قواعد في بناء الشباب (نحو تربية رسالية وأخلاقية للشباب)

هویة الکتاب

قواعد في بناء الشباب (نحو تربية رسالية وأخلاقية للشباب)

من خطب سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الشريف)

دارالصادقین للطباعة والنشر والتوزیع

الطبعة : الأولی

السنة : 1434 ه - 2013 م

جمیع الحقوق محفوظة للناشر

دارالصادقین

للطباعة والنشر والتوزیع

النجف الاشرف / شارع الرسول صلی الله علیه و آله

07808289364

ص: 1

اشارة

قواعد في بناء الشباب

(نحو تربية رسالية وأخلاقية للشباب)

من خطب سماحة المرجع الديني

الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الشريف)

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

مقدمة عن الشباب

اشارة

ص: 5

ص: 6

مقدمة عن الشباب:

أهمية الشباب:

الشباب وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: (أوصيكم بالشباب خيراً؛ فإنهم أرقُّ أفئدة وأنقى نفوساً)، لأنهم مازالوا قريبين إلى الفطرة لم تلوثهم الذنوب كثيراً، ولم تضغط عليهم الأعراف والتقاليد الاجتماعية والبيئة المنحرفة.

والشباب: المحرك الرئيسي لحياة الأمة والدم الذي يجري في عروقها.

والشباب: يعني الطاقة والحيوية والحماس والاندفاع والتفاعل والعاطفة والحب والمودة والصدق والإخلاص والتواضع، كل هذه الخصال الحميدة تجدها عند الشباب، لذا تجدالاستجابة الفعالة للدعوات الإصلاحية –كرسالة الإسلام أكثر ما تكون بين الشباب.

لماذا نخسر شبابنا؟

فأين الخلل إذن حين نخسر شبابنا، فيقعون فريسة الانحراف والانحلال والتبعية للغرب، أو يضيعون أعمارهم في اللهو والعبث والهوايات الفارغة؟! هذا العمر الثمين الذي نستطيع أن نكتسب في كل ساعة، بل في كل دقيقة منه

ص: 7

كمالاً، لماذا يضيع؟ فإن الشباب له القدرة والإرادة على أن يفعل ما يعزم عليه، فإذا ذهب شبابه فإن إرادته ستضعف وهمته ستذوب، والنتيجة هي الضياع!

موعظة للشباب:

أما تحب أن تكون ممن يباهي الله تعالى بك ملائكته، فقد جاء في الحديث: إن الله يباهي ملائكته بالشاب الذي نشأ في طاعة الله تبارك وتعالى. وقد يغريك بعضهم بأن الشباب مخصص للعب واللهو وبعد انقضائه نتوب! لا يا حبيبي، ما خلقنا للهو والعبث، بل للجد والعمل، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ» (الانشقاق:6).

ثم هل يعرف الموت صغيراً وكبيراً حتى تضمن أنك باقٍ إلى حين التوبة؟ وضرب لذلك مثال في الموعظة: لو أنككنت متعلقاً بحبل ومدلّى في بئر عميق، وفي قعر البئر أفعى عظيمة تنتظر سقوطك لتفترسك، ويوجد جرذان يقرضان في أعلى الحبل ويوشك أن ينقطع فتسقط في فم الأفعى، ماذا سيكون عملك؟ هل اللهو والعبث والغفلة أم يتركز تفكيرك على كيفية النجاة قبل انقراض الحبل؟ هذا المثال المرعب هو حقيقة حياتنا، فالحبل هو حبل العمر الذي يتصرم يوماً بعد يوم، والجرذان هما الليل والنهار اللذان يبليان العمر، والأفعى هو الموت الذي يلتهم كل البشر، فلا تغرّنّكم أيها الشباب هذه الدنيا التي تضحك لكم ويزينها لكم الشيطان، ولا تدفعكم النفس الأمارة بالسوء إلى اتباع الشهوات، قال تعالى: «وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا» (النساء:27).

ص: 8

في مقابل ذلك تقول الروايات –كما عن رسول الله (صلی الله علیه و آله):(إن الله تعالى يباهي بالشابّ العابد الملائكة، يقول: أنظروا الى عبدي! ترك شهوته من أجلي)(1).

عودوا الى الله تعالى:

وما الذي يضرّ الشابّ لو عاد إلى الله تعالى والتزم بطاعته وترك معاصيه؟ إنه لا يخسر؛ لأن الله لم يحرّم عليه شيئاً من الطيبات أو اللذات وكل ما يريد منه تنظيم حياته وضبط شهواته في الإطار الصحيح لتكون حياته مستقرة وسعيدة ليس فيها اعتداء وتجاوز على حقوق الآخرين، وليسفيها ظلم لنفسه التي هي أعزّ شيء عنده فكيف يعمل على إيذائها بعمل المعاصي والاستجابة لشهواتها التي ترديه في المهالك؟

سعة الرحمة الإلهية:

وعن أبي جعفر (عليه السلام): (إن الله تعالى أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضل راحلته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها، فالله أشد فرحاً بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها)(2).

إن رحمة الله وسعت كل شيء، ولتقريب سعتها اُنظر إلى رحمة الأم بولدها كيف تتحمل الجوع والأذى والسهر وربما الموت من أجل سعادة ولدها،

ص: 9


1- كنز العمال: 43057.
2- البحار: ج6 ص40.

وفي بعض القصص أن أصحاب الأخدود لما عرضوا على النار ليحرقوا بها، عمدت أحد الأمهات فقطعت ثدييها وأعطتها لولدها ليجعله تحت قدميه خشية أن تكوى بالنار، وفي طوفان نوح (عليه السلام) حملت إحدى الأمهات ولدها والماء يعلو شيئاً فشيئاً حتى أخذها وغرقت، فرفعت يديها إلى الأعلى وحملت ولدها، وهذه هي رحمة المخلوقين وهي جزء من مائة جزء من رحمة الله وزّعت على المخلوقات من إنسان وحيوان بها يتراحمون، فما مدى سعة رحمة الله تعالى؟

عوامل الانحراف:

أنا لا أصبّ اللوم على الشاب وحده إذا انحرف أو أساء التصرف، وإنما هناك عوامل كثيرة آدت إلى ذلك (منها):

1 جهل المربّين وأولياء الأمور بالأساليب الصحيحة للتربية وضغطهم على الأبناء ليعيشوا الحياة التي يعيشونها هم، وهو تصرف غير صحيح ونهى عنه الإمام (عليه السلام)، وفسر ذلك بأنهم (خلقوا لزمان غير زمانكم)(1).

2 غياب القدوة الحسنة(2) التي يتأسى بها، وعلى النقيض من ذلك فإنه يوجد المثل السيئ الذي يعكسه عناصر الاقتداء للناشئ، كالأب والأم

ص: 10


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 20/267.
2- راجع محاضرة (حاجتنا إلى الأسوة الحسنة) التي ألقيت بمناسبة ذكرى ميلاد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عام 1423. وطبعت في كتاب الأسوة الحسنة.

والمعلم في حياته، فإذا كانت القدوة سيئة فماذا نتوقع من المقتدى؟ فهم ينهونه عن تصرف ويفعلونه أو يأمرونه بفعل ويخالفونه، لذا نصحت الأحاديث كل من يؤدب غيره ويعظه أن يؤدب نفسه ويعظها أولاً.

3 البيئة الفاسدة التي تحيط بالناشئ، وهو لخلوه من التجربة وعدم نضجه يحاول أن ينفتح على أصدقائه ليأخذ منهم الحلول لمشاكله وهمومه في غياب العلاقة الودية المبنية على الصراحة والثقة بين الولد وأبيه.

انتشار وسائل الإفساد وإحاطتها به في مقابل غياب صوت الحق أو ضعفه وصعوبة إيصال صوته، فأغلب المساجد خالية من أئمة الجماعات وليس فيها1 خطب أو محاضرات أو حوارات، ونحو ذلك من الصعوبات.

2 عدم وعي بعض المتصدين للإصلاح والإرشاد وقلة خبرتهم باتخاذ المواقف الصحيحة التي تتناسب مع الفرد والبيئة والخلفيات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والنفسية.

نحو جيل مسلم:

ونحن بحمد الله تعالى نمتلك تراثاً ضخماً خلّفه المعصومون (عليهم السلام) يعالج كل هذه المشاكل، ويواجه كل هذه التحديات، ويخلق جيلاً واعياً خلوقاً ملتزماً هادفاً يحقق السعادة والرفاه والاستقرار لنفسه ولمجتمعه، وقد حفلت كتب التربية الإسلامية بهذه الحلول، وذكرتُ بعضها في عدد من كتبي ك(فقه الجامعات) و(فقه العائلة) و(ظواهر اجتماعية منحرفة)، وسأحاول بإذن الله تعالى أن أتناول بالتفصيل مشاكلهم وهمومهم وطموحاتهم عندما يوفقني الله

ص: 11

تعالى، عسى أن تتكلل جهودنا بالنجاح ونوفر جيلاً مسلماً صادقاً كما ينتظره الإمام الموعود من المطالبين بالخلاص من الظلم على يديه وإقامة العدل في أنحاء المعمورة بإذن الله تعالى.

ص: 12

دراسة واقع الشباب وكيفية النهوض به

دراسة واقع الشباب وكيفية النهوض به (1)

وزارة الشباب:

الشباب محل عناية كل القادة والمصلحين والمربين وعلى رأسهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد روي عنه (أوصيكم بالشباب خيراً فإنهم ارقُّ أفئدة) وهذه العناية الخاصة بهم لأنهم قلب الأمة الذي تتدفق منهم الحياة في جسدهافتجد عندهم الحماس والحيوية والاندفاع والصدق والإخلاص والشجاعة، وهم طاقة عظيمة إن أحسنت القيادة توجيهها وتوظيفها في اتجاه الخير كانوا ثروة هائلة في جميع ميادين الحياة لذا جعلت الحكومات وزارة خاصة ترعى شؤونهم.

ولكن هذه الوزارة كانت في بلدنا خلال العقود الماضية عديمة الفاعلية واضمحلت أنشطة الشباب وإبداعاتهم التي كانت تنميها مراكز الشباب ومديرية الرعاية العلمية إلى حدود منتصف السبعينات، وتراجع المستوى العلمي للطلبة بشكل مرعب ومثير للقلق على مستقبل هذا البلد، وأعتقد أن القصور ليس

ص: 13


1- لكلمة التي ألقاها سماحته على جموع أهل البصرة الذين وفدوا لمبايعته وإعلان الولاء له يوم الثلاثاء 23 ربيع الثاني 1424 المصادف 2003/6/23.

فيهم لأن الشباب العراقي مشهود لهم بالذكاء والتفوق والقابلية على الإبداع، وإنما التقصير من الجهات المسؤولة في توفير وسائل وأسباب الرقي العلمي وظروفه.

معاناة الشباب:

وعلى العكس فقد سيقوا إلى حروب وصراعات وفتن داخلية وخارجية لا هدف من ورائها إلا اتباع الشهوات والمطامع النفسية الدنيئة، فخسرنا خلال عقدين أكثر من مليون شاب ماتوا بلا فائدة، كان يمكن للحياة أن تزدهر بهم ولو كانوا بيننا الآن ونفترض أن كلا منهم ينجب أربعة من الأبناء لازدادت أمتنا خمسة ملايين إنسان يساهم في بناء المجتمع هذا غير أربعة ملايين من الطاقات الكفوءة والعاملة الذين تركوا البلاد للنجاة بأنفسهم أو لتوفير لقمة العيش. أما التدني في المستوى الثقافي والاجتماعي والاقتصادي فقد بلغ حد الكارثة.وكانت للمرأة الحصة الأوفر من الحرمان والاضطهاد والضياع والظلم والكبت، فنشأت مشاكل حقيقية في المجتمع كان يمكن أن تفتك بالأمة وتندثر لكنها بقيت محافظة على هويتها بفضل الله تعالى وببركة بقيةٍ من أخلاق ودين ورجال مخلصين مسكت بالمجتمع وحفظته من البوار.

كيف ننهض بالشباب؟

هذه إشارة بسيطة للتركة الثقيلة التي ورثناها فكيف ننهض بها ونعيد هذه الشريحة الحبيبة إلى موقعها المناسب من جسد الأمة خصوصاً ونحن نتطلع إلى

ص: 14

مستقبل زاهر لبلدنا ؟ إننا بحاجة أن ننهض كرجل واحد ونلتقي ونتشاور ونتبادل الآراء، وما مؤتمركم المبارك هذا إلا خطوة على هذا الطريق وهي خطوة مباركة حقاً تدل على وعي القائمين على هذا القطاع الحيوي المهم وصدقهم وإخلاصهم في تحمل المسؤولية الملقاة على عاتقهم، ومن حين علمي بالنية لعقد المؤتمر فقد حرصت على المشاركة فيه من خلال وفد يضم كفاءات متنوعة.

إعطاء الفرصة للمخلصين:

إن أول عمل نقوم به هو إعطاء الفرصة لكل المخلصين وذوي النظر في أن يقدمّوا رؤيتهم لمشاكل الشباب وتقييم واقعهم، ومن ثم التفكير في وضع آليات الحلول وتنفيذها مندون كلل أو ملل أو تقصير، وإن هذا المؤتمر الكريم فرصة حقيقية لتبادل الأفكار.

المشاكل التي تحيط بالشباب:

وأرجو أن تنبثق عن المؤتمر لجان متخصصة بحسب تصنيف المشاكل، فهناك مشاكل أخلاقية واجتماعية واقتصادية وعلمية وسياسية وغيرها والتي أشير إلى بعض عناوينها باختصار(1):

ص: 15


1- يدرج سماحة الشيخ (دام ظله) هنا العديد من المشاكل التي تعتري الشباب اليوم والحلول الناجعة لها، ونلفت النظر الى أن هذا الكتاب سيجيب عن كثير من هذه التفاصيل التي ذكرت في هذا الخطاب باختصار.

التحديات هي الأخلاقية

وأولى هذه التحديات هي الأخلاقية فقد بدأ الفساد والانحراف بالانتشار من خلال الوسائل الإعلامية المتنوعة، والبدء باستعمال المخدرات والإدمان عليها والتي هي منشأ لكثير من الجريمة والفساد، كما أن وجود الغزاة الأجانب في أوساط المجتمع بما اعتادوا عليه من حياة حيوانية منفلتة من القيم والأخلاق يعتبر تحدياً أخلاقياً وعاملاً مساعداً على تشجيع الانحلال الخلقي وهم يوزعون بسخاء المجلات والصورالمنافية للحياء والعفة والشرف والدين، وعليه نلخص المشاكل الأخلاقية بالنقاط التالية:

1 الانبهار بالغرب وتقليده في الملبس وقصّة الشعر ولبس القلادة والسوار ونحوها.

2 عدم الالتزام بالآداب العامة كالخروج ب(الشورت) في الشوارع العامة والتخنث بالنسبة للرجال ولبس الملابس الخليعة للنساء.

3 ضياع الهوية العربية الإسلامية ومسخ شخصيتها الأصيلة وانهيار القيم.

4 الانحلال الخلقي وانتشار الفساد والانحراف وعمل المعاصي.

علاج المشاكل الأخلاقية:

وتعالج مثل هذه المشاكل بحملات التوعية والإرشاد والتوجيه من خلال النشرات والمحاضرات وإقامة الندوات وسائر البرامج الإصلاحية المناسبة ويتصدى لها علماء الدين والمثقفون والمربّون والأساتذة.

ص: 16

المشاكل الاجتماعية:

وثانيها التحديات الاجتماعية: فإن تعقيد الحياة التي يخططون لها، ودمج العراق في نظام العالم الجديد سيضيّع في دوامته الكثير من العلاقات الاجتماعية والتقاليد والأعراف الحميدة التي بني عليها مجتمعنا المسلم، وستبنى العلاقات على الأسسالمادية والمصالح ومقدار النفع الحاصل، وليس على الأسس الإسلامية والإنسانية فلا يبقى من وجهة نظرهم معنى لصلة الرحم أو لزيارة المؤمنين أو قضاء حوائجهم لأنه لا مصالح لهم توجد فيها. كما أن المجتمع يعاني من التمزق والتشتت الذي يضعفه ويذهب بقوته ويشغله بأمور هامشية وقد حصل هذا التفرق إما للخلاف في أمور دينية أو تحزّبات سياسية أو عرقية أو عشائرية ونحوها. ونلخص المشاكل الاجتماعية بالنقاط التالية:

1 التفكك الأسري والمشاكل العائلية وكثرة حالات الطلاق.

2 انتشار تجارة المخدرات وتناولها والشذوذ الجنسي ووسائل تدمير المجتمع.

3 كثرة العنوسة وعزوف الشباب عن الزواج بسبب غلاء المهور وغيرها مما ذكرت في كتابي (الزواج والمشكلة الجنسية).

ص: 17

المشاكل العقائدية:

وثالثها: المشاكل العقائدية: فإن

الانفتاح المزعوم سيجلب معه الكثير من التشكيكات والشبهات التي تحاول خلخلة العقيدة في عقل المسلم وتشوش فكره وتجعله أسير الأوهام والشكوك.

رابعاً: المشاكل العلمية والثقافية:1 تدني مستوى الطلبة في جميع مستويات الدراسة ولم يعد الطالب بمستوى المرحلة التي هو فيها وانتشار الغش في الامتحانات.

2 عزوف الصبيان والشباب عن الالتحاق بالمدارس والجامعات تحت ذرائع شتى كعدم الفائدة من الشهادات ونحوها.

3 عدم وجود مراكز للرعاية العلمية وتنمية الكفاءات وتطوير المهارات والتدريب على وسائل التقنية الحديثة.

4 ظاهرة التسطيح الفكري وانهماك الشباب في القضايا القشرية كإمضاء الساعات الكثيرة في مشاهدة برامج التلفزيون والرياضة والتسكع في الشوارع والألعاب الفارغة.

علاج المشاكل العلمية والثقافية:

وتعالج ب :

ص: 18

1 القيام بحملات توعية لأهمية العلم والمعرفة ودورهما في تقدم الأمم وازدهارها وتذكيرهم بسيادة امتنا للعالم كله حين اهتمت بالعلم والأخلاق والثقافة وأسست أعظم حضارة في تاريخ الإنسانية.1 الاعتناء بالمدارس وتعيين الإدارات من ذوي الكفاءات والأخلاق، وتزويدها بوسائل التعليم المتقدمة.

2 إصلاح حال الجامعات وكليات التربية والآداب وغيرها التي تجهّز المجتمع بالمدرسين ولا بد أن يكونوا عارفين بعظمة مسؤوليتهم.

3 فتح مراكز للرعاية العلمية وتعليم الشباب كيفية التعامل مع التطور العلمي والتكنولوجي المتصاعد في عالم اليوم.

المشاكل السياسية:

وخامساً: السياسية،

فأننا نعيش حالة (احتلال) بكل ما تعنيه الكلمة من الذل والصغار وسلب الإرادة وعدم الاستقرار، وهم وإن ادعوا أنهم جاءوا لتحرير الشعب العراقي ومساعدته على التخلص من الظلم والاستبداد، والشعب فعلاً محتاج إلى من يمد له يد المساعدة ليسترد عافيته إلا أن فعل قوى الاحتلال يخالف ذلك، ومن تلك التحديات أن البلد يعاني من فراغ سياسي وغياب الدولة والسلطة والقانون وفقدان الأمن والاستقرار وعدم وجود مؤسسات لإدارة شؤون البلد وصعوبات حياتية أخرى، وكلما يحاول الشعب أن يحل هذه الإشكاليات ويضع صيغة لإدارة نفسه بنفسه، فإن الأمريكان يعرقلونها ويؤجلونها ليبقى المبرر لوجودهم، وليستمروا في نهب

ص: 19

ثروات الشعب المسكين، أو يعينوا إدارات عميلة خاضعة للأجنبي وربما مرتبطة بالنظام السابق ومتورطة في ظلم الناس.

المشاكل الاقتصادية:

وسادمساً: الاقتصادية، فإن المجتمع ما زال يعاني منذ ثلاث عشرة سنة من الفقر والجوع والمرض والحرمان حتى من أبسط حقوقه في الحياة وفرص العمل وهذه الطبقة المحرومة هي أولى من ينظر إليه في المرحلة الجديدة. ونلخصها بنقاط:

1 قلة فرص العمل والتصاعد الفظيع لنسبة العاطلين عن العمل.

2 عدم وجود خطة مركزية لدى الوزارات المعنية لتوظيف خريجي الجامعات والمعاهد.

3 افتقار أكثر أبناء المجتمع لأبسط رأس مال يمكنه به تشغيل أي مشروع للكسب.

4 ركود عجلة الاقتصاد والصناعة الوطنية واضمحلال الكثير من مشاريع العمل بسبب منافسة البضائع المستوردة وعدم دعم الدولة لمشاريع القطاع الخاص باستيراد المواد الأولية ونحوها مما حدَّد أنماط العمل وحصرها في صيغ معينة.

ص: 20

علاج المشاكل الاقتصادية:

وتعالج ب :1 إنشاء صناديق تسليف للشباب الراغبين في فتح مشاريع للعمل بعد الاقتناع بجدوى المشروع وأخذ الضمانات عليه.

2 تأسيس شركات مساهمة أو بنوك مختلطة لاستيعاب رؤوس الأموال البسيطة المتوفرة لدى المواطنين والتي لا تفي لوحدها بشيء إلا أن انضمامها إلى بعضها يجعل لها قدرة على المنافسة.

3 إنشاء لجنة توزيع مركزي تشترك فيها عدة وزارات لتعيين حملة الشهادات.

4 تشجيع الصناعة الوطنية وتوفير فرص إنجاحها ودعمها.

المشاكل السكانية:

وسابعاً: السكانية، أو ما يسمى الديمغرافية حيث نقل كثيرون عن وجود عملية منظمة لشراء العقارات وإنشاء المؤسسات من قبل الأجانب وإسكانهم مما يؤدي إلى تغيير التركيبة السكانية، وقيل إن اليهود مهتمون بهذا الأمر وبدأت لهم وجودات علنية على الأرض من خلال مستشفى وفندق في بغداد، وربما سيصل الحال بشعبنا أن يكون مشرداً ولاجئاً يبحث عن أرض تؤويه بعد أن فرط بأرضه المباركة بثمن بخس مهما كان مقداره كبيراً في نظر أهل

ص: 21

الدنيا، لذا كانت فتاوى العلماء واضحة وصريحة بحرمة عملية البيع هذه وإنها من الكبائر.

هذه مجرد إشارات لبعض ما تعانيه هذه الشريحة المهمة وما يمكن أن تكون حلولاً ومعالجات لها، وقد تناولتها بتفاصيل أكثرفي عدة كتب مثل (الحوزة وقضايا الشباب)، (فقه الجامعات)، (شباب في مقبرة الجنس)، (كونوا أحراراً)، (الزواج والمشكلة الجنسية)، (المشاكل العائلية : أسباب وعلاج) و(خطاب المرحلة) وغيرها.

أدعو الله تبارك وتعالى أن يسدد خطى مؤتمركم وان يكون حجر الأساس لنهضة شاملة مباركة لإعادة حقوق هذه الشريحة والمسح على جروحها وتخفيف آلامها وإعادة البسمة إليها.

«وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» (التوبة: 105).

ص: 22

الفصل الأول: توجيهات أخلاقية للشباب

اشارة

ص: 23

ص: 24

قواعد بناء المستقبل المعنوي للشباب

قواعد بناء المستقبل المعنوي للشباب(1)

أسسوا لمستقبلكم المعنوي:

إن الناس خصوصاً الشباب يهتمون عادة ببناء مستقبلهم في هذه الدنيا لضمان حياة كريمة سعيدة لائقة فيسعون لإكمال دراستهم وتحصيل مهنة مناسبة وزوجة صالحة ودار فارهة وسيارة مريحة ونحوها، وهو حق مشروع كفله الله تعالى لكل إنسان لأنه أكرم مخلوق «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ...» (الإسراء:70) وضمن له كل ما يحقق له الحياة الكريمة، وهي صفة الدولة الموعودة على يد الإمام المهدي (عج الله تعالى فرجه الشريف) (اللهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة)(2).

هذا كله واضح والذي نريد أن نؤسس له في حديثنا هذا هو أنه على الإنسان أن يلتفت إلى وجوب ضم التفكير في إعمار مستقبله المعنوي لتضمين الحياة الكريمة في الآخرة.

ص: 25


1- من حديث سماحة الشيخ (دام ظله) مع حشد من طلبة الجامعات في بغداد يوم الأربعاء 22/ع1/ 1433 المصادف 2012/2/15.
2- مصباح المتهجد: ص581.

أدوات البناء المعنوي:

وهذا البناء له أدوات نظرية وعملية، أي معرفية وتطبيقية، وحديثنا اليوم في الأولى من خلال وضع أُطر و محددات وقواعد تضبط بوصلة حياته وسلوكه العملي، وهذه الأطر والقواعد العامة تُؤخذ من القرآن الكريم والسنة الشريفةوالأدعية المباركة وكلمات الحكمة الصادرة من العلماء والعارفين.

القاعدة الأولى:

إن أول آية في القرآن الكريم وهي «بِسمِ اللهِ الرَحمَنِ الرَحِيمِ» هي أول هذه القواعد تتعلم منها أن تفتتح كل أعمالك ومشاريعك وخطواتك باسم الله تعالى ليكون عملك مباركاً، وفي سبيل الله تعالى حتى يكون صالحاً مقبولاً منتجاً، لذا ورد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): (كُلُّ أمْر ذِي بَال لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ اسْمُ اللهِ فَهُوَ أَبْتَرُ)(1) منقوص لا يحقق أهدافه المرجوّة. فإذا أردت أن تبدأ الطعام فافتتح بالبسملة، وإذا أردت الانطلاق من دارك إلى عملك أو أي شيء آخر فابدأ بالبسملة، وإذا تحركت بالسيارة فابتدأ بالبسملة وهكذا لتكون في رعاية الله تعالى ولطفه وتأييده، وقد ورد في كل ذلك روايات شريفة فراجعها.

القاعدة الثانية:

والآية الثانية بعد البسملة «الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ» قاعدة أخرى، أن الحمد والثناء فعلاً وحقيقة هو لله تبارك وتعالى لأنه مسبب الأسباب ومدبّر

ص: 26


1- بحار الأنوار، ج 16، باب 58. نقلا عن تفسير البيان، ج 1، ص 461.

الأمور وهو الذي يجري الأمور على يد من يشاء من خلقه، فالحمد والشكر له تبارك وتعالى، فمن الخطأ الشائع أن يقول البعض (لولا فلان لما قضي ليالأمر الفلاني ولما حصل الشيء الكذائي) لأن الله تعالى هو السبب، وهؤلاء المخلوقون وسائط لإنفاذ التقدير الإلهي، وينبغي شكرهم لما ورد في الحديث عن الإمام الرضا (عليه السلام): (من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر الله عز وجل)(1)

ولتشجيع سبيل المعروف، لكن في ضمن شكر الله تعالى، وليس على نحو الاستقلالية فقد عُدَّ هذا في بعض الأحاديث من أقسام الشرك الخفي.

فالله تعالى هو الذي أجرى الأمور وفق هذه السنن الطبيعية فالالتفات إليها من دون الله تعالى هو نصف الحقيقة، وتمام الحقيقة أن الله تعالى هو المحرّك الأول وهو المخطّط الأول وهو المدبّر الأول.

القاعدة الثالثة:

وقوله تعالى «إيَّاكَ نَعبُدُ وَإيَّاكَ نَستَعِينُ» قاعدة أخرى، فلا عبادة ولا طاعة إلا لله تبارك وتعالى، ولا نطيع أحداً سواه إلا إذا كانت طاعته من طاعة الله ي معرفية وتطبيعيقيةتبارك وتعالى، قال تعالى في الوالدين «وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا» (العنكبوت:8)، فلا انسياق وراء الشيطان ولا وراء الشهوات ولا وراء التقاليد والأعراف البالية ولا وراء الأيدلوجيات والأجندات البعيدة عن الله تعالى، ولا طاعة لمن يحكم بغير ما أنزل الله تعالى ومن دون

ص: 27


1- عيون أخبار الرضا: ج2 ص24.

الرجوع إلى شريعة الله تبارك وتعالى سواء كانوا قادة سياسيين أو زعماء عشائر أو وجهاء مجتمع أو حتى قادة متلبسين بالدين فإنهمجميعاً أئمة ضلال «يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ» (هود: 98).

فأنت أيها الموظف إذا دعاك مدير دائرتك إلى إنجاز عمل فيه فساد وهدر لأموال الشعب فلا تطعه، وأنت أيها الطالب الجامعي وغيره إذا دعتك فتاة إلى علاقة غير شرعية فأرفضها، وأنتِ أيتها المرأة إذا أمركِ زوجكِ بخلع الحجاب أمام الأجانب فأعصيه، وهكذا.

ولا استعانة إلا بالله تعالى لأن بيده أزمّة الأمور وهو المدبّر الحقيقي فالاستعانة بغيره لجوء إلى العاجز الذي لا يملك لنفسه شيئاً إلا ضمن السوائل الطبيعية التي جعلها الله تعالى، فحينما يمرض الإنسان يذهب إلى الطبيب للمعالجة ولكن مع الاعتقاد الجازم بأن الله تعالى هو مسبّب الأسباب وهو الطبيب الحقيقي، فإنه هو خلق المواد التي يُصنع منها الدواء وأعطاها القدرة على المعالجة، وهو الذي جعل الجسم يبدي أعراضاً تساعد الطبيب على تشخيص المرض بدقة، وجعل الجسم يتفاعل مع الطبيب، وأودع في الإنسان القدرات الذهنية التي تمكنه من أن يصبح طبيباً وهكذا فمفاتيح الأمور بيده تبارك وتعالى.

ص: 28

القاعدة الرابعة:

وقوله تعالى «وَتَزَوَّدُواْ فإن خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى» (البقرة:197) تؤسس قاعدة أخرى، فأمامنا رحلة طويلة إلى العالم الآخر الذي نجهل كل شيء عنه، والمسافر يحتاج أنيهيئ مقدمات السفر ولوازمه في هذه الدنيا مع انه سفر قصير معلوم يمكن تلافي أي نقص فيه ولو بمساعدة الآخرين، أما سفر الآخرة فهو حياة دائمة ينشغل فيها كل إنسان عن أمه وأبيه وبنيه وكل متعلقاته، فمن الذي يُعلمنا بما يجب أن نتزود به لهذا السفر؟ إنه الله تبارك وتعالى العالم بحقائق الأمور، فيخبرنا بصدق رحمة بنا أن «خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ» (البقرة:197).

القاعدة الخامسة:

وقوله تعالى «إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ» (البقرة:156) قاعدة أخرى تعلمك أن لا تأسى على شيء يفوتك ولا تبخل بشيء يريده الله تعالى منك حتى نفسك في الجهاد ومالك في دفع الحقوق الشرعية لأنك بالنتيجة أنت وكل ما هو لك يرجع إلى الله تعالى ولا تملك شيئاً من ذلك ولا يبقى لك شيء منه.

ص: 29

الصلاة والتحصين من الأمراض المعنوية

الصلاة والتحصين من الأمراض المعنوية(1)

شكوى الشباب:

كثيراً ما ألتقي بوفود الشباب وطلبة الجامعات وأستمع إلى أسئلتهم وهمومهم ومشاكلهم، والسؤال الأكثر تردداً هو: كيف نستطيع مقاومة المغريات والشهوات وأساليب الإفساد وهم يعيشون في بيئة مليئة باسباب الفتنة والإغراء متزامنة مع فورة الشباب وعنفوان القوى وهيجان العواطف.

وفي الحقيقة فإنّ المشكلة لا تختص بالشباب، فإنّه مادام الإنسان في هذه الدنيا فهو مبتلى بالإغراءات والشهوات والفتن ويخوض (جهاداً أكبر) لمواجهتها كما سمّاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث المشهور(2)، ويعزّز قوة هذه الضغوط الميل العارم للنفس الأمّارة بالسوء نحو الاستجابة لها، مع تزيين الشيطان لها (إلهي إليك أشكو نفساً بالسوء أمّارة وإلى الخطيئة مبادرة وبمعاصيك

ص: 30


1- الكلمة التي تحدّث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) من خلال شاشة قناة النعيم إلى الآلاف من طلبة الجامعات والمعاهد العراقية المشاركين في فعاليات ومواكب الوعي الفاطمي مساء السبت 2/ج2/1434 الموافق 2013/4/13.
2- معاني الأخبار : ص160

مولعة) (إلهي أشكو إليك عدواً يضلني وشيطاناً يغويني.. يعاضد لي الهوى ويزيّن لي حب الدنيا)(1).

الصلاة وسيلة للتحصين:

والإنسان في هذه المواجهة يحتاج إلى معونة ومناعة وتحصين كالتطعيم الصحي ضد الأوبئة والأمراض الجسدية، وهذه المعونة يحتاجها الإنسان قبل التعرض للامتحان وأثناءه وبعده، فما هي الوسيلة لتحصيل هذه المعونة والتطعيم والتحصين؟ والجواب بكلمة واحدة إنّها (الصلاة)، ومن دلائل عظمة الصلاة إنها هي هذه الوسيلة التي توفر الحصانة والمناعة في جميع تلك المراحل المترتّبة في الفضل والسمو، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (عباد الله، إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلىالله جل ذكره: الإيمان بالله وبرسله وما جاءت به من عند الله،... وإقامة الصلاة فإنها الملة)(2).

الحماية من المعاصي:

ولبيان ذلك نقول أما قبل الامتحان فيحتاج الإنسان إلى اللطف الإلهي والعناية الإلهية لتحميه من الابتلاء بالمعاصي أصلاً، أو حمايته منها عند عروضها عليه حيث يبصّره الله تعالى بحقائق تلك المعاصي المنفرّة الموجبة للاشمئزاز والتقزّز

ص: 31


1- من مناجاة الشاكين للإمام السجاد (عليه السلام).
2- نهج البلاغة: الخطبة: 110.

وليس الاقبال والرغبة، وهذا ما توفره الصلاة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (الصلاة تستنزل الرحمة)(1) وعنه (عليه السلام): (ما دمت في الصلاة فإنك تقرع باب الملك الجبار ومن يُكثِر قرع باب الملك يُفتَح له)(2) وعنه (عليه السلام) (إذا قام الرجل إلى الصلاة أقبل إبليس ينظر إليه حسدا، لما يرى من رحمة الله التي تغشاه)(3)، وعنه (عليه السلام): (لو يعلم المصلي ما يغشاه من جلال الله ما سره أن يرفع رأسه من سجوده).(4)

ومن تغشته رحمه الله وأحاط به جلاله فهو في أمن وأمان وحصن وثيق من الوقوع في شراك إبليس، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ الصلاة قربان المؤمن) وكلما اقترب الإنسان من ربّه ابتعد عن الشيطان وموجبات الوقوع فيالمعصية، وإذا وُفِّق الإنسان إلى هذه المرحلة فهي الأكمل والأسمى والأعظم عند الله تعالى حينما لا يجد في نفسه أي ميل للمعصية ولا رغبة له فيها، وبالتالي فهو لا يجد أي مشكلة في اجتنابها.

ص: 32


1- الأحاديث المذكورة هنا نقلها عن مصادرها في جامع أحاديث الشيعة: 4/29 وما بعدها، وفي ميزان الحكمة: 5/107 135.
2- السابق.
3- السابق.
4- السابق.

الثمرة الأبرز لإقامة الصلاة:

وفي المرحلة الثانية أي عند الابتلاء بما يوجب المعصية وحينما يكون بين خيارين أحدهما كبح جماحِ النفس والفوز بطاعة الله، وثانيهما الانسياق وراء الشهوة والوقوع في المعصية، وهنا يأتي دور الصلاة في زيادة مناعته وتحصينه من الوقوع في المعصية بل أن الثمرة الأبرز لإقامة الصلاة هي هذه، قال تعالى (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) (العنكبوت/45)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (اعلم أن الصلاة حُجزةُ الله في الأرض، فمن أحبّ أن يعلمَ ما أدركَ من نفعِ صلاته، فلينظر: فإن كانت حَجَزَتهُ عن الفواحش والمنكر فإنما أدرك من نفعها بقدرِ ما احتجزَ).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) (الصلاة حصن من سطوات الشيطان)، وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله (لا يزال الشيطان ذعراً من المؤمن هائباً له ما حافظ على الصلوات الخمس، فإذا ضيّعهن اجترأ عليه)، وهذه المرحلة وإن كانت أقل درجة من سابقتها لأن الإنسان يجتنب المعصية بمعاناة ومشقّة وجهاد، إلاّ انها مرحلة عظيمة أيضاً.

الصلاة حبل النجاة:

أما في المرحلة الثالثة: وهي ما بعد الفعل ونفترض أن العبد لم يستفد من بركات صلاته مما أدى إلى سقوطه في الخطأ لسبب أو لآخر فإن الصلاة هي التي تمدّ حبل النجاة لإنقاذه على نحوين:

ص: 33

أولهما: إعادته إلى الحالة الصحيحة وتطعيمه من جديد ضد الانحراف والمعصية وزيادة مناعته بجرعة أكبر، روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال --- في رجلٍ يُصلّي معه ويرتكبُ الفواحش: (إنّ صلاته تنهاهُ يوماً ما، فلم يلبث أن تابَ)، وعنه (صلى الله عليه وآله) قال -- في رجل يُصلّي بالنهار ويسرقُ بالليل: (إنّ صلاته لتردعهُ).

ثانيهما: إنها تكفّر الإثم الذي ارتكبه وتبيّض صفحته التي اسودّت بفعل المعصية وتمنحه فرصة التكامل من جديد، روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه أخذ غصناً من شجرة كانوا في ظلّها فنفضه فتساقط ورقهُ ثم فسّر لأصحابه ما صنع فقال: (إن العبد المسلم إذا قام إلى الصلاة تحاتّت عنه خطاياه كما تحاتَت ورقُ هذه الشجرة).

وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول أرجى آية في كتاب الله (َأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ) هود114، وقال يا علي والذي بعثني بالحق بشيرا ونذيرا إن أحدكم ليقوم من وضوئه فتساقط عن جوارحه الذنوب فإذا استقبل الله بوجهه وقلبه لم ينفتل وعليه من ذنوبه شيء كما ولدته أمه فإن أصاب شيئا بين الصلاتين كان له مثل ذلك حتى عد الصلوات الخمس ثم قال يا علي إنما منزلة الصلوات الخمس لأمتي كنهر جار على باب أحدكم فما يظن أحدكم لو كان في جسده درن ثم اغتسل في ذلك النهر خمس مرات أكان يبقى في جسده درن فكذلك والله الصلوات الخمس لأمتي).

ص: 34

موقع الصلاة في الدين:

لهذا كله احتلت الصلاة موقعاً مهماً من الدين.

عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (مثلُ الصلاةِ مثلُ عمودِ الفُسطاط؛ إذا ثبتَ العمودُ نفعت الأطناب والأوتاد والغشاءُ، وإذا انكسرَ العمودُ لم ينفع طُنبٌ ولا وتدٌ ولا غشاء).

ولهذا كانت الصلاة مقياس دين الإنسان والتزامه بما فرض الله تعالى عليه، روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (لكل شيء وجهٌ، ووجهُ دينكم الصلاة) ، وعنه (صلى الله عليه وآله): (أولُ ما ينظر في عمل العبد في يوم القيامة في صلاته، فإن قبلت نُظر في غيرها، وإن لم تُقبل لم ينظر في عمله بشيء)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (الصلاة ميزانٌ، فمن وفّى استوفى).

ولذا كثرت الوصايا بها، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (ليكن أكثر همِّكَ الصلاة، فإنها رأس الإسلام بعد الإقرار بالدين)، ومما جاء في وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لأولاده قبيل وفاته (الله الله في الصلاة فإنها عمود دينكم)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (أحب الأعمال إلى الله عز وجل الصلاة، وهي آخرُ وصايا الأنبياء)، وعنه (عليه السلام) (إن طاعة الله خدمته في الأرض فليس شيء من خدمته يعدل الصلاة).

ص: 35

التشديد على تارك الصلاة:

فليس غريباً التشديد في قضية ترك الصلاة، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) (ما بين المسلم وبين الكافر إلاّ أن يتركَ الصلاة الفريضة متعمداً، أو يتهاون بها فلا يصلّيها)، وعنه (صلى الله عليه وآله): (الصلاة عِمادُ الدين، فمن ترك صلاتهمتعمّداً فقد هدم دينه، ومن ترك أوقاتها يدخل الويل، والويلُ وادٍ في جهنّم كما قال الله تعالى (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) وعنه: (من ترك الصلاة لا يرجو ثوابها ولا يخافُ عِقابها، فلا أُبالي أن يموتَ يهودياً أو نصرانياً أو مجوسيّاً).

كيفية الصلاة التي تؤدي دورها الكامل في حياة الإنسان؟

ولكي تأخذ الصلاة دورها الكامل في حياة الإنسان لابد أن يؤتى بها بحدودها وشروطها.

(ومنها) الإتيان بها في أول وقتها، عن الإمام الصادق (ع): (لكل صلاة وقتان: أوّلٌ وآخرٌ، فأول الوقت أفضلُه، وليس لأحدٍ أن يتّخذ آخر الوقتين وقتاً إلا من علّةٍ، وإنما جُعِل آخر الوقت للمريض والمعتل ولمن له عذرٌ، وأولُ الوقت رضوان الله، وآخرُ الوقت عفو الله). وعنه (عليه السلام): (فضل الوقت الأول على الآخر كفضل الآخرة على الدنيا)، وعنه (عليه السلام): (لفضل الوقت الأول على الآخر خيرٌ للمؤمن من ماله وولده).

ص: 36

وروى الشيخ الصدوق في الفقيه بسنده عن حماد بن عيسى: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) يوماً: (تُحسِنُ أن تُصلّيَ يا حمّاد؟... قُم فصلِّ، قال: فقمتُ بين يديه متوجّهاً إلى القبلة فاستفتحتُ الصلاة وركعتُ وسجدتُ، فقالَ: يا حمّاد، لا تُحسن أن تصلّي؟! ما أقبح بالرجل ان تأتي عليه ستون سنة أو سبعون سنة فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامّة)؟!

(ومن) شروط تأثيرها الورع عن محارم الله تعالى، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لو صلّيتم حتّى تكونوا كالأوتارِ، وصُمتم حتى تكونوا كالحنايا، لم يقبلِ الله منكم إلاّ بورعٍ).

موانع تأثير الصلاة في حياة الإنسان:

(ومن) أبرز الموانع من قبولها وتأثيرها:

1عقوق الوالدين، عن الإمام الصادق (عليه السلام) (من نظر إلى أبويه نظر ماقتٍ وهما ظالمان له، لم يقبل الله له صلاة).

2 الغيبة، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (من اغتاب مسلماً أو مسلمة لم يقبل الله تعالى صلاته ولا صيامه أربعين يوماً وليلة، إلاّ أن يغفر له صاحبه).

ص: 37

نصيحة وتوصية:

فاهتموا بصلاتكم أيها الأحبّة وحافظوا على أول وقتها وواظبوا على أدائها جماعة في المسجد مهما تيسر لكم لتزدادوا نوراً على نور واستزيدوا منها فوق الفرائض اليومية، روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال لأبي ذر لما سأله عن الصلاة (خير موضوع، فمن شاء أقلّ ومن شاء أكثر) وعن الإمام الصادق (عليه السلام) لما سئل عن أفضل الأعمال بعد المعرفة قال (عليه السلام): (ما من شيء بعد المعرفة يعدل هذه الصلاة)، وعن الإمام الكاظم (عليه السلام): (صلوات النوافل قُربات كل مؤمن).

خصوصاً صلاة الليل ولو بأقل عدد من الركعات، قال تعالى (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً) (الإسراء79).لقد لخّصَتْ الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هذه الأهمية للصلاة ودورها في تهذيب الإنسان وتكامله بقولها في خطبتها (فجعل الله... الصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر) فالصلاة تنزّه الإنسان وتطهّره من التكبر والعتوّ والتمرّد والإستكبار والفرعنة التي هي أساس الوقوع في المعاصي وإتّباع الشيطان والابتعاد عن الله تعالى ولشدّة اهتمامها (سلام الله عليها) بالصلاة سألت أباها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (يا أبتاه ما لمن تهاون بصلاته من الرجال والنساء؟ قال: يا فاطمة: من تهاون بصلاته من الرجال والنساء ابتلاه الله بخمسة عشر خصلة، ستّ منها في دار الدنيا، وثلاث عند موته، وثلاث في

ص: 38

قبره، وثلاث في القيامة إذا خرج من قبره) ثم عدّدها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فراجع المصدر(1).

ص: 39


1- مستدرك وسائل الشيعة: 3/23.

قاعدة في السلوك المعنوي من سورة الحديد

قاعدة في السلوك المعنوي من سورة الحديد(1)

أهمية المسبحات:

سورة الحديد من السور المباركة التي كان يهتم بها رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم )، وروي انه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان حينما يأوي إلى فراشه للنوم يتلو سور المسبّحات وهي السور التي تبدأ بكلمات التسبيح ، وأولها سورة الحديد ومعها سورة الحشر والصف والجمعة والتغابن وهي في الجزء الثامن والعشرين من المصحف الشريف.

وروى العلامة الطبرسي في مجمع البيان عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: من قرأ المسبحات كلّها قبل ان ينام لم يمت حتى يدرك القائم (عليه السلام) وان مات كان في جوار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(2).

سورة الحديد ومحاسبة النفس:

وسورة الحديد من السور النافعة في الموعظة وترقيق القلب، فإدامة تلاوتها قبل النوم يساعد على إجراء المراجعة مع النفس في نهاية كلِ يوم، وهي

ص: 40


1- من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من طلبة الجامعات و المعاهد في البصرة وذي قار ووفود من ناحية الفجر في ذي قار والمعامل في بغداد يوم السبت 26/ربيع2/1434ه المصادف 2013/3/9.
2- مجمع البيان 9/345

المحاسبة التي أمرنا المعصومون (عليهم السلام) بها.

موعظة من السورة:

ونأخذ منها اليوم مقطعاً يعطينا قاعدة في السلوك المعنوي خصوصاً لكم أيها الشباب الجامعيون ونستقي منه أيضاً درساً في الموعظة يعرض مشهداً من مشاهد يوم القيامة ، ذلك اليوم المهول الذي ورد وصفه في القران الكريم بأوصاف مذهلة {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} «الحديد : 12»يستعرض المشهد مقارنة بين حالي المؤمنين و المنافقين وحواراً، اما المؤمنون والمؤمنات فانهم {يَسْعَى نُورُهُمْ} في ذلك اليوم الذي تنكسف به الشمس وتنكدر النجوم وتكون الجبال كالقطن المنفوش وتشتد الظلمات بعضها فوق بعض، يلطف الله تعالى بالمؤمنين والمؤمنات فيوفّر لهم نوراً يسعى بهم الى الجنة والسعادة، والسعي هو السير الحثيث فهو يسرع بهم الى الجنة، ولما كان النور ينبعث منهم، فإنهم في الحقيقة هم الذين يسعون لأنهم مصدر النور، ونسب السعي إليه لأنه يتقدمهم.

{بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} هذا النور ينبعث من امامهم ومن ايمانهم، ولعل الذي من امامهم هو نور الايمان و عقائدهم الحقة في التوحيد والنبوة والإمامة، لذا ورد في الكافي بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن النور قال (عليه السلام) (أئمة المؤمنين يوم القيامة تسعى بين يدي المؤمنين وبإيمانهم حتى ينزلوهم منازل أهل الجنة)(1)،

ولعله نور ذواتهم الطيبة المحبوبة عند الله تعالى،

ص: 41


1- الكافي: 1/151 ح5.

أما النور من يمينهم فهو نور أعمالهم الصالحة حيث يؤتى المؤمن كتابه بيمنه (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ{19} إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ{20} فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ{21} فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ{22} قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ{23} كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ{24} (الحاقة/1924).

(بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وما دامت هذه عاقبتهم، فإنها بشرى حقيقية ويستحقون التهنئة على هذا الفوز العظيم وما أعظمه من فوز ومن خاتمة حسنة في تلك الحياة الخالدة.

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ) هذه هي الصورة المقابلة للبائسين الخاسرينمن المنافقين والمنافقات فإنهم في ظلمات وخوف ورعب وعذاب وألم، فالتفتوا إلى المؤمنين والمؤمنات وهم في ذلك العيش الرغيد وطلبوا منهم أن يلتفتوا إليهم ويسعفوهم بقبس من النور يخفّف عنهم بعض الأهوال.

(قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) فجاءهم الجواب إنّ الفرصة قد فاتت الآن لتحصيل النور لأنّه حصيلة أعمالكم الّتي اكتسبتموها في الدنيا، فكان عليكم أن تلتفتوا إلى هذه الحقيقة في الدنيا فتؤمنوا وتعملوا الصالحات لتتحول إلى نور في هذا اليوم، فإن استطعتم أن ترجعوا إلى الدنيا لتحصيل النور، وذلك مستحيل (وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ) (ص:3).

ص: 42

(فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ) ففصل بينهم بجدار عازل كما كانوا في الدنيا منفصلين ومتباينين في سلوكهم واعتقاداتهم ونظرتهم إلى الحياة، وإن كانوا متعايشين في مجتمع واحد وبيئة واحدة فجُسِّدَت تلك المباينة بسور عازل (له باب) لينظر بعضهم إلى بعض من خلاله وليجري بينهم هذا الحديث وليقارن كل من الفريقين حاله مع حال الآخر فيزداد المؤمنون والمؤمنات شكراً لله تعالى على ما انعم، والمنافقون والمنافقات ألماً وحسرة وندامة على ما فرطوا في أمر آخرتهم.

(بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ) صفة هذا السور أن ما بداخله الرحمة والسعادة والعيش الهنيء وهو محل المؤمنين، أما خارجه فالعذاب والوحشة والخوف والألم وهو محل المنافقين والمنافقات، ومثاله المدن في ذلك الزمان عندما كانت تحاط بسور متين يحميها من هجمات الأعداء واللصوص والمحتلين والمجرمين، فتجد داخل المدينة البيوت المريحة والشوارع المنظّمة والأسواق العامرة والمياه العذبة وسائر أسباب الرفاهية، أما خارجها فالصحراء والوحشة والمخاطر والجوع والظمأ والخوف، وهذا مثال حال الفريقين يوم القيامة.(يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ) وحينئذ نادى المنافقون والمنافقات المؤمنين والمؤمنات، وعبَّر بالمناداة وليس (قالوا) ونحوها للبينونة البعيدة بينهما ولم تكن مواضعهم متقاربة، فخاطب المنافقون المؤمنين الذين يعرفونهم ألم نكن معكم

ص: 43

في مدينة واحدة وجامعة واحدة ودائرة واحدة ومجتمع واحد بل ربما في بيت واحد كنا نعيش سوية فلماذا حصل هذا التفاوت العظيم بيننا.

ويظهر من بعض الروايات ان المراد بهم المنحرفون عن ولاية أهل البيت (عليهم السلام)، عن الإمام الباقر (عليه السلام) (فيناديكم أعداؤنا وأعداؤكم من الباب الذي في السور ظاهره العذاب: ألم نكن معكم في الدنيا، نبيّنا ونبيّكم واحد، وصلاتنا وصلاتكم واحدة، وصومنا وصومكم واحد، وحجُّنا وحجُّكم واحد).(1)

(قالوا بلى) فأجاب المؤمنون نعم كنّا هكذا سوية بأبداننا لكن أرواحنا وعقائدنا وسلوكياتنا كانت متباعدة ومتباينة، ولنضرب مثالاً من واقعكم أنتم الشباب الجامعي فأنتم الموجودون هنا تأتون إلى زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) والإمام الحسين (عليه السلام) وتستمعون إلى المواعظ والتوجيهات بينما ذهب آخرون من زملائكم إلى حيث اللّهو والعبث والمجون، فيوجد انفصال بينكم في السلوك والرؤى وهذا هو الذي جسّد هذا التفاوت بيننا يوم القيامة.

(ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرّتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغرّكم بالله الغرور) ومن هنا يبدأ تعداد الأسباب التي جعلت مساراتنا في

ص: 44


1- تفسير البرهان: 9/ 225.

الحياة الدنيا متباينة، انكم فتنتم أنفسكم واتبعتم الشهوات وسرتم وراء أهوائكم من دون بصيرة وتعقل واتباع لشرائع الله تعالى.(وتربصتم) إذ كنتم تترقبون زوال الدين والقضاء على أهله وإسكات صوت الحق الذي كان يقض مضاجعكم ويسبب لكم ألماً باطنياً ووخز الضمير.

(وارتبتم) حيث كنتم تشككون بالعقائد والأحكام الإلهية وتثيرون الشكوك والشبهات حولها لتجعلوا لأنفسكم مبررات لعدم الالتزام بها، وتفاقم ارتيابكم ليشمل حتى أقدس المقدسات كما نسمع اليوم من بعض أدعياء الحداثة تشكيكات في أصل نبوة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكون القرآن نازلاً من الله وهم مسلمون!!!

(وغرّتكم الأماني) خدعتكم وعود الشيطان وأوليائه وعبيده بدنيا مزيّفة وأموال ومواقع وشهوات ونحوها.

(حتى جاء أمر الله) حتى فاجأكم الموت وطويت صفحة أعمالكم وانقطعت عنكم فرصة التدارك والتعويض والإصلاح والمراجعة.

(وغرّكم بالله الغرور) ونجح الشيطان بخداعكم والمكر والتغرير بكم وأنتم تتحملون المسؤولية باتّباعكم إيّاه رغم التحذير الشديد من قبل الله تعالى (إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً) (الإسراء/53) (وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) (البقرة/168).

ص: 45

(فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) وكانت هذه النتيجة الحتمية لسوء أعمالهم أن يجتمعوا مع الكفّار في النار والعذاب الأليم لأنها هي الأولى بهم والأليق لخبثهم حتّى تطهرهم النار وتزيل أدرانهم.

وهنا يلتفت الله تعالى إلى المؤمنين والمؤمنات ويخاطبهم بعتاب رقيق وتساؤل ملؤه الحنان والشفقة بأنيستفيدوا من هذه المواعظ ويطهروا بها قلوبهم ويهذّبوا أنفسهم، وإلا فإنها تقسو وتسوَّد بطول

الأعراض عن الموعظة وذكر الله تعالى والانغماس في الملذات واللهاث من أجل التوسع في الدنيا، حتى يطبع عليها فلا تنفع معها موعظة والعياذ بالله تعالى (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد/16).

قدّمت لكم هذا النموذج مما أدعو إليه من التفسير المبسّط للقرآن الكريم الذي يعيننا على التدبّر في آياته من دون الحاجة إلى الكتب المعمّقة في التفسير.

قاعدة مهمة في السير الى الله تعالى:

وأريد أن أركّز من خلاله على الوصف الذي ورد في المقطع (بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ) فهذه قاعدة مهمة في السلوك المعنوي إلى الله تعالى، وهي الالتفات إلى حقائق الأمور لاتخاذ المواقف الصحيحة، وعدم الانخداع بالظاهر وبناء القرارات عليه.

ص: 46

فإن كثيراً من الأفعال والمواقف تبدو في ظاهرها لذيذة ممتعة إلا أنّها تستبطن الشقاء والعذاب والألم، وعلى العكس من ذلك فإن بعضاً آخر منها يبدو ظاهره متعباً مكروهاً إلا أن حقيقته السعادة والنعيم، لذا ورد في الحديث (حُفّت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات)(1).

أمثلة للشباب:

ولنأخذ أمثلة من واقعكم الشبابي الجامعي، فإن البعض قد يتصور ان إقامة علاقات غير مشروعة مع الجنس الآخر فيها لذة ومتعة وسعادة ولكن الحقيقة خلاف ذلك لأن المجتمع سيرفضهما خصوصاً البنت وسيؤثر ذلك على مستقبلها وتسبّب تلك العلاقة شقائها، وربما بعض ردود الأفعال المؤلمة، هذا في الدنيا أما ما بعد الموت وفي الآخرة فسيعيشون حالة الألم والندامة والعذاب.

والمثال الآخر بعض الشباب المهووسين بالسفر إلى بلاد الغرب ليعيش حياة مرفهة سعيدة لكنه يضيّع دينه وأسرته وتكون زوجته وأولاده متمردين عليه وخارجين عن إرادته بسبب القوانين المعمول بها هناك.

ومن أمثلتها من يلتحق بجهة سياسية أو دينية أو اجتماعية من دون أن يتحقق من إخلاصها واستقامة سيرتها ومصداقيتها في العمل بما يرضي الله تعالى، يغرونه بمواقع النفوذ وتحصيل المال والامتيازات فتزل قدمه ويبتعد عن جادة الاستقامة وتكون عاقبته زلل قدمه عن الصراط.

ص: 47


1- بحار الأنوار: ج68 ص72.

فهذه كلها امور ظاهرها أنيق وفيها الراحة والدعة والترف والانسياق مع التيار العام إلا أن عاقبتها وخيمة.

وفي مقابل ذلك توجد نماذج أخرى كتعرض الفتاة الجامعية المحجّبة العفيفة إلى ضغط اجتماعي بأن مظهرها غير أنيق وانها متخلفة أو معقدة ونحوها من الأوصاف الاستفزازية.

وكذا الشاب الذي يلتزم بالمظهر المهذّب أو يلتزم بالآداب والأحكام الشرعية فيضغط عليه بنفس الطريقة ليستسلم وينهار وينساق معهم، وربما يتبارى زملاؤه الفسّاق في استدراجه معهم وإنهاء مقاومته.أو الموظّف الأمين الملتزم الذي لا يخون الأمانة التي تحت يده فإنه يعاني من استفزاز أقرانه وانه سوف لا يستطيع أن يعيش كأقرانه ويبقى في الحضيض ولا يتقدم، وما ذلك إلا لحسدهم إياه على سمّوه وعجزهم وضعفهم عن الوصول إلى قمّته.

أو محاولة البعض لثني الملتزمين بالدين –كالصوم في الأيام الحارة أو القيام في الليل البارد للعبادة ونحوها - عن عمله وإيجاد المبررات لترك العمل.

فهذه كلها أمور قد تبدو مكلفة ومتعبة وتحتاج إلى صبر ومصابرة وتحمّل للمكاره، إلا أن فيها الفوز والفلاح وحسن الخاتمة.

ص: 48

الاختبار مستمر في الدنيا:

وهذا الاختبار مستمر ما دمنا في الحياة الدنيا، والنجاح فيه يكشف عن الفوز في الآخرة، وستتجلى هذه الحقيقة بوضوح في عصر الظهور، ففي الرواية (يخرج الدجال عدو الله ومعه جنود من اليهود وأصناف الناس ، معه جنة ونار ورجال يقتلهم ثم يحييهم ، ومعه جبل من ثريد ونهر من ماء . وإني سأنعت لكم نعته إنه يخرج ممسوح العين في جبهته مكتوب كافر يقرأه كل من يحسن الكتاب ومن لا يحسن، فجنته نار وناره جنة، وهو المسيح الكذاب ، ويتبعه من نساء اليهود ثلاثة عشر آلاف امرأة فرحم الله رجلا منع سفيهه أن يتبعه ، والقوة عليه يومئذالقرآن فإن شانه بلاء شديد ، يبعث الله الشياطين من مشارق الأرض ومغاربها فيقولون له استعن بنا على ما شئت)(1).

فالالتفات إلى القاعدة التي ذكرناها يعين على النجاح في تلك الاختبارات وبناء مستقبل معنوي متكامل بلطف الله تبارك وتعالى، وإنما سميناها قاعدة لأنها تعطي رؤية تبرمج حياة الإنسان وتنظم أموره والله المستعان.

ص: 49


1- الدر المنثور : ج 5 ص 354.

القواعد من الأحاديث الشريفة

القواعد من الأحاديث الشريفة (1):

والقواعد المأخوذة من القرآن الكريم كثيرة، وكذا الموجودة في الأحاديث الشريفة وأذكر مثالاً لذلك ما ورد في وصايا النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر (يا أبا ذر: اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فهذه الوصية تؤسس لحالة مهمة في الحياة وهي أن تتعامل مع الله تعالى وتعبده وتطيعه وكأنك تراه لا بالعين لأنه لا تدركه الأبصار، ولكن بالبصيرة والوجدان وبالقلب السليم فتجده حاضراً عندك «أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (فصّلت:53)، فإن لم تكن تراه لغشاوة أو رين أو ذنوب أو غفلة، فلا شك أنك تعتقد انه يراك وانك تحت نظره في كل حركاتك وسكناتك فانظر كيف تكون وأنت في محضر الرب المتعال. كتب رجل إلى الحسين (علیه السلام): عظني بحرفين، فكتب إليه: (من حاول أمراً بمعصية الله كان أفوت لما يرجووأسرع لمجيئ ما يحذر)(2).

وهي كلمة تختصر الطريق وتحدّد وسائل الوصول إلى الهدف وتحقيق الغاية بدل التورط في الوسائل غير الشريفة ثم لا يجني منها غير الخسران، كما لو أحب فتاة وحاول الارتباط بها بعلاقة غير شريفة يورّط نفسه ولا يحقق مبتغاه الذي يمكن تحقيقه من أبوابه المتعارفة.

ص: 50


1- من حديث سماحة الشيخ (دام ظله) مع حشد من طلبة الجامعات في بغداد يوم الأربعاء 22/ع1/ 1433 المصادف 2012/2/15.
2- الكافي: ج2 ص373.

وقد احتوت الأدعية الشريفة على كمٍّ كبير من هذه القواعد للسلوك والتربية والتهذيب والوصول إلى الكمال فراجعوا دعاء الصباح لأمير المؤمنين ودعاء عرفة للإمام الحسين ودعاء مكارم الأخلاق للإمام السجاد (علیهم السلام).

ولا نحتاج الإطالة في الأمثلة بعد أن اتضحت الفكرة فأتعبوا أنفسكُم في وضع سجل بهذه القواعد لتراجعوه باستمرار وتجدّدوا معنوياتكم بمطالعته.

هذا شرح مختصر لأصل الفكرة واستعراض سريع لبعض الأمثلة وإلا فإنها تحتاج إلى كتاب مفصل يشرح لنا معنى أن نضع لأنفسنا قواعد، والحاجة إلى مثل هذه القواعد، ومن أين تؤخذ، وشرح مفصل لجملة من تلك القواعد لتكون خارطة طريق لمريد الكمال والسمو بإذن الله تعالى.

ص: 51

على الخريجين أن يخططوا لمستقبلهم بالمشاريع المادية و المعنوية

على الخريجين أن يخططوا لمستقبلهم بالمشاريع المادية و المعنوية(1)

رسم معالم المستقبل:

لاشك إنكم ترسمون لأنفسكم الآن مستقبلاً يتضمن تلبية احتياجاتكم الأساسية في الحياة الدنيا كالوظيفة الشريفة والزواج السعيد والسكن اللائق وهو حق وضروري، ولا تتكامل سعادة الإنسان التي هي هدف الشرائع السماوية إلا بها.

ولكن لا تغفلوا عن مشاريعكم المعنوية أيضاً بزيادة العلم والمعرفة والبصيرة بالأمور والسعي في أعمال الخير للأمة ودعم المشاريع الصالحة والمشاركة فيها.

وليس صحيحاً أن أقول إن المشاريع الأولى للدنيا وهذه للآخرة بل إنها جميعاً يمكن توظيفها للآخرة والقرب من الله تعالى مع توفر النية المخلصة والسلوك النظيف لذا سميتها المادية والمعنوية.

ص: 52


1- نشر في الصفحة الأولى من العدد (25) الصادر بتأريخ 9 جمادى الأولى 1426 الموافق 16 حزيران 2005. حيث التقى سماحة الشيخ (دامت تأييداته) فيها بعدد من طلبة المعهد التقني في الكوفة والذين اشرفوا على التخرج.

الاهتمام بالزواج:

واهتموا كثيراً بالزواج وسهّلوا متطلباته بالتعاون مع النساء وأولياء الأمور، كما نقل لي إن عدد من المؤمناتالموظفات في سلك التعليم نظمن سلفة بينهن بمليوني دينار يعطينها للرجل الذي يتقدم لخطبة أي واحدة منهن، وقد أكبرت هذه الخطوة الشجاعة الحكيمة التي تساهم في حل المشكلة الجنسية كما يسمونها.

محدودية الأهداف الدنيوية:

إن الأهداف الدنيوية محدودة وتنتهي، ويصل الإنسان إلى اللحظة التي يشعر انه كان يجري وراء سراب ووهم، إما الأهداف المعنوية فهي مفتوحة نحو الكمال ولا حدود لها لأنها تتوجه نحو اللامحدود.

من الأمثلة لذلك:

مثلاً أغنى رجل في العالم الملياردير (بيل غيتس) مالك شركة مايكروسوفت فهو يملك مليارات الدولارات لكنه قال لأطبائه النفسيين ومستشاريه أني متألم لأني لا أجد فرقاً بيني وبين من يملك مئات الملايين من الدولارات فكلانا يركب احدث سيارة ويسكن أجمل قصر ويتمتع بألذ المأكولات وأنا أريد أن أتميّز عنهم فقال له أحد استشاريه يمكنك الامتياز عنهم بالتوجه نحو مشاريع الخير والإحسان والأعمال الإنسانية فأنها واسعة، وهي نصيحة حكيمة.

ص: 53

ويروى أن عبد الملك بن مروان الطاغية المتكبر الذي يمثل الحجاج الثقفي المجرم السفاك إحدى سيئاته اطلع من شرفة قصره قبيل موته فرأى قصّاراً يغسل الثياب على النهر، فتمنىلو كان مثله ولا يتورط بهذا الملك الظالم المهلك، ولما وصلت الكلمة إلى القصّار قال الحمد لله الذي جعلهم يتمنون ما نحن فيه عندما ينزل بهم الموت ولا نتمنى ما هم فيه إذا نزل بنا الموت.

ص: 54

البنية التحتية للإنسان

البنية التحتية للإنسان(1)

رواية عن القلق من المستقبل:

روى الشيخ الصدوق (0) في كتابه (من لا يحضره الفقيه) بسند صحيح عن أبي هاشم الجعفري(2) أنه قال:(أصابتني ضيقة شديدة فصرت إلى أبي الحسن علي بن محمد (علیه السلام) فاستأذنت عليه فأذن لي فلما جلستُ قال: يا أبا هاشم أيُّ نعم الله عليك تريدُ أن تؤديَّ شكرها؟ قال أبو هاشم: فوجمت فلم أدرِ ما أقولُ له، فابتدأني (علیه السلام) فقال: ان الله عز وجل رزقك الإيمان فحرّم به بدنك على النار، ورزقك العافية فأعانك على الطاعة، ورزقك القنوع فصانك عن التبذل، يا أبا هاشم إنما ابتدأتك بهذا لأني ظننت أنك تريدُ أن تشكو لي من فعل بك هذا، قد أمرتُ لك بمائة دينار فخذها) (3).

ص: 55


1- أقام حشد من طلبة كليات الطب والهندسة والعلوم من جامعة البصرة حفلاً لتخرجهم في النجف الأشرف يوم الجمعة 26/ ربيع الثاني/ 1432 المصادف 2011/4/1 ضمن برنامج أعدّه لهم زملاؤهم في جامعة الكوفة على مدى يومين كاملين تضمن زيارة أمير المؤمنين (علیه السلام) والحسين (علیه السلام) والمشاهد المشرّفة الأخرى، وبعد انتهائهم من الحفل وأدائهم صلاة الظهرين يوم الجمعة، زارهم سماحة الشيخ اليعقوبي في مقر إقامتهم في جامعة الصدر الدينية تثميناً لهذه المبادرة الكريمة في مقابل حفلات التخرج الماجنة، وألقى سماحته فيهم كلمة، وهذا تقرير لبعض ما جاء فيها.
2- وهو داود بن القاسم بن اسحاق بن عبد الله بن جعفر الطيار من أجلاء أصحاب الأئمة (علیهم السلام).
3- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص401.

بدأت حديثي بهذه الرواية لأنني قرأت في عيونكم قلقاً على مستقبلكم من حيث صعوبة الحصول على وظيفة حكومية اليوم حيث أصبحت ملكاً للأحزاب المتسلطة، وقلقاً على مستقبل البلد حيث تحدّث الأخ في كلمته التعريفية عن إناطة مواقع المسؤولية بأُناس غير كفوئين ولا مخلصين لبلدهم وشعبهم بل إن كثيرين منهم مزورون لشهاداتهم وهمهم ملأ بطونهم وأرصدتهم من المال الحرام.

القلق المشروع:

وهذا القلق مشروع ومستحسن على كلا الصعيدين أي إيجاد فرصة العمل المناسبة للكسب المشروع وتمكين الرجل المناسب من الموقع المناسب، فهذا سلمان الفارسي الذي قال فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله): (سلمان منا أهل البيت)(1) لما استغربوا منه ادخار بعض المواد لمؤونته في البيت وهو الزاهد في الدنيا (فقيل له: يا أبا عبد الله أنت في زهدك تصنع هذا وأنت لا تدريلعلك تموت اليوم أو غداً، فكان جوابه أن قال: مالكم لا ترجون لي البقاء كما خفتم علي الفناء، أما علمتم يا جهلة أن النفس قد تلتاث على صاحبها إذا لم يكن لها من العيش ما يعتمد عليه فإذا هي أحرزت معيشتها اطمأنت)(2).

ص: 56


1- الوافي: ج3 ص897.
2- الكافي: ج5 ص68.

ولأن كل غيور على بلده وشفيق على اخوانه يحب لهم أن يكونوا سعداء بأفضل حال ويتمتعون بالحرية والكرامة والرفاه التي هي من حقوق كل إنسان.

النعم العظيمة:

أيها الأحبّة: رويت لكم هذا الحديث لأخفف عنكم هذا القلق ولألفت نظركم إلى وجود نعم هي أعظم من كل ما تفكرون به لكن الإنسان يغفل عنها لاعتياده عليها، فيكون تذكرها جزءاً من الحل لأنه يسلّي النفس وينعش الروح ويزرع الأمل بغدٍ أفضل ويرقي الطموح، ولنسدّ على إبليس والنفس الأمّارة بالسوء وشياطين الإنس منافذ إقناع الإنسان بسوء الظن بالله تعالى الرب الرحيم الكريم الحكيم العليم –وهذا ما توخّاه الإمام الهادي (علیه السلام) عندما ابتدأ أبا هاشم الجعفري بهذه الكلمات لأنه (علیه السلام) نظر إليه بعين الله تعالى وقرأ فيه القلق والتبرّم من الحال، والشكوى من تقدير الله تعالى بسبب الغفلة عمّا أنعم به من نعم عظيمة لا تُعدّ ولا تُحصى.

أصول النعم الإلهية:

فيذكّر (علیه السلام) أن ربّك الذي تريد أن تشكوه أعطاك الإيمان بالله وما يتبعه من الإيمان برسوله وبولاية أهل البيت(علیهم السلام) المنجية من النار ومفتاح كل خير، وأعطاك الصحة والعافية التي بها قوام السعادة في الدنيا والآخرة، وأعطاك الكرامة والتفضيل على سائر مخلوقاته «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ »الإسراء70، وهذه النعم هي أصول كل النعم الأخرى ولا تهنأ حياة الانسان الا بها مهما

ص: 57

تكاثرت النعم الأخرى، أي أن هذه الثلاث يصلح أن نسميها بمصطلح اليوم (البنية التحتية للإنسان)، وهي ما يستحق أن يفرح الانسان بحصوله عليها ويحزن إذا فقدها.

الفضل الحقيقي:

نحن الآن في يوم الجمعة وبعد الظهر وهي ساعة مباركة، وفي سورة الجمعة يقول الله تبارك وتعالى بعد قوله (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) إلى أن قال تعالى ({ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الجمعة/ 2 4) وقال تعالى (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس : 58) فتزكية النفس وتطهير القلب والمعرفة بالله تعالى وتدبير شؤون الحياة بالحكمة هو الفضل الحقيقي من الله تعالى الذي يُفرح به.

وعلى هذه البنية التحتية ومن هذه الأصول تنطلق الأمور الأخرى فتتوفر عندك هذه المحبة للناس والسعي لإسعادهم، وهذا الإخلاص والجد والهمة العالية والنزاهة في العمل، وهذه الغيرة على البلد وشعبه، وهذا الإبداع وإيجاد كل ما هو أفضل، وهذا الطموح المشروع الذي لا يقف عند حد لأن الكمال لا متناهي.

ص: 58

المسؤولية أمام هذه النعم:

وهذا الحديث الشريف يحمّلنا عدة مسؤوليات أمام هذه النعم التي سميناها بالبنية التحتية وهي:

1 المحافظة عليها وتعزيزها وتنميتها وتعمقها في النفس والروح والعقل والجسد، وعدم الغفلة عنها والانشغال بأمور أخرى مهما تبدو مهمة فإنها ليست بأهمية هذه.

2 إنكم على أبواب التخرج وتحملون شهادات تؤهلكم لفرص عمل جيدة، و ستعرض عليكم مثل هذه الفرص إن عاجلاً أو آجلاً بإذن الله، فعليكم أن تختاروا من تلك الفرص ما لا يتنافى وهذه النعم مهما كانت العروض مغرية، فإنها صفقة خاسرة أن تُشترى دنيا زائلة فانية بدين قويم يوجب السعادة الأبدية، فراقبوا ربّكم وحاسبوا أنفسكم وكونوا أمناء على ما ائتمنكم عليه.

3 ان لا تكرّسوا كل اهتمامكم في تحصيل الوظيفة، فإن مؤسسات الدولة لا تستطيع أن تستوعب كل الشعب في الوظائف الحكومية فعليكم أن تعملوا عقولكم المبدعة لإيجاد منافذ للكسب المشروع في ما يسمى بالقطاع الخاص، وقد تناولنا أهمية هذا التوجه في أحد خطاباتنا السابقة.

الأمل بالشباب الرسالي:

إن وجود أمثالكم بين أبناء الشعب يجدّد فينا الأمل بغدٍ أفضل، وان سوء الحال لا يمكن أن يستمر وان الإصلاح والتغيير نحو الأحسن واقع لا محالة، ومن

ص: 59

دون هذا فإن الإحباط واليأس سيقضي على كل أمل نتيجة تسلط المفسدين والمستبدين والمستأثرين الذين اتخذوا مال الله دولاً وعباده خولاً، وكأن قدر هذه الشعوب أن تكون مرتهنة بنزوات وأطماع وشره حفنة من السيئين، وقد عشنا التجربة المرة مع صدام المقبور ورأينا كيف سخّر ثروات هذا البلد المادية والبشريةلنزواته وحماقاته، وأدخل العراق والمنطقة في حروب وكوارث لا طائل تحتها.

وبين أيديكم الآن ما يفعله صعلوك ليبيا المثير للاشمئزاز والتقزز بتصرفاته الرعناء كيف جعل الشعب الليبي وثرواته دروعاً لحماية نفسه وبقائه في السلطة رغم استبداده بها منذ 42 عاماً.

إن تسلط مثل هؤلاء واستبدادهم بمقدرات الشعوب مظهر من مظاهر تفاهة هذه الدنيا وهوانها على الله تعالى وحماقة من طلبها وركن إليها وجعلها هدفاً له، كما ورد في الحديث الشريف (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى فيها كافراً شربة ماء). فالمغرور من غرّته، والشقي من فتنته كما قال الإمام الحسين (علیه السلام) ولو كانت لها قيمة لمكّن أنبياءه وأولياءه منها، ولما زهدهم فيها.

لكن هذا في نفس الوقت يلقي على الجميع خصوصاً الشباب مسؤولية التغيير والإصلاح لأنه يبدأ منكم وقد مضت السُنّة الإلهية على (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/11) وهذا ما استشعره شباب العرب والمسلمين اليوم فسرى فيهم دم النهضة واليقظة لانتزاع حقوقهم وكرامتهم وحريتهم، وتهاوت أمام هذه النهضة عروش الطواغيت.

ص: 60

أيها الأحبة: إن كل تقدم ونجاح تحققونه يدخل السرور على قلب إمامكم المهدي الموعود (علیه السلام) لأنكم ذخيرته وعُدّتُه وهو (علیه السلام) ينتظركم أكثر مما تنتظرونه، ويتابع أخباركم كما عبّر (علیه السلام) في رسالته إلى الشيخ المفيد (0) في كتاب الاحتجاج إنه (لا يعزب عنا شيء من أخباركم)(1).

ص: 61


1- الاحتجاج: ج2 ص598.

أحب أن يُرى في شيعتي مثلُك

أحب أن يُرى في شيعتي مثلُك (1)

لنأخذ درساً من أبان بن تغلب:

كان أبان بن تغلب جليل القدر عظيم المنزلة، لقي ثلاثة من الأئمة (السجاد والباقر والصادق(علیهم السلام)) وروى عنهم وكانت له عندهم حظوة ومنزلة، وقال له أبو جعفر الباقر (علیه السلام) (أجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس، فإني أحب أن يُرى في شيعتي مثلُك)(2).

نريد أن نأخذ درساً من هذا الوسام الرفيع الذي قلّده الإمام الباقر (علیه السلام) لهذا العالم الجليل وهو أن يقوم كل من له إبداع في مجال ما ينفع به المجتمع وينصر به الدين وينشر بهالصلاح فليبرزه وليظهره ولينشره، لأن إمام العصر يحب أن يَرى في شيعته مبدعين نافعين في كل مجالات الحياة وليس في الفقه فقط، كالسياسة والاقتصاد والاجتماع والطب والهندسة والقانون والعلاقات الدولية والمنظمات الإنسانية وهكذا.

ص: 62


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من طلبة السادس الإعدادي في مدينة قلعة سكر يوم 30/ج1/1433 المصادف 2012/2/23، ونشر في العدد (110) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 22/ر2/1433 الموافق 2012/3/16.
2- مستدرك الوسائل: ج17 ص315.

ادخلوا السرور على إمام العصر (علیه السلام):

وهذا يحتّم علينا أن نبذل أقصى الجهود ونحسن اختيار المجال المثمر والمناسب لقدراتنا وقابلياتنا لنبرز فيه ونتفوق ونتميز، فندخل السرور على قلب الإمام (علیه السلام) ونكون مصداقاً لدعوة الإمام الصادق (علیه السلام) (كونوا لنا دعاة صامتين) ونكون فخراً وزيناً لمدرسة أهل البيت (علیهم السلام).

خصوصاً أنتم الشباب في مقتبل العمر وعلى أبواب الجامعات، فضاعفوا هِمَّتَكم وجهدكم لتملأوا كل الاختصاصات بإبداعاتكم وتفوقكم، وسيشملكم الإمام (علیه السلام) بألطافه ويرعاكم بإذن الله تعالى.

ص: 63

أعمال تكون كالقشة التي تقصم ظهر الجمل

أعمال تكون كالقشة التي تقصم ظهر الجمل(1)

لنتعظ بغيرنا:

وصفت الأحاديث الشريفة المؤمن بأنه (كيِّس فطن)(2) ومن كياسته ما ورد في أحاديث أخرى أن (الكيّس من اتعظ بغيره)، وهذا الغير الذي دعينا للاتعاظ به قد يكونون أشخاصاً وقد تكون حالات أو مواقف أو مشاهد.-

ومن تلك الحالات ما نراه في السوق عندما يشتري أحد وزناً معيناً من الدقيق أو السكر فإن كيلة كبيرة منهما يغترفها البائع المحترف لا تنزل الميزان بالوزن المطلوب لكن حبات يضعها البائع في الكفّة يقطّرها بعد ذلك تنزل بها كفة الميزان، محل الشاهد أن نأخذ من هذه الأمثال درساً، وهو أن الإنسان قد تصدر منه معاصي في مهله الله تبارك وتعالى ويحلم عنه بطول أناته في غضبه (الحمد لله الذي يحلم عني حتى كأني لا ذنب لي)(3) بل يواصل نعمه عليه والعبد يجازيها بالمعصية ويسوّد صحائف أعماله بها ثم يصدر منه فعل قد لا يراه

ص: 64


1- من حديث سماحة المرجع اليعقوبي في ملتقى مرشدي قوافل الحجيج الذي يعقده في مكتبه سنوياً يوم الخميس 7/ذ.ق/ 1432 المصادف 2011/10/6 ومن حديث سماحته مع طلبة جامعة الصدر الدينية فرع الكوت ومعهد الإمام الجواد (علیه السلام) للعلوم الدينية في الصويرة يوم السبت 9/ذ.ق.
2- البحار: ج64 ص307.
3- مصباح المتهجد: ص582.

من الكبائر إلا انه يقع بعين المقت والغضب من الله تبارك وتعالىفتنزل عليه العقوبة الإلهية والعياذ بالله، ويكون هذا الفعل كما قيل في المثل (القشة التي قصمت ظهر الجمل)(1).

ثمرة الطاعة:

هذا في جانب السيئات، والأمر كذلك في جانب الحسنات، فإن الإنسان قد يقوم بطاعات يحصل عليها ثواب لكنها لا تجعله من أهل رضا الله تبارك وتعالى ورضوانه (ورضوان من الله أكبر)، وهذه مراتب عالية في الجنان أسمى من جنة الحور العين ولحم طير مما يشتهون ومن امتيازاتها أن صاحبها يحاسب حساباً يسيراً، لأن أهل رضا الله تبارك وتعالى كالطالب الذي يُعفى من الامتحانات النهائية بعد أن حصل بجهده على درجة الإعفاء، وكالطالب الذي عُرف بنيله الدرجات الكاملة في الامتحانات فإن المدرِّس لا يدقق في ورقته الامتحانية وبمجرد أن يرى اسمه يضع علامة الإجابة الصحيحة على كل أجوبته من دون أن يقرأها لأنه يعلم أن الطالب أهل لهذه الدرجة حتى لو وقعت في

ص: 65


1- وهو مثل متداول ولا يختص باللغة العربية، فقد وجدت على النت نصاً له باللغة الإنكليزية. وقيل في أصله أن رجلاً حمل بعيراً أثقالاً أضعاف الاعتيادية فنهاه الناس عن ذلك رفقاً بالحيوان لكن استمر وفي النهاية وضع باقة من قش فوق الأحمال فسقط الجمل. ويضرب المثل للحالات التي يحصل فيها الانهيار بسبب أمر يُعدُّ بسيطاً ولا يمكن أن يتسبب في هذه النتيجة، لكنه أدى إليه باعتباره حصل على خلفية تراكمات سابقة أوصلت الحالة إلى حافة الانهيار فجاء الأمر البسيط لينهي كل شيء.

أجوبته أخطاء فإنه لا يحاسبه عليها لأنها لا تضرّ بمستواه العام وإنما وقعت لظروف خاصة.

استثمار فرص الطاعة:

ولذا ورد عن الله تعالى كما في الحديث الشريف أنه:(أخفى رضاه في طاعته فلا تستصغرن شيئاً من طاعته، فربما وافق رضاه وأنت لا تعلم. وأخفى سخطه في معصيته فلا تستصغرن شيئا من معصيته، فربما وافق سخطه معصيته وأنت لا تعلم)

استثمار فرص الطاعة:ولذا ورد عن الله تعالى كما في الحديث الشريف أنه:(أخفى رضاه في طاعته فلا تستصغرن شيئاً من طاعته، فربما وافق رضاه وأنت لا تعلم. وأخفى سخطه في معصيته فلا تستصغرن شيئا من معصيته، فربما وافق سخطه معصيته وأنت لا تعلم)(1) فمع أن جملة من الأعمال هي من الطاعات التي يؤجر عليها الإنسان لكنه لا يعلم أي عمل منها الذي يحقق رضا الله تبارك وتعالى، ومع أن جملة من الأعمال هي معاصي يعاقب عليها الإنسان إلا انه لا يعلم أي منها الذي يوجب المقت والسخط والعياذ بالله.

وأذكر لكم مورداً لكل منهما مستفاداً من الروايات الشريفة، فمن موجبات الرضا كفالة اليتيم المادي والمعنوي كما شرحناه في إحدى خطب الزيارات الفاطمية، ومما ورد فيه قول النبي (صلی الله علیه و آله): (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة إذا أتقى الله عز وجل)(2) وأشار بالمسبحة والوسطى. أو ما ورد في إدخال السرور على المؤمن ونحوها من الأفعال البسيطة.

ص: 66


1- الخصال: ص209.
2- تفسير نور الثقلين: 5/ 587.

من موجبات المقت الإلهي:

ومن موجبات المقت والطرد أمر يستسهل فعله الكثير من المتدينين ولكن ورد فيه ما لم يرد حتى في الكبائر، وهو تسقيط المؤمنين ففي الكافي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال (من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه وهدم مروئته ليسقُط من أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان فلا يقبله الشيطان)(1).

الاستدراج الإلهي:

لذا على الإنسان الذي يعرف قيمة نفسه أن لا يقصّر في استثمار فرص الطاعة مهما اعتقد بضآلتها فلعل ذلك العمل يكون موجباً لتحصيل الرضا الإلهي، وأن لا يستخف بمعصية فلعلها تكون موجبة للغضب الإلهي والعياذ بالله ولا يغرّه توالي النعم عليه فيظن أن له حظوة عند الله تبارك وتعالى، بل عليه أن يخشى من ذلك إذ ربما كان من المستدرجين إلى الهلاك بهذه النعم، فمن كلمات أمير المؤمنين (علیه السلام) في نهج البلاغة قوله: (إنّه من وُسِّع عليه في ذات يده فلم ير ذلك استدراجاً فقد أمن مخوفاً)(2) وروي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قوله (كم من مغرور بما قد أنعم الله عليه، وكم من مستدرج يستر الله عليه، وكم من مفتون بثناء الناس عليه)(3) وورد عنه (علیه السلام) في تفسير قوله تعالى (وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ

ص: 67


1- أصول الكافي، ج2، باب الرواية على المؤمن، ج1.
2- نهج البلاغة: الحكمة: 358.
3- الكافي: ج2 ص452.

بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (الأعراف: 182183) قوله (علیه السلام) (هو العبد يذنب الذنب فتجدّد له النعمة معه، تلهيه تلك النعمة عن الاستغفار من ذلك الذنب)(1) وفي كتاب الكافي ورد عنه (علیه السلام) قوله (إن الله إذا أراد بعبد خيراً فأذنب ذنباً أتبعه بنقمة ويذكره الاستغفار، وإذا أراد الله بعبد شراً فأذنب ذنباً أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار ويتمادى بها، وهو قوله عز وجل (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ) (الأعراف/182) بالنعم عند المعاصي)(2).

فتواتر النعم من مواطن الحذر من الاستدراج الإلهي نحو المقت والسخط، ومن مواطنه أيضاً غفلة الإنسان ووقوعه في المعاصي بعد مواسم الطاعة وتمتعه بنعم الرحمن وموائدهالمعنوية، فهذا الذي يُحصل في عيد الفطر بعد مائدة شهر رمضان المعنوية، أو ما يحصل في عيد الأضحى بعد يوم عرفة وأيام ذي الحجة المباركات، أو يقضي الإنسان صلاة الجماعة في المسجد ولا يقدّر هذه النعمة المعنوية وغيرها فهذه كلها من مواطن الحذر والخشية، ويطبق بعضهم على هذه الموارد قوله تعالى في طلب حواريي المسيح عيسى (علیه السلام) مائدة من السماء {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ . قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن

ص: 68


1- الكافي: ج2 ص452.
2- راجع هذه الأحاديث مع مصادرها في تفسير الأمثل: 4/587.

يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ } (المائدة: 114 115).

وموائد النعم المعنوية أولى من الموائد المادية في ترتيب هذه الآثار القاسية والعياذ بالله تعالى.

معنى الطاعة الموجبة للرضا:

وينبغي الالتفات أيضاً إلى أن المقصود بالطاعة الموجبة للرضا الإلهي ما يشمل اجتناب المحرّم، كالذي ورد في غض البصر عن المرأة الأجنبية، روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قوله (النظرة سهم من سهام ابليس مسموم، من تركها لله عز وجل لا لغيره أعقبه الله آمناً وإيماناً يجد طعمه)(1)، وعنه (علیه السلام) قال (من نظر إلى امرأة فرفع بصره إلى السماء أو غض بصره لم يرتدّ إليه بصره حتى يزوجه الله من الحور العين)(2).

معنى المعصية الموجبة للغضب الإلهي:

وكذا تشمل المعصية الموجبة للغضب الإلهي ترك الطاعة والتقصير فيها، كالذي ورد في التقاعس عن قضاء حاجة المؤمن، وقد وردت في ذلك عدة روايات منها قول الإمام الكاظم (علیه السلام) (من أتاه أخوه المؤمن في حاجة فإنما هي رحمة من الله تبارك وتعالى ساقها إليه، فإن قبل ذلك فقد وصله بولايتنا، وهو

ص: 69


1- وسائل الشيعة، كتاب النكاح، أبواب مقدماته وآدابه، باب 104، ح5، 9.
2- السابق: ح9.

موصول بولاية الله، وإن ردّه عن حاجته وهو يقدر على قضائها سلّط الله عليه شجاعاً من نار ينهشه في قبره إلى يوم القيامة مغفوراً له أو معذباً).(1)

وانتم بفضل الله تبارك وتعالى بين يديكم فرص عظيمة لنيل رضا الله تبارك وتعالى، فكثير منكم من الشباب المتفقهين الرساليين فعندكم فرصة كفالة أيتام آل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين) بالموعظة والارشاد والتوجيه وتعليم الأحكام، وعندكم فرصة إدخال السرور عليهم وقضاء حوائجهم، وقد اختاركم الله تبارك وتعالى لحمل هذه الأمانة فاستثمروا هذه الفرص، كلٌ منكم بحسب موقعه وساحة عمله. والله الموفق.

ص: 70


1- وسائل الشيعة، كتاب الأمر بالمعروف، أبواب فعل المعروف، باب25، ح9.

مواجهة التحديات بمعرفة قيمة النفس

اشارة

مواجهة التحديات بمعرفة قيمة النفس(1)

الجهاد الأكبر طويل حتى نهاية العمر:

لعلماء الأخلاق جهود وآثار قيمة في تهذيب النفس من الرذائل وتحليتها بالفضائل وبيان الوسائل والآليات التي تعين الإنسان على النجاح في (الجهاد الأكبر)(2) - وهو جهاد النفس كما سمّاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)- وهو الصراع الذي ميدانه الأول النفس الإنسانية الذي تتصارع فيها الأهواء والميول والنزعات والإرادات بين العقل والشهوة وبين الخير والشر وبين الحق والباطل وهو صراعٌ مرير طويل يستمر إلى أن تبلغ النفس التراقي وقد ورد في الحديث: (أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك)(3)

وقد يتخلص الإنسان من رذيلة في مرحلة معينة لكنه لا يلبث أن يجد نفسه مبتلى بغيرها، فمثلاً تراه بعد أن يجتاز مرحلة الشباب تقوى عنده السيطرة على ميوله الجنسية لكنه قد يبتلى بالطمع أو الأنانية أو حب الجاه والسلطة، وهذه أمراض أخطر وأشد فتكاً بالأمة وما الدماء التي تسفك بغير حق والبلاد التي تُخرّب إلا بسبب هذه الرذيلة.

ص: 71


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من طلبة كلية الطب في جامعة البصرة ومواكب عشيرة البدور في الناصرية يوم 9 ذ.ق 1429 المصادف 2008/11/8.
2- معاني الأخبار: ص160.
3- البحار: ج67 ص36.

معالم التحلي بالخلاق:

وقال العلماء والعارفون إن كل فضيلة تقع بين رذيلتين يمثلان جانبي الإفراط والتفريط فيها، فالشجاعة فضيلة بين رذيلتي التهوّر والجبن، والكرم فضيلة يقع بين الإسراف والبخل، وهكذا...

ورسموا برامج لعلاج الرذائل وقسموها إلى علاج نظري وعملي، ويريدون بالأول مجموعة التصورات والعقائد والمفاهيم التي تسهم معرفتها والاقتناع بها في الحل، أما الثاني فيقصد به الخطوات العملية والتطبيقية التي تؤدي إلى القضاء على الرذيلة الخلقية كإجبار النفس على الإنفاق لكسر البخل، وكالإكثار من الصوم لكبح جماح الشهوة الجنسية. وهكذا.

من عرف قدر نفسه:

اشارة

ونحن نريد أن نشير اليوم إلى مفردة في العلاج النظري تعينكم على تقوية إرادتكم وعزمكم في مواجهة التحديات وقمع الأهواء والشهوات وذلك بأن يعرف الإنسان قدره، كما ورد في الحديث: (من عرف قدر نفسه لم يوردها موارد الهلكة) فيمكن أن يفهمه كل شخص بحسب مستواه ومجاله، فالقائد العسكري عليه أن يعرف عدد قواته وعدّتها قبل أن يخوض أيَّ معركة وإلا فإنه سيهلك نفسه وجيشه وهكذا.

ونريد نحن الآن تطبيقه عليكم لنستفيد منه في التقويّ على تجاوز الصعاب والنجاح في مواجهة التحديات الأخلاقية والاجتماعية والفكرية التي تتعرضون لها في الجامعات. فإن الواحد منكم إذا التفت إلى قدر نفسه وكرامته عند الله

ص: 72

تبارك وتعالى بحيث ورد في الحديث أن الله تبارك وتعالى يباهي الملائكة بالشاب المؤمن الذي نشأ في طاعة الله تعالى، فهل يرضى شاب يفخر الله تعالى به ويباهي الملائكة وتقرّ به عينا الإمام الحجة المنتظر(عجل الله تعالى فرجه الشريف) قد ملأ قلبه حب الله تعالى والنبي وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) وعُجنت طينته بولايتهم المباركة، وقد نجحفي حياته حتى بلغ الدراسة الجامعية وأنتم في أرقاها، أقول: هل يمكن لهذا الشاب بعد التفاته لهذه المعاني أن يكون أسير شهواته أو يقع ضحيّة لغواية من شياطين الجن والإنس وهم لا سلطة لهم على الإنسان إلا بمقدار التزيين والدعوة إلى المعصية حيث يحكي القرآن الكريم: «وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم» (إبراهيم:22) ويلخّص هذه الفكرة الحديث الشريف (من كرُمت عليه نفسه هانت عليه الدنيا)(1).

ولذا يوصي الإمام الكاظم (عليه السلام): (وإن أعظم الناس قدرا الذي لا يرى الدنيا لنفسه خطرا أما إن أبدانكم ليس لها ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها بغيرها)(2) إذ لا يملك الإنسان نفسين وحياتين حتى يمكن أن يفعل ما يحلو له في الأولى ويجرب النتائج ثم يصحّح في الثانية، وإنما هي حياة واحدة ونفس واحدة فلا بد أن يبرمجها على ما ثبت بالدليل الصحيح أنه طريق للفوز والفلاح.

ص: 73


1- تحف العقول: ص278.
2- الوافي: ج1 ص93.

الاستعاذة وطلب العون من الله تعالى:

إن الله تبارك وتعالى يقدّر شدة الابتلاءات التي يتعرض لها الإنسان في جهاده الأكبر، وقد أشار الأئمة المعصومون (عليهم السلام) إلى جملة منها لإلفات نظرنا إليها والحذر والاستعاذة بالله تبارك وتعالى منها وطلب العون منه عظمت آلاءه للصمود في وجهها لاحظ على سبيل المثال مناجاة الشاكين للإمام السجاد (عليه السلام) في كتاب (مفاتيح الجنان) ويقول (عليه السلام) فيها (إِلهي إليك أشكو نَفْساً بِالسُّوءِ أمارة، وَإِلَى الْخَطيئَةِ مُبادِرَةً، وَبِمَعاصيكَ مُولَعَةً، وَلِسَخَطِكَ مُتَعَرِّضَةً، تَسْلُكُ بي مَسالِكَ الْمَهالِكِ، وَتَجْعَلُني عِنْدَكَ أهون هالِك) ويقول (عليهالسلام) فيها (إِلهي أشكو إليك عَدُوّاً يُضِلُّني، وَشَيْطاناً يُغْويني...) ويقول (عليه السلام) (إِلهي: إليك أشكو قَلْباً قاسِياً مَعَ الْوَسْواسِ مُتَقَلِّباً، وَبِالرَّيْنِ وَالطَّبْعِ مُتَلَبِّساً، وَعَيْناً عَنِ الْبُكاءِ مِنْ خَوْفِكَ جامِدَةً، و إلى ما يَسرُّها طامِحَةً)(1).

ص: 74


1- مفاتيح الجنان: ص152.

فرص التكامل للشباب أكثر

اشارة

فرص التكامل للشباب أكثر(1)

إصلاح النفس من أول العمر:

مما قاله لي السيد الصدر الثاني(قدس سره) في مراسلاته الأخلاقية - وأنا كنت في العشرينيات من عمري - أنمن نعم الله عليك أن تلتفت إلى تهذيب نفسك وتربيتها في وقت مبكر، لأن العمر كلما طال ازداد الرين على القلب، مما يؤدي إلى قسوته واستكباره عن سماع الموعظة وقبول الحق حتى يطبع عليه والعياذ بالله تعالى، لذا ورد في أدعية الإمام السجاد عليه السلام

(َويْلِي كُلَّما كَبُرَ سِنِّي كَثُرَتْ ذُنُوبِي ! وَيْلِي كُلَّما طالَ عُمْرِي كَثرَتْ مَعاصِيَّ!)(2)، فهذه أول الفرص للشباب أنهم قريبون إلى الفطرة والنقاء لم يطبع على قلوبهم فتكون استجابتهم للحق سريعة كما تشهد بذلك الحركات الرسالية عبر التاريخ.

فرص الشباب:

والفرصة الأخرى: الامتيازات التي تعطى إليهم، فقد ورد في الحديث (إن الله تبارك وتعالى يباهي الملائكة بالشاب الذي ينشأ في طاعة الله) فعندكم فرصة

ص: 75


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من طلبة إعدادية الحنانة في النجف الأشرف ومدرسة الإمام الصادق(عليه السلام) في مدينة الصدر ببغداد يوم السبت 4 ع2 1431 المصادف 2010/3/20.
2- مفاتيح الجنان: ص605.

أن تكونوا ممن يباهي به الله ملائكته ويحتج بكم عليهم، وهذا يزيد من دافعكم نحو الالتزام بالدين وحسن السيرة.

والفرصة الثالثة: وجود موارد للطاعة عندكم لا تتوفر لغيركم كبرّ الوالدين وأكثر الشباب لهم والدان وهذه تمثل فرصة عظيمة للطاعة من خلال البر بهما والإحسان إليهما بينما من هو مثلي لا والدين له يكون قد حُرم من هذه الفرصة إلا من خلال الإحسان إليهما بعد وفاتهما بالأعمال الصالحة.والفرصة الرابعة: قلة المشاغل والمشاكل التي تورث الهم وتشوش البال وهذه كلها معوقات للتكامل فالشباب في سلامة منها لأنه عادة مكفول المعيشة وكل لوازم الحياة بوالديه حيث يأتيه رزقه من طعام وشراب وملبس ومصروف يومي جاهزاً بلا مؤونة في الغالب.

والفرصة الخامسة: أنه غالباً في صحة وقوة بدنية ونشاط وهمة عالية وهذه كلها من مقوّمات الأعمال الصالحة أما من تقدّم به السن فإن الأمراض تظهر عليه وقوته تضعف فيعجز عن أداء الكثير من الطاعات.

وهكذا تتكاثر فرص الخير أمام الشباب، لذا ورد في وصايا النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي ذر(رضوان الله تعالى عليه): (يا أبا ذر اغتنم خمساً قبل

ص: 76

خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)(1).

فإن إضاعة أي من هذه الفرص للطاعة غصة توجب الحسرة والندامة.

الانتصار أمام المغريات:

نعم إن المغريات أمام الشاب كثيرة، لكن هذه كلها ليست معوقات للتكامل بلطف الله تعالى، بل ربما هي مفيدة للتكامللأنها تزيد من الهمة والإرادة لمواجهتها حتى يشعر بزهو الانتصار عليها.

فالشباب يحبون اقتحام الصعوبات حتى يحققوا الانتصارات ويفرحوا بها ولا يحتاج الأمر من الشباب إلا إلى الاعتصام بالله تبارك وتعالى وتقوية إرادته. فإذا جعل أمام عينيه مثلاً الحديث الشريف: (النظر سهم مسموم من سهام إبليس، فمن تركها خوفا من الله أعطاه الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه)(2) فإنه سيكون أكثر إصراراً على مواجهة هذه الإغراءات.

دونوا ما ينفعكم:

ومن الوسائل التي تعينكم في حياتكم التكاملية هذه أن تتخذوا لأنفسكم مفكرة أو دفتر ملاحظات يدوّن فيها أحدكم ما يؤثر فيه ويتفاعل معه من الآيات

ص: 77


1- البحار: ج74 ص75.
2- البحار: ج104 ص38.

الكريمة والأحاديث الشريفة والكلمات الحكيمة القصيرة كالذي يعرض في الشريط أسفل الشاشة على بعض الفضائيات، فإن مثل هذا التفاعل يعني أن هذه الكلمة رزق ساقه الله إليك.

من الخواطر التي كتبتها:

وأقول لكم هذه الخاطرة لأنني استفدت منها في صباي قبل أن أبلغ الحلم، ولا زلت احتفظ ببعضها وكنت اكتب التاريخ تحت كل كلمة مختارة والموجود عندي مؤرخ شهر11/1974، وكنت أقلبها بين حين وآخر فتتجدد المعنويات وتتحفز الهمم بلطف الله تبارك وتعالى. وقد ضمّ حديثنا اليوم عدداً من هذه الأحاديث التي توجّه بوصلة حياتكم إلى ما يرضي الله تبارك وتعالى.

يقول بعض الأخلاقيين إن أول صدمة يواجهها الإنسان حين موته قبل صعوبات القبر والبرزخ وغيرها، هو حينما يعلم أن ما نزل به هو الموت وإن عمره قد انتهى وهذا يعني أن باب العمل قد أغلق عليه، فلا يستطيع أن يستزيد ولو ذرة من عمل الخير إلا ما يهدى إليه من أهله أو أحبائه، فيصاب بالذهول والألم والندامة والحسرة على كل لحظة أضاعها بغير عمل صالح، فبينما أفنى عمره في اللهو والغفلة والانشغال بالدنيا الزائلة وزينتها وقضى عمره يخطط لأفكار ومشاريع لا تنتهي حتى خطف منه الموت كل تلك الأحلام، فيضغط عليه هذا الألم بقوة وتعصره الندامة، فيكون ممن قال فيهم رب العزة والجلال «أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ

ص: 78

السَّاخِرِينَ، أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» (الزمر:5658).

من حاول شيئاً في معصية الله:

ومما انصح أن تثبتوه في دفتر ملاحظاتكم قول الإمام الحسين (عليه السلام) : (من حاول أمراً بمعصية الله كان أفوت لما يرجو وأسرع لمجيئ ما يحذر)

من حاول شيئاً في معصية الله:ومما انصح أن تثبتوه في دفتر ملاحظاتكم قول الإمام الحسين (عليه السلام) : (من حاول أمراً بمعصية الله كان أفوت لما يرجو وأسرع لمجيئ ما يحذر)(1)،

لأنكم قد تعرض عليكم رغبات وأمور تريدون تحقيقها وربما يحاول البعض ذلك ولو بأساليب محرمة ككسب المال، أو العلاقة مع الجنس الآخر فينشئان علاقة حب غير شرعية ويتواعدان ويخلوان خلوة محرمة وهكذا تزل بهم الأقدام، بينما يمكنهم أن يصبروا ويطرقوا البيوت من أبوابها التي أحلها الله تبارك وتعالى، فهذه الكلمة القصيرة من الإمام الحسين (عليه السلام) توفر عليكم الوقت والجهد وتعطيكم النتيجة قبل العمل، بأن من حاول أن يحقق ما يريد بأساليب محرمة فإن ما أراد تحقيقه سيفوته، ويتحقق له عكسه وهي النتائج التي يحذر منها، فمثل هذين الشابين الذين خدعهما الشيطان سيفتضح أمرهما ويتعرضان للإهانة الاجتماعية وربما للعقوبات ويدمّر مستقبلهما ولا يحققان ما أرادا، وإن صوّر لهما الشيطان غير ذلك، فهذه الكلمات المباركة هي خلاصة معرفة إلهية وخبرة حياة وحكمة عميقة.

ص: 79


1- الكافي: ج2 ص373.

الصناعة الإلهية للإنسان

اشارة

الصناعة الإلهية للإنسان(1)

أهمية الطفولة:

من المعلوم أن فترة الطفولة لدى الإنسان هي أطول من كل الكائنات الحية، وما ذلك إلا لينال التربية الكاملة والكافية التي تؤهله لممارسة دوره كخليفة لله تعالى في أرضه وليستطيع بناء كل قواه البدنية والعقلية والفكرية والنفسية حتى يتمكن من تلقي التشريف الإلهي ويبلغ سن التكليف الذي يتأخر عن السنة العاشرة عند الإناث وأكثر من ذلك عند الذكور.

ولاشك أنه كلما تتوفر للإنسان عوامل أقوى لتربيته وبنائه فإن فرصته لبلوغ الكمال والرقي أفضل وأوسع، وكلّما كان الدور المناط بالشخص والمسؤولية التي سيضطلع بها أهم وأوسع، كان نوع المربي المطلوب متصفاً بكمالات أرقى.

التربية الإلهية:

ولما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أكمل البشر وأفضلهم ومعداً لأداء أعظم الرسالات الإلهية، فلم يكن هناك من هو جدير بتربيته وتأديبه، لذا تكفل الله تبارك وتعالى بذلك، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (أدبني ربي

ص: 80


1- الكلمة التي ألقاها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) على أساتذة وطلبة مدرسة الإمام الجواد (عليه السلام) الدينية في النجف الأشرف يوم الثلاثاء 15/ع2/1434 المصادف 2013/2/26.

فاحسن تأديبي)(1) وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) (أنا أديب الله وعلي أديبي)(2).

وفي نهج البلاغة يصف أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه الصناعة بقوله (ولقد قرن الله به (صلى الله عليه وآله وسلم) منلدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره)(3).

وأرّقَ تعبير وألطفه وأعظمه لهذه الفكرة هو ما وردفي القرآن الكريم في حق نبي الله تعالى وكليمه موسى (عليه السلام) ، قال تعالى: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (طه/39) وقال تعالى: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ) طه41،,حينما يحظى الإنسان بلحظة من العناية الإلهية والألطاف الإلهية فإنها تغنيه وتكفيه، فكيف بمن يُصنع كله بعين الله تعالى ورعايته ولطفه، وليس هذا فقط بل يصطعنه لنفسه خالصاً مخلصاً ليحمل رسالته الكريمة إلى البشرية فليس له نظرٌ إلى ما سوى الله تبارك وتعالى، ولا يطمع فيه أحد من شياطين الجن والإنس، والصنع كما في المفردات (إجادة الفعل) أما الاصطناع فإنه (المبالغة في إصلاح الشيء)(4).

ص: 81


1- البحار: ج68 ص382.
2- ميزان الحكمة: 1/80.
3- نهج البلاغة، الخطبة، 192 المسماة بالقاصعة.
4- المغردات: ص286.

نتيجة الاصطفاء الإلهي:

وكانت النتيجة أن يكون موسى (عليه السلام) مخلصاً لله تبارك وتعالى نبياً رسولاً من أولي العزم {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً }مريم51، هكذا تتدخل الألطاف الإلهية في صناعة الأفذاذ المؤهلين للأدوار العظيمة، والمستحقين للمقامات السامية، ومنهم أهل البيت (عليهم السلام)، فقد أراد الله تعالى أن يكونوا معصومين مطهرين مخلصين له تبارك وتعالى، قال تعالى (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب/33) وإذا أراد الله شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، ولا رادّ لقضائه.

هل تساءل أحد كيف يمكن أن توجد مثل خديجة بنت خويلد التي لُقِّبت بالسيدة الطاهرة في ذلك المجتمع الجاهلي المملوء بالجرائم والموبقات والمفاسد التي لم يسلَم منها إلا الأفذاذ من بني هاشم؟وهل يوجد تفسير لذلك إلا الصناعة الإلهية لتلك القدّيسة الطاهرة؟.

وهكذا يجد من يراجع سير العظماء ان يداً من وراء الغيب تتولى أمرهم وتنعم بحب وشفقة واتقان لتعدّهم للدور الكبير الذي يراد لهم.

كيف ننال الاصطفاء الإلهي؟

والذي يهمّنا من ناحية عملية هو هل يمكن أن نحظى بهذه الألطاف الإلهية ونكون ممن يصنعهم الله تعالى على عينه ويصطنعهم لنفسه بدرجة من الدرجات؟ ومن الواضح اننا نتحدث هنا عن التربية الإلهية الخاصة، لأن العامة

ص: 82

شاملة للجميع، فهو (رب العالمين) و(مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) (هود/56).

والجواب واضح بإمكان ذلك إذ أن الله تبارك وتعالى لا بخل في ساحته –كما قيل ولا يحتجب عن خلقه، إلا أن تحجبهم الذنوب دونه –كما في الدعاء.

والسؤال الأهم في كيفية تحصيل ذلك، ويمكن ان نستفيد معنيين من نفس الآيات الشريفة.

الأول: من نفس الآية الأولى (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (طه/39) فالطريق أن تحبّ الله تعالى ويحببك الله تعالى، وقد شرحنا علامات هذا الحب المتبادل وطريقة تحصيله في خطاب سابق، وورد في كلمات الحكماء (إن الله إذا أحبّ عبداً تفقّده كما يتفقّد الصديق صديقه)(1).

الثاني: من الآية الثانية (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى* وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (طه/ 4041) فعندما يكون الإنسان ذا همّة عالية وطموح كبير للعمل في إعلاء كلمة الله تعالى ونشر علوم أهل البيت (عليهم السلام) واصلاح النفس والمجتمع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن اللهيستخلصه لنفسه وسيصلح شأنه ويتولاه بنفسه ويعينه على هذه الرسالة ويؤهله لأدائها.

ما يوجب الصتاعة الإلهية:

ويستفاد من الروايات الشريفة ما يوجب تلك الألطاف الإلهية.

ص: 83


1- مفردات الراغب ص321.

(منها) صحيحة أبان بن تغلب عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) –في حديث (إن الله جلّ جلاله قال: ما يتقرب إلي عبدٌ من عبادي بشيء أحبُّ إليّ مما افترضت عليه، وإنه ليتقرب إليّ بالنافلة حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته)(1).

(منها) ما في الحديث القدسي (أيما عبد اطلعتُ على قلبه فرايت الغالب عليه التمسك بذكري تولّيتُ سياسته وكنت جليسه ومحادثه وأنيسه)(2).

(ومنها) ما في الحديث الشريف: (ما يتقرب الىّ عبد من عبادي بشئ أحبّ الىّ ممّا افترضتُ عليه و إنّه ليتقرّب الىّ بالنافلة حتى أحبّه ، فإذا أحببته كنت اذاً سمعه الذي يسمع به ، و بصره الذي يبصر به ، و لسانه الذي ينطق به ، و يده التي يبطش بها ، إن سألني أعطيته)(3).

وفي البحار عن إرشاد الديلمي وغيره (فمن عمل برضائي ألزمه ثلاث خصال: أعرفه شكراً لا يخالطه الجهل، وذكراً لا يخالطه النسيان، ومحبة لا يؤثر على محبتي محبة المخلوقين.

فإذا أحبّني أحببته، وأفتح عين قلبه إلى جلالي، ولا أخفي عليه خاصّة خلقي، وأناجيه في ظلم الليل ونور النهار حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم، وأسمعه كلامي وكلامملائكتي، وأعرّفه السر الذي سترته عن خلقي،

ص: 84


1- وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب اعداد الفرائض ونوافلها، باب17، ح6.
2- البحار: ج90 ص162.
3- الكافي: ج2 ص352 ح8.

والبسه الحياء حتى يستحي منه الخلق كلهم، ويمشي على الأرض مغفوراً له، وأجعل قلبه واعياً وبصيراً، ولا أخفي عليه شيئاً من جنة ولا نار، وأعرّفه ما يمرُّ على الناس في القيامة من الهول والشدّة، وما أحاسب به الأغنياء والفقراء والجهّال والعلماء، وأنوّمه في قبره، وأنزل عليه منكراً ونكيراً حتى يسألاه، ولا يرى غم الموت وظلمه القبر واللحد وهول المطّلع، ثم أنصب له ميزانه وأنشر ديوانه، ثم أضع كتابه في يمينه فيقرؤه منشوراً ثم لا أجعل بيني وبينه ترجماناً، فهذه صفات المحبين)(1).

الدعاء يوصل الى الصناعة الإلهية:

ولا شك أن الدعاء وطلب معالي الأمور يوشك أن يوصل إلى ذلك فليجتهد العبد في الطلب والدعاء، من دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) في طلب مكارم الأخلاق (واصلحني بكرمك وداوني بصنعك) وورد في دعائه (عليه السلام) الذي أوله (يا من تحلّ به عقد المكاره) (وأذقني حلاوة الصنع فيما سألتُ) ومن دعائه (عليه السلام) في طلب العفو (اجعلني... وخلّصته بتوفيقك من ورطات المجرمين، فأصبح طليق عفوك من أسار سخطك، وعتيق صنعك من وثاق عدلك)

خصوصاً أنتم معاشر الشباب ما دمتم في مقتبل العمر وبداية الطريق لصناعة مستقبلكم المعنوي والمادي، فاسألوا الله تعالى أن يختاركم لأعظم الأدوار وأرقى المسؤوليات وأن يصنعكم بيده سبحانه لأدائها، وواظبوا على طلب ذلك

ص: 85


1- البحار: ج74 ص29.

بإخلاص ولسوف يعطيكم ربكم ذلك كما حكى سبحانه عن عباد الرحمن أن من دعائهم (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) (الفرقان/74).

ص: 86

من أين نبدأ

اشارة

من أين نبدأ (1)

أهمية المجالس:

إن مثل هذه اللقاءات والاجتماعات والمؤتمرات مهمة وذات فوائد عظيمة، أولها نفس الاجتماع والتلاقي وتبادل الأفكار ووجهات النظر بغض النظر عما تسفر عنه من نتائج، وهي تندرج في مصاديق قول الإمام الباقر (عليه السلام): (أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا)(2).

وهي فرصة للمراجعة والتقييم والنقد البنّاء وتحديد مواطن النجاح والفشل.

من معاني المحاسبة:

وقد اخترت عنواناً لحديثي هو (من أين نبدأ) وهو لا يعني طبعاً إننا لازلنا لم نبدأ بعد، فإن جهوداً مشكورة كثيرة قدمّت ولا زالت، ولكننا أمرنا بمراجعة أنفسنا (ليس منّا من لم يحاسب نفسه)(3) والنفس التي تحاسب شاملة لنفس

ص: 87


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع الفضلاء والخطباء المشاركين في ملتقى أئمة الجمعة والجماعة في محافظات العراق يوم الثلاثاء 10/ ربيع الثاني / 1430 ه المصادف 2009/4/7
2- هداية الأمة الى أحكام الأئمة، الحر العاملي: ج5 ص127.
3- الكافي: ج2 ص453.

الفرد والمؤسسة والكيان والمشروع وحتى الدولة، وبعد كل محاسبة تكون هناك بداية لانطلاقة جديدة نحو العمل وفق نتائج هذه المحاسبة

فنديم كل عناصر الخير والنجاح وننميها، ونعالج كل مواطن الفشل وتصليحها، فعن هذه البداية أتحدث وأقول من أين نبدأ.

كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة:

ووجدت كلمة مختصرة لبعض الأعاظم وهو العالم العامل المرحوم الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء (قدس سره) - تصلح أن تثبت هذه البداية والأساس الذي ننطلق منه نحو النجاح والفلاح، قال (قدس سره) : (بني الإسلام على كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة ) وقد لخصها (قدس سره) ببلاغته المعروفة من وصايا القرآن الكريم والأئمة الطاهرين (عليهم السلام).

وأقول هنا إن الأساس والمنطلق بالدقة هو واحد وهي كلمة التوحيد أما توحيد الكلمة فهو أثر من آثار الصدق في تبني عقيدة التوحيد، والقائل يعرف ذلك لكنه أراد إلفات النظر إلى أهمية توحيد الكلمة في بناء الجماعة الصالحة المؤمنة وتشييد كيانها.

توحيد الله تعالى:

وقد نبهنا أمير المؤمنين إلى هذه الحقيقة بقوله (عليه السلام) (أول الدين معرفته، وكمال

ص: 88

معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له )(1) فمن هنا يبدأ البناء وعلى هذا الأساس يستقر، إنها المعرفة بالله سبحانه المستندة إلى توحيده تبارك وتعالى، وعلامة التوحيد الصادق الذي يتجاوز مرحلة لقلقة اللسان إلى انعقاد القلب على التسليم لله تعالى والإخلاص له، فأصبح الإخلاص هو خلاصة التوحيد الذي هو تمام المعرفة بالله سبحانه وكمالها.

معنى الإخلاص لله تعالى:

والإخلاص - لغة يعني التصفية، قال تعالى «بيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ» (النحل:66)، أي مصفى منالفرث والدم وآثارهما اللذين خرج من بينهما.

ولكن معنى الإخلاص هنا في المصطلح تجريد النية والغرض والهدف عن كل ما سوى الله تبارك وتعالى سواء على مستوى الأفعال والسلوكيات والعلاقات مع الآخرين، أو على مستوى المشاعر والأحاسيس التي تكتنف القلب وتملأه فيكون الحب في الله والبغض في الله، والغضب لله، والعمل لله، وهكذا.

مراتب الإخلاص لله تعالى:

والإخلاص له مراتب، كما أن ضدّه وهو الشرك له مراتب قال تعالى: «وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ» (يوسف:106)، وقد تختلط مراتبهما

ص: 89


1- نهج البلاغة: الخطبة: 1.

وتتداخل وتتشابك في أعماق الإنسان في عملية معقدة تخفى حتى على صاحبها، لذا سمي بالشرك الخفي وشبهه رسول الله (صلی الله علیه و آله) بقوله: (دبيب الشرك في أمتي كدبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء)(1) ).

ولذا وصف الصراع داخل الإنسان من اجل تحقيق الإخلاص بأنه (الجهاد الأكبر) ومحلهما معاً القلب الذي إن نقي عما سوى الله تبارك وتعالى كان قلباً سليماً، قال تعالى «إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» (الشعراء:89).

والحديث عن تعريف الإخلاص وحقيقته وحدوده ومراتبه وكيفية امتحان تحققه وما هي معوّقات الحصول عليه، ومسارب الشيطان لتشويشه ومعالجة هذه المشاكل حديث طويل تعرضت له كتب الأخلاق والمعرفة وقد نصحنا بمراجعتها باستمرار كموسوعة الفيض الكاشاني (قدس سره) (المحجّة البيضاء) وجامع السعادات والقلب السليم.

أهمية الإخلاص:

وتدل الأحاديث على أن الإخلاص هو مفتاح الفلاح والفوز بالألطاف الإلهية ففي الكافي عن الإمام الباقر (عليه السلام) (ما أخلص العبد الإيمان بالله عز وجل أربعين يوماً إلا زهّده الله في الدنيا وبصرّه داءها ودواءها، فأثبت

ص: 90


1- منتخب الأنوار للنيلي: ص16.

الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه)(1).

لذا أمرنا بالإخلاص في إعمالنا ونيّاتنا، قال تعالى : «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» (البينة:5)، وقال عزمن قائل «أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ» (الزمر:3)، وقال تعالى «إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لله» (النساء:146).

ولا ينجو إنسان أو شريحة من البشر من هذا الصراع حتى العلماء والمنشغلون بالعمل الإسلامي إلا من عصم الله تبارك وتعالى، قال سبحانه حكاية عن إبليس اللعين «قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» (ص:8283). فقد يطلب بعضهم العلم ليستأكل به أو ليماري به الناس أو ليبرز ويشار إليه وغيرها من النيات الباطلة والعياذ بالله.

توحيد الكلمة:

وإما الركن الثاني الذي ننطلق منه ونؤسس عليه فهو توحيد الكلمة لأنه يحفظ الكيان وعزته وهيبته وتأثيره، وإذا حصل التفرق آل الكيان إلى الضياع فلا تبقى حتى كلمة التوحيد إلا أن يشاء الله شيئاً، قال تعالى «وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» (الأنفال:46) وهذه الآية تؤكد الحقيقة التي قلناها وهي أن كلمة التوحيد (طاعة الله ورسوله) هي الحبل الذي إن تمسكت به الأمة واعتصمت به حفظت وحدتها وكيانها، ولا يقع التنازع بينها إلا إذا كان هناك خلل في إخلاصها

ص: 91


1- البحار: ج67 ص240.

وتوحيدهاوعندئذ تأتي المرحلة الثانية وهي التنازع والتقاطع والتشاجر ثم المرحلة الثالثة وهي الفشل والخذلان وحينئذ تكون النتيجة الحتمية الانهيار الكامل وذهاب الكيان والقوة والدولة.

ولا تنازعوا:

إن التنازع والخلافات لا مكان لها ولا يمكن تبريرها إذا توفر الإخلاص، وحينما يحصل اختلاف في الرأي أو في آليات العمل فيحلُ بالحوار البناء الواعي وتغير القناعات وليس بالصراع؛ فالاختلاف والتنوع حالة طبيعية بل وايجابية بناءه تدل على عافية الأمة وحيويتها، أما الخلاف فهو حالة سلبية هدامة لا مبرر لها.

قصة قوم موسى (علیه السلام):

لنأخذ درساً في قصة النبي موسى (عليه السلام) وأخيه النبي هارون لما استخلفه على قومه وذهب إلى مناجاة ربّه، فأضل قومه السامري وجعل لهم عجلاً جسداً له خوار ودعاهم إلى اتخاذه رباً وعبادته ووقف هارون في وجه هذا الانحراف والفساد وواجهه إلا انه لم ينشق عنهم وقال لأخيه موسى لما رجع إليهم «قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي» (طه:94) فكانت المحافظة على وحدة قومه هو المشروع الأهم لديه لأنه وعاء حفظ العقيدة والكيان والمشروع، وفي ضوء هذا يمكن أن نفهم وجهاً لما جرى على النبي يونس حين انشق عن قومه وخرج

ص: 92

مغاضباً فالتقمه الحوت وهو مليم، قال تعالى «وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاّ إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ» (الأنبياء 87 88).

معنى الاعتزال:

حتى المباينة والاعتزال والمقاطعة التي أمرنا بها مع أهل المعاصي لا تعني الانشقاق والانفصال لأنه ابتعاد عن تحمل المسؤولية وتخلّي عن أداء الواجب لأن هؤلاء هم ساحة عمل الرسالي الذي يدعو إلى إعلاء كلمة الله تعالى وإذا هجرهم فسيضيع على نفسه فرصة هداية الآخرين إلى تبارك وتعالى. وإنما تعني المباينة والاعتزال في الأخلاق والأفعال والسلوكيات بحيث تتضح معالم الفرق بين المنهجين والسلوكين وان كانا مختلطين بأبدانهم. ولم يبعث الأنبياء (عليهم السلام) ولا استخلف الأئمة لكي يتقاطعوا مع الآخرين فيعتزلوا الناس ويقبعون في بيوتهم، بل بُُعثوا بالحركة والمخالطة والعمل لكن من دون ذوبان أو اندماج وخلط أرواق ومداهنة مع أهل المعاصي والفسق والكفر.

وعلى هذا فالتواصل مع إخوانك المؤمنين الذين قد تختلف معهم بالرأي أو قد لا تفهم ما صدر منهم على وجه صحيح أولى وأوجب وأحق، وكلنا خطّاءون وخير الخطائين التوابون، لكن هذا لا يبرر التنافر والتقاطع أو الانزواء والتقاعس؛ لان نتيجته ذهاب الكيان والقوة والمنعة وحينئذ يدفع الثمن الباهظ حتى من لم يكن سبباً في هذه النتائج قال تعالى «وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ

ص: 93

ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً» (الأنفال:25). وحينما تنازعت الأمة وشككت وتقاعست في بعض مفاصلها التاريخية كان ضحية ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) والإمام الحسن (عليه السلام) والإمام الحسين (عليه السلام) والطاهرين من أولاده (عليهم السلام).

ومن هنا كانت وصيتي بأن يكون الأساس الذي ننطلق منه في عملنا المبارك ونشيّد عليه المشروع الإلهي هو الإخلاص في العمل وحفظ وحدة الكلمة.

ص: 94

رُبَّ موقف يكون مصدراً لبركات كل الحياة

اشارة

رُبَّ موقف يكون مصدراً لبركات كل الحياة(1)

مثال أهل الكهف:

يظهر من بعض الآيات القرآنية أن موقفاً يصدر من الإنسان أو قراراً يتخذه في منعطف من حياته أو صفة كريمة يتصف بها تكون مصدراً لبركات تعمه كل حياته «وَمَا عِندَ اللهِ خَيرٌ وَأبقَى»، ونأخذ هنا أمثلة من حياة غير المعصومين من الأنبياء والأئمة (صلوات الله وسلامه عليهم) كأصحاب الكهف «إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا» (الكهف: 14) فقد وقفوا في وجه الشرك والوثنية ورفضوا عبادة الطاغوت وسخّفوا عقائدهم واظهروا عبادة الله الواحد الأحد فكانت النتيجة «وَرَبطَنَا

ص: 95


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع مركزي الزهراء المظلومة وسبل الرشاد في الناصرية الذين أقاموا معرضا ثقافياً في كربلاء بمناسبة الزيارة الشعبانية واستمر أربعة أيام، وقد زاروا سماحته يوم 7 شعبان، ومن حديث سماحته مع مجموعة من الشباب أشادوا روضة خضراء في الشعلة، وأطفال مدرستي الإمام الصادق في مدينة الصدر والإمام الجواد في الكاظمية، وقد زاروا سماحته يوم 22 شعبان، ومن حديثه مع عدة سرايا من لواء الإمامين العسكريين في قضاء الهندية الذي قدموا خدمات جليلة لزوار الشعبانية وحافظوا على قدسية الشعائر في كربلاء قرب مقام الإمام المهدي بالتعاون مع موكب الزهراء في الناصرية وغيرها، وقد زاروا سماحته يوم 25/ شعبان /1427 المصادف 19/ 9 / 2006. وكذلك من حديث سماحة الشيخ مع حشد من الضيوف والزائرين يوم السبت 4 محرم 1432 المصادف 2010/12/11.

عَلَى قُلُوبِهِم» أي قوّيناها ونوّرناها بالمعرفة والبصيرة وكشفنا لها الحقائق «إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى» (الكهف: 12).

مع مريم بنت عمران:

والمثال الآخر مريم ابنة عمران، قال تبارك وتعالى فيها «وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ» (الأنبياء:91) وضربها الله تعالى وامرأة فرعون مثلاً للمؤمنين قال تعالى «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ» (التحريم: 11 12) فالعلاقة والسببية واضحة بين العفة والحياء المعبَّر عنها بصيانة الفرج وبين نفخ روح الله السيد المسيح (عليه السلام) فيها حيث عبّر عنها بفاء التفريع – وكذلك امرأة فرعون التي رفضت الانصياع لفرعون واتباعه في عمله فجعلها الله تبارك وتعالى مثلاً يحتذي به المؤمنون في كل الأجيال.

قصة عن الإخلاص في العمل:

ومن تلك البركات ما يظهر من بعض الروايات أن من أقسم على الله تبارك وتعالى بعمل مخلص من هذا القبيل لحاجة أبرَّ الله قسمه وقضى حاجته.

ص: 96

عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (بينما ثلاثة رهط(1) يتماشون، أخذهم المطر فأووا الى غار في جبل، فبينما هم فيه انحطت صخرة فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أفضل الأعمال علمتموها فأسألوه بها لعله يفرج عنكم، فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان كبيران، وكانت لي امرأةوأولاد صغار، فكنت أرعى عليهم(2) ، فإذا أرحت عليهم(3) غنمي بدأت بوالديَّ فسقيتهما، فلم آت حتى نام أبواي، فطيبت الإناء، ثم حلبت ثم قمت بحلابي عند رأس أبويَّ، والصبية يتصاغون(4) عند رجلي أكره أن أبدأ بهم قبل أبوي، وأكره أن أوقظهما من نومهما، فلم أزل كذلك حتى أضاء الفجر، اللهم إن كنت تعلم اني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنّا فرجة نرى منها السماء، ففرج له فرجة فرأى منها السماء.

وقال الآخر: اللهم إنه كان لي بنت عم فأحببتها حباً، كانت أعز الناس إلي، فسألتها نفسها، فقالت: لا، حتى تأتيني بمائة دينار، فسعيت حتى جمعت مائة دينار، فأتيتها بها، فلما كنت بين رجليها، قالت: أتق الله، ولا

ص: 97


1- الرهط: ما دون العشرة من الرجال. مجمع البحرين: ج4 ص292.
2- فلان يرعى على أبيه: أي يرعى غنمه. لسان العرب: ج14 ص325.
3- أي رددت عليهم.
4- صاغية الرجل: الذين يميلون اليه ويأتونه ويطلبون ما عنده ويغشونه. لسان العرب: ج14 ص461.

تفتح الخاتم(1) إلا بحقه، فقمت عنها، اللهم إن كنت تعلم اني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنّا فيها فرجة، ففرج الله لهم فيها فرجة.

وقال الثالث: اللهم إني كنت استأجرت أجيراً بفرق ذرة(2) ، فلما قضى عمله عرضت عليه فأبى أن يأخذها، ورغب عنه، فلم أزل اعتمل به حتى جمعت منه بقراً ورعاءها، فجاءني وقال: أتق الله ولا تظلمني، فقلت له: أذهب الة تلك البقر ورعاتها فخذها، فذهب واستاقها، اللهم إن كنت تعلم إني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنّا ما بقي منها، ففرج الله عنهم، فخرجوا يتماشون)(3).

من أسباب زيادة التكامل:

ورد في الحديث الشريف (إ ذا مات المرء انقطع عمله إلاّ من ثلاثة: صدقة جارية، وولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به بعد موته)(4)

وانتم الذين أتشرف بخدمتكم الآن قد حققتم الثلاث، فأنتم أبناء صالحون ليس لأبويكم فقط وإنما للإسلام وللمرجعية وللوطن وللأمة، ومدارسكم هي التي تتداول العلوم التي

ص: 98


1- قال ابن منظور: أصل الخاتم التغطية، وختم البذر تغطيته. أنظر لسان العرب:ج12 ص165.
2- وهو مكيال ضخم لأهل المدينة، وقيل لأهل العراق، أنظر لسان العرب: ج10 ص306، وكتاب العين: ج5 ص147.
3- البحار: ج67 ص383، والأمالي للطوسي: ص395.
4- شرح أصول الكافي للمازندراني: ج6 ص137.

ينتفع بها في إصلاح الناس وتعليمهم أحكام الحلال و الحرام وسيرة أهل البيت (عليهم السلام) والعقائد الحقة.

أما الصدقة الجارية فلا تنحصر في بناء مسجد أو حسينية أو مدرسة وإنما تعم كل مشروع خيري وعمل يستمر في عطائه الإنساني النبيل، كالذي قمتم به حين زرعتم منطقة خضراء في مدينة الشعلة وزينتموها بالورود و هيأتموها لكي يروِّح فيها الإنسان عن نفسه همّ الحياة ومشاقها ونكدها، ويلهو فيها الأطفال ببراءة وتجتمع فيها العوائل على الحب والتآخي والمودّة.

وليس كثيراً على كرم الله تعالى وفضله ورحمته أن يهيئ للإنسان أسباباً لزيادة الأجر والتكامل حتى بعد وفاته ، وليس اعتباطاً أن يرزق الله أحداً مثل هذه الأسباب دون غيره ، لأن الأول لابد انه قام بعمل أو اتخذ موقفاً وجد رضاً وقبولاً عند الله تبارك و تعالى فأغدق عليه من كرمه ورضاه بما هو أهله.هذه أمثلة لكرم الله تبارك وتعالى وسعة رحمته ولطفه العميم فهو الذي يهدي عباده إلى الطاعة ويوفّقهم إليها وييسّر لهم أسبابها (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) ثم يشكرهم عليها ويثيبهم بأحسن الجزاء وأوسعه فيدلّل عبده ويرعاه لعمل واحد صدر منه.

ص: 99

الحذر من العجب:

لكن يجب الحذر من النفس الأمارة بالسوء فإن الذي قلناه لا يعني أن العبد يمنّ بعمله على الله تبارك وتعالى، بل لا يحق له أن يظن أنه قدّم شيئاً بين يدي الله تعالى وعليه أن يعتقد أن كل ما عنده هو من الله تعالى.

كنّا في الروضة النبوية الشريفة في الموسم المنقضي (1431) وجاء أحد الرفقة فرحاً بزيارته للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبما ورد في النص المعروف الذي يستحب أن يزار به النبي (صلى الله عليه وآله) كل يوم سبت وهو (اللهم إنك قلت ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً، إلهي فقد أتيت نبيّك مستغفراً تائباً من ذنوبي)(1) وشعرت منه وكأنه قدّم شيئاً وينتظر من الله تعالى الجزاء فقلت له : لست أنت الذي جئت إلى هنا وأتيت وإنما الله تبارك وتعالى الذي جاء بك وأذن لك ويسّر لك العسير وطوى لك المسافات البعيدة. لكن الله تعالى بكرمه ضمن لعباده انه لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

من درجات الإخلاص:

وهكذا عندما تقرأ صباحاً في دعاء العهد مع الإمام المنتظر (عليه السلام) (اللهم أني أجدد له في صبيحة يومي هذا وما عشت من أيامي عهداً وعقداً

ص: 100


1- مفاتيح الجنان: ص81.

وبيعة له في عنقي لا أحول عنها ولا أزول أبداً)(1) فلا تشعر أنك أنت الذي بقدراتك الذاتية المليئة بالنقص والقصور والتقصير والعجز لا تحول عن بيعة الإمام (عليه السلام) ولا تزول أبداً، فقد زلّت أقدام كثيرين وفتنتهم الدنيا وضعفوا أمام المغريات أو الصعوبات، فالثبات على الحق نعمة من الله تعالى وفضل.

قصة عن العمل الذي غيّر حياتي:

وإذا أردت أن اذكر مثالاً من حياة هذا القاصر المقصّر من باب «وَأَمَّا بِنِعمَةِ رَبِّكَ فَحَدّثْ» ولرفع الهمة في النفوس فهو القرار الصعب الذي اتخذته عندما تخرجت من كلية الهندسة عام 1982 وكانت القوانين تلزمنا بالخدمة العسكرية لكنني كنت مطمئناً بلا تردد بضرورة رفض الانخراط في الخدمة لأن فيها دخول في منظومة الظالمين مهما كان مكان الوحدة العسكرية أميناً ومريحاً –باعتبارنا مهندسين مدنيين واتخذت ذلك القرار الذي كانت عقوبته الإعدام وفي قمة بطش النظام وقسوته حيث أعدم عشرات الآلاف خصوصاً بين 1980 1982 وملأ السجون والمعتقلات بأمثالهم وكانت عيون جلاوزته والمنافقينوالمتملقين تلاحق الناس كالظل، وكان الأب يخبر الجلاوزة على ولده المتخلف عن الخدمة العسكرية ويسلّمه إلى الإعدام خوفاً على نفسه أن يعثر على ولده عنده فيعاقب، وكان ظرفي العائلي في أشد مراحله حيث توفي والدي واعتقل أخي الكبير وفقد أخ آخر ومات ثالث والحاصل انه بقيت وحدي حبيس

ص: 101


1- مفاتيح الجنان: ص585.

الدار مع النساء ولم يمنعني ذلك من الإقدام على هذا العمل وتحمل كل تبعاته وثبتت عليه كل تلك السنين ومحل الشاهد أنني أجد الألطاف الإلهية تغمرني إلى الآن ببركة التوفيق الإلهي لذلك الموقف فلله الحمد أولاً وآخراً.

النهي عن التكاسل:

ومحل الشاهد أننا يجب أن لا نقصّر عن استثمار أي فرصة للطاعة والمشاركة في أي مشروع خيري أو عمل إنساني، فلعل هذا العمل بالذات هو الذي يقع في محل الرضا والعطاء الإلهي والنفحات الخاصة، فقد ورد في الحديث الشريف إن الله تعالى أخفى وليّه بين عباده لكي تحترم الجميع ولا تستحقر أحداً مهما كان ضعيفاً أو رثّ الحال لاحتمال أن يكون من أولياء الله تعالى، و أخفى رضاه في طاعته أي أخفى مقدار الرضا و العطاء على أنواع الطاعات لكي يهتم الإنسان بها جميعاً ولا يفّرط في أي واحدة منها إذ لعل هذه هي من أسباب الألطاف الإلهية الخاصة .

ولا تقللوا من شأن أي طاعة فإنكم لا تعلمون أيها جعلها الله تعالى سبباً لشمول ألطافه، فلا تعلم أي معصية تكونالقاصمة والضربة القاضية التي تؤدي إلى الطبع على القلب بحيث لا تنفعه الهداية والعياذ بالله تعالى.

فالمأمول منكم أن لا تقصروا في مشاريع الخير والنفع للأمة واحتسبوا بها الأجر عند الله تعالى «وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ» (الروم:60) من

ص: 102

هؤلاء المتصارعين على حطام الدنيا الزائفة فحينما تنصب الموازين الحق سيعلمون عندئذ الفائزين والمفلحين «يَومَئِذٍ يَخسَرُ المُبطِلُونَ» (الجاثية: 27).

فلا تتقاعسوا أيها الأحبة عن القيام بأي عمل صالح أو اتخاذ قرار فيه لله رضا في حياتكم خصوصاً في المنعطفات الحاسمة ولاشك أنكم تعرضتم لمثل هذه الاختبارات كشاب تعرض له امرأة ذات جمال في غير ما أحله الله تعالى، أو مبلغ كبير يعرض عليه إزاء عمل لا يرضي الله ورسوله أو يطلع على حاجة لمؤمن يستطيع قضاءها ببذل مال أو جهد أو نصرة مظلوم أو الإجهار بذكر الله تعالى والنبي وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) في أوساط الغافلين ونحوها.

ص: 103

الاهتمام بفعل المستحبات وترك الشبهات والمكروهات

اشارة

الاهتمام بفعل المستحبات وترك الشبهات والمكروهات (1)

ضرورة الالتزام بالمستحبات وترك المكروهات:

عندما نمارس وضيفتنا في الهداية والإصلاح وتبليغ الأحكام ندعو للقيام بفعل ما ونحثّ عليه ونشرح ثواب العمل والآثار المباركة له في الدنيا والآخرة، فيُقال لنا: قل لنا هل هو واجب لا يجوز تركه حتى نفعله، وكأنّنا ليس علينا أن نؤدي إلاّ ما كان واجباً جزماً لا رخصة في تركه، أما المستحبات –وبعضها مؤكدة أو الأمور التي يؤتى بها على نحو الاحتياط الاستحبابي فلا نشعر بالمسؤولية اتجاه القيام بها.

وهكذا عندما ننهى عن فعل معيّن ونبيّن الآثار السيئة على النفس والمجتمع عامة، فيقال لنا: قُل لنا هل هو حرام جزماً حتى نجتنبه، وإلاّ فلا مانع من فعله، وطبعاً ليست كل الأفعال المنهي عنها جزمية الحرمة، فبعضها شبهات، وبعضها يوجد احتياط بتركها، وبعضها ليست حراما لكنّها يمكن أن تكون باباًيؤدي إلى الحرام، فكأنّ هذه كلها مما يمكن اقتحامه ولا يجب اجتنابه.

ص: 104


1- من حديث لسماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في يومين متتاليين مع وفود من طلبة الجامعات في بغداد وذي قار وجامعة الصدر الدينية فرع خور الزبير في البصرة ومؤسسات مجتمع مدني من بغداد والحلّة يوم 2526/ ع1/1434 ه المصادف 2013/2/67.

إنّ منهج عدم فعل شيء إلاّ إذا كان واجباً جزماً، وعدم ترك شيء إلا إذا كان حراماً جزماً، منهج غير منتج ولا يوصل إلى الفلاح، ومن يسير وفق هذا المنهج فإنّه يسقط في الهاوية وتزلّ قدمه.

والمثال الواضح لذلك هو شق الطرق فإنه يوضع إلى جانب الطريق كتف ترابي يسمى حمى الطريق ليشعر قائد السيارة بالاطمئنان والثبات ولتحقيق الأمان للسيارة عندما تزل إطاراتها عن الشارع المعبّد بسبب غفلة السائق أو لتعرضه لموقف مفاجئ، ويتأكد الأمر لدى المهندس حينما يصمّم طريقاً في منطقة جبلية وعرة، وإلى جانبها وادٍ سحيق، فإن هذا الكتف يكون ضرورياً، ولو وضع حد الشارع على حافة الوادي فإن السقوط فيه سيكون وارداً جداً خصوصاً عندما تضايقه سيارة قادمة أو تأخذه سِنة او غفلة، بل ان قائد السيارة يكون مرتبكاً وقلقاً وغير متزن إذا لم يوجد هذا الحمى إلى جانب الطريق ويؤدي به ارتباكه إلى السقوط في المحذور، وهذا جانب نفسي لا يمكن انكاره.

وهذا هو حال من يزعم أنه يسير وفق الأحكام الإلزامية فقط من واجبات ومحرمات ولا يعزّزها بفعل المستحبات وترك الشبهات والمكروهات بمقدار ما يستطيع وبمقدار ما يوفّقه الله تعالى إليه.

وقد وُصفت الشبهات بنفس لفظ الحمى في الأحاديث الشريفة.

عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فمن رعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه).(1)

ص: 105


1- مجموعة ورّام: 1/52.

حُكي أن عالماً سأل أحد علماء السلف الصالح أنه لماذا ندعو فلا يستجاب لنا، بينما كان دعاء السلف الصالح مستجاباً، قالفي جوابه: لأننا كنّا نقسّم أحكام الأشياء على قسمين فقط: ما نلتزم بفعله وهي الواجبات والمستحبات، وما نلتزم بتركه وهي المحرمات والمكروهات، أما أنتم فقسمتموها إلى خمسة أقسام: واجب ومستحب ومباح ومكروه وحرام ولم تلزموا أنفسكم إلاّ بفعل الأول وترك الأخير فسبّب لكم هذه القسوة والابتعاد عن الله تعالى.

أهمية الواجب والمستحب:

صحيح أن الواجبات أهم من المستحبات بدليل جعلها واجبات أي أن المصلحة في الفعل الواجب ملزمة –كما يعبّرون وتفيد بعض الروايات أنها أكثر ثواباً عند الله تعالى من المستحبات، لكنّنا بصدد الحديث عمّا هو أكثر إنتاجاً وإيصالاً في طريق التكامل، والمستفاد من بعض الروايات أن النوافل هي الأكثر فاعلية، ويساعد عليه الوجدان، لأن الإنسان يؤدي الفرائض بدافع الخوف من العقوبة إذا تركها غالباً باعتبارها واجبة، أما المتسحبات فيؤديها رغبة في ثواب الله تعالى والتقرب إليه والفوز بمحبته ورضاه، وهذه النية الثانية موجبة أكثر من الأولى للتقرب من الله تبارك وتعالى.

وأذكر شاهداً على هذا التأثير للنوافل وهي حكاية رواها أحدهم عن المرحوم السيد علي القاضي صاحب المدرسة الأخلاقية المعروفة قال فيها أنه أيام إقامته في النجف الأشرف كان هناك شاب منحرف يشرب الخمر وتارك للصلاة، لكنه كان يحب السيد القاضي كثيراً ويساعده إذا رآه ويحمل عنه حاجاته إلى داره،

ص: 106

وكان السيد ينصحه بأن يتوب إلى ربّه ويلتزم بالصلاة ويترك الخمر، لكنه لم يأخذ بالنصيحة وبعد سنين قال له السيد إنني طلبت منك طلباً منذ سنين ولم تستجب لي، فقال الشاب: لا أقدر على الالتزام، فقال السيد له: إذن أطلب منك أن تفعل في ليلة واحدة بأن تقوم في منتصف الليل والناس نيام فتتوضأ وتصلي صلاة الليل، فقال الشاب أن نومي عميق ولاأستطيع الاستيقاظ في منتصف الليل، قال السيد، لا بأس أنا أضمن لك استيقاظك وواعدني بفعل ما طلبت، فوعده بذلك ولما انتصف الليل استيقظ الشاب فجأة وجاء إلى حوض الماء ليتوضأ وفكّر وتدبّر وتأمّل طويلاً وراجع نفسه واستحيا من خالقه فأدركته الألطاف الإلهية، وهنا خاطب ربّه بكلمة اشتهرت لاحقاً (يا رب إني وإن تأخرت في الوصول إلا إنني أرجو أن لا أفارقك) ومن ذلك اليوم استقام في سيرته وأصبح من مشاهير الصالحين في النجف.

ثمرات الالتزام بالمستحبات:

وقد تبين مما سبق وجود أكثر من ثمرة للإتيان بالمستحبات، منها.

1 انها صيانة ووقاية للواجبات، فمن كان مؤدياً للنوافل والمستحبات، فإنه بالطبع أشدّ التزاماً بالواجبات، أما من اقتصر على الواجبات فإنه معرّض لفواتها بسبب أو آخر.

2 إن النوافل والمستحبات أسرع إيصالاً في سلّم الكمال، ومن الأحاديث الواردة في ذلك صحيحة ابان بن تغلب عن الإمام الباقر (عليه السلام) في الحديث القدسي (وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّب إليَّ بِالنَوَافِلِ حَتَى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ

ص: 107

كُنْتُ سَمْعَهُ الَذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ).

إن بها إتمام نقص الفرائض من حيث القبول، لأن الناس غالباً لا يأتون بالفريضة بالشكل الموجب للارتقاء، كالصلاة الخاشعة مثلاً، فشرعت النوافل لإتمام هذا النقص، وقد وردت في هذا المعنى روايات عديدة، كصحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الباقر (عليه السلام)، قال: (إنَّ العبد ليرفع له من صلاته نصفها أو ثلثها أو ربعها أو خمسها، فما يرفع له إلا ما أقبل1 عليه منها بقلبه، وإنما أمرنا بالنافلة ليتم لهم بها ما نقصوا من الفريضة).(1)

وروى أبو بصير نفس الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) وقال بعده: ما أرى النوافل ينبغي أن تترك على حاله، فقال الإمام الصادق (عليه السلام): (أجل لا)(2).

2 الثواب الكبير المرصود لمن أتى بالمستحبات بشكل مذهل أوجب عدم تصديق الكثيرين، ولم تتحمل عقولهم أن يكون مثل ذلك الثواب لمن صلى ركعتين أو قرأ سورة قصيرة من القرآن أو قضى حاجة لأخيه المؤمن أو تصدق بمبلغ يسير، لكن كرم الله تعالى واسع وخزائنه لا تنفد، وقد حفل القرآن الكريم

ص: 108


1- وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب اعداد الفرائض ونوافلها، باب17 ح3.
2- السابق.

والروايات الشريفة(1) بأمثال ذلك، حتى ان بعض ذلك الثواب لم يذكر تعظيماً لشأنه كثواب صلاة الليل، قال تعالى (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (السجدة/17)، ومثل هذا الثواب العظيم لا يفرّط به عاقل، ونحن في هذه الدنيا الزائلة نزرع لنحصد في الآخرة وفي تجارة لن تبور، والربح الجنة، ولذلك كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يجهد نفسه في النوافل والمستحبات، لأنه وعى قوله تعالى (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً) (الإسراء/79) ومن لا يريد أن يبعثه الله تعالى في المقام المحمود؟، وإنما ينال بامتطاء الليل(2) كما عبّّر الإمام الحسن العسكري (عليه السلام).

وقد أجهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه الشريفة حتى أشفق عليه ربه وخاطبه (طه . مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (طه/ 12) وقيل له: يا رسول الله أتتعب هكذا بالعبادةوقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أفلا أكون عبداً شكوراً.

آثار ترك المكروهات:

وفي الطرف المقابل فإن نفس الآثار المباركة تحصل من ترك الأمور المشتبهة والمكروهات، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (حلال بيِّن وحرام بيِّن

ص: 109


1- راجع (مفاتيح الجنان) ونحوه.
2- انظر البحار: ج75 ص379.

وشبهات بين ذلك، فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان منه اترك).(1)

وعنه (عليه السلام) (إياك والوقوع في الشبهات، والولوع بالشهوات، فإنهما يقتادانك إلى الوقوع في الحرام وركوب كثيرٍ من الآثام).(2)

وروى الإمام الصادق (عليه السلام) حديثاً عن جدّه رسول اله (صلى الله عليه وآله) جاء فيه (فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم)(3).

الاتيان بالمستحبات على قدر الإمكان:

ينبغي الالتفات إلى أنه ليس من المقدور إتيان كل ما مذكور من المستحبات واجتناب كل ما ورد من المكروهات، لكننا ذكرنا في خطاب آخر عن سنن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انك تبذل وسعك في فعل ما تستطيع وسيوفقك الله تعالى إلى ما لم تكن تستطيع، فلنتعاون على البر والتقوى كما أمر الله تبارك وتعالى.

ومن الواضح أيضاً اننا لا نريد من الاهتمام بالمستحبات أن يكون على حساب الفرائض، لأنه (لا قربة بالنوافل إذا أضرّتبالفرائض)(4) كما في الحديث الشريف كمن ينفق في الإطعام واستضافة الزوار وهو لا يؤدي الحق

ص: 110


1- من لا يحضره الفقيه: 4/75 ح5149.
2- غرر الحكم: 2723.
3- الكافي: 1/ 68 ح10.
4- نهج البلاغة: الحكمة: 39.

الشرعي، وإنما نتكلم عن الاهتمام بالمستحبات بعد الفراغ من الالتزام بالواجبات.

نتيجة عدم الشعور بالمسؤولية:

إنّ هذا المنهج من التفكير الذي نريد معالجته في هذا الحديث منتشر مع الأسف وهو عقبة في طريق الإصلاح بل عطّل فرائض مهمة في الإسلام كفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنها ذابت بسبب عدم شعور الفرد بالمسؤولية أمامها، وأحد أسباب ذلك ذهاب المشهور إلى كون وجوبها كفائياً فاتّكل كلٌ على الآخر باعتبار أن الوجوب ليس متعيناً به.

وكذا صلاة الجمعة المباركة حيث قال المشهور أن وجوبها تخييري والمكلف مخيّر بين إقامتها أو أداء صلاة الظهر، فضيّعوها طيلة هذه القرون لأنهم اعطوا لأنفسهم الرخصة في الاختيار بين الظهر والجمعة مع أنهم يعترفون انها أفضل من صلاة الظهر حتى لو قلنا بمقالتهم، وحرمنا بسبب ذلك من بركات هذه الفريضة العظيمة.

مشكلة عدم الحضور لصلاة الجمعة:

حينما نتفقّد أخبار الحضور في صلوات الجمعة نخرج بنتائج إن عدد الحاضرين معتدّ به إلا أنه بلحاظ عدد من يتوقع منهم الحضور غير مرضي وحينما نسأل عن السبب يعتذر البعض بأنه يبعد أزيد من 11 كيلومتراً عن موضع الصلاة فيسقط عنه الوجوب، ويعتذر الآخر بأنه يرجع إلى مرجعية تقول بالوجوب التخييري

ص: 111

فلا يتعين عليه الحضور، وهذه نماذج لهذا التفكير غير المثمر الذي يفرط بأعظم القربات إلى الله تبارك وتعالى، فأين ذهبت مئات الأحاديث الشريفة التي تلزمبالحضور في صلوات الجمعة وتحث على الحضور فيها وتذكر الثواب العظيم والمغفرة الواسعة لمصلّي الجمعة، وهب أن الحضور ليس واجباً بالتعيين على الفرد، لكن أليس هو واجباً تخييرياً وانه أفضل الفردين، فلماذا هذا الزهد بالفضل العظيم والتجارة التي لن تبور.

لبس (المانتو) من قبل النساء:

ونفس الشيء نواجهه عند النهي عن بعض الأفعال، فحينما نقول لبعض ال نساء المحجبات بالثوب الذي ينزل إلى الركبة المعروف ب(المانتو) مع السروال: ان هذا النمط من اللباس يبتعد عن حجاب العفاف والحياء ويشكّل خطوة نحو التسامح والتحلّل، يقال لنا: انه ساتر للبدن ولا إشكال فيه اقتصاراً على الحدود الدنيا من الواجب.

الشباب ومشكلة الحوار مع الجنس الآخر:

أو بعض الشباب والشابات من طلبة الجامعات أو الذين يجرون حوارات على الجات وأمثاله ننهاهم عن إنشاء علاقات حتى لو كانت (شريفة) على مستوى تبادل المحاضرات ومناقشة شؤون الدراسة، لأنه فخ من فخوخ الشيطان ومظنة للانجرار نحو الحرام، فإن الشيطان يخطط بمكر وخبث ليصل إلى مراده ويبدأ

ص: 112

بمقدمات ليس فيها حرام واضح حتى يخدع المؤمن بإتباعه ثم تتدرج الخطوات ويبتعد المخدوع عن جادة الصواب شيئاً فشيئاً.

ففي البداية تبادل محاضرات وأحاديث عن شؤون الدراسة والحياة العامة ثم إعجاب من الطرفين ببعضهما ثم (مودّة) قلبية ثم تكثيف اللقاءات والمواعيد ثم الاختلاء ببعضهما في أماكن بعيدة عن الرقيب، ولا نعلم ما يحدث بعد ذلك وهذا ما حذّرَنا منه الله تبارك وتعالى فقال (وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ)(البقرة/168) لأن الشيطان يتخذ خطوات متدرجة تنتهي إلى الوقوع في الحرام وقد لا تكون هذه النتيجة واضحة من أول الأمر.

أقول: حينما نقدّم هذه التوجيهات للشباب والشابات يقولون لنا أنهم لم يفعلوا حراماً وان علاقتهم (شريفة) وأحاديثهم مقتصرة على شؤون الدراسة والأمور العامة ولا يعلمون أنهم يسيرون على حافة الطريق وإلى جنبهم وادي سحيق ومن دون منطقة حماية لهم على الجوانب.

منهج عدم الاعتناء بالمستحبات والمكروهات:

إن السير بهذا المنهج من عدم الاعتناء بالمستحبات وترك الشبهات والمكروهات يؤدي إلى تضييع الدين شيئاً فشيئاً، لأنه سيترك قراءة القرآن وزيارة الأئمة المعصومين (عليهم السلام) والإحسان إلى الآخرين والحضور في المساجد باعتبارها ليست واجبة، وسيقترب من الشبهات لأنها ليست محرمة جزمية فماذا بقي من الدين؟ وأين التقوى والورع الذي هو خير الزاد ليوم المعاد؟.

ص: 113

والخلاصة أنه علينا أن نعطي أهمية كبيرة لترك الشبهات وما نستطيع من ترك المكروهات، وأن نهتم بفعل ما يوفّقنا الله تعالى إليه من المستحبات خصوصاً المؤكدة منها كبعض النوافل اليومية وقراءة القرآن ولو لبضع دقائق يومياً والحضور إلى المساجد لأداء صلاة الجمعة والجماعة، وزيارة المعصومين (عليهم السلام) بحسب المتيسّر، ويحسن زيارتهم (عليهم السلام) عن بعد يومياً بسلام خفيف (السلام عليك يا سيدي ومولاي يا رسول الله صلى الله على روحك الطيبة وجسدك الطاهر، وعليك السلام يا مولاي يا حجة الله في أرضة وسمائه ورحمة الله وبركاته) وهكذا لجميع المعصومين مع ذكر اسم كلواحد منهم، فإنه يصل إليهم لأنهم (يسمعون الكلام ويردّون الجواب)(1) كما في الزيارة الشريفة.

ص: 114


1- أنظر البحار: ج98 ص330.

أيها الشباب الرسالي اثبتوا على الخير فإن الأمور بخواتيمها

اشارة

أيها الشباب الرسالي اثبتوا على الخير فإن الأمور بخواتيمها (1)

لطف الله تعالى بالشباب:

في الحديث الشريف عن رسول الله (صلی الله علیه و آله):(إن الله تعالى يباهي بالشابّ العابد الملائكة، يقول: أنظروا الى عبدي! ترك شهوته من أجلي)(2). فمن حقنا أن نفخر بكم أيها الشباب الرساليون، إذا كان الله تعالى يفخر بكم ويباهي بكم ملائكته، لان الملائكة مجبولون على الطاعة وخلقوا مفطورين عليها ويتحركون نحوها تلقائيا، أما انتم فقد خلق فيكم نوازع الخير والشر ووجودكم محاط بالشهوات الجاذبة والأهواء الصارفة، فحينما تنجحون في هذا الصراع المرير والدقيق والمستمر الذي لا هوادة فيه فأنكم أفضل من الملائكة بالتأكيد وأعلى منهم منزلة.وما كان لذلك أن يتحقق لولا لطف الله تبارك تعالى وحسن توفيقه إذ وفّر لكم أسباب الهداية وأوّلها أن قدّر لكم أن تخلقوا في هذا المجتمع المؤمن الموالي لأهل البيت وبذلك فقد اختصر عليكم المسافة للوصول إلى الهداية، فتصوروا

ص: 115


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع وفد رابطة الطالب الرسالي في الناصرية يوم الخميس 27/جمادي الثاني/1428 ه المصادف 2007/7/12.
2- كنز العمال: 43057.

لو أن أحدكم ولد في بعض المجتمعات المنهمكة في الحيوانية والبعيدة عن الإسلام في أمريكا أو في مجاهل أفريقيا فما هو احتمال هدايتكم إلى هذا الخير الذي انتم فيه.

شواهد عن الثبات في الطريق الإلهي:

والمهم يا أحبتي أن تثبتوا على هذا الخير وتعضّوا عليه بالنواجذ فإن الأمور بخواتيمها كما ورد في الحديث الشريف، واذكر لكم شاهدين على الحديث

أولهما: الزبير بن العوام ابن عمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) ابن أخ خديجة الكبرى ومن السابقين للإسلام في أوائل الدعوة الإسلامية في مكة حيث تحمّل آذى قريش ثم هاجر إلى المدينة وشارك في بدر وأحد وأبلى بلاء حسناً وله في معركة الخندق موقف جليل حين انبرى إلى الفارس من قريش الذي وقع في الخندق حينما حاول مع عمرو بن عبد ود العامري عبوره وطلب من يبارزه في الخندق فنزل إليه الزبير وقتله.

ثم بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان من المدافعين عن بيت علي وفاطمة (صلوات الله عليهما) حتى كسر سيفه، وكان من الستة أهل الشورى وأعطى صوته لعليبن أبي طالب (عليه السلام)، هذا التاريخ المشرف الذي لا يرقى إليه الكثيرون انهار حين بايعت الأمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وانصرفت عنه الخلافة التي كان يحلم أن تصير إليه بعد مقتل الخليفة الثالث، حيث كان يحرّض هو وزميلاه على الخليفة، وقد أفسدت الدنيا التي

ص: 116

انفتحت على المسلمين قلوب الكثير من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (حب الدنيا رأس كل خطيئة)(1) حتى ترك أحدهم من الذهب ما يُكسَر بالفؤوس.

الزبير صاحب هذا التاريخ وهذه المواقف الجليلة يقود حرباً على أمير المؤمنين الإمام الحق والزبير يعرفه أكثر من غيره، وأزهقت أرواح الآلاف من المسلمين، وذكّره أمير المؤمنين بكلمات سمعاها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حق أمير المؤمنين فرجع عن القتال ولكن بعد أن أنشبت المنية أظفارها، ثم اغتيل من قبل أحد الجنود في جيش أمير المؤمنين (عليه السلام) ولما جاءه قاتله بسيفه قبّله أمير المؤمنين وقال: سيف طالما كشف الكرب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال (عليه السلام) لقاتله: بشر قاتل ابن صفية – وهو الزبير – بالنار(2).

ثانيهما: الحر الرياحي الذي كان من كبار قادة جيش الأمويين وأرسله عبيد الله بن زياد على رأس ألف مقاتل حينما علم بتوجه الإمام الحسين (عليه السلام) إلى الكوفة ليأتي به أسيراً، وحصل ما حصل بينه وبين الإمام الحسين (عليه السلام)في الطريق حتى صار القرار أن يتخذ الإمام طريقاً لا يرجعه إلى المدينة ولا يذهب به إلى الكوفة فسار باتجاه كربلاء ووقعت الواقعة.

ص: 117


1- الكافي: ج2 ص131.
2- انساب الأشراف للبلاذري: ج9 ص430.

لكن الحر هذا حينما اصطف الجيشان للقتال يوم عاشوراء أدركته ألطاف الهداية فحكّم عقله في الموقف الذي يتخذه وكانت لحظات عصيبة ومهولة فأخذ يرتعد وقال له زميله: لو سئلت من أشجع من في المصر لما عدوتك فما هذا الخوف ، قال الحر: ويلك إنني أُخيّر نفسي بين الجنة والنار ولا أختار على الجنة شيئاً والتحق بصف الإمام الحسين خجلاً معتذراً عمّا سبق منه، ولما استشهد قال له الإمام (عليه السلام): حرٌ كما سمّتك أمّك حرّ، حرٌّ في الدنيا والآخرة وسعيد في الآخرة(1).

هذان مثالان لفريقين من الناس فكونوا ممن لا يختار على الجنة شيئاً ولا يكون ذلك إلا بأن تعملوا العمل الذي يؤدي بكم إليها وتثبتوا عليه «مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً ، كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً» (الإسراء 1820).

نموذج معاصر ممن فشل في الثبات:

تناقلت وسائل الإعلام صور الكارثة التي حلّت بالأطفال شديدي العوق

ص: 118


1- انظر: تاريخ الطبري: ج5 ص400، وأنساب الأشراف: ج3 ص380، والكامل في التاريخ: ج2 ص551، ومقتل الحسين (عليه السلام) للخوارزمي: ج1رص299.

في دار الحنان في بغداد(1)، وبدلاً من أن يعلن وزير العمل والشؤون الاجتماعية مسؤوليته الأدبية والأخلاقية عن الكارثة ويستقيل حفظاً لكرامته وتسعى الجهات المختصة لمحاسبة المقصرين، يظهر السيد الوزير المدعوم من قبل المرجعية والذي ينتمي إلى أسرة علمية جليلة في النجف الأشرف على وسائل الإعلام ويندّد بالمغرضين الذين اظهروا الحالة على وسائل الإعلام، وأنه سيقاضي القوات الأمريكية والعراقية التي داهمت المقر بتهمة الإساءة إلى سمعة وزارته، علماً بأن هذه القوات لم تفعل ذلك إلا بعد أن استنجد ذوو الأطفال بها لأنهم قدّموا بلاغات إلى كل الجهات المعنية في الوزارة على مدى عدة أشهر لإيقاف الانتهاكات في الدار ولم يجدوا أذاناً صاغية.

هذا نموذج من كثيرين من المتصدين للعملية السياسية الذين يتشدقون بتاريخ طويل من الجهاد والنضال ضد الدكتاتورية وأنهم انتموا إلى الحركة الإسلامية منذ عشرات السنين وتراهم يسقطون بسبب حب الدنيا في بئر عميقة من الظلم وسرقة أموال الشعب واللامبالاة والانغماس في الأنانية وترك الشعب يحترق والبلد يُدمّر ، فما قيمة ذلك التاريخ وماذا سينفعهم؟

ص: 119


1- داهمت القوات الأمريكية هذه الدار بعد وصول شكوى إليهم من ذوي الأطفال النزلاء فيها وعجز الجهات المختصة عن اتخاذ الإجراءات المناسبة وكشفت القوات الأمريكية عن إهمال الإدارة للأطفال ورميهم مربوطين على الأرض وعراة والتعامل معهم بقسوة وحرمانهم مما يخصّص لهم من أغذية وألبسة وفُرش، وكانت المشاهد التي عرضتها القنوات مؤلمة وقاسية.

وصيتنا للشباب:

أيها الشباب الأحبّة الأنقياء كلكم قادرون على أن تنخرطوا في تيارات وجهات تحقق لكم الثروة والتسلط على رقاب الناس، ولكنكم زهدتم فيها وآثرتم التمسك بمنهج الهدى والصلاح فطوبى لكم وحسن مآب وحقاً إن الله تبارك وتعالى يباهي بكم الملائكة ونحن نتقرب إلى الله تعالى بمحبتكم ومواددتكم والسعي الحثيث لخدمتكم بما نستطيع والله ولي التوفيق.

ص: 120

على الإنسان أن يستثمر كل فرصة للطاعة ويغلق كل باب للمعصية

اشارة

على الإنسان أن يستثمر كل فرصة للطاعة ويغلق كل باب للمعصية(1)

شرف الصدقة:

إنه لشرف عظيم لي أن أخدمكم وأقدم لكم الدعم، لأنكم توفرون لي فرصة لطاعة الله تبارك وتعالى لولاكم لم احصل عليها، كما كان الإمام السجاد (عليه السلام) يرحب بالفقير ويقول: (أهلاً بمن يحمل زادي إلى الآخرة)(2)،

فيمكن أن يأتي اليوم الذي تتحسن فيه الحالة الاقتصادية ولا يبقى موضوع للصدقة، كما إنكم شباب ويوجد لكم أب وأم على قيد الحياة فنستطيع أن نتقرب إلى الله تعالى ببرهما وينطبق عليكم الحديث: (إن طالب العلم ... والولد البار بوالديه يدخلون الجنة مع الأنبياء)(3)،

أما مثلي الذي فقد أبويه فإن باب مثل هذه الطاعة مسدودة.

ص: 121


1- نشر على الصفحة الأولى من العدد (23) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 10 ربيع الثاني 1426 الموافق 19 آيار 2005.
2- البحار: ج46 ص98.
3- كنز العمال: 28828

لا تؤذوا إمام زمانكم:

واعلموا إنكم بكل عمل خير تقومون به أو باب معصية تغلقونها تدخلون السرور على أمام العصر (عليه السلام)، كما أن أي تقصير في ذلك يؤلم قلبه، فها نحن الذين لا يقاس شعورنا بالمسؤولية تجاه الأمة بشعور الإمام المحيط بكل قضايا الكون، نتألم حينما نرى تسلط الفاسدين والظالمين وسارقي ثروات الشعب، ونتأذى من ابتعاد المؤمنين المخلصين النزيهين عن حياة المسؤولية والتصدي لإدارة شؤون البلاد والعباد، فإنتألم الإمام (عليه السلام) وإذاه أكثر من هذا بكثير فأعينوه (عليه السلام) وأدخلوا السرور عليه ولا تؤذوه.

ص: 122

التواصي بالحق والتواصي بالصبر

اشارة

التواصي بالحق والتواصي بالصبر(1)

أهمية سمرة العصر:

سورة (العصر) قصيرة جداً في كلماتها لا تتجاوز السطرين لكنّها عظيمة في فضلها، خطيرة في مضمونها، وإنها مظهر من مظاهر إعجاز القرآن حينما يُقدِّم في سطر واحد منهجاً متكاملاً لنجاح البشريّة من أوّل الخلقة إلى نهايتها ويعرِّف هويّة الأمّة الرابحة الفائزة ويعلّمها وظائفها في هذا السطر.

روى الشيخ الصدوق بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (من قرأ (والعصر) في نوافله بعثه الله يوم القيامة مشرقاً وجهه ضاحكاً سنّه، قريرة عينه حتّى يدخل الجنة)(2)، ولأهمية ما جاء فيها فقد ورد أن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانوا اذا اجتمعوا لا يفترقون إلاّ بعد تلاوة سورة (والعصر) ويتذاكروا في مضامينها(3).

ص: 123


1- كلمة سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من منتسبي هيئة الحج والعمرة في بغداد والمحافظات يوم الخميس 2/ج1/1434 الموافق 2013/3/14.
2- ثواب الأعمال: 125.
3- الدر المنثور: 6/392.

معنى (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ):

يبتدئ الله تبارك وتعالى السورة بالقسم (والعصر) بمعانيه المختلفة كما وردت في التفاسير، فيقسم الله عزّ من قائل –وهو أصدق القائلين لتأكيد الكلام ولإثارة انتباه المخاطب إلى الحقيقة التي سيقولها، لأنّها حقيقة خطيرة (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) ليسالإنسان بحسب تكوينه وأصل خلقته، لأنّه خُلق للكمال وللمعرفة بالله تعالى ولإخلاص الطاعة له سُبحانه والاستقامة على ما أراد منه، لذلك أسجد له ملائكته وقال تعالى (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة/30) ، فليس الإنسان بالحمل الأولي –كما في المصطلح هو في خسر، بل الإنسان الموجود على أرض الواقع أي بلحاظ سلوكه وسيرته أي أفراد الإنسان ومصاديقه بالحمل الشائع –كما في المصطلح الذي يخالف فطرته حينما يخرج إلى هذه الدنيا وينسى عهده مع ربّه الذي واثقه عليه {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ }الأعراف172.

فهذا الإنسان الذي خلق للسمو والتكامل، تراه ينحدر ويتسافل ويعرض عن ذكر ربّه، فيخسر رأس ماله وكلّ القوى التي زوّدها الله تعالى بها لتحقيق الغرض المنشود من حياة ووجود وعقل وفكر وبدن وثروة وجاه وعلاقات وأسرة وعشيرة وموقع وغيرها، حتّى الأشياء البسيطة الدقيقة التي يمكن أن

ص: 124

تُكتسب بها الجنان (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) الزلزلة7، كتسبيحة أو ذكر مع كل شهيق وزفير و في كل طرفة عين.

وإذا به على العكس يسخّرها للشقاء والعذاب، فإذن هو فعلاً (في خسر)، بل خسر عظيم، قال تعالى {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }الزمر15 كمن يزوّد برأس مال عظيم وتوفَّر له كلّ فرص النجاح والاستثمار وتقدِّم له كلّ معونة والتسهيلات في السوق، لكنّه بحماقته وضيق نظره يخسر كلّ ذلك، عن الإمام الهادي (عليه السلام) (الدنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون)(1).

ثمن النفس هو الجنة:

هذه الصفقة التي أنشأها الله تعالى مع عباده (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ) (التوبة/ 111) فلا ثمن لهذه النفس إلاّ الوفاء بهذه الصفقة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنّة فلا تبيعوها إلاّ بها)

ثمن النفس هو الجنة:هذه الصفقة التي أنشأها الله تعالى مع عباده (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ) (التوبة/ 111) فلا ثمن لهذه النفس إلاّ الوفاء بهذه الصفقة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنّة فلا تبيعوها إلاّ بها)(2).

والتعبير يمزج مع التحذير والتهديد والتوبيخ استغراباً وعتاباً، لأنّ الله تعالى خلقهم للرحمة والسعادة والفوز وأعطاهم كلّ ما يوصلهم إلى هذه النتيجة من أسباب معنوية ومادّية قال تعالى (إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (هود 119), وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله (يقول الله تعالى: يا ابن

ص: 125


1- بحار الأنوار: 72/366 ح1، تحف العقول: 361.
2- نهج البلاغة: قصار الكلمات، رقم 74.

آدم، لم أخلقك لأربح عليك، إنّما خلقتك لتربح عليّ, فاتخذني بدلاً من كل شيء، فإني ناصر لك من كل شيء)(1).

لماذا يحصل الخسران؟

فلماذا يخسرون كلّ ذلك بتوظيفه في عكس الهدف الذي خلقوا من أجله {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون }(يس30)، لذلك يسجّل القرآن الكريم استغرابه من دخول أهل النار إليها، قال تعالى {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ }المدثر42، ولم يسجّل استغرابه من دخول أهل الجنة فيها لأن وجودهم على القاعدة ومع الهدف الذي خُلقوا من أجله.

والمرعب في هذه الحقيقة إطلاقها وعمومها (إن الإنسان) مطلقاً فتكون كقوله تعالى (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ً) (مريم/7172).

المستثنون من الخسران:

نعم استثني من هذه النتيجة المهولة بعض توفّرت فيه أربع خصائص مجتمعة:

1 (إلاّ الذين آمنوا) واعتقدوا صدقاً وإخلاصاً بكل العقائد الحقّة بتوحيد الله تعالى والرسالة للنبي (صلى الله عليه وآله) وولاية أمير المؤمنين والأئمة المعصومين (عليهم السلام) وسائر العقائد الحقّة.

ص: 126


1- ميزان الحكمة: 1/334 الحديث 1604 عن شرح نهج البلاغة: 20/319، 665.

2 (وعملوا الصالحات) لأنّ الإيمان لا يكون حقيقياً وصادقاً إلاّ أن يظهر إلى الخارج بعمل صالح يكون موافقاً لما يريده الله تبارك وتعالى.

وهذا المقدار مفهوم وواضح وذكرته آيات عديدة، لكنّ الأهمية والخطورة التي أشرنا إليها في هذه السورة هي فيما أضافته الآية من شرطين للفوز والنجاة من الخسران، حيث لم تكتفي بالركنين السابقين، وهما

3 (وتواصوا بالحق) فلا يكتفون بكونهم صالحين في أنفسهم مؤمنين يعملون الصالحات بل يتحركون برسالتهم في المجتمع فيوصي بعضهم بعضاً بالتزام الحق والعمل به، والتعبير بالتواصي يتضمّن معنى الإستمرارية والتواصل، والحق الذي يتواصون به له مساحة واسعة، فكلّ خير وكل ما هو مثمر وكلّ ما يوصل إلى الله تبارك وتعالى ويعين على طاعته ويجنّب معصيته هو حق فيتواصون به.

وهذا له مدى واسع فيشمل الدعوة إلى الله تبارك وتعالى والإسلام وولاية اهل البيت (عليهم السلام) ونشر فضائل أهل البيت (عليهم السلام) ومظلوميتهم من الأعداء، ونشر أحكام الدين وتقديم النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحقوق التفصيلية الكثيرة كالتي تضمنتها رسالة الحقوق للإمام السجاد (عليه السلام).

ولابد لمن يقوم بهذه الوظيفة أن يكون ملتفتاً قبل ذلك إلى نفسه فيتعاهدها ويتواصى معها ويشارطها على الهدى والصلاح والثبات، لأنّها أعز وأثمن من يتواصى معه.

ص: 127

إن الحقّ إذا لم يتم التواصي به والتواصل معه جيلاً بعد جيل وبين عامة الجيل الواحد أي التحرّك به أفقياً وعمودياً فإنّه يضيع كما ضاعت حقوق كثيرة وعلى رأسها حقّ الإمامة وولاية أمر الأمة لأمير المؤمنين (عليه السلام) وأولاده المعصومين (سلام الله عليهم أجمعين).

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّ حقوق الناس تثبت بشهادة شخصين، وقد أنكِرَ حق جدّي أمير المؤمنين (عليه السلام) وعليه سبعون ألف شاهد كانوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في غدير خم(1).

1 (وتواصوا بالصبر) فإنّ من يسير بهذا الطريق الذي تخلّى عنه أكثر الناس وأصبحوا ينظرون إليه بازدراء وسخرية سيلقى الكثير من المشقّة والعنت والأذى وسيتطلب منه تضحية كثيرة بأعز ما لديه فيحتاج إلى صبر ومصابرة ومرابطة وثبات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }آل عمران200، فيوصي هؤلاء الثلة القليلة بعضهم بعضاً بالصبر والمضي على هذا النهج المقدّس المبارك.

إصلاح الآخرين:

إنّ الحقيقة الخطيرة التي أضافتها هذه السورة المباركة أن الإيمان والعمل الصالح على مستوى النفس غير كافٍ للفوز وللنجاة من الخسران الشامل لأفراد الإنسان، بل لابد أن ينضم له التحرّك بهذه الوظيفة في المجتمع والاستمرار على ذلك والثبات عليه وتحمّل أعبائه.

ص: 128


1- بحار الأنوار: 37/158 باب52.

وبتعبير مختصر أنّ صلاح الفرد الشخصي لا يكفي من دون أن يضم له العمل على إصلاح الآخرين، وهي مسؤولية كبيرة لكن منزلتها عظيمة لا مكان فيها للمتقاعس والمتكاسل الذي لا يكترث بما يعجّ به المجتمع من مفاسد وظلم وانحراف وضلالات وشبهات وخرافات وجهل وغير ذلك.حينئذٍ يتحقق صلاح الفرد وصلاح المجتمع أيضاً، ونجاة الفرد ونجاة المجتمع وعزّتهما معاً بفضل الله تبارك وتعالى.

التواصي بالحق والتواصي بالصبر:

وإذا قابلنا هذه الآية مع الآيتين المتقدّمتين من سورة مريم نحصل على تعريف للتقوى فتكون حقيقتها الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر بمقتضى المطابقة وتحقيق ما تحصل به النجاة من النار والخسران.

وهذه الحقيقة طبيعية لأنّ الإيمان يدعو إلى العمل الصالح، والعمل الصالح لا يعرف الإنزواء والجمود والتقوقع، وإنّما يدعو للحركة المثمرة لهداية الآخرين وإرشادهم ونصحهم ومساعدتهم، فإنّ من أعظم الأعمال الصالحة ما كانت مندرجة في هذه الحركة الاجتماعية لذا ورد في بعض الروايات تفسير عمل الصالحات بمواساة الإخوان(1).

إن مسؤولية التواصي بالحق والتواصي بالصبر لا تختص بالمبلغين والمرشدين من الحوزة العلمية بل هي شاملة لكل الناس خصوصاً مع توفّر سبل الهداية وقنوات

ص: 129


1- كمال الدين وإتمام النعمة: 656 ح1.

الإصلاح والتأثير لكل العاملين على شبكات المعلومات وصفحات التواصل الاجتماعي والفضائيات.

ص: 130

دعوة المؤمنين إلى أن تكون قلوبهم وعقولهم أودية كبيرة لمعارف القرآن الكريم

اشارة

دعوة المؤمنين إلى أن تكون قلوبهم وعقولهم أودية كبيرة لمعارف القرآن الكريم (1)

بالطهارة المعنوية ننال المعرفة:

قال تعالى «أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا» (الرعد:17) ومعنى الآية الظاهري واضح ولا شك أن الأودية الكبيرة تستوعب وتتلقى كمية أكبر من مياه الأمطار النازلة على الأرض من الأودية الصغيرة.

لكن القرآن الكريم يعبّر عن هذه الأوصاف بأنها أمثال يضربها للتعقل والتفكر والتدبر في حقائقها التي يرجع إليها تأويلها «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» (آل عمران: 7) فإن القرآن يصف نفسه بأنه عبارة عن حقائق واقعية محفوظة في اللوح الإلهي «إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ» (الواقعة: 7778) أي كتاب محفوظ في علم الله تبارك وتعالى ويقول عنه «لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ» (الواقعة:79) أي لا يصل إلى حقيقته ومعرفة أسراره ألا المطهرون الذين طهروا قلوبهم من الرين ونفوسهم من الرذائل،

ص: 131


1- من كلمة مطولة تحدث بها سماحة الشيخ (دامت تأييداته) مع وفد ضم العشرات من ممثلية شهداء الفضيلة التابعة لتنظيم حزب الفضيلة في مدينة الصدر ببغداد يوم الثلاثاء 10 ربيع الأول 1426 ونشرت في الصفحة الأولى من العدد (23) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 10 ربيع الثاني 1426 المصادف 19 آيار 2005.

والمصداقالأكمل لهم هم المعصومون «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهل الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا» (الأحزاب: 33)، ولهذا فإن القرآن يفسر بعضه بعضاً لأنه قال عن نفسه أنه تبيان لكل شيء وأنه «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ» (الأنعام:38) فهل يعجز عن بيان معاني نفسه؟!

وفي ضوء هذا فإن الإنسان يتلقى هذه المعارف الحقيقية والمعاني الواقعية. بمقدار جهده في تطهير قلبه وتهذيب نفسه، وهذا أحد معاني الآية الشريفة التي افتتحنا بها الحديث، فإن الماء النازل من السماء مثل للمعارف والألطاف التي يمن بها الله تبارك وتعالى على عباده، والأودية تشير إلى العقول والقلوب وقد ورد في الحديث (إنما القلوب أوعية فأفضلها أوعاها)، فينبغي للمؤمنين أن يتسابقوا في تطهير قلوبهم ونفوسهم لتزداد معرفتهم بالله تبارك وتعالى من خلال القرآن الكريم.

قصة عن علماء السلف:

ينقل(1) عن ثلاثة من كبار علماء الشيعة وهم السيد إسماعيل الصدر والسيد حسن الصدر والمحدث النوري، أنهمزاروا أحد العلماء في الليلة الأولى من شهر رمضان المبارك، ففسر لهم آية بتفسير وجدوه واضح الانطباق على

ص: 132


1- رواها السيد محسن الحكيم (قدس سره) في كتابه (حقائق الأصول: 1/95) وذكر أن الآية هي «وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ» (الحجرات:7).

الآية واستغربوا من عدم التفاتهم إليه، ثم زاروه في الليلة الثانية ففسر لهم نفس الآية بتفسير آخر بنفس الوضوح واستغربوا أيضا من عدم التفاتهم، وهكذا إلى نهاية الشهر, فهذه معارف وعلوم القرآن الكريم وهذا لطف الله تبارك وتعالى بعباده المخلصين في إراءتهم هذه المعاني في اللوح المحفوظ.

معنى ذكرنا لهذه الفكرة:

وإنني حين أذكر هذه الفكرة لأمرين:

الأول: حثكم على التواصل مع القرآن الكريم والتفاعل مع معانيه ومعارفه وحقائقه لأن فيه مفاتيح الخير كله.

الثاني: دعوتكم إلى مضاعفة الهمة والحماس والشعور بالمسؤولية في العمل الإسلامي المبارك، والتمهيد لدولة العدل الإلهي ولتكونوا من الأودية الكبيرة التي لا تحمل هم نفسها أو مدينتها بل تتوسع فيه.

ص: 133

على الشباب المتدينين أن يتحدثوا بنعمة ربهم

اشارة

على الشباب المتدينين أن يتحدثوا بنعمة ربهم(1)

معنى أن تتحدث بنعمة ربك:

يفسّر البعض الآية الشريفة «وَأمَّا بِنِعمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ» بمعانٍ لا تخلو من إشكال أخلاقي، كأن يقولون عليه ان يتحدث بما وفقه الله تعالى اليه من طاعات ورزقه من نعم في الدنيا، ولذا يشكل بعضهم بأن التحديث بالنعمة على هذا يوجب الرياء والعجب خصوصاً إذا كانت النعمة طاعة أداها ونحوها، وأريد هنا أن أفسّرها بمعنى أفضل وهو أنك إذا حباك الله بنعمة فانفع الآخرين بها وانقلها إليهم بأن تتحدث لهم عن موجباتهاومقدماتها ليحظوا من ربهم بنفس النعمة لأننا مأمورون بأن نحب للناس ما نحب لأنفسنا ونكره لهم ما نكره لها.

مثلاً أنت شاب متدين ملتزم بالصلاة والصوم وبارٌ بوالديك وذو أخلاق محمودة وتزور الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ونحوها من الكمالات، فلا

ص: 134


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (مد ظله) مع حشد من طلبة جامعة الصدر فرع بغداد الجديدة وطلبة الإعداديات في قضاء الرفاعي في محافظة ذي قار يوم السبت 25 محرم 1432 المصادف 2011/1/1.

تقتصر بهمّك على نفسك وأحبب أن يكون غيرك مثلك وحدّث بهذه التجربة المباركة للآخرين وعلّمهم كيف يبدأون وكيف يصيرون.

من أين تبدأ بالإصلاح؟

وإذا سألتني من أين أبدأ معهم؟ فأقول لك ابدأ من أمرهم بالالتزام بالصلاة وخصوصاً أداؤها في أوقاتها الأولى، فإذا التزم بالصلاة فقد وضع رجله على الطريق الصحيح لأنه سيحب المصلين ويلتقي بهم ويتعلم منهم، وسيذهب إلى المسجد ويحضر صلاة الجماعة وفي ذلك فوائد عظيمة، وسيواظب على الجمعة ويستمع من خلالها إلى خطب الوعظ والإرشاد والتوجيه، وسيلتزم بالواجبات الأخرى وسيراعي الطهارة ويبتعد عن كل ما يشين مما لا يليق بكونه من المصلين وسيصبح إنساناً صالحاً محبوباً.

أما ترك الصلاة فإنه مفتاح الشرور والآثام فإنه إذا ترك الصلاة فإنه يترك بقية الواجبات وسوف لا يتورع عن ممارسة الفاحشة والمنكر وبذاءة اللسان، وسوف لا يراعي الطهارة والنظافة ويتحول إلى إنسان سيء عاق والعياذ بالله تعالى.

التفقه في الدين:

والخطوة التي تلي الالتزام بالصلاة هي التفقه في الدين بمقدار ما يحتاجه في حياته والتعرف على العقائد الإسلامية والأخلاق الفاضلة، وإذا زادت همته

ص: 135

أكثر وحظي بالألطاف الإلهية فليَنضمّ إلى الحوزة العلمية الشريفة فإنها من أعظم النعم على الإنسان.

وقد توفّرت اليوم فرصة ميسّرة لتلّقي العلوم الدينية في المحافظات ولم تعد مقتصرة على النجف من خلال نشر فروع جامعتي الإمام الجواد (عليه السلام) والصدر الدينية، بل الأمر أيسر من ذلك حيث يقدّم موقع (رسالة النجف) على الإنترنت لكل الراغبين شرحاً صوتياً للدروس المقررة لطلبة الحوزة العلمية في المراحل الثلاث الأولى، وبذلك يقطع شوطاً مهماً من التحصيل العلمي والأخلاقي والفكري وليتأهل لتحصيل الدروس العالية في النجف الأشرف إن أحبّ.

لا تعزفوا عن طلب العلم:

ونحن نحث على هذا التوجه وندعو إليه برغبة كبيرة لأن عدد الدارسين في النجف لا زال أقل بكثير مما تحتاجه الساحة العراقية فضلاً عن الحاجة العالمية لأن أنظار الدنيا كلها متوجهة صوب النجف وتريد أن تأخذ منها معالم دينها ولكن الحوزة في النجف عاجزة عن ملئ الساحة العراقية فضلاً عن العالمية، فعزوف الشباب المتدين الواعي المثقف عن الالتحاق بالحوزة العلمية غير مبرّر وغير مقبول وفيه تقصير بحق قوله تعالى «فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» (التوبة:122)وبحق الناس المتعطشين لسماع صوت حوزة أمير المؤمنين (عليه السلام) وسائر بقاع العالم، ولو سألتم حجاج بيت الله الحرام لحدّثوكم كيف أن

ص: 136

حجاج الدول الأخرى يتبركون بالحجاج الذين يحملون لوحة تشير إلى أنهم من النجف الأشرف.

ص: 137

يتحقق التكامل بالعمل بما نتعلم

اشارة

يتحقق التكامل بالعمل بما نتعلم(1)

الكل هالك إلا العالم العامل المخلص:

الذين يتكلمون كثيرون، والمعلومات المبذولة وفيرة من خلال الكتب والنشرات والفضائيات والإذاعات وغيرها، لكن العلم وحده لا يكفي، والمطلوب هو العمل بذلك العلم، كما أن العمل وحده لا يكفي وإنما لا بد من أن يقترن بالإخلاص، لذا ورد في الحديث الشريف (هلك العاملون الا العابدون وهلك العابدون الا العالمون وهلك العالمون الا الصادقون وهلك الصادقون الا المخلصون وهلك المخلصون الا المتقون وهلك المتقون الا الموقنون وان الموقنين لعلى خطر عظيم)(2).

إذا كان أهم ما يتقرب به العبد إلى ربه من الأعمال وهي العبادات موجبة للاستغفار كما ورد في الأدعية، كدعاء الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عرفة (إلهي كم من طاعة بنيتها، وحالة شيّدتها، هدم اعتمادي عليها عدلك، بل أقالني منها فضلك)(3) وفي بعض الأدعية عقيب الفرائض (إلهي إن كان فيها خلل أو نقص من ركوعها أو سجودها فلا تؤاخذني وتفضّل عليَّ بالقبول

ص: 138


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع عدد من الوفود التي زارته يوم الخميس 2 ع2 1431 المصادف 2010/3/18.
2- مستدرك الوسائل: ج1 ص100.
3- مفاتيح الجنان: ص315.

والغفران)(1)، فإذا كانت العبادات والطاعات تقتضي طلب المغفرة والعفو فما هو حال الأعمال الأخرى؟

حولوا كل معلومة الى عمل:

إن الواعين والملتفتين يحولون كل معلومة إلى عمل، فمثلاً ينقل عن بعض الصالحين أنه كان لا يؤدي جميع ركعات صلاة الليل دفعة واحدة بل يؤدي بعضاً ثم ينام قليلاً ثم يقوم ليؤدي بعضاً آخر وهكذا إلى أن يتمها، ولم يذكرالناقل الوجه في ذلك(2)، لكن يمكن أن نذكر الآن وجهاً واحداً، وهو أن هذا الرجل لما بلغه الخبر الشريف: (إن العبد إذا قام من نومه إلى صلاة الليل فإن الله تبارك وتعالى يباهي به الملائكة، ويقول لهم: ألا ترون عبدي المؤمن كيف ترك لذة النوم من أجل عمل لم افترضه عليه) فأراد هذا الرجل الصالح أن يفعل ما يحبّه ربّه عدة مرات بدل المرة الواحدة.

وهكذا انتم تستطيعون تحويل العلم إلى عمل،مثلاً ورد في الحديث القدسي عن النبي (صلى الله عليه وآله) : (يقول الله تعالى: من أحدث ولم يتوضأ فقد جفاني، ومن أحدث وتوضأ، ولم يصل ركعتين، فقد جفاني، ومن أحدث وتوضأ، وصلى ركعتين، ودعاني ولم أجبه فيما سألني من أمر دينه

ص: 139


1- السابق: ص37.
2- توجد رواية في وسائل الشيعة تنص على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يفعل ذلك، فربما تأسى هذا الصالح بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكننا أحببنا تقريب الفكرة المذكورة.

ودنياه، فقد جفوته، ولست برب جاف)(1).

والحديث صريح باستحباب الكون على الطهارة، ولكن المعنى العملي الذي يمكن أن نحصل عليه هو أن الإنسان إذا كانت عنده حاجة عسرت عليه بالأسباب الطبيعية أو مريض يطلب شفاءهُ أو طلب يريد تحقيقه –وما أكثرها فليتوضأ إذا أحدث وليصلي ركعتين في غير وقت الفريضة وليطلب من الله تبارك وتعالى حاجته بعدها، فإن الله تبارك وتعالى سيحقق له مراده لأنه تبارك وتعالى ليس بربٍ جافٍ.

وحينما يبلغك الحديث الشريف في فضل سورة الفاتحة أنها (إذا قرأت سبعين مرة على ميت فقام حياً لم يكن عجيباً)(2) نستفيد منه عملاً وهو قراءة سبعين مرة سورة الفاتحة إذا أردنامن الله تبارك وتعالى قضاء حاجة أو شفاء مريض أو تحقيق شيء نطلبه، لأنها كلها دون إرجاع الحياة إلى الميت الذي يقبل التحقق بهذا العمل بإذن الله تعالى. وبهذه العين وهذه البصيرة يمكن النظر في كثير من هذه الأحاديث الشريفة بفضل الله تبارك وتعالى.

ص: 140


1- الوسائل: ج1 ص382.
2- أنظر مفاتيح الجنان.

الدنيا بحر عميق فما هي سفينة النجاة؟

اشارة

الدنيا بحر عميق فما هي سفينة النجاة؟(1)

من مواعظ لقمان الحكيم:

كان لقمان الحكيم كثير المواعظ لولده وحكى لنا القرآنالكريم جملة منها في سورة لقمان، ونقل الأئمة المعصومون سلام الله عليهم لنا عنه مواعظ كثيرة، ومن تلك المواعظ ما أحفظه منذ أربعين عاماً عندما كنت أرافق والدي (رحمه الله تعالى) في مجالسه، وهي مروية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن لقمان وعظ ولده فقال (يا بني أن الدنيا بحر عميق، قد هلك فيه عالم كثير، فاجعل سفينتك فيها الإيمان بالله، واجعل شراعها التوكل على الله، واجعل زادك فيها تقوى الله، فإن نجوت فبرحمة الله وان هلكت فبذنوبك)(2).

معنى تشبيه الدنيا بالبحر:

نعم الدنيا بحر متلاطم الأمواج، بحر في مغرياته وشهواته وأهوائه وميوله وأحلامه فمن حب المال إلى حب النساء إلى حب الجاه والسلطة إلى اللهو واللعب وغيرهما مما يزيّنه الشيطان.

ص: 141


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من الوفود والزوار، بينهم هيئة الشباب الرسالي في الشعلة والغزالية، وأساتذة وطلبة جامعة الصدر الدينية – فرع مدينة الصدر ببغداد، وموكب شباب أنصار المصطفى في ذي قار يوم الخميس 15 ع2 1431 المصادف 2010/4/1.
2- بحار الأنوار: 13/411.

وبحر في مسؤولياته، فالإنسان مكلف بواجبات ومسؤوليات أمام خالقه العظيم وأمام إمام زمانه (عليه السلام) وأمام نفسه وعائلته ومجتمعه وأمام الملائكة والتاريخ وغيرها.

وبحر في تحدياته التي تتجاذب الإنسان في كل اتجاه وتجعله يعيش صراعات متنوعة.

فالدنيا بحر عميق حقاً لا يقوى الإنسان وحده على امتطائه بسلام ليصل إلى الغاية لذا (هلك فيه عالم كثير) ولم يكتب النجاة إلا لقلة القليلة، كما أخبر تعالى («ثُلّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ» «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَكُورُ» «وَمَا أكثَرُ النَاسِ وَلَوْ حَرَصَتَ بِمُؤمِنِينَ».

وتستطيع أن تدقّق بلغة الأرقام فدّون عدد البشر اليوم ثم أبدأ بإنقاص أهل الملل والنحل والديانات لتصل إلى النتيجة المرعبة.

كيف ننجو من الدنيا؟

وإذا عرفنا أن الدنيا بحر عميق ونحن في عمق هذا البحر، فإن السؤال الطبيعي هو كيف ننجو؟ أو ما هي سفينة النجاة؟ وهنا يكمل لقمان الحكيم فيذكر السفينة وهي الإيمان بالله تعالى وتوحيده حقاً وفعلاً، وهذا ما ورد في أول كلمة أطلقها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) وردّدها أبناؤه المعصومون (عليهم السلام) (لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمِنَ من عذابي)(1) وشراعها التوكل على الله «وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى

ص: 142


1- أمالي الصدوق ص253.

اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» وزادك فيها التقوى «وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ».

سفن النجاة:

وهذه الكلمات العميقة من لقمان الحكيم تحتاج إلى من يفسّرها ويفصّل معانيها ويُبيِّن تطبيقاتها وحدودها وأحكامها، وهذا ما تميزت به شريعة الإسلام حتى جعلها الله تعالى خاتمة الرسالات وأكملها، فهي تتواصل مع الشرائع السماوية السابقة بالمبادئ السامية والقيم النبيلة إلا أنها تزيد عليها تفصيلاً وبياناً وسعة وشمولاً، وهذا العنوان في مواعظ لقمان وهي (السفينة) وردت على لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق)(1).

وسُميّ العلماء الصالحون الهداة في الأحاديث (سفن النجاة)(2) لأنهم خلفاء الأئمة المعصومين (سلام الله عليهم) والأمناء على شريعتهم والمبلغون لرسالتهم.وهكذا تجد التواصل والوراثة مستمرة بين حلقات هذه السلسلة الكريمة من الرسل والأنبياء والأئمة والعلماء الصالحين.

ص: 143


1- المستدرك على الصحيحين: ج3 ص163، كنز العمال: ج12 ص94 ح34144، البحار: ج33 ص105.
2- انظر البحار: ج29 ص140.

كونوا من سفن النجاة:

ويستطيع كل واحد منكم أن يكون سفينة نجاة بدرجة من الدرجات حينما يعلِّم غيره مسألة شرعية يجهلها أو يوصل له موعظة ينتفع بها، أو يصدّه عن معصية أو انحراف أو ظلم، أو يهديه إلى ما فيه رضا الله تبارك وتعالى وصلاح العباد.

ولا ينال ذلك أيها الأحبة إلا بلطف الله تبارك وتعالى وتوفيقه لأنه من الأرزاق المعنوية التي لا تنال بالأسباب الطبيعية، أي أنها تختلف عن الأرزاق المادية، قال تعالى «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ» (الأنبياء:73) «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» «وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً».

فمن شمله هذا اللطف أضاء في قلبه وعقله وجوارحه نور من الله تبارك وتعالى، «وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ» وستزل قدمه، ويضل الطريق في دنياه وآخرته. «قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً».

وكونوا - أيها الأحبة - على ثقة بأن الله تعالى كريم يعطي من غير احتساب، وهو رحيم بعباده، وكلما ظن العبد أن الأبواب مغلقة في وجهه، ولا سبيل إلى النجاة، وإذا بباب رحمة الله تعالى تفتح له «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ» (يوسف 110).

ويشبّه بعض الأخلاقيين الحالة بما موجود اليوم في الأبنية الراقية حيث

ص: 144

تكون الأبواب الخارجية مغلقة فإذا وصلالقادم أليها انفتحت تلقائياً، فالعارف بالحال يتوجه نحو الباب وإن رآها مغلقة لأنه يعلم أنها ستفتح له عندما يتوجه إليها، أما الجاهل فيرى عدم الجدوى في التوجه نحو الباب لأنها موصدة في وجهه.

ص: 145

ص: 146

الفصل الثاني: توجيهات رسالية للشباب

اشارة

ص: 147

ص: 148

شبابنا والتحديات الراهنة

اشارة

شبابنا والتحديات الراهنة(1)

لماذا نهتم بالشباب؟

أحبكم أيها الشباب حباً خاصاً لأنكم وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لقوله (أوصيكم بالشباب خيراً، فإنهم أرق أفئدة)، وأنقى نفوساً؛ لأنكم ما زلتم قريبين إلى الفطرة لم تلوثكم الذنوب كثيراً، كما أنكم نشأتم في ظل الصحوة الإسلامية المباركة التي اتسعت في العقدين الأخيرين، ووسع مداها سيدنا الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) بحركته الإصلاحية العظيمة، وكان ثمنها غالياً بدمه هو والدماء الطاهرة للشهداء الأبرار.

واهتم بكم أيها الشباب لأنكم المحرك الرئيسي لحياة الأمة، والدم الذي يجري في عروقها، وانتم معيار صلاح الأمة وفسادها والعياذ بالله فكلما كانت شريحة الشباب بخير وصلاح وفاعلية ووعي والتفات لما هو مهم كانت الأمة جميعاً بخير وصلاح، ولأن فيكم الطاقة والحيوية والحماس والاندفاع والتفاعل والعاطفية والحب والمودة والصدق والإخلاص والتواضع فكل هذه الخصال الحميدة تجدها عند الشباب لذا تجد الاستجابة الفعالة للدعوات

ص: 149


1- من الكلمة التي ألقاها سماحة الحجة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على جموع أهل البصرة الذين وفدوا لمبايعته وإعلان الولاء له يوم الثلاثاء 23 ربيع الثاني 1424 المصادف 2003/6/23.

الإصلاحيةكرسالة الإسلام أكثر ما تكون بين الشباب، وإن النهوض بواقع الأمة والأخذ بيدها في مواجهة التحديات إنما يكون على يد الشباب.وأخشى عليكم لأن سهام الباطل وحملات الإفساد والتضليل أكثر ما توجه إليكم لأهميتكم في كيان الأمة.

واجباتنا أمام هذه التحديات:

أيها الأحبة: إننا أمام أخطار وتحديات عديدة وضخمة وجديدة علينا ومعقدة مما يضاعف المسؤولية علينا ويدفعنا إلى مضاعفة الهمة لنخرج من عهدة المسؤولية وقد فزنا برضا الله تبارك وتعالى وشفاعة أوليائه العظام.

أمام هذه التحديات الضخمة ماذا سيكون واجباً:

1 تعميق صلة الأمة بالله تبارك وتعالى وتقوية إيمانها بإسلامها من خلال الوعظ والإرشاد والتوجيه، وبيان محاسن الإسلام وإبراز نقاط قوته في العقيدة والسلوك، وقيادة الحياة في كل جوانبها، وإبراز نقاط الضعف في المناهج الوضعية ويكون ذلك من خلال تكثيف الخطب والمحاضرات والندوات وسائر قنوات التوعية الأخرى.

2 انفتاح الحوزة على جميع شرائح المجتمع خصوصاً طلبة الجامعات والمدارس بزيارات منتظمة لتنبيههم إلى المخاطر المحدقة بالأمة ودورهم الكبير في مواجهتها ولتعزيز ثقتهم بأنفسهم وتقوية موقفهم.

ص: 150

نبذ أسباب الفرقة والخلاف والالتفات إلى القضايا المصيرية التي تهمنا جميعاً على حد سواء، فإن1 أعداءكم يحاربونكم لا لأنكم سنة أو شيعة أو من مقلدي سين أو صاد ولا لأنكم من هذه العشيرة أو تلك أو هذه المدينة أو تلك، بل يحاربونكم جميعاً على حد سواء لأنكم مسلمون، فاجتمعوا في مواجهتكم لهم على هذا المحور وهو الإسلام، ولا تنشغلوا بالخلافات الجزئية وتنازلوا عن الكثير من حقوقكم من أجل عزة الإسلام ووحدة المسلمين وتأسوا بأمير المؤمنين (عليه السلام) الذي يقول: (لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين وكان الظلم عليّ خاصة).

2 الاهتمام بقضية الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) والدفاع عنها والعمل على الاستعداد لاستقباله والفوز بنصرته وتحديد تكاليفنا تجاهه وفي عصر غيبته، ومن هذه التكاليف أقامة الشعائر الدينية الجماعية باستمرار من صلاة الجمعة أو الجماعة أو مآتم حسينية أو احتفالات أو مجالس ذكر ودعاء والحضور المستمر في المساجد وفتح حلقات الدروس في العقائد والأخلاق والسيرة والتفسير.

3 التعاون والتكافل الاجتماعي كمشروع صندوق (الزواج رحمة) الذي أسس قبل مدة ونشرت أفكاره في كتاب (الزواج والمشكلة الجنسية)، وقام بتزويج العشرات من الشباب المؤمنين كرد عملي إيجابي على الفساد، وفتح بعض المشاريع الاقتصادية لتوفير فرص العمل وتحقيق الاكتفاء الذاتي، وتستمر الحوزة الشريفة إن شاء الله تعالى في دعم هذه المشاريع وتفعيلها وتشجيع المؤمنين على المساهمة فيها.

ص: 151

1 الالتزام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من قبل الجميع وليست هي مسؤولية الحوزة فقط، فإن إحياء هذه الفريضة سيكون سبباً لبركات كثيرة ورادعاً عن مفاسد كثيرة بينّاها وأشرنا إلى اهتمام القرآن الكريم والأئمة المعصومين بهذه الفريضة في مناسبات سابقة.

2 أن تأخذ المرأة دورها في حملة التثقيف والتوعية، فتساهم المؤمنات المثقفات في الجامعات والمدارس والجمعيات النسوية والمراكز الثقافية وبكل الوسائل المتاحة في التنبيه إلى المشاكل الموجودة في هذه الصنف من المجتمع وكيفية علاجها وقد أشرنا إلى الكثير منها في كتب عديدة.

أسأل الله تعالى أن يؤجركم على عنائكم هذا، ويجعلكم حصناً حريزاً للإسلام وجنوداً مخلصين لصاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وأن يشملكم بلطفه ورحمته ويتولاكم برعايته.

وأطلب أن تتوقف(1) مثل هذه الوفود عن المجيء فقد كفيتم ووفيتم وأديتم ما عليكم وبقى ما علينا وهو كثير، فلا تحملونا أزيد من ذلك، وأسأل الله تعالى أن يكتب الأجر للأخوة الذين لم يأتوا على حسن نياتهم..

ص: 152


1- لهذا الطلب منشآن: 1 عدم رغبة سماحة الشيخ (دام ظله) في التصدي العلني للمرجعية لإعطاء الفرصة للموجودين. 2 طمأنة بعض المرجعيات التي أقلقها هذا التوجه الشعبي الكبير نحو سماحة الشيخ فصدرت منها أقوال وأفعال غير لائقة.

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (آل عمران: 200).

ص: 153

شُقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة

اشارة

شُقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة (1)

البلاء سنة:

قال الله تبارك وتعالى في بداية سورة العنكبوت «أحَسِبَ الناسُ أنْ يُترَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنّا الذِينَ مِنْ قَبلِهِمْ فلَيعلَمَنَّ اللهُ الذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعلَمَنَّ الكَاذِبِينَ» (العتكبوت: 23). فسُنة الامتحان والابتلاء والاختبار جارية في عباد الله لتظهر استحقاقاتهم وهو مقتضى العدالة وبدونها لا يمكن تكريم محسنٍ ولا معاقبة مسيء ويكون من الظلم تقديم أحد على أحد كتقييم الطلبة في المدارس والجامعات.

وتتفاوت الامتحانات شدةً وضعفاً بحسب استعداد الشخص وقابليته ليستحق النتائج بجدارة، وقد مرّت الأمم السابقة ببلاءات عسيرة كانت فيها قلوب الصفوة من المؤمنينتتزلزل فضلاً عن عامة الناس، قال تعالى «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ» (البقرة:214).

ص: 154


1- هذه خلاصات لبعض الأفكار التي وردت في أحاديث سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع تجمعات الوفود التي زارته من عدة مدن عراقية من بينها الديوانية وناحية الإمام في الحلة وناحية الفجر في الناصرية وناحية العزيزية في الكوت يومي 2930 ج1 1426 المصادف 2005/7/67.

النصر الحقيقي:

وليس من الضروري أن يكون هذا النصر القريب هو بانفتاح الدنيا عليه وتنعّمه بالخيرات وتسلّمه لمواقع السلطة؛ لأن النصر الحقيقي والأكبر هو على النفس الأمارة بالسوء والتحرر من الانصياع لأهوائها ومطامعها والنصر على غواية الشيطان وعدم الاستجابة لإغراءاته، فهذا هو الميدان الأول للنصر والهزيمة وعليه يتفرع النصر والهزيمة في الميدان الخارجي، وما هذه المظالم التي تحصل بين البشر إلا نتيجة الهزيمة في ذلك الصراع، كما أن البشرية لا تنعم بالسلام والخير والسعادة إلا إذا انتصرت على أهوائها ونزعاتها وملكت زمامها وضبطتها بميزان العدل والحكمة.

سفينة النجاة:

إذن فهذه البلاءات والفتن التي تمر بها امتنا اليوم ليست حالة فريدة ولا شاذة، بل هو امتداد طبيعي لتلك السنة الإلهية العادلة، ولم يغفل التخطيط الإلهي للبشرية هذه الحالة بل وضع لهم معالم طريق النجاة من الفتن بالتمسك بحبل الله الممدودلإنقاذ البشر من التخبط والانحراف والضلال والضياع والتمزق.

ويتمثل حبل الإنقاذ هذا بكتاب الله وعترة نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين ينقلون بأمانة وتفصيل سنة جدّهم الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)

ص: 155

حيث قال: (إني تاركٌ فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي)(1).

ونبّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أمته في بعض خطبه بأن الفتن جاءتكم كقطع الليل المظلم وحذرهم من الوقوع فيها كما قال الله تعالى من قبل «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» (آل عمران:144)، وأرشد الأمة إلى أن نجاتها تكون باتباع قادتها الحقيقيين فهم سفن النجاة (شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة)(2)، فهي ليست فتنة واحدة وإنما فتن كثيرة وهي كالأمواج متلاحقة لا تنتهي واحدة حتى تلحقها أخرى ولا تتخلص من واحدة حتى تأتي أكبر منها كما هي طبيعة الأمواج.

وقد أدى الأئمة دورهم في هداية الأمة وصيانة عقيدتها وأخلاقها من الانحراف، ودافعوا عن دولة الإسلام وضحوا في سبيل الله والمستضعفين من الناس وأرشدوهم إلى ما يصلح حالهم.

دور المرجعية في حفظ الإسلام:

وبعد انتهاء عصر القيادة الظاهرة للأئمة جاء دور العلماء المجتهدين الجامعين لصفات وخصائص هذا الموقع الشريف، ليكونوا سفن النجاة بأمر من

ص: 156


1- البحار: ج23 ص106، كنز العمال: 870873، 898، 942947.
2- نهج البلاغة: خ6.

الأئمة حيث وصفوا العلماء بأنهم (أمناء الرسل)(1) و(حصون المسلمين كحصن سور المدينة لها)(2) فهم الأمناء على مسؤوليات الرسل، والأولى باستحقاقاتهم وجعلوا قولهم حجة على الناس جميعاً (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله)(3).

الفقهاء الأمناء سفن النجاة:

وقد ورد تسمية مثل هؤلاء الفقهاء الأمناء سفن نجاة في الرواية التالية، فقد كان زرارة بن أعين من أعظم الفقهاء الذين رباهم الإمامان الباقر والصادق (عليهما السلام) وأوسع الأوعية لحمل علمهما، ومع ذلك فقد صدرت من الإمام الصادق (عليه السلام) كلمات ذم في حق زرارة لم يفهم فلسفتها الكثيرون، وقد شرح الإمام الصادق (عليه السلام) ذلك بما روي عن عبد الله بن زرارة قال: قال لي أبو عبد الله (الصادق) عليه السلام: اقرأ مني على والدك السلام وقل له: إني إنما أعيبك دفاعاً مني عنك فإن الناس والعدو يسارعون إلى كل من قربناه وحمدنا مكانهلإدخال الأذى في من نحبُّ-ُه ونقرّبُه ويرمونه لمحبتنا له وقربه ودنوه منا، ويرون إدخال الأذى عليه وقتله، ويحمدون كلَّ من عبناه نحن فإنما أعيبك لأنك رجلٌ اشتهرت بنا وبميلك إلينا وأنت في ذلك مذموم عند الناس غير محمود الأثر بمودّتك لنا ولميلك إلينا، فأحببت أن أعيبك

ص: 157


1- عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآ له )، الكافي: ج1 ص46.
2- عن الإمام الكاظم (عليه السلام) السابق: ج1 ص38.
3- الوسائل: ج27 ص140.

ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك ويكون بذلك منا دافع شرهم عنك. يقول الله عز وجل «أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً» (الكهف:79) هذا التنزيل من عند الله صالحة لا والله ما عابها إلا لكي تسلم من الملك، ولا تعطب على يديه ولقد كانت صالحة ليس للعيب فيها مساغ والحمد لله، فافهم المثل يرحمك الله، فإنك والله أحبُّ الناس إليَّ وأحب أصحاب أبي حياً وميتاً. فإنك أفضل سفن ذلك البحر القمقام الزاخر، وإن من ورائك ملكاً ظلوماً غصوباً يرقب عبور كل سفينةٍ صالحة ترد من بحر الهدى ليأخذها غصباً ثم يغصبها وأهلها ورحمة الله عليك حياً ورحمته ورضوانه عليك ميتاً)(1).

فإذا تاهت الأمة واضطربت وتخبطت وتمزقت فبسبب تخلّفها عن تعاليم قيادتها الرشيدة، وإلا فإن التخطيط الإلهي لم يغفل معالم طريق النجاة.

مرحلتين من التكاليف تجاه الأمة:

وقد تحصّل أن على الأمة مرحلتين من التكاليف أمام قيادتها:

الأولى: الفحص عن القائد الذي تجتمع فيه الصفات والخصائص التي اشترطها المعصومون (عليهم السلام) من الاجتهاد، والعدالة، والترفّع عن الدنيا والأنانية والاستئثار، وأن يستشعر حب الناس جميعاً والشفقة عليهم، وأن يكون واعياً ومحيطاً بقضايا الأمة وبصيراً بما يكتنفها، وقادراً على تشخيص

ص: 158


1- معجم رجال الحديث: 7/227.

العلل ووضع الحلول والعلاجات المناسبة لها، وقد أشرنا إلى ذلك في كلمات سابقة أكثر تفصيلاً، فإذا وجدت الأمة مثل هذا الشخص عليها أن تبقى مراقبة له لئلا يزلَّ وينحرف والعياذ بالله.

الثانية: وهي الطاعة والتسليم والنصيحة وبذل النصرة وعدم التقصير.

التقليد

الواعي:

وهذا هو ما نقصده بالتقليد الواعي أي عدم الارتباط بالأشخاص وتقديسهم وإنما الذوبان في المبدأ ونرتبط بالشخص بمقدار تجسيده لتلك المبادئ مهما كان أصله وانتماؤه، ولا نقصد بالتقليد الواعي ما أسميه بالانتقائية أي الالتزام بما يعجبه من أوامر قيادته ومخالفة ما لا يعجبه، فهذا عين الانحراف والضياع وإذا كان عنده شيء يريد أن يقدّمه فإن أعظم هدية هي النصيحة، أما أن يجعل نفسه قيّماً على مواقف المرجعيةفيحكم على بعضها بالصحة وعلى بعضها الآخر بالبطلان فهذا من خطل التفكير؛ لأن أي فرد لا يملك قدرة المرجع على استنباط الحكم من مصادر الشريعة وهي الكتاب والسنة، وتجتمع لدى المرجع خبرات عديدة ومستشارون متنوعون وعيون ترصد جميع مساحة العمل أما هذا الفرد وذاك فهو محدود من هذه الجهات.

الشذوذ عن خط المرجعية:

فالشذوذ عن خط المرجعية هو الخطأ الأكبر حتى لو تصورنا أن موقف المرجعية كان غير صائب لعدم ادّعاء العصمة، وعلى هذا ربّانا الأئمة

ص: 159

المعصومون (عليهم السلام)، فلا يجوز لأي فرد من الأمة أن يحكّم مزاجه وأهواءه ويخضع لإسقاطاته النفسية.

المسؤوليات والواجبات في القيادة:

فالمسؤوليات والحقوق والواجبات متبادلة بين القيادة والأمة، ويوجد تلازم بينها ولا تأخذ إلا بمقدار ما تعطي ونرفض أن تركّز القيادة على جانب الامتيازات فتتحدث عن وجوب الطاعة والانقياد وتترك جانب الواجبات والاستحقاقات والعطاء للأمة مما تقدم ذكره، فإن هذا عين التطفيف في المعايير الذي قال عنه تعالى «وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» (المطففين: 13)، فإن هذه الحالة غير مختصة بميزان البيع والشراء بل تشمل كل التعاملات، فالأب الذي لا يقوم بواجباتهتجاه أسرته ويطالبهم باستحقاقات الأبوّة هو من المطففين، والمسؤول الذي يتنعم بامتيازات موقعه ولا يقدم الخدمات المطلوبة منه للمجتمع هو من المطففين، والدول التي تتعامل بمكيالين في علاقاتها مع الدول الأخرى هي من المطففين.

على الأمة أن تهتدي ببصيرة المرجعية الرشيدة:

وعوداً على بدء نكرر أن سفن النجاة من الفتن هم العلماء المجتهدون الجامعون لصفات ومميزات القيادة، والتي قسمناها في بعض كلماتنا إلى ثابتة ومتحركة وأشرنا باختصار إليها أعلاه، وهم الذين يحددون للأمة المواقف

ص: 160

والتصرفات الصحيحة إزاء الفتن والقضايا التي تتعرض لها، فقد يكون تكليف البعض الانزواء والسكون، وقد يكون تكليف البعض الاقتحام والمواجهة بكل أشكال المواجهة أو بعضها.

وفي ضوء هذا يجب أن نفهم الأحاديث الشريفة مثل قول الإمام (كن في الفتنة كابن اللبون لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب)(1) لأنه لو كان تكليف الجميع هو الانزواء والانعزال فمن الذي سيرد على هذه الشبهات ويرد كيد المضلّين ويحمي الأمة من الضياع والتخبط، وهي وظيفة العلماء والرساليين الذين حصّنوا أنفسهم وسلحوا عقولهم بالعلم وقلوبهم بالمعرفة، أما من لا يمتلك الحصانة الكافية فإن عليه أن يحفظ نفسه ودينه بالسكون والانعزال إزاء الفتن.فلا يوجد تعميم في مثل هذه الأحاديث الشريفة وإنما نفهم منها تكاليف لحالات خاصة، كما عرضنا وجهاً من عدة وجوه لفهم كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) في المرأة، بأنه (عليه السلام) تعرض من بعض النساء لمواقف مذمومة مزقت الأمة وأزهقت أرواح الآلاف من المسلمين فصدرت منه كلمات منسوبة إليه في حق المرأة وقلنا في ذلك الوجه أننا لا نفهم من (ال) التعريف إنها

ص: 161


1- نهج البلاغة: الحكمة:1.

للجنس ليشمل الذم كل النساء، وإنما هي (ال) العهدية أي التي تشير إلى امرأة معهودة معروفة لدى المتكلم والسامع(1).

ص: 162


1- انظر الأمراض المعنوية للنساء في كتاب خطاب المرحلة الجزء السابع ص346.

التوازن بين سُبل الإيمان ووسائل الانحراف

اشارة

التوازن بين سُبل الإيمان ووسائل الانحراف(1)

الفساد ونتيجته:

يتحدث الشباب كثيراً عن انتشار وسائل الفساد والانحراف بتنوعها وتطورها وتأثيرها القوي وضغطها على النفوس، لكن التركيز على هذا الحديث والالتفات إليه فيه معنى إيجابي وآخر سلبي.

أما الإيجابي فهو أن نلتفت إلى هذا الخطر ونشخّص أسبابه ونضع العلاجات النظرية والعملية له، وهي جزء من وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما السلبي فهو ما نخشاه من كون الدافع إلى هذا الكلام هو إعطاء المبررات لضعف النفس وانسياقها وراء الشهوات والمعاصي بحجة الضغط القوي وعدم استطاعة المقاومة.ونحن لا ننكر انتشار وسائل الفساد وقوة تأثيرها بعد الانفتاح الإعلامي وتطوّر وسائل الاتصالات وتقنياتها العالية، لكن مقتضى العدل الإلهي انه كلما قويت شوكة الفساد والانحراف والضلال فإن سبل الإيمان وطاعة الله تبارك وتعالى تقوى بموازاتها بحيث تحصل حالة من التوازن وتكون حالة الاختيار والإرادة متعادلة بكلا الاتجاهين تطبيقاً لقوله تعالى (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ

ص: 163


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من طلبة الاعداديات في قضاء الرفاعي مع بعض أساتذتهم يوم الخميس 21/ذق/1432 الموافق 2011/10/20م.

وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال42) (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد10) (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (الإنسان 3).

اللطف الإلهي يقتضي زيادة سبل الإيمان:

بل أن مقتضى اللطف والكرم الإلهيين ورحمة الله الواسعة زيادة وسائل الإيمان وأدواته وتحبيبه إلى القلوب وتزيينه إلى النفوس (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) (الحجرات/7).

ومن الشواهد عليه ما نطقت به الآيات والروايات الشريفة من أن الحسنة بعشر أمثالها (وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ) البقرة261، ومن همّ بالحسنة ولم يفعلها كتبت له حسنة ومن عمل سيئة لم تكتب عليه واعطي مهلة للتوبة والاستغفار، فإن لم يتب ولم يندم كتبت عليه بواحدة ويمحوها الاستغفار والتوبة والقيام بالأعمال الصالحة، فالجزاء على الحسنة أضعاف العقاب على السيئة.

إذن التركيز على قوة انتشار وسائل الفساد والانحراف مما لا ينبغي الانشغال به، وامام كل هذه الوسائل بدائل مشابهة للإيمان والصلاح، فإذا قلت انه توجد قنوات فضائية كثيرة للفسق والفجور فإن فضائيات كثيرة أيضاً للهداية والصلاح والوعظ وفيها تنوع في البرامج بين المحاضرات والحوارات النافعة والندوات وغيرها.

ص: 164

وإذا قلت أن مجلات وصحف الفساد منتشرة قلنا أن كتب ومجلات وصحف الهداية والرشاد أكثر منها وبتنوع كبير وتخاطب جميع الفئات والشرائح وفيها مرغّبات وإخراج فني جاذب. وهكذا، والإنسان باختياره يختار هذه القناة أو تلك، وهذه المجلة أو تلك.

موعظة للشباب: لنغتنم الفرص

أيها الأحبة: إن أول صدمة يواجهها الإنسان قبل ضغطة القبر ووحشته وحساب منكر ونكير وكل هذه الشدائد العظيمة هو عندما يُفاجأ أنه قد مات، لأنه لا يدري أنه ميّت ويظن أن حالة من الإغماء أو النوم أو فقدان الوعي ونحوها مما تعودّه في الدنيا قد طرأت عليه، حتى ينبّهه الملقن أنه ميت وأن أيامه في الدنيا قد انتهت وهو في أول أيام الآخرة، وحينئذ سيصاب بالصدمة لأن فرصة العمل قد أغلقت أمامه وترك خلفه الكثير مما كان يستطيع أن يقدمه في سبيل الله تبارك وتعالى لكنه بخل به واليوم تركه وذهب إلى الآخرة (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ...) (الأنعام/94).

وانتم أيها الشباب في قمة العطاء والعمل وعندكم فرصة أن تكونوا ممن يفاخر بكم الله الملائكة إذا استقمتم على طاعة الله تبارك وتعالى والتزمتم بأحكام الشريعة كما ورد في الحديث الشريف، لأن الملائكة مجبولة على الطاعة ومخلوقة لها، أما الشباب فتتنازع فيه قوى الخير والشر وهو بإرادته ولطف الله تبارك وتعالى ينحاز إلى قوى الخير فيكون أفضل عند الله تعالى من الملائكة.

ص: 165

أما إذا كبرتم وتجاوزتم مرحلة الشباب فإن هذا التنافس سيزول موضوعه وتفقدون الفرصة لنيل مثل هذه الخطوة عند الله تبارك وتعالى، ولا تعاد الفرصة ولا تتكرر ولا ينفع الندموالتأسّف فاغتنموها، خصوصاً وإنكم تتمتعون بحرية لا حدود لها من عمل الخير، عكس الفترة التي عاشها الشباب في ثمانينات القرن الماضي حيث كانت أكثر الفرص معدومة لقسوة النظام وبطشه بكل ما يمّت إلى الدين بصلة، وكنّا نتوقع كل سيء من جلاوزة صدام حينما كنا نقتني الكتاب الديني أو نؤدي الشعائر الدينية، فاشكروا الله تعالى حق شكره واعملوا ما يرضيه سبحانه.

ص: 166

اسعوا لتكونوا قادة في المشروع الرسالي وليس فقط جزءاً منه

اشارة

اسعوا لتكونوا قادة في المشروع الرسالي وليس فقط جزءاً منه (1)

عباد الرحمن:

مدح الله تبارك وتعالى عدة شرائح من الناس وصرّح بحبّه تبارك وتعالى لهم وهو شرف ما بعده شرف والإنسان يفخر بحب شخص ذي جاه أو منزلة اجتماعية أو دينية فكيف به إذا حظي بحب الخالق العظيم.

وكذا حينما يمدح تبارك وتعالى (عباد الرحمن) فيقول عنهم «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً» (الفرقان:63)، وفي نهايتها يذكر الرب الكريم جزاءهم «أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً، خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً» (الفرقان: 7576).

ص: 167


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع أعضاء مكتب فضلاء النجف الأشرف يوم الثلاثاء 5 ذي الحجة 1427ه المصادف 2006/12/26 ومع وفد ضم عدداً من أساتذة كلية الآداب في جامعة ذي قار وآخر ضم عدداً من طلبة الأقسام الداخلية في جامعة البصرة يوم 24 ذي القعدة 1427ه المصادف 2006/12/16.

وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً:

ومن الصفات التي ذكرها في عباد الرحمن دعاؤهم «رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً» (الفرقان:74)، فهم لم يكتفوا بطلب أن يكونوا من المتقين الذينوصفهم أمير المؤمنين في خطبته المعروفة أمام همام بن غالب(1)

فصعق ومات وإنما يطلبون أن يكونوا من أئمة المتقين، وهذا يكشف عن هممهم العالية وعزائمهم القوية وانضباطهم الراسخ وهو على أي حال طموح مشروع بل محمود ومشكور لأن لطف الله تعالى وكرمه متاح للسائلين ولا يمنع منه إلا استحقاق العبد نفسه فلماذا لا يرنون بإبصارهم إلى كل مقام رفيع.

السعي لان نكون قادة:

ومثل هذه المعاني ترد في الأدعية المأثورة كما في دعاء الافتتاح المشهور والمروي عن الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وجاء فيه (اللهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة)(2)

فيعلمنا الإمام أن نسعى لان نكون قادة في دولته الكريمة لننال كرامة الدنيا والآخرة وان كان مجرد الكون جزءاً من تلك الدولة الكريمة هو شرف عظيم ومنزلة رفيعة.

ص: 168


1- أنظر نهج البلاغة: الخطبة: 193.
2- إقبال الأعمال: ص280.

من هنا نواصل حثّنا للفضلاء والشباب الرساليين أن لا يقفوا عند كونهم جزءاً من المشروع الإسلامي الرسالي الذي يمهد لدولة الحق المباركة، وإنما يحسُن بهم أن يكونوا قادة فيه ولهم أدوار فاعلة وبنّاءة في مفاصله الأساسية.

التدرج الرسالي:

إن كل مؤمن ملتزم بدينه هو جزءٌ من هذا المشروع المبارك وقد يتقدم فيه فيصبح من الدعاة إليه بالدعوة الصامتة

(كونوا لنا دعاة صامتين... كونوا لنا دعاة بأفعالكم لا بأقوالكم)(1)، أي بعملكم الحسن وأخلاقكم الفاضلة وصمتكم الرافض للمنكر والفساد والانحراف ومثل هذا الأسلوب من الدعوة له ظروفه ومبرراته لذلك كان الطغاة وأئمة الجور يحمّلون الأئمة المعصومين (عليهم السلام) مسؤولية كل الحركات الرافضة للواقع الفاسد والظلم الذي كان يمارسه الحكّام المنحرفون رغم إنهم لم يجدوا أي وثيقة تثبت ذلك أو مال أو سلاح في بيت الإمام (عليه السلام) عندما يداهمونه لكنهم يعلمون أن الأئمة (عليهم السلام) بترفعهم عن الدنيا التي يتكالب عليها الطغاة وبسلوكهم الطاهر العفيف ومعايشتهم لألام الأمة وسعيهم الجاد لإنصاف المظلوم ومساعدة المحتاج كانوا يبينّون السيرة الصحيحة لقادة الأمة وأولياء أمورها ويكشفون زيف أولئك الطغاة في ادعائهم ولاية أمر الأمة.

ص: 169


1- مستدرك الوسائل: ج1 ص116.

وهكذا فعل أصحابهم البررة فحينما أرسل عثمان إلى أبي ذر بصرة فيها نفقة على يد عبد له (وقال: إن قبلها فأنت حر، فأتاه بها، فلم يقبلها ،فقال: اقبلها يرحمك الله؛ فإن فيها عتقي. فقال: إن كان فيها عتقك، ففيها رقي، وأبى أن يقبلها)(1).

فمثل هذا الرفض للتصرف غير المشروع بالأموال العامة والإثراء عل حساب حقوق المحرومين ألفت نظر الأمة إلى انحراف من مات وخلف من ورائه من الذهب ما يكسربالفؤوس وأمثاله، فتحركت الأمة وثارت لتغيير الواقع الفاسد الذي جسّدته بطانة الخليفة في ما وصفها سيد قطب صاحب تفسير (في ظلال القران) أول ثورة إسلامية حقيقية في التاريخ.

التدرج الى الدعوة الناطقة:

وإذا تيسرت الظروف للرسالي انتقل إلى الدعوة الناطقة، وعن السجاد (عليه السلام) حينما سئل عن الكلام والسكوت أيهما افضل؟ فقال (عليه السلام): (...لان الله عز وجل ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، إنما بعثهم بالكلام، ولا استحقت الجنة بالسكوت، ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت، ولا توقيت النار بالسكوت، إنما ذلك كله بالكلام)(2)

أي بالكلمة الصادقة

ص: 170


1- لباب الآداب ص 305 وأعيان الشيعة ج 4 ص 231 عنه ، وشجرة طوبى ج 1 ص 75.
2- البحار: ج71 ص274.

والموعظة الحسنة والحكمة «فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى» (طه:44)، وهكذا يتدرج الرسالي حتى يصبح قائداً في المشروع الإلهي العظيم.

ولكن لما كان (أول الدين معرفته)(1)

كما ورد في كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) فإن الكون في هذه المواقع الشريفة يتطلب معرفة المعالم العامة للمشروع والأسس التي يستند إليها في حركته التي تكون بمثابة الدستور الذي تنطلق منه وتتفرع عنه القوانين التفصيلية المتغيرة في آلياتها وبرامجها لكن الأسس تبقى ثابتة.

الأسس العامة للمشروع الرسالي:

وهذه الأسس يمكن تحصيلها وانتزاعها بالاستقراء والمقارنة وضم الأفكار بعضها إلى بعض، وقد حاولت تخفيفاً عنكم وطياً للمسافة أمامكم أن استخلص لكم هذه الأسس المبادئ والتي هي لا تزال في دائرة العموميات وهي عشرة:

1 الإخلاص لله تبارك وتعالى وان يكون رضا الله سبحانه وتعالى هو الهدف من كل حركة أو سكنة، وأساس نجاح العمل تذكر الهدف و برمجة العمل على أساسه و ضبط الحركة في إطاره.

2 التأسي برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين من ذريته (عليهم السلام) واعتماد القران و السنة الشريفة مصدراً للتشريع و السلوك ومنهجاً لقيادة الحياة.

ص: 171


1- نهج البلاغة: الخطبة: 1.

3 تكريم الإنسان و جعله القيمة العليا و توظيف كل شي من اجل إسعاده وحفظ كرامته و ازدهار حياته.

4 الوحدة و التآلف و التنوع في أداء الأدوار و التسامي عن التقاطع و التشاحن و التزاحم المؤدي إلى الفرقة و التشتت.

5 الدقة في اختيار قيادة الأمة وفق المعايير الدقيقة لان إمامة الأمة وقيادتها هو المحور الذي تنتظم حوله الأمة.1 تهذيب النفس بالأخلاق الفاضلة وتطهير القلب حتى يأتي الله بقلب سليم.

2 تخليص الأمة من الجهل والتخلف و سوء الظن وخلق حالة الوعي والتدين و الورع .

3 تعريف الإسلام الحقيقي و إبراز عناصر القوة و العظمة فيه و إقناع الناس بالالتزام به وإتباعه وألفات النظر إلى عيوب الحضارة المادية و ضعفها وقصور النظريات والنظم المادية عن توفير السعادة و الكمال للإنسان.

4 التنظيم و الدقة في العمل المؤسساتي بحيث ينصهر الجميع في خلية عمل متكاملة .

5 مقاومة الفساد والانحراف والظلم والأنانية والاستئثار والتسلّط بغير حق وإنصاف المظلومين بكل الآليات المتاحة.

ص: 172

تطبيق هذه الأسس:

إن هذه الأسس العامة التي تبتني عليها حركة المشروع الرسالي تتطلب عمقا اكبر لتحليلها وتحويلها إلى مشاريع تفصيلية وتنفيذها على الأرض ومتابعة كل مشروع ليبقى محافظاً على الأساس الذي انطلق منه وتفرع عنه.

فمثلاً من تطبيقات النقطة العاشرة كان تشكيل كيان سياسي يجمع المخلصين الكفوئين النزيهين ليؤدي هذا الدور، فتأسيس هذا الكيان كان من نتائج تحليل هذه النقطة وعلىأعضائه أن يضعوا له البرامج والآليات التي تتكفل بتحقيق هذه النقطة ويراقبوا مسيرته ليبقى في إطارها.

وفي ضوء النقطة الرابعة نفهم أن تعدد الجهات العاملة في الساحة لا يُعُّد منافسة أو مزاحمة وبالتالي يؤدي إلى التنافر والتسقيط والتشهير وربما المواجهة المسلحة وكلها من الكبائر التي تسخط الباري عز وجل، وإنما نفهمها تنوعاً في الأداء يغني الحركة ويثريها؛ لأن جهة واحدة لا تستوعب كل نواحي العمل ولا تملا كل مساحات النشاط المطلوب، وقد لا تتناسب سعة مسؤولياتها مع القيام ببعض الأدوار، فمثلا في عصر الإمام الصادق (عليه السلام) اندلعت عدة ثورات للعلويين لمواجهة ظلم العباسيين وطغيانهم وكانت تستقطب الكثير من القواعد الموالية لأهل البيت (عليهم السلام) ولم يشعر الإمام (عليه السلام) بحساسية إزاءها لأنه يرى فيها تنوعاً للأدوار، وبالعكس فقد كان يبدي ارتياحه لمثل هذه الحركات وان كان لا يتبناها بنفسه بل يمنع خواصّه من الانخراط فيها بحسب ما أفادت الروايات؛ لأنه لم يكن مؤمنا بصدق وإخلاص عدد منها لكنه

ص: 173

(عليه السلام) كان يردد (لوددتُ أن الخارجي من آل محمد خرج وعليَّ نفقة عياله)(1)

ويقول (عليه السلام) (لا ازال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد)(2)

وقد شرحنا تفصيل هذا الموقف في كتاب (دور الأئمة في الحياةالإسلامية) وعليها تعليقات سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره)(3).

ولتحقيق النقطة الثانية فقد ذكرنا الكثير من الدروس المستفادة من سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بناء ألذات في كتاب (الأسوة الحسنة) وفي النشاطات الاجتماعية للمعصومين (عليهم السلام) من خلال كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية)، وذكرنا خصائص برنامج عمل الحركة الإلهية الإصلاحية في كتاب (شكوى القران) وهكذا.

ص: 174


1- الوسائل: ج15 ص54.
2- السابق.
3- دور الأئمة (علیهم السلام) في الحياة الإسلامية: ص279.

لن يستطيعوا هزيمة شبابنا بإذن الله تعالى

اشارة

لن يستطيعوا هزيمة شبابنا بإذن الله تعالى(1)

قوة الإيمان العالية لدى شبابنا اليوم:

يتحدث الكثير من الشباب وطلبة الجامعات عن أجواء الفساد والانحراف خصوصاً في أروقة الجامعات، والخشية من التأثر بها، وأنا لا أريد أن أقلّل من حجم هذا الخطر وما يستدعيه من الحيطة والحذر والتسلّح بالتقوى والوعي والأخلاق الفاضلة، لكنني أعتقد أن المد الإسلامي المتدين قد نضج بمقدار معتد به في مقاومة واحتواء تأثير هذه الانحرافات الأخلاقية التي اكتسحت المجتمع منذ عشرات السنين وأدت إلى انحراف الأغلبية الساحقة من الشباب في ستينات وسبعينيات القرن الماضي، لكن التيار الديني استعاد التوازن والصمود واحتواء هذا الخطر رغم تزايد قوته وإمكانياته ودخول التقنيات الحديثة لترويجه.

في العام الماضي زارني أحد الأطباء الشباب وأخبرني أنه حصل على زمالة دراسية له ولزوجته للتخصص الدقيق في الطب في استراليا وانه يتخوف مستقبلاً من التأثر بأجواء الفساد هناك، فطمأنته وقلت له أن مثله يؤثر فيهم

ص: 175


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع مجموعة من طلبة الجامعة التكنلوجية يوم السبت 29/ع1 المصادف 2011/3/5 ومع مدير وطلبة المدرسة القرآنية للفتيان في الحلة يوم السبت 19/ج1/1432 المصادف 2011/4/23 وجمع من أعضاء موكب العسكريين (علیهم السلام) في البصرة الذي قدموا مشياً إلى زيارة أمير المؤمنين (علیه السلام) في ذكرى استشهاد الزهراء (علیها السلام) فوصلوا يوم الأربعاء 30/ج1/1432 المصادف 2011/5/4. ومع موكب عشيرة البدور.

ويغيّرهم وليس العكس، وبعد التحاقه بالدراسة هناك راسلني وقال لقد صدقت فقد أثرنا بأخلاقنا وعفافنا وسلوكنا النظيف في الآخرين فأخذوا يتحلقون حولنا خصوصاً من النساء وهم من جنسيات مختلفة ليسألوا عن ديننا وكيفية حصول هذه الخصال الكريمةعندهما، والدكتور وزوجته يشرحان لهما عن الإسلام ومدرسة أهل البيت (علیهم السلام) ونوابهم من العلماء العاملين، فيصل التأثر عند بعضهم حد البكاء ويعجبون من عفاف المسلمين حيث يمتنع الرجل حتى من مصافحة غير زوجته من الأجنبيات ولا النظر إليهنّ بريبة، ولا تبدي الزوجة زينتها لغير زوجها، وتكريم المتدينين لزوجاتهم.

من عناصر قوتنا:

إن تيارات الفساد والتشويه والتضليل الفكري والتشكيك في أصولنا ومبادئنا مستمرة ويوجد لها أبواق من داخل مجتمعنا حتى من بعض المعممين وليس فقط من العلمانيين، لكننا بفضل الله تبارك وتعالى وألطاف صاحب العصر (أرواحنا له الفداء)، و إقامة الشعائر الدينية بكثرة، واستمرارية وانتشار مجالس الوعظ والإرشاد والمدارس الدينية للقرآن الكريم والفقه والأخلاق وسيرة أهل البيت (علیهم السلام)، أصبح كثير من أبنائنا في حصانة من التأثر بها، وأروي لكم حادثة في المناسبة.

ص: 176

قصة من تراث الجد (الشيخ محمد علي):

في نهاية خمسينيات القرن الماضي حيث كان ما عرف بالمد الشيوعي الأحمر قد اكتسح الساحة العراقية وغرّر بقطاعات واسعة من الشباب والمثقفين والكوادر التعليمية، كان جدي اليعقوبي الكبير (رحمة الله ) يرتقي المنبر في مدينة الشطرة فقام بعض أذناب الشيوعيين الذين غاظهم احتشاد هذا العدد الكبيرتحت المنبر الحسيني بإرسال كلب وسط المجلس لإرباكه وتشتيته وكان جدي هادئاً على المنبر، فلما عاد الحشد إلى وضعه استحضر القصة التالية قائلاً: في عهد بعض الولاة العثمانيين السابقين كان الجيش يحمل المدفعية على ظهور الجمال في تحركاته، وكانت فيها ناقة خدمت طويلاً ثم عجزت فأحالوها على التقاعد وقرّر الوالي العثماني تكريمها بأن تترك بحريتها تفعل ما تشاء في أزقة وشوارع المدينة ولا يجوز لأحد التعرض لها ومنعها مما تريد، فكانت تقف عند هذا البائع فتأكل خضاره وعند ذلك فتلتهم طعامه، حتى وقفت عند صاحب محل وأخذت تلتهم ما عنده بشراهة ولم يستطع منعها خوفاً من الوالي فأخذ صفيحة معدنية وراح يضرب عليها ويحدث صوتاً عالياً لإبعادها، فمرّ عليه شخص وسأله عن فعله فأجابه بأنه يحاول إبعادها عن طعامه بهذه الأصوات، فقال له: إن تعبك هذا بلا فائدة لأن هذه الناقة قد اعتادت ضرب المدافع من على ظهرها سنين طويلة وأنت تريد إخافتها بالضرب على الصفيحة!

وهنا قال جدي (رحمة الله ) محل الشاهد وهو أنه على هؤلاء الأعداء أن ييأسوا من إخافتنا ومحاولات إبعادنا عن دين الله تعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله) وولاية أهل

ص: 177

البيت (علیهم السلام) فقد حاول كثيرون من قبلهم بكل بطش وقسوة في التاريخ الماضي كالأمويين والعباسيين والتاريخ الحديث كالاحتلال الإنكليزي وغيره فواجهناها بشجاعة وبسالة وقدّمنا التضحيات.

فيا أيها الأحبة إنكم بمواظبتكم على أداء شعائركم الدينية وصلواتكم المفروضة خصوصاً صلاة الجماعة والجمعة والتردد على المساجد وحضور المجالس الحسينية والتواصلمع العلماء والفضلاء ومطالعة الكتب النافعة سوف لا تؤثر فيكم هذه الأساليب المهزومة بإذن الله تعالى.

ص: 178

قوى الشباب غنيمة للفرد و الأمة

اشارة

قوى الشباب غنيمة للفرد و الأمة(1)

خصائص الشباب:

نِعمُ الله تعالى على الإنسان كثيرة، ومنها نعمة الفتوة و الشباب بما تعني من حيوية ونشاط، وصحة وعافية، وقوة إرادة وسعة طموح وعواطف جياشة وغرائز متدفقة وحماس واندفاع وصفاء ونقاء وأريحية وذهن وقّاد، وغيرها من القوى وهذه القوى مشمولة بأمر الله تعالى «وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ» (الأنفال:60) والقوة المطلوب إعدادها تكون ملائمة للعدو المقصود، فهذه القوى مما يُعدُّ لمواجهة النفس الأمّارة بالسوء، كما في الحديث عن النبي (صلی الله علیه و آله) (أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك)(2)

والشيطان، قال تعالى «إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ» (يوسف:5).

فرصة الشباب في التكامل:

إن الصفات والخصائص التي ذكرناها للشباب توفّر فرصة واسعة للتكامل مع ما فيه من مضاعفة الأجر و الثواب والمحبة الإلهية التي اختص بها

ص: 179


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي(دام ظله) مع جمع من طلبة الكليات العلمية والإنسانية في جامعة بغداد يوم الجمعة 22/ع2/1433 الموافق 2012/3/16.
2- البحار: ج67 ص36.

الشباب، ففي الحديث الشريف عن النبي (صلی الله علیه و آله)( ما من شاب يدع لله الدنيا ولهوها واهرم شبابه في طاعة الله إلا أعطاه الله أجر اثنين وسبعين صدّيقاً)(1).

فهذه المرحلة من العمر من أعظم النعم على الإنسان واهم الفرص التي تتاح له لذا وردت الوصية باغتنامها، فمن وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر ( يا أبا ذر: اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)(2) ومن الملاحظ أن هذه الخمسة كلها متوفرة عند الشباب غالباً فهو قوي البدن صحيح معافى، وغني لأنه مكفول المعيشة في أسرته، وعنده فراغ من المسؤولية، لكن هذه الفرص تقل بمرور الزمان فتزداد مسؤوليته ومشاغله ومشاكله ومعوّقات التكامل وتضعف قواه.

خسارة الشباب:

لكن أكثر الشباب لا يلتفتون إلى هذه الغنيمة ولا يستثمرونها، ويضيعون هذه النعم في أمور تافهة وربما محرّمة، ولا يعطون هذه الثروة العظيمة حقها وقدرِها، فتارة يعبّرون عن فتوتهم وشبابهم بالتمرد على المجتمع أو الانخراط فيجماعات العنف أو الخروج عن النظام العام، أو يوظّفون طاقاتهم المتدفقة في فعاليات جنونية وهو ما أشار إليه النبي (صلی الله علیه و آله) في بعض خطبه قال: (

ص: 180


1- البحار: ج74 ص86.
2- السابق: ج74 ص75.

الشباب شعبة من الجنون)(1) أو يعتنقون بعض الدعوات الضالة فينساقون وراء أصحابها من دون روّية أو تدبّر في محتواها أو عواقبها.

من أسباب انحراف الشباب:

وهذا كله له أسبابه فمنها ما يعود إلى أولياء الأمور وقادة الأمة و البلاد إذ لا يوجد لهم اهتمام بهذه الشريحة المهمة و الواسعة ولا يضعون برامج لتوجيههم وإرشادهم والاستفادة منهم في العمل المثمر.

ومنها ما يعود إلى الشاب نفسه، حينما يستسلم لهواه وعواطفه وشهواته وغروره واعتداده بنفسه ونشوته بما فيه من صحة وفراغ وتوفر لمتطلبات الحياة، قال الشاعر:

إن الفراغ والشباب و الجدة *** مفسدة للمرء أي مفسدة

سكر الشباب:

ومن كلمات أمير المؤمنين (علیه السلام) ( أصناف السكر أربعة: سكر الشباب وسكر المال وسكر النوم وسكر الملك)

سكر الشباب:ومن كلمات أمير المؤمنين (علیه السلام) ( أصناف السكر أربعة: سكر الشباب وسكر المال وسكر النوم وسكر الملك)(2)

فللشباب نشوة وغرور وطيش يطغى على العقل ويسكر صاحبه فيرتكب الحماقات وينساق وراء الشهوات، والى أن يصحو من هذا السكر، فيكون قد فقد الكثير وتورط في أمور يصعب تلافيها،

ص: 181


1- بحار الأنوار: 77/135.
2- غرر الحكم: 237.

وقد يقسو قلبه فلا يكون قابلاً للإحياء بالموعظة و النصيحة، ولذا يجب على الشباب العودة وبسرعة إلى طريق الهداية ليقللّوا من الخسائر وليحظوا بالمحبة الإلهية ففي الحديث النبوي الشريف ( إن الله تعالى يحب الشاب التائب)(1)،

قال تعالى: «إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى» (الكهف: 13).

تعاليم أهل البيت (علیهم السلام) للشباب:

لقد أحاط الأئمة المعصومون (علیهم السلام) هذه الشريحة من الأمة بتوصيات كثيرة، لاجتذابهم واحتضانهم وخلق الأجواء والمشاريع المناسبة ليعبروا عن وجودهم وأهميتهم ويستفرغوا طاقاتهم، فأوصوا بمشاورتهم والاستئناس بآرائهم وإشراكهم في القرار بما يعرف اليوم ب(برلمان الشباب) كفكرة بغض النظر عن تطبيقها، فمن وصية لأمير المؤمنين (علیه السلام) قال ( إذا احتجت إلى المشورة في أمر قد طرأ عليك فاستبدهِ ببداية الشبان فإنهم أحدُّ أذهاناً وأسرع حدساً، ثم ردّه بعد ذلك إلى رأي الكهول والشيوخ ليستعقبوه، ويحسنوا الاختيار له فإن تجربتهم أكثر)(2).يسأل الإمام الصادق (علیه السلام) أحد أصحابه الأجلاّء الذين لهم منزلة رفيعة وهو أبو جعفر الأحول الملقب ب( مؤمن الطاق) وكان المخالفون يسمونه (شيطان الطاق) لقوة حججه وأدلتهُ ونشاطهُ في نشر تعاليم أهل البيت (علیهم السلام)، فسأله الإمام

ص: 182


1- كنز العمال: 10185.
2- غرر الحكم: 219.

(علیه السلام)(أتيت البصرة؟ قال: نعم، قال: كيف رأيت مسارعة الناس في هذا الأمر ودخولهم فيه، فقال: والله إنهم لقليل، وقد فعلوا وان ذلك لقليل، فقال (علیه السلام): عليك بالأحداث فإنهم أسرع إلى الخير)(1).

التألم لانحرافات الشباب:

إننا نتألم حينما نرى الكثير من شبابنا يسقطون وينحرفون ويلتقطون مظاهر الفساد و الانحلال(2)

من حثالات الغرب المنبوذين في بلادهم قبل بلادنا، أو ينخرطون في جماعات ضالة(3)

فاسدة من دون الالتفات إلى أجندات أصحابها والأهداف التي يريدون تحقيقها، وقد تكلفهم حياتهم فيخسر نفسه وتخسره الأمة وهو في عنفوان العطاء و التألق.أيها الأحبة: إن لكم دوراً مهماً في استنقاذ زملائكم وأقرانكم وتوجيههم وهدايتهم إلى السلوك العفيف النظيف، فانتم تصلون إلى ساحات

ص: 183


1- بحار الأنوار: 23/236 عن كتاب قرب الإسناد.
2- إشارة إلى دخول بعض الشباب في جماعة (الإيمو)، وقد أفرد سماحة المرجع (دام ظله) خطاباً مفصلاً عن هذه الظاهرة وانتشارها وطريقة خلاص المجتمع الإسلامي منها، أنظر خطاب المرحلة: ج7 ص287. والإيمو (Emotional) تعني الحساس أو العاطفي أو المتهيج، وهي ظاهرة منتشرة في العالم، ولهم نمط معين من الموسيقى وتسريحة الشعر ويرتدون ملابس سوداء وسراويل ضيقة جدا وأغطية المعصم.
3- إشارة إلى جماعات أدعياء المهدوية والبابية ونحوها من دعاوى الارتباط بالإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف).

للعمل لا نصل إليها نحن، ومشتركاتكم مع الشباب من أقرانكم أكثر، ولغة التفاهم بينكم أوضح فاستثمروها في كسبهم ولا تضيّعوا هذه الفرصة الثمينة بلطف الله تبارك وتعالى.

ص: 184

كونوا من الكنوز التي يكشف عنها الإمام (علیه السلام)

اشارة

كونوا من الكنوز التي يكشف عنها الإمام (علیه السلام)(1)

الخبايا المدخرة لعصر الظهور:

هذه أيام مباركة شهدت بدء الإمامة الفعلية لإمامنا صاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه الشريف) وقيامه بالأمر بعد استشهاد أبيه الإمام الحسن العسكري في الثامن من ربيع الأول، وبهذه المناسبة نذكر رواية من أخبار دولته المباركة.فعن النبي ((صلی الله علیه و آله): (لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل ذهب)(2)، وفي بعض الروايات (يوشك الفرات أن يحسر عن كنز من ذهب)(3).

ومفاد هذه الروايات انه في عصر الظهور يكشف الفرات عن كنوز، والفرات كناية عن العراق لأنه النهر الأشهر كما يعبّر عن مصر ببلاد النيل ونحوه.

وقد فسّرتُ الكنوز بالأنصار الصالحين المخلصين للإمام (علیه السلام) لأن سياق الحديث واضح أن المراد بالكنوز شيء معنوي وليس مادياً(4).

ص: 185


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من الأطباء وفدوا لزيارة سماحته والاستماع إلى توجيهاته من عدة محافظات يوم الجمعة 10/ع1/1433 المصادف 2012/2/3.
2- مجموعة ورام: ج1 ص76.
3- البخاري, ج9 ص73، ومسلم ج 8 ص175.
4- أنظر الغيبة الكبرى للسيد الشهيد محمد الصدر، في الأمر الثامن: أنه سوف يحسر الفرات عن كنز من ذهب: ص411 وما بعدها.

قصة الغلام مع نبي الله عيسى (علیه السلام):

ووجدت في الأخبار ما يؤيد ذلك ففي كتاب البحار (أن عيسى (علیه السلام) كان مع بعض الحواريين في بعض سياحته ، فمروا على بلد، فلما قربوا منه وجدوا كنزا على الطريق، فقال من معه: ائذن لنا يا روح الله أن نقيم ها هنا ونحوز هذا الكنز لئلا يضيع، فقال (علیه السلام) لهم: أقيموا ها هنا وأنا أدخل البلد ولي فيه كنز أطلبه، فلما دخل البلد و جال فيه رأى دارا خربة فدخلها فوجد فيها عجوزة، فقال لها: أنا ضيفك في هذه الليلة، وهل في هذه الدار أحد غيرك؟ قالت: نعم لي ابن مات أبوه وبقي يتيما في حجري، وهو يذهب إلى الصحارى ويجمع الشوك ويأتيالبلد فيبيعها ويأتيني بثمنها نتعيش به، فهيأت لعيسى (علیه السلام) بيتاً، فلما جاء ولدها قالت له: بعث الله لنا في هذه الليلة ضيفا صالحا، يسطع من جبينه أنوار الزهد والصلاح، فاغتنم خدمته وصحبته، فدخل الابن على عيسى (علیه السلام) وخدمه وأكرمه فلما كان في بعض الليل سأل عيسى (علیه السلام) الغلام عن حاله ومعيشته وغيرها، فتفرس (علیه السلام)(1) فيه آثار العقل والفطانة والاستعداد للترقي على مدارج الكمال ، لكن وجد فيه أن قلبه مشغول بهم عظيم، فقال له: ياغلام أرى قلبك مشغولا بهم لا يبرح فأخبرني به لعله يكون عندي دواء

ص: 186


1- الفراسة: التثبت والنظر والتأمل للشيء والبصر به، وتفرس في الشيء: توسّمه. (لسان العرب 10: 221).

دائك، فلما بالغ عيسى (علیه السلام) قال: نعم في قلبي هم وداء لا يقدر على دوائه أحد إلا الله تعالى، فقال: أخبرني به لعل الله يلهمني ما يزيله عنك، فقال الغلام: إني كنت يوما أحمل الشوك إلى البلد فمررت بقصر ابنة الملك فنظرت إلى القصر فوقع نظري عليها فدخل حبها شغاف(1) قلبي وهو يزداد كل يوم ولا أرى لذلك دواء إلا الموت، فقال عيسى (علیه السلام): إن كنت تريدها أنا أحتال لك حتى تتزوجها، فجاء الغلام إلى أمه وأخبرها بقوله ، فقالت أمه: يا ولدي إني لا أظن هذا الرجل يعد بشيء لا يمكنه الوفاء به، فاسمع له وأطعه في كل ما يقول، فلما أصبحوا قال عيسى (علیه السلام) للغلام: اذهب إلى باب الملك، فإذا أتى خواص الملك ووزراؤه ليدخلوا عليه قل لهم: أبلغوا الملك عني أني جئته خاطبا كريمته، ثم ائتني وأخبرني بما جرى بينك وبين الملك، فأتى الغلام باب الملك، فلما قال ذلك لخاصة الملك ضحكوا وتعجبوا من قوله ودخلوا على الملك وأخبروه بما قال الغلام مستهزئين به، فاستحضره الملك، فلما دخل على الملك وخطب ابنته قال الملك مستهزئا به: أنا لا أعطيك ابنتي إلا أن تأتيني من اللآلي واليواقيت والجواهر الكبار كذا وكذا، ووصف له ما لا يوجد في خزانة ملك منملوك الدنيا، فقال الغلام: أنا أذهب وآتيك بجواب هذا الكلام، فرجع إلى عيسى (علیه السلام) فأخبره بما جرى، فذهب به عيسى (علیه السلام) إلى خربة كانت فيها أحجار ومدر كبار(2)، فدعا الله تعالى فصيرها كلها من جنس ما طلب الملك وأحسن منها، فقال: يا غلام خذ منها ما تريد واذهب به إلى الملك، فلما أتى

ص: 187


1- غلاف القلب. (لسان العرب7: 146).
2- المدر: قطع الطين اليابس. (لسان العرب 13: 53).

الملك بها تحير الملك وأهل مجلسه في أمره، وقالوا لا يكفينا هذا، فرجع إلى عيسى (علیه السلام) فأخبره، فقال: اذهب إلى الخربة وخذ منها ما تريد واذهب بها إليهم، فلما رجع بأضعاف ما أتى به أولا زادت حيرتهم، وقال الملك: إن لهذا شأناً غريباً ، فخلا بالغلام واستخبره عن الحال، فأخبره بكل ما جرى بينه وبين عيسى (علیه السلام) وما كان من عشقه لابنته، فعلم الملك أن الضيف هو عيسى (علیه السلام)، فقال: قل لضيفك: يأتيني ويزوجك ابنتي، فحضر عيسى (علیه السلام) وزوجها منه، وبعث الملك ثيابا فاخرة إلى الغلام فألبسها إياه وجمع بينه وبين ابنته تلك الليلة، فلما أصبح طلب الغلام وكلمه فوجده عاقلا فهما ذكيا ولم يكن للملك ولد غير هذه الابنة فجعل الغلام ولي عهده فلما كانت الليلة الثانية مات الملك فجأة وأجلسوا الغلام على سرير الملك وأطاعوه وسلموا إليه خزائنه، فأتاه عيسى (علیه السلام) في اليوم الثالث ليودعه، فقال الغلام: أيها الحكيم إن لك علي حقوقاً لا أقوم بشكر واحد منها لو بقيت أبد الدهر، ولكن عرض في قلبي البارحة أمر لو لم تجبني عنه لا أنتفع بشيء مما حصلتها لي، فقال: وما هو؟ قال الغلام: إنك إذا قدرت على أن تنقلني من تلك الحالة الخسيسة إلى تلك الدرجة الرفيعة في يومين فلم لا تفعل هذا بنفسك، وأراك في تلك الثياب وفي هذه الحالة فلما أحفى(1) في السؤال قال له عيسى (علیه السلام): إن العالم بالله وبدار كرامته وثوابه والبصير بفناء الدنيا و خستها ودناءتها لا يرغب إلى هذا الملك الزائل وهذه الأمور الفانية، وإن لنا في قربه تعالىومعرفته ومحبته لذات

ص: 188


1- أحفاه في المسألة: ألح عليه في المسألة: (لسان العرب3: 250).

روحانية لا نعد تلك اللذات الفانية عندها شيئاً، فلما أخبره بعيوب الدنيا وآفاتها ونعيم الآخرة ودرجاتها قال له الغلام : فلي عليك حجة أخرى لم اخترت لنفسك ما هو أولى وأحرى وأوقعتني في هذه البلية الكبرى؟ فقال له عيسى: إنما اخترت لك ذلك لامتحنك في عقلك وذكائك، وليكون لك الثواب في ترك هذه الأمور الميسرة لك أكثر وأوفى، وتكون حجة على غيرك، فترك الغلام الملك، و لبس أثوابه البالية، وتبع عيسى (علیه السلام) فلما رجع عيسى إلى الحواريين قال: هذا كنزي الذي كنت أظنه في هذا البلد فوجدته . والحمد لله).(1)

لنكن من هذه الكنوز:

أقول: حينما سرّدت هذه الرواية لا أريد منها تحبيب العزلة والترهب لأنها أمور مذمومة في الإسلام وإنما أريد أن نزيد همّتنا لنكون من هذه الكنوز التي ينتقيها الإمام ويصطفيها لنفسه ويجعلها من خاصّته، وهذا أمرٌ في متناول كل أحد، إذا صدق في إيمانه وبذل السعي المناسب للهدف وأدركته الألطاف الإلهية قال تعالى (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً) (الإسراء/19) كمن يريد أن يصبح طبيباً فإنه لابد أن يبذل السعي المناسب فيتفوق في دراسته الإعدادية ويحصل على معدلٍ عالٍ ثم يدرس في كلية الطب ويتابع بقية السعي حتى نهايته.

ص: 189


1- بحار الأنوار: 14/280 282.

الطريق الموصل الى الله تعالى:

ولا نتصور أن السبيل الموصل إلى الله تعالى منحصر بالعبادات المتعارفة كالصلاة والصوم والحج والزيارة، بل يُفهم من الأحاديث الشريفة أنه يوجد ما يمكن أن يكون أسرع فيطي مراحل التكامل، قال الإمام الحسن العسكري (علیه السلام): (ليست العبادة كثرة الصيام والصلاة وإنما العبادة كثرة التفكر في أمر الله)(1) فالعبادة أن تشعر وتحسّ بوجدانك أن الله تبارك وتعالى حاضر عندك مطّلع عليك أقرب إليك من حبل الوريد يحنو ويشفق عليك ويحبّك ويداريك ويدفع عنك، ولازم ذلك أن تفعل كل ما يحبّبك إليه ويقرّبك منه وأن تتعرف إليه تبارك وتعالى أكثر وأكثر وتفهم حقائق أسمائه الحسنى وتسعى لتحقيق تلك الصفات في حياتك كالرحمة والعفو والعلم والكرم وغيرها.

قال رجل للصادق(علیه السلام): (يا ابن رسول الله دلني على الله ما هو؟ فقد أكثر علي المجادلون وحيروني، فقال له: يا عبد الله هل ركبت سفينة قط؟ قال: نعم، قال: فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك؟ قال: نعم، قال: فهل تعلق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟ قال :نعم، قال الصادق (علیه السلام): فذلك الشيء هو الله القادر على الانجاء حيث لا منجي، وعلي الإغاثة حيث لا مغيث)(2).

ص: 190


1- تحف العقول: 488.
2- البحار: ج3 ص41.

أقول: هذا التعلق بالله تبارك وتعالى واللجوء إليه يجب أن تستشعره دائماً وليس فقط في وقت الاضطرار، وهذه العلاقة الطيبة العامرة مع الله تبارك وتعالى هي حقيقة الدين لا الشكليات والمظاهر.

مصطلح المتدين:

وهنا أودّ الإشارة إلى مصطلح مبتدع تحوّل إلى ظاهرة لا تنسجم مع هذا الفهم لحقيقة الدين حيث أسيء استخدامه وهو عنوان (المتدين) وجعلوه مرادفاً لعنوان (المؤمن)، وهو غير صحيح، لأن عنوان المؤمن مصطلح قرآني تكرّر كثيراً يعبّرعن سلوك صالح وعقيدة صحيحة وأخلاق سامية، أما عنوان المتدين فيركّز على شكليات ومظاهر كإطلاق اللحية ومسك المسبحة ولبس الخاتم باليمين وأداء بعض الطقوس الدينية، وهذا كله من الشريعة بالتأكيد، لكن أن يكون هو المقياس بغّض النظر عن الجوهر وسلامة الباطن والاستقامة في التعامل مع الآخرين فهذا تديّن مزيّف روّج له من يريد خداع السذّج لتحقيق أجندات خاصة به والمتاجرة بالدين، حتى تحمّل الدين إساءات كثيرة بسبب تصرفات بعض المتديّنين.

أعظم القربات الى الله تعالى:

ومن أعظم القربات إلى الله تعالى الإحسان إلى خلقه لأنهم عياله وصنيعته والإحسان إليهم إحسان إليه تبارك وتعالى، قال الإمام الحسن العسكري

ص: 191

(علیه السلام): (إن في الجنة لباباً يقال له المعروف، لا يدخله إلا أهل المعروف... فإن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة)(1).

ص: 192


1- البحار: ج71 ص414.

الشباب الجامعي والدعوة إلى الله تعالى

اشارة

الشباب الجامعي والدعوة إلى الله تعالى(1)

هل طالب الجامعة أفضل من الحوزوي؟

قبل ثلاثين عاماً تقريباً كان وفد من الشباب الجامعي في زيارة للسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) فكان مما قال إنكم أفضل منا، وقد تأثروا بكلامه واهتزت عواطفهم حماساً لكنهم لم يفهموا كيف يكونون هم أفضل من أفراد الحوزة العلمية الذين يكرّسون كل وقتهم لطلب العلم والتدريس والتأليف وحضور الاجتماعات الدينية والشعائر، وقد شرح (قدس سره) لهم المعنى بأننا نعيش في النجف والأماكن التي نتردد إليها: المسجد والروضة الحيدرية الشريفة والمدرسة الدينية وبيوت العلماء، ففرص الانحراف والدعوة إلى المعصية قليلة أو نادرة فإذا كنا لا نشتغل بهذه الوظائف الحوزوية فماذا نصنع وبماذا نقضي وقتنا؟أما انتم يا طلبة الجامعات فمحاطون بأجواء الفساد والانحراف والضغط الشديد للتأثر بالمعاصي، فالتزامكم بدينكم وسط هذه المعاناة وانتم في عنفوان الشباب وذروة اندفاعة النفس نحو إشباع الشهوات والمطامع يكون ذا فضل عظيم.

ص: 193


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع وفد ( البيت الطلابي) الذين أقاموا حفلات التخرج الإسلامية في عدد من الجامعات العراقية في بغداد في نهاية العام الدراسي صيف عام 2006.

وأنا أتفق معه (قدس سره) في الجملة أي من بعض الجهات وهو ما قاله من الفخر بنجاح الشباب في امتحان الشهوات والمطامع، وإلا فإننا على علم بوجود أمراض قلبية ونفسية غير مرتبطة بالظروف يتعرض لها العلماء و طلبة العلوم الدينية وهي أكثر تأثيراً في البعد عن الله تعالى من تلك التي يتعرض لها الشباب من المعاصي الظاهرية.

وعلى أي حال فلأجل هذه المعاناة ورد أن الله تبارك وتعالى يباهي الملائكة بالشاب الذي ينشأ في طاعة الله تبارك وتعالى(1)،

وينجح في هذا الجهاد الأكبر – لأن الملائكة جبلت على الطاعة وعبادة الله ولا تتجاذبها نوازع الشر والفساد كما في الإنسان حيث تحمل نفسه ميداناً لصراع مرير بين جنود الرحمن وجنود الشيطان.

الشباب وسبل الارتقاء بالتكامل:

فعمر الشباب فيه هذه الفرصة من الارتقاء والتكامل إذا لم يستثمرها الشاب وتجاوز الأربعين مثلي فإنه لا يحظى بنفس العناية والمباركة؟ ولماذا لا يستثمرها الشاب؟ وماذا يخسر لو أصبح ملتزماً بدينه طاهراً في سلوكه عفيفا في جوارحه ؟ انه لا يخسر شيئا فكل احتياجاته ونوازعه كالجنس والمال والجاه مكفولة له بطرق محلله، ولم يخلق الله هذه الشهوات لتكون وبالاً بل خلقها رحمة وامتناناً ولمصالح تعود إلى الشخص نفسه.

ص: 194


1- كنز العمال: 43057.

أتذكر أن السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) قال في إحدى خطب الجمعة في الكوفة ما أصعب أن يبقىالإنسان على طريق الاستقامة في خضمّ التحديات والصعوبات التي تواجهه والحاجات التي عليه تلبيتها، ولكن ما أيسره بنفس الوقت لأنه لا يحتاج إلى أكثر من الإرادة، فإذا عزم وقويت إرادته هانت عليه كل المصاعب.

لا تكتفوا بإصلاح أنفسكم:

هذا بشكل عام و أما أمثالكم من الشباب الرسالي الذين لا يكتفون بإصلاح أنفسهم، وإنما يسعون لإصلاح مجتمعهم خصوصاً الوسط الجامعي المشحون بالإغراء و الفساد والانحراف فهذا يتطلب همماً عالية، وقد اطلعت على عدد من مشاريعكم الإصلاحية كإقامة حفلات التخرج الإسلامية في مقابل المهرجانات الصاخبة والماجنة التي تعود على إقامتها طلبة الصفوف المنتهية في الجامعات قبل تخرجهم وقد تضمنت احتفالاتكم برامج عفيفة وسامية.

إنكم حينما تشكون من ضعف العمل الإسلامي في الجامعات، فإنه لا يدل على تقصير في جهودكم بقدر ما يعكس طبيعة الرسالي الذي لا يتوقف عمله حتى يرى كل الناس قد اهتدوا إلى طريق الحق أسوة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان يتمنى صلاح كل البشرية وهو أمر مستحيل عادة لأن بعض القلوب قاسية فهي كالحجارة أو اشد قسوة وبعض الآذان صماء وبعض العيون عمياء لذا خفف الله تعالى من آلامه وطيب من خاطره في عدة آيات «فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ – أي قاتل – نَفسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إنْ لَمْ يُؤمِنُوا بِهَذَا

ص: 195

الحَدِيثِ أَسَفاً» (الكهف: 6) «لعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (الشعراء:3).

الحكمة في الدعوة الى الله تعالى:

ولكن أوصيكم باتباع الحكمة في دعوتكم إلى الله تبارك وتعالى والوسائل المناسبة التي تفتح قلب الآخر وعقله، وتجنبوا طرق الاستفزاز و التي تدفع الآخر إلى العناد والاستكبار.

ومن الأساليب المناسبة أن تستثير في الآخر كوامن الخير وتشيد بالخصال الكريمة فيه وان قلّت لأنه حتى الإنسان الفاسق قد تجد عنده خصلة طيبة أو أكثر كالرحمة بالآخرين أو النخوة و الشهامة في مساعدتهم، أو الاشمئزاز من إيذاء الناس، أو حب عمل الخير أو الشجاعة في الدفاع عن الحرمات وهكذا . فعلينا أن نثني على هذه الجوانب الايجابية فيهم ولا نركز على الزجر والتوبيخ والازدراء والوعيد فننفرهم. فإن قلة نادرة من البشر الذين هم شرّ محض ولا يحملون ولو صفة واحدة من الخير.

أمثلة للدعوة:

دخل واعظ على المأمون وتحدث بلهجة قاسية فقال له المأمون: لستُ شراً من فرعون الذي قال أنا ربكم الأعلى ولا أنت أفضل من موسى كليم الله ومع ذلك أوصاه الله تعالى هو و أخاه هارون حينما دخلا على فرعون «فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى» (طه:44).

ص: 196

وفي سيرة أهل البيت نجد نماذج لهذه الدعوة الطيبة كالذي فعله الإمامان الحسن والحسين (عليهم السلام) حينما وجدا شيخاً لا يحسن الوضوء (فقالا : أيها الشيخ كن حكماً بيننا، يتوضأ كل واحد منا، فتوضئا، ثم قالا: أينا يحسن ؟ قال: كلاكما تحسنان الوضوء، ولكن هذا الشيخ الجاهل (يعني نفسه) هو الذي لم يكن يحسن، وقد تعلم الآن منكما، وتاب على يديكما، ببركتكما وشفقتكما على أمة جدكما)(1).

ص: 197


1- مناقب آل أبي طالب: ج3 ص400.

سمو الهدف يعين على تجاوز الصعاب

اشارة

سمو الهدف يعين على تجاوز الصعاب(1)

الصعوبات التي تواجه الجامعي:

الصعوبات التي يواجهها الطالب في أول دخوله للجامعة ليس من جهة المادة العلمية التي يتلقاها، لأنها لا تختلف كثيراً عن وتيرة تقدمه العلمي، وإنما للتغيرات النفسية والاجتماعية والفكرية ونمط الحياة الجديدة باختلاف ثقافاتها ومستوياتها الاجتماعية وانتماءاتها الجغرافية.

ليكن الهدف نصب عينيك:

إن مما يعين الطالب وأي إنسان رسالي يعيش المعاناة والتعب أن يجعل نصب عينيه الهدف السامي الذي يسعىلتحقيقه فكلما كان الهدف كبيراً فإن المعاناة ستذوب، وإن أحد مناشئ شجاعة أصحاب الحسين (عليه السلام) وموقفهم العظيم الذي سجلوه وضوح الهدف أمامهم، حينما كشف الإمام الحسين (عليه السلام) عن بصائرهم ورأوا توقف مستقبل الرسالة الإسلامية على وقفة شجاعة لا تتجاوز ساعات مهما كانت مؤلمة ومضنية لكنها لا تقاس

ص: 198


1- نشر في الصفحة الثانية من العدد ال(20) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 5 ربيع الأول 1426 الموافق 14 نيسان 2005.

مع ما سيترتب عليها من آثار خالدة، فكان أحدهم لا يحسّ بجراحه وآلامه لأن كل نظره وهمه إلى ذلك المستقبل الزاهر.

وفي علل الشرائع عن محمد بن عمارة عن أبيه قال قلت لأبي عبد الله الصادق (عليه السلام): أخبرني عن أصحاب الحسين (عليه السلام) وإقدامهم على الموت، فقال: (إنهم كُشِفَ لهم الغطاء حتى رأوا منازلهم في الجنة، فكان الرجل منهم يُقدِمُ على القتل ليبادر الى حوراءَ يُعانِقُها، والى مكانه من الجنة) (1).

وهكذا الإنسان الرسالي يضع نصب عينيه الهدف وحينئذٍ سوف لا يعبأ بما يلاقيه مهما كان عظيماً في الحسابات الدنيوية.

ص: 199


1- علل الشرائع: ج1 ص229

مما يقوّي عزيمة الفتيان والشباب في مواجهة المغريات

اشارة

مما يقوّي عزيمة الفتيان والشباب في مواجهة المغريات(1)

عناصر الحصانة في المؤمن:

مما يقوّي عزيمتكم على طاعة الله تعالى و مواجهات المغريات الكثيرة التي تتعرضون لها في هذا العمر المرهف بالإحساسات والذي يموج بالأماني والأحلام:

أن تستحضروا صور الفتيان والشباب الرساليين الذين امتلأت قلوبهم بحب الله تعالى فتنازلوا عن كل ملذاتهم الدنيوية لعلمهم بأنها فانية ليفوزوا باللذة الدائمة كالمسلمين الأوائل الذين واجهوا عتو قريش وطغيانها وإغراءاتها والتحقوا برسول الله (صلى الله عليه وآله) وتعرضوا معه لألوان العذاب والأذى ومنهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) (10 سنوات) وصحابة آخرون في عمر (16 سنة) ومنهم الفتى المدلل المترف مصعب بن عمير الذي عاش في وسط أسرة ثرية لكنه تنازل عن كل ذلك وتحمّل الجوع والفقر مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصاحبه حتى استشهد في معركة أحد ورقّ له رسول الله (صلى

ص: 200


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد كبير قارب المائتين من طلبة المدارس الإعدادية في الناصرية الذين وفدوا لزيارته وتهنئته بالعيد يوم السبت 10 ذ.ح 1430 الموافق 2009/11/28.

الله عليه وآله)، أو1 تستحضر صور فتيان الحسين (عليه السلام) كعلي الأكبر والقاسم وعبد الله ابني الحسن السبط والفضل بن العباس بن أمير المؤمنين وأبناء مسلم بن عقيل بين الحادية عشرة والتاسعة عشرة من العمر، وكان أحدهم يبرز وحده لمقاتلة سبعين ألفاً غير مكترث بجمعهم حتى أن القاسم يقف ليصلح شسع نعله غير آبه بأمة الضلال التي احتشدت لتقطيع أوصاله، أو ذلك الفتى من الأصحاب الذي دفعته أمه ليستأذن من الإمام الحسين (عليه السلام) ويذهب للقتال، وكان أبوه قد قتل في المعركة، (فقالت له: يا بني أخرج فقاتل بين يدي ابن رسول الله حتى تقتل، فقال: أفعل! فقال الحسين (عليه السلام): هذا شابٌ قتل أبوه، ولعل أمه تكره خروجه، فقال الشاب: اُمي أمرتني يا بن رسول الله ... ثم قاتل حتى قتل، وحُزَّ رأسه ورمي به الى عسكر الحسين (عليه السلام)، فأخذت أمه رأسه وقالت: أحسنت يا بني! يا قرة عيني وسرور قلبي!...)(1). فحينما يشعر الشاب والفتى انه بطاعة الله تبارك وتعالى يكون جزءاً من هذا المعسكر الشريف الناصع فلا شك انه سترتفع همته للحاق بهم خصوصاً وانه لم يكلف بما كُلف به أولئك من التضحية بالنفس وخوض المواجهة الرهيبة.

أن تتذكر أن اللذة التي تحصل لكم بتجنبكم لبعض اللذات التي تقترن بالمعاصي هي أكبر وأحلى فإن لذة المعصية زائلة وتبقى تبعتها وتكون

ص: 201


1- مقتل الحسين (عليه السلام) للخوارزمي: ج2 ص21، والمناقب لابن شهر آشوب: ج4 ص104.

مشوبة بالكدر وخوف الفضيحة وغيرها من الآثار السيئة. بل هي في الحقيقة لا لذة فيها ولكن الشيطان1 والنفس الأمارة بالسوء تزيّن المعصية، أما إذا انتصر الشاب على نفسه فسيجد في قلبه حلاوة ولذّة سامية كما ورد في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله): (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن تركها

خوفا من الله أعطاه إيماناً يجد حلاوته في قلبه)(1).

2 ما قلناه في بعض أحاديثنا (2)وهو الالتفات إلى عظمة مقامكم وسمو منزلتكم بحيث ورد في الحديث (إن الله تعالى يباهي بالشاب العابد الملائكة)(3) فهل يليق بمن يباهي به ربه ملائكته أن يجده ربه على معصية؟ أو أن يهبط إلى مستوى الأشرار والسيئين.

3 التزود المستمر من الألطاف الإلهية والدفعات الإيمانية التي تشملكم حينما تتعرضون لها بزيارة مراقد المعصومين (عليهم السلام) والحضور في المساجد والاستماع إلى مجالس الوعظ والإرشاد والتوجيه والمشاركة في الشعائر الدينية وأمثالها.

ص: 202


1- مستدرك الوسائل: ج14 ص268.
2- سياتي في الفصل القادم إن شاء الله تعالى تحت عنوان: مواجهة التحديات بمعرفة قيمة النفس.
3- كنز العمال: 43057.

الإصلاح مسؤولية كل إفراد المجتمع

اشارة

الإصلاح مسؤولية كل إفراد المجتمع (1)

واحدة من آليات الإصلاح:

وأعرض عليكم الآن واحدة من آليات العمل لإصلاح المجتمع وتطويق الفساد وتحجيمه حتى القضاء عليه، وهي أن نتعهد مع أنفسنا على أن يقوم كل واحد منا بنقل أي مسألة شرعية يتعلمها أو موعظة يتأثر بها أو نصيحة نافعة أو قصة هادفة، ينقلها إلى أهله وأصدقائه وزملائه في العمل والمحلة وأقرانه، وحينئذ سيحصل عندنا انتشار على شكل متوالية هندسية تتضاعف فيها أعداد المستفيدين، وتتضاعف معها حسنات العاملين، فالواحد يعلّم عشرة، والعشرة يعلمون مئة وهكذا، وستلمسون بركة هذا العمل الشريف.

لا تقتصروا الإصلاح في الرجال:

ولا تقتصر هذه الآلية على الرجال فقط بل تعم النساء، فأنكم تتحدثون عن سفور أو حجاب غير مطابق للحدود الشرعية عند الحرم الشريف، فلو جنَّدت بعض الأخوات أنفسهن للزيارة يومياً أو في الأيام التي يكثر فيها الزوار، وكلما شاهدت امرأة أو أكثر غير محتشمة اقتربت منها وسلمت عليها وعرضت

ص: 203


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من أبناء الكاظمية المقدسة وشبابها الرسالي يوم السبت 9 ج1 1431 المصادف 2010/4/24. تحدثوا فيها عن صور من عدم مراعاة حرمة مدينة الكاظمية المقدسة، وحرمة الإمامين الكاظمين الجوادين (سلام الله عليهم)

خدماتها عليها كقراءة الزيارة أو أية مساعدة وبعد حصول الألفة بينهنّ توجهها برفق وتعلمها، لأنني أعتقد أن السبب الأكبر للابتعاد عن الدين هو الجهل والغفلة وهما يزولان بالتعليم والموعظة الحسنة.

قصة نافعة:

ولنطبق هذه الفكرة بأن أروي لكم قصة نافعة وعليكم بالاتعاظ بها ونقلها للآخرين، فقد حكي أن رجلاً فقيراً لم يكن يملك ما يشتري به شيئاً لأهله إلا اليسير جداً، فرأى سمكة متعفنة عند بائع لم يرغب بها أحد فاشتراها منه وسلّمها لأهله كي تعدّها للطعام، فلما شقت بطنها وجدت في بطنها لؤلؤةفرحوا بها، وذهب ليبيعها في سوق الصاغة، فقالوا له أنها ثمينة جداً ولا نستطيع تدبير ثمنها فاذهب إلى الحاكم فانه يملك خزائن البلد ولعله يقدر على دفع ثمنها، فذهب إلى الحاكم وعرضها عليه، فاستشار الحاكم خبراء الصنعة، فقالوا له أنها لا تقدّر بثمن، والحل أن تفتح له خزائن الملك ليأخذ منها ما يشاء، فقال الحاكم للرجل الفقير؛ هذه ثلاث خزائن وهذه مفاتيحها وأمنحك ثلاث ساعات لتأخذ من الخزائن ما تشاء وليس لك حق بعد الساعات الثلاث، ففتح الرجل الفقير الخزينة الأولى فوجد فيها ذهباً وجواهر وأشياء ثمينة، وفتح الثانية فوجد فيها أفرشة الحرير الناعمة التي تتنعم فيها بنوم مريح، ووجد في الثالثة ما لذ وطاب من الأطعمة.

ففكر ماذا يصنع، ثم قرر أن يقسّم الساعات الثلاث إلى ساعة للأكل وساعة للنوم والاستراحة وساعة يجمع فيها ما يستطيع من الجواهر، فتلذذ

ص: 204

بالأطعمة في الساعة الأولى وملأ بطنه، ثم جاء واسترخى على الفراش الوثير في الثانية فأخذه النوم حتى أيقظه الحراس في نهاية الساعة الثالثة، وقالوا له لقد انتهت المدة فاذهب، فتوسّل إليهم أن يمهلوه ولو لحظة ليأخذ جوهرة تنفعه لتحسين حاله فلم يسمحوا له بشيء لانتهاء اجله، فراح يعض يديه ندماً وحسرة حيث لا ينفعه الندم.

هذا حال أهل الدنيا:

قد نسخر جميعاً من عقل هذا الرجل ونعتبره مجنوناً إذ ترك الذهب والجواهر التي كان يمكن له أن يعيش بها بأحسن حال ويشتري باليسير منها ما لذّ من الأطعمة والراحة، وانشغل بدلاً من ذلك بما لا ينفعه إلا وقتياً.

لكن يا أخوتي هذا هو حالنا في هذه الدنيا التي وصفها أمير المؤمنين بأنها جيفة تنهشها الكلاب من طلاّبها ومنحنا الله تعالى فيها لؤلؤة ثمينة هي العمر الذي نستطيع به اكتساب الجنان حيث لا عين رأت ولا أذن سمعت، لكن اغلب أهل الدنيا انشغلوابمتاعها الزائل الذي سيفارقونه حتى إذا حلّ أجلهم وجاء ملك الموت لم يمهلهم لحظة ليكتسبوا بها حسنة تنفعهم يوم القيامة، وكان يمكنهم أن يستثمروا كل ساعة بل كل دقيقة بل كل ثانية باكتساب حسنة كتسبيحة أو استغفار، نسأل الله تعالى أن يوقظنا من نومة الغافلين ويدخلنا في الصالحين.

ص: 205

كيف نخرج من حالة الفشل والتقاعس

اشارة

كيف نخرج من حالة الفشل والتقاعس(1)

وصية علوية:

من وصايا أمير المؤمنين (عليه السلام) لجيشه في ساحة القتال (أجزأ امرؤٌ قِرنه، وآسى أخاه بنفسه، ولم يَكِلْ قِرنَه إلى أخيه فيجتمع عليه قِرنهُ و قِرنُ أخيه)(2)

القِرنْ: هو الخصم الذي يبارز الرجل ويقاتله باعتبار أن صيغة القتال يومئذٍ هي بالمبارزة رجلاً لرجل، فالإمام(عليه السلام) يطلب منهم أن يواجه كل رجل خصمه، ولا يتقاعس عنه، لأن عدم مواجهته تعني تفرغه فينضمّ إلى آخر من أصحابه ويجتمعان على مقاتلة واحد من أصحاب الإمام (عليه السلام) وتكون المهمة

أصعب، بينما يطلب الإمام (عليه السلام) من كل جندي من أصحابه أن يكفيهم خصمه، ثم يواسي أخوته ويؤازرهم على مواجهة أقرانهم، قال (عليه السلام) (وأيُّامرئٍ منكم أحسّ من نفسه رباطة جأشٍ عند اللقاء، ورأى من أحدٍ من إخوانه فشلاً، فليذبَّ عن أخيه بفضل نجدته التي فُضِّل بها عليه، كما يُذبُُّ عن نفسه، فلو شاء الله لجعله مثله)(3).

ص: 206


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع وفد ضمّ إدارة وطلبة جامعة الصدر الدينية / فرع البنوك في بغداد يوم 2 ربيع الأول 1430 المصادف 2009/2/28.
2- نهج البلاغة ج2/ص2، رقم الخطبة1221.
3- نهج البلاغة: الخطبة: 123.

وصية في كل المواجهات:

وهذه الوصية منه (عليه السلام) وإن كانت واردة في المواجهة العسكرية، إلا أنها في الحقيقة جارية في كل المواجهات والمسؤوليات، فإذا لم يقم أحدٌ بواجبه فستحصل إحدى نتيجتين: إما إهمال ذلك الواجب وتضييعه، أو اجتماع هذا الواجب على أخيه الذي يشاطره المسؤولية إضافة إلى واجبه الأصلي، وفي كل من النتيجتين ظلم وقد قيل في الأدب (من الظلم سعي اثنين في قتل واحدٍ).

وكمثال على ذلك فإن العائلة التي فيها عدة أفراد يختلفون بينهم بالشعور بالمسؤولية، والمفروض توزيع واجبات الأسرة عليهم كالإنفاق عليها أو قضاء حوائجها وتسيير شؤونها، فالمتكاسل من هؤلاء يترك واجباته ويبقى نائماً حتى الظهر مما يضطر الشاعر بالمسؤولية إلى قيامه بواجبه وواجب أخيه الذي ضيّعه لعدم إمكان التفريط به فلا يدعه ضميره وشعوره بالمسؤولية قبول الإهمال والتضييع.

لا يتخلى المؤمن عن إصلاح غيره:

ونحن اليوم في منعطف تاريخي يحدّد ملامح المستقبل لفترة لا يعلم مداها إلا الله تبارك وتعالى، وتواجهنا تحديات ضخمة ومنوعة وهي تقتضي قيامنا بمسؤوليات واسعة.

لا يسع الإنسان المؤمن الرسالي المخلص الغيور على دينه ومجتمعه وحضارته ومستقبله أن يتخلى عنها فإذا تقاعس عنها الآخرون فإنه لا يعدّ ذلك

ص: 207

التقاعس مبرراً لترك واجباتهبل يحاول أن يسدَّ الفراغ الذي تركه الآخرون ويحمل نفسه ما لا تطيق. لأنه لا يستطيع أن يقف مكتوف الأيدي إزاء تلك التحديات.

الأسى من حالة التقاعس:

ومما يبعث على الأسى ويملأ القلب ألماً إصابة الأمة بحالة من التقاعس والكسل والفشل تقرب من الموت وإذا أردتُ الاستفادة من التاريخ الذي يصفونه بأنه سياسة ماضية باعتباره يسجل تاريخ حركة الأمم والحكومات والصراع على السلطة والأحداث التي مرت عليها، ويصفون السياسة بأنها تأريخ حاضر باعتبار أن التاريخ يعيد نفسه وأن السنن التي جرت في الأمم السالفة جارية في الأمم اللاحقة لأن الدوافع واحدة والمنطلقات التي تقود إلى الأحداث والسلوكيات واحدة.

أمثلة من التأريخ:

أقول إذا أردت تشبيه حالة الأمة اليوم بحالة سابقة فإنها تحكي حالتها في أخريات أيام أمير المؤمنين (عليه السلام) وزمان الإمام الحسن (عليه السلام)، حين عصفت بها الفتن والشبهات ولعب حب الدنيا بعقولها، ومالت إلى الدعة والراحة والسكون والترهل والاكتفاء بترتيب أحوالها الخاصة واللامبالاة بأمور الدين والمصالح العامة، وأمير المؤمنين (عليه السلام) يستنهض الهمم ويثير العزائم بكل ما أوتي من عناصر التأثير والهداية والإصلاح فلا يجد مجيباً حتى

ص: 208

أصبح يتمنى الموت ليتخلص منهم ويدعو (عليه السلام): (اللهم إنني قد مللتهم وملّوني وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم خيراً منهم وأبدلهم بي شراً مني)(1) فاختاره الله تبارك وتعالى لجواره وخلّف عليهم معاوية، واستمرت تداعيات ذلك التقاعس حتى اضطرّ الإمام الحسن(عليه السلام) إلى توقيع وثيقة الهدنةوإيقاف القتال، وانطلق معاوية ليعيث فساداً فقتل خيار شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) وقطع أرزاقهم وشتّت شملهم وولّى عليهم يزيد من بعده، ثم آل الأمر إلى أن يقدّم الإمام الحسين(عليه السلام) نفسه الشريفة وأهل بيته وأصحابه قرابين لإصلاح حال الأمة وبعث الصحوة والحياة فيها، وهكذا استمرت التداعيات.

ونقرأ في التاريخ أن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب وكان القائد العام لجيش الإمام الحسن (عليه السلام) أرسل له معاوية أربعمائة ألف درهم ووعده بوعود إن ترك الإمام والتحق بمعاوية، فاتبع هواه والتحق بمعاوية(2)، ونعجب من مثل هذا التصرف ولكن أشهدكم بالله كم من شخص اليوم حصل على موقع سياسي أو وظيفي أو ديني أو اجتماعي باسم المرجعية، فلما استقر وضعه أدار ظهره لها وللناس الذين رفعوه إلى هذا المقام وانشغل بمصالحه الشخصية وأنانيته فما الفرق بين الموقفين؟

ص: 209


1- نهج البلاغة: الخطبة: 25.
2- انظر موسوعة المصطفى والعترة، حسين الشاكري.

لئلا تتقاعسوا:

إنني أعيذكم أيها الإخوة أن تستمروا على هذا الحال وتكونوا كذلك الجيل، وسبباً في نفس النتائج - والعياذ بالله - فإن التاريخ سيسجّل، والله ورسوله والمؤمنون مطّلعون «وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» لقد بلغ الكسل حداً حتى عن حضور صلاة الجمعة الشعيرة المقدسة الواجبة التي لم يضاهها شيء من الواجبات، مضافاً إلى الثواب العظيم والمغفرة التي أُعدّت لمن سعى إليها مثل (ما من قدم سعت إلى الجمعة إلا حرّم الله جسدها على النار)(1) و(من أتى الجمعةإيماناً واحتساباً استأنف العمل)(2)

وغيرها كثير. فبماذا نصف من لا يحركه وجوب ولا مثل هذا الثواب العظيم، ولا الشعور بالمسؤولية تجاه المشروع الإسلامي المبارك ليحضر صلاة الجمعة التي هي أبسط عمل يؤديه؟

كيف ننهض؟

وإذا سألت ما أنا وما خطري حتى أطالب بالنهوض بالمسؤولية الضخمة؟ فإن جوابك بسيط يبدأ من الكلمة التي افتتحنا بها الحديث وذلك بان يقوم كل شخص بمسؤوليته وواجبه المكلف به بحسب وضعه، وسيفتح الله تبارك وتعالى له آفاق جديدة للعمل، ولنبدأ بالمثال الذي ذكرناه وهو صلاة الجمعة فاعزم على حضورها والالتزام بها وعدم التقاعس عن المشاركة فيها، وحينئذٍ ستلتقي مع

ص: 210


1- الوسائل: ج7 ص297.
2- الوافي: ج8 ص1114.

إخوة مؤمنين وستتبادل معهم الأحاديث والهموم والقضايا وحينئذٍ ستجدون أمامكم أفكاراً ومشاريع ورؤى تتوسع تدريجياً بفضل الله تبارك وتعالى، فلربما ستهتدون إلى مشروع اقتصادي أو مؤسسة اجتماعية أو خيرية لمساعدة الناس، أو تقتني كتاباً مفيداً أو تطلع على مسألة ابتلائية تنفع بها إخوانك وهكذا.

الاهتمام بالعمل:

وقد دلّنا أمير المؤمنين (عليه السلام) على هذا الأسلوب من الاهتداء للعمل، قال (عليه السلام) في خطبة الوسيلة(الاهتمام بالأمر يثير لطيف الحيلة)(1) فإن الإنسان قد يجد نفسه لأول وهلة عندما يريد كتابة بحث أو تأليف كتاب أو إنشاء مشروع اقتصادي في السوق وكأنه لا يعرف ماذا يعمل ومن أين يبدأ، ولكنه حينما يفكّر

في المطلوب ويكرّس نفسه له ويضع قدميه على خط البداية يجد ضوءاً يدلّه على الخطوةالتالية وهكذا تتوالى الخطوات وتثار في ذهنه (لطائف الحيل) والتدابير والبرامج والخطط العملية حتى يجد نفسه وقد أسس شيئاً لم يكن يتوقعه، كالتاجر مثلاً يدخل السوق ويجالس التجار ويعرف أساليب العمل ومداخلات السوق والعناصر المؤثرة فيه والمساحات الناجحة والثغرات والمعوّقات وهكذا مع همّة وإخلاص وإذا به في النهاية يرى قد حقّق له وجوداً محترماً في السوق.

وإذا أضفنا إلى ذلك أنك لست وحدك في الميدان بفضل الله تبارك وتعالى

ص: 211


1- بحار الأنوار للمجلسي 74/289.

بل لك إخوة عاملون وتسندك مرجعية لا تتوقف عند حدود المواقف العريضة. بل تشاركك حتى النظر في التفاصيل وآليات العمل.

ص: 212

الجامعيون وقيادة المشروع الوطني

اشارة

الجامعيون وقيادة المشروع الوطني(1)

مواكب الوعي الطلابية والدور الذي أدته:

إن كل مشروع يبدأ بمستوى معين من الأداء ثم ينضج شيئا فشيئاً من خلال ترسيخ ما هو ايجابي وبإصلاح الأخطاء وتدارك التقصيرات، هذا طبعاً مع توفر صدق النية والإخلاص والشعور بالمسؤولية والهمّة في العمل، ولم يتخلّف عن هذهالسنة الجارية في حركة البشرية مشروع مواكب الوعي الحسيني لطلبة الجامعات وكان التحسن في أداء اللجنة المنظمة وعلى رأسها عمادة وإدارة وأساتذة المعهد التقني في كربلاء المقدسة هذا العام ملحوظاً، وهذا ما دعا المرجعية الرشيدة إلى أن تعلن هذه المناسبة ملتقى سنوياً للجامعات والحوزات العلمية في (ملتقى العلم والدين في رحاب الإمام الحسين (عليه السلام)).

وللتعرف على حجم الانجاز الذي حققه منظمو هذه المواكب نقارن عملهم بعمل الهيئة العليا التي أشرفت على تنظيم موسم الحج بإمكانيات ضخمة رصدتها الحكومة بلغت (85) مليون دولار، ودفع كل حاج تسعمائة دولار ومع ذلك فقد كان وضع الحجاج العراقيين مذلاً ومهيناً وبقي عدد كبير

ص: 213


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع السادة عميد المعهد التقني في كربلاء ومعاونه وعدد من أساتذته وإدارييه يوم الخميس 4/صفر/1428المصادف22 /2/2007 بعد استضافتهم لفعاليات مواكب الوعي الحسيني لأساتذة وطلبة الجامعات العراقية ومع نخبة من أساتذة وطلبة جامعيين من البصرة وذي قار وواسط يوم 29/محرم/1428.

منهم بلا مأوى يفترشون أرصفة الشوارع أياماً، ثم أنزلوا بفنادق تحت الإنشاء وتفتقد الخدمات، أما هذه المواكب الجامعية فقد شهدت مستوى جيداً من توفير الطعام والخدمات والمخيمات والفرش والأغطية ووسائط النقل من والى مدنهم ولجان للمحافظة على الأمن والتنظيم والخدمات الطبية، وكل ذلك تبرعاً وتطوعاً.

ولا ندّعي خلّو الفعالية من الخلل والتقصير وقد شُخصت عدة نقاط بهذا الصدد في تقارير مقدّمة من عدة جهات مشاركة نسأل الله تعالى أن يعيننا على إصلاحها وتلافيها.

وقد تضّمن الخطاب الذي وجهّه سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي إلى أخوته وأبنائه من أساتذة وطلبة الجامعات عدةمحاور ينبغي لهذا الملتقى أن يناقشها ويقدّم التوصيات وآليات العمل التي تتكفل تحقيق النتائج المرجّوة في جميع هذه المحاور.

قيادة المشروع الوطني:

وكان منها قيادة مشروع وطني يوحّد العراقيين ويأخذ بأيديهم نحو عراق مزدهر حر كريم يأخذ موقعه الرائد بين الأمم المتحضرة ويؤهل هذه الأرض المباركة لاحتضان دولة الحق والعدل الإلهي، ولدى أساتذة وطلبة الجامعات ما يؤهلهم لتأسيس هذا المشروع وقيادته لما يحظى به هذا الكيان من ثقة وحب واحترام لدى كل مكونات الشعب العراقي، ولأنه يحتضن في أروقته الكفاءات

ص: 214

والنخب التي يعقد الشعب أماله عليها لبناء العراق في مختلف الاختصاصات في الوقت الذي فقد فيه الشعب ثقته بأكثر الكيانات السياسية وصار يرى فيها سبب المشكلة واصلها فلا يجدهم قادرين على الحل، كما أن لهذا الكيان (أساتذة وطلاباً وإداريين وفنيين) مطالب مشروعة وحقوقاً لا يمكن غض الطرف عن عدم تحقيقها.

انتزاع الحقوق:

فالمطلوب استثمار هذه الفعالية وغيرها للضغط من أجل انتزاع الحقوق إذ السائد في عراق اليوم قانون القوة وليس قوة القانون، فبينما يستأثر الانتهازيون والذين يمتلكون وسائل الابتزاز والقهر بثروات الشعب والمواقع المتقدمة في إدارة البلد يتعرض الأساتذة الجامعيون والمفكرون والمثقفون إلى القتلوالتشريد والإقصاء وفي هذا خطر كبير على مستقبل الأمة إذ تضيع فيه موازين التقييم الصحيح وهو ما حذّر منه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمته حينما قال لهم: (كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبانكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر » . وهي حالة خطيرة أن تتخلى الأمة عن هذه الوظيفة المقدسة التي بها يقام القانون والعدل والنظام ويقضي على الفساد والانحراف فقال أصحابه (فقيل له ويكون ذلك يا رسول اللَّه)، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (نعم وشر من ذلك فكيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف)، وهذه اخطر حيث لم يكتفوا بترك صاحب المعروف على معروفه وفاعل المنكر على منكره بل تحولوا إلى فعل المنكر وترك المعروف ولكنه (صلى الله عليه وآله

ص: 215

وسلم) يبيّن لهم المرحلة الأخطر بعد أن سألوه ( يا رسول اللَّه ويكون ذلك) قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (نعم وشر من ذلك كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً)(1)

حينئذ تفقد الأمة الرؤية الصحيحة لتشخيص المعروف والمنكر فترى الخطأ صحيحاً والصحيح خطأً فتصعب حينئذ عملية الإصلاح، إذ إن المصلح سيجد إن عليه ليس فقط البدء من الصفر وإنما الرجوع إلى ما تحت الصفر ليصحح الرؤية والمفاهيم في ذهن الناس حتى ينطلق إلى هدايتهم إلى المعروف وتجنيبهم المنكر.

لكي نحقق النتائج المرجوة:

ولكي نحقق هذه النتائج وننتزع هذه الحقوق لابد من أنشاء (كيان عراقي للجامعيين)

لكي نحقق النتائج المرجوة:ولكي نحقق هذه النتائج وننتزع هذه الحقوق لابد من أنشاء (كيان عراقي للجامعيين)(2)

أساتذة وطلاباً وإداريين وفنيين تكون باكورة فعالياته والمظهر الرئيسي لنشاطاته تنظيم مواكب الوعي الحسيني لأساتذة وطلبة الجامعات وملتقى العلم والدين، وهذه الفعالية تكون هيئتها المركزية في كربلاء ولها هيئات فرعية في كل الجامعات والمعاهد الفنية والكليات المستقلة في عموم محافظات القطر.

أما الفعاليات الأخرى فيمكن أن تكون هيئتها المركزية في بغداد لأنها عاصمة القرار السياسي أو في البصرة كبديل مؤقت بسبب ما تعانيه بغداد من

ص: 216


1- الوافي: ج15 ص176.
2- عقدت عدة لقاءات لإنضاج المشروع حتى أعلن عن تأسيس كيان (جامعيون) في الموسم اللاحق وعرض على أنه كيان علمي اجتماعي قريب من مؤسسات المجتمع المدني.

ظروف قاهرة، ويمثل كل جامعة أو معهد أو كلية عدد من الأساتذة والطلبة في الاجتماعات العامة التي تقيمها الهيئة المركزية.

وينبغي أن يهتم هذا الاتحاد برعاية كل الأنشطة سواء كانت ثقافية أو علمية أو سياحية أو رياضية كاحتضان بطولة لفرق تمثل جامعات العراق لأننا نعتقد إن الرياضة استطاعت توحيد ما فرقته السياسة في عدد من المناسبات الأخيرة.

وتعلن المرجعية الرشيدة استعدادها لاحتضان اللقاء التأسيسي لممثلي الجامعات والمعاهد في النجف الأشرف لوضع النظام الداخلي وبرامج العمل وسوف لا تقصر بلطف الله تبارك وتعالى عن دعم هذا الكيان المبارك الذي قد يتحول إلى قوةجماهيرية واعية ضاغطة على السياسيين لينصاعوا إلى مطالبها المشروعة.

ص: 217

التنمية البشرية في روايات أهل البيت (علیهم السلام)

اشارة

التنمية البشرية في روايات أهل البيت (علیهم السلام)(1)

الإسلام والتنمية البشرية:

يهتم العالم اليوم بحقل من حقول المعرفة يسمونه (التنمية البشرية) وتفتح له جامعات متخصصة وآخرها في جامعة السليمانية في العام الماضي بحسب ما سمعت من وسائل الإعلام.

وقد التقيت قبل أسبوعين تقريباً أحد طلبة الدكتوراه في الولايات المتحدة وعنوان بحثه (الدين والتنمية البشرية) وعرضت عليه خارطة الطريق للبحث وفق ما أفهمه من العنوان وبما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام).

لقد اهتم القادة المعصومون (عليهم السلام) بالتنمية البشرية في كل أنحائها، فعلى صعيد الكم أي تكثير العدد ورد حث كثير على تكثير النسل خلافاً لهوس العصر المطالب بتحديد النسل ففي الرواية الصحيحة عن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) قال: ( إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: تزوجوا فإني مكاثرٌ بكم الأمم غداً في القيامة حتى أن السقط يجيء محبنطئاً على باب الجنة فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: لا حتى يدخل أبواي

ص: 218


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي(مد ظله) مع حشد من أبناء محافظة البصرة ومدينة الصدر ببغداد بحضور عدد من الكتاب والمثقفين وأساتذة جامعات البصرة وبغداد والنهرين يوم الخميس 1/صفر المظفر/1432 الموافق 2011/1/6.

الجنة قبلي)(1) وفي الرواية عن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: (قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): ما يمنع المؤمن أن يتخذ أهلاً لعل الله يرزقه نسمة تثقل الأرض بلاإله إلا الله)(2) وقد عُرف عني القول بأن من أراد أن يدخل السرور على قلب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) فليتزوج ولينجب أربعة على الأقل ويحسن تربيتهم ليكون ملبياً دعوة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بالإكثار من النسل.

الاهتمام النوعي بالتنمية:

وأما التنمية على صعيد النوع فقد اهتم به المعصومون (عليهم السلام) أيضاً وتابعوا مراحله من قبل تكون نطفةالإنسان باختيار الزوجة الصالحة والمنبت الطيب للنسل ووردت في ذلك روايات كثيرة كالرواية التي وردت عن الامام الصادق(عليه السلام) قال: ( قال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): اختاروا لنطفكم فإن الخال احد الضجيعين)(3) وروايته الأخرى قال: (قام النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) خطيباً فقال: أيها الناس إياكم وخضراء الدمن قيل: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء).

ص: 219


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب مقدمات النكاح وآدابه، باب1،ح2، 3.
2- وسائل الشيعة،كتاب النكاح، ابواب مقدمات النكاح وآدابه، باب13، ح2، 4.
3- وسائل الشيعة،كتاب النكاح، ابواب مقدمات النكاح وآدابه، باب13، ح2، 4.

التنمية في كل الاتجاهات:

ثم تتابع الروايات النصائح والتوجيهات في مراحل تكون النطفة والحمل والولادة والتربية إلى أن يصبح إنساناً بالغاً رشيداً صالحاً ينتفع به أبواه والمجتمع عموماً.

وعلى صعيد تنمية المجتمع وجعله كياناً قوياً متماسكاً متحاباً يتعاطى أفراده بإيجابية فيما بينهم ومع الآخرين فقد حفل كتاب (آداب العشرة) من كتاب وسائل الشيعة وغيره بالمئات من الأحاديث الشريفة.

وعلى صعيد تنمية الحياة بإعمارها وتقدّمها وجعلها مرفهة سعيدة متمدنة فقد حث أهل البيت (عليهم السلام) على كل ما يساهم في بناء ذلك ويشيّد مقوّماتها وبنيتها التحتية وعلى رأسها طلب العلم والمعرفة والتزود بكل أسباب القوة والمنعة والتقدم والرفاه، وقد جمعت الأحاديث في كتب خاصة بعنوان (كتاب العقل) و(كتاب العلم) من أصول الكافي وغيرها، وقد أكد القرآن الكريم على أن وظيفة الإنسان في هذه الأرضإعمارها قال تعالى «هُوَ أنشَأكُم مِنَ الأرضِ وِاستَعمَرَكُم فِيهَا» (هود: 61) وقال تعالى «وَأعِدُّوا لَهُم مَا استَطَعتُم مِنْ قُوَّةٍ) (الأنفال: 60).

الإسلام والغرب:

لقد أدرك الغرب تأثير هذه التوجيهات في عقل المسلم ودفعه إلى تكثير النسل لذا بدأوا يطلقون صرخات التحذير وطلب الاستيقاظ للعالم الغربي وخصوصاً المسيحي ليصحو ويلتفت إلى هذا الخطر!! وبين يدي تقرير أمريكي

ص: 220

صدر عام 2008 شعاره (لقد تغيّر العالم، حان الوقت لكي نستيقظ) وجاء فيه (الإسلام هو أسرع وأكثر دين انتشاراً) (العالم الذي نعيش فيه لن يكون نفسه العالم الذي سيعيش فيه أبناؤنا وأحفادنا) (الكنيسة الكاثوليكية صرحت مؤخراً: إن عدد المسلمين تجاوز الحدود، الدراسات تبيّن أنه إذا حافظ الإسلام على معدل انتشاره الحالي فإنه في خلال 5 إلى 7 أعوام سيكون الإسلام الدين الحاكم في العالم كله) وهم يحذرون من هذه الحقائق ويدعون الأمريكان للتصرف بسرعة.

ويبيّن التقرير بالأرقام تخلّف التكاثر السكاني في دول الغرب عن أقل معدل المطلوب لبقاء أي حضارة لربع قرن وهو معدل (2,11 طفلاً) لكل عائلة بينما معدل التكاثر في عموم أوربا 1,38 وفي الولايات المتحدة 1,6 وان عدد المسلمين في تزايد هناك سواء عن طريق الهجرة أو ارتفاع معدل تكاثرهم، (وانه خلال (39) عاماً فقط سوف تصبح فرنسا جمهورية إسلامية!) (وفي جنوبها وهي واحدة من أكثر الأماكن المزدحمة بالكنائس في العالم تحتوي الآن على مساجد أكثر من الكنائس) (الحكومة الألمانية كانت أول من تحدث عن هذا الموضوع علانية صرحت مؤخراً: ((النقص في التعداد السكاني الألماني لا يمكن إيقافه الآن لقد خرج الأمر عن السيطرة ستكون ألمانيا دولة إسلامية مع حلول عام 2050)) ).أقول: قد يكون في بعض هذه التوقعات مبالغة لأجل إيقاظ عالمهم لكنه يتضمن الكثير من الحقائق المهمة ومنها أنه إذا التزم المسلمون بالتوجيهات النبوية الشريفة فإنهم سيفتحون العالم بهدوء وبحركة بيضاء –كما يقال وهذا يقدّم

ص: 221

لنا فهماً لما ندعو به دوماً لإمامنا المنتظر (أرواحنا له الفداء) (حتى تسكنه أرضك طوعاً).

مسؤوليتنا اليوم:

إن هذا الذي ذكرناه يضع لنا برامج عملية عديدة ويجعلنا أمام عدة مسؤوليات منها:

1 الحث على التزويج وتيسير أمره للجميع وكثرة الإنجاب بحيث لا يقل عن أربعة للأسرة وأن يحسنوا تربيتهم وإعدادهم لصناعة الحياة السعيدة، وهذه الدعوة تشمل من هم داخل البلاد الإسلامية والمقيمين في بلاد المهجر.

2 إن الإسلام ينتشر بقوة وبسرعة ويشهد إقبالاً واسعاً وما علينا إلا إيصال صوته إلى العالم كما قال الإمام (عليه السلام) (فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا)(1) وعلى المسلمين وخصوصاً شيعة أهل البيت (عليهم السلام) أن لا يرتكبوا ما يشين وان لا يبتدعوا من أنفسهم أفعالاً بحجة الترويج للدين والمذهب كالتطبير ونحوه مما منعنا منه(2) فإن الإسلام الناصح النقي لا يحتاج إلى مثل هذه الأمور التي تضرّ ولا تنفع، وليرجعوا في أمورهم خصوصاً التي تتعلق بالمواقف العامة إلىالفقيه الذي وصفه الحديث الشريف (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)(3).

ص: 222


1- الوافي: ج1 ص215.
2- للتفصيل راجع: خطاب المرحلة: ج6 ص428.
3- الكافي: ج1 ص27.

3 إن الالتفات إلى الواقع الفاسد يشكّل حافزاً للتحرك نحو الإصلاح والتغيير أداءً لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن استشراف المستقبل ووعي متطلباته يشكل حافزاً أكبر وأوسع للعمل الإيجابي، فلا نكرّس كل همنا وشغلنا لتشخيص المشاكل الآنية ومعالجتها وإن كان هذا واجباً عظيماً إلا أنه لا ينبغي إغفال الحافز الآخر.

4 أن يقوم المسلمون في الغرب بكل عمل ينشر الإسلام ويعرّفه للآخرين ويحبّبه إلى الناس.

إن القيام بالمسؤوليات أعلاه يعجّل بالظهور الميمون المبارك ويفتح العالم سلماً ويسلّم الأرض طوعاً إلى الإمام المنتظر (عجل الله فرجه) ويمهد لدولته المباركة.

ص: 223

ص: 224

الفصل الثالث: الشباب والعلماء

اشارة

ص: 225

ص: 226

التواصل مع العلماء يفجّر طاقات الأمة

اشارة

التواصل مع العلماء يفجّر طاقات الأمة(1)

معنى النظر في المصحف عبادة:

وردت أحاديث عديدة مفادها أن النظر إلى وجه العالم عبادة(2)

والنظر إلى المصحف الشريف وإن لم تقرأ فيهعبادة(3)،

وقد سُئِلتُ هل أن مطلق النظر عبادة أم النظر الذي فيه تأمل وقراءة؟ فقلت المتبادر إلى الذهن الثاني كما هو الظاهر من أمثال هذه الأحاديث، إلا أن الصحيح الأول لذا تستشعر معانٍ متنوعة عند النظر إلى العلماء فأحدهم يعطيك شجاعة بمجرد النظر إليه وآخر تستشعر التواضع برؤيته وآخر يملأ قلبك رحمة وآخر حزناً وهكذا.

حدود العالم الحقيقي:

قد تقول أن العبادة لها آثار روحية يستشعرها ويحس بها من يمارسها في حين انه ليس كل نظر إلى وجه أي عالم يوجب مثل هذه الآثار، فأقول أن هذا صحيح ولكنه لا يوجب تغيير التفسير الذي ذكرناه وإنما يجب أن نفهم معنى (العالم) وحدوده ومصداقه الحقيقي، ففي رواية تبيّن أحد هذه الحدود (العالم

ص: 227


1- نشر في الصفحة الثالثة من العدد (35) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 19 ذي القعدة 1426 المصادف 22 كانون الأول 2005.
2- انظر النوادر للراوندي: ص110.
3- الكافي: ج2 ص612.

الذي إذا نظرت إليه ذكّرك الآخرة)(1)

والرواية التي حددت صفات العالم الذي ترجع إليه الأمة في شؤونها الدينية والدنيوية (فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه مخالفاً لهواه متبعاً لأمر مولاه)(2)

ومثل هؤلاء العلماء أمر الأئمة (عليهم السلام) الأمة بالتواصل معهم والاستفادة منهم.

وكانت المدينة المنورة يومئذٍ عاصمة العلم والعلماء فجعل الإمام تمام فريضة الحج أن يعرّج على المدينة ويزورقبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويلتقي بالإمام (عليه السلام) والعلماء، كالذي تفعله شيعة أهل البيت (عليهم السلام) حينما تزور أمير المؤمنين (عليه السلام) ثم تنعطف نحو العلماء لتجدد عقد التواصل والعطاء والحركة المثمرة نحو النجاة والفلاح والسعادة.

الانفتاح على العلماء:

والتجربة تشهد أن مثل هذه اللقاءات تفتح آفاقاً للعبادة من خلال إيجاد فرص العمل الإسلامي المبارك التي تشمل الأنشطة كافة، إذ إننا نعترض على أن يحوز العمل السياسي اهتمام العاملين ويهملون الأوجه الأخرى للنشاط خصوصاً الثقافي والفكري والاجتماعي والإنساني والديني.

وإن دور قادة الأمة هو إيجاد هذه الفرص للأمة كي تستثمر طاقاتها وتوجد لها منافذ العمل وتدعمها وتوجهها.

ص: 228


1- تنبيه الخواطر: ج1 ص84، عن منتخب ميزان الحكمة: ص449.
2- مستند الشيعة: ج17 ص34.

لا يحقّ للشباب الرسالي أن يخلّفوا الحوزة العلمية وراء ظهورهم

اشارة

لا يحقّ للشباب الرسالي أن يخلّفوا الحوزة العلمية وراء ظهورهم(1)

ما الذي يقربنا من إمام الزمان (علیه السلام)؟

أثرنا أكثر من مرة سؤالاً: ما الذي يقرّبنا من الإمام المنتظر (أرواحنا له الفداء )؟ وما الذي يساعد على تعجيل ظهوره الميمون؟

وقد أجبنا بعدة وجوه بحسب ما تقتضيه المناسبة.

ويمكن الجواب باختصار فيقال: كن صالحاً وهو جواب صحيح ولكنه مختصر لا يلبي حاجة السائل لأننا نعرف جميعاً أن هدف بعثة آلاف الأنبياء والأوصياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) والعلماء على آثارهم إنما هو هذا «إنْ أُرِيدُ إلا الإصْلاحَ مَا استَطَعتُ» فلا بد أن يتقدم المجيب خطوة في التفصيل، وهنا يقول علماء الأخلاق: إن عملية الإصلاح والوصول إلى النتائج المرجوّة تتضمن محاور ثلاثة (التخلية،التحلية، التجلية) والأولان يتناولهما علم السير والسلوك والأخلاق والثالث يتناوله العرفان.

ص: 229


1- من حديث سماحة الشيخ مع حشد من الزوار الذين قدموا للتهنئة بميلاد صاحب العصر والزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف) يوم الخميس 14 شعبان 1430 المصادف 2009/8/6.

خارطة السير الى الله تعالى:

ونحن إنما يهمّنا عملياً علم السلوك لأنه الوصفة العملية باتجاه تهذيب النفس وتطهير القلب والسير نحو الكمال أما الثالث فيتعلق بالآثار والنتائج التي يمنّ الله تبارك وتعالى بها على عباده الصالحين.

ويراد بالتخلية: تطهير النفس من الرذائل والأغلال والآصار التي تنشأ من إتباع الهوى والنفس الأمارة بالسوء وتسويلات شياطين الجن والإنس، أما التحلية فيراد بها تعويد النفس على الفضائل وانطواء القلب على معاني الخير وسعي الجوارح للأعمال الصالحة التي ذكرها علماء الأخلاق وبعض هذه الأمور ملزمة كفعل الواجبات وترك المحرمات، وبعضها راجحة كفعل المستحبات وترك المكروهات.

وهذه الخطوة في الجواب وإن كانت مختصرة أيضاً إلا أنها وضعت ما يسمونه ب (خارطة الطريق) التي يضعها كل باحث –وأولاهم الباحث عن الحقيقة والكمال لتكون دليلاً له في مسيرته نحو الحق.

أهداف نتوخاها من الشباب:

ولسنا الآن بصدد بيان التفاصيل إلا أنني قدمت هذه المقدمة العامة لأصل إلى تشخيص حالة لدى الشباب الرسالي تدخل في باب التخلية فيجب نبذها واجتنابها والتخلي عنها، ذلكأننا لما أثنينا على ثقافة ووعي الرساليين وأهليتهم ليكون لهم دور ريادي في بعض مؤسسات المشروع الرسالي لإعطائهم زخما له

ص: 230

و ليشعروا بالثقة بأنفسهم وأنهم قادرون على أن يكونوا جزءاً منه وليسوا مجرد أرقام لتكثير السواد لأننا نرى فيهم فعلاً القدرة على ذلك ولتحقيق عدة أهداف:

1 توفير فرصة العمل الرسالي لهم من خلال مؤسسات المشروع.

2 إبراز طاقاتهم وإمكانياتهم وتطويرها من خلال الممارسة وتحمّل المسؤولية.

3 إعطاء المشروع الرسالي زخماً بإشراك هذه الطاقات وعدم الاقتصار على فضلاء وطلبة الحوزة العلمية كما هو المعروف تقليدياً.

4 ملء مساحات العمل الرسالي الواسعة بسعة التحديات والمسؤوليات والأهداف مما لا تستطيع شريحة معينة شغلها لوحدها.

احذروا العجب:

وقد تحققت الكثير من هذه النتائج بفضل الله تبارك وتعالى، لكن الذي حصل أن جملة من هؤلاء الشباب تعاظمت لديه الثقة بالنفس حتى بلغ حد الغرور والتعالي وعدم الإنصات للآخرين، وربما بلغ الغرور ببعضهم أن تعالى عن فضلاء الحوزة العلمية وطلبتها ويرى نفسه أفضل منهم فلا يرجع إليهم وربما لا يصلي خلفهم ويجعل نفسه قيّماً عليهم وحسيباً عليهم وهو بذلك يضع نفسه على حافة الهاوية، لأن العلماء ومن يأخذمنهم من طلبة العلم هم الأدِلاء على الخير، وإن مساحات من العلم والعمل الصالح لا يعرفها غيرهم، ولا يهتدي إليها إلا من خلالهم، وإن جملة من الوظائف الدينية المقدسة جرى

ص: 231

العرف على أن لا يتصدى إليها إلا من درس في الحوزة العلمية وأخذ بسيرتها، فالترفع عنهم يعني الحرمان من بركات تلك الوظائف المقدسة، فلا هو استفاد بهذا الابتعاد، ولا الحوزوي يستطيع أن يؤدي دوره إذا لم يجد المناخ المناسب للعمل فيخسر الجميع.

فلا بد أن تحفظ مكانة الحوزة العلمية الشريفة ودورها، وبنفس الوقت طلبنا من الحوزويين أن يطوروا قابلياتهم العلمية والفكرية والاجتماعية ويتكاملوا أخلاقياً ليحافظوا على أهليتهم لممارسة هذا الدور الشريف ويحافظوا على مقامهم وليكون عندهم شيء لا يجده الناس إلا عندهم حتى يقصدوهم لحاجتهم إليهم.

رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه:

علينا جميعاً أن نعي الحديث (رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه فلم يوردها موارد الهلكة) وأنتم تعرفون عدداً ممن شكّكوا وأشكلوا وأساؤوا الظن وتمردوا واغترّوا وتعالوا عن العمل بتوجيهات المرجعية: سقطوا وانحرفوا وفي أحسن الأحوال وصلوا إلى طريق مسدود ولم يعودوا يعرفون ماذا يصنعون فانزووا وتركوا بعض ما عليهم من واجبات تجاه دينهم وأمتهموأنفسهم، فعادوا يلقون التهم والتشكيك هنا وهناك وربما أشكلوا على المرجعية، مع أنهم هم السبب «وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»، إذ أن المرجعية امتداد لأهل

ص: 232

بيت النبوة الذين وصفهم الدعاء في شعبان بأن (المتقدم لهم مارق والمتأخر عنهم زاهق واللازم لهم لاحق)(1).

ص: 233


1- مفاتيح الجنان: ص591.

الفجوة المصطنعة بين العلماء والشباب

اشارة

الفجوة المصطنعة بين العلماء والشباب(1)

اصطناع الحواجز:

يحاول الكثيرون ممن لهم أجندات معيّنة أن يصطنعوا حواجز بين العلماء والمجتمع خصوصاً الشباب، فيشيعون بينهم أنّ العلماء في بروج مشيّدة ولا يمكن الوصول إليهم وإن لغتهم غير مفهومة، ولا يعرفون مخاطبتكم حتى لو وصلتم إليهم، وإنهم يعيشون في زمان وعوالم غير ما أنتم فيه ونحو ذلك من الأفكار، فيعزف الشباب عن الوصول إلى العلماء والجلوس معهم والتحدث إليهم والاستفادة منهم.

أهداف الأعداء من هذه الحواجز:

وهدف أولئك المخادعين مزدوج، فمن جهة يريدون عزل المرجعية عن الناس خصوصاً الشباب لتجريدها من أهم عناصر القوة لدى المرجعية وهي قوة تأثيرها ونفوذ كلمتها وسلطتها الروحية التي تعيق مشاريعهم الاستكبارية الشيطانية في السيطرة على الشعوب ونهب خيراتها بتغيير هويتها لتسيير أبنائها وفق ما يريدون.

ص: 234


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من طلبة إعدادية الجزيرة في النجف الأشرف الذين زاروا سماحته برفقة بعض أساتذتهم يوم السبت 15/ج1/1433 المصادف 2012/4/7.

ومن جهة أخرى يريدون إبقاء الناس عرضة للسقوط في الفتن والشبهات والضلالات ويعبث بهم كل فاسد وضال، لأنّ العلماء حصون الأمة والدين فإذا ابتعد الناس عن العلماء كانوا مكشوفين للأعداء بلا حصون، تحمي عقائدهم من الشبهات والعقائد المنحرفة والدعوات الضالة، وتحمي أخلاق الأمة من الفساد والانحرافات والسلوكيات البعيدة عن الدين والأخلاق الفاضلة، وتحمي فكر الأمة من الأفكار الهدّامة والهجينة والمستوردة من الأعداء والتي يعلبونها بعناوين برّاقة ليسهل تسويقها على الناس ويخلطون عليهم الأمور، كالمنكرات التي يدعون إليها تحت عناوين الحداثة والحرية والمساواة والتحضّر والتقدم ونحوها.

لئلا تهجم علينا اللوابس:

وأنتم –أيّها الأحبة الشباب بحضوركم في مجالس العلماء واستماعكم إلى توجيهاتهم تذوّبون هذه الحواجزالمصطنعة وتزيلونها، وتنقلون إلى إخوانكم أنّ العلماء ولدوا من رحم هذه الأمة وهم جزء لا يتجزأ منها، بل لا يستطيعون أن يمارسوا مسؤولياتهم ودورهم إلاّ حينما يكونون في وسط هذه الأمة فيتعلمون من معاناتها وتجاربها ويستفيدون من إبداعاتها وأفكارها، وفي بوتقة هذه الأمّة يصاغ العالم العامل ولا يُصنع في كوكبٍ آخر أو في الدهاليز المظلمة ويُفرض على الناس بالإكراه.

وحينما تلتفون حول العلماء وتأخذون منهم فإنّكم ستجدون عندهم العين البصيرة والفكر الثاقب والمعرفة بأحوال الناس والتمييز الدقيق بين الأمور

ص: 235

فتسود تصرفاتهم الحكمة كما في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)(1).

وقد جعل الله تعالى للأمة أعلاماً منصوبة للهداية على الدوام من لدن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) ومن ثمّ مراجع الدين الجامعين للشرائط، وهذا هو صمام أمان الناس وحبل الله المتصّل بين الأرض والسماء الذي أمروا بالتمسّك به والاعتصام به، ولا يكونوا كالأمم السابقة التي لم تحظ بهذا الحبل المتين فضلّت وانحرفت.

وإذا حصلت هذه الفجوة فإن الجميع سيخسر ويفقد العلم أهميته عندما لا يجد ساحة للعمل به بابتعاد الناس عن العلماء وعدم عمل العلماء بعلمهم، وسيخسر الدين أيضاً لأنّه يفقد تأثيرهفي حياة الناس ودوره الذي هو كالبوصلة التي توجّه أمورهم كلّها.

وما نشوء هذه الظواهر المنحرفة والدعاوى الباطلة إلاّ بسبب هذه الفجوة وهذا الابتعاد والعياذ بالله.

ص: 236


1- الكافي: ج1 ص27.

لزوم التحاق النخب بالحوزات العلمية

لزوم التحاق النخب بالحوزات العلمية(1)

من معاني شكوى القرآن الكريم:

اشارة

يشكو النبي (صلی الله علیه و آله) من أمته يوم القيامة لهجرهم كتاب الله تعالى، قال تعالى: «وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً» (الفرقان:30)، وورد مثله في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (علیه السلام): (ثلاثة يشكون إلى الله عز وجل: مسجد خراب لا يصلي فيه أهله، وعالم بين جهال، ومصحف معلّق قد وقع عليه غبارٌ لا يُقرأ فيه)(2)، والهجران الذي يشكو منه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليس فقط من ترك قراءته وتلاوته، بل الأخطر من ذلك هو هجران العمل به، قال الإمام الباقر (علیه السلام) وهو يذكر أنواع قرّاء القرآن: (ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيّع حدوده وأقامه إقامة القدح(3)، فلا كثّر الله هؤلاء من حملة القرآن)(4).

ص: 237


1- الخطبة الثانية لصلاة عيد الأضحى المبارك سنة 1432.
2- الخصال: 1/142 باب الثلاثة، ح163.
3- القِدْح هو السهم، وكان العرب يستقسمون بالأزلام باستعمال القِداح، وقال الطريحي في المجمع (كأنه الذي يستقسم ويلعب به –يعني القرآن في الحديث أعلاه كما يستقسم بالقداح، والله العالم) ولعل استعمال الإمام (علیه السلام) للتشبيه من باب أن السهم يوضع بالمقلوب في جفير السهام. وربما يكون اللفظ (القَدَح) وهو الإناء الكبير قال الطريحي: (وفي حديث النبي (صلی الله علیه و آله) (لا تجعلوني كقَدَح الراكب) يعني لا تؤخروني في الذكر، لأن الراكب يعلق قدحه في آخر رحله عند فراغه من رحاله ويجعله خلفه) مجمع البحرين: 3/462، وجميع المعاني المحتملة مقبولة في وصف شأن الناس مع القرآن.
4- الوسائل: ج6 ص182.

وليس فقط القرآن ككل يشكو بل تشكو كل آية من آياته التي لم يُعمل بمضمونها، فتشكو آية «قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» (الشورى:23) من الذين تتبعوا عترة النبي (صلی الله علیه و آله) تحت كل حجر ومدر قتلاً وسجناً وتعذيباً وتشريداً أو أقصوهم عن مقامهم الذي يستحقونه.وتشكو آية «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ» (المائدة: 67) من الذين انقلبوا على الأعقاب ولم يعملوا بوصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الأئمة من بعده.

وتشكو آية «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (البقرة:179) من الذين عطلوا هذا الحكم ولم يوقّعوا على إعدام الإرهابيين القتلة رغم ثبوت الجرائم الفظيعة عليهم بحجة معاهدات حقوق الإنسان ونحوها. وهكذا بقية الآيات الشريفة.

شكوى آية النفر:

ونحن اليوم بين يدي شكوى آية كريمة وهي قوله تعالى: «فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ

ص: 238

يَحْذَرُونَ» (التوبة:122).

ففي الآية دعوة لنخب من الأمة لكي ينفروا لطلب العلم والتفقه في الدين ثم التحرك بهذا العلم والفقه إلى سائر الناس ليرشدوهم ويعلموهم ويأخذوا بأيديهم إلى ما فيه صلاحهم، ففي الآية تكليفان الأول لعموم الأمة، والثاني للنخبة الذين التحقوا بمعاهد العلم والحوزوات الدينية ليؤدوا الرسالة التي تحملوها، والتقصير متحقق بكلا الاتجاهين، وسنتحدث هنا عن التكليف الأول وهو حث الأمة على التفقه في الدين؛ لأن الثاني نوجهه إلى الحوزة العلمية.

وإنما قلت للنخب من الأمة لأنه ليس الكل مؤهلين لهذه الوظيفة الإلهية وهذا التشريف المبارك، كالآية الأخرى في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى: «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَبِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ» (آل عمران:104) ثم شرحت الرواية صفات هذه الجماعة المكلفة بهذه الوظيفة(1).

إن هذا الحث الإلهي «فَلَوْلاَ نَفَرَ» مصداق لقوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ» (الأنفال:24) والتفقه في الدين هو الذي يحيي العقول ويطهر القلوب ويهذب النفوس ويسمو بالروح، فلا يسع الأمة إلا الاستجابة لهذه الدعوة.

ص: 239


1- راجع وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب2.

عدد النافرين الى الحوزات:

وتحدد الآية النسبة المعقولة لعدد النافرين إلى الحوزات العلمية للتفقه في الدين بطائفة من كل فرقة والطائفة في اللغة أقلها ثلاثة، ومعدل الفرقة ثلاثة آلاف، فالنسبة المعقولة هي واحد من كل ألف، وأن لا يقتصر الانضمام إلى الحوزة العلمية على فئة أو شريحة أو مدينة أو أسرة بل المطلوب أن تنفر طائفة من كل فرقة من المسلمين سواء أكانت الفرقة عشيرة أو أهل مدينة أو ريف أو حي سكني ونحوها.

وما زالت الأمة بعيدة كل البعد عن تحقيق الاستجابة لهذه الدعوة على صعيد شعبنا في العراق فكيف إذا لاحظنا مسؤوليتها عن حركة الإسلام في العالم كله لأن النجف الأشرف والعراق عاصمة الإسلام ومنطلق الدعوة العالمية لدولة الحق والعدل.

ألسنا جميعاً ندعوا بما علمنا به الإمام المهدي (علیه السلام) في زمان الغيبة أن ندعوا: (اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة) وفيه (وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك)(1)فكيف نكون من طالبي هذه الدولة الكريمة والممهدين لها والدعاة إلى طاعة الله تعالى والقادة إلى سبيله من دون التفقه في الدين وتحصيل العلوم الدينية الشريفة؟

ص: 240


1- انظر مفاتيح الجنان، دعاء الافتتاح من أعمال شهر رمضان المبارك.

وتتحدث الآية عن تكليف موجه للنخب من الأمة ليتفقهوا في الدين وهو غير تكليف عموم الأمة بمعرفة أساسيات دينها، حيث تحفل كتب الحديث بالروايات التي تلزم الناس بالتفقه في الدين، والحد الأدنى منه الذي لا يعذر فيه أحد هو التفقه في العقائد والأحكام الابتلائية كأحكام الطهارة والصلاة والصوم والخمس ونحوها، والأحكام المختصة بالعمل الذي يعمل فيه كالتاجر في تجارته، والمعلم في مدرسته والطبيب في مستشفاه والسياسي عند ممارسة عمله المليء بالمزالق والمرديات وهكذا.

حث أهل البيت (علیهم السلام) على التفقه:

في الكافي بسنده عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (عليكم بالتفقه في دين الله ولا تكونوا أعراباً فإن من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة، ولم يزكِّ له عملاً)(1).

وعنه (علیه السلام) قال: (لوددت أن أصحابي ضُربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا)(2).

وروي أنه (قال له رجل: جُعلتُ فداك رجل عرف هذا الأمر –إمامتهم (علیهم السلام)- لزم بيته ولم يتعرف إلى أحدٍ من إخوانه، قال: فقال: كيف يتفقه هذا في دينه؟)(3).

ص: 241


1- الكافي: ج1 ص31.
2- السابق.
3- السابق.

وسُئل الإمام الكاظم (علیه السلام) (هل يسع الناس ترك المسألة عما يحتاجون إليه؟ فقال: لا)(1).

وروى الإمام الصادق (علیه السلام) عن جده رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أُفٍّ لرجل لا يُفرِّغ نفسه في كل جمعة لأمر دينه فيتعاهده ويسأل عن دينه)(2).

وعن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: (تذاكر العلم دراسةٌ والدراسة صلاةٌ حسنةٌ).

وورد في لزوم تفقه التاجر في أعمال السوق قول الإمام الصادق (علیه السلام): (من أراد التجارة فليتفقه في دينه ليعلم بذلك ما يحل له مما يحرم عليه، ومن لم يتفقه في دينه ثم اتجر تورط في الشبهات)(3) وبحسب مناسبة الحكم والموضوع يُعلم أن الوجوب متوجه لكل شخص لكي يتفقه في عمله.

مستويات التفقه:

فهذا هو النحو من التفقه الذي يشمل بوجوبه كل الناس وله مستويان،

ص: 242


1- انظر الكافي: ج1، كتاب فضل العلم، باب 1.
2- هذا الحديث والذي يليه في أصول الكافي، ج1، كتاب فضل العلم، باب سؤال العام وتذاكره، ح5، 9.
3- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، باب 1، ح4.

عام: أي في المسائل الابتلائية التي يشترك فيها كل الناس كالطهارة والصلاة والصوم والخمس، وخاص: أي بخصوص مسؤولياته كعمله أو إدارة أسرته كالعلاقة مع الوالدين أو الزوجة أو الأبناء وتربيتهم وهكذا.

ومن نعم الله تعالى على أهل هذا الزمان وجود منافذ كثيرة لهذه المعرفة كالمحاضرات الدينية في المساجد وخطب الجمعة والمجالس الحسينية والكتب والنشرات وما تعرضه الفضائيات الدينية من برامج نافعة.أما النحو الآخر من التفقه وهو الالتحاق بالحوزات العلمية لتحصيل علوم أهل البيت (علیهم السلام) في العقائد والأخلاق وأحكام الشريعة ثم إيصالها إلى عموم الناس لهدايتهم فهو تكليف نخب من الأمة.

وقد ذكرنا أن العدد الذي يريده الله تبارك وتعالى لم يتحقق بعد ولا زالت الحاجة على أشدها لالتحاق النخب المخلصة الواعية المثقفة العارفة بأمور زمانها بالحوزة العلمية، حتى لو قلنا أنه وجوب كفائي كما قيل فإنه لا يسقط حتى يتحقق الواجب وإلا يأثم الجميع وقد اتضح أن العدد لم يتحقق، فهل نفر من المحافظة التي سكانها مليونان ألفان لطلب العلم؟ إذن لا زالت المسافة بعيدة لنخرج من عهدة هذا التكليف.

ولقد اتخذنا هنا عدة خطوات لتوسيع هذه الفرصة أمام الجميع فنشرنا فروع جامعة الصدر الدينية في لمحافظات حتى تجاوزت عشرين فرعاً، فمن لم يتيسر له الإقامة في النجف للدراسة نقلنا حوزة النجف إليه ووفرنا المتطلبات التي تُيَسِّر

ص: 243

الدرس والتحصيل، مع تشجيع المؤهلين لمواصلة الدراسة في النجف الأشرف، كما تتوفر الأقراص المدمجة التي تضم دروس أساتذة متخصصين لجميع مراحل الدراسة ولكل مفرداتها، وهذا أسلوب آخر ميسّر لتحصيل العلوم الدينية والارتقاء فيها.

اللطف خاص:

وينبغي الالتفات إلى أن سلوك هذا الطريق لا يتيسر لكل أحد إلا بلطف خاص من الله تعالى، وليس كل أحد يوفق إليه ويوفق فيه، فألحّوا في الدعاء والطلب من الله تعالى وأصلحوا أنفسكم وأخلصوا نياتكم كي يختاركم الله تعالى لحمل هذه الأمانة الإلهية العظيمة، لما ورد من الفضل العظيم والدرجة الرفيعةلحملة العلم، وأنقل لكم رواية واحدة تغنيكم عن الباقي وهي كافية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

ففي رواية صحيحة عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً به، وإنه يستغفر لطالب العلم مَنْ في السماء ومن في الأرض حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورّثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر)(1).

ص: 244


1- أصول الكافي: ج1، كتاب فضل العلم، باب ثواب العالم والمتعلم.

منزلة بكير بن أعين:

وأنقل لكم رواية في منزلة أحد حملة علوم أهل البيت (علیهم السلام) ورواة أحاديثهم لتكونوا كلكم مثله وفي منزلته ولا يكلفكم ذلك شيئاً كما كلفهم في ذلك الزمان، ففي رواية صحيحة أن الإمام الصادق (علیه السلام) لما بلغه وفاة بكير بن أعين قال: (أما والله لقد أنزله الله بين رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما) وعن عبيد بن زرارة بن أعين قال: (كنت عند أبي عبد الله (علیه السلام) فذكر بكير بن أعين فقال: رحم الله بكيراً، وقد فعل، فنظرت إليه وكنت يومئذٍ حديث السن، فقال: إني أقول إن شاء الله)(1).

التفقه في كل الدين:

إن مسؤوليتنا لا تقف عند حدود تلقّي العلوم المتعارفة في الحوزة العلمية والتي تختص بالأحكام الشرعية وما يرتبط بها، مع أن المطلوب في الآية الشريفة هو التفقه في الدين كل الدين(2) كالعقائد وتفسير القرآن والمعرفة بالله تعالى وتهذيب النفس بالأخلاق الفاضلة وسيرة المعصومين (علیهم السلام) وكل ما يتصل بالدين من علوم ومعارف وما نحتاجه في حركة الإسلام العالمية ونشره وإقناع البشرية به والدفاع عنه ورد الشبهات ومواجهة الفتن والحوار مع الأديان

ص: 245


1- الروايتان أوردهما الكشي في رجاله ونقلهما السيد الخوئي (v) في معجم رجال الحديث: 3/353.
2- شرحنا معنى مفردة (الفقه) بحسب المصطلح القرآني في كتاب (شكوى القرآن).

والحضارات والأيديولوجيات الأخرى، وهذا باب واسع ينكشف منه بوضوح الجهل والتقصير اللذان يكتنفان الأمة بكل طبقاتها.

إن أيسر شيء اليوم وأبخس الأشياء ثمناً هو الكتاب ووسائل التثقيف والتعلم والاطلاع متيسرة وبتقنيات عالية، فلا عذر لأي أحد في عدم التفقه في الدين، في حين كان أحدهم في الأزمنة السابقة يدفع حياته ثمناً للحصول على كتاب ديني وكانوا يتبعون مختلف أساليب التمويه والتستر للوصول إلى المعلومة.

أهمية العلم والعلماء في الإسلام:

إن للمسلمين أن يفخروا بأن دينهم سبق المجتمع البشري بقرون في الاهتمام بالعلم والعلماء وتفضيلهم ولزوم طلب العلم وإلزام العلماء بتعليم الأمة وإرشادها مما يعرف اليوم بالتعليم الإلزامي ومكافحة الأمية.

ص: 246

إن وظائف المرجعية والحوزة العلمية المرتبطة بالمرجعية ليست علمية فقط بل هي مسؤولة عن قيادة الأمة والدفاع عن كيانها وهويتها وتحقيق مصالحها وحل مشاكلها ورفع الحيفوالظلم عنها مضافاً إلى الدور العالمي في إعلاء كلمة الله تبارك وتعالى ونشر الإسلام وتعاليم أهل البيت (علیهم السلام) وهذا يتطلب قاعدة واسعة من العاملين الرساليين المخلصين، ولذا قلنا بعدم الاستغناء بوسائل تحصيل العلوم الدينية عن الالتحاق بالحوزات العلمية.

وهذا كله يكشف عن فظاعة التقصير في تطبيق هذه الآية الشريفة ويدعونا إلى يقظة وحركة نحو رفد الحوزات العلمية بالكفاءات المخلصة الواعية ونشر الكتاب الديني وتحبيب مطالعته إلى الناس والله الموفق.

احذروا مدّعي الزعامة بغير حق

احذروا مدّعي الزعامة بغير حق(1)

كثر في هذا الزمن مدعوا الزعامات سواءً على الصعيد الديني أو السياسي أو الاجتماعي، وهي قضية خطيرة بل لعلها أخطر القضايا التي تواجهها الأمة، لأن بها صلاح الأمة وفسادها في دينها ودنياها وآخرتها، ففي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (صنفان من أمتي إذا صلحا صلحتأمتي وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل يا رسول الله ومن هما؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): الفقهاء والأمراء)(2).

شروط القيادة:

فللزعامة والقيادة والرئاسة على الناس شروط ومواصفات وخصائص يجب توفّرها ليكون مؤهلاً لهذا الموقع الشريف والروايات في ذلك كثيرة لا يسع المجال ذكرها، وإنما نورد شيئاً منها للاتعاظ والتدبر.

ص: 247


1- كلمة سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حشد الطلبة والشباب الذي يقضون المعايشة، مدّتها عشرة أيام في العشر الأواخر من شهر رمضان إلى جوار مرقد أمير المؤمنين (عليه السلام) وتعدّ لهم برامج دينية وتوعويّة وقد استقبلهم سماحته يوم الثلاثاء 25 رمضان 1433 الموافق 2012/8/14.
2- الخصال للشيخ الصدوق (قده)، باب الإثنين، حديث 12.

ملكة الاجتهاد:

ومن تلك الشروط: توفّر ملكة الاجتهاد والإحاطة العلمية التامة بأصول الشريعة وكيفية تحصيل الحكم الشرعي والموقف إزاء أي قضية تواجه الأمة من تلك المصادر، ففي رواية صحيحة في الكافي بسنده عن العيص بن القاسم قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام ) يقول : عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له وانظروا لأنفسكم ، فوالله إن الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فاذا وجد رجلا هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها ، والله لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرب بها ثم كانت الأخرى باقية تعمل على ماقد استبان لها ، ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة فأنتم أحق أن تختاروا لأنفسكم ، إن أتاكم آت منا فانظروا على اي شيء تخرجون)(1).

وفي رواية صحيحة أخرى له بسنده عن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي عن الإمام الصادق (عليه السلام)، جاء فيها (وأنتم أيها الرهط فاتقوا الله فإن أبي حدثني وكان خير أهل الأرض وأعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضال متكلّف)(2).

ص: 248


1- وسائل الشيعة، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 13 ح1.
2- وسائل الشيعة، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب9، ح2.

الملكات النفسية والمعنوية:

ومن مؤهّلات الزعامة: الخصائص والملكات النفسية والمعنوية، روى الشيخ الصدوق (قده) في الخصال بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه (عليهم السلام) قال (إن الإمامة لا تصلح إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن المحارم، وحلم يملك به غضبه، وحسن الخلافة على من وُلّي حتى يكون له كالوالد الرحيم)(1).

التحذير من الزعامات الباطلة:

وقد ورد التحذير الشديد من دعوى الزعامة والقيادة والرئاسة بغير حق، والتحذير موجّه إلى الشخص نفسه ليثوب إلى رشده ويقلع عن فتنته ويتّقي ربَّه، وموجّه أيضاً إلى الناس لكي لا يتبّعوا مثل هذه الزعامات البائسة الخاوية الحمقاء، قال الإمام الصادق(عليه السلام) (إياكم وهؤلاء الرؤساء الذين يترأسّون، فوالله ما خفقت النعال خلف رجل إلا هلك وأهلك)(2).

وعن الإمام الرضا (عليه السلام) –بعد ما ذكر الإمام (عليه السلام) رجلاً وقال إنه يحب الرئاسة (ما ذئبان ضاريان في غنم قد تفرّق رعاؤها بأضرّ في دين المسلم من الرئاسة)(3).

ص: 249


1- الخصال: 116 أبواب الثلاثة ح97.
2- منتخب ميزان الحكمة: 263 عن أمالي الصدوق: 131.
3- منتخب ميزان الحكمة: 263 عن أمالي المفيد: 283.

ومما ورد فيما ناجى الله تعالى به موسى (عليه السلام) (لا تغبطنّ أحداً برضا الناس عنه حتى تعلم أن الله راضٍ عنه ولا تغبطنّ أحداً بطاعة الناس له فإنّ طاعة الناس واتباعهم إياه على غير الحق هلاك له ولمن تبعه))(1).

كونوا على حذر:

وهذا التحذير يجب أن نستحضره دائماً لكثرة الطامحين إلى مواقع الزعامة والرئاسة في هذا اليوم وفي كل يوم، وهم يعلمون أنهم ليسوا من أهلها، ولأنهم فاشلون لا يستطيعون السعي لبلوغ هذا الاستحقاق، فإنهم يسلكون أساليب ملتوية وماكرة تخدع السذّج من الناس والمهوسين باتباع كل ناعق من أصحاب هذه الدعوات، أو الذين يبحثون عن عناوين ومواقع تحقق لهم الجاه والامتيازات.

من اساليب الالتواء:

وهذه الأساليب الماكرة الخادعة للناس لا يصعب إيجادها مع وجود شياطين الجن والإنس، كالذي حدث بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، روى ابن هشام في السيرة بسنده عن أبي هريرة قال: ((لما توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قام عمر بن الخطاب، فقال: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد توفى، وإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران،

ص: 250


1- بحار الأنوار: 73/ 72.

فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات؛ ووالله ليرجعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مات.قال : وأقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر ، وعمر يكلم الناس ، فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة ، ورسول الله (صلى الله عليه وآله سلم) مسجى في ناحية البيت ، عليه برد حبرة ، فأقبل حتى كشف عن وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

قال : ثم أقبل عليه فقبله ، ثم قال : بأبي أنت وأمي ، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها ، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا . قال : ثم رد البرد على وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ثم خرج وعمر يكلم الناس ، فقال : على رسلك يا عمر ، أنصت ، فأبى إلا أن يتكلم ، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس ، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر ؛ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ، إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت . قال : ثم تلا هذه الآية : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين .

قال : فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ ؛ قال : وأخذها الناس عن أبي بكر ،فإنما هي في أفواههم ؛ قال : فقال أبو

ص: 251

هريرة : قال عمر : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها ، فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي ، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات)(1).

لكي يقطعوا الطريق على أمير المؤمنين (علیه السلام):

أقول بهذه الحيلة قطعوا الطريق على كل من يفكر بتنفيذ وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الخليفة من بعده حتى يحبكوا مؤامرتهم ويرتّبوا وضعهم ويأتي خليفتهم المزعوم الذي كان خارج المدينة، فهل كان الرجل يعتقد فعلاً أن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لن يموت؟ فهو جاهل بكتاب الله تعالى إذ يقول (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) (الزمر/30) ويقول سبحانه (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) (آل عمران/144) وبعمومات الكتاب (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) (النساء/78)، وأين كان حين نعى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه مرات بقوله (يوشك أن ادعى فأجيب)(2) وذكر (صلى الله عليه وآله وسلم) شاهداً على ذلكأن جبرئيل كان يعارضه بالقرآن في كل سنة مرة وعارضه هذه السنة مرّتين، ووصيته بالتمسك بالثقلين بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم).

ص: 252


1- السيرة النبوية لابن هشام: ج4، ص224.
2- البحار: ج23 ص113.

وإذا كان جاهلاً بكل هذه الواضحات فكيف جاز له أن يكون خليفة على المسلمين وكيف يسيّر أمورهم؟

إذن هو لا يخفى عليه ذلك لذا كان من الفارّين يوم أحد حينما صاح أحدهم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قتل، ولكن هذه الدعوى كانت لكسب الوقت حتى يجري ترتيب الأمور لمن يريدون، كالذي تفعله بعض الحكومات اليوم حينما تؤجّل إعلان موت الحاكم حتى تمهّد الأمور لولي عهده، وإلى اليوم توجد مثل هذه الحيل للاستمرار في خداع الناس وتوجيههم إلى ما يريدون.

التظاهر بالقداسة:

ومن أساليب الخداع التي يتبعها الطامعون في الرئاسات التظاهر بالقداسة والابتعاد عن الدنيا، وهم إنما يتركون بعض متع الدنيا الزهيدة ليفوزوا بدنيا أهم وأوسع، وهنا رواية مهمة عن الإمام السجاد (عليه السلام) يجب أن نستفيد منها دائماً؛ روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال (قال علي بن الحسين إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه وتماوت في منطقه وتخاضع في حركاته فرويداً لا يغرنكم، فما أكثر منيعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيته ومهانته وجبن قلبه، فنصب الدين فخاً لها فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فإن تمكن من حرامٍ اقتحمه.

ص: 253

وإذا وجدتموه يعف عن المال الحرام فرويداً لا يغرنّكم، فإن شهوات الخلق مختلفة فما أكثر من ينبو عن المال الحرام وإن كثر ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها محرما.

فإذا وجدتموه يعف عن ذلك فرويداً لا يغركم حتى تنظروا ما عقده عقله، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ثم لا يرجع إلى عقل متين فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله.

فإذا وجدتم عقله متيناً فرويداً لا يغركم حتى تنظروا أمع هواه، يكون على عقله أو يكون مع عقله على هواه، وكيف محبته للرئاسات الباطلة وزهده فيها، فإن في الناس من خسر الدنيا والآخرة، يترك الدنيا للدنيا ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللّة، فيترك ذلك أجمع طلباً للرئاسة حتى َإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ، فهو يخبط خبط عشواء، يقوده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة، ويمده ربه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه، فهو يحل ما حرم الله ويحرّم ما أحلّ الله لا يبالي بما فات من دينه إذا سلمت له رئاسته التي قد يتقي من أجلها، فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم عذاباً مهيناً.ولكنّ الرّجل كلّ الرجل نِعْمَ الرجل ، الذي جعل هواه تبعاً لأمر الله ، وقواه مبذولة في رضى الله ، يرى الذلّ مع الحقّ أقرب إلى عزّ الأبد من العزّ في الباطل ، ويعلم أنّ قليل ما يحتمله من ضرّائها يؤدّيه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد ، وأنَّ كثير ما يلحقه من سرَّائها - إن اتبّع هواه - يؤدِّيه إلى عذابٍ لا

ص: 254

انقطاع له ولا يزول ، فذلكم الرجل نِعْمَ الرجل ، فبه فتمسّكوا ، وبسنّته فاقتدوا ، وإلى ربّكم به فتوسّلوا ، فإنّه لا تُردّ له دعوة ، ولا تخيب له طلبة)(1).

العناوين البراقة:

أقول: يبيِّن الإمام السجاد (عليه السلام) في هذه الرواية بعض أساليب المكر والخداع للوصول إلى الزعامة والرئاسة، وهي متنوعة وعديدة، ومحورها جميعاً أناس يفشلون في الوصول إلى المرتبة التي تؤهلهم لقيادة الأمة، فيبتدعون الطرق التي تستهوي العامة وتنطلي عليهم، فبعضهم يتجه إلى معارضة السلطة وحمل السلاح لمواجهتها كبعض العلويين في زمان الأئمة (عليهم السلام) وواجهوا أئمتنا بكلمات وقحة.

وبعضهم يدعي الانتساب إلى الإمام المهدي مع أن مراجعة بسيطة لسجل الأحوال المدنية يكشف زيف دعواه.وبعضهم يلتجئ إلى الغيبة والاحتجاب عن الناس وإطلاق الادعاءات الغيبية.

وبعض يتلفع بثياب القداسة والزهد في الدنيا لخداع الناس ويشتري ضمائر جماعة يضفون عليه أسمى الألقاب طمعاً بفتات الدنيا الذي يرميه إليهم.

ناهيك بأساليب بعض أبناء مراجع الدين عند وفاة آبائهم فيبتكرون الأفكار التي تحافظ على استمرار استفادتهم من امتيازات واستحقاقات المرجعية مع وضوح

ص: 255


1- بحار الأنوار: 2/ 8485 عن الاحتجاج وتفسير العسكري.

أن هذه الامتيازات هي للموقع فتنتقل إلى المؤهل له، وليست لشخص المرجع حتى يرثها أبناؤه.

والعجب كل العجب ليس من هؤلاء المدّعين المتقمصين ما ليس لهم، وإنما ممن يصدقهم ويتبعهم بغير دليل ولا مراجعة وفحص عن مصداقيتهم، ومع وضوح بطلان دعاواهم لتنافيها مع ما أسّسه الأئمة الأطهار (عليهم السلام) من الرجوع إلى العلماء المجتهدين العاملين الذين وصفهم الحديث السابق بأنّهم يشفقون على الأمة كالوالد الرحيم، لذا وصفهم الحديث الشريف بأن أشد الناس حسرة يوم القيامة من باع آخرته لدنيا غيره، فالله الله في دينكم ولا تقعوا في فخوخ الدجالين.

وإلى الله المشتكى وعليه المعوَّل في الشدة والرخاء.

ص: 256

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.