فضل العلم والعالم

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الموسوي البحراني المحرقي ، السيد عبد الله

عنوان واسم المؤلف: فضل العلم والعالم / تأليف السيد عبد الله السيد حسن الموسوي البحراني المحرقي

تفاصيل المنشور: قم . مؤسسة المعارف الإسلامية .1426 ق. = 2005 م = 1384.

مواصفات المظهر: 311 ص.

ISBN : 964-7777-52-3

حالة الاستماع: فاپا/ الاستعانة بمصادر خارجية.

لسان : العربية.

مشكلة : المجتهدون والعلماء - الأخلاق

الإسلام والعلم

علماء الإسلام

المعرف المضاف: مؤسسة المعارف الإسلامية

ترتيب الكونجرس: BP232/م84ف6 1384

تصنيف ديوي: 297/485

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 84-16796

هوية الكتاب :

إسم الكتاب : ... فضل العلم والعالم

تأليف : ...السيد عبد الله السيد حسن الموسوي البحراني المحرقي

الناشر : ....مؤسسة المعارف الإسلامية

المطبعة : ....عترت

الطبعة ....الأولى 1426

العدد : .....1000

شابك : 964 -7777-52- 3

.964-7777-52-3 - ISBN

جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة لمؤسسة المعارف الإسلامية

إيران - قم المقدسة

تلفون :773200- فاکس : 7743701

ص . ب 768/37185

E-mail:info@maaref islami.COM

ص: 1

اشارة

فضل العلم والعالم

تأليف: السيد عبد الله السيد حسن السيد هاشم الموسوي

المحرق - البحراني

نشر: مؤسسة المعارف الإسلامية

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 3

الطبعة الأولى

مؤسسة الأعلمي للمطبوعات

بيروت - لبنان 1410ه. 1990م

الطبعة الثانية

مؤسسة المعارف الإسلامية

إيران - قم 1426 ه. 2005م

محرر: سید عبد الله رضوی مالستانی

جمعية خيرية رقمية: مركز خدمة مدرسة إصفهان

ص: 4

المقدمة

ص: 5

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

أحمد الله حمد العارف بحقه وحقيقته المتواضع لكبريائه وعظمته وأصلي وأسلم على المبعوث لبريته ، وينبوع حكمته وبركته وهادي خليفته وأمينه على وحيه ورسالته العبد المؤيد والرسول المسدد والمصطفى الأمجد والمحمود الأحمد سفيره وحبيبه أبي القاسم محمد وعلى آله الأنجبين والسادة الميامين والغر المحجلين أئمة الهدى ومصابيح الدجى واعلام التقى وكهف الورى والمثل الأعلى لا سيما المستر عن الأنظار والمغيب عن الأبصار إلا عن أوليائه الأخيار المدخر لكرامة أولياء الله وبوار أعدائه النور الذي أراد أهل الكفر إطفاءه فأبى الله إلا أن يتم نوره بكرههم مولانا الأعظم وقائدنا الأكرم بقية الله في الأرضين الحجة ابن الحسن المهدي عجل الله فرجه الشريف وروحي وأرواح العالمين لتراب مقدمه الشريف الفداء وسلام الله وبركاته ورحمته وجزيل هباته على خليفته بالحق سمي روح الله وكلمته دامت معاليه وبركاته . .

وبعد:

أقدم لأعزائي القراء الأفاضل هذا الكتاب الذي هو نتيجة عمل متواصل وجهود متظافرة دامت قرابة ستين يوما عشت فيها أتنقل من سفر إلى سفر ومن رياض إلى رياض أنتقي منها ما يناسب موضوعه الذي هو فضيلة

ص: 7

العلم والعالم والذي جاء تلبية لطلب بعض أقراني الأفاضل والحديث حول فضيلة العلم والعالم وإن كان حديثأ متكررة حتى لكاد القلم أن يمله والقاريء: أن يتركه إلا أن تكراره لا يعني عدم الكتابية حوله خصوصا إذا كانت المنهجية والأسلوب شيئا جديدا على القارىء يختلفان عما كتبه الكتاب المتقدمون . وإني لعلى يقين من أن كتابي هذا سيحظى بالقبول من إخواني المؤمنين إنشاء الله تعالى على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم من حيث إن موضوعه سهل لا يستعصي على المبتدىء فضلا عن المنتهي لا کالموضوعين السابقين وهما (حديث حول الجبر والتفويض) و (بحث حول البداء) فإنهما وإن كنت قد بسطت ما يمكن تبسيطه من عبائرهما الكلامية والفلسفية إلا أنهما كتابان قد لا يستفيد منهما إلا من أوتي حظا وافرة في الاطلاع والمعرفة الشاملة على حد تعبير شيخنا الجليل والأديب الماهر فضيلة الشيخ عباس الدرازي في مقدمة كتابنا (حول الجبر) وأرجع لأقول أن الأسلوب والمنهجة لهما أكبر أثر في عودة القارىء القراءة الموضوع مرة ثانية من كتاب آخر حتى ولو كان الموضوع متكرراً .

وكتابنا المذكور كما يراه قراؤنا الأعزاء في أسلوبه ومنهجته الحديثة قد لخصناه لهم بالعناوين التالية :

1- المقدمة .

2 - تعريف العلم وبعض أقسامه .

3- القرآن الكريم يقول بفضل العلم .

4 - الأخبار الناطقة بفضل العلم .

5- نوادر تدل على عظمة العلم .

6 - القرآن الكريم ينطق بفضل العالم .

7 - الأخبار المعصومية الناطقة بفضل العالم .

8- مقالات متفرقة تدل على فضل العالم .

9- الصفات الفاضلة للعالم .

ص: 8

10 - الصفات الذميمة ليست خلق العالم .

11 - صفات العالم الفقيه .

12 - للعالم الفقيه الولاية العامة .

هذه موضوعات الكتاب إلا أنني سأتحدث لقارئنا العزيز عن نبذة تسره حول العلم الإلهي والعلم الحضوري والعلم اللدني وعلم الغيب بالنسبة للإمام إنشاء الله تعالى ولي وطيد الأمل بأن ينفع الله تعالى بهذا الكتاب إخواني المؤمنين ويوفقني في نفس الوقت لإنجاز مؤلفاتي الأخرى ببرکات دعواتهم وكم أنا مشتاق لإنجازها وبالخصوص کتابي (الجلسات الإسلامية) الذي ما زلت أواصل تأليفه بأمر من صديقي الوفي الخطيب الحاج ملا عبد الحسين العرادي قدس الله نفسه الزكية خدمة لخطباء منبر الحسين عليه السلام لكن ويا للأسف فقد انتقل صديقنا إلى الرفيق الأعلى عز وجل ولم نوفق لإنجاز الكتاب إلا أننا على العهد إن أبقانا الله تعالى لذلك ومنه تبارك وتعالی نسأل المدد والعون والتوفيق إنه ولي ذلك كله والقادر عليه وهو من وراء القصد .

البحرين - المحرق

20 جمادى الأولى 1406 ه

السيد عبد الله السيد حسن السيد هاشم الموسوي

ص: 9

ص: 10

نبذة مختصرة عن حياة المؤلف

اشارة

ص: 11

ص: 12

نسبه:

هو العلامة الحجة الحاج السيد عبد الله بن السيد حسن بن السيد هاشم بن السيد حسن بن السيد مرهون بن السيد حسن بن السيد محمد بن السيد ماجد بن السيد علي بن السيد علي بن السيد أحمد بن السيد هاشم البحراني بن السيد علوي عتيق الحسين بن السيد حسين الغريفي بن السيد احمد بن السيد عبدالله بن السيد عيسى بن السيد خميس بن السيد احمد بن السيد ناصر بن السيد علي كمال الدين بن السيد سلمان بن السيد جعفر بن السيد أبي العشائر الحائري بن أبي الحمراء محمد بن السيد علي بن السيد علي الضخم بن السيد محمد الحائري بن السيد محمد العابد بن الإمام الشهيد السعيد العبد الصالح باب الحوائج موسی بن الامام جعفر الصادق عليهما أفضل الصلاة والسلام.

ولقد نظم هذا النسب الشريف سماحة الأديب الفاضل والخطيب الجليل الحاج الشيخ حسن بن عبدالله القيسي فقال ولنعم ما قال:

يا خليلي هاك استمع لي فهاقد*** قلت قولاً مثل الجمان المنضد

مثل زهر الحدائق الغن حفتها*** رياض في غصنها الطير غرّد

او کجيد الفتاة قد زانه عقد*** جميل من الثلالیء وعسجد

ناظماً يا صويحبي نسب العلامة *** الفذ والخطيب المسدد

نسب السيد الجليل عنيت به *** العالم الجهبذ العظيم الأمجد

انه السيد المبجل عبدالله *** من والدله کريم المحتد

حسن ذاك اسمه حسن الخير *** ومن هاشم أبوه بلا رد

ابن طهر واسمه حسن ايضاً*** سمي الزكي من آل أحمد

ص: 13

ابن مرهون سيد رهنت *** فيه المعالي وبالمكارم يحمد

وكذا بعده کريم السجايا *** حسن بالكمال حقاَ توحّد

بعده طيب الخصال وفيه *** يدرك الخير والصلاح محمد

بعده سيد سمي بالمعالي *** ماجد اسمه كريم ممجّد

ثم من قد علا بعزّ عليّ *** من علا بالمكرمات تفرد

بعده الهاشمي العلوي الطهر *** من الكمال والجود جدّد

ثم ذاك المقدس الطيب الزاكي *** المسمى بالفضل والنبل أحمد

بعده البحراني هاشم اکرم *** فيه من هاشمي عزاً وسؤدد

انه البحراني لكنه لا من *** اليه البرهان في العلم پسند

وعتيق الحسين خير عتيق *** علوي ذاك اسمه حين يسرد

والغريفي بعده وأسمه *** فيه حسين وبالحسين تودد

حسن يعده الكريم المرجی *** باسم نجل الزكي سبط محمد

ثم ذاك الذي بفضل وجود *** وسماح دعي سمي أحمد

بعده السيد المبارك عبدالله *** ذوعفة وصون وسؤدد

ثم عيسى سمّي عيسی کمالاً*** وعفاف وبالحياء تأكد

وخميس مثل الخميس تراه *** مشرق الوجه خلته النجم فرقد

ثم ذو المكرمات والحسب العالي*** أخو الجود والمحامد أحمد

ناصر بعده ومن نصر المجد *** بكفّيه فاستطال بلاعد

وعلي من لقبوه کمال الدين*** منه الكمال والنبل يوجد

وسليمان من علا بالمعالي *** سل من دوحة النبي محمد

جعفر بعده وانعم بذاك الاسم *** اسم لجعفر بن محمد

نجل من بالعشائري لقبوه *** فهو ذخر وللعشائر مقصد

انه الحائري حارت ذوي الألباب فيه*** وفضله ليس يجحد

أبوه الأمين ابن أبي الحمراء *** يدعي واسم ذاك محمد

ص: 14

وأبوه علي السيد الطاهر شخص *** له المحامد تسند

بعده الضخم الجليل علي *** بعلي علا وفي نبله جد

حسن بعده وياخير اسم *** يتلألأ بلمع نور توقد

وأبوه الحائري وان *** تسأل عن اسمه فذاك محمد

ابن برعلا ولقب بالعابد *** من عابدين يدعى محمد

كاظم الغيظ أن سألت ابوه *** ماله قد علمت في حلمه حدّ

وأبوه الصادق القول واللهجة *** الامام جعفر بن محمد

باقر العلم قد علمت ابوه *** بالطهر بالمكرمات توحّد

ذاك من قد أقر معترفا فيما *** حواه من قد عتا وتعنّد

وأبوه السجاد عابد أهل البيت *** أن جنه الدجی تهجد

وأبوه الحسين من قارع الظلم *** بيوم من المعارك أسود

خاض نار الوغى والحرب تغلي*** كالمراجيل بالوقود توقّد

وأبوه الوصي حيدرة الكرار *** مافر في مقام ولا رد

ذاك من سيد الهدى ومن قد *** صدّ بالسيف فيلق الكفر فانصد

ان تسلني عن أمه خير أم *** دوحة النور والهدى ليس يوجد

في الوری يا اخي لها من مثيل *** هي ست النساء بنت محمد

أنها للزهراء أم التقی من *** قدّ منها نور الإمامة فانقد

وأبوها خير الأنام رسول الله *** والمصطفى النبي المؤيد

نسب طاهر وفخر عظيم *** جاء نور منه الظلام تبدّد

هاك خذه واهنأ به يا أبا هاشم *** لازلت بالسداد مسدد

واليكم يا طالبي العلم ما قلت *** وماقد نسبت للماجد الجد

الشريف النيل السيد عبد الله *** أكرم به انتساب ومحتد

طبق ما قاله بمنظومة الكون *** وماساقه هناك وأورد

وصلاتي على النبي وأهل البيت*** طرأً ماطار طير وغرد

ص: 15

ولادته :

ولد المترجم في البحرين ببلدة المحرق في محلة يقال لها سابقا فريق السادة) في منزل قريب من عين تسمى (السادة)، أما الآن فتعرف ذالمحلة المذكورة بفريق الصاغة) والعين المذكورة ب (عین سمادوة) وذلك سنة 1392، وقد تنعم وتربى في أحضان أبويه الشريفين حيث أولياه عناية تامة وأهتماما بالغا وتربية صالحة، وقد سقته أمه التقية برضاع لا ظمأ فيه، ولبن لا شوب فيه، ألا وهو لبن الولاء والحب المحمد وأهل بيته الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وعلى ذلك قول الشاعر :

لاعذب الله أمي أنها شربت *** حب الوصي وغذتنيه في اللبن

وكان لي والد يهوى أباحسن*** فصرت من ذي وذا أهوى أبا

وقد نشأ في بيت عريق معروف بالفضل والسؤدد.

نشأته العلميه :

لقد حضيت البحرين قديماً ولفترة غير قصيرة بالفقهاء الأفذاذ والعلماء الأعلام الأكابر الذين أغنوا المكتبات بمؤلفاتهم وأفتقر العالم الاسلامي إلى رسائلهم، وظلت على هذه الحالة ردحاً من الزمن حتى حلت بها المحن والخطوب، وتكبلت بالإنجاز العلمي ورغم هذا الانحسار إلا أن التشوق للدراسة شيء مألوف وأمر طبيعي.

ص: 16

فكان السيد المترجم له بعد أن أكمل التاسعة من عمره يعشق مجالس العلم والعلماء، حيث ظل فترة يتنقل في رياض العلماء، وذلك من قرية إلى قرية، يستمد من علومهم وينهل من موائدهم.

فقد درس في بلاده البحرين وفي المرحلة الأولى المسماة بالسطوح على يد ثلاثة من علمائها الأفاضل وهم كالتالي :

1 - العالم الجليل ، والمهذب النبيل ، السيد علوي السيد أحمد الغريفي، فقد قرأ عليه متن الأجرومية في وشرح ابن عقيل في النحو، وتبصرة المتعلمين في الفقه .

2 - العالم الجليل الشيخ عبد الحسن سلمان الجد حفصي، فقد قرأ عليه ردحا من الزمن في النحو والفقه ايضا في نفس كتاب الأجرومية، والتبصرة .

3 - العالم الجليل الشيخ حسين نجل الشيخ عباس الجزيري، فقد قرأ عليه علم النحو في نفس الكتاب المسمی ب (متن الأجروميه).

وفي سنة 1381 هجرية الموافق سنه 1990 میلادية ترك سيدنا المترجم له البحرين، وسافر الى العراق لكي يتلقى العلوم الدينية على أيدي الأكابر، فآثر سیدنا كربلاء المقدسة مقرة لدراسته حيث بقي في جوار جده الامام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام يرتشف من روحانيته بالاضافة الى تلقي العلوم الدينية في الحوزة العلمية الكربلائية، فحصل من مشايخه في كربلاء الاهتمام الكثير والعناية التامة في تعليمه وتهذيبه و تثقيفه . فكان اساتذته في كربلاء كالتالي :

ص: 17

1- حجة الإسلام الشيخ حسين المهناوي.

2- حجة الإسلام الحاج شيخ احمد معرفة

3- حجة الإسلام الشيخ أحمد الشذر

4 - حجة الإسلام الشيخ جابر العفچاوي

5 - العلامة الفقيه الحاج السيد محمد علي نجل آية الله العظمی السيد محمد طاهر البحراني .

6 - العلامة الفقيه الأديب الحاج حسين الدارمي .

7 - العلامة الفقيه الحاج السيد عبد الرضا الشهرستاني مدير مكتب أجوبة المسائل الدينية في كربلاء سابقاً .

8 - العلامة الفقيه الحاج السيد نور الدين نجل آية الله العظمى الامام الحاج السيد عبدالهادي الميلاني رضوان الله تعالى عليه، ولقد كان امام الروضة الحسينية سابقاً .

9 - العلامة الفقيه الحاج السيد محسن الكشميري، امام الروضة العباسية المقدسة سابقا .

10 - العلامة الفقيه السيد عبد الرحيم الجزائري عميد مدرسة شريف العلماء .

11 - العلامة الفقيه الشيخ مهدي الكاظمي .

12 - العلامة الفقيه الحاج السيد عباس الكاشاني وكيل الأمام الحكيم سابقا امام الحرم الحسيني الشريف.

13 - العلامة الفقيه الحاج السيد عماد الدين نجل آية الله العظمی

ص: 18

الحاج السيد محمد طاهر البحراني رضوان الله تعالى عليه .

14 - آية الله الحاج الشيخ علي العيثان الأحسائي .

وفي سنة 1370 هجرية هاجر سيدنا المترجم له الى النجف الأشرف لكي يتلقى العلوم في حوزتها المباركة العلمية على أيدي العلماء الأكابر أيضا فكان عدد مشايخه في المرحلة المذكورة ما يلي :

1- العلامة الفقيه المتبحر آية الله الحاج الشيخ عباس المظفر .

2 - العلامة الفهامة المتأله آية الله الحاج السيد مسلم الحلي .

3 - العلامة الفقيه المتبخر آية الله العظمى الحاج السيد حسين بحر العلوم .

4 - الحجة الفقيه المتبحر الحاج الشيخ عبد الهادي القرشي.

5 - العلامة الفقيه السيد عبد الأمير القبنجي.

6 - العلامة الحجة الحاج الشيخ حسين شرع الإسلام .

7 - العلامة الفقيه الحاج الشيخ عبد المحسن العزواي .

هذه المجموعة من العلماء الأكابر مشايخ سيدنا المترجم له، حيث درس على أيديهم العلوم الدينية التالية :

1 - النحو 2 - الفقه 3 - المنطق 4 - أصول الفقه 5 - علم الكلام 6 - المعاني والبيان 7 - الفلسفة 8 - التفسير 9 - التجويد 10 - الأخلاق 11 - الاقتصاد .

وأما بالنسبة إلى المرحلة الأخيرة المسماة بالبحث الخارج فقد حضر سيدنا المترجم البحوث الخارجية العلمية التالية :

1- بحث آية الله الامام الحكيم رضوان الله تعالى عليه

ص: 19

2 - بحث آية الله الامام الشاهرودي

3- بحث آية الله الامام السيد أبو القاسم الخوئي وفي سنة 1378 هجرية الموافق سنة 1992 میلادية ترك سيدنا المترجم له النجف و رجع إلى البحرين وذلك للتبليغ والوعظ والإرشاد، وإقامة صلاة الجماعة في جامع فريق الحياك بالمحرق غير أنه لم يبق إلا مدة يسيرة جدد عزمه بعدها الى السفر نحو بلاد ایران لحضور بحوث المراجع العظام هناك فحضر المترجم البحوث التالية :

1- بحث آية الله الحاج السيد محمد رضا الكلبايگاني رضوان الله تعالی علیه .

2- بحث آية الله الشيخ محمد طاهر الخاقاني

3- بحث آية الله الحاج السيد عبد الله الشيرازي رضوان الله تعالي عليه .

4 - بحث آية الله الحاج السيد شهاب الدين الحسيني المرعشي النجفي رضوان الله تعالى عليه، وقد أجاز المترجم في رواية الحديث وهذا نص الاجازة بقلمه الشريف المبارك :

بسم الله الرحمن الرحيم

بعد الحمد والصلوة عليه، لا يخفى على إخواني المؤمنين ان جناب الفاضل الخطيب الالمعي الشهير السيد عبد الله السيد حسن الموسوي دام مجده الشامخ من بيت العلم والشرف وقد صرف شطراً وافياً من عمره في ترويج الدين، ودعوة الخلق الى مذهب أهل البيت عليهم السلام ، وقد أجزناله ان

ص: 20

يقبض حق الامام - روحي فداه - وسائر الحقوق الشرعيه ويصرف ثلثها في ترويج الشرع، ويرسل ثلثيها إلينا لصرفها في حوائج المحصلين للعلوم الدينية وياخذ قبض الوصول منّا ويسلمها الى ارباب الحقوق .

وهو مجاز عنّا أيضا في رواية الأخبار المأثورة عن ساداتنا الأئمة بطرقنا الكثيرة فجدير على إخواني في الدين أن يغتنموا وجوده الشريف، ويحفظوا شؤونه، ويأتموا به في الأقوال والأفعال والصلوة وسائر الأمور والسلام علی من اتبع الهدی حرره في 15 رجب سنة 1389 شهاب الدين الحسيني .

كما أن لسيدنا المترجم اجازات من فقهاء كثيرين في رواية الأخبار وغيرها إلا أنها قد فقدت من مكتبته كلها بسبب الإهمال وعدم ضبطها في مكان أمين ولم يبق منها إلا الأجازة المذكورة للسيد المذكور و كذلك أجازة أخرى من الفقيه الحاج السيد محمد علي بن السيد محمد طاهر الموسوي الحائري البحراني وقد جاء فيها ما نصه بقلمه الشريف المبارك :

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على سيدنا محمد المصطفى وعلى آله الشرفاء وبعد فلا ريب في أن أقامة الصلاة جماعة من أحسن العبادات وأفضل الطاعات وأقرب القربات لا يضاهيها كثير من المستحبات، وقد ورد عن الأئمة المعصومين عليهم السلام في الحث عليها والذّم على تركها أخبار كثيرة لم يرد مثلها في أكثر المندوبات . أجل . قد اعتبر الشارع الكريم في

ص: 21

الامام أمورا و شرائط ذكرت في الفقه . هذا وان السيد الجليل، والخطيب الفاضل النبيل، سلالة السادات الكرام، السيد عبد الله السيد حسن السيد هاشم البحراني دام بقاه ممن اجتمعت فيه شرائط الامامة، وقد لمسنا ذلك فيه عند مصاحبته لنا وتلمذه لدينا فيجدر بإخواننا المؤمنين الاستنارة منه للوصول إلى هذا النواب العظيم والأجر الجسيم، والله ولي التوفيق.

في 27 ذي القعدة سنة 1392 ه محمد علي بن محمد طاهر الموسوي الحائري البحراني .

وفي مشهد المقدسة وعندما كان السيد المترجم يقصد زيادة الامام أبي الحسن الرضا عليه أفضل الصلاة والسلام فانه بالإضافة إلى حضور بحث آية الله السيد عبد الله الشيرازي المذكور فيما تقدم فان المترجم له كان يحضر أيضا دروساً أخلاقية عند آية الحاج غلام حسين التبريزي نزيل مشهد الرضا عليهم السلام.

وفي سنة 1399 هجرية الموافق سنة 1987 میلادية ترك المترجم له إيران ليعود مرة ثانية إلى بلاده البحرين وذلك لتبليغ والوعظ والإرشاد وإقامة صلاة الجماعة في الجامع المذكور بمحلة (فريق الحياك) وفي غيرها من المناطق في مساجد متعددة مثل : مسجد الخضر في السنابس و مسجد الجمة في السنابس أيضا، ومسجد الشيخ درويش في بلدة الدية قرب منزل الحاج محمد علي العكري، وفي مسجد الامام المنتظر عليه السلام في المدينة، وفي مسجد الماحوز، وفي مسجد العلامة الشيخ ميثم البحراني، وكذلك في غيرها من المساجد في بلاده البحرين إلا أن الغالب يقيمها في

ص: 22

مسجد الجامع الحياك المذكور حيث انه مسجد محلته وهو قريب من منزله .

والجدير بالذكر هو أن المترجم له كان يتقيد بعد صلاة الجماعة وبعد الوعظ والإرشاد العام بتدريس الأحكام، والأخلاق، والعقائد في حلقات يحضرها عدد كبير من طلابه أمثال : الشيخ عبدالأمير المخلوق، الشيخ نزار الساعاتي، الشيخ جعفر الشاخوري، الأستاذ حسن الملاح، الأستاذ جعفر حسين الحايكي، الأستاذ حسين علي عيسى الحايكي، الشيخ احمد الماحوزي، الأستاذ محمد قمبر، الى غيرهم من الطلاب الذين كانوا يحضرون بعد صلاة المغرب وصلاة الظهر بالخصوص يوم الجمعة، وكانت المساجد المذكورة تغص بالمصلين .

مؤلفاته وآثاره العلمية :

اما مؤلفات سيدنا المترجم له فهي كثيرة منها المطبوع ومنها غير المطبوع وإليكها بالتسلسل كما يلي :

1- کتاب : (حديث حول الجبر والتفويض) وهو كتاب قد بذل فيه جهدا كبيرة في حل مسألة من عويصات المسائل الكلامية وهي مسألة الجبر و التفويض في أفعال الإنسان، والكتاب المذكور مطبوع .

2- کتاب : (بحث حول البداء) وهو أيضا كتاب قد تكفل بحل مسألة ثانية من المسائل الكلامية المهمة في عقيدة الإمامية حيث قال الإمام الصادق عليه في مسألة البداء انهما عبد الله بمثل البداء .

ص: 23

3- کتاب : (فضل العلم والعالم) وهو كتاب عرض فيه المترجم ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة من تعظيم العلم والعالم، وكذلك عرض في الكتاب المذكور ما ينبغي للعالم أن يتمتع به من الصفات الحميدة والأخلاق الفاضلة . والكتاب المذكور مطبوع أيضا.

4 - کتاب : (الدنيا الفانية) وهو كتاب عرض فيه المترجم له ما جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة من الآيات الكريمة والأحاديث المعصومية المتعرضة الذم الدنيا إلا ما كان من بلاغها، والكتاب المذكور مطبوع أيضا.

- کتاب : (المنظومة الكونية في العلوم الفلكية) كتاب جيد عرض فيه المترجم الهيئة القديمة والهيئة الجديدة للكون وذلك عن طريق النظم. والكتاب المذكور مطبوع مستقل .

6- کتاب : (منظومة الأحكام في مسائل الحلال والحرام) وهو كتاب نظم فيه المترجم بعض المسائل الفقهية من كتاب الطهارة المطابقة لفتاوي الامام الخميني قدس سره ورضي الله تعالی عنه . والمنظومة المذكورة مطبوعة ضمن كتاب فضل العلم والعالم.

7- کتاب : (منظومة ترجمة حياة المقدس الشيخ حسين آل عصفور قدس الله تعالى نفسه ورضي الله عنه) والمنظومة المذكورة مطبوعة ضمن كتاب فضل العلم والعالم.

8- کتاب : (شرح العروة الوثقى) وهو كتاب فقهي إستدلالي إلا أنه غير مطبوع.

9- کتاب: (مختصر شرح النبراس) وهو كتاب فقهي أيضا غير مطبوع .

10 - کتاب: (شرح مرشد العقول في علم الأصول) غير مطبوع .

ص: 24

11 - كتاب: (موسوعة الرسول صلی الله عليه واله والعترة)، مطبوع .

12 - کتاب : (أقوال العلماء في صلاة الجمعة) وهو كتاب فقهي استدلالي في وجوب صلاة الجمعة تعيينة على كل مكلف، والكتاب هذا بعد لم يكمل .

محفوظاته وخطابته الحسينية :

لقد امتاز سيدنا المترجم له بالإضافة إلى فضيلته العلمية بكثرة الحافظة وملازمة المذاكرة، فهو يحفظ الكثير من نصوص الدروس العلمية عن ظهر القلب وربما حفظها عن طريق الشعر أو النظم ، ففي الفقه مثلا بالإضافة إلى حفظه وإتقانه الدروس الفقهية المقررة من الكتب المعروفة في الحوزة العلمية مثل اللمعة والمكاسب وغيرهما فانه يحفظ أيضا إلى جنب ذلك المسائل الفقهية عن طريق النظم، مثل :

1- منظومة السيد بحر العلوم 2 - منظومة ابن الأعسم 3 - منظومة الحاج آية الله ملا هادي السبزواري، المعروفة بمنظومة النبراس، مطلعها ، قوله :

الحمدلله الذي نوهنا *** بنورنبراس الهدی فقهنا.

4 - منظومة لا ضرر ولا ضرار، لناظمها العلامة المغفور له السيد محمد صادق الحجة الطباطبائي (قده) مطلعها بعد الحمد والثناء على الله تعالى والصلاة على النبي واله قوله :

قد إستفاض بل تواتر الأثر *** إجمالا أو معني على نفي الضرر

بل اشتماله على الموثقة *** غنى لحجيتها المحققة

هذا وضعف بعضها مجبور*** لما إليها استند المشهور

- وفي النحو - بالإضافة إلى حفظه وإتقانه الدروس النحوية

ص: 25

والصرفية فانه يحفظ عن طرق النظم: (ألفية ابن مالك) المعروفة وهي تشتمل على مالا يقل من ألف بيت في علم النحو - وفي المنطق بالإضافة إلى حفظه وإتقانه الكتب المنطقية المقرر دراستها في الحوزة، فانه يحفظ أيضا المنظومة المنطقية وهي منظومة التهذيب، للعلامة نابغة عصره وفريد زمانه المرحوم الحاج میرزا محمد حسين الحسيني المرعشي الشهرستاني، مطلعها بعد الحمد لله والصلاة على محمد و آله قوله :

العلم تصديق إذا ما كانا*** لنسبة حاكية اذعانا

وغيره تصور واقتسما *** ضرورة ونضرا بينهما

وهو بان يلحظ أمر يعقل *** لكسب مجهول بذاك يحصل

وافتقروا لوضع ما يصون *** من خطأ في الفكر قد يكون

فوضعوا المنطق منه يعرف *** موضوعه الحجة والمعرف

- وفي علم الأصول - بالإضافة إلى حفظه وإتقانه الكتب المقرر دراستها في الحوزة مثل : كتاب المعالم والكفاية، فهو يحفظ ذلك عن طريق النظم أيضا مثل منظومة (مرشد العقول في علم الأصول) لناظمها سماحة حجة الإسلام والمسلمين آية الله في العالمين الحاج الشيخ فرج آل عمران الخطي رضوان الله تعالى عليه وهي منظومة قد اعتمد فيها مطالب الكفاية في علم الأصول كما جاء في مطلعها بعد الحمد لله والصلاة على محمد و آله الطيبين الطاهرين، وقال :

فالراجي نوال المحسن*** فرج الخطي نجل الحسن

يقول إني ناظم لي رجزا *** عن كتب الأصول فيه الاجتزا

ص: 26

مقتصرة فيه على المهم من*** مسائل الأصول أيها الفطن

وربما أذكر ما سوى المهم *** من باب الاستطراد فافهم واغتنم

معتمداً مطالب الكفاية *** إذ هي من علم الأصول الغاية

وربما لما سواها أعتمد *** في النظم إذ أختاره و أعتقد

- وفي علم الدراية - بالإضافة إلى حفظه وإتقانه الكتب المخصوصة لذلك فانه يحفظ ذلك أيضا عن طريق النظم أو الاختصار كما هو من إفادات شيخنا البهائي قدس سره في علم الرجال :

مثل قوله :

كلّ جميلٍ جميلٌ

كلّ حميدٍ حميدٌ

كلّ صفوانٍ صافٍ

كلّ عبد السلام صالحٌ غير عبد السلام بن صالح .

كلّ يعقوب بلا خيبه الآ يعقوب بن شيبة .

كلّ عاصم حسنٌ إلا عاصم بن حسن .

كلّ سالم غير سالم

كل ّطلحة صالحٌ .

وكما هو منظوم في ذكر من أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنهم، وهو لمولانا السيد مهدي بن السيد مرتضى الطباطبائي بحر العلوم

قدس سره حيث قال :

قد اجمع الكل على تصحيح ما*** يصح عن جماعة فليعلما

ص: 27

وهم اولوا نجابة ورفعة *** أربعة وخمسة وتسعه

فالستة الأولى من الأمجاد*** أربعة منهم من الأوتاد

زرارة كذا بريد قد أتى*** ثم محمد وليث يافتی

كذا الفضيل بعده معروف*** وهو الذي ما بيننا معروف

والستة الوسطى أولوا الفضائل*** رتبتهم أدنى من الأوائل

جميل الجميل مع أبان*** والعبدلان ثم حمادان

والسنة الأخرى هم صفوان*** ويونس عليهما الرضوان

ثم ابن محبوب کذا محمد***كذاك عبد الله ثم احمد

وما ذكرناه الاصح عندنا***وشذّ قول من به خالفنا

وكما هو منظوم ايضا عن السيد المذكور مثل قوله قدس سره :

عدة احمد بن عيسى بالعدد *** خمسة أشخاص بهم تم السند

علي العلي والعطار*** ثم ابن إدريس وهم أخبارُ

ثم ابن كورة كذا ابن موسی*** فهؤلاء عدة بن عيسی

وان عدة التي عن سهل *** من كان فيه الأمر غير سهل

ابن عقيل وابن عوف الأسدي*** كذا عليٌّ بعد مع محمد

وعدة البرقي وهو أحمد*** عليُ بن الحسن واحمد

وبعد ذين ابن اذينة علي*** وابن الابراهيم واسمه علي

وفي (علم الكلام بالاضافة الى حفظه واتقانه الكتب الدراسية مثل کتاب التجريد) وغيره مثل شرح المنظومة فانه يحفظ المنظومة نفسها

ص: 28

للمولى السبزواري قدس سره وهي منظومة فريدة من نوعها في هذا العلم، مطلعها بعد الحمد لله والصلاة على محمد وآله قوله :

معرف الوجود شرح الاسم*** وليس بالحد ولا برسم

مفهومه من أعرف الأشياء *** وكنهه في غاية الخفاء

وفي (أصول الدين والعقائد الإسلامية) بالإضافة إلى حفظه وإتقانه الكتب المقرر دراستها فإنه يحفظ منظومة الفيلسوف الحكيم الشيخ حسن الدمستاني البحريني، في أصول الدين : مطلعها بعد الحمد لله والصلاة على محمد و آله قوله :

المبحث الأول في التوحيد*** لذي الجلال المبديء المعيد

أجلى الجليات ثبوت الصانع*** وكم عليه من دليل قاطع

سبح كل ممکن بحمده *** معترف بأنه من وجده

وفي البديهي لدى الأذهان *** والواضح الغني عن برهان

ان الذي يوجد في الأعيان *** قسمان واجب وذو امکان

فواجب الوجود مالا يرتفع*** وجوده أصلا بعكس الممتنع

و ممکن الوجود مالم يجب*** أو يمتنع إلا بأمر أجنبي

وموجد الوجود موجود كما *** لا يقتضي المعدوم إلا عدما

وكذلك أيضا منظومة الشيخ الفاضل السماوي الجابري، المسماة بمنظومة مفتاح القواعد.

وفي (علم الأخلاق، بالإضافة إلى إتقانه وضبطه تلك الدروس الأخلاقية فانه يحفظ أيضا منظومات في هذا العلم كثيرة لعدة من العلماء

ص: 29

الخاصة والعامة، مثل منظومة سلك الدرر لجميل السيابي وهو من علماء العامة وهي منظومة جديدة نفيسة قد جمعت الكثير من الدروس الأخلاقية التي تلاها علينا رسول الله وأهل بيته في أقوالهم عليهم أفضل الصلاة والسلام.

خطاباته الحسينية :

لقد كان سيدنا المترجم بالإضافة إلى كل ما ذكر قد اتخذ الخطابة الحسينية وضيفة شرعية وخدمة لسيد الشهداء أبي عبد الله الحسين صلوات الله وسلامه عليه في بلاده البحرين مالا يقل عن أربعين سنة من عمره الشريف، وقد كان بداية تلبسه بخدمة الحسين عليه السلام قبل اشتغاله بطلب العلوم الدينية إلا أنه لم يكن في سنواته الأولى كما هو عليه الآن من الشهرة والصيت، فهو بلا شك قد أصبح في سنواته الأخيرة، خطيباً مرموقاً بارزاً، ومتمكناً قديراً وماهراً في الصناعة، وكان يتميز بصوت قل نظيره وبنبرات حزينة تأخذ بمجامع القلوب، ولم أكن مبالغ إن قلت انه أكثر خطباء البحرين علما وحفظا وفضلا وتأثيرة على مستمعيه فقد كان التوجيهاته وإرشاداته الإسلامية أثراً ملحوظاً بالنسبة إلى أبناء بلده فقد اهتدى بفضل تلك التوجيهات والإرشادات عدد كبير من أبناء البحرين الذين كانوا رواد مجالسه الكثيرة في عدة حسينيات بطول البحرين وعرضها، تلك المجالس التي كان شباب البحرين لا يستبدلها بغيرها وذلك للاستفادة من منهله .

ص: 30

ففي العاصمة :

المنامة - في حسينية آل سلوم - يحضر في ليالي عاشوراء ما لا يقل عن ألفي مستمع من أهالي البحرين بالإضافة إلى أعداد كبيرة من الأجانب الذين يردون البحرين مثل الكويت والسعودية والإمارات وغيرها، وبتلك الأرقام بل ربما أكثر منها يحضر جمع في أيام عاشوراء، في حسينية الحاج حسن الصفار في المنامة أيضا حيث يرتقي سيدنا المترجم له المنبر من أول يوم من المحرم حتى اليوم الثالث عشر منه فيستفيد الجمع من نمير علمه وخطابته الحسينية وفي بلدة (الدراز) يحضر عدد كبير في حسينية أنصار العدالة أيام عاشوراء عصرة للاستفادة واستماع المصيبة الحسينية وفي بلدة بني جمرة) تغص الحسينية المسماة (بالاثني عشرية) من حضور المستمعين وذلك للاستفادة واستماع مصيبة الحسين عليه السلام في ليالي عاشوراء .

وفي بلدة (باربار) في حسينية آل الشويخ يحضر عدد ضخم من المستمعين للاستفادة واستماع مصيبة سيد الشهداء عليه السلام عصراً وليلاً .

وفي بلدة (الدية) في حسينية الحاج خميس يحضر أيضا عدد كبير من المستمعين .

وفي بلدة (كرباباد) بلاد أجداد السيد المترجم له في حسينية السادة في ليالي شهر رمضان المبارك يحضر جمع كبير للاستفادة من وعظ السيد

ص: 31

وإرشاده، و كذلك في أماكن أخرى كثيرة من مناطق وقرى البحرين سابقا في فترة ما قبل منعه من الخطابة، وتجدر الإشارة إلى أن السيد المترجم له قبل أن تكون له الشهرة والصيت في بلاده البحرين فانه قد خدم المنبر الحسيني في السنوات الأولى من عمره الشريف خارج البحرين فكان يذهب إلى كل من السعودية، والكويت، وأبوظبي، وقطر، فقد قرأ في الإحساء وسيهات في حسينيات عديدة، وقرأ في أبوظبي عند البحارنة سابقاً، وكذلك قرأ في الكويت وقطر في حسينات البحارنة أيضا، كما قرأ في العراق في كل من كربلاء المقدسة، والبصرة وفي إيران عندما تشرف المترجم بزيارة الامام الرضا عليه السلام وأخته المعصومة عليها السلام في قم المشرفة، تشرف أيضاً بزيارة المراجع العظام، فقد قرأ في منزل آية الله العظمى الحاج السيد محمد رضا الگلبايگاني رضوان الله تعالى عليه، وقرأ أيضا في منزل آية الله الحاج غلام حسين التبريزي في مشهد الرضا عليه السلام وفي منازل أخرى من بيوت العلماء الأعلام في قم ومشهد و شيراز سابقاً.

وبحق أقول : انه قد قضى شطراً وافراً من عمره الشريف في خدمة الإسلام وخدمة أئمة أهل البيت بالخصوص لا سيما سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين صلوات الله وسلامه عليه .

محفوظاته الحسينية :

اما بالنسبة إلى محفوظاته الحسينية فحدّث ولا حرج فقد كان يحفظ الكثير من المدح والرثاء في أهل البيت عليهم السلام ولا سيّما رثاء سيد الشهداء،

ص: 32

فعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر بعض محفوظاته فيما يلي :

1- من شعر السيد حيدر الحلي، يحفظ الكثير منه .

2 - من شعر الحاج هاشم الكعبي، يحفظ ما لا يقل عن عشرين قصيدة .

3- من شعر الحاج الشيخ حسن الجشي، يحفظ ما لا يقل عن ستين قصيدة .

4 - من شعر السيد جعفر الحلي، يحفظ ما لا يقل عن عشر قصائد .

5 - من شعر الشيخ عبد العظيم الربيعي، يحفظ الكثير منه .

6 - من شعر الشيخ اليعقوبي، يحفظ أكثره .

7- من شعر الشيخ حسن الدمستاني يحفظ أكثره .

كذلك يحفظ أيضا ما لا يقل عن مائة قصيدة في رثاء الحسين عليه السلام لعدة شعراء وأما بالنسبة إلى المدائح والحسكة فيحفظ مالا يقل عن خمسمائة مقطوعة شعرية كل ذلك يحفظه عن ظهر قلب .

سخائه وكرمه :

لقد كان سيدنا المترجم له في قمة الشهامة والسخاء والكرم، بيته في البحرین معروف و مفتوح لزواره وأصدقائه ومحبيه ومبغضيه من العلماء وغيرهم على مختلف مستوياتهم، فتجده يقيم الولائم في المناسبات الدينية ومناسبات مواليد ووفيات الأئمة عليهم أفضل الصلاة والسلام، كما له في

ص: 33

كل ليلة اثنين من كل أسبوع جلسة يرتقي فيها الخطباء المنبر الحسيني ويتحدثون الى الحاضرين عن سيرة سيد الشهداء عليه السلام ثم يذكروا المصيبة وبعد الانتهاء توضع المأكولات الشهية من جميع الأصناف وذلك في حبِ سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام .

هذا بالنسبة لما يعمله من الولائم والخيرات للعلماء والمؤمنين الذين يقصدون بيته، اما بالنسبة لما يبذله من العطاء إلى الفقراء والمحتاجين والمساكين والسادات فحدث ولا حرج، ولست مبالغ إذا قلت انه يقوم بدور كبير في العطاء لأهل بلاده لا يقل عن دور المرجع الديني الذي تجبى إليه الحقوق الشرعية في البلاد الأخرى إيران، والعراق، وغيرهما علما بأنه يصرف ذلك إلى المحتاجين من ماله الخاص الذي يحصل من خدمة سيد الشهداء عليه السلام، فتجد عندما ينتهي من الخدمة المذكورة في كل سنة خصوصا في محرم الحرام ويحصل على مبلغ من المال فانه يقسمه على المحتاجين والفقراء والسادات سیما أهل بيته وأقاربه ولا يترك له من ذلك المال إلا مقدار يسيرة لحاجته الماسة والضرورية لمؤونة السنة، فلم تكن له كغيره هواية جمع المال وادخاره في البنوك أو كثرة الممتلكات من البيوت والعرصات وغيرها فلم يجد له إلا بيت سكناه المتواضع، وليس ذلك لعجز في قدرته المالية، كلا بل لأنه يؤثر غيره على نفسه بما عنده وإلا فبوسعه وإمكانه أن يجمع ما يحصل عليه من المال من طريق المنبر الحسيني طيلة السنة وبالخصوص ما يحصل عليه في كل سنة من شهر محرم وصفر ويشتري به البيوت والعقارات وغير ذلك إلا أنّ نفسه تأبی

ص: 34

ذلك فهو يحصل على المال لا بشرط من الخدمة المذكورة وإنما يقرأ على الحسين بشرط القرية المطلقة إلى الله تعالى ولذلك فكل ما يحصل عليه من المال من هذه الخدمة يصرفه كله في سبيل الله وفي خدمة مجتمعه و أبناء جلدته وفي خدمة أهل البيت عليهم السلام، وتجدر الإشارة إلى انه حفظه الله لم يكن يستلم من أهل المجالس شيئا من المال مقدمة على القراءة وكان يقول لا أعلم هل أن الله تعالى يوفقني إلى خدمة سيد الشهداء في هذه السنة أم لا؟ فإذا وفقت لذلك فلا مانع من أن استلم منكم شيء من المال لا بعنوان الأجرة وإنما بعنوان الإكرام والهدية .

و من هنا فانه يصرفه في سبيل الله ومن اجل إعلاء كلمته لأنه يرى أن الخدمة المذكورة هي وظيفة شرعية لا يحق له في المقابل أن يستلم عليها شيء من المال.

ص: 35

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 36

ص: 37

ص: 38

تعريف العلم وبعض أقسامه

اشارة

ص: 39

ص: 40

العلم في اللغة : هو المعرفة بالشيء .

وقيل : هو إدراك المركبات من الذوات والصفات مثل إدراكك زيد منصفاَ بصفة القيام .

قال الشاعر :

والعلم بالشيء يقال المعرفة *** به وما كان عليه من صفة

وقيل إدراك المركبات *** من الذوات ومن الصفات

کنحو أدركك زيد متصف *** بصفة القيام بعدما عرف

من قول من يقول قام زبد *** بصفة القيام قد يزيد

والدرك للبسائط المعرفة *** هو المسمى عندهم بالمعرفة

وقال سيدنا الرضي على ما حكاه عنه شيخنا البهائي رضوان الله عليهما في تحقيق العلم والمعرفة ما حرفيته : إن ها هنا معنيين : أحدهما أن المعرفة تطلق على الإدراك الذي بعد الجهل، والثاني أنها تطلق على الأخير من إدراكين لشيء واحد يتخلل بينهما عدم ، لا يعتبر شيء من هذين القيدين في العلم ، قال رضوان الله تعالى عليه ولهذا لا يوصف

ص: 41

الباري تعالي بالعارف ويوصف بالعالم ، وقال المحقق الدواني في هذا المقام : ومعنى آخر ذكره الراغب وغيره وهو أن المعرفة العلم بالشيء من قبل آثاره ، وكأنه مأخوذ من العرف بمعنى الرائحة ، كما يقال اشتممت هذا المعنى وقال بعض الحكماء : العلم درك حقائق الأشياء مسموعاً ومعقولاً .

وعرّف العلم في المنطق بأنه الصورة الحاصلة من الشيء عند العقل ومهما يكن الأمر فإن لفظة العلم إذا أطلقناها فإما أن يكون المراد منها ما يحصل بالكسب من الامارات والحواس الظاهرية والصنائع الاكتسابية وإما أن يكون المراد منها :

ما كان موهوباً من الله تعالی مستفاضاً منه بطريق الإلهام أو النقر في الأسماع أو التعلم من حضرة الرسول صلی الله عليه وآله و غير ذلك من الأسباب وإما أن يكون المراد منه العلم القديم والسابق على المعلومات بل وعين الذات وعلة للمعلومات وبموجب هذا التقسيم المذكور يسمى ما يحصل بالكسب من العلم (العلم الكسب) وهو علم يشترك فيه كل الناس ويسمى ما كان موهوبا من الله تعالی بطريق الإلهام من العلم اللدني وهذا العلم مختص بالنبي والإمام عليهما أفضل الصلاة والسلام دون غيرهما من الناس وعلم آخر يسمى (العلم الحضور) أو الإرادي أو الإشائي قيل ثابت للإمام وقيل إنه غير ثابت وسوف يأتي تفصيل ذلك عن قريب إنشاء الله تعالى . وأما القسم الأخير من التقسيم المذكور والذي هو العلم القديم فيسمى (العلم الإلهي) وهذا العلم صفة من صفات الكمال والجمال الثبوتية الذاتية من حيث إنه عين الذات ولا يخفى على قارئنا العزيز بما أن هذا العلم الذي هو مخصوص بالجليل جل وعلا أفضل العلوم المذكورة لذا نقدم تفصيله عليها ونفصلها عقيبه بالتسلسل فنقول :

إن الحديث حول (العلم الإلهي) يتلخص في ثلاثة مواضيع :

أولها : علمه تعالى ، وثانيها : علمه بذاته ، وثالثها : علمه بمخلوقاته .

ص: 42

أما كون الله تعالی عالماً ، فإنه مما لا شك فيه أن العلم من صفات الكمال فلو فقدت هذه الصفة من الواجب ، ووجدت في بعض الممکنات- وهي موجودة قطعاً - لكان ذلك الممكن أفضل من الواجب في وجوده ، ومعنى أفضلية الممكن هو أن تكون للممكن مرتبة من الوجود لم ينلها واجب الوجود ، وذلك محال . لأن واجب الوجود هو الذي يستوعب كل مراتب الوجود بوجوده ، فلا يمكن أن تخلو منه منطقة وجودية فإذا تصورنا خلو منطقة العلم منه ، لم يكن ما فرضناه واجب الوجود ، لأن واجب الوجود هو الذي يتقوم به الوجود في كل موجود ، فإذا تجرد عنه موجود کان ذلك الواجب غیر واجب الوجود في هذا الموجود ، وإذا فات الواجب منطقه من الوجوب فات عنه وجوب الوجود وكان ما تصورناه واجب الوجود غير واجب الوجود .

دليل وجداني على علمه تعالی :

العالم الطبيعي وما فيه من النظم والقوانين الثابتة ، وما اشتمل عليه من المواد والعناصر ، ومن الهندسية الدقيقة ، لم يكن هذا العالم وما فيه من عمل جاهل ولا من وحي غافل ، إن هذه المجاميع الشمسية وما فيها من السنن المدهشة لا يمكن أن تكون منتوج جاهل بليد، إن الوجدان يحكم قاطعا بأنها من صنع عالم جبار في علمه . استوعب علمه كل ما فيه من خصائص العناصر . وهندسة التكوين، والموازين . إن صانع العالم يعلم بما فيه ومن فيه ، لأن ذلك كله من صنعه والمصنوع بعض آثار علم الصانع ، فصنعة العلم لا بد وأن تكون موجودة في صانع العالم جلت عظمته .

وأما علمه تعالی بذاته فإنه يظهر في هذه المقدمة فنقول : إن العلم على قسمين :

1۔ علم حصولي .

ص: 43

2- علم حضوري .

والعلم الحصولي : هو الصورة المطبقة في الذهن من الموجودات الخارجية ، فالإنسان يشاهد حادثة فترتسم صورتها وصورة أبطالها ومناظرها في ذهنه ، فيكون عالماً بها أو يقرأ موضوعاً علمياً في الكتاب فتنطبع صورة منه في وعيه يعرضها في كلامه أو في كتابته لو سئل أو تحدث عنها ، فهو عالم بذلك الموضوع ، أن هذا النوع من العلم يسمى بالعلم الحصولي لأنه يحصل في ذهنه من المشاهد الخارجية مقروءة أو مسموعة أو منظورة منطبقة في ذهنه ، إن تلك الصورة تسمى بالصورة العلمية ، وإن ذلك الإنسان يسمي بوسيلة تلك الصورة عالماً.

وأما العلم الحضوري : فهو حضور نفس المعلوم في الوعي كعلم الإنسان بذات نفسه فإن نفس الإنسان ليس لها وجود خارجي تنطبع . من مشاهدتها صورة في النفس ، وإنما كانت النفس بنفسها موجودة من النفس ، فالنفس تستحضر النفس بنفسها من دون وساطة آلة أو وسيلة ، لأن المعلوم الذي هو النفس بنفسه حاضر عند العالم الذي هو النفس ، ويسمى هذا النوع من العلم بالعلم الحضوري . لحضور المعلوم بذاته عند العالم .

ولما كانت ذات الحق منكشفة لذاته ، لانکشاف ذات كل عاقل لذاته وحضور نفس ذات الواجب عند ذات الواجب ، فالواجب عالم بذاته بالعلم الحضوري ، بل هو نفس العلم بذاته لأننا قلنا ببساطة حقيقته ووجوده وأنه صرف الوجود وليس العلم إلا جلوة من جلوات الوجود ، فيكون نفس العلم بذاته ذات العالم ، فاتحد العلم والعالم والمعلوم كما لا يخفي وأما علمه بغيره : فإن الله تعالی عالم بجميع الموجودات بسائطها ومركباتها ، جزئياتها وكلياتها ، مجرداتها ومادياتها ، «ان الله لايَعْزُبُ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ لانّه اَحَاطَ بِکُلِ شَیٍ علماً.»

ص: 44

والدليل العقلي على ذلك : أن ذات الحق كما حققناه لما كانت صرف الوجود کانت مراتب الموجودات وأقسامها مبسوطة تحت ظله وقائمة بذاته ، لأنها قائمة بالوجود ، ولما كان جلت عظمته عالما بذاته فإنه سيكون عالما بكل الموجودات المنوطة بوجودها تحت ظل ذاته المقدسة ، فهو إذن عالم بجميع الموجودات التي تقوم بذاته ، لأنه يعلم ذاته ولا يحيط علمه إلا بعد أن يحيط بكل ما تظلله ذاته المقدسة ، لأن أظلة ذاته تفيض من ذاته المقدسة ، وإلا فإنه إذا لم يعلم الموجودات التي تستظل بذاته لم يعلم الذات نفسها ، لأن الشيء لا يعلم إذا جهل الإنسان فيء ذلك الشيء وقد فرضنا أنه عالم بذاته ، فهو إذا عالم بكل ما تبسط عليه ذاته «برهان آخره إن ذات الواجب لما كانت هي العلة لإيجاد الموجودات كلها ، وكان العلم بالعلة يساوي العلم بالمعلول ، إذ العلية لا تعلم إلا إذا علمت المعلولية ، ولا المعلول بجميع جهاته منکشف للعلة العاقلة ، فلا يخفى شيء من المعلول على العلة العاقلة ، ولما كانت ذات الواجب علة لإيجاد الموجودات كلها . وكان الله عالما بذاته كان عالما بجميع مخلوقاته ، لأن ذاته علة لها ، وهو عالم بذاته التي هي العلة لوجود تلك المخلوقات ، فهو إذا عالم بجميع تلك المخلوقات «برهان وجداني على علمه بمخلوقاته» .

إن الإنسان حينما يشاهد المجموعة الشمسية وما فيها من الأكوان وما احتوت عليه من الأنظمة الثابتة والقوانين الدقيقة التي لا يمكن صدورها عن جاهل لا يتفهمها ، أو فاعل غير حساس فاقد للشعور لأن هذا النظام التام وهذه الدقة المتعمقة التي نشاهدها في أوضاع الكواكب والسيارات ، وأجزاء العوالم والأكوان بحيث لو اختل توازن جزئي منه ، أو لو زاد أو نقص عنصر من عناصر الطبيعة ، لانهار العالم القائم ، ولانعدمت الأكوان الموجودة كلها . إن هذه الدقة في النظام لا يمكن أن تكون وليدة الجهل والعمى . إنها لم تصور إلا من عقل جبار يسيطر على كل ما فيها من عناصر وطاقات ويحيط بكل ما فيها من أجزاء وجهات ، فالذي قدر العوالم

ص: 45

ودبرها . وكون الأكوان وأنشأها ، لا بد وأن يكون عالما بكل ما فيها ، مدرك جميع أسرارها ، ملما بالأماد والأبعاد التي بينها ، لأن الجاهل الذي يحار في تدبير نفسه كيف يتمكن من تدبير هذه الأجهزة المغلقة ، أم كيف يتمكن فاقد الشعور أن يبتكر هذه الكائنات العجيبة من دون أن يحتذي بها مثالا سابقة لها أو يأخذ هذه العلوم والفنون من أستاذ ماهر ، كيف تتمكن المادة العمياء الصماء التي لا تحس ولا تشعر ، والتي لا تدرك نفسها من تكوين النفوس والأرواح والهيئات والصور ، أن الذي يعتقد ذلك ببغاءعجماء تتلقى الأصوات من الملقن من دون أن تعي ما فيها من الأسرار والمعاني ، إن الإنسان الواعي إذا نظر نفسه ثم رفع نظره وأجاله في السماء وما فيها وعاد فنظر الأرض وما عليها آمن بأن المنشىء لها عالم لا تحيط المقاییس آماد علمه ، ولا تدرك الموازين كمية اطلاعاته ، إنها آية العلم الذي أنشأها العليم الخبير ، فدع عنك ما يتحذلق به المغرورون فتعالى الله عما يقول الجاهلون .

علم الإمام الحضوري :

وأما الحديث حول العلم الحضوري بالنسبة للإمام عليه التحية والسلام ، فقد اختلف فيه علماؤنا الأعلام إلى فريقين :

الأول المتقدمون :

فإنهم قالوا بثبوت هذا العلم للإمام عليه السلام ووافقهم مولانا الأعظم محمد حسين المظفر قدس الله نفسه من المتأخرين حيث مال إلى القول به وأفرد له كتابا خاصا أسماه (علم الإمام )أثبت فيه من طريق العقل والنقل ذلك العلم للإمام علیه السلام فقال رضوان الله تعالی علیه ما ملخصه : إن العلم الحضوري ثابت للإمام من حيث إن الإمام إذا اتصف به يرجع نفعه على الأمة فهو إذا تحقق في الإمام يكون أنفع للأمة ، وأكمل في الرسالة والإمامة ، وأسبغ في النعمة ، وأتم في القدرة ، وأكمل في اللطف ، وأبلغ

ص: 46

في المثالية والدلالة ، وأسلم من الانخداع ، هذه عناوین دليله العقلي .

واستدل من النقل بالآيات التالية :

1. قوله تعالى : «وَلا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ » .

2- قوله تعالى : «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى »

3- قوله تعالى : «َلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ »

4 - قوله تعالى : « وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ».

5- قوله تعالى : « إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ».

6- قوله تعالى : «وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ » .

هذا بالإضافة إلى ما أورده من الأخبار الناطقة بذلك والمؤيدة إلى مسلکه .

الثاني - المتأخرون :

وقال المتأخرون بعدم ثبوت هذا العلم للإمام علیه السلام وعدم جواز التدين به وبأمثاله من العقائد لعدم وجود أدلة قطعية عليه وكيف كان الأمر فإني لست ممن له أهلية ترجيح هذا على ذاك أو ذاك على هذا وإن كان ما أورده سيدنا من الأدلة لا يخلو من قوة .

علم الإمام اللدني :

لا يوجد خلاف بين علمائنا في ثبوت هذا العلم للإمام بل هو ثابت له عليه إجماعاً.

قال العارف محمد جواد الخراساني رضوان الله تعالى عليه في منظومته المسماة بمعارف الأئمة :

طريقهم وحي وعلم لدني*** فمابه ريب ولا من موهن

يقصد أن معارف الأئمة عليهم السلام قطعية يقينية لا يمكن احتمال

ص: 47

الخطأ فيها أصلا لأنها لم تكن من الطرق العادية البشرية بل إنما هي وحي وعلم لدني . أما الوحي فباعتبارين ؛ إلهامه تعالی إياهم وقذفه في قلوبهم وعلمهم بالوحي المنزل على الرسول صلی الله عليه وأله بتمامه وكماله بل ليس علمهم إلا علم الرسول صلی الله عليه وأله ولا طريقهم إلا طريقه .

وأما اللدني : فهو العلم الذي أشار إليه تعالى بقوله:« آتَيْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا »وإلى أحد هذين أو لهما معااً أشار مولاي وسيدي علي عليه التحية والصلاة والسلام بقوله جواباَ عن الجاثليق حيث قال له : عرفت الله بمحمد أم عرفت محمد صلی الله عليه وأله بالله فقال عليه السلام : (ما عرفت الله بمحمّد ولكن عرفت محمداً بالله عز وجل حين خلقه وأحدث فيه الحدود من طول وعرض فعرفت أنه مدبر مصنوع باستدلال وإلهام منه وإرادة كما ألهم الملائكة طاعته وعرفهم نفسه بلا شبه ولا كيف) . وقوله عليه السلام: جوابا عن القائل له بم عرفت ربك ؟ قال عليه السلام بما عرفني نفسه لذا قال العارف الخراساني : فما به ريب ولا من موهن .

علم الجفر :

إن (الجفر) في الأصل ولد الشاة إذا عظم واستكرش ويمكن أن مبدأ هذا العلم المسمى بعلم الجفر كان يكتب على جلد الشاة فسمي به .

ويقال إن علم الجفر هو علم الحروف الذي تعرف به الحوادث المستقبلة ، وهو وعاء من آدم فيه علم النبيين وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل ونحن وإن لم نعرف هذا العلم وما هو القصد منه إلا أننا نؤمن به إسناداً على ما جاء عنهم من الأخبار الكثيرة التي ذكرت الجفر وأكدت على أنه من مصادرهم كما جاء عن مولانا صادق آل محمد عليه السلام أنه قال : إن عندنا الجفر ، وجاء في بعضها أنه ممايعلمه الصادق كما عن بعض علماء أهل السنة ، وفي البعض الآخر كما عن الشبلنجي نقلاً عن ابن قتيبة قال : وكتاب الجفر

ص: 48

كتبه الإمام جعفر بن محمد الباقر ، وفيه كل ما يحتاجون إلى علمه إلى يوم القيامة .

قال أبو العلا ونعم ما قال :

لقد عجبوا لآل البيت لما *** أتاهم علمهم في جلد جفر

فمرأة المنجم وهي صغری *** تريه کل عامرة و قفر

الأئمة وعلم الحديث :

قد يتساءل البعض من الناس : هل الأئمة عليهم السلام كانوا مستوعبين للعلم الحديث : أو كانوا يعلمون الفيزياء والكيمياء والرياضيات وغيرها من العلوم نقول نعم إن ما نقرأه عن أحوال الأئمة عليهم السلام يشير إلى ذلك ، وأنهم كانوا يجيبون بصورة ارتجالية دونما تفكير على أسئلة صعبة في حقول العلم الحديث مسائل يحتاج حلها إلى تفكير ووقت لا يستهان به مسائل ما كان ليقوى على حلها العلماء من جميع الأمم في ذلك العهد . ولم نجد فيما نقرأه عن أحوال الأئمة عليهم السلام أنهم استمهلوا للإجابة على مسألة ، أو عينوا موعداً للجواب ، عدا ما صدر عن جميعهم عليهم السلام إخبار بالغيب طابق الواقع تماماً ، فقد قال الرضا عليه التحية والسلام : (سوف لا يحج من ملوك بني العباس أحد بعد هارون) وكان كما أخبر به مولانا الرضا عليه السلام حيث قال عليه السلام : (هارون وأنا كهاتين) وضم إصبعيه . قال الراوي : ما عرفنا معنى حديثه حتى دفناه معه .

الأئمة وعلم الغيب :

قال شيخنا الطبرسي في مجمع البيان : علم الغيب - صفة سبحانه العالم لذاته لا يشركه أحد من المخلوقين ، ومن اعتقد أن غير الله تعالی يشركه في هذه الصفة فهو خارج عن ملة الإسلام . انتهى كلامه قدس سره .

ص: 49

وفي الكتاب العزيز آيات كثيرة دالة على أن علم الغيب من العلوم التي تفرد بها سبحانه فمنها على سبيل المثال :

1- قوله تعالى : « وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ » آل عمران آية رقم 179 .

2 - قوله تعالى : «قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ » سورة الأنعام آية رقم 50

3- قوله تعالى : «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ » سورة الأنعام آية رقم 59.

4 - قوله تعالى :«فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ »و سورة يونس آية رقم 20.

5- قوله تعالى : «قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ » سورة النمل آية رقم 65.

6- قوله تعالى : «عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ » سورة الجن أية رقم 26.

إلى غيرها من الآيات الواردة في هذا الباب . وكلها صريحة كما نراه في عدم الإطلاع على الغيب إلا الله تعالى ، فإذا كان النبي صلی الله عليه وأله وسلم ان لا يعلم الغيب من لدن نفسه فكيف بأهل بيته عليهم التحية والسلام ؟ وأما إخبارهم عليهم السلام بالمغيبات عن طريق المعجزة والكرامة واخبارهم عما في القلوب فليس إلا بتعليم الله تعالى لهم وتعليم الرسول صلی الله عليه وأله وسلم إياهم وقد تقدم الكلام عليه فيما سبق .

وجاء في البحار نقلاً عن مجالس الصدوق (رضوان الله تعالی عليه) عن أبي المغيرة قال : كنت أنا ويحيى بن عبد الله بن الحسين عند الحسن عليه التحية والسلام فقال له يحيى : جعلت فداك ، إنهم يزعمون أنك تعلم

ص: 50

الغيب ؟ فقال عليه السلام : سبحان الله ، ضع يدك على رأسي فوالله ما رأيت شعرة فيه ولا في جسدي إلا قامت، ثم قال عليه السلام لا والله ما هي إلا وراثة عن رسول الله صلی الله عليه وأله وسلم، وفي نهج البلاغة في وصف الإمام عليه السلام للأتراك ، قال سلام الله عليه : كأني أراهم قوماً (كأن وجوههم المجان المطرقة) يلبسون السرق، والديباج ، ويعتقبون الخيل العتاق ، ويكون هناك استحرارُ قتل حتى يمشي المجروح على المقتول ، ويكون المفلت أقل من المأسور .

فقال له بعض أصحابه : لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب فضحك عليه السلام وقال للرجل وكان كلبياً : يا أخا كلب ، ليس هو بعلم الغيب ، وإنما هو تعلم من ذي علم وإنما علم الغيب علم الساعة ، وما عدده الله سبحانه بقوله : «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ » الآية فيعلم الله سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أنثى ، وقبيح أو جميل ، وسخي أو بخيل ، وشقي أو سعيد ، ومن يكون في النار حطبا ، أو في الجنان للنبيين مرافقأ ، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلا الله وما سوى ذلك فعلم علمه الله نبيه فعلمنيه، ودعا لي بأن أعيه وتضطرم عليه جوانحي .

ولا يخفى أنه بمثل هذا يجاب عما ورد في شأن رشيد الهجري وعمرو بن الحمق وغيرهما من أن علم المنايا والبلايا سلم إليهم ، فمعناه أنهم رحمهم الله لإخلاصهم في طاعة الله تعالى وقربهم من مقام الأئمة عليهم السلام أخبروهم عن بعض معلوماتهم التي تلقوها وورثوها عن جدهم النبي صلی الله عليه وأله وسلم من الله تعالی .

ص: 51

ص: 52

القرآن الكريم يقول بفضل العلم

ص: 53

ص: 54

لقد ذكرنا فيما سبق لقارئنا الكريم تعريفات العلم اللغوية وتحدثنا له عن بعض أقسامه وأسهبنا الحديث حول العلم الإلهي حيث لخصناه لقارئنا في ثلاثة مواضيع اقتبسناها من كتب أصول الدين الإسلامي (ص 42) لسيدنا الحجة محمد جمال الهاشمي (قده) كما تحدثنا عن العلم الحضوري واللدني وغيرهما من العلوم التي تخص أهل البيت عليهم التحية والسلام وأثبتنا في نهاية المطاف بأن علمهم ما هو إلا وراثة عن جدهم الأعظم محمد بن عبد الله صلي الله عليه و اله و سلم منال وبقي علينا بيان العلم الكسبي ولا يخفى أن لهذا العلم ضروبا كثيرة لا حاجة لنا إلى ذكرها لأنها لم تكن مقصودنا وإنما المقصود منها بالذات ضربا واحدا وهو العلم الكسبي الديني الذي هو موضوع کتابنا كما أشرنا إلى ذلك في المقدمة فلنتحدث الآن لقارئنا العزيز عن هذا العلم وفضله وشرفه وما جاء في الكتاب العزيز من الآيات الدالة على ذلك فنقول : إن شرف العلم بديهي ذاتي كفضل الوجود علی العدم ولذا يكتفي في بيان الحكم عليه بذكر الموضوع ، فيقال لمن تعلمه هذا عالم ولا يحتاج إلى ذكر الكبرى فلا فضيلة كالعلم ، ولا شرف کشرفه لأن به حياة الأمم وسعادتها ورقيها وخلودها ، وبه نباهة المرء وعلو مقامه وشرف

ص: 55

نفسه ولا غرابة في كون العلم أفضل من العبادة أضعافاً مضاعفة لأن العابد صالح على طريق النجاة قد استخلص نفسه فحسب ، ولكن العالم العامل بعلمه مصلح يستطيع أن يستخرج عوالم كثيرة من غياهب الضلال ، كما أنه صالح في نفسه أيضا ، وقد فتح عينيه في طريقه ومن فتح عينيه أبصر الطريق وليس في الفضائل ما يصلح الناس ويبقى أثره في الوجود مثل العلم ، فان العبادة والشجاعة والكرم وغيرها إذا نفعت الناس فإنما نفعها ما دام في الوجود ، وليس له بعد الموت إلا حسن الأحدوثة ولكن العالم العامل يبقى نفعه ما دام علمه باقياً وأثره خالدأ .

فتلخص مما ذكر أن فضل العالم على العابد كفضل القمر على النجوم في ليلة البدر حيث إن بالعالم يعرف الحلال والحرام . وبالعالم يعرف الله ويوحد وبالعالم يطاع الله سبحانه ويعبد .

ويقال : إن الإنسان شجرة تثمر الحبوبات والفواكه الملونة اللذيذة ،كسائر الأشجار المثمرة ، ولكن العلم والفضيلة يكون ألذ ثمرة من ثمارها وأحلى فاكهة من فواکهها، وهذه الثمرة العلمية هي التي تربي الروح الإنسانية ، وتحلي الذائقة البشرية وبسبب هذه الجوهرة العلمية والشمعة النورانية الإلهية يرتقي الإنسان من حضيض عالم الجهل والحيرة ، ودنيا الذلة والرقية بأعلى مراتب الكمالات البشرية وأفضل الدرجات الروحانية الملكوتيه التي يليق بها الإنسان .

وإننا إذا لاحظنا المعقولات نجدها تنقسم إلى موجود و معدوم : وظاهر أن الشرف للموجود ثم الموجود ينقسم إلى جماد ونامِ ولا ريب أن النامي أشرف ثم النامي ينقسم إلى حساس وغيره ولا ريب أن الحساس أشرف ، ثم الحساس إلى عاقل وغير عاقل ، ولا ريب أن العاقل أشرف ، ثم العاقل ينقسم إلى عالم وجاهل ، ولا ريب أن العالم أشرف ، فالعالم أشرف المعقولات فينتج أن شرف العالم بسبب علمه والعلم هو أشرف المعقولات .

ص: 56

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة وصريحة بذكر العلم وفضله والثناء عليه ، نذكر منها لقارئنا الكريم كما وعدناه ما يلي :

1- قال تعالى : «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ».

2- قال تعالى :«لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ »

3- قال تعالى : «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)»

4- . قال تعالى : «بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ »

5- قال تعالى : «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا »

6. قال تعالى :« قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ » .

7- قال تعالى :«وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ »

8- قال تعالى : «وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ «ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ »

9- قال تعالى : «اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ «الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ «عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ «كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى «أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى »

هذه مجموعة من الآيات الكريمة تدل بكل وضوح على فضل العلم وشرفه ولهذا كان رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم منا يحب العلم أكثر من غيره ، وقد جاء عنه عليه السلام رغم أنه كان في يوم من الأيام يحدث إنساناَ ، فأوحى الله تعالى أنه لم يبق من عمر هذا الرجل الذي تحدثه إلا ساعة ، وكان وقت العصر فأخبره الرسول

ص: 57

بذلك ، فاضطرب الرجل ، وقال يا رسول الله دلني على أوفق عمل في هذه الساعة قال صلي الله عليه و اله و سلم اشتغل بالتعلم ، فاشتغل بالتعلم وقبض قبل المغرب ومن هنا يعلم أنه لو كان شيء يوجد أفضل من العلم لأمره النبي صلي الله عليه و اله و سلم به في ذلك الوقت .

ويقال : إن رجلاَ من فقهاء شيعة أبي محمد الحسن العسكري عليه التحية والسلام کلم بعض النصاب فأفهمه بحجته حتى ظهر الحق ، فدخل إلى علي بن محمد عليه التحية والسلام ، وفي صدر مجلسه دست عظيم منصوب وهو قاعد خارج الدست ، وبحضرته خلق من العلويين وبني هاشم ، فما زال يرفعه حتى أجلسه في الدست ، وأقبل عليه فاشتد ذلك على أولئك الأشراف فأما العلوية فأجلوه عن العتاب ، وأما الهاشميون فقال له شيخهم بابن رسول الله هكذا تؤثر عامياً على سادات بني هاشم من الطالبيين والعباسيين فقال عليه السلام منحني إياكم وأن تكونوا من الذين قال الله تعالى فيهم «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ »

أترضون بكتاب الله حكماً ، قالوا : بلى أليس الله يقول :«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ»

نعم قال الشاعر :

رأيت العلم صاحبه کريم *** ولو ولدته آباء لئام

وليس يزال يرفعه إلى أن *** تعظم أمره القوم الكرام

فلولا العلم ما سعدت رجال *** ولا عرف الحلال ولا الحرام

وقال شاعر آخر :

لا تروق الحياة إلا مع العلم*** الحياة معه طويله

ص: 58

إن للعلم لذة عرفتها*** نفس حر تذوقت سلسبيله

فاطلب العلم ما حييت لذات العلم*** إن كنت من هواة الفضيله

رفع العلم للسماء رجالاً *** اتخذوا العلم غاية لا وسيله

قال بعض الأدباء : الناس إما طالب الدنيا فقط وإما طالب العقبي فقط أو من الذين أخذوا الدنيا بطرفيها . أي جمعوا لذائذ الدنيا وحظائظ الأخرة وكل هذه موقوفة بمفتاح سعادتي الدارين وهو العلم .

وقال مولانا الأعظم وإمامنا الأكرم أمير المؤمنين علي عليه التحية والصلاة والسلام : طلبت القدر والمنزلة فما وجدت ذلك إلا بالعلم ، تعلموا يعظم قدركم في الدارين ، وطلبت الكرامة فما وجدتها إلا بالتقوى اتقوا التكرموا وطلبت الراحة فما وجدتها إلا بترك مخالطة الناس إلا لقوام عيش الدنيا اتركوا الدنيا ومخالطة الناس تستريحوا في الدارين وتأمنوا من العذاب . وطلبت السلامة فما وجدتها إلا بطاعة الله تعالى أطیعوا الله تسلموا وطلبت الخضوع فما وجدته إلا بقبول الحق اقبلوا الحق فإن قبول الحق يبعد من الكبر ، وطلبت العيش فما وجدته إلا بترك الهوى ، فاتركوا الهوى لطيب عيشكم ، وطلبت المدح فما وجدت إلا بالسخاء تمدحوا ، وطلبت نعيم الدنيا والآخرة فما وجدته إلا بهذه الخصال التي ذكرتها .

إن من يتدبر في الفقرة الأولى من كلامه عليه التحية والسلام وهي قوله (طلبت القدر والمنزلة فما وجدت ذلك إلا بالعلم) يعلم قيمة العلم .

قال الشاعر :

العلم يغرس كل فضل فاجتهد *** أن لايفوتك فضل ذاك المغرس

واعلم بأن العلم ليس يناله*** من همه في مطعم أو ملبس

إلا أخو العلم الذي يزهو به *** في حالتيه عاريا أو مكتسي

فاجعل لنفسك منه حظا وافراً*** واهجر له طيب الرقاد وعبس

فلعل يوماً إن حضرت بمجلس *** كنت الرئيس وفخر ذاك المجلس

ص: 59

وقال آخر :

العلم للمرء معوان على الزمن *** يقيه من حادثات الدهر والمحن

وحلة حوکها من سؤدد وعلى *** وحلة مالها والله من ثمن

ومنه يدري الوری کنه الديانة *** والشرع القويم ومعنى الفرض والسنن

لولاه كان بنو الإنسان قاطبة *** مثل البهائم ترعى خضرة الدمن

فكل من عاش لم يمدد إليه يدأ *** كأنه من عداد الناس لم يكن

و قال ثالث :

العلم زين فكن للعلم مكتسباً *** وكن له طالبا ما عشت مقتبسا

اركن إليه وثق بالله واغن به *** و كن حليماً رزين العقل محترسا

وكن فتى سالكاً محض التقى ورعاً*** للدين مغتنماً في العلم منغمسا

فمن تخلق بالآداب ظل بها *** رئيس قوم إذا ما فارق الرؤسا

وخير ما نختم به هو قول إمام المتقين وأميرالمؤمنين عليه السلام حيث قال في فضل العلم وشرفه هذه الأبيات القيمة :

الناس من جهة التمثال أكفاء *** أبوهم آدم والأم حواء

وإنما أمهات الناس أوعية *** مستودعات وللاحساب آباء

فإن يكن لهم من أصلهم شرف *** يفاخرون به فالطين والماء

وإن أتيت بفخر من ذوي نسب *** فإن نسبتنا جود وعلياء

لا فضل إلا لأهل أنهم *** على الهدى استهدى أدلاء

وقيمة المرء ما قد كان يحسنه *** والجاهلون لأهل العلم أعداء

ففز بعلم ولا تبقي له بدلاً*** فالناس موتي وأهل العلم أحياء

ص: 60

الأخبار المعصومية الناطقة بفضل العلم

اشارة

ص: 61

ص: 62

لقد تحدثنا لقارئنا الكريم فيما سبق عن فضل العلم الديني وشرفه وأسهبنا الحديث في ذلك مشفوعة بالآيات القرآنية وبعض الأبيات الشعرية الأدبية لا سيما المقطوعة الشعرية الأخيرة التي رأيت كيف أبان لنا فيها أمير المؤمنين عليه السلام فضيلة العلم وقيمته .

وبقي علينا الآن أن نورد لقارئنا العزيز بعض الأخبار المعصومية المتعلقة بشرفه والحاثة على طلبه ، ويمكننا تقسيمها إلى ثلاث طوائف من حيث إنها إما أن تكون متعلقة بنفس العلم بمعنى أنها مختصة بفضله وشرفه ، وإما أن تكون متعلقة بالحث على طلبه والتزود منه ، وإما أن تكون متعلقة بالتعظيم لمن يؤخذ منه العلم وعلى هذا تكون الأخبار ثلاث طوائف نذكرها لقارئنا على الترتيب فيما يلي :

الطائفة الأولى : الأخبار المتعلقة بفضل العلم وشرفه نذكر بعضها بالتسلسل :

1- عن مولانا أمير المؤمنين عليه آلاف التحية والسلام أنه قال : أيها الناس اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به ألا وأن طلب العلم

ص: 63

أوجب عليكم من طلب المال ، إن المال مقسوم لكم قد قسمه عادل بينکم وقد ضمنه وسيفي لكم والعلم مخزون عند أهله فاطلبوه .

2 - وقال عليه السلام : كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من لا يحسنه ويفرح إذا نسب إليه وكفى بالجهل ذماً أن يبرأ منه من هو فيه .

3- وجاء في حديث عن مولانا الأعظم سيد الساجدين وزين العابدين عليه التحية والصلاة والسلام أنه قال : لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج إن الله تعالى أوحى إلى دانيال أن أمقت عبادي إلى الجاهل المستخف بحق أهل العلم التارك للاقتداء بهم وأن أحب الناس إلىَّ التقي الطالب للثواب الجزيل اللازم للعلماء والقابل عن الحكماء .

4- . وفي الخبر عن السيد المطّهر والنبي الأفخر صلي الله عليه و اله و سلم أنه قال : العلم ثلاثة : آية محكمة، أو فريضة عادلة ، أو سنة قائمة ، وما خلاهن فهو فضل .

5. وجاء عن أبي الحسن الإمام علي عليه السلام أنه قال لكميل بن زياد : يا كميل العلم خير من المال ، العلم يحرسك وأنت تحرس المال والعلم حاکم والمال محكوم عليه ، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق وسوف نورد الحديث كاملا فيما يأتي عن قريب إنشاء الله تعالی .

6. وعنه عليه التحية والسلام أنه قال : العلم أفضل من المال بسبعة : الأول أنه ميراث الأنبياء والمال ميراث الفراعنة . الثاني : العلم لا ينق بالنفقة والمال ينقص . الثالث : يحتاج المال إلى الحافظ والعلم يحفظ صاحبه . الرابع : العلم يدخل في الكفن ويبقى المال . الخامس : المال يحصل للمؤمن والكافر والعلم لا يحصل إلا للمؤمن . السادس : جميع الناس يحتاجون إلى العالم في أمر دينهم ولا يحتاجون إلى صاحب المال . السابع : العلم يقوي الرجل على مرور الصراط والمال يمنعه .

ص: 64

7- ورد عن أبي ذر الصحابي الكبير رضوان الله تعالى عليه أنه قال : باب من العلم نتعلمه أحب إلينا من ألف ركعة تطوعاً .

8- قال وهب بن منبه يتشعب من العلم الشرف وإن كان صاحبه دنيا والعز وإن كان مهينا والقرب وإن كان عصية والغني وإن كان صاحبه فقير والنبل وإن كان حقير والمهابة وإن كان وضيعة والسلامة وإن كان سقيما .

9- وقال بعض العارفين : أليس المريض إذا امتنع عن الطعام والشراب والدواء يموت كذا القلب إذا منع عنه العلم والفكر والحكمة يموت .

10 - وجاء عن أهل بيت الوحي والتنزيل أنهم قالوا : إن تعلم العلم لله حسنة وطلبه عبادة والمذاكرة به تسبيح والعمل به جهاد وتعليمه من لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة لله تعالى لأنه معالم الحلال والحرام ومنار سبيل الجنة والمؤنس في الوحشة والصاحب في الغربة والوحدة والمحدث في الخلوة والدليل على السراء والضراء والسلاح على الأعداء والزين عند الاخلاء يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة تقتبس آثارهم ويقتدى بفعالهم وينتهی إلى آرائهم ترغب الملائكة في خلتهم أجنحتها تمسهم وفي صلواتها تبارك عليهم يستغفر لهم كل رطب ویابس حتى حيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه لأن العلم حياة القلوب من الجهل وضياء الأبصار من الظلمة وقوة الأبدان من الضعف . بالعبد منازل الأخيار ومجالس الأبرار والدرجات العلى في الأخرة والأولى ، الذكر فيه يعدل بالصيام ومدارسته بالقيام به بطاع الرب ويعبد وبه توصل الأرحام ويعرف الحلال والحرام والعلم إمام العمل والعمل تابعه يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء فطوبى لمن لم يحرمه الله من حظّه .

11 - عن مولانا صادق آل محمد عن آبائه عن رسول الله عليه وعليهم آلاف التحية والصلاة والسلام أنه قال : فضل العلم أحب إلى الله من فضل العبادة .

12 - وورد عن مولى المتقين وإمام العارفين على عليه سلام الله أنه

ص: 65

قال : العلم ينجيك .

13 - وعنه أيضا عليه التحية والسلام أنه قال : العلم جلالة والعلم حياة والعلم مجلة ، والعلم حرز ، والعلم زین الحسب ، والعلم مصباح العقل ، والعلم أصل كل خير ، والعلم كنز عظيم لا يفنى .

14 - وورد عن صادق آل محمد عليه وعليهم السلام أنه قال : يتفاضل الناس بالعلوم والعقول لا بالأموال والأصول .

15 - وفي حديث عنه عليه السلام أنه قال : غاية الفضائل العلم .

16 - وجاء عنه أيضا عليه السلام أنه قال : السعادة التامة بالعلم ، والسعادة الناقصة بالزهد

17، والعبادة من غير علم ولا زهادة تعب الجسد .

18 - عن مولانا الإمام الأعظم علي عليه السلام أنه قال : عليك بالعلم فإنه ورثة كريمة .

19 - ومن خطبة لعلي عليه التحية والسلام قال : لا مال أعود من العقل، ولا وحدة أوحش من العجب ولا عقل كالتدبير ، ولا كرم كالتقوى ، ولا قرين كحسن الخلق ، ولا ميراث كالأدب ولا قائد کالتوفيق ، ولا تجارة کالعمل الصالح ، ولا ريع كالثواب ، ولا ورع کالوقوف عند الشبهة ، ولا زهد کالزهد في الحرام ، ولا علم كالتفكر ، ولا عبادة كأداء الفرائض ، ولا إيمان كالحياء والصبر ولا حسب التواضع ، ولا شرف كالعلم ، ولا عز كالحلم ولا مصاهرة أوثق من المشاورة .

20 - وورد عنه عليه السلام أنه قال : ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم ، بل أي شيء فات من أدرك العلم .

وجاء عن كميل بن زياد النخعي رضوان الله تعالى عليه أنه قال : أخذ بيدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه التحية والسلام فأخرجني إلى الجبانة ، فلما أصحر تنفس الصعداء ثم قال عليه السلام يا کميل إن هذه القلوب

ص: 66

أوعية فخيرها أوعاها، فاحفظ عني ما أقول لك . الناس ثلاثة : فعالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق .

يا کميل العلم خير من المال ، العلم يحرسك وأنت تحرس المال ، المال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق وصنيع المال يزول بزواله .

يا کميل العلم دین بدان به ، به يكسب الإنسان الطاعة في حياته وجميل الأحدوثة بعد وفاته ، والعلم حاكم والمال محكوم عليه . يا کميل هلك خزان الأموال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة ها إن ها هنا لعلما جما (وأشار إلى صدره الشريف) لو أصبت له حلمة ، بلی أصبت لقنأ غير مأمون عليه ، مستعملا آلة الدين للدنيا ، ومستظهر بنعم الله على عباده ، وبحججه على أوليائه ، أو منقاد لحملة الحق ، لا بصيرة له في أحنائه ، ينقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة ، لا إلى ذا ولا ذلك ، أو منهوما باللذة ، سلس القياير للشهوة ، أو مغرما بالجمع والادخار ليسا من رعاة الدين في شيء ، أقرب شيء شبها بهما الأنعام السائمة ، كذلك يموت العلم بموت حامله .

اللهم بلى ، لا تخلو الأرض من قائم الله بحجة إما ظاهراً مشهوراَ أو خائفاَ مغموراَ ، لئلا تبطل حجج الله وبيناته وكم ذا ؟ وأين أولئك ؟ أولئك والله الأقلون عددا والأعظمون قدراَ ، يحفظ الله بهم حُججه وبيناته حتى يودعوها نظرائهم ويزرعوها في قلوب أشباههم هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة ، روح اليقين ، واستلانوا ما استوعره المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى . أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه آه آه شوقاً إلى رؤيتهم ، انصرف إذا شئت .

انظر إلى هذا الكلام من سيد المتكلمين وإمام العارفين كيف أبان لنا

ص: 67

فضل العلم وشرفه وأنه أفضل من كل شيء في هذه الحياة فقال عليه السلام في بعض فقرات كلامه الشريف إن العلم خير من المال وفي بعضها الآخر إن العلم دين يدان به وقارن سلام الله عليه بين العلم والمال فقال عليه السلام (العلم حاکم) (والمال محكوم عليه) ومعلوم الفرق بين الحاكم والمحكوم فما أعظم هذا الكلام وما أبلغه .

ولله در أديبنا الحكيم جناب العلامة الفرطوسي حيث نظم هذا الكلام البليغ عن الشعر فقال :

کل علم خير من المال طرّاَ *** حين يؤتي في البدء والانتهاء

يحرس المال أهله فيغطى *** حذرا من ضياعه بغطاء

وذوو العلم يحرسون بأمنٍ*** فيه حفظا من سائر العلماء

وتصاب الأموال بالنقص من *** يقتنيها منهم بحد سواء

عند وقت الإنفاق والعلم يزكو *** عند إنفاقه بخير نماء

وصنيع الأموال يذهب طراً *** بذهاب الأموال دون بقاء

وهو دين به يدان وفيه *** يكسب المرء طاعة الأولياء

حين يحيی وان يمت نال *** بعد فقدانه جميل الثناء

وهو الحاكم المؤمر والأموال *** محكومة بدون انقضاء

هلك الخازنون للمال في الدنيا *** خمولاً وهم من الأحياء

وذوو العلم خالدون بقاء *** ما تبقى الزمان بعد الفناء

قد توارت أعيانهم وتراءت *** مثلها في القلوب بعد العفاء

ها هنا يا کميل علم غزير *** وهو يومي لصدره باستياء

لو أصبناله رجاله ثقاة *** حملوه صدقأ بدون افتراء

21 - وقال لقمان الحكيم عليه السلام لابنه : يا بني عليك بالعلم فإنك إن افتقرت كان لك مالا وإن استغنيت كان لك جمالا .

22 - وجاء عن مولانا الأعظم والإمام الأكرم علي عليه التحية والصلاة

ص: 68

والسلام أنه قال أيها الناس إن كمال الدين طلب العلم والعمل به ، وإن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال إن المال مقسوم بينکم ، مضمون لكم قد قسمه عادل بينكم وضمنه وسيفي لكم به ، والعلم مخزون عليكم عند أهله ، قد أمرتم بطلبه فاطلبوه واعلموا أن كثرة المال مفسدة للدين ، مقساة للقلوب ، وأن كثرة العلم والعمل به مصلحة للدين ، سبب إلى الجنة والنفقات تنقص المال والعلم يزكو على إنفاقه ، فإنفاقه بثه إلى حفظته ورواته ، واعلموا أن صحبة العلم وأتباعه دین دان الله به، وطاعته مکسبة للحسنات ، ممحاة للسيئات وذخيرة للمؤمنين ، ورفعة في حياتهم ، وجميل الأحدوثة عنهم بعد موتهم ، أن العلم ذو فضائل كثيرة فرأسه التواضع ، وعينه البراءة من الحسد ،ة وأذنه الفهم ، ولسانه الصدق ، وحفظه الفحص، وقلبه حسن النية وعقله معرفة الأسباب بأمور ، ويده الرحمة ، وهمته السلامة ، ورجله زيارة العلماء وحكمته الورع ، ومستقره النجاة وقائده العافية ، ومركبه الوفاء ، وسلاحه لين الكلام وسيفه الرضاء ، وقوسه المداراة وجيشه محاورة العلماء ، وماله وذخيرته اجتناب الذنوب ، وزاده المعروف ، وماؤه الموادعة ، ودليله الهدى ، ورفيقه محبة الأخيار .

الطائفة الثانية : الأخبار المتعلقة بالحث على طلب العلم والتزود منه نذكر بعضها أيضا فيما يلي :

ا- عن أبي عبد الله عليه التحية والصلاة والسلام قال : قال رسول الله عليه وعلىّ التحية والصلاة والسلام طلب العلم فريضة على كل مسلم إلا أن الله تعالى يحب بغاة العلم ، قال في الوافي بعد ذكر هذا الحديث العلم الذي يستكمل به الإنسان نشأته الأخروية ويحتاج إليه في معرفة نفسه ومعرفة ربه وأنبيائه ورسله وحججه وآياته واليوم الآخر ومعرفة العمل بما يسعده ويقربه إلى الله تعالى وبما يشقيه ويبعده عنه جل وعز ويختلف مراتب هذا العلم حسب اختلاف استعدادات أفراد الناس واختلاف حالات

ص: 69

شخص واحد بحسب استكماله يوماً فيوماً فكلما حصل الإنسان مرتبة من العلم وجب عليه تحصيل مرتبة أخرى فوقها إلى ما لا نهاية له بحسب طاقته وحوصلته ولهذا قيل الأعلم الخلائق صلي الله عليه و اله و سلم وقل رب زدني علمأ . قيل وقت العلم من المهد إلى اللحد : هذا أقوم ما قيل فيه .

ولا يخفى أن البغاة مفرده باغ ، مثل هداة الذي هو مفرده هاد ، فإذا قيل بغاة العلم يعني طلاب العلم ، وباغي العلم عرفة من يكون اشتغاله ، بحيث يعرف به ويعد ذلك من أحواله كما هو ظاهر .

2- عن علي بن حمزة قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : تفقهوا في الدين فإن من لم يتفقه منكم في الدين فهو أعرابي : إن الله تعالى يقول في كتابه : ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون .

قال في الوافي بعد ذكر هذا الحديث : ليتفقهوا في الدين معناه لتحصلوا لأنفسكم البصيرة في علم الدين . .

3- عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه التحية والسلام قال : قال رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضی به وأنه ليستغفر لطالب العلم من في السموات ومن في الأرض حتى الحوت في البحر وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر .

4 - قال حفص بن غياث قال أبو عبد الله عليه التحية والسلام من تعلم العلم وعمل به وعلم لله دعي في ملكوت السموات عظيما فقيل تعلم الله وعمل الله وعلّم الله .

5- عن المفضل بن عمر قال سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول عليكم بالتفقه في دين الله تعالى ولا تكونوا أعراباً فإنه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله تعالى إليه يوم القيامة ولم يزك له عملاً .

ص: 70

6- عن أبان بن تغلب عن أبي عبد الله عليه التحية والسلام أنه قال : لوددت أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا في الدين .

7- عن محمد بن مسلم قال أبو عبد الله عليه التحية والسلام لو أتيت بشاب من شباب الشيعة لا يتفقه لأدبته .

8- عن أبي جعفر عليه التحية والسلام قال : الكمال كل الكمال التفقه في الدين والصبر على النائبة وتقدير المعيشة .

9- عن معاوية بن وهب قال سمعت أبا عبد الله عليه التحية والسلام يقول : اطلبوا العلم وتزينوا معه بالحلم .

10 - عن أبي بصير قال سمعت أبا عبد الله يقول يا طالب العلم إن العلم ذو فضائل كثيرة فرأسه التواضع وعينه البراءة من الحسد وأذنه الفهم ولسانه الصدق وحفظه الفحص وقلبه حسن النية وعقله معرفة الأشياء والأمور ويده الرحمة ورجله زيارة العلماء وهمته السلامة وحكمته الورع ومستقره النجاة وقائده العافية ومركبه الوفاء وسلاحه لين الكلمة وسيفه الرضاء وقوسه المداراة وجيشه محاورة العلماء وماله الأدب وذخيرته اجتناب الذنوب وزاده المعروف ومأواه الموادعة ودليله الهدي ورفيقه محبة الأخيار . وهذا الحديث الشريف مرفوع إلى أبي الحسن مولانا الإمام علي عليه السلام، وقد تقدم فيما سبق .

11 - جاء عن النبي صلي الله عليه و اله و سلم : العلم خليل المؤمن ، والحلم وزيره ، والعقل دليله ، والعمل قيمه ، والصبر أمير جنوده ، والرفق والده ، والبر أخوه والنسب آدم والحسب التقوى ، والمروة إصلاح المال .

12 - وعنه أيضا صلي الله عليه و اله و سلم : أربعة تلزم كل ذي حجي وعقل من أمتي قيل : يا رسول الله ما هن ؟ قال صلي الله عليه و اله و سلم : استماع العلم ، وحفظه ، ونشره والعمل به .

13 - وقال صلي الله عليه و اله و سلم أيضا : قيدوا العلم بالكتاب .

ص: 71

14- وعنه صلي الله عليه و اله و سلم أنه قال : العلم خزائن ومفاتيحه السؤال ، فاسألوا رحمكم الله تعالى ، فإنه تؤجر أربعة : السائل والمتكلم والمستمع والمحب لهم .

15 - وعنه أيضا صلي الله عليه و اله و سلم أنه قال سائلوا العلماء وخاطبوا الحكماء وجالسوا الفقراء .

16 - من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض .

17 - وقال صلي الله عليه و اله و سلم : فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة وأفضل دينکم الورع .

18 - وقال صلي الله عليه و اله و سلم : إن من تعلم العلم ليماري به السفهاء أو يباهي به العلماء أو يصرف وجوه الناس إليه ليعظموه فليتبوأ مقعده من النار ، فإن الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها ، ومن وضع نفسه في غير الموضع الذي وضعه الله تعالى فيه . فضحه الله تعالى ، ومن دعا إلى نفسه فقال : أنا رئيسكم وليس هو كذلك لم ينظر الله تعالى إليه حتى يرجع عما قال ، ويتوب إلى الله مما ادّعی .

19 - وقال صلي الله عليه و اله و سلم لأبي ذر عليه السلام مانحن جلوس ساعة في مذاكرة العلم أحب إلى الله من قيام ألف ليلة يصلي في كل ليلة ألف ركعة وأحب إليه من ألف غزوة ، ومن قراءة القرآن كله اثنا عشر ألف مرة ، وخير من عبادة سنة صام نهارها وقام ليلها ومن خرج من بيت ليلتمس بابا من العلم كتب الله عز وجل له بكل قدم ثواب نبي من الأنبياء وثواب ألف شهيد من شهداء بدر ، وأعطاه الله بكل حرف يسمع أو يكتب مدينة في الجنة .

هذا بعض مما ذكره أهل البيت عليهم التحية والسلام من الأحاديث الحائة للمكلفين على طلب العلم والتزود منه .

وبالمناسبة وقبل سرد الطائفة الثالثة من الأخبار المتعلقة بتعظيم من

ص: 72

يؤخذ منه العلم تجدر الإشارة إلى بيان أمور مهمة ينبغي لطالب العلم أن يلتزم بها ويداوم على مراعاتها والمحافظة عليها لأنها من آداب التعلم وهي كما يلي :

أولا : أن يتجنب المتعلم عن اتباع الشهوات والهوى والاختلاط بأبناء الدنيا . قال بعض الأكابر : (كما أن الجليدية إذا كانت مؤوفة برمد ونحوه فهي محرومة من الأشعة الفائضة عن الشمس ، كذلك البصيرة إذا كانت مؤوفة بمتابعة الشهوات والهوى والمخالطة بأبناء الدنيا فهي محرومة من إدراك الأنوارالقدسية ومحجوبة عن ذوق اللذات الأنسية) .

ثانيا : أن يكون تعلمه لمجرد التقرب إلى الله والفوز بالسعادات الأخروية ، ولم يكن باعثه شيئا من المراء والمجادلة ، والمباهاة والمفاخرة ، والوصول إلى جاه أو مال أو التفوق على الأقران والأمثال ، قال مولانا محمد بن علي الباقر عليه التحية والصلاة والسلام (من طلب العلم ليباهي بهالعلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس فليتبوأ مقعده من النار ، فإن الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها). الحديث المتقدم .

ثالثا : ينبغي أيضا لطالب العلم أن يضع على باله الحديث المروي عن صادق آل محمد عليهم التحية والسلام : الذي صنف فيه طلبة العلم إلى ثلاثة أصناف فقال عليه السلام (طلبة العلم ثلاثة فأعرفهم بأعيانهم وصفاتهم ، صنف يطلبه للجهل والمراء ، وصنف يطلبه للاستطالة والختل ، وصنف يطلبه للفقه والعقل فصاحب الجهل والمراء مؤذ ممار ، متعرض للمقال في أندية الرجال يتذاكر العلم وصفة الحلم ، وقد تسربل بالخشوع وتحلى من الورع ، فدق الله من هذا خيشومه وقطع منه حيزومه ، وصاحب الاستطالة والختل ذو خب وملق ، يستطيل على مثله من أشباهه ، ويتواضع للأغنياء من دونه ، فهو الحلوانهم هاضم ولدينه حاطم ، فأعمى الله على هذا خبره وقطع من آثارالعلماء أثره . وصاحب الفقه والعقل ذو کابة وحزن وسهر ، قد تحنك في

ص: 73

برنسه وقام الليل في حندسه ، يعمل ويخشی وجلاً داعياً مشفقاً مقبلاً على شأنه عارفاً بأهل زمانه مستوحشأ من أوثق أخوانه فشد الله من هذا أركانه ، وأعطاه يوم القيامة أمانه .

فعلى ما تقدم ينبغي لطالب العلم أن يلتفت لنفسه لكي لا يكون من الصنفين المتقدم ذكرهما وذلك بأن يطلبه للجهل والمراء أو يطلبه للاستطالة والختل بل على الطالب له أن يجتهد في أن يكون من الصنف الثالث وذلك بأن يطلبه للفقه والعقل أسأل الله تعالى أن يوفقنا لذلك .

رابعا : أن يعمل بما يفهم ويعلم ، فإن من عمل بما يعلم ورثه الله ما لم يعلم ، قال صادق آل محمد عليه وعليهم التحية والسلام : (العلم مقرون إلى العمل ، من علم عمل ، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل عنه) وعن مولانا سيد الساجدين وزين العابدين عليه التحية والسلام أنه قال : (مکتوب في الإنجيل : لا تطلبوا علم ما لا تعلمون ولما تعملوا بما علمتم فإن العلم إذا لم يعمل به لم يزده صاحبه إلا كفرة ولم يزدده من الله إلا بعداً) .

وجاء عن السيد المطهر والنبي الأفخر محمد بن عبد الله صلي الله عليه و اله و سلم : (من أخذ العلم من أهله وعمل بعلمه نجا ، ومن أراد به الدنيا فهي حظه). وروي عنه أيضا أنه قال عليه واله التحية والصلاة والسلام : (العلماء رجلان عالم آخذ بعلمه فهو ناج ، وعالم تارك لعلمه فهذا هالك ، وأن أهل النار يتأذون من ريح العالم التارك لعلمه ، وأن أشد أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبدا إلى الله فاستجاب له وقبل منه ، فأطاع الله فأدخله الجنة وأدخل الداعي النار بترك عمله ، واتباعه الهوى وطول الأمل ، أما اتباع الهوى فيصد عن الحق وأما طول الأمل فينسي الأخرة) .

خامسا : على طالب العلم بأن يحافظ على شرائط الخضوع والأدب للمعلم ولا يرد عليه شيئاً بالمواجهة ، ويكون محباً له بقلبه ، ولا ينسی حقوقه ، لأنه الأب الروحاني وهو أعظم الآباء الثلاثة .

ص: 74

الطائفة الثالثة : الأخبار المتعلقة بالتعظيم لمن يؤخذ منه العلم

وهي كثيرة نذكر بعضها فيما يلي :

1- قال الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه التحية والصلاة والسلام اطلبوا العلم وتزينوا معه بالحلم والوقار وتواضعوا لمن تعلمونه العلم وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم ولا تكونوا علماء جبارين فيذهب باطلكم بحقكم) .

2- قال رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم إني أفتخر يوم القيامة بعلماء أمتي فأقول علماء أمتي كسائر الأنبياء ، لا تكذبوا عالما ولا تردوا عليه ، ولا تبغضوه وأحبوه فإن حبهم إخلاص وبغضهم نفاق ، ألا ومن أهان عالما فقد أهانني ، ومن أهانني فقد أهان الله ، ومن أهان الله فمصيره إلى النار ، ألا ومن أكرم عالما فقد أكرمني ، ومن أكرمني فقد أكرم الله تعالى ، ومن أكرم الله تعالی فمصيره الجنة .

3- وعن مولانا الأعظم الإمام علي عليه التحية والسلام أنه قال : لا يستخف بالعلم وأهله إلا أحمق جاهل .

4 - روى القطب الراوندي عن زرارة حاجب المتوكل، قال أراد المتوكل عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين أن يمشي علي بن محمد بن الرضا عليه التحية والسلام فقال له وزيره إن في هذا شناعة عليك وسوء قالة ، فلا تفعل ، قال لا بد من هذا ، قال فإن لم يكن بد من هذا فتقدم بأن يمشي القواد والأشراف كلهم حتى لا يظن أحد أنك قصدته بهذا دون غيره ففعل ومشى الإمام عليه السلام وكان الصيف شديد الحرارة فوافي الدهليز وقد عرق الأشعة فلقيته في الدهليز ومسحت وجهه بمنديل وقلت إن ابن عمك لم يقصدك بهذا دون غيرك ، فلا تجد عليه في قلبك فقال ائتلاف إيها عنك ، تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب .

5. قال رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم من أذل عالماً بغير حق أذله الله تعالى يوم

ص: 75

القيامة على رؤوس الأولين والآخرين .

6 - وجاء في حديث عنه صلي الله عليه و اله و سلم من احتقر طالب العلم فقد احتقرني ومن احتقرني فهو كافر .

7- وجاء في تفسير الرازي : فمن أهان العالم فقد أهان العلم ومن أهان العلم فقد أهان النبي صلي الله عليه و اله و سلم ومن أهان النبي صلي الله عليه و اله و سلم فقد أهان جبرئيل ومن أهان جبرئيل فقد أهان الله تعالى ومن أهان الله أهانه الله يوم القيامة .

ص: 76

نوادر تدل على عظمة العلم

اشارة

ص: 77

ص: 78

لقد أوردنا لقارئنا العزيز فيما تقدم بعض الأخبار الناطقة بفضل العلمد والتعلم والحاثة على تعظيم من يؤخذ منه العلم حيث ذكرنا له ما لا يقل عن ستين حديثا اقتبسناها من كتب الحديث والتفاسير وغيرها وكلها مقطوعة الصدور عن أئمة أهل البيت وعن جدهم الأعظم محمد بن عبد الله صلی الله عليه وعليهم أجمعين . وفعلا نتحدث لقارئنا الكريم عن بعض النوادر العجيبة التي تدل على عظمة العلم وفضله نبينها فيما يلي :

1- النادرة الأولى :

يقال : إن السلطان محمود بعث إلى الخليفة القادر بالله ، يتهدده بخراب بغداد ، وأن تحمل تراب بغداد على الفيلة إلى الغزنة ، فبعث إليه کتابا قال فيه فقط (الم) وليس فيه سوى ذلك ولم يدر السلطان ما معنی ذلك ، وتحير علماؤه عن حل هذا الرمز ، وجمعوا كل سورة في القرآن في أولها (ا، ل، م) فلم يكن فيها ما يناسب الجواب ، وكان في جملة من حضر شاب لم يعبأ به ، فقال : إن أذن لي السلطان حللت الرمز ، فأذن له ، فقال : ألم تهدده بالفيلة ؟ قال نعم ، قال : كتب إليك ألم تر كيف

ص: 79

فعل ربك بأصحاب الفيل ، فاستحسن السلطان ذلك وقرب الشاب وأجازه تقديرا للعلم .

النادرة الثانية :

نقل عن أبي الحسن علي بن منقذ صاحب قلعة شيراز أنه كان يتردد إلى حلب قبل تملکه قلعة شيراز وصاحب حلب يومئذ تاج الملوك محمود بن صالح ، فجرى أمر خاف علي بن منقذ على نفسه فخرج من حلب إلى طرابلس الشام وصاحبها يومئذ جلال الملك بن عثمان فأقام عنده فتقدم محمود صاحب حلب إلى كاتبه أبي نصر محمد بن الحسين أن يكتب إلى ابن منقذ كتابا يتشوقه ويستدعيه إلى حلب ، ففهم الكاتب أنه يريد به الشر ، فكتب الكتاب كما أمر به مخدومه إلى أن بلغ إلى آخره وهو إنشاء الله تعالی فشدد النون وفتحها ، فلما وصل الكتاب عرضه على ابن عثمان صاحب طرابلس وخواصه فاستحسنوا ما فيه فقال : إني أرى ما لا ترون في الكتاب ثم أجابه عن الكتاب بما اقتضاه الحال وكتب في جملة الكتاب :

إنّا الخادم المقر بالإنعام ، وكسر الهمزة من إنا وشدد النون فلما وصل الكتاب إلى محمود سر بما فيه وقال لأصدقائه : علمت أن الذي كتبته لا يخفى على مثله وكان الكاتب قد قصد قوله تعالى «إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ » فأجاب بقوله : «إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا » وهذه في الحقيقة نادرة بديعة تدل على عظمة العلم .

النادرة الثالثة :

يحكى أن النضر بن شميل دخل على المأمون ليلة فتفاوضا الحديث فروى المأمون عن هیثم بسنده إلى ابن عباس قال رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها فيه سداد من عوز فقال النضر : حدثنا فلان عن فلان عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال : قال رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها فهو سداد من عور ، بكسر السين ، وكان متوكئا فاستوى

ص: 80

جالساً وقال كيف قلت سِداد ؟ قال : قلت لأن السَّداد هنا لحن ، فقال المأمون أتلحني ، قلت أنا لحن هيثم فتبع المأمون لفظه ، فقال المأمون ما الفرق بينهما قلت السداد بالكسر البلغة وكل ما سددت به شيئا فهو سداد ، فقال أوتعرف العرب ذلك قال قلت نعم ، هذا العرجي يقول :

أضاعوني وأي فتی أضاعوا *** ليوم كريهة وسداد ثغر فأخذ المأمون قرطاسأ كتب فيه ، ثم قال لخادمه أبلغ معه إلى الفضل بن سهل ، فلما قرأ الفضل بن سهل الرقعة قال يا نضر قد أمر لك المأمون بخمسين ألف درهم فما كان السبب يقول فأخبرته فأمر لي بثلاثين درهم أخرى فأخذت ثمانين ألف درهم بحرف واحد استفيد منا.

النادرة الرابعة :

حكي أن الرشيد جلس يوما لإزاحة المظالم فتقدمت إليه امرأة ودفعت إليه رقعة فإذا فيها : أتم الله أمرك ، وفرحك بما أتاك ، وزادك رفعة ، فلقد عدلت فقسطت ، فقال الرشيد لمن حضر حين قرأ الرقعة أتدرون ماذا أرادت هذه المرأة ؟ فقالوا : ماذا أرادت یا رشيد فقال أما قولها أتم الله أمرك ، فإنها عنت قول الشاعر :

إذا تم أمر بدا نقصه *** نوقع زوا إذا قيل تم.

وأما قولها : وفرحك بما أتاك ، فأخذته من قول الله عز وجل «فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ » وأما قولها زادك رفعة فإنه من قول الشاعر :

ما طار طير وارتفع *** إلا كما طار وقع .

وأما قولها : عدلت فقسطت فأخذته من قول الله تعالى«وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا » فتعجب الحاضرون لوقوع خاطر الرشيد.

ص: 81

من ذلك ، ثم دعي بها ، وسألها عن حالها وأكرمها وانصرفت .

النادرة الخامسة :

ويحكى أن النضر مرض فدخل عليه قوم يعودونه منهم أبو صالح فقال له : مسح الله ما بك فقال له الرجل : السين تبدل من الصاد ؟ فقال له :

إذا أنت أبو سالح ويشبه هذه النادرة أن بعض الأدباء جوز بحضرة الوزير ابن الفرات أن تقام السين مقام الصاد في كل موضع فقال الوزير : تقرأ «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ » أو من سلح ؟ فخجل الرجل . ولا يخفى أن الذي ذكره أرباب اللغة في جواز بدل الصاد من السين أن كل كلمة كان فيها سين وجاء بعدها في آخر الكلمة الحروف الأربعة وهي الطاء والخاء والعين والقاف فيقول : السراط ، والصراط ، وسخر لكم ، وصخر لكم ، ومسبغة ، ومصبغة ، وفي صيقل ، وسيقل ، وقس على هذا وانشد بعضهم :

إذا شئت بالسين فاكتب ما أبينه *** وإن تشأ فهو بالصادات يكتب

مغس وفقس ومصطار ومملس *** وسالغ وصراط الحق والسقب

وسابغان وسقر والسويق ومسلاق *** وعن كل هذا تفصح الكتب

المغس هو الرجع المتعرض في الجوف وهو مسكن الغين ، والفقس فقس البيضة ، والمسطار الخمرة المرة ويقال لها السطارة أيضا ، والمملس الذي يسقط من يديك ولا تدري ، والسالغ آخر أسنان ذوات الصلف ، والسقب القرب ، والسابغان جانب الفم ، والمسلاق الشديد الصوت ومنه قوله تعالى : « سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ »

النادرة السادسة :

يقال : إن نصر بن منيع لما قدم بين يدي المأمون وكان قد أمر بضرب عنقه قال : يا مأمون اسمع مني كلمات أقولها قال : قل ، فأنشأ يقول :

ص: 82

زعموا بأن الصقر صادف مرة *** عصفور بر سافه التقدير

فتكلم العصفور تحت جناحه *** والصقر منقض عليه يطير

إني لمثلك لا أتم لقمة *** ولئن شويت فإنني لحقير

فتهاون الصقر المدل بصيده *** كرمأ وأفلت ذلك العصفور

فعفا عنه .

النادرة السابعة :

يحكى أن الحجاج أمر صاحب حرسه أن يضرب عنق كل من يلقوه يمشي في بغداد بعد العشاء فطاف ليله فوجد أربعة شبان يمشون فأحاطت بهم الغلمان وقال لهم صاحب الحرس : من أنتم حتى خالفتم الأمير وخرجتم في هذا الوقت ؟ فقال أحدهم شعراً :

أنا ابن من دانت الرقاب له *** ما بين مخدومها وخادمها.

تأنيه بالرغم وهي صاغرة *** يأخذ من مالها ومن دمها.

قال : فسكت عنه وقال لعله من أقارب الحجاج ، فقال الثاني شعر :

أنا ابن الذي لا يزل الدهر قدره *** وإن نزلت يوماً فسوف تعود.

ترى الناس أفواجا إلى ضوء داره *** قيام لها من حولها وقعود.

قال : فسكت عنه وقال لعله من أشراف العرب ، ثم سأل الثالث فأنشأ يقول :

أنا ابن الذي يعلو الرقاب بسيفه *** ويضرب أعناق الرجل القشاعم.

ولا ذاك من وجل ولا هوثائر *** ولكنه حاوي العلا والمكارم.

قال : فسكت عنه وقال لعله ابن حاكم العرب ثم سأل الرابع فأنشأ يقول :

أنا ابن الذي خاض الصفوف بعزمه *** وقومها بالسيف حتى استقامت.

ص: 83

رکاباه لا تنفك رجلاه منهما *** إذا الخيل في يوم الكريهة ولت

قال : فسكت عنه وقال لعله ابن أشجع العرب ، فلما أصبح الصباح جاء بهم إلى الحجاج عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، فكشف عن أمرهم فإذا الأول ابن حجام والثاني ابن صباغ والثالث ابن صيقل والرابع ابن حائك ، فأعجب الحجاج لعنه الله لبلاغتهم فأطلقهم وقال الجلسائه علموا أولادكم الأدب فوالله لولا بلاغتهم لضربت أعناقهم وأنشأ يقول .

کن ابن من شئت واكتسب أدباً *** يغنيك محموده عن النسب

إن الفتى من يقول ها أناذا *** ليس الفتى من يقول كان أبي

النادرة الثامنة :

ومن النوادر التي تشتمل على الأدب والذي يستحق أن نعطر به کتابنا ما رأيته في مجلة العرفان (ص 343) الجزء الرابع - المجلد 50 جمادی الثانية سنة 1382 ه تشرين الثاني 1962م، النادرة معنونة بعنوان مدح النبي من أحباب رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم تراث يقول كان أحد كبار رجال الحجاز ، قد دعا السيد محمد علي الحوماني الشاعر العربي المعروف إلى زيارة قبر سيدناالأعظم رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم بالمدينة ، فعندما تشرف الشاعر بالزيارة أخذه وجذبه الشوق ، فأبرق إلى السيد الداعي شاكراً بهذه الأبيات :

نزلنا بساحة خير الورى *** وفزنا بتقبيل (أعتابه)

فلم نك نشخص إلا إليه *** ولم نك نحلم إلا به

ولولاك لم يك هذا العروج*** إلى جنة الخلد من بابه

فأرادت إحدى الجرائد الوهابية نشر هذه الأبيات ولكن عز عليها أن يقول الشاعر (وفزنا بتقبيل أعتابه) فوضعت لفظ (أحبابه) بدلاً من (أعتابه) فكانت مهزلة أدبية مضحكة جعلت الشاعر يدور حول نفسه ، لما في هذا

ص: 84

التبديل من جهل وإتلاف للشعر واللغة والذوق والعقيدة .

وكان الداعي قد تأثر بروح الشاعر المحب ، فرد بالأبيات الآتية :

لعمري حللتم بأسمی جناب *** بساح الرسول وأطيابه

وكم ود قلبي له أن يطير *** ليرشف من طهر أكوابه

قال الراوي : وظلت الجريدة الوهابية تبحث عن شطر بيت محل ليرشف من طهر أكوابه) فلم تجد، فعرضت الأبيات على جماعة (الأمر بالمعروف والمنكر) هناك فاختلفوا وكان (الصفاف المصري بالمطبعة قد أخذه جمال الموقف بين الشاعر وداعيه فجمع رد الداعي قبل عثور الوهابية على شطر بيت جديد ، وظهرت الأبيات على ما هي عليه (بالمدينة المنورة) ولولا أن الداعي قد استغفر للأمرين (بالمنكر الناهين عن المعروف عن هذا الشطر من البيت لأقيم عليه الحد : حد حب النبي صلي الله عليه و اله و سلم .

النادرة التاسعة :

القي بأعرابي أحد الحكام ليؤاخذه لجريرة ارتكبها ، فكتب الاعرابي قصته في كتاب ورفعه للحاكم ، وهو يقول : هاؤم اقرؤا كتابيه ، فقيل له يا أعرابي هذه آية من القرآن تقال يوم القيامة ، فقال الأعرابي يومكم هذا شر من يوم القيامة إن يوم القيامة يؤتي فيه بحسناتي وسيئاتي وأنتم أتيتم بسيئاتي وتركتم حسناتي .

النادرة العاشرة :

يحكي عن عبد الله بن المبارك أنه قال : خرجت حاجأ إلى بيت الله الحرام فبينما أنا في بعض الطريق إذا أنا بسواد على الطريق فتميزت ذلك وإذا هي امرأة عليها درع وخمار من صوف فقلت السلام عليك فقالت : «سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)» فقلت يا أمة الله وما تصنعين هنا ؟ قالت « وَمَنْ يُضْلِلْ ف

ص: 85

فلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا» فقلت في نفسي إنها ضالة عن الطريق . فقلت لها : أين تريدين ؟ قالت «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ »فعلمت أنها قضت حجها وتريد بيت المقدس ... فقلت : منذ كم في هذا الموضع ؟ قالت «ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا »فقلت ما أرى مع طعاما تأكلين ؟ قالت «وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)» فقلت : فبأي شيء تتوضئين ؟ قالت :« فَان لَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا » فقلت : إني معي طعاماً فهل لكِ في الأكل ؟ قالت : «ِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ » فقلت : ليس هذا شهر رمضان قالت : «وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ »فقلت : قد أبيح لنا الإفطار في السفر قالت : «وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ » قلت ألا تتكلمين مثلما أكلمك ؟ قالت : « مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)»قلت من أين أنت ؟ قالت : «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا » فقلت : قد أخطأت فاجعليني في حل قالت : «قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ » فقلت : فهل لك أن أحملك على ناقتي هذه فتدركين القافلة قالت : «مَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ » و قال فأنخت ناقتي فقالت : «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ » فغضضت بصري عنها وقلت : اركبي فلما أرادت أن تركب نفرت الناقة ومزقت ثيابها فقالت : «وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ » فقلت : اصبري حتى أعقلها قالت : «فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ » و فعقلت الناقة وقلت اركبي فلما ركبت قالت : «سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ » فأخذت بزمام الناقة وجعلت أمسي وأصبح فقالت : «وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ » فجعلت أمشي رويداً رويداً وأترنم بشعر فقالت : « فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ »فقلت : لقد أوتيت خيراً كثيراً قالت : «وَمَا يتَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ » فلما مشيت بها كثيراً قلت : ألك زوج ؟ قالت : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ » فسكت ولم أكلمها حتى أدركت بها فقلت هذه القافلة فمن لك فيها

ص: 86

قالت : «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا » فعلمت أن لها أولاد فقلت : وما شأن أولادك ؟ قالت : «وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ » فعلمت أنهم أدركوا الركب فقصدت بها القباب والعمارات فقلت هذه القباب فمن لك فيها قالت :«وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا » - «وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا »-«يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ» فناديت بأعلى صوتي : يا إبراهيم - يا موسي - يا يحيى فإذا أنا بشبان كأنهم الأقمار قد أقبلوا فلما رأتهم قالت : «فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا » فأتوا الناقة وأناخوها وأنزلوا المرأة فلما استقر بها الجلوس قالت : « فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ » فمضى أحدهم فاشترى طعامأ وقدموه بين يديّ فقالت : «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ » فقلت : إن طعامكم عليّ حرام حتى تخبروني بأمر هذه المرأة فقالوا هذه أمنا منذ أربعين سنة لا تتكلم إلا بالقرآن مخافة أن يزل لسانها بذنب فيسخط الله عليها ....

وقيل إنها لما أكلت الطعام وأرادت القيام قالت : « وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَریضَه »، فأعطاني كل واحد منهم عشرة دنانير قالت : (وآتُوهُم مالَ اللهُ الَذي آتاكُم) فأعطاني كل واحد ثلاثة أباعر فقلت : ومن أمكم هذه ؟ قالوا إنها فضة خادمة فاطمة الزهراء عليها السلام .

النادرة الحادية عشر :

يقال : إن امرأة جاءت إلى ابن سيرين وهو يتغدى فقالت : يا أبا بكر رأيت رؤيا قال تقصين أو تتركيني حتى آكل ؟ فقالت بل أتركك حتى تأكل ، فلما فرغ قال لها : قصي عليّ رؤياك فقالت رأيت القمر قد دخل في الثريا ونادي مناد من خلفي امضي إلى ابن سيرين فقصي عليه هذا . قال : فقبض ابن سيرين يده وقال : ويلك كيف رأيت ؟ فأعادت فاصفر وجهه وقام وهو آخذ ببطنه فقالت له : مالك ؟ قال زعمت هذه المرأة أني ميت بعد سبعة أيام فعددت من ذلك اليوم سبعة أيام فمات في اليوم السابع ، فانظر إلى عظمة العلم .

ص: 87

النادرة الثانية عشر :

يحكى أن أعرابياً سأل علياً عليه السلام فقال إني رأيت كلباً وطأ شاة فأولدها فما حكم ذلك في الحل ؟ فقال عليه السلام اللافي اعتبره في الأكل فإن أكل لحمة فهو كلب وأن يأكل علفا فهو شاة . فقال الأعرابي رأيته يأكل هذا تارة ويأكل هذا تارة فقال الشانه اعتبره في الشراب فإن كرع فهو شاة وإن ولغ كلب فقال الأعرابي وجدته يلغ مرة ويكرع أخرى فقال اعتبره في المشي مع الماشية فإن تأخر فهو کلب وإن تقدم أو توسط فهو شاة فقال وجدته مرة هكذا ومرة هكذا فقال اللانى اعتبره في الجلوس فإن برك فهو شاة وإن أقعي فهو كلب فقال إنه يفعل هذا مرة وذاك أخرى فقال انشونه اذبحه فإن وجدت له کرشأ فهو شاة وإن وجدت له أمعاءكلب ، فبهت الأعرابي عند ذلك من علم أمير المؤمنين عليه آلاف التحية والسلام .

ومجمل القول فإن هذه بعض النوادر التي تدل بكل وضوح على عظمة العلم وقيمته ومن أراد التوسعة والاطلاع على أكثر مما ذكرنا فليرجع إلى المطولات من كتب التاريخ والأدب والفقه واللغة لكي يرى فيها من النوادر العجيبة الدالة على عظمة العلم وقيمته وما يرجع به على صاحبه من الفوائد العظيمة في الدنيا والآخرة . وفي نهاية المطاف من المعنون وقبل أن أنتقل مع قارئي العزيز إلى المعنون الذي يليه أود أن أقول له إن كان يريد المنزلة الرفيعة والجاه الكبير عند الله تعالى فليتعلم العلم ويعمل به أن يجعل العلم غذاه مقتديا بالصالحين من العلماء العاملين الذين أفنوا أعمارهم في طلبه والتذاكر به وتعليمه فجعلوه تاجهم ومنهجهم ومستندهم ومذهبهم ومعتمدهم . وتحفزني بهذا المعنى أبيات من الشعر الأحدهم وهو العلامة الفقيه الفيلسوف الإسلامي الكبير السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني (قده) الذي قام بنشر العلم في زمانه عن طريق مجلة علمية دينية في النجف الأشرف وقد كانت تلك المجلة التي اسمها باسم مجلة (العلم) قد جاءت سابقة الفضل وفاتحة الخير في مواكب العلم

ص: 88

والفضيلة - والمقصود أن هذا السيد الجليل المشار إليه قال هذه الأبيات التي تعرفنا بما يجب علينا من جعل العلم منهاج ومستند لنا قال رحمه الله تعالی :

العلم تاجي ومنهاجي ومستندي *** ومذهبي العلم بل شيخي ومعتمدي

إيماني العلم ديني العلم غايتي العلوم *** ما لسواها سیر مجتهدي

قانوني بل شعبي وسيدي *** المولی وسلطاني الأولى بذات يدي

أداني العلم أقضي ما أريد به *** والعلم حصني وسيفي ساعدي وعضدي

غذائي العلم لا أبغي به بدلا *** طول الحياة ومن مهدي إلى اللحد

والعلم كنزي وذخري في الحياة *** وما بعد الممات فلا يذهب إلى الأبد

ومعهد العلم مشكاة الضياء فمن *** به استضاء إلى شرع النجاة هدی

والعلم غايتنا وهو السبيل إلى *** غايتنا ودليلي الحي للرشد

والعلم عيني وعوني قوتي وغدا *** عکازة الشيب علمي في يدي ويدي

لساني العلم قلبي العلم نفسك يا *** إنسان علم به أضحی کمتحد

العلم العلم أعني الكون قام به *** فالعلم روح وكل الكون كالجسد

وتحضرني أيضاً مقطوعة شعرية أخرى لشيخنا الجليل اليعقوبي قد تعرض فيها يحث أبناء الأمة على السير قدمأ لنيل المجد ويستنجدوا في ذلك بالعلم من حيث إنه الدليل للمرء وهو أجنحة البلاد وبه يمكن للإنسان أن يفاوض من يشاء وإليك ما قال :

سيروا لنيل المجد سيروا *** فيد العلالکم تشير

فيكم يصان حمى البلاد *** وفيكم تحمى الثغور

وإلى أكفكم غدا *** تلقي أزمتها الأمور

لا تفخروا بسوى العلوم *** فشأنها شأن كبير

ودعوا الفخار بأعظم *** رمم حوتهن القبور

العلم للمرء الدليل *** القصده أنى يسير

ص: 89

العلم أجنحة البلاد *** به لغایتها تطير

بالعلم فاوض من تشاء *** فإنه نعم السفير

وإذا خلوت فإنه *** نعم المنادم والسمير

والجهل إن ملك العقول *** فذاك سلطان يجور

ورأيت في مجلة العرفان الجزء ، المجلد 50 صفحة 396هذه الأبيات لبعض الشعراء التي تكشف لنا عن مدى ولعه في كسب العلوم وذلك عن طريق ملازمته الكتاب السمير فهو يقول :

سميری کتابي ونعم السمير *** إذا نادم المرء سماره

بريني الحقائق قد أسفرت *** إذا ماتصفحت أسفاره

يتوق لرؤيته ناظري *** ويشتاق سمعي أخباره

فما زال يحفظ سري المصون *** وما زلت أحفظ أسراره

تنال به النفس ما تشتهي *** ويقض به القلب أوطاره

حبيب بنجواه أطوي النهار *** وليل التمام وأسحاره

يعرفني بعد طول المدى *** قضايا الزمان وأدواره

فكم مصلح قد طواه الأنام *** به عرف الناس أفكاره

أنست به صامت شادياً *** جعلت الأنامل أوكاره

نصيري إذا عنّ لي مشکل *** به عدم المرء أنصاره

یصدق في الناس ما قلته *** إذا أحد شاء إنكاره

فما ملني كلما زرته *** ويسأم المرء زواره

أمين ومن لك في صاحب *** من الناس تأمن أخطاره

حنيني إليه حنين الغريب *** تذكر بعد النوی داره

حوى بين جنبيه شتى الفنون *** وزر عليهن أزراره

وما الروض عاداه جازي النسيم *** وقد راوح الغیث نواره

بأنضر من روضه كلما *** غدت تقطف العين أزهاره

ص: 90

وفي کشکول مولانا المقدس فقيه أهل البيت الشيخ يوسف البحراني (قده) رأيت في ص 253 المجلد الثاني نصيحة وجهها إلى ابنه المقدس مولانا الشيخ محمد (قده) يحثه فيها على طلب العلم قال رضوان الله تعالی عليه : أما بعد حمد الملك المنان على ما أنعم من الجود والإحسان ، والصلاة على سيد عدنان بل سيد الإنس والجان واله أمناء الرحمن : فإني أوصيك بوصيتي فهذه وصيتي إليك أيها الولد العزيز ثمرة القلب والمهجة المرجو للسرور والبهجة لوصيتي هذه فاتبعها وأهديك نصيحتي هذه فخذها ولا تضيعها . اعلم هداك الله تعالى سبيل التوفيق وجعله لك خير صاحب ورفيق إني قد أتعبت في تأديبك قلبي وقالبي ، وجعلتك همي في دنياي ومأربي ، وأطلت في عرفات تکملك وقوفي ، وشحذت لمعركة أمرك

ونهيك سيوفي وكشفت عن جوهر فهمك خبث الغباوة ، وصقلت مراة فهمك بما أزال عنها صدى الغشاوة حتى إذا أيقنت أن جوهرك صاف من الأكدار ولؤلؤك يفوق ليالي البحار طفقت أحمد الله الواهب على جزيل العطايا والمواهب أسأله إتمام تلك الرغائب بإسبال ذيول العناية عليك في جميع المارب ، وهدايتك إلى أعلا المراتب فاحرص وفقك الله تعالى على ما به سعادة داريك ونجاح أمريك وهو العلم الذي به تدخل في حقيقة الإنسان الذي هو أشرف نوع الحيوان عند الملك المنان ، وله أعدت المنازل العالية في أعلا قصور الجنان وهیئت له الحور والولدان وسخرت له الملائكة والإنس والجان ومن تخلى عن العلم وإن تحلى بحلية الإنسان وشابهه في الجوارح والأركان فهو إنسان فشري وبسر قسري فإنك إذا حققته لم تجده إلا من أحد البهائم أو السباع لما قد اكتسبه منها من الأخلاق والطباع .

وإذا أردت بيان حقيقة هذا الكلام لئلا تظنه مجازأ أو من جملة الأوهام فاعلم أنه أطبق أرباب الحقيقة وقصاد تلك الطريقة أن الإنسان ليس باللحم الجسد ولا بالجوارح المركبة فيه مدى الأبد بل بالروح والنفس

ص: 91

الناطقة لا من حيث هي كذلك بل من حيث استكمالها بكمالاتها اللائقة بما هنالك ولله در من قال :

يا خادم الجسم كم تشقى بعلته *** وتطلب الربح مما فيه خسران

فلازم وفقك الله تعالى له - الدروس والنظر

اقبل على النفس واستكمل طرائقها *** فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

واتخذ الخلوة والعزلة حجابا عن البشر فليس في الصحبة إلا الوبال والضرر وإياك والرغبة فيما لا يهمك ولا يغنيك بل ربما يغمك ويعيبك من أمور هذه الدار المملوءة بالهموم والأكدار والاشتغال بكثرة الكتابة للمجاميع والقراطيس مما يمنعك عن نيل ذلك الجوهر النفس ، فاصرف أيدك الله تعالي للعلم همتك وبيض لأجله لمتك واغلق له دكانك وشدد له أركانك واهجر له صحبك وإخوانك واعطه كلك عسى أن يعطيك بعضه ولا يوليك هجره وانتهز الفرصة فإنها تمر مر السحاب وخذ الأهبة قبل أن يغلق الباب فليس أبوك بباق لك مدى الأوقات ولا زمانك يفي لك بالسلامة من الآفات والمخافات ثم قال رضوان الله تعالى عليه :

عليك بالعلم وتحصيله *** والسعي كل السعي في نيله

والجد في تحقيق أبوابه *** والشرب من كاسات تبجيله

واجعل له الليل نهارا عسي *** تكشف عن فجر دجی ليله

والزم له العزلة في خلوة *** کيما ترى أنوار تأويله

واعطه كلك كي ربما *** يعطيك منه بعض تفصيله

ودع لداعي الجهل أربابه *** فالكل مشغول بتضليله

واوص على التقوى لتقوی به *** على العلي في حمل إكليله

فإن بالعلم تنال المني *** في الدين والدنيا بتفضيله

وقال عمر بن الوردي المتوفی 749 هي مخاطبة ولده ينصحه عن الابتعاد عن الدنيا ويأمره بتقوى الله تعالى ويحثه على طلب العلم بهذه

ص: 92

الأبيات الجليلة :

اعتزل ذکر الأغاني والغزل *** وقل الفصل وجانب من هزل

ودع الذكر لأيام الصبا *** فلأيام الصبا نجم أفل

واترك الغادة لا تحفل بها *** تمسي في عز رفيع وتجل

فكر في منتهی حسن الذي*** أنت تهواه تجد أمرا جلل

واهجر الخمرة إن كنت فتى ***كيف يسعى في جنون من عقل؟

واتق الله فتقوى الله ما ***جاورت قلب امریء إلا وصل

ليس من يقطع طرقأ بطلا *** إنما من يتقي الله البطل

کتب الموت على الخلق فكم *** فل من جيش وأفني من دول

أين نمرود وكنعان ومن *** ملك الأرض وولي وعزل؟

وأين من سادوا وشادوا وبنوا *** هلك الكل ولم تغن الحيل

أين أرباب الحجي أهل النهى *** أين أهل العلم والقوم الأول؟

سيعيد الله كلا منهم *** وسيجزي فاعلا ما قد فعل

اطلب العلم ولا تكسل فما *** أبعد الخير على أهل الكلل

واحتفل للفقه في الدين ولا *** تشتغل عنه بمال وخول

واهجر النوم وحصله فمن *** يعرف المطلوب يحقر ما بذل

لا تقل قد ذهبت أربابه *** كل من سار على الدرب وصل

في ازدياد العلم إرغام العدا *** وجمال العلم إصلاح العمل

جمل المنطق بالنحو فمن *** يحرم الاعراب بالنطق اختبل

أنظم الشعر ولازم مذهبي *** في طراح الرفد لا تبغ النحل

فهو عنوان على الفضل وما *** أحسن الشعر إذا لم يبتذل

أنا لا أختار تقبيل يد *** قطعها أجمل من تلك القبل

ملك كسرى عنه تغني كسرة *** وعن البحر اجتزاء بالوشل

اطرح الدنيا فمن عاداتها *** تخفض العالي وتعلي من سفل

عيشة الراغب في تحصيلها *** عيشة الجاهل فيها أو أقل

ص: 93

کم جهول بات فيها مكثراً *** وعليم بات منها في علل

کم شجاع لم ينل فيها المنى *** وجبان نال غابات الأمل

فاترك الحيلة فيها واتكل *** إنما الحيلة في ترك الحبل

لا تقل أصلي وفصلي أبدأً *** إنما أصل الفتى ماقد حصل

قد يسود المرء من دون أب *** وبحسن السبك قد ينفي الدغل

إنما الورد من الشوك وما *** ينبت النرجس إلا من بصل

قيمة الإنسان مايحسنه *** أكثر الإنسان منه أم أقل

بین تبذیر وبخل رتبة *** وكلاهذين إن زاد قتل

ليس يخلو المرء من ضد ولو *** حاول العزلة في رأس الجبل

دار جار السوء بالصبر وإن *** لم تجد صبرا فما أحلى النقل

جانب السلطان واحذر بطشه *** لا تعاند من إذا قال فعل

إن نصف الناس أعداء لمن *** ولي الأحكام هذا إن عدل

قصر الأمال في الدنيا تفمز *** فدليل العقل تقصير الأمل

غب، وزر غبأتزد حبأ فمن *** أكثر الترداد أقصاه الملل

لا يضر الفضل إقلال كما *** لا يضر الشمس اطباق الطفل

خذ بنصل السيف واترك غمده *** واعتبر فضل الفتى دون الحلل

حبك الأوطان عجز ظاهر *** فاغترب تلق عن الأهل بدل

فبمکث الماء يبقی آسناً *** وسرى البدر به البدر اكتمل

وقال أبو عبد الله نفطويه لنفسه العلم في الصغر ينبغي للإنسان أن يجتنيه :

أراني أنسى ما تعلمت في الكبر *** ولست بناس ما تعلمت في الصغر

وما العلم إلا بالتعلم في الصبا *** لإلفي فيه العلم كالنقش في الحجر

وما العلم بعد الشيب إلا تعسف *** و إذا كل قلب المرء والسمع والبصر

وما المرء إلا اثنان : عقل و منطق *** فمن فاته هذا وهذا فقد دمر

ص: 94

ومما ينشد لخلف الأحمر في کون ميراث العلم أبقى من ميراث المال :

خير ما ورث الرجال بنيهم *** أدب صالح وحسن ثناء

هو خير من الدنانير والأو*** راق في يوم شدة ورخاء

تلك تفنى والدين والأدب الصا*** لح لا يفنيان حتى اللقاء

إن ناديت يا بني صغيراَ *** كنت يوماَ تعد من الكبراء

وإذا ما أضعت نفسك ألقي*** ت كبيراَ في زمرة الغوغاء

ليس عطفي للعود إن كان رطباَ *** وإذا كان يابساَ بسواء

ومن شعر المنصور الفقيه في كون العلم بلا عمل کشجر بلا ثمر :

أيها الطالب الحريص تعلم *** أن للحق مذهباَ قد ضللته

ليس يجدي عليك علمك إن لم *** تك مستعملاَ لما قد علمته

قد لعمري تغربت في طلب العلم *** وحاولت جمعه فجمعته

ولقيت الرجال فيه وزاحم *** ت عليه الجمع حتى سمعته

ثم ضيعت أو نسيت، وماين*** فع علم نسيته أو أضعته

وسواء عليك علمك إن لم *** يجد نفعا عليك أم ما جهلته

إلى كم تخادع النفس جهلَا *** ثم تجري خلاف ما قد عرفته

تصف الحق والطريق إليه *** فإذا ما عملت خالفت سمته

وقال حسام الدين الواعظي في أبيات جميلة قد تعرض فيها لذكرالعلم :

من ضيع الحزم في أفعاله ندماَ *** وظل مكتئباَ والقلب قد سقما

ما المرء إلا الذي طابت فضائله *** والدين زين يزين العاقل والفهما

والعلم أنفس شيء أنت ذاخره *** فلا تكن جاهلاَ تستورث الندما

تعلم العلم واجلس في مجالسه *** ما خاب قط لبيب جالس العلما

والوالدين فاکرم تنج من ضرر *** ولا تكن نكدأَ تستوجب النقما

ص: 95

ولازم الصمت لا تنطق بفاحشة *** وأكرم الجار لا تهتك له حرما

واحذر من المزح تنج من خطر ***كم من صديقين بعد المزح فاختصما

وصبر النفس وارشدها إذا جهلت *** وإن حضرت طعاماَ لا تكن نهما

وهنا نسوق جملة من الأبيات الأدبية التي تصف لنا العلم وتحثنا على طلبه والتزود منه :

من قاس بالعلم الثراء فإنه ***في حكمه أعمى البصيرة كاذب

العلم تخدمه بنفسك دائمأ ***والمال يخدم عنك فيه نائب

والمال يسلب أو يبيد لحادث*** والعلم لا يخشى عليه السالب

والعلم نقش في فؤادك راسخ ***والمال ظل عن فنائك ذاهب

هذا على الإنفاق يعزر فيضه *** أبدأ وذلك حين تنفق ناضب

* * *

العلم أشرف شيء قاله رجل *** من لم يكن فيه علم لم يكن رجلا

تعلم العلم واعمل يا أخي به *** فالعلم زين لمن بالعلم قد عملا

* * *

العلم مبلغ قوم ذروة الشرف ***وصاحب العلم محفوظ من التلف

يا صاحب العلم مهلا لا تدنسه*** بالموبقات، فما للعلم من خلف

العلم يرفع بيتا لا عماد له*** والجهل يهدم بيت العز والشرف

لو كان نور العلم يدرك بالمني *** ما كان يبقى في البرية جاهل

جهد ولا تكسل ولا تك غافلا *** فندامة العقبى لم يتكاسل

* * *

وفي الجهل قبل الموت موت لأهله *** وأجسادهم دون القبور قبور

ص: 96

وإن إمرء لم يحي بالعلم قلبه *** فليس له حتى النشور نشور

* * *

لكل مجد في الوری نفع فاضل*** وليس يفيد العلم من دون عامل

يسابق بعض الناس بعض بجدهم *** وما كل كر بالهوی کر باسل

إذا لم يكن نفع لذي العلم والحجا *** فما هو بين الناس إلا كجاهل

كذلك إذا لم ينفع المرء غيره *** يعد کشوك بين زهر الخمائل

* * *

یا ساعيا وطلاب المال همته *** إني أراك ضعیف العقل والدین

عليك بالعلم لا تطلب له بدلا *** واعلم بأنك فيه غير مغبون

العلم يجدي ويبقى للفتى أبدا *** والمال يفنى وإن أجدى إلى حين

إذ ذاك عز وذا ذل لصاحبه *** ما زال بالبعد بين العز والهون

* * *

العلم زين وتشریف لصاحبه *** فاطلب هديت فنون العلم والأدبا

کم سید بطل آباءه نجب *** كانوا الرؤوس فأمسى بعدهم ذنبا

ومقرف خامل الأباء ذي أدب *** نال المعالي بالآداب والرتبا

العلم كنز وذخر لا فناء له *** نعم القرين إذا ما صاحب صحبا

قد يجمع المال شخص ثم يحرمه *** عما قليل فيلقى الذل والحربا

وجامع العلم مغبوط به أبدأ *** ولا يحاذر منه القوت والسلبا

یا جامع العلم نعم الذخر تجمعه *** لا تعدلن به مالأ ولا ذهبا

* * *

بالعلم والعقل لا بالمال والذهب *** يزداد رفع الفتى قدرة بلا طلب

فالعلم طوق النهی به شرف *** والجهل قید له يبليه باللعب

كم يرفع العلم أشخاصة إلى رتب ويخفض الجهل أشرافا بلا أدب

ص: 97

العلم كنز فلا تفنى ذخائره *** والمرء ما زاد علمأ زاد بالرتب

فالعلم فاطلب لكي يجديك جوهرة *** كالقوت للجسم لا تطلب غنى الذهب

* * *

العلم زین فكن للعلم مكتسبا *** وكن له طالبا ما عشت مقتبس

اركن إليه وثق بالله واغن به *** وكن حليما رزین العقل محترسا

وكن فتى سالكة محصن التقى ورعا *** للدين مغتنما في العلم منغمسا

فمن تخلق بالآداب ظل بها *** رئیس قوم إذا ما فارق الرؤسا

* * *

الناس من جهة التمثال أكفاء *** أبوهم آدم والأم حواء

فإن يكن لهم في أصلهم شرف *** يفاخرون به فالطين والماء

ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم *** على الهدى لمن استهدى أدلاء

وقدر كل امرىء ما كان يحسنه *** والجاهلون لأهل العلم أعداء

وإن أتيت بجود ذوي نسب *** فإن نسبتنا جود وعلياء

قفز بعلم تعش حيأبه أبدأ *** الناس موتي وأهل العلم أحياء

* * *

العلم يغرس كل فضل فاجتهد *** ألا يفوتك فضل ذاك المغرس

واعلم بأن العلم ليس يناله *** من همه في مطعم أو ملبس

إلا أخو العلم الذي يزهو به *** في حالتيه عاريا أو مكتسي

فاجعل لنفسك منه حظا وافرا *** واهجر له طيب الرقاد وعبسي

فلعل يوما إن حضرت بمجلس *** كنت الرئيس وفخر ذاك المجلس

* * *

العلم أنفس شيء أنت ذاخره *** من يدرس العلم لم تدرس مفاخره

أقبل على العلم واستقبل مقاصده *** فأول العلم إقبال واخره

ص: 98

إذا لم يزد علم الفتى قلبه هدى *** وسيرته عدلا وأخلاقه حسنا

فبشره أن الله أولاه فتنة *** تغشيه حرمان وتوسعه حزنا

* * *

تعلم إذا ما كنت لست بعالم *** فما العلم إلا عند أهل التعلم

تعلم فإن العلم أزين للفتى *** من الحلة الحسناء عند التكلم

* * *

شكوت إلى وكيع سوء حفظي *** فأرشدني إلى ترك المعاصي

وعلله بأن العلم فضل *** وفضل الله لا يؤتي لعاصي

* * *

اخي لن تنال العلم إلا بستة *** سأنبيك عن تفصيلها ببيان

ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة *** وصحبة أستاذ وطول زمان

* * *

کن عالم وارض بصف النعال *** ولا تكن صدرة بغير الكمال

فإن تصدرت بلا آلة *** صيرت ذاك الصدر صف النعال

* * *

خير الذخائر کتب العلم فهي حمى *** من الأسى وشفاء الجهل والسقم

فلا تعر أي شخص غير مؤتمن *** منها كتابة تعد بالحزن والندم

فلم أجد مستعيرا قط عاد بما *** استعاره دون ما جهد وملتحم

فذو الكتاب كصياد يسيغ جوی *** کمن جني زغبأ من دوحتي سلم

* * *

إذا كنت تهوى أن تبلغ كلما *** تحب من اللذات أك ومطعما

فلا تشق في تحصيل العلم بالنوى *** وللأهل فارجع كي تقر وتنعما

ص: 99

فسيان بعد واقتراب لطالب *** العلوم إذا للشهوة النفس سلما

فدون احتمال الجوع والبين لم يكن *** ليحصل علمأ طالب ما تعلما

* * *

و نبوغ العلم قد تهدی به *** شرف المخدوم نفس الخادم

والفتى من غير علم نافع *** حكمه حكم حمار سائم

* * *

قال بعض الشعراء في وصف العلم والعالم والمتعلم :

قم للمعلم وفه التبجيلا *** كاد المعلم أن يكون رسولا

أعلمت أشرف أو أجل من الذي *** يبني وينشىء أنفس وعقولا؟

سبحانك اللهم، خير معلم *** علمت بالقلم القرون الأولى

أخرجت هذا العقل من ظلماته *** وهديته النور المبين سبيلا

وطبعته بيد المعلم، تارة *** صدأ الحديد، وتارة مصقولا

أرسلت بالتوراة موسی مرشدا *** وابن البتول فعلم الإنجيلا

وفجرت ينبوع البيان محمدأ *** فسقى الحديث وناول التنزيلا

علمت يونانا ومصر فزالتا *** عن كل شمس ماتريد أفولا

واليوم أصبحتا بحال طفولة *** في العلم تلتمسانه نطفيلا

من مشرق الأرض الشموس تظاهرت *** ما بال مغربها عليه أديلا

يا أرض مذ فقد المعلم نفسه *** بين الشموس وبين شرقك حيلا

ذهب الذين حموا حقيقة علمهم *** واستعذبوا فيها العذاب وبيلا

في عالم صحب الحياة مقيدا *** بالفرد، محزوما به معلولا

صرعته دنيا المستبد كما هوت *** من ضربة الشمس الرؤوس ذهولا

سقراط أعطى الكأس وهي منية *** شفتي محب يشتهي التقبيلا

عرضوا الحياة عليه وهي غباوة *** فأبى وآثر أن يموت نبيلا

إن الشجاعة في القلوب كثيرة *** ووجدت شجعان العقول قليلا

ص: 100

معلمي الوادي وساسة نشئه *** والطابعين شبابه المأمولا

والحاملين إذا دعوا ليعلموا ***عبء الأمانة، فادحا مسؤولا

وبنيت خطا التعليم بعد محمد*** ومشى الهوينا بعد إسماعيلا

حتى رأينا مصر تخطو اصبعا ***في العلم، إن مشت المماليك ميلا

تلك الكفور وحشوها أمية *** من عهد (خوفو) لم تر القنديلا

نجد الذين بني المسلة جدهم*** لا يحسنون الإبرة تشکیلا

ويدللون إذا أريد قيادهم ***كالبهم تأنس إذ ترى التدليلا

يتلو الرجال عليهم شهواتهم *** فالناجحون ألذهم ترتيلا

الجهل لا تحيا عليه جماعة ***كيف الحياة على يدي عزريلا؟

ربوا على الإنصاف فتيان الحمى *** تجدوهم کهف الحقوق کھولا

فهو الذي يبني الطباع قويمة *** وهو الذي يبني النعوس عدولا

وتقيم منطق كل أعوج منطق ***ويريد رأيا في الأمور أصيلا

وإذا المعلم لم یکن عدلا مشی*** روح العدالة في الشباب ضليلا

وإذا المعلم ساد لحظ بصيرة*** جاءت على يده البصائر حولا

وإذا أتى الإرشاد من سبب الهوى*** ومن الغرور فسمه التضليلا

وإذا أصيب القوم في أخلاقهم *** فأقم عليهم مأتما وعويلا

ص: 101

ص: 102

القرآن الكريم ينطق بفضل العالم

اشارة

ص: 103

ص: 104

لقد تحدثنا لقارئنا العزيز فيما تقدم عن بعض النوادر العلمية العجيبة الكاشفة عن فضل العلم وعظمته كما أريناه من خلال عرضها أن بإمكانه أن يحصل على مطالبه الدنيوية والأخروية بواسطة العلم من حيث إنه مصباح العقل وأصل كل خير كما مر عليه ذلك من خلال الآيات والأحاديث ، أما الآن فقد حان الوقت لكي نحدثه عما جاء من طريق الكتاب العزيز من الآيات الكريمة التي تخص العالم العامل وتشيد بفضله وعلو قدره ومكانته الرفيعة عند الله تعالى وقبل الشروع في ذلك تجدر بنا الإشارة إلى تحديد من هو الفرد الذي يصح أن نطلق عليه لفظ عالم؟. فنقول : - لقد كان المتقدمون من المسلمين فيما سبق لا يطلقون لقب (عالم) إلا على الإمام المعصوم . فيقول أحدهم قال العالم أو حدثني العالم أو سمعت من العالم ويقصدون بذلك الإمام الباقر أو الإمام باب الحوائج أو الإمام الصادق أو غيرهم من الأئمة عليهم أفضل الصلاة والسلام . أو كما يقول أرباب الحديث في معرض كلامهم لا يعلم الأمر الفلاني إلا العالم أو من علمه إياه العالم ويقصدون بذلك الإمام المعصوم عليه السلام.

والواقع هو ما كان يراه المتقدمون وإن صحّ إطلاق لقب عالم على كل

ص: 105

من يعلم بدين الله وشريعته وينوب عن المعصوم في الشؤون الدينية إلا أنه لا يصح إطلاق لقب عالم على كل أحد.

ومن المؤسف له حقاً أن المتأخرين من المسلمين اليوم وبالأمس القريب أصبحوا يطلقون هذا اللقب حتى على من لا حظ له بشيء من العلم بعد أن كان خاصا بالأئمة عليهم أفضل التحية والصلاة والسلام ويبدو لي أن لقب عالم قد هزل عند المسلمين كما هزل لفب خليفة على كل من يدعي الخلافة لنفسه حتى ولو لم يكن من أهلها إذ هي كما قرر في محله لا يمكن أن تكون لأحد بمجرد ادعائها .

بل لا بد مع ذلك من النص من النبي صلي الله عليه و اله و سلم في حق الإمام أو الخليفة ولقد نص رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم على الأئمة الاثني عشر عليهم السلام بالخصوص دون غيرهم :

نص على كل إمام بيّنه *** بالاسم بل وبالصفات عيّنه

وإذ يكون مقتضى الرواية *** عن جابر الأنصاري ذي الدراية

قال الفاضل السماوي (قدس سره) ولنعم ما قال :

ما جاء للبي من دليل *** فللإمام جاء بالتفصيل

لأنه الحافظ للنظام *** مبين لسائر الأحكام

لأنه يوضح كلما سبق *** عن النبي مبلغ لمالحق

وقد أتى في محكم الكتاب *** بلغ علي هادي الصواب

فهو يزين منصب الإمامة *** وغيره يعجز عن مقامه

إذ الظلوم لا يكون ناهيأ *** وقد يكون عاصيا وساهيا

وتلزم العصمة للإمام *** لأنه المرشد للأنام

سبحانه من أنشأه وصوره *** ومن صفات ذاته قد فطره

لهذه قام النبي خاطبة *** يوم الغدير لعلي ناصبا

خليفة وقال بالنص الجلي *** من کنت مولاه فمولاه علي

ص: 106

فهو أخي و وارث الأحكام *** مشاباً هارون في المقام

وقول جبرائيل فيه لا فتى *** إلا علي في الحروب ثبتا

وهل أتی نص بأصحاب العبا *** فحبهم على الأنام وجبا

وآية التبليغ والتطهير *** بحقهم نص بلانکير

وبعده سبط الرسول المجتبى *** ثم الحسين وبنوه النجبا

وبعده زين العباد الممتحن *** ومن به تمت على الخلق المنن

وباقر العلم وصادق يلي *** وكاظم الغيظ وبعده علي

وبعده الجواد ثم الهادي *** والعسكري ملجأ العباد

ثم الإمام الغائب الثاني عشر *** وباسط العدل ومنقذ البشر

فهم منزهون من كل دنس *** لذا صفات الخير منهم تقتبس

لم يدع العصمة غيرهم أحد *** فهي لهم لا غير بالنص ورد

كيف وقد جاءت لنا الأخبار *** أثبتها ثقاتنا الأخبار

أن النبي أحمد المختار *** قد عين الأئمة الأطهار

نص على كل إمام بينه *** بالاسم بل وبالصفات عينه

وذا يكون مقتضى الرواية *** عن جابر الأنصاري ذي الدراية

وغيرها كم من حديث قد أتي *** معنعناً عن النبي ثبتا

فهي تفيد القطع واليقينا *** وحجة لازمة تكفينا

إذ لا يليق منصب الإمام *** إلا لمعصوم من الأنام

أولئك الأئمة الاثني عشر *** خصهم الله لإنقاذ البشر

هم أمناء الله في الخلق على *** أسراره ودينه بين الملا

فكم لهم من معجزات قد أتت *** ومن مناقب کشمس أشرقت

* * *

هم أعلم الخلق وأسخي وأبر*** وأشجع الكل وأصدق الخبر

ومقتضى الوارد في حقهم *** لا يعرفن فضلهم إلا هم

من مثل حيدر لأحمد عضد *** لهذه الأسرار في البيت ولد

ص: 107

وكل علم علم في الأنام يوجد *** منه عنه وإليه بسند

علمه النبي ألف باب *** لأنه النخبة في الأصحاب

سل بدر والأحزاب واسأل خيبرا *** ستلقى ماقالوا به معتبرا

من ذا الذي كسر للأصنام *** وجندل الأبطال بالصمصام

ضربته عمر بن ود کافيه *** بمقتضى قول النبي وافيه

وهكذا الأئمة الاثني عشر *** فهم من النبي نور من قمر

وبالرغم من وجود النصوص التي تدل على أن الإمامة والخلافة لا يمكن أن تتعدى أهل البيت عليهم السلام بأي حال من الأحوال بل هي منحصرة فيهم - أقول - برغم ذلك إلا أن الخلافة أصبحت هزيلة عند المسلمين بحيث ادعاها الجهلة والفسقة ورحم الله من قال :

لقد هزلت حتى بدا من هزالها *** کلاها وحتی استامها كل سائم

-المقصود - حتى لا نبتعد كثيراً عن موضوعنا أقول إن لقب عالم أصبح يطلق على كل أحد حتى ولو كان جاهلاً تماماً كما كان لقب خليفة يطلق على كل من يدعيه لنفسه حتى ولو لم يكن منصوصاً عليه من النبي صلي الله عليه و اله و سلم .

وقد أنشد بعضهم :

إذا شئت أن تدعي لدى الناس عالماً *** وتصبح بين المسلمين مقدما

تعمم لهم والبس قباء وجبة *** ولا تك معنياً بأن تتعلما

والحال أن هذا اللقب لا ينبغي أن يطلق إلا على الإمام أو نائبه في الشؤون الدينية أو على الأقل على من يكن له إلماماً واسعاً بعلوم الشريعة أما أن يطلق على كل أحد فهذا ما لا يكون مستساغا بحكم الشرع والعقل .

وبالجملة أنه بعد أن حددنا لقارئنا لقب (عالم) لمن يعطى نرجع الأن لكي نتحدث عن فضل العالم وعن ما جاء في الكتاب العزيز من الآيات القرآنية الكريمة التي تشيد بفضله .

ص: 108

فنقول : إن فضل العالم وشرفه لا يمكن أن ينكره أحد أو أن يخفی على أحد فهو ظاهر کشمس في رابعة النهار حتى جاء عن أئمة أهل البيت عليهم السلام بأن فضله يتفوق فضل العابد بدرجات عالية وعظيمة بحيث لا يمكن للعابد بأن يحصل عليها . ففي الخبر عن النبي الأفخر صلی الله علیه و آله وسلم فضل العالم على العابد بسبعين درجة ، بين كل درجة عدو الفرس سبعين عاما ، وذلك أن الشيطان يضع البدعة للناس فيبصرها العالم فيزيلها ، والعابد يقبل على عبادته ولا ينصرف لها .

فالعالم شأنه هداية الناس وإرشادهم إلى السعادة والفضيلة ومن يكن هذا شأنه فلا بد أن يسمو فضله وتعلو درجته ، وقديما قيل إن فضل العالم على الناس كفضل الشمس على الكواكب . ويستثنى من هذه القاعدة الأنبياء والمرسلين عليهم أفضل الصلاة والسلام .

ويؤكد ذلك ما جاء في الحديث أن الله تعالى قال لعيسى عليه التحية والصلاة والسلام : عظم العلماء واعرف فضلهم فإني فضلتهم على جميع خلقي إلا النبيين والمرسلين كفضل الشمس على الكواكب وكفضل الأخرة على الدنيا ، وكفضلي على كل شيء . وجاء في القرآن الكريم آيات تدل على فضل العالم وشرف العالم وشرفه وعلو رتبته ومكانته الرفيعة عند الله تعالى ويمكننا جعلها طائفتين من حيث إن بعضها متعلق بفضل العالم والبعض الآخر متعلق بالتمسك بأمر العالم والرجوع إليه وكلها تدل على فضله إما بالمطابقة أو التضمن نذكرها مع شروحها فيما يلي :

الطائفة الأولى :

الآيات الدالة على فضل العالم بالدلالة المطابقة نذكر منها ما يلي :

1- قوله تعالى :«وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ » كذلك «وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ »سورة فاطر) آية رقم 28 .

ص: 109

تقريب الاستدلال بهذه الآية المباركة على فضل العالم وعلو درجاته من جهة لزوم الخشية الحاصلة له ببركة العلم إذ غير العالم لا يلزم أن تحصل له هذه الحالة .

ففضل العالم وعلو درجاته إنما يحصلان له ببركة الخشية التي هي وليدة العلم فلو لم تحصل له تلك الحالة لا سمح الله أي حالة الخشية والخوف من الله تعالى فإن مجرد كونه عالم لا يكون سبب لعلو درجاته بل ربما يكون علمه وبالأ عليه من حيث إنه لم ينور قلبه ولم يهده إلى الطريق المستقيم الذي يؤدي بالإنسان إلى السعادة الأبدية والسعادة السرمدية .

فتحصل مما ذكر أن العالم إذا لم يتصف بالحالة المذكورة وهي الخشية فإنه ليس بعالم وإنما هو بصورة العالم من حيث إن الخشية بالنسبة للعالم مهمة جدأ فلو لم تحصل له يبقى العالم عالم باللسان دون القلب . قال الشاعر :

والعلم بالقلب وباللسان *** والأول النافع للإنسان

وينبت الخشية في القلوب *** والحب للعلام للغيوب

والعالم بلسانه دون قلبه ليس بعالم في الحقيقة من حيث إن العلم لا بد وأن يكون له ميراث وقد جاء في الخبر عن صادق آل محمد عليهم أفضل الصلاة والسلام : أن الخشية هي ميراث العلم والعلم شعاع المعرفة وقلب الإيمان ، ومن حرم الخشية لا يكون عالما . ثم تلا قوله تعالی : إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ . ثم قال عليه الصلاة والسلام : آفة العلماء ثمانية : الطمع والبخل، والرياء ، والعصبية ، وحب المدح ، والخوض في ما لم يصلوا إلى حقيقته ، والتكلف في تزيين الكلام بزوائد الألفاظ ، وقلة الحياء من الله ، والافتخار، وترك العمل بما علموا فنصيحتنا للعلماء الذين أحكموا العلوم الشرعية والعقلية وتفقهوا فيها واشتغلوا بها وأهملوا الطاعات واجتناب المقبحات واغتروا بعلمهم إنهم

ص: 110

عند الله تعالى بمكان فلو نظروا بعين البصيرة لعلموا أن العلم علمان : علم بالله تعالى وصفاته وعلم بالحلال والحرام ومعرفة أخلاق النفس المذمومة والمحمودة وكيفية علاجها فهي علوم لا تراد إلا للعمل ولولا الحاجة للعمل لم يكن لهذه العلوم فائدة فكل علم يراد للعمل فلا فائدة له إلا العمل . فمثال ذلك كمريض به علة لا غنى به عن دواء مركب من أخلاق كثيرة لا يعرفها إلا حذاق الأطباء فيسعى في طلب الطبيب بعد أن سافر إلى وطنه حتى عثر على طبيب حاذق فعلمه الدواء وفصل له الأخلاط وأنواعها ومقاديرها ومعادنها التي منها تجلب وعلمه كيفية دق كل واحد منها ، وكيفيةة الخلط والعجن فيتعلم ذلك منه ويكتب نسخة حسنة منه بخط حسن ، ويرجع إلى بيته وهو يكررها ويقرأها ويعلمها المريض ولم يشتغل بشربها واستعمالها ، أفترى أن ذلك يغني عنه من مرضه شيئا هيهات لو كتب منه ألف نسخة وعلمه ألف مريض وكرره كل ليلة ألف مرة لم يغنه ذلك عن مرضه شيئا إلى أن يزن الذهب ويشتري الدواء ويخلطه كما تعلم ويشربه ويصبر على مرارته ويكون شربه في وقته ، وبعد تقديم الاحتماء وجميع شروطه فمن ظن أن ذلك يكفيه ويشفيه فقد ظهر غروره ، وهكذا العالم الذي أحكم علم الطاعات ولم يعملها وأحكم علم الأخلاق المحمودة ، ةولم يتصف بها فهو مغرور . قال الله تعالى :«قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا»، ولم يقل قد أفلح من يعلم كيفية تزكيتها وكتب علمها وعلمها الناس ، وعند هذا يقول الشيطان : لا يغرنك هذا المثال فإن العلم بالدواء لا يزيل المرض ، وإنما مطلبك القرب من الله وثوابه ، والعلم يجلب الثواب ويتلو عليه الأخبار الواردة في فضائل العلم فإن كان المسكين معتوها مغرورة وافق ذلك مراده فاطمأن إليه وأهمل العمل ، وإن كان كيسا قال : أتذكرني فضائل العلم ، وتنسيني ما ورد في العالم الفاجر الذي لا يعمل بعلمه والذي قال الله تعالى في حقه «كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ »وكقوله تعالى : «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا »

ص: 111

فأي خزي أعظم من التمثيل بالكلب والحمار ، وقد قال رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم : من ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعداً ، وكقوله صلی الله علیه و آله وسلم: شر الناس علماء السوء . قال الشاعر :

من زاد علماً ثم لم يزدد هدى *** یزيده من ربه تبعدا

وقال مقسم بن أبي الدر : ويل للذي لا يعلم مرة ، وويل للذي يعلم سبع مرات ، أي أن العلم حجة عليه ، إذ يقال : ماذا عملت فيما علمت ، وكيف قضيت شكر الله .

وبالجملة فإن العالم حقاً هو الذي ينطق فيه أعماله الصالحة وأوراده الزكية وصدقه وتقواه ، لا لسانه ومناظرته ، ومعادلته وتصاوله ودعواه ، نعم لا بد للعالم من عقل ورفق وشفقة ونصح وحلم وصبر وقناعة وبذل ولا بد للمتعلم من رغبة وإرادة وفراغ ونسك وخشية وحفظ وحزم .

فالآية الكريمة المطروحة للبحث وهي قوله تعالى : إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إنما تؤكد فضل العالم الذي قد اجتمعت فيه الصفات المذكورة من العقل والرفق والشفقة والنصح والحلم والصبر والقناعة والبذل والنسك والخشية ، لا كل عالم وإننا سوف نتعرض إلى الصفات الفاضلة التي ينبغي أن تتوفر في العالم بصورة موسعة فيما يأتي إنشاء الله تعالی .

2 - قوله تعالى :«فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ »سورة يوسف آية رقم 76.

هذه الآية الكريمة نزلت على محمد صلي الله عليه و اله و سلم لتبين أحوال نبي الله يوسف عليه السلام وليس مرادنا من عرضها هو بيان أحوال يوسف وإنما عرضناها لكي نستدل بها على فضل العالم وتقريب الاستدلال بها على مطلوبنا يكون من

ص: 112

جهتين ، الجهة الأولى : أنه قد ثبت أن العالم رفيع الدرجات بدليل قوله تعالى : « نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ » ولا يخفى أن من تكون له الدرجات لا بد أن يكون فاضل فينتج أن العالم فاضل. الجهة الثانية : أنه قد ثبت أيضا أن العالم قد يوجد من هو أعلم منه بدليل قوله تعالى : «وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ » أي فوق كل عالم من هو أوسع ، منه إحاطة . ولا يخفى أنه بعد أن ثبت أن العالم فاضل بالدليل المتقدم أي بماله من الدرجات الرفيعة فمن باب الأولى أن يكون العليم .

والخلاصة : أن العالم فاضل في نفسه وصاحب فضل على غيره لأنه يدعو الناس إلى التواضع والإخلاص كما جاء في الحديث الشريف عن النبي صلي الله عليه و اله و سلم حيث قال في ذم العالم المدعي الذي يخرج الناس من اليقين إلى الشك ، ومدح العالم الذي نحن بصدده قال صلي الله عليه و اله و سلم : لا تجلسوا عند كل داع يدعوكم من اليقين إلى الشك ، ومن الإخلاص إلى الرياء ومن التواضع إلى الكبر ، ومن النصيحة إلى العداوة ومن الزهد إلى الرغبة وتقربوا إلى العالم الذي يدعوكم إلى التواضع من الكبر ، ومن الرياء إلى الإخلاص ، ومن الشك إلى اليقين ، ومن الرغبة إلى الزهد ، ومن العداوة إلى النصيحة .

3. قوله تعالى : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ » إلى قوله تعالى : «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ » المجادلة آية 11 . لقد مر عليك فيما سبق حكاية العالم الذي أفحم بعض النصاب وكيف أن علي بن محمد قربه إليه ورفعه معه إلى الدست حتى حسده العلويون والهاشميون وقد حاكمهم علي بن محمد العسكري بالآية الشريفة بقوله الخ، أترضون بكتاب الله حكما ، قالوا بلى قال: أليس الله تعالى يقول «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآية إلى قوله تعالى : «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ».

والآية لا تحتاج إلى انعام نظر من جهة الاستدلال بها على فضل العالم

ص: 113

وعلو منزلته بل بمجرد الالتفات إليها يعلم بأنها تنادي بفضله .

4 - قوله تعالى : «أهَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ»سورة الزمر آية رقم 9.

وهذه الآية المباركة أيضأ من جملة الآيات التي تدل على فضل العالم وتقريب الاستدلال بها من جهتين أحدهما عدم وجود التساوي بين العالم والجاهل ، وثانيهما وجود الفارق بين صفة العلم وصفة الجهل .

أما الجهة الأولى : فهي معلومة وثابتة عند العرفاء بدليل قوله تعالى : «أهَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ » الآية فإن هذا كاف في الاستدلال بالأية على عدم وجود المساواة بين العالم والجاهل بل أن عدم وجودها بينهما حاصل حتى لغير العرفاء فإنهم يدركون أيضأ بالبداهة أن الجاهل لا يمكن أن يساوي العالم بأي وجه من الوجوه .

وأما الجهة الثانية : وهي وجود الفارق بين صفة العلم وصفة الجهل فهي معلومة أيضأ عندهم من حيث كون العالم عالم لأنه موصوفة بالعلم ومن حيث كون الجاهل جاهل لأنه موصوفة بالجهل والفرق بينهما معلوم من حيث أنه لا يمكن لأحدهما أن يوصف بصفة الأخر فلا يقال للعالم جاهل ولا يقال للجاهل عالم إذ لا شيء من العالم بجاهل ولا شيء من الجاهل بعالم .

فتحصل مما ذكر أن عدم وجود المساواة بين العالم والجاهل ووجود الفارق بين صفة العلم وصفة الجهل ينتج فضل العالم على الجاهل على كل حال .

5- قوله تعالى : «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ » .

جاء في كتاب من لا يحضره الفقيه عن أبي عبد الله الصادق عليه التحية والصلاة والسلام أنه سئل عن هذه الآية فقال عليه السلام فقد العلماء .

ص: 114

وذكر المفسرون عند تفسير قوله تعالى :«نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ». قالوا بذهاب علمائها وفقهائها وخيارها ، والآية كما تراها ظاهرة الدلالة على فضل العالم وعلو منزلته من حيث إن موته وفقدانه يستلزم نقص في الدائرة الأرضية .

قال الشاعر :

الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها *** متى يمت عالم منها يمت طرف

کذاك تحيا إذا ما الغيث حل بها *** وإن أبي عاد في أكنافها التلف

الطائفة الثانية :

الآيات الدالة على فضل العالم بالدلالة التضمنية من حيث إنها توجب رجوع الناس إليه نذكر بعضا فيما يلي :

1- قوله تعالى : «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ»، فإن هذه الآية المباركة تسمى آية السؤال وقد استدل بها الفقهاء على وجوب رجوع الجاهل إلى العالم وهذا يعني فضل العالم بواسطة علمه على الجاهل وإلا لماذا أوجبت الآية الشريفة على الجاهل أن يرجع إليه وقد قرب الفقهاء الاستدلال بها من جهة الملازمة العرفية بين وجوب السؤال ووجوب العمل بعد السؤال ويعضدها أيضا الدليل العقلي الارتكازي لقاطبة العقلاء وهو لزوم رجوع الجاهل إلى العالم وأهل الخبرة ، في جميع شؤونهم وأحوالهم في أمر دينهم ودنياهم ، بل لولاه لاختل نظام العالم .

2 - قوله تعالى : «فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ » .

وتسمى هذه الآية المباركة بأية النفر وهي كسابقتها حيث قرب الفقهاء الاستدلال بها على وجوب رجوع الجاهل إلى العالم أيضأ من جهة الملازمة العرفية بين وجوب الإنذار ووجوب حذر الناس عقيب الإنذار ، والمراد وجوب التعبد بالعمل عقيب الإنذار وإلا يلزم اللغوية كذلك من جهة

ص: 115

إطلاق وجوب الحذر عقيب الإنذار سواء كان الإنذار موجباً للعلم أو لا . وقد رد هذا الاستدلال بمنع اللغوية عن الجهة الأولى المتقدمة بل يكون إنذارة من قبيل إظهار الحق للناس حتى يتضح لهم ويعرفوه بعد البيان المتكرر ، وأما من الجهة الثانية فلعدم الإطلاق من جهة قبول الحذر لأن الآية مسوقة لبيان وجوب النفر والإطلاق من جهة قبول الحذر تطفلي .

ولكن الإنصاف أن يقال أن الخدشة في الإطلاق ليس في محله إذ مثل هذه الخدشة لو كان مانع من التمسك بالإطلاق يوجد ذلك سد التمسك بالمطلقات وهدمه كما لا يخفى وبالجملة إن هذه الآية الكريمة توجد فيها دلالة ضمنية على فضل العالم من حيث إنها أوجبت على الجاهل الرجوع إليه ووجوب الرجوع هو دليلنا على فضل العالم والله العالم .

ص: 116

الأخبار المعصومية الناطقة بفضل العالم

اشارة

ص: 117

ص: 118

لقد تحدثنا لقارئنا الكريم فيما سبق عن فضل العالم وما جاء في القرآن الكريم من الآيات الكريمة الدالة على فضله وعلو شأنه كما أوضحنا أيضا من خلال الحديث أن العالم المعني بالفضل في الآيات المذكورة ليس هو كل عالم بل هو العالم العامل بعلمه أما الآن فنتحدث عما جاء من الأخبار المعصومية التي تعرضت لذكر العالم ولا يخفى أنها كثيرة فمنها ما جاء في فضله ومنها ما جاء في أقسامه ومنها ما جاء في حقه ومنها ما جاء في مجالسته ومنها ما جاء في سؤاله ومذاكرته ومنها ما جاء في استعمال علمه ومنها ما جاء في لزوم الحجة عليه ومنها ما جاء في مباهاته بعلمه ومنها ما جاء في فقده وهناك أخبار أخرى جعلت في باب النوادر، ذکرکل ذلك مولانا المعظم ثقة الإسلام أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني طاب ثراه ونحن بدورنا ننقل عنه ما تيسر لنا نقله في طوائف، فنقول :

الطائفة الأولى :

الأخبار التي تدل على فضل العالم نذكر منها ما يلي :

ا- عن محمد بن الحسن وعلي بن محمد ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن عيسى ، عن عبيد الله بن عبد الله الدهقان ، عن درست

ص: 119

الواسطي ، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي الحسن موسی علیه السلام قال : دخل رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم المسجد فإذا جماعة قد أطافوا برجل فقال صلی الله علیه و آله وسلم: ما هذا ؟ فقيل : علامة فقال صلی الله علیه و آله وسلم: وما العلامة ؟ فقالوا له : أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها ، وأيام الجاهلية ، والأشعار العربية ، قال :

فقال صلی الله علیه و آله وسلم: ذاك علم لا يضر من جهله ، ولا ينفع من علمه ، ثم قال صلی الله علیه و آله وسلم: إنما العلم ثلاثة : آية محكمة ، أو فريضة عادلة ، أو سنة قائمة ، وما خلافهن فهو فضل .

2- عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن خالد ، عن أبي البحتري ، عن أبي عبد الله عليه التحية والسلام قال : إن العلماء ورثة الأنبياء ، وذاك أن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا ، وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم ، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظا وافرة ، فانظروا علمكم هذا عمن تأخذونه ؟ فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدو ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين .

3- عن الحسين بن محمد، عن معلی بن محمد ، عن الحسن بن علي الوشاء ، عن حماد بن عثمان ، عن أبي عبد الله عليه التحية والسلام قال : إذا أراد الله بعبد خيرا فقهه في الدين . .

4 - عن محمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن حماد بن عيسى ، عن ربعي بن عبد الله عن رجل ، عن أبي جعفر عليهما السلام قال : الكمال كل الكمال التفقه في الدين ، والصبر على النائبة وتقدير المعيشة .

ه- عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد ابن سنان، عن إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله عليه أفضل التحية والسلام قال : العلماء أمناء ، والأتقياء حصون ، والأوصياء سادة .

6- عن أحمد بن إدريس ، عن محمد بن حسان ، عن إدريس بن الحسن ، عن أبي إسحاق الكندي ، عن بشير الدّهان قال : قال أبو عبد الله

ص: 120

علیه السلام : لا خير في من لا يتفقه من أصحابنا . یا بشير إن الرجل منهم إذا لم يستغن بفقهه احتاج إليهم فإذا احتاج إليهم أدخلوه في باب ضلالتهم وهو لا يعلم .

7- عن علي بن محمد، عن سهل بن زیاد ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله علیه السلام ، عن آبائه الكرام قال : قال رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم : لا خير في العيش إلا لرجلين عالم مطاع ، أو مستمع واع.

8- عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير ومحمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن أبي عمير عن سيف بن عميرة عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام قال : عالم ينتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد .

9- عن الحسين بن محمد ، عن أحمد بن إسحاق ، عن سعدان بن مسلم ، عن معاوية بن عمار قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : رجل راوية لحديثكم يبث ذلك في الناس ويشدده في قلوبهم وقلوب شيعتكم ولعل عابدأ من شيعتكم ليست له هذه الرواية أيهما أفضل : قال : الراوية لحديثنا يشد به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد .

الطائفه الثانية :

الأخبار التي تدل على ما للعالم من الثواب العظيم عند الله تعالى بواسطة علمه نذكر منها ما يلي :

1- عن محمد بن الحسن وعلي بن محمد ، عن سهل بن زیاد ، ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد جمیعا عن جعفر بن محمد الأشعري ، عن عبد الله بن میمون القداح ، وعلي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حماد بن عيسى ، عن القداح ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم : من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة وأن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا به وأنه يستغفر لطالب العلم من في السماوات ومن في الأرض حتى الحوت في البحر ، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر ، وأن العلماء ورثة الأنبياء ، إن

ص: 121

الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورثوا العلم فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر .

2- عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب ، عن جميل بن صالح ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : إن الذي يعلم العلم منكم له أجر مثل أجر المتعلم وله الفضل علیه ، فتعلموا العلم من حملة العلم وعلموه إخوانكم كما علّمكموه العلماء .

3- عن علي بن إبراهيم ، عن أحمد بن محمد البرقي ، عن علي بن الحكم ، عن علي بن أبي حمزة ، عن أبي بصير قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : من علّم خيراً فله مثل أجر من عمل به قلت فإن علّمه غيره يجري ذلك له ؟ قال : إن علمه الناس كلهم جری له ، قلت فإن مات ؟ قال : وإن مات .

4 - وبهذا الإسناد ، عن محمد بن عبد الحميد عن العلا بن رزين ، عن أبي عبيدة الحذاء عن أبي جعفر عليهما أفضل التحية والصلاة والسلام قال : من علم باب هدى فله أجر من عمل به ولا ينقص أولئك من أجورهم شيئا ومن علم باب ضلال كان عليه مثل أوزار من عمل به ولا ينقص أولئك من أوزارهم شيئا .

5 - عن الحسين بن محمد ، عن علي بن محمد بن سعد رفعه ، عن أبي حمزة ، عن علي بن الحسين عليه التحية والسلام قال : لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج إن الله تبارك وتعالی أوحي إلى دانيال أن أمقت عبيدي إلىَّ الجاهل المستخف بحق أهل العلم ، التارك للاقتداء بهم ، وأن أحب عبيدي إليّ الطالب للثواب الجزيل ، اللازم للعلماء التابع للحلماء ، القابل عن الحكماء .

6- عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود المنقري عن حفص بن غياث قال : قال أبو عبد الله عليه

ص: 122

- التحية والسلام : من تعلم العلم وعمل به وعلّم لِله دعي في ملكوت السماوات عظيماً فقيل : تعلم لله وعمل لله وعلّم لله .

الطائفة الثالثة :

الأخبار التي تدل على صفة العالم .

1- عن محمد بن يحيى العطار ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب عن معاوية بن وهب قال : سمعت أبا عبد الله عليه التحية والسلام يقول : اطلبوا العلم ، وتزينوا معه بالحلم والوقار ، وتواضعوا لمن تعلمونه العلم ، وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم ، ولا تكونوا علماء جبارين فيذهب باطلكم بحقكم .

2- عن علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن حماد بن عثمان ، عن الحارث بن المغيرة النصري ، عن أبي عبد الله مالونه في قول الله عز وجل : « إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ »الآية المتقدم ذكرها قال : يعني بالعلماء من صدق فعله قوله ، ومن لم يصدق فعله قوله فليس بعالم .

3- عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي ، عن مهران ، عن أبي سعيد القماط ، عن الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه التحية والسلام قال أمير المؤمنين علیه السلام ألا أخبركم بالفقيه حق الفقيه ؟ من لم يقنط الناس من رحمة الله ، ولم يؤمنهم من عذاب الله ولم يرخص لهم في معاصي الله ، ولم يترك القرآن رغبة إلى غيره ، ألا لا خير في علم ليس فيه تفهم ، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر ، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفکر ، وفي رواية أخرى : ألا لا خير في علم ليس فيه تفهم ، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر ، ألا لا خير في عبادة لا فقه فيها ، ألا لا خير في نسك لا ورع فيه .

4 - عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، ومحمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان النيسابوري جميعاً ، عن صفوان بن يحيى ،

ص: 123

عن أبي الحسن الرضا علیه السلام قال : إن من علامات الفقه الحلم والصمت .

5- عن أحمد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمد البرقي ، عن بعض أصحابه رفعه قال أمير المؤمنين علیه السلام : لا يكون السفه والغرّة في قلب العالم .

6. وبهذا الإسناد ، عن محمد بن خالد، عن محمد بن سنان ، رفعه قال : قال عيسى ابن مريم عليه التحية والسلام : يا معشر الحواريين لي إليكم حاجة اقضوها لي ، قالوا قضبت حاجتك يا روح الله ، فقام فغسل أقدامهم فقالوا : كنا نحن أحق بهذا يا روح الله ، فقال : إن أحق الناس بالخدمة العالم إنما تواضعت هكذا لكي تتواضعوا بعدي في الناس كتواضعي لكم ، قال عيسى ماندن : بالتواضع تعمر الحكمة لا بالتكبر ، وكذلك في السهل ينبت الزرع الجبل .

7- عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه عن علي بن معبد عمن ذكره عن معاوية بن وهب ، عن أبي عبد الله علیه السلام قال : كان أمير المؤمنین علیه السلام يقول :

با طالب العلم إن للعالم ثلاث علامات : العلم والحلم والصمت ، وللمتكلف ثلاث علامات : ينازع من فوقه بالمعصية ، ويظلم من دونه بالغلبة ، ويظاهر الظلمة .

الطائفة الرابعة :

الأخبار التي تقسم الناس ومن جملتهم العالم نذكر منها ما يلي :

1- عن علي بن محمد ، عن سهل بن زياد ، ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسی جميعا عن ابن محبوب ، عن أبي أسامة ، عن هشام بن سالم ، عن أبي حمزة ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عمن حدثه ممن يوثق به قال : سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول : إن الناس آلوا بعد رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم إلى ثلاثة : ألوا إلى عالم هدى من الله قد أغناه الله بما علم عن علم غيره وجاهل مدع للعلم لا علم له معجب بما عنده ، قد فتنته الدنيا وفتن غيره

ص: 124

ومتعلم من عالم على سبيل هدى من الله ثم هلك من ادعى وخاب من افتری .

2- عن الحسين بن محمد الأشعري ، عن معلی بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء عن أحمد بن عائذ ، عن أبي خديجة سالم بن مکرم ، عن أبي عبد الله عليه السلام. قال : الناس ثلاثة : عالم ، ومتعلم وغثاء .

. 3- عن محمد بن يحيى ، عن عبد الله بن محمد، عن علي بن الحكم ، عن العلاء بن رزین ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي حمزة الثمالي قال : قال لي أبو عبد الله عليه السلام.: اغد عالماً أو متعلمياً أو أحب أهل العلم ، ولا تكن رابعاً فتهلك ببعضهم .

4 - عن علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن جميل عن أبي عبد الله عليه السلام.قال : سمعته يقول : يغدوا الناس على ثلاثة أصناف : عالم ومتعلم وغثاء ، فنحن العلماء وشيعتنا المتعلمون وسائر الناس غثاء .

الطائفة الخامسة :

الأخبار التي تدل على حق العالم ومجالسته نذكر منها ما يلي :

1- عن علي بن محمد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن سليمان بن جعفر الجعفري ، عمن ذكره ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : كان أمير المؤمنين عليه السلام. يقول : إن من حق العالم أن لا تكثر عليه السؤال ولا تأخذ بثوبه وإذا دخلت عليه وعنده قوم فسلم عليهم جميعا وخصه بالتحية دونهم ، واجلس بين يديه ولا تجلس خلفه ولا تغمز بعينك ولا تشر بيدك ولا تكثر من القول : قال فلان وقال فلان خلافاً لقوله ولا تضجر بطول صحبته فإنما مثل العالم مثل النخلة تنتظرها حتى يسقط عليك منها شيء، والعالم أعظم أجرأ من الصائم القائم الغازي في سبيل الله .

2- عن علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس رفعه

ص: 125

قال : قال لقمان لابنه : يا بنيّ اختر المجالس على عينك فإن رأيت قومأً يذكرون الله عز وجل فاجلس معهم فإن تكن عالما نفعك علمك ، وإن تكن جاهلا علموك ، ولعل الله أن يظلهم برحمته فيعمك معهم ، وإذا رأيت قوما لا يذكرون الله فلا تجلس معهم ، فإن تكن عالماً لم ينفعك علمك ، وإن كنت جاهلا يزيدونك جهلاً ولعل الله أن يظلهم بعقوبة فيعمك معهم .

3- علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى جميعا ، عن ابن محبوب ، عن درست بن أبي منصور ، عن إبراهيم بن عبدالحميد ، عن أبي الحسن الإمام موسی بن جعفر عليهما السلام قال محادثة العالم على المزابل خير من محادثة الجاهل على الزرابي .

4 - عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد البرقي ، عن شريف بن سابق ، عن المفضل بن أبي قرة ، عن أبي عبد الله عليه التحية والسلام قال : قال رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم : قال الحواريون لعيسى على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والتحية والسلام : يا روح الله من نجالس؟ قال من يذكركم الله رؤيته ، ويزيد في عملكم منطقه ويرغبكم في الآخرة عمله .

5- عن محمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن ابن أبي عمير ، عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه أفضل الصلاة والتحية والسلام قال : قال رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم : مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والأخرة .

6- عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه، عن القسم بن محمد الأصفهاني ، عن سليمان بن داود المنقري ، عن سفيان بن عيينة عن مسعر بن کدام قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : لمجلس أجلسه إلى من أثق به ، أوثق في نفسي من عمل سنة .

الطائفة السادسة :

الأخبار الدالة على سؤال العالم ومذاكرته نذكر منها ما يلي :

ص: 126

1- عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : سألته عن مجدور أصابته جنابة فغسلوه فمات قال : قتلوه ألا سألوا فإن دواء العي السؤال .

2- عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن حماد بن عيسى ، عن حريز عن زرارة ومحمد بن مسلم وبريد العجلي قالوا :

قال أبو عبد الله علیه السلام لحمران بن أعين في شيء سأله : إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون .

3- عن علي بن محمد، عن سهل بن زیاد ، عن جعفر بن محمد الأشعري ، عن عبد الله بن ميمون القداح ، عن أبي عبد الله علیه السلام قال : إن العلم عليه قفل ومفتاحه المسألة .

4- عن علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس ، عمن ذكره عن أبي عبد الله عليه أفضل الصلاة والتحية والسلام قال : قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: أف لرجل لا يفرغ نفسه في كل جمعة لأمر دينه فيتعاهد ويسأل عن دينه ، وفي رواية أخرى لكل مسلم .

5- عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: إن الله عز وجل يقول : تذاكر العلم بين عبادي مما تحبي عليه القلوب الميتة إذا هم انتهوا فيه إلى أمري .

6- عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن سنان ، عن أبي الجارود قال : سمعت أبا جعفر عليهما أفضل التحية والصلاة والسلام يقول : رحم الله عبدا أحيا العلم قال : قلت : وما إحياؤه ؟ قال : أن يذاكر به أهل الدين وأهل الورع .

7. عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن عبد الله بن محمد الحجال عن بعض أصحابه رفعه قال : قال رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم : تذاكروا وتلاقوا

ص: 127

وتحدثوا فإن الحديث جلاء للقلوب ، إن القلوب لترين کما يربن السيف جلاؤها .

8- عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه عن فضالة بن أيوب ، عن عمر بن ابان ، عن منصور الصيقل قال : سمعت أبا جعفر عليهما أفضل الصلاة والتحية والسلام يقول : تذاكر العلم دراسة والدراسة صلاة حسنة .

الطائفة السابعة :

الأخبار الدالة على أنه ينبغي للعالم بذل علمه واستعماله نذكر منها ما يلي :

1- عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع ، عن منصور بن حازم ، عن طلحة بن زيد ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قرأت في كتاب علي عليه السلام أن الله لم يأخذ على الجهال عهداً بطلب العلم حتى أخذ على العلماء عهداً بذل العلم للجهال ، لأن العلم كان قبل الجهل .

2- عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد البرقي ، عن أبيه ، عن عبد الله بن المغيرة ومحمد بن سنان ، عن طلحة بن زيد ، عن أبي عبد الله عليه السلام في هذه الآية «وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ » قال : ليكن الناس عندك فی العلم سواء .

3- وبهذا الإسناد ، عن أبيه ، عن أحمد بن النضر ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه السلام قال زكاة العلم أن تعلمه عباد الله . .

4 - عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن حماد بن عيسى ، عن عمر بن أذينة ، وعن ابان بن أبي عياش ، عن سليم بن قيس الهلالي قال : سمعت أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والتحية والسلام يحدث عن النبي صلي الله عليه و اله و سلم قال في كلام له : العلماء رجلان رجل عالم آخذ

ص: 128

بعلمه فهذا ناج ، وعالم تارك لعلمه فهو هالك ، وإن أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه . وإن أشد أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبداً إلى الله فاستجاب له وقبل منه فأطاع الله فأدخله الله الجنة وأدخل الداعي النار بترکه علمه واتباع الهوى وطول الأمل ، أما اتباع الهوى فيصد عن الحق وطول الأمل ينسي الآخرة .

5- عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن علي بن محمد القاشانی ، عمن ذكره عن عبد الله بن القاسم الجعفري ، عن أبي عبد الله علیه السلام قال : إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزلّ المطر عن الصفا .

6- عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن سنان ، عن إسماعيل بن جابر ، عن أبي عبد الله علیه السلام : قال العلم مقرون إلى العمل ، فمن علم عمل ، ومن عمل علم ، والعلم يهتف بالعمل ، فإن أجابه وإلا ارتحل عنه .

7- عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمد، عن المنقري عن علي بن هاشم بن البريد ، عن أبيه قال : جاء رجل إلى علي بن الحسين عليهم السلام فسأله عن مسائل فأجاب ثم عاد ليسأل عن مثلها فقال علي بن الحسين عليهم السلام : مكتوب في الإنجيل لا تطلبوا علم ما لا تعلمون ولما تعملوا بما علمتم فإن العلم إذا لم يعمل به لم يزدد صاحبه إلا كفر ولم يزدد من الله إلا بعداً.

8- عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن سنان ، عن المفضل بن عمر ، عن أبي عبد الله علیه السلام قال : قلت له : بم يعرف الناجي ؟ قال : من كان فعله لقوله موافقاً فله الشهادة ومن لم يكن فعله لقوله موافقاً فإنما مستودع .

9- عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، رفعه

ص: 129

قال : قال أمير المؤمنين عليه أفضل التحية والسلام في كلام له خطب به على المنبر : أيها الناس ، إذا علمتم فاعملوا بما علمتم لعلكم تهتدون ، إن العالم العامل بغيره كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق عن جهله ، بل قد رأيت أن الحجة عليه أعظم والحسرة أدوم على هذا العالم المنسلخ من علمه ، منها على هذا الجاهل المتحير في جهله ، وكلاهما حائر بائر ، لا ترتابوا فتشكوا ، ولا تشكوا فتكفروا ، ولا ترخصوا لأنفسكم فتدهنوا ولا تدهنوا في الحق فتخسروا ، وإن من الحق أن تفقهوا ، ومن الفقه ألا تغتروا ، وإن أنصحكم لنفسه أطوعكم لربه ، وأغشکم لنفسه أعصاکم لربه ، ومن يطع الله يأمن ويستبشر ومن يعص الله تعالى ينحب ويندم .

10۔ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عمن ذكره ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن أبيه قال : سمعت أبا جعفر عليهما السلام يقول : إذا سمعتم العلم فاستعملوه ولتتسع قلوبكم ، فإن العلم إذا كثر في قلب رجل لا يتحمله ، قدر الشيطان عليه ، فإذا خاصمكم الشيطان لعنه الله تعالی فاقبلوا عليه بما تعرفون ، فإن كيد الشيطان كان ضعيفاً . فقلت وما الذي نعرفه ؟ قال خاصموه بما ظهر لكم من قدرة الله عز وجل .

الطائفة الثامنة :

الأخبار الدالة على لزوم الحجة على العالم وتشديد الأمر عليه نذكر منها ما يلي :

1- عن علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه، عن القاسم بن محمد المنقري ، عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه السلام قال : يا حفص يغفر للجاهل سبعون ذنبأ قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد.

2. وبهذا الإسناد قال : قال أبو عبد الله علیه السلام: قال عيسى ابن مريم على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام : ويل لعلماء السوء كيف تلظى عليهم النار .

ص: 130

3- عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن محمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان جميعا ، عن ابن أبي عمير ، عن جميل بن دراج قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : إذا بلغت النفس ههنا - وأشار بيده إلى حلقه - لم يكن للعالم توبة ، ثم قرأ: ً«التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ » .

4 - عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سويد عن يحيى الحلبي ، عن أبي سعيد المكاري ، عن أبي بصير ، عن أبي جعفر عليهما السلام في قوله عز وجل : «فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ » قال هم قوم وصفوا عدلاً بألسنتهم ثم خالفوه إلى غيره .

الطائفة التاسعة :

الأخبار التي تدل على المستأكل بعلمه والمباهي به نذكر منها ما يلي :

1- عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، وعلي بن إبراهيم عن أبيه جميعا ، عن حماد بن عيسى ، عن عمر بن أذينة ، عن ابان بن أبي عياش ، عن سليم بن قيس قال : سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول : قال رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم : منهومان لا يشبعان طالب دنيا وطالب علم ،فمن اقتصر من الدنيا على ما أحل الله له سلم ، ومن تناولها من غير حلها هلك ، إلا أن يتوب أو يراجع ، ومن أخذ العلم من أهله وعمل بعلمه نجا، ومن أراد به الدنيا فهي حظه .

2- عن الحسين بن محمد بن عامر ، عن معلی بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء ، عن أحمد بن عائذ ، عن أبي خديجة ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : من أراد الحديث لمنفعة الدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب ، ومن أراد به خير الآخرة أعطاه الله خير الدنيا والآخرة .

3- عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه، عن القاسم بن محمد

ص: 131

الأصبهاني ، عن المنقري ، عن حفص بن غياث ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : إذا رأيتم العالم محباً لدنياه فاتهموه على دينكم ، فإن كل محب لشيء يحوط ما أحب ، وقال صلی الله علیه و آله وسلم : أوحى الله تعالى إلى داود علیه السلام: لا تجعل بيني وبينك عالماً مفتوناً بالدنيا فيصدك عن طريق محبتي ، فإن أولئك قطاع طريق عبادي المريدين ، إن أدني ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي عن قلوبهم .

4 - عن علي ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله عليه السلام. قال : قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا قيل يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا ؟ قال اتباع السلطان فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم .

. 5- عن محمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن حماد بن عيسى ، عن ربعي بن عبد الله عمن حدثه ، عن أبي جعفرعليه السلام قال : من طلب العلم ليباهي به العلماء ، أو يماري به السفهاء ، أو يصرف به وجوه الناس إليه ، فليتبوأ مقعده من النار ، إن الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها .

الطائفة العاشرة :

الأخبار الدالة على فقد العالم نذكر منها ما يلي :

1- عن عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى ، عن أبي أيوب الخزاز ، عن سليمان بن خالد ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : ما من أحد يموت من المؤمنين أحب إلى إبليس من موت فقيه .

2- عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال : إذا مات المؤمن الفقيه ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء.

3- عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب ،

ص: 132

عن علي بن أبي حمزة قال : سمعت أبا الحسن موسی بن جعفر عليه السلام، يقول : إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة وبقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها ، وأبواب السماء التي كان يصعد فيها بأعماله ، وثلم في الإسلام ثلمة ، لا يسدها شيء لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها .

4- . وعنه ، عن أحمد ، عن ابن محبوب ، عن أبي أيوب الخزاز ، عن سليمان بن خالد ، عن أبي عبد الله علیه السلام قال : ما من أحد يموت من المؤمنين أحب إلى إبليس من موت فقيه .

5- عن علي بن محمد، عن سهل بن زیاد ، عن علي بن أسباط عن عمه يعقوب بن سالم ، عن داود بن فرقد ، قال : قال أبو عبد الله علیه السلام : إن أبي كان يقول : إن الله عز وجل لا يقبض العلم بعد ما يهبطه ولكن يموت العالم فيذهب بما يعلم ، فتليهم الجفاة فيضلون ويضلون ولا خير في شيء ليس له أصل .

6- عن عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن علي ، عمن ذكره ، عن جابر عن أبي جعفر علیه السلام قال : كان علي بن الحسين علیه السلام يقول : إنه يسخي نفسي في سرعة الموت والقتل فينا قول الله تعالى«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا » وهو ذهاب العلماء .

الطائفة الحادية عشر :

الأخبار التي تدل على نهي العالم عن القول بغير علم نذكر منها ما يلي :

1- عن محمد بن يحيى ، عن أحمد وعبد الله ابني محمد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن سيف بن عمير ، عن مفضل بن يزيد قال : قال لي أبو عبد الله عليه السلام: أنهاك عن خصلتين فيهما هلاك الرجال : أنهاك أن تدين الله بالباطل ، وتفتي الناس بما لا تعلم .

2- عن علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن

ص: 133

يونس بن عبد الرحمن بن الحجاج قال : قال لي أبو عبد الله عليه السلام إياك وخصلتين ففيهما هلك من هلك : إياك أن تفتي الناس برأيك أو تدين بما لا تعلم .

. 3- عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن علي بن رئاب ، عن أبي عبيدة الحذاء عن أبي جعفر عليه السلام قال : من أفتى الناس بغير علم ولا هدى لعنته ملائكة الرحمة ، وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه .

4 - عن عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن الحسن بن علي الوشا ، عن أبان الأحمر ، عن زياد بن أبي رجاء ، عن أبي جعفر عليهما السلام قال : ما علمتم فقولوا ، وما لم تعلموا فقولوا الله أعلم ، إن الرجل لينتزع الآية من القرآن ينحر فيها أبعد ما بين السماء والأرض .

5- عن محمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن حماد بن عيسى ، عن ربعي بن عبد الله ، عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه الصلاة والسلام قال : للعالم إذا سئل عن شيء وهو لا يعلمه أن يقول : الله أعلم ، وليس لغير العالم أن يقول ذلك .

6- عن علي بن إبراهيم ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن حماد بن عيسى ، عن حريز بن عبد الله ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال إذا سئل الرجل منکم عما لا يعلم فليقل : لا أدري ولا يقل الله أعلم ، فيوقع في قلب صاحبه شكاً وإذا قال المسؤول : لا أدري فلا يتهمه السائل .

7- عن الحسين بن محمد، عن معلی بن محمد، عن علي بن اسباط ، عن جعفر بن سماعة ، عن غير واحد، عن أبان ، عن زرارة بن أعين قال : سألت أبا جعفر عليه السلام ما حق الله على العباد ؟ قال : أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما لا يعلمون .

8- عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن يونس بن

ص: 134

عبد الرحمن عن أبي يعقوب إسحاق بن عبد الله ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : إن الله خص عباده بايتين من كتابه : أن لا يقولوا حتى يعلموا ولا يردوا ما لم يعلموا وقال عز وجل « أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ »وقال تعالى : (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ).

9- عن علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن داود بن فرقد ، عمن حدثه ، عن ابن شبرمة ، قال : ما ذكرت حديثا سمعته عن جعفر بن محمد عليهما السلام إلا كاد أن يتصدع قلبي ، قال حدثني أبي عن جدي عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم. قال ابن شبرمة : واقسم بالله ما كذب أبوه على جده ولا جده ولا جده على رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قال : قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم من عمل بالمقاييس فقد هلك وأهلك ، ومن أفتى الناس بغير علم وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك .

الطائفة الثانية عشر :

الأخبار المذكورة في باب النوادر والتي قد تعرضت لذكر العالم نذكر منها ما يلي :

1- عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه، عن محمد بن يحيى ، عن طلحة بن زيد قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : إن رواة الكتاب كثير ، وإن رعاته قليل ، وكم من مستنصح للحديث مستفش للكتاب ، فالعلماء يحزنهم ترك الرعاية ، والجهال يحزنهم حفظ الرواية ، فراع يراعي حياته ، وراع يراعي هلكته ، فعند ذلك اختلف الراعيان ، وتغاير الفريقان .

2- عن الحسين بن محمد الأشعري ، عن معلی بن محمد، عن بن جمهور ، عن عبد الرحمن بن أبي نجران ، عمن ذكره عن أبي عبد الله عليه السلام قال : من حفظ من أحاديثنا أربعين حديثاً بعثه الله يوم القيامة عالماً فقيهاً .

3- عن عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه عمن ذكره ، عن زيد بن الشحام ، عن أبي جعفر عليهما السلام في قول الله عز وجل : «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ »و قال : قلت : ما طعامه ؟ قال :

ص: 135

علمه الذي يأخذه ، عمن يأخذه .

4 - عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن عيسى ، عن علي بن النعمان ، عن عبد الله بن مسکان ، عن داود بن فرقد، عن أبي سعيد الزهري ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، وتركك حديثاً لم تروه خير من روايتك حديثاً لم تحصه .

5- عن محمد، عن أحمد ، عن ابن فضال ، عن ابن بكير ، عن حمزة بن الطيار أنه عرض على أبي عبد الله عليه السلام بعض خطب أبيه ، حتى إذا بلغ موضعاً منها قال له : كف واسكت ثم قال أبو عبد الله عليه السلام : لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون إلا للكف عنه والتشبث والرد إلى أئمة الهدى حتى يحملوكم فيه على القصد ويجلوا عنكم فيه العمي ، ويعرفوكم فيه الحق ، قال الله تعالى :« فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ »

6- عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمد، عن المنقري ، عن سفيان بن عيينة قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : وجدت علم الناس كله في أربع : أولها أن تعرف ربك ، والثاني أن تعرف ما صنع بک والثالث أن تعرف ما أراد منك ، والرابع أن تعرف ما يخرجك من دينك .

7- عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : ما حق الله على خلقه ؟ فقال : أن يقولوا ما يعلمون ، ويكفوا عما لا يعلمون ، فإذا فعلوا ذلك فقد أدوا إلى الله حقه .

8- عن الحسين بن الحسن ، عن محمد بن زکريّا الغلابي عن ابن عائشة البصري رفعه إلى أن أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين عليه أفضل التحية والصلاة والسلام قال في بعض خطبه : أيها الناس اعلموا أنه ليس بعاقل من انزعج من قول الزور فيه، ولا بحکیم من رضي بثناء الجاهل عليه ، الناس أبناء ما يحسنون ، وقدر كل امرىء ما يحسن ، فتكلموا في العلم تبين أقداركم .

ص: 136

مقالات متفرقة تدل على فضل العالم

اشارة

ص: 137

ص: 138

لقد أوردنا لقارئنا العزيز فيما تقدم ما لا يقل عن ستين حديثاً معنعنة ومتصلة الإسناد بالنبي الأكرم وباله الطاهرين صلى الله عليه وعليهم أجمعين وكلها واضحة الدلالة على عظمة العالم وينبغي الآن إتماماً للفائدة أن نذكر له بعض المقالات المتفرقة المشتملة على بعض النوادر العجيبة والحكايات المفيدة والفكاهيات اللطيفة والأدبيات الجميلة التي تدل على عظمة العالم وفضله وفي نفس الوقت تبين لنا أيضا كيف يتحتم على الجاهل مهما كان نوعه أن يرجع إلى العالم وإليك ما أردنا بيانه فيما يلي :

1- المقالة الأولى :

يقال أنه ورد أبو نصر الفارابي إلى دمشق على سيف الدولة - وهو آن ذاك سلطانها - فلما دخل عليه وهو بزي الأتراك وكان ذلك زيه دائماً وقف فقال سيف الدولة : اجلس ، فقال : حيث أنا أو حيث أنت ؟ فقال : حيث أنت ، فتخطى رقاب الناس حتى أقبل إلى مسند سيف الدولة وزاحمه فيه حتى أخرجه عنه ، وكان على رأس سيف الدولة مماليك وله معهم لسان خاص يساورهم به ، فقال لهم بذلك اللسان : إن هذا الشيخ قد ساء الأدب وإني مسائله عن أشياء إن لم يعرف بها أخرقوا به . فقال له أبو

ص: 139

نصر : أيها الأمير اصبر فإن الأمور بعواقبها . فتعجب سيف الدولة منه وعظم عنده ثم أخذ يتكلم مع العلماء الحاضرين في كل فن فلم يزل كلامه يعلو وكلامهم يسفل حتى صمت الكل وبقي يتكلم وحده ، ثم أخذوا يكتبون ما يقوله وصرفهم سيف الدولة وخلا به فقال : هل لك في أن تأكل ؟ قال : لا . قال : فهل تشرب ؟ قال : لا . قال : فهل تسمع ؟ قال : نعم ، فأمر بإحضار القيان فحضر كل ماهر في الصنعة بأنواع الملاهي فخطأ الجميع فقال سيف الدولة : وهل تحسن هذه الصنعة ؟ فقال : نعم ، ثم أخرج من وسطه خريطة ففتحها وأخرج منها عيداناً وركبها ثم لعب بها فضحك كل من في المجلس ، ثم فكها وغير ترکيبها وحرکها فنام كل من في المجلس حتى البواب ، فتركهم نیاماً وخرج . وهو الذي وضع القانون وكان لا يجالس الناس ، ومدة إقامته بدمشق لا يكون غالباً إلا عند مجتمع المياه ومشتد الرياض ، وكان يؤلف كتبه هناك ، وكان أزهد الناس في الدنيا ، وكان مقرره من بيت المال أربعة دراهم لم يقبل غيرها . وتوفي سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة بدمشق وصلى عليه سيف الدولة ، وقدبلغ ثمانين سنة ودفن في ظاهر دمشق خارج باب الصغير .

2- المقالة الثانية :

يقال إن النضر بن إسحاق النحوي كان عالماً بفنون العلم وهو من أصحاب الخليل بن أحمد، فاتفق أن ضاقت به المعيشة فخرج يريد خراسان فشيعه من أهل البصرة ثلاثة آلاف رجل ما فيهم إلا محدث أو نحوي أو عروضي أو لغوي أو إخباري أو فقيه ، فلما أبعدوا عن البلدة جلس فقال : يا أهل البصرة يعز علي فراقكم والله لو وجد كل يوم كيلجة باقلا ما فارقتكم فلم يكن منهم من يتكلف له ذلك القدر اليسير ، وسار إلى خراسان فإذا فيها مالا عظيما فمن ذلك أنه أخذ على حرف واحد ثمانين ألف درهم قال : كنت أدخل على المأمون في سمره فدخلت ذات يوم فذكر النساء فقال : حدثني هشام عن مجاهد عن الشعبي عن ابن عباس

ص: 140

قال : قال رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان سداد من عوز بفتح السين فقلت : حدثنا عوف عن أبي جميلة عن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام، قال : قال رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم إذا تزوج الرجل المرأة الدينها وجمالها كان في سداد من عوز بكسر السين فقال : يا نضر كيف قلت سداد قلت : نعم لأن سداد بالفتح هنا لحن فقال : أو تلحنني ؟ قلت : إنما هو لحن هشام فتبع المأمون لفظه قال : فما الفرق بينهما ؟ قلت : الشداد بالفتح القصد في الدنيا والسبيل ، والسداد بالكسر البلغة وكلما سددت به شيئاً فهو سداد قال : أوتعرف العرب ذلك ؟ قلت : نعم هذا العرجي يقول :

أضاعوني وأي فتی أضاعوا *** ليوم كريهة وسِداد ثغر

فقال المأمون : قبح الله من أدب له ، ثم قال : ألا أفديك مالاً ؟ قلت إني لذلك محتاج ، فأخذ القرطاس وكتب وقال لخادمه : امض معه إلى الفضل بن سهل ، فلما قرأ الكتاب قال : يا نضر إن المأمون أمر لك بخمسين ألف درهم فما كان السبب ؟ فأخبرته فقال : لحنت المأمون ؟ قلت إنما لحن هشام وتبعه المأمون وقد تتبع ألفاظ رواة الآثار ثم أمر لي الفضل بثلاثين ألف درهم .

3- المقالة الثالثة :

يقال إن رجلاً من الشيعة دخل على مولانا الإمام الرضا عليه التحية والسلام فقال : يابن رسول الله إن فلانا من شيعتك صار سنياً رأيته في بغداد والناس معه ، يطوفون به في الأسواق وعليه الخلع الفاخرة ينادي عليه المنادي : ألا أيها الناس إن هذا الرجل كان رافضياً فتاب ، ثم يقال له : تكلم ، فيقول : أيها الناس إن خير الخلق بعد رسول الله صلي الله عليه و اله و سلم أبا بكر ، يفعل هذا مراراً .

فقال عليه السلام : إذا خلوت فأعد على هذا الكلام ، فلما خلا المجلس أعدت عليه الكلام فقال : لم يقل ذلك الرجل إلا خير؛ لأنه لو قال أبو بكر

ص: 141

بالرفع لكان قد فضله على أمير المؤمنين وإنما قال أبا بكر على النداء فكأنه قال خير الخلق بعد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم علي بن أبي طالب يا أبا بكر فقال هذا دفعاً لوقوع الضرورة

4 - المقالة الرابعة :

يقال إنه سئل ابن الجوزي وهو على منبره وتحته جماعة من مماليك الخليفة وخاصته وهما فريقان سنة وشيعة فقيل له : من أفضل الخلق بعد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أبو بكر أو علي بن أبي طالب ؟ فقال : أفضلهما بعده من كانت ابنته تحته ، فأوهم على الحاضرين ولم يعرفوا مذهبه . فقالوا : نسأله غير هذا فقالوا : كم الخلفاء بعد رسول الله ؟ فصاح أربعة أربعة أربعة إيماء إلى الأئمة الاثني عشر صلوات الله عليهم .

5- المقاله الخامسه

يقال إن أحد مشايخ أهل السنة وهو زين الدين أبو حفص عمر بن الوردي لما دخل دمشق في أيام قاضي القضاة نجم الدين بن مصري الشافعي أجلسه في صفة الشهود المعروفة بالشباك وكان الشيخ زين الدين يلبس زي أهل المعرفة فاستزراه الشهود فحضر کتاب مشتری فقيل أعطوا الشيخ يكتبه فقال الشيخ زين الدين تريدون أكتبه نظماً أو نثراً فزاد استهزاؤهم فقالوا نظمأً فأخذ القرطاس وكتب :

بسم إله الخلق هذاما اشترى *** محمد بن يونس بن سنقرا

من مالك بن أحمد بن الأزرق *** كلاهما قدعرف من جلق

فباعه قطعة أرض واقعة *** بكورة الغوطة وهي جامعة

بشجر مختلف الأجناس *** والأرض في البيع مع الفراس

وذرع هذي الأرض بالذراع *** عشرون في الطول بلانزاع

وذرعها في العرض أيضأ عشرة *** وهي ذراع باليد المعتبرة

وحدها من قبلة بيت التقي *** وحائز الرومي حد المشرق

ص: 142

ومن شمال ملك أولاد علي *** والغرب ملك عامل بن جهبل

وهذه تعرف من قديم *** أنها قطعة بيت الرومي

بیعاً صحیحاً لازماً شرعياً *** ثم شراء قاطعاً مرعيا

بثمن مبلغه من فضة *** وازنة جيدة مبيضة

جارية للناس في المعاملة *** ألفان منها النصف ألف كاملة

قبضها البائع منه وافية *** فعادت الذمة منه خالية

وسلم الأرض إلى من اشتری *** فقبض القطعة منه وجری

بينهما بالبدن التفرق *** طوعا فما لأحد تعلق

ثم ضمان الدرك المشهور *** فيه على بائعة المذكور

وأشهدا عليهما بذلك في *** رابع عشر رمضان الأشرف

من عام سبعمائة وعشرة *** من بعد خمس تلوها للهجرة

والحمد لله وصلى ربي *** على النبي وآله والصحب

يشهد بالمضمون من هذا عمر *** ابن المظفر المعري إذ حضر

فلما فرغ الشيخ زين الدين وتأمل الجماعة سر بديهته مع استيعاب الشروط الشرعية اعترفوا بفضله واعتذروا إليه لما علموا أنه ابن الوردي وأجلسوه في صدر المجلس . وقد حصل لي نظير هذا الاستهزاء عندما كنت في سجن الطاغوت فقلت أيضاً على البديهة :

الحمد لله الذي فهمني ***أحکام دینه بهاعرفني

فلا أبالي إن سجنت منفرد *** إني على الله في أموري أعتمد

مقتديا بالكاظم المعظم *** ويوسف الصديق المکرم

فالسجن والتعذيب لا يهينني *** بل بهما الله قد يرفعني

فليس شيء يوجب اعتقالي *** إلا اقتدائي بالنبي والأل

کذاك تقليدي الإمام الأعظم *** روح الإله الموسوي المكرم

وذنبي الثالث ما ذكرته *** من حادث الحجاج قد فصلته

وهذه لاتوجب اعتقالاً *** بل توجب الرفعة والإجلالا

ص: 143

لكنني فقدت في السجن الخبر *** فصرت أعتمد على حسن النظر

كذلك التاريخ قد جهلته *** لأنني والحق قد أهملته

لأن تاریخ اعتقالي الآخر *** في الجمعة الغراء ليس خاسر

في يوم عشر من جمادى الأولى *** أخذت مكتوفاً كما قيد على

في سنة ألف معها أربعماءة *** هجرية وفوقها ثمانية

يوافق الميلاد سنة الثامنة *** مع الثمانين ف خذها متقنة

في يوم السادس والعشرينا *** من يومها الأول با رزينا

أهملته حقا لما أصابني *** في السجن من شتم وضرب ضرني

حتى أتانا شهر رمضان الأغر *** ولم أثق بقول من كان حضر

فصمت أول يوم من رمضان *** بنية شعب ان ذي الرضوان

خرجت أبتغي الوضوء والغسل *** لاحيين ليلتي بالنفل

أخرجني الشرطة للحمام *** سمعت بعض ال خطباء الكرام

منادیاً نداء جبرائيل *** أخي النبي المصطفى الجليل

تهدمت والله أركان الهدى *** انفصمت والله عروة التقی

فمن سمعت ذا النداء هاج الحزن *** على الوصي المرتضى أبي الحسن

أعادني الشرطة باكي العين *** منتحباً على أبي الحسین

عقدت في ثلاثة الليالي *** مجالس العزاء على التوالي

فكنت قارئا بسجن منفرد *** في غرفة زنزانة ومبتعد

وبعدما انتهيت من قراءتي *** في مجلسي الأخر أخذت راحتي

فكرت في التاريخ من جديد *** لأنه بان، على التأكيد

فكرت في نفسي ربما يفر *** مني ذا التاريخ أيضا لا يقر

فقلت في نفسي أرسم قاعدة *** تروض النفس وفيها فائدة

أجعل كل يومين من كل شهر *** باسم إمام من أئمة البشر

فكل يوم أول من كل شهر *** باسم النبي المصطفى خير البشر

وثاني الأيام للمولى علي *** أخي النبي المصطفى المبجل

ص: 144

وثالث الأيام للصديقة *** بنت النبي المصطفى الشفيقة

ورابع الأيام للمولى الحسن *** سبط النبي المصطفى والمؤتمن

وخامس الأيام للحسين ***شهيد کربلاء ونور العين

وسادس الأيام للسجاد *** زين العباد سيد العباد

وسابع إلى الإمام الباقر *** وثامن لجعفر المطهر

وتاسع للكاظم المؤتمن *** وعاشر إلى الرضا أبي الحسن

إحدى وعشر لإمامنا التقي *** إثنا وعشر لإمامنا النقي

ثالث عشر للإمام العسكري *** نجل علي الهادي المظفر

وحجة الله على كل البشر *** له من الأيام الرابع عشر

خامس عشرة إلى الملائكة *** أدعو وأتلو الأية المباركة

وباقي الأيام من سادس عشر *** لهم على الذي به التفصيل مر

* * *

وسألني أيضاً أحد الأخوان البحرانيين أن أعطيه نبذة يسيرة عن حياة مولانا المقدس الشيخ حسين بن الشيخ محمد آل عصفور المقلد المشهور في بلادنا البحرين فأجبته على البديهة عن طريق الرجز :

وشيخنا أجل من أن يذكرا *** وفضله أعظم من أن يُشهرا

قد انتهت إليه الرئاسة *** شرفه قد بالغ النهاية

كان محققأً مدققاً ماهراً *** وزاهداً وعابداً وورعا

فهو إمام قد تتبع الخبر *** بعلمه الكثير فضله اشتهر

ومن أجلة الفحول العلماء *** مجدد المذهب ذكره سما

يمتاز قد قيل بكثر الحافظة *** ملازمة التدريس والمذاكرة

قد قيل بالجملة من أكابر *** علما ء ذاك العصر الأخایر

جهاده ونبله كثير *** وفقهه وعلمه وفيرُ

وشيخه يوسف بن أحمدا *** العالم البر التقي الأمجدا

ص: 145

فقيه أهل البيت المحققا *** مؤلف الكشكول والحدائقا

أجازه إجازة صغيرة *** وإجازة مبسوطة كبيرة

وشيخه الثاني عمه الصفي *** شيخ نبيل اسمه عبد علي

وعن أبيه يروي هكذا ورد *** شيخ جليل قدوة ومعتمد

وعنه يروي ابن زين الدين *** الصادق الرضي الأمين

الأوحدي هكذا قد وردا *** لا زال فيما قاله مؤيدا

والشيخ عبد المحسن اللويمي *** وحسن وشيخنا عليا

وشيخنا محمد الستريا *** وشيخنا المرزوق الخطيا

ومحمد شيخ البلاد القطري *** وشيخ آخر اسمه عبد علي

فإنهم من أفضل الأصحاب *** وفضلهم قد طاول السحاب

أما مؤلفات شيخنا الأغر *** خذها إليك في وجيز مختصر

قدسية، ونواظر، وسوانح *** وحقائق فاخرة، ورواسخ

کتاب حبوة كذا محاسنا *** في الإعتقاد قد أتی مبينا

رسالة الأشراف في المنع أتت *** عن بيع الأوقاف التي قد ثبتت

رسالة باهرة العقول *** في نسب سيدنا الرسول

منظومة في الفقه والنحوكذا *** لطالب العلم وطالب الرضا

منظومة شارحة الصدور *** في الخمسة العلوم للأصول

مريق دمع وکذا فوادح *** قد جاءنا المسك منه فائح

شرح دعاء لكميل وكذا *** شرح مفاتيح الشرائع أطلبا

رسالة العوامل السماعية *** الواقية والفرحة الانسية

القول الشرائح والمحاسن *** سداد فقه لذكي فطن

المنسك الوسطى والكبير *** معارف والمنسک الصغير

ديوان شعر في رثا الحسين *** والدرة الغراء بغير مين

کشف اللثام ومراثي العزاء *** مجموعه الكلي ثلاثون مجلسا

شرائع الدين المسمى بالوضاء*** كتبه قد قبل مولانا الرضا

ص: 146

رسالة حاسمة القال كذا *** رسالة الاسکات، وذريعة الهدى

وقيل إن لشيخنا كتب أخر *** لم يذكروها وبها القول اشتهر

وخذ إليك في تعدد مبتکر *** أبناء مولانا الإمام المزدهر

أبناءه بعد أهل الكهف *** وفضلهم في الناس غير مخفي

أولهم محمد النبيه *** شيخ جليل قدوة وجيه

ثانيهم شيخ جليل مرتضا *** قد قيل إن اسمه عبد الرضا

ثالثهم شيخ جليل مجتبى *** سمي قدوة الأنام المرتضی

رابعهم شيخ رضي مؤتمن *** يقال إن اسمه شيخ حسن

كان زعيما في أبي شهر ورد *** وعالماَ وفاضلاَ ومعتمد

إمام أهل الدين شيخها الأغر *** بعلمه وفضله قد اشتهر

زعيمها الروحي في البلاد *** وفقه الله إلى الرشاد

قد ولي القضاء والافتاء *** بدون ما شك ولا مراء

خامسها الشيخ عبد الله *** سليل شيخنا عظيم الجاه

قد قيل إن فضله قد اشتهر *** فكان خلفاَ لشيخنا الأغر

فقيه أهل البيت في البحرين *** زعيمها الروحي بغير مين

قد قام بالوظائف الشرعية *** فكان عالماً وذو مزية

سادسهم ذاك المقدس الذكي *** شيخ جليل اسمه عبد علي

قد كان شيخاَ عالماَ مفضلاً *** محققاً مدققاً مجتهداً

وفاته قبل وفاة شيخنا *** وخلف نجل له معظما

تاريخه أرخ شيئاً لطفا*** لا شك فيه لأبيه خلفا

سابعهم شيخ جليل أمجدا *** واسمه قد قيل عنه أحمدا

وإن أردت تعرف اليوم الذي *** قد مات فيه شيخنا المجدد

فخذه مني بلا ملال *** الحادي والعشرين من شوال

طعنه نغل من النعول *** عدو دين المصطفى الرسول

ضربه بحربة كذا ورد *** مات شهيد بلية الأحد

ص: 147

تاريخه مبيناً مدوناً *** طود الشريعة قد هوى وتهدما

* * *

بعض المسائل الفقهية المتعلقة بالطهارة

وبالمناسبة أيضاً أنه قد التمس مني بعض طلابي الأفاضل أن أنظم له بعض المسائل الفقهية المتعلقة بالطهارة والمطابقة لفتاوى إمام الأمة فأجبت ملتمسه بشرط المهلة فشرعت في ذلك وكنت عازما على أن أنظم المسائل الفقهية المطابقة لفتاوى الإمام كلها بحيث تكون دورة فقهية كاملة من كتاب الطهارة إلى كتاب الديات ، إلا أنني لم أوفق لذلك كله ونظمت عددا يسيرة من الأبيات وهي مشتملة على بعض الأحكام من كتاب الطهارة وإليك ما نظمته :

الحمد لله الذي علمنا *** أحكام دينه بها فقهنا

نحمده حمد الذي قد عرفه*** نسأله بأن يزدنا معرفة

ثم الصلاة على النبي الأعظم *** محمد سيد ولد آدم

دليلنا الهادي إلى الرشاد *** منقذنا من كفر أو فساد

خاتم رسل الله وسيد البشر*** ومن له وجه كوجه القمر

ثم صلاة ربنا الدائمة*** والزاكيات الطيبات النامية

على الولاة القادة الاثني عشر *** أئمة الهدى وسادات البشر

لا سيما بقية الله الأغر *** مولى الأنام الإمام المنتظر

وبعد فالمدعو عبد الله *** سليل حسن عظيم الجاه

يقول يا شيعة خير الأنبياء *** وشيعة الوصي خير الأوصياء

يا طالبي مسائل الشريعة *** ورائدي أحكامها الرفيعة

إليكم منظومة فقهية *** جامعة الأقوال المرضية

مطابقاَ إلى فتاوى الأكرم *** روح الإله الموسوي المعظم

نظمتها فكان سهلاً نظمها *** كي يفهمن المبتدىء أحكامها

جعلتها تقرباً لخالقي*** لربي الكريم بل ورازقي

ص: 148

سميتها منظومة الأحكام *** قسمتها أربعة أقسام

فأول الأقسام خذها مجملة *** فهي عبادات تأتي مفصلة

وقسمها الثاني معاملات *** سأذكرنها مفصلات

وقسمها الثالث إيقاعات *** ورابع الأقسام الديات

وفقنا الله إلى إتمامها *** ونستعينه على إكمالها

وها أنا أشرع في الطهارة *** مبينأ فصولها المختارة

مبتدءا بالماء حيث جعلا *** لنا طهوراً وشراب فضلا

فی المیاء:

الماء ضربان فضرب جاري *** واسمه المطلق في الأخبار

والمطلق يشمل أقسام تعد *** الجاري والأمطار والنابع ورد

كذاك ماء البئر والمواقف قل *** فإنها أقسامه فيما نقل

وكل دي الأقسام نفساً طاهرة *** وإنها لغيرها مطهرة

إلا إذا غيرت النجاسة *** أوصافها تحكم بالنجاسة

أي غيرت لونأ لها أو طعماً *** أو ريحها تنجس حتماً حتما

وضربه الثاني المضاف قد أتى *** عن النبي وآله قد ثبتا

وعرفوه الممتزج بغيره*** أو هو ما يعتصرن من غيره

کماء سكر وماء الرقى *** أو ماء رمان إليه شوقي

وإنه لطاهر في نفسه *** لكنه غير مطهر غيره

فلا يزال حدثا أو خبثاً *** به وهذا الحكم حکم ثبتاً

وإنه ينجس جميعه إذا *** لاقاه شيء نجس حتى إذا

قد كان مقدار له كثير *** لا فرق بين الوزن والتقدير

* * *

ص: 149

القول فی احکام التخلی :

يجب في حال التخلي الساتر*** أن تستر العورة عن كل ناظر

عن امرأة أو رجل حتى الطفل *** كذلك المجنون إذ ليس يحل

لكن في الطفل وفي المجنون*** يشترط التمييز في الاثنين

ويحرمن عليك أن تنظر إلى *** عورة غيرك عدی ما حُللا

كطفلك الصغير إذ لم يميّزا *** ويحرمن عليك إن قد ميّزا

وجاز للزوجة أن تنظر إلى *** عورة زوجها فذا محللا

كذلك الزوج يجوز ويحل *** أن ينظرن في فرجها فيما نقل

ومالك يجوز أن ينظر إلى*** عورة مملوكته محللا

ولا يجوزن إلى المالكة أن *** تنظر إلى مملوكهاذا يحرمن

وعورة المرأة دبرا والقبل *** زد لهما البيضتين في الرجل

ويكفي الستر بكل ماستر *** باليد والخرقة وأوراق الشجر

وجاز للطبيب أن ينظر إلى *** عورة غيره بقول فصّلا

أن ينظر المراة المقابلة *** لعورة المريض كي يعالجه

هذا إذا كان الضرر يندفعن *** بها وإلا جاز له أن ينظرن

ويحرمن في حالة التخلي *** استقبالك لقبلة المصلي

کذاك لا يجوز استدبارها *** فانحرفن عنها معظماً لها

* * *

فی الاستنجاء:

بالماء اغسل مخرج البول ولا *** تبتغي غير المساء شيء بدلا

والأحوط أن تغسله مرتين *** أوجبه الأعلام والخميني

والغسلة الثالثة أمر نُدب *** زيادة في الفصل فهي لا تجب

وأنت بالخيار بين الغسل *** بالماء أو المسح بقول فصل

في مخرج الغائط إن أردت أن *** تغسله بالماء أو أردت تمسحن

ص: 150

فامسح بشيء قالع النجاسة *** كحجرٍ أو ما به يباسة

من مدر أو خرق أو غيرها *** فأنت بالخيار أن تمسح بها

والغسل غير المسح حيث فضلا *** لكنما المسح معاه أكملا

ولا يجب في الغسل أعداد تعد *** وإنما النقاء شرط فهو حد

والمسح في الظاهر كالغسل فلا *** تعداد فيه يا أخي المبجلا

وإنما يكفي النقاء في المسح *** فاعمل به تربح أي ربح

لكنما الأحوط إكمال العدد *** ثلاث مرات بها النص ورد

هذا إذا النقاء به قد حصلا *** فإنه مجز وإلا واصلا

المسح حتى النقا يحصل *** لأنه حد لهذا العمل

والطهر شرط في الذي تمسح به *** لا يجزين نجس لتنتبه

کذاك لم يجز بطين أو خرق *** مبلولة سارية قول أحق

وواجب في الغسل بالماء في الخبر *** إزالة العين كذلك الأثر

ويكفي المسح زوال العين *** عن أثر ما لم تراه العين

* * *

فی کیفیه الاستبراء

کيفيته أن تمسحن باليد *** ثلاث مرات مراع العدد

ما بين المقعد وأصل الذکر *** بقوة لما روي في الخبر

وبعدها تمسح له ثلاثاً *** وتعصرن رأسه ثلاثا

فإن رأيت بعد ذا رطوبة *** تحكم حتماً أنها طاهرة

أما إذا لم تكن استبرأت *** حکمت بنقض ما رأيت

* * *

ص: 151

واجبات الوضوء:

أولها وجهك اغسلنه من *** قصاص شعرك لأطراف الذقن

طولاً فما دارت عليه الوسطى *** وقبلها الإبهام حد العرضا

والأحوط الغسل يجب من أعلى *** فلا يجوزن تنکسن الغسلا

ولا يجب غسلك ما استرسل من *** شعر بلحيتك أيها الفطن

إلا الذي في حد غسل الوجه *** فغسله يجب غسل الوجه

ثانيهما اليدان أن تغسلهما *** مقدم اليمنى على يسراهما

ويجب الغسل من المرافق *** لمذهب الآل فكن موافق

ثالثها المسح على الرأس بأن *** تمسحه أحوط بثلاث أصبعن

مضمومة لا متفرقات *** ثبتك الله على الثبات

ولا يجب أن تمسحن على البشرة *** وإنما يجوز فوق الشعرة

أي شعرك النابت في المقدم *** يجوز أن تمسح عليه فافهم

إلا إذا كان طويلا جاوزا *** بمده عن حده وقد بداء

فلا يجوزن عليه تمسحا *** افقه لما أقول حتى تربحا

ويجب المسح بكف الأيمن *** لا ظاهراَ وإنما بالباطن

لأنه الأحوط حتى لو روي *** المسح بالظاهر وإن يكن قوي

وامسح بما بقي من النداوة لا *** تبتغي يا أخي عنها بدلا

فلا يجوزن بأن تستأنفن *** ماء جديدة يا أخي فافهمن

رابعها القدمين امسحن *** ظاهرهما من أطراف الأصابعن

للمفصل طولا وإن كان قوي *** مسحهما للكعب فيما قد روي

لكنما الأحوط وجوبا تمسحا *** للمفصل لأنه مرجحا

* * *

ص: 152

القول فی شرایط الوضوء

الشرط الاول :

أولها طهارة الماء بأن *** يكون غير نجس لتعلمن

وكونه مطلق فلا يجوز أن *** تسبغ وضوءا بمضاف سکرا

کذاك كونه مباح يشترط *** فهذه الشروط للماء تشترط

والشرط في الطهارة والإطلاق *** کونه واقعي باتفاق

أي يستوي العالم بهم ومن جهل *** يلزمهما حتما إعادة العمل

إعادة الوضوء والصلاة لا *** فارق بين من علم أو جهلا

والغصب صورتان في الأولى التزم *** إعادة الوضوء والصلاة حتم

فلو توضأت بماء قد غصب *** وأنت تعلم غصبه لم تجتنب

منه وقد صليت بالوضوء ذا *** يلزم إعادة الوضوء والصلاة

والصورة الثانية فيما لو جهل *** الغصب لا يلزم إعادة الفعل

واجتنب المحصور بالشبهة لا *** تقربه للوضوء فيما نقلا

لأنه محكوم بالنجاسة *** فاتركه لا تقرب من مساسة

الشرط الثاني :

ثاني شرائط الوضوء المباشرة *** فاعمل بها أزادك الله تبصرة

إن كنت مختاراَ وإلا جاز أن *** تستنب في الوضوء بل قد وجبن

فأنت تنوي الوضوء والغير *** يباشر الوضوء في الأخبار

والمسح لا بد بأن يكون بيد *** المنوب عنه لحديث مستند

إن كان في الوسع وإلا أخذا *** النائب الرطوبة والبللا

ويمسحن بها على المنوب عنه *** واحوطأ مع الوضوء تيمُّمه

الشرط الثالث :

ثالثهما الترتيب في الأعضاء أن *** تقدم الوجه على اليمنى اعرفن

ص: 153

وهي على اليسرى تقدمنها *** أي بعدها اليسرى تغسلنها

وقدم اليسرى على المسح على*** الرأس ثم الرأس امسحه ولا

تقدمن عليه مسح الأرجل *** لكي تنال الفوز یا مفضلي

الشرط الرابع :

رابع شرط الموالاة بأن *** لا تؤخر غسل العضو المتأخرن

بحيث من تأخيره يجف ما *** غسلته من قبله لتعلما

واعلم بأن العضو لو جف بلا *** تأخير أوطول زمان حصلا

وانك تابعت للأفعال *** وحصل الجفاف في ذي الحال

أي حصل الجفاف في حرارة *** أو برد أو غيرهما من علة

لم يبطل الوضوء فيما نقلا *** أفتى به سيدنا المفضلا

وإنما يبطل بالتأخيرة *** فلاحظ المقام في الوسيلة

كذلك لوترکتها نسيانا *** أزادك الله أخي إيمانا

واعلم بأنه إذا لم يبق من *** رطوبة الوضوء حتى تمسحن

إلا الذي في اللحية المسترسلة *** استشكل سيدي بهذي المسألة

الشرط الخامس :

وشرطه الخامس النية أن *** تقصد إلى الفعل بفکر ثابتن

وكونك ممتثلا لأمر من *** أوجب ذا الحكم عليك فافهمن

كذلك. القربة شرط فيها *** وأن تكون مخلصنّ فيها

فلو ضممت ما ينافيها بطل *** وضوءك بل كل ذلك العمل

خصوصاً الرياء إذا كان دخل *** في عمل يبطل ذلك العمل

ولا يجب تلفظًا في النية *** بل تكفين إرادة إجمالية

بحيث لو سألك سائل عن *** ما تفعلن تقول أتوضأن

وهذه هي التي قد سميت *** بالداعي في أقوالهم قد وسمت

نعم إذا شرعت في الفعل ولن *** تدري ما تصنع وكنت مذهلن

ص: 154

بحيث لو سألك سائل ما *** تصنع بقيت حائراً متلعثما

يكون ما قمت به من عمل *** خال من النية حتما باطل

ويجب استدامة النية بأن *** تقارن الفعل أولاً لآخرن

فلو تردد أو نوى للعدم *** ثم أتم للوضوء ليعلم

وضوءه محکوم بالبطلان *** كما أتي في واضح البيان

ويكفي في النية قصد القربة *** فإنها الركن لهذي النية

ولا يجب عليك أن تضف لها *** وجوبا أو ندبأ وهذا منتهی

ماقاله السيد المکرم *** ابن الهداة السادة الأعاظم

والرفع لا يلزمك أن تضف لها *** فالقربة كافية في حقها

کذاك لا يعتبرن في صحت *** الوضوء نية لاستباحة

الصلاة وغيرها من الغايات *** ابان ذا ابن السادة الهداة

القول فی موجبات الوضوء وغایاته

موجبات الوضوء :

نواقض الوضوء ستة ذكر *** خليفة الولي الإمام المنتظر

سیدنا القائد الخميني *** روح الإله الموسوي الحسيني

بول وما في حكمه الحقه به *** کبلل قبل الاستبراء مشتبه

والثاني الغائط الخارج من *** الموضع الطبيعي افهم يا فطن

کذاك ينقضن إذا ما قد خرج *** من غيره مع انسداد المخرج

كذا بدونه قليلا أم كثر *** حتى ولو يخرج مع دود الدبر

الثالث الريح إذا قد خرجن *** عن دبر من معدة الإمعاء أعرفن

الرابع النوم إذا كان استمر *** بحيث يغلبن على السمع والبصر

خامسها ما زال للعفل مثل *** الجنون والإغماء فيما قد نقل

السادس استحاضة القليلة *** كذالك الوسطى والكبيرة

حتى إذا أوجبنا الغسل حكم *** سیدنا بالاحتياط والتزم

ص: 155

غايات الوضوء :

واعلم بأن للوضوء غایات ***ثلاثة وهن واضحات

أولها ما كان شرط للصلاة *** فرضأ ونف وأداء وقضاء

والثاني شرط لجواز مس ***كتابة القرآن لا القرطاس

فلا يجوزن إلى المحدث أن *** يمس كتاب الله أخي فاعلمن

لا فرق بين آية والمد ***والحرف والإعراب والتشديد

ويلحقن بها أسماء الله بل

والأحوط اجتنب أسماء الأنبياء*** كذاك أسماء الأئمة الأولياء

واعلم بأن المس شيء قد حرم

والثالث أقسام كثيرة ولا *** يمكن ذكرها بهذا المجملا

القول في أحكام الخلل

واعلم إذا مکلف تيقنا *** لحدث ولم يشك هاهنا

بل شك في طهارة لا في الحدث*** فإنه حتما يكون ذو حدث

لوشككت في الطهارة بعد أن *** صليت لا شيء عليك فاعلمن

ثم تطهرن لما تريد أن *** تأتي به من عمل متأخرن

أما إذا تيقنت الطهارة *** فأنت ما زلت على طهارة

القول في وضوء الجبيرة

إذاً على أعضائك جبيرة *** كبيرة تكون أو صغيرة

فإن يكن أمكن أن تنزعها *** أو تغسلن أو تمسحن ما تحتها

وجب وإلا جاز لك أن تغسلن *** أو تمسحن فوق الجبيرة فافهمن

القول في غسل الجنابة وأسباب الجنابة

و سبب الجنابة أمران *** إنزال المني والجماع الثاني

أما نزول المني فيه يعتبر *** خروجه حتماً لخارج الذكر

ص: 156

فلو تحرك من محله ولم *** يخرج إلى الخارج ليس يلتزم

غسل الجنابة إذ ليس سبب *** كذلك الوضوء ليس يجب

والمني إن علم فلا إشكال *** أو تعرفنه بذي الأشكال

بالدفق والشهوة والفتورة *** وتكفين في المريض الشهوة

والسبب الثاني الجماع لا *** فرق أنزلت أم لم تنزلا

وإنما يحصل بالغيبوبة *** فلاحظ المقام في الوسيلة

کذاك في دبر الغلام يجب *** الغسل حيث ذا الولوج سبب

أحكام الجنب وما يحرم عليه

واعلم بأن الغسل شرط في الصلاة *** فرضاً ونفلاً وأداءً وقضاء

کذاك شرط في الطواف الواجب*** بل ليس يبعد في الطواف الندب

ويشترط أيضا لصوم الشهر *** شهر الإله ذي البهاء والخير

کذاك في قضائه يشترطن *** لهذه الأحكام أفقه واعرفن

أما الذي عليك حتمأ يحرمن *** إن كنت جنب أشياء فاعلمن

أولها مس الكتاب المصحف *** المد والتشديد بل والأحرف

کذاك اسم الله لا يجوز أن *** تمسه حيث عليك يحرمن

بل سائر الأسماء المخصوصة به *** وصفاته العظيمة كن منتبه

ويلحقن لها أسماء الأنبياء *** والسادة الأئمة الأولياء

والثاني الذي عليك حرما *** المسجد الحرام لا تدخله ما

دمت على جنابة لتعلم *** کذاك مسجد النبي الأعظم

حتى ولو كان بنحو أن تمر *** يعني اجتيازة يحرمن أن تمر

والثالث الذي عليك يحرمن *** المكث في المساجد لتعلمن

أي غير المسجدين يحرمنا *** عليك يا أخي أن تمكثنا

بل مطلق الدخول فيها يحرم *** إلا اجتيازة حيث ذا لا يحرم

ولو أردت أخذ شيء منها *** لا بأس في ذي الحال تدخلنها

ص: 157

وألحق بها المشاهد المشرفة *** زدت متن الله علا ومعرفة

هذا على الأحوط والأحوط أن *** تلحقها بالمسجدين فافهمن

كما وأن الأحوط أن تلحقن *** الرواق للروضة للحكم أعرفن

الرابع الذي عليك يحرمن *** وضعك شيء في المساجد فاعلمن

حتى إذا يكن من الخارج أو *** في حالة العبور هكذا روو

الخامس الذي عليك بحر من *** قراءة العزائم لتعلمن

أولها اقرأ والنجم والألف *** واللام والميم وتنزيل أضف

ثم تليها حاء میم السجدة *** فهذه العزائم ذو الحرمة

بل يحمن عليك حتى البسملة *** بقصد إحداها الحرمة شاملة

القول في ما يكره للجنب

ويكرهن لك بأن تأكل أو *** تشرب حيث الفقهاء کرهو

لكنما الكراهة ترتفعن *** إذا توضأت وضوءأ نافعن

ويكرهن لك بأن تقرأ ما *** زاد على آیات سبع فاعلما

من غير العزائم المحرمة *** لأن كل آية محترمة

وإن تكن قرأت ما زاد علی *** سبعين آية فالفعل مشکلا

أي أنها تشدد الكراهة *** فاعقل لما أقول بالنباهة

کذاك يكره من خط المصحف *** والجلد والأوراق للحكم أعرف

بل مسك الهامش وما بين السطر *** یکره مسه وليس قد حظر

كذاك يكرهن لك النوم على *** جنابة من قبل أن تغتسلا

لكنما الكراهة ترتفعا *** إذا توضئت الوضوء النافعا

القول فی المطهرات :

وعدد المطهرات إحدى عشر *** عند خليفة الإمام المنتظر

سیدنا القائد الخميني *** روح الإله الموسوي الحسيني

ص: 158

ثم ذهاب الثلثين فاعلمن *** مطهرٌ للثلث الباقي اعرفن

ثانيهما زوال عین النجس *** تاسعها غيبة ذاك النجس

عاشرها استبراء الجلال بماء *** يخرجه عن اسم الزلل لتعلما

آخرها الإسلام حيث طهرا *** من الرجال والنساء من كفرا

فيما إذا تابوا وأسلموا حكم *** إسلامنا بطهرهم قد التزم

واعلم بأن الماء مطهر لما *** تنجس من نجس لیعلما

والأرض تختص بأن تطهرن *** ما مسها من قدم لتعلمن

والشمس للأرض تطهرن وما *** لا ينتقل من أبنية فليعلما

والاستحالة النار أن تطهرن *** ماقد أحالته رمادا فاعلمن

والتبعية تطهر الولد *** إن أسلم الكافر أباه واستعد

والانتقالة مطهرة لما *** قد نقلته من دم لیعلما

مثل ذي النفس تنقله إلى *** غير ذي النفس وهذا مجملا

ماقد أبانه ذو الفضيلة *** بكتابه المعروف بالوسيلة

والغيبة قد طهرت ما انتفا *** من النجاسة عن العين اختفا

أما زوال عین النجاسة *** مطهراً منقار الدجاجة

القول فی النجاسات

كذا النجاسات تعد إحدى عشر *** عند خليفة الإمام المنتظر

بول وغائط لذي لحم حرم *** كذلك الفقاع الذي حرم

والمسكر المائع بالأصل نجس *** كذاك ما بحكمه أيضأ نجس

والكلب والخنزير ما خص ببر *** ومن ضرورياً جحد ومن كفر

كذا العصير معه الثلثين قل *** يحرم استعماله ولا يحل

والمسكر المائع بالأصل نجس *** فاتركه لا تقرب له ولا تمس

يتلوه فقاع من الشعير *** شراب أهل الكفر والتبذير

والمني والميتة من ذي النفس قل *** من النجاسات هما فلا تحل

ص: 159

6- المقالة السادسة :

يقال إنه حضر أبو عبد الله علیه السلام مجلس المنصور يوماً وعنده رجل من الهند يقرأ كتب الطب ، فجعل أبو عبد الله علیه السلام ينصت لقراءته ، فلما فرغ الهندي ، قال له : يا أبا عبد الله أتريد مما معي شيئا ؟ قال لا معي ما هو خير مما معك ، قال : وما هو ؟ قال : أداوي الحار بالبارد والبارد بالحار والرطب باليابس واليابس بالرطب ، وأرد الأمر كله إلى الله عز وجل ، وأستعمل مما قاله رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وأعلم أن المعدة بيت الداء وأن الحمية هي الدواء ، وأعوّد البدن ما اعتاد ، فقال الهندي وهل الطب إلا هذا ؟ فقال الإمام الصادق علیه السلام : أفتراني عن كتب الطب أخذت ، قال نعم ، قال : لا والله ما أخذت إلا عن الله سبحانه وتعالى ، فأخبرني أنا أعلم بالطب أم أنت ؟ فقال الهندي : لا بل أنا فقال الإمام الصادق علیه السلام : فأسألك شيئا ، قال : سل ،قال : أخبرني يا هندي لم كان في الرأس شؤون ؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم جعل الشعر عليه من فوقه ؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم خلت الجبهة من الشعر ؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم كان الحاجبان من فوق العينين ؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم جعل العينان كاللوزتين ؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم جعل الأنف فيما بينهما ؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم جعلت الشفة والشارب من فوق الفم ؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم احتد السن وعرض الضرس وطال الناب ؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم جعلت اللحية للرجال ؟ قال : لا أعلم ،قال : فلم خلت الكفان من الشعر ؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم خلا الظفر والشعر من الحياة ؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم كان القلب كحب الصنوبر ؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم كانت الرئة قطعتين ، وجعل حركتها في موضعها ؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم كانت الكلية كحب اللوبياء ؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم تخصرت القدم ؟ قال : لا أعلم ، فقال الإمام الصادق عليه أفضل الصلاة والسلام : لكني أعلم ، قال : فأجب .

قال الإمام الصادق عليه أفضل الصلاة والسلام : كان في الرأس شؤون

ص: 160

لأن المجوف إذا كان بلا فصل أسرع إليه الصداع ، فإذا جعل ذا فصول كان الصداع منه أبعد ، وجعل الشعر فوقه لتوصل بوصوله الأدهان إلى الدماغ ويخرج بأطرافه البخار منه ، ويرد الحر والبرد عليه ، وخلت الجبهة من الشعر لأنها مصب النور إلى العينين وجعل فيها التخطيط والأسارير ليحتبس العرق الوارد من الرأس إلى العين قدر ما يميطه الإنسان عن نفسه وهو كالأنهار في الأرض التي تحبس المياه ، وجعل الحاجبان من فوق العينين ليردا عليهما من النور قدر الكفاية ، ألا ترى يا هندي أن من غلبه النور جعل يده على عينيه ليرد عليهما قدر كفايتهما منه ، وجعل الأنف بينهما ليقسم النور قسمين إلى كل عين سواء ، وكانت العين كاللوزتين ليجري فيها الميل بالدواء ويخرج منها الداء ، ولو كانت مربعة أو مدورة في أسفله لتنزل منه الأدواء المنحدرة من الدماغ ويصعد فيه الأرابيح إلى المشام ، ولو كان في أعلاه لما نزل منه داء ولا وجد رائحة ، وجعل الشارب والشفة فوق الفم لحبس ما ينزل من الدماغ إلى الفم لئلا يتنغص على الإنسان طعامه وشرابه فيميطه عن نفسه ، وجعلت اللحية للرجال ليستغني بها عن الكشف في المنظر ويعلم بها الذكر من الأنثى ، وجعل السن حادة لأنه به يقع العض ، وجعل الضرس عريضأ لأن به يقع الطحن والمضغ ، وكان الناب طويلا ليسند الأضراس والأسنان کالاسطوانة في البناء وخلا الكفان من الشعر لأن بهما يقع اللمس ، فلو كان شعر ما درى الإنسان ما يقابله ويلمسه ، وخلا الشعر والظفر من الحياة لأن طولهما سمج يقبح وقصهما حسن فلو كانت فيهما حياة لألم الإنسان قصهما ، وكان القلب كحب الصنوبر لأنه منکس فجعل رأسه دقیقأ ليدخل في الرئة فيتروح عنه ببردها لئلا يشيط الدماغ بحره ، وجعلت الرئة قطعتين ليدخل بين مضاعفها فيتروح عنه بحركتها ، وكانت الكبد حدباء لتنقيل المعدة ويقع جميعها عليها فيعصرها ليخرج ما فيها من البخار ، وجعلت الكلية كحب اللوبياء لأن عليها مصب المني نقطة بعد نقطة ، فلو كانت مربعة أو مدورة احتبست النقطة الأولى إلى الثانية فلا يلتذ بخروجها الحي ، إذ المني ينزل من

ص: 161

فقار الظهر إلى الكلية ، فهي كالدودة تنقبض وتنبسط ترميه أولاً فأول إلى المثانة كالبندقة من القوس ، وجعل طي الركبة إلى خلف الإنسان يمشي إلى ما بين يديه فتعتدل الحركتان ولولا ذلك لسقط في المشي ، وجعلت القدم مخصرة لأن المشي إذا وقع على الأرض جميعه ثقل حجر الرحى ، فإذا كان على طرفه دفعه الصبي ، وإذا وقع على وجهه صعب نقله على الرجل .

فقال الهندي : من أين لك هذا العلم ؟ فقال عليه أفضل التحية والصلاة والسلام : أخذته عن آبائي عليهم أفضل الصلاة والتحية والسلام عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عن جبرئیل علیه السلام عن رب العالمین جل جلاله الذي خلق الأبدان والأرواح ، فقال الهندي : صدقت وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وعبده وأنك أعلم أهل زمانه .

7- المقالة السابعة :

ذکر مولانا المقدس آية الله دستغیب طاب ثراه في كتابه النفس المطمئنة أن خوارزم شاه ابتلي بمرض الفلج وعجز الأطباء عن علاجه بعد ذلك أرسل وراء عمر بن زکریا الرازي والمعروف في ذلك الوقت ، وبعد إحضاره عرضوا عليه الأدوية والعقاقير السابقة وهو بدوره قام بتمريض الشاه ولكن بدون جدوى .

وبعد تفكير عميق رأى أن هذه الأدوية السطحية غير نافعة لمعالجة مثل هذا المرض فلا بد من اللجوء إلى قوة الروح لحل هذه المعضلة فقد كان عالم وخبيرة جدا ، فهم أن يعالجه بالعلاج الروحي ويستفيد من التنفس .

التفت زکریا نحو السلطان وقال : اكتب لي أماناً لكي أتمكن من علاجك بالطريقة التي أراها . وبعد أن أخذ الأمان أمر أن يجهزوا الحمام وتكون درجة حرارته باختياره هو، ثم أمر أن يسخنوا الحمام إلى أقصى درجة من الحرارة دون أن يجعلوا له أي منفذ للهواء ثم أمر أن يضعوا السلطان في وسط الحمام ، ويجرده من ثيابه ويجلسوه على أرضية الحمام

ص: 162

الحارة ويتركوه بعد أن يتركوا خزانة الماء في درجة حرارية عالية أيضاً .

مضت عدة ساعات على السلطان وهو جالس لوحده في شدة الحر الذي لا يطاق حتى لانت مفاصله وسخنت عظامه .

وفجأة دخل زكريا الحمام وبيده سيف مسلول وهو يكيل له أقذع الشتائم بهياج عجيب بأنه أنا الذي رسمت هذه الخطة لأصطادك لوحدك وأقتلك أيها الظالم سأقطعك بهذا السيف قطعة قطعة وهجم عليه .

ومن شدة خوف الشاه خوارزم وهلعه قفز من مكانه في خزانة الماء طلبا للنجاة وبمجرد أن ألقى بنفسه في الخزانة خرج زكريا من الحمام بسرعة وركب فرسه وهرب ، وبعد أن خرج الخوارزم من الحمام ولبس ثيابه استدعی زکریا فقيل له إنه هرب فأرسل وراءه من يبحث عنه ويأتي به کي يخلع عليه جائزة .

فلما وجدوه قال لهم لا حاجة لي بالجائزة وأخاف أن يكون غاضباً علي من أجل تلك الشتائم .

8- المقالة الثامنة :

يقال إنه دخل أبو حنيفة المدينة ومعه عبد الله بن مسلم فقال له : يا أبا حنيفة إن ها هنا الإمام جعفر بن محمد من علماء آل محمد صلی لله علیه وآله وسلم فاذهب بنا نقتبس منه علماً ، فلما أتيا إذا هما بجماعة من الشيعة ينتظرون خروجه أو دخولهم عليه ، فبينما هم كذلك إذ خرج غلام حدث السن فقام الناس هيبة له فالتفت أبو حنيفة فقال يا بن مسلم من هذا ؟ قال : هذا موسی ابنه علیه السلام، قال : والله لأجبته بين يدي شيعته قال : مه لن تقدر على ذلك . فقال : والله الأفضلنه ، ثم التفت إلى موسى فقال : يا غلام أين يضع الغريب حاجته في بلدكم هذه ؟ قال علیه السلام: ينواري خلف الجدار ويتوقى أعين الجار وشطوط الأنهار ومسقط الأثمار ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها فحينئذ يضع حيث

ص: 163

يشاء ، ثم قال : يا غلام فممن المعصية ؟ قال علیه السلام: يا شيخ لا تخلو من ثلاث : إما أن تكون من الله وليس من العبد شيء فليس للحكيم أن يأخذ عبده بما لم يفعله ، وإما أن يكون من العبد ومن الله والله أقوى الشريكين فليس للشريك الأكبر أن يأخذ الشريك الأصغر بذنبه ، وإما أن تكون من العبد وليس من الله شيء فإن شاء عفي وإن شاء عاقب

لم تخل أفعالنا اللاتي نذم بها *** إحدى ثلاث معان حين نأتيها

إما تفرد بارینا بصنعتها *** فيسقط اللوم عنا حين ننشيها

أو كان يشركنا فيها فيلحقه *** ما سوف يلحقنا من لائم فيها

أو لم یکن لاهي في جنایتها *** ذنب فما الذنب إلا دنب جانیها

9- المقالة التاسعة :

يقال إن رجلا من الزنادقة سأل أبا جعفر الأحول فقال : أخبرني عن قول الله تعالی : « فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً » وعن قوله في آخر السورة : («وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ ». فبين القولين فرق فقال أبو جعفر الأحول : فلم يكن عندي جواب فقدمت المدينة فدخلت على العالم الإمام أبي عبد الله علیه السلام فسألته عن الآيتين ، فقال : أما قوله فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة فإنما عنى النفقة ، وقوله ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فإنما عنى المودة ، فإنه لا يقدر أحد أن يعدل بين امرأتين في المودة ، فرجع أبو جعفر إلى الرجل فأخبره ، فقال : هذا حملته من الحجاز .

10 - المقالة العاشرة :

قال هشام كنت عند مولاي الإمام الصادق علیه السلام إذ دخل عليه معاوية بن وهب وعبد الملك بن أعين فقال له معاوية بن وهب : يا بن رسول الله صلی لله علیه وآله وسلم ما تقول في الخبر الذي روي أن رسول الله صلی لله علیه وآله وسلم مجرد رأى ربه ، على أي صورة

ص: 164

راه ، وعن الحديث الذي روي أن المؤمنين يرون ربهم في الجنة ، على أي صورة يرونه ، فتبسم الإمام علیه السلام ، ثم قال : يا معاوية ما أقبح بالرجل يأتي عليه سبعون سنة أو ثمانون سنة يعيش في ملك الله ويأكل من نعم الله ثم لا يعرف الله تعالى حق المعرفة ، ثم قال علیه السلام: يا معاوية إن محمد صلی لله علیه وآله وسلم لم ير الرب تبارك وتعالى بمشاهدة العيان و إن الرؤية على وجهين : رؤية القلب ، ورؤية البصر ، فمن عنى برؤية القلب فهو مصيب ومن عنى برؤية البصر فقد کفر بالله وبآياته لقوله صلی لله علیه وآله وسلم : من شبه الله بخلقه فقد کفر ، ولقد حدثني أبي عن أبيه عن الحسين بن علي عليه أفضل الصلاة والتحية والسلام قال : سئل أميرالمؤمنين علیه السلام فقيل : يا أخا رسول الله صلی لله علیه وآله وسلم هل رأيت ربك ؟ فقال : وكيف أعبد من لم أره ؟ لم تره العيون بمشاهدة العيان ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ، فإذا كان المؤمن يرى ربه بمشاهدة البصر فإن كل من جاز عليه البصر والرؤية فهو مخلوق ، ولا بد للمخلوق من خالق ، فقد اتخذ مع الله شريكا ، ويلهم أو لم يسمعوا بقوله تعالى : «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ » وقوله تعالى : «لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا » وإنما طلع من نوره على الجبل كضوء يخرج من الخياط فدكدكت الأرض وصعقت الجبال فخر موسى صعقا أي ميتا ، فلما أفاق ورد عليه روحه قال : سبحانك تبت إليك من قول من زعم أنك ترى ورجعت إلى معرفتي بك أن الأبصار لا تدركك ، وأنا أول المؤمنين وأول المقرين بأنك ترى ولا ترى وأنت بالمنظر الأعلى .

11 - المقالة الحادية عشر :

قال حذيفة المرعشي : قدم شقيق البلخي مكة وإبراهيم بن أدهم ، فاجتمع الناس فقالوا نجمع بينهما في المسجد الحرام ، فقال إبراهيم الشقيق : يا شقيق على ماذا أصلتم أصولكم ؟ فقال شقيق : أصلنا وأصولنا على أنا إذا رزقنا أكلنا وإذا منعنا صبرنا ، فقال إبراهيم : هكذا كلاب بلخ إذا

ص: 165

رزقت أكلت وإذا منعت صبرت ، فقال شقيق : على ماذا أصلتم أصولكم يا أبا إسحاق ؟ قال : أصلنا وأصولنا على أنا إذا رزقنا آثرنا وإذا منعنا حمدنا وشكرنا ، فقام شقيق وجلس بين يديه ، وقال : يا أبا إسحاق أنت أستاذنا . أقول : إن أهل بلخ ليسوا بكلاب وإنما هم أهل الإيمان والعلم وإبراهيم بن أدهم وإن كان عالماً إلا أنه ليس له أدب .

12 - المقالة الثانية عشر :

يقال إن شخصاً سأل أبا بكر ، وقال : إني نذرت ألا أتكلم حين ، مع أهلي ، فقال أبو بكر : عليك أن لا تتكلم إلى يوم القيامة ، فقال من أين تقول فقال : من قول الله تعالی « وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ » فسأل عمر ، فقال إلى أربعين سنة لأن الله تعالى يقول : «هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ »، فسأل عثمان ، فقال إلى سنة لأن الله تعالى يقول : «تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا »فسأل مولانا الإمام أمير المؤمنين ويعسوب الدين وقائد الغر المحجلين عليه أفضل الصلاة والتحية والسلام ، فقال : إن نذرت بالليل فتتكلم بالنهار ، وإن نذرت بالنهار فتتكلم بالليل ، فقالوا كلهم من أين تقول ؟ فقال عليه أفضل الصلاة والتحية والسلام : يقول الله تعالى :«فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ».

13 - المقالة الثالثة عشر :

قال مولانا الكاظم علیه السلام إن عالم من أكابر علماء النصارى يقعد لهم في كل سنة يوم واحد يستفتونه فيفتيهم ، فلف أبي علیه السلام رأسه بفاضل ردائه وفعلت مثل ما فعل أبي علیه السلام، فأقبل نحوهم حتى قعد وقعدت أنا وراء أبي ، ورفع الخبر إلى هشام فأمر بعض غلمانه أن يحضر الموضع فينظر ما يصنع أبي علیه السلام فأقبل وأقبل عدد من المسلمين فأحاطوا بنا وأقبل عالم النصارى قد شد حاجبيه بحریرة صفراء حتى توسطنا ، فقام إليه جميع القسيسين والرهبان مسلمين عليه ، فجاء إلى صدر المجلس فقعد فيه وتحاط به أصحابه وأبي وأنا بينهم

ص: 166

فأدار نظره ثم قال لأبي علیه السلام: أمنا أم من هذه المرحومة ؟ فقال أبي علیه السلام: من هذه الأمة المرحومة ، فقال : أنت من علمائها أم من جهالها ؟ فقال أبي علیه السلام: لست من جهالها ، فاضطرب اضطرابا شديدا فقال أسألك فقال أبي علیه السلام اسأل ، فقال : من أين أدعيتم أن أهل الجنة يطعمون ويشربون ولا يحدثون ولا يبولون وما الدليل فيما تدعونه من شاهد لا يجهل ؟ فقال له أبي علیه السلام: دليل ما ندعيه من شاهد لا يجهل ، الجنين في بطن أمه يطعم ولا يحدث . فاضطرب عالم النصارى اضطراب شديدأ ثم قال : كلا زعمت أنك لست من علمائها فقال له أبي علیه السلام ولا من جهالها ، وأصحاب هشام يسمعون ذلك ، فقال لأبي علیه السلام: أسألك عن مسألة أخرى ، فقال له أبي علیه السلام: سل ، فقال : من أين أدعيتم أن فاكهة الجنة أبداً جداً غضة طرية موجودة غير معدومة عند أهل الجنة ، وما الدليل فيما تدعونه من شاهد لا يجهل ؟ فقال له أبي علیه السلام : دلیل ما ندعيه أن تراها أبداً يكون غضاً طرياً موجوداً غير معدوم عند جميع أهل الجنة لا ينقطع ، فاضطرب اضطراباً شديداً ثم قال : زعمت أنك لست من علمائها ، فقال له أبي علیه السلام: ولا من جهالها، فقال له : أسألك مسألة أخرى فقال له : سل فقال : أخبرني عن ساعة لا هي من ساعات الليل ولا هي من ساعات النهار ؟ فقال له أبي علیه السلام: هي الساعة التي بین طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، يهدأ فيها المبتلى ويرقد فيها البساهر ويفيق المغشي عليه ، جعلها الله في الدنيا رغبة الراغبين وفي الآخرة للعاملين لها دليلاً واضحاً وحجاباً بالغاً على الجاحدين المتكبرين التاركين لها .

فصاح النصراني بأعلا صوته صيحة عظيمة ثم قال : بقيت مسألة واحدة والله لا سألتك مسألة لا تهتدي إلى الجواب عنها أبدأ . فقال له أبي علیه السلام : سل فإنك حانث في يمينك . فقال : أخبرني عن مولودین ولدا في يوم واحد وماتا في يوم واحد عمر أحدهما مائة وخمسون سنة وعمر الآخر خمسون سنة ؟ فقال له أبي علیه السلام : ذلك عزير وعزيرة ولدا في يوم واحد، فلما بلغا مبالغ الرجال خمسة وعشرون عاما مر عزیر على حمار راكباً على قرية بإنطاكية

ص: 167

وهي خاوية على عروشها فقال « أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا » وكان الله اصطفاه وهداه ، فلما قال ذلك القول غضب الله عليه فأماته الله مائة عام سخطأ عليه بما قال ، ثم بعثه على حماره بعينه وطعامه وشرابه ، فعاد إلى داره وأخوه عزيرة لا يعرفه فأضافه وبعث إليه ولد عزير وولد ولده قد شاخوا وعزير شاب في سن خمسة وعشرين سنة ، فلم يزل عزير يذكر أخاه وولده وقد شاخوا وهم يذكرون ما يذكرهم ويقولون ما أعلمك بأمر قد مضت عليه السنون والشهور ؟ ويقول له عزيرة وهو شيخ ابن مائة وخمسة وعشرين سنة ما رأيت شابا في عمر خمس وعشرين سنة أعلم بما كان بيني وبين أخي عزير أيام شبابي منك ، فمن أهل السماء أم من أهل الأرض ؟ فقال عزیر لأخيه عزيرة : أنا عزير سخط الله علي بقول قلته بعد أن اصطفاني وهداني فأماتني مائة سنة ، ثم بعثني لتزدادوا بذلك يقينا أن الله على كل شيء قدير ، وها هو حماري وشرابي الذي خرجت به من عندكم أعاده الله لي كما كان ، فعندها أيقنوا فأعاشه الله بينهم خمسة وعشرين سنة ثم قبضه الله وأخاه في يوم واحد فنهض عالم النصارى عند ذلك قائمأ وقام النصارى على أرجلهم فقال لهم عالمهم أجئتموني بأعلم مني وقعدتموه معكم حتى هتکني وفضحني بل وأعلم المسلمين وقد أحاط بعلومنا وعنده ما ليس عندنا والله لا كلمتكم من رأس كلمة واحدة ولا قعدت لكم إن عشت سنة أخرى .

14 - المقالة الرابعة عشر :

يقال إن أبا شاکر سأل هشام بن الحكم يوماً فقال ألك رب ؟ فقال بلی فقال : أقادر هو ، قال : نعم قادر ، قال : يقدر أن يدخل الدنيا كلها في البيضة لا تكبر البيضة ولا تصغر ، قال هشام : النظرة ، فقال : قد أنظرتك حولا ثم خرج عنه ، فركب هشام إلى أبي عبد الله علیه السلام فاستأذن عليه فأذن له فقال له يا ابن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم من أتاني عبد الله الديصاني بمسألة ليس المعول فيها إلا على الله فقال له أبو عبد الله علیه السلام : یا هشام كم حواسك ؟ قال : خمس ، قال : أيها أصغر ، قال : الناظر ، قال : وكم قدر الناظر قال : مثل

ص: 168

العدسة أو أقل منها ، فقال له يا هشام فانظر أمامك وفوقك وأخبرني بما ترى ، فقال أری سماء وأرضا ودورة وقصور وبراري وجبالا وأنهار، فقال له أبو عبد الله علیه السلام إن الذي قدر أن يدخل الذي تراه العدسة أو أقل منها قادر أن يدخل الدنيا كلها البيضة لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة ، فأكب هشام علبه يقبل يديه ورأسه ورجليه ، وقال : حسبي يا ابن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وانصرف إلى منزله .

15 - المقالة الخامسة عشر :

قال أفلاطون أموات الأحياء أربعة : السقيم في بدنه والمتغرب عن وطنه ، والناظر إلى ما لغيره ، والمقدم عليه من هو دونه .

وقال الحكيم الرباني والعارف الصمداني فقيه أهل البيت مولانا المقدس الشيخ يوسف البحراني (قده) معلقاً على قول أفلاطون المتقدم ما حرفيته (وأنا أقول) فيه تقصير بل هم أحياء الأحياء إن علموا بما يجب كما إذا سر السقيم لسقمه وفوض إلى ربه ورضي بقضائه وفرح ببلائه لصدوره عن محبوبه فإن المحب يعتقد أذى المحبوب نعمة كبرى وكذا المتغرب عن وطنه المألوف لأن كمال النفس بالخروج عن عالمها ولأن السفر يسفر عن مدار الرجال ويبلغهم درجة الكمال ، وأما الثالث فعلاجه ترك النظر إلى زهرة الحياة الدنيا فإنه مقدمة لفتح معالق أبواب الملكوت والطيران في فضاء الجبروت وأما الرابع فعلاجه العلم بأن هذه دار نقله لا دار محله .

16 - المقالة السادسة عشر :

قال فقيه أهل البيت مولانا الشيخ يوسف البحراني (قدس سره) نقلاً عن ابن عبد البر في كتاب الاستيعاب - أنه اتفق علماء الإسلام : على أن كلمة (سلوني قبل أن تفقدوني) ما قالها أحد غیر مولانا ومقتدانا وإمامنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه أفضل الصلاة والتحية والسلام إلا كان كاذباً ، وفي الأثر أن قتادة لما قدم من الشام إلى الكوفة وقعد في المسجد قال : إن الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام قال في المسجد: (سلوني قبل أن تفقدوني) وأنا

ص: 169

أقول مثل ما قال ، فاتصل الخبر بأبي حنيفة فقال : سلوه عن النملة التي كلمت سلیمان على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام أذكر أم أنثى ، فسألوه فلم يرد جواباً فلما رجعوا إلى أبي حنيفة قال : إنها كانت أنثي لقول الله تعالى :(قَالَت نَملَة) ولم يقل قال نمل ، وذلك أن النملة تقع على الذكر والأنثى كالحمامة والشاة وإنما نميز بينهما بعلامة التأنيث ، فانظر إلى هذا المعجب بنفسه كيف انقطع هكذا . وقد وجه صاحب الكشاف تحقیق جواب أبي حنيفة وقال ابن الحاجب في بعض تصانيفه : أن مثل الشاة والنملة والحمامة تأنيث لفظي ، ولذلك كان قول من زعم أن النملة في قوله تعالى :(قَالَت نَملَة) و أنثي لورود تاء التأنيث في قالت وهما ، لجواز أن يكون مذكرة في الحقيقة وورد تاء التأنيث في قالت معهما کورودها في فعل المؤنث اللفظي ، ولذا قيل افحام قتادة خير من جواب أبي حنيفة .

17 - المقالة السابعة عشر :

قال العلامة البكتريولوجي (متشنیکوف) مدير معهد باستور بباريس (إن الإنسان خلق ليعيش ثلاثمائة سنة ، وإنما هو يقتل نفسه بسوء سيرته في تغذيته) وأقر بهذه الحقيقة جمهور الباحثين والمنقبين ، وجاءت العلوم الكيماوية فأيدت أقوالهم بالتحليلات إذ بينت ما يحويه كل نوع من أنواع الأغذية من المواد المختلفة وما يحتاج إليه الجسد كل يوم من أكل منها ، وحدثت بجانب هذه الفتوحات الكيماوية فتوحات أخرى طبية أثبتت بالتحليل أن أدواء القلب والسرطان والروماتيزيوم والبول والسكري والزلالي وتصلب الشرايين والشلل والإمساك المستعصي إلى ما إلى ذلك مما يطول عده كلها متولدة من سوء التغذي وعدم صنوف الطعام .

وبالمناسبة : إن هذه المقالة خارجة عن موضوع بحثنا لأنها متعلقة بعلم الطب والصحة الوقائية إلا أنني رأيت من المفيد أن أنقلها للقارىء الكريم من حيث أن علم الطب يعتبر من العلوم المهمة التي ينبغي لعلماء الإسلام أن

ص: 170

يهتموا بتفهمها بعد علم الشريعة وعطفا على ما ذكرته في هذه المقالة أقول : على رواد الصحة أن يعلموا أن للطب اليوم مذهبان أحدهما يرى أن الجسم يحتاج إلى العلاج بالمواد المختلفة مع استخدام التدابير الصحية ويرى الأخر أن العلاج قد يفيد العضو المريض فيحوله من حال إلى حال ولكنه في الوقت ذاته يوجب مرضأ على عضو آخر قد يكون فيه هلاك الشخص . فالطب في نظر هؤلاء يجب أن يقتصر على استخدام قوى الطبيعة من هواء طلق وغذاء جيد صحي خال من اللحم والمهيجات وعمل جسدي معتدل واستحمام بالماء الفاتر أو البارد وغير ذلك من التدابير التي تعين الأعضاء المريضة على مكافحة المرض الذي حل بها . إن هؤلاء يقولون إن العلاج لا يشفي المصاب ولكن الذي يشفيه هي القوة الحيوية في جسمه ، تلك القوة تظهر للحس بفعلها على الجراح . ألم تر أنه لو أصابك جرح أخذ بعد حين في الاندمال من نفسه فلا يزال سائرة في طريقه حتى يصبح العضو المجروح ويصير كأن لم يكن به شيء وتعود إليه جميع وظائفه ولم يبق للجرح عين ولا أثر. هذا الأثر المحسوس للاندمال والشفاء التدريجي هو أثر القوة الحيوية التي خلقها الله التحفظ لنا وجودنا إلى حين . فإذا أصاب أحد الأعضاء مرض لإهمالنا لقانون الصحة تولته القوة الحيوية بالعناية والعلاج كما تولت الجرح فلا يجوز أن يكون لنا ذلك من عمل إلا مساعدة فصل القوة الحيوية باتباع قوانين الصحة ومراعاة الحمية والعناية باستنشاق الهواء النقي وغير ذلك فتعمل القوة الحيوية عملها في ذلك العضو ولا يمر غير قليل حتى يشفى المريض . أما لو أعطي علاج وهو في تلك الحالة ازدادت سوءأ وتفاقم مرضه فإن نجا منه فلا يكون ذلك إلا ببذل مجهود كبير من قواه الحيوية تهيئة لمرض مزمن .

قالوا وقد جاءت شهادات كبار الأطباء في ضرر العلاجات تؤيد ذلك : قال الدكتور (غرانيشتان) وهو من أقطابه الطب بألمانيا : (الضعف في درجاته وأشكاله التي لا تحصى ليس هو على وجه عام إلا نتيجة العلاج بالعقاقير سواء كانت جيدة أم رديئة العلاجات إن استعملت كما ينبغي تغلبت

ص: 171

على المرض الأصلي ولكنها لا تترك في الجسم بقایا آج؟ أو عاج وتكون نتائجها غير قابلة للشفاء) .

وقال الدكتور (کیسر) كما نقله عنه الأستاذ بلز في كتابه الطب الطبيعي إن الحكمة القديمة القائلة بأن الدواء قد يكون شرا من الداء ، والطبيب شر من المرض، هي صحيحة في كثير من الأحوال . إن عددا كثيرا من الأمراض تشفى بقوة الطبيعة وحدها وأما في الأمراض كافة فالشيء الوحيد الذي يجب على الطبيب عمله ويستطيعه هو حصر وإبعاد المؤثرات القاتلة عن المريض ، وإبطال الحركة غير أن الطبيعة لبعض أجهزته وأعضائه . فإن فعل أكثر من هذا ليرضي المريض المحب للدواء ويحقق نظريته الوسواسية وشهوته النفسية فقد أضره كل الضرر على هذه الطريقة كثيرا ما يولد الأطباء الأمراض الصناعية ويمكن القول بأنه في كثير من الأمراض التي يعالجها الأطباء عدد كبير من الأمراض المزمنة منها ما قد سببه الأطباء أنفسهم . وفي الحالة الحاضرة للطب ، فإن كل نظرية طبية خاصة استدعت عددا من الضحايا البشرية لم يتوصل إلى الفتك بمثلها أنكأ الأوبئة ولا أطول الحروب) .

وقال الأستاذ (ستیفنس) أستاذ الكلية الطبية بنيويورك (كلما تقدم سن الأطباء قل اعتقادهم في تأثير الأدوية وزادت ثقتهم في قوى الطبيعة) ثم قال : رغما عن كل المخترعات الحديثة التي أحيطت بالتهليل فإن المرضى لا يزالون يشكون الأمراض كما كانت حالتهم قبل أربعين عاما . ثم قال : إن سبب بطء تقدم الطب ناتج من أن الأطباء بدلا من أن يدرسوا الطبيعة درسوا كتابات من تقدمهم) . وقال الدكتور سميث) كما نقله عنه الأستاذ بلز : (كل العلاجات التي تدخل في الدورة الدموية تسمم الدم بعين الطريقة التي تسممه بها السموم الجالبة للأمراض . الأدوية لا تشفي أي مرض كان بل الذي يشفيها هو الخاصة الطبيعية ليس إلا ثم قال : إن الديجيتال قد قتل ألوفأ من الناس وحمض البروسيك كان يستعمل بكثرة في أوروبا وأمريكا ضد السل الرئوي وقد عالجوا به ألوفة من المرضى فلم يشف منهم واحد بل إنه قتل

ص: 172

المئات منهم .

وقد نقل الأستاذ بلز عن أكثر من ثمانين عالم من علماء الطب الرسميين مثل هذه الأقوال التي تؤيدها المشاهدة فثبت من ذلك أن أثر العقاقير في شفاء الأمراض أثر مهلك وجدير بالإنسان إذا أصابه مرض أن يحتمي عن الأكل وأن يعني بأمر الصحة مستخدمة الوسائل التي ذكرها الأطباء الطبيعيون من الاستشفاء بالماء والهواء ذلك خير من التعرض لأخطار العلاجات المختلفة : لم يجن العالم إلى اليوم من الطب من فائدة غير تخفيف الآلام بالمسكنات وكلها سام ، فقال ولقد كثر الأطباء والصيدلات ولا تزال الأمراض والمرضى آخذين في الازدياد وقد طرأت أمراض ما كان يعرفها آباؤنا ولا تعرفها للآن الأمم الخلوية التي لا تعرف طبأ ولا علاجأ فما أثر الطب بعد ذلك ؟ يظهر لنا أن علم الطب سيضمحل ويمل ويحل محله علم قانون الصحة وسيزول كل ما يعزي للعلاجات من التأثيرات و الخواص لظهور أثر الغلو فيها ولن يبقى إلا علم الجراحة فهو العلم النافع الذي لا شك في نفعه . هذا ما قاله أنصار علم الطب الطبيعي .

18 - المقالة الثامنة عشر :

قال العالم الإنجليزي هيج إن أسباب الأمراض هي الحوامض السامة التي تضاف إلى الدم من التغذية أكبرها حمض البوليك (اسیداوريك) وحمض الأوكساليك والنطرون وصرح بأن لا سبب للنوراستانيا وهو مرض ضعف الأعصاب الذي ينتشر اليوم انتشار مريعة بين جميع الطبقات إلا حمض البوليك ، وكذلك هو من الأسباب الإصابة بالنقطة والروماتيزيوم وألم الرأس والصداع والصرع والجنون وضعف القلب ووقوفه والربو والتهاب الشعب وسوء الهضم والبول السكري وأمراض القلب .

ويقول إن السميات التي تتخلف من المواد الغذائية تثبت في تفرعات الأوعية الدموية وتسد الأوعية الشعرية فتقل قوة سريان الدم ويشتد ضغطه

ص: 173

على القلب ويكون سبباً لضعف عام للبنية ولاختلال جميع الأعضاء فإذا أبطأت الدورة قلت تغذية الأعضاء ومتى اشتد الضغط على القلب يحدث له مرض ثم تنتشر سموم الأغذية بتوالي تواردها في سائر الأعضاء فتمرضها أيضا فيشكو صاحبها العوارض المختلفة ويعرض نفسه على الأطباء فيشخصه كل منهم على ما تسمح له به نظریات فتارة ينصحونه بتعاطي المقويات وأخرى بأخذ المنومات ومرة يأمرونه بالسياحة وأخرى بالراحة وحينا يمزقون جلده بأبر الحقن وهم في ذلك كله بعيدون عن حقيقة الداء فلو علموا أنه ناشیء عن سموم الأغذية وعنوا بمعرفة مقادير السموم منها وأشاروا بحمية صحيحة لشفي المصاب ولكنهم يعتمدون على العقاقير الطبية فتنضم إلى كمية السموم وتزيد فعلها . ثم يعرض لنا الدكتور هيج أن تراکم حمض البوليك في أوعية الدم يسبب انحرافا في العقل واضطرابا في الحياة وهي أخص أعراض النوراستانيا فإذا سهل خروج حمض البوليك تغيرت حال العقل حالا كأنها حادثة سحرية وتنقلب الحياة في نظر صاحبها سارة حتى أن الإنسان ليحدث نفسه بإتيان الأعمال المستحيلة . ويقول هيج إن جميع الأمراض تزول بإزالة حمض البوليك فاحذفوا هذا الحمض تعيشوا مائة سنة ولا يوجد هذا الحمض عير الغذاء ، بالتحليل وجد أن هذا الحمض يوجد في اللحم والفول والعدس والبازلة والفاصولياء واللوبياء الجافة والشاي والقهوة والكاكاو . ثم قال وعليه فيجب الاكتفاء بأكل النباتات وخصوصا الاسفاناخ والخبازي والكرنب والقرنبيط والفواكه واللبن والجبن والامتناع عن اللحم والفول والعدس والبازلة والفاصولياء واللوبياء الجافة . إذا سار المصاب بأي مرض على هذه الحمية مدة تحللت السموم وتسربت في الكليتين والجلد وغيرها وطهر الجسم منها وزالت جميع الأعراض المرضية منه .

19 - المقالة التاسعة عشر :

قال العالم الإيطالي الدكتور كانتاني إن حمض البوليك هو سبب کل

ص: 174

مرض في جسم الإنسان ولكنه ليس هو العلة بل العلة قلة الأوكسجين في الجسم لتحويله إلى بول ونزوله مع الفضلات . قال والذي يوجب نقص مقدار الأوكسجين في جسم الإنسان حيث إنه يستهلك كثير من تناول الأغذية الأيدراتية الكربونية (كالسكر والنشا ) والدهنية . فإن لم يتناول الإنسان هذه بقي الأكسجين في دمه فحول حمض البوليك إلى بول فاتقى الجسم شره كما تكون . وعلى ذلك فالدواء الوحيد لجميع الأمراض عند الدكتور كانتاني هو اتباع حمية فلا يأكل الإنسان فيها الدهنيات ولا السكر والنشا ويمتنع عن الخل والمخللات واللبن والجبن والأمراق والعجينات والرز والبطاطس والحلوى والتوابل ويكتفي بالبيض والنباتات الخضراء مع حركة في الهواء الطلق .

أما العالم الفرنسي سوبر ويسكي فيقول إن سبب الأمراض فساد تركيب الدم وما فساده إلا كونه حامضأ غير محتو على قلویات فصلاحيته أن يكون قوية حلوة ، وعدم صلاحيته أن يكون حامض . والدليل على أن سبب الأمراض هو خلو الدم من القلويات أنك لا تجد في الدم ولا في البول أملاحة قلوية في جميع الأمراض الحمية وهذا برهان على أن هذه الأملاح حرب لتلك الأمراض فقد ثبت أنها تقتل الميكروبات البدنية وتلاشي سمومها كما يقتلها السليماني فالأفضل للمرضى أن يعطوا أغذية كثيرة القلويات فإن المرض يزول مهما كان نوعه حتى تسلح الدم بالقلويات فالفواكه والليمونات تشفي أكثر ولا يسقط مريض بضعف القلب إذا أعطي قلويات كافية فإذا تكون سم في الدم انفرز حالا بفعل تلك القلويات . ولما كانت الوظائف الحيوية تسرع الحميات فتستهلك القلويات فيجب إعطاء المريض أغذية قلوية أما المرق فلاحتوائه على البوتاس يضعف القلب والفواكه أولى منه بالعناية .

الأمراض المزمنة تشفى بإعطاء الدم قلويات ويذوب الصفراوي تحت تأثيره ويشفي البول السكري والنقطة وعدم وجود القلويات في الدم يوجد

ص: 175

الهرم الباكر وقال سوبر ويسكي أيضاً : كل تأكسد يبطىء التغذية والتصريف فلا يصل للأعصاب غذاء كاف فيبطل نشاطها فيعتري الإنسان ما لا يحتسب من أمراضها وكل الذين عاشوا كثيراً كانوا قنوعين جداً . فبالإفراط في الأكل تبقى فضلات كثيرة وعلى قدرها يستهلك الجسم القلويات من الدم . لا يوجد للدم نقاءه وزيادة قلوياته إلا النباتات من الفواكه والأعشاب وأفضلها ما كانت قلوياته أكثر الأمراض كثيرة وسببها واحد وهو اختلال أعضاء التصريف فمتى لم تخل فلا مرض وتلك الأعضاء المصروفة هي الرئتان والكليتان والجلد والأمعاء فإن مرضت أحدها وقع الجسم في المرض لا محالة . إن مرضت الكليتان بقيت البولينا (الأورية) وحمض البوليك في الدم وناهيك بهما من غولين للصحة ، وإن انسدادات مسام الجلد تبقى في الجلد المسموم التي يجب أن تتصاعد منه بالتبخر الجلدي ، وإن تعبت الأمعاء بقيت الفضلات في البدن .

ويرى العالم الألماني کوهُن أن الأمراض كلها لها سبب واحد وعلاج واحد كذلك فهو يقول إنه لا يوجد إلا مرض واحد يظهر بمظاهر مختلفة ، والعلة الحقيقية لهذا المرض هي اجتماع أجسام غريبة في جسم الإنسان ليس لها دخل في تركيبه وحفظه ، فهي أجسام غريبة وإن شئت فقل جراثیم مرضية لم تستطع الأعضاء المفرزة وهي الأمعاء والكليتان والجلد والرئتان إفرازها . هذه الأجسام الغريبة يروي (کوهن) أنها تتسرب إلى أبداننا أغذية ضارة ومضادة للشروط الفزيولوجية للحياة الإنسانية كاللحوم والتوابل والأشربة الكحولية المخدرة من النبيذ والبيرة والعرق والقهوة والشاي إلى غير ذلك فهي من جهة ليس فيها قيمة غذائية ومن جهة أخرى تحدث تهيجا للجسم يعقبه الضعف لا محالة.

ومن الأجسام الغريبة التي تسبب لنا الأمراض في رأي (کوهن) السموم الصيدلية التي تتناول باسم علاجات التبغ والسعوط (النشوق) وسم تلقيح الجدري الذي إذا دخل الجسد قل أن يخرج منه ويكون مصدر

ص: 176

جراثیم مرضية له ، ومما يوجد الأجسام الغريبة في البدن ما يحمله معه الهواء الفاسد والأبخرة المتصاعدة من الاصطبلات والغازات التي تستعمل للتطهير في البيوت ، وما يتصاعد من عرق الغير والعثير الثائر في الطرق الخ . كل هذه تتسرب إلى أبداننا وتمكث فيها فتسبب لنا الأمراض المختلفة . ثم إن مما يحدث المواد المرضية التعب فإنه يهلك عدداً عظيماً من خلايانا فتمكث في أبداننا بسوء نوع معيشتنا بدل أن تنصرف في الدم ومنه تخرج إلى الجو بواسطة الأعضاء المفرزة للسموم . هذه المواد الغريبة المرضية المختلفة من الأغذية يحاول الجسم بخضوعه للقانون الطبيعي الذي يدير كل حياة أن يبعده عنه باعتبار أنه غير نافع له أو ضار به . ولكن أعضائنا المفرزة لا تستطيع نظرا لكثرة المواد أن تفرزها كلها في آن واحد فيتراكم ما يبقى منها في الجهة السفلي من البطن . ومن هنالك تتجه رویدا رويدا إلى الأطراف وتلبث هناك تبعا لناموس الثقل وتبعا للوضع العام إما ذات اليمين أو ذات الشمال أو أمام أو خلف . فتبقى هذه المواد غير محسوس بها أو تصيب صاح. ما قشعريرات واضطرابات لا يمكن التعبير عنها وقلق عام .

وبالجملة تصيبه جميع الأعراض التي تسبب الأمراض الحادة أو الحمية . تلك المواد التي تتخلف في الجسم هي مواد عفنة أو متخمرة . والتخمر نوع من التعفن سببه التحلل الواقع في بعض المواد العضوية فإذا حدث سبب داخلي أو خارجي أو برودة أو حرارة أو انفعال تحيا هذه المواد ئالمرضية وتتخمر ثم تبحث لها عن مخرج فتتحرك على موجب مواضعها والمراكز اللينفاوية للجسم متجهة إلى أعلى الجسم وإلى الجلد أولا . فإذا وجدت مانعا يحول بينها وبين الخروج تحدث تمددة في الجهة التي تحل فيها فتولد ورما ظاهرا أو باطنة ، وقد يحدث أن هذه المواد المرضية تسقط دإلى الأطراف السفلى فتمكث بين الساقين والقدمين . هذه المواد تندفع على الدوام للبعد عن مستودعاتها على قدر الإمكان والتسرب إلى الأعضاء

ص: 177

البعيدة عنها کالرأس والعنق والأيدي والأرجل والأصابع وإبهام القدم . وهنالك تقف لأنها لا تستطيع أن تخرج من مسام الجسم لعدم العناية بصحة الجلد ولأن المعيشة ضد الطبيعة جعلت المسام الجسدية كأنها لم توجد أو قليلة الفائدة . وقد يكون الجلد على ما يرام من تأدية وظيفته ولكن تدفق تلك المواد عليه فجأة لا يمكنه من تصريفها بمسامه دفعة واحدة .

فإذا كان نشاط الجلد ضعيفة أو معدومة . والأمعاء والكليتان والرئتان لا تؤدي وظائفها على ما ينبغي كما هي الحالة العامة الآن تسبب من تلك المواد الغريبة في الأنسجة الجسمية تغيرات مرضية تفسد الشكل الطبيعی للجسم رويدا رويدا فتجمد الأنسجة وتتوتر العضلات بعد أن كانت لينة في اللمس ويكون توترها ظاهرة محسوسة في أثناء تحركها . وفي أحوال أخرى يسبب وجود المواد الغريبة في الجسم تمددا فيه ويمكن التحقق من صحة هذه الأحوال . ويمكن أن نلاحظ أصحاب الأجساد السمينة الذين تمددت أبدانهم بتراكم المواد السمنية الغريبة فيها أو أن نتأمل في الأشخاص النحفاء الذين نجد أنسجتهم متواترة على درجات مختلفة . قلنا إن المواد الغريبة تميل على الدوام. أن تتجه إلى الأطراف . والرقبة تكون كمضيق بين الجذع والرأس فتظهر تلك المواد الغريبة فيها متراكمة على الخصوص هذا بسبب الأمراض فما هو الدواء ؟ قال (کوهن) : لما كان سبب جميع الأمراض واحدا كما رأيت وهو تراكم المواد الغريبة في أجسامنا من جراء تعاطينا أغذية لا توافق ترکيبنا وتعرضنا للتعب المفرط واستنشاق الغازات الضارة.. فليس لها إلا دواء واحد وهو ينحصر في الأمرين الآتيين اللذين نتيجتهما قطع الإمداد عن تلك المواد السمنية وتسهيل خروجها .

أولا : الاقتصار في الغذاء على النباتات .

ثانيا : استعمال الحمامات الجذعية والحمامات الجلوسية مع ذلك الجسم بفوطة خشنة مبتلة والحمامات البخارية . الحمامات الجذعية هي : أحواض يغمر الإنسان فيها جذع جسمه فقط أي من عنقه إلى فخذيه .

ص: 178

والحمامات الجلوسية هي أحواض تغمر فيها المقعدة مع جزء من الظهر والبطن . والحمامات البخارية هي إحاطة الجسم بالأبخرة .

20- المقالة العشرون :

هذه آخر المقالات التي أردنا ذكرها وفي هذه المقالة نشير إلى عدد يسير من تراجم عظماء علماء الشيعة الإمامية وفقهائها الذين خدموا العلم والدين وإليكم ذلك بالتسلسل كما يلي :

1- مولانا المعظم محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السلام بن جابر بن النعمان بن سعيد العربي العكبري البغدادي المعروف بابن المعلم الملقب بالشيخ المفيد كان من أجل مشائخ الشيعة ورئيسهم وأستاذهم وكل من تأخر عنه استفاد منه وفضله أشرف من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية ، أوثق أهل زمانه وأعلمهم انتهت إليه رئاسة الإمامية في وقته وكان حسن الخاطر دقيق اللفظة حاضر الجواب ولد رضوان الله تعالى عليه عام ثلاثة مائة وستة وثلاثين للهجرة النبوية على مهاجرها وآله أفضل الصلاة والتحية والسلام (336 ه) ومات رضوان الله عليه ليلة الجمعة لثلاث خلون من شهر رمضان سنة أربعمائة وثلاثة عشر للهجرة النبوية الطاهرة على مهاجرها واله أفضل الصلاة والتحية والسلام (3 شهر رمضان 413 ه) ويكفي في عظيم مرتبته وعلو شأنه أن له توقيعات من مولانا صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه الشريف تعرفنا بجلالته وعظيم قدره منها : للأخ السديد والولي الرشيد الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن نعمان أدام الله عزه مستودع العهد المأخوذ على العباد . بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد ... سلام عليك أيها الولي المخلص في الدين ، المخصوص باليقين ، فإنا نحمد الله الذي لا إله إلا هو، ونسأله الصلاة والسلام على نبينا وسيدنا ومولانا محمد وآله الطاهرين ، ونعلمك أدام الله توفيقك لنصرة الحق وأجزل مثوبتك على نطقك عنا بالصدق

ص: 179

- أنه قد أذن لنا في تشريفك بالمكاتبة وتكليفك ما تؤديه عنا إلى موالينا قبلك ، عزهم الله بطاعته ، وكفاهم المهم برعايته له وحراسته ، فقف أيدك الله بعونه على أعدائه المارقين عن دينه - على ما نذكره واعمل في تأديته إلى من تسكن إليه بما نرسمه إن شاء الله تعالى ونحن وإن كنا ثاوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسبما أراد الله من الصلاح لنا ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين ، فإنا نحيط علما بأنبائكم ، ولا يعزب عنا شيء من أخباركم ومعرفتنا بالأذى الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسع ، ونبذوا العهد المأخوذ منهم وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ، وإنا غير مهملين لمراعاتكم ، ولا ناسين لذكركم ولولا ذلك لنزل بكم البلاء واصطملكم الأعداء ، فاتقوا الله جل جلاله وظاهرونا على أنباشكم من فتنة قد أنافت عليكم يهلك فيها من تم أجله ويحمى عنها من أدرك أمله ، الخ . إلى آخر المكاتبة .

ومنها نسخة أيضاً قال صلوات الله وسلامه عليه أيها الأخ الولي والمخلص في ودنا الصفي ، والناصر الوفي حرسك الله بعينه التي لا تنام فاحتفظ به ، ولا تظهر على خطنا الذي سطرناه بما له ضمناه أحد ، وأد ما فيه إلى ما تسكن إليه ، وأوص جماعتهم بالعمل عليه إنشاء الله تعالی وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين .

ومنها بعد كلام طويل : أنه قد أذن لنا في تشريفك بالمكاتبة .

وقيل إنه رثاه مولانا صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه بهذه الأبيات :

لا صوت الناعي بفقدك أنه *** يوم على آل الرسول عظيم

إن كنت قدغيبت في جدث الثرى*** فالعدل والتوحيد فيك مقیم

والقائم المهدي يفرح كلما *** تليت عليك من الدروس علوم

ص: 180

فملخص القول أن هذا الشيخ محبي السنة ، ومما يدل على عظمته وعلو قدره أنه كان مروجاً لعلومها بمؤلفاته المعتبرة الكثيرة . نذكر منها ما يلي :

1- كتاب المقنعة .

2 - الأركان في دعائم الدين .

3 - كتاب الإيضاح في الإمامة .

4 - كتاب الإفصاح في الإمامة .

5 - كتاب الإرشاد .

6- کتاب العيون والمحاسن .

7- کتاب الفصول من العيون والمحاسن .

8- کتاب الرد على الجاحظ والعثمانية .

9- کتاب نقض المروانية .

10- کتاب المعتزلة .

11 - کتاب المسائل الصاغانية .

12 - کتاب مسائل النظم .

13 - کتاب المسألة الكافية في إبطال توبة الخاطئة

14 - كتاب النقض على ابن عباد في الإمامة .

15 - كتاب النقض على علي بن عيسى الوماني .

16 - كتاب النقض على أبي عبد الله البصري .

17 ۔ كتاب في المتعة .

18 - كتاب الموجز فيها .

19 - كتاب مختصر المقنعة .

20 - کتاب مناسك الحج

21- کتاب مناسك الحج المختصر .

22 - كتاب المسائل العشر في الغيبه .

ص: 181

23 - مسألة في المسح على الرجلين .

24 - كتاب مختصر في الغيبة .

25- کتاب مسألة في نكاح الكتابيات .

26 - کتاب جمل الفرائض .

27 - کتاب مسألة في الإرادة .

28 - کتاب مسألة في الأصلح .

29 - كتاب أصول الفقه .

30 - کتاب الموضح في الوعيد .

31- کتاب کشف الالتباس .

32 - کتاب کشف السرائر .

33 - کتاب الجمل .

34 - كتاب لمح البرهان .

35 - کتاب مصابيح النور .

36 - كتاب الأشراف

37 - کتاب الفرائض الشرعية .

38 - كتاب النكت في مقدمات الأصول .

39 - كتاب إيمان أبي طالب .

40 - کتاب مسائل أهل الخلاف .

41 - كتاب النساء .

42 - کتاب عدد الصوم والصلاة .

43 - کتاب الرسالة إلى أهل التقليد .

44 - كتاب التمهيد .

45 - کتاب الانتصار .

46 - كتاب الكلام في الإنسان .

47 - كتاب الكلام في وجوه إعجاز القرآن .

ص: 182

48 - كتاب الكلام في المعدوم .

49 - کتاب الرسالة العلوية .

50 - كتاب أوائل المقالات .

51 - بیان وجوه الأحكام .

52 - کتاب المزار الصغير .

53 - کتاب الاعلام .

54 - کتاب جواب المسائل في اختلاف الأخبار .

55 - كتاب العويص في الأحكام .

2- مولانا المقدس المحدث علي بن بابویه المعروف بالشيخ الصدوق ، كان من أجلّةِ فقهاء الشيعة الإمامية توفي عام 329 هجرية دفن بقم المقدسة إلا أنه كان محدثا أكثر مما يكون فقياً صاحب فتوى ، خدم العلم بمؤلفاته الكثيرة نذكر منها ما يلي على سبيل المثال لا الحصر :

1۔ کتاب التوحيد .

2. الوضوء .

3- کتاب الصلاة .

4 - کتاب الجنائز .

5 - كتاب الإمامة والتنصرة في الحيرة .

6 - كتاب الإملاء والنوادر .

7- کتاب المنطق .

8- کتاب الإخوان .

9 - كتاب النساء .

10 - کتاب الشرائع .

إلى غيرها من الكتب العلمية النفيسة التي يضيق الوقت بذكرها .

3- مولانا المقدس العياشي صاحب التفسير المعروف ، كان أحد

ص: 183

فقهاء الشيعة الإمامية المعروفين في عصره ويقال إنه كان معاصراً لمولانا الشيخ علي بن بابويه القمي المتقدم ذكره . كان العياشي رجلا جامعة وإن كان اشتهاره بالتفسير أكثر ، له كتب كثيرة في علوم مختلفة ومما تجدر الإشارة إليه أن الشيخ المترجم كان عامية ثم تشيع ، وكان قد ورث من أبيه إرثا كثيرا صرفه جميعه في استنساخ الكتب واستكتابها واقتنائها وشرائها وتجميعها والتعلم والتعليم كل ذلك في داره ببغداد .

4 - مولانا المقدس السيد المرتضى المعروف بعلم الهدی : ولد عام 335 هجرية ، وتوفي عام 436 هجرية على مهاجرها وآله أفضل الصلاة والسلام . لقبه العلامة الحلي بمعلم الشيعة الإمامية . قال مولانا المقدس فقيه أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والتحية والسلام الشيخ يوسف آل عصفور البحراني في كتابه لؤلؤة البحرين نقلاً عن كتاب (الدرجات) في طبقات الإمامية من الشيعة : السيد المرتضى أبو القاسم علي بن أبي أحمد الحسين بن موسی بن محمد بن موسی بن إبراهيم بن موسی بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم أفضل الصلاة والتحية والسلام الملقب بذي المجدين علم الهدی رضوان الله تعالی عليه . كان أبوه النقيب أبو أحمد جلیل القدر عظیم المنزلة في دولة بني العباس ودولة بني بويه ، وأما والدة الشريف المرتضی فهي السيدة فاطمة بنت الحسين بن أحمد بن الحسن الناصر الأصم ، وهو أبو محمد الحسن بن علي بن عمر الأشرف بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم أفضل الصلاة والتحية والسلام وهي أم أخيه أيضا أبي الحسن الرضي رضوان الله تعالى عليه.

كان مولانا الشريف المرتضى أوحد أهل زمانه فضلاً وعلماً وكلاماً وحديثاً وشعراً وخطابة وجاهاً وكرماً إلى غير ذلك .

ويقال : إن مولانا المفيد قدس الله نفسه الزكية رأى في منامه

ص: 184

الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم دخلت عليه وهو في مسجده بالكرخ ومعها ولداها السبطين الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة عليهما أفضل الصلاة والتحية والسلام صغيرين فسلمتهما إليه وقالت : علمهما الفقه ، فانتبه شیخنا وتعجب من ذلك ، فلما تعالى النهار في صبيحة تلك الليلة التي رأى فيها الرؤيا دخلت إليه المسجد فاطمة بنت الناصر وحولها جواریها وبين يديها إبناها علي المرتضى ومحمد الرضي صغيرين ، فقام إليها وسلم عليها ، فقالت له أيها الشيخ هذان ولداي قد أحضرتهما إليك لتعلمهما الفقه ، فبكى الشيخ وقص عليها المنام ، وتولى تعليمهما وأنعم الله عليهما وفتح لهما من أبواب العلوم والفضائل ما اشتهر عنهما في آفاق الدنيا وهو باق ما بقي الدهر .

ولقد كان مولانا المرتضى يعظم العلم ورجاله حتى ولو لم يكونوا على مذهبه وطريقته . يقال : إن أبا إسحاق الصابي كان أديبا منشئا، وله في الكتابة والإنشاء مقام رفيع وكان يعيش في القرن الرابع من الهجرة النبوية الشريفة على مهاجرها وآله أفضل الصلاة والسلام وهو صاحب الرسائل المشهورة والنظم البديع ، وكان يصوم شهر رمضان مع المسلمين ويحفظ القرآن الكريم أحسن حفظ وكان يستعمله في رسائله وكانت الصداقة بينه وبين السيد الشريف الرضي رضوان الله تعالى عليه ، توفي في سنة 483 أو 480 هجرية ورثاه السيد الشريف الرضي بقصيدة طويلة ومن جملتها هذه الأبيات :

أرأيت من حملوا على الأعواد*** أرأيت كيف حبا ضیاء النادي

جبل هوى لو خر في البحر*** اعتدي من ثقله متتابع الأزيادي

ما كنت أعلم قبل حطك في الثرى*** أن الثرى بعلو على الأطواد

ورثاه مولانا الشريف المرتضى بقصيدة طويلة من جملتها هذه الأبيات :

ولقد أتاني من مصابك *** طارق لكنه ما كان كالطراق

ص: 185

ما كان للعينين قبلك بالبكا *** عهد ولا الجنبين بالإقلاق

وأطقت حمل النائبات ولم يكن*** ثقل برزئك بيننا بمطاق .

وقيل إنه بلغ الأمر بمولانا المرتضى أنه إذا بلغ راكبا إلى قبر أبي إسحاق ترجل حتى يتجاوزه فيركب فعاتبه أخوه الرضي على ذلك فقال إنما أعظم درجته في العلم ولست أنظر إلى دينه .

خدم هذا السيد الجليل والعلامة النبيل الشريعة الإسلامية بالمؤلفات الكثيرة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي :

1- كتاب الشافي في الإمامة .

2- کتاب المغني .

3 - كتاب الملخص في علم الأصول ولم يتمه .

4 - كتاب الذخيرة في علم الأصول تام .

5 - کتاب جمل العلم والعمل .

6 - کتاب الغرر والدرر .

7- کتاب التنزيه في عصمة الأنبياء .

8- کتاب المسائل الموصلية الثلاث وهي مسألة في الوعيد ومسألة في إبطال القياس ومسألة في الاعتماد .

9 - کتاب مسائل أهل الموصل الثانية .

10۔ کتاب مسائل أهل الموصل الثالثة .

11 - کتاب المقنع في الغيبة .

5- مولانا المعظم أبو جعفر الطوسي المعروف بشيخ الطائفة : خدم العلم بمؤلفاته الكثيرة في الفقه والأصول والحديث والتفسير والكلام والرجال .

ولد شيخنا عام 385 ه وهاجر إلى بغداد مرکز علوم الإسلام آنذاك عام 408 ه وله ثلاث وعشرون سنة ، وبقي في العراق إلى آخر عمره :

ص: 186

وانتقلت إليه بعد أستاذه السيد المرتضى الرئاسة العلمية والمرجعية ، درس على يد الشيخ المفيد واستفاد مدة مديدة من محض أبرز تلامذته شيخه السيد المرتضى حتى توفي السيد المرتضی عام 446 ه وبقي هو على قيد الحياة بعد أستاذه أربعة وعشرون عاما ، بقي منها في بغداد اثني عشر عاما ثم هجرها إلى النجف الأشرف على ساكنها أفضل الصلاة والتحية والسلام إثر حوادث جرت إلى نهب بيته ومكتبته فأسس في النجف الأشرف حوزة علمية ، وتوفي عام 460 ه ودفن في بيته إلى جنب مسجده إلى جوار مرقد مولانا الإمام أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين وآية الله العظمى والنبأ العظيم علي بن أبي طالب عليه وآله أفضل الصلاة والتحية والسلام خلف جامع عمران بن شاهين المبني على عهد الديالمة البويهيين ، ثم وسع المسجد فيما بعد فدخل قبره في المسجد المعروف باسمه بزار ويتبرك به رزقنا الله تعالی زیارة مولانا الإمام أمير المؤمنين وزيارة النبي والأئمة المعصومين عليهم أفضل الصلاة والتحية والسلام وزيارته .

أما أسماء كتبه التي خدم بها العلم فإليك بعضها على سبيل المثال لا الحصر :

1- النهاية : كتاب في الفقه والفتوى - جعله الشيخ للتدريس على عهده فأصبح يدرس بعد وفاته مدة مديدة.

2 - المبسوط : کتاب فقهي أيضأ .

3- الخلاف : فقهي أيضا .

4 - كتاب الاستبصار .

5 - كتاب الإيجاز في الفرائض .

6 - کتاب المسائل الرجبية في آي القرآن الكريم .

7- کتاب المسائل الدمشقية .

8- كتاب البيان في تفسير القرآن .

9- کتاب المسائل الرازية في الوعيد .

ص: 187

10 - کتاب مصباح المتهجد .

6 - مولانا المقدس الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الحلي أبو منصور ، كان شيخ الطائفة وعلامة عصره ووحيد دهره ولد عام 683 ها وتوفي عام 726 هجرية على مهاجرها وآله أفضل الصلاة والسلام ، خدم العلم بما يقرب من مائة كتاب مطبوع أو مخطوط كما ذكر مولانا آية الله العظمى الشهيد المطهري قدس الله نفسه الزكية نذكر منها :

1- الإرشاد .

2- تبصرة المتعلمين .

3- القواعد .

4 - تذكرة الفقهاء .

5- غاية الأحكام في تصحيح تلخيص المرام .

6 - مدارك الأحكام .

7- تسليك الافهام إلى معرفة الأحكام .

8- کشف الخفاء من كتاب الشفاء .

9- نهج العرفان في علم الميزان (في المنطق) .

7- مولانا المقدس فخر المحققين محمد نجل مولانا العلامة الحلي ولد عام 982 ه. وتوفي عام 771 من الهجرة النبوية الشريفة على مهاجرها وآله أفضل الصلاة والتحية والسلام خدم العلم أيضأ بكتبه العلمية منها : كتاب إيضاح الفوائد في شرح مشکلات القواعد وكان الفقهاء يتفننون بارائه في هذا الكتاب .

8- مولانا المقدس محمد بن مكي الجريني العاملي المعروف بالشهيد الأول ولد عام 734 ه واستشهد عام 786 من الهجرة النبوية الشريفة على مهاجرها وآله أفضل الصلاة والتحية والسلام ، بفتوى فقيه مالكي وتأييد آخر شافعي ، خدم العلم بمؤلفاته المعروفة منها : اللمعة

ص: 188

الدمشقية التي هي الآن تدرس في الحوزات العلمية في كل من النجف الأشرف على ساكنه وأولاده المعصومين أفضل الصلاة والتحية والسلام وقم المقدسة .

9- مولانا المقدس جمال السالكين أبو العباس المقدس الشيخ أحمد بن فهد الحلي الأسدي ولد عام 757 وتوفي في سنة 841 من الهجرة النبوية الشريفة على مهاجرها وآله أفضل الصلاة والتحية والسلام ، خدم العلم بمؤلفاته الفقهية المعتبرة التي لا تقل عن مائة منها ما يلي :

1- کتاب المهذب البارع في شرح المختصر النافع للمحقق الحلي .

2- شرح إرشاد العلامة باسم المقتصر .

3- کتاب شرح الألفية .

4 - کتاب الدعاء (عدة الداعي) .

10 - مولانا المقدس الشيخ بهاء الدين محمد العاملي المعروف بالشيخ البهائي ، كان رجلا جامعة أديب شاعرأ فيلسوفة رياضية مهندسين فقيها مفسرة وله إلمام بالطب أيضا ، خدم العلم بمؤلفاته العلمية المعتبرة وهو أول من كتب رسالة عملية فقهية غير استدلالية ودورة كاملة من الفقه عرفت باسم (الجامع العباسي) نسبة إلى الشاه عباس الصفوي .

11 - مولانا المقدس محمد باقر بن محمد أكمل البهبهاني : المعروف بالوحيد البهبهاني كان من التقوى في حد الكمال . وعلى يده هزيمة الاخباريين وتربية جماعة من المجتهدين البارزين وقد لقب (أستاذ الكل) خدم العلم بآرائه الفقهية وأقواله المهذبة .

12 - مولانا المقدس الشيخ الآخوند المولی محمد کاظم الخراساني : ولد في مشهد الإمام علي بن موسى الرضا عليه أفضل الصلاة والتحية والسلام ، ولد عام 1200 ه وتوفي عام 1329 من الهجرة النبوية الشريفة على مهاجرها وآله أفضل الصلاة والسلام وهو من عائلة فقيرة غير

ص: 189

معروفة ودفن في النجف الأشرف على ساكنها وأولاده المعصومين أفضل الصلاة والتحية والسلام ، خدم العلم في الفقه والأصول وكتابه المعروف بكفاية الأصول کتاباً دراسياً مهماً ، ما زال يدرس في الحوزات العلمية .

13 - مولانا المقدس تقي الدين إبراهيم بن الشيخ زين الدين علي بن الشيخ بدر الدين حسن بن محمد بن صالح بن إسماعيل الحارثي الهمداني العاملي الكفعمي مولداً ونسبة إلى كفعم وهي قرية من قرى جبل عامل اللويزي محتد الجبعي أبأ التقي لقبأ ، وقد جمع بين العلم والأدب والفقه والحديث طفحت صفحات المعاجم على إطرائه والثناء عليه ، قال الشيخ الحر بعد سرد نسبه : كان ثقة فاضلاً أديباً شاعراً عابداً زاهداً ورعاً ، ولد رضوان الله عليه عام 838 ه وتوفي عام 905 من الهجرة النبوية على مهاجرها وآله أفضل الصلاة والسلام في كربلاء المقدسة وكان يوصي أهله بدفنه في الحائر المقدس بأرض تسمى عقيرة بقوله :

سألتكم بالله أن تدفنونني *** إذا مت في قبر بأرض عنبر

فإني به جسار الشهيد بكربلاء *** سليل رسول الله خير مجير

فإني به في حفرتي غير خائف*** بلا مرية من منكر ونكير

أمنت به في حفرتي وقيامتي*** إذا الناس خافوا من لظى وسعير

فإني رأيت العرب يحمي نزيلها *** ويمنعه من أن ينال بضير

فكيف بسبط المصطفى إذ يذود من *** بحائره ثاو بغیر نصیر

وعارعلى حامي الحمى وهوفي الحمى*** إذا ضل في البيداءعقال بعير

خدم العلم بمؤلفاته المعتبرة نذكر منها :

1۔ کتاب البلد الأمين .

2. صفوة الصفات في شرح دعاء السمات .

3- فروق اللغة .

4- المنتقى في العودة والرقي .

ص: 190

5- الحديقة الناضرة .

14 - مولانا المقدس السيد الشريف الرضي أخو السيد الشريف المرتضى المتقدم ذكره كان فاضلاً عالماً شاعراً مميزاً، خدم العلم بمؤلفاته المعتبرة نذكر منها :

1- كتاب المتشابه في القرآن .

2- کتاب حقائق التنزيل .

3- کتاب تفسير القرآن .

4 - كتاب مجازات الآثار النبوية .

15 - مولانا المقدس فقيه أهل البيت العالم البارع المحدث الشيخ يوسف نجل العلامة الكبير الحجة العلم الأوحد الشيخ أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن صالح بن أحمد بن عصفور بن أحمد بن عبد الحسين بن عطية بن شيبة الدرازي البحراني ، ولد رضوان الله عليه بقرية يقال لها الماحوز عام 1107 وتوفي يوم السبت بعد الظهر عام 1186 عن عمر يناهز الثمانين وتولى تغسیله تلميذاه : الحاج معصوم والشيخ محمد علي ابن السلطان وصلى عليه مولانا المقدس الوحيد الأستاذ البهبهاني بوصية منه ودفن بالحائر الشريف بالرواق الحسيني الأطهر عند رجلي الشهداء ، ورثاه السيد الشاعر الأديب محمد آل السيد رزين بقوله :

یا قبر يوسف كيف أوعیت العلى*** وكنت في جنبيك من لا یکنف

قامت عليه نوائح من كتبه *** تشكو الظليمة بعده وتأسف

ک (حدائق) للعلم التي من زهرها *** كانت أنامل ذي البصائر تقطف

وعلا الفلول (صوارما) قد أصلتت قصف *** بها زمر الأعادي تقصف

وتفصمت حلق (السلاسل) بعده *** في قيدها كان المعاند يؤسف

وانحل عقد (لئالی ء) الدر التي *** من صيب الغفران سحب وكف

وجزيت يوسف من بقية أحمد*** أجرا لك الجنات منه تزلف

ص: 191

وحللت في فردوسها بمقامة *** يزهو عليها العبقري و رفرف

مذ غبت عن عين الأنام فكلنا *** يعقوب حزن غاب عنه يوسف

فقضيت واحد ذا الزمان فارخوا *** (قرحت قلب الدين بعدك يوسف)

وخلاصة القول أن هذا الشيخ الجليل قد كرس حياته في خدمة العلم والدين بمؤلفاته الكثيرة المعتبرة أشهرها كتاب الحدائق الناضرة في فقه العترة الطاهرة ، قال مولانا البروجردي في تحفة المقال وهو يمتدح هذا الكتاب الجليل ومؤرخا وفاة مؤلفه العظيم :

ويوسف بن أحمد البحراني *** شيخ جليل قدوة الأعيان

اله حدائق قد استوفي الخبر *** وبعد (عد) قبضه (لنا ظهر)

ص: 192

الصفات الفاضلة للعالم

اشارة

ص: 193

ص: 194

لقد تحدثنا لقارئنا الكريم فيما تقدم بإسهاب وتفصيل عن فضل العالم وشرفه واستشهدنا على ذلك بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة والمعصومية والمقالات المتفرقة المشتملة على النوادر العجيبة والحكايات المفيدة والفكاهيات اللطيفة والأدبيات الجميلة التي تدل على عظمة العالم وفضله وهنا نشير إلى أمر مهم جدا وهو أن العالم المعني بالفضل في الآيات والأحاديث الشريفة التي تقدم ذكرها ليس هو كل عالم وإنما هو العالم العامل بعلمه والمتصف بالأخلاق العالية والصفات الفاضلة والمزايا الرفيعة لأن الشريعة الإسلامية قد ندبت جميع الناس إلى التحلي بها والتخلي عن الصفات الرذيلة فينبغي أن يكون العالم أولى بذلك .

ولكي تشمله الآيات والأخبار المذكورة التي تعرضت إلى فضل العالم وشرفه فعليه أن يزين نفسه بالصفات الفاضلة التالية :

1- التواضع :

قال مولانا الإمام جعفر صادق آل محمد صلی الله علیه وآله وسلم :

التواضع كل شرف نفيس ومرتبة رفيعة ، ولو كان للتواضع لغة يفهمها الخلق النطق عن حقائق ما في مخفيات العواقب ، والتواضع ينبغي أن يكون من العالم لغيره ومن غيره له إلا أن العالم أولى بأن يتصف بهذه الصفة الجليلة

ص: 195

لأنه داعية إلى الله فعليه أن يتواضع لله ، ومن تواضع لله رفعه الله على كثير من عباده عالما كان المتواضع أم غير عالم ، ولأهل التواضع سیما ، سئل بعضهم عن التواضع ؟ قال هو أن يخضع للحق وينقاد له ولو سمعه من صبي ، والتواضع ممدوح على كل حال .

قال الشاعر :

تواضع إذا ما شئت في الناس رفعة *** فإن رفيع الناس من يتواضع

ولا تمشي فوق الأرض إلا تواضعاً *** فكم تحتها قوم هموا منك أرفع

وقال شاعر آخر :

تواضع تكن كالنجم لاح لناظر *** على صفحات الماء وهو رفيع

ولا تك كالدخان يعلو بنفسه *** على صفحات الجو وهو وضيع

روي عن مولانا الإمام باب الحوائج موسی بن جعفر عليهما أفضل الصلاة والتحية والسلام أنه مر برجل من أهل السود دميم المنظر ، فسلم عليه ونزل عنده وحادثه طويلاً ، ثم عرض عليه نفسه للقيام بحاجة إن عرضت له ، فقيل له : يابن رسول الله أتنزل إلى هذا ثم تسأله عن حوائجه وهو إليك أحوج ؟ فقال عليه السلام : عبد من عبيد الله وأخ في كتاب الله وجار في بلاد الله ، يجمعنا وإياه خير الأباء آدم ، وأفضل الأديان الإسلام .

وعن رجل من أهل بلخ قال : كنت مع سيدي ومولاي الإمام الرضا عليه أفضل الصلاة والسلام في سفره إلى خراسان فدعا يوما بمائدة له ، فجمع عليها مواليه من السودان وغيرهم فقلت جعلت فداك ، لو عزلت لهؤلاء مائدة ... فقال عليه السلام: مه إن الرب تبارك وتعالى واحد ، والأم واحدة والأب واحد، والجزاء بالأعمال ، فإذا كان أئمة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام يتواضعون للناس بهذه الكيفية فمن يا ترى أولى بالتواضع للناس بعدهم غير العلماء الذين هم ورثة علم الرسول صلی الله علیه وآله وسلم.

ص: 196

ينبغي ألا يبلغ التواضع بحيث يخرج عن الحد المعقول ويفضي إلى التملق والتزلف هذا من جهة ومن جهة أخرى ينبغي أن يكون الدافع للتواضع هو الشرف والفضيلة واحترام الآخرين لا ضعف النفس والذلة . وبعبارة أوضح فإن المتواضع هو الشخص الذي يطمئن إلى شخصيته ولا يشعر في نفسه بحقارة أو ذلة إنما يقوم بواجبه بدافع من الشعور الإنساني وعلو النفس .

يقول مولانا الإمام أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والتحية والسلام في بیان صفات الرجال المؤمنين : (سهل الخليقة لين العريكة نفسه أصلب من الصلد وهو أذل من العبد).

2 - الحلم :

وينبغي للعالم أن يكون حليمة ، جاء في مصباح الشريعة لمولانا الإمام جعفر بن محمد صادق آل محمد صلی الله علیه وآله وسلم : الحلم سراج الله يستضيء به صاحبه إلى جواره ولا يكون حليماً إلا المؤيد بأنوار المعرفة والتوحيد ، قال العالم الإمام موسی بن جعفر عليهما أفضل الصلاة والسلام : والحلم يدور على خمسة أوجه أن يكون عزيز، فيذل ، أو أن يؤذي بلا جرم ، أو أن يكون صادقا فيتهم ، أو يدعو إلى الحق فيستخف به ، أو أن يطلب بالحق يخالفوه فيه ، فإذا أتيت كلا منهما حقه فقد أصبت ، فعلى العالم أن يقابل السفيه بالإعراض عنه إذا لم يقبل النصيحة حتى لا يلام لأن من حارب السفيه فكأنه قد وضع الحطب على النار .

ويقارن الحلم بالعلم لأن الحلم أشرف الكمالات النفسية بعده بل لا ينتفع العالم من علمه إذا لم يكن حليما والشاهد على ذلك قول رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وأقوال أهل بيته عليهم أفضل الصلاة والتحية والسلام في الحلم والرفق المقارنة للعلم نذكر منها ما يلي :

1- اللهم اغنني بالعلم وزيني بالحلم .

2- خمس من سنن المرسلين ... وعدّ منها الحلم .

3 - ابتغوا الرفعة عند الله قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : تصل من

ص: 197

قطعك وتعطي من حرمك وتحلم عمن جهل عليك .

4 - إن الرجل المسلم ليدرك بالحلم درجة الصائم القائم .

5 - إن الله يحب الحيي الحليم ، ويبغض الفاحش البذي .

6- ثلاث من لم تكن فيه واحدة منهن فلا تعتدوا بشيء من عمله : تقوی تحجزه عن معاصي الله ، وحلم يكف به السفيه ، وخلق يعيش به في الناس .

7- إذا كان يوم القيامة وجمع الله الخلائق ، نادى مناد : أين أهل الفضل ؟ فيقوم ناس - وهم يسيرون فينطلقون سراعا إلى الجنة ، فتلقاهم الملائكة فيقولون : إنا نراكم سراعا إلى الجنة فيقولون : نحن أهل الفضل ، فيقولون : ما كان فضلكم ؟ فيقولون : إذا ظلمنا صبرنا ، وإذا أسيء إلينا عفونا ، وإذا جهل علينا حلمنا ، قال لهم ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين .

8- عن مولاي إمام المتقين وقائد الغر المحجلين أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام قال : ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ، ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك .

9- عن الإمام صادق آل محمد صلی الله علیه وآله وسلم. قال : کفی بالحلم ناصرأ ، وإذا لم تكن حليما تحلم .

10 - إذا وقعت بين رجلين منازعة نزل ملكان ، فيقولان للسفيه منهما : قلت وأنت أهل لما قلت ، وستجزی بما قلت ، ويقولان للحليم منهما : صبرت وحلمت سيغفر لك إن أتممت ذلك ، قال علیه السلام : فإن رد الحليم عليه ارتفع الملکان .

11 - بعث مولانا الإمام الصادق علیه السلام غلاماً له في حاجة فأبطأ ، فخرج على أثره فوجده نائما ، فجلس عند رأسه بروحه حتى انتبه ، فقال له : (یا فلان والله ما ذلك لك أتنام الليل والنهار ، لك الليل ولنا منك النهار) .

12 - ينقل العلماء عن رواة الحديث عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وأهل بيته عليهم

ص: 198

أفضل الصلاة والتحية والسلام أنهم رووا عن جدهم صلی الله علیه وآله وسلم. أنه قال في الرفق : (لو كان خلقاً یری ، ما كان فيما خلق الله شيئاً أحسن منه).

13 - قال صلی الله علیه وآله وسلم. : (الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه ، ولا ينتزع من شيء إلا شانه) .

14 - قال صلی الله علیه وآله وسلم:ک (لكل شيء قفل ، وقفل الإيمان الرفق) .

15 - قال صلی الله علیه وآله وسلم. : (إن الله رفيق يحب الرفيق ، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف) .

16 - قال صلی الله علیه وآله وسلم : (ما اصطحب اثنان إلا كان أعظمهما أجرأ وأحبهما إلى الله تعالى ، أرفقهما بصاحبه) .

17 - قال صلی الله علیه وآله وسلم. : (الرفق يمن ، والخرق شؤم .

18 -قال صلی الله علیه وآله وسلم. : (من كان رفيقا في أمره نال ما يريده من الناس) .

19 - قال صلی الله علیه وآله وسلم. : (إذا أحب الله أهل بيت أدخل عليهم الرفق) .

20- قال صلی الله علیه وآله وسلم : (من أعطي حظه من الرفق أعطي حظه في خير الدنيا والآخرة ، ومن حرم حظه من الرفق حرم حظه من الدنيا والآخرة) .

21 - ( إذا أحب الله عبداً أعطاه الرفق ، ومن يحرم الرفق يحرم الخير كله) - الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم.

22. قال صلی الله علیه وآله وسلم: (أتدرون من يحرم على النار ؟ كل هين لين سهل قریب) .

23 - قال مولانا باب الحوائج الإمام موسی بن جعفر عليهما أفضل الصلاة والتحية والسلام : الرفق نصف العيش .

24 - وعنه أيضا قال علیه السلام لمن جرى بينه وبين القوم من کلام : ارفق بهم ، فإن كفر أحدهم في غضبه ، ولا خير فيمن كان كفره في غضبة).

ولا يخفى أن كل إنسان ينبغي له أن يكون مطمئن النفس بحيث لا يحركه الغضب بسهولة ولا يزعجه المكروه بسرعة ، أما الإنسان العالم فيلزمه علمه بالحلم حتما وإلا لا ينتفع بعلمه .

وبالجملة أن هذه المجموعة من الأخبار تؤكد لنا بوضوح عظمة الرفق

ص: 199

والحلم وتعرفنا بأنهما من الصفات الحميدة التي ينبغي لكل أحد أن يتصف بهما وبالخصوص العالم فلا بد له من التحلي بالحلم لكي يقوى بشخصيته لأن الحلم هو طمأنينة النفس ، بحيث لا يحركها الغضب بسهولة ولا يزعجها المكروه بسرعة، والعالم بحاجة إلى طمأنينة النفس حتى يتمكن من تعليم الناس وإرشادهم وهدايتهم إلى مسالك الجنان فهو بحاجة إلى الحلم من هذه الجهة أكثر من غيره .

ومن جهة أخرى إن الرفق والحلم من صفات الله عز وجل ، فإذا كان الله سبحانه وتعالى كما في الأخبار يحب أن يرى أثر صفاته في خلقه بأن يتصف بالحلم والرفق ، الإنسان العادي فلا شك ولا ريب أنه تعالى يحب أن يرى أثر صفة الحلم في العالم لأن العالم الذي يتميز بهذه الصفة بأن يكون قادرة على أن يسيطر على نفسه ، ويضبط جماحها وينتزعها عن الطيش والحمق هو العالم الذي في الواقع قابل لأن يكون مربيا وعلى العكس الأحمق فهو عاجز حتى عن تربية نفسه .

قال الحكيم الفرطوسي ، ناظماً قول رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم : أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض .

كل شيء يزان بالرفق والخرق *** مشین لسائر الأشياء

تظهر الكسوة ويكتب بالإ *** حسان للعبد سائر الأعداء

وأنا قد أمرت للناس طرا *** بالمداراة من إله السماء

مثلما قد أمرت منه بتبليغ *** البرايا رسالة الأنبياء

زينة المرء بالسكينة تبدو *** مع إيمانه بدون خباء

فعلى العالم العارف أن يتحلى من هذه الصفة الفاضلة سيما إذا كان الحلم أو العفو مع القدرة على إنفاذ العقوبة أما إذا كان الحلم أو العفو عن عجز أو ضعف فهو ليس من الحلم في شيء وربما يكون لؤم وجبن .

کل حلم أتی بغیر اقتدار *** حجة لاجيء إليها اللئام

ص: 200

لأن بعض النفوس الضعيفة لا يزيدها الحلم إلا سفهاً وحمقاً .

فينبغي للعالم أن يعامل أصحاب النفوس الضعيفة المعاملة المناسبة لأحوالهم من الشدة والغلظة عليهم حتى لا يفجروا في خصومة ، ولا يكون الحلم وسيلة من وسائل تحريشهم وإغرائهم بالغي والعدوان . قال تعالى :«وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا »

وفي هذا يقول الشاعر العربي :

لئن كنت محتاجا إلى الحلم إنني*** إلى الجهل في بعض الأحايين أحوج

ولي فرس للخير بالخير ملجم *** ولي فرس للشر بالشر مسرج

فمن شاء تقويمي فإني مقوم *** ومن شاء تعويجي فإني معوًج

وما كنت أرضى الجهل جدا ولا أباً *** ولكنني أرضي به حين أحرج

لئن قال بعض الناس فيه سماجة *** لقد صدقوا والذل بالحر أسمج

3- الصبر :

وينبغي للعالم أن يتحلى بهذه الصفة الحميدة لكي يتسنى له نشر تعاليم الإسلام الحنيف . قال تعالى : «مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ » وقال تعالى :«وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ولَمَّا صَبَرُوا»وفي الحديث القدسي الشريف : أوحى الله تعالى إلى داود : تخلق بأخلاقي ، أنا الصبور . وجاء عن مولانا الإمام جعفر بن محمد عليه أفضل الصلاة والتحية والسلام أنه قال : إذا دخل المؤمن قبره كانت الصلاة عن يمينه والزكاة عن يساره والبر يظلل عليه ، ويتنحى الصبر ناحية ، فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته قال الصبر للصلاة والزكاة والبر : دونكم صاحبكم فإن عجزتم عنه فأنا دونه .

وجاء عنه أيضا أنه علیه السلام قال : الصبر يظهر ما في بواطن العباد من النور والصفاء ، والجزع يظهر ما في بواطنهم من الظلمة والوحشة ، والصبر يدعیه كل أحد، وما يثبت عنده إلا المخبتون ، والجزع ینكره كل أحد وهو أبين على المنافقين لأن نزول المحنة والمصيبة مخبر عن الصادق والكاذب .

ص: 201

وتفسير الصبر ما يستمر من مذاقه ، وما كان عن اضطراب لا يسمى صبراً ، وتفسير الجزع اضطراب القلب وتحزن الشخص وتغير اللون وتغير الحال ، وكل نازلة خلت أوائلها من الأخبات والإنابة والتضرع إلى الله فصاحبها جزوع غير صابر ، والصبر ما أوله مر وآخره حلو لقوم ، ولقوم مر أوله وآخره ، فمن دخله من أواخره فقد دخل ، ومن دخله من أوائله فقد خرج ، ومن عرف قدر الصبر لا يصبر عما منه الصبر .

قال علماء الأخلاق : ينقسم الصبر إلى بدني ونفسي فالبدني كتحمل المشاق بالبدن والثبات عليه ، وهو إما بالفعل كتعاطي الأعمال الشاقة من العبادات ، وإما بالاحتمال كالصبر على الضرب الشديد والمرض العظيم والجراحات الهائلة .

وأما القسم الثاني المسمى بنفسي فهو الصبر على مشتهيات الهوى ، وهو إن كان عن شهوة البطن والفرج سمي عفة ، وإن كان على احتمال مكروه فإن كان في مصيبة اقتصر على اسم الصبر .

وضده حال يسمى الجزع والهلع ، وهو إطلاق داعي الهوى ليسترسل في رفع الصوت وضرب الخدود وشق الجيوب وغيرها . وإن كان في احتمال التي سمي ضبط النفس ، ويضاد حالة تسمى البطر . وإن كان في الحرب سمي شجاعة ، ويضاده الجبن .

وإن كان في كظم الغيظ والغضب سمي حلماً، ويضاده التذمر والغضب . وإن كان في نائبة من نوائب الزمان سمي سعة الصدر ، ويضاده الضجر والتبرم وضيق الصدر ، وإن كان في إخفاء كلام سمي کتمان وصاحبه مكتومة ، وضده الإذاعة ، وإن كان في فضول العيش سمي زهدأ ، ويضاده الحرص ، وإن كان صبر على قدر يسير من الحظوظ سمي قناعة ، ويضاده الشره ، فالصبر جامع لأكثر أخلاق الإيمان وهو الرئيس الأعظم والإمام الأقوم فلذلك لما سئل الرسول الأكرم صلی الله علیه واله وسلم عن الإيمان قال : الصبر .

ص: 202

قال الحكيم الفرطوسي :

قال إن الإيمان نصفان حقاً *** عند تقسيمه بوزن سواء

منه نصف بالشكر يبدو ویبدو *** منه نصف في الصبر عند البلاء

کل حكم في مؤمن قد قضاء *** هو خير له بوقت القضاء

سره أم أساءه فهو تكفير *** ذنوب أو حبوة من عطاء

4 - الزهد :

وينبغي للعالم أن يكون زاهداً حقاً لأنه رجل الأخرة والزهد مفتاح باب الآخرة . قال مولانا الإمام صادق آل محمدصلی الله علیه واله وسلم : الزهد مفتاح باب الآخرة والبراءة من النار وهو تركك كل شيء يشغلك عن الله تعالى من غير تأسف على فوتها ولا إعجاب في تركها ولا انتظار خرج منها ولا تطلب محمدة عليها ولا غرض لها ، بل يرى فوتها راحة وكونها آفة ، ويكون أبدأ هاربا من الآفة معتصم بالراحة ، الزاهد الذي يختار الآخرة ، والذل على العز والدنيا والجهد على الراحة ، والجوع على الشبع ، وعافية الأجل علی المحنة العاجل، والذكر على الغفلة ، وتكون نفسه في الدنيا وقلبه في الأخرة .

وقال النبي المكرم صلی الله علیه واله وسلم : من أصبح وهمه الدنيا شتت الله عليه أمره ، وفرق عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ، ومن أصبح وهمه الأخرة جمع الله له همه ، وحفظ عليه ضيعته ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة . وفي الحديث : أوحى الله تعالى إلى الدنيا أن اخدمي من خدمني ، ونغصي ، وكدري عيش من خدمك .

قال الحكيم الفرطوسي :

کل ممس منكم ومصبح أضحى *** أكبر الهم منه يوم البقاء

ملا الله بالغنى منه قلباً *** جامعاً أمره بخير التقاء

ص: 203

وهو يمض مستکملاً دون تعص *** كل رزق له بيوم الغناء

وإذا كان أكبر الهم دنياه *** غرور في صبحه ومساء

جعل الفقر نصب عينه فيها *** بعد تشتيت أحره کالهباء

وهو يمضي عنها وما نال إلا*** ما له من مقدر وحباء

وقال مولانا المقدس السيد عبد الله شبر رضوان الله تعالى عليه معرفاً حقيقة الزهد : الزهد هو صرف الرغبة عن الدنيا وعدم إرادتها بقلبه إلا بقدر ضرورة بدنه ، قال ومنه يعلم أن الزهد في الدنيا لا ينافي كثرة المال والخدم ونحوهما إلا إذا كان محبا لها بقلبه وراعية فيها وتشغله عن ذكر الله تعالی .

قال : والزهد في نفسه على ثلاث درجات :

الأولى : وهي السفلي أن يزهد في الدنيا وهو لها مشتهي وقلبه إليها مائل ونفسه ملتفتة ولكنه يجاهدها ويكفها .

الثانية : أن يترك الدنيا طوعاً لاستحقاره إياها الإضافة إلى الآخرة المرغوب فيها كالذي يترك درهماً لأجل در همین ، فإنه لا يشق عليه ذلك ، وهو يظن بنفسه أنه ترك شيئا له قدراً منه .

الثالثة : وهي العليا أن يزهد طوعاً ويزهد في زهده فلا يرى زهده إذ لا يرى أنه ترك شيئأً ، حيث عرف أن الدنيا لا شيء، فيكون كمن ترك نواة وأخذ جوهرة ، فلا يرى ذلك معاوضة ، وهذا كمال الزهد .

قال رضوان الله تعالى عليه : وينقسم أخرى بالإضافة إلى المرغوب فيه إلى ثلاث درجات :

1- (أسفلها أن يكون المرغوب فيه النجاة من النار وسائر الآلام ، كعذاب القبر ومناقشة الحساب وخطر الصراط ، وهذا زهد الخائفين .

2 - (أوسطها) أن يزهد رغبة في ثواب الله تعالى ونعيمه واللذات الموعودة

ص: 204

في جنته ، وهذا زهد الراجين .

3- (أعلاها) أن لا يكون له رغبة إلا في الله ولقائه ، فلا يلتفت قلبه إلى الآلام ليقصد الخلاص منها ولا إلى اللذات ليقصد نيلها والظفر بها بل هو مستغرق الهم وهو الذي أصبح وهمه هم واحد، فهو لا يطلب غير الله لأن من طلب غير الله فقد عبده ، وكل مطلوب معبود وكل طالب عبد بالإضافة إلى مطلوبه ، وهذا زهد المحبين والعارفين .

قال : وينقسم أيضاً إلى :

1۔ فرض .

2- نفل .

3- سلامة .

أما الفرض : فهو الزهد في الحرام ، والنفل هو الزهد في الحلال ، وأما السلامة فهو الزهد في الشبهات .

قال الشاعر :

والزهد أقسام ثلاثة ورد *** زهد عن الحرام واجب بعد

والثاني زهد عن مباح حللا *** في الشرع لكن ترکه قد فضلا

مخافة الوقوع في الحرام *** وقد روي عن سيد الأنام

ثالثها زهد أولي العرفان *** سموا به لأرفع المكان

عن كل ما لا يختشی بأس به*** بخوف أن يشغله عن ربه

قد لحظوا الدنيا بعين المعرفة *** وحققوا ما كان فيها من

فعرفوها جيفة توسخت *** لكنها بالطيب قد تضمخت

وكسيت بفاخر اللباس *** فاغتر بالظاهر بعض الناس

والعاقلون العارفون عرفوا *** باطنها وعن هواها انصرفوا

فعلى العالم أن يكون زاهداً في الدنيا زهد أولي العرفان الذي سموا

ص: 205

به إلى أرفع المكان بحيث أولاً لا يفرح بموجود ولا يحزن على مفقود ، كما أشار إليه أمير المؤمنين علیه السلام في الاستنباط من قوله تعالى : «لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ » وثانيا : يستوي عنده مادحه وذامه .

وثالثاً : أن يكون أنسه بالله تعالى والغالب على قلبه حلاوة الطاعة .

5 - التفكر :

وينبغي للعالم أن يكون متفکراً؛ قال الله تعالى : «الَّذِينَ َيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا »

وفي الحديث عن ابن عباس رضوان الله تعالى عليه قال التفكر في الخير يدعو إلى العمل به ، والندم على الشر يدعو إلى ترکه .

وعن مولانا أبي محمد الحسن أنه قال : إن أهل العقل لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر وبالفكر على الذكر حتى استنطقوا قلوبهم فنطقت بالحكمة .

وقيل : إن التفكر في نعم الله من أفضل العبادة ، ولو تفكر الناس في عظمة الله تعالى ما عصوه لذا ينبغي للعالم أن يفتش صبيحة كل يوم جميع أعضائه السبعة تفصيلا ثم بدنه على الجملة هل هو في الحال ملابس لمعصية بها فيتركها أو لابسها بالأمس فيتداركها بالترك والندم أو هو متعرض لها في نهاره فيستعد للاحتراز والتباعد منها فينظر أو في اللسان ويقول : إنه متعرض للغيبة والكذب وتزكية النفس والاستهزاء بالغير والممارية والمازحة والخوض فيما لا يعني إلى غير ذلك من المكاره فيقرر :

أولاً : في نفسه أن هذه الأحوال مكروهة عند الله تعالی .

ثم ثانياً : يتفكر في شواهد القرآن وأخبار الرسول والتشديد في النهى عنها وما وعد فاعلها من العذاب .

ثالثاً : يتفكر في أحواله أنه كيف يتعرض لها من حيث لا يشعر .

رابعاً : يتفكر في أنه كيف يحترز منها .

ص: 206

خامساً : يتفكر في سمعه أنه يصغي إلى الغيبة وسماع الكذب وفضول الكلام إلى اللهو والبدعية وكيف ينبغي أن يحترز منهم .

سادساً : يتفكر في بطنه أنه إنمايعصى الله فيه بالأكل والشرب إما بكثرة الأكل من الحلال فإن ذلك مكروه عند الله ومقوي للشهوة التي هي سلاح الشيطان عدو الله ، وإما بأكل الحرام والشبهة فينظر من أين مطعمه وملبسه ومسكنه ويتفكر في طريق الحلال ومداخله ويقرر في نفسه أن البدن منی غذي بالحرام علا منه غشاوة فيقرر في نفسه أن الثواب متى كان حرام لم تقبل فيه الصلاة وأن أكل ولبس الحلال هو أساس العبادات جميعها فهكذا يتفكر في أعضائه جميعها ففي هذا القدر كفاية عن الاستقصاء فمهما حصل بالتفكير حقيقة المعرفة بهذه الأحوال اشتغل بالمراقبة طول النهار حتى يحفظ الأعضاء من جميع القبائح ثم ينظر في الطاعات كيف يؤديها وكيف يحرسها عن النقصان والتقصير وكيف يجبر نقصانها بكثر النوافل ثم يرجع إلى كل عضو فيتفکر في الأحوال التي يتعلق بها مما يحبه الله تعالى فيقول مثلا : إن العين خلقت للنظر في ملكوت السموات والأرض عبرة ولتستعمل في طاعة الله تعالی ولتنظر في كتاب الله وسنة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم )من أنا قادر على أن أشغل العين بمطالعة القرآن والسنة فلم لا أفعله وأنا قادر على ذلك وأنا أنظر إلى فلان المطيع الله فأنظر بعين التعظيم فأدخل السرور على قلبه ، وكذلك يقول في سمعه : إنی قادر على استماع كلام ملهوف أو استماع حكمة وعلم أو استماع قراءة وذكر فما لي أعطله وقد أنعم الله به على وأودعنيه لأشكره فمالي أكفر نعمة الله تعالی بتضييعه وتعطيله وكذلك يتفكر في اللسان ويقول : إني قادر أن أتقرب إلى الله تعالى بالتعليم والذكر والتودد إلى قلوب أهل الصلاح وبالسؤال عن أحوال الفقراء وإدخال السرور على قلوبهم وكذلك يتفكر في ماله فيقول : أنا قادر على أن أتصدق بالمال الفلاني مستغن عنه ومهما تصدقت رزقني الله وإن كنت محتاجأ الآن فإيثار الثواب أوجب مني ذلك المال .

سابعاً : أن يتفكر في الأسباب المهلكات التي محلها القلب وهي

ص: 207

البخل والكبر والعجب والرياء والحسد وسوء الظن والغفلة وغير ذلك ، ويتفقد من قلبه هذه الصفات فإن ظن أن قلبه منزه عنها فيتفكر في كيفية امتحانه والاستشهاد بالعلامات عليه ، فإن النفس أبدأ تعد بالخير من نفسها وتخلف ،فإذا ادعت التواضع والبراءة من الكبر يجرب نفسه بحمل حاجته من السوق إلى داره لقول النبي صلی الله علیه وآله وسلم : من حمل حاجته فقد بريء من الكبر ، فإذا ادعت الحلم تعرض لغضب يناله من غيره ثم يجربها بكظم الغيظ وهكذا فيسائر الصفات كما أنه لو رأى في نفسه عجبأ بالعمل فيتفكر ويقول : إنما عملي بيدي وجارحتي وبقدرتي وإرادتي وإنما هو من خلق الله وفضله فهو الذي خلقني وخلق جارحتي وخلق قدرتي وإرادتي ، فكيف أعجب بعملي وهذه الآلات التي صح مني العمل بها من خلق الله ، فالفضل والمنة لله في جميع ذلك ، فإذا أحس في نفسه بالكبر فيزري على نفسه ما فيه من الحماقة فيقول لها : بم ترین نفسك الكبر ، والكبير من هو كبير عند الله ويبين لها أن أصله ومبدءه من نطفة قذرة ومنتهاه إلى جيفة منتنة فإذا عرف أن الكبر مهلك وأن أصله الحماقة يتفكر في علاج ذلك بأن يتعاطى أفعال المتواضعين وإذا وجد في نفسه شهوة الطعام والميل إلى الشهوات تفکر وقال لها : إن هذه صفة البهائم ، ولو كان في شهوة الطعام والوقاع كمال لكان ذلك من صفات الملائكة المقربين ومهما كان إلى الشره أقرب وهو عليه أغلب كان بالبهائم أشبه ، وعن الملائكة المقربين أبعد، ثم ينظر ويتفكر فيما فيه النجاة من الأفعال فهو التوبة والندم على الذنوب والعزم على ترك العود والصبر على بلاء الله والشكر على نعمائه والخوف منه والرجاء له والزهد في الدنيا والإخلاص والصدق في الطاعات ، فليتفكر العالم في كل يوم في قلبه ما الذي يعوزه من هذه الصفات التي هي المقربة إلى الله ، فإذا افتقر إلى شيء منها فليعلم أنها أحوال لا يثمرها إلا العلوم ، وأن العلوم لا يثمرها إلا الأفكار فإذا أراد أن يكتسب لنفسه حال التوبة والندم فليفتش ذنوبه أولا ، وليتفكر فيها وليجمعها على نفسه وليفطمها على قلبه ثم لينظر في الوعيد والتشديد الذي ورد في

ص: 208

الشرع ، وليحقق في نفسه أنه متعرض لمقت الله به حتى ينبعث له حال الندم .

وإذا أراد أن يستبين له من قلبه حال الشكر فلينظر في إحسان الله وأياديه عليه وإذا أراد فلينظر أولأ في ذنوبه الظاهرة ، ثم لينظر في الموت وسكراته ثم فيما بعده من مسائلة منكر ونكير وعذاب القبر ثم في هول النداء عند نفخة الصور ، ثم في هول المحشر عند جميع الخلائق على صعيد، ثم فی المناقشة في الحساب والمضائقة في النقير والقطمير ، ثم أهوال القيامة ثم يصور في نفسه جهنم ودرکها ومقامعها وأهوالها وأنواع العذاب فيها وقبيح صورة الزبانية وأنه كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب وأنهم كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وإذا رأوها من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً.

وإذا أراد أن ينظر إلى الرجاء "فلينظر إلى الجنة ونعيمها وما أعد الله تعالى فيها من الملك الدائم والنعيم والحور واللذات ، فهكذا طريق الفكر الذي يطلب به العلوم فعلى العالم بقراءته والتفكر فيه فإنه جامع لجميع المقامات والأحوال ، وفيه شفاء للعالمين وفيه ما يورث الخوف والرجاء والصبر والشكر وسائر الصفات وفيه ما يزجر عن جميع الصفات المذمومة فينبغي أن يقرأه العالم ويردد الآية التي هو محتاج إلى التفكر فيها مرة بعد أخرى ولو مائة مرة ، فقراءة آية بتفكر وفهم خير من ختمة بغير تفکر وفهم وليتوقف في التأمل فيها ولو ليلة واحدة فإن تحت كل كلمة منها أسرار لا تنحصر ولا يوقف عليها إلا بدقيق الفكر عن صفاء القلب وكذلك مطالعة كلام رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فإنه قد أوتي جوامع الكلم وكل كلمة بحر من بحور كلامه وإذا تأملها العالم حق التأمل لم ينقطع فيها نظره طول العمر .

6- الرحمة :

وينبغي للعالم أن يكون رحيماً من حيث إن الرحمة صفه كريمة وعاطفة إنسانية نبيلة ، تبعث على بذل المعروف ، وإغاثة الملهوف

ص: 209

وإعانة المحروم ، وكف العسف والظلم ، ومنع التعدي والبغي .

وقد أراد الإسلام أن يطبع الناس بها حتى تمتلىء قلوبهم خیراً وبراً ، وتفيض على الدنيا رجاءاً وأملاً ...

فالله رب هذا الدين ، هو الرحمن الرحيم ، وهو الذي وسع كل شيء رحمة وعلما ، وسبقت رحمته غضبه ، وجعل الرحمة مائة جزء ، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً ، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً .

فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق ، حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه . وكتاب الله رحمة : «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» وجنته رحمة : «وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ »، ورسوله صلی الله علیه وآله وسلم رحمة : «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ »«وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ » «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ». والراحمون هم الذين يرحمهم الله ... والذي يتجرد عن هذه الصفة ، فهو الشقي : (من لا يَرحَم لا يُرحَم) ... (لا تنزع الرحمة إلا من شقي) .

فلا بد للعالم من الاتصاف بالرحمة اقتداءاً بالنبي صلی الله علیه وآله وسلم وأهل بيته عليهم أفضل الصلاة والتحية والسلام .

7- الذكر :

وينبغي للعالم أن يكون ذاكرا لله تعالى على الحقيقة ، قال مولانا الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام : (فمن كان ذاكرأ فهو مطيع ومن كان غافلا فهو عاص .

والطاعة علامة الهداية والمعصية علامة الضلالة وأصلها من الذكر والغفلة ، فعلى العالم أن يجعل قلبه قبلة للسانه لا يحركه إلا بإشارة القلب وموافقة العقل ورضى الإيمان ، فإن الله تعالی عالم بسره وجهره ، وعليه أن

ص: 210

يكون كالنازع روحه أو كالواقف في العرض الأكبر غیر شاغل نفسه عما عنده بما كلفه ربه في أمره ونهيه ، ووعده و وعیده ، ولا يشغلها بدون ما كلفه به ربه ، وعليه أن يغسل قلبه بماء الحزن والخوف ، وأن يجعل ذکر الله تعالى من أجل ذكره إياه فإن ذكره إياه وهو تعالي غني عنه ، أجل وأشهى وأثني وأتم من ذكره له وأسبق . والحديث عام كما عن مصباح الشريعة عن مولانا الإمام الصادق علیه السلام قال : ومعرفتك بذكره لك تورثك الخضوع والاستحياء والانكسار، ويتولد من ذلك رؤية کرمه وفضله السابق .

إلى أن قال علیه السلام : والذكر ذکران : ذكر خالص بموافقة القلب ،وذكرصادق لك بنفي غيره كما قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم : أنا لا أحصي ثناء عليك كما أثنيت على نفسك ، فرسول الله صلی الله علیه وآله وسلم لم يجعل لذكر الله تعالی مقدراً عند علمه بحقيقة سابقة ذكر الله عز وجل قبل ذكره اسمه ومن دونه أولي فمن أراد أن يذكر الله تعالى فليعلم أنه ما لم يذكر الله العبد بالتوفيق لذكره لا يقدر العبد على ذكره .

8- الورع :

وينبغي للعالم أن يكون ورعاً . قال مولانا الإمام صادق آل محمد صلی الله علیه وآله وسلم : أغلق أبواب جوارحك عما يقع ضرره إلى قلبك ويذهب بوجاهتك عند الله تعالى ويعقب الحسرة والندامة يوم القيامة ، والحياء عما اجترحت من السيئات .

والمتورع يحتاج إلى ثلاثة أصول : الصفح عن عثرات الخلق أجمع ، وترك خطيته فيهم ، واستواء المدح والذم ، وأصل الورع محاسبة النفس وصدق المقالة وصفاء المعاملة ، والخروج من كل شبهة ، ورفض كل عيبة وريبة ومفارقة جميع ما لا يعنيه ، وترك أبواب لا يدري كيف يغلقها ، ولا يجالس من يشكل عليه الواضح ، ولا يصاحب مستخف بالدين ، ولا يعارض من العلم ما لا يحتمل قلبه ، ولا يتفهمه من قائله ويقطعه عمن يقطعه عن الله عز وجل .

وقال مولانا المقدس محمد مهدي النراقي رضوان الله تعالى عليه :

ص: 211

الورع والتقوى عن الحرام أعظم المنجيات ، وعمدة ما ينال به إلى السعادات ورفع الدرجات . ثم ساق أقوال الرسول صلی الله علیه وآله وسلم وأقوال أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والتحية والسلام المؤيدة ، لقوله وإليكها فيما يلي :

1- قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم : خیر دینکم الورع .

2- قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم : من لقي الله سبحانه ورعأ أعطاه الله ثواب الإسلام كله .

3- وقال مولانا الإمام الأعظم محمد بن علي الباقر عليه الصلاة والسلام : (إن أشد العبادة الورع) .

4- . وقال أيضاً عليه التحية والسلام : ما من شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه ، فاتقوا الله واعملوا لما عند الله ، ليس بين الله وبين أحد قرابة . أحب العباد إلى الله تعالى وأكرمهم عليه أبقاهم وأعملهم بطاعته .

5 - وقال مولانا صادق آل محمد عليهم السلام : أوصيك - لمن كان بحضرته . بتقوى الله والورع والاجتهاد ، واعلم أنه لا ينفع اجتهاد لا ورع فيه .

6 - قال أيضا علیه السلام : اتقوا الله وصونوا دینکم بالورع .

7- عنه علیه السلام : عليكم بالورع ، فإنه لا ينال ما عند الله إلا بالورع .

8- وقال علیه السلام : إن الله ضمن لمن أتقاه ، أن يحول عما يكره إلى ما يحب ، ويرزقه من حيث ما لا يحتسب .

9- الشكر :

وينبغي للعالم أن يكون شكوراً . قال مولانا صادق آل محمد عليه التحية والسلام : في كل نفس من أنفاسك شكر لازم لك بل ألف أو أكثر ، وأدني الشكر رؤية النعمة من الله تعالى من غير علة يتعلق القلب بها دون الله عز وجل والرضا بما أعطى ، وأن لا تعصيه بنعمة

ص: 212

وتخالفه بشيء من أمره ونهيه بسبب نعمته ، فكن لله عبداً شاكراً على كل حال ، تجد الله رباً کریماً على كل حال ، ولو كان عند الله تعالى عبادة تعبد بها عباده المخلصون أفضل من الشكر على الأطلق لفظة فيهم من جميع الخلق بها ، فلما لم يكن أفضل منها خصها من بين العبادات وخص أربابها فقال :ض« وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ »وتمام الشكر الاعتراف بلسان العز خالصة لله عز وجل بالعجز عن بلوغ أدنى شكره ، لأن التوفيق في الشكر نعمة حادثة يجب الشكر عليها وهي أعظم قدرة وأعز وجودا من النعمة التي من أجلها وفق له ، فيلزمك على كل شكر شكرأ أعظم منه إلى ما لا نهاية له ، مستغرقا في نعمه عاجزة عن درك غاية شكره فأني يلحق العبد شکر نعمة الله ومتى يلحق صنيعه بصنيعه، والعبد ضعيف لا قوة له أبدأ إلا بالله تعالى عز وجل ، والله تعالي غني عن طاعة العبد فهو تعالى قوي على مزيد النعم على الأبد فكن لله عبدا شاكرا على هذا الوجه ترى العجب .

قال مولانا المقدس السيد عبد الله شبر رضوان الله تعالى عليه : إن الشكر من أفضل الأعمال ، وهو ينتظم من علم وحال وعمل : فالعلم هو الأصل فيورث الحال والعمل ، والعلم هو معرفة النعمة من المنعم ، والحال هو الفرح الحاصل بانعامه والعمل هو القيام بما هو مقصود المنعم ومحبوبه ، ويتعلق ذلك العمل بالقلب وبالجوارح وباللسان .

وينبغي لمن أراد شكر الله تعالى أن يعلم بأن النعم كلها من الله تعالى ، والوسائط مسخرون سخرهم لك برحمته وألقى في قلوبهم من الاعتقاد والرأفة ما صاروا به مضطرين إلى الايصال إليك ، وهو الشكر بالقلب .

وأما العمل بموجب الفرح الحاصل من معرفة المنعم فهو يتعلق بالقلب واللسان والجوارح : أما بالقلب فقصد الخير واضماره لكافة الخلق ، وأما باللسان فباظهار الشكر لله بالتحميدات الدالة عليه ، وأما

ص: 213

بالجوارح فاستعمال نعم الله في طاعته والتوقي من الاستعانة بها على معصيته ، حتى أن شكر العينين أن يستر كل عيب يراه بمسلم ، وشکر الأذنين أن يستر كل عيب يسمعه لمسلم ، فيدخل هذا وأمثاله في جملة شکر نعمة هذه الأعضاء . قال رضوان الله تعالى عليه بل قال أرباب المعرفة : من كفر نعمة العين فقد كفر نعمة الشمس إذ الإبصار إنما يتم بهما، وإنما خلقنا ليبصر بهما ما ينفعه في دينه ودنياه ويتقی بهما ما يضره فيهما ، بل المراد من خلق الأرض والسماء وخلق الدنيا وأسبابها أن يستعين الخلق بها على الوصول إلى الله تعالى ، ولا وصول إليه إلا بمحبته والانس به في الدنيا والتجافي عن غرورها، ولا أنس إلا بدوام الذكر ، ولا محبة إلا بالمعرفة الحاصلة بدوام الفكر ، ولا يمكن الدوام على الذكر والفكر إلا ببقاء البدن ، ولا يبقى البدن إلا بالأرض والماء والهواء ، ولا يتم ذلك إلا بخلق الأرض والسماء وخلق سائر الأعضاء ، وكل ذلك لأجل البدن ، والبدن مطية النفس ، والراجع إلى الله تعالى هي المطمئنة بطول العبادة والمعرفة، فكل من استعمل شيئا في غير طاعة الله فقد كفر نعمة الله في جميع الأسباب التي لا بد منها قدامه على المعصية ولذا كان الشاكر الحقيقي قليلاً .

والشكر يقارن الذكر كما جاء في الكتاب العزيز في قوله تعالی ً«فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ » وجاء مدح الشكر في الآيات التالية .

1. قوله تعالى «مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ » .

2 - قوله تعالى : « لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ» .

3- قوله تعالى : « وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ».

4- قوله تعالى : «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ » .

ص: 214

وجاء عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وأهل بيته عليهم السلام أقوال في مدح الشكر وإليك بعضها فيما يلي :

1- عن صادق آل محمد علیه السلام قال : قال رسول صلی الله علیه و آله وسلم: الطاعم الشاكر له من الأجر كأجر الصائم المحتسب والمعاني الشاكر له من الأجر كأجر المحروم القانع .

2 - وعنه علیه السلام قال : قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: ما فتح الله على عبد باب شکر مخزن باب الزيادة .

3- وعنه علیه السلام قال : من أعطي الشكر أعطي الزيادة .

4- وعنه علیه السلام قال : ما أنعم الله على عبد نعمة فعرفها بقلبه وحمد الله ظاهرة بلسانه فتم کلامه حتى يؤمر له بالمزيد .

5- عن مولانا الإمام الباقر عليه التحية والسلام قال : كان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عند عائشة ليلتها فقالت : يا رسول الله لم تتعب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : فقال يا عائشة ألا أكون عبداً شكوراً .

6- وعنه قال علیه السلام كان رسول الله يقوم على أصابع رجليه فأنزل الله سبحانه « طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى » .

7- سئل الصادق علیه السلام عن قوله تعالی «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ »؟ قال الذي أنعم الله عليك بما فضلك وأعطاك وأحسن عليك .

8- وعنه علیه السلام قال : شكر النعمة اجتناب المحارم ، وتمام الشكر قول الرجل (الحمد لله رب العالمين).

9- قال علیه السلام : شكر كل نعمة وان عظمت أن يحمد الله عز وجل .

10- عن عمر بن يزيد قال : قلت لأبي عبد الله علیه السلام إني سألت الله عز وجل أن يرزقني مالاً فرزقني ، واني سألت الله أن يرزقني ولداً فرزقني ،

ص: 215

وسألته أن يرزقني دراً فرزقني ، وقد خفت أن يكون ذلك استدراجاً . فقال أما والله مع الحمد فلا . فعلى العالم أن ينصب هذه الأيات القرآنية والأحاديث النبوية أمام عينيه حتى لا تغيب عن باله لكي يكون مواظبا على الشكر والذكر .

10 - التقوى :

فعلى العالم أن يكون متقياً . قال مولانا صادق محمد عليه التحية والسلام : التقوى على ثلاثة أوجه : تقوى بالله وهو ترك الخلاف فضلا عن الشبهة وهو تقوي خاص الخاص ، وتقوى من الله تعالى وهو ترك الشبهات فضلا عن الحرام وهو تقوى الخاص ، وتقوی من خوف النار والعقاب وهو ترك الحرام وهو تقوي العام ، ومثل التقوی مثل ماء يجري في النهر ، ومثل هذه الصفات الثلاث في معنى التقوى كأشجار مغروسة على حافة ذلك النهر من كل لون وجنس وكل شجرة منها تمتص الماء من ذلك النهر على قدر جوهره وطعمه ولطافته وكثافته ثم منافع الخلق من تلك الأشجار والثمار على قدرها وقيمتها .

قال الله تعالى : « صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ » .

فالتقوى للطاعات كالماء للأشجار ، ومثل طبائع الأشجار والأثمار في لونها وطعمها مثل مقادير الإيمان ، فمن كان أعلى درجة في الإيمان واصفی جوهرة بالروح كان أتقى ، ومن كان أتقى عبادته ، أخلص وأطهر ، ومن كان كذلك كان من الله أقرب ، وكل عبادة مؤسسة على غير التقوى فهي هباءً منثوراً .

: قال الله تعالى : «أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ » ، وتفسير التقوى ترك ما ليس بأخذه بأس حذرا ممّا به البأس ، وهو في الحقيقة طاعة بلا عصيان ، وذكر بلا نسيان وعلم بلا جهل مقبول غیر مردود .

ص: 216

والتقوى في اللغة قلّة الكلام كما عن ابن الفارس ، وفي الحديث : (التقي ملجم والمتقي فوق المؤمن والطائع) ، قال الله تعالى«ََوَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ».

والأفضل للعالم أن يكون متقياً تقوي خاص الخاص لأنه المعلم والمربي للمجتمع الإسلامي .

11 - الحكمة :

وينبغي للعالم أن يكون حكيمة ، قال مولانا الإمام جعفر بن محمد صادق آل محمد صلی الله علیه و آله وسلم: الحكمة ضياء المعرفة وميزان التقوى وثمرة الصدق ، ولو قلت ما أنعم الله على عبد بنعمة أعظم واجزل وارفع وابه من الحكمة للقلب .

قال الله تعالى : «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ » .

أي لا يعلم ما أودعت وهيأت في الحكمة إلا من استخلصته لنفسي وخصصته بها ، والحكمة هي نجاة ، وصفة الحكمة الثبات عند أوائل الأمور والوقوف عند عواقبها .

قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم للإمام أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين علي بن أبي طالب علیه السلام : لأن يهدي الله على يديك عبد من عباده خير لك مما طلعت عليه الشمس من مشارقها إلى مغاربها .

وبالمناسبة : أن الحكمة صناعة نظرية يستفاد بها كيفية ما عليه الوجود في نفسه وما عليه الواجب من حيث اكتساب النظريات واقتناء الملكات التستكمل النفس وتصير عالماً معقولاً مضاهياً للعالم الموجود فيستعد بذلك للسعادة القصوى وذلك بحسب الطاقة البشرية فهي تنقسم على قسمين :

الأول : هو الحكمة النظرية ومثاله علمنا بأن العالم محدث وان له صانعاً قديماً قادراً عالماً وان السماء كرة وان النفس باقية .

ص: 217

والثاني : هو الحكمة العلمية العلم بأنه كيف يمكن اكتساب الملكات الفاضلة النفسانية وإزالة الملكات الرذيلة النفسانية وكيف يمكن إزالة المرض وتحصيل الصحة فكل واحد من هذين علم إلا أن الأول علم بشيء لا تأثير لنا البتة فيه بل المقصود من معرفته نفس تلك المعرفة فقط والثاني علم بشيء يكون المطلوب من تحصيل العلم به إدخاله في الوجود أو منعه من الوجود والحكمة النظرية أشرف من الحكمة العملية ، لأن كل ما يعلم ليعمل كان العلم فيه وسيلة والعمل مقصودة والوسيلة في كل شيء أخس من المقصود فالعلم بالأعمال يكون أدون منزلة من المعارف الإلهية والجلايا القدسية وذلك يدل على أن الحكمة العملية أدون منزلة من النظرية وهو الحكمة النظرية ينبغي أن يكون أشرف مما يستكمل به القوة العملية وهو الحكمة العملية لأنها الجنبة العالية من النفس وهذه هي الجنبة السافلة منها ولذلك تدوم الأولى بدوامها بخلاف الثانية فانها تزول عنها بالكلية والكلام الإلهي ناطق بحصر الكمالات الإنسانية في هاتين المرتبتين ، قال الله تعالى حكاية عن الخليل صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا وآله :«رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» ، المراد من الحكم تحميل القوة النظرية والمراد من قوله والحقني بالصالحين تکمیل القوة العملية وقال الله تعالی خطابأ لنبيه موسى على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والتحية والسلام : «وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى «إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي » قوله تعالى : لا إله إلا أنا۔ اشارة إلى كمال القوة العملية وقوله تعالی : فاعبدني - اشارة إلى كمال القوة العملية ، وقوله تعالى حكاية عن عيسى على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والتحية والسلام قال : «قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا «وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ »كل ذلك اشارة إلى كمال القوة النظرية ثم قال : «وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا » وهو اشارة إلى كمال القوة العملية ، وقال الله تعالى مع الحبيب محمد صلی الله علیه و آله وسلم: «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ »و اشارة إلى كمال القوة النظرية ، وقال تعالى : «فاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ » اشارة إلى كمال القوة العملية ، وقوله تعالی :

ص: 218

«آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ »و إشارة إلى كمال القوتين ، فقد ظهر بنور الوحي وبنور الحكمة أن كمال الإنسان منحصر في العلم والعمل وبهما يحصل الإحاطة بالمعقولات والتجرد عن الجسمانيات

12 - الفلسفة :

وينبغي للعالم أن يكون بالاضافة إلى ما علمه من اللغة والفقه والحديث والتفسير أن يكون عالما بالفلسفة الإلهية . وبالمناسبة أيضأ نقول : أن العلم الفلسفي ينقسم إلى أربعة أقسام.

1- الرياضيات

2 - المنطقيات .

3- الطبیعیات

4 - الإلهيات .

فاما الرياضيات فأربعة أنواع : الأول علم الحساب ، والثاني علم الهندسة والأصل فيه النقطة وهي فيه كالواحد في علم الحساب ، والثالث علم النجوم ، والرابع علم الموسيقى وهو علم تأليف الألحان .

وأما المنطقيات فخمسة أنواع : الأول معرفة صناعة الشعر وأنواع بديعه ، والثاني معرفة صناعة الخطابة ، والثالث صناعة الجدل ، والرابع صناعة البرهان ، والخامس صناعة المغالطين في المناظرة والجدل .

وأما الطبيعيات فسبعة أنواع : الأول علم الجسمانيات الهيول والصورة والزمان والمكان ، والثاني علم السماء والأرض وهي معرفة ماهية جواهر الأفلاك والكواكب والفساد كما تقبل الأركان الأربعة التي دون فلك القمر أم لا وما علة حركات الكواكب واختلافها في السرعة والبطء وما علة سكون الأرض في وسط الفلك في المركز وهل خارج العالم جسم آخر أم لا وهل في الكون فضاء فارغ لا شيء فيه وما شاكل هذه المباحث، والثالث علم الكون والفساد وهو علم جواهر الأركان التي هي النار والماء والهواء والأرض ، والرابع علم حدوث الجواهر بتغيرات الهواء وتأثيرات الكواكب بحركتها ومطالع شعاعاته

ص: 219

على الأركان الأربعة وانفصالاتها بعضها ببعض بقدرة الله تعالى ، والخامس علم المعادن التي تنعقد البخارات المخيفة في بطن الأرض والعصارات من البخارات المتحللة من الهواء ، والسادس علم النبات على اختلاف أنواعه في هيئاته وأشكاله واختلاف صموغه وطعومه وروائحه وخواصه ومنافعه ومضاره ، والسابع علم الحيوان وهو معرفة كل جسم يتغذى ويحس ويعيش ويتحرك على اختلاف أنواعه وما شاكل ذلك مما ينسب إلى الطبيعيات كعلم الطب والبيطرة وسياسة الدواب ، والسباع والطيور والحرث والنسل وعلم داخل في الطبيعيات .

وأما الإلهيات فخمسة أنواع : أولها معرفة الباري سبحانه وتعالى بجميع صفاته وأنه أول كل شيء والعالم بكل شيء وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، والثاني علم الروحانيات من الجواهر البسيطة العقلية وهي الصورة المجردة من الهيولى المستعملة للأجسام المطهرة ومعرفة ارتباط بعضها ببعض وهي أفلاك روحانیات محيطات بأفلاك جسمانيات ، والثالث علم النفوس والأرواح السارية في الأجسام الفلكية والطبيعية من لدن الفلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض ، والرابع علم السياسة وهي خمسة أنواع أولها السياسة النبوية ، الثاني السياسة الملوكية ، الثالث السياسة العامية ، الرابعة السياسة الخاصية ، والخامسة السياسة الذاتية ، فأما السياسة النبوية فالله يختص بها من يشاء من عباده ويهدي لاتباعهم من يشاء فلا معقب لحكمه لا يسأل عن ما يفعل وهم يسألون ، وأما السياسة الملوكية فهي حفظ الشريعة على الأمة وإحياء السنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأما السياسة العامية فهي الرياسات على الجماعات کرئاسة الأمراء على البلدان وقيادة الجيوش وترتيب أحوالهم على ما يجب وينبغي من حزم الأمور واتقان التدبير وأما السياسة الخاصية فهي معرفة كل إنسان نفسه وتدبيره أمر غلمانه وأولاده وما يليه من اتباعه وقضاء حقوق الاخوان ، وأما السياسة الذاتية فهي أن يتفقد الإنسان أفعاله وأقواله وأخلاقه وشهوته فيزمها بزمام عقله وغضبه فيردعه وما شاكل ذلك ، والخامس من علوم الإلهيات علم المعاد وكيفية انبعاث الأرواح وقيام با

ص: 220

الأجسام وحشرها للحساب يوم الدين ومعرفة جزاء المحسنين .

إذا عرفت هذا فافهم أنه لا بد للعالم أن يكون عالماً ولو بالقسم الأخير من العلم الفلسفي وهو علم الإلهيات الخمسة المتنوعة التي أشرنا إليها ونذكرها مرة ثانية باختصار فيما يلي :

1۔ علم معرفة الله .

2- علم الروحانيات .

- علم النفوس والأرواح .

- علم السياسة .

ه - علم المعاد .

ص: 221

ص: 222

الصفات الذميمة لیست خلق العالم

اشارة

ص: 223

ص: 224

وينبغي للعالم أن يتخلى عن الصفات الذميمة التالية :

1- الحسد :

ينبغي للعالم أن لا يحسد أقرانه العلماء ويتذكر قول الله تعالى في كتابه العزيز «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ » النساء آية 54 ، وقوله تعالى «وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ » وقوله تعالى «إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا »آل عمران آية 120 ويتذكر قول رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم : (الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) .

ويتذكر قول الله تعالى لموسی بن عمران : ( يا ابن عمران لا تحسدن الناس على ما أتيتهم من فضلي ، ولا تمدن عينيك إلى ذلك ولا تتبعه نفسك ، فإن الحاسد ساخط لنعمي ، صاد لقسمي الذي قسمت بین عبادي . ومن يك كذلك ، فلست منه وليس منّي) .

ويتذكر ما قاله علماء الأخلاق في وصف (الحسد) أنه أشد الأمراض وأصعبها ، وأسوأ الرذائل وأخبثها ، ويؤدي بصاحبه إلى عقوبة الدنيا وعذاب الآخرة ، لأنه في الدنيا لا يخلو لحظة عن الحزن والألم ، إذ هو

ص: 225

يتألم بكل نعمة يرى لغيره ، ونعم الله تعالی غیر متناهية لا تنقطع عن عباده ، فيدوم حزنه وتألمه ، فوبال الحسد يرجع إلى نفسه ، ولا يضر المحسود ، بل يوجب ازدیاد حسناته ورفع درجاته من حيث يعيبه ، ويقول فيه ما لا يجوز في الشريعة ، فيكون ظالمأ عليه ، فيحمل بعضأ من أوزاره وعصيانه ، وتنقل صالحات أعماله إلى دیوانه .

ويتذكر قول مولانا صادق آل محمد صلی الله علیه وآله وسلم : (الحاسد يضر بنفسه قبل أن يضر بالمحسود کابليس أورث بحسده لنفسه اللعنة ولأدم على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والتحية والسلام الاجتباء والهدى والرفع إلى محل حقائق العهد والاصطفاء فكن محسود، ولا تكن حاسدة ، فإن میزان الحاسد أبدأ خفيف بثقل میزان المحسود والرزق مقسوم فماذا ينفع الحسد الحاسد وماذا يضر المحسود ، والحسد أصله عمى القلب والجحود بفضل الله تعالى . وهما جناحان للكفر ، وبالحسد وقع ابن آدم في حسرة الأبد وهلك مهلكا لا ينجو منه أبدأ ، ولا توبة للحاسد لأنه مستمر عليه معتقد به مطبوع فيه يبدو بلا معارض مضر له ، ولا سبب والطبع لا يتغير من الأصل وان عولج .

وبالجملة يتذكر أيضأً بنفسه أنه معلم الأخلاق ومربي الناس فكيف يسوغ له أن يتصف بهذه الصفة الذميمة والحال أنه ينهى غيره عنها بواسطة وعظه وإرشاده :

لا تنه عن خلق وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم

ولا يخفى أيضاً أن العالم يعلم أن بواعث الحسد سبعة : أولها: خبث النفس وشحها بالخير العباد الله ، وثانيها : العداوة والبغضاء ، وثالثها حب الرئاسة وحب المال والجاه ، ورابعها : الخوف من المقاصد . وذلك يختص بمزاحمين على مقصود واحد ، فإن كل واحد منهما يحسد صاحبه في وصوله هذا المقصود وخامسها : التعزز : وهو أن يثقل عليه أن يترفع عليه بعض أقرانه ، وسادسها : التكبر : وهو أن يكون

ص: 226

في طبعه الترفع على بعض الناس .. وسابعها : التعجب : وهو أن يكون المحسود في نظر الحاسد حقيرة . وهذه البواعث للحسد المذكورة لا شك أنها لا توجد عند العالم العارف وليس لها في قلبه مكان بل بالعكس أنه يلتذ ويبتهج بكثرة المشاركين في معرفة الله وحبه وانسه فالعالم العارف لا يكون حسودا لأنه يطلب الآخرة ، وإنما يقع التحاسد بین علماء الدنيا ، وهم الذين يقصدون بعلمهم طلب المال والجاه.

إذ المال أعيان وأجسام ، إذا وقعت في واحد خلت عنها أيدي الآخرين ، والجاه ملك القلوب ، وإذا امتلأ قلب شخص بتعظیم عالم ، انصرف عن تعظيم آخر ، أو نقص عنه لا محالة ، فيكون ذلك سببا للتحاسد . وإذا امتلأ قلب عالم الأخرة من الابتهاج بمعرفة الله تعالى ،فإنه يحب أن يمتلىء قلب غيره بها وإذا وصل إلى رتبة عالية في العلوم أحب للغير أن يشاركه فيها . ولهذا قال علماء الاخلاق : إن التحاسد لا يكون بين علماء الآخرة والعارفين .

2 - الاستبداد بالرأي :

فينبغي للعالم أن لا يكون مستبدأ برأيه ويتفطن في قول مولانا الإمام الصادق علیه السلام : (شاور في أمورك مما يقتضي الدين من فيه خمس خصال : عقل وعلم ونصح وتجربة وتقوى ، وان لم تجد فاستعمل الخمسة واعزم وتوكل على الله تعالى ، فإن ذلك يؤدي إلى الصواب ، وما كان من أمور الدنيا التي هي غير عائدة إلى الدين فاقضها ولا تتفكر فيها ، فإنك إذا فعلت ذلك أصبت بركة العيش وحلاوة الطاعة وفي المشاورة اكتساب العلم ، والعاقل من يستفيد منها علما جديدا ويستدل به على المحصول من المراد ، ومثل المشورة مع أهلها مثل التفكر في خلق السماوات والأرض وفنائهما وهما غيبان لأنه كلما قوي تفكره فيهما غاص في بحار نور المعرفة وازداد بهما اعتبارا ويقينا ، ولا تشاور من لا يصدقه عقلك وان كان مشهورة بالعقل والورع ، وإذا شاورت من يصدقه قلبك ، فلا تخالفه فيما يشير به عليك ، وان كان بخلاف مرادك فإن النفس تجمع عن قبول الحق

ص: 227

وخلافها عند قبول الحقائق أبين .

قال الله تعالی :« وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ »وقال تعالى : «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ »

3- التكلُّف :

فينبغي للعالم أن لا يكون متكلفأحتى لا يتخلف عن الصواب وليتأمل فيما قاله مولانا الإمام الصادق عليه الصلاة والتحية والسلام :

(المتكلف متخلف عن الصواب ، وإن أصاب والمتطوع مصيب ، وان أخطأ والمتكلف لا يستجلب في عاقبة أمره إلا الهوان ، وفي الوقت إلا التعب والعناء والشقاء ،والمتكلف ظاهره رياء وباطنه نفاق ، وهما جناحان يطير بهما المتكلف وليس في الجملة من اخلاق الصالحين ولا من شعار المؤمنين ، التكلف في أي باب كان .

قال الله تعالى لنبيه صلی الله علیه وآله وسلم : «قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ».

وقال صلی الله علیه وآله وسلم : نحن معاشر الأنبياء والأتقياء والأمناء براء من المتكلف ، فاتق الله واستقم نفسك عن التكلف فيطبعك بطباع الإيمان ، ولا تشتغل بلباس آخره البلاء وطعام آخره الخلاء ، ودار آخره الخراب ، ومال آخره الميراث ، وإخوان آخرهم الفراق ، وعز آخره الذل ووفاء آخره الجفاء وعيش آخره الحسرة .

فينبغي للعالم الروحاني أن يضع هذا الحديث وغيره من الأحاديث الناهية عن التكلف أمام نصب عينيه حتى لا ينحرف عن الجادة المستقيمة

4 - العزلة :

ينبغي للعالم أن لا يكون معتزلاً عن الناس بل عليه بالأهتمام بأمور المسلمين فينظر ويتأمل دائما في الأخبار الدالة على استحباب التزاور والتصافح والمعانقة وعيادة المرضى وتشييع الجنائز وقضاء الحوائج و اصلاح ذات البين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على البر

ص: 228

والتقوى وحضور الجمعة والجماعة ، وينظر ويتأمل فيما دل على الأمر بالتعليم والتعلم ، وما دل على الأمر بالنفع والانتفاع والكسب والمعاملة ، وما دل على التأديب والتأدب ومداراة الناس وتحمل أذاهم والاستيناس والايناس وحضور الولائم وأجابة الدعوة ومدح التواضع والأم به والتجربة والتجارب ، ونحو ذلك مما لا يتم إلا بالمعاشرة .

وبالجملة أن المؤمن ألف مألوف كما جاء في الخبر فينبغي للعالم أن يخالط الناس ويداريهم ويتحمل هفواتهم ويصبر على ما أصابه من أذاهم فإن ذلك من عزم الأمر . نعم اللّهم إلا أن تحتم عليه الظروف التي يعيشها الاعتزال لمصلحة في الدين فيكون الاعتزال مأمورا به من الشريعة ، فيتحصن بالعزلة لأن الميزان في العزلة والمخالطة هو المصلحة الراجعة للإسلام والمسلمين .

ويؤيد هذا ما جاء في مصباح الشريعة صفحة 99 عن الإمام الصادق علیه السلام في مدح العزلة في بعض الأوقات .

قال علیه السلام ؛ صاحب العزلة متحصن بحصن الله تعالى متحرس بحراسته ، فيا طوبى لمن تفرد به سراً وعلانية وهو يحتاج إلى عشر خصال :

علم الحق والباطل ، وتجنب فقر، واختيار الشدة ، والزهد ، واغتنام الخلوة ،والنظر في العواقب ، ورؤية التقصير في العبادة مع بذل المجهود ، وترك العجب ، وكثرة الذكر بلا غفلة ، فإن الغفلة مصطاد الشيطان ، ورأس كل بلية ، وسبب كل مجاب ، وخلوة البيت عما لا يحتاج إليه في الوقت .

ولما ورد عن مولانا الإمام الباقر علیه السلام قال : قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: قال الله تبارك وتعالى : (إن أعبد أوليائي عندي رجل خفيف ذو حظ في صلاة أحسن عبادة ربه في الغيب وكان غامضة في الناس جعل رزقه کفاف فصبر عليه حتى مات فقل تراثه وقلت بواكيه) .

قال الشاعر :

ص: 229

أنست بوحدتي ولزمت بيتي *** فطاب الأنس لي وصفا السرور

وأدبني الزمان فلا أبالي *** بأني لا أزار ولا أزور

ولست بسائل ما عشت يوما *** أسار الجند أم ركب الأمير

وأيضاً غير هذين الحديثين الشريفين وردت أحاديث كثيرة عن أئمة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والتحية والسلام في مدح العزلة في بعض الأوقات .

قال العارف المحقق سیدنا المقدس السيد عبد الله شبر رضوان الله تعالى عليه : وفي العزلة فوائد كثيرة :

منها : التفرغ للعبادة والفكر والاستيناس بمناجاة الله تعالى عن مناجاة الخلق .

ومنها : التخلص من المهنکات والاخلاق الرذيلة كالغيبة وسماعها والرياء والتكبر والحقد والحسد والسكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتخلص من الفتن والخصومات ، وصيانة الدين والنفس عن الخوض فيها والتعرض لأخطارها ، والخلاص من شر أعداء الدين ، ومن انقطاع طمع الناس عنه وانقطاع طمعه عنهم ، والخلاص من مشاهدة الثقلاء والحمقاء واخلاقهم الرديئة وغير ذلك .

قال رضوان الله تعالى عليه بعد ذلك : وتحقيق المقام على وجه أنيق و طرز رشیق تلتئم عليه الأخبار الواردة في هذا المضمار بوجوه :

الأول : أن العزلة الممدوحة إنما هي عزلة بالقلب دون البدن كما برشد إلى ذلك ما رواه عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق منغني : طوبى لعبد عرف الناس ، فصاحبهم ببدنه ولم يصاحبهم بقلبه فعرفوه في الظاهر وعرفهم في الباطن .

الثاني : أن يراد بالعزلة عن أهل الدنيا الذين يشغلون الإنسان عن

ص: 230

ذكر الله تعالى ، لا أهل الأخرة من العلماء والعقلاء والعرفاء الذين يكتسب من أخلاقهم ويستفيد من علومهم وأحوالهم ويتوصل إلى الأجر والثواب بمخالطتهم . ويشهد بذلك قول الإمام الكاظم الثاني : يا هشام الصبر على الوحدة علامة قوة العقل ، فمن عقل عن الله اعتزل الدنيا والراغبين فيها ورغب فيما عند الله ، ومن رغب فيما عند الله كان أنيسه في الوحشة وصاحبه في الوحدة وغناه في العيلة ومعزه من غير عشيرة .

الثالث : أن يقال إن العزلة لا بد فيها من العلم والزهد ، كما تنبیء عنه عينها وزاؤها . فالعزلة بدون عین العلم ذلة ، وبدون زاء الزهد علة ، وبدون لام الجهل عزة ، فالجاهل لا يليق له العزلة ، ففي الكافي عن الإمام الصادق علانحن، أنه قيل له : رجل عرف هذا الأمر - أي الإمامة - لزم بيته ولم يتعرف إلى أحد إخوانه ، قال : فقال : كيف يتفقه هذا في دينه ؟.

ثم هذا العالم إن كان ذا نفس قدسية وقوة ملكوتية خشن في ذات الله قادر على الأمر بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر وارشاد الضال ومعاونة الضعيف وادراك اللهيف ونصرة المظلوم ونحو ذلك ، ولا تأخذه في الله لومة لائم فالأولى بحاله المخالطة وإلا فالعزلة .

الرابع : أن يقال إن الانقباض عن الناس مکسبة للعداوة والانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء ، فليكن الإنسان بين المنقبض والمنبسط ، وكذلك يجب الاعتدال في المخالطة والعزلة ، ويختلف ذلك بحسب الأحوال بملاحظة الفوائد والآفات فليلحظ كل ما يصلحه وما يليق بحاله .

5- الغرور :

وينبغي للعالم أن لا يكون متصفاً بهذه الصفة الذميمة التي تبعده عن الله عز وجل وتجعله محتقراً عند عباده ولا يخفي أننا فيما تقدم قد ذكرنا شيئاً يسيراً عن غرور أهل العلم ، وهنا نقول إن المتصفین بهذه الصفة فرق نذكر بعضها فيما يلي :

الفرقة الأولى :

من أحكم العلوم العقلية والشرعية وتعمق فيها وغفل

ص: 231

عن تفقد الجوارح وحفظها عن المعاصي وإلزامها الطاعات ، وغفل عن أن العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل ، وإن أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه .

الفرقة الثانية :

من أحكم العلم والعمل وواظب على الطاعات وترك المعاصي الظاهرة من الجوارح واهمل تفقد الرئيس ليمحو عنه المعاصي المهلكة والسموم القاتلة التي تفوت حياة الأبد ، كالحسد والرياء والحقد والكبر والعجب وحب الجاه ونحوها ، وربما لم يعرف حقائق هذه الأمور فضلا عن علاجها ومعالجتها ، وقد أكب على الفضول وترك الفرض ، وهو لم يتصف بحقيقته الإنسانية ، ويظن أنه قد بلغ من العلم مبلغأ لا يعذب الله مثله ، بل يقبل في الخلق شفاعته وأنه لا يطالبه بذنوبه لكرامته عند الله .

الفرقة الثالثة :

من علموا هذه الأخلاق الباطنة وعلموا آفاتها وكيفياتها إلا أنهم للعجب بأنفسهم يظنون أنهم منفكون عن الاخلاق المذمومة .

وأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم بها وإنما يبتلي بها العوام ، ثم إذا ظهر على أحدهم مخايل الكبر والرئاسة وطلب العلو والشرف قال : ما هذا كبر إنما هذا طلب عز الدين واظهار شرف العلم ونصرة دين الله وارغام أنف المخالفين . ومهما انطلق اللسان بالحسد في أقرانه وفي من رد عليه شيئا من كلامه لم يظن بنفسه أن ذلك حسد ، ولكن قال : إنما هذا غضب للحق ورد على المبطل في عداوته وظلمه .

ثم لو طعن عليه غيره من أهل العلم لم يكن غضبه مثل غضبه الآن بل ربما يفرح به ، وإذا خطر له خاطر الرياء قال : هيهات إنما غرضي من إظهار العلم والعمل اقتداء الخلق بي ليهتدوا إلى دين الله ويتخلصوا من عقاب الله .

ولا يتأمل المغرور أنه ليس يفرح باقتداء الناس بغيره كما يفرح

ص: 232

باقتدائهم به ، فلو كان غرضه صلاح الخلق لفرح بصلاحهم على يد من كان .

وربما يتذكر هذا المعنى فلا يخليه الشيطان أيضأ بل يقول : إنما ذاك لأنهم إذا اهتدوا بي كان الأجر والثواب لي ، وإنما فرحي بثواب الله لا بقول الخلق .

هذا ما يظنه بنفسه والله مطلع على سريرته ، وقد زين له سوء عمله فرآه حسناً وضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعاً .

الفرقة الرابعة :

قوم اقتصروا على علم الفتاوى والحكومات والخصومات وتفاصيل المعاملات الدنيوية الجارية بين الخلق لمصالح المائش ، وصرفوا أعمارهم في معرفة دقائق السلم والاجارة والظهار واللعان والجراحات والدعاوي والبينات والحيض والاستحاضة ، وضيعوا الأعمال الظاهرة والباطنة ، ولم يتفقدوا الجوارح ولم يحرسوا اللسان عن الغيبة والبطن عن الحرام ولا الرجل عن المشي إلى السلاطين ، ولم يعالجوا أمراض قلوبهم بالكبر والرياء والحقد والعجب والحسد وسائر المهلكات مما هو من الواجبات العينية ، واشتغل بفرض الكفاية والاشتغال بالكفائي قبل الفراغ من العيني معصية .

ومثلهم مثال من به علة البواسير والسرسام ، وهو مشرف على الهلاك محتاج إلى تعلم الدواء واستعماله ، فاشتغل بتعليم دواء الاستحاضة وبتكرار ذلك ليلا ونهارا مع علمه بأنه رجل لا يحيض ولا يستحيض ، ولكن يقول : ربما وقعت الاستحاضة أو الحيض لامرأة تسألني ، وذلك غاية الغرور .

وكذلك المتفقه المسكين الذي تسلط عليه حب الدنيا واتباع الشهوات والحسد والكبر والرياء وسائر المهلكات الباطنة ، وربما يختطفه الموت قبل التوبة والتلافي فيلقى الله وهو عليه غضبان .

ص: 233

الفرقة الخامسة :

من اشتغل بعلم الكلام والمجادلة في الأهواء والرد على المخالفين وتتبع مناقضاتهم ، واعتقدوا أنه لا يكون للعبد عمل إلا بالإيمان ولا يصلح الإيمان إلا بأن يتعلم جدلهم وما يسمونه أدلة عقائدهم ، وظنوا أنه لا أحد أعرف بالله وصفاته منهم ، وأنه لا إيمان لمن لا يعتقد مذهبهم ولا يتعلم علمهم ، ودعى كل فرقة منهم إلى نفسه ، وهم فرق كثيرة يكفر بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا ، فيهم الأشاعرة والمعتزلة والخوارج والنواصب ، وهؤلاء مغرورون .

أما الفرقة الضالة منهم فغفلتها عن ضلالها وظنها بنفسها النجاة ، وأما الفرقة المحقة فإنما اغترارها من حيث إنها ظنت أن الجدل أهم الأمور وأفضل القربات ، وقد ورد في الحديث النبوي الشريف : ما ضل قوم قط بعد هدى إلا أوتوا الجدال وحرموا العمل .

الفرقة السادسة :

من اشتغل بالوعظ والارشاد ، واعلاهم رتبة من يتكلم في أخلاق النفس وصفات القلب من الخوف والرجاء والصبر والشكر والتوكل والزهد واليقين والاخلاص والصدق ونظائرها ، ويظن بنفسه أنه إذا تكلم بهذه الصفات ودعى الخلق إليها صار موصوفاً بها ، وهو منفك عنها عند الله إلا عن قدر يسير لا ينفك عنه عوام المسلمين ، والاكياس يمتحنون في هذه الصفات ويطالبونها بالحقيقة ، ولا يقنعون منها بالتزويق .

الفرقة السابعة :

من قنع بحفظ كلام الزهاد وأحاديثهم ، فهو حافظ للكلمات جاهل بالمعاني غير متصف بما يقول .

الفرقة الثامنة :

من استغرق أوقاته في علم الحديث وسماعه وطلب الأسانيد الغريبة العالية ، وغفل عن التدبر في دقائق معانيه .

الفرقة التاسعة :

من اشتغل بعلم النحو والفقه والشعر وغريب اللغة ، زاعماً أنه من علماء الأُمة المغفور لهم ، إذ قوام الدين بالكتاب والسنة وقوام الكتاب والسنة بعلم النحو ، فأفني هؤلاء أعمارهم في دقائق العربيه

ص: 234

وغريب اللّغة ومثالهم كمن يفني عمره في تعلم الخط وتصحيح الحروف وتحسينها ويزعم أن العلوم لا يمكن حفظها إلا بالكتابة فلا بد من تعلمها ، ولو عقل لعلم أنه يكفيه أصل الخط بحيث يمكن أن يقرأ كيفما كان والباقي زائد على الكفاية . بل مثالهم مثال من ضيع العمر في تصحيح مخارج الحروف في القرآن واقتصر عليه ، وهو غرور إذ المقصود من الحروف المعاني .

6- الحرص :

وينبغي للعالم أن لا يكون حريصاً على شيء لو ترکه الوصل إليه ، قال صادق آل محمد صلی الله علیه وآله وسلم: لا تحرص على شيء لو تركته لوصل إليك ، وكنت عند الله تعالی مستريحأ محمود بترکه ومذموماً باستعجالك في طلبه وترك التوكل عليه والرضا بالقسم ، فإن الدنيا خلقها الله تعالی بمنزلة الظل إن طلبته أتعبك ولا تلحقه أبدأ ، وإن تركته تبعك وأنت مستريح .

قال مولانا رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم الحريص محروم وهو مع حرمانه مذموم في أي مكان ، وكيف لا يكون محروماً وقد فر من وثاق الله تعالى عز وجل ، وخالف قول الله تعالى : «الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ » .

7 - المداهنة :

فينبغي للعالم أن لا يكون مداهناً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن المداهنة منشأها إما ضعف النفس وصغرها ، أو من الطمع المالي ممن يسامحه ، فيكون من رذائل القوة الغضبية من جانب التفريط ، أو من رذائل القوة الشهوية من جانب الافراط . وهو من المهلكات التي يعم فسادها وضررها ، ويسري إلى معظم الناس أثرها وشرها . كيف ولو طوي بساط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، اضمحلت الديانة وتعطلت النبوة ، وعمت الفترة وفشت الضلالة ، وشاعت الجهالة ، وضاعت أحكام الدين ، واندرست آثار شريعة رب العالمين ، وهلك العباد ، وخربت البلاد .

ولذا ترى وتسمع أن في كل عمر نهض باقامة هذه السنة بعض المؤيدين ، من

ص: 235

غير أن تأخذهم في الله لومة اللائمين، من أقوياء العلماء المتكفلين لعلمها وإلقائها ، ومن سعداء المؤمنين الساعين في إجرائها وامضائها ، رغب الناس إلى ضروب الطاعات والخيرات ، وفتحت عليهم بركات الأرض والسماوات .

وفي كل قرن لم يقم بإحيائها عالم عامل ولا مؤمنين عدول . استشرى العناد ، واتسع الخرق وخربت البلاد واسترسل الناس في اتباع الشهوات والهوى وانمحت أعلام الهداية والتقى وعليه أنه لا ينبغي للعالم بدين الله تعالى أن يكون مداهناً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو وظيفة العالم فكيف يصح لصاحب الوظيفة أن يتخلى عن وظيفته أو يتهاون في تأديتها أو يكون مداهناً في ذلك وهو العالم بما أوجبه الله تعالى عليه بقوله تعالى : «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»وبقوله تعالى : «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ » ، والعالم بقوله تعالى : «لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ».

والعالم أيضا بقول الرسول صلی الله علیه وآله وسلم ما أعمال البر عند الجهاد في سبيل الله إلا كنفثة في بحر لجي ، وما جميع أعمال البر والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا كنفثة في بحر لجي .

وهناك العديد من الأحاديث التي ذكرها أئمة الحديث عن أئمة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والتحية والسلام والتي تحث العالم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم المداهنة في ذلك وكلها معلومة ومفهومة لدى العالم الديني فكيف يصح له أن يضرب بتلك الأحاديث والآيات المكرمة صفحأ ويترك وظيفته أو يتهاون في التبليغ ويتصف بالمداهنة كما قلنا .

8- العنف :

وينبغي للعالم أن لا يكون عنيفاً في حالة وعظه وارشاده للناس بل عليه أن يستعمل الرفق واللين - فيتذكر قول الله تعالى لنبيه الكريم :

ص: 236

«فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ». ويتذكر قول الرسول صلی الله علیه وآله وسلم:

أمرني ربي بمداراة الناس .

ويتذكر أيضا أنه من حملة النور الإلهي فلا بد وان يتميز عن غيره بسعة ولين حتى يصدق علیه حقيقة أنه من الهداة إلى الله والدعاة إلى كلمته الذائدون عن حرماته، الذين وقفوا على مفترق الطريق يرشدون الحيارى ويبصرونهم اعلام الطريق . فيتأدب بأدب الله ويتخلق بأخلاقه ويعتز بسلطانه تعالى فلا یری لغيره سلطانأ فيصدع بالحق وينابذ الباطل وينادي في المستضعفين اتقوا ، وفي المستعبدين أن يحطموا سلطان كل طاغية جبار .

يدعوهم إلى ذلك باسلوب سليم وفكر واع رحیم مقتدياً بالنبي الكريم صلی الله علیه وآله وسلم حيث مدحه الرب العظيم بقوله تعالى : «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ »

نابذاً وراه صفة العنف الذميم الذي هو من عمل الشيطان الرجيم متوكلا على الله تعالی وواثق به في كل أموره .

بالاضافة إلى هذا كله عليه أيضا أن يلتزم بالأمور التالية :

أولاً : أن يعرف النفوس البشرية معرفة تمكنه من هدايتها وعلاج أدوائها ، فيعالجها معالجة الطبيب لمريضه الذي يأخذه بالرحمة ويذيقه مرارة الدواء باللين والكلمة الطيبة .

ثانياً : عليه أن يركز في وعظه وارشاده كثير على جمع الشتات وتوحيد الكلمة وتقويم الصف وان يحمل الهفوات الصادرة من الناس بالنسبة إليه على محمل الصحة ما وجد إلى ذلك في الخير مذهب . فيوسعهم على اختلاف درجاتهم ببسط الوجه والمسامحة .

ثالثاً : عليه أن لا يأنف فيما لو صدر منه الخطأ فوعظه غيره لأنه قابل لأن تصدر منه الهفوات والزلات .

ص: 237

رابعاً : عليه أن يكون باذلا علمه لعامة الناس غير متحيز إلى فئة دون أخرى بأن يتخذ له جماعة من أهل الشرف أو أهل المناصب بل عليه أن يبذل علمه لكل أحد .

خامساً : أن لا ينصب نفسه للفتوى إذا لم يكن له أهلية ذلك بحيث كان فاقداً لشرائطها .

فقد جاء في الحديث المروي من طرق العامة عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم أنه قال : سبعة من أصناف العلماء في جهنم ، الخازن لعلمه الذي لا يبذله للغير والعالم المتخير لبعض أهل الشرف والمناصب العالية دون غيرهم من الناس ، والعالم الذي يعنف في وعظه ، والعالم الذي يأنف إذا وعظ ، والعالم الذي نصب نفسه للفتوى بدون علم ، والعالم المباهي بعلمه .

قال جميل السيابي أحد علماء اخواننا أهل التسنن هذه الأبيات المتضمنة لما قاله رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم:

والعلماء إن فسدوا شر الوری *** يروى عن الرسول هذا خبرا

لأنهم بذاك خانوا الرسلا *** فيما عليه استخلفوا هم للملا

وزلة العالم لا تقال *** كذاك أيضا ليس تستقال

وزلة العالم كالسفينة *** تغرق مع ركابها مسكينة

قلت ولكن أهلكت لبعض *** وأهلك العالم أهل الأرض

وسبعة في العلماء يصلونا *** نار السعير ليس يخرجونا

من يخزن العلم عن المحتاج له *** يراه تضييعا له إن بذله

وعالم تخير الأشراف *** به وعن سواهم تجافا

یری ضعاف الناس ليسوا أهلا *** لعلمة والعظماء أولی

أو يبتغي عطاؤهم والمنزلة *** بالعلم ما أخسه وأرذله

وعالم يغضب مهما قصرا *** في حقه تكبرا تجبرا

وعالم يجعل ما قد علما *** مروة وعفة وكرما

ص: 238

تصنعا للناس كي ينالا *** منزلة ويفتدي مختالا

وعالم في وعظه يعنف *** أو وعظوه فتراه يأنف

وعالم منتصب للفتوى *** بدون علم يا لها من بلوی

وعالم قد طلب استكثارا *** لعلمه بلغة النصارى

ولغة اليهود كي يقالا *** حوی علومأ جمة ونالا

من طلب العلم لكي يرتفعا *** به على الناس ويجني الطمعا

أقامه الله مقام الذل *** مع الهوان عند يوم الفصل

وعاد بالحسرة والندامة *** مما جني في موقف القيامة

قال النبي المصطفى العدناني *** إنكم في آخر الزمان

ترون عباداً أولي جهالة *** لم يعرفوا الهدى من الضلالة

وعلماؤهم فساق *** نطقهم حلو إذا يذاق

أما القلوب فهي ملح مجدبة *** عن طرق الهداية منكبة

فتنتهم على جميع الأمة *** أخوف شيء أنها المهمة

ثم قال بعد أبيات تركناها ... وبعدها قال ولنعم ما قال :

وقيل إن آخر الزمان *** يظهر قوم علما اللسان

يزهدون الناس في الدنيا وهم *** أشد فيها رغبة من غيرهم

يخوفون الناس سوء العاقبة *** وما لهم خوف ولا مراقبة

ينهون عن غشيان أرباب الدول *** وهم لهم ملازمون في العمل

وبالجملة ينبغي لأهل العلم أكرام أنفسهم واعزاز العلم وصيانته وانزاله حيث أنزله الله تعالى حتى تخضع لهم رقاب الجبابرة وينقاد لهم جميع الناس فإذا عظم العلم في نفس العالم عظمه الله تعالی وعظمه عباده . قال أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني ولنعم ما قال :

ولم أقض حق العلم إن كنت كلما *** بدا طمعا صيرته لي سلما

ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي *** لأخدم ما لاقيت لكن لأخدما

ص: 239

أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة *** إذا فاتباع الجهل قد كان أسلما

فإن قلت زند العلم كاب فإنما *** كبا حيث لم تحرس حماه وأظلما

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم *** ولو عظموه في النفوس لعظما

ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا *** محياه بالاطماع حتى تجهما

فالصفات الذميمة الآنفة الذكر لا يصح للعالم أن يتصف بها والحال أنه معلم ولا بد للمعلم أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره ونیكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه .

وقديماً قيل : مؤدب نفسه ومعها أحق بالإجلال من مؤدب الناس ومعلمهم وأنشدوا :

يا أيها الرجل المعلم غيره *** هلا لنفسك كان ذا التعليما

تصف الدواء لذي السقام وذي الضني *** کي ما يصح به وأنت سقيم

ونراك تصلح بالرشاد عقولنا *** أبدأ وأنت من الرشاد عدیم

فابدأ بنفسك فانهها عن غيها *** فإذا انتهت عنه فأنت حکیم

فهناك يقبل ما تقول ويهتدي *** بالقول منك وينفع التعليم

لا تنه عن خلق وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظبم

ويعجبني في وصف العالم ما قاله الشاعر البحراني المعروف السيد رضي الموسوي البلادي وهو يمتدح مولانا المعظم الشيخ محمد أمين دامت بركاته العالية قال :

إنما العالم من يعمل لليوم وللغد *** يتحرى الحق كالشاهد للشهر بمرصد

ويرى الافراط والتفريط إغفالاً عن الحق *** ليس بالعالم من حاد عن الحق فأبعد

إنما العالم من أوضح في الدنيا ومهد *** سبل الخير إلى الناس ولو أنهكه الجد

ص: 240

صفات العالم الفقيه

اشارة

ص: 241

ص: 242

لقد تحدثنا لقارئنا الكريم فيما تقدم عن بعض الصفات الفاضلة التي ينبغي للعالم أن يزين نفسه بها لكي يتسنى له نشر تعاليم الإسلام الحنيف كما ذكرنا أن تلك الصفات ليست هي مخصوصة بالعالم فقط بل إن الشريعة الإسلامية قد ندبت جميع الناس إلى التحلي بها والتخلي عن الصفات الذميمة .

ومن خلال ذلك الحديث المتقدم قد علم قارئنا العزيز أننا ما كنا نقصد أيضا العالم الفقيه المجتهد بل كان الحديث عامة وشاملا يتناول الفقيه ومن دونه من أهل العلم والمعرفة فالعالم الفقيه عليه بالتحلي والتخلي والعالم الذي لم يصل إلى رتبة الاجتهاد والفقاهة بل وحتى الإنسان المسلم العادي عليهم جميعا أن يتصفوا بالصفات الحميدة والفاضلة وان يبتعدوا عن الصفات الذميمة .

وهنا نتحدث لقارئنا عن الصفات المطلوبة في الفقيه وهي التي يسميها الفقهاء بالشرائط المعتبرة في مرجع التقليد ليتسنى للعوام أن يقلدوه فنقول : قال سيدنا وإمامنا المعظم روحي فداه في تحرير الوسيلة - المسألة الثالثة - المجلد الأول صفحة رقم 5 يجب أن يكون المرجع للتقليد عالماً

ص: 243

مجتهداً عادلاً ورعاً في دين الله تعالى غير مكب على الدنيا ، ولا حريصاً عليها وعلى تحصيلها جاها ومالا على الأحوط ، وفي الحديث (من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه).

وقال سيدنا الطباطبائي (قدس سره) في العروة مسألة - 22 - يشترط في المجتهد أمور : البلوغ ، والعقل ، والإيمان ، والعدالة ، والرجولة ، والحرية على قول ، وكونه مجتهدأ مطلق فلا يجوز تقليد المتجزیء ، والحياة فلا يجوز تقليد الميت ابتداء . نعم يجوز البقاء كما مر وأن يكون أعلم فلا يجوز على الأحوط تقليد المفضول مع التمكن من الأفضل، وأن لا يكون متولدة من الزنا ، وأن لا يكون مقبلا على الدنيا وطالبأ لها مكبأ عليها مجدا في تحصيلها ، ففي الخبر : (من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظ الدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه) - أقول - لا يخفي أن سيدنا الطباطبائي رضوان الله عليه قد أعتبر في مرجع التقليد أمورأ عشرة لا بد من بيان مدرك اعتبار كل واحد منها بحسب ما فهمته من بعض الأساتذة وبحسب ما رأيته من خلال مطالعاتي في الكتب الاستدلالية العلمائنا الأعلام وإليكها يا قارئي العزيز بالتسلسل فيما يلي :

الأول : البلوغ :

قد يقال إن المدرك في اعتباره ليس إلا الاجماع ان تم ، وإلا فاطلاق أدلة التقليد لا يفرق بين البالغ وغيره إذا حاز غير البالغ مراتب الفضل حتى صار كالبالغ ، وليس في الشرع ما يكون رادعة عن اطلاق بناء العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم ، ولا يكون مقيدة الاطلاقات الأدلة النقلية ومجرد كونه محجورة عن التصرف ومرفوعا عنه القلم وعمده خطأ لا يصلح لكونه رادعاً .

ويرد عليه أن الأدلة قاصرة عن شمولها لغير البالغ (أما الدليل العقلي الفطري فلكونه لبيا يحب الاقتصار فيه على القدر المتيقن ، وهكذا كل

ص: 244

خصوصية يحتمل دخلها في مرجع التقليد (وأما الأدلة النقلية) فلا اطلاق فيها لأنها مسوقة لبيان تسويغ أصل جواز التقليد لا لبيان حالات مرجع التقليد والعموم الافرادي وان كان حاصلا فيها كقوله عالنخي : (فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا) إلا أنه لا ينفع والنافع هو الاطلاق الحالي وهو مفقود .

والتمسك بالاصل العقلائي - وهو أصالة الاطلاق في مقام الشك - ليس هنا في محله ، لأن التمسك المزبور إنما يصح إذا لم يكن الكلام مسوق لغرض آخر، والغرض المسوق هنا هو بيان أصل الأخذ بقول العالم ، مضافة إلى أن المحجورية المطلقة بحيث لا يجوز التصرف لا في ماله ولا في مال الغير لا مع أذن الولي ولا بدون الأذن ينافي المرجعية . فإن من وظائف المرجع حفظ أموال الغير والمجهول المالك والتصدي للأمور الحسبية وغيرها. وكيف كان فالمدرك هو قصور الأدلة عن شمول غير البالغ ، وأما الإجماع التعبدي أو الكاشف فبعيد .

الثاني : العقل :

واعتباره واضح عند العقلاء والمتشرعة ، فلا يجوز له الإفتاء في حال الجنون ولا رجوع الجاهل إليه ، ولكن لو كان له فتاوى في حال العقل فهل يجوز الرجوع إليه في المسائل السابقة كما في فتاوى الميت ؟

مقتضى جواز الرجوع إلى الميت جوازه في المقام أيضا ، ولكن حكي الإجماع في المقام على عدم الجواز كما هو مسلم في صورة فقدان سائر الشرائط من زوال الملكة والدالة وغيرهما . أما المجنون الأدواري في حال إفاقته فلا مانع من الرجوع إليه .

الثالث : الإيمان بمعناه الأخص

ومدركه أمور : (الأول) إجماع السلف والخلف ، و(الثاني) قول الإمام أبي الحسن علیه السلام فيما كتبه لعلي بن سوید (لا تأخذن معالم دينك من غير شيعتنا فإنك إن تعديتهم أخذت دينك من الخائنين الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم إنهم أؤتمنوا على كتاب الله فحرفوه) الخ . وجه الاستدلال : أن الخيانة المذكورة لا تنفعك عن اعتقاد الخلاف ، وليس المراد من عدم الائتمان مجرد الفسق الظاهري الذي يصدر من غیر

ص: 245

معتقد الخلاف كالشيعة ، فما يقال من أن الولاية تدل على كون المانع عدم الائتمان لا مجرد اعتقاد الخلاف ليس في محله . (الثالث) قوله علیه السلام :

لأنهم حجتي عليكم) فإن إعطاء الحجة لا يليق بالفاسق بل يستفاد منه العدالة أيضا . (الرابع) ذیل الاحتجاج المروي عن تفسير مولانا الإمام العسكري علیه السلام إلى أن قال : (وذلك لا يكون إلا في بعض شیعتنا) وهذه الأمور تكفي في ردع بناء العقلاء على عدم اعتبار الإيمان .

الرابع : من الأمور المعتبرة في المجتهد العدالة :

وقبل بيان المدرك ينبغي بيان معنى العدالة وانها عبارة عماذا ؟ فنقول : إن العدالة لغة مأخوذة من العدل وهو القصد في الأمور ضد الجور ، وقيل من العدالة بمعنى الاستواء والاستقامة كما يقال (هذا عدل هذا) أي مساو له واعتدل الشيئان أي تساويا ، وفي اصطلاح أرباب الحكمة وأهل العرفان عبارة عن تعديل قوى النفس وتقويم أفعالها بحيث لا يغلب على بعض .

وتوضيح ذلك أن للنفس الإنسانية قوة عاقلة هي مبدأ الفكر والتميز والشوق إلى النظر في الحقائق والتأمل في الدقائق ، وقوة غضبية هي مبدأ الغضب والجرأة لدفع المضار والاقدام على الأهوال والشوق إلى التسلط على الرجال ، وقوة شهوية هي مبدأ طلب الشهوة واللذات من المأكل والمشارب والمناكح وسائر الملاذ البدنية والشهوات الحسية ، وهذه القوى متباينة جدا فمتى غلب أحدها انقهرت الباقيات وربما أبطل بعضها فعل بعض ، والفضيلة البشرية تعديل هذه القوى طرفي افراط وتفریط ، أما القوة العاقلة فالسفاهة والبلاهة والقوة الغضبية التهور والجبن والقوه الشهرية الشره وخود الشهوة ، فالقوة العاقلة تحصل من تعديلها فضيلة العلم والحكمة والقوة الغضبية تحصل من تعديلها فضيلة الشجاعة والقوة الشهرية تحصل من تعديلها فضيلة العفة، وإذا حصلت هذه الفضائل الثلاث التي هي في حاق الأوساط وتعادلت حصل منها فضيلة رابعة وملكة راسخة هي أم الفضائل

ص: 246

وهي المعبر عنها بالعدالة ، فهي إذاً ملكة نفسانية تصدر عنها المساواة في الأمور الصادرة عن صاحبها ، وتحت كل واحدة من هذه الفضائل الثلاث المتقدمة فضائل اخرى وكلها داخلة تحت العدالة فهي دائرة الكمال وجماع الفضائل على الاجمال .

وأما في اصطلاح أهل الشرع فقد اختلفت عبارات الفقهاء قديماً وحديثاً في تفسير العدالة على أقوال المعروف منها خمسة :

(الأول) ما ذكره مولانا الطباطبائي في العروة من أنها عبارة عن ملكة إتيان الواجبات وترك المحرمات ، قال رضوان الله تعالى عليه (العدالة عبارة عن ملكة إتيان الواجبات وترك المحرمات وتعرف بحسن الظاهر الكاشف عنها علما أو ظنا ، وتثبت بشهادة العدلين وبالشياع المفيد للعلم) .

وقد نسب سیدنا هذا التعريف تارة إلى المشهور ، واخرى إلى العلماء ، وثالثة إلى المخالف والمؤالف ولا يخفى أنه هو القول المعروف بین مراجع العصر ونقله العلماء عن المختلف والقواعد، والارشاد ، والتحرير ، والمهذب ، ونهاية الأصول ، والمنية ، والدروس ، والتنقيح ، والروضة ، وجامع المقاصد - والمعالم - والرياض .

وعن مولانا الأردبيلي نسبته إلى المشهور في الفروع والأصول ، وعن الفاضل الهندي نسبته إلى المشهور بين الخاصة والعامة ، وعن التنقيح نسبته إلى الفقهاء مشعرة بالاجماع عليه .

ومدرك هذا القول . صحيحة عبد الله بن أبي يعفور قال : قلت للإمام أبي عبد الله علیه السلام : بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم وعليهم ؟ فقال علیه السلام أن تعرفوه بالعفاف والستر وكف البطن والفرج واليد واللسان . ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد عليها النار من شرب الخمر والزنا والرياء وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وغير ذلك والدلالة على ذلک

ص: 247

کله أن يكون ساتراً لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين تفتیش ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه ، ويجب عليهم تزكيته واظهار عدالته في الناس ، ويكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهن وحفظ مواقيتهن جماعة المسلمين ، وان لا يتخلف عن جماعتهم في مصلاهم إلا عن عله ، فإذا كان كذلك لازما لمصلاه عند حضور الصلوات الخمس فإذا سئل عنه في قبيلته ومحلته قالوا : ما رأينا منه إلا خيراً مواظباً على الصلوات معاهداً لأوقاتها في مصلاه.

(الثاني) إنها عبارة عن الإتيان بالواجبات وترك المحرمات الناشىء ذلك عن ملكة ، وهذا القول هو المنقول عن الصدوق ، والمفيد في المقنعة ، والشيخ في النهاية ، وعن الوسيلة .

(الثالث) إنها عبارة مجرد ترك المعاصي ، أو خصوص الكبائر ، بمعنی الاستقامة على جادة الشرع، سواء كان ذلك عن ملكة نفسانية باعثة ورادعة أم لا. وقد نقل القول به عن المفيد ، وابن البراج ، وأبي الصلاح ، وابن ادريس ، والطبري ، والوحيد البهبهاني والسيد الصدر (قدس سرهم) وحكي عن المجلسي والسبزواري أن هذا القول هو الأشهر في تفسير (العدالة) .

(الرابع) انها الإسلام مع عدم ظهور الفسق ، وهذا القول منقول عن ابن الجنيد والمفيد في كتاب الأشراف ، والشيخ في الخلاف ، والشهيد الثاني ، والمحكي عن التبيان ، والدروس، والذكرى ، والمسالك ، والجعفرية ، والكفاية والمستند : أن الإسلام وعدم ظهور الفسق ليس قوله في تفسير العدالة وحقيقتها ، وإنما هو الحكم بها من باب الأصل ، من جهة كفاية الأصل في الحكم بالعدالة .

(الخامس) أنها حسن الظاهر وظهور الصلاح ، بأن يكون الشخص متصف بصفات ظاهرة في الحسن ، کملازمة صلوات الجماعة ، والذكر ، والزيارة ، وصلة الأرحام ، ونحوها (والحاصل أن الأقوال في العدالة

ص: 248

خمسة ، ولكل قول منها أدلة ويوجد أيضاً بين الأقوال فروق وإيرادات على الفروق نتركها جميعا خشية الإطالة ونكتفي بما ذكرناه من صحيحة عبد الله بن أبي يعفور لأن بيان تعريف العدالة ينبغي أن يكون مستقل عن بیان اعتبارها في مرجع التقليد وبيان المدرك في ذلك فالحديث عن تعريف العدالة شيء والحديث عن كونها من الشرائط المعتبرة في مرجع التقليد شيء آخر إذ ليس من المألوف الخلط في البحث الاستدلالي بين المسألتين إلا أننا أحبنا أن نذكر بعض تعريفات العدالة التي ذكرها العلماء ولو على جهة الاختصار بحيث عدم التعرض إلى ذكرالأدلة ومناقشتها و الفروق التي بين التعريفات لكن من الجدير بالذكر أيضا أن نعرف أن العدالة في الحاكم الشرعي والمفتي أخص من غيره .

قال مولانا فقيه أهل البيت في حدائقه ص 58 المجلد 10 صرح جملة من أصحابنا : منهم شيخنا العلامة المجلسي في كتاب البحار ، وشيخنا أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني وتلميذه المحدث الشيخ عبد الله بن صالح البحراني بان العدالة المشترطة في الإمامة والشهادة والقضاء والفتوى أمر واحد بأي الأقوال الثلاثة المتقدمة فسرت کان جميع من ذكر مشتركين فيها ، (لأنه رضوان الله تعالى عليه لم يذكر إلا ثلاثة أقوال للعدالة فقط) قال وقد جرينا على هذا القول سابقا في جملة من زبرنا ورسائلنا ، والذي ظهر لنا الآن بعد التأمل في الأخبار بعين الفكر والاعتبار أن العدالة في الحاكم الشرعي من قاضي ومفتي أخص مما ذكر من معنى العدالة بأي المعاني المتقدمة اعتبرت لأنه نائب الإمام علیه السلام وجالس في مجلس النبوة والإمامة ومتصد للقيام بتلك الزعامة فلا بد فيه من مناسبة للمنوب عنه بما يستحق به النيابة وذلك بأن يكون متصفا بعلم الأخلاق الذي هو السبب الكلي المقرب من الملك الخلاق وهو تحلية النفس بالفضائل وتخليتها من الرذائل وان كان هذا العلم الأن قد عفت مراسمه وانطمست في هذه الأزمنة معالمه وإنما المدار بين الناس الآن على العلم بهذه العلوم الرسمية المجامعة للفسق

ص: 249

في جل من تسمى بها .

قال رضوان الله تعالى عليه : ويكفيك في صحة ما ذكرناه قول أمير المؤمنين علیه السلام لشريح یا شریح جلست مجلسأ لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي او شقي .

ثم قال رحمه الله : ويدل على ما ذكرناه جملة من الأخبار ، منها ما رواه الثقة الجليل أبو منصور أحمد بن أبي طالب الطبرسي في كتاب الاحتجاج بسنده إلى مولانا الإمام العسكري علیه السلام وهو موجود أيضا في تفسيره - عن الرضا علیه السلام قال قال علي بن الحسين عليهما السلام إذا رأيتم الرجل قد حسن سمعته وهديه وتماوت في منطقه وتخاضع في حركاته فرويدا رويدا لا يغرنكم الرجل فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب المحارم منها لضعف نیته ومهانته وجبن قلبه فينصب الدين فخا له فهو لا يزال يختال الناس بظاهره فإن تمكن من حرام اقتحمه ، فإذا وجدتموه يعف عن الحرام فرويدأ لا يغرنكم فإن شهوات الخلق مختلفة فما أكثر من ينوب عن المال الحرام وان کثر ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها محرمة ، فإذا وجدتموه يعف عن ذلك لا يغرنكم حتى تنظروا ما عقله فما أكثر من ترك ذلك أجمع ثم لا يرجع إلى عقل متين فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله فإذا وجدتم عقله متينة فرويد، لا يغرنكم حتى تنظروا مع هواه يكون على عقله أم يكون مع عقله على هواه وكيف محبته للرئاسات الباطلة وزهده فيها فإن في الناس من خسر الدنيا والآخرة بترك الدنيا للدنيا ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة فيترك ذلك أجمع طلبأ للرئاسة حتى إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم فحسبه جهنم وبئس المهاد فهو يخبط خبط عشواء يقوده أول باطل إلى أبعد غابات الخسارة ويمده بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه فهو يحل ما حرم الله ويحرم ما أحل الله لا يبالي بما فات من دينه إذا سلمت له رئاسته التي قد سقي من أجلها «فَأُولَئِكَ الَّذِینَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا » ولكن الرجل كل

ص: 250

الرجل الذي جعل هواه تبعاً لأمر الله تعالى وقواه مبذولة في رضا الله يرى الذل مع الحق أقرب إلى عز الأبد من العز في الباطل ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرائها يؤدية إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفذ وان كثير ما يلحقه من سرائها إن اتبع هواه يؤدية إلى عذاب لا انقطاع له ولا زوال ، فذلكم الرجل نعم الرجل فيه فتمسكوا وبسنته فاقتدوا وإلى ربكم به فتوسلوا فإنه لا ترد له دعوة ولا تخيب له طلبة ، أقول : هذا ملخص ما أردت بيانه من تحقيق أن العدالة في الحاكم أو المفتي أخص من غيره .

نرجع الأن بقارئنا الكريم إلى بيان المدرك في اعتبارها في مرجع التقليد فنقول : المدرك أمور : منها الإجماع المحكي إن تم ، ومنها ما ذكرنا في الإيمان من. قوله علیه السلام : (فانهم حجتي عليكم) فإن الفاسق لا يليق بالمنصب المجعول ، ومنها قوله تعالى : «وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ » . فإن الفاسق ظالم ، والظاهر أن المراد بالركون هو جعله مرجعا وملجأ في المهمات کالرؤساء الذين يرجع إليهم المرؤوسين في أمورهم ، فالمرجع المركون إليه الفاسق منهي عن رجوعه إليه . ومنها قوله علیه السلام على ما في الاحتجاج : (وأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظأً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه) فإن الموصوف بهذه الأوصاف عادل بل ربما استظهر منها بعضهم فوق المرتبة الأولى من العدالة ، فإن مخالفة الهوى واطاعة المولى بنحو الاطلاق تحتاج إلى ملكة العدالة العالية ، وان ضعفه بعض آخر بأن المستفاد منها ليس إلا الأمان والوثوق لا العدالة ، والمختار هو الاستظهار الأول . .

ويمكن دفع خدشة ضعف السند بأن علو مضمونها واعتماد جملة من الأجلاء عليها يكفي في التعويل عليها ، كما أن الخدشة في الدلالة بأن المورد من أصول العقائد ولا يجوز التقليد في أصول الدين فلا بد أن يراد بالتقليد غير معناه المصطلح ، مردودة بأن المراد بالتقليد هو معناه العرفي وهو الاستناد إلى الغير في مقام العمل ، سواء كان العمل من الجوانح أو

ص: 251

الجوارح . ولا ريب بحصول الوثوق والاطمئنان من قول من كان موصوفاً بالأوصاف المزبورة ، وهذا يكفي في شطر من أصول الدين التي لا يعتبر الجزم واليقين فيها ، ويدل عليه بعض فقرات الرواية فإنه مالونه قرر السائل في أصل جواز التقليد في قوله : (وهل فرق بین عوامنا وعوام اليهود ، فإن عوامنا يقلدون علماءهم فلم لم يستحقوا الذم؟ ) فقال ائتلاف بالفرق من جهة والتسوية من جهة .

الخامس : الرجولية ،

وهذا الأمر لم يعتبره أيضاً الدليل العقلي فلو اعتبر لا بد له من دليل نقلي، وليس إلا دعوی انصراف الاطلاقات إلى الرجل ولكنها مشكلة كما أن اعتبار الحرية مشكل أيضاً ، نعم هو محكي عن جماعة ، ومجرد كونه مملوكاً لا يقدر على شيء لا يصلح للردع من بناء العقلاء ، ولهذا أفتى جماعة بجواز تقليد الأنثى والخنثى والعبد، ولكن على ما ذكرناه من عدم الاطلاق الحالي في أدلة يشكل الجواز لو شك في الجواز .

السادس : الاجتهاد المطلق ،

وينبغي رسم مقدمة قبل تقسيم الاجتهاد إلى المطلق والمتجزیء ، وهي أن الاجتهاد كثيرا ما يطلق في الأخبار على الرأي والاستحسان من غير دليل من الشرع ، فصار العمل بالاجتهاد العمل بالظن والاستحسان ، وهذا هو الباطل عندنا بالضرورة من الأخبار كالقياس وباقي الاستحسانات وصنف بعض قدماء أصحابنا كتاباً في إبطال الاجتهاد بهذا المعنى ، وأورد الأخبار الواردة في ذمه ، ولا يخفي أن جميع المتأخرين من أصحابنا يُصرحُون ببطلانه .

ولعل هذا هو المتعارف عند العامة حيث يجعلونه مقابلاً للنص ، وكأن محله عند فقدان النص وأبطلوا الاجتهاد في مقابل النص وعليه ورد خبر معاذ بعدما بعثه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قاضياً إلى اليمن، فقال له : بم تحكم؟، قال : بما في كتاب الله ، قال : فإن لم تجد ؟ ، قال فبما في السنة ، قال : فإن لم تجد ؟ ، قال : أجتهد برأيي .... وعليه جرى تعريف السيد في الذريعة من ان

ص: 252

الاجتهاد عبارة عن استنباط الأحكام الشرعية بغير النصوص ، بل بما طريقه الظنون والامارات والمنفي من كلام الاخباريين هو هذا المعنى لا المعنى المصطلح عليه عند الخاصة ، لا سيما عند المتأخرين منهم ، وهو استفراغ الوسع في تحصيل الحجة على الحكم الشرعي ، فإنه لا محيص عنه ولا وجه التأبي الاخباريين عنه ، وبهذا التفصيل في معنى الاجتهاد صرح بعض العلماء حيث قال : أن المتقدمين من علمائنا لا يقولون بجواز الاجتهاد والتقليد ولا يجيزون العمل بغير الكتاب والسنة من وجوه الاستنباطات الظنية ، ومن المعلوم أن طريقة المتقدمين هي الموافقة للأئمة عليهم أفضل الصلاة والتحية والسلام ولأحاديثهم المتواترة ، فإن شذ منهم شاذاً أحياناً أنكر عليه الأئمة عليهم أفضل الصلاة والتحية والسلام إن كان في زمان ظهورهم ، وهذه الطريقة مباينة لطريقة العامة مباينة كلية فإنهم أخذون بهذه الطريقة المنهية .... إلى أن قال : وبالجملة فعدم جواز الاجتهاد في نفس الاحكام الشرعية وعدم جواز العمل بالاستنباطات الظنية كان معلوماً من مذهب المتأخرين ، واشتراك اللفظ صار سببة للطعن وإلا فالاجتهاد الذي نحن نقول به ليس بهذا المعنى بل هو استفراغ الوسع في تحصيل الحجة القطعية على الحكم الشرعي ، إذ الملاك ليس عندنا هو الظن بالحكم لا شخصاً ولا نوعة ، بل المدار على قيام الحجة على الأحكام ، سواء أفاد العلم بها أو الظن شخصا أو نوعأ، فعلى هذا ينسد باب الطعن علينا من معاشر الاخباريين ، إذ الاستفراغ الكذائي لا بد لهم حتى القول بمقطوعية الأخبار ، كما كان ذلك عند من فتح باب العلم من الأصوليين وإن كان هناك نزاع فإنما هو في بعض الصغريات كالقول بحجية الاجماع والشهرة ومنطق الظن ، فالقائل بحجية الظن عند انسداد باب العلم والعلمي إنما يقول بذلك بالدليل النقلي أو العقلي وان كان معه نزاع كان في ذلك ، وهذا النزاع كثيراً ما يكون بين المجتهدين كما هو أيضا بين الاخباريين في كثير من المسائل ، ألا ترى أن بعضهم يقول بحجية الاستصحاب في الجملة ، وبعضهم ينكره ، وبعضهم

ص: 253

يقول بحجية بعض أقسام القطع وبعضهم ينكره ..... وهكذا ، فهذا النزاع الا ربط له ببطلان ما ذكر من معنى الاجتهاد فتأمل .

وأما التقليد فلا مفر له لأن فهم الأحاديث و ردّ العام إلى الخاص والمنسوخ إلى الناسخ والمطلق إلى المقيد وتعارض الأدلة وعلاج المعارضة وغير ذلك مما لا يحصل لكثير من أهل الفضل فضلا عن غيرهم ، فلا بد أن يرجع إلى من يعلم ذلك . وكيف كان المراد من الحكم الشرعي الواقع في تعريف الاجتهاد هو الحكم الشرعي الفعلي ، فيشمل مؤدی الأصول والأمارات ، فتحصل من رسم المقدمة المزبورة أن الاجتهاد بالمعنی المذكور لا ينبغي الاشكال فيه وان يراد الاخباريين راجع إلى معنى الاجتهاد بمعناه الآخر على ما شرحناه .

إذا عرفت ذلك فنقول : أن الاجتهاد ينقسم إلى مطلق ومتجزیء ، فالمطلق من يقتدر على استنباط جميع الأحكام ، والمتجزیء من يقتدر على استنباط بعضها ، ولكل منهما مراتب ومواقع للكلام ، فينبغي التكلم فيهما في المقامين ، الأول في المطلق وفيه ست مراتب نتحدث فعلا عن خمس منها فقط أما المرتبة السادسة فسوف يأتي الكلام عليها عن قريب إنشاء الله تعالی .

المرتبة الأولى) : في إمكانه ووقوعه ، فنقول : لا إشكال في إمكانه ووقوعه للأعلام .

أما الأول : فواضح حيث إنه من الممكن ثبوت ملكة الاقتدار واستنباط الأحكام من مداركها . وتوهّم جماعة عدم إمكانه ، ووجه التوهم

أمران : أحدهما أن الاجتهاد هو الحال - استفراغ الوسع فعلا - في تحصيل جميع الأحكام واستحضارها فع؟ فقالوا ان الأحكام ممتنع أن يحاط بها جميعها لعدم انتهائها . ثانيهما توهم أن المراد بالأحكام الواقعية مما لا يمكن ، اذ تردد بعض المجتهدين في بعض المسائل لا ينكر .

ص: 254

وأما الثاني : وهو الوقوع فتوهم أيضاً منعه بناءاً على أن ما ذكر في الوجه الأول لو سلم بأنه ليس سببا للامتناع ، فلا محالة سبب لعدم الوقوع

في الخارج كما نشاهد من تردد من هو أعظم المجتهدين في كثير من المسائل وهذا التوهم مدفوع لابتنائه على أن متعلق الاقتدار هو الأحكام

الواقعية ، كما أن المراد من العلم بالاحكام هو ملكتها لا العلم الفعلي .

(المرتبة الثانية): في جواز العمل باجتهاد نفسه ولزوم عمله على طبق ما راه حكما ، لا ينبغي الاشكال في لزوم العمل على طبق رأيه لعموم

الأدلة الدالة على حجية المدارك من ظواهر الألفاظ وحجية الامارات والأصول لكل من عرف مدالیلها وعرف أحكام المعارضة وعلاجها ، والمفروض أن المجتهد عارف بما ذكر كله .

(المرتبة الثالثة : في جواز رجوع الغير إليه وتقليده في تلك الأحكام ، ولا إشكال في حصول هذه المرتبة له أيضا لما دل عليه من أدلة

التقليد .

(المرتبة الرابعة )): في نفوذ حكمه وقضائه في مقام الحكومات والمخاصمات ، لا إشكال أيضا في حصول هذه المرتبة له للأدلة الدالة على نفوذ حكمه وعدم رده وحرمة استخفافه ، والعمدة في المقام هي مقبولة عمر بن حنظلة التي تلقاها الأصحاب بالقبول لما روي من قوله عليه أفضل الصلاة والسلام : (أنه لا يكذب علينا) حين سئل عنه ، فإن من فقرات هذه الرواية قوله عليه أفضل الصلاة والتحية والسلام : (ينظر إلى من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف احكامنا فلترضوا به حكمة فإني قد جعلته حاكما فإذا حكم بحكمنا .. الخ .

(المرتبة الخامسة) : هو تصديه للأمور الحسبية التي لا بد من القيام بها في عصر الغيبة ، وأيضا لا ريب في جوازه للمجتهد المطلق ، بل

اختصاصه مع وجوده و امکان الوصول إليه ، ولكن يظهر من العلامة

ص: 255

الأنصاري (قدس سره) في كتاب مكاسبه أن اختصاصه به إنما هو من باب القدر المتيقن في زمان الغيبة لأن المفروض إحراز مطلوبيتها مطلقا ، ومع الشك في أنها يجوز القيام بها لكل أحد أو المتيقن هو المجتهد المطلق يكون الثاني هو المتعين ، ولكن التحقيق عدم الاحتياج إلى ما قال (قده) لأن الأمور المذكورة من توابع القضاء فإذا ثبت اختصاص القضاء به يلزم اختصاص ما يتبعه من الأمور المزبورة بيان ذلك أن المناصب في عصر الحضور - كما دلت عليها التواريخ المعتمدة على نحوین : منها ما كان للولاة كجباية الزكوات وأخذ الخراج والمقاسمة وإقامة الحدود وصلاة العيدين والجماعات والأمور السياسية ونحوها ، وقسم منها كان موکولا إلى القضاة كالقضاوة بين جميع الناس وترافع الناس إليهم وقطع الخصومات في الموضوعات الخارجية ونحوها ، وكانت الأمور الحسبية كتجهيز الميت الذي لا ولي له ونصب القيم على الصغار والتصرف في الأموال المجهول ملاكها ونحوها داخلة في القسم الثاني منها ، فظهر أن الأمور الحسبية كانت تابعة للقسم الثاني .

هذا كله في الاجتهاد المطلق وبقيت المرتبة السادسة لم نتحدث عنها يأتي الكلام عليها إنشاء الله تعالی .

وأما التجزيء في الاجتهاد ففيه مراتب من البحث تتصور أيضاً :

المرتبة الأولى في امكانه ووقوعه ، الثانية في جواز العمل باجتهاد نفسه ، الثالثة في جواز افتائه ورجوع الغير إليه ، الرابعة في نفوذ قضائه ، الخامسة في جواز تصديه للأمور الحسبية ، السادسة في ثبوت الولاية العامة له . فنقول : أما المرتبة الأولى : فلا ينبغي الإشكال في إمكانها ووقوعها ، ضرورة اختلاف مدارك الفقه من حيث السهولة والصعوبة والوضوح والخفاء وتفاوت الاستعدادات في الأمور النقلية والعقلية ، فرب

شخص تحصل له القوة في بعض المسائل، ولا تحصل له في البعض

ص: 256

الأخر كما هو واضح .

وقد أورد على إمكان الوقوع بأمرين : (احدهما) أن الاجتهاد - كما ذكرناه - هو ملكة الاستنباط ، وهي من البسائط فلا تقبل التجزأة ،وثانيهما) أن الاستنباط موقوف على فهم مداليل الأدلة ومعرفة معارضتها وعلاج أنحاء المعارضات ، والمفروض أن المتجزیء لا يعرف تماما المدارك والمعارضات ، فهو - وان عرف مدارك أبواب العبادات ومعارضتها التي فيها - ولكن من المحتمل أن يكون لها معارض في أبواب المعاملات التي لم يقدر على الفحص فيها . فكيف يتمسك بالعمومات مثلا فيها ولم يقدر على استقصاء الفحص عن المخصصات والمعارضات .

والأقوى اندفاع كلا الايرادين : (أما الأول) فهو أن القوة القدسية المزبورة - وإن كانت موهبة من الله تعالى - لكنها ليست مبذولة بسبب أمر خارق للعادة ، بل هي توهب بحسب استعداد القوابل فيجوز أن يعطيه الله تعالى القوة المزبورة بالاضافة إلى بعض المسائل القصور استعداده عن الكل ، بل التحقيق أن الاجتهاد المطلق بدون السبق بالتجزيء محال لكونه تدريجيا لا يمكن الوصول إلى المرتبة الثانية إلا بعد تحصيل المرتبة الأولى .

(وأما اندفاع الأمر الثاني) فهو أن العلماء لاسيما أرباب الجوامع العظام شكر الله مساعيهم الجميلة سهلوا لنا طرق الاجتهاد ورتبوا الأخبار

ترتيبا جيدا فما تعلق من الأخبار بباب العبادات ذكروها منها ولم يذكروها في غيرها من سائر الأبواب ، وهكذا الأخبار الواردة في أبواب المعاملات ضبطوها في بابها ، فهم رضوان الله تعالى عليهم أهل الخبرة والصناعة ، فإذا اجتهد في باب العبادات وعرف أخبارها ولم يظفر بمعارضتها يحصل له الوثوق بعدم المعارض في غيرها ، ولا يلزم في مقام التمسك بالعمومات القطع بعدم المعارض وإلا لم يحصل للمجتهد المطلق أيضا، ضروره

ص: 257

احتمال المعارض في الكتب التي لم يحصل إليها .

المرتبة الثانية - وهو جواز العمل باجتهاده - فالحق هو الجواز أيضا ، وذلك لعموم حجية مدارك الفقه وأدلة الأحكام سندا ودلالة من حجية

الظواهر والامارات والأصول بالاضافة إلى المطلق والمتجزیء وكذا يشتركان في عدم شمول أدلة التقليد من رجوع الجاهل إلى العالم ونحوه لهما ، وبالجملة المجتهد المطلق والمتجزیء بالاضافة إلى عموم حجية المدارك وشمول أدلة التقليد «كفرسي رهان» و «كفتي ميزان» فلا وجه للاشكال أصلاً.

وأما المرتبة الثالثة - وهو الإفتاء ورجوع الغير إليه . فالحق هو عدم الجواز مع وجود المجتهد المطلق وتمكن الوصول إليه ، وأما بدون ذلك

بأن لا يكون موجودة أو كان ولكن لا يمكن الوصول إليه فالأقوى هو الجواز عند بعض الفقهاء .

توضيح ذلك : أن المدعي مركب عن أمرين : (أحدهما) عدم جواز رجوع الجاهل إلى المتجزیء إذا أمكن الوصول إليه . (الثاني) الجواز إذا لم يمكن الوصول إليه .

أما وجه عدم الجواز : فهو لعدم وجود الاطلاق في باب أدلة التقليد ، وذلك لما ذكرنا أن أعمدة الدليل في باب التقليد هو الدليل العقلي

الارتكازي الفطري لقاطبة العقلاء ، وهو لزوم رجوع الجاهل إلى العالم ، وذلك لأن كل أمر تعبدي لا بد أن ينتهي إلى أمر عقلي ، لأن كل ما

بالعرض لا بد أن ينتهي إلى ما بالذات لاستحالة الدور والتسلسل - مثلاً : وجوب النظر إلى المعجزة لو كان متوقفاً على التعبد يلزم الدور إذ هو

موقوف على ثبوت الشارعية ، فلو توقف اثبات الشارعية على وجوب النظر بالتعبد يلزم الدور ، كما أنه لو كان التعبد متوقفا على تعبد آخر يلزم التسلسل ، وليس للعقل أن يستريح ولا يصغي إليها مع احتمال صدق

ص: 258

مدعي النبوة للزوم إفحام الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والتحية والسلام ، بل العقل يلزمه إلى الإصغاء والنظر لأنه من وظائف العبودية ، وكذا ما نحن فيه من جواز التقليد لا يمكن اثباته بالدليل التعبدي ما لم ينته إلى الدليل العقلي للزوم المحذور المذكور ، فإذا كان الدليل هذا الدليل اللبي فلا اطلاق له لكونه مجملاً .

ويمكن أن يُقال : إن الاجمال أو الاهمال لا يتطرق في الأحكام العقلية فمن الأول يعين وظيفة الجاهل إلى أي شخص ، والظاهر تجویزه

لولا ترجيحه الرجوع إلى المتجزیء إذا كان أجود سليقة واحسن استنباطأ من المطلق ، كما أن العرف يرجع إلى الطبيب المتخصص في فن وان كان الطبيب المطلق موجودة . فتأمل .

وإذا ثبت الاهمال في مقام الاثبات فلا بد من الأخذ بالقدر المتيقن منه وهو الرجوع إلى المجتهد المطلق مع وجوده وامكانه ، بل مقتضی

القاعدة في المقام ونحوه اعتبار کلماء شك فيه کالعدالة أو المرتبة الخاصة من الملكة . فلو كان هناك مجتهدان مطلقان وكان أحدهما فاقدا للخصوصية المشكوكة الاعتبار فلا يجوز الرجوع إليه .

وهذا إذا كان المجتهد المطلق ممكن الوصول إليه وأما إذا انحصر المجتهد في المتجزیء فلا ريب في أن دلیل رجوع الجاهل إلى العالم يدل على الجواز ، وذلك لأن الاجتهاد المطلق عند العقل الحاكم برجوع الجاهل إليه من الشروط والقيود المختصة بحال التمكن ، فيسقط اعتباره عند عدمه .

ولا فرق في عدم جواز الرجوع في صورة كون المجتهد المطلق موجودة ، بين أن يكون المتجزیء أحسن سليقة وأجود استنباطأ منه في المسألة إذا اجتهد فيها أولا لما ذكر من القدر المتيقن .

وهذا هو الدليل المعتمد في جواز التقليد الدال على التفصيل

ص: 259

المذكور ، وأما الأخبار فلا يستفاد منها التفصيل المزبور ولا اطلاق فيها أيضا ، فإن الأظهر منها في المقام ما قاله الإمام الصادق علیه السلام لأبان بن تغلب اجلس في مسجد المدينة وافتي الناس فإني أحب أن يرى في شيعني مثلك) ولا اطلاق فيه ، اذ مثل أبان هو المجتهد المطلق ولو من باب القدر المتيقن ، بل من المحتمل أن يكون أبان هو أعلم عصره ، فظهر صحة المدعي بكلا جزئیه .

المرتبة الرابعة : وهو نفوذ قضائه . فالحق عدم الجواز أيضاً ، وذلك الأن عمدة الدليل في باب القضاء هو مقبولة عمر بن حنظلة ، وأما قول الإمام الحجة أرواحنا لتراب مقدمه الشريف الفداء وعجل الله وسهل مخرجه : (وأما الحوادث الواقعة) الخ ، فهو أمس بالشبهات الحكيمة ، كما تقدم ذلك في مقبولة عمر بن حنظلة التي تلقاها الأصحاب بالقبول ، لما روي من قوله علیه السلام (ينظر إلى من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف احكامنا فلترضوا به حکم ، فإني قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا) الخ .

تقريب الاستدلال : أن المفرد المضاف . وان لم يكن ظاهراً في العموم - ولكن الجمع المضاف كقوله علیه السلام (أحكامنا) ظاهر في العموم كما سبق ، وليس المتجزیء عارفأ بجميع الأحكام بل مقتضی جمود النظر إلى اللفظ اعتبار معرفة الأحكام جميعها بالفعل وعدم كفاية حصول الملكة فقط ولكن لا ريب أنه يصدق عرفة معرفة الأحكام على من حصل له الملكة المزبورة في الجميع مع معرفة الأحكام الفعلية بالمقدار المعتد به ، فإن المجاز بالمشارفة - على فرض كون المقام مجازا - يعد من أقسام الحقيقة عرفا . وأما إذا لم يحصل له الاقتدار على الجميع - كما في المتجزیء - فلا يصدق عليه أنه عرف أحكامنا .

هذا ولكن الظاهر أن المتجزیء إذا عرف الأحكام بالمقدار المعتد به

ص: 260

بحيث يصدق الاستغراق العرفي على ما عرفه كان ملحقا بالمجتهد المطلق الصدق عنوان (أن من عرف أحكامنا) عليه في العرف ، فلا بأس بنفوذ قضائه على الفرض المزبور وليس في الأخبار ما يصلح أن يكون معارضا للمقبولة لأن ما يمكن توهم المعارضة بحسب الدلالة على تقدير اعتبار السند ، وعلى فرض كون الإمام موانغ في مقام التحديد في الخبرين . وإلا فلم يكن تعارض بينهما . ضرورة عدم المنافاة بين المثبتين - هو مشهورة أبي خديجة وهو قوله علیه السلام : (من علم شيئا من قضايانا ) إلى قوله علیه السلام (جعلته قاضياً عليكم) وهو ضعيف السند ، وان كانت دلالتها ظاهرة .

وتوضيح ذلك أن أبا خديجة كان من أصحاب أبي الخطاب الذي كان يدعي الرسالة لنفسه ، ويظهر الألوهية للصادق علیه السلام ويقول إنه الله ، وكان هو واصحابه في مسجد الكوفة في زي المتعبدين صورة ولكنهم يضلون الناس ، وكان داود بن علي والياً بالكوفة من قبل العباسيين فأرسل جماعة إلى أبي الخطاب واصحابه فقتلوهم جميعا ، فما نجى منهم أحد إلا أبا خديجة فإنه سقط مجروحأ وبه رمق فعولج حتى بريء من الجراحة ، ثم تاب ورجع إلى الاستقامة . وبالجملة له حالات ثلاث : حالة قبل الإلحاد ، وحالة بعد التوبة وهما مستقيمان وحالة متوسطة وهي حالة إلحاد ، فإن علم أن نقل الرواية في أي حالة من الحالات فلا يقبل من حيث السند في غير المتوسطة من الحالات - وان جهل التاريخ فلا يقبل خبره إلا إذا انجبر بعمل الاصحاب ونحوه . ومن المعلوم عدم الانجبار في المقام .

فتحصل أن نفوذ القضاء يختص بالمجتهد المطلق ، ولا دليل على جواز القضاء ونفوذه للمتجزیء إلا إذا كان عارفة بمعظم الأحكام ، بحيث يصدق عليه الاستغراق العرفي ليكون مشمو للمقبولة ويمكن استظهار جواز نفوذ قضاءه مطلقا إذا لم يكن المجتهد المطلق موجوداً ، أو كان ولم يمكن الوصول إليه من مشهورة أبي خديجة وهو قوله علیه السلام (إذا علم شيئاً من

ص: 261

قضاياهم) فإنه وان كان يدل على جواز قضاء من علم شيئاً من قضاياهم عليهم السلام على الاطلاق - يعني سواء كان المجتهد المطلق موجودة أو لا . إلا أن الاطلاق المزبور لما لم يكن معمولا به وكان معارضة مع المقبولة يقيد بما إذا لم يكن المجتهد المطلق موجودة ، فإن الظاهر أن اشتراط اجتهاد المطلق في نفوذ القضاء من قيود المختصة بحالة التمكن ، وأما مع عدم التمكن فيسقط اعتباره - فتأمل .

(المرتبة الخامسة) : وهو جواز التصدي للأمور الحسبية للقيام بها في عصر الغيبة أيضأ ، فالحق عدم جوازه للمتجزیء أيضأ ، واختصاصه بالمجتهد المطلق ومن يلحق به ، ولكن يظهر من العلامة الانصاري قدس سره أن اختصاصی به إنما هو من باب القدر المتيقن في زمان الغيبة ، لأن المفروض إحراز مطلوبيتها مطلقا ومع الشك في أنها يجوز القيام بها لكل أحد أو المتعین هو المجتهد المطلق يكون الثاني هو المتيقن . ولكن التحقيق عدم الاحتياج إلى ما قاله قدس سره لأن الأمور المزبورة من توابع القضاء ، فإذا ثبت اختصاص القضاء به يلزم اختصاص ما يتبعه من الأمور المزبورة .

وبيان ذلك أن المناصب في عصر الحضور - كما دلت عليه التواريخ المعتبرة - على نحوین : قسم منها كان للولاة كجباية الزكوات وأخذ الخراج والمقاسمة والأمور السياسية ونحوها ، وقسم منها كان موکولا إلى القضاء كالقضاوة بين الناس وترافعهم إليهم وقطع الخصومات في القضايا الشخصية ونحوها ، وكانت الأمور الحسبية كتجهيز الميت الذي لا ولي له ونصب القيم على الصغار والتصرف في الأموال المجهول مالكها ونحوها داخلة في القسم الثاني منها ، فظهر أن الأمور الحسبية كانت تابعة للقسم الثاني ، ولو تنازلنا عن ذلك فايضأ يستفاد دخولها في القسم الثاني من بعض الأخبار كما في صحيحة محمد بن إسماعيل : رجل مات من أصحابنا بغير وصية .... إلى أن قال : فما ترى في ذلك ؟ قال علیه السلام : (إذا كان القيم مثلك ومثل عبد الحميد فلا باس) .

ص: 262

وتقريب الاستدلال : أن عبد الحميد كان فقيهاً ولو من باب القدر المتيقن ، كما أن القدر المتيقن منه أن يكون مجتهداً مطلقاً لا متجزئاً، فالمماثل له لا بد وأن يكون مجتهداً مطلقاً من القدر المتيقن . فتحصل أن الأمور الخمسة غير جواز العمل باجتهاد نفسه مختصة بالمجتهد المطلق ومن يلحق به بالأدلة المزبورة .

السابع : الحياة ،

من الأمور المعتبرة في المجتهد الحياة ، ولا اشکال في تحقيق الإجماع على عدم جواز تقليد الميت حدوثأ وابتداءا ، بل عن بعض الاساطين أن الإجماع معقده عام ، حتى بالاضافة إلى بقاء التقليد استمرارا لأن المخالفة حدثت في الأزمنة المتأخرة ، وتوضيح ذلك : أن العامة بعد أن جعلوا لأنفسهم مذاهب أربعة اتفقوا على لزوم التقليد وأخذ الأحكام من الأئمة الأربعة ، والإمامية رضوان الله عليهم خالفوهم وبنوا على عدم

الجواز ، ويمكن أن يكون بناؤهم عليه من فروع الإمامة حيث إنهم قائلون بوجود نواب الإمام علیه السلام في عصر الغيبة .

فما زالت الإمامية متفقين من المجتهدين والأخباريين إلى زمان المحقق القمي قدس سره وصاحب الحدائق رضوان الله تعالى عليه حتى ظهر الخلاف منهما ، فإن الأول مال إلى الجواز بنا منه على مسلكه من الإنسداد وان المطلوب هو حصول الظن وهذا يحصل من قول الميت أيضا ، والثاني جزم به ، وتبعهما جماعة من المتأخرين من الإخباريين والأصوليين . والانصاف أن هذا الاجماع في محله ولا اعتداد بمخالفة من ذكر بعد حصول الاتفاق قبلهم - الخ .

واستدل أيضاً على عدم الجواز بالتوقيع الشريف وهو قوله علیه السلام : (وأما الحواث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله) وتقريب الاستدلال هو أن المراد من الحوادث ليس الأمور الجزئية والموضوعات الخارجة الراجعة إلى باب القضاء لكون بيانها خلاف وظيفة

ص: 263

الإمام علیه السلام ، بل المراد من الحوادث هو أحكامها من الشبهات الحكمية والأحكام الكلية التي بيانها وظيفة الشارع ، فأمر علیه السلام برجوع الأمة في عصر الغيبة إلى رواة الأحاديث أي أنظار الفقهاء ، وراوي الحديث لا يصدق على الميت فلو لم يعتبر الحياة في المرجع لقال ارجعوا إلى احادیثنا ، بل الأحياء هم المنصرف إليها في سائر الأدلة النقلية كقوله علیه السلام : (وأما من كان من الفقهاء) الخ ، وأية النفر وأية السؤال وغير ذلك . وفيما ذكره بعض الاساطين نظر بل منع ، أما ادعاء الإجماع على منع جواز البقاء فهو خلاف الواقع ، لأن جماعة كثيرة قائلون بالجواز ، فالقدر المتيقن معقد الاجماع هو الاجماع على عدم جواز التقليد الابتدائي .

وأما الجواب عن التوقيع ففيه :

(أولا ): أن الجواب مجملة حيث وقعت جواباً عما سأله السائل من الأسئلة ولم يعلم المسؤول عنها ماذا ؟ ولعل اللام كان للعهد الذكري لا

الاستغراق أو الجنس .

(وثانيا) : أنه علیه السلام في مقام تعيين المرجع في الجملة لا في مقام البيان من جميع الجهات ، وليس هناك اطلاق أو عموم أحوالي حتى يدعي الانصراف في سائر الأدلة النقلية .

(وثالثا) : أن ذيل الحديث يدل على التعميم لأن العلة تعمم ، وهو قوله علیه السلام (فإنهم حجتي) وذلك لأن الحجة من يقبل قوله حيا كان أو ميتا - فتأمل .

(وأما الأمر الثاني) من الأمرين الدالين على جواز التقليد الابتدائي فهو الأصل ، وهو عدم الحجية في مقام الشك . في الحجية ، وليس هناك ما يكون حاكما عليه لأن ما ادعي من جریان الأصل الشرعي في التقليد الاستمراري بالتقريرات الثلاث غير جار في المقام ، لعدم كون العامي مكلفاً بقول الميت في حال حياته حتى يجري الاستصحاب . وأيضا المقام من الدوران بين التعيين والتخيير حيث يعلم بفراغ الذمة بالرجوع إلى الحي

ص: 264

ويشك في الرجوع إلى الميت ، فيتعين الرجوع إلى الأصل العقلي .

هذا كله مع تساوي الحي والميت في العلم وأما مع التفاضل فإن كان الحي أعلم فيجب العدول إليه ، وإن كان الميت أعلم فمقتضي بناء العقلاء البقاء تعيينة ، وليس ما يوجب الخروج عنه إلا حكاية الإجماع على المنع عنه . ويظهر من الأصحاب كما عن تقريرات الشيخ قدس سره تلقيهم ذلك بالقول وتسالمهم على العمل به ، ولما كان نقلة الاجماع من أعاظم فقهائنا ومن المطلعين المتقنين فيمكن الاعتماد عليه ويرفع اليد من بنائهم - فافهم .

الثامن : الأعلمية ،

لكن ينبغي أن يعرف أنه تارة يبحث عن مقتضی الحجية وان فتوى المفضول حجة مع وجود فتوى الأفضل والأعلم وإن كانت موافقة معها ، واخرى بعد إحراز الحجية هل يقدم الأعلم في صورة المخافة أم لا :

(اما الأول) : فقد يقال بعدم حجية فتوى المفضول ، بل في كل عصر یكون الاعتبار بفتوى الأعلم فيه ، كما أن الإمام علیه السلام في كل عصر یکون واحداً .

ولا يخفی بعد هذا الاحتمال في نفسه ، ولكن العمدة بيان مدار الحجية وذكر اطلاق دليل الاعتبار فنقول : أما الدليل العقلي الفطري فلا اطلاق له ، لما مر من أنه دليل لبي اجمالي لا بد من الاقتصار على القدر المتيقن منه في مقام الشك ، وأما الأدلة النقلية فإثبات الاطلاق فيها في غاية الأشكال إذ قوله النون لأبان : (اجلس في مسجد المدينة وافت الناس) الخ ، لا اطلاق له أبان أعلم أهل عصره . وقد يتمسك بالاطلاق في التوقيع الشريف وهو قوله عجل الله فرجه : (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فانهم حجتي عليكم) الخ ، فإن راوي الحديث أعم من أن يكون أعلم أم لا، وكذا قوله علیه السلام : (من كان صائنأ لنفسه ...... فللعوام أن يقلدوه) يعني سواء كان المقلد أعلم أم لا، وكذا قوله علیه السلام : (انظروا إلى رجل نظر في حلالنا وعرف

ص: 265

أحكامنا) الخ فإن المقبولة وإن كانت واردة في مقام الحكومة ولكن لما كانت الشبهة حكيمة كما يدل عليها قول السائل حديثكم يتعدى إلى مورد الافتاء وكذا اطلاق آیتي النفر والسؤال ، فإن الحمل على صورة التساوي في التفاضل وعدم وجود الأعلم حمل على الفرد النادر .

هذا ويمكن الخدشة في الاطلاقات المزبورة بأن المفيد هو الاطلاق الحالي والعموم الإفرادي وإن كان موجودا كقوله علیه السلام (رواة حديثنا) والحق أن لقوله علیه السلام : ( من كان) الخ ، اطلاقا شمولية لا عموما أفرادية . فتدبر ، ولكنه لا يفيد بالاضافة إلى الأحوال ، لأن القدر المتيقن أن المتكلم في مقام بیان أصل جواز الرجوع إلى المرجع على فرض تماميتها على جواز التقليد .

ومما يمكن الاستدلال به على عدم حجية قول المفضول مطلقاً مع وجود الفاضل والأعلم قول أبي جعفر الجواد علیه السلام كما عن عيون المعجزات لما قبض الإمام الرضا علیه السلام .... إلى أن قال الإمام أبو جعفر علیه السلام لعمه عبد الله بن موسى لما سأل عن مسائل فأجاب بخلاف الواقع فقال علیه السلام : (لا إله إلا الله يا عم إنه عظيم عند الله أن تقف غداً بين يدي الله عز وجل فيقول لك لم تفتي عبادي بما لم تعلم وفي الأُمة من هو أعلم منك).

هذا، والأقوى هو حجية فتوى المفضول في غير صورة المخالفة لعدم قصور في الدليل العقلي ، لأن المناط في رجوع الجاهل إلى العالم وكل من العالم والأعلم عالم بالحكم فيجوز الرجوع إلى كل منهما ، غاية الأمر في صورة الاختلاف يقدم الأرجح بحسب حكم العقل وهو الأعلم ، بل المستفاد من الأدلة النقلية ذلك أيضا فإنها تدل على جواز كل ثقة مأمون عالم بالأحكام الشرعية كقوله : ليونس بن عبد الرحمن ثقة أخذ منه معالم ديني ؟ فإن السؤال الراوي عن الصغرى ومسلمية الكبرى عنده وتقرير الإمام علیه السلام له على ذلك دليل على ارتكازية رجوع الجاهل إلى العالم . وكذا مفاد جملة من الروايات . وأما ما في العيون من التوبيخ فهو خارج عن المدرك فإنه أفتي بما

ص: 266

لم يعلم كما يدل عليه قوله علیه السلام : (لم تفتي بما لم تعلم والمقام هو الرجوع إلى من يعلم .

هذا كله في المقام الأول وأما المقام الثاني - وهو وجوب أخذ قول الأعلم في صورة المعارضة والاختلاف فالمشهور بين الأصحاب بل ادعی بعضهم الاجماع هو وجوب الرجوع إلى الأعلم وهو الأقوى ، والدليل على ذلك هو الأصل العقلي عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، بل الدليل العقلي الفطري يدل على الوجوب أيضا في الجملة كما يأتي بيانه إنشاء الله تعالی .

أما تقريب الأصل فهو إن يُقال : أن العمل على طبق فتوى الأفضل في صورة المعارضة يوجب اليقين بالفراغ ، بخلاف العمل على طبق قول المفضول فإنه يشك في الفراغ ، والمرجع عند الفراغ والشك في الإمتثال هو الاشتغال مع عدم الاطلاق على ما يأتي .

(فإن قلت) أولاً لا نسلم أصالة الاشتغال عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، فإن الأصل هو البراءة عن الخصوصية التعيينية الموجبة للتضييق كما هو رأي جماعة من العلماء .

وثانياً أن الأصل العقلي محكوم بالاطلاقات أو بالأصول النقلية في بعض المقامات ، كما إذا فرضنا تساوي المجتهدين فكان الحكم هو التخيير وإذا صار أحدهما أعلم من الآخر وشككنا في تعيين تقليده كان الأصل هو التخيير لمكان الاستصحاب ، ويلحق به غير الغرض لعدم القول بالفضل .

(قلت) الجواب عن الثاني فبعدم وجود الاطلاق من وجهين : الأول - لما مر من أدلة التقليد في مقام بيان أصل جواز التقليد وليس اطلاق أحوالي ، والمفيد هو الاطلاق الحالي لا العموم الإفرادي . والثاني - أنه على فرض وجود الاطلاق الحالي يمتنع شموله مورد المعارضة والاختلاف للتكاذب الموجب للتناقض لما تقدم .

ص: 267

(وأما الجواب الثالث) فبعدم جریان الأصل النقلي المزبور لعدم بقاء الموضوع .. لأن الحكم بالتخيير هو حكم العقل بعد تحقق أمور : أحدها عدم امكان الجمع . الثاني عدم امكان التساقط . والثالث عدم معين في البين ، ومع انتفاء أحدها أو الشك في أحدها ينتفي حكم العقل بالتخيير ، ولا معنی الجريان الاستصحاب بعد انتفاء موضوعه ، ولو كان هذا الاستصحاب جارية لكان مقتضاه في بعض المقامات لزوم تقليد المفضول ، كما إذا كان قلد الأعلم ثم ترقى المفضول فصار هو أعلم فإن مقتضى الاستصحاب هو البقاء على تقليد الأول مع أنه المفضول فعلاً .

(وأما الجواب عن الأول) فبأن يقال : ليس المقام من دوران الأمر بين التخيير والتعيين في المكلف به في الحكم الواقعي الشرعي حتى يقال إن فيه وجهين عند العلماء ، بل المقام من دوران الأمر بين التخيير والتعيين في الحكم الوضعي - أعني الحجية والطريقية الراجع إلى الشك في أصل الحجية . وفي مثل المقام الأصل عدم الحجية بالأدلة الأربعة. توضیح المقام : أن دوران التخيير والتعيين يقال في ثلاثة موارد (الأول) في مقام الشك في المكلف به في مرحلة أصل الجعل والتشريع ، كما لو دار الأمر بين القصر والاتمام في مسافة أربعة فراسخ ، أو الواجب هو الظهر أو الجمعة في يومها مع احتمال التعيين في أحدهما المعين . (والثاني في مقام الشك في الحكم الوضعي من الحجية والطريقية . (الثالث) في مقام الامتثال كما في باب التزاحم ، كما لو كان هناك غريقان ولم يقدر إلا على إنقاذ أحدهما واحتمل التعيين في أحدهما المعين دون الأخر ، والاختلاف إنما هو في المورد الأول دون المقامين الآخرين .

هذا كله في الأصل العقلي ، وأما الدليل العقلي الفطري - وهو رجوع الجاهل إلى العالم . فالحق أنه يدل على الرجوع إلى الأفضل . ولكن لا

مطلقا بل بنحو الموجبة الجزئية ، وهو أن لا يكون في جانب المفضول مزية

ص: 268

أخرى بل انحصرت المزية بالتفاضل الذي في جانب الأفضل، وأما إذا كان في جانب المفضول مزية أخرى كان فتوى المفضول موافقة للأعلم من الأموات الذي هو أعلم من الحي الأعلم أو كانت موافقة للمشهور أو كان هو أوثق أو أجود سليقة من الأعلم الحي أو نحو ذلك من المرجحات التي توجب أقربية فتوى المفضول إلى الواقع فلا يحكم العقل بتقديم فتوى الأعلم على فتوى المفضول كما لا يخفى .

وقد استدل على وجوب تقليد الأعلم بوجوه أخرى (منها) الاجماع .

(ومنها) الأخبار الدالة على ترجيحه مع المعارضة كما في المقبولة .

والظاهر أنها ثلاثة أخبار : (الأول) ما في المقبولة من قوله علیه السلام ؛ (الحكم ما حكم به أعدلهما وافقههما) . (والثاني) ما رواه الصدوق قدس سره عن داود بن حصين عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما أفضل الصلاة والسلام حيث قال : (ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا) .

والثالث) ما روي عن أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين الإمام علي بن أبي طالب عليه أفضل الصلاة والتحية والسلام لمالك الأشتر رضوان الله تعالى عليه : (اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك) . ومنها أن قول الأفضل أقرب من غيره فيجب الأخذ به عند المعارضة عقلاً. وفي هذه الوجوه ما لا يخفى : فإن الأول - وهو الاجماع المنقول - يحتمل قريبا أن يكون الوجه عندهم هو الأصل والدليل العقلي اللذين ذكرهما ، فلا وجه لاعتبار تحصيل الإجماع في مثل المقام فضلاً عن المنقول.

وأما الثاني : فلأن الترجيح مع المعارضة لا يوجب الترجيح في المقام ، فإن اسراء الحكم من باب المعارضة إلى باب الإفتاء يحتاج إلى مناط قطعي وهو مفقود ، فإن الحكومة ورفع الخصومة لا ترتفع إلا بالترجيح .

ويشير إلى الفرق ما في الذيل فإن المرجحات المذكورة من المرجحات الداخلية والخارجية غير جارية في باب الإفتاء .

ص: 269

(وأما الثالث) : وهو الأقربية ففيه : أولاً لا نسلم أقربية قول الأعلم مطلقا بل قد يكون قول المفضول أقرب إذا كان موافقأ للمشهور أو لأوثق الأموات أو أعلمهم أو نحو ذلك من المقربات ، وثانيا لا نسلم أن تمام المناط في الامارات التعبدية هو الأقربية .

واستدل القائلون بعدم وجوب تقليد الأعلم بوجوه : (الأول) السيرة المستمرة بين أهل التقليد من السلف إلى الخلف إلى الآن ، فإن بناءهم كان على أخذ التقوی ممن له صلاحية الفتوى مع اختلافهم في الرأي واختلافهم في مراتب العلم والفضل ، ولم ينكر أحدهم ذلك . والجواب منع السيرة على ذلك في مواضع النزاع - وهو الرجوع إلى غير الأعلم مع العلم بمخالفته مع الأعلم - بل إما لأنهم يعتقدون بأن من أخذ منهم الفتوى هو الأعلم أو لا يعلمون الاختلاف .

(الوجه الثاني) : اطلاق أدلة التقليد من الأخبار والكتاب وفيه أولا بعد تسليم دلالتها أنها لا تدل إلا على أصل الجواز والتشريع ولا اطلاق لها أصلا والنافع هو الاطلاق الحالي وهو مفقود ، وثانيا لو كان لها اطلاق لاشتمل صورة الاختلاف كما ذكرنا من التكاذب الموجب للتناقض

(الوجه الثالث) : العسر في وجوب تقليد الأعلم اما على نفس الأعلم المتصدي للإفتاء واما على المقلدين ، وإما لكون تشخيص الأعلم في غاية الصعوبة لا سيما على العوام والعجائز وبنات تسع وأبناء خمس عشرة سنة ، فإن أهل الخبرة تحيروا في أنه أجود ملكة أو فهماً أو الأكثر استنباطاً أو اطلاعاً . والجواب أنه لا عسر لا على مقلديه لأخذهم الفتوى من رسائله ولا على المفتي لذلك الأمر المزبور ، وتشخيص الأعلم ليس اشكل من تشخيص أصل الاجتهاد ، وعلى فرض العسر يتقدر بقدره كغير المقام .

إذا عرفت أن الأعلمية من المرجحات التي يجب الأخذ بها في صورة الأختلاف في الفتوى فيقع الكلام في أنه يجب الفحص عن وجود الأعلم

ص: 270

مطلقاً أو لا مطلقاً أو فيه تفصيل . والحق هو الأخير . (توضیح المقام) إنه تارة يعلم موافقة الأعلم مع غيره في الفتوى ، وأخرى يعلم المخالفة فإن علم الموافقة فلا ثمرة للنزاع ، وإن قلنا بوجوب تقليد الأعلم مطلقأ إذا قلنا إن التقليد عبارة من نفس العمل لأنه في الحقيقة تقليد الأعلم ، ولا يلزم الاستناد في صورة الاختلاف في الفتوى والعلم بالتفاضل إجمالأ ، بأن يعلم أن أحدهما أفضل ولم يعرف الأفضل بعينه ، بل المقام من باب اشتباه الحجة ، فالرجوع إلى أحدهما قبل الفحص اعتماد على مشكوك الحجية ولا يكتفى به في نظر العقل ، بل مقتضى قواعد العلم الاجمالي هو الأخذ بالاحتياط حتى بعد الفحص والعجز عن معرفة الأفضل ، ولكن الاجماع المحكي على جواز الرجوع إلى أيهما شاء وعدم وجوب الاستدلال بعد الفحص ، فإن تم فهو وإلا فيجب الاحتياط لعدم شمول أدلة الحجية لصورة الاختلاف ، بل مع المخالفة يجب الفحص حتى مع الشك في وجود الأعلم ، إذ اطلاق أدلة الحجية لا تشمل صورة المخالفة كما مر ، والاجماع على التخيير إنما هو بعد الفحص لو كان ، وإلا بمقتضى القاعدة هو الاحتياط كما تقدم .

هذا كله مع العلم بالمخالفة ، وأما لو لم يعلم المخالفة لا تفصيلاً ولا إجمالاً بل شك في المخالفة - وإن علم بوجود التفاضل - فهل يجب

الفحص أم لا؟ فقد يُقال بعدم وجوبه تمسكاً باطلاق أدلة الحجية كسائر موارد الشك في التخصيص اللبي .

(وتوضيح المقام) أن المحرّر في الأصول أن المخصص المنفصل إذا كان دائرة بين الأقل والأكثر إذا كانت الشبهة مفهومية يجوز التمسك بالعام في مقام الشك في التخصص بخلاف ما إذا كانت الشبهة مصداقية فلا يجوز التمسك به أو بالاطلاق إلا إذا كان المخصص لبية فإنه يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية اللبية .

ص: 271

إذا عرفت ذلك فاعلم أن ما يجيء فيه من المخصص اللبي العقلي باستحالة التعبد بالنقيضين كما هو المفروض في صورة مخالفة الفتويين ،ومع الشك في الاختلاف يشك في التخصص فيتمسك باطلاق أدلة الحجية . وقد يقال بعدم جواز التمسك ولزوم الفحص لأن المقام بالاضافة إلى المقلد في المسائل العامة البلوى التي يجب تعلمها كالعمومات والمطلقات بالاضافة إلى المجتهد في مبحث التمسك بالعمومات ، فكما يجوز له التمسك بها قبل انتهاء البحث عن المعارضات فكذلك فيما نحن فيه ، ومدرك وجوب الفحص هناك أمران : العلم الاجمالي والدأب ودیدن المتكلم على التعويل على المفضلات فكذلك المقام ، فإن العلم بالمخالفة وان لم يكن كما هو المفروض إلا أن جریان العادة بوقوع المخالفة في المسائل العامة البلوی موجود في المقام ، فيشك في حجية فتوى غير الأعلم والأصل عدم الحجية .

والأقوى هو الوجه الأول لأن بناء العقلاء على جواز رجوع الجاهل إلى العالم في غير صورة العلم بالمخالفة ، ولا يفندون رأي من رجع إلى العالم المهندس وان لم يعلم بموافقة رأيه للأعلم فلا قصور في الدليل العقلي الارتكازي الفطري بل ولا اطلاقات أدلة الحجية لو كانت ۔ فتدبر .

التاسع الحرية :

ومن الأمور المعتبرة في مرجع التقليد (الحرية) وهو يحكي عن جماعة - منهم ثاني الشهيدين - بل قيل : إنه مشهور لكن مقتضى بناء العقلاء وغيره من المطلقات عدمه . وبعض الاستحسانات المقتضية لاعتبارها ، مثل كونه مملوكاً لا يقدر على كونه مولی عليه ، لا تصلح للاعتماد عليها في الردع وتقييد المطلق .

العاشر طهارة المولد :

ومن الأمور المعتبرة في مرجع التقليد (طهارة المولد) وهي داخلة في الإيمان بناء على كفر المتولد من الزنا ، أما بناء على خلاف فلا دليل على اعتبارها غير المحكوم ببناء العقلاء . نعم

ص: 272

عن الروضة دعوى الاجماع عليه . وعليه فهو المعتمد .

(العاشر) : باعتبار أن طهارة المولد داخلة في الإيمان كما قلنا یکون العاشر من الأمور المعتبرة في مرجع التقليد (أن لا يكون مقبلا على الدنيا) قال بعض العلماء : اعتبار هذا الأمر غير واضح ، لأنه أن أريد من الاقبال على الدنيا ما هو ينافي العدالة ، فاعتبار العدالة يغني عن اعتباره ، وأن أرید منه ما هو فوق العدالة فدليله غير واضح ، ولم أقف على من ذكره إلا أن تفسير العسكري بعد الاغماض عن سنده - كما تقدم - لا دلالة له على مدعاه ، فإن المحتملات فيه ثلاثة : الأول دلالته على اعتبار الأمانة والوثوق ، الثاني : على اعتبار العدالة ، الثالث : على اعتبار المرتبة العالية من العدالة . وقد قال بكل واحد منها قائل، ولكن خير الأمور أوسطها۔ فلاحظ وتأمل وقال أيضا : والحق أنه يشترط فيه أمر آخر مضافة إلى الأمور العشرة المزبورة وهو اعتبار القدسية والملكة القوية المستقيمة ، بل هو أصل الشرائط فلو وجد ينفع البواقي وإلا فلا ، وهذا الشرط يتضمن أموراً :

(الأول) : أن لا يكون معوج السليقة ومنحرفاً عن الطريقة القويمة ، فإن الاعوجاج آفة للحاسة الباطنة كما أن الحاسة الظاهرة ربما تصير مؤفة .

مثل أن يكون بالعين آفة تدرك الأشياء بغير ما هي عليها أو بالذائقة أو غيرها كذلك ، والاعوجاج قد يكون ذاتيا كما ذكر وقد يكون كسبيا باعتبار العوارض مثل سبق تقليد أو شبهة أعجبته غلفة ، فإن الحاسة تصير حينئذ مؤفة كالأول . مثلا الذائقة ربما تصير مرة بالعوارض فكل شيء تذوقه تجده مرا ، وقس عليها سائر الحواس وطريق معرفة الاعوجاج العرض على أفهام العلماء المعروفين بالاستقامة وحسن السليقة واجتهاداتهم ، فإن وجد فهمه واجتهاده موافقا لطريقتهم فليحمد الله ويشكره وان وجده مخالفا لفهمهم فليتهم نفسه ، كما إن من كانت حاسة من حواسه الظاهرة مؤفة يرجع إلى أولي الحواس السليمة ليقس بسلامة حواسهم حاسته حتى يميز سقمها من

ص: 273

سلامتها ، ولكن ربما يلقي الشيطان في قلبه أن موافقة الفقهاء تقليدهم وهو حرام فلا بد من المخالفة حتى يصير الإنسان مجتهدا فاضلا ، هذا غافل لا يعلم أن هذا غرور من الشيطان وان حاله حال ذي الحاسة المؤفة الذي يلزم عليه الرجوع إلى ذي الحاسة السليمة .

(الثاني) : أن لا يكون رجلاً مجادلاً في قلبه محبة البحث والاعتراض فمتى سمع شيئا يشتهي أن يعترض عليه إما حبا لإظهار الفضيلة

أو أنه من مرض قلبي كالكلب العقور كما نشاهد في كثير من الناس ، ومثل هذا القلب لا يكاد يهتدي ولا يعرف الحق من الباطل ، بل المشاهد من بعض الفضلاء أنه فسد عليه بعض أصول دينه فضلا عن الفروع بسبب هذه الخصلة الذميمة .

(الثالث) : أن لا يكون لجوجاً فإنّا نرى كثير من الناس إذا حكموا بحكم أو تكلموا بكلام يلحقون ويكابرون ، فإنهم يشبهون الغريق الذي

يتشبث بكل حشيش لإثبات مراميه ، وليست همته متابعة الحق بل جعل الحق تابعة لقوله ، بل ربما ينكرون البديهي ويدعون خلاف البداهة ، فإذا كان هذا حالهم في البديهيات فما ظنك في النظريات .

(الرابع) : أن لا يكون في حال قصوره مستبداً برأيه ، فانا نرى كثيراً من طلاب العلم في أول أمرهم في نهاية قصور الباع وفقدان الاطلاق ومع

ذلك يستبدون لهذا الرأي القاصر الجاهل ، فإذا رأوا كلام المجتهدين ولم يفهموا مرامهم لقصورهم شرعوا في الطعن عليهم وينكرون ، ولم يتأمل في أن الإنسان في أول أمره قاصر عن علم وصنعة ولم يدر أن من طلب شيئاً وجد ومن قرع باباً و لجً ولجَ.

(الخامس) : أن لا يكون بليداً لا يتفطن بالمشكلات والدقائق ويقبل كلما يسمع ويميل مع كل قائل ، بل لا بد من حذاقة وفطنة يعرف الحق منالباطل ويرد الفروع إلى الأصول ويدري في كل فرع من أي أصل يؤخذ

ص: 274

ويجري مسائل الأصول في الآيات والأخبار .

(السادس) : أن لا يكون جریئاً غاية الجرأة في الفتوى ، كبعض الأطباء الذين هم في غاية الجرأة يقتلون كثيراً بخلاف المحتاطين منهم .

السابع : أن لا يكون مفرطاً في الاحتياط فإنه أيضاً قد يخرب الفقه كما شاهدنا من كثير ممن أفرط فيه الاحتياط ، بل كل من أفرط فيه لم تر له فقهاً في مقام العمل لنفسه ولا في مقام الفتوى لغيره .

ص: 275

ص: 276

للعالم الفقيه الولاية العامة

ص: 277

ص: 278

لقد تحدثنا لقارئنا العزيز عن الشرائط المعتبرة في مرجع التقليد وهي التي إذا توفرت فيه صح للناس أن يرجعوا إليه ويأخذوا بقوله ويكون حجة فيما بينهم وبين الله تعالى . ذكرنا ذلك وتحدثنا أيضا عن خمس مراتب متعلقة بالمجتهد أولها إمكان وقوع الاجتهاد المطلق له ، ثانيها جواز العمل باجتهاد نفسه ، ثالثها جواز إفتائه ورجوع الناس إليه ، رابعها نفوذ قضائه خامسها جواز تصديه للأمور الحسبية ولا يخفى أننا كنا على موعد مع قارئنا العزيز لكي نتحدث له عن مرتبة سادسة تتعلق بالفقيه أيضا وهي ثبوت الولاية العامة له بنطاقها الواسع. وبما أن للعلماء أقوال مختلفة في المسألة ولكل قائل منهم أدلته نكتفي بنقل ما ذكره إمام الأمة الإسلامية مولانا المعظم والأستاذ الأكبر جامع المعقول والمنقول محرر الفقه والأصول من الأدلة القوية على ثبوت الولاية بنطاقها الواسع للفقيه غير ملتفتين لأقوال المعارضين .

قال مد الله تعالى في ظله الشريف ومتع الله المسلمين بطول بقائه وجعلني الله وإخواني المؤمنين فداه . قال في كتابه البيع المجلد الثاني صفحة 459 حتى نهاية صفحة 488 ما حرفيته : ومن جملة أولياء التصرف

ص: 279

في مال من لا يستقل بالتصرف في ماله الحاكم ، وهو الفقيه الجامع الشرائط الفتوى ولا بأس بالتعرض لولاية الفقيه مطلقاً بوجه إجمالي ، فإن التفصيل يحتاج إلى إفراد رسالة لا يسعنا المجال له .

فنقول : من نظر إجمالاً إلى أحكام الإسلام وبسطها في جميع شؤون الجامعة من العباديات التي هي وظائف بين العباد وخالقهم ، كالصلاة والحج ، إن كان فيها أيضا جهات اجتماعية وسياسية مربوطة بالحياة والمعيشة الدنيوية ، وقد غفل عنها المسلمون سيما مثل ما في الاجتماع في الحج في محيط الوحي ومركز ظهور الإسلام ومع الأسف قد أغفلوا بركات هذا الاجتماع الذي سهل تحقيقه لهم الشعاع الأقدس بوجه لا يتحقق لسائر الدول والملل إلا مع جهاد عظيم ومصارف خطيرة ولو كان لهم رشد سیاسي واجتماعي أمكن لهم حل كثير من المسائل المبتلي بها بتبادل الأفكار والتفاهم والتفكير في حاجاتهم السياسية ، ومن القوانين الاقتصادية والحقوقية والاجتماعية والسياسية لرؤي أن الإسلام ليس عبارة عن الأحكام العبادية والأخلاقية فحسب ، كما زعم كثير من شبان المسلمين بل وشيوخهم ، ذلك للتبليغات المشومة المسمومة المستمرة من الأجانب وعمالهم في بلاد المسلمين طيلة التأريخ لأجل إسقاط الإسلام والمنتسبين إليه أعني الشبان ، وطلاب العلوم الحديثة ، وإيجاد الافتراق والتباغض بين المسلمين قديمهم وحديثهم ، وقد وفقوا في ذلك إلى حد لا يتيسر لنا رفع هذه المزعمة والتهمة بسهولة وفي أوقات غير طويلة .

فعلى المسلمين وفي طليعتهم الروحانيون وطلاب العلوم الدينية القيام على صد تبلیغات أعداء الإسلام بأية وسيلة ممكنة ، حتى يظهر أن الإسلام قام لتأسيس حكومة عادلة فيها قوانین مربوطة بالمالیات و بیت المال ، وأخذها من جميع الطبقات على نهج عدل ، وقوانین مربوطة بالجزائيات قصاصة واحدة وديه بوجه لو عمل بها لقلت الجنايات لولم تنقطع بذلك المفاسد المترتبة عليها ، كالتي تترتب على استعمال

ص: 280

المسكرات من الجنايات والفواحش إلى ما شاء الله تعالى ، وما تترتب على الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وقوانین مربوطة بالقضاء والحقوق على نهج عدل وسهل من غير إتلاف الوقت والمال كما هو المشاهد في المحاكم الفعلية وقوانین مربوطة بالجهاد والدفاع والمعاهدات بین دولة الإسلام وغيرها .

فالإسلام ما أسس حكومة على نهج الاستبداد المحكم فيه رأي الفرد وميوله النفسانية على المجتمع ، ولا على نهج المشروطة أو الجمهورية المؤسسة على القوانين البشرية التي تفرض تحکیم آراء جماعة من البشر على المجتمع ، بل حكومة تستوحي وتستمد في جميع مجالاتها من القانون الإلهي ، وليس لأحد من الولاة الاستبداد برأيه بل جميع ما يجري في الحكومة وشؤونها ولوازمها لا بد وأن يكون على طبق القانون الإلهي حتى الإطاعة لولاة الأمر .

نعم للوالي أن يعمل في الموضوعات على طبق الصلاح للمسلمين أو لأهل حوزته ، وليس ذلك استبدادأ بالرأي ، بل هو على طبق الصلاح ، فرأيه تبع للصلاح كعمله .

وبعد ما عرفت ذلك نقول : إن الأحكام الإلهية سواء الأحكام المربوطة بالماليات أو السياسيات أو الحقوق لم تنسخ ، بل تبقى إلى يوم القيامة ، ونفس بقاء تلك الأحكام يقضي بضرورة حكومة وولاية تضمن حفظ سيادة القانون الإلهي وتتكفل لإجرائه ولا يمكن إجراء أحكام الله إلا بها لئلا يلزم الهرج والمرج ، مع أن حفظ النظام من الواجبات الأكيدة ، واختلال أمور المسلمين من الأمور المبغوضة ، ولا يقوم ذا ولا يسدّد عن هذا إلا بوالٍ وحكومة .

مضافاً إلى أن حفظ ثغور المسلمين عن التهاجم وبلادهم عن غلية المعتدين واجب عقلا و شرعا ، ولا يمكن ذلك إلا بتشكيل الحكومة ، وكل

ص: 281

ذلك من أوضح ما يحتاج إليه المسلمون ، ولا يعقل ترك ذلك من الحكيم الصانع ، فما هو دليل الإمامة بعينه دليل على لزوم الحكومة بعد غيبة ولي الأمر عجل الله تعالی فرجه الشريف سيما مع هذه السنين المتمادية ، ولعلها تطول والعياذ بالله إلى آلاف من السنين ، والعلم عنده تعالی فهل يعقل من حكمة الباري الحكيم إهمال الملة الإسلامية وعدم تعیین تکلیف لهم ؟ أو رضي الحكيم بالهرج والمرج واختلاف النظام ؟ ولم يأت بشرع قاطع للعذر لئلا تكون للناس عليه حجة .

وما ذكرناه وإن كان من واضحات العقل ، فإن لزوم الحكومة لبسط العدالة والتعليم والتربية وحفظ النظم ورفع الظلم وسد الثغور والمنع عن تجاوز الأجانب من أوضح أحكام العقول من غير فرق بین عصر وعصر أو مصر ومصر ، ومع ذلك فقد دل عليه الدليل الشرعي أيضاً ، ففي الوافي عقد باباً في أنه ليس شيء مما يحتاج إليه الناس إلا وقد جاء فيه كتاب أو سنة ، وفيه روایات :

منها - رواية مرازم عن أبي عبد الله علیه السلام قال : (إن الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء، حتى والله ما ترك شيئا يحتاج إليه العباد ، حتى لا يستطيع عبد يقول لو كان هذا أنزل في القرآن إلا وقد أنزل الله تعالی فيه (وقریب منها غيرها ، ونظيرها تقريبا في حجة الوداع) .

وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله علیه السلام في حديث : (أن أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه قال : الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بينت للأمة جميع ما تحتاج إليه) وأية حاجة كالحاجة إلى تعيين من يدبر أمر الأمة ويحفظ نظام بلاد المسلمين طيلة الزمان ومدى الدهر في عصر الغيبة مع بقاء أحكام الإسلام التي لا يمكن بسطها إلا بيد والي المسلمين وسائس الأمة والعباد .

وفي رواية العلل بسند جيد عن الفضل بن شاذان عن أبي الحسن الرضا

ص: 282

عليه التحية والصلاة والسلام في حديث قال : (فإن قال : فلم جعل أولي الأمر وأمر بطاعتهم ؟ قيل لعلل كثيرة :

منها أن الخلق لما وقفوا على حد محدود وأمروا أن لا يتعدوا ذلك الحد لما فيه من فسادهم لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم إلا بأن يجعل عليهم فيه أمين يمنعهم من التعدي والدخول فيما حظر عليهم ، لأنه إن لم يكن ذلك لكان أحد لا يترك لذته ومنفعته لفساد غيره ، فجعل عليهم قيمة يمنعهم من الفساد ، ويقيم فيهم الحدود والأحكام .

ومنها أنا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل بقوا وعاشوا إلا بقيِّم ورئيس لما لا بد لهم من أمر الدين والدنيا ، فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق مما يعلم أنه لا بد لهم منه ، ولا قوام لهم إلا به ، فيقاتلون به عدوهم ويقسمون به فيئهم ، ويقيم لهم جمعهم وجماعتهم ، ويمنع ظالمهم من مظلومهم .

ومنها أنه لو لم يجعل لهم إماماً قيماً حافظأً مستودعاً لدرست الملة وذهب الدين ، وغيرت السنة والأحكام ، ولزاد فيه المبتدعون ، ونقص منه الملحدون ، وشبهوا ذلك على المسلمين ، لأنا قد وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين مع اختلافهم واختلاف أهوائهم وتشتت أنحائهم ، فلو لم يجعل لهم قيماً حافظاً لما جاء به الرسول لفسدوا على نحو ما بينا ، وغيرت الشرائع والسنن والأحكام والإيمان ، وكان في ذلك فساد الخلق أجمعين) .

وفي نهج البلاغة (فرض الله الايمان تطهراً من الشرك - إلى أن قال - والإمامة نظاماً للأُمة) . وفي خطبة الصديقة صلوات الله وسلامه عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها (ففرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك - إلى أن قالت : والطاعة نظاماً للملة والإمامة ؟) إلى غير ذلك مما يدل على لزوم بقاء الولاية والرئاسة العامة .

ثم بعد ما وضح ذلك يبقى الكلام في شخص الوالي ، ولا إشكال على

ص: 283

المذهب الحق أن الأئمة والولاة بعد النبي صلی الله علیه و آله وسلم سید الوصيين أمير المؤمنين وأولاده المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين خلفاً بعد سلف إلى زمان الغيبة ، فهم ولاة الأمر ولهم ما للنبي صلی الله علیه و آله وسلم من الولاية العامة والخلافة الكلية الإلهية .أما في زمان الغيبة فالولاية والحكومة وإن لم تجعل الشخص خاص ، لكن يجب بحسب العقل والنقل أن تبقيا بنحو آخر ، لما تقدم من عدم إمكان إهمال ذلك ، لأنها محتاجة إليه المجتمع الإسلامي وقد دلت الأدلة على عدم إهمال ما تحتاج إليه الناس ، كما تقدم بعضها ، ودلت على أن جعل الإمامة لأجل لم الفرقة ، ونظام الملة ، وحفظ الشريعة وغيرها، والعلة متحققة في زمن الغيبة ومطلوبية النظام وحفظ الإسلام معلومة لا ينبغي لذي مسكة إنكارها .

فنقول إن الحكومة الإسلامية لما كانت حكومة قانونية بل حكومة القانون الإلهي فقط -وإنما جعلت لأجل إجراء القانون وبسط العدالة الإلهية بين الناس - لا بد للوالي من صفتين هما أساس الحكومة القانونية ، ولا يعقل تحققها إلا بهما : إحداهما العلم بالقانون وثانيهما العدالة ، ومسألة الكفاية داخلة في العلم بنطاقه الأوسع ، ولا شبهة في لزومها في الحاكم أيضا ، وإن شئت قلت : هذا شرط ثالث من أسس الشروط .

وهذا مع وضوحه فإن الجاهل والظالم والفاسق لا يعقل أن يجعله الله تعالي واليا على المسلمين ، وحاكما على مقدراتهم وعلى أموالهم ونفوسهم مع شدة اهتمام الشارع الأقدس بذلك ، ولا يعقل تحقق إجراء القانون بما هو حقه إلا بيد الوالي العالم العادل - دلت عليه الأدلة اللفظية ، ففي نهج البلاغة لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل ، فتكون في أموالهم نهمته ، ولا الجاهل فيضلهم بجهله ولا الجافي فيقطعهم بجفائه ولا الخائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم ، ولا

ص: 284

المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع ولا المعطل للسنة فيهلك الأُمة) فترى أن ما ذكره علیه السلام يرجع إلى أمرين : العلم بالأحكام والعدل .

وقد ورد في الأخبار اعتبار العلم والعدل للإمام علیه السلام ، وكان من المسلمات بين المسلمين منذ الصدر الأول لزوم علم الإمام والخليفة بالأحكام بل كونه أفضل من غيره ، وإنما الخلاف في الموضوع ، كما أنه لا خلاف بين المسلمين في لزوم الخلافة وإنما الخلاف في جهات أخر ، ولا زال طعن علمائنا على من تصدى للخلافة بأنه جهل حكماً كذائياً .

وأما العدل فلا ينبغي الشك من أحد المسلمين في اعتباره ، فالعقل والنقل متوافقان في أن الوالي لا بد وأن يكون عالما بالقوانين وعادلا في الناس وفي إجراء الأحكام .

وعليه فيرجع أمر الولاية إلى الفقيه العادل ، وهو الذي يصلح لولاية المسلمين .. إذ يجب أن يكون الوالي متصف. بالفقه والعدل ، فالقيام بالحكومة وتشكيل أساس الدولة الإسلامية من قبيل الواجب الكفائي على الفقهاء العدول .

فإن وفق أحدهم بتشكيل الحكومة يجب على غيره الاتباع ، وإن لم يتيسر إلا باجتماعهم يجب عليهم القيام اجتماعا ، ولو لم يمكن لهم ذلك أصلا لم يسقط منصبهم وإن كانوا معذورين في تأسيس الحكومة ، ومع ذلك كان لكل منهم الولاية على أمور المسلمين إذا اقتضت الحكومة التصرف فيها ، فيجب عليهم إجراء الحدود مع الإمكان وأخذ الصدقات والخراج والأخماس ، والصرف في مصالح المسلمين وفقراء السادة وغيرهم وسائر حوائج المسلمين والإسلام ، فيكون لهم في الجهات المربوطة بالحكومة كل ما كان الرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم والأئمة عليهم أفضل الصلاة والسلام من بعده .

ولا يلزم من ذلك أن تكون رتبتهم کرتبة الأنبياء أو الأئمة عليهم السلام

ص: 285

فإن الفضائل المعنوية أمر لا يشاركهم عليهم السلام فيه غيرهم .

فالخلافة لها معنيان واصطلاحان : أحدهما الخلافة الإلهية التكوينية ،وهي مختصة بالخلص من أوليائه کالأنبياء المرسلين والأئمة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين ، وثانيهما المعنى الاعتباري الجعلي ، كجعل رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أمير المؤمنین علیه السلام خليفة للمسلمين ، أو انتخاب فلان وفلان للخلافة .

فالرئاسة الظاهرية الصورية أمر لم يعتن بها الأئمة عليهم السلام إلا لإجراء الحق ، وهي التي أرادها علي بن أبي طالب عليه أفضل الصلاة والتحية والسلام بقوله على ما حكي عنه : (والله لهي أحب إليّ من إمرتكم) ، مشيراً إلى النعل التي لا قيمة لها .

وفي نهج البلاغة في الخطبة المعروفة بالشقشقية (أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظمة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أولها ، ولألفيتم دنیاکم هذه أزهد عندي من عفطة عنز) .

وأما مقام الخلافة الكبرى الإلهية فليس هيناً عنده ولا قابلاً للرفض والإهمال وإلقاء الحبل على غاربه .

فللفقيه العادل جميع ما للرسول والأئمة عليهم السلام مما يرجع إلى الحكومة والسياسة ، ولا يعقل الفرق ، لأن الوالي - أي شخص كان . هو مجري أحكام الشريعة والمقيم للحدود الإلهية والأخذ للخراج وسائر المالیات والمتصرف فيها بما هو صلاح المسلمين ، فالنبي صلی الله علیه و آله وسلم يضرب الزاني مائة جلدة والإمام الشحن، كذلك والفقيه كذلك ، ويأخذون الصدقات بمنوال واحد ، ومع اقتضاء المصالح يأمرون الناس بالأوامر التي للوالي ، ويجب إطاعتهم .

فولاية الفقيه بعد تصور أطراف القضية - ليست أمرأ نظرية يحتاج إلى

ص: 286

برهان ومع ذلك دلت عليها بهذا المعنى الوسيع روایات نذكر بعضها :

فمنها ما أرسله في الفقيه قال : قال مولانا أمير المؤمنين علیه السلام : قال رسول الله : صلی الله علیه و آله وسلم (اللهم ارحم خلفائي) قيل يا رسول الله ومن خلفاؤك ؟ قال : (الذين يأتون بعدي يروون حديثي وسنتي) ، ورواه في عيون الأخبار بطرق ثلاث رجال كل يغاير الأخر كما وأن محال نقل الحديث متفرقة ، فذكر في خلال ما يقرب من مائتي حديث ، وزاد في آخرها (فيعلمونها الناس من بعدي) وعن معاني الأخبار بسند رابع غيرها نحوها وعن المجالس بسند مشترك مع الرابع في أواخره ، وفي آخره (ثم يعلمونها) وعن صحيفة الرضا واللاف، بإسناده عن آبائه عليهم السلام نحوها . وعن غوالي الليالي نحوها. في آخرها (أولئك رفقائي في الجنة) ، وقريب منها عن الراوندي وغيره .

فهي رواية معتمدة لكثرة طرقها ، بل لو كانت مرسلة لكانت من مراسیل الصدوق التي لا تقصر عن مراسیل مثل ابن عمير ، فإن مرسلات الصدوق على قسمين : أحدهما ما أرسل ونسب إلى المعصوم ماندن، بنحو الجزم كقوله : قال أمير المؤمنين السعني كذا ، وثانيهما ما قال : روي عنه علیه السلام مثلا ، والقسم الأول من المراسيل المعتمدة المقبولة .

وكيف كان معنى الخلافة عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أمر معهود من أول الإسلام ، ليس فيه إبهام ، والخلافة لو لم تكن ظاهرة في الولاية والحكومة فلا أقل من أنها القدر المتيقن منها ، وقوله صلی الله علیه و آله وسلم : (الذين يأتون من بعدي) معرف للخلفاء لا محدد لمعناها ، وهو واضح ، مع أن الخلافة لنقل الرواية والسنة لا معنى لها ، لأن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم لم يكن راوياً لرواياته حتى يكون الخليفة قائماً مقامه في ذلك .

فيظهر من الرواية أن للعلماء جميع ما له صلی الله علیه و آله وسلم إلا أن يدل الدليل على إخراجه فيتبع .

وتوهم أن المراد من الخلفاء خصوص الأئمة عليهم السلام في غاية

ص: 287

الوهن ، فإن التعبير عن الأئمة عليهم السلام برواة الأحاديث غير معهود ، بل هم خزان علمه تعالى ، ولهم صفات جميلة إلى ما شاء الله لا يناسب للإيعاز إلى مقامهم عليهم أفضل الصلاة والتحية والسلام (إنهم رواة الأحاديث) بل لو كان المقصود من الخلفاء أشخاصهم المعلومين لقال : علي وأولاده المعصومين عليهم السلام ، لا العنوان العام الشامل لجميع العلماء .

كما أن احتمال الاختصاص بالراوي والمحدّث دون الفقيه أوهن من السابق ، أما بالنسبة إلى ما ذكره في ذيله بالطرق الكثيرة وهو قوله صلی الله علیه و آله وسلم: فيعلمونها الناس من بعدي فواضح أن المحدث والراوي ليس شغله تعليم سنة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم إلا إذا كان فقيهاً مثل الكليني والصدوقين ونظائرهم (قدهم) فإن الراوي محضا لا يمكنه العلم بأن ما روي هو سنة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أم لا، إذ كثير من الروايات الواردة عن المعصومين عليهم أفضل الصلاة والتحية والسلام لم تصدر لبيان الحكم الواقعي ، لكثرة ابتلائهم بولاة الجور ، وليس لنا طريق إلى سنة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ورواياته إلا من قبل الأئمة الهداة عليهم السلام ، والرواية من غير طريقهم في غاية القلة.

وأما بالنسبة إلى المرسلة التي ليس لها هذا الذيل فلأنه - مع إمكان أن يقال : إن هذه الجملة سقطت إما من قلم المصنف رحمه الله تعالى أو النساخ ، فإن في دوران الأمر زيادة جملة وسقوطها كان الثاني أولى ، لغاية بعد الأول ، وزيادة وقوع الثاني عند الاستنساخ ، وإن كان هو أيضا خلاف الأصل في نفسه - لا شك أن المطلوب من بسط السنة هو بسط سنة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ورواياتها ، لا ما ينسب إليه ولو كان كذبأ وعلى خلاف سنته .

والذي يتيسر له إحراز السنة وعلاج المتعارضين بالموازين التي قررت في محلها مما ورد عنهم عليهم السلام وغير ذلك وتشخيص المخالف للكتاب والسنة عن الموافق لهما هو المجتهد المتبحر والمحدث الفقيه ، لا ناقل الحديث كائناً من كان .

ص: 288

مع أن مناسبة الحكم والموضوع ترشدنا إلى ذلك، فإن منصب خلافة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم والولاية من قبله لا يعقل أن يكون لرجل عامي غير مميز الأحكام الله تعالی بمجرد حكاية الأحاديث ، فهو كالمستنسخ للأحاديث ، وقد يتوهم أن لازم جعل الخلافة للفقهاء كونهم في عرض الأئمة عليهم السلام ، وسيجيء دفعه بعد ذكر الروايات .

ومنها رواية علي بن أبي حمزة قال : سمعت أبا الحسن موسی بن جعفر عليهما السلام يقول : إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة وبقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها وأبواب السماء التي كان يصعد فيها بأعماله وثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء، لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها) .

وليس في سندها من يناقش فيه إلا علي بن أبي حمزة البطائني، وهو ضعيف على المعروف ، وقد نقل توثيقه عن بعض ، وعن الشيخ في العدة عملت الطائفة بإخباره) وعن ابن الغضائري (أبوه أوثق منه) وهذه الأمور وإن لا تثبت وثاقته مع تضعيف علماء الرجال وغيرهم إياه لكن لا منافاة بين ضعفه والعمل برواياته وعمل الأصحاب جابر للضعف من ناحية ، ولرواية كثير من المشايخ وأصحاب الإجماع عنه كابن عمير وصفوان بن يحيى والحسن بن محبوب وأحمد بن محمد بن أبي النصر ويونس بن عبد الرحمن وأبان بن عثمان وأبي بصير وحماد بن عيسى والحسن بن الوشاء والحسين بن سعيد وعثمان بن عيسى وغيرهم ممن يبلغ الخمسين رجلاً ، فالرواية معتمدة .

ورواها بطريق آخر بلا لفظ (الفقهاء) ومن البعيد جداً زيادة اللفظة ، وأما سقوطها فليس ببعيد وإن كان خلاف الأصل في نفسه ، لكن في الدوران يقدم النقص .

كما أن التناسب بين الحكم والموضوع يؤيد ذلك ، فإن الثلمة التي

ص: 289

لا يسدها شيء والتعليل بأنهم حصون الإسلام لا ينطبق إلا على الفقيه المؤمن ، ولهذا ورد في رواية أخرى (إذا مات المؤمن الفقيه ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء). وأما الرواية الأخرى التي ذكر فيها (المؤمن) فليس فيها تلك الجملة ولهذا ليس من البعيد سقوط لفظة (الفقيه) من قوله (إذا مات بكت عليه) الخ .

وكيف كان بعدما علم بالضرورة ومرت الإشارة إليه من أن في الإسلام تشکیلات وحكومة بجميع شؤونها لم يبق شك في أن الفقيه لا يكون حصنا للإسلام کسور البلد له إلا بأن يكون حافظا لجميع الشؤون من بسط العدالة وإجراء الحدود وسد الثغور وأخذ الخراجات والماليات وصرفها في مصالح المسلمين ونصب الولاة في الأصقاع ، وإلا فصرف الأحكام ليس بإسلام .

بل يمكن أن يقال : الإسلام هو الحكومة بشؤونها ، والأحكام قوانین الإسلام ، وهي شأن من شؤونها ، بل الأحكام مطلوبات بالعرض ، وأمور آلية لإجرائها وبسط العدالة ، فكون الفقيه حصنا للإسلام كحصن سور المدينة لا معنى له إلا كونه واليأ له نحو ما لرسول الله وللأئمة عليهم أفضل الصلاة والتحية والسلام من الولاية على جميع الأمور السلطانية .

وعن أمير المؤمنين علیه السلام : (الجنود بإذن الله حصون الرعية - إلى أن قال : وليس تقوم الرعية إلا بهم) فكما لا تقوم الرعية إلا بالجنود فكذلك لا يقوم الإسلام إلا بالفقهاء الذين هم حصون الإسلام ، وقيام الإسلام هو إجراء جميع أحكامه ولا يمكن إلا بالوالي الذي هو حصن .

وبما ذكرناه ظهرت دلالة سائر الروايات ، ولا يحتاج في بيان دلالتها إلا إلى إتعاب النفس ، کموثقة السكوني عن أبي عبد الله والسلام قال : (قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا ، قيل يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا ؟ قال : اتباع السلطان فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على

ص: 290

دینکم) ونقلها في المستدرك عن نوادر الراوندي قائلا بإسناده الصحيح عن الإمام موسی بن جعفر عليهما السلام ، وعن دعائم الإسلام عن الإمام جعفر بن محمد عليهما السلام نحوه إلا أن في ذلك فاحذروهم على أديانكم) .

وكيف كان قوله صلی الله علیه و آله وسلم : (أمناء الرسل) بالتقريب المتقدم يفيد كونهم أمناء رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في جميع الشؤون المتعلقة برسالته ، وأوضحها زعامة الأمة وبسط العدالة الاجتماعية ، وما لها من المقدمات والأسباب واللوازم ، فأمين الرسول أمين في جميع شؤونه ، وليس شأن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ذکر الأحكام فقط حتى يكون الفقيه أمينا فيه ، بل المهم إجراء الأحكام ، والأمانة فيها أن يجريها على ما هي عليها .

ويؤكد ذلك ما في رواية العلل المتقدمة حيث قال في علل الإمامة والأمر بطاعتهم : (إن الخلق لما وقفوا على حد محدود - إلى أن قال : ولا يقوم إلا بأن يجعل عليهم أمينا يمنعهم من التعدي والدخول فيما حظر عليهم - إلى أن قال : فجعل عليهم فيما يمنعهم من الفساد ويقيم فيهم الحدود) فإذا ضم إلى ذلك قوله صلی الله علیه و آله وسلم: (الفقهاء أمناء الرسل يعلم منه أنهم أمناء الرسل لأجل ما ذكره من إجراء الحدود والمنع عن التعدي والمنع عن أندراس الإسلام وتغير السنة والأحكام ، فالفقهاء أمناء الرسل وحصون الإسلام لهذه الخصوصية وغيرها ، وهي عبارة أخرى عن الولاية المطلقة .

ومنها - التوقيع المبارك المنسوب إلى صاحب الأمر روحي فداه وعجل الله تعالی فرجه الشريف ، نقله الصدوق عن محمد بن عصام عن الكليني عن إسحاق بن يعقوب قال : (سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليَّ فورد التوقيع بخط مولانا صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه الشريف أما ما سألت عنه أرشدك الله وثبتك - إلى أن قال : وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنهم

ص: 291

حجتي عليكم ، وأنا حجة الله) الخ وعن الشيخ قدس الله سره روايته في کتاب الغيبة بسنده إلى محمد بن يعقوب والرواية من جهة إسحاق بن يعقوب غیر معتبرة .

وأما دلالته فتارة من ناحية قوله علیه السلام: (وأما الحوادث الواقعة) الخ وتقريبها أن الظاهر أنه ليس المراد بها أحكامها ، بل نفس الحوادث ، مضاف إلى أن الرجوع في الأحكام إلى الفقهاء من أصحابهم عليهم السلام كان في عصر الغيبة من الواضحات عند الشيعة ، فيبعد السؤال عنه ، والمظنون أن السؤال كان بهذا العنوان ، فأراد السائل استفسار تكليفه أو تكليف الأمة في الحوادث الواقعة لهم ، ومن البعيد أن يعد السائل عدة حوادث في السؤال ويجيب عالئون بأن الحوادث كذا مشيرة إلى ما ذكره ، وكيف كان لا إشكال في أن يظهر منه أن بعض الحوادث التي لا تكون من قبيل بيان الأحكام يكون المرجع فيها الفقهاء .

وأخرى من ناحية التعليل بأنّهم حجتي عليكم وأنا حجة الله ، وتقريبها بأن كون المعصوم حجة الله ليس معناه أنه مبين الأحكام فقط ، فإن زرارة ومحمد بن مسلم وأشباههما أيضا أقوالهم حجة ، وليس لأحد ردهم وترك العمل برواياتهم ، وهذا واضح .

بل المراد بكونه وکون آبائه الطاهرين عليهم السلام حجج الله على العباد أن الله تعالى يحتج بوجودهم وسيرتهم وأعمالهم وأقوالهم على العباد في جميع شؤونهم، ومنها العدل في جميع شؤون الحكومة ، فأمير المؤمنین علیه السلام حجة على الأمراء وخلفاء الجور وقطع الله تعالى بسيرته عذرهم في التعدي عن الحدود والتجاوز والتفريط في بيت مال المسلمين والتخلف عن الأحكام ، فهو حجة على العباد بجميع شؤونه ، وكذا سائر الحجج ، وسیما ولي الأمر عجل الله تعالی فرجه الشريف الذي يبسط العدل في العباد قسطا وعدلا ، ويحكم فيهم بحكومة عادلة إلهية

ص: 292

وأنهم حجج الله على العباد أيضاً بمعنى أنه لو رجعوا إلى غيرهم في الأمور الشرعية والأحكام الإلهية من تدبير أمور المسلمين وتمشية سياستهم وما يتعلق بالحكومة الإسلامية لا عذر لهم في ذلك مع وجودهم ، نعم لو غلبت سلاطين الجور وسلبت القدرة عنهم عليهم السلام لكان عذرة عقلية مع كونهم أولياء الأمور من قبل الله تعالى ، فهم حجج الله على العباد ولا إشكال في دلالته أو ضعفه .

مضافاً إلى أن الواضح من مذهب الشيعة أن كون الإمام حجة الله تعالی عبارة أخرى عن منصبه الإلهي وولايته على الأمة بجميع شؤون الولاية لا كونه مرجعا للأحكام فقط وعليه فيستفاد من قوله علیه السلام: (أنا حجة الله وهم حجتي عليكم) أن المراد أن ما هو لي من قبل الله تعالى لهم من قبلي ، ومعلوم أن هذا يرجع إلى جعل إلهي له علیه السلام وجعل من قبله للفقهاء ، فلا بد من هذه الكلية من دلیل مخرج فيتبع .

ويؤيد ذلك بل يدل عليه قول أمير المؤمنين علیه السلام لشريح : (جلست مجلساً لا يجلسه إلّا نبي أو وصي نبي أو شقي) بتقريب أن الفقيه العدل ليس نبياً ولا شقياً ، فهو وصي ، والوصي له ما للموصي .

ونحوه عن أبي عبد الله علیه السلام قال : (اتقوا الحكومة ، فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبي أو وصي نبي) فيظهر أن القضاء للإمام والرئيس العالم العادل ، ولما ثبت كون القضاء للفقيه ثبت أنه الرئيس والوصي ، فتدبر .

ومنها - مقولة عمر بن حنظلة قال : سألت أبا عبد الله علیه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحل ذلك ؟ قال : من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت ، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً وإن كان حقاً ثابتاً له ، لأنه أخذه بحكم الطاغوت ، وقد أمر الله أن يكفر به ، قال تعالى : «أيُرِيدُونَ أَنْ

ص: 293

يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ » قلت فكيف يصنعان ؟ قال : ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكمة ، فإني قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد ، والراد علينا الراد على الله ، وهو على حد الشرك بالله .

والرواية من المقبولات التي دار عليها رحى القضاء ، وعمل الأصحاب بها حتى اتصفت بالمقبولة فضعفها سندا بعمر بن حنظلة مجبور، مع أن الشواهد الكثيرة المذكورة في محله لو لم تدل على وثاقته فلا أقل من دلالتها على حسنه ، فلا إشكال من جهة السند .

وأما الدلالة فلأجل تمسك الإمام علیه السلام بالآية الشريفة فلا بد من النظر إليها ومقدار دلالتها حتى يتبين الحال .

قال تعالى : «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ » لا شبهة في شمول الحكم للقضاء الذي هو شأن القاضي والحكم من الولاة والأمراء - وفي المجمع (أمر الله الولاة والحكام أن يحكموا بالعدل والنصفة) ونظيره قوله تعالى : (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ، فاحكم بين الناس بالحق) .

ثم قال تعالى : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ »الخ كما لا شبهة أيضاً في أن مطلق المنازعات داخلة فيه - سواء كانت في الاختلاف في ثبوت شيء ولا ثبوته، أو التنازع الحاصل في سلب حق معلوم من شخص أو أشخاص ، أو التنازع الحاصل بين طائفتين المنجر إلى قتل وغيره - الذي كان المرجع بحسب النوع فيها هو الوالي لا القاضي ، سيما بملاحظة ذكره عقيب وجوب إطاعته الرسول وأولي الأمر ، فإن إطاعتهما بما هي إطاعتهما هي الائتمار بأوامرهم المربوطة بالوالي ، وليس المراد بها إطاعتهما في الأحكام

ص: 294

الإلهية ، ضرورة أن إطاعة الأوامر الإلهية إطاعة الله لا إطاعتهما ، فلو صلی قاصداً إطاعة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أو الإمام بطلت صلاته ، نعم إطاعة أوامرهم السلطانية إطاعة الله أيضاً ، لأمره تعالى بإطاعتهم .

ثم قال تعالى : «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ » الخ وهذه الآية أيضا مفادها أعم من التحاكم إلى القضاة وإلى الولاة لو لم نقل بأن الطاغوت عبارة عن خصوص السلاطين والأمراء ، لأن الطغيان والمبالغة فيه مناسب لهم لا للقضاة ، ولو أطلق على القضاة يكون لضرب من التأويل أو يتبع السلاطين الذين هم الأصل في الطغيان ، ويظهر من المقبولة التعميم بالنسبة إليهما .

ثم إن قوله : (منازعة في دين أو ميراث) ، لا شبهة في شموله للمنازعات التي تقع بين الناس فيما يرجع فيه إلى القضاة ، كدعوى أن فلان مديون وإنكار الطرف ودعوى أنه لا وارث ونحو ذلك ، وفيما يرجع إلى الولاة والأمراء كالتنازع الحاصل بينهما لأجل عدم أداء دينه أو إرثه بعد معلوميته ، وهذا النحو من المنازعات مرجعها الأمراء ، فإذا قتل ظالم شخصأ من طائفة ووقع النزاع بين الطائفتين لا مرجع لرفعه إلا الولاة ، ومعلوم أن قوله : (في دین أو ميراث) من باب المثال ، والمقصود استفادة التكليف في مطلق المنازعات ، واستفسار المرجع فيها ، ولهذا أكد الكلام لرفع الإبهام بقوله : (فتحاكما إلى السلطان والقضاة) ومن الواضح عدم تدخل الخلفاء في ذلك العصر بل مطلقا من المرافعات التي ترجع إلى القضاة وكذلك العكس ، فقوله علیه السلام : (من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت) انطباقه على الولاة أوضح ، بل لولا القرائن لكان الظاهر منه خصوص الولاة . وكيف كان لا إشكال في دخول الطغاة من الولاة فيه ، سيما مع

ص: 295

مناسبات الحكم والموضوع ، ومع استشهاده بالآية التي هي ظاهرة فيهم في نفسها ، بل لولا ذلك يمكن أيضاً أن يقال بالتعميم ، للمناسبات المغروسة في الأذهان ، فيكون قوله بعد ذلك : (فكيف يصنعان ؟) استفسارة عن المرجع في البابين واختصاصه بأحدهما سيما بالقضاة في غاية البعد لو لم نقل بأنه مقطوع الخلاف .

وقوله صلی الله علیه و آله وسلم: (فليرضوا به حکماً) تعييناً للحاكم في التنازع ، فليس الصاحب الحق الرجوع إلى الولاة الجور ولا إلى القضاة ، ولو توهم من قوله علیه السلام : (فليرضوا) اختصاصه بمورد تعيين الحكم فلا شبهة في عدم إرادة خصوصه ، بل ذكر من باب المثال ، وإلا فالرجوع إلى القضاة الذي هو المراد جزما لا يعتبر فيه الرضا من الطرفين .

فاتضح من جميع ذلك أنه يستفاد من قوله علیه السلام: (فإني قد جعلته حاكما أنه علیه السلام قد جعل الفقيه حاكما فيما هو من شؤون القضاة وما هو من شؤون الولاية ، فالفقيه ولي الأمر في البابين ، وحاكم في القسمين ، سيما مع عدوله علیه السلام عن قوله : (قاضياً) إلى قوله : (حاكماً) فإن الأوامر أحكام ، فأوامر الله ونواهيه أحكام الله تعالى ، بل لا يبعد أن يكون القضاء أعم من قضاء القاضي وأمر الوالي وحكمه ، قال تعالى : «َمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ »، وكيف كان لا ينبغي الإشكال في التعميم .

بل يمكن الاستشهاد بأن المراد من القضاء المربوط بالقضاة غير ما هو مربوط بالسلطان بمشهورة أبي خديجة قال : (بعثني أبو عبد الله علیه السلام إلى أصحابنا فقال : قل لهم إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدرأ في شيء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق ، اجعلوا بینکم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا ، فإني قد جعلته عليكم قاضياً ، وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر) .

ص: 296

فإن الظاهر من صدرها إلى قوله علیه السلام : (قاضياً) هي المنازعات التي يرجع فيها إلى القضاة ، ومن تحذيره بعد ذلك من الإرجاع إلى السلطان الجائر وجعله مقابلا للأول بقوله علیه السلام: (وإياكم) الخ هي المنازعات التي يرجع فيها إلى السلطان لرفع التجاوز والتعدي لا لفصل الخصومة .

ثم قد تنقدح شبهة في بعض الأذهان بأن أبا عبد الله علیه السلام في أيام إمامته إذا نصب للإمارة أو القضاء شخصاً أو أشخاصاً كان أمده إلى زمان إمامته ، وبعد وفاته وانتقال الإمامة إلى من بعده بطل النصب وانعزل الولاة والقضاة .

وفيها لا يخفى ، فإنه مع الغض عن أن مقتضى المذهب أن الإمام إماماً حياً أو ميتاً وقائماً وقاعداً أن النصب لمنصب سواء كان نصب الولاة أو القضاة أو نصب المتولي للوقف أو القيم على السفهاء والصغار لا يبطل بموت الناصب ، فمن الضروري في طريقة العقلاء أن مع تغيير السلطان أو هيئة الدولة ونحوهما لا ينعزل الولاة والقضاة وغيرهم من المنصوبين من قبلهم ، ولا يحتاجون إلى نصب جدید ، نعم للرئيس الجديد عزل من منصبه السابق وتغييره ، ومع عدله تبقى المناصب على حالها .

وفي المقام لا يعقل هدم الأئمة اللاحقين عليهم السلام نصب الإمام أبي عبد الله علیه السلام ، لأنه يرجع إما إلى نصب غير الفقهاء العدول وإرجاع الأمر إليه فمع صلاحية الفقهاء العدول كما يكشف عنها نصب أبي عبد الله علیه السلام إياهم لا يعقل ترجيح غيرهم المرجوح بالنسبة إليهم عليهم ولو كان عدلا إمامية ، وقد تقدم أنه كالضروري لزوم كون الوالي عالما بالقوانين ، والجاهل لا يصلح لهذا المنصب ولا لمنصب القضاء - أو إلى إرجاعهم إلى ولاة الجور وقضاته ، وهو ظاهر الفساد ، كالإهمال لهذا الأمر الضروري الذي يحتاج إليه الأمم ، ولا يعقل بقاء عيشهم إلا بذلك ، فمن نصبه الإمام علیه السلام منصوب إلى زمان ظهور ولي الأمر علیه السلام.

مضافاً إلى أن من الضروري في الفقه أن نصبه باق ، ولا زال تمسك

ص: 297

الفقهاء بمقبولة عمر بن حنظلة لإثبات منصب القضاء للفقهاء ، كما أن من فهم منها الأعم استدل بها لذلك ، وهذا واضح .

وهنا شبهة أخرى ، وهي أن الإمام علیه السلام وإن كان خليفة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم و ولي الأمر ، وله نصب الولاة والقضاة لكن لم تكن يده مبسوطة ، بل كان في سيطرة خلفاء الجور ، فلا أثر لجعل منصب الولاية لأشخاص لا يمكن لهم القيام بأمرها ، وأما نصب القضاة فله أثر في الجملة .

وفيها . أنه مع وجود أثر في الجملة في جعل الولاية أيضاً كما لا يخفي ، فإن جعل المرجع للشيعة يوجب رجوعهم إليه ولو سراً في كثير من الأمور ، كما نشاهد بالضرورة أن لهذا الجعل سراً سياسياً عميقاً وهو طرح حكومة عادلة إلهية وتهيئة بعض أسبابها حتى لا يتحير المتفكرون لو وفقهم الله التشكيل حكومة إلهية ، بل هو زائدة على الطرح بعث لهم إلى ذلك كما هو واضح .

ولقد تصدى بعض المتفکرین لطرح حكومة وتخطيطها في السجن الرجاء تحققها في الآتي ، ووفق بعضهم لذلك حتى في عصرنا ، فالرسول صلی الله علیه و آله وسلم عین خلفاء بخصوصهم وهم الأئمة الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وفي نصبهم وتعيينهم مصالح : منها تحقق أمة عظيمة بلغت في الحال بحمد الله إلى عدد كبير جداً ، بل الغالب في العظماء من الأنبياء وغيرهم الشروع في الطرح أو العمل من الصفر تقريباً .

فهذا رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قد قام بالرسالة ولم يؤمن به في أول تبليغه إلا طفل صغير السن عظیم الشان وامرأة جليلة ، ولكن قام بأعباء الرسالة ونشرالدعوة عن عزم راسخ وإرادة قوية وقوة قدسية غير آیس عن حصول مقصده ،وجاهد وتحمل المشاق طيلة حياته حتى بلغ الأمر إلى نشر الإسلام فيالعالم، وبلغت عدة المسلمين في الحال قريبا من سبعمائة مليوناً ، وسيزيد إنشاء الله ، والله غالب على أمره .

ص: 298

وأبو عبد الله علیه السلام قد أسس بهذا الجعل أساساً قويماً للأمة والمذهب بحيث لو نشر هذا الطرح والتأسيس في جامعة التشيع وأبلغه الفقهاء والمفكرون إلى الناس ولا سيما إلى الجوامع العلمية وذوي الأفكار الراقية الصار ذلك موجبا لانتباه الأمة والتفاتهم إليه ، وخصوصا طبقة الشبان ، فلعله يصير موجبا لقيام شخص أو أشخاص لتأسيس حكومة إسلامية تقطع أيادي الأجانب من بلاد المسلمين ، واللازم على العلماء الأعلام والمبلغين أيدهم الله تعالى أن يقوموا بهذا الأمر الحيوي ويزيلوا اليأس من قلوبهم وقلوب الطلاب والمحصلين وسائر الناس ، فإنه مبدأ الخمود والقعود عن الوصول إلى الحق .

ومنها - صحيحة القداح عن أبي عبد الله السلام قال : قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة - إلى أن قال : وأن العلماء ورثة الأنبياء ، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراَ ولا درهماً ، ولكن ورثوا العلم ، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر) وقريب منها رواية البحتري مع اختلاف في التعبير .

وقد وقع سهو في قلم النراقي (قده) في العوائد حيث وصف رواية أبي البحتري بالصحة مع أنها ضعيفة ، ولا يبعد أن يكون مراده صحيحة القداح وعند الكتابة وقع سهو من قلمه الشريف .

ثم إن كون الفقهاء ورثة الأنبياء - ومنهم رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وسائر المرسلين الذين لهم الولاية العامة على الخلق - انتقال ما كان لهم إليهم إلا ما ثبت أنه غير ممكن الانتقال ، ولا شبهة أن الولاية قابلة للانتقال کالسلطنة التي كانت عند أهل الجور موروثة خلفاً عن سلف .

وقد مرّ أنه ليس المراد بالولاية في الولاية الكلية الإلهية التي دارت في لسان العرفاء وبعض أهل الفلسفة ، بل المراد الولاية الجعلية الاعتبارية ، کالسلطنة العرفية وسائر المناصب العقلائية ، كالخلافة التي جعلها الله تعالی

ص: 299

الداود على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام وفرع عليها الحكم بالحق بين الناس ، وكنصب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم علياً علیه السلام بأمر الله خليفة وولياً على الأمة ، ومن الضروري أن هذه أمر قابل للانتقال والتوريث ، ويشهد له ما في نهج البلاغة (اری تراثي نهباً) فعليه تكون الولاية أي كونه أولى بالمؤمنين من أنفسهم فيما يرجع إلى الحكومة والإمارة منتقلة إلى الفقهاء .

نعم ربما يقال : إن المراد بالعلماء الأئمة عليهم السلام ، كما ورد نحن العلماء) وفيه ما لا يخفى ، ضرورة أنه مع القرينة يكون لفظ (العلماء) ظاهرة في الفقهاء غير الأئمة عليهم السلام ، فراجع ما ورد في العلماء والعالم والعلم ، مع أن قوله علیه السلام في صحيحة القداح : (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً لا ينطبق على الأئمة عليهم السلام بالضرورة ، فهو قرينة على أنهم غير الأئمة عليهم السلام .

كما أن قوله في ذيل رواية أبي البحتري (فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظاً وافراً) لا ينطبق عليهم صلوات الله وسلامه عليهم بالضرورة ، فحينئذ يكون قوله علیه السلام : (فانظروا علمكم هذا عمن تأخذونه . فإن فينا أهل البيت) الخ أمرأ متوجها إلى العلماء بأن علمهم لا بد من معدن الرسالة حتى يصير العالم بواسطته وارثأ للأنبياء ، وليس مطلق العلم كذلك ، أو متوجها إلى الأمة بأن يأخذوا علمهم من ورثة الأنبياء ، أي العلماء ، وكيف كان لا شبهة في أن المراد بهم فقهاؤنا رضوان الله عليهم وأعلى كلمتهم .

وأوهن منه ما قيل من أن وراثة الأنبياء بما هم أنبياء لا تقتضي إلا تبليغ الأحكام ، فإن الوصف العنواني مأخوذ في القضية ، وشأن الأنبياء بما هم أنبياء ليس إلا التبليغ نعم لو قيل : إنهم وارث موسى وإبراهيم عليهما السلام مثلا صح الوراثة في جميع ما لهم .

وذلك لأن هذا التحليل خارج عن فهم العرف ، ولا ينقدح في الأذهان من هذه العبارة إلا الوراثة من موسى وعيسى وغيرهم ، سيما مع إتيان الجمع

ص: 300

في الأنبياء ، فإن الظاهر منه إرادة أفرادهم ، ويكون العنوان مشيراً إليهم لا مأخوذاً بنحو الموضوعية .

ولو سلمنا ذلك فلا شبهة في أن ما ثبت للنبي صلی الله علیه و آله وسلم في الكتاب والسنة لا بد وأن يورث ، وقد قال تعالى : «النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ » ونحن لا نريد إلا إثبات هذا وراثة هذا المعنى ، إذ فيه جميع المطالب ، وهذا واضح جداً .

كما أن عنوان الرسول والنبي في متفاهم العرف واحد وإن ورد الفرق بينهما في الروايات بأن (النبي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاین الملك ، والرسول يسمع الصوت ويرى في المنام ويعاين الملك) ولا شبهة في أن الوراثة ليست في هذا المعنى الذي في الروايات ، ضرورة أن الفقهاء لم يكن منزلتهم كذلك ، بل المراد في الرواية هو النبي المأمور بالإبلاغ ،وهو الرسول عينا ، فحينئذ إذا ثبت للفقيه بالوراثة ، كوجوب الإطاعة ونحوها ، فلا شبهة من هذه الجهة أيضاً.

والعمدة شبهة أخرى ، وهي أن احتفاف الرواية بتعظيم العلماء بأن من سلك طريقا يطلب فيه علماً كذا ، وأن الملائكة بالنسبة إليهم كذا ، وأن الموجودات يستغفرون لطالب العلم ، وأن فضلهم كذا ، وبقوله صلی الله علیه و آله وسلم: (إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورثوا العلم ، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر) ربما يمنع عن فهم عموم التوريث ، وأن لا يبعد ولو لأجل المناسبات التي ذكرناها من قبل .

وكيف كان لا يفهم منها انحصارات الأنبياء في العلم أو الرواية ، ضرورة أن للنبي صلی الله علیه و آله وسلم من جهات شتی ورثها الأئمة عليهم السلام ، وقوله علیه السلام في رواية أبي البحتري : (وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم) لا يراد به الحصر ، بل المراد منه أنهم عليهم السلام أورثوا العلم بدل الدرهم والدينار ، فالحصر لو كان إضافي ، مع (إنما) لا تدل على الحصر ، بل لا

ص: 301

تفيد إلا التأكيد والتثبيت ، فتوهم أن هذا الحديث مناف لما سبق وهادم للولاية في غاية الفساد ، للزوم أن يكون هادم لوراثة الأئمة عليهم السلام أيضأ وهو ضروري البطلان .

مع أنه لا منافاة بينه وبين ما سبق ، لأن الأخبار السابقة دالة على النصب ، كقوله صلی الله علیه و آله وسلم: (خلفائي) و (حصون الإسلام) و (أمناء الرسل) و (جعلته حاكما) فلو لم يكن إرثه إلا العلم ولم يورث غيره لكان كما أنه جعل الأئمة عليهم السلام خلفاء ونصبهم للخلافة على الخلق أجمعين جعل الفقهاء خلفاء ونصبهم للخلافة الجزئية ، والفرق بينهم عليهم السلام وبين الفقهاء من هذه الجهة هو الفرق بين السلطان وبين الأمراء المنصوبين من قبله في الأمصار .

وبهذا يظهر أن جعل الخلافة للفقهاء لا يكون في عرض جعلها للأئمة عليهم السلام كما توهم ، فإن لازم جعل أمير المؤمنین علیه السلام خليفة على الكل إنه ولي على قاطبة الخلق من غير استثناء ، فهو ولي وأمير على الحسنين سلام الله عليهما وعلى الفقهاء وعلى سائر الناس . فإذا جعل الخلافة الجزئية للفقهاء لا يفهم منه إلا أنهم تحت سلطة الأمير علیه السلام ، لأنه أمير على الكل ، مع أن التقييد عقلاً ونقلاً من أسهل التصرفات .

وبما ذكرنا يظهر الوجه في دلالة روايات أخر غير سديدة الإسناد كما عن الفقه الرضوي أنه قال : (منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة الأنبياء من بني إسرائيل) وكان موسى على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام وكثير من الأنبياء ممن لهم الولاية على بني إسرائيل .

وكالرواية المروية عن جامع الأخبار عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم أنه قال : (أفتخر يوم القيامة بعلماء أمتي ، فأقول : (علماء أمتي کسائر أنبياء قبلي) .

وعن عبد الواحد الأمدي في الغرر عن أمير المؤمنين علیه السلام أنه قال : (العلماء حكام على الناس) وفي نسخة (حكماء) وهي خطأ .

ص: 302

وكرواية تحف العقول عن سيد الشهداء عن أمير المؤمنين عليهما أفضل الصلاة والتحية والسلام وفيها (مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه) وهي وإن كانت مرسلة ، لكن اعتمد على الكتاب صاحب الوسائل (قده) و متنها موافق للاعتبار والعقل .

وقد يقال : إن صدر الرواية وذيلها شاهد على أن المراد بالعلماء بالله الأئمة عليهم السلام وأنت إذا تدبرت فيها صدراً وذيلاً ترى أن وجهة الكلام لا تختص بعصر دون عصر ، وبمصر دون مصر ، بل كلام صادر لضرب دستور كلي للعلماء قاطبة في كل عصر ومصر للحث على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مقابل الظلمة ، وتغييرهم على تركهما طمعاً في الظلمة أو خوفاً منهم .

ثم وجه كلامه علیه السلام إلى عصابة المسلمين بأن المهابة التي في قلوب الأعداء منكم إنما هي بما يرجى عندكم من القيام بحق الله وإن کنتم عن أكثر حقه تقصرون ، فاستخففتم بحق الأئمة عليهم السلام - ثم جرى في كلامه فالتفت إلى أن قال : وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون ، وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون ، وذمة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم محفورة ، والعمى والبكم والزمنی في المدائن مهملة لا ترحمون - إلى أن قال : وبالادهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون ، كل ذلك مما أمر الله به من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون ، وأنتم أشد مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تسمعون ، ذلك بأن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه ، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة ، وما سلبتم ذلك إلا بتفرقكم عن الحق) إلى آخرها مما هي وعظ ودستور لقاطبة المسلمين حاضرهم وغائبهم الموجود منهم ومن سيوجد .

والعدول عن لفظ (الأئمة) إلى (العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه) لعله لتعميم الحكم بالنسبة إلى جميع العلماء العدول الذين هم أمناء الله على

ص: 303

حلاله وحرامه ، بل انطباق هذا العنوان على غير الأئمة أظهر ، إذ توصیفهم عليهم السلام بذلك يحتاج إلى القرينة .

والظاهر من الخبر شموله لهم ولسائر العلماء في العصور المتأخرة للمناسبات التي هي عامة لجميع الأعمار ، بل لا يبعد دعوى ظهور الرواية صدر، وذيلا في غير الأئمة عليهم السلام .

ولو أن العالم بالله له مقام فوق مقام الفقهاء فاسد ، لأن المراد بالعالم ليس معنى فلسفياً أو عرفانياً ، كما أن صدر الرواية استشهد بقوله تعالی :«لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ » والربانی عبارة أخرى عن العالم بالله ، وكيف كان فمن نظر إلى الرواية وتعميم وجهة الخطاب فيها لا ينبغي له التأمل في ظهورها في المقصود .

وبعد ثبوت کونهم ولاة لا مانع من التمسك بما روي عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم في كتب العامة والخاصة على ما قيل من أنه قال : (السلطان ولي من لا ولي له) ومعلوم أن المراد السلطان العادل ، ولو كان فيه إطلاق يقيد بما مضى .

فتحصل مما مر ثبوت الولاية للفقهاء من قبل المعصومين عليهم السلام في جميع ما ثبت لهم الولاية فيه من جهة كونهم سلطانا على الأمة ، ولا بد في الإخراج عن هذه الكلية في مورد من دلالة دليل دال على اختصاصه بالإمام المعصوم علیه السلام .

هذا ما أورده سيدنا المعظم روحي فداه من الأدلة العقلية والنقلية على ولاية الفقيه بنطاقها الواسع ولا يخفى أن هذه الأدلة مقيدة بالفقيه المطلق أما الفقيه المتجزیء فلم أقف لسماحته على تحقيق في المسألة هل أن له الولاية المذكورة بنطاقها الواسع أم أنها مقيدة ومخصوصة بالفقيه المطلق والذي فهمته من خلال مطالعاتي في الكتب الاستدلالية المطلقة أن الولاية العامة مخصوصة بالمجتهد المطلق وإن كان هناك نزاع في أن ثبوت الولاية العامة للفقيه ليس هو الولاية الخاصة للنبي وأوصيائه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين من

ص: 304

الولاية على الأنفس ونحوها ، فإنه لا ينبغي التفوه بذلك أبداً على حد تعبير الأستاذ الشيخ يوسف الخراساني الحائري بل المتنازع فيها هو الولاية التي كانت للولاة في عصر الحضور کجباية الزكواة والأخماس وأخذ الخراج والمقاسمات ونحوها إلا أن النزاع المذكور عقيم الجدوى لا ثمرة فيه بعد ما عرفت بما أوضحه مولانا المعظم من الأدلة على الولاية بنطاقها الواسع للفقيه الجامع الشرائط الفتوى جعلنا الله من المتمسكين بأقوال خليفة رسول رب العالمين . ونائب أوصيائه الطاهرين سيدنا المطاع روح الله دامت معاليه فإنه أحد الأفراد الذين شملهم دعاء الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بقوله : (اللهم ارحم خلفائي) ثلاثا ... قيل يا رسول الله ومن خلفائك قال الذين يأتون بعدي يرثون حديثي وسنتي . .

والحمد لله رب العالمين أولا وأخيرا .

ص: 305

ص: 306

أهم مصادر الكتاب

1- القرآن الكريم .

2- نهج البلاغة .

3- التوحيد - لمولانا آية الله دست غیب .

4 - البيع - لمولانا الإمام المعظم روحي فداه .

5 - مصباح الشريعة .

6- العدد العاشر الدورة الثانية المسائل الدينية لنخبة من العلماء .

7- أصول الدين الإسلامي - محمد جمال الهاشمي .

8- علم الإمام - المظفر .

9- تحف العقول .

10 - العدد الرابع الدورة الثانية أجوبة المسائل الدينية .

11 - الكشكول - لمولانا الشيخ يوسف البحراني .

12 - مجموعة ورام - لأبي الحسين ورام المالكي .

13 - مجلة العرفان الجزء الرابع المجلد 50 جمادي الثانية 1382 ه .

14 - جامع السعادات - للمولى النراقي .

15- الكشكول - لمولانا الشيخ محمد البهائي .

ص: 307

16- النفس المطمئنة - لمولانا آية الله دست غیب .

17 - المستطرف في كل فن مستظرف - شهاب الدین محمد بن أبي الفتح .

18 - سفط الغوالي وملتقط اللآلي - للشيخ فرج العمران .

19 - الأخلاق - المقدس السيد عبد الله شبر .

20 - لؤلؤة البحرين - الشيخ يوسف البحراني .

21 - سلك الدرر - لجميل السيابي .

22 - تفسير الرازي .

23 - الحدائق الناضرة - الشيخ يوسف البحراني .

24- العز لمن يروم العز - السيد معز الدين . .

25- مدارك العروة الوثقى - لمولانا الشيخ يوسف الخراساني .

26 - شرح العروة الوثقی - لمولانا آية الله السيد صادق الشيرازي .

27 - الإمام الصادق - المظفر .

28 - تفسير الطبرسي .

29 - جواهر الأدب - للسيد أحمد الهاشمي .

30 - تحرير الوسيلة - لمولانا المعظم روحي فداه .

31- مستمسك العروة - للإمام الحكيم (ره) .

32 - منظومة المعارف - لأية الله محمد جواد الخراساني .

33 - التكامل في الإسلام - أحمد أمين .

34 - مفتاح القواعد - الشيخ السماوي .

35- حديث حول الجبر والتفويض - للمؤلف .

36 - ملحمة الشيخ عبد المنعم الفرطوسي .

ص: 308

الفهرست

الموضوع الصفحة

المقدمة ...7

نبذة مختصرة عن حياة المؤلف... 7

نسبه ... 13

ولادته ... 16

نشأته العلمية ...16

مؤلفاته وآثاره العلمية ... 23

محفوظاته وخطاباته الحسينية ... 25

خطاباته الحسينية ... 30

ففي العاصمة ... 31

محفوظاته الحسينية ... 32

سخائه و کرمه ... 33

تعريف العلم وبعض أقسامه ... 3

علم الإمام الحضوري ... 46

علم الإمام اللدني ... 47

ص: 309

علم الجفر ... 48

الأئمة وعلم الحديث ... 49

الأئمة وعلم الغيب ... 49

القرآن الكريم يقول بفضل العلم... 53

الأخبار المعصومية الناطقة بفضل العلم... 61

نوادر تدل على عظمة العلم ... 77

القرآن الكريم ينطق بفضل العالم ... 103

الأخبار المعصومية الناطقة بفضل العالم... 117

مقالات متفرقة تدل على فضل العالم ... 137

حالات بعض العلماء ومؤلفاتهم ... 181

الصفات الفاضلة للعالم ... 193

التواضع ... 195

الحلم ... 197

الصبر ... 201

زهد ... 203

الصفات الذميمة ليست خلق العالم... 223

الحسد ...225

الاستبداد بالرأي ... 227

التكلف ... 228

العزلة ... 228

الغرور ... 231

الحرص ... 235

ص: 310

المداهنة ... 235

العنف ... 236

صفات العالم الفقيه ... 241

للعالم الفقيه الولاية العامة... 277

مصادر الكتاب ...307

* * *

ص: 311

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.