المشورة في فكر الإمام علي (عليه السلام) عهد مالك الأشتر (رحمه الله) أنموذجاً

هوية الکتاب

رقم إيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 1881 لسنة 8102 مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف LC:

BP38.09.S5 A25 2018 المؤلف الشخصي: العابدي، عقيل عبد الله. مؤلف.

العنوان: المشورة في فكر الإمام علي (عليه السلام) عهد مالك الأشتر (رضي الله عنه) انموذجا / بيان المسؤولية: تأليف أ. م. د. عقيل عبد الله العابدي.

بيانات الطبع: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: العراق، كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة. الوصف المادي: 115 صفحة: 15 X 21 سم.

سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة ، 428). سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة، 132 وحدة الدراسات الاجتماعية، سلسلة دراسات في عهد الامام علي (ع) لمالك الأشتر (ره)؛ 36). تبصرة ببليوجرافية: يتضمن هوامش. موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة - عهد مالك الأشتر شرح. موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - ساسته وحكومته. مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الإسلام.

مصطلح موضوعي: الشورى (اسلام). اسم هيأة إضافي: العتبة الحسينية المقدسة. مؤسسة علوم نهج البلاغة. جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية المقدسة

ص: 1

اشارة

رقم إيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 1881 لسنة 8102 مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف LC:

BP38.09.S5 A25 2018 المؤلف الشخصي: العابدي، عقيل عبد الله. مؤلف.

العنوان: المشورة في فكر الإمام علي (عليه السلام) عهد مالك الأشتر (رضي الله عنه) انموذجا / بيان المسؤولية: تأليف أ. م. د. عقيل عبد الله العابدي.

بيانات الطبع: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: العراق، كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة. الوصف المادي: 115 صفحة: 15 X 21 سم.

سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة ، 428). سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة، 132 وحدة الدراسات الاجتماعية، سلسلة دراسات في عهد الامام علي (ع) لمالك الأشتر (ره)؛ 36). تبصرة ببليوجرافية: يتضمن هوامش. موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة - عهد مالك الأشتر شرح. موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - ساسته وحكومته. مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الإسلام.

مصطلح موضوعي: الشورى (اسلام). اسم هيأة إضافي: العتبة الحسينية المقدسة. مؤسسة علوم نهج البلاغة. جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية المقدسة

ص: 2

سلسلة دراسات في عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر(رضی عنه الله) (36) وحدة الدراسات الاجتماعية المشورة في فكر الإمام علي (علیه السلام) عهد مالك الأشتر (رحمه الله) أنموذجاً تأليف أ. م. د. عقيل عبد الله العابدي اصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية القديمة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة العتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1439 ه - 2018 م العراق - كربلاء المقدسة - مجاور مقام علي الأكبر عليه السلام مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف: 07728243600 - 07815016633 الموقع الألكتروني:

www.inahj.org الإيميل:

Info@ Inahj.org تنویه:

إن الأفکار والآراء المذکور في هذا الکتاب تعبر عن وجهة نظر کاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المؤسسة

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بها ألهم والثناء بما قدم من عموم نعمٍ ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين محمد و آله الطاهرین.

أما بعد:

فإن من أبرز الحقائق التي ارتبطت بالعترة النبوية هي حقيقة الملازمة بين النص القرآني والنص النبوي ونصوص الأئمة المعصومين (علیهم السلام).

وإنّ خير ما يُرجع إليه في المصادیق لحَدیث

ص: 5

الثقلين «كتاب الله وعترتي أهل بيتي» هو صلاحية النص القرآني لكل الأزمنة متلازماً مع صلاحيّة النصوص الشريفة للعترة النبوية لكل الأزمنة.

وما كتاب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) لمالك الأشتر (رحمه الله) إلا أنموذجٌ واحدٌ من بين المئات التي زخرت بها المكتبة الإسلامية التي اكتنزت في متونها كثيراً من الحقول المعرفية مظهرة بذلك احتياج الإنسان إلى نصوص الثقلين في كل الأزمنة.

من هنا:

ارتأت مؤسسة علوم نهج البلاغة أن تخصص حقلاً معرفياً ضمن نتاجها المعرفي التخصصي في حياة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) وفكره، متّخذة من عهده الشريف إلى مالك الأشتر (رحمه الله) مادة خصبة للعلوم الإنسانية

ص: 6

التي هي من أشرف العلوم ومدار بناء الإنسان وإصلاح متعلقاته الحياتية وذلك ضمن سلسلة بحثية علمية موسومة ب(سلسلة دراسات في عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر (رحمه الله)، التي تصدر بإذن الله تباعاً، حرصاً منها على إثراء المكتبة الإسلامية والمكتبة الإنسانية بتلك الدراسات العلمية والتي تهدف إلى بيان أثر هذه النصوص في بناء الإنسان والمجتمع والدولة متلازمة مع هدف القرآن الكريم في إقامة نظام الحياة الآمنة والمفعمة بالخير والعطاء والعيش بحرية وكرامة.

وكان البحث الموسوم ب(المشورة في فكر الإمام علي (عليه السلام) عهد مالك الأشتر أنموذجاً) ليكشف عن أهمية السؤال في تسديد الأمور وقد تبلور ذلك في عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر (رحمه الله) ليؤسس لهذا المبدء الناجح في

ص: 7

تأليف القلوب ووضوح الأمر مع بيان صفات المستشار الذي يُعتمد.

فجزى الله الباحث خير الجزاء فقد بذل جهده وعلى الله أجره، والحمد لله رب العالمين.

السيد نبيل الحسني الكربلائي رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 8

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

كثيرة هي المفردات الحضارية التي أكّد على ضرورتها المنطق العقلي والشرع الإسلامي، ومنها المشورة فهي عرف دأب العرب على ممارسته في حياتهم العامة، لما له من أهمية في الحياة العامة على وجه العموم والحياة السياسية على وجه الخصوص، وتعززت مكانة ذلك العرف أكثر حينها ظهر الإسلام وعلم بحقيقة ما يتمخض عنه من تسديد الآراء وتأليف القلوب ومعرفة ما يدور في أذهان العقول، حينها أقره وحث الحكام على ممارسته تحت صورة التكافل الفكري والتضامن الاجتماعي بين المسلمين، وممن أكَّد على تحقيقه والعمل بها

ص: 9

بعد النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) وصيّه الإمام علي (علیه السلام)، فقد أشار إلى المشورة في مناسبات عديدة ومنها عهده لمالك الأشتر (رحمه الله)، لأهميتها في إنصاف حقوق الرعية وتعزيز حكم الشرع، وإشارته في العهد لم تكن موجهة لمالك (رحمه الله) فحسب؛ بل كانت موجهة لجميع الحكام، لحثهم على العمل بها وتحذيرهم من مغبة الصفات الذميمة التي يحملها بعض المستشارون في مشوراتهم للحكام، لاسيما وأنّ لتلك الصفات انعكاسات سلبية على واقع القرارات الصادرة للرعية.

ممّا سبق تتضح جلياً أهمية الموضوع، ومما دعانا إلى دراسته قلة الدراسات المتوفرة عنه إلى جانب حيويته، فالمشورة تكون بمثابة الروح التي تبعث الاستقرار والازدهار إلى الحياة العامة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.

لقد اقتضت طبيعة الموضوع جعله في ستة

ص: 10

محاور تتقدمها مقدمة وتتأخر عنها خاتمة، المحور الأول كان بعنوان المشورة لغةً واصطلاحاً، وخُصِّص لتعريف المشورة لغة واصطلاحاً، المحور الثاني عُنْوِن بالمشورة في مصادر التشريع الإسلامي، وبحث بيان أثر المشورة في القرآن الكريم والسنَّة النبوية الشريف، المحور الثالث اتخذ عنوان المشورة عند الإمام علي (علیه السلام) في عهده المالك الأشتر(رحمه الله)، وتناول بحث المشورة في فكر الإمام علي (علیه السلام)، المحور الرابع عُنوِن الأئمة (علیه السلام) والحكماء الذين وافقوا الامام علي (علیه السلام) في طروحاته حول المشورة، وتضمن بحث اقوالهم التي وافقت فکر الامام علي (علیه السلام) في المشورة، أمّا المحور الخامس فقد اتّخذ عنوان أهل المشورة والموضوعات التي يتشاورون بها، وبحث حكم الفقه الاسلامي من أهل المشورة إن كانوا مسلمين أو غير مسلمين، فضلا عن الموضوعات التي يحق لهم التشاور بها.

ص: 11

اولاً: مفهوم المشورة لغة واصطلاحاً:

المشورة لغةً:

إذا رجعنا إلى معاجم اللغة العربية لبحث مدلول كلمة المشورة نجد أن كلمة المشورة أو الشورى أو المشاورة أو الاستشارة ما هي إلا مصادر مأخوذة من الفعل شور أو شار، الذي يعني في معناه العام الاستخراج أو الاستظهار في الأمر، قيل: طلبت رأيه، أي: استخرجت ماعنده وأظهرته، وقيل: استشار أمره إذا تبين واستنار(1).

ص: 12


1- الأزهري، تهذيب اللغة، ج 11 / ص 277 - 278؛ الجوهري، الصحاح، ج 2 / ص 704 - 705؛ الزمخشري، أساس البلاغة، ج 1 / ص 340؛ ابن منظور، لسان العرب، ج 4 / ص 343 - 347؛ الرازي، مختار الصحاح، ص 185؛ الفيروز آبادي، القاموس المحيط، ج 2 / ص 65؛ الزبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس، ج / 7 ص 61 - 65

وقد استعمل العرب كلمة الشورى والمشورة في أكثر من موضع، فهي وردت للدلالة على استخراج العسل من مواضعه، قيل: شار العسل، أي: جناه من خلاياه ومواضعه، وكذلك جاءت بمعنی بیان هيئة الشخص وصورة لباسه، قيل: أقبل رجل وعليه شورة حسنة، أي: حسن الهيئة واللباس، وقيل أيضاً: فلان حسن المشوار، أي: حسن المنظر، ووردت أيضاً بمعنی تفحّص بدن الدابة عند الشراء والبيع، قيل: شرت الدابة أجريتها لتعرف قوتها، وقيل: شار الدابة بشورها، أي: إذا عرضها لتُباع، إلى جانب ما ورد جاءت كذلك بمعنى إظهار تجربة الشخص وقوة الرأي، قيل: حسن المشوار، أي: مُجرَّبَهُ حسن حين تجربة، وقيل: فلان جيد المشورة، أي: إذا ما وجّه الرأي(1).

ص: 13


1- الأزهري، تهذيب اللغة، ج 11 / ص 277 - 278؛ الجوهري، الصحاح، ج 2 / ص 704 - 705؛ ابن منظور، لسان العرب، ج 4 / ص 434 - 437؛ الرازي، مختار الصحاح، ص 185؛ الفيروز آبادي، القاموس المحيط، ج 2 / ص 65؛ الزبيدي، تاج العروس، ج 7 / ص 61 - 62

وتبعاً لذلك يمكن القول أن المشورة والشورى والمشاورة والاستشارة كلمات متقاربة في المعنى والمدلول، وإن تعددت الاستعمالات واختلفت، فجميعها تعني في مفهومها العام الاستخراج والاستظهار، وهذا في واقع الحال يصب في مصلحة المعنى الحقيقي الذي نبحث عنه في تعريفنا للمشورة من الناحية اللغوية.

المشورة اصطلاحا:

لا يختلف المعنى الاصطلاحي للمشورة عن المعنى اللغوي كثيراً، فهناك مجموعة تعريفات نجدها مبثوثة هنا وهناك تدور جميعها تقريباً

ص: 14

حول مفهوم استخراج واستظهار أراء الآخرين، بعد التعرف عليها وإمعان النظر فيها، فقال بعض العلماء أنها: ((استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض))(1)، وقال بعض آخر أنها: ((الاجتماع على الأمر، ليستشير كل واحد صاحبه، ويستخرج ما عنده))(2)، في حين ذهب بعض منهم على أنّها: ((المفاوضة في الكلام، ليظهر الحق))(3)، وعدّها فريق آخر: ((استخراج آراءهم (الأخرون) وإعلام ما عندهم))(4)، وعرفت كذلك بأنها: ((مطالعة ذي العقل

ص: 15


1- الميداني، مجمع الأمثال، ج 1 / ص 52؛ الآلوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، ج 25 / ص 46
2- ابن العربي، أحكام القرآن، ج 1 / ص 390
3- الطبرسی، مجمع البيان لعلوم القرآن، ج 9 / ص 57
4- الكفومي، الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، ج 1 / ص 542

الراجح))(1).

وكذلك عرفت اصطلاحاً عند المُحدَثين بأنها: ((استطلاع الرأي من ذوي الخبرة للتوصل إلى أقرب الأمور للحق))(2)، ووصفها آخرون بأنها: ((والمشورة ما ينصح به رأي وغيره))(3)وعدّها بعضهم بأنَّها: ((اجتماع أهل الرأي في مكان وتداولهم في الأمر النازل بهم، ليصدروا فيه عن رأي واحد))(4).

وذهب آخرون إلى أنها: ((عرض المعضلة

ص: 16


1- الماوردي، أدب الدنيا والدین، ص260 - 261
2- عبد الخالق، عبد الرحمن، الشورى في ظل نظام الحكم الإسلامي، ص 14؛ الأنصاري، عبد الحميد، الشورى وأثرها في الديمقراطية، ص 4
3- أنيس، إبراهيم وآخرون، المعجم الوسيط، ج 1 / ص 499
4- الفرفور، محمد، خصائص الفكر الإسلامي، ص 143

أو المعضلات في أمور الدنيا والدين، على الذين عرفوا بالتجربة العملية والرأي السديد، وسماع الآراء المختلفة، واستخلاص كل المناسب لتلك المعضلة أو المعضلات من تلك الآراء المعروضة والقرار على تنفيذ كل المناسب))(1)، وذهب بعضهم إلى القول بأنها: ((تبادل وجهات النظر وتقليب الآراء مع آخرين في موضوع محدد، للتوصل إلى الرأي الأصوب))(2).

ويتضح من هذه التعريفات أن المراد من المشورة من الناحية الاصطلاحية كما بينا سابقاً هو التداول مع الآخرين لمعالجة موضوع ما، بقصد استخراج واستخلاص رأي يكون سبيلاً للخروج بحلٍّ مناسب له.

ص: 17


1- الخطاب، محمود شیت، الشورى العسكرية في الإسلام، ص 865
2- ضياء الدين، حسن، الشورى في ضوء القرآن والسنة، ص 31

ثانياً: المشورة في مصادر التشريع الإسلامي:

المشورة في القرآن الكريم:

تبعاً للمكانة السامية التي تمتعت بها المشورة في التراث الإنساني والعربي(1)، بسبب أهميتها في

ص: 18


1- للمزيد ينظر: باقر، طه، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، ج 1 / ص 102؛ سليمان، عامر والفتيان، أحمد مالك، محاضرات في تاريخ العراق القديم، ص 84؛ کریمر، صموئيل، من ألواح سومر، ص 100، علي، جواد، المفصل في تاريخ العرب، ج 5 / ص 227؛ البكر، منذر عبد الكريم، دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام، ص 145 علي، جواد، المفصل في تاريخ العرب، ج 2، ص 108 - 109، ج 5 / ص 227؛ البكر، منذر عبد الكريم، دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام، ص 145؛ سالم، عبد العزيز، دراسات في تاريخ العرب، ص 105 - 106؛ عرفة، محمود، العرب قبل الإسلام، ص 114؛ مغنية، أحمد، تاریخ العرب القديم، ص 44؛ العسلي، خالد، دراسات في تاريخ العرب، ج 1 / ص 23؛ سليم، أحمد أمين، جوانب من تاريخ وحضارة العرب، ص 89؛ الحداد، محمد يحيي، تاريخ اليمن السياسي، ج 1 / ص 40

صنع القرارات السديدة التي تهم الرعية فقد أَولى الإسلام لها المكانة ذاتها في شريعته، وحرص على ممارستها وإيجادها في جميع شؤون الحياة، وممن نادی بذلك بعد النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) الإمام علي (علیه السلام)(1)، حيث أن الإمام (علیه السلام) مع القرآن: «والقرآن مع علي»(2)، على حدِّ قول النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) فإن القرآن الكريم الذي يكون بمثابة الدستور الذي اعتمده الإسلام في تنظيم حياة الإنسان قد أشغل حيزاً مهماً للمشورة بين صفوف سُوَره وآياته الكريمة، وذلك بشكل يناسب الأهمية التي حظيت بها في التراث الإنساني.

ص: 19


1- ينظر: خطب الإمام علي (علیه السلام)، نهج البلاغة، ج 3 / ص 87
2- الطبراني، المعجم الصغیر، ج 1، ص 255، الخوارزمي، المناقب، ص 177

لقد وردت المشورة بصيغة الشورى في القرآن الكريم في مواضع عدة وبصيغ مختلفة دلت على المعنى نفسه الذي ورد في اللغة وفي الاصطلاح، وسنذكر هذه المواضع مع بيان قول المفسِّرين فيها.

ففي ما يتعلق بذكر السور الواردة فيها لفظة الشورى بصريح العبارة تكون سورة الشورى(1)ممن يمثلها القرآن الكريم، وهي مكية(2)، عنوانها يبين مفهومها بوضوح.

أما ما يتعلق بالآيات التي ضمَّت بينها لفظة الشورى، فيأتي على رأسها قوله تعالى:

«فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ

ص: 20


1- سورة الشورى، آية: 42
2- مقاتل بن سلیمان، تفسير مقاتل، ج 3 / ص 172

وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ»(1)، قال الطوسي (ت 460 ه / 1067م) في معرض تفسيره للآية: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ»: ((وقيل في وجه مشاورة، النبي (صلی الله علیه وسلم) إي اهم (أصحابه) مع استغنائه بالوحي عن تعرف صواب الرأي من العباد ثلاثة أقوال: أحدهما على وجه التطيب النفوسهم والتأليف لهم، والرفع من أقدراهم إذ كانوا ممن يوثق بقوله: (ويرجع إلى رأيه)، والثاني: وجه ذلك لتقتدي به أمته بالمشاورة ولا يرونها منزلة نقيصة كما مدحوا بأن أمرهم شوری بینهم، والثالث: أنه للأمرين، لإجلال الصحابة واقتداء الأمة به في ذلك))(2).

ص: 21


1- سورة آل عمران، آية: 159
2- التبيان في تفسير القرآن، ج 3 / ص 30 - 32

هذا وقد أوضح الطوسي في تفسيره جواز الاستعانة برأي الصحابة في بعض أمور الدنيا، ممن لم ينزل به الوحي حكماً يذكر، کمکائد الحرب، r] بين في أثناء تعليله لبعض الأسباب التي كانت وراء حصول الشورى أنه مارسها ليمتحن بعض أصحابه ليميز الناصح منهم من الغاش(1).

وممن وافق هذا التفسير في أغلب مضامینه الطبرسي (ت 548 ه / 1153م))(2)، وابن الجوزي (ت 597 ه / 1200م)(3)، والقرطبي (ت671 ه / 1272م))(4)، والفيض الكاشاني،

ص: 22


1- التبيان، ج 3 / ص 30 - 32
2- تفسير جوامع الجامع، ج 1 / ص 343 - 344
3- زاد المسير في علم التفسير، ج 1 / ص 488
4- الجامع لأحكام القرآن، ج 4 / ص 252 - 253

(ت 1091 ه / 1680 م)(1)في تفسيرهم لهذه الآية المباركة، وإن اختلفوا في حكمها الشرعي إن كان وجوبياً أو استحبابياً(2).

أما الموضع الثاني الذي وردت فيه لفظة الشورى، ففي قوله تعالى: «وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ»(3)، ذكر الطبري (ت 310 ه / 922 م) في تفسيره للآية: «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ»، أفيها بين الله تعالى الصفات الواجب توفرها عند المؤمنين: ((أي إذا حزبهم أمر تشاوروا بينهم))(4)، g فسرها الطبرسي

ص: 23


1- التفسير الآصفي، ج 1 / ص 180
2- سنتطرق لمناقشة هذا الموضوع في المباحث القادمة من هذا الفصل
3- سورة الشورى، آية: 38
4- جامع البيان في تأويل القرآن، ج 25 / ص 48

بقوله: ((أي لا يتفردون بأمر حتى يشاوروا غيرهم فيه))(1)، أما الرازي (ت 6 60 ه / 1209 م) فتفسيره للآية يختلف في المضمون عما ذكره الطبري والطبرسي، يقول: ((إذا وقعت بينهم واقعة اجتمعوا وتشاوروا فأثنى الله عليهم، أي لا ينفردون برأي p بل مالم يجتمعوا عليه لا يقدمون عليه))(2).

وقد نزلت هذه الآية في الأنصار كما يذكر المفسرون، إذ كانوا إذا أرادوا أمراً قبل الإسلام، وقبل قدوم النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) اجتمعوا وتشاوروا، ثم عملوا عليه، فأثنى الله عليهم بذلك، وقيل هو في تشاورهم حين سمعوا بظهور النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) وورود النقباء عليه، حتی اجتمعوا في دار أبي

ص: 24


1- مجمع البیان، ج 9 / ص 56 - 57؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 64 / ص 265 - 266
2- التفسير الكبير، ج 23 / ص 177

أيوب (رحمه الله) على الإيمان به أو النصرة له(1).

ومن الآيات القرآنية الأخرى التي لمّحت إلى مفهوم الشوری قوله تعالى في سورة النمل، في ذكر ملكة سبأ(2)وقصتها مع النبي سلیمان (علیه السلام):

«قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ»(3)، قال الطوسي في تفسيره للاية: ((إنّ المرأة لمّا وقفت على كتاب سلیمان:

ص: 25


1- مجمع البیان، ج 5 / ص 56 - 57
2- مما يذكر في هذا الشأن إن القرآن الكريم لم يتعرض إلى اسمها، أما ما ذكره المفسرون بالقول بتسميتها بلقيس فقد جاء من باب الخلط بينها وبين بلقيس ابنة شرحبيل إحدى النساء اللواتي حكمن قومهن في اليمن، والمتتبع بدقة بين مدة حكم الأخيرة ومدة حكم النبي سليمان(علیه السلام) يجد فارقاً زمنياً كبيراً بين حكم الطرفين. ينظر: الطبري، جامع البيان، ج 19 / ص 185؛ السمعاني، تفسير السمعاني، ج 3 / ص 39؛ البغوي، تفسير البغوي، ج 3 / ص 413
3- سورة النمل، آية: 32

ووصَفَته.. وعرفتهم ما فيه قالت لأشراف قومها: أفتوني في أمري، أي أشيروا عليّ))(1).

والجدير بالذكر أن الإفتاء الذي طلبته ملكة سبأ من الملأ أي أهل الحل والعقد من قومها ما هو إلاّ لبيان الاستعانة برأيهم في أمر هام ألمَّ بهم؛ وذلك لمواجهته بشكل مقبول لا يخرج عن نطاق الحكمة، وقد حققت ذلك على الرغم من أن المشورة التي قُدمت إليها من قومها كانت تقضي باستعمال القوة لمواجهة نفوذ النبي سليمان (علیه السلام) المحدق، إذ اتجهت إلى رأي طمحت بواسطته إلى مواجهة ذلك الخطر بطريق دبلوماسي يقضي بكسب ود سليمان من خلال مراسلته وإبعاث الهدايا إليه، والخطوة التي تقدمت بها ملكة سبأ في معالجة الأمر إن دلت على شيء فإنما تدل على

ص: 26


1- التبيان، ج 8 / ص 93

أن المشورة في بعض الأحيان لم تكن ملزمة في التطبيق للمستشير إذا كانت ضعيفة في معالجة الواقع المشكل.

ويتضح مما سبق إنّ مفهوم المشورة الذي جاء بصيغة الشورى في القرآن الكريم بشكله الصريح وغير الصریح شغل مكانة مرموقة في القرآن الكريم، وهذا الأمر لم يأتِ اعتباطاً؛ بل جاء طبقاً للأهلية الكبيرة التي حظي بها في تنظيم الشؤون الحياتية المختلفة، لاسيما وأن القرآن الكريم حثّ على ضرورة تحسين الواقع الذي يعيشه الإنسان، من خلال الالتزام بتطبيق المبادئ والقيم التي جاءت بها الرسالة الإسلامية، والتي تكون المشورة واحدة من مفرداتها الحضارية، إذ إن اعتمادها من لدن أي جماعة يحملها على التفكير في إصلاح شؤونها المختلفة، بما يؤدي إلى تقدمها ورقيها.

ص: 27

المشورة في السنة النبوية الشريفة:

إنّ المتتبع لسيرة الإمام علي (علیه السلام) يجدها مرآة عاكسة لسيرة النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)، وسيرته (صلی الله علیه وسلم) كما هو معلوم ترجمة عملية لما ورد في القرآن الكريم من قيم وأفكار ومُثُل وأخلاق، وعلى ذلك الأساس إن تأكيد الإمام (علیه السلام) على المشورة في عهده لمالك الأشتر (رضی الله عنه)(1)يتوجب أن يكون لها أصل في سنة النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)، وبعد البحث وجدنا الأصل حاضر في تلك السنة، فكما يذكر أنّ المشورة كانت واحدة من القيم التي مارسها (صلی الله علیه وآله وسلم) قولاً وفعلاً في حركته(2)،

ص: 28


1- ينظر: خطب الامام علي (علیه السلام)، نهج البلاغة، ج 3 / ص 87
2- للاطلاع على بعض مشورات النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) والإمام علي (علیه السلام). ينظر: ابن هشام، السيرة، ج 2 / ص 302 و 447 - 448؛ الواقدي، المغازی، ج 1 / ص 44 - 45؛ ابن سعد، الطبقات، ج 2 / ص 14؛ الجاحظ، العثمانية، ص 56 - 57؛= = الطبري، تاریخ الرسل والملوك، ج 2 / ص 90 و 140؛ الطوسي، مجمع البیان، ج 4 / ص 432؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 14 / ص 112، الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 28 / ص 258؛ وينظر: المجلسي، بحار الأنوار، ج 76 / ص 190

وأكّد على تطبيقها لما فيها من أهمية على مستقبل المجتمع الإسلامي في جميع شؤونه، فهي نظام حکم، وشرعة دين، ومنهج حياة، وتكافل مجتمع.

لقد تعرضت السنة النبوية الشريفة للمشورة کما تعرض لها القرآن الكريم، وقد جاء ذلك في أحاديثه الشريفة المختلفة مع أهله (صلی الله علیه وسلم) وأصحابه (رضی الله عنه)، وللتعرف على ذلك يمكن لنا إيراد بعضها بالأقوال الآتية:

1 - حدیثه (صلی الله علیه وآله وسلم) لابن عمِّه الإمام علي (علیه السلام)

ص: 29

حين ولَّاه اليمن وهو يوصيه بالتزام المشورة في عمله بعدّها أساس النجاح في الإدارة والقيادة، روى الإمام علي (علیه السلام) عنه (صلی الله علیه وآله وسلم): ((لما ولّاني النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) على اليمن قال لي وهو يوصيني، یا علي ما حار مَن استخار ولا ندم مَن استشار))(1).

2 - حديثه (صلی الله علیه وآله وسلم) وهو يظهر المسؤولية الملقاة

ص: 30


1- الحراني، تحف العقول في معرفة آل الرسول، ص 207؛ الطوسي، الأمالي، ص 136؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 72 / ص 100. وقد ورد الحديث بشكل ((ما خاب مَن استخار ولا نَدِم مَن استشار))، الطبراني، المعجم الأوسط، ج 6 / ص 365؛ ابن سلامة، مسند الشهاب، ج 2 / ص 70؛ الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج 3 / ص 266؛ ابن عساکر، تاریخ دمشق، ج 54 / ص 3؛ ابن طلحة الوزير، العقد الفريد للملك السعيد، ص 41، الهيثمي، مجمع الزوائد، ج 2/ ص 280؛ السيوطي، الجامع الصغیر، ج 2/ ص 492؛ المتقي الهندي، کنز العمال، ج 7 / ص 265؛ العجلوني، کشف الخفاء، ج 2 / ص 186

على عاتق المستشار : ((المستشار مؤتمن))(1).

3 - حدیثه (صلی الله علیه وآله وسلم) وهو يُبرز أهمية المشورة في هداية الناس إلى أصلح أمورهم: ((ما تشاور قوم قط إلاّ هُدوا لأرشد أمرهم))(2).

4 - حدیثه (صلی الله علیه وآله وسلم) وهو يبين استحباب المشورة ومباركة الرأي المشاور فيه: ((مَن أراد

ص: 31


1- ابن حنبل، مسند أحمد بن حنبل، ج 5 / ص 274؛ ابن ماجه، سنن ابن ماجه، ج 2 / ص 1233؛ أبو داود، سنن أبي داود، ج 2 / ص 504؛ الترمذي، سنن الترمذي، ج 4 / ص 14؛ الحاكم النيسابوري، المستدرك، ج 4 / ص 131؛ الثعالبي، تحفة الوزراء، ص 94؛ البيهقي، السنن الكبرى، ج 10 / ص 112؛ الهيثمي، موارد الظمآن، ج 6 / ص 296
2- ابن أبي شيبة، المصنف، ج 6 / ص 208؛ النسفي، تفسير النسفي، ج 1 / ص 188؛ الزيلعي، تخريج الأحاديث، ص 233

أمراً فشاور فيه مسلماً وفقه الله لأرشد أموره)(1).

5 - حديثه (صلی الله علیه وآله وسلم) وهو يعكس الضرورة المُلحة لممارسة المشورة بالنسبة للفرد: ((ما يستغني رجل عن مشورة))(2).

6 - حديثه (صلی الله علیه وآله وسلم) للإمام علي (علیه السلام) وهو يعد المشورة بمثابة المناصرة والمؤازرة: ((لا مظاهرة أوثق من المشاورة ولا عقل كالتدبير)(3).

ص: 32


1- الطبراني، المعجم الأوسط، ج 8 / ص 181؛ الهيثمي، مجمع الزوائد، ج 8 / ص 96؛ السيوطي، الجامع الصغیر، ج 2 / ص 564؛ المتقي الهندي، کنز العمال، ج 3 / ص 409؛ المناوي، فيض القدير، ج 4 / ص 4
2- البيهقي، السنن الکبری، ج 10 / ص 109؛ المزي، تهذيب الكمال، ج 15 / ص 208؛ السيوطي، الجامع الصغير، ج 2 / ص 3؛ المتقي الهندي، کنز العمال، ج 9 / ص 7؛ المناوي، فيض القدير، ج 4 / ص 4
3- البرقي، المحاسن، ج 2 / ص 601 - 602؛ الكليني، الكافي، ج 8 / ص 20؛ الصدوق، التوحید، ص 376؛ المفيد، الاختصاص، ص 246؛ ابن عساکر، تاریخ دمشق، ج 13 / ص 256، المجلسي، بحار الأنوار، ج 72 / ص 101

7 - حديثه (صلی الله علیه وآله وسلم) وهو يحذِّر المستشير من مغبة عدم الأخذ بمشورة العاقل الناصح: ((استرشدوا العاقل ولا تعصوه فتندموا))(1).

8- حدیثه (صلی الله علیه وآله وسلم) وهو يشبّه المشورة بالحصن المنيع من الندامة، والملامة المرافقة لسوء التدبير: (المشاورة حرز من الندامة وأمن من الملامة)(2).

ص: 33


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج / ص 100؛ الكراجكي، کنز الفوائد، ص 194؛ الثعالبي، تحفة الوزراء، ص 95؛ الطوسي، الأمالي، ص 153؛ السيوطي، الجامع الصغير، ج 1 / ص 149؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 1 / ص 96
2- الحلواني، نزهة الناظر وتنبيه الخاطر، ص 12؛ المقريزي، إمتاع الأسماع، ج 13 / ص 50؛ المناوي، فيض القدير، ج 1 / ص 354؛ الحلبي، السيرة الحلبية، ج 3 / ص 374

9 - حدیثه (صلی الله علیه وآله وسلم) وهو يرد على سؤال عن معنى الحزم، قيل له (صلی الله علیه وآله وسلم) ما الحزم، فقال (صلی الله علیه وآله وسلم): ((مشاورة ذوي الرأي واتّباعهم))(1).

10- حديثه (صلی الله علیه وآله وسلم) وهو يحدد هوية المستشار وأهميتها في درء الأخطار: ((مَن شاور الأودّاء أمن الأعداء))(2).

11- حديثه (صلی الله علیه وآله وسلم) وهو يشبّه المشورة بالمؤازرة: ((نِعْم المشاورة المُؤازرة))(3).

12- حدیثه (صلی الله علیه وآله وسلم) وهو يظهر الأثر السلبي للاستبداد بالرأي قبال الأثر الإيجابي للمشورة:

ص: 34


1- البرقي، المحاسن، ج 2 / ص 601؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 72 / ص 100؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 12/ ص 39
2- الراغب الأصفهاني، محاضرات الأدباء، ج 1 / ص 46
3- المصدر نفسه، ج 1 / ص 44

((ما سعد أحد برأيه ولا شقي عن مشورة))(1).

من ذلك الاستعراض الذي شبه فيه النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) في أحاديثه الشريفة الاستشارة بأروع الصفات الإنسانية كالمؤازرة والأمانة والرشد، يمكن الاستدلال على المكانة الرفيعة التي تبوأتها في السنة النبوية (القولية)، التي إن دلت على شيء فإنما تدل على مدى عناية النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) بها ومدی التزامه في تطبيقها في مختلف الأمور المهمة وغير المهمة، كونها البوابة التي يدخل من خلالها الصلاح للفرد والمجتمع.

ص: 35


1- الماوردي، درر السلوك، ج 1 / ص 73؛ أبن طلحة الوزير، العقد الفريد للملك السعيد، ص 41، العجلوني، کشف الخفاء، ج 1 / ص 422؛ السخاوي، المقاصد الحسنة، ج 1 / ص 579

ثالثاً: المشورة عند الإمام علي (علیه السلام) في عهده لمالك الأشتر(رضی الله عنه):

في الوقت الذي أخذت فيه المشورة حيزاً مناسباً من الذكر في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة كان لها حصة في الشأن نفسه في فكر الامام علي (علیه السلام)، وكيف لا يكون ذلك والإمام (علیه السلام) الصورة الناطقة للقرآن والنفس المثالية للنبي (صلی الله علیه وآله وسلم)، ومرد اهتمامه بها لم يكن اعتباطاً؛ بل جاء لدورها في تسديد الرأي وتأليف القلوب، وقد ورد ذكره للمشورة في مناسبات عديدة ولعل أبرزها في اثناء تولية مالك الأشتر(رضی الله عنه) إدارة مصر سنة 38 ه / 661 م وعهده له في السياسة التي تعينه على إدارة البلاد، وإلى ذلك أشار(علیه السلام) لمالك (رضی الله عنه) بقوله:

«وَلاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلاً يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ، وَيَعِدُكَ الْفَقْرَ، وَلاَ جَبَاناً يُضعِّفُكَ

ص: 36

عَنِ الأُمُورِ، وَلاَ حَرِيصاً یُزَیِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ، فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجَبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّی یَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِالله»(1).

وقصد من ذلك إبعاد المستشارين الذين يتصفون بخصال ذميمة عن صنع القرار، لتأثير تلك الصفات على مضمون القرار نفسه، مما ينعكس سلباً على السياسة التي يعتمدها الحاكم في التعاطي مع الرعية، بالشكل الذي يؤدي في النهاية إلى خروج الحاكم عن طاعة الله تعالى ورسوله (صلی الله علیه وآله وسلم)، وفشله في عمله المناط إليه.

وقد تولى الإمام (علیه السلام) عرض الصفات الذميمة لدى المستشارين بحسب أهميتها على واقع سياسة الدولة تجاه الرعية، فهو جعل المستشارين الذين يتصفون بالبخل على رأس

ص: 37


1- خطب الامام علي (علیه السلام)، نهج البلاغة، ج 3 / ص 87

المستشارين الواجب تجنبهم عند صنع القرار، لما لها من أهمية كبرى في التأثير على القرارات الاقتصادية التي لها صلة بمعاشات الناس وأعمالهم، وقد أشار الإمام (علیه السلام) إلى ذلك بقوله:

وَلاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلاً يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ، وَيَعِدُكَ الْفَقْرَ»، أي عليك تجنب المشورات التي تؤثر سلباً على الواقع الاقتصادي للرعية، لتداعياتها الوخيمة على حياة الرعية، فهي قد تكون سبباً في افقارهم وتجويعهم وتمردهم على سلطة الدولة.

وجاء تحذير الإمام (علیه السلام) رداً على ما ذهب اليه هذا الصنف من المستشارين في تزيين مشوراتهم للحكام من ناحية بيان مردودها الإيجابي على اقتصاد البلاد، ومما لا شك فيه إنّ الأهمية السلبية التي حظيت بها تلك الصفة في فكر الإمام (علیه السلام) مردها إيمانه بأثرها في نشوء الفقر وما يترتب

ص: 38

على ذلك من مخاطر على صلاح الفرد، وقد أشار الإمام (علیه السلام) إلى تلك المخاطر بمقالات عدّة أوضحت آثارها، ولعلّ أبرزها قوله: «الفقر الموت الاكبر»(1)، ولم تأتِ تلك المخاطر بمعزل عن حكم الله وسنة نبيه بل جاءت بموازاتها، قال تعالى: «الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ»(2)، فهنا قدم جانب الامن الغذائي على الامن المجتمعي، لخطورة الفقر على حياة الفرد العامة، كما أن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) حذر من الفقر وأعده باباً لاقتراف الذنوب العظام ومنها الكفر بالله تعالى، قال(صلی الله علیه وآله وسلم): «بارك لنا في الخبز ولا تفرق بيننا وبينه فلولا الخبز ما صلينا ولا صمنا ولا أدينا فرائض ربنا»(3).

ص: 39


1- الشريف الرضي، خصائص الأئمة / ص 108
2- سورة قريش، آية: 4
3- الكليني، الكافي، ج 5 / ص 73

الصفة الثانية التي أشار الامام (علیه السلام) إلى مراعاتها في اختيار المستشارين الجبن، قال (علیه السلام): «وَلاَ جَبَاناً يُضعِّفُكَ عَنِ الأُمُورِ»، فهو في هذا المقام اوجب على الحاكم ضرورة عدم اشراك المستشار الجبان في صنع القرار، لان اشراكه يجبن الحاكم على مواجهة التحديات التي تهدد أمن واستقرار الدولة، مما يتيح المجال للأخرين لإثارة الفوضى في البلاد، بما يؤدي في النهاية إلى ضياع ال أمن وتعطيل مصالح الرعية، والامور التي قصدها الامام (علیه السلام) في قوله عديدة، منها: ما تكون حركة تمرد ضد الدولة، او قوة طامحة في السيطرة على حكم البلاد، او قوة سياسية منافسة لسلطة البلاد، او جهات تريد العبث بمصالح الرعية.

وجاء تأكيد الإمام (علیه السلام) على تجنب المستشارين الذين يتصفون بالجبن لضمان بسط الأمن،

ص: 40

والأمن كما هو معلوم جاء من حيث الأهمية بعد مكافحة الجوع، قال تعالى: «الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ»، مما يدلل على توافق طروحات الإمام (علیه السلام) مع الطروحات التي دعت إليها الشريعة والمنطق في عرض حاجات الرعية الملحة.

الصفة الاخرى التي أوجب الإمام (علیه السلام) عدم توفرها في شخص المستشار الحرص، قال (علیه السلام) في معرض حديثه عن الصفات الذميمة الواجب خلوها من نفس المستشار: «وَلاَ حَرِيصاً یُزَیِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ»، وقصد (علیه السلام) من ذلك بيان الأثر السلبي للمستشار الحريص على القرار الذي يصدره الحاكم تجاه التحديات التي تعترض البلاد، ويوضحها أكثر في انعکاس تطلعات المستشار الحريص على قرارات الحاكم تجاه الرعية، فهو غالباً ما يسعى إلى إقناع الحاكم

ص: 41

الحكم بغض النظر عن تأثيراته الظالمة للرعية، ولما تلقى إذناً صاغية من الحاكم للوهلة تكون محبذه عنده في النهاية كونها تكون متماشية مع رغبته في البقاء في السلطة.

وممّا سبق فإنّ عمل المستشار مشابه إلى حد ما مع عمل الوزير من ناحية تقديم النصح والارشاد للحاکم، وقد حذّر الإمام (علیه السلام) الحاكم من اتخاذ الوزراء الذين كانت لهم سابقة في نصرة الحكام الظلمة، وإلى ذلك اشار بقوله: «شَرُّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِلاَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً، وَمَن شَرِکَهُم فِي الأثَامِ، فَلاَ يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً، فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الاَثَمةِ، وَإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ، وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَنَفَاذِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ وَأَوْزَارِهِمْ وَآثَامِهِمْ، مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِهِ، وَلاَ آثِماً

ص: 42

عَلَى إِثْمِهِ، أُولئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَؤُونَةً، وَأَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً، وَأَحْنَی عَلَیْكَ عَطْفاً، وَأَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً، فَاتَّخِذْ أُولئِكَ خَاصَّةً لَخِلَوَاتِكَ وَحَفَلاَتِكَ، ثُمَّ لْیَکُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلُهمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ، وأَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيَما یَکُونُ مِنْكَ مِمَّا کَرِهَ اللهُ لِاَوْلِیَائِهِ، وَاقِعاً ذلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ، وَالْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَالصِّدْقِ، ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَى أَلاَّ يُطْرُوكَ وَلاَ یُبَجِّحُوكَ بِبَاطِل لَمْ تَفْعَلْهُ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الاْطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ، وَتُدْنِي مِنَ الْعِزَّةِ»(1).

وجاء تحذير الإمام (علیه السلام) من هؤلاء بسبب ممّارستهم للظلم سابقاً تجاه الرعية مما يجعلهم مهيئين لممارسته لاحقاً مع أي حاكم آخر، ومما يساعدهم على ذلك نفاقهم وأنانيتهم، فهم لم يأملوا الخير للرعية بقدر ما يأملوا ظلمها

ص: 43


1- خطب الإمام علي (علیه السلام)، نهج البلاغة، ج 3 / ص 88

في مشوراتهم للحكام، عبر مجاملتهم وتأمين الظروف التي تضمن بقاءهم وبقاء الحكام في السلطة.

هذا وقد عزز الإمام (علیه السلام) تأكيده على أهمية ممارسة الحاكم للمشورة الصالحة في مناسبات عديدة حثت الحاكم على اعتماد المشورة في رسم القرارات المختلفة، ومنها كانت وصاياه لأصحابه (رضی الله عنه)، قال (علیه السلام): و ((مَن شاور ذوي الألباب دلّ على الصواب))(1)، أي من لزم مشاورة اصحاب العقول من العلماء والعارفين وغيرهم لم يزل عن سبيل الصواب في قوله وفعله، وقال (علیه السلام): ((شاور في حديثك الذي يخافون الله))(2)، إشارة إلى انتقاء المستشارون

ص: 44


1- المفيد، الإرشاد، ج 1 / ص 301؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 72 / ص 105
2- البرقي، المحاسن، ج 2 / ص 201؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 12 / ص 42

المتقون عند طلب المشورة، بقصد تقديم النصح في الرأي وكتمان الأمر المستشار فيه، وقال (علیه السلام) مندداً بالاستبداد: ((مَن استبدّ برأيه هلك ومَن شاور الرجال شاركها في عقولها))(1)، وقصد (علیه السلام) في القول مصير المستبد وحال المستنير بآراء الآخرين، وكيف يكون متضامن مع عقولهم في مواجهة التحديات التي تعترضه، ولم يخصص الإمام (علیه السلام) في القولين هوية المستشير في ما لو كان حاكماً أو كان فرداً من العوام، لكنه قصد الحاكم فيها أثر من الفرد، لأن أهميتها على الحاكم تكون أكثر من العامي، إذ أن مردود وقوعها عند الحاكم

ص: 45


1- ابن الليثي الواسطي، عيون الحكم، ص 440؛ ابن أبي الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 4 / ص 41؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 72 / ص 105؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 12 / ص 40

یکون على العوام أكثر من مردود وقوعها لدى الفرد الواحد، وقال (علیه السلام): ((وَالاْسْتِشَارَةُ عَیْنُ الْهِدَايَةِ وَقَد خَاطَرَ مَنِ اسْتَغْنَی بِرَأْيِهِ))(1)، أي أنّ في ممارستها مسايرة لهدى الباري تعالى والاستغناء عنها يعني اختيار السبيل المؤدي إلى الوقوع في المخاطر، والمخاطر التي قصدها الامام (علیه السلام) القرارات الخاطئة التي يصدرها الحاكم تجاه الرعية، وأثرها السلبي على سير حياتهم، كما قال (علیه السلام) في مناسبة اخرى: ((ما عطب امرء استشار))(2)، وهنا (علیه السلام) جزم بصحة قرارات

ص: 46


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 4 / ص 48؛ ابن الجوزي، زاد المسير، ج 2 / ص 47؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 11 / ص 209؛ هاشم البحراني، غایة المرام، ج 7 / ص 71؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 66 / ص 410
2- الصدوق، الخصال، ص 621، الحراني، تحف العقول، ص 111؛ المستخيري العاملي، الدر النظيم، ص 374

الفرد الذي لا ينفك عن ممارسة المشورة، ومما لاشك فيه الاولوية في ممارستها تكون للحاکم دون المحكوم، وقال (علیه السلام): ((لا مظاهرة أوثق من المشاورة))(1)، والمظاهرة هنا تأتي بمعنی النصرة، والنصرة تكون للحاكم بمثابة الجماعة التي تقف معه ضد أعدائه، ووقوفها معه یکون في نظر الإمام (علیه السلام) أوثق من نصرة اتباعه، وقال (علیه السلام) وهو يظهر عظم النتائج المترتبة على ترك المشورة: ((مَن لم يستشر يندم))(2)، أي أن النّدم والخسران سيكونان حليفا المستبد في رأيه بغض

ص: 47


1- البرقي، المحاسن، ج 2 / ص 600؛ الكليني، الكافي، ج 8 / ص 20؛ الصدوق، التوحید، ص 376؛ الحراني، تحف العقول، ص 94؛ المفيد، الاختصاص، ص 246؛ ابن عساکر، تاریخ دمشق، ج 13 / ص 257؛ الذهبي، میزان الاعتدال، ج 3 / ص 602
2- البرقي، المحاسن، ج 2 / ص 201؛ الحراني، تحف العقول، ص 8؛ المفيد، الاختصاص، ص 226

النظر عن هويته إن كان حاكماً أو محکوماً، وقال (علیه السلام) وهو يظهر محاسن المشورة ومكارمها على الحاكم والمحكوم في أنٍ واحد: ((في المشورة سبع خصال: استنباط الصواب، واكتساب الرأي، والتحصن من السقطة، وحرز الملامة ونجاة الندامة، وألفة القلوب، واتِّباع الأثر))(1)، ومفهوم الخصال السبعة التي قصدها (علیه السلام) في قوله: استنباط الصواب أي الاجتهاد مع الآخرين في الوصول إلى الرأي الصحيح، أما مقصده من (واكتساب الرأي) أي في الحصول على الرأي السديد، وأما قوله والتحصن من السقطة أي الوقوع في مزالق الخطأ، وقوله وحرز الملامة أي أنها المأمن من الملامة التي يجريها الآخرون على الحاكم إزاء المهالك الواقعة عليهم من جراء ما يرد من القرارات الخاطئة، وعنی ب (ونجاة

ص: 48


1- ابن طلحة الوزير، العقد الفريد، ص 42

الندامة) أي فيها الفلاح من هاجس الندم الذي يرافق الحاكم بعد الوقوع في هاوية الخطأ، وأراد من (وألفة القلوب) أي ما يرد من ممارستها من توادد وتكافل تؤدي إلى تألیف قلوب الآخرين، وهذا ما لم يحصل في الاستبداد، اما ما قصده من اتباع الأثر، أي الاستنان بسنة مارسها النبي (صلی الله وآله وسلم) وحرص على اتباعها.

رابعاً: الصحابة والأئمة والحكماء الذين وافقوا الإمام

علي (علیه السلام) في المشورة:

مما لاشك فيه إنّ الفكر الذي حمله الإمام علي (علیه السلام) ودعا إليه المسلمين وغير المسلمين لم يأت من مصدر مجهول؛ بل جاء من معين خازن علم الأولين والآخرين النبي محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)، ومن المعلوم أن ذلك الفكر لا يقبل التفسير الذي لا يوافق العقل في جزيئة ما، وهو من غير الممكن

ص: 49

ألّا يحظى بقبول أفكار الآخرين، وعلى ذلك الأساس أقر الأئمة (علیه السلام) والحكماء في أقوالهم ووصاياهم بصحة جميع أفكار الإمام علي (علیه السلام) في المشورة، ودعوا إليها من خلال تصريحهم بمكانة المشورة ومنزلتها السامية والصفات الواجب توفرها عند المستشار، وقد اتخذت تلك الدعوة في الغالب جانب التلميح إلى فكر الإمام (علیه السلام) في المشورة دون جانب التصريح، لكن الذي دلّ على وجوده التشابه الواضح في الأفكار، ومما يعزز ذلك عظم علم الإمام (علیه السلام)، فهو دون أدنى شك أعلم المسلمين بعد النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) وهذا يجعله بمثابة المدرسة التي يتعلم منها الأئمة والصحابة والحكماء فنون العلم والمعرفة الأصيلة، وقد صرح بعض الصحابة بذلك، لا سیما عمر بن الخطاب بقوله: «لولا علي لهلك عمر»، وقوله: «ما أبقاني الله لمعضلة ليس لها

ص: 50

أبا الحسن» ولكثرة مقالاتهم المطروحة في هذا الجانب ارتأينا عرضها بحسب التسلسل الزمني لوفيات أصحابها، منها:

كان للإمام الحسن بن علي (علیه السلام) (ت 50 ه / 670 م) قول في المشورة أظهر فيه البركة التي يحلها الله تعالى بين المستشیرین نصه: ((ما تشاور قوم قط بينهم إلّا هداهم الله لأفضل ما يحضرهم))(1)، وقوله وهو يصنف الرجال بحسب منزلتهم من المشورة: ((الناس ثلاثة فرجل، ونصف رجل، ولا شيء، فأمّا الرجل التام فالذي له رأي وهو يستشير، وأمّا نصف رجل فالذي ليس رأي وهو يستشير، وأما الذي لا شيء فالذي ليس له رأي

ص: 51


1- ابن عطية، المحرر الوجيز، ص 534؛ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج 4 / ص 252؛ القلعي، تهذیب الرياسة، ج 1 / ص 183؛ ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ج 13 / ص 283

وهو لا يستشير))(1).

أمّا الأحنف بن قيس (ت 67 ه / 686 م) فبين قيمة المشورة والعقل في تحكيم الرأي السديد بقوله(2): ((أضربوا الرأي بعضه ببعض يتولد منه الصواب، وتجنبوا منه شدة الحزم، وانتهوا عقولكم، فإنّ فيها نتائج الخطأ،

ص: 52


1- البيهقي، السنن الکبری، ج 10 / ص 110؛ الأبشيهي، المستطرف في كل فن مستظرف، ج 1 / ص 166
2- هو صخر بن قيس بن معاوية بن حصين السعدي التميمي المكنى بأبي حجر، لقب الأحنف لأنه ولد أحنف الرجلين، كان من سادات الناس وعقلاء التابعيين وفصحاء أهل البصرة وحکمائهم، وكان من قواد جيش الإمام علي (علیه السلام) يوم صفين، وممن فتح على يده الفتوح الكثيرة اللمسلمين، توفي بالكوفة سنة (67 ه / 686 م) في إمارة ابن الزبير. الجاحظ، البيان والتبيين، ج 1 / ص 145؛ ابن حبان البستي، مشاهير علماء الأمصار، ص 143

وذم العاقبة))(1).

وكذلك أشار الإمام الباقر (علیه السلام) (ت 114 ه / 732 م) وهو يعكس قيمة المشورة عند أهل الكتاب: ((في التوراة أربعة أسطر: مَن لا يستشر يندم، والفقر الموت الأكبر، کما تدین تُدان، ومَن ملك استأثر))(2).

وأورد ابن المقفع(3)

ص: 53


1- ابن عبد البر، بهجة المجالس، ج 2 / ص 456
2- البرقي، المحاسن، ج 2 / ص 601؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 12 / ص 40؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 13 / ص 357
3- هو عبد الله بن المقفع، ویکنی قبل إسلامه، أبا عمر، ولما أسلم اکتنی بأبي محمد، وسمي المقفع لأن الحجاج بن يوسف الثقفي ضربه بالبصرة في مال احتجنه من مال السلطان فتقفعت يده، وأصله من خوز إحدی کور فارس، واشتهر بالكتابة وكان في نهاية الفصاحة والبلاغة، وقد عمل في بلاط المنصور العباسي تبعاً لذلك، وله مؤلفات عديدة شملت رسائل أدبية مختلفة. الجاحظ، البيان والتبيين، ج 2 / ص 128؛ ابن النديم، الفهرست، ص 132؛ الذهبي، سير إعلام النبلاء، ج 6 / ص 209

في آدابه اقوال دعا فيه الأفراد إلى تجاوز فكرة التحرج من استشارة الآخرين، باعتبارها عقبة تحول أمام عملية تصحيح الرأي: ((لا يقذفن في روعك إنك إذا استشرت الرجال ظهر منك للناس حاجتك إلى رأي غيرك فيقطعك ذلك عن المشاورة، فإنّك لا تريد الرأي للفخر، ولكن للانتفاع به، ولو أنك أردته للذكر، لكان أحسن الذكر عند العقلاء))(1).

وأظهر الإمام الصادق (علیه السلام) (ت 148 ه / 765 م) في المشورة مقالات مختلفة أكّد فيها على

ص: 54


1- ابن قتيبة، عيون الأخبار، ج 1 / ص 31؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 11 / ص 107

أهميتها في سداد الرأي ومعاضدة الفرد ونصرته من مداحض الوقوع في الخطأ: ((المستبد برأيه موقوف على مداحض الزّلل))(1)، و((لا غنی أخصب من العقل، ولا فقر أحط من الحمق ولا استظهار في أمر بأكثر من المشورة فيه))، و((لن يهلك امرؤ عن مشورة))، و((إذا نزلت بك نازلة فلا تشکها إلى أحد من أهل الخلاف، ولكن اذكرها لبعض إخوانك، فإنك لن تعدم خصلة من أربع خصال: إما كفاية بال وإما معونة بجاه أو دعوة فتستجاب أو مشورة برأي))(2).

أمّا الإمام الكاظم (علیه السلام) (ت 181 ه / 797 م)

ص: 55


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 17 / ص 121؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 72 / ص 105
2- الكليني، الكافي، ج 1 / ص 29 . (3) المصدر نفسه، ج 8 / ص 170؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 2 / ص 632

فقد صنّف موقف الحاكم من الرأي المشاور فيه إن كان صحيحاً أو خاطئاً بقوله: ((من أكثر من المشورة لم يعدم عند الصواب مادح، وعند الخطأ عاذراً))(1).

وأورد الإمام الرضا (علیه السلام) (ت 203 ه 818 م) قولاً أشاد فيه بالحرص الذي يوليه أبوه الإمام الكاظم (علیه السلام) لمبدأ المشورة في تعامله مع الآخرين رغم متانة فكرة ورجاحة عقله: ((كان عقله لا يوازن به العقول وربما شاور الأسود من سودانه، فقيل له: تشاور مثل هذا؟ فقال: إن شاء الله تبارك وتعالى ربمَّا فتح على لسانه، قال، فكانوا ربما أشاور عليه بشيء فيعمل به))(2).

ص: 56


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 18 / ص 383؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 72 / ص 104
2- البرقي، المحاسن، ج 2 / ص 602؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 12 / ص 45؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 72 / ص 101

أمّا مقالات الحكماء في المشورة فهي كثيرة لا يمكن الإحاطة بها لكثرتها، نذكر منها النُزْر اليسير، منها: ((مشاورة الحكماء ثبات))(1)، أي إن الآراء المسداة منهم فيها السداد والثبات، ومنها ((مَن استغنى بعقله ضل ومَن أستبد برأيه زل، ومَن استشار ذوي الألباب سلك سبيل الصواب، ومَن استعان بذوي العقول فاز بدرك المأمول))(2)، يعني ذلك أن مصير الاستبداد الخطأ والزلل في حين التشاور في الأمور يكون واقعه الصواب والفلاح، ((إذا أشكلت عليك الأمور أو تغير لك الجمهور، فارجع إلى رأي العقلاء، وافزع

ص: 57


1- المصدر نفسه، ج 1 / ص 480
2- ابن الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص 429؛ وينظر: المناوي، فيض القدير ، ص 625؛ الجبرتي، تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، ج 1 / ص 21

إلى استشارة العلماء، ولا تأنف من الاسترشاد ولا تستنكف من الاستمداد، فلأن تسأل وتسلم خير من أن تستبد وتندم))(1)، أي أنه إذا اشتبهت عليك الأمور فاحتكم إلى أهل الرأي والتجربة لمعالجتها دون الاستنکاف من ذلك أو الاستبداد في الرأي.

وقال الحكماء أيضاً: ((من شيم العاقل عند النائبة تنوبه، أن يشاور عاقلاً ناصحاً ذا رأي ثم يطيعه وليعترف للحق عند المشورة))(2)، ((مَن استشار استبصر))(3)، وقال الحكيم وهو عکس أثر المشورة في نجاة الفرد من ملامة الاستبداد: ((ما غُبنت قط حتى يغبن قومي، قيل: وكيف

ص: 58


1- الماوردي، درر السلوك، ج 1 / ص 73
2- ابن حبان البستي، روضة العقلاء، ج 1 / ص 193
3- القلعي، تهذیب الرياسة، ج 1 / ص182

ذلك؟ قال: لا أفعل شيئاً حتى أشاورهم))(1).

وقد جاءت تلك المقالات بألوانها المختلفة وأشكالها المتنوعة لتؤكد حقيقة مفادها أن المشورة شِرعة إلهية وسنة نبوية لا يمكن الاستغناء عنها، بوصفها أداة أودعها الله لسعادة الإنسان ورقيه في شؤون حياته المختلفة.

خامساً: أهل المشورة ومجال الموضوعات التي يتشاورون فيها:

أهل المشورة:

أشار الإمام علي (عليه السلام) إلى أهل المشورة بإشارات عامّة سنحاول تفصيلها من أجل الكشف عن صورة المشورة التي يريدها

ص: 59


1- الجاحظ، البيان والتبيين، ج 2 / ص 215؛ وينظر: ابن قتيبة، عيون الأخبار، ج1 / ص 32؛ الطرطوشي، سراج الملوك، ص79

الإمام علي (علیه السلام) في فكره ونهجه، مستعينين على ذلك بنصوص تشريعية، ودلائل عقلية، وشواهد تاريخية تدلل على ما نذهب إليه من الحقائق والآراء، ابتداءً عند التطرق إلى أهل المشورة تتبادر إلى أذهاننا مجموعة من التساؤلات تكون بحاجة إلى إجابات تفي بالغرض المنشود من الدراسة، منها ما يتعلق بمفهوم الشورى، ومنها ما يتعلق بالتنظيمات التي تكونه، إلى جانب الإطار الزمني لأصل نشأته ومكونات أعضائه، فضلاً عن المؤهلات الواجب توفرها عندهم والآداب الواجب مراعاتها عند أخذ المشورة منهم.

وللإجابة على تلك التساؤلات كان لزاماً علينا أن نُفصل في عرض الإجابات المناسبة لها، بقصد إعطاء صورة واضحة عنها تفي بالغرض المنشود، ففي ما يتعلق بمفهوم أهل الشوری فالذي يراد به تلك الجماعة التي تتوافر فيها

ص: 60

مزايا اجتماعية وعلمية(1)، تؤهلها لتولي مهمة تنظيم شؤون المسلمين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية، من خلال مساهماتهم الفاعلة في صياغة القرارات المؤدية إلى ذلك التنظيم عن طريق المشورة، وتتم عملية وصول تلك الجماعة التي يمثلها العلماء ووجهاء الناس وأهل الخبرة إلى المكانة تلك عن طريق الثقة التي تمنحها لهم الأمة في النيابة عنها في التعاطي مع الشؤون المختلفة التي تواجهها، تحقیقاً لمصالحها العامة، وخير من يمثل تلك الجماعة النقباء الإثني عشر الممثلون عن سكان أهل المدينة المنورة، الذين أخرجهم النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) بعد بيعة العقبة الثانية سنة (12 ب / 121 م)، وذلك ليكونوا له مستشارين في اتخاذ القرارات بعد

ص: 61


1- ينظر: الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، ص 16

هجرته إلى المدينة(1).

والظاهر من النصوص التاريخية أن المشورة لم يكن وجودها محصوراً عند تلك الجماعة؛ بل لها حضور عند جهات أخرى يمكن بيانها على مستويين آخرين هما: أهل الشوری بالمعنی الواسع أي جمهور الأمة، فكل مسلم بالغ عاقل يكون من أهل الشورى، قال تعالى: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ»(2)، فالضمير هنا للجميع، أي لجميع المسلمين(3)، واستشارة النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) لعامة

ص: 62


1- ابن هشام، السيرة النبوية، ج 2 / ص 303؛ ابن سعد ، الطبقات ، ج 3 / ص 602، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2 / ص 297 - 298. الطبري، تاریخ الرسل والملوك، ج 2 / ص 93
2- سورة آل عمران، آية: 159
3- الطبري، جامع البیان، ج 4 / ص 152؛ السيوطي، الدر المنثور، ج 2 / ص 358

أصحابه بشأن قتال قريش بعد صد المسلمين القوافلهم التجارية المارة بحدود المدينة خير مثال على ذلك، والذي فيه يقول: ((أشيروا عليَّ أبيها الناس))(1).

أمّا المستوى الثاني للحصول على المشورة فهو الشورى الخاصة (الفردية)، وتكون عند أهل الاختصاص من العلماء وأهل الخبرة في مختلف مجالات الحياة، ويشترط في هؤلاء توافر ميزة التخصص الدقيق والخبرة الخاصة في أي مجال من المجالات العامة، ومصداقاً على ذلك مشورة الصحابي سلمان الفارسي (المحمدي) (رضی عنه الله) على النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) بحفر الخندق حول المدينة المنورة سنة (5 ه / 626 م)(2).

ص: 63


1- ابن هشام، السيرة النبوية، ج 2 / ص 447 و 266
2- الدينوري، الأخبار الطوال، ص 203؛ الطوسي، أعلام الوری، ج 1 / ص 191

أما الإطار الزمني لنشأة فكرة أهل الشورى بمستوياتها المختلفة فتعود إلى عصور موغلة في القدم، إذ وُجدت بوجود التمدن عند العراقيين القدماء والمصريين وأهل اليونان والرومان والفرس، ووجدت كذلك عند العرب في دار الندوة.

أما زمان ظهور مصطلح أهل الشوری بمنظوره الإسلامي، فيمكن القول إلى أنه بدأ ببداية مبدأ الشورى الذي دعا إليه القرآن الكريم وأمر بتطبيقه النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) على أصحابه إذ بادر (صلی الله علیه و آله وسلم) قبل الهجرة بالتنسيق مع زعماء المدينة في بيعة العقبة الثانية إلى تشكيل أول مجلس شورى في الدولة مكون من أثنی عشر رجلاً من وجوه المهاجرين الأنصار، يرجع إليهم في مهام الأمور(1).

ص: 64


1- ينظر: ابن هشام السيرة، ج 2 /ص 303؛ ابن سعد، الطبقات، ج 1 / ص 223؛ ابن الأثير، الکامل، ج 2 / ص 99

أما بالنسبة إلى الأعضاء التي يتكون منه مجلس الشورى فمنهم المسلمون وغير المسلمين ومنهم الذكور والإناث استناداً إلى قوله تعالى:

«وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ»، إذ إنه تعالى لم يحدد في الآية المذكورة الهوية الدينية للشخص المستشار، ولم يحدد جنسه إن كان ذكراً أم أنثى، ومع ذلك فإن الأمر مختلف عليه، إذ اختلف العلماء المسلمون في بيان الحكم الشرعي في مسألتي إشراك الذمي والمرأة في المشورة وجعلهم ضمن دائرة أهل الشوری.

ففي ما يتعلق بالحكم الشرعي للمسألة الأولى (إشراك غير المسلمين في المشورة) طرح الفقهاء المسلمون في ذلك رأيين لكل منهما دليل يثبت صحته، الرأي الأول أظهر عدم

ص: 65

جواز الاستعانة برأي الذمي، وهو قول المالكية والحنبلية(1)، وقد استدلوا في صحة ما ذهبوا إليه بآيات عدة من القرآن الكريم وبأحاديث شريفة من السنة النبوية، أبرزها: قوله تعالى:«لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ»(2)، وقد فُسِّرَت الموالاة هنا بالمعونة والمظاهرة والنصرة(3)، وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ»(4)، وقد

ص: 66


1- ابن الجوزي، زاد المسير، ج 2 / ص 21؛ الشوكاني، نیل الأوطار، ج 8 / ص43 - 44
2- سورة آل عمران، آية: 28
3- الطبري، جامع البیان، ج 3 / ص 228
4- سورة آل عمران، آية، 118

جاءت البطانة في هذه الآية بمعنى الخواص، قيل بطانة الرجل خاصته أي المقربين له، أما معنی من دونكم فهو من غيركم أي من أهل الأديان الأخرى(1).

قال الرازي في تفسير هذه الآية: ((إن الذين نهی الله المؤمنين من مخالطتهم... اليهود؛ وذلك لأن المسلمين كانوا يشاورونهم في أمورهم، ويؤانسوهم لما كان بينهم من الرضاع والحلف ظناً منهم أنهم وإن خالفوهم في الدين فهم ينصحون لهم في أسباب المعاش فنهاهم الله))(2).

إلى جانب ذلك استدل أصحاب هذا الرأي بقول النبي (صلی الله علیه و آله وسلم): ((لا تستضيئوا بنار أهل

ص: 67


1- الرازي، التفسير الكبير، ج 8 / ص 172
2- المصدر نفسه والصفحة

الشرك ولا تنقشوا في خواتيمکم عربياً))(1)، قيل إن المراد بالاستضاءة هنا الاستشارة في الأمور، أي لا تستشيروا المشركين في أموركم، فتعملوا بآرائهم(2).

أما قول الرأي الثاني في تلك المسألة فقد أجاز الاستعانة برأي غير المسلمين في مواطن ولم يجوزها في مواطن أخرى، وهو ما تذهب إليه الحنفية(3)، والزيدية(4)، والشافعية(5)، والشيعة

ص: 68


1- ابن حنبل، مسند أحمد بن حنبل، ج 3 / ص 99
2- الشريف الرضي، المجازات النبوية، ص 268
3- الشوكاني، نيل الأوطار، ج 8 / ص 43 - 44
4- المرتضى، الغيث المدرار شرح الأزهار، ج 4 / ص 534
5- الشافعي، كتاب الأم، ج 4 / ص 276؛ المارودي، الأحكام السلطانية، ص 47

الإمامية(1)، وبعض الحنابلة(2) وقد استدل أصحاب هذا الرأي على صحة قولهم المتعلق بجواز الاستعانة برأي غير المسلمين بآيات من القرآن الكريم، وبأفعال من السنة الشريفة نذكر أهمها: قوله تعالى: «لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»(3).

قال البغوي في تفسير: ((أي لا ينهاكم الله عن

ص: 69


1- العلامة الحلي، تحرير الأحکام، ج 2 / ص 139؛ العلامة الحلي، تذکرة الفقهاء، ج 9 / ص50؛ العلامة الحلي، قواعد الأحكام، ج 1 / ص 487
2- أبو يعلى الفراء، الأحكام السلطانية، ص 61
3- سورة الممتحنة، آية: 8 - 9

برّ الذين لم يقاتلوكم أن تعدلوا فيهم بالإحسان والبر))(1) ولعلّ الرجوع إليهم للاستنارة برأيهم في مهام الأمور من ألوان ذلك البر الذي أوصى الله تعالى به المسلمين.

ومن الآيات الأخرى قوله تعالى: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ»(2)، وقد وردت هذه الآية في أهل الكتاب ولا سيّما اليهود والنصاری، کیا ذهب إليه أغلب المفسرين، قال القرطبي وهو يفسّر الآية: ((يريد أهل التوراة والإنجيل الذين آمنوا بالنبي، قال سفيان ساهم أهل الذكر لأنهم كانوا يذكرون خبر الأنبياء مما لم تعرفه العرب، وكان كفار قريش يراجعون أهل الكتاب في أمر محمد (صلی الله علیه و آله وسلم)))(3).

ص: 70


1- لباب التأويل في معالم التنزیل، ج 4 / ص 331
2- سورة الأنبياء، آية: 7
3- الجامع لأحكام القرآن، ج 11/ ص 272

وكذلك استدل أصحاب هذا الرأي على صحة قولهم باستعانة النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) بعد هجرته بیهود المدينة المنورة ضد مشركي قريش في وثيقة المدينة، وقد حصل ذلك بعد المشاورة التي حدثت بين الطرفين، واستمر الاتفاق إلى يوم الأحزاب سنة (5 ه / 626 م)، إذ نقض اليهود الاتفاق المبرم عن طريقتحالفهم مع القرشيين على حرب المسلمين(1).

فضلاً عن ذلك فقد استدلوا على صحة قولهم باستعانة النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) بصفوان بن أمية يوم حنين سنة (8 ه / 629 م)، وذلك عندما أعار الأخير النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) بعد المشاورة أدرعاً

ص: 71


1- ابن هشام، السيرة، ج 3 / ص 700؛ ابن سعد، الطبقات الکبری، ج 2 / ص 65؛ اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2 / ص 50؛ الأربلی، کشف الغمة عن هذه الأمة، ج 1 / ص 196

وسلاحاً لقتال هوازن، ففي رواية ابن هشام (ت 213 ه / 828 م): ((لما أجمع رسول الله، فأرسل إليه وهو يومئذ مشركاً، فقال: يا أبا أمية، أعرنا سلاحك هذا نلقي فيه عدونا غداً، فقال صفوان: أغصباً یا محمد؟ قال: بل عارية مضمونة حتى نؤدّيها إليك، قال: ليس بهذا بأس، فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح))(1).

ومن الأدلة والشواهد الأخرى التي طرحها أصحاب هذا الرأي استعانة حكام الخلافة بأهل الذمة في إدارة شؤون الدولة، فمن ذلك أن عمر بن الخطاب جعل موظفي دواوين الدولة في عهده من الروم(2).

ص: 72


1- السيرة النبوية، ج 4 / ص 892؛ اليعقوبي، تاریخ اليعقوبي، ج 2 / ص62؛ المسعودي، التنبيه والأشراف، ص 234
2- الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 311

أما الأمور التي يجوز فيها مشاورة غير المسلمين في نظر أصحاب هذا الرأي فهي القضايا التي تعالج المسائل الدنيوية مثل الجوانب الاقتصادية كالتجارة والصناعة والزراعة، والجوانب السياسية العامة، کشؤون الحكم والحرب، أما المسائل التي لم يجوّزوا فيها مشاورة غير المسلمين، فهي القضايا التي تخص الأمور الدينية الإمامة والقضاء وشؤون العبادات إلى غير ذلك، التي يشترط لمن يتدخل في شأنها صفة الإسلام(1).

ولم يذكر أصحاب هذا الرأي شواهد تاريخية تدلل على مشاركة غير المسلمين في التداولات التشاورية الخاصة بالدين، کالأحكام الشرعية،

ص: 73


1- الجويني، غیاث الأمم في التياث الظلم، ج 1 / ص 49؛ أبو يعلى الفراء، الأحكام السلطانية، ص 461؛ الشوكاني، نیل الأوطار، ج 8 / ص 42 - 46

والعبادات، والعقائد، واختيار الإمام، والقاضي، مما يعزز رأيهم.

والجدير بالذكر أن مؤيدي هذا الرأي حددوا شروطاً لمن جوّزوا له حق المشاورة في الجوانب الدنيوية، وذلك من باب حماية المصالح العامة الخاصة بالإسلام والمسلمين من جهة ولكي تكون المشورة ذات جدوى قيمة يمكن الإفادة منها من جهة أخرى، ومن تلك الشروط الأمانة(1)، فضلاً عن الشروط الأخرى کالعلم، والتجربة، إلى غير ذلك، والأمانة هنا تحمل معاني كثيرة، مجملهاعدم إشراك النوازع النفسية (السلبية) في التأثير على الرأي المستشار فيه، بقصد إضعافه، ومنها العداء، والتعصب،

ص: 74


1- العلامة الحلي، تحرير الأحکام، ج 2 / ص 139؛ العلامة الحلي، تذکرة الفقهاء، ج 9 / ص 50

والحقد، والموالاة إلى غير ذلك.

وقد قدم هذا الشرط (الأمانة) على الشروط الأخرى بسبب سلبية النظرة السائدة بين المسلمين تجاه أهل الذمة، إذ إنهم غالباً ما كانوا يضعونهم في خانة الاتهام، وهذه النظرة مبررة بإطارها العام، ومما يؤكد صحتها الواقع التاريخي، إذ إنّ المؤامرات التي كانت تُحاك ضد الدولة الإسلامية في مراحلها الأولى تدبّر بعضها بخيوط غير إسلامية، وذلك من أجل الإيقاع بها وبدعوتها(1).

ومن قراءاتنا للرأيين نرى أن الرأي الثاني هو الأرجح والأصوب في تلك المسألة، وذلك لأنّه الأقرب إلى العقل والشرع والواقع التاريخي.

ص: 75


1- خير مثال على ذلك موقف اليهود من غزوة الأحزاب. ينظر: اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2 / ص 50 - 55

أما بالنسبة إلى قربه من العقل، فيجوّز المنطق الاستعانة بأي رأي يقود الفرد إلى الأمر الصائب، بمعزل عن الهوية الدينية التي يحملها صاحب الرأي، أما الشرع، فقد أقر ما يتوافق مع العقل، ووضع لذلك ضوابط تنظم الأمر، لأن العقل حجة لصواب عمل الإنسان من عدمه، أما الواقع التاريخي فلم يثبت إشراك غير المسلمين في التشاور في القضايا التي خصت الجوانب الدينية، کالأحكام الشرعية، والعقائد، والعبادات، إلى غير ذلك.

أما ما يتعلق بالرأي الأول فله أسبابه ومبرراته عند من ذهب إليه من العلماء، إذ جاء على وفق تلك المبررات بسبب عدم قبول غير المسلمين بالواقع الجديد الذي عاشه المسلمون بعد ظهور الإسلام وقيام دولته في المدينة بعد هجرة النبي (صلی الله علیه و آله وسلم)، وهذا الأمر جعلهم يعيشون حالة عدم

ص: 76

الانصهار مع المجتمع الإسلامي، على الرغم من تودد المسلمين إليهم في الوثيقة التي رسمها النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) في المدينة لحفظ حقوقهم العامة، مما ولّد نوعاً من الشك والريبة عند المسلمين تجاه ولائهم للدولة الإسلامية، لكن يمكن القول إنّ هذه المرحلة الانتقالية التي عاشها المسلمون مع أهل الذمة من غير المسلمين على وفق الظروف آنفة الذكر قد مرت وولت فلا يمكن لنا أن نعمم موقفهم السلبي في هذه المرحلة على المراحل اللاحقة التي عاشها المسلمون عبر دوهم الأخرى، ولاسيما أن الوقائع التاريخية تثبت لنا إيجابية بعض مواقفهم تجاه المسلمين، على سبيل المثال الموقف الايجابي للأقباط النصارى مع المسلمين تجاه تحریر مصر سنة (20 ه / 640 م) من الروم البيزنطيين، من خلال تقديمهم يد العون والمساعدة للمسلمين لتحقيق

ص: 77

أمر الفتح(1)، كذلك موقف اليهود الإيجابي في فتح الأندلس سنة (91 ه / 790 م)(2)، وعليه يمكن أن نعد هذا الرأي ضعيفاً وغير واقعي.

هذا وقد حدد العلماء شروطاً وجب على المستشير مراعاتها عند أخذ المشورة، ولم تكن الشروط تشكل حاجزاً يقف أمام طريق المشورة؛ بل جاءت من أجل تنظيمها وإخراجها بالشكل الذي يقبله العقل والشرع.

وكما قدمنا سابقاً أنّ أهل الشورى ينقسمون على مستويين کا بینا سابقاً، فقد ارتأينا أن نبين الشروط الواجب توفرها عند كل من أعضاء مجلس الشورى (الجماعي) وعند الجمهور العام

ص: 78


1- ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج 1 / ص 7
2- السلاوي، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، ج 3 / ص 61

الذي يمثله الأفراد، وقد تجنبنا ذكر شرط إسلام المستشار الذي حصل عليه اختلاف بين العلماء المسلمين، ذلك أن المؤيدين منهم لفكرة التمييز بين أهل الشورى وأهل الحل والعقد يرون ضرورة توفره عند أهل الحل والعقد(1)، في حين نجد أن الرافضين لتلك الفكرة يرون عکس ذلك، إذ لا ضرورة لتوفره عندهم(2)، لذا ركزنا على ذكر الشروط المتوافق عليها بين العلماء ومنها:

1 - العلم: وهو العمود الذي تقف عليه الصفات الحميدة عند الفرد، يقول الماوردي (ت 450 ه / 1058 م) وهو يصف قيمته وقيمة حملته بالنسبة لولاة الأمر ومن تبعهم من

ص: 79


1- غازي، مؤسسة أهل الحل والعقد، ص 1026
2- طالب، عبد الهادي، الديمقراطية والشورى، ص 1160 - 1161

المسؤولين عن إدارة مصالح العباد: ((العلم هو عصمة الملوك والأمراء ومعقل السلاطين والوزراء، لأنه يمنعهم الظلم، وليردهم إلى الحلم ويصدهم عن الأذى ويعطفهم، وكما أن الملك الحازم لا يتم حزمه إلاّ بمشاورة الوزراء والأخيار، كذلك لا يتم عدله إلاّ باستفتاء العلماء الأبرار))(1).

وقد جعل الإمام الصادق (علیه السلام) للعلم مرتبة متقدمة في الشروط الواجب توفرها عند المستشار، قال (علیه السلام): «إنّ المشورة لا تكون إلّا بحدودها، فمن عرفها بحدودها وإلّا كانت مضرتها على المستشير أكثر من منفعتها له، فأولها أن يكون الذي يشاوره عاقلاً، والثانية أن يكون حرّاً متديناً، والثالثة أن يكون صديقاً مواخياً،

ص: 80


1- نصيحة الملوك، ص 28

والرابعة أن تطلعه على سرك فيكون علمه به كعلمك بنفسك، ثم يسر ذلك ويكتمه، فإنه إذا كان عاقلاً انتفعت بمشورته، وإذا كان حرّاً متديناً جهد نفسه في النصيحة لك، وإذا كان صديقاً مواخياً كتم سرك إذا أطلعته عليه، وإذا أطلعته على سرك فكان به كعلمك، تمت المشورة وكملت لك»(1).

وقد أوصى الحكماء بضرورة ملازمة صفة العلم مع صفة التجربة والذكاء، قيل: (العقل الكامل بطوال التجربة مع الفطنة والذكاء، قيل لأن الحمق الجاهل إذا استشرته زاد في لبسك وأدخل عليك التخليط في رأيك ولم يقم بحقيق نصحك، وقيل بكثرة التجارب تصلح الروية(2).

ص: 81


1- البرقي، المحاسن، ج 2 / ص 602
2- الحاكم النيسابوري، المدخل إلى كتاب الإكليل، ج 2 / ص 42؛ ابن الأزرق، بدائع السلك، ج 1 / ص 309

وقد حذر النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) من عدم الأخذ بمشورة العالم العاقل في قوله (صلی الله علیه و آله وسلم): «استرشدوا العاقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا»(1).

2 - التقوى والورع: ومنزلة التقوى لا تقل شأناً من منزلة العلم عند المستشار، إذ لا قيمة لمشورة دون تقوی، وذلك لأن صاحب الرأي قد يكون غير ناصح، قال النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) في مكانة التقوى عند المشورة: «مَن أراد أمراً فشاور فيه امرءاً مسلاً وفّقه الله لأرشد أموره»(2)، وقال الإمام علي (علیه السلام): «شاور في حديثك الذي يخافون الله»(3)، وللإمام الصادق (علیه السلام) حديثاً يقول فيه:

ص: 82


1- البرقي، المحاسن، ج 2 / ص 602؛ وينظر: الماوردي، أدب الدين والدنيا، ص 261؛ ابن أبي الربيع، سلوك المالك في تدبير المالك، ص 110
2- ابن الأزرق، بدائع السلك، ج 1 / ص 309
3- البرقي، المحاسن، ج 2 / ص 601؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 12 / ص 42

«استشر العاقل من الرجال الورع، فإنّه لا يأمر إلّا بخير، وإياك والخلاف، فإنّ خلاف الورع العاقل مفسدة في الدين والدنيا»(1)، وقال (علیه السلام) في موضع آخر: «شاور في أمور ما يقتضي الدين من فيه خمس خصال عقل وعلم وتجربة ونصح وتقوى، وإن تجد فاستعمل الخمسة واعزم وتوكل على الله تعالى فإن ذلك يؤدي إلى الصواب»(2).

3 - التجربة: التجربة أداة قيّمة لصقل المواهب وتصحيح الأفكار، وتأتي بعد واقع یُعاش على مر السنين، ولها أهمية عند مَن يستشير، وذلك الأن حاملها يعالج المستقبل بالماضي، وحصولها مقرون بطول العمر، قال لقمان الحكيم وهو

ص: 83


1- البرقي، المصدر نفسه، ج 2 / ص 602؛ الطوسي، مکارم الأخلاق، ص 319
2- الإمام الصادق، مصباح الشريعة، ص 152

يوصي ولده: «شاور مَن جرّب الأمور فإنّه يعطيك من رأيه ما كان عليه بالغلاء، وأنت تأخذه بالمجان»(1)، وقال الإمام علي (علیه السلام): «رأي الشيخ خير مَن مشهد الغلام»(2)، وقال المأمون لِولْدِه موصیاً: (استشيروا ذوي الرأي والتجربة والحيلة فإنهم أعلم بمصارف الأمور وتقلبات الدهور)(3).

وقال الحكماء: ((عليك برأي الشيوخ، فقد مرت على وجوههم عيون العبر وتصدعت الأسماعهم آثار الغيَر))(4)، وقالوا أيضاً: ((يختار للمشورة أهل العقول الغريزية والتجارب

ص: 84


1- القلعي، تهذیب الرياسة، ج 1 / ص 188
2- ابن عبد ربه، العقد الفرید، ج 1 / ص 67
3- الثعالبي، تحفة الوزراء، ص 95
4- أبو القاسم الأصفهاني، محاضرات الأدباء، ج 1 / ص 44

الكثيرة والحلو الرزينة))(1).

ومما يذكر هنا أن الحث على مشورة الكبار لا يعني بالضرورة التخلي عن مشورة الصغار، إذ إن أمر الحث يعني فيه التفضيل، ولاسيما أنّ بعضاً من الصغار يملك من الفطنة والذكاء والعناية الإلهية ما يؤهله لإسداء المشورة، قال الحكماء: ((عليكم بآراء الأحداث ومشاورة الشباب، فإن لهم أذهاناً تقل الفواصل وتتحطم الذوابل))(2).

4 - الأمانة والكتان: وهما صفتان متلازمتان إحداهما تكمل الأخرى، فالأمانة تعني النصح والكتان يعني الحفظ، والنصح أمر مقرون بالحفظ، إذ إن الأمانة القولية فيها الحتمية اللازمة لحفظ الرأي من الشياع من جهة وفيها خلاص

ص: 85


1- الثعالبي، تحفة الوزراء، ص 97
2- المصدر نفسه:ج 1 / ص 313

النصح من الغش من جهة أخرى، قال النبي (صلی الله علیه و آله وسلم): «المستشار مؤتمن»(1)، أي أمين على أن لا يخون فيها ائتُمن عليه من الرأي، ولا يغش فيها يُستنصح فيه عند المشورة، وقال الإمام علي (علیه السلام):

«مَن غش المسلمين في مشورة فقد برئت منه»(2)، وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «مَن استشار أخاه فلم ينصحه محض الرأي سلبه الله (عزَّ وجلَّ) رأيه»(3)، وقال (علیه السلام) وهو يوصي أحد أصحابه: «إن كنت تريد أن تستتب لك النعمة وتكمل لك المودة، وتصلح لك المعيشة، فلا تستشر العبد

ص: 86


1- ابن ماجة، سنن ابن ماجة، ج 2 / ص 1223؛ ابن داود، سنن ابن داود، ج 2 / ص 504؛ ابو جمهور الإحسائي، عوالي اللئالي، ج 1 / ص 104
2- الصدوق، عیون أخبار الرضا (4)، ج 2 / ص 29
3- الكليني، الكافي، ج 2 / ص383؛ العاملي، وسائل الشيعة، ج 12 / ص 44

والسفلة في أمرك، فإنك إن ائتمنتهم خانوك، وإن حدّثوك كذبوك، وإن نکبت خذلوك، وإن وعدوك موعداً لم يصدقوك»(1)، وقالوا: ((مَن شاور أهل النصيحة سلم من الفضيحة))(2)، وقيل: ((إذا استشرت فانصح، وإذا قدرت فاصفح))(3).

أما الكتان فقال به النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) وهو يعدّه باباً من أبواب نجاح المشورة: «استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتان»(4)، وقد جعل الإمام الصادق (علیه السلام) لصفة الكتان منزلة مهمة

ص: 87


1- الصدوق، علل الشرائع، ج 2 / ص 559؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 72 / ص 99
2- الراغب الأصفهاني، محاضرات الأدباء، ج 1 / ص 43
3- البيهقي، المحاسن والمساوئ، ج 2 / ص 52
4- الطبراني، المعجم الصغیر، ج 2 / ص 149؛ ابن عبد البر، التمهيد، ج 10 / ص 153؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 1 / ص 316

بين الصفات الواجب توفرها عند المستشار، إذ قال وهو يضعها في المرتبة الرابعة، بعد العلم، والتقوى، والوفاء: (( الرابعة أن تطلعه على سرك، فيكون علمه به كعلمك بنفسك، ثم يسر ذلك ويكتمه، فإذا كان صديقاً مواخياً كتمك سرك إذا أطلعته عليه، وإذا أطلعته على سرك فكان به كعلمك))(1)، وذكر الطرطوشي (ت 520 ه / 1126 م) إن بعض ملوك العجم استشار وزیریه، فقال أحدهما: ((لا ينبغي للملك أن يستشير منا أحداً إلا خالياً به، فإنه أموَت للسر وأحزم للرأي وأجدر بالسلامة وأعفی))(2)، وقال المأمون العباسي: ((الملوك تحتمل كل شيء إلاّ ثلاثة أشياء القدْح في الملوك، وإفشاء السر،

ص: 88


1- البرقي، المحاسن، ج 2 / ص 602؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 72 / ص 102
2- سراج الملوك، ص 79

والتعرض للحرم))(1).

ولصعوبة حفظ القضايا المعروضة على المستشارين لغرض أخذ المشورة، فضّل الحكماء سترها من دون إفشائها، تجنباً من مخاطر إعلانها، قال بعضهم: ((صدرك أوسع لسرك من صدر غيرك))، وقالوا: ((سرك من دمك))، وقيل کیف کتمانك للسر، قال: ((ما قلبي له إلاّ قبر))(2).

ومخاطر إعلان الرأي عند المستشار تتمثل في أن رأي المستشير إذا اطلع عليه بعض الأصدقاء أو غيرهم من جلساء المستشير أخبر كل صديق صديقه، وفاه كل جليس جليسه حتى أمره إلى عدوه فيبتغي الغوائل ويفسد الرأي قبل

ص: 89


1- ابن عبد ربه، العقد الفريد، ج 1 / ص 70
2- المصدر نفسه، ج 1 / ص 99 - 70، الماوردي، أدب الدين والدنيا، ص 266

إحكامه(1).

5 - الحزم: الجدية صفة رفيعة وجب توفرها عند المستشار عند أخذ المشورة، إذ إنّ الجاد في رأيه ومشورته يجنب المستشير من التهاون واللهو والعبث الذي يصاحب هوى المستشار غير الحازم، مما يؤثر سلباً على ضعف رأيه ومشورته: سُئل النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) عن الحزم، فقيل له: «ما الحزم: قال: مشاورة ذوي الرأي واتّباعهم»(2)، وقيل: ((إنّ الملك الحازم يزداد برأي الوزراء الحَزَمة كما يزداد البحر بمواده من الأنهار))(3).

وقال الإمام الباقر (علیه السلام) (114 ه / 732 م):

ص: 90


1- ابن الأزرق، بدائع الصنائع، ج 1 / ص 312
2- البرقي، المحاسن، ج 2 / ص 600
3- ابن قتيبة، عيون الأخبار، ج 1 / ص 27؛ الطرطوشي، سراج الملوك، ص 78

((اتّبع مَن يبكيك وهو لك ناصح، ولا تتبع من يضحكك وهو لك غاش، وستردون على الله جميعا فتعلمون))(1).

6 - التخصص: وهذه الصفة وجدت لحاجة بعض المشورات إلى التخصص في الموضوعات المختلفة المشار فيها، لذلك وجِبَ على المستشار أن يكون من أصحاب الاختصاص والخبرة في المسائل التي تحتاج إلى نوع من المعرفة، قال القرطبي: ((واجب على الولاة مشاورة العلياء فيما لا يعلمون، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتّاب والوزراء والعال فيها يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها))(2).

ص: 91


1- الطوسي، تهذیب الأحکام، ج 6 / ص 378؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 72 / ص 103
2- الجامع لأحكام القرآن، ج 4 / ص 250

هذا وقد وضع الأئمة والحكاء في وصاياهم آداباً وجب على المستشير مراعاتها عند طلب المشورة، وقد ارتأينا أن نذكرها بشيء من الاختصار تجنباً للإطالة التي لا يسع المجال البيانها، قال النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) وهو يوصي الإمام علي (علیه السلام): «ياعلي لا تشاور جباناً فإنّه يضيّق عليك المخرج، ولا تشاور البخيل فإنه يقصر بك غايتك، ولا تشاور حريصاً فإنه يزين لك شرها، واعلم يا علي إن الجُبن والبخل والحرص غريزة واحدة يجمعها سوء الظن»(1).

وقد حذّر الحكماء من مشاورة أصحاب الهوى، قيل في المستشار: ((أن لا يكون له في الأمر المستشار فيه فرض يتابعه، ولا هوى يساعده،

ص: 92


1- الصدوق، الخصال، ج 57 / ص 101؛ الصدوق، علل الشرائع، ج2 / ص 559؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 12 / ص 47؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 72 / ص 98

فإنّ الأغراض جاذبة، والهوى صاد، والرأي إذا عارضه الهوى وجاذبته الأغراض فسد))(1)، وقيل للمستشير في اتّباع الهوى: ((اعدل عن مشورة مَن قصدوا موافقتك متابعة هواك، واعتمدَ مخالفتكَ انحرافاً عنك، واعتمدْ على مَن توخَّی الحق والصواب لك وعليك))(2) وقد أكد الحكاء على ضرورة سلامة قلب المستشار من نزعة الحسد، وجعلوا خلو صدر المستشار من هذه الخصلة شرطاً أساساً لنجاح المشورة، قالوا: ((سلامته من عائلة الحسد، قيل لأن الحسد يحث أهل المحبة على البغضة، وذوي الولاية على البعد والفرقة، وحينئذ يتعمد ضرك بجميع الوجود التي تتقيها على نفسك، وتكون

ص: 93


1- الحاكم النيسابوري، المدخل إلى كتاب الإكليل، ج 4 / ص43؛ الماوردي، أدب الدين والدنيا، ص262
2- الثعالبي، تحفة الوزراء، ص 99

داعية إلى فساد رأيك))(1).

إلى جانب ما ذكر فقد حرص الحكماء على الامتناع عن مشورة سبعة أشخاص: ((قيل سبعة لا ينبغي لذي لب أن يشاورهم جاهل، وعدو، وحسود، ومراء، وجبان، وبخيل، وذو هوى، فإنّ الجاهل يضل، والعدو يريد الهلاك، والحسود يتمنى زوال النعمة، والمرائي واقف مع رضا الناس، والجبان من رأيه الهرب، والبخيل حريص على جمع المال فلا رأي له في غيره، وذو الهوى أسير هواه))(2)، وحذّر الحكماء أيضاً من مشورة الصبيان والنساء بداعي ضعف عقولهم وآرائهم، قالوا: ((لا ينبغي أن يُستشار النساء ولا الصبيان، لنقص عقولهم وضعف آرائهم))(3).

ص: 94


1- ابن الأزرق، بدائع السلك، ج 1 / ص 312
2- ابن طلحة الوزير، العقد الفريد، ص 43
3- الثعالبي، تحفة الوزراء، ص 100

ولم يكتفِ الحكاء في ذكر الصفات الواجب توفرها عند المستشار، والاحتياطات الواجب توخيها عند أخذ المشورة؛ بل تطرقوا إلى ضرورة مراعاة الظروف المحيطة بفكر المستشار، وذلك لما لها من أثر إيجابي على واقع الرأي المستشار فيه، قال ابن الأزرق: ((سلامة الفكر من مکدرات صفوه، وذكروا ممن عرض له ذلك أصنافاً، فالجائع حتى يشبع، والعطشان حتی يقنع، والأسير حتى يطلق، والضال حتى يجد، والراغب حتى يمنح، وصاحب الخف الضيق، وحاقف البول، وصاحب المرأة السليطة، وقالوا في مشاورة الشباب: ((ومَن قال باستشارة الشبّان شرط أن تكون أمزجتهم صحيحة، وقرائحهم(1)

ص: 95


1- القريحة: ما خرج عن الطبيعة. ابن هلال العسكري، الفروق اللغوية، ص 336

سليمة، وعلومهم غزيرة))(1).

مما سبق يمكن القول إنّ ما طرح بشأن أهل المشورة يمكن أن يكون موافقاً لطروحات الإمام علي (علیه السلام) في هذا الشأن، ومما يعزز ذلك موافقته للقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والمنطق العقلي.

موضوعات المشورة:

مما لا شك فيه إنّ الإمام علي (علیه السلام) لم یکن قاصداً في عهده المالك الأشتر(رضی عنه الله) التزام المشورة في الجوانب الدينية، لعدم خضوع تلك الجوانب الآراء الأشخاص، وخضوعها لمشيئة الله تعالى، وقد أثبت كثير من العلماء ذلك وليس الجميع، لأن المسألة تعد من المسائل الخلافية، والمسائل الخلافية كما هو معلوم غالباً ما تستدعي الاجتهاد

ص: 96


1- الثعالبي، تحفة الوزراء، ص 94

في تفسير النص القرآني، وذلك لعدم وجود نص صریح يقطع الأمر المختَلف عليه، وأصل الخلاف يعود إلى الآية الكريمة: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ»، أي إلى كلمة الأمر، إذ لم يحدد في الآية نوع الأمر المشاوَر عليه، إن كان يخص القضايا العامة التي تتعلق بجميع شؤون المسلمين - السياسية والاقتصادية وحتى الدينية - التي لم ينزل فيها حکماً شرعياً، أم قضايا الحرب وما شابه .

وعلى هذا الأساس حصل الاختلاف بين العلماء في المسألة، إذ انقسموا على قسمين، قسم منهم يؤيد القول الذي يرى عمومية مجال الموضوعات المشاوَر فيها، أي جميع شؤون المسلمين، والقسم الآخر يؤيد القول الذي يجعل خصوصية مجال الموضوعات المشاوَر فيها، أي الأمور التي تخص الجانب الحربي (العسكري).

ص: 97

ويستند أصحاب القول الأول (عمومية الشورى) على نصوص تاريخية، منها: ما رواه الترمذي عن الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام)، قال: «لما نزلت «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً»، قال النبي (صلی الله علیه و آله وسلم): ما ترى؟ دينار، قلت: لا يطيقونه، قال: نصف دینار؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فكم؟، قلت: شعيرة، قال: إنك زهيد، فنزلت «أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ»(1)، قال: فَبيَ خفف الله عن هذه الأمة»(2).

کما استندوا فيما ذهبوا إليه على أحد أحاديث

ص: 98


1- سورة المجادلة، آية: 13 - 14، والنجوى في الآية تعني الكلام الخفي؛ أبو هلال العسكري، الفروق اللغوية، ص 533
2- الترمذي، السنن، ج 5 / ص 81

النبي (صلی الله علیه و آله وسلم)، الذي جاء رداً على سؤالٍ وُجِّه إليه (صلی الله علیه و آله وسلم) من الإمام علي (علیه السلام)، نصه: «قلت یا رسول الله، الأمر ينزل بنا بعدك، لم ينزل به القرآن ولم يسمع منك فيه شيئا؟ قال: اجمعوا له العابدین من المؤمنين، واجعلوه شوری بینکم، ولا تقضوا فيه برأي واحد»(1).

کما استدلوا على قولهم بقضية مشاورة الصحابة بعضهم بعض في المسائل الشرعية بعد

ص: 99


1- ابن عبد البر، جامع بیان العلم وفضله، ص 59؛ ابن حجر العسقلاني، لسان المیزان، ج 3 / ص 78. ولم نجد للحديث أي اثر عند كتب الشيعة الإمامية، بسبب التشكيك الذي وقع عليه، كونه يتعارض مع معارف الإمام علي (علیه السلام) في دقائق الأمور وصغائرها، أما ذكره عند الآخرين فربما قيل وهو موجه في مضمونه للأمة الإسلامية، من باب إياك أعني واسمعي يا جاره، لاسيما وإن السؤال عُرض بصيغة الجمع

وفاة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، کمسألة قتال مانعي الزكاة، ومسألة حدشارب الخمر، ومسألة إملاص(1) المرأة الحامل(2).

أنّهم أسندوا رأيهم المقولة عدد من الفقهاء والعلماء في هذا الإطار، ومنهم سفيان أبن عيينة(3) في قوله وهو يفسر الآية: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ»، يقول: ((هي للمؤمنين أن يتشاوروا

ص: 100


1- الإملاص: يعني الإسقاط. الفراهيدي، العین، ج 7 / ص 131
2- سنبحث هذه المسائل، بشكل مفصل في المباحث اللاحقة من الموضوع
3- هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران مولى لقوم من ولد عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة رهط میمونة زوج النبي (ص)، ويكنى أبا محمد، كان محدثاً وحافظاً ولد في الحجاز سنة (107 ه / 720 م) وتوفي سنة (198 ه / 813). ابن قتيبة، المعارف، ص 507

فيما لم يأتهم عن النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) فيه أثر))(1)، وقد أيّد هذا الرأي من العلماء المسلمين، الحسن البصري، والضحاك بن مزاحم، وابن جریر الطبري، والدسوقي(2).

أما أصحاب القول الثاني فيرى أن المشورة خاصة بالمسائل الحربية ونحو ذلك من القضايا الدنيوية، وكان على رأس مؤيديه قتادة بن دعامة، والربيع بن أنس، وابن إسحاق الشافعي(3)، والطوسي(4)، فقد استدلوا على صحة ما ذهبوا إليه على أقوال العلماء المسلمين في هذا الشأن،

ص: 101


1- الطبري، جامع البیان، ج 4 / ص 203
2- المصدر نفسه، ج 4 / ص 203 -204، حاشية الدسوقي، ج 2 / ص 212؛ وللمزيد ينظر : الجصاص، أحكام القرآن، ج 2 / ص 51 - 52
3- القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج 4 / ص 250
4- الطوسي، المبسوط، ج 8 / ص 98

والواقع التاريخي لنوع المسائل المطروحة على التشاور.

أما ما يخص أقوال العلماء المسلمين فهي كثيرة تحت هذا الإطار، ولا يمكن الوقوف عليها جميعاً، لكثرتها وسعة دلالاتها، لذلك ارتأينا أن نعرض نماذج محددة منها، منها قول الشافعي (ت 204 ه / 819 م) في تفسيره للآية: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ»، فقال: ((على معنی استطابة أنفس المستشارين أو المستشار منهم، والرضا بالصلح على ذلك ووضع الحرب بذلك، لا أنّ برسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) حاجة إلى مشورة أحد، والله (عزَّ وجل) يؤيده بنصره؛ بل الله ورسوله المَن والطَوْل على جميع الخلق))(1)، وقال الطبري في معرض تفسيره للآية الكريمة السابقة، قال أمر الله النبي:

ص: 102


1- كتاب الأم، ج 6 / ص 218

((بمشاورة أصحابه في مكايد الحروب، وعند لقاء العدو، تطييبا منه بذلك أنفسهم، وتآلفاً لهم على دينهم وليرَوا أنّه يسمع منهم ويستعين بهم، وإن كان الله (عزَّ وجلّ) أغناه بتدبيره له أمروه وسياسته إياه و تقویمه أسبابه عنهم))، وقال في موضع آخر: ((إن الله عزَّوجل أمر نبيه (صلی الله علیه و آله وسلم) بمشاورة أصحابه، فيا حزبه من أمر عدوه و مکاید حربه))(1).

وقال الطبرسي في تفسيره للآية الآنفة الذكر: ((يعني في أمر الحرب ونحوه مما لم ينزل عليك فيه وحي، لتطيب نفوسهم، ولتستظهر برأيهم))، وقال في موضع آخر: ((إنّ ذلك في أمور الدنيا ومكائد الحرب، ولقاء العدو، وفي مثل ذلك يجوز أن نستعين بآرائهم))(2).

ص: 103


1- جامع البیان، ج 4 / ص 203 - 204
2- جوامع الجامع، ج 1 / ص 343

أما بالنسبة للواقع التاريخي لنوع المشورة التي اعتمدها النبي (صلی الله علیه و آله وسلم)، فلم تذكر المصادر التاريخية - كما يقول أصحاب هذا الرأي - إنّه (صلی الله علیه و آله وسلم) شاور أصحابه في المسائل التي تخص الجانب الديني کما يّدعي أصحاب القول الأول، إذ إنه (صلی الله علیه و آله وسلم) غالباً ما كان يشاور أصحابه في أمور الحرب والسياسة(1)، وهذا الأمر (نوع المشورة) عضّد من رأي الفريق هذا، وقوّى حججه فيها طرحه من قول.

وبعد هذا الاستعراض ومن خلال قراءتنا للرأيين نرى أن الأرجحية تكون لصالح الرأي الثاني، وذلك لقوة الحجج التي ذكرها أصحابه للتأكيد على صحة قولهم، فضلاً عن أنّ الله تعالي غني عن مشاورة عقول خلقه في المسائل

ص: 104


1- يمكن معرفة ذلك في المباحث اللاحقة التي نتطرق فيها إلى مشورات النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) مع صحابته

التي تخص أحكام الدين، ولو أجاز ذلك لكان الأنبياء وبضمنهم سيدنا محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) الأولى بتلك المشورة، لكنه تعالى على الرغم من المكانة السامية التي تمتع بها الأنبياء استغنی عن مشاورتهم وجعلهم مبلغين ومنذرين ليس إلّا في إيصال أحکام شریعته إلى عباده، هذا حال الأنبياء فكيف بحال عباده الذين يزعمون مشاورته تعالى لهم.

أما ما ذكره أصحاب الرأي الأول - الذي يقول بجواز مشورة النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) لأصحابه في الأحكام الدينية - ففي ما يتعلق بمشورته (صلی الله علیه و آله وسلم) للإمام علي (علیه السلام) في مسالة مقدار الصدقة المفروضة على المسلمين مقابل التناجي معه (صلی الله علیه و آله وسلم)، فالخبر متواتر وصحیح سنداً ومتناً بعد مراجعته(1)، أما الاحتجاج به في مشورة

ص: 105


1- للمزيد ينظر: النسائي، السنن، ج 5 / ص 153؛ الأربلي، کشف الغمة، ج 1 / ص 167؛ محب الدين الطبري، ذخائر العقبی، ص 109

النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) لأصحابه في الأحكام فأمر غير صحيح، ذلك أن النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) لم يشاور أحداً من الصحابة، وإنما كان (صلی الله علیه و آله وسلم) یشاور نفسه في المقدار الذي يناسب إمكانية المسلمين بعد أن ترك له تعالى مجال تحديدها، والمقصود بنفسه هنا الإمام علي (علیه السلام)، استناداً إلى قوله تعالى في حديث مباهلة النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) مع نصاری نجران: «فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ»(1)، إذ جعل الحسن والحسين (عليها السلام) بمثابة أبناء النبي (صلی الله علیه و آله وسلم)، وجعل فاطمة (علیه السلام) بمثابة نسائه، وجعل علي (علیه السلام) بمثابة نفسه (صلی الله علیه و آله وسلم)(2).

ص: 106


1- سورة آل عمران، آية: 61
2- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2 / ص 82؛ المفيد، الإرشاد، ج1 / ص 167؛ أبو نعيم الأصبهاني، الجامع بين الصحیحین، ص 534؛ ابن طاووس الحسيني، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف، ص 44؛ العلامة الحلي، کشف اليقين، ص 13؛ ابن تیمیه، علم الحديث، ص 267؛ السيوطي، مسند فاطمة، ص 3؛ المباركفوري، الرحيق المختوم، ص 414

أما قضية مشورة الصحابة بعضهم لبعضهم الآخر في الأحكام بعد النبي (صلی الله علیه و آله وسلم)، فقد جاءت من باب ضعف معرفة بعضهم بتلك الأحكام، وهي موجودة أصلاً في القرآن الكريم والسنة النبوية، وقد عرفها وفهمها العلماء من الصحابة، ولا تحتاج إلى المشورة، وإن كانت مستحدثة تطلب الاجتهاد، وخير مثال على ذلك مشورات عمر بن الخطاب للإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام)، التي جسد حجمها عمر بن الخطاب بأقواله العديدة، منها: ((لولا علي لهلك عمر))(1)، و((لا أبقاني الله

ص: 107


1- القاضي النعمان المغربي، دعائم الإسلام، ج 1 / ص 86، القاضي النعمان المغربي، شرح الأخبار، ج 2 / ص 319؛ الشريف الرضي، خصائص الأئمة، ص 89؛ ابن عبد البر، الاستعیاب في معرفة الأصحاب، ج 3 / ص 1103؛ ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج 1 / ص 312

المعضلة ليس لها أبا الحسن))(1).

ص: 108


1- ابن سعد، الطبقات، ج 2 / ص 258؛ البلاذري، أنساب الأشراف، ص 100؛ الخوارزمي، المناقب، ص 96 - 97؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 12/ص 101؛ ابن شهر آشوب، المناقب، ج 2 / ص 182؛ ابن الصباغ، الفصول المهمة، ج1 / ص199؛ المتقي الهندي، کنز العمال، ج 5 / ص 832

الخاتمة

بعد دراسة الموضوع بجوانبه المختلفة تبينت النا مجموعة من النتائج عكست المضامين التي خرجت منها الدراسة، وكانت في واقعها عديدة ومتنوعة إلا أننا ارتأينا إجمالها بالنقاط الآتية:

1 - لقد أقرّ الإسلام الأعراف الحميدة عند العرب قبل مجيئه ثمّ تولى الإمام علي (علیه السلام) التأكيد على ممارستها بعد الإسلام، ومن تلك الاعراف كانت المشورة التي حرص (علیه السلام) على ممارستها، بوصفها كانت بالنسبة لعرب الجزيرة عرفاً اجتماعياً سلیماً و تقليداً قبلياً متداولاً، وقد حظيت بمنزلةٍ مرموقةٍ عندهم، لملاءمتها طبيعة

ص: 109

شخصياتهم التي تأنف ما فرض عليهم من القول، وتحبذ ما تشاوروا فيه من الأمر، إلى جانب شعورهم بأهمية ممارسة ذلك العرف، لما له من أثر في تسديد الأمور وصوابها.

2 - إن كان الظرف لم يسمح للإمام علي (علیه السلام) ببيان أحكام المشورة في عهده لمالك الأشتر (رضی عنه الله) فقد خصّص لها الفقه الإسلامي حيزاً يناسب أهميتها، حدد فيه حكم ممارستها، والأشخاص الذين يتولون إسداءها، والموضوعات الواقعة في ضمن نطاقها، ولما كان البحث في ذلك الموضوع يحمل أوجهاً متعددة في الشريعة فقد حرصنا على ترجيح الاحكام التي تناسب العقل والشرع بغية التقرب إلى ما يدور في فكر الإمام (علیه السلام).

3 - تأكيد الامام علي (علیه السلام) للحكام على

ص: 110

ممارسة المشورة في عهده المالك الأشتر (رضی عنه الله) ومناسبات أخرى لم يكن عن فراغ بل جاءت الأهميتها في تسديد الآراء وتأليف القلوب وممارسة السنة النبوية، ومما عزز ممارستها عندهم هو ممارسة النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) لها مع أصحابه، وكان ما يأمله منها ليس الحصول على العلوم والمعارف بل تألیف قلوبهم ومعرفة ما يدور في أذهانهم فضلاً عن تأدیب نفوسهم على اعتمادها، ومما يدل على ذلك العلم الوافر الذي ألهمه به الله تعالى، وقد تجلى ذلك واضحاً بقوله (صلی الله علیه و آله وسلم): ((أنا مدينة العلم وعلي بابها)) وينطبق الحال على الإمام علي (علیه السلام)، الذي مارس المشورة للمقاصد التي قصدها النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) ليس إلّا، بحكم العلم الوافر الذي عرفه من النبي (صلی الله علیه و آله وسلم).

4 - الصفات التي وضعها الإمام علي (علیه السلام)

ص: 111

+ للحكام في اختيار مستشاريهم في عهده المالك الأشتر(رضی عنه الله) جاءت بحسب أهميتها، فهو حينها جعل المستشار البخيل على رأس المستشارين الواجب تجنبهم جاء بسبب تأثيره السلبي على الجانب المعاشي للرعية، وهذا الجانب كما هو معلوم یکون من أخطر التحديات التي تهدد الإيمان ونفوذ الدولة عند الرعية.

5 - لقد كان العلماء القدامى والمحدثين في طروحاتهم حول المشورة متأثرین كثيراً بما ذكره الإمام علي (علیه السلام) حولها، وكيف لا يكون ذلك واقعاً وهو قد استوحی (علیه السلام) مبادئها من معين علم النبي (صلی الله علیه و آله وسلم).

ص: 112

المحتويات

مقدمة المؤسسة...5

مقدمة...9

اولاً: مفهوم المشورة لغة واصطلاحاً:...12

المشورة لغةً:...12

ثانياً: المشورة في مصادر التشريع الإسلامي:...18

المشورة في القرآن الكريم:...18 المشورة في السنة النبوية الشريفة:...28 ثالثاً: المشورة عند الإمام علي (علیه السلام) في عهده المالك الأشتر(رضی عنه الله):...36

رابعاً: الصحابة والأئمة والحكاء الذين وافقوا الإمام علي (علیه السلام) في المشورة...49

أهل المشورة:...59

موضوعات المشورة:...96 الخاتمة...109

ص: 113

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.