العودة الى الله تعالى في شهر رمضان المبارك
أبحاث أخلاقية واجتماعية من خطب
سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الشريف)
دار الصادقين للطباعة والنشر والتوزيع
النجف الاشرف / شارع الرسول صلی الله علیه و آله
ص: 1
ص: 2
بسم الله الرحمن الرحیم
ص: 3
دار الصادقين للطباعة والنشر والتوزيع
النجف الاشرف / شارع الرسول صلی الله علیه و آله
07808289364
اسم الكتاب:...... العودة الى الله تعالى في شهر رمضان المبارك
المؤلف:... سماحة المرجع الشيخ محمد اليعقوبي
الناشر:..... دار الصادقين للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة:... الأولى
السنة:.... 1434 ه – 2013 م
جميع الحقوق محفوظة للناشر
ص: 4
ص: 5
ص: 6
رجب وشعبان ورمضان تعجّل حصول نور الفرقان(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله كما هو أهله وصلى الله على رسوله والأئمة الميامين من آله وسلم تسليماً كثيراً.
من السنن الجارية في الأمم مرورها بحالة التيه والضلال عند غياب أنبيائها، قال تعالى: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ» (آل عمران:144)، ولكن كم هم الشاكرون الذين يثبتون على المسار الصحيح، قال تعالى (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)سبأ13، أما الأكثر فهم المنقلبون والمنحرفون عن طريق الحق والهدى، ومثل هؤلاء لا يضرّون إلا أنفسهم فإن الله تعالى غنيٌ عنهم.
ص: 7
وإنما تحصل هذه الحالة لأن غياب النبي والقائد يمثل مفترق طرق يجلس عنده شياطين الجن والإنس وأئمة الضلال وطلاّب الدنيا ويضيّعون العلامات الصحيحة التي تدل على الطريق وسط علامات مزيفة ينصبونها ويحيطونها بهالات قدسية فيتيه أكثر الناس كما فعل السامري ببني إسرائيل وما حصل بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ومادام الشاكرون قليلين فلا نأسى على قلّتهم «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أحببت» (القصص:56)، «وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ» (النحل:9)، ولكننا يجب أن نسعى ونعمل بجدّ لنكون من هؤلاء القلّة، وتقع الكارثة علينا حينما نفشل في ذلك والعياذ بالله، فإن هذه سنة جارية في كل الأجيال من الأمة كلما غاب عنها قادتها الكبار الذين تلتف حولهم وتذوب فيهم، والنجاة في مثل هذه المفترقات من الطرق إنما تكون بنور الفرقان الذي يضيء في قلب المؤمن وينير له الدرب ويفرّق له بين الاتجاه الصحيح والمنحرف.
وفي ضوء هذا كانت الحاجة ملحة لكل من يرجو الفلاح والنجاة أن يعمر قلبه بهذا النور لئلا يتخبّط ويتيه ويضيع، وقد بيّن لنا ربنا كيف ينبلج هذا النور في القلب، قالتعالى: «يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً» (الأنفال:29)، فالتقوى هي منشأ هذا الفرقان والمنتج له، قال تعالى: «وَتَزَوَّدُواْ فإن خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ» (البقرة:197).
ص: 8
وقد تحتاج إلى مزيد من البيان والتفسير لهذه الآيات الكريمة نستقيها من السنة الشريفة التي وظيفتها شرح آيات القران وتفسيرها.
وحينئذ سنجد فيها حديثاً شريفاً يجعل قوام هداية المؤمن وسيره على بصيرة وحصول نور الفرقان في قلبه بعناصر ثلاثة(1):
(أولها) لطف من الله تبارك وتعالى واللطف هو كل ما يقرب إلى الطاعة ويحببها ويزيّنها ويبعّد عن المعصية وينفّر منها.
(ثانيها) ورع وتقوى يحركّه نحو ما يحب الله تبارك وتعالى ويبعده عمّا يسخطه عز وجل.
(ثالثها) أخ ناصح شفيق يدلّه على عيوبه ويعينه على الطاعة ويشير عليه بالخير.
فالعملية تحتاج إلى عناصر تنبع من داخل الإنسان وأخرى تفاض عليه من الخارج، وعلى الإنسان أن يسعى لتحصيلها بلطف الله تبارك وتعالى وتوفيقه.
ومن لطفه تعالى أنه جعل لنا محطات لتسريع عملية نيل هذه الألطاف ومنها هذه الأشهر الشريفة (رجب، شعبان،رمضان) حيث إن
ص: 9
هذه الأشهر الثلاثة تساهم أكثر من غيرها في إيجاد وتحقيق هذه العناصر الثلاثة.
فلطف الله تعالى بعباده يزداد، حيث تحسّ وجدانا في هذه الأشهر إقبالا على الطاعة أكثر من غيرها، فمثلاً لا يؤدي أكثر المؤمنين السنة الشريفة التي تعدل صوم الدهر وهي صوم ثلاثة أيام في الشهر أول خميس وأخر خميس وأربعاء في الوسط رغم أنها سهلة الأداء في الشتاء، لكن كثيرين من المؤمنين يصومون أكثر من ثلاثة أيام من شهر رجب رغم أنه حلّ علينا هذه السنة في تموز حيث الحر الشديد والحاجة البالغة للماء، ومثال آخر هو زيارة المعصومين أو تلاوة القرآن أو إطعام الطعام فإن الهمة تزداد في هذه الأشهر للإتيان بها وهذه كلها شواهد على زيادة اللطف الإلهي بعباده.
وأما العنصر الثاني فتحقيقه أسرع في هذه الأشهر من عدة جهات نشير إلى احدها وهو حصول الصوم في هذه الأشهر بشكل مكثف، وهدف تشريع الصوم هو حصول التقوى كما ورد في الآية الشريفة «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (البقرة:183).
وقد ورد في فضل الصوم في هذه الأشهر أحاديث كثيرة راجعها في كتاب مفاتيح الجنان، ومنها هذه الرواية عن ابن بابويه بسند معتبر عن سالم قال : دخلت على الصّادق (عليه السلام) في رجب وقد بقيت منه أيّام، فلمّا نظر إليّ قال لي: يا سالم هل صمت في هذا الشّهر شيئاً قلت: لا والله يا ابن رسول الله، فقال لي: فقد فاتك من الثّواب ما لم
ص: 10
يعلم مبلغه إلا الله عز وجل، إن هذا شهر قد فضّله الله وعظّم حرمته وأوجب الصّائمين فيه كرامته ، قال : فقلت له : يا ابن رسول الله فإن صمت ممّا بقي منه شيئاً هل أنال فوزاً ببعض ثواب الصّائمين فيه، فقال : يا سالم من صام يوماً من آخر هذا الشهر كان ذلك أماناً من شدّة سكرات الموت وأماناً له من هول المطّلعوعذاب القبر، ومن صام يومين من آخر هذا الشّهر كان له بذلك جوازاً على الصّراط، ومن صام ثلاثة أيّام من آخر هذا الشّهر أمن يوم الفزع الأكبر من أهواله وشدائده وأعطى براءة من النّار.
وأما العنصر الثالث فإن هذه الأشهر تشهد أكثر من غيرها فرصاً لاستفادة مثل هؤلاء الإخوة الناصحين لما تشهده من عبادات جماعية في المساجد وزيارات وإقامة للشعائر ومجالس لإحياء ذكر أهل البيت (عليهم السلام) ومناسباتهم.
وألفت نظر أحبتي المؤمنين إلى عبادة جامعة لكل خصال الخير هذه عزف عنها الناس رغم ما ورد فيها من حث أكيد عن المعصومين سلام الله عليهم في هذه الأشهر الشريفة وخصوصاً في العشر الأواخر من شهر رمضان وهي الاعتكاف في المساجد الجامعة فلا يغفل عنها من تتيسر ظروفه لأدائها، ولها أحكام وآداب مذكورة في كتب الفقه والرسائل العملية.
ص: 11
مشاعرنا في استقبال شهر رمضان(1):
حينما يحلّ شهر رمضان ويتطلع المسلم إلى هلاله ينتابه شعوران:
الأول: الفرح لكونه ممن حظي فشهد هذا الشهر المبارك ولم يكن من الذين اخترمهم الأجل خلال العام الماضي فحرِم من هذه الفرصة الثمينة للتكامل والقرب من الله تعالى،فكم شخص كان بيننا في رمضان السابق وهو اليوم ليس فينا أمانحن فقد شملنا الله بلطفه وفتح لنا الباب على مصراعيه للاستزادة من الفضائل والحسنات والتقرب أكثر إلى الله تبارك وتعالى، كالطالب الذي تعطى له فرصة أخرى للامتحان في الدور الثاني ونحوه من أجل أن ينجح أو يحسّن درجته فحاله أفضل ممن يمنح فرصة واحدة.
وإن لله تبارك وتعالى ألطافاً ونفحات خاصة في شهر رمضان لا ينالها العبد في غيره وقد ورد في الحديث الشريف: (إن لله تبارك وتعالى نفحات ألا فتعرضوا لها)، هذه الألطاف والإمدادات الروحية يحسها حتى البعيدون عن الله تعالى فالمرأة السافرة تتحجب في شهر رمضان والذي يعاقر الخمرة يجتنبها احتراماً لهذا الشهر وتارك الصلاة يلتزم بها كل ذلك من بركات هذا الشهر الكريم.
من هذه الألطاف ما ذكرها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته التي ألقاها على المسلمين في آخر جمعة من شعبان ورواها أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (أيها الناس
ص: 12
إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، أيها الناس: إن أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة فسلوا ربكم أن لا يغلقها عليكم، وأبواب النيران مغلقة فسلوا ربكم أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة فسلوا ربكم أن لا يسلطها عليكم.... الخ).
الثاني: الرهبة والهيبة لهذا الشهر الكريم لأنه شهر الله وله حرمة عظيمة فلذا أوجب الله تبارك وتعالى صومه من دون الشهور، وجعل فيه ليلة القدر وجعلها خيراً من ألف شهر وأنزل فيه القرآن ودعا عباده إلى ضيافته يرتعون في موائده ويغدق عليهم من كرمه وماذا تجد على تلك الموائد.
يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله وجعلتم فيه من أهل كرامة الله،أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فسلوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وقيامه وتلاوة كتابه، فإن الشقي من حُرِم غفران الله في هذا الشهر العظيم).
فيشعر المؤمن بهيبة لهذا الشهر خشية أن يقصر فيه، ولا يكون أهلاً لضيافة الله تعالى فيحرم من بعض كرمه ويكون من الأشقياء، وعن هذه الحالة عبر الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) في دعائه، مخاطباً شهر رمضان: (السلام عليك يا شهر الله الأكبر ويا عيد أوليائه السلام عليك يا أكرم مصحوب من الأوقات ويا خير شهر في الأيام
ص: 13
والساعات، السلام عليك من مجاور رقّت فيه القلوب وقلّت فيه الذنوب، السلام عليك من ناصر أعان على الشيطان وصاحب سهل سبل الإحسان، السلام عليك ما كان أمحاك للذنوب وأسترك لأنواع العيوب).
ويمكن أن تقرب الصورة بمثال من الواقع: فلو أن ملكاً أو رئيساً دعا أحداً لضيافته فكم سيكون هذا المدعو حريصاً على آداب الضيافة وعدم الإخلال بها ليكون أهلاً لهذه الدعوة ويكون سعيداً وفخوراً بتوجيهها إليه، فكيف إذا صدرت بطاقة الدعوة من الله تبارك وتعالى خالق الخلق وجبار السموات والأرض وأوصلها إليك اشرف المخلوقات محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكم هي ثمينة وقيمة هذه الدعوى وكيف سيكون حرصك على أن تكون أهلاً لها.
ومن اقتران هذين الشعورين: الفرح والرهبة في القلب يندفع المسلم للعمل الصالح ويكون الحافز فيه مضاعفاً لطاعة الله تبارك وتعالى وأعمال البر والإحسان وصفاء القلوب والمودة والألفة ونزع ما فيها من غلّ وحقد وحسد وبغضاء ليكون من الفائزين يوم القيامة قال تعالى: «يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» (الشعراء:88-89) أي خال من الغش للآخرين خصوصاً إذا التفت إلى عظمة العطاءالإلهي على أعمال الخير، يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (مَن حسّن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جواز على الصراط يوم تزل فيه الأقدام، ومن كف فيه شره كف الله غضبه يوم يلقاه، ومن أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه، ومن تطوع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النار،
ص: 14
ومن أدى فيه فرضاً كان له ثواب من أدى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومن أكثر فيه من الصلاة علي ثقل الله ميزانه يوم تخف الموازين ومن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور).
تهنئة بالدخول في ضيافة الله تبارك وتعالى(1)
بحلول شهر رمضان المبارك الذي يحمل دعوة من الله تبارك وتعالى لعباده لينزلوا ضيوفاً على موائد رحمته ومغفرته وفضله وكرمه وخزائنه التي لا تنفد ولا يزيدها كثرة العطاء إلا جوداً وكرماً وقد بلّغ هذه الدعوة رسول الله الكريم في خطبته الجليلة التي استقبل بها شهر رمضان (شهرٌ دُعيتم فيه إلى ضيافة الله) وأي ضيافة! (أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة ودعاؤكم فيه مستجاب) فما أعظمها من دعوة وما أحرانا أن نستجيب لها بتطهير القلوب وتهذيب النفوس لنكون أهلاً لها «اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ» (الأنفال:24) وينبغي للمؤمنين أن يعرفوا حرمة هذا الشهر وما يجب أن يكونوا عليه وليقرأوا خطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في آخر جمعة من شعبان في (مفاتيح الجنان) ودعاء الإمام السجاد (عليه السلام) في
ص: 15
استقبال هذا الشهر ووداعه في (الصحيفة السجادية) لينالوا الحظوة عند ربهموعند إمامهم المهدي الموعود (عجل الله تعالى فرجه الشريف.
وليضاعفوا الهمة في العشر الأواخر من شهر رمضان فإن لها نفحات خاصة وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يشدد على نفسه فيها، واجتهدوا في أن يدعو بعضكم لبعض وان تتراحموا وتتواصلوا ليظلكم الله برحمته فلا تخرجوا من هذا الشهر إلا وقد أخرجكم الله من ذنوبكم وأدخلكم في رضاه.
ص: 16
ص: 18
بسم الله الرحمن الرحيم
عندما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعظ أصحابه يتأثرون به غاية التأثر، يعيشون عالماً ملكوتياً،يتجردون خلاله عن عالم الماديات الذي يعيشونه في الدنيا، وفي أحد الأيام قال رجل منهم: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، نخاف على أنفسنا النفاق، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): لماذا ؟ قال: عند استماعنا إلى موعظتك ننسى الدنيا والأولاد والأزواج والأموال وكل شي، وبمجرد الخروج منك والخوض في أمور الدنيا وندخل البيوت بين أزواجنا وأولادنا ننسى كل ذلك ولا يبقى لتلك الموعظة أثر، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): فو الله، لو دمتم على تلك الحالة لصافحتكم الملائكة ولمشيتم على سطح الماء، وطبعاً يتكلم هذا الرجل عن حاله الخاص به، وإلاّ فإن مجموعة أخرى من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كأبي ذر وسلمان والمقداد وعمار (رضوان الله تعالى عليهم) تستمر عندهم هذه الحالة بدرجات متفاوتة، أما أمير المؤمنين (عليه السلام) فإن هذه الحالة دائمة عنده، لذلك كانت من آياته ما ذكره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث من العطايا وأزيد.
ص: 19
وتوجد أسباب عديدة للسموّ والتقرب إلى الله تعالى، منها وجودكم في المسجد، ومنها ما عشناه في شهر رمضان، فإن كل واحد منّا يدرك بوضوح أن حالته المعنوية وسموه الروحي في تلك الأيام المباركة تتألق بما لا يشبهه في غيره من الشهور، حتى الفسقة يشعرون بذلك، فهذا أحدهم- هداه الله تعالى- يقول:
رمضان ولّى، هاتها يا ساقي *** مشتاقةً تسعى إلى مشتاقِ
فهو يعترف أن رمضان أعانه على الانتصار على نفسه الأمارة بالسوء وأكسبه مناعة ضد هذه الفاحشة المنكرة، لكنهلم يحتفظ بها، بل فقدها بمجرد انتهاء المؤثر والسبب، وهو هذا الشهر الشريف.
ويروي أحد الأخلاقيين أنه كان لأستاذه في الأخلاق درس أسبوعي يأخذون منه زاداً يكفي أثره وتبقى فاعليته إلى الأسبوع المقبل، وهذا سر نجاح مثل هؤلاء الأساتذة، إذ أنهم يعرفون الجرعة المناسبة لمعالجة الأمراض الروحية والرذائل الخلقية(1)
ص: 20
مما تقدم نستطيع أن نحدد مدى استجابة القلوب لهذه المؤثرات وتفاعلها معها على ثلاثة مستويات بعد أن نخرج من لا يستجيب لنداء الحق ولا يلبي داعي الكمال والعياذ بالله، وقد ذمهم القرآن الكريم ووصفهم بما يستحقون في مواضع عديدة «لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَ-ئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ»(الأعراف:179).
أما مستويات الاستجابة الثلاثة «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ»(الأنفال:8)، فمنهم من يفقد ما حصل عليه من مقام بمجرد زوال المؤثر كالشاعرالمتقدم أو المتوكل العباسي عندما وعظه الإمام الهادي (عليه السلام) بالأبيات المعروفة:
باتوا على قُلَلِ الأجبال تحرسهم *** غُلْبُ الرجال فلم تنفعهم القللُ
..إلخ، فبكى حتى ابتلت لحيته.
ومنهم من تستمر عنده الحالة لكنها قابلة للزوال في ساعة الغفلة وعند طرو سبب يغلبها، كالمؤمن عنده ملكة على اجتناب المعاصي لكنه قد يغفل أو يضعف فيقع فيها، ثم لا يلبث أن تعود إليه ملكته العاصمة من جديد «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ»(الأعراف:201).
ص: 21
والقسم الثالث من بلغت فيه هذه الحالة درجة الرسوخ غير القابل للزوال، وهو ما يسمى بالعصمة الذي ليس فقط لا يأتي بما ينافيها وإنما لا يخطر على باله أن يفعل ذلك، والعصمة ليست حالة غريبة وغير معقولة، بل هي حالة موجودة بشكل من الأشكال عندنا، فمثلاً أي واحد منا ليس فقط لا يقتل ولده ولا يحرق ماله بل لا يفكر في القيام بذلك أبداً، فالمعصوم هو من يستطيع أن يعمم هذه الحالة إلى كل ما يبعده عن الله تعالى ويكرس همه وعمله فيما يقربه إلى الله تعالى.
وقد ذكر لمعنى القرب إلى الله تبارك وتعالى عدة معانٍ إذ لا يمكن حملها على ظاهرها، فالله ليس بعيداً عن شي من مخلوقاته وهو أقرب إلينا من حبل الوريد وأكثر من ذلك «وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ»(الأنفال:24)، وفي الدعاء (يا من قَرُبَ من خطرات الظنون) وفي آخر (وقرب فشهد النجوى).إن القرب من الله تعالى يعني فيما يعني مقدار الاتصاف بالصفات الإلهية المعبر عنها بالأسماء الحسنى، فقربه إلى الله تعالى يكون بمقدار تجرده عن الخصائص المادية وحمله للصفات الإلهية بحيث تكون هذه الصفات ذاتية له.
والإنسان يحمل كلا الخصائص، وبلحاظ الأولى وهي المادية ذمّه القرآن ووصفه بأوصاف قبيحة: (عجول، كفار، كنود، ظلوم، جهول) وهي التي طبيعتها وسجيتها أن تقعده عن فعل الخير وتشده إلى الأرض،
ص: 22
أرض النفس الأمارة بالسوء، أرض الشهوات والغرائز «اثَّاقَلْتُمْ إلى الأَرْضِ»(التوبة:38) «أَخْلَدَ إلى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ»(الأعراف:176)، وبلحاظ الثانية وهي الإلهية مدحه القرآن وكرّمه «وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً»(الإسراء:70)، وإنسانية الإنسان إنما تتحقق بالثانية لا بالأولى التي يشاركه فيه الحيوان.
وقد خطر على ذهني ذات مرة وأنا في الحضرة العلوية الشريفة هذا المعنى للحديث الشريف: (قيمة كل امرئ ما يحسنه)، أي أن درجته عند الله تبارك وتعالى تكون بمقدار ما يحمل من الصفات الحسنى لله تبارك وتعالى، فكلما ازدادت رحمته كان أقرب إلى الله، لأن الرحيم من الأسماء الحسنى، وكلما ازداد عفوه كان أقرب، لأن العفو من الأسماء الحسنى، وهكذا كلما ازداد كرمه وحلمه وعلمه وحكمته وصبره على أن تكون هذه الصفات ذاتية له وراسخة فيه وليست طارئة عليه ولا تصدر منه بتكلف.
لذلك يفرق القرآن بين مرتبتين: أولهما: الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وثانيهما: الصالحين، تلك الفئة التي يدعومثل ابراهيم (عليه السلام) أن يجعله منهم في قوله تعالى «وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ»(يوسف:101)، فالأولى أدنى مرتبة من الثانية؛ لأنه وإن عمل صالحاً إلا أنه لا تعلم حقيقته ما هي، فقد يصدر منه غير الصالح،
ص: 23
لذلك فقد ورد في آية أخرى «خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً»(التوبة:102)، فإذن يمكن أن يصدر منهم كلا العملين، أما الثاني فذاته صالحة فهو الصلاح بنفسه، فلا يصدر منه إلا صالح.
وقد ذكر العلماء لذلك مثالاً: قطعة الفحم إذا وضعتها قريبة من النار فإن لها حالات ثلاث: الأولى تصبح الفحمة حارة، والثانية تصبح حمراء لكن باطنها يبقى فحماً فلم تتبدل حقيقتها، والثالثة أنها تتأجج النار في باطنها حتى تصبح جمرة متقدة بذاتها ومصدراً لإعطاء الحرارة والنور، فقد تبدلت حقيقتها، فالحالة الأولى تزول بسرعة بمجرد زوال مصدر الحرارة وتعود فحمة سوداء، أما الثانية فتزول لكن ببطء، أما الثالثة فغير قابلة للزوال ولا تعود فحماً بعد أن تبدلت حقيقتها.
فالإنسان قد تصدر منه الأعمال الصالحة من دون أن تتحول ذاته من مادية أرضية إلى إلهية، فهذه وإن كانت على خير إلا أنها عرضة للانحراف في أية لحظة، وهي أدنى مرتبة من تلك التي تبدلت حقيقتها وتحولت فأصبحت مصدراً للخير فقط ولا تصدر منها المعصية بل لا يخطر على ذهنها شي من ذلك، وقد سمّى الله تبارك وتعالى الفئة الأولى أصحاب اليمين، والثانية السابقون، وقال عنهم: «أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ»(الواقعة:11) رغم أن كليهما على خير، وبهذا نكون قد أيدنا المعنى الذي ذكرناه للقرب أي أن القرب إلى الله تعالى يكون بمقدار ما تتغير ذات الإنسان بالصفات الإلهية حتى تصبح حقائق راسخة فيها.
فالغاية الأسمى من هذه الطاعات والقربات أن تتغير بها الذات وتُهَذَّب وتسمو وتقترب شيئاً فشيئاً من الصفات الإلهية،ولا يكفي أن
ص: 24
تصدر هذه الأفعال من الشخص مع بقاء ذاته ونفسه على ما هي عليه من المادية والإخلاد إلى الأرض واتباع الشهوات، أي إن ظاهره صالح لكن باطنه ما زال غير ذلك.
وتوجد شواهد عديدة على ذلك، أي على أن قيمة العمل إنما تكون بما يؤثر في تغيير الذات، فمثلاً: شخص يسأل الإمام (عليه السلام): يا بن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف أعرف أن صلاتي مقبولة؟ قال الإمام (عليه السلام): انظر إلى حالك، فإن نهتك عن الفحشاء والمنكر فهي مقبولة بمقدار نهيها عن ذلك(1)، وفي القرآن الكريم قوله تعالى: «لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ»(الحج:37).
وفي رواية أن امرأة كانت على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تغتاب غيرها وتتكلم بكلام بذيء وهي صائمة، فأرسل (صلى الله عليه وآله وسلم) إليها من يأمرها بالإفطار.
ص: 25
وفي حديث: (كم من صائمٍ ليس له من صومه إلا الجوع والعطش، وكم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه)،والشواهد كثيرة على أن العمل الصالح إنما يكتسب قيمته بمقدار ما تتغير ذات الإنسان به ويقربه من الأخلاق الإلهية.
إن الإنسان يستطيع بتركيز الأعمال الصالحة والمواظبة عليها وترسيخ آثارها أن يجعل الصلاح ملكة راسخة عنده، فيواظب على الكرم حتى يصبح كريماً(1)، وعلى الرحمة حتى يصبح رحيماً، وعلى الجود حتى يصبح جواداً، وعلى العفو حتى يصبح عفوّاً، وعلى الحكمة حتى يصبح حكيماً، بمعنى أن هذه الصفات تصبح ملكات راسخة فيه وليس حالات طارئة أو تصدر عنه تكلفاً، فأمير المؤمنين والزهراء والحسنان (عليهم السلام) حينما جاءهم المسكين واليتيم والأسير وتصدقوا بكل أرغفتهم كان يمكنهم إعطاء حصة فرد منهم لقضاء حاجته، لكنهم ولكون الكرم بل الإيثار صفة ذاتية لهم لم يكونوا يرون قضاء حاجة هذا السائل واجباً كفائياً بل هو عيني على كل واحد منهم.
وقد وصف الفرزدقُ الشاعرُ الإمام السجّادَ (عليه السلام):
ما قال لا قطّ إلاّ في تشهّدهِ *** لولا التشهّدُ كانت لاؤه نعمُ
ص: 26
فكان الخير ينبع من ذاته ولا يعرف غير الخير، وبذلك يستطيع أن يقترب من الله تبارك وتعالى ويتحلى بصفاته وينال الدرجات القريبة منه تبارك وتعالى «أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» (الواقعة:11).
حديثا قرب النوافل وقرب الفرائض(1):
ففي الحديث القدسي: (ما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به...إلخ)، بل الأمر أكثر من ذلك، ففي حديث آخر: (ما زال عبدي يتقرب إلي بالفرائض حتى أحبه فإذا أحببته صار سمعي الذي أسمع به...الخ)، هذا الإنسان الضعيف العاجز القاصر يصبح سمع الله تبارك وتعالى وعين الله ووجه الله، وقد وصل مثل أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى هذا المقام، فيقول (عليه السلام): (أنا وجه الله)، ويقول عليه السلام: (أنا عين الله)، وورد في زيارة الإمام المنتظر (عليه السلام): (السلام عليك يا عين الله)، وعندما يقول الإمام (عليه السلام): اسم الله الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفاً، عندنا منها اثنان وسبعون حرفاً، أي إن لله تبارك وتعالى ثلاثاً وسبعين
ص: 27
صفة وخلق، تحلّى المعصومون (عليهم السلام) باثنتين وسبعين منها، كالعلم والقدرة، ولكن الفرق أنها ليست مستقلة عندهم، وإنما فاعليتها بإذن الله تبارك وتعالى.
وهنا أريد أن ألفت نظركم إلى مقارنة بسيطة بين القوة الموجودة عند أهل الله تعالى وتلك التي يتسلط بهاالمستكبرون، فهذا الغرب الكافر المتغطرس الذي يريد إركاع الشعوب وإخضاعها بكل جبروته وطغيانه إنما هو جزء يسير من حرف واحد هو العلم، والإمام المهدي (عليه السلام) عندما يأذن الله تبارك وتعالى له بالظهور يكون له من العلم خمسة وعشرين مرة بقدر ما عند البشرية من علوم حسبما نطقت به الروايات، وهذا التفوق له (عليه السلام) في حرف واحد، فكيف وهو له اثنان وسبعون حرفاً؟ فتتضاءل كل وسائل طغيانهم وفرعنتهم أمامه (عليه السلام). عندنا رواية عن الإمام الرضا (عليه السلام) تقول: إن الله تعالى إذا بعث نبياً وأراد أن يدعم دعوته بمعجزة فإنه يجعلها مشابهة لأرقى فنون العصر، لذا أعطى موسى (عليه السلام) العصا التي تلقف ما يأفكون من السحر، وكان عيسى (عليه السلام) يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص لتقدمهم في علم الطب.
ص: 28
وسيأتي الإمام المهدي (عليه السلام) بما يذهلهم من العلوم التي تسحق تكنولوجيتهم وتتركها عاجزة عن مواجهته (عليه السلام)، ولا أعني بذلك أن الإمام (عليه السلام) بحاجة إلى معجزة أو إنه يظهر كلمته بطريق إعجازي، وإنما أريد أن أقول إنه سيواجه تحديات العصر بأرقى فنونها كما واجه الأنبياء (عليهم السلام) أممهم.
وقد كان لآصف وصي سليمان (عليه السلام) حرف واحد استطاع به بإذن الله أن يأتي بعرش بلقيس من اليمن قبل أن يرتد الطرف، وليس هذا الحرف طبعاً من سنخ الحروف اللفظية الهجائية، وإنما يعني صفة كالعلم أو القدرة بإذن الله تبارك وتعالى، وقد استأثر تبارك وتعالى بحرف أي بصفة لابخلاً حاشاه، وإنما لعدم قابلية المحل(1)، ذلك الحرف هو (الغنيّ)، فإن مخلوقاته مهما اتصفت بصفاته تبقى محتاجة إليه، فالغنى عين ذاته كما إن الفقر والحاجة عين ذات مخلوقاته لا تستطيع أن تنفك عنها.
وهذه المعاني كلها يتضمنها الدعاء المروي عن صاحب العصر أرواحنا له الفداء بواسطة سفيره الأمين أبي جعفر محمد بن عثمان بن
ص: 29
سعيد الوارد في أعمال شهر رجب، فيصفهم (عليه السلام) بأنهم (الواصِفُونَ لِقُدْرَتِكَ المُعْلِنُونَ لِعَظَمَتِكَ) أي إنهم مظاهر صفاتك الحسنى إلى أن يقول: (لا فَرْقَ بَيْنَكَ وَبَيْنَها إِلاّ أَنَّهُمْ عِبادُكَ وَخَلْقُكَ فَتْقُها وَرَتْقُها بِيَدِكَ بَدْؤُها مِنْكَ وَعَوْدُها إِلَيْكَ)(1)، فهم إذن عباد محتاجون، لا يستغنون عنك، وهذا ما عنيناه بعدم قابلية المحل.
وبهذه القدرة على التكامل والاتصاف بالصفات الإلهية استحق الإنسان أن يكون خليفة الله تبارك وتعالى في أرضه، لأنه يستطيع أن يمثل ويظهر الصفات الإلهية، بينما الملائكة تستطيع إظهار بعض هذه الصفات، فقدرتها على التمثيل والخلافة محدودة.
وقد ورد في الحديث: (تخلّقوا بأخلاق الله)، فمثلا أنت رب عائلة، فينبغي أن تتصرف معهم كما يتصرف الرب الخالق مع المربوبين، يغدق عليهم بالنعم وإن كانوا يعصونه ويستكبرون عن طاعته وتنفيذ أوامره، ويحلم عنهم ويرعاهم ويرحمهم، فالمتخلقون بأخلاق الله عاكسون للصفات الإلهية ومظهرون لها كما تعكس المرآة الصور، فمثلاً: العالم يستطيع أن يظهر علمه مباشرة بالتدريس أو التآليف، ولكنه يمكن أن يظهره من خلال تربية طلابه وإعدادهم فيكونون مظهرين
ص: 30
لعلمه، والله تبارك وتعالى قد أظهر علمه مباشرة بهذ القرآن، ولذا قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (لقد تجلّى الله لعباده في كتابه، ولكن لا تبصرون)، والتجلي الثاني لعلمه تبارك وتعالى هم محمد وآل محمد (صلى الله عليهم أجمعين) المظهرون لعلمه.
والنفس الإنسانية مظهر للصفات الإلهية تتجلى فيها، لذا جاء الحديث الشريف: (من عرف نفسه فقد عرف ربَّه)، وأحد هذه التجليات للنفس كان حين عرض الخالق على المخلوقين الأمانة في عالم الذر، وقد بينته الآية الشريفة «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ»(الأعراف:172).
ففي كل شهادة توجد مرحلتان: مرحلة تحمل الشهادة بمعنى الاطلاع على المشهود عليه والتيقن به، والمرحلة الثانية أداء الشهادة بعد تحملها، وهذا مذكور في كتب الفقه، فمثلاً حينما يرى الشخص إجراء الطلاق من قبل الزوج فهذاتحمّل للشهادة، وعندما يدعى إلى الشهادة عند القاضي ويدلي بشهادته فهذا أداء للشهادة.
فالله تبارك وتعالى حمَّل بني آدم الشهادة أولا بأن أطلعهم على أنفسهم وكانت صافية كالمرآة تعكس حقيقة ربوبية رب العالمين، فوجدوا فيها حقيقة الربوبية لله تبارك وتعالى والفقر التام إلى لطفه ورعايته، لذلك
ص: 31
حينما سئلوا: ألست بربكم؟ أدّوا الشهادة التي تحمّلوها بلا تردد لوضوح الصورة أمامهم: بلى.
وهذه هي فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهي موجودة عند كل أحد، ولكن الإنسان الذي يلوثها ويعكر صفوها بالذنوب «بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ»(المطففين: 14) «فَإِنَّها لا تَعْمَى الأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»(الحج:46)، فعندما كانت قلوبهم صافية لم تلوثها الذنوب ولم تكدرها المؤثرات الخارجية كان اعترافه بالربوبية بلا تردد، وفي الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجّسانه)(1)، وفي الدعاء: (وَأنَّ الرَّاحِلَ إِلَيْكَ قَرِيبُ المَسافَةِ، وأَنَّكَ لا تَحْتَجِبُ عَنْ خَلْقِكَ إِلاّ أَنْ تَحْجُبَهُمُ الأعمال دُوَنَكَ).
ومفتاح هذه الذنوب الغفلة عن الله تبارك وتعالى والالتفات إلى النفس والأنا، فيكون علاجها بالذكر الدائم، ولا نعني به - كما ورد عنهم (عليهم السلام): أن تلزق لسانك بحنكك تقول: سبحان الله والحمد لله؛ وإنما أن ترى الله حاضراً عندك ومعك ويحول بينك وبين قلبك، فحينما تحدث نفسك فالله مطلع على هذا الحديث، فإذا غفل عن الله هوى وتردىوأضاع نفسه ونساها «ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» (الحشر:19).
ص: 32
أقول كل هذا الكلام لأمرين:
الأول: فتح أذهانكم على هذه المعارف الإلهية والحقائق العالية لتكون خير محفز لكم نحو التكامل، فإن أول خطوة في طريق العمل هو العلم(1)، فمن دون العلم بالشيء لا يتسنى العمل به، وقد تضمن هذا الكلام بيان مقامات رفيعة يمكن للإنسان أن يصلها بالإخلاص والهمة ونكران الذات والاتكال على الله تبارك وتعالى.
الثاني: إننا ونحن نفارق شهر رمضان بكل ما حمل إلينا هذا الشهر من عطايا ومنح (أنفاسكم فيهِ تسبيح ونومكم فيهِ عبادة وعمَلكم فيهِ مقبُول ودعاؤكُم فيه مستجاب) فكان خير ناصر أعان على الشيطان، وصاحب سهّل سبل الإحسان، فكم سوء صرف به عنا، وكم من خير أفيض به علينا، وفد علينا بالبركات وغسل عنا دنس الخطيئات، وقد عشنا فيه سموّاً روحياً بإذن الله تبارك وتعالى لا نجد مثله في غيره من الشهور، كالحالة الروحية التي نعيشها بوجودنا في هذا المسجد الشريف وحضورك في هذه الشعيرة المقدسة، فإنك تحس أنك تقترب من الله تبارك وتعالى وتعيش في كنفه، فالمطلوب منا ألاّ تكون هذه الحالة طارئة وعارضة تزول بمجرد زوال سببها، يعني بمجرد انتهاء شهر رمضان أو خروجنا من المسجد، وإنما علينا أن نتغير من الداخل ونصلح باطننا حتى تكون هذه الحالة الإلهية صفة راسخة لها تحثنا على كل خير وتحصننا من كل معصية حتى نبلغ شهر رمضان المقبل فننال ألطافاً جديدة.
ص: 33
ونحن كحوزة علمية إذا أردنا أن نعرف مدى نجاحنا في شهر رمضان فعلينا أولاً أن نلتفت إلى الامتحانات التي حملناها في هذا الشهر الكريم لنعرف ماذا أنجزنا على طريق النجاح فيها، ومن ثم نكون مسؤولين عن الاستمرار بالنجاح هذا والمحافظة على الروحية العالية التي حصلت لنا بفضل الله تبارك وتعالى وببركات هذا الشهر، فقد كانت مسؤوليتنا بعدة اتجاهات:
1- مراقبة أنفسنا وتهذيبها ومنعها من الانسياق وراء الشهوات والمطامع من حب الجاه والمال وكثرة الأتباع.
2- تحصيل الإخلاص لله تبارك وتعالى وتعميق الارتباط به والمعرفة به تبارك وتعالى من خلال القرآن الكريم والأدعية والأحاديث المأثورة(1).
3- مضاعفة الهمة والجد والاشتغال والدرس والتحصيل لتشييد هذا الصرح العظيم الخالد، حتى تسليمه إلى راعيه الأول أرواحنا له الفداء، صرح الحوزة العلمية وفقه أهل البيت (عليهم السلام).
4- وفي حفظ إلفتنا ومودتنا ووحدتنا واجتماع قلوبنا على توحيد الله تبارك وتعالى وولاية محمد وآل محمد (صلى الله عليهم أجمعين) وكفى بذلك جامعاً مشتركاً، وقد عشنا السمو والصفاء بلطف الله تبارك وتعالى في جميع هذه
ص: 34
الاتجاهات وبروح عالية خصوصاً في الليالي والمناسبات الشريفة، فلا ينبغي لنا التراجع عنها وخسارتها(1).
5- وفي أداء مسؤولياتنا تجاه المجتمع من قضاء حوائجهم وحلّ مشاكلهم ورعايتهم وهدايتهم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي هذا الاتجاه بالذات وجدت تقصيراً واضحاً لدى الحوزة الشريفة خلال شهر رمضان المبارك، حيث قعد الكثيرون عن أداء وظيفتهم منشغلين بمسؤوليات أقل أولوية، كالكتابة ومراجعة الدروس رغم أنه لا منافاة بينها أصلاً، فيستطيع القيام بها جميعاً بتوفيق الله تبارك وتعالى، فإذا لم نؤدِّ وظيفة الوعظ والإرشاد والتوجيه في شهر رمضان، فمتى نؤديها؟ وأي فرصة أنسب منه حيث تجد القلوب عامرة بالإيمان ومتوجهة لداعي الله والمساجد مكتظة بالمؤمنين «يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (الأحقاف: 30-32).
وفي الحقيقة فإن لطف الله تعالى بعباده ومدّ حبل الرحمة إليهم ليجذبهم إليه ليست منحصرة بشهر رمضان وإن كان هو أبرزها، بل
ص: 35
هناك ليلة الجمعة ويومها وبعض الأزمنة الشريفة الأخرى، وهناك أمكنة كالمشاهد المعظمة للأئمة الأطهار (عليهم السلام) والمساجد عموماً ومجالس الوعظ والإرشاد وذكر أهل البيت (عليهم السلام) وصلوات الجماعة بل الصلاة عموماً، فإنها معراج كل تقي وفرصة لإعادةالصلة بالله تبارك وتعالى وتجديد الروح المعنوية، وجرعة مستمرة لردع النفس ونهيها عن الفحشاء والمنكر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبيه محمد وآله الطاهرين.
ص: 36
ص: 37
ص: 38
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: «تُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ»(النور:31).
نص الكلمة التي ألقاها سماحة العالم الفاضل الشيخ محمد اليعقوبي – دام ظله الشريف – استجابة لرجاء تقدم به أحد السائلين طلب فيه من سماحته – دامت بركاته – أن يقدم نصيحة لمن يصوم ويبتعد فقط في شهر رمضان ويترك عباداته بمجرد انقضاء هذا الشهر المبارك فكتب سماحته:
بسمه تعالى:
إن مثل هذا الشخص لو التفت إلى عدة أمور لتمسك بعبادة الله بكل سرور في جميع الأزمنة سواء في شهر رمضان أو في غيره، وفي مختلف الحالات سواء في اليسر أو العسر وفي الشدة والرخاء.
إن التكاليف الشرعية ليست طوقاً في عنق الإنسان ثقيلاً يريد أن يتحرر منه، بل هو تشريف له. وأضرب لك مثالاً لو أن الملك دعي إلى
ص: 39
مأدبة فأناب إنساناً بدلا عنه، كم سيكون هذا الإنسان محظوظاً أن ينال شرف النيابة عن الملك ويتحدث باسمه، فكذلك الإنسان اختاره الله سبحانه ليكونخليفته في هذه الأرض «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً» (البقرة:30) والله ملك الملوك ورب الملوك فكم تكون عظمة النعمة أن يستخلف أحداً ويسخر له كل ما في الأرض «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً» (البقرة:29) وينقل عن شخص عارف انه احتفل يوم بلوغه سن التكليف الشرعي لأنه يوم تشريفه بأعظم النعم.
إن الشريعة الإلهية إنما وضعها الله سبحانه لتنظيم حياة البشر وهدايتهم إلى ما فيه صلاحهم؛ لأنه خالقهم وهو العارف بما يصلحهم، فإن أي جهاز يعطل نرجع إلى الشركة المصنعة للجهاز فتعرف عيبه وطريقة إصلاحه، والله هو خالق الإنسان وصانعه فهو العارف بمناشئ انحرافه وطرق علاجها، ومن القبيح والمستهجن أن نرجع إلى نفس الإنسان التائه الضال ليرسم لنا طريق الصلاح، وقد جربت البشرية كل النظم الوضعية فزادتها سوءاً على سوء وظلماً على ظلم، ومازالت تتجرع ويلات تلك النظم البشرية، والنتيجة أن الالتزام بالتعاليم الإلهية هو الطريق الوحيد الذي يضمن للبشرية سعادتها واستقرارها وطمأنينتها، وأنت ترى بعينك وتحس سعادة المؤمن واستقراره الروحي في مقابل شقاء الكافر الفاسق وصراعه النفسي وانحرافاته «وَمَنْ أَعْرَضَ
ص: 40
عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى» (طه:124).
إن من شأن كل عاقل أن يرد الجميل بالجميل ويجازي الإحسان بالإحسان «هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ» (الرحمن:60)، ونعم الله تعالى علينا كثيرة سواء على صعيد أبداننا التي هي عبارة عن معامل ومصانع كثيرة تعمل بدقةوإتقان، وأبسط مراجعة لكتاب (الطب محراب الإيمان) تنبئك عن هذا، أو على صعيد الحياة حولنا من كون متناسق وأرض طيبة معطاء ونعم لا تعد ولا تحصى «وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا» (إبراهيم:34) وجزاء هذا الإحسان إحسان مثله، ولما كان الله غنياً عن عباده، ولا يمكن أن يصل إليه نفع من أحد؛ فردُّ الإحسان بالنسبة إليه طاعته، ومن أشكال شكر النعم أن تطيع المنعم بها، أما عصيانه مع نعمه الوفيرة وبنفس نعمه فهذا مما لا يرتضيه عاقل .
إنّ كل واحد منا يحب أن تزيد النعم عليه وهي بيد الله سبحانه المنعم الحقيقي وقد وعدنا سبحانه «لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ» (إبراهيم:7)، وفي الحديث: (بالشكر تدوم النعم) فعلى من يرجو إفاضة النعم وزيادتها عليه أن يطيع الله سبحانه ويشكره، ليزيده الله سبحانه من
ص: 41
النعم «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَ-كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ» (الأعراف:96).
إنه إذا أخبرنا إنسان ثقة بأن حيواناً مفترساً في هذه الجهة، فإننا سنهرب تجاه الجهة المعاكسة منه ونتخذ الإجراءات الواقية من الوقوع في الخطر، فإذا أكد هذا الخبر ثقة آخر ازدادت استعداداتنا لذلك وكنا أكثر حزماً. وقد أخبرنا مائة وعشرون ألف نبي أنه سيكون يومُ القيامة، ويثاب فيه المطيع على طاعته ويعاقب العاصي على معصيته بنار وقودها الناس والحجارة، أفلا يوجب هذا الحذر والابتعاد عن كل ما يورطنا في هذه النار المتأججة؟ وقد وصفها القرآن الكريم بمشاهد مرعبة، وأخبرنا أن معصية الله سبحانه توقعنافيها، وأن طاعته تورثنا جنّة عرضها عرض السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
وفي الختام أخاطب الفئة التي ذكرها السائل – أيّده الله تعالى – وهم الذين يلتزمون بأوامر الله سبحانه في شهر رمضان خاصة، وهي خطوة جيدة منهم إلى الأمام في تجاه الله سبحانه، فهم بالتأكيد أفضل ممن يعصي الله سبحانه حتى في هذا الشهر الشريف، وقد قال تعالى «إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً» (الكهف:30) «أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أو أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ» (آل عمران:195).
لكنها خطوة ناقصة ولا تتم إلا بالالتزام الحاصل على طول الخط، وإن النقاط التي ذكرناها لا تتحقق بهذا الالتزام الناقص، قال
ص: 42
تعالى: «إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» (المائدة:27) وليس من المتقين من يترك الطاعة في بقية أيام السنة، فيوشك أن لا يقبل منه عمل. وقد حذر القرآن الكريم من هذا التبعيض في طاعة الله سبحانه، فقال عز من قائل: «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ الْعَذَابِ» (البقرة:85).
فعلى الأخوة المؤمنين أن يلتفتوا إلى هذه النقاط التي ذكرناها ويعملوا على تحقيقها دائماً، ولا يغرنكم بالله الغرور وهو الشيطان الذي يريد أن يخرجكم من الجنة، أي جنة طاعة الله سبحانه ورضوانه، قال تعالى: «وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (التوبة:72) «كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا» (الأعراف:27) وهو تقوى الله سبحانه، قال تعالى: «وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ» (الأعراف:26) ليريهما سوءاتهما وعورتهما، وأسوء العورات هو الانحراف عن طاعة الله سبحانه، والانغماس في طاعة الهوى والنفس الأمارة بالسوء. قال تعالى: «إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ» (الأعراف:26).فما أشد العدو الذي يرانا ولا نراه، ولكن الله تعالى أعاننا عليه ونبهنا إلى خدعه وغروره وشراكه وفخوخه، وما علينا إلا أن نكون على حذر وملتفتين، ولا تأخذنا الغفلة فإنه ليس له سلطة على البشر إلا التزيين والغواية، ويبقى اتخاذ القرار بإرادة الإنسان واختياره «وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ
ص: 43
وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» (إبراهيم:22) فليس لنا أن نتسامح ونتهاون في أمر الله سبحانه فنخسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.
إننا جميعا مطالبون بالعودة إلى الله سبحانه والرجوع إليه لأنه هو الغاية وهو المنتهى «إِنَّ إلى رَبِّكَ الرُّجْعَى» (العلق:8) «وَأَنَّ إلى رَبِّكَ الْمُنتَهَى» (النجم:42) قال تعالى: «قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا» (سبأ:46)، فلنغسل قلوبنا مما علق بها من أدران المعاصي ولنتوجه إلى الله ضارعين تائبين عازمين على عدم العود لمعصيته، وإن الله ليفرح بعودة عبده إليه أكثر من فرح شخص تائه في الصحراء قد فقد دابته وعليها كل متاعه وما يحتاج إليه من مؤنه، ثم عثر عليها فأوصلته إلى غايته، وقد قال تعالى «إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» (البقرة:222)، أما يريد أحدكم أن يكون ممن أحبه الله سبحانه؟! ولك أن تجرّب عندما يحبك مدير دائرتك أو رئيسك أو مرجعك كم تشعر بالنشوة، فكيف إذا أحبك رب العالمين وخالق الكون وما فيه؟!.
أسأل الله سبحانه لنا جميعاً الهداية والتوفيق خصوصاً في الفرص العظيمة التي أعدها الله سبحانه ليزيد فضله على عباده فيها وليضاعف النعم عليهم، سواء على صعيد الزمان كشهر رمضان والليالي والأيام الشريفة العظيمة، أو المكانك المساجد والعتبات المقدسة
ص: 44
في مجالس ذكر أهل البيت (عليهم السلام) والاحتفال بمناسباتهم، فاغتنموا هذه الفرصة إن إضاعة الفرصة غصة، وأختم كلامي بوصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي ذر : ((يا أبا ذرّ اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)).
ومن أعظم الأسباب التوسل بأولياء الله العظام وخصوصاً بقية الله الأعظم الذي نعيش برعايته وبركاته وأنظاره الشريفة، جعلنا الله من أهل خاصته وذوي الخطوة لديه وما ذلك على الله بعسير..
والحمد لله رب العالمين.
ص: 45
ص: 46
ص: 48
يتضمن العنوان جهتين من الكلام الأولى عن التعطيل والثانية عن شهر رمضان :
ففي الجهة الأولى نقول: إن للتعطيل معنيين:
التعطيل المطلق بمعنى أن طالب العلم يخلد إلى الراحة والنوم والكسل في العطلة –أية عطلة-، وهو معنى غير صحيح أكيدا فان الإنسان في هذه الحياة الدنيا في عمل دؤوب نحو الهدف وهو رضا الله سبحانه، وبلوغ المزيد من درجات التكامل ورأس ماله في هذا العمل وهذه التجارة ساعات عمره التي هي في انقضاء ومرور سريع، وأية ساعة يضيعها الإنسان من دون ان يوظفها في خدمة الهدف فإنها سوف تكون حسرة عليه يوم القيامة، ففي الحديث الشريف (ما من ساعة تمر على ابن آدم لم يذكرأ- الله فيها إلا خسر عليها يوم القيامة)(1)
ويشعر بالغبن حينما يرى غيره قد استثمرها فنال مرتبة أعلى منه، وفي الخبر أن ساعات عمر الإنسان تعرض أمامه على شكل خزائن تفتح له فان قضاها في خير وجد في تلك الخزينة خيرا أو في شر – والعياذ بالله- فيجد
ص: 49
فيها شراً، وإذا قضاها في عمل غير هادف ولا مثمر فيجدها فارغة فيتحسر على فواتها عليه دون ان يملأها بما ينفعه (ولات حين مندم).
ويشبه بعضهم حال الإنسان بأنه كما لو كان مدلى بحبل في بئر عميق، وفي قعره تنين عظيم فاتح فاه ينتظر اللحظة التي يسقط فيها هذا الإنسان المسكين ليلتهمه، وهناك جرذان في رأس الحبل تقرض به، وهو مع هذا الحال المرعب أقبل على عسل مخلوط بالتراب على جدران البئر يلعق به وينافس الزنابير والحشرات بدلاً من أن يفكر بنجاة نفسه.
هذه الصورة الرهيبة تمثل حالنا، فنحن متعلقون بحبل العمر ويقرض فيه الليل والنهار وتنين الموت ينتظرنا، فما يلبث عمرنا أن يتصرم حتى يلتهمنا الموت ونلاقي الدواهي العظمى، وبدلاً من أن نفكر في الاستعداد له والنجاة من عقبته الكؤود نضيع وقتنا الثمين في الراحة والكسل والصراع على الدنيا الزائفة التي شبهها أمير المؤمنين (عليه السلام) بالجيفة التي تزدحم عليها الكلاب.وليس هذا من شأن المؤمن الذي يعيش بكل كيانه لهدف سامي, قال سبحانه وتعالى: «يَا أيُّهَا الإنسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدحاً فَمُلاقِيهِ» (الانشقاق:6) والكدح في
ص: 50
اللغة العناء والتعب وفي نهج البلاغة (ليكدح المؤمن حتى يلاقي ربه).
أ- التعطيل المقيد بمعنى أنه تعطيل عن الدروس الحوزوية المتعارفة فقط، وليس تعطيلاً عن كل عمل، وهذا المعنى هو الصحيح واللائق بالمؤمن الهادف الواعي.
فإن الطالب قد يتعب من الدرس والتحصيل وهذا شيء طبيعي فكيف يريح عقله ؟! يريحه بالقيام بأعمال ومسؤوليات أخرى لا تقل وجوبا عن تحصيله الدراسي، وهي في نفس الوقت راحة له عن الجهد العقلي الذي بذله، فراحة طالب العلم في هذا التنويع في المسؤوليات، وهذا التنقل بين المسؤوليات ضروري على الدوام لكي لا تجزع النفس وتتمرد، فإن لها حدوداً وقابليات فإذا كلفها فوق طاقتها نخشى عليها أن تعصي صاحبها فيخسر كل شيء، وإلى هذا التنوع أشار عليه السلام (إن العقول لتمل أو لتكل كما تكل الأبدان، فروّضوها بطرائف الحكم) فمن حقها أن ترتاح بعد أن تبذل جهوداً مضنية، لكن راحتها ليس بالخمول والكسل وكثرة النوم وإنما بممارسة مسؤوليات وأداء واجبات مغايرة.
ص: 51
فما هي المسؤوليات التي يمارسها طالب العلم في التعطيل؟أولها وأهمها: نشر أحكام الله سبحانه وتوجيه المجتمع وإرشاده وتوعيته بالموعظة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال المنبر الحسيني، أو إلقاء المحاضرات، أو عقد الندوات، أو إجراء الحوارات، وهذا واجب الجميع والحوزة تكون مقصرة لو وجدت نقطة في أقصى البلاد لم تبعث إليها من يهدي أهلها ويرشدهم إلى سواء السبيل.
وقد أكد القران كثيراً هذا الدور المهم، قال تعالى: «ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروفِ وينهون عن المنكرِ» (آل عمران:104) وأنتم يا رجال الحوزة القدر المتيقن من هذه الأمة، وقال تعالى: «فَلَولا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرقَةٍ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِيْن ِ وَلِيُنذِرُوا قَومَهُم إذا رَجَعُوا إليهِم لَعَلَّهُم يَحذَرُونَ» (التوبة: 122).
وقد تفقهتم خلال سنة كاملة واستوعبتم كثيراً من المعلومات فبقي عليكم دور إيصالها إلى المجتمع، فإذا قمتم بهذا الدور فاستمعوا لما يعدكم الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأجر الجزيل والثواب الجميل، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) (من قوى مسكيناً في دينه ضعيفاً في معرفته على ناصبٍ فأفحمه لقنه الله يوم يدلى في قبره أن يقول : الله ربي محمد نبيي وعلي وليي والكعبة قبلتي والقرآن لهجتي).
ص: 52
وعن معاوية بن عمار قال: (قلت لأبي عبد الله
(عليه السلام) رجل راوية لحديثكم يبث ذلك بين الناس ويشّدده في قلوبهم وقلوب شيعتكم، ولعل عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرواية أيهما أفضل؟ قال (عليه السلام): الراوية لحديثنا يشد به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد).وروي عن علي (عليه السلام) أنه قال: (من كان من شيعتنا عالماً بشريعتنا فأخرج ضعفاء شيعتنا من ظلمة جهلهم إلى نور العلم الذي حبوناه به جاء يوم القيامة على رأسه تاج من نور، يضيء لأهل جميع تلك العرصات وعليه حلة لا يقوم لأقل سلك منها الدنيا بحذافيرها، ثم ينادي منادٍ من عند الله تعالى يا عباد الله هذا عالِم من بعض تلاميذ آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا فمن أخرجه في الدنيا من حيرة جهله فليتلبث بنوره ليخرجه من حيرة ظلمة هذه العرصات إلى نزهة الجنان، فيخرج من كان علمه في الدنيا خيراً أو فتح عن قلبه من الجهل قفلاً أو أوضح له شبهة).
ثانياً: الالتفات إلى تنقية القلب وتطهير النفس، فإننا قد أعطينا السنة كلها لغذاء العقل وهو على أهميته إلا أنه لا يكفي وحده بل لابد من الاهتمام بغذاء القلب من الموعظة والازدياد من المعرفة بالله سبحانه بالتدبر بالقران الكريم والأدعية الشريفة وقراءة كتب الأخلاق والوعظ والتهذيب، فمن وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لولده الحسن (عليه السلام) (يا بني
أحيي قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة) وذات مرة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه (إن القلوب تصدأ كما
ص: 53
يصدأ الحديد، قيل وما جلاؤها يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال : قراءة القرآن وذكر الموت)(1).
فإذا تأمل الإنسان في مبدأه ومنتهاه وما يؤول إليه أمره من الموت وما بعد الموت فسيحصل على ثمار مهمة: الاستهانة بالدنيا وتحقير زخارفها، السمو عن الأعمال الدنيئة والانشداد إلى الله سبحانه والتعلق به.
وهذا العمل يعني إعمار القلب وتطهيره وإن كان ضرورياً على مدى السنة كلها، إلا أن شهر رمضان خير فرصة له لما فيه من أجواء سمو روحي، حيث تغل فيه الشياطين وتخمد شهوات النفس الأمارة بالسوء ويعيش الجميع أجواء الطاعة لله سبحانه.
وقد حشد الأئمة (عليهم السلام) عدداً وافراً من الأدعية والمناجاة لإعطاء هذا الشهر الشريف دفعة إلهية ضخمة، وليكرس الإنسان نفسه لله سبحانه، ويزداد هذا التكريس في العشر الأواخر من شهر رمضان حيث كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يطوي فراشه –كناية عن اجتناب النساء - ويشد مئزره للعبادة، وكان بعض المراجع ممن له مقام في العرفان يسد مكتبه في هذه الأيام ويمتنع عن لقاء
ص: 54
الناس،والبعض الآخر كان يغادر أهله ولا يعرف احد أين يوّلي وجهه حتى نهاية الشهر.
إن غار حراء الذي دخله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومكث فيه متفرغا للتأمل والعبادة والمناجات والذكر الدائم مطلوب منا ان ندخله باستمرار، ولا أقل من هذا العشرة أيام بالسنة كما كان يفعل (صلى الله عليه وآله وسلم) لنجلو قلوبنا ونطهرها من الرين والصدأ المتراكم عليها من الذنوب والغفلة والاشتغال بفضول الدنيا من أكل أو نوم أو كلام، قال تعالى «كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَا كَانُوا يَكسِبُونَ» (المطففين :14).
ثالثها: مراجعة الدروس وتدارك ما فات منها، وسد الثغرات التي حصلت خلال المسيرة الدراسية.
رابعها : الاهتمام بالاتجاه الفكري أو ما نسميه بالوعي الاجتماعي فانه من مقومات شخصية العالم الدينيومع ذلك فان منهاج الدراسة الحوزوية المتعارفة خالية منه،فعليك أن تسعى لتحصيله بجهدك وتوفيق الله سبحانه، فراجع الكتب في هذا لمجال لكبار مفكرينا المخلصين(1).
ص: 55
خامسها: تحصيل العلوم المكملة للدراسات الحوزوية مما لا يدخل في منهجها المألوف، كالتفسير والعقائد والتاريخ والرجال، مضافاً إلى الثقافة العامة والعلوم العصرية.
سادسها: تبادل الزيارات واللقاءات خصوصاً مع الأرحام، وتحسين العلاقات مع من تدّخل الشيطان بينك وبينه فحصل سوء تفاهم فتسعى لإصلاح ذات البين فانه أفضل من عامة الصلاة والصوم كما عبر أمير المؤمنين (عليه السلام).
سابعها: كتابة البحوث والدراسات وصقل هذه الموهبة، فانه من المؤسف حقاً أن تعيش النجف حاضرة الفكر ومصنع العلماء والمفكرين عقدين من الزمان خالية ممن يشخص قضايا المجتمع وسلبياتها ويعالجها، فلم تصنع الحوزة خلال هذه المدة مفكراً واحداً وهذا مما لا يمكن قبوله.
فعلى الإخوة الفضلاء والطلبة شحذ الهمم والتصدي لدراسة ما يعصف بالمجتمع من مشاكل وانحرافات وشبهات، وكتابة البحوث وعلاجها ومواجهتها، ويفضل ان تكون البحوث بحجم كراسات وكتيبات يسهل قراءتها ولا يتعذر بذل الثمن بإزائها ويكفي في هذه الكتابات تلخيص أفكار علمائنا أو مفكرينا الكبار وتجميعها وصياغتها بما يناسب واقعنا المعاش.
ص: 56
قد يسأل سائل لماذا عين الله سبحانه أياماً مباركة وليالي شريفة اهتم بها وجعل الأعمال بها مضاعفة، هل لعظمتها في نفسها ؟ أم لارتباطها بحوادث معينة؟ أم لا هذا ولا ذاك ؟ قد تصح بعض الأجوبة أو كلها وقد يوجد غيرها، إلا أن احد الأجوبة الصحيحة إنها فرصة منحها الله سبحانه بلطفه وكرمه وتوفيقه لعباده ليضاعف لهم العطاء نظير ما يفعله البعض بتوفير فرصة (الجوكر) للمتسابقين فيأخذ بها المتسابق لتضاعف له النقاط التي يحرزها.
وقد وفر الله سبحانه لعباده عدة فرص خلال السنة لكن أهمها وأوفرها حظا شهر رمضان ففي دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) في وداع شهر رمضان، واني انصح بقراءته في استقبال شهر رمضان ليعرف الإنسان قيمته قبل الدخول فيه ويزداد معرفة بعظمته وجلالة قدره وعظمة نعمة الله سبحانه بتوفير هذه الفرصة لعباده وبإبقائهم أحياء حتى أدركوا هذه الفرصة مجدداً، وإلا فإن أشخاصاً عديدين كانوا معنا في شهر رمضان السابق ليسوا معنا الآن لكن الله بفضله ورحمته ولطفه أدرك بنا هذا الشهر العظيم وجدد لنا هذه الفرصة لينظر كيف نصنع.
ص: 57
قال الإمام السجاد (عليه السلام) : (الذي زدتَ في السوم على نفسك لعبادك، تريد ربحهم في متاجرتهم لك،وفوزهم بالوفادة عليك، والزيادة منك، فقلت تبارك اسمك وتعاليت «مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا»، وقلت: «مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ»، وقلت: «مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً» إلى أن يقول (عليه السلام): (اللهم وأنت جعلت من صفايا تلك الوظائف، وخصائص تلك الفروض شهر رمضان الذي اختصصته من سائر الشهور، وتخيّرته من جميع الأزمنة والدهور، وآثرته على كل أوقات السنة بما أنزلت فيه من القرآن والنور، وضاعفت فيه من الإيمان، وفرضت فيه من الصيام، ورغّبت فيه من القيام، وأجللت فيه من ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر. ثم آثرتنا به على سائر الأمم، واصطفيتنا بفضله دون أهل الملل).
إلى أن يقول (عليه السلام): (السلام عليك يا شهر الله الأكبر ويا عيدَ أوليائه. السلام عليك يا أكرم مصحوب من الأوقات، ويا خير شهر في الأيام والساعات. السلام عليك من شهر قربت فيه الآمال، ونشرت فيه الأعمال. السلام عليك من قرين جل قدره موجوداً، وأفجع فقده مفقوداً، ومرجوٍّ آلم فراقه. السلام عليك من أليف آنس مقبلاً فسرّ،
ص: 58
وأوحش منقضياً فمضّ. السلام عليك من مجاور رقّت فيه القلوب، وقلّت فيه الذنوب. السلام عليك من ناصر أعان على الشيطان، وصاحبٍ سهّل سُبل الإحسان. السلام عليك ما أكثر عُتقاء الله فيك، وما أسعد من رعى حُرمتك بك. السلام عليك ما كان أمحاكَ للذنوب، وأسترك لأنواع العيوب. السلام عليك ما كان أطولك على المجرمين، وأهيَبك في صدور المؤمنين. السلام عليك من شهر لا تُنافسه الأيام. السلام عليك من شهر هو من كل أمرٍ سلامٌ، السلام عليك غير كريه المُصاحبة، ولاذميم الملابسة. السلام عليك كما وفدت علينا بالبركات، وغسلت عنّا دنس الخطيئات. السلام عليك غير مودّع برماً ولا متروك صيامه سأماً. السلام عليك من مطلوب قبل وقته، ومحزونٍ عليه قبل فوته. السلام عليكَ كم من سوء صرف بك عنّا، وكم من خيرٍ أُفيض بك علينا) إلى آخر الدعاء المليء بهذه المعارف الإلهية الجليلة.
ومما يستقبل به شهر رمضان أيضا خطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في آخر جمعة من شعبان التي رواها أمير المؤمنين (عليه السلام) والتي تمثل دستور عمل في هذا الشهر المبارك. أعاننا الله سبحانه على طاعته وجنبنا معصيته، وجعلنا ممن ينال غاية رضاه، وختم لنا بالحسنى، انه ولي النعم وهو حسبنا ونعم الوكيل. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين.
ص: 59
ص: 60
ص: 61
ص: 62
ليلة القدر خير من ألف شهر(1)
قال الله تبارك وتعالى في فضل وشرف ليلة القدر التي هي أفضل ليالي السنة: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ» (القدر:3) والمشهور في فهمها أن العمل فيها يتضاعف برحمة الله تعالى وفضله ليكون خيراً من عمل ألف شهر، وهو معنى صحيح مَنَّ الله تعالى به على عباده ليزيدهم من عطائه كرماً منه، وقد دلت عليه الروايات ففي الكافي عن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام)، (قال له بعض أصحابنا: كيف تكون ليلة القدر خيراً من ألف شهر؟
قال: العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر)، ويدلّ عليه وصفها بالمباركة في قوله تعالى: «إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ» (الدخان:3) ومن بركاتها زيادة الأجر على الأعمال عن غيرها من الليالي والأيام.
وهذا المعنى مأخوذ من اسمها؛ لأن القدر –الذي هو بمعنى الشأن العظيم فيقال عالي القدر- متحقق فيها فلها قدر عظيم، كما أنه
ص: 63
متحقق في غيرها بدرجات متفاوتة من الفضل في أمكنة وأزمنة متعددة كالصلاة في المساجد الأربعة وعند أمير المؤمنين (علیه السلام) فإنها بآلاف الصلوات، وفي ليلة الجمعة ويومها وليالي شريفة متعددة تتضاعف الأعمال أيضاً.وهناك معنى آخر لهذه الليلة مأخوذ من اسمها بالمعنى الآخر وهو القدر بمعنى التقدير أي اتخاذ القرار والبت في الأمر وقد ورد هذا التفسير في الكافي بإسناده عن الإمام الباقر(علیه السلام) في رواية جاء فيها: (يقدّر في ليلة القدر كل شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل: خير وشر وطاعة ومعصية ومولود وأجل أو رزق فما قدّر في تلك الليلة وقضي فهو المحتوم ولله عز وجل فيه المشيئة).
ويكون معنى الآية حينئذٍ، أن الله تعالى يقدِّر في ليلة القدر مصائر العباد وأرزاقهم وأمورهم المستقبلية قال تعالى: «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» ومعنى كونها خيراً من ألف شهر أن العبد قد يحظى بالتفاتة من ربه ويناله لطف خاص فيقدّر الله تبارك وتعالى له في هذه الليلة أمراً يساوي حياته كلها التي تمتد في المعدل ألف شهر وهي حوالي 83 سنة.
ولذا ورد في أدعية هذه الليلة (وإن كنت من الأشقياء فامحني من الأشقياء واكتبني من السعداء فإنك قلت في كتابك المنزل على نبيك المرسل صلواتك عليه وآله: «يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» فمثل هذا التغيير في القضاء إذا حصل في هذه الليلة فإنه يعادل العمر كله؛ لأن غاية سعي الإنسان في حياته هو بلوغ السعادة الحقيقية بفضل الله تبارك وتعالى.
ص: 64
وكان الأئمة (علیهم السلام) يعطون لهذه الليلة أهمية خاصة ويوجّهون شيعتهم لإحيائها بما يقرّبهم إلى الله تبارك وتعالى. روى الشيخ الطوسي (قدس سره) في التهذيب بسند معتبر عن زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (سألته عن ليلة القدر، قال: هي ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين، قلت: أليس إنما هي ليلة؟قال: بلى، قلت: فأخبرني بها، قال: وما عليك أن تفعل خيراً في ليلتين)(1).
وعن الفضيل بن يسار قال: (كان أبو جعفر (علیه السلام) إذا كانت ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين أخذ في الدعاء حتى يزول الليل، فإذا زال الليل صلّى)(2).
وروي عن الإمام الباقر (علیه السلام) أنه قال: (أتى رسولَ الله (صلی الله علیه و آله) رجلٌ من جهينة فقال: يا رسول الله إن لي إبلاً وغنماً وغُلمة وعمَلةً فأحب أن تأمرني بليلة أدخل فيها فأشهد الصلاة، وذلك في شهر رمضان، فدعاه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فسارّه في أذنه، فكان الجهني إذا كانت ليلة ثلاثة وعشرين دخل بإبله وغنمه وأهله فبات تلك الليلة بالمدينة فإذا أصبح خرج بمن دخل به فرجع إلى مكانه)(3).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (إن ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان هي ليلة الجهني فيها يفرق كل أمر حكيم وفيها تثبت البلايا
ص: 65
والمنايا والآجال والأرزاق والقضايا، وجميع ما يُحدث الله عز وجل فيها إلى مثلها من الحول، فطوبى لعبد أحياها راكعاً وساجداً ومثّل خطاياه بين عينيه ويبكي عليها فإذا فعل ذلك رجوت أن لا يخيب إن شاء الله تعالى)(1).
ولذلك ينبغي للمؤمن أن يلح في مثل هذا الطلب في ليلة القدر لعله يحظى بالقبول، فإن رحمة الله واسعة وفضله مبذول لمن سأله وأن يكون دعاؤه بالحال الذي وصفه رسول الله (صلی الله علیه و آله) (فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة) وينبغي أن يقوم بالأعمال التي تحقق له أهلية الاستجابة والقبول في ليلة القدر –كالإكثار من الصلوات المستحبة كصلاة مائة ركعة والدعاء والرحمة بالآخرين وسماع الموعظة وذكر فضائل أهل البيت (علیهم السلام) ومصائبهم- مما يحيي القلب وينقيه ويخلص النية، ومن أعمالها المؤكدة زيارة الإمام الحسين (علیه السلام) ولو من بُعد لمن يتعذر عليه زيارة تربته المقدّسة فقد وردت فيها روايات عديدة منها ما في التهذيب عن الإمام الصادق (علیه السلام) وفيها: (نادى منادٍ تلك الليلة من بطنان العرش إن الله قد غفر لمن أتى قبر الحسين (علیه السلام) في هذه الليلة).
وإذا وجد في عمل رتابة وملل فلينوِّع ولينتقل إلى عمل آخر، فإن الأعمال المذكورة لهذه الليالي كثيرة ومتنوعة، وأحد أهداف تنوعها هو منع الكسل والملل والرتابة، ولإحداث الحيوية، ولإعطاء الفرصة
ص: 66
لكل شخص أن يأخذ ما يناسبه ويتفاعل معه من أعمال الجوارح والجوانح.
وينبغي الاستعداد لليلة القدر من قبلها بالورع عن معاصي الله تبارك وتعالى والإقبال على طاعته، ومن أشكال الاستعداد أن يأتي بأعمالها منذ ليلة التاسع عشر كما هو مقرَّر مع أنها لا يحتمل أن تكون ليلة القدر لأنها تقع في العشر الأواخر من شهر رمضان لكنها جعلت منها وشملت بأعمالها ليوفّق المؤمن لليلة القدر، ومن يتهاون بها فلعله يحرم من شيء من فضل ليلة القدر إلا أن يتداركه الله تعالى بفضله وكرمه.
ولتوضيح مسألة دخول ليلة التاسع عشر في أعمال ليالي القدر –مع أن الليلة متعينة في العشر الأواخر من شهر رمضان- نقول: إن أي طلب يمر بعدة مراحل من النظر فيهثم دراسة كيفية تلبية وتهيئة ظروف استجابته، ثم اتخاذ القرار بالاستجابة له، ثم تنفيذ هذا القرار وتحقيق المراد، ففي الليلة التاسعة عشرة يبدأ المؤمنون بتقديم طلباتهم ويُنظر في تلبيتها لهم، وفي الليلة الحادية والعشرين: تتخذ القرارات بالاستجابة لمن يشمله اللطف الإلهي الواسع، لكن يبقى قلم المحو والإثبات لم يجفّ، وفي الليلة الثالثة والعشرين: تمضى تلك الأوامر نفياً أو إثباتاً، ولذا تكرر وصف القضاء الإلهي في ليلة القدر بأنه لا يرد ولا يبدَّل كما في دعاء الإمامين الصادق والكاظم (علیهما السلام) بعد كل فريضة، وفيه: (اللهم إني
ص: 67
أسألك في ما تقضي وتقدّر من القضاء الذي لا يرد ولا يبدل) إلى آخر الدعاء.
وهذا المعنى ورد في رواية ذكرها الشيخ الكليني في الكافي بإسناده عن زرارة قال: (قال أبو عبد الله (علیه السلام): التقدير في تسع عشرة، والإبرام في إحدى وعشرين، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين).
ويكفي دليلاً على عظمة التغييرات التي تحصل للفرد وللبشرية جميعاً في ليلة القدر أن نزول القرآن كان فيها، القرآن الذي قلَبَ حياة البشرية وسما بها من حيوانية الجاهلية إلى قمة التوحيد وفتح آفاقاً واسعة للعلوم والمعارف والحضارات وأرسى أسس الحياة السعيدة، فكانت تلك الليلة خيراً من آلاف الشهور والسنين –لأن الألف لم تذكر للتحديد وإنما للتعبير عن الكثرة - التي قضتها البشرية في ظلمات الجاهلية.
وتبقى الأمة سعيدة ما دامت ملتفتة إلى عظمة ليلة القدر والقرآن الذي نزل فيها وملتزمة به ومستفيدة منه، وإلا فإنه لا يغنيها ما أصابته من عرض الدنيا وحطامها.
وبهذا المعنى كان من ألقاب الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) أنها ليلة القدر؛ لأن موقفها صحّح مسيرة الأمة إلى قيام يوم الساعة، فهذا الانقلاب الإيجابي المضاد الذي أحدثته الزهراء (علیها السلام) بموقفها يعدل عمل الأمة آلاف السنين إلى آخر عمرها فيما لو لم تهتدِ إليه.
ص: 68
وكان لليلة القدر مكانة في قلب الزهراء (علیها السلام)، فقد روي (أن فاطمة (علیها السلام) كانت لا تدعْ أحداً من أهلها ينام تلك الليلة (ليلة القدر) وتداويهم بقلة الطعام وتتأهب لها من النهار، وتقول: محروم من حُرِمَ خيرها)(1).
وعلى أي حال فإن الاهتمام بليلة القدر والتركيز على إحيائها لا يعني أن الإنسان يتكاسل في أيامه كلها ويتهاون ويفرّغ نفسه في الليالي المحتملة لليلة القدر، فهذا لا يناسب العاملين الراغبين فيما عند الله تبارك وتعالى، ولا أن ييأس إذا لم يشعر أنه قد وفق لإحياء ليلة القدر؛ لأن هذه الليلة وشهر رمضان وغيرها من أبواب اللطف الإلهي فإذا انقضت فإن رب شهر رمضان ورب ليلة القدر باقٍ ورحمته واسعة.
إنَّ نفس هذا المعنى الذي شرحنا به الآية ورد في موضوع آخر ففي الرواية (تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة) وهو مضافاً إلى معناه المنسبق إلى الذهن وهو أن التفكير والتأمل والفهم هو حقيقة العمل والغاية المنشودة منه لا الحركات الخارجية التي إنما تكتسب قيمتها من محتواها وهو التفكر والتأمل المنتج للخشوع والحب والرغبة والرهبة.
فإن للحديث معنى آخر كالذي ذكرناه عن ليلة القدر وهو أن الإنسان قد يقف ساعة للتفكر والمراجعة والتحقيق في مسيرة حياته وهدفه الذي يريد أن يصل إليه، ونيته فيأعماله، والقيادة التي يرجع إليها في
ص: 69
أموره، وإذا به يتخذ قراراً يقلب كل مسيرة حياته ويغير وجهتها إلى الهدف الصحيح، فتكون هذه الساعة من المراجعة والتأمل خيراً من كل ما يؤديه خلال حياته عن غير بصيرة وهدى وكان يظن أنه يحسن صنعاً.
وأوضح مثال على هذه الحالة الحر الرياحي الذي أمضى ستين سنة من عمره بعيداً عن ولاية أهل البيت (علیهم السلام) وإتباع منهجهم، فوقف ساعة يوم عاشوراء وتأمل في حاله وأرجع نفسه واتخذ القرار الشجاع بالانتقال إلى معسكر الحسين (علیه السلام) وتحول من الشقاوة الأبدية إلى السعادة الأبدية، فقد كانت هذه الساعة هي كل حياته وليس تلك السنين الطويلة التي قضاها بعيداً عن الحق.
ومما ينبغي التركيز عليه في هذه الليلة الدعاء للإمام صاحب العصر (أرواحنا له الفداء) لأنه صلوات الله عليه وسلامه هو صاحب هذه الليلة ويزداد فيها شرفاً وكرامة، سُئل الإمام الباقر (علیه السلام) عما إذا كان يعرف ليلة القدر؟ قال (علیه السلام): (كيف لا نعرف والملائكة تطوف بنا فيها)(1)،
وعليه (علیه السلام) تنزَّل الملائكة وتعرض عليه ما قضى الله تبارك وتعالى به على العباد في تلك الليلة إلى العام المقبل فينظر (علیه السلام) فيها ويدعو لأصحابها بما يناسبهم، لأنه حجة الله تعالى الفعلية على المخلوقات، ويستحب الإكثار من دعاء (اللهم كن لوليّك الحجة بن
ص: 70
الحسن) عسى أن نحظى بنظرة كريمة منه نستكمل بها الكرامة عند الله تبارك وتعالى ثم لا يصرفها عنا بجوده وكرمه.
وينبغي الالتفات أيضاً إلى أن أعمال ليلة القدر منتشرة في كتب السنن والمستحبات ك-(مفاتيح الجنان) و(مصابيح الجنان) تحت أكثر من عنوان، فتوجد أعمال خاصة بالليلة وتوجد غيرها تحت عنوان (الأعمال المشتركة لليالي القدر وأخرى تحت عنوان العشر الأواخر من شهر رمضان وأخرى تحت عنوان الأعمال العامة لشهر رمضان، فالتهيؤ والاستعداد يشمل تجميع هذه المفردات في برنامج عمل يأخذ منه كل شخص بما يناسبه وما ييسّره الله تبارك وتعالى.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل ليلة القدر وأن يقسم لنا فيها خير ما قسم لأحد من عباده الصالحين إنه واسع كريم.
ص: 71
ص: 72
ص: 73
ص: 74
تذكرة في العشر الأواخر من شهر رمضان(1)
تمثّل العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك روح الشهر وخلاصته، وفيها يحصد العبد ثمرة أعماله الصالحة ويستشعر نتائجها بفضل الله تبارك وتعالى، ويهب الله تبارك وتعالى فيها من الألطاف والمنن لعباده، والبركات على موائده ما يزيد على ما قدّمه في سائر أيام الشهر ولياليه.
ويكفي في شرفها وعظمتها أن فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وفيها الليلة الأخيرة التي ورد أن الله تعالى يعتق فيها رقاباً من النار كمثل ما أعتق في جميع الشهر(2).
ولذا حظيت هذه العشرة باهتمام كبير من لدن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، ففي رواية صحيحة عن الحلبي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا كان العشر الأواخر اعتكف في المسجد، وضربت له قبة من شعر، وشمّر المئزر وطوى فراشه)(3).
ص: 75
وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اعتكاف عشر في شهر رمضان تعدل حجتين وعمرتين)(1).
ومن الواضح أن المراد من الاعتكاف: روحه وجوهره، وهو الانقطاع عن كل ما يشغل عن الله تبارك وتعالى فضلاً عن المعاصي، وهذا ما قد يستطيع المؤمن تحقيقه في غير المسجد، أي في داره أو محل عمله، لكن الاعتكاف في المسجد الجامع الذي أقلّهُ ثلاثة أيام هو الراجح شرعاً وفضلاً في الشكل والمضمون.
وعلى هذا سار السلف الصالح متأسّين بنبيهم الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث كانوا يخففون كثيراً من علاقاتهم الاجتماعية ويغيّرون نمط حياتهم ويتركون غير الضروري من المباحات ليتفرّغوا لعبادة ربّهم ومناجاته والاشتغال بما يقرّبهم إلى الله تبارك وتعالى.
إن الألطاف الإلهية الإضافية التي يمن الله تعالى بها على عباده في العشر الأواخر ليستشعرها المؤمن من خلال الشحنة الإضافية التي تدبّ فيه فينشط لطاعة الله تبارك وتعالى أكثر من غيرها، وتزيد همته للإتيان بما عجز عنه في غيرها.
ص: 76
وقد تضمنت كتب السنن والمستحبات أعمالاً لهذه الليالي تشكل برنامجاً يأنس به المؤمنون، ويشتاق إليه طلاب القرب من الله سبحانه، وهي موزعة تحت عدة عناوين كالأعمال العامة لشهر رمضان، والأعمال المشتركة للعشر الأواخر، والأعمال الخاصة بكل ليلة منها، مضافاً إلى الأعمال المشتركة والخاصة لليالي القدر في الليالي التي تحتملها.
وينبغي التفات إلى أنواع أخرى من الطاعات المعنوية كمحاسبة النفس وتذكر ما صدر من معاصي والندم عليهاوالاستغفار منها، والتفكر في العلاقة مع الله تبارك وتعالى بكل جوانبها كحب الله تعالى أو الشعور بالتقصير أمام عظيم نعمه أو الخجل من عدم أداء وظائف العبودية، ومن الأعمال أيضاً سماع الموعظة وما يرقق القلب، ومطالعة وصايا المعصومين (عليهم السلام) وسير الصالحين للتأسّي بهم، وقضاء حوائج الناس وإدخال السرور عليهم.
إن أول شعور للإنسان المؤمن حينما يبلّغه الله تبارك وتعالى العشر الأواخر من شهر رمضان هو العجز عن أداء الشكر لله تعالى على بلوغ هذه الأيام الشريفة ولم يجعله من السواد المخترم قبلها، أي الذين جاءهم الموت واخترمهم الأجل فلم يدركوا هذه الليالي الشريفة، فإن هذه العشرة أولى بالفضل والشكر من العشرة الأولى من شهر ذي الحجة التي ورد في أدعيتها (اللهم هذه الأيام التي فضّلتها على الأيام وشرّفتها قد
ص: 77
بلّغتَنيها بمنّك ورحمتك فأنزل علينا من بركاتك وأوسع علينا فيها من نعمائك).
إن مما يؤسف له أن الحالة العامة للناس هي التراخي والفتور في هذه الليالي على عكس ما هو مطلوب من زيادة الهمة ومضاعفة النشاط وتكريس الإنسان نفسه لطاعة الله تبارك تعالى، حتى أن البعض يتوقف عن تلاوة القرآن بعد أن يختمه في ليلة القدر، مع أن شهر رمضان كله هو ربيع القرآن، ولعل لهذا الفتور عدة أسباب :
1- الغفلة عن عظمة هذه الليالي وشرفها وما أعد الله تبارك وتعالى فيها للعاملين .
2- إرهاصات العيد والاستعداد له بشراء الملابس وتهيئة الأطعمة ووضع برامج الاحتفال .1- التعب من فريضة الصوم واشتياق الإنسان للعودة إلى ممارسة المباحات.
4- انتهاء مجالس الوعظ والإرشاد والتوجيه والتبليغ والشعائر الدينية حيث تختم هذه المجالس في ليلة (21) أو(23) ونادراً ما تتجاوز ليلة (25) .
5- تحول برامج التلفزيون بشكل ملحوظ نحو المجون والفسق والفجور .
ص: 78
فتساهم هذه الأسباب وغيرها في عزوف الناس عن ارتياد المساجد وسماع الكلمات التي تشدهم إلى الطاعة .
لذا ينبغي لنا ونحن نستقبل هذه الليالي أن لا نفرط في استثمارها من خلال عدة نشاطات:
1- المواصلة على حضور المساجد وإقامة صلوات الجماعة والأدعية الجماعية الحاشدة .
2- الحث على القيام بعبادة الاعتكاف لمن يتيسّر له ذلك، فإنها من أعظم السنن وعقدها في المساجد الجامعة لأهل المدينة مع الالتفات إلى الاعتكاف المعنوي الذي ذكرناه، ومراقبة النفس بشدة خشية وقوعها في العجب والرياء والتباهي أمام الناس؛ لأن هذه الفعالية مظنة للوقوع في تلك الآثام فيفسد الإنسان على نفسه.
3- الاستمرار بمجالس الوعظ والإرشاد والتوجيه وإحياء الشعائر الدينية وإلقاء المحاضرات .
4- استثمار فترة إقبال النفس للقيام ببعض الأعمال التي اشرنا إليها .
5- الإكثار من الدعاء والتوسل إلى الله تبارك وتعالى وطلب الفوز بالجنة والعتق من النار والتعجيل لظهور بقية الله
ص: 79
الأعظم وطلب قضاء حوائج الدنيا والآخرة له ولسائر المؤمنين .
6- اجتناب موارد الغفلة واللهو والعبث والصد عن ذكر الله تعالى كلعبة المحيبس ومتابعة التلفزيون وحضور مجالس البطالين.
فإذا علم الله تعالى منا الإخلاص ورأى حركة جماعية بهذا الاتجاه فسيرفع عنّا البلاء وسيعطينا فوق سؤلنا فإنه الكريم الرحيم الذي لا تنقص خزائنه ولا تزيده كثرة العطاء إلا جوداً وكرماً .
ص: 80
بركة الإقامة عند أمير المؤمنين (علیه السلام) في العشر الأواخر من شهر رمضان(1)
يُشبِه الأخلاقيون اثر مصاحبة الصالحين في تهذيب الأخلاق و السير نحو الكمال بالنبات المتسلق الذي إذا تُرك وحده فانه ينمو ولكن قريباً إلى الأرض لا يستطيع أن يقف قائماً ويرتفع نحو الأعلى، ولكنه إذا أُسند إلى الحائط أو أي قائم ثابت فانه يتسلق نحو الأعلى ويرتفع، هذا مثال لتأثر مريد الكمال بالأجواء الإيمانية إذا آوى إليها وكان قريباً من أهلها وان لم يسمع منهم كلمة، كما أن مطالعة سير الصالحين تؤثر في روحية الإنسان وتدله على طريق الكمال،وان لم يسمع ولم يلتقِ بصاحب الكلام في الكتاب لكنه يلتقيه روحياً من خلال هذه الكلمات فكأنما يعيش معه.
فمن نعم الله تعالى عليكم إقامتكم إلى جوار أمير المؤمنين الذي لم تنقطع رعايته لمجاوريه ولشيعته بعد استشهاده كما ورد عن النبي (صلی الله علیه و آله) في تفسير قوله تعالى: «وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» (التوبة:105) وعلي (علیه السلام) هو أمير المؤمنين فهو مطلع
ص: 81
على أعمال العباد ويدعو الله تعالى بالزيادة والقبول لحسناتهم بالمغفرة والصفح لسيئاتهم، وإن القلوب لتتلقى بحسب استعدادها من فيوضاته المباركة وهو (علیه السلام) باب مدينة علم رسول الله (صلی الله علیه و آله) .
وبذلك فقد اخترتم المكان الأفضل و الزمان الأفضل وهي العشر الأواخر من شهر رمضان، وانتم بهذا العمر المفعم بالحيوية والنقاء والقرب من الفطرة والنشاط في العمل فكثير منكم لم يبلغ العشرين أو تجاوزها بقليل، وإذا عدنا إلى مثال النبات المتسلق، فإن إسناد هذا النبات إلى ما يُقوِّم نموهويرفعه نحو الأعلى في أول تكوينه يكون أكثر إعطاء للنتائج المرجوة، مما لو حصل بعد أن نمى وكبر متشبثاً بالأرض وكثرت التواءاته وعقده.
ولا شك أنكم أحسستم وجداناً بركات هذه المجاورة لأمير المؤمنين (علیه السلام) وللعلماء والحوزة العلمية، وليس حالكم خلال هذه الأيام كحالكم قبل شهر رمضان وقبل قدومكم، ولكن عليكم أيها الأحبة أن تديموا هذا الآثار المباركة، ولا تجعلوها مرهونة بهذا الزمان وهذا المكان الشريفين، وانتم تعلمون أن قيمة الأعمال هي بمقدار آثارها المعنوية، فالصوم لا تُنال حقيقته بالامتناع عن المفطرات الظاهرية المدونة في كتب الفقه كالأكل و الشرب وان كان هذا المقدار مبرئاً للذمة، وإنما بكف النفس والجسد عّما حرّم الله تعالى وتفريغهما لطاعة الله تبارك وتعالى وإذا انضم إليهما القلب كان الحال أكمل بفضل الله تبارك وتعالى.
ص: 82
فإذا استطعنا التقدم في شهر رمضان في هذا المجال فلنحافظ عليه حتى ما بعد شهر رمضان لأنها أمور مطلوبة على الدوام، وما شهر رمضان إلا باب من أبواب اللطف الإلهي لإعانة الإنسان وإعطائه دفعة كبيرة إلى الإمام، ولطف الله تعالى مبذول على الدوام وأبوابه مفتوحة، وإذا أغلقت باب شهر رمضان بانتهائه فتح الله تبارك وتعالى بكرمه ورحمته أبواب أخرى قد تكون أوسع، وإذا رفعت موائد شهر رمضان وليلة القدر و العشر الأواخر، وحصل كلُ واحد من الناس على مقدار ما يسره الله تعالى له، فإن موائد رب شهر رمضان الكريم مستمرة، وقد يتاح للعبد الحصول منها على أفضل مما حصل عليه غيره في شهر رمضان.ولتقريب الفكرة نقول: عندما يدعو عالم عامل مخلص ناساً إلى مأدبة طعام، فإن من المدعوين من يتشرف بالتناول من مائدته ويخرج، ومنهم – وهم الخاصة – من ينتظر ما هو أفضل مما بذل على مائدة الطعام فيبقى بعد انفضاض عامة الناس ليتزود من الغذاء المعنوي ولذة مجالسة هذا العالم والأنس بلقائه والأخذ منه.
أليس غفران الذنوب من أعظم ما يطلبه المؤمنون في ليلة القدر كما نطقت به الأدعية الشريفة، فإن عندك على طول السنة سبباً للمغفرة بل أرقى من ذلك فانه سبب لتبديل تلك السيئات إلى حسنات: وهي الصلوات اليومية المفروضة في أوقاتها خصوصاً إذا صُليت جماعة في المساجد قال تعالى «وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّ-يِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ» (هود:114)، ورد
ص: 83
في تفسيرها عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال (سمعت حبيبي رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: أرجا آية في كتاب الله – ثم ذكر الآية وقال – يا علي والذي بعثني بالحق بشيراً ونذيراً إن أحدكم ليقوم إلى وضوئه فتتساقط من جوارحه الذنوب فإذا استقبل الله بقلبه ووجهه لم ينفتل وعليه من ذنوبه شيء كما ولدته أمه، فإن أصاب شيئا بين الصلاتين كان له مثل ذلك حتى عَدَ الصلوات الخمس.
ثم قال: يا علي إنما مثل الصلوات الخمس لأمتي كنهر جار على باب احدهم فما يظّنُ احدهم إذا كان في جسده درن ثم اغتسل في ذلك النهر خمس مرات أكان يبقى في جسده درن؟ فكذلك والله الصلوات الخمس لأمتي )(1).
وهكذا نُديم الآثار المباركة الأخرى، فمن استطاع أن يتجنب الغيبة شهر كاملاً احتراماً لصومه ولشهر رمضان وطلباً لرضا الله تعالى، فليأخذ شحنة إيمانية لبقية أيامه فيتجنب الغيبة دائماً، والنظر إلى ما لا يحل، وسماع ما حرمهالله تعالى، وسوء الأخلاق وسائر الأمور المذمومة الأخرى، وليستمر على ما وُفَق له في هذا الشهر كصلاة الليل وتلاوة القرآن ومساعدة الناس وزيارة الأئمة المعصومين (علیه السلام).
ص: 84
إحياء سنة الاعتكاف في العشر الأواخر من شهر رمضان(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
ورد عن المعصومين (سلام الله عليهم) حثّ أكيد على الاعتكاف في المساجد خصوصاً في العشر الأواخر من شهر رمضان ففي حديث صحيح عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا كان العشر الأواخر اعتكف في المسجد وضربت له قبة من شعر، وشمّر المئزر وطوى فراشه).
وروى الشيخ الصدوق (رضوان الله تعالى عليه) عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبائه (عليهم السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): اعتكاف عشر في شهر رمضان تعدل حجتين وعمرتين) وقد نال هذا الفضل جملة من المؤمنين هذا العام فقد اعتكف حوالي مئة وخمسين ممن شملهم الله تعالى بلطفه في مسجد الرحمن في حي المنصور ببغداد على دفعتين وقامت إدارة المسجد بجهود مشكورة في توفير الطعام والشراب وسائر الخدمات اللائقة بهم ونظمت للمعتكفين برامج منوعة من العبادات والذكر واللقاءات والمسابقات القرآنية وأحسوا بأجواء روحية لم يشهدوها من قبل وشعر البعض وكأنه في أجواء مناسك الحج في مكة المكرمة.
ص: 85
ووجّه سماحة الشيخ اليعقوبي كلمات حفاوة وثناء وتبجيل لهذه المبادرة التي يُرجى لها الدوام لإحياء القلوب وتطهير النفوس ورجوع الناس إلى الله تبارك وتعالى في زمنقاتم ملبّد بحب الدنيا والصراع على السلطة حتى انتهكت كل المقدسات.
وشكر للإدارة جهودها المخلصة في توفير كل أسباب الراحة والتفرغ للعبادة وإصرارها على المواظبة على هذه الشعيرة وإنجاحها في السنوات المقبلة بإذن الله تعالى حتى تعمّ بركاتها المجتمع كله.
وكان سماحته قد بادر إلى طبع كتاب الاعتكاف من رسالته العملية (سبل السلام) قبل شهر رمضان المبارك ليتفقّه المؤمنون بأحكام وآداب هذه الشعيرة المباركة.
وقد بعث المؤمنون الذين أحيوا هذه السنة المباركة برسالة إلى سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) نشرت في العدد (62) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 24/شوال/1428 المصادف 2007/11/5 وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
«ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ» (الحج :3)
عن داود بن الحصين، عن أبي العباس، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شهر رمضان في العشر الأولى، ثم اعتكف في الثانية في العشر الوسطى، ثم
ص: 86
اعتكف في الثالثة في العشر الأواخر، ثم لم يزل (صلى الله عليه وآله وسلم) يعتكف في العشر الأواخر.
نشكر الله تبارك وتعالى أولا ورسوله والأئمة الأطهار( صلوات الله عليه وعليهم ) لهذه النعمة العظيمة وهذه الفيوضات والألطاف الكريمة التي من بها علينا تبارك وتعالى برحمته وببركة رسوله (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرين أئمتنا وسبل نجاتنا في الدنيا والآخرة.ولا يفوتنا هنا أن نتقدم بأسمى آيات الشكر والتقدير والامتنان للمقام السامي للمرجعية الشاهدة المتمثلة بسماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) لهذه الالتفاتة العظيمة والمبادرة الكريمة –والتي عبر عنها سماحته بأنها أدخلت السرور على قلب الإمام المهدي (عجل الله فرجه)- بكل ما تحمل من آثار عظيمة وانعكاسات مهمة على واقع شعبنا الجريح وما يمر به من ماس ومحن والتي اثبت الواقع انه لا سبيل للخروج منها إلا بالهروب إلى الله عز وجل والتماس المخرج منه تبارك وتعالى ، ونسأله تعالى أن يجعل مبادرة المرجعية الشاهدة حافزاً للآخرين على الدعوة إلى الله وإقامة شعائره العظيمة التي هي من تقوى القلوب خالصةً له وحده وخالية من أي عناوين وشعارات دنيوية ضيقة .
ونتمنى عليه أدام الله بقائه أن يشمل إخواننا المؤمنين بالدعوة إلى إقامة هذه الشعيرة المباركة في كافة محافظاتنا العزيزة للتوفر على النعمة التي رزقناها وهم أن شاء الله يمتلكون من الإمكانات والمؤهلات أكثر مما نمتلك .
ص: 87
وهنا نتوجه بنية صادقة إلى إخواننا متولي المساجد والجوامع والجهات القائمة على المقامات الشريفة والمراقد الطاهرة والمساجد المشهورة بالتوجه إلى إقامة هذه السنة المباركة في مناطقهم لما فيها من خير وبركة وتقارب للنفوس وانقطاع عن الدنيا .
ولا بد أن نسجل هنا تثميننا وتقديرنا للجهود الخيرة والمساعي الكبيرة التي قامت بها مؤسسة الرحمن الإسلامية والتي سخرت كل ما تملك من إمكانيات في سبيل إنجاح هذه التجربة المباركة وكذلك نشكر جميع الإخوة المؤمنين المتبرعين اللذين لم يقصروا في توفير الكثير من الاحتياجات سائلين المولى عز وجل أن يخلف عليهم بالخير والبركة والرزق الحلال الطيب .ونهمس هنا في آذان إخواننا السياسيين عامة وكل المتصدين للعمل الاجتماعي وخصوصاً الإسلاميين منهم وندعوهم إلى ممارسة هذه الشعيرة المباركة لكي يغرفوا منها ما يعينهم على تأدية دورهم الخطير في رسم طريق النجاة لهذا الشعب المظلوم الذي ينتظر منهم الكثير ، وليخرجوا من جو السياسة والمادة الضيق إلى حيز الروح وفضاء التقرب إلى البارئ عز وجل .
وأخيراً ننتظر من ونتمنى على جميع مؤسسات المرجعية الرشيدة دعم هذه التجربة المعطاءة بكل الإمكانيات المادية والمعنوية وخصوصا في الجانب الإعلامي .
«فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ، رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ
ص: 88
الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ» (النور: 36 – 38) .
أبناء المرجعية المعتكفون في جامع الرحمن
بغداد / يوم القدر 23 من شهر الصيام / 1428 ه
ص: 89
ص: 90
ص: 91
ص: 92
ظاهرة الإفطار العلني: الأسباب والعلاج (1)
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
شهد شهر رمضان الذي فارقناه أمس ظاهرة تستحق الدراسة والتأمل، وهي كثرة المفطرين والتجاهر بالإفطار من دون رادع أو عقوبة في حالة غير مسبوقة حتى في أيام الطاغية المقبور صدام على ما قيل.
ونحن حينما نقول هذا لا نتوقع أن يكون جميع الناس ملتزمين بالدين في حياتهم «أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُاللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً» (الرعد: 31) «قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ» (الأنعام:149) «وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ» (النحل:9).
ولا نقصد الناس الذين كانوا يلتزمون بالدين تحت ضغط الجماعات الدينية وخوفاً من بطشها، لأن التزاماً مثل هذا لا يتوقع له الدوام والاستمرار.
ولا نقصد الناس المعذورين الذين لم يتمكنوا من الصيام لأسباب صحية وغيرها.
وإنما نتحدث عن أسباب هذا التراجع في الالتزام الديني. الذي يعتبر
ص: 93
تمرداً على الحكم الشرعي وعصياناً له.
فبعضهم يراه ردّة فعل على العنف والبطش الذي مارسته الجماعات المسلحة باسم الإسلام، والإسلام بريء منهم فلما ضعفت شوكتها(1) أظهر البعض رفضهم لها بترك الالتزام بالدين كما ينقل عن بعض القوات الأمنية أنها تجعل علامات انتصارها رفع مكبرات الصوت بالأغاني أثناء تجولها في الشوارع، وهم واهمون بذلك ويضرون أنفسهم ويحوّلون نعمة الله كفراً به «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ» (إبراهيم:28) إذ أن رفض الجماعات المتلبسة بالدين لا يعني رفض الدين نفسه فإن الدين كله خير ولا ذنب له إذا أساء المتلبسون به.
وبعضهم يرجع سبب الظاهرة إلى فشل الأحزاب الحاكمة والتي تصف نفسها بالإسلامية لكن سوء استخدامها للسلطة والجفاء الذي تعاملت به مع الشعب أوجب نفور بعض الناسمن الواجهات التي تدعي الإسلام وسرى هذا النفور عند البعض إلى المرجعية الدينية وتحول داخل نفوسهم إلى سلوك معاكس بإظهار التمرد على الأحكام الشرعية كتعبير عن التمرد على تلك الواجهات، وهذا الفريق يضر نفسه قبل أن
ص: 94
يضر الآخرين لأن تلك الجهات إذا تسلقت باسم الدين لتحقيق مغانم شخصية كما وصفهم الإمام الحسين (عليه السلام): (الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قلّ الديّانون) فهذا لا يكون مبرراً لمخالفة الدين والخروج عن تعاليمه وهو الطريق إلى سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، ولا يجد الخير في مخالفته «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فإن لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى» (طه:124-126) «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ» (الزخرف:36-37).
وقد وصف أمير المؤمنين أمثال هؤلاء بأنهم (كالطاعن نفسه ليقتل رِدفه) وهو يطعن نفسه ويسبب لها الهلاك ليصل إلى ردفه الذي يريد قتله ولعله لا يحقق ذلك. والمعالجة الصحيحة لهذه المشكلة بعدم انتخاب مرشحي تلك الجهات الظالمة وعدم تمكينهم مرة أخرى من التسلط على رقاب وثروات الشعب.
وأفطر البعض معتذرين بعدم وجود ما يعينهم على القيام بهذه الطاعة الكريمة فالصائم يحتاج إلى تغذية وإلى ظروف مريحة وهو ما افتقدوه حيث لا يجدون التيار الكهربائي ليستريحوا قليلاً ولا الماء ليغتسلوا ويتبرّدوا ولا فرصة العمل ليوفّروا الغذاء المناسب فأصبح الصوم شاقاً
ص: 95
بالنسبة لهمخصوصاً في أوائل الشهر حيث كان الحرّ شديداً جداً. وهذا السبب مرتبط بضعف الأداء الحكومي والفساد المستشري وذكرنا رد الفعل الصحيح.
الخطاب الديني وتأثير الإعلام المعاصر(1):
ويضاف إلى هذه الأسباب جميعاً عدم ارتقاء مستوى التبليغ والتوعية بأمور الدين إلى ما يناسب التحديات المتصاعدة والقوية والمنوعة لا من حيث الخطاب ولا من حيث الآليات ولا من حيث القدرات الذاتية والمؤسساتية.
وهذا الكلام ليس موجّهاً إلى الحوزة العلمية فقط بل إلى كل المؤمنين خصوصاً الشباب الرساليين، لأن وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شاملة للجميع، ولقد كان الخطاب الديني –بغض النظر عن مستواه- هو المصدر الأساسي لثقافة الناس والمؤثر في توجيههم بلا منافسة تذكر من أحد وكانت المساجد والمنابر والكتب والاستفتاءات هي القنوات التي يستقي منها الناس معارفهم وهي كلها منافذ تطل منها الحوزة العلمية على الأمة، لذا لم تكن صناعة الرأي العام تحتاج إلا إلى سطر واحد بل نصف سطر لخلق موقف موحد تجاه قضية معينة كتحريم السيد الشيرازي لاستعمال التبغ في نهاية القرن التاسع عشر أو فتوى
ص: 96
الشيخ الشيرازي بوجوب الجهاد ضد الاحتلال الإنكليزي في ثورة العشرين أو فتوى المرجعية بوجوب المشاركة في الانتخابات عام 2005 لبناء عملية سياسية صحيحة في العراق.
أما اليوم فقد تنوعت مصادر الثقافة المؤثرة على صناعة الرأي فأصبحت الفضائيات وشبكة الإنترنت والمجلاتونحوها من وسائل الإعلام تنافس الخطاب الديني وتزاحمه وتحاول القضم من مساحة تأثيره. مما يوجب على الحوزة العلمية وجميع أبناء الحركة الإسلامية أن يحدّثوا في خطابهم وآليات عملهم ليحافظوا على قوة تأثيرهم لهداية الناس وإرشادهم إلى ما يصلحهم في دنياهم وآخرتهم «إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصلاح مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا باللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» (هود: 88).
وأذكر مثالين لتنويع الآليات للإشادة بهما:
1- المسرح الجوّال: حيث قام نخبة من العاملين بإنشاء مسرح ينقلونه من مكان لآخر يعرضون من خلاله مسرحيات تصوّر السيرة العطرة لأهل البيت (سلام الله عليهم أجمعين) وأخرى تجسد الأخلاق الفاضلة أو تحذّر من حالة سيئة وتبيّن آثارها الخطيرة بأساليب قصصية جذّابة مما يؤثر في تلقي وقبول المشاهدين أكثر من التأثّر بسماعها في المحاضرات، وتنشر الأعمال الناجحة منها على الجمهور
ص: 97
من خلال الأقراص، وقد بلغني الرواج الذي لاقاه قرص «رَبّ ارجِعُونِ».
2- قدّم أحد الفضلاء في مدينة العمارة مقترحاً بتنظيم درس فقهي لرؤساء العشائر يشرح فيها المسائل الابتلائية التي يتعرضون لها من خلال إدارتهم لشؤون عشائرهم كالفصل والنهوة وغيرها، وشجّعته على المشروع، وأن تعقد الدروس في مضايف رؤساء العشائر أنفسهم تكريماً لهم وإعزازاً لشأنهم بشكل دوري وتُعرض فتاوى جميع العلماء الذين يرجع إليهم هؤلاء الرؤساء1- بالتقليد فلاقت الفكرة استحساناً وتأييداً لدى أكثرهم واستمرت الدروس طيلة شهر رمضان المبارك بهمّة ورغبة مما شجّع غيرهم على الانضمام إليها وطالبوا بمواصلة هذه الدروس لما وجدوا فيها من النفع والعزة والكرامة.
وأنا أحيي من هذا المنبر كل الذين ساهموا في إنجاح هذه المشاريع المباركة، وغيرها مما لم أذكر وهي لا تقل إبداعاً وهمّة عن هذين المشروعين.
أيها الأحبة:
روى أبو الصلت الهروي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: (رحم الله عبداً أحيى أمرنا، قلت: كيف يحيي أمركم؟ قال: يتعلم
ص: 98
علومنا، ويعلمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا)(1).
فما علينا إلا أن نحسن كيفية إيصال صوت الحق والهداية والصلاح إلى الناس، ونشعرهم بالحاجة إلينا، فما داموا مستغنين عنّا ولا يحتاجوننا فإنهم يعرضون عنّا ولا يلتفتون إلينا، ومتى يحتاجون إلينا؟ عندما يجدون عندنا ما لا يجدونه عند غيرنا، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (أحسِنْ إلى من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره) وهما معنيان متقابلان فالحاجة إليك هي أن يجد عندك القدرة على الإحسان إليه عندئذٍ ستصلح أن تكون إماماً وأميراً له. فعلى المبلّغ الرسالي أن يوفّر للناس ما يحتاجونه ولا يجدونه عند غيره من العلم والمعرفة وفضائل الأخلاق والسير على نهج أهل البيت (سلام الله عليهم)، لاحظ مثلاً أن خطيباً يرتقي المنبر ويدخل في مهاترات سياسية وتصفية حسابات شخصية أو حزبية مع آخرين، وآخر يتحدثفي الموعظة ونشر أحكام الدين ويجعل بعض الأحداث السياسية شواهد وموارد لأخذ العظة والعبرة، فإن الناس لا تتفاعل مع الأول لأن هذا الكلام تجده مبذولاً ومملولاً لكثرة السياسيين الذين يتعاطونه، أما الثاني فيصغون إليه لأنهم يحصلون منه على شيء لا يجدونه عند غيره وهو الفقه والموعظة والأخلاق والعقائد ونحوها.
ص: 99
وصايا لإنجاح العمل الرسالي(1):
ولكي تنجح في عملك الرسالي فإليك جملة وصاياً مضافاً إلى ما سبق:
* حبب نفسك إلى الناس بالكلمة الطيبة والمواقف النبيلة وشاركهم في أفراحهم وأحزانهم واهتم بما يهتمون به لا فرق بين صغير أو كبير، غني أو فقير، وجيه معرّف أم مجهول من عامة الناس، واسعَ في قضاء حوائجهم بمقدار ما تستطيع، وإن لم تستطع فتعاطف معه وتفاعل مع قضيته.
* وتنزّه عما في أيدي الناس واستغنِ عنهم ولا تنتظر منهم جزاءً ولا شكوراً.
* وترفّع عن التحزب والتعنصر لجهة سياسية أو دينية أو عشائرية أو اجتماعية.
* وادعُ إلى الحق والعدل، واجعل هدفك رضا الله تبارك وتعالى.
* والاهتداء بسنة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله الأطهار (عليهم السلام).
ص: 100
ص: 101
ص: 102
بسم الله الرحمن الرحيم
خلق الله تبارك وتعالى الإنسان وجعل فيه نوازع الخير والشر ليبتليه ويختبره «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً» (هود:7) ليدخل الجنة من يدخلها وهو لها أهل، ويدخل النار من يدخلها وهو لها أهل «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ»(الأنفال:42).وجميع ذلك لمصلحته وسعادته وحسن تدبير أمره، فالعقل يدعو إلى الخير وعبادة الرحمن كما في الحديث (العقل ما عُبد به الرحمن)، والنفس التي هي مجموع الغرائز والشهوات تدعو إلى إشباع هذه الشهوات حتى من الحرام «إنَّ النَّفْسَ لأََمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلا ما رَحِمَ رَبِّي» (يوسف:53)، والإنسان ضعيف وجهول وعجول وظلوم وكفار وكنود وفي خسر ومغرور….. إلى غيرها من الأوصاف التي ترديه وتهويه في جهنم.
لكن الله تبارك وتعالى ما خلق الإنسان للنار بل خلقه للجنة أي أن الأصل في هدفه ونتيجته أن يدخل الجنة لذا لم يسأل أهل الجنة لم
ص: 103
دخلتم الجنة؟، لأن فعلهم على القاعدة ولكن سأل أهل النار ما (سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)
فمن رحمته وعلمه تبارك وتعالى إن تقييم عمل الإنسان الحسنة بحسنة والسيئة بالسيئة «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ» (الزلزلة :8) لا ينجو معه أحد، لذا ورد في الدعاء أن الله تعالى إذا عاملنا بعدله هلكنا فعاملنا بفضله وكرمه وكتب الحسنة بعشرة والسيئة بواحدة.
بل ورد في بعض الروايات الشريفة أن العبد إذا هم بحسنة ولم يفعلها كتبت له وإن فعلها كتبت بعشرة وإن هم بسيئة لم تكتب عليه وإن فعلها أمهل لعله يستغفر
«إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» (النساء:17) فإذا لم يستغفر كتبت عليه بواحدة.بل جعل الحسنة بسبعمائة ضعف والله يضاعف لمن يشاء أزيد من ذلك «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» (البقرة:261).
ص: 104
أما السيئات فقد جعل لها باب التوبة والاستغفار مفتوحاً فإذا دخله صادقاً مخلصاً عازماً على عدم العود محا الله عنه سيئاته وأنسى جميع الشهود عليه فقال تعالى «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» (الأنفال:33).
وجعل اجتناب الذنوب الكبيرة كفارة السيئات الأقل منها «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً» (النساء:31) وجعل فعل الحسنات كفّارة للسيئات «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ» (هود:114).
هذه فكرة إجمالية على التجارة المربحة مع الله تعالى التي تستحق أن يجد الإنسان ويجتهد ويكدح حتى يفوز بأكبر ربح منها «يا أَيُّهَا الإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ» (الانشقاق:6).
ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل جعل الله تعالى أزمنة شريفة وأمكنة مباركة تضاعف فيها الحسنات أضعافاً أخرى تصل إلى سبعين مرة إضافة إلى مضاعفاتها السابقة، كل ذلك لكي ينال الإنسان أكبر قدر من رحمة الله وعطائه الواسع، ومن تلك الأزمنة شهر رمضان شهر الله حيث يستضيف الله عباده ويكرمهم بما يليق به من عطاء وبذل وقد بيّنت خطبة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في آخر جمعة من شعبان بعض هذا العطاء.
ص: 105
أفبعد كل ذلك تجد عاقلاً يفرط بهذا الشهر الكريم المعطاء ولا يستغل ساعاته بهذه التجارة المربحة ؟ فماذا سيكون شعوره والوقت يمر عليه، حتى إذا بلغ النهاية ووجد ما ضيع من عمره من دون ثمرة ؟
أي حسرة وأي ندامة وهو يرى الفائزين الذين لم يستسلموا للغفلة والضياع والعبث واللهو، بل جدوا واجتهدوا وكان يمكنه أن يكون مثلهم وفي درجتهم لو لم يضيع وقته فيبدأ يلوم نفسه ويشرح أسباب خسرانه معترفاً «وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ» (المدثر:45) ولا ينفعه الندم حينئذ.
وهذه الحقائق واضحة بينها الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم وأكدها المعصومون (عليهم السلام) فلماذا الغفلة عنها ؟ ولماذا لا نتخوف (قارعة حتى تحل بنا) إلا يكفينا أخبار الصادقين وإجماعهم على هذه الحقيقة وهل نملك حياة ثانية حتى نصحح فيها أخطائنا التي نرتكبها في حياتنا الدنيا ؟
إنما هي حياة واحدة فلا بد أن نفكر في عاقبة أمرنا باستمرار ولا نغفل عنها، فأن الغفلة مفتاح الضياع والتشتت والابتعاد عن المسار الصحيح والصراط المستقيم.
ص: 106
تخيل يا عزيزي وأنت تشيع جنازة أنك أنت المحمول فيها، أو تسمع بوفاة أحد فتصور أنت هو، فأن الموت لا يعرف صغيراً ولا كبيراً، وتصور أن الله تعالى أعاد عليك الروح وأحال الموت إلى ذلك الغير استجابة لدعائك الذي ينقلهالقرآن عن الإنسان «حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» (المؤمنون:100) وها هو ربك الكريم قد أعادك إلى الدنيا وأبقاك فيها ومنحك فرصة جديدة للعمل ليرى صدقك في هذا الطلب وإخلاصك في هذا الدعاء، فهل الجواب أن يعود الإنسان إلى نفس حياته السابقة بما تتضمنه من معاصي وغفلة وتمرد وإعراض وخوض في الأمور التافهة وإلهاء عن الوصول إلى الهدف العظيم؟ ونفس إبقاء الشخص حياً حتى حلول شهر رمضان هو إعطائه فرصة كبيرة للنجاح ولتجاوز الفشل السابق لما يتضمنه هذا الشهر من رحمة واسعة وفضل عميم وعطاء عظيم «وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ» (المطففين:26).
وقد سأل أمير المؤمنين (عليه السلام) رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أفضل أعمال هذا الشهر، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) (الورع عن محارم الله) وتجنب كل ما يوجب سخط الله على العبد
ص: 107
ويفتح عليه أبواب الشيطان، فالأساس والبناء التحتي لأي كمال هو تطهير القلب من الرذائل والمعاصي حتى يكون مستعداً وقابلاً للعطاء الإلهي الذي لا حدود له، إلا ترى الأرض الزراعية قبل نشر البذر فيها لابد من حرثها وتنقيتها وتطهيرها من الأوساخ، فكذلك النفس قبل سقيها بماء المعرفة والكمال لابد من تطهيرها وتجنيبها ما يعيق هذا الحرث الإلهي العظيم.
بعد هذه المقدمة التي أرجو أن تكون واضحة إلا تعجب معي لما جرت عليه العادة عند الناس من بعض التصرفات المنحرفة المنافية للحقائق المتقدمة !!، لذا رأيت من واجبي التنبيه لها عسى أن تكون ذكرى وموعظة «وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ» (الذاريات:55).
ومن هذه التصرفات :
أولاً : ما تسمى بلعبة (المحيبس) التي لا نراها إلا في شهر رمضان وفي لياليه خاصة التي أعدت لنيل ذلك الكمال المنشود، وليتدارك الإنسان فيها ما فاته نيله خلال عام، فترى الناس بمن فيهم من كان صائماً في النهار يمضون ساعات عمرهم الثمينة في هذا اللهو الباطل الذي أبتدعه الشيطان وجنوده من الأنس والجن ليصدوا عباد الله عن طاعته وعن استثمار الوقت في أعمار الحياة بما هو نافع، وقد أزداد أمر هذه اللعبة سواءً حينما بدأت تستقطب عدداً كبيراً وتنظم لها المباريات
ص: 108
والمسابقات ويحضرها جمهور كثير وتستمر حتى الفجر وبعده، فيا لسوء حظ هؤلاء الضائعين التائهين الذين لا يعلمون ماذا يراد بهم.
وليت الشيطان يقف بهم عند هذا الحد «وَ يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً» (آل عمران:30) بل أركسهم في معاصي أخرى من خلال هذه اللعبة :-
(أولها) عزف الألحان الموسيقية وإنشاد الأغاني لتلطيف الجو ؟! أو فرحاً بالفوز ؟! ونحوها من تسويلات الشيطان.(ثانيها) الرهن والجوائز للفائزين وهو سحت محرم يملأ بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً.
(ثالثها) ما تفرضه المنافسات من مخاشنات وشحناء وبغضاء وكلمات نابية وربما كفر بالله العظيم، كالذي يحصل على مدرجات ملاعب الكرة وغيرها، وهذه كلها محرمات وهي نفسها التي جعلها الله تبارك وتعالى من أسباب تحريم الخمر والقمار «إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» (المائدة:91).
(رابعها) السفر إلى مدن أخرى، ويضاف إليه غير ما ذكرنا في النقاط الأولى أنه سفر معصية فيوجب تمام الصلاة.
ص: 109
(خامسها) أنهم لا يتورعون عن ممارستها حتى في الليالي الشريفة التي يحتمل أنها ليلة القدر، وفي ذكرى استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) مما يوجب انتهاك حرمة هذه المناسبات المقدسة.
ثانياً: ما تعارف عندهم تسميته ب- (الماجينة) وخصوصاً عند الأطفال.
ويرافق لعبة الماجينة غناء وضرب بالآلات الموسيقية، ولا يكتفون هم بممارسة هذا العمل المحرم بل يسمعون الآخرين وبأصوات مرتفعة ويدخلون عليهم الأذى والضرر وهذا محرم آخر.
كما أنهم يلحون على تحصيل العطاء من الناس فقد يدفع إليهم مكرهاً من غير رضا للتخلص من إزعاجهم فيكون التصرف به حراماً.كما أنهم حينما يدخلون البيوت يدخلونها بدون إذن صاحبها الشرعي وفيه مخالفة لقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (نور: 27).
هذا وقد يكون هناك تسامح وتساهل حاصل في الحجاب من جهة العوائل حسبما تقتضيه المناسبة (المفرحة) ويزداد الإنسان وبالاً على
ص: 110
وبال وشراً على شر والعياذ بالله تعالى، فهل مسؤوليتنا تقتضي أن نربي أطفالنا على هذا النمط من الانحراف والفساد والانحلال، ومن الغريب أن يسعى ولي الأمر بنفسه ليشتري آلات العزف إلى طفله، فيحضر له الآلة التي يقتله بها معنوياً ويجني بها عليه.
ثالثاً : بعد الإفطار ولأجل الترويح عن النفس وقضاء الوقت بلا هدف يتجمع الشباب والشابات في الأماكن البارزة من المدينة أو الشوارع الرئيسية، ففي النجف في مشهد أمير المؤمنين عليه السلام، وفي كربلاء عند حضرتي الإمام الحسين (عليه السلام) وأخيه العباس (عليه السلام) وبينهما، وهكذا.
يحصل اختلاط غير شريف وضحكات مثيرة ومواعيد وكلمات ونظرات خائنة ولا أدري إن كان يتطور الأمر إلى أزيد من ذلك في هذا الشهر المبارك وفي هذه الأمكنة الشريفة تنتهك الحرمات وترتكب المعاصي ؟ وقد علمت من خطبة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (أن أفضل أعمال هذا الشهر الورع عن محارم الله) ومن العجيب أن يحصل هذا بلا رادع ولا مستنكر ؟ ولا أحد من أولياء الأمور يحاسب أو يتابع والله تعالى يقول «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما
ص: 111
يُؤْمَرُونَ» (التحريم:6) وقد تتضمن هذه (الزيارة) تناول الأطعمة والكرزات وأمور أخرى بشكل مثير للفتنة ويدعو إلى الفساد والانحراف.
الجهل بالمسائل الإبتلائية:
رابعاً : ومما ينبغي الالتفات إليه ضرورة التفقه بالمسائل التي يكثر التعرض لها، أي ما تسمى (بالمسائل الابتلائية)، فقد اطلعنا على حالات كثيرة من المخالفات الشرعية لا يعذر فيها الجاهل، فقد ورد في تفسير قوله تعالى «قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ» (الأنعام:149) أن الإنسان يوقف للحساب على تقصيره وتمرده، فيقال له : لِمَ لمْ تفعل ؟ فيقول : لم أكن أعلم !! فيقال له : هلا تعلمت !! فتنقطع حجة العبد أمام خالقه العظيم.
وقد أشرنا في أكثر من مناسبة إلى وجوب تعلم المسائل الضرورية في حياة المكلف، وقد حث الأئمة (عليهم السلام)على ذلك إلى درجة أن الإمام (عليه السلام) يود أن السياط على رؤوس أصحابه حتى يدفعهم إلى التفقه في الدين، ويتأفف الإمام (عليه السلام) من الرجل الذي لا يفرّغ نفسه ولو كل أسبوع ساعة يكرسها للتفقه في الدين.
وتزداد الحجة على أبناء مجتمعنا الذين هم في وسط الفقه والعلوم الدينية وقريبون من مركز الإشعاع الفكري الإسلامية – أعني الحوزة العلمية الشريفة والمرجعية الرشيدة – ومع كل ذلك يقع الناس في مخالفات شرعية تحملهم الكثير، فمن تلك المخالفات – لمجرد التنبيه:
ص: 112
أ- بعض الآباء والأمهات يمنعون أولادهم من الصيام شفقة عليهم ويزعمون أنهم ما زالوا أطفالاً رغم أنهم بلغوا السن الشرعي للتكليف وتحمل المسؤولية أمام الله تبارك وتعالى وهو في الأنثى إكمال تسع سنين قمرية وفي الذكر الاحتلام أو بلوغ خمس عشرة سنة هلالية، بل أن الاستحباب الشرعي هو تمرينهم على العبادات قبل هذا السن ليكون التزامهم بها ملكة نفسية راسخة مع ما تضفيه على سلوكهم وأفكارهم ونظرتهم إلى الحياة من آثار إيجابية.
فهذه الشفقة الزائدة التي تمنع من طاعة الله تبارك وتعالى مذمومة، وهم ليسوا أرحم من الله تعالى بعباده، نعم لو كان هؤلاء الأولاد بحال لا يمكنهم من الصيام فليفطروا ويكونون بذلك معذورين.
ب- شخص يريد أن يسافر فيتناول طعام الفطور في بيته باعتبار أنه عازم على السفر، وهذا مفطر متعمد عليه قضاء ذلك اليوم مع الكفارة الكبيرة – أي عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً - لأن تناول المفطر غير جائز إلا بعد أن يشرع في السفر ويتجاوز المسافة المسماة بحد الترخص –وهو المكان الذي يختفي فيه شخص المسافر عن الناظر الواقف في آخر المدينة- وعندها يحل له تناول المفطر.
ص: 113
ت- وبعض آخر يصوم في السفر بحجة أن وسائط النقل أصبحت مريحة والصوم ممكن، ويستدلون بآيات قرآنية أو أحاديث شريفة وهم ليسوا من أهل الاختصاص، فهل يجوز لفرد أن يصدر حكماً في مسألة طبية أو هندسية لمجرد أنه قرأها في كتاب إذا لم يكن من أهل الاختصاصأ- أن مثل هؤلاء الذين يصومون في السفر سماهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حياته بالعصاة، عندما أمرهم بالإفطار فعصوه فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) (أولئك هم العصاة) وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) (ليس من البر الصوم في السفر) .
وتوجد مسائل كثيرة حول المفطرات وأحكام الصوم وكيفية ووقت النية ومدخلية السفر والحضر فيه، وموارد القضاء أو الكفارة أو الفدية ونحوها مما لا مجال لذكرها الآن. لذا فأن كل مسلم ملزم أن يتهيأ لاستقبال شهر رمضان بالحضور في دروس فقهية لتعلم مسائل الصوم، بل سائر التكاليف الأخرى من عبادات ومعاملات.
خامساً: تنتشر في شهر رمضان ما يسمى ب- (مطعم المفاطير) وهو عنوان قبيح وقد لا تلتفت إلى قبحه ولكن أعطيك منبهاً على ذلك، فأن قبحه بمقدار حسن ما يقابله من صفة مضادة وهو قولنا (مطعم الصائمين)، وهذا الأسلوب في فهم المعاني قد استفدته من سيدنا الأستاذ قدس سره فقد حضرت له درساً أخلاقياً في شرح زيارة (أمين الله) المعروفة، حتى وصل إلى الدعاء (اللهم اجعل نفسي مطمئنة بقدرك
ص: 114
راضية بقضائك مولعة بذكرك ودعائك محبة لصفوة أوليائك ...) قال قدس سره : (إذا أردت أن تعرف عظمة هذه الحاجات المطلوبة فتصور أضدادها، لو حصلت فيك كيف سيكون حالك، فلو كنت ساخطاً على قضاء الله محباً لأعدائه مبغضاً لأوليائه مكروهاً في أرضه وسمائه فما هي قيمتكعندئذ !!) وكانت التفاتة مهمة اقشعرت لها الأبدان وارتجفت لها القلوب.
ومحل الشاهد هو هل أن وجود هذه الظاهرة صحيح _ ظاهرة وجود مطاعم مفتوحة في النهار وتقدم أشهى المأكولات ورائحة الشواء تملأ الأنوف وتحفز البطون الجائعة – ولكنها بفضل الله لا تهز القلوب المؤمنة المطمئنة المسرورة بطاعة الله تبارك وتعالى.
أقول : إن هذه الظاهرة مرفوضة تماماً ولا مسوغ لها ولا يقلل من قبحها وضع ستار على أبواب المطعم، أن هذا يسمى (ضحكاً على الذقون).
وإن قلتَ : تفتح للمعذورين عن الصيام كالمسافر ونحوه.
قلتُ : لا يتطلب هذا الأمر الانتهاك الصارخ لحرمة شهر رمضان وشعائره المقدسة، فمن الممكن للمسافر أن يسد حاجته برغيف من الخبز وبعض الفاكهة والخضروات ويتناولها في مكان بعيد عن الأنظار، وخصوصاً وأنه ورد كراهية التملي من الطعام للمفطر بعذر فهذه دراهم مشؤومة التي يكتسبها صاحب المطعم، وأنا أعلم أنهم يتسابقون ويدفعون الأموال للحصول على امتياز فتح (مطعم المفاطير)، فبئس ما
ص: 115
يفعلون أن سخط الله عليهم وأن الله قد كفل لعباده الرزق، وفي الحديث أن كل نفس لا تخرج من الدنيا حتى تستوفي رزقها، فلماذا يطلبها من الحرام وتكون وبالاً عليه في قبره ويوم القيامة.
وليعلم هؤلاء أن فتح هذه المطاعم حرام؛ لما فيه من تجاهر بالإفطار ومعونة مباشرة على الإثم، والعمل فيها حرام، وأخذ الأجرة سحت محرم، وبذل الأموال لتحصيل إجازة فتحها حرام، وتجب مقاطعتها من قبل المعذورين عنالصيام، ووعظ أصحابها وإرشادهم وتوجيههم بالحكمة والموعظة الحسنة.
سادساً: ورد في الحديث الشريف أنه لا تجعل يوم صومك كيوم إفطارك، وهذا ما لا يلتزم به الكثيرون، فلسانه يخوض في الغيبة والكذب واللغو والنميمة وعينه تتصيد أعراض الناس بنظرات خائنة، ومعاملاته في السوق ليست نظيفة، وغير ذلك مما يجب اجتنابه في سائر أيام السنة وتزداد الرقابة على النفس في هذا الشهر المبارك، فقد ورد في خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في آخر جمعة من شعبان أن أمير المؤمنين (عليه السلام) سأله : (ما أفضل الأعمال في هذا الشهر يا رسول الله؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (الورع عن محارم الله) فهذه كلها مفطرات معنوية، أي أنها تحبط الأجر وتنقص درجات الصائم، وفي الحديث : (كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش) وهذا مما يؤسف له أن يضيع الإنسان هذه الفرصة العظيمة.
ص: 116
سابعاً: اعتادت كثير من العوائل أن تتفنن في صنوف الطعام عند الإفطار مما يصل إلى حد الإسراف والتبذير، وهو مما لا داعي له بل هو مرجوح شرعاً بالتأكيد ويفرغ الصوم من محتواه، وقد علمت أن بعض الذين يصومون يزداد وزنهم في شهر رمضان !!
فأين هي ثمرة الصوم إذن !! وما الذي حصل عليه من ثمرات إيجابية على الصعيدين النفسي والاجتماعي !!،وماضره لو رفع واحداً من هذه الأصناف وتصدق بقيمتها على فقير قد لا يجد أداماً يطعمه مع الخبز !!
فأين المساواة التي هي من أهم ثمرات الصوم ؟ نعم نحن لا نستطيع أن نكون كأمير المؤمنين (عليه السلام) الذي قدمت له أبنته إفطاره وكان قرص خبز من الشعير وشيء من الملح واللبن، فنظر إلى أبنته بعتاب وقال : (أتريدين أن يطول موقف أبيك بين يدي الله تبارك وتعالى، فتجمعين إدامين في طبق واحد – والإدامان هما الملح واللبن – ارفعي أحدهما، فأرادت أن ترفع الملح فأمرها برفع اللبن)، فإن كنا لا نستطيع أن نكون مثله كما قال (عليه السلام) (إنكم لا تقدرون أن تصيروا مثلي فأعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد).
ثامناً: ومما يؤسف له كثيراً ويؤلم قلب كل متدين غيور اجتماع العوائل في ليالي رمضان حول الشاشة الصغيرة –كما يسمون جهاز التلفزيون- ليشاهدوا برامجه التي تكون غالباً معادية لله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولأمير المؤمنين (عليه السلام) ولصاحب الزمان
ص: 117
(عليه السلام) المصلح المدخر لليوم الموعود، ومما يزيد الألم أن البرامج والمسلسلات المعدة لخصوص شهر رمضان تكون أكثر مجوناً وخلاعة وفسقاً وفجوراً، وكأن طاعة الله تبارك وتعالى مقتصرة على نهار الصوم فقط أما الليل فيطلق سراح العباد ليفعلوا ما يشاءون، بل قل ليقودهم الشيطان إلى أسفل درك في الجحيم بلا نكير من أحد ولا رادع من دين ولا وازع أخلاقي؟ فأين الدفعة الإيمانية التي يحصل عليها الصائم في نهاره ؟ ولماذا يفرط في ما حصل عليه من خير ويخسره باتباع نفسه الأمارة بالسوء؟ألم يعلموا أن ليالي شهر رمضان قد أعدت للعبادة والذكر وعقد الندوات والمحاضرات الدينية والثقافية والفكرية واللقاءات الاجتماعية وزيارة الأقرباء والأصدقاء ؟ فلماذا يسلبهم الشيطان عقولهم ؟ ألم يبلغهم قول الأمام المهدي المنتظر أرواحنا له الفداء الذي نقله بعض من أتصل به (أن التلفزيون سيف مشهور في وجهي)، فهل يليق بشيعته المنتظرين بشوق إلى طلعته البهية أن يحملوا السيف في وجهه ؟!
أن ممارسة هذه الظواهر المنحرفة وغيرها مما لم أذكره في أي وقت وخصوصاً في شهر رمضان مما يحز في القلب وأن وقعه أليم شديد على قلب الأمام المنتظر (أرواحنا له الفداء) الذي ندعو له بتعجيل الفرج ونحن نحاربه بهذه المعاصي.
لذا أدعو أبناء المجتمع المسلم الطيب الحريص على نيل رضا الله تبارك وتعالى والفوز بجنانه والنجاة من عذابه أن يقفوا وقفة شجاعة
ص: 118
حازمة في وجه هذه المنكرات ومقاطعة من يمارسها وزجره وتوبيخه أن لم ينفع معه النصح والإرشاد والتوجيه.
ولا بد أن نلفت الأنظار إلى بعض البدائل الإيجابية ليقضي الإنسان وقته بما هو مثمر ونافع وممتع، ولا ينحصر البديل بالازدياد من الطاعات كالصلوات والدعاء وتلاوة القرآن والذكر وقد حفلت كتب الأدعية والسنن بالكثير مما يستوعب الوقت لكن لما كان يمكن تسخير كل شيء في طاعة الله تبارك وتعالى ونيل رضاه لذا يمكن تصور أعمال أخرى منها:
1-تبادل الزيارات مع الأقرباء وعموم المؤمنين لما في صلة الرحم والتزاور والمودة ولقاء المؤمنين من الأجر الجزيل.
2-الحضور إلى الشعائر الدينية كالمجالس الحسينية وحلقات الذكر والدعاء وتلاوة القرآن واستماع المحاضرات والندوات الثقافية سواء كانت عامة (أي في المساجد ونحوها) أو خاصة كالتي تعقد في البيوت.
3-عقد المسابقات الدينية والثقافية والفكرية وأعداد الجوائز المادية والمعنوية للفائزين ولو داخل العائلة الواحدة.
4-طرح المشاكل الاجتماعية والتحديات الفكرية وتحليل أسبابها والتفكير في علاجها من جميع النواحي حيث تعرض
ص: 119
مشكلة ما ثم يشارك الجميع في طرح أفكارهم، وتدون كل تلك الأفكار وسيجتمع في النتيجة كتاب ضخم في حلول المشاكل الاجتماعية كخطوة أولى لعلاجها .
5-زيارة العتبات المقدسة خصوصاً في الأزمنة الشريفة.
6-مطالعة الكتب والنشرات المفيدة والاستزادة من العلم والمعرفة خصوصاً محل الحاجة كالمسائل الفقهية التي يتعرض لها في العبادات والمعاملات وكتب الأخلاق والتأريخ وسير أهل البيت (عليهم السلام).
7-المواظبة على صلوات الجماعة في الأوقات جميعاً (الفجر والظهر والمغرب).
وأؤكد هنا أن هذا بعض ما يمكن أن يستثمر به شهر رمضان وغيره، لأن العمر كله فرصة للازدياد من الطاعات والفوز بالدرجات الرفيعة وأن تضييع أي ساعة بل أي دقيقة يوجب الحسرة والندامة؛ لذا كان من أسماء يوم القيامة أنه (يوم التغابن) لأن الجميع يشعر بالغبن حتى المؤمنين في الجنان لأنه كان يستطيع أن ينال درجة أعلى مما هو فيها لوكان جدياً في حياته أكثر فماذا سيكون حال الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأموالهم وأوقاتهم فلم يستثمروها بل وملئوها بما يكون وبالاً عليهم.
أسأل الله تبارك وتعالى ونحن نستقبل هذا الشهر المبارك أن يعدنا أعداداً كاملاً لطاعته ولبلوغ غاية رضاه وأن يجنبنا مرديات الهوى أنه نعم المولى ونعم النصير وهو أرحم الراحمين.
ص: 120