من وحي الأخلاق المجلد 2

هوية الکتاب

سلسلة: لنكن لهم زيناً

الحلقة الرابعة

من وحي الأخلاق

قراءةٌ ونظراتٌ في القواعدِ العامَّةٍ للتَّكامُلِ الأَخْلَاْقِي وتَطبيْقاتِها

المجموعة الثانية

تأليف

الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي

تقديم

معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية

الطبعة الأُولىٰ: 1440ه-

العدد: 1000 نسخة

جميع الحقوق محفوظة للمعهد

ص: 1

اشارة

سلسلة: لنكن لهم زيناً

الحلقة الرابعة

من وحي الأخلاق

قراءةٌ ونظراتٌ في القواعدِ العامَّةٍ للتَّكامُلِ الأَخْلَاْقِي وتَطبيْقاتِها

المجموعة الثانية

تأليف

الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي

تقديم

معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية

الطبعة الأُولىٰ: 1440ه-

العدد: 1000 نسخة

جميع الحقوق محفوظة للمعهد

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة المعهد:

لا يخفىٰ ما للأخلاق من أهمّية كبرىٰ في حياة الإنسان، فبها يستطيع أنْ يتواصل مع الآخرين إيجاباً وسلباً، ولا شكَّ أنَّ المعرفة تتدخَّل في هذا الجانب من الحياة لتُضفي عليه أُطُراً واضحة للتعامل المنهجي مع الآخر.

فبالمعرفة وتطبيقها يستطيع المرء أنْ يشقَّ طريقه في هذه الحياة، ليكون عنصراً مؤثِّراً في المجموعة، بحيث يفتقده الناس إذا غاب، ويستأنسون به إذا حضر.

من هنا، نجد النصوص الدِّينية تُؤكِّد علىٰ ضرورة أنْ يعمل المرء علىٰ أنْ يزيد من معارفه العلمية، بشرط أنْ تكون ضمن الحدود الإنسانية والدِّينية، وأنْ يجعل من سلوكه لوحة مرسومة تُترجِم تلك المعارف الإنسانية والدِّينية.

من هنا، كان معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية أحد المؤسَّسات العلمية التي تهدف إلىٰ نشر المعارف الإلهيَّة، وإيصالها إلىٰ أكبر عدد ممكن من المتلهِّفين لارتشاف تلك المعارف.

وللتعريف العامِّ بالمعهد ونشاطاته نذكر النقاط التالية:

أوَّلاً: أنَّ المعهد مؤسَّسة علمية حوزوية تُدِّرس المناهجالدِّينية المعَدَّة لطُلّاب الحوزة العلمية في النجف الأشرف.

ص: 3

ثانياً: أنَّ الموادَّ الدراسية تُعَدُّ علىٰ أيدي أساتذة متخصِّصين، وتُدرَّسُ من قِبَل أساتذة أكْفاء في حوزة النجف الأشرف.

ثالثاً: الدراسة في المعهد عن طريق الانترنيت وليست مباشرة، وهي لمدَّة ثلاث سنوات، والسنة الرابعة تطبيقية عملية.

رابعاً: أنَّ المعهد يساهم في نشر وترويج المعارف الإسلاميَّة وعلوم آل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ ووصولها إلىٰ أوسع شريحة ممكنة من المجتمع، وذلك من خلال توفير المواقع والتطبيقات الإلكترونية التي يقوم بإنتاجها كادر متخصِّص من المبرمجين والمصمِّمين في مجال برمجة وتصميم المواقع الإلكترونية والتطبيقات علىٰ أجهزة الحاسوب والهواتف الذكيَّة.

خامساً: بالنظر للحاجة الفعلية في مجال التبليغ الإسلامي النسوي فقد أخذ المعهد علىٰ عاتقه تأسيس جامعة متخصِّصة في هذا المجال، فتمَّ إنشاء جامعة أُمِّ البنين عَلَيْهِا اَلسَّلاَمُ الإلكترونية لتلبية حاجة المجتمع وملء الفراغ في الساحة الإسلاميَّة لإعداد مبلِّغات رساليّات قادرات علىٰ إيصال الخطاب الإسلامي بطريقة علمية بعيدة عن الارتجال في العمل التبليغي.

سادساً: أنَّ المعهد لم يُهمِل الجانب الإعلامي، فبادر إلىٰ إنشاء مركز القمر للإعلام الرقمي، الذي يعمل علىٰ تقوية المحتوىٰ الإيجابي علىٰ شبكة الانترنيت ووسائل الإعلام الاجتماعي، حيث يكون هذا المحتوى موجَّهاً لإيصال فكر أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ وتوجيهات المرجعية الدِّينية العليا إلىٰ نطاق واسع منالشرائح المجتمعية المختلفة وبأحدث تقنيات الإنتاج الرقمي وبأساليب خطابية تناسب المتلقّي العصري.

ص: 4

سابعاً: أنَّ المعهد يقوم بطباعة ونشر الإنتاج الفكري والعلمي لطلبة العلم، ضمن سلسلة من الإصدارات - صدر منها إلىٰ الآن ستَّة كُتُب في مختلف العناوين العقائدية والفقهية والأخلاقية - التي تهدف إلىٰ ترسيخ العقيدة والفكر والأخلاق، بأُسلوب بعيد عن التعقيد، يستقي معلوماته من مدرسة أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ الموروثة.

وبين يديك عزيزي القارئ، سلسلة من الكُتُب الأخلاقية، التي كتبها مؤلِّفها سماحة الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي، بأُسلوب واضح، تُمثِّل خُطُوات عملية لتنشئة جيل يتمحور سلوكه حول مرجعية القرآن الكريم وسُنَّة الرسول الأكرم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وأهل بيته الطاهرين عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ.

نسأل الله عزّ وَجل أن يجعل عملنا في عينه، وأن يتقبَّله بقبوله الحسن، إنَّه سميع مجيب.

إدارة المعهد

ص: 5

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة المؤلِّف:

يسعىٰ الإنسان بطبيعته إلىٰ إقامة علاقات مختلفة من حيث مداها العمودي والأُفقي، مع خالقه وربِّه ومدبِّر أُموره، ومع بقيَّة أفراد بني نوعه البشري، حيث شعر بوجدانه أنَّه لا يستطيع أنْ يعيش منعزلاً عن الجميع.

ووجد أيضاً أنَّ تلك العلاقات مهما اختلفت وتنوَّعت، فإنَّها تحتاج إلىٰ تجذير في أعماق النفس، لتُعطي ثماراً يانعة، فعمل جهدَه علىٰ تقوية تلك العلاقات وسقيها بما يُقوّي جذورها ويُرسِّخها في أعماق النفوس أكثر.

واتَّخذ من أجل هذه الغاية العديد من الطُّرُق، ولكنَّه مهما استعمل من طُرُق في هذا الشأن، فإنَّه ومن دون أنْ يُقدِّمها بطريقة مقبولة لدىٰ الآخر، فإنَّها لن تُؤتي أُكُلَها، الأمر الذي يعني: أنَّ الطريقة التي تُقدِّم بها الطبق أهمُّ ممَّا تُقدِّمُه في الطبق في الكثير من الأحيان، لذلك كانت (دماثة الأخلاق) و(السلوكيات الحميدة) و(مكارم الصفات) أفضل طُرُق سقي شجرة العلاقات تلك.

هذا الكتاب، الذي هو الحلقة الرابعة من سلسلة (لنكن لهم زيناً) والكتاب الثاني من قواعد (من وحي الأخلاق) فيه ثلاثون قاعدة أُخرىٰ - بعد الثلاثين في المجموعة الأُولىٰ -، وستجد فيهاعزيزي القارئ إنْ

ص: 7

شاء الله تعالىٰ ما ينفع كثيراً في تقوية جذور العلاقة العمودية مع الله جل جلاله، ما يترتَّب عليها من تقوية أواصر العلاقات الأُفقية مع بني البشر، واللهَ تعالىٰ أسأل أنْ يتقبَّلها بقبوله الحسن، إنَّه وليُّ التوفيق.

حسين عبد الرضا الأسدي

النجف الأشرف

(7/ محرَّم الحرام/ 1440ه)

(17/ أيلول/ 2018م)

ص: 8

الإهداء

إلىٰ من لوىٰ عنق الدهر، وأخذ بزمامه..

إلىٰ من جعل من ظلام زنزانته دوحة غنّاء، بالذِّكر والدعاء..

إلىٰ من كظم غيظه حتَّىٰ قضىٰ..

إلىٰ من كان هادياً من العمىٰ رغم قيود الحديد وأغلال السجن..

إليك أنت يا باب الحوائج..

يا أبا إبراهيم..

يا موسىٰ بن جعفر..

من عبدٍ مسَّه الضرُّ..

وأنتم باب الله الذي منه يُؤتىٰ..

* * *

ص: 9

ص: 10

(31)تزكية النفس

اشارة

تُؤكِّد الكثير من الآيات الكريمة والروايات الشريفة علىٰ ضرورة أنْ يُزكّي المؤمن نفسه، قال تعالىٰ: ]قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّىٰ 14[ (الأعلىٰ:14)، وقال تعالىٰ: ]قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها 9 وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها 10[ (الشمس: 9 و10).

فما هو معنىٰ التزكية؟

وكيف يُزكّي المؤمن نفسه؟

هنا عدَّة نقاط:

النقطة الأولى:

يقول علماء الأخلاق: إنَّ التكامل الوجودي يمرُّ بثلاث مراحل:

الأُولىٰ: التخلية: بأنْ يتمَّ تنقية النفس من الرذائل.

الثانية: التحلية: بأنْ يتمَّ إشغال النفس بالفضائل.

الثالثة: التجلية: وهي من الجلاء بمعنىٰ الظهور والانكشاف والتبيين، وهي نتيجة المرتبتين السابقتين، بأنْ تتجلّىٰ الحقائق أمامعين العبد، فيعرف ربَّه ويعمل بما يريد(1)

ص: 11


1- قال الشهيد الثاني ; في شرح اللمعة (ج 1/ شرح ص 224 و225): إنَّ حركة النفس نحو درجاتها الإكمالية حركة اختيارية، تستحقُّ بها الفضل والثناء. [ والنفس في أُولىٰ مراتب كمالها تتخلّىٰ عن الرذائل كلِّها، لتتحلّىٰ في المرتبة الثانية بحليِّ الفضائل والكرامات، ثمّ تتجلّىٰ لها في المرتبة الثالثة الحقائق كلُّها علىٰ ما هي عليها، وبعد ذلك وفي نهاية المطاف تلتحق بالفوز الأوفىٰ، وهو الفناء في الذات، وهي السعادة الأبدية، وإنَّ كلَّ مرتبة مقدّمة للمرتبة التي بعدها، ولا بدَّ في تحقُّقها في هذه المرتبة من تحقُّق تلك المراتب وهي: (التخلية ثمّ التحلية ثمّ التجلية). هذه حركة النفس التصاعدية، وبإزائها حركة أُخرىٰ للنفس تُسمّىٰ (حركة تسافلية) تنتهي إلىٰ الإخلاد إلىٰ الأرض، والاختلاط مع الأرواح الشرّيرة، وبذلك تصبح منبعثة لمجامع السيِّئات، ومصدراً للمفاسد، ليكون شيطاناً في صورة إنسان. وفي هامش الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة لصدر الدِّين محمّد الشيرازي (ج 2/ هامش ص 21): التجلية فهو أنْ يُجلي الظاهر باستعمال ما ورد في النواميس الإلهيَّة، وأمَّا التخلية فهو أنْ يتخلّىٰ عن رذائل الأخلاق كالبخل والحسد والكبر وغيرها ويترك الشرور اللقلقية والقبقبية والذبذبية المشار إليها في الحديث النبوي حيث قال صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «من وقىٰ شرَّ لقلقه وقبقبه وذبذبه فقد وقىٰ الشرَّ كلَّه»، واللقلق هو اللسان، والقبقب البطن، والذبذب القضيب. وأمَّا التحلية فهو أنْ يتخلَّع بخلع الأسماء والصفات، ويتخلَّق بأخلاق الله، كما في الحديث النبوي: «تخلَّقوا بأخلاق الله». وأمَّا الفناء فله مراتب المحو والطمس والمحق، فالمحو فناء أفعال العبد في فعل الحقِّ تعالىٰ، والطمس فناء صفاته في صفته، والمحق فناء وجوده في وجوده.

وقد تُشبِّه هذه المراتب بمن يمرض بمرض بدني ويريد الشفاء، فإنَّ طريق الشفاء يكون أوَّلاً بإبعاد سبب المرض (من جراثيم ومكروبات وما شابه)، ثمّ إعطاء العلاج المناسب الذي يلزم المريض أنْ يستعمله بكلِّ دقَّة، فينتج عن ذلك رجوع البدن إلىٰ سابق عهده وتمام عافيته.

النقطة الثانية:

إنَّ التزكية مأخوذة من الفعل (زكا) أو (زكو)، وهو يأتي لغةً بعدَّة معانٍ(1)):

الأوَّل: الطهارة.

الثاني: النموُّ والزيادة.

ص: 12


1- انظر: تاج العروس للزبيدي (ج 19/ ص 494/ مادَّة زكو).

الثالث: الصلاح.

وهذه المعاني هي المقصودة في معنىٰ (تزكية النفس)، وهي تتلاءم مع المراتب الثلاثة لتكامل النفس.

أمَّا (الطهارة) فتعني تنقية الثوب أو البدن من الأدران - مادّية كانت أو معنوية -، وهو معنىٰ (التخلية) في النفس.

وأمَّا (النموُّ والزيادة) فيكون بأنْ يسمن البدن مثلاً، أو ينمو الغصن ويطول، أي بأنْ يأتي شيء جديد يزيد في كمال الموجود المُزكّىٰ، وهو يتلاءم مع (التحلية).

وأمَّا (الصلاح) فيعني أنْ يكون الموجود صالحاً لا خلل فيه، بأنْ يكون علىٰ أفضل ما يمكن أنْ يكون عليه، وهو يتلاءم مع (التجلية).

النقطة الثالثة:

إنَّ التزكية بهذا المعنىٰ ليست من الأُمور الثانوية، التي تُرِكَت لرغبة الفرد أو مزاجه، وإنَّما هو أساس المطلوب من المؤمن عموماً، فترك المحرَّمات (التخلية أو الطهارة) وفعلالواجبات (التحلية أو النموُّ) وبالتالي معرفة الحقِّ والسير وفق منهجه المنضبط (التجلية أو الصلاح) هو الإسلام لا غير.

وأيُّ تقصير في أيِّ مفردة من هذه المفردات يعني خللاً في المنظومة المعرفية والعملية للمؤمن.

ومنه يتَّضح:

أنَّ أثر هذه العملية التكاملية - إيجاباً - أو التسافلية - سلباً - إنَّما يرجع للفرد نفسه لا غير، قال تعالىٰ: ]وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلىٰ حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ ءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبىٰ إِنَّما تُنْذِرُ

ص: 13

الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّىٰ فَإِنَّما يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ وَإِلَىٰ اللهِ الْمَصِيرُ 18[ (فاطر: 18).

وبعبارة قرآنية أُخرىٰ: ]إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها[ (الإسراء: 7).

ومعنىٰ هذه الآيات: أنَّ من يتزكّىٰ ويُحسِن فإنَّه سيحصل علىٰ أثر إيجابي من الله تعالىٰ، وفي نفس الوقت فإنَّ من لا يتزكّىٰ ولا يُحسِن فإنَّما يسيء إلىٰ نفسه لا غير، علىٰ حدِّ قوله تعالىٰ: ]يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 23[ (يونس: 23).

النقطة الرابعة:

إنَّ المطلوب منّا هو أنْ نلتزم الحقَّ وأنْ نُزكّي أنفسنا قَدْر الإمكان، لا أنْ نتباهىٰ علىٰ غيرنا بذلك، ولا أنْ نصل إلىٰ حدٍّ نجزم فيه علىٰ الله تبارك وتعالىٰ بأنَّنا في الجنَّة!

فإنَّ التزكية الحقيقية والواقعية ليست متاحة لنا، وإنَّما هيفي علم الله جلَّ وعلا، إذ لعلَّ أمراً يحدث في منتصف الطريق يُؤدّي إلىٰ أنْ ينقلب الدواء سُمًّا، أو أنْ لا يُؤدّي إلىٰ أثره المطلوب بسبب تقصير وعدم انضباط في استعماله، وكذلك الأمر في التكامل الوجودي، فإنَّ هناك ألف عقبة وعقبة قبل أنْ تصل إلىٰ لحظة الحسم.

ولذا جاء التأكيد علىٰ طلب (حسن العاقبة) من الله تعالىٰ.

وفي إشارة إلىٰ هذا المعنىٰ، يقول الباري جلَّ وعلا: ]أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً 49[ (النساء: 49).

ص: 14

ويقول جلَّ وعلا: ]الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقىٰ32[ (النجم: 32).

ومن هنا، كانت واحدة من أهمّ صفات المتَّقين فيما قاله أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ هو أنَّهم: «خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ، لَا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ، وَلَا يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ، فَهُمْ لأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ، وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ، إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَه، فَيَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي، وَرَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسِي، اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ»(1)

وهذا يعني فيما يعنيه:أنَّ المؤمن لا يستغني بحال عن استمداد الغيب بالعون، فإنَّ الإنسان لا يمكنه أنْ يدفع عن نفسه ضرًّا ولا أنْ يجلب لها نفعاً إلَّا بالتوفيق واللطف والمدد الغيبي.

النقطة الخامسة:

اشارة

إنَّ للتزكية طُرُقاً عديدة ذكرتها النصوص الدِّينية، منها ما يُشير إلىٰ التخلية والتطهير، ومنها ما يُشير إلىٰ التحلية والنموِّ، ومنها ما يشير إلىٰ التجلية والتسامي في عالم التكامل.

أمَّا عن (التخلية) فتتلخَّص في:

أوَّلاً: أنَّ الوقاية خير من العلاج:

ص: 15


1- نهج البلاغة (ج 2/ ص 162 و163).

أي أنْ يبتعد المؤمن أوَّلاً عن أيِّ ذنب و(مرض)، ويربو بنفسه عن النزول بها إلىٰ حضيض الرذيلة والذنب!

فعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «اجتناب السيِّئات أولىٰ من اكتساب الحسنات»(1)

وعن الإمام الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «توقّي الصرعة خير من سؤال الرجعة»(2)

ثانياً: استعجال التوبة لو وقع المؤمن في خطأ:

فحيث إنَّنا غير معصومين، فسيكون الوقوع في الخطأ وارداً جدًّا، ولكن المطلوب فيما لو حصل هذا التقهقر والتعثُّر أنْ نقوم بسرعة، لننفض عن أنفسنا دَرَن الذنوب باستعجال التوبة.روي عن الإمام الجواد عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «تأخيرُ التوبةِ اغترارٌ، وطولُ التسويفِ حيرةٌ»(3)

ويقول الإمام عليٌّ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «لَا تَكُنْ مِمَّنْ يَرْجُو الآخِرَةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ، ويُرَجِّي التَّوْبَةَ بِطُولِ الأَمَلِ...، إِنْ عَرَضَتْ لَه شَهْوَةٌ أَسْلَفَ المَعْصِيَةَ وَسَوَّفَ التَّوْبَةَ»(4)

وعنه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «إنْ قارفتَ سيِّئةً فعجِّل محوها بالتوبة»(5)

وعنهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «مُسَوِّفُ نفسه بالتوبة، من هجومِ الأجلِ علىٰ أعظمِ الخطر»(6)

ص: 16


1- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 125).
2- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 75/ ص 187).
3- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 456).
4- نهج البلاغة (ج 4/ ص 39).
5- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 81).
6- مستدرك الوسائل للميرزا النوري (ج 12/ ص 130/ ضمن الحديث 13707/13).

وفي وصيَّته عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لولده الإمام الحسن المجتبىٰ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «... وَأَنَّكَ طَرِيدُ المَوْتِ الَّذِي لَا يَنْجُو مِنْه هَارِبُه، وَلَا يَفُوتُه طَالِبُه، وَلَا بُدَّ أَنَّه مُدْرِكُه، فَكُنْ مِنْه عَلَىٰ حَذَرِ أَنْ يُدْرِكَكَ وَأَنْتَ عَلَىٰ حَالٍ سَيِّئَةٍ، قَدْ كُنْتَ تُحَدِّثُ نَفْسَكَ مِنْهَا بِالتَّوْبَةِ، فَيَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ ذَلِكَ، فَإِذَا أَنْتَ قَدْ أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ...»(1)

وأمَّا عن التحلية، فهي تكون بالتزام الأعمال الصالحة التي شرَّعها الباري جلَّ وعلا، فهي بمثابة المطهِّرات للبدن من أيِّ دَرَن، وفي هذا المعنىٰ روي عن الإمام الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال:

«لو كان علىٰ باب أحدكم نهر، فاغتسل منه [كلَّ] يوم خمس مرّات، هل كان يبقىٰ علىٰ جسده من الدَّرَن شيء؟ إنَّما مَثَلالصلاة مَثَل النهر الذي يُنقّي الدَّرَن، كلَّما صلّىٰ صلاة كان كفّارة لذنوبه، إلَّا ذنبٍ أخرجه من الإيمان مقيم عليه»(2)

وأمَّا عن التجلية، فإنَّها إنَّما تحصل بالمعرفة، فإنَّ المؤمن بعد أنْ يحبس نفسه علىٰ ما يريده الله تعالىٰ، فستنكشف له الحقائق الكونية، حتَّىٰ أنَّه سيعيش وكأنَّه في الجنَّة يراها بأُمِّ عينيه، وهو ما يصل إليه المتَّقون التاركون للحرام والفاعلون للواجب، كما وصفهم أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بقوله: «عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنَّة كمن قد رآها فهم فيها منعَّمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذَّبون»(3)

* * *

ص: 17


1- نهج البلاغة (ج 3/ 49).
2- الأُصول الستَّة عشر لعدَّة محدِّثين (ص 73).
3- نهج البلاغة (ج 2/ ص 161).

(32)النيَّة أساس العمل

اشارة

تختلف نظرة الناس في المقوِّم للعمل، فالبعض يعتبر قوامه في كبر حجمه، والبعض يعتبر قوامه في مداه المكاني أو الزماني، وقد يعتبر البعض قوامه في تأثيره بالغير وتأثُّر الغير به، فالآراء مختلفة، وعلىٰ أساس ذلك القوام تختلف كيفية الفعل ونوعيته.

في الدِّين هناك نظرة شمولية للفعل، بعد الالتفات إلىٰ أنَّ الأعمال دينياً تنقسم إلىٰ قسمين: توصُّلية، وتعبُّدية.

أمَّا التوصُّلية، فهي الأعمال التي تُطلَب نتيجتها، ولا دخل لكيفية حصولها، كالتطهير من النجاسة مثلاً، فلو تنجَّس ثوبك بالدم فلا بدَّ أنْ تُطهِّره إذا أردت الصلاة به بالماء، فالمطلوب هو تطهير الثوب، لكن هل يلزم في التطهير كيفية خاصَّة؟ هل تلزم مثلاً نيَّة خاصَّة للتطهير؟ أو كيفية خاصَّة كأنْ يُوضَع في النهر أو الحوض أو الغسّالة أو ما شابه؟ هل يُشتَرط في التطهير أنْ يكون الشخص بالغاً؟ وهل يُشتَرط القصد في التطهير؟ أم يكفي أنْ يجري الماء عليه ولو من خلال نزول المطر؟ كلُّ هذه الجهات وغيرها ليست مهمَّة، فالمهمُّ هو أنْ يجري الماء علىٰ الثوب وتزول النجاسة.

أمَّا التعبُّدية، فهي الأفعال التي يُطلَب من المكلَّف حصولهابكيفية خاصَّة، أي عن نيَّة وقصد، فهذه الأُمور التعبُّدية قوامها النيَّة، أي نيَّة القربة إلىٰ الله تعالىٰ، ومن دون نيَّة خالصة لا يصحُّ العمل العبادي.

ص: 18

إذا تبيَّن هذا، نذكر عدَّة ملاحظات:

الملاحظة الأولى:

إنَّ (النيَّة) أو سمِّها: (الدافع نحو العمل) هي من أقوىٰ المحرِّكات الداخلية للإنسان نحو تنفيذ الفعل في الخارج، فإنَّ الإنسان إذا كان صاحب نيَّة وعزيمة قويَّة، فإنَّه سيعمل علىٰ تحريك عضلات بدنه مهما كان ضعيفاً، وكم من شخص فقير الحال، ضعيف البدن، لكنَّه بإرادته وصل إلىٰ ما لم يصل إليه أصحاب الأموال الطائلة والعضلات المفتولة!

وقد أشار الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ إلىٰ هذه الحقيقة بقوله: «ما ضعف بدن عمَّا قويت عليه النيَّة»(1)

وهذا يعني: أنَّ أعظم كنز يمكن أنْ يستفيد منه المرء في الانطلاق نحو المجد، ونحو بلوغ الكمال، هي النيَّة الراسخة والعزيمة القويَّة، لا المال، ولا الجاه، ولا المناصب، ولا غيرها، وإنْ كانت هذه الأُمور تُساعد علىٰ ذلك في بعض الأحيان.

الملاحظة الثانية:

اعتبرت الروايات الشريفة أنَّ (نيَّة العبد) أمرٌ مهمٌّ جدًّا في أعماله أجمع، بل روي عن الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنَّه قال: «نيَّة المرء خير منعمله»(2)

بمعنىٰ أنَّ نيَّة العبد هي من عمله الخيِّر (فتكون كلمة (خير) مصدراً لا أفعل تفضيل).

ص: 19


1- أمالي الشيخ الصدوق (ص 408/ ح 526/6).
2- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 260/ ح 315).

أو بمعنىٰ أنَّ نيَّة الخير أفضل من نفس العمل، (فتكون كلمة (خير) أفعل تفضيل)، وذلك لأنَّ العمل قد يُبتلىٰ ببعض الأُمور التي تُبطِله، كالرياء والعُجب، وقد لا يُوفَّق العبد للعمل، بينما النيَّة سالمة من هذه الأُمور.

عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: «إنَّ العبد المؤمن الفقير ليقول: يا ربِّ ارزقني حتَّىٰ أفعل كذا وكذا من البِرِّ ووجوه الخير، فإذا علم الله عزّ وَجل ذلك منه بصدق نيَّة، كتب الله له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله، إنَّ الله واسع كريم»(1)

وعنه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «من أتىٰ فراشه وهو ينوي أنْ يقوم يُصلّي من الليل، فغلبته عيناه حتَّىٰ أصبح، كُتِبَ له ما نوىٰ، وكان نومه صدقة عليه من ربِّه»(2)

بل ورد في بعض الروايات الشريفة، أنَّ النيَّة لها أثر حتَّىٰ في الخلود في يوم القيامة، فقد روي عن أبي هاشم، قال: سألت أبا عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عن الخلود في الجنَّة والنار، فقال: «إنَّما خُلِّدَ أهل النار في النار لأنَّ نيّاتهم كانت في الدنيا أنْ لو خُلِّدوا فيها أنْ يعصوا الله أبداً، وإنَّما خُلِّدَ أهل الجنَّة في الجنَّة لأنَّ نيّاتهم كانت في الدنيا أنْلو بقوا فيها أنْ يطيعوا الله أبداً، فبالنيّات خُلِّد هؤلاء وهؤلاء»، ثمّ تلا قوله تعالىٰ: «]قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلىٰ شاكِلَتِهِ[ [الإسراء: 84]، أي علىٰ نيَّته»(3)

الملاحظة الثالثة:

إنَّ كون قوام الأعمال التعبُّدية هي النيَّة، يكشف عن أنَّ الفعل العبادي حقيقته بنيَّته، أي إنَّ المهمَّ فيه هي الجهة الداخلية لا الخارجية،

ص: 20


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 85/ باب النيَّة/ح 2).
2- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 7/ ص 783).
3- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 2/ ص 330 و331/ ح 94).

فقد ترىٰ شخصاً صلاته خفيفة، لكن أركانها صحيحة، وقد يحكم البعض عليها بأنَّها غير مقبولة، قياساً بشخص آخر يطيل في ركوعها وسجودها، ولكن الله تعالىٰ حيث يعلم بالنيَّة الداخلية، قد يحكم علىٰ صلاة الثاني بالبطلان، لأنَّها ربَّما خلت من قصد القربة، بأنْ قُصِدَ بها الرياء مثلاً.

وهذا معناه، أنَّ العمل الفيزيائي (أي الخارجي) يتأثَّر بالعلل والدوافع الداخلية للفعل، وأهمّها النيَّة.

ولذلك ورد عن النبيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنَّه قال: «إنَّ المَلَك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به، فإذا صعد بحسناته، يقول الله عزّ وَجل: اجعلوها في سجّين! إنَّه ليس إيّاي أراد بها»(1)

الملاحظة الرابعة:

يمكن للنيَّة أنْ تتدخَّل في كلِّ ما يصدر من الإنسان من أفعال، سواء كانت توصُّلية أو تعبُّدية، وبالتالي، يمكن للإنسان أنْيستفيد حتَّىٰ من الأفعال التوصُّلية، أو تلك المباحات التي يفعلها بدافع الحاجة الفطرية أو الطبيعية، من خلال جَعْل الدافع نحو فعلها إلهياً، فيفتح لنفسه باباً جديداً لتحصيل الثواب الأُخروي.

فقد روي في وصيَّة الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لأبي ذرٍّ ; أنَّه قال له: «يا أبا ذرٍّ: ليكن لك في كلِّ شيء نيَّةٌ صالحةٌ، حتَّىٰ في النوم والأكل»(2)

إنَّ الروايات الشريفة قد دعتْ إلىٰ اتِّخاذ نيَّة الخير في كلِّ ما يصدر من الإنسان من أقوال وأفعال، لأنَّه بهذه الطريقة يتخلَّص من انطباق

ص: 21


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 294 و295/ باب الرياء/ ح 7).
2- مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي (ص 464).

عنوان (الغافل) عليه، فقد روي عن الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنَّه قال: «لا بدَّ للعبد من خالص النيَّة في كلِّ حركة وسكون، لأنَّه إذا لم يكن هذا المعنىٰ يكون غافلاً، والغافلون قد وصفهم الله تعالىٰ فقال: ]إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً 44[ [الفرقان: 44]، وقال: ]أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ 179[ [الأعراف: 179]»(1)

من هذا كلِّه نعلم:

أنَّ من أهمّ الركائز التي يقوم عليها السلوك الأخلاقي والفضائل في الدِّين الإسلامي هي النيَّة الصالحة، الأمر الذي اختصره أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بقوله: «النيَّة أساس العمل»(2)

* * *

ص: 22


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 67/ ص 210).
2- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 29).

(33)ثنائية الإرادة والقدرة على العمل

اشارة

إنَّ إنجازات الإنسان رهن بقوَّتين: الإرادة، والقدرة علىٰ الفعل.

الإرادة تعني ذلك الدافع الداخلي والحماس الذاتي نحو الفعل، تلك المشيئة المشتعلة نحو العمل، والرغبة في تحقيقه وإتمامه وإكماله.

وهذه الإرادة هي فرع الإحساس بالحاجة، فأنت عندما تحسُّ أنَّك بحاجة إلىٰ صديق صدوق، فهذا يعني وجود رغبة ودافع ومحفِّز داخلي علىٰ تحصيل ذلك الصديق، وهكذا عندما تحسُّ وتشعر بحاجتك إلىٰ التعلُّم، فإنَّ هذا يخلق في داخلك مشيئة قويَّة نحو تحصيل العلم من خلال طُرُقه المشروعة، فتذهب لتدرس أو تقرأ أو تسأل...، هذه هي الإرادة.

وأمَّا القدرة فهي تعني توفُّر الإمكانات والمؤهِّلات المادّية والمعنوية لتحقيق ما ترغب فيه وما انعقدت إرادتك عليه.

فالذي يريد أنْ يصبح طبيباً، لا بدَّ أنْ تكون عنده القدرة علىٰ الحفظ والتحمُّل والسهر، ولا بدَّ أنْ تكون صحَّته جيِّدة حتَّىٰ يستطيع الصبر علىٰ مرارة الدراسة.

والذي يريد أنْ يكون تاجراً، لا بدَّ أنْ يملك المؤهِّلات لذلك، فلا بدَّ أنْ يكون صاحب قلب قوي يخاطر بالتجارة ولا يهتمُّبالخسارة، ولا بدَّ أنْ يكون عنده قدر كافٍ من الإدارة الجيِّدة للأموال، ومن الورع الذي يحجزه عن ارتكاب المحرَّمات في تحصيل الثروة.

ص: 23

الإرادة تصنع الفرد:

الملاحظة الملفتة للنظر، هي أنَّنا نجد أنَّ امتلاك الفرد للإرادة القويَّة أهمّ بكثير من امتلاكه للقدرات والمؤهِّلات المادّية، فكثير من الناس رأيناهم وسمعنا بهم، كانوا لا يملكون ما نملكه من مؤهِّلات، ولكن إرادتهم القويَّة صنعت العجائب.

وقد أشار الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ إلىٰ هذه الحقيقة بقوله: «ما ضعف بدن عمَّا قويت عليه النيَّة»(1)

إنَّ الإرادة القويَّة تتعدّىٰ المعهود، وتتجاوز علىٰ الطبيعة وأحكامها، فالإرادة القويَّة تدفع الجسد الضعيف إلىٰ فعل ما لا يفعله الجسد القوي الفاقد للإرادة القويَّة.

من هنا نجد تأكيد الروايات الشريفة علىٰ أنْ يكون للمؤمن دائماً نيَّة فعل الخير، فإنَّه إذا عوَّد نفسه علىٰ استحضار نيَّة فعل الخير وكانت إرادته صادقة في ذلك، فإنَّه وبلا شكٍّ سيكون فاعلاً للخير علىٰ نحو الدوام، لأنَّ ما يُحرِّكه نحو فعل الخير متوفِّر علىٰ نحو الدوام.

فعن أبي بصير، عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: «إنَّ العبد المؤمن الفقير ليقول: يا ربِّ ارزقني حتَّىٰ أفعل كذا وكذا من البِرِّ ووجوه الخير، فإذا علم الله عزّ وَجل ذلك منه بصدق نيَّة، كتب الله له منالأجر مثل ما يكتب له لو عمله، إنَّ الله واسع كريم»(2)

ومن هنا يمكن أنْ نفهم بعضاً من معنىٰ الحديث: «نيَّة المرء خير من عمله»(3)

ص: 24


1- أمالي الشيخ الصدوق (ص 408/ ح 526/6).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 85/ باب النيَّة/ ح 2).
3- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 260/ ح 315).

أمَّا إذا فقد الإنسان الإرادة القويَّة والنيَّة الصالحة، فإنَّه سيكون عاجزاً عن تحقيق ما يُحقِّقه الأطفال! وكم رأينا أُناساً يتساءلون عن علاج مناسب يساعدهم علىٰ قطع التدخين، ولم يعلموا أنَّ العلاج في داخلهم!

يُحكىٰ أنَّ شابًّا كان يبحث عن النجاح، فذهب إلىٰ أحد الحكماء ليساعده في إيجاد الطريق المناسب لذلك، ولمَّا وصل، أحضر الحكيم إناءً كبيراً من الماء وقال للشاب: ماذا ترىٰ؟ فطأطأ الشاب رأسه نحو الإناء وقال: ماء، وفي هذه اللحظة أخذ الحكيم برأس هذا الشابِّ وغطسه في الماء وقطع عليه الهواء، فما كان من الشابِّ إلَّا أنْ صبر قليلاً في البداية، ولمَّا طالت الفترة أخذ الشابُّ بتحريك كلِّ شيء في جسده ليُخلِّص نفسه، واستطاع بعد عناء أنْ يُخلِّص نفسه، فنظر بجنون نحو ذلك الحكيم: أتريد أنْ تقتلني؟ فقال له: اليوم علَّمتك أنَّ الإرادة هي أهمّ ما يصنع النجاح، فأنت لمَّا كانت عندك الإرادة القويَّة لإنقاذ نفسك عملت بكلِّ ما أُوتيت من قوَّة لتخليص نفسك، وقد نجحتَ في النهاية!

من هنا يمكن القول:

إنَّ بني البشر وإنْ كانوا متساوين حين الولادة، ولكن بعدذلك تبدأ الفروقات تظهر فيما بينهم، والذي يُؤدّي إلىٰ ظهور الفروقات ليس هو المنصب بحدِّ ذاته، ولا المال ولا النسب، بل إنَّما هي الإرادات المختلفة، فمن كانت له إرادة صلبة فإنَّه سيعانق النجوم، وإلَّا فسيبقىٰ بين الحُفَر.

وفي هذا دعوة صريحة إلىٰ أنْ لا ينظر الفرد منّا إلىٰ نفسه باستصغار

ص: 25

واستخفاف، فكلُّ واحدٍ منّا يملك الإرادة القويَّة التي يمكن أنْ تجعل منه رجلاً عظيماً يموت جسده ولكن لا يموت ذكره، فإنَّ الإنسان لا يموت عندما يُدفَن في المقابر، بل يموت عندما ينساه الناس، والإرادة هي التي تصنع الذِّكر الطيِّب، ولذا لا بدَّ أنْ يستغل الواحد منّا وقته في تنمية إرادته وتفعيلها.

ونقطة مهمَّة هنا، هي أنْ نبتعد عن أُولي العزائم الخائرة والنخرة، الذين رضوا بأنْ يكونوا مع الخوالف، ورضوا بأنْ يكونوا ذيولاً، ورضوا بعدم تطوير حالتهم، لأنَّهم عبارة عن دجاجات تُثبِّط من عزيمة النسور!

الإرادة تصنع الأمم:

والأُمم عموماً تحتاج في حياتها وتطوُّرها إلىٰ كلٍّ من الإرادة والقدرة، فأُمَّة تريد أنْ تكتب لنفسها الخلود لا بدَّ أنْ تريد ذلك، ولا بدَّ أنْ تعمل عليه، ولا تكتفي بالأحلام.

إنَّ الأُمَّة الفاشلة هي التي ترمي الفشل علىٰ عدم ملائمة الظروف، والحقيقة أنَّ الإنسان هو من يصنع الظروف، فإنَّ الناجحين هم من بحثوا عن الظروف التي تلائمهم، فلمَّا لم يجدوها صنعوها.والقرآن الكريم يذكر هذه المسألة صريحاً عندما يتحدَّث عن أُولئك الجبناء الذين كرهوا أنْ يجاهدوا مع رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فيقول عنهم:

]لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ 44 إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ 45 وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ

ص: 26

وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ 46 لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ 47[ (التوبة: 44 - 47).

فهم أصلاً لم تكن عندهم إرادة للخروج، ومع عدم الإرادة فلا فعل أصلاً.

إنَّ الأُمَم التي انهارت، استطاعت أنْ تقوم من جديد بعد أنْ امتلكت الإرادة الصلبة القويَّة، فاليابان خرجت مثقلة بالخسائر الفادحة جراء الحرب العالمية الثانية، ولا زالت إلىٰ اليوم تحت الاحتلال الأمريكي، ولكنَّها لمَّا امتلكت الإرادة الصلبة استطاعت أنْ تعانق السحاب، واليوم السلع اليابانية لا تحتاج إلىٰ دعاية أكثر من كونها يابانية.

والعرب لمَّا كانوا يمتلكون الإرادة القويَّة أصبحوا سادة الأُمَم، واستطاعوا أنْ يترأَّسوا العالم أجمع، ولقد كانت الجامعات العربية محطَّ أنظار الغرب، وقد حفظ لنا التاريخ هذه الرسالة:

(إلىٰ صاحب العظمة، خليفة المسلمين، هشام الثالث الجليلالمقام، من جورج الثاني ملك إنجلترا والنرويج والسويد.

بعد التعظيم والتوقير، فقد سمعنا عن الرقيِّ العظيم الذي تتمتَّع بفيضه الضافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج من هذه الفضائل...، لتكون بداية حسنة لاقتفاء أثركم، لنشر العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل من أركانها الأربعة.

وقد وضعنا ابنة شقيقنا الأميرة (دوبانت) علىٰ رأس بعثة من بنات الأشراف الإنجليز، لتتشرَّف بلثم أهداب العرش، والتماس

ص: 27

العطف، وتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم، وفي حماية الحاشية الكريمة.

وقد أرفقت الأميرة الصغيرة بهدية متواضعة لمقامكم الجليل، أرجو التكرُّم بقبولها مع التعظيم والحُبِّ الخالص.

من خادمكم المطيع: جورج الثاني)(1)

أمَّا اليوم، حيث خارت العزائم، وانشغل العرب بالاستيراد، وبالتقليد للغرب في كلِّ شيء، بدأت الانتكاسة، فالبطالة تفتكبالشباب، والجهل يُخيِّم علىٰ العرب، والأُمّية باتت ظاهرة مرعبة في حياتنا، وانظروا إلىٰ أيِّ دولة عربية، وتصوَّروا حالها يوم تقطع الدُّوَل الغربية عنها إمداداتها!

فعلىٰ كلِّ مؤمن أنْ يحمل همَّ دولة الإسلام، وأنْ يعمل علىٰ الرجوع بها إلىٰ سابق عهدها، وذلك يكون بالإرادة القويَّة، والعمل الجادِّ، وبانتظار الإمام المهدي عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ بالطريقة الصحيحة للانتظار، والتي تعني فيما تعنيه: التمهيد لظهوره المبارك.

* * *

ص: 28


1- عن كتاب تاريخ سوريا للكاتب السوري نادر العطّار. ونُقِلَت هذه القصَّة في كتاب بحوث المؤتمر التربوي/ مؤتمر نحو بناء نظرية تربوية إسلاميَّة معاصرة (ج 1/ ص 201 و202/ عمّان/ المملكة الهاشمية الأُردنية/ تحرير: الدكتور فتحي حسن ملكاوي/ ذو الحجَّة 1411ه/ حزيران 1990م). وجاء في المصدر الأخير: وكانت هدية المَلِك جورج عبارة عن شمعدانين من الذهب الخالص، طول الواحد ثلاثة أذرع، مع أوان ذهبية أُخرىٰ للطعام، عددها (22) قطعة، نُقِشَت بأبدع وأروع النقوش السكسكونية، وكلُّها من صنع بلاد الإنجليز، وتُعتَبر من التُّحَف النادرة التي لا تُقدَّر بثمن.

(34)الدِّين لوحة واحدة متكاملة

اشارة

هل قرأتم كتاب لغة؟

هل رأيتم كيف أنَّه يُعطيكم تصوُّرات صحيحة لمعاني الألفاظ، ولكنَّها تصوُّرات مبعثرة، ونفس تلك الألفاظ عندما تجمعونها في جملة واحدة، فإنَّها ستُعطي معنىٰ آخر مرتَّباً، وعندما تكون تلك الجملة ضمن مقطوعة متكاملة فإنَّها سترسم لكم صورة لمعاني لم يمكنكم فهمها بقراءة كتاب اللغة فقط.

فاللفظ داخل النصِّ المتكامل له مفهوم يختلف عن معناه ضمن كتاب اللغة، والجملة وحدها تُعطي معنىٰ يختلف عنه لو ضممناها إلىٰ جُمَل أُخرىٰ معها، وهكذا فإنَّك لن تستطيع فهم الكتاب بمجرَّد أنْ تقرأ عنوانه أو تقرأ الفصل الأوَّل منه، وما لم تُكمِله عن آخره فإنَّ نظرتك له ستكون ناقصة.

هي لعبة كلعبة المكعَّبات، كلُّ واحدة من تلك المكعَّبات لها وجودها المستقلّ الخاصّ، ولكنَّها عندما تتركَّب بطريقة معيَّنة فإنَّها ستُعطي شكلاً جديداً متكاملاً ما كان لمكعَّب واحد أنْ يحكي ذلك الشكل الجديد.

وهكذا عندما نحاول أنْ نقرأ الدِّين، أو عندما نتعامل معه تعاملاً شخصياً، أو عندما نريد أنْ ننقل صورة عنه للآخرين، فإنَّهما لم يتمّ ذكر

ص: 29

اللوحة كاملة فإنَّ القراءة ستبقىٰ منقوصة، وبالتالي سيتولَّد في لاوعي الإنسان أو الإنسان الآخر صورة منقوصة عن الدِّين، وهذا من أُمَّهات المشاكل في تصوُّر الدِّين تصوُّراً صحيحاً، وفي التعامل معه تعاملاً منهجياً.

وإليكم بعض التصوُّرات المنقوصة عن الدِّين، والتي ينبغي لطالب الكمال أنْ يبتعد عنها، وأنْ يأخذ بكلِّ الخيوط التي تربط صورة دين الله تعالىٰ.

التصوُّر الأوَّل:

التركيز علىٰ أنَّ الله تعالىٰ ما دام هو غفوراً رحيماً غنيًّا مطلقاً، وهو لا يحتاج إلىٰ أنْ يُعذِّبنا، إذن، لا مانع من الوقوع في المعصية ما دام الله تعالىٰ كذلك.

وهذه نظرة إفراطية تناست الجانب الثاني من اللوحة، وهو جانب (شديد العقاب)، قال تعالىٰ: ]الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ 7[ (فاطر: 7).

وقال تعالىٰ: ]غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ 3[ (غافر: 3).

وقال تعالىٰ: ]اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 98[ (المائدة: 98).

التصوُّر الثاني:

إنَّ الدِّين عبارة عن طقوس عبادية تُؤدّىٰ في مكان العبادة(المسجد أو المكان المخصَّص في البيت)، وبالتالي فهو يدعو إلىٰ التزهُّد

ص: 30

والابتعاد عن ملاذِّ الدنيا، وأنَّ تلك الملاذّ تُؤدّي إلىٰ كدورة القلب والابتعاد عن الهدف.

وهذا تصوُّر ناقص جدًّا عن الدِّين، إذ الحقيقة كاملة هي أنَّ الدِّين عبارة عن منهج متكامل للحياة دنيوياً وأُخروياً، علىٰ المستوىٰ الفردي والجماعي، وعلىٰ مستوىٰ الشهادة والغيب. وهو علىٰ كلِّ حالٍ لا يحرم العبد من ممارسة حقِّه في التلذُّذ بالدنيا والاستفادة من زينتها.

ولذلك قال تعالىٰ لتكميل اللوحة: ]يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ 31 قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 32[ (الأعراف: 31 و32).

وأيضاً جاءت قواعد تعالج هذا الجانب، مثل قاعدة: «أترىٰ الله أحلَّ لك الطيِّبات وهو يكره أنْ تأخذها»(1))، وقاعدة: «ماأُحِبُّ أنَّ لي

ص: 31


1- في نهج البلاغة (ج 2/ ص 187 و188): من كلام له عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بالبصرة وقد دخل علىٰ العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه يعوده، فلمَّا رأىٰ سعة داره قال: «ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا. أمَا أنت إليها في الآخرة كنت أحوج، وبلىٰ إنْ شئت بلغت بها الآخرة، تُقري فيها الضيف، وتصل فيها الرحم، وتُطلِع منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة»، فقال له العلاء: يا أمير المؤمنين، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد! قال: «وما له؟»، قال: لبس العباءة، وتخلّىٰ عن الدنيا. قال: «عليَّ به»، فلمَّا جاء قال: «يا عدي نفسه، لقد استهام بك الخبيث، أمَا رحمت أهلك وولدك. أترىٰ الله أحلَّ لك الطيِّبات وهو يكره أنْ تأخذها؟ أنت أهون علىٰ الله من ذلك»، قال: يا أمير المؤمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك، قال: «ويحك إنّي لست كأنت، إنَّ الله فرض علىٰ أئمَّة العدل أنْ يُقدِّروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيَّغ بالفقير فقره».

الدنيا وما فيها، وإنّي بِتُّ ليلة وليست لي زوجة»(1))، وقاعدة: «أخوك أعبد منك إذا كنت تتعبَّد وهو يعول بك»(2))، وقاعدة: «إنَّ لبدنك عليك حقًّا»(3)

التصوُّر الثالث:

إنَّ الدِّين يعمل علىٰ إقناع أتباعه بأنَّ خلاصهم الحقيقي إنَّما هو في الآخرة فقط، أمَّا الدنيا فلا يجوز للمؤمن أنْ يعمل لأجلها ولا أنْ يعمل

ص: 32


1- في الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 329/ باب كراهة العزبة/ ح 2 و3): عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «تزوَّجوا فإنَّ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قال: من أحبَّ أنْ يتَّبع سُنَّتي فإنَّ من سُنَّتي التزويج». وعن ابن القدّاح، عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: «جاء رجل إلىٰ أبي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، فقال له: هل لك من زوجة؟، فقال: لا، فقال أبي: وما أُحِبُّ أنَّ لي الدنيا وما فيها وإنّي بتُّ ليلة وليست لي زوجة، ثمّ قال: الركعتان يُصلّيهما رجل متزوِّج أفضل من رجل أعزب يقوم ليله ويصوم نهاره، ثمّ أعطاه أبي سبعة دنانير، ثمّ قال له: تزوَّج بهذه، ثمّ قال أبي: قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: اتَّخذوا الأهل فإنَّه أرزق لكم».
2- في ميزان الحكمة للريشهري (ج 3/ ص 1800/ مادَّة العبادة)، نقلاً عن تنبيه الخواطر للشيخ ورّام (ج 1/ ص 39 و65) أنَّ السيِّد المسيح عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قال لرجل: «ما تصنع؟»، قال: أتعبَّد، قال: «فمن يعود عليك؟»، قال: أخي، قال: «أخوك أعبد منك».
3- في كتاب تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (ج 8/ ص 440): كان زيد بن صوحان يقوم الليل، ويصوم النهار، وإذا كانت ليلة الجمعة أحياها، فإنْ كان ليكرهها إذا جاءت ممَّا كان يلقىٰ فيها، فبلغ سلمان ما كان يصنع، فأتاه، فقال: أين زيد؟ قالت امرأته: ليس هاهنا، قال: فإنّي أُقسم عليكِ لما صنعتِ طعاماً، ولبستِ محاسن ثيابكِ، ثمّ بعثتِ إلىٰ زيد، قال: فجاء زيد، فقرب الطعام، فقال سلمان: كُلْ يا زيد، قال: إنّي صائم، قال: كُلْ يا زيد لا ينقص - أو تنقص - دينك، إنَّ شرَّ السير الحقحقة، إنَّ لعينك عليك حقًّا، وإنَّ لبدنك عليك حقًّا، وإنَّ لزوجتك عليك حقًّا، كُلْ يا زيد، فأكل، وترك ما كان يصنع. بيان: الحقحقة: شدَّة السير، وشرُّ السير الحقحقة هو إشارة إلىٰ الرفق في العبادة، يعني عليك بالقصد في العبادة، ولا تحمل علىٰ نفسك فتسأم.

علىٰ دفع الظلم عن نفسه حتَّىٰ لو كان قادراً علىٰ ذلك، وبالتالي فلا يجوز العمل علىٰ التغيير، إذ إنَّ التغيير يعني الخروج عن هدف الدِّين في هذه الحياة، وقد نسبت مدرسة العامَّة ذلك إلىٰ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، فقد رووا مثلاً أنَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قال: «من رأىٰ من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنَّه من خالف الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية»(1)

ورووا أيضاً: قال لنا رسول الله صلّىٰ الله عليه [وآله]: «إنَّكم سترون بعدي أثرة وأُموراً تُنكِرونها»، قال: قلنا: ما تأمرنا؟ قال: «أدُّوا إليهم حقَّهم وسلوا الله حقَّكم»(2)

ورووا: «فإنَّ من طاعة الله أنْ تُطيعوني، وإنَّ من طاعتي أنْ تُطيعوا أئمَّتكم، أطيعوا أئمَّتكم، فإنْ صلُّوا قعوداً فصلُّوا قعوداً»(3)

ورتَّبوا علىٰ ذلك عدم خلع الأمير ولو صار فاسقاً، بل قالوا بصريح العبارة: (لا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه بغصب الأموال، وضرب الأبشار، وتناول النفوس المحرَّمة، وتضييع الحقوق، وتعطيل الحدود، ولا يجب الخروج عليه، بل يجب وعظهوتخويفه، وترك طاعته في شيء ممَّا يدعو إليه من معاصي الله)(4)

وقال التفتازاني: (ولا ينعزل الإمام بالفسق، أو بالخروج عن طاعة الله تعالىٰ، والجور (الظلم علىٰ عباد الله)، لأنَّه قد ظهر الفسق وانتشر الجور من الأئمَّة والأُمراء بعد الخلفاء الراشدين، والسلف كانوا

ص: 33


1- مسند أحمد بن حنبل (ج 1/ ص 275).
2- مسند أحمد بن حنبل (ج 1/ ص 384).
3- مسند أحمد بن حنبل (ج 2/ ص 93).
4- أضواء علىٰ عقائد الشيعة الإماميَّة للشيخ جعفر السبحاني (ص 385)، نقلاً عن التمهيد للقاضي أبي بكر الباقلاني (ص 181).

ينقادون لهم، ويقيمون الجمع والأعياد بإذنهم، ولا يرون الخروج عليهم...)(1)

وهو تصوُّر مغلوط، ولم يأخذ بنظر الاعتبار قوله تعالىٰ: ]كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ 21[ (المجادلة: 21)، وقوله تعالىٰ: ]وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ 105[ (الأنبياء: 105)، وقوله تعالىٰ: ]وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَىٰ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ 5[ (القَصص: 5).

وما روي عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «إنَّما أُمرت أنْ أُقاتل الناس حتَّىٰ يقولوا: لا إله إلَّا الله، فإذا قالوا ذلك فقد عصموا منّي دماءهموأموالهم إلىٰ يوم يلقون ربَّهم فيحاسبهم»(2)

التصوُّر الرابع:

إنَّ إحدىٰ مقوِّمات الإمام التي لا تنفكُّ عنه هي القيام بالسيف، وبالتالي أسَّسوا إلىٰ (الزيدية) التي لا تقول بإمامة الإمام الباقر ومن بعده من الأئمَّة عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ.

ولكنَّه تصوُّر مغلوط منقوص أيضاً، إذ غضُّوا الطرف عن أنَّ

ص: 34


1- أضواء علىٰ عقائد الشيعة الإماميَّة للشيخ جعفر السبحاني (ص 386)، نقلاً عن العقيدة الطحاوية (ص 379 - 387)؛ شرح العقائد النسفية لأبي حفص عمرو بن محمّد النسفي والشرح لسعد الدِّين التفتازاني (ص 185 و186)، ولاحظ في هذا المجال مقالات الإسلاميّين للأشعري (ص 323)، وأُصول الدِّين لمحمّد بن عبد الكريم البزدوي إمام الماتريدية (ص 190).
2- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي (ج 2/ ص 402).

القيام بالسيف له شرائطه الموضوعية الخاصَّة، التي إنْ توفَّرت لقام الإمام وإنْ لم تتوفَّر لم يكن عليه، وأنَّ الذي أسَّس لهذه الفكرة هو الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ حينما قال: «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»(1)

التصوُّر الخامس:

إنَّ الإمام المهدي عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ هو رجل حرب وقتال، وإنَّ الناس لن يروا منه إلَّا السيف، وأنَّه لن يرحم أحداً أبداً.

وهذا تصوُّر مغلوط لا نريد الخوض في أسباب تشييعه بين شيعة أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ، بالتالي هو لا يتوافق مع الروايات التي تُؤكِّد أنَّه عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ يقبل توبة المخطئين، ولا يتناسب أصلاً مع القواعد العامَّة للإسلام التي

ص: 35


1- روضة الواعظين للفتّال النيسابوري (ص 156)؛ وفي هذا المجال روي في علل الشرائع للشيخ الصدوق (ج 1/ ص 211/ باب 159/ ح 2): عن أبي سعيد عقيصا، قال: قلت للحسن بن عليِّ بن أبي طالب: يا بن رسول الله، لِمَ داهنت معاوية وصالحته وقد علمتَ أنَّ الحقَّ لك دونه وأنَّ معاوية ضالٍّ باغٍ؟ فقال: «يا أبا سعيد، ألستُ حجَّة الله تعالىٰ ذكره علىٰ خلقه وإماماً عليهم [بعد] أبي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ؟»، قلت: بلىٰ، قال: «ألستُ الذي قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لي ولأخي: الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا؟»، قلت: بلىٰ، قال: «فأنا إذن إمام لو قمت وأنا إمام إذ لو قعدت، يا أبا سعيد، علَّة مصالحتي لمعاوية علَّة مصالحة رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لبني ضمرة وبني أشجع ولأهل مكَّة حين انصرف من الحديبية، أُولئك كفّار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفّار بالتأويل، يا أبا سعيد، إذا كنت إماماً من قِبَل الله تعالىٰ ذكره لم يجب أنْ يُسفَّه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة وإنْ كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبساً، ألَا ترىٰ الخضر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لمَّا خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسىٰ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فعله لاشتباه وجه الحكمة عليه حتَّىٰ أخبره فرضىٰ؟ هكذا أنا، سخطتم عليَّ بجهلكم بوجه الحكمة فيه، ولولا ما أتيت لما تُرِكَ من شيعتنا علىٰ وجه الأرض أحد إلَّا قُتِلَ».

ُفهَم منها أنَّ الله تعالىٰ يريد لعباده المخطئين أو يؤوبوا ما دامت الفرصة سانحة في هذه الحياة، وهو يخالف ما وُصِفَ به الإمام المهدي عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ بأنَّه كجدِّه رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ رحمة للعالمين(1)

والنتيجة من كلِّ هذا:

أنَّه لا بدَّ من ملاحظة صورة الدِّين كاملة، سواءً في دراسة الدِّين، أو في التعامل الشخصي مع الدِّين، أو في محاولة تقديم الدِّين إلىٰ الآخر، وعلىٰ الأقلّ عند تقديم صورة منه فلا بدَّ من التنبيه علىٰ أنَّها لا تُمثِّل الدِّين كلَّه، وإنَّما هي صورة من مجموعة صور له، وهي حلقة من دائرة أوسع.

فالدِّين ليس مجرَّد فكر أو أُصول أو فقه أو أخلاق أواجتماع أو...، إنَّما هو مجموع كلِّ هذه الأُمور, وعدم فهم هذه الحقيقة يُولِّد خطأً منهجياً في التعامل مع الدِّين.

* * *

ص: 36


1- جاء في كتاب الإمامة والتبصرة لابن بابويه القمّي (ص 105/ باب ذكر حديث اللوح) في سياق الحديث عنه عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ: «... ثمّ أكمل ذلك بابنه، رحمةً للعالمين، عليه كمال موسىٰ، وبهاء عيسىٰ وصبر أيّوب». وورد أيضاً في عيون أخبار الرضا عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ للشيخ الصدوق (ج 2/ ص 50).

(35)تراتبية السلوك الأقوم

اشارة

لا شكَّ أنَّ المؤمن يسعىٰ إلىٰ أنْ يكون الأفضل من خلال الطُّرُق التي رسمها الله تبارك وتعالىٰ للتفاضل، وبمطالعة النصوص التي منهجت خطَّ التكامل الوجودي، ومراجعة السلوك العامِّ لأئمَّة أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ، يمكن أنْ نقول التالي:

أنت، وحتَّىٰ تصل إلىٰ هدفك الكمالي الوجودي، بطريقة منهجية متكاملة، تكسب فيها رضا الله تعالىٰ من جهة، وقلوب الناس من جهة أُخرىٰ، الأمر الذي يُحقِّق النجاح في الحياة والفلاح في الآخرة، فعليك أنْ تلتزم ثلاثة أُمور مهمَّة استفيدت من النصوص، وهي تُمثِّل خطوطاً عامَّة يلزم من يدَّعي التشيُّع أنْ يلتزمها في حياته، وهي:

الأمر الأوَّل: النيَّة الصالحة:

بأنْ يعقد المؤمن قلبه علىٰ أنْ يكون من أهل الخير دوماً، وعلىٰ جميع المستويات - الفردية والجماعية، الشهودية والغيبية -، وبذلك ستتمُّ ترجمة العقل بصورة تُؤدّي إلىٰ توجيه بوصلة السلوك الإنساني باتِّجاه الخير فقط، بحيث يصل إلىٰ مرحلة ينعدم معها فعل الخطأ (والمعصية)، بل قد يصل إلىٰ مرحلة (عدمالتفكير بفعلها أبداً).

وهذا الأمر هو ما أشارت له الكثير من الروايات الشريفة، نذكر

ص: 37

منها علىٰ سبيل المثال ما روي عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «ولا بدَّ للعبد من خالص النيَّة في كلِّ حركة وسكون، لأنَّه إذا لم يكن هذا المعنىٰ يكون غافلاً، والغافلون قد وصفهم الله تعالىٰ فقال: ]إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً 44[ [الفرقان: 44]، وقال: ]وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ 108[ [النحل: 108]»(1)

وفي وصيَّة الإمام الكاظم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لهشام بن الحكم: «وكما لا يقوم الجسد إلَّا بالنفس الحيَّة، فكذلك لا يقوم الدِّين إلَّا بالنيَّة الصادقة، ولا تثبت النيَّة الصادقة إلَّا بالعقل»(2)

الأمر الثاني: السلوك الحسن:

بمعنىٰ أنَّه وبعد تقييد النيَّة الداخلية بالصالح منها، يأتي دور تفعيل تلك النيَّة (أو قل: الدوافع الداخلية) علىٰ أرض الواقع، بأنْ يكون فعل الإنسان موافقاً للشريعة، وأنْ لا يخرج عن ذلك ما أُوتي إليه سبيلاً، ولذلك ترىٰ أنَّ النصوص التربوية والولائية قد حدَّدت شيعة أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ بمن يكون سلوكه إسلاميًّا محضاً، ومن ذلك ما روي عن أبي جعفر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: «لا تذهب بكم المذاهب، فوَالله ما شيعتنا إلَّا من أطاع الله عزّ وَجل»(3)

وعن عمرو بن سعيد بن هلال الثقفي، عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: قلت له: إنّي لا ألقاك إلَّا في السنين، فأخبرني بشيء آخذ به، فقال:

ص: 38


1- مستدرك الوسائل للميرزا النوري (ج 1/ ص 99/ ح 86/3)، عن مصباح الشريعة.
2- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 396).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 73/ باب الطاعة والتقوىٰ/ ح 1).

«أُوصيك بتقوىٰ الله و الورع والاجتهاد، واعلم أنَّه لا ينفع اجتهاد لا ورع فيه»(1)

وهذان الأمران واضحان، والأمر الذي نريد تسليط الضوء عليه أكثر هو:

الأمر الثالث: فنُّ إدارة السلوك

الأمر الثالث: فنُّ إدارة السلوك(2)):

وحتَّىٰ تتَّضح الفكرة نذكر التالي:

عادةً، يمكن تفسير الأفعال الفيزيائية التي تصدر من الإنسان بعدَّة تفسيرات فيما يتعلَّق بالمبادئ التي كانت وراء صدورها، فإذا صلّىٰ الإنسان مثلاً أمام الناس بصوت واضح، يمكن أنْ يُفسِّر البعض هذا التصرُّف منه بأنَّه رياء، ولكن يمكن أنْ يُفسِّره الآخر بأنَّه بنيَّة تعليم جاهل إلىٰ جنبه مثلاً.

عندما يلبس أحدهم ملابس رثَّة، قد يُفسِّره البعض بأنَّه بخل، وقد يُفسِّره البعض بأنَّه زهد في الدنيا أو مواساة للفقراء.

وعندما تذهب إلىٰ بيت أرملة لتُعطيها مبلغاً من المال، قد يُفسِّره البعض بنيَّة سوء، وقد يُفسِّره البعض بنيَّة الامتثال لأوامر أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ بمراعاة الأيتام والمحتاجين.وهكذا، فكلُّ فعل يصدر من الإنسان فله وجهان، ويمكن أنْ يُفسَّر بالإيجاب، كما يمكن أنْ يُفسَّر بالسلب.

والسرُّ وراء هذا الأمر: أنَّ الفعل عندما يصدر فإنَّه يتَّكئ علىٰ

ص: 39


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 76/ باب الورع/ ح 1).
2- اصطلاح استعمله الأُستاذ السيِّد جعفر الحكيم (أدامه الله تعالىٰ) في المعنىٰ المقصود هنا.

العديد من المبادئ، أو قل: الدوافع الداخلية التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجرَّدة، وبالتالي يبقىٰ باب الاحتمالات مفتوحاً للآخر في أنْ يُفسِّر الفعل بما يراه هو.

فكلُّ فعل إذن يحمل وجهين في داخله، وجهاً إيجابياً، وآخر سلبياً، واحتمال كونه صادراً عن أحدهما لا ينفي احتمال صدوره عن الآخر.

إذا اتَّضح هذا فنقول:

إنَّ أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ لا يريدون منّا أنْ نعمل الأعمال الصالحة فحسب، بل يريدون منّا أنْ نصوغ سلوكنا بحيث لا يُفهَم منه دوماً وأبداً إلَّا الوجه الإيجابي، وبحيث يندفع عنه الوجه السلبي تماماً، الأمر الذي أشارت له بعض الروايات الشريفة إشارة لطيفة جدًّا، بالتعبير بالتالي: «إنَّ الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدّىٰ الأمانة وحسَّن خُلُقه مع الناس قيل: هذا جعفري، فيسرُّني ذلك ويدخل عليَّ منه السرور، وقيل: هذا أدب جعفر»(1)

ص: 40


1- في الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 636/ باب ما يجب من المعاشرة/ ح 5): عن أبي أُسامة زيد الشحّام، قال: قال لي أبو عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «اقرأ علىٰ من ترىٰ أنَّه يُطيعني منهم ويأخذ بقولي السلام، وأُوصيكم بتقوىٰ الله عزّ وَجل والورع في دينكم والاجتهاد لله وصدق الحديث وأداء الأمانة وطول السجود وحسن الجوار، فبهذا جاء محمّد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، أدُّوا الأمانة إلىٰ من ائتمنكم عليها بِرًّا أو فاجراً، فإنَّ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صِلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدُّوا حقوقهم، فإنَّ الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدّىٰ الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا جعفري، فيسرُّني ذلك ويدخل عليَّ منه السرور، وقيل: هذا أدب جعفر، وإذا كان علىٰ غير ذلك دخل عليَّ بلاؤه وعاره، وقيل: هذا أدب جعفر، فوَالله لحدَّثني أبي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّ الرجل كان يكون في القبيلة من شيعه عليٍّ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فيكون زينها، آداهم للأمانة، وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، تسأل العشيرة عنه فتقول: من مثل فلان، إنَّه لآدانا للأمانة، وأصدقنا للحديث».

وحتَّىٰ تصل إلىٰ هذه المرتبة المتكاملة من السلوك، المرتبة التي لا يُفهَم معها إلَّا الوجه الإيجابي من سلوكك، بحيث لا يتَّهمك أحد في أيِّ فعل يصدر منك، عليك أنْ تلتزم التالي:

أوَّلاً: التزام السلوك الرفيع دوماً وأبداً.

فعن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير، فإنَّ ذلك داعية»(1)

وعن أبي الحسن الأوَّل عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: «كثيراً ما كنت أسمع أبي يقول: ليس من شيعتنا من لا تتحدَّث المخدَّرات بورعه في خدورهنَّ، وليس من أوليائنا من هو في قرية فيها عشرة آلاف رجل فيهم خلق لله(2)) أورع منه»(3)

ثانياً: الابتعاد عمَّا لا يتناسب مع الآخرة ومع القِيَم والمُثُل،أي الابتعاد عن السلوكيات التي تتناسب عكساً مع ذلك، وبعبارة أوضح: الابتعاد عن الأفعال التي يكون الوجه السلبي فيها أوضح من الوجه الإيجابي، كالتعلُّق بالأموال، وبالجنس، وبالسلطة، وما شابه.

فعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «إيّاك وكثرة الوله بالنساء، والإغراء باللذّات، فإنَّ الواله بالنساء ممتحن، والغري [أي الولع] باللذّات ممتهن»(4)

وعن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «إيّاكم وأبواب السلطان وحواشيها، فإنَّ

ص: 41


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 78/ باب الورع/ ح 14).
2- وفي نسخة: (فيهم من خلق الله...).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 79/ باب الورع/ ح 15).
4- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 99).

أقربكم من أبواب السلطان وحواشيها أبعدكم من الله تعالىٰ، ومن آثر السلطان علىٰ الله تعالىٰ أذهب الله عنه الورع وجعله حيراناً»(1)

ثالثاً: الابتعاد عن مواقع التهمة، كالدخول في أماكن الفساد، أو مرافقة الطالحين، أو السفر إلىٰ البلدان التي يكثر فيها الفساد، فإنَّ «من وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومنَّ من أساء به الظنَّ»(2)

وعن أبي عبد الله الصادق جعفر بن محمّد عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «من دخل موضعاً من مواضع التهمة فاتُّهِمَ، فلا يلومنَّ إلَّا نفسه»(3)

وعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «وإيّاك ومواطن التهمة والمجلسالمظنون به السوء، فإنَّ قرين السوء يغرُّ جليسه»(4)

وعن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «أولىٰ الناس بالتهمة من جالس أهل التهمة»(5)

وعن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «اتَّقوا مواضع الريب، ولا يقفنَّ أحدكم مع أُمِّه في الطريق، فإنَّه ليس كلُّ أحد يعرفها»(6)

هذا وقد استطاع أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ أنْ يُحقِّقوا هذه المرتبة من (فنِّ إدارة السلوك)، وعلىٰ مستوىٰ عالٍ جدًّا، إلىٰ الحدِّ الذي لم يستطع أعداؤهم إلَّا أنْ يمدحوهم، وإلَّا أنْ يذكروا فضائلهم، وما استطاعوا أنْ يجدوا مثلبة واحدة عليهم، ولا أنْ يُفسِّروا تصرُّفاتهم إلَّا بما هو

ص: 42


1- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (ص 260).
2- نهج البلاغة (ج 4/ ص 41).
3- أمالي الشيخ الصدوق (ص 586 و587/ ح 808/5).
4- أمالي الشيخ الطوسي (ص 7).
5- معاني الأخبار للشيخ الصدوق (ص 196).
6- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 72/ ص 91).

الحسن، اللّهمّ إلَّا قولة (عمرو بن العاص) في أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بأنَّ فيه دعابة!

وهل هذه مثلبة؟! بل ما هذه إلَّا منقبة عظيمة، وانظر إلىٰ أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ كيف صاغ هذه القولة وكيف ردَّ عليه حينما قال عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «عجباً لابن النابغة(1))، يزعم لأهل الشام أنَّ فيَّ دعابة، وإنّي امرؤ تلعابة(2))، أُعافس وأُمارس(3))، لقد قال باطلاً ونطق آثماً. أمَا وشرُّ القول الكذب، إنَّه ليقول فيكذب، ويعد فيخلف، ويَسألفيلحف(4))، ويُسئَل فيبخل، ويخون العهد، ويقطع الإل(5))، فإذا كان عند الحرب فأيُّ زاجر وآمر هو، ما لم تأخذ السيوف مآخذها(6))، فإذا كان ذلك كان أكبر أنْ يمنح القرم سبَّته(7))، أمَا والله إنّي ليمنعني من اللعب ذكر الموت، وإنَّه ليمنعه من قول الحقِّ نسيان الآخرة، إنَّه لم يبايع معاوية حتَّىٰ شرط له أنْ يُؤتيه أتيَّة ويرضخ له علىٰ ترك الدِّين رضيخة(8)(9)

ص: 43


1- النابغة المشهورة فيما لا يليق بالنساء، من نبغ إذا ظهر.
2- الدعابة - بالضمِّ -: المزاح واللعب؛ وتلعابة - بالكسر -: كثير اللعب.
3- أُعافس أُعالج الناس وأُضاربهم مزاحاً، ويقال: المعافسة معالجة النساء بالمغازلة، والممارسة كالمعافسة.
4- فيلحف أي يلحُّ؛ ويسأل هاهنا مبنيٌّ للفاعل؛ ويسأل في الجملة بعدها للمفعول.
5- الإل - بالكسر -: القرابة، والمراد أنَّه يقطع الرحم.
6- أي إنَّه في الحرب زاجر وآمر عظيم أي محرِّض حاثٍّ ما لم تأخذ السيوف مأخذها، فعند ذلك يجبن، كما قال: فإذا كان ذلك... الخ.
7- السبة - بالضمِّ - الأُست، تقريع له بفعلته عندما نازل أمير المؤمنين في واقعة صفّين، فصال عليه وكاد يضرب عنقه، فكشف عورته، فالتفت أمير المؤمنين عنه وتركه.
8- الآتية: العطيَّة؛ ورضخ له أعطاه قليلاً؛ والمراد بالآتية والرضيخة ولاية مصر.
9- نهج البلاغة (ج 1/ ص 147 و148).

وقال عنه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ صعصعة بن صوحان وغيره من شيعته وأصحابه: كان فينا كأحدنا، لين جانب، وشدَّة تواضع، وسهولة قياد، وكنّا نهابه مهابة الأسير المربوط للسيّاف الواقف علىٰ رأسه.

وقال معاوية لقيس بن سعد: رحم الله أبا حسن، فلقد كان هشًّا بشًّا، ذا فكاهة، قال قيس: نعم، كان رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يمزح ويبتسم إلىٰ أصحابه، وأراك تُسِرُّ حسواً في ارتغاء(1))، وتعيبهبذلك! أمَا والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسَّه الطوىٰ، تلك هيبة التقوىٰ، وليس كما يهابك طغام أهل الشام(2))!

* * *

ص: 44


1- في المثل: (هو يسر حسوا في ارتغاء)، يُضرَب لمن يُظهِر أمراً وهو يريد غيره. (لسان العرب: ج 19/ ص 46). (من هامش المصدر).
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج 1/ ص 25).

(36)القدوة الصالحة و الأسوة الحسنة

لا شكَّ أنَّ أسمىٰ هدف للقرآن الكريم وللدِّين القويم، هو بناء وتكامل الإنسان إلىٰ أعلىٰ حدٍّ ممكن له، وفي سبيل ذلك جعل الدِّين العديد من العوامل التي تساعد الإنسان علىٰ بلوغ أعلىٰ درجة من التكامل، منها: أنَّه جعل له عقلاً يُميِّز الحسن من القبيح، وأبقىٰ له دستوراً ثابتاً يعالج جميع مشاكل ومستحدثات الحياة، متمثِّلاً ذلك الدستور بالثقلين: كتاب الله تبارك وتعالىٰ، وعترة النبيِّ الأكرم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.

هذا أوَّلاً.

وثانياً: أنَّ من طبيعة الإنسان أنَّه يتأثَّر بمن يعتبرهم القدوة له، في أيِّ جانب من جوانب الحياة، وهذا أمر نجده فطرياً عند الأطفال، حيث نجدهم يحاولون تقليد آبائهم في كلِّ ما يصدر منهم، ربَّما ليتقرَّبوا منهم، وربَّما لأنَّهم يعتبرون آباءهم النموذج الأروع في حياتهم، وربَّما لأنَّ طبيعة الإنسان تدعوهم إلىٰ ذلك. علىٰ كلِّ حالٍ، فإنَّ هذا أمر نجده طبيعياً جدًّا، وهو في الحقيقة من أساليب التربية العملية المهمَّة.

إنَّ الحاجة إلىٰ القدوة الحسنة أمر وجداني، يجده الإنسان فيقرارة نفسه، وليس هذا خاصًّا بالمسائل الروحية فقط، بل هو حتَّىٰ في المسائل المادّية كما هو واضح عند أدنىٰ تأمُّل، ولكن الحاجة إلىٰ القدوة والأُسوة

ص: 45

في المسائل الأخلاقية والروحية تكون أشدّ وآكد، لأنَّ غالبية المسائل الأخلاقية تكون مخالفة للأهواء والشهوات النفسانية، وتكثر فيها الشطحات والأخطاء، فتحتاج والحال هذه إلىٰ قدوة حسنة، يرسم لنا الطريق الصحيح للأخلاق الحسنة.

وفي هذا المجال، يُعطينا القرآن الكريم القدوة الحسنة، متمثِّلة بأفضل أهل الأرض، وهم الأنبياء والمرسَلون، وعلىٰ رأسهم بنبيِّ الأخلاق الأعظم محمّد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.

قال تعالىٰ: ]لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً 21[ (الأحزاب: 21).

وقال تعالىٰ: ]قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ[ (الممتحنة: 4).

وفي ضمن كلامه جلَّ وعلا عن بعض الأنبياء والمرسَلين، يقول جلَّ وعلا: ]أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَىٰ اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرىٰ لِلْعالَمِينَ 90[ (الأنعام: 90).

إنَّ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ هو قدوة لنا ولجميع طبقات المجتمعات الإنسانية، وعلىٰ اختلاف مستوياتها، وفي جميع جوانب الحياة، وأحاديثه وأفعاله زاخرة بالقوانين الأخلاقية.

فمن جانب العبادة كان أعبد الناس، فقد روي عن الإمام الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «كان رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ عند عائشة ليلتها، فقالت: يارسول الله لِمَ تُتعِب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ فقال: يا عائشة، ألَا أكون عبداً شكوراً؟».

قال: «وكان سول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يقوم علىٰ أطراف أصابع رجليه،

ص: 46

فأنزل الله سبحانه وتعالىٰ: ]طه 1 ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقىٰ 2[ [طه: 1 و2]»(1)

ومع هذا لم يكن ليترك الدنيا مطلقاً، بل كان يأكل ويشرب ويُحِبُّ الطيب ويقارب النساء، والأحاديث في ذلك كثيرة مشهورة، وكان صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أشدّ الناس حياءً، فقد كان أحيىٰ من العذراء في خدرها، وكان صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لا يُسئَل شيئاً إلَّا أعطاه، وكان صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ متواضعاً بحيث كان يأكل أكل العبد، ويجلس جلسة العبد، وكان يأكل علىٰ الحضيض، وينام علىٰ الحضيض، وكان صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يحلب المعز بيده، ويلبس الصوف، ويُسلِّم علىٰ الصبيان (لتكون سُنَّة من بعده)، وكان إلىٰ جانب ذلك أشجع الناس، قال أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «لقد رأيتُني يوم بدر، ونحن نلوذ بالنبيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، وهو أقربنا إلىٰ العدوِّ، وكان من أشدّ الناس يومئذٍ بأساً»(2))، وقالعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «كنّا إذا احمرَّ البأس ولقي القومُ القومَ، اتَّقينا برسول الله، فما يكون أحد أقرب إلىٰ العدوِّ منه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ»(3)

وكان صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ خير الناس بأهله، وأرحمَهم بهم.

إنَّ الكلام عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وصفاته لا ينتهي، والقلم يقف عاجزاً خجلاً من التقصير بحقِّ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، ويكلُّ وييأس من بلوغ حقيقة صفاته صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ عندما يسمع القرآن الكريم ملعلعاً علىٰ الدهرويقول: ]وَإِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ 4[ (القلم: 4).

وليكن معلوماً: أنَّه كما أنَّ القدوة الحسنة تدفع بالمقتدي بها نحو الفضائل، كذلك إذا كانت القدوة سيِّئة، فإنَّها تسحب الفرد إلىٰ الرذائل.

ص: 47


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 95/ باب الشكر/ ح 6).
2- مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي (ص 18).
3- المصدر السابق.

وهذا يعني التالي:

أوَّلاً: أنَّ أهمّية مسألة اختيار القدوة والأُسوة تقتضي أنْ يكون البحث دقيقاً عمَّن يُراد الاقتداء به، فلا يخدعنَّ الفرد نفسه.

ثانياً: علينا أنْ نكون عوناً لأولادنا في اختيارهم للقدوة الحسنة، الأمر الذي يبدأ بنا نحن، بمعنىٰ أنْ نعمل علىٰ أنْ نكون نِعْمَ القدوة لهم، لأنَّنا أقرب الناس إليهم.

ثالثاً: أنَّ الفرد إذا تسنَّم منصباً اجتماعياً معيَّناً، فإنَّه في الوقت الذي يعتبره تشريفاً له، هو يُلقي عليه مسؤولية عظيمة بأنْ يكون علىٰ قدرها، ولذلك كان علىٰ نساء النبيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مسؤولية عظيمة، لاقترابهنَّ من رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، قال تعالىٰ: ]يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَىٰ اللهِ يَسِيراً 30 وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً 31[ (الأحزاب: 30 و31).

ومن هنا، فقد افترض الأئمَّة عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ علىٰ شيعتهم أنْ يكونوا الأفضل في كلِّ شيء، وأنْ يكونوا قدوات لغيرهم، خصوصاً من أبناء المذاهب الأُخرىٰ، حتَّىٰ ينقلوا صورة مشرفة عن علاقتهم بأهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ، وهي مسؤولية عظيمة ملقاة علىٰ عاتق كلِّ من يدَّعي التشيُّع لهم عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ.

روي أنَّه قال الشقران مولىٰ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: خرج العطاء أيّام أبي جعفر وما لي شفيع، فبقيت علىٰ الباب متحيِّراً، وإذا أنا بجعفر الصادق، فقمت إليه، فقلت له: جعلني الله فداك، أنا مولاك الشقران، فرحَّب بي وذكرت له حاجتي، فنزل ودخل وخرج وأعطاني من كُمِّه فصبَّه في كُمّي، ثمّ قال: «يا شقران، إنَّ الحسن من كلِّ أحد حسن، وإنَّه منك

ص: 48

أحسن، لمكانك منّا، وإنَّ القبيح من كلِّ أحد قبيح، وإنَّه منك أقبح»، وعظه علىٰ جهة التعريض لأنَّه كان يشرب(1)

وعن أبي أُسامة زيد الشحّام، قال: قال لي أبو عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «اقرأ علىٰ من ترىٰ أنَّه يُطيعني منهم ويأخذ بقولي السلام، وأُوصيكم بتقوىٰ الله عزّ وَجل والورع في دينكم والاجتهاد لله وصدق الحديث وأداء الأمانة وطول السجود وحسن الجوار، فبهذا جاء محمّد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، أدُّوا الأمانة إلىٰ من ائتمنكم عليها بِرًّا أو فاجراً، فإنَّ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ كان يأمر بأداء الخيط والمِخْيط، صِلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدُّوا حقوقهم، فإنَّ الرجل منكم إذا ورع في دينه وصَدَق الحديث وأدّىٰ الأمانة وحسَّن خُلُقَه مع الناس قيل: هذا جعفري، فيسرُّني ذلك ويدخلُ عليَّ منه السرور، وقيل: هذا أدب جعفر، وإذا كان علىٰ غير ذلك دخل عليَّ بلاؤه وعارُه، وقيل: هذا أدب جعفر، فوَالله لحدَّثني أبي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: إنَّ الرجل كان يكون في القبيلة من شيعه عليٍّ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، فيكون زَينَها، آداهم للأمانة، وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث، إليه وصاياهموودائعُهم، تسأل العشيرةَ عنه فتقول: مَنْ مثلُ فلان، إنَّه لآدانا للأمانة وأصدقنا للحديث»(2)

ص: 49


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 3/ ص 362).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 636/ باب ما يجب من المعاشرة/ ح 5).

* * *

(37)عدم هجران القرآن الكريم

هناك صورة ملفتة للنظر، يحكيها لنا القرآن الكريم معجَّلاً عن حادثة تقع يوم القيامة، خلاصتها التالي:

في مشهد مهول، حيث قاعة محكمة عظيمة، القاضي فيها حَكَمٌ عَدْل، وهو شاهد علىٰ كلِّ القضايا، فلا يحتاج إلىٰ شهودِ إثبات، وإنْ كان عنده من الشهود ممَّن وَثَّقوا الحقائق، وممَّن لا يكذبون ولا يُكذَّبون، فلا تُتاح الفرصة لمتَّهم أنْ يُنكِر، في تلك القاعة، حيث يجتمع الأوَّلون والآخرون، يقوم من بين الحضور، رجلٌ عظيم القدر، بل هو أعظم مَنْ خَلَقَ الله تعالىٰ، يقوم الرسول الأكرم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، ليشكو إلىٰ الله تعالىٰ صادحاً: ]وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً 30[ (الفرقان: 30).

إنَّها شكوىٰ بسبب أُناس هجروا القرآن الكريم، ولم يتعاهدوه، ولم يتواصلوا معه. سواء علىٰ مستوىٰ القراءة، أو الالتزام بأحكامه، أو السير علىٰ هَدْيه، وهكذا.

وإنَّما نقل الله تعالىٰ لنا تلك الصورة معجَّلاً هنا، لطفاً بنا، ليلفت أنظارنا إلىٰ ضرورة تدارك هذا الأمر قبل فوات الأوان.

وحتَّىٰ لا نكون ممَّن هجر القرآن، علينا أنْ نلتفت إلىٰالتالي:

أوَّلاً: أنَّ الروايات تُؤكِّد علىٰ أنَّ من حقِّ القرآن الكريم علىٰ

ص: 50

المسلمين، أنْ يتعاهدوه بالقراءة اليومية، بل هذا من الأُمور التي أُخِذَت علىٰ المؤمن أنْ يلتزمها يومياً، فقد روي عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «القرآن عهد الله إلىٰ خلقه، فقد ينبغي للمرء المسلم أنْ ينظر في عهده وأنْ يقرأ منه في كلِّ يوم خمسين آية»(1)

وعنه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: «ما يمنع التاجر منكم المشغول في سوقه إذا رجع إلىٰ منزله أنْ لا ينام حتَّىٰ يقرأ سورة من القرآن، فتُكتَب له مكان كلِّ آية يقرؤها عشر حسنات، ويُمحىٰ عنه عشر سيِّئات»(2)

إنَّ قراءة القرآن الكريم في الوقت الذي تُؤدّي إلىٰ تحصيل الثواب العظيم الذي تذكره الروايات الشريفة، هي تفتح النفس علىٰ آفاق روحية عظيمة، فإنَّ في هذا القرآن الكريم الكثير من سلالم الكمال الإنساني، والتي تنفتح للقلب عندما يأنس بآيات ذلك الكتاب الكريم، يقول تعالىٰ: ]قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ 15 يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَىٰ النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلىٰ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 16[ (المائدة: 15 و16).

ويقول تعالىٰ: ]إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَالَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً 9[ (الإسراء: 9).

ثانياً: أنْ يجعل المؤمن في همِّه أنْ يتعلَّم القرآن الكريم، قراءةً، وتفسيراً لمعانيه، وعملاً بأحكامه وتشريعاته. فقد روي عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «ينبغي للمؤمن أنْ لا يموت حتَّىٰ يتعلَّم القرآن أو يكون في تعليمه»(3)

ص: 51


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 609/ باب في قراءته/ ح 1).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 611/ باب ثواب قراءة القرآن/ ح 2).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 607/ باب من يتعلَّم القرآن بمشقَّة/ ح 3).

وروي عن النبيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنَّه قال: «ما من مؤمن ذَكَر ولا أُنثىٰ حُرٍّ ولا مملوك إلَّا ولله عزّ وَجل عليه حقٌّ أنْ يتعلَّم من القرآن ويتفقَّه في دينه»، ثمّ تلا هذه الآية: ]وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ 79[ [آل عمران: 79](1)

وينبغي للمؤمن أنْ يُجهِد نفسه في تعلُّم القرآن منذ نعومة أظفاره، ليختلط بلحمه ودمه، وليثبت كأشدّ ما يكون الثبات، وقد روي أنَّ من قرأ القرآن قبل أنْ يحتلم فقد أُوتي الحكم صبياً(2)

ثالثاً: الاستبصار بهدي القرآن الكريم في المواقف الحرجة، والتي يحتار فيها اللُّب، ويرتبك العقل، فإنَّ في آياته الكريمة الكثير من القواعد الاجتماعية والنفسية التي تنفع الإنسان في إصلاح سلوكه، وفي العمل علىٰ مواجهة المشاكل الحياتية، وعلىٰ الصبر علىٰ نوائب الحياة.

يقول النبيُّ الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ في بيان هديه العامّ: «أيُّها الناس، إنَّكم في دار هدنة، وأنتم علىٰ ظهر سفر، والسير بكم سريع، وقد رأيتمالليل والنهار والشمس والقمر يبليان كلَّ جديد ويُقرِّبان كلَّ بعيد ويأتيان بكلِّ موعود، فأعدُّوا الجهاز لبعد المجاز»، قال: فقام المقداد بن لأسود الكندي فقال: يا رسول الله، وما دار الهدنة؟ فقال: «دار بلاغ وانقطاع، فإذا التبست عليكم الأُمور كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فإنَّه شافع مشفَّع وماحل مصدَّق، من جعله أمامه قاده إلىٰ الجنَّة، ومن جعله خلفه ساقه إلىٰ النار»(3)

ص: 52


1- تفسير القرطبي (ج 4/ ص 122 و123).
2- شُعَب الإيمان للبيهقي (ج 2/ ص 330/ ح 1949).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 598 و599/ باب في تمثُّل القرآن وشفاعته لأهله/ ح 2).

فإذا ضاقت عليك الدنيا، فتذكَّر قوله تعالىٰ: ]وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ 155 الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 156 أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ 157[ (البقرة: 155 - 157).

وإذا أتتك الدنيا، وحصلت علىٰ سلطان منها، فعليك أنْ تتذكَّر قوله تعالىٰ: ]تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ 83[ (القَصص: 83).

وإذا صرت غنيًّا بأسرع من لمح البصر، وكان عندك من أموالها الشيء الكثير، فعليك أنْ تتذكَّر قوله تعالىٰ: ]وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ 77[ (القَصص: 77).

وإذا رأيت من نفسك ثِقلاً من وجود والديك في حياتك، أوأحسست بتثاقل في رعايتهما أو تحمُّلها، فافتح القرآن الكريم وطالع بتأمُّل قوله تعالىٰ: ]وَقَضىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً 23 وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً 24[ (الإسراء: 23 و24).

وإذا كنت وليًّا علىٰ يتيم، أو كان تحت عهدتك يتيمة، فضع نُصْبَ عينيك - ما كانوا معك - قوله تعالىٰ: ]وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً 34[ (الإسراء: 34)، وكذلك قوله تعالىٰ: ]فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ 9[ (الضحىٰ: 9).

ص: 53

وإذا جلست مع أصدقائك جلسة سمر، وحلىٰ الحديث، واسترسلت الألفاظ تجري علىٰ الألسنة، فلا بدَّ أنْ لا تتجاوز الحدود التي رسمها الباري جلَّ وعلا بقوله عزَّ من قائل: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 11 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ 12[ (الحجرات: 11 و12).

وأخيراً، إذا عملتَ عملاً صالحاً، ولم تجد من يمدحك عليه، أو لم تحصل علىٰ أجرك فيه، فاعلم أنَّ الأجر عند الله تعالىٰ لا يضيع إذا كان العمل خالصاً لوجهه الكريم، وحيث إنَّ الناس لايستطيعون أنْ يجازونا بأعمالنا، بل هم مثلُنا، محتاجون إلىٰ الله تعالىٰ في الحصول علىٰ الأجر والثواب، إذن، لماذا لا أتوجَّه إليه جلَّ وعلا هو لا غير، وأنْ أجعل أمامي دوماً وأبداً قوله تعالىٰ: ]وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرىٰ لِلذَّاكِرِينَ 114 وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ 115[ (هود: 114 و115).

وقوله تعالىٰ: ]ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ 120[ (التوبة: 120).

* * *

ص: 54

(38)الإغراء الوهمي

اشارة

بمطالعة سريعة في النصوص الدِّينية التي جاءت في مدح شيعة أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ، نجد أنَّ النفس ترتاح وتنشرح لما وعده الله تعالىٰ من ثواب عظيم مترتِّب علىٰ اتِّباع أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ قولاً وعملاً.

ومن ذلك ما ورد عن الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «اتَّقوا الله معاشر الشيعة فإنَّ الجنَّة لن تفوتكم وإنْ أبطأت بها عنكم قبائح أعمالكم فتنافسوا في درجاتها»(1)

وعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: «شكوت إلىٰ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ حسد الناس إيّاي، فقال: يا عليُّ، إنَّ أوَّل أربعين يدخلون الجنَّة: أنا وأنت والحسن والحسين، وذرّيتنا خلف ظهورنا، وأحبّاؤنا خلف ذرّيتنا، وأشياعنا عن أيماننا وشمائلنا»(2)

ولكن هنا تنبيه مهمٌّ:

فإنَّه قد يتوهَّم البعض أنَّ أمثال هذه الأحاديث تُؤدّي إلىٰ تغرير الشيعة بمواقعة المعصية اعتماداً علىٰ تشيُّعهم لأهل البيتعَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ، وبالتالي سيكون التشيُّع مدعاة لفعل المعصية ومخالفة القانون الإلهي!

ص: 55


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 8/ ص 352)؛ عن التفسير المنسوب إلىٰ الإمام العسكري عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ (ص 305 و306).
2- الإرشاد للشيخ المفيد (ج 1/ ص 43).

وطبعاً: هذا إشكال سيّال علىٰ كلِّ وعد للمطيع بالجنَّة.

والجواب أنْ يقال التالي:

إنَّ الإخبار بدخول المطيع الجنَّة يُفهَم علىٰ مستويين:

المستوىٰ الأوَّل:

أنَّ المطيع إنَّما يدخل الجنَّة بشرط أنْ يموت علىٰ الطاعة(1)) لا أنْ يفعل الطاعة فقط، وما دام يحتمل المطيع أنَّ عمله الصالح قد يُحبَط بعمل معصية ما قبيل موته، فلا تغرير في هذا الإخبار.

ومفاد هذا المستوىٰ هو ما عبَّرت عنه الأحاديث بالعيش بين الخوف والرجاء، وقد روي عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: قلت له: ما كان في وصيَّة لقمان؟ قال: «كان فيها الأعاجيب، وكان أعجب ما كان فيها أنْ قال لابنه: خف الله عزّ وَجل خيفة لو جئته ببِرِّ الثقلين لعذَّبك، وارج الله رجاء لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك»، ثمّ قالأبو عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «كان أبي يقول: إنَّه ليس من عبد مؤمن إلَّا [و]في قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء، لو وُزِّن هذا لم يزد علىٰ هذا، ولو وُزِّن هذا لم يزد علىٰ هذا»(2)

ص: 56


1- وهو ما عبَّر عنه القرآن الكريم بالمجيء بالحسنة لا بفعلها، قال تعالىٰ: ]مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ 89[ (النمل: 89). عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: قال أبو جعفر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: دخل أبو عبد الله الجدلي علىٰ أمير المؤمنين، فقال عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «يا أبا عبد الله، ألَا أُخبرك بقول الله عزّ وَجل: ]مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ 89 وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 90[ [النمل: 89 و90]؟»، قال: بلىٰ يا أمير المؤمنين، جُعلت فداك، فقال: «الحسنة معرفه الولاية وحبُّنا أهل البيت، والسيِّئة إنكار الولاية وبغضنا أهل البيت»، ثمّ قرأ عليه هذه الآية. (الكافي للشيخ الكليني: ج 1/ ص 185).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 67/ باب الخوف والرجاء/ ح 1).

المستوىٰ الثاني:

أنَّ الإخبار بدخول المطيع الجنَّة هو إخبار من نحو القضيَّة الخارجية، وهو لا يوجب الإغرار، أي إنَّ المقصود هو مخاطبة المطيع في الحقيقة والواقع والخارج، وليس كلُّ من عمل الطاعة انطبق عليه ذلك العنوان حقيقة في علم الله تعالىٰ، إذ المطيع لا يعلم أنَّه من أفراد المطيعين حقًّا أو لا، وهذا ما يدفعه نحو العمل الصالح مستمرًّا، خصوصاً مع وجود محبِطات العمل.

وهذا المعنىٰ هو ما عبر عنه الإمام الحسين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في دعاء عرفة: «إلهي إنَّ اختلاف تدبيرك وسرعة طواء مقاديرك منعا عبادك العارفين بك عن السكون إلىٰ عطاء واليأس منك في بلاء»(1)

ومن هذا لا بدَّ أنْ نفهم التالي:

أوَّلاً: أنَّ ورود النصوص الدِّينية التي تُبشِّر الشيعة بعظيم فضلهم هي جاءت من باب التشجيع لهم، ليتحمَّلوا من أجل مبدئهم كلَّ صعوبات الحياة، فهي بمثابة الحوافز والدوافع التي تُنشِّط الالتزام بالمبدأ رغم وعورته في هذه الحياة.

ثانياً: وهي في نفس الوقت تفرض مسؤولية عظيمة علىٰكلِّ من يدَّعي التشيُّع، بأنْ يكون علىٰ قدر تلك المنَّة الإلهيَّة، وأنْ يلتزم شكر المنعم، وأنْ يبتعد عن كلِّ ما يُغضبه ويُسخطه، فهي في الحقيقة إنذار لهم بأنْ يُعطوا التشيَّع حقَّه من الطاعة وهجر المعصية.

ثالثاً: والذي يُؤكِّد ضرورة الحذر في هذا المجال، هي النصوص الدِّينية الواردة عن أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ، والتي تُؤكِّد أنَّ التشيُّع طريق لطاعة

ص: 57


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 95/ ص 225).

الله تعالىٰ، ومن لا يلتزم هذا الطريق فهو ليس شيعياً في الواقع، فقد روي عن الإمام الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ من قوله لجابر:

«يا جابر، لا تذهبنَّ بك المذاهب، حسب الرجل أنْ يقول: أُحِبُّ عليًّا وأتولّاه ثمّ لا يكون مع ذلك فعّالاً، فلو قال: إنّي أُحِبُّ رسول الله، فرسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ خير من عليٍّ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، ثمّ لا يتَّبع سيرته ولا يعمل بسُنَّته، ما نفعه حبُّه إيّاه شيئاً، فاتَّقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحبُّ العباد إلىٰ الله عزّ وَجل [وأكرمهم عليه] أتقاهم وأعملهم بطاعته. يا جابر، والله ما يُتقرَّب إلىٰ الله تبارك وتعالىٰ إلَّا بالطاعة، وما معنا براءة من النار، ولا علىٰ الله لأحد من حجَّة، من كان لله مطيعاً فهو لنا وليٌّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوٌّ، وما تُنال ولايتنا إلَّا بالعمل والورع»(1)

* * *

ص: 58


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 74 و75/ باب الطاعة والتقوىٰ/ ح 3).

(39)التدافع بين المبادئ والمصالح

اشارة

هناك أمران جُبِلَ عليهما الإنسان:

الأمر الأوَّل: المبادئ:

تلك التي يُعبَّر عنها بالدِّين: أُصولاً وأحكاماً وأخلاقاً، فالإنسان فُطِرَ علىٰ حُبِّ التديُّن، أي الاعتقاد بوجود ربٍّ راعٍ للإنسان، فعن زرارة، عن أبي جعفر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: سألته عن قول الله عزّ وَجل: ]حُنَفاءَ لِلهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ[ [الحجّ: 31]، قال: «الحنيفية من الفطرة التي فطر الله الناس عليها»، ]لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ[ [الروم: 30]، قال: «فطرهم علىٰ المعرفة به»(1)

وهو أمر لا يختلف فيه اثنان، بمعنىٰ أنَّ الإنسان قد صُمِّم بطريقة داخلية تضطرُّه إلىٰ الاعتقاد بضرورة وجود إله خلقه ويرعاه في كلِّ لحظة، ذلك الاعتقاد الذي يتفجَّر الإحساس به عند الوقوع في شدَّة لا حلَّ لها، فقد روي أنَّه قال رجل للإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: يا ابن رسول الله، دلَّني علىٰ الله ما هو؟ فقد أكثر عليَّ المجادلون وحيَّروني. فقال له: «يا عبد الله، هل ركبت سفينةقطُّ؟»، قال: نعم، قال: «فهل كُسِرَ بك حيث لا سفينة تُنجيك ولا سباحة تُغنيك؟»، قال: نعم، قال: «فهل تعلَّق قلبك

ص: 59


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 12 و13/ باب فطرة الخلق علىٰ التوحيد/ ح 3).

هنالك أنَّ شيئاً من الأشياء قادر علىٰ أنْ يُخلِّصك من ورطتك؟»، فقال: نعم، قال الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «فذلك الشيء هو الله القادر علىٰ الانجاء حيث لا منجي، وعلىٰ الإغاثة حيث لا مغيث»(1)

وإذا رجعت إلىٰ القران الكريم، فإنَّك ستجده يشير، بل ويُصرِّح بهذه الحقيقة, ذلك عندما اعتبر أنَّ التديُّن هي (فطرة الله التي فطر الناس عليها)، حيث يقول تعالىٰ: ]فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 30[ (الروم: 30).

نعم، قد حصل في كثير من الأحيان خطأ في التطبيق، فاتُخِذَت الأصنام والشمس والقمر والبقر والفأر وغيرها أرباباً من دون الله تعالىٰ.

البعض اتَّخذ من الأعراف والتقاليد الاجتماعية مبادئ يلتزم بها، وهذا في حدِّ ذاته لا ضير فيه، إذ إنَّ الكثير من الأعراف الاجتماعية والتقاليد هي أُمور جيِّدة ولا تُعارض الدِّين، مثل التعاون والغيرة والحجاب واحترام الكبير وتعظيمه واحترام الجار.

ولكن ليس كلُّ الأعراف صحيحة، فإطلاق العيارات النارية قد يحرم، وإنْ كان عرفاً اجتماعياً اتَّخذه الجهلة، لكن لا ندري لأيَّة غاية! هل للحزن أو للفرح والأعراس أو للختان أو للقدوم منالحجِّ؟!

ومن الأعراف الخاطئة هو العرف السائد بإطعام الناس في الفواتح، والحال أنَّ السُّنَّة تقول بالعكس، فجعفر بن أبي طالب لمَّا استشهد أمر الرسول الأكرم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنْ يُصنَع لعياله طعام! واليوم نحن

ص: 60


1- التوحيد للشيخ الصدوق (ص 231).

نخالف هذه السُّنَّة! فقد روي أنَّه لمَّا جاء نعيُ جعفر بن أبي طالب قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لأهله: «اصنعوا طعاماً واحملوه إليهم ما كانوا في شغلهم ذلك، وكلوه معهم، فقد أتاهم ما يُشغِلهم عن أنْ يصنعوا لأنفسهم»(1)

ومن الأعراف الخاطئة هو العرف السائد بعدم كتابة الدَّين إلىٰ أجله، والحال أنَّنا لو كتبنا الديون إلىٰ أجلها لما حصلت الكثير من المشاكل أو علىٰ الأقلّ قلَّت وندرت.

ومن الأعراف الخاطئة اليوم أنَّ الشابَّ يضع علىٰ وجهه ما تضعه المرأة لزوجها!

والمرأة تلبس ما يلبسه الرجال لا بقصد التستُّر، وإنَّما بقصد الإثارة وإظهار الجمال!

أو التجاوز علىٰ الأملاك العامَّة، كمن يتجاوز متر أو مترين علىٰ شارع عامٍّ!

علىٰ كلِّ حالٍ، المبادئ وما يُسمّىٰ بالأعراف والتقاليد، هي أحد أمرين جُبِلَ عليهما الإنسان واضطرَّ إليهما.

الأمر الثاني: المصالح:

فالإنسان دائماً يسعىٰ نحو التميُّز والتأثير والنفوذ، فللإنسان مصالح معقَّدة ودائمة، وهو مستعدٌّ للقتال والدفاع والتضحية من أجل مصالحه.

وليس في هذا - في حدِّ نفسه - ضير، والإسلام كدين إنساني أقرَّ

ص: 61


1- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي (ج 1/ ص 239).

مبدأ مراعاة المصالح، ولذا روي عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: «سلوا الله الغنىٰ في الدنيا والعافية، وفي الآخرة المغفرة والجنَّة»(1)

وعنه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: «لا خير في من لا يُحِبُّ جمع المال من حلال يكفُّ به وجهه، ويقضي به دَينه، ويصل به رحمه»(2)

المبادئ والمصالح غير متناهية:

من الملاحظات الرئيسية في المبادئ والمصالح أنَّ كلًّا منهما غير متناهي.

فالمبادئ تتمثَّل في التقرُّب إلىٰ الله تعالىٰ، والتقرُّب إليه تعالىٰ لا نهاية له، يقول تعالىٰ: ]وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ 99[ (الحجر: 99)، أي الموت. ومنه تعرف ضحالة التفكير القائل بأنَّ اليقين مرتبة عبادية يصل إليها الإنسان تنقطع عندها العبادة.

فما دام تعالىٰ هو غير متناهي، فالتقرُّب إليه تعالىٰ غير متناهي أيضاً.والمصالح كذلك، هي غير متناهية، فالإنسان كلَّما حصل علىٰ مصلحة ما فإنَّه يسعىٰ إلىٰ أكبر منها، سواء كانت المصلحة هي الصحَّة أو المال أو الجاه أو السيطرة والنفوذ أو التأثير أو النساء أو الشهرة أو...

ومن هنا روي عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنَّه قال: «لو كان لابن آدم وادٍ من مال لابتغىٰ إليه ثانياً، ولو كان له واديان لابتغىٰ لهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلَّا التراب، ويتوب الله علىٰ من تاب»(3)

وإلىٰ هنا لا توجد مشكلة معيَّنة.

ص: 62


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 71 و72/ باب الاستعانة بالدنيا علىٰ الآخرة/ ح 4).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 71 و72/ باب الاستعانة بالدنيا علىٰ الآخرة/ ح 5).
3- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 3/ ص 459/ ح 7432).

أين الاختبار والبلاء إذن؟

إنَّ نقطة الابتلاء تكمن في سعي الإنسان إلىٰ إشباع أعلىٰ رغباته ومصالحه، من دون أنْ يجرح مشاعر مبادئه واعتقاداته، ومن دون أنْ يتجاوز علىٰ الخطوط الحمراء للشريعة والعقيدة.

إنَّ الاختبار والابتلاء في هذه القضيَّة ناشئ من قانون قد جعله الله تعالىٰ في هذا الكون، وهو قانون التزاحم في هذه الحياة، بمعنىٰ: أنَّ الفُرَص المتاحة في هذا الكون أقلّ بكثير من طموحات الإنسان، ومحدودية الفُرَص تُؤدّي إلىٰ التنافس من أجل الظفر بالفرصة قبل الغير، والتنافس قد يُؤدّي في بعض الأحيان إلىٰ التنازل عن بعض المبادئ، وهنا تبدأ المشكلة.

المشكلة إذن هي في التنازل عن المبادئ من أجل المصالح.

فالذي يريد أنْ يصبح غنيًّا بالإكسبرس، سيضطرُّ بلا شكٍّ -إلَّا ما ندر - إلىٰ أنْ يرابي أو يسرق أو يأكل رشوة أو يغصب حقَّ يتيم أو يبخس بالميزان أو يبخل أو يغشَّ أو...

والذي يريد أن يصبح مشهوراً من دون مؤهِّلات، تراه يسرق فكر غيره، أو يأتي بغريب من الأمر ونادر من الدهر لا واقع له، أو يدَّعي مناصب ليس هو لها بأهل، كمن يدَّعي الاجتهاد والمرجعية من دون أنْ يكون له وجود في أجواء الحوزة والعلماء.

والذي يريد أنْ يُكتَب له النجاح من دون جهد، تراه يغشُّ في الامتحانات، ويُعطي رشوة لمدرِّس ضعيف النفس، ولو بصورة (مغلَّفة)، كمن يفتح دورة تقوية ليس لها من هدف إلَّا الحصول علىٰ المال، وفي المقابل تكون الأسئلة شبه مفتوحة للطالب! وبالتالي سيكون

ص: 63

عندنا طبيب أو مدرِّس أو مهندس فاشل، ولا أثر له سوىٰ السيِّئات والويلات علىٰ البلد والمجتمع.

فما هو الصحيح؟

هل الصحيح هو التضحيَّة بالمبادئ من أجل المصالح؟

أم التضحية ببعض المصالح لأجل المبادئ؟

لا نريد أنْ نستعجل بالحكم، حتَّىٰ لا يكون حكمنا من دون دليل، فلنرجع إذن إلىٰ أصدق كتاب عرفته البشرية، لنعرف ما هو الصحيح.

يقول تعالىٰ: ]لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍمِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 22[ (المجادلة: 22).

ويقول تعالىٰ: ]يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَىٰ الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَىٰ الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ 54[ (المائدة: 54).

فالقرآن الكريم يجعل الأولوية للمبادئ، لأنَّها هي ما تصنع الإنسان، وأمَّا المصالح فهي مؤقَّتة مهما كانت كبيرة، فالإنسان لا وجود له من دون مبادئ، حتَّىٰ لو كان يملك الدنيا، فإنَّ المصالح وملك الدنيا كلَّه قد يُضحّي به الإنسان من أجل حياته أو من أجل مبدئه!

وقد روي أنَّ بعض الوعّاظ دخل يوماً علىٰ هارون العبّاسي، فقال

ص: 64

له: عظني، فقال: يا أمير...، أتراك لو مُنِعْتَ شربةً من ماء عند عطشك، بِمَ كنت تشتريها؟ قال: بنصف ملكي. فقال: يا أمير...، أتراها لو حُبِسَتْ عنك عند خروجها بِمَ كنت تشتريها؟ قال: بنصف الباقي! قال: فلا يغرنَّك ملك قيمته شربة ماء(1)

في المقابل، فإنَّ الإنسان يحسُّ بالغنىٰ إذا كان يملك مبادئ راسخة، فهو يتنازل عن ملك الدنيا ولا يتنازل عن مبادئه، وسيكون أغنىٰ الناس بها، وفي هذا المعنىٰ روي أنَّ رجلاً جاء إلىٰ سيِّدنا الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فشكا إليه الفقر، فقال: «ليس الأمر كماذكرت، وما أعرفك فقيراً»، قال: والله يا سيِّدي ما استبيت [أي لا أملك قوت ليلة واحدة]، وذكر من الفقر قطعة والصادق يُكذِّبه، إلىٰ أنْ قال له: «خبِّرني لو أُعطيت بالبراءة منّا مائة دينار، كنت تأخذ؟»، قال: لا! إلىٰ أنْ ذكر أُلوف دنانير والرجل يحلف أنَّه لا يفعل، فقال له: «من معه سلعة يُعطىٰ بها هذا المال لا يبيعها، هو فقير؟!»(2)

وهذا من الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ إشارة إلىٰ ما تقدَّم من أنَّ المبادئ أغلىٰ من الدنيا وما فيها.

وقد روي عن محمّد بن الحسن بن شمون، قال: كتبت إلىٰ أبي محمّد الإمام الحسن العسكري عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أشكو الفقر، ثمّ قلت في نفسي: أليس قال أبو عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «الفقر معنا خير من الغنىٰ مع غيرنا، والقتل معنا خير من الحياة مع غيرنا»؟ فرجع الجواب: «إنَّ الله يُمحِّص أولياءنا إذا تكاثفت ذنوبهم بالفقر، وقد يعفو عن كثير، وهو ممَّا حدَّثَتْك

ص: 65


1- عدَّة الداعي لابن فهد الحلّي (ص 226).
2- أمالي الشيخ الطوسي (ص 297 و298/ ح 584/31).

نفسُك: الفقر معنا خير من الغنىٰ مع غيرنا، ونحن كهف لمن التجأ إلينا، ونور لمن استضاء بنا، وعصمة لمن اعتصم بنا، من أحبَّنا كان معنا في السنام الأعلىٰ، ومن انحرف عنّا فإلىٰ النار»(1)

* * *

ص: 66


1- الخرائج والجرائح لقطب الدِّين الراوندي (ج 2/ص 739 و740/باب 15/ح 54).

(40)وجهٌ مشرق في الحياة

اشارة

مهما صعبت، فهناك وجه مشرق في هذه الحياة.

قاعدة حياتية مهمَّة، تجعل الإنسان يُغيِّر نظرته حول كثير من الأشياء، الأمر الذي يُؤدّي إلىٰ تغيير كثير من أحكامه تجاهها، وبالتالي سيقترب خطوة مهمَّة جدًّا من (الرضا) بالقضاء الإلهي، و(التسليم) لأمر الله جلَّ وعلا، الأمر الذي يعني خطوة مهمَّة من خطوات التكامل الأخلاقي.

وحتَّىٰ تتَّضح الصورة في هذه القاعدة نلفت النظر إلىٰ النقاط التالية:

النقطة الأولى:

من الخطأ أنْ نستعجل الحكم علىٰ شيء ما بمجرَّد مقابلة وجه من وجوهه، أو من أوَّل نظرة له، فإنَّ الحكم حينها سيكون ناقصاً من دون أدنىٰ شكٍّ، فالعقل يحكم بأنَّ الحكم علىٰ شيء ما - سواء كان آلةً أو بيتاً أو إنساناً - لا بدَّ أنْ يسبقه معرفة بجميع جوانبه، حتَّىٰ يكون الحكم منصفاً.

ولذلك تجد أنَّ (القاضي) لا يحكم في قضيَّة ما إلَّا بعد أنْ يجمع القرائن ويستمع الشهود والمدَّعي والمدَّعىٰ عليه، وربَّما استشار بعض معاونيه، ويتريَّث برهة، ثمّ يُصدِر بعدها حكمه.

ص: 67

ويترتَّب علىٰ هذا، أنَّ شيئاً واحداً قد نختلف في الحكم عليه، لا لشيء سوىٰ اختلاف محطِّ النظر ووجهته في الحكم، وقد روي أنَّ النبيَّ عيسىٰ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ مرَّ مع الحواريين علىٰ جيفة كلب، فقال الحواريون: ما أنتن ريح هذا الكلب! فقال عيسىٰ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: ما أشدّ بياض أسنانه(1))!

فلاحظ كيف اختلف الحكم علىٰ تلك (الجيفة) باختلاف وجهات النظر.

النقطة الثانية:

في هذه الحياة، هناك من يعيش بالنظرة الإيجابية والتفكير الإيجابي، وهناك من يعيش بالنظرة السلبية والتفكير السلبي، وكيف ستكون النظرة التي تعيش بها فإنَّ حياتك ستكون كذلك.

إنَّ هذا الكون له وجهان، في كلِّ وجود من وجوداته: وجه مشرق وآخر مظلم، فنهار وليل، وخير وشرٌّ، وفرح وحزن، وشبع وجوع، وأمن وخوف، وعقل وجنون، وغنىٰ وفقر، وعلم وجهل، وهكذا كلُّ الوجود له وجهان: مشرق ومظلم.

يا ترىٰ، ما عسانا أنْ نفعل؟ وأين نُوجِّه أنظارنا؟ وأين نُوجِّه تركيزنا؟ وكيف نتعامل مع وجهي الوجود؟

لو رجعنا إلىٰ القرآن الكريم، لوجدنا في آياته إشارات واضحة، بل وصريحة لطريقة التعامل، فمهما مرَّت عليك من ظروف صعبة، فعليكأنْ تنظر إلىٰ الوجه المشرق فيها، ولذلك فإنَّه ورغم خسارة المسلمين عسكرياً يوم أُحُد،

ص: 68


1- تنبيه الخواطر للشيخ ورّام (ج 1/ ص 117)؛ بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج14/ ص 327).

إلَّا أنَّ القرآن الكريم أمرهم فقال: ]وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 139[ (آل عمران: 139).

فإنَّ الله تبارك وتعالىٰ ومن خلال هذه الآية (... حذَّر المسلمين من أنْ يعتريهم اليأس والفتور بسبب النكسة في معركة واحدة، وأنْ يتملكهم الحزن وييأسوا من النصر النهائي... أجل، لا يحسن بهم أنْ يشعروا بالوهن أو يتملكهم الحزن لما حدث، فالرجال الواعون هم الذين يستفيدون الدروس من الهزائم كما يستفيدونها من الانتصارات، وهم الذين يتعرَّفون - في ضوء النكسات - علىٰ نقاط الضعف في أنفسهم أو مخطَّطاتهم، ويقفون علىٰ مصدر الخطأ والهزيمة، ويسعون لتحقيق النصر النهائي بالقضاء علىٰ تلك الثغرات والنواقص...)(1)

وإلىٰ نفس المعنىٰ يُشير الإمام الحسين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في دعائه يوم عرفة، حين يقول:

«إلهي إلىٰ من تكلني، إلىٰ قريب فيقطعني، أم إلىٰ بعيد فيتجهَّمني، أم إلىٰ المستضعِفِين لي، وأنت ربّي ومليك أمري، أشكو إليك غربتي وبعد داري، وهواني علىٰ من ملَّكته أمري. إلهي فلا تُحلِل عليَّ غضبك، فإنْ لم تكن غضبت عليَّ فلا أُبالي سواك، سبحانك غير أنَّ عافيتك أوسع لي، فاسألك يا ربِّ بنور وجهك الذي أشرقت له الأرض والسماوات، وكُشِفَت به الظلمات، وصَلُحَ به أمر الأوَّلين والآخرين، أنْ لا تُميتني علىٰ غضبك، ولاتنزل بي سخطك، لك العتبىٰ حتَّىٰ ترضىٰ قبل ذلك»(2)

فالإمام الحسين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ مستعدٌّ لتحمُّل كلِّ صعوبات الحياة، ما دام

ص: 69


1- تفسير الأمثل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي (ج 2/ ص 708 و709).
2- مصباح المتهجِّد للشيخ الطوسي (ص 68).

في مأمن من الغضب الإلهي، فإذا كان المرء داخلاً تحت دائرة الرضا الإلهي، فهذا يكفيه لمواجهة كلِّ صعوبات الحياة، وهذا الأمر هو ما ترجمته السيِّدة زينب عَلَيْهِا اَلسَّلاَمُ في مجلس ابن زياد، لمَّا قال ابن زياد لها: كيف رأيتِ صنع الله بأهل بيتكِ؟ فقالت: «ما رأيت إلَّا جميلاً، هؤلاء قوم كُتِبَ عليهم القتل فبرزوا إلىٰ مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاجّ وتُخاصَم، فانظر لمن الفلج، هبلتك أُمُّك يا ابن مرجانة...»(1)

وهذا مولانا الإمام الكاظم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ رغم آلام السجن والغربة والابتعاد عن الأهل، حوَّل فترة قضاء السجن إلىٰ أفضل وقت للتفرُّغ للعبادة، وكان يقول: «اللّهمّ إنَّك تعلم أنّي كنت أسألك أنْ تُفرِّغني لعبادتك، اللّهمّ وقد فعلت، فلك الحمد»(2)

وقد روي أنَّه قال ابن عبّاس حينما أُصيب بالعمىٰ آخر حياته:

إنْ يأخذ الله من عينَيَّ

نورهما

ففي لساني وقلبي منهما نورقلبي ذكيٌّ وعقلي غير ذي

دخلٍ

وفي فمي صارم كالسيف مأثور(3))

النقطة الثالثة:

إنَّ الأمثلة علىٰ هذه الفكرة من النصوص الدِّينية والتاريخية كثيرة جدًّا، ولكن دعونا نلتفت قليلاً إلىٰ أمثلة من واقعنا المعاش:

هل رأيتَ ابنك الصغير يوماً يلعب في التراب أو الوحل، وقد اتَّسخت ملابسه كلُّها، بل وجسمه من أخمص قدميه إلىٰ أعلىٰ رأسه؟

ص: 70


1- مثير الأحزان لابن نما الحلّي (ص 71)؛ بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 45/ ص 115 و116) بتفاوت يسير.
2- الإرشاد للشيخ المفيد (ج 2/ ص 240).
3- سير أعلام النبلاء للذهبي (ج 3/ ص 357).

فهل تأذيت كثيراً من هذا الموقف وثارت ثائرتك عليه؟ ولكن لماذا نظرت إلىٰ هذا الوجه فقط من وساخة ملابسه وجسمه؟! ولو نظرت بعقلك إلىٰ قوَّة تركيز ولدك علىٰ كومة التراب أمامه أو بركة الوحل التي برك فيها، لو نظرت إليه وهو لا يرىٰ في الوجود غير نفسه وسط لعبته البديعة، ثمّ لو التفتَّ إلىٰ نفسك وأنَّك تفتقد التركيز في أكثر أعمالك وأوقاتك، لو نظرت بهذه النظرة، لعلمتَ أنَّ ابنك يستحقُّ التصفيق علىٰ ما أبداه من قوَّة تركيز في لعبته وعدم اهتمامه بالظروف مِنْ حوله ومحاربة كلِّ ما من شأنه أنْ يقف دون تحقيقه لهدفه!

وهل كسر ابنك يوماً إناءً زجاجياً باهض الثمن، حينما كان في نشوة انتصاره علىٰ ذبابة ضربها؟! وهل استرجعت الثمن منه بضربة علىٰ رأسه أو صفعة علىٰ خدِّه الناعم؟! إذا كنت قد فعلت ذلك، فهذا معناه أنَّك لم تنظر إلىٰ بهجة قلب ولدك وهو يحسب نفسه قد انتصر علىٰ عدوٍّ لدود يُهدِّد مصيره بالخطر وحياتهبالدمار! هكذا هو الطفل!

هل سمعت بما ورد أنَّه كان رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يُؤتىٰ بالصبيِّ الصغير ليدعو له بالبركة، أو يُسمّيه، فيأخذه فيضعه في حجره تكرمة لأهله، فربَّما بال الصبيُّ عليه، فيصيح بعض من رآه حين يبول، فيقول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «لا تزرموا(1)) بالصبيِّ»، فيدعه حتَّىٰ يقضي بوله، ثمّ يفرغ له من دعائه أو تسميته، ويبلغ سرور أهله فيه، ولا يرون أنَّه يتأذّىٰ ببول صبيِّهم، فإذا انصرفوا غَسل ثوبه بعده(2)

وجود عدوٍّ يقضُّ مضجعك، ويجعل ليلك مملّاً من الخوف، ربَّما

ص: 71


1- زرم البول: انقطع. ولا تزرموا: يعني لا تقطعوا بوله. (من هامش المصدر).
2- مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي (ص 25/الفصل الثاني: نبذة من أحواله 9 وأخلاقه).

تعتبره أسوأ ما في الوجود، وأقبح ما يمكن أنْ يحدث لك، ولكنَّك لو نظرت إلىٰ ما سيستتبعه وجود العدوِّ من الثمرات المفيدة لك، لتمنَّيت أنْ لا تعيش يوماً بدون عدوٍّ!

فمثلاً، تجد أنَّ وجود العدوِّ يدفعك نحو الإعداد المستمرّ، يقول تعالىٰ: ]وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ 60[ (الأنفال: 60).

وما أحلىٰ قول أبي حيّان الأندلسي:

عداي لهم فضلٌ عليَّ ومنَّةٌ *** فلا أذهب الرحمن عنّي الأعاديا

هُمُ بحثوا عن زلَّتي فاجتنبتها *** وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا(1))

والفقر فيه وجه مظلم هو العوز في الدنيا، وربَّما حتَّىٰ الذلَّة فيبعض الأحيان، ولكن وجهه المشرق أكثر عزًّا من عزَّة المال! قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ - لمَّا سُئِلَ عن الفقر -: «خزانة من خزائن الله»، قيل - ثانياً -: يا رسول الله، ما الفقر؟ فقال: «كرامة من الله»، قيل - ثالثاً -: ما الفقر؟ فقال صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «شيء لا يُعطيه الله إلَّا نبيًّا مرسلاً أو مؤمناً كريماً علىٰ الله تعالىٰ»(2)

وقد نُسِبَ إلىٰ أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ:

دليلك أنَّ الفقر خير من الغنىٰ *** وأنَّ قليل المال خير من المثري

لقاؤك مخلوقاً عصىٰ الله بالغنىٰ *** ولم ترَ مخلوقاً عصىٰ الله بالفقر(3))

والنسيان، له وجهه المشرق أيضاً! رغم أنَّه يجعلك في بعض

ص: 72


1- الكنىٰ والألقاب للشيخ عبّاس القمّي (ج 1/ ص 59 و60).
2- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 69/ ص 47).
3- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 75/ ص 85).

الأحيان في موقف محرج جدًّا، ذلك عندما يلاقيك شخص ويصافحك بحرارة ويسأل عن أحوالك ويُعدِّد لك أسماء إخوتك وهو يناشدك عن أحوالهم، وأنت تماطل في الحديث معه وفي نفسك صراع وجدل حول هويَّة هذا المجهول الذي يعلم عنك كلَّ شيء وأنت لا تعلم عنه شيء!

ولكن رغم هذا فللنسيان فوائده ووجهه المشرق، وهذا ما يكشفه ويُوضِّحه هذا الحديث الشريف عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في توحيد المفضَّل، حيث يقول:

«... وأعظم من النعمة علىٰ الإنسان في الحفظ النعمة في النسيان، فإنَّه لولا النسيان لما سلا أحد عن مصيبة، ولا انقضت له حسرة، ولا مات له حقد، ولا استمتع بشيء من متاع الدنيا معتذكُّر الآفات، ولا رجا غفلة من سلطان، ولا فترة من حاسد، أفلا ترىٰ كيف جعل في الإنسان الحفظ والنسيان، وهما مختلفان متضادّان، وجعل له في كلٍّ منهما ضرب من المصلحة؟...»(1)

وحيث قد عرفت أنَّ لكلِّ ظلام نوراً، ولكلِّ شدَّة فرجاً، فلا تذهب بك المذاهب بعيداً ، فمهما كان للأشياء من وجوه الخير رغم ظلامها، ولكن لا نور للظلم أبداً! بل هو ظلمات بعضها فوق بعض.

فعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «وَاللهِ لأَنْ أَبِيتَ عَلَىٰ حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً، أَوْ أُجَرَّ فِي الأَغْلَالِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَىٰ اللهَ وَرَسُولَه يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ، وَغَاصِباً لِشَيْءٍ مِنَ الْحُطَامِ، وكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَىٰ الْبِلَىٰ قُفُولُهَا، وَيَطُولُ فِي الثَّرَىٰ حُلُولُهَا؟»(2)

ص: 73


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 3/ ص 81).
2- نهج البلاغة (ج 2/ ص 216 و217).

النقطة الرابعة:

لا يعني هذا أنْ يطلب المرء الوقوع في الصعاب من أجل أنْ ينظر لوجهها المشرق، كلَّا، فإنَّ النصوص الدِّينية أمرت المؤمن بأنْ يطلب العافية دوماً، حتَّىٰ يبتعد عن موضع قد لا يستطيع أنْ يتعامل معه تعاملاً صحيحاً، أو قل: إنَّ النصوص أمرت المؤمن بأنْ يطلب العافية من البلاء، لا أنْ يقع في البلاء ثمّ يطلب النجاح فيه، فلعلَّه لا يُوفَّق للخروج من أزمة البلاء بنجاح، ومن هنا روي عن النبيِّ الأكرم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنَّه قال: «لا تتمنَّوا لقاء العدوِّ، فإنَّكم لا تدرون ما تُبتَلون به منهم، فإذا لقيتموهم فقولوا: اللّهمّ أنتربُّنا وربُّهم، وقلوبنا وقلوبهم بيدك، وإنَّما تغلبهم أنت، والزموا الأرض جلوساً، فإذا غشوكم فثوروا وكبِّروا»(1)

وعن الإمام الرضا عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «شكىٰ يوسف في السجن إلىٰ الله فقال: يا ربِّ، بماذا استحققت السجن؟ فأوحىٰ الله إليه: أنت اخترته حين قلت: ]رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ[ [يوسف: 33]! هلَّا قلت: العافية أحبُّ إليَّ ممَّا يدعونني إليه؟!»(2)

* * *

ص: 74


1- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 4/ ص 361/ ح 10907).
2- تفسير القمّي (ج 1/ ص 354).

(41)ثقافة الروح

اشارة

من الأُمور التي باتت من الواضحات اليوم هو أنَّ حقيقة الإنسان تتمثَّل في جزئين أساسيين، هما: الجسد والروح، فالإنسان ليس مجرَّد جسد، وإلَّا أصبح هو والحجر سواء، وليس هو مجرَّد روح، وإلَّا لأصبح ملاكاً يمشي علىٰ الأرض!

ومن الأُمور الواضحة أيضاً هو أنَّ كلّاً من الروح والجسد له آثاره الخاصَّة علىٰ سلوك الإنسان، فالجسد له تأثيراته الخاصَّة علىٰ سلوكيات الإنسان اليومية، وكذلك الروح...، وهذا نابع من نوع الثقافة التي يعيشها الجسد أو الروح، بمعنىٰ أنَّ الإنسان في كدحه اليومي في الحياة، تتكوَّن عنده مفاهيم واعتقادات متنوِّعة - باعتبار ما يرد عليه من الخارج من مؤثِّرات متنوِّعة - تُؤثِّر في سلوكه، وهي مرتبطة إمَّا بثقافة الجسد أو بثقافة الروح...، وهذا يُؤدّي إلىٰ أنْ يختلف الناس في ثقافاتهم الجسدية والروحية.

ما هو معنى هاتين الثقافتين؟

إنَّ ثقافة الجسد تعني فيما تعنيه أنْ يعتني الإنسان بجسده وما يرتبط به، فلا يلبس إلَّا النظيف والمرتَّب، ولا يأكل إلَّا الصحّي والنافع، ولا يُتعِب نفسه بأعمال شاقَّة تهلك الجسد، ولايقترب من المضرّات

ص: 75

بالجسد كالخمور والمخدِّرات والأكلات العفنة وغير المفيدة...، إنَّها تعني أنْ يجمع أكبر قدر ممكن من الأموال، وأنْ يبني أكبر بيت يمكنه أنْ يبنيه، وأنْ تكون عنده مناصب متعدِّدة يحكم بها الناس، و...

والخلاصة: أنَّ ثقافة الجسد تعني ثقافة الأخذ والتملُّك.

أمَّا ثقافة الروح فهي تعني الانتعاش الذي يحسُّ به الإنسان حين يُدخِل السرور علىٰ قلب صديق، والشعور الذي يغمره حين يمسح بيده علىٰ رأس يتيم، والغبطة التي يعيشها حين يرىٰ مؤمناً قد تعافىٰ من مرضه، إنَّها تعني الفرح بتقديم مساعدة لفقير، والحسرة علىٰ يتيم فقد أبويه!

إنَّها باختصار: ثقافة العطاء!

التدافع بين الثقافتين!

من الملاحظات المهمَّة التي تحكم هاتين الثقافتين هو أنَّ بينهما نوعاً من التدافع والتمانع!

ذلك لأنَّ ثقافة الجسد ترتبط بالجانب المادّي، وأمَّا ثقافة الروح فهي مرتبطة بالجانب المعنوي، والإنسان كثيراً ما يُقدِّم الملموس والمحسوس علىٰ المعنوي وغير المرئي!

إنَّ الإنسان كثيراً ما تتحكَّم فيه مقولة: ما لا أراه ولا أحسُّ به فهو غير موجود! وبالتالي فإنَّ سلوكياته ستتَّجه إلىٰ المادّيات أكثر من المعنويات، ولسان حاله يقول: ما عاقل من باع عاجلاً بدَين!

ولكن روحه لا تستسلم بسهولة، فهي تعمل وتجاهد علىٰ أنْيكون لثقافتها دور في سلوكيات الإنسان اليومية، وحيث إنَّها تعتمد المعنويات واللّامرئيات أكثر من الأُمور المرئية والمحسوسة، حينئذٍ تبدأ علامات التنافس والتدافع تظهر علىٰ سلوكيات الإنسان!

ص: 76

عوامل مساعدة لثقافة الروح:

في هذه المعركة، تتدخَّل عدَّة أُمور لتساعد علىٰ انتصار إحدىٰ الثقافتين علىٰ الأُخرىٰ، لكن لا بحدٍّ يقتل الثقافة الأُخرىٰ، كلَّا، فهذا ما لا يرضاه الدِّين ولا الإنسانية، فإنَّ كلّاً من الثقافتين لها آثارها الحميدة علىٰ البشرية، ولكنَّها أُمور تساعد علىٰ أنْ تُسيطر إحدىٰ الثقافتين علىٰ سلوكيات الثقافة الأُخرىٰ، وتلك العوامل كثيرة، نذكر منها:

العامل الأوَّل: التربية:

فالإنسان ابن تربيته، فمن يُربّيه أبواه علىٰ العطاء يصبح كريماً، ومن يُربّيه أبواه علىٰ الاعتداء يصبح جبّاراً،

وهذا أشهر من نار علىٰ عَلَم.

العامل الثاني: الثقافة العامَّة للمجتمع:

فإنَّ الإنسان يعيش في مجتمع له ثقافته الخاصَّة، ففي الغرب ربَّما يتحكَّم مبدأ (الاستحواذ) علىٰ جميع المبادئ الأُخرىٰ، ومن أجل الحصول علىٰ الفائدة المادّية فإنَّه تجوز كلُّ وسيلة، وتصبح مشروعة، وقد نقل أحدهم أنَّه درس في أمريكا بعض العلوم، وكان أحد الأمريكان يعمل في تدريس الإدارة فلا يتكلَّم عن الأخلاق، ولكنَّه مرَّة قال: الإخلاص أساس النجاح، فإذا استطعت أنْ تخدع الناس بأنَّك مخلص فأنت ناجح!

في بعض المجتمعات يعيش الناس علىٰ ثقافة احترام المتموِّل وابتذال الفقير، يعيشون علىٰ ثقافة حكاها لنا شاعر(1)) بقوله:

يمشي الفقير وكلُّ شيء ضدَّه *** والناس تغلق دونه أبوابها

ص: 77


1- تُنسَب هذه الأبيات إلىٰ الشافعي.

وتراه مبغوضاً وليس بمذنب *** ويرىٰ العداوة لا يرىٰ أسبابها

حتَّىٰ الكلاب إذا رأت ذاثروة *** خضعت لديه وحرَّكت أذنابها

وإذا رأت يوماً فقيراً عابراً *** نبحت عليه وكشَّرت أنيابها

وقال شاعر آخر:

كأنَّ مقلّاً حين يغدو لحاجة *** إلىٰ كلِّ من يلقىٰ من الناس مذنبُ

وكان بنو عمّي يقولون مرحباً *** فلمَّا رأوني معدَماً، مات مرحبُ!

فثقافة المجتمع علىٰ كلِّ حالٍ ستُلقي بظلالها علىٰ سلوك الفرد ضمن هذا المجتمع، وبالتالي سينعكس ذلك السلوك علىٰ ثقافة الروح.

العامل الثالث: المستوىٰ المادّي العامّ:

ففي الأحياء الفقيرة والشعبية تجد الأصالة العربية ما زالت قائمة، فالضيف يجد البيوت مفتَّحة أمامه وكلٌّ يدعوه ليُشرِّف بيته، ولكن في الأحياء الغنيَّة يتوجَّب عليه أنْ يبحث عن مطعم وفندق!

وطبعاً هذه ليست قاعدة عامَّة.

العامل الرابع: الوعي الدِّيني:فمن يفهم الدِّين علىٰ أنَّه مجرَّد طقوس تُتلىٰ في المساجد، ستتغلَّب ثقافة جسده علىٰ ثقافة روحه، لكن الذي يفهم من الدِّين مشروعاً إنسانياً يتدخَّل في كلِّ جزئيات الحياة، سترىٰ دينه يتحكَّم بجميع تصرُّفاته، فيُغلِّب جانب الثقافة الروحية.

ما الذي نراه اليوم في مجتمعنا؟

من الأُمور المؤسفة التي نعيشها اليوم هو أنَّنا نجد مجتمعاتنا تهوي في وادي الثقافة الجسدية تاركة الروح معلَّقة لا إلىٰ هؤلاء ولا إلىٰ هؤلاء!

ص: 78

إنَّ ثقافة الأخذ والتملُّك اليوم باتت كارثة تحيط بنا، ولا نعرف المخرج منها! تجد التاجر كلَّما كثرت أمواله كلَّما قلَّت عطاياه! ولا يحفظ من الكلمات إلَّا كلمة (الله يُعطيك)!

إنَّها ثقافة معاوية، التي تتجدَّد اليوم، فمعاوية في يوم من الأيّام قال لجلسائه: ألستم تعلمون كتاب الله؟ قالوا: بلىٰ، فتلا قوله تعالىٰ: ]وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ 21[ [الحجر: 21]، فقال: كيف تلومونني بعد هذا؟ فقام الأحنف فقال: ما نلومك علىٰ ما في خزائن الله، إنَّما نلومك علىٰ ما أنزل الله لنا من خزائنه فأغلقت عليه بابك! فسكت معاوية ولم يحر جواباً(1)

ومن الطرائف المنقولة، أنَّه في جمعية خيرية تعمل في جمع التبرُّعات، لاحظ الموظَّف المسؤول أنَّ محامياً شهيراً لم يتبرَّع قطُّللجمعية، فقرَّر الاتِّصال به وإقناعه بأنْ يتبرَّع للجمعية بجزء من ماله، قال الموظَّف للمحامي: عفواً ولكنّي اكتشفت من خلال السجلّات أنَّك لم تتبرَّع بأيِّ مبلغ خلال السنتين الماضيتين، فما رأيك أنْ تتبرَّع لنا ولو بجزء صغير من المال للجمعية؟ سكت المحامي برهة ثمّ قال: وهل أوضحت لك السجلّات أنَّ والدتي مريضة منذ سنوات مضت وقد فقدت إعانتها الحكومية؟! فقال له الموظَّف وهو يشعر بالحرج: عفواً سيِّدي، ولكنّي لم أكن أعلم! فقال له المحامي: وهل علمت أنَّ لي أخاً ضريراً ويتحرَّك علىٰ كرسي بعجلات ويحتاج من يعوله؟! مرَّة أُخرىٰ قال الموظَّف: لا، لم أكن أعلم، قاطعه المحامي قائلاً: وهل علمت أنَّه بالرغم من كلِّ ذلك فأنا لا أُعطيهم قرشاً واحداً؟! فكيف تريدني أنْ أتبرَّع لجمعيتكم من مالي(2))!

ص: 79


1- أعيان الشيعة للسيِّد محسن الأمين (ج 7/ ص 385).
2- موعد مع الحياة للدكتور خالد بن صالح المنيف (ص 70).

أين هذه الصور عن الصورة التي يريدها منّا القرآن الكريم عندما قال عزَّ من قائل: ]وَيُؤْثِرُونَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 9[ (الحشر: 9)؟

فقد روي أنَّه أُهدي لرجل من أصحاب النبيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ رأس شاة مشوي، فقال: إنَّ أخي فلاناً وعياله أحوج إلىٰ هذا حقًّا، فبعث إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلىٰ واحد حتَّىٰ تداولوا بها سبعة أبيات حتَّىٰ رجعت إلىٰ الأوَّل، فنزل: ]وَيُؤْثِرُونَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 9[(1)وقيل: نزلت في سبعة عطشوا في يوم أُحُد، فجئ بماء يكفي لأحدهم، فقال واحد منهم: ناول فلاناً، حتَّىٰ طيف علىٰ سبعتهم، وماتوا ولم يشرب أحد منهم، فأثنىٰ الله سبحانه عليهم...(2)

إنَّها النفس الكريمة، التي تجاوزت الحدود!

العطاء الحقيقي:

اشارة

قد يفهم البعض من الأمثلة التي ذكرناها أنَّ العطاء الروحي يتمثَّل بالعطاء المادّي، فيبقىٰ الفقير بعيداً عن ميدان العطاء!

كلَّا، إنَّ العطاء الحقيقي له مفردات كثيرة جدًّا، وهي رخيصة جدًّا بالمقياس المادّي، ولكنَّها كبيرة بالمقياس الروحي، وإليك بعضاً من هذه المفردات:

1 - العطاء لوجه الله تعالىٰ:

فهذا العطاء مهما كان بسيطاً ولكنَّه كبير عند الله تعالىٰ، وقد رأينا كيف أنَّ سورة الإنسان خلَّدت عطاء أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ رغم بساطته

ص: 80


1- مشكاة الأنوار لعليٍّ الطبرسي (ص 330).
2- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي (ج 9/ ص 430).

المادّية، ولكن سبب تخليده كان ]إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً 9[ (الإنسان: 9).

2 - العطاء في السرِّ:

فإنَّ صدقة السرِّ التي لا يعلمها إلَّا الله تعالىٰ يكون جزاؤها علىٰ الله تعالىٰ، وأنت عندما تُعطي لا بدَّ أنْ يكون هدفك إرضاء الله تعالىٰ، وصدقة السرِّ تُطفئ غضب الربِّ. وفي رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «... وحقُّ الصدقة أنْ تعلم أنَّها ذخركعند ربِّك عزّ وَجل، ووديعتك التي لا تحتاج إلىٰ الإشهاد عليها، وكنت بما تستودعه سرًّا أوثق منك بما تستودعه علانية، وتعلم أنَّها تدفع البلايا والأسقام عنك في الدنيا، وتدفع عنك النار في الآخرة»(1)

3 - الابتداء بالسلام:

فإنَّه من تواضع الروح الذي يعني تساميها عند الله تعالىٰ، فالمؤمن يبدأ بالسلام، والبادئ بالسلام بريء من الكبر كما روي عن الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ(2)

4 - المجازاة علىٰ الصنائع:

فإنَّها عطاء ما مثله عطاء، لأنَّها تُشجِّع صانع المعروف علىٰ الاستزادة منه، وما أجمل ما نُقِلَ من إنَّه: خرج الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر حُجّاجاً، ففاتتهم أثقالهم، فجاعوا وعطشوا، فرأوا في بعض الشعوب خباءً رثًّا وعجوزاً، فاستسقوها، فقالت: اطلبوا هذه الشويهة، ففعلوا، واستطعموها، فقالت: ليس إلَّا هي، فليقم أحدكم فليذبحها

ص: 81


1- أمالي الشيخ الصدوق (ص 452).
2- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 9/ ص 117/ ح 25265).

حتَّىٰ أصنع لكم طعاماً، فذبحها أحدهم، ثمّ شوت لهم من لحمها وأكلوا وقيَّلوا عندها، فلمَّا نهضوا قالوا لها: نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه، فإذا انصرفنا وعدنا فالممي بنا فإنّا صانعون لكِ خيراً، ثمّ رحلوا، فلما جاء زوجها وعرف الحال أوجعها ضرباً، ثمّ مضت الأيّام فأضرَّ بها الحال، فرحلت حتَّىٰ اجتازت بالمدينة، فبصر بها الحسن عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فأمر لها بألف شاة وأعطاها ألف دينار، وبعث معها رسولاً إلىٰالحسين فأعطاها مثل ذلك، ثمّ بعثها إلىٰ عبد الله بن جعفر فأعطاها مثل ذلك(1)

5 - المشاركة في المشاريع الخيرية:

مهما كانت المشاركة صغيرة، فمن الممكن أنْ يتَّفق الشباب والمؤمنون علىٰ أنْ يضعوا كلَّ شهر مبلغ ألف دينار في صندوق خاصٍّ بالفقراء، من الممكن أنْ نتشارك في إقامة مأتم، من الممكن أنْ نتشارك في زيارة مريض أو جمع مال له، من الممكن أنْ نُقيم مجلس دعاء جماعي لمريض أو غائب، من الممكن أنْ نُصلّي لميِّت صلاة ليلة الدفن، أو نُصلّي له ركعتين، من الممكن أنْ نقوم بتوزيع كُتُب ومنشورات عن الإمام المهدي عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ مجّانية، وهكذا المشاريع أكثر من أنْ تُحصىٰ!

6 - من عطاء الروح مسامحة المسيء!

فإنَّه زكاة القدرة علىٰ أخذ الحقِّ منه، ومسامحته تعني أكبر قتلة يمكن أنْ يُقتَل بها المسيء، هذا إذا لم تُنعِش قلبه وينقلب لك صديقاً بعد أنْ كان عدوًّا، يقول تعالىٰ: ]وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ 34[ (فُصِّلت: 34).

ص: 82


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 3/ ص 182).

عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: «نزل رسول الله في غزوة ذات الرقاع تحت شجرة علىٰ شفير وادٍ، فأقبل سيل، فحال بينه وبين أصحابه، فرآه رجل من المشركين والمسلمون قيام علىٰ شفير الوادي ينظرون متىٰ ينقطع السيل، فقال رجل منالمشركين لقومه: أنا أقتل محمّداً، فجاء فشدَّ علىٰ رسول الله بالسيف، ثمّ قال: من ينجيك منّي يا محمّد؟ فقال: ربّي وربُّك، فنسفه جبرئيل عن فرسه، فسقط عن ظهره، فقام رسول الله، فأخذ السيف وجلس علىٰ صدره، فقال: من ينجيك منّي يا غورث؟ فقال: جودك وكرمك، فتركه وقام. قال: والله لأنت خير منّي وأكرم»(1)

7 - التزام بعض المستحبّات والنوافل:

فلا يكتفي المؤمن بأداء ما عليه من خُمُس وزكاة، بل يلتزم صدقة يومية ولو كانت قليلة، فإنَّ إعطاء القليل خير من الحرمان. ولا يكتفي بصلاة الفرائض، بل يتعدّاها للنوافل، وليتذكَّر الحديث القدسي القائل: «... لا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتَّىٰ أُحِبَّه، فأكون أنا سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به وقلبه الذي يعقل به، فإذا دعاني أجبته، وإذا سألني أعطيته، وإذا استنصرني نصرته»(2)

8 - نيَّة الخير المستمرَّة:

فإنَّها تحكي عن مبدأ نفسي لفعل الخير علىٰ نحو الدوام، وهي عملُ خيرٍ لا تعب فيه، فاستمرَّ علىٰ نيَّة الخير - بمعنىٰ أنْ يكون عندك

ص: 83


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 8/ ص 127/ ح 97).
2- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 1/ ص 229/ ح 1155).

عزم فعلي علىٰ فعل الخير كلَّما سنحت الفرصة -، فإنَّها من أفضل أعمال الخير، ولا تنسَ أنَّ الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قال: «إنَّما خُلِّد أهل النار في النار لأنَّ نيّاتهم كانت في الدنيا أنْ لوخُلِّدوا فيها أنْ يعصوا الله أبداً، وإنَّما خُلِّد أهل الجنَّة في الجنَّة لأنَّ نيّاتهم كانت في الدنيا أنْ لو بقوا فيها أنْ يُطيعوا الله أبداً، فبالنيّات خُلِّد هؤلاء وهؤلاء»، ثمّ تلا قوله تعالىٰ: ]قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلىٰ شاكِلَتِهِ[ [الإسراء: 84]، قال: «علىٰ نيَّته»(1)

* * *

ص: 84


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 85/ باب النيَّة/ ح 5).

(42)إحدى الحُسنيين

هناك حقيقة تُؤكِّد عليها النصوص الدِّينية، وهي: أنَّ الذي يلتزم بالدِّين عموماً فهو رابح علىٰ كلِّ حالٍ، وأمره يدور دوماً بين (إحدىٰ الحُسنيين)، ولهذه الحقيقة تجلّيات عديدة في النصوص، نذكر منها التالي:

أوَّلاً: قال تعالىٰ: ]قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَىٰ الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ 52[ (التوبة: 52).

فهذه الآية تُوضِّح أنَّ المسلمين رابحون علىٰ كلِّ حالٍ، إنْ ربحوا المعركة في الدنيا فهم رابحون، وإنْ خسروها واستشهدوا دخلوا الجنَّة، فهم رابحون أيضاً، أمَّا الطرف الآخر فهو خاسر علىٰ كلِّ حالٍ.

ثانياً: قال تعالىٰ: ]وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ 155 الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 156 أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ 157[ (البقرة: 155 - 157).

فالآية واضحة جدًّا في أنَّ المؤمنين في الوقت الذي يقع عليهم البلاء، إذا ما واجههوه بالصبر والرضا بالقضاء، فإنَّالنتيجة هي في صالحهم أيضاً، فإنَّ النتيجة هي أنَّ ]عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ 157[.

ص: 85

ثالثاً: يقول تعالىٰ: ]ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ 120[ (التوبة: 120).

فالآية تُوضِّح أنَّ كلَّ ما يواجهه المؤمنون من صعاب فإنَّ لهم به أجراً علىٰ الله تعالىٰ.

رابعاً: ورد في دعاء الإمام الحسين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في يوم عرفه: «عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبِّك نصيباً...، ماذا وجد من فقدك، وماذا فقد من وجدك»(1)

فإنَّه يُوحي بأنَّ الربح كلَّ الربح في ما له ارتباط بالله تعالىٰ، وإلَّا فالخسارة هي واقعه.

والحاصل:

أنَّ المرتبط بالله سبحانه دوماً في حالة انتفاع وربح، سواء في الرخاء أو في الشدَّة، في الدنيا أو في الآخرة، فكلُّ مواقفه والأقدار التي يعيشها محسوبة له، يُعوَّض عليها بتفضُّل منه سبحانه علىٰ عبده، شريطة أنْ يكون شاكراً في الرخاء وصابراًفي البلاء، فمن كان ديدنه ومنواله ذلك فستكون صحيفة أعماله نقيَّة ناصعة تسرُّه عند لقاء ربِّه، وتُسعِده سعادة معنوية في هذا العالم أيضاً.

فابتلاؤه ما بين الموجِب للثواب وبين المُسقِط للعقاب، ورخاؤه الشاكر له مدعاة للتفضُّل والثواب.

ص: 86


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 95/ ص 226).

والعكس بالعكس، فلو كفر بالنعمة في الرخاء، وجزع في البلاء، فإنَّ صحيفته ستُملأ بما يسوؤه من حرمان وعقاب.

فالقانون إذن هو: أنَّ كلَّ شيء مع الله تعالىٰ يمكن قلبه إلىٰ ربح وفائدة رغم أنَّه في حسابنا البشري قد ينقسم إلىٰ الربح والخسارة، ولكنَّه في منطق الدِّين يُقلَب إلىٰ خير وغنيمة.

وبعبارة أُخرىٰ:

إنَّ الدِّين لا يتلخَّص عطاؤه للمؤمن بمقولة الخلاص في الآخرة، بل هو عطاء ممتدٌّ ومنبسط علىٰ جميع الأدوار التي يمرُّ بها الإنسان قبل يوم القيامة والجزاء، ففي هذا العالم تجد المؤمن في حال الابتلاء بالشرِّ ينعم بالراحة والطمأنينة والتسليم، أي إنَّه يكون ذا شخصية سويَّة رغم المحنة والألم إنْ صَبَرَ علىٰ ما حلَّ به طبعاً.

وكذلك في حال الابتلاء بالخير فإنَّه في نعمة، إنْ شَكَرَ وعظَّم ما حلَّ به من خير وفضل.

ثمّ يأتيه يوم القيامة ليُجزاه الجزاء الأوفىٰ والنعمة الكبرىٰ، وهي السعادة الخالدة والخالصة من المكدِّرات والمنغِّصات والآلام.والعكس بالعكس، فلو كفر النعمة وجزع في البليَّة فإنَّه سيكون خاسراً في جميع الأدوار، رغم تصوُّره وهماً أنَّه في نعمة الغنىٰ أو الصحَّة، فهو من الداخل لا يعيش حالة الارتباط بالخالق، وبذا يفقد أمنه وسكينته النفسيين، وما أعظمه من مفقود! وفي الآخرة سيُحاسَب حساباً عسيراً، وأمَّا في حال البلاء فهو خسران في الدنيا والآخرة كما هو واضح.

وممَّا تقدَّم ينبغي أنْ نلتفت إلىٰ التالي:

أوَّلاً: أنَّ هذه الحقيقة تُعطي دافعاً ذاتياً ومحفِّزاً واقعياً للتمسُّك

ص: 87

بالدِّين، ولتحمُّل ما يواجهه المؤمن في هذه الحياة من صعاب، فما دام كلُّه بعين الله تعالىٰ، إذن لا يُبالي المؤمن، سواء وقع علىٰ البلاء أو وقع البلاء عليه.

ثانياً: لا يعني هذا أبداً أنْ يتوقَّف المؤمن عن التغيير نحو الأفضل، فقد يتصوَّر البعض أنَّه ما دام الإنسان رابحاً مع الله سبحانه دوماً، وغانماً علىٰ كلِّ حالٍ، فليبقَ إذن علىٰ ما هو عليه، ولا يُغيِّر من وضعه السيِّئ شيئاً، كمن هو مولود في بيئة جاهلة فيبقىٰ علىٰ جهله، أو مريض فلا يعالج نفسه، أو فقير بفقر مدقع فيُعرض علىٰ العمل لتوفير اللقمة بعزَّة وكرامة، ويستمرئ كلَّ ما مرَّ بحجَّة إمكانية الصبر والاطمئنان وربط الأمر بالله تعالىٰ ليتحوَّل إلىٰ رابح ومستفيد.

ولكنَّه تصوُّر بعيد عن الصواب، وسلوك مجانب للعقل والدِّين، فما تمَّ استعراضه من قاعدة (إحدىٰ الحُسنيين) يُقصَد منه الابتلاءات التي تعرض علىٰ الإنسان من دون أنْ يكون رفعهاباختياره، فتأتي قضيَّة الصبر والتسليم و...

وأمَّا في حالة عروض بعض الابتلاءات السلبية عليه، وكان بإمكانه رفعها، وكان الدِّين والعقل يحثّانه علىٰ تغييرها، ولكنَّه بسوء اختياره وجزافية قراره بقي في جهله أو مرضه أو فقره، فهذا خروج عن نظام المستفيد بنظر الدِّين، وسيكون في عداد الخاسرين في جميع الأدوار التي سيمرُّ بها، ففي الدنيا مثلاً يعاني من المرض وفي الآخرة من العقاب لتعريض نفسه إلىٰ التلف وقد أُمِرَ بحفظها وصيانتها.

وهذا ما تشير إليه بعض النصوص، فقد روي عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «إنَّ نبيًّا من الأنبياء مرض فقال: لا أتداوىٰ حتَّىٰ يكون

ص: 88

الذي أمرضني هو الذي يشفيني، فأوحىٰ الله عزّ وَجل: لا أُشفيك حتَّىٰ تتداوىٰ، فإنَّ الشفاء منّي والدواء منّي، فجعل يتداوىٰ، فأتىٰ الشفاء»(1)

* * *

ص: 89


1- مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي (ص 362).

(43)مسؤولية الإنسان

اشارة

كلُّ شيء في الوجود قائم علىٰ أساس نظام دقيق متوازن، هو نظام المسؤولية، فما من شيء إلَّا وله مسؤولية يفترض به أنْ يُؤدّيها علىٰ أحسن وجه، وأيُّ تقصير أو تخلّي عن هذه المسؤولية فإنَّه سيُؤدّي إلىٰ خلل في النظام التكويني أو التشريعي.

فالجبال لها مسؤوليتها التي تُؤدّيها علىٰ أحسن وجه، تلك هي مسؤولية توطيد وتوتيد الأرض، وهذا ما يُعبِّر عنه تعالىٰ في القرآن الكريم بقوله عزَّ من قائل: ]وَالْجِبالَ أَوْتاداً 7[ (النبأ: 7)، وقال تعالىٰ: ]وَأَلْقىٰ فِي الْأَرضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 15[ (النحل: 15).

وقال أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «ووتد بالصخور ميدان أرضه»(1)

لقد ذكرت الأبحاث العلمية - التي أشار لها القرآن الكريم بألفاظ موجزة في هذه الآيات وغيرها - أنَّ ما نراه من الجبال العظيمة التي تمتدُّ علىٰ شكل سلاسل جبلية طويلة ما هي إلَّا الجزء الأصغر من الجبال، والجزء الأعظم هو في باطن الأرض.

فالجبل يضرب بعروقه إلىٰ مسافات عميقة جدًّا تحت سطح

ص: 90


1- نهج البلاغة (ج 1/ ص 14).

الأرض، وهناك ستلتقي عروق الجبال فيما بينها مكوِّنة شبكة أشبه بالحصيرة الكونكريتية المستعملة في البناء! وهذا من شأنه أنْ يُوقِف مدَّ الزلازل لو حدثت في منطقة من المناطق، بمعنىٰ أنَّ أيَّ زلزال لو حدث علىٰ الأرض فمن شأنه أنْ يستمرَّ إلىٰ جميع أجزاء الكرة الأرضية، ولكن لأنَّ عروق الجبال تقف في وجهه، ترىٰ هذا الزلزال يتوقَّف عند حدٍّ محدودٍ! ولذلك تجد أنَّ الجبال لو تخلَّت عن هذه المسؤولية فإنَّ أيَّ زلزال يقع، فإنَّه سيُدمِّر جميع الكرة الأرضية.

ولعلَّ هذا هو ما سيحصل عندما يأمر الله تعالىٰ الجبال فتكون سراباً! وذلك عندما تحين نهاية العالم، ففي المرحلة الأُولىٰ يأمر الله تعالىٰ الجبال فتتخلّىٰ عن مسؤوليتها!

قال تعالىٰ: ]وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَىٰ الأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً 47[ (الكهف: 47).

وقال تعالىٰ: ]وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً 105 فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً 106 لا تَرىٰ فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً 107 يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً 108[ (طه: 105 - 108).

وقال تعالىٰ: ]وَتَرَىٰ الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ 88[ (النمل: 88).

وبعد هذه المرحلة، يحدث ذلك الزلزال الذي سيُدمِّر الأرض- كلَّ الأرض -!

قال تعالىٰ في سورة الزلزلة: ]إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرضُ زِلْزالَها 1

ص: 91

وَأَخْرَجَتِ الْأَرضُ أَثْقالَها 2 وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها 3 يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها 4 بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحىٰ لَها 5 ...[ (الزلزلة: 1 - 5).

فهذه الزلزلة التي ستحصل بأمر الله تعالىٰ سوف تُدمِّر كلَّ الأرض، لأنَّه لا يوجد ما يُوقِفها عن الاستمرار بتدميرها، ذلك أنَّ الذي يُوقِفها هو الجبال، ولكن الجبال قد زالت قبل ذلك(1))!

إذن، فالجبل لو تخلّىٰ عن مسؤوليته، فإنَّ هذا سيُؤدّي إلىٰ اختلال تكويني.

وهكذا النبات له مسؤولية عليه أنْ يقوم بها، فمن مسؤوليته مثلاً أنَّه يأخذ غاز ثاني أُوكسيدالكربون () الذي هو غاز سام بالنسبة للإنسان، يأخذه ويجود علينا بغاز الأُوكسجين، الذي عليه تدور حياة الإنسان. ولذلك تجد أنَّ نسيم الحدائق الغنّاء يُنعِش الروح ويُحسِّسها بالارتياح والطمأنينة، لما تُوفِّره من غاز مفيد، ولما تُخلِّص الجوَّ من الغاز السام! وتستطيع أنْ تتصوَّر الحالة السيِّئة التي سيمرُّ بها الإنسان علىٰ الأرض لو تخلّىٰ النبات عن مسؤوليته!

والحيوان له مسؤوليته أيضاً، فمن مسؤوليته ما ذكره القرآن الكريم حيث يقول عزَّ من قائل: ]وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ ءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ 5 وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ 6 وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلىٰ بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّالْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ 7 وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ 8 وَعَلَىٰ اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ 9[ (النحل: 5 - 9).

ص: 92


1- هذا مجرَّد تحليل يمكن الاستفادة منه من آيات القرآن الكريم، وهذا بالطبع لا يعني أنَّ القدرة الإلهيَّة لا يمكنها تدمير الأرض بطريقة أُخرىٰ.

وحتَّىٰ لو تخلّىٰ الإنسان عن بعض فوائد الحيوانات - كحمل الأثقال والتنقُّل - ولكن تبقىٰ الحيوانات من أهمّ مصادر غذاء الإنسان.

والخلاصة من كلِّ هذا: أنَّ كلَّ شيء في الوجود فإنَّ عليه مسؤولية لا بدَّ أنْ يُؤدّيها علىٰ أحسن حال، وإلَّا لحدث اختلال في النظام وفساد كبير.

وهنا نسأل:

ما هي مسؤولية الإنسان؟! هذا الموجود الذي كرَّمه الله تعالىٰ علىٰ جميع المخلوقات(1))، هذا الإنسان الذي حرمته أعظم من حرمة الكعبة(2))، هذا الإنسان الذي قطرة دمه أغلىٰ من الدنيا كلِّها(3))! ما هيمسؤوليته؟

النظريات في مسؤولية الإنسان:

لقد اختلفت النظريات والحضارات الإنسانية في ذلك علىٰ مرِّ التاريخ، فهناك من قال بأنَّ مسؤولية الإنسان هي الاعتناء بروحه فقط، ليس هذا وحسب، بل مهمَّته تحطيم الجسم وعدم إعطائه أيَّ حقٍّ من

ص: 93


1- قال تعالىٰ: ]وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً 70[ (الإسراء: 70).
2- عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: «المؤمن أعظم حرمة من الكعبة». (ألف حديث في المؤمن للشيخ هادي النجفي: ص 170، عن الخصال للشيخ الصدوق: ص 27). وعن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنَّه نظر إلىٰ الكعبة فقال: «مرحباً بالبيت، ما أعظمك وأعظم حرمتك علىٰ الله، والله للمؤمن أعظم حرمة منك، لأنَّ الله حرَّم منك واحدة ومن المؤمن ثلاثة، ماله ودمه وأنْ يُظَنَّ به ظنَّ السوء). (ألف حديث في المؤمن للشيخ هادي النجفي: ص 170، عن مشكاة الأنوار لعليٍّ الطبرسي: ص 78، ونقل عنه في بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي: ج 64/ ص 71/ ح 39).
3- عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم». (الجامع الصغير لجلال الدِّين السيوطي: ج 2/ ص 403/ ح 7236).

حقوقه، تلك الحقوق التي يُسمّونها بالشهوات والنزوات الحيوانية. تلك هي نظرية (الرهبانية)، وبالتالي فمسؤولية الإنسان تنحصر بإقامة الشعائر الدِّينية بهذا الوجه من الرهبنة، وانعدام الاستفادة من هذه الحياة الدنيا.

وهناك نظرية تقول بأنَّ مسؤولية الإنسان هي أنْ يبني نفسه مادّياً، فيُشبِع رغباته بأيِّ طريقة وبأيَّة وسيلة، فأنت مطالب بجمع المال، أمَّا عن الطريقة فليست مهمَّة، فالربا والسرقة والغشُّ والتطاول علىٰ حقوق الآخرين علىٰ المستوىٰ الفردي أو الدولي، كلُّها طُرُق مشروعة من أجل بناء الذات! تلك هي النظرية الرأسمالية.

وكان ل-- (سيجموند فرويد) نظريته الخاصَّة وهي: أنَّ الإنسان مسؤوليته فقط إشباع الغريزة الجنسية بأيِّ وسيلة، وفسَّر كلَّ التصرُّفات الإنسانية علىٰ أساس الجنس، وبالتالي فمسؤوليةالإنسان منحصرة بالجانب المادّي وما يُشبِع نهمه اللّامتناهي.

مسؤولية المسلم في نظرية الدِّين:

ونحن كمسلمين، علينا أنْ نعرف مسؤوليتنا من خلال نظرياتنا الخاصَّة بنا، أعني بالرجوع إلىٰ مصادر علوم المسلمين عموماً، القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية والمعصومية.

وبرجوعنا إلىٰ هذه المصادر، نجد أنَّ أهمَّ مسؤولية للمسلم هي أنْ يكون مهتدياً وهادياً، متوازناً في ذلك بين الدنيا والآخرة، فلا إفراط ولا تفريط في كلا جانبي الحياة الدنيا والآخرة.

وهذه المسؤولية تختلف من شخص لآخر حسب وضعه، وهذا ما يُعبِّر عنه رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بقوله فيما روي عنه: «كلُّكم راعٍ وكلُّكم

ص: 94

مسؤول عن رعيَّته، فالإمام راعٍ وهو المسؤول عن رعيَّته، والرجل في أهله راعٍ وهو مسؤول عن رعيَّته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيَّتها، والخادم في مال سيِّده راعٍ وهو مسؤول عن رعيَّته، والرجل في مال أبيه راعٍ وهو مسؤول عن رعيَّته، وكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيَّته»(1)

وعلىٰ كلِّ حالٍ، فهناك ثلاث مراحل لهذا المسؤولية، نستفيد الأُولىٰ والثانية من آية قرآنية، هي قوله تعالىٰ: ]يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ 6[ (التحريم: 6).والثالثة من حديث نبوي شريف.

المرحلة الأُولىٰ: وقاية النفس وهدايتها:

وتتلخَّص هذه المرحلة بأنْ يكون الإنسان متَّقياً، وكيف يكون متَّقياً؟

إنَّها معادلة بسيطة نظرياً صعبة عملياً، إنَّها (الورع مع الاجتهاد لتنتج التقوىٰ).

إنَّ معنىٰ التقوىٰ مركَّب من أمرين:

أ - الورع، وهو الابتعاد عن المعاصي صغيرها وكبيرها، بل وعن الشبهات.

ب - الاجتهاد، وهو بذل الجهد في عمل الواجبات والطاعات.

ونتيجة هذين الأمرين هي التقوىٰ.

ص: 95


1- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي (ج 1/ ص 129).

وقد قال أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفَّة وسداد»(1)

المرحلة الثانية: وقاية الأهل وهدايتهم:

أمَّا كيف أهدي أهلي؟

فهذا ما ورد في رواية تُفسِّر الآية المتقدِّمة، حيث ورد أنَّها لمَّا نزلت قال الناس: «يا رسول الله، كيف نقي أنفسنا وأهلينا؟ قال: «اعملوا الخير، وذكِّروا به أهليكم، فأدِّبوهم علىٰ طاعة الله»، ثمّ قال أبو عبد الله [عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ]: «ألَا ترىٰ أنَّ الله يقول لنبيِّه: ] وَأْمُرْأَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها[ [طه: 132]»(2)

وعن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عن قول الله تعالىٰ: ]يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ[ [التحريم: 6]، فقلت: هذه نفسي أقيها، فكيف أقي أهلي؟ فقال: «تأمرهم بما أمر الله به، وتنهاهم عمَّا نهاهم الله عنه، فإنْ أطاعوك كنت قد وقيتهم، وإنْ عصوك كنت قد قضيت ما كان عليك»(3)

المرحلة الثالثة: هداية الناس:

ودفعهم نحو التزام الدِّين وما فيه خير الدنيا والآخرة لهم، وهي مسؤولية الجميع ممَّن يمكنه ذلك، فمن أُتيحت له فرصة الهداية - بعد أنْ كان مهتدياً في نفسه - فلا يُقصِّر فيها، فله فيها ما لا يعلمه إلَّا الله تعالىٰ.

ص: 96


1- نهج البلاغة (ج 3/ ص 70).
2- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي (ج 1/ ص 82).
3- كتاب الزهد للحسين بن سعيد الكوفي (ص 17/ ح 36).

فعن مسمع بن عبد المَلِك، عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: «قال أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: بعثني رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ إلىٰ اليمن، وقال لي: يا عليُّ، لا تقاتلنَّ أحداً حتَّىٰ تدعوه إلىٰ الإسلام، وأيم الله لئن يهدي الله عزّ وَجل علىٰ يديك رجلاً خير لك ممَّا طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه»(1)

* * *

ص: 97


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 28/ باب وصيَّة رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وأمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في السرايا/ ح 4).

(44)الهرب من ثقافة النفاق

معادلة غير متوازنة:

اشارة

للقرآن الكريم أساليب متعدِّدة في عرض الحقائق، تبتني علىٰ الصراحة في بعض الأحيان، وعلىٰ التلميح أحياناً أُخرىٰ، وعلىٰ الكناية والأساليب البلاغية العميقة أحياناً كثيرة، وهو في ذلك يُعطي دروساً قيِّمة للحياة لمن يريد أنْ يستفيد منها، فالقرآن ليس لكلِّ أحد، إنَّما هو لمن يريد أنْ يستفيد منه: ]هُدىٰ لِلْمُتَّقِينَ 2[ (البقرة: 2).

ومن أساليب القرآن الكريم أنَّه يذكر العديد من السُّنَن التي تحكم الأفراد والمجتمعات، تلك السُّنَن التي إذا ما عرفها المسلم فسيكون عنده منهاج متكامل في كيفية التعامل مع المجتمعات والأفراد علىٰ اختلاف مشاربهم.

ومن تلك السُّنَن هي سُنَّة: ]لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ 13[ (الحشر: 13).

يُقرِّر القرآن الكريم سُنَّة تكوينية في المنافقين، أُولئك الأفراد الذين يخفون غير ما يُعلِنون، يضمرون العداوة للمؤمنين ويُظهِرون لهم أنَّهم يُحِبُّونهم، هذه السُّنَّة تقول: إنَّ المنافقين يخافون من المؤمنين أكثر من خوفهم من الله تعالىٰ، إنَّهم لا يخافون من الله تعالىٰ، ولذلك يضمرونالعداوة للدِّين، ولكنَّهم يخافون من الناس، ولذلك يُظهِرون الإيمان وحُبَّ الدِّين.

ص: 98

وهذا هو الأساس الذي يبتني عليه النفاق.

إنَّ هذا المعنىٰ واضح جدًّا ولا يحتاج إلىٰ بيان أكثر.

ولكن الذي يحتاج إلىٰ تأمُّل وتفكير هو أنْ نتساءل مع أنفسنا: نحن نُظهِر الإيمان ونُبطِنه إنْ شاء الله تعالىٰ، ولكن هل لنا أعمال تشبه أعمال المنافقين والعياذ بالله؟!

هل نحن نخاف من الناس أكثر من خوفنا من الله تعالىٰ؟!

فإنَّ للمنافقين صفات عديدة تتجلّىٰ من خلال مواقفهم، الأمر الذي كشفت الروايات الشريفة بعض حيثياته، فعن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «ما زاد خشوع الجسد علىٰ ما في القلب فهو عندنا نفاق»(1)

وعن الإمام عليٍّ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «ورع المنافق لا يظهر إلَّا علىٰ لسانه»(2)

ثقافة النفاق:

والذي يهمُّنا هو أنْ نتعرَّف علىٰ بعض الأُمور التي تزرع النفاق في القلب، أو قل: تزرع الخوف من الناس في القلب أكثر من الخوف من الله تعالىٰ، فإنَّنا وللأسف نعيش اليوم ثقافة عالية الجودة في رسم هذا الخوف العلني من الناس والتقليل من الخشيةمن الله تعالىٰ، وهذا نجده في العديد من المفردات:

المفردة الأُولىٰ: التربية غير الصالحة:

فإنَّ بعضاً من الآباء والأُمَّهات - من حيث يشعرون أو لا

ص: 99


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 396/ باب صفة النفاق والمنافق/ ح 6)؛ وفي هامش المصدر: في قوله: (عندنا) إيماء إلىٰ أنَّه ليس بنفاق حقيقي، بل هو خصلة مذمومة شبيهة بالنفاق.
2- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 504).

يشعرون - يزرعون هذه الفكرة في قلوب أطفالهم، مثلاً الطفل يسمع أباه يقول: (ما كان مع الله فهو سهل، وما كان مع الناس فهو صعب).

فهو بهذه الكلمة قد يُوحي إلىٰ ولده أنَّ الأُمور التي تخالف رضا الله تعالىٰ هيِّنة إذا ما قيست بالأُمور التي تخالف رضا الناس!

في حين أنَّ الإسلام يعاكس هذه النظرة تماماً، حيث ورد أنَّه كتب رجل إلىٰ الحسين بن عليٍّ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: يا سيِّدي، أخبرني بخير الدنيا والآخرة. فكتب إليه: «بسم الله الرحمن الرحيم، أمَّا بعد، فإنَّه من طلب رضا الله بسخط الناس كفاه الله أُمور الناس، ومن طلب رضا الناس بسخط الله وكله الله إلىٰ الناس، والسلام»(1)

علىٰ الآباء والأُمَّهات أنْ يزرعوا في قلوب أطفالهم حُبَّ الله تعالىٰ، وفي نفس الوقت أنْ يزرعوا الخوف والخشية من الله تعالىٰ، وأنَّه تعالىٰ وإنْ كان لا يظلم أحداً، ولا عداوة له مع أحد لذاته، ولكنَّه تعالىٰ شديد العقاب لمن يخالف أوامره، وهو تعالىٰ أحقّ بالخوف من غيره، فإنَّ غيره لا يملك من أمر نفسه شيئاً، فكيف يملك من أمر غيره شيئاً؟!

ولا بدَّ أنْ نُذكِّرهم بأنَّ التزام أوامر الله تعالىٰ لا تُقرِّب منأجل ولا تقطع من رزق، وأنَّ من يتَّق الله يجعل له مخرجاً وإن اجتمع الناس علىٰ خذلانه، ونُذكِّرهم بقول أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «من أصلح فيما بينه وبين الله، أصلح الله ما بينه وبين الناس» (2)

إنَّ من يشتري رضا الله تعالىٰ ولو بأنْ يسخط الناس عليه، فإنَّ

ص: 100


1- أمالي الشيخ الصدوق (ص 268)؛ الاختصاص للشيخ المفيد (ص 225).
2- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 29/ باب ثواب من أصلح فيما بينه وبين الله/ ح 13).

الأثر الذي يتركه هذا العمل هو أنَّ الله تعالىٰ سيقف هو دون هذا المؤمن ويدافع عنه ويكفيه أمر الناس، فرغم أنَّ أفعاله المخالفة للناس هي مدعاة لغضبهم وسخطهم، وإذا بالله تعالىٰ يرمي المحبَّة في قلوبهم لهذا المؤمن، يقول تعالىٰ: ]إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ 38[ (الحجّ: 38).

وهذا ما عبَّر عنه الإمام أبو عبد الله الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بقوله: «من خاف الله أخاف الله منه كلَّ شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله من كلِّ شيء»(1)

أمَّا من يحاول أنْ يُرضي الناس ولو علىٰ حساب الدِّين والعقيدة، فإنَّ مصيره هو أنَّ الله تعالىٰ سيتركه وسيكله إلىٰ نفسه ليُدبِّر أُموره، وهل يستطيع ذلك وهو فقير في كلِّ شيء؟!

ولذا وجدنا أنَّ المعصومين عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ كثيراً ما كانوا يدعون الله تعالىٰ بأنْ لا يكلهم إلىٰ أنفسهم طرفة عين، لأنَّ هذا يُؤدّي إلىٰ الهلاك لا محالة.عن ابن أبي يعفور، قال: سمعت أبا عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يقول - وهو رافع يده إلىٰ السماء -: «ربِّ لا تكلني إلىٰ نفسي طرفة عين أبداً، لا أقلَّ من ذلك ولا أكثر»، قال: فما كان بأسرع من أنْ تحدر الدموع من جوانب لحيته...(2)

وروي عن الرسول الأكرم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ في بيان كيفية الوصيَّة أنْ تقول: «... اللّهمّ يا عدَّتي عند كربتي، ويا صاحبي عند شدَّتي، ويا وليَّ نعمتي، إلهي وإله آبائي لا تكلني إلىٰ نفسي طرفة عين أبداً، فإنَّك إنْ تكلني إلىٰ نفسي طرفة عين أقرب من الشرِّ وأبعد من الخير...»(3)

ص: 101


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 68/ باب الخوف والرجاء/ح 3).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 581/ باب دعوات موجزات لجميع الحوائج/ ح 15).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 7/ ص 2/ باب الوصيَّة وما أُمِرَ بها/ ح 1).

وفي دعاء للإمام السجّاد عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يقول فيه: «... اللّهمّ لا طاقة لي بالجهد، ولا صبر لي علىٰ البلاء، ولا قوَّة لي علىٰ الفقر، فلا تحظر عليَّ رزقي، ولا تكلني إلىٰ خلقك، بل تفرَّد بحاجتي، وتولَّ كفايتي، وانظر إليَّ، وانظر لي في جميع أُموري، فإنَّك إنْ وكلتني إلىٰ نفسي عجزت عنها ولم أقم ما فيه مصلحتها، وإنْ وكلتني إلىٰ خلقك تجهَّموني، وإنْ ألجأتني إلىٰ قرابتي حرموني، وإنْ أعطوا أعطوا قليلاً نكداً، ومنُّوا عليَّ طويلاً، وذمُّوا كثيراً، فبفضلك اللّهمّ فأغنني، وبعظمتك فأنعشني، وبسعتك فابسط يدي، وبما عندك فاكفني...»(1)والخلاصة: أنَّه ينبغي للمؤمن أنْ يكون لله وفي الله.

المفردة الثانية: ضعف الوازع الدِّيني:

الوازع الدِّيني هو ذلك الإحساس النابع من الذات ولا يتأثَّر بالمؤثِّرات الخارجية، ذلك الإحساس الذي يُسمّيه القرآن الكريم (النفس اللوّامة)، أو كما يُسمّىٰ ب- (الضمير).

إنَّه عبارة عن محكمة داخلية تعمل في الإنسان، محاولةً هدايته إلىٰ الطريق القويم وجعله يلتزمه ولا يتنكَّب عنه.

إنَّ تلك المحكمة لها مقوِّماتها الخاصَّة، وهي تنمو في داخل الإنسان كلَّما أراد الإنسان ذلك، ولكنَّه إذا ما أهملها فإنَّها ستضمر شيئاً فشيئاً حتَّىٰ تموت.

إنَّ من أهمّ ما يُميت تلك المحكمة هي الذنوب، وكما يقول الإمام الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «ما من عبد إلَّا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج

ص: 102


1- الصحيفة السجّادية/ أبطحي (ص 120/ رقم 59، دعاؤه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عند الشدَّة والجهد وتعسُّر الأُمور).

في النكتة نكتة سوداء، فإنْ تاب ذهب تلك السواد، وإنْ تمادىٰ في الذنوب زاد ذلك السواد حتَّىٰ يُغطّي البياض، فإذا غطّىٰ البياض لم يرجع صاحبه إلىٰ خير أبداً، وهو قول الله عزّ وَجل: ]كَلَّا بَلْ رانَ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ 14[ [المطفِّفين: 14]»(1)

إنَّك لا تستطيع أنْ تُظهِر معصية الله تعالىٰ وأنت جالس في المسجد، حيث الناس ينظرون إليك، وحيث العيون تترقَّبك، وحيث إنَّ سمعتك طيِّبة بين الناس، ويظهر منك التديُّن، ولكن البعض مع الأسف عندما يخلو بنفسه تبدر منه بعض المعاصي، كمن يشاهدويسمع المحرَّمات من خلال التلفزيون أو الهاتف! أو كمن يتخلّىٰ عن الكثير من المبادئ الدِّينية عندما يذهب إلىٰ الكلّية أو إلىٰ بلد لا يعرفه فيه أحد.

لذلك وجب علىٰ كلِّ من يريد أنْ يصبح مؤمناً حقيقة أنْ يعتني بهذه المحكمة، وأنْ يُنمّيها في داخله.

وإنَّ من أهمّ ما تُعرَف به درجة تأثير تلك المحكمة هو أمران: الشهوة والغضب، فجرِّب نفسك عندهما لترىٰ هل تبقىٰ علىٰ إيمانك أم تزلُّ بك القدم؟!

إنَّ هابيل لما قرَّب قرباناً وتقبَّله الله تعالىٰ منه، توعَّده أخوه قابيل بالقتل، ولكن الوازع الدِّيني الذي كان عند هابيل منعه من أنْ يقابله بالمثل، وهو ما يحكيه لنا القرآن الكريم: ]وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ 27 لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ

ص: 103


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 273/ باب الذنوب/ ح 20).

الْعالَمِينَ28 إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ 29 فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ 30[ (المائدة: 27 - 30).

وكذلك النبيُّ يوسف عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، حيث يحكي لنا القرآن الكريم عفَّته العظيمة رغم تهيئة جميع الظروف الملائمة للفاحشة في السرِّ، ولكن الوازع الدِّيني هو الذي منعه من ارتكابها، يقول تعالىٰ: ]وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ23[ (يوسف: 23).

المفردة الثالثة: ضعفُ الإيمان بالغيب، والتأثُّرُ بالمادّيات:

إنَّنا اليوم نعيش ثقافة مادّية بحتة لم نشهدها من قبل، فالكلُّ يعتني بالمظاهر، والكلُّ يعتني بالكماليات من الأُمور، ولو علىٰ حساب الأساسيات، والكلُّ يتأثَّر بالموضة، والكلُّ يحاول اقتناء أكثر ما يستطيع من الأجهزة والآلات والسيّارات والبيوت و...

لا أُريد أنْ أُوحي إليكم أنَّ الاهتمام بهذه الأُمور أمر محرَّم وغير محبَّذ في حدِّ نفسه في الإسلام، كلَّا، ولكنّي أُريد الإشارة إلىٰ أنَّ هذه الأُمور قد أعْمت الكثيرين عن التفكير بالأُمور الأساسية في حياتهم الدنيوية والأُخروية، فالمرء من أجل أنْ يلحق بأصحابه في الثراء تجده يهمل مراعاة أولاده وزوجته وصحَّته وعلاقاته الاجتماعية وصلة أرحامه، بل ووطنه ودينه! وهنا تجده كثيراً ما يشكو ويتململ من عدم توفُّر الوقت الكافي لديه، وتجده مرهقاً طوال الوقت، وتجده مقصِّراً في أُموره طول الخطِّ، ومع ذلك كلِّه تجده يشكو من عدم إكماله أيَّ أمر بدأ به!

وهذا التكالب علىٰ الكماليات جعل الكثير من الناس يهملون

ص: 104

التفكير في علاقتهم مع الله تعالىٰ، وفي نفس الوقت جعلهم يتملَّقون للناس ويُظهِرون لهم الحُبَّ والوئام، ويجاملونهم ولو علىٰ حساب دينهم! وهنا تبدأ الطامَّة الكبرىٰ، حيث يبرز الخوف من الناس أكثر من الخوف من الله تعالىٰ.

أمام هذا الواقع، علينا أنْ نلتفت إلىٰ التالي:

أوَّلاً: أنْ نضع بعين الاعتبار أنَّ الله تعالىٰ هو مسبِّبالأسباب، وأنَّه لا شيء يكون في هذه الحياة من دون إذنه، فحريٌّ بالمؤمن أنْ يمتَّ إليه بصلة وثيقة، إذ هي صلة بالغنيِّ المطلق.

ثانياً: أنْ نضع في الحسبان أنَّ أيَّ إنسان فهو مثلنا في الفقر الوجودي المدقع، وهو مثلنا في احتياجه إلىٰ من يعينه في أصل وجوده واتِّصافه بأيِّ صفة في هذه الحياة، وبالتالي فإنَّ ضمَّ الفقير إلىٰ الفقير لا ينتج إلَّا فقيراً مركَّباً موغلاً في الفقر.

ثالثاً: وأنْ نضع في الحسبان أيضاً أنَّ هذه الحياة ما هي إلَّا معبر إلىٰ حياة أُخرىٰ، فليس لها من القيمة ما يستدعي أنْ يُذِلَّ المؤمن نفسه من أجل شيء من حطامها، فإنَّه مفارقه علىٰ كلِّ حالٍ، ولنتذكَّر: ]وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ 64[ (العنكبوت: 64).

* * *

ص: 105

(45)مواجهة الفشل بالتفاؤل

في هذه الحياة لا شيء ثابت، وبالتالي، فإنَّ الضمانات فيه شبه مستحيلة.

لا يستطع أحد أنْ يثق بصحَّته، فالأمراض الفتّاكة أثبتت خبرتها في أنَّها لا يبدو منها أيُّ أثر حتَّىٰ تنشب أظفارها في كلِّ مفصل من مفاصل البدن، والواقع المشاهد خير شاهد.

والغنىٰ وكثرة المال كالزئبق، لا يمكن لأحد أنْ يُمسِكه من طرف، حتَّىٰ ينزلق من طرف آخر. ولذلك فالدنيا لا تبقىٰ تحت يد أحد أبداً، وإلَّا: «لو بقيت الدنيا علىٰ أحدكم لم تصل إلىٰ من هي في يده» كما يُروىٰ عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ(1)

والسلطة والكرسي أشبه بأسد رابض، يظنُّه الغافل حملاً وديعاً، وهو هو الأسد الذي إنْ ثار قلبها رأسهاً علىٰ عقب، فإنَّ «صاحب السلطان كراكب الأسد، يُغبَط بموقعه، وهو أعلم بموضعه»(2)

فهذا هو حال الحياة، الأمر الذي أبدع أمير البيان وفارس البلاغة بتصويره أروع تصوير - كما هي العادة - بقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ:«أوَلستم ترون أهل الدنيا يُصبِحون ويُمسون علىٰ أحوال شتّىٰ، فميِّت يُبكىٰ وآخر

ص: 106


1- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 417).
2- نهج البلاغة (ج 4/ ص 63/ الحكمة رقم 263).

يُعزّىٰ، وصريع مبتلىٰ، وعائد يعود وآخر بنفسه يجود، وطالب للدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه، وعلىٰ أثر الماضي ما يمضي الباقي»(1)

ولكن رغم ذلك، فلا يعني أنَّ المَرْء يقف ينتظر التغيُّرات تعصف به من كلِّ جانب، وهو لا يُحرِّك يداً، بل المطلوب منه أنْ يقف كلَّما سقط، وأنْ يعمل علىٰ التغيير للأفضل ما دام في جسده رمق، وأنْ لا ييأس من النجاح مهما فشل، وهو أمر أشار له أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بقوله:

«فلا تطمعوا في غير مقبل، ولا تيأسوا من مدبر، فإنَّ المدبر عسىٰ أنْ تنزل به إحدىٰ قائمتيه وتثبت الأُخرىٰ، فترجعا حتَّىٰ تثبتا جميعاً»(2)

فيُشبِّه الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ذلك بمن يتحرَّك في جادَّة فتزلُّ إحدىٰ قدميه، فيظنُّ الناس أنَّه سقط، ولا سبيل إلىٰ قيامه ثانيةً، إلَّا أنَّه سرعان ما يعتمد علىٰ قدمه الأُخرىٰ فينهض من سقطته ويجدُّ في الحركة ثانيةً.

وما يُراد الإشارة له هنا هو التالي:

في الحوادث الصعبة ينبغي مراعاة قاعدتين كلّيتين:

الأُولىٰ: عدم التفاؤل المفرط، وعدم الاستعجال في الأعمال، وعدم الاعتماد علىٰ شيء لم تتوفَّر مقدّماته، فإنَّ الاستعجال قديُؤدّي إلىٰ نتائج وخيمة، تماماً كما أنَّ قطف الثمرة قبل أوانها مفسدة لها، يقول أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه»(3)

ص: 107


1- نهج البلاغة (ج 1/ ص 192).
2- نهج البلاغة (ج 1/ ص 193 و194).
3- نهج البلاغة (ج 1/ ص 40).

الثانية: أنْ لا تدعو الهزيمة إلىٰ اليأس والقنوط، فإنَّ الإخفاق يتحوَّل إلىٰ نجاح بالتجارب، أضف إلىٰ ذلك فإنَّ الألطاف الإلهيَّة قد تشمل الإنسان وتُمهِّد له كلَّ أسباب النجاح ومقوِّمات النصر.

وينفع هنا كثيراً أنْ يطالع المؤمن في حياة الناجحين بعد الفشل، وفي حياة من استغلُّوا أوَّل فرصة لينهضوا من وحل السقوط، وينفضوا عن أجنحتهم تراب الخسارة، ليرتقوا في ما يُتاح لهم من أسباب النجاح والفلاح. تماماً كما قال أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «كن لما لا ترجو أرجىٰ منك لما ترجو، فإنَّ موسىٰ بن عمران عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ خرج يقتبس لأهله ناراً فكلَّمه الله عزّ وَجل ورجع نبيًّا مرسَلاً، وخرجت ملكة سبأ فأسلمت مع سليمان عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، وخرجت سحرة فرعون يطلبون العزَّ لفرعون فرجعوا مؤمنين»(1)

ولقد نُقِلَ في سيرة الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنَّه كان كثير التفاؤل بالخير في أحلك الظروف وأصعبها، ففي قضيَّة صلح الحديبية لمَّا صعبت الأُمور، إذ جاء سهيل بن عمرو، فقال صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «قد سهل عليكم أمركم...»(2)

فقد تفاءل الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ باسم (سهيل) لتسهيل الأُمور، وهكذا كان.إذن، مهما صعبت، وتلكَّأت، وضاقت، واختنقت، فإنَّ هناك منفذاً جعله الله تعالىٰ أوسع بكثير من كلِّ تلك الظروف الحالكة، فإنَّ العسر مهما كان، فإنَّ اليسر آتٍ بعده.

ومن هنا روي عن ابن عبّاس، قال: يقول الله تعالىٰ: «خلقت عسراً واحداً، وخلقت يسرين، فلن يغلب عسر يسرين»(3)

ص: 108


1- الكافي (ج 5/ ص 83 و84/ باب الرزق من حيث لا يُحتَسب/ ح 3).
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 1/ ص 175).
3- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي (ج 10/ ص 390).

وروي أنَّه خرج النبيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يوما مسروراً فرحاً، وهو يضحك، ويقول: «لن يغلب عسر يسرين، ]فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً 5 إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً 6[ [الشرح: 5 و6]»(1)

* * *

ص: 109


1- المصدر السابق، وبعده: قال الفرّاء: إنَّ العرب تقول: إذا ذكرت نكرة، ثمّ أعدتها نكرة مثلها، صارتا اثنتين، كقولك: إذا كسبت درهماً فأنفق درهماً، فالثاني غير الأوَّل، فإذا أعدَّتها معرفةً فهي هي كقولك: إذا كسبت الدرهم فأنفق الدرهم، فالثاني هو الأوَّل، ونحو هذا ما قال الزجّاج: إنَّه ذكر العسر مع الألف واللّام، ثمّ ثنّىٰ ذكره، فصار المعنىٰ إنَّ مع العسر يسرين.

(46)تقدمة لنفسك

يسعىٰ الآباء والأُمَّهات عموماً في هذه الحياة لأجل غايات كثيرة، علىٰ رأس قائمتها هدف توفير العيش الكريم لأولادهم، وهو هدف - بحقٍّ - عظيم جدًّا، فالأب الذي يعمل علىٰ أنْ لا يحتاج أولاده لغيره لهو أب كريم، والأُمُّ التي تعمل علىٰ أنْ يكون أولادها أعظم رجال وأعفّ نساء لهي من عُمّال الله تعالىٰ علىٰ الأرض، وعلىٰ عكس ذلك تماماً يقف من يجعل أهله يتكفَّفون من الناس مالاً لحاجة، أو نصيحة لموقف، أو ابتسامة شفّافة.

وهذا يعني التالي:

أوَّلاً: أنَّ من مفردات السعادة الحقيقية في هذه الحياة لكلٍّ من الآباء والأولاد، هو أنْ يكون الأب هو القيِّم علىٰ عياله، ولا يُحوجهم إلىٰ غيره، فإنَّ في هذا إحساساً بنشوة الانتصار علىٰ صعوبة الحياة وجشوبة العيش، ولهفة لرؤية العيال مسرورين بما يجلبه لهم أبوهم من تُحَف وهدايا، وقد روي عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «من سعادة المرء أنْ يكون القيِّم علىٰ عياله»(1)

وعنه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «اليد العليا خير من اليد السفلىٰ، وابدأبمن تعول»(2)

ص: 110


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3/ ص 168/ ح 3628).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 4/ ص 11/ باب كفاية العيال والتوسُّع عليهم/ ح 4).

بالإضافة إلىٰ أنَّ هذا سيكون باباً من أبواب تحصيل الرضا الإلهي، فقد روي عن أبي حمزة الثمالي، عن عليِّ بن الحسين عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ، قال: «أرضاكم عند الله أسبغكم علىٰ عياله»(1)

ثانياً: أنَّ تضييع العيال وإلقاءهم في الحاجة إلىٰ الغير، هو إثم علىٰ المستويين: المادّي والمعنوي. أمَّا من الجهة المادّية فباعتبار أنَّ الزوجة والأولاد هم واجبوا النفقة علىٰ الأب، فإذا لم يُوفِّر لهم كفايتهم كان مذنباً من هذه الجهة. وأمَّا من الجهة المعنوية، فإنَّ العيال إذا رأوا أباهم لا يُوفِّر لهم ما يحتاجون، وفي الوقت ذاته يرون أترابهم وجيرانهم وقد توفَّروا علىٰ ما يحتاجونه من كدِّ أبيهم، حينها سينظرون إلىٰ أبيهم علىٰ أنَّه رجل ضعيف لا قدرة له علىٰ توفير أبسط أساسيات الحياة، ممَّا يعني خسارة الأب أهمّ صفة في البيت، هي صفة (القدوة).

وقد روي عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «كفىٰ بالمرء إثماً أنْ يُضيِّع من يعول»(2)

وعن النبيِّ الأكرم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «ملعون ملعون من يُضيِّع من يعول»(3)بل قد يُسبِّب ذلك أنْ يتمنّىٰ العيال موت أبيهم! وعندها سوف يعيش الأب مع قوم لا يرون له قيمة في الحياة، وحسبك بهذا تعاسة في العيش.

روي عن أبي الحسن الرضا عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «ينبغي للرجل أنْ يُوسِّع علىٰ عياله كي لا يتمنَّوا موته»، وتلا هذه الآية: ]وَيُطْعِمُونَ

ص: 111


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 4/ ص 11/ باب كفاية العيال والتوسُّع عليهم/ ح 1).
2- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3/ ص 168/ ح 3629).
3- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3/ ص 168/ ح 3630).

الطَّعامَ عَلىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً 8[ [الإنسان: 8]، قال: «الأسير عيال الرجل، ينبغي للرجل إذا زيد في النعمة أنْ يزيد أُسراءه في السعة عليهم...»(1)

ومنه قد نفهم بعض الحكمة من اعتبار الكادِّ علىٰ عياله كالمجاهد في سبيل الله تعالىٰ(2)

ثالثاً: في الوقت ذاته، يلزم علىٰ العيال أنْ يقفوا إلىٰ جنب أبيهم عندما تمرُّ به ضائقة مالية بسبب تلكُّؤ العمل أو فقدانه لصحَّته ممَّا يمنعه من العمل، أو بسبب فقدانه عمله لسبب ولآخر ممَّا يُؤدّي إلىٰ تأخُّره في توفير حاجاتهم فترة بحثه عن عمل جديد وما شابه.

إنَّ كلَّ ما تقدَّم صحيح، ولعلَّه واضح.

ولكن الذي يُراد التنبيه عليه والتركيز عليه هنا، هي حقيقة أُخرىٰ متعلّقة بالأب نفسه، وهي التالي:

صحيح أنَّك مطالب بأنْ تُوفِّر لعيالك العيش الكريم الرغيد،وصحيح أنَّك ستكسب بذلك أجراً لا يعلمه إلَّا الله تعالىٰ، ولكن هذا لا يعني أنْ تنسىٰ نفسك وتُهلِكها من أجلهم!

أبقِ لنفسك بقيَّة.

فنفسك أحبّ الأنفس عليك.

لا تستهلك صحَّتك تماماً من أجل بعض المال الذي لن يكفيك للعلاج في المستقبل.

ولا تصرف كلَّ ما يأتيك في الأُمور الدنيوية فقط، فإنَّ العيال قد

ص: 112


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 4/ ص 11/ باب كفاية العيال والتوسُّع عليهم/ ح 3).
2- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3/ ص 168/ ح 3631).

يصلون إلىٰ مرحلة تكون مطالبهم غير متناهية، وبالتالي قد يتسبَّب ذلك في أنْ يتناسىٰ الأب ما عليه من ضرورات أُخرىٰ، كتفقُّد الأبوين ومساعدتهم، وكتفقُّد الأقارب وإعانتهم، وكتقديم بعض ما ينفعه في قبره كصدقة جارية وما شابه.

ورائع ما بيَّنه أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في هذا الشأن بقوله لابنه الإمام الحسن عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «يا بنيَّ، لا تخلفنَّ وراءك شيئاً من الدنيا، فإنَّك تخلفه لأحد رجلين: إمَّا رجل عمل فيه بطاعة الله فسعد بما شقيت به، وإمَّا رجل عمل فيه بمعصية الله فكنت عوناً له علىٰ معصيته. وليس أحد هذين حقيقاً أنْ تُؤثِره علىٰ نفسك».

ويُروىٰ هذا الكلام علىٰ وجه آخر وهو: «أمَّا بعد، فإنَّ الذي في يدك من الدنيا قد كان له أهل قبلك، وهو صائر إلىٰ أهل بعدك، وإنَّما أنت جامع لأحد رجلين: رجل عمل فيما جمعته بطاعة الله فسعد بما شقيت به، أو رجل عمل فيه بمعصية الله فشقي بما جمعت له، وليس أحد هذين أهلاً أنْ تُؤثِره علىٰ نفسك، ولا أنْ تحمل له علىٰ ظهرك، فارج لمن مضىٰ رحمة الله ولمن بقي رزقالله»(1)

وطبعاً لا يعني هذا أبداً تضييع العيال، وإنَّما يعني أنْ توازن بين حاجة نفسك وحاجة غيرك، والمقصود هي الحاجة الأُخروية طبعاً، والتي لا تتعارض مع الحاجة الدنيوية.

ومن لطيف ما يُبيِّن هذه الحقيقة هو ما روي عن محمّد بن مسلم، قال: قال رجل لأبي جعفر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: إنَّ لي ضيعة بالجبل أستغلُّها في كلِّ سنة ثلاثة آلاف درهم، فأنفق علىٰ عيالي منها ألفي درهم، وأتصدَّق منها

ص: 113


1- نهج البلاغة (ج 4/ ص 96 و97/ الحكمة رقم 416).

بألف درهم في كلِّ سنة، فقال أبو جعفر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «إنْ كانت الألفان تكفيهم في جميع ما يحتاجون إليه لسنتهم فقد نظرت لنفسك، ووُفِّقت لرشدك، وأجريت نفسك في حياتك بمنزلة ما يُوصي به الحيُّ عند موته»(1)

وكذلك علىٰ الأُمِّ أنْ تنظر لنفسها في ذلك كما الأب.

إذن المطلوب هو: التوازن.

التوازن بين متطلِّبات الدنيا ومتطلِّبات الآخرة.

بين ما يحتاجه العيال، وما تحتاجه أنت في قبرك.

والحُرُّ تكفيه إشارة.

* * *

ص: 114


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 4/ ص 11/ باب كفاية العيال والتوسُّع عليهم/ ح 2).

(47)التسليم

اشارة

لا شكَّ أنَّ استسلام إنسان لإنسان مثله يُعتَبر من الصفات الرذيلة، والأُمور التي يحاول أنْ يبتعد عنها المرء مهما أُوتي إلىٰ ذلك سبيلاً، وأنَّ الاستقلال في الرأي أو العمل هو من أحد مقوِّمات النجاح في الحياة، وهو إذا لم يستسلم لضغط أو قوَّة أو ظروف فإنَّه سيكون موضع تقدير وإكبار، هذا فضلاً عن الاستسلام في كيفية طريقة الحياة والفكر والعمل، فإنَّ الإنسان الآخر هو بالتالي إنسان، وليس هو أعلم بمصالحي منّي، وقد يجرُّ النار لقرصه، وغيرها من الاعتبارات.

هذا كلُّه صحيح إلىٰ حدٍّ ما.

ولكن إذا وصلت المسألة إلىٰ الله عزّ وَجل، وإلىٰ رسوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وأهل بيته عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ، فإنَّ المسألة ستنعكس، وسيكون من الفخر أنْ تستسلم لأمرهم، ومن العقل أنْ تتَّبعهم بلا نقاش، وكلَّما زاد استسلام (أو قل: تسليم) المرء لهم، كلَّما زادت درجته الكمالية في الوجود عموماً والدِّين خصوصاً، لأنَّ الله تعالىٰ ورسوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وأهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ هم أعلم بمصالح الفرد من نفسه، وليس عندهم مصلحة شخصية ليُقدِّموها علىٰ مصلحة الفرد، فيكون اتِّباعهم والتسليم لأمرهم موضع اطمئنان ووثوق.

والملاحظة المهمَّة هنا هي أنَّ الروايات الشريفة لم تكتفِ بمجرَّد

ص: 115

الموالاة لأُولي الأمر والبراءة من عدوِّهم، فإنَّ هذه الأُمور أُمور ظاهرية جارحية عادةً، وربَّما يلتزمها الفرد وهو منكر لها في قلبه، وهذه الحالة لو كانت في أحد - لا سمح الله - فإنَّها ستُؤثِّر سلباً في قلبه، وربَّما ظهر أثرها يوماً من الأيّام في فلتات لسانه وعلىٰ تقاسيم وجهه، الأمر الذي يحكي عن قاعدة هشَّة وجذور عميقة للابتعاد عن الإيمان.

وحتَّىٰ تكتمل صورة الإيمان وتقوىٰ قاعدته لا بدَّ من أمر آخر يضاف إلىٰ الاعتراف والإقرار بإمامة أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ والموالاة لهم والبراءة من عدوِّهم، ذلك الأمر هو (التسليم القلبي) لأمرهم.

إنَّها حالة الانصياع القلبي والطاعة الداخلية والرضا الباطني عن كلِّ ما يصدر عن الله تعالىٰ ورسوله الكريم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وأهل البيت المعصومين عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ من قضاء أو حكم أو تشريع أو أيِّ شيء آخر.

ومن الطبيعي أنْ يترتَّب علىٰ هذه الحالة الالتزام التامّ الكامل بجميع مفردات الشريعة، من واجبات - بل ومستحبّات -، والابتعاد التامّ الكامل عن جميع نواهيها من محرَّمات - إنْ لم نقل: والمكروهات -.

التسليم عنصر ضروري في الدِّين:

وفي الحقيقة أنَّ التسليم القلبي والرضا النفسي أمر مطلوب في الدِّين عموماً، فهو مطلوب في قضاء الله تعالىٰ، وفي قضاءرسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، وفي أمر أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ، وهذا الأمر ضروري جدًّا لكي يكتمل الإيمان بالدِّين عموماً.

ورد في سبب نزول قوله تعالىٰ: ]فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً 65[ [النساء: 65]، أنَّها نزلت في الزبير ورجل من

ص: 116

الأنصار، خاصمه إلىٰ النبيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ في شراج من الحرَّة(1))، كانا يسقيان بها النخل كلاهما، فقال النبيُّ للزبير: «أسق، ثمّ أرسل إلىٰ جارك»، فغضب الأنصاري، وقال: يا رسول الله، لئن كان ابن عمَّتك! فتلوَّن وجه رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، ثمّ قال للزبير: «أسق يا زبير، ثمّ احبس الماء، حتَّىٰ يرجع إلىٰ الجدر، واستوف حقَّك، ثمّ أرسل إلىٰ جارك»، وكان رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أشار إلىٰ الزبير برأي فيه السعة له ولخصمه، فلمَّا أحفظ رسول الله استوعب للزبير حقَّه في صريح الحكم، ويقال: إنَّ الرجل كان حاطب بن أبي بلتعة.

قال الراوي: ثمّ خرجا، فمرّا علىٰ المقداد، فقال: لمن كان القضاء يا أبا بلتعة؟ قال: قضىٰ لابن عمَّته - ولوىٰ شدقه -، ففطن لذلك يهودي كان مع المقداد، فقال: قاتل الله هؤلاء، يزعمون أنَّه رسول الله ثمّ يتَّهمونه في قضاء يقضي بينهم، وأيم الله! لقد أذنبنا مرَّة واحدة في حياة موسىٰ، فدعانا موسىٰ إلىٰ التوبة، فقال: اقتلوا أنفسكم، ففعلنا، فبلغ قتلانا سبعين ألفاً في طاعة ربِّنا، حتَّىٰ رضيعنّا! فقال ثابت بن قيس بن شماس: أمَا والله إنَّ الله ليعلم منّي الصدق، ولو أمرني محمّد أنْ أقتل نفسي لفعلت. فأنزل الله في شأن حاطب بن أبي بلتعة وليِّه شدقه هذه الآية(2)

وفي تفسير قوله تعالىٰ: ]وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ 47 وَإِذا دُعُوا إِلَىٰ اللهِ وَرَسُولِهِ

ص: 117


1- الشراج جمع الشرجة: وهي مسيل الماء من الحرَّة إلىٰ السهل. الحرَّة: أرض ذات حجارة نخرة سود، كأنَّها أُحرقت بالنار. (من المصدر).
2- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي (ج 3/ ص 121).

لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ 48 وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ 49 أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 50[ [النور: 47 - 50]، حكىٰ البلخي أنَّه كانت بين عليٍّ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ وعثمان منازعة في أرض اشتراها من عليٍّ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، فخرجت فيها أحجار، فأراد ردَّها بالعيب، فلم يأخذها، فقال: «بيني وبينك رسول اللهصَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ»، فقال الحَكَم بن أبي العاص: إنْ حاكمته إلىٰ ابن عمِّه حكم له، فلا تحاكمه إليه، ونزلت الآيات. وهو المروي عن أبي جعفر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أو قريب منه(1)

ولذلك جاء التأكيد الشديد في النصوص الدِّينية علىٰ ضرورة عنصر التسليم في الدِّين، فعن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «لو أنَّ قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجُّوا البيت وصاموا شهر رمضان، ثمّ قالوا لشيء صنعه الله أو صنعه النبيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: ألَا صنع خلاف الذي صنع؟ أو وجدوا ذلك في قلوبهم، لكانوا بذلك مشركين»، ثمّ تلا هذه الآية: ]فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْحَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً 65[ [النساء: 65]، ثمّ قال أبو عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «فعليكم بالتسليم»(2)

وعن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «من سرَّه أنْ يستكمل الإيمان كلَّه فليقل: القول منّي في جميع الأشياء قول آل محمّد، فيما أسرُّوا وما أعلنوا، وفيما بلغني عنهم وفيما لم يبلغني»(3)

ص: 118


1- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي (ج 7/ ص 262).
2- تفسير نور الثقلين للشيخ الحويزي (ج 1/ ص 511).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 391/ باب التسليم وفضل المُسلِّمين/ ح 6).

نماذج راقية من التسليم:

اشارة

عند مطالعة التاريخ نجد هناك صفحات مشرقة لأُناس آمنوا بربِّهم إلىٰ الحدِّ الذي سلَّموا فيه أمرهم إليه ولم يناقشوه في أمر، وما كان لهم سوىٰ السمع والطاعة العمياء. والنماذج كثيرة، نختصر بذكر التالي:

1 - خزيمة ذو الشهادتين:

عن إسحاق بن عمّار، عن جعفر بن محمّد عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ أنَّ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ اشترىٰ فرساً من أعرابي، فأعجبه، فقام أقوام من المنافقين حسدوا رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ علىٰ ما أخذ منه، فقالوا للأعرابي: لو تبلَّغت به إلىٰ السوق بعته بأضعاف هذا، فدخل الأعرابي الشَّرَه، فقال: ألَا أرجع فأستقيله؟ فقالوا: لا ولكنَّه رجل صالح، فإذا جاءك بنقدك فقل: ما بعتك بهذا، فإنَّه سيردُّه عليك، فلمَّا جاء النبيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أخرج إليه النقد فقال: ما بعتك بهذا، فقال النبيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «والذي بعثني بالحقِّ لقد بعتني بهذا»، فقام خزيمة بن ثابت فقال: يا أعرابي، أشهد لقد بعت رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بهذا الثمن الذي قال، فقال الأعرابي: لقد بعته ومامعنا من أحد، فقال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لخزيمة: «كيف شهدت بهذا؟»، فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأُمّي، تُخبِرنا عن الله وأخبار السماوات فنُصدِّقك ولا نُصدِّقك في ثمن هذا؟ فجعل رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ شهادته شهادة رجلين، فهو ذو الشهادتين(1)

2 - محمّد بن أبي بكر ;:

عن ابن الطيّار، قال: ذُكِرَ محمّد بن أبي بكر عند أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، فقال أبو عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «رحمه الله وصلّىٰ الله عليه، قال لأمير

ص: 119


1- الاختصاص للشيخ المفيد (ص 64).

المؤمنينعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يوماً من الأيّام: ابسط يدك أُبايعك، فقال: أوَما فعلت؟ فقال: بلىٰ، فبسط يده، فقال: أشهد أنَّك إمام مفترض طاعتك، وأنَّ أبي في النار!»، فقال أبو عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «كانت النجابة من قِبَل أُمِّه أسماء بنت عميس لا من قِبَل أبيه»(1)

وعن أبي جعفر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّ محمّد بن أبي بكر بايع عليًّا علىٰ البراءة من أبيه(2)

3 - الأصبغ بن نباتة:

كان من شرطة الخميس، وكان فاضلاً. عن أبي الجارود، عن الأصبغ بن نباتة، قال: قلت للأصبغ: ما كان منزلة هذا الرجل فيكم؟ فقال: ما أدري ما تقول، إلَّا أنَّ سيوفنا كانت علىٰ عواتقنا، ومن أومأ إليه ضربناه(3)

4 - سعيد بن عبد الله الحنفي:

روي أنَّ سعيد بن عبد الله الحنفي تقدَّم أمام الحسين، فاستهدف لهم يرمونه بالنبل، كلَّما أخذ الحسين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يميناً وشمالاً قام بين يديه، فما زال يُرمىٰ به حتَّىٰ سقط إلىٰ الأرض وهو يقول: اللّهمّ العنهم لعن عاد وثمود، اللّهمّ أبلغ نبيَّك السلام عنّي، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح، فإنّي أردت بذلك نصرة ذرّية نبيِّك، ثمّ مات رضوان الله عليه، فوُجِدَ به ثلاثة عشر سهماً سوىٰ ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح(4)

ص: 120


1- الاختصاص للشيخ المفيد (ص 69 و70).
2- الاختصاص للشيخ المفيد (ص 70).
3- الاختصاص للشيخ المفيد (ص 65).
4- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 45/ ص 21).

وفي رواية: أنَّه لمَّا سقط قال: يا سيّدي يا بن رسول الله، هل وفيت؟ فاستعبر الحسين باكياً، وقال: «نعم رحمك الله، وأنت أمامي في الجنَّة»(1)

5 - كليب تسليم:

عن زيد الشحّام، عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: قلت له: إنَّ عندنا رجلاً يقال له: كليب، لا يجيء عنكم شيء إلَّا قال: أنا أُسلِّم، فسمَّيناه: كليب تسليم، قال: فترحَّم عليه، ثمّ قال: «أتدرون ما التسليم؟»، فسكتنا، فقال: «هو والله الإخبات، قول الله عزّ وَجل: ]إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلىٰ رَبِّهِمْ[ [هود: 23]»(2)

6 - هارون المكّي:عن مأمون الرقّي، قال: كنت عند سيّدي الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ إذ دخل سهل بن حسن الخراساني، فسلَّم عليه، ثمّ جلس، فقال له: يا ابن رسول الله، لكم الرأفة والرحمة، وأنتم أهل بيت الإمامة، ما الذي يمنعك أنْ يكون لك حقٌّ تقعد عنه وأنت تجد من شيعتك مائة ألف يضربون بين يديك بالسيف؟ فقال له عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «اجلس يا خراساني، رعىٰ الله حقَّك»، ثمّ قال: «يا حنيفة أسجري التنّور»، فسجرته حتَّىٰ صار كالجمرة وابيضَّ علوُّه، ثمّ قال: «يا خراساني، قم فاجلس في التنور»، فقال الخراساني: يا سيّدي يا ابن رسول الله، لا تُعذِّبني بالنار، أقلني أقالك الله، قال: «قد أقلتك»، فبينما نحن كذلك إذ أقبل هارون المكّي ونعله في سبّابته، فقال: السلام عليك يا ابن رسول الله، فقال له الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «ألق النعل من

ص: 121


1- المجالس الفاخرة في مصائب العترة الطاهرة للسيِّد شرف الدِّين (ص 341).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 391/ باب التسليم وفضل المُسلِّمين/ ح 3).

يديك واجلس في التنّور»، فألقىٰ النعل من سبّابته، ثمّ جلس في التنّور، وأقبل الإمام يُحدِّث الخراساني حديث خراسان حتَّىٰ كأنَّه شاهد لها، ثمّ قال: «قم يا خراساني وانظر ما في التنّور»، قال: فقمت إليه، فرأيته متربِّعاً، فخرج إلينا وسلَّم علينا، فقال الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «كم تجد في خراسان مثل هذا؟»، فقلت: والله ولا واحد، فقال عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «لا والله ولا واحد، أمَا إنّا لا نخرج في زمان لا نجد خمسة معاضدين لنا، نحن أعلم بالوقت»(1)

7 - عبد الله بن أبي يعفور:

عن عبد الله بن أبي يعفور، قال: قلت لأبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: واللهلو فلقت رمّانة بنصفين، فقلت: هذا حرام، وهذا حلال، لشهدت أنَّ الذي قلت حلال حلال، وأنَّ الذي قلت حرام حرام، فقال: «رحمك الله، رحمك الله»(2)

8 - عليُّ بن جعفر:

عن محمّد بن الحسن بن عمّار، قال: كنت عند عليِّ بن جعفر بن محمّد جالساً بالمدينة - وكنت أقمت عنده سنتين، أكتب عنه ما سمع من أخيه، يعني أبا الحسن عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ -، إذ دخل عليه أبو جعفر محمّد بن عليٍّ الرضا عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ المسجد - مسجد الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ -، فوثب عليُّ بن جعفر بلا حذاء ولا رداء، فقبَّل يده وعظَّمه، فقال له أبو جعفر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «يا عمّ، اجلس رحمك الله»، فقال: يا سيّدي، كيف أجلس وأنت قائم؟! فلمَّا

ص: 122


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 3/ ص 362 و363)؛ ومدينة المعاجز للسيِّد هاشم البحراني (ج 6/ ص 114 - 116/ ح 1891/321).
2- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي (ج 2/ ص 518 و519/ ح 462).

رجع عليُّ بن جعفر إلىٰ مجلسه جعل أصحابه يُوبِّخونه ويقولون: أنت عمُّ أبيه وأنت تفعل به هذا الفعل؟! فقال: اسكتوا، إذا كان الله عزّ وَجل - وقبض علىٰ لحيته- لم يُؤهِّل هذه الشيبة وأهَّل هذا الفتىٰ ووضعه حيث وضعه أُنْكِرُ فضله؟! نعوذ بالله ممَّا تقولون! بل أنا له عبد(1)

9- الشيخ أبو سهل النوبختي:

قال ابن نوح: وسمعت جماعة من أصحابنا بمصر يذكرون أنَّ أبا سهل النوبختي سُئِلَ، فقيل له: كيف صار هذا الأمر إلىٰ الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح دونك؟ فقال: هم أعلم ومااختاروه، ولكن أنا رجل ألقي الخصوم وأُناظرهم، ولو علمت بمكانه كما علم أبو القاسم وضغطتني الحجَّة (علىٰ مكانه) لعلّي كنت أدلُّ علىٰ مكانه، وأبو القاسم فلو كانت الحجَّة تحت ذيله وقُرِّض بالمقاريض ما كشف الذيل عنه - أو كما قال -(2)

* * *

ص: 123


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 322/ باب الإشارة والنصِّ علىٰ أبي جعفر الثاني عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ/ ح 12).
2- الغيبة للشيخ الطوسي (ص 391/ ح 358).

(48)لا تكن (أسفل سافلين)

اشارة

من الواضح أنَّ القرآن الكريم يعتبر الإنسان موجوداً كريماً عظيماً، بل هو من أكرم ما خلق الله تعالىٰ، ولقد أكرمه الله تعالىٰ في قرآنه وتشريعه، قال تعالىٰ: ]وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً 70[ (الإسراء: 70).

ولكن هناك إشارات، بل وتصريحات بأنَّ هذا الإنسان العظيم قد يتنازل عن عظمته ليكون في صفِّ ]أَسْفَلَ سافِلِينَ[، الأمر الذي يعني تقهقره عن الكمال الوجودي.

ففي إشارة سريعة مختصرة يقول الله تبارك وتعالىٰ: ]لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ 4 ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ 5[ (التين: 4 و5).

والذي يهمُّنا هنا هو معرفة التسافل إلىٰ ]أَسْفَلَ سافِلِينَ[؟

فما هو معناه؟ وما هو سبب التسافل ذاك؟

في الجواب نقول:

يمكن تفسير ]أَسْفَلَ سافِلِينَ[ بعدَّة تفسيرات محتملة:

التفسير الأوَّل:

إنَّ الإنسان بروحه كان في أحسن تقويم عندما كان في عالم الأرواح، قبل أنْ تنزل الأرواح إلىٰ سجن البدن، فصارت حينها في]أَسْفَلَ سافِلِينَ[.

ص: 124

وهذا التفسير مبنيٌّ علىٰ ما دلَّت عليه الروايات العديدة من أنَّ الأرواح خُلِقَت قبل الأبدان بعدَّة آلاف من السنين، كما روي عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «إنَّ الله خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام...»(1)

ولكنَّه علىٰ كلِّ حالٍ ليس من تكليف الإنسان، ولا يلزم منه مؤاخذته، لأنَّه خارج عن إرادته.

نعم، هو يشير إلىٰ أنَّ علىٰ الإنسان أنْ يعمل قدر إمكانه علىٰ أنْ لا يترك روحه حبيسة بدنه، وأنْ يُغذّيها بما يجعلها تستغني شيئاً فشيئاً عن البدن، حتَّىٰ إذا ما جاءه الموت استقبله برحابة صدر ولهفة، لأنَّه يعرف أنَّ الموت هو أفضل فرصة يمكن أنْ يحصل عليها من أجل التحرُّر من سجن البدن.

ولعلَّ هذا هو أحد تفسيرات ما ورد من أنَّ الدنيا سجن المؤمن.

ومن هنا روي أنَّه قيل للإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: صف لنا الموت؟ قال: «للمؤمن كأطيب ريح يشمُّه فينعس لطيبه وينقطع التعب والألم كلُّه عنه...»(2)

وعن الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «ليس للمؤمن راحة دون لقاء الله»(3)

التفسير الثاني:

إنَّ الإنسان وإنْ بدأ حياته بالضعف، ولكنَّه يقوىٰ عوده ويشتدّ إلىٰ أنْ يصبح بدنه أقوىٰ ما يكون في مرحلة الشباب، فيكون حينها في

ص: 125


1- بصائر الدرجات لمحمّد بن الحسن الصفّار (ص 106 و107/ باب 15/ ح 1).
2- علل الشرائع للشيخ الصدوق (ج 1/ ص 298).
3- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي (ج 1/ص 275 و276/الفصل العاشر ح 102).

أحسن تقويم، ولكنَّه بعد هذه المرحلة يرجع بالتنازل في بدنه ليضعف ويضعف إلىٰ أنْ يصل إلىٰ ]أَسْفَلَ سافِلِينَ[ بهذا المعنىٰ.

قال تعالىٰ: ]يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرحامِ ما نَشاءُ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّىٰ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً[ (الحجّ: 5).

فأحسن تقويم يكون في مرحلة الشباب والقوَّة، و]أَسْفَلَ سافِلِينَ[ يكون في مرحلة الضعف والوهن.

وهذا المعنىٰ وإنْ صحَّ، ولكنَّه لا يدخل تحت تكليف الإنسان أيضاً، لأنَّه يجري وفق قانون تكويني خارج عن إرادة الإنسان.

نعم، الإنسان مطالب في هذه المرحلة بأنْ يستغلَّ شبابه وقوَّته البدنية كثيراً، قبل أنْ يهجم عليه القوس.

وقد روي عن الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنَّه قال: «إنَّ أحبَّ الخلائق إلىٰ الله عزّ وَجل شابٌّ حَدَث السنِّ في صورة حسنة، جعل شبابه وجماله لله وفي طاعته، ذلك الذي يباهي به الرحمن ملائكته يقول: هذا عبدي حقًّا»(1)

التفسير الثالث:

إنَّ الإنسان إذا ما بقي علىٰ ما أراده الله تعالىٰ من الفطرة التي فطره عليها، وابتعد عن الذنوب، فإنَّه حينها سيكون في أحسن تقويم، إلَّا أنَّه قد يتنازل عن تقويمه ذاك إذا ما قارف الذنوب وواقعها.

ص: 126


1- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 15/ ص 785/ ح 43103).

قال الشيخ غلام رضا الفيّاضي: (الظاهر وبقرينة ]إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ 6[ [التين: 6] أنَّ الله تعالىٰ خلق الإنسان وزوَّده بكلِّ الإمكانات التي يستطيع بها أنْ يكون أفضل من الملائكة، إلَّا أنَّه باختياره السيِّئ صار كافراً ومشركاً، فرددناه بسبب سوء اختياره هذا إلىٰ أسفل سافلين)(1)

وهذا المعنىٰ هو المطلوب، وهو الذي يفرض علىٰ الإنسان المسؤولية، وهو الذي دار عليه التكليف الإلهي، وبالتالي الثواب والعقاب.

وقريب من هذا المعنىٰ ما فُسِّر به ]أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ 4[ (التين: 4)، بأنَّ الإنسان أُعطي (العقل) الذي ميَّزه عن الحيوانات والجمادات، وبالتالي يكون معنىٰ ]أَسْفَلَ سافِلِينَ[ هو تخلّي الإنسان عن أحكام عقله، واتِّباعه لشهواته، بحيث يتنازل عن مرتبة الإنسانية بذاك، ليكون وكما قال القرآن الكريم: ]أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً 44[ (الفرقان: 44).فكونه ]كَالْأَنْعامِ[ لأنَّه يتصرَّف كما تتصرَّف الأنعام، تتحكَّم فيه شهواته لا عقله، وإنَّما كان ]أَضَلُّ سَبِيلاً[ لأنَّ الحيوان عندما يتصرَّف وفق غرائزه فهذا بحسب طبيعته التكوينية، أمَّا الإنسان إذا تصرَّف كذلك فهو يتخلّىٰ بإرادته عن عقله وما يقتضيه من سلوك عملي خاصٍّ.

وبعبارة أُخرىٰ: (لأنَّ البهائم والأنعام لا تملك هذه الاستعدادات

ص: 127


1- علم النفس الفلسفي للسيِّد جعفر الحكيم محاضرات الأُستاذ الشيخ غلام رضا الفياضي (ص 277/ الدرس 43).

والإمكانات، إلَّا أنَّهم بما لديهم من عقل سالم وعين باصرة وأُذُن سامعة، بإمكانهم أنْ يبلغوا كلَّ مراتب الرقيِّ والتكامل، إلَّا أنَّهم نتيجةً لاتِّباعهم هواهم ورغبتهم بكلِّ هذه التوافه من الأُمور تركوا هذه الاستعدادات جانباً...، وكان شقاؤهم كبيراً لهذا السبب)(1)

وإلىٰ هذا المعنىٰ أيضاً يُشير ما روي عن عبد الله بن سنان، قال: سألت أبا عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ، فقلت: الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ فقال: «قال أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: إنَّ الله عزّ وَجل ركَّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركَّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركَّب في بني آدم كليهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شرٌّ من البهائم»(2)

* * *

ص: 128


1- تفسير الأمثل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي (ج 5/ ص 301 و302).
2- علل الشرائع للشيخ الصدوق (ج 1/ ص 4 و5/ باب 6/ ح 1).

(49)أدب العتاب

اشارة

من الأُمور الواقعية في هذه الحياة، أنَّ هناك الكثير من المشاكل التي تقع بين الأفراد، وبالتالي قد يترتَّب عليه نوع من انقطاع التواصل الذي قد يطول وقد يقصر، وممَّا يترتَّب عليه أيضاً أنَّ (الأحباب) سيقع فيما بينهم نوع من (العتاب) لما وقع من سوء تفاهم، ربَّما لتصحيح الموقف، وربَّما لتوضيح الأمر الذي وقع، وربَّما وربَّما.

المهمُّ أنَّ العتاب أمر لا بدَّ منه في بعض الأحيان، وهذا أمر أشارت له التربويات الدِّينية، فقد روي عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «العتاب حياة المودَّة»(1)

هذا وقد وردت العديد من الأدبيات لصيغة العتاب في الروايات الشريفة.

ولكن دعونا اليوم نتابع تلك الأدبيات ضمن آية قرآنية كريمة، تحكي كيفية عتاب النبيِّ يوسف (علىٰ نبيِّنا وآله وعليه السلام) لإخوته، فبعد أنْ كشف لهم الحقيقة، وعرَّفهم بنفسه، وجرىٰ ما جرىٰ، واعتذروا منه، وجاء أبواه وكلُّ إخوته إليه،وأخذ يُعدِّد نِعَم الله تعالىٰ عليه، قال: ]وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ[ (يوسف: 100).

ص: 129


1- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 39).

لاحظوا أنَّ النبيَّ يوسف عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لم يقل: وقد أخرجني من البئر، وإنَّما قال: وقد أخرجني من السجن.

فقد يتساءل البعض: لماذا لم يذكر النعمة عليه بإخراجه من البئر، وذكر نعمة إخراجه من السجن، رغم أنَّ وضعه في البئر كان أخطر بكثير من وضعه في السجن؟

هنا يمكن أنْ نستفيد العديد من الآداب في مقام العتاب، وخلاصتها - بالنظر إلىٰ هذه الآية - هي التالي:

أوَّلاً: أنَّه لو ذكر النعمة عليه بإخراجه من البئر لكان تذكيراً لإخوته بجرمهم الكبير، ممَّا قد يُسبِّب لهم الإحراج أمام الناس، وبالتالي، ليس من الكرم أنْ يفعل المؤمن ذلك، خصوصاً وأنَّه قدَّم لهم عفوه عنهم، حينما قال لهم: ]قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ 92[ (يوسف: 92).

وهذا يعني أنَّك لو عاتبت أحداً، فحاول قدر الإمكان أنْ لا تُذكِّره بمواقفه السلبية معك، فإنَّه قد يُؤدّي إلىٰ عكس المطلوب، ولذا روي عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «الإفراط في الملامة يشبُّ نيران اللجاجة»(1)

ثانياً: أنَّه لم يذكر خروجه من البئر، لأنَّ نتيجة إخراجه كانت أنَّه صار عبداً بِيعَ بثمن بخس، ولكنَّه عندما أُخرج من السجن صار مَلِكاً يُسمَع كلامه ويُطاع رأيه، وبالتالي فالتذكير بالنِّعَم أولىٰ من التذكيربالبلاء، وهذا يعني أنَّه أراد فيما أراد أنْ يُخفِّف علىٰ إخوته بأنَّ ما جرىٰ عليه لم يكن سلبياً في كلِّ جوانبه، وإنَّما كان له جانب إيجابي ولو بعد حين.

ص: 130


1- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 22).

إنَّ هذا يعني أنَّ عليك عندما تعاتب أخاً لك، أنْ تُبقي شيئاً من الودِّ معه، وأنْ تجعل ما جرىٰ بينكما سبباً لتقوية العلاقة وتوثيق أواصر المحبَّة، ومن هنا كان من صفات المؤمن أنَّه لا يعاتب كثيراً، وكان يعمل علىٰ إيجاد أيِّ عذر يعتذر به عن أخيه، وقد روي أنَّ أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قال في وصف أخٍ له: «وكان لا يلوم أحداً علىٰ ما يجد العذر في مثله حتَّىٰ يسمع اعتذاره»(1)

وقريب منه ما قيل: إنَّه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عندما خرج من السجن، وصار في بيت العزيز، وقع في شدَّة من إغراء زوجة العزيز، بحيث تمنّىٰ الدخول إلىٰ السجن علىٰ أنْ يقع في مصيدتها ومصيدة بقيَّة النساء، ولذلك: ]قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ 33[ (يوسف: 33).

ولكنَّه عندما خرج من السجن، صار مَلِكاً، واستطاع قبيل خروجه أنْ يُثبِت براءته، بل وأنْ ينتزعَ الاعتراف الرسمي من امرأة العزيز ببراءته: ]قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ 51[(يوسف: 51).

وهو بهذا يُوحي إلىٰ إخوته بأنَّ النعمة التي وقع فيها في خروجه من السجن أعظم من النعمة في خروجه من البئر، فكان ذلك منه من باب الكرم وطيب الخُلُق.

وعلىٰ كلِّ حالٍ، فمن طبع المؤمن أنَّه ليِّن في أُموره كلِّها، وإنْ كان

ص: 131


1- نهج البلاغة (ج 4/ ص 70). وجاء في الهامش: أي كان لا يلوم في فعل يصحُّ في مثله الاعتذار إلَّا بعد سماع العذر.

صلداً في دينه كجبل أو أشدّ صلابة، بالتالي نحن نعيش في هذه الحياة بين أُناس ليسوا معصومين - كما نحن -، فالوقوع في الخطأ قدرنا، وإنْ لم نستطع تجاوز الخطأ بطريقة لبقة، لربَّما استمرَّت المشاكل إلىٰ نهاية العمر، وهذا من شأنه أنْ يجعل من الحياة غابة لا تُطاق.

تنبيه:

نقل الرازي في تفسيره عن الواحدي أنَّه قال: (النعمة في إخراجه من السجن أعظم لأنَّ دخوله في السجن كان بسبب ذنب همَّ به)(1)

وهو يُشير إلىٰ قوله تعالىٰ: ]وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأىٰ بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ 24[ (يوسف: 24)، وكأنَّه فهم أنَّ النبيَّ يوسف عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ كان قد همَّ بالمعصية ولكنَّه تراجع فيما بعد، فاعتبر أنَّ همَّه بها ذنب.

وهذا غير مقبول في عقيدتنا أصلاً، لأنَّه خلاف عصمة الأنبياء عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُالتي دلَّ الدليل القطعي عليها - كما هو مبحوث في محلِّه من علم الكلام -. والآية واضحة في أنَّه أصلاً لم يهمّ بها، والتقدير: (ولقد همَّت به هي، ولولا أنْ رأىٰ برهان ربِّه لهمَّ بها، ولكنَّه رأىٰ برهان ربِّه فلم يهمّ بها أصلاً).

وقد يكون الرازي قد التفت إلىٰ هذا، فعلَّق علىٰ قول الواحدي بقوله: (وهذا ينبغي أنْ يُحمَل علىٰ ميل الطبع ورغبة النفس، وهذا وإنْ كان في محلِّ العفو في حقِّ غيره إلَّا أنَّه ربَّما كان سبباً للمؤاخذة في حقِّه، لأنَّ حسنات الأبرار سيِّئات المقرَّبين).

* * *

ص: 132


1- تفسير الرازي (ج 18/ ص 214).

(50)كيف تتعامل مع (المدح)؟

اشارة

لا أحد يُحِبُّ أنْ يُذَمَّ، ولا أحد يكره أنْ يُمدَح.

وهذا من طبائع الإنسان التي جُبِلَ عليها.

ولا مشكلة في أصل هذا الأمر، إنَّما قد تنشأ المشكلة من جهة أُخرىٰ.

وحتَّىٰ تتَّضح الصورة الأدبية والأخلاقية لمسألة (المدح) نذكر نقطتين:

النقطة الأولى: كيف ومتى تمدح غيرك؟

اشارة

إنَّ العلاقات الاجتماعية تقتضي فيما تقتضيه أنْ يكون هناك أُسلوب جميل للتواصل بين الأفراد، وهذا يتضمَّن أنْ تمدح الآخر عندما يفعل فعلاً حسناً، إذ لا شكَّ أنَّ مدحه عند فعل الخير يُشجِّعه أكثر لتكرار الخير مرَّة ثانية وثالثة وعاشرة، ولكن لا بدَّ أنْ تلتفت إلىٰ ضرورة ضبط (مدحك للآخرين) ضمن حدود معيَّنة، أهمّها التالي:

الحدُّ الأوَّل: أنْ لا يتعدّىٰ المدحُ الحقيقةَ:

فإنَّ الكذب حرام، خصوصاً إذا أدّىٰ إلىٰ اغترار الآخر بالكذب.فعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «إيّاك أنْ تثني علىٰ أحد بما ليس فيه، فإنَّ فعله يُصدق عن وصفه ويُكذِّبك»(1)

بل إنَّ مدح الآخر بما ليس فيه، هو استهزاء به في الحقيقة، لذلك

ص: 133


1- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 99).

علىٰ الآخر أنْ يوقف هذه الاستهزاء، حتَّىٰ لا يستمرَّ المادح بذلك، ولذا روي عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «مادحك بما ليس فيك مستهزئ بك، فإنْ لم تنفعه [تسعفه] بنوالك، بالغ في ذمِّك وهجائك»(1)

بل إنَّ الذي يتجرَّأ ويكذب ويمدحك بما ليس فيك، سوف لن يتورَّع عن ذمِّك بما ليس فيك كذلك، فقد روي عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «من مدحك بما ليس فيك فهو خليق بأنْ يذمَّك بما ليس فيك»(2)

الحدُّ الثاني: أنْ لا يصل إلىٰ حدِّ التملُّق:

فإنَّه ليس من الصحيح شرعاً وعقلاً أنْ يُذِلَّ المرء نفسه لأجل الآخر، فعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «كثرة الثناء مَلَق، يُحدِث الزهو ويُدني من الغِرَّة»(3)

الحدُّ الثالث: أنْ لا يمدح غير المستحقِّ:

فإنَّه تغرير بالآخر، وكذب، وبالتالي يدخل المادح في متاهة العمل السيِّئ.

فمن كلام أبي محمّد الحسن العسكري عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: «من مدحغير المستحقِّ، فقد قام مقام المتَّهم»(4)

النقطة الثانية: كيف تتعامل إذا مدحك أحد؟

في الحقيقة، هذه مسألة مهمَّة جدًّا، ولها آثار جانبية عديدة، فقد يستغرق الفرد في مدح غيره له حتَّىٰ يتناسىٰ نفسه، وقد يستمرئ الكذب

ص: 134


1- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 489).
2- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 440).
3- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 389).
4- أعلام الدِّين في صفات المؤمنين للديلمي (ص 313).

في ذلك، وقد يصل إلىٰ استمراء أيِّ وصف يمدح فيه، تماماً كما كان السلاطين فيما سلف وما هو معاش.

فقد نقلوا أنَّ ابن هاني الأندلسي قال في وصف المعزِّ لدين الله:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار *** فاحكم فأنت الواحد القهار

فكأنَّما أنت النبيُّ محمّد *** وكأنَّما أنصارك الأنصار(1))

لذلك وردت العديد من النصوص التربوية التي بيَّنت الحدود التي يلزم علىٰ الفرد (الممدوح) أنْ يلتفت إليها، فمن تلك النصوص ما روي عن المولىٰ أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في وصف المتَّقين: «إذا زُكّي أحدهم خاف ممَّا يقال له، فيقول: أنا أعلم بنفسي من غيري، وربّي أعلم بي من نفسي. اللّهمّ لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني أفضل ممَّا يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون»(2)

والذي يمكن استفادته من هذه الكلمة في المقام هو التالي:أوَّلاً: علىٰ المؤمن أنْ لا يُزكّي نفسه، وأنْ يترك التزكية إلىٰ الله تعالىٰ، فهو الذي يُزكّي الأنفس واقعاً وحقيقةً، قال تعالىٰ: ]أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً 49[ (النساء: 49).

وقال تعالىٰ: ]يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكىٰ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 21[ (النور: 21).

ص: 135


1- البليغ في المعاني والبيان والبديع للشيخ أحمد أمين الشيرازي (ص 267).
2- نهج البلاغة (ج 2/ ص 162 و163).

فعلىٰ المؤمن أنْ يقول إذا مدحه أحدهم: (أنا أعلم بنفسي من غيري، وربّي أعلم بي من نفسي).

وعليه أنْ يترك تزكية نفسه ما أُوتي إلىٰ ذلك سبيلاً، خصوصاً إذا استلزم مدحه لنفسه وتزكيته لها أنْ يذكر مثالب الآخرين من أجل أنْ يُظهِر تزكية نفسه، وليتذكَّر ما روي عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «من روىٰ علىٰ مؤمن رواية يريد بها شينه وهدم مروءته، ليسقط من أعين الناس، أخرجه الله من ولايته إلىٰ ولاية الشيطان، فلا يقبله الشيطان»(1)

ثانياً: إنَّ كونك متَّصفاً بصفة معيَّنة توجب مدح الآخرين لك، هي هبة من الله تعالىٰ، وليس من عند نفسك، ولا يعني حصولك عليها أنَّك وصلت القمَّة في الكمال، فقدر الإنسان أنْ يعيش في نقص الإمكان والحاجة مهما كان، وبالتالي، فيلزم علىٰ الفرد المؤمن أنْ لا يرضىٰ بالحال التي هو فيها، ولا يجعل منمدح الآخرين له حجَّة ليتوقَّف فيها عن اكتساب المعالي والكمالات.

ومن هنا، فعليه أنْ يتوسَّل إلىٰ الله تعالىٰ وأنْ يدعوه دوماً: (واجعلني أفضل ممَّا يظنون).

وعليه أنْ يعيش الخوف من أنْ يتسبَّب له المدح في أمر سلبي يمنعه من الاستمرار في تكامله الواقعي مع الله تعالىٰ.

ثالثاً: علىٰ المؤمن أنْ لا يخدع نفسه بمدح الآخرين له، عليه أنْ ينظر إلىٰ واقعه الذي يعرفه هو دون غيره، عليه أنْ يتذكَّر عيوبه التي لو اطَّلع عليها المادح لذمَّه! عليه أنْ يستغفر ربَّه ويقول: (واغفر لي ما لا يعلمون).

ص: 136


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 358/ باب الرواية علىٰ المؤمن/ ح 1).

كذلك عليه أنْ ينتبه جيِّداً إلىٰ خطورة المدح مهما كان، فإنَّه قد يُؤدّي إلىٰ (سكر المدح) أو (التكبُّر) أو (الغرور) أو (العُجب) وما شابه، وبالتالي، فعليه أنْ لا ينسىٰ الاستغفار في كلِّ مرَّة يمدحه فيها أحد. (اللّهمّ لا تؤاخذني بما يقولون)، وأنْ يُردِّد (واغفر لي ما لا يعلمون).

عليه أنْ ينظر في ضعفه المدقع، فإنَّه في الحقيقة أضعف من (ذبابة)!

قال تعالىٰ: ]يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ 73[ (الحجّ: 73).

* * *

ص: 137

(51)أسباب غير متوقّعة!

اشارة

في قانون الغيب، هناك آثار تترتَّب علىٰ عللها المعلومة، بحيث يمكن للمرء أنْ يتوقَّع الأثر من معرفته بالعلَّة، ولكن هناك آثاراً تترتَّب علىٰ أسباب غير متوقّعة، لا لشيء إلَّا لأنَّ قانون السماء يختلف!

وبعبارة أُخرىٰ أكثر وضوحاً: نحن نعلم أنَّ هناك آثاراً تترتَّب علىٰ شيء معيَّن، فإذا أردنا تحصيل الأثر، ذهبنا إلىٰ سببه، لنُحقِّقه، فيتحقَّق الأثر.

ولكن هناك آثاراً تترتَّب علىٰ أسباب غير متوقّعة، آثاراً هي أشبه بالضدِّ من أسبابها، وقانون السماء بيَّنها في تعاليمه، لأنَّ الإنسان قد لا يُدركها من تلقاء نفسه.

وحتَّىٰ تتَّضح الصورة لنأخذ بعض الأمثلة علىٰ ذلك:

المثال الأوَّل: النعمة والوجل:

نحن في العادة نطمئنُّ كثيراً إذا حصلت لنا نعمة معيَّنة، كالصحَّة، والغنىٰ، والجاه، والقدرة، وما شابه، ونقلق كثيراً إذا وقعنا في بلاء - أجارنا الله وإيّاكم من البلاء -، كالمرض والفقر والضعف وما شابه.هذا ما نعرفه في قانونا.

ولكن في قانون السماء، الأمر يختلف كثيراً، فإنَّ النصوص الدِّينية تُؤكِّد علىٰ ضرورة الحذر من النعمة تماماً كالحذر من البلاء أو أشدّ، فعن

ص: 138

أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في بيان ذلك: «أَيُّهَا النَّاسُ لِيَرَكُمُ اللَّه مِنَ النِّعْمَةِ وَجِلِينَ، كَمَا يَرَاكُمْ مِنَ النِّقْمَةِ فَرِقِينَ».

وفي مقام بيان العلَّة في ذلك يُكمِل عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قوله: «إِنَّه مَنْ وُسِّعَ عَلَيْه فِي ذَاتِ يَدِه فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجاً فَقَدْ أَمِنَ مَخُوفاً، وَمَنْ ضُيِّقَ عَلَيْه فِي ذَاتِ يَدِه فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ اخْتِبَاراً فَقَدْ ضَيَّعَ مَأْمُولًا»(1)

إنَّ النعمة في الحقيقة هي أحد أسباب الاستدراج الخفيَّة، ولو لم ينتبه المرء لها فلربَّما وقع في حفرة الاستدراج ولات حين مندمِ، الأمر الذي يعني ضرورة التعامل بحذر مع النِّعَم الإلهيَّة عموماً، وهنا تكمن ضرورة الوجل من النعمة.

أمَّا البلاء، فهو وإنْ كان بنظرنا القاصر أمراً يستحقُّ المناحة والعويل، ولكنَّه في قانون السماء قد يكون سبباً لتحصيل الكثير من الأجر من فيض الله تعالىٰ ومننه علىٰ عباده إذا ما صبروا علىٰ بلائه، وبالتالي، فإنَّ من لا يتعامل مع البلاء علىٰ أنَّه من أسباب تحصيل الثواب، فقد ضيَّع المأمول من جود الله تعالىٰ، وهذه خسارة كبيرة في يوم تشخص فيه الأبصار.

المثال الثاني: الجمال والعفاف:

إنَّ جمال الوجه ورشاقة القوم قد يكون مدعاةً عند بعضالنساء -وكذا الرجال - إلىٰ استغلاله فيما نعلم، باستغلال الآخر، أي في إغوائه، أو تحصيل بعض متاع الدنيا، وما شابه.

إلَّا أنَّه وفي قانون السماء، فإنَّ الجمال يلزم أنْ يكون سبباً للعفاف، إنْ في المرأة، وإنْ في الرجل، ولا شاهد أوضح من عفاف النبيِّ يوسف عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، الذي

ص: 139


1- نهج البلاغة (ج 4/ ص 83 و84/ الحكمة رقم 358).

فضَّل السجن علىٰ أنْ يستغلَّ جماله في ما لا يحلُّ، قال تعالىٰ حكايةً عنه: ]قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ 33[ (يوسف: 33).

المثال الثالث: الحاجة والعطاء!

في قانوننا: إذا احتاج أحدنا أو أملق، فإنَّه يحاول الحصول علىٰ مال جديد، ويُقلِّل من مصروفاته، ويقبض يده قليلاً، ليُحدِث التوازن، وهي نظرية صحيحة وفق القانون الاقتصادي عند الناس. ولا مانع من استعمالها لإحداث التوازن، لكن المقصود منها طبعاً الحدّ الوسط بين الإقتار والإسراف، قال تعالىٰ في ضمن صفات عباد الرحمن: ]وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً 67[ (الفرقان: 67).

وعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «ما أعال من اقتصد»(1)

ولكنَّ في قانون السماء أمرين:

الأوَّل: أنَّ من يتيقَّن بالخلف من الله تعالىٰ، سوف لن يتوقَّف عن الإنفاق، لأنَّه يعتمد علىٰ ركن وثيق، تماماً كما روي أنَّ رجلاً سأل النبيَّ (صلىٰ الله عليه [وآله])، فأعطاه غنماً بين جبلين، فأتىٰقومه، فقال: يا قوم، أسلموا، فإنَّ محمداً يُعطي عطاء رجل لا يخاف الفاقة(2)

وعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «من أيقن بالخلف جاد بالعطيَّة»(3)

الثاني: إنَّ العطاء، والإنفاق، والسخاء، لهو - وعلىٰ عكس المتوقّع - من أعظم أسباب تحصيل المال!

ص: 140


1- نهج البلاغة (ج 4/ ص 34/ الحكمة رقم 140).
2- مسند أحمد بن حنبل (ج 3/ ص 259).
3- نهج البلاغة (ج 4/ ص 34/ الحكمة رقم 138).

لذا روي عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «إنّي لأملق أحياناً فأُتاجر الله بالصدقة»(1)

وعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «استنزلوا الرزق بالصدقة»(2)

وروي أنَّه قال أبو عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لمحمّد ابنه: «يا بنيَّ، كم فضل معك من تلك النفقة؟»، قال: أربعون ديناراً، قال: «اخرج فتصدَّقْ بها»، قال: إنَّه لم يبقَ معي غيرها، قال: «تصدَّقْ بها فإنَّ الله عزّ وَجل يخلفها، أمَا علمت أنَّ لكلِّ شيء مفتاحاً، ومفتاح الرزق الصدقة، فتصدَّقْ بها»، ففعل، فما لبث أبو عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عشرة أيّام حتَّىٰ جاءه من موضعٍ أربعة آلاف دينار، فقال: «يا بنيَّ، أعطينا لله أربعين ديناراً، فأعطانا الله أربعة آلاف دينار»(3)

المثال الرابع: القدرة والعفو:

واضحٌ جدًّا أنَّ من يقدر علىٰ عدوِّه فإنَّه لن يرعوي عن أخذ حقِّه منه كأسرع من لمح البصر، فهذا هو قانون البشر!

ولكن، في قانون السماء، فإنَّ القدرة هي من أهمّ أسباب العفو!

فهذا الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يوم أعطاه الله تعالىٰ القدرة علىٰ ألدّ أعدائه في مكَّة المكرَّمة، أطلق عليهم كلمته المشهورة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»(4)

ص: 141


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 75/ ص 206). وأملق الرجل أنفق ماله حتَّىٰ قلَّ. (من هامش المصدر).
2- نهج البلاغة (ج 4/ ص 34/ الحكمة رقم 137).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 4/ ص 9 و10/ باب في أنَّ الصدقة تزيد في المال/ ح 3).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 3/ ص 513/ باب في أقلّ ما يجب فيه الزكاة من الحرث/ ح 2)، حيث ورد: «وإنَّ أهل مكَّة دخلها رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ عنوةً، فكانوا أُسراء في يده فأعتقهم، وقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء».

وروي عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «نزل رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ في غزوة ذات الرقاع تحت شجرة علىٰ شفير وادٍ، فأقبل سيل، فحال بينه وبين أصحابه، فرآه رجل من المشركين، والمسلمون قيام علىٰ شفير الوادي ينتظرون متىٰ ينقطع السيل. فقال رجل من المشركين لقومه: أنا أقتل محمّداً. فجاء وشدَّ علىٰ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بالسيف، ثمّ قال: من يُنجيك منّي يا محمّد؟ فقال: ربّي وربُّك! فنسفه(1)) جبرئيل عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عن فرسه، فسقط علىٰ ظهره، فقام رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وأخذ السيف وجلس علىٰ صدره وقال: من يُنجيك منّي يا غورث، فقال: جودك وكرمك يا محمّد، فتركه، فقام وهو يقول:والله لأنت خير منّي وأكرم(2)

المثال الخامس: الجاه والخدمة:

ما نراه اليوم وأمس، أنَّ الواحد منّا إذا كانت له وجاهة بين

ص: 142


1- نسف البناء: قلعه من أصله. (من هامش المصدر).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 8/ ص 127/ ح 97). وجاء في الهامش: رواه الواقدي في تفسير قوله تعالىٰ: ]يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَىٰ اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ 11[ [المائدة: 11]: إنَّ رسول الله غزا جمعاً من بني ذبيان ومحارب بذي أمر، فتحصَّنوا برؤوس الجبال، ونزل رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بحيث يراهم، فذهب لحاجته، فأصابه مطر، فبلَّ ثوبه، فنشره علىٰ شجرة واضطجع تحته، والأعراب ينظرون إليه، فجاء سيِّدهم دعثور بن الحرث حتَّىٰ وقف علىٰ رأسه بالسيف مشهوراً، فقال: يا محمّد من يمنعك منّي اليوم؟ فقال: «الله!»، فدفع جبرئيل عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في صدره ووقع السيف من يده، فأخذه رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وقام علىٰ رأسه، وقال: «من يمنعك منّي اليوم؟»، فقال: لا أحد، وأنا أشهد أنْ لا إله إلَّا الله وأنَّ محمّداً رسول الله، فنزلت الآية. وروىٰ ابن شهر آشوب عن الثمالي نحواً من ذلك، وقال في آخره: فسُئِلَ بعد انصرافه عن حاله، فقال: نظرت إلىٰ رجل طويل أبيض دفع في صدري، فعرفت أنَّه مَلَك. ويقال: إنَّه أسلم وجعل يدعو قومه إلىٰ الإسلام.

الناس، بسبب كبر سنِّه أو كثرة ماله أو زعامة قومه وما شابه، فإنَّه سيكون مخدوماً للناس، وسيقوم الجميع بقضاء أيِّ حاجة يريدها.

إلَّا أنَّه وفي قانون السماء، فإنَّ (كبير القوم خادمهم)، فإنَّ الجاه في الحقيقة مسؤولية قبل أنْ يكون تشريفاً!

وقد روي عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنَّه قال: «إنَّ الله ليسأل العبد في جاهه، كما يسأل في ماله، فيقول: يا عبدي رزقتك جاهاً، فهلأغثت مظلوماً، أو أعنت ملهوفاً؟»(1)

والخلاصة هي التالي:

أوَّلاً: علينا أنْ نتفحَّص بدقَّة عن الأسباب الغيبية التي بثَّتْها النصوص الدِّينية بين ثناياها، علَّنا نحصل منها علىٰ سبب يكون له آثار كبيرة جدًّا علىٰ حياتنا.

فربَّما كلمة خير بسيطة في نظرنا، تكون سبباً لهداية إنسان، أو إنقاذ حياته، فيكون من ورائها خير كثير، تماماً كما نقل القرآن الكريم كلمة واحدة عن السيِّدة آسيا بنت مزاحم، وكيف كانت سبباً في إنقاذ وليِّ الله النبيِّ موسىٰ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: ]وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ 9[ (القَصص: 9).

فهذه الكلمة سبب غيبي جعله الله تعالىٰ من حيث لا تعلم آسيا.

ثانياً: علينا أنْ لا نستصغر أيَّ عمل ورد النصُّ به، سواء ورد النصُّ بوجوبه أو استحبابه، إذ لعلَّه يُمثِّل باباً غيبياً لكثير من الخير، أو ورد بحرمته أو كراهته، إذ لعلَّه يُمثِّل باباً غيبياً لكثير من البلاء، تماماً كما

ص: 143


1- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي (ج 1/ ص 372/ ح 84).

روي عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «إنَّ الله تبارك وتعالىٰ أخفىٰ أربعة في أربعة: أخفىٰ رضاه في طاعته، فلا تستصغرنَّ شيئاً من طاعته، فربَّما وافق رضاه وأنت لا تعلم. وأخفىٰ سخطه في معصيته، فلا تستصغرنَّ شيئاً من معصيته، فربَّما وافق سخطه وأنت لا تعلم. وأخفىٰ إجابته في دعوته، فلاتستصغرنَّ شيئاً من دعائه، فربَّما وافق إجابته وأنت لا تعلم. وأخفىٰ وليَّه في عباده، فلا تستصغرنَّ عبداً من عبيد الله، فربَّما يكون وليّه وأنت لا تعلم»(1)

* * *

ص: 144


1- الخصال للشيخ الصدوق (ص 209 و210/ ح 31).

(52)الإلزام الذاتي

اشارة

كقانون جاء لتنظيم الحياة الدنيوية والأُخروية، يقتضي الإسلام أنْ يكون فيه نوع من الإلزام لأتباعه، يجعلهم يلتزمون قوانينه ويُنفِّذونها عملياً.

وكأيِّ قانونٍ، فإنَّ إلزام أتباعه يحتاج إلىٰ آلية معيَّنة، علىٰ أساسها يتمُّ الإلزام، وتكون هي المقياس في ما يستحقُّه الأتباع من ثواب أو عقاب.

وقد كان بإمكان الدِّين أنْ يستعمل أعلىٰ درجات الإلزام من خلال آلية (الجبر) وسلب الإرادة، علىٰ طريقة (كن فيكون).

ولكن الواقع هو أنَّ الدِّين لم يستعمل هذا الأُسلوب، بل صرَّح بقوله: ]لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ[، الذي فُسِّر بنفي الإكراه التكويني، أي بنفي سلب الإرادة، وجعل الإنسان كالآلة العمياء، يُنفِّذ ما يُراد منه من دون أنْ يكون لإرادته دخل، بل إنَّ الدِّين ترك للاختيار الإنساني هامشاً كبيراً في التزام الدِّين، فما كان من الدِّين هو البيان، والذي يُراد من الفرد هو تفعيل اختياره وفق ذلك البيان، ومن هنا عطف القرآن علىٰ ذلك قوله: ] قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَبِالْعُرْوَةِ الْوُثْقىٰ لاَ انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 256[ (البقرة: 256)(1)

ص: 145


1- قال السيِّد الطباطبائي في تفسير الميزان (ج 2/ ص 342 و343): وفي قوله تعالىٰ: ]لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ[ [البقرة: 256]، نفىٰ الدِّين الإجباري، لما أنَّ الدِّين وهو سلسلة من المعارف العلمية التي تتبعها أُخرىٰ عملية يجمعها أنَّها اعتقادات، والاعتقاد والإيمان من الأُمور القلبية التي [ لا يحكم فيها الإكراه والإجبار، فإنَّ الإكراه إنَّما يُؤثِّر في الأعمال الظاهرية والأفعال والحركات البدنية المادّية، وأمَّا الاعتقاد القلبي فله علل وأسباب أُخرىٰ قلبية من سنخ الاعتقاد والإدراك، ومن المحال أنْ ينتج الجهل علماً، أو تُولِّد المقدّمات غير العلمية تصديقاً علمياً، فقوله: ]لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ[ إنْ كان قضيَّة إخبارية حاكية عن حال التكوين أنتج حكماً دينياً بنفي الإكراه علىٰ الدِّين والاعتقاد، وإنْ كان حكماً إنشائياً تشريعياً كما يشهد به ما عقَّبه تعالىٰ من قوله: ]قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ[، كان نهياً عن الحمل علىٰ الاعتقاد والإيمان كرهاً، وهو نهي متَّك علىٰ حقيقة تكوينية، وهي التي مرَّ بيانها أنَّ الإكراه إنَّما يعمل ويُؤثِّر في مرحلة الأفعال البدنية دون الاعتقادات القلبية.

كما أنَّنا نجد أنَّ (الدولة) وما يتفرَّع عليها من (مدرسة) و(قانون وضعي) وما شابه، لم تكن هي الملزِم للمسلمين في التزام الدِّين، إذ إنَّ الدولة وإنْ كان عندها نوع من الإلزام لمن يعيش في كنفها، إلَّا أنَّ الدِّين لم يجعل (الدولة) جزءاً من أجزاء بنائه التي لا تنفكُّ عنه، بل إنَّ بناء الدولة أمر ثانوي، إنْ أمكن تكوينها وبناؤها بما لا يتقاطع مع الدِّين فبها، وإلَّا فإنَّ قيمتها أزهد من (عفطة عنز)(1)

وعلىٰ كلِّ حالٍ، فإنَّ الدولة مهما كانت قويَّة في عسكرها وتنظيمها، وهكذا ما يلحق بها من (أعراف) و(تقاليد)، بل و(أُسرة)، لن تستطيع أنْ تُلزم الفرد كُرهاً، ولا أنْ تسلب إرادته جبراً، لذلك يمكن للفرد أنْ يخرج معارضاً كلَّ الأعراف والتقاليدالقبلية والعشائرية، بل والأُسرية، ويمكن أنْ تحكم عليه الدولة بالإعدام، ولكنَّه لا يُغيِّر موقفه تجاهها.

إذن، ما هو الملزم للأتباع عموماً لكي يلتزموا المبدأ؟

إنَّه ليس إلَّا (العقل العملي)، أو قل: الوازع الدِّيني، أو الحافز الداخلي، أو المحرِّك الذاتي، ما شئت فعبِّر.

ص: 146


1- نهج البلاغة (ج 1/ ص 36).

إنَّه شيء في داخل الإنسان، يجعله يخالف كلَّ نزواته، وشهواته، من أجل أنْ يحافظ علىٰ دينه.

إنَّه ذلك الدافع الذي يجعل المؤمن ملتزماً بما يمليه عليه الدِّين ولو من دون مراقب خارجي.

هو ما أشارت له الكثير من النصوص الدِّينية، ومنها:

قوله تعالىٰ: ]كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ 38[ (المدَّثِّر: 38).

وقوله تعالىٰ: ]وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعىٰ 39[ (النجم: 39).

وقوله تعالىٰ: ]إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ 12[ (الملك: 12).

وقوله تعالىٰ: ]إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ[ (الرعد: 11).

ومن النصوص أيضاً ما في خطبة الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ في استقبال شهر رمضان: «أيُّها الناس، إنَّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكُّوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخفِّفوا عنها بطول سجودكم، واعلموا أنَّ الله تعالىٰ ذكره أقسم بعزَّته أنْ لا يُعذِّب المصلّين والساجدين، وأنْ لا يُروِّعهم بالنار يوم يقوم الناسلربِّ العالمين»(1)

أدوات الدِّين:

نعم، الدِّين عمل علىٰ توفير الأجواء المناسبة لذلك الحافز الذاتي، من خلال عدَّة خطوات لم تكن إقامة الدولة أهمّها خصوصاً في زمن الغيبة - وإنْ كان لا يتعارض معها -، وأهمّ الأدوات ثلاثة، هي:

ص: 147


1- أمالي الشيخ الصدوق (ص 154).

أوَّلاً: توفير الصورة الواضحة والقناعات اللازمة للفعل، إذ إنَّ الفعل الاختياري يتوقَّف علىٰ مقدّمات داخلية عديدة، أهمّها التصوُّر الصحيح للفعل المراد إصداره، مع توفير القناعة العلمية القطعية بجدواه وبضرورة إيجاده (في الفعل)، أو بعدم ذلك (في جانب الترك).

ثانياً: استعمال لغة إقناع قويَّة وحسن البيان في تلك القناعات، فكان أُسلوبا (الترهيب والترغيب) أهمّ الأساليب التي استعملها الدِّين، لما لهما من وقع عملي في التزام الفرد بالدِّين.

ثالثاً: توليد أجواء عامَّة وأعراف اجتماعية تساعد علىٰ التزام الدِّين من خلال أوَّل خطوة وهي: توفير جوٍّ أُسري خالٍ من التناقضات العملية، شفّافٍ في التعامل مع الدِّين، يتَّصف القدوات من أفراده بالصدق والإخلاص تجاه الدِّين.

ومن خلال تقنين تشريعات إلزامية بعدم الخروج عن الحدود العامَّة للدِّين عموماً.وأمَّا تدخُّل الدولة إجرائياً - لو كانت الدولة إسلاميَّة -، فهو للحدِّ الخارجي من الخروقات العملية من بعض الشواذ.

وكلُّ هذه العوامل هي مجرَّد محفِّزات، وإلَّا فالفعل الصادر هو منك وإليك، تسوقه الإرادة، ويُوجِّهه العقل، لا غير.

الخطوات التشريعية لتلك الأدوات:

وقد اعتمد الفكر الدِّيني لتوفير تلك الأدوات عدَّة خطوات، أهمّها:

أوَّلاً: طرح شخصية عالية التأثير كرمز يُقتدىٰ به، في كلِّ ما تطرحه من بيانات قولية وفعلية، فكان الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، فقال

ص: 148

تعالىٰ: ]لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً 21[ (الأحزاب: 21).

ثانياً: طرح شخصيات استثنائية أُخرىٰ لتكمل مسيرة الشخصية الأُولىٰ في لزوم الاقتداء بها، وهم الأنبياء عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ عموماً، فقال تعالىٰ بعد أنْ ذكر عدَّة أنبياء: ]أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَىٰ اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرىٰ لِلْعالَمِينَ 90[ (الأنعام: 90). وهكذا أئمَّة أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ الذين أمر النبيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ باتِّباعهم وطاعتهم.

ثالثاً: بيان أنَّ مهمَّة الرُّسُل ليست إلَّا البلاغ التشريعي لا الإلزام والجبر التكويني، وبالتالي فالمسؤولية أوَّلاً وأخيراً ترجع إلىٰ الفرد نفسه، قال تعالىٰ: ]وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَىٰ الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ35[ (النحل: 35).

وقال تعالىٰ: ]قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَىٰ الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ 54[ (النور: 54).

وقال تعالىٰ: ]وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَىٰ الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ 18[ (العنكبوت: 18).

وقال تعالىٰ: ]فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ[ (الشورىٰ: 48).

رابعاً: توفير البيانات الشاملة لكلِّ مفاصل الحياة، مع ربط بيانها بأهل التخصُّص في الدِّين.

فعن النبيِّ الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنَّه قال: «يا أيُّها الناس، والله ما من شيء

ص: 149

يُقرِّبكم من الجنَّة ويباعدكم من النار، إلَّا وقد أمرتكم به، وما من شيء يُقرِّبكم من النار ويباعدكم من الجنَّة، إلَّا وقد نهيتكم عنه...»(1)

وقال تعالىٰ: ]وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ 43[ (النحل: 43).

النتائج:

ومن كلِّ ذلك يتبيَّن:

أوَّلاً: لا شكَّ أنَّ البعض يلتزم بالدِّين خوفاً من العقاب، والبعض يلتزمه طمعاً في الثواب.وهناك من لا يرجو ثواباً ولا يخشىٰ عقاباً أُخروياً، ولكنَّه يخشىٰ من مخالفة الدِّين أمام الأعين وبين الناس، فكان (الحياء الاجتماعي) هو المانع من فعل الكثير من الأخطاء الشرعية والأخلاقية عند جمع غفير من الناس.

الدِّين لم يعترض علىٰ هذا، إذ بالتالي ستكون النتيجة إيجابية، وهذا هو المطلوب.

وفي الحقيقة هو أمرٌ عَمِلَ علىٰ توفيره الدِّين من خلال توفير الأعراف العامَّة الإسلاميَّة.

وإليه أشار الإمام زين العابدين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في دعائه المعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي: «فلو اطَّلع اليوم علىٰ ذنبي غيرك ما فعلتُه، ولو خفت تعجيل العقوبة لاجتنبتُه»(2)

ص: 150


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 74/ باب الطاعة والتقوىٰ/ ح 2).
2- الصحيفة السجّادية/ أبطحي (ص 217).

ثانياً: أنَّ الدِّين وضع يده علىٰ كلِّ الخيارات التي من شأنها دفع الفرد إلىٰ التزام الدِّين، فكان له حضور في الأُسرة، والمدرسة، والعرف، والدولة، من خلال تشريعاته التي غطَّت جميع هذه المفردات.

فإنَّه ومن خلال التشريعات الدقيقة في بناء الأُسرة، استطاع أنْ يخلق جوًّا عامًّا من خلال تعارف الأُسَر المتديِّنة علىٰ أعراف معيَّنة، ممَّا أدّىٰ إلىٰ توفير قناعات معيَّنة، ووضع كوابح قويَّة أمام من يريد خرق تلك الأعراف الأُسرية التي تحوَّلت فيما بعد إلىٰ أعراف عامَّة.نعم، في كلِّ ذلك، لم يدخل الدِّين بطريقة الفرض المادّي والجبر التكويني، وإنَّما دخل عن طريق الإقناع التامّ، إلىٰ أنْ نمت تلك القناعات فولَّدت تلك الأعراف التي نعيشها اليوم.

ثالثاً: لا مفرَّ من المسؤولية الشخصية في الحفاظ علىٰ تلك الأعراف التي خلقها الدِّين، فكلُّ واحدٍ منّا مسؤول عن الحفاظ علىٰ تلك الأعراف العامَّة في داخل الأُسرة والمدرسة والعرف العامِّ.

فينبغي رصد أيِّ تحرُّكات مشبوهة تريد سلب الهويَّة المؤمنة من المؤمنين عموماً، واستبدالها بهويَّة مستوردة ليس لها شأن سوىٰ إبعادهم عن الهدف الأسمىٰ لوجودهم، فكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيَّته(1)

* * *

ص: 151


1- في عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي (ج 1/ ص 129/ الفصل الثامن/ ح 3): عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيَّته، فالإمام راعٍ وهو المسؤول عن رعيَّته، والرجل في أهله راعٍ وهو مسؤول عن رعيَّته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيَّتها، والخادم في مال سيِّده راعٍ وهو مسؤول عن رعيَّته، والرجل في مال أبيه راعٍ وهو مسؤول عن رعيَّته، وكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيَّته».

(53)كيف تقوّي نفسك على التزام العمل؟

اشارة

وجداناً، فإنَّ الإنسان عادةً ما يتثاقل من بعض الأعمال، خصوصاً ما لا يرىٰ نتيجته وأثره في العاجل، لأنَّه يميل إلىٰ ما يرىٰ نتيجته ولو كانت نتيجة بسيطة، أكثر من ميله إلىٰ ما لا يرىٰ نتيجته أو كانت نتيجته معنوية.

وحيث إنَّنا نعلم أنَّ دنيانا هي دار عمل بلا رؤية الثواب والأجر في العادة، فقد نجد تثاقلاً من أنفسنا من ناحية العمل.

فكيف نقوّي أنفسنا علىٰ العمل ولو كان ثقيلاً؟

هنا عدَّة خطوات عملية تنفع في ذلك:

الخطوة الأولى: الخطوة الأولى!

لم تتكرَّر الكلمة سهواً، نعم، فالخطوة الأُولىٰ للعمل هي الخطوة الأُولىٰ، أي أنْ تبدأ بخطوة أُولىٰ نحوه، ولو كانت صعبة، ولو كانت ثقيلة، المهمُّ أنْ تبدأ، فكما قيل: إنَّ رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة.

وهناك إشارات تشجيعية لهذه الخطوة، حيث اعتبرت بعض النصوص أنَّ تقديم خطوة بسيطة من العبد، سيقابله توفيق بحجم أكبر من تلك الخطوة من الله تعالىٰ، فقد روي عن الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ في حديث قدسي أنَّ الله تعالىٰ قال: «من اقترب إليَّ شبراً اقتربت إليه ذراعاً، ومن اقترب إليَّ ذراعاً

ص: 152

اقتربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولةً...»(1)

الخطوة الثانية: تكرار العمل:

حاول أنْ تُكرِّر العمل الثقيل، إذ بلا شكٍّ أنَّ ثقله لن يدوم، لأنَّ النفس من طبيعتها أنَّها تتماهىٰ مع ما تتعوَّد عليه شيئاً فشئياً، وهذا ما أشارت له الروايات في أكثر من مناسبة، فعن أبي جعفر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «اعلم أنَّ أوَّل الوقت أبداً أفضل، فعجِّل بالخير ما استطعت، وأحبُّ الأعمال إلىٰ الله عزّ وَجل ما داوم العبد عليه وإنْ قلَّ»(2)

وهكذا عليك أنْ تستمرَّ بالعمل وتُكرِّره ما استطعت في مناسباته المؤقَّتة له - إنْ كان مؤقَّتاً - إلىٰ أنْ يتحوَّل إلىٰ (عادة)، فإنَّ «الخير عادة» كما روي عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ(3)

الخطوة الثالثة: تحمُّل المعارضة!

من أهمّ ما نعيشه في هذه الحياة هي حقيقة وواقعية (المعارضة) و(الضدِّ).

فلست ترىٰ شيئاً إلَّا وله معارضوه، حتَّىٰ الأنبياء عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ لم يسلموا من الضدِّ، قال تعالىٰ: ]وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّاشَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ 112[ (الأنعام: 112).

ص: 153


1- مسند أحمد بن حنبل (ج 5/ ص 169).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 3/ص 274 و275/باب المواقيت أوَّلها آخرها أفضلها/ح 8).
3- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 86).

وقال تعالىٰ: ]وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفىٰ بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً 31[ (الفرقان: 31).

وأنت، عندما تبدأ بعمل الخير، فإنَّك لن تُعدَم المعارض، والمستهزئ، والمثبِّط، ومن يُقلِّل من شأن عملك، وقد تُرمىٰ حتَّىٰ بالجنون، وبالساذج، وبالمتخلِّف!

إلَّا أنَّ صاحب المبدأ عليه أنْ يستمرَّ ويستمرَّ، خصوصاً إذا تلقّىٰ بعض المغريات التي تُمثِّل حاجزاً عن الاستمرار بالفعل.

علىٰ أيِّ واحدٍ منّا أنْ يتذكَّر قول رسوله الأكرم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ عندما بدأ خطوته الأُولىٰ في نشر الإسلام، وعارضه أكثر قريش، وفي خطوة عملية منهم لثنيه عن مبدئه، أغروه بمال وجاه، فقال صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ما اشتهر علىٰ الألسن وذاع بين الناس.

فقد روي في تفسير قوله تعالىٰ: ]وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ 4[ (ص: 4)، أنَّها نزلت بمكَّة، لمَّا أظهر رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ الدعوة بمكَّة اجتمعت قريش إلىٰ أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، إنَّ ابن أخيك قد سفَّه أحلامنا وسبَّ آلهتنا وأفسد شبابنا وفرَّق جماعتنا، فإنْ كان الذي يحمله علىٰ ذلك العدم جمعنا له مالاً حتَّىٰ يكون أغنىٰ رجل في قريش، ونُملِّكه علينا، فأخبر أبو طالب رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بذلك، فقال: «لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما أردتُه، ولكن يُعطونيكلمة يملكون بها العرب وتدين لهم بها العجم ويكونون ملوكاً في الجنَّة»، فقال لهم أبو طالب ذلك، فقالوا: نعم وعشر كلمات، فقال لهم رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «تشهدون أنْ لا إله إلَّا الله، وأني رسول الله»، فقالوا: نَدَعُ ثلاثمائة وستّين إلها ونعبد إلهاً واحداً...(1)

ص: 154


1- تفسير القمّي (ج 2/ ص 228 و22 صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

الخطوة الرابعة: معرفة النتائج:

فإنَّ هذه المعرفة لا شكَّ ستُولِّد الدوافع القويَّة لإنجاز العمل، حتَّىٰ وإنْ كانت النتائج مستقبلية، ويكون العارف بنتائج العمل حينها كالفلّاح الذي يبذر بذوره في أرض خالية، ويبقىٰ يرويها بالماء ربَّما لعدَّة أيّام أو أشهر، وقد يراه غير العارف ويتعجَّب ويستغرب من رميه ماءه وبذله جهده علىٰ لا شيء! ولكن الفلّاح يبذل ما يبذل وهو مرتاح أشدّ الارتياح، لأنَّه ينتظر النتيجة المرجوَّة، التي يعرفها يقيناً.

وهكذا المؤمن، إذا اطَّلع علىٰ ما وعده الله تعالىٰ من جزاء يعجز العقل عن إدراكه اليوم، فإنَّ هذا من شأنه أنْ يُولِّد عند الفرد دافعاً، بل دوافع قويَّة جدًّا لا تخمد ولا تهدأ دون إتمام العمل وإنْ ثقل.

ويتمُّ ذلك طبعاً بمطالعة النصوص الدِّينية الواردة في هذا المجال، وهي أكثر من أنْ تُذكَر.

الخطوة الخامسة: اتِّخاذ القدوة:

إذ لا شكَّ أنَّ للقدوة تأثيراً مباشراً علىٰ النفس، وهو أمرصار واضحاً جدًّا، ولذلك أكَّدت عليه الكثير من البحوث الاجتماعية والنفسية، فضلاً عن إرشاد الدِّين له في نصوصه الكثيرة.

قال تعالىٰ: ]لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً 21[ (الأحزاب: 21).

وقال تعالىٰ: ]قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ[ (الممتحنة: 4).

وفي ضمن كلامه جلَّ وعلا عن بعض الأنبياء والمرسَلين، يقول

ص: 155

جلا وعلا: ]أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَىٰ اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرىٰ لِلْعالَمِينَ 90[ (الأنعام: 90).

* * *

ص: 156

(54)المكر السيِّئ، إلى أين؟!

في هذه الحياة، يحتاج بنو البشر لبعضهم البعض، إمَّا لأنَّ طبعهم هذا، وإمَّا لأنَّ الحاجات المتكثِّرة تمنع الفرد الواحد من القيام بها كلّها، فاحتاج لغيره.

ومن هذه الحقيقة نشأ نظام: التعارف، والتعايش، وتبادل الخدمات والمنافع، والتخصُّص العلمي والفنّي، والمعاملات، و...

ولأجل حفظ الحقوق، كانت الدواوين، وسجلّات الصادر والوارد، والقيود، والأختام، والتواقيع، و...

ولأجل حماية هذه الطبيعة من المتمرِّدين، كانت الدولة، والعسكر، ونظام العقوبات، والسجن، وسلطة المراقبة، و...

فهي منظومة متكاملة، حيث احتاج البشر إلىٰ التواصل فيما بينهم.

ولم تكن السماء بعيدة عن هذه الطبيعة، كيف وهي التي نظَّمت الكون وفقها؟ فلذلك تدخَّلت وأعطت تشريعات تنظيمية مهمَّة، ومنها:

- ]يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثىٰ وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ 13[ (الحجرات: 13).- ]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى

ص: 157

فَاكْتُبُوهُ... وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ... وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلىٰ أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنىٰ أَلَّا تَرْتابُوا... وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ...[ (البقرة: 282).

- ]وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا[ (البقرة: 275).

- ]وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ 1 الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَىٰ النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ 2 وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ 3[ (المطفِّفين: 1 - 3).

وغيرها من القوانين التنظيمية في هذا المجال.

المفارقة هنا، هي أنَّ البعض يحاول أنْ يتجاوز جميع الحدود القانونية، سماوية كانت أو أرضية، ليمكر بأخيه الإنسان، بأنْ يغشَّه في معاملة، أو يخدعه في بيع، أو يأكل عليه حقَّه، أو يغمط ما ليس له أو...

وهذا واقع يمكنك أنْ تجده أمام عينيك كثيراً، والأمثلة أكثر من أنْ تُذكَر.

أمام هذا الواقع وتلك الحقيقة، ينبغي أنْ نلتفت إلىٰ التالي:

أوَّلاً: صحيح أنَّه يمكن التحايل علىٰ القانون الأرضي، باختفاء وابتعاد عن أعين السلطة، أو رشوة لصاحب منصب، أو جاه يمنع غيره من الوصول إليه، أو... إلَّا أنَّه لا مهرب من قانون السماء، ولا مناص من الوقوف في محكمة قاضيها غنيّ قويّ عدل مطلق، وهو من العلم بحيث لا يمكن لأحد أنْ يُخفي عليه ما تضمره نفسه فضلاً عمَّا يفعله، كيف لا وهو خالق الجميع؟ إذن هو يعلم الجميع، قال تعالىٰ: ]هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَفِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوىٰ عَلَىٰ الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 4[ (الحديد: 4).

ص: 158

وفي تلك المحكمة، لا مجال للتهرُّب أو الإنكار، لأنَّه ]وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً 13 اقْرَأْ كِتابَكَ كَفىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً 14[ (الإسراء: 13 و14).

ثانياً: هناك قانون غيبي ترعاه يد السماء، خلاصته: ]إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ 38[ (الحجّ: 38).

ولقد أثبت هذا القانون جدواه في كلِّ مناسباته، ففرعون يوم أراد إهلاك أتباع النبيِّ موسىٰ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، واغترَّ كثيراً بقوَّته وضعفهم، جاءت اليد الغيبية لتفعل به ما لم يكن في الحسبان!

إنَّها اليد الغيبية، تلك التي قال تعالىٰ عنها: ]قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَىٰ اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ 26[ (النحل: 26).

ونُسِبَ لأمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قوله: «من حفر لأخيه المؤمن بئراً، أوقعه الله تعالىٰ فيه»(1)

وفي أمثال العرب: من حفر لأخيه جُبًّا، وقع فيه منكبًّا»(2)

نعم، هذا القانون يسير وفق حكمة متقنة، تنظر إلىٰ الواقع، وتضع بصمتها ولو بعد حين.

فقد يحتال عليك البشر ليوقعوك، ويتصوَّرون أنَّهم نجحوا،وما علموا أنَّ يد الغيب ترعىٰ المؤمن من حيث لا يرونها، وسيتفاجأ الماكرون كما تفاجأ إخوة يوسف بعبدٍ باعوه بثمن بخس، فإذا به صار مَلِكاً يُطاع!

ص: 159


1- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 438).
2- تفسير الكشّاف للزمخشري (ج 2/ شرح ص 407).

وهذا يعني: أنْ لا يفقد المؤمن صبره، ولا ييأس من رحمة ربِّه، ولا يستعجل النتائج، فإنَّ الله تعالىٰ يُمهِل ولا يُهمِل.

ثالثاً: هناك قانون غيبي يقول: ]وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ 216[ (البقرة: 216)، و]فَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً 19[ (النساء: 19).

وهو قانون يعمل دوماً وبشكلٍ عامٍّ وتامٍّ، فإنَّ المؤمن وإنْ وقع في شدَّة أو ضيق في هذه الحياة، لكنَّه للذي هو خير له بلا أدنىٰ شكٍّ.

قد يتأخَّر عليك الفتح والظفر، لكنَّه آتٍ لا محالة.

وهل هناك من ضيق يقع فيه المؤمن أكثر ممَّا وقع فيه الإمام الحسين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ؟

ولكن الذي لم يكن في حسبان الأعداء، هو ما آل إليه ذلك التراب الذي حمل جسد الحسين قبل أنْ يُدفَن فيه، في مستقبل تنبَّأت به السيِّدة الحوراء عَلَيْهِا اَلسَّلاَمُ حينما قالت لابن أخيها عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ وقد رأته يجود بنفسه: (ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيَّة جدّي وأبي وإخوتي؟).

فقال عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «وكيف لا أجزع ولا أهلع، وقد أرىٰ سيّدي وإخوتي وعمومتي وولد عمّي وأهلي مصرَّعين بدمائهم مرمَّلينبالعراء، مسلَّبين لا يُكفَّنون ولا يوارون، ولا يعرج عليهم أحد، ولا يقربهم بشر، كأنَّهم أهل بيت من الديلم والخزر؟!».

فقالت عَلَيْهِا اَلسَّلاَمُ: (لا يُجزعنَّك ما ترىٰ، فوَالله إنَّ ذلك لعهد من رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ إلىٰ جدِّك وأبيك وعمِّك، ولقد أخذ الله ميثاق أُناس من هذه الأُمَّة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل

ص: 160

السماوات أنَّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرِّقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرَّجة، وينصبون لهذا الطفِّ عَلَماً لقبر أبيك سيِّد الشهداء عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لا يُدرَس أثره، ولا يعفو رسمه، علىٰ كرور الليالي والأيّام، وليجتهدنَّ أئمَّة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلَّا ظهوراً وأمره إلَّا علوًّا)(1)

والحاصل من كلِّ ما سبق، هي حقيقة نطق بها القرآن صادحاً بقوله عزَّ من قائل: ]وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ[ (فاطر: 43).

* * *

ص: 161


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 28/ ص 57).

(55)مدخل طبيعي

اشارة

إنَّ من أهمّ الأساليب البلاغية التي اعتمدها القرآن الكريم في إيصال المضامين التي يريدها هو أُسلوب ضَرْب المَثَل، حيث يأتي المَثَل ليكون قاعدة تنضوي تحتها الكثير من المفردات، وبالتأمُّل والتدبُّر يمكن استخراج الكثير من الكنوز المخبأة داخل المَثَل القرآني: ]أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلىٰ قُلُوبٍ أَقْفالُها 24[ (محمّد: 24).

ومن الأمثال التي ضربها الباري جلَّ وعلا في كتابه العزيز، هو قوله تعالىٰ: ]وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ189[ (البقرة: 189).

هذه الآية تُمثِّل قاعدة عامَّة لمفردات كثيرة، ضربها القرآن مَثَلاً بأقلّ لفظ وأروع بيان.

عليكم أنْ تأتوا البيوت من مداخلها الطبيعية، الظاهرة للجميع، حتَّىٰ لا تُوجَّه لكم أيّ تهمة.

هذا ظاهر المَثَل، وله تطبيقات عديدة، نذكر منها التالي:

التطبيق الأوَّل:

أنَّ للوصول إلىٰ رضا الله تعالىٰ طريقاً واضحاً غير مخفي، رسمهالقرآن الكريم بكلِّ وضوح حينما قال: ]يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا

ص: 162

الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَىٰ اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً59[ (النساء: 59).

وهذا يكون عبر الاتِّباع العملي والقولي بكلِّ تأكيد، قال تعالىٰ: ]قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ 31[ (آل عمران: 31).

فمن أراد وصولاً إلىٰ الله تعالىٰ من غير هذا الطريق، فلا مصير له إلَّا مصير إبليس يوم قال لربِّ العزَّة والجلال: يا ربِّ، اعفني من السجود لآدم وأنا أعبدك عبادة لم يعبُدْكها مَلَك مقرَّب ولا نبيٌّ مرسَل! قال الله تبارك وتعالىٰ: لا حاجة لي إلىٰ عبادتك، إنَّما أُريد أنْ أُعبد من حيث أُريد لا من حيث تريد، فأبىٰ أنْ يسجد، فقال الله تعالىٰ: ]قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ 34 وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلىٰ يَوْمِ الدِّينِ 35[ (الحجر: 34 و35)(1)

التطبيق الثاني:

إنَّ الوصول إلىٰ مرادات السماء ليس متاحاً للجميع، بل إنَّه يحتاج إلىٰ لياقة خاصَّة لم يحصل عليها إلَّا من اختاره الله تعالىٰ، لذلك كان الأنبياء، ثمّ كان الأوصياء.

وأمَّا في زمنٍ لم يكن فيه النبيُّ، ولم يظهر فيه الوصيُّ - بسبب الغيبة -، فلم ينفتح طريق الوصول إلىٰ مرادات السماء للجميع، بل بقي مغلقاً إلَّا علىٰ من عنده القدرة علىٰ ولوجه، فكانت له ضوابطه النظامية،ومناهجه القويمة، لذلك كان هناك المتخصِّصون في (الفقه)، الذين يبذلون من الوقت والجهد ما لا يستطيع بذل عُشر معشاره أغلب الناس.

ص: 163


1- تفسير القمّي (ج 1/ ص 42).

إنَّ الولوج إلىٰ علم الفقه لا بدَّ أنْ يكون من (بابه)، وبالتالي، فحاله حال أيِّ علم من العلوم، فإنَّ الفقه له متخصِّصوه، يلزم الرجوع إليهم لمعرفة أحكام المواقف والأحداث التي يمرُّ بها المؤمن يومياً.

وهو تطبيق لقاعدة عقلائية قبل أنْ تكون شرعية ذكرها عزّ وَجل بقوله: ]فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ 43[ (النحل: 43).

التطبيق الثالث:

إنَّ للحصول علىٰ (قلب فتاة) تريد أنْ تملك وجدانها ووجودها باباً يلجه العقلاء، ففي كلِّ عرف ودين هناك باب واضح لا غشَّ فيه ولا غَبَش، يلجه من يريد الوصول إلىٰ قلب امرأة.

أمَّا من يريد الدخول من النافذة، أمَّا من يخدع الريحانة بباقة ورد أو قارورة عطر، أمَّا من يُخفي نفسه عن العالم، فهو لصٌّ خبيث، هو ذئب بشري يبحث من الشاة عن غِرَّتها!

لا تنخدعي يا فتاة، إيّاكِ أنْ تهبي نفسكِ لكلِّ من هبَّ ودبَّ.

فكّري بأبيكِ وأخيكِ، الذينِ يعتبران صون عِرضكِ وشرفكِ أهمّ من حياتهما!

لا تبيعي نفسكِ بثمن بخس، فأنتِ أغلىٰ ممَّا تتوقَّعين.

لاحظوا كيف منع القرآن الكريم من اتِّخاذ العلاقات السرّية بينالرجل والمرأة فيما لا يحلُّ طبعاً، قال تعالىٰ في مقام تنظيم هذه العلاقة: ]فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ[ (النساء: 25)، أي لا يتَّخذها صديقة(1) والأخدان:

ص: 164


1- تفسير القمّي (ج 1/ ص 136).

الأخلّاء في السرِّ(1) لأنَّ الرجل منهم كان يتَّخذ صديقة فيزني بها، والمرأة تتَّخذ صديقاً فتزني به. وروي عن ابن عبّاس أنَّه قال: كان قوم في الجاهلية يُحرِّمون ما ظهر من الزنا، ويستحلُّون ما خفي منه، فنهىٰ الله عن الزنا سرًّا وجهراً. فعلىٰ هذا يكون المراد بقوله: ]غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ[ غير زانيات لا سرًّا ولا جهراً(2)

علىٰ (الريحانة) إذن أنْ تنتبه جيِّداً، وعليها أنْ تقول لمن يريد منها (صورةً) أو (لقاءً عابراً): هذا باب بيتنا، اطرقه كما الناس!

التطبيق الرابع:

إنَّ للحصول علىٰ العلم باباً واضحاً يعرفه الجميع، فهناك المعاهد العلمية التي أخذت علىٰ عاتقها إعطاء العلم في أيِّ تخصُّص كان من خلال مناهج محدَّدة وتدرُّج منضبط، لا لبس فيها ولا خداع.

ولكن من يريد الحصول علىٰ شهادة بحفنة من المال، أو بغشٍّ وخداع، فهو لم يأتِ العلم من بابه، وستكون النتائج كارثية ولو بعد حين.

علىٰ أنَّ العلم الإلهي، في الوقت الذي يحتاج إلىٰ المنهجيةالمنضبطة، هو يحتاج إلىٰ عنصر غيبي أشار له الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بقوله لعنوان البصري: «ليس العلم بالتعلُّم إنَّما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالىٰ أنْ يهديه، فإنْ أردت العلم فاطلب أوَّلاً من نفسك حقيقة العبودية، واطلب العلم باستعماله، واستفهم الله يُفهمك»(3)

* * *

ص: 165


1- تفسير جوامع الجامع للشيخ الطبرسي (ج 1/ ص 390).
2- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي (ج 3/ ص 64).
3- مشكاة الأنوار لعليٍّ الطبرسي (ص 563).

(56)وعد إلهي

اشارة

يحتاج المؤمن في سيره التكاملي إلىٰ حوافز ودوافع تساعده في تجاوز العقبات اللّامتناهية في هذه الحياة، إذ إنَّ من أجلىٰ الحقائق في النصوص الدِّينية هو أنَّ المؤمن لن يخلو من بلاء، فعن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قال: «ما أفلت المؤمن من واحدة من ثلاث، ولربَّما اجتمعت الثلاث عليه: إمَّا بغض من يكون معه في الدار يغلق عليه بابه يُؤذيه، أو جار يُؤذيه، أو من في طريقه إلىٰ حوائجه يُؤذيه، ولو أنَّ مؤمناً علىٰ قُلَّة جبل لبعث الله عزّ وَجل إليه شيطاناً يُؤذيه، ويجعل الله له من إيمانه أُنساً لا يستوحش معه إلىٰ أحد»(1)

وبالتالي، احتاج المؤمن ليتجاوز البلاء إلىٰ محفِّزات.

ومن بين أهمّ الحوافز وأعظمها، هو أنَّ الله تعالىٰ تعامل مع المؤمن تعاملاً لطيفاً جدًّا، بحيث قطع علىٰ نفسه وعداً، بل وعوداً للمؤمن، لو اطَّلع عليها المؤمن فسيكون ثابتاً وصابراً ومحتسباً في البلاء، لأنَّه يُؤمِّل خيراً من ربِّه.

من المعلوم أنَّنا لو سمعنا وعداً من إنسان محترم، فإنَّنا سنستبعد جدًّا أنَّه يخالف وعده، فكيف إذا كان الوعد صادراً منالغنيِّ القويِّ الحكيم بالمطلق؟!

ص: 166


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 249 و250/ باب ما أخذه الله علىٰ المؤمن من الصبر علىٰ ما يلحقه فيما ابتلي به/ ح 3).

فهو وعد صدر ممَّن لا يمنعه مانع من تنفيذ وعده، اللّهمّ إلَّا أنْ تقتضي الحكمة تأجيل تنفيذه لمصلحة العبد.

فلأنَّه قويٌّ مطلق، فلا موجود يمنعه من تنفيذ وعده.

ولأنَّه غنيٌّ مطلق، فلا بخل في ساحته، ولا يفعل إلَّا ما فيه غنىٰ لغيره.

ولأنَّه حكيم مطلق، فهو قد يُؤجِّل تنفيذ وعده لوقته المناسب.

إذا فهمنا هذه الحقيقة، فعلينا أنْ نكون مطمئنّين جدًّا في خطواتنا، خصوصاً إذا سمعنا الوعود الإلهيَّة، والتي منها التالي:

الوعد الأوَّل:

الوعد العامُّ للإنسانية بأنَّ الأرض لم يُكتَب لها أنْ تعيش في الظلام إلىٰ آخر الدهر، بل لا بدَّ من يوم ترجع فيه إلىٰ الصالحين، ليملأها نور العدل والقسط.

قال تعالىٰ: ]وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ 55[ (النور: 55).

وقال تعالىٰ: ]وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَىٰ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ 5[ (القَصص: 5).

وهذا الوعد لا شكَّ يُولِّد الأمل في نفوس المظلومينوالمحرومين بأنَّ هناك يوماً سيكون الأمر بيدهم إذا كانوا علىٰ الحقِّ.

ص: 167

وقد أكَّدت النصوص الدِّينية هذا الوعد، فقد روي عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري، قال: كنّا عند أبي جعفر محمّد بن عليٍّ الرضاعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، فجرىٰ ذكر السفياني، وما جاء في الرواية من أنَّ أمره من المحتوم، فقلت لأبي جعفر: هل يبدو لله في المحتوم؟ قال: «نعم»، قلنا له: فنخاف أنْ يبدو لله في القائم، فقال: «إنَّ القائم من الميعاد، والله لا يُخلِف الميعاد»(1)

الوعد الثاني:

إنَّنا نعلم علم اليقين، بأنَّنا مجرَّد عبيد بمعنىٰ الكلمة لله تعالىٰ، فلا نستحقُّ عليه أيَّ شيء، فلو عملنا كلَّ الأعمال ولم يُعطِنا، ولو رمانا في النار،، بل لو أفنانا، فلا يحقُّ لنا أنْ ننبس ببنت شفة!

ولكنَّه جلَّ وعلا، وَعَدَ - ووعده الحقُّ - بأنَّه سيُعطينا علىٰ التزامنا بما يريده جلَّ وعلا من الثواب الشيء العظيم، وهو وعد الغنيِّ المطلق.

قال تعالىٰ: ]وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً 122[ (النساء: 122).

بل تعامل معنا تعاملاً أشبه بتعامل أحدنا مع الآخر! فاعتبر أنَّ العمل من العبد هو قرض له علىٰ الله المالك!قال تعالىٰ: ]مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 245[ (البقرة: 245).

وهذا يُعطي اطمئناناً للعبد بأنَّ ما يعمله سيكون في عين ربِّه جلَّ وعلا.

ص: 168


1- الغيبة للنعماني (ص 314 و315/ باب 18/ ح 10).

وأيضاً، سيُخفِّف وطأة استهزاء البعض من الفارغين بما يقوم به المؤمنون من طقوس وشعائر.

حتَّىٰ لو كنتَ أو كنتِ في الجامعة، قد تسمعان استهزاءً ونبزاً بألقاب من قبيل: الرجعي، والمتخلِّف، وربَّما الإسلامي، لا تقلقوا، فإنَّ الوعد الإلهي سيكون بثواب عظيم جدًّا لا يعلمه إلَّا هو.

قال تعالىٰ: ]وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ 10[ (الأنعام: 10).

الوعد الثالث:

الوعد بالدفاع عن المؤمن، قال تعالىٰ: ]إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ 38[ (الحجّ: 38).

وهذا الوعد يدفع المؤمن دوماً إلىٰ أنْ يعيش باطمئنان إذا ما عمل وفق القانون الإلهي، فما عليه إلَّا أنْ يعمل بما يريده الله تعالىٰ، أمَّا إذا أراد أحدهم الكيد به، فإنَّه سيكون في راحة من ردِّه، لأنَّ الله تعالىٰ وَعَدَ بأنَّه هو من يدافع عنه، لكن، ولو بعد حين.

وبعد هذا، فلا تنخدعنَّ بوعد غير وعد الله تعالىٰ، فإنَّ إبليس سيُظهِر شماتته بمن يتَّبعه في يوم يقوم فيه الأشهاد، قال تعالىٰ:]وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ 22[ (إبراهيم: 22).

ص: 169

فلا وعد يستحقُّ الاطمئنان والركون إليه إلَّا وعد الله تعالىٰ، قال تعالىٰ: ]وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ[ (الحجّ 47).

وقال تعالىٰ: ]يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ 5[ (فاطر: 5).

ص: 170

* * *

(57)فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ

من الأُمور التي أكَّدتها النصوص الدِّينية، هو أنَّ الدنيا دار عمل، ولا جزاء - عادةً - فيها، بل هي مجرَّد قاعة امتحان، وما رأينا أحداً حصل علىٰ شهادة تخرُّجه في نفس قاعة الامتحان، بل لا بدَّ من الانتظار إلىٰ أنْ يحين وقت التخرُّج والانتقال إلىٰ مكان آخر يحصل من خلاله علىٰ ثمرة دراسته ونجاحه في الاختبار.

وهكذا الدنيا، هي دار امتحان فقط، والجزاء سيكون في يوم القيامة.

ورغم أنَّ هذا الأمر هو وعد إلهي، والله تعالىٰ لا يخلف الميعاد، ولكن مع ذلك فإنَّ القرآن الكريم وفي أكثر من مناسبة يُؤكِّد هذا الأمر، وبأساليب متنوِّعة، ومن الأساليب التي استعملها لدفع المؤمن نحو العمل رغم أنَّه لا يرىٰ جزاءه، هي قاعدة: أنَّ الله تعالىٰ يعلم كلَّ عمل يقوم به المؤمن، تلك التي عبَّر عنها القرآن بقوله عزَّ من قائل: ]وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوىٰ وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ 197[ (البقرة: 197).

وبقوله تعالىٰ: ]وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَيَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ 270[ (البقرة: 270).

ص: 171

إنَّ هذه الآيات وأمثالها، تشير إلىٰ عدَّة نكات ملكوتية، ومنها:

أوَّلاً: لاحظوا أنَّ كلمة ]مِنْ خَيْرٍ[ و]مِنْ نَفَقَةٍ[ جاءت نكرة، والكلمة إذا كانت نكرة فهي عامَّة، ممَّا يعني أنَّ القاعدة تشمل كلَّ عمل يصدر من الإنسان، ولو كان بعين العامل له صغيراً جدًّا، وهو ما صرَّح به قوله تعالىٰ في ما حكاه عن لقمان الحكيم: ]يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ 16[ (لقمان: 16).

وهذا يعني أنَّ علينا أنْ لا نستقلَّ أيَّ عمل من أعمال الخير، فإنَّها تجتمع وتأتي حيث يحتاج المؤمن إلىٰ أيِّ حسنة ولو كانت صغيرة جدًّا، فلعلَّ كلمة بسيطة ترفع درجتك إلىٰ أعلىٰ علّيين، الأمر الذي أشار له أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بعبارة بليغة يقول فيها: «إنَّ الله تبارك وتعالىٰ أخفىٰ رضاه في طاعته، فلا تستصغرنَّ شيئاً من طاعته، فربَّما وافق رضاه وأنت لا تعلم»(1)

ثانياً: أنَّ الله تعالىٰ في هذه الآية جعل العلم فرع العمل، فقال تعالىٰ: ]وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ[ ليُشير إلىٰ حقيقة واقعية، وهي أنَّ الجزاء لا يكون من دون عمل، ولأنَّ الله تعالىٰ عالم بكلِّ شيء، فهو تعالىٰ سيُجازي من يعمل عملاً صالحاً.

ونفس الكلام في الآية الأُخرىٰ، حيث يقول تعالىٰ: ]وَماأَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ[.

قال الشيخ الطوسي:

(قوله تعالىٰ: ]وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ[ معناه: وما

ص: 172


1- الخصال للشيخ الصدوق (ص 209).

تفعلوا من خير يُجازكم الله العالم به، لأنَّ الله عالم علىٰ كلِّ حالٍ، إلَّا أنَّه جعل ]يَعْلَمْهُ[ في موضع (يُجازيه) للمبالغة في صفة العدل، لأنَّه يعاملكم معاملة من يعلمه إذا ظهر منكم، فيُجازي به، وذلك تأكيد أنَّ الجزاء لا يكون إلَّا بالفعل دون ما يعلم أنَّه يكون منهم قبل أنْ يفعلوه)(1)

ثالثاً: ما دام الله تعالىٰ عالماً بكلِّ عمل خير يفعله المؤمن، إذن، فلا مشكلة في عمل الخير في السرِّ، فإنَّ الذي تعمل له في السرِّ، سيُجازيك في العلن!

وقد روي في وصيَّة الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لابن جندب أنَّه قال له: «يا ابن جندب، لا تتصدَّق علىٰ أعين الناس ليزكُّوك، فإنَّك إنْ فعلت ذلك فقد استوفيت أجرك، ولكن إذا أعطيت بيمينك فلا تُطلِع عليها شمالك، فإنَّ الذي تتصدَّق له سرًّا يُجزيك علانيةً علىٰ رؤوس الأشهاد، في اليوم الذي لا يضرُّك أنْ لا(2)) يطَّلع الناس علىٰ صدقتك»(3)

وحينها فلا داعي أصلاً لأحسب حساباً مهمًّا للناس، فإنَّهم إنْ اطَّلعوا علىٰ عملي فلن يُعطوني أيَّ جزاء، وإنْ لم يطَّلعوا عليه لميمنعوا عنّي جزاء وعطاء الله تعالىٰ، فهم مثلي في الفقر إلىٰ الغنيِّ المطلق.

وحتَّىٰ لو تصوَّر الناس أنَّك لا تعمل الخير، فهذا ليس بالأمر المهمِّ ما دام الله تعالىٰ يعلم بك، وهكذا كان من نواليهم.

فقد جاء في سيرة الإمام زين العابدين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه كان عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ليخرج

ص: 173


1- تفسير التبيان للشيخ الطوسي (ج 2/ ص 165).
2- هكذا في المصدر، والمناسب هو حذف حرف (لا).
3- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 305).

في الليلة الظلماء فيحمل الجراب علىٰ ظهره وفيه الصُّرَر من الدنانير والدراهم، وربَّما حمل علىٰ ظهره الطعام أو الحطب حتَّىٰ يأتي باباً باباً فيقرعه، ثمّ يناول من يخرج إليه، وكان يُغطّي وجهه إذا ناول فقيراً لئلَّا يعرفه، فلمَّا تُوفّي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فقدوا ذلك، فعلموا أنَّه كان عليَّ بن الحسين عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ، ولمَّا وُضِعَ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ علىٰ المغتسل نظروا إلىٰ ظهره وعليه مثل رُكَب الإبل ممَّا كان يحمل علىٰ ظهره إلىٰ منازل الفقراء والمساكين...(1)

وعن محمّد بن إسحاق أنَّه كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون [من] أين معاشهم، فلمَّا مات عليُّ بن الحسين فقدوا ما كانوا يُؤتَون به بالليل(2)

وهذا الأمر من أقوىٰ الدوافع التي ستكون وراء تحقُّق صفة مهمَّة في قبول الأعمال، وهي صفة (الإخلاص) وصفة (لوجه الله تعالىٰ).

بل حتَّىٰ لو سرق أحدهم عملك أمام الناس، كما لو نسبلنفسه عملاً أنت قمت به، فإنَّه لن يضيع عند الله تعالىٰ كما هو واضح، وقد نقل لي أحد الأصدقاء أنَّ جدَّه لأُمِّه كتب كتاباً، ولم يكن عنده ما يطبعه به، فسرقه أحدهم من دون أنْ يشعر وطبعه باسمه، ولمَّا أُخبر بذلك قال: الحمد لله، المهمُّ أنْ يُنشَر العلم، والله هو المجازي!

* * *

ص: 174


1- الخصال للشيخ الصدوق (ص 517/ ذكر ثلاث وعشرين خصلة من الخصال المحمودة التي وُصِفَ بها عليُّ بن الحسين زين العابدين عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ/ ح 4).
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 3/ ص 292).

(58)ثنائية الصبر والتقوى

من قواعد الحياة: أنْ لا شيء يأتي فيها بالمجّان، فلكلِّ شيء ثمنه، قلَّ أو كثر.

نفسك أيضاً لها ثمن، وثمنها ليس بخساً، بل هو عظيم جدًّا، لا يوازيه شيء إلَّا الجنَّة، ولذلك فإنَّ الله تعالىٰ عندما عقد معاملة بيع وشراء مع المؤمنين، جعل مقابل أنفسهم الجنَّةَ لا غير، قال تعالىٰ: ]إِنَّ اللهَ اشْتَرىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ[ (التوبة: 111).

وهكذا، كلُّ شيء تريد الحصول عليه، فلا بدَّ له من ثمن.

نعم، ليس من الضروري أنْ يكون الثمن مالاً أو عيناً، بل قد يكون أمراً معنوياً، فأنت قد تعمل من أجل الحصول علىٰ الشهرة، والجاه، والتصفيق الحارِّ، وقد تحصل عليه، فتكون قد استوفيت أجرك.

أنْ تكون محسناً، وتحصل علىٰ أجر المحسنين، الذي هو رضا ربِّ العالمين وجنّات عدن، كما قال تعالىٰ: ]فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ 85[ (المائدة: 85).

بل إنَّ جزاءهم لم ينحصر بالآخرة، وإنَّما لهم أجر حتَّىٰ في الدنيا، قال جلَّ وعلا: ]فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِوَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ 148[ (آل عمران: 148).

ص: 175

بل إنَّ ثوابهم غير منحصر بشيء ما، وإنَّما هو علىٰ حدِّ ما قاله تعالىٰ: ]لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ 34[ (الزمر: 34).

هذا فضلاً عن أنَّ المحسن سيكون قريباً جدًّا من الرحمة الإلهيَّة الخاصَّة: ]إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ 56[ (الأعراف: 56).

فأنْ تكون محسناً، فله ثمنه أيضاً، ولن تحصل عليه بالمجّان.

فما هو ثمنه؟

إنَّ ثمنه أمران:

الأمر الأوَّل: التقوىٰ.

الأمر الثاني: الصبر.

ففي مقام بيان مدخلية التقوىٰ في كون الفرد من المحسنين، يقول تعالىٰ: ]وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ 69[ (العنكبوت: 69)، فإنَّ الجهاد في الله تعالىٰ يعني في بعض مراتبه، بل إنَّ أهمّ مراتبه هي التقوىٰ، بما تعنيه من فعل الواجبات وترك المحرَّمات.

وفي مقام بيان مدخلية الصبر في كون الفرد كذلك، يقول تعالىٰ: ]وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ 115[ (هود: 115)، والارتباط هنا واضح جدًّا بين الصبر وبين ثبوت أجر المحسنين.

وفي الحقيقة، فإنَّ هناك ارتباطاً وثيقاً بين هذين الأمرين،حتَّىٰ كأنَّك تراهما واحداً، فإنَّ التقوىٰ - بما تعنيه هذه الكلمة من ضرورة حبس النفس علىٰ ما أحلَّه الله تعالىٰ، والتعالي بها عن معاقرة ما حرَّمه جلَّ وعلا - لا يمكن أنْ تتحقَّق من دون توطين النفس وصبرها علىٰ أنْ لا تخالف تلك الحدود، أي إنَّها تحتاج إلىٰ صبر شديد لمقاومة إغراءات النفس وتسويلات إبليس، فإنَّ النفس من طبعها أنْ تميل نحو الانفلات

ص: 176

وعدم الانضباط، ]بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ 5[ (القيامة: 5)، خصوصاً في ما يتعلَّق بالرغبات الملائمة لطبعها.

ولذلك؛ فقد قرن الله تعالىٰ بينهما في ما حكاه جلَّ وعلا عن المآل الذي آل إليه النبيُّ يوسف عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بعد الظلم والأذىٰ، بعد أنْ ألقاه إخوته في الجُبِّ وباعوه عبداً وسجنوه في مصر رغماً، إلَّا أنَّ تقواه وصبره أثمرا ولو بعد حين، قال عزَّ من قائل حكايةً عن تعجُّب إخوة يوسف عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لمَّا اكتشفوا أنَّ المَلِك هو أخوهم: ]قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ 90[ (يوسف: 90).

إنَّ توفُّر عنصريّ (الصبر) و(التقوىٰ) له من الآثار الشيء الكثير، فمنها:

أنَّه سيكون حاجز صدٍّ ضدَّ كيد الكائدين، قال تعالىٰ: ]إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ 120[ (آل عمران: 120).

ومنها: أنَّه سيكون مدعاة للعون الغيبي الإلهي من حيث لا يشعرالآخر، قال تعالىٰ فيما حكاه عن وقعة بدر الكبرىٰ: ]إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ 124 بَلىٰ إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ 125[ (آل عمران: 124 و125).

ومنها: أنَّه سيجعل المؤمن يتجاوز كلَّ الأذىٰ الذي ينحدر إليه كالسيل من المنحرفين، فإنَّ توفُّر هذين العنصرين سيُولِّد في النفس قوَّة تحمُّل لا يتصوَّرها الفاقد لهما، قال تعالىٰ: ]لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ

ص: 177

مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىٰ كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ 186[ (آل عمران: 186).

إذا تبيَّن هذا الأمر فينبغي أنْ نلتفت إلىٰ التالي:

أوَّلاً: ضرورة أنْ يعمل المؤمن علىٰ تحصيل هاتين الصفتين ما أُوتي إلىٰ ذلك سبيلاً، وهذا ما يحتاج إلىٰ مداومة العمل، وعدم الملل، والتزام التوسُّل بالله تعالىٰ ليعينه علىٰ ما هو فيه.

مع الانتباه إلىٰ أنَّ التوفُّر علىٰ هذين العنصرين في موقف أو موقفين، لا يعني التحصُّن طول العمر، فهما كحال بقيَّة الصفات، يمكن أنْ تأتي، ويمكن أنْ تذهب، يمكن أنْ تكون مستقرَّة، ويمكن أنْ تكون متزلزلة، وما لم يستمرّ المؤمن بالجهاد فيهما، وتفعيلهما في كلِّ مواقف الحياة، فإنَّ انسلالهما من بين يديه أمر ممكن جدًّا.

لذلك احتاج المؤمن إلىٰ مداومة الصبر والتقوىٰ، وإلىٰتوسُّل دائم بالله تعالىٰ ليهب له استقرارهما في نفسه.

ثانياً: أنَّ أكثر ما يحتاج المؤمن إلىٰ هذين العنصرين هو في وقت تفتح الدنيا له ذراعيها، ويرىٰ أنَّها تُقبِل إليه، فإنَّ عليه أنْ يضبط نفسه جيِّداً بالتقوىٰ ويصبر علىٰ مغرياتها حتَّىٰ لا يقع فريسة لها، فتقتله كما قتلت الكثيرين من قبله.

فالمال مصيدة، والجمال أُخرىٰ، والجاه ثالثة، والقوَّة رابعة، وهناك ألف مصيدة ومصيدة غير ما ذُكِرَ، ولو لم يلجأ المؤمن إلىٰ ربِّه، ويتحصَّن بالصبر والتقوىٰ، فإنَّ وقوعه في الحفرة سيكون وشيكاً جدًّا.

* * *

ص: 178

(59)لن يرضوا عنك

صار من الواضحات أنَّ القرآن الكريم يجري مجرىٰ المثل في الكثير من موارده وآياته، فهو يذكر مثالاً، ويريد منّا أنْ نعتبر به، بل يريد منّا أنْ نجعله قاعدة تندرج تحتها الكثير من المفردات.

ومن هذا القبيل قوله تعالىٰ: ]وَلَنْ تَرْضىٰ عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصارىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَىٰ اللهِ هُوَ الْهُدىٰ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ120[ (البقرة: 120).

إنَّ هذه الآية تشير إلىٰ أمرين:

الأوَّل: أنَّ اليهود والنصارىٰ لن يرضوا عن الرسول الأكرم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، لأنَّه خالف ملَّتهم وعقيدتهم، وبالتالي سلوكهم. وهذا هو منطوق الآية.

الثاني: أنَّهم إنَّما يرضون عنه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فيما إذا ترك عقيدته وتبع عقيدتهم وملَّتهم، وهذا هو مضمون الآية وما يُفهَم منها.

وأنت إذا لاحظت هذا المعنىٰ، لوجدته يُمثِّل قاعدة عامَّة تشمل كلَّ من يخالفك في الرأي، إذ لا شكَّ أنَّ الآخر - سواء كان يرىٰ نفسه علىٰ حقٍّ أو علىٰ باطل وكان معانداً - يأمل أنْ تكون مثله، إمَّا:

لهدايتك - فيما إذا كان يعتقد أنَّه علىٰ الحقِّ وأنت علىٰ الباطل -.

ص: 179

أو ليتوزَّع اللوم علىٰ أكبر مساحة ممكنة - فيما لو كان شاكًّا متردِّداً في ما هو عليه ويخاف من النقد لو انكشف بطلان ما هو عليه -.

أو ربَّما لأجل الحسد، كما يذكر القرآن الكريم هذا المعنىٰ حيث يقول عزَّ من قائل: ]وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ[ (البقرة: 109).

وقد أشار القرآن الكريم إلىٰ أنَّ الأطراف الأُخرىٰ تعمل علىٰ إبقاء المؤمن بعيداً عن خطِّ الاستقامة، وأنْ يتقهقر إلىٰ الوراء حيث ]أَسْفَلَ سافِلِينَ[، وفي مقام تقديمهم للمرغِّبات في ذلك، قالوا للمؤمنين: لا عليكم، فقط اتِّبعونا، ونحن سنحمل كلَّ خطاياكم أمام ربِّكم! قال تعالىٰ: ]وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ[، فردَّ عليهم القرآن مباشرةً: ]وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ 12 وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ 13[ (العنكبوت:12 و13).

أمام هذا الواقع، لا بدَّ من الالتفات إلىٰ التالي:

أوَّلاً: أنَّ الحقَّ والباطل أُمور واقعية منضبطة تماماً، فيكون ملاك العقيدة وبالتالي السلوك هي موافقة الحقِّ والابتعاد عن الباطل، ويكون ذلك بالرجوع إلىٰ أهل الخبرة في الدِّين، ممَّن استمرُّوا علىٰ خطِّ الحقِّ، خطّ أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ.وأمَّا رضا الناس، فإنَّما هي ثمرة عرضية، إنْ حصلت فبها ونعمت، وإلَّا فكما قال الشاعر الحمداني(1)):

ص: 180


1- البداية والنهاية لابن كثير (ج 11/ ص 316)، والأبيات للشاعر أبي فراس الحمداني.

فليتك تحلو والحياة مريرة *** وليتك ترضىٰ والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر *** وبيني وبين العالمين خراب

ثانياً: أنَّ تحصيل رضا الناس في كلِّ مفردات الحياة أمر ربَّما يكون متعذِّراً علىٰ أيِّ إنسان، ذلك لأنَّك لا تجد شخصاً يوافقك الرأي في كلِّ مفردات سلوكك وعقيدتك، وبالتالي فالبحث عن الموافقة التامَّة من الآخرين ضرب من الخيال.

وهذا ما صوَّرته بعض المرويات، فقد روي أنَّ موسىٰ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قال: يا ربِّ، احبس عنّي ألسنة بني آدم، فإنَّهم يذمُّوني، وقد آذوني - كما قال الله تبارك وتعالىٰ عنهم: ]يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسىٰ فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً 69[ (الأحزاب: 69) -، قيل: فأوحىٰ الله جل جلاله إليه: يا موسىٰ، هذا شيء ما فعلته مع نفسي، أفتريد أنْ أعمله معك؟! فقال: قد رضيت أنْ يكون لي أُسوة بك(1)

وقد روي أنَّ لقمان الحكيم قال لولده في وصيَّته:

لا تُعلِّق قلبك برضا الناس ومدحهم وذمِّهم، فإنَّ ذلك لا يحصل، ولو بالغ الإنسان في تحصيله بغاية قدرته، فقال له ولدهما معناه: أُحِبُّ أنْ أرىٰ لذلك مثلاً أو فعالاً أو مقالاً، فقال له: أخرج أنا وأنت، فخرجا ومعهما بهيم، فركبه لقمان وترك ولده يمشي خلفه، فاجتازا علىٰ قوم، فقالوا: هذا شيخ قاسي القلب، قليل الرحمة، يركب هو الدابَّة، وهو أقوىٰ من هذا الصبيِّ، ويترك هذا الصبيَّ يمشي وراءه، إنَّ هذا بئس التدبير.

ص: 181


1- فتح الأبواب للسيِّد ابن طاووس (ص 309).

فقال لولده: سمعت قولهم وإنكارهم لركوبي ومشيك؟ فقال: نعم، فقال: اركب أنت يا ولدي حتَّىٰ أمشي أنا، فركب ولده ومشىٰ لقمان، فاجتازا علىٰ جماعة أُخرىٰ، فقالوا: هذا بئس الوالد، وهذا بئس الولد، أمَّا أبوه، فإنَّه ما أدَّب هذا الصبيَّ حتَّىٰ ركب الدابَّة وترك والده يمشي وراءه، والوالد أحقّ بالاحترام والركوب، وأمَّا الولد، فإنَّه قد عقَّ والده بهذه الحال، فكلاهما أساء في الفعال.

فقال لقمان لولده: سمعت؟ فقال: نعم، فقال: نركب معاً الدابَّة، فركبا معاً، فاجتازا علىٰ جماعة، فقالوا: ما في قلب هذين الراكبين رحمة، ولا عندهم من الله خير، يركبان معاً الدابَّة، يقطعان ظهرها، ويُحمِّلانها ما لا تطيق، لو كان قد ركب واحد، ومشىٰ واحد، كان أصلح وأجود.

فقال: سمعت؟ قال: نعم، فقال: هات حتَّىٰ نترك الدابَّة تمشي خالية من ركوبنا، فساقا الدابَّة بين أيديهما وهما يمشيان، فاجتازا علىٰ جماعة، فقالوا: هذا عجيب من هذين الشخصين، يتركان دابَّة فارغة تمشي بغير راكب، ويمشيان، وذمّوهما علىٰ ذلك كما ذمّوهما علىٰ كلِّ ما كان.

فقال لولده: ترىٰ في تحصيل رضاهم حيلة لمحتال؟! فلا تلتفت إليهم، واشتغل برضىٰ الله جل جلاله، ففيه شغل شاغل، وسعادةوإقبال في الدنيا ويوم الحساب والسؤال(1)

ثالثاً: ومن هذا يتبيَّن: أنَّ المهمَّ هو تحصيل رضا الله عزّ وَجل، لأنَّ المصير النهائي للإنسان متوقِّف علىٰ ذلك، ومن يبحث عن رضا غير الله تعالىٰ، فلن يجد إلَّا ما لا يسرُّه.

وقد روي أنَّه قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «من طلب مرضاة الناس بما

ص: 182


1- فتح الأبواب للسيِّد ابن طاووس (ص 307 - 309).

يُسخِط الله كان حامده من الناس ذامًّا، ومن آثر طاعة الله بغضب الناس كفاه الله عداوة كلِّ عدوٍّ، وحسد كلِّ حاسد، وبغي كلِّ باغٍ، وكان اللهعزّ وَجل له ناصراً وظهيراً»(1)

وروي أنَّه كتب رجل إلىٰ الحسين بن عليٍّ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «يا سيّدي، أخبرني بخير الدنيا والآخرة، فكتب إليه: «بسم الله الرحمن الرحيم، أمَّا بعد، فإنَّه من طلب رضا الله بسخط الناس كفاه الله أُمور الناس، ومن طلب رضا الناس بسخط الله وكله الله إلىٰ الناس، والسلام»(2)

* * *

ص: 183


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 372 و373/ باب من أطاع المخلوق في معصية الخالق/ ح 2).
2- أمالي الشيخ الصدوق (ص 268/ ح 293/14).

(60)نفس سامية

اشارة

أصبح من نافلة القول التذكير بأنَّ الحياة لم ولن تصفو للمؤمن، فهو فيها بين بلاء الحاجة، وبلاء المحن، وبلاء الفتن.

بين نوازع النفس، وتسويلات الشيطان.

بين ظالم يريد الفتك به، وبين قلَّة حيلة اليد.

بين كونه إنساناً ذا لحم ودم، وله مشاعر، وله أحاسيس، فيريد أنْ يعيش في الحياة كما الناس، وبين كونه مؤمناً لا يريد أنْ يخسر من الآخرة أيَّ شيء ولو أُعطي الدنيا كلَّها ذهبةً واحدةً.

لذلك فإنَّ «أعظم الناس هَمًّا: المؤمن» والسبب أنَّه «يهتمُّ بأمر دنياه وأمر آخرته» كما روي عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ(1)

وحتَّىٰ يستطيع أنْ يعيش بهناء، فقد احتاج - بعد العون الإلهي - إلىٰ أنْ يتَّصف بالعديد من الصفات النفسية، التي تُخفِّف عليه وطأة الظلم ومرارة الحرمان، كالصبر، والتقوىٰ، وعدم اليأس، وغيرها.

ومن أهمّ تلك الصفات التي احتاجها، هي صفة (العفو).

إنَّ احتياجه إلىٰ هذه الصفة له مبرّراته العقلائية، والتي منها التالي:أوَّلاً: أنَّ عفوه عن غيره سيكون مفتاحاً للوصول إلىٰ العفو الإلهي، وهذا هدف يسعىٰ إليه المؤمن بلا أدنىٰ شكٍّ.

ص: 184


1- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 1/ ص 144/ ح 702).

قال تعالىٰ: ]إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً 149[ (النساء: 149).

وقد روي عن النبيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنَّه قال: «إذا كان يوم القيامة نادىٰ منادٍ: من كان أجره علىٰ الله، فليدخل الجنَّة، فيقال: من ذا الذي أجره علىٰ الله؟ فيقال: العافون عن الناس، فيدخلون الجنَّة بغير حساب»(1)

ثانياً: أنَّ عفوه عن الناس يعني أنَّه سيتناسىٰ تجاوزهم عليه حتَّىٰ ينساه تماماً، وبالتالي فلن يغلي في قلبه الإحساس بظلمهم، وسيطمئنُّ قلبه وتستقرُّ نفسه، لأنَّه لن يُفكِّر بالانتقام ولا بالعتاب.

ومن هنا روي عن الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنَّه قال: «تعافوا تسقط الضغائن بينكم»(2)

ثالثاً: أنَّ من أهداف المؤمن هو إصلاح غيره، والإصلاح له آليّات عملية كثيرة، ومنها العفو.

ومن هنا حثَّت الرواياتُ المؤمنَ علىٰ العفو، فقد روي أنَّه شكا رجل إلىٰ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ خدمه، فقال له: «اعفُ عنهم تستصلح به قلوبهم»، فقال: يا رسول الله، إنَّهم يتفاوتون في سوء الأدب، فقال: «اعفُ عنهم»، ففعل(3)

أسوة حسنة:

وأنت إذا تابعت حياة العظماء، وجدت أنَّ العفو يتصدَّر سلوكهم اتِّجاه أعدائهم، وأيّ عفو هو؟!

ص: 185


1- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي (ج 9/ ص 58).
2- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 3/ ص 373/ ح 7004).
3- مستدرك الوسائل للميرزا النوري (ج 9/ ص 6 و7/ باب استحباب العفو/ ح 10041/8).

هو عفو يعجب منه العدوُّ ويمدحه قبل الصديق.

فهذا مولانا الإمام زين العابدين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يعفو عن ظالمه أيّ عفو!

قال الواقدي: كان هشام بن إسماعيل يُؤذي عليَّ بن الحسين في إمارته، فلمَّا عُزِلَ أمر به الوليد أنْ يُوقَف للناس، فقال: ما أخاف إلَّا من عليِّ بن الحسين! وقد وقف عند دار مروان، وكان عليٌّ قد تقدَّم إلىٰ خاصَّته ألَّا يعرض له أحد منكم بكلمة، فلمَّا مر ناداه هشام: ]اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ[ (الأنعام: 124)(1)

وزاد ابن فيّاض في الرواية في كتابه: أنَّ زين العابدين أنفذ إليه وقال: «انظر إلىٰ ما أعجزك من مال تُؤخَذ به فعندنا ما يسعك، فطب نفساً منّا ومن كلِّ من يُطيعنا»، فنادىٰ هشام: ]اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ[(2)

يونس بن عبد الرحمن، عَلَم من أعلام أصحاب الإمام الكاظم والرضاعَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ، كان شديد التعلُّق بأهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ، ويظهر من بعض الروايات أنَّه كان مأموراً بعدم إظهار كلِّ علمه، لأنَّ الناس لا يتحمَّلونه، ولقد كان الكثير من الناس يقعون فيه، بقصد أو بدون قصد، وكان في بعضالأحيان يتأذّىٰ، فيجيء إلىٰ الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، فيطمئنّه بما هو أهله.

فقد روي عن يونس بن عبد الرحمن، قال، قال العبد الصالح [أي الإمام الكاظم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ]: «يا يونس، ارفق بهم، فإنَّ كلامك يدقُّ عليهم»، قال: قلت: إنَّهم يقولون لي: زنديق، قال لي: «وما يضرُّك أنْ يكون في يدك لؤلؤة، يقول الناس: هي حصاة، وما كان ينفعك أنْ يكون في

ص: 186


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 3/ ص 301)؛ وتاريخ الطبري (ج 5/ ص 217).
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 3/ ص 301).

يدك حصاة فيقول الناس: لؤلؤة؟»(1)

وعن أبي جعفر البصري، وكان ثقةً فاضلاً صالحاً، قال: دخلت مع يونس بن عبد الرحمن علىٰ الإمام الرضا عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، فشكىٰ إليه ما يلقىٰ من أصحابه من الوقيعة، فقال الإمام الرضا عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «دارِهم، فإنَّ عقولهم لا تبلغ»(2)

هذا الرجل العظيم، الذي أرجع الإمام الرضا عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أصحابه إليه، حينما سأله محمّد بن عيسىٰ، وحدَّث الحسن بن عليِّ بن يقطين بذلك أيضاً، قال: قلت لأبي الحسن الرضا عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: جُعلت فداك، إنّي لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلِّ ما أحتاج إليه من معالم ديني، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما احتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: «نعم»(3)

هذا الرجل العظيم كان مثلاً للعفو عن الذين تحدَّثوا عليه، وكان السبب في عفوه عنهم ليس إلَّا أنْ يكون الشخص من محبّي أمير المؤمنينعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، حيث روي أنَّه قيل له: إنَّ كثيراً من هذهالعصابة يقعون فيك ويذكرونك بغير الجميل، فقال: «أُشهدكم: أنَّ كلَّ من له في أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ نصيبٌ فهو في حلٍّ ممَّا قال!»(4)

فهل سمعت أُذُنٌ واعية؟!

* * *

ص: 187


1- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي (ج 2/ ص 782 و783/ ح 928).
2- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي (ج 2/ ص 782 و783/ ح 929).
3- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي (ج 2/ ص 784/ ح 935).
4- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي (ج 2/ ص 782 و783/ ح 930).

ص: 188

المصادر والمراجع

1 - القرآن الكريم.

2 - اختيار معرفة الرجال: الشيخ الطوسي/ مطبعة بعثت/ مؤسَّسة آل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ/ 1404ه/ قم.

3 - الإرشاد: الشيخ المفيد/ تحقيق: مؤسَّسة آل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ/ ط 2/ 1414ه/ دار المفيد/ بيروت.

4 - الأُصول الستَّة عشر: عدَّة محدِّثين/تحقيق: ضياء الدِّين المحمودي/ ط 1/ 1423ه/ دار الحديث.

5 - أضواء علىٰ عقائد الشيعة الإماميَّة: الشيخ السبحاني/ ط 1/ 1421ه/ مؤسَّسة الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ/ قم.

6 - أعلام الدِّين: الحسن بن محمّد الديلمي/ مؤسَّسة آل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ/ قم.

7 - أعيان الشيعة: السيِّد محسن الأمين/ تحقيق: حسن الأمين/ دار التعارف/ بيروت.

8 - ألف حديث في المؤمن: الشيخ هادي النجفي/ط 1/ 1416ه/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.

9 - الأمالي: الشيخ الصدوق/ تحقيق: قسم الدراسات/ ط 1/ 1417ه/ مؤسَّسة البعثة.

ص: 189

10 - الأمالي: الشيخ الطوسي/ تحقيق: مؤسَّسة البعثة/ ط 1/ 1414ه/ دار الثقافة/ قم.

11 - الإمامة والتبصرة: ابن بابويه/ ط 1/ 1404ه/ مدرسة الإمام الهادي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ/ قم.

12 - بحار الأنوار: العلاَّمة المجلسي/ الطبعة الثانية المصحَّحة/ 1403ه/ مؤسَّسة الوفاء/ بيروت.

13 - البداية والنهاية: ابن كثير/ تحقيق: عليّ شيري/ ط 1/ 1408ه/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

14 - بصائر الدرجات: محمّد بن الحسن الصفّار/ تحقيق: كوچه باغي/ 1404ه/ مطبعة الأحمدي/ منشورات الأعلمي/ طهران.

15 - البليغ في المعاني والبيان والبديع: الشيخ أحمد أمين الشيرازي/ ط1/ 1422ه/مطبعة مؤسَّسة النشر الإسلامي/ انتشارات فروغ قرآن.

16 - تاج العروس: الزبيدي/ 1414ه/ دار الفكر/ بيروت.

17 - تحف العقول: ابن شعبة الحرّاني/ تحقيق: عليّ أكبر الغفّاري/ ط2/ 1404ه/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.

18 - تفسير الأمثل: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.

19 - تفسير التبيان: الشيخ الطوسي/ تحقيق: أحمد حبيب قصير العاملي/ ط 1/ 1409ه/ مكتب الإعلام الإسلامي.

20 - تفسير القرطبي: القرطبي/ تحقيق: البردوني/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

21 - تفسير القمّي: عليُّ بن إبراهيم القمّي/ تحقيق: طيّبالجزائري/ ط 3/ 1404ه/ مؤسَّسة دار الكتاب/ قم.

ص: 190

22 - التفسير الكبير: الفخر الرازي/ ط 3.

23 - تفسير الكشّاف: الزمخشري/ 1385ه/ شركة مكتبة ومطبعة مصطفىٰ البابي الحلبي وأولاده/ مصر.

24 - تفسير الميزان: السيِّد الطباطبائي/ منشورات جماعة المدرِّسين في الحوزة العلمية/ قم.

25 - تفسير جوامع الجامع: الطبرسي/ ط 1/ 1418ه/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.

26 - تفسير مجمع البيان: الطبرسي/ تحقيق: لجنة من العلماء/ ط 1/ 1415ه/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.

27 - تفسير نور الثقلين: الحويزي/ تحقيق: هاشم الرسولي المحلّاتي/ ط4/ 1412ه/ مؤسَّسة إسماعيليان/ قم.

28 - تنبيه الخواطر (مجموعة ورّام): ورّام بن أبي فراس المالكي الأشتري/ ط 2/ 1368ش/ مطبعة حيدري/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.

29 - التوحيد: الشيخ الصدوق/ تحقيق: هاشم الحسيني الطهراني/ جماعة المدرِّسين/ قم.

30 - ثواب الأعمال: الشيخ الصدوق/ تحقيق: محمّد مهدي الخرسان/ ط 2/ 1368ش/ مطبعة أمير/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

31 - الجامع الصغير: السيوطي/ط 1/1401ه/دار الفكر/بيروت.

32 - الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة: صدر الدِّينمحمّد الشيرازي/ ط 3 / 1981م/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

33 - الخرائج والجرائح: قطب الدِّين الراوندي/ الطبعة الأُولىٰ كاملة محقَّقة/ 1409ه/ مؤسَّسة الإمام المهدي عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ/ قم.

ص: 191

34 - الخصال: الشيخ الصدوق/ تحقيق: عليّ أكبر الغفّاري/ 1403ه/ جماعة المدرِّسين/ قم.

35 - دعائم الإسلام: القاضي النعمان المغربي/ تحقيق: آصف فيضي/ 1383ه/ دار المعارف/ القاهرة.

36 - الدعوات: قطب الدِّين الراوندي/ ط 1/ 1407ه/ مطبعة أمير/ مؤسَّسة الإمام المهدي عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ/ قم.

37 - الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية: الشهيد الثاني/ تحقيق: السيِّد محمّد كلانتر/ ط 1 و2/ 1386 و1398ه/ منشورات جامعة النجف الدِّينية.

38 - روضة الواعظين: الفتّال النيسابوري/ تحقيق: محمّد مهدي الخرسان/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

39 - سير أعلام النبلاء: الذهبي/ ت حسين الأسد/ ط 9/ 1413ه/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.

40 - شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد/ تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم/ ط 1/ 1378ه/ دار إحياء الكُتُب العربية/ بيروت.

41 - شعب الإيمان: أبو بكر البيهقي/ ط 1/ 1423ه/ مكتبة الرشد.

42 - الصحيفة السجّادية: تحقيق: الأبطحي/ ط 1/ 1411ه/ مطبعة نمونة/ مؤسَّسة الإمام المهدي عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ، مؤسَّسة الأنصاريان/ قم.43 - عدَّة الداعي: ابن فهد الحلّي/ تحقيق: أحمد الموحّدي القمّي/ مكتبة وجداني/ قم.

44 - علل الشرائع: الشيخ الصدوق/ تحقيق: محمّد صادق بحر العلوم/ 1385ه/ منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها/ النجف الأشرف.

ص: 192

45 - علم النفس الفلسفي: محاضرات الأُستاذ المحقِّق الشيخ غلام رضا الفيّاضي/ الكتاب الأوَّل/ تأليف: السيِّد جعفر الحكيم/ط 1/ 1434ه- -2013م/مطبعة الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع.

46 - عوالي اللئالي: ابن أبي جمهور الأحسائي/ تحقيق: مجتبىٰ العراقي/ ط1/ 1403ه/ مطبعة سيِّد الشهداء عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ/ قم.

47 - عيون أخبار الرضا عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: الشيخ الصدوق/ تحقيق: حسين الأعلمي/ 1404ه/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.

48 - عيون الحِكَم والمواعظ: عليٌّ الليثي الواسطي/ تحقيق: حسين البيرجندي/ ط 1/ دار الحديث.

49 - الغيبة: الشيخ الطوسي/ تحقيق: عبد الله الطهراني، عليّ أحمد ناصح/ ط 1/ 1411ه/ مطبعة بهمن/ مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة/ قم.

50 - الغيبة: النعماني/ تحقيق: فارس حسّون كريم/ ط 1/ 1422ه/ مطبعة مهر/ أنوار الهدىٰ.

51 - فتح الأبواب: ابن طاووس/ ط 1/ 1409ه/ مؤسَّسة آل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ لإحياء التراث/ بيروت.

52 - الكافي: الشيخ الكليني/ تحقيق: علي أكبر الغفّاري/ ط 5/1363ش/ مطبعة حيدري/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.

53 - كتاب الزهد: حسين بن سعيد الكوفي/ 1399ه/ المطبعة العلمية/ قم.

54 - كتاب بحوث المؤتمر التربوي: مؤتمر نحو بناء نظرية تربوية إسلاميَّة معاصرة/ عمان/ المملكة الهاشمية الأُردنية/ تحرير: الدكتور فتحي حسن ملكاوي/ 1411ه- - 1990م.

ص: 193

55 - كنز العُمّال: المتَّقي الهندي/ تحقيق: بكري حيّاني/ 1409ه/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.

56 - الكنىٰ والألقاب: الشيخ عبّاس القمّي/ مكتبة الصدر/ طهران.

57 - مثير الأحزان: ابن نما الحلّي/ 1369ه/ المطبعة الحيدرية/ النجف الأشرف.

58 - المجالس الفاخرة: السيِّد شرف الدِّين/ تحقيق: محمود بدري/ ط1/ 1421ه/ مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة/ قم.

59 - المحاسن: البرقي/ تحقيق: جلال الدِّين الحسيني المحدِّث/ 1370ه/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.

60 - مدينة المعاجز: هاشم البحراني/ تحقيق: عزَّة الله المولائي الهمداني/ ط 1/ 1413ه/ مطبعة بهمن/ مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة/ قم.

61 - مستدرك الوسائل: الميرزا النوري/ الطبعة الأُولىٰ المحقَّقة/ 1408ه/ مؤسَّسة آل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ/بيروت.

62 - مسند أحمد: أحمد بن حنبل/ دار الصادر/ بيروت.

63 - مشكاة الأنوار: عليٌّ الطبرسي/ تحقيق: مهدي هوشمند/ ط1/ 1418ه/ دار الحديث.

64 - مصباح المتهجِّد: الشيخ الطوسي/ ط 1/ 1411ه/ مؤسَّسة فقه الشيعة/ بيروت.

65 - معاني الأخبار: الشيخ الصدوق/ تحقيق: عليّ أكبر الغفّاري/ 1379ه/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.

66 - مكارم الأخلاق: الشيخ الطبرسي/ ط 6/ 1392ه/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

ص: 194

67 - من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق/ تحقيق: عليّ أكبر الغفّاري/ ط 2/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.

68 - مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب/ تحقيق: لجنة من أساتذة النجف/ 1376ه/ المكتبة الحيدرية/ النجف.

69 - موعد مع الحياة: خالد بن صالح المنيف/الطبعة الثالثة.

70 - نهج البلاغة: الشريف الرضي/ شرح محمّد عبده/ ط 1/ 1412ه/ مطبعة النهضة/ دار الذخائر/ قم.

* * *

ص: 195

ص: 196

الفهرس

مقدّمة المعهد... 3

مقدّمة المؤلِّف... 7

الإهداء... 9

(31) تزكية النفس... 11

النقطة الأُولىٰ... 11

النقطة الثانية... 12

النقطة الثالثة... 13

النقطة الرابعة... 14

النقطة الخامسة... 15

أوَّلاً: أنَّ الوقاية خير من العلاج... 15

ثانياً: استعجال التوبة لو وقع المؤمن في خطأ... 16

(32) النيَّة أساس العمل... 18

الملاحظة الأُولىٰ... 19

الملاحظة الثانية... 19

الملاحظة الثالثة... 20

الملاحظة الرابعة... 21

(33) ثنائية الإرادة والقدرة علىٰ العمل... 23

الإرادة تصنع الفرد... 24

ص: 197

الإرادة تصنع الأُمَم... 26

(34) الدِّين لوحة واحدة متكاملة... 29

التصوُّر الأوَّل... 30

التصوُّر الثاني... 30

التصوُّر الثالث... 32

التصوُّر الرابع... 34

التصوُّر الخامس... 35

(35) تراتبية السلوك الأقوم... 37

الأمر الأوَّل: النيَّة الصالحة... 37

الأمر الثاني: السلوك الحسن... 38

الأمر الثالث: فنُّ إدارة السلوك... 39

(36) القدوة الصالحة و الأُسوة الحسنة... 45

(37) عدم هجران القرآن الكريم... 50

(38) الإغراء الوهمي... 55

المستوىٰ الأوَّل... 56

المستوىٰ الثاني... 57

(39) التدافع بين المبادئ والمصالح... 59

الأمر الأوَّل: المبادئ... 59

الأمر الثاني: المصالح... 61

المبادئ والمصالح غير متناهية... 62

(40) وجهٌ مشرق في الحياة... 67

النقطة الأُولىٰ... 67

ص: 198

النقطة الثانية... 68

النقطة الثالثة... 70

النقطة الرابعة... 74

(41) ثقافة الروح... 75

ما هو معنى هاتين الثقافتين؟... 75

التدافع بين الثقافتين!... 76

عوامل مساعدة لثقافة الروح... 77

العامل الأوَّل: التربية... 77

العامل الثاني: الثقافة العامَّة للمجتمع... 77

العامل الثالث: المستوىٰ المادّي العامّ... 78

العامل الرابع: الوعي الدِّيني... 78

ما الذي نراه اليوم في مجتمعنا؟... 78

العطاء الحقيقي... 80

1 - العطاء لوجه الله تعالىٰ... 80

2 - العطاء في السرِّ... 81

3 - الابتداء بالسلام... 81

4 - المجازاة علىٰ الصنائع... 81

5 - المشاركة في المشاريع الخيرية... 82

6 - من عطاء الروح مسامحة المسيء!... 82

7 - التزام بعض المستحبّات والنوافل... 83

8 - نيَّة الخير المستمرَّة... 83

(42) إحدىٰ الحُسنيين... 85

ص: 199

(43) مسؤولية الإنسان... 90

النظريات في مسؤولية الإنسان... 93

مسؤولية المسلم في نظرية الدِّين... 94

المرحلة الأُولىٰ: وقاية النفس وهدايتها... 95

المرحلة الثانية: وقاية الأهل وهدايتهم... 96

المرحلة الثالثة: هداية الناس... 96

(44) الهرب من ثقافة النفاق... 98

معادلة غير متوازنة... 98

ثقافة النفاق... 99

المفردة الأُولىٰ: التربية غير الصالحة... 99

المفردة الثانية: ضعف الوازع الدِّيني... 102

المفردة الثالثة: ضعفُ الإيمان بالغيب، والتأثُّر بالمادّيات... 104

(45) مواجهة الفشل بالتفاؤل... 106

(46) تقدمة لنفسك... 110

(47) التسليم... 115

التسليم عنصر ضروري في الدِّين... 116

نماذج راقية من التسليم... 119

1 - خزيمة ذو الشهادتين... 119

2 - محمّد بن أبي بكر ;... 119

3 - الأصبغ بن نباتة... 120

4 - سعيد بن عبد الله الحنفي... 120

5 - كليب تسليم... 121

ص: 200

6 - هارون المكّي. 121

7 - عبد الله بن أبي يعفور... 122

8 - عليُّ بن جعفر... 122

9 - الشيخ أبو سهل النوبختي... 123

(48) لا تكن (أسفل سافلين)... 124

التفسير الأوَّل... 124

التفسير الثاني... 125

التفسير الثالث... 126

(49) أدب العتاب... 129

تنبيه... 132

(50) كيف تتعامل مع (المدح)؟... 133

النقطة الأُولىٰ: كيف ومتىٰ تمدح غيرك؟... 133

الحدُّ الأوَّل: أنْ لا يتعدّىٰ المدحُ الحقيقةَ... 133

الحدُّ الثاني: أنْ لا يصل إلىٰ حدِّ التملُّق... 134

الحدُّ الثالث: أنْ لا يمدح غير المستحقِّ... 134

النقطة الثانية: كيف تتعامل إذا مدحك أحد؟... 134

(51) أسباب غير متوقّعة!... 138

المثال الأوَّل: النعمة والوجل... 138

المثال الثاني: الجمال والعفاف... 139

المثال الثالث: الحاجة والعطاء!... 140

المثال الرابع: القدرة والعفو... 141

المثال الخامس: الجاه والخدمة... 142

ص: 201

(52) الإلزام الذاتي... 145

أدوات الدِّين... 147

الخطوات التشريعية لتلك الأدوات... 148

النتائج... 150

(53) كيف تقوّي نفسك علىٰ التزام العمل؟... 152

الخطوة الأُولىٰ: الخطوة الأُولىٰ!... 152

الخطوة الثانية: تكرار العمل.... 153

الخطوة الثالثة: تحمُّل المعارضة!... 153

الخطوة الرابعة: معرفة النتائج... 155

الخطوة الخامسة: اتِّخاذ القدوة... 155

(54) المكر السيِّئ، إلىٰ أين؟!... 157

(55) مدخل طبيعي... 162

التطبيق الأوَّل... 162

التطبيق الثاني... 163

التطبيق الثالث... 164

التطبيق الرابع... 165

(56) وعد إلهي... 166

الوعد الأوَّل... 167

الوعد الثاني... 168

الوعد الثالث... 169

(57) فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ... 171

(58) ثنائية الصبر والتقوىٰ... 175

ص: 202

(59) لن يرضوا عنك... 179

(60) نفس سامية... 184

أُسوة حسنة... 185

المصادر والمراجع... 189

الفهرس... 197

* * *

ص: 203

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.