصرة، فترفضها بحجة أنه قليل الخبرة ضعيف المدارك... قد يكون كذلك.

قد يعرض عليك تاجرٌ حاذق الدخولَ معه في مشروع مربِح، فتأبى الاشتراك معه، بحجة أنه إنسان غير معصوم، وقد يُخطئ، فتكون الخسارة عظيمة... قد يكون كذلك.

لكن ماذا لو كان من أعطاك حلول مشاكلك أو مشاريع نجاحك هو الله تبارك وتعالى؟! (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النور 19]

ص: 3

شَرْطُ القَبُوْلِ

يتوسّل الناس بأسباب عاديّة ومعروفة ومقبولة عقلائيًا، كي يصلوا إلى مآربهم لدى من يهمهم إرضاؤه، كمدير العمل، وكالولد بالنسبة لوالديه، والزوجة لزوجها وبالعكس...

هي حياتنا الدنيا، عالم الأسباب والمسببات، فلا نتيجة بلا سبب، ولا عطاء بالمجّان.

ماذا عن تقديمك طلبات القبول والرضا إلى الله تعالى؟ ما هو المنفذ إلى ذلك؟

إنه ليس إلا (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ.) [المائدة 27]

ص: 4

إِكْمَاْلُ الْحُجَّةِ

لا يمكن للقانون أن يُعاقب الناس على مخالفة قانون لم يتمّ تبليغُه لهم ببيان وافٍ.

ولا يصح امتحانُ الطلاب في مادةٍ دراسية لم تُبيّن لهم بصورة واضحة.

ولا يستقيم طردُ عامل لأنه خالَفَ نظامًا ما زال في ذهن المدير ولم يُصدرْه رسميًا.

هكذا بنى العقلاءُ أمرَهم في مؤاخذة المخالف، وهكذا أيضًا تعامَلَ اللهُ تبارك وتعالى معنا، لذلك فإنه تعالى يقول: (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء 15]

ص: 5

أَيُّهُمَا أَفْضَلُ

عندما تريد الأمُّ أنْ تُقنع طفلها بشرب الدواء، فإنها قد تخيّره وتقول له: أيهما أفضل: أن تتحمّل مرارة الدواء لفترة قصيرة، أو تتحمل ألمَ المرض لفترة طويلة؟

هي ذكية في ذلك، حيث تترك الخيار لولدها أن يقرّر مصيره، فيستحق التصفيق والتشجيع لو أحسن الاختيار.

لقد تعامَلَ معنا الباري عز وجل تعامُلَ الأمِّ الرؤوم مع وحيدها، فبيّن لنا الداء، ووصف لنا الدواء، وأوضح طريقة استعماله، لكنه ترك الخيار لنا في تقرير مصيرنا، فأيهما أفضل: (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً ... أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً) [الفرقان 11 و 15]؟

ص: 6

إِعْفَاْءٌ بِشَرْطٍ

في بعض القوانين، يحقّ للطالب أن يتجاوز مرحلته بلا أداء الامتحان النهائي، وفي بعضها يحقّ له أن يعْبر مرحلة كاملة من دون أن يُنفق سنة من عمره في دراستها، لكن هذا الحق وهذا (الإعفاء) لم يأتِ بالمجّان، بل إن له شروطًا عليه أن يحقّقها –كحيازة درجات معينة- تؤهّله لهذا الإعفاء.

نحن في الدنيا في قاعة امتحان، وسيكون الحساب شديدًا يوم التخرج، وهو يوم القيامة، وهناك أيضًا يوجد إعفاء من الحساب، فيمكنك أن تعبر مرحلة (الحساب)، لكن بشرط، وهو:

الصبر، حيث قال تعالى (إِنَّما يُوَفَّىٰ الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [ الزمر 10]

ص: 7

خَاْرِجُ المُسَاْوَمَاْتِ

أطبق العقلاءُ على أنه توجد مواقعُ معيّنة في الحياة، لا يصحُّ أن يشغلها أيٌّ كان، وإنما لا بد أن يتوفَّر على مؤهلات ترشّحه ليشغلَها، وأنَّ خرق هذا الأمر العقلائي يؤدي إلى العشوائية والبعثرة وبالتالي إلى نتائج وخيمة على البشرية عمومًا.

ومهما اختلفت المؤهلات وتفاوتت تبعًا لتفاوت المواقع، فإن هناك شرطين لا يُتنازل عنهما في كل المواقع، والمفترض أن يكونا خارج دائرة المساومات والمحسوبيات، وهما: التخصّص، والأمانة، ولذلك قال النبي يوسف (عليه السلام) لملك مصر: (اجْعَلْنِي عَلىٰ خَزائِنِ الْأَرضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف 55]

ص: 8

الْغَدُ الْمَجْهُوْلُ

خلال حياته الطويلة، استطاع الإنسان –بفضل عقله وعزمه- أن يفتح الكثير من أبواب دهاليز الأرض المظلمة، وتغلّب على الكثير من صعوباتها، فربط بين شرقها وغربها بخيوط لا مرئية، حتى تحولت الأرض العملاقة كقرية صغيرة، ونقب الجبال ففتح خلالها سُبُلاً، وشقَّ الأرض وغلَبَها على ما أخْفته في بطنها أزمنة متمادية، وارتشف منها ما في عروقها، بل أخذت عنقه تشرئبّ لبلوغ آفاق السماء، وشنَّ غزوة بلا هوادة يريد منها وضع قدمه على غير الأرض من كراتها...

العلوم اليوم تطورت بطريقة القفزات العلمية لا التدرج، ولو رجع بعض آبائنا، فلربما أصابه الذهول مما يرى، ولربما توهم أنه يعيش أحداث فلمٍ من الخيال العلمي.

كل ذلك لم يشفع للإنسان في فتح دهليز الغد، ومعرفة ما فيه، فبقي الغدُ بما فيه مغلقاً عليه، إذ (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.) [لقمان 34]

ص: 9

الدِّيْنُ مِحْوَرُ تَفَاْضُلٍ

بنى العقلاء حياتهم على ان هناك تفاضلًا بينهم حسب ما يتمتعون به من مؤهلات وخبرات وتخصصات، وهذا الأمر أدّى إلى تقويض الفوضى وتنظيم المواقع وتطور الحياة.

إلا أن البعض يحاول أن يُلغي محورية الدين ودخالته في التفاضل، وأنه ليس من شأنه أن يُنظم المواقع، ومعه، فيمكن أن نُقدّس شخصًا تسنّم موقعًا بالقوة ولو من دون مؤهلات دينية، بل ولو خالف فعلُه وقولُه الشرع والعقيدة، وهذا ما ابتلت به أطراف ادّعت الإسلام أمس واليوم، فأين هم عن القاعدة القرآنية الواضحة: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ . ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [القلم 35 – 36]

ص: 10

انْتِسَاْبٌ قَهْرِيٌّ

لا أحد يُحب أن يُنسب إليه فعل سيّءٌ أو صفة قبيحة، والكل يرغب بالخير لنفسه، بل إن البعض يحبُ أن يُحمد حتى على ما لم يفعل، فحبُّ الذات أمر مغروس في أعماق النفس الإنسانية.

قد يفعل شخص حسنًا فيسرقه آخر منه والناس لا تدري، فيمدحونه، ويبقى فاعله الحقيقي طيّ النسيان، وقد يُخفي المجرمُ جريمته فتضيع الحقيقة وتتعلّق القضية.

لكن هذا إنما يكون في الدنيا، حيث عالم الأدلة الإثباتية الظاهرية، أما في الآخرة، حيث يبرز الواقع ويظهر الحق، فالأمر مختلف، إذ (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء 7]

ص: 11

صَاْحِبُ الفَضْلِ الأَوَّلُ

يتبارى البشر بينهم في مضمار الحياة بأنواع المباريات، وإن انتصرت في واحدة منها فلا ضمان بأنك منتصر فيها جميعًا، فيومٌ غالب، ويوم مغلوبٌ، هكذا إلى أن يرث الله تعالى الأرض وما عليها.

دراستك مباراة، تربية أولادك ومداراة أهلك أخرى، كدّك عليهم مباراة ثالثة، وتحمّلك جارك رابعة، وهناك خامسة وعاشرة وألف...

الملاحظة المهمة هي: أن على الإنسان الناجح في حياته والمنتصر في أغلب مبارياته أن لا يأخذه الغرور إلى حيث ينسى صاحب الفضل الأول والأخير عليه، إذ (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ .) [النور 14]

ص: 12

أَلَا تُحِبُّ أَنْ يُغْفَرَ جُرْمُكَ؟!

ليس عند القانون رأفة ولا رحمة، فهو يرمي من لا يمشي على صراطه المستقيم في وادٍ سحيق، هو يعاقب المخطئ ولو كان مشتبهًا، ولو أعلن توبته، هو لا يحمي المغفلين، وهو أيضًا لا يُثيب. هكذا هو في الغالب.

من ناحيته، فإن الإنسان مهما كان مجرمًا، فإنه يبقى غير راغب بأن يطّلع على جرمه أحدٌ، ويتمنى أن يغضّ القانون عن جرمه ولو قُبض عليه متلبسًا بالجريمة أو شهد عليه من لا يُكذَّب، هو يرغب بالعافية في جميع شؤونه، وله الحق في ذلك.

لكن ماذا عن ذنوبنا مع بارئنا؟!

كيف لنا أن نتخلص منها؟

إن واحدًا من السبل إلى ذلك هو العفو والصفح، إذ يقول جل وعلا (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور 22]

ص: 13

لا مَهْرَب!

يعتمد القضاة كثيرًا على ما يقع بين أيديهم من شواهد وعلامات على إثبات براءة متهم أو إدانته، فيبحثون عن بصمة إبهام في مسرح الجريمة، أو فلتة لسان في جلسة المقاضاة، أو شاهد صدق يُدلي بالحقيقة.

المتهم من جهته لن يستسلم، فحُبُّه لذاته يدفعه إلى إخفاء بصماته، وضبط لسانه، وقد يجرح في الشهود ويردّ شهادتهم بطريقة وبأخرى، وهكذا قد يتملّص من جرمه ويهرب من تبعاته.

لكن ماذا لو كان الشهود ممن لا يُكذَّبون! ماذا لو كان القاضي يثق بهم! ماذا لو لم يكن للمتهم أن يردّ شهادتهم!

فليحذر المجرمون والمخطئون والمذنبون: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ .) [النور 24]

ص: 14

تَفَقُّدٌ ذّكِيٌّ

يرتبط الناس فيما بينهم بروابط عديدة، كرابطة الأسرة والجيران والعمل والقبيلة والدولة والعرق.

عادة ما يكون لكل رابطة قاعدة ورأس هرم، أفراد القاعدة يحتاجون إلى من يُنظّم أمورهم ويحل مشاكلهم ويجمعهم لو فرّقتهم بعض الأسباب، وهذه مسؤولية رأس الهرم، سواء كان هو الأب أو الوجيه أو القائد.وحتى ينجح في إدارة قاعدته، فهو يحتاج إلى أن يُبرز اهتمامه بالأفراد ومتابعتهم بذكاء، ليبادلوه هم الاهتمام، ولذلك فإن النبي سليمان (عليه السلام): (تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَىٰ الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) [النمل 20]

ص: 15

التَّرَيُّثُ فِيْ إِصْدَاْرِ الأَحْكَاْمِ

يحب الإنسان في كثير من الأحيان أن يصل إلى مآربه أسرع من لمح البصر، لذلك عمل على تطوير وسائل طيّ الأرض واختصار المسافات، الأمر الذي وفّر له الكثير من الجهد والوقت، وبالتالي صار الوصول إلى الأهداف أسرع من ذي قبل.

طلب السرعة في وسائل النقل لا يعني بالضرورة أن يكون المرء مستعجلًا ومتسرّعاً في كل أحواله، فلو وصل لك خبر سوء من أخيك، فاغتظت منه، فليس من الصحيح أن تتعامل معه بدون تريث ولا روية ولا تحرٍ عن الحقيقة، ولذلك نجد أن النبي سليمان (عليه السلام) قال للهدهد لمّا نقل له خبر سجود قوم بلقيس للشمس: (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) [النمل 27]

ص: 16

مَسْؤُوْلِيَّةُ النِّعَمِ

كل عاقل يرغب أن تكون أموره من الأفضل وإلى الأفضل، أما البلاء وقلة ذات اليد، والمرض، والخوف، أسباب معقولة ليعيش المرء القلق وليهرم قبل أوانه.

لو جاءت الدنيا بنعيمها وطرحته بين يدي أحدهم، فقد يرى لنفسه الفضل في ذلك، قد يرى أنه أعظم ما خلق الله تبارك وتعالى، قد يصل الأمر ببعضهم إلى أن يتكبر على غيره.

لكن على كل واحد منا أن يعي أن ما يصل إليه من نعيم الدنيا فإن الفضل فيه لله تعالى، وبالتالي تترتب عليه مسؤولية الشكر، ولذلك فإن سليمان (عليه السلام) لمّا رأى عرش بلقيس (مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل 40]

ص: 17

مَسْؤُوْلِيَّةُ الوَجَاْهَةِ

لا يخلو مكان ولا زمان من حدوث مشاكل ونزاعات بين البشر، ولولا العقل لتحولت أبسط مشاكلهم إلى حرب ضروس تُحرق الأخضر واليابس.

العقل لوحده في بعض الأحيان يعجز عن حل أبسط المشاكل، إذ تتغلب عليه الحميّة أو القبلية أو حتى نزعات النفس وشهوتها، فكانت هناك حاجة ملحّة إلى عناصر مساعدة، ومنه الوجهاء الذين يعملون على إحلال السلام وكشف الحق ورد الباطل.وكما كان للوجهاء وجه وتقدير بين الناس، كانت عليهم مسؤولية عظيمة عندما يجلسون في مجلس قضاء، تتلخص بقوله تعالى (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ .) [البقرة 42]

ص: 18

أَمَاْرَةُ نُقْصَاْنِ العَقْلِ

لإلقاء الخطابات دور مهم في إشعال الحماس واستلهام الهمم ونقل القصص المواقف، فسوق الشعراء ما بارت منذ وُجدت، ومنصّات الخطباء كانت ولا زالت، وهي فن لا يُتاح لأي أحد ما لم يتسلح بالكثير من العلم والشجاعة والفطنة.

وليُعلم أن هذا الفن لم يكن لإثارة الجنود عند الملاحم فحسب، وإنما له عروق تمتد للأب في بيته، ولمدير العمل في دائرته...

تحتاج إلى العديد من الأساليب لتكسب الجولة في النقاش أو الوعظ أو النصح، ومهما يكن فلا أهم من أسلوب مطابقة قولك لفعلك، فهو أمارة على العقل، وخلافه أمارة نقصانه، ولذا قال تعالى (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [البقرة 44]

ص: 19

أَقْسَى مِنَ الحَجَرِ

امتاز الإنسان عن بقية الموجودات الأرضية بالكثير من المميزات، وعلى رأسها العقل، بالإضافة إلى مجموعة من الغرائز والشهوات التي كان لها دور مهم في استمرار الحياة.

الملاحظ: أن الإنسان يعيش في بعض الأحيان –إنْ لم نقل في الكثير منها- حالات من الازدواجية، فبينا تراه صاحب عقل راجح، تراه في لحظة كصبي لا يعرف التمييز بين أوضح الأمور.

انظر إلى قلبك كيف يهفو اشتياقًا لولدك الصغير، وكيف يلين رحمة ليتيم، وانظر لروحك كيف تهدأ عندما ترى حديقة غنّاء، حينها ستستغرب كثيرًا ممن يبخل على عياله، أو يأكل حق يتيم لا يقدر أن يدفع عن نفسه ضيمًا، أو يدمّر حديقة بمِعْول الغضب أو منجل العبث!

هكذا هم البشر، لا أرأف منهم في بعض الأحيان، إلا أن للبعض منهم قلوبًا (كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.) [البقرة 74]

ص: 20

إِحْصِاْءٌ دَقِيْقٌ

تعتمد الدول والمؤسسات والدوائر، وحتى المحلات الصغيرة على نظام تسجيل دقيق لمتابعة موظفيها، وبالتالي محاسبتهم على تقصيرهم أو إثابتهم على أدائهم.

خذ مثالًا على ذلك: شبكات الاتصالات، إنها تخصص قدَرًا مهمًا من أجهزتها ومواردها لتوثيق استعمال المشتركين على خطوطها وتسجيل تكاليفه.

الإنسان من جهته سيضع في حسبانه هذه الحقيقة، وسيعمل على أن لا يرتكب ما يؤثر سلبًا عليه.

نفسُ الأمر استعمله الله تبارك وتعالى مع البشر، إذ يقول جل وعلا (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية 29]

ص: 21

خَسَاْرَةٌ وَحَسْرَةٌ

يعلم الإنسان أن عقله لا يستطيع أن يُلمَّ علمًا بجميع ما في الكون، ولا يتمكن من إدارة كل ما يرد عليه من قضايا لوحده، ولذلك آمن بفكرة مشاركة الناس عقولَهم من خلال مشورتهم والاستفادة من خبراتهم وتجاربهم.

حتى الأطفال يطبقون هذا المبدأ.

إن من يخالف ناصحًا أمينًا، أو يرتكب ما نهاه عنه الخبير، يستحق من العقلاء الملامة، وقد يرميه البعض بسخف العقل وضعف الرأي، إن لم يصل إلى حدّ الشماتة أو الاستهزاء.

الباري جل وعلا لا يشمت ولا يستهزئ، بل هو ينادي بنا (يا حَسْرَةً عَلَىٰ الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [يس 30]

ص: 22

ثَبَاْتُ المَسَاْرِ

قلّما نجد شخصًا لم يغير بيته أكثر من مرة في حياته، ونادرًا ما نواجه من لم يُبدّل علاقاته عشرات المرات، حتى الطعام الذي تفضّله، قد تأتيك ساعةٌ تملّه وتعشق غيره.

هذه امور مسموح بتغييرها، إذ ليس من ضرر كبير في ذلك، إلا أنه غير مسموح فيما يتعلق بالعقيدة الحقّة والأخلاق الفاضلة واستشعار الرقابة الإلهية، فهذه ثوابت لا يجوز تغيير المسار عنها.

علينا أن نحذر جيدًا، وأن نغرس في نفوسنا جذور تلك الثوابت بعيدًا عن التغير، فإن القلوب كالريشة في مهب الريح، (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ.) [الرعد 17]

ص: 23

مَسْؤُوْلِيّةُ المَوْقِعِ

هناك أعراف عند الناس تقتضي أن يجلس كبار السن في موقع معين يليق بهم، وتدفع الوجيه إلى أن يترك ممارسة بعض التصرفات المباحة على غيره، وتوجب على الكريم أن يغضّ الطرف عمن يسيء إليه.

المقام، والموقع الاجتماعي يفرض على صاحبه بعض الالتزامات العرفية.

هي التزامات لتنظيم المواقع، وخرقها يؤدي إلى اختلاط الأوراق وضياع الأهداف وضحالة النتائج.

على كل فرد أن يعرف موقعه، وما يترتب عليه من التزامات، ولا يتجاوز على غيره في موقع، ولا يرتقي المنبر قبل الخطيب، وليكن كما الكون كله، فإنه (لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ.) [يس 40]

ص: 24

عَهْدٌ لَازِمٌ

يولد البشر وهم لا يملكون من العلوم شيئًا، سوى بعض الغرائز الفطرية التي تدفع الطفل إلى البكاء لو جاع، ثم يأخذ يلتهم المعارف بلا هوادة من خلال ارتياد المعاهد العلمية.

إلا أن المعارف لم تُحبس خلف جدران تلك المعاهد فحسب، وإنما هناك منافذ أخرى للاستزادة، كالتجارب، وأقوال الحكماء، والتأمل الشخصي والتفكر.

ومن أهم ما يرسم سبيل الفلاح ويزيد من عقل الإنسان هي الوصايا الإلهية، إذ هي نابعة من عين صافية تعرف مداخل الإنسان ومخارجه ومصيره وما ينفعه وما يضره، وإنْ نسينا وصية إلهية لغفلة أو سهو أو تهاون، فعلينا أن لا ننسى ولا نتهاون ولا نغفل عن أنه تعالى أوصانا فقال: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ . وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ . وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ.) [يس 60 – 62]

ص: 25

الْتِقَاْطُ الإِشَاْرَةِ

حتى تستفيد من خدمة الانترنت، تحتاج إلى أن توجّه اللاقط الإلكتروني بدقة إلى مصدر التجهيز، وأي انحراف فيه سيُفقدك الإشارة وتخسر الاتصال.

الطائرة حتى تطير إلى الهدف، تحتاج إلى تأمين الاتصال مع برج المراقبة في المطار لتستلم الإحداثيات بدقة، وتهبط بسلام.وأنت، حتى تحصل على التوفيق الإلهي والتسديد والتوفيق، تحاج إلى تأمين اتصال جيد لعلاقتك مع الباري جل وعلا، وأي انحراف عن الجادة سيُفقدك الاتصال وتخسر، وهذا معنى (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ.) [الصف 5]

ص: 26

قَاْنُوْنُ الزِّيَاْدَةِ

كلما قرأتَ كتبًا أكثر، اتسع عقلك وتطور، وكلما زادت ساعات قيادتك للسيارة، كلما أتقنت القيادة، وزادت خبرتك بها، وكلما أغدقت اولادك بالحب والاهتمام، زاد تعلّقهم بك، وفي كل ذلك يكون العكس بالعكس.

هكذا كثير من قوانين الحياة، إذا زادت من طرف، صاحَبَها ازدياد من الطرف الآخر، والعكس بالعكس.

أن تحبَّ النعمة، وتحبَّ أن تزيد عليك، له قانون عليك التزامه، ومن دونه لن تحصل إلا العكس، فقانون الزيادة هو: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم 7]

ص: 27

الْحَقِيْقَةُ الْمُرَّةُ

هناك بعض الألعاب الإلكترونية التي يعمل الطفل فيها على جمع أكبر عدد ممكن من الأنصار والكنوز، وقد يدخل في عالمه الافتراضي ليكون البطل الذي يهزم الجيوش ويُطيح بها، ويعيش الطفل حينها حالة من الزهو والعنفوان والانتفاخ حتى إنه قد يبين ذلك على تقاسيم وجهه وإشراقة مُحيّاه.

ولكن، ما أن تنتهي لعبته أو ينقطع التيار الكهربائي، حتى يفقد كل زهوه وأنصاره وكنوزه، وحتى يرجع صفر اليدين مما كسب، ويبقى وحيدًا بلا جيش ولا أتباع!

هل عرفتم الآن المغزى من حقيقة النزول إلى القبور! (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادىٰ كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرىٰ مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [الأنعام 94]

ص: 28

قَرَاْرُ اسْتِئْنَاْفٍ

كما أن هناك محكمة جنائية وجزائية، فإن هناك محكمة استئناف، تنظر في القضايا، إذ لعلها تجد خطأً في حكم، فتخففَّ العقوبة على المجرم، أو قد تُثبت براءته، وفوق هذه المحاكم قد تتخذ الحكومة قرارات بحق المجرمين، قد تصل إلى حد العفو الخاص أو العام، وقد تعوّض البعض منهم نوعًا من التعويض.المحكمة الإلهية لديها من الأدلة ما يكفي ليُقرّ المتهم بجرمه، حيث تغلق عليه منافذ التملّص والتهرب، إلا أنها رغم ذلك فتحت باب الاستئناف، وهي تنتظر على الدوام أن يستفيد منه المذنبون.

أما كيف؟ فهذا ما قاله عز وجل: (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً.) [الفرقان 70]

ص: 29

اِلْتِزَاْمُ لَاْئِحَةِ الْشُّرُوْطِ

عندما ترغب في الالتحاق بوظيفة في دائرة معينة، فإن عليك أن تتوفّر على جميع الشروط التي تفترضها الدائرة، وعندما تقتنع تمامًا بجدواها، فإن عليك أن توقِّعَ بالموافقة، وبعدها، لا يحقّ لك أن تخالف ولا بندًا واحدًا من تلك الشروط.

الدول عندما تُمضي اتفاقًا بينها، فإنها تضع لائحة شروط على الطرفين، وأي مخالفة أو خرق لها من أحد الأطراف، فإنه قد يؤدي إلى إلغاء الاتفاقية من الأساس.

هل عرفتم الآن لماذا قال الله تبارك وتعالى (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلىٰ أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.) [البقرة 85]؟

ص: 30

تّدْوِيْنٌ دَقِيْقٌ

في زحمة الحياة، قد تضيع الكثير من التفاصيل الصغيرة وربما الكبيرة، وقد تنسى العديد من المواعيد حتى المهمة منها، وقد تهمل بعض الأمور التافهة أو حتى الضرورية، وهكذا قد ترجع إلى بيتك بعد يوم طويل، لتجد أنك قد ضيَّعتَ ما لا ينبغي تضييعُه، وأهملت ما يلزم الاهتمام به.

حتى يُقلّص الإنسان من هذا التضييع، أخذ يدوّن مهامه بمذكّرة خاصة، وقد يقسمها إلى الأهم والمهم وغير المهم، وقد يقسمها إلى المستعجل وغير المستعجل، ومع ذلك فإنه ما زال يُضيِّع حتى مذكّراته!

ومهما نسيتَ من عمل، فإنك ستجده يومًا ما، كاملًا لا ضياع فيه ولا سهو.

أين؟

إنه عند ربك جل وعلا، إذ (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسىٰ.) [طه 52]

ص: 31

مُرَاَقَبَة دَاْئِمَةٌ

طبيعة كثير من البشر –إن لم يكن كلهم- أنهم يحبون الحرية إلى حد الانفلات وعدم الانضباط بقانون أو قيود، فالإنسان عادة ما يحب أن يحصل على ما يرغب على طريقة (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) [القيامة 5]

العقلاء أدركوا أن هذه الطبيعة تؤدي إلى الفوضى وضياع الحقوق، بل إنها تُودي بحياة البشر وتُحيلها إلى حياة غاب، بل أسوأ، فشرّعوا القوانين التي تضبط الحركة وفق نظام الحقوق والواجبات.

تلك الطبيعة من جانبها لم تستسلم، فأخذ الإنسان يلتفّ حول القانون برشوة أو إخفاء جريمة وما شابه، فعمد العقلاء إلى فتح عيون القانون بقوة، فاخترعوا كاميرات المراقبة، لترصد كل تحرك مشبوه، ولتوثّق الجريمة.

هذا من جهة العقلاء، والقانون، وأما من جهة الخالق جل وعلا، فإنه (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.) [الحديد 4]

ص: 32

الحَاْكِمُ الشَّاْهِدُ

قد نجد بعض البشر يستمرئ الجريمة، لكن نادرًا ما نجد من يتباهى بها أمام الملأ، فالمرء يحب كرامة نفسه، ويكره أن تُنسب له الجريمة والفاحشة وأي سلوك قبيح ولو كان متمرّسًا في ذلك كله.

ومن هنا، فإن المجرم يعمد إلى إخفاء جرمه وأخطائه، ويحاول دومًا أن يُلمّع شخصيته ويخفي معايب سلوكه أمام الآخرين، مستغلًا عدم قدرتهم على الاطّلاع على البواطن.

البعض تمادى في غيّه ونفاقه وخداعه هذا حتى إنه تصور أنه يمكن أن يخدع الله تعالى! والحال أنهم (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضىٰ مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً.) [النساء 108]

ص: 33

شَغَفٌ وَعَطْفٌ

تحلم الفتاة بشابٍّ يُغرقها بالحب والهُيام، ويحلم الشابُّ بفتاة تغمره بالمودة والوئام، وما أن يتحقّق الحلم، حتى تبدأ حياتهما بلونها الوردي مملوءةً شوقًا وشغفًا... وكلما خبا ذلك الهيام وقل الوئام، أشعلته نار الحب والاشتياق، فلمرحلة الشباب جذوة لا تخبو، بل هي متجددة وقّادة.

إلا أن تقلبات الأيام تعمل عمل الماء في النار، وتؤثر أثر القوس في الظهر، فلا تجري على سياق واحد من اليسر والليونة، بل هي بين شدة ورخاء، فَرَجٍ وبلاء ، عسر ويسر.القرآن يرسم النموذج الأرقى لاستمرار الحياة الزوجية رغم الصعاب، فيفترض أن الزوجين يُظهران المودة والحب والشغف بينهما على طول خط علاقتهما، فإن صعبت الحياة وتلكأت، فالرحمة هي المفتاح الذي تُحلّ به عُقد المكاره.

وصدق من قال: (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم 21]

ص: 34

وَسَاْئِلُ إِعَاْنَةٍ

ليس عند الإنسان قوىً خارقة تُمكّنه من تذليل كل صعوبات الحياة، وليس له إلا أن يستعين بأخيه الإنسان، ويتوسل بالآلة، ويعتمد على المشورة، ويُراجع التجربة، ويُجمّع الآراء.

ورغم ذلك كله، فإنه قد يصل إلى صحراء قاحلة، أو إلى طريق مغلق، فيتيه لُبُّه، ويحار عقلُه، ويفقد أي إعانة من البشر أو من تجاربهم.

حينها، لن يبقى له إلا أن يرجع إلى بارئه، ليتوسل به أن يهديه لرشده ويوصله إلى سبيل رحب، بوسيلة ناجعة، ولن يجد الباري إلا مجيبًا، ولن يجده إلا معينًا، وقد رسم الباري جل وعلا لنا طريق الولوج إلى ذلك، فنادى بنا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة 153]

ص: 35

بِشَاْرَةٌ عَلَى غَيْرِ تَوَقُّعٍ

ما الفرق بين البشارة والإنذار؟

الأمر واضح، فالبشارة تكون في الأمر المحبوب، والإنذار يكون عن الشيء المكروه، والذي يرجع على الشخص بسوء.

المصائب والبلايا، عادة ما نعدّها أمرًا مكروهًا، ونبوّبها فيما يرجع علينا بسوء، وبالتالي فهي محلٌ للإنذار والحذر، ولكن على كل حال فالإنسان لا بد أن يواجه واحدة من تلك المصائب، وربما مائة منها.

الناس ستبقى تدعو بالحيطة والحذر منها، وتُنذر من أقبلت هي عليه، أن احذر، ها هي قادمة!

إلا أن الله تعالى يُبشّرنا بها بشرط فيقول: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ . أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ .) [البقرة 155 – 157]

ص: 36

تَذُوُّقُ عُمْقِ القُرْآنِ

لا شك أنك جرّبت أن تدخل مطعمًا مشهورًا بطعامه الشهي، وقد أظهرت إعجابك به وأنت تتلذّذ به، لكنك لم تكن تعرف تفاصيل مركباته ونسبَها وكيفية طهوه، فذاك عمل الطاهي وتخصصه، وحتى لو أعطاك المركبات، فلعلك لا تُحسن أن تضعها حيث ينبغي وكيف ينبغي.

وهكذا عندما تقود سيارة فاخرة، تستمتع كثيرًا بدقة صنعها وتناسق تصميمها، رغم أنك بالتأكيد لا تعرف كيف صُنعت هذه السيارة وكم عقلًا عمل عليها وكم يداً!

نفس الشيء يُقال عندما تستعمل جهاز حاسوب أو هاتفًا ذكيًا...

نظير هذه المعاني تجدها في القرآن الكريم، فأنت تقرأ آياته وتلتذ بنسقها وتطرب لشداها، لكن (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) [آل عمران 7]

ص: 37

اسْتِيْلَاْءُ الخَطِيْئَةِ عَلَى النَّفْسِ

عندما يقع المجرم بقبضة القانون، قد يُبدي أسفه على ما جنتْ يداه، وقد يعترف بجُرمه نادمًا، وقد تفيض دموعه خجلًا، عندها، حتى لو حُكم عليه بما يستحق، إلا أن التعاطف سيكون حاضرًا في قلب حتى الحاكم ربما.

تلك الدموع قد تحكي عن ندم يُقطّع القلب، وهي تحكي أيضًا عن أن بذرة الخير ما زالت على قيد الحياة في أعماق قلبه.

أمّا أن ترى مجرمًا جامد العين، يستهزئ بالحكم والحاكم، مصرًّا على الجرم، يراوغ في تبرير جرمه ولو بالكذب، فهذا لا شك أن خطيئته قد استولت على وجوده، بحيث أصبح والموعظة لا تدخل قلبه.

وهذا ما حكاه القرآن عن بعض المجرمين الذين كذّبوا بالحق رغم وضوحه، ومالوا عنه رغم انبلاجه، والسبب في ذلك أنهم قد (رانَ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) [المطفّفين 14]

ص: 38

الهَدَفُ الأَسْمَىْ

يُلقي الفلاح بذوره في أرضه، يُغطّيها بالتراب، يسقيها، يبقى أيامًا أو أسابيع أو حتى أشهرًا وهو لا يرى أي بشارة خضراء، وبعد فترة، وعندما يجني طيّب الثمر، سينسى تعب تلك الأيام وألم الانتظار وقساوته.

هكذا العدّاء في مضمار سباق، ينطلق بأقصى سرعته، ليربح ذهبية تزين صدره، وما يستطيع ذلك لولا أنه بذل جهدًا ووقتًا لا يُستهان بهما في التدريب والصبر.لنفهم إذن معنى أن حياتنا مزرعة الآخرة، ومضمار السباق، وأن المؤمنين في الجنة (عَلىٰ سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ . يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ . بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ . لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ . وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ . كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ .) [الصافات 44 – 49]

وبالتالي فإنّ (هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ .) [الصافات 60 – 61]

ص: 39

اتِّبَاْعٌ عَلَى عِلْمٍ

تحيط بالإنسان الكثير من المؤثرات الخارجية، والتي تؤثر على سلوكه، بل حتى على تفكيره. فعائلتك أحد تلك المؤثرات، تجعلك تصوغ سلوكك بكيفية معينة، قانون الدولة مؤثر ثانٍ، عشيرتك وسننها العرفية ثالث، ثقافة المجتمع الذي تعيش وسطه رابع، وهناك خامس وعاشر.

العلم أرقى ما كشف لك الطريق، وأصدق من هداك إلى الرشد، لتعيش التوازن بين كل تلك العلاقات والمؤثرات.

وإنّ من أسوأ ما يُصاب به المرء إزاء تلك العلاقات هو: أنْ يترك ما يعلم أنّه نافع لدنياه وآخرته، ليذهب إلى ما يضره فيهما.

وأما أنت، حيث إنك تطلب العافية في حياتك الخالدة، فعليك إذاً أن تلتزم طريق الهدى ، إذ (إِنَّ هُدَىٰ اللهِ هُوَ الْهُدىٰ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [البقرة 120]

ص: 40

وِجْهَةٌ سَلِيْمَةٌ

تختلف توجّهات الناس حسب ما يرونه محقّقًا لذواتهم أو نافعًا في تحصيل سعادتهم، فبينا تجد من يطلب المال ليترفع عن سؤال الناس، تجد آخر يطلبه ليتكبر عليهم، وشتّان بين الاثنين.

حتى في العلم الذي هو من أعظم الموجودات، البعض يطلبه ليُخرج نفسه من غياهب الجهل ولينفع به العباد، تجد آخرين يطلبونه ليُماروا به السفهاء أو ليظهروا به على العامة فيقتنصوا منهم الشهرة والمال.

وقل مثل ذلك حتى في العبادة.

فالحقيقة إذن هي أنه (لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [البقرة 148].

ص: 41

حَيَاْةٌ بِسَبَبٍ عَكْسِيٍّ

عندما يضع العقلاء والخبراء قانونًا معينًا، يتعلق بالحياة الاجتماعية للبشر، فإنهم يأخذون بنظر الاعتبار نوع الفعل، والعقوبة المناسبة على المخالفة، والتي قد تكون مجرد توبيخ، أو غرامة مالية، وقد تتطور إلى السجن المؤقت أو المؤبد، وربما تتضخم إلى الإعدام الذي قد يكون بسبب جريمة قتلٍ من الجاني، وهذه العقوبة من شأنها أن توقف استمرار سيل الدم أخذًا بالثأر، وإلا فماذا ينتظر ابن المقتول إن رأى قاتل أبيه يتنفس الهواء ويمشي في الأسواق!

وللشريعة قانون يُشابه ما تواضع عليه العقلاء والخبراء، وهو أيضًا يتضمن عقوبات تدريجية، ولذا كان (لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة 179]

ص: 42

إِرَاْدَةٌ حَاْنِيَةٌ

كلنا نتذكر كيف كُنّا نتذمر من الأوامر والتقييدات التي تصدر اتجاهنا من آبائنا، وكلنا نتذكر كيف كُنّا نتبرّمُ من قيود المدرسة، ولم نفهم المغزى منها -وأنها كانت لصالحنا ولأجل صقل مواهبنا وتعريفنا بالحياة من وجهها الصعب، ليكون الواحد منا كيّسًا يُصارع أمواج الحياة- إلا بعد حين.

نفس الفكرة علينا أن نضعها أمام أعيننا حينما نجد في قلوبنا تساؤلًا عن تشريع لم نعرف المغزى منه، فهو بلا شك لصالحنا، لنربح، ولو بعد حين، ولا يضرُّنا جهلنا بالحكمة منه، بل يكفينا أنه (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة 185]

ص: 43

لَا ضَيَاْعَ

يعيش المؤمن حالة من الصراع مع نفسه فيما يتعلق بأعماله العبادية، فبينا تدفعه مبادئه وعقيدته إلى أن يعمل كل أعماله بقصد القربة الخالصة، ولا يهمه بعد ذلك اطّلع الناس عليها أو لا، تجد أن نفسه تدفعه –حرصًا منها على تلميع سمعتها وحبًا منها لذاتها- إلى إظهار عباداته للعلن، ليكتسب السمعة الطيبة والجاه العظيم، ولا شك أن الناس تحب من يعمل الخير.

في دوامة كهذه، قد يقع الإنسان مرة ويقوم أخرى، ولكي يقوم هو يحتاج إلى من يُشجّعه، ويحفّزه، فيأتي القرآن الكريم ليُبشّر المؤمن ويطمئنه بأن الحق والعمل الصالح إن أُخفي عن الناس، إن ضاع جزاؤك في زحمة انشغالهم بالمظاهر، فلا تقلق، إذ: (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوىٰ وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ.) [البقرة 197]

ص: 44

الْعِزَّةُ بِاْلإِثْمِ

تتمثل الأخوّة الإنسانية والدينية في العديد من المواقف الحياتية، فقد يقع الفرد في شدة مادية، ليجد إخوته يُحيطون به يُغدقون عليه ما يحتاج إليه من المال، ولربما يكتشف أن أُخوّتهم كانت زائفة!قد يقع في حيرة من أمره، فيجد أصحابه من أهل التجارب يهبُون له خبرتهم ونتائج تجاربهم وعصارة أعمارهم، فيحصل على حلول ناجعة، وقد يرجع منهم بخُفّي حنين!

عادة ما يقبل الإنسان النصيحة في هذه الظروف، ولكن البعض يأبى القبول، ولا ينتفع بالنصح، خصوصًا لو بيّن له أحدهم أنه على خطأ أو انحراف، وقد يستمرّ في لجاجه إلى ساعة لات مندمِ، (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) [البقرة 206]

ص: 45

بَيْنَ النَّوْعِ وَالْكَمِّ

تتنافس الشركات الصناعية فيما بينها لجذب الزبائن، وتتخذ لأجل ذلك وسائل عديدة، بعضها تستخدم قوة الإعلام ليسرق رغبة الناس، وبعضها تهتم بتقليل أسعار المنتوج ولو على حساب الجودة، ليشتريه أصحاب الدخل المحدود، من باب أنه أفضل من العدم، وبعضها تعتمد اختراع الجديد ليقتنيه كل محبٍّ للتطور.

ويبقى الأفضل من يهتم بالجودة، والنوع، والدقة، أكثر من الدعاية والسعر والأرباح وإن اهتمّ بها، والرغبة في السلع اليابانية خير شاهد.

فليس مهمًا الكمُّ بقدر ما هو مهمٌّ النوع، هذا في عالم الشركات والسلع.

الدين اهتم أيضًا بنوع العمل وحسنه أكثر من كمِّه وإنْ كان مهمًا، ولذلك فإنه تعالى (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك 2]

ص: 46

تَقْدِمَةٌ مَهِمَّةٌ

يُقدم الجيش أثناء المعارك مجموعةً من جنده ليكشفوا له وضع العدو، ويعطوا التوصيات اللازمة، فيتقدم بقدم راسخة وهو يرنو نحو النصر... هي فكرة عملية رائعة، أثبتت جدواها في الحروب.

عادة ما لا يُجازف التاجر الحاذق بكل أمواله، إنما يُبقي بعضًا منها تحسّبًا للطوارئ والمفاجآت... هو ذكي حيث يُبقي لنفسه ما لا يُجلسه أعزلًا...

أن يحتاط الإنسان في أموره، فهذا فعلٌ حكيم ، وأن يبعث خادمه قبله ليّمهد له محل الراحة، فهذا عمل عقلائي، ونفس هذا المعنى لا بد أن نهتم به في ما يتعلق بحياتنا الأبدية، بأن نرسل عملاً يُمهّد لنا الطريق نحو الجنة، (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ.) [البقرة 223]

ص: 47

مِيْزَاْنُ الْفَوْزِ

اتفق الناس على أنّ من المفاهيم المحبوبة لديهم هو مفهوم الفوز، لكنهم اختلفوا في ميزان الفوز ومعياره، وما يحققه، فالبعض رآه المال، وآخر يعتبره الجاه، وثالث المنصب، ورابع كثرة الأولاد...

هذا صحيح إلى حدٍّ ما، لكن كل ما ذُكر مبتلىً بعيب مشترك، وهو أنها أمور مؤقتة لا تتجاوز حدود هذه الحياة، ولا ترافق المرء إلى حيث مثواه في قبره، إلا في حدود قليلة وبشروط معينة.

للقرآن الكريم معياره الواقعي للفوز، وهو بريء من ذلك العيب، وخلاصته هو أن: (مَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) [النور 52]

ص: 48

ضِدَّ الْيَأْسِ

مشاكل الحياة متنوعة، بعضها من النوع الذي يتمكن المرء من تحمّله وتجاوزه من دون أن يؤثر كثيرًا على وضعه، لكن بعضًا منها يجعل الحكيم حائرًا لا يعرف المخرج مما هو فيه، بعضها يسلب النوم من العين، والاطمئنان من القلب، بعضها ينعكس على السلوك ليجعله غير متوازن، أو عدوانيًا، أو انطوائيًا، بل قد يصل بالمرء إلى وادي اليأس والعزلة، وقد الانتحار!

المؤمن يُصيبه من هذه المشاكل ما يصيب الناس، ويزيد عليهم بأنه يقلق كثيرًا إذا ما واقع معصية أو تجاوز حدًّا إلهيًا.

ومهما أصابه القلق والخوف، فليس له أن يسقط في غياهب اليأس من الرحمة الإلهية والمغفرة الربّانية، إذ إنه تعالى يقول: (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر 53]

ص: 49

مِنْ دَوَاْفِعِ الحَذَرِ

يتميز الإنسان بقدرته على حفظ التجارب والاستفادة منها في بناء مستقبله العلمي والعملي، من هنا كانت إحدى قنوات تطوره المشهود هي التراكمات الكثيرة لتجارب الآخرين.

في الوقت الذي أدت هذه الحقيقة إلى التطور، هي تدعو أيضًا إلى الحذر من الوقوع في الأخطاء القاتلة، ولتفادي الكوارث المهلِكة، فقد عمل الإنسان على استحداث تخصصات للحدّ منها، فكان (الدفاع المدني) و (كاميرات الرصد والمراقبة) و (أجهزة الإنذار المبكّر) و (أجهزة استشعار الزلازل ومراقبة العواصف) وغيرها.

للآخرة أخطارها أيضًا، ووهل مهلكة على نحو الخلود في ما لا يتحمله جلد البشر الرقيق، وأيضًا كانت هنا منبّهات لتفاديها، فعليكم أن تضعوا في الحسبان: (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ...) [البقرة 235]

ص: 50

لَا تَنْتَظِرْ جَزَاْءَكَ مِن البَشَرِ

مما لا شك فيه أن الإنسان فُطر على حب الخير، ولا أقلَّ أنه يحبُّ الخير لنفسه، ولا يحب لها عطبًا طرفة عينٍ أبدًا، ناهيك عن أن غالبية البشر –إلا من شذّ منهم- يحبّون الخير لغيرهم، بل نجد أن منهم من يحب الخير حتى للحيوان بل والنبات.

الإنسان أيضًا محبٌّ للسمعة الطيبة، وللمركز المرموق، فسعى جهده إلى اكتساب الفضائل التي تمهّد الطريق له نحو قلوب الناس، وكان من سبل ذلك هو الجود عليهم والتفضل بمالٍ أو تعليم أو قضاء حاجة وما شابه.

أنت أيضاً كن كذلك، لكن لا تنتظر شكرًا ولا جزاءً من أحد غير الله تبارك وتعالى، وليكن لك بأهل بيت العصمة (عليهم السلام) أسوة، إذ إن شعارهم كان: (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) [الإنسان 9]

ص: 51

تَعَجّلْ قَبْلَ الفَوْتِ

رغم أن الرويّة والتريّث وعدم الاستعجال أمور لا بد منها في كثير من الأحيان، إلا أن العجلة والمُضي قُدُمًا في الأمر وعدم تأخيره أيضًا لا بد منها في أحيان اخرى، والذكي هو من يعرف موضع كلٍ منهما.

هل ترى تأخير قطف الثمرة إذا أينعت أمرًا صحيحًا؟! فماذا عن الذبول!

وهل ترى أن تمضي في تنفيذ ما تمليه عليك نفسُك وأنت في قمة الغضب؟! فماذا عن الندم!

نعم، قد يختلط الحابل بالنابل، ويفقد المرء التمييز في بعض الأحيان، وقد يكون معذورًا حينها، ولكن مع وجود القاعدة الثابتة لأحد الأمرين فلا عُذر، وقد اختصر القرآن الكريم لنا المسافة وقرّب لنا الهدف حينما هدانا إلى العجلة في بعض الأمور، فقال عز من قائل: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة 254]

ص: 52

الرِّبَاْ المُحَلَّلُ

لا يوجد تاجر عاقل يطلب النقص في ماله، فالكل يعمل على الزيادة، وبشتى الطرق، سوى أن المؤمن يطلبه بالطريق المحلّل، وغيره يطلبه ولو بالغصب أو السرقة أو التطفيف بالميزان...

ولا شك أن من أقبح ما يمكن أن يُكتسب به المال هو الربا، فهو ينخر الإنسانية من أساسها، ويوقع الآخرين في مستنقع الديون المتراكمة، لا يختلف في ذلك الفرد عن المجتمع.لذلك فإن الله تعالى حرّمه كأشدّ ما تكون الحرمة، وكان الذين يكتسبون به (لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ) [البقرة 275]

الملفت للنظر: أن الله تعالى حرّمه بين البشر، ولكنه قبله على نفسه، بعقد منه وبوعد، حيث قال تعالى (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة 245]

ص: 53

طَلَبُ الزِّيَاْدَةِ

طبيعة الحياة أنها في نقصان مستمر، فعندما تتقدم في العمر فأنت في نقصان من أيامك، وعندما تنفق بعض مالك، فإنه يُصيبه النقص بحسب المقاييس التجارية، وعندما تستعمل سيارتك فأنت تستهلك من قوّتها.

قبال هذه الحقيقة، عمل الإنسان على تعويض خسائره المستمرة، لكنه وجد التعويض أيضًا يستلزم الخسارة! فسيارتك تحتاج إلى بذل مالٍ إزاء إدامتها، ومراجعة الطبيب لإصلاح أسنانك المتآكلة تقضم جيبك أسرع من فأرة!

مما يعني أن الإنسان ما زال محاطًا بالخسائر.

ويبقى الفائز من دون خسارة هو من يعمل مخلصًا لله تعالى، إذ (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة 261]

ص: 54

تَشَكُّلُ الفَيْضِ الإِلَهيّ

الماء لا لون له ولا طعم ولا رائحة، وكذا لا شكل له، ولكنه عندما يوضع في الأواني المستطرقة فإنه يتشكل بحسب شكل الدورق الذي هو فيه، ويمكنك أيضًا أن تلوّنه كما تشاء، لكن يبقى أصل الماء لا لون له ولا شكل.

العجينة الصناعية لا شكل لها، إنما تتشكّل بحسب ما يرغب من تقع هي في يده، وستطاوعه في رغبته ولن تعترض.

هكذا هو الفيض الإلهي، عام للجميع، شامل لهم، لكن يبقى على الفرد أن يفتح قلبه، ويأتي بإنائه مفتوحًا، ولن يحصل صاحب القلب المنكوس والإناء المغلق على أي قطرة من فيض أو ماء.

هل عرفتم الآن معنى قوله تعالى (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) [الرعد 17]

ص: 55

ضَاْبِطَةُ السَّعَاْدَةِ

يسعى الجميع نحو السعادة، ولكنهم يختلفون في طرق تحقيقها، وفي المفردات التي تحقّقها، وإن اتفقوا على مفردة منها، فإنهم قد يختلفون في حدودها، وهذا ما يؤدي إلى حدوث مشاكل وعقبات في طريق تحقيقها.

العقلاء لم يقفوا متفرجين، وإنما تعاهدوا على وضع ضوابط للحركة، ومهما شرّعوا من قوانين ورتبوا من جزاءات ووضعوا من عقوبات، فإنها كلها تنضوي تحت قاعدة عامة وضابطة واحدة، وهي ضابطة: الحقوق والواجبات، فلكل واحد من البشر حقوق له أن يأخذها، وعليه واجبات يلزمه أن يؤديها.

هذه الضابطة هي حكاية أخرى في الحقيقة عن أنه (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة 286]

ص: 56

المُحَاْكَمَةُ الحَتْمِيَّةِ

يتخذ المجرمون وسائل متنوعة لإخفاء جرائمهم، والتملص من العقوبة، وقد يتغلغلون في عروق الدولة ليسيطروا على محاكمها، وسيكون القاضي حينها لصًّا معهم، والمحامي هو المجرم، وستضيع الكثير من الحقوق (كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) [إبراهيم 18]

رغم ذلك، يبقى المجرمون حذرين في أعماقهم من تقلبات الدنيا، فقد يحصل أن يفقدوا حماياتهم القانونية، وقد تُسحب الحصانة عنهم لسبب ولآخر، وهذا ما يُقلق مضاجعهم كثيرًا، ولكنهم على كل حال يأملون الهروب والتخفي، (فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [آل عمران 25]

ص: 57

طَلَبُ الطَّيِّبِ

أمنية لم تتحقق لأحد أمسِ ولا اليوم، تلك هي أمنية الخلود، إلا أن الإنسان بحث لها عن بدائل، وكان التكاثر أحدها.

أنت تستمر في هذه الحياة بولْدك، حيث يحملون اسمك، لذلك يسعى المتزوجون إلى الإنجاب، ويبذلون لأجل ذلك –لو تأخر عن موعده الطبيعي أو صادف وجود خلل فسيولوجي- الأموال الطائلة.

هم معذورون في ذلك، بل هو ما يحكم به العقل فيهم، إلا أن الذي يُراد التنبيه عليه هي: ضرورة الاستعانة بالله تعالى في ذلك.لا تطلبوا ولدًا فحسب، بل اطلبوه طيّبًا، فرب ولد صار مرضًا عضالًا على والديه، ولذلك (دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ.) [آل عمران 38]

ص: 58

مَهْرُ نَيْلِ المَطَاْلِبِ

يعرف الجميع انه لا يستطيع أحد أن يحصل على عروس جميلة ما لم يبذل لها مهرها اللائق بها، وإذ اشتدّ الشوق وعظم العشق فإنه مستعد لبذل ما تطلبه ولو كان عزيزًا.

حتى الشجرة لن تعطيك من ثمرة فؤادها ما لم تبذل لها ما تحتاجه حسب طبيعتها.

ولن تنال شهادة محترمة ما لم تسهر الليالي وتهجر اللهو والعبث.

فكل شيء تريد الحصول عليه، فلا بد أن تبذل إزاءه ثمنه، والمجّان من أحلام اليقظة.

والثمن قد يكون مالاً، أو وقتاً، أو جهداً، أو غيرها.

حتى الآخرة، لها مهرها أيضًا، ولذلك فإنكم (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) [آل عمران 92]

ص: 59

عَقْدُ بَيْعٍ مُرْبِح

التجارة من المهن المحترمة التي تجعل حياة البشر حيوية، إذ إنها تنعش الأسواق وتجلب الأموال، فتستمر الحياة.

في كل تجارة عقود مبرمة، تكون ملزمة، ناهيك عن أن كلًا من البائع والمشتري يبتغي الربح لنفسه، ولذلك لا نجد عاقلًا يُقْدِمُ على تجارة خسارة.

حياتنا الدنيا ما هي إلا سوق، عليك أن تُحسن التجارة فيها، وأغلى ما تملك من سلعة فيها هي نفسك، فاختر المشتري بدقة، واعقد الصفقة بعقل، وتأمل ربحك من بيعك، وانظر شروط البيع ونفّذها.

وإن أردت عقدًا مربحًا، فلا أربح من عقد تجارة مع الله تبارك وتعالى، فقد نادانا منذ مئات السنين: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلىٰ تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ . تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . وَأُخْرىٰ تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ.) [الصف 10 – 13]

ص: 60

أُسْلُوْبُ تَرْبِيَةٍ مُتَوَاْزِنٍ

يعمد المتخصًصون في مجال التربية والتعليم إلى أساليب متعددة لإيصال الفكرة المقصودة، وبالتالي إلى تعديل السلوك نحو الأفضل، وهم بذلك يعملون على إيجاد السبل الناجعة للنفوذ إلى العقل، ومنه تتم السيطرة على السلوك، وبذلك يصلون إلى النتيجة المرجوة.

وإن من أهم الأساليب في هذا المجال هو أسلوب (الترغيب) و (الترهيب) المزدوج، وهو يعتمد عليهما للمعادلة، وأي خلل في أحد الطرفين يعني خللًا في النتيجة. وهو الذي أمر الله تعالى نبيه الأكرم (صلى الله عليه وآله) أن يبلغه لنا فقال عز من قائل: (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ .) [الحجر 49 – 50]

ص: 61

ارْتِدًاْدُ نَتِيْجَةِ العَمَلِ

من الواضح للعيان أن الإنسان مسؤول عن فعله، وأنّ عليه أنْ يتحمّل نتائج ما يصدر عنه من أقوال ومواقف، ولن يستطيع رمي أثر فعله على غيره، وعلى ذلك انتظمت حياة البشر، وتم تشريع القوانين المنظِّمة لحركتهم.

في عالم الآخرة، لا يختلف الأمر كثيرًا عن هذه الحقيقة في الدنيا، بل سيكون إلصاق الفعل ونتيجته بفاعله الحقيقي أمرًا لا بد منه، فلو استطاع أحد أن يتملص من هذه الحقيقة في الدنيا، فلن يُتاح له ذلك في الآخرة أبدًا: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.) [الزلزلة 7 – 8]

ص: 62

نَدَاْمَةٌ عُظْمَى

يميل الواحد منا إلى أترابه وأصدقائه، ويقضي معهم أوقاتًا كثيرة، ويأتمنهم على أسرار خطيرة، ولا يُحسّ بمتعة الحياة من دونهم، ولا يحلو السمر إلا بوجودهم.

لا بأس، فالأصدقاء روح واحدة في أجساد متفرقة.

إلا أن الملفت للنظر: أن لهم تأثيرًا عجيبًا على السلوك إيجابًا وسلبًا، والعاقل هو من يختار منهم من يورث له السلامة والذكر الحسن والحياة الطيبة.

وأما من لا يُحسن ذلك، فإنه سيندم كثيرًا، في وقت لا ينفع فيه الندم: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً . يا وَيْلَتىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً . لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً .) [الفرقان 27 – 29]

ص: 63

مِنْ أَخْطَرِ الفِتَنِ

صار واضحًا لدى الجميع –بعد بيانات القرآن والمعصومين (عليهم السلام)- أن الدنيا هي قاعة امتحان واختبار كبرى، وأن الناس –فضلًا عن المؤمنين- سيواجهون الكثير من الاختبارات والفتن (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال 42]

الفتن بعضها من النوع الواضح لدى الجميع، بحيث يحذره الجميع، إلا أن بعضًا منها هو من النوع الخفي، وبعضها لا يتوقع المرء كونه اختبارًا لو فشل فيه لأمكن أن يجرّه إلى الويل والثبور، ولذلك قد يُغفل عنه إلى أن تفوت الفرصة، فتصبح غصة، وإلا فما بالك بأولادك وزوجتكَ أو زوجكِ؟!

فلنستمع كلنا لنداء الباري جل وعلا: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [التغابن 14]

ص: 64

فِي مَهَبِّ الرِّيْحِ

المال...

من أهم الوسائل التي كانت وراء استمرار الحياة وتطورها، إذ به استطاع الإنسان أن يُسخّر أخاه الإنسان، فنقّب له الأرض، وخاض عباب البحار، وغاص في أعماق الفضاء، ويمكنك أن تُلقي ببصرك إلى أي مشروع –كبير أو صغير- لتعرف محورية المال فيه.

إلا أن المال –وكما يُقال- سلاح ذو حدّين، فكما كان وراء كثير من تطورات الحياة، كان هو سببًا أيضًا في تعقيدها ودمارها وخرابها، ومن يستعمل المال في تلك الوجهة، فإنه لن يجني منه إلا الخسارة والندامة.

ولذلك كان مثل البعض في إنفاقه ماله في ما لا يحل: (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.) [آل عمران 117]

ص: 65

لَنْ تَضُرَّ إلَّا نَفْسَكَ

للشباب مشكلاتهم الخاصة، التي ربما لا ينجع في حلّها أن تتحدث معهم بالعقل والتريّث، إذ إنهم يميلون –في العادة- إلى التسرع في كل شيء، على طريقة (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) [القيامة 5]

هنا، نحتاج إلى تنوع الوسائل، وإلى خبرات متراكمة، وتجارب متعددة، لنعرف الأسلوب المناسب لعلاج مشكلة معينة عندهم.البعض من الشباب وقع في شبهة حاصلها: أنه إذا التزم بصلاته وبقية عباداته، فإن رزقه سيندر بل ينقطع، وأنه إذا ترك الصلاة، واستمع الغناء، وفعل ما فعل، فإنه يرى رزقه منبسطًا!

إنْ كان لهذا الأمر من واقع! ولم يقتنع ذاك الشابُّ بكونه اختبارًا، فقد ينفع معه أن يُقال له: (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران 144]

ص: 66

دَرَجَاْتٌ بِعَمَلٍ

من الحقائق الواقعية التي نعيشها هي حقيقة: أننا مختلفون، واختلافنا له خلفيات كثيرة، كالمال والحسب والجاه والعرق واللون وغيرها، وقد ترتبت على هذه الحقيقة العديد من النتائج، إيجابية كانت أو حتى سلبية- كما في التمييز العنصري.

صحيح أننا من آدم (عليه السلام)، لكننا دون ذلك اختلفنا، فاختلفت النتائج، وتنوّع السلوك تبعًا لذلك.

ليس هذا فحسب، بل إن الاختلاف في الآثار أمر موجود حتى في تعامل السماء معنا، إلا أن ذلك لم يكن فرع الاختلاف باللون أو المال أو ما شاكل، وإنما هو فرع العمل، وستترتب عليه درجات عليا عند الله تعالى أو دركات والعياذ بالله، ولذلك: (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) [آل عمران 163]

ص: 67

أُمْنِيَةٌ دُوْنَهَا عَقَبَاْتٌ

يرغب أصحاب أي دين أن يتبع الناس معتقداتهم، إذ إنهم في العادة يعتقدون أن دينهم هو الحق الذي سيورث أتباعه سعادة الدارين، إلا أن هذه الأمنية لم تخلُ من العقبات والمكدّرات، خصوصًا من أصحاب الديانات الأخرى أو اللادينيين، فهم بين من يحاول جلب الأتباع معه، وبين من يدفع نحو الانفلات ونحو الاتباع المفرط للشهوات.

هداية الناس كانت هدفًا مهمًا للأنبياء، والرغبة في إنقاذهم من الضلال كانت أمنية لم تتحقق لحد الآن على الوجه المطلوب، فانساق الكثير من الناس بعيدًا عن الهدى، وهذا ما كان يُحزن النبي (صلى الله عليه وآله)، وهو أيضًا يُحزن المؤمنين، ومن هنا فإن القرآن يُصبّر من حزن لأجل ذلك فيقول عز من قائل: (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.) [آل عمران 176]

ص: 68

أَجْرٌ مُؤَجَّلٌ

استيفاء الأجر بدون تأخير، مطلب لأي عامل، إذ لعله يقتات عليه في يومه، ولعل فردًا من عائلته ينتظر منه أن يجلب له الدواء الضروري، وبدون أي سبب، فإنه حقه، ويرغب في أخذه من دون مماطلة.

لعل أحدهم يقول: يُفترض بالسماء أن تتعامل معنا وفق هذا المنطق، وأن تعطينا أجرنا على ما نعمله من أعمال بالمباشر، فبعد أن تنهي صلاتك تأخذ أجرها، وعند الإفطار تستلم أجر الصوم، وعندما ترفع عينك عن الحرام وتقبض يدك عنه يأتيك من يطرق الباب ويسلّمك حقك!

في الحقيقة، لو كانت الدنيا هي آخر المطاف، لتعقّلنا ذلك، ولو كانت هي دار الجزاء والثواب لطالبْنا به، ولكن هذا غير صحيح، فالدنيا دار عمل بلا حساب ولا استلام أجر في العادة، (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران 185]

ص: 69

إِرَاْدَةُ خَيْرٍ وَإِرَاْدَةُ سُوْءٍ

فرضت الثنائيات نفسها في هذا العالم بقوة الواقع، فشرق وغرب، وليل ونهار، وخير وشر، وغنى وفقر، وصحة ومرض، وعافية وبلاء، حتى قطبي المغناطيس الواحد لم يتفقا، فموجب وسالب.

الثنائيات لم تتوقف عند عالم المادة، بل دخلت إلى عالم المعنى، فحب وبغض، قناعة وطمع، علم وجهل، نفس مؤمنة مطمئنة وأخرى أمارة بالسوء...

ولتلك الثنائيات آثار على الواقع تبعًا لها، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، فأنت دائما على مفترق طرق، وعليك أن تحسن الاختيار، ثم تسلك السبيل بعزم وثبات، واستعن بما رسمه الله لك من سبيل (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً.) [النساء 27]

ص: 70

اِزْدِوَاْجِيّةٌ

يُبتلى العقل الإنساني –وما يترتب عليه من قناعات ثم سلوك معين- بالعديد من الأمراض، أخطرها الجهل والعناد والازدواجية، فترى البعض يتدخل فيما لا علم له به، ويحاول أن يبرز فيه على انه العالم الجهبذ، وسيعاند كثيرًا لو انكشف له خطؤه، وتبقى الازدواجية والكيل بمكيالين داءً مقيتًا يضرب في أعماق القلب ويرمي السلوك في متاهة لا متناهية، فتجده يحكم في شيء واحد بحكمين مختلفين، لا لشيء سوى هوى نفسه.حتى في السلوك المناسب تجاه خالقه، البعض يعيش الازدواجية، خصوصًا إذا أصابه ضرر كان هو نفسه السبب في وقوعه... حقيقة صرّح بها القرآن بقوله عز من قائل: (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) [النساء 36]

ص: 71

تَوْقِيْتٌ وَتَنْظِيْمٌ

عمر الإنسان قصير جدًا قياسًا بحجم طموحاته، فلا يمكنه إدراك جميع رغباته، حتى لو أتيحت له كل الظروف الموضوعية، فإن أنفاسه تعمل في عمره عمل الريح في الهشيم.

حتى تستطيع أن تحقق أكبر قدر ممكن من أهدافك، لا بد من تقسيم الوقت، ولذلك أبدع الإنسان علم إدارة الوقت ليُنقّط الخطوات ضمن المتاح من الزمن بوضوح، حتى إذا ما اتقن الفرد إدارته، رأيت منه في أيام قلائل ما لا يفعله العشوائي في سنوات.

الدين لم يغفل هذه الحقيقة، وأبدى ملاحظات مهمة جداً في ما يتعلق بتقسيم الوقت حسب الحاجات الأهم فالمهم فغير المهم منها.

ومن ذلك أنه أعطى أولوية للصلاة وقسّم أوقاتها بدقة، فيلزم على المؤمن أن يجعلها من أهمِّ أولوياته، ولذلك خاطبنا الباري جل وعلا بقول: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء: 78].

ص: 72

أُمْنِيَةٌ غَيْرُ مَشْرُوْعَةٍ

تتميز النفس الإنسانية بامتلاكها لجهاز يُمكّنها من تصوّر أشياء وتخيّلها وإن لم تكن قد رأتها من قبل، بل وإن لم يكن لها وجود في الواقع، والغول، والعنقاء، والتنين وبحر الزئبق وجبل الماس أمثلة على ذلك.

كذلك تتميز بأنها دومًا تبدأ مشاريعها بأمنية تعمل على تحقيقها ولو بعد حين، ولا ضير في تلك الأماني ما دام لها واقع يمكن أن تتحقق فيه.

إلا أن الواقع يشهد على أن البعض –وربما الكثير- يتمنى أماني غير مشروعة، أشبه شيء بهواء في شبك، كأن يتمنى المرء أن يخلد في هذه الدنيا، أو أن يتمنى أن يُصبح الرجل الأول في العالم وهو قابع تحت رداء الكسل، أو أن يتمنى أن يُمرّر أخطاءه من دون حساب، فإنه (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) [النساء 123]

ص: 73

أَرْبَاْحٌ مجَّانِيّةٌ

يتبارى التجار في السوق في تقديم أفضل ما لديهم ليكتسبوا به الزبائن، وإن تفاوتت مواصفاتهم فلا أفضل من تاجر لا يغش المشتري، ويوفيه حقه، أما ذاك الذي يعطي أكثر من المقرر، فإنك لن تجد بابه إلا مزدحماً بالزبائن.

الإنسان فُطر على حب الإحسان، وعلى أن لا يرضى أن يستغلّه أحد، وشاذٌ هو عن الطبيعة الإنسانية من ينعق وراء المخادع ويتبع المراوغ.

من جانب آخر، فإن الدوافع التي تبرر لنا الاتباع والتسليم المطلق للشريعة كثيرة جدًا، ولو أراد البعض أن يتعامل وفق مبدأ الاستفادة والربح الزائد مع الدين، فهو أيضًا موجود، وباطمئنان كامل، بحيث (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) [النساء 40]

ص: 74

عَلَى المِحَكّ

لدى الإنسان القدرة على إخفاء الكثير من رغباته وشهواته، وكتمها، بل ولديه الإمكانية لدفن خوفه في أعماق نفسه، وعلى أن يُظهر خلاف ما يُبطن، وعلى التلوّن بألف لون!

هذه الحقيقة الملوّنة تمثل إحدى مشكلات الحياة الاجتماعية، حيث يحتاج الفرد إلى فترة زمنية طويلة واختبارات متعددة ليعرف دخيلة الآخر ثم الاطمئنان إليه، ورغم ذلك قد يتمكن الآخر من خداعه إلى آخر الطريق!

في عالم الدين قد يوجد من يُحاول التلاعب والخداع، والقرآن الكريم كان ملتفتًا إلى أولئك، لذلك وضع خططًا محكمة لاكتشاف البواطن، ومنها اختبار مقدار تسليم الفرد لأحكام الشريعة، بطريقة: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [بالنساء 65]

ص: 75

إِصْلَاْحٌ بَعْدَ ظُلْمٍ

يتعامل القانون مع الجريمة وفق اعتبارات معينة، حيث ينظر القانون عادة إلى نوع المخالفة أو الجريمة، ويرتب أثرًا مناسبًا عليها.

الملاحظة المهمة: أن القانون لا يتعامل بالعاطفة، ولا يُلغي العقوبة لو أظهر المجرم الندم حقيقةً، بل إنه لا بد أن يُنزل العقوبة به، بل حتى لو تنازل صاحب الحق، فإن القانون يُعاقب المجرم وفق قانون الحق العام، حفظًا للنظام العام من أن يعبث به المجرمون.

هو أمر جيد، حيث يضبط حركة الناس من العبثية والعشوائية والانفلات اللامسؤول.في قانون السماء، الأمر مشابه لهذا المعنى من جهة إرادة فرض الانضباط، ولكنه يختلف من جهة أنه (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة 39]

ص: 76

تَعْظِيْمُ اسْمِ الله تَعَالَى.

يستعمل الإنسان في حياته اليومية فيما يتعلق بإثبات الحق وسائل عديدة، تساعده في حفظ الوثائق وكشف الحقائق، وهي ضرورية في تنظيم شبكة الحقوق والواجبات، فدوّن العقود، واخترع التوقيع، والختم الشخصي، أخذ بصمة الإبهام، بل وصور الاتفاق، فضلًا عن إحضار الشهود.

الشريعة رضيت كل ذلك، بل أمرت بالضبط في بعض الأحيان، كما في (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) [البقرة 282]

وجعلت اليمين وسيلة لحلّ النزاع لو فُقدت الأدلة على إثبات الحق، لكنها لم ترتض الترهل في استعمال اليمين ولا في التقليل من شأنه، (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة 224]

ص: 77

مُعَاْدَلَةُ البَلَاْغِ وَالعَمَلِ

أصبح واضحًا أن الشريعة المقدسة طرحت مشروعًا دينيًا شاملًا لحياة الإنسان في جميع جوانبها، وأن على الإنسان أن يبذل قصارى جهده في تطبيق نظريات الدين، وإعمار الأرض بما أتيح له من مواردها، على خلفية تشغيل عقله وتفعيل قدراته، وبذلك استطاع أن يصنع ما يشبه المعجزات.

أمام هذا الواقع، قد يأتي الكسول والمتواكل، ليرمي فشله على الدين، مطالبًا بتدخل المعجزة للأخذ بيده إلى ما يحب، وهذا ما لم يكن الله تعالى ليفعله في الدنيا، ولا لينظّم الحياة وفقه، إذ هو خلاف حكمة الاختبار، فالله تبارك وتعالى ترك العمل لاختيار الإنسان وإرادته، وأما ما على الدين، فإنه (ما عَلَىٰ الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) [المائدة 99]

ص: 78

كَرَمُ الأَخْلَاْقِ

من الصفات التي كانت ولا زالت مدعاة للتكريم والاحترام هي صفة الجود والكرم، ولقد كان العرب يحترمون كريم القوم، ويكنون عن كرمه بكثير الرماد وجبان الكلب.

الدين أعطى للكريم قدره أيضًا، وجعل له من الثواب الشيء الكثير، وذكرهم في دستوره في العديد من المناسبات، وأشار إلى عدة مراتب له، من قبيل: (وَيُؤْثِرُونَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر 9]وهناك مرتبة خفية من الكرم، وهي مرتبة العفو عند المقدرة، مرتبة عدم تذكير المقصّر بذنبه، عدم تعييره به، وهذه مرتبة عظيمة جدًا من الكرم، ولذلك فإن النبي يوسف (عليه السلام) ذكر النعمة عليه بالإخراج من السجن لا من البئر، لئلّا يحرج إخوته، وهو في مقام العفو، قال تعالى (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) [يوسف 100]

ص: 79

اسْتِدْرَاْجُ النِّعَمِ

يدقُّ ناقوس الضمير في محكمة الوجدان كلّما أخطأ العاقل أو عصى المؤمن، فنداء القلب لا يمنعه شيء، يتجاوز الرقاب ولا يبالي بالأخطار، لأنه نداء خفي لا يسمعه إلا صاحبه.

البعض يعمل على تكميم ذلك الصوت أو عدم الإنصات له، لئلّا يضطرّ إلى ترك رغبة أو مفارقة شهوة.

قد يُزيّن الشيطان للمرء إخراس الضمير، وقد يوحي للمرء أن صوته خادع أو باطل، خصوصًا إذا رأى أن النعم ما زالت تترى عليه.

هنا، لو أُخرس صوت الضمير، فصوت الغيب لا يمنعه انحراف الإنسان، وعطاؤه كان ولا زال يفيض كرمًا وَجودًا، فيأتي اللطف الإلهي لدقّ ناقوس الخطر صادحًا (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ.) [الأنعام 44]

ص: 80

حُدُوْدُ المَجَاْلِسِ

تحيط بالإنسان الكثير من المؤثرات الخارجية التي تضغط عليه بقوة لتصوغ سلوكه كما هي، ولو أراد الإنسان أن يعارضها، فإن عليه أن يتسلح بالكثير من الصبر، وأن يستعدّ للكثير من التضحيات.

من ذلك ضغط الجلسات الخاصة مع الأهل والأتراب، فإن ديمومة التواصل فيها تقتضي موافقة القوم في حديثهم، وإظهار القبول به وإن كان ساذجًا.

المجاملات مطلوبة إلى حدٍّ ما، لكن لا بد أن تكون ضمن حدود العقل والعرف والشرع، ومن حدودها: (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأنعام 68].

ص: 81

اتّبَاْعُ الْعَاْلِمِ

يحكم العقل والعرف بأن يستفيد الصغير من حكمة الكبير وتجربته في الحياة، وأن يهتدي بمعرفته إلى طريق الخروج من دهاليزها، وهذا يُفرز ضرورة احترام الكبير لسنّه، ونصيحته.

هذا الاحترام مما ينظم مواقع الأفراد في الحياة الاجتماعية، ويستدعي أن يكون الصغير تابعًا للكبير، لأن له من المعرفة

ما لا يملكه الصغير، فهذا هو الأساس في الاتباع.

وهذا يعني: أنه لو كان للصغير من العلم ما لا يملكه الكبير، فعلى الكبير أن لا يتردد في اتباعه في هذا الجانب، فالعلم هو الذي يُنظّم مواقع الحياة، ولذلك قال النبي إبراهيم (عليه السلام) لعمّه آزر: (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا.) [مريم 43]

ص: 82

الهَدْمُ أَسْرَعُ مِنَ البِنَاْءِ

يعرف الجميع أن الإنسان يبذل الكثير من الجهد والمال والوقت لكي يبني بيتًا جميلًا متكاملًا، وأن هذه السيارة الفارهة التي تطيع أمرك بضغطة إصبع قدمك قد بذل كثيرٌ من العمّال إزاء صنعها وقتهم وجهدهم وخبرتهم. وأن الدقة مهمة جدًا –مع الخبرة- لصناعة ساعة أنيقة.

وأيضًا يعرف الجميع أن هدم كل ذلك هو أسرع وقتًا وأقل تكلفة وجهدًا من بنائه، ففي سويعات قليلة يمكن أن ينهدم البيت، وفي لحظة غفلة أو تهوّر، تتحول السيارة إلى كومة حديد محطّم، ومطرقة صغيرة كفيلة بتحويل الساعة الجميلة إلى خردة لا قيمة لها.

وبنفس المنطق، فقد يبني البعض قصر أعماله الصالحة بجهد ووقت، ولكنه يهدمه في لحظة ضعف أمام نزوات النفس، لتكون النتيجة: (وَقَدِمْنا إِلىٰ ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان 23]

ص: 83

طَرِيْقٌ مُخْتَصَرٌ وَحَصْرِيٌّ

قالوا في الفيزياء: إن أقرب الطرق بين نقطتين هو الخط المستقيم بينهما، وهو المسمى (الإزاحة)، في قبال (المسافة) التي قد توصل إلى الهدف، لكنها تسلك طريقًا أطول.

العقلاء بلا شك سيختارون الطريق الأكثر اختصارًا، حتى لو كان غيره موجودًا، إذ إنهم يعرفون أن اختياره سيوفر عليهم جهدًا ووقتًا ثمينين.

عُرْفاً أيضًا قالوا: إن من أراد أن يتزوج امرأة مثلًا، فعليه أن يطرق الباب، لا أن يتسور الحائط أو يسترق النظر من الشُباك... هو تعبير آخر عن ضرورة الخط المستقيم.

في عالم الدين، لا يوجد غير الخط المستقيم للوصول إلى النجاة، فليست إلا (الإزاحة)، وغيرها لا يوصل إلى الهدف متأخرًا وحسب، بل إنه يُضل الفرد في متاهات لا نهاية لها، فالحقيقة هي:(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام 153]

ص: 84

هُوَ عَلَيْهِ هَيِّنٌ

تمر بالإنسان مواقف وأزمات تُفقده رشده وتقلق مضجعه، وتسلب منه هناء النوم، فأنْ يأتي الدائنُ يُطالبك وأنت معدم، أو تفتقد الأمن في منزلك، أو يسرق المرض منك صحتك، أو أن لا تُرزق بولد يملأ عليك حياتك، أو يعقّك ولدك الذي كنت تتمنى منه البرّ والإحسان، وغير ذلك كثير، هي مشاكل مرعبة، تُفقد الإنسان طعم الحياة.

قد تنغلق الطرق بوجهك، وقد تستحكم حلقات سلسلتها، قد يصيبك اليأس من الفرج، فهذا أمر طبيعي بحسب الموازين العادية للبشر، إذ لا نملك قوىً خارقة نتجاوز بها هذه العقبات.

في خضمّ هذه المتاهات، على المؤمن أي يطمئن، وأن يتذكر أن أمر الله تعالى هو بين الكاف والنون، وأنه يكفيه أن يتذكر: (كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) [مريم 9]

ص: 85

الْوَزْنُ الْحَّق

يستخدم صاغة الذهب موازين دقيقة جدًا لها القدرة على حساب حبات الذهب ولو كانت خفيفة جدًا، وبذلك يضمن البائع والمشتري حقّهما، إذ تُعرف قيمة الذهب بالوزن لا بالتخمين.

لكن يمكن للصائغ أن يسرق من خلال التلاعب قليلًا في ذلك الميزان، ولن ينتبه المشتري لذلك كما هو واضح.

التلاعب بالميزان يمكن أن يشمل كل أنواع البيوع، بل يمكن أن يتعدّى –مجازًا- حتى إلى إثبات الحق، فالمحامي يملك من الأدوات القانونية التي يزن بها القضية فيعرف الحق فيها، ولو تلاعب في تلك الأدوات لأمكن أن يقلب النتيجة، وهذا الواقع يعني عدم الاطمئنان إلا مع الثقة المجرب.

هذا حالنا في الدنيا، وأما في الآخرة فالمسألة تختلف، إذ (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 8 وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) [الأعراف 8 - 9]

ص: 86

خَيْرُ اللِّبَاْسِ

يرى كل عاقل أن من المعيب عليه ان يُظهر من جسمه ما يقبح إظهاره، وأن إظهار العورة هو فعل حيواني، ولذلك عمل على صناعة الملابس ليتزين بها وليستر ما يقبح إظهاره، وهو ما عبّرعنه القرآن الكريم بقوله (عز من قائل): (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً).

هذا بالنسبة لظاهر الإنسان، إلا أن هناك صفات باطنية لدى الإنسان، تنعكس على سلوك الإنسان الخارجي، والتي تظهر على فلتات لسانه وتقاسيم وجهه وتفاصيل أفعاله، وهذه بعضها جميل حسن لا بد من إظهاره، ولكن بعضها صفات قبيحة، لا بد من سترها أيضًا، لكن ما هو الساتر لها والمانع لها من البروز على ظاهر الإنسان؟

إنه ما قاله تعالى: (وَلِباسُ التَّقْوىٰ ذلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف 26]

كلا الساترين يعمل الشيطان على سلبهما من الإنسان، فليحذر المؤمن من تسويلاته، فقد حذّرنا الباري جل وعلا بلسان صريح فقال: (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [الأعراف 27]

ص: 87

تَدَيُّنٌ أَمْ رَهْبَنَةٌ

كيف يكون الإنسان متدينًا؟ كيف يتجلى الدين فينا؟

قد يتخيل البعض أن الدين يقتضي أن يقبع الفرد في بيته متخذًا منه مسجدًا، وأن يترك التمتع بملذات الدنيا... الدين عنده بمعزل عن الحياة، وإن رآك تزيْنتَ بملبس أو تلذّذت بمطعم، رماك بالطامع بالدنيا الزاهد بالآخرة!

فهل الدين كذلك؟! هل فعلًا يُريد منا أن نعيش رهبانًا نقطن الصوامع؟!

يحق لأحدهم حينها أن يرمي الدين بالتخلف وبالوقوف في وجه الحضارة، ومن حقّه أن يثور على الكنيسة والصومعة!

الحقيقة أن الدين لا يريد بشرًا متوحّدين، لا يريد منّا أن نتنسك إلى حدّ التضييق على النفس، هو فقط يُريد منا أن لا نتجاوز حدود الشرع والعقل، وبعدها هو يدعونا للتمتع بملاذّ الدنيا المحللّة فيقول: (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ . قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَىٰ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [الاعراف 33]

ص: 88

تَأْدِيْبٌ إِلَهِيٌّ

يعمد المُربّون عادة إلى استعمال طرق متعددة للتربية، تتناسب مع الهدف المنشود لهم.

أسلوب إثابة السلوك الإيجابي والمؤاخذة على السلبي هو أسلوب يهدف إلى دفع الشخص أن يُحكّم عقله ليختار ما يرجع لنفسه بالخير، فحبُّه لنفسه يدفعه لذلك في العادة.

العملية أشبه بالتلميذ في المدرسة، حيث يتم تذكيره بأنه سيحصد ما يُقدم، وأن بذله لجهد إضافي يرجع عليه بالخير والنجاح، والعكس بالعكس.

نظير هذا الأسلوب استعمله القرآن الكريم مع البشر، حيث رأى أنه من الممكن أن يدفعهم نحو التفكير مليًّا قبل الإقدام على فعل معين، إذ إن أثره سيرجع إليهم اليوم أو غدًا، وهذا ما يُشير إليه قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.) [الأعراف 96]

ص: 89

حَصَاْدُ التَّعَبِ

تعمل أنظمة التربية والتعليم الناجحة على مكافأة الطالب المجتهد، من خلال تقديم تسهيلات له، كالإعفاء العام، وعبور مرحلة، وتقديم منح مادية، وإعطاء مقاعد دراسية في الجامعات المرموقة، وما شابه.

هذا أسلوب مُشجّع ورائع، إلا أنه لم يكن بالمجّان بالمرّة، وإنما هو فرع عملٍ مبذول من ذلك الطالب أخذ من وقته وجهده الشيء الكثير، وأما الكسول فلن يحصل حتى على خُفّي حُنين!

الآباء الناجحون أيضًا لهم أن يستعملوا هذا الأسلوب.

الشرع جرى مع العباد مجرى العقلاء في المكافأة وتقديم التسهيلات، بشرط بذل الجهد، لذلك (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) [النساء 173]

ص: 90

فُرْصَةُ تَصْحِيْحٍ

تعتمد الدول نظامًا تربويًا مزدوجًا، يثيب المجتهد بتقديم فرص نافعة له، وفي نفس الوقت يفتح أفق الأمل له أمام من لم يُحالفه النجاح لكسل أو لظرف قاهر.

أمر جميل ومُربّي أن تقوم المدرسة مثلًا بإعطاء فرصة لتصحيح الموقف، ولسلوك طريق النجاح، وهو قد يكون من خلال إعطاء درجة عامة للجميع، أو من خلال إتاحة الفرصة مرة أخرى لإعادة الاختبار، أو غيرها من الطرق.

إلا أنه جميل ونافع لمن يُحسن كيف يستثمر الفرصة، ولا يدعها تذهب عنه أدراج الرياح، وهذا لا يكون إلا مع عزم إرادة جادة للنهوض بعد السقوط.غير معصومين نحن... مرشّحون للوقوع في الخطأ... إلا أننا أيضًا دُعينا لتصحيح الخطأ، وتقويم السلوك، وتدارك الأمر، فليكن نُصب أعيننا دومًا: (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.) الأعراف 153]

ص: 91

إِكْمَاْلُ خُطُوِاْتِ المَنْهَجِ

الوصول إلى هدف عظيم قد يستغرق وقتًا طويلًا ويستهلك جهدًا كبيرًا من الإنسان، ومهما بذل من وقت وجهد فإنه إن لم يُكمل الطريق إلى آخره وكما ينبغي، فإنه لن يصل إلى الهدف.

لاحظوا الطالب المجتهد طول السنة، إن لم يُتقن إجابة اسئلة الاختبار الأخير، فسيُحكم عليه بالفشل.

الطائرة لن تنجح بمجرد إقلاعها، فنجاحها الحقيقي يتحقّق بهبوطها بسلام عند المقصد.

هكذا نحن في سفرنا إلى الآخرة، لا تكفينا الخطوة الأولى، بل لا بد من إكمال المنهج بدءًا من الاعتقاد فالعمل، ثم الحفاظ على هذا المنجَز إلى آخر لحظة في الحياة، ولذلك حذّرنا القرآن بذكر قصص بعض الذين بدأوا الطريق، ولكنهم لم يُكملوه، فقال تعالى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ. وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها)

فلماذا لم يحصل ذلك؟ إنه بسبب: (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَىٰ الْأَرضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) [الأعراف 175 – 176]

ص: 92

حِصْنُ المُؤْمِنِ

من أول يوم خُلق أبونا آدم، وإبليس أعلن عداوته له ولذريته، وبيّن بكل صراحة سعيَه لإغوائنا بطريقة وبأخرى، مستغلًا ضعف إرادتنا تارةً، ونسياننا لما يؤول إليه اتباعه من مصير لا يرغب فيه عاقل تارة أخرى.

البعض منا ينسى هدفه النهائي، وينسى عداوة إبليس له، وقد يُسْلِمُ قياده له من دون شعور، إلا أنه رغم ذلك ما زالت الفرصة للهروب من قبضته سانحة، فمهما كان إبليس فهو لا يسلبنا إرادتنا ولا يُغلقُ علينا اختيارنا، فما زال لدينا العقل الذي يُمكنه أن يقود الإنسان نحو بر الأمان حيث رضا الرحمن واكتساب الجنان، وما لإبليس إلا الوسوسة والدعوة إلى الباطل.

ليست معركة سهلة كما قد يتوقع البعض، إنما هي كرٌّ وفرٌّ معه، ولا بد من متكئٍ نستريح إليه ونتقوى منه، وتذكّر الآخرة، تذكّر الله تعالى ورحمته وغضبه، تذّكر أن إبليس لا يبغي لنا خيرًا، نافع جدًا في هذا المجال، ولذلك: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف 201]

ص: 93

اخْتِبَاْرٌ خَفِيٌّ

تؤكّد الإحصاءات الاجتماعية أن الفرد لن يعيش حياته بانسيابية تامة، وإنما لا بد أن يواجه تلكّؤات وعقبات في طريقه، وهي تختلف من شخص لآخر، ومن وقت لآخر.

تلك المنغّصات تلونت بألوان مختلفة، فبينما تجد بعض ألوانها بارزًا للعيان، بحيث يتمكن الفرد من الإفلات من قبضتها بطريقة وبأخرى، يُخفي بعضٌ منها نفسَه حتى كأن الفرد يظن أنه مرسى أمان أو برَّ خلاص.

الإنسان عادة ما يستعين بغيره ليتخلص من عقبات الطريق، وهذا امر عقلائي، إلا أن المفارقة تكمن في أن بعض من تظنُّ أنه سيساعدك، يكون في واقعه أداة من أدوات الاختبار ومنحىً من مناحي العقبات، لذلك (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [الأنفال 28]

ص: 94

كَاْشِفُ الطَّرِيْقِ

لا تستطيع أن تقود سيارتك ليلًا من دون مصابيح تنير لك حالِكَ الدروب، ولن تستطيع الباخرة أن تخوض غمار البحار من دون بوصلة ترسم لها طريق الخروج من متاهاتها، والطائرة لن تصل إلى مقصدها من دون طريق مرسوم يتبعه الكابتن بكل دقّة.

هكذا هي الحياة، متشعبة الطرق مظلمة السبل، ولن يتمكن الفرد من الوصول إلى منجىً من دون كاشف دقيق.

ماذا عن طريق الآخرة وخوض غمار المعركة مع النفس والشيطان وفتن الدنيا؟!

هل من ضوء يكشف له الطريق؟!

لنستمع سوية لنداء الحق حيث يقول جل وعلا: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال 29]

ص: 95

نُفُوْرُ النِّعَمِ

يجاهد المرء في حياته ليحصل على ما به يُقيم صلبه ويتنعّم في حياته ويوسّع على عياله، هو في ذلك مقاتل من الطراز الأول إن كان هدفه إنسانيًا ولم يخرج عن حدود العقل والشرع.

المعركة لا تنتهي بمجرد الانتصار وتحقيق شيء من الأهداف، فهناك معركة أشرس من الأولى تهدف إلى الحفاظ على المكتسبات، خصوصًا وأن (النِّعَم) خيل شموس لا تُسلم ظَهْرها بيُسر، ولاترضخ لسائسها بسهولة، فيحتاج المرء إلى خطط محكمة وعمل دؤوب ليُحافظ عليها من أن تهرب من بين يديه.

بداية الخسارة تبدأ من تغيّر التوجّه النفسي لتلك النعم، والتعامل معها بطريقة خاطئة تؤدي إلى إفلات لجامها من اليد، ونفورها إلى حيث لا رجعة!

أتدرون لماذا؟ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال 53]

ص: 96

اخْتِبَاْرٌ مِفْصَلِيٌّ

تؤكد النصوص الدينية –والواقع يشهد- على أن هذه الحياة هي أشبه بقاعة امتحان كبرى، وأن الامتحان والاختبار تزداد صعوبته طردًا مع ازدياد إيمان الفرد، وأن الاختبارات فيه منوعة، وفي بعض الأحيان غريبة، تبدأ من حب الفرد لنفسه، إذ (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) [يوسف 53]، مرورًا بإبليس وطرقه الملتوية والتي تصل إلى استعمال حتى العبادة كشباك للإيقاع بالمؤمن حين يرائي فيها أو يُعجب بها، وصولًا إلى الظروف الخارجية المحيطة التي تضغط على المؤمن بحيث يُصبح تمسّكُه بدينه كخرط شوك القتاد أو القبض على جمرة!

على المؤمن أن يكون فطنًا، كيّسًا، قويًا في ذات الله تعالى، يُحسن أداء الاختبار، وينتبه لخباياه وخفاياه، إذ فيها يكمن الفشل أو النجاح، ولذلك حذّرنا الباري جلّ وعلا فقال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَىٰ الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.) [التوبة 23]

ص: 97

مَرْجِعِيَّةُ التَّخَصُّصِ

في هذا الكون العديد من السنن والقوانين التي تتكاتف في ما بينها مكوّنة شبكة من الأنظمة المتحكمة به، والتي توفر منهجية منضبطة لاستمرار الحياة بانسيابية ممكنة.

ومن تلك السنن: أن الإنسان لم يسمح له عقله ولا وقته أن يتخصص بكل مجالات الحياة، الأمر الذي استدعى تقسيم العمل بين أفراد البشر، على شكل مجاميع، تتكفل كل مجموعة منها بتخصص معين، وتتعاون فيما بينها بطريقة تبادل المنفعة.

بهذه الطريقة استطاع الإنسان اختصار الوقت والجهد، وحصل على نتائج خبرات متراكمة، أدّت إلى تطور الحياة.

الدين أيضًا لا بد فيه من متخصص، وحيث لم يُتح للجميع ذلك، فقد علمنا ضرورة وحكمة قوله تعالى: (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة 122]

ص: 98

التَّوَاْصُلُ المَصْلَحِيّ

يعرف الجميع أن هناك من يتعاملون مع الآخر وفق مصالحهم الشخصية، فأنت تجد بعض الناس من أرحامك وأصحابك مَن لا يذكرونك إلا إذا صارت مصلحتهم عندك، حينها، سيرنّ هاتفك باستمرار، وسيمتلئ بيتك بالزوار، حتى إذا ما انقضت حاجتهم، وانقضت مصلحتهم، قطعوا حبل الوصال، وكانوا كمن ركب سيارة أجرة، وهجرها بعد الوصول إلى المقصد.

قد ينخدع أحدنا بهذا السلوك المصلحي مرة أو مرتين، لكنه سينتبه بعد عدة تجارب، وسيتخذ فيما بعد مع أولئك المصلحيين الإجراء المناسب، والذي قد يؤدي إلى إيصاد الباب إيصادَه على مُحارب!

البعض –وللأسف- هكذا يتعامل مع الباري جل وعلا، يتجاوب ويتواصل مع ربه جل جلاله إذا أجدبت أرضه، وفرغ كيسه، طمعًا بما عنده، ولكنه يقطع ذاك التجاوب ما درّت معيشته واعشوشبت أرضه! بحيث إنه (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلىٰ ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.) [يونس 12]

ص: 99

دَعْوَةُ سَلَاْمٍ

ترفع القوى الكبرى في العالم اليوم –وأمس- شعارات برّاقة، كرعايتها لأمن العالم، وسعيها لنشر السلام، ودفاعها عن المظلوم، ووقوفها ضد الظالم... هي شعارات خلّابة، تأخذ بلُبّ القلب.

إلا أن العين –يصدّقها الواقع- تجد خلاف ذلك، فإن تلك الدول أضحت تتلاعب بمقدرات الشعوب بخيوط خفية، لتجد أن الدمار وغلاء الأسعار والقتل والخداع هي نتائج دعواتها تلك، ولم نلمس لليومِ من شعاراتها غير الصدى الموجع للآذان والمضيِّع للحقائق.

هم يدعون في الحقيقة إلى الفوضى، فهذا ما يخدمهم، فالحاجة إلى التسلط، والحاجة إلى ثروات الآخر، هي هدفهم.

هكذا هم البشر، إذ ا ابتعدوا عن العقل والشرع، (وَاللهُ يَدْعُوا إِلىٰ دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلىٰ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [يونس 25]

ص: 100

شُرُوْطُ الأَمَاْنِ

الخوف من المجهول والمستقبل، أحد أهم عوامل القلق لدى البشر، لا يملكون أمامه سوى اللجوء إلى مواطن أمان مُعيّنة، كادّخار الأموال، وإنشاء علاقات مع ذوي النفوذ، وإحكام قفل الباب! وأمثالها.

رغم كل الإجراءات الاحترازية، يبقى في داخل الإنسان خوف من مستقبل من نوع آخر، إنه مستقبل ما بعد الموت، فما هو مصيري؟ وكيف سيكون منزلي؟ هل هو الفناء؟! أو حياة أخرى أحتاج فيها إلى مواطن أمان؟! ولو كانت هناك مواطن أمان، فهل هي متاحة لكل من ولجَ ذلك العالم، أو إن الحصول على تأشيرة اطمئنان مشروط بشروط؟

تعالوا نستنطق القرآن الكريم في ذلك، حيث يُجيب بالقول: (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ . لَهُمُ الْبُشْرىٰ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.) [يونس 64]

ص: 101

لَا هِدَاْيَةَ بِلَاْ اخْتِيَاْرٍ

ما هي مهمة الدين؟ وما هي وظيفته اتجاهنا؟

قد يتوهم البعض أن على الدين أن يقوم مقام الفرد في أفعاله، فيجلس الفرد متكئًا على أريكته، والدين يوظّف النبي أو الإمام لينجز له جميع مهامه، حتى إذا ما وقع الفرد في معصية أو خطأ، رمى بوزر ذلك على الدين، واتهمه على نفسه، وأنه لماذا لم يهدني الدين أو لم يجبرني ربي الطاعة، وأنه لماذا أصلًا أُتيحت لي فرصة المعصية؟!

توقف رجاءً!

هذه تسويلات النفس ووساوس الشيطان، بل هي عصا الكسلان، فلا يوجد قانون في الدنيا يفعل ذلك، والدين رسم لك الطريق نحو الهدف، أما المسير وقطع المسافة، فهو عليك لا على غيرك، ألم تسمع قوله تعالى: (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدىٰ فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ.) [يونس 108]

ص: 102

اسْتِيْفَاْءٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ

كل عامل يرغب أن يستوفي أجر عمله كاملًا قبل أن يجفّ عرقه، وله كل الحقّ في ذلك، فإن عمله محترم، وله قيمته الخاصة.

البعض يعمد إلى ادّخار بعض وارداته ليوم الحاجة أو الشدّة، ويتخذ عدة طرق لأجل ذلك، كالتأمين في البنك، أو عند ثقة، أو في خزينته الخاصة. هذا بالنسبة للأعمال الدنيوية، وفي تعاملات بعضنا مع البعض الآخر.ماذا عن العمل مع الله تبارك وتعالى؟ لا شكّ أن له أجراً وعدنا الله عز وجل به.

المفارقة هنا: أن الله تعالى جعل الدنيا دار عمل بلا حساب، وأجّلَ إعطاء الأجر إلى يوم القيامة، فينبغي للمؤمن أن يثق بوعد الله تعالى وأن يطمئنّ به، وأن يعمل لما عنده جل وعلا، وأما (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ . أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.) [هود 15 -16]

ص: 103

خَطَرُ الرُّكُوْنِ إِلَى الظَّاْلِم

شاء الله تبارك وتعالى أن يجعل الدنيا دار اختبار وامتحان، وشاء أن يكون الإنسان مختارًا في إرادة أي طريق شاء، بعد أن بيّن له السبل، حتى لا تكون للمخالف حجة يحتجّ بها يوم القيامة.

الانحراف منه واضح للعيان، لكنّ منه خفيًا قد ينخدع به المرء، وإن إبليس لا يُريد من الجميع أن يكونوا فراعنة أو أمثال أبي لهب، وإنما هو يكتفي بمتعبِّد مرائي أو مُعجب بعبادته، يمنّ بها على ربه، فيكون ظاهر عبادته أنيقًا، لكنها خاوية في جوهرها وحقيقتها.

لذلك، فإنه قد يكتفي بمنافق يُظهر عداوة الظالمين، لكنه يرضى بأفعالهم، ويحب طول بقائهم، لأنه يحصل منهم على ما يُشبع نهمه وشهواته.

القرآن الكريم حذّر من هذه الحالة، فقال: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَىٰ الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) [هود 113]

ص: 104

حِفْظُ صَفَاْءِ الأُخُوَّةِ

ربما لا نجد علاقة قوية الارتباط في الدنيا كعلاقة الأخوة النسبية، إذ يشدّ الإخوة أزر بعضهم، ويتكؤون في الشدائد على بعضهم، وكلنا يرى بأم العين كيف أن الناس تهاب الإخوة الكُثُر.

رغم قوة هذه العلاقة، إلا أنها لم تسلمْ من المنغّصات، ولم يقف الشيطان دون أن يعمل على زرع بذور الخلاف بين الإخوة، وقد يُحمي ميسمه فيهم ويجعل قلوبهم تغلي كالمرجل فيما بينهم، فيقتل بعضهم بعضًا! وقصة ابني آدم واضحة المعالم في ذلك.

لذلك، كان من المفترض بالآباء أن يعملوا على تحصين أولادهم مما من شأنه أن يُفرّق بينهم، أو يجعل بعضهم يحقد على بعض، لذلك فإن النبي يعقوب (عليه السلام): (قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [يوسف 5]

ص: 105

كَالْقَاْبِضِ عَلَى جَمْرَةٍ

جهاد مرير، ومستمر، يخوضه المؤمن مع عدة أطراف تحاول إغواءه: نفسه التي هي أحبُّ الأنفس إليه، الشيطان، زخارف الدنيا، الظروف المحيطة، كلها تتعاون فيما بينها للإيقاع به في وحَل المعصية.

كيف إذن يتمكن المؤمن أن يُخلِّص نفسه من هذه القواضم لإيمانه والساعية لسرقته منه؟!

لا شك أن عليه أن يتّبع خططًا متقنة، وينفّذها بدقة، ويصبر على مرارتها، ويُضحي بالكثير من رغباته، ليصل إلى خطّ النهاية فائزًا مفلحًا، وعليه في هذا المجال أن يتمسك بأمرين مهمين: الابتعاد عن مواطن قوة قواضم الإيمان، والتي يضعف فيها العقل في العادة، وأن يطلب الإعانة من ذي القوة المطلقة ليعينه على التصدي لذلك، وهما ما طلبهما النبي يوسف (عليه السلام) حين (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) [يوسف 33]

ص: 106

الاسْتِفَاْدُة مِنَ التَّجَاْرِبِ

ما عاقل من عثر بحجر مرتين.

كلمة نردّدها لو رأينا شخصًا يقع في نفس الخطأ مرتين، إذ المفروض أنه حفظ الدرس جيدًا من المرة الاولى، وكان ينبغي له أن يُشغّل عقله في الدروس المشابهة.

في الحقيقة، أن التجارب قناة معرفية ضخمة، تفيد الإنسان في تحديد نوع سلوكه المستقبلي في الحالات المشابهة، وأن الاستفادة منها إحدى علامات العقل والرشد.

التجارب جُعبة ضخمة من النتائج الجاهزة لأناس خاضوها، ففشلوا فيها أو نجحوا.

من هنا تجد أن النبي يعقوب (عليه السلام): (قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلىٰ أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين) يوسف 64]

ص: 107

سُلَّمُ نَجَاْحٍ

يبحث الناس في هذه الحياة عن أسباب واقعية تساعدهم على الوصول إلى قمة النجاح: طلب العلم في مختلف التخصصات سبب، التجارة سبب آخر، العلاقات سبب ثالث، الجِدُّ وترك الكسل والتواكل رابع، وغيرها كثير.

إلا أن هذه الأسباب تبتلي بأنها لا توصل إلى الهدف المنشود، وإنما قد تسلك بصاحبها إلى ضد ما يطلب، فربما ترى شخصًا هو الأعلم في تخصّصه، لكنه مغمور ولا أحد يعرفه، وتاجرًا مُجدّاَ في عمله والخسائر تلاحقه...الدين قَبِل كل هذه الأسباب، وأمر أتباعه بانتهاجها، لكنه أكملها بشرطين أساسين يمثلان ضمان النجاح، إنْ في الدنيا أو في الآخرة، وهما: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف 90]

ص: 108

الْفَرَجُ عَلَى الْيَأْسِ

تتشابك الأحداث على البعض وتتعقّد حتى يظن أنْ لا مخلص منها، تتراكم الديون وتحيط بالمرء، يطلبه السلطان، يبحث عنه الغرماء، يُصيبه مرض عُضال، يملّه حتى أولاده، يتمنى المرء مع هذه الهموم الموت، ويدعو أنْ لو لم تلده أمه، ولم يكن شيئًا مذكوراً!

في خضمّ هذه التداعيات، قد تنفتح أبواب السماء عليه برحمة منهمرة، فيُسقط الدائن عنه دينه، ويموت السلطان، ويشفى المرض، ويرجع إليه ما رجع لأيوب الصابر (عليه السلام)...

هذه هي حبكة مسرحية الحياة، مدٌّ وجزرٌ، يوم لك ويوم عليك، والعاقل هو من يُحسن أداء الدور في موضعه، لئلّا يقع في المصيدة، فمهما صعبت، وضاقت حلقاتها، وتشابكت خيوطها، فإن الفرج آت لا محالة، تمامًا كما أنه (حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [يوسف 110]

ص: 109

مَصْدَرُ اطْمِئْنَاْنٍ

مخاوف الإنسان في هذه الحياة كثيرة، كالخوف من المرتفعات، ومن التحدث أمام الناس، ومن المجهول، ومن الأمراض، ومن المستقبل، وغيرها. فالخوف يُفقد الإنسان السيطرة على تفكيره، ولعله في بعض مواضعه ينسى حتى اسمه، وهو من هذه الجهة يبحث عمّا يُهدّئ روعه، ويزيل الخوف عنه، أو على الأقل يُقلّل من منسوبه.

قد يجد البعض اطمئنانه في جمع الأموال، لكن المال أثبت جدارته في سرعة إباقه عن صاحبه، لُيبقيه يُقلب كفيه على ما أنفق من عمره من أجله، وقد يتخيل البعض أن اطمئنانه يكون عند السلطان، إلا أنه كالأسد، لا تعرف في أي لحظة ينقضّ على صاحبه.

ماذا لو لم يكن عندك مال ولا سلطان ولا أولاد، هل من مصدر أمان؟!

ليس لنا أن نكون كأولئك (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد 28]

ص: 110

حَيَوِيَّةُ التَّوَاْزُنِ

في عالم الهندسة، يبذل المهندس جهده ليكون دقيقًا في إعطاء القياسات المنضبطة التي تحفظ للبناء توازنه، وأي خلل في ذلك قد يؤدي إلى كارثة.

الطبيب يدقّق كثيرًا في ما يحتاج إليه المريض من أدوية، ويوازن بين حاجته هذه وبين تأثيرات العلاج الجانبية على الأعضاء السليمة، ليخرج بأقل الخسائر الممكنة.

أنت، لا بد لك من توازن منهجي بين ما يرد إليك من أموال وما تصرفه منها، والخلل في هذا التوازن يؤدي إلى وقوعك في مغبة الديون.

فلا بد من التوازن التام لتستمر الحياة بانسيابية ممكنة.

الدين أيضًا أكّد على هذا المبدأ، خصوصًا فيما يتعلق بالتوازن بين متطلبات الدنيا ومتطلبات الآخرة، على قاعدة: (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص 77]

ص: 111

شَمَاْتَةُ إِبْلِيْسَ

قد تقع في مشكلة، قد تخسر أموالك، قد تفقد وظيفتك، ستتألم كثيرًا، لكنك لو وجدت إلى جنبك من يُصبّرك، ويواسيك، فإن ألم الفقدان سيخفّ كثيرًا بلا أدنى ريب.

لكن تصور لو أنك في ساحة المعركة، حيث العدو قريب جدًا منك، وحيث إنك تحتاج إلى ركن شديد تأوي إليه، وإذا بالطعنة تأتيك من خلفك! ممّن؟! من حليفك! ممن عقدت معه المواثيق على النصرة! لا شك أن ألم تلك الطعنة سيكون أشد من ضرب العدو.

بعيدًا عن سوح القتال، البعض يعقد وثيقة تعاون مع إبليس، ولو من دون أن يشعر، وربما يبقى غافلًا مدى الحياة!

أتدرون متى سينتبه؟!

إنه في يوم يُعرض على ربه، (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [إبراهيم 22]

ص: 112

إِمْهَاْلٌ لِيَوْمٍ شَدِيْدٍ

تعصف ريح الظلم بالكثير من الناس، تسلب منهم استقرارهم النفسي، وتُبعد الولد عن والده، وتجعلهم يحنّون إلى الأمان.استلاب الحقوق صار ظاهرة، والسجون تئنّ بمظلومين خُلطوا بمجرمين، والظلم انتشر حتى كأنك لا ترى مرتاحًا، حتى إن بعض الزوجات أضحت حبيسةَ سجنٍ لجبار عنيد!

هنا، قد يتطرق تساؤل إلى قلب مؤمن: أين عدالة الله تعالى؟! أليس الله تعالى هو القادر على كل شيء؟ أوليس أمره بين الكاف والنون؟ أوليس هو الحاكم الذي لا تضيع عنده الحقوق؟

تساؤل ينمّ عن تجرّع لغصص الظلم، ويحكي عن رغبة بالانتقام المعجَّل، ولعله لو أتيح لنا الأمر فلربما لا نُبقي عليها باقية، ويبقى القرآن يُصبّر المظلومين ويُنذر الظالمين، فيقول عز من قائل: (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ . مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ.) [إبراهيم 42 – 43]

ص: 113

مِضْمَاْرُ التَّنَاْفُسِ

لكي تقتنع ببعض المفاهيم، تحتاج إلى استدلالات علمية مطوّلة، وإتقان علوم متعددة، إلا أن بعضًا منها لا يحتاج إلى أكثر من مطالعة الواقع بعين الإنصاف، ليرفع المفهوم لك عَلَمَه معلنًا بوجوده.

ومن هذا الأخير هو التنافس في الحياة، الذي جاء على خلفية قلّة الفرص المتاحة إزاء الرغبات المتزايدة بل اللا متناهية.

الناس يتنافسون من أجل لقمة العيش، أو الحصول على مساحة من الأرض يعيشون عليها، أو الفوز بربح معين، بمنصب اجتماعي مرموق، وآخرون يتنافسون من أجل الظفر بالجمال أو المال...

كلهم يرى أن سعادته تتحقق في الحصول على ما يتنافس عليه.

أنت! أين موقعك؟ على مَ تتنافس؟!

تذكّر: (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ . عَلَىٰ الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ . تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ . يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ . خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) [المطففين 22 – 25]

ص: 114

الفهرس

صورة

ص: 115

صورة

ص: 116

صورة

ص: 117

صورة

ص: 118

صورة

ص: 119

صورة

ص: 120

صورة

ص: 121

صورة

ص: 122

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.