الاسوة الحسنة للقادة والمصلحين

هویة الکتاب

الأُسوَةُ الحَسَنَةُ لِلقَادَةِ وَالمُصلِحِين

سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الوارف)

مؤسسة الرافد للمطبوعات

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

الأُسوَةُ الحَسَنَةُ لِلقَادَةِ وَالمُصلِحِين

ص: 3

الأُسوَةُ الحَسَنَةُ لِلقَادَةِ وَالمُصلِحِين

سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الوارف)

الطبعة الأولی لمؤسسة الرافد للمطبوعات

*جمیع الحقوق مسجلة ومحفوظة*

ص: 4

المدخل

بسم الله الرحمن الرحيم

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً)

(الأحزاب: 21)

هذه مجموعة محاضرات القيت على فضلاء واساتذة الحوزة العلمية في النجف الأشرف في مسجد الرأس الشريف المحاذي لمرقد امير المؤمنين (عليه السلام) وجامعة الصدر الدينية في مناسبات عديدة بين عامي 1423-1421 هجرية المصادف 2002/2000 ميلادية وأعيد تسجيلها سنة 1426 ه - / 2005 ميلادية لقناة الانوار الفضائية مع تغييرات طفيفة.

ص: 5

ص: 6

حاجتنا إلى الأسوة الحسنة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما هو أهله، والصلاة والسلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، السلام على خيرة الله، السلام على البشير النذير السراج المنير ورحمة الله وبركاته، السلام على الطهر الطاهر، السلام على العلم الزاهر، السلام على المنصور المؤيد، السلام على ابي القاسم محمد، ورحمة الله وبركاته؛ السلام على أنبياء الله المرسلين وعباد الله الصالحين، السلام على ملائكة الله الحافِّين بهذا الحرم وبهذا الضريح، اللائذين به.

مقومات نجاح رسالة الاسلام

قلنا في مناسبة سابقة(1): إن أي رسالة إصلاحية ومنها رسالة الإسلام، لا بد لها، لكي تنجح في بناء أمة، من شكلين من المقومات سميناها الذاتية والموضوعية، وقلنا إن الذاتية منها على دعامتين:

الأولى: ما يرجع إلى ذات الرسالة، أعني شريعة الإسلام التي توفرت فيها كل عناصر الكمال من الإستيعاب لكل شيء (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ

ص: 7


1- في ذكرى ميلاد الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) عندما تحدثنا عن الوالدة خديجة بنت خويلد. ونشرت المحاضرة في كتاب (من وحي المناسبات).

مِنْ شَيْ ءٍ)(1) ، ومن خطابها للجميع: (وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ)(2) ، ومن خلودها: (حتى يردا علي الحوض يوم القيامة)(3)، ومن صيانتها من الانحراف والتغيير: (إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ)(4) ، وغيرها مما لا يحتاج إلى بيان، لأنها صنعة الله تبارك وتعالى الذي له الأسماء الحسنى.

الثانية: ما يرجع إلى ذات الرسول، وهو النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو أكمل الخلق، ربّتهُ يد الرعاية الإلهية، لعدم وجود من هو أكمل منه حتى يربيه ويأخذ بيده في مدارج الكمال، وعن ذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

(أدَّبني ربي فأحسن تأديبي)(5).

ولا تكون الرسالة فاعلة ومؤثرة وتؤدي دورها في حياة الامة إذا لم يكن حاملها مستوعباً لها قد أشرب بها، وتمثَّلها في حياته، وجسَّدها في سلوكه وواقعه، حتى عاد صورة خارجية لها، وعادت صورة نظرية له، لذا لما سُئِلتْ إحدى أمهات المؤمنين عن سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخلاقه قالت باختصار:

(كان خلقه القرآن)(6).

ص: 8


1- الأنعام: من الآية 38.
2- آل عمران: من الآية 96.
3- كتاب الغدير للأميني.
4- الحجر: من الآية 9.
5- بحار الأنوار ج 16 ص 210، وج 68 ص 382.
6- شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 6 ص 340.

ولعدم إمكانية التفكيك بين النظرية، ولا اقصد بالنظرية ما يُراد منها في المصطلح، أعني المعلومة القابلة للصحة والخطأ، وإنما أعني مجموع ما اْحتوت عليه الرسالة من الأصول والفروع والأخلاق التي أسسها القرآن الكريم، والتطبيق أي بين الرسالة وسلوك القائمين عليها، صار الناس لا يقتنعون بأي رسالة مهما كانت ترفع من مبادئ ومُثل وأخلاق عالية ونبيلة، إذا كان حاملوها والقائمون عليها أول من يخالفها.

و هذا أحد أسباب اْنحطاط المسلمين، وتشوّه صورة الإسلام، فكيف يقتنع الناس بحرمة شرب الخمر إذا كان الخليفة، أو ولاته يشربونها على منابر المسلمين، وكيف يقتنعون بحرمة الغناء، أو، السفور، أو، ممارسة الفاحشة، إذا كان الخليفة يعقد الليالي الحمراء لإقامتها، ونحن، الحوزة العلمية وكل مؤمن رسالي، حملة رسالة إصلاحية، كيف نستطيع أن نردع الناس عن الغيبة وإهانة المؤمن، إذا كنا نلوكها بألسنتنا، وكيف نمنعهم من مشاهدة الأفلام والمسلسلات إذا كان هذا الجهاز اللعين في بيوتنا، وكيف نأمرهم بالصلاة في أوقاتها إذا كنا ننام عن صلاة الصبح، وكيف نحثّهم على صلاة الليل ونحن لا نؤديها، أو، نحثهم على إفشاء السلام ونحن لا نرد التحية بمثلها، فضلاً عما هو أحسن منها، وكيف نقنعهم بترك التدخين ونحن نتناوله، ونصرف الأموال في سبيله، بدلاً من أن ننفقها في قضاء حوائج المؤمنين، وما أكثرهم اليوم.

هذا الترابط الوثيق بين الرسالة وسلوك حاملها عَبَّر عنه أمير

ص: 9

المؤمنين (عليه السلام):

(إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَةٍ إِلاَّ وَأَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا وَلاأَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلاَّ وَأَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا)(1)، ولذا قالوا: إن الواعظ إذا لم يكن متعظاً فلا يؤثر في القلوب ولا يهذب النفوس. لا قيمة للعلم إذا لم يقترن بالعمل ومن هنا أكدت أحاديث المعصومين (عليهم السلام) على ضرورة اقتران العلم بالعمل، وأنه لا قيمة للعلم إذا لم يقترن بالعمل، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل (إِنَّما يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ)(2) ، قال:

(يَعْنِي بِالْعُلَمَاءِ مَنْ صَدَّقَ فِعْلُهُ قَوْلَهُ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْ فِعْلُهُ قَوْلَهُ فَلَيْسَ بِعَالِمٍ)(3)؛ وعن سليم بن قيس الهلالي قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يحدِّث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال في كلام له:

(الْعُلَمَاءُ رَجُلانِ: رَجُلٌ عَالِمٌ آخِذٌ بِعِلْمِهِ فَهَذَا نَاجٍ، وَعَالِمٌ تَارِكٌ لِعِلْمِهِ فَهَذَا هَالِكٌ، وَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ لَيَتَأَذَّوْنَ مِنْ رِيحِ الْعَالِمِ التَّارِكِ لِعِلْمِهِ، وَإِنَّ أَشَدَّ أَهْلِ النَّارِ نَدَامَةً وَحَسْرَةً رَجُلٌ دَعَا عَبْداً إِلَى اللَّهِ فَاسْتَجَابَ لَهُ وَقَبِلَ مِنْهُ فَأَطَاعَ اللَّهَ فَأَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ، وَأَدْخَلَ الدَّاعِيَ النَّارَ بِتَرْكِهِ عِلْمَهُ وَاتِّبَاعِهِ الْهَوَى وَطُولِ الأَمَلِ، أَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وَطُولُ الأَمَلِ يُنْسِي الآخِرَةَ)(4)؛ وعن

ص: 10


1- نهج البلاغة ص 250 خطبة 175، وشرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 10 ص 10، والطرائف ج 2 ص 509.
2- فاطر: من الآية 28.
3- الكافي ج 1 ص 36، وبحار الأنوار ج 67 ص 344.
4- الكافي ج 1 ص 44، وبحار الأنوار ج 2 ص 34، وص 106، وأعلام الدين ص 89، والخصال ج 1 ص 51، وعوالي اللآلي ج 4 ص 76، ومنية المريد ص 146.

الإمام الصادق (عليه السلام) قال:

(الْعِلْمُ مَقْرُونٌ إِلَى الْعَمَلِ، فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ، وَمَنْ عَمِلَ عَلِمَ، وَالْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ، فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلا ارْتَحَلَ عَنْهُ)(1)؛ وعن أمير المؤمنين (عليه السلام):

(أَيُّهَا النَّاسُ، إِذَا عَلِمْتُمْ فَاعْمَلُوا بِمَا عَلِمْتُمْ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، إِنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ بِغَيْرِهِ كَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ الَّذِي لايَسْتَفِيقُ عَنْ جَهْلِهِ، بَلْ قَدْ رَأَيْتُ أَنَّ الْحُجَّةَ عَلَيْهِ أَعْظَمُ، وَالْحَسْرَةُ أَدْوَمُ عَلَى هَذَا الْعَالِمِ الْمُنْسَلِخِ مِنْ عِلْمِهِ مِنْهَا عَلَى هَذَا الْجَاهِلِ الْمُتَحَيِّرِ فِي جَهْلِهِ، وَكِلاهُمَا حَائِرٌ بَائِرٌ(2)(3)، وعن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ الْغاوُونَ)(4) ، قال (عليه السلام):

(هُمْ قَوْمٌ وَصَفُوا عَدْلاً بِأَلْسِنَتِهِمْ ثُمَّ خَالَفُوهُ إِلَى غَيْرِهِ)(5).

نتائج تطبيق الرسالة الإسلامية

فحينما نحتفل بذكريات المعصومين (عليهم السلام)، وأولهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)،

ص: 11


1- الكافي ج 1 ص 44، وبحار الأنوار ج 2 ص 36، وص 40، وعدة الداعي ص 78، ومنية المريد ص 181، ونهج البلاغة ص 539، وشرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج 19 ص 284.
2- ورجل حائر بائر: يكون من الكسل ويكون من الهلاك، وفي التهذيب: رجل حائر بائر، لا يتَّجِهُ لِشَيءٍ ضالٌ تائهٌ، وهو إتباع، والابتيار له. لسان العرب، مادة: بور..
3- الكافي ج 1 ص 45، وبحار الأنوار ج 2 ص 39، ومنية المريد ص 147.
4- الشعراء: من الآية 94.
5- الكافي ج 1 ص 47، وج 2 ص 300، ووسائل الشيعة ج 15 ص 296، ومستدرك الوسائل ج 11 ص 321، وبحار الأنوار ج 2 ص 35، وج 69 ص 224، والزهد ص 68.

فإنما نستعيد بها ذكرى التطبيقات الكاملة للشريعة، كما نحتفل بذكريات الشريعة نفسها، كيوم الغدير الذي هو يوم تمام الشريعة وكمالها، بحسب ما نطقت به الآية الشريفة.

هذه الوشيجة بين النظرية والتطبيق، أو، قُلْ بين الرسالة وسلوك حاملها، نخرج منها بعدة نتائج:

1 - إن الشريعة كلما كانت أكمل فحاملها يكون أكمل ولما كانت شريعة الإسلام أكمل الشرائع الإلهية فيكون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أكمل الخلق وأشرفهم.

2 - إن شريعة الإسلام خالدة ودائمة، فيكون وجود المعصوم (عليه السلام) دائمياً ومستمراً، وهو ما نعتقد به، ودَلَّت عليه الأحاديث الشريفة التي مضمونها

(لاتَخْلُو الأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً وَإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً)(1) وما جاء في حديث الثقلين

(إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ)(2).

ص: 12


1- نهج البلاغة ص 495 من وصيه له (عليه السلام) لكميل بن زياد صاحبه في فضل العلم.
2- وسائل الشيعة ج 27 ص 33، ومستدرك الوسائل ج 7 ص 254، وج 11 ص 372، وبحار الأنوار ج 2 ص 99، وص 225، وص 285، وج 5 ص 20، وج 23 ص 107، وص 108، وص 126، وص 133، وص 134، وص 136، وص 140، وص 145، وص 146، وص 147، وج 31 ص 375، وص 414، وج 35 ص 184، وج 36 ص 331، وص 338، وج 37 ص 113، وص 137، وص 167، وج 45 ص 313، وج 47 ص 398، وج 65 ص 22، وج 89 ص 13، وص 27، والإحتجاج ج 1 ص 149، وص 262، وج 2 ص 380، وص 450، والإرشاد ج 1 ص 231، وإرشاد القلوب ج 1 ص 131، والإقبال ص 454، والأمالي للصدوق ص 415، والأمالي للطوسي ص 161، وص 255، وص 547، وبشارة المصطفى ص 275، وبصائر الدرجات ص 413، وص 414، وتأويل الآيات الظاهرة ص 616، والتحصين لإبن طاوس ص 635، وتفسير العياشي ج 1 ص 5، وتفسير القمي ج 1 ص 173، وج 2 ص 345، ورجال الكشي ص 219، وروضة الواعظين ج 2 ص 273، وسعد السعود ص 228، وصحيفة الرضا (عليه السلام) ص 59، والطرائف ج 1 ص 114، وص 115، وعيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 62، وكتاب سليم ص 646، وكشف اليقين ص 186، وص 425، وكفاية الأثر ص 87، وص 136، وص 162، وكمال الدين وتمام النعمة ج 1 ص 64، وص 234، وص 235، وص 236، وص 238، وص 239، وص 240، وص 279، ومئة منقبة ص 161، ونهج الحق ص 226، وص 394.

3 - إن الإعتداء على حامل الرسالة وممثليها من أنبياء، أو، أئمة، إنما هو إعتداء على الشريعة نفسها، وبالعكس، فإن أي إعتداء على الشريعة بتحريفها، أو، تمييعها، أو، مخالفتها، إنما هو إعتداء على حامل الرسالة نفسه، لذا ورد في تفسير قوله تعالى (وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ)(1) ، أي بتحريف تعاليمهم ومخالفتها وتشويهها، فليعلم هؤلاء الذين يعصون الله تبارك وتعالى بترك الصلاة، أو، الخمس، أو، السفور، أو، التبرج، أو، ترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو، يشيعون الفاحشة في المجتمع المسلم، بنشر الصور الخلاعية، وفتح محلات الفسق والفجور، إنما يقتلون بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأمير المؤمنين والأئمة الأطهار (عليهم السلام).

ص: 13


1- البقرة: من الآية 61.

4 - إن الإسلام إنما يتقدم وينتشر وتحصل القناعة به بتقدم أبنائه، خصوصاً: العلماء، والحوزة الشريفة، والمؤمنين الرساليين، وتكاملهم، وحُسن تجسيدهم له، فحينما يقول الحديث:

(الْفُقَهَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُلِ، مَا لَمْ يَدْخُلُوا فِي الدُّنْيَا)(1) إنما يشير إلى هذه المسئولية المزدوجة، (أعني المسئولية النظرية، أو، قل العلمية، ببيان محاسن الإسلام، وعظمة تشريعاته، وتكاملها، وقدرتها على قيادة البشرية نحو السعادة والصلاح، والمسئولية العملية بتمثيل الإسلام في سلكوهم وتفاصيل حياتهم) فهاتان مسئوليتان لا تنفكان عن بعضهما.

وقد وعدت الأحاديث الشريفة بأنَّ الله تعالى يقيِّض لهذا الدين في كل زمان من يمثله هذا التمثيل ليكون حصناً حقيقياً للإسلام، قال (عليه السلام):

(فَإِنَّ فِينَا أَهْلَ الْبَيْتِ فِي كُلِّ خَلَفٍ عُدُولاً، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ)(2) فكونوا من هذا الخلف فإنها فرصة متاحة لأي أحد يعمل بجد واجتهاد، لتأهيل نفسه لهذا الموقع، و الله تعالى لا يبخل عن إعطاء المستحق حقه، وهو القائل (وَ لا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْياءَهُمْ)(3).

ص: 14


1- الكافي ج 1 ص 46، وبحار الأنوار ج 2 ص 36، وص 110، وج 72 ص 380، وأعلام الدين ص 90، ومنية المريد ص 138، وص 163، ومستدرك الوسائل ج 13 ص 124، وج 17 ص 312.
2- الكافي: ج 1 ص 32، ووسائل الشيعة ج 27 ص 78، ومستدرك الوسائل ج 17 ص 299، وبحار الأنوار ج 2 ص 92، وص 151، والاختصاص ص 4، وبصائر الدرجات ص 10، ومنية المريد ص 112، وص 372.
3- هود: من الآية 85.

أهمية الأسوة الحسنة

لأجل هذه النقاط ركّز القرآن الكريم على أهمية الأسوة الحسنة في تربية البشر وهدايتهم وإصلاحهم، قال تعالى: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً)(1) فقد تؤثِّر الأسوة الحسنة في حياة الناس أكثر مما تؤثِّر فيهم كتب كثيرة، وأكَّدته الأحاديث الشريفة:

(كونوا لنا دعاة صامتين)(2)، و

(كونوا لنا دعاة بأفعالكم لا بأقوالكم)، وبمقدار ذلك تكون خطورة القدوة السيئة(3)، والعياذ بالله، لذا ورد التهديد الكبير للعلماء إذا نكبوا عن الصواب، وفارقوا الطريقة المثلى، لأن هذا يؤدي إلى إعراض الناس عن الشريعة، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

(إِذَا رَأَيْتُمُ الْعَالِمَ مُحِبّاً لِدُنْيَاهُ فَاتَّهِمُوهُ عَلَى دِينِكُمْ، فَإِنَّ كُلَّ مُحِبٍّ لِشَيْ ءٍ يَحُوطُ مَا أَحَبَّ، وَقَالَ (عليه السلام): أَوْحَى اللَّهُ إِلَى دَاوُدَ (عليه السلام): لا تَجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَالِماً مَفْتُوناً بِالدُّنْيَا فَيَصُدَّكَ عَنْ طَرِيقِ مَحَبَّتِي، فَإِنَّ أُولَئِكَ قُطَّاعُ طَرِيقِ عِبَادِيَ الْمُرِيدِينَ، إِنَّ أَدْنَى مَا أَنَا صَانِعٌ بِهِمْ أَنْ أَنْزِعَ حَلاوَةَ مُنَاجَاتِي عَنْ قُلُوبِهِمْ)(4)، وعن حفص بن غياث عن الإمام

ص: 15


1- الأحزاب: من الآية 21.
2- مستدرك الوسائل ج 1 ص 116، وج 8 ص 310.
3- كالمطرب والممثل الفاسق والظالم والطاغوت.
4- الكافي ج 1 ص 46، وعلل الشرائع ج 2 ص 394، ومنية المريد ص 138، وبحار الأنوار ج 2 ص 107، ومجموعة ورام ج 2 ص 36.

الصادق (عليه السلام) قال:

(يَا حَفْصُ، يُغْفَرُ لِلْجَاهِلِ سَبْعُونَ ذَنْباً قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لِلْعَالِمِ ذَنْبٌ وَاحِدٌ)(1) وعنه أنه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): قال عيسى بن مريم (عليه السلام):

(وَيْلٌ لِلْعُلَمَاءِ السَّوْءِ كَيْفَ تَلَظَّى عَلَيْهِمُ النَّارُ)(2) وقد اشتهرت كلمة بعضهم

(إذا فسد العالِم فسد العالَم).

الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) خير اسوة

إننا اليوم أحوج ما يكون إلى عرض صورة الأسوة الحسنة في حياتنا، فنحن مسؤولون أكثر من أي وقت مضى عن دراسة حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرته دراسة تحليلية، لكي نتمثلها في حياتنا، وتكون نبراساً لنا، ليس فقط في حياته الشخصية الخاصة، لكونه أكمل المخلوقات وأشرفها وأحقها بالإقتداء، وإنما ايضاً في حياته العامة، لكونه أعظم مصلح إجتماعي عرفته البشرية، ولكونه مؤسس خير أمة أُخرجت للناس من العدم، ولكون قيادته المباركة وفَّرت للبشرية أسعد عصر من عصورها.

هذه الأبعاد المتعددة في شخصيته (صلى الله عليه وآله وسلم) جعلته أولى الناس بالتأسي والإقتداء لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر، وأراد السعادة لنفسه ولأمته.

وقد ذكرتُ في بعض المناسبات وجهاً لمعنى الكلمة العامية (سفرة

ص: 16


1- الكافي ج 1 ص 47، وبحار الأنوار ج 2 ص 27، وج 75 ص 192، وتفسير القمي ج 2 ص 146.
2- الكافي ج 1 ص 47، وبحار الأنوار ج 2 ص 39، ومنية المريد ص 141.

الحسين واسعة) ويمكن أن يراد لها معنى واقعي غير ما ذكروه، وهو أن حياة الحسين (عليه السلام) سفر مبارك يتسع كل ما يريده الطامحون إلى الكمال، التواقون إلى السعادة، الفارون من الحضيض، وجده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أولى بهذه السعة منه (عليه السلام)، فلنأخذ من هذا السفر المبارك ما يعيننا على مسئولياتنا، التي قلنا إنها أضخم من أي يوم مضى من أكثر من جهة.

مسئوليتنا اليوم أضخم من الماضي

1 - إننا نواجه جاهلية عاتية تضرب بأطنابها أرجاء الأرض، في أفكارها واعتقاداتها، وفي سلوكياتها واهوائها ونزعاتها(1)، بل إن جاهلية اليوم جمعت كل مساوئ جاهليات الأمس القريب والبعيد، وقد عقدتُ فصلاً طويلاً في كتاب (شكوى القرآن) لبيان مفهوم الجاهلية بحسب ما يستفاد من القرآن، وقد ذكرتُ خمس عشرة نقطة إلتقاء بين الجاهليتين(2).

ص: 17


1- من الفاسقات اللواتي نصبن فخوخ الفتنة والإغراء، إلى بورصات إقتصادية يسيل لها اللعاب، إلى فنانين لا عمل لهم إلا تدمير الأخلاق والقيم الإجتماعية، إلى قوانين وضعية تبيح اللواط، وتجيز الزواج بين الذكور، إلى الزنا الذي يفوح برائحته الكريهة وأمراضه الفتاكة كالايدز.
2- تجدها في (شكوى القرآن: ص 61) وخلاصتها: 1 - إن جاهلية الأمس كانت تعبد غير الله تعالى، وجاهلية اليوم كذلك تعبد غير الله تعالى، لأن العبادة بمعنى (الطاعة والولاء)، وأصنام اليوم أشد خطراً من أصنام الأمس الصماء، فهي اليوم أشد تأثيراً وإغراءاً، كالمطربين، والممثلات، والموضة، والاتكيت. 2 - إن جاهلية الأمس كانت تحكمها غير شريعة الإسلام، وكل حكم اليوم بغير ما أنزل الله تعالى فهو حكم جاهلي (أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) (المائدة: من الآية 50)، وما أكثر هذه الأحكام اليوم من حكم العشائر إلى القوانيّن الوضعية التي تبنتها دول العالم. 3 - إنحراف العقيدة في مجتمع الأمس يشبهه إنحرافها اليوم. 4 - من معالم الجاهلية السفور والتبرج والتهتك وشيوع الفاحشة الذي لا يخفى على مبصر. 5 - ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 6 - التقليد الأعمى للآباء والأعراف المتفشية بينهم، وتقليد اليوم أخطر من سابقه، حيث إتباع المطرب والفنان والرياضي. 7 - عدم معرفة الإمام الحقيقي والمسئولية المترتبة على هذه المعرفة، مثلما نراه اليوم بكل وضوح. 8 - الخضوع للماديات، وعدم الإعتراف بما وراء المادة وإنكار الغيب. 9 - ومن سمات الجاهلية عزل الناس عن القرآن. 10 - ومن سمات الجاهلية التشتت والتمزق، كما هو واضح. 11 - ومن سمات الجاهلية الرعب من الموت، ومن كل ما يوحي به.

وخرجنا بنتيجة: أن الجاهلية ليست فترة زمنية ومرحلة تاريخية إنتهت بظهور الإسلام، وإنما هي نمط من أنماط الحياة، تتردى إليها البشرية وتسقط فيها كلما ابتعدت عن شريعة الله تبارك وتعالى، فما أحوجنا إلى أن نستلهم من سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) كيفية مواجهة هذه الجاهلية، بحيث استطاع ان ينقلهم (صلى الله عليه وآله وسلم) في مدة ضئيلة من عمر الزمن، وهي ثلاثة وعشرون عاماً، من

ص: 18

حضيض الجاهلية إلى قمة الإسلام السامقة(1)، وقد ذكرتُ في نفس الكتاب عدة دروس مستفادة من هذه التجربة(2).

2 - إننا نقترب بسرعة من يوم الظهور المبارك لبقية الله الأعظم، ومن شروطه وصول البشرية إلى قناعة كاملة بالإسلام، وقد قلنا قبل قليل: إن القناعة بالإسلام كنظام ورؤية للحياة لا تنفك عن القناعة بسلوك حامليه ومعتنقيه، فكلما كان التطبيق أكثر صدقاً كان أسرع في حصول هذه القناعة، وقد وردت التطمينات بأن الإسلام لا يحتاج إلى جهد كبير من أبنائه لتحصل قناعة الآخرين به، لأنه يغلب العقول، ويفتح القلوب، بلا

ص: 19


1- فحاشا لله تعالى أن يترك جاهلية اليوم سدى، ولا يبعث لها مصلحاً معصوماً هو الحجة بن الحسن المهدي (أرواحنا لمقدمه الفداء).
2- تجدها في ص 88 وخلاصتها: 1 - الإلتفات إلى جانب العلل أكثر من المعلولات عند معالجة حالة معينة. 2 - الإستفادة من طريقة القرآن في إصلاح النفس والمجتمع، وهي ضرورة بناء الجانب الأخلاقي والعقائدي لشخصية المسلم، حيث أنه (القرآن) ركز على (العقل، القلب، والروح) فالعقيدة والأخلاق هي التي ترسم الهدف الذي يعيشه الانسان، وتحدد معالم مسيرته. 3 - التدريجية في الهداية والإصلاح والأخذ بأيدي الناس برفق. 4 - الإهتمام بالمرتكزات الأساسية لكيان الأمة، مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإمامة والولاية ومودة ذوي القربى والإعتصام بالقرآن. 5 - الحث على طلب العلم والتعلم. 6 - تكرار واستمرار جرعات العلاج وعدم الاكتفاء بالمرة الواحدة.

عناء كثير، عكس المبادئ الأرضية التي لا تستطيع ان تحصل هذه النتيجة بكل أساليب الإغراء، أو، البطش والتهديد، وقد ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام):

(... فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا)(1)،

(كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً)(2)، والتاريخ شاهد على ذلك، فان المغول، وهم أكثر الشعوب وحشية، ما لبثوا أن دخلوا الإسلام بعد أن اكتسحوا بلاده قتلاً ونهباً وتدميراً، وها هو ذا الغرب ينتابه القلق من إقبال أبنائه على الإسلام، فتقول إحصائية في بريطانيا: إن عشرين ألف إمرأة بريطانية إعتنقت الإسلام، احداهن استاذة جامعية أعلنت إسلامها في كلمة ألقتها في تجمع في حدائق (هايد بارك) الشهيرة في قلب لندن، وسوف ترى عن قريب كيف أن الإسلام يفتح قلوب أعدائه، إلا من ضرب عليها إبليس بالأغلال كالصهاينة.

ألسنا ندعوا الله تبارك وتعالى أن ينتصر بنا لدينه، و أن يجعلنا من أنصار وليه الأعظم؟، بل نقرأ في دعاء الإفتتاح: أن نكون من الدعاة إلى طاعته تبارك وتعالى، والقادة إلى سبيله في دولته الكريمة، فها هي

ص: 20


1- بحار الأنوار: ج 2 ص 30، وج 75 ص 348، والكافي ج 8 ص 229، ووسائل الشيعة ج 27 ص 92، وعيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 1 ص 307، ومعاني الأخبار ص 180.
2- بحار الأنوار ج 65 ص 151، وج 68 ص 286، وص 310، وج 85 ص 119، ووسائل الشيعة ج 12 ص 8، وص 193، ومستدرك الوسائل ج 8 ص 314، وأعلام الدين ص 143، والأمالي للصدوق ص 400، والأمالي للطوسي ص 440، وبشارة المصطفى 169، وص 222، والحكايات ص 93، وروضة الواعظين ج 2 ص 467.

الخطوة الأولى والمهمة التي رسمها القرآن الكريم (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً)(1) وشرحها أمير المؤمنين (عليه السلام) نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

(ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد)(2).

الحرب التي يعيشها الاسلام اليوم

3 - إننا نعيش حرباً شعواء على الإسلام بأشكال مختلفة، أحدها الحرب العسكرية، التي يسمونها الحرب ضد الارهاب، وقد إتحدوا جميعاً وتناسوا خلافاتهم وكل عداواة الأمس، ليكونوا يداً واحدة في هذه الحرب، وقد أعلنت الأخبار اليوم (2002/5/28)، و أنا أكتب هذه السطور، أنهم وضعوا المسمار الأخير في نعش الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي واتحدوا واتفقوا على الاشتراك في إتخاذ القرار بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، فياترى من غير الاسلام والمسلمين العدو الذي اتحدوا لمواجهته؟ و هذا الشكل من الحرب واضح وملتفَتٌ إليه، لكن الأخطر منه هو الحرب الخفية بتشويه صورة الإسلام، وتمييع أحكامه، وإفراغه من مضامينه، والإكتفاء بالشكليات، فلا مانع من أن تتحجب المرأة

ص: 21


1- الأحزاب: آية 21.
2- نهج البلاغة: ص 416، ومستدرك الوسائل ج 12 ص 54، وبحار الأنوار ج 33 ص 473، وإرشاد القلوب ج 2 ص 214، وشرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 16 ص 205.

ولكن على الطريقة الأمريكية، أو، الفرنسية، ولا بأس بأن يلتزم الشاب بالصلاة والصوم ما دام غربياً في أفكاره وولائه ومظهره، و أن يكون إهتمام الناس منصبَّاً على الإزدياد من المظاهر الدنيوية، فلا يستقر في دار حتى يطمح إلى أحسن منها، وسرعان ما يبدّل سيارته إلى أحدث موديل، أو، أثاثه، أو، يتفاخر بكثرة أمواله، هذا غير ضياعه في المتع المتنوعة من رياضة وفن، فلا يلبث أن يمل من متعة حتى يأتوه بغيرها، ليبقى في هذه الدوامة والدائرة المفرغة، ولا يلتفت إلى أهدافه الحقيقية، رغم ان القرآن صريح وواضح (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(1) ومحل الشاهد، أننا لو درسنا أسباب هذا الضياع لوجدنا أن أهمها غياب القدوة الحسنة التي تبهر العقول، وتدخل القلوب، وتقنعهم بالإتبَّاع والتأسي، وتلغي كل ما سواها، وقد دأب الانسان على المتابعة والمشاكلة للشخصيات التي ينبهر بها، حتى في الاشياء التي لا علاقة لها بسبب انبهاره، فمثلاً هو يُعجب به كبطل أفلام، أو، رياضي، إلا أنه يقلده في ملبسه وحركاته ومظهره، بل حتى أفكاره ومعتقداته أحياناً، فإذا غابت عن حياته الأسوة والقدوة الحسنة، نعم، فإنه سينجذب إلى الأسوة السيئة من رياضي، أو، فنان، أو، بطل فلم وهمي، أو، نحوه.

ص: 22


1- التوبة: 24.

علينا أن لا نتبوء موقعاً إلا بجدارة

لذا تجد من أهم العوامل التي جذبت الناس إلى الإسلام: الإنبهار والذوبان في شخصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التي ظلت مؤثِّرة في نفوس أصحابه حتى بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل إلى اليوم، فان الكثير ممن اعتنقوا الإسلام إنما اعتنقوه إعجاباً بسيرة رجاله كرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأمير المؤمنين (عليه السلام)، والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، والحسن والحسين (عليهما السلام).

وهذا، أي تأثير شخصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في نفوس اصحابه، مما شهد به الأعداء، و جعل الرعب يتملكهم فملأهم شعور بالإحباط واليأس من المواجهة عندما خرج وفد من قريش لاستطلاع أخبار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه، فوجدهم محدقين به يتبركون بتراب أقدامه، ولا يدعون ماء وضوءه يسقط إلى الأرض بل يتقاسمون قطراته.

وقد حرص (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يتبوأ هذا المقام الرفيع إلا بعد أن ملك القلوب، وخطف الألباب بأخلاقه و حسن سيرته، حتى سموه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الجاهلية بالصادق الامين، وما وجدوا له خطلة في قول، ولا زلة في فعل، وألقى عليهم الحجة بذلك حين أعلن (صلى الله عليه وآله وسلم) دعوته قائلاً:

(لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلاً أكنتم مصدقيّ؟، قالوا: نعم، قال: فإني نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ)(1).

ص: 23


1- بحار الأنوار ج 9 ص 132.

و هذا درس يمكن أن نستفيده من سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، غيرما ستأتي الإشارة إليها، وهو أن لا نتبوء مقعداً إجتماعياً إلا حينما نكون أهلاً له، بحيث تتوفر القناعة الكاملة لدى الأمة باستحقاق هذا الموقع.

وحياته (صلى الله عليه وآله وسلم) حافلة بالكثير مما يُتأسى به، وكيف لا يكون كذلك وهو صنو القرآن الذي هو (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ)(1) ، و (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ)(2) ، وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك، والقرآن شفاء وهدى ورحمة ونور وبيان وذكر ومبارك وحكيم، وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك، وقد أشبعنا البحث عن هذه الملازمة في كتاب شكوى القرآن.

دراسة سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كقائد ومصلح

لم تتعرض كتب التاريخ لسيرة المعصومين (عليهم السلام) بعنوانهم قادة ومصلحين إجتماعيين مارسوا عملية التغيير في النفس والمجتمع بأعظم أشكاله وبحسب ما أُتيح لهم من الفرص، بل إن بعضهم، وهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وامير المؤمنين والحسن المجتبى (عليهما السلام - قاد دولة، واضطلع بأعباء الرئاسة الدنيوية، على تعبيرهم، إضافة إلى الإمامة الدينية التي لا تنفك عنهم بحال.

وإنما تناولتْ المصادر حياتهم كأشخاص، واكتفت بالسرد التاريخي

ص: 24


1- النحل: من الآية 89.
2- الأنعام: من الآية 38.

لتفاصيل حياتهم على أنها جزئيات متفرقة.

ويمكن إيجاد أكثر من مبرر لهذا النقص في المصادر التاريخية بالنسبة للأئمة الطاهرين، ومنها:

1 - إقصاؤهم (عليهم السلام) عن موقع القيادة الإجتماعية، فلم تُعط لهم الفرصة الكاملة لممارسة هذا الدور، مما طبع على سلوكهم النشاط الفردي، أو، هكذا يتراءى للناظرين في حياتهم بالنظرة الساذجة، وإلا فإن لهم أدواراً مهمة أدَّوها في حياة الأمة، تناولناها تفصيلاً في كتابنا المطبوع (دور الأئمة في الحياة الإسلامية).

2 - عدم نضج الفكر الاجتماعي لدى مؤرخي تلك الأجيال، ليتناولوا بالدراسة والتحليل ما كان يصدر عن الأئمة (عليهم السلام) من تصرفات ومواقف، وإنما كانوا ينقلون الوقائع التاريخية على أنها روايات لمشاهدات، أو، مسموعات مشتتة متفرقة لا تنتظم ضمن إطار محدد يُعبِّر عن مشروع حضاري، أو، برنامج إصلاحي تغييري، كالذي عرضناه في كتابنا المذكور آنفاً.

3 - الإخفاء المتعمد لكثير من تفاصيل حياتهم، إما حسداً، أو، تعصباً، و هذا شأن مخالفيهم، أو، تقية و هذا شأن مواليهم خصوصاً، وإن أغلب التواريخ قد كُتبت في عصر العباسيين ألد اعداء البيت النبوي الشريف، لذلك يقول أحدهم واصفاً علي بن أبي طالب (عليه السلام) باستغراب: (لقد أخفى فضائله أولياؤه خوفاً، وأعداؤه حسداً، ومع ذلك فقد ظهر له ما ملأ

ص: 25

الخافقين)، فكيف ستكون الحصيلة لو نقلت لنا الأقوال والأفعال بأمانة وموضوعية.

4 - إن جُلَّ ما وصل إلينا من تاريخهم (عليهم السلام) هو ما كتبه أصحابهم واتباعهم ومحبوهم، وقد ركَّز هؤلاء على الجوانب التي تدعم عقيدتهم فيهم (عليهم السلام)، وتثبت أحقيتهم بالأمر، وما ينفعهم عند الجدال والمخاصمة والاحتجاج، فاهتموا بالمناقب والفضائل والمعجزات والنص على الإمامة والدلالة عليها، ولم يعيروا إهتماماً معتداً به لجوانب حياتهم الأخرى.

5 - تَلَفُ الكثير من الآثار بسبب الفتن المذهبية والأحداث السياسية.

أقول: و لو كان العذر متوفراً في الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) من جهة هذه المبررات وغيرها، إلا أن عدداً منها لا يأتي فيما يتعلق برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد تسلَّم موقع القيادة، وأسَّس دولة ومجتمعاً مدنياً، ومارس عملية التغيير بأوسع أشكالها، مما لم يستطع فعله أحد، وإن تفاصيل حياته الشريفة مدونة حتى في الأمور العادية كالمأكل والملبس، ولا مصلحة لأحد من المسلمين في إخفاء آثاره، فإن الكل يفتخرون بالإنتساب اليه.

فما علينا إلا أن نعيد قراءة سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) بنظرة جديدة تهمنا نحن كقادة ومصلحين إجتماعيين، إمتثالاً للآية الشريفة التي حثت على التأسي به (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو لا يختص بمفردات حياته الشخصية، وإنما ينبغي أن يكون على جميع الأصعدة، وبجميع المستويات، وبكل الإتجاهات، مما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.

ص: 26

إن عملية التغيير التي قام بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معجزة من معجزاته (صلى الله عليه وآله وسلم)، يتعزز بها إيمان المسلم المؤمن برسالته (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتكون حجة على غير المؤمن به (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي بين هذا وذاك مثال يحتذى لأي قائد يريد أن يؤسس أمة ويسوسها، ويبني مجتمعاً فاضلاً صالحاً، كذاك الذي أقامه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة، ولم يشهد له التاريخ مثالاً، فلم نسمع أن أحداً سرق، أو، قتل، أو، زنى، ولا بأي إنحراف آخر مما تعجُّ به الدول المتقدمة مادياً اليوم، والمتشدقة بحقوق الانسان، إلا حوادث نادرة، إذ لا يُتصور في تلك الفترة القصيرة أن يصل كل المجتمع إلى درجة التكامل المنشود، أما السمة الغالبة فهي الأخوة، والتآلف، والتكامل، والإيثار، والسمو عن الماديات، والتضحية بالغالي والنفيس في سبيل الله والمبدأ الذي آمنوا به.

مقارنة بين حال العرب قبل الإسلام وبعده

إن نظرة واحدة تقارن بين حالي العرب قبل الإسلام وبعده تكفي لمعرفة عظمة النقلة الكبيرة التي عاشتها الأمة، مما يعكس الإعجاز في العلاج والمعالج، أما العلاج فهو القرآن الكريم، هذه الوصفة الإلهية التي وهبها خالق البشر لهذه المخلوقات البائسة التائهة المنحرفة، التي تعاني الآلام والمصاعب والمآسي، بسبب إبتعادها عن الله تبارك وتعالى، والمعالج هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ المعجزة في أخلاقه وسلوكه مع الآخرين، ونموذج التربية الإلهية (أدّبني ربي فأحسن تأديبي)، ولقد تناولنا الجهة

ص: 27

الأولى في كتاب (شكوى القرآن)، أما الثانية فهي ما سنحاول عرضه بمقدار ما يوفق الله سبحانه في هذه الكلمات.

ولنستمع الآن إلى بعض النصوص التي تصف حال العرب قبل الإسلام وبعده، قال الله تبارك وتعالى: (وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها)(1) ، وقال تعالى: (وَ اذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النّاسُ فَآواكُمْ وَ أَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(2) ، وقال تعالى: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ، اَلَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)(3) ، وقال تعالى بصدد النهي عن بعض الحالات الاجتماعية المنحرفة التي كانت موجودة: (وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلاً وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً)(4).

ص: 28


1- آل عمران: من الآية 103.
2- الأنفال: 26.
3- الايلاف: 3-4.
4- الاسراء: 31-35.

وهكذا كان حالهم، قليلٌ مشتتون، يقتل بعضهم بعضاً، وهم محاطون بدول عتيدة تنتهز الفرص لاستعبادهم، وتنتشر الفواحش بينهم: كالزنا، وشرب الخمر، ونكاح زوجات الآباء، وأكل مال اليتيم، والبخس في الميزان، ووأد البنات، وغيرها مما يندى لها جبين الإنسانية.

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد عاش الفترتين:

(إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ، وَأَمِيناً عَلَى التَّنْزِيلِ، وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ عَلَى شَرِّ دِينٍ، وَفِي شَرِّ دَارٍ، مُنِيخُونَ بَيْنَ حِجَارَةٍ خُشْنٍ وَحَيَّاتٍ صُمٍّ، تَشْرَبُونَ الْكَدِرَ، وَتَأْكُلُونَ الْجَشِبَ، وَتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ، وَتَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ، الأَصْنَامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ، وَالآثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ)(1).

وقال (عليه السلام):

(تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِي حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ، لَيَالِيَ كَانَتِ الأَكَاسِرَةُ وَالْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ، يَحْتَازُونَهُمْ عَنْ رِيفِ الآفَاقِ، وَبَحْرِ الْعِرَاقِ، وَخُضْرَةِ الدُّنْيَا، إِلَى مَنَابِتِ الشِّيحِ، وَمَهَافِي الرِّيحِ، وَنَكَدِ الْمَعَاشِ، فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاكِينَ، إِخْوَانَ دَبَرٍ (وهي القرحة في ظهر الدابة) وَوَبَرٍ، أَذَلَّ الأُمَمِ دَاراً، وَأَجْدَبَهُمْ قَرَاراً، لا يَأْوُونَ إِلَى جَنَاحِ دَعْوَةٍ يَعْتَصِمُونَ بِهَا، وَلا إِلَى ظِلِّ أُلْفَةٍ يَعْتَمِدُونَ عَلَى عِزِّهَا، فَالأَحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ وَالأَيْدِي مُخْتَلِفَةٌ، وَالْكَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ، فِي بَلاءِ أَزْلٍ (أي شدة) وَأَطْبَاقِ جَهْلٍ، مِنْ بَنَاتٍ مَوْءُودَةٍ، وَأَصْنَامٍ مَعْبُودَةٍ، وَأَرْحَامٍ مَقْطُوعَةٍ، وَغَارَاتٍ مَشْنُونَةٍ، فَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ

ص: 29


1- نهج البلاغة ص 68، خطبة 26، وشرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 2 ص 19، وبحار الأنوار ج 18 ص 226.

اللَّهِ عَلَيْهِمْ حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولاً، فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ، وَجَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ، كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا، وَأَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا، وَالْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائِدِ بَرَكَتِهَا، فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ، وَفِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِينَ، قَدْ تَرَبَّعَتِ الأُمُورُ بِهِمْ فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ، وَآوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَى كَنَفِ عِزٍّ غَالِبٍ، وَتَعَطَّفَتِ الأُمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْكٍ ثَابِتٍ، فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَمُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ الأَرَضِينَ، يَمْلِكُونَ الأُمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ، وَيُمْضُونَ الأَحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ، لا تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ، وَلا تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ (الحجر الصلد، وقرعها أي كسرها)(1).

وفي خطبة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، التي ألقتها في مسجد أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) على مسامع أصحابه، لما غُصب حقها وحق بعلها أمير المؤمنين (عليه السلام): (وكنتم على شفا حفرةٍ من النار، مُذقة الشارب، ونهزة الطامع (أي الفرصة التي ينتهزها)، وقبسة العجلان (مثل في الاستعجال)، وموطئ الأقدام (مثل للمغلوبية والمذلة)، تشربون الطرق (ماء السماء الذي تبول به الأبل وتبعر)، وتقتاتون القِد (جلد غير مدبوغ يُقدّ) والورق، أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فانقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد اللتيا واللتي، وبعد ان مُنِيَ ببُهم الرجال، وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب، كلما أوقدوا ناراً للحرب اطفأها الله، أو، نجم

ص: 30


1- نهج البلاغة: ج 1، خطبة 192، وبحار الأنوار ج 14 ص 471.

قرن الشيطان، أو، فغرت فاغرة من المشركين، قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ جناحها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه)(1).

هكذا كانوا فكيف أصبحوا ببركة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفّارَ وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً)(2) ، وقال تعالى: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَ رِضْواناً وَ يَنْصُرُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ * وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ وَ الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(3).

ونحاول أن نستعرض الآن بعض النماذج الرسالية الفذة التي تربَّت في أحضان النبوة الكاملة، لنرى الأثر العظيم الذي أحدثه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

ص: 31


1- الاحتجاج ج 1 ص 100، وبحار الأنوار ج 29 ص 223، وص 235، وبلاغات النساء ص 23، ودلائل الإمامة ص 33، وكشف الغمة ج 1 ص 485.
2- الفتح: 29.
3- الحشر: 8-9.

في مجتمعه، وسوف لا نذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) والزهراء (عليها السلام) النموذجين الكاملين لهذه التربية، لأن لهم موضوعهم الخاص من الكلام التفصيلي في كتاب (دور الأئمة في الحياة الاسلامية) ونتطرق إلى نماذج أخرى:

1 - عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قال: إن أبا ذر عيّر رجلاً على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمه فقال له: يا ابن السوداء - وكانت أمه سوداء - فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): تعيّره بأمه يا أبا ذر؟ قال: فلم يزل أبو ذر يمرغ وجهه في التراب ورأسه حتى رضي رسول الله (صلى الله عليه وآله) عنه.(1) وهناك نص آخر أفضل، ان أبا ذر تساب هو وبلال الحبشي المؤذّن فقال له: يابن السوداء فلما شكا بلال إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال له: شتمت بلالاً وعيّرته بسواد أمّه؟ قال: نعم، قال: حسبت أنّه بقي فيك شيء من كبر الجاهلية. فألقى أبو ذر خدّه على التراب ثمّ قال: لا أرفع خدّي حتى يطأ بلال خدّي بقدمه. فشعر أبو ذر بزهو الانتصار على أعدى أعدائه وهي نفسه التي بين جنبيه.

يبعث اليه الخليفة عثمان بمالٍ جزيل هو باشدِّ الحاجة اليه بيد عبدٍ له ويعده بالحرية إن قبلها ابو ذر ثمناً لغيرته الدينية ورفضه الانحراف والفساد والظلم المستشري في حاشية الخليفة وولاته فعلم ابو ذر بالنية فرفض قبول الصلة فاراد العبد ان يستغلَّ طيبة قلب ابي ذر وحبه للخير والتقرب إلى الله سبحانه فقال لأبي ذر: اقبلها فإن فيها عتقي، فقال: إن

ص: 32


1- بحار الأنوار ج 22 ص 411.

كان فيها عتقك فإن فيها رقي(1). لأن أبا ذر علم أنه بقبولها عليه أن يجامل السلطة ويداهنها ويسكت عن مظالمها ولا يقول لها كلمة الحق فيحشر في سرادق الظلمة وانتصر ابو ذر مرة أخرى.

فليس غريباً أن يودِّعه أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما نفاه عثمان إلى الربذة بكلمات حزينة مؤلمة لقلب كل غيور على الإسلام ورجالات الحق، لكنها كبيرة وعظيمة و مما جاء فيها:

(إِنَّ الْقَوْمَ خَافُوكَ عَلَى دُنْيَاهُمْ وَخِفْتَهُمْ عَلَى دِينِكَ، فَاتْرُكْ فِي أَيْدِيهِمْ مَا خَافُوكَ عَلَيْهِ، وَاهْرُبْ مِنْهُمْ بِمَا خِفْتَهُمْ عَلَيْهِ)(2).

2 - يحدِّث أحدهم أنه في معركة القادسية سمع جريحاً يئِنُّ ويطلب الماء، وقد أعياه نزف الدم، فلما قُرِّب وعاء الماء إليه سمع جريحاً آخر يطلب الماء فأبى أن يشرب، وقال: إسقِ أخي، لئلا يموت؛ فقام إلى الثاني ليسقيه، فسمع ثالثاً يطلب الماء، فأمر بسقيه أولاً، فلما وصل إليه لم يدركه وفارقته الحياة، فعاد إلى الثاني فوجده كذلك، فعاد إلى الأول فوجده كذلك؛ فتراهم يؤثرون غيرهم على أنفسهم ولو كلفهم ذلك الحياة؛ إنه غاية السمو والرفعة.

3 - كان لإمرأة وزوجها ولد وحيد، مرض هذا الولد فاشفقا عليه،

ص: 33


1- شجرة طوبى ج 1 / محمد مهدي الحائري.
2- نهج البلاغة ص 188، وبحار الأنوار ج 22 ص 411، وشرح نهج البلاغة ج 8 ص 252، وغرر الحكم ص 121.

وهو وحيدهما، ولما حان وقت الصلاة خرج الأب إلى المسجد فمات الولد في غيبته، فلم تجزع الأم ولم يتغير حالها، بعد أن استوعبت القرآن، وعلمت منه ما أعدَّ الله للصابرين، و أن الله سيوفيهم أجورهم بغير حساب، وأنّ هذا الولد فَرْطٌ لهم على الحوض، لا يدخل الجنة حتى يدخل أبواه، مثلت كل هذه المعاني أمامها، فغطّت الوليد وجعلته في إحدى غرف الدار، وتزّينت، فلما جاء الزوج استقبلته بعواطف جياشة، ملأت عليه كيانه، وقدَّمت له الطعام، فسألها عن ولدها، فقالت: إنه بأهدأ حال، ولما أتمَّ طعامه مَكَّنته من نفسها، فلما قضى حاجته، وعلمت من قوله تعالى: (وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَ هُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ)(1) أن الله لا يخذل المتقين، وسيهبها ولداً بدلاً منه، أخبرت الزوج المفجوع بولده باسلوب ذكي، حيث قالت له: لو أن أحداً استودع عندك أمانة ثم إستردها ماذا كنتَ تصنع؟ قال: إنها حقه واخذه، فقالت: فاعلم أن الله تعالى قد استودع الولد عندنا ثم استرده. فاسترجع واحتسبه عند الله تعالى، ولما خرج إلى المسجد والتقى برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هنأه على زوجته، وبارك له فيها، وأخبره أن الله تعالى أوحى إليه: بأنه قضى لهما من ذلك الجماع ولداً صالحاً، هو هدية معجَّلة لهذا الموقف النبيل، وما عند الله خيرٌ وأبقى.

4 - كان حنظلة بن أبي عامر في ليلة زفافه حينما دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين للخروج إلى أحد فأخذ عدة الحرب وترك عروسه التي لم

ص: 34


1- سبأ: من الآية 39.

ينفعها تشبثها به، وخرج مسرعاً لتلبية نداء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقاتل ببسالة حتى استشهد، ولما عاد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة عزَّى زوجته وحدَّثها بشيء غريب حصل بعد المعركة، إذ إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى الملائكة تغسل حنظلة، فسألها عن السبب، فقالت: لأنه كان في ليلة عرسه وخرج مسرعاً، حتى إنه لم يغتسل من الجنابة، فسُمِّي غسيل الملائكة، و ظل هذا اللقب شرفاً له ولذريته.(1)

5 - أعلن داعي الجهاد للخروج إلى ملاقاة قريش في أُحُد، فجاء عمر بن الجموح وولده وأخو زوجته هند، وهو عبد الله بن عمر بن حرام، والد الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الانصاري، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله قد أسقط عنك الجهاد، وكان أعرج، فقال: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا أرجع حتى أطأ بعرجتي الجنة، فدعا له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وخرجوا معه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أحد، فاستشهد عمرو، واستشهد عبد الله، فجاءت بهما هند على بعير، وأحدهما عدل الآخر، فمرَّت على ملأ فيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) ملمحاً إليها: إن منكم مَنْ لو أقسم على الله لأبرَّه، ودفنتهما في قبر واحد.(2)

6 - كان مصعب بن عمير من بني عبد الدار، وهم من وجهاء قريش، و كانوا حملة لوائها، وكان مصعب من فتيان مكة المنعمين المترفين، الذين يضرب المثل بجمالهم وترفهم ونعومة عيشهم، فلما صدع رسول

ص: 35


1- شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 14 ص 271.
2- بحار الأنوار ج 20 ص 130.

الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإسلام اعتنقه، وتنازل عن ترفه ونعيمه، وأصابه ما أصاب المسلمين من العنت والضيق، فافترش الأرض، ولبس الخلق من الثياب، فحاول ذووه ثنيه عن معتقده، ووعدوه ما شاء من اللذات، فأصرَّ على مبدأه؛ وبعثه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يثرب قبل هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ليعلمهم القرآن، ويمهد لمجيئه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأثر في أهل يثرب، وأقنع أسيادها بالإسلام، لأنه كان مثالاً للشاب الرسالي المخلص، وتنازل عن كل شيء حتى ذاته، طالباً ما عند الله تبارك وتعالى حتى أستشهد في أحد.

7 - خرج المسلمون للقاء الفرس في معركة الجسر، وكان على الجيش أبو عبيدة الثقفي والد المختار، ومعه من عيون الصحابة ثابت بن قيس بن شماس المعروف بخطيب الأنصار، ولما وصلوا إلى الجسر حيث يعسكر الفرس في الجبهة الأخرى من النهر استشارهم القائد فيما يفعل، فأشار ثابت بعدم العبور لتبقى الصحراء من خلفهم ملاذاً إن كانت الواقعة للفرس، وإن إنتصروا عبروا بسلام، أما إذا عبروا للفرس فسيكون العدو من أمامهم والنهر من خلفهم، لكن أبا عبيد أمر بالعبور، وقال: إننا ما جئنا لنطلب النجاة، بل أحد الحسنين: إما النصر، أو، الشهادة؛ وأمر ثابتاً أن يكون أول من يعبر، فعبر ثابت وعبر أبو عبيد والمسلمون، ودارت الدائرة عليهم، واستشهد أبو عبيد، واستشهد ثابت، ليعطينا درساً في الطاعة المطلقة للقائد، وإن كان مخالفاً له في الرأي، فإن أي خلاف معه يؤدي إلى الإختلاف والتنازع، وهما منشأ الفتن والإضمحلال والزوال،

ص: 36

وعَوَّضهم الله تعالى على صبرهم ووعيهم بعد فترة وجيزة بنصر مؤزر في القادسية، وفتح لهم بلاد فارس كلها.

8 - كان جويبر إنساناً معدماً، ومن الطبقة المسحوقة في المجتمع، كما يعبرون، فسأله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوماً: أليست لك رغبة، يا جويبر، بامرأة تلطف حياتك، وتعينك على دنياك وآخرتك؟، فقال جويبر: ومَنْ تقبل بالزواج مني، و أنا معدم وأسود، (وكان يوصف بأنه من قباح السودان)، فبعثه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى إمرأة ثرية من أسرة وجيهة إجتماعياً، وعزيزة في قومها، وقال له: قل لأبيها: إني رسول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إليك، أخطب إليك إبنتك، وفعل جويبر ذلك، ولم يستطع وليها الجواب، ودخل عليها عارضاً الأمر، فلما علمت أنها رغبة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وافقت وأطاعت(1)، لتعطينا درساً عملياً في تطبيق الحديث الشريف:

(إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ دَنِيّاً فِي نَسَبِهِ؟، قَالَ: إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ إِنَّكُمْ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ)(2)، وكانت مصداقاً للآية الشريفة (وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)(3).

ص: 37


1- بحار الأنوار ج 22 ص 117-121.
2- تهذيب الأحكام ج 7 ص 394.
3- الأحزاب: 36.

9 - مَرَّ مالك الأشتر في السوق، فاستهزأ به رجل من أهل النفوس الضعيفة، الذين يغترون بحلم المقابل، ولم يكن يعرفه، فسكت عنه مالك، وهو يومئذٍ صاحب أمير المؤمنين (عليه السلام) وقائد جيوشه، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): رحم الله مالكاً فلقد كان لي كما كنت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(1)؛ فقال الناس لهذا الرجل: أما عرفت هذا؟، قال: لا، ومن عسى أن يكون؟، قيل: هذا مالك الأشتر، فارتعدت فرائصه، وأيقن بالهلاك، ورأى أن لا نجاة إلا بالمضي إليه والإعتذار منه، فسأل: أين ذهب مالك؟، قيل: إلى المسجد. فجاء إليه ووجده يصلي، حتى إذا فرغ من صلاته توسل إليه معتذراً. فقال (رضي الله عنه): لا عليك، فإني ما دخلت المسجد إلا لكي أصلي لك ركعتين وأستغفر لك.(2)

10 - (سعد بن الربيع) من سادة الخزرج، بايع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في العقبة قبل الهجرة، وكان من النقباء الإثني عشر، شارك في بدر، وأبلى بلاءاً حسناً، وكان من المدافعين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين فَرَّ عنه اصحابه في أحد، وبعد أن حَلَّ الظلام وافترق الجيشان إفتقده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: مَنْ يستعلم لي حال ابن الربيع، أفي الأحياء هو، أم، في الأموات؟، فانتدب أحدهم، وفحص عنه فوجده يصارع الموت مرتثاً بالجراح، فقال

ص: 38


1- شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 15 ص 98، وبحار الأنوار ج 42 ص 176، ورجال العلامة ص 169.
2- بحار الأنوار ج 42 ص 157.

له: سأل عنك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يريد ان يستعلم حالك. فقال كلماته الأخيرة: أبلغ عني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) السلام، وقل له: جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمته، ثم قال وأبلغ قومي من الأنصار: أن لا عذر لكم عند الله إذا خلص عدوكم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفيكم عين تطرف(1).

هذه النماذج وأمثالها كثير، هي التي أنشأها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتعب على تربيتها في مدة (23) سنة، وهذه هي النقلة العظيمة(2) التي قام بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك المجتمع الذي عرفت حاله، ولعل من الحكمة الإلهية أن يُبعث رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك المجتمع المنحط إلى الحضيض لتكون المعجزة أعظم، بينما لو بُعث في أمة متحضرة لشكك في صحة رسالته، وأنه ليس نبياً، وإنما هو من إفرازات تلك الحضارة والمدنية الراقية.

فما أحرانا نحن الحوزة الشريفة والسياسيين والقادة، وقد نصبنا أنفسنا مرشدين ومصلحين للمجتمع، بل ما أحرانا نحن المسلمين جميعاً أن نستوعب هذه الدروس من حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لنفعل كما فعل، وننتج كما أنتج، مع سهولة الأمر أمامنا بالقياس إليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأننا نتعامل مع أناس تربوا في أحضان الإسلام قروناً طويلة، ونهلوا من نميره، و أن الوازع

ص: 39


1- بحار الأنوار ج 20 ص 74.
2- هذا الأثر العظيم له (صلى الله عليه وآله وسلم) جعله على رأس أعظم مئة إنسان أثروا في تاريخ البشرية كما اختاره مؤلف الكتاب الأمريكي.

الديني موجود في بواطنهم، وما علينا إلا اثارته وتوجيهه وتهذيبه، فلماذا نحتار، ولماذا نتعثر في المسيرة، ونحن نملك هذا التراث الضخم والمعين الذي لا ينضب من التجارب.

قلة المصادر التي كتبت في السيرة من مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)

إن تقصيرنا نحن الإمامية من أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في كتابة تاريخ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غير مبرر أبداً، ولا يغني عنه الإهتمام المتزايد بسيرة المعصومين (عليهم السلام)، رغم أنهم (عليهم السلام) منه (صلى الله عليه وآله وسلم) ينهلون وعنه ينقلون، وما قيل فيه من مبررات فإنها غير كافية.

لقد ترتّبت على هذا التقصير نتائج كثيرة:

1 - الخسارة الكبيرة بعدم الإستفادة من هذه التجربة العظيمة، والانقطاع عن هذا التراث الضخم، بكل ما يحتويه من دروس ومواقف، وأوضح شاهد على هذه الخسارة ندرة ما نستشهد به في كلماتنا بأحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، مع وفرتها وتنوعها، كما ستمرُّ عليه خلال هذه الدراسة، بإذن الله تبارك وتعالى.

2 - إن تاريخه (صلى الله عليه وآله وسلم) كُتب بيد غير أهله، فإن (أهل الدار أعرف بالذي فيه)، فأهل البيت (عليهم السلام) أعلم بتفاصيل حياته (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنقى مصدراً، فلما كُتب تاريخه (صلى الله عليه وآله وسلم) بيد غير أتباع أهل البيت، حيث تجد أغلب السير النبوية

ص: 40

باقلامهم، نقلوا في هذه التواريخ ما ينزهون عنه المسلم العادي، وتجدهم يحطّون من مقامه (صلى الله عليه وآله وسلم)، من أجل رفع عناوين يعتقدون أنها كبيرة، كحضوره (صلى الله عليه وآله وسلم) مجلس الغناء، فقد رووا في مصادرهم أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان جالساً وعنده جوار يغنين ويلعبن، فجاء عمر فاستأذن، فقال النبي للجواري: اسكتن؛ فسكتن، فدخل عمر وقضى حاجته ثم خرج، فقال لهن: عدنَّ، فعدن إلى الغناء، فقلن: يا رسول الله، مَنْ هذا الذي كلما دخل قلت اسكتن، وكلما خرج قلت عدن إلى الغناء؟، قال: هذا رجل لا يؤثر سماع الباطل(1)؛ وكأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يرضى بالباطل(2)، ولا حظ الفرق بين رواية الإمامية لحديث الإفك المشار اليه في سورة النور ونقل غيرهم، وغيرها من الشواهد، وعلى أية حال فانهم لا يعتقدون فيه (صلى الله عليه وآله وسلم) سمو المرتبة التي نعتقدها، فبعضهم لا يشترط العصمة قبل النبوة، فيجوِّز أن يرسل الله تبارك وتعالى عابد وثن!!، وبعضهم يشترطها في خصوص تبليغ الأحكام ويجوِّز عليه السهو والنسيان والغفلة، وينسب إليه الجهل كحادثة تأبير النخل فقد رووا ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مَرَّ بقوم على رؤوس النخل فقال: ما يصنع هؤلاء؟، فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فيتلقح، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أظن يغني ذلك شيئاً، قال: فاخبروا بذلك فتركوه، فأخبر رسول

ص: 41


1- نهج الحق ص 153، نقلاً عن الغزالي في إحياء علوم الدين.
2- أمثال هذه الحوادث وغيرها جمعها الشيخ الاميني (قدس سره) في عدة اجزاء من كتابه (الغدير) تحت عنوان المغالاة في فضائل الصحابة.

الله بذلك قال: ان كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإني إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن(1)، وفي حديث آخر أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لعلكم لو لم تصنعوا كان خيراً فتركوه، فنقصت. قال: فذكروا ذلك له فقال: إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر(2) فالى هذه الدرجة من الفضول والتطفل ينزلون درجة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

3 - التقصير بحقه (صلى الله عليه وآله وسلم) علينا، وهو صاحب الحق العظيم، إلذي اليه يرجع الفضل في هداية كل شخص على وجه المعمورة، وما نعيش من خير فهو فيض بركاته ونفحات رحمته، وما ادخر لأمته في الآخرة أعظم، فقد فُسِّر قوله تعالى: (وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى)(3) بالشفاعة يوم القيامة، وورد أن الله تعالى له نصف الحشر يقول فيه: رحمتي رحمتي، ولرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) النصف الآخر يقول فيه، أمتي أمتي، هذا الرجل العظيم الذي كان سبباً لإفاضة كل هذا الوجود كما في حديث الكساء:

(ما خلقت سماءاً مبنية ولا أرضاً مدحية ولا فلكاً يجري ولا... الا من أجل هذه الأنوار الخمسة) وأصلها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

أقول: هذا الرجل العظيم تمر ذكرياته علينا من دون اهتمام يذكر، عدا ما شاهدناه في السنين المتأخرة، وإن كان ما يزال دون المستوى المطلوب.

ص: 42


1- صحيح مسلم ج 7 ص 95.
2- المصدر نفسه.
3- الضحى: 5.

4 - تربَّصُ الأعداء بشخصيته (صلى الله عليه وآله وسلم)، للحط من كرامته، وتشويه سمعته، وإلصاق التهم به، لأنه أساس الإسلام، فالطعن فيه تقويض لهذا الأساس، والقضاء على الإسلام، وها هم المأجورون الأذلاء كسلمان رشدي، والقس الفلاني في الولايات المتحدة، والمخرج الفلاني في هولندا، والكاتبة الفلانية في مصر، وأمثالهم يؤلفون الكتب، ويخرجون الأفلام، التي تشوّه صورة نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتصفه بالعناوين السيئة، ولا تنبض دماء الغيرة في عروق رجالات الإسلام للرد عليهم، وربما لا يكلفون أنفسهم بالإطلاع على تلك الكلمات، والمسلمون بين جاهل بمقامه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهم العامة الذين قدَّموا هذه الخدمة الجليلة للأعداء من مستشرقين وغيرهم على طبقٍ من ذهب بما أودعوا في كتبهم من روايات تحطّ من مقامه العظيم، وبين معرضٍ عن الإهتمام به، وهم أتباع أهل البيت (عليهم السلام).

ومن خبث أولئك أنهم يمجدون علياً ويرفعونه إلى القمة، ولا يثيرون عليه أي اشكال، وهو اسمى مما يتصورون، بينما يتناولون شخص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقدح والتشويه، وما ذاك منهم حباً بعلي، واعترافاً بفضله، وإلا لأقروا بمثله لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو مربيه وصانع كماله، ولكن لإمتصاص غضب مفكري الشيعة وعلمائهم، الذين لهم الصولة في الكلام والجدال والفكر العميق، ولهم ألسنة حداد تدافع عن الحق، فيسترخون لهذا المدح، ويغضّون الطرف عما يُوجَّه إلى نبيهم (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي هو الأصل، وما

ص: 43

علي (عليه السلام) وشيعته إلا فرع ذلك الأصل.

ومن المؤسف أننا صرنا لا نشعر بمسئولية الرد والدفاع عن الإسلام ونبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، كشعورنا بمسئولية الدفاع عن مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، وأئمتها الطاهرين (عليهم السلام)، ونظرة واحدة إلى المكتبات الشيعية تجد فيها آلاف الكتب التي تعرِّف المذهب، وتبيِّن تفاصيله، وتدافع عنه، وترد الشبهات الموجهة إليه، ومعهم حق، لكثرة ما تعرضت له مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) من التشويه والدس والكذب والإفتراء والطعن، ولكن لا تجد عدد الاصابع من الكتب التي تؤدي نفس الشيء عن الإسلام ونبيه العظيم، وتحتاج إلى تأمل طويل لكي تجد كتاباً مناسباً تقدِّمه لشخص يريد أن يتعرف على الإسلام، بينما ينهضون نهضة رجل واحد للذبِّ ضد شبهة جزئية موجهة إلى هذا المذهب، أو، ذاك من هذه الطائفة، أو، تلك.

ومهما قلنا من دفاعٍ عن أنفسنا بأن الأئمة (عليهم السلام) هم الإمتداد الطبيعي له (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهم نفسه (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما قال الإمام الصادق (عليه السلام):

(حَدِيثِي حَدِيثُ أَبِي، وَحَدِيثُ أَبِي حَدِيثُ جَدِّي، وَحَدِيثُ جَدِّي حَدِيثُ الْحُسَيْنِ، وَحَدِيثُ الْحُسَيْنِ حَدِيثُ الْحَسَنِ، وَحَدِيثُ الْحَسَنِ حَدِيثُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، وَحَدِيثُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وَحَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)(1).

ص: 44


1- الكافي ج 1 ص 53، ووسائل الشيعة ج 27 ص 83، وبحار الأنوار ج 2 ص 178، والإرشاد ج 2 ص 186، وإعلام الورى ص 285، والخرائج والجرائح ج 2 ص 894، وروضة الواعظين ج 1 ص 210، وكشف الغمة ج 2 ص 170، ومنية المريد ص 373.

وانهم يمثلون المسار الصحيح والحقيقي للإسلام، كل ذلك صحيح، لكنه لا يغني عن الإهتمام الذي يجدر بنا أن نوليه لشخصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتصرفاته على مختلف الأصعدة.

القرآن هو المصدر الرئيسي لدراسة سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم)

وينبغي الإلتفات إلى أن المصدر الرئيسي لدراسته سيكون هو القرآن الكريم، لأكثر من سبب:

1 - إعادة تفعيل دور القرآن في حياة الأمة، وإخراجه من عزلته، وإعطاءه دور الريادة في كل عملية إصلاحية، وهو ما أشرنا اليه في كلمات سابقة.

2 - أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان تجسيداً عملياً للقرآن، بحيث لو حَوَّلْتَ القرآن من كتاب مقروء إلى رجل يمشي على الأرض لكان هو (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولو حَوَّلْتَ سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى كتاب يقرأ لكان القرآن، ومن هنا أجابت أم المؤمنين حينما سُئِلت عن أخلاق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت باختصار: كأنه القرآن.

تصنيف الدراسة

ومن أجل التصنيف الفني للدراسة يمكن أن نقسم سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدة لحاظات، فتارة نستقرىء سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) على صعيد العلاقة بربه، وأخرى علاقته بنفسه، أو، قل حياته الخاصة، وثالثة علاقته بمجتمعه وأمته، والتي

ص: 45

يقوم برعايتها وسياستها، ورابعة على صعيد علاقاته بخصومه في داخل المجتمع، أو، على مستوى الأمم والدول الأخرى، مع التحفظ على جعل العلاقة بربه قسماً مقابل بقية الأقسام، لأننا سنرى من سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعيش في كل لحظة لله، ومع الله، وفي الله، ولكنه مجرد تقسيم فني.

وهذه كلها محاور للبحث، وكل محور غني بالدروس والمواقف والنتائج الكبيرة.

ولكننا نحاول في هذه الدراسة توظيف هذه الأقسام ضمن إطارين، لتحقيق هدفين من خلال التأسي به (صلى الله عليه وآله وسلم):

الأول: بناء الذات، أي تكميل النفس، وهو ما نستطيع أن نسميه بالجانب الفردي من سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) الشامل لعلاقته بربه ولعلاقته بنفسه.

الثاني: إصلاح المجتمع أو سياسة الأمة الذي يشمل سلوكه مع أتباعه وغيرهم، وطريقة تعامله مع الآخرين أفراداً ودولاً، ويمكن تسميته بالجانب الإجتماعي من سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنما إلتجأنا إلى هذا الدمج لأكثر من أمر:

1 - العلاقة الوثيقة بين الأصناف، بحيث يصعب إدراج المفردة في هذا القسم، أو، ذاك.

2 - إننا شخصنا خلال تجربتنا وجود خلل كبير في تربية الأمة بهذين الإتجاهين، أعني الجانب الأخلاقي المتكفل بتهذيب النفس وإصلاحها وتطهير القلب، والجانب الإجتماعي: أي الوعي الحركي، الذي يستهدف فهم شمولية الإسلام، وقابليته على قيادة الحياة، واستيعابه لكل الفعاليات

ص: 46

البشرية ومتطلبات الحضارة الإنسانية؛ فبهذا التقسيم الثنائي يكون تغطية هذين الجانبين واضحاً، حيث يمثل الأول فيهما الأول، والثاني الثاني، وان الخطوة الأولى في السعي لإصلاح المجتمع والتصدي للمسئوليات العامة هو إصلاح الذات، ففي الحديث

(مُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالإِجْلالِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِمْ)(1)، ولا قيمة للثاني من دون الأول، أي لا قيمة للعمل الإجتماعي مهما عظم إذا خلا من الإخلاص والهدف الحقيقي المتمثل برضا الله تبارك وتعالى.

ص: 47


1- بحار الأنوار ج 2 ص 56، ووسائل الشيعة ج 16 ص 150، وأعلام الدين ص 92، وشرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج 18 ص 220، ونهج البلاغة ص 480.

ص: 48

المحور الأول: في بناء الذات

اشارة

ص: 49

ص: 50

أساس البناء المعرفة بالله تبارك وتعالى

واساس هذا البناء المعرفة بالله تبارك وتعالى، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (أول الدين معرفته)(1)، وقد كانت معرفته (صلى الله عليه وآله وسلم) بالله تبارك وتعالى أكملها، فقد كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يعيش لله ومع الله تبارك وتعالى في كل حركاته وسكناته، ويجد الله تعالى في كل شيءٍ، فما من كلمة يقولها، أو، فعل يفعله، أو، تركٍ يتركه، إلا وفيه لله سبحانه رضا، ولو خُيِّر بين فعلين اختار أرضاهما لله، و لو كان هو الأشد على نفسه، قال لتلميذه الأول أمير المؤمنين (عليه السلام) والمتأدب بأدبه (صلى الله عليه وآله وسلم):

(الْجَلْسَةُ فِي الْجَامِعِ خَيْرٌ لِي مِنَ الْجَلْسَةِ فِي الْجَنَّةِ، لأَنَّ الْجَنَّةَ فِيهَا رِضَى نَفْسِي، وَالْجَامِعَ فِيهِ رِضَى رَبِّي)(2).

كان (صلى الله عليه وآله وسلم) في حالة ذكر دائم لله سبحانه وتعالى، دلَّ عليه ما روي من مكارم أخلاقه، حيث تجد له في كل حالٍ ذكراً، فللأكل دعاء، وللنوم دعاء، وللتخلِّي دعاء، وللوضوء دعاء، وللسفر دعاء، إذا انتبه من نومه أجال نظره في السماء، وقرأ قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ

ص: 51


1- نهج البلاغة ص 39 الخطبة (1)، نهج الحق ص 65، وبحار الأنوار ج 4 ص 247، وج 54 ص 176، وج 74 ص 302، والاحتجاج ج 1 ص 198، وشرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 1 ص 72، وعوالي اللآلي ج 4 ص 126.
2- الوسائل ج 5 ص 199، ومستدرك الوسائل ج 3 ص 358، وبحار الأنوار ج 80 ص 362، وعدة الداعي ص 208.

وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ، اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ)(1) ، وينهي يومه حين يأوي إلى فراشه بتلاوة سور المسبحات التي تبدأ بكلمات التسبيح كسورة الحديد والحشر والصف والجمعة والتغابن، فكانت حياته (صلى الله عليه وآله وسلم) كلها عبارة عن فناء تام في الله سبحانه، وإذا إقتضت طبيعته البشرية وجسده المادي أن يعطيه حقه من نوم، أو، نحوه مما يراه (صلى الله عليه وآله وسلم) غفلة عن الله تبارك وتعالى، وإعراضاً عن ذكره، وتقصيراً في مقام العبودية، فكان يستغفر الله سبحانه من ذلك، حتى نزل الوعد من قبل المولى تبارك و تعالى (إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً، وَ يَنْصُرَكَ اللّهُ نَصْراً عَزِيزاً)(2) وإن كان الإعتقاد فيهم أنهم (عليهم السلام) إذا ناموا نامت أعينهم فقط، أما قلوبهم فهي واعية متصلة ببارئها، كما هو المنقول عنهم (عليهم السلام)، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

(تنام عيني ولا ينام قلبي)(3).

ص: 52


1- آل عمران: 190-191.
2- الفتح: 1-3.
3- بحار الأنوار ج 73 ص 189، والاحتجاج ج 1 ص 43، وتفسير الإمام العسكري (عليه السلام) ص 452، وسعد السعود ص 213، وكنز الفوائد ج 2 ص 63، والمناقب ج 1 ص 143.

كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يوظِّف كل شيء حباه الله به لطاعة الله ونيل رضوانه: نفسه وماله وولده وجاهه ومشاعره وأحاسيسه، وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يقول لأبي ذر: (يا أبا ذر ليكن لك في كل شيء نية صالحة حتى في النوم والأكل)(1)، فتعجب أبو ذر: كيف تكون هذه العملية التي هي أوضح مصداق لتلبية شهوات النفس طاعة وعبادة لله سبحانه، فشرح (صلى الله عليه وآله وسلم) له: أليس فيها إدخال للسرور على أهلك، وتحصين نفسك وزوجتك من الحرام، وزيادة في عدد النسمات التي تلهج بتوحيد الله تبارك وتعالى، وكل تلك النيات يمكنك أن تجعلها طاعات وقربات إلى الله سبحانه.

تنازل (صلى الله عليه وآله وسلم) عن كل شيء لله سبحانه، وأول ما تنازل عنه نفسه، فذبح شهواتها على منحر الإخلاص لله سبحانه، (والجود بالنفس اقصى غاية الجود)، وتحرَّر منها، فلم يعد لها سبيل عليه، فكان عبداً مخلصاً لله سبحانه، بل النموذج الأكمل لعباد الله المخلصين، الذين اعترف الشيطان وأقرَّ بأنه لا سبيل له عليهم (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)(2).

ما عرف الله أحد مثله، وهو القائل لعلي (عليه السلام): (يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت)(3)، لذلك كانت له مع الله تعالى حالاً وصفها (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنها لا

ص: 53


1- أعلام الدين ص 194، ومكارم الأخلاق ص 463.
2- سورة ص: 82-83.
3- تأويل الآيات الظاهرة ص 145، وص 227، وبحار الأنوار ج 39 ص 84، والمناقب ج 3 ص 267.

يحتملها ملك مقرَّب ولا نبي مرسل، عندما عُرج به (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى السماء حتى كان قاب قوسين، أو، أدنى دنواً وإقتراباً من العلي الأعلى، وكان معه الروح الأمين جبرئيل (عليه السلام) فتخلف عنه حينذاك وقال: (تقدَّم يا رسول الله ليس لي أن أجوز هذا المكان، ولو دنوت أنملة لاحترقت)(1).

ولمعرفته بحقيقة العبودية لله سبحانه كان كثير العبادة لا يفتر عنها، وقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (قرة عيني الصلاة)(2)، لأنها معراجه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقربانه واتصاله بالحبيب، يصلي حتى تتورم قدماه، فيقف على واحدة ويرفع الأخرى لتستريح قليلاً، فعوتب من قبل الرب (طه، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى)(3).(4)

إن العبودية الحقيقية هي الطاعة المطلقة لله سبحانه، ونبذ كل معبود دونه، وأية معصية هي شرك بالله العظيم لأنها ناشئة من عبادة وطاعة غيره،

ص: 54


1- بحار الأنوار ج 18 ص 382.
2- بحار الأنوار ج 16 ص 249، وج 73 ص 141، وج 74 ص 78، وج 79 ص 193، وص 211، وص 233، وج 83 ص 3، ص 232، وج 87 ص 343، وج 100 ص 218، ووسائل الشيعة ج 2 ص 143، وص 144، ج 8 ص 116، ومستدرك الوسائل ج 1 ص 419، وج 3 ص 41، وأعلام الدين ص 191، والأمالي للطوسي ص 527، الكافي ج 5 ص 321، والخصال ج 1 ص 165، وص 166، وروضة الواعظين ج 2 ص 373، وشرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 19 ص 341، وعوالي اللآلي ج 3 ص 296، ومجموعة ورام ج 1 ص 91، وج 2 ص 53، ومعدن الجواهر ص 31، ومفتاح الفلاح ص 182، ومكارم الأخلاق ص 34.
3- طه: 1-2.
4- أُنظر: وسائل الشيعة ج 5 ص 491، وبحار الأنوار ج 16 ص 85.

سواء كانت النفس الأمَّارة بالسوء، أو، شياطين الجن، أو، شياطين الإنس وطواغيتهم، الذين نصبوا أنفسهم أرباباً من دون الله سبحانه، أو، العرف والعادة التي يرضخ لها الإنسان ويطيعها، وإن كان في ذلك معصية الله سبحانه، أو، السلف الذي يُقدَّس أحياناً ويُتبَّع، ويُجعل هو المقياس للحق لا الحق مقياساً لصالحه من باطله، كل هذه الآلهة التي تُعبد من دون الله تعالى نبذها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأشار إليها الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم (أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللّهُ عَلى عِلْمٍ)(1) (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ)(2) (ما أُرِيكُمْ إِلاّ ما أَرى)(3) (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ)(4) (قالُوا يا شُعَيْبُ أَ صَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا)(5) (وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ)(6) واعترض بعضهم على الإمام (عليه السلام): إننا لم نعبد أحبارنا ورهباننا، قال (عليه السلام): نعم، لم تسجدوا لهم، لكنهم أمروكم فأطعتم، ونهوكم فانتهيتم، وشرَّعوا لكم قوانين وأنظمة مخالفة لشريعة الله، فاتبعتموهم، و هذا هو المعنى الحقيقي للعبادة، وفي

ص: 55


1- الجاثية: من الآية 23.
2- التوبة: من الآية 31.
3- غافر: من الآية 29.
4- الزخرف: 54.
5- هود: من الآية 87.
6- آل عمران: من الآية 64.

الحديث

(مَنْ أَصْغَى إِلَى نَاطِقٍ فَقَدْ عَبَدَهُ، فَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ يُؤَدِّي عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ عَبَدَ اللَّهَ، وَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ يُؤَدِّي عَنِ الشَّيْطَانِ فَقَدْ عَبَدَ الشَّيْطَانَ)(1).

وقد تكفَّل الله تبارك وتعالى بحمايته (صلى الله عليه وآله وسلم) من هذه المؤثرات، وانقطاعه عن كل تلك الأسباب التي تحرف الفطرة، وتوقع في الخطأ، منذ ولادته (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما ينقل لنا أمير المؤمنين (عليه السلام):

(ولقد قرن الله به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره)(2)، وعن الإمام الباقر (عليه السلام)

(ووكّل بمحمد ملكاً عظيماً منذ فصل عن الرضاع، يرشده إلى الخيرات ومكارم الأخلاق، ويصده عن الشر ومساوئ الاخلاق)(3).

ومن مظاهر هذه الرعاية ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أذكر و أنا غلام إبن سبع سنين، وقد بنى إبن جذعان داراً له بمكة، فجئت مع الغلمان

ص: 56


1- الكافي ج 6 ص 434، وسائل الشيعة ج 17 ص 153، وص 317، وج 27 ص 127، وص 128، ومستدرك الوسائل ج 17 ص 308، وبحار الأنوار ج 2 ص 94، وج 26 ص 239، وج 69 ص 264، وبشارة المصطفى ص 221، وتحف العقول ص 456، وعيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 1 ص 303.
2- بحار الأنوار ج 14 ص 475، وج 15 ص 361، وج 18 ص 271، وج 38 ص 320، وشرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 13 ص 197، والطرائف ج 2 ص 413، والمناقب ج 2 ص 180، ونهج البلاغة ص 300.
3- بحار الأنوار ج 15 ص 361.

نأخذ التراب والمدر في حجورنا فننقله، فملأت حجري تراباً، فانكشفت عورتي، فسمعت نداءاً من فوق رأسي: يا محمد أرخ ازارك، فجعلت أرفع رأسي فلا أرى شيئاً، إلا أني أسمع الصوت، فتماسكت ولم أرخه، فكأن انساناً ضربني على ظهري فخررت لوجهي، وانحل إزاري، وسقط التراب إلى الأرض، فقمت إلى دار أبي طالب عمي ولم أعد)(1).

لذلك كان (صلى الله عليه وآله وسلم) رافضاً منذ أيامه الأولى للأوثان التي يعبدها قومه، وللآثام التي يفعلونها، ففي سن الثانية عشرة جرى بينه (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين الراهب النصراني بحيرا حوار، فسأله الراهب واستحلفه باللات والعزى، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا تسألني باللات والعزى، فو الله ما أبغضت شيئاً بغضهما)(2).

إن العبودية الكاملة لله سبحانه هي معنى العصمة التي نعتبرها الشرط الأول في مقامات النبوة والإمامة، وفي الخبر (إن الله إتخذ ابراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبياً، واتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً، واتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً، ثم إبتلاه بكلمات فأتمهن قال: إني جاعلك للناس إماماً) وهذه المقامات كلها قد تجاوزها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإذا كانت إمامة خليل الرحمن إبراهيم محدودة فإن إمامة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لتكميل نفوس العالمين، والإرتقاء بهم، مفتوحة وواسعة، ولا زالت تتكامل البشرية ببركاته (صلى الله عليه وآله وسلم).

ص: 57


1- بحار الأنوار ج 15 ص 362، وشرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 13 ص 208.
2- بحار الأنوار ج 15 ص 410.

وليعلم الإنسان أنه لا بد من إلهٍ يُعبد، وشيء يطاع، فإن لم يكن الله تبارك وتعالى كان غيره مما ذكرناه، و كفى بذلك خسراناً مبيناً أن يرمي نفسه في أحضان هذه الآلهة، التي لا تملك لنفسها فضلاً عن غيرها ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فليعرف الإنسان قيمة هذه الجوهرة الثمينة التي حباه الله بها، وجعلها قابلة لأن ترتقي فوق مقام الملائكة المقربين:

(من عرف نفسه فقد عرف ربَّه)(1)، ولا يفرِّط بها فيبيعها بثمنٍ بخس.

ولذا كانت المعرفة بالله سبحانه، أي المعرفة بحقيقته وكنه مقام الربوبية ومقام العبودية رأس الفضائل وأساس التكامل، قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

(أول الدين معرفته)(2)، والعمل بلا علم ومعرفة لا قيمة له مهما كثُر، بينما له كل القيمة إذا كان مع معرفة وإن قلَّ، وإن الله سبحانه يقيِّم عباده في ضوء معرفتهم به تبارك وتعالى، لذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل الأنبياء وأشرف الخلق، لأنه أكملهم معرفة.

إن هذه الحياة الدائمة في رحاب الله سبحانه، والذكر المستمر له وعدم الغفلة عنه، ترشحت منه نتائج كثيرة رسمت ملامح شخصيته (صلى الله عليه وآله وسلم)،

ص: 58


1- بحار الأنوار ج 2 ص 32، وج 58 ص 99، وج 92 ص 456، وشرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 20 ص 293، وعوالي اللآلي ج 4 ص 102، ومتشابه القرآن ج 1 ص 44، ومصباح الشريعة ص 13، وغرر الحكم ص 232.
2- نهج البلاغة ص 39 خطبة (1)، وبحار الأنوار ج 4 ص 247، وج 54 ص 176، وج 74 ص 302، والاحتجاج ج 1 ص 198، وشرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 1 ص 72، وعوالي اللآلي ج 4 ص 126.

وكانت العلة وراء كل تصرفاته وسلوكياته، وهنا أودُّ إلفات نظر القادة والمصلحين إلى سنة إلهية، تختصر علينا الطريق وتزيدنا بصيرة في العمل، وأُحيل التفاصيل إلى كتب أخرى: ك - (دور الأئمة في الحياة الاسلامية)، و (شكوى القرآن)، و (شكوى الإمام) ونحوها.

فقد ذكرتُ في أكثر من مناسبة:

الالتفات إلى العلل أهم من المعلولات

أنه ينبغي على كل مصلح يريد أن يتأسى بقيادة القادة وسادة السادة ويسعى للتغيير في النفس والمجتمع أن يلتفت إلى جانب العلل قبل جانب المعلولات، وإذا فكر بعكس ذلك فانه سيتعب نفسه ويضيِّع جهوده، ولا تتحقق إلا نتائج بسيطة لا تناسب حجم الجهد المبذول، ومثاله في طب الأبدان: أن الطبيب الحاذق لا يكتفي بمعالجة الأعراض والظواهر كارتفاع درجة الحرارة، أو، الألم وعدم الشهية ونحوها، وإنما يشخِّص العلة الحقيقية وراء هذه الأعراض فيعالجها، ولو اكتفى بمعالجة الأعراض والآثار والمعلولات دون العلة فهو ليس بطبيب، ونفس الكلام يأتي في طب النفس والمجتمع، فإذا كان المجتمع يعاني من تسلط الاشرار، وما أكثر إبتلاء أمتنا الإسلامية عبر التاريخ والى اليوم بهذا البلاء، فليس من الحكمة أن تعمل لإزالة الأشرار بالسلاح ونحوه، مع بقاء السبب لوجودهم، وهو إنتفاء الإخلاص لله سبحانه في العمل، وإبتعاد الأمة عن

ص: 59

تطبيق الشريعة وعدم إرتقائها إلى مستوى المسئولية، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد بيَّنتْ كثيرٌ من الأحاديث العلاقة الحميمة بين ترك هذه الفريضة وتسلّط الأشرار وعدم إستجابة الدعاء، لأن شكل المتسلطين مناسب للإتجاه العام في المجتمع ومن إفرازاته، ولا يمكن له الدوام والبقاء إذا كان من سنخ مغاير، لذا لما إستشرى في المجتمع الميل إلى الدنيا وحب الدِّعة والراحة، وترك العمل من أجل الله سبحانه والتضحية في سبيله، كانت النتيجة الحتمية أن لا يدوم الأمر لأمير المؤمنين (عليه السلام)، والإمام الحسن (عليه السلام)، مما إضطره إلى التصالح والمهادنة، وعلى العكس حينما تقوى إرادة الأمة وترفض الواقع المنحرف، فسوف لا تكون فرصة البقاء متاحة أمام الأشرار، قال تعالى: (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ)(1) ، وقال تعالى: (فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَ أَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)(2) ، ومن أهم أشكال العذاب تسلُّطُ الأشرار الذين يتخذون عباد الله خولاً وماله دولاً، والإلتفات إلى مثل هذه السنن الإلهية يختصر الطريق على المصلحين، وتبيِّنُ لهم برامج عملهم، وهو ما شخَّصناه بفضل الله

ص: 60


1- يونس: 98.
2- الأعراف: 165.

تبارك وتعالى في زمن الطاغية المدحور، وعملنا به بأوسع أشكاله وساحاته، حتى مَنَّ الله تعالى على الأمة بزواله، وجرياً على هذه السنة الإلهية كان الأئمة (عليهم السلام) يكرِّسون عملهم في عصر الأمويين والعباسيين للتغيير في جانب العلة (إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)(1) وحتى لو أُتيحت لهم فرصة الإستفادة من المعلولات والآثار، أعني إمكانية تسلُّم مناصب قيادية، فإنهم لم يعيروها إهتماماً، لأنها لا قيمة لها، وكالورقة في مهب الريح، ما دام العمل غير تام في جانب العلل، وحادثة الإمام الصادق (عليه السلام) مع أبي مسلم الخرساني حينما أسقط الدولة الأموية وطَهَّر الأرض من أدناسها، عرض تسليم الأمر إلى الإمام (عليه السلام)، لكن الإمام أجابه بوضوح: لستَ من رجالي، ولا الزمان زماني، لأن الأمة لم تصل إلى مستوى من التربية تؤهلها لوعي الإسلام، والحرص على تطبيقه في الحياة، والتضحية في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى، بل

(الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معائشهم فاذا مُحصّوا بالبلاء قلَّ الدّيانون)(2).

ولذلك كان الأئمة (عليهم السلام) يميِّزون بوضوح بين شكلين من الحركات التي تحمل السلاح في وجه السلطة:

ص: 61


1- الرعد: من الآية 11.
2- من كلمات الإمام الحسين (عليه السلام) قبل إستشهاده. بحار الأنوار ج 75 ص 117، وتحف العقول ص 245.

الأولى: تلك الحركات التي كانت تستهدف التغيير والإصلاح في المجتمع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحفاظ على منهج الإسلام النقي الأصيل وإحياء الوازع الديني في النفوس، كحركة زيد الشهيد (عليه السلام)، فكانوا يشيدون بأصحابها، وهي نادرة، كترحُّم الإمام الصادق (عليه السلام) على عمه زيد، وكذا الإمام الرضا (عليه السلام)، ودعاء الإمام الصادق (عليه السلام) ويداه ترتعشان على من هجا زيداً بالبيتين المعروفين:

صلبنا لكم زيداً على جذع نخلةٍ

ولم نر مهدياً على الجذع يصلبُ... الخ بأن يسلط عليه كلباً من كلابه، فافترسه الأسد، وقد أدلج(1). الثانية: الحركات التي تتوجه إلى تغيير الحكام من دون العمل على إصلاح الواقع الفاسد، فهؤلاء كان الأئمة (عليهم السلام) ينأون بأنفسهم بعيداً عنهم، وينهونهم عن الخروج، لعدم صلاح نياتهم، وربما تبرأوا منهم، و هذا التبرّي له عدة وجوه، أحدها ما ذكرناه من الإختلاف في وجهات النظر في أسلوب العمل.

وبالإلتفات إلى هذين الشكلين نستطيع أن نفهم إتجاهين من الروايات:

أحدهما: التي تحثُّ على الحركة والخروج على السلطات الجائرة،

ص: 62


1- بحار الأنوار ج 46 ص 192.

ومنها كتاب الإمام الحسين (عليه السلام) الذي أرسله إلى أشراف الكوفة: (فقد علمتم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قال في حياته: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثم لم يغيّر بقول ولا فعل، كان حقيقاً على الله أن يُدخله مدخله)(1)، و مثل قول الإمام الصادق (عليه السلام): (لوددتُ أن الخارجي يخرج من آل محمد، وعَلَيَّ نفقة عياله)(2)، وقوله (عليه السلام): (لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد)(3).

ثانيهما: الروايات الناهية عن كل ذلك، والمحذِّرة من إتِّباع مثل هذه الحركات، وأنها ضالة، كحديث

(كُلُّ رَايَةٍ تُرْفَعُ قَبْلَ قِيَامِ الْقَائِمِ فَصَاحِبُهَا طَاغُوتٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)(4).

حيث ظهر وجه الجمع بينهما، بحمل الأولى على الشكل الأول، والثانية على الثاني، وهو ليس جمعاً تبرعياً لا دليل عليه، بل إن سيرتهم (عليهم السلام) ومواقفهم من تلك الأحداث تؤيد هذه النظرة.

ص: 63


1- بحار الأنوار ج 44 ص 381.
2- وسائل الشيعة ج 15 ص 54.
3- المصدر الصفحة.
4- الكافي ج 8 ص 295، ووسائل الشيعة ج 15 ص 52، ومستدرك الوسائل ج 11 ص 34، وبحار الأنوار ج 25 ص 114، وج 52 ص 143، والغيبة للنعماني ص 114، وص 115.

عودة الى الحديث عن المعرفة بالله تبارك وتعالى

يقول أهل المعرفة: إن يعقوب (عليه السلام) لما بكى حتى إبيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، لم يكن ذلك لأجل فقدان يوسف (عليه السلام)، وإن كان خطباً عظيماً، وإنما بكى لأجل التوبة من التقصير الذي ظهر منه أمام المولى، حتى عوقب بذلك، وأيُّ واحدٍ منا عندما يبتلى ببلاء، أو، يُحرم من طاعة كصلاة الليل، أو، صلاة الفجر، فعليه أن يفكِّر بإصلاح ما فسد من حاله الذي أدَّى به إلى هذه النتيجة(1).

إن مقام النبوة والإمامة، وكذا ما ينوب عنهما من المرجعية، يمكن أن يُفهم على كلا المستويين، مستوى العلل، وحينئذٍ يكون كاشفاً عن تلك الدرجة من الكمال والتربية التي يصل إليها الإنسان ليستحق هذه المقامات الشريفة، ويمكن أن يُفهم في جانب المعلولات، ويكون معناه ذلك التشريف العظيم حين يختاره الله تبارك وتعالى ويصطفيه من بين عباده ليتبوأ هذه المقامات الشريفة.

ومن خطل التفكير أن تشرأبَّ الأعناق لنيل هذه المقامات دون السعي إلى تهيئة عللها، كما فعل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما قال (صلى الله عليه وآله وسلم) في معركة خيبر:

(لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يُحبُّ الله ورسوله، ويُحبُّه الله

ص: 64


1- صلاة الجمعة، الخامسة، الخطبة الثانية، للسيد الشهيد الصدر (قدس سره الشريف) في مسجد الكوفة المعظم.

ورسوله، كرار غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه)(1) وقد وصفهم الأزري في هائيته:

فاستطالت أعناق كل فريقٍ *** ليروا أي ماجدٍ يعطاها

ولم يفكِّر أحدٌ منهم بأنه هل وصل إلى المستوى الذي يؤهله للتشرف بهذه الكرامة، ولم يستحقها إلا أمير المؤمنين (عليه السلام).

كلُّ واحدٍ منا يود أن يكون من المتقين، ومن المفلحين، ومن الذين يرثون الفردوس، ومن الذين يحبهم الله، ومن السابقين السابقين، وغيرها من العناوين الشريفة، التي لها إستحقاقات عظيمة، و هذا شيء جيد و حسن أن يطمح الانسان في هذه المراتب، ويتسابق إليها، لكن هذه الإستحقاقات لا تنال إعتباطاً، وإنما لها مبادئ وعلل، فمثلاً ذكر الله تعالى مبادئ وعللاً وأوصاف لورثة الفردوس، فمن أراد أن يكون منهم فليحققها فيه، قال تعالى: (بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ، وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ، وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ، إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ، وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ، وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ

ص: 65


1- بحار الأنوار ج 23 ص 182، وج 42 ص 155، وج 44 ص 74، والاحتجاج ج 1 ص 272، والطرائف ج 1 ص 58، والعمدة ص 154، عوالي اللآلي ج 4 ص 88، وكتاب سليم ص 790، ونهج البلاغة ص 216.

يُحافِظُونَ، أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ، اَلَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(1).

وهكذا في وصف عباد الرحمن والمتقين وغيرهم، فاْسعَ إذن لتحقيق هذه المبادئ والعلل، وستكون المعلولات، وهي الأوصاف والمقامات التشريفية، نتيجة حتمية لتلك العلل.

قلتُ في أكثر من مناسبة: أن أحدكم(2) قد يتأذى لو كان مدرِّساً فترك أحد الطلبة حلقة درسه، أو، كان إمام جماعة فترك أحد المأمومين الصلاة خلفه، أو، كان مرجعاً فعدل أحد المقلدين عن تقليده، وكان عليه بدلاً من أن يتأذى من هذا المسكين، ويصب عليه جام غضبه، أن يفتش في نفسه عن العلة التي أوجبت ذلك فيسعى في إصلاحها.

كانت هذه الفكرة واضحة في ذهن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث كانت إرهاصات بعث نبي جديد تدور في أرجاء الجزيرة، نتيجة لما بَشَّرت به الديانات السابقة، ووضعت له من علامات تحقَّق أغلبها، وكان أكثر من شخص وطائفة يتمنونها فكان اليهود (وَ لَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكافِرِينَ)(3) وكان أبو عامر الراهب الفاسق

ص: 66


1- المؤمنون: 1-11.
2- الخطاب كان موجهاً لفضلاء وطلبة الحوزة العلمية في النجف الأشرف.
3- البقرة: 89.

والد حنظله غسيل الملائكة في أحد، حنظلة الذي ترك قومه في المدينة مغضباً حينما بايعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان مَنْ يقول (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)(1) وهو الثقفي، أما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان تفكيره حكيماً، لأنه علم أن هذا المنصب الشريف لا يُعطى إلا بعد تربية مكثفة، وإنعزال تام عن إنحرافات المجتمع وشروره، فحبِّب إليه الإختلاء في غار حراء(2) لينفرد بالخالق، ويتفكر في المخلوقات، ويطيل التأمل في الوجود والحياة وسرهما، والهدف من وراء هذا الكون المترامي الأطراف بكل ما يحمله من دقة وتناسق وتنظيم، وتجرَّدَ عن الماديات حتى يفنى بالعظيم الذي بيده كل ذلك.

ولما تكاملت التربية التي تولاها الله تبارك وتعالى بنفسه، لعدم وجود من هو أكمل منه يربيه، وتَمَّ الأدب: (أدَّبني ربي فأحسن تأديبي)، كان من الطبيعي جداً أن يحضى بالشرف العظيم: السفارة الإلهية، والرسالة عن

ص: 67


1- الزخرف: 31.
2- لاحظ أن هذا التفرغ لله سبحانه، أو، الحاجة إلى (غار حراء) المعنوي، ليست مقتصرة على حال ما قبل التصدي للمسئولية والإستعداد لها، بل هو ضروري ومهم على طول الخط، فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا حلَّت العشر الأواخر من شهر رمضان طوى فراشه، وشَدَّ مئزره، وشَمَّر عن ساعد الجد للعبادة، ونقرأ في سيرة الإمام الكاظم (عليه السلام) أنه عندما سجن قال: إلهي طالما كنتُ أسألك أن تفرغني لعبادتك، وقد فعلتَ، فلك الحمد. بحار الأنوار ج 48 ص 107.

الله سبحانه وتعالى الخالق إلى المخلوقين، و أن يكون الواسطة في الفيض الإلهي على البشرية جميعاً، والسبب في هداية الناس، وتكميل نفوسهم بالفضائل، وتطهيرها من الرذائل، وفي الحديث عن الصادق (عليه السلام):

(إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَدَّبَ نَبِيَّهُ فَأَحْسَنَ أَدَبَهُ، فَلَمَّا أَكْمَلَ لَهُ الأَدَبَ قَالَ: (إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)

ثُمَّ فَوَّضَ إِلَيْهِ أَمْرَ الدِّينِ وَ الأُمَّةِ لِيَسُوسَ عِبَادَهُ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)

وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) كَانَ مُسَدَّداً مُوَفَّقاً مُؤَيَّداً بِرُوحِ الْقُدُسِ، لا يَزِلُّ وَلا يُخْطِئُ فِي شَيْ ءٍ مِمَّا يَسُوسُ بِهِ الْخَلْقَ)(1).

وفي حديث آخر

(إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ عَبْداً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَهُ نَبِيّاً)(2)، فالخطوة الأولى: التربية المتكاملة حتى بلوغ العبودية المحضة لله سبحانه، ومن ثَمَّ إفاضة المناصب الإلهية، ولكل منصب تربيته المناسبة، فإن تكملة الحديث السابق:

(وَإِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَهُ نَبِيّاً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَهُ رَسُولاً، وَإِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَهُ رَسُولاً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَهُ خَلِيلاً، وَإِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَهُ خَلِيلاً قَبْلَ أَنْ يَجْعَلَهُ إِمَاماً، فَلَمَّا جَمَعَ لَهُ الأَشْيَاءَ قَالَ: (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً)(3) (4) .

ص: 68


1- الكافي ج 1 ص 266.
2- المصدر ج 1 ص 175.
3- البقرة: من الآية 124.
4- الكافي ج 1 ص 175، وبحار الأنوار ج 12 ص 12، وج 25 ص 205، وص 206، والاختصاص ص 22، وص 23.

هذه هي مرتبة الإمامة وسمو مقامها، فهي فوق كل منصب، لأنها قيادة البشرية نحو تكميل النفوس بالفضائل، وتخليتها عن الرذائل، فلا يقوم بها إلا من بلغ أعلى درجاتها.

ومما يضحك الثكلى أن يُعطى هذا اللقب إلى من تفصله مسافة طويلة عن كمال النفس، فكيف سيكون سبباً لتكميل الآخرين، وفي الحديث:

(لا يَكُونُ السَّفِيهُ إِمَامَ التَّقِيِّ)(1) وكل مَنْ تصدر منه معصية فهو سفيه حتى يتوب، لأن: (العقل ما عبد به الرحمن)(2)، كما في الحديث، فمعصيته تبارك وتعالى سفاهة، وتغييب للعقل، وبه استدل على عصمة الإمام (عليه السلام).

خصائص نفسية للنبي (صلى الله عليه واله وسلم)

وقد تحصلت إلى الآن عدة خصائص نفسية له (صلى الله عليه وآله وسلم).

الأولى: الفناء التام في الله تبارك وتعالى، والعبادة الدائمة له سبحانه، بحيث يكون الله تبارك وتعالى، هدفه دائماً، والمحور الذي ترتكز عليه كل تفاصيل حياته، والإخلاص في الطاعة.

الثانية: المعرفة التامة بحقيقة الربوبية وحقوقها، والعبودية ووظائفها.

ص: 69


1- الكافي ج 1 ص 175، وبحار الأنوار ج 12 ص 12، وج 25 ص 205، والاختصاص ص 22.
2- الكافي ج 1 ص 11، ووسائل الشيعة ج 15 ص 205، وبحار الأنوار ج 1 ص 116، وج 33 ص 170، وشرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 18 ص 186، والمحاسن ج 1 ص 195، ومعاني الأخبار ص 239.

الثالثة: عدم التصدي لموقع، أو، منصب إلا أن يولِّيه الله سبحانه إياه، وغاية ما يفعله أن يهيء في نفسه الإستعداد والأهلية للعطاء الإلهي، وعندئذ يفيض الله سبحانه على العبد ما يستحقه، فانه تبارك وتعالى لا بخل في ساحته، ولا يحجب عطاءه عن أحد، إلا أن تحجبهم الذنوب دونه، وقد طبَّق (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك على أصحابه، فكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لا نولِّي الأمر أحداً يطلبه ويسعى إليه، وإنما نحن الذين نختار للأمر من نشاء.

الرابعة: الأدب الرفيع مع الله سبحانه بالتسليم المطلق له تبارك وتعالى، فلا يقترح على الله شيئاً، ولا يعزم على أمر دون أن يستاذنه تبارك وتعالى، حتى في مثل تسمية سبطيه، فحينما قال له علي وفاطمة (عليهما السلام): سمِّ الوليد هذا فنحن لا نسبقك، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): ما كنت لاسبق ربي بتسميته فنزل عليه الوحي من الله تبارك وتعالى يخبره بتسميته حسناً، وكذا تسمية أخيه الحسين (عليه السلام). وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يبتُّ في أمر حتى يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): أمهلني حتى يأتيني حبيبي جبرئيل؛ حتى في لحظاته الأخيرة حينما خَيَّره ملك الموت بإذن الله بين اللحوق بالرفيق الأعلى، أو، الخلود في الدنيا، وهو على ما هو عليه من المنزلة الرفيعة، فاستمهله حتى يستأذن ربه(1)، فنزل عليه جبريل يقرأ عليه الآية الشريفة (وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى)(2) ؛ فمثَّل بذلك العبودية الحقيقية لله سبحانه، و هذا وجه

ص: 70


1- الجعفريات ص 211.
2- الضحى: 4-5.

لفهم ما ورد: أن الله سبحانه وتعالى خلق الكون وما فيه من أجله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته، والوجه أن الله سبحانه يقول (وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ)(1) ولم تتحقق العبودية الكاملة إلا فيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته، فصحَّ أن خلق الجن والانس كان لأجلهم (عليهم السلام). وقد أدَّب الله تعالى عباده بذلك فضلا عن رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال تبارك وتعالى: (فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(2).

5 - تطبيق الشريعة في كل تفاصيل حياته، ومراجعة بسيطة لكتاب مكارم الأخلاق تعطيك الشاهد على ذلك، فكلُّ حركاته وسكناته كانت وفق الشريعة، بل كانت أفعاله عين الشريعة وتأسيساً لها.

ص: 71


1- الذاريات: 56.
2- النساء: 65.

صفات القائد الرسالي المبنية على المعرفة بالله تبارك وتعالى

وقد قلنا إن هذه الخصائص ترشَّحت عنها نتائج كثيرة رسمت ملامح شخصيته (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانت العلة لتصرفاته وسلوكه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي تمثِّل صفات وخصائص من يتولى أمر الأمة تأسياً برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن هذه الصفات:

الصفة الأولى: التذكُّر الدائم لقدرة الله عليه والتصرف بحاله، ومن ذلك توقعه الموت في أية لحظة، كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول:

(مَا طَرَفَتْ عَيْنَايَ إِلا ظَنَنْتُ أَنَّ شُفْرَيَّ(1) لا يَلْتَقِيَانِ حَتَّى يَقْبِضَ اللَّهُ رُوحِي، وَمَا رَفَعْتُ طَرْفِي وَظَنَنْتُ أَنِّي خَافِضُهُ حَتَّى أُقْبَضَ)(2)؛ إشترى أسامة بن زيد وليدة(3)، وأجَّل الثمن مدة شهر، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إن إسامة لطويل الأمل(4)، وكان ينهى ويحذر

ص: 72


1- شُفْرُ العين: منابت الأهداب من الجفون. لسان العرب، مادة: شفر.
2- مستدرك الوسائل ج 2 ص 109، وبحار الأنوار ج 70 ص 166، وروضة الواعظين ج 2 ص 437، ومجموعة ورام ج 1 ص 271.
3- وليدة: الأَمة وإن كانت مسنة، وأيضاً يطلق على الوصيفة. لسان العرب، مادة: ولد.
4- مستدرك الوسائل ج 2 ص 109، وبحار الأنوار ج 70 ص 166، وروضة الواعظبن ج 2 ص 437، وشرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 18 ص 127، ومجموعة ورام ج 1 ص 50.

من طول الأمل، ويوصي بتذكر الموت دائماً فانه خير واعظ: قال (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه يوماً:

(إِنَّ الْقُلُوبَ تَصْدَأُ كَمَا يَصْدَأُ الْحَدِيدُ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا جَلاؤُهَا؟، قَالَ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَذِكْرُ الْمَوْتِ)(1)؛ و يقول عن طول الأمل: إنه ينسي الآخرة(2)؛ وفي الحديث (يشيب المرء وتشبُّ معه خصلتان، إتباع الهوى وطول الأمل)، وهما خصلتان رذيلتان، وينبع منهما الكثير من الشرور؛ كَانَ ضَحِكُ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)

التَّبَسُّمَ؛ فَاجْتَازَ ذَاتَ يَوْمٍ بِفِتْيَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ، وَإِذَا هُمْ يَتَحَدَّثُونَ وَيَضْحَكُونَ مِلْ ءَ أَفْوَاهِهِمْ؛ فَقَالَ: مَهْ، يَا هَؤُلاءِ مَنْ غَرَّهُ مِنْكُمْ أَمَلُهُ وَقَصَرَ بِهِ فِي الْخَيْرِ عَمَلُهُ فَلْيَطَّلِعِ الْقُبُورَ، وَلْيَعْتَبِرْ بِالنُّشُورِ، وَاذْكُرُوا الْمَوْتَ فَإِنَّهُ هَادِمُ اللَّذَّاتِ(3).

إن لذكر الموت ثمرات عديدة:

1 - يحجز المرء عن عمل المعاصي وإتباع الشهوات، فان من يكون متوقعاً للموت في أية لحظة كيف يقدم على معصية وهو يعتقد أنه قد يأتيه الأجل وهو على ذلك الحال فيختم له بالشقاء، فلو فكَّر كل مَنْ يهمّ بمعصية هذا التفكير لكان خير رادع عن القيام بها.

2 - يدعوه إلى الإسراع بالخيرات، والإزدياد من الطاعات، وإغتنام كل لحظة، وإستثمار كل آن في حياته، ليتقرب إلى الله سبحانه، ما دام

ص: 73


1- مستدرك الوسائل ج 2 ص 104، شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 10 ص 23، وص 144، وعوالي اللآلي ج 1 ص 279.
2- الكافي ج 1 ص 44، وبحار الأنوار ج 73 ص 59، والأمالي للطوسي ص 522.
3- وسائل الشيعة ج 12 ص 119.

يعتقد أنه قد لا يبقى إلى الزمن الثاني، وما دام كل رأسماله هو هذه اللحظات التي يعيشها، فلماذا لا يستثمرها في تجارة لن تبور؛ قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في غرر كلامه:

(فَمَنِ اشْتَاقَ إِلَى الْجَنَّةِ سَلا عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَمَنْ أَشْفَقَ مِنَ النَّارِ رَجَعَ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَمَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا هَانَتْ عَلَيْهِ الْمُصِيبَاتُ، وَمَنْ رَاقَبَ الْمَوْتَ سَارَعَ إِلَى الْخَيْرَاتِ)(1).

3 - عدم تسويف التوبة، بل المبادرة إليها، والقيام بكل متطلباتها، من الاستغفار، والندم، وعقد العزم على عدم العود، وأداء الحقوق، ورَدِّ المظالم إلى أهلها.

4 - عدم التكبر والغرور والطيش، ما دام يعلم أن نهايته إلى الموت والفناء، و هل يرضى عاقل أن يغتر، أو، يطغى بشيء زائل مهما كان عظيما في تصوره، فتزول اللذة وتبقى التبعة.

5 - جلاء القلوب من الرين والصدا الذي يعتريه بسبب الذنوب، كالمرآة التي تصدأ من الغبار والدخان الذي تتعرض له، فتتضائل قابليتها على عكس الصور الخارجية بوضوح، كذلك القلب الذي هو مرآة الحقائق الواقعية يتكدر بغبار الذنوب ويسوَدُّ، وجلاؤه في الموعظة وذكر الموت، كما نقلنا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل قليل وكما اوصى امير المؤمنين (عليه السلام) ولده الحسن (عليه السلام): اي بني أحي قلبك بالموعظة وأمته

ص: 74


1- الكافي ج 2 ص 50، وبحار الأنوار ج 65 ص 350.

بالزهادة(1). ومن كلمات له (صلى الله عليه وآله وسلم) في الإهتمام بذكر الموت وبيان آثاره (أكثروا ذكر هادم اللذات، فانكم إن ذكرتموه في ضيق وسَّعه عليكم، فرضيتم به، فأُثبتم، وان ذكرتموه في غناء بغَّضَه إليكم، فجدتم به، فأُجرتم؛ فان المنايا قاطعات الآمال، والليالي مدنيات الآجال، فان أحدكم إذا مات فقد قامت قيامته، ويرى ماله من خير، أو شر، وإن المرء بين يومين، يوم يومٌ قد مضى احصي فيه عمله فختم عليه، ويومٌ قد بقي فلا يُدرى لعله لا يصل اليه، وإن العبد عند خروج نفسه وحلول رمسه يرى جزاء ما أسلف، وقلة غناء ما خلف، ولعله من باطل جمعه، أو، من حق منعه)(2).

فالموت، يا أحبتي، آت وكل آت قريب، ومن كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام):

(نَفَسُ الْمَرْءِ خُطَاهُ إِلَى أَجَلِهِ)(3)، لأنه بكل نَفَس، يخطو خطوة إلى أجله، لذا ورد في بعض الكلمات: (إنك منذ يوم هبطت من بطن أمك استقبلت الآخرة واستدبرت الدنيا)(4). وفي رسالة بعثها الإمام الكاظم (عليه السلام) من سجنه المظلم إلى هارون العباسي: (أنه لن ينقضي عني يوم من البلاء إلا انقضى عنك معه يوم من الرخاء، حتى نقضي جميعاً إلى

ص: 75


1- نهج البلاغة، من وصيته الى ولده الحسن (عليه السلام) عند انصرافه من صفين.
2- إرشاد القلوب للديلمي مع اضافات من مصادر أخرى.
3- نهج البلاغة ص 480، وبحار الأنوار ج 70 ص 128، وغرر الحكم ص 165، وشرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 18 ص 221.
4- الاختصاص ص 236 من وصايا لقمان الحكيم لابنه.

يوم ليس له انقضاء، يخسر فيه المبطلون)(1).

فلماذا إذن الإغترار بالدنيا مهما عظمت، ولماذا التنافس على أمور وهمية ليست حقيقية لأنها زائلة، كان الإمام الكاظم (عليه السلام) في تشييع جنازة، فوقف على القبر، ونظر إلى ذلك المكان الموحش المظلم الذي سيدفن فيه وحيداً غريباً، لا قرين معه إلا عمله، فقال (عليه السلام):

(إِنَّ شَيْئاً هَذَا آخِرُهُ لَحَقِيقٌ أَنْ يُزْهَدَ فِي أَوَّلِهِ، وَإِنَّ شَيْئاً هَذَا أَوَّلُهُ لَحَقِيقٌ أَنْ يُخَافَ مِنْ آخِرِهِ)(2).

قال (صلى الله عليه وآله وسلم) لأحد أصحابه قيس بن عاصم المنقري: (يا قيس، إن مع العز ذلاً، وإن مع الحياة موتاً، وإن مع الدنيا آخرة، و إن لكل شيء حسيباً، وعلى كل شيء رقيباً، وإن لكل حسنة ثواباً، ولكل سيئة عقاباً، وإن لكل أجل كتاباً، وإنه يا قيس، لا بد لك من قرين يُدفن معك وهو حي، وتُدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، لا يُحشر إلا معك، ولا تُحشر إلا معه، و لا تُسأل إلا عنه، ولا تُبعث إلا معه، فلا تجعله إلا صالحاً، فإنه إنْ كان صالحاً لم تأنس إلا به، وإن كان فاحشاً لا تستوحش إلا منه، وهو عملك)(3).

ص: 76


1- بحار الأنوار ج 48 ص 148.
2- وسائل الشيعة ج 16 ص 15، وبحار الأنوار ج 70 ص 103، وج 75 ص 320، وتحف العقول ص 408، ومعاني الأخبار ص 343.
3- بحار الأنوار ج 74 ص 177، وإرشاد القلوب ج 1 ص 36، وأعلام الدين ص 331، والأمالي للصدوق ص 2، والخصال ج 1 ص 114، ومعاني الأخبار ص 232.

نزل جبرئيل الأمين على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوماً وقال له: (يا محمد، السلام يقرئك السلام، و يقول لك: إن شئتَ صَيَّرْتُ معك جبال تهامة ذهباً وفضة، وخذ هذه مفاتيح كنوز الأرض، ولا ينقص ذلك من حظك يوم القيامة، قال: يا جبرئيل، وما يكون بعد ذلك؟، قال: الموت؛ فقال: إذن لا حاجة لي في الدنيا، دعني أجوع يوماً وأشبع يوماً، فاليوم الذي أجوع فيه أتضرع إلى ربي وأسأله، و اليوم الذي أشبع فيه أشكر ربي وأحمده، فقال له جبرئيل: وفقتَ لكل خير يا محمد.(1) فليكن هاجس (ثم ماذا) يراودنا دائماً حينما نغتر بالدنيا، ونزهو بالموقع، ونتنعم على حساب الآخرين.

وها قد وصلنا إلى صفة ثانية ترشحت عن المعرفة الإلهية بترابط وثيق لا يكاد ينفك، وهي:

الصفة الثانية: الإعراض عن زخارف الدنيا وزينتها وزبرجها، وهو شرط من شروط تشريفهم بهذا المنصب الجليل، كما ورد في دعاء الندبة (إذ اخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم المقيم، الذي لا زوال له ولا اضمحلال، بعد أن شرطتَ عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنية وزخرفها وزبرجها، فشرطوا لك ذلك، وعلمتَ منهم الوفاء به، فقبلتهم وقربتهم وقدَّمتَ لهم الذكر العلي، والثناء الجلي، وأهبطتَ عليهم ملائكتك، وكرَّمتهم بوحيك، ورفدتهم بعلمك، وجعلتهم الذريعة إليك،

ص: 77


1- بحار الأنوار ج 42 ص 275.

و الوسيلة إلى رضوانك)(1) أدَّبه بذلك ربه (وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ أَبْقى)(2) ، أي لا تنظر نظر راغب إلى ما متعنا أصنافاً من الكفار، فانه لا قيمة له مقابل ما أُوتي من القرآن العظيم، الذي يقودك إلى النعيم المقيم الدائم.

وخاطَبه ربه مذكِّراً بنعمة الله تعالى بإيتاء القرآن التي تندك أمامها كل نعمة، وخصوصاً الدنيوية فقال تعالى: (وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)(3).

وقد صاغ (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه التربية بقوله: (مَنْ أُوتِيَ الْقُرْآنَ فَظَنَّ أَنَّ أَحَداً مِنَ النَّاسِ أُوتِيَ أَفْضَلَ مِمَّا أُوتِيَ فَقَدْ عَظَّمَ مَا حَقَّرَ اللَّهُ، وَحَقَّرَ مَا عَظَّمَ اللَّهُ)(4)، وأدَّبه ربه أيضاً بقوله: (وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ... ، وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا....)(5) ، فالحياة الحقيقية هي في رحاب الله تعالى ووسط أهل الله، في هذه الزخارف التافهة، وزَجَرَ من يخالف هذه المعايير في التعامل (عَبَسَ وَ تَوَلّى

ص: 78


1- الإقبال ص 295، وبحار الأنوار ج 99 ص 104، مفاتيح الجنان.
2- طه: 131.
3- الحجر: 87-88.
4- الكافي ج 2 ص 604، ووسائل الشيعة ج 6 ص 170، وص 181.
5- الأنعام: من الآية 52، والكهف: من الآية 28.

أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكّى)(1) . وكيف تطمح نفسه او ترنو عينه إلى شيء من متاع هذه الدنيا وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي شبهها بسحابة أظلتك، ثم لم تلبث أن زالت عنك، أو، أنت ظعنت عنها، وقال الشاعر:

ألا إنما الدنيا كظل سحابة *** أظلتك يوماً ثم عنك اضمحلت

وفي الحديث: لو كانت الدنيا تعدل عند الله من الخير جناح بعوضة ما سقى فيها كافراً شربة ماء(2)؛ وكيف يقبل (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه الدنيا الفانية المليئة بالمنغصات بديلاً عن الآخرة، التي لا زوال لنعيمها ولا اضمحلال، كما مَرَّ عليك في الدعاء، بل إن أهل المعرفة يقولون: إنه لم يقبل بالآخرة أيضاً بديلاً عن الله سبحانه كما جاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (الدنيا حرام على أهل الآخرة، والآخرة حرام على أهل الدنيا، وهما حرامان على أهل الله)(3)، فهل تشغله الحور العين، ولحم طير مما يشتهون، والولدان المخلدون، عن (رضوان من الله أكبر و ذلك هو الفوز العظيم)، وهو سر تقسيم أهل الجنة إلى أصحاب يمين، والسابقين السابقين.

يعطيه (صلى الله عليه وآله وسلم) القرآن مثلاً عن حقارة الدنيا: (وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ عَلَيْها

ص: 79


1- عبس: 1-3.
2- بحار الأنوار ج 43 ص 20، وج 61 ص 320، والأمالي للصدوق ص 234 ج 70 ص 86.
3- العوالي واللآلي ج 4 ص 119.

يَظْهَرُونَ، وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَ سُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ، وَ زُخْرُفاً وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ)(1) ، فهذا كله لا قيمة له، ولا يصلح تعويضاً عما أعدَّ الله للمتقين، فماذا حصل عليه أهل المعاصي حتى رضوا بجهنم ثمناً (ماذا وجد من فقدك، وما الذي فقد من وجدك)(2).

وينبغي الإلتفات إلى أن الدنيا التي أعرض عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليست هي الدنيا المحرمة، فهذا أوضح مصاديق العصمة ومتطلباتها، وإنما كان إعراضه عن الدنيا المحللة، التي لم يكن هناك بأس من التمتع بها: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ)(3) ، وإنما زهد فيها (صلى الله عليه وآله وسلم) تواضعاً لله سبحانه، فإعراضه كان تعظيماً لله سبحانه وتعالى وإجلالاً له (عزت أسماؤه) أن يجعل في قلبه حباً وشغلاً غيره تبارك وتعالى؛ سمعت العقيلة زينب أباها أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: إنه لا يحب شيئاً سوى الله تبارك وتعالى، فقالت: وحبك أولادك؟، قال (عليه السلام): تلك هي الشفقة، وربما كان هذا، أي التعلق بالأولاد، مما يراه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذنباً يستغفر منه، وقد وعده الله تبارك وتعالى بالمغفرة: (بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ: إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما

ص: 80


1- الزخرف: 33-35.
2- بحار الأنوار ج 95 ص 216، باب أعمال خصوص يوم عرفة وليلتها، من دعاء مولانا الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) في يوم عرفة، والإقبال ص 349.
3- الأعراف: من الآية 32.

تَأَخَّرَ...)(1) لأنه شيء إقتضته الطبيعة البشرية التي فطرها الله تبارك وتعالى، وفي الحديث (ان القلوب بين اصبعين من اصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)(2). جاء (صلى الله عليه وآله وسلم) يوماً لزيارة فاطمة (سلام الله عليها)، فوجد على باب دارها إزاراً ملوناً، فرجع عن زيارتها، فبلغها الخبر، فتصدقت به على المسلمين، فعاد إلى زيارتها، وضمها إلى صدره، وهو يقول: ذرية طيبة بعضها من بعض.

الصفة الثالثة: المبدأية، وهي صفة تختصر عناوين كثيرة كالثبات على الحق، وصلابة الإرادة، وعلو الهمة، ورباطة الجاش، وقوة القلوب، وشجاعة النفس، وعدم التزلزل والتراجع مهما كانت الضغوط الخارجية عظيمة، ومهما كانت المغريات كبيرة، وهو القائل لعمه أبي طالب لما جاءته قريش، وعرضت عليه عدة عروض مقابل تخليه عن الدعوة، فاجابهم: (و الله لو وضعوا الشمس في يميني، و القمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله، أو أهلك دونه)(3).

مَرَّ مشرك في أوائل البعثة، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واقفاً يصلي، وإلى جنبه إبن عمه علي (عليه السلام)، وخلفه زوجته خديجة، فسأل عما يدعو إليه، وموقف

ص: 81


1- الفتح: 1-2.
2- بحار الأنوار ج 67 ص 53.
3- بحار الأنوار ج 9 ص 143، وج 35 ص 86، وتفسير القمي ج 2 ص 228، وشرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 14 ص 54، والمناقب ج 1 ص 58.

قومه منه، فقيل له: إن هذا محمد، الذي يقول كذا وكذا، فقال: إن أمره سيظهر، وإن دعوته ستنتشر، قيل: وكيف؟، قال: لعلو همته، وقوة إرادته، وهو يواجه الدنيا بصبي وإمرأة؛ يقول (صلى الله عليه وآله وسلم):

(الْمُؤْمِنُ أَصْلَبُ مِنَ الْجَبَلِ، الْجَبَلُ يُسْتَقَلُّ مِنْهُ، وَالْمُؤْمِنُ لا يُسْتَقَلُّ مِنْ دِينِهِ شَيْ ءٌ)(1).

لم يثنه الأذى الذي تعرض له، وقد وصفه (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أوذي نبي كما اوذيت؛ يرمونه بالحجارة حتى الإدماء، ويضعون الفرث والدم عليه وهو يصلي، يشتمونه ويصفونه بألوان الأوصاف البذيئة: شاعر، مجنون، ساحر، كذَّاب، وهو صابر محتسب، ماض على بصيرة من أمره، وبينة من ربه، وبدَّلوا أسلوبهم إلى الإغراء، فجاء زعماء قريش إلى عمه وكافله أبي طالب: إن شاء محمد مالاً جمعنا له من أموالنا ما يشاء، وإن شاء ملكاً ملَّكناه علينا، فرفض كل تلك العروض، قاطعوه هو ومن معه، وعزلوه إقتصادياً وإجتماعياً، في شعب أبي طالب، لا يبيعون لهم، ولا يشترون منهم، لا يزوجونهم، ولا يتزوجون منهم، وأمضى في الحصار سنين، توفي خلاله ركناه اللذان كان يأوي إليهما، عمه أبو طالب، وزوجته خديجة، عَذَّبوا أصحابه بصنوف العذاب ليفتنوهم عن دينهم، حتى استشهد والدا عمار بن ياسر تحت التعذيب، فيمر عليهم وهو يقول: صبراً

ص: 82


1- أُنظر: الكافي ج 2، ص 241، وص 243، وج 5 ص 63، وتهذيب الأحكام ج 6 ص 179، ووسائل الشيعة ج 16 ص 156، ومستدرك الوسائل ج 12 ص 210، وبحار الأنوار ج 64 ص 72، وص 362، وج 67 ص 92..

آل ياسر، فإن موعدكم الجنة.

حتى تآمروا على قتله، فأحاطوا بداره في جوف الليل، وهم أربعون رجلاً من أشداء قريش، ليضربوه ضربة رجل واحد، فأذَن الله سبحانه له في الهجرة إلى المدينة، فغادر مكة مسقط رأسه، ومحل ذكرياته، ومسكن آبائه، ومثوى أحبائه، ومهوى الأفئدة، وأشرف بقاع الأرض، وله في كل موطن منها موقف رسالي يربطه برب العزة والجلال، غادرها وهو يتلفت إلى الوراء حزناً على فراقها وشوقاً إليها، فنزل عليه القرآن من ربه الرؤوف الرحيم يطيب خاطره: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ)(1) كما كان معه على طول الخط يرعاه ويوجهه ويطيب خاطره ويسليه، فكان البلسم الشافي لجراح قلبه.

ثم جَيَّشوا الجيوش لقتاله وإستئصاله، ومع ذلك بقي مطمئن القلب ساكن النفس، يقول علي (عليه السلام) رمز الشجاعة وعنوانها:

(كنا إذا اشتد البأس وحمي الوطيس اتقينا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولذنا به)(2)، فكانت أوصافه هذه منبعاً يستقي منه أصحابه (صلى الله عليه وآله وسلم). ومعيناً ينهلون منه، فهذا عليٌّ أخو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وصنوه وربيبهُ، عندما أجمعوا على مبايعته، والمدينة مضطربة بالثائرين الغاضبين، والمنافقين، والمتربصين بالإسلام والمسلمين سوءاً، وبالإنتهازيين الذين يريدون القفز إلى السلطة، فكان أول قرار له عزل

ص: 83


1- القصص: من الآية 85.
2- شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 13 ص 279.

الولاة الفاسدين، ورد المظالم إلى أهلها، فقال له خاصته: لو تركت معاوية على الشام حتى يستتب الوضع، وتستقيم لك الأمور، فإن عزله الآن يدفعه إلى التمرد والثورة والقتال؛ لكن مبدأيته التي تعلَّمها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تأبى ذلك، فقال: لا والله، لا أبيت ليلة ومعاوية على الشام؛ لأنه لا يريد أن يلقى الله تعالى وهو مسؤول عن مظالم معاوية وانحرافاته التي استشهد من أجل فضحها، فاين قادة اليوم وسياسيو الأمة وحكامها من هذه المبدأية، وهم يدوسون المبادئ والمثل العليا من أجل ما يسمونه بالمصالح بحسب ما يزعمون؟!.

الصفة الرابعة: سعة الصدر، وفي الحديث

(آلَةُ الرِّئَاسَةِ سَعَةُ الصَّدْرِ)(1)، وأية رئاسة أعظم من تصديه (صلى الله عليه وآله وسلم) لهداية الخلق، وتكميل نفوسهم، والأخذ بأيديهم في طريق الكمال والسمو، والقرب من الله سبحانه، فلا بد أن يكون صدره واسعاً بقدر عدد البشر الذين يرعاهم أفقياً، وبقدر تباين مستوياتهم النفسية والعقلية والإجتماعية عمودياً، وهو كما ترى مدى واسع لا يؤتاه إلا ذو حظ عظيم، ومن لا يجد في نفسه هذا الإستيعاب لاستحقاقات الموقع فلا يتصدى لمثل هذه المناصب الشريفة والمقامات الشامخة.

قال (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمه العباس: يابني عبد المطلب

، إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ

ص: 84


1- بحار الأنوار ج 72 ص 357، وخصائص الأئمة ص 110، وغرر الحكم ص 342، ونهج البلاغة ص 501.

بِأَمْوَالِكُمْ، فَسَعُوهُمْ بِأَخْلاقِكُمْ(1)، يقول أنس بن مالك خادم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خدمتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عشر سنين، ما قال لي يوماً لشيء فعلته: لِمَ فعلته؟ ولا بشيء لم أفعله: لِمَ لَمْ تفعله؟، وهي قابلية عجيبة لو درَّب الإنسان نفسه عليها وحدها سنين لما قدر على استيعابها بهذا الشكل، وكان بعض أصحابه يسيئون التعامل معه، ينادونه بإسمه، ويرفعون صوتهم فوق صوته (صلى الله عليه وآله وسلم)، فزجرهم الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ، إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ، إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ، وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(2) وقال تعالى: (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً)(3) و كانوا يطيلون

ص: 85


1- من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 394، وسائل الشيعة ج 12 ص 160، وص 161، وبحار الأنوار ج 68 ص 383، وص 384، وج 71 ص 169، وج 74 ص 186، وص 175، ص 385، والاختصاص ص 225، وأعلام الدين ص 294، والأمالي للصدوق ص 12، وص 446، وروضة الواعظين ج 2 ص 376، وشرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 6 ص 338، وج 11 ص 218، وعوالي اللآلي ج 2 ص 74، وج 4 ص 80، وعيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 53، مستدرك الوسائل ج 8 ص 446، وص 448، وص 453.
2- الحجرات: 2-5.
3- النور: من الآية 63.

المكث عنده مستأنسين لحديثه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان ذلك ثقيلاً عليه، إلا أن كرم أخلاقه تمنعهُ من إخبارهم بذلك، فنزل قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اللّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ)(1).

كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يعرف المنافقين باسمائهم وأعيانهم قال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللّهُ أَضْغانَهُمْ، وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَ اللّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ)(2) ، ويعلم بتصرفاتهم المشينة، كالمرجفين بأهل المدينة، والذين مردوا على النفاق، وهو صابر عليهم؛ مات زعيم المنافقين الذي نزل فيه قوله تعالى في سورة المنافقين: (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ)(3) يقصد بالأذل محمد وأصحابه المهاجرين معه من مكة، فلما مات وقف (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي على جنازته، فجذبه أحد الأصحاب وقال: كيف تصلي عليه وهو رأس النفاق، وفيهم نزل قول الله: (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ)(4) قال (صلى الله عليه وآله وسلم): لو علمتُ أن باستغفاري له واحداً وسبعين

ص: 86


1- الأحزاب: من الآية 53.
2- محمد: 29-30.
3- المنافقون: من الآية 8.
4- التوبة: من الآية 80.

مرة يغفر له لفعلتُ، وقال له بعض أصحابه، لما تبرموا بتصرفات زعيم المنافقين: لو أمرتنا بقتله، قال: أكره ان تقول العرب أن محمداً يقتل اصحابه.

هذا الحلم، و هذا القلب الكبير، والصدر الواسع، حَبَّبه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى كل من يلقاه، أو، يسمع بذكره، قال تعالى: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ)(1) ، ومن سعة صدره أن من بين زوجاته من كانت تنغص عليه عيشه، وتجرح مشاعره، وتطعنه في أحب وأعز الأشياء إليه، وتشكك في رسالته، فتقول له: يامحمد، أنت الذي تزعم أنك رسول الله؛ وأبوها واقف فزجرها.

طعنتاه في شرفه، حينما إتهمتا زوجته مارية القبطية، بأنها حملت ولده إبراهيم من عبد وليس منه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكانت جرحاً عظيماً في مشاعره، و أرسل علياً؛ ليقتله فلما لحق به صعد العبد النخلة فاكتشف علي انه ليس له ما للرجال وكان مجبوبا، وعيّرته نفس الزوجتين حين شرب شراباً يعجبه عند إحدى زوجاته فحرَّم على نفسه ذلك الشراب لدفع تهكمهما، فنزل قوله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ)(2).

على مثل هذه الأجواء داخل بيته كان يصبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونحن نعلم أن المنغصات والمتاعب حينما تكون من داخل البيت فانها تنكِّد

ص: 87


1- آل عمران: من الآية 59.
2- التحريم: من الآية 1.

العيش، وتكدِّر القلب، وتثقل على الروح، بينما مهما عظمت الضغوط من الخارج فانه عندما يعود إلى بيت هانئ سعيد، وعواطف زوجية دافئة، فانه يُلقي همه خارج البيت، خصوصاً وانه عاش مثل هذه الزوجية السعيدة في سنينه الأولى مع خديجة، و ظل يحنُّ لتلك الذكريات، ويكرم كل من يذكره بها بعد وفاتها، وهِجْرَته بسنين(1)، ولعظم هذا التنغيص انتصر له ربه بما لم ينتصر به لأي عدو، فانه تعالى هَوَّن من جميع الأعداء، ووصفهم بالضعف والهوان، أما هذا الذي في داخل البيت فقد حَشَّد الله تعالى كل منابع القوة (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ)(2) ورغم ذلك كله لم نسمع أنه صدر منه ما يدل على أنه تململ، أو، رَدَّ الصاع صاعين.

وله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحاديث كثيرة تحثُّ على مداراة الناس وتحمل أذاهم، ومخاطبتهم على قدر عقولهم، فقد روى الإمام الصادق (عليه السلام) عن جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:

(أَمَرَنِي رَبِّي بِمُدَارَاةِ النَّاسِ، كَمَا أَمَرَنِي بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ)(3)، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم):

(ثَلاثٌ مَنْ لَمْ يَكُنَّ فِيهِ لَمْ يَتِمَّ لَهُ عَمَلٌ، وَرَعٌ

ص: 88


1- راجع محاضرتنا عن ام المؤمنين خديجة بنت خويلد في ذكرى ولادتها للصديقة الطاهرة فاطمة (عليها السلام) وهي منشورة في كتاب (من وحي المناسبات).
2- التحريم: 4.
3- الكافي ج 2 ص 117، ووسائل الشيعة ج 12 ص 200، وج 16 ص 208، وبحار الأنوار ج 2 ص 69، وج 13 ص 135، وج 18 ص 213، وج 72 ص 53، وص 396، وص 440، والأمالي للطوسي ص 481، وص 521، ومعاني الأخبار ص 385.

يَحْجُزُهُ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ، وَخُلُقٌ يُدَارِي بِهِ النَّاسَ، وَحِلْمٌ يَرُدُّ بِهِ جَهْلَ الْجَاهِلِ)(1).

ومن تأديب الله تبارك وتعالى له (صلى الله عليه وآله وسلم)

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)(2) وقال تعالى: (وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ)(3).

إن هذا الصدر الواسع والقلب الكبير كان نتيجة طبيعية لعدة أمور:

1 - عظمة الأهداف التي يعيشها، والمشروع الإلهي العظيم الذي يرى نفسه جزءاً منه، ضمن سلسلة طويلة من الأنبياء والرسل والصالحين، تعاهدوا على مواصلة حمل الأمانة في إقامة الحق والعدل للبشرية، فسمو الهدف يشغل القائد الرسالي عن الإلتفات إلى ذاته، والتأثر لها، والإنفعال بملابساتها.

2 - العالم العلوي الحقيقي الذي يحيا فيه بعيداً عن هذا العالم المحسوس، مما يجعله لا يقيم لتصرفات أهل الدنيا وزناً، و مما يقرِّب هذه الفكرة ما روي: أن الإمام الهادي (عليه السلام) لما استجلبه المتوكل العباسي من مدينة جده (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى سامراء، أنزله خان الصعاليك، وكأنه أراد أن يستصغر

ص: 89


1- الكافي ج 2 ص 116، ومن لا يحضره الفقيه ج 4 ص 358، ووسائل الشيعة ج 12 ص 12، وص 200، وج 15 ص 246، وبحار الأنوار ج 72 ص 437، وج 74 ص 51.
2- فصلت: من الآية 34.
3- القصص: من الآية 54.

شأن الإمام (عليه السلام)، فدخل عليه وهو في ذلك الحال أحد شيعته وتألم لهذه الحال، وقال للإمام (عليه السلام):

جُعِلْتُ فِدَاكَ، فِي كُلِّ الأمُورِ أَرَادُوا إِطْفَاءَ نُورِكَ وَالتَّقْصِيرَ بِكَ حَتَّى أَنْزَلُوكَ هَذَا الْخَانَ الأَشْنَعَ، خَانَ الصَّعَالِيكِ!! فَقَالَ: هَاهُنَا أَنْتَ يَا ابْنَ سَعِيدٍ، ثُمَّ أَوْمَأَ بِيَدِهِ وَقَالَ: انْظُرْ، فَنَظَرْتُ، فَإِذَا أَنَا بِرَوْضَاتٍ آنِقَاتٍ وَرَوْضَاتٍ بَاسِرَاتٍ، فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ عَطِرَاتٌ وَوِلْدَانٌ كَأَنَّهُنَّ اللُّؤْلُؤُ الْمَكْنُونُ وَأَطْيَارٌ وَظِبَاءٌ وَأَنْهَارٌ تَفُورُ، فَحَارَ بَصَرِي وَحَسَرَتْ عَيْنِي، فَقَالَ: حَيْثُ كُنَّا فَهَذَا لَنَا عَتِيدٌ، لَسْنَا فِي خَانِ الصَّعَالِيكِ(1).

3 - أهمية النتائج والعاقبة الحسنة التي يتوقعها، فكلما تسامى عن ردود الفعل العاطفية، وعن الإنتصار لنفسه وانانيته، كان جزاؤه عند الله تعالى أعظم، قال تعالى: (وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(2) ، (أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ)(3).

4 - عظمة الله في عينه، التي صغَّرت ما دونه، كما وصف أمير المؤمنين المتقين، وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) سيدهم:

(عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ، وَهُمْ وَالنَّارُ

ص: 90


1- الكافي ج 1 ص 498، وبحار الأنوار ج 50 ص 132، وص 202، والاختصاص ص 324، والإرشاد ج 2 ص 311، وإعلام الورى ص 365، وبصائر الدرجات ص 406، وروضة الواعظين ج 1 ص 246، وكشف الغمة ج 2 ص 383، والمناقب ج 4 ص 211.
2- التغابن: من الآية 14.
3- النور: من الآية 22.

كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ)(1).

5 - وعد الله تبارك وتعالى بانه هو الذي يأخذ بحق المؤمنين وينتصر لهم، إن صدقوا فيما عاهدوا الله من الإخلاص له ونكران ذاتهم، (إِنَّ اللّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوّانٍ كَفُورٍ)(2).

فهو يستحي أن يعيش لحظة لنفسه، فإذا أحب فلله، وإن أبغض فلله، وإذا تألم فلله، وإذا فرح فلله؛ حينما تمكَّن أمير المؤمنين (عليه السلام) من عمرو بن عبد ود العامري فارس فرسان قريش في معركة الخندق، وعلا صدره ليجهز عليه، ثارت بينهما غبرة، ففوجئ المسلمون بقيام علي (عليه السلام) عنه من دون أن يقتله، ثم عاد إليه وقطع رأسه، فسُئل عن ذلك قال (عليه السلام): لما علوت صدره بصق اللعين في وجهي، فتركتُ قتله لئلا يكون غضباً لنفسي، فلما هدأت عدتُ إليه وذبحته خالصاً لله سبحانه(3).

الصفة الخاامسة: التواضع، كان (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يتميز عن أصحابه بمأكل،

ص: 91


1- نهج البلاغة ص 303 خطبة 193، وبحار الأنوار ج 64 ص 315، وص 341، وج 65 ص 192، وج 75 ص 23، وص 28، وص 73، وأعلام الدين ص 138، والأمالي للصدوق ص 570، وتحف العقول ص 659، والتمحيص ص 70، وروضة الواعظين ج 2 ص 438، وشرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 10 ص 132، وصفات الشيعة ص 18، وكتاب سليم ص 849، وكشف الغمة، ج 1 ص 100، وكنز الفوائد ج 1 ص 90، ومكارم الأخلاق ص 475.
2- الحج: 38.
3- أُنظر: مستدرك الوسائل ج 18 ص 28.

ولا بملبس، ولا بمجلس، وإذا دخل منزلاً قعد في أدنى المجلس إليه حين يدخل،

وكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) يَجْلِسُ عَلَى الأَرْضِ، وَيَأْكُلُ عَلَى الأَرْضِ، وَيَعْتَقِلُ الشَّاةَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ عَلَى خُبْزِ الشَّعِيرِ.(1) وَيَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ، وَيَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ، وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ.(2)، بحيث أن الأعرابي إذا دخل المسجد يطلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: أيكم محمد(3)، هكذا كان كأي واحد من أصحابه.

تقدَّم منا أن تخليه عن الطيبات المحللة كان تواضعاً لله سبحانه وتعظيماً لشأنه، وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما يتواضع ليس تكلفاً بل حقيقة وعن معرفة، لأن التواضع المحمود على قسمين:

الاول: تواضع من يرى لنفسه شأناً ما، ولكنه يتواضع لما بلغه من حسن التواضع، والأجر الذي يُعطى للمتصف به، والحمد والثناء على صاحبه، فيتواضع.

الثاني: تواضع المعرفة بحقيقة العبودية، وأنه لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، تواضع الفقر والحاجة والإضطرار، فهو

ص: 92


1- وسائل الشيعة ج 12 ص 108، ومستدرك الوسائل ج 16 ص 227، وبحار الأنوار ج 16 ص 222، وص 229، والأمالي للطوسي ص 393، ومكارم الأخلاق ص 16.
2- مستدرك الوسائل ج 8 ص 269.
3- أُنظر: بحار الأنوار ج 41 ص 230، وج 43 ص 333، وج 91 ص 5، والقصص للرواندي ص 295.

لا يرى لنفسه قيمة ولا شأناً، فيكون التواضع طبيعة له وعلى القاعدة، وليس إستثناءاً يتكلفه، لأنه لا يملك شيئاً يتعالى به، أو، يتكبر، أو، يطغى من أجله، فتكون هذه الصفات عنده سالبة بانتفاء الموضوع، ومثله لا يحتاج إلى دليل على حسن التواضع ومدح صاحبه ليتواضع، هذا المستوى من المعرفة بالله تعالى عبر عنه سبطه الإمام الحسين (عليه السلام) في دعاء عرفة: (إلهي مَنْ كانت محاسنه مساوي، فكيف لا تكون مساويه مساوي، ومن كانت حقائقه دعاوي، فكيف لا تكون دعاويه دعاوي)(1) (إلهي أنا الفقير في غناي، فكيف لا أكون فقيراً في فقري، إلهي أنا الجاهل في علمي، فكيف لا أكون جهولاً في جهلي)(2)، وجَسَّد مثل هذا التواضع نبي الله موسى، حينما أوحى الله سبحانه إليه في إحدى مناجاته، أنه: ياموسى، إذا أتيت إلى المناجاة الآتية فاصطحب معك مخلوقاً أنت افضل منه، وحاول موسى (عليه السلام) وهو النبي الكريم، وأحد أولي العزم من الرسل، أن يجد من البشر من يراه دونه فلم يجد، فنظر في الحيوانات فلم يجد، إلى أن عثر على كلب أجرب فقاده معه، وفي أثناء الطريق أطلقه، تواضعاً لله تبارك وتعالى ان يجد نفسه شيئاً عند الله تعالى، فلما جاء إلى المناجاة أوحى الله سبحانه إليه أنه: حسناً فعلت حين أطلقت الكلب، ولو

ص: 93


1- بحار الأنوار ج 95 ص 225، والإقبال ص 348.
2- بحار الأنوار ج 95 ص 225، والإقبال ص 348.

جئتَ به لكنتُ محوتك من ديوان النبوة(1).

هكذا ينبغي للمؤمن أن ينظر إلى نفسه نظرة إزدراء، وإستهانة، وتوبيخ، وتحقير، لتندفع باستمرار نحو الكمال، يؤدبنا الحديث الشريف في هذا السياق: بأنك لا تستطيع أن تجزم أنك أفضل من أحد غيرك، لأن هذا الغير لا يخلو أما أن يكون مسلماً، أو، غير مسلم، فان كان مسلماً فهو لا يخلو أما أن يكون أكبر منك، فحسناته أكثر منك، أو، أصغر سناً منك فسيئاته أقل منك، وإن كان غير مسلم فلا تدري لعل الله يختم له بالحسنى، وأنت لا تعلم بخاتمتك، بمثل هذا التفكير يكبح الإنسان نفسه، ويذوِّب أنانيتها وكبرياءها.

الصفة السادسة: الرحمة ورقة القلب، والرأفة بالمؤمنين، ومشاركتهم في آلامهم وهمومهم، يصفه القرآن الكريم بانه (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(2) فيؤلمه ويعز عليه أن يصيب العنَتَ(3) أحداً من المؤمنين، وهو حريص عليكم، فكان يودُّ أن يؤمن جميع الناس، ويدخل كل البشر الجنة، ويتحسَّر على مَنْ لم يؤمن ويحزن، حتى نزل قوله تعالى: (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ)(4) ، أي قاتل نفسك على آثارهم، أي بعد

ص: 94


1- أُنظر: عدة الداعي ص 218.
2- التوبة: من الآية 128.
3- العَنَتُ: دخول المَشَقَّةِ على الإنسان، ولقاء الشدة. لسان العرب، مادة: عنو.
4- الكهف: من الآية 6.

توليهم عنك، (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً)(1) ، وقال تعالى: (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(2) وقال له ربه: (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ)(3) وكانت رحمته تسع حتى الكفار والمشركين، فحينما كانوا يؤذونه أشد الأذى كان يقول: اللهم إغفر لقومي فإنهم لا يعلمون(4).

ويرق قلبه على الحيوانات، إصطاد أحد أصحابه عصفوراً، لهواً وعبثاً، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) له: هل أنت محتاج للحمه؟، قال: لا؛ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إستعد للمساءلة، فان هذا العصفور سيخاصمك عند رب العزة والجلال ويقول: خذ حقي من هذا، فانه قتلني من غير حاجة للحمي. كان (صلى الله عليه وآله وسلم) خارجا مع جيش له واثناء سيرهم راى طائرا يحلق فوق رؤوس الجيش لا يفارقهم فجمع اصحابه وسالهم هل تعرفون من امر هذا الطائر شيئا فقال احدهم نعم يارسول الله مررنا اثناء مسيرنا بعش هذا الطائر ووجدت فيه افراخا فاخذتها فهذه الام تتبعهم وتحوم حولهم فاوقف حركة الجيش وامر ذلك الرجل بارجاع الصغار إلى عشهم.

فلا عجب أن يقف سبطه الحسين (عليه السلام) يوم الطف يبكي على هؤلاء

ص: 95


1- الكهف: من الآية 6.
2- الشعراء: 3.
3- فاطر: من الآية 8.
4- بحار الأنوار ج 95 ص 167، والإقبال ص 212، وص 213، ومجموعة ورام ج 1 ص 99، وص 186، ونهج الحق ص 308.

القوم الذين يقاتلونه، لأنهم يدخلون النار بسببه، وهو الذي جاء رحمة وهداية لهم، فكان (صلى الله عليه وآله وسلم) رحمة لكل المخلوقات، وبهذا وصفه ربه: (وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ)(1) ، فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) رحمة لكل العوالم، وليس فقط لعالم البشر دون غيره، فهو مظهر الرحمة الإلهية، أظهر الله تعالى من خلاله رحمته لمخلوقاته (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)(2).

كان كثيراً ما يبكي رقة ورحمة، فتجد روايات كثيرة تحكي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه رأى كذا فبكى، وسمع كذا فبكى، وقيل له كذا فبكى، خصوصاً حينما ينظر إلى أهل بيته الأطهار علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، ويتذكر ما يجري عليهم فيقول لهم: (أنتم المستضعفون بعدي)(3)، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يروى لأصحابه قصص الرحمة والرحماء، كالأم التي غُرِّرَ بولدها أحد ليقتلها ويأتيه بقلبها، ففعل المغرور، وفي طريقه عثر بحجر، فناداه قلب الأم: ولدي، فديتك، هل أصابك من ضرر؛ أو، تلك الأم التي رماها الطغاة وولدها في الأخدود، فرفعته إلى أعلى بيدها لتحميه من النار، غير مكترثة بجسمها المحترق، وينتقل بهم من هذه الأمثلة إلى

ص: 96


1- الأنبياء: 107.
2- آل عمران: من الآية 159.
3- بحار الأنوار ج 24 ص 168، وج 28 ص 50، وج 36 ص 325، وج 79 ص 168، وشواهد التنزيل ج 1 ص 555، وعيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 610، ومعاني الأخبار ص 79.

سعة رحمة الله تعالى، و يقول لهم: إن جزءاً من مئة جزء من رحمة الله وزعها على مخلوقاته، فبها يتراحمون.

وقد جعل الإمام الباقر (عليه السلام) هذه الرحمة شرطاً لولاية أمر الأمة، ففي الخصال عنه (عليه السلام) قال: (إن الإمامة لا تصلح إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن المحارم وحلم يملك به غضبه، و حسن الخلافة على من ولي حتى يكون له كالوالد الرحيم)(1)، قال (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه يوماً:

(حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ وَمَمَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟، فَقَالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): أَمَّا حَيَاتِي فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)(2) وَأَمَّا مُفَارَقَتِي إِيَّاكُمْ فَإِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيَّ كُلَّ يَوْمٍ فَمَا كَانَ مِنْ حَسَنٍ اسْتَزَدْتُ اللَّهَ لَكُمْ وَمَا كَانَ مِنْ قَبِيحٍ اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ لَكُمْ)(3).

كان معروفاً بالرحمة والرقة حتى مع أعدائه، وقد استغلوا كرم أخلاقه هذا، تأسياً بكرم الله تعالى حينما يوقف عبده المذنب و يقول له: (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)(4) حتى عصيته، وتمردت عليه، فعلَّمه العذر والجواب بنفس السؤال ليقول العبد العاصي: غرني كرمك.

ص: 97


1- الخصال ج 1 ص 116، والكافي ج 1 ص 407، وبحار الأنوار ج 25 ص 137، وج 27 ص 250.
2- الأنفال: من الآية 33.
3- من لا يحضره الفقيه ج 1 ض 191، وسائل الشيعة ج 16 ص 109.
4- الإنفطار: من الآية 6.

كان النضر بن الحارث بن كلدة من أشد قريش عليه (صلى الله عليه وآله وسلم): يستأجر الجواري ليغنين بهجاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، أُسر في بعض المعارك، وجيء به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال النضر: إستبقني للصبية؛ فعفا عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأُطلق سراحه، فعاد الملعون إلى عمله القبيح، وهو يقول: ضحكتُ على محمد وخدعته؛ فأُسر في معركة بدر وعاد إلى نفس المقالة، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): هيهات، لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين؛ وأمر بضرب عنقه، فلما وصل خبره إلى أخته رثته بأبيات تذكر فيها شفقة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ورقته وتعتب عليه، أنه أما كان من الممكن إبقاءه لأطفاله، وإن صدر منه ما يستحق القتل، و مما قالت:

أمحمد ولأنت نجل نجيبةٍ *** في قومها والفحل فحل معرق

ما كان ضرك لو مننت وربما منَّ الفتى وهو المغيظ المحنق(1)

فلما وصلت الأبيات إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رقَّ قلبه، وقال: لو بلغني هذا الكلام قبل أن أقتله لأبقيتُ عليه، هكذا كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يحبّ هذه الصفة ويشجعها ويستجيب لها.

وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يوصي بما ينشر الرحمة في القلب ويزيل قساوته، كالمسح على رأس اليتيم فمن وصاياه لعلي (عليه السلام): يا علي، مَنْ مسح يده على رأس يتيم ترحماً له، أعطاه الله عز وجل بكل شعرة نوراً يوم القيامة(2).

ص: 98


1- شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 14 ص 171-172.
2- مكارم الأخلاق ص 444 من وصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).

الصفة السابعة: الإحساس الوجداني بالتسديد الإلهي، وشموله بالرعاية الربانية، وعدم انقطاع اللطف الإلهي عنه.

و هذا قد يكون بعدة أشكال:

منها: الوحي المباشر، كما حصل لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

أو، بالإلهام والتحديث، كما كان يحصل للأئمة المعصومين، المعبَّر عنه بالنكت في القلب.

أو، يكون من خلال تحقق علامات وجدانية باطنية يحسها الشخص حين إختياره لقيادة الأمة وولاية أمرها وحمل امانة الانبياء، قال تعالى: (وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ، وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِراطِ اللّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ)(1).

ويبقى هذا العطاء الإلهي مستمراً ومحسوساً، مادام في هذا الموقع، إن كان تلبُّسه به حقيقياً لا ادعاءاً وتقمصاً.

ومن دون الإطمئنان لهذا التسديد المعبَّر عنه باللطف والتوفيق، بأي شكل من أشكاله، فلا يجوز له أن يتبوأ هذا المنصب، فإن الشيطان قد يسوِّل له، ويحسِّن حاله لدى نفسه، فيعتقد بالجهل المركب أنه للولاية أهل، وتعمي نفسه الأمَّارة بالسوء قلبه وعقله، فيكون من (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً اَلَّذِينَ

ص: 99


1- الشورى: 15-53.

ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)(1).

في كتاب التوحيد عن الإمام الصادق (عليه السلام): (ما علم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن جبرئيل من قبل الله عز وجل إلا بالتوفيق)(2) وفي تفسير العياشي عن زرارة: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كيف لم يخف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يأتيه من قبل الله أن يكون ذلك مما ينزغ به الشيطان؟، قال: فقال: إن الله إذا إتخذ عبداً رسولاً أنزل عليه السكينة والوقار، فكان يأتيه من قبل الله عز وجل مثل الذي يراه بعينه)(3) لاحظ هذه التعابير عن الإحساسات الوجدانية.

وفي الكافي باسناده عن أبي بصير قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى (وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ)(4).

قَالَ:

خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَعْظَمُ مِنْ جَبْرَئِيلَ وَمِيكَائِيلَ، كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) يُخْبِرُهُ وَيُسَدِّدُهُ، وَهُوَ مَعَ الأَئِمَّةِ مِنْ بَعْدِهِ)(5) ونقل الطبرسي عن الإمامين الصادق والباقر (عليهما السلام): (أن المراد من هذا الروح ملك

ص: 100


1- الكهف: من الآية 103-104.
2- التوحيد ص 242، وبحار الأنوار ج 5 ص 203، وج 18 ص 256، وتفسير العياشي ج 2 ص 201.
3- تفسير العياشي ج 2 ص 201، وبحار الأنوار ج 18 ص 262.
4- الشورى: من الآية 52.
5- الكافي ج 1 ص 273، وبحار الأنوار ج 18 ص 264، وج 24 ص 318، وج 25 ص 59، وص 61، وبصائر الدرجات ص 455، وص 456، وتأويل الآيات ص 353.

أعظم من جرئيل وميكائيل كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يصعد إلى السماء، وإنه لفينا)(1)، وقد تقدَّم في أول الكتاب عن نهج البلاغة قول أمير المؤمنين (عليه السلام): ولقد قرن الله به (صلى الله عليه وآله وسلم) من لدن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره).

وهذه الصفة، أعني الإطمئنان إلى توفيق الله تعالى ولطفه، ضرورية إذا علمنا أن الولاية على البشر لا تكون إلا لله ولرسوله وللأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، ولمن أذن الله له أن يتصرف في شؤون عباده، عن الإمام الجواد (عليه السلام): (المؤمن يحتاج إلى توفيق من الله وواعظ من نفسه وقبول ممن ينصحه)(2) فكيف بمَنْ يلي أمور المؤمنين؟

ومن هذه العلامات إستشعار هيبة وخشية إضافية لله سبحانه عند تشريفه بمنصب إلهي كبير، عَنْ هَارُونَ بْنِ الْفَضْلِ قَالَ:

رَأَيْتُ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ فِي الْيَوْمِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام) فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، مَضَى أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام)، فَقِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ عَرَفْتَ؟، قَالَ: لأَنَّهُ تُدَاخِلُنِي ذِلَّةٌ لِلَّهِ لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهَا)(3) وهذه الذلّة لله التي أشار اليها

ص: 101


1- أُنظر: الكافي ج 1 ص 273، وبحار الأنوار ج 18 ص 265، وج 25 ص 61، وبصائر الدرجات ص 457.
2- تحف العقول ص 457، مستدرك الوسائل ج 8 ص 329، وج 11 ص 135، وبحار الأنوار ج 72 ص 65، وص 103، وج 75 ص 358، والمحاسن ج 2 ص 604.
3- الكافي ج 1 ص 381، وبحار الأنوار ج 27 ص 292، وج 50 ص 14، وص 135، وبصائر الدرجات ص 467، ودلائل الإمامة ص 219.

الامام (عليه السلام) ناشئة من الدفقة الجديدة من المعرفة التي أُلقيت إليه (عليه السلام)، لما أصبح إماماً فعلياً قائماً بالأمر، فأفاض الله تبارك وتعالى عليه رعاية وتسديداً، وعناية اضافية لم يكن محتاجاً إليها لقيام سلفه الطاهر (عليهم السلام) بالأمر دونه.

ويدل عليه ما ورد عن عبيد بن زرارة وجماعة معه، قالوا: سمعنا أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:

(يَعْرِفُ الَّذِي بَعْدَ الإِمَامِ عِلْمَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ فِي آخِرِ دَقِيقَةٍ تَبْقَى مِنْ رُوحِهِ)(1).

وليس هذا العطاء من طرف واحد، أي من قبل الله سبحانه، وان كان تعالى هو المبتدئ بالفضل، وإنما هو عطاء متبادل، باعتبار أن العبد كلما ازدادت مسئوليته، فتزداد همته للطاعة، ومراقبته لله سبحانه، وإمساكه بزمام نفسه، منطلقاً من شعوره المتزايد بالمسئولية، فمثلاً يوجد شعور بدرجة ما لدى كل مؤمن بالمسئولية أمام الله تعالى، تدفعة إلى الالتزام بمستوى من الإيمان والورع والتقوى، فإذا ارتدى الزي الديني مثلاً إندفع أزيد إلى الإلتزام، لأنه يشعر أنه قد تصاعدت درجته ظاهراً لدى الناس، فلابد أن يتكامل، ويتحسن باطنه بنفس الدرجة، وإلاَّ فانه يصبح منافقاً ظاهره خير من باطنه، فإذا تصدى لإمامة الجماعة إزداد شعوره بالمسئولية تجاه الله تعالى في تكميل نفسه، وتطهير قلبه، ليكون بمستوى الموقع الجديد الذي يفترض فيه العدالة و حسن الظن لدى من يأتم به، فإذا أصبح مرجعاً دينياً

ص: 102


1- الكافي ج 1 ص 274، وبحار الأنوار ج 27 ص 294، وبصائر الدرجات ص 477.

يتصرف بشؤون المسلمين، ويأتمنونه على الحلال والحرام في المال والعرض والنفس، ويتخذونه طريقاً للتعبد بشريعة الله تبارك وتعالى، فإنه يفترض أن يكون على درجة عالية من العدالة، يراها الناس قريبة من العصمة، لأنها المرتبة التي يعتقدون أنه قد وصلها.

هذه الهيبة والخشية أحَسَّ بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين نزل عليه الوحي؛ فعاد إلى بيته مثقلاً بالمسئولية التي أُلقيت عليه، خاشعاً متصدعاً قلبه من خشية الله، الناتجة من المعرفة به سبحانه، التي أُفيضت عليه، فتدثَّر بثيابه، فنزل قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ)(1) هذه المسئولية الكبيرة هي التي أشار إليها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما سُئل عن إسراع الشيب إليه قال (صلى الله عليه وآله وسلم): شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون(2)؛ فقيل في تفسيره: انه لِمَا ورد فيها من الآية الشريفة: (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ)(3) وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلم أن هذه الإستقامة أحَدُّ من السيف، ادق من الشعرة.

هذه العناية الإضافية ليست خاصة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل عامة لكل من يتولى أمور المسلمين بإذن الله تعالى، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال:

(مَا مِنْ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ إِلاَّ وَلأَوْلِيَاءِ اللَّهِ فِيهَا سُرُورٌ؛ قُلْتُ: كَيْفَ ذَلِكَ، جُعِلْتُ

ص: 103


1- المدثر: 1-2.
2- أُنظر: وسائل الشيعة ج 1 ص 172، ومستدرك الوسائل ج 4 ص 242، وبحار الأنوار ج 16 ص 192، وج 89 ص 198، والأمالي للصدوق ص 233، والخصال ج 1 ص 199، وروضة الواعظين ج 2 ص 475، وعوالي اللآلي ج 1 ص 188.
3- هود: من الآية 112.

فِدَاكَ؟، قَالَ: إِذَا كَانَ لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ وَافَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) الْعَرْشَ، وَوَافَى الأَئِمَّةُ (عليهم السلام)، وَوَافَيْتُ مَعَهُمْ، فَمَا أَرْجِعُ إِلاَّ بِعِلْمٍ مُسْتَفَادٍ، وَ لَوْلا ذَلِكَ لَنَفِدَ مَا عِنْدِي)(1) والشاهد الآخر على هذا التعميم قول الإمام الصادق (عليه السلام): (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم

): نَحْنُ فِي الأَمْرِ وَالْفَهْمِ وَالْحَلالِ وَالْحَرَامِ نَجْرِي مَجْرى وَاحِداً، فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَعَلِيٌّ (عليه السلام) فَلَهُمَا فَضْلُهُمَا)(2).

إن من علامة إختيار القائد للأمة إستشعاره هذه المنن الإضافية، وإحساسه الوجداني بالفيوضات الإلهية، ليس على صعيد العلم والمعرفة بالله سبحانه، بل في سائر الملكات النفسية الشريفة: كالورع، والتقوى، والشجاعة، والصبر، والحلم، وكظم الغيظ، والكرم، والقناعة، والغنى عما في أيدي الناس، وقطع الأمل عما سوى الله تبارك وتعالى، وهي أمور تُحَسُّ بالوجدان، ويعتبر تحققها إذنا من قبل الله سبحانه، وإختباراً منه تبارك وتعالى لهذا المنصب الشريف، وعندئذ يرعاه الله بعنايته، ويسدد خطاه، ويجري الخير عليه، وإذا تهالك على هذا المنصب وتنافس عليه فسيتخلى الله سبحانه عنه، ويوكله إلى نفسه تطبيقاً للحديث (من اختاره الله سبحانه لأمر أعانه الله عليه، ومن اختار لنفسه وكَّله الله إليها).

ص: 104


1- الكافي ج 1 ص 254، وبحار الأنوار ج 22 ص 552، وج 26 ص 90، وبصائر الدرجات ص 131.
2- الكافي ج 1 ص 275، وبحار الأنوار 16 ص 360، وج 25 ص 357، وج 39 ص 92، والاختصاص ص 267، وبصائر الدرجات ص 480.

ولأن هذا الأمر وجداني غير قابل للإستدلال؛ أذكر المزيد من الشواهد على كون هذه الحالة الوجدانية التي يسكبها الله تعالى في قلب من يختاره شرطاً للإذن في التصدي للمواقع الشريفة، ومنها ما ورد في زيارة الإمام الحسين (عليه السلام)، أنك تقف على الباب، وتستأذن، فإذا خشع قلبك، ودمعت عيناك، فهي علامة الإذن بالدخول.

وينقل عن بعض أهل المعرفة أنه قدم للزيارة فقرأ الإستئذان ورجع ولم يدخل، وكررها ثانياً، ودخل في الثالثة، فقيل له في تفسير ذلك، قال: لأنني لم أحصل على الإذن في الدخول إلا في الثالثة، بهذه العلامات الوجدانية.

وصحيح أنه لا يمكن إقامة الدليل على هذه الأفكار، وإن ذكرتُ أكثر من شاهد عليها، لكن الأمور ليست دائماً تثبت بالبرهان، فان بعضها يثبت بالوجدان، ويُعلم بالعلم الحضوري لا الحصولي، ويكون من الصعب إقامة البرهان عليها، وهي عند أهلها واضحة جداً، لكنها غير واضحة طبعاً عند من يفهم المرجعية وقيادة الأمة على أنها مرتبة علمية فقهية صرفة، يتأهل لها من يجيد النقض والإبرام وحبك الدليل، وكأننا في أروقة أكاديمية علمية بحتة، ولسنا في ممارسة ميدانية واسعة تتجاوز حدود الدولة التي يعيش فيها المرجع، ولم يعلم أن هذه الدرجة العلمية أحد شروط قيادة الأمة وليس الوحيد، وأهم منه هذه الملكات النفسية والقلبية، أما من نال هذه الدرجة العلمية فهو: باحث، وعالم، ومدرِّس،

ص: 105

ومرجع فتوى على صعيد الفقه الفردي، لكنه ليس قائداً يتولى أمور الأمة.

الصفة الثامنة: الحياة في ظل القرآن، فما من قائد ومصلح يسعى لإنجاح مسيرته إلا ويجب عليه أن يعيش مع القرآن بكل كيانه ويتزود منه، فإنه (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ)(1) ، و (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ)(2) ، وقد أثبت إعجازه في إحداث تلك النقلة الكبيرة، وقد تحدَّثنا عن الدروس المستفادة من الحركة الإصلاحية التي قادها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرآن الكريم في كتاب (شكوى القرآن)، وتحدَّثنا هناك أيضاً عن دور القرآن في توجيه القائد ورعايته، والمهم هنا أن نتعرف على اهتمام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرآن، ومرافقته له، وما هي الآثار المترتبة على حياة القائد في كنف القرآن، قال الإمام السجاد (عليه السلام):

(لَوْ مَاتَ مَنْ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَمَا اسْتَوْحَشْتُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مَعِي)(3).

لقد أُمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بتلاوة القرآن وقيام الليل إستعداداً لتحمل هذا القول الثقيل، فقال تعالى: (بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ : يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً،

ص: 106


1- النحل: من الآية 89.
2- الأنعام: من الآية 38.
3- الكافي ج 2 ص 602، وسائل الشيعة ج 5 ص 331، ومستدرك الوسائل ج 3 ص 463، وبحار الأنوار ج 46 ص 107، وج 83 ص 66، وج 89 ص 239، وتفسير العياشي ج 1 ص 23.

إِنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً، إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلاً)(1) ، ولم يكتف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بتلاوته، بل كان يطلب من عبد الله بن مسعود أن يقرأ القرآن عليه، فيعتذر ابن مسعود إليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، بانه نزل عليك يا رسول الله ونحن اخذناه منك، فيقول (صلى الله عليه وآله وسلم): أحب أن أسمعه منك؛ يريد أن يمتِّع سمعه وبصره به، فيقرأ إبن مسعود، وعينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تفيض من الدمع، وهكذا كان يتفاعل مع القرآن، قرأ سورة الرحمن يوماً على المسلمين وهم منصتون، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (الجن كانوا أحسن جواباً منكم لما قرأتُ عليهم (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) * قالوا: لا ولا بشيء من آلائك ربنا نُكذِّب)(2).

كان (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا قرأ القرآن أثَّرَ في مستمعيه، وأشعرهم وكأنَّ، الآيات المباركة، تنزل على قلوبهم مباشرة، قرأ سورة الزمر على شاب نقي القلب طاهر السريرة، فلما وصل إلى قوله تعالى: (وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا، قالُوا بَلى وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ، قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ، وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ، وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ

ص: 107


1- المزمل: 1-6.
2- بحار الأنوار ج 18 ص 78، والمناقب ج 1 ص 47.

اَلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ، وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(1) شهق ذلك الشاب شهقة كانت فيها نفسه؛ وإذا قرأ (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله تعالى في نهاية سورة القيامة: (أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى)(2) قال (صلى الله عليه وآله وسلم): سبحانك اللهم وبلى(3).

قال (صلى الله عليه وآله وسلم):

(تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَاحِبَهُ فِي صُورَةِ شَابٍّ جَمِيلٍ شَاحِبِ اللَّوْنِ، فَيَقُولُ لَهُ الْقُرْآنُ: أَنَا الَّذِي كُنْتُ أَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَأَظْمَأْتُ هَوَاجِرَكَ، وَأَجْفَفْتُ رِيقَكَ، وَأَسَلْتُ دَمْعَتَكَ، أَؤُولُ مَعَكَ حَيْثُمَا أُلْتَ، وَكُلُّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ، وَأَنَا الْيَوْمَ لَكَ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَةِ كُلِّ تَاجِرٍ، وَسَيَأْتِيكَ كَرَامَةٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَبْشِرْ، فَيُؤْتَى بِتَاجٍ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، وَيُعْطَى الأَمَانَ بِيَمِينِهِ، وَ الْخُلْدَ فِي الْجِنَانِ بِيَسَارِهِ، وَيُكْسَى حُلَّتَيْنِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ اقْرَأْ وَارْقَهْ، فَكُلَّمَا قَرَأَ آيَةً صَعِدَ دَرَجَةً، وَيُكْسَى أَبَوَاهُ حُلَّتَيْنِ إِنْ كَانَا مُؤْمِنَيْنِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُمَا: هَذَا لِمَا عَلَّمْتُمَاهُ الْقُرْآنَ)(4).

إن الحياة في كنف القرآن كفيلة باطلاع القائد وتزويده بما لا غنى عنه!

ص: 108


1- الزمر: 71-75.
2- القيامة: 40.
3- بحار الأنوار ج 82 ص 61، ج 89 ص 217، وص 219، ووسائل الشيعة ج 6 ص 73، وص 74.
4- الكافي ج 1 ص 603، ووسائل الشيعة ج 6 ص 165، وص 179.

سيرى عظمة الله سبحانه تتجلى في آياته، وقوانينه، وسننه، وقدرته على كل شيء، فالأرض جميعاً في قبضته، و السماوات مطويات بيمينه، والعزة لله جميعاً، والقوة والملك لله، وهو أقرب إليه من حبل الوريد، ويحول بين المرء وقلبه، ولا يملك شيء لشيئ نفعاً ولا ضراً إلا بإذنه، فعندئذ يتصاغر أمامه ما دونه مهما عظم ظاهراً، أو حاول أولياؤه تعظيمه والنفخ في صورته، فاذا قدرة الله تلقف ما يأفكون، فلا إرم ذات العماد، ولا فرعون ذو الأوتاد، ولا صاحب الكنوز التي تنوء مفاتحها بالعصبة أولي القوة، فاذا كانت قوته متصلة بهذا السبب فلا يخشى شيئاً إلا الله سبحانه.

وسيرى وعد الله بالنصر، ولكن بعد أن مَسَّهم البأساء والضَرَّاء وزُلزلوا (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ)(1) ، وإن لا بد من الفتنة والإبتلاء (بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم أَ حَسِبَ النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ)(2) ، لكن الذي يهوِّن الخطب أنه كله بعين الله سبحانه، ذلك بأنه (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ لا يَطَؤُنَ

ص: 109


1- البقرة: 214.
2- العنكبوت: 1-3.

مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(1).

وسيرى من علو الإيمان الذي يعمر قلبه، والمعارف والمعاني التي تملأه إلى هذه البشرية التائهة، التي تلهث وراء السراب، تعيش لأغراض زائفة، وتمنِّي نفسها بأماني باطلة، يزينها لهم أولياء الشيطان، يتنافسون ويتقاتلون على شيء لا يبقى لهم، يصنعون لأنفسهم آلهة يصطلحون على عبادتها، ويقيمون لها الطقوس، ويذبحون لها القرابين، ويهدرون على أقدامها المليارات، كما في الحروب التي يشعلها الطواغيت، لإشباع شهواتهم ونزواتهم، ويسوقون لها البشر رغبة، أو، رهبة.

وسيرى أنه ليس وحده، ولا أن ما يعانيه بدعاً من الحوادث، ولا أن تجربته مقطوعة وفريدة، ولا أنه وحده في هذا الطريق حتى يستوحش وإن قَلَّ سالكوه، بل إنه قد سبقه على هذا الخط اللاحب الشريف أنبياء عظام وأولياء كرام، عانوا أكثر مما عانى، وصبروا على أشد مما صبر (عليه السلام) عليه، وواجهوا من مجتمعاتهم أعظم مما يواجه، والصورة نفس الصورة: (أمة مهتدية، وكثير منهم فاسقون).

وسيرى تكريم الله لخلقه حين خاطبهم بنفسه، ووجَّه إليهم كلامه مباشرة، و أرسل لهم رسالة، فكيف يعتني برسالة الحبيب؛ لذا ورد عن المعصومين (عليهم السلام):

(الْقُرْآنُ عَهْدُ اللَّهِ إِلَى خَلْقِهِ، فَقَدْ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ أَنْ

ص: 110


1- التوبة: 120.

يَنْظُرَ فِي عَهْدِهِ وَأَنْ يَقْرَأَ مِنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسِينَ آيَةً)(1).

وسيرى أن كل شيء في هذا الكون بقدر (إِنّا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ)(2) وعلى سُنَّة وقانون (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّهِ تَحْوِيلاً)(3) فلا مجال للعبث ولا اللهو، ولا للصدفة العمياء التي طالما تشدَّق بها الملحدون (وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ)(4) فمن وراء خلق الإنسان هدف، فلا بد أن يكرِّس حياته لتحقيق هذا الهدف، ويعيش بكل ما أُوتي لتحقيقه.

وسيجد في كنف القران الطمأنينة (أَلا بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(5) وهدوء البال، وشفاء الصدر، والهدى والبركة، وكل خير وصف القرآن نفسه به.

وسيجد في القرآن الوعد الإلهي بالإمداد والقوة الغيبية، و أن الله معه، و كفى به ناصراً ما دام هو مع الله (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ لَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ

ص: 111


1- الكافي ج 2 ص 609، وسائل الشيعة ج 1 ص 198، وعدة الداعي ص 291، وعوالي اللآلي ج 4 ص 22.
2- القمر: 49.
3- فاطر: من الآية 43.
4- الذاريات: 56.
5- الرعد: من الآية 28.

وَ لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ، نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ، وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللّهِ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(1) وآيات كثيرة عن نزول السكينة في قلوب المؤمنين، والإمداد بالملائكة، ربما نفرد لها فصلاً خاصاً بعنوان (القرآن والقائد).

فإذا وجد القائد ذلك، كما وجدها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنه ستشتدُّ عزيمته، ويقوى قلبه، وتزداد همته، وتظهر حكمته، وسيكون مصدراً للعطاء والخير لنفسه والأمة، كما ترشَّحَ كل ثمر طيب عن القادة الذين تربوا في مدرسة القرآن وعاشوا في كنفه.

الصفة التاسعة: التحلِّي بالأخلاق الفاضلة، وتهذيب النفس، وتطهير القلب من الرذائل، وهي من أعظم صفاته (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد عظَّم الله سبحانه هذه الصفة فيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وخلَّدها في القرآن الكريم (وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(2) ، وجعلها (صلى الله عليه وآله وسلم) سبباً لبعثته الشريفة

(إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ)(3) ونظمها الشاعر:

ومكارم الأخلاق كانت تشتكي *** نقصاً فتمَّ بأحمد النقصانُ

و (حسن الخلق) له معنيان (ضيق) و (وواسع)، فالأول: يُراد به حسن

ص: 112


1- فصلت: 30-33.
2- القلم: 4.
3- مستدرك الوسائل ج 11 ص 187، وبحار الأنوار ج 68 ص 382، ومكارم الأخلاق ص 8.

التعامل مع الآخرين، والثاني: يُراد به مطلق الملكات الفاضلة، وهي على قسمين:

الأول: الجوانحية، ونعني بها صفاته الشخصية الذاتية، وملكاته النفسية والعقلية والقلبية، كالإخلاص لله تبارك وتعالى، والعلم، ونكران الذات، والتخلِّي عن الحسد والعجب والكبر وعدم الحقد على الآخرين، والرحمة والرقة والكرم والشجاعة والحلم والحزم والصبر، وغيرها.

الثاني: الجوارحية، أي المرتبطة بسلوكه الخارجي، وهي على صنفين:

أ - الفردية: وهي أعماله وسلوكياته الخاصة به، كالإلتزام بالنوافل الراتبة، وخصوصاً صلاة الليل، والكون على طهارة دائماً، وإطالة السجود، والبكاء خوفاً من الله سبحانه، او شعوراً بالتقصير بين يديه، وتألماً على ما حصل من مصائب على أولياء الله تبارك وتعالى، وأهل بيت نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم).

ب - الاجتماعية: وأعني بها تعامله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع غيره، وسلوكياته العامة، كالإحسان إلى الآخرين، والصبر على أذاهم، وقضاء حوائجهم، والتواضع لهم، ومداراتهم، وإدخال السرور عليهم، ويمكن أن تدرس هذه الآداب والأخلاق ضمن عدة دوائر، أولها دائرة بيته وأهله ثم أمته، مجتمعه وخصومه، وتصرفاته كقائد دولة ضمن دولته مع الدول الأخرى، وهكذا.

وكما ترى فإن الدخول في تفاصيل هذا الفهرس السريع يتطلب مجلدات، يمكن أن يتصدَّى لها مفكرونا وكتابنا وعلماؤنا، مما لا يسع

ص: 113

التطرق اليه في بحثنا هذا، على أن الصنف الثاني هذا يدخل في المحور الثاني من بحثنا، أي المحور الاجتماعي، ويتناوله علماء الأخلاق في آداب العِشْرة، أما الصنف الأول والقسم الأول فيدخلان ضمن المحور الفردي، أي ما يتعلق ببناء شخصية القائد ومؤهلاته، وأخلاق القسم الأول هي الأهم، لأنها الأصل، أما القسم الثاني بصنفيه فهي من آثار ورشحات وملازمات القسم الأول وهي طريقة القرآن في تربيته البشر وهدايتهم وتكميل نفوسهم، فإنه إذا حصل في القلب والنفس والعقل تلك الملكات حصلت تصرفات القسم الثاني تلقائياً، وعلى السجية، لذا كان القسم الأول هو الأهم والأسرع في التكامل، لأنها تربية مباشرة للقلب، حتى يتحقق القلب السليم، حيث (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ، إِلاّ مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(1) ، مضافاً إلى خصيصة أخرى تميز القسم الأول وهي: أن مفردات هذه الأخلاق خالية من الشوائب، ومن محبطات الأعمال، أما الثانية فيمكن أن يشوبها الرياء، ومجاملة الآخرين، وطلب السمعة والجاه والأنا، وحب المدح والثناء، فتتجرد عن القيمة والمصداقية، ولا يترتب عليها الأثر المطلوب، لأنها لا تكون منتجة إلا إذا ترشَّحت عن الأولى، وكانت ناشئة عن إخلاص لله سبحانه، فالجهاد مثلاً الذي هو أشَقُّ أعمال الجوارح وأثقلها إذا كان لغير الله سبحانه كطمع في مال، أو جاه، أو طلباً للمدح والثناء، فيكون وبالاً على صاحبه، ويقال له يوم القيامة: خذ أجرك ممن عملت له.

ص: 114


1- الشعراء: 88-89.

لذا تجد العارفين والأخلاقيين يهتمون بتربية قلوبهم، وإذا اهتموا بأعمال الجوارح فلأنها تؤدي الى تصفية القلب، لذا يسمون (أرباب القلوب).

إن الحديث عن هذه النقطة يحتاج الى مجلدات عديدة، لأنه يستوعب كتب الأخلاق كلها.

وأولها الآيات الشريفة التي وردت فيها الإشارة إلى الخصال الحميدة، وما من قوم مدحهم الله تعالى كالمؤمنين، والمفلحين، والمتقين، والتوابين، والمتطهرين، وعباد الله، وعباد الرحمن، إلا ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أكملهم وأشرفهم، فحينما يقول الله تبارك وتعالى (عِبادُ الرَّحْمنِ... قَواماً)(1).

وحينما يقول الله تبارك وتعالى (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ.... خالِدُونَ)(2) فإن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) يجسد الصورة المثلى والكاملة لتلك الصفة الحميدة.

ويليها الكلمات التي وردت عن المعصومين في ذلك، فعندما يصف أمير المؤمنين (عليه السلام) المتقين، فيفترض أن القائد الذي يلي أمر الأمة هو أشرفهم وأكملهم، وفيه ما فيهم، وزيادة، لأننا نقول إن الإمام أكمل الخلق، وجامع لصفاتهم الحميدة كلها، وولي أمر المسلمين، وقائدهم، ومرشدهم، وهاديهم، هو إمام بالحمل الشايع، أي عملياً، وعلى أرض الواقع، وإن لم يكن منصوصاً عليه بالإسم، فإنه يؤدي وظيفة الإمام، وإن لم يكن إماماً بالحمل الأولي، فيجب أن يكون متصفاً بأكمل صفات

ص: 115


1- الفرقان: 63-67.
2- المؤمنون: 1-11.

المسلمين وأعلاها مرتبة.

وتحفل جوامع الحديث بامثال هذه الكنوز ك - (تحف العقول) و (الخصال) و (المحاسن) و (وسائل الشيعة) وغيرها.

وثالثها ما ذكره علماء الأخلاق في كتبهم، وهي كثيرة، ومتداولة وكتب الآداب المعنوية.

ونحن نقتصر هنا على إختيار بعض كلمات قادة الإسلام في هذا الصدد، محيلين الباقي إلى مواضعها، فلنستمع إلى القائد الأكمل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوصي القائد البديل، الذي يعدُّه لخلافته، وهو أمير المؤمنين ليربيه ويعدَّه:

(يَا عَلِيُّ، أُوصِيكَ فِي نَفْسِكَ بِخِصَالٍ، فَاحْفَظْهَا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَعِنْهُ، أَمَّا الأُولَى فَالصِّدْقُ، وَلا تَخْرُجَنَّ مِنْ فِيكَ كَذِبَةٌ أَبَداً، وَالثَّانِيَةُ الْوَرَعُ، وَلا تَجْتَرِئْ عَلَى خِيَانَةٍ أَبَداً، وَالثَّالِثَةُ الْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، وَالرَّابِعَةُ كَثْرَةُ الْبُكَاءِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، يُبْنَى لَكَ بِكُلِّ دَمْعَةٍ أَلْفُ بَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ، وَالْخَامِسَةُ بَذْلُكَ مَالَكَ وَدَمَكَ دُونَ دِينِكَ، وَالسَّادِسَةُ الأَخْذُ بِسُنَّتِي فِي صَلاتِي وَصَوْمِي وَصَدَقَتِي، أَمَّا الصَّلاةُ فَالْخَمْسُونَ رَكْعَةً، وَأَمَّا الصِّيَامُ فَثَلاثَةُ أَيَّامٍ فِي الشَّهْرِ، الْخَمِيسُ فِي أَوَّلِهِ، وَالأَرْبِعَاءُ فِي وَسَطِهِ، وَالْخَمِيسُ فِي آخِرِهِ، وَأَمَّا الصَّدَقَةُ فَجُهْدَكَ، حَتَّى تَقُولَ قَدْ أَسْرَفْتُ، وَلَمْ تُسْرِفْ، وَعَلَيْكَ بِصَلاةِ اللَّيْلِ، وَعَلَيْكَ بِصَلاةِ الزَّوَالِ، وَعَلَيْكَ بِصَلاةِ الزَّوَالِ، وَعَلَيْكَ بِصَلاةِ الزَّوَالِ، وَعَلَيْكَ بِتِلاوَةِ الْقُرْآنِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَعَلَيْكَ بِرَفْعِ يَدَيْكَ فِي صَلاتِكَ وَتَقْلِيبِهِمَا، وَعَلَيْكَ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ، وَعَلَيْكَ بِمَحَاسِنِ

ص: 116

الأَخْلاقِ فَارْكَبْهَا، وَمَسَاوِي الأَخْلاقِ فَاجْتَنِبْهَا، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَلا تَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَكَ)(1).

ومن هذه المحاسن ما ذكره أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف أخ له في الله، قال:

(كَانَ لِي فِيمَا مَضَى أَخٌ فِي اللَّهِ، وَكَانَ يُعْظِمُهُ فِي عَيْنِي صِغَرُ الدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ، وَكَانَ خَارِجاً مِنْ سُلْطَانِ بَطْنِهِ، فَلا يَشْتَهِي مَا لا يَجِدُ، وَلا يُكْثِرُ إِذَا وَجَدَ، وَكَانَ أَكْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتاً، فَإِنْ قَالَ بَذَّ(2) الْقَائِلِينَ، وَنَقَعَ(3) غَلِيلَ السَّائِلِينَ، وَكَانَ ضَعِيفاً مُسْتَضْعَفاً، فَإِنْ جَاءَ الْجِدُّ فَهُوَ لَيْثُ غَابٍ، وَصِلُّ وَادٍ، لا يُدْلِي بِحُجَّةٍ حَتَّى يَأْتِيَ قَاضِياً، وَكَانَ لا يَلُومُ أَحَداً عَلَى مَا يَجِدُ الْعُذْرَ فِي مِثْلِهِ حَتَّى يَسْمَعَ اعْتِذَارَهُ، وَكَانَ لا يَشْكُو وَجَعاً إِلاَّ عِنْدَ بُرْئِهِ، وَكَانَ يَقُولُ مَا يَفْعَلُ، وَلا يَقُولُ مَا لا يَفْعَلُ، وَكَانَ إِذَا غُلِبَ عَلَى الْكَلامِ لَمْ يُغْلَبْ عَلَى السُّكُوتِ، وَكَانَ عَلَى مَا يَسْمَعُ أَحْرَصَ مِنْهُ عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ، وَكَانَ إِذَا بَدَهَهُ أَمْرَانِ يَنْظُرُ أَيُّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْهَوَى فَيُخَالِفُهُ، فَعَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْخَلائِقِ فَالْزَمُوهَا وَتَنَافَسُوا فِيهَا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوهَا فَاعْلَمُوا أَنَّ أَخْذَ الْقَلِيلِ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِ الْكَثِيرِ)(4).

ص: 117


1- الكافي ج 8 ص 79، ومن لا يحضره الفقيه ج 4 ص 188، وتهذيب الأحكام ج 9 ص 175، ووسائل الشيعة ج 15 ص 181، وروضة الواعظين ج 2 ص 483، ومجموعة ورام ج 2 ص 50.
2- بذَّ القوم يَبُذَّهم بذّاً: سبقهم وغلبهم وكل غالب باذُّ. لسان العرب، مادة: بذذ.
3- نَقَعَ: شَربَ حتى نَقَعَ أي شَفى غليله ورَويَ. لسان العرب، مادة: نقع.
4- نهج البلاغة ص 526، وشرح نهج البلاغة لإن أبي حديد ج 19 ص 183، وغرر الحكم ص 121، وبحار الأنوار ج 64 ص 314، وأعلام الدين ص 147.

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام):

(إِنَّ لأَهْلِ الدِّينِ عَلامَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا: صِدْقَ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءَ الأَمَانَةِ، وَوَفَاءَ الْعَهْدِ، وَصِلَةَ الأَرْحَامِ، وَرَحْمَةَ الضُّعَفَاءِ، وَقِلَّةَ الْمُوَاقَعَةِ لِلنِّسَاءِ، أَوْ، قَالَ: وَقِلَّةَ الْمُوَاتَاةِ لِلنِّسَاءِ، وَبَذْلَ الْمَعْرُوفِ، وَحُسْنَ الْجِوَارِ، وَسَعَةَ الْخُلُقِ، وَاتِّبَاعَ الْعِلْمِ، وَمَا يُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ، إِلَى أَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ نَفْسُهُ مِنْهُ فِي شُغُلِ، وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ، إِذَا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ افْتَرَشَ وَجْهَهُ، وَسَجَدَ لِلَّهِ بِمَكَارِمِ بَدَنِهِ، يُنَاجِي الَّذِي خَلَقَهُ فِي فَكَاكِ رَقَبَتِهِ، أَلا فَهَكَذَا فَكُونُوا)(1).

الصفة العاشرة: قوة العاطفة، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) ذا أحاسيس مرهفة، وعاطفة جياشة يهتز للمواقف، كان إذا نظر إلى إبنته الزهراء (عليها السلام) بكى، وإذا نظر إلى سبطيه الحسنين بكى، لما يجري عليهم من مصائب، وفي خطبته التي خطبها على المسلمين في آخر جمعة من شعبان، مستقبلاً شهر رمضان، لما قام علي (عليه السلام) فسأله عن أفضل الأعمال في شهر رمضان، بكى (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقيل له: مم بكائك، يارسول الله؟، قال: مما يستحل من حرمتك ياعلي، في هذا الشهر العظيم(2).

ص: 118


1- وسائل الشيعة ج 15 ص 190، والكافي ج 2 ص 239، وبحار الأنوار ج 64 ص 289، وج 66 ص 364، والأمالي للصدوق ص 221، وصفات الشيعة ص 46.
2- أُنظر: بحار الأنوار ج 42 ص 190، وج 93 ص 356، والإقبال ص 2، والأمالي للصدق ص 93، وروضة الواعظين ج 2 ص 345، وعيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 1 ص 297، وفضائل الأشهر ص 77.

وعندما جاد المسلمون بسبعين شهيداً في معركة أحد، وكثرت الناعية في دور الأنصار قال (صلى الله عليه وآله وسلم): وحمزة لا بواكي عليه، فأمر الأنصار نسائهم أن يذهبن لندبة حمزة، والبكاء عليه، قبل أن يندبن موتاهن(1)، وجرت سيرة أهل المدينة على ذلك.

إذا مَرَّ على آل ياسر وهم يعذبون في أوائل البعثة، تأثر لهم، وقال: صبراً آل ياسر، فان موعدكم الجنة(2).

وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يحثُّ على ما يرقق القلب، ويثير العاطفة، كتقبيل الأبناء، ومرة قال له قيس بن عاصم المنقري: إن لي عشرة أبناء ما قبلت واحداً منهم يوماً، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما ذنبي اذا كان الله قد نزع الرحمة من قلبك.

ومما يؤجج العاطفة المسح على رأس اليتيم، وهو من الأسباب المهمة لترقيق القلب، تلك العاطفة التي عَبَّر عنها أمير المؤمنين (عليه السلام):

ما إن تأوهت من شيء رزئت به *** كما تأوهت للأطفال في الصغر

قد مات والدهم من كان يكفلهم في النائبات وفي الأسفار والحضر(3)

ص: 119


1- أُنظر: مستدرك الوسائل ج 2 ص 384، ومسكن الفؤاد ص 107.
2- أُنظر: شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 13 ص 255، وج 20 ص 36، وإعلام الورى ص 48، وبحار الأنوار ج 18 ص 210.
3- أُنظر: بحار الأنوار ج 33 ص 47، وج 41 ص 221، وبشارة المصطفى ص 71، والخرائج والجرائح ج 2 ص 544، والمناقب ص 335.

وكان أول ما يبدأ بالعطاء عوائل الشهداء في صفين، وكان من شروط الإمام الحسن (عليه السلام) على معاوية في وثيقة الصلح أن يخصص مرتَّبات ثابتة لذوي الشهداء في صفين.

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) في وصيته لعلي: (ياعلي، أربع خصال من الشقاء: جمود العين، وقساوة القلب، وبعد الأمل، وحب الدنيا)(1) كان (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا وعظ الناس بكى، فيتأثر به الحاضرون، ففي ذات يوم كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يحدث أصحابه فقال: (رجلان من أمتي جيئا بين يدي ربي، فقال أحدهما: يا رب خذ لي بمظلمتي من آخر؛ فقال الله تعالى أعط أخاك مظلمته، فقال: يا رب، لم يبق من حسناتي شيء، فقال: يا رب، فليحمل من أوزاري، ثم فاضت عينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال: إن ذلك اليوم ليوم تحتاج الناس فيه إلى من يحمل عنهم أوزارهم....)(2).

وحينما وقعت معركة مؤتة، كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتابعها مباشرة من على منبر مسجده الشريف، والمسلمون ينظرون إلى أسارير وجهه، وهو يشرح لهم الواقعة، حتى بكى، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): لقد استشهد جعفر، وأخد الراية زيد بن حارثة، ثم بكى، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): لقد استشهد زيد، وأخد الراية عبد الله

ص: 120


1- تحف العقول ص 10، ووسائل الشيعة ج 16 ص 45، وبحار الأنوار ج 67 ص 52، وج 70 ص 164، وج 74 ص 51، وص 66، وج 90 ص 330، والخصال ج 1 ص 243، ومكارم الأخلاق ص 436.
2- بحار الأنوار ج 74 ص 182، وأعلام الدين ص 337.

بن رواحة، ثم بكى، وقال: لقد استشهد عبد الله، ثم ذهب إلى دار جعفر، فمسح على رأس ولده عبد الله، وأمر ابنته فاطمة، فصنعت لأهل جعفر طعاماً، وجلس معهم يؤنسهم، ويطيب خاطرهم(1).

في معركة بدر لما أسر المسلمون سبعين رجلاً من قريش، لم ينم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تلك الليلة، لأنه عرف أنين عمه العباس بين الأسرى؛ وبكاؤه (صلى الله عليه وآله وسلم) عند تلاوة القرآن معلوم ومشهور.

وكذلك عُرف الأئمة الطاهرون قادة الإسلام العظماء بالعاطفة الجياشة، والتأثر العميق، فمثلاً أمير المؤمنين (عليه السلام) يقف على منبر الكوفة يؤبِّن أصحابه الذين استشهدوا في صفين، فيقول:

(أَيْنَ إِخْوَانِيَ الَّذِينَ رَكِبُوا الطَّرِيقَ، وَمَضَوْا عَلَى الْحَقِّ؟، أَيْنَ عَمَّارٌ؟، وَأَيْنَ ابْنُ التَّيِّهَانِ؟، وَ أَيْنَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ؟، وَأَيْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا عَلَى الْمَنِيَّةِ، وَأُبْرِدَ بِرُءُوسِهِمْ إِلَى الْفَجَرَةِ؟ ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى لِحْيَتِهِ الشَّرِيفَةِ الْكَرِيمَةِ فَأَطَالَ الْبُكَاءَ، ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): أَوِّهِ عَلَى إِخْوَانِيَ الَّذِينَ تَلَوُا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ، وَتَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ، أَحْيَوُا السُّنَّةَ وَأَمَاتُوا الْبِدْعَةَ، دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا، وَوَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوهُ)(2).

وحينما دنت الوفاة من الإمام الحسن (عليه السلام) كان يبكي، فسئل عن

ص: 121


1- أُنظر: بحار الأنوار ج 21 ص 53.
2- نهج البلاغة ص 260 خطبة 182، وشرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 10 ص 99، وبحار الأنوار ج 34 ص 126.

سبب ذلك، قال: لهول المطلع، وفراق الأحبة(1).

وقد اهتم الأئمة بتأجيج العاطفة لدى الأمة، واستشعارها في حركتهم الرسالية، وإظهار مظلوميتهم، والدفاع عن حقهم، كبكاء فاطمة الزهراء (عليها السلام) على أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكبكاء آل الحسين (عليهم السلام) عليه بعد معركة الطف، وكرموا الشعراء الذين كان لهم الدور الكبير في إثارة العاطفة الواعية، كدعبل الخزاعي، والكميت الأسدي، وذكرنا تفاصيل الموضوع في كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية).

إن قوة العاطفة لا عيب فيها، بل هي خصلة حسنة، وإنما العيب فيما لو اتبعها صاحبها من دون تعقُّل ولا روية، أو، قل: إن الخطأ في أن تكون العاطفة وحدها هي المحرك للإنسان، أما إذا إنضمت إلى العقل فسيتكامل العمل، ومن هنا لا نرى خللاً في أن تكون العاطفة عند المرأة أقوى من الرجل، والتعقُّل عند الرجل أكثر من المرأة، لكي ينسجم مع أدوارهما ومسئوليتهما في الحياة، فإننا نحتاج إلى العاطفة كما نحتاج إلى العقل، وأحدهما يكمل الآخر، وقد تفعل العاطفة ما لا يفعله العقل.

فإنك ترى غنياً لو تحدثت معه أياما عن وجوب دفع الخمس من

ص: 122


1- الكافي ج 1 ص 461، ومستدرك الوسائل ج 7 ص 260، وبحار الأنوار ج 6 ص 159، وج 43 ص 332، وج 44 ص 150، وج 79 ص 175، والأمالي للصدوق ص 222، وروضة الواعظين ج 2 ص 451، وعيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 1 ص 303، ومكارم الأخلاق ص 316.

أمواله، وأقمت الأدلة والبراهين القاطعة لم يتحرك إلى التنفيذ والتطبيق، لكن موقفاً عاطفياً لمريض يئن تحت وطأة الألم، أو، امرأة ضعيفة وأطفالها البائسين بلا مأوى في الشتاء القارس، أو، أيتام يتضورون جوعاً ولا معيل لهم، أقول: لكن موقفاً مثل هذا يهزه بعنف، ويدفعه إلى العطاء، أزيد مما طالبته به.

لقد عوقب يعقوب النبي (عليه السلام) بفقدان ولده يوسف (عليه السلام)، لأن عاطفته لم تتحرك حينما تعشى، وجارٌ له جائع، فلم يشمله برعايته بحسب ما ورد في بعض الروايات.

لقد اتضح مما تقدم أن لقوة العاطفة ورقة القلب عدة ثمرات:

1 - أنها خطوة مهمة في طريق التكامل، لذا يركز المربّون وعلماء الأخلاق وتهذيب النفوس على تحصيل هذه الخصلة وتصيّد مواردها ويأمرون بالبكاء، أو، التباكي على الأقل (أما خوفاً من الله سبحانه وخشية منه، أو، لتذكر أهوال يوم القيامة، أو، فَرَقَاً مما ألَمَّ به من المعاصي والذنوب، أو تألما على مصائب أهل البيت (عليهم السلام).

2 - أنها تمثل دافعاً مهماً لأفعال الخير، كالكرم، والإحسان إلى الغير، والإيثار، والسعي في قضاء حوائج الناس، فان العاطفة إذا تهيجت، والنفس إذا تأثرت، تحرك صاحبها للقيام بهذه الخصال المحمودة أكثر من الدليل والبرهان.

وفي الحديث الشريف: (لو شق جوف المؤمن لوجد على قلبه

ص: 123

سطران من نور، لو وزنا لم يرجح أحدهما على الآخر مثقال حبة من خردل، أحدهما الرجاء والآخر الخوف)(1) وفي الحديث

(خَفِ اللَّهَ خَوْفاً لَوْ جِئْتَهُ بِبِرِّ الثَّقَلَيْنِ خِفْتَ أَنْ يُعَذِّبَكَ اللَّهُ، وَارْجُ اللَّهَ رَجَاءً لَوْ جِئْتَهُ بِذُنُوبِ الثَّقَلَيْنِ رَجَوْتَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكَ)(2)، فالخوف والرجاء كلها محركات عاطفية.

3 - أنها محرك كبير للأمة نحو الهداية والصلاح، والثورة على الظلم، وتغيير الواقع الفاسد، خصوصاً في مجتمعنا، الذي يكمن فيه الولاء للدين وللنبي وآله الأطهار (صلى الله عليه وآله وسلم)، مهما أبعدته التيارات المنحرفة عن الله سبحانه، فتهييج عاطفته، وتحريك ولائه، عنصر قوة في تعبئة الجماهير وتوجيهها.

وقد وظفها القران الكريم كأسلوب من أساليب الجذب والهداية، حينما وعد المؤمنين بحور عين، وأنهار من خمر لذة للشاربين، ولحم طير مما يشتهون، ونحوه.

الصفة الحادية عشرة: الأبوية: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مخاطباً أمير

ص: 124


1- عدة الداعي ص 34، وإرشاد القلوب ج 1 ص 11.
2- وسائل الشيعة ج 15 ص 217، الكافي ج 2 ص 67، وبحار الأنوار ج 13 ص 413، وج 67 ص 352، وص 384، وج 75 ص 259، إرشاد القلوب ج 1 ص 105، والأمالي للصدوق ص 668، وتحف العقول ص 375، وجامع الأخبار ص 98، والقصص للجزائري ص 325، والقصص للراوندي ص 191.

المؤمنين (عليه السلام): (يا علي، أنا وأنت أبوا هذه الأمة)(1)، والأبوية من الصفات المهمة في القائد والمصلح والمسؤول، لأنها تعني الكثير من الخصال الحميدة التي تُنجح العمل، ومنها حب رعاياه كما يحب أبنائه، والإخلاص لهم، وبذل الوسع من أجل إسعادهم، وصناعة مستقبل زاهر لهم، ومن مظاهر هذه الصفة التضحية من أجلهم، وإيثارهم على نفسه، فيجوع ليشبعوا، ويتحمل المتاعب والآلام، ويقتحم الصعاب والمخاطر، وسهر الليالي، من أجل أن يرتاحوا ويتنعموا.

و هذا الوصف ركَّزت عليه الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، حينما بَيَّنت لأصحاب رسول الله حالهم لو وفوا لرسول الله، وأخذوا بوصيته في اتخاذ امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) اماماً وهادياً وخليفة بعد رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) (ولأصدرهم بِطاناً، ونصح لهم سراً وإعلاناً، و

ص: 125


1- بحار الأنوار ج 16 ص 95، وج 16 ص 364، وج 23 ص 128، وص 259، وج 26 ص 263، وص 342، وج 36 ص 5، وص 8، وص 11، وص 14، وص 255، وج 38 ص 91، وص 151، وج 39 ص 93، وج 40 ص 44، وص 53، وج 66 ص 343، والأمالي للصدوق ص 14، وص 331، وص 657، وبشارة المصطفى ص 55، وص 160، وتأويل الآيات الظاهرة ص 135، وتفسير الإمام العسكري (عليه السلام) ص 330، وروضة الواعظين ج 2 ص 322، وسعد السعود ص 275، وعلل الشرائع ج 1 ص 127، وعيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 85، وكمال الدين وتمام النعمة ج 1 ص 261، وكنز الفوائد ج 2 ص 13، ومئة منقبة ص 46، ومتشابه القرآن ج 1 ص 229، ومعاني الأخبار ص 52، وص 118، والمناقب ج 3 ص 105.

لم يكن يتحلى من الدنيا بطائل، ولا يحضى منها بنائل، غير رَيِّ الناهل، وشبعة الكافل)(1).

لاحظ المثل الذي اختارته (سلام الله عليها) وهو: شبعة الكافل، فإن كافل الأسرة يكتفي بالقليل، وربما لا يأخذ لنفسه شيئاً، والمهم عنده أن يرى أولاده ورعاياه راضين مكتفين سعداء.

الصفة الثانية عشرة: عدم خلق المبررات للتقاعس عن المسئولية، كالإعتذار بقلِّة الأنصار، أو، قلة الإمكانيات، أو، عدم وجوده على رأس الهرم، وقمة القيادة الدينية، أو السياسية.

فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعلن دعوته لقريش (قولوا لا اله الا الله تفلحوا)(2)، وهو وحيد ليس معه إلا علي وخديجة (عليهما السلام)، ومضى في عمله الدؤوب.

أدَّبه بذلك ربه، فقال تبارك وتعالى: (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ وَ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ اللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَ أَشَدُّ تَنْكِيلاً)(3) فأُمر (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقاتل، و أن يمضي في مشروعه ولو وحده، ولا تكلَّف إلا فعل نفسك، ولا يهمك، ولا يقعدك عن الجهاد تقاعس أصحابك، فاعمل وحدك.

ص: 126


1- الإحتجاج ج 1 ص 108.
2- أُنظر: بحار الأنوار ج 18 ص 202، والمناقب ج 1 ص 56.
3- النساء: 84.

وهكذا قَدَّم الأئمة المعصومون كل ذلك النشاط العظيم، والدور الواسع في حياة الأمة، مما ذكرناه في كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية)، مع التضييق الشديد، وقلة الأنصار، وضعف الإمكانات.

نعم، إن المبررات المذكورة تقلِّل من فرص العمل، وتحدُّ النشاط، إلا أنها لا يمكن أن تبرر التقاعس المطلق، والخلود إلى الدعة والسكون.

الصفة الثالث عشرة: الحذق والفراسة، ودقة النظر في الأمور، وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) القائل:

(اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)(1) فكيف به وهو سيد المؤمنين، وأكملهم.

وقد بَيَّنَ الله تبارك وتعالى أحد مظاهر هذه الصفة فيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، بقول عز من قائل: (وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)(2) ، فكان (صلى الله عليه وآله وسلم) من الفطنة والفراسة بحيث يعرف باطن المنافقين من خلال كلماتهم، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

ص: 127


1- الكافي ج 1 ص 218، ووسائل الشيعة ج 12 ص 38، وص 124، ومستدرك الوسائل ج 8 ص 340، وبحار الأنوار ج 24 ص 123، وص 128، وص 131، وج 25 ص 21، وص 134، وج 38 ص 79، وج 64 ص 61، وص 74، وص 75، وج 65 ص 355، والاختصاص ص 143، وص 306، وإرشاد القلوب ج 1 ص 130، والأمالي للطوسي ص 294، وبصائر الدرجات ص 355، وتأويل الآيات الظاهرة ص 280، وتفسير العياشي ج 2 ص 247، وشواهد التنزيل ج 1 ص 422، وعلل الشرائع ج 1 ص 173، وعيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 200، والمسائل العكبرية ص 93، ومعاني الأخبار ص 350.
2- محمد: من الآية 30.

(الْمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ)(1).

إن هذه الصفة مهمة في شخصية المتصدي لمسئولية اجتماعية، أما إذا كان ساذجاً قصير النظر فسيكون مصيدة سهلة للمنافقين والأعداء والانتهازيين، ومن السهل اختراقه وتمرير المخططات عليه.

وكانت هذه السذاجة عند بعض من تولى قيادة الأمة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، باباً جَرَّ الويلات على الإسلام والمسلمين، وما زلنا نعاني من آثارها، خُذْ، مثلاً، ما فعله كعب الأحبار اليهودي، الذي أظهر إسلامه، كيف كان ينفذ خططه الهدَّامة، ويخترق قيادة المسلمين بخبث ودهاء ومكر، مستغلاً سذاجة المتصدي لها، وعزل القيادة الحقيقية الواعية المسددة من قبل الله سبحانه، فدسَّ في تعاليم الإسلام أفكاراً وأعمالاً منكرة(2)، وكان كلما أُكتشف دوره الخبيث يتخلص هذا اليهودي الماكر

ص: 128


1- نهج البلاغة ص 497، وص 545، ومستدرك الوسائل ج 9 ص 22، وص 29، وج 18 ص 260، وبحار الأنوار ج 1 ص 165، وج 40 ص 163، وج 68 ص 276، وص 283، وص 285، وص 291، وج 101 ص 369، والإرشاد ج 1 ص 300، وأعلام الدين ص 84، والأمالي للصدوق ص 446، والأمالي للطوسي ص 494، وخصائص الأئمة ص 106، والخصال ج 2 ص 420، وروضة الواعظين ج 1 ص 109، وشرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 18 ص 353، وج 19 ص 340، وعوالي اللآلي ج 1 ص 294، وعيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 53، وغرر الحكم ص 209، ومعدن الجواهر ص 67، والمناقب ج 2 ص 48.
2- راجع كتاب (الغدير) للأميني، المجلد السابع، وكتاب (النص والاجتهاد) للسيد شرف الدين.

من تلك المواقف المفاجئة: باننا وجدنا ذلك في كتبنا، ويجد في إعجاب الخليفة به ملاذاً يحميه، وتنطلي الحيلة على الساذج، وينتهي كل شيء، حتى هيأ الفرص لصنيعته آل أبي سفيان وآل أبي معيط، الذين لعنهم الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فولاّهم أجزاء مهمة من بلاد المسلمين، ثم رتَّب محاولة الاغتيال للخليفة الثاني، ليتسارع خَطُّ انحدار الأمة، وإبتعادها عن صراط الحق المستقيم.

إن هذه الصفة مهمة في قادة الإسلام، لأنهم ملتزمون بالمبادئ الإنسانية، والتعاليم الإلهية، التي ترفض أساليب المكر والخداع والخبث والتضليل، في حين أن عدوهم يستعمل هذه كلها، ويتقنها ولا يتورع عنها، ولا يستطيع المسلم أن يصبح كغيره، فلا بد أن يكون واعياً لمخططاتهم.

وقد اتهم أمير المؤمنين (عليه السلام) بأنه أقل دهاءاً من معاوية، وأنه عاجز عن مجاراته في الخطط، فقال (عليه السلام):

(وَاللَّهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي، وَلَكِنَّهُ يَغْدِرُ وَيَفْجُرُ، وَلَوْلا كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ، وَلَكِنْ كُلُّ غُدَرَةٍ فُجَرَةٌ، وَكُلُّ فُجَرَةٍ كُفَرَةٌ، وَلِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَ اللَّهِ مَا أُسْتَغْفَلُ بِالْمَكِيدَةِ وَلا أُسْتَغْمَزُ(1) بِالشَّدِيدَةِ)(2).

حاول المشركون أن ينتزعوا اعترافا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بآلهتهم،

ص: 129


1- أي لا استضعف بالقوة الشديدة، والغمز الرجل الضعيف. لسان العرب، مادة غمز.
2- نهج البلاغة ص 318 خطبة 200، وبحار الأنوار ج 33 ص 197، وج 40 ص 193، وج 72 ص 291، وشرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 10 ص 211.

لكي لا يستطيع بعد ذلك أن يسخف عقائدهم، وينبذ أصنامهم، فجاؤوه بأنصاف الحلول، وقالوا له نعبد إلهك الواحد يوماً، وتعبدون آلهتنا يوماً آخر فنزل النص الإلهي القاطع والحازم (بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ، وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ، وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ، وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ)(1).

وحينما اختار أهل الكوفة أبا موسى الأشعري ليكون مفاوضاً لعمرو بن العاص في حرب صفين، نهاهم أمير المؤمنين (عليه السلام)، لأنه يعرف دهاء ومكر ابن العاص، وسذاجة الأشعري، وقال (عليه السلام): ارموهم بعبد الله بن العباس؛ لكنهم أصرُّوا على الأشعري، فوقع في الفخ، وخدعه ابن العاص.

وحاول المأمون العباسي أن يحقق عدة أهداف في تنصيب الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ولياً للعهد، كإعطاء المشروعية لخلافته، وإخماد الثورات، وعزل الإمام (عليه السلام) عن قواعده، وإظهار أهل البيت (عليهم السلام) كمحبين للسلطة والدنيا(2)، متظاهراً أنه يُريد إرجاع الحق إلى أهله، وإنصاف أهل البيت (عليهم السلام)، لكن الإمام كان واعياً لأهدافه، فرفض قبولها، حتى هدَّدوه بالقتل، فقبل بشرط أن تكون ولايته شكلية، ولا يتدخل في شؤون الدولة، وهكذا كان موقف الإمام الصادق (عليه السلام) مع حركة العباسيين، الذين حاولوا كسبه، والمتاجرة بشخصه الشريف على ان ينادوا

ص: 130


1- الكافرون: 1-6.
2- راجع كتاب (دور الائمة في الحياة الاسلامية).

باسمه، إلا أنه رفض، وانطلت الحيلة على أولاد عمه من بني الحسن، رغم تحذيره (عليه السلام) لهم.

وعلى هذا كان ديدن قادة الإسلام من أهل البصائر، وشواهده التاريخية كثيرة(1).

الصفة الرابع عشرة: الإلتفات وعدم الغفلة، واستفادة من الدروس والعبر من كل ما حولك، ومن كل حادث يحصل أمامك، أو تسمع به، فإن كل واحد من هذه الأمور والحوادث رزق ساقه الله إليك، لتستفيد منه علماً يضاف إلى العلوم التي تحصل بالطرق النظرية، فقد قيل للقمان الحكيم: (وقيل عيسى روح الله) ممن استفدت الحكمة؟، قال: من الجهال، فإني أرى الفعل منهم فأستنكره، فأحرص على اجتنابه؛ وفي الحديث (العاقل من إتعظ بغيره)(2).

يمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ماء جارٍ، والماء طهور من الخبائث المادية، فيأخذ (صلى الله عليه وآله وسلم) منه مثلاً ويقول: لَوْ كَانَ عَلَى بَابِ دَارِ أَحَدِكُمْ نَهَرٌ فَاغْتَسَلَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْهُ خَمْسَ مَرَّاتٍ، أَكَانَ يَبْقَى فِي جَسَدِهِ مِنَ الدَّرَنِ شَيْ ءٌ؟، قالوا:

ص: 131


1- كفتوى السيد المجدد الشيرازي في تحريم التنباك لمنع النفوذ البريطاني في ايران اواخر القرن التاسع عشر، ورد الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء على دعوته لحضور مؤتمر بحمدون سنة 1954، فكتب (المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون).
2- غرر الحكم ص 225.

لا، يا رسول الله(1)؛ فانتقل بتفكيرهم إلى الجانب المعنوي، فان الحسنات مطهِّرات للقلب من الآثار السيئة للمعاصي، بصريح قوله تعالى: (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ)(2) (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً)(3) فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): كذلك الصلاة، فإن أداءها خمس مرات لا يبقي من السيئات شيئاً، وقد ورد في الحديث:

(الصَّلاةُ إِلَى الصَّلاةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا)(4)؛ واستشهد بالآية الكريمة المتقدمة.

يدخل (صلى الله عليه وآله وسلم) الحمام ويرى الماء الساخن، فيقول (صلى الله عليه وآله وسلم):

(نِعْمَ الْبَيْتُ الْحَمَّامُ، يُذَكِّرُ النَّارَ، وَيَذْهَبُ بِالدَّرَنِ)(5).

وقد ألفت انظارنا إلى مثل ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال:

(أَفَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ، وَالْعَثْرَةِ تُدْمِيهِ، وَالرَّمْضَاءِ تُحْرِقُهُ)(6)، وعندما طلعت شمس يوم إصابته بسيف ابن ملجم المرادي، ونقل (عليه السلام) إلى داره

ص: 132


1- تهذيب الأحكام ج 2 ص 237، ووسائل الشيعة ج 4 ص 12، ومستدرك الوسائل ج 3 ص 15، وبحار الأنوار ج 79 ص 236، والأمالي للمفيد ص 189.
2- هود: من الآية 114.
3- النساء: 31.
4- مستدرك الوسائل ج 3 ص 16، وص 90، وبحار الأنوار ج 79 ص 319، وشرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 10 ص 206.
5- الكافي ج 6 ص 496.
6- نهج البلاغة ص 266 خطبة 183، ومجموعة ورام ج 1 ص 67، وشرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 10 ص 122، وبحار الأنوار ج 8 ص 306.

خاطبها: (ياشمس نشدتك بالله، هل طلعت وعين ابن أبي طالب نائمة).

هكذا كانوا (صلوات الله عليهم) يستفيدون من كل حالة حولهم مهما كانت طبيعية ومألوفة، إلى حالة مع ربهم.

كم واحد منا استفاد هذه المعاني من هذه المشاهد التي تتكرر علينا يومياً.

وكان أحد العلماء قد تعرَّض لتهم باطلة وتشنيع من قبل الحاسدين، وهو يسير قُدماً في مرضاة الله سبحانه، ويقدم العطاء النافع لنفس هذا المجتمع الذي يحاربه، وكان يتألم لهذه المبادلة غير المنصفة، وفي طريقه رأى شجرة مثمرة، والناس يرمونها بالحجارة، وهي تهدي إليهم من ثمراتها، فتعلَّم الدرس من هذه الشجرة، كيف يحاربها الناس وهي تدر عليهم الخيرات، فاطمأن قلبه، ورضي بما قسم الله سبحانه.

روي أن شخصاً مَرَّ بأحد أئمتنا (عليهم السلام)، وهو مشمِّرٌ عن ساقيه، مجتهداً في العبادة، فقال له: هَوِّن عليك يا ابن أخي، فإنك صبي لم تبلغ التكليف؛ فقال (عليه السلام): إليك عني، فإني رأيت أمي إذا أرادت أن تسجر التنور فإنه لا يشتعل إلا بصغار الحطب؛ فاستفاد من هذا الدرس البسيط للموضوع الأعظم وهي نار جهنم، و مثل هذه الدروس نافعة في وعظ النفس والآخرين، كالنساء اللواتي اغتررن بجمالهن، ونعومة أجسادهن، فلتجرب إحداهن لو أن زيتاً مقلياً، أو، ماءاً حاراً سُكب على هذه البشرة الناعمة، أتراها تطيقه، فكيف تطيق ناراً وقودها الناس والحجارة، سجرها جبار

ص: 133

السماوات و الأرض لغضبه، إذا كانت لا تتحمل ناراً أشعلها مخلوق ضعيف للعبه او غايته المحدودة، وهي الكلمة التي قالها أمير المؤمنين (عليه السلام) لأخيه عقيل، عندما طلب منه زيادة فوق عطائه، فأحمى له حديدة، وقربها منه، فأنَّ من حَرِّها(1).

أراد البهلول أن يعطي درساً لهارون العباسي فتسلل إلى كرسيه، وجلس عليه، ففاجأ الحراس الذين انهالوا عليه بالضرب، لجرأته على مقام الخليفة، ولما جاء هارون سأل عن سبب ضرب البهلول، فقيل له فأخذ يخفف عنه، لكن البهلول قال: إني لم أتألم لنفسي، ولكن لك، فإني جلستُ في مقام غير مقامي لحظات، فنالني هذا العذاب، فكيف بك وأنت تجلس هذا المجلس مدة طويلة وهو ليس لك.

إذا دخلتَ إلى سوق الحدادين أخذتَ منه درساً، فهذا الحديد الذي يضرب به المثل من القوة والصلابة والبأس الشديد، على تعبير القران، فانه ينكسر، وينفتح بكثرة الطَرْق فاستفد منه عدم اليأس من تكرار المحاولة حتى تحصل النتيجة، ولا تتراجع من أول محاولة فاشلة، أو ثانيها.

واستفد من المثال باتجاه آخر بأن لا تحوم حول الشبهات والمعاصي فإنك مهما تحصل من حصانة وقوة مناعة، فإن هذا الإحتكاك المستمر يوشك أن يورِّط الإنسان، ويضعف مقاومته، فمن قول له (صلى الله عليه وآله وسلم):

(إِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ حَلالُهُ وَحَرَامُهُ، وَالْمُشْتَبِهَاتُ بَيْنَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ

ص: 134


1- نهج البلاغة: ج - 3، من كتاب له (عليه السلام) الى احد عماله.

أَنَّ رَاعِياً رَعَى إِلَى جَانِبِ الْحِمَى، لَمْ تَثْبُتْ غَنَمُهُ أَنْ تَقَعَ فِي وَسَطِهِ، فَدَعُوا الْمُشْتَبِهَاتِ)(1).

ولا أريد أن أطيل بهذه المواقف والعبر فإنها كثيرة حولنا.

الصفة الخا مس عشرة: عدم الإغترار بالمنصب والجاه، وكثرة الأتباع، وحَذَّر (صلى الله عليه وآله وسلم) من ذلك بقوله: (إنما أهلك الذين من قبلكم خفق النعال من ورائهم).

خَرَجَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) وَهُوَ رَاكِبٌ، فَمَشَوْا مَعَهُ، فَقَالَ: ألَكُمْ حَاجَةٌ؟، فَقَالُوا: لا، وَلَكِنَّا نُحِبُّ أَنْ نَمْشِيَ مَعَكَ، فَقَالَ لَهُمُ: انْصَرِفُوا، فَإِنَّ مَشْيَ الْمَاشِي مَعَ الرَّاكِبِ مَفْسَدَةٌ لِلرَّاكِبِ، وَمَذَلَّةٌ لِلْمَاشِي، قَالَ: وَرَكِبَ مَرَّةً أُخْرَى فَمَشَوْا خَلْفَهُ، فَقَالَ: انْصَرِفُوا، فَإِنَّ خَفْقَ النِّعَالِ خَلْفَ أَعْقَابِ الرِّجَالِ مَفْسَدَةٌ لِقُلُوبِ النَّوْكَى(2). وسيساهم هؤلاء الأذلاء في إفساد قلب هذا المتبوع، ويدخلونه جنهم.

فإن أعظم الأمراض القلبية: حب الجاه، والتسلُّط، والرئاسة، والملك، وولاية امر الامة، وسائر العناوين البراقة، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (آخر ما يُنزع من قلوب الصدِّيقين حَبُّ الجاه)، وهو داء أهلك الكثيرين، وأوردهم النار عن علم وعن عمد، وبئس الورد المورود.

ص: 135


1- وسائل الشيعة ج 27 ص 167.
2- وسائل الشيعة ج 11 ص 494، وص 495، وبحار الأنوار ج 41 ص 55، وج 73 ص 299، والمحاسن ج 2 ص 629.

و هذا هارون العباسي يصف لولده المأمون الإمام الكاظم (عليه السلام)، بأنه إمام القلوب، وهارون إمام الأبدان بالقهر والإكراه، فيقول له ولده: إذن، لماذا لا تسلِّم له الأمر، قال: ويلك، إن الملك عقيم، ولو نازعتني فيه أنت، لأخذت الذي فيه عيناك(1).

وقريش حينما عصت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الخليفة من بعده، إنما إندفعت تحت تأثير هذا الداء، حيث قال قائلهم (أبت قريش أن تجمع النبوة والخلافة لبني هاشم)، وبين أيديهم قوله تعالى: (وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)(2).(3)

إن هذا الداء إذا تمكَّن من قلب القائد، أو، المتصدي للمجتمع، بأي موقع كان، فإنه سيؤدي به إلى الإنحدار، وسيكون منشأً لعدة رذائل قلبية، (أولها): الرياء، فإنه يبدأ بالتصنُّع والتكلُّف، ليستهوي قلوب الناس، وسيكون هدفه رضا الناس، لا رضا الله تبارك وتعالى، وسيسير وفق أهواء الناس ومشتهياتهم، ويخشى الناس، أي انفضاض الناس من حوله، ولا يخشى الله، وقد حذَّر الله سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) من هذه النتيجة (وَ تَخْشَى النّاسَ وَ اللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ)(4) ، وما

ص: 136


1- أُنظر: بحار الأنوار ج 48 ص 129، والإحتجاج ج 2 ص 392، وعيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 1 ص 91.
2- الأحزاب: من الآية 36.
3- أُنظر: بحار الأنوار ج 31 ص 71، وص 75.
4- الأحزاب: من الآية 37.

كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليجامل أحداً على حساب الحق، ولكنها على أية حال نتيجة مهمة، يجب أن يحذِّره الله تعالى منها، وعندئذ ستكون الناس هي المحركة والموجهة للقائد بحسب رغباتها، وليس هو الذي يحركها، قال تعالى: (وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ)(1) ، وقال تعالى: (وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ)(2) ، وهنا تزداد المشكلة سوءاً، فإنه حينما يريد أن يفعل فعلاً فسوف لا يفكر بما يرضي الله سبحانه، أو، تقوم عليه حجة شرعية، بل يفعل ما يرضي الناس، و يزيد من خفق النعال خلفه، وسيبدأ القائد بالخداع والتضليل، والوعود الخلابة، كما يفعل الساسة اليوم، حتى في الدول الغربية، التي تتصور أنها النموذج الأرقى للعالم المتحضر، بلا حياء، من أجل جمع أكبر عدد ممكن من الأصوات، ونحن نعلم أن أغلب العامة همج رعاع ينعقون مع كل ناعق، وتنطلي عليهم أبسط شبهة، تنقل مواقفهم من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، وتسيِّرهم العواطف والأهواء، وتخدعهم العناوين البراقة.

لذلك لم يكن تعيين ولي الأمر بالإنتخاب الشعبي، وإنما بالنص بالنسبة للمعصومين، وباختيار (أهل الخبرة) بالنسبة لنوابهم (عليهم السلام)، من المجتهدين الجامعين للشرائط، ويُفترض في أهل الخبرة فضيلة ودرجة عالية من العلم اولاً، ودرجة معمقة من الورع، والسيطرة على الأهواء

ص: 137


1- الأنعام: من الآية 116.
2- المؤمنون: من الآية 71.

والنفس ثانياً، وقدرة كافية على التمييز والتفضيل ثالثاً.

فالمفروض في القائد أن يستهدف ما عند الله سبحانه، وبتعبيرنا أن يفعل ما يراه حجة بينه وبين الله سبحانه، سواء رضي الناس أم أبوا، قال على (عليه السلام):

(لا يَزِيدُنِي كَثْرَةُ النَّاسِ حَوْلِي عِزَّةً، وَلا تَفَرُّقُهُمْ عَنِّي وَحْشَةً)(1)؛ وإلا فما فائدة كثرة الأتباع حولك، وأنت تزداد غياً وبُعداً عن الله سبحانه.

ولو تأملنا كلام المعصومين الهداة لوجدنا فيها خيراً عميماً ولما زلت اقدامنا في موقف.

ففي دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عرفة (إلهي ماذا وجد من فقدك، وماذا فقد من وجدك، خسرت صفقة عبد لم تجعل لها من حبك نصيباً)(2) فما قيمة كثرة الأتباع في هذه الصفقة الخاسرة.

جاء وجهاء المشركين ومترفوهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقالوا له: لو طردت عنك هؤلاء الفقراء لاتبعناك، لأننا لا نستطيع أن نجلس معهم، فتنزَّل قوله تعالى: (وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ)(3).

ص: 138


1- نهج البلاغة ص 409، من كتاب له (عليه السلام) إلى أخيه عقيل بن أبي طالب، وشرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 16 ص 148، وبحار الأنوار ج 34 ص 24، وج 97 ص 361.
2- بحار الأنوار ج 95 ص 226، والإقبال ص 349.
3- الأنعام: 52.

إن هذا الداء، وهو السعي لزيادة الأتباع، قد تفشَّى إلى مراكز عديدة كمرجعية التقليد، أو خطيب المنبر، أو إمام المسجد، أو المدرس في الحلقات العلمية، و أصبح هو المعيار، وانطمست المعايير الحقيقية، ولو وقف الأمر إلى هذا الحد لأمكن السكوت عليه، لكن الداهية العظمى أن يكون ذلك هدفاً يسعى إليه، ويغفل عن الله سبحانه، وعندئذ لا يهمه الأسلوب الذي يؤدي إلى هذه النتيجة، و هذا انحدار مريع في تفكير القيادة ومنهجها.

وقد تنقلب الموازين، فتكون هذه الكثرة الكاثرة هي الدليل عنده على أنه على الحق، ويبدأ بمغالطة نفسه فضلاً عن مغالطة الآخرين، وينسى ان عدد مريدي لاعب رياضي، أو مغني هم أكثر من أتباعه، فما الحق الذي نالوه من هذه الكثرة.

قال (صلى الله عليه وآله وسلم):

(كَيْفَ بِكُمْ إِذَا..... لَمْ تَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَلَمْ تَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ؟، فَقِيلَ لَهُ: وَيَكُونُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، فَقَالَ: نَعَمْ، وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ، كَيْفَ بِكُمْ إِذَا أَمَرْتُمْ بِالْمُنْكَرِ، وَنَهَيْتُمْ عَنِ الْمَعْرُوفِ؟ فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ؟، قَالَ: نَعَمْ، وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ، كَيْفَ بِكُمْ إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوفَ مُنْكَراً، وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفاً)(1).

ص: 139


1- الكافي ج 5 ص 59، وتهذيب الأحكام ج 6 ص 177، ووسائل الشيعة ج 16 ص 122، ومستدرك الوسائل ج 12 ص 335، وبحار الأنوار ج 52 ص 181، وج 74 ص 155، وج 97 ص 74، وص 91، وتحف العقول ص 49، وروضة الواعظين ج 2 ص 365، وقرب الإسناد ص 26، ومجموعة ورام ج 2 ص 124.

الصفة السادس عشر: النجاح في اجتياز الإبتلاءات التي لا بُدَّ منها في هذه الدنيا، وإجراءاً لسنن الله تبارك وتعالى في مخلوقاته، ولكل مسئولية وموقع ابتلاءات وامتحانات لا بُدَّ من تجاوزها، والغرض منها تأهيل الشخص لذلك المقام الذي يريد الله تبارك وتعالى أن يعطيه إياه، قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ)(1) ، وقال تعالى: (الم، أَ حَسِبَ النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ)(2).

وتتصاعد شدة الإبتلاء كلما إزداد المقام أهمية لذا ورد في الحديث الشريف:

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُ بِمَنْزِلَةِ كِفَّةِ الْمِيزَانِ كُلَّمَا زِيدَ فِي إِيمَانِهِ زِيدَ فِي بَلائِهِ)(3).

وهناك بلاءات ناتجة من كون الإنسان في هذه الدنيا المليئة بالأسقام والعلل، وهذه عامة لكل البشر.

وأخرى أخص منها للمؤمنين، باعتبارهم يرجون ما عند الله سبحانه، وهكذا تضاف بلاءات جديدة كلما تقدم الإنسان خطوة نحو التكامل.

ص: 140


1- البقرة: 214.
2- العنكبوت: 1-2.
3- الكافي ج 2 ص 253، ووسائل الشيعة ج 3 ص 263، ومستدرك الوسائل ج 2 ص 433، وص 436، وبحار الأنوار ج 64 ص 210، وص 243، وج 75 ص 320، وإرشاد القلوب ج 1 ص 123، وأعلام الدين ص 125، والأمالي للطوسي ص 631، وتحف العقول ص 408، والتمحيص ص 31، وجامع الأخبار ص 115.

فنبي الله إبراهيم تجاوز امتحانات العبودية أولاً، حتى استخلصه الله لنفسه، ثم اجتاز امتحانات النبوة، ثم الرسالة، وبقيت عليه امتحانات الإمامة، فقال تعالى: (وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً)(1) وقد تقدم أول البحث تفسير الآية، بأنها بعد أن حصل على كل تلك المراتب المتقدمة.

إن الإبتلاء يصقل الشخصية، ويظهر معدنها الأصيل، كما أن النار تفتن المعادن وتنقيها من الشوائب وتظهر المعدن النقي فكذلك الابتلاء يُظهر النقائص في الشخص حتى يسعى نحو علاجها وفق السنن الإلهية، وهي إضافة إلى ذلك ترفع درجات المبتلى حينما ينجح فيها.

والإختبارات على مستويات ثلاثة، أقلها، المصائب والصعوبات التي تعترض الإنسان كفقد الأعزاء والأحباء، أو، المرض والفقر والجوع والأذى والألم، وأعلى منها امتحان الصبر على اجتناب المحرمات، وترك الشبهات، والورع عنها، وعدم التسامح فيها، وأعلى منها اختبار الصبر على الطاعة، والمداومة عليها، وتكريس النفس لها، وعدم التقصير فيها، وهذه أرقى الدرجات بحسب تقسيم الأحاديث الشريفة.

وقد أدَّى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الإمتحانات بنجاح، و ظل مجاهداً كادحاً حتى لاقى ربه، قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

(يَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى

ص: 141


1- البقرة: من الآية 124.

يَلْقَى رَبَّهُ)(1)؛ يعني بالمؤمن نفسه الشريفة، ولم يقابلها (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر فحسب، ولا الرضا بقضاء الله فحسب، ولا السرور بما اختاره الله تبارك وتعالى له فحسب، وهذه كلها مراتب متدرجة في الكمال، وإنما كان موقفه الشكر على رعايته تبارك وتعالى له (صلى الله عليه وآله وسلم)، والتفاته إليه، وأخذه وهو العلي العظيم الغني عن العالمين بيده، نحو رفيع الدرجات.

وإلى هذه الرعاية أشار ربه تبارك وتعالى ليذكره بأن الذي تكفله وهو يتيم ضعيف، ثم وهو وحيد بين طواغيت قريش، سوف يستمر في رعايته واللطف به إلى آخر حياته، وفي الآخرة، (بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَ الضُّحى، وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى، وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى، وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى، أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى، وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى، وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى، فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وَ أَمَّا السّائِلَ فَلا تَنْهَرْ، وَ أَمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)(2) ، فبدأ حياته يتيم الأب، ثم فقد أمه وهو رضيع، فكفله جده عبد المطلب، الذي لم يلبث أن توفي وهو صبي في الثامنة، ثم اشتغل بالرعي وبالتجارة والكسب، وبعد البعثة

ص: 142


1- نهج البلاغة ص 48 خطبة (3)، وبحار الأنوار ج 29 ص 497، وج 30 ص 80، والإحتجاج ج 1 ص 191، والإرشاد ج 1 ص 287، وإرشاد القلوب ج 2 ص 314، وشرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج 1 ص 151، والطرائف ج 2 ص 417، وص 420، وعلل الشرائع ج 1 ص 150، ومعاني الأخبار ص 360، والمناقب ج 2 ص 204، ونهج الحق ص 326.
2- الضحى: 1-11.

عانى ما عانى من أذى قريش، وصفوه بألوان الصفات المشينة، وضعوا الفرث والدم على رأسه الشريف، ورموه بالحجارة حتى أدموه، ويعود إلى الدار وهو ينزف دماً، وتحمَّل الجوع والحرمان، فكان يشدُّ حجر المجاعة على بطنه، وينام خاوياً.

أُهدي طعام إلى الزهراء (سلام الله عليها) فأبت أن تنال منه قبل أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم)، فذهبت به إليه فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): لم يدخل جوف أبيك شيء من الطعام منذ ثلاثة أيام.

فقد سنده أبا طالب وحبيبته وأنيسته خديجة خلال ثلاثة أيام وهو يعاني شدة الحصار في الشعب.

تحمَّل الأذى من بعض زوجاته، وكنَّ يوجهن له كلاماً جارحاً، والقرآن شاهد على هذه الأذايا والبلايا، حتى اتهم في عرضه وشرفه، و أن إبراهيم ليس إبنه، فنزلت سورة النور تفضح هؤلاء الخائضين بحديث الإفك.

مات ولده الوحيد إبراهيم فكان غاية رَدِّ فعله

(تَدْمَعُ الْعَيْنُ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلا نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ، وَإِنَّا بِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ)(1)، ولم يبالغ حيث صادف كسوف الشمس، فقيل: إنها كُسفت لموت إبراهيم

ص: 143


1- الكافي ج 3 ص 262، ووسائل الشيعة ج 3 ص 280، ومستدرك الوسائل ج 2 ص 413، وص 462، وبحار الأنوار ج 10 ص 33، وج 16 ص 235، وج 17 ص 280، وج 22 ص 157، وص 264، وص 458، وج 24 ص 263، وج 65 ص 54، وج 74 ص 142، وج 79 ص 90، والإحتجاج ج 1 ص 215، وتأويل الآيات الظاهرة ص 802، وتحف العقول ص 37، ومكارم الأخلاق ص 22.

فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):

(إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، يَجْرِيَانِ بِأَمْرِهِ، مُطِيعَانِ لَهُ، لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ)(1)؛ وأوذي بعصيان أصحابه له، وتمردهم على أوامره، كتخلفهم عن جيش أسامة، وعلم منهم انقلابهم على وصيه، ومنعوه من كتابة وصية لايضلون بعدها أبداً، في رزية يوم الخميس(2).

هذا بعض ما امتُحن به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على المستوى الأول.

أما على المستوى الثاني، أي الصبر عن المحرمات، فقد تقدَّم أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) جاهد نفسه وروضها، لتعزف عن الدنيا المحللة، أزيد من الحاجة، فكيف بالمحرمة، والى مثل هذه التربية للنفس اشار تلميذه الاول امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (وإنما هي نفسي اروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الفزع الاكبر)(3) وقال (عليه السلام) (... حتى تهشّ الى القرص مأدوماً بالملح)(4)!!

وأما على المستوى الثالث، فقد تقدم أيضاً الحديث عنه، وكيف

ص: 144


1- الكافي ج 3 ص 208، وص 463، ومن لا يحضره الفقيه ج 1 ص 540، وتهذيب الأحكام ج 3 ص 154، ووسائل الشيعة ج 7 ص 485، وص 491، ومستدرك الوسائل ج 2 ص 462، وج 6 ص 168، وبحار الأنوار ج 22 ص 155، وج 78 ص 380، وج 79 ص 91، وج 88 ص 155، وص 163، والمحاسن ج 2 ص 313، والعوالي اللآلي ج 1 ص 206، وج 2 ص 221، ومسكن الفؤاد ص 103.
2- راجع تفصيل هذه الحوادث في كتاب (النص والاجتهاد) للسيد شرف الدين.
3- نهج البلاغة، من كتاب له الى احد عماله.
4- نفس المصدر، ونفس الموضوع.

أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقف بين يدي ربه حتى ورمت قدماه، ونزل قوله تبارك وتعالى: (طه، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى)(1) (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ وَ طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَ اللّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ)(2).

وإنما أستعيد هذه الأحداث والأفكار لأقول: إن الله سبحانه عندما يريد ان يهيء شخصاً، أو، مجتمعاً لقيادة البشرية وهدايتها وإصلاحها، فإنه تبارك وتعالى سيعرض هذا الشخص، أو هذه الأمة للإبتلاءات المطلوبة، فإن وفوا باستحقاقاتها واجتازوها بنجاح اختيارا فسيؤتيهم الله كفلين من رحمته، وسيمنح الناجح المرتبة التي أهلها له، وإن تراخى وتسامح وتهاون، والمفروض أن يجتاز هذه الإمتحانات، فسيضطره الله سبحانه إلى بعض البلاءات.

مثلاً قد يحتاج المصلح والقائد إلى أن يمر بفترة عزلة وتربية مركزة لنفسه، بعيداً عن النشاط الإجتماعي، فينفر هذا الشخص من الإنعزال ولا تطيقه نفسه، فيبتليه الله بالسجن رغماً عليه، لتتحقق له هذه الثمرات.

ويتعرض المجتمع لبلاء يحتاج لرفعه إلى مقدار من التضحيات، فيبخل بها، ويؤثر الدعة والراحة، فتكلّفه السنن الإلهية خسائر أضعاف ما بخل بها، ومن دون أن تتحقق له نتيجة إيجابية.

ص: 145


1- طه: 1-2.
2- المزمل: من الآية 20.

فتصوروا لو أن الأمة وقفت مع أمير المؤمنين ضد الإنحراف والباطل، وقد يكلّفها ذلك شيئاً من التضحيات في سبيل الله، ولكنها تنعم في النهاية بسلطة الحق، لكن الأمة آثرت الخضوع والذلة فوقعت، بحسب سنن الله تعالى، ببلاء تطول مدته تحت وطأة الباطل، يسومها سوء العذاب، ودفعت اضعاف تلك التضحيات من دون ان يتغير حالها.

ومن ذلك ما ورد عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال: ايما رجل من شيعتنا اتى رجلاً من اخوانه فاستعان به في حاجته فلم يعنه وهو يقدر الا ابتلاه الله بأن يقضي حوائج عدة من اعدائنا يعذبه الله عليها يوم القيامة.

وعن ابي جعفر (عليه السلام): من بخل بمعونة اخيه والقيام له في حاجته ابتلى بمعونة من يأثم عليه ولا يؤجر(1).

وقد يبخل المكلف بدفع الخمس، ويحلو المال في عينيه، ويعز عليه دفعه في طاعة الله، فيخسر أضعافه في معصية الله، ومن ورائه عذاب شديد؛ وقد يبخل الإنسان بنفسه، أو بصحته، أو براحته، حينما يدعوه الواجب، ويؤثر الكسل والراحة، فيقع في بلاء يكلفه أكثر من ذلك، مع التفاوت الكبير في النتائج التي يحصل عليها بين البلاء الإختياري والإضطراري، فإن الأول أقل كلفة أولاً، وأعظم أجراً ثانياً، وأشد تأثيراً في تحقيق التكامل، والنتائج المطلوبة فردياً وإجتماعياً ثالثاً. و هذا الموضوع يستحق أفراده

ص: 146


1- الحديثان من وسائل الشيعة ج 16، باب تحريم ترك معونة المؤمن عند ضرورته.

بالبحث، وهي المقارنة بين تكاليف عبادة الله سبحانه وعبادة غيره، سواء أكانت أهواء النفس، أو، الطواغيت، أو، المصالح ونحوها.

ومراعاةً لخصوصية هذا البحث الذي يستعرض دروساً للقادة والمصلحين الرساليين فيجب الإشارة إلى بلاء وصعوبات وشدائد تواجه من يسعى لإصلاح المجتمع وتغييره خاصة، بلاء من نوع خاص لا يفهمه إلا من يعيشه ومن يتصدى لهذه المسئولية، ذلك البلاء الذي يثقل على النفس حتى يضيق الصدر فيشعر بالحرج والضغط، قال تعالى: (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ)(1) (وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السّاجِدِينَ وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)(2).

(وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلاّ بِاللّهِ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)(3).

و هذا الحرج غير مختص برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل هو أمر يتعرض له كل من يواجه المجتمع البعيد عن الله سبحانه، ويريد أن يعيده إلى عبادة الله، ويخرجه من عبادة الطاغوت بكل أشكاله، لذا جاءت التوصية له (صلى الله عليه وآله وسلم) (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ

ص: 147


1- الأعراف: 2.
2- الحجر: 97-99.
3- النحل: 127-128.

ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ)(1).

وقد كَرَّس القرآن الكريم جزءاً كبيراً منه لعرض طبيعة هذه المواجهة بين المعسكرين، والأسلحة المستعملة فيها، وميزان القوى لكل منهما، وأساليب المعسكر الكافر، ليجد المصلح أن الحرب نفس الحرب، والناس نفس الناس، والأساليب نفس الأساليب، حتى ان الله تبارك وتعالى يثير الاستغراب من اجتماع اجيالهم المختلفة على هذا الموقف المعادي للحق وأهله (أَ تَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ)(2).

كل ما كان هناك أن الأدوات والمصاديق والعناوين قد تغيرت (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ)(3) وكانت النتيجة نفس النتيجة دائماً (وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ)(4) (وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ، وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ

ص: 148


1- الأحقاف: 35.
2- الذاريات: 53.
3- البقرة: 214.
4- الأنبياء: 105-106.

وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ)(1).

ولمزيد من البيان والتفصيل نقول: إن الله سبحانه يقسِّم من خلال القران الكريم نظام حياة البشر إلى نوعين: الإسلام والجاهلية، و هذا التقسيم ليس مختصاً بفترة نزول القرآن، أي عصر البعثة الشريفة، بل هي حالة مستمرة لأن الجاهلية ليست فترة زمنية مرت وانتهت إلى الأبد بظهور الإسلام، بل هو نظام حياة يمكن أن تعيشه البشرية في كل زمان ومكان، لأن لكل من القسمين صفاته ومميزاته، فمتى تحققت هذه السمات وجد هذا المجتمع، وقد فصلنا شرح ذلك في كتابنا (شكوى القرآن).

فالمجتمع المسلم هو المجتمع الذي يطبق شريعة الله سبحانه في كل تفاصيل حياته، ابتداءاً من الإعتقادات إلى النظم والتشريعات، إلى الأخلاق والأعراف والقيم والموازين التي تسود فيه، أما أن يسمي المجتمع نفسه مسلماً، والسلطة العليا فيه ليس لله سبحانه وتعالى ولرسوله والائمة الاطهار (عليهم السلام) والعلماء الجامعين لشرائط النيابة العامة عن الامام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، ولا القوانين والتشريعات التي تحكمه إلهية، ولا الأعراف والتقاليد التي تسيِّره ويعيش تحت ضغطها مستفادة من شريعة الله سبحانه، ولا القيم والموازين التي يقيم بها حياته مأخوذة من الله سبحانه، ولا الآصرة التي تربط أفراده هي وحدة المعتقدات الإلهية الحقيقية، وإنما هي الجنس، أو اللون، أو العشيرة، أو

ص: 149


1- القصص: 5-6.

الوطن، أو القومية، أو الشعارات المختلفة، فهذا ليس مجتمعاً مسلماً، وإن سمَّى نفسه كذلك، لأن هذه الأمور لا تقوِّم إنسانية الإنسان، وليست عناصر ذاتية فيها، بل هي أمور خارجة عن إرادته؛ بل إنسانية الإنسان بروحه وفكره، وما يحمله من عقائد وتصورات، ترسم له منهج حياته، وهو يبقى إنساناً إذا سلخناه من لونه ووطنه وجنسه وعشيرته، ولكنه لا يبقى إنساناً إذا جردناه من روحه وعقله وفكره، وإنما يصبح كالأنعام بل هم أضل سبيلاً.

والمجتمع الجاهلي هو من فقد خصائص المجتمع المسلم، فالسلطة ليست لله، وإنما لعباده، والتصورات والأعراف التي تحكمه شيطانية ما أنزل الله بها من سلطان، فيكون بعضهم أرباباً لبعض، يشرعون لهم، والباقون عبيداً لهم (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ)(1) (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ)(2) فينقسم المجتمع إلى مستضعفين ومستكبرين، وتابعين ومتبوعين، ويكون الولاء لغير الله سبحانه، وانما لعناوين يبتدعونها، وآلهة يصطلحون على عبادتها، وأداء مراسيم الطاعة

ص: 150


1- آل عمران: 64.
2- التوبة: 31.

والولاء لها، كالعشيرة والوطن والقومية والجنس واللون وربما الرياضة او الحزب او اي انتماء آخر، التي قد علمتَ أنها عناصر ذاتية في إنسانية الإنسان، وتكون الأعراف والتقاليد والنظم الإجتماعية المتبعة من وضع البشر، لا الخالق سبحانه وتعالى.

لقد بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والجاهلية ضاربة بأطنابها في عموم الأرض، فالأمم التي تسمي نفسها متحضرة كالروم والفرس كانت مستعبدة لطواغيتها، يسيرونهم وفق أهوائهم، ويقدمون القرابين البشرية بلا حساب من أجل نزوة لهذا المتسلط، أو حُلُم مَرَّ بخياله، أو شهوة أراد تحقيقها، والأموال تصرف على ملذاتهم، أما الناس فغارقون في مستنقع الرذائل الخلقية، من شرب الخمر والزنا والتطفيف بالمكيال، وغيرها من الفواحش.

أما العرب فحدِّث ولا حرج عن جاهليتهم المعروفة للجميع، وفي مواجهة هذه الجاهلية أعلن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دعوته إلى توحيد الله سبحانه وتعالى (قولوا لا اله الا الله تفلحوا)(1)، فكان أن وقف الجميع في وجهه وقفة رجل واحد، فما الذي حصل وقد كان الأحناف يعلنون هذه الكلمات بين ظهراني المشركين بلا نكير من أحد؟، الذي حصل أن أهل الجاهلية فهموا أن هذه الكلمة الصغيرة في عدد حروفها، كبيرة وواسعة جداً في معانيها، لأنها تلغي سلطنة العباد على العباد، وتلغي الإمتيازات والفروق الطبقية، وتذوِّب كل العناوين، ليصبح الجميع سواسية، تجمعهم

ص: 151


1- أُنظر: بحار الأنوار ج 18 ص 202، والمناقب ج 1 ص 55.

عبادة الله الواحد الأحد، وتهدم كياناتهم الإجتماعية والإقتصادية، التي أقاموها على أسس غير مشروعة، كما أنها تقلب الموازين والأعراف التي درجوا عليها وتوارثوها، وتقيم بدلاً منها نظاماً لم يألفوه، ولا يوافق أهواءهم ونفوسهم الميالة للشهوات، فثاروا ووقفوا في وجهه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعبئوا كل قوتهم لمقاومته (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجندوا الناس كلها ضده (صلى الله عليه وآله وسلم)، بما فيهم بعض أفراد أسرته كعمه أبي لهب وزوجته أم جميل حمالة الحطب، وخلطوا عليهم الأوراق لئلا يتضح أمامهم الحق، فوصفوه بالخارج عن طريقة الآباء والأجداد، وأنه سَبَّ آلهتنا، وسفَّه أحلامنا، ومن يقبل أن يرمي السلف كله في سلة المهملات، وتسب آلهته، وتسفه وتحقر الأعراف والتقاليد التي دأبت على تطبيقها الأجيال.

فكيف يستطيع أن يُفهمهم الحقيقة، ويقنعهم بالإنصات إليه، مع هذا الضجيج حوله، وهو وحيد أمام هذا الزخم المتلاطم، فكان من الطبيعي أن يوصف بأنه مجنون.

فهذه المواجهة، أي مواجهة الجاهلية بأبعادها الواسعة، من العدد الذي يغطي كل المجتمع، إلى الأعراف والتقاليد الموروثة المستحكمة التي لا يمكن الخروج عنها مهما كلَّف الثمن، إلى الأرباب البشرية التي استعبدت البشر، وسنّت لهم القوانين، وفرضتها عليهم، إلى النفوس الأمارة بالشهوات التي تستعصي على من يريد أن يملك زمامها.

فنفس الشعور بهذه المواجهة الواسعة مع المجتمع البعيد عن الله

ص: 152

سبحانه، والسعي إلى تغييره وإصلاحه، أول هم ثقيل و (حرج) على التعبير القرآني، يتلجلج في صدر المصلح الكبير.

و هذا التشويه لشخِّصية المصلح، وإحاطتها بالضباب الكثيف الذي يمنع الرؤية الصحيحة مع ما يرافقها من تزييف الحقائق، وهو أول سلاح يُستعمل في المواجهة، هَمُّ ثقيل، وحرج آخر يلقي بكلكله على الروح، وقد يشعر القائد بالإحباط واليأس، من التغيير من اول خطوة بعد ان مسخوا شخصيته اما المجتمع واصبح مرفوضاً حتى عند اقرب الناس اليه.

ثَمَّ يأتي دور الأسلحة الأخرى في المواجهة، مما مَرَّ ذكرها من تعذيب المؤمنين برسالته (صلى الله عليه وآله وسلم) او سجنهم او قتلهم او التآمر على قتل القائد نفسه، فماذا أعدَّ المؤمن المتصل سببه بالله لهذه المواجهة، وبماذا تسلَّح؟ لقد تسلَّح بالوعود الإلهية بالتثبيت والنصر، وإنزال السكينة والإمداد الإلهي ووراثة الأرض ومَنْ عليها، وإن الله كافٍ عبده، ويجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب، وهذه بعض الآيات التي تضمنت تلك الوعود الإلهية (ومن اصدق من الله قيلا)(1) قال تعالى: (وَ كُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَ جاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ)(2) ، (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَ اضْرِبُوا

ص: 153


1- النساء: من الآية 122.
2- هود: 120.

مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ)(1) ، (ثُمَّ أَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَ عَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ)(2) ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ)(3) ، (وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ وَ ما جَعَلَهُ اللّهُ إِلاّ بُشْرى لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَ مَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)(4)، (وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ)(5)، (أَ لَيْسَ اللّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ)(6)، (وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللّهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً)(7)، (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(8)، هذا غير مثل قوله تعالى:

ص: 154


1- الأنفال: 12.
2- التوبة: 26.
3- محمد: 7.
4- آل عمران: 123-126.
5- الأنبياء: 105.
6- الزمر: 36.
7- الطلاق: جزء من الآية 2-3.
8- البقرة: 137.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(1) فبعد هذا سوف لا يشعر القائد بالعنت والتعب والحرج في الصدر، على تعبير القرآن، و هل تحتاج بعد هذا إلى ما يزيل عنك هموم التبليغ والتغيير؟

وأرقُّ تعبير عن رعاية الله سبحانه لعباده العاملين على إعلاء كلمته، وإخراج البشر من عبادة العبيد إلى عبادة الله سبحانه، قوله تعالى: (وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ)(2) أي أنك في رعايتنا وعنايتنا وحراستنا، وهي الكلمة التي كانت تهوِّن على الإمام الحسين (عليه السلام) ما يحلُّ من عظائم الأمور، قال (عليه السلام):

(هَوَّن ما نزل بي أنه بعين الله سبحانه)(3).

هذه جاهلية الأمس، وهذه صورة المواجهة معها، فهل تغيرت حال البشر اليوم عنها؟، ولا أريد أن أتكلم عن العالم الذي يسمي نفسه بالمتحضر، فإنه غارق في وحل الجاهلية إلى شحمة أذنيه، فمعبوده المادة والمصالح الإقتصادية، حيث تشتعل الحروب، وتسحق الشعوب من أجل المصالح والنزوات والشهوات.

ص: 155


1- التوبة: 120.
2- الطور: 48.
3- بحار الأنوار ج 45 ص 45، وفلاح السائل ص 83، واللهوف ص 115.

والآلهة تحولت من أصنام حجرية تؤدَّى لها الطقوس، وتهدر بين أقدامها الأموال، ويتسابق على نيل رضا أربابها الناس، تحولت إلى آلهة جديدة هي الرياضة والفن، فبدل أن تتوجه القلوب إلى الله سبحانه، وتتوحد على طاعته، أصبحت العيون متجهة إلى ملاعب كرة القدم، ودور الأزياء، لمعرفة ما تقدمه من جديد، وبدلاً من أن يكون الولاء لله ولرسوله ولأمير المؤمنين أصبح الولاء للعشيرة وللقومية وللفريق الفلاني.

وأما الأعراف والتقاليد المتحكمة فليست من صنع الشريعة، وإنما فرضها البشر القاصر العاجز، والويل لمن يخرج عنها، حتى لو كانت على خلاف الشريعة، لأنه العار، ودخول النار عندهم أولى من ركوب العار، عكس ما نادى به الامام الحسين (عليه السلام): (الموت أولى من ركوب العار، والعار أولى من دخول النار)(1)، و أصبح المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، فالمسلسلات التلفزيونية تمجِّد الحب، وتدعو إليه، وتنبذ (المتزمتين الرجعيين) الذين يقفون في طريق الحب وأهله، وأبطال الشاشة هم المتمردون على الأخلاق الإجتماعية العامة، والشجاع هو الأكثر إعتداءاً على الآخرين، والذي ينقضُّ بالسلاح على كل أحد يقف في طريقه.

ص: 156


1- بحار الأنوار ج 44 ص 192، وص 196، وج 45 ص 50، وج 75 ص 128، وأعلام الدين ص 298، وكشف الغمة ج 2 ص 32، وص 36، واللهوف ص 119، ومثير الأحزان ص 72، والمناقب ج 4 ص 68، وص 110.

والدين أفيون الشعوب، لأنه يصادر حريات الإنسان، ويمنع عليه أن يمارس أعماله كيف يشاء، فلا مانع إذن من أن يصدر قرار رسمي بإباحة الإتصال الجنسي بين أفراد الجنس الواحد.

أما الظلم فعلى أشده، يمتصون خيرات الشعوب، ويتركونهم يموتون جوعاً، ليترهلوا هم من التخمة والترف الزائد، ويحرقون اللحوم والأغذية حفاظاً على أسواقهم وأسعارهم، وغيرها كثير مما لا يغيب عن الملتفت.

ومجتماتنا الإسلامية ليست بعيدة عن هذه الحياة الجاهلية، بعد أن أقنعها الغرب الكافر بأن تخلع عنها لباس الدين، لأنه يعرقل مسيرتها، ويمنع تطورها، فلتنبذه وتتبع الغرب، فتخلت عن أحسن ما عندها، و أخذت من الغرب أسوأ ما عنده، وأصبحوا له عبيداً أذلاء، فمن يسعى إلى أن يعيد للمجتمع صبغته الإلهية (صِبْغَةَ اللّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ)(1) فسيواجه عين ما واجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أولوا العزم من الرسل قبله.

وما دامت المواجهة نفسها فليتسلح بما يتسلح به المؤمنون السابقون، ولكي لا نبخس الناس أشيائهم فلا بد أن نقول بتفاؤل: إنه رغم ذلك توجد ثلة مؤمنة وعت الشريعة وطبقتها في حياتها، وثلة أخرى يعيش

ص: 157


1- البقرة: 138.

الدين في ضمائرها، ولا تحتاج إلى أزيد، ممن يحركها ويحتضنها، فالمهمة أيسر مما واجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفرص النجاح أكبر (وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ)(1) والحديث كما ترى ذو شجون وتفصيل لا يتسع لها درس واحد، لكن ما ذكرنا مجرد إلفات نظر (وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ)(2).

ص: 158


1- المطففين: من الآية 26.
2- الحاقة: من الآية 12.

المحور الثاني: في سياسة الأمة

اشارة

ص: 159

ص: 160

لم تصدر من سماحة الشيخ اليعقوبي ضمن هذا المحور الا محاضرتان هما (كيف خطط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للخلافة من بعده) و (ماذا خسرت الأمة حينما ولَّت أمرها من لا يستحق) ولذلك اكثر من سبب:

1 - انشغال سماحته بالشؤون العامة الواسعة.

2 - اكتفاؤه بما صدر منه في كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية) الذي تكفل ببيان العشرات من اوجه نشاط المعصومين (عليهم السلام) في حياة الامة والأئمة هم الامتداد الطبيعي لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمظهرين لعلمه وسيرته المباركة، فحركتهم انعكاس لحركته الشريفة (صلى الله عليه وآله وسلم).

وقد طبعتا مع تخريج الروايات والأخبار الواردة فيها والشرح والتعليق عليها في كتاب مستقل عنوانه (من وحي الغدير) ونحن نقتصر هنا على ذكر الأصل باذن الله تعالى.

ص: 161

ص: 162

كيف خطط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للخلافة من بعده

كيف خطط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للخلافة من بعده(1)

ان الامامة وولاية امر الناس ضرورة اجتماعية لا يختلف فيها اثنان وقد اطبق عليها جميع العقلاء ولا يمكن لحياة المجتمع ونظام معاشه ان يستقيم بدون امام ورئيس يدير شؤون الامة ويدبر امورها. وقد اجمع علماء الاسلام على ضرورة وجود امام واذا كان بينهم خلاف ففي الصغرى اي في التفاصيل والتطبيق لا في اصل احتياج الامة فابناء العامة يقولون بالشورى او ان الامر لمن غلب حتى لو قهر الأمة بالسيف وتقمّص امامتها قهراً ونحن نقول انها بالنص وانها حق جعله الله تبارك وتعالى لمن اجتمعت فيه شروطها، سواء سمحت له الظروف بالقيام فعلاً بالامر او صودرت حريته ومُنِع من ممارسة دوره كاملاً كما في الحديث الشريف (الحسن والحسين امامان ان قاما وان قعدا) اي قاما بالامر او قعدا عنه لاي سبب من الاسباب.

وقد اهتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الامر بدقة فكان لا يُخرج سرية الا عليها امير مهما قلّ افرادها بل في الحديث اذا خرج اثنان للسفر فليؤمرا

ص: 163


1- محاضرتان القاهما الشيخ محمد اليعقوبي على طلبة الحوزة العلمية، في النجف الاشرف بمناسبة عيد الغدير يومي 16، 17 ذي الحجة 1421 وقد اضاف اليهما بعض الزيادات الضرورية.

احدهما، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) اذا خرج لغزوة لا يترك المدينة بدون خليفة له بل روي في حديث (امام فاسق خير من عدم امام) لانه به تحفظ الثغور وتقوم مصالح العباد وجوزّوا دفع الزكاة والخراج اليه وجعلوها مبرئة للذمة كأنها واصلة اليهم.

لذا كان من مسؤوليات حامل الرسالة ووظائفه بل اهمها على الاطلاق تعيين الخليفة والامام البديل لعدة مصالح مهمة:

1 - ديمومة الرسالة واستمراريتها في اداء دورها فان اية رسالة مهما كانت تمتلك من نقاط قوة - كرسالة الاسلام - تموت بموت صاحبها فانه من المقطوع به ارتباط الرسالات والدعوات بحامليها المقيمين عليها المدافعين عنها المستوعبين لاسرارها لذلك فانها تنتهي بنهاية صاحبها الا ان يواصل الطريق من هو جدير بحملها وانت ترى الرسالات السماوية - وهي اكمل الدعوات - حُرِّفت وشُوِّهت بعد فترة يسيرة من غياب اصحابها.

2 - قطع الطريق امام غير المؤهلين لهذا المنصب الالهي فان الامرة والزعامة خصوصاً الزعامة الدينية بما لها من قدسية وهيبة وجاه من اهم ما تنزع اليه النفس الامارة بالسوء ففي الحديث (آخر ما ينزع من قلوب الصديقين حب الجاه) اذن سيكون المتربصون بها كثيرين والحالمون بها والساعون الى تحصيلها اكثر. وقد اعترفوا انه ما عانت الامة من شيء كما عانت من مسألة الامامة والخلافة و هذا واضح تاريخياً.

3 - صيانة الامة من التشتت وحمايتها من التمزق فان من شأن تعدد

ص: 164

المتصدين لهذا المنصب ان تتعدد الاحزاب والفرق الموالية لهم وكل يجرُّ النار الى قرصه فيتمزق امر الامة وتصبح طرائق قددا وها هي الاجيال بعد الاجيال تدفع ثمن التيه والضياع وآل امرها الى الانحلال لذا قال تعالى (وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا) (فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ) وحبل الله الممدود الى الخلق هما الثقلان كتاب الله واهل بيت نبيه صلوات الله عليهم اجمعين كما دلت عليه النصوص الشريفة(1). وقد اشارت الزهراء سلام الله عليها الى هذه الفكرة المهمة في خطبتها فقالت: (و جعل امامتنا نظاماً للملة) اي بها تنتظم امورهم وتستقر.

4 - ان حامل الرسالة لا يستطيع ان يستمر بمشروعه حتى النهاية ويقدم كل ما عنده قبل ان يطمئن الى وجود البديل لانه قبل ذلك يخشى على مستقبل الرسالة فاذا احرز اجتماع الشروط في الشخص البديل استطاع ان يتقدم بلا تردد او خوف على مستقبل الرسالة، هذا الخوف الذي اشار اليه نبي الله موسى (عليه السلام) لذا كان اول دعاء له

(وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) وفي كلمات امير المؤمنين (عليه السلام): (لم يُوجِس موسى عليه السلام خيفة على نفسه بل اشفق من غَلَبَة الجُهال ودِوَلِ الضلال)(2).

هذه امور يدركها كل عاقل ويزداد الامر وضوحاً كلما ازدادت

ص: 165


1- راجع كتاب (شكوى القرآن). (المصنف)
2- نهج البلاغة، خطبة 4 ص 39. (المصنف)

اهمية الرسالة كدين الاسلام الذي جاء رحمة للعالمين وخالداً الى يوم القيامة فهو - اي الاسلام - بهذه السعة والشمول طولاً وعرضاً، وكلما تعاظم منصب الشخص الراحل والغائب عن الساحة ازدادت المسؤولية والأخطار حول المنصب واشرف موقع هو امامة المسلمين وولاية امورهم وخلافة رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) التي قدّر لها ان تشمل شرق الارض وغربها كما بشر بذلك رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما كان يحفر مع المسلمين في الخندق وضرب على صخرتين فاضاءتا له ولهم واكدها القرآن (وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً) (وَ أُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللّهِ وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ) فكيف لا تتناوشه المطامع وتتجاذبه الاهواء، أفمثل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يجهل هذه الامور الواضحة وهو المتصل بسبب الى الله تبارك وتعالى وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى وهو القائل: (من مات ولم يوص مات ميتة جاهلية) فهل يكون (صلى الله عليه وآله وسلم) اول من يخرج عن ربقة الاسلام ويموت على الجاهلية (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) ام يقال ان هذا الحديث وارد في الوصية بالمال ونحوه للورثة وغيرهم فهل هذه الامور اهم من الوصية بالامة وحفظ كيانها من الضياع؟!

ام يقال (صلى الله عليه وآله وسلم) فوجئ باجله قبل ان يفكر بمستقبل الامة وقبل ان يستعد للتخطيط للبديل مهما كان شكله وصيغته وهو الذي نعى نفسه مراراً وصرح بقرب وفاته في حجة الوداع وحينما قال: (ان جبرائيل كان يعارضني بالقرآن في السنة مرة وعارضني في هذه السنة مرتين وما ذلك الا لدنو اجلي).

ص: 166

ام يقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن حريصاً على الامة ولا مهتماً بأمرها فلتواجه قدرها بنفسها ولو آل امرها الى الفناء ولتذهب اتعابه سدى (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) و هذا لا يصدر من ابسط الناس فالراعي لا يترك غنمه اذا خرج لحاجة او سفر حتى يعين لها راعياً ولم يفعلها الخلفاء من بعده فالاول نص على الثاني وهو يقول اني اخشى ان القى الله وقد تركت امة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) دون ان اولي عليها احداً و جعل الثاني الأمر شورى بين ستة من اصحاب رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد ارسلت اليه ام المؤمنين عائشة بعدما طُعِن: ان اوصِ من يخلفك ولا تترك امة محمد بعدك هملاً وبدون راع.

فكيف برسول (صلى الله عليه وآله وسلم) اكمل العقلاء وسيد الحكماء وهو يرى بعينه الاخطار المحدقة بالامة من الداخل والخارج ففي الداخل كان المنافقون والمرجفون في المدينة - على تعبير القرآن - والقائلون: (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) وقد ازدادت شوكتهم بعد الفتح حيث استسلم الكثير ممن يتربص بالاسلام وبنبيه السوء رضوخاً للأمر الواقع ولم يسلموا ولم يقتنعوا بالاسلام و (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) و كانوا يعارضون تصرفات رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) علناً وينتقدونه ويشككون في صحة افعاله والشواهد على ذلك كثيرة كما في صلح الحديبية حينما منعوا رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من التوقيع على وثيقة الصلح وعندما عارضوا الاحلال من الاحرام في متعة الحج وحينما منعوه من كتابة كتاب لا يضلون بعده ابداً في رزية يوم الخميس وحينما كانوا يصلّون نوافل

ص: 167

رمضان جماعة في المسجد وقد نهاهم (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك مراراً وحينما تخلفوا عن جيش اسامة رغم لعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) للمتخلفين عنه(1).

مضافاً الى ان الانتشار السريع للاسلام وقصر فترته بالنسبة لعظمة الوظيفة التي جاء من أجلها وهي نقل امة كاملة من حضيض الجاهلية وظلماتها الى نور الاسلام وسعادته ادّى الى وجود قاعدة عريضة في المجتمع لم تصل الى درجة كافية من فهم الرسالة واستيعابها والتفاعل مع تفاصيلها وهم معرضون للانهيار والهزيمة مع اول امتحان يواجههم في حالة غيابه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد اخبره بذلك القرآن الكريم (وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) وهو ما وقع فعلاً حين ارتدت الجزيرة ولم يبق على الاسلام الا تلك الثلة القليلة في المدينة المنورة التي عركتها التجارب وصلبت عودها الامتحانات المتتالية مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد اشارت ام المؤمنين عائشة الى هذا الانحراف الذي حصل في مسيرة المسلمين عندما كانت تحرّض على الثورة ضد الخليفة الثالث عثمان، يروي الطبري(2) 1) كانت السيدة عائشة من اشد الناس على عثمان حتى انها اخرجت ثوباً من ثياب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنصبته في

ص: 168


1- راجع في استقصاء هذه الموارد كتاب (النص والاجتهاد) للسيد شرف الدين. (المصنف).
2- (1) تاريخ الطبري 477/3 وقد نقلناه عن كتاب (بنور فاطمة اهتديت) / 190. (المصنف)

منزلها وكانت تقول للداخلين اليها: هذا ثوب رسول الله لم يبل وقد ابلى عثمان سنته وقالوا انها كانت اول من سمى عثمان نعثلاً (اسم احد اليهود بالمدينة) وكانت تقول: (اقتلوا نعثلا! قتل الله نعثلاً) هذا ولم يمر على وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اكثر من عقدين من الزمان.

وكان في الداخل اليهود الذين لا ينسون لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وللاسلام القضاء عليهم وتهجيرهم من ديارهم وقتل رجالهم وسبي نساءهم وزوال دولتهم ونفوذهم في المدينة لذلك كانت هجمة التشكيكات التي بثّوها في الامة بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) واسئلتهم المتنوعة الكثيرة التي كانت تعجز خليفة المسلمين واصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأصيب المسلمون بالاحباط والضعف والهزيمة امامهم وكانت حملة منظمة وليست اعتباطية ظهرت فجأة بعد غياب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واقصاء الخليفة الحق الذي كان لهم بالمرصاد رغم ابعاده عن القيادة الدنيوية لكنه كان يرى مصلحة الدين واعلاء كلمة التوحيد فوق كل شيء حتى اشتهرت كلمة الخليفة الثاني (لا ابقاني الله لمعضلة ليس لها ابو الحسن) وما علمنا انه احتاج الى احد سواه(1).

ومن الخارج كان هناك المتربصون بالاسلام شراً الذين اعيتهم الحيل في القضاء عليه حيث بدأوا بتعذيب اصحابه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقتلهم ثم حاصروه

ص: 169


1- جعل الخليل بن احمد الفراهيدي ذلك دليلاً على امامته حينما سئل ما الدليل على امامة امير المؤمنين وخلافته لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: احتياج الكل اليه وعدم احتياجه للكل. (المصنف)

ومن معه في شعب ابي طالب اقتصادياً واجتماعياً ثم تآمروا على قتله فهاجر الى المدينة وبات علي في فراشه ثم جهزوا الجيوش لقتاله واستئصال امره فلم يفلحوا في القضاء عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يبق امامهم الا نهاية حياته لتموت دعوته بموته (صلى الله عليه وآله وسلم) بل حاول بعضهم فعلاً اغتياله اكثر من مرة كمحاولة رؤساء بني عامر والمحاولة التي جرت اثناء مسيره الى تبوك حيث حاول بعض المتآمرين تنفير ناقته (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلقوه من السفح وتتقطع اوصاله وقد اعلم (صلى الله عليه وآله وسلم) الصحابي حذيفة بن اليمان باسمائهم حتى سمي صاحب سر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان الخليفة الثاني لا يصلي على احد حتى يصلي حذيفة ليعلم انه ليس من المنافقين.

وفي الخارج كانت ايضاً الدولتان الرومية والفارسية اللتان بدأتا تفكران جدياً في امره (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ان غطى نوره الجزيرة كلها من اليمن جنوباً الى تخوم الشام والعراق شمالاً بل انه (صلى الله عليه وآله وسلم) بدأ التحرش بالدولة الرومية في معركة مؤتة وغزوة تبوك وارسل الرسائل اليهم يدعوهم الى الاسلام بلهجة الواثق بالنصر والمستعلي عليهم (أسلم تسلم).

كل هذه المصاعب والتحديات التي تواجه الامة بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت نصب عينه (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو صاحب القلب الرحيم الذي نذر حياته لله تبارك وتعالى ولاصلاح الانسانية وانقاذها من الظلمات الى النور وقد وصفه القرآن الكريم (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) فكيف يترك امر الامة سدى؟!

ص: 170

(فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) و (فَأَنّى تُؤْفَكُونَ) فهذا الاحتمال مرفوض قطعاً.

بقي احتمالان آخران تبنّت كل واحدٍ منهما طائفة من المسلمين.

الاول: وهو الذي التزم به العامة - ايكال الامر الى الامة نفسها فهي تختار من تشاء وهو مرفوض ايضاً لعدة وجوه:

1 - قصور الأمة عن تحمل مثل هذه المسؤولية وقد عجزت عن اقل من هذا الامر عندما واجهت التحديات بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى بعد ان نالت تربية اضافية خلال عقود من السنين ففي خلافة امير المؤمنين عندما بدأ اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتقاتلون بينهم لم يعرفوا حكم هذه الحالة وقد نسب الى ابي حنيفة قوله (انه لولا قتال علي للبغاة من المسلمين لما عرفنا حكم قتالهم الى يوم القيامة) وبعد ذلك بعقود مرّت الدولة الاسلامية بازمة مع الدولة الرومية عندما ارادت ان تسك عملة فيها شتم نبي الاسلام وتتداول في بلاد المسلمين فانقذ الموقف الامام الباقر (عليه السلام) وهكذا ظلّت الامة عاجزة عن حل مشكلاتها لولا وجود الأئمة (عليهم السلام) حتى اكتملت التربية بعد (260) عاماً بوفاة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) فدخلت الأمة مرحلة (وسطية) بين الوجود الفعلي للإمام والغيبة التامة فكانت الغيبة الصغرى التي استمرت (70) عاماً لتبدأ الغيبة الكبرى بعد ان رسم الائمة (عليهم السلام) كل المعالم الرئيسية والخطوط العامة لمسيرة الأمة وقبل هذه المراحل المتتابعة من التربية كانت الأمة عاجزة وكان هذا العجز واضحاً في الصدر الاول للاسلام لقرب عهدهم

ص: 171

بالجاهلية الهمجية وقلة فترة الرسالة وانشغالهم عن استيعاب تفاصيلها كما عبّر الخليفة الثاني حينما سئل عن قلة استفادته من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (الهانا الصفق بالاسواق) و يقول بعضهم كنّا نغتنم فرصة مجيء الاعرابي يسأل من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لنتعلم احكام ديننا فمع عجزهم عن هذه الامور الجزئية كيف يوكل اليهم أمر الامامة التي بها قوام الامة.

2 - لو كان لهذا الامر وجود لبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تفاصيله الى الامة فيوضح صيغة الاختيار ومن الذين لهم هذا الحق وما هي شروط المرشحين للامامة وضوابط الاختيار ومن هو الحاكم فيها عند الاختلاف وهكذا ونحن نعلم ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لن يغفل عن ابسط تفاصيل الشريعة كآداب المائدة واحكام التخلي فكيف يغفل عن مسالة الامامة وهي اصل الشريعة وأساسها؟!.

3 - عدم التزام نفس الخلفاء الذين اعقبوه بمبدأ الاختيار فالاول نص على الثاني، والثاني جعله بين ستة من المهاجرين فهل تراهم اول مخالفين لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بل ان الخليفة الثاني يقر ويعترف (ان بيعة ابي بكر فلتة (او فتنة) وقى الله شرها فمن عاد الى مثلها فاقتلوه كائناً من كان).

4 - ان هذا المنصب العظيم له مؤهلاته الدقيقة التي لا يعلمها الا المطلع على الاسرار ومن لا تخفى عليه خافية في السماوات ولا في الارض واولها العصمة لاشمئزاز الناس من الاخذ ممن يتورط في الذنوب و كما يظهر من الآية الشريفة (وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي

ص: 172

جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ) انها مرتبة فوق النبوة والرسالة ولا يبلغها الرسول الا بعد اجتيازه لامتحانات عسيرة وقد ورد في تفسيرها ان الله اتخذ ابراهيم عبداً خالص العبودية اي معصوماً قبل ان يتخذه نبياً واتخذه نبياً قبل ان يتخذه رسولاً واتخذه رسولاً قبل ان يتخذه خليلا ثم ابتلاه ربه بكلمات فاتمهن ونجح في تلك الاختبارات فاستحق التكريم الالهي (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً).

وانت لو استقرأت الآيات الشريفة وجدتها تنسب الإمامة إلى الجعل الإلهي كالآية المتقدمة وقوله تعالى (وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) وقوله تعالى (وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) وقوله تعالى (وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) لذا قال تعالى: (وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) و قد اشتهر استشهادهم بالآية الشريفة و (اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) عند كل من يطلع عن كثب على سيرة اهل البيت (عليهم السلام) فكأنه مرتكز في اذهانهم جميعاً ان حمل الرسالة امر مجعول من قبل الله تبارك وتعالى وليس لاحد ان يتدخل فيه.

5 - ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه لم يعط لنفسه الحق في تنصيب من يلي الامة وانما اوكل الامر الى الاختيار الالهي ففي سيرة ابن هشام لما دعا الرسول بني عامر للاسلام وقد جاءوا في موسم الحج الى مكة قال

ص: 173

رئيسهم: أرأيت ان نحن بايعناك على امرك ثم اظهرك الله على من خالفك ايكون لنا الأمر من بعدك؟ قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (الامر لله يضعه حيث يشاء). اذا كان الامر كذلك فكيف يُدعى ايكاله الى الامة.

الثاني: ولم يبق الا الاحتمال الآخر وقد تبنته مدرسة اهل البيت (عليهم السلام) وارسى قواعده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واستوعبه الصفوة من اصحابه ودافعوا عنه وصرحوا به رغم الوعيد والتهديد ومضوا عليه شهوداً وشهداء وهي بعد ذلك سنة الله التي جرت في انبيائه ورسله حيث كان لهم جميعاً اوصياء فلماذا لا يكون لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصي (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّهِ تَحْوِيلاً) وقد الفت كتب عديدة في هذا المجال بعنوان (اثبات الوصية) وأشهرها للمسعودي و هذا المسلك يقتضي تهيئة الشخص البديل واعداده ليكون مؤهلاً لمواصلة وظائف ومسؤوليات الامام والخلافة والقيادة النائبة بشكل تام وكامل وفاعل.

و هذا الاحتمال يبدو منسجماً مع النتائج التي تمخضت عن التحليل السابق وفي ضوء القابليات والمؤهلات التي اجتمعت في امير المؤمنين(1) الذي قيل في كثرة فضائله: (لقد اخفى اولياؤه فضائله خوفاً واخفاها اعداؤه حسداً وحقداً وظهر ما بين ذلك ما ملأ الخافقين) وعن احمد بن

ص: 174


1- وانا الى هنا اتكلم بشكل موضوعي ووفق الظروف المنظورة بعيداً عن النصوص واقيم سلوك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كمؤسس امة ومنشئ مجتمع مدني جديد وقائد ناجح حكيم. (المصنف).

حنبل: (ما جاء لأحد من اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الفضائل ما جاء لعلي بن ابي طالب)(1) وكان تميزه واضحاً عن بقية اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بكل صفات الكمال وكان التفاف الواعين المخلصين من اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حوله معروفاً في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) كسلمان وابي ذر والمقداد وعمار وعزّز ذلك الرعاية الخاصة والاعداد المركز الذي كان يحيطه به (صلى الله عليه وآله وسلم) منذ نعومة اظفاره والتي وصفها امير المؤمنين نفسه بقوله: (وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة. وضعني في حجره وانا ولد يضمني الى صدره ويكنفني الى فراشه ويمسني جسده ويُشمُّني عَرفه. وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه وما وجد لي كذبةً في قول ولا خطلة في فعل. ولقد قرن الله به صلى الله عليه وآله من لدن ان كان فطيماً اعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن اخلاق العالم ليله ونهاره، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل اثر أمه يرفع لي في كل يوم من اخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به. ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري. ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وخديجة وانا ثالثهما ارى نور الوحي والرسالة واشم ريح النبوة.

وقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله فقلت يارسول الله ما هذه الرنة! فقال هذا الشيطان أيس من عبادته. انك

ص: 175


1- مستدرك الحاكم 107/3 بحسب كتاب (بنور فاطمة اهتديت) / 136. (المصنف)

تسمع ما اسمع وترى ما ارى الا انك لست بنبي ولكنك وزير وانك لعلى خير)(1) وهكذا هو منه (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى فارقت روحه الدنيا يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (ولقد علم المستحفظون من اصحاب محمد صلى الله عليه وآله اني لم أرد على الله ولا على رسوله ساعةً قط. ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الابطال وتتأخر فيها الاقدام نجدة اكرمني الله بها. ولقد قُبض رسول الله صلى الله عليه وآله وان راسه لعلى صدري ولقد سالت نفسه في كفيّ فأمررتها على وجهي. ولقد وليت غُسله صلى الله عليه وآله و الملائكة اعواني، فضّجت الدار والافنية ملأ يهبط وملأ يعرج وما فارقت سمعي هينمة(2) منهم يصلون عليه حتى واريناه في ضريحه. فمن ذا أحقُ به مني حياً وميتاً؟)(3).

ولقد ادى (عليه السلام) دوره بنجاح بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحفظ الاسلام من الضياع وكان وجوده والأئمة من بنيه بحق اماناً للامة من الانحراف بحيث يستغيث الخليفة الثاني ويتعوذ بالله من معضلة ليس لها ابو الحسن(4) فكانت خلافة امير المؤمنين لمقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وامامة الخلق من بعده نتيجة طبيعية ومنطقية لتسلسل التفكير اعلاه لا يسع أي منصف ان يحيد

ص: 176


1- نهج البلاغة بشرح الشيخ محمد عبده، ج 2 ص 157. (المصنف)
2- الهينمة: الصوت الخفي. (المصنف)
3- نهج البلاغة بشرح الشيخ محمد عبده، ج 2 ص 171-172. (المصنف)
4- اشار الى كلمته المشهورة (لا ابقاني الله لمعضلة ليس لها ابو الحسن). (المصنف)

عنها، ولم يكن النص الذي سنشير اليه - وهو حديث الغدير - هو الذي جعل من علي (عليه السلام) اماماً وخليفة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى يناقشوا في دلالته والمراد منه لا لشيء الا لتصحيح الواقع الذي حصل بأي ثمن كان وبأية طريقة ولو بانكار وجود الشمس في رابعة النهار. فعلي (عليه السلام) هو الإمام بما حمله من صفات الكمال قبل النص وانما جاء النص للاشارة اليه ولتعريفه ولقطع العذر واتمام الحجة على المخالفين ولحسم الموقف ووضع النقاط على الحروف - كما يقولون -.

ولعظمة هذه المسألة وأهميتها فقد كان التخطيط والتمهيد لها يؤرق عين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقضّ مضجعه فانه يخشى ردود الفعل من هذه الامة وهو خوف محمود كخوف موسى (عليه السلام) الذي ذكره القرآن واشرنا اليه ليس شخصياً وانما على مستقبل الامة التي هي جديدة عهد بالاسلام ومازالت رواسب الجاهلية لم تنمحِ من ذاكرتها ومازال التعصب يتحكم فيها فكيف يستطيع ان يضمن ولاءها لهذا القرار الهام الذي يصعب على النفوس الحالمة بالخلافة والقلوب المملوءة حسداً وحقداً على علي (عليه السلام) ان تنصاع اليه كذاك الفهري الذي ما ان سمع بحديث الغدير وتنصيب علي (عليه السلام) خليفة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومبايعة المسلمين له حتى جاء الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له هذا الامر منك ام من الله فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) انه من الله فقال: ان كان هذا من الله فأمطر علينا حجارة من السماء او أئتنا بعذاب اليم فما خرج منه (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى نزلت عليه صاعقة من السماء وقد ورد انه

ص: 177

سبب نزول قوله تعالى: (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ، لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ).

وبالمقابل كان (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يستطيع السكوت عن انقاذ هذا الامر وهو يرى نهايته تقترب والاعداء يتربصون بدينه الدوائر فكيف يهدأ له بال ويقرّ له قرار قبل ان تنعقد البيعة لعلي (عليه السلام).

حتى اذن الله تبارك وتعالى له بالتبليغ بل امره به وطمأنه من مخاوفه هذه بانه سيعصمه من الناس وبين اهمية هذا الامر بانه وحده في كفة وباقي الرسالة كلها في كفة فقال عز من قال (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ).

فليس غريباً ان تدرج هذه الآية المباركة وآية الولاية التي سبقتها (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ) في سورة المائدة التي يستشف المتأمل فيها ان غرضها تأسيس المجتمع المسلم وبيان مميزاته الرئيسية ومقوماته واسس كيانه وعرض نقاط الفرق بين المجتمع الذي يقوم على اساس الاسلام والمجتمع الذي ليس كذلك كائنا ما كان وان سمى نفسه مسلماً فانه في مفهوم القرآن (مجتمع جاهلي) فالبينونة بين المجتمعين كاملة في الاحكام (كآيات اوفوا بالعقود وحرمة الكلب والخنزير وغيرها) وفي من له حق الولاية (فقد تكررت كثيراً آيات ولاية المؤمنين والبراءة من الكافرين) وفي الشريعة التي تنظم الحياة (أ فحكم الجاهلية يبغون، ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الكافرون، هم الظالمون، هم الفاسقون)

ص: 178

وتمامها وعقد نظامها آية التبليغ وآية الولاية.

ثم جعل يوم الحسم هذا اعظم عيد في الاسلام ففيه كمل الدين وتمت النعمة بعقد البيعة والولاية لامير المؤمنين وامتنَّ الله تبارك وتعالى على عباده بذلك فقال عز من قائل (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) وجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتقبل التهاني بهذا الانجاز العظيم و يقول لاصحابه هنئوني هنئوني بابن عمي امير المؤمنين وافرد له خباءاً ليسلموا عليه ويبايعوا علياً خليفة من بعده وأميراً للمؤمنين واستأذنه شاعره حسان بن ثابت ان يقول شعراً في المناسبة فاذن له فأنشأ:

يناديهم يوم الغدير نبيهم *** بخم فأسمعْ بالرسول مناديا

وفيها يقول:

فقال له: قم يا علي فانني *** رضيتك من بعدي اماماً وهادياً

واول من سلم عليه الشيخان وهما يقولان له: بخٍ بخٍ لك يابن ابي طالب اصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة وقد نظم هذه الحقيقة التاريخية الدامغة اجيال من الشعراء جيلاً بعد جيل ومنهم عمرو بن العاص الخصم الالد لعلي بن ابي طالب في قصيدته الجلجلية التي بعثها الى معاوية يذكره ببعض الحقائق التي تناساها و مما جاء فيها:

ص: 179

وكم قد سمعنا من المصطفى *** وصايا مخصصة في علي

فانحله امرة المؤمنين من الله مستخلف المنحل

وقال فمن كنت مولى له فهذا له اليوم نعم الولي

فبخبخ شيخك لما رأى عُرى عقد حيدر لم تحلل

فقال: وليكم فاحفظوه فمدخله فيكم مدخلي

(راجع كتاب الغدير في ترجمة عمرو بن العاص).

وقد جاء هذا البيان - خطبة الغدير - منه (صلى الله عليه وآله وسلم) متوّجاً لبيانات سابقة لا تقل عنه وضوحاً: (ان علياً مني بمنزلة هرون من موسى الا انه لا نبي بعدي) وان: (علي مع الحق والحق مع علي) وانه (عليه السلام) وأهل بيته كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك وانهم والقرآن صنوان لا يفترقان وثقلان ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي ابدا وغيرها كثير.

ان عظمة هذا اليوم لها مناشئ عديدة فهو:

1 - يوم الطمأنينة على بقاء الرسالة واستمراريتها بعد ان انتقل ارتباطها من شخص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيمكن ان تموت بموته الى نوع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اي الى كل من تتجمع فيه صفات وشروط الامامة فلم يعد وجودها منوطاً بشخصه (صلى الله عليه وآله وسلم).

2 - وهو يوم الانتصار النهائي على مكائد الاعداء الذين لم يبق في جعبتهم من سلاح الا موت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لتنتهي دعوته.

ص: 180

3 - وهو يوم حماية الامة من التشتت ومن الضياع بتعيين الحبل الذي ان اعتصموا به بقي ريحهم وكيانهم وانتشر امرهم وعلت كلمتهم.

4 - وهو يوم صيانتها من الانحراف بعد ان نصب لهم العلم والمحور الذي يلتفون حوله.

5 - وهو يوم أمان الارض ومن عليها من الفناء لما ورد في الحديث:

(ان الارض لا تخلو من حجة ظاهر او مستور ولولاه لساخت الارض باهلها).

6 - وهو يوم الهداية الى الدين ووضوح الحق بمعرفة الحجة كما في الدعاء:

(اللهم عرفني نفسك فانك ان لم تعرفني نفسك لم اعرف رسولك، اللهم عرفني نبيك فانك ان لم تعرفني نبيك لم اعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فانك ان لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني).

7 - وهو يوم الامامة التي هي اس الاسلام وسنامه فهو لا يقل اهمية عن يوم البعثة النبوية الذي انبثق فيه نور الاسلام.

لأجل هذا كله كان يوم الغدير اعظم عيد في الاسلام كما نطقت به الروايات الشريفة وفي ذلك اليوم تبلورت فكرة (التشيع) ونضجت ثمارها واينعت بعد ان كان قد زرع بذورها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مناسبات عديدة ابتداءاً من يوم الدار وانذار عشيرته الاقربين في اوائل البعثة الشريفة ولهج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الاسم المحبب له ولأهل بيته (صلوات الله عليهم اجمعين) في مناسبات عديدة انقل بعضها من كتب العامة ليكون الخطاب ابلغ في الحجة:

ص: 181

1 - في الدر المنثور للسيوطي ج 8 /ص 589: روى بسنده عن جابر بن عبد الله الانصاري قال كنّا عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فاقبل علي (عليه السلام) فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (والذي نفسي بيده ان هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة) فنزل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ).

2 - ابن حجر في الصواعق المحرقة الباب (11) الفصل الاول: الآية الحادية عشرة:

عن ابن عباس قال: لما انزل الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام): (هم انت وشيعتك تأتون يوم القيامة راضين مرضيين ويأتي عدوك غضاباً مقمحين).

3 - القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ج 2 ص 61.

عن ام سلمة (رضي الله عنها) قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

(علي وشيعته هم الفائزون يوم القيامة) ومن المصادر التي ذكرت هذه الرواية في تفسير الآية الشريفة: تفسير الطبري وروح المعاني وكفاية الكنجي الشافعي وغيرها(1) 1).

لقد كان تخطيط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لهذا الأمر أي تعيين الخليفة والامتداد له على ثلاثة اشكال:

ص: 182


1- (1) هذه الموارد نقلتها بواسطة كتاب (بنور فاطمة اهتديت) للكاتب والمحامي السوداني عبد المنعم حسن/ص 49. (المصنف).

الأول: النص المباشر والواضح عليه وعدم ترك الأمر مجملاً تتقاذفه التأويلات والتفسيرات، وقد تقدم فيما مضى فكرة عنه وانصح بقراءة كتاب (المراجعات) للسيد شرف الدين للاطلاع على المزيد من الادلة والنصوص ببيان قوي وحجة دامغة مما لو دخلت فيه سأخرج عن الاتجاه العام الذي رسمته لهذا البحث.

الثاني: الاشادة بالاشخاص المخلصين الواعين الذين يعلم (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم انهم ثابتون عليالخط وواعون للهدف وراسخون في المبدأ ولا تأخذهم في الله لومة لائم و يقولون كلمة الحق مهما كان الثمن كسلمان والمقداد وابي ذر وعمار وذي الشهادتين وبلال الحبشي وأم ايمن وأم سلمة فكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يردد: (سلمان منّا أهل البيت) (ان الجنة لتشتاق الى أربعة: سلمان والمقداد وأبي ذر وعمار) (ما اظلّت الخضراء ولا اقلّت الغبراء ذا لهجة أصدق من أبي ذر) (مليء عمار إيماناً من قرنه الى اخمص قدميه) و (أم ايمن امرأة من أهل الجنة) و (بلال من أهل الجنة) وقال لام سلمة (لستِ من أهل البيت لكنك على خير) فكانت هذه الاوسمة تخطيطاً منه (صلى الله عليه وآله وسلم) للمستقبل اذا انقلبت الأمة على الأعقاب وتاهت بها السبل في بحر الظلمات فسيكون هؤلاء أعمدة نور تضيء لطلاب الحقيقة الدرب وتدلّهم على شاطئ الايمان وقد أدّوا دورهم وقالوا كلمة الحق فثبتوها في لوح التاريخ(1) 1) لو كان هناك من يسمع بينما لم نسمع منه (صلى الله عليه وآله وسلم) كلمة

ص: 183


1- (1) راجع كتاب الاحتجاج للطبرسي. (المصنف)

واحدة في اولئك الذين انحرفوا عن علي (عليه السلام) وخذلوه رغم ان منهم من كان له مواقف مشهورة كالزبير بن العوام وسعد بن ابي وقاص.

الثالث: وضع ضوابط يُعرف بها المستحقون لهذا الامر وتمييزهم عمّن هم ليسوا اهلاً له والذين يستخدمون اساليب لم يقم عليها دليل شرعي من اجلها تثبيت استحقاقهم او تشويه صورة اهل الحق وازالتهم عن موقعهم كما كانوا يقولون (ان قريش نظرت فاختارت وانها أبت ان تجتمع النبوة والخلافة في بني هاشم) و (ان فلان - وهو الاول - اسنّ من عليّ) و (ان علياً فيه دعابة) و الله تبارك وتعالى يخاطبهم (فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) و يقول تعالى (وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) وقال تعالى (وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) فما قيمة رأي احد واختياره كائناً من كان بعد قضاء الله تبارك وتعالى واختياره (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ).

فبهذه المعايير والضوابط التي سنذكرها ان شاء الله تعالى تستطيع الامة ان تفرز هؤلاء المتطفلين مهما مارسوا من اساليب الخداع والتضليل، المتقمصين لأمرها بغير حق:

(فمنها) قوله تعالى (لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ) والعهد هو الامامة لانها

ص: 184

جاءت جواباً على سؤال ابراهيم (عليه السلام) بعد جعله اماماً قال: (وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي) وقد فُسّرت في الروايات الشريفة بمن سجد لصنم يوماً ما فان من فعل ذلك سفيه ولا يكون السفيه امام التقي كما في الحديث ويشهد له قوله تعالى (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

(ومنها) قوله تعالى (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا).

(ومنها) قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا يلي امر هذه الامة طليق).

(ومنها) قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):

(فاطمة بضعة مني يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم):

(يا عمار تقتلك الفئة الباغية).

(ومنها) حشده (صلى الله عليه وآله وسلم) المعادين لخط الامامة وفيهم شيوخ قريش في جيش اسامة ذي السبعة عشر ربيعاً ولعنه من تخلف عن جيش اسامة وامر بانفاذه فوراً وكان ذلك منه (صلى الله عليه وآله وسلم) لاخلاء الساحة من الذين لا ينصاعون لامامة امير المؤمنين (عليه السلام) وبملاحظة هذه المعايير والضوابط تكتشف كيف خطط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لحصر الامر بعلي (عليه السلام) فبعض المتصدين ممن اغضب فاطمة (عليها السلام) وماتت وهي واجدة عليهم كما اشهدتهم صلوات الله عليها على ذلك فنالوا بذلك غضب الله تبارك وتعالى و هل يلي امر الامة احد من المغضوب عليهم ثم هم من الظالمين الذين سجدوا للاصنام ردحاً طويلاً من الزمن فلا ينالهم عهد الله تعالى

ص: 185

فكيف يكون احدهم اماماً لمن كرم الله وجهه عن ذلك - كما يعترفون - وهم ايضاً ممن تخلفوا عن جيش اسامة فينالهم حكمه.

وبعضهم لم يقاتلوا لا قبل الفتح ولا بعده وهزائمهم في الحروب معروفة ومنهم من ولّى منهزماً في معركة احد لا يلوي على شيء ثلاثة ايام حتى بلغ تخوم الشام فقيل له ان الامر لا يستحق ذلك وقد عاد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سالماً الى المدينة.

ومعاوية ومروان ممن اسلموا بل استسلموا بعد الفتح فلا يستوون مع من آمن وانفق من قبل الفتح وقاتل وهم من الطلقاء فلا يحق لهم ولاية امر الامة. وهم من البغاة لانهم قتلوا عماراً في صفين فكيف يلي امر الامة باغٍ اثيم.

فلو كانت الامة واعية لتلمست طريقها بوضوح حيث لم يترك لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عذراً فهل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عاطفياً وبدافع الحب لابنته حين قال هذا الكلام و هل سمعت باحد غيور يرتقي المنبر ويثني على مزايا ابنته؟! لا طبعاً خصوصاً في مثل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يصفه القرآن (وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى، إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى). وانما المسألة ابعد من ذلك انه يريد ان ينصب لهم ميزاناً يعرفون به الحق والباطل لو اختلطا عليهم وان كان الامر واضحاً لكن قلبه الكبير ورحمته ورأفته بالامة أبت الا ان يوالي الحجج على هذه الامة وينصب لها العلامات تلو العلامات حتى وهو على فراش المرض في رزية الخميس كما يسميها ابن عباس.

ص: 186

ولانه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعلم ان اساليب التضليل كثيرة ووسائل الضغط قوية وشرسة، فالنص - وهو الشكل الاول من التخطيط - يُؤوَّل ويُحرَّف وهذه الثلة المخلصة - وهو الشكل الثاني - يُضيَّق عليها وتحبس انفاسها فابو ذر ينفى الى الربذة حتى يموت غريباً وعمار وعبد الله بن مسعود يداس بطنه وتوجئ عنقه وام ايمن امراة اعجمية لا تقبل لها شهادة والحسن والحسين طفلان صغيران وعليّ يجر النار الى قرصه فلا تقبل له ولا لولديه شهادة، والزهراء (عليها السلام) تتجرع الآلام غصة بعد غصة حتى لحقت بأبيها بعد ايام وهكذا...، لذا كان الشكل الثالث من التخطيط ضرورياً ليكون شاهد عدل مدى الاجيال، تملأ افواه مزوري الحقائق بالتراب.

ولعلك تعجب مع وضوح هذا التخطيط وقوة الحجج المتوالية التي لم تنقطع حتى وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) واذا بالامر يزول عن مستقره ويتقمص الخلافة غير علي (عليه السلام) وهو يعلم ان محل ابن ابي طالب منها محل القطب من الرحى ينحدر منه السيل ولا يرقى اليه الطير(1) 1).

وانه لعجيب فعلاً ولو لم يكن حقيقة ثابتة اجمع عليها المؤرخون لما صدّقنا به وقد اوجدت في عين امير المؤمنين قذى وفي الحلق شجى وفي القلوب جمرة لا تطفأ الى يوم القيامة حتى ينتصف المظلوم من الظالم، ونعم الحكم الله والخصم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، يقول الامام الصادق (عليه السلام) بهذا

ص: 187


1- (1) من كلمات لأمير المؤمنين (عليه السلام) الخطبة الشقشقية في نهج البلاغة. (المصنف)

الصدد: (ان حقوق الناس تثبت بشهادة شخصين وقد انكر حق جدي امير المؤمنين وعليه سبعون الف شاهد كانوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في غدير خم).

وعلى اية حال فليست هذه الحالة فريدة في التاريخ بل هي تتكرر كلما تكررت ظروفها الموضوعية وما دامت النفس الامارة بالسوء الميالة لاتباع الهوى واشباع الشهوات والنزوع الى التسلط وحب الجاه وقد عشنا مثلها فالى الله المشتكى.

والذي اريده من هذا البيان ليس فقط ترسيخ هذه العقيدة والدفاع عنها وان كان هذا مطلباً مهما لكني بالاضافة اليه اقول ان العلماء وعلى رأسهم المرجعية الشريفة هم ورثة الانبياء ليس فقط في الحقوق والامتيازات وانما في الوظائف والمسؤوليات والواجبات خصوصاً وقد امرنا بالتأسي برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله تعالى (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً).

ومن تمام التأسي والوراثة اعداد البديل بغض النظر عن كونه واحداً او اكثر وتربيته وتأهيله لهذا المنصب الالهي الشريف واي تقصير فيه غير مغتفر لا عند الله سبحانه ولا عند رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا اوليائه العظام ولا عند المجتمع وبعد ان يطمأن الى اكمال اعداد البديل علمياً وفكرياً واخلاقياً وعقائدياً - وهي المقومات الاربعة لشخصية العالم الديني بل كل مسلم واعٍ مخلص - يجب ان يشير اليه صريحاً و هذا هو الشكل الاول من التخطيط.

ص: 188

واما الشكل الثاني فيؤدى بالاشادة بمجموعة من الفضلاء الورعين المخلصين من أهل الخبرة الذين يطمأن الى استقامتهم على الطريقة وانصافهم الحق ونزاهتهم في بيانه وبصيرتهم في الامور حتى يرشدوا المجتمع باخلاص وبلا لبس واجمال وغموض الى المرجع البديل.

واما الشكل الثالث ففيه صنفان من الضوابط والمعايير والشروط فمنها شروط ثابتة وهي الاجتهاد والعدالة وغيرها من المذكورات في الرسائل العلمية ومنها شروط متحركة بحسب الزمان والمكان والظروف الموضوعية التي تعيشها المرجعية الشريفة وهذه يجب طرحها بحسب الحاجة وفي وقتها المناسب. و هذا الكلام كله على نحو الاشارة والاجمال وللتفصيل محله المناسب.

هذا بالنسبة لتكليف المرجعية وفي مقابله توجد مسؤولية على الامة يجب ان تعيها وتؤديها وهي مطالبة المرجع بتعيين البديل فاذا عينه كان من واجبهم الالتفاف حوله والاشادة به ودلالة المجتمع عليه وقد تكاملت هذه التربية عند اصحاب الائمة (عليهم السلام) فكانوا يسألونهم (مَنْ الحجة بعدك) و (الى من المفزع اذا حدث حادث) وهكذا واذا ذهب امام فلم يكونوا يصدّقون كل من يدعي الامامة بل يجرون له الامتحانات التي لا ينجح فيها أي امام(1) كامتحانهم لجعفر اخ الامام العسكري (عليه السلام) الذي ادعى الامامة بعد اخيه (عليه السلام).

ص: 189


1- راجع كتاب اصول الكافي/كتاب الحجة. (المصنف)

ماذا خسرت الامة حينما ولت امرها من لا يستحق

ماذا خسرت الامة حينما ولت امرها من لا يستحق(1)

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لو لا ان هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق والحمد لله الذي جعلنا من الموفين بعهده وميثاقه الذي واثقنا به من ولاية ولاة امره والقوّام بقسطه ولم يجعلنا من الجاحدين المكذبين بيوم الدين، وصلى الله على رسوله والائمة الميامين من آله وسلم تسليماً كثيراً.

كانت وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الاثنين الثامن والعشرين من صفر على ما هو المشهور فتكون رزية يوم الخميس كما سماه عبد الله بن عباس يوم الرابع والعشرين من صفر أي في مثل يوم امس وكانت رزية حقاً اذا انقطع في ذلك اليوم آخر أمل لتمسك الامة بوصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في

ص: 190


1- محاضرة القاها سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على حشد من فضلاء وطلبة الحوزة العلمية يوم 25 صفر 1423 هجرية في مسجد الرأس الشريف مجاور الصحن الحيدري المطهر.

الامام والخليفة من بعده واعلنوا معارضتهم الصريحة والواضحة لهذا التعيين لذلك قال (صلى الله عليه وآله وسلم) لاهل بيته: (انتم المستضعفون بعدي) واوصى امته بهم خيراً و لو كان يعلم ان الامر يؤول اليهم لما احتاج الى الوصية بهم وفي حديث للإمام الصادق (عليه السلام) يعبر فيه عن المه العميق من تضييع الأمة لبيعة يوم الغدير ولحق أمير المؤمنين فيقول: (ان حق الرجل يثبت بشاهدين وقد أضيع حق جدي أمير المؤمنين وعليه سبعون ألف شاهد)، ولا أريد ان أناقش أسباب هذا التضييع وإهمال الأمة لهذا الحق الذي أخذه الله على كل المؤمنين فلهذه المناقشة محل آخر لكنني اعتقد ان أحد هذه الاسباب والذي لا زال في ذهن الناس مما يقلّل من خطورة هذا التضييع هو القصور في فهم النزاع فقد فهموه على انه نزاع بين شخصين هما علي بن ابي طالب (عليه السلام) ومن نازعه الامر فهم لا ينكرون فضل علي (عليه السلام) وسابقته وجهاده وعلمه وقربه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وشجاعته وفنائه في الله لكنهم يرون ان المقابل ايضاً من السابقين إلى الاسلام وثاني اثنين اذ هما في الغار وصهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبدري واحدي بل حاولوا تلفيق بعض المناقب ليساووه بامير المؤمنين أو يقتربوا منه (عليه السلام) وازاء هذه المقارنة لم يجدوا المسألة مهمة بهذه الدرجة ولا تستحق ان ينشق المسلمون الى طائفتين عظيمتين ولا جدوى في البحث فيها فقد اكل عليها الدهر وشرب.

ولو فهموها بصورتها الصحيحة لغيروا عقيدتهم ولما وجدوا أي تردد

ص: 191

في قبول المذهب الحق لان الخلاف ليس بين شخصين وانما بين مبدأين وخطين كان علي (عليه السلام) رمز الاول ومنافسه رمز الثاني:

الأول: مبدأ وخط رسمه الله تبارك وتعالى خالق السموات و الأرض العالم بخفيات الامور وبواطن النفوس وبما كان وسيكون واختاره للامة لتصل الى كمالها المنشود وبلّغه رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) في يوم الغدير يقف في اول الخط علي بن ابي طالب (عليه السلام) ومن بعده الحسنان سبطا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن بعده الائمة الطاهرون الذين اطبقت الامة على نزاهتهم وعلمهم وتمثيلهم الكامل للشريعة الالهية ومن بعدهم العلماء العارفون الاتقياء الصالحون حتى يرث الله الارض ومن عليها.

الثاني: خط يصنعه البشر باهوائهم واساليبهم الشيطانية من قهر واذلال أو اغراء بالمال أو ظلم وتعسف أو تضليل وتمويه وادعاءات باطلة وكان الآخر راس هذا الخط فقد اختارته قريش - كما يقول الخليفة الثاني - وليس الله الذي اختاره ويتتابع على هذا الخط معاوية الذي يقول: و الله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولتزكوا وانما لاتأمّر عليكم، ومن بعده يزيد شارب الخمر على منابر المسلمين والذي احرق الكعبة بالمنجنيق وقتل ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن بعده الاخرون الذين سفكوا الدماء وهتكوا الاعراض ونشروا الفساد وضلّوا واضلّوا (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) وعندما تعرض المقارنة بهذا الشكل ولو استوعبها الصحابة والاجيال جميعاً بهذا الشكل لما ترددوا في الايمان بصحة الخط الاول على انهم

ص: 192

غير معذورين من اول الامر لان القرآن صريح (وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) وقال تعالى: (وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللّهِ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ) بل ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه لم يكن له هذا الحق حينما عرض عليه بنو عامر ان يسلموا مقابل ان يجعل لهم الامر من بعده فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (ليس الامر لي وانما هو بيد الله يختار له من يشاء).

ومحل الشاهد اني اعتقد ان طرح الموضوع بهذا الشكل يكون اجدى واوضح ولكي نزيده وضوحاً نطرح سؤالاً وهو ماذا خسرت الامة بتضييعها وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الخليفة من بعده؟ وماذا ترتب على هذا الاهمال من نتائج سلبية؟ وحينما اتناول هذا البحث فاني لا اريد فقط ان اناقشها كقضية تاريخية وان كانت من الاهمية بمكان لابتناء اصل من اصول الدين وهو اصل الامامة عليها ولكن الذي اريده هي الاستفادة من هذا الدرس واستخلاص العبرة لان الامامة بالحمل الاولي وان كانت مختصة بالاسماء المعينة الا انها بالحمل الشايع اعني النيابة العامة عن الامام وولاية امر المسلمين المتمثلة بالمرجعية الشريفة مستمرة الى ان يرث الارض ومن عليها الامام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) فاذن يبقى باب هذه النتائج السلبية التي سنتعرض لها باذن الله تعالى مفتوحاً لها كلها أو بعضها كلما ولت الامة امرها الى من لا يستحق فيكون

ص: 193

من الضروري الالتفات اليها فنعود الى اصل السؤال وهو ماذا خسرت الامة عندما ولت امرها غير صاحب الحق الشرعي وماذا ترتب على ذلك من نتائج سلبية:

النتيجة الأولى: تصدي اناس غير مؤهلين لامامة الامة فمن المعلوم ان اية رسالة واية ايديولوجية - بتعبير اليوم - لا بد ان يكون حاملها مستوعباً لها بشكل كامل فهماً وتطبيقاً بحيث تكون هذه العقيدة هي الموجهة له في كل سلوكه وتصرفاته وافكاره وعلاقاته ولم يكن القوم كذلك وانما هم اناس عاديون كبقية افراد المجتمع ويوجد كثير غيرهم ممن استوعب الرسالة وجسدها في حياته خيراً منهم وقد كانوا يعترضون على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته ويتمردون على اوامره حتى آخر حياته بتخلفهم عن جيش اسامة وعدم تلبية امره (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما طلب قرطاساً في رزية يوم الخميس. وكانت الجاهلية تعيش في نفوسهم حيث قضوا اكثر عمرهم فيها وقد كشف عن عدم اهليتهم جهلهم وتخبّطهم في الامور ويصف امير المؤمنين امرتهم المنحرفة في الخطبة الشقشقية (فواعجباً!! بينما هو يستقيلها في حياته اذ عقدها لآخر بعد وفاته - لشدَّ ما تشطر ضرعيها - فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها - أي تجرح جرحاً عظيماً - ويخشُنُ مسُّها ويكثر العثار فيها والاعتذار منها فصاحبها كراكب الصعبة ان اشنق لها خَرَم وان اسلس لها تقحَّم، فمني الناس لعمر الله بخَبَطٍ وشماس - وهو اباء الفرس عن ركوب ظهره - وتلون واعتراض - أي سير

ص: 194

غير مستقيم). حتى قال الثاني (كل الناس افقه من عمر حتى ربات الحجال) بعد ان نهى عن زيادة المهر عن حد معين فاجابته امرأة: اما سمعت قوله تعالى (وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً) و قد أشكلت عليهم الكثير من المسائل حتى الاعتيادية منها التي كانت تكرر في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كالصلاة على الجنائز ولما سئل الثاني عن سبب قلة استفادتهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: الهانا الصفق بالاسواق، و كانوا يشككون حتى بنبوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعصمته فيقول له احدهم وجهاً لوجه: (انت الذي تزعم انك رسول الله) أو يقولون عنه (ان الرجل ليهجر).

في مقابل ذلك كان هناك شخص يعدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اعداداً خاصاً لكي يتسلم هذا الموقع ذاك هو علي بن ابي طالب (عليه السلام) فاستمع اليه يتحدث عن هذه التربية الخاصة (ولقد علمتم موضعي من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة وضعني في حجره وانا ولد يضمني الى صدره ويكنفني الى فراشه ويمسّني جسده ويشمُّني عَرفه وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلةً في فعل) الى ان قال (عليه السلام) (ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل اثر امه يرفع لي في كل يوم من اخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فاراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخديجة وانا ثالثهما ارى نور الوحي والرسالة واشم ريح النبوة،

ص: 195

وقد سمعتُ رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت يا رسول الله ما هذه الرنّة فقال: هذا الشيطان أيس من عبادته، انك تسمع ما اسمع وترى ما ارى الا انك لست بنبي ولكنك وزير وانك لعلى خير) وفي نهاية خطبة مماثلة اخرى يسأل (عليه السلام) مستنكراً: (فمن ذا احق به مني حياً وميتاً).

هكذا كان يتم تهيئة الامامة البديلة اما هؤلاء فلم يتلقوا شيئاً من ذلك لذا فقد افرز تصدي هؤلاء غير المؤهلين عدة آثار خطيرة:

1 - تشوّه صورة الاسلام نفسه لان كثير من الامم والشعوب دخلت الاسلام بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهي لم تأخذه من مصدره وانما نقل لها عبر كلام وسلوك اصحابه ولما كان هؤلاء غير مؤهلين لتمثيل الاسلام بصورته النقية الكاملة ولم يعرف المسلمون الجدد غير هذه الصورة المعروضة امامهم فَتَبنّوها على انها الاسلام الحقيقي وتزايد هذا البعد عن الاسلام بمرور الزمن حتى صرت ترى اقواماً لا تفقه من الاسلام شيئاً غير الاسم وبعض الشكليات.

2 - تجرّي اعداء الاسلام خصوصاً اليهود عليه وما كانوا يستطيعون ان يظهروا شيئاً منه في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعدم وجود ثغرة يمكن ان يدخلوا منها اما وقد تصدى لهذا الموقع العظيم ناس غير مؤهلين لهذا الموقع ويمكن التغلب عليهم واحراجهم فمن السهولة اذن هز ثقة المسلمين بدينهم بتكرر الفشل من قادتهم وبالنتيجة تخليهم عن هذا الدين فلم يكن من الغريب حصول هذه الهجمة العنيفة من الامتحانات

ص: 196

العسيرة والمتنوعة التي احرج بها اليهود الخليفة الاول والثاني وتزعزعت ثقة المسلمين وشعروا بالاحباط وكادوا يرتدون لولا وجود امير المؤمنين (عليه السلام) بالمرصاد الذي كان يجيبهم على كل اسئلتهم ويرد كيدهم الى نحورهم.

3 - انفتاح باب الطمع بهذا المنصب الشريف لكلّ محبي الرئاسات والجاه واتباع الهوى بعد ان اصبح نيله ليس بالاستحقاق وفق معايير الرسالة وانما هو لمن غلب وقهر ولو بالسيف حتى اصبح مستساغاً ان يولي معاوية ابنه يزيد المعروف بالفسق والفجور على رقاب المسلمين.

النتيجة الثانية: فتح باب الاجتهاد مقابل النص أي الحكم والتشريع بالاراء الشخصية خلافاً للنص الالهي الحكيم وهو يعني ان الانسان ينصب نفسه مشرعاً والهاً يطاع في مقابل الوهية الله تبارك وتعالى الذي هو وحده له حق التشريع والحاكمية وهو ما رفضه الله تبارك وتعالى رفضاً قاطعاً و جعل كل حكم وتشريع ليس مستنداً الى الشريعة المقدسة جاهلية فقال تعالى: (وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ و في آية اخرى الظالمون و في ثالثة الفاسقون) و كان من شروط الايمان الكامل: التسليم والاذعان لحكم الله تعالى (فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) لكن القوم فتحوا باب الاجتهاد واسعاً ولم يكترثوا كثيراً للنص الشرعي لعدة اسباب:

1 - جهلهم وعدم اطلاعهم الكامل على احكام الشريعة فراحوا

ص: 197

يستنبطون من انفسهم ما يسد نقصهم.

2 - لاجل المحافظة على الاغراض والمصالح التي ارادوها فلا بد من تعطيل النصوص التي تتعارض مع المنهج الذي اختطوه وتبرير الافعال المخالفة بصراحة لحكم الله تبارك وتعالى.

3 - تغييب الممثل الحقيقي واللسان الناطق بالشريعة.

وقد عطل هذا الاجتهاد الكثير من التشريعات التي كانت مصدر خير للامة وعلى رأسها الزواج المؤقت الذي قال عنه امير المؤمنين (عليه السلام): (لولا نهي فلان عن المتعة ما زنى إلا شقي) وبالمقابل برّر هذا الاجتهاد أشنع المنكرات فمثل مالك بن نويرة الذي شهد له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجنة يُقتل ويدخل خالد بزوجته في نفس الليلة ويأتي جواب الخلافة ببرود: تأول خالد فأخطأ. ويخرجون لقتال إمام زمانهم بكل المقاييس التي عندهم في معارك طاحنة في الجمل وصفين وكله اجتهاد يؤجرون عليه وان أخطأوا فلهم اجر واحد.

وقد تأصل هذا الاجتهاد فيما بعد وتعمق ووضعوا له اصول وقوانيين وأصبحت مذاهب في مقابل مذهب الحق.

النتيجة الثالثة: عرقلة تربية الأمة وتكاملها فقد شاءت الإرادة الالهية ان ينقذ البشرية بهذه الرسالة المباركة من حضيض الجاهلية التعبة إلى سمو التوحيد وطهارة الايمان وسعادة الدارين وقد قدر لهذه المسيرة ان تتكامل لتنشأ امة متكاملة على يد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والائمة المعصومين من

ص: 198

آله لكن ابعاد الائمة (عليهم السلام) عن موقع قيادة المجتمع ادى إلى عرقلة هذه المسيرة وبطئها من عدة جهات:

1 - ان من العناصر المهمة في التربية هو القدوة والاسوة الحسنة على تعبير القرآن لانه يمثل التطبيق للافكار التربوية فاذا غاب القدوة أو كان القدوة منحرفاً فلا ينفع الكلام مهما كثر ويبقى مجرد حبر على ورق والقوم لم يكونوا يمثلون قدوة حسنة ولم يستطيعوا عكس صورة نقية للسلوك الاسلامي بل انه على مرور الايام كان النموذج المعروض مناقضاً تماماً لتعاليم الاسلام فكيف نتوقع منه ان يربي الامة ويقودها نحو التكامل ففي حين يبقى في اخلاق الاسلام (لا فضل لعربي على اعجمي الا بالتقوى) يجد في التعامل تفضيل العرب على غيرهم الذي يسمونهم الموالي ويعتبرونهم مواطنين من الدرجة الثانية وبينما يقرأ في القرآن (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) يجد الخلافة تتبع اهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت كل حجر ومدر قتلاً وتشريداً وسجناً، وبينما يقرأ حرمة شرب الخمر في القرآن يجد الخليفة يشربه على منابر المسلمين ويتقيأه في محاربهم.

2 - فرص الانحراف الكثيرة التي توفرت للناس في ظل الخلافة المنحرفة والنفس بطبيعتها ميالة للشهوات مع غياب الرادع الذي يحصّن الامة من الانحراف وهم الذين عناهم الله تعالى: (وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وقد بدأت هذه النفوس

ص: 199

الامارة بالسوء تظهر في ايام الخلافة الاولى في وقت مبكر و بدأت الدنيا تنمو في قلوبهم واصبحت هذه الامتيازات والمصالح واقعاً ثابتاً لا يرضون بتغييره بحيث ان عبد الرحمن بن عوف الذي جُعل حكماً في امر تعيين الخليفة من بين الستة اهل الشورى يشترط على علي (عليه السلام) ان يبايعه بشرط ان يعمل بكتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرة الشيخين، فما هي سيرة الشيخين التي يضمها عبد الرحمن إلى كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ انها هذه الامتيازات الطبقية وهذه الدنيا المحضة التي وفرتها لهم الخلافة الاولى بحيث ان عبد الرحمن هذا وامثاله تركوا من الذهب ما يُكسر بالفؤوس - حسب ما ينقل التاريخ - ولم يكن امير المؤمنين (عليه السلام) ليوافق على هذا الشرط فيكون منه امضاءاً واعترافاً بهذه السيرة لان هذه السيرة ان كانت موافقة للكتاب والسنة فلا داعي لذكرها وان كانت مخالفة فارم بها عرض الجدار، فما الوجه لضمها إلى اصلي التشريع.

3 - الصورة المشوهة للشريعة التي كانت معروضة للامة من خلال العلماء والرواة المتزلفين للخلفاء والطامعين بما في ايديهم فكيف نتوقع من شخص لم يشاهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يطلع على مواقف علي (عليه السلام) مباشرة ان يوالي علياً ويتبعه وهو يسمع صحابياً يروي ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ان الاية الشريفة: (وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ وَ إِذا تَوَلّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ) نزلت في علي بن ابي طالب.

ص: 200

فلا نتوقع من اغلب المسلمين في الارض الا ان يحملوا هذه الصورة المشوهة للاسلام لانهم لم يسمعوا غيرها ولم يشاهدوا غيرها فكان طبيعياً ان يعتقدوا جازمين ان هذا هو الاسلام.

ومن هنا اقتضت الحكمة الالهية ان تغيب الامام الثاني عشر (عليه السلام) هذه المدة الطويلة إلى ان يأذن الله تعالى له بالظهور كل ذلك لتستمر تربية الامة مدة اطول ولتمر بتجارب وابتلاءات وتمحيصات اكثر حتى تصل إلى مستوى النضج والكمال المطلوب الذي يؤهلها لمواصلة مسيرة الكمال مع الامام المهدي (عليه السلام) بينما لو قدر لهذه الامة ان تتربى في احضان الائمة المعصومين (عليهم السلام) لوصلت إلى درجة الكمال قبل هذا التاريخ بكثير.

النتيجة الرابعة: تمزق الامة وتشتتها وتفرقها شيعاً واحزاب (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) * وهذه نتيجة طبيعية للابتعاد عن الامامة الحقيقية لان سر تشريع الامامة هو تحصين الامة من التمزق والانحراف كما قالت الزهراء (عليها السلام) في خطبتها الشهيرة بعد وفاة ابيها (صلى الله عليه وآله وسلم): (و جعل امامتنا نظاماً للملة) أي تنتظم بها امورهم وتستقر وقال تعالى: (وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا) (فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ) وحبل الله الممدود من السماء إلى الارض هما الثقلان كتاب الله وعترة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) - كما بينت في شكوى القرآن - مضافاً إلى ان هذا الموقع بعد ان خرج عن مستقره وابعد عنه اهله اصبح مطمعاً لكل حالم به وشهوة التسلط اقوى الشهوات

ص: 201

وفيها استجابة للانانية واستكبار النفس فمن الطبيعي ايضاً ان تكثر الصراعات حول هذا المنصب وتداس في خضم هذا الصراع كل القيم والاخلاق وتكفي وقفة تأمل واستطلاع بسيط للتاريخ لنقرأ بكل اسف والم يفتت القلوب الماسي التي جرها التنازع على السلطان والخسائر الفادحة في الانفس والاعراض والاموال التي هدرت في هذا الصراع فمن الذي يتحمل هذه المسؤولية ومن الذي فتح هذا الباب على المسلمين وماذا يجني من يحدث هذا الفتق في امة الاسلام وخير معبر عن هذه الالام وهذه الخسائر احد الادعية الواردة في لعن اعداء آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والبراءة منهم إلى ان يقول: (اللهم العنهم بعدد كل منكر آتوه وحق اخفوه ومنبر علوه ومؤمن ارجوه ومنافق ولّوه وولي آذوه وطريد آووه وصادق طردوه وكافر نصروه وامام قهروه وفرض غيروه واثر انكروه وشر آثروه ودم اراقوه وخير بدلوه وكفر نصبوه وارث غصبوه وفيئ اقتطعوه وسحت اكلوه وخمس استحلوه وباطل اسسوه وجور بسطوه ونفاق اسروه وغدر اضمروه وظلم نشروه ووعد اخلفوه وامان خانوه وعهد نقضوه وحلال حرموه وحرام احلوه وبطن فتقوه وجنين اسقطوه وضلع دقوه وصك مزقوه وشمل بددوه وعزيز اذلوه وذليل اعزوه وحق منعوه وكذب دلسوه وحكم قلبوه، اللهم العنهم بكل آية حرفوها وفريضة تركوها وسنة غيروها ورسوم منعوها واحكام عطلوها وبيعة نكثوها ودعوة ابطلوها وبينةٍ انكروها وحيلة احدثوها وخيانة اوردوها وعقبة ارتقوها وشهادات

ص: 202

كتموها ووصية صنعوها).

ولو شئنا لذكرنا أمثلة وشواهد على كل فقرة لكنها مما لا تخفى على المطلع على التاريخ فأي قلب لا يذوب أسىً على ما سببه ذلك التضييع للحق الصريح.

النتيجة الخامسة: عزل الدين عن إدارة الحياة بكل أبعادها وتفاصيلها واقتصاره على الطقوس التعبدية والشؤون الفردية فقط فان القوم وان استطاعوا بالترغيب والترهيب ان يسلبوا السلطة الدنيوية من الامام (عليه السلام) الا انهم لا يستطيعون باي حال من الاحوال ان يسلبوا مكانته من القلوب وهيبته في النفوس ورجوع الناس اليه في شؤونهم الدينية هذا الانفصال الذي عبر عنه هرون الرشيد - كما يسمونه - لولده المأمون حينما استغرب من تكريمه للامام الكاظم (عليه السلام) بما لا نظير له فقال: (ويلك هذا امام القلوب وانا إمام الأبدان) والإمام وان سكت عن المطالبة بحقه في السلطة الدنيوية من اجل حفظ الاسلام وكيان المسلمين الا انه لا يمكنه باي حال من الاحوال التنازل لهم عن الامامة الدينية أو الاعتراف بهم وامضاؤهم كممثلين لهذه السلطة فان في ذلك خيانة لله ولرسوله وللاسلام على ان هذا الحق لا يتصور التنازل عنه فانه ليس امتيازاً أو موقعاً حتى يتخلى عنه، بل قدرة وقابلية على تلبية احتياجات الامة فكل من كان قادراً على ذلك ووجدت الامة حاجتها وآمالها وطموحاتها عنده اصبح اماماً وهكذا كان علي (عليه السلام) فما سمعنا انه احتاج إلى احد في شيء بل على العكس كانوا

ص: 203

يرجعون اليهم في مسائلهم ومشاكلهم وقراراتهم حتى اشتهر قول الثاني: (لا ابقاني الله لمعضلة ليس لها ابو الحسن). ولذا استدل بعضهم على امامة امير المؤمنين باحتياج الناس اليه واستغنائه عن الناس.

و هذا الفصل بين السلطتين ترسخ وتعمق وانعكس على الدين نفسه فاصبح مرتكزاً في الاذهان ان ادارة شؤون الحياة ليس من شؤون الامامة الدينية وان دورها يقتصر على العبادات وبعض الاحكام الشخصية والتقوا بذلك مع نظرة الجاهلية (ما لله لله وما لقيصر لقيصر) و هذا هو الشرك بعينه فان الملك كله لله وحده والحكم كله لله وحده وما من واقعة الا و لله فيها حكم، اترى ان الشريعة التي لم تغفل عن تنظيم ابسط التصرفات الحياتية كالتخلي والنوم والاكل والجماع ووضعت لها احكاماً وآداب فهل تغفل عن وضع انظمة وقوانين تنظم حياة المجتمع من جميع الجهات؟ وهذه حقيقة دامغة لا تقبل الشك الا انهم لا يذعنون لها لعدة امور:

1 - ان الشريعة لا تنسجم مع اهوائهم وانانيتهم وحبهم للاستئثار بالفيء وسائر الامتيازات وتتعامل مع الجميع على حد سواء.

2 - ان تحكيم الشريعة فيه اظهار لجهلهم وقصورهم وتقصيرهم وهو ما تأباه نفوسهم الامارة بالسوء.

3 - ان ذلك ايضاً يعني احتياجهم للامامة الدينية وبالتالي يعني تفوق اولئك عليهم واستحقاقهم لهذا الموقع بدلاً عنهم.

ص: 204

النتيجة السادسة: حدوث الانفصال بين الامة والخلافة لان الامر لم يعد في نظر المتصدين امر اصلاح وهداية وتكميل النفوس ونيل رضا الله تبارك وتعالى حتى تتعلق بهم الامة وتهفوا اليهم القلوب، بل زعامة وملك ومصالح واستئثار واستعلاء وقد عبر عنه القوم من اول يوم وهم بعد في السقيفة فكان لسانهم: انما السلطان سلطان قريش فلا ينازعنا فيه احد وكانت المسألة اوضح بالنسبة للاقوام الاخرى التي دخلت الاسلام وقد اشعروهم بان الخلافة ملك للعرب فاذا كان ملكاً عضوضاً وهم المستفيدون منه فما الذي يشد الامة اليهم وما الذي يحثهم عن الدفاع عنهم وما هي العلقة التي تربطهم بهم؟ بل على العكس سادت روح الكراهية والحقد والانتقام كما حصل لابي لؤلؤة الفارسي غلام المغيرة بن شعبة الذي سأم من كثرة التعيير لقومه الفرس والاستهزاء بهم فثار لعنصريته ولعصبيته الجاهلية.

وبالمقابل كان هناك علي (عليه السلام) وبنوه الذين ملكوا القلوب فاستجاب الله تعالى بهم دعوة جدهم ابراهيم (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) والذي لم تستطيع الخلافة بكل جبروتها ان تنتزعه منهم، وقضية هشام بن عبد الملك واضحة في اذهانكم عندما عجز عن الوصول إلى الحجر لازدحام الناس فتنحى إلى زاوية في البيت الحرام وما ان قدم الامام السجاد (عليه السلام) حتى انفرج عنه الناس سماطين فمشى بكل وقار وهيبة حتى وصل إلى الحجر الاسود وهشام ينظر. وكان امير المؤمنين (عليه السلام) رغم

ص: 205

تواضعه بين اصحابه حتى كأنه احدهم الا ان له هيبة عظيمة في نفوسهم كما وصفه ضرار بن حمزة لمعاوية. وذاب اصحابهم في حبهم قربة إلى تعالى ووفاء لجدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعرفاناً لحقهم عليهم وتحملوا في سبيل ذلك ما تقشعر منه الابدان فهذا ميثم بن يحيى التمار تقطع يداه ورجلاه ويصلب على جذع نخلة فيطلب من الناس الاجتماع حتى يحدثهم بفضائل امير المؤمنين عليه السلام فلم يمهله الفسقة حتى قطعوا لسانه، و هذا حجر بن عدي يؤخذ مقيداً إلى الشام ويحفر له القبر ويفرش له النطع ويؤمر بسب امير المؤمنين والا فالقتل ومعه ابنه فيختار ولاية امير المؤمنين (عليه السلام) ويقدم ابنه ليحتسبه عند الله تبارك وتعالى ولئلا يعظم على الابن قتل ابيه فيتراجع ثم قدم فقتل صابراً محتسباً، و هذا عمار بن ياسر يقاتل في صفين على كبر سنه ويقول: (و الله لو ضربونا باسيافهم حتى ابلغونا سعفات هجر لعلمنا اننا على الحق وانهم على الباطل)، وأصحاب الحسين (عليه السلام) وما ادراك ما اصحاب الحسين (عليه السلام) الذين لم ير لهم نظير في الولاء والصدق والاخلاص والتضحية يقدم احدهم على الموت وهو مبتسم فيقال له ما عهدناك هازلاً قبل اليوم؛ قال: وكيف لا ابتسم وما بيني وبين معانقة الحور العين الا ان يميل عليَّ هؤلاء باسيافهم فالتحق بالاحبة محمد وصحبه.

النتيجة السابعة: تأخر ركب الحضارة الانسانية بحيث احتجنا إلى اربعة عشر قرناً لكي نصنع الطائرة والكومبيوتر ونغزو الفضاء وكان يمكن

ص: 206

لهذه الامور وغيرها مما لم يصل اليه العقل الانساني إلى الان ان تتحقق قبل مدة طويلة لان اليد الالهية واضحة التأثير في قيادة ركب الحضارة البشرية بفضل ما بثه الانبياء والائمة (عليهم السلام) من علوم أو من خلال الالهام والايحاء ولولا الرعاية الالهية لما استطاع الانسان ان يهتدي إلى ابسط الامور حتى دفن موتاه في التراب لا يعرفه حتى بعث الله له غراباً يبحث في الارض ليريه كيف يواري سوأة اخيه وان القرآن الكريم ليضم اسرار ومفاتيح العلوم كلها فيه (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ) فيشير إلى غزو الفضاء بالوسائل العلمية (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاّ بِسُلْطانٍ) وهو سلطان العلم والتكنولوجيا كل هذه الاسرار ومفاتيح العلوم كانت عند امير المؤمنين (عليه السلام) علمه اياه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (علمني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الف باب من العلم ينفتح لي من كل باب الف باب من العلم) وان شئت الاطلاع على ما كان يمكن ان يقدمه على وبنوه (عليهم السلام) ليقدموا ركب الحضارة الانسانية وليوفروا لها السعادة والحياة الطيبة فراجع عدة كتب الفت في هذا المجال ولم يكن يحتاج إلى تطبيق معادلات وقوانين احتمالية أو يخوض تجارب طويلة حتى يصل الحقيقة بل كانت الحقائق العلمية كلها حاضرة في ذهنه يراها بالبصيرة والوجدان رأي العين فحفر الكثير من الابار والعيون واوقفها للمسلمين في وقت كان الاخرون يعجزون عن التعرف على مواقع وجود الماء فاين علم الجولوجيا من هذه المعرفة

ص: 207

الدقيقة بطبقات الارض وما تحتها من كنوز ومعادن وكان يقول: (لو شئت لاتخذت لكم من هذا الماء نوراً) يقصد توليد الطاقة الكهربائية من شلالات الماء، وغيرها الكثير في مختلف حقول العلم والمعرفة ثم جاء اولاده من بعده ليبثوا ما تسمح به الحال من علوم الكمياء والرياضيات والفلك والفيزياء والنبات والحيوان وغيرها.

فان قلت: اذن ما الذي حبسهم عن اعطاء هذه العلوم التي يحملونها إلى البشرية وهي مسألة لا تتعلق بتسلمهم موقع القيادة والامامة وعدمها.

قلت: ان التقدم المادي مرتبط تماماً بالتكامل الروحي من خلال البناء الصحيح للعقيدة ولا بد ان يتقدما معاً وان الاول بدون الثاني يصبح وبالاً على البشرية ويقودها نحو الدمار كالذي نشاهده اليوم ممن يسمون انفسهم بالقوى العظمى والدول الكبرى ولما كانت البشرية قد تخلفت وتدنت في الجانب الثاني وهو العقائدي والاخلاقي فلا يمكن اعطاءها من الجانب الاول الا بالمقدار الذي لا يكون خطراً عليها هكذا اقتضت الارادة الالهية ان يلهم الانسان بعض الافكار التي طورت حضارة البشر ودلته على اكتشافات وحقائق علمية مهمة في اوقاتها المناسبة وبالشكل الذي يحفظ توازن المجتمع الانساني (إِنّا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) ولو كانت مستحقة للمزيد بالتزامها بخط الخلافة الالهية لما بخل عليها الله تبارك وتعالى بالعطاء فلا يغتر الانسان ويظن انه هو الذي يحقق ذلك بل هو من الهام الله تبارك وتعالى وايحائه وللعلماء والمكتشفين كلمات تدل

ص: 208

على ذلك ولو خليّ إلى نفسه لما عرف كيف يتخلص من موتاه بالدفن حتى علمه الغراب - كما ذكرنا -.

هذه بعض النتائج التي افرزها عدم التزام الامة بحديث الغدير واذا كانت الامور تعرف باضدادها كما قالوا فيمكن ان نعرف سمو المعاني والاثار التي نالها الملتزمون بولاية امير المؤمنين (عليه السلام) فحق لهم ان يحتفلوا بهذا العيد الاغر اعظم عيد في الاسلام، سئل الامام الصادق (عليه السلام): هل للمسلمين عيد غير يوم الجمعة والاضحى والفطر؟ قال: نعم، اعظمها حرمة، قال الراوي واي عيد هو؟ قال: اليوم الذي نصب فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) امير المؤمنين (عليه السلام) وقال: من كنت من مولاه فعلي مولاه) وفي حديث ابي نصر عن الرضا (صلوات الله عليه) قال: (يا ابن ابي نصر اينما كنت فاحضر يوم الغدير عند امير المؤمنين (عليه السلام) فان الله تبارك وتعالى يغفر لكل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة ذنوب ستين سنة ويعتق من النار ضعف ما اعتق في شهر رمضان وليلة القدر وليلة الفطر، ولدرهم فيه بالف درهم لاخوانك العارفين. وافضل على اخوانك في هذا اليوم، وسر فيه كل مؤمن ومؤمنة، و الله لو عرف الناس فضل هذا اليوم بحقيقته لصافحتهم الملائكة في كل يوم عشر مرات).

ونحن كما تعودنا في مثل هذه الكلمات لا نستهدف فقط تثبيت العقيدة وترسيخها والدفاع عنها وان كان هذا في نفسه نفيساً الا انه مما لا يقل عنه اهمية اخذ الدروس والعبر منه وهنا تكمن روح العلم والمعرفة

ص: 209

فالعلم بلا عمل وبلا استفادة منه في الحياة لا قيمة له ونحن اذ توسعنا في فهم هذا الموضوع فسنطبق هذه التجربة على كل رسالة اصلاحية تعمل على هداية الناس وتكميل نفوسهم كالمرجعية الشريفة وهي لها شكلان:

الأول: المرجعية الفردية التي يقتصر عملها على استنباط الحكم الشرعي من دون العمل على تطبيقه ودفع المجتمع إلى امتثاله والامر راجع إلى المكلف ان شاء طبق أو لا ولا تتدخل الا في حدود الشؤون الفردية وما يبرئ ذمم المكلفين كافراد وهو عمل ليس بالهين وقد قاموا بجهود مضنية حفظت لنا فقه آل محمد صلوات الله عليهم اجمعين لكن هذا الشكل خارج عن موضوعنا لانحسار دورها عن الامامة الاجتماعية اصلاً.

الثاني: المرجعية الاجتماعية التي لا تكتفي بمستوى النظرية أي مجرد التقنين والتشريع وانما تعمل على تهيئة كل الفرص واتخاذ مختلف الاساليب لاقناع الناس بتطبيق الشريعة في كل تفاصيل حياتهم واذا لم تنفع وسيلة جربت اخرى، وقد شبهت الاولى بالام التي تهيئ الطعام لولدها المريض وتترك الباقي عليه ان شاء اكل وان شاء لم يأكل وقد لا يعرف مصلحته فيموت جوعاً. والثانية تشبه الام التي لا تكتفي باعداد الطعام بل تطيبه وتعمل كل المرغبات والمحفزات لولدها كي يأكل ويحفظ حياته ويستعيد عافيته ولا شك ان الثانية ارحم وأرأف واكرم واصبر من الاولى أو قل انها اكثر اتصافاً بالاسماء الحسنى التي ورد الحث على التخلّق بها.

ص: 210

وهذه المرجعية الثانية هي الاكثر التصاقاً بالناس واعمق تأثيراً فيهم والاكثر تعلقاً بهم وهي الاجدر بتمثيل دور المعصومين (عليهم السلام) فلا غرو ان تكون عرضة لطمع المتنافسين فاذا تصدى لها غير المؤهل لها وصنع (سقيفة) ثانية لابعاد مستحقيها ترتبت كل أو بعض الاثار التي ذكرناها ولا بد ان نستفيد من تلك التجربة لنكون واعين وحذرين من تكرارها وقد ذكرنا في محاضرتين بمناسبة عيد الغدير عام 1421 - وطبعت كمقدمة لكتاب اصل الشيعة واصولها للشيخ كاشف الغطاء - الاشكال الثلاثة التي خطط بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للخليفة من بعده وكيفية تأسي المرجعية به (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا المجال ومسؤولية الامة في صيانة هذا الموقع الشريف والتمسك بأهله فيكون هذا البحث مكملاً له و مما ذكرنا هناك ان لهذا الموقع شروطاً صنفتها إلى ثابتة ومتحركة والاولى هي التي دأبت على ذكرها الرسائل العملية اما المتحركة فتتغير تبعاً للظروف الموضوعية التي تعيشها المرجعية.

اللهم انا نشهدك

انا ندين بما دان به محمد وآل محمد صلى الله عليه وعليهم

وقولنا ما قالوا وديننا ما دانوا به، ما قالوا به قلنا وما دانوا به دنا وما انكروا انكرنا ومن والوا والينا ومن عادوا عادينا ومن لعنوا لعنا ومن تبرأوا منه تبرأنا منه ومن ترحموا عليه ترحمنا عليه

آمنا وسلمنا ورضينا واتبعنا موالينا صلوات الله عليهم،

ص: 211

اللهم فتمم لنا ذلك ولا تسلبناه واجعله مستقراً ثابتاً عندنا ولا تجعله مستعاراً وأحينا ما احييتنا عليه وامتنا اذا أمتنا عليه،

آل محمد أئمتنا فبهم نأتم واياهم نوالي وعدوهم وعدو الله نعادي فاجعلنا معهم في الدنيا والآخرة ومن المقربين فانا بذلك راضون يا ارحم الراحمين

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 212

الملاحق

اشارة

ص: 213

ص: 214

الملحق الاول: وصايا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لابي ذر

ص: 215

ص: 216

(عن أبي الأسود قال قدمت الربذة فدخلت على أبي ذر جندب بن جنادة رضي الله عنه فحدثني أبو ذر قال دخلت ذات يوم في صدر نهاره على رسول الله ص في مسجده فلم أر في المسجد أحدا من الناس إلا رسول الله ص وعلي (عليه السلام) إلى جانبه جالس فاغتنمت خلوة المسجد فقلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي أوصني بوصية ينفعني الله بها. فقال: نعم، وأكرم بك يا أبا ذر إنك منا أهل البيت وإني موصيك بوصية فاحفظها فإنها جامعة لطرق الخير وسبله فإنك إن حفظتها كان لك بها كفلان:

(يا أبا ذر اعبد الله كأنك تراه فإن كنت لا تراه فإنه يراك واعلم أن أول عبادة الله المعرفة به فهو الأول قبل كل شيء فلا شيء قبله والفرد فلا ثاني له والباقي لا إلى غاية فاطر السموات و الأرض وما فيهما وما بينهما من شيء وهو الله اللطيف الخبير وهو على كل شيء قدير ثم الإيمان والإقرار بأن الله تعالى أرسلني إلى كافة الناس بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ثم حب أهل بيتي الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا واعلم يا أبا ذر أن الله عز وجل جعل أهل بيتي في أمتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن رغب عنها غرق و مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخلها كان آمنا.

يا أبا ذر احفظ ما أوصيك به تكن سعيدا في الدنيا والآخرة.

يا أبا ذر نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ.

ص: 217

يا أبا ذر اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك.

يا أبا ذر إياك والتسويف بعملك فإنك بيومك ولست بما بعده فإن يكن غد لك فكن في الغد كما كنت في اليوم وإن لم يكن غدا لم تندم على ما فرطت في اليوم.

يا أبا ذر كم من مستقبل يوما لا يستكمله ومنتظر غدا لا يبلغه.

يا أبا ذر لو نظرت إلى الأجل ومسيره لأبغضت الأمل وغروره.

يا أبا ذر كن كأنك في الدنيا غريب أو كعابر سبيل وعد نفسك من أصحاب القبور.

يا أبا ذر إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح وخذ من صحتك قبل سقمك ومن حياتك قبل موتك فإنك لا تدري ما اسمك غدا.

يا أبا ذر إياك أن تدركك الصرعة عند العثرة فلا تقال العثرة ولا تمكن من الرجعة ولا يحمدك من خلفت بما تركت ولا يعذرك من تقدم عليه بما اشتغلت به.

يا أبا ذر كن على عمرك أشح منك على درهمك ودينارك.

يا أبا ذر هل ينتظر أحدكم إلا غنى مطغيا أو فقرا منسيا أو مرضا مفسدا أو هرما مقعدا أو موتا مجهزا أو الدجال فإنه شر غائب ينتظر أو الساعة والساعة أدهى وأمر إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة عالم لا ينتفع

ص: 218

بعلمه ومن طلب علما ليصرف به وجوه الناس إليه لم يجد ريح الجنة.

يا أبا ذر من ابتغى العلم ليخدع به الناس لم يجد ريح الجنة.

يا أبا ذر إذا سئلت عن علم لا تعلمه فقل لا أعلمه تنج من تبعته ولا تفت بما لا علم لك به تنج من عذاب الله يوم القيامة.

يا أبا ذر يطلع قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فيقولون ما أدخلكم النار وقد دخلنا الجنة بتأديبكم وتعليمكم فيقولون إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله.

يا أبا ذر إن حقوق الله جل ثناؤه أعظم من أن يقوم بها العباد وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد ولكن أمسوا وأصبحوا تائبين يا أبا ذر إنك في ممر الليل و النهار في آجال منقوصة وأعمال محفوظة والموت يأتي بغتة ومن يزرع خيرا يوشك أن يحصد خيرا ومن يزرع شرا يوشك أن يحصد ندامة ولكل زارع مثل ما زرع لا يسبق بطيء لحظة ولا يدرك حريص ما لم يقدر له ومن أعطي خيرا فالله أعطاه ومن وقي شرا فالله وقاه.

يا أبا ذر المتقون سادة والفقهاء قادة ومجالستهم الزيادة إن المؤمن ليرى ذنبه كأنه صخرة يخاف أن تقع عليه وإن الكافر يرى ذنبه كأنه ذباب مر على أنفه.

يا أبا ذر إن الله تبارك وتعالى إذا أراد بعبد خيرا جعل ذنوبه بين عينيه ممثلة و الإثم عليه ثقيلا وبيلا وإذا أراد بعبد شرا أنساه ذنوبه.

يا أبا ذر لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيته.

ص: 219

يا أبا ذر إن المؤمن أشد ارتكاضا من الخطيئة من العصفور حين يقذف به في شركه.

يا أبا ذر من وافق قوله فعله فذاك الذي أصابه حظه ومن خالف قوله فعله فإنما يوبق نفسه.

يا أبا ذر إن الرجل ليحرم رزقه بالذنب يصيبه.

يا أبا ذر دع ما لست منه في شيء فلا تنطق بما لا يعنيك واخزن لسانك. كما تخزن ورقك.

يا أبا ذر إن الله جل ثناؤه ليدخل قوما الجنة فيعطيهم حتى يملوا وفوقهم قوم في الدرجات العلى فإذا نظروا إليهم عرفوهم فيقولون ربنا إخواننا كنا معهم في الدنيا فبم فضلتهم علينا فيقال هيهات هيهات إنهم كانوا يجوعون حين تشبعون يظمئون حين تروون ويقومون حين تنامون ويشخصون حين تخفضون.

يا أبا ذر جعل الله جل ثناؤه قرة عيني في الصلاة وحبب إلي الصلاة كما حبب إلى الجائع الطعام وإلى الظمآن الماء وإن الجائع إذا أكل شبع وإن الظمآن إذا شرب روي و أنا لا أشبع من الصلاة.

يا أبا ذر أيما رجل تطوع في يوم وليلة اثنتي عشرة ركعة سوى المكتوبة كان له حقا واجبا بيت في الجنة.

يا أبا ذر إنك ما دمت في الصلاة فإنك تقرع باب الملك الجبار ومن يكثر قرع باب الملك يفتح له.

ص: 220

يا أبا ذر ما من مؤمن يقوم مصليا إلا تناثر عليه البر ما بينه وبين العرش ووكل به ملك ينادي يا ابن آدم لو تعلم ما لك في الصلاة ومن تناجي ما انفتلت.

يا أبا ذر طوبى لأصحاب الألوية يوم القيامة يحملونها فيسبقون الناس إلى الجنة ألا هم السابقون إلى المساجد بالأسحار وغير الأسحار.

يا أبا ذر الصلاة عماد الدين واللسان أكبر والصدقة تمحو الخطيئة واللسان أكبر والصوم جنة من النار واللسان أكبر والجهاد نباهة واللسان أكبر.

يا أبا ذر الدرجة في الجنة فوق الدرجة كما بين السماء و الأرض وإن العبد ليرفع بصره فيلمع له نور يكاد يخطف بصره فيفزع لذلك فيقول ما هذا فيقال هذا نور أخيك فيقول أخي فلان كنا نعمل جميعا في الدنيا وقد فضل علي هكذا فيقال له إنه كان أفضل منك عملا ثم يجعل في قلبه الرضا حتى يرضى.

يا أبا ذر الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر وما أصبح فيها مؤمن إلا حزينا فكيف لا يحزن المؤمن وقد أوعده الله جل ثناؤه إنه وارد جهنم ولم يعده إنه صادر عنها وليلقين أعراضا ومصيبات وأمورا تغيظه وليظلمن فلا ينتصر يبتغي ثوابا من الله تعالى فلا يزال حزينا حتى يفارقها فإذا فارقها أفضى إلى الراحة والكرامة.

يا أبا ذر ما عبد الله عز وجل على مثل طول الحزن.

يا أبا ذر من أوتي من العلم ما لا يبكيه لحقيق أن يكون قد أوتي

ص: 221

علما لا ينفعه إن الله نعت العلماء فقال عز و جل (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَ يَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً).

يا أبا ذر من استطاع أن يبكي فليبك ومن لم يستطع فليشعر قلبه الحزن وليتباك إن القلب القاسي بعيد من الله تعالى ولكن لا يشعرون.

يا أبا ذر يقول الله تعالى لا أجمع على عبد خوفين ولا أجمع له أمنين فإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة وإذا خافني في الدنيا آمنته يوم القيامة.

يا أبا ذر لو أن رجلا كان له كعمل سبعين نبيا لاحتقره وخشي أن لا ينجو من شر يوم القيامة.

يا أبا ذر إن العبد ليعرض عليه ذنوبه يوم القيامة فيمن أذنب ذنوبه فيقول أما إني كنت خائفا مشفقا فيغفر له.

يا أبا ذر إن الرجل ليعمل الحسنة فيتكل عليها ويعمل المحقرات حتى يأتي الله وهو عليه غضبان وإن الرجل ليعمل السيئة فيفرق منها يأتي آمنا يوم القيامة.

يا أبا ذر إن العبد ليذنب الذنب فيدخل به الجنة فقلت وكيف ذلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال يكون ذلك الذنب نصب عينيه تائبا منه فارا إلى الله عز وجل حتى يدخل الجنة.

يا أبا ذر الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع

ص: 222

نفسه وهواها وتمنى على الله عز وجل الأماني.

يا أبا ذر إن أول شيء يرفع من هذه الأمة الأمانة والخشوع حتى لا تكاد ترى خاشعا.

يا أبا ذر والذي نفس محمد بيده لو أن الدنيا كانت تعدل عند الله جناح بعوضة أو ذباب ما سقى الكافر منها شربة من ماء.

يا أبا ذر إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما ابتغي به وجه الله وما من شيء أبغض إلى الله تعالى من الدنيا خلقها ثم عرضها فلم ينظر إليها ولا ينظر إليها حتى تقوم الساعة وما من شيء أحب إلى الله من الإيمان به وترك ما أمر بتركه.

يا أبا ذر إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى أخي عيسى ع يا عيسى لا تحب الدنيا فإني لست أحبها وأحب الآخرة فإنما هي دار المعاد.

يا أبا ذر إن جبرئيل (عليه السلام) أتاني بخزائن الدنيا على بغلة شهباء فقال لي يا محمد هذه خزائن الدنيا ولا تنقصك من حظك عند ربك فقلت حبيبي جبرئيل لا حاجة لي بها إذا شبعت شكرت ربي وإذا جعت سألته.

يا أبا ذر إذا أراد الله عز وجل بعبد خيرا فقهه في الدين وزهده في الدنيا وبصره بعيوب نفسه.

يا أبا ذر ما زهد عبد في الدنيا إلا أنبت الله الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه وبصره بعيوب الدنيا ودائها ودوائها وأخرجه منها سالما إلى دار السلام.

ص: 223

يا أبا ذر إذا رأيت أخاك قد زهد في الدنيا فاستمع منه فإنه يلقن الحكمة.

فقلت: يا رسول الله، من أزهد الناس فقال من لم ينس المقابر والبلى وترك فضل زينة الدنيا وآثر ما يبقى على ما يفنى ولم يعد غدا من أيامه وعد نفسه في الموتى.

يا أبا ذر إن الله تبارك وتعالى لم يوح إلي أن أجمع المال إلى المال ولكن أوحى إلي أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين.

يا أبا ذر إني ألبس الغليظ وأجلس على الأرض وألعق أصابعي وأركب الحمار بغير سرج وأردف خلفي فمن رغب عن سنتي فليس مني.

يا أبا ذر حب المال والشرف أذهب لدين الرجل من ذئبين ضاريين في زرب الغنم فأغارا فيها حتى أصبحا فماذا أبقيا منها قال قلت يا رسول الله الخائفون الخاضعون المتواضعون الذاكرون الله كثيرا أ هم يسبقون الناس إلى الجنة فقال لا ولكن فقراء المسلمين فإنهم يأتون يتخطون رقاب الناس فيقول لهم خزنة الجنة كما أنتم حتى تحاسبوا فيقولون بم نحاسب فو الله ما ملكنا فنجور ونعدل ولا أفيض علينا فنقبض ونبسط ولكن عبدنا ربنا حتى دعانا فأجبنا.

يا أبا ذر إن الدنيا مشغلة للقلوب والأبدان وإن الله تبارك وتعالى سائلنا عما نعمنا في حلاله فكيف بما أنعمنا في حرامه.

ص: 224

يا أبا ذر إني قد دعوت الله جل ثناؤه أن يجعل رزق من يحبني كفافا و أن يعطي من يبغضني كثرة المال والولد.

يا أبا ذر طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة الذين اتخذوا أرض الله بساطا وترابها فراشا وماءها طيبا واتخذوا كتاب الله شعارا ودعاءه دثارا يقرضون الدنيا قرضا.

يا أبا ذر حرث الآخرة العمل الصالح وحرث الدنيا المال والبنون يا أبا ذر إن ربي أخبرني فقال وعزتي وجلالي ما أدرك العابدون درك البكاء وإني لأبني لهم في الرفيق الأعلى قصرا لا يشركهم فيه أحد.

قال، قلت: يا رسول الله أي المؤمنين أكيس.

قال: أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم له استعدادا.

يا أبا ذر إذا دخل النور القلب انفسح القلب واتسع قلت فما علامة ذلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله.

قال (صلى الله عليه وآله وسلم) الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله يا أبا ذر اتق الله ولا تر الناس أنك تخشى الله فيكرموك وقلبك فاجر.

يا أبا ذر ليكن لك في كل شيء نية صالحة حتى في النوم والأكل.

يا أبا ذر لتعظم جلال الله في صدرك فلا تذكره كما يذكره الجاهل عند الكلب اللهم اخزه وعند الخنزير اللهم اخزه.

يا أبا ذر إن لله ملائكة قياما من خيفة الله ما رفعوا رءوسهم حتى ينفخ

ص: 225

في الصور النفخة الآخرة فيقولون جميعا سبحانك ربنا وبحمدك ما عبدناك كما ينبغي لك أن تعبد.

يا أبا ذر لو كان لرجل عمل سبعين نبيا لاستقل عمله من شدة ما يرى يومئذ ولو أن دلوا من غسلين صب في مطلع الشمس لغلت منه جماجم من في مغربها ولو زفرت جهنم زفرة لم يبق ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خر جاثيا على ركبتيه يقول رب ارحم نفسي حتى ينسى إبراهيم إسحاق و يقول يا رب أنا خليلك إبراهيم فلا تنسني.

يا أبا ذر لو أن امرأة من نساء أهل الجنة أطلعت من سماء الدنيا في ليلة ظلماء لأضاءت الأرض أفضل مما يضيئها القمر ليلة البدر ولوجد ريح نشرها جميع أهل الأرض ولو أن ثوبا من ثياب أهل الجنة نشر اليوم في الدنيا لصعق من ينظر إليه وما حملته أبصارهم.

يا أبا ذر اخفض صوتك عند الجنائز وعند القتال وعند القرآن.

يا أبا ذر إذا تبعت جنازة فليكن عقلك فيها مشغولا بالتفكر والخشوع واعلم أنك لاحق به.

يا أبا ذر اعلم أن كل شيء إذا فسد فالملح دواؤه فإذا فسد الملح فليس له دواء واعلم أن فيكم قين الضحك من غير عجب والكسل من غير سهو.

يا أبا ذر ركعتان مقتصدتان في التفكر خير من قيام ليلة والقلب ساه.

يا أبا ذر الحق ثقيل مر والباطل خفيف حلو ورب شهوة ساعة توجب

ص: 226

حزنا طويلا.

يا أبا ذر لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى الناس في جنب الله أمثال الأباعر ثم يرجع إلى نفسه فيكون هو أحقر حاقر لها.

يا أبا ذر لا تصيب حقيقة الإيمان حتى ترى الناس كلهم حمقى في دينهم وعقلاء في دنياهم.

يا أبا ذر حاسب نفسك قبل أن تحاسب فهو أهون لحسابك غدا وزن نفسك قبل أن توزن وتجهز للعرض الأكبر يوم تعرض لا تخفى منك على الله خافية.

يا أبا ذر استح من الله فإني والذي نفسي بيده لا أزال حين أذهب إلى الغائط مقنعا بثوبي أستحي من الملكين الذين معي.

يا أبا ذر أ تحب أن تدخل الجنة قلت نعم فداك أبي قال (صلى الله عليه وآله وسلم) فأقصر من الأمل واجعل الموت نصب عينيك واستح من الله حق الحياء قال قلت يا رسول الله كلنا نستحي من الله قال ليس ذلك الحياء ولكن الحياء من الله أن لا تنسى المقابر والبلى وتحفظ الجوف وما وعى والرأس وما حوى ومن أراد كرامة الآخرة فليدع زينة الدنيا فإذا كنت كذلك أصبت ولاية الله.

يا أبا ذر يكفي من الدعاء مع البر ما يكفي الطعام من الملح.

يا أبا ذر مثل الذي يدعو بغير عمل كمثل الذي يرمي بغير وتر.

يا أبا ذر إن الله يصلح بصلاح العبد ولده وولد ولده ويحفظه في دويرته والدور حوله ما دام فيهم.

ص: 227

يا أبا ذر إن ربك عز وجل يباهي الملائكة بثلاثة نفر رجل في أرض قفر. فيؤذن ثم يقيم ثم يصلي فيقول ربك للملائكة انظروا إلى عبدي يصلي ولا يراه أحد غيري فينزل سبعون ألف ملك يصلون وراءه ويستغفرون له إلى الغد من ذلك اليوم ورجل قام من الليل فصلى وحده فسجد ونام وهو ساجد فيقول الله تعالى انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده ساجد ورجل في زحف فر أصحابه وثبت هو يقاتل حتى يقتل.

يا أبا ذر ما من رجل يجعل جبهته في بقعة من بقاع الأرض إلا شهدت له بها يوم القيامة وما من منزل ينزله قوم إلا و أصبح ذلك المنزل يصلي عليهم أو يلعنهم.

يا أبا ذر ما من صباح ولا رواح إلا وبقاع الأرض ينادي بعضها بعضا يا جارة هل مر بك من ذكر الله تعالى أو عبد وضع جبهته عليك ساجدا لله فمن قائلة لا ومن قائلة نعم فإذا قالت نعم اهتزت وانشرحت وترى أن لها الفضل على جارتها.

يا أبا ذر إن الله جل ثناؤه لما خلق الأرض و خلق ما فيها من الشجر لم يكن في الأرض شجرة يأتيها بنو آدم إلا أصابوا منها منفعة فلم تزل الأرض والشجر كذلك حتى تكلم فجرة بني آدم بالكلمة العظيمة قولهم اتخذ الله ولدا فلما قالوها اقشعرت الأرض وذهبت منفعة الأشجار.

يا أبا ذر إن الأرض لتبكي على المؤمن إذا مات أربعين صباحا.

يا أبا ذر إذا كان العبد في أرض قفر فتوضأ أو تيمم ثم أذن وأقام

ص: 228

وصلى أمر الله عز وجل الملائكة فصفوا خلفه صفا لا يرى طرفاه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده ويؤمنون على دعائه.

يا أبا ذر من أقام ولم يؤذن لم يصل معه إلا ملكاه اللذان معه.

يا أبا ذر ما من شاب ترك الدنيا وأفنى شبابه في طاعة الله إلا أعطاه الله أجر اثنين وسبعين صديقا.

يا أبا ذر الذاكر في الغافلين كالمقاتل في الفارين.

يا أبا ذر الجليس الصالح خير من الوحدة والوحدة خير من جليس السوء وإملاء الخير خير من السكوت والسكوت خير من إملاء الشر.

يا أبا ذر لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي ولا تأكل طعام الفاسقين.

يا أبا ذر أطعم طعامك من تحبه في الله وكل طعام من يحبك في الله عز وجل.

يا أبا ذر إن الله عز وجل عند لسان كل قائل فليتق الله امرؤ وليعلم ما يقول.

يا أبا ذر اترك فضول الكلام وحسبك من الكلام ما تبلغ به حاجتك

يا أبا ذر كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما يسمع.

يا أبا ذر ما من شيء أحق بطول السجن من اللسان يا أ ذر إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم وإكرام حملة القرآن العاملين وإكرام السلطان المقسط.

ص: 229

يا أبا ذر ما عمل من لم يحفظ لسانه.

يا أبا ذر لا تكن عيابا ولا مداحا ولا طعانا ولا مماريا.

يا أبا ذر لا يزال العبد يزداد من الله بعدا ما ساء خلقه.

يا أبا ذر الكلمة الطيبة صدقة وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة.

يا أبا ذر من أجاب داعي الله وأحسن عمارة مساجد الله كان ثوابه من الله الجنة.

فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله كيف يعمر مساجد الله؟

قال: لا يرفع فيها الأصوات ولا يخاض فيها بالباطل ولا يشترى فيها ولا يباع فاترك اللغو ما دمت فيها فإن لم تفعل فلا تلومن يوم القيامة إلا نفسك.

يا أبا ذر إن الله تعالى يعطيك ما دمت جالسا في المسجد بكل نفس تنفست فيه درجة في الجنة وتصلي عليك الملائكة ويكتب لك بكل نفس تنفست فيه عشر حسنات ويمحى عنك عشر سيئات.

يا أبا ذر أ تعلم في أي شيء نزلت هذه الآية (اصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا وَ اتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

قلت: لا أدري فداك أبي وأمي قال في انتظار الصلاة خلف الصلاة.

يا أبا ذر إسباغ الوضوء في المكاره من الكفارات وكثرة الاختلاف إلى المساجد فذلكم الرباط.

يا أبا ذر يقول الله تبارك وتعالى إن أحب العباد إلي المتحابون من أجلي المتعلقة قلوبهم بالمساجد والمستغفرون بالأسحار أولئك إذا أردت

ص: 230

بأهل الأرض عقوبة ذكرتهم فصرفت العقوبة عنهم.

يا أبا ذر كل جلوس في المسجد لغو إلا ثلاث قراءة مصل أو ذكر الله أو سائل عن علم.

يا أبا ذر كن بالعمل بالتقوى أشد اهتماما منك بالعمل فإنه لا يقل عمل بالتقوى وكيف يقل عمل يتقبل يقول الله عز وجل (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).

يا أبا ذر لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكه فيعلم من أين مطعمه ومن أين مشربه ومن أين ملبسه أمن حل أم من حرام.

يا أبا ذر من لم يبال من أين يكتسب المال لم يبال الله عز وجل من أين أدخله النار.

يا أبا ذر من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله عز وجل.

يا أبا ذر إن أحبكم إلى الله جل ثناؤه أكثركم ذكرا له وأكرمكم عند الله عز وجل أتقاكم له وأنجاكم من عذاب الله أشدكم له خوفا.

يا أبا ذر إن المتقين الذين يتقون من الشيء الذي لا يتقى منه خوفا من الدخول في الشبهة.

يا أبا ذر من أطاع الله عز وجل فقد ذكر الله وإن قلت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن.

يا أبا ذر ملاك الدين الورع ورأسه لطاعة يا أبا ذر كن ورعا تكن

ص: 231

أعبد الناس وخير دينكم الورع.

يا أبا ذر فضل العلم خير من فضل العبادة واعلم أنكم لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا وصمتم حتى تكونوا كالأوتار ما ينفعكم ذلك إلا بورع.

يا أبا ذر إن أهل الورع والزهد في الدنيا هم أولياء الله تعالى حقا.

يا أبا ذر من لم يأت يوم القيامة بثلاث فقد خسر قلت وما الثلاث فداك أبي وأمي قال ورع يحجزه عما حرم الله عز وجل عليه وحلم يرد به جهل السفهاء و خلق يداري به الناس.

يا أبا ذر إن سرك أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله عز وجل وإن سرك أن تكون أكرم الناس فاتق الله وإن سرك أن تكون أغنى الناس فكن بما في يد الله عز وجل أوثق منك بما في يدك.

يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بهذه الآية لكفتهم (وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللّهَ بالِغُ أَمْرِهِ).

يا أبا ذر يقول الله جل ثناؤه وعزتي وجلالي لا يؤثر عبدي هواي على هواه إلا جعلت غناه في نفسه وهمومه في آخرته وضمنت السموات و الأرض رزقه وكففت عنه ضيقه وكنت له من وراء تجارة كل تاجر.

يا أبا ذر لو أن ابن آدم فر من رزقه كما يفر ن الموت لأدركه كما يدركه الموت.

يا أبا ذر ألا أعلمك كلمات ينفعك الله عز وجل بهن قلت بلى يا

ص: 232

رسول الله قال احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة وإذا سألت فاسأل الله عز وجل وإذا استعنت فاستعن بالله فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة فلو أن الخلق كلهم جهدوا أن ينفعوك بشيء لم يكتب لك ما قدروا عليه ولو جهدوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك ما قدروا عليه فإن استطعت أن تعمل لله عز وجل بالرضا في اليقين فافعل وإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا و النصر مع الصبر والفرج مع الكرب وإن مع العسر يسرا.

يا أبا ذر استغن بغنى الله يغنك الله فقلت وما هو يا رسول الله قال ص غداء يوم وعشاء ليلة فمن قنع بما رزقه الله فهو أغنى الناس يا أبا ذر إن الله عز وجل يقول إني لست كلام الحكيم أتقبل ولكن همه وهواه فإن كان همه وهواه فيما أحب وأرضى جعلت صمته حمدا لي وذكرا ووقارا وإن لم يتكلم.

يا أبا ذر إن الله تبارك وتعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وأقوالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.

يا أبا ذر التقوى هاهنا التقوى هاهنا وأشار إلى صدره.

يا أبا ذر أربع لا يصيبهن إلا مؤمن الصمت وهو أول العبادة والتواضع لله سبحانه وذكر الله تعالى في كل حال وقلة الشيء يعني قلة المال.

يا أبا ذر هم بالحسنة وإن لم تعملها لكيلا تكتب من الغافلين.

يا أبا ذر من ملك ما بين فخذيه وبين لحييه دخل الجنة.

ص: 233

قلت: يا رسول الله و إنا لنؤاخ بما تنطق به ألسنتنا.

قال: يا أبا ذر و هل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم إنك لا تزال سالما ما سكت فإذا تكلمت كتب الله لك أو عليك.

يا أبا ذر إن الرجل يتكلم بالكلمة في المجلس لينصحكم بها فهوى في جهنم ما بين السماء والأرض.

يا أبا ذر ويل للذي يحدث ويكذب ليضحك به القوم ويل له ويل له ويل له.

يا أبا ذر من صمت نجا فعليك بالصدق ولا تخرجن من فيك كذبا أبدا قلت يا رسول اله فما توبة الرجل الذي كذب متعمدا قال الاستغفار والصلوات الخمس تغسل ذلك.

يا أبا ذر إياك والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا قلت يا رسول الله ولم ذلك بأبي أنت وأمي قال لأن الرجل يزني ويتوب إلى الله فيتوب الله عليه والغيبة لا تغفر حتى يغفرها صاحبها.

يا أبا ذر سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر وأكل لحمه من معاصي الله وحرمة ماله كحرمة دمه.

قلت: يا رسول الله وما الغيبة.

قال: ذكرك أخاك بما يكره.

قلت: يا رسول الله فإن كان فيه ذاك الذي يذكر به.

قال اعلم أنك إذا ذكرته بما هو فيه فقد اغتبته وإذا ذكرته بما ليس

ص: 234

فيه فقد بهته.

يا أبا ذر من ذب عن أخيه المسلم الغيبة كان حقا على الله أن يعتقه من النار يا أبا ذر من اغتيب عنده أخوه المسلم وهو يستطيع نصره فنصره نصره الله عز وجل في الدنيا والآخرة فإن خذله وهو يستطيع نصره خذله الله في الدنيا والآخرة.

يا أبا ذر لا يدخل الجنة قتات قلت وما القتات قال النمام.

يا أبا ذر صاحب النميمة لا يستريح من عذاب الله عز وجل في الآخرة.

يا أبا ذر من كان ذا وجهين ولسانين في الدنيا فهو ذو لسانين في النار.

يا أبا ذر المجالس بالأمانة وإفشاء سر أخيك خيانة فاجتنب ذلك واجتنب مجلس العشيرة.

يا أبا ذر تعرض أعمال أهل الدنيا على الله من الجمعة إلى الجمعة في يوم الإثنين والخميس فيستغفر لكل عبد مؤمن إلا عبدا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال اتركوا عمل هذين حتى يصطلحا.

يا أبا ذر إياك وهجران أخيك فإن العمل لا يتقبل مع الهجران.

يا أبا ذر أنهاك عن الهجران وإن كنت لا بد فاعلا تهجره فوق ثلاثة أيام. كملا فمن مات فيها مهاجرا لأخيه كانت النار أولى به.

يا أبا ذر من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار.

يا أبا ذر من مات وفي قلبه مثقال ذرة من كبر لم يجد رائحة الجنة إلا أن يتوب قبل ذلك.

ص: 235

فقال رجل يا رسول الله إني ليعجبني الجمال حتى وددت أن علاقة سوطي وقبال نعلي حسن فهل يرهب على ذلك.

قال: كيف تجد قلبك.

قال: أجده عارفا للحق مطمئنا إليه.

قال: ليس ذلك بالكبر ولكن الكبر أن تترك الحق وتتجاوزه إلى غيره وتنظر إلى الناس ولا ترى أن أحدا عرضه كعرضك ولا دمه كدمك.

يا أبا ذر أكثر من يدخل النار المستكبرون.

فقال رجل: و هل ينجو من الكبر أحد يا رسول الله.

قال: نعم، من لبس الصوف وركب الحمار وحلب الشاة وجالس المساكين.

يا أبا ذر من حمل بضاعته فقد برئ من الكبر يعني ما يشتري من السوق.

يا أبا ذر من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله عز وجل إليه يوم القيامة.

يا أبا ذر إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه و لا جناح عليه فيما بينه وبين كعبيه.

يا أبا ذر من رفع ذيله وخصف نعله وعفر وجهه فقد برئ من الكبر.

يا أبا ذر من كان له قميصان فليلبس أحدهما وليلبس الآخر أخاه.

يا أبا ذر سيكون ناس من أمتي يولدون في النعيم ويغذون به همتهم ألوان الطعام والشراب ويمدحون بالقول أولئك شرار أمتي.

يا أبا ذر من ترك لبس الجمال وهو يقدر عليه تواضعا لله عز وجل

ص: 236

في غير منقصة وأذل نفسه في غير مسكنة وأنفق ما جمعه في غير معصية ورحم أهل الذل والمسكنة وخالط أهل الفقه والحكمة طوبى لمن صلحت سريرته وحسنت علانيته وعزل عن الناس شره طوبى لمن عمل بعلمه وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله.

يا أبا ذر البس الخشن من اللباس والصفيق من الثياب لئلا يجد الفخر فيك مسلكا.

يا أبا ذر يكون في آخر الزمان قوم يلبسون الصوف في صيفهم وشتائهم يرون أن لهم الفضل بذلك على غيرهم أولئك تلعنهم ملائكة السموات والأرض.

يا أبا ذر أ لا أخبرك بأهل الجنة.

قلت: بلى يا رسول الله.

قال (صلى الله عليه وآله وسلم) كل أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره.

قال أبو ذر رضي الله عنه ودخلت يوما على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في المسجد جالس وحده فاغتنمت خلوته فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):

يا أبا ذر إن للمسجد تحية.

قلت: وما تحيته يا رسول الله.

قال: ركعتان تركعهما.

ثم التفت إليه، فقلت: يا رسول الله أمرتني بالصلاة فما الصلاة.

ص: 237

قال: الصلاة خير موضوع فمن شاء أقل ومن شاء أكثر.

قلت: يا رسول الله أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل.

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): الإيمان بالله ثم الجهاد في سبيله.

قلت: يا رسول الله، أي المؤمنين أكمل إيمانا.

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): أحسنهم خلقا.

قلت: وأي المؤمنين أفضل.

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): من سلم المسلمون من لسانه ويده.

قلت: وأي الهجرة أفضل.

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): من هجر السوء.

قلت: وأي الليل أفضل.

قال: (صلى الله عليه وآله وسلم): جوف الليل الغابر.

قلت: فأي الصلاة أفضل.

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): طول القنوت.

قلت: فأي الصوم أفضل.

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): فرض مجزئ وعند الله أضعاف ذلك.

قلت: فأي الصدقة أفضل.

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): جهد من مقل إلى فقير في سر.

قلت: وأي الزكاة أفضل.

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها.

ص: 238

قلت: وأي الجهاد أفضل.

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): ما عقر فيه جواده وأهريق دمه.

قلت: وأي آية أنزلها الله عليك أعظم.

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): آية الكرسي.

قال، قلت يا رسول الله: فما كانت صحف إبراهيم (عليه السلام).

قال: كانت أمثالا كلها أيها الملك المسلط المبتلى إني لم أبعثك لتجتمع الدنيا بعضها على بعض ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها وإن كانت من كافر أو فاجر فجوره على نفسه وكان فيها أمثال وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله أن يكون له ثلاث ساعات ساعة يناجي فيها ربه وساعة يفكر فيها في صنع الله تعالى وساعة يحاسب فيها نفسه فيما قدم وأخر وساعة يخلو فيها بحاجته من الحلال من المطعم والمشرب وعلى العاقل أن يكون ظاعنا إلا في ثلاث تزود لمعاد أو مرمة لمعاش أو لذة في غير محرم وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه حافظا للسانه ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه.

قلت: يا رسول الله، فما كانت صحف موسى (عليه السلام).

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): كانت عبرا كلها عجب لمن أيقن بالنار ثم ضحك عجب لمن أيقن بالموت كيف يفرح عجب لمن أبصر الدنيا وتقلبها بأهلها حالا بعد حال ثم هو يطمئن إليها عجب لمن أيقن بالحساب غدا ثم لم يعمل.

ص: 239

قلت: يا رسول الله فهل في الدنيا شيء مما كان في صحف إبراهيم و موسى (عليهما السلام) مما أنزله الله عليك.

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): اقرأ يا أبا ذر (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى) إِنَّ هذا يعني ذكر هذه الأربع الآيات (لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى).

قلت: يا رسول الله أوصني.

قال: أوصيك بتقوى الله فإنه رأس أمرك كله.

فقلت: يا رسول الله زدني.

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): عليك بتلاوة القرآن وذكر الله عز وجل فإنه ذكر لك في السماء ونور في الأرض.

قلت: يا رسول الله زدني.

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): عليك بالجهاد فإنه رهبانية أمتي.

قلت: يا رسول الله زدني.

قال: (صلى الله عليه وآله وسلم): عليك بالصمت إلا من خير فإنه مطردة للشيطان عنك وعون لك على أمور دينك.

قلت: يا رسول الله زدني.

ص: 240

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه.

قلت: يا رسول الله زدني.

قال (صلى الله عليه وآله وسلم) انظر إلى من هو تحتك ولا تنظر إلى من هو فوقك فإنه أجدر أن لا تزدري نعمة الله عليك.

قلت: يا رسول الله زدني.

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): صل قرابتك وإن قطعوك وأحب المساكين وأكثر مجالستهم.

قلت: يا رسول الله زدني.

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): قل الحق وإن كان مرا.

قلت: يا رسول الله زدني.

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تخف في الله لومة لائم.

قلت: يا رسول الله زدني.

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أبا ذر ليردك عن الناس ما تعرف من نفسك ولا تجر عليهم فيما تأتي فكفى بالرجل عيبا أن يعرف من الناس ما يجهل من نفسه ويجر عليهم فيما يأتي.

قال ثم ضرب على صدري وقال يا أبا ذر: لا عقل كالتدبير ولا ورع كالكف عن المحارم ولا حسب كحسن الخلق).

ص: 241

ص: 242

الملحق الثاني: وصايا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعبد الله بن مسعود

ص: 243

ص: 244

عن عبد اله بن مسعود قال: دخلت أنا وخمسة رهط من اصحابنا يوما على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد اصبتنا مجاعة شديدة ولم يكن رزقنا منذ أربعة اشهر الا الماء واللبن وورق الشجر، فقلنا: يا رسول الله الى متى نحن على هذه المجاعة الشديدة؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا تزالون فيها ما عشتم فأحدثوا لله شكراً، فإني قرأت كتاب الله الذي أنزل علي وعلى من كان قبلي فما وجدت من يدخلون الجنة إلا الصابرون.

يا ابن مسعود: قال الله تعالى: (إِنَّما يُوَفَّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) . (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا) . (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ).

يا ابن مسعود: قول الله تعالى: (وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً) ، (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) . يقول الله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرّاءُ) . (وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصّابِرِينَ) . قلنا: يا رسول الله فمن الصابرون؟ قال (صلى الله عليه وآله): الذين يصبرون على طاعة الله و اجتنبوا معصيته الذين كسبوا طيبا وانفقوا قصدا وقدموا فضلا فأفلحوا واصلحوا.

ص: 245

يابن مسعود: عليهم الخشوع والوقار والسكينة والتفكر واللين والعدل والتعليم والاعتبار والتدبير والتقوى والاحسان والتحرج والحب في اله والبغض في الله واداء الامانة والعدل في الحكمة واقامة الشهادة ومعاونة اهل الحق (على المسيء) والعفو عمن ظلم.

يابن مسعود: اذا ابتلوا صبروا واذا اعطوا شكروا واذا حكموا عدلوا واذا قالوا صدقوا واذا عاهدوا وفوا واذا اسائوا استغفروا واذا احسنوا استبشروا (وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) (وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) و اللذين يبيتون لربهم سجدا وقياما (وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً).

يابن مسعود: و الذي بعثني بالحق ان هؤلاء هم الفائزون

يابن مسعود: فمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه فإن النور اذا وقع في القلب انشرح وانفسح، فقيل: يا رسول الله فهل لذلك من علامة؟ فقال: نعم، التجافي عن دار الغرور والانابة الى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله فمن زهد في الدنيا قصر امله فيها وتركها لأهلها.

يابن مسعود: قول الله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) * يعني ايكم ازهد فيالدنيا انها دار الغرور ودار من لا دار له ولها يجمع من لا عقل له. ان احمق الناس من طلب الدنيا، قال الله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَ فِي الْآخِرَةِ

ص: 246

عَذابٌ شَدِيدٌ). وقال تعالى: (وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) يعني الزهد في الدنيا. وقال تعالى لموسى (عليه السلام) (يا موسى لن يتزين المتزينون بزينة ازين في عيني من الزهد يا موسى اذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين واذا رأيت الغنا مقبلا فقل ذنب عجلت عقوبته) يا ابن مسعود انظر قول الله تعالى: (وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَ سُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَ زُخْرُفاً وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) وقوله: (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً، وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَ سَعى لَها سَعْيَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً).

يابن مسعود: من اشتاق الى الجنة سارع الى الخيرات ومن خاف النار ترك الشهوات ومن ترقبالموت اعرض عن اللذات ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات يابن مسعود: اقرأ قول الله تعالى: (زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) الآية.

يا ابن مسعود: ان الله اصطفى موسى بالكلام والمناجات حتى كان يرى خضرة البقل في بطنه من هزاله وما سئل موسى (عليه السلام) حين تولى الى الظل الا طعاما يأكله من الجوع يابن مسعود ان شئت نبأتك بامر نوح (نبي الله) (عليه السلام) انه عاش الف سنة الا خمسين عاما يدعوا الى الله فكان اذا اصبح

ص: 247

قال لا امسي واذا امسى قال لا اصبح وكان لباسه الشعرة وطعامه الشعير وان شئت نبأتك بامر داود (عليه السلام) خليفة الله في الارض كان لباسه الشعر وطعامه الشعير وان شأت نبأتك بامر سليمان (عليه السلام) مع ما كان فيه من الملك كان يأكل الشعير ويطعم الناس الحوارى(1) وكان لباسه الشعر وكان اذا جنه الليل شد يده الى عنقه فلا يزال قائما يصلي حتى يصبح وان شأت نبئتك بأمر ابراهيم خليل الرحمن (عليه السلام) كان لباسه الصوف وطعامه الشعير وان شأت نبأتك بأمر يحيى (عليه السلام) كان لباسه الليف وكان يأكل ورق الشجر وان شأت نبأتك بأمر عيسى بن مريم (عليه السلام) فهو العجب كان يقول ادامي الجوع وشعاري الخوف ولباسي الصوف ودابتي رجلاي وسراجي بالليل القمر واصطلائي في الشتاء مشارق الشمس وفاكهتي وريحانتي بقول الأرض مما يأكل الوحوش و الأنعام أبيت وليس لي شيء واصبح وليس لي شيء وليس على وجه الارض احد اغنى مني.

يا ابن مسعود: كل هذا منهم يبغضون ما ابغض الله ويصغرون ما صغر الله ويزهدون ما ازهد الله وقد اثنى الله عليهم في محكم كتابه فقال لنوح (عليه السلام): (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) وقال لإبراهيم (عليه السلام): (وَ اتَّخَذَ اللّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) وقال لداود (عليه السلام) (إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) وقال لموسى (عليه السلام) (وَ كَلَّمَ اللّهُ مُوسى تَكْلِيماً) وقال ايضا لموسى (عليه السلام) (وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا) وقال ليحيى (عليه السلام) (وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) وقال لعيسى (عليه السلام) (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ

ص: 248


1- الحوارى بالضم فالتشديد -: الدقيق الأبيض.

اُذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلاً) الى قوله (وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي) وقال: (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ يَدْعُونَنا رَغَباً وَ رَهَباً وَ كانُوا لَنا خاشِعِينَ).

يا ابن مسعود: كل ذلك لما خوفهم الله في كتابه من قوله (وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ، لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) وقال تعالى: (وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ).

يا ابن مسعود: النار لمن ركب محرما والجنة لمن ترك الحلال، فعليك بالزهد فإن ذلك مما يباهي الله به الملائكة وبه يقبل الله عليك بوجهه ويصلي عليك الجبار.

يا ابن مسعود: ما ينفع من يتنعم في الدنيا اذا اخلد في النار، (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) ، يبنون الدور ويشيدون القصور ويزخرفون المساجد، ليست همتهم الا الدنيا عاكفون عليها معتمدون فيها، آلهتهم بطونهم، قال الله تعالى: (وَ تَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَ إِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبّارِينَ، فَاتَّقُوا اللّهَ وَ أَطِيعُونِ) . وقال الله تعالى: (أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ) الى قوله: (أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ) * وما هو الا منافق، جعل دينه هواه والهه بطنه، كل ما اشتهى من الحلال والحرام لم يمتنع منه، قال الله تعالى: (وَ فَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاّ مَتاعٌ).

ص: 249

يا ابن مسعود: محاريبهم نساؤهم، وشرفهم الدراهم والدنانير، وهمّتهم بطونهم، أُولئك هم شر الأشرار، الفتنة منهم وإليهم تعود.

يا ابن مسعود: اقرأ قول الله تعالى: (أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ، ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ، ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ).

يا ابن مسعود: اجسادهم لا تشبع وقلوبهم لا تخشع.

يا ابن مسعود: الاسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء فمن ادرك ذلك الزمان (ممن يظهر من اعقابكم فلا يسلم عليهم في ناديهم ولا يشيع جنائزهم ولا يعود مرضاهم، فانهم يستنون بسنتكم ويظهرون بدعواكم ويخالفون افعالكم فيموتون على غير ملتكم اولئك ليسوا مني ولست منهم.

يا ابن مسعود: لا تخافن احدا غير الله، فان الله تعالى يقول: (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ). ويقول: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ - الى قوله - وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ) .

يا ابن مسعود: عليهم لعنة مني ومن جميع المرسلين و الملائكة المقربين وعليهم غضب الله وسوء الحساب في الدنيا و الآخرة، وقال الله: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ - الى قوله - وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ).

يا ابن مسعود: اولئك يظهرون الحرص الفاحش والحسد الظاهر و يقطعون الارحام ويزهدون في الخير، وقد قال الله تعالى: (وَ الَّذِينَ

ص: 250

يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدّارِ) . وقال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً).

يا ابن مسعود: يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه مثل القابض على الجمرة في كفه، فإن كان في ذلك الزمان ذئبا، والا اكلته الذئاب.

يا ابن مسعود: علماؤهم وفقهائهم خونة فجرة، الا انهم اشرار خلق الله، وكذلك اتباعهم ومن يأتيهم وياخذ منهم ويحبهم ويجالسهم ويشاورهم اشرار خلق الله يدخلهم نار جهنم (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) ، (وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) ، (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) ، (إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَ هِيَ تَفُورُ، تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) ، (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) ، (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ هُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ).

يا ابن مسعود: يدعون انهم على ديني وسنتي و منهاجي وشرائعي انهم مني براءة وانا منهم بريء.

يا ابن مسعود: لا تجالسوهم في الملأ ولا تبايعوهم في الاسواق، ولا تهدوهم الى الطريق، ولا تسقوهم من ماء، قال الله تعالى: (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَ هُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) ، يقول

ص: 251

الله تعالى: (وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ).

يا ابن مسعود: ما بلوى امتي منهم العداوة والبغظاء والجدال اولئك اذلاء هذه الأمة في دنياهم. والذي بعثني بالحق ليخسفن الله بهم ويمسخهم قردة وخنازير. قال: فبكى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبكينا لبكائه وقلنا: يا رسول الله ما يبكيك؟ فقال: رحمة للاشقياء، يقول الله تعالى: (وَ لَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) . يعني العلماء والفقهاء

يا ابن مسعود: من تعلم العلم يريد به الدنيا و اثر عليه حب الدنيا وزينتها استوجب سخط الله عليه وكان في الدرك الاسفل من النار مع اليهود والنصارى والذين نبذوا كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: (فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكافِرِينَ).

يا ابن مسعود: من تعلم القرآن للدنيا وزينتها حرم الله عليه الجنة.

يا ابن مسعود: من تعلم العلم ولم يعمل بما فيه حشره الله يوم القيامة أعمى. ومن تعلم العلم رثاء وسمعة يريد به الدنيا نزع الله بركته وضيق عليه معيشته ووكله الله الى نفسه، ومن وكله الله الى نفسه فقد هلك، قال الله تعالى: (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً).

يا ابن مسعود: فليكن جلساؤك الابرار واخوانك الاتقياء والزهاد،

ص: 252

لأن الله تعالى قال في كتابه: (الْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ).

يا ابن مسعود: إعلم انهم يرون المعروف منكرا والمنكر معروفا ففي ذلك يطبع الله على قلوبهم فلا يكون فيهم الشاهد بالحق ولا القوامون بالقسط، قال الله تعالى: (كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ).

يا ابن مسعود يتفاضلون باحسابهم واموالهم يقول الله تعالى: (وَ ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى، إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى، وَ لَسَوْفَ يَرْضى).

يا ابن مسعود: عليك بخشية الله تعالى واداء الفرائض، فإنه يقول: (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ). و يقول: (رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ).

يا ابن مسعود: دع عنك ما لا يغنيك وعليك بما يغنيك، فإن الله تعالى يقول: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ).

يا ابن مسعود: (اياك ان تدع طاعة الله وتقصد معصيته شفقة على اهلك، لأن الله تعالى يقول: (النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَ اخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللّهِ الْغَرُورُ).

يا ابن مسعود: احذر الدنيا ولذاتها وشهواتها وزينتها واكل الحرام والذهب والفضة والركب والنساء، فإنه سبحانه يقول: (زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ

ص: 253

اَلشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ اللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ وَ اللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ).

يا ابن مسعود: لا تغترن بالله ولا تغترن بصلاحك وعلمك وعملك وبرك وعبادتك.

يا ابن مسعود: اذا تلوت كتاب الله تعالى فأتيت على آية فيها امر ونهي فرددها نظرا واعتبارا فيها ولا تسه عن ذلك، فان نهيه يدل على معاصي وامره يدل على عمل البر والصلاح، فإن الله تعالى يقول: (إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ).

يا ابن مسعود: لا تحقرن ذنبا ولا تصغرنه واجتنب الكبائر، فإن العبد اذا نظر يوم القيامة الى ذنوبه دمعت عيناه قيحا ودما، يقول الله تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً).

يا ابن مسعود: اذ قيل لك: اتق الله فلا تغضب، فإنه يقول: (وَ إِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ).

يا ابن مسعود قصر املك، فاذا اصبحت فقل: (اني لا امسي)، واذا امسيت فقل: (اني لا اصبح) واعزم على مفارقة الدنيا واحب لقاء الله ولا تكره لقاءه، فان الله يحب لقاء من يحب لقاءه ويكره لقاء من يكره لقاءه.

ص: 254

يا ابن مسعود: لا تغرس الاشجار ولا تجر الأنهار ولا تزخرف البنيان ولا تتخذ الحيطان والبستان، فإن الله تعالى يقول: (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ).

يا ابن مسعود: والذي بعثني بالحق ليأتي على الناس زمان يستحلون الخمر ويسمونه النبيذ. عليهم لعنة الله و الملائكة والناس اجمعين انا منهم بريء وهم مني براء.

يا ابن مسعود: الزاني بامه اهون عند الله ممن يدخل في ماله من الربا مثقال حبة من خردل. ومن شرب المسكر قليلا كان او كثيرا فهو اشد عند الله من آكل الربا، لأنه مفتاح كل شر.

يا ابن مسعود: اولئك يظلمون الأبرار ويصدقون الفجار (والفسقة)، الحق عندهم باطل والباطل عندهم حق حق هذا كله للدنيا وهم يعلمون انهم على غير حق ولكن زين لهم الشيطان اعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون، (رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ اطْمَأَنُّوا بِها وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ، أُولئِكَ مَأْواهُمُ النّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).

يا ابن مسعود: قال تعالى: (وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ، حَتّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ).

يا ابن مسعود: انهم ليعيبون على من يقتدي بسنتي وفرائض الله، قال الله تعالى: (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ، إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ).

ص: 255

يا ابن مسعود: احذر سكر الخطيئة، فان للخطيئة سكرا كسكر الشراب بل هي اشد سكرا منه، يقول الله تعالى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) . و يقول: (إِنّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً، وَ إِنّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً).

يا ابن مسعود: الدنيا ملعونة، ملعون من فيها وملعون من طلبها واحبها ونصب لها، وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ، وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ) . وقوله تعالى: (كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ).

يا ابن مسعود: اذا عملت عملا فاعمله لله خالصا، لانه لا يقبل من عباده الاعمال الا ما كان له خالصا، فانه يقول: (وَ ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى، إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى، وَ لَسَوْفَ يَرْضى).

يا ابن مسعود: دع نعيم الدنيا واكلها وحلاوتها وحارها وباردها ولينها وطيبها الزم نفسك الصبر عنها، فانك مسؤول عن هذا كله، قال الله تعالى: (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ).

يا ابن مسعود: لا تلهينك الدنيا وشهواتها، فان الله تعالى يقول: (أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ).

يا ابن مسعود: اذ عملت عملا من البر وانت تريد بذلك غير الله فلا ترج بذلك منه ثوابا، فانه يقول: (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً).

يا ابن مسعود: اذا مدحك الناس فقالوا: انك تصوم النهار وتقوم الليل

ص: 256

وانت على غير ذلك فلا تفرح بذلك، فان الله تعالى يقول: (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

يا ابن مسعود: اكثر من الصالحات والبر، فان المحسن والمسيء يندمان، يقول المحسن: يا ليتني ازددت من الحسنات. و يقول المسيء: قصرت، وتصديق ذلك قوله تعالى: (وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوّامَةِ).

يا ابن مسعود: لا تقدم الذنب ولا تؤخر التوبة ولكن قدم التوبة واخر الذنب فان الله تعالى يقول في كتابه: (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ).

يا ابن مسعود: اياك ان تسن سنة بدعة، فان العبد اذا سن سنة سيئة لحقه وزرها ووزر نمعمل بها، قال الله تعالى: (وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ). وقال سبحانه: (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ).

يا ابن مسعود: لا تركن الى الدنيا ولا تطمئن اليها فستفارقها عن قليل، فان الله تعالى يقول: (أَ تُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ فِي جَنّاتٍ وَ عُيُونٍ وَ زُرُوعٍ وَ نَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ).

يا ابن مسعود: تذكر القرون الماضية والملوك الجبابرة الذين مضوا، فان الله تعالى يقول: (وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ أَصْحابَ الرَّسِّ وَ قُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً).

يا ابن مسعود: اياك والذنب سرا وعلانية، صغيرا و كبيرا، فان الله تعالى حيثما كنت يراك و (هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ).

ص: 257

يا ابن مسعود: اتق الله في السر والعلانية والبر والبحر و الليل و النهار، فانه يقول: (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا).

يا ابن مسعود: اتخذ الشيطان عدوا، فان الله تعالى يقول: (ان الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا). و يقول عن ابليس: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) . و يقول: (فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ، لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ).

يا ابن مسعود: لا تأكل الحرام ولا تلبس الحرام ولا تاخذ من الحرام ولا تعص الله، لان الله تعالى يقول لإبليس: (وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ وَ عِدْهُمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاّ غُرُوراً) . وقال: (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللّهِ الْغَرُورُ).

يا ابن مسعود: خف الله في السر والعلانية، فان الله تعالى يقول: (وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) ولا تؤثرن الحياة الدنيا على الاخرة باللذات والشهوات، فإنه تعالى يقول في كتابه: (فَأَمّا مَنْ طَغى، وَ آثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) يعني الدنيا الملعونة والملعون ما فيها الا ما كان لله.

يا ابن مسعود: لا تخونن احدا في مال يضعه عندك او أمانة ائتمنك عليها، فان الله تعالى يقول: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها).

ص: 258

يا ابن مسعود: لا تتكلم بالعلم الا بشيء سمعته ورأيته، فان الله تعالى يقول: (وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً). وقال (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَ يُسْئَلُونَ) . وقال: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ، ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) .. وقال: (وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ).

يا ابن مسعود: لا تهتم للرزق، فانالله تعالى يقول: (وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاّ عَلَى اللّهِ رِزْقُها). وقال: (وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ). وقال: (وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ).

يا ابن مسعود: والذي بعثني بالحق [نبيا] ان من يدع الدنيا ويقبل على تجارة الآخرة، فان الله تعالى يتجر له من وراء، قال الله تعالى: (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ).

فقال ابن مسعود: بابي انت وامي يا رسول الله كيف لي بتجارة الآخرة؟ فقال (صلى الله عليه واله وسلم): لا تريحن لسانك عن ذكر الله، و ذلك ان تقول: (سبحان الله والحمد لله و لا اله الا الله و الله اكبر) فهذه التجارة المربحة. وقال الله تعالى: (يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ).

يا ابن مسعود: كل ما ابصرته بعينك واستخلاه قلبك فاجعله لله فذلك تجارة الآخرة، لان الله يقول: (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللّهِ باقٍ).

ص: 259

يا ابن مسعود: اذا تكلمت بلا اله الا الله ولم تعرف حقها فانه مردود عليك. ولا يزال يقول: لا اله الا الله الى ان يرد غضب اله عنالعباد حتى اذا لم ينالوا ما ينقص من دينهم بعد اذ سلمت دنياهم، يقول الله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ).

يا ابن مسعود: احب الصالحين ن فان المرء مع من احب، فان لم تقدر على اعمال البر فاحب العلماء، فانه يقول: (مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً).

يا ابن مسعود: اياك ان تشرك بالله طرفة عين وان نشرت بالمنشار او قطعت او صلبت او احرقت بالنار، يقول الله تعالى: (وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

يا ابن مسعود: اصبر مع الذين يذكرون الله ويسبحونه ويهللونه ويحمدونه ويعملون بطاعته ويدعونه بكرة وعشيا، فان الله تعالى يقول: (وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ).

يا ابن مسعود: لا تختر على ذكر الله شيئا، فان الله يقول: (وَ لَذِكْرُ اللّهِ أَكْبَرُ). و يقول: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ). و يقول: (وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ) و يقول: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ).

ص: 260

يا ابن مسعود: عليك بالسكينة و الوقار وكن سهلا لينا عفيفا مسلما تقيا نقيا بارا طاهرا مطهرا صادقا خالصا سليما صحيحا لبيبا صالحا صبورا شكورا مؤمنا ورعا عابدا زاهدا رحيما عالما فقيها، يقول الله تعالى: (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوّاهٌ مُنِيبٌ) . (وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً، وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً) ، (وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً) ، (وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) ، وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً ، وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً ، أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَ سَلاماً ، خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً).

وقال الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ، وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ، وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ، إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ، وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ، وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ، أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ، اَلَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) . وقال الله تعالى: (أُولئِكَ فِي جَنّاتٍ مُكْرَمُونَ). وقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ (إلى قوله) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ).

يا ابن مسعود: لا تحملنك الشفقة على أهلك وولدك على الدخول

ص: 261

في المعاصي والحرام، فإن الله تعالى يقول: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ، إِلاّ مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ). وعليك بذكر الله والعمل الصالح، فإن الله تعالى يقول: (وَ الْباقِياتُ الصّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ أَمَلاً).

يا ابن مسعود: لا تكونن ممن يهدي الناس إلى الخير ويأمرهم بالخير وهو غافل عنه، يقول الله: (أَ تَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ).

يا ابن مسعود: عليك بحفظ لسانك، فإن الله تعالى يقول: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).

يا ابن مسعود: عليك بإصلاح السريرة، فإن الله تعالى يقول: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ، فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لا ناصِرٍ).

يا ابن مسعود: إحذر يوما تنشر فيه الصحائف وتظهر فيه الفضائح، فإنه تعالى يقول: (وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ).

يا ابن مسعود: اخش الله بالغيب كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، و يقول الله تعالى: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ، اُدْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ).

يا ابن مسعود: أنصف الناس من نفسك وانصح الامة وارحمهم، فإذا كنت كذلك وغضب الله على أهل بلدة أنت فيها وأراد أن ينزل عليهم العذاب نظر إليك فرحمهم بك، يقول الله تعالى: (وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ).

ص: 262

يا ابن مسعود: إياك أن تظهر من نفسك الخشوع والتواضع للادميين وأنت فيما بينك وبين ربك مصر على المعاصي والذنوب، يقول الله تعالى: (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَ ما تُخْفِي الصُّدُورُ).

يا ابن مسعود: لا تكن ممن يشدد على الناس ويخفف عن نفسه، يقول الله تعالى: (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ).

يا ابن مسعود: إذا عملت عملا فاعمل بعلم وعقل، وإياك و أن تعمل عملا بغير تدبر وعلم، فإنه جل جلاله يقول: (وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً).

يا ابن مسعود: عليك بالصدق ولا تخرجن من فيك كذبة أبدا وأنصف الناس من نفسك وأحسن، وادع الناس إلى الاحسان، وصل رحمك، ولا تمكر بالناس، وأوف الناس بما عاهدتهم، فإن الله تعالى يقول: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

ص: 263

ص: 264

مصادر التحقيق وتخريج الاحاديث

1 - إبن طيفور، أحمد بن أبي طاهر، بلاغات النساء، دار الشريف الرضي، قم، توفي سنة 363 ه -.

2 - الأهوازي، الحسين بن سعيد، الزهد، الناشر السيد أبو الفضل حسينيان، الطبعة الثانية، 1402 ه -.

3 - الإحسائي، إبن أبي جمهور، عوالي اللآلي، دار سيد الشهداء للنشر، قم، الطبعة الأولى، 1405 ه -، توفي في القرن العاشر للهجرة.

4 - الأميني، عبد الحسين أحمد، الغدير، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، إيران - قم المقدسة، الطبعة الأولى المحققة، 1416 ه -- 1995 م.

5 - أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب (عليه السلام)، نهج البلاغة، مؤسسة الوفاء، بيروت - لبنان، الطبعة الرابعة، 1404 ه -، استشهد في سنة 40 ه -.

6 - الإسكافي، محمد بن همام، التمحيص، مدرسة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، قم، الطبعة الأولى، 1404 ه -، توفي في سنة 336 ه -.

7 - الأسترآبادي، شرف الدين، تأويل الآيات الظاهرة، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم، الطبعة الأولى، 1409 ه -، المتوفي سنة 940 ه -.

ص: 265

8 - الإربلي، علي بن عيسى، كشف الغمة، مكتبة بني هاشمي، تبريز، 1381 ه -، توفي سنة 693 ه -.

9 - البهائي، محمد بن الحسين، مفاتح الفلاح، دار الأضواء، بيروت، الطبعة الأولى، 1405 ه -، توفي سنة 1030 ه -.

10 - البرقي، أحمد بن محمد، المحاسن، دار الكتب الإسلامية، قم، الطبعة الثانية، 1371 ه -، توفي في سنة 274 ه -.

11 - الجزائري، نعمة الله، قصص الأنبياء (عليهم السلام) للسيد الجزائري، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم، 1404 ه -، توفي في سنة 1112 ه -.

12 - الديلمي، الحسن بن أبي الحسن، أعلام الدين، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام)، قم، الطبعة الأولى، 1408 ه -، توفي في سنة 841 ه -.

13 - الديلمي، الحسن بن أبي الحسن، إرشاد القلوب، دار الشريف الرضي للنشر، الطبعة الأولى، 1412 ه -، توفي سنة 841 ه -.

14 - الهلالي، سليم بن قيس، كتاب سليم بن قيس، دار الهادي، قم، الطبعة الأولى، 1415 ه -، توفي سنة 80 ه -.

15 - ورام، إبن أبي فراس، مجموعة ورام، مكتبة الفقيه، قم، طبقاً لنسخة دار التعارف في بيروت المطبوعة في سنة 1376 ه -، توفي سنة 605 ه -.

16 - الحلي، إبن بطريق يحيى بن الحسن، العمدة، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم، 1407 ه -، توفي سنة 600 ه -.

ص: 266

17 - الحلي، إبن نما، مثير الأحزان، مدرسة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، قم، الطبعة الثالثة، 1406 ه -، توفي في سنة 645 ه -.

18 - الحلي، أحمد بن فهد، عدة الداعي، دار الكتاب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1407 ه -، توفي في سنة 841 ه -.

19 - الحلي، الحسن بن يوسف، نهج الحق، مؤسسة دار الهجرة، قم، الطبعة الأولى 1407 ه -، توفي سنة 726 ه -.

20 - الحلي، الحسن بن يوسف، رجال العلامة الحلي، دار الذخائر، قم، 1411 ه -، صُورت هذه النسخة طبقاً للطبعة الثانية للمكتبة الحيدرية في النجف الأشرف، المطبوعة في سنة 1381 ه -، توفي سنة 726 ه -.

21 - الحلي، علي بن طاووس، الطرائف، مطبعة الخيام، قم، 1400 ه -، توفي في سنة 664.

22 - الحلي، علي بن طاووس، فلاح السائل، مكتبة الإعلام الإسلامي في الحوزة العلمية، قم، توفي في سنة 664 ه -.

23 - الحلي، علي بن طاووس، اللهوف، دار العالم (جهان) للنشر، طهران، 1348 ه -. ش.

24 - الحلي بن طاووس، الإقبال بالأعمال الحسنة، دار الكتب الإسلامية طهران، الطبعة الثانية، 1367 ه -، توفي سنة 66 ه -.

25 - الحلي، علي بن طاووس، التحصين لأسرار مازاد من أخبار كتاب اليقين، مؤسسة دار الكتاب، قم، الطبعة الأولى، 1413 ه -، المتوفي سنة 664 ه -.

ص: 267

26 - الحلي، علي بن طاووس، سعد السعود، دار الذخائر، قم، طبقاً لنسخة مطبوعة في النجف الأشرف سنة 1369 ه -، توفي سنة 664 ه -.

27 - الحسكاني، عبيد الله، شواهد التنزيل، مؤسسة النشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، الطبعة الأولى، 1411 ه -.

28 - الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، قم، الطبعة الأولى، 1409 ه -، توفي في سنة 1104 ه -.

29 - الحراني، أبو محمد الحسن بن علي، تحف العقول، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم، الطبعة الثانية، 1404 ه -، توفي في القرن الرابع للهجرة.

30 - الطبري، محمد بن جرير، دلائل الإمامة، دار الذخائر للمطبوعات، قم، صُورت هذه النسخة طبقاً لنسخة المكتبة الحيدرية في النجف الأشرف، المطبوعة في سنة 1383 ه -.

31 - الطبري، عماد الدين، بشارة المصطفى لشيعة المرتضى، المكتبية الحيدرية النجف الأشرف، الطبعة الثانية، 1383 ه -، توفي بعد سنة 553 ه -.

32 - الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن، إعلام الورى، دار الكتب الإسلامية، قم، الطبعة الثالثة، توفي سنة 548 ه -.

33 - الطبرسي، الحسن بن الفضل، مكارم الأخلاق، دار الشريف الرضي، الطبعة الرابعة، 1412 ه -، توفي في القرن السادس للهجرة.

ص: 268

34 - الطوسي، أبو جعفر، تهذيب الأحكام، دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الرابعة، 1365 ه -. ش، توفي سنة 460 ه -.

35 - الطوسي، أبو جعفر، الأمالي، دار الثقافة للنشر، قم، الطبعة الأولى، 1411 ه -، توفي سنة 460 ه -.

36 - الكوفي، محمد بن محمد الأشعث، الجعفريات، مكتبة نينوى الحديثة، طهران.

37 - الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الرابعة، 1365 ه -. ش. توفي في سنة 329 ه -.

38 - الكراجكي، أبو الفتح محمد بن علي، كنز الفوائد، دار الذخائر، قم، الطبعة الأولى، 1410 ه -، توفي في سنة 449 ه -.

39 - الكراجكي، أبو الفتح محمد بن علي، معدن الجواهر، المكتبة الرضوية، طهران، الطبعة الثانية، 1394 ه -، توفي سنة 449 ه -.

40 - الكراجكي، أبو الفتح، كنز الفوائد، دار الذخائر، قم، الطبعة الأولى، 1410 ه -، توفي في سنة 449 ه -.

41 - الكشي، محمد بن عمر، رجال الكشي، مؤسسة النشر في جامعة مشهد، 1348 ه -، توفي في حدود سنة 350 ه -.

42 - المازندراني، محمد بن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب، مؤسسة العلامة للنشر، قم، 1379 ه -، توفي سنة 588 ه -.

43 - المازندراني، محمد بن شهرآشوب، متشابه القرآن، دار بيدار للنشر، 1369 ه -، توفي في سنة 588 ه -.

ص: 269

44 - المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، بيروت - لبنان، الطبعة الرابعة، 1404 ه -، توفي في سنة 1110 ه -.

45 - المحدث النوري، حسين، مستدرك الوسائل، مؤسسة آل لإحياء التراث، قم، الطبعة الأولى، 1408 ه -، توفي في سنة 1320 ه -.

46 - المعتزلي، إبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم، طبقاً للطبعة الثانية التي نشرتها دار إحياء الكتب العربية والتي تمت طباعتها سنة 1387 ه -، توفي في سنة 656 ه -

47 - المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد، المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد، قم، الطبعة الأولى، 1413 ه -، توفي سنة 413 ه -.

48 - المفيد، محمد بن محمد، المسائل العكبرية، المؤتمر العلمي لألفية الشيخ المفيد، قم، الطبعة الأولى، 1413 ه -، توفي في سنة 413 ه -.

49 - المفيد، محمد بن محمد، الأمالي، المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد، قم، الطبعة الثانية، 1413 ه -، توفي في سنة 413 ه -.

50 - المفيد، محمد بن محمد، الاختصاص، المؤتمر العلمي لألفية الشيخ المفيد، قم، الطبعة الأولى، 1413 ه -، توفي سنة 413 ه -.

51 - المفيد، محمد بن محمد، الحكايات، المؤتمر العلمي لألفية الشيخ المفيد، قم، الطبعة الأولى، 1413 ه -، توفي سنة 413 ه -.

52 - العاملي، زين الدين بن علي، منية المريد، مكتب الإعلام الإسلامي الحوزة العلمية، قم، الطبعة الأولى، 1409 ه -. استشهد في سنة 966 ه -.

ص: 270

53 - العياشي، محمد بن مسعود، تفسير العياشي، المطبعة العلمية، طهران، 1380 ه -، توفي سنة 320 ه -.

54 - الفتال، محمد بن الحسن، روضة الواعظين، دار الرضي للنشر، قم، طبقاً لنسخة طُبعت سنة 1386 ه - في النجف الأشرف، توفي في سنة 508 ه -.

55 - الصادق، جعفر بن محمد (عليهما السلام)، مصباح الشريعة، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، الطبعة الأولى، 1400 ه -، أستشهد في سنة 148 ه -.

56 - الصدوق، محمد بن علي، الأمالي، المكتبة الإسلامية، الطبعة الرابعة المصححة 1404 ه -، توفي سنة 381 ه -.

57 - الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، دار العالم للنشر (جهان)، 1378 ه -، توفي سنة 381 ه -.

58 - الصدوق، محمد بن علي، معاني الأخبار، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم، 1403 ه -، توفي سنة 381 ه -.

59 - الصدوق، محمد بن علي، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم، الطبعة الثالثة، توفي في سنة 381 ه -.

60 - الصدوق، محمد بن علي، صفات الشيعة، دار الأعلمي، طهران، توفي في سنة 381 ه -.

ص: 271

61 - الصدوق، محمد بن علي، الخصال، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم، الطبعة الثانية، 1403 ه -، توفي في سنة 381.

62 - الصدوق، محمد بن علي، فضائل الأشهر الثلاثة، مكتبة الداوري، قم، طبقاً للطبعة الثانية للكتاب التي طُبعت سنة 1397 ه - من قِبَل مطبعة الآداب في النجف الأشرف، توفي سنة 381 ه -.

63 - الصدوق، محمد بن علي، علل الشرائع، مكتبة الداوري، قم، طبقاً لنسخة المكتبة الحيدرية في النجف الأشرف، المطبوعة في سنة 1386 ه -، توفي في سنة 381 ه -.

64 - الصدر، محمد، خطب صلاة الجمعة في مسجد الكوفة المعظم، استشهد في 3 ذي القعدة 1419 ه -.

65 - الصفار، محمد بن الحسن، بصائر الدرجات، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، الطبعة الثانية، 1404 ه -، توفي سنة 290 ه -.

66 - القمي، علي بن إبراهيم، تفسير القمي، مؤسسة دار الكتاب، قم، الطبعة الثالثة، 1404 ه -.

67 - الراوندي، قطب الدين، الخرائج والجرائح، مؤسسة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، قم، الطبعة الأولى، 1409 ه -، توفي سنة 573 ه -.

68 - الراوندي، قطب الدين، قصص الأنبياء (عليهم السلام) للرواندي، مؤسسة

ص: 272

البحوث الإسلامية في الأستانة الرضوية، مشهد المقدسة، الطبعة الأولى 1409 ه -.

69 - الرضا، الإمام علي بن موسى (عليهما السلام)، صحيفة الإمام الرضا (عليه السلام)، المؤتمر العالمي للإمام الرضا (عليه السلام)، الطبعة الأولى، 1406 ه -، أُستشهد سنة 203 ه -.

70 - الرضي، أبو الحسن محمد بن الحسين، خصائص الأئمة (عليهم السلام)، مجمع البحوث الإسلامية التابع للأستانة الرضوية، مشهد المقدسة، الطبعة الأولى، 1406 ه -، توفي في سنة 406 ه -.

71 - العاملي، زين الدين بن علي، مسكن الفؤاد، مكتبة بصيرتي، قم، الطبعة الحجرية، وقد كتبها محمد صادق التويسركاني، وأتمها في سنة 1310 ه -، أستشهد في سنة 996 ه -.

72 - العسكري، الإمام الحسن بن علي (عليهما السلام)، تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)، مدرسة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، الطبعة الأولى، 1409 ه -، استشهد في سنة 260 ه -.

ص: 273

ص: 274

الفهرس

حاجتنا الى الاسوة الحسنة... 7

مقومات نجاح رسالة الاسلام... 7

لا قيمة للعلم اذا لم يقترن بالعمل... 10

نتائج تطبيق الرسالة الإسلامية... 11

اهمية الاسوة الحسنة... 14

الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) خير اسوة... 15

مسؤوليتنا اليوم اضخم من الماضي.... 16

الحرب التي يعيشها الاسلام اليوم... 20

علينا ان لا نتبوء موقعنا الا بجدارة...... 22

دراسة سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كقائد ومصلح... 23

مقارنة بين حال العرب قبل الاسلام وبعدة... 26

قلة المصادر التي كتبت في السيرة من مدرسة اهل البيت (عليهم السلام)... 38

القرآن هو المصدر الرئيسي لدراسة سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم)... 44

تصنيف الدراسة... 44

المحور الاول: في بناء الذات

اساس البناء المعرفة بالله تبارك وتعالى.... 49

الالتفات الى العلل اهم من المعلولات.... 57

ص: 275

عودة الى الحديث عن المعرفة بالله تبارك وتعالى... 61

خصائص نفسية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)..... 66

صفات القائد الرسالي المبنية على المعرفة بالله تبارك وتعالى..... 69

الصفة الاولى: التذكر الدائم لقدرة الله عليه والتصرف بحالة... 69

الصفة الثانية: الاعراض عن زخارف الدنيا... 74

الصفة الثالثة: المبدأية...... 77

الصفة الرابعة: سعة الصدر....... 80

الصفة الخامسة: التواضع.... 87

الصفة السادسة: الرحمة ورقة القلب..... 90

الصفة السابعة: الاحساس الوجداني بالتسديد الالهي... 94

الصفة الثامنة: الحياة في ظل القرآن.... 101

الصفة التاسعة: التحلي بالاخلاق الفاضلة..... 107

الصفة العاشرة: قوة العاطفة... 113

الصفة الحادية عشرة: الابوية... 119

الصفة الثانية عشرة: عدم خلق المبررات... 120

الصفة الثالث عشرة: الحذق والفراسة.... 121

الصفة الرابع عشرة: الالتفات وعدم الغفلة... 125

الصفة الخامس عشرة: عدم الاغترار بالمنصب والجاه... 129

الصفة السادس عشرة: النجاح في اجتياز الابتلاءات التي لا بد منها.. 133

المحور الثاني: في سياسة الامة

كيف خطط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

للخلافة من بعده......... 155

ماذا خسرت الامة حينما ولت امرها من لا يستحق... 181

الملاحق

الملحق الاول: وصايا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لابي ذر... 205

الملحق الثاني: وصايا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعبد الله بن مسعود... 231

ص: 276

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.